"""""" صفحة رقم 429 """"""
الخنزير البحري : سئل مالك عنه فقال : أنتم تسمونه خنزيراً يعني أن العرب لا تسميه بذلك لأنها لا تعرف في البحر خنزيراً والمشهور أنه الدلفين . وسيأتي إن شاء الله في باب الدال المهملة قال الربيع : سئل الشافعي رضي الله تعالى عنه عن خنزير الماء فقال : يؤكل . وروي أنه لما دخل العراق قال فيه : حرمه أبو حنيفة وأحله ابن أبي ليلى . وروي هذا القول عن عمرو عثمان وابن عباس وأبي أيوب الأنصاري وأبي هريرة رضي الله تعالى عنهم ، والحسن البصري والأوزاعي والليث وأبى مالك أن يقول فيه شيئاً وأبقاه مرة أخرى على جهة الورع . وحكى ابن أبي هريرة عن ابن خيران أن اكاراً صاد له خنزير ماء ، وحمله إليه فأكله وقال : كان طعمه موافقاً لطعم الحوت سواء . وقال ابن وهب : سألت الليث بن سعد عنه ، فقال : إن سماه الناس خنزيراً لم يؤكل لأن الله حرم الخنزير .
الخنفساء : معروفة ، وكان من حقها أن تكتب قبل هذا لأن نونها زائدة وهي بفتح الفاء ممدودة الأنثى خنفساءة وقال ابن سيده : الخنفساء دويبة سوداء أصغر من الجعل منتنة الريح . والأنثى خنفسة وخنفساءة وضم الفاء في كل ذلك لغة . والخنفس إسم للكثير من الخنافس . وقال الأصمعي : لا يقال خنفساءة بالهاء وكنيتها أم القسور وأم الأسود ، وأم مخرج وأم اللجاج ، وأم التن ، تتولد من عفونة الأرض وهي طويلة الظمأ وبينها وبين العقرب صداقة ، ولهذا يسميها أهل المدينة الشريفة جارية العقرب .
وهي أنواع منها الجعل وحمار قبان ، وبنات وردان ، والحنطب وهو ذكر الخنافس ، والخنفساء مخصوصة بكثرة الفسو كالظربان ولذلك تقول العرب في أمثالها : " إذا تحركت الخنفساء فست " . قال حنين بن إسحاق : طريق طرد الخنافس أن يطرح في أماكنها الكرفس فإنها تهرب من ذلك المكان . وروى ابن عدي في كامله في ترجمة أبي معشر وإسمه نجيح عن المقبري عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال : " ليدعن الناس فخرهم في الجاهلية ، أو ليكونن أبغض إلى الله تعالى من الخنافس " .
غريبة : حكى القزويني أن رجلاً رأى خنفساء فقال : ماذا يريد الله تعالى من خلق هذه . ألحسن شكلها أو لطيب ريحها فابتلاه الله تعالى بقرحة عجز عنها الأطباء حتى ترك علاجها ، فسمع يوماً صوت طبيب من الطرقيين ينادي في الدرب ، فقال : هاتوه حتى ينظر في أمري ، فقالوا : وما تصنع بطرقي وقد عجز عنك حذاق الأطباء فقال : لا بد لي منه ، فلما أحضروه ورأى القرحة استدعى بخنفساء ، فضحك الحاضرون منه ، فتذكر العليل القول الذي سبق منه ، فقال : احضروا له ما طلب فإن الرجل على بصيرة من أمره ، فأحضروها له ، فأحرقها وذر رمادها على قرحته فبرىء بإذن الله تعالى . فقال للحاضرين : إن الله تبارك وتعالى أراد أن يعرفني أن أخس المخلوقات أعز الأدوية .
وحكى : ابن خلكان في ترجمه جعفر بن جعفر بن يحيى بن خالد بن برمك البرمكي أنه(1/429)
"""""" صفحة رقم 430 """"""
كان عنده أبو عبيدة الثقفي فقصدته خنفساء فأمر جعفر بإزالتها ، فقال أبو عبيدة : دعوها عسى أن يأتين بقصدها إلي خير ، فإنهم يزعمون ذلك ، فأمر له جعفر بألف دينار ، فقال : تحقق زعمهم . فأمر بتنحيتها فقصدته ثانياً فأمر له بألف دينار أخرى .
الحكم : يحرم أكلها لاستخباثها . وقال الأصحاب : ما لا يظهر فيه ضر ولا نفع ، كالخنافس والدود والجعلان والسرطان والبغاث والرخمة والعظاءة والسلحفاة والذباب وأشباهها ، يكره قتلها للمحرم وغيره ، هكذا قطع به الجمهور . وحكى إمام الحرمين وجهاً شاذاً إنه لا يحرم قتل الطيور والحشرات . ودليل الكراهة أنه عبث بلا حاجة . وقد ثبت في صحيح مسلم عن شداد بن أوس رضي الله تعالى عنه أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال : " إن الله تعالى كتب الإحسان على كل شيء فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة " . وليس من الإحسان قتلها عبثاً . وروى البيهقي عن قطبة الصحابي رضي الله تعالى عنه أنه كان يكره أن يقتل الرجل ما لا يضره .
الأمثال : يقال : " أفسى من الخنفساء وقالوا : " الخنفساء إذا مست نتنت " . أي جاءت بالنتن الكثير . يضرب لمن ينطوي على خبث معناه لا تفتشوا على ما عنده ، فإنه يؤذيكم بنتن معايبه . وقال خلف الأحمر النحوي يهجو العتبي :
لنا صاحب مولع بالخلاف . . . كثير الخطاء قليل الصواب
ألج لجاجاً من الخنفساء . . . وأدهى إذا ما مشى من غراب الخواص : إذا أخ ت رؤوس الخنافس وجعلت في برج حمام اجتمع الحمام إليه ، والاكتحال بما في جوفها من الرطوبة يحد البصر ، ويجلو غشاوة العين ، ويزيل البياض ، وينفع السبل نفعاً عظيماً بليغاً . وإذا بخر المكان بورق الدلب ، هرب منه الخنافس وإن أخذت خنفساء وطبخت بعصير السمسم وقطر في الأذن منه ، فإنه نافع من جميع أوجاع الأذن وإن شدخت خنفساء وربطت على لسعة العقرب أبرأتها ، وإن أحرقت وذر رمادها على القرحة أبرأتها ، ومن أكل الخنفساء ولم يشعر بها حتى دخلت إلى جوفه ، وهي حية قتلته من وقته .
التعبير : الخنفساء في المنام تدل رؤيتها على موت النفساء ، ورؤية الذكر تدل على رجل يخدم الأشرار . وربما دلت رؤيته على عدو قذر بغيض والله أعلم .
الخنوص : بكسر الخاء وتشديد النون ولد الخنزير ، والجمع الخنانيص . قال الأخطل يخاطب بشر بن مروان :(1/430)
"""""" صفحة رقم 431 """"""
أكلت الدجاج فأفنيتها . . . فهل في الخنانيص من مغمر
ويروي أكلت القطاة قاله ابن سيده .
وحكمه وتعبيره : كالخنزير .
الخواص : مرارته تحلل الأورام اليابسة ، وإذا خلطت بعسل وطلي بها احليل الرجل هيج الباه بشهوة عظيمة . وشحمه المذاب إذا مسح به أصل شجر الرمان الحامض أبدله حلوا .
الخيتعور : الذئب لأنه لا عهد له . وقيل : الخيتعور الغول ، والياء فيه زائدة ، وفي الحديث : " ذاك أزب العقبة يقال له الخيتعور " . يريد به شيطان العقبة فجعل الخيتعور إسماً له . وقيل : الخيتعور كل شيء يضمحل ولا يدوم على حالة واحدة ولا يكون له حقيقة كالسراب قال الشاعر :
كل أنثى وإن بدا لك منها . . . آية الحب حبها خيتعور
وقيل : الخيتعور دويبة تكون في وجه الماء لا تثبت في موضع إلا دبت . وقيل : الخيتعور الذي ينزل في الهواء ، أبيض كالخيط أو كنسج العنكبوت . وقيل الخيتعور الدنيا الذاهبة والله أعلم . الخيدع : والخيطل السنور وسيأتي إن شاء الله تعالى في باب السين .
الأخيل : طائر أخضر على جناحيه لمع تخالف لونه سمي بذلك للخيلان . وقيل للأخيل الشقراق وهو مشؤوم . ولفظه ينصرف في النكرة إذا سميت به ، ومنهم من لا يصرفه في معرفة ولا نكرة ويجعله في الأصل صفة من التخيل . ويحتج بقوله حسان رضي الله تعالى عنه :
ذريني وعلمي بالأمور وشيمتي . . . فما طائري فيها عليك بأخيلا الخيل : جماعة الأفراس لا واحد له من لفظه كالقوم والرهط والنفر . وقيل : مفرده خائل ، قاله أبو عبيدة وهي مؤنثة والجمع خيول وقال السجستاني : تصغيرها خييل . وسميت الخيل خيلاً لاختيالها في المشية ، فهو على هذا اسم للجمع عند سيبويه ، وجمع عند أبي الحسن . ويكفي في شرف الخيل أن الله تعالى أقسم بها في كتابه فقال : " والعاديات ضبحا " وهي خيل الغزو التي تعدو فتضج أي تصوت بأجوافها . وفي الصحيح عن جرير بن عبد الله رضي الله تعالى عنه قال : رأيت رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يلوي ناصية فرسه بأصبعيه وهو يقول : " الخيل معقود في نواصيها الخير إلى يوم القيامة " ، الأجر(1/431)
"""""" صفحة رقم 432 """"""
والغنيمة . ومعنى عقد الخير بنواصيها أنه ملازم لها ، كأنه معقود فيها والمراد بالناصية هنا الشعر المسترسل على الجبهة . قاله الخطابي وغيره قالوا : وكنى بالناصية عن جميع ذات الفرس ، كما يقال : فلان مبارك الناصية ، وميمون الغرة أي الذات . وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال : إن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) أتى المقبرة فقال : " السلام عليكم دار قوم مؤمنين وإنا إن شاء الله بكم لاحقون وددت أنا قد رأينا إخواننا " . قالوا : أو لسنا إخوانك يا رسول الله ؟ قال ( صلى الله عليه وسلم ) : " بل أنتم أصحاب إخواننا الذي لم يأتوا بعد " . فقالوا : كيف تعرف من لم يأت بعد من أمتك يا رسول الله ؟ قال ( صلى الله عليه وسلم ) : " أرأيتم لو أن رجلاً له خيل غر محجلة بين ظهراني خيل دهم بهم ، ألا يعرف خيله ؟ قالوا : بلى يا رسول . قال ( صلى الله عليه وسلم ) : " فإنهم يأتون يوم القيامة غراً محجلين من آثار الوضوء وأنا فرطهم على الحوض " . وفي رواية البيهقي ، " إن أمتي يأتون يوم القيامة ، غراً من السجود ، محجلين من الوضوء ولا يكون ذلك لأحد من الأمم غيرهم " . وروى مسلم وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه عن أبي هريرة أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) " كان يكره الشكال من الخيل " والشكال أن يكون الفرس في رجله اليمنى بياض ، وفي يده اليسرى بياض ، أو في يده اليمنى ورجله اليسرى ، كذا وقع تفسيره في صحيح مسلم وهذا أحد الأقوال في الشكال . وقال أبو عبيدة وجمهور أهل اللغة : والغريب هو أن يكون منه ثلاث قوائم محجلة ، وواحدة مطلقة تشبيها بالشكال الذي يشكل به الخيل ، فإنه يكون في ثلاث قوائم غالباً . وقال أبو عبيدة : وقد يكون الشكال ثلاث قوائم مطلقة وواحدة محجلة ، قال : ولا تكون المطلقة أو المحجلة إلا في الرجل . وقال ابن دريد : هو أن يكون محجلاً في شق واحد في يده ورجله ، فإن كان مخالفاً ، قيل : شكال مخالف ، وقيل : الشكال بياض اليدين ، وقيل : بياض الرجلين . قال العلماء : إنما كرهه ( صلى الله عليه وسلم ) ، لأنه على صورة المشكول وقيل : يحتمل أن يكون جرب ذلك الجنس ، فلم يكن فيه نجابة . وقال بعض العلماء : فإذا كان مع ذلك أغر زالت الكراهة لزوال شبهه بالشكال . وقال ابن رشيق ، في عمدته في باب منافع الشعر ومضاره : إن أبا الطيب المتنبي لما ذهب إلى بلاد فارس ومدح عضد الدولة بن بويه الديلمي ، وأجزل جائزته ، رجع من عنده قاصداً بغداد ، وكان معه جماعة ، فخرج عليهم(1/432)
"""""" صفحة رقم 433 """"""
قطاع الطريق ، بالقرب من بغداد ، فلما رأى الغلبة فر هارباً ، فقال له غلامه : لا يتحدث الناس عنك بالفرار أبداً وأنت القائل :
الخيل والليل والبيداء تعرفني . . . والحرب والضرب والقرطاس والقلم
فكر راجعاً ، وقاتل حتى قتل . فكان سبب قتله هذا البيت ، وذلك في شهر رمضان سنة أربع وخمسين وثلثمائة . وما أحسن قول أبي سليمان الخطابي في مدح العزلة والانفراد وإن لم يكن تعلق بهذا المعنى :
أنست بوحدتي ولزمت بيتي . . . فدام الأنس لي ونما السرور
وأدبني الزمان فلا أبالي . . . هجرت فلا أزار ولا أزور
ولست بسائل ما دمت حياً . . . أسار الخيل أم ركب الأمير
فائدة : ذكر ابن خلكان في تاريخه أن شخصاً سأل المتنبي عن قوله .
بادر هواك صبرت أم لم تصبرا .
كيف يثبت الألف في تصبرا مع وجود لم الجازمة ومن حقه أن يقول لم تصبر ؟ فقال أبو الطيب المتنبي : لو كان أبو الفتح بن جني ههنا لأجابك : هذه الألف هي بدل النون الساكنة لأنه كان في الأصل لم تصبرن ، ونون التأكيد الخفيفة إذا وقف الإنسان عليها أبدل منها ألفاً قال الأعشى : وذا النصب المنصوب لا تنسكنه . . . ولا تعبد الشيطان والله فاعبدا
كان الأصل فاعبدن ، فلما وقف عليها أتي بألف بدلاً من النون ومراده بأبي الفتح عثمان بن جني الموصلي النحوي المشهور ، وكان ابن جني قد قرأ على أبي علي الفارسي وفارقه وقعد للإقراء بالموصل ، فمر به شيخه أبو علي يوماً فرآه في حلقته ، فقال له : زببت وأنت حصرم ، فترك حلقته وتبعه ، ولم يزل ملازماً له حتى مهر . وأبوه جني مملوك رومي ، وله أشعار حسنة وكان أعور بعين واحدة وفي ذلك يقول :
صدودك عني ولا ذنب لي . . . يدل على نية فاسده
فقد وحياتك مما بكيت . . . خشيت على عيني الواحدة
ولولا مخافة أن لا أراك . . . لما كان في تركها فائدة
وله تصانيف مفيدة وشرح ديوان المتنبي ولذلك أشار إليه المتنبي كما تقدم وكانت وفاة(1/433)
"""""" صفحة رقم 434 """"""
ابن جني في صفر ببغداد سنة اثنتين وتسعين وثلثمائة . وفي سنن النسائي ، من حديث سلمة بن نفيل الكوني أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) " نهى عن إذالة الخيل " ، وهو امتهانها في الحمل عليها واستعمالها . وأنشد أبو عمر بن عبد البر ، في التمهيد لابن عباس رضي الله تعالى عنهما :
أحبوا الخيل واصطبروا عليها . . . فإن العز فيها والجمالا
إذا ما الخيل ضيعها أناس . . . ربطناها فأشركنا العيالا
نقاسمها المعيشة كل يوم . . . ونكسوها البراقع والجلالا
فائدة : رأيت في تاريخ نيسابور ، للحاكم أبي عبد الله في ترجمة أبي جعفر الحسن بن محمد بن جعفر الزاهد العابد أنه روى بإسناده عن علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه ، قال قال رسول ( صلى الله عليه وسلم ) : " لما أراد الله سبحانه وتعالى أن يخلق الخيل ، قال لريح الجنوب : إني خالق منك خلقاً ، أجعله عزاً لأوليائي ومذلة لأعدائي وجمالاً لأهل طاعتي فقالت الريح : اخلق يا رب ، فقبض منها قبضة فخلق منها فرساً ، وقال جل وعلا : خلقتك عربياً وجعلت الخير معقوداً بنواصيك ، والغنائم محتازة على ظهرك ، وبوأتك سعة من الرزق وأيدتك على غيرك من الدواب ، وعطفت عليك صاحبك ، وجعلتك تطيرين بلا جناح ، فأنت للطلب وأنت للهرب وإني سأجعل على ظهرك رجالاً يسبحونني ويحممونني ويهللونني ويكبرونني " . ثم قال ( صلى الله عليه وسلم ) : " ما من تسبيحة وتهليلة وتكبيرة ، يكبرها صاحبها قد فتسمعه الملائكة إلا تجيبه بمثلها . قال : فلما سمعت الملائكة بخلق الفرس ، قالت : يا رب نحن ملائكتك نسبحك ونحمدك ونهللك ونكبرك ، فإذا لنا . فخلق الله تعالى لها خيلاً لها أعناق كأعناق البخت ، يمد بها من شاء من أنبيائه ورسله ، قال : فلما استوت قوائم الفرس في الأرض . قال الله تعالى له : إني أذل بصهيلك المشركين ، وأملأ منه آذانهم ، وأذل به أعناقهم ، وأرعب به قلوبهم . قال : فلما أن عرض الله تعالى على آدم كل شيء مما خلق ، قال له : اختر من خلقي ما شئت ، فاختار الفرس . فقيل له : اخترت عزك وعز ولدك خالداً ما خلدواً وباقياً ما بقوا أبد الآبدين ، ودهر الداهرين " . وهو في شفاء الصدور عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما ، بغير هذا اللفظ . ولفظه إن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال : " لما أراد الله أن يخلق الخيل أوحى إلى ريح الجنوب : إني خالق منك خلقاً فاجتمعي فاجتمعت ، فأتى جبريل عليه السلام فقبض منها قبضة ، ثم قال الله عز وجل له : هذه قبضتي ثم خلق منها فرساً كميتاً . وقال الله عز وجل : خلقتك فرساً وجعلتك عربياً ، وفضلتك على سائر ما خلقت من البهائم ، بسعة الرزق والغنائم ، تقاد على ظهرك ، والخير معقود بناصيتك . ثم أرسله فصهل ، فقال جل وعلا : " يا كميت بصهيلك أرهب المشركين وأملأ مسامعهم ، وأزلزل أقدامهم ، ثم وسمه بغرة وتحجيل فلما خلق الله تعالى آدم ، قال : يا آدم اختر أي الدابتين أحببت : يعني الفرس أو البراق ، وهو على صورة البغل لا ذكر لا أنثى ، فقال : يا جبريل اخترت أحسنهما وجها وهو الفرس ، فقال الله تعالى : يا آدم اخترت عزك وعز أولادك باقياً ما بقوا ، وخالدا ما خلدوا " . وفيه أيضاً عن علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه ، وكرم وجهه أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال : " إن في الجنة شجرة ، يخرج من أعلاها حلل ، ومن أسفلها خيل بلق(1/434)
"""""" صفحة رقم 435 """"""
من ذهب مسرجة ملجمة ، بلجم من در وياقوت ، لا تروث ولا تبول ، لها أجنحة خطوتها مد بصرها ، يركبها أهل الجنة فتطير بهم حيث شاؤوا ، فيقول الذين أسفل منهم درجة : " يا ربنا بم بلغ عبادك هذه الكرامة كلها ؟ فيقول بأنهم كانوا يقومون الليل ، وكنتم تنامون ، وكانوا يصومون النهار وكنتم تأكلون ، وكانوا ينفقون وكنتم تبخلون ، وكانوا يقاتلون وكنتم تجبنون . ثم يجعل الله في قلوبهم الرضا فيرضون وتقر أعينهم " . فائدة أخرى : أول من ركب الخيل إسماعيل عليه السلام ، ولذلك سميت بالعراب ، وكانت قبل ذلك وحشية كسائر الوحوش ، فلما أذن الله تعالى لإبراهيم وإسماعيل عليهما السلام برفع القواعد من البيت قال الله عز وجل : إني معطيكما كنزاً ادخرته لكما ، ثم أوحى الله إلى إسماعيل : أن اخرج فادع بذلك الكنز ، فخرج إلى أجياد ، وكان لا يدري ما الدعاء والكنز فألهمه الله تعالى الدعاء ، فلم يبق على وجه الأرض فرس بأرض العرب إلا اجابته ، فأمكنته من نواصيها وتذللت له ، ولذلك قال نبينا ( صلى الله عليه وسلم ) : " اركبوا الخيل فإنها ميراث أبيكم إسماعيل " . وروى النسائي عن أحمد بن حفص عن أبيه عن إبراهيم بن طهارة عن سعيد بن أبي عروبة عن قتادة عن أنس رضي الله تعالى عنه ، قال : إن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) " لم يكن شيء أحب إليه ، بعد النساء ، من الخيل " . إسناده جيد . وروى الثعلبي بإسناده عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أنه قال : " ما من فرس إلا ويؤذن له عند كل فجر بدعوة يدعو بها : اللهم من خولتني من بني آدم وجعلتني له فاجعلني أحب أهله وماله إليه " وقال ( صلى الله عليه وسلم ) : " الخيل ثلاثة : فرس للرحمن ، وفرس للإنسان ، وفرس للشيطان . فأما فرس الرحمن فما اتخذني في سبيل الله تعالى وقوتل علية أعدؤه ، وفرس الإنسان ما استطرق عليه ، وفرس الشيطان ما روهن عليه " . وفي طبقات ابن سعد بسنده ، عن عريب المليكي أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) سئل عن قوله تعالى : " الذين ينفقون أموالهم بالليل والنهار سراً وعلانية فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون " ، من هم ؟ فقال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) : هم أصحاب الخيل . ثم قال ( صلى الله عليه وسلم ) : " إن المنفق على الخيل كباسط يده بالصدقة لا يقبضها ، وأبوالها أرواثها يوم القيامة كذكي المسك " . وعريب بضم العين المهملة . وروى الشيخان عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) سابق بين الخيل التي ضمرت وكان أمدها من الحفياء إلى ثنية الوداع ، وسابق بين الخيل التي لم تضمر من الثنية إلى مسجد بني زريق ، ؟ وكان ابن عمر رضي الله تعالى عنهما فيمن أجرى . وروى شيخ الإسلام الحافظ الذهبي في آخر طبقات الحفاظ ، عن شيخة الحافظ شرف الدين الدمياطي ، بإسناده إلى أبي أيوب الأنصاري رضي الله تعالى عنه أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال : " لا تحضر الملائكة من اللهو شيئاً إلا ثلاثة : لهو الرجل مع امرأته وإجراء الخيل ، والنضال " . وروى الترمذي في صفة أهل الجنة بإسناد ضعيف عن واصل بن السائب عن أبي(1/435)
"""""" صفحة رقم 436 """"""
سودة عن أبي أيوب الأنصاري رضي الله تعالى عنه ، قال : جاء إعرابي إلى النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فقال : إني أحب الخيل فهل في الجنة خيل ؟ فقال ( صلى الله عليه وسلم ) : " إن دخلت الجنة أتيت بفرس من ياقوتة لها جناحان ، فتحمل عليها فتطير بك في الجنة حيث شئت " . وفي معجم ابن قانع ، إن هذا الإعرابي إسمه عبد الرحمن بن ساعدة الأنصاري . وكذلك ذكره الدينوري في أوائل المجالسة ، وذكر ابن عدي بهذا الإسناد الضعيف ، أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال : " إن أهل الجنة يتزاورون على نجائب بيض كأنهن الياقوت وليس في الجنة من البهائم إلا الإبل والطير " .
فائدة أخرى : خيل السباق عشرة : ذكرها الرافعي وغيره وحذفها من الروضة وهي مجل ومصل وتال وبارع ومرتاح وحظي وعاطف ومؤمل والسكيت والفسكل وإلى ذلك أشرت في المنظوهة بقولي :
مهمة خيل السباق عشرة . . . في الشرح دون الروضة المعتبرة
وهي مجل ومصل تالي . . . والبارع المرتاح بالتوالي
ثم حظي عاطف مؤمل . . . ثم السكيت والأخير الفسكل
فائدة أخرى : قال السهيلي في التعريف والإعلام : وأما خيل رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فأسماؤها : السكب ، وهو من سكب الماء كأنه سيل ، والسكب أيضاً شقائق النعمان ، والمرتجز سمي بذلك لحسن صهيله واللحيف كأنه يلحف الأرض لجريه ، ويقال فيه اللخيف بالخاء المعجمة . وذكر البخاري في جامعه واللزاز ومعناه أنه ما سابق شيئاً إلا لزه أي أثبته ، وملاوح والضرس والورد وهبه لعمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه فحمل عليه عمر في سبيل الله تعالى ، وهو الذي وجده يبتاع برخص انتهى . فائدة أخرى : روى ابن السني وأبو القاسم الطبراني عن أبان بن أبي عياش والمستغفري أيضاً عن أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه قال : كتب عبد الملك إلى الحجاج بن يوسف أن أنظر أنس بن عالك خادم رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ، فأدن مجلسه ، وأحسن جائزته وأكرمه . قال : فأتيته فقال لي : يا أبا حمزة إني أريد أن أعرض عليك خيلي فتعلمني أين هي من الخيل التي كانت مع رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فعرضها فقلت : شتان ما بينهما تلك كانت أروائها وأبوالها وأعلافها أجراً ، وهذه هيئت للرياء والسمعة . فقال الحجاج : لولا كتاب أمير المؤمنين فيك لضربت الذي فيه عيناك فقلت : ما تقدر على ذلك ، قال : ولم ؟ قلت : لأن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) علمني دعاء أقوله لا أخاف معه من شيطان ولا سلطان ولا سبع . فقال : يا أبا حمزة علمه ابن أخيك يعني ابنه محمد بن الحجاج ، فأبيت عليه . فقال لابنه : أئت عمك أنساً فتسأله أن يعلمك ذلك . قال أبان : فلما حضرته الوفاة دعاني فقال : يا أبا أحمد إن لك إلي انقطاعاً ، وقد وجبت حرمتك ، وإني معلمك الدعاء الذي علمني رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فلا تعلمه من لا يخاف الله أو نحو ذلك ، وهو ذلك الدعاء المبارك : الله أكبر الله أكبر بسم الله على نفسي وديني ، بسم الله على أهلي ومالي ، بسم الله على كل شيء أعطانيه ربي ، بسم الله خير الأسماء ، بسم الله الذي لا يضر مع إسمه داء ، بسم الله الذي لا يضر إسمه(1/436)
"""""" صفحة رقم 437 """"""
شيء ، في الأرض ولا في السماء ، وهو السميع العليم ، بسم الله افتتحت ، وعلى الله توكلت ، الله الله ربي لا أشرك به شيئاً أسألك اللهم بخيرك من خيرك ، الذي لا يعطيه أحد غيرك ، عز جارك وجل ثناؤك ، ولا إله غيرك ، اجعلني في عبادك واحفظني من شر كل في شر خلقته ، وأحترز بك من الشيطان الرجيم ، اللهم إني احترس بك من شر كل في شر خلقته وأحترز بك منهم ، وأقدم بين يدي بسم الله الرحمن الرحيم " قل هو الله أحد الله الصمد لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد " ومن خلفي مثل ذلك وعن يميني مثل ذلك وعن يساري مثل ذلك ومن فوقي مثل ذلك ومن تحتي مثل ذلك .
مسألة : قال شيخ الإسلام تقي الله الدين السبكي رحمه الله تعالى : ورد مثال كريم ممن هو حقيق بالتبجيل والتعظيم ، يتضمن السؤال عن الخيل : هل كانت قبل آدم عليه السلام أو خلقت بعده . وهل خلق الذكور قبل الإناث أو الإناث قبل الذكور ؟ وهل العربيات قبل البراذين أو البراذين قبل العربيات ؟ وهل ورد في الحديث أو الأثر أو السير أو الأخبار ما يدل على ذلك ؟ والجواب : أن نختار أن خلق الخيل كان قبل خلق آدم عليه السلام بيومين أو نحوهما ، وأن خلق الذكور قبل الإناث وأن العربيات قبل البراذين ، أما قولنا إن خلقها كان قبل خلق آدم فلآيات في القرآن سنذكرها آية آية وتذكر وجه الاستدلال والمعنى فيه ، وهو أن الرجل الكبير يهيء له ما يحتاج إليه قبل قدومه وقال تعالى : " خلق لكم ما في الأرض جميعاً " فالأرض وكل ما فيها مخلوق لآدم وذريته إكراماً لهم ، ومن كمال إكرامهم وجودها قبلهم ، فجميع ذلك مقدم على خلقه ثم كان خلق آدم بعد ذلك آخر الخلق ، لأنه وذريته أشرف الخلق ، ألا يرى أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أشرف من الجميع ، ولذلك كان آخراً لأن به ( صلى الله عليه وسلم ) تم كمال الوجود ، وما سوى آدم مما هيىء له حيوان وجماد . والحيوان أشرف من الجماد ، والخيل من أشرف الحيوان ، غير الآدمي فكيف يؤخر خلقها عنه فهذه الحكمة تقتضي تقديم خلقها مع غيرها من المنافع . وإنما قلنا بيومين أو نحوهما ، لحديث ورد فيه ، يتضمن أن بث الدواب يوم الخميس ، والحديث في الصحيح ، لكن فيه كلام . ولا شك أن خلق آدم عليه السلام كان يوم الجمعة ، والحديث المذكور يتضمن أنه بعد العصر ، فلذلك قلنا إنه بيومين أو نحوهما على التقريب . وأما التقدم فلا يتردد فيه ، والمعنى فيه قد ذكرناه . وأما الآيات التي تدل له ، فمنها قوله تعالى : " خلق لكم ما في الأرض جميعاً ثم استوى إلى السماء فسواهن سبع سموات " ، ووجه الاستدلال أن الآية الكريمة اقتضت خلق ما في الأرض جميعاً قبل تسوية الرحمن السماء ، ومن جملة ما في الأرض الخيل ، فالخيل مخلوفة قبل تسوية السماء عملا بالآية ودلالة ثم على الترتيب ، وتسوية السماء قبل خلق آدم عليه السلام ، لأن تسوية السماء كانت في جملة الأيام الستة لقوله تعالى : " رفع سمكها فسواها " ، إلى قوله جل وعلا " والأرض بعد ذلك دحاها " ، ودلالة الحديث الصحيح المجمع عليه على أن خلق آدم عليه السلام يوم الجمعة بعد كمال المخلوقات أما آخر الأيام الستة إن قلنا إن(1/437)
"""""" صفحة رقم 438 """"""
ابتداء الخلق يوم الأحد ، كما يقوله المؤرخون وأهل الكتاب ، وهو المشهور عند أكثر الناس ، وأما في اليوم السابع فهو خارج عن الأيام الستة كما يقتضيه الحديث ، الذي أشرنا إليه فيما سبق الذي في صحيح مسلم ، الذي صدره إن الله تعالى خلق التربة يوم السبت ، وإن كان فيه كلام . وأما تأخر خلق آدم عليه السلام ، فلا كلام فيه فثبت بهذا أن خلق الخيل قبل خلق آدم عليه السلام ، وهي من جملة المخلوقات في الأيام الستة لا كما يقوله بعض الجهلة الكفرة . ويروي فيه أحاديث موضوعة لا تصدر إلا عن اسخف المجانين لا حاجة بنا إلى ذكرها . ومن الآيات قوله تعالى : " وعلم آدم الأسماء كلها ثم عرضهم على الملائكة فقال أنبئوني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين قالوا سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم قال يا آدم أنبئهم بأسمائهم فلما أنبأهم بأسمائهم قال ألم أقل لكم إني أعلم غيب السموات والأرض وأعلم ما تبدون وما كنتم تكتمون " ، وجه الاستدلال بهذه الآية أن الأسماء كلها إما أن يراد بها نفس الأسماء أو صفات المسميات ، ومنافعها وعلى كلا التقديرين المسميات موجودة في ذلك الوقت للإشارة إليها بقوله : هؤلاء . ومن جملة المسميات الخيل ، فلتكن موجودة حينئذ . والأسماء عام بالألف واللام مؤكدة بقوله تعالى : " كلها " فتقوى العموم فيه . والمسميات لا بد من إرادتها بقوله تعالى : " ثم عرضهم " وقوله تعالى : " بأسمائهم " ، فهذا دليل قاطع في ذلك . والعموم شامل للخيل فمن رأى دلالة العموم قطيعة ، يقطع بدخولها ومن لا يرى ذلك يستدل به فيه كما يستدل بسائر الأدلة الشرعية . ومن الآيات قوله تعالى في سورة " ألم تنزيل الله الذي خلق السموات والأرض وما بينهما في ستة أيام ثم استوى على العرش " وجه الاستدلال اقتضاؤها خلق ما بينهما في الستة ، وقد قلنا إن خلق آدم عليه السلام خارج عن الأيام الستة بعدها أو حاصل في آخرها بعد خلق غيره كما سبق وفي الآيات قوله تعالى في سورة ق " ولقد خلقنا السموات والأرض وما بينهما في ستة أيام وما مسنا من لغوب " ، وجه الاستدلال بها ما قد مناه فيما قبلها ، فهذه أربع آيات تدل على ذلك فيها كفاية . وقد جاء عن وهب بن منبه في الاسرائيليات ، أن الخيل خلقت من ريح الجنوب وذلك لا ينافي ما قلناه ، ولا تلتزم صحته ، لأنا لا نصحح إلا ما صح لنا ، عن الله تعالى ورسوله ( صلى الله عليه وسلم ) وقد جاء عن ابن عباس رضي الله عنهما أن الخيل ، كانت وحوشاً وأن الله تعالى ذللها لإسماعيل عليه الصلاة والسلام . وذلك لا ينافي ما قلناه ، فقد تكون مخلوقة من قبل آدم عليه السلام ، واستمرت على وحشيتها إلى عهد إسماعيل عليه السلام . أو كانت تركب في وقت ، ثم توحشت ثم ذللت لإسماعيل عليه السلام . وليس في ذلك عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ولا عن الصحابة عليل ، فالمعتمد ما قلناه من دلالة القرآن والذي قيل من أن إسماعيل عليه السلام أول من ركبها أمر مشهور ولكن اسناده ليس صحيحاً حتى نلتزمه . وقد قلنا إنا لا نلتزم إلا ما صح عن الله تعالى ورسوله ( صلى الله عليه وسلم ) . وفي تفسير القرطبي من رواية الترمذي الحكيم ، عن ابن عباس رضى الله تعالى عنهما قال : لما أذن الله تعالى لإبراهيم وإسماعيل عليهما الصلاة والسلام برفع القواعد ، قال الله تبارك وتعالى إني معطيكما كنزاً ادخرته لكما . ثم أوحى الله إلى إسماعيل عليه السلام ، أن اخرج إلى أجياد فادع يأتك الكنز ، فخرج إلى أجياد ولا يدري ما الدعاء ولا الكنز(1/438)
"""""" صفحة رقم 439 """"""
فألهمه الله تعالى الدعاء ، فلم يبق على وجه الأرض فرس بأرض العرب إلا جاءته وأمكنته من ناصيتها وذللها الله تعالى له . ولو ذكرنا ما قال الناس في ذلك ، وشرحناه بطوله لطال . فقد تكلم الناس في ذلك كثيراً وذكروا من خواص الخيل ومنافعها شيئاً كثيراً ، ليس ذلك كله مما نلتزم صحته ، ومطالبة القاصد بسرعة الجواب ، في أسرع وقت ، تقتضي الاقتصار على ما قلناه ، وفيه كفاية . وأما قولنا إن خلق الذكور قبل الإناث ، فلأمرين : أحدهما شرف الذكر على الأنثى ، والثاني حرارته وإن كان الإثنان من جنى واحد ، من مزاج واحد ، فأحدهما أكثر حرارة من الآخر ، فقد جرت عادة القدرة الإلهية بتكوين أقواهما حرارة قبل الآخر ، والذكر أقوى حرارة من الأنثى ، فناسب أن يكون وجوده أسبق ولتحصل المنة به أكثر ، ولذلك كان خلق آدم عليه السلام قبل خلق حواء ، ولأن أعظم ما يقصد له الخيل الجهاد ، والذكر في الجهاد خير من الأنثى ، لأن الذكر أجرى وأجرأ ، أعني أشد جرياً وأقوى جراءة ، ويقاتل مع راكبه والأنثى بخلاف ذلك ، وقد تقطع بصاحبها أحوج ما يكون إليها ، إذا كانت وديقاً ، ورأت فحلاً ، ولا يرد على ذلك ركوب جبريل عليه السلام أنثى ، لما جاز البحر بموسى عليه السلام ، لأن ذلك لركوب فرعون فحلا فقصد طلبه للأنثى وعجز فرعون عن إمساك رأسه . وأما قولنا إن العربيات قبل البراذين ، فلما ذكر من حديث إسماعيل عليه السلام ، ولأن العربيات أشرف وآصل . والبرذون إنما يكون بعارض أو علة إما فيه وإما في أبيه أو أمه ، ولم تكن البراذين تذكر فيما خلا من الزمان ألا ترى إلى قصة إسماعيل عليه السلام ، وقصة سليمان عليه السلام ، وإنما البراذين ما انتحس من الخيل ، حتى اختلف العلماء هل يسهم كما يسهم للفرس العربي أو لا ؟ وفي حديث من مراسيل مكحول ، في بعض ألفاظه " للفرس سهمان وللهجين سهم " . فهذه الرواية تقتضي أن الهجين لا يسمى فرساً ، والهجين هو البرذون أو قريب منه . وبالجملة البراذين حثالة الخيل وما كان الله تعالى ليخلق من الجنس حثالة في الأول . وأما الأحاديث النبوية والأثار الصحيحة ، فإن ما جاء منها في فضيلة الخيل وسباقها ، وشياتها وفضيلة اتخاذها ، وبركتها والنفقة عليها وخدمتها ، ومسح نواصيها والتماس نسلها ، وثمنها ونمائها ، والنهي عن خصائها ، وجز نواصيها وأذنابها وإزالتها ، وفيما يقسم لصاحبها من الغنيمة واختلاف العلماء فيه ، وهل يجب فيها زكاة أو لا ؟ وغير ذلك أضر بنا للعجلة .
وهذه نبذة يسيرة كتبتها على سبيل العجلة في ساعة من النهار ، ولعجلة المطالب بها ، وإن اخترتم كتبت فيها كتاباً مستقلاً إن شاء الله تعالى . الحكم : أكل لحوم الخيل يأتي إن شاء الله تعالى ، في باب الفاء في لفظ الفرس . وذكر الصميري ، في شرح الكفاية ، أنه لا يجوز بيعها لأهل الحرب كالسلاح ، ويكره أن تقلد الأوتار لما روى البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي عن أبي بشير الأنصاري رضي الله تعالى عنه أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) نهى عن ذلك قال الخطابي : " وأمره ( صلى الله عليه وسلم ) بقطع قلائد الخيل " . قال مالك : أراه من أجل العين . وقال غيره : إنما أمر بقطعها لأنهم كانوا يعلقون فيها الأجراس ، وقال آخرون : لئلا تختنق بها عند شدة الركض ، ويحتمل أن يكون أراد عين الوتر خاصة دون غيره من السيور والخيوط . وقيل : معناه لا تطلبوا عليها الأوتار والدخول ولا تركضوها في درك الثار ، على ما كان من عادتهم في الجاهلية والسبق فيها معتبر بالأعناق ، وفي الإبل بالأكتاف ، لأن الإبل ترفع أعناقها في العدو ،(1/439)
"""""" صفحة رقم 440 """"""
فلا يمكن اعتبار مدها ، والخيل تمدها . والمراد : إذا استوت أعناقها في الطول والقصر والإرتفاع لقوله ( صلى الله عليه وسلم ) : " بعثت أنا و الساعة كفرسي رهان كاد أحدهما أن يسبق الآخر بإذنه " . وفي المستدرك وسنن أبي داود وابن ماجة ومسند أحمد من حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال : " من أدخل فرساً بين فرسين ، ولا يأمن أن يسبق فليس بقمار ، ومن أدخل فرساً بين فرسين وقد أمن أن يسبق فهو قمار " . والصحيح أن الذمي يمنع من ركوبها ، لقوله تعالى : " ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم " فأمر أولياءه بإعدادها لأعدائه ، ولأن ظهورها عز ، وهم ضربت عليهم الذلة . وفي وجه أنهم لا يمنعون وينسب لأبي حنيفة مثله . وقال الشيخ أبو محمد الجويني : يمنعون من الشريفة دون البراذين الخسيسة . وألحق الإمام والغزالي البغال النفيسة بالخيل ، وجزم به الفوراني ولم يقيده بالنفيسة . ولا زكاة في الخيل عند الجمهور ، لقوله ( صلى الله عليه وسلم ) : " ليس على المسلم في عبده ولا فرسه صدقة " . متفق عليه . وأوجبها أبو حنيفة في إناثها المنفردة أو المجتمعة مع الذكور فعند ذلك صاحبها بالخيار ، وإن شاء أعطى عن كل فرس ديناراً وإن شاء قومها وأعطى من كل مائتي درهم خمسة دراهم ، وإن كانت ذكوراً منفردة فلا شيء فيها .
الأمثال : قالوا : " الخيل ميامين " . أي مباركات . قالوا : " الخيل أعلم بفرسانها " يضرب للرجل يظن أن عنده غناء ولا غناء عنده . ومن كلمات النبي ( صلى الله عليه وسلم ) التي لم يسبق إليها قوله : " يا خيل الله اركبي " . قالها يوم حنين في حديث أخرجه مسلم وهو على حذف مضاف ، أراد ( صلى الله عليه وسلم ) : أيا فرسان خيل الله اركبي " . وهو من أحسن المجازات ، كقوله تعالى : " وأجلب عليهم بخيلك ورجلك " قال الجاحظ ، في كتاب البيان والتبيين : عن يونس بن حبيب إنه قال : لم يبلغنا من بدائع الكلام ما بلغنا عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ، وغلط في هذا الحديث ونسب إلى التصحيف ، وإنما قال القائل : ما بلغنا عن البتي ، يريد عثمان البتي ، فصحف الجاحظ . قالوا : والنبي ( صلى الله عليه وسلم ) أجل من أن يخلط مع غيره من الفصحاء حتى يقال : ما بلغنا عنه من الفصاحة أكثر من الذي بلغنا عن غيره ، كلامه أجل من ذلك وأعلى ( صلى الله عليه وسلم ) .
الخواص : الخيل إذا سقيت الزرنيخ الأحمر قتلها . وسيأتي إن شاء الله تعالى بيان ذلك في باب الفاء في لفظ الفرس ويأتي طرف من خواصه .
التعبير : الخيل في المنام قوة وزينة وعز وهي أشرف ما ركب من الدواب ، فمن رأى عنده منها شيئاً نال قوة وعزاً . وربما دل ذلك على اتسام حاله ، وادرار رزقه ، وانتصاره على(1/440)
"""""" صفحة رقم 441 """"""
أعدائه ، لقوله تعالى : " زين للناس حب الشهوات من النساء والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة والخيل المسومة والأنعام والحرث " وربما ظفر بعدوه لقوله عز وجل : " ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم " ومن رأى خيلاً تتطاير في الهواء فإنها فتنة . ولا خير في ركوب الخيل في غير محل الركوب كالسطح والحائط ونحوهما ، وخيل البريد في الرؤيا قرب أجل من ركبها وسيأتي إن شاء الله تعالى تتمة الكلام في باب الفاء قي لفظ الفرس كما وعدنا والله أعلم . ومما جرب : لمغل الخيل والدواب أن يكتب على الحوافر الأربع : بسم الله الرحمن الرحيم فأصابها إعصار فيه نار ، فاخترقت عجفون عجفون عجفون شاشيك شاشيك شاشيك وأيضاً يكتب لحمر الخيل والدواب ويعلق عليها وقد جرب ولا طلهه هو هو هو رهت هر هر هر هر هر هر وهو هو هو هو هو هوه ه ه ه ه أمها هيالولوس درروبر حفرب ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم .
أم خنور : على وزن التنور والسفود الضبع وسيأتي إن شاء الله تعالى في باب الضاد المعجمة الكلام عليه والله الموفق للصواب .
باب الدال المهملة
الدابة : ما دب من الحيوان كله ، وقد أخرج بعض الناس منها الطير لقوله تعالى : " وما من دابة في الأرض ولا طائر يطير بجناحيه إلا أمم أمثالكم " ورد بقوله تعالى : " وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها ويعلم مستقرها ومستودعها كل في كتاب مبين " قال الشيخ تاج الدين بن عطاء رحمه الله تعالى : وهذه الآية مصرحة بضمان الحق الرزق ، وقطعت ورود الهواجس والخواطر عن قلوب المؤمنين ، فإن وردت على قلوبهم كرت عليها جيوش الإيمان بالله تعالى ، والثقة به فهزمتها بل نقذف بالحق على الباطل فيدمغه ، فإذا هو زاهق ولأن الطير يدب على الأرض برجليه في بعض حالاته قال الأعشى :
بنات كغصن البان ترتج إن مشت . . . دبيب قطا البطحاء في كل منهل
وقال تعالى : " وكأين من دابة لا تحمل رزقها الله يرزقها وإياكم وهو السميع العليم " وقال عز وجل : " إن شر الدواب عند الله الصم البكم الذين لا يعقلون " قال ابن عطية : مقصود الآية أن يبين أن هذه الطائفة العاتية من الكفار هي شر الناس عند الله تعالى ، وأنها في أخس(1/441)
"""""" صفحة رقم 442 """"""
المنازل لديه وعبر بالدواب ليتأكد ذمهم ، وليفضل الكلب والخنزير والفواسق الخمس ، وغيرها عليهم . والدواب كل ما دب يجمع الحيوان بجملته .
وفي الصحيحين : عن أبي قتادة رضي الله تعالى عنه قال : إن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) مر عليه بجنازة ، فقال : " مستريح ومستراح منه " قالوا : يا رسول الله ما المستريح والمستراح منه ؟ فقال ( صلى الله عليه وسلم ) : " العبد المؤمن مستريح من وصب الدنيا ونصبها إلى رحمة الله تعالى والعبد الفاجر تستريح منه العباد والبلاد والشجر والدواب " . وفي سنن أبي داود والترمذي والنسائي بأسانيد صحيحة عن إبراهيم بن محمد عن أبي سلمة عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال : " ما من دابة إلا وهي مصيخة يوم الجمعة خشية أن تقوم الساعة " . يروي مصيخة ومسيخة بالصاد والسين والأصل الصاد ومعانهما منصتة مستمعة .
وفي الحلية : في ترجمة أبي لبابة الأنصاري رضي الله تعالى عنه ، وهو من أهل الصفة ، أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال : " إن يوم الجمعة سيد الأيام وأعظمها عند الله تعالى من يوم الفطر ويوم الأضحى ما من ملك مقرب ، ولا سماء ولا أرض ، ولا جبال ولا رياح ، ولا بحر إلا وهو مشفق من يوم الجمعة أن تقوم الساعة " . وفي صحيح مسلم ، عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه ، قال : أخذ النبي ( صلى الله عليه وسلم ) بيدي وقال : " خلق الله التربة يوم السبت ، وخلق فيها الجبال يوم الأحد ، وخلق الشجر يوم الاثنين ، وخلق المكروه يوم الثلاثاء ، وخلق النور يوم الأربعاء ، وبث فيها الدواب يوم الخميس ، وخلق آدم عليه السلام بعد العصر من يوم الجمعة ، في آخر ساعة من ساعات الجمعة ، فيما بين العصر إلى المغرب " .
واعلم : أنه سبحانه وتعالى يخلق ما يشاء بلا كلفة ونصب ، ويختار ما يشاء بلا زلفة وسبب ، يخلق ما يشاء بلا علاج ، ويختار ما يشاء بلا احتياج ، يخلق ما يشاء علماً بربوبيته ، ويختار ما يشاء دلالة على وحدانيته ، سبحانه وتعالى عما يقول الظالمون والجاحدون علواً كبيراً . وفي كامل ابن الأثير إن كسرى كان له خمسون ألف دابة وثلاثة آلاف امرأة . غريبة : في تاريخ ابن خلكان ، في ترجمة ركن الدولة بن بويه ، أنه حارب عدواً له وضاقت الميرة على الطائفتين ، حتى ذبحوا دوابهم ، ولو أمكن ركن الدولة الانهزام لفعل ، فاستشار وزيره أبا الفضل بن العميد في الهرب ، فقال له : لا ملجأ لك إلا إلى الله تعالى ، فانو للمسلمين خيراً ، وصمم العزم على حسن السيرة والإحسان ، فإن الحيل البشرية كلها تقطعت بنا ، وإن انهزمنا تبعونا وقتلونا ، وهم أكثر منا ، فقال قد سبقتك إلى هذا يا أبا الفضل ، قال أبو الفضل : ثم إن ركن الدولة استدعاني في تلك الليلة في الثلث الأخير ، وقال : رأيت الساعة في منامي كأني على(1/442)
"""""" صفحة رقم 443 """"""
دابتي فيروز . وقد انهزم عدونا ، وأنت تسير إلى جانبي وقد جاءنا الفرج من حيث لا نحتسب ، فمددت عيني فرأيت على الأرض خاتماً فأخذته فإذا فصه فيروزج ، فجعلته في إصبعي وتبركت به فانتهيت ، وقد أيقنت بالظفر فإن الفيروزج الفرج جاء ومعناه الظفر ، ولذلك لقب الدابة فيروز . قال ابن العميد : فلم أبرح إذ أتانا الخبر والبشارة بأن العدو قد رحل وتركوا خيامهم ، فما صدقنا حتى تواترت الأخبار فركبنا ولا نعرف سبب هزيمتهم وسرنا حذرين من كيدهم ومكرهم ، وسرت إلى جانبه وهو على دابته فيروز ، فصاح ركن الدولة بغلام بين يديه ناولني ذلك الخاتم فأخذ خاتماً من الأرض فناوله إياه فإذا هو من فيروزج فجعله في اصبعه ، وقال : هذا تأويل رؤياي ، وهذا هو الخاتم الذي رأيته في منامي بعينه . قال : وهذا عن أعجب ما يحكى وإسم ركن الدولة الحسن أبو علي ، وكان ملكاً جليلاً مهاباً وكان قد ملك أصبهان والري وهمذان ، وجميع عراق العجم وقد فتح أكثر البلاد وملكها وقرر قواعدها وضبطها . توفي في المحرم سنة ست وستين وثلثمائة وكان عمره تسعاً وتسعين سنة وكانت مدة ملكه أربعاً وأربعين سنة .
وفي شفاء الصدور لابن سبع السبتي عن أبي سعيد الخدري رضي الله تعالى عنه أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال : " لا تضربوا وجوه الدواب فإن كل شيء يسبح بحمده " وقد تقدم عنه حديث في البهيمة قريب من هذا وفي كتاب الاحياء في باب كسر الشهوتين ، حديث " لا يستدير الرغيف ، ويوضع بين يديك حتى يعمل فيه ثلثمائة وستون صانعاً أولهم ميكائيل الذي يكيل الماء من خزائن الرحمة ، ثم الملائكة التي تزجي سحاباً ، ثم الشمس والقمر والأفلاك ، وملوك الهواء ودواب الأرض ، وآخر ذلك الخباز " وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها " وروى الإمام أحمد والبيهقي في الشعب ، عن محمد بن سيرين ، قال : خرجت دابة تقتل الناس ، فمن دنا منها قتلته فجاء رجل أعور فقال : دعوني وإياها فدنا منها فوضعت رأسها له حتى قتلها . فقالوا : حدثنا بأمرك ، فقال : ما أصبت ذنباً قط إلا ذنباً واحداً بعيني هذه ، فأخذت سهما وفقأتها به . قال الإمام أحمد : ولعل هذا كان جائزاً في شريعة بني إسرائيل ، أو في شريعة من كان قبلنا أما في شريعتنا فلا يجوز فقء العين ، التي ينظر بها إلى ما لا يحل له . لكن يستغفر الله تعالى من ذلك ولا يعود إليه . وذكر ابن خلكان في ترجمة الربيع الجيزي أنه مر يوماً بسكة من سكك مصر ، فطرحت عليه إجانة من رماد ، فنزل عن دابته ، ونفض ثيابه فقيل له ألا تزجرهم فقال : من استحق النار فصولح على الرماد ، لم يجز له أن يغضب . والربيع بن سلمان هذا صاحب الشافعي ، وهو أحد رواة القول الجديد عن الشافعي . وتوفي سنة خمس ومائتين . والجيزي نسبة إلى الجيزة قبالة مصر ، والأهرام في عملها بالقرب منها ، وهي من عجائب أبنية الدنيا ، والأهرام قبور لملوك عظام ، أرادوا أن يتميزوا بها على سائر الملوك بعد مماتهم ، كما تميزوا عليهم في حياتهم . قيل : إن المأمون لما وصل مصر أمر بنقب أحد الهرمين فنقب بعد جهد شديد ، وغرامة نفقة عظيمة ، فوجد داخله مراق ومها ، ويعسر سلوكها ، ووجد في أعلاها بيتاً ، مكعباً ، طول كل ضلع من أضلاعه ثمانية أذرع ، وفي وسطه حوض من صوان مطبق فيه رمة بالية ، قد أتت عليها العصور فكف عن نقب ما(1/443)
"""""" صفحة رقم 444 """"""
سواه . ونقل أن هرمس الأول ، وهو أخنوخ وهو ادريس استدل من أحوال الكواكب ، على كون الطوفان فأمر ببنيان الأهرام ، ويقال : إنه ابتناها في مدة ستة أشهر وكتب فيها : قل لمن يأتي بعدنا يهدمها في ستمائة عام ، والهدم أيسر من البنيان وكسوناها الديباج فليكسها الحصر والحصر أيسر من الديباج . وقال الإمام أبو الفرج بن الجوزي في كتاب سلوة الاحزان : ومن عجائب الهرمين ، أن سمك كل واحد منهما أربعمائة ذراع من رخام ومرمر ، وفيها مكتوب أنا بنيتها بملكي ، فمن ادعى قوة فليهدمها فإن الهدم أيسر من البناء ، قال ابن المنادي : بلغنا أنهم قدروا خراج الدنيا مراراً ، فإذا هو لا يقوم بهدمها والله أعلم . وفي صحيح مسلم وغيره عن صهيب رضي الله تعالى عنه أن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ، قال : " كان ملك من الملوك وكان لذلك الملك كاهن يكهن له وفي رواية ساحر فقال الساحر : إني قد كبرت وأخاف أن أموت فينقطع عنكم علمي ولا يكون فيكم من يعلمه فانظروا إلي غلاماً فهيماً أر قال فطناً لقنا فأعلمه علمي هذا ، فنظروا له غلاماً على ما وصف ، وأمروه أن يحضر ذلك الساحر ، وأن يختلف إليه ، وكان على طريق الغلام راهب في صومعة قال معمر : أحسب أن أصحاب الصوامع يومئذ كانوا مسلمين فجعل الغلام يسأل ذلك الراهب كلما مر به ، فلم يزل به حتى أخبره فقال : إنما أنا عبد الله ، فجعل الغلام يمكث عند الراهب . ويبطىء على الساحر ، فأرسل إلى أهل الغلام أنه لا يكاد يحضرني ، فأخبر الغلام الراهب بذلك فقال له الراهب : إذا خشيت الساحر فقل : حبسني أهلي ، وإذا خشيت أهلك فقل : حبسني الساحر . فبينما الغلام على ذلك إذ أتى على دابة عظيمة وقد حبست الناس ، فقال : اليوم يبين أمر الراهب من أمر الساحر ، فأخذ حجراً وقال : اللهم إن كان أمر الراهب أحب إليك من أمر الساحر فاقتل هذه الدابة ، ثم رمى بالحجر فقتلها . فقال الناس من قتلها . فقالوا : الغلام . ففزع الناس ، وقالوا : لقد علم هذا الغلام علماً لم يعلمه أحد . قال : فسمع به أعمى ، كان جليساً للملك ، فقال له : إن رددت بصري فلك كذا وكذا فقال له : لا أريد منك شيئاً ولكن أرأيت إن رجع إليك بصرك ، أتؤمن بالذي رده لك ؟ قال : نعم فدعا الله تعالى فرد عليه بصره ، فأمن الأعمى ، وإنه جاء إلى الملك بعد ما شفي ، فجلس معه كما كان يجلس ، فقال له : من رد عليك بصرك ؟ قال : ربي قال : وهل لك رب غيري ؟ قال : الله ربي وربك . فأمر بالمنشار فوضع على رأسه حتى وقع شقاه " . وفي رواية الترمذي أن تلك الدابة كانت أسداً وأن الغلام لما قتلها أخبر الراهب فقال له إن لك شأناً وإنك تبتلى فلا تدل علي . وإن الملك بلغه أمرهم فبعث إليهم فأتي بهم إليه فقال : لأقتلن كل واحد منكم قتلة لا أقتل بها صاحبه ، ثم أمر بالراهب وبالرجل الذي كان أعمى فوضع المنشار على مفرق كل واحد منهما فقتله ، ثم قتله المقعد بقتلة أخرى ، ثم أمر بالغلام ، فقال : انطلقوا به إلى جبل كذا وكذا ، فألقوه من رأسه ، فانطلقوا به إلى ذلك الجبل ، فلما انتهوا به إلى ذلك المكان الذي أرادوا أن يلقوه منه ، قال الغلام : اللهم اكفنيهم بما شئت ، فجعلوا يتهافتون من ذلك الجبل ويتردون منه حتى لم يبق منهم إلا الغلام . قال : فرجع الغلام يمشي حتى أتى الملك فقال له : ما فعل أصحابك ؟ قال : كفانيهم ربي بما شاء ، فأمر الملك أن ينطلقوا به إلى البحر ، فيلقوه فيه ، فانطلقوا به إلى البحر فقال الغلام : اللهم اكفنيهم بما شئت(1/444)
"""""" صفحة رقم 445 """"""
فأغرق الله عز وجل الذين كانوا معه ، وأنجاه . فأقبل الغلام يمشي على وجه الماء حتى أتى الملك فتحير الملك في نفسه ، فقال له الغلام : أتريد أن تقتلني ؟ قال : نعم . قال : إنك لا تقدر على ذلك حتى تصلبني وترميني بسهم من كنانتي وتقول إذا رميتني : بسم الله رب هذا الغلام بعد أن تجمع الناس في صعيد واحد . قال : فجمع الملك الناس في صعيد واحد وأمر بالغلام أن يصلب فصلب ، وأخذ الملك سهماً من كناية الغلام وقال : بسم الله رب هذا الغلام ورماه فوقع السهم في صدغه فقتله ووضع الغلام يده على صدغه فقال الناس : آمنا برب هذا الغلام . فقيل للملك : إنك جزعت حين خالفك ثلاثة ، فهذا العالم كلهم قد خالفوك فأمر بالأخدود ، فخد أخدوداً ثم ألقي فيه الحطب والنار ثم جمع الناس وقال لهم : من رجع عن دينه تركناه ، ومن لم يرجع ألقيناه في هذه النار . فجعل يلقيهم في ذلك الأخدود . فذلك قوله تعالى : " قتل أصحاب الأخدود النار ذات الوقود " زاد مسلم فأتى بامرأة لتلقى في النار ومعها صبي رضيع ، فجزعت فقال لها : الغلام يا أماه لا تجزعي فإنك على الحق . وذكر ابن قتيبة أن الغلام الرضيع ، كان عمره سبعة أشهر . قال الترمذي وإن الغلام أخرج في زمان عمر رضي الله تعالى عنه ويده على صدغه كما وضعها حين قتل .
وذكر صاحب السيرة محمد بن إسحاق فيها أن إسمه عبد الله بن التامر . وأن رجلاً من أهل نجران حفر خربة في زمن عمر رضي الله تعالى عنه في بعض حاجته ، فوجده تحت الردم قاعداً واضعاً يده على ضرية في صدغه ، وفي يده خاتم مكتوب عليه " ربي الله " فكتبوا بذلك إلى عمر رضي الله تعالى عنه فكتب إليهم أن أقروه على حاله ففعلوا . قال السهيلي . ويصدقه قوله عز وجل " ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتاً " الآية وقوله ( صلى الله عليه وسلم ) : " إن الله حرم على الأرض أن تأكل أجساد الأنبياء " . خرجه أبو داود وذكر أبو جعفر الداودي هذا الحديث بزيادة ذكر الشهداء والعلماء والمؤذنين ، قال : وهي زيادة غريبة ، لكن الداودي من أهل الثقة والعلم . انتهى .
قال ابن بشكوال وكان إسم ذلك الملك يوسف ذا نواس ، وكان بنجران وكان ملك حمير وما حوله ، وقيل إسمه زرعة ذو نواس ، وكان على دين اليهودية قاله السمرقندي . والوقعة كانت قبل مبعث النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ، بسبعين سنة ، وكان إسم ذلك الراهب قيتمون ، قاله ابن بشكوال .
وفي المثل السائر : " فلان أكذب من دب ودرج " . قال الجوهري : معناه أكذب الأحياء والأموات ، لأنهم يدرجون في الأكفان وروى الترمذي الحكيم ، عن زيد بن أسلم أن الأشعريين أبا موسى وأبا مالك وأبا عامر رضي الله تعالى عنهم في نفر منهم لما هاجروا قدموا على رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ، وقد أرملوا من الزاد ، فأرسلوا قاصدهم إلى النبي ( صلى الله عليه وسلم ) يسأله ، فلما انتهى إليه سمعه يقرأ " وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها " فقال الرجل : ما الأشعريون بأهون(1/445)
"""""" صفحة رقم 446 """"""
على الله من الدواب ، فرجع ولم يدخل على النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فأتى أصحابه وقال لهم : أبشروا فقد جاءكم الغوث فظنوا أنه قد أعلم النبي ( صلى الله عليه وسلم ) بحالهم ، فبينما هم كذلك إذ أتاهم رجلان معهما قصعة مملوأة خبزاً ولحماً فأكلوا ما شاء الله ، ثم قال بعضهم لبعض : ردوا بقية هذا الطعام على رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فردوه ، ثم إنهم أتوه فقالوا : يا رسول الله لم نر طعاماً أكثر ولا أطيب من طعام أرسلته إلينا فقال ( صلى الله عليه وسلم ) : " ما أرسلنا إليكم شيئاً فأخبروه أنهم أرسلوا صاحبهم إليه ، فسأله ( صلى الله عليه وسلم ) فأخبره بما صنع ، فقال ( صلى الله عليه وسلم ) : " ذلكم شيء رزقكموه الله عز وجل " . قال الشيخ تاج الدين بن عطاء الله السكندري : هذه آية مصرحة بضمان الحق الرزق ، وقطعت ورود الهواجس والخواطر عن قلوب المؤمنين ، فإن وردت على قلوبهم ، كرت عليها جيوش الإيمان بالله والثقة به وبضمانه فهزمتها بل نقذف بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق .
وذكر : ابن السني عن عبد الله بن مسعود رضي الله تعالى عنه قال : إن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال : إذا انفلتت دابة أحدكم بأرض فلاة فليناد : يا عباد الله احبسوا فإن الله عز وجل في الأرض حابساً يحبسها " . قال : الإمام النووي رحمه الله تعالى حكى لي بعض شيوخنا الكبار في العلم ، أنه انفلتت له دابة ، أظنها بغلة ، وكان يعرف هذا الحديث ، فقاله فحبسها الله تعالى عليه في الحال . قال : وكنت أنا مرة مع جماعة ، فانفلتت منهم بهيمة ، فعجزوا عنها فقلت هذا الحديث فوقفت في الحال بغير سبب سوى هذا الكلام . وروى ابن السني أيضاً ، عن الإمام السيد الجليل المجمع على جلالته وحفظه ، وديانته وورعه ونزاهته ، أبي عبد الله يونس بن عبيد بن دينار المصري التابعي ، المشهور ، رحمه الله تعالى ، أنه قال : ليس رجل يكون على دابة صعبة ، فيقول في أذنها : " أفغير دين الله يبغون وله أسلم من في السموات والأرض طوعاً وكرهاً وإليه ترجعون " إلا وقفت بإذن الله تعالى . وروى الطبراني ، في معجمه الأوسط ، من حديث أنس رضي الله تعالى عنه أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال : من ساء خلقه من الرقيق والدواب والصبيان فاقرؤوا في أذنه " أفغير عين الله تبغون وله أسلم من في السموات والأرض طوعاً وكرهاً وإليه ترجعون . وقد تقدم في باب الباء الموحدة في لفظ البغلة أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ركب بغلة فحادت به فحبسها ، وأمر رجلاً أن يقرأ عليها قل أعوذ برب الفلق فسكنت . فرع : في كتب الحنابلة يجوز الانتفاع بالدابة في غير ما خلقت له كالبقر للحمل واللركوب ، والإبل والحمير للحرث وقوله ( صلى الله عليه وسلم ) : " بينما رجل يسوق بقرة إذ أراد أن يركبها فقالت : إنا لم نخلق لذلك " . متفق عليه . المراد أنه معظم منافعها ولا يلزم منه منع غير ذلك . وقال الإمام أحمد من شتم دابة ، قال الصالحون : لا تقبل شهادته لحديث المرأة التي لعنت الناقة . وفي صحيح مسلم عن أبي الدرداء رضي الله عنه : " لا يكون اللعانون شفعاء ولا شهداء يوم القيامة " .
فرع : يجب على مالك الدابة علفها ورعيها وسقيها لحرمة الروح كما في الصحيح عذبت(1/446)
"""""" صفحة رقم 447 """"""
امرأة في هرة لأنها ذات روح فأشبهت العبد . فإن لم تكن ترعى لزمه أن يعلفها ويسقيها إلى أول شبعها وريها دون غايتهما ، وإن كانت ترعى لزمه إرسالها لذلك حتى تشبع وتروى بشرط فقد السباع العادية ووجود الماء ، فإن اكتفت بكل من الرعي أو العلف خير بينهما فإن لم تكتف إلا بهما الزماه ، وإن احتاجت البهيمة إلى السقي ومعه ماء يحتاج إليه لطهارته سقاها وتيمم ، فإن من امتنع من العلف أجبر في مأكولة على بيع أو علف أو ذبح ، وفي غيرها على بيع أو علف صيانة لها عن الهلاك فإن لم يفعل فعل الحاكم ما تقتضيه المصلحة ، فإن كان له مال ظاهر بيع في النفقة ، فإن تعذر جميع ذلك فمن بيت المال .
فائدة : يستحب أن يقول عند ركوب الدابة ما رواه الحاكم والترمذي وصححاه عن علي بن ربيعة ، قال : شهدت علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه ، وقد أتى بدابة ليركبها ، فلما وضع رجله في الركاب قال : بسم الله ، فلما استوى على ظهرها قال : الحمد لله ، ثم قال : سبحان الذي سخر لنا هذا وما كنا له مقرنين وإنا إلى ربنا لمنقلبون . ثم قال : الحمد لله ثلاث مرات ، ثم قال الله أكبر ثلاث مرات ، ثم قال : سبحانك اللهم إني ظلمت نفسي فاغفر لي ، فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت ثم ضحك . فقيل : يا أمير المؤمنين من أي شيء ضحكت ؟ قال : رأيت النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فعل كما فعلت ، فقلت : يا رسول الله من أي شيء ضحكت . قال : " إن ربك تعالى يعجب من عبد إذا قال : رب اغفر لي ذنوبي يعلم أنه لا يغفر الذنوب غيري " .
وروى أبو القاسم الطبراني ، في كتاب الدعوات ، عن عطاء عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما ، عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أنه قال : " إذا ركب العبد الدابة ولم يذكر إسم الله تعالى ، ردفه الشيطان فقال : تغن فإن كان لا يحسن الغناء ، قال له : تمن فلا يزال في أمنيته حتى ينزل " وفيه عن أبي الدرداء رضي الله أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال : " من قال إذا ركب دابة : بسم الله الذي لا يضر مع اسمه شيء سبحانه ليس له سمي ، سبحان الذي سخر لنا هذا وما كنا له مقرنين ، وإنا إلى ربنا لمنقلبون ، الحمد لله رب العالمين ، وصلى الله على سيدنا محمد وعليه السلام . قالت : الدابة " بارك الله عليك من مؤمن خففت ، عن ظهري وأطعت ربك ، وأحسنت إلى نفسك بارك الله لك في سفرك وأنجح حاجتك " .
وروى ابن أبي الدنيا عن محمد بن ادريس عن أبي النضر الدمشقي عن إسماعيل ابن عياش ، عن عمرو بن قيس الملائي ، أنه قال : إذا ركب الرجل الدابة ، قالت : اللهم اجعل بي رفيقاً رحيماً ، فإذا لعنها ، قالت : على أعصانا لله لعنة الله . وفي كامل ابن عدي في ترجمة عباد . ابن كثير الثقفي ، وكان شعبة ، لا يستغفر له ، أنه روى عن ابن طاوس عن أبيه ، عن ابن عم رضي الله تعالى عنهما ، أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال : " اضربوا الدواب على النفار ولا تضربوها على العثار " فرع : يجوز الأرداف على الدابة إذا كانت مطيقة ، ولا يجوز إذا لم تطقه . ففي الصحيحين عن أسامة بن زيد رضي الله تعالى عنه أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) " أردفه حين دفع من عرفات(1/447)
"""""" صفحة رقم 448 """"""
إلى المزدلفة ، ثم أردف الفضل بن العباس رضي الله تعالى عنهما ، من مزدلفة إلى منى ، وأنه ( صلى الله عليه وسلم ) أردف معاذاً رضي الله تعالى عنه على الرحل ، وأردفه على حمار يقال له عفير وأمر ( صلى الله عليه وسلم ) عبد الرحمن ابن أبي بكر رضي الله تعالى عنهما ، أن يعتمر بأخته عائشة رضي الله تعالى عنها من التنعيم ، فأدرفها وراءه على راحلته ، وأردف ( صلى الله عليه وسلم ) صفية أم المؤمنين رضي الله تعالى عنها وراءه ، حين تزوجها بخيبر " وإذا أردف صاحب الدابة ، فهو أحق بصدرها ويكون الرديف وراءه إلا أن يرضى صاحبها بتقديمه لجلالته أو غير ذلك . وأفاد الحافظ ابن منلى أن الذين أردفهم النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ثلاثة وثلاثون نفساً ، ولم يذكر فيهم عقبة بن عامر الجهني رضي الله تعالى عنه ، ولم يذكر أحد من علماء الحديث والسير أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أردفه . وروى الطبراني عن جابر رضي الله تعالى عنه أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) " نهى أن يركب ثلاثة على دابة " .
فرع : قال أصحابنا ما ليس مأكولاً من الدواب والطيور ، إن كان فيه مضرة متمحضة ، استحب قتله للمحرم وغيره كالفواسق الخمس والذئب والأسد والنمر والنسر والحدأة والبرغوث والقمل والزنبور والبق والقراد وأشباهها . فإن كان فيه منفعة ومضرة كالفهد والكلب المعلم والعقاب والبازي والصقر ونحوها فلا يستحب قتله لما فيه من المنفعة ، ولا يكره لما فيه من الضرر ، وهو الصيال على حمام الناس . والعقر وإن لم يكن فيه نفع ولا ضرر كالخنافس والدود والجعلان والسرطان والبغاث والرخمة والعظاءة واللجا والذباب وأشباهها ، فيكره قتله ولا يحرم ، على ما قطع به الجمهور وحكى الإمام وجهاً شاذاً أنه يحرم قتل الطيور دون الحشرات لأنه عبث بلا حاجة .
وأما دابة الأرض التي ذكرها الله تعالى في سورة سبأ . فهي الأرضة ، وقيل سوسة الخشب قال الله تعالى : " فلما قضينا عليه الموت ما دلهم على موته إلا دابة الأرض تأكل منسأته " السبب في ذلك أن سليمان عليه السلام ، كان قد أمر الجن ببناء صرح ، فبنوه له ، ودخله مختفياً ليصفو له يوم واحد من الدهر عن الكدر ، فدخل عليه شاب فقال له : كيف دخلت من غير استئذان ؟ فقال له إنما دخلت بإذن . قال : ومن أذن لك ؟ قال : رب هذا الصرح فعلم سليمان أنه ملك الموت ، أتى ليقبض روحه . فقال : سبحان الله ، هذا اليوم الذي طلبت فيه الصفاء . فقال له : طلبت ما لم يخلق . فاستوثق من الاتكاء على العصا . وقد كانت بيت المقدس بقي من تمام بنائه سنة ، فسأل الله تعالى تمامها على يد الإنس والجن . وكان يخلو بنفسه الشهرين والثلاثة فكانوا يقولون إنه يتحنث أي يعبد ربه ، فقبض روحه ، وكانت الجن تدعي علم الغيب ، فلما قبض ، بقيت الجن تعمل على عادتها ، وقيل : إن ملك الموت أعلمه أنه بقي من عمره ساعة فدعا الجن فبنوا له الصرح ، وقام يصلي متكئاً على عصاه ، فمات وهو متكىء عليها وكانت الشياطين تجتمع حول محرابه فلا ينظر أحد منهم إليه في صلاته إلا احترق ، فمر واحد منهم فلم يسمع صوته ، ثم رجع فسلم فلم يسمع له كلاماً ، فنظر فإذا هو قد خر ميتاً ، فعلمت الإنس أن الجن لو كانوا يعلمون الغيب ما لبثوا في العذاب المهين سنة . وكان عمره عليه السلام ثلاثاً وخمسين سنة . والمنسأة العصا(1/448)
"""""" صفحة رقم 449 """"""
وكانت من خروب ، وذلك أنه كان يتعبد في بيت المقدس فينبت له في محرابه كل سنة شجرة ، فيسألها ما إسمك ؟ فتقول الشجرة : إسمي كذا ، فيقول لها : لأي شيء أنت . فتقول : لكذا وكذا فيأمر بها فتقلع ، فإن كانت تنبت بغرس غرست ، وإن كانت لدواء كتبت ، فبينما هو ذات يوم ، إذ رأى شجرة بين يديه فقال لها : ما إسمك ؟ قالت : أنا الخروبة خرجت لخراب ملكك . فعرف أنه قد حضر أجله ، فاستعد واتخذ منها عصا ، واستدعى بزاد سنة ، والجن تتوهم أنه يأكل بالليل . وكان أمر الله قدراً مقدوراً ، وكان الذي ابتدأ في بناء بيت المقدس داود عليه السلام ، فرفعه قامة رجل ثم مات ، فلما استخلف ابنه سليمان عليه السلام ، أحب اتمامه فجمع الجن والشياطين ، وقسم عليهم الأعمال ، فخص كل طائفة منهم بعمل يستصلحها له ، فأرسل الجن والشياطين في تحصيل الرخام والمها الأبيض ، وأمر ببناء المدينة بالرخام والصفاح ، وجعلها اثني عشر ربضاً ، وأنزل في كل ربض منها سبطاً ، فلما فرغ من بناء المدينة ، ابتدأ في عمارة المسجد ، فوجه الشياطين فرقاً فرقاً ، يستخرجون الذهب والفضة والياقوت من معادنها ، والحر الصافي من البحر ، وفرقاً يقلعون الجواهر والرخام من أماكنها ، وفرقاً يأتونه بالمسك والعنبر وسائر أنواع الطيب . فأتى من ذلك بشيء لا يحصيه إلا الله تعالى ، ثم أحضر الصناع وأمرهم بنحت تلك الحجارة المرتفعة ، وتصييرها ألواحاً ، وثقب اليواقيت واللآلىء ، واصلاح الجواهر ، فبنى المسجد بالرخام الأبيض والأصفر والأخضر وعمده بأساطين المها الصافي ، وسقفه بألواح الجواهر الثمينة ، ونضد سقوفه وحيطانه باللآلىء واليواقيت ، وسائر الجواهر وبسط أرضه بألواح الفيروزج ، فلم يكن يومئذ في الأرض بيت أبهى ولا أنور من ذلك المسجد ، كان يضيء في الظلماء كالقمر ليلة البدر ، فلما فرغ منه جمع إليه أحبار بني إسرائيل ، فأعلم أنه قد بناه لله عز وجل خالصاً واتخذ ذلك اليوم عيداً .
فائدة : قال بعض العلماء : سخر الله عز وجل الجن لسليمان عليه السلام ، وأمرهم بطاعته ، ووكل بهم ملكا بيده صوت من نار ، فمن زاغ منهم عن أمره ، ضربه الملك ضربة أحرقته . قال أهل التفسير : أجرى الله تعالى لسليمان عين النحاس ثلاثة أيام بلياليهن كجري الماء ، وكان ذلك بأرض اليمن ، وإنما ينتفع الناس اليوم بما أخرج الله لسليمان من النحاس .
وروى الحاكم عن إبراهيم بن طهمان ، عن عطاء بن السائب ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما ، أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال : كان سليمان نبي الله ، إذا قام في مصلاه ، رأى شجرة نابتة بين يديه فيقول : ما إسمك ؟ فتقول : كذا . فيقول : لأي شيء أنت ؟ فتقول : لكذا وكذا فإذا كانت لدواء كتبت ، وإن كانت لغرس غرست ، فبينما هو يصلي يوماً إذ رأى شجرة ، فقال : ما إسمك ؟ قالت : الخروب . فقال : لأي شيء أنت ؟ قالت : لخراب هذا البيت . فقال سليمان عند ذلك : اللهم عم على الجن موتي ، حتى يعلم الإنس إن الجن لا تعلم الغيب ، قال : فاتخذ منها عصاً ، وتوكأ عليها ، فأكلتها الأرضة ، فسقط ، فوجدوه ميتاً حولاً ، فتبينت الإنس أن الجن ، لو كانوا يعلمون الغيب ، ما لبثوا حولاً في العذاب المهين " . وكان ابن عباس رضي الله تعالى عنهما يقرؤها هكذا ما لبثوا حولاً في العذاب المهين ، فشكرت الجن الأرضة . وكانت تأتيها بالماء والتراب حيث كانت ثم قال : صحيح الإسناد .(1/449)
"""""" صفحة رقم 450 """"""
وأما الدابة التي هي أحد اشراط الساعة ، فقال ابن عمر رضي الله تعالى عنهما في قوله تعالى : " وإذا وقع القول عليهم أخرجنا لهم دابة من الأرض تكلمهم " ، قال : إذا لم يأمروا بالمعروف ، ولم ينهوا عن المنكر . قيل : إنها دابة طولها ستون ذراعاً ذات قوائم ووبر ، وقيل : هي مختلفة تشبه عدة من الحيوانات ، يتصدع لها جبل الصفا فتخرج منه ليلة جمع ، والناس سائرون إلى متى . وقيل : تخرج من الحجر وقيل : من أرض الطائف ، ومعها عصا موسى ، وخاتم سليمان عليهما السلام ، لا يدركها طالب ولا يعجزها هارب تضرب المؤمن بالعصا ، وتكتب في وجهه مؤمن ، وتطبع الكافر بالخاتم وتكتب في وجهه كافر . كذا رواه الحاكم في أواخر المستدرك عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ، وفيه عن أبي الطفيل عن أبي شريحة عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ، أنه قال : " يكون للدابة ثلاث خرجات في الدهر : تخرج أول خرجة بأقصى اليمن ، فيفشو ذكرها بالبادية ، ولا يدخل ذكرها القرية ، يعني مكة . ثم يكون زمان طويل ثم تخرج خرجة أخرى قريباً من مكة فيفشو ذكرها في البادية ، ويدخل ذكرها القرية ، يعني مكة ، ثم يكون زمان فبينما الناس يوماً في أعظم المساجد عند الله حرمة ، وأحبها إلى الله تعالى ، وأكرمها على الله عز وجل ، يعني المسجد الحرام ، لم يرعهم إلا وهي في ناحية المسجد بين الركن الأسود وباب بني مخزوم ، فترفض الناس عنها شتى ، وتثبت لها عصابة من المسلمين عرفوا أنهم لن يعجزوا الله هرباً فتنفض عن رؤوسهم التراب ، فتجلو عن وجوههم حتى تظل كأنها الكواكب الحرية ، ثم تذهب في الأرض فلا يدركها طالب ، ولا يعجزها هارب ، حتى إن الرجل ليعوذ منها بالصلاة ، فتأتيه من خلفه فتقول : أي فلان الآن تصلي ؟ فيلتفت إليها فتسمه في وجهه ، ثم تذهب فيتجاور الناس في ديارهم ، ويصطحبون في أسفارهم ، ويشتركون في أموالهم ، يعرف المؤمن من الكافر ، حتى إن الكافر يقول : يا مؤمن اقضني ، ويقول المؤمن : يا كافر اقضني . وروى السهيلي أن موسى عليه السلام سأل ربه عز وجل أن يريه الدابة التي تكلم الناس ، فأخرجها الله له من الأرض ، فرأى منظراً أفزعه وهاله ، قال : أي رب ردها ، فردها . قال : والدابة اسمها أقصد . كذا ذكره محمد بن الحسن المقري في تفسيره انتهى .
روى أنها تخرج حين ينقطع الخير ، ولا يؤمر بالمعروف ، ولا ينهى عن المنكر ، ولا يبقى منيب ولا تائب .
وفي الحديث : " أن الدابة وطلوع الشمس من المغرب ، من أول اشراط الساعة " . ولم يعين الأول منهما ، وكذلك الدجال وظاهر الأحاديث أن طلوع الشمس آخرها ، والظاهر إن الدابة التي تخرج واحدة ، وروي أنه يخرج من كل بلد دابة ، مما هو مبثوث نوعها في الأرض ، وليست بواحدة ، فعلى هذا يكون قوله تعالى دابة إسم جنس .(1/450)
"""""" صفحة رقم 451 """"""
وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما ، أنها الثعبان الذي كان في جوف الكعبة ، واختطفه العقاب ، حين أرادت قريش بناء البيت الحرام ، وأن الطائر حين اختطفها ، ألقاها بالحجون ، فالتقمتها الأرض ، فهي الدابة التي تخرج تكلم الناس ، وتخرج عند الصفا . قاله محمد بن الحسن المقري ، وهو غريب غير أن الرجل من أهل العلم ، ولذلك حكينا قوله ، وقال القرطبي : أنها فصيل . ناقة صالح ، لقوله في الحديث : " تخرج ولها رغاء " . والرغاء لا يكون إلا للإبل وهو غريب أيضاً . وفي الميزان للذهبي ، عن جابر الجعفي أنه كان يقول : دابة الأرض علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه . قال : وكان جابراً الجعفي شيعياً يرى الرجعة أي أن علياً رضي الله تعالى عنه يرجع إلى الدنيا ، وقال الإمام أبو حنيفة رضي الله تعالى عنه : ما لقيت أحداً أكذب من جابر الجعفي ، ولا أفضل من عطاء بن أبي رباح . وقال الإمام الشافعي رضي الله تعالى عنه : أخبرني سفيان بن عيينة قال : كنا في منزل جابر الجعفي فتكلم بشيء ، فخرجنا مخافة أن يقع علينا السقف ، قلت : ومع ذلك روى له أبو داود والترمذي وابن ماجه ، ووفاته سنة ست وستين ومائة . واختلف العلماء في كيفية خلق الدابة اختلافاً كثيراً فقيل إنها على خلقة الآدمين وقيل : جمعت خلق كل حيوان . وهنا فائدة : وهي أن المفسرين اختلفوا في تفسير قوله تعالى : " أخرجنا لهم دابة من الأرض تكلمهم " قيل : تكلمهم ببطلان الأديان ، سوى دين الإسلام ، قاله السدي . وقيل : كلامها أن تقول لواحد : هذا مؤمن ، وتقول لآخر : هذا كافر . وقيل : كلامها ما قاله الله عز وجل " إن الناس كانوا بآياتنا لا يوقنون ، ويكون كلامها بالعربية . وروي عن علي رضي الله تعالى عنه ، إنه قال : ليست بدابة لها ذنب ولكن كالحية . كأنه يشير إلى أنها رجل والاكثرون على إنها دابة . وروى ابن جريج عن أبي الزبير أنه وصف الدابة فقال : رأسها رأس ثور ، وعيناها عينا خنزير ، وأذنها أذن فيل ، وقرنها قرن ايل ، وصدرها صدر أسد ، ولونها لون نمر ، وخاصرتها خاصرة هر ، وذنبها ذنب كبش ، وقوائمها قوائم بعير ، بين كل مفصلين اثنا عشر ذراعاً . وروى الثعلبي عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما أنه قال : تخرج الدابة من صدع في الصفا تجري كجري الفرس ثلاثة أيام وما خرج ثلثها . وروي أيضاً عن حذيفة بن اليمان رضي الله تعالى عنه أنه قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) : الدابة تخرج من أعظم المساجد حرمة عند الله تعالى ، بينما عيسى عليه السلام يطوف بالبيت ، ومعه المسلمون ، فتضطرب الأرض من تحتهم ، وينشق الصفا مما يلي المسعى وتخرج الدابة من الصفا ، أول ما يبدو منها رأسها ، ملمعة ذات وبر وريش ، لا يدركها طالب ، ولا يفوتها هارب ، تسم الناس مؤمناً وكافراً أما المؤمن فتترك وجهه كأنه كوكب دري ، وتكتب بين عينه : مؤمن ، وأما الكافر فتترك في وجهه نكتة سوداء وتكتب بين عينيه : كافر . وروي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه قرع الصفا بعصاه ، وهو محرم ، وقال : إن الدابة لتسمع قرع عصاي هذه . وعن عبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنهما أنه قال : تخرج الدابة من شعب أبي قبيس رأسها في السحاب ورجلاها في الأرض . وعن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه ، أن النبي ( صلى الله عليه وسلم )(1/451)
"""""" صفحة رقم 452 """"""
قال : " بئس الشعب شعب أجياد " مرتين أو ثلاثاً ، قيل : ولم ذلك يا رسول الله ؟ قال ( صلى الله عليه وسلم ) : " لأنه تخرج منه الدابة فتصرخ ثلاث صرخات ، يسمعها من بين الخافقين " .
وقيل إن وجهها وجه رجل ، وسائر خلقتها كخلقة الطير ، فتكلم من رآها أن أهل مكة كانوا بمحمد ( صلى الله عليه وسلم ) والقرآن لا يوقنون .
فرع : أوصى لرجل بدابة حمل على فرس وبغل وحمار ، لأنها في اللغة إسم لما دب على رجه الأرض ، ثم قصرها العرف على ذوات الأربع والوصية تنزل على العرف ، وإذا ثبت عرف في بلد عم جميع البلاد ، كما لو حلف لا يركب دابة فركب كافراً لا يحنث ، وإن كان الله تعالى قد سماه دابة وكما لو احلف لا يأكل خبزاً حنث بأكل خبز الأرز في طبرستان على الأصح هذا هو المنصوص .
وقال ابن سريج : إنما ذكر الشافعي هذا ، على عرف أهل مصر ، في ركوبها جميعاً ، واستعمال لفظ الدابة فيها . أما حيث لا يستعمل إلا في الفرس كالعراق ، فإنه لا يعطي سواها ، وقيل : إن قاله بمصر لم يعط إلا حماراً قاله في البحر ويدخل في لفظ الدابة الكبير والصغير ، والذكر والأنثى والسليم والمعيب ، وقال المتولي : إلا ما يمكن ركوبه . فرع : يكره دوام الوقوف على الدابة لغير حاجة ، وترك النزول عنها للحاجة ، لما في سنن أبي داود والبيهقي ، من حديث أبي مريم ، عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه ، أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال : " إياكم أن تتخذوا ظهور دوابكم منابر ، فإن الله عز وجل إنما سخرها لكم لتبلغكم إلى بلد لم تكونوا بالغيه إلا بشق الأنفس ، وجعل لكم في الأرض مستقراً فاقضوا عليها حاجاتكم " . ويجوز الوقوف على ظهرها للحاجة ، ريثما تقضى لما روى مسلم وأبو داود والنسائي ، عن أم الحصين الأحمسية رضي الله تعالى عنها ، قالت : " حججت مع رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) حجة الوداع ، فرأيت أسامة وبلالاً رضي الله تعالى عنهما ، أحدهما آخذ بخطام ناقة النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ، والآخر رافع ثوبه يستره من الحر ، حتى رمى جمرة العقبة " . وهكذا رواه أحمد والحاكم وابن حبان وصححاه . وقال الشيخ عز الدين بن عبد السلام ، في الفتاوى الموصلية : النهي عن ركوب الدواب ، وهي واقفة محمول على ما إذا كان لغير غرض صحيح ، وأما الركوب الطويل في الأغراض الصحيحة ، فتارة يكون مندوباً ، كالوقوف بعرفة ، وتارة يكون واجباً ، كوقوف الصفوف في قتال المشركين ، وقتال كل من يجب قتاله ، وكذلك الحراسة في الجهاد ، إذا خيف هجمة العدو ، وهذا لا خلاف فيه . وفي حديث أم الحصين رضي الله تعالى عنها دليل على أن للمحرم أن يستظل بالمظال ، نازلاً بالأرض وراكباً على ظهر الدابة ، ورخص فيه أكثر أهل العلم إلا أن مالك بن أنس وأحمد رضي الله تعالى عنهما ، كانا يكرهان للمحرم أن يستظل راكباً ، لما روى الإمام أحمد عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما ، أنه رأى رجلاً قد جعل على رحله عوداً له شعبتان ، وجعل عليه ثوباً يستظل به وهو محرم ، فقال له ابن عمر رضي الله تعالى عنهما : اضح للذي حرمت . له أي ابرز للشمس ، وأما قوله ( صلى الله عليه وسلم ) " لا تتخذوا ظهور الدواب منابر " فإنما أراد أن يستوطن ظهورها لغير أرب في ذلك ، ولا حاجة . وقال(1/452)
"""""" صفحة رقم 453 """"""
الرياشي : رأيت أحمد بن المعذل في الموقف في يوم شديد الحر ، وقد ضحى للشمس ، فقلت له : يا أبا الفضل إن هذا أمر قد اختلف فيه فلو أخذت بالتوسعة فأنشأ يقول :
ضحيت له كي استظل بظله . . . إذا الظل أضحى في القيامة قالصا
فوا أسفا إن كان سعيك باطلا . . . ويا حسرتا إن كان حجك ناقصا
وأحمد بن المعذل هذا بصري مالكي المذهب ، يعد من زهاد البصرة وعلمائها وأخوه عبد الصمد بن المعذل شاعر ماهر .
الداجن : الشاة التي يعلفها الناس في منازلهم ، وكذلك الناقة والحمام البيوتي . والأنثى داجنة ، والجمع دواجن . وقال أهل اللغة : دواجن البيوت ما ألفها - من الطير والشاة وغيرهما . وقد دجن في بيته إذا لزمه قال ابن السكيت : شاة داجن وراجن ، إذا ألفت البيوت واستأنست . قال : ومن العرب من يقولها بالهاء . وكذلك غير الشاة ككلاب الصيد ، وقد أنشد عليه الجوهري بيتاً للبيد رضي الله تعالى عنه . قال : وأبو دجانة كنية . سماك بن خرشة ، وسيأتي إن شاء الله تعالى ذكره في القنفذ . وفي صحيح مسلم عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما ، أن ميمونة أخبرته أن داجنة كانت لبعض نساء النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فماتت ، فقال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) : " ألا أخذتم إهابها فاستمتعتم به ، . وفيه وفي السنن الأربعة ، عن عائشة رضي الله عنها قالت : " لقد نزلت آية الرجم ورضاعة الكبير عشراً ، ولقد كانت في صحيفة تحت سريري ، فلما مات رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وتشاغلنا بموته ، دخل داجن فأكلها " . وفي حديثها أيضاً : " كانت عندنا داجن فإذا كان رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ، عندنا قوم وثبت وإذا خرج ( صلى الله عليه وسلم ) جاء ذهب " . وفي الحديث " لعن الله من مثل بدواجنه " . وعن عمران بن حصين رضي الله تعالى عنه قال : كانت العضباء داجناً لا تمنع من حوض ولا بيت ، وهي ناقة رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) . وفي حديث الإفك فتدخل الداجن فتأكل من عجينها . تتمة : دجين . بن ثابت أبو اليربوعي البصري ، روى عن أسلم مولى عمرو بن هشام بن عروة بن الزبير ، قال ابن معين : حديثه ليس بشيء . وقال أبو حاتم وأبو زرعة : ضعيف . وقال النسائي : ليس بثقة . وقال الدارقطني وغيره : ليس بالقوي . وقال ابن عدي : روي لنا عن ابن معين إنه قال : دجين هو جحا . وقال البخاري : دجين بن ثابت هو أبو الغصن سمع مسلمة وابن مبارك ، وروى عنه وكيع . قال عبد الرحمن بن مهدي قال لنا مرة دجين : وهو جحا ، حدثني مولى لعمر بن عبد العزيز فقلنا له إنه مولى لعمر بن عبد العزيز لا يدرك النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ، فقال : إنما هو أسلم مولى عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه . قال : قلنا لعمر ما بالك لا تحدثنا عن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) . فقال : إنما أخشى أن أزيد أو أنقص ، وإني سمعت رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يقول : " من(1/453)
"""""" صفحة رقم 454 """"""
كذب علي متعمداً فليتبوأ مقعده من النار " . وقال حمزة والميداني في الأمثال : جحا رجل من فزارة ، كنيته أبو الغصن وهو من أحمق الناس . فمن حمقه ، أن موسى بن عيسى الهاشمي مر به يوماً وهو يحفر بظهر الكوفة موضعاً ، فقال له : ما بالك يا أبا الغصن لأي شيء تحفر ؟ فقال : إني دفنت في هذه الصحراء دراهم ولست أهتدي إلى مكانها . فقال له موسى : كان ينبغي أن تجعل عليها علامة ، قال : لقد فعلت ، قال : ماذا ؟ قال : سحابة في السماء كانت تظلها ، ولست أدري موضع العلامة الآن . ومن حمقه أيضاً أنه خرج يوما بغلس ، فعثر في دهليز منزله بقتيل ، فألقاه في بئر هناك ، فعلم به أبوه فأخرجه ودفنه ، ثم خنق كبشاً وألقاه في البئر ، ثم إن أهل القتيل طافوا في سكك الكوفة يبحثون عنه ، فتلقاهم جحا وقال : في دارنا رجل مقتول فانظروا لعله صاحبكم ، فغدوا إلى منزله ، فأنزلوه في البئر ، فلما رأى الكبش ، ناداهم هل كان لصاحبكم قرون . فضحكوا منه وانصرفوا . ومن حمقه أيضاً أن أبا مسلم الخراساني ، صاحب الدعوة ، لما ورد الكوفة ، قال لمن حوله : أيكم يعرف جحا فيدعوه إلي ؟ فقال يقطين : أنا . فخرج ودعاه ، فلما دخل لم يجد في المجلس غير أبي مسلم ويقطين ، فقال جحا : يا يقطين أيكما أبو مسلم ؟ وجحا إسم لا ينصرف لأنه معدول من جاح مثل عمر من عامر يقال جحا يجحو جحواً إذا رمى .
الدارم : القنفذ . قاله ابن سيده وسيأتي إن شاء الله تعالى في باب القاف .
الدبى : بفتح الدال المهملة وتخفيف الباء الموحدة الجراد قبل أن يطير . الواحدة دباة قال الراجز :
كأن خوف قرطها المعقوب . . . على دباة أو على يعسوب
وأرض مدبية أي كثيرة الدبى ، وقالوا في أمثالهم : " أكثر من الدبى " . وفي حديث عائشة رضي الله تعالى عنها قالت : يا رسول الله كيف الناس بعد ذلك ؟ قال ( صلى الله عليه وسلم ) : " دبى يأكل شداده ضعفاءه حتى تقوم الساعة " . وقد تقدم الكلام على عموم الجراد .
الدب : من السباع معروف ، والأنثى دبة وكنيته أبو جهينة وأبو الجلاح وأبو سلمة وأبو حميد وأبو قتادة وأبو اللماس : وأرض مدبة أي ذات أدباب . والدب يحب العزلة فإذا جاء الشتاء دخل وجاره الذي اتخذه في الغيران ، ولا يخرج حتى يطيب الهواء ، وإذا جاع يمتص يده ورجليه فيندفع عنه بذلك الجوع . ويخرج في الربيع كاسمن ما يكون . وهو مختلف الطباع ، لأنه يأكل ما تأكله السباع ، وما ترعاه البهائم ، وما يأكله الناس ومن طبعه أنه إذا كان أوان السفاد ، خلا كل ذكر بأنثاه ، والذكر يسافد أنثاه مضطجعة على الأرض ، وتضع الأنثى جروها قطعة لحم غير مميز الجوارح ، فتهرب به من موضع إلى موضع ، خوفاً عليه من النمل ، كما تقدم في جهير ، وهي مع ذلك تلحسه حتى تتميز أعضاؤه ويتنفس . وفي ولادتها صعوبة وربما أشرفت على التلف حالة الوضع ، وزعم بعضهم أنها تلد من فيها ، وإنما تلده ناقص الخلق تشوقاً للذكر وحرصاً على السفاد ، ولشدة شهوتها تدعو الآدمي إلى وطئها . ومن شأن هذا الجنس أن يسمن في الشتاء وتقل(1/454)
"""""" صفحة رقم 455 """"""
فيه حركته وتضع الإناث حينئذ . وإذا جثم في مكان لا يتحرك منه إلى أن يمضي عليه أربعة عشر يوماً ، وبعد ذلك يتدرج في الحركة . والأنثى إذا انهزمت دفعت جراءها بين يديها ، فإذا اشتد خوفها عليها صعدت بها الأشجار . وفي طبعه فطنة عجيبة لقبول التأديب ، لكنه لا يطيع معلمه إلا بعنف وضرب شديد . وحكمه : تحريم الأكل لأنه سبع يتقوى بنابه . وقاد الإمام أحمد : إن لم يكن له ناب فلا بأس به ، لأن الأصل الإباحة ، ولم يتحقق وجود المحرم .
فائدة : قال الإمام أبو الفرج بن الجوزي في آخر الأذكياء : هرب رجل من أسد ، فوقع في بئر ، فوقع الأسد خلفه ، فإذا في البئر دب ، فقال له الأسد : منذ كم لك ههنا . قال : منذ أيام ، وقد قتلني الجوع . فقال : له الأسد : أنا وأنت نأكل هذا الإنسان وقد شبعنا ، فقال له الدب فإذا عاودنا الجوع ما نصنع ؟ وإنما الرأي أن نحلف له ، أنا لا نؤذيه ليحتال في خلاصنا وخلاصه ، فإنه على الحيلة أقدر منا فحلفا له فتشبث حتى وجد نقباً فوصل إليه ، ثم إلى الفضاء فتخلص وخلصهما . ومعنى هذا أن العاقل لا يترك الحزم في كل أموره ، ولا يتبع شهوته لا سيما إذا علم أن فيها هلاكه بل ينظر في عاقبة أمره ويأخذ بالحزم في ذلك . وحكى القزويني في عجائب المخلوقات أن أسداً قصد إنساناً فهرب والتجأ إلى شجرة ، فإذا على بعض أغصانها دب يقطف ثمرتها ، فلما رأى الأسد أنه فوق الشجرة ، جاء وافترش تحتها ينتظر نزول الإنسان . قال : فنظرت إلى الدب ، فإذا هو يشير بإصبعه إلى فيه ، أن اسكت لئلا يعرف الأسد أني هنا . قال : فبقيت متحيراً بين الأسد والدب ، وكان معي سكين صغير فأخرجته وقطعت بعض الغصن الذي عليه الدب حتى إذا لم يبق منه إلا اليسير سقط الدب بسبب ثقله فوثب الأسد عليه وتصارعا زماناً ثم غلبه الأسد فافترسه ورجع عني .
الأمثال : تقدم أنهم قالوا : " أحمق من جهبر " . وهي أنثى الدب . وأما قولهم : " ألوط من دب " . فهو رجل من العرب كان يتجاهر بعمل ذلك . وأما قولهم : " ألوط من ثفر " ، فإنما قالوه لأن الثفر لا يفارق دبر الدابة ، وقولهم : " ألوط من راهب " . هذا من قول الشاعر :
وألوط من راهب يدعي . . . بأن النساء عليه حرام
الخواص : نابه يلقى في لبن المرضعة ويسقاه الصبي تنبت أسنانه بسهولة . وشحمه يزيل البرص طلاء ، وإذا شدت عينه اليمنى في خرقة ، وعلقت على عضد إنسان لم يخف السباع ، وإن علقت على من به الحمى الدائمة ابرأته ، ومرارته إذا اكتحل بها مع العسل وماء الرازيانج أذهبت ظلمة البصر ، وإذا طلي بذلك موضع داء الثعلب ، أنبت الشعر فيه ، وإذا شرب من مرارته وزن دانقين بعسل وماء حار ، نفع الرئة والبواسير وطرد الرياح . وإذا ربطت مرارته على فخذ الرجل اليمنى جامع ما شاء ولا يضره ، ودمه إذا(1/455)
"""""" صفحة رقم 456 """"""
اكتحل به منع طلوع الشعر في أجفان العين . وإن أكتحل به بعد نتفه لم ينبت ، وإذا دلك الولد بشحمه ، كان له حرزاً من كل سوء ، وإذا جشي بشحمه موضع الناسور نفعه ، وإذا طلي بشحمه كلب جن . وقطعة من جلده إذا علقت على الصبي الذي ساء خلقه يزول عنه ذلك ، وعينه اليمنى إذا جففت وعلقت على الطفل لم يفزع في نومه .
التعبير : الدب في المنام يدل على الشر والنكد والفتنة ، وربما دلت رؤيته على المكر والخديعة ، وعلى المرأة الثقيلة البدن الموحشة المنظر ، ذات اللهو واللعب والطرب ، وربما دلت رؤيته على الأسر والسجن وربما دلت رؤيته على عدو أحمق ، لص محتال مخنث ، فمن رأى أنه ركب دباً نال ولاية دنيئة ، إن كان لها أهلاً وإلا ناله هم وخوف ثم ينجو وربما دل على سفر ثم يرجع إلى مكانه والله تعالى أعلم .
الدبدب : حمار الوحش قاله في العباب . وقد تقدم الكلام عليه في باب الحاء المهملة .
الدبر : بفتح الدال جماعة النحل . وقال السهيلي الدبر الزنابير ، وأما الدبر بكسر الدال فصغار الجراد . قال الأصمعي لا واحد له من لفظه ، ويقال إن واحده خشرمة ، ويجمع الدبر على دبور قال الهذلي في وصف عسال :
إذا لسعته الدبر لم يرج لسعها . أي لم يخف لسعها به فسر قوله تعالى : " فمن كان يرجو لقاء ربه " وقوله تعالى : " من كان يرجو لقاء الله فإن أجل الله لأت " أي من كان يخاف لقاءه . قال النحاس : أجمع أهل التفسير على أن الرجاء في الآيتين بمعنى الخوف . ويقال أيضاً للزنابير دبر ، كما قاله السهيلي . ومنه قيل لعاصم بن ثابت الأنصاري رضي الله تعالى عنه : حمى الدبر ، وذلك أن المشركين لما قتلوه أرادوا أن يمثلوا به ، فحماه الله تعالى بالدبر فارتدعوا عنه ، حتى أخذه المسلمون فدفنوه . وكان رضي الله تعالى عنه ، قد عاهد الله تعالى أن لا يمس مشركاً ولا يمسه مشرك ، فحماه الله تعالى منهم بعد وفاته . وفي أوائل تاريخ نيسابور للحاكم عن ثمامة بن عبد الله عن أنس بن مالك رضي الله عنه ، وهو ممن روى له الجماعة أنه قال : خرجنا مرة من خراسان ومعنا رجل يشتم أو ينال من أبي بكر وعمر رضي الله تعالى عنهما فنهيناه فأبى ، فحضر غداؤنا ذات يوم ثم مضى إلى حاجته فأبطأ علينا فبعثنا في طلبه فرجع إلينا الرسول وقال : أدركوا صاحبكم ، فذهبنا إليه فإذا هو قد قعد على حجر يقفي حاجته فخرج عليه عنق من الدبر ، فنثرت مفاصله مفصلاً مفصلاً . قال : فجمعنا عظامه ، وإنها لتقع علينا فما تؤذينا ، وهي تبري مفاصله . وجاء في الحديث : " لتسلكن سنن من قبلكم ذراعاً بذراع ، حتى لو سلكوا(1/456)
"""""" صفحة رقم 457 """"""
خشرم دبر لسلكتموه " والخشرم مأوى النحل . وفي الفائق أن سكينة بنت الحسين رضي الله تعالى عنهما ، جاءت إلى أمها الرباب وهي صغيرة تبكي ، فقالت : ما بك . قالت : مرت بي دبيرة ، فلسعتني بأبيرة أرادت تصغير دبرة وهي النحلة سميت بذلك لتدبيرها في عمل العسل .
الدبسي : بفتح الدال المهملة وكسر السين المهملة ، ويقال له أيضاً الدبسي ، بضم الدال طائر صغير منسوب إلى دبس الرطب لأنهم يغيرون في النسب كالدهري والسهلي والفامي بائع الفوم ، والقياس فومي . والأدبس من الطير والخيل ، الذي في لونه غبرة بين السواد والحمرة . وهذا النوع قسم من الحمام البري وهو أصناف مصري وحجازي وعراقي ، وهي متقاربة لكن أفخرها المصري . ولونه الدكنة وقيل هو ذكر اليمام . قال الجاحظ : قال صاحب منطق الطير : يقال في الحمام الوحشي من القماري والفواخت ، وما أشبه ذلك : دباسي ويقال : هدل يهدل هديلاً ، إذا صاح فإذا طرب قيل : غرد يغرد تغريداً والتغريد يكون أيضاً للإنسان ، وأصله من الطير ، وبعضهم يزعم أن الهديل من أسماء الحمامة الذكر قال الراجز :
كهداهد كسر الرماة جناحه . . . يدعو بقارعة الطريق هديلا وسيأتي إن شاء الله تعالى ذكر الهديل في باب الهاء . روى الإمام أحمد والطبراني ورجال المسند رجال الصحيح عن يحيى بن عمارة عن جده حنش ، قال : دخلت الأسواق ، فأخذت دبسيتين وأمهما ترفرف عليهما ، وأنا أريد أن أذبحهما قال : فدخل علي أبو حنش فأخذ متيخة فضربني بها وقال : ألم تعلم أن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) حرم ما بين لابتي المدينة . المتيخة أصل جريد النخل وأصل العرجون والأسواف ، سيأتي إن شاء الله تعالى ذكره في النهاس أيضاً في باب النون . وفي الموطأ عن عبد الله بن أبي بكر أن أبا طلحة الأنصاري رضي الله تعالى عنه كان يصلي في حائط له ، فطار محبسي فأعجبه ، وهو طائر في الشجر يلتمس مخرجاً ، فأتبعه بصره ساعة وهو في صلاته ، فلم يدركم صلى فذكر للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) ما أصابه من الفتنة . ثم قال : يا رسول الله هو صدقة فضعه حيث شئت ، قال مالك : وعن عبد الله بن أبي بكر أن رجلاً من الأنصار ، كان يصلي في حائط له بالقف في زمن التمر والنخل ، قد ذللت فهي مطوقة بثمرها فنظر إليها فاعجبه ما رأى من ثمرها ، ثم رجع إلى صلاته فإذا هو لا يدري كم صلى . فقال لقد أصابتني في مالي هذا فتنة . فجاء عثمان بن عفان رضي الله تعالى عنه ، وهو يومئذ خليفة فذكر له ذلك وقال : هو صدقة فاجعله في سبيل الخير فباعه عثمان بن عفان رضي الله تعالى عنه بخمسين ألفاً فسمى ذلك الحائط الخمسون والقف واد من أودية المدينة . وكان ابن عمر رضي الله تعالى عنهما لا يعجبه شيء من ماله إلا خرج عنه لله تعالى ، وكان رقيقه يعرفون منه ذلك فربما لزم أحدهم المسجد ، فإذا رآه ابن عمر رضي الله تعالى عنهما ، على تلك الحالة الحسنة عتقه ، فيقول له أصحابه : إنهم يخدعونك فيقول : من خدعنا بالله تعالى ، انخدعنا له . وطلب منه خادم بثلاثين ألفاً ، فقال : أخاف أن تفتني دراهم ابن عامر ، وكان(1/457)
"""""" صفحة رقم 458 """"""
هو الطالب له ، فقال للخادم إذهب فأنت حر لله تعالى . ولذلك قال أبو سعيد الخدري رضي الله تعالى عنه : ما منا أحد إلا وقد مالت به الدنيا ، الا ابن عمر رضي الله تعالى عنهما ، ولم يمت إلى أن أعتق ألف نسمة أو أكثر من ذلك . ومناقبه وفضائله رضي الله تعالى عنه لا تحصى قال حجة الإسلام الغزالي : وكانوا يفعلون ذلك قطعاً لمادة الفكرة ، وكفارة لما جرى من نقصان الصلاة وهذا هو الدواء القاطع لمادة العلة ولا يغني غيره .
ومن طبع الدبسي إنه لا يرى ساقطاً على وجه الأرض بل في الشتاء له مشتى وفي الصيف له مصيف ولا يعرف له وكره .
وحكمه : الحل بالاتفاق . وفي سنن البيهقي عن ابن أبي ليلى ، عن عطاء عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما ، أنه قال في الخضري : والدبسي والقمري والقطا والحجل إذا قتله المحرم شاة شاة .
الخواص : قال صاحب المنهاج في الطب : إنه أفضل الطير البري ، وبعمه الشحرور والسماني ، ثم الحجل والدراج ، وفراخ الحمام والورشان وهو حار يابس .
والدباساء ممدوداً الأنثى من الجراد . وهو في المنام كالسماني وسيأتي إن شاء الله تعالى الكلام عليهما في باب السين المهملة فلينظر هناك . الدجاج : مثلث الدال حكاه ابن معن الدمشقي وابن مالك وغيرهما ، الواحدة دجاجة الذكر والأنثى فيه سواء والهاء فيه كبطة وحمامة ، وقال ابن سيده : سميت الدجاجة دجاجة لإقبالها وادبارها يقال : دج القوم يدجون دجيجاً إذا مشوا مشياً رويداً في تقارب خطو . وقيل هو أن يقبلوا ويدبروا . وقال الأصمعي : الدجاجة بالفتح الواحدة من الدجاج ، وبالكسر الكبة من الغزل . وقال غيره : الكبة من الغزل دجاجة بفتح الدال أيضاً . قاله الإمام ابن بيدار في شرح الفصيح . وكنيه الدجاجة أم الوليد وأم حفصة وأم جعفر وأم عقبة وأم إحدى وعشرين وأم قوب وأم نافع . وإذا هرمت الدجاجة لم يكن لبيضها مح ، وإذا كانت كذلك لم يخلق منها فرخ ، ومن عجيب أمرها أنه يمر بها سائر السباع فلا تخشاها فإذا مر بها ابن آوى وهي على سطح أو جدار أو شجرة رمت بنفسها إليه . وتوصف الدجاجة بقلة النوم ، وسرعة الأنتباه . يقال إن نومها واستيقاظها إنما هو بمقدار خروج النفس ورجوعه ، ويقال إنها تفعل ذلك من شدة الجبن ، وأكثر ما عندها من الحيلة أنها لا تنام على الأرض ، بل ترتفع على رف أو على جذع ، أو جدار أو ما قارب ذلك ، وإذا غربت الشمس فزعت إلى تلك العادة وبادرت إليها . والفرخ يخرج من البيضة كاسياً كاسياً ، ظريفاً مقبولاً ، سريع الحركة يدعى فيجيب ، ثم هو كلما مرت عليه الأيام ، حمق ونقص حسنه وكيسه وزاد قبحه ، فلا يزال كذلك حتى ينسلخ من جميع ما كان فيه إلى أن يصير إلى حالة لا يصلح فيها إلا للذبح أو الصياح أو البيض . والدجاج مشترك الطبيعة يأكل اللحم والذباب ، وذلك من طباع الجوارح ، ويأكل الخبز ويلتقط الحب ، وذلك من طباع البهائم والطير . ويعرف الديك من الدجاجة وهو في البيضة وذلك أن البيضة إذا كانت مستطيلة محدودة الأطراف فهي مخرج الإناث ، وإذا كانت مستديرة عريضة الأطراف ، فهي مخرج الذكور . والفرخ يخرج من البيضة تارة بالحضن(1/458)
"""""" صفحة رقم 459 """"""
وتارة بأن يدفن في الزبل ونحوه . ومن الدجاج ما يبيض مرتين في اليوم ، والدجاجة تبيض في جميع السنة ، إلا في شهرين منها شتويين ، ويتم خلق البيض في عشرة أيام ، وتكون البيضة عند خروجها لينة القشر ، فإذا أصابها الهواء يبست ، وهي تشتمل على بياض وصفرة ، بينهما قشر رقيق ، يسمى قميصاً ، ويعلوه قشر صلب . فالبياض رطوبة مختلطة لزجة متشابهة الأجزاء ، وهي بمنزلة المني . والصفرة رطوبة سلسة ناعمة أشبه شيء بدم قد جمد ، وهي للفرخ مادة يغتذي بها من سرته .
والذي يتكون من الرطوبة البيضاء عين الفرخ ثم دماغه ثم رأسه ثم ينحاز البياض في لفافة واحدة هي جلدة الفرخ ، وتنحاز الصفرة في غشاء واحد هي سرته ، فيتغذى منها كتغذي الجنين من سرته من دم الحيض ، وربما وجد في البيضة الواحدة محان أصفران ، فإذا حضنت هذه البيضة خرج منها فرخان ، وقد شوهد ذلك . وأغنى البيض وألطفه ذوات الصفرة ، وأقله غذاء ما كان من دجاج لا ديك لها ، وهذا النوع من البيض ، لا يتولد منه حيوان ، ولا مما يباض في نقصان القمر على الأكثر ، لأن البيض من الاستهلال إلى الابدار يمتلىء ويرطب ، فيصلح للكون وبالضد من الابدار إلى المحاق . ويعرف الفرخ الذكر من الأنثى ، بعد عشرة أيام ، بأن يعلق بمنقاره ، فإن تحرك فذكر ، وإن سكن فأنثى . وقد وصف الشعراء البيضة بأوصاف مختلفة منها قول أبي الفرج الأصبهاني من أبيات :
فيها بدائع صنعة ولطائف . . . ألفن بالتقدير والتعليق
خلطان مائيان ما اختلطا على . . . شكل ومختلف المزاج رقيق روى ابن ماجه من حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أمر الأغنياء باتخاذ الغنم ، وأمر الفقراء باتخاذ الدجاج . وقال : عند اتخاذ الأغنياء الدجاج يأذن الله تعالى بهلاك القرى . وفي اسناده علي بن عروة الدمشقي ، قال ابن حبان : كان يضع الحديث . قال عبد اللطيف البغدادي : إنما أمر الأغنياء باتخاذ الغنم والفقراء باتخاذ الدجاج لأنه أمر كل قوم بحسب مقدرتهم وما تصل إليه قوتهم والقصد من ذلك كله أن لا يقعد الناس عن الكسب ، وإنماء المال وعمارة الدنيا ، وأن لا يدعوا التسبب فإن ذلك يوجب التعفف والقناعة ، وربما أدى إلى الغنى والثروة . وترك الكسب والاعراض عنه يوجب الحاجة والمسألة للناس والتكفف منهم ، وذلك مذموم شرعاً وأما قوله : " عند اتخاذ الأغنياء الدجاج يأذن الله تعالى بهلاك القرى " . يعني أن الأغنياء إذا ضيقوا على الفقراء في مكاسبهم ، وخالطوهم في معايشهم تعطل سببهم وهلكوا ، وفي هلاك الفقراء بوار ، وني ذلك هلاك القرى وبوارها . وفي آخر البخاري وغيره أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال : " تلك الكلمة من الحق يختطفها الجني فيقرقرها في أذن وليه كقرقرة الدجاجة " . وذكر الإمام العلامة أبو الفرج بن الجوزي ، في الأذكياء ، عن أحمد بن طولون ، صاحب مصر ، أنه جلس(1/459)
"""""" صفحة رقم 460 """"""
يوماً في منتزه له يأكل مع ندمائه فرأى سائلاً وعليه ثوب خلق ، فوضع يده في رغيف ودجاجة وقطعة لحم وفالوذج وأمر بعض الغلمان بمناولته فأخذ ذلك الغلام وذهب به إلى السائل ورجع ، فذكر أنه ما هش له ولا بش ، فقال ابن طولون للغلام : ائتني به فأحضره بين يديه فاستنطقه فأحسن الجواب ، ولم يضطرب من هيبته ، فقال له أحضر لي الكتب التي معك ، وأصدقني عمن بعث بك ، فقد صح عندي أنك صاحب خبر ، وأحضر السياط فاعترف له بذلك . فقال بعض من حضر هذا : والله السحر . فقال أحمد : ما هو بسحر ولكنه قياس صحيح وفراسة ، وذلك أني لما رأيت سوء حاله وجهت إليه بطعام يشره إلى أكله الشبعان ، فما هش ولا بش ولا مد يده إليه ، فأحضرته وخاطبته فتلقاني بقوة جأش وجواب حاضر . فلما رأيت رثاثة حاله ، وقوة جأشه ، وسرعة جوابه ، علمت منه صاحب خبر انتهى . وقال ابن خلكان في ترجمته : كان أبو العباس أحمد بن طولون صاحب الديار المصرية والشامية والثغور ، ملكاً عادلاً شجاعاً متواضعاً ، حسن السيرة ، يحب أهل العلم ، كريماً له مائدة يحضرها الخاص والعام ، كثير الصدقة . نقل أنه قال له وكيله يوماً إن امرأة تأتيني وعليها الازار الرفيع ، وفي يدها الخاتم الذهب ، فتطلب مني أفأعطيها ؟ فقال : من مد يده إليك فأعطه . وكان يحفظ القرآن ، ورزق حسن الصوت فيه ، وكان مع ذلك طائش السيف سفاك الدماء . قيل إنه أحصى من قتله صبراً ومن مات في حبسه فكان ثمانية عشر ألفاً توفي سنة سبعين ومائتين بزلق الأمعاء . ويقال إن طولون تبناه ولم يكن ابنه . وروي أن رجلاً كان يواظب القراءة على قبره ، فرآه ذات ليلة في المنام ، فقال : أحب منك أن لا تقرأ علي قال : ولم ؟ قال : لأنه لا تمر بي آية إلا قرعت بها ، ويقال لي أما سمعت هذه أما مرت بك هذه . اه وروى الإمام الحافظ ابن عساكر في تاريخه أن سليمان بن عبد الملك رحمه الله تعالى ، كان نهماً في الأكل ، وقد نقل عنه فيه أشياء غريبة ، فمنها أنه اصطبح في بعض الأيام بأربعين دجاجة مشوية ، وأربعين بيضة ، وأربع وثمانين كلوة بشحمها ، وثمانين جردقة ، ثم أكل مع الناس على السماط العام . ومنها أنه دخل ذات يوم بستاناً له ، وكان قد أمر قيمه أن يجني ثماره ويستطيب له ، وكان معه أصحابه ، فأكل القوم حتى أكتفوا واستمر هو يأكل فأكل أكلاً ذريعاً ، ثم استدعى بشاة مشوية فأكلها ، ثم أقبل على الفاكهة فأكل أكلاً ذريعاً ، ثم أتى بدجاجتين مشويتين فأكلهما ، ثم مال إلى الفاكهة فأكل أكلاً ذريعاً ، ثم أتى بقعب يقعد فيه الرجل مملوء سمناً وسويقاً وسكراً فأكله أجمع ، ثم سار إلى دار الخلافة ، وأتى بالسماط فما نقص من أكله شيء . ومنها أنه حج فأتى الطائف فأكل سبعمائة رمانة وخروفاً وست دجاجات ، وأتى بمكوك زبيب طائفي فأكله أجمع . وقيل إنه كان له بستان فجاء رجل ليضمنه ودفع له قدراً من المال ، فاستؤذن في ذلك فدخل البستان لينظره وجعل يأكل من ثماره ، ثم أذن في ضمانه فلما قيل للضامن أحمل المال ، قال : كان ذلك قبل أن يدخله أمير المؤمنين . قيل كان سبب مرضه أنه أكل أربعمائة بيضة ، وثمانمائة حبة تين ، وأربعمائة كلوة بشحمها ، وعشرين دجاجة فحم ، وفشت الحمى في عسكره ، وكان موته بالتخمة رحمة الله تعالى عليه في مرج دابق . بة تين ، وأربعمائة كلوة بشحمها ، وعشرين دجاجة فحم ، وفشت الحمى في عسكره ، وكان موته بالتخمة رحمة الله تعالى عليه في مرج دابق .
فائدة : ذكر بعض العلماء أن من أكل كثيراً وخاف على نفسه من التخمة ، فليمسح على(1/460)
"""""" صفحة رقم 461 """"""
بطنه بيده ، وليقل : الليلة ليلة عيدي يا كرشي ورضي الله عن سيدي أبي عبد الله القرشي . يفعل ذلك ثلاثا ، فإنه لا يضره الأكل وهو عجيب مجرب .
وقد روينا بأسانيد شتى من طرق مختلفة ، أن امرأة جاءت بولدها إلى سيدي الشيخ عبد القادر الكيلاني قدس الله روحه ، وقالت : إني رأيت قلب ابني هذا شديد التعلق بك ، وقد خرجت عن حقي فيه لله عز وجل ولك ، فاقبله فقبله الشيخ ، وأمره بالمجاهدة وسلوك الطريق ، فدخلت عليه أمه يوماً ، فوجدته نحيلاً مصفراً من آثار الجوع والسهر ، ووجدته يأكل قرصاً من الشعير ، فدخلت إلى الشيخ فوجدت بين يديه إناء فيه عظام دجاجة مسلوقة ، قد أكلها فقالت : يا سيدي تأكل لحم الدجاج ويأكل ابني خبز الشعير ، فوضع الشيخ يده على تلك العظام ، وقال : قومي بإذن الله تعالى الذي يحيى العظام وهي رميم ، فقامت دجاجة سوية وصاحت ، فقال الشيخ : إذا صار ابنك هكذا فليأكل ما شاء . وذكر ابن خلكان أيضاً في ترجمة الهيثم بن عدي أن رجلاً من الأولين كان يأكل وبين يديه دجاجة مشوية ، فجاءه سائل فرده خائباً ، وكان الرجل مترفاً فوقع بينه وبين امرأته فرقة ، وذهب ماله وتزوجت امرأته ، فبينما الزوج الثاني يأكل وبين يديه دجاجة مشوية إذ جاءه سائل ، فقال لامرأته : ناوليه الدجاجة فناولته ، ونظرت إليه فإذا هو زوجها الأول . فأخبرت زوجها الثاني بالقصة فقال الزوج الثاني : وأنا والله ذلك المسكين الأول ، خولني الله نعمته وأهله لقلة شكره . وقال الهيثم : خرجت في سفر على ناقة ، فأمسيت عند خيمة أعرابي ، فنزلت . فقالت ربة الخباء : من أنت ؟ فقلت : ضيف . قالت : وما يصنع الضيف عندنا إن الصحراء لواسعة ؟ ثم قامت إلى بر فطحنته وعجنته وخبزته ، ثم قعدت تأكل ، فلم ألبث أن جاء زوجها ومعه لبن ، فسلم ثم قال : من الرجل ؟ قلت : ضيف . قال : أهلاً وسهلاً حياك الله ، وملأ قعباً من لبق وسقاني . ثم قال : ما أراك أكلت شيئاً وما أراها أطعمتك فقلت : لا والله . فدخل عليها مغضباً ، وقال : ويلك أكلت وتركت الضيف ؟ قالت : وما أصنع به أطعمه طعامي . وزاد بينهما الكلام ، فضربها حتى شجها ، ثم أخذ شفرة وخرج إلى ناقتي فنحرها ، فقلت : ما صنعت عافاك الله ؟ فقال : والله لا يبيت ضيفي جائعاً ، ثم جمع حطباً ، وأجج ناراً وأقبل يشوي ويطعمني ، ويأكل ويلقي إليها ، ويقول : كلي لا أطعمك الله حتى إذا أصبح تركني وذهب ، فقعدت مغموماً ، فلما تعالى النهار ، أقبل ومعه بعير ما يسأم الناظر من النظر إليه ، وقال : هذا مكان ناقتك ثم زودني من ذلك اللحم ومما حضره . وخرجت من عنده فضمني الليل إلى خيمة أعرابي ، فسلمت فردت صاحبة الخباء علي السلام ، وقالت : من الرجل ؟ قلت : ضيف . فقالت : مرحباً بك حياك الله وعافاك ، فنزلت ثم عمدت إلى بر فطحنته وعجنته وخبزته ، ثم روت ذلك بالزبد واللبن ووضعته بين يدي ، ومعه دجاجة مشوية ، وقالت : كل واعذر ، فلم البث إذ أقبل أعرابي كريه المنظر ، فسلم فرددت عليه السلام ، فقال : من الرجل ؟ قلت : ضيف قال : وما يصنع الضيف عندنا ؟ ثم دخل إلى أهله وقال : أين طعامي ؟ قالت : أطعمته للضيف . فقال : أتطعمين طعامي للأضياف ؟ ثم تكالما فضربها فشجها ، فجعلت أضحك فخرج إلي وقال : ما يضحكك . فأخبرته بقصة الرجل والمرأة اللذين نزلت عندهما قبله ، فأقبل علي وقال : إن هذه(1/461)
"""""" صفحة رقم 462 """"""
المرأة التي عندي أخت ذلك الرجل ، وتلك المرأة التي عنده أختي . قال : فنمت ليلتي متعجباً فلما أن أصبحت انصرفت . الحكم : يحل أكل الدجاج لأنه من الطيبات ، لما روى الشيخان والترمذي والنسائي عن زهدم بن مضرب الجرمي قال : كنا عند أبي موسى الأشعري رضي الله عنه ، فدعا بمائدة عليها لحم دجاج فدخل رجل من بني تيم الله ، أحمر شبيه بالموالي ، فقال له : هلم فتلكأ ، فقال : هلم فإني رأيت رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يأكل منه وفي لفظ " رأيت النبي ( صلى الله عليه وسلم ) يأكل دجاجة " . وهذا الرجل إنما تلكأ لأنه رآه يأكل العذرة فقذره ويحتمل أن يكون تردد لالتباس الحكم عليه ، أو لم يكن عنده عليل فتوقف حتى يعلم حكم الله تعالى وقد جاء النهي عن لبن الجلالة ولحمها وبيضها . وفي الكامل والميزان في ترجمة غالب بن عبيد الله الجذري وهو متروك عن نافع عن ابن عمر رضي الله تعالى عنها ، أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) كان إذا أراد أن يأكل دجاجة أمر بها فربطت أياماً ثم يأكلها بعد ذلك .
وفي فتاوى القاضي حسين لو قال رجل لامرأته إن لم تبيعي هذه الدجاجات فأنت طالق فقتلت واحدة منهن طلقت لتعذر البيع ، وإن جرحتها ثم باعتها فإن كانت بخبث لو ذبحت لم تحل لم يصح البيع ووقع الطلاق وإلا فتحل اليمين .
فرع : لا يجوز بيع دجاجة فيها بيض ببيض كما لا يجوز بيع شاة في ضرعها لبن بلبن ، ويحرم بيع الحنطة بدقيقها والسمسم بكسبه ، وما أشبهه لأنه يحرم بيع مال الربا بأصله المشتمل عليه . فرع : البيضه التي في جوف الطائر الميت فيها ثلاثة أوجه حكاها الماوردي والروياني والشاشي أصحها ، وهو قول ابن القطان وأبي الفياض ، وبه قطع الجمهور إن تصلبت فطاهرة وإلا فنجسة . والثاني طاهرة مطلقاً ، وبه قال أبو حنيفة لتميزها عنه فصارت بالولد أشبه . والثالث نجسة مطلقاً ، وبه قال مالك لأنها قبل الإنفصال جزء من الطائر وحكاه المتولي عن نص الشافعي رضي الله تعالى عنه . وهو نقل غريب شاذ ضعيف ، وقال صاحب الحاوي والبحر : فلو وضعت هذه البيضة تحت طائر فصارت فرخاً ، كان الفرخ طاهراً على الأوجه كلها كسائر الحيوان ، ولا خلاف أن ظاهر البيضة نجس ، وأما البيضة الخارجة في حال حياة الدجاجة فهل يحكم بنجاسة ظاهرها ؟ فيه وجهان : حكاهما الماوردي والروياني والبغوي وغيرهم ، بناء على الوجهين في نجاسة رطوبة فرج المرأة قال في المهذب : إن المنصوص نجاسة رطوبة فرج المرأة . وقال الماوردي : إن الشافعي رضي الله تعالى عنه قد نص في بعض كتبه على طهارتها . ثم حكى التنجيس عن ابن سريج ، فملخص الخلاف فيها قولان لا وجهان . وقال الإمام النووي : رطوبة الفرج طاهرة مطلقاً ، سواء كان الفرج من بهيمة أو امرأة ، وهو الأصح . وإذا فرعنا على نجاسة رطوبة الفرج فنقل النووي في شرح المهذب عن فتاوى ابن الصباغ ، ولم يخالفه أن المولود لا يجب غسله إجماعاً . وقال في آخر باب الأنية من الشرح المذكور : إن فيه وجهين حكاهما الماوردي والروياني ، وقد حكاهما الشيخ أبو عمرو بن الصلاح في فتاويه . ورأيت في الكافي للخوارزمي أن الماء لا ينجس بوقوعه فيه فيحتمل أن يكون الخلاف مفرعاً على القول القديم بعدم وجوب الغسل ، لكونه نجساً(1/462)
"""""" صفحة رقم 463 """"""
معفواً عنه ، وأما إذا انفصل الولد حياً ، بعد موتها ، فعينه طاهرة بلا خلاف . ويجب غسل ظاهره بلا خلاف . وأما البلل الخارج مع الولد أو غيره فنجس ، كما جزم به الرافعي في الشرح الصغير والنووي في شرح المهذب . وقال الإمام لا شك فيه . وأما الرطوبة الخارجة من باطن الفرج فإنها نجسة كما تقدم ، وإنما قلنا بطهارة ذكر المجامع ونحوه ، على ذلك القول لأنا لا نقطع بخروجها .
قال في الكفاية : والفرق بين رطوبة فرج المرأة ، ورطوبة باطن الذكر لأنها لزجة لا تنفصل بنفسها ، ولا تمازج سائر رطوبات البدن ، فلا حكم لها قلت : والرطوبة هي ماء أبيض متردد بين المني والعرق . كما قاله في شرح المهذب وغيره ، وسيأتي إن شاء الله تعالى الكلام على الجلالة من الدجاج وغيره في باب السين المهملة في حكم السخلة والله الموفق .
الأمثال : قالوا : " أعطف من أم إحدى وعشرين " . وهي الدجاجة كما تقدم . الخواص : لحم الدجاج معتدل الحرارة جيد . وأكل لحم الفتي من الدجاج يزيد في العقل والمني ويصفي الصوت ، لكنه يضر بالمعدة والمرتاضين . ودفع مضرته أن يتناول بعده شراب العسل . وهو يولد غذاء معتدلاً يوافق من الأمزجة المعتدلة ومن الإنسان الفتيان ، ومن الأزمان الربيع . وأعلم أن الدجاج المعتدلة الغذاء ليست حارة مستحيلة : إلى الصفراء ، ولا باردة مولدة للبلغم ، ولا أعلم من أين أجمعت العامة والأطباء الأغمار على مضرتها بالنقرس وتوليد هاله ، والقائلون بذلك لعلهم معتقدون بالخاصية وحسب لا غير . وهي محسنة للون وأدمغتها تزيد في الأدمغة والعمل . وهى من أغذية المترفهين ، لا سيما من قبل أن تبيض . وإما بيضها فحار مائل إلى الرطوبة واليبس وقال بياروق : بياضه بارد رطب ، وصفرته حارة جيدة للكاد . والطري منفعته تزيد في الباه لكنه إذا أدمن أكله يولد كلفاً . وهو بطيء الهضم ودفع ضرره بالاقتصار على صفرته هو يولد خلطاً محموداً . وأعلم أن أجود البيض للإنسان بيض الدجاج ، والدراج إذا كانا طريين معتدلي النضج ، فإن الصلب إما أن يتخم ، أو يورث حمى ، وهو يلبث طويلاً ويغذو إذا انهضم كثيراً ، والنيمرشت يغذو غذاء كثيراً والمسلوق بخل يعقل البطن ، والساذج ينفع من حرارة المعدة والمثانة ونفث الدم ، ويصفي الصوت . وأنفع السليق ما ألقي على الماء وهو يغلي عد مائة ورفع .
ومما ينفع لحل المعقود أن تكتب على جوانب السيف هذه الأحرف بكصم لا لا وم ما ما لا لا لا ه ه ه وتقطع به بيضة دجاجة سوداء نظيفة مناصفة ، فتأكل المرأة النصف والرجل النصف فإنه مجرب وهو يحل إثنين وسبعين باباً بإذن الله تعالى . ومما ينفع لحل المعقود أيضاً أن يكتب ويعلق في عنق الرجل ، ففتحنا أبواب السماء بماء منهمر وفجرنا الأرض عيوناً فالتقى الماء على أمر قد قدر وحملناه على ذات ألواج ودسر تجري بأعيننا جزاء لمن كان كفر . ومما جرب أيضاً لحل المعقود أن تكتب وتعلق عليه الفاتحة والإخلاص والمعوذتين ، و " يسألوك عن الجبال فقل ينسفها رب نسفاً فيذرها قاعاً صفصفاً لا ترى فيها عوجاً ولا أمتاً ، " أو لم ير الذين كفروا أن السموات والأرض كانتا رتقاً ففتقناهما وجعلنا من الماء كل شيء حي أفلا يؤمنون " " وننزل من القرآن ما هو(1/463)
"""""" صفحة رقم 464 """"""
شفاء ورحمة للمؤمنين " ، " فلما تجلى ربه للجبل جعله دكا وخر موسي صعقا " " مرج البحرين يلقيان بينهما برزخ لا يبغيان " ، " فقلنا اضرب بعصاك البحر فانفلق فكان كل فرق كالطود العظيم " ، و " هو الذي خلق من الماء بشراً فجعله نسباً وصهراً وكان ربك قديراً " و " عنت الوجوه للحي القيوم " ، و " قد خاب من حمل ظلما " ، و " من يتوكل على الله فهو حسبه " ، " إن الله بالغ أمره قد جعل الله لكل شيء قدر " ، وتكتب بسم الرجل والمرأة في آخر الكتاب وتقول : أللهم إني أسألك أن تجمع بين فلان بن فلانة وبين فلانة بنت فلانة بحق هذه الأسماء والآيات إنك على كل شيء قدير . باهياً شراهياً أصبأوت آل شداي ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم في في في في تم وكمل . وقال ابنه وحشية : دماغ الدجاجة إذا وضع على لسعة الحية خاصة أبرأتها . وقال القزويني : إذا طبخت الدجاجة مع عشر بصلات بيض وكف سمسم مقشور حتى تتهرى ويؤكل لحمها ويشرب مرقتها فإنه يزيد في الباه ويقوي الشهوة .
وقال غيره : المداومة على أكل لحم الدجاج تورث البواسير والنقرس . وهذا قول جاهل بالطب وهو قول أغمار الأطباء كما تقدم . قال القزويني : وفي قانصة الدجاجة حجر إذا شد على المصروع أبرأه ، وإذا علق على إنسان زاد في قوة الباه ، ويدفع عنه عين السو ، وإذا ترك تحت رأس الصبي فإنه لا يفزع في نومه . وفرق الدجاجة السوداء إذا ألصق على باب قوم ، وقع بينهم الخصومة والشر ، وإذا طلي الذكر بمرارة الدجاجة السوداء وجامع من شاء لم ينله أحد بعده . وإذا دفنت رأس دجاجة سوداء في كوز جديد ، تحت فراش رجل قد خاصم زوجته ، صالحها من وقته . وإذا احتمل رجل من دهن الدجاجة السوداء قدر أربعة دارهم هيج الباه . وإذا أخذ عينا دجاجة سوداء شديدة السواد ، وعينا سنبور أسود ، وجففن وسحقن واكتحل بهن ، رأى من يفعل ذلك الروحانيين ، فإن سألهم أخبروه بما يريد والله أعلم .
التعبير : الدجاج في المنام نساء ذليلات مهينات ، فالرقادة ذات نشاط وأصالة وبدالة . والدبيبة امرأة دنيئة الأصل أو خائنة وفروخها أولاد زنا ، وربما دلت الدجاجة على المرأة ذات الأولاد ، ودخولها على المريض عافيته وآذان الدجاجة شر ونكد أو موت . وكذلك الفروخ ربما دل دخولها على السليم ، على انذار بمرض يحتاج فيه إليها وربما دل دخولها على زوال الهموم والانكاد ، وعلى الأفراح والتظاهر بالرفاهية والنعم ، والفروج ولد أو ملبوس مفرح أو فرج لمن هو في شدة ، وربما كانت الدجاجة في المنام تدل رؤيتها على امرأة رعناء حمقاء ذات جمال ، أو سرية أو خادم . فمن رأى كأنه ذبح دجاجة افتض جارية . ومن صادها نال ولاية ومالاً هنيأً من العجم . ومن رأى الدجاج أو الفراريج تساق من مكان إلى مكان فإنه سبي . ومن رأى الدجاج أو الطواويس تهدر في منزله ، فإنه صاحب فجور . وريش الدجاج مال ، والبيض في المنام يعبر بالنساء لقوله تعالى :(1/464)
"""""" صفحة رقم 465 """"""
" كأنهن بيض مكنون " والبيضة الواحدة لمن رآها بيده ، فإن كانت زوجته حاملاً فإنها تضع له بنتاً وإن كان أعزب تزوج ومن رأى البيض يجرف من مكان إلى مكان ، كما تجرف الزبالة ، فإنه سبي نساء ذلك المكان ومن رأى بيضاً نيئاً وهو يأكله ، فإنه يأكل مالاً حراماً وللطبوخ رزق حلال بتعب . وبؤا رأت الحامل كأنها أعطيت بيضة مقشرة فإنها تلد بنتاً وفراريج الدجاج أولاد زناء ومن قشر بيضة فأكل بياضها ، ورمى صفارها ، فإنه نباش للقبور ، ويأخذ أكفان الموتى . لما روى عن ابن سيرين أنه أتاه رجل ، فقال : إني رأيت كأني أقشر بيضة وأرمي صفارها وآكل بياضها . فقال ابن سيرين : هذا رجل نباش للقبور . فقيل له : من أين أخذت هذا ؟ فقال : البيضة القبر ، والصفار الجسد ، والبياض الكفن . فيلقى الميت ويأكل ثمن الكفن ، وهو البياض . وحكي أن امرأة أتت إلى ابن سرين فقالت : رأيت كأني أضع البيض تحت الخشب ، فتخرج فراريج . فقال ابن سيرين : ويلك اتقي الله ، فإنك امرأة توفقين بين الرجال والنساء فيما لا يحبه الله عز وجل فقال له جلساؤه : قذفت المرأة يا محمد ، من أين أخذت ذلك ؟ فقال : من قوله تعالى قي النساء يشبهن بالبيض " كأنهن بيض مكنون " وقال جل وعلا ، يشبه المنافقين بالخشب : " كأنهم خشب مسندة " ، فالبيض هو النساء ، والخشب هم المفسدون والفرارج هم أولاد الزنا والله أعلم .
الدجاجة الحبشية : هي نوع مما تقدم . قال الشافعي : يحرم على المحرم الدجاجة الحبشية لأنها وحشية تمتنع بالطيران ، وإن كانت ربما ألفت البيوت . قال القاضي حسين : الدجاجة الحبشية شبيهة بالدراج . قال : وتسمى بالعراق الدجاجة السندية ، . فإن أتلفها لزمه الجزاء . وقال مالك : لا جزاء في دجاج الحبش على المحرم لاستئناسه ، وكذلك كل ما تأنس من الوحشي عند الشافعي فيه الجزاء ، خلافاً لمالك . والدجاج الحبشي هو الدجاج البري ، وهو في الشكل واللون قريب من الدجاج يسكن في الغالب سواحل البحر ، وهو كثير ببلاد المغرب ، يأوي مواضع الطرفاء ويبيض فيها . قال الجاحظ : ويخرج فراخه وكفلك فراخ الطاووس والبط السندي كيسة كاسية تلتقط الحب من ساعتها كفراخ الدجاج الأهلي ويقال له الغرغر ، وسيأتي الكلام عليه إن شاء الله تعالى في باب الغين المعجمة .
الدج : طائر صغير في حد اليمام من طير الماء سمين طيب اللحم وهو كثير بالاسكندرية وما يشابهها من بلاد السواحل قاله ابن سيده .
الدحرج : بضم الدال المهملة دويبة قاله ابن سيده .
الدخاس : كنحاس دويبة تغيب في التراب والجمع الدخاخيس .
الدخس : بضم الدال المهملة وتشديد الخاء المعجمه ضرب من السمك وهو الدلفين . قاله ابن سيده أيضاً وقال الجوهري : الدخس مثال الصرد دويبة في البحر تنجي الغريق تمكنه من ظهرها ليستعين على السباحة وتسمى الدلفين وسيأتي قريباً إن شاء الله تعالى في هذا الباب .(1/465)
"""""" صفحة رقم 466 """"""
الدخل : بتشديد الخاء المعجمة أيضاً طائر صغير والجمع الدخاخيل وهو أغبر يسقط على رؤوس الشجر والنخل . واحدته دخلة وفي أدب الكاتب لابن قتيبة الدخل ابن تمرة . بضم الدال وفتح الراء المهملتين كنيته أبو الحجاج وأبو خطار وأبو ضبة ، وسيأتي إن شاء الله تعالى ، في باب الضاد المعجمة الساقطة واحدته دراجة ، هو طائر مبارك ، كثير النتاج ، مبشر بالربيع ، وهو القائل : " بالشكر تدوم النعم " وصوته مقطع على هذه الكلمات ، وتطيب نفسه على الهواء الصافي ، وهبوب الشمال ، ويسوء حاله بهبوب الجنوب ، حتى إنه لا يقدر على الطيران ، وهو طائر أسود باطن الجناحين ، وظاهرهما أغبر على خلقة القطا إلا أنه الطف . والدراج إسم يطلق على الذكر والأنثى ، حتى تقول الحيقطان : فيختص بالذكر ، وأرض مدرجة أي ذات دراج . كذا قاله الجوهري . وقال سيبويه : واحدة الدراج درجوج ، والديلم ذكر الحراج وقال ابن سيده : الدراج طائر شبيه بالحيقطان ، وهو من طير العراق قال ابن دريد أحسبه مولداً وهو الحرجة مثل الرطبة . وأما الجاحظ فجعله من أقسام الحمام لأنه يجمع فراخه تحت جناحيه ، كما يجمع الحمام من شأنه أنه لا يجعل بيضه في موضع واحد ، بل ينقله لئلا يعرف أحد مكانه ولا يتسافد في البيوت وإنما يفعل ذلك في البساتين قال أبو الطيب المأموني يصف دراجة :
قد بعثنا بذات حسن بديع . . . كنبات الربيع بل هي أحسن
في رداء من جلنار وآس . . . وقيص من ياسمين وسوسن
وسيأتي إن شاء الله تعالى في القبج زيادة في نعتها في باب القاف ، قال الجاحظ : وهو من الخلق الذي لا يسمن بل يعظم وإذا عظم لم يحمل اللحم .
وحكمه : الحل لأنه إما من الحمام أو من القطا وهما حلالان .
الأمثال : قالوا : " فلان يطلب الدراج من خيس الأسد " يضرب لمن يطلب ما يتعذر وجوده .
الخواص : يؤخذ شحمه فيذوب بدهن كادي ويقطر في الأذن الوجعة ثلاث قطرات ، يسكن وجعها بإذن الله . تعالى . قال ابن سينا : لحمه أفضل من لحم الفواخت ، واعدل والطف . وأكله يزيد في الدماغ والفهم والمني .
التعبير : الدراج في المنام مال ، وقيل امرأة أو مملوك . فمن ملكه أو رآه عنده فإنه يملك مالاً أو سرية أو مملوكاً أو يتزوج والله أعلم .
الدراج : بفتح الدال والراء المهملتين القنفذ ، صفة غالبة عليه لأنه يدرج ليله كله . قاله ابن سيده .(1/466)
"""""" صفحة رقم 467 """"""
فائدة أجنبية
استدراج الله تعالى العبد ، أنه كلما جدد خطيئة . جدد الله له نعمة وأنساه الاستغفار وأن يأخذه قليلاً قليلاً ولا يباغته .
روى : أحمد في الزهد عن عقبة بن عامر رضي الله تعالى عنه عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أنه قال : " إذا رأيت الله تعالى يعطي العبد ، من الدنيا على معاصيه ما يحب ، فإنما هو استدراج " ثم قوله تعالى : " فلما نسوا ما ذكروا به فتحنا عليهم أبواب كل شيء حتى إذا فرحوا بما أوتوا أخذناهم بغتة فإذا هم مبلسون " قال ابن عطية : روي عن بعض العلماء أنه قال : رحم الله امرءاً تدبر هذه الآية " حتى إذا فرحوا بما أوتوا أخذناهم بغتة فإذا هم مبلسون " ، وقال محمد بن النضر الحارثي : أمهل هؤلاء القوم عشرين سنة وقال الحسن . والله ما أحد من الناس بسط الله تعالى له في الدنيا فلم يخف أن يكون قد مكر به فيها إلا كان قد نقص في عمله وعجز في رأيه ما أمسكها الله تعالى عن عبد ، فلم يظن أنه خير له فيها ، إلا كان قد نقص في عمله ، وعجز في رأيه . وفي الخبر أن الله تعالى أوحى إلى موسى عليه السلام ، إذا رأيت الفقر مقبلاً إليك فقل مرحبا بشعار الصالحين . وإذا رأيت الغنى مقبلاً إليك فقل : ذنب عجلت عقوبته .
الدرباب : طائر مركب من الشقراق والغراب ، وذلك بين في لونه ، وهو كما قال أرسطاطاليس في النعوت : إنه طائر يحب الأنس ، ويقبل التأديب والتربية ، وفي صفيره وقرقرته أعاجيب ، وذلك أنه ربما أفصح بالأصوات وقرقر كالقمري وربما حمحم كالفرس وربما صفر كالبلبل وغذاؤه من النبت والفاكهة واللحم وغير ذلك ، ومألفه الغياض والأشجار الملتفة . انتهى قلت وهذه صفة الطائر المسمى عند الناس بأبي زريق فإنه على هذا النعت الذي ذكره . ويقال له القيق أيضاً وسيأتي إن شاء الله تعالى له مزيد بيان في باب القاف .
الدرحرج : قال القزويني : إنها دويبة مبرقشة بحمرة وسواد يقال إنها سم ، من أكلها تقرحت مثانته ، وسد بوله وأظلم بصره ، وتورم قضيبه وعانته ، ويرض له اختلاط في عقله .
وحكمها : التحريم لضررها بالبدن والعقل . الدرص : بكسر الدال ولد القنفذ والأرنب واليربوع والفأرة والهرة والذئبة ونحوها والجمع ادراص ودرصة . قال السهيلي في التعريف والإعلام : العرب تقول للأحمق أبو دراص للعبه بالأدراص ، وهو جمع درص ، وهو ولد الكلبة وولد الهرة ونحو ذلك . وكنية اليربوع أم أدراص قاله الأصمعي .
الأمثال : قالت العرب : " ضل دريص نفقه " أي جحره يضرب لمن لا يعبأ بأمره قال طفيل :
فما أم أدراص بأرض مضلة . . . بأغدر من قيس إذا الليل أظلما(1/467)
"""""" صفحة رقم 468 """"""
الدرة : بضم الدال المهملة الببغاء المتقدمة في باب الموحدة . حكى الشيخ كمال الدين جعفر الأدفوي في كتابه الطالع السعيد في ترجمة محمد بن محمد النصيبي القوصي الفاضل المحدث الأديب ، أنه أخبره أنه حضر مرة عند عز الدين بن البصراوي الحاجب بقوص ، وكان له مجلس يجتمع فيه الرؤساء والفضلاء والأدباء ، فحضر الشيخ علي الحريري ، وحكى أنه رأى ذرة تقرأ سورة يس ، فقال النصيبي : وكان غراب يقرأ سورة السجدة فإذا جاء إلى السجدة سجد ويقول سجد لك سوادي واطمأن بك فؤادي .
الدساسة : بفتح الدال حية صماء تندس تحت التراب اندساساً أي تندفن وقيل : هي شحمة الأرض . وستأتي إن شاء الله تعالى في باب الشين المعجمة .
الدعسوقة : بفتح الدال دويبة كالخنفساء وربما قيل ذلك للصبية والمرأة القصيرة تشبيهاً بها قاله في المحكم وفي مختصر العين للزبيدي أيضاً إلا أنه ضبطه بالقلم بفتح الدال في نسخة صحيحة .
الدعموص : بضم الدال دويبة تغوص في الماء ، والجمع الدعاميص ، كبرغوث وبراغيث ، وقال السهيلي : الدعموص سمكة صغيرة كحية الماء ، ودعيميص إسم رجل كان داهياً سيأتي ذكره إن شاء الله تعالى في الأمثال ، ويقال : " هذا دعيميص هذا الأمر " أي عالم به انتهى . روى مسلم عن أبي حسان قال : قلت لأبي هريرة رضي الله تعالى عنه أنه قد مات لي اثنان من الولد ، فهل أنت محدثي عن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) بحديث تطيب به أنفسنا عن موتانا ؟ قال : نعم . " صغاركم دعاميص الجنة " أي لا يمنعون من بيت ، فيلقى أحدهم أباه أو قال أبويه فيأخذ بيده أو بثوبه كما آخذ أنا ببعض ثوبك هذا فيقول : هذا فلان فلا يتناهى حتى يدخل هو وأبوه الجنة . وفي الحديث أن رجلاً زنى فمسخه الله تعالى دعموصاً . وبعضهم يقول الدعموص هو الآذن على الملك المصرف بين يديه قال أمية بن أبي الصلت :
دعموص أبواب الملو . . . ك و حاجب للخلق فاتح
قال الحافظ المنذري في الترغيب والترهيب ، في الكلام على هذا الحديث : الدعاميص بفتح الدال جمع دعموص بضمها ، وهي دويبة صغيرة يضرب لونها إلى سواد تكون في الغدران ، شبه الطفل بها في الجنة لصغره وسرعة حركته . وقيل : هو إسم للرجل الزوار للملوك ، الكثير الدخول عليهم . والخروج ، لا يتوقف على أذن منهم ، ولا يخاف أين يذهب من ديارهم ، شبه طفل الجنة به لكثرة ذهابه في الجنة حيث شاء ، لا يمتنع من بيت فيها ولا موضع ، وهذا قول ظاهر انتهى . قال الجاحظ : إذا كبر الناموس صار دعاميص وهو يتولد من الماء الراكد ، وإذا كبر صار فراشاً ، ولعل هذا هو عمدة من جعل الجراد بحرياً . والدعموص من الخلق الذي لا يعيش في ابتداء أمره إلا في الماء ، ثم بعد ذلك يستحيل بعوضاً وناموساً .
فائدة : في فتاوى القاضي حسين ، أن دود الماء لو انشق أو ذاب ، فخر منه ماء ، كان ذلك(1/468)
"""""" صفحة رقم 469 """"""
الماء طهوراً يجوز منه التوضؤ ، وعلله بأن هذا الدود ليس بحيوان ، بل هو منعقد من بخار يصعد من الماء ، فيشبه الدود ، وهذا منه صريح في جواز شرب الدعاميص مع الماء ، لأنها ماء منعقد ويحتمل أن يكون منه اختيار الأن دود الخل والفاكهة يعطى حكم ما يتولد منه حتى يجوز أكله منفرداً . كما هو وجه في المذهب موجهاً بأنه يشبهه طعماً وطبعاً . والظاهر أن هذا لا يوافق عليه والمشهور خلاف ما قاله تفسيراً و حكماً . وإن الدعموص محرم الأكل لاستقذاره لأنه من الحشرات .
الأمثال : قالوا : " أهور من دعيميص الرمل " . وهو عبد أسود كان داهية خريتا لم يكن يدخل في بلاد وبار غيره فقام في الموسم وقال :
فمن يعطني تسعا وتسعين بكرة . . . هجاناً راد ما أهدها الوبار
فقام رجل عن مهرة وأعطاه ما سأل وتحمل معه بأهله وولده ، فلما توسطوا الرمل طمست الجن عين دعيميص ، فتحير وهلك هو ومن معه في تلك الرمال ، وفي ذلك يقول الفرزدق .
كهلاك ملتمس طريق وبار . الدغفل : كجعفر ولد الفيل ، وذكر الثعالب أيضاً . وكان دغفل بن حنظلة النسابة ، بني شيبان يسمى بذلك . روى عنه الحسن البصري شيئاً من سنن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ، وخولف فيه ويقاد : إن له صحبة ولم يصح ، ولم يعرفه أحمد بن حنبل ، وروى عنه الحسن أنه قال : " كان على النصارى صوم شهر رمضان فولي عليهم ملك ، فمرض فنذر ، إن شفاه الله أن يزيد الصوم عشراً ، ثم كان عليهم ملك بعده ، يأكل اللحم ، فمرض فنذر إن شفاه الله أن لا يأكل اللحم ويزيد الصوم ثمانية أيام ، ثم كان ملك بعده فقال : ما ندع هذه الأيام إلا أن نتمها خمسين ونجعلها في الربيع فصارت خمسين يوما " . قال البخاري : لا يتابع دغفل على ذلك ولا يعرف للحسن سماع منه . وقال ابن سيرين : كان دغفل رجلاً عالماً ، لكن اغتلمته النساء . أرسل إليه معاوية رضي الله تعالى عنه ، يسأله عن أنساب العرب وعن النجوم وعن العربية وعن أنساب قريش فأخبره ، فإذا هو رجل عالم فقال له من أين حفظت هذا يا دغفل ؟ قال : بلسان سؤول وقلب عقول ، فأمره أن يعلم ولم يزيد .
الدغناش : طائر صغير من أنواع العصافير أصغر من الصرد مخطط الظهر بحمرة مطوق بالسواد والبياض ، وهو شرير الطبع شديد المنقار . يوجد كثيراً بسواحل البحر الملح وغيره . وحكمه : الحل لأنه من أنواع العصافير .
الدقيش : بضم الدال وفتح القاف ، طائر صغير أصغر من الصرد وتسميه العامة الدقناس . وحكمه : كالذي قبله ولعله هو ، ولكن تلاعبوا به فسموه تارة كذا وتارة كذا . وفي(1/469)
"""""" صفحة رقم 470 """"""
الصحاح قيل لأبي الدقيش الشاعر ما الدقيش ؟ فقال : لا أدري إنما هي أسماء نسمعها فنتسمى بها الدلدل : عظيم القنافذ . والدلدال الاضطراب ، وقد تدلدل السحاب أي تحرك متدلياً ، وبه سميت بغلة النبي ( صلى الله عليه وسلم ) التي أهداها له المقوقس . وفي حديث أبي مرثد الآتي إن شاء الله تعالى في باب العين ، قالت " عناق البغي : يا أهل الخيام هذا الدلدل الذي يحمل أسراكم " وإنما شبهته بالقنفذ لأنه أكثر ما يظهر في الليل ولأنه يخفي رأسه في جسده ما استطاع . وقال الجاحظ : الفرق بين الدلدل والقنفذ ، كالفرق بين البقر والجواميس والبخاتي والعراب والجرذ والفأر وهو كثير ببلاد الشام والعراق وبلاد المغرب في قدر الثعلب القلطي . وقال الإمام الرافعي : الدلدل على حد السخلة ، ومن شأنه أن يسفد قائماً وظهر الأنثى لاصق بظهر الرجل . والأنثى تبيض خمس بيضات وليس هو بيضاً في الحقيقة ، إنما هو على صورة البيض يشبه اللحم . ومن شأنه أن يجعل لجحره بابين : أحدهما في جهة الجنوب ، والآخر في جهة الشمال . فإذا هبت ريح سد باب جهتها ، وإذا رأى ما يكرهه القبض ، فيخرج منه شوك كالمسال يجرح من أصابه ، والشوك الذي على ظهره نحو الذراع ، وزعم بعض المتكلمين على طبائع الحيوان ، أن الشوك الذي على ظهره نحو الذراع شعر ، وأنه لما غلظ البخار ، واشتد غلظه ، وغلب عليه اليبس ، عند صعوده من المسام ، صار شوكاً .
الحكم : نص الشافعي على حله ، رواه عنه ابن ماجة وغيره . وقال الرافعي : قطع الشيخ أبو محمد بتحريمه في الوسيط أنه كان يعده من الخبائث . وقال ابن الصلاح : هذا غير مرضي وكأنه لم يعرف ما الدليل ، واعتقد ما بلغنا عن الشيخ أبي أحمد الأشنهي أنه قال : الدلدل كبار السلاحف . وهذا غير مرضي ، والمحفوظ أنه ذكر القنافذ وقطع بحله الماوردي والروياني وغيرهما وهو الصواب .
الأمثال : قالوا " أسمع من دلدل " .
وخواصه وتعبيره : كالقنافذ وستأتي إن شاء الله تعالى في باب القاف .
الدلفين : الدخس وضبطه الجوهري في باب السين المهملة بضم الدال فقال : الدخس مثال الصرد دابة في البحر تنجي الغريق تمكنه من ظهرها ليستعين به على السباحة . ويسمى الدلفين وقال غيره : إنه خنزير البحر . وهو دابة تنجي الغريق وهو كثير بأواخر نيل مصر من جهة البحر الملح ، لأنه يقذف به البحر إلى النيل وصفته كصفة الزق المنفوخ ، وله رأس صغير جداً وليس في دواب البحر ماله رئة سواه فلذلك يسمع منه النفخ والنفس ، وهو إذا ظفر بالغريق كان أقوى الأسباب في نجاته لأنه لا يزال يدفعه إلى البر حتى ينجيه ، ولا يؤذي أحداً ولا يأكل إلا السمك . وربما ظهر على وجه الماء كأنه ميت وهو يلد ويرضع ، وأولاده تتبعه حيث ذهب ، ولا يلد إلا في الصيف ، من طبعه الأنس بالناس وخاصة بالصبيان وإذا صيد جاءت دلافين كثيرة لقتال(1/470)
"""""" صفحة رقم 471 """"""
صائده ، وإذا لبث في العمق حينا حبس نفسه ، وصعد بعد ذلك مسرعاً مثل السهم لطلب النفس ، فإن كانت بين يديه سفينة وثب وثبة ارتفع بها عن السفينة ، ولا يرى منها ذكر إلا مع أنثى .
الحكم : يحل أكله لعموم حل السمك إلا ما استثني منه ، وليس هذا من المستثنيات كما سيأتي إن شاء الله تعالى .
الخواص : إذا غلي شحمه في حنظلة فارغة وقطر في الأذن نفع من الصمم ، ولحمه بارد بطيء الهضم . وإذا علقت أسنانه على الصبيان يفزعوا . وأكل شحمه ينفع من أوجاع المفاصل . وشحم كلاه إذا أذيب بالنار ، ودهن به مع دهن الزنبق وجه امرأة أحبها زوجها وطلب مرضاتها . وكفاه يعلقان على من يفزع فيذهب فزعه . وإذا وضع نابه الأيمن في دهن ورد سبعة أيام ومسح به وجه إنسان كان محبوباً عند عامة الناس ونابه الأيسر بالضد من ذلك .
التعبير : الدلفين تدل رؤيته على ما دلت عليه رؤية التمساح ، وربما دلت رؤيته على المكايد ، والاختفاء بالأعمال ، وعلى التلصص واستراق السمع ، وربما دلت رؤيته على كثرة الدعاء والمطر ، قاله ابن الدقاق . وقال المقدسي : من رآه في المنام ، وكان خائفاً ، أمن ونجا لأنه ينجي الغرقي . وكل حيوان يرى مما يخشى منه في اليقظة كالتمساح ونحوه ، إذا كان خارج الماء فهو عدو عاجز لا يقدر على مضرة من رآه في المنام ، لأن قوته وبطشه في الماء فإذا خرج منه زالت قوته والله أعلم .
الدلق : بالتحريك فارسي معرب ، وهو دويبة تقرب من السمور . قال عبد اللطيف البغدادي : إنه يفترس في بعض الأحايين ويكرع الدم . وذكر ابن فارس ، في المجمل ، إنه النمس ، وفيه نظر . قال الرافعي : والدلق يسمى ابن مقرس وقال القزويني : إنه حيوان وحشي عدو الحمام إذا دخل البرج لا يترك فيه واحداً أو تنقطع الثعابين عند صوته ، وسيأتي إن شاء الله تعالى الكلام في باب الميم على ابن مقرص وما وقع فيه للرافعي والنووي .
وفي رحلة ابن الصلاح ، عن كتاب لوامع الدلائل ، في زوايا المسائل للكيا الهراسي أنه قال : يجوز أكل الفنك والسنجاب والدلق والقاقم ، والحوصل والزرافة كالثعلب . ثم إن ابن الصلاح كتب بخطه : الدلق النمس . فاستفدنا من هذا حل النمس والزرافة . وسيأتي إن شاء الله تعالى بيانهما في بابيهما .
الخواص : عينه اليمنى تعلق على من به حمى الربع تزول عنه بالتدريج ، وإذا علق اليسرى عليه عادت . وشحمه إذا بخر به برج الحمام هربت كلها . وهو يزيل الكلال الحاصل للإنسان من أكل الحامض . ودمه يقطر في أنف المصروع منه نصف دانق ينفعه ، وجلده يجلس عليه صاحب القولنج والبواسير ينفعه .
الدلم : نوع منا القراد ، قالت العرب في أمثالها : " فلان أشد من الدلم " .(1/471)
"""""" صفحة رقم 472 """"""
الدلهاما : قال القزويني : هو شيء يوجد في جزائر البحار ، على هيئة إنسان راكب على نعامة ، يأكل لحوم الناس الذين يقذفهم البحر ، وذكر بعضهم أنه عرض لمركب في البحر فحاربهم وحاربوه ، فصاح بهم صيحة خروا على وجوههم فأخذهم .
الدم : بكسر الدال السنور ، حكاه في المحكم عن النضر في كتاب الوحوش .
الدنة : بتشديد النون دويبة كالنملة قاله ابن سيده .
الدنيلس : معروف وهو نوع من الصدف والحلزون ، قال جبريل بن بختيشوع : إنه ينفع من رطوبة المعدة والاستسقاء .
وحكمه : حل الأكل لأنه من طعام البحر ، ولا يعيش إلا فيه . ولم يأت على تحريمه دليل . كذا أفتى به الشيخ شمس الدين بن عدلان وعلماء عمره وغيرهم . وما نقل عن الشيخ عز الدين بن عبد السلام من الافتاء بتحريم أكله لم يصح . فقد نص الشافعي على أن حيوان البحر الذي لا يعيش إلا فيه يؤكل لعموم الآية ، ولقوله ( صلى الله عليه وسلم ) " هو الطهور ماؤه ، الحل ميتته " . ووراء ذلك وجهان ، وقيل قولان أحدهما يحرم لأنه ( صلى الله عليه وسلم ) خص السمك بالحل ، والثاني ما أكل شبهه في البر ، كالبقر والشاء حلال . وما لا كخنزير الماء وكلبه حرام وعلى هذا لا يؤكل ما أشبه الحمار وإن كان في البر الحمار الوحشي حلالاً . قال في كتاب التبيان : فيما يحل ويحرم من الحيوان للشيخ عمار الدين الاقفهسي ، وقد نقل عن الشيخ عز الدين بن عبد السلام أنه كان يفتي بتحريم الدنيلس ، قال : وهذا مما لا يرتاب فيه سليم الطبع . قلت : وقد ذكر ارسطاطاليس ، في كتابه نعوت الحيوان ، أن السرطان لا يخلق بتولد ونتاج ، وإنما يستحيل في الصدف أي يتخلق فيه ثم يخرج ، ومنه ما يتولد ثم ينشق عنه الصحف ويخرج ، كما أن البعوض يتولد من أوساخ المياه ونتنها . فقد استفدنا من كلام ارسطاطاليس أن ما في داخل الدنيلس وغيره ، من الأصداف يستحيل سرطانات ، وإذا كان الحيوان غير مأكول ، فأصله كذلك إلا على القول الضعيف . وسمعت عن بعض الفقهاء أنه كان يفتي بحل الدنيلس ، ويأخذه من كلام الأصحاب ما أكل مثله في البر ، أكل مثله في البحر . وقال بن الدنيلس له نظير في البر ، وهو الفستق ، وهذه غباوة منه لأن مراد الأصحاب ما أكل في البر من حيوان أكل مثله في البحر . ثم هل يجب مع ذلك ذبحه أم لا ؟ فيه وجهان : وليس مرادهم تشبيه حيوان بحري بحمار بري حتى يصح القياس . وبالجملة فهذا القائل ، قد قاس الخبيث بالطيب ، ويلزمه أن يقول بحل سائر المحار والأصداف لأن الدفيلس محار صغير ، ثم يأخذ بعد ذلك في الكبر ، والدليل على ذلك أنه يوجد منه صغير وكبير فإذا تكامل بقي محاراً ، فينبغي القطع بتحريم الدنيلس لأنه من أنواع الصدف ، والصدف مستخبث كالسلحفاة والحلزون . قال الجاحظ : والملاحون يأكلون البلبل ، وهو ما في جوف الصدفة ، وهذا يدل على أنه غير مستطاب وإلا لما عده من خواص الملاحين . وأهل مصر يعيبون أهل الشام(1/472)
"""""" صفحة رقم 473 """"""
بأكلهم السرطان ، وأهل الشام يعيبون أهل مصر بأكلهم الدنيلس ولم أجد لهم مثلاً إلا قول الشاعر :
ومن العجائب والعجائب جمة . . . أن يلهج الأعمى بعيب الأعمش
انتهى كلام الأقفهسي ، وهو مخالف لما ذكره المؤلف والله أعلم .
الدهانج : بضم الدال الجمل الضخم ذو السنامين . وسيأتي إن شاء الله تعالى في باب الفاء في الفالج .
الدوبل : الحمار الصغير الذي لا يكبر وكان الأخطل يلقب به ومنه قول جرير :
بكى دوبل لا يرقىء الله دمعه . . . ألا إنما يبكي من الذل دوبل
الدود : جمع دودة وجمع الدود ديدان ، والتصغير دويد ، وقياسه دويدة وداد الطعام يداد وأداد ودود . إذا وقع فيه السوس قال الراجز :
قد أطعمتني دفلا حوليا . . . مسوساً مدوداً حجريا
والدود أيضاً صغار الدود . ودويد بن زيد عاش أربعمائة وخمسين سنة ، وأدرك الإسلام وهو لا يعقل ، وارتجز وهو محتضر :
اليوم يبنى لدويد بيته . . . لو كان للدهر بلى ابليته
أو كان قرني واحداً كفيته . . . يا رب نهب صالح حويته
ورب غيل حسن لويته . . . ومعصم مخضب ثنيته
وفي تاريخ ابن خلكان ، إنه سعى بأبي الحسن الهادي ، بن محمد الجواد ، بن علي الرضا إلى المتوكل بأن في منزله سلاحاً وكتباً من شيعته ، وأنه يطلب الأمر لنفسه ، فبعث المتوكل إليه جماعة فهجموا عليه في منزله فوجدوه على الأرض مستقبل القبلة يقرأ القرآن ، فحملوه على حاله إلى المتوكل والمتوكل يشرب ، فأعظمه وأجله وقال له : أنشدني فقال : إني قليل الرواية للشعر . فقال له المتوكل : لا بد فأنشده :
باتوا على قلل الأجبال تحرسهم . . . غلب الرجال فما أغنتهم القلل
واستنزلوا بعد عز من معاقلهم . . . وأودعوا حفرا يا بئس ما نزلوا
ناداهم صارخ من بعد ما قبروا . . . أين الأسرة والتيجان والحلل
فأفصح القبر عنهم حين ساءلهم . . . تلك الوجوه عليها الدود يقتتل قد طالما أكلوا دهراً وما شربوا . . . فأصبحوا بعد ذاك الأكل قد أكلوا(1/473)
"""""" صفحة رقم 474 """"""
فبكى المتوكل والحاضرون . ثم قال له المتوكل : يا أبا الحسن هل عليك دين . قال : نعم أربعة آلاف درهم ، فأمر له بها وصرفه مكرماً . فلما كثرت السعاية به عند المتوكل أحضره المدينة ، وأقره بسر من رأى ، وتدعى العسكر لأن المعتصم لما بناها انتقل إليها بعسكره ، فقيل لها : العسكر ، فأقام بها عشرين سنة وتسعة أشهر ، ولهذا قيل له العسكري . وتوفي في جمادى الآخرة سنة أربع وخمسين ومائتين ، وهو أحد الأئمة الأثني عشر على مذهب الإمامية رضي الله تعالى عنه وعن آبائه الكرام . والدود أنواع كثيرة يدخل فيها الأساريع والحلم والأرضة ودود الخل والزبل ، ودود الفاكهة ودود القز والدود الأخضر الذي يوجد في شجر الصنوبر ، وهو في القوة والفعل كالذراريح ، وكله معروف ومنه ما يتولد في جوف الإنسان . وروى ابن عدي بسند فيه عصمة بن محمد بن فضالة عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال : " كلوا التمر على الريق فإنه يقتل الدود " . وقالت الحكماء : شرب الوخشيرق يرمي الدود من البطن ، وورق الخوخ إذا ضمدت السرة به قتل ديدان البطن . روى البيهقي في الشعب ، عن صدقة بن يسار أنه قال : دخل داود عليه الصلاة والسلام في محرابه ، فأبصر دودة صغيرة فتفكر في خلقها ، وقال : ما يعبأ الله بخلق هذا الدودة ، فأنطقها الله فقالت : يا داود أتعجبك نفسك ؟ لأنا على قدر ما آتاني الله ، أذكر لله وأشكر له منك ، على ما آتاك الله . قال الله تعالى : " وإن من شيء إلا يسبح بحمده " وأما دود الفاكهة فذكر الزمخشري في تفسير قوله تعالى : " وإني مرسلة إليهم بهدية " ، الآية أنها بعثت خمسمائة غلام ، عليهم ثياب الجواري وحليهن ، وخمسمائة جارية على زي الغلمان ، كلهم على سروج الذهب والخيل المسومة ، وألف لبنة من ذهب وفضة ، وتاجاً مكللاً بالدر والياقوت والمسك والعنبر ، وحقاً فيه درة يتيمة وخرزة مثقوبة معوجة الثقب ، وبعثت برجلين من أشراف قومها المنذر بن عمرو وآخر في رأي وعقل . وقالت : إن كان نبياً ميز بين الغلمان والجواري ، وثقب الدرة ثقباً مستوياً ، وسلك في الخرزة خيطاً ثم قالت للمنذر : إن نظر إليك نظر غضبان ، فهو ملك فلا يهولنك أمره ، وإن رأيت شيئاً لطيفا فهو نبي ، فأعلم الله نبيه سليمان بذلك ، فأمر الجن فضربوا لبن الذهب والفضة ، وفرشت في ميدان بين يديه طوله سبعة فراسخ ، وجعلوا حول الميدان حائطاً ، شرفة من ذهب وشرفة من فضة ، وأمر بأحسن الدواب في البر والبحر فربطوها ، عن يمين الميدان ويساره على اللبن ، وأمر بأولاد الجن ، وهم خلق كثير ، فأقيموا على اليمين واليسار ، ثم قعد على كرسيه ، والكراسي عن يمينه ويساره ، واصطفت الشياطين صفوفاً فراسخ ، والجن صفوفاً فراسخ ، والإنس صفوفاً فراسخ ، والوحش والسباع والطيور والهوام كذلك ، فلما دنا القوم ، نظروا فرأوا الدواب تروث على لبنات الذهب والفضة ، فرموا بما معهم منها ، فلما وقفوا بين يديه ، نظر إليهم بوجه طلق ، ثم قال : أين الحق الذي فيه كذا وكذا . فقدموه بين يديه فأمر الأرضة ، فأخذت شعرة ونفدت فيها ، فجعل رزقها في الشجر ، وأخذت دودة بيضاء بفيها الخيط ، ونففت فيها فجعل رزقها في الفواكه ، ودعا بالماء ، فكانت الجارية تأخذ الماء بيدها ، فتجعله في الأخرى ، ثم تضرب به وجهها ، والغلام كما يأخذه يضرب به وجهه ، ثم ردا الهدية ، وقال للمنذر : ارجع إليهم . فلما رجع وأخبرها الخبر قالت : هو نبي وما(1/474)
"""""" صفحة رقم 475 """"""
لنا به طاقة فشخصت إليه في أثني عشر ألف قيل تحت يدكل قبل ألوف . وأما دود القز فيقال لها الدودة الهندية ، وهي من أعجب المخلوقات ، وذلك إنه يكون أولاً بزراً من قدر حب التين ، ثم يخرج من الدود عند فصل الربيع ، ويكون عند الخروج أصغر من الذر ، وفي لونه ويخرج من الأماكن الدافئة من غير حضن ، إذا كان مصروراً مجعولاً في حق ، وربما تأخر خروجه فتصره النساء وتجعله تحت ثديهن ، وإذا خرج أطعم ورق التوت الأبيض ، ولا يزال يكبر ويعظم إلى أن يصير في قدر الإصبع ، وينتقل من السواد إلى البياض أولاً فأولاً ، وذلك في مدة ستين يوماً على الأكثر ، ثم يأخذ في النسج على نفسه بما يخرجه من فيه إلى أن ينفد ما في جوفه منه . ويكمل عليه ما يبنيه إلى أن يصير كهيئة الجوزة ، ويبقى فيه محبوساً قريباً من عشرة أيام ، ثم ينقب عن نفسه تلك الجوزة ، فيخرج منها فراش أبيض له جناحان ، لا يسكنان من الاضطراب ، وعند خروجه يهيج إلى السفاد ، فيلصق الذكر ذنبه بذنب الأنثى ويلتحمان مدة ، ثم يفترقان ، وتبزر الأنثى البزر الذي تقدم ذكره على خرق بيض ، تفرش له قصداً إلى أن ينفد ما فيها منه ، ثم يموتان هذا إن أريد منهما البزر وإن أريد الحرير ترك في الشمس بعد فراغه من النسج ، بعشرة أيام يوماً بعض يوم فيموت . وفيه من أسرار الطبيعة أنه يهلك من صوت الرعد ، وضرب الطست والهاون ومن شم الخل والدخان ومس الحائض والجنب . ويخشى عليه من الفأر والعصفور والنمل والوزغ وكثرة الحر والبرد وقد ألغز فيه بعض الشعراء فقال :
وبيضة تحضن في يومين . . . حتى إذا دبت على رجلين
واستبدلت بلونها لونين . . . حاكت لها خيساً بلا نيرين
بلا سماء وبلا بابين . . . ونقبته بعد ليلتين
فخرجت مكحولة العينين . . . قد صبغت بالنقش حاجبين
قصيرة ضئيلة الجنبين . . . كأنها قد قطعت نصفين
لها جناح سابع التبردين . . . ما نبتا إلا لقرب الحين
إن الردى كحل لكل عين
قال الإمام أبو طالب المكي ، في كتابه قوت القلوب : وقد مثل بعض الحكماء ابن آدم بدود القز ، لا يزال ينسج على نفسه ، من جهله حتى لا يكون له مخلص ، فيقتل نفسه ويصير القز لغيره ، وربما قتلوه إذا فرغ من نسجه ، لأن القز يلتف عليه فيروم الخروج عنه فيشمس ، وربما غمز بالأيدي حتى يموت لئلا يقطع القز ليخرج القز صحيحاً . فهذه صورة المكتسب الجاهل الذي أهلكه أهله وماله وتتنعم ورثته بما شقي هو به فإن أطاعوا به ، كان أجره لهم ، وحسابه عليه ، وإن عصوا به كان شريكهم في المعصية لأنه أكسبهم إياها به ، فلا يدري أي الحسرتين عليه أعظم إذهابه عمره لغيره ، أو نظره إلى ماله في ميزان غيره ؟ انتهى .
وقد أشار إلى ذلك أبو الفتح البستي بقوله :(1/475)
"""""" صفحة رقم 476 """"""
ألم تر أن المرء طول حياته . . . معنى بأمر لا يزاله يعالجه
كدود كدود القز ينسج دائماً . . . ويهلك غما وسط ما هو ناسجه
وله أيضاً وأجاد :
لا يغرنك أنني لين اللم . . . س فعزمي إذا انتضيت حسام
أنا كالورد فيه راحة قوم . . . ثم فيه لآخرين زكام
وقال آخر في المعنى :
يفنى الحريص بجمع المال مدته . . . وللحوادث ما يبقى وما يدع
كدودة القز ما تبنيه يهلكها . . . وغيرها بالذي تبنيه ينتفع
لما أخذت دودة القز تنسج ، أقبل العنكبوت يتشبه بها ، وقال : لي نسج ولك نسج . فقالت دودة القز : إن نسجي ملابس الملوك ونسجك ملابس الذباب ، وعند مس الحاجة يتبين الفرق ولذلك قيل :
إذا اشتبكت دموع في خدود . . . تبين من بكى ممن تباكى تتمة : شجرة الصنوبر تثمر في كل ثلاثين سنة مرة ، وشجرة الدبا تصعد في كل أسبوعين ، فتقول لشجرة الصنوبر : إن الطريق التي قد قطعتها في ثلاثين سنة قطعتها في أسبوعين . ويقال : لك شجرة ولي شجرة ، فتقول شجرة الصنوبر لها : مهلاً إلى أن تهب رياح الخريف ، فحينئذ يتبين لك اغترارك بالإسم . وقال المسعودي في ترجمة الراضي إن دودة بطبرستان ، تكون من المثقال إلى ثلاثة مثاقيل ، تضيء في الليل كما يضيء الشمع ، وتطير بالنهار فترى لها أجنحة ، وهي خضراء ملساء لا جناحين لها في الحقيقة ، غذاؤها التراب ، لم تشبع قط منه خوفاً أن تفنى تراب الأرض فتهلك جوعاً . قال : وفيها منافع كثيرة وخواص واسعة انتهى . وسيأتي عن الجاحظ قريب من هذا .
الحكم : يحرم أكله بجميع أنواعه ، لأته مستخبث إلا ما تولد منا مأكول فعندنا فيه ثلاثة أوجه : أصحها جواز أكله معه لا منفرداً ، والثاني يجب تمييزه ولا يؤكل أصلاً ، والثالث يؤكل معه ومنفرداً . وعلى الأصح ظاهر اطلاقهم أنه لا فرق بين أن يسهل تمييزه أو يشق . ولا يجوز بيع الدود إلا القرمز الذي يصبغ به وهو دود أحمر يوجد في شجر البلوط في بعض البلاد صدفي يشبه الحلزون . تجمعه نساء تلك البلاد بأفواههن . وأما دود القز فيجوز بيعه ، ويجب إطعامه ورق الفرصاد ، وهو التوت الأبيض ، ويجوز تشميسه ، وإن هلك لتحصيل فائدته . ويجوز بيع الفيلج وفي باطنه الدود الميت لأن بقاءه فيه من مصلحته ، فيجوز بيعه وزناً وجزفاً ، كما صرح به القاضي(1/476)
"""""" صفحة رقم 477 """"""
حسين وقال الإمام : إن باعه جزافاً كما صرح به القاضي حسين وقال الإمام إن باعه جزافاً جاز ، وإن باعه وزناً لم يجز . قلت : وهذا هو الصحيح المعتمد ، لأن الدود الذي فيه ، يمنع معرفة مقدار ما فيه من المقصود . وهو القز وقد جزم به الشيخان ، في آخر كتاب السلم وجزم به ابن الرفعة وغيره . وفي روثه الخلاف في روث ما لا نفس له سائلة . وفي بزره الوجهان في بيض ما لا يؤكل والأصح الطهارة . وقال الفوراني والمتولي : إن قلنا دود القز طاهر ، بعد الموت فبزره طاهر ، وإن قلنا إنه نجس فالبزر كالبيض لأن له نماء مثله . وفي فتاوى القفال : إن بزر القز لا مثل له ، ولا يجوز السلم فيه ، لأن أهل الصنعة لا يعرفون أنه هذا البزر يكون نسجه أحمر أو أبيض ، فهو كالسلم في الجواهر .
الأمثال : قالوا : " أصنع من دود القز " . وربما قالوا : " أكثر من الدود وأضعف من الدود " . قال ابن رشد ، في جامع البيان والتحصيل : سأل عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه ، عمرو بن العاص رضي الله تعالى عنه ، عن البحر ، فقال : خلق قوي يركبه خلق ضعيف ، دود على عودان ضاعوا هلكوا ، وإن بقوا فرقوا . فقال عمر : لا أحمل فيه أحداً أبداً .
الخواص : إذا أخذ دود القز ، وخلط بالزيت ولطخ به بدن إنسان نفع من نهش الهوام وذوات السموم ودودة القز إن أخرجت منه وأكلها الدجاج حصل له سمن كثير ، ودود الزبل الأصفر الذي يخلق منه ، إذا طبخ في زيت عتيق حتى ينضج ويدهن بذلك الزيت داء الثعلب ، فإنه يبرئه ، وهو في ذلك عجيب مجرب إذا داوم عليه .
التعبير : الدود في المنام عدو من الأهل " ودود القز زبون للتاجر ، ورعية للسلطان ، فمن أخذ منه شيئاً نال منفعة منهم ، وربما دلت رؤية الدود على مال حرام . ويعبر أيضاً بالضر فمن زال عنه زال ذلك عنه ، وربما عبر الدود بالأولاد القصيري الأعمار ، وأصحاب التركات السنية ، وربما دلت رؤيته على قرب الأجل ونهاية العمر ، وربما دلت على الحاكة من الرجال والنساء ، والمحاكين للصور والله أعلم .
دؤالة : كنخالة من أسماء الثعلب ، سمي بذلك لنشاطه وخفة مشيه والدألان مشية النشيط .
الدودمس : ضرب من الحيات محرنفش الغلاصيم ، ينفخ فيحرق ما أصاب والجمع دودمسات ودواميس قاله ابن سيده .
الدوسر : الجمل الضخم والأنثى دوسرة وجمل دوسري كأنه منسوب إليه .
الديسم : بالفتح ولد الدب قال الجوهري : قلت لأبي الغوث : يقال إنه ولد الذئب من الكلبة فقال : ما هو إلا ولد الدب . وقال في المحكم : إنه ولد الثعلب . وقال الجاحظ : إنه ولد الذئب من الكلبة . وهو أغبر اللون وغبرته ممتزجة بسواد . وحكمه : تحريم الأكل على كل تقدير . الديك : ذكر الدجاج وجمعه ديوك وديكة ، وتصغيره دويك ، وكنيته أبو حسان ،(1/477)
"""""" صفحة رقم 478 """"""
وأبو حماد وأبو سليمان ، وأبو عقبة ، وأبو مدلج ، وأبو المنذر ، وأبو نبهان وأبو يقظان ، وأبو برائل والبرائل الذي يرتفع من ريش الطائر في عنقه ، وينفشه الديك للقتال ، وقيل : إن للديك خاصة . ويسمى الأنيس والمؤانس ، ومن شأنه أنه لا يحنو على ولده ، ولا يألف زوجة واحدة ، وهو أبله الطبيعة ، وذلك أنه إذا سقط من حائط لم يكن له هداية ترشده إلى دار أهله . وفيه من الخصال الحميدة أنه يسوي بين دجاجه ، ولا يؤثر واحدة على واحدة إلا نادراً ، وأعظم ما فيه من العجائب ، معرفة الأوقات الليلية فيقسط أصواته عليها تقسيطاً ، لا يكاد يغادر منه شيئاً سواء طال أو قصر . ويوالي صياحه قبل الفجر وبعده ، فسبحان من هداه لذلك . ولهذا أفتى القاضي حسين والمتولي والرافعي بجواز اعتماد الديك المجرب في أوقات الصلوات . ومن غريب أمره ، إذا كانت الديكة بمكان ، ودخل عليها ديك غريب سفدته كلها ، وقد أجاد أبو بكر الصنوبري في مدحه حيث قال : مغرد الليل ما يألوك تغريدا مل الكرى فهو يدعو الصبح مجهودا
لما تطرب هز العطف من طرب . . . ومد للصوت لما مده الجيدا
كلابس مطرفا مرخ ذوائبه . . . تضاحك البيض من اطرافه السودا
حالى المقلد لو قيست قلائده . . . بالورد قصر عنها الورد توريدا
وفي تاريخ ابن خلكان في ترجمة محمد بن معن بن محمد بن صلاح ، المنعوت بالمعتصم ، من قصيدة مدحه بها أبو القاسم الأسعد بن بليطة في صفة الديك :
كأن أنوشروان أعطاه تاجه . . . وناط عليه كف مارية القرطا
سبى حلة الطاووس حسن لباسه . . . ولم يكفه حتى سبى المشية البطا
قال الجاحظ : ويدخل في الديك الهندي والجلاسي والنبطي والسندي والزنجي ، وزعم أهل التجربة أن الديك الأبيض الأفرق من خواصه أن يحفظ الدار التي هو فيها ، وزعموا أن الرجل إذا ذبح الديك الأبيض الأفرق ، لم يزل ينكب في أهله وماله .
وروى عبد الحق بن قانع بإسناده إلى جابر بن أثوب ، بسكون الثاء المثلثة وفتح الواو ، وهو أثوب بن عتبة ، أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال : " الديك الأبيض خليلي " . وإسناده لا يثبت . ورواه غيره بلفظ : " الديك الأبيض صديقي وعدو الشيطان ، يحرس صاحبه وسبع دور خلفه " . قال : وكان النبي ( صلى الله عليه وسلم ) يقتنيه في البيت والمسجد . وفي التهذيب في ترجمة البزي الراوي عن ابن كثير ، وهو أبو الحسن أحمد بن محمد بن عبد الله بن القاسم بن نافع بن أبي بزة المكي ، وهو ضعيف الحديث ، عن الحسن عن أنس أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال : " الديك الأبيض الأفرق حبيبي وحبيب حبيبي جبريل يحرس بيته وستة عشر بيتاً من جيرانه " . وروى الشيخ محب الدين الطبري " أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) كان له ديك أبيض وكان الصحابة رضي الله عنهم يسافرون بالديكة لتعرفهم أوقات الصلوات " .(1/478)
"""""" صفحة رقم 479 """"""
وفي الصحيحين وسنن أبي داود والترمذي والنسائي عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال : " إذا سمعتم صياح الديكة فاسألوا الله من فضله فإنها رأت ملكاً ، وإذا سمعتم نهاق الحمير فتعوذوا بالله من الشيطان ، فإنها رأت شيطاناً " . قال القاضي عياض : سببه رجاء تأمين الملائكة على الدعاء ، واستغفارهم وشهادتهم له بالإخلاص والتضرع والابتهال . وفيه استحباب الدعاء عند حضور الصالحين والتبرك بهم وإنما أمرنا بالتعوذ من الشيطان عند نهيق الحمير ، لأن الشيطان يخاف من شره عند حضوره فينبغي أن يتعوذ منه انتهى . وفي معجم الطبراني وتاريخ أصبهان ، عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أنه قال : " إن لله سبحانه ديكاً أبيض جناحاه موشيان بالزبرجد والياقوت واللؤلؤ ، جناح بالمشرق وجناح بالمغرب ، ورأسه تحت العرش وقوائمه في الهواء ، يؤذن في كل سحر فيسمع تلك الصيحة أهل السموات وأهل الأرض ، إلا الثقلين ، الإنس والجن ، فعند ذلك تجيبه ديوك الأرض فإذا دنا يوم القيامة يقول الله تعالى : ضم جناحيك ، وغض صوتك . فيعلم أهل السموات وأهل الأرض إلا الثقلين أن الساعة قد اقتربت . وروى الطبراني والبيهقي في الشعب ، عن محمد بن المنكدر ، عن جابر رضي الله تعالى عنه أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال : " إن لله ديكاً رجلاه في التخوم ، وعنقه تحت العرش منطوية ، فإذا كان هنة من الليل ، صاح : سبوح قدوس ، فتصيح الديكة " . وهو في كامل ابن عدي في ترجمة علي بن أبي علي اللهبي . قال : وهو يروي أحاديث منكرة عن جابر رضي الله عنه . وفي كتاب فضل الذكر ، للحافظ العلامة جعفر بن محمد بن الحسن الفريابي ، عن ثوبان مولى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) قال : " إن لله عز وجل ديكاً رجلاه في الأرض السفلى ، وعنقه مثنية تحت العرش ، وجناحاه في الهواء يخفق بهما في السحر كل ليلة ، يقول : سبحان الملك القدوس ربنا الملك الرحمن لا إله غيره " . وروى الثعلبي أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال : " ثلاثة أصوات يحبها الله تعالى . صوت الديك ، وصوت قارىء القرآن ، وصوت المستغفرين بالأسحار " . وروى الإمام أحمد وأبو داود وابن ماجة ، عن زيد بن خالد الجهني رضي الله تعالى عنه ، أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال : " لا تسبوا الديك فإنه يوقظ للصلاة " . إسناده جيد وفي لفظ " فإنه يدعو إلى الصلاة " قال الإمام الحلمي في قوله ( صلى الله عليه وسلم ) " فإنه يدعو إلى الصلاة " . دليل على أن كل من استفيد منه خير ، لا ينبغي أن يسب ويستهان به ، بل حقه أن يكرم ويشكر ويتلقى بالإحسان ، وليس معنى دعاء الديك إلى الصلاة أنه يقول بصراخه حقيقة : الصلاة أو قد حانت الصلاة ، بل معناه أن العادة قد جرت بأنه يصرخ صرخات متتابعة ، عند طلوع الفجر ، وعند الزوال ، فطرة فطرة الله عليها فيتذكر الناس بصراخه الصلاة ، ولا يجوز لهم أن يصلوا بصراخه ، من غير دلالة سواه إلا من جرب منه ما لا يخلف فيصير ذلك له إشارة والله أعلم انتهى . وروى الحاكم في المستدرك في أوائل كتاب الإيمان والطبراني ورجاله رجال الصحيح عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال : " إن الله أذن لي أن أحدث عن ديك رجلاه في الأرض وعنقه مثنية تحت العرش ، وهو يقول : سبحانك ما أعظم شأنك ، قال : فيرد عليه ما يعلم ذلك من حلف بي كاذباً " . وروى الإمامان أبو طالب المكي وحجة الإسلام الغزالي ، عن(1/479)
"""""" صفحة رقم 480 """"""
ميمون بن مهران ، أنه قال : بلغني أن تحت العرش ملكاً في صورة ديك ، براثنه من لؤلؤة وصيصته من زبرجد أخضر ، فإذا مضى ثلث الليل الأول ضرب بجناحيه وزقا وقال : ليقم القائمون ، فإذا مضى نصف الليل ضرب بجناحيه وزقا وقال : ليقم المصلون ، فإذا طلع الفجر ضرب بجناحيه وزقا وقال : ليقم الغافلون وعليهم أوزارهم ومعنى زقا صاح . نكتة : كان سهل بن هارون بن راهويه ، في خدمة المأمون ، وكان حكيماً فصيحاً شاعراً فارسي الأصل شيعي المذهب ، شديد التعصب على العرب ، وله مصنفات عديدة في الأدب وغيره ، وكان الجاحظ يصف براعته وحكمته وشجاعته في كتبه ، وكان إليه النهاية في البخل وله فيه حكايات عجيبة : فمن ذلك قال دعبل : كنا عنده يوماً فأطلنا القعود ، حتى كاد يموت جوعاً ، ثم قال : ويحك يا غلام غدنا فأتاه بقصعة فيها ديك مطبوخ ، فتأمله ثم قال أين الرأس يا غلام ؟ قال : رميت به . فقال : إني والله لأمقت من يرمي برجله ، فكيف برأسه ؟ ولو لم يكن فيما فعلت إلا الطيرة والفأل لكراهته ، أما علمت أن الرأس رئيس الأعضاء ، ومنه يصرخ الديك ، ولولا صوته ما أريد ، وفيه عرفه الذي يتبرك به ، وعينه التي يضرب بها المثل في الصفاء ، فيقال : " شراب كعين الديك " . ودماغه عجب لوجع الكليتين ، ولم ير عظم أهش تحت الأسنان منه ، وهب أنك ظننت أني لا آكله أو ليس العيال كانوا يأكلونه ؟ فإن كان قد بلغ من نبلك أنك لا تأكله ، فعندنا من يأكله ، أو ما علمت أنه خير من طرف الجناح ، ومن رأس العنق ؟ انظر لي أين هو ؟ فقال : والله ما أدري أين هو ، ولا أين رميت به . فقال : رميته في بطنك قاتلك الله .
الحكم : يحل أكله لما تقدم في الدجاج ، ويكره سبه لما تقدم في حديث زيد بن خالد الجهني ، ويجوز اعتماد الديك المجرب في أوقات الصلوات كما تقدم قريباً . قال أصبغ بن زيد الواسطي : كان لسعيد بن جبير ديك يقوم في الليل بصياحه ، فلم يصح ليلة حتى أصبح فلم يصل سعيد تلك الليلة فشق ذلك عليه ، فقال : ماله قطع الله صوته ؟ فلم يسمع له صوت بعد ذلك . وفي مناقب إمامنا الشافعي رحمه الله تعالى ، أن رجلاً سأله عن رجل خصى ديكاً له ، فقال : عليه أرشه . وفي الكامل . في ترجمة عبد الله بن نافع مولى ابن عمر عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما ، أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) : " نهى عن خصاء الديك والغنم والخيل " . وقال : " إنما النماء في الخيل " . وتحرم المناقرة بالديكة . وسيأتي ما ورد في ذلك من النهي في باب الكاف ، في المناطحة بالكباش ، في لفظ الكبش إن شاء الله تعالى .
الأمثال : قالوا : " أشجع من ديك " أو " أسفد من ديك " .
فائدة : روى مسلم وغيره أن عمر رضي الله عنه خطب الناس يوماً فحمد الله وأثنى عليه . ثم قال : إني رأيت رؤيا لا أراه إلا لحضور أجلي وهي أن ديكاً نقرني ثلاث نقرات ، وفي لفظ رأيت كأن ديكاً أحمر نقرني نقرة أو نقرتين . فحدثتها أسماء بنت عميس رضي الله عنها فحدثتني بأن يقتلني رجل من الأعاجم . وكان هذا القول منه يوم الجمعة فطعن يوم الأربعاء(1/480)
"""""" صفحة رقم 481 """"""
رضي الله عنه . وروى الحاكم عن سالم بن أبي الجعد عن معدان بن أبي طلحة عن عمر رضي الله تعالى عنه أنه قال على المنبر : رأيت في المنام كأن ديكاً نقرني ثلاث نقرات فقلت : أعجمي يقتلني ، وإني جعلت أمري إلى هؤلاء الستة ، الذي توفي رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وهو عنهم راض : عثمان وعلي وطلحة والزبير وعبد الرحمن بن عوف وسعد بن أبي وقاص . فمن استخلف فهو الخليفة . وذكر ابن خلكان وغيره ، أن عمر رضي الله عنه ، لما طعن ، اختار من الصحابة ستة نفر ، وهم المتقدم ذكرهم . وكان سعد بن أبي وقاص غائباً ، وجعل عبد الله ابنه مشيراً ، وليس له من الأمر شيء وأقام المسور بن مخرمة ، وثلاثين نفساً من الأنصار ، وقال : إن اتفقوا على واحد إلى ثلاثة أيام ، وإلا فاضربوا رقاب الكل فلا خير للمسلمين فيهم ، وإن افترقوا فرقتين ، فالفرقة التي فيها عبد الرحمن بن عوف . وأوصي أن يصلي صهيب بالناس ثلاثة أيام ، فأخرج عبد الرحمن بن عوف نفسه من الشورى ، واختار عثمان فبايعه الناس . ونقل أن العباس بن عبد المطلب قال لعلي : يا ابن أخي لا تدخل نفسك في الشورى مع القوم ، فإني أخاف أن يخرجوك منها فتبقى وصمة فيك فلم يقبل منه . وكان عمر قد بويع له بالخلافة يوم مات الصديق بعهد منه له في ذلك كما سبق في باب الهمزة في لفظ الأوز . وضربه أبو لؤلؤة فيروز الفارسي غلام المغيرة بن شعبة ، وكان مجوسياً ، وقيل : كان نصرانياً ، ثلاث ضربات أحداهن تحت سرته ، فقال : قتلني الكلب . وخرج من المحراب ودخل عبد الرحمن بن عوف ، فأتم الصلاة بالناس . ومر أبو لؤلؤة هارباً في يده خنجر يضرب به يميناً وشمالاً فطرح عليه رجل من الأنصار رداءه ، فلما علم أنه مأخوذ ، نحر نفسه . وكان بعض الذين في المسجد لم يشعروا بذلك لشغلهم بالصلاة إلا أنهم فقدوا صوت عمر ولم يعلموا ما سببه . وإنه لما طعن ، قيل له : ما أحب الأشربة إليك يا أمير المؤمنين . قال : النبيذ فسقوه نبيذاً ، فخرج من جرحه ، فقال قوم : نبيذ وقال قوم : دم فسقوه لبناً فخرج من جرحه . فقيل له : أوص يا أمير المؤمنين ، فأوصى بالشورى كما تقدم . وكان قتله في ذي الحجة سنة ثلاث وعشرين وبقي ثلاثة أيام ، وتوفي لأربع بقين من ذي الحجة . وقيل لليلتين وقد تقدم بعض ذلك في الأوز .
ويقال إن عبيد الله بن عمر وثب على الهرمزان فقتله ، وقتل معه رجلاً نصرانياً ، يعرف بحفنة من أهل نجران ، كانا قد اتهما بإغراء أبي لؤلؤة بعمر رضي الله عنه . وقتل بنتاً لأبي لؤلؤة طفلة . ووداهم عثمان رضي الله عنه . ولحق عبيد الله بمعاوية في خلافه علي رضي الله عنه .
وكان في أيام عمر الفتوحات العظام ، وهو الذي سمى الغزوات الشواتي والصوائف ، وهو أول من أرخ التاريخ بعام الهجرة ، وأول من دعي بأمير المؤمنين وأول من ختم الكتب ، وكان في يده خاتم رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ، وفيه نظر . وأول من ضرب بالدرة وحملها . وأول من قال : أطال الله بقاءك ، قالها لعلي رضي الله عنهما ، وهو الذي أخر المقام إلى موضعه اليوم ، وكان ملصقاً بالبيت ، وهو أول من جمع الناس على إمام واحد في التراويح . وحج بالناس عشر سنين متوالية آخرها سنة ثلاث وعشرين ، ومعه نساء رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) في الهوادج ورجع إلى المدينة فرأى الرؤيا المتقدم(1/481)
"""""" صفحة رقم 482 """"""
ذكرها ، وتزوج عمر أم كلثوم بنت علي رضي الله عنه ، وأصدقها أربعين ألف درهم ، وكان أي عمر رضي الله عنه قد حد ابنه عبيد الله على الشراب ، فقال له وهو يحده : قتلتني يا أبتاه . فقال له : يا بني إذا لقيت ربك فأخبره أن أباك يقيم الحدود . والذي في السير أن المحدود في الشراب ابنه الأوسط أبو شحمة ، وإسمه عبد الرحمن ، وأمه أم ولد يقال لها الهيبة . وقتل عبيد الله الرجلين مشكل وقتله الطفلة أشكل والله أعلم . وذكر غير واحد من الثقات ، أنه كان لرقية بنت رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ، من عثمان ، ولد يقال له عبد الله ، وبه كان يكنى ، بلغ سبع سنين نقره ديك في وجهه فمات بعد أمه في جمادى سنة أربع . ولم يولد له غيره من بنات النبي ( صلى الله عليه وسلم ) . ولما هاجرت رقية إلى الحبشة كان فتيان الحبشة يتعرضون لرؤيتها ويتعجبون من جمالها ، فآذاها ذلك فدعت عليهم فهلكوا جميعاً . وقالوا : " ما كلمته إلا كحسو الديك " يريدون السرعة قال الشاعر :
ويوماً كحسو الديك قد بات صحبتي . . . ينالونه فوق القلاص العياهل
يريد قلته وسرعته وضربوا المثل بصفاء عينه فقالوا : " أصفى من عين الديك " .
ومن المشهور في ذلك قصيدة عدي بن زيد العبادي التي يقول فيها :
بكر العاذلون في وضح الص . . . بح يقولون لي أما تستفيق
ويلومون فيك يا ابنة عبد الله . . . والقلب عندكم موهوق
لست أدري إذا أكثروا العذل فيها . . . أعدو يلومني أم صديق
ودعوا بالصبوح يوماً فجاءت . . . قينة في يمينها إبريق
قدمته على عقار كعين ال . . . ديك صفي سلافها الراووق
ولهذه الأبيات حكاية حسنة مشهورة مذكورة في درة الغواص . وفي تاريخ ابن خلكان ، في ترجمة حماد الراوية قال : كنت منقطعاً إلى يزيد بن عبد الملك ، وكان أخوه هشام يجفوني لذلك في أيامه ، فلما مات يزيد ، وأفضت الخلافة إلى هشام ، خفتة فمكثت في بيتي سنة لا أخرج إلا لمن أثق به ، من إخواني سراً ، فلما لم أسمع أحداً ذكرني في السنة ، أمنت فخرجت يوماً ، وصليت الجمعة بالرصافة ، وإذا شرطيان قد وقفا علي وقالا : يا حماد أجب الأمير يوسف بن عمر ، وكان والياً على العراق ، فقلت في نفسي : من هذا كنت أخاف . ثم قلت للشرطين : هل لكما أن تدعاني حتى آتي أهلي ، فأودعهم وداع من لا يرجع إليهم أبداً ، ثم أسير معكما إليه ؟ فقالا : ما إلى ذلك سبيل . فاستسلمت في أيديهما ، ثم صرت إلى يوسف بن عمر ، وهو في الايوان الأحمر ، فسلمت(1/482)
"""""" صفحة رقم 483 """"""
فرد علي السلام ، ورم إلي كتاباً فيه : بسم الله الرحمن الرحيم من عبد الله هشام أمير المؤمنين إلى يوسف بن عمر الثقفي ، أما بعد فإذا قرأت كتابي هذا فابعث إلى حماد الراوية من يأتيك به ، من غير ترويع ، وادفع له خمسمائة دينار وجملاً مهرياً ، يسير عليه لإثنتي عشرة ليلة إلى دمشق . قال : فأخذت الدنانير ونظرت فإذا جمل مرحول فجعلت رحلي في الغرز وسرت إثنتي عشرة ليلة حتى وافيت دمشق ، فنزلت على باب هشام ، فاستأذنت فأذن لي فدخلت عليه في دار قوراء مفروشة بالرخام ، وبين كل رخامتين قضيب من ذهب ، وهشام جالس على طنفسة حمراء ، وعليه ثياب حمر من الخز ، وقد تضمخ بالمسك والعنبر ، فسلمت عليه فرد علي السلام ، واستدناني فدنوت إليه حتى قبلت رجله فإذا جاريتان لم أر مثلهما قط في أذن كل واحدة منهما حلقتان ، فيهما لؤلؤتان تتقدان ، فقال لي : كيف أنت يا حماد وكيف حالك ؟ قلت : بخير يا أمير المؤمنين . فقال : أتدري فيم بعثت إليك . قلت : لا . قال : بعثت إليك لبيت خطر ببالي لم أدر قائله قلت : وما هو ؟ قال :
ودعوا بالصبوح يوماً فجاءت . . . قينة في يمينها ابريق
فقلت : يقوله عدي بن زيد العبادي في قصيدة له فقال : أنشدنيها فانشدته :
بكر العاذلون في وضح الصب . . . ح يقولون لي أما تستفيق
ويلومون فيك يا ابنة عبد الله . . . والقلب عندكم موهوق
لست أدري إذا أكثروا العذل فيها . . . أعدو يلومني أم صديق
قال حماد فانتهيت فيها إلى قوله :
ودعوا بالصبوح يوماً فجاءت . . . قينة في يمينها ابريق
قدمته على عقار كعين ال . . . ديك صفي سلافها الراووق
مرة قبل مزجها فإذا ما . . . مزجت لذ طعمها من يذوق
وطفا فوقها فقاقيع كاليا . . . قوت حمر يزينها التصفيق
ثم كان المزاج ماء سحاب . . . لاصرى آجن ولا مطروق
قال : فطرب هشام ، ثم قال لي : أحسنت يا حماد والله ، يا جارية اسقيه فسقتني شربة ذهبت بثلث عقلي ، فقال : أعده فاعدته فاستخفه الطرب حتى نزل عن فرشه ، ثم قال للجارية الأخرى : اسقيه فسقتني ، شربة ذهبت بثلث آخر من عقلي ، ثم قال : سل حاجتك يا حماد . فقلت : كائنة ما كانت . قال : نعم . قلت : إحدى هاتين الجاريتين ، فقال : هما لك بما عليهما ، ثم قال للجارية الأولى : اسقيه فسقتني شربة ، فسقطت منها فلم أعقل حتى أصبحت ، والجاريتان عند رأسي ، فإذا عشرة من الخدم ، ومع كل واحد منهم بدرة فيها عشرة آلاف درهم . فقال أحدهم : إن أمير المؤمنين يقرأ عليك السلام ويقول لك : خذ هذه وانتفع بها في سفرك فأخذتها والجاريتين وعدت إلى أهلي انتهى . هكذا ساقها الحريري في كتابه درة الغواص ، وفيه(1/483)
"""""" صفحة رقم 484 """"""
اعترضان : أحدهما قوله : يا جارية اسقيه ، فإن هشام لم يكن يشرب الخمر ، اللهم إلا أن كان يشرب بحضرته . والثاني قوله : إن هشاماً بعث إلى يوسف بن عمر الثقفي ، فإنه في هذا التاريخ ، لم يكن متولياً على العراق ، وإنما كان والياً عليه في التاريخ المذكور خالد بن عبد الله القسري حسبما ذكره أهل التاريخ . الخواص : لحم الديوك حار يابس ، باعتدال أجوده عند اعتدال أصواتها ، وهو ينفع أصحاب القولنج ، ويستحب كدها قبل ذبحها ، وأكل لحمها يولد غذاء محموداً ويوافق من الأمزجة الباردة ومن الأسنان الشيوخ ، ومن الزمان الشتاء . والديوك العتيقة تنحل منها قوة في الطبخ ، ولحمها يطلق البطن ، وينفع المفاصل ، والرعشة والحمى العتيقة ، ذات الأدوار ، ولا سيما إذا عمل بملح كثير وماء كرنب ، ولبان القرطم والإسفاناخ . وأما الفراخ فغذاؤها موافق لجميع الناس حين تبتدىء بالصياح . والدجاج قبل أن يبيض . وينبغي أن يواصل أكلها دائماً . وأما خواص أجزائه فدم الديك أو دماغه إذا طلي به على لسع الهوام أبرأه ، والاكتحال بدمه ينفع البياض في العين ، وعرف الديك إذا أحرق وسقي منه من يبول في فراشه أزال عنه ذلك وأبرأه . وإذا طليت جبهة الديك وعرفه بدهن لم يصح . وإذا نتف الريش الطويل الذي في ذنبه ، عند ركوبه على الدجاجة وهو يسفدها ، وجعل في مجرى الحمام ، فمن اغتسل من ذلك الماء أنعظ . وفي طرف جناحيه عظمتان ، إذا علقت اليمنى على من به الحمى الدائمة أبرأته ، وإذا علقت اليسرى على من به حمى الربع أبرأته . وهاتان العظمتان يمنعان الإعياء والنعاس إذا علقتا على بهيمة . وخصيته إذا شويت وأكلتها المرأة التي لا تحبل ، في حيضها قبل الطهر بثلاثة أيام ، وجامعها زوجها حبلت . وإذا أخذ هذا العضو من يريد الجماع الكثير ، وصره في قرطاس وعلقه على عضده الأيسر ، أنعظ انعاظاً شديداً عجيباً ، فإذا حله سكن ذلك عنه . وعرف الديك الأبيض أو الأحمر إذا بخر به المجنون نفعه نفعاً عجيباً . ومرارة تخلط بمرق ضأن وتؤكل على الريق تذهب النسيان ، وتذكر ما نسي . ودمه يخلط بعسل ويعرض على النار ، ويطلى به الذكر يقوي الذكر والباه . وخصية الديك تعلق على الديك المهارش لا يغلبه ديك .
التعبير : الديك تدل رؤيته على الخطيب والمؤذن ، والقارىء المطرب ، وربما دلت رؤيته على الرجل الذي يأمر بالمعروف ولا يأتيه ، لأنه يذكر بالصلاة ولا يصلي ، وربما دلت رؤيته على الرجل الكثير النكاح ، أو السمار الكثير العياط ، أو الزمار الذي يأوي إلى النساء ، أو الحارس ، وربما دلت رؤيته على الرجل الكريم المؤثر على نفسه بما يحتاج إليه ، أو القانع بما يجد أو الناقص الحظ ، والعائل أو الكثير الوقوع في الشدائد ، وربما تدل رؤيته على رب الدار كما أن الدجاجة ربة البيت ، ويعبر أيضاً بمملوك ، لأنه ضمن المدرج لنوح عليه الصلاة والسلام لما أنفذه ، يكشف خبر الماء إن كان نقص فغدر ولم يأت ، فبقي الديك رهيناً كالمملوك من ذلك الزمان وامتنع من الطيران . وقيل : الديك في المنام رجل محارب من قبل المماليك . وقيل : الديك إذا كان أبيض أفرق فإنه مؤذن ، فمن ذبحه في المنام ، فإنه لا يجيب المؤذن ، وقيل : رؤية الديك تدل على مصاحبة العلماء وأولي الحكمة . روي أن رجلاً أتى ابن سيرين ، فقال له : رأيت كأن ديكاً دخل منزلي فلقط حبات شعير كانت فيه ، فقال له ابن سيرين : إن سرق لك شيء فأعلمني . فما كان إلا أيام إذ أتى الرجل(1/484)
"""""" صفحة رقم 485 """"""
إليه فقال : سرق لي بساط من سطح منزلي ، فقال ابن سيرين : المؤذن أخذه ، فكان كذلك . وقال آخر لابن سيرين : رأيت كأني أخنق ديكاً ، فقال ابن سيرين . هذا رجل ينكح يده . وقال له آخر : رأيت كأن ديكا يصيح بباب بيت إنسان وينشد :
قد كان من رب هذا البيت ما كانا . . . هيوا لصاحبه يا قوم أكفانا
فقال يموت صاحب الدار بعد أربعة وثلاثين يوماً ، فكان كذلك . وهي عدد حروف الديك بالجمل ، وجاءه آخر فقال : رأيت كأن ديكاً يقول : الله الله الله فقال له : بقي من أجلك ثلاثة أيام فكان كذلك .
ديك الجن : دويبة توجد في البساتين ، إذا ألقيت في خمر عتيق حتى تموت ، وتترك في محارة وتسد رأسها وتدفن في وسط الدار ، فإنه لا يرى فيها شيء من الأرضة أصلاً قاله القزويني . وديك الجن لقب لأبي محمد بن عبد السلام الحمصي الشاعر المشهور من شعراء الدولة العباسية ، كان يتشيع تشيعاً حسناً وله مراث في الحسين رضي الله عنه ، وكان ماجناً خليعاً عاكفاً على القصف واللهو متلافاً لما ورثه . مولده سنة إحدى وستين ومائة وعاش بضعاً وسبعين سنة ، وتوفي في أيام المتوكل سنة خمس أو ست وثلاثين ومائتين . ولما اجتاز أبو نواس بحمص ، قاصداً مصر لامتداح الخصيب ، جاءه إلى بيته فاختفى منه ، فقال لامته : قولي له : اخرج فقد فتنت أهل العراق بقولك :
موردة من كف ظبي كأنما . . . تناولها من خده فأدارها
فلما سمع ذلك ديك الجن خرج إليه واجتمع به وأضافه . وفي تاريخ ابن خلكان أن دعبلاً الخزاعي ، لما اجتاز يحمص سمع ديك الجن بوصوله فاختفى منه ، خوفاً أن يظهر لدعبل ، لأنه كان قاصراً بالنسبة إليه ، فقصده في داره ، فطرق الباب واستأذن عليه ، فقالت الجارية : ليس هو هنا ، فعرف قصده ، فقال لها : قولي له : اخرج فأنت أشعر الإنس والجن بقولك :
فقام تكاد الكأس تحرق كفه . . . من الشمس أو من وجنتيه استعارها
موردة من كف ظبي كأنما . . . تناولها من خده فأدارها
فلما بلغ ذلك ديك الجن خرج إليه وأضافه .
الديلم : ذكر الدراج وحكمه وخواصه وأمثاله وتعبيره كالدراج .
ابن دأية : الغراب الأبقع سمي بذلك لأنه إذا رأى دبرة في ظهر بعير ، أو قرحة في عنقه نزل عليه ونقرها إلى الديات .
فائدة : الديات بتشديد الدال وبالياء المثناة تحت والتاء المثناة فوق في آخره هي عظام الرقبة ،(1/485)
"""""" صفحة رقم 486 """"""
وفقار الظهر . قال ابن الأعرابي في نوادره : فقار البعير ثمان عشرة فقرة ، وأكثرها إحدى وعشرون فقرة ، وفقار الإنسان سبع عشرة فقرة . وقال جالينوس : خرز الظهر من لدن منبت النخاع من الدماغ ، إلى عظم العجز أربع وعشرون خرزة ، سبع منها في العنق ، وسبع عشرة في الظهر ، ثنتا عشرة في الصلب ، وخمس في البطن ، وهو العجز . قال : والاضلاع أربع وعشرون : اثنتا عشرة في كل جانب ، وجملة العظام التي في جسم الإنسان مائتان وثمانية وأربعون عظماً ، حاشا العظم الذي في القلب والعظام التي حشي بها خلل المفاصل ، وتسمى السمسمية ، وإنما سميت بالسمسمية لصغرها قال : وجميع الثقب التي في بدن الإنسان اثنتا عشرة : العينان والأذنان ، والمنخران ، والفم ، والثديان ، والفرجان ، والسرة ، حاشا الثقب الصغار التي تسمي المسام ، وهي التي يخرج منها العرق فإنها لا تكاد تنحصر .
روي : أن عتبة بن أبي سفيان ، ولى رجلاً من أهله على الطائف ، فظلم رجلاً من الأزد ، فأتى الأزدي عتبة ، فمثل بين يديه ، فقال : أصلح الله الأمير إنك قد أمرت من كان مظلوماً أن يأتيك ، فقد أتاك مظلوم غريب الديار ، ثم ذكر ظلامته بضجة وجفاء فقال له عتبة : أني أراك أعرابياً جافياً ، والله ما أحسبك تدري كم فرض الله عليك من ركعة بين يوم وليلة فقال الأزدي : أرأيتك إن أنبأتك بها أتجعل لي عليك مسألة . قال عتبة : نعم . قال :
إن الصلاة أربع وأربع . . . ثم ثلاث بعدهن أربع
ثم صلاة الفجر لا تضيع .
فقال عتبة : صدقت ما مسألتك . قال : كم فقار ظهرك . قال عتبة : لا أدري . فقال : أفتحكم بين الناس وأنت تجهل هذا من نفسك . فقال عتبة : أخرجوه عني ، وردوا عليه غنيمته . والإبل تعرف من الغراب ذلك فهي تخافه وتحذره وهو الذي تسميه العرب الأعور وتتشاءم به . وسيأتي الكلام عليه ، في باب الغين المعجمة إن شاء الله تعالى .
الدئل : بضم الدال وكسر الهمزة دابة شبيهة بابن عرس ، وكان من حقه أن يكتب في أول الباب ، وإنما أخرناه لأنه يكتب في الرسم بالياء قال كعب بن مالك الأنصاري رضي الله عنه :
جاؤوا بجيش لو قيس معرسه . . . ما كان إلا كمعرس الدئل أراد موضع نزولهم ليلاً كبيت ابن عرس . قال أحمد بن يحيى : ما نعلم إسماً جاء على فعل غير هذا . قال الأخفش : وإليه ينسب أبو الأسود الدئلي ، قاضي البصرة ، إلا أنهم فتحوا الهمزة ، على مذهبهم في النسبة ، استثقالاً لتوالي الكسرتين مع ياء النسب ، كما نسبوا إلى نمرة نمري وإلى ملك ملكي . وإسم أبي الأسود ظالم بن عمرو بن سليمان بن عمرو وفي إسمه ونسبه اختلاف كثير ، وكان من سادات التابعين وأعيانهم . يروي عن علي وأبي موسى وأبي ذر وعمران بن حصين(1/486)
"""""" صفحة رقم 487 """"""
رضي الله تعالى عنهم أجمعين . وصحب علياً رضي الله عنه ، وشهد معه وقعة صفين ، وهو بصري ، وكان من أكمل الرجال رأياً ، وأسدهم عقلاً ، ويعد من الشعراء والمحدثين والبخلاء والفرسان والبخر والعرج والمفاليج والنحويين . وهو أول من وضع النحو ، فقيل : إن علي رضي الله تعالى عنه ، وضع له : الكلام كله ثلاثة أضرب : إسم وفعل وحرف ، ثم دفعه إليه ، وقال له : تمم على هذا وسمي النحو نحواً ، لأن أبا الأسود قال : استأذنت على علي بن أبي طالب ، رضي الله تعالى عنه ، في أن أضع نحو ما وضع ، فسمي لذلك نحواً . وهو القائل لبنيه : لا تجاودوا الله عز وجل ، فإنه أجود وأمجد ، ولو شاء أن يوسع على الناس كلهم لفعل ، فلا تجهدوا أنفسكم في التوسعة على الناس فتهلكوا هزالاً . وهو صاحب نوادر ، فمنها : أنه سمع رجلاً يقول : من يعشي الجائع ؟ فدعاه وعشاه ، فلما ذهب السائل ليخرج ، قال له : هيهات إنما أطعمتك على أن لا تؤذي المسلمين الليلة . ثم وضع رجله في الأدهم حتى أصبح . والأدهم القيد . ومنها أنه قال له رجل : إنك ظرف علم ، ووعاء حلم ، غير أنك بخيل . فقال : لا خير في ظرف لا يمسك ما فيه . ومنها أنه اشترى حصاناً بتسعة دنانير ، واجتاز به على رجل أعور ، فقال : بكم اشتريته ؟ فقال : قومه . فقال : قيمته أربعة دنانير ونصف . فقال : معذور أنت لأنك نظرته بعين واحدة فقومته بنصف قيمته ، ولو نظرته بالعين الأخرى ، لو كانت صحيحة ، لقومته ببقية القيمة . ومضى إلى داره ونام ، فلما استيقظ سمعه يقضم ، فقال : ما هذا . قالوا : الفرس يأكل شعيره ، فقال : لا أترك في مالي من أنام وهو يمحقه ويتلفه ، ولا أترك إلا ما يزيده وينميه فباعه واشترى بثمنه أرضاً للزراعة . ومنها أن جيرانه بالبصرة ، كانوا يخالفونه في الإعتقاد ويؤذونه ويرجمونه في الليل بالحجارة ، ويقولون له : إنما يرجمك الله تعالى فيقول لهم : كذبتم لو رجمني الله لأصابني وأنتم ترجموني فلا يصيبني . ثم باع الدار . فقيل له : بعت دارك ؟ فقال : بل بعت جاري فأرسلها مثلاً . وهذا عكس ما جرى لأبي الجهم العدوي ، فإنه باع داره بمائة ألف درهم ، ثم قال : بكم تشترون جوار سعيد بن العاص . فقالوا : وهل يشترى جوار قط ؟ قال : ردوا علي داري ، وخذوا دراهمكم ، والله لا أدع جوار رجل إن فقدت سأل عني ، وإن رآني رحب بي ، وإن غبت حفظني ، وإن شهدت قربني ، وإن سألته أعطاني ، وإن لم أسأله ابتدأني ، وإن نابتني جائحة فرج عني . فبلغ ذلك سعيداً فبعث إليه بمائة ألف درهم . ومنها أنه دخل على معاوية رضي الله تعالى عنه يوماً فبينما هو يخاطبه إذا ضرط أبو الأسود ، فضحك معاوية فقال له : يا أمير المؤمنين لا تخبر بها أحداً ، فلما خرج من عنده ، دخل عمرو بن العاص ، فأخبره معاوية بما كان من أبي الأسود ، فلما رآه عمرو قال له : يا أبا الأسود ضرطت بين يدي أمير المؤمنين ؟ فلما دخل على معاوية قال له : ألم أسألك أن لا تخبر بها أحداً ؟ فقال له معاوية : ما علم بها إلا عمرو ، فقال : إياه كنت أحذر ، ولكن فأنت لا تصلح للخلافة قال : كيف . قال : إذا لم تكن لك أمانة على ضرطة فكيف تؤمن على أموال المسلمين ودمائهم . فضحك معاوية ووصله . ومنها أنه قيل له : هل شهد معاوية بدراً ؟ قال : نعم . لكن من ذلك الجانب . وكان أبو الأسود يعلم أولاد زياد ابن أبيه ، والي العراقين فخاصمته امرأته إلى زياد في ولدها ، وقالت : إنه يريد أن يغلبني على ولدي ، وقد كان بطني له وعاء ، وثدي له سقاء ،(1/487)
"""""" صفحة رقم 488 """"""
وحجري له وطاء . فقال : أبو الأسود : بهذا تريدين أن تغلبيني على ولدي وقد حملته قبل أن تحمليه ، ووضعته قبل أن تضعيه . فقالت : ولا سواء إنك حملته خفاً وحملته ثقلاً ، ووضعته شهوة ووضعته كرهاً . فقال له زياد : إني أرى امرأة عاقلة فادفع ابنها إليها فأخلق أن تحسن أدبه . توفي أبو الأسود بالبصرة في طاعون الجارف سنة تسع وستين ، وعمره خمس وثمانون سنة ، وهذا الطاعون كان بالبصرة مات فيه سراة الناس . قيل إنه مات فيه لأنس بن مالك رضي الله تعالى عنه ثلاثون ولداً والله تعالى أعلم . مات فيه سراة الناس . قيل إنه مات فيه لأنس بن مالك رضي الله تعالى عنه ثلاثون ولداً والله تعالى أعلم .
باب الذال المعجمة
ذؤالة : إسم للذئب كأسامة للأسد ، وهو معرفة سمي بذلك لأنه يذأل في مشيته من الذألان ، وهو المشي الخفيف ، وفي الحديث أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) مر بجارية سوداء ترقص صبياً لها وتقول :
ذؤال يا ابن القرم يا ذؤال .
فقال ( صلى الله عليه وسلم ) : " لا تقولي ذؤالة فإنه شر السباع " . وذؤال ترخيم ذؤالة والقرم السيد .
الذباب : معروف واحدته ذبابة ولا تقل ذبانة . جمعه في القلة أذبة وفي الكثرة ذبان بكسر الذال وتشديد الباء الموحدة وبالنون في آخره كغراب وأغربة وغربان وقراد وأقردة وقردان قال النابغة :
يا واهب الناس بعيراً صلبه . . . ضرابة بالمشفر الأذبه
ولا يقال ذبابات إلا في الديون قال الراجز : أو يقضى الله ذبابات الديون .
وأرض مذبة بفتح الميم والذال أي ذات ذباب . وقال الفراء : أرض مذبوبة ، كما يقال أرض موحوشة ، أي ذات وحوش . وسمي ذباباً لكثرة حركته واضطرابه ، وقيل لأنه كلم ذب آب ، وكنيته أبو حفص وأبو حكيم وأبو الحدرس والذباب أجهل الخلق لأنه يلقي نفسه في الهلكة . قال الجوهري : يقال ليس شيء من الطيور يلغ إلا الذباب ، وسيأتي إن شاء الله تعالى في باب العين المهملة في العنكبوت قول افلاطون : إن الذباب أحرص الأشياء ولم يخلق للذباب أجفان لصغر أحداقها ، ومن شأن الأجفان أن تصقل مرآة الحدقة من الغبار ، فجعل الله لها عوضاً من الأجفان يدين تصقل بهما مرآة حدقتها ، فلهذا ترى الذباب أبداً يمسح بيديه عينيه ، وهو أصناف كثيرة متولدة من العفونة . قال الجاحظ : الذباب عند العرب يقع على الزنابير والنحل والبعوض بأنواعه ، كالبق والبراغيث والقمل والصؤاب والناموس والفراش والنمل . والذباب المعروف عند الاطلاق العرفي وهو أصناف النعر والقمع والخازباز والشعراء وذباب الكلاب وذباب الرياض وذباب الكلا والذباب الذي يخالط الناس يخلق من الفساد ، وقد يخلق من الأجساد ، ويقال : إن(1/488)
"""""" صفحة رقم 489 """"""
الباقلا إذا عتق في موضع استحال كله ذباباً ، وطار من الكوى التي في ذلك الموضع ولا يبقى فيه غير القشر انتهى . روى الحاكم عن النعمان بن بشير رضي الله تعالى عنه أنه قال ، وهو على المنبر : سمعت رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يقول : " ألا إنه لم يبق من الدنيا إلا مثل الذباب تدور في جوها ، فالله الله في إخوانكم من أهل القبور ، فإن أعمالكم تعرض عليهم " . ومعنى تمور تذهب وتجيء ، والجو ما بين السماء والأرض . وفي مسند أبي يعلى الموصلي ، من حديث أنس رضي الله تعالى عنه أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ، قال : " عمر الذباب أربعون ليلة ، والذباب كله في النار ، إلا النحل " وهو في الكامل في ترجمة عمرو بن شقيق عن مجاهد عن ابن عمر رضي الله عنهما ، أنه قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) : " الذباب كله في النار إلا النحل . قيل كونه في النار ليس بعذاب له ، وإنما ليعذب به أهل النار بوقوعه عليهم " . وروى النسائي والحاكم عن أبي المليح عن أبيه أسامة بن عمير بن عامر الأقيش الهذلي البصري قال : كنت رديف رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فعثر بعيرنا فقلت : تعس الشيطان . فقال ( صلى الله عليه وسلم ) : " لا تقل تعس الشيطان فإنه يعظم حتى يصير مثل البيت ، ويقول : بقوتي ، ولكن قل بسم الله فإنه يصغر حتى يصير مثل الذبابة " ورواه أبو داود عن أبي المليح عن رجل قال : كنت رديف رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فعثرت دابته فقلت : الخ ورواه ابن السني كما رواه النسائي والحاكم ، وصرح فيه بأن أبا المليح رواه عن أبيه أسامة بن مالك . وكلتا الروايتين صحيحة فإن الرجل المجهول في رواية أبي داود صحابي والصحابة كلهم عدول ، لا تضر الجهالة بأعيانهم . وقال الإمام العلامة الذهبي : الرجل المجهول المبهم أبو عزة . ورواه خالد الحذاء عن أبي تميمة الهجيمي عن أبيه خالد قال : كنت رديفاً للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) ، فعثرت الناقة ، فقال إلى آخره . كذا هو في أسد الغاية ، في ذكر المنسوبين إلى القبائل . وأما قوله : تعس ، فقيل : معناه هلك ، وقيل : سقط وقيل : عثر ، وقيل لزمه الشر . وتعس بفتح العين وكسرها والفتح أشهر ، ولم يذكر الجوهري غير الفتح . وروى الطبراني وابن أبي الدنيا ، من حديث أبي أمامة رضي الله عنه أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال : " وكل بالمؤمن مائة وستون ملكاً يذبون عنه ما لم يقدر عليه ، فمن ذلك سبعة أملاك يذبون عنه كما يذب عن قصعة العسل الذباب ، في اليوم الصائف ولو بدوا لكم لرأيتموهم على كل سهل وجبل كل باسط يديه فاغر فاه ، ولو وكل العبد إلى نفسه طرفة عين لاختطفته الشياطين " . والعرب تجعل الذباب والفراش والنحل والدبر ونحوها كلها واحداً كما تقدم . وجالينوس يقول : إنه ألوان فللإبل ذباب ، وللبقر ذباب . وأصله دود صغار يخرج من أبدانهن فيصير ذباباً وزنابير . وذباب الناس يتولد من الزبل ويكثر الذباب إذا هاجت ريح الجنوب ويخلق في تلك الساعة ، وإذا هبت ريح الشمال خف وتلاشى . وهو من ذوات الخراطيم كالبعوض . انتهى . ومن عجيب أمره أنه يلقي رجيعه على الأبيض أسود ، وعلى الأسود أبيض ، ولا يقع على شجرة اليقطين . ولذلك أنبتها الله على نبيه يونس عليه الصلاة والسلام ، لأنه حين اخرج من بطن الحوت لو وقعت عليه ذبابة لآلمته فمنع الله عنه الذباب بذلك ، فلم يزل كذلك حتى تصلب جسمه . ولا يظهر كثيراً إلا في الأماكن العفنة ، ومبدأ خلقه(1/489)
"""""" صفحة رقم 490 """"""
منها ثم من السفاد ، وربما بقي الذكر على الأنثى عامة اليوم . وهو من الحيوانات الشمسية ، لأنه يخفي شتاء ويظهر صيفاً ، وبقية أنواعه كالناموس والفراش والنعر والقمع وغيرها ، ستذكر في أبوابها إن شاء الله تعالى وما أحسن قول أبي العلاء المعري ، ووفاته سنة تسع وأربعين وأربعمائة :
يا طالب الرزق الهني بقوة . . . هيهات أنت بباطل مشغوف
رعت الأسود بقوة جيف الفلا . . . ورعى الذباب الشهد وهو ضعيف
ولمحمد الأندلسي في المعنى :
مثل الرزق الذي تطلبه . . . مثل الظل الذي يمشي معك
أنت لا تدركه متبعا . . . وإذا وليت عنه تبعك
وفي المعنى أيضاً لأبي الخير الكاتب الواسطي :
جرى قلم القضاء بما يكون . . . فسيان التحرك والسكون
جنون منك أن تسعى لرزق . . . ويرزق في غشاوته الجنين وقد أجاد الأمير سيف الدين علي بن فليح الظاهري في التحذير من احتقار العدو بقوله :
لا تحقرن عدواً لأن جانبه . . . وإن تراه ضعيف البطش والجلد
فللذبابة لا الجرح المديد يد . . . تنال ما قصرت عنه يد الأسد
وفي تاريخ ابن خلكان ، في ترجمة الإمام يوسف بن زهرة الهمذاني الزاهد ، صاحب المقامات والكرامات والأحوال الظاهرات ، أنه جلس يوماً للوعظ فاجتمع إليه العالم ، فقام من بينهم فقيه يعرف بابن السقاء وآذاه ، وسأله عن مسألة ، فقال له الإمام يوسف : اجلس فإني أجد من كلامك رائحة الكفر ، ولعلك أن تموت على غير دين الإسلام فقدم رسول ملك الروم إلى الخليفة فخرج ابن السقاء مع الرسول إلى القسطنطينية فتنصر ومات نصرانياً . وكان ابن السقاء قارئاً للقرآن ، محموداً في تلاوته . وحكى من رآه بالقسطنطينية قال : رأيته مريضاً ملقى على دكة ، وبيده مروحة يدفع بها الذباب عن وجهه ، فقلت له : هل القرآن باق على حفظك ؟ فقال : ما أذكر منه إلا آية واحدة وهي " وربما يود الذين كفروا لو كانوا مسلمين " ، والباقي أنسته . اه نعوذ بالله من سخطه وخذلانه ، ونسأله حسن الخاتمة . فانظر يا أخي كيف هلك هذا الرجل ، وخذل بالانتقاد ، وترك الإعتقاد . نسأل الله السلامة ، فعليك يا أخي بالاعتقاد ، وترك الانتقاد على المشايخ العارفين ، والعلماء العاملين ، والمؤمنين الصالحين ، فإن حرابهم مسمومة . فقل من تعرض لهم وسلم ، فسلم تسلم ولا تنتقد تندم ، واقتد بإمام العارفين ، ورأس الصديقين ، وعلامة العلماء العاملين في وقته الشيخ محي الدين عبد القادر الكيلاني رحمه الله تعالى ، لما عزم على زيارة قطب(1/490)
"""""" صفحة رقم 491 """"""
الغوث بمكة ، وقال رفيقاه ما قالا فقال : أما أنا فذاهب على قدم الزيارة والتبرك ، لا على قدم الإنكار والامتحان ، فآل أمره إلى أن قال : قدمي هذا على رقبة كل ولي ، وآل أمر أحد رفيقيه إلي الكفر ، وترك الإيمان بالانتقاد ، وترك الإعتقاد . كما اتفق في هذه الحكاية . وآل أمره الآخر إلى اشتغاله بالدنيا ، وتركه خدمة المولى لقلة التوفيق . فنسأل الله التوفيق والهداية والأمانة على الإيمان به وبرسوله ، والاعتقاد الحسن في أوليائه وأصفيائه ، بمحمد وآله . حدث يحيى بن معاذ أن أبا جعفر المنصور كان جالساً ، فألح على وجهه ذباب حتى أضجره ، فقال : انظروا من بالباب فقالوا : مقاتل بن سليمان فقال : علي به ، فلما دخل عليه ، قال له : هل تعلم لماذا خلق الله الذباب ؟ قال : نعم . ليذل به الجبابرة ، فسكت المنصور . ومقاتل بن سليمان مشهور بتفسير كتاب الله العزيز ، وأخذ الحديث عن جماعة ، قال الإمام الشافعي رضي الله عنه : الناس كلهم عيال على ثلاثة : على مقاتل بن سليمان في التفسير ، وعلى زهير بن أبي سلمى في الشعر ، وعلى أبي حنيفة في الفقه . قعد مقاتل بن سليمان يوماً فقال : سلوني عما دون العرش . فقال له رجل : آدم عليه الصلاة والسلام لما حج أول حجة حجها من حلق رأسه ، فقال ليس هذا من علمكم ولكني ابتليت لما أعجبتني نفسي . وقيل إنه قيل له الذرة أو النملة أمعاؤها في مقدمها أو مؤخرها ؟ فلم يدر ما يقول فكانت عقوبة عوقب بها وأنشد أبو عمرو بن العلاء في هذا المعنى :
من تحلى بغير ما هو فيه . . . فضحته شواهد الامتحان
والعلماء مختلفون فيه ، فمنهم من وثقه ومنهم من كذبه ، وترك حديثه . قيل : إنه كان يتكلم في الصفات بما لا تحل الرواية عنه . وقيل : إنه كان يأخذ عن اليهود والنصارى علم القرآن الذي يوافق كتبهم ، وكان مشبهاً . قال ابن خلكان وغيره : وهذا لا أعتقد صحته . وتوفي مقاتل بن سليمان في سنة خمس وخمسين ومائة وفي مناقب الإمام الشافعي أن المأمون سأله فقال : لأي شيء خلق الله الذباب ؟ فقال : مذلة للملوك . فضحك المأمون وقال : رأيته وقد وقع على جسدي فقال : نعم . ولقد سألتني عنه وما عندي جواب . فلما رأيته قد سقط منك بموضع لا يناله منك أحد فتح الله لي فيه بالجواب . فقال لله درك . وفي شفاء الصدور وتاريخ ابن النجار مسنداً أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) كان لا يقع على جسمه ولا ثيابه ذباب أصلاً .
الحكم : كل أنواعه يحرم أكلها ، وفيه وجه أنه يحل حكاه الرافعي . وقال الماوردي : ومن الفقهاء من أباح الذباب المتولد من مأكول كالفول ونحوه ، ولعل قائل هذا القول هو الذي يقول بإباحة المتولد من الفواكه . فرع : قال في الأحياء في أول كتاب الحلال والحرام : لو وقعت ذبابة أو نملة في قدر طبيخ وتهرت أجزاؤها لم يحرم أكل ذلك الطبيخ ، لأن تحريم أكل الذباب والنمل ونحوهما إنما للاستقذار ولا يعد هذا مستقذراً . قال : ولو وقع فيه جزء من لحم آدمي ميت ، لم يحل أكل ذلك الطبيخ ، حتى لو كان لحم الآدمي وزن دانق ، حرم الطبيخ لا لنجاسته فإن الآدمي الميت(1/491)
"""""" صفحة رقم 492 """"""
طاهر على الصحيح ، خلافاً لأبي حنيفة ، ولكن لأن أكل لحم الآدمي حرام لحرمته لا لاستقذاره ، بخلاف الذباب . هذا كلام الغزالي رحمه الله تعالى . قال في شرح المهذب المختار أنه لا يحرم أكل الطبيخ في مسألة لحم الآدمي لأنه صار مستهلكاً ، فهو كالبول وغيره إذا وقع في قلتين من الماء فإنه يجوز استعمال جميعه لأن البول صار باستهلاكه كالعدم . وروى البخاري وأبو داود والنسائي وابن ماجه وابن خزيمة وابن حبان أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال : إذا وقع الذباب في إناء أحدكم فليمقله ، فإن في أحد جناحيه داء وفي الآخر دواء وإنه يتقى بجناحه الذي فيه الداء " . وفي رواية النسائي وابن ماجة " أن أحد جناحي الذباب سم والآخر شفاء فإذا وقع في الطعام فامقلوه فإنه يقدم السم ويؤخر الشفاء " . قال الخطابي : وقد تكلم على هذا الحديث بعض من لا خلاق له ، وقال : كيف يكون هذا وكيف يجتمع الداء والشفاء في جناحي ذبابة ؟ وكيف تعلم ذلك من نفسها حتى تقدم جناح الداء وتؤخر جناح الشفاء ، وما أداها إلى ذلك . قال : وهذا سؤال جاهل ، أو متجاهل فإن الذي يجد نفسه ، ونفس سائر الحيوانات ، قد جمع فيها بين الحرارة والبرودة والرطوبة واليبوسة ، وهي أشياء متضادة إذا تلاقت تفاسدت ثم يرى أن الله قد ألف بينها وقهرها على الإجتماع وجعل منها قوى الحيوان التي منها بقاؤه وصلاحه لجدير أن لا ينكر إجتماع الداء والشفاء في جزأين من حيوان واحد . وإن الذي ألهم النحلة أن تتخذ البيت العجيب الصنعة وتعسل فيه ، وألهم الذرة أن تكتسب قوتها وتدخره لأوان حاجتها إليه ، هو الذي خلق الذبابة وجعل لها الهداية إلى أن تقدم جناحاً وتؤخر جناحاً لما أراده من الابتلاء الذي هو مدرجة التعبد والامتحان ، الذي هو مضمار التكليف ، وله في كل شيء حكمة وعنوان ، وما يذكر إلا أولو الألباب . انتهى . وقد تأملت الذباب فوجدته يتقي بجناحه الأيسر وهو مناسب للداء ، كما أن الأيمن مناسب للدواء . وقد استفيد من الحديث أنه إذا وقع في المائع لا ينجسه لأنه ليس له نفس سائلة ، هذا هو المشهور وفي قول ينجسه ، كسائر الميتات النجسة ، وفي ثالث مخرج أن ما يعم وقوعه كالذباب والبعوض لا ينجس ، وما لا يعم كالخنافس والعقارب ينجس . وهو متجه لا محيد عنه ومحمل الخلاف في ميتة أجنبية أما الناشىء منه كدود الفواكه والجبن والخل ، فلا ينجس ما مات فيه بلا خلاف . كذا قاله الشيخان وابن الرفعة وحكى الدارمي في المسألة ثلاثة أوجه ، ثالثها الفرق بين الكثير والقليل ومحل ذلك ما لم يتغير به لكثرته فإن كثر وتغير به فالأصح أنه ينجسه ، ومحله أيضاً إذا وقع فيه بنفسه فإذا طرح فيه ضر .
فرع : لو وقع الزنبور أو الفراش أو النحل وأشباه ذلك في الطعام ، هل يؤمر بغمسه لعموم قوله ( صلى الله عليه وسلم ) " إذا وقع الذباب في إناء أحدكم " . الحديث وهذه الأنواع كلها يقع عليها إسم الذباب في اللغة كما تقدم نقله عن الجاحظ وغيره . وقد قال علي رضي الله تعالى عنه في العسل إنه مذقة ذبابة . وروي الذباب كله في النار إلا النحل كما سبق . فسمي الكل ذباباً وإذا كان كذلك فالظاهر وجوب حمل الأمر بالغمس على الجميع إلا النحل فإن الغمس قد يؤدي إلى قتله وهو حرام .(1/492)
"""""" صفحة رقم 493 """"""
الأمثال : قال الله تعالى : " يا أيها الناس ضرب مثل فاستمعوا له إن الذين تدعون من دون الله لن يخلقوا ذباباً ولو اجتمعوا له " الآية . معنى ضرب أثبت وألزم ، نحو ضربت عليه الذلة وضربت عليهم الجزية ، ويحتمل أن يكون من الضريب الذي هو المثل ، وهذا المثل من أبلغ ما أنزل الله تعالى في تجهيل قريش واستركاك عقولهم ، والشهادة على أن الشيطان خدعهم ، حيث وصفوا بالآلهية التي تقتضي الاقتدار على المقدورات كلها ، والاحاطة بالمعلومات عن آخرها صوراً وتماثيل وأدل من ذلك على عجزهم ، وانتفاء قدرتهم ، أن هذا الخلق الأذل الأقل ، لو اختطف منهم شيئاً ، فاجتمعوا على أن يستخلصوه منه ، لم يقدروا . وعن ابن عباس رضي الله عنهما أن الأصنام كانت ثلثمائة وستين صنماً حول الكعبة ، وكانوا يضمخونها بأنواع الطيب ويطلون رؤوسها بالعسل ، وكان الذباب يذهب بذلك ، وكانوا يتألمون من هذه الجهة . فجعلت مثلاً وقالوا : " أجرأ من ذبابة وأهون من ذبابة " . " واطيش وأخطأ من الذباب " لأنه يلقي نفسه في الشيء الحار ، والشيء الذي يلتصق به ولا يمكنه التخلص وقالوا : " أوغل من ذباب : قال الشاعر :
أوغل في التطفيل من ذباب . . . على طعام وعلى شراب
لو أبصر الرغفان في السحاب . . . لطار في الجو بلا حجاب
قال أبو عبيد كان رجل من أهل الكوفة يقال له طفيل بن دلال من بني عبد الله بن غطفان ، وكان يأتي الولائم من غير أن يدعي إليها ، وكان يقال له طفيل الأعراس ، وكان أول رجل لابس هذا العمل في الأمصار فصار مثلاً ينسب إليه كل من يقتدي به . وقالوا : " أزهى من ذبابة " . وقالوا : " أصابه ذباب لادغ " يضرب لمن نزل به شر عظيم يرق له من سمعه ، وقالوا ما يساوي متك ذباب يضرب للشيء الحقير ، والمتك العرق الذي في باطن الذكر ، وهو كالخيط في باطنه على خلقة العجان . وفي كتاب النصائح لابن ظفر قال : رأيت في أخبار بعض الملوك أن وزيره أشار عليه بجمع الأموال وأدخارها وقال : إن الرجال ، وإن تفرقوا عنك اليوم ، في احتجتهم عرضت عليهم الأموال فتهافتوا عليك ، فقال : هل لهذا من شاهد ؟ قال : نعم . هل بحضرتنا الساعة ذباب ؟ قال : لا . فأمر الوزير بجفنة فيها عسل ، فأحضرت فتساقط عليهم الذباب ، فاستشار الملك بعض خواص أصحابه ، فنهاه عن ذلك ، وقال : لا تغير قلوب الرجال فليس كل وقت أردتهم يحضرون ، فقال : فهل لذلك من دليل ؟ قال : نعم . إذا أمسينا أخبرتك فلما أظلم الليل . قال للملك : أحضر جفنة العسل ، فأحضرت فلم تحضر ذبابة ، فرجع الملك عن رأيه الأول .
الخواص : قال الجاحظ : إذا ضرب اللبن بالكندس ونضح به البيت لم يدخله ذباب ، وإذ أخذت ذبابة وفصلت رأسها ودلكت بها قرصة الزنبور سكنت ، وإذا أحرق الذباب وسحق وخلط بعسل وطلي به داء الثعلب فإنه ينبت فيه الشعر ، وإذا ماتت الذبابة ، فنثر عليها خبث الحديد(1/493)
"""""" صفحة رقم 494 """"""
عاشت من وقتها ، وإذا بخر البيت بورق القرع أو كندس أو سليخة ذهب منه الذباب ، وإذا طبخ ورق القرع ورش به البيت أو الحيطان لم يقع فيه ذباب انتهى .
صفة طلسم لمنع الذباب : يؤخذ كندس جديد وزرنيخ أصفر أجزاء متساوية ، يسحقان ويعجنان بماء بصل الفار ، ويدهن ويعمل منه تمثال ويوضع على المائدة ، فلا يقربها ذباب ما دام عليها وإذا وضع على باب البيت باقة من الحشيشة التي يقال لها سادريون ، فلا يدخل البيت ذباب ما دامت الباقة معلقة على الباب ، وإذا أخذت الذباب الكبير فقطعت رؤوسهن ، وحككت بجسدهن موضع الشعرة التي تنبت في الجفن ، حكاً شديداً فإنه يذهبها أصلاً ، وهو عجيب مجرب ، وإذا أخذت ذبابة وجعلت في خرقة كتان وربطت بخيط ووسع الربط عليها وعلقت على من يشتكي عينه سكن ألمه ، وتعلق في عنقه أو عضده . وإن شدخ الذباب وضمد به العين الوارمة أبرأها . وقال محمد بن زكريا القزويني : رأيت في كتب الطبيعيات الرومية إذا علقت ذبابة حية على من يشتكي ضرسه برىء . ومن عضه كلب فليستر وجهه عن الذباب ، فإن ذلك مما يؤذيه والله أعلم التعبير : الذباب في المنام خصم ألد وجيش ضعيف ، وربما دل اجتماعه على الرزق الطيب ، وربما دل على الداء والدواء للحديث المتقدم . وربما دلت رؤيته على الأعمال السيئة والوقوع فيما يوجب التقريع لقوله تعالى : " إن الذين تدعون من دون الله لن يخلقوا ذباباً ولو اجتمعوا له " إلى قوله : " ضعف الطالب والمطلوب " . الذر : النمل الأحمر الصغير واحدته ذرة . قال تعالى : " إن الله لا يظلم مثقال ذرة " أي لا يبخس ولا ينقص أحداً من ثواب عمله مثقال ذرة ، أي وزن ذرة . سئل ثعلب عنها فقال : إن مائة نملة وزن حبة . والذرة واحدة منها وقيل : إن الذرة ليس لها وزن . ويحكى أن رجلاً وضع خبزاً حتى علاه الذر وستره ثم وزنه فلم يزد شيئاً . وقيل : الدر أجزاء الهباء في الكوة ، وكل جزء منه ذرة ولا يكون لها وزن . وفي صحيح مسلم وغيره من حديث أنس رضي الله تعالى عنه ، في شفاعة النبي ( صلى الله عليه وسلم ) يوم القيامة : " ثم يخرج من النار من قال لا إله إلا الله وكان في قلبه من الخير ما يزن ذرة " . صحفها شعبة بن بسطام ، وقال : مثقال ذرة بضم الذال وتخفيف الراء وقال العبدري : إنما قال درة بالدال المهملة وتشديد الراء واحدة الدر وهو تصحيف التصحيف . قال ابن بطة من الحنابلة في تفسير الآية : مثقال مفعال من الثقل ، والذرة النملة الصغيرة الحمراء ، وهي أصغر ما يكون إذا مر عليها حول لأنها تصغر وتحرى كما تفعل الأفعى . تقول العرب أفعى حارية وهي أشدها سماً قال امرؤ القيس :
من القاصرات الطرف لو دب محول . . . من الذر فوق الأتب منها الأثرا
المحول الذي أتى عليه حول والأتب ثوب تلقيه المرأة في عنقها بلا كم ولا جيب وقال حسان :(1/494)
"""""" صفحة رقم 495 """"""
لو يدب الحولي من ولد الذ . . . ر عليها لأندبتها الكلوم أي لو دبت الحولية من الذر عليها لأثرت بها الكلوم . وقال السهيلي وغيره : أهلك الله تعالى جرهم بالذر والرف ، حتى كان آخرهم موتاً امرأة رؤيت تطوف بالبيت بعدهم بزمان ، فتعجبوا من طولها وعظم خلقها ، حتى قال لها قائل : أجنية أنت أم إنسية ؟ فقالت : بل إنسيه من جرهم ، ثم اكترت من رجلين من جهينة بعيراً إلى أرض خيبر ، فلما أنزلاها استخبراها عن الماء فأخبرتهما ، فوليا فأتاها الذر فتعلق بها إلى أن انتهى إلى خياشيمها ، ثم نزل إلى حلقها فهلكت . وعبر عن الذرة يزيد بن هارون بأنها دودة حمراء وهي عبارة فاسدة . وروي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه قال : الذرة رأس النملة . وقال بعض العلماء لأن تفضل حسناتي سيأتي بمثقال ذرة أحب إلي من الدنيا وما فيها قال الله تعالى : " فمن يعمل مثقال ذرة خيراً يره ومن يعمل مثقال ذرة شراً يره " انتهى . وهذه الآية كان رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يسميها الجامعة الفاذة ، أي المنفردة في معناها . وروى البيهقي في الشعب ، من حديث صالح المري عن الحسن عن أنس أن سائلاً أتى النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فأعطاه تمرة فقال السائل : سبحان الله نبي من أنبياء الله يتصدق بتمرة : فقال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) : " أو ما عملت أن فيها مثاقيل ذر كثير " . " ثم أتاه آخر فسأله فأعطاه تمرة فقال : تمرة من نبي من الأنبياء لا تفارقني هذه التمرة ما بقيت ، ولا أزال أرجو بركتها أبداً فأمر له بمعروف . وفي رواية قال للجارية : إذهبي إلى أم سلمة فمريها فلتعطه الأربعين درهماً التي عندها قال أنس : فما لبث الرجل أن استغنى . وروى الإمام أحمد في مسنده بإسناد رجاله ثقات ، عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال : " يقتص للخلق بعضهم من بعض حتى الجماء من القرناء وحتى الذرة من الذرة " وأعطى سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه سائلاً تمرتين ، فقبض السائل يده فقال له سعد : يا هذا إن الله قد قبل منا مثاقيل الذرة . وفعلت عائشة رضي الله تعالى عنها هذا في حبة عنب . وسمع هذه الآية صعصعة بن عقال التميمي عند النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فقال : حسبي لا أبالي أن لا أسمع آية غيرها . وسمعها رجل عند الحسن البصري فقال : انتهت الموعظة . فقال الحسن : فقه الرجل . وروى الحاكم في المستدرك عن أبي أسماء الرحبي ، أن هذه السورة نزلت وأبو بكر الصديق رضي الله تعالى عنه ، يأكل مع النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فترك أبو بكر الأكل وبكى ، فقال له النبي ( صلى الله عليه وسلم ) : " أما يبكيك " . فقال : يا رسول الله أو نسأل عن مثاقيل الذر ؟ فقال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) : " يا أبا بكر ما رأيت في الدنيا مما تكره فمثاقيل ذر الشر ، ويدخر الله لك مثاقيل ذر الخير إلى الآخرة " . قال : والذرة نملة صغيرة حمراء لا يرجح بها ميزان . وروى الإمام أحمد في الزهد عن أبي هريرة رضي الله تعالى أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال : " يجاء بالجبارين والمتكبرين يوم القيامة رجال على صور الذر يطؤهم الناس ، من هوانهم على الله ، حتى يقضي بين الناس ، قال : ثم يذهب بهم إلى نار الأنيار . قيل : يا رسول الله وما نار الأنيار ؟ قال عصارة أهل النار " . ورواه صاحب الترغيب والترهيب وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال : " يحشر المتكبرون يوم(1/495)
"""""" صفحة رقم 496 """"""
القيامة أمثال الذر في صور الناس ، يغشاهم الصغار من كل مكان ، ويساقون إلى سجن من النار يقال له بولس ، تعلوهم نار الأنيار ، ويسقون من طينة الخبال ، وهي عصارة أهل النار " . رواه الترمذي وقال : حديث حسن غريب . وفي شعب الإيمان للبيهقي عن الأصمعي قال : مررت بأعرابية في البادية في كوخ فقلت لها يا أعرابية من يؤنسك ههنا . قالت : يؤنسني مؤنس الموتى في قبورهم . قلت : ومن أين تأكلين ؟ قالت : يطعمني مطعم الذرة وهي أصغر مني . وفي المدهش للإمام العلامة أبي الفرج بن الجوزي أن رجلاً من العجم طلب الأدب حيناً فبينما هو في بعض الطريق سائر إذ مر بصخرة ملساء فتأملها فإذا ذر يدب عليها ، وقد أثر عليها من كثرة دبيبه ففكر وقال : مع صلابة هذا الحجر ، وخفة هذا الذر قد أثر فيه هذا الأثر ، فأنا أحرى على أن أدوم على الطلب فلعلي أظفر ببغيتي . فراجع الإثبات على الأدب ، فلم يلبث أن خرج مبرزاً . وهكذا يجب أن يكون طالب فائدة دينية أو دنيوية ، لا سيما طالب التوحيد والمعرفة ، أن يكون كراراً غير فرار ، فإما الظفر والغنيمة وإما القتل والشهادة . وسئل أبو زيد البسطامي رحمه الله تعالى ، عن العارف . فقال : هو أن يكون وحداني التدبير ، فرداني المعنى ، صمداني الرؤية ، رباني القوة ، وحداني العيش ، نوراني العلم خلداني العجائب ، سماوي الحديث ، وحشي الطلب ملكوتي السر ، عنده مفاتح الغيب ، وخزائن الحكم وجواهر القدس ، وسرادقات الأبرار ، فإذا جاوز الحد وارتفع إلى أعلى فهو غير مدرك وحاله غير موصوف . وفي صحيح مسلم عن ابن مسعود رضي الله عنه ، أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال : " لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر " . فقال رجل : إن الرجل يجب أن يكون ثوبه حسناً ونعله حسنة ، فقال : والغنيمة وإما القتل والشهادة . وسئل أبو زيد البسطامي رحمه الله تعالى ، عن العارف . فقال : هو أن يكون وحداني التدبير ، فرداني المعنى ، صمداني الرؤية ، رباني القوة ، وحداني العيش ، نوراني العلم خلداني العجائب ، سماوي الحديث ، وحشي الطلب ملكوتي السر ، عنده مفاتح الغيب ، وخزائن الحكم وجواهر القدس ، وسرادقات الأبرار ، فإذا جاوز الحد وارتفع إلى أعلى فهو غير مدرك وحاله غير موصوف . وفي صحيح مسلم عن ابن مسعود رضي الله عنه ، أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال : " لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر " . فقال رجل : إن الرجل يجب أن يكون ثوبه حسناً ونعله حسنة ، فقال : " إن الله جميل يحب الجمال الكبر بطر الحق وغمط الناس " . ورواه الترمذي ، وقال : حسن غريب . وقيل : المراد بالكبر ههنا الكبر عن الإيمان فصاحبه لا يدخل الجنة أصلاً إذا مات عليه . وقيل لا يكون في قلبه كبر حين دخول الجنة . كما قال الله تعالى : " ونزعنا ما في صدورهم من غل " الآية وهذان التأويلان فيهما بعد ، فإن الحديث ورد في سياق النهي عن الكبر المعروف ، وهو الارتفاع على الناس واحتقارهم ، والظاهر فيه ما اختاره القاضي عياض وغيره من المحققين ، أنه لا يدخلها دون مجازاة ، أو لا يدخلها مع أول الداخلين ، وأما قوله ، " فقال رجل " . فذلك الرجل هو مالك بن مرارة الرهاوي ، قاله القاضي عياض ، وأشار إليه ابن عبد البر . وحكى أبو القاسم خلف بن عبد الملك بن بشكوال في إسمه أقوالاً : أحدها أنه أبو ريحانة ، وإسمه شمعون ، وقيل : ربيعة بن عامر ، وقيل : سواد بالتخفيف بن عمرو ، وقيل : معاذ بن جبل . ذكره ابن أبي الدنيا في كتاب الخمول والتواضع . وقيل : عبد الله بن عمرو بن العاص . ومعنى قوله إن الله جميل : أي إن كل أمره سبحانه حسن وجميل ، فله الأسماء الحسنى ، وصفات الجمال والكمال ، وقيل جميل بمعنى مجمل ككريم وسميع بمعنى مكرم ومسمع . وقال أبو القاسم القشيري : معناه جميل : وقيل معناه ذو النور والبهجة أي مالكهما وقيل : معناه جميل الأفعال بكم ، والنظر إليكم يكلفكم اليسير ويعين عليه ، ويثيب عليه(1/496)
"""""" صفحة رقم 497 """"""
الجزيل سبحانه ما أكرمه قال شيخ الإسلام يحيى النووي رحمه الله تعالى : هذا الإسم ورد في الحديث الصحيح وورد في الأسماء الحسنى . وفي إسناده مقال والمختار جواز اطلاقه على الله تعالى ، ومن العلماء ومن معه . وقال إمام الحرمين أبو المعالي : ما ورد به الشرع جوزنا إطلاقه ، وما لم يرد فيه إذن ولا منع لم نقض فيه بتجويز ولا منع ، فإن الأحكام الشرعية تتلقى من موارد الشرع ، ولو قضينا بتحريم أو تحليل لكنا مثبتين حكماً بغير الشرع ، ثم لا يشترط في جواز الاطلاق ورود ما نقطع به في الشرع ، ولكن ما يقتضي العمل ، وإن لم يوجب العمل فإنه كاف إلا أن الأقيسة الشرعية من مقتضيات العمل ، ولا يجوز التمسك بها في تسمية الله تعالى وصفته . قال النووي : وقد اختلف أهل السنة في تسميته تعالى ووصفه ، من أوصاف الكمال والجلال والمدح ، بما لم يرد به الشرع ولا منعه ، فأجازه طائفة ومنعه آخرون ، إلا أن يرد به شرع مقطوع به من نص كتاب ، أو سنة متواترة ، أو إجماع على اطلاقه ، فإن ورد به خبر واحد فقد اختلفوا فيه ، فأجازه طائفة وقالوا الدعاء به والثناء من باب العمل . وذلك جائر بخبر الواحد ، ومنعه آخرون لكونه راجعاً إلى اعتقاده ما يجوز أن يستحيل على الله تعالى ، وطريق هذا القطع ، قال القاضي : والصواب جوازه لاشتماله على العمل ، ولقوله تعالى : " ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها " وهو كما قال . وأما قوله وغمط الناس كذا في نسخ صحيح مسلم ، وكذلك ذكره أبو داود في مصنفه ، وذكره الترمذي وغيره غمص بالصاد المهملة وهما بمعنى واحد وهو احتقارهم . وأما رؤيته في المنام ، فإنها تعي بالنسل لقوله تعالى : " وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذرياتهم " والذر أيضاً يعبر بالضعفاء من الناس . وقيل : الذر جند لأنه من النمل والله تعالى أعلم .
الذراح : قال الجوهري : الذراح والذروح بالضم دويبة حمراء منقطة بسواد تطير وهي من السموم والجمع الذراريح . وقال سيبويه : واحد الذراريح ذرحرح ، وليس عنده في الكلام فعول بواحدة . وكان يقول : سبوح قدوس بفتح أوائلهما . والذراح أنواع فمنه ما يتولد من الحنطة ومنه دود الصنوبر ومنه ما في أجنحته خطوط صفر ولونه مختلف وأجسامها كبار طوال ممتلئة قريبة الشبه من بنات وردان .
الحكم : يحرم أكلها لاستخبائها .
الخواص : الذراريح تنفع الجرب ، والعلة التي ينقشر معها الجلد . ويخلط في الأدوية الموافقة للأورام ، كالسرطان والقوابي الرديئة ، قال الرازي : الاكتحال منها ينفع الطرفة في العين ، وإذا طلي بها مسحوقة قتلت القمل ، وإذا طبخت في زيت أبرأ ذلك الزيت داء الثعلب وزعم القدماء من الأطباء : أنه إذا جعل شيء منها من خرقة حمراء وعلقت على من به حمى أبرأته بخاصية عجيبة .
الذرع : بالتحريك ولد البقرة الوحشية تقول منه أذرعت البقرة فهي مذرع .(1/497)
"""""" صفحة رقم 498 """"""
الذعلب : والذعلبة الناقة السريعة ، وفي حديث سواد بن مطرف الذعلب الناقة الوجناء .
الذئب : يهمز ولا يهمز وأصله الهمزة والأنثى ذئبة ، وجمع القلة أذؤب ، وجمع الكثرة ذئاب وذؤبان . ويسمى الخاطف والسيد والسرحان وذؤالة والعملس والسلق ، والأنثى سلقة والسمسام ، وكنيته أبو مذقة لأنه لونه كذلك قال الشاعر :
حتى إذا جن الظلام واختلط . . . جاؤوا بمذق هل رأيت الذئب قط
ومن كناه الشهيرة أبو جعدة . قال عبيد بن الأبرص للمنذر بن ماء السماء ملك الحيرة حين أراد قتله :
وقالوا : هي الخمر تكنى الطلا . . . كما الذئب يكنى أبا جعدة
ضربه مثلاً أي تظهر لي الإكرام وأنت تريد قتلي . كما أن الخمرة ، وإن سميت طلاء وحسن إسمها ، فإن فعلها قبيح . وكذلك الذئب ، وإن حسنت كنيته فان فعله قبيح . والجعدة الشاة وقيل : نبت طيب الريح ينبت في الربيع ويجف سريعاً وسئل ابن الزبير عن المتعة ؟ فقال : الذئب يكني أبا جعدة . يعني أن المتعة حسنة الإسم قبيحة المعنى ، كما أن الذئب حسن الكنية قبيح الفعل . ومن كناه أبو ثمامة وأبو جاعد وأبو رعلة وأبو سلعامة وأبو العطلس وأبو كاسب وأبو سبلة . ومن أصحابه الشهيرة أويس مصغراً ، ككميت ولحيف . قال الشاعر الهذلي :
يا ليت شعري عنك والأمر عمم . . . ما فعل اليوم أويس بالغنم
ومن أوصافه الغبش ، وهو لون كلون الرماد يقال : ذئب أغبث وذئبة غبشاء . وروى الإمام أحمد وأبو يعلي الموصلي وعبد الباقي بن قانع أن الأعشى الشاعر المازني الحرمازي ، وإسمه عبد الله بن الأعور ، كانت عنده امرأة يقال لها معاذة ، فخرج في شهر رجب يمير أهله من هجر ، فهربت امرأته ناشزة عليه ، فعاذت برجل منهم يقال له مطرف بن بهصل بن كعب بن قميع بن دلف بن أهصم بن عبد الله بن الحرماز ، فجعلها خلف ظهره ، فلما قدم لم يجدها في بيته فأخبر بخبرها فطلبها منه ، فلم يدفعها إليه وكان مطرف أعز منه في قومه فأتى النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فعاذ به وأنشأ يقول :
يا سيد الناس وديان العرب . . . أشكو إليك ذرية من الذرب
كالذئبة الغبشاء في ظل السرب . . . خرجت أبغيها الطعام في رجب
فخالفتني بنزاع وهرب . . . وقذفتني بين عيص مؤتشب
أخلفت العهد ولطت بالذنب . . . وهن شر غالب لمن غلب فقال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) عند ذلك : " وهن شر غالب لمن غلب " . كنى عن فسادها وخيانتها(1/498)
"""""" صفحة رقم 499 """"""
بالذربة ، وأصله ومن ذرب المعدة وهو فسادها . وقيل : أراد سلاطة لسانها وفساد منطقها مأخوذة من قولهم : ذرب لسانه ، إذا كان حاد اللسان لا يبالي بما يقول ، والعيص بالعين والصاد المهملتين أصل الشجر والمؤتشب الملتف وقوله لطت بالذنب ، وهو بالطاء المهملة ، أراد به أنها منعته بضعها من لطت الناقة بذنبها ، إذا سدت فرجها به ، إذا أرادها الفحل . وقيل : أراد توارت وأخفت شخصها عنه ، كما تخفي الناقة فرجها بذنبها ، وكان الأعشى المذكور شكا إلى النبي ( صلى الله عليه وسلم ) امرأته وما صنعت ، وأنها عند رجل منهم يقال له مطرف بن بهصل ، فكتب النبي ( صلى الله عليه وسلم ) إلى مطرف : " انظر امرأة هذا معاذة فادفعها إليه " . فأتاه بكتاب النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فقرأه عليه ، فقال لها : يا معاذة هذا كتاب رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فيك وأنا دافعك إليه . فقالت : خذ لي العهد والميثاق وذمة النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ، أن لا يعاقبني فيما صنعت ، فأخذ لها ذلك ودفعها مطرف إليه فأنشأ يقول :
لعمرك ما حبي معاذة بالذي . . . يغيره الواشي ولا قدم العهد
ولا سوء ما جاءت به إذ أزلها . . . غواة رجال اذينا جونها بعدي
وقال الزمخشري في تفسيره قوله تعالى : " إن كيدكن عظيم " استعظم كيد النساء على كيد الشيطان ، لأنه ، وإن كان في الرجال كيد ، إلا أن النساء ألطف كيدا ، وأنفذ حيلة ، ولهن في ذلك رفق وبذلك يغلبن الرجل . ومنه قوله تعالى : " ومن شر النفاثات في العقد " والنفاثات من بينهن اللاتي لهن ما ليس لغيرهن من البوائق . وعن بعض العلماء أنه قال : أنا أخاف من النساء أكثر مما أخاف من الشيطان ، لأن الله تعالى يقول : " إن كيد الشيطان كان ضعيفاً " وقال في النساء : " إن كيدكن عظيم " وفي تاريخ ابن خلكان ، في ترجمة عمر بن أبي ربيعة ، قال : بينما عمر بن أبي ربيعة يطوف بالبيت ، إذ رأى امرأة تطوف بالبيت ، فأعجبته فسأل عنها فإذا هي من البصرة ، فكلمها مراراً ، فلم تلتفت إليه وقالت : إليك عني فإنك في حرم الله في موضع عظيم الحرمة ، فلما ألح عليها ومنعها من الطواف ، أتت محرماً لها ، وقالت له تعالى معي أرني المناسك فحضر معها فلما رآها عمر بن أبي ربيعة عدل عنها ، فتمثلت بشعر الزبرقان بن بدر السعدي :
تعدو الذئاب على من لا كلاب له . . . وتتقي مربض المستأسد الضاري
فبلغ المنصور خبرهما ، فقال : وددت أن لم تبق فتاة في خدرها إلا سمعته . وكانت ولادة عمر بن أبي ربيعة في الليلة التي قتل فيها عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه ، فكان الحسن البصري يقول ، إذا جرى ذكر ولادته : أي حق رفع وأي باطل وضع ، وغزا في البحر فأحرقوا السفينة فاحترق ، وذلك في سنة ثلاث وثمانين .(1/499)
"""""" صفحة رقم 500 """"""
وللأسد والذئب في الصبر على الجوع ما ليس لغيرهما من الحيوان ، لكن الأسد شديد النهم حريص رغيب شره ، وهو مع ذلك يحتمل أن يبقى أياماً لا يأكل شيئاً والذئب وإن كان أقفر منزلاً ، وأقل خصباً وأكثر كداً ، إذا لم يجد شيئاً اكتفى بالنسيم ، فيقتات به وجوفه يذيب العظم المصمت ، ولا يذيب نوى التمر ، ولا يوجد الالتحام عند السفاد إلا في الكلب والذئب . ومتى التحم الذئب والذئبة ، وهجم عليهما هاجم قتلهما كيف شاء ، إلا أنهما لا يكادان يوجدان كذلك ، لأنهما إذا أرادا السفاد توخيا موضعاً لا يطؤه الإنس ، خوفاً على أنفسهما ويسفد مضطجعاً على الأرض ، وهو موصوف بالانفراد والوحدة ، وإذا أراد العدو فإنما هو الوثب والقفز ، ولا يعود إلى فريسة شبع منها أبداً . ومن عجيب أمره أنه ينام بإحدى مقلتيه والأخرى يقظى حتى تكتفي العين النائمة من النوم ، فيفتحها وينام بالأخرى ليحترس باليقظى ويستريح بالنائمة قال حميد بن ثور في وصفه ، في أبيات مشهورة منها :
ونمت كنوم الذئب في ذي حفيظة . . . أكلت طعاماً دونه وهو جائع
ينام بإحدى مقلتيه ويتقي . . . بأخرى الأعادي فهو يقظان هاجع
وهو أكثر الحيوان عواء إذا كان مرسلاً فإذا أخذ وضرب بالعصي والسيوف حتى يتقطع أو يهشم لم يسمع له صوت إلى أن يموت . وفيه من قوة حاسة الشم ، أنه يدرك المشموم من فرسخ . وأكثر ما يتعرض للغنم في الصبح وإنما يتوقع فترة الكلب ونومه وكلاله ، لأنه يظل طول ليله حارساً متيقظاً . ومن غريب أمره أنه إذا إجتمع جلده مع جلد شاة تمغط جلد الشاة ، وأنه متى وطىء ورق العنصل مات من ساعته . والذئب إذا كده الجوع عوى فتجتمع له الذئاب ، ويقف بعضها إلى بعض . فمن ولى منها وثب إليه الباقون وأكلوه ، وإذا عرض للإنسان ، وخاف العجز عنه ، عوى عواء استغاثة فتسمعه الذئاب ، فتقبل على الإنسان إقبالاً واحداً ، وهم سواء في الحرص على أكله ، فإن أدمى الإنسان واحداً منها ، وثب الباقون على المدمى فمزقوه ، وتركوا الإنسان . وقال بعض الشعراء يعاتب صديقاً له وكان قد أعان عليه في أمر نزل به :
وكنت كذئب السوء لما رأى دماً . . . بصاحبه يوماً أحال على الدم
روى البيهقي في الشعب ، عن الأصمعي ، قال : دخلت البادية فإذا بعجوز بين يديها شاة مقتولة وجرو ذئب مقع ، فنظرت إليها فقالت : أتدري ما هذا . قلت : لا . قالت : جرو ذئب أخذناه وأدخلناه بيتنا ، فلما كبر قتل شاتنا . وقد قلت في ذلك شعراً قلت لها : ما هو ؟ فأنشدته :
بقرت شويهتي وفجعت قلبي . . . وأنت لشاتنا ولد ربيب(1/500)
"""""" صفحة رقم 501 """"""
غذيت بدرها وربيت فينا . . . فمن أنباك أن أباك ذيب
إذا كان الطباع طباع سوء . . . فليس بنافع فيها الأديب
وهو إذا خافه إنسان طمع فيه ، وإذا طمع الإنسان فيه خافه ، ويقطع العظم بلسانه ويبريه بري السيف ، ولا يسمع له صوت ، ويقال : عوى الذئب ، كما يقال عوى الكلب قال الشاعر :
عوى الذئب فاستأنست للذئب إذ عوى . . . وصوت إنسان فكدت أطير
وقال آخر :
ليت شعري كيف الخلاص من النا . . . س وقد أصبحوا ذئاب اعتداء
قلت لما بلاهم : صدق خبري . . . رضي الله عن أبي الدرداء
أشار إلى قول أبي الدرداء : إياكم ومعاشرة الناس فإنهم ما ركبوا قلب امرىء إلا غيروه ولا جواد إلا عقروه ، ولا بعيراً إلا أدبروه . وروى السهيلي ، في الكلام على غزوة أحد ، في حديث مسند ، أنه قال : لما ولد عبد الله بن الزبير نظر إليه النبي ( صلى الله عليه وسلم ) وقال : " هو هو ورب الكعبة " . فلما سمعت أمه أسماء ذلك أمسكت عن ارضاعه ، فقال لها النبي ( صلى الله عليه وسلم ) : " أرضيه ولو بماء عينيك كبش بين ذئاب عليها ثياب ليمنعن البيت أو يقتلن دونه " . وروى ابن ماجه والبيهقي عن كعب بن مالك ، وقال : حديث صحيح حسن ، أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال : " ما ذئبان جائعان أرسلا في زريبة غنم ، بأفسد لها من حرص الرجل على المال والشرف لدينه وقد نص الله تعالى على ذم الحرص بقوله : " ولتجدنهم أحرص الناس على حياة " ، وروى ابن عمي عن عمرو بن حنيف عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال : " أدخلت الجنة فرأيت فيها ذئباً ، فقلت أذئب في الجنة ؟ فقال : أكلت ابن شرطي " . قال ابن عباس : هذا وإنما أكل ابنه فلو أكله رفع في عليين . وقد رأيته كذلك في تاريخ نيسابور للحاكم في ترجمة شيخه علي بن محمد بن إسماعيل الطوسي وهو حديث موضوع .
وروى الحاكم في مستدركه بإسناد على شرط مسلم عن أبي سعيد الخدري رضي الله تعالى عنه قال : بينما راع يرعى بالحرة ، إذ عدا الذئب على شاة فحال الراعي بينه وبينها فأقعى الذئب على ذنبه ، وقال : يا عبد الله تحول بيني وبين رزق ساقه الله إلي فقال الرجل : واعجبا ذئب يكلمني فقال الذئب : ألا أخبرك بأعجب مني ، هذا رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) بين الحرتين يخبر الناس بأنباء ما قد سبق ، فزوى الراعي شياهه إلى زاوية من زوايا المدينة ، ثم أتى النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فأخبره فخرج رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فقال : " صدق والذي نفسي بيده " .(1/501)
"""""" صفحة رقم 502 """"""
فائدة : قال ابن عبد البر وغيره : كلم الذئب من الصحابة ثلاثة : رافع بن عميرة وسلمة بن الأكوع وأهبان بن أوس الأسلمي رضي الله تعالى عنهم . قال : ولذلك تقول العرب : هو كذئب أهبان يتعجبون منه ، وذلك أن أهبان بن أوس المذكور كان في غنم له فشد الذئب على شاة منها فصاح به أهبان فأقعى الذئب وقال : أتنزع مني رزقاً رزقنيه الله تعالى ؟ فقال أهبان : ما سمعت ولا رأيت أعجب من هذا ذئب يتكلم ، فقال الذئب : أتعجب من هذا ورسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) بين هذه النخلات وأومأ بيده إلى المدينة يحدث بما كان وبما يكون ، ويدعو الناس إلى الله وإلى عبادته وهم لا يجيبونه ، قال أهبان بن أوس : فجئت النبي ( صلى الله عليه وسلم ) وأخبرته بالقصة وأسلمت ، فقال لي : " حدث به الناس " . قال عبد الله بن أبي داود السجستاني الحافظ فيقال لأهبان : مكلم الذئب ولأولاده أولاد مكلم الذئب ، ومحمد بن الأشعث الخزاعي من ولده واتفق مثل ذلك لرافع بن عميرة وسلمة بن الأكوع انتهى . وقال البخاري : أنبأنا شعيب عن الزهري عن أبي سلمة بن عبد الرحمن أن أبا هريرة رضي الله تعالى عنه قال : سمعت رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يقول : " بينما راع في غنمه إذا عدا عليها الذئب فأخذ منها شاة ، فطلبه الراعي فالتفت إليه الذئب ، وقال : من لها يوم السبع يوم لا راعي لها غيري . وبينما رجل يسوق بقرة قد حمل عليها ، فالتفتت إليه وكلمته فقالت : إني لم أخلق لهذا ولكني خلقت للحرث . فقال الناس : سبحان الله ذئب يتكلم ، وبقرة تتكلم . فقال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) آمنت بذلك أنا وأبو بكر وعمر ؟ قال ابن الأعرابي : السبع بسكون الباء الموضع الذي عنده المحشر يوم القيامة . أراد من لها يوم القيامة . وقيل : هذا التفسير يفسد بقول الذئب في تمام الحديث يوم لا راعي لها غيري ، والذئب لا يكون لها راعياً يوم القيامة . وقيل أراد من لها يوم الفتن حين يتركها الناس هملاً لا راعي لها نهبة للسباع والذئاب ، فجعل السبع لها راعياً إذ هو منفرد بها . ويكون حينئذ بضم الباء . وهذا إنذار ربما يكون من الشدائد والفتن التي تأتي حتى يهمل الناس فيها مواشيهم وتتمكن منها السباع بلا مانع . وقال أبو عبيدة معمر بن المثنى يوم السبع عيد كان لهم في الجاهلية يشتغلون فيه بلهوهم ولعبهم وأكلهم فيجيء الذئب فيأخذها وليس هو بالسبع الذي يفترس الناس . قال : وأملاه أبو عامر العبدي الحافظ بضم الباء وكان من العلم والاتقان بمكان . وفي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال : " كانت امرأتان معهما ابناهما إذ جاء الذئب فذهب بابن أحداهما ، فقالت هذه لصاحبتها : إنما ذهب بابنك أنت وقالت الأخرى إنما ذهب بابنك ، فتحاكما إلى داود عليه الصلاة والسلام فقضى به للكبرى ، فخرجتا على سليمان فأخبرتاه بذلك فقال سليمان عليه الصلاة والسلام : ائتوني بالسكين أشقه بينكما نصفين فقالت الصغرى : لا ويرحمك الله هو ابنها فقضى به للصغرى " . قال أبو هريرة(1/502)
"""""" صفحة رقم 503 """"""
رضي الله تعالى عنه والله ما سمعت بالسكين قط ، إلا يومئذ وما كنا نقول إلا المدية واستدل بهذا الحديث من جوز أن المرأة تستلحق اللقيط ، وأنه يلحقها لأنها أحد الأبوين . ونقله صاحب التقريب عن ابن سريج والأصح أنه لا يلحقها إذا استلحقته لإمكان إقامة البينة على الولادة بطريق المشاهدة بخلاف الرجل . وفيه وجه ثالث يلحق الخلية دون المزوجة ، لتعذر الإلحاق بها دونه ، وإذا قلنا يلحقها بالإستلحاق . وكان لها زوج لم يلحقه في الأصح وليس المراد بالزوج من هي في عصمته ، بل كونها فراشاً ، لشخص لوثبت نسب اللقيط منها بالبينة ، لحق صاحب الفراش سواء كانت في العصمة أو في العدة . وروى الإمام أحمد والطبراني بإسناد جيد أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال : " الشيطان ذئب الإنسان كذئب الغنم يأخذ القاسية إياكم والشعاب وعليكم بالعامة والجماعة والمساجد " . وفي تاريخ ابن النجار عن وهب بن منبه قال : بينما امرأة من بني إسرائيل ، على ساحل البحر تغسل ثيابها ، وصبي لها يدب بين يديها ، إذ جاء سائل فأعطته لقمة من رغيف كان معها ، فما كان بأسرع من أن جاء ذئب فالتقم الصبي ، فجعلت تعدو خلفه وتقول : يا ذئب ابني يا ذئب ابني ، فبعث الله ملكا فنزع الصبي من فم الذئب ورمى به إليها . وقال : لقمة بلقمة . وهو في الحلية عن مالك بن دينار وقال : أخذ السبع صبياً لامرأة فتصدقت بلقمة فرماه السبع فنوديت لقمة بلقمة . وروى الإمام أحمد في الزهد عن سالم بن أبي الجعد ، قال : خرجت امرأة وكان معها صبي لها ، فجاء الذئب فاختلسه منها فخرجت في أثره وكان معها رغيف ، فعرض لها سائل فأعطته الرغيف ، فجاء الذئب بصبيها فرده عليها وقد تقدم نظير ذلك عنه في باب الهمزة في الأسود السالخ . قال ابن سعد كان موسى بن أعين راعياً بكرمان في خلافة عمر بن عبد العزيز فكانت الذئاب والشاه والوحش ترعى في موضع واحد فبينما نحن ذات ليلة إذ عرض الذئاب لشاة ، فقلنا ما نرى الرجل الصالح إلا قد مات ، فنظرنا فإذا عمر بن عبد العزيز قد مات تلك الليلة ، وذلك لعشر بقين من شهر رجب سنة إحدى ومائة كما تقدم في الأوز وكانت مدة خلافته سنتين وخمسة أشهر . وروى الإمام أحمد في الزهد أيضاً عن مالك بن دينار قال : لما استعمل عمر بن عبد العزيز على الناس ، قال رعاة الشاة : من هذا العبد الصالح الذي قام على الناس ؟ قيل لهم : وما أعلمكم بذلك قالوا إنه إذا ولي على الناس خليفة عدل كفت الذئاب والأسد عن شياهنا .
الحكم : يحرم أكله لتقويته بنابه .
الأمثال : وصفته العرب بأوصاف مختلفة فقالوا : " أغدر من ذئب " . واختل وأخبث وأخون وأجول وأعتى وأعوى وأظلم وأحرأ وأكسب وأجوع وأنشط وأوقح(1/503)
"""""" صفحة رقم 504 """"""
وأجسر وأيقظ وأعق وألأم من ذئب " . وقالوا : " أخوك ، أم الذئب " وقالوا : " أخف رأساً من الذئب " . لأنه ينام بإحدى مقلتيه كما تقدم . وسيأتي له ذكر في أمثال الغراب . وقالوا في الدعاء على العدو : رماه الله بداء الذئب أي الجوع ، وقالوا : الذئب يكنى أبا جعدة كما تقدم ، وقالوا : " من استرعى الذئب الغنم فقد ظلم " . أي ظلم الغنم ، ويجوز أن يراد به ظلم الذئب ، حيث كلفه ما ليس في طبعه ، وأول من قال ذلك أكثم بن صيفي ، وقاله عمر رضي الله تعالى عنه في قصة سارية بن حصن المشهورة ، وذلك أنه كان يخطب يوم الجمعة بالمدينة فقال في خطبته : " يا سارية بن حصن الجبل الجبل من استرعى الذئب الغنم فقد ظلم . فالتفت الناس بعضهم إلى بعض ، ولم يفهموا مراده فلما قضى صلاته ، قال له علي كرم الله وجهه : ما هذا الذي قلته ؟ قال : أو سمعته ؟ قال : نعم . أنا وكل من في هذا المسجد . قال : وقع في خلدي أن المشركين هزموا إخواننا وركبوا أكتافهم ، وأنهم يمرون بجبل فإن عدلوا إليه ، قاتلوا من وجدوا وظفروا ، وإن جاوزوه هلكوا فخرج مني هذا الكلام ، فجاء البشير بعد شهر ، فذكر أنهم سمعوا في ذلك اليوم ، في تلك الساعة حين جاوزوا الجبل ، صوتاً يشبه صوت عمر رضي الله تعالى عنه يقول : يا سارية بن حصن الجبل الجبل فعدلوا إليه ففتح الله عليهم . كذا نقله في تهذيب الأسماء واللغات ، وفي طبقات ابن سعد وأسد الغابة أنه سارية بن زنيم بن عمرو بن عبد الله بن جابر . وأنشدوا في معنى هذا المثل البيت :
وراعي الشام يحمي الذئب عنها . . . فكيف إذا الرعاة لها ذئاب كان يحيى بن معاذ الرازي رحمه الله تعالى يقول لعلماء الدنيا في زمانه : يا أصحاب العلم قصوركم قيصرية وبيوتكم كسروية ، وأثوابكم طالوتية ، وأخفافكم جالوتية ، وأوانيكم فرعونية ، ومراكبكم قارونية ، وموائدكم جاهلية ، ومذاهبكم شيطانية ، فأين المحمدية .
الخواص : إذا علق رأس الذئب في برج حمام لم يقر به سنور ولا شيء يؤذي الحمام . وكعب الذئب الأيمن إذا علق على رأس رمح ، ثم إجتمع عليه جماعة لم يصلوا إليه ما دام الكعب معلقاً على رمحه . وعينه اليمنى من علقها عليه لم يخف لصاً ولا سبعاً . وخصيته إذا شقت وملحت بملح وسقي منها وزن مثقال بماء الجرجير من به وجع الخاصرة أبرأه ، وهو نافع أيضاً لذات الجنب إذا شرب منها بماء حار وعسل . ودمه ينفع من الصمم إذا ديف بدهن الجوز وقطر في الأذن . ودماغه يداف بماء السذاب والزيت ويدهن به الجسد ينفع من كل علة ظاهرة وباطنة في البدن من البرد .(1/504)
"""""" صفحة رقم 505 """"""
وأنيابه وجلده وعينه إذا حملها الإنسان معه غلب خصمه ، وكان محبباً إلى الناس جميعا وكبده تنفع من وجع الكبد . وقضيبه إذا شوي في الفرن ومضغت منه قطعة هيجت الباه ، وإذا خلطت مرارته بالعسل أو بالماء ولطخ بها الذكر وقت الجماع أحبت المرأة الرجل حبا شديداً . وإذا علق ذنب الذئب على معلف بقر لم تقرب إليه ما دام معلقاً ، وإن أجهدها الجوع . وإن بخر موضع بزبله لم يقربه الفأر . وقيل : يجتمع إليه الفأر ، وإذا إجتمع جلده وجلد شاة في موضع واحد تجرد جلد الشاة كما تقدم . ومن أدمن الجلوس على جلده أمن من القولنج ، وإذا علق وتر من ذنبه على شيء من الملاهي وضرب بها تقطعت جميع أوتار الغنم التي تكون على الملاهي ، ولم يسع لها صوت ، وإذا بخر بجلد الذئب حانوت من يعمل الدفوف التي تلعب بها النساء ، تشققت وإن اتخذ طبل من جلده وضرب به بين طبول تشققت الطبول كلها . وشحمه ينفع من داء الثعلب ، وشرب مرارته ينفع من استرخاء البطن ، وإذا لطخ بها على الإحليل جامع الرجل ما شاء ، وإذا طلي بمرارته مع مرارة نسر ودهن الزئبق هيج الباه وأنعظ . وربما أنزل من لذة ذلك وإذا ديفت مرارته بدهن ورد ودهن بها الرجل حاجبيه أحبته المرأة إذا مشي بين يديها . وإذا خلطت مرارته بورس وطلي بها الوجه أذهب البهق . وعين الذئبة إذا علقت على من يصرع تمنع من الصرع ، وإن أخذ عظم من العظام التي توجد في ذيل الذئب ، وخدش بها الضرس الوجع أبرأه من وقته . وقال جالينوس : يسعط بمرارة الذئب ودهن البنفسج من به الشقيقة المزمنة ، فإنه يبرأ . وإن سعط بذلك المولود أمن من الصرع ما عاش . وعيناه إذا علقتا على صبي لم يصرع وإن أخذ جزء من مرارة الذئب وجزء من عسل لم تصبه النار واكتحل به نفع من ظلمة العين وضعف البصر . وإن عقد ذنب الذئب بإسم امرأة ، لم يقدر عليها أحد من الرجال ، حتى تحل العقدة . وأن خلطت مرارة الذئب بعسل ، وطلي به الذكر ، وجامع امرأة ، فإنها تحب ذلك الرجل حباً شديداً ، ودم الذئب ينضج الجراحات .
صفة طلسم لجمع الذئاب : يعمل تمثال ذئب من نحاس ويجوف داخله ، ويوضع فيه قضيب ذئب ويصفر به فتجتمع الذئاب التي تسمع صوته إليه .
صفة طلسم تهرب منه الذئاب : يعمل تمثال ذئب من نحاس ، ويحشى من خرء ذئب ، ويدفن في أي موضع أردت فإن الذئاب تهرب من ذلك الموضع .
التعبير : تدل رؤيته على الكذب والحيلة والعداوة للأهل والمكر بهم . وقيل : الذئب في الرؤيا لص غشوم ظلوم وجروه ولد لص ، فمن رأى جرو ذئب فإنه يربي لصاً لقيطاً ، وإن تحول الذئب حيواناً أنسياً كالخروف وشبهه فإنه لص يتوب ومن رأى ذئباً دخل داره فليحذر اللصوص ، ومن رأى ذئباً فإنه يتهم إنساناً ويكون المتهم بريئاً لقصة يوسف عليه الصلاة والسلام . ومن رأى ذئباً وكلباً واجتمعا على النفاق والمكر والخديعة والله أعلم .
ذؤالة : إسم للذئب كأسامة للأسد وهو معرفة . سمي بذلك لأنه يذأل في مشيته وهي المشية الخفيفة .
وفي الحديث أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) مر بجارية سوداء ترقص صبياً لها وتقول ذؤال يا ابن القرم(1/505)
"""""" صفحة رقم 506 """"""
يا ذؤال ، فقال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) : " لا تقولي ذؤال فإنه شر السباع ، وذؤال ترخيم ذؤالة والقرم السيد " .
الذيخ : بكسر الذال ذكر الضباع الكثير الشعر والأنثى ذيخة والجمع ذيوخ وأذياخ وذيخة . روى البخاري في أحاديث الأنبياء ، وفي التفسير عن إسماعيل بن عبد الله قال : حدثني أخي عبد الحميد ، وعن ابن أبي ذئب ، عن سعيد المقبري ، عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه ، عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ، قال : " يلقى إبراهيم عليه الصلاة والسلام أباه يوم القيامة وعلى وجه آزر قترة وغبرة ، فيقول له إبراهيم عليه السلام : ألم أقل لك أن لا تعصني ، فيقول أبوه : فاليوم لا أعصيك ، فيقول إبراهيم : يا رب إنك وعدتني أن لا تخزيني يوم يبعثون فأي خزي أخزى من أن يكون أبي في النار ؟ فيقول الله تعالى : إني حرمت الجنة على الكافرين ، فيقال : يا إبراهيم ما تحت رجليك فينظر فإذا بذيخ متلطخ فيؤخذ بقوائمه فيلقى في النار " . ورواه النسائي والبزار والحاكم في آخر المستدرك . عن أبي سعيد الخدري أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال : " ليأخذن رجل بيد أبيه يوم القيامة يريد أن يدخله الجنة قال : فينادي إن الجنة لا يدخلها مشرك لأن الله حرم الجنة على كل مشرك ، قال : فيقول : " أي رب أبي فيحول في صورة قبيحة ، وريح منتنة فيتركه " . قال : فكان أصحاب النبي ( صلى الله عليه وسلم ) يرون أنه إبراهيم عليه الصلاة والسلام ، ولم يزدهم رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) على ذلك . ثم قال الحاكم : صحيح على شرط الشيخين . ثم روى الحاكم عن حماد بن سلمة عن أيوب عن ابن سيرين عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال : " يلقى رجل أباه يوم القيامة فيقول : يا أبت أي ابن كنت لك فيقول : خير ابن فيقول : هل أنت مطيعي اليوم ؟ فيقول : نعم . فيقول خذ بازرتي فيأخذ بازرته ثم ينطلق حتى يأتي الله وهو يعرض الخلق ، فيقول : يا عبدي إدخل من أي أبواب الجنة شئت فيقول : أي رب وأبي معي فإنك وعدتني أن لا تخزيني . قال : فيمسخ الله أباه ضبعاً ثم يلقى في النار فيؤخذ بأنفه ، فيقول الله تعالى : يا عبدي أبوك هو فيقول لا وعزتك " . ثم قال : صحيح على شرط مسلم ، وفي حديث خزيمة بن ثابت أو ابن حكيم السلمي البهزي وليس بالأنصاري : " والذيخ محرنجم أي كالح منقبض من شدة الجذب " . وهو حديث طويل شرحه ابن الأثير في أوائل كتاب مثال الطالب ، والحكمة في كونه مسخ ضبعاً ، دون غيره من الحيوان أن الضبع أحمق الحيوان ، كما سيأتي إن شاء الله ، في أمثال الضبع . ومن حمقه أنه يغفل عما يجب التيقظ له . ولذلك قال علي بن أبي طالب كرم الله وجهه . لا أكون كالضبع تسمع اللدم فتخرج حتى تصاد . والدم الضرب الخفيف ، فلما لم يقبل آزر النصيحة من أشفق الناس عليه ، وقبل خديعة عدوه الشيطان أشبه الضبع الموصوفة بالحمق . لأن الصياد إذا أراد أن يصيدها رمي في جحرها بحجر فتحسبه شيئاً تصيده ، فتخرج لتأخذه فتصاد عند ذلك . ويقال لها وهي في جحرها : أطرفي أم طريق خامري أم عامر أبشري بجراد عطلى وشاة هزلى ، فلا يزال يقال لها ذلك ، حتى يدخل عليها الصائد ، فيربط يديها ورجليها ، ثم يجرها . ولأن آزر لو مسخ كلباً أو خنزيراً لكان فيه تشويه الخلقة ، فأراد الله تعالى إكرام إبراهيم عليه الصلاة والسلام بجعل أبيه على هيئة متوسطة . قال في المحكم : يقال ذيخته أي ذللته فلما خفض إبراهيم لأبيه جناح الذل من الرحمة ، فلم يقبل حشر ، بصفة الذل يوم القيامة . وهذه الحكمة هي أحد الأسباب(1/506)
"""""" صفحة رقم 507 """"""
الباعثة على تأليف هذا الكتاب كما تقدم في خطبته والله أعلم .
باب الراء المهملة
الراحلة : قال الجوهري : هي الناقة التي تصلح لأن ترحل ، وكذلك الرحول ويقال الراحلة المركب من الإبل ذكراً كان أو أنثى انتهى . والهاء فيها للمبالغة كالتي في داهية وراوية وعلامة . وإنما سميت راحلة لأنها ترحل أي يشد عليها الرحل فهي فاعلة بمعنى مفعولة كقوله تعالى : " فهو في عيشة راضية " ، أي مرضية . وقد ورد فاعل بمعنى مفعول في عدة مواضع من القرآن العظيم . كقوله تعالى : " لا عاصم اليوم من أمر الله إلا من رحم " أي لا معصوم وكقوله تعالى : " ماء دافق " أي موفوق . وكقوله تعالى : " حرما آمنا " أي مأموناً . وفيه جاء أيضاً مفعول بمعنى فاعل ، كقوله تعالى : " حجاباً مستوراً أي ساتراً " ، و " كان وعده مأتياً " ، أي آتياً . قال الحريري : وقد يكنى عن النعل بالراحلة ، لأنها مطية القدم وإليها أشار الشاعر بقوله ملغزاً :
رواحلنا ست ونحن ثلاثة . . . نجنبهن الماء في كل مورد روى البيهقي في الشعب ، في أواخر الباب الخامس والخمسين ، أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ، قال : " من مشى عن راحلته عقبة فكأنما أعتق رقبة " . قال أبو أحمد : العقبة ستة أميال ، وروى البخاري ومسلم وغيرهما من حديث الزهري عن سالم عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال : " الناس كابل مائة لا تجد فيها راحلة " . وقال البيهقي في سننه في باب إنصاف الخصمين في الدخول على القاضي والاستماع منهما والإنصاف لهما هذا الحديث يتأول على أن الناس في أحكام الدين سواء ، لا فضل فيها الشريف على مشروف ، ولا لرفيع على وضيع ، كالإبل المائة لا يكون فيها راحلة ، وهي الذلولة التي ترحل وتركب . وذكر قبله عن ابن سيرين أنه قال : كان أبو عبيدة بن حذيفة قاضياً ، فدخل عليه رجل من الأشراف ، وهو يستوقد ناراً ، فسأله حاجة فقال له أبو عبيدة : أسألك أن تدخل أصبعك في هذه النار ، قال سبحان الله . قال : أبخلت في بإصبع من أصابعك أن تدخله في هذه النار ، وتسألني إدخال جسمي كله في نار جهنم . وقال ابن قتيبة : الراحلة النجيبة المختارة من الإبل للركوب وغيره ، وهي كاملة الأوصاف ، فإذا كانت في ابل عرفت . قاد : ومعنى الحديث أن الناس متساوون ليس لأحد منهم فضل في النسب بل هل أشباه كالإبل المائة . وقال الأزهري : الراحلة عند العرب ، الجمل النجيب والناقة النجيبة(1/507)
"""""" صفحة رقم 508 """"""
قال : والهاء فيها للمبالغة ، كما يقال : رجل نسابة وداهية . قال : والمعنى الذي ذكره ابن قتيبة غلط ، بل معنى الحديث أن الزاهد في الدنيا الكامل في الزهد فيها الراغب في الآخرة قليل جداً ، كقلة الراحلة في الإبل هذا كلام الأزهري . قال الإمام النووي وهو أجود من كلام ابن قتيبة . وأجود منهما قول آخرين : أن المرضى الأحوال من الناس الكامل الأوصاف قليل فيهم جداً كقلة الراحلة في الإبل . قالوا : والراحلة البعير الكامل الأوصاف الحسن المنظر القوي على الأحمال والأسفار . وقال الإمام العلامة الحافظ أبو العباس القرطبي ، شيخ المفسرين في زمانه : الذي يقع لي أن الذي يناسب التمثيل بالراحلة ، إنما هو الرجل الكريم الجواد الذي يتحمل كل الناس وأثقالهم ، بما يتكلف من القيام بحقوقهم والغرامات عنهم وكشف كربهم . فهذا هو القليل الوجود بل قد يصدق عليه إسم المفقود . قلت : وهذا أشبه القولين والله أعلم .
الرأل : ولد النعام والأنثى رألة والجمع رئال ورئلان . وسيأتي ذكر النعام في باب النون إن شاء الله تعالى .
الراعي : بالراء والعين المهملتين طائر متولد بين الورشان والحمام وهو شكل عجيب . قاله القزويني وقال الجاحظ : إنه متولد بين الحمام والورشان وهو كثير النسل ، ويطول عمره وله فضل وعظم في البدن والفرخ عليهما زلة في الهدير قرقرة ليست لأبويه ، حتى صارت سبباً للزيادة في ثمنه وعلة للحرص على اتخاذه وقد ضبطه بعض مصنفي العمر بالزاي والغين المعجمتين وهو وهم .
الربى : على وزن فعلى بالضم : الشاة التي وضعت حديثاً ، وإن مات ولدها فهي أيضاً ربى وقيل : ربابها ما بينها وبين عشرين يوماً ، وقيل : هي ربى ما بينها وبين شهرين من وضعها ، وخصها أبو زيد بالمعز وغيره بالضأن وقيل : الربى من المعز والرعوث من الضأن وجمعها رباب بالضم . قلت : وقد جاء الجمع على فعال في خمس عشرة كلمة رباب جمع ري ، ورخال الآتي في الباب . ورذال جمع رذل ، وبساط جمع بسط ، وناقة بسيطة أي هزيلة وتؤام تقول هذا در تؤام أي من التوأمين ونذال جمع نذل ، ورعاة جمع راع ، وقماء جمع قميء أي حقير ، وجمال مع جمل ، وسحاح جمع سح ، المطر أي كثرة أنصبابه ، وعراق جمع عرق . قال علي كرم الله وجهه : الدنيا أهون على الله من عراق خنزير بيد أجذم . وظؤار جمع ظئر وهي الدابة وثناء جمع ثني واحد أثناء الشيء ، وعزاز جمع عزيز وفرار جمع فرير وهو الظبي . الرباح : بفتح الراء الموحدة المخففة : دويبة كالسنور ، وهي التي يجلب منها الزباد ، وهذا هو الصواب في التعبير ووهم الجوهري فقال في النسخة التي بخطه : الرباح إسم دويبة يجلب منها الكافور وهو وهم عجيب . فإن الكافور صمغ شجر بالهند والرباح نوع منه فكأن الجوهري لما سمع أن الزباد يجلب من الحيوان سرى ذهنه إلى الكافور ، فذكره . وسيأتي ذكره في باب الزاء المعجمة ، فلما رأى ابن القطاع هذا الوهم ، أصلحه فقال : والرباح بلد يجلب منه(1/508)
"""""" صفحة رقم 509 """"""
الكافور ، وهو أيضاً وهم ، لأن الكافور صمغ شجر يكون داخل الخشب ويتخشخش فيه إذا حرك فينشر ويستخرج وقد أجاد ابن رشيق بقوله :
فكرت ليلة وصلها في صدها . . . فجرت بقايا أدمعي كالعندم
فطفقت أمسح مقلتي في نحرها . . . إذ عادة الكافور إمساك الدم
الرباح : بضم الراء المهملة وتشديد الباء الموحدة ذكر القرود وسيأتي حكمه .
الأمثال : قالوا : أجبن من رباح .
الربح : بضم الراء المهملة وفتح الباء الموحدة الفصيل كأنه لغة في الربيع والربح أيضاً طائر قاله الجوهري .
الربية : دويبة بين الفأر وأم حبين قاله ابن سيده وقال غيره هي الفأر .
الرتوت : الخنازير . قاله الجوهري بعد أن قال : الرت الرئيس وهؤلاء رتوت البلد . وقال في المحكم : الرت شيء يشبه الخنزير البري ، وجمعه رتوت . وقيل هي الخنازير الذكور وقد تقدمت في باب الخاء المعجمة .
الرثيلا : بضم الراء المهملة وفتح الثاء المثلثة جنس من الهوام ويمد أيضاً وسيأتي ذكرها في آخر الصيد وقال الجاحظ : الرثيلا نوع من العناكب وتسمى عقرب الحيات ، لأنها تقتل الحيات . والأفاعي انتهى . وقال أبو عمر وموسى القرطبي الإسرائيلي : الرثيلا إسم يقع على أنواع كثيرة من الحيوان . وقيل : إنها ستة أنواع ، وقيل : ثمانية وكلها من أصناف العنكبوت . وذكر حذاق الأطباء أن أعظم هذه الأنواع شراً : المصرية ، أما النوعان الموجودان في البيوت ، في أكثر البلاد ، فهما العنكبوت ونكايتهما قليلة . وأما بقية الأنواع الأخرى من الرثيلات فإنها توجد غالباً في الأرياف ، ومنها نوع له زغب ، وأهل مصر يسمونه أبا صوفة . ونهش هذه الأنواع كلها قريب من لسع العقرب وسيأتي ذكرها في الصاد في الصيدان إن شاء الله تعالى . ومن خواصها أن شرب دماغهما مع شيء من الفلفل ينفع من سمها .
وهي في الرؤيا تدل على امرأة مؤذية مفسدة لما يصلحه الناس من نسج ناقضة لما يبرمونه منه . وقيل : هي في الرؤية عدو قتال حقير المنظر شديد الطعنة والله أعلم .
الرخل : الأنثى من ولد الضأن والجمع رخال كما تقدم .
الرخ : بالخاء المعجمة في آخره طائر في جزائر بحر الصين يكون جناحه الواحدة عشر(1/509)
"""""" صفحة رقم 510 """"""
آلاف باع ، ذكره الجاحظ وأبو حامد الأندلسي قال : وقد كان وصل إلى أرض المغرب رجل من التجار ممن سافر إلى الصين وأقام بها مدة وكان عنده أصل ريشة من جناحه ، كانت تسع قربة ماء وكان يقول : إنه سافر مرة في بحر الصين فألقتهم الريح إلى جزيرة عظيمة فخرج إليها أهل السفينة ليأخذوا الماء والحطب ، فرأوا قبة عظيمة أعلى من مائة ذراع ، ولها لمعان بريق فعجبوا منها فلما دنوا منها إذا هي بيضة الرخ ، فجعلوا يضربونها بالخشب والفؤوس والحجارة حتى انشقت عن فرخ كأنه جبل ، فتعلقوا بريشة من جناحه فجروه ، فنفض جناحه ، فبقيت هذه الريشة معهم وخرج أصلها من جناحه ، ولم يكمل بعد خلقه فقتلوه وحملوا ما قدروا عليه من لحمه وقد كان بعضهم طبخ بالجزيرة قدراً من لحمه ، وحركها بعود حطب ثم أكلوه . وكان فيهم مشايخ فلما أصبحوا إذ هم قد اسودت لحاهم ولم يشب بعد ذلك من أكل من ذلك الطعام . وكانوا يقولون : إن ذلك العود الذي حركوا به القدر من عود شجرة النشاب ، قال : فلما طلعت الشمس ، إذا بالرخ قد أقبل في الهواء كأنه سحابة عظيمة في رجله حجر كالبيت العظيم أكبر من السفينة فلما حاذى السفينة ألقى ذلك الحجر بسرعة فوقع الحجر في البحر وسبقت السفينة ونجاهم الله تبارك وتعالى بفضله ورحمته . والرخ من أدوات الشطرنج والجمع رخاخ ورخخة قال ابن سيده وقد أجاد سري الرفاء حيث قال :
وفتية زهر الآداب بينهم . . . أبهى وأنضر من زهر الرياحين
راحوا إلى الراح مشي الرخ وانصرفوا . . . والراح يمشي بهم مشي البراذين
ومن مستحسن شعره قوله : بنفسي من أجود له بنفسي . . . ويبخل بالتحية والسلام
وحتفي كامن في مقلتيه . . . كمون الموت في حد الحسام
التعبير : الرخ في المنام يدل على أخبار غريبة ، وأسفار بعيدة ، وربما دل على الهذر في الكلام الصحيح والسقيم . وكذلك العنقاء والله أعلم . وسيأتي حكمها في باب العين المهملة .
الرخمة : بالتحريك طائر أبقع يشبه النسر في الخلقة ، وكنيتها أم جعفران وأم رسالة وأم عجيبة وأم قيس وأم كبير ، ويقال لها الأنوق والجمع رخم والهاء فيه للجنس قال الأعشى :
يا رخماً قاظ على مطلوب . . . يعجل كف الخارىء المطيب(1/510)
"""""" صفحة رقم 511 """"""
مطلوب إسم جبل ، والمطيب معناه الذي يطلب طيب النفس بالاستنجاء . ومنه الاستطابة وتسمى الرخمة بالأنوق كما تقدم . ويقال لها ذات الإسمين لذلك ، وهي تحمق مع تحرزها . قال الكميت :
وذات إسمين والألوان شتى . . . تحمق وهي كيسة الحويل
أي الحيلة ، وذكر عند الشعبي الروافض ، فقال : لو كانوا من الدواب لكانوا حمراً ، ولو كانوا من الطير لكانوا رخماً . ومن طبع هذا الطائر أنه لا يرضى من الجبال إلا بالموحش منها ولا من الأماكن إلا باسحقها وأبعدها من أماكن أعدائه ، ولا من الهضاب إلا بصخورها . ولذلك تضرب العرب المثل بالامتناع ببيضه فيقولون : " أعز من بيض الأنوق " كما تقدم . والأنثى منه لا تمكن من نفسها غير ذكرها ، وتبيض بيضة واحدة وربما أتأمت وهي من لئام الطي ، وهي ثلاثة : البوم والغراب والرخمة .
وحكمها : تحريم الأكل كما تقدم . روى البيهقي عن عكرمة عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال : " نهى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) عن أكل الرخمة " . وإسناده ليس بالقوي وقال الإمام العلامة القرطبي ، في تفسير آخر سورة الأحزاب : " كالذين آذوا موسى بقولهم أنه قتل أخاه هارون ، فتكلمت الملائكة بموته ولم يعرف موضع قبره إلا الرخمة فلذلك جعله الله أصم أبكم " وكذلك رواه الحاكم في المستدرك وفي كتاب تواريخ الأنبياء عليهم الصلاة والسلام . وقال الزمخشري : تقول في صياحها سبحان ربي الأعلى .
الأمثال : قالوا : " أحمق من رخمة وأموق " . وإنما خصت من بين الطير بذلك ، لأنها ألأم الطير وأظهرها حمقاً وموقاً ، وأقذرها طعماً ، لأنها تأكل العذرة . وقالوا : إنطقي يا رخم فإنك من طير الله أصله أن الطير صاحت فصاحت لرخمة ، فقيل لها : يهزأ بها إنك من طير الله فانطقي يضرب للرجل الذي لا يلتقت إليه ولا يسمع منه .
الخواص : إذا بخر البيت بريشها طرد الهوام وزبلها يداف بخل خمر ويطلى به البرص يغير لونه وينفعه . وكبدها تشوى وتسحق وتداف ويسقى ذلك لمن به جنون ، كل يوم ثلاث مرات ثلاثة أيام متوالية يشفى . وإن علق رأسها على المرأة التي عسرت ولادتها ، وضعت سريعاً ، والجلد الأصفر الذي على قانصة الرخمة إذا أخذ وسحق بعد تجفيفه ، وشرب بشراب العسل نفع من كل سم . وعظم رأس الرخمة ينفع من وجع الرأس تعليقاً .
التعبير : الرخمة في الرؤيا إنسان أحمق قذر ، فمن رأى أنه أخذ رخمة فإنه يقع في حرب يسفك فيه دم كثير . وقيل : من أخذ رخمة مرض مرضاً شديداً . وقالت النصارى : الرخم الكثير يدل على عسكر يحل في ذلك المكان ، وهم سفلى يأكلون الحرام . وقال ارطاميدروس(1/511)
"""""" صفحة رقم 512 """"""
الرخم دليل خير لمن صنعته خارج البلد كالكلاسين وصناع الآجر ، لأن الرخم لا يدخل البلد ، والرخم في المنام يدل على ناس يغسلون الموتى ، ويسكنون المقابر ، لأن الرخم يأكل الجيفة ولا يدخل المدن ، ومن رأى رخمة في دار وكان فيها مريض ، فإنه يموت . وإن لم يكن في الدار مريض خشي على صاحب الدار من الموت أو المرض الشديد . والله أعلم .
الرشأ : بفتح الراء الظبي إذا قوي وتحرك ومشى مع أمه والجمع أرشأ . أنشدنا شيخنا الإمام العلامة جمال الدين عبد الرحيم الأسنوي رحمه الله تعالى قال : أنشدنا شيخنا الشيخ أثير الدين أبو حيان ، قال : أنشدنا شيخنا أبو جعفر بن الزبير قال : أنشدنا أبو الخطاب بن خليل قال : أنشدنا شيخنا أبو جعفر عمر بن عمر قاضي أشبيلية لنفسه ، وقد أهديت إليه جارية ، فتبين له أنه قد كان وطىء أمها فردها ومعها هذه الأبيات :
يا مهدي الرشا الذي ألحاظه . . . تركت جفوني نصب تلك الأسهم
ريحانة كل المنى في شمها . . . لولا المهيمن واجتناب المحرم ما عن قلى صرفت إليك وإنما . . . صيد الغزالة لم يبح للمحرم
يا ويح عنترة يقول وشفه . . . ما شفني وجد وإن لم أكتم
يا شاة ما قنص لمن حلت له . . . حرمت علي وليتها لم تحرم
وقال أبو الفتح البستي وأجاد :
من أين للرشا الغرير الأحور . . . في الخد مثل عذارك المتحدر
رشأ كأن بعارضيه كليهما . . . مسكاً تساقط فوق ورد أحمر
الرشك : بضم الراء وإسكان الشين المعجمة ، وهو بالفارسية إسم للعقرب . ذكر القاضي الإمام أبو الوليد ابن الفرضي في كتاب الألقاب ، في أسماء نقلة الحديث ، والخطيب أبو علي الغساني ، في كتاب تقييد المهمل ، والقاضي أبو الفضل عياض بن موسى ، في كتاب مشارق الأنوار ، والحافظ أبو الفرج بن الجوزي ، وغيرهم : أن يزيد بن أبي يزيد واسمه سنان الضبعي ، مولاهم البدري الدارد المعروف بالرشك ، أنه لقب بذلك لكبر لحيته قيل : إن العقرب دخل في لحيته ، فأقامت ثلاثة أيام وهو لا يدري بها لعظم لحيته ، وطولها ، قال ابن دحية في كتابع العلم المنشور : والعجب كيف لا يحس بها وكيف لا تسقط عند وضوئه للصلاة ، ولعله كان لا يخلل(1/512)
"""""" صفحة رقم 513 """"""
لحيته لكبرها ، أو كانت العقرب صغيرة جداً ، فاختبأت بين الشعر ، وأما كونها مقدرة بثلاثة أيام فهذا التقدير كيف يصح ؟ لأنه لو علم بها في أول وجودها في لحيته ما تركها فمن أين تعلم هذه المدة ؟ انتهى . والذي عندي في ذلك أنه يحتمل أن يكون في منتزه ، أو كان في مكان فيه العقارب كثيرة ، وكانت مدة إقامته في ذلك المكان ثلاثة أيام ، فلما أصابها بعد ذلك ، علم أن مبدأ وجودها كان من ذلك الوقت ، وهذا أولى من تكذيب من رواه من الأئمة الأعلام . فقد روى الحاكم أبو عبد الله في كتاب علوم الحديث ، له عن يحيى بن معين أنه قال : كان يزيد يسرح لحيته فخرج منها عقرب ، فلقب بالرشك انتهى .
والمشهور أن الرشك هو القسام بلغة أهل البصرة ، سمي بذلك لأنه كان يقسم الأرض والدور وغير ذلك . مات بالبصرة سنة ثلاثين ومائة وروى له الجماعة . قال الترمذي أبو عيسى في باب ما جاء في صوم ثلاثة من كل شهر . حدثنا محمود بن غيلان ، حدثنا أبو داود حدثنا شعبة عن يزيد الرشك ، قال : سمعت معاذا يقول : قلت لعائشة رضي الله تعالى عنها أكان رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يصوم ثلاثة أيام من كل شهر . قالت : نعم . قلت : من أيها كان يصوم ؟ قالت : كان لا يبالي من أيها صام . قال الترمذي : حديث حسن صحيح . ويزد الرشك هو يزيد بن أبي يزيد الضبعي ، وهو يزيد القاسم ، وهو القسام . والرشك هو القسام بلغة أهل البصرة كما تقدم .
الرفراف : طائر يقال له ملاعب ظله ، ويقال له خاطف ظله ، وسيأتي الكلام عليه في باب الميم والظليم أيضاً يقال له رفراف ، لرفرفته عند عدوه والرفرف ضرب من السمك قاله ابن سيده .
الرق : بكسر الراء بالقاف ضرب من دواب الماء يشبه التمساح ، والرق أيضاً العظيم من السلاحف وجمعه رقوق . وفي غريب الحديث كان فقهاء المدينة يشترون الرق ويأكلونه . رواه الجوهري بفتح الراء والأكثرون بكسرها .
الركاب : بكسر الراء الإبل ، واحدتها راحلة وجمعها ركائب . وفي حديث جابر رضي الله عنه أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) بعث بعثاً ، عليهم قيس بن سعد بن عبادة ، فجهد وانتحر لهم قيس تسع ركائب ، فقال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) : " إن الجود لمن شيمة أهل ذلك البيت " . ويجمع أيضاً على ركب ومنه قيل : زيت ركابي ، لأنه يحمل على ظهور الإبل . والركوبة ما يركب ، يقال : ما له ركوبه ، حلوبة ولا حمولة ، أي ما يركبه ويحلبه . ويحمل عليه . وقرأت عائشة رضي الله تعالى عنها فمنها ركوبتهم . وجمع الركوبة ركائب انتهى . وقال السهيلي ، قبيل الكلام على ما أنزل الله تعالى ، في غزوة بدر : والركوبة ركائب . انتهى . ولو أراد الجمع بغير هاء لقال : ركب كعجز . كما جاء في الحديث أنه عليه الصلاة والسلام قال : " إن الجنة لا يدخلها العجز " . قالها ممازحاً لعمته صفية رضي الله عنها ، وقيل : بل قالها لامرأة من الأنصار . ذكر ذلك هناد بن السري في كتاب الرقائق له .
الركن : الفأر ويسمى ركيناً على لفظ التصغير قاله ابن سيده . الرمكة : بالتحريك الأنثى من البراذين والجمع رماك ورمكات وأرماك أيضاً عن الفراء(1/513)
"""""" صفحة رقم 514 """"""
مثل ثمار وأثمار ووقع في الوسيط في الباب الثاني من أبواب البيع لو قال : بعتك هذه النعجة فإذا هي رمكة ففي قول يعول على الإشارة وفي قوله آخر يعول على العبارة قال ابن الصلاح : هذا تصحيف ، إنما هو هذه البغلة فإن الرمكة لا تشتبه بالنعجة .
الرهدون : والرهدنة بفتح الراء ، طائر يشبه الحمرة يرهدن في مشيته كأنه يستدبر وجمعه رهادن ، وهو كثير بمكة خصوصاً بالمسجد الحرام وهو يشبه العصافير إلا أنه أدبس .
الروبيات : هو سمك صغير جداً أحمر .
الخواص : إن طرحت رجل الروبيان في شراب من يحب الشراب أبغضه ، ورقبته ينحر بها فيسقط الجنين وإذا دق الروبيان وهو طري ، وضمد به موضع الشوك أو السهم الغائص في البدن أخرجه بسهولة . وإن سلق مع الحمص الأسود وضمد به السرة أخرج حب القرع . وإن جفف وسحق واكتحل به صاحب الغشاوة نفعه . وإن سحق مع سكنجبين وشرب أخرج حب القرع من الجوف . قاله عبد الملك بن زهر .
الريم : ولد الظبي والجمع آرام قال الشاعر :
بها العير والآرام يمشين خلفه . . . وأطلاؤها ينهضن من كل مجثم
يقول : إذا ذهب فوج جاء فوج . وقال الأصمعي : الآرام الظباء البيض الخالصة البياض ، الواحدة ريم . قال : وهي تسكن الرمال وهذا النوع من الظباء ، يقال إنه ضأنها لأنه أكثرها شحماً ولحماً . وكان زكي الدين بن كامل القطيعي أبو الفضل يعرف بقتيل الريم ، وأسير الهوى . توفي سنة ست وأربعين وخمسمائة . ومن شعره :
لي مهجة كادت بحر كلومها . . . للناس من فرط الجوى تتكلم
لم يبق منها غير أرسم أعظم . . . متحدثات للهوى تتظلم
أم رباح : بفتح الراء تخفيف الباء الموحدة وحاء مهملة طائر أغبر أحمر الجناحين والظهر يأكل العنب قاله في المرصع .
أبو رباح : بكسر الراء وتخفيف الباء المثناة تحت اليؤيؤ وسيأتي في آخر الكتاب .
ذو رميح : مصغر اليربوع ، ورمحه ذنبه . وقيل : هو ضرب من اليرابيع طويل الرجلين قاله ابن سيده .
الجزء الثاني(1/514)
"""""" صفحة رقم 2 """"""
الجزء الثاني
أوله : باب الزاي(2/2)
"""""" صفحة رقم 3 """"""
بسم الله الرحمن الرحيم
باب الزاي
الزاغ : من أنواع الغربان ، يقال له الزرعي وغراب الزرع ، وهو غراب أسود صغير ، وقد يكون محمر المنقار والرجلين ، ويقال له غراب الزيتون ، لأنه يأكله . وهو لطيف الشكل حسن المنظر لكن وقع في عجائب المخلوقات ، أنه الأسود الكبير وأنه يعيش أكثر من ألف سنة ، وهو وهم ، والصواب الأول .
عجيبة : رأيت في المنتقى ، من انتخاب الحافظ السلفي ، وفي آخر ورقة من عجائب المخلوقات ، عن محمد بن إسماعيل السعدي ، أنه قال : وجه إلى يحيى بن أكثم ، فتوجهت إليه ، فلما دخلت عليه ، إذا عن يمينه قمطر فأجلسني ، وأمر أن يفتح ، فإذا شيء خرج منه رأسه كرأس إنسان ، ومن أسفله إلى سرته على هيئة زاغ ، وفي صدره وظهره سلعتان ، قال : ففزعت منه ويحيى يضحك ، فقلت له : ما هذا أصلحك الله ؟ فقال لي : سل عنه منه فقلت له : ما أنت ؟ فنهض وأنشد بلسان فصيح :
أنا الزاغ أبو عجوه . . . أنا ابن الليث واللبوه
أحب الراح والريحان . . . والقهوة والنشوه
فلا عدوى يدي تخشى . . . ولا يحفر لي سطوه
ولي أشياء تستظرف . . . يوم العرس والدعوه
فمنها سلعة في الظه . . . ر لا تسترها الفروه
وأما السلعة الأخرى . . . فلو كان لها عروه
لما شك جميع النا . . . س فيها أنها ركوه
ثم صاح ومد صوته زاغ زاغ ، وانطرح في القمطر . فقلت : أعز الله القاضي وعاشق أيضاً فقال :(2/3)
"""""" صفحة رقم 4 """"""
هو مما ترى لا علم لي بأمره ، إلا أنه حمل إلى أمير المؤمنين ، مع كتاب مختوم فيه ذكر حاله ، لم أقف عليه ، انتهى . وهذا الخبر قد رواه الحافظ أبو طاهر السلفي على غير هذه الطريقة ، وهو ما أخبر به موسى الرضي قال : قال أبو الحسن علي بن محمد : دخلت على أحمد بن أبي داؤد ، وعن يمينه قمطر فقال لي : اكشف وانظر العجب ، فكشفت فخرج علي رجل طوله شبر من وسطه إلى أعلاه رجل ، ومن وسطه إلى أسفله صورة زاغ ذنبا ورجلا ، فقال لي : من أنت ؟ فانتسبت له ثم سألته عن اسمه فقال :
أنا الزاغ أبو عجوه . . . حليف الخمر والقهوه ولي أشياء لا تنكر . . . يوم القصف في الدعوه
فمنها سلعة في الظه . . . ر لا تسترها الفروه
ومنها سلعة في الصد . . . ر لو كان لها عروه
لما شك جميع النا . . . س حقا أنها ركوه
ثم قال أنشدني شيئاً في الغزل فأنشدته :
وليل في جوانبه فضول . . . من الإظلام أطلس غيهبان
كأن نجومه دمع حبيس . . . ترقرق بين أجفان الغواني
فصاح وأبي وأمي ورجع إلى القمطر وستر نفسه ، فقال ابن أبي دؤاد : وعاشق أيضاً .
قال ابن خلكان في ترجمة يحيى بن أكثم : إنه لما ولي البصرة ، كان سنه نحو عشرين سنة ، فاستصغره أهل البصرة ، وقالوا له : كم سن القاضي ؟ فعلم أنهم استصغروه ، فقال : أنا أكبر من عتاب بن أسيد الذي وجه به النبي عليه الصلاة قاضياً على مكة يوم الفتح ، ومن معاذ بن جبل الذي وجه به النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قاضياً على اليمن ، ومن كعب بن سور الذي وجه به عمر رضي الله تعالى عنه قاضياً على البصرة ، فجعل جوابه احتجاجاً . قيل : لما أراد المأمون أن يولي رجلا القضاء ، وصف له يحيى بن أكثم فاستحضره ، فرآه دميم الخلق فاستحقره ، فعلم يحيى ذلك فقال : يا أمير المؤمنين سلني إن كان القصد علمي لا خلقي . فسأله فأجابه ، فقلده القضاء . قال : ولم يعلم أحد غلب على سلطانه في زمانه إلا يحيى بن أكثم وأحمد بن أبي دؤاد المعتزلي وكان حنفياً ، ولم يكن على الإمام أحمد رحمه الله تعالى في محنته أشد منه . وسيأتي ذكر طرف من محنته في باب الكاف ، في لفظ الكلب إن شاء الله تعالى . قال : وكانت كتب يحيى في الفقه أجل كتب ، فتركها الناس لطولها ، وكان ليحيى يوم في الإسلام لم يكن لأحد مثله ، وهو أن المأمون كان في طريق الشام فأمر فنودي بتحليل المتعة ولم يستطع أحد أن يحتج عليه في تحريمها غير يحيى ، فقرر عنده تحريم المتعة ، فقال المأمون : أستغفر الله تعالى ، نادوا بتحريم نكاح المتعة .(2/4)
"""""" صفحة رقم 5 """"""
وروي أن رجلا قال ليحيى : أيها القاضي كم آكل . فقال : فوق الجوع ، ودون الشبع . قال : فكم أضحك . قال : حتى يسفر وجهك ، ولا يعلو صوتك . قال : فكم أبكي . قال : لا تمل من البكاء من خشية الله . قال : فكم أخفي عملي ؟ قال : ما استطعت . قال : فكم أظهر منه ؟ قال : ما يقتدى بك البر ، ويؤمن عليك قول الناس . فقال الرجل : سبحان الله قول وعمل ظاعن . قال : ولم يكن في يحيى ما يعاب به سوى ما كان يتهم به مما هو شائع عنه من محبة الصبيان ، وحب العلو . وكان إذا رأى فقيهاً سأله عن الحديث ، أو محدثاً سأله عن النحو ، أو نحوياً سأله عن الكلام ليخجله ويقطعه ، فدخل عليه يوماً رجل من أهل خراسان ، فناظره فرآه متفنناً حافظاً ، فقال له : نظرت في الحديث ؟ قال : نعم . قال : ما تحفظ من الأصول ؟ قال : أحفظ عن شريك عن أي إسحاق عن الحارث ، أن علياً رضي الله تعالى عنه رجم لوطياً فأمسك ولم يكلمه . وتوفي بالربذة ودفن هناك سنة اثنتين أو ثلاث وأربعين ومائتين .
ونقل أنه رؤي في المنام بعد موته ، فقيل له : ما فعل الله بك ؟ قال : غفر لي ، إلا أنه وبخني وقال لي : يا يحيى خلطت على نفسك في دار الدنيا . فقلت : يا رب اتكلت على حديث حدثني به أبو معاوية الضرير ، عن الأعمش ، عن أبي صالح ، عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) : " إنك قلت إني لأستحيي أن أعذب ذا شيبة مسلماً بالنار " . فقال : قد عفوت عنك يا يحيى ، وصدق نبيي إلا أنك خلطت على نفسك في دار الدنيا .
الذمامة بالذال المعجمة رداءة الخلق بضم اللام وبالدال المهملة رداءة الخلق بإسكان اللام ، وأكثم بالثاء المثلثة ، والربذة بفتح الراء والباء الموحدة والذال المعجمة ، قرية من قرى المدينة ، على طريق الحاج ، وهي التي نفى عثمان بن عفان أبا ذر الغفاري رضي الله تعالى عنهما إليها ، فأقام بها حتى مات ، وقبره ظاهر هناك يزار كما تقدم .
الحكم : يحل أكل الزاغ ، وهو الأصح عند الرافعي ، وبه قال الحكم وحماد ومحمد بن الحسن ، وروى البيهقي في شعبه قال : سألت الحكم عن أكل الغربان قال : أما السود الكبار فكره أكلها ، وأما الصغار التي يقال لها الزاغ فلا بأس بها . والأمثال تأتي إن شاء الله تعالى ، في باب الغين المعجمة ، في لفظ الغراب . الخواص : لسان الزاغ يجفف ويأكله العطشان يذهب عطشه ، ولو في وسط تموز ، وكذلك قلبه إذا جفف وسحق وشربه إنسان لا يعطش في سفره ، فإن هذا الطائر لا يشرب ماء في تموز ، ومرارته تخلط بمرارة الديك ويكتحل بها تذهب ظلمة العين وتسود الشعر إذا طلي بها سواداً عجيباً وحوصلته تمنع نزولي الماء عند مباديه .
التعبير : الزاغ الذي في منقاره حمرة تدل رؤيته على رجل في سطوة ولهو وطرب . وقال ارطامدورس : الزاغ في المنام يدل على ناس يحبون المشاركة ، وربما دل على أناس فقراء ، وقيل : إنه يدل على الولد من الزنا والرجل الممزوج بالخير والشر والله أعلم .
الزاقي : الديك والجمع الزواقي ، يقال : زقا يزقو إذا صاح ، وكل صائح زاق . وفي حديث(2/5)
"""""" صفحة رقم 6 """"""
هشام بن عروة أنت أثقل من الزواقي يريد أنها إذا زقت سحراً تفرق السمار والأحباب . والزقو والزقي مصدر وقد زقا الصدى يزقو ويزقى زقا أي صاح وكل زاق صائح ، قاله الجوهري وقد تقدم في البومة قول توبة بن الحمير صاحب ليلى الأخيلية :
ولو أن ليلى الأخيلية سلمت . . . علي ودوني جندل وصفائح
لسلمت تسليم البشاشة أو زقا . . . إليها صدى من جانب القبر صائح
وسيأتي إن شاء الله تعالى ، في باب الصاد المهملة ، في لفظ الصدى .
الزامور : قال التوحيدي : إنه حوت صغير الجسم ألوف لأصوات الناس ، يستأنس باستماعها ، ولذلك يصحب السفن متلذذاً بأصوات أهلها ، وإذا رأى الحوت الأعظم ، يريد الاحتكاك بها وكسرها ، وثب الزامور ودخل أذنه ، ولا يزال يزمر فيه حتى يفر الحوت إلى الساحل يطلب جرفاً أو صخرة . فإذا أصاب ذلك فلا يزال يضرب به رأسه حتى يموت . وركاب السفن يحبونه ويطعمونه ويتفقدونه ليدوم ألفه لهم وصحبته لسفنهم ليسلموا من ضرر السمك العادي وإذا ألقوا شباك الصيد ، فوقع الزامور أطلقوه لكرامته .
الزبابة : بفتح الزاي والباءين الموحدتين ، بينهما ألف : الفأرة البرية تسرق ما تحتاج إليه وما تستغني عنه . وقيل : هي فأرة عمياء صماء ، وجمعها زباب ويشبه بها الرجل الجاهل قال الحارث بن كلدة :
ولقد رأيت معاشراً . . . جمعوا مالاً وولدا
وهم زباب حائر . . . لا تسمع الآذان رعدا
أي لا يسمعون شيئاً يعني موتى . وصف الزباب بالتحير ، والتحير إنما يحصل للأعمى وأراد بذلك أن الأرزاق لم تقسم على قدر العقول ، والولد بضم الواو وللواحد والجمع وقوله لا تسمع الآذان رعداً أي لا . تسمع آذانهم ، فاكتفى بالألف واللام عن الإضافة كقوله تعالى : " فإن الجنة هي المأوى " وبين أن آذانهم لشدة صممهم لا يسمعون بها الرعد . قال الإمام الثعالبي ، في فقه اللغة ، يقال : في آذانه وقر ، فإن زاد فهو صمم ، فإن زاد فهو طرش ، فإن زاد حتى لا يسمع الرعد ، فهو صلخ بالصاد المهملة والخاء المعجمة في آخره . انتهى . واختصت هذه الفأرة بالصمم ، كما اختص الخلد بالعمى وسيأتي إن شاء الله تعالى ذكر حكمها ، في باب الفاء ، في لفظ الفأر .(2/6)
"""""" صفحة رقم 7 """"""
الأمثال : قالوا : أسرق من زبابة لأنها تسرق ما تحتاج إليه وما تستغني عنه .
الزبزب : دابة كالسنور ، قاله في العباب . وفي كامل ابن الأثير ، في حوادث سنة أربع وثلاثمائة ، قال : وفيها خافت العامة ببغداد من حيوان كانوا يسمونه الزبزب ، ويقولون إنهم يرونه في الليل على أسطحتهم وأنه يأكل أطفالهم وربما عض يد الرجل أو يد المرأة فيقطعها ، وكان الناس يتحارسون منه ويتراعون ويضربون بالطسوت والصواني وغيرها ليفزعوه ، وارتجت بغداد لذلك . ثم إن أصحاب السلطان صادوا حيواناً في الليل أبلق بسواد ، قصير اليدين والرجلين ، فقالوا : هذا هو الزبزب ، وصلبوه على الجسر فسكن الناس انتهى .
الزخارف : جمع زخرف وهو ذباب صغار ذات قوائم أربع يطير على الماء قال أوس بن حجر :
تذكر عيناً من عمان وماؤها . . . له حدب تستن فيه الزخارف
الزرزور : بضم الزاي طائر من نوع العصفور سمي بذلك لزرزرته أي تصويته قال الجاحظ : كل طائر قصير الجناح كالزرازير والعصافير ، إذا قطعت رجلاه لم يقدر على الطيران ، كما إذا قطعت رجل الإنسان ، فإنه لا يقدر على العدو . وسيأتي حكمه إن شاء الله تعالى ، في باب العين المهملة ، في العصفور . فائدة : روى الطبراني وابن أبي شيبة ، عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله تعالى عنهما ، أنه قال : أرواح المؤمنين في أجواف طيور خضر ، كالزرازير يتعارفون ويرزقون من ثمر الجنة ، وما أحسن قول شيخنا الشيخ برهان الدين القيراطي رحمة الله تعالى عليه :
قد قلت لما مر بي معرضاً . . . وكفه يحمل زرزورا
يا ذا الذي عذبني مطله . . . إن لم يزر حقاً فزرزورا
وفي مناقب الإمام الشافعي رضي الله تعالى عنه ، لعبد المحسن بن عثمان بن غانم ، قال الشافعي : من عجائب الدنيا ، طلسم على صفة الزرزور من نحاس في رومية ، يصفر في يوم واحد من السنة فلا يبقى طائر من جنسه إلا أتى رومية وفي منقاره زيتونة ، فإذا اجتمع ذلك عصر ، وكان منه زيتهم في ذلك العام . وسيأتي ذلك إن شاء الله تعالى في السودانية ، في باب السين المهملة .(2/7)
"""""" صفحة رقم 8 """"""
وحكمه : الحل لأنه من أنواع العصافير .
ومن خواصه : أن لحمه يزيد في الباه ، ودمه إذا وضع على الدماميل نفعها وإذا ذر رماد الزرزور على الجرح فإنه يختم بإذن الله تعالى .
التعبير : الزرزور دال على التردد في الأسفار ، في البر والبحر ، وربما دل على رجل مسافر يسافر كثيراً كالمكاري الذي لا يلبث في مكان ، ونحوه وطعامه حلال لأنه حرم على نفسه الطعام والشراب لما أهبط الله آدم عليه السلام من الجنة ، فلم يتناول شيئاً من ذلك حتى تاب الله تعالى عليه . وربما دل على التخليط في الأعمال الصالحة أو السيئة ، أو على رجل ليس بغني ولا فقير ، ولا شريف ولا وضيع ، وربما دل على المهانة والقناعة ، بأدنى العيش واللعب وربما كان كاتباً والله أعلم .
الزرق : طائر يصاد به ، بين البازي والباشق ، قاله ابن سيده . وقال الفراء : هو البازي الأبيض . والجمع الزراريق وهو صنف من البازي لطيف ، إلا أنه أحر وأيبس مزاجاً ، ولذلك هو أشد جناحاً وأسرع طيراناً وأقوى إقداماً ، وفيه ختل وخبث ، وخير ألوانه الأسود الظهر ، الأبيض الصدر ، الأحمر العين ، قال الحسن بن هانئ في طريدته يصفه :
قد اغتدي بسفرة معلقه . . . فيها الذي يريده من مرفقه
مبكرا بزرق أو زرقه . . . وصفته بصفة مصدقه
كأن عينه لحسن الحدقه . . . نرجسة نابتة في ورقه
ذو منسر مختضب بعلقه . . . كم وزة صدنا به ولقلقه
سلاحه في لحمها مفرقه
الحكم : تحريم الأكل كما تقدم في البازي .
الزرافة : كنيتها ، وهي بفتح الزاعي المخففة وضمها ، وهي حسنة الخلق ، طويلة اليدين ، قصيرة الرجلين ، مجموع يديها ورجليها نحو عشرة أذرع ، ورأسها كرأس الإبل ، وقرنها كقرن البقرة ، وجلدها كجلد النمر ، وقوائمها وأظلافها كالبقر ، وذنبها كذنب الظبي ، ليس لها ركب في رجليها ، وإنما ركبتاها في يديها ، وهي إذا مشت ، قدمت الرجل اليسرى واليد اليمنى ، بخلاف ذوات الأربع كلها فإنها تقدم اليد اليمنى والرجل اليسرى ، ومن طبعها التودد والتأنس ، وتجتر وتبعر ولما علم الله تعالى أن قوتها من الشجر ، جعل يديها أطول من رجليها لتستعين بذلك على الرعي منها بسهولة . قاله القزويني في عجائب المخلوقات . وفي تاريخ ابن خلكان ، في ترجمة محمد بن عبد الله العتبي البصري الإخباري الشاعر المشهور أنه كان يقول : الزرافة بفتح الزاي وضمها الحيوان المعروف وهي متولدة بين ثلاث حيوانات ، بين الناقة الوحشية والبقرة الوحشية والضبعان وهو الذكر من الضباع ، فيقع الضبعان على الناقة فتأتي بولد بين الناقة(2/8)
"""""" صفحة رقم 9 """"""
والضبع ، فإن كان الولد ذكراً ، وقع على البقرة فتأتي بالزرافة ، وذلك في بلاد الحبشة ، ولذلك قيل لها الزرافة ، وهي في الأصل الجماعة ، فلما تولدت من جماعة ، قيل لها ذلك . والعجم تسميها اشتركا ، ويلنك لأن اشتر الجمل وكاو البقرة ويلنك الضبع .
وقال قوم : إنها متولدة من حيوانات مختلفة ، وسبب ذلك اجتماع الدواب والوحوش في القيظ ، عند المياه ، فتتسافد فيلقح منها ما يلقح ، ويمتنع منها ما يمتنع ، وربما سفد الأنثى من الحيوان ذكور كثيرة ، فتختلط مياهها فيأتي منها خلق مختلف الصور والألوان والأشكال . والجاحظ لا يرضى هذا القول ، ويقول : إنه جهل شديد ، لا يصدر إلا ممن لا تحصيل لديه ، لأن الله تعالى يخلق ما يشاء ، وهو نوع من الحيوان قائم بنفسه ، كقيام الخيل والحمير ، ومما يحقق ذلك أنه يلد مثله وقد شوهد ذلك وتحقق . وفي حكمها وجهان : أحدهما التحريم ، وبه جزم صاحب التنبيه وفي شرح المهذب للنووي أنها محرمة بلا خلاف ، وأن بعضهم عدها من المتولد بين المأكول وغيره وقال بتحريمها القاضي أبو الخطاب من الحنابلة ، والثاني الحل ، وبه أفتى الشيخ تقي الدين بن أبي الدم الحموي ، ونقله عن فتاوي القاضي حسين وذكر أبو الخطاب ما يوافق الحل فإنه حكى في فروعه قولين في أن الكركي والبط والزرافة ، هل تفدى بشاة أو تفدى بالقيمة ؟ والفداء لا يكون إلا للمأكول . قال ابن الرفعة : وهو المعتبر ، كما أفتى به البغوي قال : ومنهم من أول لفظها وقال : ليست الزرافة بالفاء بل بالقاف . قال الشيخ تقي الدين السبكي : هذا التعليل ليس بشيء لأنه لا يعرف . واختار في الحلبيات حلها كما أفتى به ابن أبي الدم ، ونقله عن القاضي حسين وتتمة التتمة قال : وما ادعاه النووي ممنوع وما ادعاه أبو الخطاب الحنبلي يجوز حمله على جنس يتقوى بنابه ، وأما هذا الذي شاهدناه فلا وجه للتحريم فيه . وما برحت أسمع هذا بمصر وقال ابن أبي الدم ، في شرح التنبيه : وما ذكره الشيخ في التنبيه غير مذكور في كتب المذهب .
وقد ذكر القاضي حسين أنها تحل ثم قال : قلت هذا مع أنها أقرب شبها بما يحل ، وهو الإبل والبقر ، وذلك يمل على حلها ويمكن أن يقال : إنما ذكر الشيخ ذلك اعتماداً على ما ذكر أهل اللغة أنها من السباع ، وتسميتهم لها بذلك تقتضي عدم الحل ، وإذا كان كذلك فقد ذكر صاحب كتاب العين أن الزرافة بفتح الزاي وضمها من السباع ويقال لها بالفارسية اشتركا ويلنك . وقد ذكر في موضع آخر أن الزرافة متولدة بين الناقة الوحشية والضبع ، فيجيء الولد في خلقة الناقة والضبع ، فإن كان الولد ذكراً عرض للأنثى من بقر الوحش فيلحقها ، فتأتي بالزرافة . وسميت بذلك لأنها جمل وناقة ، ولما كان كذلك وسمع الشيخ أنها من السباع اعتقد أنها من السباع حقيقة ولم يكن رآها فاستحل بذلك على تحريم أكلها انتهى . وقد تقدم أن الجاحظ لم يرتض هذا القول ، وقال إن هذا القول جهل بين ، وإن الزرافة نوع من الحيوان قائم بنفسه كقيام الخيل والحمير .(2/9)
"""""" صفحة رقم 10 """"""
قلت : وهذا الذي قاله الجاحظ معارض لما نقله ابن أبي الدم عن صاحب كتاب العين ، من كونها متولدة بين مأكولين ، وما تمسك به ابن أبي الدم من الشبه بالإبل والبقر شبه بعيد ، لما يشاهد من طول يحيها وقصر رجليها ، ولو كان الشبه البعيد كافياً لحل أكل الصرارة لشبهها بالجرادة ولجاز أكله ، لأن خفه يشبه خف الجمل . وقد ذكر في شرح المهذب ، أن بعضهم عد الزرافة من المتولد بين مأكول وغير مأكول ، واستدل به على تحريمها وكلام الجاحظ ينفي هذا ، ويقتضي الحل وهو المختار في الفتاوى الحلبيات كما سبق ، وهو مذهب الإمام أحمد ومقتضى مذهب مالك ، وقواعد الحنفية تقتضيه وإذا تعارضت الأقواد ، وتساقط اعتبار مدلولها ، رجعنا إلى الإباحة الأصلية ، والتحقت هذه بما لا نص فيه بالتحريم والتحليل . وسيأتي إن شاء الله تعالى ، ذكرما لا نص فيه بالتحريم والتحليل في باب الواو في الورل .
ومن خواصها : أن لحمها غليظ سوداوي رديء الكيموس .
التعبير : الزرافة في المنام تدل على الأفة في المال ، وربما دلت على المرأة الجليلة أو الجميلة أو الوقوف على الأخبار الغريبة من الجهة المقبلة منها ، ولا خير فيها إن دخلت البلد من غير فائدة ، فإنها تدل على الآفة في المال ، وما تأنس من ذلك كان صديقاً أو زوجاً أو ولداً لا تؤمن غائلته . وربما تعبر بالمرأة التي لا تثبت مع الزوج ، لأنها خالفت المركوبات في ظهورها ، والله أعلم .
الزرياب : قال في كتاب منطق الطير : إنه أبو زريق . قال : وحكي أن رجلا خرج من بغداد ، ومعه أربعمائة درهم لا يملك غيرها ، فوجد في طريقه أفراخ زرياب فاشتراها بالمبلغ الذي كان معه ، ثم رجع إلى بغداد ، فلما أصبح فتح دكانه وعلق الأفراخ عليها ، فهبت ريح باردة فماتت كلها إلا فرخاً واحداً ، وكان أضعفها وأصغرها ، فأيقن الرجل بالفقر ولم يزل يبتهل إلى الله تعالى بالدعاء ليله كله ويقول : يا غياث المستغيثين أغثني فلما أصبح زال البرد ، وجعل ذلك الفرخ ينفش ريشه ويصيح بصوت فصيح ، يا غياث المستغيثين أغثني فاجتمع الناس عليه يستمعون صوته فاجتازت به أمة لأمير المؤمنين فاشترته بألف درهم انتهى . فانظر كيف فعل الصدق مع الله تعالى ، والإقبال بكنه الهمة في التضرع بين يديه وحضور القلب وعدم الالتفات إلى غيره من الغنى من الجهة الميؤوس منها فما ظنك بمن ترك الأسباب والوسايط ، وأقبل على الله تعالى إقبالا لا يشغله عنه شاغل ، ولا يحجبه حاجب ، لأن حجابه نفسه وقد فني عنها فهناك لذ الخطاب وطاب الشراب ، فسبحان من يختص برحمته من يشاء ، وهو العزيز الوهاب .
الزغبة : دويبة تشبه الفأرة ، قاله ابن سيده قال : وقد سمت العرب زغبة ، وأشار بذلك إلى عيسى بن حماد البصري زغبة روى عن رشد بن سعد وعبد الله بن وهب والليث بن سعد وروى عنه مسلم وأبو داود والنسائي وابن ماجه ومات سنة ثمان وأربعين ومائتين .
الزغلول : بضم الزاي فرخ الحمام ما دام يزق يقال : أزغل الطائر فرخه إذا زقه والزغلول(2/10)
"""""" صفحة رقم 11 """"""
أيضاً اللاهج بالرضاع من الغنم والإبل والزغلول أيضاً الخفيف من الرجال .
الزغيم : طائر وقيل بالراء غير المعجمة ، قاله ابن سيده .
الزقة : طائر من طير الماء يمكث حتى يكاد يقبض عليه ثم يغوص في الماء فيخرج بعيداً قاله ابن سيده .
الزلال : بضم الزاي دود يتربى في الثلج ، وهو منقط بصفرة يقرب من الإصبع ، يأخذه الناس من أماكنه ليشربوا ما في جوفه لشدة برده ، ولذلك يشبه الناس الماء البارد بالزلال ، لكن في الصحاح ماء زلال أي عذب . وقال أبو الفرج العجلي ، في شرح الوجيز : الماء الذي في دود الثلج طهور ، والذي قاله يوافق قول القاضي حسين فيما تقدم في الدود . والمشهور على الألسنة أن الزلال هو الماء البارد قال سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل أحد العشرة المشهود لهم بالجنة الذي قال فيه النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أنه يبعث أمة وحده :
وأسلمت وجهي لمن أسلمت . . . له المزن تحمل عذباً زلالاً
وما أحسن قول أبي فراس بن حمدان واسمه الحارث :
قد كنت عدتي التي أسطو بها . . . ويدي إذا خان الزمان وساعدي
فرميت منك بضد ما أملته . . . والمرء يشرق بالزلال البارد
وقال الآخر :
ومن يك ذا فم مر مريض . . . يجد مراً به الماء الزلالا
وما أحسن قول وجيه الدولة أبي المطاع بن حمدان ويلقب بذي القرنين وكان شاعراً مجيداً ووفاته في سنة ثمان وعشرين وأربعمائة :
قالت لطيف خيال زارني ومضى . . . بالله صفه ولا تنقص ولا تزد
فقال : أبصرته لو ما من ظمأ . . . وقلت : قف عن ورود الماء لم يرد
قالت : صدقت الوفا في الحب عادته . . . يا برد ذاك الذي قالت على كبدي
ومن محاسن شعره :
ترى الثياب من الكتان يلمحها . . . نور من البدر أحياناً فيبليها
فكيف تنكر أن تبلى معاصرها . . . والبحر في كل وقت طالع فيها(2/11)
"""""" صفحة رقم 12 """"""
وقال آخر :
لا تعجبوا من بلا غلائله . . . قد زر أزراره على القمرا
وهذا وما قبله يستشهد بهما على أن نور القمر يبلى ثياب الكتان كما قاله حذاق الحكماء ، لا سيما إذا طرحت الثياب في الماء عند اجتماع النيرين الشمس والقمر ، فإنها تبلى سريعاً في غير وقتها واجتماعهما من الخامس والعشرين إلى الثلاثين . ومن هنا يقال : ثوب حام إذا تفصد سريعاً وسببه ما ذكرناه ، وقد أشار إلى ذلك الرئيس ابن سينا في أرجوزته بقوله :
لا تغسلن ثيابك الكتانا . . . ولا تصد فيها كذا الحيتانا
عند اجتماع النيرين تبلى . . . وذا صحيح فاتخذه أصلا
فينبغي الاحتراس على ثياب الكتان من نور القمر ومن غسلها عند اجتماع النيرين كما ذكرناه . الحكم : قال أبو الفرج العجلي ، في شرح الوجيز : الماء الذي في دود الثلج طهور ، والذي قاله يوافق قول القاضي حسين فيما تقدم في الدود والمشهور على الألسنة أن الزلال الماء البارد كما تقدم عن الجوهري وغيره .
الزماج : كرمان طائر كان يقف بالمدينة في الجاهلية على أطم ويقول شيئاً لا يفهم وقيل : كان يسقط في مربد ، لبعض أهل المدينة ، فيأكل ثمره فيرمونه فيقتلونه ، ولم يأكل أحد من لحمه إلا مات . قال الشاعر :
أعلى العهد أصبحت أم عمرو . . . ليت شعري أم غالها الزماج
قاله ابن سيده وغيره الزمج : مثال الخرد طائر معروف يصيد به الملوك الطير وأهل البزدرة يعدونه من خفاف الجوارح ، وذلك معروف في عينه وحركته وشدة وثبه ، ويصفونه بالغدر وقلة الوفاء والألفة لكثافة طبعه ، وهو يقبل التعليم لكن بعد بطء . ومن عادته أنه يصيد على وجه الأرض ، والمحمود من خلقه أن يكون لونه أحمر وهو أحد نوعي العقاب . وسيأتي في بابه إن شاء الله تعالى . قال الجواليقي : الزمج جنس من الطير يصاد به وقال أبو حاتم : إنه ذكر العقاب والجمع الزمامج . وقال الليث : الزمج طائر دون العقاب حمرته غالبة تسميه العجم دو برادران وترجمته أنه إذا عجز عن صيده أعانه أخوه على أخذه وحكمه : تحريم الأكل كسائر الجوارح .
الخواص : إدمان أكل لحم الزمج ينفع من خفقان القلب ، ومرارته إذا جعلت في الأكحال(2/12)
"""""" صفحة رقم 13 """"""
نفعت من الغشاوة ، وظلمة البصر نفعاً بليغاً ، وزبله يزيل الكلف والنمش طلاء .
زمج الماء : وهو الطائر الذي يسمى بمصر النورس وهو أبيض في حد الحمام أو أكبر ، يعلو في الجوثم يزج نفسه في الماء ويختلس منه السمك ولا يقع على الجيف ولا يأكل غير السمك . وحكمه : حل الأكل ، لكن حكى الروياني عن الصيمري أن طير الماء الأبيض حرام ، لخبث لحمه . قال الرافعي : والأصح أن جميع طير الماء حلال إلا اللقلق وسيأتي ذكره إن شاء الله تعالى في باب اللام .
الزنبور : الدبر وهي تؤنث والزنابير لغة فيها وربما سميت النحلة زنبوراً ، والجمع الزنابير . قال ابن خالويه ، في كتاب ليس : ليس أحد سمعته يذكر كنية الزنبور إلا أبا عمر والزاهد فإنه قال : كنيته أبو علي وهو صنفان جبلي وسهلي : فالجبلي يأوي الجبال ويعشش في الشجر ولونه إلى السواد وبدء خلقه دود ، ثم يصير كذلك ، ويتخذ بيوتاً من تراب كبيوت النحل ، ويجعل لبيته أربعة أبواب لمهاب الرياح الأربع ، وله حمة يلسع بها ، وغذاؤه من الثمار والأزهار . ويتميز ذكورها منه إناثها بكبر الجثة . والسهلي لونه أحمر ويتخذ عشه تحت الأرض ، ويخرج منه التراب كما يفعل النمل ويختفي في الشتاء لأنه متى ظهر فيه هلك ، فهو ينام من البرد طول الشتاء كالميتة ولا يدخر القوت للشتاء بخلاف النمل ، فإذا جاء الربيع وقد صارت الزنابير من البرد وعدم القوت كالخشب اليابس ، نفخ الله تعالى في تلك الجثث الحياة فتعيش مثل العام الأول ، وذلك دأبها . ومن هذا النوع صنف مختلف اللون مستطيل الجسد ، في طبعه الحرص والشره ، يطلب المطابخ ويأكل ما فيها من اللحوم ، ويطير منفرداً ويسكن بطن الأرض والجدران ، وهذا الحيوان بأسره مقسوم من وسطه ولذلك لا يتنفس من جوفه البتة ومتى غمس في الدهن سكنت حركته ، وإنما ذلك لضيق منافذه ، فإذا طرح في الخل عاش وطار . قال الزمخشري في تفسير سورة الأعراف : قد يجعل المتوقع الذي لابد منه بمنزلة الواقع . ومنه ما روي أن عبد الرحمن بن حسان بن ثابت الأنصاري دخل على أبيه وهو يبكي ، وهو إذ ذاك طفل ، فقال له : ما يبكيك ؟ فقال : لسعني طائر كأنه ملتف في بردي حبرة فقال حسان : يا بني قلت الشعر ورب الكعبة أي ستقوله . فجعل المتوقع كالواقع . وما أحسن قول الأول :
وللزنبور والبازي جميعاً . . . لدى الطيران أجنحة وخفق
ولكن بين ما يصطاد باز . . . وما يصطاده الزنبور فرق
وقد أجاد الشيخ زهير الدين بن عسكر قاضي السلامية بقوله :
في زخرف القول تزيين لباطله . . . والحق قد يعتريه سوء تغيير(2/13)
"""""" صفحة رقم 14 """"""
تقول هذا مجاج النحل تمدحه . . . وإن ذممت فقل قيء الزنابير
مدحاً وذماً وما غيرت من صفة . . . سحر البيان يرى الظلماء كالنور
وقال شرف الدولة بن منقذ ملغزاً في الزنبور والنحل :
ومغردين ترنما في مجلس . . . فنفاهما لأذاهما الأقوام
هذا يجود بما يجود بعكسه . . . هذا فيحمد ذا وذاك يلام روى ابن أبي الدنيا ، عن أبي المختار التيمي ، قال : حدثني رجل قال : خرجنا في سفر ومعنا رجل يشتم أبا بكر وعمر رضي الله عنهما فنهيناه فلم ينته ، فخرج يوماً لبعض حاجاته فاجتمع عليه الزنابير فاستغاث فأغثناه فحملت علينا فتركناه فما أقلعت عنه حتى قطعته قطعاً . وكذلك رواه ابن سبع في شفاء الصدور ، وزاد : فحفرنا له قبراً فتصلبت الأرض فلم نقدر على حفرها فألقيناه على وجه الأرض ، وألقينا عليه من ورق الشجرة والحجارة ، وجلس رجل من أصحابنا يبول فوقع على ذكره زنبور من تلك الزنابير فلم يضره . فعلمنا أن تلك الزنابير كانت مأمورة . قال يحيى بن معين : كان يعلى بن منصور الرازي من كبار علماء بغداد ، روى عن مالك والليث وغيرهما قال : فبينما هو يصلي يوماً إذ وقع عليه كور الزنابير ، فما التفت ولا تحرك حتى أتم صلاته ، فنظروا فإذا رأسه قد صارت هكذا من شدة الانتفاخ .
الحكم : يحرم أكله لاستخباثه ، ويستحب قتله لما روى ابن عدي في ترجمة مسلمة بن علي عن أنس رضي الله تعالى عنه أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال : " من قتل زنبوراً اكتسب ثلاث حسنات " ، لكن يكره إحراق بيوتها بالنار قاله الخطابي في معالم السنن . وسئل الامام أحمد عن تدخين بيوت الزنابير فقال : إذا خشي أذاها فلا بأس به وهو أحب إلي من تحريقها . ولا يصح بيعها لأنها من الحشرات .
الخواص : إذا طرح الزنبور في الزيت مات ، فإن طرح في الخل عاش كما تقدم . وفراخ الزنابير تؤخذ من أوكارها وتغلى في الزيت ، ويطرح عليها سذاب وكراويا ، وتؤكل تزيد في الباه وشهوة الجماع . وقال عبد الملك بن زهر : عصارة الملوخيا إذا طليت على لسعة الزنبور أبرأتها . التعبير : الزنبور في المنام عدو محارب ، وربما دل على البناء والنقاب والمهندس وعلى قاطع الطريق وذي الكسب الحرام وعلى المطرب الخارج الضرب ، وربما دلت رؤيته على أكل السموم أو شربها . وقيل : تدل رؤيته على رجل مخاصم مهيب ثابت في القتال ، سفيه خبيث المأكل . والزنابير إذا دخلت مكاناً فإنها جنود لهم هيبة وسرعة وشجاعة ، يحاربون الناس جهاراً . وقيل : الزنبور رجل مجادل بالباطل وهو من الممسوخ وقالت اليهود : الزنبور والغراب يدل على المقامرين وسفاكي(2/14)
"""""" صفحة رقم 15 """"""
الدماء ، وقيل الزنابير في المنام قوم لا رحمة لهم والله أعلم .
الزندبيل : الفيل الكبير أنشد يحيى بن معين :
وجاءت قريش البطاح . . . إلينا هم الدول الجاليه
يقودهم الفيل والزندبيل . . . وذو الضرس والشفة العاليه
الزندبيل كبير الفيلة وقال يحيى : أراد بالفيل والزندبيل عبد الملك وأبان ابني بشر بن مروان قتلاً مع ابن هبيرة الأصغر وأراد بذي الفرس والشفة العالية خالد بن مسلمة المخزومي المعروف بالفأفاء الكوفي ، روى له مسلم والأربعة وروى عن الشعبي وطبقته ، وروى عنه شعبة بن الحجاج والسفيانان وكان مرجئاً يبغض علياً رضي الله تعالى عنه ، أخذ مع ابن هبيرة فقطع أبو جعفر المنصور لسانه ثم قتله .
الزهدم : زاي مفتوحة ثم هاء ساكنة ثم دال مهمة مفتوحة الصقر ويقال فرخ البازي وبه سمي زهدم بن مضرب الجرمي ، روى له البخاري ومسلم والترمذي والنسائي . والزهدمان أخوان من بني عبس زهدم وكردم وفيهما يقول قيس بن زهير :
جزاني الزهدمان جزاء سوء . . . وكنت المرء يجزى بالكرامة
أبو زريق : القيق الآتي ذكره في باب القاف إن شاء الله تعالى . والزرياب المتقدم قبل بورقة ، وهو ألوف للناس يقبل التعليم سريع الإدراك لما يعلم ، وربما زاد على الببغاء وذلك أنه أنجب وإذا تعلم جاء بالحروف مبينة حتى لا يشك سامعه أنه إنسان وقد تقدم ذكره في الزرياب . وحكمه : حل الأكل لعدم استخباثه لكن قيل إنه متولد من الشقراق والغراب ، فعلى هذا يتخرج فيه وجه بالتحريم ولم يذكروه .
أبو زيدان : ضرب من الطير .
أبو زياد : الحمار . قال الشاعر :
زياد لست أدري من أبوه . . . ولكن الحمار أبو زياد
وأبو زياد أيضاً الذكر قال الشاعر :
تحاول أن تقيم أبا زياد . . . ودون قيامه شيب الغراب
وهو الزهدباج أيضاً قاله في المرصع .
باب السين المهملة
.
سابوط : دابة من دواب البحر قاله ابن سيده وغيره .(2/15)
"""""" صفحة رقم 16 """"""
ساق حر : هو بالسين المهملة وبالقاف بينهما ألف وحر بالحاء والراء المهملتين الورشان وهو ذكر القمارى لا يختلفون في ذلك قال الكميت :
تغريد ساق على ساق يجاوبها . . . من الهواتف ذات الطوق والعطل
عنى بالأول الورشان ، وبالثاني ساق الشجرة وقال حميد بن ثور الهلالي :
وما هاج هذا الشوق إلا حمامة . . . دعت ساق حر نزهة وترنما
مطوقة غراء تسجع كلما . . . دنا الصيف وانحال الربيع فأنجما
محلاة طوق لم تكن من تميمة . . . ولا ضرب صواغ بكفيه درهما
تغنت على غصن عشاء فلم تدع . . . لنائحة من نوحها متألما
إذا حركته الريح أو مال ميلة . . . تغنت عليه مائلاً ومقوما
عجبت لها أنى يكون غناؤها . . . فصيحاً ولم تثغر بمنطقها فما
فلم أر مثلي شاقه صوت مثلها . . . ولا عربياً هاجه صوت أعجما
قال ابن سيده : إنما سمي ذكر القمارى ساق حر لحكاية صوته ، فإنه يقول : ساق حر ساق حر ، ولذلك لم يعرب ولو أعرب لصرف ، فيقال ساق حران كان مضافاً وساق حران كان مركباً فتصرفه لأنه نكرة ، فترك إعرابه دليل على أنه حكى الصوت بعينه وهو صياحه ، وقد يضاف أوله إلى آخره ، وذلك كقولهم خاز باز لأنه في اللفظ أشبه بباب دار انتهى . والنزهة الشوق ، والترنم الغناء وهما مصدران واقعان موقع الحال من الضمير الفاعل في دعت ساق حر الواقع في موضع الصفة لحمامة وسيأتي في باب القاف إن شاء الله تعالى في القمري .
السالخ : الأسود من الحيات وقد تقدم ذكره في الأفعى في باب الهمزة .
سام أبرص : بتشديد الميم قال أهل اللغة : وهو من كبار الوزغ وهو معرفة إلا أنه تعريف جنس وهما اسمان جعلا واحداً ، ويجوز فيه وجهان أحدهما أن تبنيهما على الفتح كخمسة عشر ، والثاني أن تعرب الأول وتضيفه إلى الثاني مفتوحاً ، لكونه لا ينصرف ولا ينثني ولا يجمع على هذا اللفظ ، بل تقول في التثنية : هذان ساما أبرص وفي الجمع هؤلاء سوام أبرص ، وإن شئت قلت : هؤلاء السوام ولا تذكر أبرص . وإن شئت قلت : هؤلاء البرصة والأبارص ، ولا تذكر سام قال الشاعر :
والله لو كنت لهذا خالصاً . . . ما كنت عبداً آكل الأبارصا(2/16)
"""""" صفحة رقم 17 """"""
ولك على الثاني أن تقول : أبرصان وأبارص كما صنع الشاعر ، فإنه جمع على الثاني إنما سمي هذا النوع بسام أبرص لأنه سم أي جعل الله فيه السم ، وجعله أبرص . وسيأتي في باب الواو إن شاء الله تعالى ، في ذكر الوزغ . ومن شأن هذا الحيوان ، أنه إذا تمكن من الملح ، تمرغ فيه فيصير مادة لتولد البرص .
وحكمه : تحريم الأكل لاستقذاره وللأمر بقتله ، وعدم جواز بيعه كسائر الحيوانات التي لا منفعة لها والله أعلم .
الخواص : دمه إذا طلي به داء الثعلب أنبت الشعر ، وكبده يسكن وجع الضرس ، ولحمه يوضع على لسعة العقرب ينفعها ، وجلده يوضع موضع الفتق يذهبه ، وهو لا يدخل بيتاً فيه رائحة الزعفران .
التعبير : سام أبرص والعظاية في التأويل : فاسقان يمشيان بالنميمة . وقال أرطاميدورس : سام أبرص يدل على فقر وهم والله أعلم .
السانح : وما والاك ميامنه من ظبي أو طائر أو غيرهما تقول سنح الظبي لي سنوحاً إذا مر من مياسرك إلى ميامنك . والعرب تتيمن بالسانح وتتشاءم بالبارح . وفي المثل : من لي بالسانح بعد البارح ، قال أبو عبيدة : سأل يونس رؤية عن السانح والبارح ، فقال : السانح ما والاك ميامنة ، والبارح ما والاك مياسرة ، وكان ذلك يصد الناس عن مقاصدهم فنفاه النبي ( صلى الله عليه وسلم ) بالنهي عن الطيرة وأخبر أنه لا تأثير له في جلب نفع ولا دفع ضر قال لبيد :
لعمرك ما تدري الطوارق بالحصا . . . ولا زاجرات الطير ما الله صانع
والطيرة سيأتي الكلام عليها إن شاء الله تعالى ، في الطير واللقحة ، في بابي الطاء المهملة واللام . السبد : بضم السين وفتح الباء طائر لين الريش ، إذا قطرت عليه قطرة من ماء جرت عليه من لينه وجمعه سبدان قال الراجز :
أكل يوم عرشها مقيلي . . . حتى ترى المئزرذا الفضول
مثل جناح السبد الغسيل
والعرب تشبه الفرس به إذا عرق قال طفيل العامري :
كأنه سبد بالماء مغسول
ولم أر لأصحابنا في حكمه كلاماً . السبع : بضم الباء وإسكانها الحيوان المفترس والجمع أسبع وسباع وأرض مسبعة أي كثيرة السباع قرأ الحسن وابن حيوة وما أكل السبع بإسكان الباء ، وهي لغة لأهل نجد قال حسان بن(2/17)
"""""" صفحة رقم 18 """"""
ثابت رضي الله تعالى عنه في عتيبة بن أبي لهب :
من يرجع العام إلى أهله . . . فما أكيل السبع بالراجع
وقرأ ابن مسعود : وأكيلة السبع ، وقرأ ابن عباس رضي تعالى عنهما : وأكيل السبع . قيل : سمي سبعاً لأنه يمكث في بطن أمه سبعة أشهر ، ولا تلد الأنثى أكثر من سبعة أولاد ، ولا ينزو الذكر على الأنثى إلا بعد سبع سنين من عمره . قال أبو عبد الله ياقوت الحموي ، في كتاب المشترك ، وضعاً في باب الغين المعجمة والباء الموحدة : الغابة موضع ، بينه وبين المدينة أربعة أميال من ناحية الشام ، له ذكر في غزوات النبي ( صلى الله عليه وسلم ) وفدت إليه ، فيه السباع تسأله أن يفرض لها ما تأكله . وفي طبقات ابن سعد عن عبد الله بن حنطب قال : بينما النبي ( صلى الله عليه وسلم ) جالس بالمدينة ، إذ أقبل ذئب ، فوقف بين يديه وعوى ، فقال ( صلى الله عليه وسلم ) : " هذا وافد السباع إليكم ، فإن أحببتم أن تفرضوا له شيئاً لا يعدوه إلى غيره ، وإن أحببتم تركتموه وتحرزتم منه ، فما أخذ فهو رزقه " . فقالوا : يا رسول الله ما تطيب أنفسنا بشيء ، فأومأ إليه بأصابعه الثلاث أي خالسهم فولى . وقد تقدم في باب الذال المعجمة في لفظ الذئب طرف من ذلك .
ووادي السباع بطريق الرقة مر به وائل بن قاسط على أسماء بنت رويم ، فهم بها حين رآها منفردة في الخباء فقالت : والله لئن هممت بي لأدعون أسبعي فقال : ما أرى في الوادي سواك فصاحت ببنيها يا كلب يا ذئب يا فهد يا دب يا سرحان يا أسد يا سبع يا ضبع يا نمر فجاؤوا يتعادون بالسيوف ، فقال : ما هذا إلا وادي السباع وفي الصحيحين " نهى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) أن يفترش المصلي ذراعيه افتراش السبع " . وروى الترمذي والحاكم ، عن أبي سعيد الخدري رضي الله تعالى عنه ، أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال : " والذي نفسي بيده لا تقوم الساعة حتى تكلم السباع الإنس ، وحتى يكلم الرجل عذبة سوطه وشراك نعله ، يحدثه بما أحدث أهله من بعده " . ثم قال : حسن صحيح غريب لا نعرفه إلا من حديث القاسم بن الفاضل ، وهو ثقة عند أهل الحديث وثقه يحيى بن سعيد القطان وعبد الرحمن بن مهدي .
فائدة : سئل رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) أنتوضأ بما أفضلت الحمر قال : " وبما أفضلت السباع " خرجه الدارقطني قال السهيلي : يريد " نعم وبما أفضلت السباع " قال : ومثله قوله تعالى : " سبعة وثامنهم كلبهم " قالوا : إنها واو الثمانية وليس كذلك بل تدل على تصديق القائلين بأنهم سبعة لأنها عاطفة على كلا ، مضمر مصدق تقديره نعم . وثامنهم كلبهم كما إذا قال قائل : زيد شاعر . فقلت له : وفقيه أيضاً أي نعم وفقيه أيضاً . وفي التنزيل " وارزق أهله من الثمرات " الآية قال الزمخشري : هذه الواو آذنت بأن الذين قالوا " سبعة وثامنهم كلبهم " قالوا ذلك عن ثبات علم وطمأنينة نفس ، ولم يرجموا بالظن كغيرهم انتهى . وحكى القشيري ، في أوائل الرسالة ، عن بنان الجمال ، وكان عظيم الشأن صاحب كرامات ، أنه ألقي بين يدي سبع فجعل السبع يشمه ولا(2/18)
"""""" صفحة رقم 19 """"""
يضره ، فلما خرج قيل له : ما الذي كان في قلبك حين شمك السبع ؟ قال : كنت أتفكر في اختلاف العلماء في سور السبع . قيل : حج سفيان الثوري مع شيبان الراعي رضي الله تعالى عنهما فعرض لهما سبع ، فقال سفيان لشيبان : أما ترى هذا السبع ؟ فقال : لا تخف ، ثم أخذ شيبان أذنه فعركها فبصبص وحرك ذنبه ، فقال سفيان : ما هذه الشهرة ؟ فقال : لولا مخافة الشهرة لوضعت زادي على ظهره ، حتى آتي مكة . وذكر الحافظ أبو نعيم في الحلية قال : كان شيبان الراعي إذا أجنب ، وليس عنده ماء دعا ربه فتجيء سحابة فتظله ، فيغتسل منها ثم تذهب ، وكان إذا ذهب للجمعة ، خط حول غنمه خطاً فإذا جاء وجدها على حالها لم تتحرك ، وذكر أبو الفرج بن الجوزي وغيره أن الإمام أحمد والشافعي مرا يوماً بشيبان الراعي فقال الإمام أحمد : لأسألن هذا الراعي وأنظر جوابه ، فقال له الشافعي : لا تتعرض له ، فقال : لابد من ذلك ، فقال له : يا شيبان ما تقول فيمن صلى أربع ركعات فسها في أربع سجدات ماذا يلزمه ؟ قال له : على مذهبنا أم على مذهبكم . قال : أهما مذهبان ؟ قال : نعم ، أما عندكم فيلزمه أن يصلي ركعتين ويسجد للسهو ، وأما عندنا فهذا رجل مقسم القلب يجب أن يعاقب قلبه حتى لا يعود . قال : فما تقول فيمن ملك أربعين شاة وحال عليها الحول ماذا يلزمه ؟ قال : يلزمه عندكم شاة وأما عندنا فالعبد لا يملك شيئاً مع سيده . فغشي على الإمام أحمد فلما أفاق انصرفا انتهى . قلت : وقد ذهب جماعة من علماء الآخرة إلى من سها فسدت صلاته ، أخذا بقوله ( صلى الله عليه وسلم ) : " ليس للمرء من صلاته إلا ما عقله منها فعلا ولفظاً " . قالوا : ولا تفسد الصلاة إلا بترك واجب ، وإلا فأي معنى للركوع والسجود ، والمقصود منهما التعظيم والحضور لا الغفلة والذهول ؟ وهو حسن ، وإنما أفتت العلماء رضي الله تعالى عنهم بصحة الصلاة بذلك لعجزهم عن الاطلاع على أسرار القلوب ، وسلموها إلى أربابها ليستفتوا نفوسهم ، ليدفع الفقهاء كيد الشيطان وشقشقته عمن يقول لا إله إلا الله ، وليقيموا الصلاة ، ولم يفتوا بأن ذلك نافع لهم في الآخرة ، ما لم يطابق عليه القلب اللسان مع الإخلاص لله والإخلاص لله واجب في سائر الأعمال . والاخلاص هو ما صفا عن الكدر ، وخلص من الشوائب . قال تعالى : " من بين فرث ودم لبناً خالصاً " فكما أن خلوص اللبن من الفرث والدم ، فكذلك إخلاص الأعمال من الرياء وحظوظ النفس جميعاً وقد تكلمت على ذلك كلاماً طويلا في الجوهر الفريد فلينظر هناك وبالله التوفيق . ورأيت في بعض المجاميع أن الشافعي رضي الله تعالى عنه كان يجلس إلى شيبان الراعي ويسأله عن مسائل فقيل له : مثلك يسأل هذا البدوي فيقول لهم : هذا وفق لما علمناه . وكان شيبان أمياً وإذا كان محل الأمي منهم من العلم هكذا فما ظنك بأئمتهم وقد كان الأئمة المجتهدون كالشافعي وغيره رضي الله تعالى عنهم يعترفون بوفور فضل علماء الباطن وقد قال الإمامان الجليلان الشافعي وأبو حنيفة رضي الله عنهما : إذا لم يكن العلماء أولياء الله تعالى ، فليس لله ولي . وقد حكى غير واحد من الحفاظ أن أبا العباس بن شريح ، كان إذا أعجب الحاضرين ما يبديه لهم من العلوم ، يقول لهم : أتدرون من أين لي هذا ؟ إنما حصل من بركة مجالستي أبا القاسم الجنيد رضي الله تعالى عنه . وكان من دعاء شيبان : يا ودود يا ودود ، يا ذا العرش المجيد ،(2/19)
"""""" صفحة رقم 20 """"""
يا مبدئ يا معيد ، يا فعالا لما يريد ، أسألك بعزك الذي لا يرام ، وبملكك الذي لا يزول ، وبنور وجهك الذي ملأ أركان عرشك ، وبقدرتك التي قدرت بها على جميع خلقك ، أن تكفيني شر الظالمين أجمعين . وقد ذكر بعضهم قصيدة ذكر فيها أسماء جماعة من الأولياء قدس الله أسرارهم فمنها :
شيبان قد كان راعي . . . وسر سره ما اختفى
فاجهد وخل الدعاوى . . . إن كان لك شيء بان
وفي الرسالة ، في باب كرامات الأولياء ، أن سهل بن عبد الله التستري ، كان في داره بيت تسميه الناس بيت السباع ، كانت السباع تجيء إليه فيدخلهم ذلك البيت ، ويضيفهم ويطعمهم اللحم ثم يخلي سبيلهم . وفي كفاية المعتقد في ذكر ما زوي لهم من الأرض من غير حركة ، وهو أفضل من الطيران في الهواء ، والمشي على الماء ، عن سهل بن عبد الله التستري ، قال : توضأت يوم جمعة ومضيت إلى الجامع ، وذلك في أيام البداية ، فوجدته قد امتلأ بالناس ، وقد هم الخطيب أن يرقى المنبر ، فأسأت الأدب ولم أزل أتخطى رقاب الناس حتى وصلت إلى الصف الأول فجلست ، وإذا عن يميني شاب حسن المنظر طيب الرائحة عليه أطمار الصوف ، فلما نظر إلي قال : كيف نجدك يا سهل قلت : بخير أصلحك الله وبقيت مفكراً في معرفته لي وأنا لم أعرفه ، فبينما أنا كذلك إذ أخذني حرقان بول فكربني ، فبقيت على وجل خوفاً أن أتخطى رقاب الناس ، وإن جلست لم يكن لي صلاة فالتفت إلي وقال : يا سهل أخذك حرقان بول ؟ فقلت : أجل فنزع حرامه عن منكبيه فغشاني به ، ثم قال : اقض حاجتك وأسرع لتلحق الصلاة . قال : فأغمي علي فلما فتحت عيني ، وإذا بباب مفتوح فسمعت قائلا يقول : لج الباب يرحمك الله ، فولجت فإذا أنا بقصر مشيد عالي البنيان شامخ الأركان ، وإذا بنخلة قائمة وإلى جانبها مطهرة مملوءة أحلى من الشهد ومنزل لإراقة الماء ، ومنشفة معلقة وسواك ، فحللت لباسي وأرقت الماء ثم اغتسلت وتنشفت بالمنشفة فسمعت منادياً : يا سهل إن كنت قضيت أربك فقل : نعم ، فقلت : نعم . فنزع الحرام عني فإذا أنا جالس مكاني ولم يشعر بي أحد . فبقيت مفكراً في نفسي وأنا مكذب نفسي فيما جرى فقامت الصلاة فصليت ولم يكن لي شغل إلا الفتى لأعرفه ، فلما فرغت تتبعت أثره ، فإذا به قد دخل إلى درب ، فالتفت إلي وقال : يا سهل كأنك ما أيقنت بما رأيت ؟ قلت : كلا ، قال : فلج الباب يرحمك الله ، فنظرت الباب بعينه فولجت القصر فنظرت المطهرة والنخلة والحال بعينه ، فمسحت عيني وفتحتهما ، فلم أجد الفتى ولا القصر .
وإنما ذكرت هذه الحكاية لأنها من جملة العجائب عند غير هذه الطائفة ، ولا يكاد يؤمن بها كثير من الناس ولها احتمالات منها : أنه يحتمل أنه نقل من مكانه لما أغمي عليه إلى حيث شاء الله من غير شعور منه ، ثم أعيد إلى مكانه لطفأ من الله تعالى وكرامة لأوليائه .(2/20)
"""""" صفحة رقم 21 """"""
قال شيخنا اليافعي رحمه الله : ومن المحكي عن سهل رضي الله تعالى عنه أيضاً ، أن أمير خراسان يعقوب بن الليث أصابته علة أعيت الأطباء ، فقيل له : في ولايتك رجل صالح يقال له سهل بن عبد الله ولو استحضرته ليدعو لك رجونا لك العافية فأحضره وسأله الدعاء ، فقال : كيف يستجاب دعائي لك وأنت مقيم على الظلم . فنوى يعقوب التوبة والرجوع عن المظالم وحسن السيرة في الرعية وأطلق من في سجنه من المظلومين فقال سهل : اللهم كما أريته ذل المعصية فأره عز الطاعة وفرج عنه ، فنهض كأنما نشط من عقال وعوفي من ساعته ، فعرض على سهل مالا جزيلا فأبى قبوله فلما رجع إلى تستر قيل له بأثناء الطريق : لو قبلت المال الذي عرض عليك ، وفرقته على الفقراء ؟ . فنظر إلى الحصباء فإذا هي جواهر ، فقال : خذوا ما أردتم . ثم قال : من أعطى مثل هذا يحتاج إلى مال يعقوب بن الليث ؟ ونظير ذلك من قلب الأعيان ما روي عن الشيخ عيسى الهتار وهو بكسر الهاء وتخفيف التاء المثناة فوق ، أنه مر على امرأة بغي فقال لها : بعد العشاء آتيك ففرحت بذلك وتزينت ، فلما كان بعد العشاء دخل عليها البيت فصلى ركعتين ثم خرج . فقالت : أراك خرجت ؟ قال : حصل المقصود ، فورد عليها وأراد أزعجها عما كانت عليه فخرجت بعد الشيخ ، وتابت على يده فزوجها بعض الفقراء . وقال : اعملوا الوليمة عصيدة ولا تشتروا لها إداماً ففعلوا ذلك وأحضروه ، وحضر الفقراء والشيخ كالمنتظر لشيء يؤتى به فوصل الخبر إلى أمير كان رفيقاً لتلك المرأة فأخرج قارورتين مملوأتين خمراً وأرسل بهما إلى الشيخ وأراد بذلك الاستهزاء ، وقال للرسول : قل للشيخ : قد سرني ما سمعت ، وبلغني أن ما عندكم إدام ، فخذوا هذا فائتدموا به . فلما أقبل الرسول قال له الشيخ : أبطأت . ثم تناول إحداهما فخضها ثم صب منها عسلا مصفى ، ثم فعل كذلك بالأخرى وصب منها سمناً عربياً ، وقال للرسول : اجلس فكل فأكل فطعم سمناً وعسلا لم ير مثلهما طعماً ولوناً وريحاً . فرجع الرسول وأخبر الأمير بذلك فجاء الأمير فأكل . وتحير مما رأى وتاب على يد الشيخ .
ويشبه هذا ما حكي عن بعضهم ، أنه قال : بينما أنا أسير في فلاة من الأرض ، إذا برجل يدور بشجرة شوك ، ويأكل منها رطباً جنياً فسلمت عليه فرد علي السلام ، وقال : تقدم فكل ، قال : فتقدمت إلى الشجرة ، فصرت كلما أخذت منها رطباً عاد شوكاً ، فتبسم الرجل وقال : هيهات لو أطعته في الخلوات أطعمك الرطب في الفلوات . وحكاياتهم في مثل هذا كثيرة ، وإنما نبهت على قطرة من بحار عميقة ، وعلى الجملة فالدنيا تتصور لهم في صورة عجوز تخدمهم كما سيأتي إن شاء الله تعالى قريباً في هذا الباب ، والرجوع في ذلك كله إلى أصل يجب الإيمان به ، وهو أن الله على كل شيء قدير ، وليس الخرق للعوائد بمستحيل في العقل والله التوفيق .
وحكى : عن الشيخ أبي الغيث اليمني رضي الله تعالى عنه ، أنه خرج يوماً يحتطب فبينما هو يجمع الحطب إذ جاء السبع وافترس حماره ، فقال له : وعزة المعبود ما أحمل حطبي إلا على ظهرك ، فخضع له السبع فحمل الحطب على ظهره ، وساقه إلى البلد ، ثم حط عنه وخلاه . ونقل أن شعوانة رزقت ولداً فربته أحسن تربية ، فلما كبر ونشأ قال لها : يا أماه سألتك بالله إلا ما وهبتني لله فقالت له : يا بني أنه لا يصلح أن يهدى للملوك إلا أهل الأدب والتقى وأنت يا ولدي غمر لا(2/21)
"""""" صفحة رقم 22 """"""
تعرف ما يراد بك ولم يأن لك ذلك فأمسك عنها فلما كان ذات يوم ، خرج إلى الجبل ليحتطب ، ومعه دابة ، فنزل عنها وربطها ، وذهب فجمع الحطب ورجع ، فوجد السبع قد افترسها ، فجعل يده في رقبة السبع ، وقال له : يا كلب الله تأكل دابتي وحق سيدي لأحملنك الحطب كما تعديت على دابتي ، فحمل على ظهره الحطب وهو طائع لأمره حتى وصل به إلى دار أمه فقرع عليها الباب ففتحت له وقالت لما رأت ذلك : يا بني أما الآن فقد صلحت لخدمة الملك اذهب لله عز وجل فودعها وذهب .
روى صاحب مناقب الأبرار عن شاه الكرماني أنه خرج إلى الصيد وهو ملك كرمان ، فأمعن في الطلب حتى وقع في برية مقفرة وحده فإذا شاب راكب على سبع وحوله سباع كثير فلما رأته السباع ، ابتدرت نحوه فنحاها الشاب عنه فبينما هو كذلك ، إذ أقبلت عجوز بيدها شربة ماء فناولتها الشاب فشرب ودفع باقيه إلى شاه فشرب وقال : ما شربت شيئاً ألذ منه ولا أعذب ، ثم غابت العجوز فقال الشاب : هذه الدنيا وكلها الله تعالى بخدمتي فما احتجت إلى شيء إلا أحضرته إلى حين يخطر ببالي ، فعجب شاه من ذلك ، فقال له : أبلغك أن الله تعالى لما خلق الدنيا قال لها : يا دنيا من خدمني فاخدميه ، ومن خدمك فاستخدميه . ثم وعظه وعظاً حسناً ، فكان ذلك سبب توبته .
وفي الإحياء في عجائب القلب عن إبراهيم الرقي قال : قصدت أبا الخير الديلمي التيناني مسلماً عليه فصلى صلاة المغرب ، ولم يقرأ الفاتحة مستوياً فقلت في نفسي : ضاعت سفرتي فلما أصبح الصباح خرجت إلى الطهارة فقصحني السبع فعدت إليه وقلت : إن السبع قد قصدني فخرج وصاح على الأسد وقال : ألم أقل لك لا تتعرض لأضيافي ؟ فتنحى الأسد فتطهرت فلما رجعت قال : أنتم اشتغلتم بتقويم الظاهر فخفتم الأسد ، ونحن اشتغلنا بتقويم الباطن فخافنا الأسد وقد أنشدنا شيخنا الإمام العلامة جمال الدين بن عبد الله بن أسد اليافعي لنفسه :
هم الأسد ما الأسد الأسود تهابهم . . . وما النمر ما أظفار فهد ونابه
وما الرمي بالنشاب ما الطعن بالقنا . . . وما الضرب بالماضي الكمي ما ذبابه
لهم هميم للقاطعات قواطع . . . لهم قلب أعيان المراد انقلابه
لهم كل شيء طائع ومسخر . . . فلا قط يعصيهم بل الطوع دائه
من الله خافوا لا سواه فخافهم . . . سواه جمادات الورى ودوابه
لقد شمروا في نيل كل عزيزة . . . ومكرمة مما يطول حسابه
إلى أن جنوا ثمر الهوى بعد ما جنى . . . عليهم وصار الحب يطول عذباً عذابه وفي الخبر قيل : أوحى الله تبارك وتعالى إلى داود عليه السلام يا داود خفني كما تخاف السبع الضاري ، معناه خفني لا وصفاً في المخوفة من العزة والعظمة والكبرياء والجبروت والقهر وشدة البطش ، ونفوذ الأمر ، كما تخاف السبع الضاري لشدة بدنه وعبوسة وجهه ، وشبوك أنيابه ، وقوة براثنه ، وجراءة قلبه ، وسرعة غضبه ، وبغتات وثبه ، وفظيع بطشه ، ودواعي ضراوته ، لا أجلب عليه شراً ولا عصيت له أمراً ، فيا أخي خف الله حق خوفه ، واترك السوى فمن خاف الله حق(2/22)
"""""" صفحة رقم 23 """"""
خوفه خافه كل شيء ، ومن أطاع الله حق طاعته أطاعه كل شيء .
وحكمه : تقدم في باب الهمزة لكن يكره ركوب السباع لما روى ابن علي في ترجمة إسماعيل بن عياش عن بقية عن يحيى بن سعيد عن خالد بن معدان عن المقدام بن معد يكرب قال : " نهى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) عن ركوب السباع " . ولا يصح بيع السباع التي لا تنفع وقيل يجوز بيعها لأجل جلودها وأما التي تنفع كالفهد والفيل والقرد فيجوز بيعه .
السبنتي والسبندي : النمر الجريء والأنثى سبنداة قالت عائشة رضي الله تعالى عنها : ناحت الجن على عمر رضي الله تعالى عنه قبل أن يموت بثلاثة أيام فقالت :
أبعد قتيل بالمدينة أظلمت . . . له الأرض تهتز العضاه بأسوق
جزى الله خيراً من إمام وباركت . . . يد الله في ذاك الأديم الممزق
فمن يسع أو يركب جناحي نعامة . . . ليدرك ما قدمت بالأمس يسبق
قضيت أموراً ثم غادرت بعدها . . . بوائق في أكمامها لم تفتق
وما كنت أخشى أن تكون وفاته . . . بكفي سبنتي أزرق العين مطرق
المطرق الحنق الذي أرخى عينيه إلى الأرض ، وقد يمد السبنتي . ونسب الجوهري هذه الأبيات إلى الشماخ ، وقال في الاستيعاب : لما مات عمر رضي الله تعالى عنه نحل الناس هذه الأبيات إلى الشماخ بن ضرار ولأخويه ، وكانوا أخوة ثلاثة كلهم شعراء ، وسيأتي ذكر النمر في باب النون إن شاء الله تعالى .
السبيطر : بفتح السين وفتح الباء الموحدة والطاء المهملة ، بينهما ياء مثناة من تحت ، وبالراء المهملة في آخره ، مثل العميثل : طائر طويل العنق جداً يرى أبداً في الماء الضحضاح ، ويكنى بأبي العيزار . كذا قاله الجوهري وابن الأثير ، والظاهر أنهما أرادا به مالكاً الحزين ، وقال في المحكم : الكركي يكنى أبا العيزار وسيأتي إن شاء الله تعالى ذكر العميثل في باب السين المهملة .
السحلة : كالهمزة الأرنب الصغيرة التي قد ارتفعت عن الخرنق وفارقت أمها .
السحلية : بضم السين العظاية . قال ابن الصلاخ : هي دويبة أكبر من الوزغ وقد عد في الروضة العظاية من نوع الوزغ ، وقال : إنها محرمة ، وقال ابن قتيبة وصاحب الكفاية : وذكر العظاية يسمى العضر فوط بفتح العين المهملة وتسكين الضاد المعجمة وبالفاء والواو والطاء في آخره . وذكر الجاحظ أن العضر فوط بلغة قيس هي العظاية وسيأتي إن شاء الله تعالى في باب العين المهملة قول الأزهري : هي دويبة ملساء تعدو وتتردد كثيراً تشبه سام أبرص إلا أنها لا تؤذي وهي أحسن منه .
السحا : بفتح السين والحاء المهملتين الخفاش الواحدة سحاة مفتوحتان مقصورتان قاله(2/23)
"""""" صفحة رقم 24 """"""
النضر بن شميل وقد تقدم لفظ الخفاش في باب الخاء المعجمة .
سحنون : بفتح السين وضمها طائر حديد الذهن يكون بالمغرب ، يسمونه سحنوناً لحدة ذهنه وذكائه وبه سمي سنون بن سعيد التنوخي القيرواني وهو لقب فرد واسمه عبد السلام ، وهو تلميذ ابن القاسم وهو مصنف المدونة وكان قبل ذلك كتبها أسد بن الفرات عن ابن القاسم غير مرتبة ثم بخل بها ابن الفرات على سحنون فدعا عليه ابن القاسم أن لا ينفع الله بها ولا به وكذلك كان ، فهي متروكة والعمل على مدونة سحنون ووفاته في شهر رجب سنة أربعين ومائتين وولد في شهر رمضان سنة ستين ومائة رحمة الله عليه .
السخلة : ولد الشاة من الضأن أو المعز ذكراً كان أو أنثى والجمع سخل وسخلة وسخال قال الشاعر :
فللموت تغدو الوالدات سخالها . . . كما لخراب الدور تبنى المساكن
وهذه لام العاقبة كقول الآخر :
أحوالنا لذوي الميراث نجمعها . . . ودورنا لخراب الدهر نبنيها
ولم يبنوها للخراب ولكن إليها مآلها كقول الآخر :
فإن يكن الموت أفناهم . . . فللموت ما تلد الوالده وقال تعالى : " فالتقطه آل فرعون ليكون لهم عدواً وحزناً " وقال تعالى : " ربنا إنك آتيت فرعون وملاة زينة وأموالا في الحياة الدنيا " الآية .
فائدة : قال أبو زيد : يقال لأولاد الغنم ساعة وضعها من الضأن والمعز جميعاً ذكراً كانت أو أنثى سخلة ، ثم هي بهمة بفتح الباء الموحدة للذكر والأنثى جميعاً وجمعها بهم ، فإذا بلغت أربعة أشهر وفصلت عن أمها فما كان من أولاد المعز فهو جفار واحدها جفر ، والأنثى جفرة فإذا رعى وقوي فهو عريض وعتود وجمعهما عرضان وعتدان ، وهو في ذلك كله جدي والأنثى عناق ما لم يأت عليها الحول وجمعها عنوق . الذكر تيس إذا أتى عليه الحول ، والأنثى عنز ثم تجزع في السنة الثانية ، فالذكر جذع والأنثى جذعة . روى مالك عن عمر رضي الله تعالى عنه أنه قال : " اعتد عليهم في الزكاة بالسخلة " . وبه استدل الشافعي وغيره على أن ما نتج من النصاب يزكى بحول الأصل ، لأن الحول إنما اعتبر للنماء والسخال في نفسها نماء ، حتى لو نتجت قبل الحول بلحظة تزكى بحول النصاب ، وإن ماتت الأمهات كلها قبل انقضاء حولها ، على الأصح . وقيل : يشترط بقاء نصاب من الأمهات ، وقيل : يشترط بقاء شيء منها ولو واحدة . وروى الإمام أحمد وأبو يعلى الموصلي ، من حديث أبي هريرة ، رضي الله تعالى عنه أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) مر بسخلة جرباء قد أخرجها(2/24)
"""""" صفحة رقم 25 """"""
أهلها فقال : " والذي نفسي بيده للدنيا أهون على الله تعالى من هذه على أهلها " . وروى البزار في مسنده عن أبي الدرداء رضي الله تعالى عنه أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) مر بدمنة قوم ، فيها سخلة ميتة ، فقال ( صلى الله عليه وسلم ) : " أما لأهلها فيها حاجة " ؟ فقالوا : يا نبي الله لو كان لأهلها فيها حاجة ما نبذوها قال ( صلى الله عليه وسلم ) " فوالله للدنيا أهون على الله من هذه السخلة على أهلها فلا الفينها أهلكت أحدكم " . وفي سيرة ابن هشام أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ، لما خرج هو وأصحابه إلى غزوة بدر ، لقوا رجلا من الأعراب فسألوه عن الناس فلم يجموا عنده خبراً ، فقال له الناس : سلم على رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فقال : أوفيكم رسول الله ؟ قالوا : نعم فسلم عليه . ثم قال : إن كنت رسول الله فأخبرني عما في بطن ناقتي هذه ؟ فقال له سلمة بن سلامة بن وقش ، وكان غلاماً حدثاً : لا تسأل رسول الله وأقبل علي فأنا أخبرك بذلك ففي بطنها منك سخلة . فقال له رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) : " مه " فخشيت على الرجل ثم أعرض عن سلمة . ورواه الحاكم في المستدرك من حديث ابن لهيعة عن أبي الأسود ، عن عروة بزيادة وهو أنه قال لقي رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) رجلا من أهل البادية وهو متوجه إلى بدر ، لقيه بالروحاء فسأله القوم عن خبر الناس ، فلم يجدوا عنده خبراً ، فقالوا له : سلم على رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ، فقال : أوفيكم رسول الله ؟ قالوا : نعم فسلم عليه ثم قال : إن كنت رسول الله فأخبرني عما في بطن ناقتي هذه . فقال له سلمة بن سلامة بن وقش ، وكان غلاماً حدثاً : لا تسأل رسول الله وأقبل علي فأنا أخبرك عن ذلك نزوت عليها ففي بطنها سخلة منك فقال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) : " مه " . فخشيت على الرجل ثم أعرض عنه رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فلم يكلمه كلمه واحدة حتى قفلوا واستقبلهم المسلمون بالروحاء يهنونهم فقال سلمة : يا رسول الله ما الذي يهنئونك والله إن رأينا إلا عجائز صلعاً كالبدن المعتقلة فنحرناها فقال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) : " إن لكل قوم فراسة ، وإنما يعرفها الأشراف " . ثم قال : هذا صحيح مرسل .
ويتصل بذكر الفراسة ما رواه الحاكم عن ابن مسعود رضي الله تعالى عند أنه قال : أفرس الناس ثلاثة : العزيز حين تفرس في يوسف فقال لامرأته : أكرمي مثواه . والمرأة التي رأت موسى عليه السلام ، فقالت لأبيها : يا أبت استأجره . وأبو بكر حين استخلف عمر رضي الله تعالى عنهما . قال الحاكم : فرضي الله تعالى عن ابن مسعود لقد أحسن في الجمع بينهم بهذا الإسناد الصحيح . فرع : السخلة المرباة بلبن كلبة ، لها حكم الجلالة ، يكره أكلها كراهة تنزيه على الأصح في الشرح الكبير ، والروضة والمنهاج . وبه جزم الروياني والعراقيون . وقال أبو إسحاق المروزي والقفال : كراهة تحريم ، ورجحه الإمام والغزالي والبغوي والرافعي في المحرر . والجلالة هي التي تأكل العذرة والنجاسات سواء كانت من الإبل أو البقر أو الغنم أو الدجاج أو الأرز أو السمك ، أو غير ذلك من المأكول .
وقد تقدم في باب الدال المهملة ، في الدجاج ، أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) " كان إذا أراد أن يأكل دجاجة أمر بها فربطت أياماً ثم يأكلها بعد ذلك " . وروى الدارقطني والحاكم والبيهقي ، عن عبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنهما ، أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) " نهى عن أكل الجلالة وشرب ألبانها حتى تحبس " .(2/25)
"""""" صفحة رقم 26 """"""
قال الحاكم : صحيح الإسناد وقال البيهقي : ليس بالقوي . ثم إن لم يظهر بسبب ذلك تغير في لحمها ، فلا تحريم ولا كراهة . واختلفوا فيما يناط به الحرمة والكراهة ، فنقل الرافعي عن تتمة التتمة ، أنه إن كان أكثر أكلها الطاهرات فليست بجلالة ، والأصح أنه لا اعتبار بالكثرة بل بالرائحة فإن كان يوجد في عرقها أو فيها أدنى ريح النجاسة وإن قل فالموضع موضع النهي ، وإلا فلا . وعن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أن موضع النهي ، ما إذا وجدت رائحة النجاسة بتمامها أو كانت تقرب من الرائحة فأما إذا كانت الرائحة توجد يسيرة ، فلا اعتبار بها . والصحيح الأول إلحاقاً لها بالتغير اليسير بالنجاسة في المياه فإن علفت الجلالة علفاً طاهراً مدة حتى طاب لحمها ، وزالت النجاسة زالت الكراهة . ولا تقدر مدة العلف عندنا بزمن بل المعتبر زوال الرائحة بأي وجه كان . قال الرافعي ، رحمه الله : وعن بعض العلماء تقدير العلف في الإبل والبقر بأربعين يوماً ، وفي الغنم بسبعة أيام وفي الدجاج بثلاثة أيام . قال : وهو محمول عندنا على الغالب . فإن لم تعلف لم يزل المنع بغسل اللحم بعد الذبح ولا بطبخه وشيه وتجفيفه في الهواء ، وإن زالت الرائحة وكذا إن زالت الرائحة ، بمرور الزمان عند صاحب التهذيب . وقيل : بخلافه وكما يمنع لحمها يمنع لبنها وبيضها ويكره الركوب عليها من غير حائل بين الراكب وبينها ويطهر جلدها بالدباغ والأصح أنه كاللحم ولا يطهر بالذكاة عند القائل بالتنجيس .
وسئل : سحنون عن خروف أرضعته خنزيرة ، فقال : لا بأس بأكله . قال الطبري : العلماء مجمعون على أن الجدي إذا اغتذى بلبن كلبة أو خنزيرة ، لا يكون حراماً ، ولا خلاف في أن ألبان الخنازير نجسة كالعذرة . وقال غيره : المعنى فيه أن لبن الخنزيرة لا يدرك في الخروف إذا ذبح بفوق ولا شم رائحة فقد نقله الله تعالى وأحاله كما يحيل الغذاء ، وإنما حرم الله تعالى أكل أعيان النجاسات المدركات بالحواس . كذا قاله أبو الحسن علي بن خلف بن بطال القرطبي في شرح البخاري . ووفاته سنة تسع وأربعين وأربعمائة وهو أحد شيوخ أبي عمر بن عبد البر رحمة الله تعالى عليه .
السرحان : بكسر السين الذئب . والجمع سراح وسراحين ، والأنثى سرحانة بالهاء ، والجمع كالجمع والسرحان الأسد بلغة هذيل قال أبو المثلم يرثي ميتاً :
هباط أودية حمال ألوية . . . شهاد أندية سرحان فتيان
وقال سيبويه : نون سرحان زائدة وهو فعلان والجمع سراحين . قال الكسائي : والأنثى سرحانة . حكى القزويني ، عن بعض الرعاة ، أنه نزل وادياً بغنمه فسلب سرحان شاة من غنمه فقام ورفع صوته ونادى : يا عامر الوالي ، فسمع صوتاً : يا سرحان رد عليه شاته ، فجاء الذئب بالشاة وتركها وذهب ، وقد تقدم حكمه وخواصه وتعبيره .
الأمثال : قالوا : " سقط العشاء به على سرحان " . قال أبو عبيدة : أصله أن رجلا خرج يلتمس العشاء ، فسقط على ذئب فأكله الذئب . وقال الأصمعي : أصله أن دابة خرجت تطلب(2/26)
"""""" صفحة رقم 27 """"""
العشاء فلقيها ذئب فأكلها . وقال ابن الأعرابي : أصله أن رجلا يقال له سرحان ، كان بطلا تتقيه الناس ، فقال رجل يوماً : والله لأرعين إبلي في هذا الوادي ولا أخاف سرحان بن هزلة فأتى إليه فقتله وأخذ إبله وقال :
أبلغ نصيحة أن راعي إبلها . . . سقط العشاء به على سرحان
سقط العشاء به على متنمر . . . طلق اليدين معاود لطعان
يضرب في طلب الحاجة تؤدي صاحبها إلى التلف . السرطان : بفتح السين والراء المهملتين وبالنون في آخره ، حيوان معروف ويسمى عقرب الماء ، وكنيته أبو بحر وهو من خلق الماء وعيش في البر أيضاً وهو جيد المشي سريع العدو ، ذو فكين ومخاليب وأظفار حداد ، كثير الأسنان صلب الظهر من رآه رأى حيواناً بلا رأس ولا ذنب ، عيناه في كتفيه وفمه في صدره وفكاه مشقوقان من الجانبين ، وله ثماني أرجل ، وهو يمشي على جانب واحد ، ويستنشق الماء والهواء معاً ، ويسلخ جلده في السنة ست مرات ، ويتخذ لجحره بابين : أحدهما شارع في الماء ، والآخر إلى اليبس ، فإذا سلخ جلده سد عليه ما يلي الماء خوفاً على نفسه من سباع السمك ، وترك ما يلي اليبس مفتوحاً ليصل إليه الريح فتجف رطوبته ويشتد ، فإذا اشتد فتح ما يلي الماء وطلب معاشه . وقال ارسطاطاليس في النعوت : وزعموا أنه إذا وجد سرطان ميت في حفرة مستلقياً على ظهره في قرية أو أرض تأمن تلك البقعة من الآفات السماوية ، وإذا علق على الأشجار يكثر ثمرها وفي وصفه قال الشاعر :
في سرطان البحر أعجوبة . . . ظاهرة للخلق لا تخفى
مستضعف المشية لكنه . . . أبطش من جاراته كفا
يسفر للناظر عن جملة . . . متى مشى قدرها نصفا
ويقال : إن ببحر الصين سرطانات متى خرجت إلى البر استحجرت ، والأطباء يتخذون منها كحلا يجلو البياض ، والسرطان لا يتخلق بتوالد ولا نتاج ، إنما يتخلق في الصدف ثم يخرج منه ويتولد .
وفي الحلية عن أبي الخير الديلمي أنه قال : كنت عند خير النساج فجاءته امرأة وطلبت أن ينسج لها منديلا ، وقالت له : كم الأجرة ؟ فقال لها : درهمان فقالت : ما معي الساعة شيء وغداً أتيك بها إن شاء الله تعالى ، فقال لها : إذا أتيتني ولم تريني فارمي بهما في الدجلة فإني إذا رجعت أخذتها منها إن شاء الله تعالى ، فقالت : حباً وكرامة . قال أبو الخير : فجاءت المرأة من الغد وخير غائب ، فقعدت ساعة تنتظره ثم قامت وألقت خرقة في الدجلة ، فيهما الدرهمان ، فإذا سرطان قد تعلق بالخرقة ، وغاص في الماء . ثم جاء خير بعد ساعة ، ففتح باب حانوته وجلس على الشط يتوضأ ، وإذا بسرطان خرج من الماء يسعى نحوه والخرقة على ظهره ، فلما قرب من الشيخ أخذها وذهب السرطان إلى حال سبيله . فقلت له : رأيت كذا وكذا ، فقال : أحب أن لا تبوح بهذا في حياتي فأجبته إلى ذلك .
الحكم : يحرم أكله لاستخبائه كالصدف قال الرافعي : ولما فيه من الضرر ، وفي قول أنه(2/27)
"""""" صفحة رقم 28 """"""
يحل أكله ، وهو مذهب مالك رحمة الله تعالى عليه .
الخواص : كل السرطان ينفع وجع الظهر ويصلبه . قال في النعوت : من علق عليه رأس سرطان لم ينم إذا كان القمر محترقاً ، فإن كان غير محترق نام ، وإن أحرق السرطان وحشي به البواسير كيف كانت أبرأها ، وإن علقت رجله على شجرة مثمرة سقط ثمرها من غير علة ولحمه نافع للمسلولين جداً . وإذا وضع السرطان على الجراحات أخرج النصل وينفع من لسع الحيات والعقارب .
التعبير : السرطان في المنام تدل رؤيته على رجل كثير الكيد ، لكثرة سلاحه ، عظيم الهمة بعيد المأخذ عسر الصحبة ، ومن رأى أنه أكل لحم سرطان في منامه ، فإنه يصيب خيراً من أرض بعيدة . وقال جاماسب : لحم السرطان في الرؤيا مال حرام والله أعلم .
السرعوب : بضم السين وسكون الراء وبالعين المهملة ابن عرس ويقال له : النمس قاله في كفاية المتحفظ .
السرفوت : بفتح السين والراء المهملتين وضم الفاء دويبة تعشش في كور الزجاج في حال اضطرامه ، وتبيض فيه وتفرخ ، ولا تعمل بيتها إلا في موضع النار المستمرة الدائمة . كذا قاله ابن خلكان ، في ترجمة يعقوب بن صابر المنجنيقي . وهذه الدويبة تشارك السمندل في هذا الوصف كما سيأتي في موضعه .
السرفة : بضم السين واسكان الراء المهملتين وبالفاء الأرضة قال ابن السكيت : إنها دويبة سوداء الرأس وسائرها أحمر ، تتخذ لنفسها بيتاً مربعاً من دقاق العيدان تضم بعضها إلى بعض بلعابها على مثال الناموس ، ثم تدخل فيه وتموت . ويقال سرفت السرفة ، وتسرفها بالكسر سرفاً إذا أكلت ورقها ، فهي شجرة مسروفة انتهى . وفي الحديث أن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما قال لرجل : إذا أتيت إلى منى ، وانتهيت إلى موضع كذا وكذا ، فإن هناك شجرة لم تعبل ولم تجرد ولم تسرف ولم تسرح ، قد نزل تحتها سبعون نبياً فأنزل تحتها . ومعنى لم تعبل لم يسقط ورقها ، ولم تجرد لم يصبها الجراد ، ولم تسرف لم تصبها السرفة ، ولم تسرح لم يصبها السرح أي الإبل والغنم السارحة .
الحكم : يحرم أكلها لأنها من الحشرات .
الأمثال : قالوا : أصنع من سرفة " وقد تقدم الكلام عليها في باب الهمزة .
السرمان : دويبة كالحجر والسرمان أيضاً ضرب من الزنابير أصفر وأسود ومجزع .
السروة : الجرادة أول ما تكون وهي دودة وأصله الهمز والسروة لغة فيها .(2/28)
"""""" صفحة رقم 29 """"""
السرماح : الجراد . قاله ابن سيده .
السعدانة : الحمامة .
السعلاة : أخبث الغيلان وكذلك السعلاء تمد وتقصر ، والجمع السعالي . واستسعلت المرأة ، أي صارت سعلاة أي صارت صخابة وبذية ، قال الشاعر :
لقد رأيت عجباً مذ أمسا . . . عجائزاً مثل السعالي خمسا
يأكلن ما أصنع همسا همسا . . . لا ترك الله لهن ضرسا
وأنشد أبو عمر :
يا قبح الله بني السعلاة . . . عمرو بن يربوع شرار النات
ليسوا أعفاء ولا أكيات
قلب السين تاء وهي لغة بعض العرب .
قال الجاحظ : يقال إن عمرو بن يربوع كان متولداً من السعلاة والإنسان . قال : وذكروا أن جرهماً كان من نتاج الملائكة وبنات آدم عليه السلام . قال : وكان الملك من الملائكة إذا عصى ربه في السماء أهبط إلى الأرض في صورة رجل ، كما صنع بهاروت وماروت فوقع بعض الملائكة على بعض بنات آدم عليه السلام فولدت جرهماً ولذلك قال شاعرهم :
لا هم أن جرهما عبادكا . . . الناس طرف وهم تلادكا
قال : ومن هذا الضرب كانت بلقيس ملكة سبا . وكذلك كان ذو القرنين ، كانت أمه آدمية وأبوه من الملائكة ولذلك لما سمع عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه رجلا ينادي رجلا : يا ذا القرنين ، قال : أفرغتم من أسماء الأنبياء فارتفعتم إلى أسماء الملائكة ؟ انتهى .
والحق في ذلك أن الملائكة معصومون من الصغائر والكبائر كالأنبياء عليهم الصلاة والسلام ، كما قاله القاضي عياض وغيره . وأما ما ذكروه من أن جرهماً كان من نتاج الملائكة وبنات آدم ، وكذلك ذو القرنين وبلقيس فممنوع ، واستدلالهم بقصة هاروت وماروت ليس بشيء ، فإنها لم تثبت على الوجه الذي أوردوه ، بل قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما : هما رجلان ساحران كانا ببابل . وقال الحسن : كانا علجين يحكمان بين الناس ويعلمان الناس السحر ولم يكونا من الملائكة لأن الملائكة لا يعلمون السحر . وقرأ ابن عباس والحسن البصري وما أنزل على الملكين بكسر اللام . وسيأتي ذكرهما ، إن شاء الله تعالى ، في باب الكاف في الكلب .
وقد اختلف في ذي القرنين ونسبه واسمه ، فقال صاحب ابتلاء الأخيار : اسم ذي القرنين(2/29)
"""""" صفحة رقم 30 """"""
الاسكندر ، قال : وكان أبوه أعلم أهل الأرض بعلم النجوم ، ولم يراقب أحد الفلك ما راقبه ، وكان قد مد الله تعالى له في الأجل فقال ذات ليلة لزوجته : قد قتلني السهر ، فدعيني أرقد ساعة وانظري إلى السماء ، فإذا رأيت قد طلع في هذا المكان نجم وأشار بيده إلى موضع طلوعه فنبهيني حتى أطأك فتعلقي بولد يعيش إلى آخر الدهر ، وكانت أختها تسمع كلامه ثم نام أبو الاسكندر فجعلت أخت زوجته تراقب النجم فلما طلع النجم أعلمت زوجها بالقصة فوطئها فعلقت منه بالخضر فكان الخضر بن خالد الاسكندر ووزيره فلما استيقظ أبو الاسكندر ، رأى النجم قد نزل في غير البرج الذي كان يرقبه ، فقال لزوجته : لم لم تنبهيني ؟ فقالت : استحييت والله فقال لها : أما تعلمين أني أراقب هذا النجم منذ أربعين سنة والله لقد ضيعت عمري في غير شيء . ولكن الساعة يطلع في أثره نجم فأطؤك فتعلقين بولد يملك قرني الشمس فما لبث أن طلع ، فواقعها فعلقت بالاسكندر ، وولد الاسكندر وابن خالته الخضر في ليلة واحدة . ثم إن الاسكندر فتح الله عليه ، بتمكينه في الأرض ، وفتح البلاد وكان من أمره ما كان . وروي عن وهب بن منبه أنه قال : كان ذو القرنين رجلا من الروم ، ابن عجوز من عجائزهم ، ليس لها ولد غيره ، وكان اسمه الاسكندر وكان عبداً صالحاً ، فلما بلغ أشده ، قال الله تعالى : يا ذا القرنين إني باعثك إلى أمم الأرض وهم أمم مختلفة وهم أصناف منهم أمتان بينهما طول الأرض ومنهم أمتان بينهما عرض الأرض وأمم في وسط الأرض فقال ذو القرنين : إلهي إنك قد ندبتني لأمر عظيم ، لا يقدر قدره إلا أنت ، فأخبرني عن هذه الأمم التي ندبتني إليها بأي قوة أكاثرهم ؟ وبأي صبر أقاسيهم ؟ وبأي لسان أناطقهم ؟ وكيف لي أن أفقه لغاتهم ؟ وبأي سمع أسمع قولهم ؟ وبأي بصر أنقدهم ؟ وبأي حجة أخاصمهم . وبأي عقل أعقل عنهم . وبأي قلب وحكمة أدبر أمرهم ؟ وبأي قسط أعدل بينهم ؟ وبأي معرفة أفصل بينهم ؟ وبأي يد أسطو عليهم ؟ وبأي رجل أطؤهم . وبأي طاقة أحصيهم . وبأي جند أقاتلهم ؟ وبأي رفق أتألفهم ؟ وليس عندي يا إلهي شيء مما ذكرت يقوم لهم ويقوى عليهم ويطيقهم ، وأنت الرؤوف الرحيم الذي لا يكلف نفساً إلا وسعها ولا يحملها إلا طاقتها . قال الله عز وجل : إني سأطوقك وأحملك وأشرح لك صدرك ، فتسمع كل شيء ، وأقوي لك فهمك فتفقه كل شيء ، وأبسط لك لسانك فتنطق بكل شيء ، وأفتح لك سمعك فتعي كل شيء ، وأمد بصرك فتنقد كل شيء ، وأشد لك ركنك فلا يغلبك شيء ، وأقوي لك قلبك فلا يروعك شيء ، واحفظ لك عقلك فلا يعزب عنك شيء ، وأبسط لك ما بين يديك فتسطو فوق كل شيء ، وأشد لك وطأتك فتهد كل شيء ، وألبسك الهيبة فلا يهولنك شيء ، وأسخر لك النور والظلمة وأجعلهما جنداً من جنودك ، يهديك النور من أمامك ، وتحفظك الظلمة من ورائك ، وذلك قوله تعالى : " وآتيناه من كل شيء سبباً " وقال ابن هشام : ذو القرنين هو الصعب بن ذي مرثد الحميري من ولد وائل بن حمير . وقال ابن إسحاق : اسمه مرزبان بن مردويه ، كذا وقع في السيرة له ، وذكر أنه الاسكندر .
وقيل : إنه رجل من ولد يونان بن يافث ، واسمه هرمس ويقال له هرديس ، والظاهر من(2/30)
"""""" صفحة رقم 31 """"""
علم الأخبار والسير أنهما اثنان أحدهما كان على عهد إبراهيم ويقال إنه الذي قضى لإبراهيم حين خاصم إليه في بئر السبع بالشام ، والثاني كان قريباً من عهد عيسى عليه السلام وقيل إنه افريدون الذي قتل الملك الطاغي الذي كان على عهد إبراهيم أو قبله بزمن .
واختلف في سبب تلقيبه بذي القرنين ، فقال بعضهم : لأنه ملك فارس والروم وقيل : لأنه كان في رأسه شبه القرنين وقيل : لأنه رأى في المنام كأنه آخذ بقرني الشمس ، وكان تأويل رؤياه أنه طاف المشرق والمغرب ، وقيل : إنه دعا قومه إلى التوحيد فضربوه على قرنه الأيمن ، ثم دعاهم إلى التوحيد فضربوه على قرنه الأيسر ، وقيل : إنه كان كريم الطرفين من أهل بيت شرف من قبل أبيه وأمه ، وقيل : لأنه انقرض في وقته قرنان من الناس وهو حي ، وقيل : لأنه كان إذا حارب قاتل بيديه وركابيه جميعاً ، وقيل : لأنه دخل النور والظلمة ، وقيل : لأنه كان له ذؤابتان حسنتان والذؤابة تسمى قرناً . قال الراعي :
فلثمت فاها آخذاً بقرونها . . . شرب النزيف لبرد ماء الحشرج وقيل : لأنه أعطى علمي الظاهر والباطن . وهو رجل من الاسكندرية يقال له اسكندر بن فيلبش الرومي وكان في الفترة بعد عيسى عليه الصلاة والسلام . قال مجاهد : ملك الأرض أربعة : مؤمنان وكافران ، فالمؤمنان : سليمان وذو القرنين ، والكافران : نمرود وبختنصر ، وسيملكها من هذه الأمة خامس وهو المهدي . واختلف في نبوته فقال بعضهم : كان نبياً لقوله تعالى : " قلنا يا ذا القرنين " وقال آخرون : كان ملكاً صالحاً عادلا ، ولعله الأصح . فالقائلون بنبوته قالوا : إن الملك الذي كان ينزل عليه ، اسمه رقيائيل وهو ملك الأرض الذي يطوي الأرض يوم القيامة وينقصها فتقع أقدام الخلائق كلهم بالساهرة . قاله ابن أبي خيثمة . قال السهيلي : وهذا يشاكل توكله بذي القرنين الذي قطع الأرض مشارقها ومغاربها ، كما أن قصة خالد بن سنان العبسي وهو نبي بين عيسى ومحمد عليهما السلام ، في تسخير النار ، مشاكلة لحال الملك الموكل به ، وهو مالك خازن النار . وسيأتي ذكر خالد ونبوته في باب العين المهملة في العنقاء ، إن شاء الله تعالى . قال الجاحظ : وزعموا أن التناكح والتلاقح قد يقع بين الجن والإنس لقوله تعالى : " وشاركهم في الأموال والأولاد " وهذا ظاهر ، وذلك أن الجنيات إنما تتعرض لصرع رجال الإنس على جهة العشق في طلب السفاد ، وكذلك رجال الجن لنساء الإنس ، ولولا ذلك لعرض الرجال للرجال والنساء للنساء ، قال تعالى : " لم يطمثهن إنس قبلهم ولا جان " ولو كان الجان لا يفتض الآدميات ، ولم يكن ذلك في تركيبه لما قال الله تعالى هذا القول .
وذكروا أن الواق واق نتاج من بعض النباتات وبعض الحيوانات ، وقال السهيلي : السعلاة(2/31)
"""""" صفحة رقم 32 """"""
ما يتراءى للناس بالنهار ، والغول ما يتراءى للناس بالليل . وقال القزويني : السعلاة نوع من المتشيطنة مغايرة للغول . قال عبيد بن أيوب :
وساحرة عيني لو أن عينها . . . رأت ما ألاقيه من الهول جنت
أبيت وسعلاة وغول بقفرة . . . إذا الليل وارى ، الجن فيه أرنت
قال : وأكثر ما توجد السعلاة في الغياض وهي إذا ظفرت بإنسان ترقصه وتلعب به كما يلعب القط بالفأر . قال : وربما اصطادها الذئب بالليل فأكلها ، وإذا افترسها ترفع صوتها وتقول : أدركوني فإن الذئب قد أكلني ، وربما تقول : من يخلصني ومعي ألف دينار يأخذها والقوم يعرفون أنه كلام السعلاة فلا يخلصها أحد فيأكلها الذئب .
السفنج : بضم السين واسكان الفاء وضم النون وبالجيم في آخره ، قال أبو عمر : وهو الظليم الخفيف وهو ملحق بالخماسي بتشديد الحرف الثالث منه ، كذا قاله الجوهري ، والسفنج أيضاً طائر كثير الاستنان قاله في العباب .
السقب : ولد الناقة أو ساعة يولد والجمع أسقب وسقوب وسقبان والأنثى سقبة وأمها مسقب ومسقاب .
الأمثال : قالوا : أذل من السقبان بين الحلائب ، أرادوا بالحلائب جمع حلوبة وهي التي تحلب .
السقر : قال القزويني : إنه من الجوارح في حجم الشاهين ، إلا أن رجليه غليظتان جداً ولا يعيش إلا في البلاد الباردة ، ويوجد في بلاد الترك كثيراً ، وهو إذا أرسل على الطير أشرف عليها ، ويطير حولها على شكل دائرة ، فإذا رجع إلى المكان الذي ابتدأ منه تبقى الطيور كلها في وسط الدائرة ، لا يخرج منها واحد ولو كانت ألفاً وهو يقف عليها وينزل يسيراً يسيراً وتنزل الطيور بنزوله حتى تلتصق بالتراب فيأخذها البزادرة فلا يفلت منها شيء أصلا . السقنقور : نوعان : هندي ومصري ، ومنه ما يتولد في بحر القلزم ، وهو البحر الذي غرق فيه فرعون وهو عند عقبة الحاج . ويتولد أيضاً ببلاد الحبشة وهو يغتذي بالسمك في الماء وبالقطا في البر يسترطه كالحيات ، أنثاه تبيض عشرين بيضة تدفنها في الرمل فيكون ذلك حضناً لها وللأنثى فرجان ، وللذكر ذكران كالضب . قاله التميمي . وقال ارسطو : السقنقور حيوان بحري وربما تولد في البحر في مواضع الصواعق . ومن عجيب أمره أنه إذا عض إنساناً وسبقه الإنسان إلى الماء ، واغتسل منه مات السقنقور ، وإن سبق السقنقور إلى الماء مات الإنسان . وبينه وبين الحية غداوة حتى إذا ظفر أحدهما بصاحبه قتله . والفرق بينه وبين الورل من وجوه منها أن الورل بري(2/32)
"""""" صفحة رقم 33 """"""
لا يأوي إلا البراري ، والسقنقور لا يأوي إلا بالقرب من الماء أو فيه ، ومنها أن جلد السقنقور ألين وأنعم من جلد الورل ، ومنها أن ظهر الورل أصفر وأغبر ، وظهر السقنقور مدبج بصفرة وسواد . والمختار من هذا الحيوان الذكر فإنه أفضل وأبلغ في النفع المنسوب إليه من أمر الباه قياساً وتجربة ، بل كاد أن يكون هو المخصوص بذلك والمختار من أعضائه ما يلي ذنبه من ظهره ، فهو أبلغ نفعاً وهذا الحيوان نحو ذراعين طولا ونصف ذراع عرضاً قال في المفردات : لا يعرف اليوم في عصرنا السقنقور لا الديار المصرية إلا ببلاد الفيوم ، ومنها يجلب إلى القاهرة لمن عني بطلبه ، وإنما يصاد في أيام الشتاء لأنه إذا اشتد عليه البرد يخرج إلى البر فحينئذ يصاد .
الحكم : يحل أكله لأنه سمك ويحتمل أن يأتي فيه وجه بالحرمة ، لأن له شبهين في البر أحدهما حرام وهو الورل ، والآخر يؤكل وهو الضب تغليباً للتحريم . وأما الذي تقدم في باب الهمزة فهو حرام لأنه متولد من التمساح كما تقدم فهو حرام كأصله .
الخواص : لحم السقنقور الهندي ما دام طرياً فهو حار رطب في الدرجة الثانية ، وأما مملوحه المجفف فإنه أشد حرارة وأقل رطوبة لا سيما إذا مضت عليه بعد تعليقه مدة طويلة ولذلك صار لا يوافق استعماله أصحاب الأمزجة الحارة اليابسة ، بل أرباب الأمزجة الباردة الرطبة ولحمه إذا أكل منه اثنان بينهما عداوة ، زالت وصارا متحابين . وخاصية لحمه وشحمه إنهاض شهوة الجماع وتقوية الانعاظ والنفع من الأمراض الباردة التي بالعصب وإذا استعمل بمفرده كان أقوى فعلا من أن يخلط بغيره من الأدوية ، والشربة منه من مثقال إلى ثلاثة مثاقيل بحسب مزاج المستعمل له وسنه ووقته وبلده . وقال ارسطو : لحم السقنقور الهندي ، إذا طبخ باسفيذاج ، نفخ اللحم وأسمن ، ولحمه يذهب وجع الصلب ووجع الكليتين ويدر المني ، وخرزته الوسطى إذا علقت على صلب إنسان ، هيجت الإحليل وزادت الجماع .
التعبير : هو في الرؤيا يدل على الإمام العالم الذي يهتدى به في الظلمات فإن جلده يولد ولحمه ينعش القوة ويثير حرارتها والله أعلم .
السلحفاة البرية : بفتح اللام ، واحدة السلاحف . قاله أبو عبيدة وحكى الرواسي : سلحفية مثل بلهنية ، وهي بالهاء عند الكافة وعند ابن عبدوس : السلحفا ، بغير هاء . وذكرها يقال له غيلم ، وهذا الحيوان يبيض في البر فما نزل منه في البحر كان لجأة ، وما استمر في البركان سلحفاة ، ويعظم الصنفان جداً إلى أن يصير كل واحد منهما حمل جمل . وإذا أراد الذكر السفاد ، والأنثى لا تطيعه ، يأتي الذكر بحشيشة في فيه ، من خاصيتها أن صاحبها يكون مقبولا ، فعند ذلك تطاوعه وهذه الحشيشة لا يعرفها إلا القليل من الناس . وهي إذا باضت صرفت همتها إلى بيضها بالنظر إليه ولا تزال كذلك حتى يخلق الله تعالى الولد منها ، إذ ليس لها أن محضنه حتى يكمل بحرارتها ، لأن أسفلها صلب لا حرارة فيه وربما تقبض السلحفاة على ذنب الحية فتقطع رأسها وتمضغ من ذنبها والحية تضرب بنفسها على ظهر السلحفاة وعلى الأرض حتى تموت . ولها حيلة عجيبة في التوصل إلى صيدها ، وذلك أنها تصعد من الماء فتتمرغ في التراب ، وتأتي موضعاً قد سقط الطير عليه لشرب الماء فتختفي عليه لكدورة لونها ، التي اكتسبتها من الماء والتراب ، فتصيد منها ما يكون لها قوتاً وتدخل به الماء ليموت فتأكله . ولذكرها ذكران وللأنثى فرجان ، والذكر يطيل(2/33)
"""""" صفحة رقم 34 """"""
المكث في السفاد ، والسلحفاة مولعة بأكل الحيات ، فإذا أكلتها بعدها سعترا . والترس الذي على ظهرها وقاية لها وقد أجاد الشاعر حيث قال في وصفها : لحا الله ذات فم أخرس . . . تطيل من السعي وسواسها
تكب على ظهرها ترسها . . . وتظهر من جلدها رأسها
إذ الحذر أقلق احشاءها . . . وضيق بالخوف أنفاسها
تضم إلى نحرها كفها . . . وتدخل في جلدها رأسها
الحكم : حكى البغوي في حلها وجهين : وصحح الرافعي التحريم لاستخباثها ، لأن غالب أكلها الحيات . وقال ابن حزم : البرية والبحرية حلال ، وكذلك بيضها لقوله تعالى : " كلوا مما في الأرض حلالا طيباً " مع قوله : " وقد فضل لكم ما حرم عليكم " ولم يفصل لنا تحريم السلحفاة فهي حلال . قال : وكذلك يحل اليربوع والسرطان والجراذين وأم حبين والورل والطير كله . قال : وقد روينا عن عطاء ، أنه قال بإباحة أكل السلحفاة . وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه نهى المحرم عن قتل الرخمة وجعل فيها الجزاء وقد قال أبو زيد المروزي من أصحابنا ، بعدم تحريم المخاط والبزاق والمني ونحوها وكأنه استغنى بنفرة الطباع عنها فلم يزجر عنها .
وفي الأمثال : قالوا : أبلد من سلحفاة .
الخواص : ذكر صاحب الفلاحة والقزويني أن البرد ، إذا كثر وقوعه على الأرض ، وأضر بذلك المكان ، تؤخذ سلحفاة وتقلب فيه على ظهرها بحيث تبقى قوائمها شائلة نحو السماء ، فإن البرد لا يضر ذلك المكان وإذا لطخت الأيدي والأقدام بدمها ، نفع من وجه المفاصل ، وإذا أديم التمسح بدمها نفع من الكزاز والتشنج ، وأكل لحمها يفعل ذلك . وإذا جفف دمها وسحق وطلي به على مسرجة فمن أسرجها ضرط وهو سر عجيب مجرب . وأي عضو من الإنسان حصل له وجع ، يعلق عليه نظيره من أعضائها فإن الوجع يسكن بإذن الله تعالى . وطرف ذنب الذكر منها وقت هيجانه من علقه عليه هيج الباه ، وإذا اتخذ من ظهرها مكبة وغطى بها رأس قدر ، لم يغل ما دامت عليه .
التعبير : السلحفاة في المنام امرأة تزين وتتعطر وتعرض نفسها على الرجل . وقيل : إنها تعبر بقاضي القضاة ، لأنها أعلم ما في البحر . وقيل : السلحفاة رجل عالم فمن رأى سلحفاة تكرم في مكان فإن العلماء يكرمون هناك . ومن رأى أنه أكل لحم سلحفاة استفاد علماً ، وقالت النصارى : إنه ينال مالا وعلماً والله أعلم .
السلحفاة البحرية : اللجأة وستأتي في باب اللام إن شاء الله تعالى . قال الجوهري : وزعموا أن ابنة جندي وضعت قلادتها على سلحفاة فانسابت في البحر ، فقالت : يا قوم نزاف نزاف ، لم يبق في البحر غير غراف وهو جمع غرفة من الماء ، والسلحفاة البحرية جلدها الذبل الذي يصنع منه الأمشاط وخاصية التسريح بمشط الذبل اذهاب الصيبان من الشعر . وإذا أحرق(2/34)
"""""" صفحة رقم 35 """"""
الذبل وعجن رماده ببياض البيض ، وطلي به شقاق الكعبين والأصابع نفعه . وقيل : الذبل جلد السلحفاة الهندية .
فائدة : كان للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) مشط من العاج والعاج الذبل ، وهو شيء يتخذ من ظهر السلحفاة البحرية يتخذ منه الأمشاط والأساور . وفي الحديث أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) " أمر ثوبان رضي الله تعالى عنه أن يشتري لفاطمة رضي الله تعالى عنها سوارين من عاج " أما العاج الذي هو عظم الفيل ، فنجس عند الشافعي ، وطاهر عند أبي حنيفة ، وعند مالك يطهر بصقله فيجوز التسريح بمشط العاج ، وهو الذبل وعليه يحمل ما وقع للنووي في شرح المهذب من جواز التسريح به . فمراده بالعاج الذبل لا العاج الذي هو ناب الفيل .
السلفان : بكسر السين أولاد الحجل الواحدة سلف مثل صرد وصردان قال أبو عمر : ولم يسمع سلفة للأنثى ولو قيل سلفة كما قيل سلكة لواحدة السلكان لكان جيداً .
السلق : بالكسر الذئب والأنثى سلقة وربما قيل للمرأة السلطة سلقة ومنه قوله تعالى : " فإذا جاء الخوف سلقوكم بألسنة حداد " أي بسطوا ألسنتهم فيكم . والسالقة الرافعة صوتها عند المصيبة .
السلك : فرخ القطا وقيل : فرخ الحجل ، والأنثى سلكة ، والجمع سلكان ، مثل صرد وصردان . وقيل واحدته سلكانة . وقد ضربت العرب المثل بسليك بن سلكة في العدو وهو تميمي من بني سعد وسلكة أمه ، وكانت سوداء وكان يقال له سليك المقانب قال الشاعر :
إلى الهول أمضى من سليك المقانب .
وهو أحد أغربة العرب الآتي ذكرهم إن شاء الله تعالى في باب الغين المعجمة .
السلكوت : طائر قاله في المحكم في رباعي السين .
السلوى : قال ابن سيده : إنه طائر أبيض مثل السماني واحدته سلوة والسلوى العسل قال خالد بن زهير الهذلي : وقاسمها بالله جهداً لأنتم . . . ألذ من السلوى إذا ما نشورها
قال الزجاج : أخطأ خالد ، إنما السلوى طائر . وقيل : السلوى اللحم . قال الإمام حجة الإسلام الغزالي : وسمي سلوى لأنه يسلي الإنسان عن سائر الإدام ، والناس يسمون قاطع الشهوات . وقال القزويني وابن البيطار : إنه السماني وقال غيرهما : إنه طائر قريب من السماني . وقال الأخفش : لم يسمع له بواحد ويشبه أن يكون واحده سلوى كدفلى للواحد والجمع ، وهو طائر يعيش دهره في قلب اللجة فإذا مرضت البزاة بوجع الكبد ، طلبته وأخذته وأكلت كبده فتبرأ ، وهو(2/35)
"""""" صفحة رقم 36 """"""
الذي أنزله الله تعالى على بني إسرائيل على القول المشهور وغلط الهذلي فظنه العسل فقال :
ألذ من السلوى إذا ما نشورها
وفي صحيح البخاري لا أحاديث الأنبياء وفي مسلم في النكاح من حديث محمد بن رافع ، قال : حدثنا عبد الرزاق ، حدثنا معمر عن همام بن منبه ، قال : هذا ما حدثنا به أبو هريرة رضي الله عنه وذكر أحاديث ، منها : قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) : " لولا بنو إسرائيل لم يخنز اللحم ، ولولا حواء لم تخن أنثى زوجها الدهر أبدا " . ومعناه أنه لم يتغير اللحم أبداً ولم ينتن . قال العلماء : معناه أن بني إسرائيل لما أنزل الله عليهم المن والسلوى ، نهوا عن ادخارهما فادخروا ففسد وأنتن واستمر من ذلك الوقت . وروى ابن ماجة عن أبي الدرداء رضي الله تعالى عنه أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال : " سيد طعام أهل الدنيا وأهل الجنة اللحم " . وعنه رضي الله تعالى عنه : " ما أهدي للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) لحم إلا قبله ، ولا دعي إلى لحم إلا أجاب " . وعن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ، أنه قال : " أطيب اللحم لحم الظهر " . وما أحسن ما قال شيخنا برهان الدين القيراطي :
لما رأيت سلوى عز مطلبه . . . عنكم وعقد اصطبارى صار محلولا
دخلت بالرغم مني تحت طاعتكم . . . ليقضي الله أمراً كان مفعولا
الحكم : يحل أكله بالإجماع .
الخواص : قال ابن زهر : إذا علقت عينه على الأرمد شفي ، وإن اكتحل بها نفع من وجع الكبد . ومرارته تخلط بزعفران مداف ، ويطلى به على البهق الأسود ، يقطعه . وزبله يسحق ويذر على القروح المتأكلة ينفعها ، وإذا دفن رأسه في برج حمام ، زال عنه سائر الهوام ورأسه إذا بخر به مكان أزال الأرضة منه .
التعبير : السلوى تدل رؤيته على رفع النكد والنجاة من العدو ، ونجاز الوعد والخير والرزق الهنيء بلا تعب ولا عناء لمن رآه أو ملكه . وربما دلت رؤيته على سلوى عن عشيق لأجل اسمه وربما دلت رؤيته على كفران النعم وزوال المنصب وضنك العيش لقوله تعالى : " أتستبدلون الذي هو أدنى بالذي هو خير " والله أعلم .
السماني : قال الزبيدي : هو بضم السين وفتح النون على وزن الحبارى ، اسم لطائر يلبد بالأرض ولا يكاد يطير إلا أن يطار والسماني طائر معروف . ولا تقل سماني بالتشديد ، والجمع سمانيات ويسمى قتيل الرعد من أجل أنه إذا سمع الرعد مات ويقال : إن فرخه عندما يخرج من البيض يطير من ساعته . ومن عجيب أمره أنه يسكت في الشتاء ، فإذا أقبل الربيع يصيح ويغتذي(2/36)
"""""" صفحة رقم 37 """"""
بالبيش والبيشاء ، وهما سم ناقع قاتل . وهو من الطيور القواطع لا يدري من أين يأتي حتى إن بعض الناس يقول : إنه يخرج من البحر المالح فإنه يرى طائراً عليه وأحد جناحيه منغمس فيه ، والآخر منشور كالقلع . ولأهل مصر به عناية ويتغالون في ثمنه .
الحكم : يحل أكله بالإجماع .
الخواص : لحمه حار يابس ، وأجوده المخاليف الطرية ، وأكله ينفع من وجع المفاصل من برد ، لكنه يضر بالكبد الحار ، ويدفع ضرره الكسبرة والخل ، وهو يولد دماً حاراً وهو موافق لذوي الأمزجة الباردة والمشايخ ويكره مشوي السماني ليبسه وتجفيفه . قال ابن عبدون وقال غيره : مزاج لحمه بين الدجاج والحجل ، وهو إلى مزاج الدجاج أميل . وهو جيد الكيموس ، وأكله يفتت الحصا ويدر البول وإذا قطر دمه في الأذن سكن وجعها ، وإذا أديم أكله ألان القلب القاسي ويظل : إن هذه الخاصية موجودة في قلبه فقط .
التعبير : السماني تدل رؤيته على الفوائد والأرزاق من جهة الزرع والفلاحة . وهو لمن يقصد سماعه دليل على الأرزاق من الشبهات ، وربما دل على اللعب واللهو والتبذير ، وربما دلت رؤيته على الجرم بما يوجب الحبس والصلب والله أعلم . السمحج : الأتان الطويلة الظهر ، والجمع سماحج . وكذلك الفرس ، ولا يقال للذكر .
السمع : بكسر السين وإسكان الميم وبالعين المهملة في آخره ، ولد الذئب من الضبع ، وهو سبع مركب ، فيه شدة الضبع وقوتها ، وجراءة الذئب وخفته ، ويزعمون أنه كالحية لا يعرف العلل ولا يموت حتف أنفه ، وأنه أسرع عدواً من الريح . وقال الجوهري : السمع الأزل : الذئب الأرسح وهو القليل لحم الفخذين ، وكل ذئب أرسح فإن هذه الصفة لازمة له كما يقال للضبع المرجاء انتهى .
وقد قال بعض الأعراب فيه :
تراه حديد الطرف أبلج واضحا . . . أغر طويل الباع أسمع من سمع
ويقال : إن وثبته تزيد على عشرين أو ثلاثين ذراعاً وفي كتاب " خبر البشر بخير البشرى " خبر لابن ظفر عن ربيعة ابن أبي نزار ، لآل : أخبرني خالي قال : لما أظهر الله علينا رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) بحنين ، أشعبنا في كل شعب لا يلوي حميم على حميم ، فبينما أنا في بعض الشعاب ، إذ رأيت ثعلباً قد تحوى عليه أرقم ، والثعلب يعدو عدواً شديداً ، فانتحيت إليه بحجر فما أخطأه ، فانتهيت إليه فإذا الثعلب قد سبقني بنفسه ، وإذا الأرقم قد تقطع وهو يضطرب ، فقمت أنظر إليه فهتف بي هاتف ، ما سمعت أفظع من صوته ، يقول : تعساً لك وبؤساً قد قتلت رئيساً ووترت بئيساً ؟ ؟ ؟ ؟ ؟ ؟ ؟ ؟ ثم قال : يا داثر يا داثر ، فأجابه مجيب من العدوة الأخرى : لبيك لبيك ، فقال : بادر بادر إلى بني الغدافر ، فأخبرهم بما صنع الكافر ، فناديت أني لم أشعر وأنا عائد بك فأجرني . فقال : كلا والحرم الأمين لا أجير من قاتل المسلمين ، وعبد غير رب العالمين . قال : فناديت أني أسلم . فقال : إن أسلمت سقط عنك القصاص ، وفزت بالخلاص ، والإفلات حين مناص . قال : فقلت : أشهد أن لا إله(2/37)
"""""" صفحة رقم 38 """"""
إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله ، فقال : نجوت وهديت ، ولولا ذلك لرديت ، فارجع من حيث جيت . قال : فرجعت أقفو أدراجي فإذا هو يقول :
امتط السمح الأزل . . . يعل بك التل
فهناك أبو عامر . . . يتبع بك الفل
قال : فالتفت ، فإذا سمع كالأسد النهد ، فركبته فمر ينسل حتى انتهى إلى تل عظيم ، فتوقل فيه إلى أن تسنمه فأشرفت منه على خيل المسلمين ، فنزلت عنه وصوبت في الحدور نحوهم ، فلما دنوت منهم خرج إلي فارس كالفالج الهائج ، فقاك : ألق سلاحك لا أم لك ، فألقيت سلاحي فقال لي : من أنت ؟ قلت : مسلم . قال : فسلام عليك ورحمة الله وبركاته ، فقلت : وعليك السلام والرحمة والبركة . من أبو عامر ؟ قال : أنا هو قلت : الحمد لله . فقال : لا بأس عليك ، هؤلاء إخوانك المسلمين . ثم قال : إني رأيتك بأعلى التل فارساً فأين فرسك ؟ قال : فقصصت عليه القصة فأعجبه ما سمع مني ، وسرت مع القوم أقفو بهم أثر هوازن ، حتى بلغوا من الله ما أرادوه . قال محمد بن ظفر : قوله : تحوى عليه أرقم ، أي استدار عليه ، والأرقم الحية التي فيها خطوط كالرقم . وتزعم الأعراب أن الثعالب مطايا الجن ، ويكرهون اصطيادها ، ويقولون : إن من صاد ثعلباً أصيب ببعض ماله . وقوله : سبقني بنفسه أي هلك قبل أن أصل إليه . وقوله : لولا ذلك لرديت ، أي هلكت . والردى الهلاك . وقوله : أقفو أدراجي أي أتبع طرقي التي جئت فيها والأدراج السبل وقوله : الفل هم المنهزمون ، وقوله : النهد هو العظيم الخلق . وقوله : ينسل أي يعدو ، والنسلان عدو الذئب والكلب وكل ما أشبه ذلك في العدو فهو نسلان . وقوله : كالفالج هو البعير العظيم ذو السنامين انتهى .
الحكم : تحريم الأكل . واختلفوا في وجوب الجزاء على المحرم بقتله كالمتولد بين الحمار الوحشي والأهلي فقال ابن القاص : لا جزاء في ذلك . وغلط فيه والمذهب أنه يحرم على المحرم التعرض له ويجب فيه الجزاء .
الأمثال : قالوا : " أسمع من سمع ومن سمع الأزل " . لأن هذه الصفة لازمة له ، كما يقال للضبع : العرجاء .
وهو في الرؤيا يدل على في الأصل الرديء . ونقل ما سمعه من كلام جيد ورديء ، وذلك مأخوذ من اسمه والله أعلم .
السمائم : بالفتح جمع سمامة وهو ضرب من الطير ، كالخطاف لا يقدر على بيضه . وقيل : هو السنونو الآتي قريباً إن شاء الله تعالى وهو الطير الأبابيل الذي أرسله الله تعالى على أصحاب الفيل .
الأمثال : قالت العرب : " كلفتني بيض السمائم " ويروى بيض السماسم وهو جمع(2/38)
"""""" صفحة رقم 39 """"""
سمسمة وهي النملة وستأتي إن شاء الله تعالى . يضرب للشيء العزيز الوجود .
السمسم : بالفتح الثعلب . السمسمة : بكسر السين ، النملة الحمراء . وجمعها سماسم . وقال ابن فارس ، في مجمله : هو النمل الصغار . وبها فسر الحديث ، الذي رواه مسلم ، عن جابر رضي الله تعالى عنه أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ذكر " الجهنميين وأن قوماً يخرجون من النار بعد أن يكونوا فيها فيخرجون كأنهم عيدان السماسم فيدخلون نهراً من أنهار الجنة فيغتسلون فيه فيخرجون كأنهم القراطيس " . قال الإمام النووي قوله : كأنهم عيدان السماسم هو بالسينين المهملتين الأولى مفتوحة ، والثانية مكسورة وهو جمع سمسم وهو السمسم المعروف الذي يستخرج منه الشيرج . وقال أبو السعادات بن الأثير : السماسم جمع سمسم وعيدانه تراها إذا قلعت وتركت ليؤخذ حبها دقاقاً سوداً كأنها محترقة قال : وطالما تطلبت هذه اللفظة وسألت عنها ، فلم أجد فيها شيئاً شافياً وما أشبه أن تكون اللفظة محرفة وربما كانت عيدان السماسم وهو خشب أسود كالآبنوس قال القاضي عياض : لا يعرف معنى السماسم ولعل صوابه السأسم وهو عود أسود . وقيل : هو الآبنوس . وقيل : هو نبت صغير ضعيف كالكسبرة وقال آخرون : لعله السأسم مهموزة وهو الآبنوس شبههم به لسواده .
السمك : من خلق الماء ، الواحدة سمكة ، وجمعه أسماك وسموك ، وهو أنواع كثيرة ولكل نوع اسم خاص وقد تقدم في آخر الجراد أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال : " إن الله عز وجل خلق ألف أمة منها ستمائة في البحر وأربعمائة في البر " .
ومن أنواع السمك ما لا يدرك الطرف أولها وآخرها لكبرها وما لا يدركها الطرف لصغرها ، وكل يأوي الماء ويستنشقه كما يستنشق بنو آدم ، وحيوان البر الهواء ، إلا أن حيوان البر يستنشق الهواء بالأنوف ويصل بذلك إلى قصبة الرئة ، والسمك يستنشق بأصداغه فيقوم له الماء في تولد الروح الحيواني في قلبه مقام الهواء . وإنما استغنى عن الهواء في إقامة الحياة ولم نستغن نحن وما أشبهنا من الحيوان عنه ، لأنه من عالم الماء والأرض دون عالم الهواء ، ونحن من عالم الأرض والماء والهواء . قال الجاحظ : السمك يسبح الله في غمر الماء ولا يسبح في أعلاه . ونسيم البر الذي يعيش به الطير ، لو دام على السمك ساعة قتله قال الشاعر :
تغمه النشوة والنسيم . . . ولا يزال مغرقاً يعوم
في البحر والبحر له حميم . . . وأمه الوالدة الرؤوم
تلهمه جهراً وما يريم
وقوله : وأمه الوالدة فيه شاهد على أن الأم في غير الآدميين تسمى أيضاً والدة . وقوله تلهمه أي تأكله لأن السمك يأكل بعضه بعضاً ، وذلك قوته ، ولذلك قال الغزالي : السمك أكثر خلق الله تعالى . وقوله : وما يريم أي لا يبرح عن ذلك الموضع الذي يأكل فيه وما ذكره الجاحظ من كون النسيم يضر بالسمك فليس على إطلاقه فإن الغزالي قد استثنى منه نوعاً لا يضره النسيم ، فقال :(2/39)
"""""" صفحة رقم 40 """"""
ومن السمك نوع يطير على وجه البحر مسافة طويلة ثم ينزل انتهى .
قال ابن التلميذ في تشبيه السمك :
لبسن الجواشن خوف الردى . . . عليهن من فوقهن الخوذ
فلما أتيح لها أهلكت . . . ببرد النسيم الذي يستلذ وهو بجملته شره كثير الأكل لبرد مزاج معدته وقربها من فمه وإنه ليس له عنق ولا صوت ولا يدخل إلى جوفه هواء البتة ، ولذلك يقول بعضهم : إن السمك لا رئة له ، كما أن الفرس لا طحال له ، والجمل لا مرارة له ، والنعامة لا مخ لها وصغار السمك تحترس من كباره ، ولذلك تطلب ماء الشطوط والماء القليل الذي لا يحمل الكبير ، وهو شديد الحركة لأن قوته المحركة للإرادة ، تجري في مسلك واحد لا ينقسم في عضو خاص ، وهذا بعينه موجود في الحيات . ومن السمك ما يتولد بسفاد ، ومنه ما يتولد بغيره إما من الطين أو من الرمل ، وهو الغالب في أنواعه ، والغالب يتولد من العفونات . وبيض السمك ليس له بياض ولا صفرة ، وإنما هو لون واحد قال الجاحظ : ومن السمك القواطع والأوابد كما في الطير ، فرب سمكة تأتي في بعض فصول السنة وتنقطع في بعضها . ومن جملة أنواعه السقنقور ، والدلفين ، والخرشفلا ، والتمساح . وقد تقدم ذكرها في أبوابها ومنها : القرش والعنبر ، وسيأتيان في بابيهما ، إن شاء الله تعالى ومن أصنافه ما هو على شكل الحيات ، وغير ذلك ، ومن أنواعه السمكة الرعادة هي صغيرة إذا وقعت في الشبكة والصياد ممسك حبلها ، ارتعدت يد الصياد والصيادون يعرفون ذلك فإذا أحسوا بها شدوا حبل الشبكة في وتد أو شجرة حتى تموت السمكة ، فإذا ماتت بطلت خاصيتها . وما أحسن قول الشيخ شرف الدين محمد بن حماد بن عبد الله البوصيري صاحب البردة في الشيخ زين الدين محمد بن الرعاد :
لقد عاب شعري لا البرية شاعر . . . ومن عاب أشعاري فلا بد أن يهجى
فشعري بحر لا يرى فيه ضفدع . . . ولا يقطع الرعاد يوماً له لجا
وأطباء الهند يستعملونها في الأمراض الشديدة الحر ، وأما في غير بلاد الهند فلا يمكن استعمالها . قال ابن سيده : الرعادة إذا قربت من رأس المصروع ، وهي حية ، نفعته . وإذا علقت المرأة شيئاً منها عليها لم يقدر الرجل على فراقها . وفي البحر من العجائب ما لا يستطاع حصره ، ويكفي في ذلك قول رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) : " حدثوا عن البحر ولا حرج " أي حدثوا عنه حيث لا حرج عليكم في ذلك .
ومن أنواعه : الشيخ اليهودي وسيأتي إن شاء الله تعالى في باب الشين المعجمة .
عجيبة : حكى القزويني ، في عجائب المخلوقات عن عبد الرحمن بن هارون المغربي ، قال :(2/40)
"""""" صفحة رقم 41 """"""
ركبت بحر المغرب فوصلت إلى موضع يقال له البرطون ، وكان معنا غلام صقلي معه صنارة فألقاها في البحر فصاد بها سمكة نحو الشبر فنظرنا فإذا خلف أذنها اليمنى مكتوب لا إله إلا الله وفي قفاها محمد وخلف أذنها اليسرى رسول الله .
وفي كتاب تحفة الألباب لأبي حامد الأندلسي الغرناطي ، أن في بحر الروم سمكاً صغيراً كالذراع يسمى التلب إذا أخذ وأمسك ما شاء الله لا يموت بل يتحرك ويضطرب ، وإذا جعل منه قطعة على النار ، وثب خارج النار وربما أصاب وجوه الناس ، وإن جعلت سمكة منه في قدر وغطي رأسها بصخرة أو حديدة لئلا تخرج منها فما لم تنضج لم تمت ولو قطعت ألف قطعة .
فوائد : روى الإمام أحمد ، في الزهد ، عن نوف البكالي ، قال : انطلق رجل مؤمن ورجل كافر يصيدان السمك ، فجعل الكافر يلقي شبكته ويذكر آلهته فتمتلئ سمكاً ، ويلقي المؤمن شبكته ويذكر اسم الله تعالى فلا يصطاد شيئاً . قال : ففعلا ذلك إلى مغيب الشمس ، ثم إن المؤمن ، اصطاد سمكة فأخذها بيده فاضطربت فوقعت في الماء ، فرجع المؤمن وليس معه شيء ورجع الكافر وقد امتلأت سفينته ، فأسف ملك المؤمن وقال : رب عبدك المؤمن الذي يدعوك رجع وليس معه شيء ، وعبدك الكافر رجع وقد امتلأت سفينته . فقال الله عز وجل لملك المؤمن : تعال ، فأراه مسكن المؤمن في الجنة . فقال : ما يضر عبدي هذا المؤمن ما أصابه بعد أن يصير إلى هذا . وأراه مسكن الكافر في النار ، فقال : هل يغني عنه من شيء أصابه في الدنيا ؟ قال : لا والله ومنها في آخر صفوة الصفوة عن أبي العباس بن المسروق ، قال : كنت باليمن فرأيت صياداً يصطاد السمك على بعض السواحل وعلى جانبه ابنة له ، كلما اصطاد سمكة تركها في دوخلة معه ، فتردها الصبية إلى الماء فالتفت الرجل فلم ير شيئاً فقال : يا بنية أي شيء صنعت بالسمك ؟ فقالت : يا أبت سمعتك تروي عن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) أنه قال : " لا تقع سمكة في شبكة إلا غفلت عن ذكر الله " فلم أحب أن آكل شيئاً غفل عن ذكر الله . فبكى الرجل ورمى بالصنارة . ومنها ، في كتاب الثواب ، عن نافع عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما ، أنه كان مريضاً فاشتهى سمكة طرية فالتمست له بالمدينة ، فلم توجد حتى وجدت بعد كذا وكذا يوماً فاشتريت بدرهم ونصف ، وشويت وحملت له على رغيف ، فقام سائل على الباب فقال للغلام : لفها برغيفها وادفعها إليه . فقال الغلام : أصلحك الله اشتهيتها منذ كذا وكذا يوماً ، فلم نجدها فلما وجدناها واشتريناها بدرهم ونصف أمرت أن ندفعها له نحن نعطيه ثمنها ، فمال : لفها وادفعها إليه فقال الغلام للسائل : هل لك أن تأخذ درهماً وتدع هذه السمكة ؟ فأخذ منه درهماً وردها ، فعاد الغلام وقال له : دفعت له درهماً وأخذتها منه فقال له : لفها وادفعها إليه ، ولا تأخذ منه شيئاً ، فإني سمعت رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يقول : " أيما امرئ اشتهى شهوة فرد شهوته وآثر بها على نفسه غفر الله له " .
ومنها ما روى الطبراني ، بإسناد صحيح ، عن نافع ، أن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما اشتكى فاشتهى عبها فاشترى له عنقود عنب بدرهم ، فجاء مسكين فقال : اعطوه إياه فخالف(2/41)
"""""" صفحة رقم 42 """"""
إنسان ، فاشتراه بدرهم ثم جاء به إليه ففعل ذلك ثلاث مرات ثم في الرابعة أكله ولوعلم ذلك ما ذاقه . وقال سريج بن يونس : خرجت يوما لصلاة الجمعة ، فرأيت سمكتين مشويتين فاشتهيتهما بقلبي ، ولم أتكلم ، فلما رجعت لم أستقر إلا قليلا ، حتى دق الباب رجل وعلى رأسه طبق عليه السمكتان ونقل وخل ورطب كثير ، فقال : يا أبا الحارث كل هذا مع الصبيان .
وقال عبد الله بن الإمام أحمد بن حنبل : سمعت سريج بن يونس يقول : رأيت رب العزة لمنام فقال لي : يا سريج سل حاجتك فقلت : يا رب سر بسرا وسر بسر لفظة أعجمية يعني رأساً برأس . وفي تاريخ أبن خلكان ن سريجا هذا جد أبي العباس إمام الفقهاء الشافعية . الحكم : السمك بجميع أنواعه حلال بغير ذبح ، سواء مات بسبب ظاهر ، كضغطة أو صدمة حجر أو انحسارماء أو ضرب من صياد أو مات حتف أنفه لعموم ما تقدم من قوله ( صلى الله عليه وسلم ) : أحلت لنا ميتتان ودمان السمك والجراد والكبد والطحال وأجمع المسلمون على طهارة ميتتهما ، يأتي في باب العين إن شاء الله تعالى ، حديث العنبر الذي وجده أبو عبيدة وأصحابه رضي الله تعالى عنهم ، وأكل منه النبي ( صلى الله عليه وسلم ) .
فرع : لو اصطاد مجوسي سمكاً فهو طاهر ، لقول الحسن : رأيت سبعين صحابياً يأكلون صيد المجوسي من الحيتان ، ولا يتلجلج في صدورهم من ذلك شيء . وهذا في السمك مجمع عليه وخالف مالك في الجراد .
فرع : لا يحل قطع السمكة الحية لما فيه من التعذيب ، كما لو قلاها قبل الموت في الزيت المغلي كذا قاله أبو حامد . قال النووي : وهذا تفريع على اختياره تحريم ابتلاعها حية وذلك مباح . اه قلت : وهذا مشكل فلا يلزم من جواز الابتلاع جواز القلي لما فيه من التعذيب بالنار .
فرع : يكره ذبح السمك ، إلا أن يكون كبيراً يطول بقاؤه ، فيستحب ذبحه في الأصح إراحة له وقال الرافعي : أكل السمكة الصغيرة إذا شويت ولم يشق جوفها ولم يخرج ما فيه ، فيه وجهان : وعلى المسامحة جرى الأولون ، قال الروياني : وبهذا أفتى ورجيعها طاهر عندي وهو مختار القفال .
فرع : اختلف العلماء في الحيوان الذي في البحر سوى الحوت ، فقال بعضهم : يؤكل جميع ما في البحر سوى الضفدع ، ولو كان على صورة إنسان وإلى هذا ذهب أبو علي الطيبي من قدماء صحابنا ، قال في شرح القنية : قيل له : أرأيت لو كان على صورة بني آدم ؟ قال : وإن تكلم بالعربية وقال : أنا فلان بن فلان ، فإنه لا يصدق انتهى . وهذا ضعيف شاذ وقال آخرون : يؤكل الجميع إلا ما كان على صورة الكلب والخنزير والضفدع .
وقيل : كل ما أكل في البر مذبوحاً ، يؤكل مثله في البحر مذبوحاً ، وغير مذبوح على الأصح . وقيل : لابد من ذبحه واختاره الصيدلاني ، فعلى هذا لا يحل كلب الماء ولا خنزيره ولا(2/42)
"""""" صفحة رقم 43 """"""
حمار البحر وإن كان له شبه في البر حلال ، وهو الحمار الوحشي لأن له شبهاً في البر حرام وهو الحمار الأهلي تغليباً للتحريم ، كذا قاله في الروضة وشرح المهذب . قلت : المهذب المفتى به حل الجميع إلا السرطان والضفدع والتمساح سواء كانت على صورة كلب أو خنزير أو إنسان أم لا .
فرع : لو حلف إنسان لا يأكل لحماً لم يحنث بأكل لحم السمك لأنه لا يفهم إطلاق اسم اللحم عليه عرفاً ، وإن سماه الله تعالى لحماً طرياً . كما لا يحنث بالجلوس في الشمس إذا حلف أنه لا يجلس في ضوء السراج وإن سماها الله تعالى سراجاً ، وكما لا يحنث بالجلوس على الأرض إذا حلف أنه لا يجلس على بساط لان سماها الله تعالى بساطاً .
فرع : قد اختلف في إطلاق اسم السمك على ما سوى الحوت من هذه الحيوانات ، والذي نص عليه الشافعي في الأم والمختصر ، أنه يطلق على الجميع وهو الصحيح في الروضة . وقال في اختلاف العراقيين في قوله تعالى : " أحل لكم صيد البحر وطعامه متاعاً لكم " الآية قال أهل التفسير : طعامه كل ما فيه وهو يشبه ما قال والله أعلم . هذه عبارته ، وهي صريحة في حل الجميع وذكر في المنهاج أن السمك لا يقع إلا على الحوت .
فرع : يجوز السلم فيه وفي الجراد حياً وميتاً عند عموم الوجود ويوصف كل جنس بما يليق به . ولا يجوز بيع السمك في الماء ، لما روى الإمام أحمد عن محمد بن السماك عن يزيد بن أبي زياد ، عن المسيب بن رافع ، عن عبد الله بن مسعود رضي الله تعالى عنه قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) : " لا تشتروا السمك في الماء فإنه غرر " . قال البيهقي : هكذا روي موقوفاً وفيه إرسال بين المسيب وابن مسعود . والصحيح ما رواه هشيم عن يزيد موقوفاً ، عن عبد الله أنه كره بيع السمك في الماء .
فرع : ما يعيش في البر والبحر : الضفدع والتمساح والحية واللجأة والسرطان والسلحفاة والحلزون والدعاميص والأصداف والنسناس . أما الستة الأولى فمحرمة . وأما الحلزون فتقدم حكمه في باب الحاء المهملة . وأما الدعاميص فعلى قول القاضي : أنها ماء منعقد ، ولا يعيش إلا في الماء يحل أكلها ، وعلى قول الجاحظ : يحرم لأن البعوض حرام . وقد تقدم بيان حكمها في باب الدال المهملة . والصدف حرام كما تقدم في السرطان . وفي النسناس خلاف يأتي إن شاء الله تعالى في باب النون .
الخواص : لحمه بارد رطب أجوده البحري المرقش الظهر الصغير المفلس منفعته تخصيب الأبدان المعرقة ، لكنه يعطش ويولد خلطاً بلغمياً يوافق أصحاب الأمزجة الحارة والشباب وأجود ما أكل في الصيف وفي البلاد الحارة . وأنواع السمك كثيرة ، ويكره من جملتها الأسود والأصفر والآجامي وما اغتذى بالحمأة . ويكره الابراميس والبوري لمضرتهما بالمعدة ، وإطلاقهما البطن ، وتحريكهما الأوجاع والغضب بعد أكلهما يورث أمراضاً رديئة ، وسمك الأنهار كثير الشوك ، رقيقه كثير الرطوبة والبحري بالضد . والسلور وهو الجري كثير الغذاء ملين للبطن وينق 0 ي قصبة الرئة(2/43)
"""""" صفحة رقم 44 """"""
ويصفي الصوت . والمارماهيج يزيد في المني وشحم الكلى . والعظيم الجثة من السمك كثير الغذاء والفضول . وقال ابن سينا : لحم السمك نافع لماء العين ، ويحد البصر مع العسل . وقال غيره يزيد في الباه وقال القزويني : إن أكل الطري منه مع البصل الرطب يهيج الباه ، ويزيد فيه إذا أكله حاراً . والسمك إذا شمه السكران يرجع إليه عقله ، ويزول عنه سكره . ومرارته ومرارة السلحفاة البحرية ، إذا خلطتا وكتب بهما على كاغد بقلم حديد ، فإن الكتابة ترى بالليل كأنها ذهب ومرارة السمك والكركي والحجل تمنع نزول الماء اكتحالا . ومرارة السمك إذا شربت نفعت من الخفقان ، وكذلك إذا نفخت في الحلق مع شيء من السكر . التعبير : السمك في الرؤيا إذا عرف عدده إلى أربع فهو نساء ، وإن كان أكثر من أربع فهو مال وغنيمة لقوله تعالى : " وهو الذي سخر البحر لتأكلوا منه لحماً طرياً " وهو السمك . والحوت يعبر بوزير الملك ، والسمك جنده فمن أخذ سمكاً نال من جند الملك مالا ، ومن رأى كأنه يصطاد السمك في بئر فإنه لوطي ، أو يبيع خادمه لإنسان . وقالت النصارى : صيد السمك في الماء الكدر لا خير فيه . ومن رأى أنه يصيد السمك في الماء الصافي ، فإنه يسمع كلاماً يسر به ، والسمك للمريض الملازم للفراش دليل رديء بسبب الرطوبات ، وإذا رآه المسافر في فراشه دل على شدة ، وربما يخشى على صاحب الرؤيا من الغرق ، لأنه قد ضاجعه . ومن رأى كأنه يصيد السمك من الماء الصافي ، فإنه يرزق ولداً سعيداً ، والسمك المالح هم من قبل السلطان ، وذلك لكبس بعضه فوق بعض وقيل : السمك المالح يدل على خير ومال باق ، لأن الملح يحفظ السمك من التلف وقيل : إنه هم من قبل المماليك ، والسمك المشوي يدل على سفر في طلب علم . ومن رأى سمكة خرجت من فرجه ، وله امرأة حامل ، بشر بجارية . وإن رأى سمكاً كثيراً ، وبينها سمكة عظيمة ويرى أكبر السمك قد صلبت ، فإن الجائر والباغي جهلك . والسمك المقلي يدل على إجابة دعوة من رآه لأن عيسى عليه الصلاة والسلام دعا الله فأجيب بالسمك المقلي في المائدة . ورؤية الكبار من السمك غنائم وأموال ، والصغار هموم وأحزان ، لأن شوك الصغار أكثر من لحمه ويشق على آكله .
فصل : الحوت تدل رؤيته على اليمين لأن الله تعالى أقسم به ، فقال " ن والقلم " وربما دلت رؤيته على معبد الصالحين ، ومسجد المتعبدين ، لأن يونس عليه السلام كان يسبح الله تعالى في بطنه ، وربما دلت رؤيته على الغم والنكد ، وزوال المنصب وحلول الغضب ، لأن الله تعالى حرم على اليهود صيدهم يوم السبت ، فخالفوا أمره فاستوجبوا بذلك اللعن . ورؤية حوت يونس عليه السلام أمن للخائف ، وغنى للفقير ، وفرج لمن هو في شدة . وكذلك رؤية سجن يوسف والكهف والرقيم وتنور نوح عليه السلام .
فصل : واعتبر من السمك الطري والحلو والمالح ، وما له شوك وما له سلاح ، وما يقدد منه وما يأوي البحر العذب ، وما يأوي البحر الملح ، وما له صوت يسمع ، وما يطفو على وجه الماء ، من صغاره وكباره وما له شبه في البر ، وما يأنس منه في البيوت ، وما يمسك منه باليد من غير آلة .(2/44)
"""""" صفحة رقم 45 """"""
وأعطى الرائي حقه من ذلك ، فمن رأى أنه اصطاد من البحر سمكاً طرياً حلواً بآلة ، دل على اكسب الحلال ، والسعي فيه واقتناء الرزق الحلال ، والصيد للرجل دال على احتياله برأيه وجهده ، فإن كان الرائي أعزب تزوج ، وإن كان متزوجاً رزق ولداً على قدر ما صاده في المنام . وصيد المرأة يدل على مال تحرزه من زوجها أو أبيها . وصيد العبد دليل على ما يتناوله من مال سيده ، وصيد الصغير دليل على ما يحفظه من علم أو صناعة أو مال يرثه من أبويه ، فإن كانت آلة صيده شباكاً أو خطاطيف أو ما يعمق في البحر ، كان ذلك شدة ينالها الرائي وخطراً يرتكبه ، فإن كانت آلة صيده خفيفة ، وطلع فيها ما يطلع في غيرها من الآلات الثقال ، دل على بسط الرزق وتسهيل الأمور ، وإن طلع في الآلات الثقال ما يطلع في السهلة ، دل على التعب والنصب وعلى اليسير من الرزق ، فإن طلع له سمك كثير فإنه رزق مما دل عليه البحر . وسيأتي الكلام إن شاء الله تعالى فيما يدل عليه البحر ، في باب الفاء في فرس البحر . فإن كان البحر مالحاً نال فائدة أو علماً من أعجمي أو مبتدع . فإن كان ما صاده له شوك وقشر كانت فضة محرزة أو ذهباً ، فإن كان ليس له قشر دل على أعمال باطلة لا تتم وذلك لسرعة انصرافه من الأيدي وملوسته .
وإن كان للسمك سلاح كالشال والشلبا ، دل على انتصاره على أعدائه ، وربما صادق أهل الشر ، فإن كان ممن يقدد فهي بضاعة لأرباب البضائع ، وإن رأى سمك البحر الحلو ينتقل إلى البحر الملح ، أو سمك الملح ينتقل إلى الحلو ، دل على النفاق في الجيش واختلاف العامة فيما جرت به العوائد ، من حدوث مظلمة ، أو ظهور بدعة .
فإن رأى السمك طافياً على وجه الماء ، دل على تسهيل الأمور وقرب البعيد وإظهار الأسرار وإخراج المخبآت ، أو مال أصله من ميراث . فإن رأى عنده سمكاً صغاراً وكباراً ، دل على الاهتمام بالأفراح والأحزان ، أو ما يوجب الاجتماع بين الجيد والرديء . فإن رأى عنده سمكاً ، مما يشبه خلق الآدمي أو الطير ، دل على التعرف بالتجار المترددين في البر والبحر ، أو التراجمة العارفين بالألسنة ، أو المتخلقين بالأخلاق المرضية ، ويعتبر ذلك بالشبه ، فإن رأى عنده شيئاً مما يأنس للإنسان أو يربى في البيوت كاللجأة والقرموط ، وما أشبههما كان دليلا على الإحسان للأيتام والغرباء .
فإن رأى أنه أخذ السمك من قاع البحر ، فإنه ربما طالت يده في صناعته وحصل له رزق طائل ، أو تعرض لأموال السلاطين ، أو صار لصاً أو جاسوساً ، فإن انكشف البحر وتناول سمكاً أو جوهراً اطلع على علم من غيب الله تعالى ، بإطلاع الله تعالى له ، واتضح له الدين واهتدى إلى السبيل ، وكانت عاقبة أمره في ذلك عقبى حسنة . فإن عاد السمك منه إلى البحر صحب الأولياء واطلع منهم على ما لم يطلع عليه أحد ، وإن نوى سفراً وجد رفقة يوافقونه ويرتفق بهم ويرجع إلى مكانه سالماً غانماً والله أعلم .
السمندل : بفتح السين والميم وبعد النون الساكنة دال مهملة ولا في آخره وسماه الجوهري السندل بغير ميم ، وابن خلكان السمند بغير لام : وهو طائر يأكل البيش ، وهو نبت بأرض الصين يؤكل وهو أخضر بتلك البلاد ، فإذا يبس كان قوتاً لهم ولم يضرهم فإذا بعد عن الصين ، ولو مائة(2/45)
"""""" صفحة رقم 46 """"""
ذراع وأكله آكل مات من ساعته . ومن عجيب أمر السمندل استلذاذه بالنار ومكثه فيها . وإذا اتسخ جلده لا يغسل إلا بالنار وكثيراً ما يوجد بالهند ، وهي دابة دون الثعلب خلنجية اللون حمراء العين ذات ذنب طويل ، ينسج من وبرها مناديل ، إذا اتسخت ألقيت في النار فتنصلح ولا تحترق . وزعم آخرون أن السمندل طائر ببلاد الهند يبيض ويفرخ في النار ، وهو بالخاصية لا تؤثر فيه النار ويعمل من ريشه مناديل تحمل إلى بلاد الشام . فإذا اتسخ بعضها ، طرح في النار فتأكل النار وسخه الذي عليه ولا يحترق المنديل . قال ابن خلكان : ولقد رأيت منه قطعة ثخينة منسوجة على هيئة حزام الدابة ، في طوله وعرضه فجعلوها في النار ، فما عملت فيها شيئاً فغمسوا أحد جوانبها في الزيت ، ثم تركوه على فتيلة السراج فأشعل ، وبقي زماناً طويلا مشتعلا ، ثم أطفؤوه ، فإذا هو على حاله ما تغير منه شيء . قال : ورأيت ، بخط شيخنا العلامة عبد اللطيف بن يوسف البغدادي ، أنه قال قدم للملك الظاهر ابن الملك الناصر صلاح الدين ، صاحب حلب قطعة سمندل عرض ذراع في طول ذراعين فصاروا يغمسونها في الزيت ، ويوقدونها حتى يفنى الزيت وترجع بيضاء كما كانت ، ذكره في ترجمة يعقوب بن جابر المنجنيقي ، مع زيادة أخرى وأبيات تأتي إن شاء الله تعالى في باب العين المهملة في العنكبوت . وقال القزويني : السمندل نوع من الفأر يدخل النار وذكر كما تقدم والمعروف أنه طائر كما حكاه البكري في كتاب المسالك والممالك وغيره أيضاً .
الخواص : مرارته إذا سقى منها وزن دانق بماء الحمص المغلي المصفى ، بلبن حليب مراراً كثيرة ، من به السموم القاتلة ، أبرأه منها . ودماغه ، إذا اكتحل به ، مع الإثمد ، صاحب الماء النازل ، أبرأه ، ويحفظ الحدقة من سائر الداء . ودمه إذا طلي به على الوضح أي البرص غير لونه . ومن بلع شيئاً من قلبه لا يسمع بعد ذلك شيئاً إلا حفظه . ومرارته تنبت الشعر ولو على الراحة .
السمور : وهو بفتح السين وبالميم المشددة المضمومة ، على وزن السفود والكلوب ، حيوان بري يشبه السنور ، وزعم بعض الناس أنه النمس ، وإنما البقعة التي هو فيها هي التي أثرت في تغير لونه وقال عبد اللطيف البغدادي : إنه حيوان جريء ليس في الحيوان أجرأ منه على الإنسان ، لا يؤخذ إلا بالحيل ، وذلك بأن يدفن له جيفة فيغتال بها ، ولحمه حار ، والترك يأكلونه ، وجلده لا يدبغ كسائر الجلود انتهى .
ومن غريب ما وقع للنووي ، في تهذيب الأسماء واللغات ، أنه قال : السمور طائر ، ولعله سبق قلم . وأعجب منه ما حكاه ابن هشام البستي ، في شرح الفصيح ، أنه ضرب من الجن ، وخص هذا النوع ، باتخاذ الفراء من جلوده ، للينها وخفتها ، ودفأتها وحسنها ، ويلبسه الملوك والأكابر . قال مجاهد : رأيت على الشعبي قباء سمور .(2/46)
"""""" صفحة رقم 47 """"""
وحكمه : حل الأكل إلحاقاً له بالثعلب ، ولأنه لا يأكل شيئاً من الخبائث .
التعبير : هو في الرؤيا ، يدل على رجل ظالم لص ، لا يخالط أحداً والله أعلم . السميطر : على مثال العميثل طائر طويل العنق جداً ، يرى أبداً في الماء الضحضاح ، يكنى بأبي العيزار ، كذا قاله الجوهري . ويقال له الشبيطر ، والظاهر أنه مالك الحزين ، وهو البلشون كما تقدم ، وسيأتي في باب الميم ، إن شاء الله تعالى .
السمندر والسميدر : دابة معروفة عند أهل الهند والصين قاله ابن سيده .
سناد : قال القزويني : إنه حيوان على صفة الفيل ، إلا أنه أصغر منه جثة وأعظم من الثور ، وقيل : إن ولدها يخرج رأسه من فرج أمه ويرعى حتى يقوى ، فإذا قوي خرج وهرب من الأم ، مخافة أن تلحسه بلسانها ، لأن لسانها مثل الشوك فإن وجدته لحسته حتى ينحاز لحمه عن عظمه وهو كثير ببلاد الهند .
الحكم : يحرم أكله كالفيل .
السنجاب : حيوان على حد اليربوع ، أكبر من الفأر ، وشعره في غاية النعومة ، يتخذ من جلده الفراء ، يلبسه المتنعمون . وهو شديد الحيل ، إذا أبصر الإنسان صعد الشجرة العالية ، وفيما يأوي ومنها يأكل . وهو كثير ببلاد الصقالبة والترك ، ومزاجه حار رطب ، لسرعة حركته عن حركة الإنسان . وأحسن جلوده الأزرق الأملس وقد أحسن القائل :
وكلما ازرق لون جلدي من البر . . . د تخيلت أنه سنجاب
وحكمه : حل الأكل لأنه من الطيبات . وقال بتحريم أكله ، القاضي من الحنابلة ، وعلله بأنه ينهش الحيات ، فأشبه الجرذ . واستدل الجمهور بأنه يشبه اليربوع ، ومتى تردد بين الإباحة والتحريم غلبت الإباحة ، لأنها الأصل وإذا ذكي السنجاب ذكاة شرعية ، جاز لبس فرائه ، وإن خنق ثم دبغ جلده ، لم يطهر شعره على الأصح كسائر جلود الميتة ، لأن الشعر لا يتأثر بالدباغ ، وقيل : يطهر الشعر تبعاً للجلد ، وهي رواية الربيع الجيزي عن الشافعي ، ولم ينقل عنه في المهذب سوى هذه المسألة . وهذا الوجه صححه الأستاذ أبو إسحاق الإسفراييني ، والروياني ، وابن أبي عصرون ، واختاره السبكي وغيره ، لأن الصحابة قسموا في زمن عمر رضي الله تعالى عنه الفراء المغنومة من الفرس ، وهي ذبائح مجوس .
وفي صحيح مسلم من حديث أبي الخير مرثد بن عبد الله البرني ، قال : رأيت على ابن وعلة السبائي فرواً فمسسته ، فقال : ما لك تمسه قد سألت ابن عباس رضي اله تعالى عنهما ، قلت له : إنا نكون بالمغرب ، ومعنا البربر والمجوس ، فيؤتى بالكبش ، قد ذبحوه ، ونحن لا نأكل ذبائحهم ، ويأتون بالسقاء فيجعلون فيه الودك . فقال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما : قد سألنا رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) عن ذلك فقال : " دباغه طهوره " .(2/47)
"""""" صفحة رقم 48 """"""
الخواص : لحمه يطعم للمجنون يزول جنونه ، ويأكله صاحب الأمراض السوداوية ينفعه . قال في المفردات : أسخان السنجاب قليل لأن الأغلب على مزاج حيوانه كثرة الرطوبة وقلة الحرارة ، لاغتذائه بالفواكه ، ولذلك يصلح لبسه للمحرورين والشباب لأنه يسخن إسخاناً معتدلا .
السنداوة : الذئبة .
السنة : الذئبة أيضاً .
السندل : هو السمندل المتقدم ذكره قريباً ، والسندل لقب عمرو بن قيس المكي وهو متروك الحديث وله في سنن ابن ماجه حديثان ضعيفان .
السنور : بكسر السين المهملة وفتح النون المشددة ، واحد السنانير ، حيوان ممواضع ألوف خلقه الله تعالى لدفع الفأر ، وكنيته أبو خداش وأبو غزوان وأبو الهيثم وأبو شماخ ، والأنثى أم شماخ . وله أسماء كثيره .
قيل : إن أعرابياً صاد سنوراً فلم يعرفه ، فتلقاه رجل فقال : ما هذا السنور ؟ . ولقي آخر فقال : ما هذا الهر ؟ ثم لقي آخر فقال : ما هذا القط ؟ ثم لقي آخر فقال : ما هذا الضيون ؟ ثم لقي آخر فقال : ما هذا الخيدع ؟ ثم لقي آخر فقال : ما هذا الخيطل ؟ ثلأ لمي آخر فقال : ما هذا الدم ؟ فقال الأعرابي : أحمله وأبيعه لعل الله تعالى يجعل لي فيه مالا كثيراً فلما أتى به إلى السوق ، قيل له : بكم هذا ؟ فقال بمائة فقيل له : إنه ، يساوي نصف درهم ، فرمى به وقال : لعنة الله ، ما أكثر أسماءه وأقل ثمنه وهذه الأسماء للذكر ، قاله في الكفاية . وقال ابن قتيبة : يقال في الأنثى سنورة كما يقال في أنثى الضفادع ضفدعة انتهى .
قلت : ولا يمتنع القياس في خيطلة وضيونة وقطة وخيدعة وهرة . روى الحاكم ، عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال : كان النبي ( صلى الله عليه وسلم ) " يأتي دار قوم الأنصار ، ودونهم دور لا يأتيها " . فشق عليهم ذلك ، فكلموه فقال : " إن في داركم كلباً " . قالوا : فإن في دارهم سنوراً ، فقال : السنور سبع . ثم قال : حديث صحيح . وروى نعيم بن حماد ، في كتاب الفتن ، عن أبي شريحة الغفاري ، صاحب رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) أنه قال : " يحشر رجلان من مزينة ، هما آخر الناس حشراً ، يقبلان من جبل قد توارى ، حتى يأتيا معالم الناس ، فيجدا الأرض وحوشاً حتى يأتيا المدينة ، فإذا بلغا أدنى المدينة قالا : أين الناس فلا يريان أحداً ، فيقول أحدهما لصاحبه : الناس في دورهم فيدخلان الدور فإذا ليس فيها أحد ، وإذا على الفرش الثعالب والسنانير ، فيقول أحدهما لصاحبه : أين الناس فيقول : أراهم في الأسواق قد شغلهم البيع ، فيخرجان حتى يأتيا الأسواق فلا يجدا فيها أحداً ، فينطلقا حتى يأتيا(2/48)
"""""" صفحة رقم 49 """"""
باب المدينة فإذا عليها ملكان فيأخذان بأرجلهما ويسحبانهما إلى أرض المحشر ، فهما آخر الناس حشراً " .
غريبة : قيل : كان لركن الدولة سنور يألف مجلسه ، وكان بعض أصحابه ، إذا أراد الاجتماع به فيعسر عليه ذلك ، كتب حاجته في رقعة وعلقها في عنق السنور ، فيراها ركن الدولة فيأخذ الرقعة ويقرؤها ، ويكتب جوابها ، عليها ثم يشدها في عنق السنور ، فيرجع بها إلى صاحبها . وقيل : إن أهل سفينة نوح عليه السلام تأذوا من الفأر فمسح نوح عليه السلام جبهة الأسد فعطس ، فرمى بالسنور فلذلك هو أشبه شيء بالأسد ، بحيث لا ممكن أن يصور الهر إلا جاء أسداً ، وهو ظريف لطيف يمسح بلعابه وجهه ، وإذا تلطخ شيء من بدنه نظفه ، وهو في آخر الشتاء تهيج شهوته ، فيتألم ألماً شديداً من لذع مادة النطفة فلا يزال يصيح حتى يلقي تلك المادة . وإذا جاعت الأنثى أكلت أولادها ، وقيل : إنها تفعل ذلك لشدة محبتها لهم وأنشد الجاحظ :
جاءت مع الاشفين في هودج . . . تزجى إلى النصرة أجنادها
كأنها في فعلها هرة . . . تريد أن تأكل أولادها
معنى تزجي تسوق قال الله تعالى : " ألم تر أن الله يزجي سحاباً " أي يسوق سحاباً .
وإذا بال السنور ستر بوله حتى لا يشم رائحته الفأر فيهرب ، فيشمه أولا ، فإذا وجد رائحته شديدة ، غطاه بحيث يواري الرائحة والجرم ، وإلا اكتفى بأيسر التغطية . قالوا : والفأرة تعرف رجيع السنور ، وذكر الزمخشري أن الله تعالى ألهم الهرة ذلك ، ليتنبه بذلك قاضي الحاجة من الناس فيغطي ما يخرج منه . وإذا ألف السنور منزلا ، منع غيره من السنانير الدخول إلى ذلك المنزل ، وحاربه أشد محاربة وهو من جنسه ، علماً منه بأن أربابه ربما استحسنوه وقدموه عليه ، أو شاركوا بينه وبينه في المطعم ، وإن أخذ شيئاً مما يخزنه أصحاب المنزل عنه هرب علماً منه بما يناله منهم من الضرب . وإذا طردوه تملقهم وتمسح بهم ، علماً منه بأنه يخلصه التملق ويحصل له العفو والإحسان . وقد جعل الله تعالى في قلب الفيل الفرق منه ، فهو إذا رأى سنوراً هرب . وحكي أن جماعة من أهل الهند هزموا بذلك .
والسنور ثلاثة أنواع : أهلي ، ووحشي ، وسنور الزباد . وكل من الأهلي والوحشي له نفس غضوبة يفترس ويأكل اللحم الحي ويناسب الإنسان في أمور : منها أنه يعطس ويتثاءب ويتمطى ويتناول الشيء بيده ، وتحمل الأنثى في السنة مرتين ، ومدة حملها خمسون يوماً . والوحشي حجمه أكبر من حجم الأهلي قال الجاحظ : قال العلماء : اتخاذ السنور وتربيته مستحبة . وذكر القزويني في الأشكال ، عن ابن الفقيه ، أن لبعض السنابير أجنحة كأجنحة الخفافيش من أصل الأذن إلى الذنب ، فإن صح ذلك فالظاهر أنه كالسنور البري ، عملا بالمشاكلة . وقال مجاهد : جاء رجل إلى شريح القاضي ، يخاصم آخر في سنور فقال : بينتك ؟ قال : ما أجد بينة في سنور ولدته أمه عندنا .(2/49)
"""""" صفحة رقم 50 """"""
فقال شريح : اذهبا به إلى أمه فإن استقرت واستمرت ودرت ، فهو سنورك ، وإن هي اقشعرت وازبأرت وهربت فليست بسنورك . الحكم : الأصح تحريم أكل السنور الأهلي والوحشي ، لما روي في الحديث المتقدم ، أنه سبع . وروى البيهقي وغيره ، عن أبي الزبير ، عن جابر رضي الله تعالى عنه قال : " نهى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) عن أكل الهرة وأكل ثمنها " . وفي صحيح مسلم ومسند الإمام أحمد وسنن أبي داود أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) " نهى عن بيع السنور " . فقيل : محمول على الوحشي الذي لا نفع فيه . وقيل : نهي تنزيه حتى يعتاد الناس هبته وإعارته ، كما هو الغالب فإن كان مما ينفع وباعه صح البيع ، وكان ثمنه حلالا . هذا مذهبنا ومذهب العلماء كافة ، إلا ما حكى ابن المنذر ، عن أبي هريرة وطاوس ومجاهد وجابر بن زيد أنه لا يجوز بيعه محتجين بهذا الحديث . وأجاب الجمهور عن الحديث ، بأنه محمول على ما ذكرناه ، وهذا هو المعتمد . وأما ما ذكره الخطابي وأبو عمر بن عبد البر ، أن الحديث ضعيف ، فليس كما قالا ، بل الحديث صحيح كما تقدم . وقول ابن عبد البر لم يروه عن أبي الزبير غير حماد بن سلمة ، غلط أيضاً ، لأن مسلماً رواه في صحيحه من رواية معقل عن عبيد الله عن أبي الزبير ، فهذان ثقتان روياه عن أبي الزبير ، وهو ثقة . ورواه ابن ماجه عن ابن لهيعة عن أبي الزبير ولا يضره ذلك . وسيأتي في باب الهاء ، إن شاء الله تعالى الإشارة إلى هذا أيضاً ، في لفظ الهرة ، واختلفت الرواية عن الإمام أحمد في سنور البر ، وأكثر الروايات على تحريمه كالثعلب . وبحله قال الحضرمي من أصحابنا ، وهو مذهب مالك وأما الأهلي فحرام عند أبي حنيفة ، ومالك وأحمد واختار البوشنجي من أصحابنا الحل والأصح تحريمه كما تقدم .
الأمثال : قالوا أثقف من سنور . والثقف الأخذ بسرعة . يقال : رجل ثقف لقف ، أي سريع الاختطاف . وقالوا : كأنه سنور عبد الله يضرب لمن لا يزيد سناً ، إلا زاد نقصاناً وجهلا وفيه قال بشار بن برد الأعمى :
أبا مخلف مازلت نباح غمرة . . . صغيراً فلما شبت خيمت بالشاطئ
كسنور عبد الله بيع بدرهم . . . صغيراً فلما شب بيع بقيراط
لكنه مثل مولد ليس من كلام العرب . وقال ابن خلكان : ولقد كشفت عن سنور عبد الله المظان ، وسألت عنه أهل المعرفة بهذا الشأن ، فما عرفت له خبراً ولا عثرت له على أثر . ثم إني ظفرت بقول الفرزدق .(2/50)
"""""" صفحة رقم 51 """"""
رأيت الناس يزدادون يوماً . . . فيوماً في الجميل وأنت تنقص
كمثل الهر في صغر يغالى . . . به حتى إذا ما شب يرخص
ومن هاهنا أخذ بشار قوله ، وليس المراد منه هراً معيناً ، بل كل هر قيمته في صغره أكثر منها في كبره انتهى .
الخواص : السنور الأهلي ، من أكل لحم الأسود منه ، لم يعمل فيه السحر . وطحاله ، يشد على المستحاضة ينقطع حيضها . وعيناه ، إذا جففتا وتبخر بهما إنسان لم يطلب حاجة إلا قضيت . ومن استصحب نابه لم يفزع بالليل ، وقلبه ، يشد في قطعة من جلده فمن استصحبه لم تظفر به الأعداء . ومرارته من اكتحل بها يرى في الليل ، كما يرى في النهار ، وتخلط بملح وكمون كرماني ، ويطلى بها على الجروح والقروح الرديئة تبرأ . ولحمه ، إذا طلي به القضيب عند الجماع فإن المفعول به يحب الفاعل حباً شديداً . وإن سقي منه صاحب الجذام نفعه ، وإن شرب منه إنسان أحبته النساء . وزبله يسقط المشيمة بخوار . وقال القزويني : مرارة الأسود ، ومرارة الدجاجة السوداء ، إذا جففتا وسحقتا ، واكتحل بهما مع الكحل ظهر له الجن ، وخدموه . قال : وهو مجرب . ومرارة الأسود ، إذا أخذ منها وزن نصف درهم ، وديف بدهن زنبق ، وسعط به صاحب اللقوة أبرأه ذلك . وأما البري ، فمخه عجيب لوجع الكلى ، ولعسر البول ، إذا أذيب بماء الجرجير ، وسخن بالنار وشرب على الريق في الحمام . ودماغه إذا دخن به أخرج المني من الرحم . قاله القزويني . ويأتي تعبيره إن شاء الله تعالى ، في باب القاف في لفظ القط .
وأما سنور الزباد ، فهو كالسنور الأهلي ، لكنه أطول منه ذنباً ، وأكبر جثة ، ووبره إلى السواد أميل ، وربما كان أنمر ، ويجلب من بلاد الهند والسند . والزباد فيه شبيه بالوسخ الأسود اللزج ، وهو زفر الرائحة يخالطه طيب كطيب المسك ، يوجد في ابطيه ، وفي باطن أفخافه ، وباطن ذنبه ، وحوالي دبره ، فيؤخذ من هذه الأماكن بملعقة صغيرة أو بدرهم رقيق . وقد تقدم في باب الزاي الكلام على شيء من هذا . وحكمه : تحريم الأكل على الصحيح ، كالأهلي والوحشي وأما الزباد فهو طاهر ، لكن قال الماوردي والروياني في آخر باب الغرر : أن الزباد لبن سنور في البحر يجلب كالمسك ريحاً ، واللبن بياضاً ، يستعمله أهل البحر طيباً ، وهذا يقتضي كونه حلالا ، فإن قلنا بنجاسة لبن ما لا يؤكل لحمه ، ففي هذا وجهان : قال النووي : الصواب طهارته وصحة بيعه ، لأن الصحيح أن جميع حيوان البحر طاهر يحل لحمه ولبنه ، هذا بعد تسليم أنه حيوان بحري . والصواب أنه بري ، فعلى هذا هو طاهر بلا خلاف ، لكنهم قالوا : إنه يغلب فيه اختلاطه بما تساقط من شعره ، فينبغي أن يحترز عما فيه شيء من شعره لأن الأصح نجاسة شعر ما لا يؤكل لحمه ، إذا انفصل في حال حياته غير الآدمي .
السنونو : بضم السين والنونين . الواحدة سنونة ، وهو نوع من الخطاطيف ، ولذلك سمي(2/51)
"""""" صفحة رقم 52 """"""
حجر اليرقان حجر السنونو ، ولكن تصحف على صاحب عجائب المخلوقات ، فقال : حجر الصنونو بالصاد ، والصواب أنه بالسين المهملة نسبة إلى هذا النوع من الخطاطيف ، وقد أجاد جمال الدين بن رواحة في تشبيه السنونو بقوله :
وغريبة حنت إلى وكر لها . . . فأتت إليه في الزمان المقبل
فرشت جناح الآبنوس وصفقت . . . بالعاج ثم تقهقهت بالصندل
وحكمه : تقدم في باب الخاء المعجمة في الخطاف .
ومن خواصه : أن من أخذ عيني السنونة ، وشدهما في خرقة وعلقهما على سرير ، فمن صعد ذلك السرير لم ينم . وإذا بخر بعينها العصافير هربت ، وإذا بخر بها صاحب الحمى برئ بإذن الله تعالى .
السودانية والسوادية : طائر يأكل العنب . قاله ابن سيده .
عجيبة : حكي أن بمدينة رومية ، شجرة نحاس ، عليها سودانية من نحاس ، في منقارها زيتونة ، فإذا كان وقت الزيتون ، صفرت تلك السودانية فلا يبقى في تلك النواحي سودانية إلا جاءت ، ومعها ثلاث زيتونات : في منقارها واحدة ، وفي رجليها اثنتان ، حتى تطرحهن على رأس السودانية التي من النحاس ، فيعصر أهل رومية ما يحتاجون إليه من الزيت عامهم كله . قلت : الظاهر أن السودانية هي الزرزور ، وقد تقدمت هذه الحكاية عن الشافعي رضي الله عنه ، وهو يأكل العنب كثيراً .
الخواص : لحم السودانيات بارد ، يابس ، رديء ، لا سيما الهزيل ، وأجوده صيد الأشراك ، وهو يزيد في الإنعاظ لكنه يضر بالدماغ ، وتدفع مضرته بالأمراق الرطبة وهو يولد خلطاً حريفاً يوافق الأمزجة الباردة والمشايخ ، وأصلح ما أكل في الربيع ، ويكره أكل لحمها لما تأكله من الحشرات والجراد ، ولذلك صار في لحمها حمة وروائح كريهة ، وهو أردأ من لحم القنابر . وروفس يرتب الطير ثلاث مراتب ويقول : أفضل الطير البري الرخ والشحرور والسماني ثم الحجل والدراج والطيهوج والشفنين وفرخ الحمام والفاخت ثم السلوى والقنابر . على أن القنابر بالدواء أشبه منها بالغذاء والله أعلم .
السوذنيق : الصقر قاله في كفاية المتحفظ .
السوس : عود يقع في الصوف والطعام . قاله الجوهري وغيره يقال طعام مسوس ومدود بكسر الواو فيهما قال الراجز :
قد أطعمتني دقلا حوليا . . . مسوساً مدوداً حجريا
وقال قتادة ومجاهد ، في قوله تعالى : " ويخلق ما لا تعلمون " هو سوس الثياب ، ودود الفاكهة .(2/52)
"""""" صفحة رقم 53 """"""
وقال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما : " عن يمين العرش نهر من نور ، مثل السموات السبع والأرضين السبع سبعين مرة ، يدخله جبريل عليه السلام كل سحر فيغتسل فيه فيزداد نوراً إلى نوره ، وجمالا إلى جماله ، وعظماً إلى عظمه ، ثم ينتفض فيخرج الله تعالى من كل ريشة سبعين ألف قطرة ، فيخلق من كل قطرة سبعين ألف ملك ، يدخل منهم كل يوم إلى البيت المعمور سبعون ألف ملك ، وإلى الكعبة سبعون ألفاً لا يعودون إلى يوم القيامة " . وقال الطبري : ما لا تعلمون ما أعد الله تعالى في الجنة لأهلها ، مما لم تره عين ، ولم تسمعه أذن ، ولم يخطر على قلب بشر .
روينا في بعض الأخبار ، عن الحارث بن الحكم ، قال : أنزل الله تعالى في بعض الكتب : أنا الله لا إله إلا أنا لولا أني قضيت بالنتن على الميت ، لحبسه أهله في البيوت ، وأنا الله لا إله إلا أنا مرخص الأسعار والبلاد مجدبة ، وأنا الله لا إله إلا أنا مغلي الأسعار والأهراء ملأى ، وأنا الله لا إله إلا أنا لولا أني قضيت بالسوس على الطعام ، لخزنته الملوك ، وأنا الله لا إله إلا أنا لولا أني أسكنت الأمل في القلوب ، لأهلكها التفكر . ولما حرم عمرو بن هند على المتلمس حب العراق قال :
آليت حب العراق الدهر أطعمه . . . والحب يأكله في القرية السوس
روى البيهقي ، في شعبه عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه أنه قال : من استطاع منكم أن يجعل كنزه في السماء حيث لا يناله اللصوص ولا يأكله السوس فليفعل فإن قلب كل امرئ عند كنزه .
وحكى عن الشيخ العارف أبي العباس المرسي أن امرأة قالت له : كان عندنا قمح مسوس فطحناه فطحن السوس معه . وكان عندنا فول مسوس فدششناه فخرج السوس حياً فقال لها : صحبة الأكابر تورث السلامة . قلت : ويقرب من هذا ، ما حكاه ابن عطية في تفسير سورة الكهف ، أن والده حدثه عن أبي الفضل الجوهري الواعظ بمصر ، أنه قال في مجلس وعظه : من صحب أهل الخير عادت عليه بركتهم ، هذا كلب صحب قوماً صالحين فكان من بركتهم عليه أن ذكره الله تعالى في القرآن ولا يزال يتلى على الألسنة أبداً . ولذلك قيل : من جالس الذاكرين انتبه من غفلته ، ومن خدم الصالحين ارتفع بخدمته .
ومن الفوائد المستغربة ، ما أخبرني به بعض أهل الخير أن أسماء الفقهاء السبعة ، الذين كانوا بالمدينة الشريفة ، إذا كتبت في رقعة وجعلت في القمح فإنه لا يسوس ، ما دامت الرقعة فيه ، وهم مجموعون في قول الأول :
ألا كل من لا يقتدي بأيمة . . . فقسمته ضيزى عن الحق خارجه
فخذهم عبيد الله عروة قاسم . . . سعيد أبو بكر سليمان خارجه
وأفادني بعض أهل التحقيق ، أن أسماءهم إذا كتبت وعلقت على الرأس ، أو ذكرت عليه(2/53)
"""""" صفحة رقم 54 """"""
أزالت الصداع العارض له وقد تقدم في باب الجيم في الجراد ذكر الآيات التي تنفع للصداع .
وأفادني بعض أهل العلم ، أن هذه الأسماء إذا كتبت في رقعة وعلقت على الرأس ، أذهبت الصداع والشقيقة . وهي : بسم الله الرحمن الرحيم اهدأ عليه يا رأس ، بحق من خلق فيك الأسنان والأضراس ، وكتبه الكتبة بلا قلم ولا قرطاس ، قر بقرار الله ، اسكن واهدأ بهدء الله ، بحرمة محمد بن عبد الله رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم " ألم تر إلى ربك كيف مد الظل ولو شاء لجعله ساكناً " أسكن أيها الوجع والصداع والشقيقة والضربان ، عن حامل هذه الأسماء ، كما سكن عرش الرحمن ، " وله ما سكن في الليل والنهار وهو السميع العليم " " وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين " وحسبنا الله ونعم الوكيل وصلى الله على سيدنا محمد خاتم النبيين والمرسلين وعلى آله وصحبه وسلم .
ومما جرب : لإذهاب السوس والفراش ما أفادنيه بعض أئمة الإمامية أن يكتب على خشب الغار هذه الأسماء في الظل بحيث لا تراه الشمس أبداً لا وقت الكتابة ولا وقت الذهاب بها ثم تدفن الخشبة في القمح أو الشعير ، فإنه لا يسوس ولا يفرش . وهي : بسم الله الرحمن الرحيم ، ألم تر إلى الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت فقال لهم الله : موتوا فماتوا كذلك يموت الفراش والسوس ويرحل بإذن الله تعالى ، أخرج أيها السوس والفراش بإذن الله تعالى عاجلا ، وإلا خرجت من ولاية أمير المؤمنين علي بن أبي طالب كرم الله وجهه ، ويشهد عليك أنك سرقت لجام بغلة نبي الله سليمان بن داود عليهما الصلاة والسلام . وهو عجيب مجرب .
الحكم : يحرم أكله منفرداً لأنه نوع من الدود .
الأمثال : قالوا : العيال سوس المال وقالوا : آكل من سوسة . وقيل لخالد بن صفوان بن الأهيم : كيف ابنك ؟ قال : سيد فتيان قومه ظرفاً وأدباً . فقيل له : كم ترزقه كل يوم ؟ فقال : درهما . فقيل له : وأين يقع منه ثلاثون درهماً في كل شهر وأنت تستغل ثلاثين ألفاً ؟ فقال : الثلاثون درهماً أسرع في هلاك المال من السوس في الصوف بالصيف . فحكى كلامه للحسن البصري فقال : أشهد أن خالداً تميمي وإنما قال الحسن ذلك لأن بني تميم مشهورون بالبخل والنهم . وهو في الرؤيا كالدود فليراجع هناك . السيد : بكسر السين وإسكان الياء المثناة من تحت ، من أسماء الذئب وبه سمي جد أبي محمد عبد الله ابن محمد بن السيد البطليوسي اللغوي النحوي صاحب التصانيف المفيدة ، والمحاسن العديدة ، مولده سنة أربع وأربعين وأربعمائة بمدينة بطليوس ، وتوفي في رجب سنة إحدى وعشرين وخمسمائة .
السيدة : بكسر السين وبالدال المهملتين واسكان الياء المثناة من تحت ، وبالهاء في آخره : الذئبة وإليها ينسب الإمام العلامة الحافظ النحوي اللغوي المحقق أبو الحسن علي بن إسماعيل بن(2/54)
"""""" صفحة رقم 55 """"""
سيده المرسي ، وكان إماماً في اللغة وفي الغريب حافظاً لهما ، وجمع في ذلك كتابه المحكم والمخصص وغير ذلك ، وكان ضريراً وأبوه كذلك . توفي في ربيع الأول سنة ثمان وخمسين وأربعمائة وعمره ستون سنة .
سيفنة : كهيمنة ، قال ابن السمعاني في الأنساب : إنه طائر بمصر يلقي أوراق الأشجار عنها ، حتى لا يبقي منها شيئاً . شبه به أبو إسحاق إبراهيم ابن حسن بن علي الهمداني سيفنة من أكابر المحدثين ، لأنه كان إذا ظفر بمحدث سمع جميع ما عنده حتى لا يبقى شيئاً من حديثه .
أبو سيراس : قال القزويني في الأشكال : إنه حيوان يوجد في الغياض تكامل في قصبة أنفه اثنتا عشرة ثقبة ، إذا تنفس يسمع من أنفه صوت كصوت المزامير ، والحيوانات تجتمع عليه لاستماع ذلك الصوت فإذا دهش بعضها لذلك ، يصيده فيأكله فإن لم يتهيأ له صيد شيء منها وضجر ، صاح صيحة هائلة قتتفرق الحيوانات وتفر عنه والله أعلم .
باب الشين المعجمة
الشادن : بكسر الدال المهملة : الظبي الذكر الذي طلع قرناه وسيأتي إن شاء الله تعالى في باب الظاء المعجمة .
شادهوار : حيوان يوجد بأقصى بلاد الروم . قال القزويني في الأشكال : له قرن عليه اثنتان وسبعون شعبة مجوفة ، فإذا هبت الريح سمع لها أصوات حسنة ، فتجتمع بسبب ذلك الحيوانات إليه بسماع صوته . ذكر أن بعض الملوك أهدي له قرن منه ، فترك بين يديه عند هبوب الرياح فكان يخرج منه صوت عجيب فطرب يكاد يدهش الإنسان من سماعه ثم وضع منكوساً فكان يخرج منه صوت محزن حتى يكاد يغلب الإنسان البكاء .
الشارف : المسنة من النوق والجمع شرف مثل بازل وبزل وعائذ وعوذ ومنه حديث علي رضي الله تعالى عنه أنه قال : " كانت لي شارف من نصيبي من المغنم يوم بدر وكان رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) أعطاني شارفاً من الخمس يومئذ فلما أردت أن أبني بفاطمة رضي الله تعالى عنها ، واعدت رجلا صواغاً من بني قينقاع أن يرتحل معي ، فيأتي باذخر أردت أن أبيعه من الصواغين ، فاستعين به في وليمة عرسي ، فبينما أنا أجمع لشارفي متاعاً من الأقتاب والغرائر والحبائل ، وشارفاي مناختان إلى جنب حجرة رجل من الأنصار ، فرجعت حين جمعت ما جمعت ، فإذا شارفاي قد أجبت أسنمتهما وبقرت خواصرهما وأخذ من أكبادهما ، فلم أملك عيني حين رأيت ذلك المنظر منهما . فقلت : من فعل هذا ؟ فقالوا : فعله حمزة بن عبد المطب رضي الله تعالى عنه ، وهو في هذا المكان في هذا البيت في شرب من الأنصار غنته قينة بين أصحابه فقالت :
ألا يا حمز للشرف النواء . . . وهن معقلات بالفناء
ضع السكين في اللبات منها . . . وضرجهن حمزة بالدماء(2/55)
"""""" صفحة رقم 56 """"""
وعجل من أطايبها لشرب . . . طعاماً من قديد أو شواء
فأنت أبو عمارة المرجى . . . لكشف الضر عنا والبلاء
وبقية الحديث مشهورة ، رواه البخاري ومسلم وأبو داود ، وهو حجة على إباحة كل ما ذبحه غير المالك تعدياً كالغاصب والسارق وهو قول جمهور العلماء .
وخالف في ذلك سحنون وداود وعكرمة فقالوا : لا يؤكل ، وهو قول شاذ . وحجة الجمهور أن الزكاة وقعت من المتعدي على شروطها الخاصة ، وتعلق بذمته قيمة الذبيحة فلا موجب للمنع . وهذا الفعل إنما كان من حمزة رضي الله تعالى عنه قبل تحريم الخمر ، لأنه قتل يوم أحد وكان تحريمها بعد ذلك فكان معذوراً في قوله غير مؤاخذ به ، وكان شربه الذي دعاه إليه مباحاً كالنائم والمغمى عليه ، فلما حرمت الخمر صار شاربها مؤاخذاً بشربها محدوداً فيها .
الشاة : الواحدة من الغنم ، تقع على الذكر والأنثى من الضأن والمعز ، وأصلها شاهة ، لأن تصغيرها شويهة ، والجمع شياه بالهاء في أدنى العدد . تقول ثلاث شياء إلى العشر ، فإذا جاوزت العشرة فبالتاء ، فإذا كثرت قلت : هذه شاء كثيرة . والشاة أيضاً الثور الوحشي والنسبة إلى الشاء شاوي قال الشاعر :
لا ينفع الشاوي فيها شاته . . . ولا حماراه ولا غلاته
وفي الكامل لابن عدي في ترجمة خارجة بن عبد الله بن سليمان ، عن عبد الرحمن بن عائذ قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) : " من كانت له شاة ولا يصيب جاره من لبنها أو مسكين فليذبحها أو ليبعها " . ومما تواتر من حكمة لقمان وهو لقمان بن عنقاء بن بيرون وكان نوبياً من أهل آيلة ، أن سيده أعطاه شاة وأمره أن يذبحها ، ويأتيه بأطيب ما فيها ، فذبحها وأتاه بقلبها ولسانها . ثم أعطاه في يوم آخر شاة أخرى وأمره أن يذبحها ويأتيه بأخبث ما فيها فذبحها وأتاه بقلبها ولسانها . فسأله عن ذلك . فقال : هما أطيب ما فيها إن طابا ، وأخبث ما فيها إن خبثا . وهذا معنى قوله ( صلى الله عليه وسلم ) : " إن في الجسد مضغة إن صلحت صلح الجسد كله ، وإن فسدت فسد الجسد كله ، ألا وهي القلب " . ويقال إن سيده دخل الخلاء يوماً ، فأطال الجلوس فناداه : لا تطل الجلوس على الخلاء ، فإنه ينخع الكبد ، ويورث البواسير ، ويميت القلب .
ومن وصيته لابنه ، وأسمه ثاران ، وقيل غير ذلك : يا بني كن على حذر من اللئيم إذا أكرمته ، ومن الكريم إذا أهنته ، ومن العاقل إذا هجوته ، ومن الأحمق إذا مازحته ، ومن الجاهل إذا صاحبته ، ومن الفاجر إذا خاصمته ، وتمام المعروف تعجيله . يا بنى ثلاثة أشياء تحسن بالإنسان : حسن المحضر ، واحتمال الإخوان ، وقلة الملل للصديق . وأول الغضب جنون وآخره ندم . يا بني ثلاثة فيهم الرشد : مشاورة الناصح ، ومداراة العدو والحاسد ، والتحبب لكل أحد . يا بني المغرور من وثق بثلاثة أشياء : الذي يصدق ما لا يراه ، ويركن إلى من لا يثق به ،(2/56)
"""""" صفحة رقم 57 """"""
ويطمع فيما لا يناله . يا بني أحذر الحسد ، فإنه يفسد الدين ، ويضعف النفس ، ويعقب الندم . يا بني إذا خدمت والياً فلا تنم إليه بأحد ، فإنه لا يزيده ذلك منك إلا نفوراً ، فإنه إذا سمع منك في غيرك فإنه لا بد أن يسمع من غيرك فيك ، ويكون قلبه خائفاً منك أن تنم عليه نميت إليه بغيره ، ولا يزال محترساً منك . وكن يا بني أقرب الناس إليه عند فرحه ، وأبعدهم منه عند غضبه ، وإن ائتمنك فلا تخنه ، وإن أنالك يسيراً ، فخذه واقبله فتبلغ به أن تنال كثراً . وأكرم خدمه وألطف بأصحابه ، وغض طرفك عن محارمه ، وأصم أذنك عن مجاوبته ، وأقصر لسانك عن حديثه واكتم في المجالس سره ، واتبع باللطف هواه ، وناصح في خدمته ، واجمع عقلك في مخاطبته ، ولا تأمن الدهر من غضبه ، فإنه ليس بينك وبينه نسب . والغضب يسرع إليه في كل وقت ، ووثبته كوثبة الأسد . يا بني كتمان السر صيانة للعرض . يا بني إن ردت أن تقوى على الحكمة فلا تملك نفسك للنساء ، فإن المرأة حرب ليس فيها صلح ، وهي إن أحبتك أكلتك ، وإن أبغضتك أهلتك .
وفي كتاب ربيع الأبرار للزمخشري ، ورحلة ابن الصلاح ، التي بخطه ، قال الحسن البصري : لو وجدت رغيفاً من حلال ، لأحرقته ثم دققته ثم داويت به المرضى . ثم قال : اختلطت غنم البادية بغنم أهل الكوفة . فسأل أبو حنيفة كم تعيش الشاة ؟ قالوا : سبع سنين ، فترك أكل لحم الغنم سبع سنين . وأنشد المبرد :
ما إن دعاني الهوى لفاحشة . . . إلا عصاه الحياء والكرم
فلا إلى حرمة مددت يدي . . . ولا مشت بي لريبة قدم
وفي تاريخ ابن خلكان ، أن هشام بن عبد الملك بعث إلى الأعمش ، أن اكتب إلي بمناقب عثمان ومساوي علي رضي الله تعالى عنهما ، فأخذ الأعمش القرطاس وأدخله في فم شاة ، فلاكته وقال للرسول : قل له هذا جوابه . فذهب الرسول ثم عاد ، وقال : إنه آلى أن يقتلني إن لم آته بالجواب ، وتحيل عليه بأخوته ، فقالوا له : افده من القتل ، فلما ألحوا عليه ، كتب : أما بعد فلو كان لعثمان مناقب أهل الأرض ، ما نفعتك ، ولو كان لعلي مساوي أهل الأرض ، ما ضرتك ، فعليك بخوصية نفسك والسلام . والأعمش اسمه سليمان بن مهران من أعلام التابعين ، رأى أنس بن مالك وأبا بكرة الثقفي وأخذ بركابه فقال له : يا بني ، إنما أكرمت ربك . وكان لطيف الخلق مزاحاً ولم تفته التكبيرة الأولى سبعين سنة ، وله نوادر ، منها أنه كان له زوجة وكانت من أجمل نساء الكوفة ، فجرى بينهما كلام ، وكان الأعمش قبيح المنظر ، فجاءه رجل يقال له أبو البلاد يطلب الحديث منه ، فقال له : إن امرأتي نشزت علي ، فادخل عليها وأخبرها بمكاني من الناس ، فدخل عليها وقال : إن الله تبارك(2/57)
"""""" صفحة رقم 58 """"""
وتعالى قد أحسن قسمتك ، هذا شيخنا وسيدنا وعنه نأخذ أصل ديننا ، وحلالنا وحرامنا ، فلا يغرنك عموشة عينيه ولا خموشة ساقيه . فغضب الأعمش وقال له : يا خبيث أعمى الله قلبك ، قد أخبرتها بعيوبي ثم أخرجه من بيته . ومنها أن إبراهيم النخعي أراد أن يماشيه فقال له الأعمش : إن رآنا الناس معاً قالوا : أعور وأعمش فقال النخعي : وما عليك أن يأثموا ونؤجر فقال له الأعمش : وما عليك أن يسلموا ونسلم . ومنها أنه جلس يوماً في موضع فيه خليج من ماء المطر ، وعليه فروة خلقة ، فجاءه رجل وقال : قم عدني هذا الخليج وجذب بيده ، فأقامه وركبه ، وقال : " سبحان الذي سخر لنا هذا وما كنا له مقرنين " ، فمضى به الأعمش حتى توسط الخليج ورمى به ، وقال : " وقل رب أنزلني منزلا مباركاً وأنت خير المنزلين " ، ثم خرج وتركه يتخبط في الماء . ومنها أن رجلا جاء إلى الأعمش يطلبه ، فقيل له : خرج مع امرأة إلى المسجد ، فجاءه فوجدهما في الطريق ، فقال أيكما : الأعمش ؟ فقال الأعمش : هذه وأشار إلى المرأة . ومنه أنه عاده أقوام في مرضه ، فأطالوا الجلوس عنده ، فأخذ وسادته وقام ثم قال : شفى الله مريضكم فانصرفوا . ومنها أنه ذكر عنده يوماً قوله : " من نام عن قيام الليل بال الشيطان في أذنه " . فقال : ما عمشت عيناي إلا من بول الشيطان في أذني . وكتب إلى بعض إخوانه يعزيه :
إنا نعزيك لا أنا على ثقة . . . من البقاء ولكن سنة الدين
فلا المعزى بباق بعد ميته . . . ولا المعزي وإن عاشا إلى حين
توفي رحمه الله سنة سبع وقيل ثمان وقبل تسع وأربعين ومائة .
وفيه أيضاً أنه لما ولي عبد الله بن الزبير الخلافة بمكة ، ولى أخاه مصعب بن الزبير المدينة ، وأخرج منها مروان بن الحكم وابنه ، فصار إلى الشام ولم يزل يقيم للناس الحج من سنة أربع وستين إلى سنة اثنتين وسبعين ، فلما ولي عبد الملك بن مروان منع أهل الشام من الحج من أجل ابن الزبيب ، لأنه كان يأخذ الناس بالبيعة له إذا حجوا ، فضج الناس لما منعوا من الحج ، فبنى عبد الملك قبة الصخرة فكان الناس يقفون عندها يوم عرفة . ويقال : إن ذلك كان سبب التعريف في بيت المقدس ومساجد الأمصار . وقيل : إن أول من سن التعريف بالبصرة عبد الله بن عباس رضي الله تعالى عنهما ، وبمصر عبد العزيز بن مران ، وببيت المقدس عبد الملك بن مران .
ولما قتل عبد الملك مصعب بن الزبيب ، وأراد الرجوع ، قام إليه الحجاج فقال : إني رأيت في منامي أني أخذت عبد الله بن الزبيب فسلخته ، فولني قتاله . فبعثه في جيش كثيف من أهل الشام ، فحصر ابن الزبيب ، ورمى الكعبة بالمنجنيق . فلما رمى به أرعدت السماء وأبرقت فخاف أهل الشام ، فصاح الحجاج هذه صواعق تهامة ، وأنا ابنها ، ثم قام ورمى بنفسه فزاد ذلك وجاءت صاعقة تتبعها أخرى فقتلت من أصحابه اثني عشر رجلا ، وزاد خوف أهل الشام ، فلما أصبحوا صعقت السماء فقتلت بعض أصحاب ابن الزبيب ، فقال الحجاج لأصحابه : اثبتوا فإنه مصيبهم ما(2/58)
"""""" صفحة رقم 59 """"""
أصابكم ، ولم يزل يرميها بالمنجنيق حتى هدمها . ورموها بكيزان النفط فاحترقت الستائر حتى صارت رماداً ، وأن ابن الزبيب قال لأمه : إني لا آمن إن قتلت أن يمثل بي وأصلب ، فقالت له : يا ولدي إن الشاة ، إذا ذبحت لم تتألم بالسلخ ، فودعها وخرج من عندها . فحمل عليهم حتى ردهم على أعقابهم . فرمي بآجرة فأدمت وجهه فلما وجد سخونة الدم على وجهه أنشد قائلا :
ولسنا على الأعقاب تدمى كلومنا . . . ولكن على أقدامنا تقطر الدما وصاحت مولاة لآل الزبيب مجنونة ، وكانت رأته حينها : وا أمير المؤمنيناه وأشارت إليه . وقتل رضي الله تعالى عنه في ثالث عشر جمادى الآخرة سنة ثلاث وسبعين . وجاء الخبر إلى الحجاج فسجد وجاء هو وطارق ، فوقفا عليه فقال طارق : ما ولدت النساء اذكر من هذا فقال الحجاج : أتمدح من خالف طاعة أمير المؤمنين ؟ قال : نعم هو أعذر لنا ولولا هذا ما كان لنا عذر ، وإنا لمحاصروه وهو في غير حصن ولا منعة منذ ثمانية أشهر ينتصف منا ، بل يفضل علينا كلما التقينا . فبلغ كلامهما عبد الملك ، فصوب رأي طارق . ثم بعث الحجاج برأس ابن الزبير وجماعة إلى عبد الملك ، فبعث عبد الملك برأس ابن الزبير إلى عبد الله بن حازم الأسلمي ، وهو وال بخراسان من جهة ابن الزبير ودعاه إلى طاعته ، على أن يجعل له خراسان طعمة سبع سنين فقال ابن حازم للرسول : لولا أن الرسل لا تقتل لأمرت بضرب عنقك ، ولكن كل كتاب صاحبك فأكله . ثم أخذ الرأس فغسله وطيبه وكفنه ودفنه . وقيل : إنه بعث به إلى آل الزبير بالمدينة فدفنوه مع جثته بالمدينة . وماتت أمه أسماء بنت أبي بكر الصديق رضي الله عنهم بالمدينة بعده بخمسة أيام ولها مائة سنة .
وذكر الحافظ ابن عبد البر أن الكعبة رميت بالمنجنيق مرة أخرى ، حين حصرها مسلم بن الوليد بن عقبة بن أبي معيط ، في أيام يزيد بن معاوية ، في وقعة الحرة فمات يزيد ورجع مسلم إلى الشام .
غريبة : قال محمد بن عبد الرحمن الهاشمي : دخلت على أمي ، يوم عيد الأضحى ، فرأيت عندها امرأة في أثواب دنسة ، فقالت لي أمي : أتعرف هذه ؟ قلت : لا . قالت : هذه عتابة أم جعفر بن يحيى البرمكي فسلمت عليها ، وقلت لها : حدثيني ببعض أمركم ، فقالت : أذكر لك جملة فيها عبرة لمن اعتبر لقد هجم في مثل هذا اليوم ، يوم العيد ، وعلى رأسي أربعمائة وصيفة وأنا أزعم أن ابني جعفراً عاق لي ، وقد أتيتكم اليوم أسألكم جلدي شاتين ، أجعل أحدهما شعاراً للآخر دثاراً . قال : فدفعت إليها خمسمائة درهم ، ولم تزل تزور إلينا حتى فرق الموت بيننا . وسيأتي إلا شاء الله تعالى ، ذكر قتل جعفر في باب العين المهملة في العقاب .
وفي سنن ابن ماجه وكامل بن عدي ، في ترجمة أبي زر بن عبد الله ، من حديث ابن عمر ، رضي الله تعالى عنهما أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال : " الشاة من دواب الجنة " .
وفي الاستيعاب ، للحافظ أبي عمر بن عبد البر ، في ترجمة أبي رجاء العطاردي ، أن العرب(2/59)
"""""" صفحة رقم 60 """"""
كانوا يأتون بالشاة البيضاء فيعبدونها ، فيجيء الذئب فيأخذها ، فيأخذون أخرى مكانها . وفي سنن البيهقي وغيره أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) " كان يكره من الشاة ، إذا ذبحت ، سبعاً : الذكر والأنثيين والدم والمرارة والحياء والعذرة والمثانة " . قال : " وكان أحب الشاة إلى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) مقدمها " . وقالت أم سلمة رضي الله تعالى عنها : كان عندي رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ، فدخلت شاة فأخذت قرصاً تحت دن لنا ، فقمت إليها ، فأخذته من بين لحييها ، فقال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) : " ما كان ينبغي لك أن تعنقيها " ، أي تأخذي بعنقها وتعصريها . وروى مسلم عن سهل بن سعد الساعدي رضي الله تعالى عنه قال : كان بين مصلى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ، وبين الحائط ممر الشاة . قلت : وهذا يدل على استحباب القرب من السترة كما جاء عنه أيضاً ( صلى الله عليه وسلم ) : " إذا صلى أحدكم إلى سترة فليدن منها ، لئلا يقطع الشيطان عليه صلاته " . رواه أبو داود ، ولا يعارض حديث ممر الشاة بحديث صلاة النبي ( صلى الله عليه وسلم ) في الكعبة بينه وبين الجدار قدر ثلاثة أذرع " . وهو الذي يمكن المصلي أن يدرأ من يمر به ، إذ حمل بعضهم حديث ممر الشاة ، على ما إذا كان قائماً ، وحديث الثلاثة أذرع على ما إذا ركع أو سجد . ولم يذكر مالك في ذلك حداً ، وقدر بعضهم ممر الشاة بقدر شبر . وقد تقدم ، في البهيمة والجدي ، شيء من هذا . فائدة : في سنن أبي داود ، وغيرها أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ، أهدت له يهودية بخيبر ، شاة مصلية سمتها ، فأكل منها وأكل معه رهط من أصحابه ، فمات بشر بن البراء بن معرور ، فأرسل إلى اليهودية وقال : " ما حملك على ما صنعت ؟ " قالت : قلت إن كان نبياً فلن يضره ، وإن لم يكن نبياً استرحنا منه " فأمر ( صلى الله عليه وسلم ) بها فقتلت " . كذا رواه وهو مرسل ، فإن الزهري لم يسمع من جابر شيئاً . والمحفوظ ، أنه ( صلى الله عليه وسلم ) قيل له : ألا تقتلها ؟ فقال : " لا " . كذا رواه البخاري ومسلم ، وجمع البيهقي بينهما ، بأنه لم يقتلها في الابتداء ، فلما مات بشر أمر بقتلها ، وهي زينب بنت الحارث ابن سلام . وقال ابن إسحاق : إنها أخت مرحب اليهودي . وروى معمر بن راشد عن الزهري أنها أسلمت .
وروى الترمذي عن حكيم بن حزام رضي الله تعالى عنه أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) " بعثه ليشتري له أضحية بدينار ، فاشترى أضحية فأربح فيها ديناراً ، فاشترى أخرى مكانها وجاء بالأضحية والدينار إلى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ، فضحى بالشاة وتصدق بالدينار " . وفي صحيح البخاري وسنن أبي داود والترمذي وابن ماجه أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ، أعطى عروة بن الجعد ، وقيل : ابن أبي الجعد البارقي ديناراً ليشتري به شاة ، فاشترى شاتين ، فباع إحداهما بدينار ، وجاء بشاة ودينار . وذكر ما كان من أمره . فقال : " بارك الله لك في صفقة يمينك " . فكان يخرج بعد ذلك إلى كناسة البصرة فيربح الربح العظيم حتى صار من أكثر أهل الكوفة مالا . قال شبيب بن غرقدة : رأيت في دار عروة البارقي سبعين فرساً مربوطة للجهاد في سبيل الله تعالى . وروى عروة بن أبي الجعد ، عن(2/60)
"""""" صفحة رقم 61 """"""
رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ثلاثة عشر حديثاً وهو أول من قضى بالكوفة ، استعمله عمر بن الخطاب رضي الله تعال عنه على قضائها قبل شريح .
عجيبة : روى ابن عدي ، عن حسن بن واقد القصاب ، أن أبا جعفر البصري ، وكان من أهل الخير والصلاح ، قال : اضجعت شاة لأذبحها فمر أيوب السختياني فألقيت الشفرة ، وقمت معه أتحدث ، فوثبت الشاة فحفرت في أصل الحائط ، ودحرجت الشفرة فألقتها في الحفرة ، وألقت عليها التراب . فقال لي أيوب : أما ترى أما ترى . فجعلت على نفسي أن لا أذبح شيئاً بعد ذلك اليوم .
فائدة أخرى : كان أبو محمد عبد الله بن يحيى بن أبي الهيثم المصعبي ، من أصحاب الشافعي ، إماماً صالحاً عالماً من أهل اليمن ، من أقران صاحب البيان . ومن تصانيفه : احترازات المذهب والتعريف في الفقه ، روى أن أناساً ضربوه بالسيوف ، فلم تقطع سيوفهم فيه ، فسئل عن ذلك فقال : كنت أقرأ " ولا يؤده حفظهما وهو العلي العظيم " " ويرسل عليكم حفظة " " إن ربي على كل شيء حفيظ " " فالله خير حافظاً وهو أرحم الراحمين " " له معقبات من بين يديه ومن خلفه يحفظونه من أمر الله " " إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون " " وحفظناها من كل شيطان رجيم " " وجعلنا السماء سقفاً محفوظاً " " وحفظا من كل شيطان مارد " " وحفظاً ذلك تقدير العزيز العليم " " وربك على كل شيء حفيظ " " الله حفيظ عليهم وما أنت عليهم بوكيل " " وإن عليكم لحافظين كراماً كاتبين ، يعلمون ما تفعلون " " إن كل نفس لما عليها حافظ " إن بطش ربك لشديد ، إنه هو يبدئ ويعيد ، وهو الغفور الودود ، ذو العرش المجيد ، فعال لما يريد ، هل أتاك حديث الجنود ، فرعون وثمود ، بل الذين كفروا في تكذيب ، والله من ورائهم محيط ، بل هو قرآن مجيد ، في لوح محفوظ " .
ثم قال : كنت خرجت يوماً في جماعة ، فرأينا ذئباً يلاعب شاة عجفاء ولا يضرها شيئاً ، فلما دنونا منهما نفر منا الذئب ، فتقدمنا إلى الشاة ، فوجدنا في عنقها كتاباً مربوطاً فيه هذه الآيات .
توفي المصعبي سنة ثلاث وخمسين وخمسمائة .(2/61)
"""""" صفحة رقم 62 """"""
وقال الحافظ أبو زرعة الرازي : وقعت النار بجرجان فاحترق فيها تسعة آلاف بيت ، وجدوا فيها تسعة آلاف مصحف قد احترقت ، إلا هذه الآيات لم تحترق ، في كل مصحف ، وهي : " ذلك تقدير العزيز العليم " " وعلى الله فليتوكل المؤمنون " " ولا تحسبن الله غافلا عما يعمل الظالمون " " وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها " " وقضى ربك أن لا تعبدوا إلا إياه " " تنزيلا ممن خلق الأرض والسموات العلى ، الرحمن على العرش استوى له ما في السموات وما في الأرض وما بينهما وما تحت الثرى " " يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم " آتينا طوعاً أو كرهاً قالتا أتينا طائعين " " وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون ما أريد منهم من رزق وما أريد أن يطعمون إن الله هو الرزاق ذو القوة المتين " " وفي السماء رزقكم ما توعدون فورب السماء والأرض إنه لحق مثل ما أنكم تنطقون " .
قال : فما وضعت هذه الآيات في متاع أو بيت أو حانوت أو غير ذلك إلا حفظه الله تعالى قلت : وهي نافعة مجربة .
وروى الثعلبي وابن عطية والقرطبي وغيرهم ، عن سالم بن أبي الجعد ، قال : احترق لنا مصحف فلم يبق فيه إلا قوله تعالى : " ألا إلى الله تصير الأمور " . وغرق لنا مصحف فانمحى كل شيء فيه إلا هذه الآية .
وحدثنا شيخنا الإمام العارف بالله عبد الله بن أسعد اليافعي رحمه الله تعالى قال : بلغني عن سيدنا العارف الإمام أبي عبد الله محمد القرشي عن شيخه أبي الربيع المالقي أنه قال له : ألا أعلمك كنزاً تنفق منه ولا ينفد ؟ قلت : بلى . قال : قل يا الله يا أحد يا واحد يا موجود يا جواد يا باسط يا كريم يا وهاب يا ذا الطول يا غني يا مغني يا فتاح يا رزاق يا عليم يا حكيم يا حي يا قيوم يا رحمن يا رحيم يا بديع السموات والأرض يا ذا الجلال والإكرام يا حنان يا منان ، انفحني منك بنفحة خير تغنيني بها عمن سواك " إن تستفتحوا فقد جاءكم الفتح " " إنا فتحنا لك فتحاً مبينا " " نصر من الله وفتح قريب " اللهم يا غني يا حميد ، يا مبدئ يا معيد ، يا ودود يا ذا العرش المجيد ، يا فعالا لما يريد ، اكفني بحلالك عن حرامك ، وأغنني بفضلك عمن سواك ، واحفظني بما حفظت به الذكر ، وانصرني بما نصرت به الرسل ، إنك على كل شيء قدير . قال : فمن داوم على قراءته بعد كل صلاة ، خصوصاً صلاة الجمعة ، حفظه الله من كلا مخوف ، ونصره(2/62)
"""""" صفحة رقم 63 """"""
على أعدائه وأغناه ورزقه من حيث لا يحتسب ، وشر عليه معيشته ، وقضى عنه دينه ولو كان عليه مثل الجبال ديناً ، أداه الله تعالى عنه بمنه وكرمه .
وروى ابن عمي عن عبد الرحمن القرشي ، قال : حدثنا محمد بن زياد بن معروف حدثنا جعفر بن حسن عن أبيه قال : حدثنا ثابت البناني عن أنس رضي الله تعالى عنه ، قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) : " سألت الله تعالى الاسم الأعظم فجاءني جبريل عليه السلام به مخزوناً مختوماً ، وهو : اللهم إني أسألك باسمك الأعظم المكنون الطهر الطاهر المطهر المقدس المبارك الحي القيوم " . فقالت عائشة رضي الله تعالى عنها : بأبي أنت وأمي يا نبي الله علمنيه . فقال ( صلى الله عليه وسلم ) : عائشة نهينا عن تعليمه النساء والصبيان والسفهاء .
فائدة أخرى : روي عن أبي هريرة رضى الله تعالى عنه ، أنه قال : بينما عيسى بن مريم ويحيى بن زكريا عليهما السلام ، سائران إذ رأيا شاة وحشية ماخضاً ، فقال عيسى ليحيى : قل تلك الكلمات : حنة ولدت يحيى ، ومريم ولدت عيسى ، الأرض تدعوك يا ولد ، أخرج يا ولد . قال حماد بن زيد : فما يكون في الحي امرأة ماخض ، فيقال هذا عندها فلا تبرح حتى تضع بإذن الله تعالى . ويحيى أول من آمن بعيسى وصدقه وكانا ابني خالة ، وكان يحيى أكبر من عيسى بستة أشهر ثم قتل يحيى قبل رفع عيسى عليه السلام .
وعن يونس بن عبيد أنه قال : ما قال العبد : اللهم أنت عدتي في كربتي ، وأنت صاحبي في غربتي ، وأنت حفيظي عند شدتي ، وأنت ولي نعمتي ، عند النفساء أو البهيمة الماخض ، إلا يسر الله عليها وضع الولد . قال بعض الحكماء : من خصائص الزبد البحري ، أنه إذا علق على ذات طلق ، سهل الله عليها الولادة . وكذلك قشر البيض إذا سحق ناعماً ، وشرب بماء فإنه يسهل الولادة ، وقد جرب مراراً عديدة فصح . وقد ورد في الحديث " مثل المؤمن كالشاة المأبورة " ، أي التي أكلت الإبرة في علفها فنشبت في جوفها ، فهي لا تأكل شيئاً وإن أكلت لم ينجع فيها . وفيه أيضاً " مثل المنافق كالشاة الرابضة بين غنمين أراد أنها مذبذبة بين قطيعين من الغنم ، لا إلى هؤلاء ، ولا إلى هؤلاء . والرابضة أيضاً ملائكة أهبطوا مع آدم عليه الصلاة والسلام يهدون الضال ولعله من الإقامة وقال الجوهري : الرابضة حملة الحجة لا تخلو منهم الأرض .
الحكم : يحل أكلها بالإجماع ، وإن أوصى بشاة تناول صغيرة الجثة وكبيرتها ، سليمة ومعيبة ، ضأناً ومعزاً ، لصدق الاسم على الجميع .
فرع : ومن أحكامها في الأضحية ، أن الأضحية سنة غير واجبة ولا تصح إلا من النعم ، ولا يجزى من الضأن إلا الجذعة وهي ما لها سنة تامة وشرعت في الثانية على الأصح عند ص أصحابنا كما تقدم ، في باب الجيم ، في الجذعة . ومن المعز إلا الثنية ، وهي التي شرعت في السنة الثالثة . ويشترط أن تكون سليمة من كل عيب يضر باللحم ، فلا تجزئ العجفاء ، ولا العوراء ،(2/63)
"""""" صفحة رقم 64 """"""
ولا المريضة ، ولا العرجاء ، ولا الجرباء ، ولا مكسورة القرن ، ولا مقطوعة الأذن ، ولا التي لم يخلق لها أذن ، وفي مشقوقة الأذن وجهان : قاله في العباب ، وإذا لم تجزئ العوراء ، فالعمياء أولى . وأما العمش وضعف البصر ، من إحدى العينين ، أو كلتيهما ، فلا يمنع الإجزاء وقال الروياني : إن غطى على الناظر بياض وأذهب بعضه دون بعض ، فإن ذهب الأكثر لم تجز التضحية بها ، وإن ذهب الأقل ، جازت . وفي العشواء ، وهي التي تبصر نهاراً لا ليلا ، وجهان : الأصح الإجزاء . وقد ورد النهي عن التولاء ، وهي المجنونة ، وهي التي تستدبر المرعى ولا ترعى إلا قليلا . فتهزل . وأما مقطوعة الأذن فينظر فإن لم يبن منها شيء بل بقي طرفها متدلياً ، لم يمنع على الأصح . وقال القفال : إنها لا تجزئ . وإن أبين فإن كان كثيراً بالإضافة إلى الأذن فإنها لا تجزئ قطعاً ، وإن كان يسيراً فلا تجزئ على الأصح ، لفوات جزء مأكول . قال الإمام : وأقرب ضبط بين القليل والكثير ، أنه إن لاح النقص من البعد فكثير ، وإلا فقليل .
وقال أبو حنيفة : إن كان المقطوع دون الثلث ، لا يمنع الإجزاء ولا يضر الكي وقيل : وجهان . وتجزئ صغيرة الأذن ، ولا تجزئ التي أخذ الذئب مقداراً بيناً من فخذها . والمقطوعة الألية لا تجزئ على المذهب وتجزئ الشاة التي خلقت بلا ضرع ، أو بلا ألية على الأصح . وقطع بعض الألية والضرع ، كقطع كليهما . ولا تجزئ مقطوعة اللسان ، والأصح إجزاء المجبوب والخصي ، وشذ ابن كج ، فحكى في الخصي قولين : وجعل الجديد عدم الإجزاء . وتجزئ التي لا قرن لها ، والمكسورة القرن سواء اندمل أم لا على الأصح وجزم المحاملي ، في اللباب ، بعدم الإجزاء كما تقدم . قال القفال : إلا أن يؤثر ألم الانكسار في اللحم ، فيكون كالجرب وذات القرن أفضل . وتجزئ التي ذهب بعض أسنانها .
فائدة : قال الجوهري : الأضحية فيها أربع لغات أضحية وأضحية بضم الهمزة وكسرها ، والجمع أضاحي ، وضحية والجمع ضحايا ، وأضحاة كأرطاة والجمع أضحى كأرطى ، بها سمي يوم الأضحى .
فرع : النية شرط في الأضحية ويجوز تقديمها على الذبح في الأصح ، ولو قال : جعلت هذه الشاة أضحية ، فهل يكفي التعيين والقصد دون نية الذبح ؟ وجهان أصحهما لا ، لأن الأضحية سنة كما تقدم ، وهي قربة في نفسها فوجبت النية فيها . واختار الإمام والغزالي الاكتفاء ، وإذا قلنا بالاكتفاء فالمستحب تجديد النية . فرع : يستحب للمضحي أن يذبح بيده ، ويجوز أن يفوض ذبحها إلى غيره ، وكل من حلت ذبيحته جاز التفويض إليه . والأولى أن يكون مسلماً ، وأن يكون فقيهاً ، ليكون عارفاً بوقتها وشرائطها ، ويجوز استنابة الكتابي ، وقال مالك : لا يجوز ويكون ما ذبحه شاة لحم . وحكى الموفق بن طاهر الحنبلي ، عن أحمد مثله . ويستحب أن يأكل الثلث ويهدي الثلث ويتصدق بالثلث . وفي قول أن يأكل النصف ، ويتصدق بالنصف ، فإن أكل الكل معاً ، فالمذهب أنه يضمن القدر الذي يجزئ فيه ، وهو أدنى جزء . وقيل لا يضمن ، وقيل يضمن القدر المستحب ، وهو الثلث أو النصف ، ولا يجوز بيع شيء منها ، ولا أن يعطي الجزار منها شيئاً أجرة ، بل مؤنة الذلح على المضحي كمؤنة الحصاد .(2/64)
"""""" صفحة رقم 65 """"""
فرع : اعلم أن العلماء رضي الله تعالى عنهم قالوا : ادخار الأضحية فوق ثلاث منهي عنه . وهل يجوز أكل الجميع ؟ وجهان : أحدهما نعم ، وبه قال ابن سريج والأصطخري وابن القاص واختاره ابن الوكيل لأنه يجوز أكل أكثرها ، فيجوز أكل جميعها ، وحيازة الثواب تحصل بإراقة الدم لقصد النية ، ونسب ابن القاص هذا الوجه إلى النص ، وحكاه الموفق الحنبلي عن أبي حنيفة ، وأصح الوجهين أنه لابد من التصدق بقدر ما يطلق عليه الاسم .
فرع : لو قال جعلت هذه الشاة أضحية أو نذر أن يضحي بشاة بعينها ، زال ملكه عنها ولا ينفذ تصرفه فيها ببيع ولا هبة ولا إبدال ، ولو بجزء منها وعن الشيخ أبي علي وجه أنه لا يزول الملك عنها حتى تذبح ويتصدق بلحمها ، كما لو قال : لله علي أن أعتق هذا العبد لا يزول ملكه عنه إلا بإعتاقه وعند أبي حنيفة ، أنه لا يزول الملك عنها ولا يجوز بيعها ، ولا إبدالها ولو نذر العتق في عبد بعينه لا يجوز بيعه وإبداله ، وإن لم يزل الملك عنه . وقال أبو حنيفة رحمه الله : يجوز بيعه لإبداله ، فلو باعها فإنها تسترد إذا كانت العين باقية ، فإن أتلفها المشتري أو تلفت عنده فعليه القيمة من يوم القبض إلى يوم التلف . فلو ذبح رجلان ، كل واحد منهما أضحية الآخر ، بغير إذنه ، ضمن كل واحد منهما ما بين القيمتين ، أو أجزأت عن الأضحية .
فرع : قال المحاملي : وتنحر الإبل وتذبح الغنم فإن نحر كلها ، أو ذبح كلها جاز ، وموضع النحر في السنة والاختيار اللبة ، وموضع الذبح أسفل مجامع اللحيين ، وكمال الذبح أن يقطع الحلقوم والمريء والودجين ، وأقل ما يجزئ في الذكاة ، أن يبين الحلقوم والمريء انتهى .
فرع : لو ولدت الأضحية الواجبة ، ذبح ولدها معها ، سواء كانت معينة أو في الذمة بعد ما عين ، وله أن يشرب من لبنها ما يفضل عن ولدها ، قاله القاضي أبو سعيد الهروي .
الأمثال : قالوا : كل شاة برجلها معلقة . أول من قال ذلك : وكيع بن سلمة بن زهير بن إياد ، وكان قد ولي أمر البيت ، بعد جرهم ، فبنى صرحاً بأسفل مكة ، وجعل فيه أمة يقال لها حزورة وبه سميت الحزورة التي بمكة . وجعل في الصرح سلماً ، وكان يزعم أنه يرقاه فيناجي فيه ربه تعالى . وكان ينطق بكثير من الخير ، وكان علماء العرب يقولون : إنه من الصديقين ، فلما حضرته الوفاة جمع أولاده وقال لهم اسمعوا وصيتي : من رشد فاتبعوه ، ومن غوى فارفضوه ، وكل شاة برجلها معلقة . فأرسل مثلا أي كل أحد يجزى بعمله " ولا تزر وازرة وزر أخرى " . الخواص : جلد الشاة ، إذا أخذ حين يسلخ ، وألبس للمضروب بالسياط ، نفعه وسكن ألمه .
الشامرك : الفتي من الدجاج قبل أن يبيض بأيام قلائل . قاله في المرصع ، وكنيته أبو يعلى ، وهو معرب الشاه مرغ ، ومعناه ملك الطير .(2/65)
"""""" صفحة رقم 66 """"""
الشاهين : جمعه شواهين وشياهين ، وليس بعربي ، لكن تكلمت به العرب . قال الفرزدق :
حمى لم يحط عنه سريع ولم يخف . . . نويرة يسعى بالشياهين طائرة
ويروى بالشواهين وقال عبد الله بن المبارك :
قد يفتح المرء حانوتاً لمتجره . . . وقد فتحت لك الحانوت بالدين
بين الأساطين حانوت بلا غلق . . . تبتاع بالدين أموال المساكين
صيرت دينك شاهيناً تصيد به . . . وليس يفلح أصحاب الشواهين وقد تقدمت له أبيات ، في باب الباء الموحدة ، في البازي ، تشبه هذه . ومن كلامه : تعلمنا العلم للدنيا ، فدلنا على ترك الدنيا . والشاهين ثلاثة أنواع : شاهين وقطامي وأنيقي . والشاهين في الحقيقة من جنس الصقر ، إلا أنه أبرد منه وأيبس مزاجاً ، ولأجل ذلك تكون حركته من العلو إلى السفل شديدة ، ولهذا ينقض على سيده انقضاضاً من غير تحريم ، وعنده جبن وفتور ، وهو مع ذلك شديد الضراوة على الصيد ولأجل ذلك ربما ضرب بنفسه الأرض فمات . وعظامه أصلب من عظام سائر الجوارح وبعضهم يقول الشاهين كاسمه يعني الميزان ، لأنه لا يتحمل أدنى حال من الشبع ، ولا أيسر حال من الجوع ، والمحمود من صفاته أن يكون عظيم الهامة ، واسع العينين ، رحب الصدر ، ممتلئ الزور ، عريض الوسط ، جليد الفخذين ، قصير الساقين ، قليل الريش ، رقيق الذنب إذا صلب عليه جناحيه ، لم يفضل عنه منهما شيء ، فإذا كان كذلك ، صاد الكركي وغيره . ويقال : إن أول من صاد به قسطنطين ، وكانت الشواهين ريضت له ، وعلمت أن تحوم على رأسه إذا ركب فتظله من الشمس ، وكانت تنحدر مرة وترتفع أخرى ، فإذا ركب وقفت حوله إلى أن ركب يوماً ، فثار طائر من الأرض ، فانقض عليه بعض الشواهين ، فأخذه فأعجبه ذلك وضراه على الصيد .
وحكمه : يأتي في باب الصاد المهملة ، إن شاء الله تعالى ، في الصقر .
ومن الرسائل التي كتبتها قديماً للأخ فارس الدين شاهين ، وأنا بالمدينة النبوية على ساكنها أفضل الصلاة والسلام :
سلام كما فاحت بروض أزاهم . . . يضيء كما لاحت بأفق زواهر
إذا عبقت كتبي به قال قائل . . . أفي طيها نشر من المسك عاطر
إلى فارس الدين الذي قد ترحلت . . . لخدمة خدام مصر الأكابر
إذا عد خدام الملوك جميعهم . . . فبينهم ذكر لشاهين طائر(2/66)
"""""" صفحة رقم 67 """"""
وعندي اشتياق نحوه وتلفت . . . إليه وقلبي بالمودة عامر
تمنيت جهدي أن أراه بحضرة . . . معظمة أقطارها وهو حاضر
وأدعو له في كل وقت مشرف . . . وكل زماني فضله متواتر
وفي مسجد عال كريم معظم . . . له شرف في سائر الأرض سائر
يقبل الأرض التي لها بشاهين علو النسرين ، وجود المرزمين ، قصرت عقاب الجو عن مطارها ، والعنقاء ذات الحسن عن محاسن أخبارها ، وطائرها الميمون صراح ، وحامل بطائق سعدها ، منشور الجناح ، يعترف أبو الصقر لشاهينها ، والبزاة وإن استقرت على يمين الملوك لتمكينها ، طالما تصيدت الملوك بإحسانها ، ونشرت جناحاً طار إلى أفق المعالي ومكانها ، وينهي أن له إلى مولانا أشواقاً غالبه ، وعيناً برؤيته في تلك البقاع الشريفة مطالبه ، وأدعية له عليها في كل وقت مواظبه ، ويذكر إحسان مولانا ، ويصفه فما أولانا بذكر ما أولانا ، وكيف لا يحوز صدقاً قصب السبق وهي فارسية ، ويطير حائما على أفق العلا فضله وهو ذو نسبة شاهينيه ، والمملوك يتذكر صدقاته وإحسانه في كل أوقاته ، على أن المخدوم مازال يستبق الخيرات ، ويسارع إلى جبر القلوب بأنواع المسرات ، ويبذل معروفه إلى البعيد والقريب ، ويرسل جوده الذي مازال يلبي دعوة الداعي ويجيب ، فأدام الله على مولانا سوابغ نعمه ، وعمه بإحسانه العميم بمنه وكرمه . وسيأتي ، إن شاء الله تعالى ، في باب الصقر ذكر أب الصقر المشار إليه .
وتعبيره : يأتي في الصقر ، إن شاء الله تعالى أيضاً .
الشبب : الثور المسن وكذلك الشبوب والمشب .
الشبث : بالتحريك العنكبوت . قال في المحكم : هي دويبة لها ست قوائم طوال ، صفراء الظهر ، وظهور القوائم سوداء الرأس ، زرقاء العينين ، وقيل : دويبة كثيرة الأرجل ، عظيمة الرأس ، واسعة الفم ، مرتفعة المؤخر ، تحرث الأرض ، وهي التي تسمى شحمة الأرض . والجمع أشباث وشبثان . وقال الجوهري : الشبث ، بالتحريك ، دويبة كثيرة الأرجل ولا تقل شبث بإسكان الباء الموحدة . والجمع شبثان مثل خرب وخربان .
وحكمها : تحريم الأكل لأنها من الحشرات .
الشبثان : بكسر الشين المعجمة ، وبالباء الموحدة ثم الثاء المثلثة ثم نون في آخره ، ذكر ابن قتيبة ، في أدب الكاتب ، أنها دويبة تكون في الرمل ، سميت بذلك لتشبثها بما دبت عليه . قال الشاعر :
مدارك شبثان لهن لهيم
وحكمها : تحريم الأكل لأنها من الحشرات التي لا تؤكل . الشبدع : العقرب والجمع الشبادع بكسر الشين والدال غير المعجمة ، حكاه أبو عمرو والأصمعي .(2/67)
"""""" صفحة رقم 68 """"""
وفي الحديث : " من عض على شبدعه ، سلم من الآثام " . أي على لسانه أي سكت ، ولم يخض مع الخائضين ولم يلسع به الناس لأن العاض على لسانه ، لا يتكلم ، فشبه اللسان بالعقرب الضارة .
الشبربص : كسفرجل : الجمل الصغير .
الشبل : ولد الأسد ، إذا أدرك الصيد ، والجمع أشبال وشبول .
الشبوة : العقرب والجمع شبوات قال الراجز :
قد جعلت شبوة تزبئر . . . تكسو أستها لحماً وتقمطر
الشبوط : كسفود ضرب من السمك . قال الليث : والسبوط بالسين المهملة لغة فيه ، وهو دقيق الذنب ، عريض الوسط ، لين المس ، صغير الرأس ، وهذا النوع قليل الإناث ، كثير الذكور ، فهو قليل البيض ، بسبب ذلك .
وذكر بعض الصيادين أنه ينتهي إلى الشبكة ، فلا يستطيع الخروج منها ، فيعلم أنه لا ينجيه إلا الوثوب ، فيتأخر قدر رمح ثم يهمز فيثب ، فربما كان وثوبه في الهواء أكثر من عشرة أذرع ، فيخرق الشبكة ويخرج منها . ولحمه كثير جداً وهو كثير بدجلة .
الشجاع : بالضم والكسر ، الحية العظيمة التي تثب على الفارس والراجل ، وتقوم على ذنبها ، وربما بلغت رأس الفارس ، وتكون في الصحاري ، روي أن مالك بن أدهم ، خرج يتصيد فلما صار إلى بلد قفر ومعطش ، ومعه جماعة من أصحابه ، طلبوا الماء فلم يقدروا عليه ، فنزل وضربت له خيمة ، وأمر أصحابه أن يطلبوا الماء والصيد ، فخرجوا في طلبهما فأصابوا ضباً ، فأتوه به ، فقال : اشووه ولا تنضجوه ، ومصوه مصاً لعلكم تنتفعون به ، ففعلوا ذلك ، ثم أثاروا شجاعاً ، وأرادوا قتله ، فدخل على مالك خيمته فقال : قد استجار بي فأجيروه ، ففعلوا ذلك ، ثم خرج هو وأصحابه في طلب الماء ، فإذا هاتف يهتف بهم وهو يقول :
يا قوم يا قوم لا ماء لكم أبداً . . . حتى تحثوا المطايا يومها التعبا
وسددوا يمنة فالماء عن كثب . . . ماء غزير وعين تذهب الوصبا
حتى إذا ما أخذتم منه حاجتكم . . . فاسقوا المطايا ومنه فاملؤوا القربا
فأخذ هو وأصحابه في الجهة التي نعتها الهاتف لهم في شعره ، فإذا هم بعين غزيرة ، فسقوا منها إبلهم ، وتزودوا فلما فعلوا ذلك لم يروا للعين أثراً ، وإذا بهاتف يهتف بهم ويقول :
يا مال عني جزاك الله صالحة . . . هذا وداع لكم مني وتسليم
لا تزهدن في اصطناع العرف من أحد . . . إن امرأ يحرم المعروف محروم
الخير يبقى وإن طالت مغيبته . . . والشر ما عاش منه المرء مذموم .(2/68)
"""""" صفحة رقم 69 """"""
وفي الصحيحين ، عن جابر وأبي هريرة وابن مسعود ، رضي الله تعالى عنهم أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) . قال : " ما من رجل لا يؤدي زكاة ماله ، إلا مثل له يوم القيامة شجاعاً أقرع له زبيبتان ، يفر منه وهو يتبعه حتى يطوقه في عنقه " . وفي رواية مسلم " يتبعه فاتحاً فاه ، فإذا أتاه فر منه ، فيناديه خذ كنزك الذي خبأته فإذا رأى أنه لا بد له منه سلك يده في فيه ، فيقضمها قضمة الفحل ، ثم يأخذ بلهزمتيه ، يعني شدقيه ، ثم يقول : أنا مالك أنا كنزك ، ثم تلا هذه الآية : " ولا تحسبن الذين يبخلون بما آتاهم الله من فضله هو خيراً لهم بل هو شر لهم سيطوقون ما بخلوا به يوم القيامة " : والأقرع الذي تمعط رأسه وأبيض من السم . والزبيبتان الريشتان من جانبي فمه من كثرة السم ويكون مثلهما في شدقي الإنسان عند كثرة الكلام ، وقيل نكتتان في عينيه ، وما هو بهذه الصفة من الحيات ، هو أشد أذى . وقيل هما نابان يخرجان من فيه ويقضمها بفتح الضاد أي يأكلها ، والقضم بأطراف الأسنان والخضم بالفم كله ، وقيل : القضم أكل اليابس والخضم أكل الرطب ، وتزعم العرب أن الرجل إذا طال جوعه يعرض له في البطن حية يسمونها الشجاع والصفر . قال أبو خراش يخاطب امرأته :
أرد شجاع البطن لو تعلمينه . . . وأوتر غيري من عيالك بالطعم
وأغتبق الماء القراح وأنثتي . . . إذا الزاد أمسى للمزلج ذا طعم
أراد بالأول الطعام ، وبالثاني ما يشتهى منه ، والغبوق الشرب بالعشي ، والمزلج من الرجال الناقص الذوق الضعيف . وقال الشاعر :
فأطرق إطراق الشجاع ولو رأى . . . مساغاً لناباه الشجاع لصمما هذه بغة بني الحارث بن كعب ، وهي إبقاء ألف الشية في حالتي النصب والخفض ، وهو مذهب الكوفيين ومنه قوله تعالى : " إن هذان لساحران " .
وتعبيره في الرؤيا يمل على ولد جسور ، أو امرأة بازلة .
الشحرور : كسحنون طائر أسود فوق العصفور ، يصوت أصواتاً ، قاله ابن سيده وغيره ، وما أحسن ما قال الشيخ العلامة علاء الدين الباجي ، ووفاته سنة أربع عشرة وسبعمائة : دو بيت بالبلبل والهزار والشحرور يكسى طرباً قلت الشجي المغرور
فانهض عجلا وانهب من اللذة ما . . . جادت كرماً به يد المقدور
وقد أجاد القائل في وصفه حيث قال :
وروضة أزهرت أغصانها وشدت . . . أطيارها وتولت سقيها السحب(2/69)
"""""" صفحة رقم 70 """"""
وظل شحرورها الغريد تحسبه . . . أسيوداً زامراً مزماره ذهب
وما أحسن قوله أسيود وهو تصغير أسود ، وقال آخر وأجاد :
له في خده الوردي خال . . . يدور به بنفسج عارضيه
كشحرور تخبأ في سياج . . . مخافة جارح من مقلتيه
وحكمه : كالعصفور ، وسيأتي إن شاء الله تعالى .
وتعبيره : في الرؤيا يدل على رجل من كتاب السلطان نحوي أديب وربما دل على الولد الذكي الفصيح أو على صبي المكتب والله أعلم .
شحمة الأرض : دويبة إذا مسها الإنسان تجمعت وصارت مثل الخرزة . وقال القزويني ، في الأشكال : إن شحمة الأرض تسمى بالخراطي وهي دودة طويلة حمراء ، توجد في المواضع الندية . وقال الزمخشري ، في ربيع الأبرار : إنها دويبة منقطة بحمرة ، كأنها سمكة بيضاء ، يشبه بها كف المرأة . وقال هرمس : إنها دابة صغيرة طيبة الريح ، لا تحرقها النار ، وتدخل في النار من جانب وتخرج من جانب .
الخواص : من طلي بشحمها لم تضره النار ولو دخل فيها وإذا أخذت ، شحمة الأرض وجففت وسقي منها قدر درهم للمرأة التي تعسرت ولادتها فإنها تلد من ساعتها . وقال القزويني : إذا شويت وأكلت بالخبز فتتت الحصا من المثانة وتجفف وتطعم لصاحب اليرقان فإنها تذهب صفرته . ورمادهما يخلط بدهن ، ويطلى به رأس الأقرع ، ينبت الشعر ويزيل القرع .
وحكمها وتعبيرها : كالدود ، وقد تقدم في باب الدال المهملة ، أنها غير مأكولة لأنها من الخبائث .
الشنا : بفتح الشين والذال المعجمة ذباب الكلب ، وقد يقع على البعير . الواحدة شذاة .
الشران : شبيه بالبعوض يغشى وجوه الناس .
الشرشق : الشقراق .
الشرشور : كعصفور طائر مثل العصفور أغبر على لطافة الحمرة ، قاله ابن سيده وقد تقدم في باب الباء أنه أبو براقش .
وحكمه : حل الأكل لأنه داخل في عموم العصافير .
الشرغ : والشرغ الضفدع الصغير وسيأتي ، إن شاء الله تعالى ، في لفظ الضفاع ، في باب الضاد المعجمة .
الشرنبي : كحبنطي طائر معروف يعرفه الأعراب .
الشصر : بالتحريك ولد الظبية وكذلك الشاصر قاله أبو عبيدة .(2/70)
"""""" صفحة رقم 71 """"""
الشعراء : بفتح الشين وكسرها ، وبالعين المهملة الساكنة ، ذباب أزرق أو أحمر ، يقع على الإبل والحمير والكلاب ، فيؤذيها أذى شديداً . وقيل : ذباب كذباب الكلب . وفي السيرة أن المشركين نزلوا بأحد يوم الأربعاء ، فلما سمع رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) بنزولهم ، استشار أصحابه ودعا عبد الله بن أبي بن سلول ، ولم يدعه قبلها قط فاستشاره فقال عبد الله بن أبي وأكثر الأنصار : يا رسول الله أقم بالمدينة ولا تخرج إليهم فوالله ما خرجنا منها إلى عدو قط إلا أصاب منا ، ولا دخل علينا إلا أصبنا منه ، فكيف وأنت فينا فدعهم يا رسول الله ، فإن أقاموا أقاموا بشر مجلس ، وإن دخلوا علينا قاتلهم الرجال في وجوههم ، ورماهم النساء والصبيان بالحجارة من فوقهم ، وإن رجعوا رجعوا خائبين . فأعجب رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) هذا الرأي ، وقال بعض أصحابه : يا رسول الله أخرج بنا إلى هذه الأكلب ، لا يرون أنا جبنا عنهم وضعفنا ، فقال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) : " إني رأيت في منامي بقراً تذبح ، فأولتها خيراً ، ورأيت في ذباب سيفي ثلماً ، فأولتها هزيمة ، ورأيت أني أدخلت يدي في درع حصينة ، فأولتها المدينة ، فإن رأيتم أن تقيموا بالمدينة ، فافعلوا " . وكان رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يعجبه أن يدخلوا عليه المدينة ، فيقاتلوا في الأزقة ، فقال رجال من المسلمين ، ممن فاتهم يوم بدر ، وأكرمهم الله بالشهادة يوم أحد : أخرج بنا إلى أعداء الله يا رسول الله . فدخل رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) بيته ولبس لأمته ، فلما رأوه قد لبس السلاح ، ندموا وقالوا : بئسما صنعتم ، نشير على رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ، والوحي يأتيه فقالوا : اصنع ما رأيت يا رسول الله ، واعتذروا . فقال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) : " لا ينبغي لنبي أن يلبس لأمته فيضعها حتى يقاتل " . وكان قد أقام المشركون بأحد الأربعاء والخميس ، فخرج إليهم رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ، يوم الجمعة بعدما صلى بأصحابه الجمعة ، فأصبح بالشعب من أحد يوم السبت النصف من شوال سنة ثلاث من الهجرة ، وكلا أصحابه سبعمائة رجل فجعل عبد الله بن جبير وهو أخو خوات بن جبير رضي الله عنهما على الرماة ، وكانوا خمسين رجلا ، وقال عليه الصلاة والسلام : " أقيموا بأصل الجبل ، وانضحوا عنا بالنبل ، حتى لا يأتونا من خلفنا ، وإن كانت لنا أو علينا فلا تبرحوا حتى أرسل إليكم ، فإنا لا نزال غالبين ما ثبتم مكانكم " . فجاءت قريش وعلى ميمنتهم خالد بن الوليد ، وعلى ميسرتهم عكرمة بن أبي جهل رضي الله تعالى عنهما ، ومعهما النساء يضربن بالدفوف ، ويقلن الأشعار ، فقاتلوا حتى حميت الحرب ، فأخذ رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) سيفاً وقال : " من يأخذ هذا بحقه ويضرب به العدو حتى ينحني " ؟ فأخذه أبو دجانة سماك بن خرشة رضي الله تعالى عنه ، فلما أخذه اعتم بعمامة حمراء ، وجعل يتبختر فقال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) : " إنها لمشية يبغضها الله تعالى إلا في هذا الموضع " ، ففلق به هام المشركين . وحمل النبي ( صلى الله عليه وسلم ) وأصحابه على المشركين ، فهزموهم . فقال أصحاب عبد الله بن جبير : الغنيمة الغنيمة ، والله لتأتين الناس فلنصيبن من الغنيمة ، فلما أتوهم ، صرفت وجوههم ، وقال الزبير بن العوام : فلما نظرت الرماة إلى القوم وقد انكشفوا ورأوا أصابهم ينتهبون الغنيمة ، أقبلوا يريدون النهب ، فلما رأى خالد بن الوليد رضي الله تعالى عنه(2/71)
"""""" صفحة رقم 72 """"""
قلة الرماة ، واشتغال الناس بالغنيمة ، ورأى ظهورهم خالية صاح في خيله من المشركين ، ثم حمل على أصحاب رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) من خلفهم فهزمهم ، و " رمى عبد الله بن قمئة رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) بحجر فكسر رباعيته ، وهشم أنفه وشجه في وجهه ، فأثخنه وتفرق عنه أصحابه ، ونهض رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) إلى صخرة ليعلوها وكان ( صلى الله عليه وسلم ) قد ظاهر بين درعين ، فلم يستطع النهوض ، فجلس تحته طلحة رضي الله تعالى عنه ، فنهض ( صلى الله عليه وسلم ) حتى استوى عليها " . ووقفت هند والنسوة معها يمثلن بالقتلى ، يجدعن الآذان والأنوف حتى اتخذت هند من ذلك قلائد ، وأعطتها وحشياً ، وبقرت عن كبد حمزة رضي الله تعالى عنه فلاكتها فلم تستطع أن تسيغها فلفظتها وأقبل عبد الله بن قمئة ، يريد قتل النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ، فذب عنه مصعب بن عمير رضي الله تعالى عنه ، صاحب راية رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فقتله ابن قمئة ، وهو يرى أنه قتل رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ، فرجع وقال : إني قتلت محمداً وصاح صائح : ألا إن محمداً قد قتل ، ويقال : إن ذلك الصائح كان إبليس ، فانكفأ الناس وجعل رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يدعو الناس إلى عبادة الله تعالى ، فاجتمع إليه ثلاثون رجلا فحموه حتى كشفوا عنه المشركين ، وأصيبت يد طلحة رضي الله تعالى عنه ، فيبست حين وقى بها رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ، وأصيبت عين قتادة رضي الله تعالى عنه يومئذ ، حتى وقعت على وجنته ، فردها رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) مكانها فكانت أحسن ما كانت . فلما انصرف رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ، أدركه أبي بن خلف الجمحي ، وهو يقول : لا نجوت إن نجا محمد فقال القوم : يا رسول الله ألا يعطف عليه رجل منا فقال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) : " دعوه " حتى إذا دنا منه ، وكان أبي قبل ذلك يلقى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فيقول : عندي رمكة أعلفها كل يوم ، فرق ذرة أقتلك عليها ، فيقول رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) : " بل أنا أقتلك إن شاء الله تعالى " . فلما دنا منه يوم أحد ، وهو راكب فرسه ، تناول رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) الحربة من الحارث بن الصمة ، وانتفض بها انتفاضة ، فتطايرنا عنه تطاير الشعراء عن ظهر البعير إذا انتفض ، وطعنه في عنقه طعنة خدشته خدشة غير كبيرة ، فتدهمه بها عن فرسه ، وهو يخور كما يخور الثور ، ويقول : قتلني محمد ، فحمله أصحابه ، وأتوا به قريشاً وقد حقد الدم واحتقن ، فقالوا : لا بأس عليك ، فقال : بلى لو كانت هذه الطعنة بربيعة ومضر لقتلهم أليس قال : أنا أقتلك ؟ فوالله لو بصق علي بعد تلك المقالة قتلني ، فلم يلبث إلا يوماً واحداً . ومات عدو الله بموضع يقال له سرف . وقال فيه حسان بن ثابت الأنصاري رضي الله تعالى عنه :
لقد ورث الضلالة عن أبيه . . . أبى حين بارزه الرسول
أتيت إليه تحمل رم عظم . . . وتوعده وأنت به جهول
وقد قال ( صلى الله عليه وسلم ) : " أشد الناس عذاباً من قتل نبياً أو قتله نبي " ، لأنه من المعلوم أن النبي لا يقتل أحداً ولا يتفق ذلك إلا في شر الخلق .(2/72)
"""""" صفحة رقم 73 """"""
الشغواء : بفتح الشين وسكون الغين المعجمة وبالمد العقاب سميت بذلك لفضل منقارها الأعلى على الأسفل قال الشاعر :
شغوا بوطن بين الشيق والنيق
الشفدغ : الضفدع الصغير حكاه ابن سيده . الشفنين : كاليشنين بكسر الشين المعجمة وهو متولد بين نوعين مأكولين . وعده الجاحظ في أنواع الحمام . وبعضهم يقول : الشفنين هو الذي تسميه العامة اليمام ، وصوته في الترنم ، كصوت الرباب ، وفيه تحزين ، وجمعه شفانين وتحسن أصواتها إذا اختلطت . ومن طبعه أنه إذا فقد أنثاه لم يزل أعزب إلى أن يموت ، وكذلك الأنثى إذا فقدت ذكرها ، وإذا سمن سقط ريشه ، ويمتنع من السفاد . ومن طبعه إيثار العزلة وعنده نفور واحتراس من أعدائه .
وحكمه : حل الأكل بالإجماع .
الخواص : لحم الشفنين حار يابس ولذلك ينبغي أن لا يؤكل من هذا النوع إلا الصغار والمخاليف . والدم المتولد عنه حار يابس ، والدهن الكثير يعدله وأكل بيضه بزيت ، يزيد في الباه وزبله ، إذا ديف بدهن ورد ، وتحملت به المرأة نفع من وجع الأرحام ، ومن طلى إحليله بدمه وجامع امرأته ، لم يقدر عليها سواه ، وإن مات لم تتزوج . ومما ينفع الرمد في العين والورم ، أن يقطر فيها شفنين حار أو دم حمامة ويوضع على العين من خارج قطنة مبلولة ببياض بيض ، مع شيء من دهن الورد ، فإنه نافع مجرب .
الشق : بالكسر ، قال القزويني : هو من المتشيطنة صورته صورة نصف آدمي ، ويزعمون أن النسناس مركب من الشق ومن الآدمي ، ويظهر للإنسان في أسفاره . وذكروا أن علقمة بن صفوان بن أمية خرج في بعض الليالي ، فانتهى إلى موضع فعرض له شق فقال علقمة : يا شق ما ولك اغمد عني منصلك أتقتل من لا يقتلك ؟ فقال شق : هيت لك واصبر لما قد حم لك ، فضرب كل واحد منهما صاحبه ، فوقع ميتاً . وأما شق وسطيح الكاهنان ، فكان شق إنسان ، له يد واحدة ورجل واحدة وعين واحدة ، وكان سطيح ليس له عظم ولا بنان ، إنما كان يطوى مثل الحصير . ولد شق وسطيح في اليوم الذي ماتت فيه طريفة الكاهنة ، امرأة عمرو بن عامر ، ودعت بسطيح في اليوم الذي ماتت فيه ، قبل أن تموت ، فأتيت به فتفلت في فيه ، وأخبرت أن سيخلفها في علمها وكهانتها . وكان وجهه في صدره ولم يكن له رأس ولا عنق . ودعت بشق ، ففعلت به مثل ذلك ثم ماتت وقبرها بالجحفة .
وذكر الحافظ أبو الفرج بن الجوزي ، أن خالد بن عبد الله الفهري ، كان من ولد شق هذا .
وفي سيرة ابن هشام عن ابن إسحاق أن مالك بن نصر اللخمي ، رأى رؤيا هالته ،(2/73)
"""""" صفحة رقم 74 """"""
فبعث إلى جميع الكهان والسحرة والمنجمين من رعيته ، فاجتمعوا إليه فقال : إني رأيت رؤيا هالتني ، وفظعت منها فقالوا : قصها علينا نخبرك بتأويلها فقال لهم : إن أخبرتكم بها لم أطمئن إلى خبركم في تأويلها ، ولست أصدق في تأويلها إلا من عرفها قبل أن أخبره بها . فقال بعضهم لبعض : إن هذا الذي يرومه الملك لا يجده إلا عند شق وسطيح فلما أخبروه بذلك ، أرسل الملك من أتاه بهما ، فسأل سطيحاً فقال : أيها الملك إنك رأيت جمجمة خرجت من ظلمة ، فأكلت كل ذات جمجمة فقال الملك : ما أخطأت شيئاً فما عندك في تأويلها ؟ فقال سطيح : احلف بما بين الحرتين من حنش ، ليهبطن أرضكم الحبش ، وليملكن ما بين أبين إلى جرش . فقال الملك : وأبيك يا سطيح ، إن هذا لنا لغائظ موجع ، فمتى يكون ذلك أفي زماني أم بعده ؟ فقال : بل بعده بحين أكثر من ستين أو سبعين تمضين من السنين ، ثم يقتلون ويخرجون منها هاربين . قال الملك : ومن الذي يلي ذلك ؟ من قتلهم إخراجهم ؟ قال : يليه ابن في يزن ، يخرج عليهم من عدن ، فلا يترك أحداً منهم باليمن . قال : أفيدوم ذلك من سلطانه أم ينقطع ؟ قال : بل ينقطع . قال : ومن يقطعه ؟ قال : نبي زكي ، يأتيه الوحي من ربه العلي ، قال : وممن هذا النبي ؟ قال : من ولد غالب بن فهر بن مالك بن النضر ، يكون الملك في قومه إلى آخر الدهر . فقال الملك : وهل للدهر من آخر يا سطيح ؟ قال : نعم ، يوم يجمع فيه الأولون والآخرون ، ويسعد فيه المحسنون ويشقى فيه المسيؤون . فقال الملك : أحق ما تقول يا سطيح . قال : نعم ، والشفق والغسق ، والقمر إذا اتسق ، إن ما أخبرتكم به لحق . ثم إن الملك أحضر شقاً فسأله كما سأل سطيحاً فقال له شق : إنك رأيت جمجمة خرجت من ظلمة ، فوقعت بين روضة وأكمة ، فأكلت كل ذات نسمة . فلما سمع الملك مقالة شق ، قال له : ما أخطأت شيئاً . فما عندك في تأويلها ؟ فقال شق : أحلف بما بين الحرتين من إنسان ، لينزلن أرضكم السودان ، وليغلبن على كل طفلة البنان ، وليملكن ما بين أبين إلى نجران . فقال الملك : وأبيك يا شق ، إن ذلك لنا لغائظ مؤلم فمتى يكون ذلك ، أفي زماني أم بعده ؟ فقال : بل بعده بزمان . ثم يستنقذكم منه عظيم الشأن ، ويذيقهم أشد الهوان . فقال الملك : من هو العظيم الشان ؟ قال : غلام من غلمان اليمن ، يخرج من بيت ذي يزن . فقال الملك : أفيدوم ذلك من سلطانه أم ينقطع ؟ قال : بل ينقطع برسول ، هو خاتم الرسل ، يأتي بالحق والعدل بين أهل الدين والفضل ، يكون الملك في قومه إلى يوم الفصل . فقال الملك : وما يوم الفصل ؟ فقال شق : يوم يجزى فيه الولاة ، ويدعى من السماء دعوات ، يسمعها الأحياء والأموات ، ويجمع الناس فيه للميقات ، فيفوز فيه الصالحون بالخيرات . فقال الملك : أحق ما تقول يا شق ؟ قال : أي ورب السماء والأرض وما بينهما ، من رفع وخفض ، إن ما أنبأتكم به لحق ما له من نقض . فوقع ذلك في نفس الملك ، لما رأى من تطابق شق وسطيح ، على ما ذكراه . فجهز أهل بيته إلى الحيرة فرقأ من سلطان الحبشة .
وروي عنه ، أنه لما كانت الليلة التي ولد فيها رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ، ارتجس فيها إيوان كسرى ،(2/74)
"""""" صفحة رقم 75 """"""
وسقط منه أربع . عشرة شرافة ، فجزع كسرى أنوشروان من ذلك وتطير ، ورأى أن لا يكتمه عن زعماء مملكته ، فأحضر موبذموبذان ، وهو رئيس حكمائهم ، وعنه يأخذون نواميس شرائعهم ، وأحضر الموابذة ، وهم القضاة ، والهرابذة وهم كالخلفاء للموابذة ، والأصبهبذ ، وهو حافظ الجيوش وأمير الأمراء ، وأحضر بزر جمهر مداره ، وهو الوزير الأعلى ، والمرازبة وهم حفظة الثغور وولاة المملكة ، وأخبرهم بما كان من ارتجاس الإيوان وسقوط ما سقط من شرفاته . فقال رئيس الموابذة : إني رأيت في المنام ، كأن إبلا تقود خيلا قد قطعت دجلة ، وانتشرت في بلاد فارس . وأخبره في ذلك الوقت قومه بالنار وخمودها تلك الليلة . فهاله ومن حضر مجلسه ، ذلك واستعظموه ولم يظهر لهم وجهه ، ففزعوا وتفرقوا عن الملك يتروون فيه .
ووافت البرد إلى كسرى ، من جميع جهات ممالكه ، تخبر بخمود النيران تلك الليلة ، ووافاه الخبر بأن بحيرة ساوة قد غاض ماؤها فجمع زعماء دينه ورؤساء سلطانه ، فأطلعهم على ما انتهى إليه من ذلك كله ، وسألهم عما عندهم فيه ؟ فقال موبذموبذان : أما رؤياي ، فتدل على حدث عظيم يكون من العرب . فكتب كسرى إلى النعمان بن المنذر ، يأمره أن يبعث إليه أعلم من في أرضه من العرب ، فبعث إليه عبد المسيح بن عمرو الغساني وكان معمراً ، فلما قدم على كسرى ، قال له : هل عندك علم مما أريد أن أسألك عنه . قال : يخبرني الملك عما يريد علمه ، فإن كان عندي علم منه أخبرته فقال أنوشروان : إنما أريد من يعلم أمري قبل أن أذكره له فقال عبد المسيح : هذا علم يعلمه خال لي يسكن بمشارق الشام يقال له سطيح . قال كسرى : فاذهب إليه فانطلق عبد المسيح حتى انتهى إلى سطيح فوجده قد أشفى على الموت فحياه فلم يجبه فقال عبد المسيح رافعاً صوته :
أصم أم يسمع غطريف اليمن . . . يا صاحب الخطة أعيت من ومن
ففتح سطيح عينيه ، وقال : عبد المسيح على جمل مشيح ، وافى إلى سطيح ، وقد أشفى على الضريح ، بعثك ملك بني ساسان لارتجاس الإيوان ، وخمود النيران ، ورؤيا الموبذان ، رأى إبلا صعاباً ، تقود خيلا عراباً ، قد قطعت دجلة وانتشرت في بلاد فارس . يا عبد المسيح ، إذا ظهرت التلاوة وبعث صاحب الهراوة ، وغاضت بحيرة ساوة ، لم تكن بابل للفرس مقاماً ، ولا الشام لسطيح شاماً ، وسيملك منهم ملوك وملكات على عدد الشرافات ، وكل ما هو آت آت ثم قضى سطيح مكانه . فاستوى عبد المسيح على راحلته ، وعاد إلى كسرى فأخبره بمقالة سطيح . فقال كسرى : إلى أن يملك منا أربعة عشرة ، تكون أمور . فملك منهم عشرة في مدة أربع سنين ، وملك الباقون إلى أواخر خلافة عثمان رضي الله تعالى عنه . انتهى . وبابل هي بابل العراق ، وسميت ببابل لتبلبل الألسن بها ، عند سقوط صرح نمرود ، أي تفرقها . قال ابن مسعود رضي الله تعالى عنه : بابل أرض الكوفة ، وقيل : جبل دنباوند . وكسرى أول ميت اقتص من قاتله ، كما قال الحافظ أبو الفرج بن الجوزي في كتاب الأذكياء ، وذلك أن كسرى قال له منجموه : إنك تقتل . فقال : والله لأقتلن قاتلي . فعمد إلى سم ناقع ، فوضعه في(2/75)
"""""" صفحة رقم 76 """"""
حق ، وكتب عليه : هذا دواء للباه مجرب صحيح ، إذا استعمل منه وزن كذا وكذا انعظ ، وجامع كذا وكذا مرة . فلما قتله ابنه ، بادر ففتح خزائنه ، فوجد ذلك الحق مختوماً ، فقرأ ما كتب عليه ، فقال : بهذا كان كسرى يقوى على مجامعة النساء ففتحه واستعمل منه ما ذكر ، فمات . فهو أول ميت اقتص من قاتله . وقد تقدم في باب الدال المهملة ، في الدابة عن كامل بن الأثير ، أن كسرى كان له ثلاثة آلاف امرأة وخمسون ألف دابة .
الشقحطب : كسفرجل ، الكبش الذي له أربعة قرون ، والجمع شقاحط وشقاطب .
الشقذان : الحرباء ، قاله ابن سيده ، والشقذان أيضاً الضب والورل والطحن وسام أبرص والدساسة واحدته شقذة .
الشقراق : بفتح الشين وكسرها . قاله في المحكم ، وابن قتيبة في أدب الكاتب . قال البطليوسي ، في الشرح : الكسر في شين الشقراق أقيس ، لأن فعلان ، بكسر الفاء ، موجود في أبنية الأسماء نحو طرماح وشنقار ، وفعلان بفتح الفاء ، مفقود فيها . قال : وبكسر الشين قرأناه في الغريب للمصنف ، وهكذا حكاه الخليل وذكر أن فيه ثلاث لغات : شقراق بكسر الشين وإسكان القاف ، وشقراق بفتح الشين وإسكان القاف ، وشقراق بضم الشين وإسكان القاف . وربما قالوا شرقراق انتهى .
وهو طائر صغير يسمى الأخيل ، وهو أخضر مليح ، بقدر الحمامة ، وخضرته حسنة مشبعة ، وفي أجنحته سواد ، والعرب تتشاءم به . وله مشتى ومصيف ، وهو كثير ببلاد الروم والشام وخراسان ونواحيها ، ويكون مخططاً بحمرة وخضرة وسواد ، وفي طبعه شره وشراسة وسرقة فراخ غيره . وهو لا يزال متباعداً من الإنس ، ويألف الروابي ورؤوس الجبال ، لكنه يحضن بيضه في العمران العوالي ، التي لا تنالها الأيدي . وعشه شديد النتن ، وقال شارح الغنية والجاحظ : إنه نوع من الغربان ، وفي طبعه العفة عن السفاد ، وهو كثير الاستغاثة ، إذا ضاربه طائر ضربه وصاح كأنه المضروب .
الحكم : جزم الروياني والبغوي بتحريم أكله لاستخباثه ، ونقله الرافعي عن الصيمري . وممن قال بالتحريم : العجلي ، شارح غنية ابن سريج ، وجزم بتحريمه وتحريم العقعق الماوردي ، في الحاوي ، وعلل بأنهما مستخبثان عند العرب ، وهو قول الأكثرين ، وقال بعض الأصحاب بحله .
الأمثال : قالوا : أشأم من الأخيل وهو الشقراق .
الخواص : إذا كان الذهب ناقص العيار ، يذاب ويفرغ عليه من مرارته ، فإنه يحمر ويزداد عياره ، كما لو أفرغ عليه من مرارة الثعلب فإنه ينقص عياره ، وإذا اتخذ من مرارته خضاب سود الشعر . ولحمه حار ظاهر الحرارة وفيه زهومة قوية ، إلا أنه يحلل الرياح الغليظة التي تكون في الأمعاء .(2/76)
"""""" صفحة رقم 77 """"""
التعبير : هو في الرؤيا امرأة حسناء ذات جمال والله أعلم .
الشمسية : قال أبو حيان التوحيدي : إنها حية حمراء براقة ، إذا كبرت وأصابها وجع العين وعميت ، التمست حائطاً يقابل الشرق ، فإذا طلعت الشمس أحدت إليها بصرها قدر ساعة ، فإذا دخل شعاع الشمس عينها ، كشط عنها العمى والإظلام ولا تزال كذلك سبعة أيام حتى تجد بصرها تاماً ، وغيرها منه الحيات إذا عمي أيضاً طلب شجر الرازيانج الأخضر فيكتحل به فيبرأ كما تقدم .
الشنقب : كقنفذ ضرب من الطير معروف .
شه : قال ابن سيده : هو طائر يشبه الشاهين ، يأخذ الحمام وليس هو ، ولفظه أعجمي .
الشهام : السعلاة ، قاله الجوهري وغيره . وقد تقدم لفظ السعلاة في باب السين المهملة . الشهرمان : نوع من طير الماء قصير الرجلين أبلق اللون أصغر من اللقلق ، وفي بعض كتب الغريب ، أنه نوع من الطير .
الشوحة : قال ابن الصلاح ، في الفتاوي : إنها الحدأة ، وقد تقدم ذكرها في باب الحاء المهملة .
الشوف : القنفذ ، وسيأتي ، إن شاء الله تعالى ، في باب القاف .
الشوشب : القمل والعقرب والنمل وسيأتي ذكر كل واحد منها في بابه .
الشوط : ضرب من السمك وليس هو الشبوط . قاله الجوهري .
شوط براح : هو ابن آوى ، قاله الجوهري ، قال : ويقال للهباء ، الذي يرى في ضوء الكوة : شوط باطل . الشول : النوق التي جف لبنها ، وارتفع ضرعها ، وأتى عليها من نتاجها سبعة أشهر أو ثمانية ، الواحدة شائلة ، وهو جمع على غير قياس . تقول منه : تشولت الناقة بالتشديد ، أي صارت شائلة . وفي المثل : لا يجتمع فحلان في شول وتمثل به عبد الملك بن مروان عند قتله عمرو بن سعيد الأشلق ، والمعنى ينظر إلى قوله تعالى : " لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا " . وهناك ذكره الزمخشري في الكشاف . وسيأتي ، إن شاء الله تعالى للشول ذكر في باب الفاء عند ذكر الفحل .
شولة : من أسماء العقرب سميت بذلك لما تشوله من ذنبها ، وهي شوكتها وسيأتي لفظها ، وما فيه إن شاء الله تعالى في باب العين المهملة .(2/77)
"""""" صفحة رقم 78 """"""
الشيخ اليهودي : قال أبو حامد والقزويني ، في عجائب المخلوقات : إنه حيوان وجهه كوجه الإنسان ، وله لحية بيضاء وبدنه كبدن الضفدع ، وشعره كشعر البقر وهو في حجم العجل ، يخرج من البحر ليلة السبت فيستمر حتى تغيب الشمس ليلة الأحد ، فيثب كما يثب الضفدع ، ويدخل الماء فلا تلحقه السفن .
الحكم : هو داخل في عموم السمك كما تقدم .
الخواص : ذكروا أن جلده إذا وضع على النقرس أزال وجعه في الحال .
الشيذمان : بفتح الشين وضم الذال المعجمة ، الذئب ، وقد تقدم في باب الذال المعجمة .
الشيصبان : ذكر النمل .
الشيع : كالبيع ، ولد الأسد ، وقد تقدم في باب الهمزة .
الشيم : ضرب من السمك قال الشاعر :
قل لطغام الأزد لا تبطروا . . . بالشيم والجريث والكعند
الشيهم : كالضيغم ، ذكر القنافذ قال الأعشى :
لئن جد أسباب العداوة بيننا . . . لترتحلن مني على ظهر شيهم
قال الأصمعي : الشهام السعلاة .
فائدة : قال أبو ذؤيب الهذلي الشاعر : بلغنا أن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) عليل ، فاستشعرت حزناً وبت بأطول ليلة ، لا ينجاب ديجورها ولا يطلع نورها ، فبت أقاسي طولها ، حتى إذا كان وقت السحر أغفيت فهتف بي هاتف وهو يقول :
خطب أجل ناخ بالإسلام . . . بين النخيل ومعقد الآطام
قبض النبي محمد فعيوننا . . . تذري الدموع عليه بالأسجام
قال أبو ذؤيب : فوثبت من منامي فزعاً فنظرت إلى السماء ، فلم أر إلا سعد الذابح ، فأولته ذبحاً يقع في العرب ، وعلمت أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قد قبض أو هو ميت من علته . فركبت ناقتي وسرت فلما أصبحت طلبت شيئاً أزجر به ، فعرض لي شيهم قد قبض على صل ، يعني حية ، فهي تلتوي عليه ، والشيهم يقضمها حتى أكلها ، فزجرت ذلك وقلت : شيهم شيء هم والتواء الصل تلوي الناس عن الحق على القائم بعد رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ، ثم أولت أكل الشيهم إياها غلبة القائم بعد رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ، ثم أولت أكل الشيهم إياها غلبة القائم بعد رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) على الأمر ، فحثثت(2/78)
"""""" صفحة رقم 79 """"""
ناقتي حتى إذا كنت بالغابة ، زجرت الطائر ، فأخبرني بوفاته ( صلى الله عليه وسلم ) ونعب غراب سانح ، فنطق بمثل ذلك فتعوذت بالله من شر ما عن لي في طريقي .
فقدمت المدينة ولها ضجيج بالبكاء ، كضجيج الحجيج إذا أهلوا بالإحرام ، فقلت : ما الخبر ؟ قالوا : قبض رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ، فجئت إلى المسجد ، فوجدته خالياً فأتيت بيت رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ، فوجدت بابه مرتجاً أي مغلقاً ، وقيل هو مسجى وقد خلا به أهله ، فقلت : أين الناس ؟ فقيل : في سقيفة بني ساعدة صاروا إلى الأنصار . فجئت إلى السقيفة فأصبت أبا بكر وعمر وأبا عبيدة بن الجراح وجماعة من قريش ، ورأيت الأنصار فيهم سعد بن عبادة ، وفيهم شعراؤهم حسان بن ثابت وكعب بن مالك فأويت إلى قريش ، وتكلمت الأنصار فأطالوا الخطاب وأطالوا الجواب . وتكلم أبو بكر ، فلله دره من رجل لا يطيل الكلام ويعلم مواضع فصل الخطاب ، والله لقد تكلم بكلام لا يسمعه سامع إلا انقاد له ومال إليه . ثم تكلم عمر رضي الله تعالى عنه بدون كلامه ، ثم قال لأبي بكر : مد يدك أبايعك فمد يده فبايعه ، وبايعه الناس ، ورجع أبو بكر رضي الله تعالى عنه ، ورجعت معه . قال أبو ذؤيب : فشهدت الصلاة على النبي ( صلى الله عليه وسلم ) وشهدت دفنه .
أبو شبقونة : بضم الشين وسكون الباء الموحدة وضم القاف وبعدها نون ، قال في المرصع : إنه طائر يكون مع الحمر والنعم يأكل الذباب والله أعلم .
باب الصاد المهملة
الصؤابة : بالهمزة ، بيضة القملة والجمع صؤاب وصئبان ، والعامة تخففه فتقول صيبان ، والصواب الهمز . قال ابن السكيت : يقال : في رأسه صؤابة ، والجمع صئبان بالهمز وقد صيب رأسه بالياء المثناة ، تحت المخففة ، وقال الجاحظ : قال اياس بن معاوية : الصيبان ذكور القمل ، وهو من الشيء الذي يكون ذكوره أصغر من إناثه ، كالزراريق والبزاة فالبزاة هي الإناث والزراريق الذكور وليس فيه ذكر شيء من الصؤاب انتهى .
وروى خيثمة بن سليمان ، في مسنده ، في آخر الجزء الخامس عشر ، عن جابر بن عبد الله ، رضي الله تعالى عنه قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) : " توضع الموازين يوم القيامة ، فتوزن الحسنات والسيئات ، فمن رجحت حسناته على سيئاته مثقال صؤابة دخل الجنة ، ومن رجحت سيئاته على حسناته مثقال صؤابة دخل النار " قيل : يا رسول الله فمن استوت حسناته وسيئاته . قال ( صلى الله عليه وسلم ) : " أولئك أصحاب الأعراف لم يدخلوها وهم يطمعون " .
الحكم : قال الشافعي : حكم الصئبان حكم القمل للمحرم ، إذا قتل منه شيئاً يستحب أن يتصدق ولو بلقمة ، وجزم في الروضة بأنه بيض القمل كما قاله الجوهري وغيره وقد تقدم في السلحفاة البحرية ، أن التسريح بمشط الذبل يذهب الصئبان لخاصية فيه .
الأمثال : قالوا : يعد في مثل الصؤاب وفي عينيه مثل الجرة قال الميداني : يضرب لمن يلومك في قليل ما كثر فيه من العيوب وأنشد الرياشي :(2/79)
"""""" صفحة رقم 80 """"""
ألا أيها ذا اللائمي في خليقتي . . . هل النفس فيما كان منك تلوم
فكيف ترى في عين صاحبك القذى . . . وتنسى قذى عينيك وهو عظيم
الصارخ : الديك ، روى البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي ، عن مسروق ، قال : سألت عائشة رضي الله تعالى عنها عن عمل رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) . فقالت : كان يحب الدائم . قال : قلت : أي حين كان ( صلى الله عليه وسلم ) يصلي ؟ قالت : " كان إذا سمع الصارخ قام يصلي " . قال النووي : الصارخ هنا الديك ، باتفاق العلماء ، وسمي بذلك ، لكثرة صياحه في الليل . قال أبو حامد ، في الإحياء : وهذا الوقت يكون سدس الليل فما دونه .
الصافر : ويقال أيضاً : الصفارية طائر معروف من أنواع العصافير ، ومن شأنه أنه إذا أقبل الليل ، يأخذ بغصن شجرة ويضم عليه رجليه ، وينكس رأسه ، ثم لا يزال يصيح حتى يطلع الفجر ، ويظهر النور . قال القزويني : إنما يصيح خوفاً من السماء أن تقع عليه . وقال غيره : الصافر التنوط الذي تقدم في باب التاء المثناة فوق ، وأنه إن كان له وكر جعله كالخريطة ، وإن لم يكن له وكر ، شرع يتعلق بالأغصان كما ذكرنا .
وحكمه : حل الأكل لأنه من أنواع العصافير .
الأمثال : قالوا : أجبن وأحير من صافر . وأما قولهم : ما في الدار صافر ، فقال أبو عبيدة والأصمعي : معناه مفعول به ، كما قيل : ماء دافق ، وسر كاتم ، أي مدفوق ومكتوم . وقال غيرهما : ما بها أحد يصفر .
التعبير : الصافر تدل رؤيته على الحيرة والاختفاء والركون إلى ذوي الأقدار ، خوف العدو ، لأنه يقال في المثل : أحير من صافر ، كما تقدم .
الصدف : من حيوانات البحر ، وفي حديث ابن عباس رضي الله تعالى عنهما : إذا أمطرت السماء فتحت الصدف أفواهها ، وهو غلاف اللؤلؤ ، الواحدة صدفة . والصوادف الإبل التي تأتي والإبل على الحوض ، فتقف عند أعجازها تنتظر انصراف الشاربة ، لتدخل هي . ومنه قول الراجز :
الناظرات العقب الصوادف
ومن خواص اللؤلؤ ، أنه يذهب الخفقان ويزيل داء المرة السوداء ، ويصفي دم القلب والكبد ، ويجلو البصر ، ولهذا يجعل في الأكحال . وإذا حل حتى يصير ماء رجراجاً وطلي به البهق أذهبه من أول طلية لا غير .
وأما رؤيته في المنام ، فهو على وجوه كثيرة : فإنه يدل على غلمان وجوار وولدان ، ومال وكلام حسن ، فمن رأى أنه يثقب لؤلؤاً ثقباً مستوياً ، فإنه يفسر القرآن صواباً ، ومن رأى اللؤلؤ بيده(2/80)
"""""" صفحة رقم 81 """"""
منثوراً ، فإنه يبشر بغلام ، إن كان له امرأة حامل ، فإن لم يكن له حامل ، فإنه يملك غلاماً لقوله تعالى : " ويطوف عليهم غلمان لهم كأنهم لؤلؤ مكنون " . ومن رأى أنه يقلع لؤلؤاً ويبيعه ، فإنه ينسى القرآن ، فإن باعه من غير قلع ، فإنه يثبت عملا في الناس . ومن رأى أنه ينثر لؤلؤاً فيلقطه الناس ، فإنه يعظ الناس وينفعهم وعظه ، ومن رأى بيده لؤلؤة يبشر بولد ذكر ، فإن لم يكن له حامل ، اشترى جارية ، وإن كان أعزب ، تزوج . ومن رأى أنه استخرج من بحر لؤلؤاً كثيراً ، يكال ويوزن بالقبان ، فإنه ينال مالا كثيراً من رجل ينسب إلى البحر . وقال جاماسب : من رأى أنه يعد لؤلؤاً نال مشقة ، ومر أعطي اللؤلؤ نال رياسة ، ومن رأى اللؤلؤ فإنه ينال سروراً . والعقد من اللؤلؤ يدل على امرأة ذات حسن وجمال وقد يكون العقد من اللؤلؤ عقد نكاح .
الخواص : قال القزويني : الصدف ينفع وجع النقرس والمفاصل ضماداً ، وإذا سحق بالخل قطع الرعاف ، ولحمه ينفع من عضة الكلب ، ومحرقه يجلو الأسنان استياكاً . وفي الأكحال ينفع من قروح العين ، وإذا طلي به موضع الشعر الزائد في الجفن ، بعد نتفه ، منع نباته . وينفع من حرق النار وإذا شد منه قطعة صافية على صبي ، نبتت أسنانه بلا وجع .
وقال غيره : الصدف الذي يتدور في جوفه حيوان وله غطاء على رأسه ، يشبه الحجر ، إذا سحق وذر على وجه النائم ثبت ولم يتحرك زماناً طويلا ، وهو أسلم من البنج ، ومما يحبس الرعاف أن يؤخذ الصدف ، ويسحق مع جاوشير ، ويعمل منه ضماد ويجعل على الأنف .
وأما رؤيته في المنام فمن رأى بيده صدفاً فإنه يصدف عن شيء عزم عليه ويبطله خيراً كان أو شراً .
الصدى : طائر معروف ، تقول العرب إنه يخلق من رأس المقتول ، يصيح في هامة المقتول ، إذا لم يؤخذ بثأره ، يقول : اسقوني اسقوني حتى يقتل قاتله ، ولذلك قيل له : صاد والصادي العطشان ، والصدى ذكر البوم والجمع أصداء ، ويقال له : ابن الجبل ، وابن طود ، وبنات رضوى . وقال العديس العبدي : الصدى الطائر الذي يصر بالليل ويقفز قفزاً ، ويطفر والناس يرونه ، الجندب ، وإنما هو الصدى فأما الجندب فإنه أصغر من الصدى ، والصدى صوت يرجع من الصوت إذا خرج ووجد ما يحبسه . وقد تقدم في بابي الباء الموحدة والزاي قول صاحب ليلى الأخيلية :
ولو أن ليلى خيلية سلمت . . . علي ودوني جندل وصفائح
لسلمت تسليم البشاشة أوزقا . . . إليها صدى من جانب القبر صائح
والصدى هو الصوت الذي يحيبك من الجبال وغيرها . ولأبي المحاسن بن الشواء في شخص لا(2/81)
"""""" صفحة رقم 82 """"""
يكتم السر وقد أجاد فيه :
لي صديق غدا وإن كان لا ين . . . طق إلا بغيبة أو محال
أشبه الناس بالصدى إن تحدث . . . ه حديثاً أعاده في الحال
يقال : صم صداه وأصم الله صداه أي أهلكه الله لأن الرجل إذا مات لم يسمع الصدى منه شيئاً ، فيجيبه . ومنه قول الحجاج لأنس بن مالك رضي الله تعالى عنه : إياك أعني أصم الله صداك . روي عن علي بن زيد جدعان ، أن أنساً رضي الله تعالى عنه ، دخل على الحجاج بن يوسف الثقفي الجائر المبير ، فقال له الحجاج : إيه يا خبيث شيخاً جوالا في الفتن ، مع أبي تراب مرة ، ومع ابن الزبير أخرى ، ومع ابن الأشعث مرة ، ومع ابن الجارود أخرى ، أما والله لأجردنك جرد الضب ، ولأقلعنك قلع الصمغة ، ولأعصبنك عصب السلمة ، العجب من هؤلاء الأشرار ، أهل البخل والنفاق . فقال أنس رضي الله تعالى عنه : من يعني الأمير ؟ فقال : إياك أعني ، أصم الله صداك . قال علي بن زيد : فلما خرج أنس من عنده قال : أما والله لولا ولدي لأجبته . ثم كتب إلى عبد الملك بن مروان بما كان من الحجاج إليه ، فكتب عبد الملك إلى الحجاج كتاباً ، وأرسله مع إسماعيل بن عبد الله بن أبي المهاجر ، مولى بني مخزوم ، فقدم على الحجاج وبدأ بأنس فقال له : إن أمير المؤمنين قد أكبر ما كان من الحجاج إليك ، وأعظم ذلك ، وأنا لك ناصح إن الحجاج لا يعدله عند أمير المؤمنين أحد ، وقد كتب إليه أن يأتيك ، وأنا أرى أن تأتيه فيعتذر إليك فتخرج من عنده وهو لك معظم ، وبحقك عارف . ثم أتى الحجاج ، فأعطاه كتاب عبد الملك ، فقرأه فتمعر وجهه ، وأقبل يمسح العرق عن وجهه ويقول : غفر الله لأمير المؤمنين ، ما كنت أراه يبلغ مني هذا قال إسماعيل : ثم رمى بالكتاب إلي وهو يظن أني قرأته ، ثم قال : اذهب بنا إليه ، يعني أنساً ، فقلت : لا بل يأتيك أصلحك الله فأتيت أنساً رضي الله تعالى عنه ، فقلت : اذهب بنا إلى الحجاج ، فأتاه فرحب به ، وقال : عجلت باللائمة يا أبا حمزة ، إن الذي كان مني إليك ، كان عن غير حقد ، ولكن أهل العراق لا يحبون أن يكون لله عليهم سلطان ، يقيم حجته ، ومع هذا ، فأنا أردت أن يعلم منافقو أهل العراق وفساقهم ، إني متى أقدمت عليك ، فهم علي أهون وأنا إليهم أسرع ، ولك عندنا العتبى حتى ترضى .
فقال أنس : ما عجلت باللائمة حتى تناولت مني العامة دون الخاصة ، وحتى شمت بنا الأضرار وقد سمانا الله الأنصار ، وزعمت أنا أهل بخل ، ونحن المؤثرون على أنفسهم ، وزعمت أنا أهل نفاق ونحن الذين تبوؤا الدار والإيمان من قبل ، وزعمت أنك اتخذتني ذريعة لأهل العراق ، باستحلالك مني ما حرم الله عليك ، وبيننا وبينك الله حكم هو أرضى للرضا ، وأسخط للسخط ، إليه جزاء العباد ، وثواب أعمالهم ، ليجزي الذين أساؤوا بما عملوا ، ويجزي الذين أحسنوا بالحسنى ، فوالله إن النصارى على شركهم وكفرهم ، لو رأوا رجلا قد خدم عيسى عليه(2/82)
"""""" صفحة رقم 83 """"""
السلام يوماً واحداً ، لأكرموه وعظموه فكيف لم تحفظ لي خدمتي رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) عشر سنين فإن يكن منك إحسان شكرنا ذلك منك ، وإن يكن غير ذلك صبرنا إلى أن يأتي الله بالفرج .
قال : وكان كتاب عبد الملك إلى الحجاج : أما بعد فإنك عبد طمت بك الأمور ، حتى عدوت طورك ، وأيم الله يا ابن المستنثرة بعجم الزبيب ، لقد هممت أن أضغمك ضغمة كضغمات الليوث للثعالب ، وأخبطك خبطة تود أنك زاحمت مخرجك من بطن أمك ، قد بلغني ما كان منك إلى أنس بن مالك ، وأظنك أردت أن تختبر أمير المؤمنين ، فإن كان عنده غيرة وإلا أمضيت قدماً ، فلعنة الله عليك وعلى آبائك ، أخفش العينين ، ممسوح الحاجبين ، أحمش الساقين ، نسيت مكان آبائك بالطائف ، وما كانوا عليه من الدناءة واللؤم ، إذ يحفرون الآبار في المناهل بأيديهم ، وينقلون الحجارة على ظهورهم . فإذا أتاك كتابي هذا وقرأته ، فلا تلقه من يدك حتى تلقى أنساً بمنزله ، واعتذر إليه ، وإلا بعث إليك أمير المؤمنين ، من يسحبك ظهراً لبطن ، حتى يأتي بك أنساً ، فيحكم فيك ولن يخفى على أمير المؤمنين نبأك ، ولكل نبأ مستقر ، وسوف تعلمون . فلا تخالف كتاب أمير المؤمنين ، وأكرم أنساً وولده ، وإلا بعثت إليك من يهتك سترك ، ولشمت بك عدوك والسلام .
توفي أنس رضي الله تعالى عنه سنة إحدى أو اثنتين أو ثلاث وتسعين بالبصرة ، وهو آخر الصحابة موتاً بها رضي الله تعالى عنهم أجمعين .
الصراخ : ككتان : الطاوس ، وسيأتي ، إن شاء الله تعالى ، في باب الطاء المهملة .
صرار الليل : الجدجد وقد تقدم لفظه ، في باب الجيم ، وهو أكبر من الجندب ، وبعض العرب يسميه الصدى .
الصراح : كرمان ، طائر معروف عند العرب يؤكل .
الصرد : كرطب ، قال الشيخ أبو عمرو بن الصلاح : هو مهمل الحروف ، على وزن جعل ، وكنيته أبو كثير وهو طائر ، فوق العصفور يصيد العصافير ، والجمع صردان ، قاله النضر بن شميل ، وهو أبقع ضخم الرأس ، يكون في الشجرة . نصفه أبيض ونصفه أسود ، ضخم المنقار ، له برثن عظيم ، يعني أصابعه عظيمة لا يرى إلا في سعفة أو شجرة ، لا يقدر عليه أحد ، وهو شرس النفس شديد النفرة ، غذاؤه من اللحم وله صفير مختلف ، يصفر لكل طائر يريد صيده بلغته ، فيدعوه إلى التقرب منه ، فإذا اجتمعوا إليه ، شد على بعضهم وله منقار شديد ، فإذا نقر واحداً قده من ساعته ، وأكله ، ولا يزال هذا دأبه . ومأواه الأشجار ورؤوس القلاع ، وأعالي الحصون . فائدة : نقل الإمام العلامة أبو الفرج بن الجوزي ، في المدهش ، في قوله تعالى : " وإذ قال موسى لفتاه ، الآية ، عن ابن عباس والضحاك ، ومقاتل رضي الله عنهم ، قالوا : إن(2/83)
"""""" صفحة رقم 84 """"""
موسى ( صلى الله عليه وسلم ) ، لما أحكم التوراة وعلم ما فيها ، قال في نفسه : لم يبق في الأرض أحد أعلم مني ، من غير أن يتكلم مع أحد ، فرأى في منامه كأن الله تعالى أرسل السماء بالماء ، حتى غرق ما بين المشرق والمغرب ، فرأى قناة على البحر ، فيها صردة ، فكانت الصردة تجيء للماء الذي غرق الأرض ، فتنقل الماء بمنقارها ، ثم تدفعه في البحر ، فلما استيقظ الكليم هاله ذلك ، فجاءه جبربل ، فقال : ما لي أراك يا موسى كئيباً فأخبره بالرؤيا ، فقال : إنك زعمت أنك استغرقت العلم كله ، فلم يبق في الأرض من هو أعلم منك ، وإن لله تعالى عبداً علمك في علمه ، كالماء الذي حملته الصردة بمنقارها ، فدفعته في البحر . فقال : يا جبريل من هذا العبد ؟ قال : الخضر بن عاميل من ولد الطيب ، يعني إبراهيم الخليل ( صلى الله عليه وسلم ) ، فقال : من أين أطلبه . قال : اطلبه من وراء هذا البحر . فقال : من يدلني عليه ؟ قال . بعض زادك . قالوا : فمن حرصه على لقياه لم يستخلف على قومه ، ومضى لوجهه ، وقال لفتاه يوشع بن نون : هل أنت موازري ؟ قال : نعم . قال : اذهب فاحمل لنا زاداً ، فانطلق يوشع ، فاحتمل أرغفة وسمكة مالحة عميقة ، ثم سارا في البحر ، حتى خاضا وحلا وطيناً ، ولقيا تعباً ونصباً ، حتى انتهيا إلى صخرة ناتئة في البحر ، خلف بحر أرمينية ، يقال لتلك الصخرة قلعة الحرس ، فأتياها فانطلق موسى ليتوضأ ، فاقتحم مكاناً ، فوجد عيناً من عيون الجنة ، في البحر ، فتوضأ منها وانصرف ، ولحيته تقطر ماء .
وكان عليه الصلاة والسلام حسن اللحية ، ولم يكن أحد أحسن لحية منه ، فنفض موسى لحيته ، فوقعت قطرة منها على تلك السمكة المالحة ، وماء الجنة لا يصيب شيئاً ميتاً إلا عاش ، فعاشت السمكة ووثبت في البحر ، فسارت وصار مجراها في البحر سرباً يبساً ، ونسي يوشع ذكر السمكة ، فلما جاوزا ، قال موسى لفتاه " آتنا غداءنا " الآية فذكر له أمر السمكة ، فقال له : ذلك الذي نريده فرجعا يقصان أثرهما ، فأوحى الله تعالى إلى الماء فجمد ، وصار سرباً على قامة موسى وفتاه ، فجرى الحوت أمامهما حتى خرج إلى البر وسار ، فسار مسيره لهما جادة ، فسلكاها فناداهما مناد من السماء ، أن دعا الجادة فإنها طريق الشياطين إلى عرش إبليس ، وخذا ذات اليمين ، فأخذا ذات اليمين حتى انتهيا إلى صخرة عظيمة ، وعندها مصلى ، فقال موسى عليه السلام : ما أحسن هذا المكان ينبغي أن يكون للعبد الصالح ، فلم يلبثا أن جاء الخضر عليه السلام ، حتى انتهى إلى ذلك المكان والبقعة ، فلما قام عليها اهتزت خضراء ، قالوا : وإنما سمي الخضر ، لأنه لا يقوم على بقعة بيضاء إلا صارت خضراء . فقال موسى عليه الصلاة والسلام : السلام عليك يا خضر . فقال : وعليك السلام يا موسى ، يا نبي بني إسرائيل . فقال : ومن أدراك من أنا ؟ قال : أدراني الذي دلك على مكاني ، فكان من أمرهما ما كان ، وما قصه القرآن العظيم انتهى .
وقد تقدم ذكرهما أيضاً في باب الحاء المهملة في الحوت ، ونقلنا الخلاف في اسم الخضر ونسبه ونبوته ، قال القرطبي : ويقال له الصرد الصوام .
روينا في معجم عبد الغني بن قانع ، عن أبي غليظ أمية بن خلف الجمحي ، قال : رآني(2/84)
"""""" صفحة رقم 85 """"""
رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ، وعلى يدي صرد ، فقال ( صلى الله عليه وسلم ) : هذا أول طير صام ، ويروى أنه أول طير صام يوم عاشوراء . وكذلك أخرجه الحافظ أبو موسى . والحديث مثل اسمه غليظ ، قال الحاكم : وهو من الأحاديث التي وضعها قتلة الحسين رضي الله عنه ، رواه عبد الله بن معاوية بن موسى عن أبي غليظ قال : رآني رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وعلى يدي صرد ، فقال : هذا أول طائر صام عاشوراء . وهو حديث باطل رواته مجهولون . فائدة : قيل : لما خرج إبراهيم ( صلى الله عليه وسلم ) من الشام ، لبناء البيت ، كانت السكينة معه والصرد ، فكان الصرد دليله على الموضع ، والسكينة بمقداره ، فلما صار إلى موضع البيت ، وقفت السكينة في موضع البيت ، ونادت ابن يا إبراهيم على مقدار ظلي . قال جماعة من المفسرين : إن الله تعالى خلق موضع البيت قبل خلق الأرض بالذي عام فكان زبدة بيضاء على الماء ، فدحيت الأرض من تحتها ، فلما أهبط الله تعالى آدم إلى الأرض ، استوحش ، فشكا إلى الله تعالى ، فأنزل الله تعالى له البيت المعمور ، وهو ياقوتة من يواقيت الجنة ، له بابان من زبرجد أخضر ، باب شرقي وباب غرب ، فوضع على موضع البيت ، وقال : يا آدم إني أهبطت إليك بيتاً تطوف به ، كما يطاف حول عرشي ، وتصلي عنده كما يصلى عند عرشي ، وأنزل الحجر الأسود ، وكان بياضه أشد من اللبن ، فاسود من لمس الحيض في الجاهلية ، فتوجه آدم من أرض الهند إلى مكة ماشياً ، وقيض الله له ملكاً يدله على البيت ، فحج آدم البيت وأقام المناسك ، فلما فرغ تلقه الملائكة وقالوا : بر حجك يا آدم ، لقد حججنا هذا البيت قبلك بألفي عام .
وروي أن آدم عليه السلام حج أربعين حجة من الهند إلى مكة ماشياً وكان البيت على ذلك إلى أيام الطوفان ، فرفعه الله إلى السماء الرابعة ، وبعث جبريل عليه السلام فخبأ الحجر الأسود في جبل أبي قبيس صيانة له من الغرق ، فكان موضع البيت خالياً إلى زمن إبراهيم عليه الصلاة والسلام .
ثم إن الله تعالى أمر إبراهيم بعدما ولد له إسماعيل عليه الصلاة والسلام ببناء بيت يذكر فيه ، فسأل الله أن يبين له موضعه ، فبعث الله السكينة لتدله على موضع البيت ، وهي ريح خجوج لها رأسان ، شبه الحية ، وقيل : الخجوج الريح الشديدة الهفافة البراقة ، لها رأس كرأس الهرة وذنب كذنبها ، ولها جناحان من در وزبرجد ، وعينان لها شعاع ، وقال علي رضي الله عنه : هي ريح خجوج هفافة لها رأسان ، ووجه كوجه الإنسان ، أمر إبراهيم عليه السلام أن يبني حيث تستقر السكينة ، فتبعها إبراهيم حتى أتيا مكة فتطوقت السكينة على موضع البيت ، كتطوق الحية قاله علي والحسن رضي الله عنهما ، وقال ابن عباس رضي الله عنهما : بعث الله سحابة على قد الكعبة فجعلت تسير وإبراهيم عليه السلام يمشي في ظلها ، إلى أن وافت به مكة المشرفة ، ووقفت عند البيت المعظم ، فنودي منها إبراهيم عليه السلام : ابن على ظلها ولا تزد ولا تنقص . وقيل : أرسل الله جبريل عليه السلام فدله على موضع البيت ، وقيل كان دليله الصرد ، كما تقدم . فكان إبراهيم يبني ، وإسماعيل يناوله الحجارة ، فبناه من خمسة أجبل : طور سينا وطور زيتا ولبنان ، وهي جبال بالشام ، والجودي ، وهو جبل بالجزيرة ، وبنيا القواعد من حراء ، وهو جبل بمكة ،(2/85)
"""""" صفحة رقم 86 """"""
فلما انتهى إبراهيم إلى موضع الحجر الأسود ، قال لابنه إسماعيل : ائتني بحجر حسن يكون للناس علماً ، فأتاه بحجر ، فقال : ائتني بأحسن من هذا ، فمضى إسماعيل ينظر حجراً ، فصاح أبو قبيس : يا إبراهيم إن لك عندي وديعة فخذها ، فأخذ الحجر الأسود فوضعه مكانه . وقيل : أول من بنى الكعبة آدم عليه السلام واندرس زمن الطوفان ، ثم أظهره الله تعالى لإبراهيم حتى بناه فذلك قوله تعالى : " وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت " يعني أسسه واحدتها قاعدة وقال الكسائي : يعني جدره .
الحكم : الأصح تحريم أكله ، لما رواه الإمام أحمد وأبو داود وابن ماجه ، وصححه عبد الحق ، عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما ، أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) " نهى عن قتل النحلة والنملة والهدهد والصرد " والنهي عن القتل دليل على الحرمة ، ولأن العرب تتشاءم بصوته وشخصه . وقيل : إنه يؤكل لأن الشافعي أوجب فيه الجزاء على المحرم ، إذا قتله وبه قال مالك . قال الإمام العلامة القاضي أبو بكر بن العربي : إنما نهى النبي ( صلى الله عليه وسلم ) عن قتله ، لأن العرب كانت تتشاءم به ، فنهى عن قتله ليخلع عن قلوبهم ما ثبت فيها من اعتقادهم الشؤم فيه ، لا إنه حرام . وذكره العبادني ، في الطبقات أيضاً .
عجيبة : حكى منصور بن الحسين الآبي ، في نثر الدرر ، أن أعرابياً سافر ابنه ثم أتاه ، فقال له أبوه : ما رأيت في طريقك ؟ قال : جئت السقاء مرة أشرب ، فصاج الصرد فقال : اتركها وإلا فلست بابني قال : فتركتها . قال : ثم أخذني العطش فأتيت إليها ثانياً فصاح الصرد فقال : اتركها وإلا فلست بابني قال : فتركتها ، ثم زادني العطش فأتيت إليها ثالثاً فصاح الصرد فقال : قدها بسيفك وإلا فلست بابني قال : كذلك فعلت . قال : هل رأيت الحية داخلها ؟ قال : نعم قال : الله أكبر .
قال : وسافر ولد أعرابي ثم أتى إليه فقال : أخبرني ماذا رأيت في طريقك ؟ قال : رأيت طائراً على أكمة . فقال الصرد : أطره وإلا لست أباك قال : فأطرته ، قال : ثم ماذا ؟ قال : سقط على شجرة فقال : أطره وإلا لست أباك قال : كذلك فعلت . قال : ثم ماذا ؟ قال : سقط على صخرة قال : أقلبها وإلا لست أباك . قال : كذلك فعلت . قال : أعطني سهمي مما وجدت تحتها ، وكان تحتها كنز أخذه ولده ، فأعطاه سهمه منه .
التعبير : هو في المنام يحل على رجل مراء يظهر الخشوع نهاراً ويفجر ليلا . وقيل : هو من قطاع الطريق يجمع أموالا كثيرة ولا يخالط أحداً .
الصرصر : ويقال له الصرصار أيضاً ، حيوان فيه شبه من الجراد ، قفاز يصيح صياحاً رقيقاً ، وأكثر صياحه بالليل ولذلك سمي صرار الليل ، وهو نوع من بنات وردان عري عن(2/86)
"""""" صفحة رقم 87 """"""
الأجنحة . وقيل : إنه الجدجد وقد تقدم أن الجوهري فسر الجدجد بصرار الليل ، ولا يعرف مكانه إلا بتتبع صوته ، وأمكنته المواضع الندية ، وألوانه مختلفة فمنه ما هو أسود ، ومنه ما هو أزرق ومنه ما هو أحمر ، وهو جندب الصحارى والفلوات .
وحكمه : تحريم الأكل لاستقذاره .
الخواص : قال ابن سينا : إنه مع القردمانة نافع من البواسير والنافض ، وسموم الهوام ويحرق ويسحق ويضاف إلى الأثمد ويكتحل به ، يحد البصر . ومع مرارة البقر ينفع من طرفة العين اكتحالاً .
الصرصران : سمك أملس معروف .
الصعب : طائر صغير والجمع صعاب .
الصعوة : طائر من صغار العصافير ، أحمر الرأس وهو بفتح الصاد وإسكان العين المهملتين والجمع صعو . وفي كتاب العين والمحكم صغار العصافير . روى أحمد ، في كتاب الزهد ، عن مالك بن دينار ، أنه كان يقول : الناس أشكال كأجناس الطير الحمام مع الحمام ، والبط مع البط والصعو مع الصعو والغراب مع الغراب وكل إنسان مع شكله . ومن شعر القاضي أحمد بن الأرجاني بفتح الهمزة وكسر الراء المهملة مع خلاف في تشديدها ، وهو شيخ العماد الأصبهاني الكاتب ووفاته في سنة أربع وأربعين وخمسمائة :
لو كنت أجهل ما علمت لسرني . . . جهلي كما قد ساءني ما أعلم
كالصعو يرتع في الرياض وإنما . . . حبس الهزار لأنه يتكلم
ومن شعره أيضاً وأجاد :
أحب المرء ظاهره جميل . . . لصاحبه وباطنه سليم
مودته تدوم لكل هول . . . وهل كل مودته تدوم
وهذا البيت الأخير يقرأ معكوساً من آخره إلى أوله ولا يتغير شيء من لفظه ولا من معناه . ومن شعره أيضاً رحمه الله :
شاور سواك إذا نابتك نائبة . . . يوماً وإن كنت من أهل المشورات
فالعين تلقى كفاحاً من دنا ونأى . . . ولا ترى نفسها إلا بمرآة(2/87)
"""""" صفحة رقم 88 """"""
ومن شعره أيضاً :
يأبى العذار المستدير بخده . . . وكمال بهجة وجهه المنعوت
فكأنما هو صولجان زمرد . . . متلقف كرة من الياقوت
ويقرب من هذا المعنى ، ما حكاه ابن خلكان قال : كان بين العماد الكاتب ، تلميذ القاضي الأرجاني وبين القاضي الفاضل محاورات ، فمن فلك أنه لقيه يوماً وهو راكب فرساً ، فقال له العماد : سر فلا كبابك الفرس فقال له الفاضل : دام علا العلا . وهذا أيضاً مما يقرأ من آخره إلى أوله ، ولا يتغير شيء من لفظه ولا معناه ، وروي أنهما اجتمعا يوماً في موكب السلطان ، وقد انتشر من الغبار ما سد الفضاء فأنشد العماد الكاتب :
أما الغبار فإنه . . . مما أثارته السنابك
والجو منه مظلم . . . لكن أنار به السنابك
يا دهر لي عبد الرحي . . . م فلست أخشى مس نابك
وهذا التجنيس في غاية الحسن . توفي العماد في مستهل رمضان سنة سبع وتسعين وخسمائة و بدمشق ، ودفن بمقابر الصوفية . وتوفي الفاضل في سابع شهر ربيع الآخر سنة سبع وتسعين وخمسمائة بالقاهرة ، ودفن بتربة بسفح المقطم .
وحكمها وخواصها وتعبيرها كالعصافير . الأمثال : قالوا : أضعف من صعوة كما قالوا : أضعف من وصعة .
الصفارية : بضم الصاد وتشديد الفاء ، طائر يقال له التبشير ، وقد تقدم ذكره في باب التاء المثناة فوق .
الصفر : بفتح الصاد والفاء ، قيل : إن الجاهلية ، كانت تعتقد ، أن في الجوف حية على شراسيفه ، والشراسيف أطراف الأضلاع التي تشرف على البطن ، يقال لها الصفر ، إذا تحركت جاع الإنسان وتؤذيه إذا جاع ، وأنها تعدي ، فأبطل الإسلام ذلك . روى مسلم عن جابر وأبي هريرة وغيرهما ، أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال : " لا عدوى ولا طيرة ولا هامة ولا صفر ولا غول " . ومعنى لا عدوى ما يتوهم من تعدي مرض من جرب وحكة وغيرهما من الأمراض ، من شخص به ذلك المرض إلى شخص آخر ، بسبب مخالطة وغيرها . وفي الحديث الصحيح أن أعرابياً قال للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) : إنك قلت لا عدوى فما بال الإبل تكون سليمة ، حتى يدخل فيها البعير الأجرب فتصبح جربى ؟ فقال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) : " فمن أعدى الأول " فرد عليه الصلاة والسلام ما توهمه من تعدي المرض بنفسه .(2/88)
"""""" صفحة رقم 89 """"""
وأعلمه أن الله تعالى هو المؤثر . وقد تقدم في باب الهمزة ، في الأسد ، في الكلام على المجذوم قريب من هذا .
ومعنى الطيرة يأتي إن شاء الله تعالى في باب الطاء المهملة المشالة .
وأما الصفر ففيه تأويلان : أحدهما المراد تأخيرهم تحريم المحرم إلى صفر وهو النسيء الذي كانوا يفعلونه وبهذا قال مالك وأبو حنيفة ، والثاني أنه الحية التي كانت العرب تعتقد فيها ما تقدم . قال الإمام النووي : وهذا التفسير هو الصحيح الذي عليه عامة العلماء وقد ذكره مسلم عن جابر رضي الله عنه راوي الحديث فتعين اعتماده ، ويجوز أن يكون المراد هذا والأول جميعاً وأن الصفرين جميعاً باطلان لا أصل لهما والله أعلم .
الصفرد : بكسر أوله وسكون ثانيه كعربد نقل الميداني عن أبي عبيدة أنه طائر من خساس الطير وفي المثل أجبن من صفرد قال الشاعر :
تراه كالليث لدى أمنه . . . وفي الوغى أجبن من صفرد
وقال الجوهري : الصفرد طائر تسميه العامة أبا مليح ، وفي المرصع أن أبا المليح كنية القبيح ، والعندليب ، وطائر صغير يقال له الصفرد كالعصفور ، وهو داخل قي عموم العصافير .
الصقر : الطائر الذي يصاد به ، قاله الجوهري ، وقال ابن سيده : الصقر كل شيء يصيد من البزاة والشواهين ، والجمع أصقر وصقور وصقورة وصقار وصقارة . قال سيبويه : إنما جاؤوا بالهاء في مثل هذا الجمع تأكيداً نحو بعولة ، والأنثى صقرة والصقر هو الأجدل ، ويقال له القطامي ، وكنيته أبو شجاع وأبو الإصبع وأبو الحمراء وأبو عمرو وأبو عوان وأبو عوان . قال النووي ، في شرح المهذب : قال أبو زيد الأنصاري المروزي : يقال للبزاة والشواهين وغيرهما مما يصيد صقور ، واحدها صقر ، والأنثى صقرة وزقر ، بإبدال الصاد زاياً وسقر بإبدالها سيناً . وقال الصيدلاني ، في شرح المختصر : كل كلمة فيها صاد وقاف ففيها اللغات الثلاث ، كالبصاق والبزاق والبساق . وأنكر ابن السكيت بسق وقال : إنما معناه طال ، قال الله تعالى : " والنخل باسقات " أي مرتفعات .
روى أحمد ، في مسنده حدثنا قبيضة قال : حدثنا يعقوب بن عبد الرحمن بن محمد بن عمرو بن أبي عمرو عن المطلب عن أبي هريرة أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال : " كان دواد عليه السلام فيه غيرة شديدة ، فكان إذا خرج أغلق الأبواب ، فلم يدخل على أهله أحد حتى يرجع . قال : فخرج ذات يوم وغلقت الدار فأقبلت امرأته تطلع إلى الدار فإذا رجل قائم وسط الدار ، فقالت لمن في البيت : من أين دخل هذا الرجل والدار مغلقة ؟ والله لنفتضحن فجاء داود فإذا الرجل قائم وسط الدار فقال له داود : من أنت ؟ قال : أنا الذي لا أهاب الملوك ولا أمنع من الحجاب فقال داود : أنت إذن والله ملك الموت ، مرحباً بأمر الله ، ثم مكث مكانه حتى قبضت روحه ، فلما غسل وكفن(2/89)
"""""" صفحة رقم 90 """"""
وفرغ من شأنه طلعت عليه الشمس ، فقال سليمان للطير : أظلي على داود فأظلته الطير حتى أظلمت عليه الأرض ، فقال سليمان للطير : اقبضي جناحاً جناحاً . قال أبو هريرة رضي الله تعالى عنه : فطفق رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يرينا كيف فعلت الطير ، وقبض سول الله ( صلى الله عليه وسلم ) بيده ، وغلبت عليه يومئذ المضرحية ، انفرد بإخراجه الإمام أحمد وإسناده جيد ورجاله ثقات . ومعنى قوله وغلبت عليه يومئذ المضرحية ، أي غلبت على التظليل عليه الصقور طوال الأجنحة . واحدها مضرحي . قال الجوهري : وهو الصقر الطويل الجناح . ويوضح هذا المعنى ويبينه ما روي عن وهب بن منبه ، أنه قال : إن الناس حضروا جنازة داود عليه السلام ، جلسوا في الشمس ، في يوم صائف ، وكان قد شيع جنازته يومئذ أربعون ألف راهب ، عليهم البرانس سوى غيرهم من الناس ، فآذاهم الحر فنادوا سليمان عليه السلام أن يعمل لهم وقاية عليهم ، لما أصابهم من الحر ، فخرج سليمان فنادى الطير ، فأجابت فأمرها أن تظل الناس فتراص بعضها إلى بعض من كل وجه ، حتى استمسكت الريح ، فكاد الناس أن يهلكوا غماً ، فصاحوا إلى سليمان عليه السلام من الغم ، فخرج سليمان فنادى الطير أن أظلي الناس من ناحية الشمس وتنحي عن ناحية الريح ، ففعلت فكان الناس في ظل ، وتهب عليهم الرياح فكان ذلك أول ما رأوه من ملك سليمان عليه السلام .
فائدة : قال الضحاك والكلبي : ملك داود عليه السلام بعد قتله جالوت سبعين سنة ، ولم يجتمع بنو إسرائيل على ملك واحد إلا على داود عليه السلام ، وجمع الله لداود بين الملك والنبوة ، يجتمع ذلك لأحد قبله ، بل كان الملك في سبط والنبوة في سبط ، فذلك قوله تعالى : " وآتاه الله الملك والحكمة " ، قيل : العلم مع العمل وكل من علم وعمل فقد أوتي الحكمة وقال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما : كان داود أشد ملوك الأرض سلطاناً ، كان يحرس محرابه كل ليلة ستة وثلاثون ألف رجل ، فذلك قوله تعالى : " وشددنا ملكه " وقال مقاتل : كان سليمان عليه السلام أعظم ملكاً من داود ، وأقضى منه وكان شاكراً لأنعم الله تعالى ، وكان داود أشد تعبداً منه .
توفي داود عليه السلام وهو ابن مائة سنة ، وكان عمر سليمان عليه السلام لما وصل إليه الملك ثلاث عشرة سنة ومات وهو ابن ثلاث وخمسين سنة .
والصقر أحد أنواع الجوارح الأربعة : وهي الصقر والشاهين والعقاب والبازي ، وتنعت أيضاً بالسباع والضواري والكواسر ، والصقر ثلاثة أنواع : صقر وكونج ويؤيؤ ، والعرب تسمى كل طائر يصيد صقراً ، ما خلا النسر والعقاب ، وتسميه الأكدر والأجدل والأخيل ، وهو من والجوارح بمنزلة البغال من الدواب ، لأنه أصبر على الشدة وأحمل لغليظ الغذاء والأذى وأحسن ألفاً سد إقداماً على جملة الطير من الكركي وغيره . ومزاجه أبرد من سائر ما تقدم ذكره من الجوارح رطب ، وبهذا السبب يضري على الغزال والأرنب ، ولا يضري على الطير ، لأنها تفوته وهو أهدأ من البازي نفساً ، وأسرع أنساً بالناس وأكثرها قنعاً ، يغتذي بلحوم ذوات الأربع ، ولبرد مزاجه لا يشرب ماء ولو أقام دهراً ، ولذلك يوصف بالبخر ونتن الفم . ومن شأنه أنه لا يأوي إلى الأشجار(2/90)
"""""" صفحة رقم 91 """"""
ولا رؤوس الجبال ، إنما يسكن المغارات والكهوف وصدوع الجبال .
وللصقر كفان في يديه ، وللسبع كفان في يديه لأنه يكف بها عما أخذ ، أي يمنع وأول من صاد به الحارث بن معاوية بن ثور ، وذلك أنه وقف يوماً على صياد وقد نصب شبكة للعصافير ، فانقض ، صقر على عصفور وجعل يأكله ، والحارث يعجب منه فأمر به فوضع في بيت ووكل به من يطعمه ويؤدبه ويعلمه الصيد ، فبينما هو معه ذات يوم ، وهو سائر إذ لاحت أرنب فطار الصقر إليها فأخذها ، فازداد الحارث به إعجاباً ، واتخذه العرب بعده .
الصنف الثاني من الصقور الكونج ، ونسبته من الصقور ، كنسبة الزرق إلى البازي ، إلا أنه أحرمه ولذلك هو أخف منه جناحاً وأقل بخراً ويصيد أشياء من صيد المياه ويعجز عن الغزال الصغير .
الصنف الثالث من الصقور اليؤيؤ ، ويسميه أهل مصر والشام الجلم ، لخفة جناحيه وسرعتهما ، ولأن الجلم هو الذي يجز به وهو المقص ، وهو طائر صغير الذنب ، ومزاجه بالنسبة إلى الباشق بارد رطب ، لأنه أصبر منه نفساً ، وأثقل حركة ، ولا يشرب الماء إلا ضرورة ، كما يشربه الباشق ، إلا أنه أبخر منه ، ومزاجه بالنسبة إلى الصقر ، حار يابس ، ولذلك هو أشجع منه . ويقال : إن أول من ضراه واصطاد به بهرام جور ، وذلك أنه شاهد يؤيؤاً يطارد قنبرة ويراوعها ويرتفع وينخفض معها وما تركها إلى أن صادها فأعجبه وأمر به فأدب وصاد به وقال الناشئ في وصفه : ويؤيؤ مهذب رشيق . . . كأن عينيه لدى التحقيق
فصان مخروطان من عقيق
وقال أبو نواس في وصفه :
قد اغتمي والصبح في دجاه . . . كطرة البدر لدى مثناه
بيؤيؤ يعجب من رآه . . . ما في اليآيئ يؤيؤ سواه
أزرق لا تكذبه عيناه . . . فلو يرى القانص ما يراه
فداه بالأم وقد فداه . . . هو الذي خولناه الله
تبارك الله الذي هداه
فائدة أدبية : ذكر الإمام العلامة الطرطوشي ، في سراج الملوك ، عن الفضل بن مروان ، قال : سألت رسول ملك الروم عن سيرة ملكهم فقال : بذل عرفه وجرد سيفه ، فاجتمعت عليه(2/91)
"""""" صفحة رقم 92 """"""
القلوب رغبة ورهبة ، سهل النوال حزن النكال ، الرجاء والخوف معقودان في يده . قلت : كيف حكمه ؟ قال : يرد المظالم ويردع الظالم ، ويعطي كل ذي حق حقه ، فالرعية اثنان : مغتبط وراض . قلت : فكيف هيبته فيهم ؟ قال : تصورت في قلوبهم فتغضى له العيون ، فنظر رسول ملك الحبشة إلى إصغائي إليه وإقبالي عليه ، وكانت الرسل تنزل عندي ، فقال لترجمانه : ما الذي يقول الرومي ؟ قال : يصف لهم ملكهم ، ويذكر سيرته . فكلم ترجمانه فقال لي الترجمان : إنه يقول إن ملكهم ذو أناة عند القدرة ، وذو حلم عند الغضب ، وذو سطوة عند المغالبة ، وذو عقوبة عند الإجرام ، قد كسا رعيته جميل نعمته ، وفسرهم بعنيف عقوبته ، فهم يتراءونه ترائي الهلال خيالا ، ويخافونه مخافة الموت نكالا ، قد وسعهم عدله ، وراعهم قهره ، لا تمتهنه مزحة ، ولا توالسه غفلة ، إذا أعطى أوسع ، وإذا عاقب أوجع ، فالناس اثنان راج وخائف ، فلا الراجي خائب الأمل ، ولا الخائف بعيد الأجل . قلت : فكيف كانت هيبتهم له ؟ قال : لا ترفع العيون إليه أجفانها ، ولا تتبعه الأبصار إنسانها ، كأن رعيته طيور فرفرف عليهم صقور صوائد . قال الفضل : فحدثت المأمون بهذين الحديثين فقال : يا فضل كم قيمتها عندك ؟ قلت : ألفاً درهم . قال : إن قيمتها عندي أكثر من الخلافة ، أما علمت حديث أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه : قيمة كل امرئ ما يحسن أفتعرف أحداً من الخطباء والبلغاء ، يحسن أن يصف أحداً من خلفاء الله الراشدين المهديين ، بمثل هذه الصفة ؟ قلت : لا . قال : أمرت لهما بعشرين ألف دينار معجلة واجعل العدة بيني وبينهما ، على العود فلولا حقوق الإسلام وأهله ، لرأيت إعطاءهما جميع ما في بيت المال دون ما استحقاه انتهى .
وكان الفضل بن مروان ، قد أخذ البيعة للمعتصم ببغداد ، والمعتصم بالروم مع المأمون ، فاعتد المعتصم له بها يداً ، واستوزره فغلب عليه ، واستقل بالأمور ، فكانت الخلافة للمعتصم اسماً وللفضل معنى . قيل : إن الفضل جلس يوماً لأشغال الناس ، فرفعت إليه قصص العامة فرأى فيها رقعة مكتوباً فيها هذه الأبيات :
تفرعنت يا فضل بن مروان فاعتبر . . . فقبلك كان الفضل والفضل والفضل
ثلاثة أملاك مضوا لسبيلهم . . . أبادتهم الأقياد والحبس والقتل
وإنك قد أصبحت في الناس ظالماً . . . ستؤذى كما أوفي الثلاثة من قبل
أراد الفضل بن يحيى البرمكي ، والفضل بن الربيع ، والفضل بن سهل . وكان المعتصم(2/92)
"""""" صفحة رقم 93 """"""
يأمر بإعطاء المغني والنديم ، فلا ينفذ الفضل ذلك ، فحقد المعتصم عليه ، لذلك ونكبه أهل بيته ، وجعل مكانه محمد بن عبد الملك الزيات . وكان الفضل مذموم الأخلاق ، فلما نكب شمت به الناس حتى قال فيه بعضهم :
لتبك على الفضل بن مروان نفسه . . . فليس له باك من الناس يعرف
لقد صحب الدنيا منوعاً لخيرها . . . وفارقها وهو الظلوم المعنف
إلى النار فليذهب ومن كان مثله . . . على أي شيء فاتنا منه نأسف
ولما نكب المعتصم الفصل بن مروان قال : عمى الله في طاعتي ، فسلطني عليه . وكان المعتصم قد أخذ ماله ولم يتعرض لنفسه . وقيل : إنه أخذ من داره ألف ألف دينار ، وأثاثاً وآنية بألف ألف دينار ، وحبسه خمسة أشهر وأطلقه . فخدم بعد ذلك جماعة من الخلفاء وتوفي سنة خمسين ومائتين . ومن كلامه : لا تتعرض لعدوك وهو مقبل ، فإن إقباله يعينه عليك ، ولا تتعرض له وهو مدبر فإن أدباره يكفيك أمره .
فائدة أخرى أدبية أيضاً قد تقدمت الإشارة إليها ، في الرسالة التي كتبتها في الشاهين ، قول أبي الحسن علي بن الرومي في قصيدته التي يقول فيها : هذا أبو الصقر فرداً في محاسنه . . . من نسل شيبان بين الضال والسلم
كأنه الشمس في البرج المنيف به . . . على البرية لا نار على علم
مراده بالبرج قصره العالي لما شبهه بالشمس جعل قصره برجاً وأراد التمليح على الخنساء في قولها في أخيها صخر :
وإن صخراً لتأتم الهداة به . . . كأنه علم في رأسه نار
قال شيخنا شمس الدين محمد بن العماد : وأبو الصقر لم أقف له على ترجمة ولا وفاة وأبوه ابن عم معن بن زائدة الشيباني ، وكان من قواد أمير المؤمنين أبي جعفر المنصور ، وتولى الأعمال الجليلة والولايات السنية ، وتوفي قبل الثمانين ومائة . وكان يسكن البادية هو وولده أبو الصقر ، وإليه الإشارة بقول ابن الرومي في البيت بين الضال والسلم وهما من شجر البادية . وتولى أبو الصقر بعض الولايات للواثق هارون بن المعتصم وولده المنتصر من بعده وعاش إلى خلافة المعتضد وولده المعتمد . وسكنى البادية مما يتمدح به العرب ومنه قوله :
الموقدين بنجد نار بادية . . . لا يحضرون وفقد العز في الحضر(2/93)
"""""" صفحة رقم 94 """"""
ولم أر له أكثر من ذلك انتهى .
وتوفي أبو الحسن بن الرومي ببغداد في جمادى الأولى سنة ثلاث وثمانين ومائتين ، وفيه خلاف . وكان سبب موته ، على ما قاله ابن خلكان وغيره ، أن القاسم بن عبيد الله وزير المعتضد خاف من هجوه ، فدس عليه أبو فراس فأطعمه خشكنانة مسمومة ، فلما أحس بالسم قام ، فقال له الوزير : إلى أين تذهب ؟ فقال : إلى الموضع الذي بعثتني إليه ، فقال : سلم على والدي ، فقال : ما طريقي على النار . فأقام أياماً ومات .
الحكم : يحرم أكل الصقر لعموم النهي عن أكل كل ذي ناب من السباع ، ومخلب من الطير . قال الصيدلاني : اختلف في الجوارح ما هي ؟ فقيل : ما يجرح الصيد بناب أو مخلب أو ظفر ، وقيل : الجوارح الكواسب وقال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما : الجوارح الصوائد . وهذا راجع إلى معنى الكسب انتهى .
فجميع الجوارح عندنا محرمة ، لعموم هذا النهي المتقدم ذكره قريباً ، وذهب مالك إلى حلها ، وقال : ما لا نص فيه حلال ، حتى هدى بعض أصحابه ذلك إلى الكلب والأسد والنمر والدب والقرد وغير ذلك . وقال في الحمار الأهلي : إنه مكروه ، وفي الفرس والبغل إنهما حرامان ، احتجاجاً بقوله تعالى : " قل لا أجد فيما أوحي إلي محرماً " الآية . وأجاب الشافعي عن ذلك فقال : يعني مما كنتم تأكلون إذ لا معنى لإباحة شيء مما لا يأكلونه ولا يستطيبونه كما لا يصح أن يحمل قوله تعالى : " وحرم عليكم صيد البر ما دمتم حرماً " على ما هو حرام قبل ، وإنما يصح على ما يعتاد صيده . الأمثال : قالوا : أخلف من صقر ، وهو من خلوف الفم بفتح الخاء المعجمة وهو تغيير رائحته ومنه قوله ( صلى الله عليه وسلم ) : " لخلوف فم الصائم عند الله أطيب من ريح المسك " . ووقع نزاع بين الشيخ أبي عمرو بن الصلاح ، والشيخ عز الدين بن عبد السلام ، رحمهما الله تعالى ، في أن هذا الطيب في الدنيا والآخرة معاً ، أم في الآخرة خاصة ؟ فقال الشيخ عز الدين : في الآخرة خاصة لقوله ( صلى الله عليه وسلم ) في رواية لمسلم " والذي نفس محمد بيده لخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك يوم القيامة " . وقال الشيخ أبو عمرو بن الصلاح : هو عام في الدنيا والآخرة واستدل بأشياء كثيرة فذكرها ، منها ما جاء في مسند ابن حبان بكسر الحاء المهملة ، وهو من أصحابنا الفقهاء المحدثين ، قال : باب في كون ذلك يوم القيامة ، وباب في كونه في الدنيا ، وروى في هذا الباب بإسناده الثابت الصحيح ، أنه ( صلى الله عليه وسلم ) قال : " لخلوف فم الصائم حين يخلف ، أطيب عند الله من ريح المسك " . وروى الإمام أبو الحسن بن سفيان ، بسنده عن جابر رضي الله تعالى عنه قال : إن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال : " أعطيت أمتي في شهر رمضان خمساً قال : وأما الثانية فإنهم يمسون وخلوف(2/94)
"""""" صفحة رقم 95 """"""
أفواههم عند الله أطيب من ريح المسك " . ورواه الإمام الحافظ أبو بكر السمعاني في أماليه ، وقال : هو حديث حسن وكل واحد من المحدثين مصرح بأنه بمجيء وقت وجود الخلوف في الدنيا يتحقق وصفه بكونه أطيب عند الله من ريح المسك . قال : وقد قال العلماء شرقاً وغرباً بمعنى ما ذكرته في تفسيره . قال الخطابي : طيبه عند الله رضاه به . وقال ابن عبد البر : معناه أذكى عند الله وأقرب إليه وأرفع عنده من ريح المسك . وقال البغوي في شرح السنة : معناه الثناء على الصائم والرضا بفعله . وكذا قاله الإمام القدوري ، إمام الحنفية في كتابه في الخلاف ، معناه أفضل عند الله من الرائحة الطيبة . وقاله الإمام العلامة البوني صاحب اللمعة وغيرها وهو من قدماء المالكية . وكذا ماله الإمام أبو عثمان الصابوني ، وأبو بكر السمعاني ، وأبو حفص بن الصفار من أكابر أئمة الشافعية في أماليهم وأبو بكر بن العربي المالكي وغيرهم . فهؤلاء أئمة المسلمين شرقاً وغرباً ، لم يذكروا سوى ما ذكرته ولم يذكر أحد منهم وجهاً بتخصيصه بالآخرة ، مع أن كتبهم جامعة للوجوه والمشهورة والغريبة ومع أن الرواية التي فيها ذكر يوم القيامة مشهورة في الصحيح ، بل جزموا بأنه عبارة عن الرضا والقبول ونحوهما مما هو ثابت في الدنيا والآخرة .
وأما ذكر يوم القيامة ، في تلك الرواية فلأنه يوم الجزاء ، وفيه يظهر رجحان الخلوف على المسك المستعمل ، لدفع الرائحة الكريهة طالباً لرضا الله تعالى ، حيث يؤمر باجتنابها واجتلاب الرائحة الطيبة ، كما في المساجد والصلوات وغيرها من العبادات ، فخص يوم القيامة بالذكر في رواية لذلك ، كما خص في قوله تعالى : " إن ربهم بهم يومئذ لخبير " وأطلق في باقي الروايات أن فضيلته ثابته في الدارين ، انتهى كلام الشيخ أبي عمرو رحمه الله .
والذي ينبغي أن يعلم أن جميع ما وقع فيه الخلاف بينهما فالصواب فيه ما قاله الشيخ عز الدين بن عبد السلام ، إلا هذه المسألة ، فإن الصواب فيها ما قاله الشيخ أبو عمرو بن الصلاح ، رحمه الله . والله تعالى أعلم ، وقالوا : أبخر من صقر . قال الشاعر :
وله لحية تيس . . . وله منقار نسر
وله نكهة ليث . . . خالطت نكهة صقر
الخواص : قال ابن زهر : الصقر لا مرارة له ، وإذا أمسكه إنسان مات فرقاً ، ودماغه إذا دلك به القضيب هيج الباه . وقال أبو ساري الديلمي ، في عين الخواص له : ودماغ الصقر ، إذا مسح به الكلف الأسود قلعه ونقاه ، وإذا مسح به الحزاز أذهبه . التعبير : قال ابن المقري : رؤية الصقر تدل على العز والسلطان ، والنصر على الأعداء ، وبلوغ الأمال ، والرتبة ، والأولاد ، والأزواج ، والمماليك والسراري ، ونفائس الأموال ، والصحة وتفريج الهموم ، والإنكار وصحة الأبصار ، وكثرة الأسفار ، وعودة بالربح الطائل ، وربما دل على الموت لاقتناصه الأرواح ، وربما دل على السجن والترسيم ، والتقدير في المطعم والمشرب والمعلم بالنسبة إلى الغشيم ، يدل على رجل فصيح وكذلك سباع الطير بأسرها ، لأنها تجوز على الحيوان(2/95)
"""""" صفحة رقم 96 """"""
فتكسر عظمه وتهشم لحمه . فمن رأى من هذه الجوارح شيئاً من غير منازعة ، فإنه ينال مغنماً ، وكل حيوان يصاد به ، كالكلب والفهد والصقر يعبر بولد شجاع فمن تبعه صقر ، فإن رجلا شجاعاً يعطف عليه ، وإن كان له حامل ، فإنه يرزق ولداً شجاعاً ، وكل الجوارح المعلمة تدل على الولد الذكر .
ومن المنامات المعبرة ، أتى رجل إلى ابن سيرين ، فقال : رأيت كأن حمامة نزلت على شرفات السور ، فأتاها صقر فابتلعها ، فقال ابن سيرين : إن صدقت رؤياك ، ليزوج الحجاج بنت الطيار . فكان كذلك والله أعلم .
الصل : بكسر الصاد ، الحية التي لا تنفع فيها الرقية . ومنه قالوا : فلان صل مطرق . وبه وصف إمام الحرمين تلميذه أبا المظفر أحمد بن محمد الخوافي ، وكان علامة أهل طوس ، نظير الغزالي ، وكان عجيباً في المناظرة رشيق العبارة ، توني سنة خمسمائة ، وكان هو والكيا الهراسي والغزالي أكبر تلامذة إمام الحرمين رحمة الله عليهم .
الصلب : كصرد طائر معروف ذكره في العباب .
الصلنباج : كسقنطار سمك طويل دقيق ، ذكره في العباب أيضاً .
الصلصل : بالضم الفاختة ، قاله الجوهري وغيره ، وسيأتي ما في الفاختة ، في باب الفاء إن شاء الله تعالى .
الصناجة : قال القزويني في الأشكال : ليس شيء أكبر من هذا الحيوان ، وهو يكون بأرض التبت ، وهذا الحيوان يتخذ لنفسه بيتاً بقدر فرسخ في الأرض ، في فرسخ وكل حيوان وقع بصره عليه مات في الحال ، وإذا وقع بصر الصناجة عليها ماتت الصناجة ، والحيوانات تعرفه فتعرض له مغمضة العين ليقع بصر الصناجة عليها فتموت ، وإذا ماتت تبقى طعمة للحيوان مدة طويلة وهذا من عجائب الوجود . قلت : وقد استعمل الحريري لفظة الصناجة ، في المقامة السادسة والأربعين ، حيث قال : أحسنت يا نغيش ، يا صناجة الجيش . قال الشراح لكلامه : النغيش القصير . وفي الحديث أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) " رأى نغاشياً فخر ساجداً " .
وفسروا صناجة الجيش بأنها الطبل المعروف . قلت : ووجه الشبه أنه لما كان يطرب بالصنج كطرب الجماعة الحاضرين به سماه بذلك . فالهاء فيه للمبالغة . والصناجة أيضاً ذات الصنج ، وهي آلة لهو تتخذ من صفر يضرب أحدهما بالآخر .
قال الحافظ ابن عبد البر وغيره : أول موروث في الإسلام عدي بن نضلة . وأول وارث نعمان بن عدي ، كان عدي قد هاجر إلى أرض الحبشة ، فمات بها فورثه ابنه نعمان هناك ، واستعمله عمر رضي الله تعالى عنه على ميسان ولم يستعمل من قومه غيره وراود امرأته على الخروج معه فأبت فكتب إليها :(2/96)
"""""" صفحة رقم 97 """"""
من مبلغ الحسناء أن حليلها . . . بميسان يسقى في زجاج وحنتم
إذا شئت غنتني دهاقين قرية . . . وصناجة تحدو على كل منسم
إذا كنت ندماني فبالأكبر اسقني . . . ولا تسقني بالأصغر المتثلم
لعل أمير المؤمنين يسوؤه . . . تنادمنا بالجوسق المتهدم
فبلغ ذلك عمر رضي الله تعالى عنه فكتب إليه : بسم الله الرحمن الرحيم ، " حم ، تنزيل الكتاب من الله العزيز العليم ، غافر الذنب ، وقابل التوب ، شديد العقاب ، ذي الطول " الآية . أما بعد فقد بلغني قولك :
لعل أمير المؤمنين يسوؤه . . . تنادمنا بالجوسق المتهدم
وايم الله لقد ساءني ، ثم عزله . فلما قدم عليه سأله فقال : ما كان من هذا شيء وما كان إلا فضل شعر وجدته وما شربتها قط . فقال عمر رضي الله تعالى عنه : أظن ذلك ، ولكن لا تعمل لي عملا أبداً . فنزل البصرة ولم يزل يغزو مع المسلمين حتى مات . وشعره فصيح يستشهد به أهل اللغة على أن ندمان بمعنى نديم .
الصوار : القطيع من البقر ، والجمع صيران ، والصوار أيضاً وعاء المسك وقد جمعهما الشاعر في قوله :
إذا لاح الصوار ذكرت ليلى . . . وأذكرها إذا نفخ الصوار الصومعة : العقاب ، لأنها أبداً مرتفعة على أشرف مكان تقدر عليه هكذا قاله كراع في المجرد .
الصيبان : تقدم بما فيه في أول الباب .
الصيد : مصدر ، عومل معاملة الأسماء فأوقع على الحيوان المصيد . قال الله تعالى : " يا أيها الذين آمنوا لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم " وقال أبو طلحة الأنصاري رضي الله تعالى عنه :
أنا أبو طلحة واسمي زيد . . . وكل يوم في سلاحي صيد
وبوب البخاري رحمه الله ، في أول الربع الرابع من كتابه ، فقال : باب قول الله تعالى : " أحل لكم صيد البحر وطعامه " وقال عمر رضي الله عنه : صيده ما اصطيد ، وطعامه ما رمى به . وقال أبو بكر رضي الله عنه : الطافي حلال . وقال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما : طعامه ميتته إلا ما قدرت عليها ، والجري لا تأكله اليهود ونحن نأكله . وقال أبو شريح ، صاحب النبي ( صلى الله عليه وسلم ) : كل شيء في البحر مذبوح ، وقال عطاء : أما الطير فأرى أن يذبحه . وقال ابن جريج : قلت لعطاء : صيد الأنهار وقلات السيل أصيد بحر هو ؟ قال : نعم ثم تلا " هذا عذب فرات سائغ شرابه(2/97)
"""""" صفحة رقم 98 """"""
وهذا ملح أجاج ومن كل تأكلون لحماً طرياً " .
وركب الحسن على سرج من جلود كلاب الماء . وقال الشعبي : لو أن أهلي يأكلون الضفادع لأطعمتهم إياها . ولم ير الحسن بالسلفحاة بأساً .
وقال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما : كل من صيد نصراني أو يهودي أو مجوسي . وقال أبو الدرداء رضي الله عنه : في المري ذبح الخمر النينان والشمس انتهى .
قوله قلات السيل ، أي ما هلك فيه لقوله المسافر وما له على قلت ، وقوله في المري إلى آخر ما قال ، أشار بذلك إلى صفة مري يعمل في الشام ، تؤخذ الخمر فيجعل فيها الملح والسمك ، وتوضع في الشمس فتتغير الخمر إلى طعم المر فتستحيل عن هيئتها ، كما تستحيل إلى الخلية . يقول : كما أن الميتة حرام ، والمذبوحة حلال ، كذلك هذه الأشياء ذبحت الخمر فحلت فاستعار الذبح للتحليل ، والذبح في الأصل الشق .
وأبو شريح اسمه هانئ ، وعند الأصيلي ابن شريح ، وهو وهم . وفي الاستيعاب للحافظ ابن عبد البر ، شريح رجل من الصحابة حجازي ، روى عنه أبو الزبير وعمرو بن دينار سمعاه يحدث عن أبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنه ، قال : كل شيء في البحر مذبوح ، ذبح الله لكم كل دابة خلقها في البحر . قال أبو الزبير وعمرو بن دينار : وكان شريح هذا قد أدرك النبي ( صلى الله عليه وسلم ) وقال أبو حاتم : له صحبة . ولفظ الصيد في الآية الأولى عام ، ومعناه الخصوص ، فيما عدا الحيوان الذي أباح النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قتله في الحرم ، ثبت عنه ( صلى الله عليه وسلم ) أنه قال : " خمس فواسق يقتلن في الحل والحرم : الغراب والحداة والفأرة والعقرب والكلب العقور " ، فوقف مع ظاهر هذا الحديث ، سفيان الثوري والشافعي وابن حنبل وابن راهويه ، فلم يبيحوا للمحرم قتل شيء سوى ذلك . وقاس مالك على الكلب العقور الأسد والنمر والفهد والذئب وكل السباع العادية ، فأما الهر والثعلب والضبع ، فلا يقتلها المحرم عنده ، وإن فعل فدى . وقال أصحاب الرأي ، رحمهم الله : إن بدأ السبع المحرم فله أن يقتله ، وإن ابتدأ المحرم فعليه قيمته .
وقال مجاهد والنخعي : لا يقتل المحرم من السباع إلا ما عدا عليه منها ، وثبت عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما ، أنه أمر المحرمين بقتل الحيات وأجمع الناس على إباحة قتلها . وثبت عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما أيضاً إباحة قتل الزنبور ، لأنه في حكم العقرب .
وقال مالك : يطعم قاتله شيئاً ، وكذلك قال مالك فيمن قتل البرغوث والذباب والنمل ونحوها . وقال أصحاب الرأي : لا شيء على قاتل هذه كلها ، وأما سباع الطير فقال مالك : لا يقتلها المحرم ، وإن قتلها فدى . وقال ابن عطية : وذوات السموم كلها في حكم الحية كالأفعى والرتيلاء ونحوهما . تذنيب : قال أبو حنيفة : لا يقطع سارق ما كان مباح الأصل من صيد البر والبحر ، ولا في جميع الطيور . وقال الشافعي ومالك وأحمد والجمهور : يقطع سارق ذلك إذا كان محرزاً ، وقيمته(2/98)
"""""" صفحة رقم 99 """"""
ربع دينار لعموم الأدلة وإذا ذبح المحرم صيداً حرم عليه في حال الإحرام باتفاق العلماء ، وفي تحريمه على غيره قولان : الجديد الصحيح التحريم كذبيحة المجوسي ، فعلى هذا يكون ميتة ، والقديم الحل ولو كسر المحرم بيض شيد ، أو قلاه حرم عليه ، وفي تحريمه على غيره طريقان : أشهرهما أنه على القولين ، وأشهر القولين التحريم أيضاً ، ولو كسره مجوسي أو قلاه حل ، ولو حلب محرم لبن صيد ، فهو ككسر بيضه .
فرع : لو صاح محرم على صيد ، فمات بسبب صياحه ، أو صاح حلال على صيد في الحرم فمات به . فوجهان : أحدهما يضمنه لأنه تسبب في إهلاكه ، فكان كما لو صاح على صبي فهلك . قال الإمام النووي : وهذا هو الظاهر . والثاني لا يضمنه ، كما لو صاح على بالغ ولو أصاب صيداً ، فوقع ذلك الصيد على صيد آخر ، أو على فراخه أو بيضه فهلك ضمن جميع ذلك .
فرع : لو مات للمحرم قريب ، في ملكه صيد ، ملكه على المذهب ملكاً يتصرف فيه كيف شاء ، إلا بالقتل والإتلاف .
فرع : قال الروياني : العمرة التي ليس فيها قتل صيد ، قيل : إنها أفضل من حجة فيها قتل صيد . والأصح أن الحجة أفضل .
فرع : صيد حرم المدينة حرام ، لما روى مسلم ، من حديث جابر رضي الله عنه ، أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال : " إن إبراهيم حرم مكة ، وإني حرمت المدينة ما بين لابيتها ، لا يقطع عضاهها ، ولا يصاد صيدها " . واختلفوا في أنه هل يضمن صيدها كصيد مكة ؟ فقال الشافعي ، في الجديد : إنه لا يضمن ، لأنه مكان يجوز دخوله بغير إحرام ، فلا يضمن كصيدوج الطائف ، ففي سنن البيهقي بإسناد فيه ضعف أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال : " ألا إن صيدوج الطائف وعضاهها حرام محرم " . وفي القديم أنه يسلب القاتل لصيد حرم المدينة ، والقاطع لشجرها . واختاره النووي من جهة الدليل ، وعلى هذا فظاهر إطلاق الأئمة أن السلب لا يتوقف على إتلافه ، بل بمجرد الإصطياد وسلبه كسلب قتيل الكفار ، عند الأكثرين ، وقيل ثيابه فقط ، وقيل يترك له ساتر العورة فقط ، وهذا هو الصواب في الروضة وشرح المهذب . ثم هو السالب ، وقيل لفقراء المدينة كجزاء الصيد ، وقيل لبيت المال ، ويستثنى من تضمين الصيد ما لو صال عليه فقتله دفعاً .
فرع : إذا عم الجراد الطريق ، ولم يجد بداً من وطئه ، فلا ضمان عليه في الأظهر . ولو دخل كافر الحرم ، وقتل صيداً ضمنه . وقال الشيخ أبو إسحاق في المهذب : يحتمل عندي أنه لا يجب الضمان قال النووي في شرحه : انفرد الشيخ بهذا الاحتمال عن الأصحاب ، وأقامه في البيان وجهاً انتهى . وهذا نقله ابن كج وجهاً للأصحاب ، وهو متقدم على صاحب المهذب بأعوام ، فإنه توفي سنة أربع وأربعمائة .
تنبيهات : اعلم أن الصيد ، إذا مات من سببين : مبيح ومحرم فهو حرام ، تغليباً لجانب التحريم ، ومثال ذلك أن يموت من سهم وبندقة أو يصيب الصيد طرف من النصل ، فيجرحه(2/99)
"""""" صفحة رقم 100 """"""
ويؤثر فيه عرض السهم في مروره فيموت منهما . وكذلك لو أرسل سهماً إلى صيد فجرحه ، وكان على طرف سطح فسقط منه ، أو على جبل فتردى منه ، أو تردى في بئر ، أو وقع في ماء ، أو على شجرة ، فانصدم بأغصانها ، فهو حرام ، لأنه لا يدري من أيهما مات .
ومنها ما لو وقع صيده على محدد ، سكين أو غيرها ، فهو حرام . ولو أرسل سهماً ، فأصاب الصيد في الهواء ، ثم وقع على الأرض ومات ، فهو حلال سواء مات قبل الوصول إلى الأرض أو بعده ، أو لم يعلم هل كان موته قبل الوصول أو بعده ، لأن الوقوع على الأرض لا بد منه ، فيعفى عنه كما يعفى عن الذبح في غير المذبح عند التعذر ، وكما أن الصيد لو كان قائماً فوقع على جنبه لما أصابه السهم وقال مالك : إن مات بعد وقوعه على الأرض لم يحل ، والارتجاف قليلا بعد إصابة السهم لا يضر ، لأنه كالوقوع على الأرض ، فلو تدحرج من الجبل من جنب إلى جنب لم يضر ، لأن ذلك مما لا يؤثر مثله في التلف ، فلو رمى بسهم إلى صيد في الهواء فكسر جناحه ، ولم يجرحه فوقع فمات ، فهو حرام ، لأنه لم يصبه جرح يحال الموت عليه ، فلو كان الجرح خفيفاً لا يؤثر مثله ولكنه عطل جناحيه فوقع فمات فهو حرام ، قاله الإمام .
ولو وقع الصيد من الهواء بعدما أصابه السهم وجرحه في بئر نظر فإن كان فيها ماء ، فهو حرام ، وإن لم يكن فالصيد حلال ، لأن قعر البئر كالأرض . ولكن الفرض فيما إذا لم يصادمه جدران البئر . ومنها لو كان الصيد واقفاً على شجرة ، فأصابه السهم فجرحه ، فوقع على الأرض ، فهو حلال . وإن وقع على غصن أو أغصان ، ثم على الأرض لم يحل . وليس الانصدام بالأغصان أو بأحرف الجبل عند التردي من القلة ، كالانصدام بالأرض فإن ذلك الانصدام ليس بلازم ولا غالب ، والانصدام بالأرض لا بد منه ، وللإمام احتمالان في الصورتين لكثرة وقوع الطيور على الأشجار ، والانصدام بأطراف الجبال إذا كان الصيد بالجبل .
ومنها لو رمى إلى طير الماء ، نظر إن كان على وجه الماء فأصابه السهم فجرحه فمات فهو حلال ، والماء له كالأرض وإن كان خارج الماء ووقع في الماء ، بعدما أصابه السهم ، ففيه وجهان ، مذكوران في الحاوي ، أحدهما : أنه حرام ، لأن الماء بعد الجرح ، يعين على التلف والثاني : أنه حلال ، لأن الماء لا يغرقه ، لأنه لا يفارق الماء غالباً . ووقوعه في الماء كوقوع غيره على الأرض ، وهذا هو الراجح .
وذكر في التهذيب ، أن الصيد إذا كان في هواء البحر ، نظر إن كان الرامي في البر ، لم يحل وإن كان في البحر حل فإن كان الطائر خارج الماء ، ووقع فيه بعدما أصابه السهم ، ففي حله وجهان . قطع البغوي ، في التهذيب ، والشيخ أبو محمد في المختصر ، بالحل . وجميع ما ذكرنا فيما إذا لم ينته الصيد بتلك الجراحة إلى حركة المذبوح ، فإن انتهى إليها بقطع الحلقوم أو المريء أو غيره ، قد تمت ذكاته ، ولا أثر لما يعرض بعد ذلك .
ومنها لو جرح الصيد جرحاً لم يقتله ، ثم غاب فوجده بعد ذلك ميتاً ، قيل يحل وقيل لا يحل ، والأول أصح ، لكن يشترط أن ينتهي الصيد بتلك الجراحة إلى حركة المذبوح ولا أثر لغيبته فإن لم ينته إلى حركة المذبوح ، فإن وجد في ماء ، أو وجد عليه أثر صدمة ، أو جراحة أخرى لم(2/100)
"""""" صفحة رقم 101 """"""
يحل . وللأصحاب ثلاث طرق : أحدها في حله قولان أشهرهما : عند صاحب التهذيب الحل ، والعراقيون وغيرهم إلى ترجيح التحريم أميل ، والثاني القطع بالحل ، والثالث القطع بالتحريم . وقال أبو حنيفة : إن اتبعه عقب الرمي ، فوجده ميتاً حل ، وإن تأخر ساعة من اتباعه لم يحل . وروي عن مالك أنه إن وجله في برية حل ، وإلا فلا . وصحح النووي والغزالي الحل للأحاديث الواردة فيه ، ومنها لو رمى ، وهو لا يرجو صيداً ولا خطر له ولا قصده ، بأن رمى سهماً في الهواء ، أو في فضاء من الأرض ، أو إلى هدف واعترض صيد فأصابه فقتله ، ففي حله وجهان أصحهما ، وهو المنصوص ؛ عدم الحل ، لأنه لم يقصد الصيد ، لا معينا ولا مبهماً . ونظير ذلك ما إذا وقع في الشبكة صيد ، فعقر بحديدة فيها ، ويفرق بينه وبين ما لو ظنه ثوباً بأنه هنا قصد عيناً . ولو رمى إلى ما ظنه حجراً ، فكان صيداً فقتله فهو حلال . وكذا لو ظنه صيداً غير مأكول ، فكان مأكولا لأنه قصد عينه . وقيس ذلك بما إذا كان له شاتان ، فذبح إحداهما ظناً أنها الأخرى .
وفي التهذيب وغيره وجه أنه لا يحل ، لأنه لم يقصد الصيد ، وبه قال مالك . ومنها لو نصب سكيناً أو حديدة أو كانت في يده حديدة ، فوقعت على حلق شاة فذبحته فهو حرام ، لأنه لم يذبح ولم يقصد الذبح ، وإنما حصل ما حصل بفعل الشاة أو من غير فعل مختار . وفي التهذيب وغيره ، أن عند أبي إسحاق تحل الشاة في صورة وقوع السكين ، ولا شك أن الصيد في معناها . وكذا لو كان في يده حديدة يحركها ، والشاة أيضاً تحك حلقها بها ، فحصل انقطاع الحلقوم والمريء بالحركتين ، فهو حرام لأن الموت بشركة الذابح والبهيمة . وقال القاضي أبو سعيد الهروي ، في اللباب : وإن رمى الأعمى صيداً ، بدلالة بصير فالمذهب أنه لا يحل .
فرع : في الازدحام والاشتراك وله أحوال منها أن يتعاقب جرحان من رجلين ، فالأول منهما إما أن يكون مذففاً أو مزمناً ، أو لا مذففا ولا مزمناً ، فإن لم يكن مذففاً ولا مزمناً لم يحل على امتناعه ، فإن كانت الجراحة مذففة أو مزمنة ، فالصيد للثاني ولا شيء على الأول بجراحته ، فإن كان جرح الأول مذففاً فالصيد للأول ، وعلى الثاني أرش ما نقص من لحمه وجلده ، وإن كان جرح الأول مزمناً ملك الصيد به ، وينظر في الثاني فإن ذفف بقطع الحلقوم والمريء ، فهو حلال وعلى الثاني ما بين قيمته مذبوحاً ومزمناً . قال الإمام : وإنما يظهر التفاوت إذا كان فيه حياة مستقرة فإن كان سالماً أو كان بحيث لو لم يذبح لهلك ، فما عندي أنه ينقص بالذبح منه شيء وإن ذفف الثاني ، ولم يقطع الحلقوم والمري أو لم يذفف ، ومات بالجرحين فهو ميتة ، ويجب على الثاني قيمة الصيد مذبوحاً .
قال في كتاب التهذيب : قيل : هو كما لو جرح عبده وجرحه غيره ، ومات منهما وهو بناء على ما إذا جرح أجنبي عبداً قيمته عشرة وجرحه آخر ومات ، ففيه أوجه : قال المزني : يجب على كل واحد أرش جراحته وباقي القيمة ينصف بينهما . وقيل : على كل واحد نصف قيمته يوم جرحه ، وقال ابن خيران : توزع القيمة على قيمته يوم الجرح الأول ، وهي عشرة ، وعلى قيمته يوم الجرح الثاني وهي تسعة ، فيكون تسعة عشر جزءاً : عشرة على الأول وتسعة على الثاني . وقال القفال : على كل واحد منهما نصف أرش جراحته ، وينصف باقي القيمة مجروحاً بجرحين . والطريقة الثانية أن الأول إن لا يدركه حياً ، وجب على الثاني قيمته مزمناً ، وإن أدركه ولم يذبحه ، وجب على الثاني(2/101)
"""""" صفحة رقم 102 """"""
أرش جراحته على وجه ، وقيمته مزمناً على وجه ، وإن رماه رجلان فأصاباه معاً وقتلاه ، فهو لهما فإن أزمن أحدهما وأصاب الآخر المذبح ، ولم يعرف السابق وادعى كل منهما أنه المزمن أولا ، تحالفا ويكون بينهما لاحتمال سبق المزمن وإن كان أحدهما مجهزاً ، لم يصب المذبح فالصيد حرام انتهى .
فرع : اعلم أن من اصطاد صيداً عليه أثر ملك ، فإن كان موسوماً أو مقرطاً أو مخضوباً أو مقصوص الجناح ، لم يملكه لأن هذه آثار تحل على أنه كان مملوكاً ، وربما أفلت ولا ينظر إلى احتمال أنه اصطاده محرم ، وفعل به ذلك ثم أرسله فإنه احتمال بعيد .
فرع : لو قد الصيد نصفين حل الكل ، وإن أبان منه عضواً ومات منه بعد ساعة قبل أن يتمكن من ذبحه حل المبان على أحد الوجهين ، كما لو مات منه في الحال وإن أدركه حياً فذبحه حل الأصل دون المبان ، وإن مات الصيد بثقل الجارحة لم يحرم على أحد القولين بخلاف ثقل السهم .
فرع : ويملك الصيد بأمور : بإثبات اليد أو الإثخان أو إبطال الطيران أو العدو أو التعلق بالشبكة المنصوبة ، فإن وقعت منه الشبكة وتعلق بها صيد فوجهان ، وكذلك الشرك والربق المنصوبان والحبالة ونحو ذلك .
فرع : لو اصطاد سمكة فوجد في بطنها درة مثقوبة ، فهي لقطة ، وإن كانت غير مثقوبة ، فهي له مع السمكة ، ولو اشترى سمكة فوجد في بطنها درة غير مثقوبة ، فهي له ، وإن كانت مثقوبة فهي للبائع ، إن ادعاها . هكذا أطلقه في التهذيب . ويشبه أن يقال : إن المرة تكون لمن اصطاد السمكة ، كما في الكنز الذي يوجد في الأرض إنه لمحيي الأرض .
خاتمة : لو أرسل الصيد وخلاه بنفسه ، فهل يزول ملكه ؟ وجهان : أظهرهما لا يزول ، ولا يجوز له أن يفعل ذلك ، لأن ذلك من فعل الجاهلية من تسييب السوائب ، ومن حقه أن يحترز عنه . وسيأتي إن شاء الله تعالى ، الكلام على السائبة ، في باب النون . وعلى صيد الكلب والجارحة في باب الكاف .
ولو أفلت الصيد من يده لم يزل ملكه عنه فإن أخذه أحد فعليه رده للأول ، ولا فرق بين أن يلتحق بالوحوش في الصحراء ، أو يبعد عن البنيان أو يدور في البلد أو حوله . وقال مالك : ما دام في البلد أو حوله لم يزل ملكه عنه ، فإن بعد والتحق بالوحوش ، زال ملكه ومن أخذه ملكه . ويروى عنه أنه إن تباعد به العهد زال ملكه عنه ، وإن قرب لم يزل . ويروى عنه زوال ملكه بإفلاته مطلقاً ، وعندنا يقاس على إباق العبد وشرود البهيمة .
تتمة : لو توحل صيد بمزرعة ، وصار مقدوراً عليه ، ففيه وجهان : أصحهما عدم التملك ، لأنه لم يقصد بسقي الأرض الاصطياد ، والقصد مرعى في التملك ولو دخل بستان غيره ، واصطاد منه طائراً ، ملكه قطعاً ، ولا يثبت لصاحب البستان حكم المتحجر لأن البستان لا يتضمن حكم الطير والله أعلم . وما أحسن قول بعضهم :(2/102)
"""""" صفحة رقم 103 """"""
يشقى رجال ويشقى آخرون بهم . . . ويسعد الله أقواماً بأقوام
وليس رزق الفتى من فضل حيلته . . . لكن حدود بأرزاق وأقسام
كالصيد يحرمه الرامي المجيد وقد . . . يرمي فيحرزه من ليس بالرامي
فائدة : في تاريخ ابن خلكان ، لما قلد الرشيد الفضل بن يحيى خراسان ، أقام بها مدة ثم وصل كتاب صاحب البريد ينهى ، أن الفضل اشتغل بالصيد وإدمان اللذة ، عن النظر في أمور الرعية فقال ليحيى : يا أبت اقرأ هذا الكتاب ، واكتب إليه بما يردعه عنه ، فكتب إليه يحيى كتاباً وكتب في أسفله هذه الأبيات :
انصب نهاراً في طلاب العلا . . . واصبر على فقد لقاء الحبيب
حتى إذا الليل أتى مقبلا . . . واكتحلت بالغمض عين الرقيب
فبادر الليل بما تشتهي . . . فإنما الليل نهار الأريب
كم من فتى تحسبه ناسكاً . . . يستقبل الليل بأمر عجيب
غطى عليه الليل أستاره . . . فبات في لهو وعيش خصيب
ولذة الأحمق مكشوفة . . . يسعى بها كل عدو مريب
فلما ورد الكتاب على الفضل بن يحيى ، لم يفارق المسجد نهاراً .
قيل دخل الفضل على أبيه يحيى وهو يتبختر في مشيته ، فكره يحيى ذلك منه ، وقال : قالت الحكماء : البخل والجهل مع التواضع ، أزين للرجل من السخاء والعلم مع الكبر ، فيا لها من حسنة غطت على سيئتين عظيمتين ، ويا لها من سيئة غطت على حسنتين كبيرتين ولما كان الفضل ويحيى في محبسهما ، سمعهما الموكل يوماً وهما يضحكان ضحكاً مفرطاً ، فأعلم الرشيد بذلك فبعث مسروراً يستعلم سبب ذلك ، فجاءهما فسألهما وقال : يقول لكما أمير المؤمنين : ما هذا الاستخفاف بغضبي ؟ فازدادا ضحكاً وقال يحيى : اشتهينا سكباجاً فاحتلنا في شراء القدر واللحم والخل وغير ذلك ، فلما فرغنا من طبخها وإحكامها ، ذهب الفضل ينزلها فسقط قعر القدر ، فوقع الضحك والتعجب مما كنا فيه ، وما صرنا إليه . فلما أعلم مسرور الرشيد بذلك ، بكى وأمر لهما بمائدة في كل يوم ، وأذن لرجل مما يأنسان به ، أن يدخل عليهما كل يوم ، ويتغذى معهما ويحدثهما وينصرف .
ونقل أن الفضل كان كثير البر بأبيه ، وكان أبوه يتأذى من استعمال الماء البارد ، في زمن الشتاء ، فلما كان في السجن ، لم يقدرا على تسخين الماء ، فكان الفضل يأخذ الإبريق النحاس ، وفيه الماء ، فيضعه على بطنه زماناً لينكسر برده ، بحرارة بطنه ، حتى يستعمله أبوه بعد ذلك . وتوفي يحيى في السجن سنة ثلاث وتسعين ومائة . ولما بلغ الرشيد وفاته ، قال : أمري قريب من أمره ، فتوفي بعده بخمسة أشهر .(2/103)
"""""" صفحة رقم 104 """"""
الصيدح : الفرس الشديد الصوت وقال الجوهري : الصيدح ذكر البومة انتهى . وتسميته صيدحاً اشتقاقاً له من صوته ، لأن الصيدح الصياح قال الشاعر :
وقد هاج شوقي أن تغنت حمامة . . . مطوقة ورقاء تصدح بالفجر
أي تصيح قال الجاحظ : البومة وسائر طيور الليل ، لا تدع الصياح وقت الأسحار أبداً انتهى . وصيدح اسم ناقة في الرمة ، قال يمدح بلال بن أبي بردة بن أبي موسى الأشعري :
رأيت الناس ينتجعون غيثاً . . . فقلت لصيدح انتجعي بلالا
وقد تقدم ذكر هذا البيت في باب الهمزة في الإبل .
الصيدن : الثعلب . وقد تقدم في باب الثاء المثلثة ، والصيدن الملك .
الصيدناني : دويبة تعمل لنفسها بيتاً في جوف الأرض وتعميه عن الخلق .
الصير : سمك صغار يعمل منه الصحناة والمرى ، ومنهم من يطلق على الصير الصحناة .
وفي سنن البيهقي ، في باب ما جاء في أكل الجراد ، عن وهب بن عبد الله المغافري ، أنه دخل هو وعبد الله بن عمر على زينب بنت رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ، فقربت إليهم جراداً مقلواً بسمن ، وقالت : كل يا مصري من هذا ، لعل الصير أحب إليك منه . قال : قلت إنا لنحب الصير . وفي الحديث أن سالم بن عبد الله مر به رجل ومع صير ، فذاق منه ثم سأل منه كيف تبيعه . والمراد به في الحديث الصحناة . قال جرير يهجو قوماً :
كانوا إذا جعلوا في صيرهم بصلا . . . ثم اشتووا كنعدا من مالح جدفوا
قال الجوهري : وتفسيره في الحديث الصحناة ، تمد وتقصر . وروي أن الحسن سأله رجل عن الصحناة ، فقال : وهل يأكل المسلمون الصحناة ؟ وهي التي يقال لها الصير وكلا اللفظين غير عربي . الخواص : قال جبريل بن بختيشوع : الصحناة المتخذة من الأبازير تنشق المعدة من البلة والرطوبة وتمنع البخر ، وتطيب النكهة ، وتنفع من وجع الورك المتولد من البلغم ، ومن لدغ العقارب إذا طلي بها .(2/104)
"""""" صفحة رقم 105 """"""
باب الضاد المعجمة
الضأن : فوات الصوف من الغنم ، وهي جمع ضائن ، والأنثى ضائنة والجمع ضوائن ، وقيل : هو جمع لا واحد له ، وقيل : جمعه ضئين كعبد وعبيد .
فائدة : قال الله تعالى : " تمانية أزواج من الضأن اثنين ومن المعز اثنين قل آلذكرين حرم أم الأنثيين أما اشتملت عليه أرحام الأنثيين " الآية وذلك أن الجاهلية كانوا يقولون : هذه أنعام وحرث حجر ، وقالوا : ما في بطون هذه الأنعام خالصة لذكورنا ، ومحرم على أزواجنا ، وحرموا البحيرة والسائبة والوصيلة والحامي ، فكنوا يحرمون بعضها على النساء ، فلما جاء الإسلام وثبتت أحكامه ، جادلوا النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ، وكان الذي جادله خطيبهم مالك بن عوف بن الأحوص الجشمي ، فقال : يا محمد إنك تحرم أشياء مما كان آباؤنا يفعلونه . فقال له رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) : " إنكم قد حرمتم أصنافاً من الغنم على غير أصل ، وإنما خلق الله هذه الأزواج الخمسة للمأكل والانتفاع بها ، فمن أين جاء هذا التحريم أمن قبل الذكر أمن قبل الأنثى " . فسكت مالك وتحير ولم يتكلم . فقال له النبي ( صلى الله عليه وسلم ) : " ما لك لا تتكلم " ؟ فقال له مالك : بل تكلم وأسمع منك .
فلو قال جاء التحريم من قبل الذكورة وجب أن يحرم جميع الذكور ، ولو قال بسبب الأنوثة وجب أن يحرم جميع الإناث ، ولو قال باشتمال الرحم عليه لكان ينبغي أن يحرم الكل لأن الرحم يشتمل على الذكور والإناث . فأما تخصيص التحريم بالولد الخامس والسابع أو بالبعض دون البعض ، فمن أين ؟ وثمانية أزواج نصبها على البدل من الحمولة والفرش ، أي وأنشأ من الأنعام ثمانية أزواج أي أصناف : من الضأن اثنين أي الذكر والأنثى ، فالذكر زوج والأنثى زوج والعرب تسمي الواحد زوجاً إذا كان لا ينفك عن الآخر . وسيأتي إن شاء الله تعالى ، الكلام على البحيرة والسائبة والوصيلة والحامي ، في باب النون في النعم .
وقد جعل الله تعالى البركة ، في نوع الغنم فهي تلد في العام مرة ويؤكل منها ما شاء الله ويمتلئ منها وجه الأرض ، بخلاف السباع فإنها تلد شتاء وصيفاً ، ولا يرى منها إلا واحد واحد في أطراف الأرض ، ويضرب المثل بلين جلودها ، لما روى البيهقي والترمذي عن أبي هريرة أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال : " يخرج في آخر الزمان رجال يختلون الدنيا بالدين ، ألسنتهم أحلى من العسل وقلوبهم قلوب الذئاب " وفي رواية : " وقلوبهم أمر من الصبر يلبسون للناس جلود الضأن من اللين يشترون الدنيا بالدين يقول الله تعالى : أبي يغترون وعلي يجترئون ، فبي حلفت لأقيضن لهم فتنة تدع الحليم منهم حيران " . يقال : ختله يختله إذا خدعه ، وختل الذئب الصيد ، إذا تخفى له . وبين المعز والضأن تضاد يوجب أن لا يقع بينهما لقاح أصلا .
وعن عجيب طبعها وأمرها أنها ترى الفيل والجاموس فلا تهابهما ، مع عظم أبدانهما ، وترى الذئب فيعتريها خوف عظيم لمعنى خلقه الله في طباعها . ومن غريب أمرها أن الغنم تلد في ليلة واحدة عدداً كثيراً ثم إن الراعي يسرح بالأمهات من الغد ويأتي بها عند العشاء ، ويخلي بينها وبين(2/105)
"""""" صفحة رقم 106 """"""
السخال ، فتذهب كل واحدة إلى أمها . ويجلب من الهند نوع من الضأن ، في صدره ألية وعلى كتفيه أليتان ، وعلى فخذيه أليتان وعلى ذنبه ألية ، وربما تكبر ألية الضأن حتى تمنعه من المشي ، وإن تسافدت الغنم عند نزول المطر لا تحمل ، وإن كان السفاد عند هبوب الشمال تكون الأولاد ذكوراً ، وإن كان عند هبوب الجنوب تكون الأولاد إناثاً . وإذا رعت الضأن الزرع رجع ، وإذا رعته المعز لم ينبت . وقالت العرب : جز ضائنة وحلق معزة .
وحكمها : حل الأكل بالإجماع .
الأمثال : قالوا : أجهل من راعي ضأن وأحمق من راعي ضأن ثمانين وأحمق من طالب ضأن ثمانين وذلك أن الضأن تنفر من كل شيء ، فيحتاج راعيها إلى أن يجمعها في كل وقت ، وفي الصحاح : أحمق من صاحب ضأن ثمانين وذلك أن أعرابياً بشر كسرى ببشرى فسر بها ، فقال : سلني ما شئت ، فقال : أسألك ضأناً ثمانين . وقال ابن خالويه : إنه رجل قضى للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) حاجة ، فقال ( صلى الله عليه وسلم ) : " ائتني بالمدينة " ، فأتاه ، فقال عليه الصلاة والسلام له : " أيما أحب أليك ، ثمانون من الضأن أو أدعو الله أن يجعلك معي في الجنة " ؟ فقال : بل ثمانون من الضأن ، فقال عليه الصلاة والسلام : " أعطوه إياها " . ثم قال ( صلى الله عليه وسلم ) : " إن صاحبة موسى كانت أعقل منك ، وذلك أن عجوزاً دلته على عظام يوسف عليه السلام ، فقال لها موسى : أيما أحب إليك أسأل الله أن تكوني معي في الجنة أو مائة من الغنم ؟ قالت : الجنة " . والحديث رواه ابن حبان والحاكم في المستدرك مع اختلاف فيه وقال الحاكم : صحيح الإسناد .
وعن أبي موسى الأشعري قال : إن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) كان يقسم غنائم هوازن بحنين فوقف عليه رجل من الناس فقال : إن لي عندك موعداً يا رسول الله فقال ( صلى الله عليه وسلم ) : " صدقت فاحتكم ما شئت " قال : إني أحتكم ثمانين ضائنة وراعيها . فقال ( صلى الله عليه وسلم ) : " هي لك ، ولقد احتكمت يسيراً ، ولصاحبة موسى التي دلته على عظام يوسف كانت أحزم منك حين حكمها موسى ، فقالت : حكمي أن تردني شابة وأدخل معك الجنة . قال في الإحياء ، في آخر الآفة الثالثة عشرة ؛ من آفات اللسان : وكان الناس يضعفون ما احتكم هذا الإنسان به حتى جعلوه مثلا ، فقالوا : أقنع من صاحب الثمانين والراعي .
الخواص : لحم الضأن يمنع المرة السوداء ، ويزيد في المني وينفع من السموم ، وهو حار رطب بالنسبة إلى المعز ، وأجوده الحولي ، وهو ينفع المعدة المعتدلة ويضر من يعتاده العشي ، وتدفع مضرته بالأمراق القابضة ، ويكره لحم النعاج لأنه يولد دماً رديئاً ، ولحم الخرفان يغفو غذاء كثيراً حاراً رطباً لكنه يولد البلغم ، والحولي من الضأن أغذى من صغيرها ، ولحم الضأن في الربيع أجود وأنفع منه في سائر الأزمان ، ولحم الخصي منها يزيد في الباه ، ودمها إذ أخذ وهو حار ساعة تذبح وطلي به الوضح غير لونه وضيعه . وكبد التيس إذا أحرقت طرية ودلك بها الأسنان بيضها ،(2/106)
"""""" صفحة رقم 107 """"""
وقرن الكبش إذا دفن تحت شجرة يكثر حملها ، وإذا اكتحل بمرارة الكبش مع العسل ، يمنع من نزول الماء ، وعظمه يحرق بخشب الطرفاء ويخلط رماده بدهن الشمع المتخذ من دهن الورد ، ويطلى به موضع الهشم يصلحه . وإذا تحملت المرأة بصوف النعجة ، قطعت الحبل . وإذا غطي الإناء بصوف الضأن الأبيض ، وفيه عسل ، لم يقربه النمل .
الضؤضؤ : الطائر الذي يسمى الأخيل ، قاله ابن سيده وتوقف فيه ابن دريد .
الضب : بفتح الضاد ، حيوان بري معروف يشبه الورل ، قال أهل اللغة : وهو من الأسماء المشتركة فيطلق على ورم في خف البعير وعلى ضبة الحديد ، والضب اسم للجبل الذي بمسجد الخيف في أصله . وضبة الكوفة وضبة البصرة قبيلتان من العرب . والضب أن يجمع الحالب خلفي الناقة في كفيه جميعاً أنشد ابن دريد :
جمعت له كفي بالرمح طاعناً . . . كما جمع الخلفين في الضب حالب
وكنيته أبو حسل والجمع ضباب وأضب مثل كف وأكف والأنثى ضبة قالت العرب : لا أفعله حتى يرد الضب ، لأن الضب لا يرد الماء . قال ابن خالويه ، في أوائل كتاب ليس : الضب لا يشرب الماء ويعيش سبعمائة سنة فصاعداً ، ويقال إنه يبول في كل أربعين يوماً قطرة ، ولا تسقط له سن ويقال إن أسنانه قطعة واحدة ليست مفرقة . ومن كلامهم الذي وضعوه على ألسنة البهائم : ثم قالت السمكة : رد يا ضب فقال :
أصبح قلبي صردا . . . لا يشتهي أن يردا
إلا عراداً عرداً . . . وصليا نا بردا
وعنكشاً ملتبداً
ولما كان بين الحوت والضب هذا التضاد أشار إليه حاتم الأصم رحمه الله بقوله :
وكيف أخاف الفقر والله رازقي . . . ورازق هذا الخلق في العسر واليسر
تكفل بالأرزاق للخلق كلهم . . . وللضب في البيدا وللحوت في البحر
وضبب البلد وأضب كثرت ضبابه . وأرض ضبية أي كثيرة الضباب . قال عبد اللطيف البغدادي : الورل والضب والحرباء وشحمة الأرض والوزغ ، كلها متناسبة في الخلق . وللضب ذكران وللأنثى فرجان ، كالورل والحرذون . وقال عبد القاهر : الضب دويبة على حد فرخ التمساح الصغير وذنبه كذنبه وهو يتلون ألواناً بحر الشمس كما تتلون الحرباء انتهى . أسند ابن أبي الدنيا ، في كتاب العقوبات ، عن أنس قال : إن الضب ليموت في جحره هزالا من ظلم بني آدم ، ولما سئل أبو حنيفة رضي الله تعالى عنه ، عن ذكر الضب ، قال : إنه كلسان الحية أصل واحد له فرعان ، وإذا أرادت الضبة أن يخرج بيضها ، حفرت في الأرض حفرة ، ورمت فيها البيض وطمتها بالتراب ، وتتعاهدها كل يوم ، حتى يخرج ، وذلك في أربعين(2/107)
"""""" صفحة رقم 108 """"""
يوماً ، وهي تبيض سبعين بيضة وأكثر ، وبيضها يشبه بيض الحمام .
والضب يخرج من جحره كليل البصر فيجلوه بالتحدق للشمس ، ويغتذي بالنسيم ويعيش ببرد الهواء ، وذلك عند الهرم ، وفناء الرطوبات ، ونقص الحرارات ، وبينه وبين العقارب مودة ، فلذلك يؤويها في جحره لتلسع المتحرش به إذا أدخل يده لأخذه ، ولا يتخذ جحره إلا في كدية جحر ، خوفاً من السيل والحافر ، ولذلك توجد براثنه ناقصة كليلة لحفره بها في الأماكن الصلبة ، وفي طبعه النسيان وعدم الهداية وبه يضرب المثل في الحيرة ولذلك لا يحفر جحره إلا عند أكمة أو صخرة لئلا يضل عنه ، إذا خرج لطلب المطعم ، ويوصف بالعقوق لأنه يأكل حسوله فلا ينجو منها إلا ما هرب ، وأشار إلى ذلك الشاعر بقوله :
أكلت بنيك أكل الضب حتى . . . تركت بنيك ليس لهم عديد
وهو طويل العمر ، ومن هذه الجهات يناسب الحيات والأفاعي . ومن طبعه أنه يرجع في قيئه كالكلب ، ويأكل رجيعه . وهو طويل الدم بعد الذبح وهشم الرأس ، يقال إنه يمكث بعد الذبح ليلة ويلقى في النار فيتحرك . ومن شأنه في الشتاء أن لا يخرج من جحره ، وقد أشار إلى ذلك أمية بن أبي الصلت لما جاء إلى عبد الله بن جدعان يطلب نائله بقوله :
أأذكر حاجتي أم قد كفاني . . . حياؤك إن شيمتك الوفاء
إذا أثنى عليك المرء يوماً . . . كفاه من تعرضه الثناء
كريم لا يغيره صباح . . . عن الخلق الجميل ولا مساء
يباري الريح تكرمة ومجداً . . . إذا ما الضب أجحره الشتاء
فأرضك كل مكرمة بناها . . . بنو تيم وأنت لها سماء
فائدة : روى الدارقطني والبيهقي ، وشيخه الحاكم وشيخه ابن عدي ، عن ابن عمر ، أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) كان في محفل من أصحابه ، إذ جاء أعرابي من بني سليم قد صاد ضباً وجعله في كمه ليذهب به إلى رحله ، فرأى جماعة محتفين بالنبي ( صلى الله عليه وسلم ) ، فقال : على من هؤلاء الجماعة ؟ فقالوا : على هذا الذي يزعم أنه نبي . فأتاه فقال : يا محمد ما اشتملت النساء على ذي لهجة أكذب منك ، فلولا أن تسميني العرب عجولا لقتلتك وسررت الناس بقتلك أجمعين فقال عمر رضي الله تعالى عنه : يا رسول الله دعني أقتله . فقال ( صلى الله عليه وسلم ) : " لا أما علمت أن الحليم كاد أن يكون نبياً " . ثم أقبل الأعرابي على رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فقال : واللات والعزى لا آمنت بك حتى يؤمن هذا الضب وأخرج الضب من كمه وطرحه بين يدي رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وقال : إن آمن بك آمنت بك فقال ( صلى الله عليه وسلم ) : " يا ضب " ، فكلمه الضب بلسان طليق فصيح ، عربي مبين صريح ، يفهمه القوم جميعاً : لبيك وسعديك يا رسول رب العالمين فقال ( صلى الله عليه وسلم ) " من تعبد ، قال : الذي في السماء عرشه ، وفي الأرض سلطانه ، وفي البحر سبيله ، وفي الجنة رحمته ، وفي النار عذابه . فقال ( صلى الله عليه وسلم ) : " فمن أنا يا ضب " ؟(2/108)
"""""" صفحة رقم 109 """"""
قال : أنت رسول رب العالمين ، وخاتم النبيين ، قد أفلح من صدقك ، وقد خاب من كذبك . فقال الأعرابي : أشهد أن لا إله إلا الله وإنك رسول الله حقاً ، والله لقد أتيتك وما على وجه الأرض أحد هو أبغض إلي منك ، ووالله لأنت الساعة أحب إلي من نفسي ومن ولدي ، فقد آمن بك شعري وبشري ، وداخلي وخارجي ، وسري وعلانيتي . فقال له رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) " الحمد لله الذي هداك إلى هذا الدين الذي يعلو ولا يعلى عليه ، ولا يقبله الله إلا بصلاة ، ولا يقبل الصلاة إلا بقرآن " قال : فعلمني فعلمه النبي ( صلى الله عليه وسلم ) سورة الفاتحة وسورة الإخلاص . فقال : يا رسول الله ما سمعت في البسيط ولا في الوجيز أحسن من هذا فقال ( صلى الله عليه وسلم ) : " إن هذا كلام رب العالمين وليس بشعر . إذا قرأت " قل هو الله أحد " مرة فكأنما قرأت ثلث القرآن ، وإذا قرأتها مرتين ، فكأنما قرأت ثلثي القرآن ، وإذا قرأتها ثلاثاً فكأنما قرأت القرآن كله " . فقال الأعرابي : إن إلهنا يقبل اليسير ، ويعطي الكثير . ثم قال له النبي ( صلى الله عليه وسلم ) : " ألك مال " ؟ فقال : ما في بني سليم قاطبة رجل أفقر مني . فقال ( صلى الله عليه وسلم ) لأصحابه : " أعطوه " ، فأعطوه حتى أبطروه . فقال عبد الرحمن بن عوف : يا رسول الله ، أنا أعطيه ناقة عشراء تلحق ولا تلحق ، أهديت إلي يوم تبوك ، فقال ( صلى الله عليه وسلم ) : " قد وصفت ما تعطي ، وأصف لك ما يعطيك الله جزاء " قال : نعم صف يا رسول الله . قال ( صلى الله عليه وسلم ) : " لك ناقة من ثرة بيضاء جوفاء ، قوائمها من زبرجد أخضر ، وعيناها من ياقوت أحمر ، عليها هودج ، وعلى الهودج السندس والإستبرق ، تمر بك على الصراط كالبرق الخاطف " .
فخرج الأعرابي من عند رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فتلقاه ألف أعرابي على ألف دابة بألف سيف ، فقال لهم : أين تريدون ؟ فقالوا : نريد هذا الذي يكذب ويزعم أنه نبي . فقال الأعرابي : أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله ، فقالوا له : صبأت ، فحدثهم بحديثهم ، فقالوا كلهم : لا إله إلا الله محمد رسول الله . ثم أتوا النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ، فقالوا : يا رسول الله مرنا بأمرك ، فقال ( صلى الله عليه وسلم ) : " كونوا تحت راية خالد بن الوليد " . فلم يؤمن في أيامه ( صلى الله عليه وسلم ) من العرب ، ولا من غيرهم ألف غيرهم .
الحكم : يحل أكل الضب بالإجماع . قال في الوسيط : ولا يؤكل من الحشرات إلا الضب .
قال ابن الصلاح ، في مشكله : هذا غير مرضي فإن الحشرات اليربوع والقنفذ ، ذكرهما الأزهري وغيره . وروى الشيخان عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قيل له : أحرام هو ؟ قال : " لا ولكنه لم يكن بأرض قومي فأجدني أعافه " . وفي سنن أبي داود ، لما رأى النبي ( صلى الله عليه وسلم ) الضبين المشويين بزق ، فقال خالد : يا رسول الله أراك تقذره ، وذكر تمام الحديث . وفي رواية لمسلم " لا آكله ولا أحرمه " وفي الأخرى : " كلوه فإنه حلال ولكنه ليس من طعامي " . وكل هذه الروايات صريحة في الإباحة ، ولأن العرب تستطيبه والدليل عليه قول الشاعر :
أكلت الضباب فما عفتها . . . وإني اشتهيت قديد الغنم
ولحم الخروف حنيذا وقد . . . أتيت به فاتراً في الشبم(2/109)
"""""" صفحة رقم 110 """"""
وأما البهض وحيتانكم . . . فأصبحت منها كثير السقم
وركبت زبداً على تمرة . . . فنعم الطعام ونعم الأدم
وقد نلت منها كما نلتمو . . . فلم أر فيها كضب هرم
وما في التيوس كبيض الدجاج . . . وبيض الدجاج شفاء القرم
ومكن الضباب طعام العرب . . . وكاشيه منها رؤوس العجم
قوله : الحنيذ ، أي المشوي ، وماء الشبم بفتح الشين المعجمة وفتح الباء الموحدة ماء الأسنان ، والبهض بكسر الباء الموحدة وفتح الهاء وبالضاد المعجمة الأرز باللبن ، والقرم بفتح القاف وكسر الراء الرجل يشتهي اللحم ، والمكن بفتح الميم وإسكان الكاف وبالنون في آخره ، بيض الضب والكشا جمع كشية بضم الكاف وإسكان الشين المعجمة . ولا يكره أكله عندنا خلافاً لبعض أصحاب أبي حنيفة . وحكى القاضي عياض عن قوم تحريمه . قال الإمام العلامة النووي : وما أظنه يصح عن أحد انتهى .
وأما ما روى عن عبد الرحمن بن حسنة ، قال : نزلنا أرضاً كثيرة الضباب ، فأصابتنا مجاعة ، فطبخنا منها أي من الضباب ، فإن القدور لتغلي إذ جاءنا رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ، فقال : " ما هذا " ؟ فقلنا : ضباب أصبناها ، فقال : " إن أمة من بني إسرائيل مسخت دواب في الأرض وإني أخشى أن يكون هذا منها فلم آكلها ولم أنه عنها " ، فيحتمل أن ذلك قبل أن يعلم أن الممسوخ لا يعقب . وفي صحيح البخاري ، عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) لما خرج إلى حنين ، مر بشجرة للمشركين يقال لها ذات أنواط ، يعلقون عليها أسلحتهم ، فقالوا : يا رسول الله اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط ، فقال ( صلى الله عليه وسلم ) : " سبحان الله هذا كما قال قوم موسى اجعل لنا إلهاً كما لهم آلهة ، فوالذي نفسي بيده لتتبعن سنن من قبلكم شبراً بشبر وذراعاً بذراع حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه " . قالوا : يا رسول الله ، اليهود والنصارى ؟ قال : " فمن " ؟ قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما : ما أشبه الليلة بالبارحة ؟ هؤلاء بنو إسرائيل . قال ابن العرب ، في عارضة الأحوذي : تفكرت برهة في وجه ضرب المثل بالضب ، فعرضت لي في الخاطر معان ، أشبهها الآن أن الضب عند العرب يضرب به المثل للحاكم من الإنس ، والحاكم تأتي إليه الخلق بأجمعهم ، فيما يعرض من الأمور لهم ، فلا يتأخر أحد عنه فكان المعنى مصيرهم لذلك .
الأمثال : قالوا : أضل من ضب ، والضلال ضد الهداية . وكذلك قالوا في الورل ، كما سيأتي إن شاء الله تعالى . وقالوا : أعق من ضب قال ابن الأعرابي : إنما يريدون الأنثى وعقوقها أنها تأكل أولادها . وأحيى من ضب ، أي أطول عمراً وأجبن من ضب وأبله من ضب وأخدع من ضب . قال الشاعر :(2/110)
"""""" صفحة رقم 111 """"""
وأخدع من ضب إذا جاء حارس . . . أعدله عند الذبابة عقربا
وقالوا : أعقد من ذنب الضب ، لأن عقده كثيرة . وزعموا أن بعض الحاضرة ، كسا أعرابياً ثوباً ، فقال له : لأكافئنك على فعلك بما أعلمك كم في ذنب الضب من عقدة ؟ قال : لا أدري ، قال : فيه إحدى وعشرون عقدة .
الخواص : إذا خرج الضب من بين رجلي إنسان ، لا يقدر بعد ذلك على مباشرة النساء . ومن أكل قلبه أذهب عنه الحزن والخفقان ، وشحمه يذاب ويطلى به القضيب يهيج شهوة الجماع ، ومن أكل منه لا يعطش زماناً طويلا ، وخصيتاه من استصحبهما معه يحبه الخدم محبة شديدة ، وكعبه يشد على وجه الفرس لا يسبقه شيء من الخيل ، عند المسابقة . وجلده يجعل منه غلاف للسيف يشجع صاحبه ، وإن اتخذ ظرفاً للعسل ، فمن لعق منه هيج شهوة الجماع ، ويورث انعاظاً شديدة ، وبعره ينفع من البرص والكلف طلاء ، ومن بياض العين اكتحالا ، ومن نزول الماء فيها . التعبير : الضب في المنام رجل عربي خداع في أموال الناس ، ومال صاحبه ، وقيل : إنه رجل مجهول النسب ، وقيل : إنه رجل ملعون لأنه من الممسوخ وقيل : إنه يحل على الشبهة في الكسب ، وقيل : من رأى الضب في المنام فإنه يمرض .
الضبع : معروفة ، ولا تقل ضبعة ، لأن الذكر ضبعان ، والجمع ضباعين مثل سرحان وسراحين . والأنثى ضبعانة والجمع ضبعانات وضباع ، وهذا الجمع للذكر والأنثى مثل سبع وسباع كذا قاله الجوهري . وقال ابن بري : قوله : والأنثى ضبعانة لا يعرف .
وفي مسائل الضبع مسألة لطيفة ، وهي أن من أصول العربية التي يطرد حكمها ولا ينحل نظمها ، أنه متى اجتمع المذكر والمؤنث غلب حكم المذكر على المؤنث ، لأنه هو الأصل والمؤنث فرع عنه ، إلا في موضعين : أحدهما أنك متى أردت تثنية الذكر والأنثى من الضباع قلت : ضبعان وأجريت التثنية على لفظ المؤنث ، الذي هو ضبع لا على لفظ المذكر الذي هو ضبعان ، وإنما فعل ذلك فراراً مما كان يجتمع من الزوائد أن لو ثنى على لفظ المذكر . والموضع الثاني أنهم في باب التاريخ أرخوا بالليالي ، وهي مؤنثة دون الأيام التي هي مذكرة ، وإنما فعلوا ذلك مراعاة للأسبق ، والأسبق من الشهر ليلته هذا كلامه بحروفه .
وقال الحريري في الدرة : إذا اجتمع المذكر والمؤنث غلب المذكر إلا في التاريخ ، فإنه بالعكس وإلا في تثنية ضبع وضبعان ، فيقال : ضبعان بفتح الضاد وضم الباء والنور مكسورة .
وعن ابن الأنباري أن الضبع يطلق على الذكر والأنثى ، وكذلك حكاه ابن هشام الخضراوي ، في كتابه الإفصاح في فوائد الإيضاح للفارسي عن أبي العباس وغيره . والمعروف في المحكم وغيره ما تقدم . وتصغير الضبع أضيبع لما تقدم ، في أول باب الهمزة ، مما رواه مسلم في باب إعطاء القاتل سلب المقتول ، من طريق أبي قتادة ، بن حديث الليث ، فقال أبو بكر رضي الله(2/111)
"""""" صفحة رقم 112 """"""
تعالى عنه : " كلا لا يعطيه لأضيبع من قريش ويدع أسداً من أسد الله " . وشد الخطابي ، فقال : الأضيبع نوع من الطيور .
ومن أسماء الضبع جيل وجعار وحفصة ، ومن كناها أم خنور وأم طريق وأم عامر وأم القبور وأم نوفل والذكر أبو عامر وأبو كلدة وأبو الهنبر . وقد تقدم في باب الهمزة أن الضبع تحيض كالأرنب ، تقول : ضحكت الأرنب ضحكاً ، أي حاضت قال الشاعر :
وضحك الأرانب فوق الصفا . . . كمثل دم الحرب يوم اللقا
يعني الحيض ، فيما زعم بعضهم . وقال ابن الأعرابي في قول ابن أخت تأبط شراً :
تضحك الضبع لقتلى هذيل . . . وترى الذئب لها يستهل
أي إن الضبع ، إذا أكلت لحوم الناس ، أو شربت دماءهم ، طمثت وقد أضحكها الدم . قال الشاعر :
وأضحكت الضباع سيوف سعد . . . لقتلى ما دفن ولا ودينا
وكان ابن دريد يرد هذا ، ويقول : من شاهد الضباع عند حيضها ، حتى علم أنها تحيض ؟ وإنما أراد الشاعر أنها تكشر لأكل اللحوم ، وهذا سهو منه فجعل كشرها ضحكاً . وقيل : معناه أنها تستبشر بالقتلى إذا أكلتهم فيهر بعضها على بعض فجعل هريرها ضحكاً . وقيل : أراد أنها تسر بهم ، فجعل السرور ضحكاً ، لأن الضحك إنما يكون منه كتسمية العنب خمراً ، وتستهل الذئاب تصيح وتعوي ، قاله ابن سيده .
ومن عجيب أمرها ، أنها كالأرنب ، تكون سنة ذكراً وسنة أنثى فتلقح في حال الذكورة ، وتلد في حال الأنوثة ، نقله الجاحظ والزمخشري في ربيع الأبرار ، والقزويني في عجائب المخلوقات ، وفي كتابه مفيد العلوم ومبيد الهموم ، وابن الصلاح في رحلته عن ارسطالطاليس وغيرهم ، قال القزويني : وفي العرب قوم يقال لهم الضبعيون ، لو كان أحدهم في قفل فيه ألف نفس ، رجاء الضبع لا يقصد أحداً سواه . والضبع توصف بالعرج وليست بعرجاء وإنما يتخيل ذلك للناظر ، وسبب هذا التخيل لدونة في مفاصلها ، وزيادة رطوبة في الجانب الأيمن على الأيسر منها . وهي مولعة بنبش القبور لكثرة شهوتها للحوم بني آدم ، ومتى رأت إنساناً نائماً حفرت تحت رأسه ، وأخذت بحلقه فتقتله وتشرب دمه . وهي فاسقة لا يمر بها حيوان من نوعها إلا علاها . وتضرب العرب بها المثل في الفساد ، فإنها إذا وقعت في الغنم عاثت ، ولم تكتف بما يكتفي به الذئب ، فإذا اجتمع الذئب والضبع في الغنم سلمت لأن كل واحد منها يمنع صاحبه . والعرب تقول في دعائها : اللهم ضبعاً وذئباً أي اجمعهما في الغنم لتسلم . ومنه قول الشاعر :
تفرقت غنمي يوماً فقلت لها : . . . يا رب سلط عليها الذئب والضبعا(2/112)
"""""" صفحة رقم 113 """"""
قيل للأصمعي : هذا دعاء لها أم عليها ؟ فقال : دعاء لها وذكر ما تقدم . والضبع إذا وطئت ظل الكلب في القمر ، وهو على سطح وقع الكلب ، فأكلته . وتوصف بالحمق ، وذلك أن الصيادين لها ، يقولون على باب وجارها كلمات ، يصيدونها بها كما تقدم في الذبح . والجاحظ يرى هذا من خرافات العرب . وتلد من الذئب جرواً ويسمى العسبار قال الراجز :
يا ليت لي نعلين من جلد الضبع . . . وشركا من ثفرها لا تنقطع
كل الحذاء يحتذى الحافي الوقع
الثفر للسباع وكل ذات مخلب بمنزلة الحياء من الناقة .
وحكمها : حل الأكل ، قال الشافعي رحمه الله تعالى : " نهى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) عن أكل كل ذي ناب من السباع " . فما قويت أنيابه ، فعدا بها على الحيوان طالباً غير مطلوب ، يكون عداؤه بأنيابه علة تحريم أكله . والضبع لا يغتذي بالعدوى ، وقد يعيش بغير أنيابه . وقد تقدم ذلك ، في باب الهمزة ، في لفظ الأسد وبحلها . قال الإمام أحمد وإسحاق وأبو ثور وأصحاب الحديث . وقال مالك : يكره أكلها ، والمكروه عنده ما أثم آكله ، ولا يقطع بتحريمه . واحتج الشافعي بما روي عن سعد بن أبي رقاص أنه كان يأكل الضبع . وبه قال ابن عباس وعطاء ، وقال أبو حنيفة : الضبع حرام ، وهو قول سعيد بن المسيب والثوري محتجين بأنه ذو ناب . وقد " نهى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) عن أكل كل ذي ناب من السباع " .
ودليلنا ما روى عبد الرحمن بن أبي عمار ، قال : سألت جابر بن عبد الله عن الضبع أصيد هي ؟ قال : نعم . قلت : أتؤكل ؟ قاد : نعم . قلت : أقاله رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ؟ قال : نعم . أخرجه الترمذي وغيره ، وقال حسن صحيح . وقال جابر : قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) : " الضبع صيد وجزاؤه كبش مسن ويؤكل " . رواه الحاكم ، وقال : صحيح الإسناد ، وذكره ابن السكن أيضاً ، في صحاحه ، قال الترمذي : سألت البخاري عنه ، فقال : إنه حديث صحيح . وفي البيهقي عن عبد الله بن مغفل السلمي ، قال : قلت يا رسول الله ما تقول في الضبع ؟ قال : " لا آكله ولا أنهي عنه " . قال : قلت ما لم تنه عنه فإني آكله . إسناده ضعيف . قال الشافعي : ومازال لحم الضبع يباع بين الصفا والمروة ، من غير نكير . وأما ما ذكروه من حديث النهي عن أكل كل ذي ناب من السباع ، فإنه محمول على ما إذا كان يتقوى بنابه ، بدليل أن الأرنب حلال وله ناب ولكنه ضعيف لا يعدو به .
الأمثال : قالوا : أحمق من ضبع ، ومن الأمثال الشهيرة في ذلك ، ما رواه البيهقي ، في آخر شعب الإيمان ، عن أبي عبيدة معمر بن المثنى ، أنه سأل يونس بن حبيب عن المثل المشهور(2/113)
"""""" صفحة رقم 114 """"""
كمجير أم عامر فقال : كان من حديثه أن قوماً خرجوا إلى الصيد ، في يوم حار ، فبينما هم كذلك إذ عرضت لهم أم عامر وهي الضبع ، فطردوها فاتبعتهم حتى ألجؤوها إلى خباء أعرابي ، فاقتحمته . فخرج إليهم الأعرابي فقال : ما شأنكم ؟ فقال : صيدنا وطريدتنا ، قال : كلا والذي نفسي بيده لا تصلون إليها ما ثبت قائم سيفي بيدي . قال : فرجعوا وتركوه ، فقام إلى لقحة له فحلبها وقرب إليها ذلك ، وقرب إليها ماء ، فأقبلت مرة تلغ من هذا ومرة تلغ من هذا حتى عاشت واستراحت ، فبينما الأعرابي نائم في جوف بيته ، إذ وثبت عليه فبقرت بطنه ، وشربت دمه ، وأكلت حشوته وتركته . فجاء ابن عم له فوجده على تلك الصورة ، فالتفت إلى موضع الضبع فلم يرها فقال : صاحبتي والله ، وأخذ سيفه وكنانته واتبعها ، فلم يزل حتى أدركها فقتلها وأنشأ يقول : ومن يصنع المعروف من غير أهله يلاقي الذي لاقى مجير أم عامر
أدام لها حين استجارت بقربه . . . قراها من البان اللقاح الغزائر
وأشبعها حتى إذا ما تملأت . . . فرته بأنياب لها وأظافر
فقل لذوي المعروف هذا جزاء من . . . غدا يصنع المعروف مع غير شاكر
ومن الأمثال : قال الميداني : قالوا : ما يخفى هذا على الضبع يضرب للشيء يتعالمه الناس ، وللضبع أحمق الدواب .
الخواص : قال صاحب عين الخواص : الضبع تجذب الكلاب كما يجذب المغناطيس الحديد . وذلك أنه إذا كان كلب على سطح في ليلة مقمرة مضيئة ووطئت الضبع ظله في الأرض ، يقع الكلب من السطح فتأكله الضبع . وشحم الضبع ، إذا طلي به الجسد أمن من مضرة الكلاب ، ومرارتها ، بذا يبست ، وسقي امرأة منها قدر نصف دانق ، أبغضت المجامعة وذهبت منها الشهوة . وإذا اتخذ من جلد الضبع منخل ، ونخل به البزور ، وزرعت لا يضره الجراد ، ذكر ذلك كله محمد بن زكريا الرازي ، في كتبه انتهى .
قال عطارد بن محمد : الضبع تهرب من عنب الثعلب ، فاذا طلي بعصارته الجسد أمن من مضرة الضبع ، وجلد الضبع إذا أمسكه إنسان ، لم تنبح عليه الكلاب . ومرارتها يكتحل بها تنفع من ظلمة البصر ، والماء في العين وتحد البصر وتقويه ، وعينها اليمنى تقلع وتنقع في الخل سبعة أيام ، ثم تخرج منه وتجعل تحت فص خاتم ، فمن لبسه لم يخف سحراً ولا عيناً ما دام لابسه ، ومن كان به سحر ، فغسل ذلك الخاتم بماء ، ثم يسقى منه فإن السحر يذهب عنه . وهو نافع للربط وغيره من أنواع السحر ، ورأس الضبع ، إذا جعل في برج حمام ، كثر فيه الحمام ، ولسانها ، من أمسكه بيده اليمنى لم تنبح عليه الكلاب ولم تؤذه ، وحذاق العيارين يفعلون ذلك .
ومن خاف الضباع ، فليأخذ بيده أصلا من أصول العنصل ، فإنها تهرب منه . وإذا بخر الصبي العليل سبعة أيام بشعر قفا الضبع ، فإنه يبرأ . وإذا سقيت المرأة قضيب الضبعان مسحوقاً ، وهي لا تعلم أذهب عنها شهوة الجماع . ومن علق عليه قطعة من فرجها صار محبوباً(2/114)
"""""" صفحة رقم 115 """"""
للناس ، وأسنان الضبع ، إذا ربطت على العضد ، تنفع من النسيان ووجع الأسنان . وإذا جلد بجلده مكيال وكيل به البذر ، أمن من ذلك الزرع من سائر الآفات . ومن غريب خواصها ، أن من أكل دمها ذهب عنه الوسواس ، ومن أمسك بيده حنظلة ، فرت الضباع منه ، وإذا طلي الجسد بشحم الضباع ، أمن من عقر الكلاب . وقال حنين بن إسحاق : إذا نتف الشعر الذي في باطن أجفان العين ، واكتحل بمرارة الضبع ، أو بمرارة ببغاء ، أو بمرارة سبع ، أو بمرارة عنز ، فإنه يذهب بإذن الله تعالى . وقضيبه يجفف ويسحق ويستف منه الرجل قدر دانقين فإنه يهيج به شهوة الجماع ، ولا يمل من النساء . وقال غيره : إذا شرب من مرارة الضبع نصف درهم بمثله عسلا ، نفع من سائر الأعلال التي تكون في الرأس والعين ، ويمنع نزول الماء في العين ويشد الانتشار وإن خلطت المرارة بالعسل ، واكتحل بها جلا العين وزادها حسناً ، وكلما عتق هذا الخلط كان أجود وأحسن نفعاً . وقال ماسرجويه : الاكتحال بمرارة الضبع ينفع من البله والدموع .
ومن غريب خواصها وهو ما أطبق عليه الأطباء ، أن شعر الفخذ اليمنى من ذكر الضباع الذي حول فقحته إذا نتف وأحرق وخلط في زيت مسحوقاً ، ودهن بن من به بغا أبرأه ، وهو يحدث العلة في السليم ، إذا كان الشعر من أنثى ، فافهم . وهو عجيب مجرب مراراً عديدة .
التعبير : الضبع تدل رؤيته على كشف الأسرار ، والدخول فيما لا يعني . وربما دلت رؤية الذكر على الرجل الخنثى المشكل ، وربما دلت على عدو ظلوم مكايد مخالف . وقيل : الضبع امرأة قبيحة المنظر ، دنيئة الأصل ، ساحرة عجوز .
وقال ارطاميدورس : الضبع تدل على الخديعة ، ومن ركبها في المنام نال سلطاناً والله أعلم .
أبو ضبة : الدراج . قاله في المرصع ، وقد تقدم لفظ الدراج في باب الدال المهملة .
الضرغام : والضرغامة الأسد ، وما أحسن ما رواه أبو مظفر السمعاني ، عن والده ، قال : سمعت سعد بن نصر الواعظ الحيوان يقول : كنت خائفاً من الخليفة لحادث نزل واشتد الطلب لي فاختفيت ، فرأيت في النوم ليلة من الليالي كأني في غرفة جالس على كرسي وأنا أكتب شيئاً ، فجاء رجل فوقف بإزائي وقال : اكتب ما أملي عليك وأنشدني :
ادفع بصبرك حادث الأيام . . . وترج لطف الواحد العلام
لا تيأسن وإن تضايق كربها . . . ورماك ريب صروفها بسهام
فله تعالى بين ذلك فرجة . . . تخفى على الأبصار والأوهام
كم من نجي بين أطراف القنا . . . وفريسة سلمت من الضرغام(2/115)
"""""" صفحة رقم 116 """"""
قال : فلما أصبحت أتى الفرج ، وزال الخوف والحرج . وفي سراج الملوك ، للإمام العلامة الطرطوشي ، عن عبد الله بن حمدون قال : كنت مع المتوكل ، لما خرج إلى دمشق ، فركب يوماً إلى رصافة هشام بن عبد الملك بن مروان فنظر إلى قصورها ، ثم خرج فرأى ديراً هناك ، قديماً حسن البناء ، بين مزارع وأنهار وأشجار ، فدخله فبينما هو يطوف ، إذ أبصر رقعة قد التصقت في صدره ، فأمر بقلعها فإذا فيها هذه الأبيات :
أيا منزلا بالدير أصبح خالياً . . . تلاعب فيه شمأل ودبور
كأنك لم يسكنك بيض أوانس . . . ولم تتبختر في فنائك حور
وأبناء أملاك غواشم سادة . . . صغيرهم عند الأنام كبير
إذا لبسوا أدراعهم فعوابس . . . وإن لبسوا تيجانهم فبدور
على أنهم يوم اللقاء دراغم . . . وأيديهم يوم العطاء بحور
ليالي هشام بالرصافة قاطن . . . وفيك ابنه يا دير وهو أمير
إذ الدهر غض والخلافة لدنة . . . وعيش بني مروان فيك نضير
ويروى :
وروضك مرتاض ونورك مزهر . . . وعيش بني مروان فيك نضير
بلى فسقاك الله صوب غماماً . . . عليك بها بعد الرواح بكور
تذكرت قومي خالياً فبكيتهم . . . بشجو ومثلي بالبكاء جدير
فعزيت نفسي وهي نفس إذا جرى . . . لها ذكر قومي أنة وزفير
لعل زماناً بالبكاء يوماً عليهم . . . لهم بالذي تهوى النفوس يدور
فيفرح محزون وينعم بائس . . . ويطلق من ضيق الوثاق أسير
رويدك إن اليوم يتبعه غد . . . وإن صروف الدائرات تدور
فلما قرأها المتوكل ارتاع وتطير ، وقال : أعوذ بالله من شر أقداره ، ثم دعا صاحب الدير وسأله عن الرقعة ومن كتبها ؟ فقال : لا علم لي بهما .
وذكر غيره ، أنه بعد عوده إلى بغداد ، لم يلبث إلا أياماً قلائل حتى قتله ابنه المنتصر . وقد تقدم ذكر قتله وكيفيته ، في باب الهمزة . في الإوز في ذكر الخلفاء . وذكر ابن خلكان ، في تاريخه في ترجمة علي بن محمد بن أبي الحسن الشابشتي ، أن الواقعة كانت للرشيد ، قال : ولم نعرف نسبة الشابشتي إلى أي شيء .
الضريس : الطيهوج ، وسيأتي إن شاء الله تعالى ، في باب الطاء المهملة .(2/116)
"""""" صفحة رقم 117 """"""
ومن أمثال العامة السائرة أكسل من الضريس ، لأنه يلقي رجيعه على أولاده .
الضغبوس : ولد الثرملة ، وقد تقدم في باب الثاء المثلثة أنها أنثى الثعالب .
الضفدع : بكسر الضاد وسكون الفاء والعين المهملة بينهما دال مهملة ، مثال الخنصر ، واحد الضفادع ، والأنثى ضفدعة وناس يقولون : ضفدع بفتح الدال ، قال الخليل : ليس في الكلام فعلل إلا أربعة أحرف : درهم وهجرع وهو الطويل وهبلع وهو الأكول ، وبلعم وهو اسم . وقال ابن الصلاح : الأشهر فيه ، من حيث اللغة ، كسر الدال وفتحها ، أشهر في ألسنة العامة وأشباه العامة من الخاصة وقد أنكره بعض أئمة اللغة ، وقال البطليوسي ، في شرح أدب الكاتب : وحكي أيضاً ضفدع ، بضم الضاد وفتح الدال ، وهو نادر . وحكاه المطرزي أيضاً ، قال في الكفاية : وذكر الضفادع يقال له العلجوم ، بضم العين والجيم وإسكان اللام والواو وآخره ميم . ويقال للضفادع أبو المسيح وأبو هبيرة وأبو معبد وأم هبيرة .
والضفادع أنواع كثيرة ، وتكون من سفاد وغير سفاد ، وتتولد من المياه القائمة الضعيفة الجري ، ومن العفونات وعقب الأمطار الغزيرة ، حتى يظن أنه يقع من السحاب لكثرة ما يرى منه على الأسطحة ، عقب المطر والريح . وليس ذلك عن ذكر وأنثى وإنما الله تعالى يخلقه في تلك الساعة ، من طباع تلك البرية ، وهي من الحيوانات التي لا عظام لها . ومنها ما ينق وما لا ينق ، والذي ينق منها يخرج صوته من قرب أذنه ، وتوصف بحدة السمع إذا تركت النقيق وكانت خارج الماء ، وإذا أرادت أن تنق أدخلت فكها الأسفل في الماء ، ومتى دخل الماء في فيها لا تنق . وما أظرف قول الشاعر وقد عوتب على قلة كلامه :
قالت الضفدع قولا . . . فسرته الحكماء
في فمي ماء وهل ين . . . طق من في فيه ماء
قال عبد القاهر : والثعبان يستدل بصياح الضفادع عليه ، فيأتي على صياحه فيأكله . وأنشد في ذلك يقول :
يجعل في الأشداق ماء ينصفه . . . حتى ينق والنقيق يتلفه
قوله : ينصفه بضم الياء المثناة تحت ، وإسكان النون وكسر الصاد المهملة ، وليس المراد هنا العدل بل المراد حتى يبلغ نصف فكه الأعلى ، وقوله : والنقيق يتلفه أراد به الضفادع إذا صاحت يتبعها الثعبان فيجيء فيأكلها وفي ذلك يقول الشاعر :
ضفادع في ظلماء تجاوبت . . . فدل عليها صوتها حية البحر
وحية البحر الأفعى التي تكون في البر ، وهي تعيش في البر والبحر كما تقدم . ويعرض لبعض الضفادع مثل ما يعرض لبعض الوحوش من رؤية النار حيرة إذا رأتها وتتعجب منها إلا أنها(2/117)
"""""" صفحة رقم 118 """"""
تنق ، فإذا أبصرت النار سكتت ، ولا تزال تدمن النظر إليها ، وأول نشئها في الماء أن تظهر مثل حب الدخن أسود ثم تخرج منه ، وهي كالدعموص ، ثم بعد ذلك تنبت لها الأعضاء ، فسبحان القادر على ما يشاء وما يريد سبحانه لا إله إلا هو . وفي الكامل لابن علي ، في ترجمة عبد الرحمن بن سعد بن عثمان بن سعد القرظ مؤذن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ، عن جابر أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال " من قتل ضفدعاً فعليه شاة محرماً كان أو حلالا " . قال سفيان : يقال إنه ليس شيء أكثر ذكرا لله منه . وفيه ، في ترجمة حماد بن عبيد ، أنه روى عن جابر الجعفي عن عكرمة عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أتى ضفدعاً ألقت نفسها في النار من مخافة الله فأثابهن الله بها برد الماء وجعل نقيقهن التسبيح . وقال " نهى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) عن قتل الضفدع والصرد والنحلة " قال : ولا أعلم لحماد بن عبيد غير هذا الحديث . قال البخاري : لا يصح حديثه ، وقال أبو حاتم : ليس بصحيح الحديث .
وفي كتاب الزاهر لأبي عبد الله القرطبي ، أن داود عليه السلام قال : لأسبحن الله الليلة تسبيحاً ما سبحه به أحد من خلقه ، فنادته ضفدعة من ساقية في داره : يا داود تفتخر على الله بتسبيحك ، وإن لي لسبعين سنة ما جف لساني من ذكر الله تعالى ، وإن لي لعشر ليال ما طعمت خضراً ولا شربت ماء اشتغالا بكلمتين . فقال : ما هما ؟ قالت : يا مسبحاً بكل لسان ، ومذكوراً بكل مكان ، فقال داود في نفسه : وما عسى أن أقول أبلغ من هذا ؟ . وروى البيهقي في شعبه عن أنس بن مالك أنه قال : إن نبي الله داود ظن في نفسه أن أحداً لم يمدح خالقه بأفضل مما مدحه به ، فأنزل الله عليه ملكاً وهو قاعد في محرابه ، والبركة إلى جنبه ، فقال : يا داود افهم ما تصوت به هذه الضفدعة فأنصت إليها ، فإذا هي تقول : سبحانك وبحمدك منتهى علمك . فقال له الملك : كيف ترى ؟ فقال : والذي جعلني نبياً إني لم أمدحه بهذا . وفي كتاب فضل الذكر لجعفر بن محمد بن الحسن الغرياني الحافظ العلامة ، عن عكرمة ، أنه قال : صوت الضفادع تسبيح . وفيه أيضاً عن الأعمش عن أبي صالح ، أنه سمع صوت صرير باب ، فقال : هذا منه تسبيح .
فائدة : قال الرئيس ابن سينا : إذا كثرت الضفادع في سنة ، وزادت عن العادة ، يقع الوباء عقبها . وقال القزويني : الضفادع تبيض في الرمل مثل السلحفاة ، وهي نوعان : جبلية ومائية . ونقل الزمخشري في الفائق ، عن عمر بن عبد العزيز رضي الله تعالى عنه ، قال : سأل رجل ربه أن يريه موضع الشيطان من قلب ابن آدم ، فرأى فيما يرى النائم رجلا كالبلور ، يرى داخله من خارجه ، ورأى الشيطان في صورة ضفادع له خرطوم كخرطوم البعوضة ، قد أدخله في منكبه الأيسر إلى قلبه يوسوس له ، فإذا ذكر الله خنس . وسيأتي إن شاء الله تعالى ، ذكر هذا أيضاً في لفظ الكركي ، من كلام السهيلي .(2/118)
"""""" صفحة رقم 119 """"""
الحكم : يحرم أكلها للنهي عن قتلها ، وروى البيهقي في سننه ، عن سهل بن سعد الساعدي ، أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) " نهى عن قتل خمسة : النملة والنحلة والضفدع والصرد والهدهد " . وفي مسند أي داود الطيالسي ، وسنن أبي داود والنسائي والحاكم ، عن عبد الله بن عثمان التيمي عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ، أن طبيباً سأله عن ضفادع يجعلها في دواء ، " فنهاه ( صلى الله عليه وسلم ) عن قتلها " . فدل على الضفادع يحرم أكلها وأنها غير داخلة فيما أبيح من ثواب الماء . وقال بعض الفقهاء : إنما حرم الضفادع ، لأنه كان جار الله في الماء الذي كان عليه العرش قبل خلق السموات والأرض ، قال تعالى : " وكان عرشه على الماء " .
روى ابن عدي عن عبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنهما ، أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال : " لا تقتلوا الضفادع ، فإن نقيقها تسبيح " . قال السلمي : سألت الدارقطني عنه ، فقال : إنه ضعيف ، قلت : الصواب أنه موقوف على عبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنهما ، قاله البيهقي ، وقد تقدم في الخطاف . قال الزمخشري : إنها تقول في نقيقها سبحان الملك القدوس . وعن أنس : لا تقتلوا الضفادع ، فإنها مرت بنار إبراهيم عليه السلام ، فحملت في أفواهها الماء وكانت ترشه على النار . وفي شفاء الصدور لابن سبع ، من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله تعالى عنهما ، أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال : " لا تقتلوا الضفادع فإن نقيقهن تسبيح " .
ومن أحكامه : أنه ينجس بالموت كغيره من الحيوان الذي لا يؤكل . ونقل في الكفاية ، عن الماوردي حكاية وجه أنه لا ينجس بالموت . وغلطه شيخنا ، في النقل عنه ، وقال : لا ذكر لهذا الوجه في الحاوي ، ولا في غيره من كتبه . وإذا ماتت في ماء قليل ، قال النووي : إن قلنا لا تؤكل نجسته بلا خلاف . وحكى الماوردي في نجاسته قولين : أحدهما ينجس كما ينجس بسائر النجاسات ، والثاني يعفى عنه كدم البراغيث ، والأصح الأول . ولما قدم وفد اليمامة على أبي بكر رضي الله تعالى عنه ، بعد قتل مسيلمة ، قال لهم : ما كان صاحبكم يقول ؟ فاستعفوه من ذلك . فقال : لتقولن ، قالوا : كان يقول يا ضفادع ابنة ضفادع ، كم تنقين أعلاك في الماء وأسفلك في الطين ، لا الشارب تمنعين ولا الماء تكدرين .
الأمثال : قالوا : أنق من ضفادع . قال الأخطل :
ضفادع في ظلماء ليل تجاوبت . . . فدل عليها صوتها حية البحر
وقد تقدم ذكره وهو كقولهم : على أهلها دلت براقش . وهي كلبة سمعت وقع حوافر الدواب فنبحت فاستدلوا بنباحها على القبيلة فاستباحوهم قال حمزة بن بيض :
لم يكن عن جناية لحقتني . . . لا يساري ولا يميني جنتني(2/119)
"""""" صفحة رقم 120 """"""
بل جناها أخ على كريم . . . وعلى أهلها براقش تجني الخواص : قال ابن جميع في كتابه الإرشاد : لحوم الضفادع تغثي النفس وتورث إسهالا دموياً ، فيتغير منه لون البدن ، ويرم ويختلط العقل . وقال صاحب عين الخواص : شحم الضفادع الآجامية ، إذا وضع على الأسنان قلعها من غير وجع ، وعظم البري ، إذا وضع على رأس القدر منعها من الغليان ، وإذا يبس ضفادع في الظل ودق وطبخ مع خطمي ، وطلي به بعد طلي النورة والزرنيخ لم ينبت عليه الشعر بعد ذلك . والضفدع إذا طرح وهو حي في الشراب الصرف مات ، فإذا أخرج وألقي في ماء صاف عاش .
ونقل عن محمد بن زكريا الرازي أن رجل الضفدع ، إذا علقت على من به النقرس سكن وجعه . انتهى . وإذا أخذت المرأة ضفدع الماء ، فتحت فاه وبصقت فيه ثلاث مرات ، ثم ردته إلى الماء فإنها لا تحبل وإذا مسحت القدر من ظاهرها بشحمه ، وأوقد تحتها ما عسى أن يوقد ، لم تغل أبداً . وإذا رضخت الضفدع ، وجعلت على لسعة الهوام أبرأتها من وقتها . ومن خواصه العجيبة ، أنه إذا شق نصفين من رأسه إلى أسفله ، وامرأة تنظر إليه ، غلبت شهوتها وكثر ميلها إلى الرجال . وإذا علق لسانه على امرأة نائمة ، أخبرت بكل ما عملت في اليقظة . وإذا جعل لسانه في خبز ، وأطعم لمن اتهم بالسرقة ، فإنه يقر بها . ودمه يطلى به الموضع الذي نتف شعره لم ينبت أبداً . ومن لطخ به وجهه أحبه الناس . وإذا وضع على اللثة أسقط السن ، بلا تعب .
قال القزويني : ولقد كنت في الموصل ، ولنا صاحب في بستان ، بنى مجلساً وبركة ، فتولدت فيها الضفادع وتأذى سكان المكان بنقيقها وعجزوا عن إبطاله ، حتى جاء رجل فقال : اجعلوا طشتاً على وجه الماء مقلوباً ففعلوا ، فلم يسمع لها نقيق بعد ذلك . وقال محمد بن زكريا الرازي : إذا وضع سراج في طاس ، وجعل فوق الماء أو في قناة فيها أصوات الضفادع سكتت ، ولا يسمع لها صوت البتة .
التعبير : الضفدع في المنام رجل عابد مجتهد في طاعة الله ، لأنه صب الماء على نار نمرود . والضفادع الكثيرة عذاب ، لأنها من آيات موسى عليه الصلاة والسلام . قال تعالى : " فأرسلنا عليهم الطوفان والجراد والقمل والضفدع " الآية . وقالت النصارى : من رأى أنه مع الضفادع حسنت عشرته مع أقربائه وجيرانه . ومن أكل لحم ضفادع في منامه ، نال مشقة ، وقال ارطاميدورس : الضفادع في المنام تدل على الخداعين والسحرة . وقال جاماسب : من كلم ضفدعاً في المنام نال ملكاً . ومن رأى الضفادع خرجت من مدينة خرج منها العذاب والله أعلم . الضوع : بضاد معجمة مضمومة وواو مخففة مفتوحة وعين مهملة في آخره . قال النووي : الأشهر أنه من جنس الهوام ، وقال الجوهري : إنه طائر من طير الليل من جنس الهام ، وقال المفضل : هو ذكر البوم وجمعه أضواع وضيعان . وأصح القولين تحريم أكله ، كما صرح به في شرح المهذب ، قال الرافعي : هذا يقتضي أن الضوع ذكر البوم ، وذكر ما تقدم ، ثم قال : فعلى هذا إن كان في الضوع قول لزم اجراؤه في البوم لأن الذكر والأنثى من الجنس الواحد لا يفترقان قال(2/120)
"""""" صفحة رقم 121 """"""
النووي : قلت الأشهر أن الضوع من جنس الهوام ، فلا يلزم اشتراكهما في الحكم .
وحكمه : تحريم الأكل على الأصح كما صرح به في شرح المهذب .
الضيب : شيء من دواب البحر ، على هيئة الكلب وخلقته ، قاله ابن سيده .
الضئيلة : الحية الدقيقة . قاله الجوهري ، وقد تقدم لفظ الحية في باب الحاء المهملة .
الضيون : بفتح الضاد والواو وإسكان الياء المثناة تحت بينهما وبالنون في آخره ، الهر الذكر ، والجمع ضياون . قال حسان بن ثابت رضي الله تعالى عنه :
بريد كأن الشمس في حجراته . . . نجوم الثريا أو عيون الضياون
وقالت العرب : أدب من الضيون . وهو من الدبيب قال الشاعر :
يدب بالليل لجاراته . . . كضيون دب إلى قرنب
القرنب : الفأر . وقالوا : أصيد من ضيون ، والله أعلم . وأزق وأنزى من ضيون .
خاتمة : قال الصقلي : ليس في الأسماء شيء فيه ياء ساكنة بعدها واو مفتوحة إلا ثلاثة أسماء : حيوة وضيون وكيوان ، وهو زحل . وقد ذكر أهل الهيئة ، أن ثورته المختصة به من المغرب إلى المشرق ، تتم في تسع وعشرين سنة وثمانية أشهر وستة أيام ، وسلا المنجمون النحس الأكبر ، لأنه في النحوسة فوق المريخ ، وأضافوا إليه الخراب والهلاك والهم والغم وزعموا أن النظر إليه يفيد غماً وحزناً ، كما أن النظر إلى الزهرة يفيد فرحاً وسروراً والله أعلم .
باب الطاء المهملة
طامر بن طامر : البرغوث والخسيس من الناس ، ويقال للخامل الذي لا يعرف : هو طامر ابن طامر .
الطاوس : طائر معروف وتصغيره طويس ، بعد حذف الزوائد ، وكنيته أبو الحسن وأبو الوشي ، وهو في الطير كالفرس في الدواب ، عزاً وحسناً ، وفي طبعه العفة وحب الزهو بنفسه والخيلاء والإعجاب بريشه وعقده لذنبه كالطاق ، لاسيما إذا كانت الأنثى ناظرة إليه . والأنثى تبيض بعد أن يمضي لها من العمر ثلاث سنين ، وفي ذلك الأوان يكمل ريش الذكر ويتم لونه وتبيض الأنثى مرة واحدة في السنة اثنتي عشرة بيضة وأقل وأكثر ، ولا تبيض متتابعاً ويسفد في أيام الربيع ، ويلقي ريشه في الخريف كما يلقي الشجر ورقه ، فإذا بدا طلوع الأوراق في الشجر طلع ريشه ، وهو كثير العبث بالأنثى ، إذا حضنت ، وربما كسر البيض ولهذه العلة يحضن بيضه تحت الدجاج ، ولا تقوى الدجاجة على حضن أكثر من بيضتين منه ، وينبغي أن تتعاهد الدجاجة بجميع ما تحتاج إليه من الأكل والشرب ، مخافة أن تقوم فيفسده الهواء . والفرخ الذي يخرج من(2/121)
"""""" صفحة رقم 122 """"""
حضن الدجاجة ، يكون قليل الحسن ، ناقص الخلق وناقص الجثة ، ومدة حضنه ثلاثون يوماً ، وفرخه يخرج من البيضة كالفروج كاسياً كاسباً ، وقد أحسن الشاعر في وصفه حيث قال : سبحان من من خلقه الطاوس طير على أشكاله رئيس
كأنه في نقشه عروس . . . في الريش منه ركبت فلوس
تشرق في داراته شموس . . . في الرأس منه شجر مغروس
كأنه بنفسج يميس . . . أو هو زهر حرم يبيس
وأعجب الأمور أنه مع حسنه يتشاءم به ، وكأن هذا ، والله أعلم ، أنه لما كان سبباً لدخول إبليس الجنة ، وخروج آدم منها ، وسبباً لخلو تلك الدار من آدم مدة دوام الدنيا ، كرهت إقامته في الدور بسبب ذلك .
حكي أن آدم لما غرس الكرمة ، جاء إبليس فذبح عليها طاوساً ، فشربت دمه فلما طلعت أوراقها ، ذبح عليها قرداً فشربت دمه ، فلما طلعت ثمرتها ذبح عليها أسداً فشربت دمه ، فلما انتهت ثمرتها ذبح عليها خنزيراً فشربت دمه ، فلهذا شارب الخمر تعتريه هذه الأوصاف الأربعة ، وذلك أنه أول ما يشربها وتدب في أعضائه ، يزهو لونه ويحسن كما يحسن الطاوس فإذا جاءت مبادي السكر لعب وصفق ورقص ، كما يفعل القرد فإذا قوي سكره جاءت الصفة الأسدية ، فيعبث ويعربد ويهذي بما لا فائدة فيه ثم يتقعص كما يتقعص الخنزير ، ويطلب النوم وتنحل عراقوته .
فائدة : طاوس بن كيسان فقيه اليمن كان اسمه ذكوان ، فلقب بطاوس لأنه كان طاوس القراء والعلماء . وقيل : اسمه طاوس وكنيته أبو عبد الرحمن ، كان رأساً في العلم والعمل ، من سادات التابعين أدرك خمسين صحابياً من أصحاب النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ، وسمع ابن عباس وأبا هريرة وجابر بن عبد الله وعبد الله بن الزبير ، وروى عنه مجاهد وعمرو بن دينار وعمرو بن شعيب ، ومحمد بن شهاب الزهري وآخرون . قال ابن الصلاح ، في رحلته : روينا عن الزهري ، أنه قال : قدمت على عبد الملك بن مروان فقال : من أين قدمت يا زهري ؟ قلت : من مكة ، قال : فمن خلفت بها يسود أهلها . قال : قلت : عطاء بن أبي رباح . قال : فمن العرب أم من الموالي ؟ قلت : من الموالي . قال : فبم سادهم ؟ قلت : بالديانة والرواية . فقال : إن أهل الديانة والرواية ينبغي أن يسودوا الناس . قال : فمن يسود أهل اليمن ؟ قلت : طاوس بن كيسان ، قال : فمن العرب أم من الموالي ؟ قلت : من الموالي . قال : فبم سادهم ؟ قلت : بما سادهم به عطاء . قال : من كان كذلك ينبغي أن يسود الناس . قال : فمن يسود أهل مصر ؟ قلت : يزيد بن أبي حبيب ، قال : فمن العرب أم من الموالي ؟ قلت : من الموالي . فقال : كما قال في الأولين . ثم قال : فمن يسود أهل الشام ؟ قلت : مكحول الدمشقي ، قال : فمن العرب أم من الموالي ؟ قلت : من الموالي عبد نوبي ، أعتقته امرأة من هذيل . فقال كما قال ، ثم قال : فمن يسود أهل الجزيرة ؟ قلت : ميمون بن مهران . قال : فمن العرب أم من الموالي . فقال كما قاله ، ثم قال : فمن يسود أهل خراسان ؟ قلت : الضحاك(2/122)
"""""" صفحة رقم 123 """"""
بن مزاحم ، قال : فمن العرب أم من الموالي ؟ قلت : من الموالي . فقال كما قال ، ثم قال : فمن يسود أهل البصرة ؟ قلت : الحسن بن أبي الحسن ، قال : من العرب أم من الموالي ؟ قلت : من الموالي . قال : ويلك فمن يسود أهل الكوفة ؟ قلت : إبراهيم النخعي ، قال : من العرب أم من الموالي ؟ قلت : من العرب ، قال : ويلك يا زهري ، فرجت عني ، والله لتسودن الموالي على العرب ، حتى يخطب لها على المنابر ، وإن العرب تحتها قال : قلت : يا أمير المؤمنين ، إنما هو أمر الله ودينه ، فمن حفظه ساد ومن ضيعه سقط .
ولما ولي عمر بن عبد العزيز الخلافة ، كتب إليه طاوس : إن أردت أن يكون عملك خيراً كله ، فاستعمل أهل الخير . قال عمر : كفى بها موعظة . وروى ابن أبي الدنيا بسنده عن طاوس ، أنه قال : بينما أنا بمكة استدعاني الحجاج ، فأتيته فأجلسني إلى جانبه وأتكأني على وسادة ، فبينما نحن نتحدث ، إذ سمع صوتاً عالياً بالتلبية ، فقال : علي بالرجل ، فأحضر فقال له : ممن الرجل ؟ قال : من المسلمين . فقال : إنما سألتك عن البلد والقوم قال : من أهل اليمن ، فقال : كيف تركت محمد بن يوسف يعني أخاه ، وكان والياً على اليمن ، فقال : تركته جسيماً وسيما لباساً حريراً ، ركاباً خراجاً ولاجاً فقال : إنما سألتك عن سيرته ، فقال : تركته غشوماً ظلوماً ، مطيعاً للمخلوق ، عاصياً للخالق قال : أتقول فيه هذا وقد علمت مكانه مني ؟ فقال الرجل : أتراه بمكانه منك أعز من مكاني من ربي ، وأنا مصدق نبيه ( صلى الله عليه وسلم ) ، ووافد بيته ؟ فسكت الحجاج ، وذهب الرجل من غير إذن . قال طاوس : فتبعته فقلت : الصحبة ، فقال : لا حباً ولا كرامة ، ألست صاحب الوسادة ؟ الآن وقد رأيت الناس يستفتونك في دين الله ، قلت : إنه أمير مسلط ، أرسل إلي فأتيته كما فعلت أنت . قال : فما ذاك الاتكاء على الوسادة في رخاء بال ؟ هلا كان لك من واجب نصحه ، وقضاء حق رعيته بوعظه ، والحذر من بوائق عسفه ، وتخلى نفسك من ساعة الأنس به ما يكدر عليك تلك الطمأنينة ؟ قلت : أستغفر الله وأتوب إليه ، ثم أسألك الصحبة ؟ فقال : غفر الله لك إن لي مصحوباً شديد الغيرة علي ، فلو أنست بغيره رفضني . ثم تركني وذهب .
وفي تاريخ ابن خلكان ، عن عبد الله الشامي ، قال : أتيت طاوساً فخرج إلي شيخ كبير ، فقلت : أنت طاوس ؟ فقال : أنا ابنه ، فقلت : إن كنت ابنه فإن الشيخ قد خرف قال : إن العالم لا يخرف ، فدخلت عليه ، فقال : أتحب أن أجمع لك التوراة والإنجيل والزبور والفرقان في مجلسي هذا ؟ قلت : نعم . فقال : خف الله مخافة لا يكون عندك شيء أخوف منه ، وارجه رجاء هو أشد من خوفك إياه ، وأحب لأخيك ما تحب لنفسك .
وقالت امرأة : ما بقي أحد إلا فتنته إلا طاوساً فإني تعرضت له ، فقال لي : إذا كان وقت كذا فتعالي قالت : فجئت ذلك الوقت ، فذهب بي إلى المسجد الحرام ، وقال : اضطجعي فقلت : هاهنا ؟ فقال : الذي يرانا هاهنا يرانا في غيره فتابت المرأة . وقال : لا يتم نسك الشاب حتى يتزوج .
وكان طاوس يقول : ما من شيء يتكلم به ابن آدم إلا أحصي عليه حتى أنينه في مرضه .(2/123)
"""""" صفحة رقم 124 """"""
وقال : لقي عيسى ابن مريم عليه السلام إبليس فقال : أما علمت أنه لا يصيبك إلا ما قدر لك ؟ قال : نعم . قال إبليس : فارق إلى ذروة هذا الجبل وترد منها ، فانظر أتعيش أم لا . فقال له عيسى عليه السلام : أما علمت أن الله قال : لا يختبرني عبدي ، فإني أفعل ما شئت ، إن العبد لا يبتلي ربه ، ولكن الله يبتلي عبده . قال طاوس : فخصمه .
وكان يقول : صاحب العقلاء تنسب إليهم ، وإن لم تكن منهم . وروى أبو داود الطيالسي ، عن زمعة ابن صالح عن ابن طاوس عن أبيه أنه قال : من لم يدخل في وصية ، لم تنله بلية ، ومن لم يتول القضاء بين الناس لم ينله جهد البلاء .
وروى أحمد عنه ، في كتاب الزهد ، أنه قال : إن الموتى يفتنون في قبورهم سبعة أيام ، فكانوا يستحبون أن يطعم عنهم تلك الأيام . قال : وكان من دعاء طاوس : اللهم ارزقني الإيمان والعمل ، ومتعني بالمال والولد .
روى عنه الحافظ أبو نعيم وغيره ، أنه قال : كان رجل له أربعة بنين فمرض ، فقال أحدهم : إما أن تمرضوه ، وليس لكم من ميراثه شيء ، وإما أن أمرضه وليس لي من ميراثه شيء ؟ فقالوا : من أمرضه وليس لك من ميراثه شيء فمرضه حتى مات . ولم يأخذ من ميراثه شيئاً فأتى إليه في النوم ، فقال له : ائت مكان كذا وكذا فخذ منه مائة دينار . فقال في نومه : أفيها بركة ؟ فقال : لا . فأصبح فذكر ذلك لامرأته فقالت : خذها فإن من بركتها أن تكتسي منها وتعيش فأبى . فلما أمسى أتى له في النوم ، فقال له : ائت مكان كذا وكذا فخذ منه عشرة دنانير ، فقال : أفيها بركة ؟ قال : لا . فلما أصبح ذكر ذلك لامرأته ، فقالت له مثل مقالتها الأولى ، فأبى أن يأخذها . فأتى له في الليلة الثالثة ، فقال له : ائت مكان كذا وكذا فخذ منه ديناراً ، قال : أفيه بركة ؟ قال : نعم . فذهب فأخذ الدينار ، ثم خرج به إلى السوق ، فإذا هو برجل يحمل حوتين ، فقال له : بكم هما . فقال : بدينار فأخذهما منه بالدينار ، وانطلق بهما إلى منزله ، فشق بطونهما فوجد فيهما درتين ، لم ير الناس مثلهما . قال : فبعث الملك يطلب درة ليشتريها فلم توجد إلا عنده ، فباعها بوقر ثلاثين بغلا ذهباً . فلما رآها الملك ، قال : ما تصلح هذه إلا بأخت ، أطلبوا أختها وإن أضعفتم ثمنها فجاؤوا إليه فقالوا له : أعندك أختها ، ونحن نعطيك ضعف ما أعطيناك ؟ قال : وتفعلون ؟ قالوا : نعم . فأعطاهم إياها بضعف ما أخذوا به الأولى .
توفي طاوس وهو ابن بضع وسبعين سنة حاجاً بمكة ، قبل يوم التروية بيوم ، وصلى عليه هشام بن عبد الملك ، وهو أمير المؤمنين ، وذلك في سنة ست ومائة . وحج أربعين حجة وكان مجاب الدعوة .
الحكم : يحرم أكل لحم الطاوس لخبث لحمه ، وقيل : يحل لأنه لا يأكل المستقذرات واللحوم ، وعلى الوجهين يصح بيعه إما لحل أكله ، وإما للتفرج على لونه . وقد تقدم في الصيد ، أن أبا حنيفة قالي : لا يقطع سارق الطيور لأن أصلها على الإباحة ، وخالفه الشافعي ومالك وأحمد وغيرهم في ذلك(2/124)
"""""" صفحة رقم 125 """"""
الأمثال : قالوا : أزهى من طاوس وأحسن من طاوس . قال الجوهري : وقولهم : أشأم من طويس ، هو مخنث كان بالمدينة ، قال : يا أهل المدينة توقعوا خروج الدجال ما دمت حياً بين ظهرانيكم ، فإذا مت فقد أمنتم ، لأني ولدت في الليلة التي مات فيها النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ، وفطمت في اليوم الذي مات فيه أبو بكر ، وبلغت الحلم في اليوم الذي قتل فيه عمر ، وتزوجت في اليوم الذي قتل فيه عثمان وولد لي في اليوم الذي قتل فيه علي .
وذكر ابن خلكان أن سليمان بن عبد الملك كتب إلى عامله بالمدينة ، أن أحص المخنثين قبلك فوقعت على الحاء نقطة فأمر بالمخنثين فخصوا ، وخصي طويس من جملتهم فلما خصوهم ، أظهروا الفرح بذلك حتى قال أحدهم : ما كان أغنانا عن سلاح لا نقاتل به . وقال آخر ، وهم طويس : أف لكم ما سلبتموني إلا ميزاب بول انتهى . وكان طويس اسمه طاوس ، فلما تخنث جعلوه طويساً ويسمى بعبد النعيم وقال في نفسه :
إنني عبد النعيم . . . أنا طاوس الجحيم
وأنا أشأم من يم . . . شي على ظهر الحطيم
أنا حاء ثم لام . . . ثم قاف حشو ميم
عنى بقوله حشو ميم الياء ، لأنك إذا قلت : ميم وقعت بين الميمين ياء ، يريد أنه حلقي . وأراد بالحطيم الأرض ، فكأنه قال : أنا أشأم الناس . توفي في طويس في سنة اثنتين وتسعين من الهجرة . الخواص : لحم الطاوس عسر الهضم رديء المزاج ، وأجوده الحديث ينفع المعدة الحارة ، وسلقه قبل طبخه بالخل ، يدفع ضرره ، وهو يولد كيموساً غليظاً يوافق الأمزجة الحارة . وقد كرهت الحكماء لحوم الطواويس وقالوا : إنها أغلظ لحوم جميع الطيور وأعسرها انهضاماً ، ويجب أن يذبح ويبيت مثقلا ويطبخ وينضج ، ويمنع منه أصحاب الترفه والرفاهية ، فإنه من أغذية أصحاب الرياضة . قال ابن زهر ، في خواصه : إن الطاوس إذا رأى طعاماً مسموماً ، أوشم رائحته فرح ونشر جناحيه ورقص ، وبأن منه السرور ، ومرارته إذا سقي منها المبطون بالكنجبين والماء الحار أبرأه . ونقل عن هرمس ، أن مرارته إذا شربت بخل نفعت من لدغ الهوام ، لكن قال صاحب عين الخواص : قالت الحكماء ، وأطهورس : إن مرارة الطاوس ، إن سقي منها إنسان جن ، قال وقد جربته . وقال هرمس : إن خلط دم الطاوس بالأنزروت والملح وطلي به القروح الرديئة الرطبة ، التي يخاف منها الأكلة ، أبرأها . وزبله ، إن طلي به الثآليل قلعها ، وعظامه ، إذا أحرقت وسحقت وطلي بها الكلف أبرأته بإذن الله تعالى .
التعبير : الطاوس تدل رؤيته على التيه والعجب بالحسن والجمال لمن ملكه ، وربما دلى رؤيته على النميمة والغرور والكبر والانقياد إلى الأعداء ، وزوال النعم ، والخروج من النعيم إلى الشقاء ، ومن السعة إلى الضيق ، وربما تدل رؤيته على الحلي والحلل ، والتاج والأزواج الحسان والأولاد الملاح . وقال المقدمي : الطاوس في المنام ، امرأة عجمية ذات مال وجمال ، لكنها مشؤومة(2/125)
"""""" صفحة رقم 126 """"""
الناصية . والذكر من الطواويس ملك أعجمي ، فمن رأى أنه يواخي الطواويس ، فإنه يواخي ملوك العجم ، وينال منهم جارية نبطية . وقال ارطاميدورس : الطواويس في الرؤيا تدل على أقوام صباح الوجوه ، ضحاك السن . وقيل : الطاوس امرأة أعجمية غير مسلمة والله أعلم . الطائر : واحد الطيور والأنثى طائرة ، وهي قليلة ، وجمع الطير أطيار وطيور . والطيران حركة في الجناحين في الهواء بجناحيه قال الله تعالى : " وما من دابة في الأرض ، ولا طائر يطير بجناحيه ، إلا أمم أمثالكم " أي في الخلق والرزق ، والحياة والموت ، والحشر والمحاسبة ، والاقتصاص من بعضها لبعض كما تقدم . فإذا كان يفعل هذا بالبهائم ، فنحن أحرى إذ نحن مكلفون عقلا . وقيل : أمم أمثالكم في التوحيد والمعروفة ، قاله عطاء . وقوله بجناحيه تأكيد وإزالة للاستعارة المتعاهدة في هذه اللفظة ، فقد يقال طائر للنحس والسعد . وقال الزمخشري : الغرض من ذكر ذلك ، الدلالة على عظيم قدرة الله ولطف علمه ، وسعة سلطانه وتدبيره ، تلك الخلائق المتفاوتة والأجناس المتكاثرة الأصناف ، وهو حافظ لما لها وما عليها ، ومهيمن على أحوالها ، لا يشغله شأن عن شأن . روى أحمد ، بإسناد صحيح عن أنس أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال : " طير الجنة كأمثال البخت ترعى في شجر الجنة " . قال أبو بكر : يا رسول الله إن هذه الطير لناعمة قال ( صلى الله عليه وسلم ) : " آكلها أنعم منها قالها ثلاثاً وإني لأرجو أن تكون ممن يأكل منها " . ورواه الترمذي بنحو هذا اللفظ ، وقال : إنه حسن . وروى البزار عن ابن مسعود أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال : " إنك لتنظر إلى الطير في الجنة فتشتهيه فيخر بين يديك مشوياً " . وفي أفراد مسلم عن أبي هريرة ، أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال : " يدخل الجنة أقوام أفئدتهم مثل أفئدة الطير " . قال النووي : قيل مثلها في وقتها وضعفها ، كالحديث الآخر " أهل اليمن أرق وأضعف أفئدة " . وقيل في الخوف والهيبة ، لأن الطير أكثر الحيوان خوفاً وفزعاً ، كما قال تعالى : " إنما يخشى الله من عباده العلماء " وكأن المراد قوم غلب عليهم الخوف ، كما جاء عن جماعات من السلف من شدة خوفهم . وقيل : المراد متوكلون ، وقيل : الطائر ما تيامنت به أو تشاءمت به ، وأصله في ذي الجناح . وقالوا : طائر الله لا طائرك ، فرفعوه على إرادة : هذا طائر الله ، وفيه معنى من الدعاء . وطائر الإنسان عمله ، الذي قلده ، وقيل : رزقه ، والطائر الحظ من الخير والشر ، وقوله تعالى : " وكل إنسان ألزمناه طائره في عنقه " قيل : حظه ، وقال المفسرون : ما عمل من خير أو شر ألزمناه عنقه ، فلكل امرئ حظ من الخير والشر ، قد قضاه الله تعالى ، فهو ملازم عنقه . وإنما قيل : للحظ من الخير والشر طائر ، لقول العرب : جرى له الطائر بكذا من الشر ، على طريق الفأل . وفي سنن أبي داود وغيرها عن أبي رزين ، قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) : " الرؤيا على جناح طائر ما لم تعبر فإذا عبرت وقعت " قال : وأحسبه قال : " ولا تعبرها إلا على ذي ود أو ذي رأي " .(2/126)
"""""" صفحة رقم 127 """"""
وذكر ابن خلكان أن موسى بن نصير ، أمير بلاد المغرب ، وفد على الوليد بن عبد الملك ، بعد أن فتح الغرب ، إلى البحر المحيط إلى طليطلة ، التي تحت بنات نعش ، فأخبره بالفتح ، وقدم معه بمائدة سليمان بن داود عليهما الصلاة والسلام ، التي وجدت في طليطلة ، وكانت مصوغة من الذهب والفضة ، وعليها طوق لؤلؤ وطوق ياقوت وطوق زمرد ، وكان قد حملها على بغل قوي ، فما سار إلا قليلا حتى تفسخت قوائمه لعظمها ، وقدم معه أيضاً بتيجان ملوك اليونان ، مكللة بالجواهر ، وثلاثين ألف رأس من الرقيق . قال : وكان اليونان ، وهم أهل الحكمة ، يسكنون بلاد المشرق قبل الإسكندرية ، فلما ظهرت الفرس وزاحمت اليونان على ما بأيديهم من الممالك ، انتقلوا إلى جزيرة الأندلس ، لكونها طرفاً من آخر العمارة ، ولم يكن لها ذكر ، ولا ملكها أحد من الملوك المعتبرة ، ولا كانت عامرة كلها ، وكان أول من عمرها واختط فيها أندلس بن يافث بن نوح عليه السلام ، فسميت باسمه ، ولما عمرت الأرض بعد الطوفان ، كانت صورة المعمور منها عندهم على شكل طائر رأسه المشرق ، وذنبه المغرب ، وجناحاه الشمال والجنوب ، وبطنه ما بينهما ، فكانوا يزدرون المغرب لنسبته إلى أخس أجزاء الطائر . وكان اليونان لا يرون فناء الأمم بالحروب ، لما فيه من الأضرار والاشتغال عن العلوم ، التي أمرها عندهم أهم الأمور ، فلذلك انحازوا من بين يدي الفرس إلى الأندلس ، فعمروها وشقوا أنهارها ، وبنوا المعاقل ، وغرسوا الجنان والكروم ، وملئوها حرثاً ونسلا ، فعظمت وطابت ، حتى قال قائلهم ، لما رأى بهجتها : إن الطائر الذي صورت العمارة على شكله ، وكان المغرب ذنبه ، كان طاوساً ، لأن معظم جماله في ذنبه . ولما كملت اليونان عمارة جزيرة الأندلس ، جعلوا دار الحكمة والملك فيها مدينة طليطلة ، لأنها وسط البلاد .
قيل : إن الحكمة نزلت من السماء على ثلاثة أعضاء : على أدمغة اليونان ، وأيدي أهل الصين ، وألسنة العرب .
وفي كفاية المعتقد لشيخنا الإمام العارف جمال الدين اليافعي رحمه الله ، أن الشيخ العارف بالله تعالى عمر بن الفارض رحمه الله تعالى ، دخل في أيام بدايته مدرسة بديار مصر ، فوجد شيخاً بقالا يتوضأ من بركة ماء فيها بغير ترتيب ، فقال له : يا شيخ ، أنت في هذا السن ، وفي مثل هذا البلد ، ولا تحسن الوضوء فقال له : يا عمر ما يفتح عليك بمصر فجاء إليه وجلس بين يديه وقال : يا سيدي ففي أي مكان يفتح علي ؟ قال : بمكة ، فقال له : يا سيدي وأين مكة . فقال له : هذه وأشار بيده نحوها فكشف له عنها ، وأمره الشيخ بالذهاب إليها في ذلك الوقت فوصل إليها في الحال ، وأقام بها اثنتي عشرة سنة ففتح عليه ، ونظم فيها ديوانه المشهور ، ثم بعد مدة سمع الشيخ المذكور يقول : تعال يا عمر احضر موتي فجاء إليه ، فقال : خذ هذا الدينار فجهزني به ، ثم احملني وضعني في هذا المكان ، وأشار بيده إلى مكان في القرافة ، وهو الموضع الذي دفن فيه ابن الفارض ، ثم انتظر ما يكون من أمري . قال : فعانيته ولم أزل معانياً له ، حتى فرغت من(2/127)
"""""" صفحة رقم 128 """"""
تجهيزه ، ثم حملته ووضعته فيه ووقفت ، فإذا أنا برجل قد نزل من الهواء ، فصلينا عليه ، ثم وقفنا ننتظر ما يكون من أمره ، وإذا الجو قد امتلأ بطيور خضر ، فجاء طائر كبير فابتلعه ثم طار ، فتعجبت منه فقال لي ذلك الرجل : لا تعجب من هذا ، فإن أرواح الشهداء ، في حواصل طيور خضر ، ترعى في الجنة ، وتأوي إلى قناديل معلقة تحت العرش قال شيخنا : أولئك شهداء السيوف ، وأما شهداء الصفوة ، فأجسادهم أرواح ، وقد تكلمت على مقام المحبة ، في آخر الجزء الثامن من كتابي الجوهر الفريد في نحو خمسين كراكيس ، فلينظر هناك وبالله التوفيق .
فروع منثورة : منها لو ملك الإنسان طائراً أو صيداً ، وأراد إرساله من يده ، فوجهان : أحدهما أنه يجوز ويزول ملكه عنه كما لو أعتق عبداً . واختاره ابن أبي هريرة . والثاني لا يجوز ذلك ، واختاره الشيخ أبو إسحاق والقفال والقاضي أبو الطيب ، وهو الأصح في الروضة والشرح ، ولو فعله عصى ، ولم يخرج عن ملكه بالإرسال ، لأنه يشبه سوائب الجاهلية ، كما تقدم في باب الصاد المهملة .
وقياساً على ما لو سيب دابة ، قال القفال : والعوام يسمونه عتقاً ، ويحتسبونه وهو حرام ، وينبغي الاحتراز عن ذلك ، لأن الطائر المخلى يختلط بالطيور المباحة ، فيأخذه الآخذ ظناً أنه قد ملكه ، وهو لا يملكه ، فيكون سبباً لوقوع أخيه المؤمن في المحظورات . واختار صاحب الإيضاح وجهاً ثالثاً ، وهو إن قصد بعتقه التقرب إلى الله تعالى ، زال ملكه عنه ، وإلا فلا ، وإن قلنا بالوجه الأول ، فإنه يعود بالإرسال إلى ما كان عليه في الأصل من حكم الإباحة ، وإن قلنا بالوجه الثاني ، وهو الأصح كما تقدم ، لم يجز لمن عرف أنه ملك الغي ، ويعرف كونه ملكاً للغير بكونه مخطوماً ، أو مقصوص الجناح ، أو مقرطاً ، أو فيه جلاجل ، أو موسوماً ، أو مخضوباً ، أو غير ذلك مما يدل على الملك ، فإن شك في كونه مملوكاً ، فالأصل الحل ، فإن قال المرسل عند إرساله : أبحته لمن يأخذه جاز اصطياده .
وإن قلنا بالوجه الثالث ، فهل يحل اصطياده ؟ فوجهان : أحدهما نعم ، لأنه قد عاد إلى حكم الإباحة ، ولأنا لو منعنا اصطياده ، لأشبه سوائب الجاهلية ، وهذا هو الأصح في الروضة ، والثاني المنع ، كالعبد إذا عتق فإنه لا يسترق ، وينبغي أن يختص هذا الوجه ، بما إذا أعتقه مسلم ، فإن أعتقه كافر جاز اصطياده قطعاً ، لأن عتقه لا يصح ويسترق عتيقه .
ومنها اعلم أن الإمام الرافعي ، رحمه الله تعالى ، قد أطلق القول بمنع الإرسال ، ولا بد من استثناء صور : الأولى ، أنه إذا كان الطائر معتاد العدو ، فإنه يجوز إرساله في المسابقة . الثانية : إذا كان للطائر فرخ يخشى عليه الموت بحبس الطائر عنه ، فينبغي هنا القطع بوجوب الإرسال ، لأن الفرخ حيوان محترم ، فيجب السعي في صيانة روحه ، وقد صرح الأصحاب بوجوب تأخير الحامل وإمهالها ، إذا وجب عليها الرجم أو القصاص ، لأجل إرضاعها الولد .
وجزم الشيخ أبو محمد الجويني بتحريم ذبح الحيوان المأكول إذا كان حاملا بغير مأكول ، وعلله بأن في ذبحه قتل ما لا يحل ذبحه ، وهو الحمل وقد أطلق ( صلى الله عليه وسلم ) ظبية شكت أن لها خشفين ، أي ولدين ، بالغابة ، ففي إطلاقه ( صلى الله عليه وسلم ) إياها دليل على الوجوب ، لأن ما كان ممنوعاً منه ولم ينسخ ثم(2/128)
"""""" صفحة رقم 129 """"""
جوز في بعض الأحوال ، فجوازه دليل وجوبه كالنظر إلى العورة في الختان . ولما كان الإرسال ممنوعاً منه ، لكونه سائبة ثم جوز في بعض الأحوال ، كان دليل الوجوب . الثالثة ، إذا كان معه طائر أو حيوان ، وليس معه ما يذبحه به ، ولا ما يطعمه ، فإرساله واجب ليسعى في طلب رزقه ، الرابعة ، إذا أراد الإحرام فإنه يجب عليه الإرسال .
التعبير : الطائر العمل قال الله تعالى : " وكل إنسان ألزمناه طائره في عنقه " وربما دل الطائر المجهول على الإنذار والموعظة ، لقوله تعالى : " قالوا طائركم معكم أئن ذكرتم بل أنتم قوم مسرفون " فمن حسن طائره في المنام حسن عمله ، وأتاه رسول بخير . ومن رأى معه طائراً متوحشاً دميم الخلق ، ربما كان عمله سيئاً ، أو أتاه رسول بشر . وأما عش الطائر ، فإنه يدل على الزوجة ، والحد الذي يقف العارف عنده ، ورؤية العش للمرأة الحامل ولادة ، والعش ما يكون في شجرة ، فإذا كان في حائط أو كهف أو جبل ، فإنه وكر ، والوكر يدل على دور الزناة أو مساجد المتعبدين والمنقطعين . وأما بيض الطائر ، فإنه دال على الأولاد من الأزواج والإماء ، وربما دل على القبور ، وربما دل البيض ، على بيض الأسنة أو الخود ، وربما دل على الاجتماع بالأهل والأقارب والأحباب ، وربما دل على جمع الدراهم والدنانير وادخارها ، والريش مال في التأويل ، وربما دل على شراء قماش وربما دل على الجاه ، لأنه يقال فلان طائر بجناح غيره ، وربما دل على النبت من الزرع . والمخلب نصرة المخاصم ، كما أنه للطائر عدة وجنة ، والمناقر عز وجاه عريض لمن ملكه في المنام ، وأما الزبل ، فزبل الطائر المأكول مال حلال ، وما لا يؤكل مال حرام . والزرق كسوة لاشتباهه في الثوب ، وربما دل زرق الطائر الكاسر كالنسر والعقاب ونحوهما ، على الخلع من الملوك والأكابر ، فهذا قول جلي فيما ذكر من الطيور ، وفيما سيأتي ، وعلى هذا فقس بفهمك وحذقك تصب إن شاء الله تعالى والله الموفق . فائدة : روى ابن بشكوال ، بسنده إلى أحمد بن محمد العطار ، عن أبيه ، قال : كان لنا جار فأسر وأقام في الأسر عشرين سنة ، وأيس أن يرى أهله ، قال : فبينما أنا ذات ليلة أفكر فيمن خلفت من صبياني وأبكي ، إذ أنا بطائر سقط فوق حائط السجن يدعو بهذا الدعاء ، قال : فتعلمته من الطائر ثم دعوت الله به ثلاث ليال متتابعات ، ثم نمت فما استيقظت إلا وأنا في بلدي فوق سطح داري ، قال : فنزلت إلى عيالي فسروا بي بعد أن فزعوا مني لما رأوني ورأوا ما بي من تغير الحال والهيئة ، ثم إني حججت من عامي ، فبينما أنا أطوف وأدعو بهذا الدعاء ، إذ أنا بشيخ قد ضرب يده على يدي ، وقال لي : من أين لك هذا الدعاء . فإن هذا الدعاء لا يدعو به إلا طائر ببلاد الروم متعلق بالهواء ، فحدثته بقصتي وبما جرى علي ، وأني كنت أسيراً ببلاد الروم ، وتعلمت الدعاء من الطائر فقال : صدقت . فسألت الشيخ عن اسمه ، فقال : أنا الخضر ، وهو هذا الدعاء : اللهم إني أسألك يا من لا تراه العيون ، ولا تخالطه الظنون ، ولا يصفه الواصفون ، ولا تغيره الحوادث ولا الدهور ، يعلم مثاقيل الجبال ، ومكاييل البحار ، وعدد قطر الأمطار ، وعدد(2/129)
"""""" صفحة رقم 130 """"""
ورق الأشجار ، وعدد ما يظلم عليه الليل ، ويشرق عليه النهار ، ولا توارى منه سماء سماء ، ولا أرض أرضاً ، ولا جبل إلا يعلم ما في وعره وسهله ، ولا بحر إلا يعلم ما في قعره وساحله ، اللهم إني أسألك أن تجعل خير عملي آخره ، وخير أيامي يوماً ألقاك فيه ، إنك على كل شيء قدير . اللهم من عاداني فعاده ، ومن كادني فكده ، ومن بغى علي بهلكة فأهلكه ، ومن أرادني بسوء فخذه ، وأطفئ عني نار من أشب لي ناره ، وأكفني هم من أدخل علي همه ، وأدخلني في درعك الحصينة ، واسترني بسترك الواقي ، يا من كفاني كل شيء أكفني ما أهمني من أمر الدنيا والآخرة ، وصدق قولي وفعلي بالتحقيق ، يا شفيق يا رفيق ، فرج عني كل ضيق ، ولا تحملني ما لا أطيق ، أنت إلهي الحق الحقيق ، يا مشرق البرهان يا قوي الأركان ، يا من رحمته في كل مكان وفي هذا المكان ، يا من لا يخلو منه مكان ، احرسني بعينك التي لا تنام ، واكنفني في كنفك الذي لا يرام ، إنه قد تيقن قلبي أن لا إله إلا أنت وأني لا أهلك وأنت معي ، يا رجائي فارحمني بقدرتك علي ، يا عظيماً يرجى لكل عظيم ، يا عليم يا حليم أنت بحاجتي عليم ، وعلى خلاصي قدير ، وهو عليك يسير ، فامنن علي بقضائها يا أكرم الأكرمين ، ويا أجود الأجودين ويا أسرع الحاسبين يا رب العالمين ، ارحمني وارحم جميع المذنبين ، من أمة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ، إنك على كل شيء قدير ، اللهم استجب لنا كما استجبت لهم برحمتك ، عجل علينا بفرج من عندك ، بجودك وكرمك وارتفاعك في علو سمائك ، يا أرحم الراحمين ، إنك على ما تشاء قدير ، وصلى الله على سيدنا محمد خاتم النبيين ، وعلى آله وصحبه أجمعين .
وهذا الدعاء روى الطبراني بإسناد صحيح قطعة منه عن أنس أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) مر بأعرابي ، وهو يدعو في صلاته ، ويقول : يا من لا تراه العيون ولا تخالطه الظنون ، ولا يصفه الواصفون ، ولا تغيره الحوادث ، ولا يخشى الدوائر ، يعلم مثاقيل الجبال ، ومكاييل البحار ، وعدد قطر الأمطار ، وعدد ورق الأشجار ، وعدد ما أظلم عليه الليل وأشرق عليه النهار ، ولا توارى منه سماء سماء ، ولا أرض أرضاً ، ولا بحر إلا يعلم ما في قعره ، ولا جبل إلا يعلم ما في وعره ، اجعل خير عمري آخره ، وخير عملي خواتمه ، وخير أيامي يوماً ألقاك فيه . فوكل رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) بالأعرابي رجلا ، فقال : إذا فرغ من صلاته فأتني به فلما قضى صلاته أتاه به ، وقد كان أهدى لرسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ذهب من بعض المعادن ، فلما أتى الأعرابي وهب له الذهب ، وقال : " ممن أنت يا أعرابي " ؟ قال : من بني عامر بن صعصعة ، فقال : " هل تدري لم وهبت لك هذا الذهب " . قال : للرحم التي بيننا وبينك يا رسول الله . قال ( صلى الله عليه وسلم ) : " إن للرحم حقاً ولكن وهبت لك الذهب لحسن ثنائك على الله عز وجل " .
الطبطاب : طائر له أذنان كبيرتان .
الطبوع : القمامة ، وستأتي إن شاء الله تعالى ، في باب القاف .
الطثرج : النمل ، قاله الجوهري ، وسيأتي إن شاء الله تعالى ، في باب النون ، وقال غيره : صغار النمل . الطحن : دويبة ، قاله الجوهري وغيره . قال الزمخشري ، في ربيع الأبرار : هي دويبة تشبه(2/130)
"""""" صفحة رقم 131 """"""
أم حبين ، يجتمع إليها الصبيان ، ويقولون : اطحني لنا ، فتطحن بنفسها الأرض حتى تغيب فيها . الطرسوح : حوت بحري ، إذا أدمن كله ، أورث العين غشاوة .
طرغلودس : يعرفه أهل الأندلس ، ويسمونه الضريس ، بضاد معجمة مضمومة ، وراء مهملة مفتوحة ، وياء ساكنة منقوطة ، اثنتين من تحتها وسين مهملة . قال الرازي ، في كتاب الكافي : هو عصفور صغير ، أصغر من جميع العصافير ، لونه رمادي وأحمر وأصفر ، وفي جناحيه ريشة ذهبية ومنقاره رقيق ، وفي ذنبه نقط بيض متواترة ، وهو دائم الصفير وأجوده السمين .
وحكمه : الحل .
وله خاصية عجيبة ، في تفتيت الحصا المتكون في المثانة ومنع ما لم يتكون .
الطرف : بكسر الطاء الكريم من الخيل ، وقال أبو زيد : هو نعت للذكر خاصة .
الطغام : والطغامة بفتح الطاء والغين المعجمة أرذال الطير والسباع ، وهما أيضاً أراذل الناس ، الواحد والجمع في ذلك سواء ، قاله ابن سيده .
الطفل : ولد كل وحشية ، والمولود من بني آدم والجمع أطفال ، وقد يكون الطفل واحد وجمعاً ، مثل الجنب . قال الله تعالى : " أو الطفل الذين لم يظهروا على عورات النساء " والمطفل : الظبية معها طفلها ، وهي قريبة عهد بالنتاج ، وكذلك الناقة والجمع : المطافيل . قال أبو ذئيب :
وإن حديثا منك لو تبذلينه . . . جنى النحل في ألبان عوذ مطافل
مطافيل أبكار حديث نتاجها . . . تشاب بماء مثل ماء المفاصيل
وما أحسن قول الآخر :
فيا عجباً لمن ربيت طفلا . . . ألقمه بأطراف البنان
أعلمه الرماية كل يوم . . . فلما اشتد ساعده رماني
أعلمه الفتوة كل وقت . . . فلما طر شاربه جفاني
وكم علمته نظم القوافي . . . فلما قال قافية هجاني
ذو الطفيتين : حية خبيثة ، والطفية خوصة المقل في الأصل ، وجمعها طفى ، فشبه الخطين اللذين على ظهر الحية بخوصتين من خوص المقل . قال الزمخشري : وفي كتاب العين الطفية حية لينة خبيثة وأنشد يقول :
وهم يذلونها من بعد عزتها . . . كما تذل الطفي من رقية الراقي
وكذا قاله ابن سيده أيضاً . وفي الصحيحين وغيرهما ، من حديث ابن عمر وعائشة رضي الله تعالى(2/131)
"""""" صفحة رقم 132 """"""
عنهم ، أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال : " اقتلوا الحيات وذا الطفيتين والأبتر فإنهما يستسقطان الحبالى ويلتمسان البصر " . قال شيخ الإسلام النووي : قال العلماء : الطفيتان الخطأن الأبيضان على ظهر الحية . والأبتر قصير الذنب . وقال النضر بن شميل : هو صنف من الحيات أزرق مقطوع الذنب ، لا تنظر إليه حامل إلا ألقت ما في بطنها غالباً . وذكر مسلم في روايته عن الزهري ، أنه قال : نرى ذلك من سمها . وأما قوله : يلتمسان البصر ، ففيه تأويلان : أصحهما أنهما يخطفانه ويطمسانه بمجرد نظرهما إليه ، لخاصية جعلها الله تعالى في بصرهما إذا وقع على بصر الإنسان ، ويؤيد هذا أن في رواية مسلم يخطفان البصر . والثاني أنهم يقصدان البصر باللسع والنهش .
قال العلماء : وفي الحيات نوع يسمى الناظر ، إذا وقع بصره على عين إنسان مات من ساعتها . وقال أبو العباس القرطبي : ظاهر هذا أن هذين النوعين من الحيات لهما من الخاصية ما يكون عنه ذلك ولا يستبعد هذا ، فقد حكى أبو الفرج بن الجوزي في كتابه المسمى بكشف المشكل لما في الصحيحين ، أن بعراق العجم أنواعاً من الحيات تهلك الرائي لها بنفس رؤيتها ومنها ما يهلك بالمرور على طريقها .
الطلح : بالكسر القراد وسيأتي إن شاء الله تعالى لفظ القراد في باب القاف . قال كعب بن زهير : وجلدها من أطوم لا يؤيسه طلح بضاحية المتنين مهزول أي لا يؤثر القراد في جلدها لملاسته قاله في نهاية الغريب .
الطلا : بكسر الطاء الولد من ذوات الظلف والجمع اطلاء .
الأمثال : قالوا : كيف الطلا وأمه . يضرب لمن ذهب همه وحلا لسانه .
الطلى : بالفتح الصغير من أولاد المعز وإنما سمي بذلك لأنه يطلى أي تشد رجلاه بخيط إلى وتد وجمعه طليان مثل رغيف ورغفان .
الطمروق : بفتح الطاء ، الخفاش حكاه ابن سيده وقد تقدم في حرف الخاء المعجمة .
الطمل : والطملال والأطلس الذئب كما تقدم لفظه في باب الذال المعجمة . الطنبور : نوع من الزنابير ذوات الإبر ، وهو يأكل الخشب وقد تقدم لفظ الزنبور في باب الزاي المعجمة ، قال شيخ الإسلام النووي ، في شرح المهذب : ويستثنى من ذوات الإبر الجراد ، فإنه حلال قطعاً وكذا القنفذ على الصحيح .(2/132)
"""""" صفحة رقم 133 """"""
الطوراني : قال الجاحظ : إنه نوع من أنواع الحمام ، وقد تقدم ذكر الحمام في باب الحاء المهملة .
الطوبالة : النعجة وسيأتي إن شاء الله تعالى ذكرها في باب النون ، قاله ابن سيده .
الطول : بضم الطاء وتشديد الواو ، طائر قاله ابن سيده وغيره .
الطوطي : قال حجة الإسلام أبو حامد الغزالي في أول الباب الثاني ، في حكم الكسب : إنه الببغاء . وقد تقدم لفظ الببغاء في باب الباء الموحدة .
الطير : جمع طائر مثل صاحب وصحب وجمع الطير طيور وأطيار مثل فرخ وفرخ وفراخ ، وقال قطرب : الطير أيضاً قد يقع إلى الواحد .
فائدة : قال الله تعالى لخليله إبراهيم ( صلى الله عليه وسلم ) : " فخذ أربعة من الطير فصرهن إليك " قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما : أخذ طاوساً ونسراً وغراباً وديكاً . وقيل : أخذ حماماً وغراباً وديكاً وبطة . وقال مجاهد وعطاء وابن جريج : أخذ طاوساً وديكاً وحماماً وغراباً . وقيل : كانت الطيور بطة خضراء وغراباً أسود وحمامة بيضاء وديكاً أحمر . قيل : وفائدة حصره بأربعة ، أن الطبائع أربعة ، والغالب على كل واحد من هذه الطيور طبع منها فأمر بقتل الجميع ، وخلط لحومها بعضها ببعض ، وكذلك خلط دمائها وريشها ثم دعاهن بعد أن فرق أجزاءهن على رؤوس الجبال ، وقيل : بل أمسك الرؤوس عنده فاجتمعت الأجزاء وأتين سعياً إلى رؤوسهن وأحياهن الله تعالى كما شاء بقدرته . وفيه إيماء إلى أن إحياء النفس بالحياة الأبدية إنما يتأتى بإماتة الشهوات والزخارف التي هي صفة الطاوس ، والصولة المشهور بها الديك وخسة النفس وبعد الأمل الموصوف بهما الغراب ، والترفع والمسارعة للهوى الموصوف بهما الحمام . وإنما خص الطير لأنه أقرب إلى الإنسان ، وأجمع لخواص الحيوان وجمع بين مأكولي اللحم وضدهما وبين ممقوتين وهما الطاوس والغراب ، ومحبوبين وهما الديك والحمام ، وبين ما يسرع الطيران كالحمام والغراب ، وبين ما لا يستطيعه إلا قليلا وهما الديك والطاوس ، وبين ما يتميز به الذكر من الأنثى وهم الطاوس والديك ، وما لا يتميز إلا للعارف كالحمام وما يعسر تمييزه كالغرب . وما أحسن قول ابن الساعاتي :
والطل في سلك الغصون كلؤلؤ . . . رطب يصافحه النسيم فيسقط
والطير يقرأ والغدير صحيفة . . . والريح يكتب والغمام ينقط
وهو تقسيم بديع . والطير الذي يأتي في كل سنة إلى جبل بصعيد مصر ، يسمى بوقير ، وقد تقدم في حرف الباء .
فائدتان : الأولى : روى الشافعي عن سفيان بن عيينة ، عن عبد الله بن أبي يزيد ، عن(2/133)
"""""" صفحة رقم 134 """"""
سباع بن ثابت عن أم كرز ، قالت : أتيت النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فسمعته يقول : " أقروا الطير على مكناتها " وفي رواية في وكناتها . وهذا بعض حديث ، رواه أحمد وأصحاب السنن والحاكم وابن حبان ، قال : فالتفت سفيان إلى الشافعي وقال : يا أبا عبد الله ما معنى هذا ؟ فقال الشافعي : إن علم العرب كان في زجر الطير ، فكان الرجل منهم إذا أراد سفراً خرج من بيته ، فيمر على الطير في مكانه فيطيره ، فإذا أخذ يميناً مر في حاجته ، وإن أخذ يساراً رجع . فقال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) : " أقروا الطير على مكناتها " . قال : فكان ابن عيينة يسأل بعد ذلك عن تفسير هذا الحديث فيفسره على نحو ما فسره الشافعي . قال أحمد بن مهاجر : وسألت الأصمعي عن تفسير هذا الحديث ، فقال مثل ما قال الشافعي . قال : وسألت وكيعاً فقال : إنما هو عندنا على صيد الليل ، فذكرت له قول الشافعي فاستحسنه وقال : ما ظننته إلا على صيد الليل .
وروى البيهقي ، في سننه ، أن إنساناً سأل يونس بن عبد الأعلى عن معنى " أقروا الطير في مكناتها " فقال : إن الله تعالى يحب الحق ، إن الشافعي قال في تفسيره كذا ، وذكر ما تقدم عنه . قال : وكان الشافعي ، رحمه الله نسيج وحده في هذه المعاني .
قوله : " نسيج وحده " هو بالإضافة ، ووحده مكسور الدال . قال ابن قتيبة : وأصله أن الثوب الرقيق النفيس لا ينسج على منواله غيره ، وإن لم يكن نفيساً عمل على منواله عدة أثواب . فاستعير ذلك لكل كريم من الرجال ، انتهى . قال الصيدلاني ، في شرح المختصر : المكنة بكسر الكاف موضع القرار والتمكن . قال : وفي معنى هذا الحديث أقوال : أحدها النهي عن الصيد ليلا ، ثانيهما ما تقدم عن الشافعي ، ثالثها قال أبو عبيدة القاسم بن سلام : أقروها على بيضتها التي أحتضنتها ، وأصل المكن بيض الضب قال الصيدلاني : فعلى هذا يجب أن يكون المفرد المكنة بتسكين القاف ، كتمرة وتمرات انتهى .
الفائدة الأخرى : الطيرة بكسر الطاء وفتح الياء المثناة تحت ، التشاؤم بالشيء . قال تعالى : " وإن تصبهم سيئة يطيروا بموسى ومن معه ألا إنما طائرهم عند الله " أي شؤمهم جاء من قبل الله تعالى ، وهو الذي قضى عليهم بذلك وقدره . ويقال تطير طيرة وتخير خيرة ، ولم يجيء من المصادر هكذا غيرهما . انتهى . وكان ذلك يصدهم عن مقاصدهم ، فنفاه الشرع وأبطله بقول : لا طيرة وخيرها الفأل . قيل : يا رسول الله وما الفأل ؟ قال ( صلى الله عليه وسلم ) : " الكلمة الصالحة يسمعها أحدكم " وفي رواية قال : " يعجبني الفأل وأحب الفأل الصالح " . وكانوا يتطيرون بالسوانح والبوارح ، فينفرون الظباء والطيور ، فإن أخذت ذات اليمين تبركوا به ومضوا في أسفارهم وحوائجهم ، وإن أخذت ذات الشمال رجعوا عن ذلك . وفي حديث آخر " الطيرة شرك " أي اعتقاد أنها تنفع أو تضر ، وإنما اشتقوا الطيرة من الطير لسرعة لحوق البلاء على اعتقادهم كما يسرع الطير في الطيران . وأما الفأل فمهموز ، ويجوز ترك همزه ، وقد فسره النبي ( صلى الله عليه وسلم ) بالكلمة الصالحة(2/134)
"""""" صفحة رقم 135 """"""
والحسنة ، والغالب أن يكون فيما يسر ، وقد يكون فيما يسوء . وأما الطيرة ، فإنها لا تكون إلا فيما يسوء .
قال العلماء : إنما أحب الفأل ، لأن الإنسان إذا أمل فضل الله تعالى كان على خير ، وإذا قطع رجاءه من الله تعالى كان على سوء . والطيرة فيها سوء ظن وتوقع البلاء ، وفي الحديث قالوا : يا رسول الله لا يسلم منا أحد من الطيرة والحسد والظن فما نصنع ؟ قال ( صلى الله عليه وسلم ) : " إذا تطيرت فامض ، وإذا حسدت فلا تبغ ، وإذا ظننت فلا تتحقق " . رواه الطبراني وابن أبي الدنيا ، وسيأتي إن شاء الله تعالى الكلام على الطيرة في باب اللام ، في اللقحة أيضاً .
قال في مفتاح دار السعادة : واعلم أن التطير ، إنما يضر من أشفق منه وخاف ، وأما من لم يبال به ولم يعبأ به ، فلا يضره البتة لاسيما إن قال عند رؤية ما يتطير به أو سماعه : اللهم لا طير إلا طيرك ، ولا خير إلا خيرك ، ولا إله غيرك ، اللهم لا يأتي بالحسنات إلا أنت ، ولا يذهب بالسيآت إلا أنت ، ولا حول ولا قوة إلا بك . وأما من كان معتنياً بها فهي أسرع إليه من السيل إلى منحدره ، وقد فتحت له أبواب الوساوس فيما يسمعه ويراه ، ويفتح له الشيطان فيها من المناسبات البعيدة والقريبة ، ما يفسد عليه دينه وينكد عليه معيشته انتهى .
وقال ابن عبد الحكم : لما خرج عمر بن عبد العزيز من المدينة ، قال رجل من لخم : نظرت فإذا القمر في الدبران ، فكرهت أن أقول له فقلت : ألا تنظر إلى القمر ما أحسن استواءه في هذه الليلة فنظر عمر فإذا هو في الدبران ، فقال : كأنك أردت أن تعلمني بأنه في الدبران ، أنا لا نخرج بشمس ولا بقمر ، ولكنا نخرج بالله الواحد القهار . وقال ابن خلكان : ومن قبيح ما وقع لأبي نواس أن جعفر بن يحيى البرمكي بنى داراً استفرغ فيها جهده ، فلما كملت وانتقل إليها صنع فيها أبو نواس قصيدة امتدحه بها أولها :
أربع البلى إن الخشوع لبادى . . . عليك وإني لم أخنك وداي
سلام على الدنيا إذا ما فقدتم . . . بني برمك من رائحين وغادي
فتطير منها بنو برمك ، وقالوا : نعيت لنا أنفسنا يا أبو نواس ، فما كانت إلا مديدة ، حتى أوقع بهم الرشيد وصحت الطيرة . وذكر الطبري والخطيب البغدادي وابن خلكان وغيرهم ، أن جعفر بن يحيى البرمكي ، لما بنى قصره ، وتناهى بنيانه ، وكمل حسنه ، وعزم على الانتقال إليه ، جمع المنجمين لاختيار وقت ينتقل فيه إليه ، فاختاروا له وقتاً في الليل ، فخرج في ذلك الوقت والطرق خالية ، والناس هادئون فرأى رجلا قائماً يقول :
تدبر بالنجوم ولست تدري . . . ورب النجم يفعل ما يشاء فتطير ووقف ، ودعا بالرجل وقال له : أعد ما قلت فأعاده ، فقال : ما أردت بهذا ؟ قال : ما أردت به معنى من المعاني ، ولكنه شيء عرض لي وجاء على لساني ، فأمر له بدينار ومضى لوجهه ، وقد تنغص سروره وتكدر عيشه فلم يكن إلا قليل حتى أوقع بهم الرشيد . وسيأتي إن شاء الله تعالى ذكر قتله في باب العين المهملة ، في العقاب . وفي التمهيد لابن عبد البر ، من حديث المقبري عن(2/135)
"""""" صفحة رقم 136 """"""
ابن لهيعة عن ابن هبيرة ، عن أبي عبد الرحمن الجيلي ، عن عبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنهما ، عن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ، قال : " من رجعته الطيرة عن حاجته ، فقد أشرك " . قالوا : وما كفارة ذلك يا رسول الله ؟ قال ( صلى الله عليه وسلم ) : " أن يقول أحدكم : اللهم لا طير إلا طيرك ولا خير إلا خيرك ، ولا إله غيرك ، ثم يمضي لحاجته " .
تنبيه مهم : جزم الإمام العلامة القاضي أبو بكر بن العربي ، في الأحكام ، في سورة المائدة ، بتحريم أخذ الفأل من المصحف . ونقله القرافي عن الإمام العلامة أبي الوليد الطرطوشي ، وأقره وأباحه ابن بطة من الحنابلة . ومقتضى مذهبنا كراهته .
وحكى الماوردي ، في كتاب أدب الدين والدنيا ، أن الوليد بن يزيد بن عبد الملك ، تفاءل يوماً في المصحف فخرج له قوله تعالى : " واستفتحوا وخاب كل جبار عنيد " فمزق المصحف وأنشأ يقول : أتوعد كل جبار عنيد فها أنا ذاك جبار عنيد
إذا ما جئت ربك يوم حشر . . . فقل يا رب مزقني الوليد
فلم يلبث إلا أياماً يسيرة حتى قتل شر قتلة ، وصلب رأسه على قصره ، ثم أعلى سور بلده ، كما تقدم في باب الهمزة في لفظ الأوز .
فائدة أخرى : روى الترمذي وابن ماجه والحاكم ، وصححوه عن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه ، أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال : " لو توكلتم على الله حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير تغدو خماصاً وتروح بطاناً " معناه تذهب أول النهار ضامرة البطون من الجوع وترجع آخر النهار ممتلئة البطون من الشبع . قال الإمام أحمد : ليس في هذا الحديث دلالة على القعود عن الكسب ، بل فيه ما يدل على طلب الرزق ، وإنما أراد ، والله أعلم ، لو توكلوا على الله في ذهابهم ومجيئهم وتصرفهم ، وعلموا أن الخير بيده ومن عنده ، لم ينصرفوا إلا سالمين غانمين ، كالطير تغدو خماصاً ، وتروح بطاناً ، لكنهم يعتمدون على قوتهم وكسبهم ، وهذا خلاف التوكل . وفي الإحياء ، في أوائل كتاب أحكام الكسب ، قيل لأحمد : ما تقول في الذي يجلس في بيته أو مسجده ويقول : لا أعمل شيئاً حتى يأتيني رزقي ؟ فقال أحمد : هذا رجل جهل العلم أما سمع قول النبي ( صلى الله عليه وسلم ) : " إن الله جعل رزقي تحت ظل رمحي " . وقوله حيث ذكر الطير : " تغدو خماصاً وتروح بطاناً " . وكان أصحاب رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ، يتجرون في البر والبحر ، ويعملون في نخيلهم . والقدوة بهم .
مسألة : أوصى للمتوكلين ، أفتى ابن عباس بأن ذلك يصرف للزراع ، فإنهم يحرثون ويضعون البذر في الأرض فهم متوكلون على الله تعالى ، ويدل له ما روى البيهقي في الشعب ، والعسكري في الأمثال ، أن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه ، لقى ناساً من أهل اليمن ،(2/136)
"""""" صفحة رقم 137 """"""
فقال : من أنتم ؟ قالوا : متوكلون ، قال : كذبتم إنما المتوكلون رجل ألقى حبه في التراب ، وتوكل على رب الأرباب . وبهذا أفتى بعض فقهاء بيت المقدس قديماً . وقال الإمامان الرافعي والنووي ، في تفضيل بعض الأكساب على بعض ، واحتج من فضل الزراعة ، بأنها أقرب إلى التوكل ، وفي الشعب أيضاً عن عمرو بن أمية الضمري ، أنه قال : قلت : يا رسول الله أرسل ناقتي وأتوكل ؟ قال ( صلى الله عليه وسلم ) : " إعقلها وتوكل " وسيأتي إن شاء الله تعالى ، هذا في أول باب النون . وقال الحليمي : يستحب لكل من ألقى في الأرض بذراً أن يقرأ بعد الاستعاذة " أفرأيتم ما تحرثون " الآية . ثم يقول : بل الله الزارع والمنبت والمبلغ ، اللهم صل على محمد وعلى آل محمد ، وارزقنا ثمره ، وجنبنا ضرره ، واجعلنا لأنعمك من الشاكرين . وقال أبو ثور : سمعت الشافعي رضي الله تعالى عنه يقول : نزه الله نبيه ( صلى الله عليه وسلم ) ، ورفع قدره ، فقال : " وتوكل على الحي الذي لا يموت " وذلك أن الناس في التوكل ، على أحوال شتى : متوكل على نفسه ، أو على ماله ، أو على جاهه ، أو على سلطانه ، أو على صناعته ، أو على غلته ، أو على الناس . وكل مستند إلى حي يموت ، أو إلى ذاهب يوشك أن ينقطع ، فنزه الله تعالى نبيه ( صلى الله عليه وسلم ) عن ذلك ، وأمره أن يتوكل على الحي الذي لا يموت . وقال الإمام ، العلامة ، شيخ الشريعة والحقيقة ، أبو طالب المكي ، في كتابه قوت القلوب : اعلم أن العلماء بالله تعالى لم يتوكلوا عليه لأجل أن يحفظ عليهم دنياهم ، ولا لأجل تبليغهم رضاهم ومرادهم ، ولم يشترطوا عليه حسن القضاء بما يحبون ، ولا ليبدل لهم جريان أحكامه عما يكرهون ، ولا ليغير لهم سابق مشيئته إلى ما يعقلون ، ولا ليحول عنهم سنته التي قد خلت في عباده ، من الابتلاء والامتحان والاختبار ، بل هو جل وعلا أجل في قلوبهم من ذلك ، وهم أعقل عنه وأعرف به من هذا ، فلو اعتقد عارف بالله أحد هذه المعاني مع الله في توكله ، لكان عليه كبيرة توجب عليه التوبة ، وكان توكله معصية ، وإنما أخذوا أنفسهم بالصبر على أحكامه كيف جرت وطالبوا قلوبهم بالرضا كيف أجرى .
فائدة : عن كعب الأحبار ، قال : إن الطير ترتفع اثني عشر ميلا ، ولا ترتفع فوق هذا ، وفوق الجو السكاك . والجو هو الهواء بين السماء والأرض .
التعبير : الطائر في المنام رزق لمن حواه لقول الشاعر :
وما الرزق إلا طائر أعجب الورى . . . فمدت له من كل فن حبائل
وسعادة ورياسة ، وقيل : الطيور السود تدل على السيآت ، والطيور البيض تدل على الحسنات . ومن رأى طيوراً تنزل على مكان وترتفع ، فإنها ملائكة ورؤية ما يستأنس بالإنسان من الطيور دليل على الأزواج والأولاد ، ورؤية ما لا يأنس بالآدمي من الطير دليل على معاشرة الأضداد والأعجام . ورؤية الكاسر من الطير في المنام شر ونكد ومغارم ، ورؤية الجارح المعلم عز وسلطان وفوائد وأرزاق . ورؤية المأكول لحمه فائدة سهلة ، ورؤية ذوي الأصوات قوم صالحون ، ورؤية المذكر رجال ، والمؤنث نساء ، ورؤية المجهول من الطير قوم غرباء ، ورؤية ما فيه خير وشر(2/137)
"""""" صفحة رقم 138 """"""
فرج بعد شدة ، ويسر بعد عسر ، ورؤية ما يظهر بالليل دليل على الجراءة وشدة الطلب والاختفاء ، ورؤية ما ليس له قيمة ، إذا صار له قيمة في المنام ، فإنها تدل على الربا ، وأكل المال بالباطل وبالعكس . ورؤية ما يظهر في وقت دون وقت ، فإن رآه قد ظهر في غير أوانه ، كان ذلك دليلا على وضع الأشياء في غير محلها ، أو على الأخبار الغريبة والخوض فيما لا يعني ، فهذا قول كلي في أنواع الطير مما تقدم ذكره وسيأتي فافهم ذلك وقس عليه .
تتمة : قال المعبرون : كلام الطير كله صالح جيد ، فمن رأى الطير يكلمه ارتفع شأنه لقوله تعالى : " يا أيها الناس علمنا منطق الطير وأوتينا من كل شيء إن هذا لهو الفضل المبين " وكره المعبرون صوت طير الماء والطاوس والدجاج وقالوا : إنه هم وحزن ونعي ، وزمار الظليم ، وهو ذكر النعام ، قتل من خادم شجاع ، فإن كره صوته فإنه غلبة من خادم . وهدير الحمام امرأة قارئة لكتاب الله تعالى ، وصوت الخطاف موعظة من رجل واعظ ، والله أعلم .
خاتمة : قال ابن الجوزي ، في كتاب أنس الفريد وبغية المريد : قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما : في القرآن عشرة أطيار ، سماها الله تعالى بأسمائها : البعوضة في البقرة ، والغراب في المائدة ، والجراد في الأعراف ، والنحلة في النحل ، والسلوى في البقرة وطه ، والنمل في النمل ، والهدهد فيها أيضاً ، والذباب في الحج ، والفراش في القارعة ، والأبابيل في الفيل ، فهذه عشر . طير العراقيب : طير الشؤم عند العرب ، وكل ما تطيرت به سمته بذلك . ومن الأحكام المتعلقة بالطير ، أن من فتح قفصاً عن طائر ، وهيجه فطار ضمنه . قال الماوردي : بإجماع ، لأنه ألجأه إلى ذلك ، وإن اقتصر على الفتح ، ففيه ثلاثة أقوال : أحدها يضمنه مطلقاً ، والثاني لا يضمنه مطلقاً ، والثالث ، وهو الأظهر ، إن طار في الحال ضمنه ، وإن وقف ثم طار فلا ، لأن طيرانه في الحال ، دليل على أنه بتنفيره ، حصل ذلك . وأما طيرانه بعد الوقوف ، فهو أمارة ظاهرة على أنه طار باختياره ، لأن للطائر اختياراً فإن كسر الطائر في خروجه قارورة أو أتلف شيئاً أو انكسر القفص بخروجه ، أو وثبت هرة كانت حاضرة عند الفتح ، فدخلت فأكلت الطائر ، لزمه الضمان والله أعلم .
طير الماء : كنيته أبو سحل ، ويقال له ابن الماء وبنات الماء ، وسيأتي ، إن شاء الله تعالى ، ذكره في آخر باب الميم .
الحكم : قال الرافعي : إنه حلال بجميع أنواعه إلا اللقلق ، فإنه يحرم أكله على الصحيح . وحكى الروياني في طير الماء وجهين عن الصيمري ، والأصح ما قاله الرافعي . ويدخل فيه البط والإوز ومالك الحزين قال أبو عاصم العبادي : وهو أكثر من مادة نوع ولا يدرى لأكثرها اسم عند العرب ، فإنها لم تكن ببلادهم . وسيأتي ، إن شاء الله تعالى الكلام على مالك الحزين في باب الميم .
الأمثال : قالوا : " كأن على رؤوسهم الطير " ، بالنصب لأنه اسم كان أي على رأس كل(2/138)
"""""" صفحة رقم 139 """"""
واحد الطير ، يريد صيده فلا يتحرك يضرب للساكن الوادع وهذه كانت صفة مجالس رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ، إذا تكلم أطرق جلساؤه كأنما على رؤوسهم الطير يريد أنهم يسكنون فلا يتكلمون ، والطير لا تسقط إلا على ساكت . وقال الجوهري : وقولهم : كأنما على رؤوسهم الطير ، إذا سكتوا من هيبته . وأصله أن الغراب ، إذا وقع على رأس البعير ، ليلقط منه الحلمة أو الحمنانة ، فلا يحرك البعير رأسه لئلا ينفر عنه الغراب .
الطيطوي : قال ارسطاطاليس ، في كتاب النعوت : إنه طائر لا يفارق الآجام ، وكثرة المياه ، لأن هذا الطائر لا يأكل شيئاً من النبت ، ولا من اللحوم ، وإنما قوته مما يتولد في شاطئ الغياض والآجام ، من دود النتن . وهذا الطائر تطلبه البزاة عند مرضها ، لأن البازي أكثر ما يصيبه من الأمراض بسبب الحرارة في كبده ، فإذا عرض له ذلك طلب الطيطوي ، وأكل كبده فيبرأ . وقد يطمئن الطيطوي ويصيح ، ولا ينفر من موضعه ، إلا إذا طلبه البازي هرب وغير موضعه ، فإذا كان في الليل ، هرب وصاح ، وهو في النهار إذا هرب لم يصح ، وكمن في الحشيش .
وذكر الثعلبي والبغوي وغيرهما في تفسير سورة النمل عند قوله تعالى : " يا أيها الناس علمنا منطق الطير " سمى صوت الطير منطقاً لحصول الفهم به كما يفهم من كلام الناس . وقالوا : قال كعب الأحبار وفرقد السنجي : مر سليمان عليه السلام على بلبل فوق شجرة يحرك ذنبه ورأسه فقال لأصحابه : أتدرون ما يقول هذا البلبل ؟ قالوا : لا يا رسول الله قال : يقول : أكلت نصف تمرة ، فعلى الدنيا العفاء . ومر بهدهد فأخبر أنه يقول : إذا نزل القضاء عمي البصر . وفي رواية كعب ، أنه يقول من لا يرحم لا يرحم ، والفاختة تقول : يا ليت هذا الخلق ما خلقوا وليتهم إذا خلقوا علموا لماذا خلقوا ، وليتهم إذا علموا لماذا خلقوا عملوا بما علموا والصرد يقول : سبحان ربي الأعلى ملء سمائه وأرضه ، والسرطان يقول : استغفروا الله يا مذنبين ، وصاحت طيطوي عنده فأخبر أنها تقول : كل حي ميت ، وكل جديد بال ، وقال : إن الخطاف يقول : قدموا خيراً تجدوه عند الله ، والورشان يقول : لدوا للموت ، وابنوا للخراب ، والطاوس يقول : كما تدين تدان والحمامة تقول : سبحان ربي المذكور بكل لسان ، والدراج يقول : " الرحمن على العرش استوى " وإذا صاحت العقاب تقول : البعد عن الناس راحة ، وفي رواية البعد من الناس أنس ، وإذا صاح الخطاف قرأ الفاتحة إلى آخرها ، ويمد صوته بقوله : " ولا الضالين " ، كما يمده القارئ ، والبازي يقول : سبحان ربي وبحمده ، والقمري يقول : سبحان ربي الأعلى ، وقيل إنه يقول : يا كريم ، والغراب يلعن العشار ويدعو عليه ، والحدأة تقول : كل شيء هالك إلا الله ، والقطاة تقول : من سكت سلم ، والببغاء يقول : ويل لمن كانت الدنيا أكبر همه ، والزرزور يقول : اللهم إني أسألك رزق يوم بيوم يا رزاق ، والقنبرة تقول : اللهم العن مبغضي محمد وآل محمد ، والديك يقول : اذكروا الله يا غافلين ، والنسر يقول : يا ابن آدم عشر ما شئت فإنك ميت ، وفي رواية أن الفرس تقول : إذا التقى الجمعان سبوح قدوس رب الملائكة والروح . والحمار يلعن المكاس وكسبه ، والضفادع تقول : سبحان ربي الأعلى .(2/139)
"""""" صفحة رقم 140 """"""
التعبير : الطيطوي في المنام امرأة ، قاله ابن سيرين .
ومن خواصه : أن لحمه يعقل البطن ويزيد في الباه .
الطيهوج : بفتح الطاء طائر شبيه بالحجل الصغير ، غير أن عنقه أحمر ، ومنقاره ورجلاه حمر ، مثل الحجل ، وما تحت جناحيه أسود وأبيض ، وهو خفيف مثل الدراج .
وحكمه : الحل .
الخواص : لحم الطيهوج كثير الحرارة والرطوبة . قاله يوحنا . وقيل : معتدل ، قلت : وهو الصواب ، وقيل : إنه في الدرجة الثالثة في الهضم ، وأجوده السمين الرطب الخريفي ينفع للزيادة في الباه ، ويعقل البطن لكنه يضر بمن يعالج الأثقال ، ويدفع ضرره طبخه في الهرائس ، وهو يولد دماً معتدلا ، ويوافق الأمزجة المعتدلة من الصبيان ، وأجوده ما أكل في زمن الربيع ، لاسيما في البلاد الشرقية ، والطيهوج والدراج والحجل متقاربة في ترتيب الأغذية في الاعتدال واللطافة والطيهوج أولا ، ثم الدراج ثم الحجل وتقدم في الضاد إنه الدريس والله أعلم .
بنت طبق وأم طبق : السلحفات ، وقد تقدم ذكرها في باب السين ، وقيل : هي حية عظيمه من شأنها أن تنام ستة أيام ثم تستيقظ في اليوم السابع ، فلا تنفخ في شيء إلا أهلكته وقد تقدم ذكر النوعين في بابيهما . ومنه قيل للداهية : إحدى بنات طبق ، ومنه قولهم : قد طرقت بنكدها أم طبق .
الأمثال : قالوا : جاء فلان بإحدى بنات طب يضرب للرجل يأتي بالأمر عظيم .
باب الظاء المعجمة
الظبي : الغزال والجمع أظب وظباء وظبي ، والأنثى ظبية ، والجمع ظبيات بالتحريك وظباء ، وأرض مظباة أي كثيرة الظباء ، وظبية اسم امرأة تخرج قبل الدجال تنذر المسلمين به ، قاله ابن سيده . قال الكرخي : الظباء ذكور الغزلان ، والأنثى : الغزال ، قال الإمام : وهذا وهم فإن الغزال ولد الظبية إلى أن يشتد ويطلع قرناه ، قال الإمام النووي : الذي قاله الإمام هو المعتمد . وقول صاحب التنبيه : فإن أتلف ظبياً ماخضاً ، قال النووي : صوابه ظبية ماخضاً ، لأن الماخض الحامل ، ولا يقال في الأنثى إلا ظبية ، والذكر ظبي وجمعت الظبية على ظباء ، كركوة وركاء لأن ما كان علا فعلة بفتح أوله من المعتل ، فجمعه ممدود ، ولم يخالف هذا إلا القرية فإنها جمعت على قرى على غير قياس ، فجاء مخالفاً للباب ، فلا يقاس عليه ، قاله الجوهري . وتكنى الظبية أم الخشف وأم شادن وأم الطلا .
والظباء مختلفة الألوان ، وهي ثلاثة أصناف : صنف يقال له الأرام وهي ظباء بيض خالصة البياض ، الواحد منها ريم ومساكنها الرمال ، ويقال : إنها ضأن الظباء ، لأنها أكثر لحوما وشحوماً ، وصنف يسمى العفر وألوانها حمر ، وهي قصار الأعناق ، وهي أضعف الظباء عدواً تألف المواضع(2/140)
"""""" صفحة رقم 141 """"""
المرتفعة من الأرض ، والأماكن الصلبة . قال الكميت :
وكنا إذا جبار قوم أرادنا . . . بكيد حملناه على قرن أعفرا يعني نقتله ونحمل رأسه على السنان ، وكانت الأسنة فيما مضى من القرون . وصنف يسمى الأدم ، طوال الأعناق والقوائم ، بيض البطون . وتوصف الظباء بحدة البصر ، وهي أشد الحيوان نفوراً ومن كيس الظبي ، أنه إذا أراد أن يدخل كناسه يدخل مستديراً ويستقبل بعينيه ما يخافه على نفسه وخشفانه ، فإن رأى أن أحداً أبصره حين دخوله لا يدخل وإلا دخل . ويستطيب الحنظل ويلتذ بأكله ويرد البحر فيشرب من مائه المر الزعاق . قال ابن قتيبة : ولد الظبية أول سنة طلا بفتح الطاء وخشف بكسر الخاء المعجمة ثم في السنة الثانية جذع ثم في الثالثة ثني ثم لا يزال ثنياً حتى يموت . وذكر ابن خلكان ، في ترجمة جعفر الصادق ، أنه سأل أبا حنيفة رضي الله تعالى عنهما ما تقول في محرم كسر رباعية ظبي ؟ فقال : يا ابن بنت رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) لا أعلم ما فيه . فقال : إن الظبي لا يكون رباعياً وهو ثني أبداً كذا حكاه كشاجم ، في كتاب المصايد والمطارد .
وقال الجوهري في مادة س ن ن في قول الشاعر ، في وصف الإبل :
فجاءت كسن الظبي لم أر مثلها . . . شفاء عليل أو حلوبة جائع
أي هي ثنيات لأن الثني هو الذي يلقي ثنيته ، والظبي لا تثبت له ثنية قط ، فهو ثني أبداً . وقال ابن شبرمة : دخلت أنا وأبو حنيفة على جعفر بن محمد الصادق ، فقلت : هذا رجل فقيه من العراق ، فقال : لعله الذي يقيس الدين برأيه ، أهو النعمان بن ثابت ؟ قال : ولم أعلم باسمه إلا ذلك اليوم ، فقال له أبو حنيفة : نعم أنا ذلك أصلحك الله ، فقال له جعفر : اتق الله ولا تقس الدين برأيك ، فإن أول من قاس برأيه إبليس إذ قال : أنا خير منه فأخطأ بقياسه فضل . ثم قال له : أتحسن أن تقيس رأسك من جسدك ؟ قال : لا . قال جعفر : فأخبرني لم جعل الله الملوحة في العينين ، والمرارة في الأذنين ، والماء في المنخرين ، والعذوبة في الشفتين ، لأي شيء جعل الله ذلك ؟ قال : لا أدري . قال جعفر : إن الله تعالى خلق العينين فجعلهما شحمتين ، وخلق الملوحة فيهما منا منه على ابن آدم ، ولولا ذلك لذابتا فذهبتا . وجعل المرارة في الأذنين منا منه عليه ، ولولا ذلك لهجمت الدواب فأكلت دماغه . وجعل الماء في المنخرين ليصعد منه النفس وينزل ، ويجد منه الريح الطيبة من الريح الرديئة ، وجعل العذوبة في الشفتين ليجد ابن آدم لذة المطعم والمشرب . ثم قال لأبي حنيفة : أخبرني عن كلمة أولها شرك وآخرها إيمان ؟ قال : لا أدري . قال جعفر : هي كلمة لا إله إلا الله . فلو قال : لا إله ، ثم سكت كان شركاً . ثم قال : ويحك ، أيما أعظم عند الله إثماً : قتل النفس التي حرم الله بغير حق ، أو الزنا ؟ قال : بل قتل النفس . قال جعفر : إن الله تعالى قد قبل في قتل النفس شهادة شاهدين ، ولم يقبل في الزنا إلا شهادة أربعة فأنى يقوم لك القياس ؟ ثم قال : أيما أعظم عند الله الصوم أو الصلاة ؟ قال : الصلاة . قال : فما بال الحائض تقضي الصوم ولا تقتضي الصلاة ؟ اتق الله يا عبد الله ، ولا تقس الدين برأيك ، فإنا نقف غداً ومن(2/141)
"""""" صفحة رقم 142 """"""
خالفنا بين يدي الله ، فنقول : قال الله وقال رسول الله ، وتقول أنت وأصحابك : سمعنا ورأينا فيفعل الله بنا وبكم ما يشاء . والجواب في أن الزنا لا يقبل فيه إلا أربعة طلباً للستر ، وفي أن الحائض لا تقضي الصلاة دفعاً للمشقة ، لأن الصلاة متكررة في اليوم والليلة خمس مرات ، بخلاف الصوم ، فإنه في السنة مرة والله أعلم .
وجعفر الصادق هو جعفر بن محمد الباقر بن علي زين العابدين بن الحسين بن علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنهم أجمعين . وجعفر أحد الأئمة الإثني عشر ، على مذهب الإمامية ، من سادات أهل البيت . ولقب الصادق لصدقه في مقالته . وله مقال في صنعة الكيمياء والزجر والفأل وتقدم في باب الجيم ، في الجفرة . عن ابن قتيبة أنه قال في كتابه أدب الكاتب : إن كتاب الجفر جلد جفرة كتب فيه الإمام جعفر الصادق لأهل البيت كل ما يحتاجون إلى علمه ، وكل ما يكون إلى يوم القيامة . وكذا حكاه ابن خلكان عنه أيضاً . وكثير من الناس ينسبون كتاب الجفر إلى علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه وهو وهم ، والصواب أن الذي وضعه جعفر الصادق كما تقدم . وأوصى جعفر ابنه موسى الكاظم فقال : يا بني احفظ وصيتي تعش سعيداً ، وتمت شهيداً ، يا بني إن من قنع بما قسم له استغنى ، ومن مد عينيه إلى ما في يد غيره مات فقيراً ، ومن لم يرض بما قسم الله له اتهم الله في قضائه ، ومن استصغر زلة نفسه استعظم زلة غيره ، ومن استعظم زلة نفسه استصغر زلة غيره . يا بني من كشف حجاب غيره انكشفت عورات بيته ، ومن سل سيف البغي قتل به ، ومن احتفر لأخيه بئراً سقط فيها ، ومن داخل السفهاء حقر ، ومن خالط العلماء وقر ، ومن دخل مداخل السوء اتهم . يا بني قل الحق لك أو عليك ، وإياك والنميمة فإنها تزرع الشحناء في قلوب الرجال . يا بني إذا طلبت الجود فعليك بمعادنه .
وروي أنه قيل لجعفر الصادق : ما بال الناس في الغلاء يزداد جوعهم ، بخلاف العادة في الرخص ؟ فقال : لأنهم خلقوا من الأرض وهم بنوها ، فإذا أقحطت أقحطوا ، وإذا أخصبت أخصبوا . ولد جعفر رحمة الله عليه سنة ثمانين من الهجرة ، وقيل سنة ثلاث وثمانين وتوفي سنة ثلاث وأربعين ومائة .
وفي الحديث أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) مر هو وأصحابه وهم محرمون بظبي واقف في ظل شجرة فقال : يا فلان لأحد أصحابه " قف هاهنا ، حتى يمر الناس لا يريبه أحد بشيء " ، أي لا يتعرض له . وفي المستدرك عن قبيصة بن جابر الأسدي ، قال : " كنت محرماً ، فرأيت ظبياً فرميته فأصبته فمات ، فوقع في نفسي من ذلك شيء ، فأتيت عمر أسأله ، فوجدت إلى جنبه رجلا أبيض رقيق الوجه ، وإذا هو عبد الرحمن بن عوف فسألت عمر فالتفت إلى عبد الرحمن ، فقال : ترى شاة تكفيه ؟ قال : نعم ، فأمرني أن أذبح شاة " . فلما قمنا من عنده قال صاحب لي : إن أمير المؤمنين لم يحسن أن يفتيك حتى سأل الرجل فسمع عمر بعض كلامه ، فعلاه بالدرة ضرباً ، ثم أقبل علي ليضربني ، فقلت : يا أمير المؤمنين إني لم أقل شيئاً إنما هو قاله ، فتركني ثم قال : أردت أن تفعل الحرام(2/142)
"""""" صفحة رقم 143 """"""
ونتعدى في الفتيا ثم قال : إن في الإنسان عشرة أخلاق تسعة حسنة وواحد سيء فيفسدها ذلك السيء . ثم قال : إياك وعثرات اللسان .
وحكى المبرد عن الأصمعي أنه قال : حدثت أن رجلا نظر إلى ظبية ترد الماء ، فقال له أعرابي : أتحب أن تكون لك ؟ قال : نعم ، قال : فاعطني أربعة دراهم حتى أردها إليك فأعطاه فخرج يمحص في أثرها فجدت وجد حتى أخذ بقرنيها فأعطاه إياها وهو يقول :
وهي على البعد تلوي خدها . . . تزيغ شدي وأزيغ شدها
كيف ترى عدوى غلام ردها . . . وكلما جدت تراني عندها
وذكر ابن خلكان ، أن كثير عزة ، دخل يوماً على عبد الملك بن مروان ، فقال له عبد الملك : هل رأيت أحداً أعشق منك ؟ قال : نعم ، بينما أنا أسير في فلاة ، إذا أنا برجل قد نصب حبالة ، وهو جالس ، فقلت له : ما أجلسك هاهنا فقال : أهلكني وقومي الجوع ، فنصبت حبالتي هذه لأصيب لهم شيئاً ولنفسي ، قلت : أرأيت إن أقمت معك ؟ أتجعل لي جزأ من صيدك ؟ قال : نعم . فبينما نحن كذلك ، إذ وقعت ظبية في الحبالة ، فبدرني إليها ، فحلها وأطلقها ، فقلت : ما حملك على ذلك قال : رق قلبي لها لشبهها بليلى وأنشد يقول :
أيا شبه ليلى لا تراعي فإنني . . . لك اليوم من وحشية لصديق
أقول وقد أطلقتها من وثاقها . . . فأنت لليلى ما حييت طليق
وفي كتاب ثمار القلوب للثعالبي ، في الباب الثالث عشر منه ، أن الملك بهرام جور ، لم يكن في العجم أرمى منه ، ومن غريب ما اتفق له ، أنه خرج يوماً يتصيد على جمل ، وقد أردف جارية يعشقها ، فعرضت له ظباء ، فقال للجارية : في أي موضع تريدين أن أضع السهم من هذه الظباء ؟ فقالت : أريد أن تشبه ذكرانها بإناثها وإناثها بذكرانها فرمى ظبياً ذكراً بنشابة ذات شعبتين ، فاقتلع قرنيه ، ورمى ظبية بنشابتين أثبتهما في موضع القرنين . ثم سألته أن يجمع ظلف الظبي وأذنه بنشابة واحدة ، فرمى أصل أذن الظبي ببندقة ، فلما أهوى بيده إلى أذنه ليحك ، رماه بنشابة فوصل أذنه بظلفه ، ثم أهوى إلى الجارية مع هواه لها فرمى بها إلى الأرض ، وأوطأها الجمل بسبب ما اشتطت عليه ، وقال : ما أرادت إلا إظهار عجزي فلم تلبث إلا يسيراً وماتت . فصل : يلتحق بهذا النوع غزال المسك ، ولونه أسود ويشبه ما تقدم في القدودقة القوائم وافتراق الأظلاف غير أن لكل منهما نابين أبيضين خفيفين خارجين من فيه في فكه الأسفل ، قائمين في وجهه كناي الخنزير ، كل واحد منهما دون الفتر ، ويقال إنه يسافر من التبت إلى الهند ، فيلقي ذلك المسك هناك فيكون رديئاً . وحقيقة ذلك المسك دم يجتمع في سرتها في وقت معلوم من السنة بمنزلة المواد التي تنصب إلى الأعضاء ، وهذه السرة جعلها الله تعالى معدناً للمسك ، فهي تثمر كل(2/143)
"""""" صفحة رقم 144 """"""
سنة كالشجرة التي " تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها " وإذا حصل ذلك الورم مرضت له الظباء ، إلى أن يتكامل . ويقال إن أهل التبت يضربون لها أوتاداً في البرية ، تحتك بها ليسقط عندها . وذكر القزويني في الأشكال ، أن دابة المسك تخرج من الماء كالظباء تخرج في وقت معلوم ، والناس يصيحون منها شيئاً كثيراً فتذبح . فيوجد في سررها دم وهو المسك ، ولا يوجد له هناك رائحة حتى يحمل إلى غير ذلك الموضع من البلاد انتهى . وهذا غريب والمعروف ما تقدم .
وفي مشكل الوسيط لابن الصلاح ، عن ابن عقيل البغدادي ، أن النافجة في جوف الظبية ، كالأنفحة في جوف الجدي ، وأنه سافر إلى بلاد المشرق ، حتى حمل هذه الدابة ، إلى بلاد المغرب لخلاف جرى فيها ، ونقل في كتاب العطر له عن علي بن مهدي الطبري ، أحد أئمة أصحابنا ، أنها تلقيها من جوفها كما تلقي الدجاجة البيضة انتهى . قلت : والمشهور أنها ليست مودعة في الظبية بل هي خارجة ملتحمة في سرتها كما تقدم والله أعلم .
روى مسلم عن أي سعيد الخدري أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال : " كانت امرأة من بني إسرائيل قصيرة ، تمشي مع امرأتين طويلتين ، فاتخذت رجلين من خشب ، وخاتماً من ذهب ، وحشته مسكاً والمسك أطيب الطيب ، فمرت بين المرأتين فلم يعرفوها ، فقالت بيدها هكذا ونفض شعبة يده " . قال النووي : دل الحديث على أن المسك أطيب الطيب وأفضله ، وأنه طاهر يجوز استعماله في البدن والثوب ويجوز بيعه ، وهذا كله مجمع عليه . ونقل أصحابنا عن الشيعة فيه ، مذهباً باطلا ، وهم محجوجون بإجماع المسلمين وبالأحاديث الصحيحة ، في استعمال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ، واستعمال الصحابة رضي الله تعالى عنهم ، قال أصحابنا وغيرهم : وهو مستثنى من القاعدة المعروفة أن ما أبين من حي فهو ميتة . قال : وأما اتخاذ المرأة القصيرة رجلين من خشب حتى مشت بين الطويلتين ، فلم تعرف فحكمه في شرعنا أنها إن قصدت به مقصوداً شرعياً لتستر نفسها لئلا تعرف فتقصد بالأذى ونحو ذلك فلا بأس به . وإن قصدت به التعاظم أو التشبه بالكاملات ، وتزويراً على الرجال وغيرهم ، فهو حرام . فائدة : روى الدارقطني والطبراني في معجمه الأوسط ، عن أنس بن مالك ، والبيهقي في شعبه عن أبي سعيد الخدري ، قال : مر رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) على قوم قد صادوا ظبية وشدوها إلى عمود فسطاط فقالت : يا رسول الله إني وضعت ولي خشفان ، فاستأذن لي أن أرضعهما ثم أعود إليهم فقال ( صلى الله عليه وسلم ) : " خلوا عنها حتى تأتي خشفيها ترضعهما وتأتي إليكم " . قالوا : ومن لنا بذلك يا رسول الله فقال ( صلى الله عليه وسلم ) : " أنا " فأطلقوها ، فذهبت فأرضعتهما ثم عادت إليهم فأوثقوها فقال ( صلى الله عليه وسلم ) : " أتبيعونيها " قالوا : هي لك يا رسول الله ، فخلوا عنها ، فأطلقها . وفي رواية عن زيد بن أرقم ، قال : لما أطلقها رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) رأيتها تسبح في البرية وهي تقول : لا إله إلا الله محمد رسول الله . وروى الطبراني عن أم سلمة قالت : كان رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) في الصحراء ، فإذا مناد ينادي : يا رسول الله ، فالتفت فلم ير أحداً ، ثم التفت فإذا ظبية موثوقة ، فقالت : ادن مني يا رسول الله فدنا منها ، فقال : ما حاجتك ؟ فقالت : إن لي خشفين في هذا الجبل ، فحلني حتى أذهب إليهما فأرضعهما ثم أرجع(2/144)
"""""" صفحة رقم 145 """"""
إليك فقال ( صلى الله عليه وسلم ) : " وتفعلين " ؟ قالت : عذبني الله عذاب العشار إن لم أفعل فأطلقها فذهبت فأرضعت خشفيها ثم رجعت . فأوثقها . وانتبه الأعرابي فقال : ألك حاجة يا رسول الله ؟ قال : " نعم تطلق هذه " ، فأطلقها . فخرجت تعدو وتقول : أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله . وفي دلائل النبوة للبيهقي ، عن أبي سعيد ، قال : مر النبي ( صلى الله عليه وسلم ) بظبية مربوطة إلى خباء ، فقالت : يا رسول الله حلني حتى أذهب فأرضع خشفي ، ثم أرجع فتربطني فقال ( صلى الله عليه وسلم ) : " صيد قوم وربيطة قوم " ، فأخذ عليها فحلفت له فحلها ، فما مكثت إلا قليلا حتى جاءت وقد نفضت ما في ضرعها ، فربطها رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ، ثم أتى إلى خباء أصحابها فاستوهبها منهم فوهبوها له ، فحلها ، ثم قال ( صلى الله عليه وسلم ) : " لو علمت البهائم من الموت ما تعلمون ما أكلتم منها سميناً أبداً " وفي ذلك يقول صالح الشافعي من قصيدة له :
وجاء امرؤ قد صاد يوماً غزالة . . . لها ولد خشف تخلف بالكذا
فنادت رسول الله والقوم حضر . . . فأطلقها والقوم قد سمعوا الندا
وسيأتي إن شاء الله تعالى ، في العشراء بيتان آخران .
الحكم : يحل كلها بجميع أنواعها ، ووقع لجماعة من الأصحاب أنهم قالوا : يجب على المحرم في قتل الظبي عنز . كذا قاله الإمام وارتضاه الرافعي وصوبه النووي . وهو وهم ، فإن الظبي ذكر والعنز أنثى ، فالصواب أن في الظبي ثنياً . وأما المسك فطاهر ، وكذا فأرته في الأصح ، لكن شرط طهارتها انفصالها حال حياة الظبية . وقيد المحاملي في كتاب اللباب المسك بالظبي ، فقال : والمسك من الظبي طاهر ، أي المسك المأخوذ من الظبي ، احترز بذلك عن المسك التبتي المأخوذ من الفأرة الأتي ذكرها في باب الفاء إن شاء الله تعالى . وهو نجس ويستدل به على منع أكلها إذ لو كانت مأكولة ، لالتحق مسكها بمسك الظبية . والطيبيون يسمون المسك التبتي المسك التركي ، وهو عندهم أجود المسك ، وأغلى ثمناً وينبغي التحرز من استعماله لنجاسته . وسيأتي إن شاء الله تعالى في باب الفاء ما قاله الجاحظ في فأرة المسك .
ونقل الشيخ أبو عمرو بن الصلاح ، عن القفال الشاشي ، أن فأرة المسك ، يعني النافجة ، تدبغ بما فيها من المسك فتطهر طهارة المدبوغات . لمذكر بعض شراح غنية ابن سريج ، أن الشعر الذي على فأرة المسك ، يعني النافجة نجس بلا خلاف . لأن المسك يدبغ ما لاقاه من الجلد المحاذي له فيطهر ، وما لم يلاقه من أطراف النافجة نجس . وهذا الذي قاله ظاهر إلا قوله إن شعرها نجس بلا خلاف ، فليس بظاهر ، لأن في طهارة الشعر تبعاً للجلد المدبوغ خلافاً عندنا . وهي رواية الربيع الجيزي ، عن الشافعي . واختاره السبكي وغيره ، وصححه الأستاذ أبو إسحاق الاسفرايني والروياني وابن أبي عصرون وغيرهم كما تقدم في باب السين المهملة ، في الكلام على السنجاب .
وذكر الأزرقي ، في تعظيم صيد الحرم عن عبد العزيز بن أبي رواد ، أن قوماً انتهوا إلى ذي طوى ونزلوا بها ، فإذا ظبي من ظباء الحرم قد دنا منهم ، فأخذ رجل منهم بقائمة من قوائمه ، فقال له أصحابه : ويلك أرسله ، فجعل يضحك ، وأبى أن يرسله فبعر الظبي وبال ، ثم أرسله ، فناموا(2/145)
"""""" صفحة رقم 146 """"""
في القائلة ، فانتبه بعضهم فإذا هو بحية منطوية على بطن الرجل الذي أخذ الظبي ، فقال له أصحابه : ويحك لا تتحرك فلم تنزل الحية عنه حتى كان من الحدث مثل ما كان من الظبي .
ثم روى عن مجاهد ، قال : دخل مكة قوم تجار من الشام في الجاهلية ، بعد قصي بن كلاب ، فنزلوا بوادي طوى ، تحت سمرات يستظلون بها ، فاختبزوا على ملة لهم ، ولم يكن معهم أدم ، فقام رجل منهم إلى قوسه ، فوضع عليها سهماً ثم رمى به ظبية من ظباء الحرم ، وهي حولهم ترعى ، فقاموا إليها فسلخوها وطبخوها ، ليأتدموا بها ، فبينما هم كذلك ، وقدرهم على النار تغلى بها ، وبعضهم يشوي إذ خرجت من تحت القدر ، عنق من النار عظيمة ، فأحرقت القوم جميعاً ولم تحرق ثيابهم ولا أمتعتهم ولا السمرات التي كانوا تحتها .
الأمثال : قالوا : آمن من ظباء الحرم ، وقالوا : ترك الظبي ظله . وهو كقولهم : اتركه ترك الغزال ظله ، يضرب للرجل النفور . وظله كناسه الذي يستظل به من شدة الحر . وهو إذا نفر منه لا يعود إليه أبداً . وسيأتي إن شاء الله تعالى ، في باب الغين أيضاً .
الخواص : قال ابن وحشية : قرنه ينحت ويبخر به البيت يطرد الهوام . ولسانه يجفف في الظل ، ويطعم للمرأة السلطة ، تزول سلاطتها . ومرارته تقطر في الأذن الوجعة ، يزول وجعها . وبقره وجلده يحرقان ويسحقان ، ويجعلان في طعام الصبي ، فيأكله فينشأ ذكياً فصيحاً حافظاً ذلقاً . ومسكه يقوي البصر ، وينشف الرطوبات ، ويقوي القلب والدماغ ، ويجلو بياض العين وينفع من الخفقان . وهو ترياق للسموم إلا أنه يورث تصفير الوجه . ومن خواص المسك أن استعماله في الطعام يورث البخر .
فصل : المسك حار يابس ، وأجوده الصفدي المجلوب من تبت ، إلا أنه يضر بالأدمغة الحارة . ودفع ضرره استعماله بالكافور . وتوافق رائحته الأمزجة الباردة والشيوخ . قال الرازي : لحم الظبي حار يابس ، وهو أصلح لحوم الصيد وأجوده الخشف . وهو نافع للقولنج والفالج والأبدان الكثيرة الفضول ، لكنه يجفف الأعضاء ويدفع ضرره الأدهان والحوامض ، وهو يولد دماً حاراً وأصلح ما أكل في الشتاء .
فائدة : نوافج التبتي نوع رقاق والجرجاري ضده في الرقة والرائحة ، والقينوي متوسط بينهما ، والصنوبري دون ذلك . ويجلب في قوارير متفرقاً في نوافجه ، وكلما بعد حيوانه عن البحر كان مسكه ألذ وأذكى .
التعبير : الظبي في المنام امرأة حسناء عربية ، فمن رأى أن يملك ظبية بصيد ، فإنه يملك جارية بمكر وخديعة ، أو يتزوج امرأة . ومن رأى أنه ذبح ظبية افتض جارية . ومن رمى ظبية لغير الصيد ، فإنه يقذف امرأة . ومن رمى ظبية وكان عزمه الصيد ، نال مالا من امرأة . ومن رأى أنه صاد ظبياً أصابته لذاذة في الدنيا ، ومن رأى أنه أخذ ظبياً نال ميراثاً وخيراً كثيراً . ومن رأى أنه سلخ ظبية فجر بامرأة . ومن رأى ظبياً وثب عليه ، فإن امرأته تعصيه في جميع أموره . وقال(2/146)
"""""" صفحة رقم 147 """"""
جاماسب : من رأى أنه يمشي في أثر ظبي ، زادت قوته ، ومهما ملك الإنسان من قرون الظباء أو شعورها أو جلودها ، فهي أموال من قبل النساء .
خاتمة : المسك في المنام حبيب أو جارية ، ومن حمل المسك من اللصوص ، فإنه يمسك لأن الرائحة الذكية تنم على صاحبها وحاملها وتفشي سره ، ويدل أيضاً على المال ، لأنه أكثر ثمناً من الذهب وغيره ، ويدل على طيب عيش وخير طيب يرد على من شمه أو ملكه ويدل على براءة المتهمين . وقيل : هو ولد وقيل هو امرأة والله تعالى أعلم . فائدة : رأيت في مختصر الإحياء ، للشيخ شرف الدين بن يونس شارح التنبيه ، في باب الإخلاص ، أن من أخلص لله تعالى في العمل ، ولم ينوبه مقابلا ، ظهرت آثار بركته عليه ، وعلى عقبه إلى يوم القيامة . كما قيل : إنه لما أهبط آدم عليه السلام إلى الأرض ، جاءته وحوش الفلاة تسلم عليه وتزوره ، فكان يدعو لكل جنس بما يليق به . فجاءته طائفة من الظباء ، فدعا لهن ومسح على ظهورهن ، فظهر فيهن نوافج المسك ، فلما رأى بواقيها ذلك ، قلن : من أين هذا لكن ؟ فقلن : زرنا صفي الله آدم فدعا لنا ومسح على ظهورنا ، فمضى البواقي إليه فدعا لهن ، ومسح على ظهورهن ، فلم يظهر بهن من ذلك شيء . فقلن : قد فعلنا كما فعلتن فلم نر شيئاً مما حصل لكن ، فقيل : أنتن كان عملكن لتنلن كما نال إخوانكن . وأولئك كان عملهن لله من غير شيء فظهر ذلك في نسلهن وعقبهن إلى يوم القيامة انتهى . وهذه من زياداته على الإحياء ، وقد تكلمنا على الإخلاص والرياء ، في كتاب الجوهر الفريد ، في الجزء الرابع فلينظر هناك .
الظربان : بفتح الظاء المشالة مثل القطران ، دويبة فوق جرو الكلب ، منتنة الريح كثيرة الفسو ، وقد عرف الظربان ذلك من نفسه فجعل ذلك سلاحاً له ، كما عرفت الحبارى ما في سلحها من السلاح ، إذا قرب الصقر منها . كذلك الظربان يقصد جحر الضب ، وفيه حسوله وبيضه ، فيأتي أضيق موضع فيه فيسله بذنبه ويحول دبره إليه ، فلا يفسو ثلاث فسوات حتى يغشى على الضب ، فيأكله ثم يقيم في جحره ، حتى يأتي على آخر حسوله . وتزعم الأعراب أنها تفسو في ثوب أحدهم ، إذا صادها فلا تذهب رائحته حتى يبلى الثوب .
فائدة : سأل أبو علي الفارسي الطبيب ، أحمد بن الحسين المتنبئ الشاعر ، وكان مكثراً من نقل اللغة ، هل لنا في الجمع على وزن فعلى ؟ فقال في الحال : حجلى وظربى . قال أبو علي : فطالعت كتب اللغة ثلاث ليال ، فلم أجد لهما ثالثاً . وقد تقدم هذا في باب الحاء المهملة . والظربان على قدر الهرة والكلب القلطي ، وهو منتن الريح ظاهراً أو باطناً ، له صماخان بغير أذنين قصير اليدين ، وفيها براثن حداد ، طويل الذنب ليس لظهره فقار ، ولا فيه مفصل بل عظم واحد من مفصل الرأس إلى مفصل الذنب . وربما ظفر الناس به ، فيضربونه بالسيوف ، فلا تعمل فيه حتى تصيب طرف أنفه ، لأن جلده مثل القد في الصلابة . ومن عادته أنه إذا رأى الثعبان دنا منه(2/147)
"""""" صفحة رقم 148 """"""
ووثب عليه ، فإذا أخذه تضاءل في الطول ، حتى يبقى شبيهاً بقطعة حبل ، فينطوي الثعبان عليه ، فإذا انطوى عليه ، نفخ ثم زفر زفرة يتقطع منها الثعبان قطعاً قطعاً ، وله قوة في تسلق الحيطان في طلب الطير . فإذا سقط نفخ بطنه ، فلا يضره السقوط ، ويتوسط الهجمة من الإبل ، فيفسو فيها فتتفرق تلك الإبل ، كتفرقها من مبرك فيه قردان ، فلا يردها الراعي إلا بجهد . ولهذا سمته العرب مفرق النعم وهو كثير ببلاد العرب والهجمة مائة من الإبل .
وحكمه : تحريم الأكل ، لاستخباثه ولا يدفع ذلك قول ابن قتيبة : العرب تصيد الظربان فيفسو في أكمامهم لأنهم لا يسمون صيداً إلا المأكول .
الأمثال : قالوا : " فسا بينهم الظربان " إذا تقاطع القوم . قال الشاعر :
ألا أبلغا قيساً وجندب أنني . . . ضربت كثيراً مضرب الظربان
الظليم : ذكر النعام ، وسيأتي إن شاء الله تعالى في باب النون وكنيته أبو البيض وأبو ثلاثين وأبو الصحاري وجمعه ظلمان كوليد وولدان قال زهير :
من الظلمان جؤجؤه هواء
وقال تعالى : " ويطوف عليهم ولدان مخلدون " ونظيرهما قضيب وقضبان وعريض وعرضان وفصيل وفصلان . ذكر سيبويه هذه الألفاظ سوى الولدان . وقال : إنه قليل . وحكى غيره القري وهو مجرى الماء والجمع قريان وسرى وسريان وصبي وصبيان وخصي وخصيان .
خاتمة : يقال : عار الظليم يعار عراراً ، بكسر العين المهملة ، وهو صوته قال ابن خلكان ، وغيره : ومنه أخذ اسم عرار وهو عرار بن عمرو بن شاس الأسدي الذي قال فيه أبوه :
أرادت عراراً بالهوان ومن يرد . . . عراراً لعمري بالهوان فقد ظلم
فإن عراراً إن يكن غير واضح . . . فإني أحب الجون ذا المنكب العمم وكان والده له امرأة من قومه ، وابنه عرار هذا كان من أمة ، وكان قد وقع بين عرار وبين امرأة أبيه عداوة ، فاجتهد أبوه عمرو على أن يصلح بينه وبين امرأته ، فلم يمكنه فطلقها ، ثم ندم وكان عرار فصيحاً عاقلا ، توجه عن المهلب بن أبي صفرة إلى الحجاج بن يوسف الثقفي رسولا في بعض المهمات ، فلما مثل بين يديه لم يعرفه وازدراه ، فلما استنطقه أبان عن فضل وأعرب إلى أن(2/148)
"""""" صفحة رقم 149 """"""
بلغ الغاية فأنشد الحجاج متمثلا :
أرادت عراراً بالهوان ومن يرد . . . عراراً لعمري بالهوان فقد ظلم
فقال عرار : أيدك الله أنا عرار ، فأعجب به .
وبذلك الاتفاق قلت : وهذه الحكاية نظير ما رواه الدينوري في المجالسة ، وقال الحريري في الدرة : إن عبيد بن شرية الجرهمي ، عاش ثلاثمائة سنة وأدرك الإسلام فأسلم ، ودخل على معاوية بن أبي سفيان بالشام ، وهو خليفة ، فقال له : حدثني بأعجب ما رأيت ، قاد : مررت ذات يوم بقوم يدفنون ميتاً لهم ، فلما انتبهت إليهم ، اغرورقت عيناي بالدموع فتمثلت بقول الشاعر :
يا قلب إنك من أسماء مغرور . . . فاذكر وهل ينفعنك اليوم تذكير
قد بحت بالحب ما تخفيه من أحد . . . حتى جرت لك إطلاقاً محاضير
فلست تدري وما تدري أعاجلها . . . أدنى لرشدك أم ما فيه تأخير
فاستقدر الله خيراً وارضين به . . . فبينما العسر إذا دارت مياسير
وبينما المرء في الأحياء مغتبط . . . إذ هو الرمس تعفوه الأعاصير
يبكي الغريب عليه ليس يعرفه . . . وذو قرابته في الحي مسرور
قال : فقال لي رجل : أتعرف من يقول هذه الأبيات ؟ قلت : لا والله إلا أني أرويها منذ زمان فقال : والذي تحلف به ، إن قائلها صاحبنا الذي دفناه آنفاً الساعة ، وأنت الغريب الذي تبكي عليه ولست تعرفه ، وهذا الذي خرج من قبره أمس الناس به رحماً ، وهو أسرهم بموته كما وصف فعجبت لما ذكره من شعره ، والذي صار إليه من قوله ، كأنه ينظر من مكانه إلى جنازته . فقلت إن البلاء موكل بالمنطق ، فذهبت مثلا . فقال له معاوية : لقد رأيت عجباً فمن الميت ؟ قال هو عثير بن لبيد العذري .
باب العين المهملة
العاتق : قال الجوهري : هو فرخ الطائر فوق الناهض ، يقال أخذت فرخ قطاة عاتقاً وذلك إذا طار واستقل . قال أبو عبيدة : نرى أنه من السبق ، كأنه يعتق ، أي يسبق انتهى . وقال ابن سيده : العاتق الناهض من فرخ القطا ، وهو أول ما ينحسر ريشه الأول ، وينبت له ريش جديد . وقيل : العاتق من الحمام ، ما لم يسن ويستحكم . والجمع عواتق ، والفرس العتيق الرائع الكريم . وامرأة عتيقة أي جميلة كريمة . وفي صحيح البخاري ، عن ابن مسعود أنه كان يقول سورة بني إسرائيل والكهف ومريم وطه والأنبياء ، " أنهن من العتاق الأول ، وهو من تلادي " أراد بالعتاق جمع عتيق . والعرب تسمي كل شيء بلغ الغاية في الجودة عتيقاً ، يريد تفضيل هذه السور لما تتضمن من ذكر القصص وأخبار الأنبياء ، وأخبار الأمم . والتلاد ما كان قديماً من المال ، يريد(2/149)
"""""" صفحة رقم 150 """"""
أنها من أوائل السور المنزلة في أول الإسلام ، لأنها مكية وأنها من أول ما قرئ وحفظ من القرآن .
العاتك : الفرس والجمع العواتك قال الشاعر :
نتبعهم خيلا لنا عواتكا . . . في الحرب جرداً تركب المهالكا
فائدة : روى عبد الباقي بن قانع في معجمه ، والحافظ أبو طاهر أحمد بن محمد بن أحمد السلفي من حديث سيانة بن عاصم ، وسيانة بسين مهملة ثم ياء مثناة من تحت وبعد الألف نون ثم هاء ، له صحبة أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال يوم حنين : " أنا ابن العواتك من سليم " . العواتك ثلاث نسوة من بني سليم ، كن من أمهات النبي ( صلى الله عليه وسلم ) إحداهن عاتكة بنت هلال بن فالج بن ذكوان السلمية ، وهي أم عبد مناف بن قصي ، والثانية عاتكة بنت مرة بن هلال بن الفالج السلمية ، وهي أم هاشم بن عبد مناف ، والثالثة عاتكة بنت الأوقص بن مرة بن هلال السلمية ، وهي أم وهب أبي آمنة أم النبي ( صلى الله عليه وسلم ) . فالأولى من العواتك عمة الثانية والثانية عمة الثالثة . وبنو سليم تفخر بهذه الولادة ، ولبني سليم مفاخر أخرى : منها أنها آلفت مع رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يوم فتح مكة ، أي شهد معه منهم ألف . وأن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) قدم لواءهم يومئذ على الألوية ، وكان أحمر . ومنها أن عمر رضي الله تعالى عنه كتب إلى أهل الكوفة والبصرة ومصر والشام ، أن ابعثوا إلي من كل بلد أفضله رجلا . فبعث أهل الكوفة عتبة بن فرقد السلمي ، وبعث أهل الشام أبا الأعور السلمي ، وبعث أهل البصرة مجاشع بن مسعود السلمي ، وبعث أهل مصر معن بن يزيد السلمي . كذا قاله جماعة . والصواب أن بني سليم ، كانوا يوم الفتح تسعمائة فقال لهم النبي ( صلى الله عليه وسلم ) : " هل لكم في رجل يعمل مائة فيوفيكم ألفاً ؟ " قالوا : نعم فوفاهم بالضحاك بن سفيان ، وكان رئيسهم ، وإنما جعله عليهم لأن جميعهم من قيس عيلان .
عتاق الطير : هي الجوارح . قاله الجوهري .
العتلة : هي الناقة التي لا تلقح ، فهي أبداً قوية قاله أبو نصر . وسيأتي إن شاء الله تعالى لفظ الناقة في باب النون .
العاضة والعاضهة : حية يموت الذي تلسعه من ساعته ، وقد تقدم لفظ الحية في باب الحاء المهملة .
العاسل : الذئب ، والجمع العسل والعواسل والأنثى عسلى ، وقد تقدم لفظ الذئب في باب الذال المعجمة .
العاطوس : دابة يتشاءم بها وسيأتي إن شاء الله تعالى ذكرها في باب الفاء في الفاعوس .
العافية : كل طالب رزق من إنسان أو بهيمة أو طائر ، مأخوذ من عفوته إذا أتيته تطلب معروفه .
فائدة : في الحديث : " من أحيا أرضاً ميتة فهي له ، وما أكلت العافية منها فهو له(2/150)
"""""" صفحة رقم 151 """"""
صدقة " . وفي رواية العوافي وير جمع عافية ، رواه النسائي والبيهقي وصححه ابن حبان من رواية جابر بن عبد الله ، وفي صحيح مسلم من رواية الزهري عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه ، أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال : " تتركون المدينة على خير ما كانت لا يغشاها إلا العوافي " . يريد عوافي السباع والطير . " ثم يخرج راعيان من مزينة يريدان المدينة ينقعان بغنمهما فيجدانها وحشاً حتى إذا بلغا ثنية الوداع خرا على وجوههما " . قال الإمام النووي : المختاران هذا الترك للمدينة ، يكون في آخر الزمان عند قيام الساعة . ويوضحه قصة الراعيين من مزينة فإنها يخران على وجوههما ، حين تدركهما الساعة ، وهما آخر من يحشر ، كما ثبت في صحيح البخاري انتهى .
وقال القاضي عياض : هذا مما جرى في العصر الأول وانقضى ، وهو من معجزاته ( صلى الله عليه وسلم ) . فقد تركت المدينة على أحسن ما كانت حين انتقلت الخلافة منها إلى الشام والعراق ، وذلك الوقت أحسن ما كانت للدين والدنيا ، أما الدين فلكثرة العلماء بها ، وأما الدنيا فلعمارتها وغرسها واتساع حال أهلها . قال : وذكر الأخباريون ، في بعض الفتن التي جرت بالمدينة ، وخاف أهلها أنه رحل عنها أكثر الناس ، وبقيت ثمارها أو أكثرها للعوافي ، وخلت مدة ثم تراجع الناس إليها ، قال : وحالها اليوم قريب من هذا وقد خرب أطرافها .
العائذ : بالذال المعجمة الناقة التي معها ولدها ، وقيل : الناقة إذا وضعت وبعدما تضع أياماً حتى يقوى ولدها . وفي الحديث " إن قريشاً خرجت لقتال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ومعها العوذ المطافيل . وهي جمع عائذ يريد أنهم خرجوا بذوات الألبان من الإبل ليزودوا بألبانها ، ولا يرجعوا حتى يناجزوا محمداً وأصحابه في زعمهم . ووقع في نهاية الغريب أن العوذ المطافيل يريد بها النساء والصبيان ، وإنما قيل للناقة عائذ وإن كان الولد هو الذي يعوذ بها لأنها عاطف عليه كما قالوا تجارة رابحة وإن كان مربوحاً فيها ، لأنها في معنى نامية وزاكية . وكذلك عيشة راضية لأنها في معنى صالحة .
العبقص والعبقوص : دويبة قاله ابن سيده .
العبور : الجذعة من الغنم أو أصغر ، وعين اللحياني ذلك للصغير ، فقال : هي بعد الفطم والجمع عبائر قاله ابن سيده أيضاً .
العترفان : بضم العين الديك وقد تقدم لفظ الديك في باب الدال المهملة . قال عدي بن زيد :
ثلاثة أحوال وشهراً محرماً . . . أقضى كعين العترفان المحارب العتود : بفتح العين : الصغير من أولاد المعز إذا قوي ورعى وأتى عليه حول ، والجمع أعتدة وعدان أصله عتدان ، فأدغم . روى مسلم عن عقبة بن عامر أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) " أعطاه غنماً(2/151)
"""""" صفحة رقم 152 """"""
يقسمها بين أصحابه فبقي عتود ، فقال : ضح به أنت " ، قال البيهقي ، وسائر أصحابنا : كانت هذه رخصة لعقبة بن عامر خاصة كأبي بردة هانئ بن نيار البلوي . وروى البيهقي أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ، قال لعقبة بن عامر : " ضح بها أنت ولا رخصة لأحد فيها بعدك ( . وفي سنن أبي داود ، أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) " رخص في مثل ذلك لزيد بن خالد " ، فالذين خصوا بذلك ثلاثة : أبو بردة وعقبة بن عامر وزيد بن خالد .
العثة : ضم العين وتشديد الثاء المثلثة دوببة تلحس الثياب والصوف . والجمع عث وعثث ، وأكثر ما تكون في الصوف . وقال في المحكم : هي دويبة تعلق بالإهاب تأكله . هذا قول ابن الأعرابي . وقال ابن دريد : العث بغير هاء دويبة تقع في الصوف ، فدل هذا على أن الجمع عث . وقال ابن قتيبة : إنها دويبة تأكل الأديم ، وغاير بينها وبين الأرضة ، وقال الجوهري : العثة السوسة التي تلحس الصوف .
وحكمها : تحريم الأكل .
الأمثال : قالوا : " عثيثة تقرم جلداً أملس " يضرب للرجل يجتهد أن يؤثر في الشيء فلا يقدر عليه . قاله الأحنف بن قيس لحارثة بن زيد ، لما طلب من علي رضي الله تعالى عنه أن يدخله في الحكومة . وفي الفائق أن الأحنف قاله لرجل هجاه كما قيل :
فإن تشتمونا على لومكم . . . فقد تقرم العث ملس الأدم
العثمثمة : الشديدة من النوق والذكر عثمثم والعثمثم الأسد . قاله الجوهري ، قال : ويقال ذلك من ثقل وطئه قال الراجز :
خبعثن مشيته عثمثم
العثمان : بضم العين وإسكان الثاء المثلثة وبالميم والنون بينهما ألف ، فرخ الحبارى وفرخ الثعبان والحية أو فرخها .
العثوثج : بثاءين مثلثتين مفتوحتين بينهما واو وأوله عين وآخره جيم ، البعير الضخم .
العجروف : بضم العين ، دويبة ذات قوائم طوال ، وقيل : هي النملة الطويلة الأرجل .
العجل : ولد البقرة ، والجمع العجاجيل ، والأنثى عجلة وبقرة معجل ، أي ذات عجل .
فائدة : قيل : سمي عجلا لاستعجال بني إسرائيل عبادته ، وكانت مدة عبادتهم له أربعين يوماً ، فعوقبوا في التيه أربعين سنة ، فجعل الله كل سنة في مقابلة يوم . وروى أبو منصور الديلمي ، في مسند الفردوس ، من حديث حذيفة بن اليمان أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال : " لكل أمة عجل(2/152)
"""""" صفحة رقم 153 """"""
وعجل هذه الأمة الدينار والدرهم " . قال حجة الإسلام الغزالي : وكان أصل عجل قوم موسى ، من حلية الذهب والفضة . وقال الجوهري : قال بعضهم في قوله تعالى : " عجلا جسداً " أي من ذهب أحمر انتهى .
والسبب في عبادة بني إسرائيل العجل ، أن موسى عليه الصلاة والسلام وقت الله تعالى له ثلاثين ليلة ، ثم أتمها بعشر ، فلما عبر بهم البحر في يوم عاشوراء ، بعد مهلك فرعون ، وقومه ، مروا على قوم لهم أوثان يعبدونها من دون الله تعالى . على تماثيل البقر ، قال ابن جريج : وكان ذلك أول شأن العجل ، فقال بنو إسرائيل لما رأوا ذلك : يا موسى اجعل لنا إلهاً أي تمثالا نعبده كما لهم آلهة . ولم يكن ذلك شكاً من بني إسرائيل في وحدانية الله تعالى . وإنما معناه اجعل لنا شيئاً نعظمه ونتقرب بتعظيمه إلى الله ، وظنوا أن ذلك لا يضر الديانة ، وكان ذلك لشدة جهلهم . كما قال تعالى : " إنكم قوم تجهلون " وكان موسى عليه الصلاة والسلام وعد بني إسرائيل ، وهم بمصر أن الله إذا أهلك عدوهم أتاهم بكتاب فيه بيان ما يأتون وما يذرون . فلما فعل الله ذلك لهم ، سأل موسى ربه الكتاب ، فأمره بصوم ثلاثين يوماً ، فلما تمت الثلاثون أنكر خلوف فمه ، فاستاك بعود خروب ، وقيل : أكل من لحاء شجرة ، فقالت له الملائكة : كنا نشم من فيك رائحة المسك فأفسدتها بالسواك ، فأتمها بعشر ، فلما مضت ثلاثون ، كانت فتنتهم في العشر التي زادها . وكان السامري من قوم يعبدون البقر ، وكان قد أظهر الإسلام ، وفي قلبه من حب عبادة البقر شيء ، فابتلى الله به بني إسرائيل ، فقال لهم السامري ، واسمه موسى بن ظفر : ائتوني بحلي بني إسرائيل ، فجمعوا له ، فاتخذ لهم منه عجلا جسداً ، له خوار ، وألقي في فمه قبضة من تراب أثر فرس جبريل ، فتحول عجلا جسداً لحماً ودماً له خوار وهو صوت البقر . كذا قاله ابن عباس والحسن وقتادة ، وأكثر أهل التفسير ، وهو الأصح كما في البغوي وغيره . وقيل : كان جسداً مجسداً من ذهب لا روح فيه ، وكان يسمع منه صوت . وقيل : إنه ما خار إلا مرة واحدة ، فعكف عليه القوم للعبادة ، من دون الله تعالى ، يرقصون حوله ويتواجدون . وقيل إنه كان يخور كثيراً ، كلما خار سجدوا له ، وإذا سكت رفعوا رؤوسهم ، وقال وهب : كان يسمع منه الخوار ولا يتحرك . وقال السدي : كان يخور ويمشي ، والجسد بدن الإنسان ، ولا يقال لغيره من الأجسام المغتذية جسد وقد يقال للجن أجساد ، فكان عجل بني إسرائيل جسداً يصيح ، كما تقدم . ولا يأكل ولا يشرب ، قال الله تعالى : " وأشربوا في قلوبهم العجل " أي حب العجل . وقال تعالى عن إبراهيم عليه السلام : " فجاء بعجل سمين " قال قتادة : كان عامة مال إبراهيم عليه السلام البقر . واختار سميناً زيادة في إكرامهم . وقال القرطبي : العجل في بعض اللغات الشاة ، ذكره القشيري .
وكان عليه الصلاة والسلام مضيافاً ، وحسبك أنه وقف للضيافة أوقافاً تمضيها الأمم على اختلاف أديانها وأجناسها . قال عون بن شداد : مسح جبريل عليه السلام العجل بجناحه ، فقام مسرعاً حتى لحق بأمه .(2/153)
"""""" صفحة رقم 154 """"""
ومما يحكى من محاسن القاضي محمد بن عبد الرحمن المعروف بابن قريعة ، ووفاته سنة ثلاثين وثلاثمائة أن العباس بن المعلى الكاتب ، كتب إليه : ما يقول القاضي وفقه الله تعالى في يهودي زنى بنصرانية ، فولدت ولداً ، جسمه للبشر ووجهه للبقر ، وقد قبض عليهما فما يرى القاضي فيهما ؟ فكتب الجواب بديهاً : هذا من أعدل الشهود على الملاعين اليهود فإنهم أشربوا حب العجل في صدورهم حتى خرج من أيورهم وأرى أن يناط برأس اليهودي رأس العجل ويصلب على عنق النصرانية الرأس مع الرجل ويسحبا على الأرض ، وينادى عليهما ظلمات بعضها فوق بعض والسلام .
فائدة أخرى : نمل القرطبي عن أبي بكر الطرطوشي رحمهما الله تعالى ، أنه سئل عن قوم يجتمعون في مكان يقرؤون شيئاً من القرآن ثم ينشد لهم منشد شيئاً من الشعر ، فيرقصون ويطربون ويضربون بالدف والشبابة هل الحضور معهم حلال أم لا ؟ فأجاب مذهب السادة الصوفية أن هذا بطالة وجهالة وضلالة إلى آخر كلامه .
قلت : وقد رأيت أنه أجاب بلفظ غير هذا ، وهو أنه قال : مذهب الصوفية بطالة وجهالة وضلالة ، وما الإسلام إلا كتاب الله وسنة رسوله ( صلى الله عليه وسلم ) ، وأما الرقص والتواجد فأول من أحدثه أصحاب السامري ، لما اتخذ لهم عجلا جسداً ، له خوار قاموا يرقصون حوله ويتواجدون ، فهو دين الكفار وعباد العجل . وإنما كان مجلس النبي ( صلى الله عليه وسلم ) مع أصحابه ، " كأنما على رؤوسهم الطير " من الوقار ، فينبغي للسلطان ونوابه أن يمنعوهم من الحضور في المساجد وغيرها ، ولا يحل لأحد يؤمن بالله واليوم الآخر أن يحضر معهم ، ولا يعينهم على باطلهم ، هذا مذهب مالك والشافعي وأبي حنيفة وأحمد وغيرهم من أئمة المسلمين .
فائدة أخرى : روي أنه كان في بني إسرائيل رجل غني وله ابن عم فقير لا وارث له ، سواه ، فلما طال عليه موته قتله ليرثه وحوله إلى قرية أخرى ، فألقاه بفنائها ثم أصبح يطلب بثأره ، وجاء بناس إلى موسى عليه الصلاة والسلام فادعى عليهم القتل ، فسألهم موسى فجحدوا فاشتبه أمر القتيل على موسى ، قال الكلبي : وذلك قبل نزول القسامة في التوراة فسألوا موسى أن يدعو الله ليبين لهم ذلك ، فدعا الله ، فأوحى إليه أن يعلمهم أن الله يأمرهم أن يذبحوا بقرة . وروي أنه كان في بني إسرائيل رجل صالح ، وله طفل له عجله ، فأتى بها إلى غيضة ، وقال : اللهم إني أستودعك هذه العجلة لابني حتى يكبر ، ومات الرجل . فصارت العجلة في الغيضة عواناً ، وكانت تهرب من كل من رآها فلما كبر الابن ، وكان باراً بأمه ، كان يقسم الليل ثلاثة أثلاث : يصلي ثلثاً ، وينام ثلثاً ، ويجلس عند رأس أمه ثلثاً ، وكان إذا أصبح ، انطلق فاحتطب على ظهره ، وأتى به السوق فيبيعه بما شاء الله ، ثم يتصدق بثلثه ويأكل بثلثه ويعطي أمه ثلثه . فقالت أمه له يوماً : إن أباك ورثك عجلة استودعها الله في غيضة كذا وكذا ، فانطلق وادع إله إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب أن يردها عليك . وعلامتها أنك إذا نظرت إليها يخيل لك أن شعاع الشمس يخرج من جلدها ، وكانت تسمى المذهبة لحسنها وصفرتها .(2/154)
"""""" صفحة رقم 155 """"""
فأتى الفتى الغيضة فرآها ترعى فصاح بها ، وقال : أعزم علمك بإله إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب أن تأتي ، فأقبلت تسعى حتى قامت بين يديه ، فقبض على عنقها وأقبل يقودها ، فتكلمت العجلة بإذن الله تعالى وقالت : أيها الفتى البار بوالدته اركبني فإن ذلك أهون عليك فقال الفتى : إن أمي لم تأمرني بذلك ، ولكن قالت خذ بعنقها . فقالت : وإله بني إسرائيل لو ركبتني لما قدرت علي أبداً ، فانطلق فإنك لو أمرت الجبل أن ينقلع من أصله ، وينطلق معك لفعل ، لبرك بأمك . فسار الفتى بها إلى أمه فقالت له : إنك فقير لا مال لك ، ويشق عليك الاحتطاب بالنهار والقيام بالليل ، فانطلق فبع هذه البقرة ، قال : بكم أبيعها ؟ قالت : بثلاثة دنانير ، ولا تبع بغير مشورتي ، وكان ثمن البقرة إذا ذاك ثلاثة دنانير ، فانطلق بها إلى السوق ، فبعث الله إليه ملكاً ليري خلقه قدرته ، وليختبر الفتى كيف بره بوالدته ، وكان الله عليماً خبيراً ، فقال له الملك : بكم تبيع هذه البقرة ؟ قال : بثلاثة دنانير ، وأشترط عليك رضا والدتي ، فقال له الملك : فإني أعطيك ستة دنانير ولا تستأمر والدتك فقال الفتى : لو أعطيتني وزنها ذهباً لم آخذه إلا برضا والدتي ثم إن الفتى رجع إلى أمه وأخبرها بالثمن ، فقالت له : ارجع وبعها بستة دنانير ، على رضا مني ، فانطلق بها إلى السوق فأتاه الملك فقال له : استأمرت أمك ؟ فقال له الفتى : إنها أمرتني أن لا أنقصها عن ستة دنانير على أن أستأمرها ، فقال له الملك : فإني أعطيك اثني عشر ديناراً ، على أن لا تستأمرها فأبى الفتى ورجع إلى أمه ، فأخبرها بذلك ، فقالت له : إن الذي يأتيك ملك في صورة آدمي ليجربك ، فإذا أتاك فقل له : أتأمرنا أن نبيع هذه البقرة أم لا ؟ ففعل فقال له الملك : اذهب إلى أمك وقل لها : أمسكي هذه البقرة فإن موسى يشتريها منك لقتيل من بني إسرائيل ، فلا تبيعيها إلا بملء مسكها ذهباً ، أي جلدها دنانير ، فأمسكوها . وقدر الله عز وجل ، على بني إسرائيل ، ذبح تلك البقرة بعينها مكافأة له على بره بأمه ، فضلا منه ورحمة فمازالوا يستوصفون ، حتى وصف لهم تلك البقرة بعينها .
واختلف العلماء في لونها فقال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما : شديدة الصفرة ، وقال قتادة : لونها صاف ، وقال الحسن البصري : الصفراء السوداء . والأول أصح لأنه لا يقال أسود فاقع ، وإنما يقال أصفر فاقع ، وأسود حالك ، وأحمر قان ، وأخضر ناضر ، وأبيض يقق ، للمبالغة . فلما ذبحوها ، أمرهم الله أن يضربوا القتيل ببعضها ، واختلف في ذلك البعض فقال ابن عباس وجمهور المفسرين : ضربوه بالعظم الذي يلي الغضروف وهو المقبل . وقال مجاهد وسعيد بن جبير بعجب الذنب لأنه أول ما يخلق وآخر ما يبلى ويركب عليه الخلق . وقال الضحاك : بلسانها لأنه آلة الكلام ، وقال عكرمة والكلبي : بفخذها الأيمن . وقيل : بعضو منها لا بعينه ففعلوا ذلك ، فقام القتيل حياً بإذن الله تعالى ، وأوداجه تشخب دماً وقال : قتلني فلان ، ثم سقط ومات مكانه ، فحرم قاتله الميراث ، وفي الخبر ما ورث قاتل بعد صاحب البقرة واسم القتيل عاميل . قاله البغوي وغيره .
قال الزمخشري وغيره : روي أنه كان في بني إسرائيل شيخ صالح له عجلة ، فأتى بها الغيضة وقال : اللهم إني أستودعكها لابني حتى يكبر ، فكبر الولد وكان باراً بأمه ، فشبت وكانت من أحسن البقر وأسمنه ، فساوموها اليتيم وأمه حتى اشتروها بملء جلدها ذهباً . وكانت البقرة إذ ذاك(2/155)
"""""" صفحة رقم 156 """"""
بثلاثة دنانير . وذكر الزمخشري وغيره أن بني إسرائيل ، كانوا طلبوا البقرة الموصوفة أربعين سنة . وفي الحديث عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أنه قال : " لو اعترضوا أي بقرة كانت فذبحوها لكفتهم ولكنهم شددوا على أنفسهم فشدد الله عليهم والاستقصاء شؤم .
وعن بعض الخلفاء ، أنه كتب إلى عامله ، أن يذهب إلى قوم ، فيقطع أشجارهم ، ويهدم دورهم ، فكتب إليه : بأيهما أبدأ ؟ فقال : إن قلت لك بقطع الشجر ، سألتني بأي نوع منها أبدأ .
وعن عمر بن عبد العزيز رحمه الله تعالى أنه كتب إلى عامله قال : إذا أمرتك أن تعطي فلاناً شاة ، سألتني أضأن أم معز ؟ فإن بينت لك ، قلت : أذكر أم أنثى ؟ فإن أخبرتك قلت : أسوداء أم بيضاء ؟ فإذا أمرتك بشيء فلا تراجعني فيه .
تتمة : فيما يتعلق بهذه الفائدة من الأحكام ، إذا وجد قتيل في مكان ، ولم يعرف قاتله ، فإن كان ثم لوث على إنسان ، واللوث ما يغلب على القلب صدق المدعي ، بأن اجتمع جماعة في بيت أو صحراء ، ثم تفرقوا عن قتيل ، يغلب على الظن أن القاتل منهم ، أو وجد قتيل في محلة أو قرية كلهم أعداء القتيل ، لا يخالطهم غيرهم ، فيغلب على القلب أنهم قتلوه وادعى الولي فيحلف المدعي خمسين يميناً ، على من يدعي عليه ، فإن كان الأولياء جماعة ، توزع الأيمان عليهم ، ثم بعد الأيمان تؤخذ الدية من عاقلة المدعى عليه ، إن ادعى عليه قتل خطأ . وإن ادعى عليه قتل عمد ، فمن ماله ، ولا قود على قول الأكثرين .
وقال عمر بن عبد العزيز : يجب القود ، وبه قال مالك وأحمد . وإن لم يكن ثم لوث ، فالقول قول المدعى عليه مع يمينه ، وهل يحلف يميناً واحدة أم خمسين يميناً ؟ قولان أحدهما يميناً واحدة كما في سائر الدعاوى ، والثاني خسين يميناً تغليظاً لآمر الدم . وعند أبي حنيفة لا حكم للوث ، ولا يبتدأ بيمين المدعي ، بل إذا وجد قتيل في محلة أو قرية ، يختار الإمام خمسين رجلا من صلحاء أهلها ويحلفهم أنهم ما قتلوه ولا يعرفون له قاتلا ، ثم يأخذ الدية من سكانها . والدليل على البداءة بيمين المدعي ، عند وجود اللوث ، ما روى الشافعي عن سهل بن أبي خيثمة ، أن عبد الله بن سهل ومحيصة بن مسعود خرجا لخيبر فتفرقا لحاجتهما ، فقتل عبد الله بن سهل ، فانطلق محيصة بن مسعود وعبد الرحمن أخو القتيل ، وحويصة بن مسعود إلى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فذكروا له قتل عبد الله بن سهل ، فقال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) : " تحلفون خمسين يميناً وتستحقون دم صاحبكم " فقالوا : يا رسول الله وكيف نقبل أيمان قوم كفار ؟ فزعم أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) عقله من عنده .
قال البغوي ، في معالم التنزيل : وجه الدليل من الحديث أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) بدأ بأيمان المدعين لقوة جانبهم باللوث ، وهو أن عبد الله بن سهل وجد قتيلا في خيبر ، وكانت العداوة ظاهرة بين الأنصار وبين أهل خيبر ، وكان يغلب على الظن أنهم قتلوه . واليمين أبداً تكون حجة لمن يقوي جانبه ،(2/156)
"""""" صفحة رقم 157 """"""
وعند عدم اللوث يقوى جانب المدعى عليه حيث إن الأصل براءة ذمته فكان القول قوله مع يمينه انتهى .
الخواص : قال القزويني : خصية العجل تجفف وتشرب بعد حرقها تهيج الباه وتعين على كثرة الجماع حتى يرى عجباً ، وقضيب العجل إذا جفف وأجيد سحقه واستف منه إنسان وزن درهم ، فإنه يمكن الشيخ العاجز من افتضاض البكر . فإن سحق وألقي على البيض النيمرشت ، وتحسى منه فإنه يزيد في الباه زيادة لم ير مثلها . وقال غيره : خصية العجل تجفف وتشرب مسحوقة تهيج الباه وتنعظ وتعين على كثرة الجماع ، وقضيبه إذا أحرق وسحق وشرب نفع من وجع الأسنان . وإذا شرب مع السكنجبين منع الطحال .
التعبير : العجل في المنام ولد ذكر . وإذا كان مشوياً فهو أمن من الخوف ، لقصة إبراهيم ( صلى الله عليه وسلم ) قال تعالى : " فما لبث أن جاء بعجل حنيذ " إلى قوله " لا تخف " .
خاتمة : بنو عجل قبيلة كبيرة من العرب شهيرة ، ينسبون إلى عجل بن لجيم ، بضم اللام وفتح الجيم ، وكان عجل المذكور يعد من الحمقى من أجل أنه كان له فرس جواد ، فقيل له : إن لكل فرس جواد اسماً ، فما اسم فرسك ؟ فقال : لم اسمه بعد ، فقيل له : سمه ففقأ إحدى عينيه ، ثم قال : سميته الأعور ، وفيه قال بعض شعراء العرب :
رمتني بنو عجل بداء أبيهم . . . وهل أحد في الناس أحمق من عجل
أليس أبوهم عار عين جواده . . . فسارت به الأمثال في الناس بالجهل يقال عار عينه بالمهملة إذا فقأها .
العجمجمة : الشديدة من النوق . قال الجوهري : مثل العثمثمة ، وأنشد :
بات يباري ورشات كالقطا . . . عجمجمات خشفا تحت السرى
أم عجلان : طائر معروف قاله الجوهري .
العجوز : الأرنب والأسد والبقر والثور والذئب والذئبة والرخم والرمكة والضبع وعانة الوحش والعقرب والفرس والكلب .
عدس : البغل . سموه بزجره قال الشاعر :
إذا حملت بزتي على عدس . . . على الذي بين الحمار والفرس
فما أبالي من عدا ومن جلس
وعدس زجر البغل . مال يزيد بن مفرغ :(2/157)
"""""" صفحة رقم 158 """"""
عدس ما لعباد عليك إمارة . . . نجوت وهذا تحملين طليق
العذفوط : بالضم دويبة بيضاء ناعمة يشبه بها أصابع الجواري .
العربج : كلب الصيد كذا قاله في المداخل .
عرار : مثل قطام ، اسم بقرة ، وفي المثل باءت عرار بكحل . وهما بقرتان انتطحتا فماتتا جميعاً . العريض : الجدي . كذا قاله في المداخل . وقد تقدم لفظ الجدي في باب الجيم .
العسجدية : ركاب الملوك ، قال الجوهري : وهي إبل كانت تزين للنعمان .
العربد : مثال سلفد ، ملحق بجرد حل ، حية تنفخ ولا تؤذي . وقد تقدم ذكرها في الحيات ، والعربدة سوء الخلق . وقولهم رجل معربد مأخوذ من هذا ، قاله ابن قتيبة وغيره .
العربض والعرباض : البقر القوي الكلكل قاله ابن سيده .
العرس : لبوة الأسد والجمع أعراس ، قال مالك بن خويلد الخناعي :
ليث هزبر مدل عند خيسته . . . بالرقمتين له أجر وأعراس
العريقصة : بالصاد المهملة دويبة عريضة كالجعل .
العريقطة والعريقطان : بالطاء المهملة دويبة عريضة .
العزة : بالفتح بنت الطيبة ، وبها سميت المرأة عزة . قاله الجوهري .
العسا : بفتح العين المهملة ، الأنثى من الجراد ، وقد تقدم لفظ الجراد في باب الجيم .
العساعس : بفتح العين القنافذ الكبيرة سميت بذلك لكثرة ترددها في الليل .
العساس : الذئب وقد تقدم في باب الدال المعجمة .
العساهيل : الإبل المهزولة الواحدة عسهول .
العسبار : بكسر العين وبالسين الساكنة ، والأنثى عسبارة ولد الضبع من الذئب وجمعه عسابر .
وحكمه : تحريم الأكل ، لأنه متولد بين مأكول وغير مأكول .
العسبور : ولد الكلب من الذئبة . والعسبار ولد الذئب ، أو ولد الضبع من الذئب كما تقدم . قال الجوهري في ع ول قال الكميت :(2/158)
"""""" صفحة رقم 159 """"""
كما خامرت في حضنها أم عامر . . . لذي الحبل حتى عال أوس عيالها
أشار بذلك إلى أن الضبع إذا صيدت ، ولها ولد من الذئب لم يزل الذئب يطعم ولدها إلى أن يكبر ، وقد تقدم ذلك في لفظ أوس .
العسلق : كل سبع جريء ، والعسلق الظليم ، وقيل الثعلب ، حكاه ابن سيده .
العسنج : كعملس الظليم أيضاً ، وقد تقدم لفظ الظليم في باب الظاء المشالة المعجمة .
العشراء : الناقة التي أتى عليها من يوم أرسل عليها الفحل عشرة أشهر ، وزاد عنها اسم المخاض ، ثم لا يزال ذلك اسمها حتى تضع ، وبعدما تضع أيضاً ، يقال : ناقتان عشراوان ، ونوق عشار ، وليس في الكلام فعلاء يجمع على فعال غير عشراء جمع على عشار ، ونفساء جمع على نفاس .
فائدة : قال الشيخ أبو عبد الله بن النعمان ، في كتاب المستغيثين بخير الأنام : حديث حنين الجذع الذي كان يخطب إليه النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ، حنين العشار . متواتر ، رواه من أصحاب النبي ( صلى الله عليه وسلم ) العدد الكثير ، والجم الغفير . منهم جابر بن عبد الله ، وابن عمرو من طريقهما أخرجه البخاري ، وأنس بن مالك ، وعبد الله بن عباس ، وسهل بن سعد الساعدي ، وأبو سعيد الخدري ، وبريدة ، وأم سلمة والمطلب بن أبي وداعة . قال جابر في حديثه : فصاحت الخشبة صياح الصبي ، فضمها إليه . وفي حديثه أيضاً : " سمعنا لذلك الجذع صوتاً كصوت العشار " . وفي رواية ابن عمر ، رضي الله تعالى عنهما ، " فلما اتخذ المنبر تحول إليه ، فحن الجذع ، فأتاه فمسح بيده عليه " . وفي بعض الروايات : " والذي نفسي بيده ، لو لم ألتزمه لم يزل هكذا إلى يوم القيامة " ، تحزناً على رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) . وكان الحسن إذا حدث بهذا الحديث ، بكى وقال : يا عباد الله الخشبة تحن إلى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) شوقاً إليه لمكانه ، وأنتم أحق أن تشتاقوا إلى لقائه . ونظم صالح الشافعي في ذلك فقال :
وحن إليه الجذع شوقاً ورقة . . . ورجع صوتاً كالعشار مرددا فبادره ضماً فقر لوقته . . . لكل امرئ من دهره ما تعودا
وحنين الجذع إليه ، وتسليم الحجر عليه ، لم يثبت لواحد من الأنبياء إلا له ( صلى الله عليه وسلم ) .
العصاري : بضم العين وفتح الصاد المهملة والراء في آخره بعدها ياء مثناة من تحت نوع من الجراد أسود شبيه بالخنافس .
وحكمه : حل الأكل . حكى أبو عاصم العبادي ، عن أبي طاهر الزيادي ، أنه قال : كنا(2/159)
"""""" صفحة رقم 160 """"""
نراه حراماً ونفتي بتحريمه ، حتى ورد علينا الأستاذ أبو الحسن الماسرجسي ، فقال : إنه حلال فبعثنا منه جراباً للبادية ، وسألنا عنه العرب ؟ فقالوا : هذا هو الجراد المبارك فرجعوا إلى قول العرب فيه .
العصفور : بضم العين وحكى ابن رشيق في كتاب الغرائب : والشذوذ عصفور بالفتح ، والأنثى عصفورة قال الشاعر :
كعصفورة في كف طفل يسومها . . . حياض الردى والطفل يلهو ويلعب
وكنيته أبو الصعو وأبو محرز وأبو مزاحم وأبو يعقوب . قال حمزة : سمي عصفوراً لأنه عصى وفر . وهو أنواع : منها ما يطرب بصوته ويعجب بصوته وحسنه وسيأتي إن شاء الله تعالى . والعصفور الصرار ، وهو الذي يجيب إذا دعى ، من الصيورة . وعصفور الجنة وهو الخطاف ، وقد تقدم ذكرهما في بابيهما . وأما العصفور الدوري البيوتي ، فإن في طباعه اختلافاً ، وذلك أن فيه من طبائع السباع ، وهو أكل اللحم ، ولا يزق فراخه ومن البهائم أنه ليس بذي مخلب ولا منسر ، وإذا سقط على عود قدم أصابعه الثلاث وأخر الدابرة ، وسائر أنواع الطير تقدم إصبعين وتؤخر إصبعين ، ويأكل الحب والبقول . ويتميز الذكر منها بلحية سوداء كما للرجل والتيس والديك . وليس في الأرض طائر من سبع ولا بهيمة أحنى من العصفور على ولده ، ولا أشد له عشقاً ، وذلك مشاهد عند أخذ فراخها . ووكره في العمران تحت السقوف خوفاً من الجوارح ، وإذا خلت مدينة من أهلها ذهبت العصافير منها ، فإذا عادوا إليها عادت العصافير . والعصفور لا يعرف المشي ، إنما يثب وثباً . وهو كثير السفاد ، فربما سفد في الساعة الواحدة مائة مرة ، ولذلك قصر عمره فإنه لا يعيش في الغالب أكثر من سنة . ولفرخه تدرب على الطيران ، حتى إنه يدعى فيجيب . قال الجاحظ : بلغني أنه رجع من فرسخ .
ومن أنواعه عصفور الشوك ، وأكثر مأواه السياج . وزعم أرسطو أن بينه وبين الحمار عداوة ، لأن الحمار إذا كان به دبر ، حكه في الشوك الذي يأوي إليه هذا العصفور فيقتله . وربما نهق الحمار ، فتسقط فراخه أو بيضه من جوف وكره ، فلذلك هذا العصفور ، إذا رأى الحمار رفرف فوق رأسه ، وعلى عينيه وآذاه بطيرانه وصياحه .
ومن أنواعه : القبرة وستأتي إن شاء الله تعالى ، في باب القاف . ومن أنواعه حسون ، وقد تقدم في باب الحاء ، والبلبل والصعو والحمرة والعندليب والمكاكي والصافر والتنوط والوصع والبراقش والقبعة ، وكلها في أماكنها مذكورة .
وفي الأذكياء لابن الجوزي ، أن رجلا رمى عصفوراً فأخطأه ، فقال له رجل : أحسنت فغضب وقال : أتهزأ بي ؟ قال : لا ، ولكن أحسنت إلى العصفور إذا لم تصبه . ورأيت في بعض التعاليق ، أن المتوكل رمى عصفوراً فلم يصبه وطار ، فقال له ابن حمدان : أحسنت ، فقال له(2/160)
"""""" صفحة رقم 161 """"""
المتوكل : كيف أحسنت ؟ قال : أحسنت إلى العصفور ، ويروى عن الجنيد ، أنه قال : أخبرني محمد بن وهب عن بعض أصحابه أنه حج مع أيوب الجمال قال : فلما دخلنا البادية ، وسرنا منازل ، إذ بعصفور يحوم حولنا ، فرفع أيوب رأسه إليه وقال له : قد جئت إلى هنا فأخذ كسرة خبز ففتها في كفه فانحط العصفور وقعد على كفه ، فأكل منها ثم صب له ماء فشربه ، ثم قال له : اذهب الآن فطار العصفور ، فلما كان من الغد ، رجع العصفور ، ففعل أيوب مثل فعله في اليوم الأول ، فلم يزل كل يوم يفعل به مثل ذلك ، إلى آخر السفر . ثم قال أيوب : أتدري ما قصة هذا العصفور ؟ قال : لا . قال : إنه كان يجيئني في منزلي كل يوم ، فكنت أفعل به في ما رأيت ، فلما خرجنا تبعنا يطلب منا ما كنت أفعل به لا المنزل . روى البيهقي وابن عساكر ، بسندهما إلى أبي مالك ، قال : مر سليمان بن داود عليهما الصلاة والسلام بعصفور يدور حول عصفورة ، فقال لأصحابه : أتدرون ما يقول ؟ قالوا : وما يقول يا نبي الله . قال : يخطبها لنفسه ، ويقول : تزوجيني أسكنك أي قصور دمشق شئت . قال سليمان : وإنه عرف أن قصور دمشق مبنية بالصخر ، لا يقدر أن يسكنها ، لكن كل خاطب كذاب . وسيأتي إن شاء الله تعالى له نظير ، في باب الفاء ، في الفاختة ، وكان سليمان عليه السلام يعرف ما يتخاطب به الطيور بلغاتها ، ويعبر للناس عن مقاصدها وإرادتها كما تقدم في باب الطاء المهملة ، في الطيطوي . قال الله تعالى حكاية عنه : " يا أيها الناس علمنا منطق الطير " وكذلك كان يعرف لغات ما عداها من الحيوانات وسائر صنوف المخلوقات .
فائدة : روى مسلم عن عائشة رضي الله تعالى عنها ، أنها قالت ، حين توفي صبي من الأنصار ، بين أبوين مسلمين : طوبى له عصفور من عصافير الجنة . فقال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) : " أو غير ذلك أن الله تعالى خلق للجنة أهلا خلقهم لها وهم في أصلاب آبائهم ، وخلق للنار أهلا خلقهم لها وهم في أصلاب آبائهم " ومن الناس من قدح في هذا الحديث بأنه من رواية طلحة بن يحيى وهو متكلم فيه . والصواب صحته وهو في صحيح مسلم ولكنه ( صلى الله عليه وسلم ) نهانا عن المسارعة إلى القطع ، أو أنه قال ذلك قبل أن يعلم أن أطفال المسلمين في الجنة كذا . قال بعضهم : وليس بصحيح لأن سورة الطور مكية ودلت على تبعيتهم ، أو أن قطع عائشة بذلك قطع بإيمان أبويه ، ويحتمل أن يكونا منافقين ، فيكون الصبي ابن كافرين . وروى ابن قانع ، في ترجمة الشريد بن سويد الثقفي ، أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال : " من قتل عصفورا عبثاً عج إلى الله يوم القيامة ، فقال : يا رب عبدك قتلني عبثاً ولم يقتلني لمنفعة " . وروى في حديث آخر أن رجلا من أهل الصفة استشهد ، فقالت له أمه : هنيئاً لك عصفور من عصافير الجنة ، هاجرت إلى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ، وقتلت في سبيل الله . فقال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) : " وما يدريك لعله كان يتكلم فيما لا ينفعه ويمنع ما لا يضره " .
وروى البيهقي في الشعب ، عن مالك بن دينار ، قال : مثل قراء هذا الزمان ، مثل رجل نصب فخاً ، فجاء عصفور فوفع في فخه فقال : ما لي أراك مغيباً في التراب ؟ قال : للتواضع ،(2/161)
"""""" صفحة رقم 162 """"""
قال : فمم حنيت ؟ قال : من طول العبادة . قال : فما هذه الحبة في فيك ؟ قال : أعددتها للصائمين . فلما أمسى تناول الحبة فوقع الفخ في عنقه فخنقه . فقال العصفور : إن كان العباد يخنقون خنقك فلا خير في العباد اليوم . وفيه أيضاً عن الحسن ، أن لقمان قال لابنه : يا بني حملت الجندل والحديد ، وكل حمل ثقيل فلا أجد شيئاً أثقل من الجار السوء ، وذقت المرار كله فلم أذق شيئاً أمر من الفقر ، يا بني لا ترسل رسولا جاهلا فإن لم تجد حكيماً ، فكن رسول نفسك . يا بني إياك والكذب ، فإنه شهي كلحم العصفور ، وعما قليل يقلي صاحبه . يا بني احضر الجنائز ولا تحضر العرس ، فإن الجنائز تذكرك الآخرة والعرس يشهيك الدنيا . يا بني لا تأكل شبعاً على شبع ، فإنك إن تلقيه إلى الكلب خير لك من أن تأكله . يا بني لا تكن حلواً فتبلع ، ولا مراً فتلفظ .
ورأيت في بعض المجاميع عن الحسن ، أن لقمان قال لابنه : يا بني اعلم أنه لا يطأ بساطك إلا راغب فيك ، أو راهب منك ، فأما الراهب منك الخائف فأدن مجلسه وتهلل في وجهه ، وإياك والغمز من ورائه ، وأما الراكب فيك فاظهر له البشاشة مع صفاء الباطن له ، وأبدأه بالنوال قبل السؤال ، فإنك إن تلجئه إلى السؤال منك تأخذ من حر وجهه ضعفي ما تعطيه . وأنشدوا على هذا :
إذا أعطيتني بسؤال وجهي . . . فقد أعطيتني وأخذت مني
يا بني ابسط حملك للقريب والبعيد ، وأمسك جهلك عن الكريم واللئيم ، وصل أقاربك ، وليكن إخوانك من إذا فارقتهم وفارقوك ، لم تعبهم ولم يعيبوك . وقد أذكرني هذا ، ما حكاه بعض أشياخي أن الإسكندر وجه رسولا إلى بعض ملوك الشرق فعاد رسوله برسالة ، شك الإسكندر في حرف منها ، فقال له الإسكندر : ويحك إن الملوك لا يخاف عليها إلا إذا مالت بطانتها ، وقد جئتني برسالة صحيحة الألفاظ ، بينة العبارة ، غير أن فيها حرفاً ينقصها ، فعلى يقين أنت منه أم شاك فيه ؟ فقال الرسول : على يقين . فأمر الإسكندر أن تكتب ألفاظها حرفاً حرفاً ، وتعاد إلى الملك مع رسول آخر ، فتقرأ عليه وتترجم له . فلما قرئ الكتاب على الملك ، مر بذلك الحرف فأنكره ، فقال للمترجم : ضع يدك على هذا الحرف ، فوضعها وأمر أن يقطع ذلك الحرف ، فقطع من الكتاب ، وكتب إلى الإسكندر رأس المملكة صحة فطنة الملك ، ورأس الملك صدق لهجة رسوله ، إذا كان عن لسانه ينطق ، وإلى اذنه يؤدي وقد قطعت ما لم يكن من كلامي ، إذ لم أجد إلى قطع لسان رسولك سبيلا . فلما جاء الرسول بهذا إلى الإسكندر ، دعا الرسول الأول ، وقال له : ما حملك على كلمة أردت بها الفساد بين ملكين ؟ فأقر الرسول أن ذلك لتقصير رآه من الموجه إليه ، فقال له الإسكندر : ما أراك سعيت إلا لنفسك لا لنا ، فلما فاتك ما أملت ، جعلت لك ثأراً في الأنفس الخطيرة الرفيعة . ثم أمر بلسانه فنزع من قفاه . وقال يحيى بن خالد بن برمك : ثلاثة أشياء تدل على عقول الرجال : الهدية والرسول والكتاب .
وسمع أبو الأسود الدؤلي رجلا ينشد :
إذا كنت في حاجة مرسلا . . . فأرسل حكيماً ولا توصه(2/162)
"""""" صفحة رقم 163 """"""
فقال : قد أساء قائل هذا أيعلم الغيب إذا لم يوصه كيف يعلم ما في نفسه ؟ هلا قال :
إذا أرسلت في أمر رسولا . . . فأفهمه وأرسله أديباً
ولا تترك وصيته بشيء . . . وإن هو كان ذا عقل أريبا
فإن ضيعت ذاك فلا تلمه . . . على أن لم يكن علم الغيوبا
وفي تاريخ ابن خلكان وغيره من التواريخ ، أن الزمخشري كان مقطوع الرجل ، فسئل عن ذلك . فقال : دعاء الوالدة ، وذلك أني كنت في صباي أمسكت عصفوراً وربطته بخيط في رجله ، فأفلت من يدي وأدركته وقد دخل في خرق من الجدار ، فجذبته فانقطعت رجله بالخيط ، فتألمت والدتي لذلك ، وقالت : قطع الله رجل الأبعد كما قطعت رجله فلما وصلت إلى سن الطلب ، رحلت إلى بخارى لطلب العلم ، فسقطت عن الدابة فانكسرت رجلي ، وعملت عملا أوجب قطعها .
وفي الحلية للحافظ أبي نعيم ، في ترجمة زين العابدين ، قال أبو حمزة اليماني : كنت عند علي بن الحسين ، فإذا عصافير يطرن حوله ويصرخن ، فقال : يا أبا حمزة هل تدري ما تقول هذه العصافير ؟ قلت : لا . قال : إنها تقدس ربها جل وعلا ، وتسأله قوت يومها .
وفي الصحيحين وسنن النسائي وجامع الترمذي ، من حديث ابن عباس رضي الله تعالى عنهما عن أبي بن كعب وأبي هريرة رضي الله تعالى عنهما أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال : " قام موسى خطيباً في بني إسرائيل ، فسئل أي الناس أعلم فقال : أنا أعلم ، فعتب الله تعالى عليه إذا لم يرد العلم إليه ، فأوحى الله إلى موسى ، أن عبداً من عبادي ، بمجمع البحرين هو أعلم منك " .
وفي الرواية الأخرى أنه قيل له : هل تعلم أحداً أعلم منك ؟ قال موسى : لا فأوحى الله تعالى إلى موسى ، بل عبدنا خضر . فقال : يا رب وكيف به ؟ فقال له : احمل حوتاً في مكتلك ، فإذا فقدته فهو ، ثم انطلق ، وانطلق معه فتاه يوشع بن نون ، وحملا حوتاً في مكتل ، حتى إذا كانا عند الصخرة ، وضعا رؤوسهما ، فناما وانسل الحوت من المكتل ، فاتخذ سبيله في البحر سرباً ، وكان لموسى ولفتاه عجباً ، فانطلقا بقية ليلتهما ويومهما حتى أصبحا ، فقال موسى لفتاه : آتنا غداءنا لقد لقينا من سفرنا هذا نصباً . ولم يجد موسى شيئاً من النصب حتى جاوز المكان الذي أمر به . فقال له فتاه : أرأيت إذ أوينا إلى الصخرة فإني نسيت الحوت . قال موسى : ذلك ما كنا نبغي فارتدا على آثارهما قصصاً ، فلما انتهيا إلى الصخرة ، إذا رجل مسجى بثوب أو قال : تسجى بثوبه فسلم موسى .
وفي الرواية الأخرى وكان يتبع أثر الحوت في البحر ، فقال الخضر : وأني بأرضك السلام فقال : أنا موسى . قال : موسى بني إسرائيل ؟ قال : نعم . ثم قال : هل أتبعك على أن تعلمني مما(2/163)
"""""" صفحة رقم 164 """"""
علمت رشداً ؟ قال : إنك لن تستطيع معي صبراً يا موسى ، إني على علم من علم الله علمنيه لا تعلمه أنت وإنك على علم علمكه الله لا أعلمه . قال : ستجدني إن شاء الله صابراً ولا أعصي لك أمراً . فانطلقا يمشيان على ساحل البحر ، فقال : فرأيا سفينة فكلموهما أن يحملوهم ، فعرفوا الخضر فحملوهما بغير نول ، فجاء عصفور فوقع على حرف السفينة فنقر نقرة أو نقرتين في البحر ، فقال الخضر : يا موسى ما نقص علمي وعلمك من علم الله ، إلا كنقرة هذا العصفور . وفي الرواية الأخرى إلا مثل ما نقص هذا العصفور من هذا البحر . وعمد الخضر إلى لوح من ألواح السفينة فنزعه فقال موسى : قوم حملونا بغير نول ، عمدت إلى سفينتهم فخرقتها لتغرق أهلها قال : ألم أقل إنك لن تستطيع معي صبراً ؟ قال : لا تؤاخذني بما نسبت ولا ترهقني من أمري عسراً . فكانت الأولى من موسى نسياناً ، فانطلقا فإذا غلام يلعب مع الغلمان ، فأخذ الخضر برأسه من أعلاه فاقتلع رأسه بيده ، فقال موسى : أقتلت نفساً زكية بغير حق لقد جئت شيئاً نكراً . قال : ألم أقل لك إنك لن تستطيع معي صبراً ؟ قال ابن عيينة : وهذا أوكد . فانطلقا حتى إذا أتيا أهل قرية استطعما أهلها فأبوا أن يضيفوهما ، فوجدا فيها جداراً يريد أن ينقض فأقامه الخضر بيده ، فقال موسى : لو شئت لاتخذت عليه أجراً ، قال : هذا فراق بيني وبينك سأنبئك بتأويل ما لم تستطع عليه صبراً .
قال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) : " يرحم الله أخي موسى لوددنا أن لو صبر حتى يقص الله علينا من أنبائهما " وفي الرواية الأخرى " يرحم الله موسى لو كان صبر ، لقص علينا من أمرهما " . وعن سعيد بن جبير ، قال : قلت لابن عباس : إن نوفا البكالي يزعم أن موسى ليس بموسى بني إسرائيل ، إنما هو موسى آخر . قال : كذب عدو الله . حدثني أبي بن كعب ، وذكر الحديث ، وذكر قصة موسى والخضر بطولها ، قال : وجاء عصفور حتى وقع على حرف السفينة ، ثم نقر في البحر ، فقال له الخضر : ما نقص علمي وعلمك من علم الله إلا مثل ما نقص هذا العصفور من هذا البحر . قال العلماء : لفظ النقص ليس هنا على ظاهره ، وإنما معناه إنما علمي وعلمك بالنسبة إلى علم الله كنسبة ما نقص هذا العصفور من هذا البحر . قلت : وهذا على التقريب للإفهام ، وإلا فنسبة علمهما أقل وأحقر .
وحكمه : حل الأكل ، قال عبد الله بن عمرو رضي الله تعالى عنهما ، أن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) قال : " ما من إنسان يقتل عصفورة فما فوقها بغي حقها إلا سأله الله عنها " . قيل : يا رسول الله وما حقها ؟ قال : " أن يذبحها فيأكلها ، وأن لا يقطع رأسها فيرمي به " . رواه النسائي .
وروى الحاكم عن خالد بن معدان عن أبي عبيدة بن الجراح ، قال : إن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال : " إن قلب ابن آدم مثل العصفور يقلب في اليوم سبع مرات " . ومن أحكام العصافير أنها على اختلاف أنواعها جنس واحد في باب الربا ، والبطوط جنس والكركي جنس والحبارى جنس والأوز جنس والدجاج جنس والحمام جنس ، وتقدم في بابه .(2/164)
"""""" صفحة رقم 165 """"""
ومن أحكامها أنه لا يجوز عتقها على الأصح ، وقيل : يجوز لما روى الحافظ أبو نعيم عن أبي الدرداء ، أنه كان يشتري العصافير من الصبيان ، ويرسلها . قال ابن الصلاح : والخلاف فيما يملك بالاصطياد ، أما البهائم الأنسية فإن أعناقها من قبيل سوائب الجاهلية وذلك باطل قطعاً وقال الشيخ أبو إسحاق الشيرازي ، في كتاب عيون المسائل ، أن فرق العصافير غير معفو عنه والمشهور أن فيه الخلاف الذي في بود يؤكل لحمه .
الأمثال : قالوا : أخف حلماً من عصفوراً . قال حسان رضي الله تعالى عنه :
لا بأس بالقوم من طول ومن عظم . . . جسم البغال وأحلام العصافير
وقال قعنب :
إن يسمعوا ريبة طاروا بها فرحاً . . . مني وما سمعوا من صالح دفنوا
مثل العصافير أحلاماً ومقدرة . . . لو يوزنون برق الريش ما وزنوا
وقالوا : صاحت عصافير بطنه " إذا جاع . قال الأصمعي : العصافير هنا الأمعاء . قال الجوهري : والمصير المعي وهو فعيل ، والجمع المصران ، مثل رغيف ورغفان ، ثم المصارين جمع الجمع . ونقله في المحكم ، عن سيبوط ، سميت مصارين لصيرورة الطعام فيها . وقالوا : أسفد من عصفور . الخواص : لحم العصافير حار يابس ، أصلب من لحم الدجاج ، وأجودها الشتوية السمان ، وأكلها يزيد في المني والباه ، لكنه يضر أصحاب الرطوبات الأصلية ، ويدفع ضررها دهن اللوز ، وهي تولد خلطاً صفراوياً ، يوافق من الإنسان الشيوخ . ومن الأمزجة الباردة ومن الأزمان الشتاء .
قال المختار بن عبدون : يكره أكل لحم العصافير لأن اليسير من عظامها إذا سبق في أكل شيء منها أحدث شحماً في المريء والمعي ، وإذا اتخذ من فراخها عجة بالبيض والبصل ، زادت في الباه وأمراقها تحل الطبع ، ولحومها تعقله ، ولا سيما إذا كانت مهزولة هزالا فاضحاً . وأضر العصافير ما سمن في البيوت وقال غيره : إذا أخذ دماغ العصفور ، وأضيف إلى ماء السذاب ، وشيء من عسل ، وشرب على الريق ، فإنه نافع لأوجاع البواسير . وإذا خلط فرق العصافير بلعاب الإنسان ، وطلي به على الثآليل قلعها ، مجرب . وإذا أخذ عصفور وذوب دماغه بشيرج ، وسقي لمن يحب شرب النبيذ ، فإنه يبغضه وهو عجيب مجرب . وإذا أكل عصفور الشوك مشوياً ومملوحاً فتت الحصى الذي في المثانة والكلى . وقال مهراريش : إذا ذبح العصفور ، وقطر دمه على دقيق العدس ، وجعل بنادق وجفف ، فإنه يهيج الباه وإذا أخذت منه بندقة ، وخلطت بزيت وطلي بها الإحليل ، ولا يطأ على الأرض فإنه يطأ ما شاء .
فائدة : قال الإمام الشافعي رحمه الله تعالى : أربعة أشياء تزيد في الجماع : أكل العصافير ،(2/165)
"""""" صفحة رقم 166 """"""
وأكل الإطريفل الأكبر ، وأكل الفستق ، وأكل الجز . وأربعة أشياء تزيد في العقل : ترك الفضول من الكلام ، واستعمال السواك ، ومجالسة الصالحين ، والعمل بالعلم . وأربعة أشياء تقوي البدن : أكل اللحم ، وشم الطيب ، وكثرة الغسل من غير جماع ، ولبس الكتان . وأربعة أشياء توهن البدن وتسقمه : كثرة الجماع ، وكثرة الهم ، وكثرة شرب الماء على الريق ، وكثرة أكل الحموضة .
فائدة أخرى : من أكثر من الجماع وجعله دأبه ، أورثه حكة في بدنه ، وضعفاً في قوته وبصره ، وعم لذة المجامعة ، وشاب عاجلا . ومن دافع البول والغائط ، ولم يقم إذا دعياه ، ضعفت مثانته ، وغلظ جلده ، وأورثه حرق البول ، والرمل والحصا ، وضعف البصر . ومن أكثر من حك رجليه بالنخالة والملح ، أحد بصره وعوفي من ضعفه . ومن بصق في بوله ، وأدمن على ذلك ، أمن من وجع الصلب . قاله القزويني نقلا عن أبقراط وغيره ، وذكر أنه امتحنه وجربه .
التعبير : العصفور في المنام رجل قاص ، صاحب لهو وحكايات ، يضحك الناس . وقيل : إنه ولد ذكر فمن رأى أنه ذبح عصفوراً ، وله ولد مريض خشي عليه من الموت . وربما دل على رجل شيخ ضخم ، كثير المال يحتال في الأمور ، كامل في رياسته مدبر . وربما دل على امرأة حسناء شفيقة ، وأصوات العصافير كلام حسن أو دراسة في العلم . والعصافير الكثيرة ، أموال لمن حواها في المنام ، وتعبر العصافير بالأولاد والصبيان .
ومن الرؤيا المعبرة أن رجلا أتى ابن سيرين ، فقال له : رأيت كأني آخذ العصافير فأدق أجنحتها وأجعلها في حجري فقال ابن سيرين : أتعلم كتاب الله أنت ؟ قال : نعم . فقال : اتق الله في أولاد المسلمين . وأتاه رجل فقال : رأيت كأن في يدي عصفوراً وقد هممت بذبحه . فقال : لا يحل لك أن تأكلني فقال له ابن سيرين : أنت رجل تتناول الصدقة ولست مستحقها ، فقال له الرجل : تقول لي ذلك ؟ فقال : نعم ، ولو شئت قلت لك كم هي درهم . فقال : كم هي . فقال ابن سيرين : ستة دراهم . فقال الرجل : ها هي في كفي ، وأنا تائب لا أعود إلى تناول الصدقة . فقيل له : من أين أخذت ذلك ؟ فقال : العصفور ينطق في الرؤيا بالحق ، وهو ستة أعضاء ، فبقوله : لا يحل لك أن تأكلني ، علمت بذلك أنه يتناول ما لا يستحق . ومن الرؤيا المعبرة أيضاً ، عن جعفر الصادق رضي الله تعالى عنه ، أنه أتاه رجل ، فقال : رأيت كأن في يدي عصفوراً ، فقال له جعفر : تنال عشرة دنانير ، فمر الرجل فوقع في يده تسعة دنانير ، فأتى إلى جعفر وأخبره بذلك ، فقال : اقصص علي الرؤيا ثانياً ، فقال : رأيت كأن بيدي عصفوراً ، وأنا أقلبه فلم أر له ذنباً ، فقال له جعفر : لو كان له ذنب ، لكانت الدنانير عشرة والله أعلم .
العضل : بضم العين وفتح الضاد المعجمة الجرذ والجمع العضلان . وقد تقدم ذكر الجرذ في باب الجيم .
العرفوط : بكسر العين دويبة لا خير فيها . تذكر العرب أنها لا تبول إلا شغرت ببولها إلى صوب القبلة ، والحيات تأكلها .
العريقطة : دويبة عريضة ، وهي العريقطان . قاله الجوهري .(2/166)
"""""" صفحة رقم 167 """"""
العضمجة : الثعلبة وقد تقدم ذكر الثعلب وما فيه في باب الثاء المثلثة في أول الكتاب . العضرفوط : العضاءة الذكر ، وتصغيره عضيرف وعضريف . قاله الجوهري .
فائدة : قال ابن عطية في تفسير قوله تعالى : " قلنا يا نار كوني برداً وسلاماً على إبراهيم ، روي أن الغراب كان ينقل الحطب إلى نار إبراهيم " وأن الوزغة كانت تنفخ النار عليه لتضرم . وكذلك البغل . وروي أن الخطاف والضفدع والعضرفوط ، كن ينقلن الماء ليطفئن النار فأبقى الله على هذه وقاية وسلط على تلك النوائب والأذى .
وقد أفادني بعض الأشياخ أن يكتب لسائر الحميات : قلنا يا نار كوني برداً وسلاماً سلاماً سلاماً ، على ثلاث ورقات ، ويشرب المحموم كل يوم ورقة منها على الريق ، أو عندما تأخذه الحمى ، فإنها تذهب بإذن الله تعالى . وهو عجيب مجرب وسيأتي إن شاء الله تعالى قريباً أن العظاءة هي السحلية وهي مباركة .
عطار : قال القزويني في الأشكال : إنه صنف من الدواب الصدفية ، يوجد ببلاد الهند في المياه القائمة ويوجد أيضاً بأرض بابل ، وهو من أعجب الحيوانات ، له بيت صدفي يخرج منه وله رأس وأذنان وعينان وفم ، فإذا دخل في بيته يحسبه الإنسان صدفة ، فإذا خرج منه ينساب في الأرض ويجر بيته معه ، فإذا جفت الأرض في الصيف يجتمع ورائحته عطرة .
ومن خواصه : أنه إذا بخر به ينفع من الصرع ، وإذا أحرق فرماده يجلو الأسنان ، وإذا وضع على حرق النار وترك حتى يجف نفعه نفعاً بيناً .
العطاط : بالفتح الأسد ، وقال صاحب الكامل في تفسير خطبة الحجاج ، لأهل الكوفة : العطاط بضم العين وقيل بفتحها ، ضرب من الطير معروف .
العطرف : بالكسر الأفعى الكبيرة ، وقد تقدم لفظ الأفعى في باب الهمزة .
العظاءة : بالظاء المعجمة المفتوحة والمد : دويبة أكبر من الوزغة ، ويقال في الواحدة عظاية أيضاً والجمع عظاء وعظايا . قال عبد الرحمن بن عوف :
كمثل الهر يلتمس العظايا
وقال الأزهري : هي دويبة ملساء تعدو وتزور كثيراً ، تشبه سام أبرص إلا أنها أحسن منه ، ولا تؤذي وتسمى شحمة الأرض ، وشحمة الرمل ، وهي أنواع كثيرة ، منها الأبيض والأحمر والأصفر والأخضر وكلها منقظة بالسواد ، وهذه الألوان بحسب مساكنها فإن منها ما يسكن الرمال ومنها ما يسكن قريباً من الماء والعشب ، ومنها ما يألف الناس وتبقى في جحرها أربعة أشهر لا تطعم شيئاً ، ومن طبعها محبة الشمس لتصلب فيها .(2/167)
"""""" صفحة رقم 168 """"""
ومن خرافات العرب قالوا : إن السموم لما فرقت على الحيوانات احتبست العظاءة عند التفرقة حتى نفد السم ، وأخذ كل حيوان قسطه منه على قدر السبق إليه ، فلم يكن لها فيه نصيب . ومن طبعها أنها تمشي مشياً سريعاً ثم تقف ، ويقال : إن ذلك لما يعرض لها من التذكر والأسف ، على مما فاتها من السم وهذه تسمى بأرض مصر السحلية .
وهي محرمة الأكل : وقد تقدم ذكرها في باب السين .
الخواص : من علق عليه يدها اليمنى ، ورجلها اليسرى في خرقة ، جامع ما شاء ، وإن علقت في خرقة سوداء على من به حمى الربع المزمنة أبرأته . وقلبها إذا علق على امرأة منعها أن تلد ، ما دام عليها ، وإن طبخت بسمن البقر حتى تتهرى ، ومسح بها الملسوع أبرأه وإن جعلت في قارورة وملئت زيتاً وجعلت في الشمس حتى تتهرى ، كان ذلك الزيت سماً قاتلا .
وهي في الرؤيا تدل على التلبيس واختلاف الأسرار والله أعلم .
العفر : ولد الأروبة .
وفي المثل : أو قل من عفر والعفر بالكسر الخنزير الذكر ، والعفر الرجل الخبيث المداهن ، والمرأة عفرة . يقال عفرية نفرية ، كما يقال عفريت نفريت .
العفريت : القوي المارد من الشياطين ، والتاء فيه زائدة قال تعالى : " قال عفريت من الجن أنا آتيك به " قرأ أبو رجاء العطاردي وعيسى الثقفي عفرية ورويت عن أبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنه ، وقرأت فرقة عفر ، وكل ذلك لغات . وقال وهب : اسم هذا العفريت كوذا ، وقيل ذكوان ، وقال ابن عباس : هو صخر الجني . واختلفوا في غرض سليمان عليه الصلاة والسلام في استدعاء عرش بلقيس ، فقال قتادة وغيره : لأنه أعجبه وصفه ، لما وصفه الهدهد بالعظم فأراد أخذه قبل أن يعصمها وقومها الإسلام . وقال الأكثرون : إن سليمان علم أنها إن أسلمت يحرم عليه مالها ، فأراد أن يأخذ عرشها قبل أن يحرم عليه أخذها بإسلامها . وقال ابن زيد : استدعاه ليريها القدرة ، التي هي من عند الله ، وعظم سلطانه في معجزة يأتي بها في عرشها . وروي أن عرشها كان من فضة وذهب ، مرصعاً بالياقوت والجوهر ، وأنه كان في جوف سبعة أبيات ، عليه سبعة أغلاق . وفي الكشف والبيان للثعلبي ، أن عرشها كان سريراً ضخماً حسناً ، وكان مقدمه من ذهب ، منضداً بالياقوت الأحمر ، والزمرد الأخضر ، ومؤخره من فضة مكللا بأنواع الجواهر ، وله أربع قوائم : قائمة من ياقوت أحمر ، وقائمة من ياقوت أصفر ، وقائمة من زبرجد أخفر ، وقائمة من در أبيض ، وصفائح السرير من ذهب . وكانت قد أمرت به ، فجعل في آخر سبعة أبيات ، بعضها في بعض في آخر قصر من قصورها ، على كل بيت باب مغلق .
قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما : كان عرش بلقيس ثلاثين ذراعاً في ثلاثين ذراعاً ،(2/168)
"""""" صفحة رقم 169 """"""
وارتفاعه في الهواء ثلاثين ذراعاً . وقال مقاتل : كان ثمانين في ثمانين . وقيل : كان طوله ثمانين ذراعاً ، وعرضه أربعين ذراعاً وارتفاعه ثلاثين ذراعاً .
قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما : كان سليمان عليه السلام مهيباً ، لا يبدأ بشيء حتى يكون هو الذي يسأل عنه ، فرأى ذات يوم وهجاً قريباً منه فقال : ما هذا ؟ قالوا : هذا عرش بلقيس . فقال : يا أيها الملأ أيكم يأتيني بعرشها قبل أن يأتوني مسلمين ؟ قال عفريت من الجن : " أنا آتيك به قبل أن تقوم من مقامك " .
وكان سليمان يجلس في مجلس الحكم من الصباح إلى الظهر ، وإني عليه أي على الإتيان به لقوي على حمله ، أمين لا أختلس منه شيئاً . قال الذي عنده علم من الكتاب ، قال البغوي وغيره والأكثرون : على أنه آصف بن برخيا ، وكان صديقاً يعلم اسم الله الأعظم الذي إذا دعي به أجاب ، وإذا سئل به أعطى : " أنا آتيك به قبل أن يرتد إليك طرفك " . قال سعيد بن جبير : يعني من قبل أن يرجع إليك أقصى من تراه ومعناه أن يصل إليك من كان منك على مد بصرك . وقال قتادة : قبل أن يأتيك الشخص من مد البصر .
وقال مجاهد : يعني إدامة النظر حتى يرتد الطرف خاسئاً . وقال وهب : تمد عينيك فلا ينتهي طرفك إلى مداه حتى أمثله بين يديك . وقيل : إن الذي عنده علم من الكتاب اسمه اسطوم ، وقيل هو جبريل ، وقيل هو سليمان نفسه . قال له عالم من بني إسرائيل ، قيل اسمه اسطوم ، آتاه الله معرفة وفهماً : أنا آتيك به قبل أن يرتد إليك طرفك . قال سليمان : هات . قال : أنت النبي وابن النبي ، وليس أحد أوجه عند الله منك . فإن دعوت الله وطلبت منه كان عندك . قال : صدقت .
والعلم الذي أوتيه ، قيل هو الاسم الأعظم . وفي الكلام حذف تقديره فدعا باسم الله الأعظم ، وهو يا حي يا قيوم ، يا إلهنا وإله كل شيء إلهاً واحداً ، لا إله إلا أنت . وقيل : يا ذا الجلال والإكرام . قيل : شقت الأرض بالعرش فغار في الأرض ، حتى نبع بين يدي سليمان . قاله الكلبي . وقال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما : فبعث الله الملائكة ، فحملوا السرير من تحت الأرض ، يخدون الأرض خداً ، حتى انخرقت الأرض بالسرير بين يدي سليمان ، وقيل : جيء به في الهواء ، وكان بين سليمان والعرش مسيرة شهرين للمجد ، فلما رآه مستقراً عنده ، جعل يشكر نعمة الله تعالى ، بعبارة فيها تعليم للناس ، وعرضة للاقتباس ، ثم قال : نكروا لها عرشها . أراد بالتنكير تجربة تمييزها ونظرها ، وليزيد في الإغراب عليها . وروت فرقة أن الجن ، لما أحست من سليمان ، أنه ربما يتزوج بلقيس ، فتفشي له أخبار الجن ، لأن أمها كانت جنية ، وأنها ربما تلد ولداً ، فينقل الملك إليه ، فلا ينفكون من تسخير سليمان وولده من بعده ، فأساؤوا الثناء عليها وظلموها عنده ، ليزهدوه فيها ، فقالوا : إنها غير عاقلة ولا مميزة وإن رجليها كحافر فرس ، وقيل : كحافر حمار ، وإنها شعراء الساقين . فجرب(2/169)
"""""" صفحة رقم 170 """"""
عقلها بتنكير العرش ، واختبر أمر رجليها بالصرح لتكشف عن ساقيها ، وتنكيره بأن يزيد فيه وينقص منه . والقصة في ذلك مشهورة في كتب التفسير ، ولما أسلمت وأذعنت وأقرت على نفسها بالظلم ، روي أنه تزوجها وردها إلى ملكها باليمن ، وكان يأتيها على الريح في كل شهر مرة ، فولدت له غلاماً فسماه داود ومات في حياته . وقيل : إنه جعل يعني لما زاد في العرش ونقص منه ، مكان الجوهر الأخضر أحمر ومكان الأحمر أخضر ، فلما جاءت قيل : أهكذا عرشك ؟ قالت : كأنه هو . وقيل : عرفته . ولكنها شبهت عليهم ، كما شبهوا عليها ، قاله مقاتل .
وقال عكرمة : كانت بلقيس حكيمة لم تقل نعم خوفاً من أن تكذب ، ولم تقل لا خوفاً من التنكيت عليها ، بل قالت : كأنه هو ، فعرف سليمان كمال عقلها حيث لم تقر ولم تنكر . وقيل : إنه اشتبه عليها أمر العرش ، لأنها لما أرادت الشخوص إلى سليمان ، دعت قومها وقالت لهم : والله ما هذا ملك ، وما لنا به من طاقة ، ثم أرسلت إلى سليمان : إني قادمة عليك بملوك قومي ، حتى أنظر ما أمرك ، وما الذي تدعو إليه من دينك . ثم أمرت بعرشها وكان من ذهب وفضة ، مرصعاً بالياقوت والجوهر ، فجعلته في جوف سبعة أبيات ، عليه سبعة أغلاق كما تقدم ، ووكلت به حراساً يحفظونه ، ثم قالت لمن خلفته على سلطانها : احتفظ بما قبلك لا يخلص إليه أحد ، ولا ترينه أحداً حتى آتيك . وشخصت إلى سليلا باثني عشر ألف قيل من أقيال اليمن ، تحت كل قيل ألوف كثيرة ، فلما جاءت ، قيل : أهكذا عرشك ؟ فاشتبه عليها أمر العرش ، فقالت : كأنه هو . ثم قيل لها : ادخلي الصرخ .
قيل : إنه قصر من زجاج كأنه الماء بياضاً ، وقيل : الصرح الصحن في الدار ، وأجرى تحته الماء ، وألقى فيه شيئاً كثيراً من دواب البحر ، كالسمك والضفادع وغيرها ، ثم وضع سرير سليمان في صدره ، فكان الصرح إذا رآه أحد حسبه لجة ماء . قيل : إنه إنما بنى الصرح ، لأنه أراد أن ينظر إلى قدميها وساقيها ، من غير أن يسألها كشفها . وقيل : أراد أن يختبر فهمها كما فعلت هي بالوصفاء والوصائف ، وقد تقدم ذكر ذلك في باب الدال المهملة ، في الدود . فجلس سليمان عليه السلام على السرير ، ودعا بلقيس ، فلما جاءت ، قيل لها : ادخلي الصرح ، فلما رأته حسبته لجة ، وهي معظم الماء ، وكشفت عن ساقيها لتخوضها إلى سليمان ، فنظر سليمان فإذا هي أحسن الناس ساقاً وقدماً إلا شعر الساقين ، فلما رأى سليمان ذلك ، صرف بصره عنها وناداها : إنه صرح ممرد من قوارير وليس بماء ، ثم دعاها إلى الإسلام . وكانت قد رأت حال العرش والصرح . فأجابت . وقيل : إنها لما بلغت الصرح وحسبته لجة ، قالت في نفسها : إن سليمان يريد أن يغرقني ، وكان القتلى أهون علي من هذا ، فقولها ظلمت نفسي يعني بذلك الظن .
وقيل : إنه عليه السلام لما أراد أن يتزوجها كره ما رأى من كثرة شعر ساقيها ، فسأل الإنس ما يذهب هذا ؟ قالوا : الموسى . قالت : لا تمسني حديدة قط . وكره سليمان الموسى ، وقال : إنها تقطع ساقيها ، فسأل الجن ، فقالوا : لا ندري ، فسأل الشياطين ، فقالوا : إنا نحتال لك حتى يكونا كالفضة البيضاء ، فاتخذوا النورة والحمام ومن يومئذ ظهرت النورة والحمامات ، ولم تكن قبل ذلك .
فلما تزوجها سليمان أحبها حباً شديداً ، وأقرها على ملكها ، وأمر الجن فابتنوا لها بأرض(2/170)
"""""" صفحة رقم 171 """"""
اليمن ثلاثة حصون لم ير الناس مثلها ارتفاعاً وحسناً ، وهي سيلجين وبينون وغمدان . ثم كان سليمان عليه السلام يزورها في كل شهر مرة ويقيم عندها ثلاثة أيام يبتكر من الشام إلى اليمن ، ومن اليمن إلى الشام على الريح ، وولدت له غلاماً سماه داود فمات في حياته . وبلقيس هي بنت شراحيل من نسل يعرب بن قحطان ، وكان أبوها ملكاً عظيم الشأن قد ولده أربعون ملكاً هو آخرهم ، وكان ملك أرض اليمن كلها ، وكان يقول لملوك الأطراف : ليس أحد منكم كفؤاً لي وأبى أن يتزوج منهم ، وأنه تزوج امرأة من الجن اسمها ريحانة بنت السكن ، فولدت له بلقيس . ولم يكن له ولد غيرها . وقد جاء في الحديث ما يؤيد هذا ، وهو قوله إن أحد أبوي بلقيس كان جنياً ، فلما مات أبوها ، طمعت في الملك ، وطلبت من قومها أن يبايعوها ، فأطاعها قوم وعصاها آخرون ، وملكوا عليهم رجلا ، وافترقوا فرقتين : كل فرقة استولت على طرف من أرض اليمن ، ثم إن الرجل الذي ملكوه أساء السيرة في أهل مملكته ، حتى كان يمد يده إلى حرم رعيته ، ويفجر بهن ، فأراد قومه خلعه ، فلم يقدروا على ذلك ، فلما رأت بلقيس ذلك أدركتها الغيرة ، فأرسلت إليه تعرض نفسها عليه فأجابها وقال : ما منعني أن أبتدئك بالخطبة إلا اليأس منك ، فقال : لا أرغب عنك وأنت كفء كريم ، فاجمع رجال قومي واخطبني إليهم ، فجمعهم فخطبها إليهم ، فذكروا لها ذلك فقالت : أجبت ، فزوجوها به ، فلما زفت إليه ودخلت عليه ، سقته الخمر حتى سكر وغلب على نفسه ، ثم حزت رأسه وانصرفت من الليل إلى منزلها ، وأمرت بنصب رأسه على باب دارها ، فلما رأى الناس ذلك علموا أن تلك المناكحة كانت مكراً وخديعة منها ، فاجتمعوا إليها وملكوها عليهم .
وفي الحديث عن أبي بكرة قال : إن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) لما بلغه أن أهل فارس قد ملكوا عليهم بنت كسرى ، قال : " لن يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة " رواه البخاري .
تذنيب : اعلم أن الحكماء قد ذكروا أن للحمام والنورة منافع ومضار ، فمن منافعه أنه يوسع المسام ، ويستفرغ الفضول ، ويحلل الرياح ، ويحبس الطبيعة ، من هيضة ورطوبة ، وينظف البدن من الوسخ والعرق ، ويذهب الحكة والجرب والإعياء ، ويلين الجسد ، ويجيد الهضم ، ويعد البدن لاستعداد الغذاء ، وينشط الأعضاء المتشنجة ، وينضج النزلات والزكام ، وينفع من حميات يوم والدق والربع والبلغمية بعد نضجها . قلت : إذا دبر ذلك طبيب حاذق .
ومن مضاره تسهيل صب الفضول إلى الأعضاء الضعيفة ، ويرخي البدن ويضعف الحرارة الغريزية ، والأعضاء العصبية ويضعف الباه ، ووقته بعد الرياضة ، وقبل الغذاء إلا المتخلخلي الأبدان الكثيري المرار ، وإياك أن تدخل الحمام وتخرج منه بحميتك ، وإذا أردت الخروج ، فاخرج إلى المسلخ متدرجاً ، وأفرغ عليك ثوباً نظيفاً مبخراً ، واجتنب النساء يوماً وليلة . وتكره المجامعة في الحمام لأنها تورث الاستسقاء وأمراضاً رديئة . ويكره للإنسان شرب الماء البارد عقب الطعام الحار والحلو والتعب والمجامعة والحمام والأكل ، فإن ذلك مضر جداً ، وأجود الحمامات القديمة الشاهقة العذبة .(2/171)
"""""" صفحة رقم 172 """"""
وأما النورة فهي حارة يابسة ، قال الغزالي في الإحياء : إن النورة بعد الحمام أمان من الجذام ، وغسل الرجلين بالماء البارد في الصيف ، أمان من النقرس ، وبولة في الحمام من قيام في الشتاء أنفع من شربة دواء . قال : ويكره إلصاق الظهر إلى حائط الحمام انتهى . ومعناه أن يطلي جسده بالنورة أولا ، قبل أن يسكب على جسمه الماء ، ثم يستحم بعد ذلك . وينبغي أن يستعمل قبل النورة الخطمي ليأمن من حرقها ، ثم يغتسل بالماء البارد ، وينشف البدن منه . وإن أحب استعمال النورة أولا ليأمن من الجذام ، كما قاله الغزالي وغيره فليأخذ على إصبعه شيئاً من النورة ، ويشمها ويقل صلى الله على سليمان بن داود ، ويكتب ذلك على فخذه الأيمن ، فإنه يعرق قبل النورة ، فيمسح العرق ويطلي ، ويكون ذلك في البيت الحار ، ليعرق سريعاً . ويستعمل بعد هذا العصفر وبزر البطيخ ودقيق الأرز ، ويعجن ذلك بماء الآس والتفاح وماء الورد ويسخن في إناء ويطلى به الجسد مع العسل ، فإن ذلك ينقي البدن وينفي عنه ثلاثين داء كالجذام والبرص والبهق والبثر والنفاطات ونحوها . قال القزويني : إذا طرح في النورة زرنيخ ورماد الكرم وطلي به الجسد ثم غسل بعدها بدقيق الشعير والباقلاء وبزر البطيخ مراراً ، فإن الشعر يضعف حتى لا يكاد أن يعود . وقال الإمام العلامة فخر الدين الرازي رحمة الله تعالى عليه : النورة التي قبل الزرنيخ ربما أحدثت كلفاً ويدفع ضررها بالأرز والعصفر طلاء ، وأن تعجن للمحرورين بماء الشعير والأرز والبطيخ والبيض وللمبرودين بماء المرزنجوش أو النمام ، وينبغي أن يخلط مع النورة الصبر والمر والحنظل من كل واحد درهم ليأمن من الحكة والبثر والله أعلم .
خاتمة : روى مالك في الموطأ ، من حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) : " رأيت ، ليلة أسري بي ، عفريتاً من الجن يطلبني بشعلة من نار ، كلما التفت رأيته " فقال جبريل : ألا أعلمك كلمات تقولهن فتنطفئ شعلته ويخر لفيه ؟ فقال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) : " بلى " فقال جبريل : قل أعوذ بوجه الله الكريم وبكلماته التامات التي لا يجاوزهن بر ولا فاجر ، من شر ما ينزل من السماء ، ومن شر ما يعرج فيها ، ومن شر ما ذرأ في الأرض ، ومن شر ما يخرج منها ، ومن فتن الليل والنهار ، ومن طوارق الليل والنهار ، إلا طارقاً يطرق بخير ، يا رحمن . وقد تقدم في باب الجيم في الجن حديث العفريت الذي تفلت على رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يريد أن يقطع عليه صلاته ، " فخنقه النبي ( صلى الله عليه وسلم ) وأراد أن يربطه في سارية من سواري المسجد " .
العفر : بالكسر والضم قاله ابن الأثير في النهاية وهو الجحش والأنثى عفرة .
العقاب : طائر معروف ، والجمع أعقب لأنها مؤنثة . وأفعل بناء يختص به جمع الإناث مثل عناق وأعنق وذراع وأذرع ، والكثير عقبان وعقابين جمع الجمع . قال الشاعر :
عقابين يوم الجمع تعلو وتسفل
وكنيته أبو الأشيم وأبو الحجاج وأبو حسان وأبو الدهر وأبو الهيثم ، والأنثى أم الحوار وأم(2/172)
"""""" صفحة رقم 173 """"""
الشعو وأم طبلة وأم لوح وأم الهيثم . والعرب تسمى العقاب الكاسر ، ويقال لها الخدارية للونها ، وهي مؤنثة اللفظ . وقيل : العقاب يقع على الذكر والأنثى . وتمييزه باسم الإشارة . وقال في الكامل : العقاب سيد الطيور والنسر عريفها . والعقاب ، قال ابن ظفر : حاد البصر ، ولذلك قالت العرب أبصر من عقاب . والأنثى منه تسمى لقوة .
قال البطليوسي ، في الشرح : قال الخليل : اللقوة واللقوة بالفتح والكسر العقاب السريعة الطيران انتهى . وتسمى العقاب عنقاء مغرب لأنها تأتي من مكان بعيد ، وليس هو العنقاء الآتي ذكرها ، وبهذا نسر قول أبي العلاء المعري .
أرى العنقاء تكبر أن تصادا . . . فعاند من تطيق له عنادا
وظن بسائر الإخوان شراً . . . ولا تأمن على سر فؤادا
فلو خبرتهم الجوزاء خبري . . . لما طلعت مخافة أن تصادا
وكم عين تؤمل أن تراني . . . وتفقد عند رؤيتي السوادا
وله من قصيدة قد أبدع فيها :
فإن كنت تهوى العيش فابغ توسطا . . . فعند التناهي يقصر المتطاول
توافي البدور النقص وهي أهلة . . . ويدركها النقصان وهي كوامل
وقي المعنى لابن العفيف التلمساني :
أيسعدني يا طلعة البحر طالع . . . ومن شقوتي خط بخديك نازل
نعم قد تناهى في الجفاء تطاولا . . . وعند التناهي يقصر المتطاول
وتقدم أن العقاب ، إذا صاحت ، تقول : في البعد عن الناس راحة . وهي نوعان عقاب ، وزمج فأما العقاب فمنها السود والخوخية والسفع والأبيض والأشقر ، ومنها ما يأوي الجبال وما يأوي الصحاري وما يأوي الغياض وما يأوي حول المدن ، ويقال : إن ذكورها من طير لطيف الجرم لا يساوي شيئاً . وقال ابن خلكان ، في آخر ترجمة العماد الكاتب : ويقال إن العقاب جميعه أنثى ، وأن الذي يسافده طير آخر من غير جنسه ، وقيل : إن الثعلب يسافده . قال : وهذا من العجائب . ولابن عنين الشاعر في هجو شخص يقال له ابن سيده :
ما أنت إلا كالعقاب فأمه . . . معروفة وله أب مجهول(2/173)
"""""" صفحة رقم 174 """"""
والعقاب تبيضن ثلاث بيضات في الغالب ، وتحضنها ثلاثين يوماً ، وما عداها من الجوارح يبيض بيضتين ويحضن عشرين يوماً ، فإذا خرجت فراخ العقاب ، ألقت واحداً منها لأنه يثقل عليها طعم الثلاث ، وذلك لقلة صبرها ، والفرخ الذي تلقيه ، يعطف عليه طائر آخر ، يسمى كاسر العظام ، ويسمى المكلفة فيربيه . ومن عادة هذا الطائر أن يزق كل فرخ ضائع .
والعقاب ، إذا صادت شيئاً ، لا تحمله على الفور إلى مكانها ، بل تنقله من موضع إلى موضع ، ولا تقعد إلا على الأماكن المرتفعة ، وإذا صادت الأرانب تبدأ بصيد الصغار ثم الكبار . وهي أشد الجوارح حرارة ، وأقواها حركة ، وأيبسها مزاجاً ، وهي خفيفة الجناح ، سريعة الطيران ، تتغدى بالعراق وتتعشى باليمن ، وريشها الذي عليها فروتها في الشتاء ، وحليتها في الصيف ، ومتى ثقلت عن النهوض وعميت ، حملتها الفراخ على ظهرها ونقلتها من مكان إلى مكان ، فعند ذلك تلتمس لها عيناً صافية بأرض الهند ، على رأس جبل فتغمسها فيها ، ثم تضعها في شعاع الشمس فيسقط ريشها ، وينبت لها ريش جديد ، وتذهب ظلمة بصرها ، ثم تغوص في تلك العين فإذا هي قد عادت شابة ، كما كانت . فسبحان القادر على كل شيء ، الملهم كل نفس هداها .
قال التوحيدي : ومن عجيب ما ألهمته ، أنها إذا اشتكت أكبادها ، أكلت أكباد الأرانب والثعالب فتبرأ . وهي تأكل الحيات إلا رؤوسها ، والطيور إلا قلوبها ، ويدل لهذا قول امرئ القيس :
كأن قلوب الطير رطباً ويابساً . . . لدى وكرها العناب والحشف البالي
ومنه قول طرفة بن العبد :
كأن قلوب الطير في عشها . . . نوى القسب ملقى عند بعض المآدب
وقيل لبشار بن برد الأعمى الشاعر : لو خيرك الله أن تكون حيواناً ماذا كنت تختار ؟ قال : العقاب لأنها تلبث حيث لا يبلغها سبع ولا ذو أربع ، وتحيد عنها سباع الطير ولا تعاني الصيد إلا قليلا ، بل تسلب كل في صيد صيده . ومن شأنها أن جناحها لا يزال يخفق قال عمرو بن حزام :
لقد تركت عفراء قلبي كأنه . . . جناح عقاب دائم الخفقان
وفي عجائب المخلوقات ، في ذكر الأحجار ، أن حجر العقاب يشبه نوى التمر هندي إذا حرك يسمع منه صوت ، وإذا كسر لا يوجد فيه شيء يوجد في عش العقاب . والعقاب يجلبه من أرض الهند وإذا قصد الإنسان عشه ، يرمي إليه بهذا الحجر ليأخذه ويرجع ، فكأنه عرف أن قصدهم إياه لخاصيته . فمن خواصه أنه إذا علق على من بها عسر الولادة ، تضع سريعاً . ومن جعله تحت(2/174)
"""""" صفحة رقم 175 """"""
لسانه ، فإنه يغلب الخصم في المقاولة ، ويبقى مقضي الحاجة . وسيأتي إن شاء الله تعالى في باب النون نظير هذا ، في لفظ النسر .
وأول من صاد بها وأدبها أهل المغرب ، يحكى أن قيصر ملك الروم أهدى إلى كسرى ملك فارس عقاباً ، وكتب إليه علمها فإنها تعمل عملا لا يدركه أكثر الصقور ، فأمر بها فعلمت وصاد بها فأعجبته ثم جوعها ليصيد بها ، فوثبت على صبي من حاشيته فقتلته . فقال كسرى : غزانا قيصر في بلادنا بغير جيش . ثم أهدى كسرى إليه نمراً أو فهداً ، وكتب إليه : قد بعثت إليك بما تقتل به الظباء وما قرب منها من الوحش ، وكتم عليه ما صنعته العقاب ، فأعجب به قيصر ، إذ وافقت صفته ما وصف ، فغفل عنه يوماً ، فافترس فتى من بعض فتيانه . فقال : صادنا كسرى فإن كنا قد صدناه فلا بأس ، فلما بلغ ذلك كسرى قال : أنا أبو ساسان .
وذكر ابن خلكان ، في ترجمة جعفر بن يحيى البرمكي وغيره ، عن الأصمعي قال : لما قتل الرشيد جعفراً ، طلبني ليلا فجئته وأنا خائف ، فأومأ إلي بالجلوس فجلست ، فالتفت إلي وقال : أبيات أحببت أن تسمعها ، قلت : إن شاء أمير المؤمنين فأنشدني :
لو أن جعفر خاف أسباب الردى . . . لنجا به منها طمر ملجم
ولكان من حذر المنية حيث لا . . . يرجو اللحاق به العقاب القشعم
لكنه لما أتاه يومه . . . لم يدفع الحدثان عنه منجم
فعلمت أنها له فقلت : إنها أحسن أبيات . فقال : الحق الآن بأهلك . ففكرت فلم أعرف لذلك معنى إلا أنه أراد أن يسمعني شعره وأحكيه . وقد حكى أهل التاريخ ، في سبب قتل جعفر حكايات مختلفة ، منها ما روي عن أبي محمد اليزيدي ، أنه قال : من قال إن الرشيد قتل جعفراً بغير سبب يحيى بن عبد الله العلوي فلا تصدقه ، وذلك أن الرشيد دفع يحيى إلى جعفر فحبسه ، ثم إن جعفر بن حسن ، دعا به ليلة من الليالي ، وسأله عن أمره فأجابه ، ثم إن يحيى قال له : اتق الله في يا جعفر ، ولا تتعرض إلى دمي ، فيكون رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) خصمك يوم القيامة ، فوالله ما أحدثت حدثاً ، ولا آوب محدثاً . فرق له جعفر وأطلقه بعد أن استحلفه أن لا يحدث حدثاً ، وبعث معه من أوصله إلى مأمنه . فنقل ذلك إلى الرشيد ، فقال لجعفر : ما فعل بيحيى بن عبد الله ؟ قال : على حاله يا أمير المؤمنين في السجن ، والأكبال الثقيلة ، فقال : بحياتي ؟ فأحجم لها جعفر . وكان من أصح الناس فكراً ، فهجس في نفسه أنه قد علم شيئاً من أمره . فقال : لا وحياتك يا أمير المؤمنين ، بل أطلقته ، لعلمي أن لا مكروه لديه ، فأظهر الرشيد الاستحسان لذلك ، وأسرها في نفسه ، وقال : نعم ما فعلت ، ما عدوت عما كان في خاطري . فلما خرج ، أتبعه الرشيد بصره ، وقال : قتلني الله بسيوف العدا على الضلالة إن لم أقتلك .(2/175)
"""""" صفحة رقم 176 """"""
وفي تاريخ صاحب حماه وغيره ، أن الرشيد كان لا يصبر عن جعفر ولا عن أخته عباسة بنت المهدي ، فقال لجعفر : أزوجكها ليحل لك النظر إليها ، ولا تمسها فكانا يحضران مجلسه ، ثم يقوم الرشيد من المجلس ، فيمتلئان من الشراب وهما شابان ، فيقوم إليها جعفر فيجامعها فحملت وولدت غلاماً ، وخافت الرشيد فوجهت المولود مع خواص لها إلى مكة ، ولم يزل الأمر مستوراً ، حتى وقع بين عباسة وبين بعض جواريها شر ، فأنهت أمر الصبي ، وأخبرت بمكانه ومن معه من جواريها وما معه من الحلي . فلما حج الرشيد أرسل من أتاه بالصبي وخواصه فوجد الأمر صحيحاً فأوقع بالبرامكة .
وقيل : إنما قتل الرشيد جعفراً لأنه كان قد حاز ضياع الدنيا لنفسه ، وكان الرشيد إذا سافر لا يمر بضيعة ولا بستان إلا قيل : هذا لجعفر ، فلم يزل كذلك حتى جنى جعفر على نفسه ، بأن وجه فقطع رأس بعض الطالبين من غير أن يكون أمر بقتله ، فاستحل الرشيد بذلك دمه . وقيل : كان سبب قتله أنه رفعت إلى الرشيد قصة لم يعرف رافعها وفيها هذه الأبيات :
قل لأمين الله في أرضه . . . ومن إليه الحل والعقد
هذا ابن يحيى قد غدا مالكا . . . مثلك ما بينكما حد
أمرك مردود إلى أمره . . . وأمره ليس له رد
وقد بنى الدار التي ما بنى ال . . . فرس لها مثلا ولا الهند
والدر والياقوت حصباؤها . . . وتربها العنبر والند
ونحن نخشى أنه وارث . . . ملكك إن غيبك اللحد
ولن يباهي العبد أربابه . . . إلا إذا ما بطر العبد
فلما وقف الرشيد عليها أضمر له الشر وأوقع به . وقيل : بل أرادت البرامكة إظهار الزندقة وفساد الملك ، فأوقع بهم وقتلهم . قلت : وهو قول بعيد لا أعتقد صحته .
وقيل : إن مسروراً قال : سمعت الرشيد سنة حج وهي سنة ست وثمانين ومائة ، يقول في الطواف : اللهم إنك تعلم أن جعفراً قد وجب عليه القتل ، وأنا أستخيرك في قتله فخر لي . وإن الرشيد لما عاد إلى الأنبار ، بعث إليه بمسرور وحماد فوافياه ، والمغني يغنيه :
فلا تبعد فكل فتى سيأتي . . . عليه الموت يطرق أو يغادي
فقال مسرور : لذلك جئت ، قد والله طرقك الأمر ، أجب أمير المؤمنين ، فتصدق بأمواله ، وأعتق عبيده ، وأبرأ الناس من حقوقه . ثم أتى به إلى المنزل الذي فيه الرشيد ، فحبسه وقيده بقيد حمار ، وأخبر الرشيد . فقال : ائتني برأسه فعاوده فيه مرتين ، فشتمه وصاح عليه . فدخل عليه واحتز رأسه وجاء به إليه . وذلك لا مستهل صفر سنة سبع وثمانين ومائة ، وهو ابن سبع(2/176)
"""""" صفحة رقم 177 """"""
وثلاثين سنة . ثم صلب رأسه على الجسر وصلب كل قطعة على جسر ، فلم يزل كذلك حتى مر عليه الرشيد عند خروجه إلى خراسان ، فقال : ينبغي أن يحرق هذا فأحرق . ولما قتله أحاط بجميع البرامكة وأتباعهم ، ونودي أن لا أمان لهم إلا لمحمد بن خالد بن برمك وولده وجماعته ، لما عرف من براءة محمد بن خالد وولده وجماعته . وقيل : إن علية بنت المهدي قالت للرشيد : لأي شيء قتلت جعفر . فقال : لو علمت أن قميصي يعلم سبب قتل جعفر لأحرقته ولما صلب جعفر وقف عليه يزيد الرقاشي وقال من أبيات :
أما والله لولا خوف واش . . . وعين للخليفة لا تنام
لطفنا حول جذعك واستلمناً . . . كما للناس بالحجر استلام
فما أبصرت قبلك يا ابن يحيى . . . حساماً فله السيف الحسام
على اللذات والدنيا جميعاً . . . لدولة آل برمك السلام
فبلغ الرشيد مقالته فأحضره ، وقال : ما حملك على ما فعلت وقد بلغك ما توعدنا به كل من يقف عليه أو يرثيه ؟ قال : كان يعطيني كل سنة ألف دينار ، فأمر له الرشيد بألفي دينار ، وقال : هي لك منا ما دمنا في قيد الحياة .
ويروى أن امرأة وقفت على جعفر ونظرت إلى رأسه معلقاً ، فقالت : أما والله لئن صرت اليوم آية ، لقد كنت في المكارم غاية ثم أنشدت تقول :
ولما رأيت السيف خالط جعفراً . . . ونادى مناد للخليفة في يحيى
بكيت على الدنيا وأيقنت أنما . . . قصارى الفتى يوماً مفارقة الدنيا
وما هي إلا دولة بعد دولة . . . تخول ذا نعمى وتعقب ذا بلوى
إذا أنزلت هذا منازل رفعة . . . من الملك حطت ذا إلى الغاية السفلى
ثم مرت كأنها الريح ولم تقف .
ولما بلغ سفيان بن عيينة قتل جعفر ، وما نزل بالبرامكة حول وجهه إلى القبلة ، وقال : اللهم إن جعفراً كان قد كفاني مؤونة الدنيا فاكفه مؤونة الآخرة . وكان جعفر من الكرم والعطاء على جانب عظيم ، وأخباره في ذلك مشهورة ، وفي الدفاتر مسطورة ، ولم يبلغ أحد من الوزراء منزلة بلغها جعفر من الرشيد ، وكان الرشيد يسميه أخاً ، ويدخله معه في ثوبه ، وأن الرشيد ، لما قتل جعفراً ، خلد أباه يحيى في السجن . وكانت البرامكة في الغاية من الجود والكرم كما هو مشهور عنهم . وكانت مدة وزارتهم للرشيد سبع عشرة سنة .(2/177)
"""""" صفحة رقم 178 """"""
وذكر ابن إسحاق قال : قال الزبير بن عبد المطلب فيما كان من شأن الحية ، التي كانت قريش تهاب بنيان الكعبة لأجلها حتى اختطفها العقاب :
عجبت لما تصوبت العقاب . . . إلى الثعبان وهي لها اضطراب
وقد كانت يكون لها كشيش . . . وأحياناً يكون لها وثاب
إذا قمنا إلى التأسيس شدت . . . فهبنا للبناء وقد تهاب
فلما أن خشينا الزجر جاءت . . . عقاب حلقت ولها انصباب
فضمتها إليها ثم خلت . . . لنا البنيان ليس له حجاب
فقمنا حاشدين إلى بناء . . . لنا منه القواعد والتراب
غداة نرفع التأسيس منه . . . وليس على مساوينا ثياب
أعزبه المليك بني لؤي . . . فليس لأصله منه ذهاب
وقد حشدت هناك بني عدي . . . ومرة قد تعهدها كلاب
فبوأنا المليك بذاك عزاً . . . وعند الله يلتمس الثواب
وذكر ابن عبد البر ، في التمهيد عن عمرو بن دينار ، أنه قال : لما أرادت قريش بناء الكعبة ، خرجت منها حية ، فحالت بينهم وبينها ، فجاء عقاب أبيض فأخذها ورمى بها نحو أجياد . كذا في بعض نسخ التمهيد . وفي بعضها طائر أبيض . فائدة : روى ابن عباس أن سليمان بن داوود عليهما السلام ، لما فقد الهدهد ، دعا بالعقاب سيد الطير ، وأحزمه وأشده بأساً ، فقال : علي بالهدهد الساعة ، فرفع العقاب نفسه نحو السماء ، حتى التصق بالهواء ، فصار ينظر إلى الدنيا كالقصعة بين يدي الرجل ، ثم التفت يميناً وشمالا فرأى الهدهد مقبلا نحو اليمن ، فانقض عليه ، فقال الهدهد : أسألك بحق الذي أقدرك علي وقواك إلا ما رحمتني . فقال له : الويل لك ، إن نبي الله سليمان حلف أن يعذبك أو يذبحك . ثم أتى به فلقيته النسور وعساكر الطيور ، فخوفوه وأخبروه بتوعد سليمان ، فقال الهدهد : ما قدري وما أنا أو ما أستثنى نبي الله قالوا : بلى . قال : أو ليأتيني بسلطان مبين ، قال الهدهد : نجوت إذن . فلما دخل على سليمان رفع رأسه وأرخى ذنبه وجناحيه تواضعاً لسليمان . فقال له سليمان : أين غبت عن خدمتك ومكانك ؟ لأعذبنك عذاباً شديداً ، أو لأذبحنك . فقال الهدهد : يا نبي الله اذكر وقوفك بين يدي الله بمنزلة وقوفي بين يديك . فاقشعر جلد سليمان وارتعد ، وعفا عنه . وسيأتي إن شاء الله تعالى ، نظير هذا في باب الهاء في الهدهد .
الحكم : يحرم أكل العقاب لأنه ذو مخلب ، واختلف في أنه هل يستحب قتله أم لا . فجزم الرافعي والنووي في الحج باستحباب قتله ، وجزم في شرح المهذب بأنه من القسم الذي لا يستحب قتله ولا يكره وهو الذي فيه نفع ومضرة ، قلت : وهذا الذي جزم به القاضي أبو الطيب الطبري وهو المعتمد .(2/178)
"""""" صفحة رقم 179 """"""
الأمثال : قالوا : أمنع من عقاب الجو . قاله عمرو بن عدي لقصير بن سعد في قصة الزباء المشهورة . وفي ذلك يقول ابن دريد في مقصورته :
واخترم الوضاح من دون التي . . . أملها سيف الحمام المنتضى
وقد سما عمرو إلى أوتاره . . . فاحتط منها كل عالي المنتهى
فاستنزل الزباء قسراً وهي من . . . عقاب لوح الجو أعلى منتهى
جعلها لامتناعها بمنزلة لوح الجو ، واللوح الهواء بين السماء والأرض .
والجو أيضاً ما بينهما . والقصة في ذلك ما ذكره الأخباريون : ابن هشام وابن الجوزي وغيرهم ، قالوا وقد دخل كلام بعضهم في بعض : إن جذيمة الأبرش ، كان ملكاً على الحيرة ، وما حولها من السواد ، ملك ستين سنة ، وكان شديد السلطان قد خافه القريب ، وهابه البعيد ، وهو أول من أوقدت الشموع بين يديه ، وأول من نصب المجانيق في الحرب ، وأول من اجتمع له الملك بأرض العراق . فغزا مليح بن البراء ، وكان ملكاً على الحضر وهو الحاجز بين الروم والفرس وهو الذي ذكره عدي بن زيد بقوله :
وأخو الخضر إذ بناه وإذ دج . . . لة تجبى إليه والخابور
شاده مرمرا وجفله كل . . . سا فللطير في ذراه وكور
لم يهبه ريب المنون وباد ال . . . ملك عنه فبابه مهجور
فقتله جذيمة وطرد بنته الزباء ، فلحقت بالروم .
وكانت الزباء عاقلة أديبة عربية اللسان ، حسنة البيان شديدة السلطان ، كبيرة الهمة . قال ابن الكلبي : ولم يكن في نساء عصرها أجمل منها ، وكان اسمها فارعة وكان لها شعر إذا مشت سحبته وراءها ، وإذا نشرته جللها فسميت الزباء لذلك . قال : وكان قتل أبيها قبل مبعث عيسى ابن مريم عليهما السلام ، فبلغت بها همتها أن جمعت الرجال ، وبذلت الأموال ، وعادت إلى ديار أبيها ومملكته ، فأزالت جذيمة عنها وابتنت على عراقي الفرات مدينتين متقابلتين في شرقي الفرات وغربيه ، وجعلت بينهما نفقاً تحت الفرات ، فكانت إذا رهقتها الأعداء أوت إليه وتحصنت . وكانت قد اعتزلت الرجال في عذراء بتول .
وكان بينها وبين جذيمة بعد الحرب مهادنة ، فحدثته نفسه بخطبتها فجمع خاصته وشاورهم في ذلك ، فسكت القوم وتكلم قصير ، وكان ابن عمه ، وكان عاقلا لبيباً ، وكان خازنه ، وصاحب أمره ، وعميد دولته ، فقال : أبيت اللعن أيها الملك إن الزباء امرأة حرمت الرجال فهي عذراء بتول لا ترغب في مال ولا جمال ، ولها عندك ثأر ، والدم لا ينام وإنما هي تاركتك رهبة وحذراً ، والحقد دفين ، في سويداء القلب له كمون ، ككمون النار في الحجر ، إذ قدحته أورى ، وإن تركته توارى وللملك في بنات الملوك الاكفا متسع ، ولهن فيه منتفع ، ولقد رفع الله قدرك عن الطمع ،(2/179)
"""""" صفحة رقم 180 """"""
فيمن هو دونك ، وعظم الرب شأنك ، فما أحد فوقك . هكذا حكاه ابن الجوزي وغيره . وذكر ابن هشام ، شارح الدريدية وغيره ، أن الزباء ، هي التي أرسلت إليه تخطبه ، وتعرض عليه نفسها ، ليتصل ملكه بملكها ، فدعته نفسه إلى ذلك ، فاستشار وزراءه ، فكل واحد منهم رأى ذلك مصلحة ، إلا قصيراً فإنه قال : أيها الملك هذه خديعة ومكر ، فلم يسمع منه . قال : ولم يكن قصيراً ولكن سمي به .
قال ابن الجوزي : فقال جذيمة : يا قصير ، الرأي ما رأيته وقلته ، ولكن النفس تواقة ، وإلى ما تحب وتهوى مشتاقة ، ولكل امرئ قدر لا مفر منه ولا وزر ، ثم وجه إليها خاطباً وقال له : اذكر لها ما ترغبها فيه ، وتصبو إليه ، فجاءها خطيبه فلما سمعت كلامه ، وعرفت مراده ، قالت : أنعم بك عيناً وبما جئت به . وأظهرت له السرور والرغبة فيه ، وأكرمت مقدمه ، ورفعت موضعه ، وقالت : قد كنت أضربت عن هذا ، مخافة أن لا أجد كفؤاً ولكن الملك فوق قدري ، وأنا دون قدره قد أجبت إلى ما سأل ، ورغبت فيما قال ، ولولا أن السعي في مثل هذا الأمر بالرجال أمثل ، لسرت إليه ، ولنزلت عليه .
وأهدت له هدية سنية ، ساقت إليه فيها العبيد والإماء ، والكراع والسلاح ، والأموال والإبل والغنم ، وغير ذلك من الثياب والأمتعة والجواهر شيئاً عظيماً . فلما رجع إليه خطيبه ، أعجبه ما سمع من الجواب ، وأبهجه ما رأى من اللطف ، الذي تحير فيه عقول ذوي الألباب ، وظن أن ذلك منها لحصول رغبة ، فأعجبته نفسه ، وسار من فوره فيمن يثق به من خاصته ، وأهل مملكته ، وفيهم قصير خازنه ، وقد استخلف على مملكته عمرو بن عدي اللخمي ، وهو أول من ملك الحيرة من لخم ، وكانت مدة ملكه مائة وعشرين سنة ، وهو الذي اختطفته الجن وهو صبي ثم ردته وقد شب وكبر . فألبسته أمه طوقاً من ذهب وأمرته بزيارة خاله جذيمة ، فلما رأى جذيمة لحيته والطوق في عنقه قال : شب عمرو عن الطوق ، فأرسلها مثلا . وقال ابن هشام : إنه ملك مائة وثماني عشرة سنة .
قال ابن الجوزي : فاستخلفه وسار إلى الزباء فوصل إلى قرية على الفرات ، يقال لها نيفة فنزل بها ، وتصيد وأكل وشرب . واستعاد المشورة والرأي من أصحابه ، فسكت القوم وافتتح قصير الكلام فقال : أيها الملك كل عزم لا يؤيد بحزم فإلى أين يكون كونه ؟ فلا تثق بزخرف قول لا محصول له ، ولا تقذف الرأي بالهوى فيفسد ، ولا الحزم بالمنى فيبعد ، والرأي عندي للملك أن يعتقب أمره بالتثبت ، ويأخذ حذره بالتيقظ ، ولولا أن الأمور تجري بالمقدر ، لعزمت على الملك عزماً بتاً أن لا يفعل . فأقبل جذيمة على الجماعة ، وقال : ما عندكم أنتم في هذا الأمر ؟ فتكلموا . بحسب ما عرفوا من رغبته في ذلك ، وصوبوا رأيه وقووا عزمه ، فقال جذيمة : الرأي مع الجماعة ، والصواب ما رأيتم . فقال قصير : أرى القدر يسابق الحذر ، فلا يطاع لقصير أمر . فأرسلها مثلا ، ثم سار جذيمة ، فلما قرب من ديار الزباء ، أرسل إليها يعلمها بمجيئه ، فأظهرت السرور به ، والرغبه فيه وأمرت بحمل الميرة إليه ، وقالت لجندها ، ولخاصة أهل مملكتها ، وعامة أهل دولتها(2/180)
"""""" صفحة رقم 181 """"""
ورعيتها : تلقوا سيدكم وملك دولتكم فعاد الرسول إليه بالجواب ، وأخبره بما رأى وسمع .
فلما أراد جذيمة أن يسير ، دعا قصيراً وقال : أنت على رأيك ؟ قال : نعم ، وقد زادت بصيرتي فيه ، أفأنت على عزمك ؟ قال : نعم ، وقد زادت رغبتي فيه . فقال قصير : ليس الدهر بصاحب لمن لم ينظر في العواقب فأرسلها مثلا . ثم قال : وقد يستدرك الأمر قبل فوته ، وفي يد الملك بقية ، هو بها مسلط على استدراك الصواب ، فإنك إن وثقت بأنك ذو ملك وسلطان وعشيرة وأعوان ، فإنك قد نزعت يدك من سلطانك ، وفارقت عشيرتك وأعوانك ، وألقيتها في يد من لست آمن عليك مكره وغدره ، فإن كنت ولا بد فاعلا ، ولهواك تابعاً ، فإن القوم أن يلقوك غداً رزدقاً واحداً ، وقاموا لك صفين ، حتى إذا توسطتهم أطبقوا عليك من كل جانب ، وأحدقوا بك فقد ملكوك ، وصرت في قبضتهم . وهذه العصا لا يسبق غبارها . وكان لجذيمة فرس تسبق الطير وتجاري الرياح ، يقال لها العصا ، فإذا رأيت الأمر كذلك فتجلل ظهرها ، فهي ناجية بك إن ملكت ناصيتها ، فسمع جذيمة كلامه ولم يرد جوابه . وسار وكانت الزباء ، لما رجع رسول جذيمة من عندها ، قالت لجندها : إذا أقبل جذيمة غداً فتلقوه بأجمعكم ، وقوموا له صفين ، عن يمينه وعن شماله ، فإذا توسط جمعكم ، فانقضوا عليه من كل جانب حتى تحدقوا به ، وإياكم أن يفوتكم . وسار جذيمة وقصير عن يمينه ، فلما لقيه القوم رزدقاً واحداً ، قاموا له صفين ، فلما توسطهم انقضوا عليه من كل جانب فعلم أنهم قد ملكوه ، وكان قصير يسايره ، فأقبل جذيمة عليه وقال : صدقت يا قصير ، فقال : هذه العصا فدونكها لعلك تنجو بها ، فأنف جذيمة من ذلك ، وسارت به الجيوش ، فلما رأى قصير أن جذيمة قد استسلم للأمر ، وأيقن بالقتل ، جمع نفسه ووثب على ظهر العصا ، وقال ابن هشام : إن قصيراً قدم العصا إلى جذيمة ، فشغل عنها جذيمة بنفسه ، فركبها قصير وأعطاها عنانها ، وزجرها فذهبت تهوي في هوي الريح ، فنظر إليه جذيمة وهي تطاول به ، وأشرفت عليه الزباء من قصرها ، فقالت له : ما أحسنك من عروس تجلى علي وتزف إلي حتى دخلوا به على الزباء ، ولم يكن معها في قصرها إلا جوار أبكار ، وهي جالسة على سريرها وحولها ألف وصيفة ، كل واحدة لا تشبه صاحبتها في خلق ولا زي ، وهي بينهن كأنها قمر قد حفت به النجوم .
وقال ابن هشام : وكانت الزباء قد ربت شعر عانتها حولا ، فلما دخل عليها جذيمة ، تكشفت له وقالت : أمتاع عروس ترى ؟ فقال : بل متاع أمة بظراء فأمرت به فأجلس على نطع ، وقيل : إنه لما أدخل عليها أمرت بالأنطاع فبسطت وقالت لوصائفها : خذن بيد سيدكن ، وبعل مولاتكن ، فأخذن بيده وأجلسنه على الأنطاع ، بحيث تراه ويراها ، وتسمع كلامه ويسمع كلامها ، ثم أمرت الجواري فقطعن رواهشه ، ووضعن الطست بين يديه ، فجعلت دماؤه تشخب في الطست فقطرت قطرة على النطع ، فقالت لجواريها : لا تضيعوا دم الملك ، فقال جذيمة : لا يحزنك دم أراقه أهله . فقالت : والله ما وفى دمك ، ولا شفى قتلك ، ولكنه غيض من(2/181)
"""""" صفحة رقم 182 """"""
فيض ، فأرسلتها مثلا فلما قضى أمرت به فدفن .
وأما عمرو فكان يخرج كل يوم إلى ظهر الحيرة يطلب الخبر ، ويقتفي من خاله الأثر ، فخرج ذات يوم ، فإذا فارس قد أقبل ، تهوي به الفرس هوي الريح ، فقال عمرو بن عدي : أما الفرس ففرس جذيمة وأما الراكب فكالبهيمة لأمر ما جاءت العصا ، فأرسلها مثلا ، فأشرف قصير قال : مما وراءك ؟ قال : سعى القدر بالملك إلى حتفه ، على الرغم من أنفي وأنفه . ثم قال لعمرو بن عدي : أطلب بثأرك من الزباء ، فقال عمرو : وأتى يطلب من الزباء وهي أمنع من عقاب الجو فأرسلها مثلا . فقال له قصير : قد علمت نصحي لخالك ، وكأن الأجل طالبه ، وأنا والله لا أنام عن الطلب بدمه ، ما لاح نجم أو طلعت شمس ، أو أدرك به ثأراً ، أو تخترم نفسي فأعذر . ثم إنه عمد إلى أنفه فجدعه . وقال ابن هشام : إن قصيراً قال لعمرو : اجدع أنفي واقطع آذاني ، واضرب ظهري حتى يؤثر فيه ، ودعني وإياها ، ففعل به عمرو ذلك . وذكر الاخباريون أن عمراً أبى عليه ففعل هو بنفسه ذلك ، فقيل : لأمر ما جدع قصير أنفه .
قال ابن الجوزي : ثم إن قصيراً لحق بالزباء هارباً من عمرو بن عدي ، فقيل لها : هذا قصير ابن عم جذيمة ، وخازنه وصاحب أمره ، قد أتاك هارباً ، فأذنت له وقالت : ما الذي جاء بك إلينا يا قصير ، وبيننا وبينك دم عظيم الخطر ؟ فقال : يا ابنة الملوك العظام ، لقد أتيت فيما يأتي فيه مثلي إلى مثلك ، ولقد كان دم الملك ، يعني أباها ، يطلب جذيمة حتى أدركه ، وقد جئتك مستجيراً من عمرو بن عدي ، فإنه اتهمني بخاله لمشورتي عليه في المسير ، إليك فجدع أنفي ، وأخذ مالي ، وجلد ظهري ، وقطع آذاني ، وحال بيني وبين أهلي ، وتهددني بالقتل ، وإني خشيت على نفسي ، فهربت منه إليك ، وأنا مستجير بك ، ومستند إلى كنف عزك . فقالت له : أهلا وسهلا ، لك حق الجوار ، وذمة المستجير .
وأمرت به فأنزل ، وأجرت له النفقات ووصلته وكسته وأخدمته ، وزادت في إكرامه . فأقام مدة لا يكلمها ولا تكلمه ، وهو يطلب الحيل عليها ، وموضع الفرصة منها ، وكانت ممتنعة بقصر مشيد على باب النفق تعتصم به ، فلا يقدر أحد عليها ، فقال لها قصير يوماً : إن لي في العراق مالا كثيراً ، وذخائر نفيسة مما يصلح للملوك ، فإذا أذنتني في الخروج إلى العراق ، وأعطيتني شيئاً أتعلل به في التجارة ، واجعله سبباً إلى الوصول إلى مالي ، أتيتك بما قدرت عليه من ذلك . فأذنت له وأعطته مالا فقدم به إلى العراق ، وأخذ مالا جزيلا ، ثم رجع إلى الزباء ، وقد استصحب من ظرائف العراق ولطائفها وزادها مالا كثيراً إلى مالها . قال : فلما قدم عليها ، أعجبها ذلك وأبهجها وعظمت منزلته عندها ، ثم إنه عاد إلى العراق ثانية ، وقدم عليها بأكثر من النوبة الأولى ، وزادها أضعافاً من الجوهر والخز والبز والقز والديباج ، فازداد مكانه منها ، وعظمت منزلته عندما ، ورغبتها فيه ولم يزل قصير يتلطف في الحيلة ، حتى عرف موضع النفق الذي تحت الفرات ، والطريق إليه . ثم خرج ثالثة ، فقدم بأكثر من المرتين الأوليين ظرائف ولطائف ، فبلغ مكانة عظيمة منها ، حتى إنها كانت تستعين به في مهماتها ،(2/182)
"""""" صفحة رقم 183 """"""
واسترسلت إليه وعولت في أمورها عليه .
وكان قصير رجلا حسن العقل والوجه ، أديباً لبيباً ، فقالت له يوماً : إني أريد أن أغزو البلد الفلانية من أرض الشام ، فاخرج إلى العراق وائتني بكذا وكذا من الدروع والكراع ، والعبيد والثياب ، فقال قصير : لي ببلاد عمرو بن علي ألف بعير ، وخزانة من المال ، وخزانة من السلاح ، فيها كذا وكذا ، وما لعمرو بها من علم ، ولو علم بها لأخذها ، واستعان بها على حرب الملكة ، وقد كنت أتربص به ريب المنون ، وها أنا أخرج متنكراً من حيث لا يعلم فآتي الملكة بذلك ، مع الذي سألت ، فأعطته من المال ما أراد ، وقالت : يا قصير الملك يحسن بمثلك ، وعلى يد مثلك يصلح أمره ، وقد بلغني أن جذيمة كان إيراده وإصداره إليك ، وما أقصر بك عن شيء تناله يدي ، ولا يقعد بك حال تنهض بي . فسمع كلامها رجل من خاصة قومها فقال : إنه أسد خادر ، وليث ثائر ، قد تحفز للوثبة .
ولما عرف قصير مكانه منها ، وتمكنه من قلبها ، قال : الآن طاب الخداع ، وخرج من عندها ، فأتى عمرو بن عدي فقال : قد أصبت الفرصة من الزباء ، فقال له عمرو : قل أسمع ومر اقبل ، فأنت طبيب هذه القرحة . فقال : الرجال والأموال . فقال عمرو : حكمك فيما عندي مسلط ، فعمد إلى الذي رجل من فتاك قومه ، وصناديد أهل مملكته ، فحملهم على ألف بعير ، في الغرائر السود بالأسلحة ، وجعل ربطها من داخل الجوالق . وكان عمرو منهم ، وساق الخيل والكراع والسلاح والإبل محملة .
قال ابن هشام : فكان يسير بالليل ويكمن بالنهار ، وكانت الزباء قد صور لها عمرو قائماً وقاعداً وراكباً ، وغمي عليها أمر قصير ، فسألت عنه فقيل : أخذ الغوير . فقالت : عسى الغوير أبؤسا ، فأرسلتها مثلا . وعسى ، في المثل ، بمعنى صار ، ولذلك أتى الخبر بغير الفعل ، فلما قدم قصير دخل على الزباء وكان قد تقدم على العير ، فقال لها : قفي وانظري إلى العير ، فصعدت على سطح قصرها وجعلت تنظر إلى العير مثقلة بحمل الرجال فقالت : يا قصير :
ما للجمال مشيهما وئيد . . . أجندلا يحملن أم حديدا
أم صرفاناً بارداً شديداً . . . أم الرجال جثما قعودا
وكان قصير قد وصف لعمرو الزباء ، وشأن النفق ، فلما دخلت العير المدينة ، وكان على باب الزباء بوابون من النبط ، وفيهم رجل بيده مخصرة ، فطغن جوالقاً ، فأصابت المخصرة رجلا منهم فضرط ، فقال البواب بالنبطية : بشا بشا أي الشر الشر ، فاستل قصير سيفه وضرب به البواب فقتله . وكان عمرو على فرسه فدخل الحصن عقب الإبل وحل الرجال الجوالق ، فظهروا في المدينة ، ووقف عمرو على باب النفق ، فلما رأت الزباء عمراً ، عرفته بالصفة ، فمصت خاتماً في يدها مسموماً ، وقالت : بيدي لا بيد عمرو ، فماتت . ويقال : إن عمراً قتلها بالسيف ، وقال ابن الجوزي : إن الزباء ، لما رأت الإبل تتهادى بأحمالها ، ارتابت بها ، وكان قد وشى بقصير إليها ،(2/183)
"""""" صفحة رقم 184 """"""
فقدح مما رأت من كثرة الإبل وعظم أحمالها في نفسها ، مع ما عندها من قول الواشي به فقالت : أرى الجمال مشيها وئيدا إلا أنه ذكر عوض أم الرجال جثما قعوداً أم الرجال في الغرار السودا . ثم قالت لجواريها : أرى الموت الأحمر في الغرائر السودا فذهبت مثلا ، وذكر القصة إلى آخرها ، فاحتوى عمرو على بلادها .
والزباء اسمها نائلة في قول محمد بن جرير الطبري ، ويعقوب بن السكيت واستشهد ابن جرير الطبري بقول الشاعر :
أتعرف منزلا بين النقاء . . . وبين ممر نائلة القديم وميسون في قود ابن دريد ، وفارعة في قول ابن هشام وابن الجوزي وغيرهما كما تقدم . قلت : وفي النهاية لابن الأثير ، أن قوماً من الجن تذكروا عيافة بني أسد ، ووصفهم بها ، فأتوهم فقالوا : ضلت لنا ناقة ، فلو أرسلتم معنا من يعيف ؟ فقالوا لغلام لهم : انطلق معهم ، فاستردفه أحدهم ، ثم ساروا فلقيهم عقاب كاسرة إحدى جناحيها ، فاقشعر الغلام وبكى ، فقالوا : ما لك يا غلام ؟ فقال : كسرت جناحاً ورفعت جناحاً ، وحلفت بالله صراخاً ، ما أنت بإنسي ولا تبغي لقاحاً ، وقالوا : أطير من عقاب الجو وأبصر من عقاب وأحزم . فإن قيل : ما حزمه ؟ قيل : إنه يخرج من بيضته على رأس جبل عال ، فلا يتحرك حتى يتكامل ريشه ، ولو تحرك لسقط . ويقال أيضاً : أسمع من فرخ عقاب وأعز من عقاب الجو .
عجيبة : نقل ابن زهر ، عن ارسطاطاليس ، أن العقاب تصير حدأة والحدأة عقاباً يتبادلان في كل سنة .
الخواص : قال صاحب عين الخواص : قال عطارد بن محمد : إن العقاب يهرب من الصبر ، وإذا شم رائحته غشي عليه . وريش العقاب إذا دخن به البيت ماتت حياته . ومرارته تنفع من الظلمة ، والماء الذي في العينين اكتحالا قاله القزويني .
التعبير : العقاب تدل رؤيته لمن هو في حرب على النصر والظفر على الأعداء ، لأنها كانت راية النبي ( صلى الله عليه وسلم ) . والعقاب تدل على العقاب لمن حل عنده . ومن رأى أنه ملك عقاباً أو نسراً ، وتحكم عليه ، نال عزاً وسلطاناً ونصرة على عدوه ، وعاش عمراً طويلا . فإن كان الرائي من أهل الجد والاجتهاد ، انقطع عن الناس واعتزلهم ، وعاش منفراً لا يأوي إلى أحد . وإن كان ملكاً ، اصطلح مع الأعداء ، وأمن من شرهم ومكايدهم ، وانتفع بما عندهم من السلاح والمال ، لأن أرياشها السهام ، وهي أموال أيضاً ، وصغارها أولاد زنا . قاله ابن المقري .(2/184)
"""""" صفحة رقم 185 """"""
وقال المقدسي : من رأى عقاباً ضربه بمخالبه ، ناله شدة في ماله . وأكل لحم العقاب يدل على الحرص ، وربما دلت رؤيته ، أعني العقاب ، على رجل صاحب حرب ، لا يأمنه قريب ولا بعيد . وإذا رؤي على سطح أو دار أو بيت فهو ملك الموت . ومن ركب عقاباً في منامه ، وكان فقيراً نال خيراً ، وإن كان غنياً أو من أشراف الناس ، فإنه يموت ، لأن في الزمان المتقدم ، كانوا يصورون صورة الميت من الأغنياء والأمراء ، على صورة عقاب . ومن رأى من النساء ، كأنها ولدت عقاباً ، اتصل ولدها بالملك في خدمة أو صراع ، والله أعلم .
العقد : الجمل الصغير القوائم ، الطويل السنام ، فإذا مشى مع الجمال ، قصر عن طولها ، وإذا برك معها طالها لطول سنامه ، ولذلك يقول ثعلبة :
أرسلت فيها جملا لكالكا . . . يقصر مشياً ويطول باركا
العقال : القلوص الفتية ، والعقال زكاة العام من الإبل والغنم . قال الشاعر :
سعى عقالا فلم يترك لنا سبداً . . . فكيف لو قد سعى عمرو عقالين
العقرب : دويبة من الهوام تكون للذكر والأنثى بلفظ واحدة ، واحدة العقارب . وقد يقال للأنثى : عقربة وعقرباء ممدود غير مصروف ، ويصغر على عقيرب ، كما تصغر زينب على زيينب والذكر عقربان بضم العين والراء ، وهو دابة له أرجل طوال وليس ذنبه كذنب العقارب قال الشاعر :
كأن مرعى أمكم إذ غدت . . . عقربة يكومها عقربان
أي ينزو عليها . ومكان معقرب بكسر الراء ، ذو عقارب ، وصدغ معقرب بفتح الراء ، أي معطوف . وكنيتها أم عريط وأم ساهرة ، واسمها بالفارسية الرشك كما تقدم . ومنها السود والخضر والصفر ، وهن قواتل وأشدها بلاء الخضر . وهي مائية الطباع ، كثيرة الولد ، تشبه السمك والضب . وعامة هذا النوع ، إذا حملت الأنثى منه ، يكون حتفها في ولادتها ، لأن أولادها إذا استوى خلقها ، تأكل بطنها وتخرج ، فتموت الأم . وأنشدوا قول الشاعر :
وحاملة لا يحمل الدهر حملها . . . تموت وينمى حملها حين تعطب والجاحظ لا يعجبه هذه القول ، ويقول : قد أخبرني من أثق به ، أنه رأى العقرب تلد من فيها وتحمل أولادها على ظهرها ، وهي على قدر القمل كثيرة العدد . قلت : والذي ذهب إليه الجاحظ هو الصواب . والعقرب أشد ما تكون ، إذا كانت حاملا ، ولها ثمانية أرجل ، وعيناها في ظهرها . ومن عجيب أمرها أنها لا تضرب الميت ولا النائم ، حتى يتحرك شيء من بدنه ، فإنها عند ذلك تضربه . وهي تأوي إلى الخنافس وتسالمها ، وربما لسعت الأفعى فتموت ، وهي يلسع بعضها بعضاً فتموت ، قاله الجاحظ . وفي كتاب القزويني ، أن العقرب إذا لسعت الحية فإن أدركتها(2/185)
"""""" صفحة رقم 186 """"""
وأكلتها برئت ، وإلا ماتت . وقد أشار إلى ذلك الفقيه عمارة اليمني في أبياته بقوله :
إذا لم يسالمك الزمان فحارب . . . وباعد إذا لم تنتفع بالأقارب
ولا تحتقر كيد الضعيف فربما . . . تموت الأفاعي من سموم العقارب
فقد هدم عرش بلقيس هدهد . . . وخرب فأر قبل ذا سد مأرب
إذا كان رأس المال عمرك فاحترز . . . عليه من الانفاق في غير واجب
فبين اختلاف الليل والصبح معرك . . . يكر علينا جيشه بالعجائب
وفي تاريخ ابن خلكان ، في ترجمة الفقيه عمارة بن علي بن زيدان اليمني ، أن قاسم بن هاشم ، صاحب مكة ، وجهه رسولا إلى الديار المصرية ، فدخلها في ربيع الأول سنة خمسين وخمسمائة ، وصاحبها يومئذ الفائز ، والوزير الصالح بن رزيك ، فأنشدهما قصيدته الميمية التي أولها :
الحمد للعيس بعد العزم والهمم
وفي آخرها :
ليت الكواكب تدنو لي فأنظمها . . . عقود مدح فما أرضى لكم كلمي
خليفة ووزير مد عدلهما . . . ظلا على مفرق الإسلام والأمم
زيادة النيل نقص عند فيضهما . . . فما عسى يتعاطى منة الديم
فاستحسنا قصيدته وأجزلا صلته ، وعاد إلى مكة ، ثم إلى زبيدة ثم أعاده صاحب مكة رسولا إلى مصر أيضاً ، فاستوطنها وأحسن الصالح وبنوه إليه . فلما ملك السلطان صلاح الدين يوسف بن أيوب ، مدحه وفدح جماعة من أهل بيته ، ثم إنه شرع في الاتفاق ، مع جماعة من الرؤساء ، على إعادة دولة المصريين ووافقهم جماعة من أمراء الملك الناصر ، واتفق رأيهم على استدعاء الفرنج من صقلية ومن سواحل الشام إلى ديار مصر ، على شيء يبذلونه لهم ، من المال والبلاد ، فعلم صلاح الدين بذلك فقبض عليهم وسألهم عن ذلك ، فأقروا . فصلبهم في رمضان سنة تسع وعشرين وخمسمائة . وهذا التاريخ مناقض لما تقدم ، من أنه كان رسولا لصاحب مكة في سنة خمسين وخمسمائة .
قلت : والصواب أن صلبهم كان في سنة تسع وستين يوم السبت الثاني من شهر رمضان ، وكان القبض عليهم في يوم الأحد السادس والعشرين من شعبان من السنة المذكورة . وكان عمارة شافعياً ، وينسب إليه بيت قاله ، أو وضع عليه والله أعلم بذلك :
قد كان أول هذا الدين من رجل . . . سعى إلى أن دعوه سيد الأمم
فأفتى فقهاء مصر بقتله ، ولم يتعرض السلطان صلاح الدين إلى من نافق عليه من أجناده ، ولا أظهر لهم أنه علم بشيء من أمرهم . ومن العجيب أن الفقيه عمارة قال قبل صلبه بأيام قلائل في مصلوب :(2/186)
"""""" صفحة رقم 187 """"""
ورأت يداه عظيم ما جنتا . . . ففررن ذي شرقاً وذي غربا
وأمال نحو الصدر منه فما . . . ليلوم في أفعاله القلبا
فكأنه كان لسان حاله .
ومن شأنها ، أنها إذا لسعت الإنسان ، فرت فرار مسيء يخشى العقاب . قال الجاحظ : ومن عجيب أمرها أنها لا تسبح ولا تتحرك ، إذا ألقيت في الماء سواء كان الماء ساكناً ، أو جارياً ، قال : والعقارب تخرج من بيوتها للجراد ، لأنها حريصة على أكله ، وطريق صيدها أن تشبك الجرادة في عود ، ثم تدخل في جحرها ، فإذا عاينتها العقرب تعلقت فيها . ومتى أدخل الكراث في جحرها وأخرج ، فإنها تتبعه أيضاً . وربما ضربت الحجر والمدر ، ومن أحسن ما قيل في ذلك :
رأيت على صخرة عقرباً . . . وقد جعلت ضربها ديدنا
فقلت لها : إنها صخرة . . . وطبعك من طبعها ألينا
فقالت : صدقت ولكنني . . . أريد أعرفها من أنا والعقارب القاتلة تكون في موضعين بشهرزور وبعسكر مكرم ، وهي جرارات تلسع فتقتل كما تقدم . وربما تناثر لحم من لسعته أو عفن لحمه واسترخى ، حتى إنه لا يدنو منه أحد إلا وهو يمسك أنفه مخافة أعدائه . ومن لطيف أمرها أنها مع صغرها تقتل الفيل والبعير بلسعها .
ومن نوع العقارب الطيارة ، قال القزويني والجاحظ : وهذا النوع يقتل غالباً . قال الرافعي : وحكى العبادي وجهاً أنه يصح بيع النمل بنصيبين ، لأنه يعالج به العقارب الطيارة ، التي بها . وسيأتي إن شاء الله تعالى ، هذا أيضاً في باب النون ، في حكم النمل ولعل مراده أن النمل يعمل مع أدوية ، ويعالج بها لدغتها .
وبنصيبين عقارب قتالة ، يقال إن أصلها من شهرزور ، وإن بعض الملوك حاصر نصيبين ، فأتى بالعقارب منها وجعلها في كيزان الفقاع ، ورمى بها في المجانيق . قال الجاحظ : وكان في دار نصر بن حجاج السلمي عقارب ، إذا لسعت قتلت ، فدب ضيف لهم ، إلى بعض أهل الدار فضربته عقرب في مذاكيره فقال نصر يعرض به :
وداري إذا نام سكانها . . . أقام الحدود بها العقرب
إذا غفل الناس عن دينهم . . . فإن عقاربها تضرب
فلا تأمنن سرى عقرب . . . بليل إذا أذنب المذنب
فدخل حوالي الدار وقال : هذه عقارب تسقى من أسود سالخ ، ونظر إلى موضع في الدار ، وقال : احفروا هاهنا ، فحفروا فوجدوا أسودين : ذكراً وأنثى .(2/187)
"""""" صفحة رقم 188 """"""
وروى الطبراني وأبو يعلى الموصلي عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت : دخل علي بن أبي طالب على رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وهو يصلي ، فقام إلى جنبه فصلى بصلاته ، فجاءت عقرب حتى انتهت إلى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ثم تركته ، وذهبت نحو علي فضربها بنعله حتى قتلها ، فلم ير رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) بقتلها بأساً . في إسناده عبد الله بن صالح كاتب الليث ، وهو ضعيف .
وروى ابن ماجه ، عن أبي رافع ، أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) " قتل عقرباً وهو يصلي " . وفيه أيضاً ، عن عائشة رضي الله تعالى عنها ، قالت : لدغت النبي ( صلى الله عليه وسلم ) عقرب ، وهو في الصلاة ، فقال : " لعن الله العقرب ما تدع مصلياً ولا غير مصل اقتلوها في الحل والحرم " .
وروى الحافظ أبو نعيم ، في تاريخ أصبهان ، والمستغفري في الدعوات ، والبيهقي في الشعب ، عن علي رضي الله تعالى عنه قال : لدغت النبي ( صلى الله عليه وسلم ) عقرب ، وهو في الصلاة فلما فرغ من صلاته ، قال : " لعن الله العقرب ما تدع مصلياً ولا غيره ، ولا نبياً ولا غيره ، إلا لدغته " . وتناول نعله فقتلها به ، ثم دعا بماء وملح فجعل يمسح عليها ، ويقرأ قل هو الله أحد والمعوذتين .
وفي تاريخ نيسابور ، عن الضحاك بن قيس الفهري ، قال : قام رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) من الليل يتهجد ، فلدغته عقرب في إصبعه فقال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) : " لعن الله العقرب ما تكاد تدع أحداً " ، ثم دعا بماء في قدح ، وقرأ عليه قل هو الله أحد الله الصمد ثلاث مرات ، ثم صبه على إصبعه ، ثم رؤي ( صلى الله عليه وسلم ) ، بعد ذلك على المنبر عاصباً إصبعه من لدغة العقرب .
وفي عوارف المعارف ، عن عائشة رضي الله تعالى عنها ، قالت : " لدغت رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) عقرب في إبهامه ، من رجله اليسرى فقال : " علي بذاك الأبيض الذي يكون في العجين " ، فجئنا بملح فوضعه ( صلى الله عليه وسلم ) في كفه ، ثم لعق منه ثلاث لعقات ، ثم وضع بقيته على اللدغة فسكنت عنه . وروى ابن أبي شيبة ، عن جابر بن عبد الله ، أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) خطب الناس ، وهو عاصب إصبعه من لدغة عقرب فقال : " إنكم تقولون لا عدوى ، ولا تزالون تقاتلون عدواً حتى تقاتلوا يأجوج ومأجوج ، عراض الوجوه ، صغار العيون ، صهب الشعاف ، من كل حدب ينسلون وكأن وجوههم المجان المطرقة " .
غريبة : في تاريخ شيخنا اليافعي رحمه الله تعالى ، في حوادث سنة تسع وخمسمائة ذكر أن بعض الملوك قال له منجموه : إنه يموت في الساعة الفلانية في اليوم الفلاني في الشهر الفلاني من سنة كذا من عقرب تلدغه ، فلما كانت الساعة المذكورة تجرد من جميع ثيابه سوى ما يستر عورته ، وركب فرساً بعد أن غسله ونظفه وسرح شعره ، ودخل به البحر حذاراً مما ذكر له منجموه ، فبينما هو كذلك عطست الفرس فخرج من أنفه عقرب فلدغته ، فمات . فما أغناه الحذر عن القدر . وعن معروف الكرخي قال : بلغنا أن ذا النون المصري ، خرج ذات يوم يريد غسل ثيابه ، فإذا هو بعقرب قد أقبل عليه ، كأعظم ما يكون من الأشياء ، قال : ففزع منها فزعاً شديداً ،(2/188)
"""""" صفحة رقم 189 """"""
واستعاذ بالله منها فكفي شرها . فأقبلت حتى وافت النيل ، فإذا هي بضفدع قد خرج من الماء فاحتملها على ظهره ، وعبر بها إلى الجانب الآخر .
فقال ذو النون : فاتزرت بمئزري ونزلت في الماء ، ولم أزل أرقبها إلى أن أتت إلى الجانب الآخر ، فصعدت ثم سعت وأنا أتبعها إلى أن أتت شجرة كثيرة الأغصان ، كثيرة الظل ، وإذا بغلام أمرد أبيض نائم تحتها ، وهو مخمور ، فقلت : لا قوة إلا بالله ، أتت العقرب من ذلك الجانب للذع هذا الفتى ، فإذا أنا بتنين قد أقبل يريد قتل الفتى ، فظفرت العقرب به ولزمت دماغه ، حتى قتلته ورجعت إلى الماء . وعبرت على ظهر الضفدع إلى الجانب الآخر فأنشد ذو النون يقول :
يا راقداً والجليل يحفظه . . . من كل سوء يكون في الظلم
كيف تنام العيون عن ملك . . . تأتيك منه فوائد النعم
قال : فانتبه الفتى على كلام ذي النون ، فأخبره الخبر فتاب ونزع لباس اللهو ، ولبس أثواب السياحة وساح ومات على تلك الحالة رحمه الله تعالى .
واسم ذي النون ثوبان بن إبراهيم ، وقيل : الفيض بن إبراهيم . ومن كلامه رحمه الله تعالى : حقيقة المحبة أن تحب ما أحبه الله ، وتبغض ما أبغضه الله ، وتطلب رضاه وترفض جميع ما يشغلك عنه ، وأن لا تخاف فيه لومة لائم ، وأن تعزل نفسك عن رؤيتها وتدبيرها . فإن أشد الحجاب رؤية النفس وتدبيرها . وقال رحمه الله : لا يزال العارف مادام في الدنيا ، بين الفخر والفقر ، فإذا ذكر الله افتخر ، وإذا ذكر نفسه افتقر . وقال : ليس بذي لب من جد في أمر دنياه وتهاون في أمر آخرته ، ولا من سفه في مواطن حلمه ، ولا من تكبر في مواطن تواضعه ، ولا من فقدت منه التقوى في مواطن طمعه ، ولا من غضب من حق إن قيل له ، ولا من زهد فيما يرغب العقلاء فيه ، ولا من رغب فيما يزهد العقلاء فيه ، ولا من طلب الإنصاف من غيره لنفسه ، ولا من نسى الله تعالى في مواطن طاعته ، وذكر الله في مواطن الحاجة إليه ، ولا من جمع العلم ليعرف به ثم أثر عليه هواه بعد تعلمه ، ولا من قل منه الحياء من الله تعالى ، على جميل ستره ، ولا من أغفل الشكر على إظهار نعمه ، ولا من عجز عن مجاهدة عدوه ، ولا من جعل مروأته لباسه ، ولم يجعل أدبه درعه وتقواه لباسه ، ولا من جعل علمه ومعرفته تظرفاً وتزيناً في مجلسه ، ثم قال : استغفر الله العظيم ، إن الكلام كثير وإن لم تقطعه لم ينقطع .
وحكى لي بعض أشياخي عن ذي النون أنه قال لبعض الرهبان : ما معنى المحبة ؟ فقال : لا يطيق العبد حمل محبتين : من أحب الله لا يحب الأغيار ، ومن أحب الأغيار لا يحب الله خالصاً ، فتفكر في حالك من أي القبيلين أنت ؟ قال : قلت : صف لي المحبة . فقال : المحبة عقل ذاهب ، ودمع ساكب ، ونوم طريد ، وشوق شديد ، والحبيب يفعل ما يريد . قال ذو النون : فعمل هذا الكلام معي ، فعلمت أنه خرج من المعدن وأن الراهب مسلم . ثم فارقته فبينما أنا أطوف بالكعبة ، وإذا بالراهب يطوف وقد نحل ، فقال لي : يا أبا الفيض ، تم الصلح وانفتح باب المؤانسة ، ومن الله علي بالإسلام وحملني ما عجزت عنه السموات والأرض . قال ذو النون : حمل نفسه محبه الله تعالى التي عجزت عنها السموات والأرض ، وصم الجبال ، وحملها أجلاد الرجال(2/189)
"""""" صفحة رقم 190 """"""
بلطائف الأحوال . وأنشد يقول :
حبك يا سؤلي ويا منيتي . . . قد أنحل الجسم وقد كده
لو أن ما في القلب من حبكم . . . بالجندل الصلد لقد هده
ثم قال ذو النون : لا أحياء ولا أموات ، ولا صحاة ولا سكرى ، ولا مقيمون ولا ظاعنون ، ولا مفيقون ولا صرعى ، ولا أصحاء ولا مرضى ، ولا منتبهون ولا نيام ، فهم كأصحاب الكهف ، في فجوة الكهف لا يدرون ما يفعل بهم ، ونقلبهم ذات اليمين وذات الشمال . قال الإمام أبو الفرج بن الجوزي : ذو النون رحمه الله تعالى ، أصله من النوبة وكان من أهل اخميم ، فنزل مصر وسكنها ، ويقال اسمه الفيض وذو النون لقب .
وقال الأمام أبو القاسم القشيري ، في رسالته : كان ذو النون قد فاق أهل هذا الشأن ، وصار واحد وقته علماً وورعاً وأدباً وحالاً ، وكانت وفاته بالجيزة لليلتين خلتا من ذي القعدة سنة ست وأربعين ومائتين . قال ابن خلكان : ودفن بالقرافة الصغرى . وأما معروف فهو ابن قيس الكرخي ، كان مشهوراً بإجابة الدعوة ، وأهل بغداد يستسقون بقبره ، ويقولون : قبر معروف ترياق مجرب . وكان سري السقطي تلميذه ، وقيل لمعروف في مرض موته : أوص ، فقال : إذا مت ، فتصدقوا بقميصي فإني أريد أن أخرج من الدنيا عرياناً كما دخلتها عرياناً . ومر معروف رحمه الله تعالى يوماً بسقاء ، وهو يقول : يرحم الله من يشرب ، وكان صائماً قتقدم وشرب ، فقيل له : ألم تكن صائماً ؟ قال : بلى . ولكن رجوت دعاءه . توفي رحمه الله تعالى سنة ثلاثمائة .
وقال الزمخشري ، في ربيع الأبرار : زعموا أن أرض حمص لا تعيش فيها العقارب ، وزعم أهلها إن ذلك لطلسم هناك ، قالوا : وإن طرحت فيها عقرب غريبة ، ماتت من ساعتها . وحمص مدينة معروفة من مشارق الشام ، لا تنصرف للعلمية والعجمة والتأنيث ، وهي من المدن الفاضلة . وفي حديث ضعيف أنها من مدن الجنة . وكانت في أول الأمر أشهر بالفضل من دمشق . وذكر الثعلبي أنه نزلها سبعمائة من الصحابة رضي الله تعالى عنهم .
فائدة : رقية العقرب جائزة ، لما روى مسلم عن جابر بن عبد الله رضي الله تعالى عنهما ، قال : لدغت رجلاً عقرب ونحن جلوس مع رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فقال رجل : يا رسول الله ارقيه ؟ قال ( صلى الله عليه وسلم ) : " من استطاع منكم أن ينفع أخاه فليفعل " . وفي رواية فجاء آل عمر بن حزم إلى النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فقالوا : لا رسول الله ، كانت عندنا رقية نرقي بها من العقرب ، وإنك نهيت عن الرقى ، فقال ( صلى الله عليه وسلم ) : " اعرضوا علي رقاكم " ، فعرضوها عليه ، فقال ( صلى الله عليه وسلم ) : " ما أرى بها بأساً ، من استطاع منكم أن ينفع أخاه فلينفعه " . وفي رواية : " أعرضوا علي رقاكم لا بأس بالرقى ما لم يكن فيها شيء " . فالرقى جائزة بكتاب الله أو بذكره ، ومنهي عنها إذا كانت بالفارسية أو بالعجمية ، أو بما لا(2/190)
"""""" صفحة رقم 191 """"""
يدري معناه ، لجواز أن يكون فيه كفر . واختلفوا في رقية أهل الكتاب ، فجوزها أبو حنيفة ، وكرهها مالك خوفاً أن لكون مما بدلوا .
فمن الرقى النافعة المجربة ، أن يسأل الراقي الملدوغ إلى أين انتهى الوجع من العضو ؟ ثم يضع على أعلاه حديدة ، ويقرأ العزيمة ويكررها ، وهو يجرد موضع الألم بالحديدة من فوق حتى ينتهي في جرد السم إلى أسفل الوجع ، فإذا اجتمع في أسفله ، جعل يمص ذلك الموضع حتى يذهب جميع الألم ، ولا اعتبار بفتور العضو بعد ذلك . وهي هذه : سلام على نوح في العالمين ، وعلى محمد في المرسلين ، من حاملات السم أجمعين ، لا دابة بين السماء والأرض إلا ربي آخذ بناصيتها أجمعين ، كذلك يجزي عباده المحسنين ، إن ربي على صراط مستقيم ، نوح نوح قال لكم نوح : من ذكرني لا تأكلوه ، إن ربي بكل شيء عليم . وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم .
ورأيت بخط ابن الصلاح ، في رحلته رقية للعقرب ، قال : ذكر أن الإنسان يرقى بها فلا تلدغه عقرب ، وإن أخذها بيده لا تلدغه ، وإن لدغته لا تضره . وهي بسم الله وبالله وبسم جبريل وميكائيل كازم كازم ويزازم فتيز إلى مرن إلى مرن يشتامر ايشتامر اهوذا هوذاهى لمظا أنا الراقي والله الشافي .
صفة خاتم : نافع للسع العقرب ، ولإفاقة المجنون وللرعاف ، ولوجع العين ، إذا كان من ريح باردة ، ينقش على خاتم بلور أحمر هذه الأسماء : خطلسلسه كطوده دل صحوه أوسططا أبى ممه بيدهى سفاهه . فللعقرب يغمس في ماء نظيف ، ويجعل في موضع اللسع ، وللمجنون يديم النظر إلى الخاتم فإنه يفيق بإذن الله تعالى ، وللرعاف يكتب على الجبهة ، وللحمى يكتب على ورق الزيتون ويعلق ، وللريح يجعل الخاتم في موضع الريح ويمسحه .
ومما يكتب للحمى أيضاً على ثلاث ورقات ويبخر بها المحموم : ا ا ا ط لا ا ا ط ط ا ا ا لح لوم الأولى الثانية الثالثه كو كو كو وللحمى أيضاً يكتب على ثلاث ورقات ، ويأكل كل يوم ورقة إذا حم . الأولى بسم الله نارت واستنارت ، الثانية بسم الله في علم الغيب غارت ، الثالثة بسم الله حول العرش دارت . ومما يكتب للرعاف أيضاً ، وللنزيف لوطاً لوطاً لوطاً يكتب ثلاثة أسطر . وذكر صاحب عين الخواص : تكتب هذه الأسماء في ورقة ، أو على طاسة اسبادرية صحيحة غير مشعوبة ، أو قصعة جوز بلا شعب ، ويكتب اسم أبيه وأمه ، ويسقى للموعوك ، وإن سقيت للملسوع أفاق لوقته وهي هذه : سارا سارا إلى سارا مالى يرن يرن إلى بامالو واصال باطوطو كالعوماراساب يا فارس ارددباب ها كانا مما أبين لها ناراً أناركاس متمرنا كاطن صلوبير ص صاروب اناوين ودى . هذا لملسوع الحية قالا : ، وهو مما جرب ، فوجد نافعاً وقد تقدم ، في باب الحاء المهملة ، في الحية ما(2/191)
"""""" صفحة رقم 192 """"""
يقرب من هذا . وقال بعض العلماء المتقدمين : من قال في أول الليل وأول النهار ، عقدت زبان العقرب ولسان الحية ويد السارق ، بقول أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله أمن من الحية والعقرب والسارق .
وروى مالك والجماعة ، إلا البخاري ، عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال : جاء رجل إلى النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فقال : يا رسول الله ما لقيت من عقرب لدغتني البارحة ؟ فقال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) : " أما إنك لو قلت حين أمسيت أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق لم تضرك إن شاء الله تعالى " . وفي كامل ابن عدي ، في ترجمة وهب بن راشد الرقي ، أن الرجل المذكور بلال . وفي رواية للترمذي : من قال حين يمسي ، ثلاث مرات : أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق لم تضره حمة تلك الليلة . قال سهيل : فكان أهلنا يقولونها كل ليلة ، فلدغت جارية منهم فلم تجد لها وجعاً . وقال : هذا حديث حسن .
كلمات الله القرآن . ومعنى تمامها أن لا يدخلها نقص ولا عيب ، كما يدخل كلام الناس .
وقيل : هي النافعات الكافيات عن كل ما يتعوذ به . قال البيهقي : وإنما سماها تامة لأنه لا يجوز أن يكون في كلامه تعالى نقص أو عيب كما يكون في كلام الآدميين . قال : وبلغني عن الإمام أحمد بن حنبل أنه كان يستدل بذلك على أن القرآن غير مخلوق ، كما سيأتي إن شاء الله تعالى في الهامة .
وذكر أبو عمر بن عبد البر في التمهيد ، عن سعيد بن المسيب قال : بلغني أن من قال حين يمسي سلام على نوح في العالمين ، لم تلدغه عقرب . وقال عمرو بن دينار : إن مما أخذ على العقرب ، أن لا تضر أحداً قال في ليل أو نهار : سلام على نوح في العالمين .
وفي التمهيد ، لابن عبد البر في ترجمة يحيى بن سعيد الأنصاري ، في بلاغاته في الثاني عشر ، قال ابن وهب وأخبرني ابن سمعان قال : سمعت رجالاً من أهل العلم يقولون : إذا لدغ الإنسان ، فنهشته حية أو لدغته عقرب ، فليقرأ الملدوغ هذه الآية : " نودي أن بورك من في النار ومن حولها وسبحان الله رب العالمين " .
وقال الشيخ أبو القاسم القشيري ، في تفسيره في بعض التفاسير : إن الحية والعقرب ، أتتا نوحاً عليه الصلاة والسلام ، فقالتا : احملنا ، فقال نوح : لا أحملكما فإنكما سبب للبلاء والضرر ، فقالتا : احملنا ونحن نعاهدك ونضمن لك أن لا نضر أحداً ذكرك ، فعاهدهما وحملهما . فمن قرأ ممن كان يخاف مضرتهما حين يمسي وحين يصبح : " سلام على نوح في العالمين ، إنا كذلك نجزي المحسنين ، إنه من عبادنا المؤمنين " ما ضرتاه .
ثم روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما ، أن نوحاً عليه الصلاة والسلام اتخذ السفينة في سنتين . وكان طولها ثلاثمائة ذراع ، وعرضها خمسين ذراعاً ، وسمكها ثلاثين ذراعاً ، وكانت من خشب الساج ، وجعل لها ثلاثة بطون : في البطن الأسفل الوحوش والسباع والهوام ، وفي البطن(2/192)
"""""" صفحة رقم 193 """"""
الثاني ، وهو الأوسط ، الدواب والأنعام ، وركب هو ومن معه في البطن الأعلى مع ما احتاج إليه من الزاد . وروينا عن الشيخ الإمام الحافظ فخر الدين عثمان بن محمد بن عثمان التوريزي ، نزيل مكة المشرفة ، أنه قال : كنت أقرأ بمكة الفرائض ، على الشيخ تقي الدين الحوراني ، فبينما نحن جلوس ، وإذا بعقرب تمشي ، فأخذها الشيخ بيده ، وجعل يقلبها في يده ، فوضعت الكتاب من يدي ، فقال : اقرأ ، فقلت : حتى أتعلم هذه الفائدة ، فقال : هي عندك ، قلت : ما هي ؟ قال : ثبت عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أنه قال : " من قال حين يصبح وحين يمسي : بسم الله الذي لا يضر مع اسمه شيء في الأرض ولا في السماء وهو السميع العليم ، لم يضره شيء وقد قلتها أول النهار " . ومما يدفع شر الحية والعقرب ، أن يقرأ عند النوم ثلاث مرات : أعوذ برب أوصافه سمية من كل عقرب وحية ، سلام على نوح في العالمين ، إنا كذلك نجزي المحسنين ، أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق .
فائدة : يقال : لدغته العقرب تلدغه لدغاً وتلداغاً فهو ملدوغ ولديغ .
قال أبو داود الطيالسي ، في قوله ( صلى الله عليه وسلم ) : " لا يلدغ المؤمن من جحر مرتين " : معناه أن المؤمن لا يعاقب على ذنبه في الدنيا ، ثم يعاقب عليه في الآخرة . والذي قال فيه النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ذلك ، هو أبو عزة الجمحي الشاعر ، واسمه عمر ووقع في الأسر يوم بدر ، ولم يكن معه مال ، فقال : يا رسول الله إني ذو عيلة ، فأطلقه لبناته الخمس ، على أن لا يرجع للقتال . فرجع إلى مكة ومسح عارضيه ، وقال : خدعت محمداً مرتين ، ثم عاد عام أحد مع المشركين . فقال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) : " اللهم لا تفلته " . فلم يقع في الأسر غيره ، فقال : يا محمد إني ذو عيلة فأطلقني . فقال ( صلى الله عليه وسلم ) : " لا يلدغ المؤمن من جحر مرتين " . وأمر بقتله . والحديث المذكور رواه الشافعي ومسلم وابن ماجه . وقوله لا يلدغ يروى بضمن الغين على الخبر ، يعني أن المؤمن حازم لا يخدع مرة بعد مرة ، ولا يفطن لذلك . وقيل : أراد به الخداع في أمر الآخرة دون أمر الدنيا . ويروى بكسر الغين نهياً ، أي لا يؤتى من جهة الغفلة ، وهذا يصح أن يتوجه إلى أمر الدنيا والآخرة أيضاً .
ويؤيد ما قاله أبو داود الطيالسي ، ما رواه النسائي ، في مسند علي ، عن أبي سخيلة أنه سمع علياً رضي الله تعالى عنه يقول : ألا أخبركم بأفضل آية في كتاب الله تعالى ؟ قالوا : بلى . قال : قوله تعالى : " وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفو عن كثير " . قال لي رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) : يا علي ما أصابك من بلاء ، أو عقوبة ، أو مرض في الدنيا ، فبما كسبت يداك . والله أكرم من أن يثني على عبده في الآخرة العقوبة ، وما عفا الله عنه في الدنيا ، فالله أكرم وأحلم من أن يعود بالعقوبة بعد عفوه انتهى . ولذلك قال الواحدي : إن هذه الآية أرجى آية في القرآن ،(2/193)
"""""" صفحة رقم 194 """"""
لأنه جعل ذنوب المؤمنين صنفين : صنف كفره بالمصائب ، وصنف عفا عنه ، وهو جل وعلا كريم لا يعود في عفوه .
فائدة أخرى : يقال : لسعته العقرب والحية تلسعه لسعاً فهو ملسوع وما أحسن قول الأول :
قالوا : حبيبك مسلوع ، فقلت لهم : . . . من عقرب الصدغ أم من حية الشعر
قالوا : بلى من أفاعي الأرض ، قلت لهم : . . . وكيف تسعى أفاعي الأرض للقمر
ويقال في الحية : عضت تعض ، ونهشت تنهش ، ونشطت تنشط ، ونكزت بأنفها تنكز . وأنشدني شيخنا الشيخ جمال الدين عبد الرحيم الأسنوى قال : أنشدنا شيخنا الشيخ أثير الدين أبو حيان قال : أنشدنا الحافظ رضي الدين أبو عبد الله الشاطبي قال : أنشدنا أبو الربيع سليمان بن سالم الناقد قال : أنشدنا أبو عبد الله بن رافع القيسي قال : أنشدنا أبو القاسم بن حبيش قال : أنشدنا أبو عبد الله محمد بن الفراء الضرير الخطيب بقصبة المرية لنفسه :
يا حسنا مالك لم تحسن . . . إلى نفوس في الهوى متعبه
رقمت بالورد وبالسوسن . . . صفحة خد بالسنا مذهبه
وقد أبى صدغك إن أجتنى . . . منه وقد ألدغني عقربه
يا حسنه إذ قال : ما أحسني . . . ويا لذاك اللفظ ما أعذبه
قلت له : كلك عندي سنا . . . وكل ألفاظك مستعذبه
ففوق السهم ولم يخطني . . . ومذ رآني ميتاً أعجبه
وقال كم عاش وكم حبني . . . وحبه إياي قد أتعبه
يرحمه الله على أنني . . . قتلي له لم أدر ما أوجبه قال الحريري في درة الغواص : السوسن بفتح السين ، وقد أذكرني السوسن أبياتاً أنشدنيها علي بن عبد العزيز الأديب المغربي ، لأبي بكر بن القوطية الأندلسي ، يصف فيها الورد والسوسن ، مما أبدع فيه وأحسن فأوردتها على وجه التسديد لسمط هذا الفصل ، والتأسي بمن درج من أهل الفضل وهي :
قم فاسقنيها على الورد الذي نعما . . . وباكر السوسن الغض الذي نجما
كأنما ارتضعا خلفي سماءهما . . . فأرضعت لبنا هذا وذاك دما
جسمان قد كفر الكافور ذاك وقد . . . عق العقيق احمراراً ذا وما ظلما
كان ذا طلية نصت لمعترض . . . وذاك خد غداة البين قد لطما
أولا فذاك أنابيب اللجين وذا . . . جمر الغضى حركته الريح فاضطرما
وقالت العرب : قد كنت أظن أن العقرب أشد لسعاً من الزنبور ، فإذا هو هي . وقالوا(2/194)
"""""" صفحة رقم 195 """"""
أيضاً : فإذا هو إياها ، وهذا الوجه هو الذي أنكره سيبويه ، لما سأله الكسائي ، بحضرة يحيى بن خالد البرمكي ، فقال له الكسائي : إن العرب ترفع كل ذلك وتنصبه ، فقال له يحيى : قد اختلفتما وأنتما رئيسا بلديكما ، فقال له الكسائي : هذه العرب ببابك قد سمع منهم أهل البلدين ، فيحضرون ويسألون ، فأحضروا وسئلوا فوافقوا الكسائي . فأمر يحيى لسيبويه بعشرة آلاف درهم . ورحل سيبويه من فوره إلى بلاد فارس فأقام بها حتى مات في سنة ثمانين ومائة ، وله من العمر ثلاث وثلاثون سنة ، وقيل اثنتان وثلاثون سنة .
ويقال : إن العرب علموا منزلة الكسائي عند الرشيد ، فقالوا : القول قول الكسائي ، ولم ينطقوا بالنصب وإن سيبويه قال ليحيى : مرهم أن ينطقوا بذلك ، فإن ألسنتهم لا تطاوعهم على النطق به . وقد أشار إلى ذلك حازم في منظومته بقوله :
والعرب قد تحذف الأخبار بعد إذا . . . إذا عنت فجأة الأمر الذي دهما
وربما نصبوا بالحال بعد إذا . . . وربما رفعوا من بعدها ربما
فإن توالى ضميران اكتسى بهما . . . وجه الحقيقة من أشكاله عمما
لذلك أعيت على الأفهام مسألة . . . أهدت إلى سيبويه الحتف والغمما
قد كانت العقرب العرجاء أحسبها . . . قدما أشد من الزنبور وقع حما
وفي الجواب عليها هل إذا هو هي . . . أو هل إذا هو إياها قد اختصما
فخطأ ابن زياد وابن حمزة في . . . ما قال فيها أبا بشر وقد ظلما
وغاظ عمرا علي في حكومته . . . يا ليته لم يكن في أمره حكما
كغيظ عمرو علياً في حكومته . . . يا ليته لم يكن في أمره حكما
وفجع ابن زياد كل منتخب . . . من أهله إذا غدا منه يفيض دما
وأصبحت بعده الأنفاس باكية . . . في كل طرس كدمع سح وانسجما
وليس يخلو امرؤ من حاسد أضم . . . لولا التنافس في الدنيا لما أضما
والغبن في العلم أشجى محنة علمت . . . وأترح الناس شجواً عالم هضما
الحكم : يحرم أكل العقرب وبيعها ، وتقتل في الحل والحرم ، وإذا ماتت في مائع نجسته على المشهور . وقيل : لا تنجسه كالوزغة . ونقل الخطابي عن يحيى بن أبي كثير ، أن العقرب إذا ماتت في الماء نجسته ، ثم قال : وعامة أهل العلم على خلافه .
الأمثال : قال الشاعر :
ومن لم يكن عقرباً يتقى . . . مشت بين أثوابه العقرب
وقالوا : في النصح لسع العقارب وقالوا : أعدى من العقرب ، وهو من العداوة .(2/195)
"""""" صفحة رقم 196 """"""
وقالوا : العقرب تلدغ وتصي يضرب للظالم في صفة المتظلم . وقالوا : تحككت العقرب بالأفعى يضرب لمن ينازع أو يخاصم من هو أكثر منه شراً . يقال : تحكك به ، إذا تعرض لشره ، وقولهم : أتجر من عقرب وأمطل من عقرب . هو اسم تاجر كان بالمدينة ، وكان من أكثر الناس تجارة ، وأشدهم تسويفاً ، حتى ضربوا بمطله المثل . فاتفق أن الفضل بن عباس بن عتبة بن أبي لهب ، وكان من أشد الناس اقتضاء ، عامله ، فقال الناس : ننظر الآن ما يصنعان ، فلما جاء المال لزم الفضل باب عقرب ، وشد حماره ببابه ، وقعد يقرأ القرآن ، فأقام عقرب على المطل غير مكترث به ، فعدل الفضل عن ملازمة بابه إلى هجاء عرضه ، فمما سار عنه قوله فيه : كل عدو كيده في استه . . . فغيره ليس الأذى ضائره
قد تجرت في سوقنا عقرب . . . لا مرحباً بالعقرب التاجره
كل عدو يتقى مقبلا . . . وعقرب يخشى من الدابره
إن عادت العقرب عدنا لها . . . وكانت النعل لها حاضره
وقد أذكرني قوله : إن عادت العقرب عدنا لها البيت ، ما حكاه الشيخ كمال الدين الأدفوي ، في كتابه الطالع السعيد أن الشيخ تقي الدين بن دقيق العيد ، كان في صباه يلعب الشطرنج مع زوج أخته الشيخ تقي الدين بن الشيخ ضياء الدين ، فأذن بالعشاء فقاما فصليا ، ثم قال الشيخ تقي الدين بن عقيق العيد : أما تعود ؟ فقال صهره :
إن عادت العقرب عدنا لها . . . وكانت النعل لها حاضره
فأنف الشيخ تقي الدين من ذلك فلم يعد يلعبها إلى أن مات .
فائدة : قال ابن خلكان ، في ترجمة أبي بكر الصولي الكاتب المشهور ، أنه كان أوحد أهل زمانه في لعب الشطرنج ، والناس إلى الآن ، يضربون المثل به في ذلك . وزعم كثير من الناس أنه الذي وضع الشطرنج ، وهو غلط ، وواضعه رجل يقال له صصة ، بصادين مهملتين ، الأولى مكسورة والثانية مفتوحة مشددة وضعه لملك الهند شهرام بكسر الشين المعجمة ، وكان أردشير بن بابك ، أول ملوك الفرس المؤرخة به ، قد وضع النرد ، ولذلك قيل له النردشير ، نسبوه إلى واضعه المذكور ، وجعله مثالا للدنيا وأهلها . فجعل الرقعة اثني عشر بيتاً بعدد شهور السنة ، وجعل القطع ثلاثين قطعة بعدد أيام الشهر ، وجعل الفصوص مثل القضاء والقدر وتقلبه في الدنيا ،(2/196)
"""""" صفحة رقم 197 """"""
فافتخرت الفرس بوضع النرد ، فوضع صصة الهندي الحكيم الشطرنج ، لملك الهند ، فقضت حكماء ذلك العصر بترجيح الشطرنج على النرد . وأردشير بالراء المهملة ، وقيل بالزاي ، هو الذي أباد ملوك الطوائف ، ومهد لنفسه الملك . وهو جد ملوك الفرس الذين أخرجهم يذدجرد بكسر الجيم . وانقرض ملكهم في خلافة عثمان رضي الله تعالى عنه سنة اثنتين وثلاثين من الهجرة انتهى .
والصواب أن الملك الذي وضع له الشطرنح بلهيت ، كما قاله شيخنا اليافعي وغيره ، وأنه لما قدمه للملك وأراه طريقة اللعب به ، أعجب الملك إعجاباً عظيماً ، وقال له : تمن علي فقال : أتمنى عليك أيها الملك أن يوضع درهم في أود بيوت الرقعة ، ويضاعف إلى آخرها ، فقال له الملك : ما هذا القدر أفسدت علينا ما صنعت فقال الوزير : مهلا أيها الملك ، فإن خزائنك وخزائن ملوك أهل الأرض تنفددون ذلك وقد أغفل ابن خلكان من وصف النرد أشياء منها : أن الاثني عشر بيتاً التي في الرقعة مقسومة أربعة ، على عدد فصول السنة ، ومنها أن الثلاثين قطعة بيض وسود كالأيام والليالي . ومنها أن الفصوص مسدسة ، إشارة إلى أن الجهات مست لا سابع لها . ومنها أن ما فوق الفصوص وتحتها كيفما وقعت سبع نقط عدد الأفلاك ، وعدد الأرضين ، وعدد السموات ، وعدد الكواكب السيارة . ومنها أنه جعل تصرف اللاعب في تلك الأعداد لاختياره وحسن التدبير بعقله . كما يرزق العاقل شيئاً قليلا فيحسن التدبير فيه ، ويرزق المفرط شيئاً كثيراً فلا يحسن التصرف فيه ، فالنرد جامع لحكم القضاء والقدر وحسن التصرف لاختيار لاعبه ، والشطرنج مفوض لاختيار اللاعب وعقله وتصرفه ، والجيد أو الرديء . وتفضيل الشطرنج على النرد فيه نظر .
والسطرنج بكسر السين المهملة على وزن جردحل ، وهو الضخم من الإبل وقد جوز في الشطرنج أن مقال بالشين المعجمة ، لجواز اشتقاقه من المشاطرة وأن يقال بالسين المهملة لجواز أن اشتق من التسطير ، عند التعبية قاله في درة الغواص . ومما قيل في الشطرنج :
وخيل قد رأيت إزاء خيل . . . يسقى بها كأكياس الرياح
بميمنة وميسرة وقلب . . . كتعبية الكتائب للبطاح
إذا ما قتلوا نشروا وعادوا . . . صحاحاً لم يصابوا بالجراح
بغير عداوة كانت قديماً . . . ولكن للتلذذ والمزاح إشارة : لعب الشطرنج مكروه كراهة تنزيه ، وقيل : حرام ، وقيل : مباح ، والأول أصح . وقال مالك وأبو حنيفة وأحمد : إنه حرام . ووافقهم من أصحابنا الحليمي والروياني . وروى البيهقي أن محمد بن سيرين ، وهشام بن عروة بن الزبير ، وبهز بن حكيم ، والشعبي وسعيد بن جبير ، كانوا يلعبون بالشطرنج ، وقال الشافعي : كان سعيد بن جبير يلعب بالسطرنج استدباراً من وراء ظهره . وروى الصعلوكي تجويزه عن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه ،(2/197)
"""""" صفحة رقم 198 """"""
وأبي اليسر وأبي هريرة والحسن البصري والقاسم بن محمد وأبي قلابة وأبي مجلز وعطاء والزهري وربيعة بن عبد الرحمن وأبي الزناد رحمهم الله تعالى . والمروي عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه من اللعب به ، مشهور في كتب الفقه .
وروى الصولي في جزء ، قد جمعه في الشطرنج ، أن أبا هريرة وعلي بن الحسين زين العابدين وسعيد بن المسيب ومحمد بن المنكدر والأعمش وناجية وعكرمة وأبا إسحاق السبيعي ، وإبراهيم بن سعد وإبراهيم بن طلحة بن عبد الله بن معمر ، كانوا يلعبون بالشطرنج . وقد ذكرت الأسانيد عن هؤلاء ، وتكلمت على أدلة المخالفين ، بكلام يشفي النفس ، ويذهب اللبس ، في جزء أفردته في الشطرنج والشد ، نحو عشرين كراسة ، فاعلم ذلك والله تعالى أعلم .
قال أصحابنا : ولأن الشطرنج فيها تدبير الحروب ، فأشبهت اللعب بالحراب ولم يثبت عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) نهي صحيح عن اللعب به ، وأقوى ما يحتج به القائلون بالتحريم ، ما روي عن ابن عمر أنه سئل عن الشطرنج ، فقال : هي شر من النرد . قالوا : والنرد حرام . فيكون الشطرنج كذلك . قال الإمام تاج الدين السبكي ، في الجواب عن هذا الأثر : إنا لا نعلم مذهب ابن عمر في النرد ، ولعله كان يقول بحله . وهو وجه لأصحابنا ولا يلزم حينئذ من كون الشطرنج شراً من الحلال ، باعتبار ما أن يكون حراماً . وأيضاً فإن المسألة مسألة اجتهادية . ولعل ابن عمر كان يذهب إلى التحريم ، ورأي الشافعي معروف .
وعلى قول من قال : إن قول الصحابي حجة يشترط فيه أن لا يعارضه قول صحابي آخر ، وهذا قد عارضه قول جماعة من الصحابة بالجواز ، وأيضاً هذا الأثر لم يقل بظاهره أحد من العلماء ، وذلك أن ظاهره أن الشطرنج شر من النرد ، سواء اشتمل على عوض أم لا ، وبعض العلماء قال : إن الشطرنج شر من النرد ، لكن شرط فيه أن يكون مشتملا على عوض ، وأما إذا لم يكن مشتملا على عوض ، فلم نعلم أن أحداً من العلماء قال إنه في هذه الحالة شر من النرد . وإذا كان الأثر مردود الظاهر بالإجماع ، سقط الاحتجاج به انتهى .
وروى الآجري عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه ، أنه قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) : " إذا مررتم بهؤلاء الذين يلعبون بالأزلام الشطرنج والنرد فلا تسملوا عليهم " . هذا حديث ضعيف ، لأن في سنده سليمان اليماني ، وقد قال ابن معين فيه : ليس بشيء . وقال البخاري : منكر الحديث ، فلا تحل الرواية عنه . وقال ابن أبي حاتم : سمعت أبي يقول : هو منكر الحديث ، لا أعلم له حديثاً صحيحاً انتهى . فأما إذا انضم إليه اشتغال عن صلاة أو غيرها ، فالتحريم إذ ذاك ليس للشطرنج نفسه ، وهو مكروه إذا لم يواظب عليه ، فإن واظب عليه فإنه يصير صغيرة ، كما ذكره الغزالي في كتاب التوبة من الإحياء . لكن ذكر ابن الصباغ ، في الشامل خلافه . وأما النرد فحرام على الأصح ، لقوله ( صلى الله عليه وسلم ) : " من لعب بالنرد فقد عصى الله ورسوله " . ولقوله ( صلى الله عليه وسلم ) : " مثل الذي يلعب النرد ثم يقوم فيصلي ، مثل الذي يتوضأ بالقيح ولحم الخنزير ثم يقوم فيصلي " . ومن محاسن(2/198)
"""""" صفحة رقم 199 """"""
شعر الإمام العلامة حجة الإسلام أبي حامد الغزالي رحمه الله تعالى في التشبيه :
حلت عقارب صدغه من خده . . . قمراً يجل به عن التشبيه
ولقد عهدناه يحل ببرجها . . . ومن العجائب كيف حلت فيه
وقد تقدم ذكر وفاته ، وطرف من أخباره في باب الحاء المهملة في الحمام . وقد أجاد أبو المحاسن يوسف بن الشواء في وصف غلام أرسل أحد صدغيه وعقد الآخر فقال :
أرسل صدغاً ولوى قاتلي . . . صدغاً فأعيا بهما واصفه
فخلت ذا في خده حية . . . تسعى وهذا عقرباً واقفه
ذا ألف ليست لوصل وذا . . . واو ولكن ليست العاطفه
ومن محاسن شعره رحمه الله أيضاً :
قالوا : حبيبك قد تضوع نشره . . . حتى غدا منه الفضاء معطرا فأجبتهم والخال يعلو خده . . . أو ما ترى النيران تحرق عنبرا
الخواص : قال صاحب عين الخواص : العقرب إذا رأت الوزغة ماتت ويبست من ساعتها . وقيل : إن العقرب إذا أحرقت ودخن بها البيت ، هربت العقارب منه ، وإذا طبخت بزيت ووضع على لدغ العقارب سكن الوجع ، ورماد العقارب يفتت الحصى . وإن أخذت عقرب وقد بقي من الشهر ثلاثة أيام ، وجعلت في إناء ، وصب عليها رطل زيت ، وسد رأس الإناء ، وترك حتى يأخذ الزيت قوتها ، ثم ادهن به من به وجع الظهر والفخذين ، فإنه ينفعه ويقويه . وإن شرب بزر الخس بشراب أمن شاربه من لسع العقارب ، وإن طرحت قطعة من فجل ، على قدر لم يدب عليها عقرب إلا ماتت من وقتها . وإذا ديف ورق الخس بدهن ، وطلي به على لسعة العقرب أبرأها ، وإن طبخت العقرب بسمن البقر ، وطلي به موضع لسعتها سكنها من وقته . وقال ابن السويدي : إذا وضعت العقرب في إناء فخار ، وسد رأسه ، ثم وضع في تنور إلى أن تصير رماداً وسقي من ذلك الرماد من به الحصى نفعه وفتتها . وإذا بخر البيت بعقرب اجتمعت فيه العقارب ، كذا قال أرسطو ، وقال غيره : تهرب منه العقارب . وإذا غرزت شوكة العقرب في ثوب إنسان ، لم يزل سقيماً حتى تزول منه . وإن دقت العقارب وألصقت على لسعتها أبرأتها . وإن وقعت في ماء وشرب منه إنسان وهو لا يعلم ، امتلأ جسده قروحاً . وإن بخر البيت بزرنيخ أحمر وشحم البقر هربت منه العقارب .(2/199)
"""""" صفحة رقم 200 """"""
وقال القزويني والرافعي : من شرب مثقالين من حب الأترج ، بعد دقه ناعماً ، أبرأ ذلك من لسعة العقرب والحية وغيرهما من ذوات السموم ، وهو عجيب مجرب . وفي عجائب المخلوقات ، أنه إذا علق شيء من عروق شجرة الزيتون ، على من لسعته العقرب برئ من وقته ، وشجر الرمان إذا بخر بحطبه طردها ، وشحم الماعز والسمن البقري والزرنيخ الأصفر ، وحافر الحمار ، والكبريت ، ورش البيت بالماء المنقوع فيه الحلتيت ، ووضع قشور الفجل في البيت ، كل ذلك يطردها وهو عجيب أيضاً مجرب . ذكر ذلك في المنتخب ، وفي الموجز الفجل المشدوخ وعصارته ، إذا أمسكت وورقه والباذروج يطردها ، وإن وضع الفجل المقطوع على جحرها لم تجرأ على الخروج ، وفيها أن تفل الصائم يقتل الحيات والعقارب .
وفي المنتخب أن تفل الحار المزاج ، يفعل مثل ذلك ، ورؤية السها تؤمن من لسعة العقرب والسارقي ، وقد ذكر ذلك الرئيس أبو علي بن سينا في أرجوزته . وقيل : إنها لابن شيخ حطين ، وهي تشتمل على خواص مجربة وأسرار من علم الطب فلنأت بها بكمالها لتتم الفائدة وهي هذه : بدأت بسم الله في نظم حسن أذكر ما جربت في طول الزمن
ما هو بالطبع وبالخواص . . . لكل عائم ولكل خاص
في شوكة العقرب نجم توأم . . . تراه عين من يراه يعلم
إذا تراآه امرآن اصطحبا . . . واتفقا وذا وذا تحابيا
لا سيما إن قيل ذا محبب . . . بعض لبعض كوكبان كوكب
وتوأم نجمان في سعد بلع . . . رؤيته لكل ود قد جمع
ومثله أيضاً لسعد الذابح . . . رؤيته لكل ود صالح
تخبر من شئت به فيعجب . . . ثم يقول كوكبان كوكب
فينشأ الود بإذن الله . . . بينهما فلا تكن باللاهي
كف الخضيب فرقة إلى الأبد . . . لكائن من كان من كل أحد
ينظره الإنسان أو جماعه . . . يفترقوا إلى قيام الساعه
نجم السها مأمنة من سارق . . . ومن سموم عقرب وطارق
ومن رأى عشية نجم السها . . . لم تدن منه عقرب يمسها
وقيل لا يدنو إليه سارق . . . في سفر ولا بسوء طارق
الطخ على الحزاز دهن القمح . . . مع وسخ الأسنان بعد المسح
فإنه يذهب منها سعيها . . . كالنار فيها ثم يوري نقيها
أكو رؤوس كل ثؤلول يرى . . . بعودتين قد حرقت أخضرا
ومثله رؤوس قش الحلبه . . . تذهب بالثؤلول منه الرعبه
تخطيطك الأظفار بعد الصبح . . . بكزلك عرضا مزيل القلح(2/200)
"""""" صفحة رقم 201 """"""
وطبقك الأضراس في التثاؤب . . . يمنع من هذا لذي التجارب أعني عروض القلح إن تقرحت . . . كذاك إن تحفرت واصطلمت
يغرغر العليل ذو الخناق . . . بمرق الضبار كالترياق
لا سيما إن شابه كشوث . . . لذي الخلاط نفعه موروث
ابلع من الصابون رزن درهم . . . تنج من القولنج غير المحكم
وامسح على الأضراس والأسنان . . . لو كالها بطرف اللسان
وقد حرمت الأكل من لحم الفرس . . . شهراً ولا من هندبا تبغي الحرس
وذاك عند رؤية الهلال . . . فتأمن الأضراس من أعلال
كذاك في كل هلال يجتلى . . . فإنها مأمنة من البلا
لا تغسلن ثيابك الكتانا . . . ولا تصد فيها كذا حيتانا
عند اجتماع النيرين تبلى . . . وفي السرار فاتخذه أصلا
اتخذ البرمة من زجاج . . . من غير تلوين ولا علافي
والنار جزل إن تشا أو فحم . . . ينضج فيها اللحم ثم الشحم
وكرر الطبخ بها أياماً . . . وأشهراً إن شئت أو أعواما
وذاك سهل ليس بالعسير . . . من غير تقتير ولا تكثير
وتتخذ كحلا جديداً محرقا . . . منعماً مصولا مروقاً
ومثله من حجر الهنود . . . ذي الخاصة الجاذبة الحديد
مطيباً بالمسك طيب الإثمد . . . وأكحل به من شئت فرد مردود
ثم اكتحل منه على مر المدى . . . لأنه لم يتخذ كحلا سدى
واكحل المحبوب بالحديد . . . يهواك في الوقت بلا مزيد
فيسحر العينين منه فيرى . . . وجهك شمساً باهياً أو قمرا
ولا يكاد يستطيع صبراً . . . عنك ولو حرقت منه الصحرا
نشادر الدخان بالحمام . . . ينضحه الفخار من مسام
فريحه يقتل الأفاعي . . . من الهوام والدبيب الساعي
ووزن مثقال إذا ما شربا . . . مع وزنه من الرجيع انتخبا
يخلص المسموم من مماته . . . من بعد يأس الأمر من حياته
هذا إذا دبر بالإتقان . . . بالسحق والترويق في الأواني
وكل ما جاد بسحق فاعتبر . . . وفيه يا هذا تفهم واختبر
مرارة الحية سم قاتل . . . وهي لملدوغ بها تقابل
إذا سقي المسموم منها حبه . . . نجا من السم بتلك الشربه(2/201)
"""""" صفحة رقم 202 """"""
وإن سقي منها صحيح ماتا . . . من يومه وفارق الحياتا
التعبير : العقرب في المنام رجل نمام ، فمن نازعته عقرب فإنه ينازع رجلا نماماً ، ومن أخذ عقرباً في منامه ، فألقاها على زوجته ، فإنه يأتيها في الدبر ، وإن سيبها على الناس فإنه رجل لوطي ، ومن قتل عقرباً خرج منه مال وعاد إليه ، والعقرب في السروايل رجل فاسق ، يداخل امرأة من ورائها في سروايله ، ومن أكل لحم عقرب مطبوخاً ، فإنه يرث مالا ، وإن كان نيئاً اغتاب رجلا فاسقاً ، وكذلك كل حيوان لا يؤكل إذا أكل لحمه في المنام ، والعقرب رجل يظهر ما في بطنه لسانه ، والعقارب في البطن أولاد أعداء ، ونزول العقرب من الدبر ولد عاق ، وربما دلت رؤية العقرب على الافتتان ، بمن يشبه العقرب بصدغه إذا بدا فيه الشعر ، والله تعالى أعلم .
العقريان : دوببة تدخل الأذن ، وهي هذه الطويلة الصفراء الكثيرة القوائم ، قاله ابن سيده .
العقف : الثعلب . قال حميد بن ثور الهلالي :
كأنه عقف تولى يهرب . . . من أكلب تعقفهن أكلب
يقال : عقفت الشيء فانعقف ، أي عطفته فانعطف . العقعق : كثعلب ويسمى كندشاً بالشين المعجمة ، وصوته العقعقة وهو طائر على قدر الحمامة ، وهو على شكل الغراب وجناحاه أكبر من جناحي الحمامة ، وهو ذو لونين أبيض وأسود طويل الذنب ، ويقال له القعقع أيضاً . وهو لا يأوي تحت سقف ولا يستظل به بل يهيء وكره في المواضع المشرفة ، وفي طبعه الزنا والخيانة ، ويوصف بالسرقة والخبث والعرب تضرب به المثل في جميع ذلك ، وإذا باضت الأنثى أخفت بيضها بورق الدلب خوفاً من الخفاش ، فإنه متى قرب من البيض مذر وفسد وتغير من ساعته .
حكى الزمخشري وغيره في تفسير قوله تعالى : " وكأين من دابة لا تحمل رزقها الله يرزفها " عن سفيان بن عيينة أنه قال : ليس شيء من الحيوان يخبأ قوته إلا الإنسان والنمل والفأر والعقعق . وعن بعضهم أنه قال : رأيت البلبل يحتكر ، ويقال إن للعقعق مخابئ ، إلا أنه ينساها . وفي طبعه شدة الاختطاف لما يراه من الحلي . فكم من عقد ثمين اختطفه من شمال ويمين قال الشاعر :
إذا بارك الله في طائر . . . فلا بارك الله في العقعق
قصير الذنابي طويل الجناح . . . متى ما يجد غفلة يسرق
يقلب عينيه في رأسه . . . كأنهما قطرتا زئبق
فائدة : اختلفوا في سبب تسميته عقعقاً فقال الجاحظ : لأنه يعق فراخه فيتركهم بلا طعام ،(2/202)
"""""" صفحة رقم 203 """"""
وبهذا يظهر أنه نوع من الغربان ، لأن جميعها يفعل ذلك . وقيل : اشتق له هذا الاسم من صوته . الحكم : في حله وجهان : أحدهما يؤكل كغراب الزرع ، والثاني يحرم وهو الأصح في الروضة تبعاً للبغوي والبوسنجي . وسئل الإمام أحمد عنه فقال : إن لم يأكل الجيف فلا بأس به . وقال بعض الصحابة : إنه يأكلها فيكون على قوله محرماً .
فائدة : حكى الجوهري أن العرب تتشاءم به وبصياحه ، لأنهم كانوا يشتقون في الطيرة مما يسمعون ويشاهدون ، فكانوا إذا سمعوا العقعق اشتقوا منه العقوق ، وإذا سمعوا العقاب اشتقوا منه العقوبة ، وإذا رأوا شجر الخلاف ، وهو الصفصاف ، اشتقوا منه الخلاف . والخلاف بتخفيف اللام ضد الوفاق ، وكذلك الخلاف الذي هو الصفصاف ، بتخفيف اللام أيضاً . وحكى الرافعي الخلاف عن الحنفية ، فيمن خرج لسفر فسمع صوت عقعق فرجع ، هل يكفر أم لا ؟ قيل : إنه يكفر ، وكذلك رأيته في فتاوى قاضي خان . قال النووي : الصحيح أنه لا يكفر عندنا بمجرد ذلك .
الأمثال : قالوا : ألص من عقعق وأحمق من عقعق لأنه كالنعامة التي تضيع بيضها وأفراخها وتشتغل ببيض غيرها وإياها عنى هدبة بقوله :
كتاركة بيضها بالعراء . . . وملبسة بيض أخرى جناحا
الخواص : إذا جعل دماغه على قطنة ، وألصق على موضع النصل ، أو الشوكة الغائصين في البدن ، أخرجهما بسهولة . ولحمه حار يابس رديء الكيموس .
التعبير : العقعق في الرؤيا رجل لا أمان له ولا وفاء ، ومن رأى أنه كلمه عقعق جاءه خبر من غائب ، والعقعق رجل حكار يطلب الغلاء والله أعلم .
العقيب : طائر ، لا يستعمل إلا مصغراً .
العكاش : كرمان ذكر العنكبوت عن كراع .
العكرشة : بكسر العين والراء المهملتين وبالشين المعجمة في آخره ، الأرنب الأنثى . وفي الحديث ، أن رجلا سأل عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه ، فقال : عنت لي عكرشة ، وأنا محرم ، فقتلتها ، فقال : فيها جفرة .
العكرمة : بكسر العين والراء المهملتين الأنثى الحمام ، وسمي بها الإنسان أيضاً ، كعكرمة مولى ابن عباس ، أحد أوعية العلم ، ولما مات مولاه عبد الله بن عباس رضي الله تعالى عنهما ، كان عكرمة رقيقاً لم يعتقه ، فباعه ولده علي بن عبد الله بن عباس لخالد بن يزيد بن معاوية بأربعة آلاف دينار ، فقال عكرمة لعلي : بعت علم أبيك بأربعة آلاف دينار فاستقال خالداً فأقاله ثم أعتقه . مات عكرمة وكثير عزة الشاعر في يوم واحد بالمدينة سنة خمس ومائة ، وصلي عليهما في(2/203)
"""""" صفحة رقم 204 """"""
مكان واحد . فقال الناس : مات اليوم أعلم الناس وأشعر الناس رحمهما الله تعالى .
قال ابن خلكان وغيره : وكثير عزة أحد شعراء العرب ومتيميها ، وكان كيسانياً والكيسانية فرقة من الروافض يعتقدون إمامة محمد بن علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه ، وهو المعروف بمحمد ابن الحنفية . ويقولون : إنه مقيم بجبل رضوى ، ومعه أربعون نفراً من أصحابه ولم يوقف لهم على خبر ، ويقولون : إنهم أحياء يرزقون ، وإنه سيرجع إلى الدنيا ويملؤها عدلا وفي ذلك يقول كثير عزة : وسبط لا يذوق الموت حتى . . . تعود الخيل يقدمها اللواء
يغيب فلا يرى فيهم زماناً . . . برضوى عنده عسل وماء
قلت : الصواب أنهما للحميري . قال : وكانت وفاة محمد بن الحنفية سنة اثنتين أو ثلاث وسبعين من الهجرة والله تعالى أعلم .
العلج : بكسر العين وإسكان اللام ، حمار الوحش السمين القوي ، والرجل من كفار العجم ، والجمع علوج وأعلاج ومعلوجاء وعلجة .
العل : بالفتح القراد المهزول .
العلجوم : بضم العين وسكون اللام وضم الجيم الضفدع الذكر ، وقيل : البطة الذكر كذا حكاه ابن سيده .
العلام : بضم العين وتشديد اللام وبالميم في آخره الباشق .
العلوش : بكسر العين وفتح اللام المشددة على وزن سنور : ابن آوى والذئب ودويبة وضرب من السباع . قال ابن رشيق في كتاب الغرائب والشذوذ : قال الخليل : ليس في كلام العرب كلمة تجتمع فيها شين ولام إلا والشين قبل اللام إلا العلوش ، فإن اللام فيه تقدمت على الشين وهو مفرد في الكلام .
العلهان : كالكروان : الظليم وقد مر .
العلس : محركة القراد الضخم ، لأنه أول ما يكون قمقامة ثم يصير حمنانة ثم حلمة ثم علسا . ومن الألغاز القديمة أيجب في العلس زكاة ، إذا بلغ خمسة أوسق أو أكثر منها ؟ قال : لا وإذا علم بذلك الساعي أعرض عنها .
العلامات : قال ابن عطية : حدثني أبي ، رحمه الله تعالى ، أنه سمع بعض أهل العلم بالمشرق يقول : إن في بحر الهند حيتاناً طوالا رقاقاً كالحيات في ألوانها وحركتها ، وأنها تسمى العلامات ، وذلك أنها علامات الوصول إلى بلاد الهند ، وإمارات النجاة من المهالك ، لطول ذلك البحر وصعوبته ، وأن بعض الناس قال : إنها المراد بقوله تعالى : " وعلامات وبالنجم هم(2/204)
"""""" صفحة رقم 205 """"""
يهتدون " قال : وأما من شاهد تلك العلامات في البحر ، فحدثني منهم عدد كثير . وقال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما : العلامات معالم الطرق بالنهار ، والنجوم هداية بالليل . وقال الكلبي : هي الجبال . وقال مجاهد والنخعي : هي النجوم منها ما يسمى علامات ومنها ما يهتدى به .
العلهز : بكسر العين وإسكان اللام وكسر الهاء قبل الزاي : القراد الضخم ، وفي الحديث أنه عليه الصلاة والسلام ، لما دعا على قريش بقوله : " اللهم اجعلها عليهم سنيناً كسني يوسف " ، أكلوا العلهز . وقيل : المراد به الوبر المخلوط . بالدم .
العلعل : كهدهد الذكر من القنابر .
العلق : بفتح العين واللام دود أسود وأحمر ، يكون بالماء يعلق بالبدن ويمص الدم ، وهو من أدوية الحلق والأورام الدموية ، لامتصاصه الدم الغالب على الإنسان . الواحدة علقة ، وفي حديث عامر خير اللواء العلق والحجامة ، . والعليق الشجرة التي آنس موسى عليه الصلاة والسلام منها النار ، قاله ابن سيده . وقيل : إنها العوسج ، والعوسج ، إذا عظم ، قيل له الغرقد . وفي الحديث أنه شجر اليهود ، فلا ينطق ، يعني إذا نزل عيسى عليه السلام ، وقتل اليهود فلا يختبئ أحد منهم خلف شجرة ، إلا نطقت وقالت : يا مسلم هذا يهودي خلفي فاقتله ، إلا الغرقد فإنه من شجرهم فلا ينطق .
فائدة : ذكر الثعلبي في تفسير قوله تعالى : " أن بورك من في النار ومن حولها وسبحان الله رب العالمين ، يا موسى إنه أنا الله العزيز الحكيم " . عن ابن عباس ، وسعيد بن جبير ، والحسن البصري يعني قدس من في النار ، وهو الله سبحانه وتعالى عنى به نفسه . قال : وتأويل هذا القول إنه كان فيها لا على سبيل تمكن الأجسام ، بل على أنه جل وعلا ناس موسى عليه الصلاة والسلام ، وأسمعه كلامه من جهتها وأظهر له ربوبيته من ناحيتها ، فالشجرة مظهر لكلامه تعالى . وهو كما روي أنه مكتوب في التوراة جاء الله من طور سيناء ، وأشرق من ساعير ، واستعلن من جبال فاران ، فمجيئه من سيناء بعثه موسى عليه السلام منها ، وإشراقه من ساعير بعثه عيسى عليه السلام منه ، واستعلانه من جبال فاران بعثه المصطفى ( صلى الله عليه وسلم ) منها .
وفاران مكة المشرفة ، وقيل : كانت النار نوره عز وجل . وإنما ذكره بلفظ النار لأن موسى عليه السلام حسبه ناراً ، والعرب تضع أحدهما موضع الآخر . وقال سعيد بن جبير : كانت هي النار بعينها وهي أحد حجبه تعالى . وقيل : بورك من في النار سلطانه وقدرته ، وفيمن حولها ، وتأويلي هذا القول ، إنه عائد إلى موسى والملائكة عليهم الصلاة والسلام . ومجاز الآية أن بورك من في طلب النار وقصدها ، وبالقرب منها .(2/205)
"""""" صفحة رقم 206 """"""
ومعنى الآية أن بورك فيك يا موسى ، وفي الملائكة الذين حول النار ، وهذه تحية من الله عز وجل لموسى عليه السلام ، وتكرمة له . كما حيا إبراهيم عليه السلام ، على ألسنة الملائكة ، حين دخلوا عليه ، فقالوا : رحمة الله وبركاته عليكم أهل البيت إنه حميد مجيد ، فحمد نفسه تعالى بواسطة فعله . قلت : وكذلك إذا ذكر العبد ربه أو حمده فما ذكر الله إلا الله ، ولا حمد الله إلا الله ، لأنه تعالى ذكر نفسه وحمدها ، بواسطة فعله . والعبد آلة ليس له شيء . قال تعالى : " ليس لك من الأمر شيء " وقال تعالى : " وإليه يرجع الأمر كله " ، ففعل العبد ينسب إلى الله خلق وإيجاد . قال تعالى : " والله خلقكم وما تعملون " وينسب إلى العبد نسبة كسب وإسناد ليعاقب عليه أو يثاب ، والله تعالى أعلم . وقال بعضهم : هذه البركة راجعة إلى النار نفسها .
وأما وجه قوله تعالى : " بورك من في النار " ، فإن العرب تقول بارك الله لك وبارك فيك وبارك عليك وباركك ، أربع لغات . قال الشاعر :
فبوركت مولوداً وبوركت ناشئاً . . . وبوركت عند الشيب إذ أنت أشيب
وأما الكلام المسموع من الشجرة ، فاعلم أن مذهب أهل الحق ، أن الله تعالى مستغن عن الحد والكلام والمكان والجهة والزمان ، لأن ذلك من إمارات الحدوث ، وهي خلقه وملكه ، وهو سبحانه أجل وأعظم من أن يوصف بالجهات ، أو يحد بالصفات ، أو تحصيه الأوقات ، أو تحويه الأماكن والأقطار ، ولما كان جل وعلا كذلك ، استحال أن توصف ذاته بأنها مختصة بجهة ، أو متنقلة من مكان إلى مكان ، أو حالة في مكان .
روي أن موسى عليه السلام ، لما كلمه الله تعالى ، سمع الكلام من سائر الجهات ، ولم يسمعه من جهة واحدة ، فعلم بذلك أنه كلام الله تعالى . وإذا ثبت هذا لم يجز أن يوصف تعالى بأنه يحل موضعاً أو ينزل مكاناً ، كما لا يوصف بأنه جوهر ولا عرض ، ولا يوصف كلامه بحرف ولا صوت ، خلافاً للحنابلة الحشوية ، بل هو صفة قائمة بذاته تعالى ، يوصف بها فينتفي عنه بها آفات الخرس والبكم ، وما لا يليق بجلاله وكماله ، ولا تقبل الانفصال والفراق بالانتقال إلى القلوب والأوراق . وأما الإفهام والإسماع ، فيجوز أن يكون في موضع دون موضع ، ومكان دون مكان ، وحيث لم يقع إحاطة ولا إدراك بالوقوف على كنه ذاته ، قال تعالى : " ليس كمثله شيء وهو السميع البصير " ، وأما الهاء في قوله تعالى : " يا موسى إنه " فهو عماد وليس بكناية .
فائدة أخرى : اختلف في أن نبينا محمداً ( صلى الله عليه وسلم ) هل كلم ربه ليلة الإسراء بغير واسطة أم لا ؟ فذهب ابن عباس وابن مسعود وجعفر الصادق وأبو الحسن الأشعري وطائفة من المتكلمين إلى أنه ( صلى الله عليه وسلم ) كلم الله بغير واسطة ، وذهب جماعة إلى نفي ذلك . واختلف في جواز الرؤية ، فأكثر المبتدعة على إنكار جوازها في الدنيا والآخرة ، وأكثر أهل السنة والسلف على جوازها فيهما ،(2/206)
"""""" صفحة رقم 207 """"""
ووقوعهما في الآخرة . واختلف العلماء من السلف والخلف في أنه هل رأى نبينا محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ربه تعالى أم لا ؟ فأنكرته عائشة وأبو هريرة وابن مسعود وجماعة من السلف ، وبه قال جماعة من المتكلمين والمحدثين ، وأجازه جماعة من السلف وأنه ( صلى الله عليه وسلم ) رأى ربه ليلة الإسراء بعيني رأسه ، وهو قول ابن عباس وأبي ذر وكعب الأحبار والحسن البصري والشافعي وأحمد بن حنبل . وحكي أيضاً عن ابن مسعود ، وأبي هريرة ، والمشهور عنهما الأول ، وبهذا القول الثاني قال أبو الحسن وجماعة من أصحابه ، وهو الأصح ، وهو مذهب المحققين من الساعة الصوفية .
قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما : اختص موسى بالكلام ، وإبراهيم بالخلة ومحمد ( صلى الله عليه وسلم ) بالرؤية . وذهب جماعة من العلماء إلى الوقف ، وقالوا : ليس عليه دليل قاطع نفياً ولا إثباتاً ، ولكنه جائز عقلاً . وصححه القرطبي وغيره .
قلت : رؤية الله تعالى في الدنيا والآخرة جائزة بالأدلة العقلية والنقلية ، أما العقلية فمعروفة في علم الكلام ، وأما النقلية فمنها سؤال موسى عليه السلام رؤية الله تعالى . ووجه التمسك بذلك علم موسى بذلك ، ولو علم استحالة ذلك لما سأله ، ومحال أن يجهل موسى جواز ذلك ، إذ يلزم منه أن يكون مع علو منصبه في النبوة وانتهائه إلى أن اصطفاه الله تعالى على الناس ، وأسمعه كلامه بلا واسطة جاهلا بما يجب لله ويستحيل عليه ويجوز ، وملتزم هذا كافر . نعوذ بالله من اعتقاد ذلك . ومنها امتنانه تعالى على عباده بالنظر إلى وجهه في الدار الآخرة بقوله تعالى : " وجوة يومئذ ناضرة ، إلى ربها ناظرة " وإذا جاز أن يروه في الدار الآخرة ، جاز أن يروه في الدنيا لتساوي النظر بالنسبة إلى الأحكام . ومنها ما تواترت به الأحاديث من أخباره ( صلى الله عليه وسلم ) برؤية الله تعالى في الدار الآخرة ، ووقوع ذلك كرامة للمؤمنين . فهذه الأدلة دالة على جواز رؤيته تعالى في الدنيا والآخرة . وأما استدلال عائشة رضي الله تعالى عنها على عدم الرؤية بقوله تعالى : " لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار " ، ففيه بعد إذا يقال بين الإدراك والإبصار فرق ، فيكون معنى لا تدركه الأبصار ، أي لا تحيط به مع أنها تبصره . قاله سعيد بن المسيب وغيره وقد نفى الإدراك مع وجود الرؤية ، في قوله تعالى : " فلما تراءى الجمعان قال أصحاب موسى إنا لمدركون ، قال كلا " ، أي لا يدركونكم . وأيضاً فإن الإبصار عموم ، وهو قابل للتخصيص فيختص المنع بالكافرين ، كما قال تعالى عنهم : " كلا إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون " ، ويكرم المؤمنين أو من شاء الله منهم بالرؤية كما قال تعالى : " وجوه يومئذ ناضرة ، إلى ربها ناظرة " ، وبالجملة فالآية ليست نصاً ولا من الظواهر الجلية في عدم جواز الرؤية ، فلا حجة فيها والله أعلم . ولهذه المسألة أسرار وأغوار تركناها ، لأن ذلك ليس من مقصود الكتاب ، فمن أراد تحقيق هذه المسألة وغيرها من المسائل المهمة فعليه بكتابنا الجوهر الفريد ، فإنا ذكرنا فيه اختلاف الفرق ، وأقوال علماء الظاهر والباطن ، وما اخترناه وما أيدناه وهو كتاب مهم عمدة في هذا الشأن ، لا يستغني عنه(2/207)
"""""" صفحة رقم 208 """"""
طالب ، وهو في ثمان مجلدات ضخمة جداً وبالله التوفيق .
فائدة أخرى : قوله تعالى : " اقرأ باسم ربك الذي خلق ، خلق الإنسان من علق " هذه السورة أول ما نزل من القرآن كما ثبت في الصحيحين ، من حديث عائشة رضي الله تعالى عنها . قيل : وجه المناسبة بين الخلق من علق ، والتعليم بالقلم ، وتعليم العلم ، أن أدنى مراتب الإنسان كونه علقة وأعلاها كونه عالماً ، فكأنه سبحانه وتعالى امتن على الإنسان ، بنقله من أخس المراتب ، وهي العلقة ، إلى أعلاها ، وهي العلم .
قال الزمخشري : فإن قلت : لم قال : من علق وإنما خلق من علقة واحدة ، كقوله تعالى من نطفة ثم من علقة ؟ قلت : لأن الإنسان في معنى الجمع ، كقوله تعالى : " إن الإنسان لفي خسر " والأكرم هو الذي له الكمال في زيادة تكرمه على كل كريم ، ينعم على عباده النعم التي لا تحصى ، ويحلم عليهم فلا يعاجلهم بالعقوبة ، مع كفرهم وجحودهم لنعمه ، وركوبهم المناهي ، وإطراحهم الأوامر ، ويقبل توبتهم ويتجاوز عنهم بعد اقترافهم العظائم . فما لكرمه غاية ولا أمد ، وكأنه ليس وراء التكرم بإفادة الفوائد العظيمة تكرم ، حيث قال : " الأكرم ، الذي علم بالقلم ، علم الإنسان ما لم يعلم " فدل على كمال كرمه ، بأنه علم عباده ما لم يعلموا ، ونقلهم من ظلمة الجهل إلى نور العلم ، ونبه على فضل الكتابة ، لما فيها من المنافع العظيمة ، التي لا يحيط بها إلا هو . وما دونت العلوم الأول ، ولا قيمت الحكم ، ولا ضبطت أخبار الأولين ومقالاتهم ، ولا كتب الله المنزلة إلا بالكتابة . ولولا هي ما استقامت أمور الدين والدنيا ، ولو لم يكن على دقيق حكمة الله ولطيف تدبيره دليل إلا أمر القلم والخط لكفى به .
فائدة أخرى : سئل شيخ الإسلام الشيخ تقي الدين السبكي رحمه الله تعالى عن العلقة السوداء ، التي أخرجت من قلب النبي ( صلى الله عليه وسلم ) في صغره ، حين شق فؤاده ، وقول الملك هذا حظ الشيطان منك ، فأجاب بقوله : تلك العلقة خلقها الله تعالى في قلوب البشر قابلة لما يلقيه الشيطان فيها ، فأزيلت من قلبه عليه الصلاة والسلام فلم يبق فيه مكان قابل لأن يلقي الشيطان فيه شيئاً . هذا معنى الحديث ولم يكن للشيطان فيه ( صلى الله عليه وسلم ) حظ قط ، وإنما الذي نفاه الملك أمر هو في الجبلات البشرية ، فأزيل القابل الذي لم يكن يلزم من حصوله حصول القذف في قلبه عليه الصلاة والسلام . فقيل له : لم خلق الله هذا القابل في هذه الذات الشريفة ، وكان يمكنه أن لا يخلقه فيها ؟ فقال : لأنه من جملة الأجزاء الإنسانية فخلقه تكملة للخلق الإنساني فلا بد منه ونزعه كرامة ربانية طرأت بعده انتهى .
الحكم : يحرم أكل العلق ويجوز بيعه لما فيه من المنفعة ويستثنى بيع القرمز من عدم جواز بيع الحشرات كما تقدم . فرع : العلقة فيها وجهان : أحدهما أنها نجسة لأنها دم خارج من الرحم كالحيض . والثاني أنها طاهرة ، لأنها دم غير مسفوح ، فهي كالكبد والطحال ، نقله أبو حامد عن الصيرفي ، وصرح(2/208)
"""""" صفحة رقم 209 """"""
بتصحيحه الشيخ أبو حامد والمحاملي والرافعي في المحرر ، وهو الأصح كما صرح به في المنهاج .
والعلقة هي المني إذا استحال في الرحم ، فصار دماً غليظاً ، فإذا استحال بعد ، فصار قطعة لحم فهو مضغة . قال النووي ، في شرح المهذب : إن المذهب القطع بطهارة المضغة . وقيل : على وجهين . والصواب خلاف ما في شرح المهذب ، لأن المضغة إما كميتة الآدمي ، وفيها قولان في الجديد ، أو كجزئه المنفصل ، وفيه طريقان : حاكية للخلاف وقاطعة بالنجاسة . وحكى الرافعي فيها وجهين أصحهما الطهارة . نعم يشترط في المضغة والعلقة على قاعدة الرافعي أن يكونا من الآدمي ، فإن مني غيره نجس عنده ، فالعلقة والمضغة أولى بالنجاسة من المني ، ويدل عليه تردده في المنهاج ، في نجاستهما مع جزمه فيه بطهارة المني . قال شيخنا : ولك أن تمنع كونهما أولى بالنجاسة من المني بأنهما صارا أقرب إلى الحيوانية منه وهو أقرب إلى الدموية منهما والله تعالى أعلم .
الأمثال : قالوا : أعلق من العلق .
الخواص : العلق ينفع تعليقاً على صاحب الأعضاء الضعيفة التركيب ، مثل الأماق والوجنات والمواضع المؤلمة ، لأنها تقوم مقام الحجامة ، في امتصاصها الدم الفاسد ، لا سيما في الأطفال والنساء وأهل الرفاهية . وهي تمص الدم الفاسد من الأجفان وغيرها . وربما كان العلق في الماء فيشربه الإنسان فينشب بحلقه . وطريق إخراجه من الحلق أن يبخر بوبر الثعلب ، فإذا أصابه دخانه سقط في الحال . وكذلك إذا بخر بظلف الإبل يموت ، مجرب ، ذكر ذلك في المنتخب . وقال القزويني وصاحب الذخيرة الحميدة : إذا كان العلق في الحلق ، يتغرغر بخل خمر ، وبوزن درهم من الذباب الذي في الباقلاء ، فإن العلق يسقط . وإذا أرادوا إخراج دم من موضع مخصوص ، أخذوا هذا الدود في قطعة طين ، وقربوه من العضو ، فإنه ينشب به ويمص الدم منه ، فإذا أرادوا سقوطه عنه ، رشوا عليه ماء الملح ، فإنه يسقط في الحال .
وقال صاحب عين الخواص : بذا يبس العلق في الظل ، وسحق مع نشادر وطلي به موضع داء الثعلب ، نبت الشعر عليه . وقال غيره : إذا بخر البيت بالعلق ، هرب ما فيه من البق والبعوض وأمثالهما . وإذا ترك العلق في قارورة حتى يموت ، ثم يسحق ويفتت الشعر ويطلى به ، فإنه لا ينبت أبداً . ومن الخواص المجربة النافعة أن تؤخذ العلق الكبار ، التي تكون في الأنهار والأماكن الندية فتقلى بالزيت الطيب ، ثم تسحق بالخل حتى تصير مثل المرهم ، وتؤخذ في صوفة ويتحمل بها صاحب البواسير فيبرأ . وقيل : إنه يبرئ من القطى . ومن خواصه العجيبة أنه إذا بخر به حانوت زجاج تكسر جميع ما فيه . وإذا أخذ العلق وهو رطب ودهن به الإحليل ، فإنه يكبر من غير وجع .
التعبير : العلق في الرؤيا بمنزلة الدود ، وهم أولاد لقوله تعالى : " خلق الإنسان من علق " فمن رأى علقة دم خرجت من أنفه ، أو ذكره أو دبره أو بطنه أو فمه ، فإن امرأته تسقط ولداً قبل . كمال خلقه . وقيل : العلق والقراد والدلم والنمل وما أشبه ذلك ، تدل على الأعداء(2/209)
"""""" صفحة رقم 210 """"""
والحساد الأخساء . ومن الرؤيا المعبرة أن أبا بكر الصديق رضي الله تعالى عنه ، أتاه رجل فقال : يا خليفة رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ، رأيت كأن في يدي كيساً ، وأنا أفرغ ما فيه حتى لم يبق فيه شيء ، فخرج منه علقة ، فقال أبو بكر رضي الله تعالى عنه : أخرج من بين يدي فخرج من بين يديه ومشى خطوات فرمحته دابة فقتلته ، فأخبر بذلك أبو بكر فقال : والله ما وددت أن يموت بين يدي ، فنزل الكيس بمنزلة الآدمي ، والدراهم بمنزلة العمر ، والعلقة بمنزلة الروح ، لقوله تعالى : " خلق الإنسان من علق " والله تعالى أعلم .
العلهب : تيس الجبل . كذا قاله صاحب كتاب المداخل في اللغة أحمد بن يحيى .
العمروس : بضم العين الخروف ، والجمع عماريس . قال الشاعر :
وكان كذئب السوء إذ قال مرة . . . لعمروسة والذئب غرثان مرمل
أأنت التي من غير ذنب شتمتني . . . فقالت : متى ذا ؟ قال : ذا عام أول
فقالت : ولدت الآن بل رمت غدرة . . . فدونك كلني لا هنا لك مأكل العملس : بفتح العين والميم وتشديد اللام ، الذئب الخبيث والكلب الخبيث . وأما قولهم : أبر من العملس فإنه رجل كان باراً بأمه ، يحملها على عاتقه ، ويحج بها على ظهره كل سنة ، فضربوا به المثل ، ليتأسى به البنون في بر الأمهات . وأشرت إلى ذلك في المنظومة بقولي :
وضربوا الأمثال بالعملس . . . في البركى به البنون تأتسي
العميثل : الأسد ، قاله أبو زيد ، في كتاب الإبل ، وبه كني عبد الله بن خليد الشاعر البليغ ، وكان يفخم الكلام ويعربه ، وكان كاتب عبد الله بن طاهر وشاعره . وكان عارفاً باللغة فمن شعره في عبد الله المذكور :
يا من يحاول أن تكون صفاته . . . كصفات عبد الله انصت واسمع
فلأنصحنك في المشورة والذي . . . حج الحجيج إليه فاسمع أو دع
اصدق وعف وبر واصبر واحتمل . . . واصفح وكاف ودار واحلم واشجع
والطف ولن وتأن وارفق واتئد . . . واحزم وجد وحام واحمل وادفع
فلقد نصحتك إن قبلت نصيحتي . . . وهديت للنهج الأسد المهيع
وقبل يوماً كف عبد الله بن طاهر ، فاستخشن مس شاربه ، فقال أبو العميثل في الحال : شوك القنفذ لا يؤلم كف الأسد ، فأعجبه كلامه وأمر له بجائزة سنية . وصنف أبو العميثل كتباً مفيدة في كتاب ما اتفق لفظه واختلف معناه ، وكانت وفاته سنة أربعين ومائتين . وقال الأصمعي : العميثل(2/210)
"""""" صفحة رقم 211 """"""
الذيال بذنجه . وقال الخليل : العميثل البطيء الذي يسيل ثيابه كالوادع الذي يكفي العمل انتهى .
العناق : الأنثى من ولد المعز والجمع أعنق وعنوق . روي عن الأصمعي أنه قال : بينما أنا أسير في طريق اليمن ، إذا أنا بغلام واقف قي الطريق ، في أذنيه قرطان ، في كل قرط جوهرة ، يضيء وجهه من ضوء الجوهرة ، وهو يمجد ربه بأبيات من الشعر وهي هذه :
يا فاطر الخلق البديع وكافلا . . . رزق الجميع سحاب جودك هاطل
يا مسبغ البر الجزيل ومسبل ال . . . ستر الجميل عميم طولك طائل
يا عالم السر الخفي ومنجز ال . . . وعد الوفي قضاء حكمك عادل
عظمت صفاتك يا عظيم فجل أن . . . يحصيى الثناء عليك فيها قائل
الذنب أنت له بمنك غافر . . . ولتوبة العاصي بحلمك قابل
رب يربي العالمين ببره . . . ونواله أبداً إليهم واصل
تعصيه وهو يسوق نحوك دائماً . . . ما لا تكون لبعضه تستاهل
متفضل أبداً وأنت لجوده . . . بقبائح العصيان منك تقابل
وإذا دجا ليل الخطوب وأظلمت . . . سبل الخلاص وخاب فيها الآمل
وأيست من وجه النجاة فما لها . . . سبب ولا يدنو لها متناول
يأتيك من ألطافه الفرج الذي . . . لم تحتسبه وأنت عنه غافل
يا موجد الأشياء من ألقى إلى . . . أبواب غيرك فهو غر جاهل
ومن استراح بغير ذكرك أو رجا . . . أحداً سواك فذاك ظل زائل
رأي يلم إذا عرته ملمة . . . بسوى جنابك فهو رأي مائل
عمل أريد به سواك فإنه . . . عمل وإن زعم المرائي باطل
وإذا رضيت فكل شيء هين . . . وإذا حصلت فكل شيء حاصل
أنا عبد سوء آبق كل على . . . مولاه أوزار الكبائر حامل
قد أثقلت ظهري الذنوب وسودت . . . صحفي العيوب وستر عفوك شامل
ها قد أتيت وحسن ظني شافعي . . . ووسائلي ندم ودمع سائل
فاغفر لعبدك ما مضى وارزقه تو . . . فيقاً لما ترضى ففضلك كامل
وافعل به ما أنت أهل جميله . . . والظن كل الظن أنك فاعل قال : فدنوت منه وسلمت عليه فقال : ما أنا براد عليك حتى تؤدي من حقي الذي يجب لي عليك قلت : وما حقك ؟ قال : أنا غلام على مذهب إبراهيم الخليل عليه السلام ، لا أتغدى ولا أتعشى كل يوم ، حتى أسير الميل والميلين في طلب الضيف . فأجبته إلى ذلك ، فرحب بي ، وسرت معه حتى قربنا من خيمته ، فصاح : يا أختاه فأجابته جارية من الخيمة بالبكاء ، فقال : قومي(2/211)
"""""" صفحة رقم 212 """"""
إلى ضيفنا فقالت الجارية : حتى أبدأ بشكر الله الذي ساق لنا هذا الضيف ، ثم قامت فصلت ركعتين شكراً لله تعالى . قال : فأدخلني الشاب الخيمة ، وأجلسني ثم أخذ الغلام الشفرة وعمد إلى عناق فذبحها ، قال : فلما جلست في الخيمة ، نظرت إلى الجارية ، فإذا هي أحسن الناس وجهاً ، فكنت أسارقها النظر ، ففطنت لبعض لحظاتي إليها ، فقالت لي : مه أما علمت أنه نقل عن صاحب طيبة عليه السلام ، أنه قال : إن زنا العينين النظر ، أما إني ما أردت بهذا أن أوبخك ، ولكني أردت أن أؤدبك لكي لا تعود إلى مثل هذا .
قال : فلما كان النوم بت أنا والغلام خارج الخيمة ، وباتت الجارية عن داخلها ، فكنت أسمع دوي القرآن إلى السحر ، بأحسن صوت يكون وأرقه ، ثم سمعت أبياتاً من الشعر بأعذب لفظ ، وأشجى نغمة وهي هذه :
أبى الحب أن يخفى وكم قد كتمته . . . فأصبح عندي قد أناح وطنبا
إذا اشتد شوقي هام قلبي بذكره . . . وإن رمت قرباً من حبيبي تقربا
ويبدو فأفنى ثم أحيا بذكره . . . ويسعدني حتى ألذ وأطربا
قال : فلا أصبحت قلت للغلام : صوت من كان ذلك ؟ قال : تلك أختي ، وهذا شأنها كل ليلة ، فقلت : يا غلام كنت أنت أحق بهذا العمل من أختك ، إذ أنت رجل وهي امرأة . قال : فتبسم وقال : ويحك أما علمت أنه موفق ومخذول ومقرب ومبعد قال الأصمعي : فودعتهما وانصرفت .
وحكمها : الحل ، وتفدى بها الأرنب إذا قتلها المحرم لقضاء الصحابة بذلك . ولا تجزئ في الأضحية لما روى الشيخان وغيرهما عن البراء بن عازب رضي الله تعالى عنه ، قال : خطبنا رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يوم الأضحى ، بعد الصلاة ، فقال : " من صلى صلاتنا ونسك نسكنا فقد أصاب النسك ، وعن نسك قبل الصلاة فلا نسك له " . فقال أبو بردة بن نيار ، وهو خال البراء بن عازب : يا رسول الله إني نسكت شاتي قبل الصلاة ، وعرفت أن اليوم يوم أكل وشرب ، فأحببت أن تكون شاتي أول شاة تذبح في بيتي ، فذبحتها وتغديت قبل أن أتي الصلاة . فقال ( صلى الله عليه وسلم ) : " شاتك شاة لحم " . قال : يا رسول الله فان عندي عناقاً هي أحب إلي من شاتين أفتجزع عني ؟ فقال ( صلى الله عليه وسلم ) : " نعم ولن تجزئ عن أحد بعدك " .
ووقع في أصل الروضة ، أن العناق الأنثى من المعز ، من حين تولد إلى أن ترعى . والجفرة الأنثى من ولد المعز حين تفطم وتفصل عن أمها ، فتأخذ في الرعي وذلك بعد أربعة أشهر . والذكر جفر . وقال في لغات التنبيه وعقائق المنهاج : العناق الأنثى من ولد المعز ما لم تستكمل سنة . ونقل مثل هذا عن الأزهري ، في تهذيب الأسماء واللغات ، وكلام الأزهري لا يوافق ذلك . وروى الحاكم بإسناد صحيح ، وأبو عمر بن عبد البر في الاستيعاب ، عن قيس بن(2/212)
"""""" صفحة رقم 213 """"""
النعمان رضي الله تعالى عنه . قال : لما انطلق النبي ( صلى الله عليه وسلم ) وأبو بكر رضي الله تعالى عنه مستخفيين ، مرا بعبد يرعى غنماً فاستسقياه من اللبن ، فقال : ما عندي شاة تحلب ، غير أن هاهنا عناقاً حملت أول الشتاء وما بقي لها لبن . قال ( صلى الله عليه وسلم ) : " ادع بها " . فاعتقلها ( صلى الله عليه وسلم ) ومسح ضرعها حتى أنزلت . وجاء أبو بكر بمجن فحلب رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فيه وسقى أبا بكر ، ثم حلب فسقى الراعي ، ثم حلب فشرب ( صلى الله عليه وسلم ) . فقال الراعي : بالله من أنت فوالله ما رأيت مثلك قط ؟ قال : " أو تراك تكتم علي حتى أخبرك " قال : نعم . قال : " فإني محمد رسول الله " . قال : أنت الذي تزعم قريش أنك صابئ ؟ قال : " إنهم ليقولون ذلك " . قال : أشهد أنك نبي ، وأن ما جئت به حق ، وأنا متبعك . قال ( صلى الله عليه وسلم ) : " إنك لا تستطيع ذلك يومك هذا ، فإذا بلغك أني قد ظهرت فأتنا " . خاتمة : روى أبو داود والترمذي والنسائي والحاكم عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال : كان رجل يقال له مرثد بن أبي مرثد ، وكان يحمل الأسرى من مكة حتى يأتي بهم المدينة ، قال : وكانت امرأة بغي بمكة يقال لها عناق كقطام ، وكانت صديقة له ، لأنه كان واعد رجلا من الأسارى بمكة ، أن يأتيه فيحمله ، قال : فجئت حتى انتهيت إلى ظل حائط من حوائط مكة ، في ليلة مقمرة ، قال : فجاءت عناق فأبصرت سواد ظلي بجنب الحائط ، فلما انتهت إلي ، قالت : مرثد ؟ قلت : مرثد . قالت : مرحباً وأهلا وسهلا هلم فبت عندنا الليلة . فقلت : يا عناق قد حرم الله الزنا . قالت : يا أهل الخيام هذا الرجل يحمل أسراركم . قال : فتبعني ثمانية رجال ، وسلكت الخندمة ، فانتهيت إلى غار أو كهف ، فجاؤوا حتى وقفوا على رأسي وبالوا ، فظل بولهم ينزل على رأسي وأعماهم الله عني .
فرجعوا ورجعت إلى صاحبي فحملته وكان رجلا ثقيلا حتى انتهيت به إلى الأذخر ، ففككت عنه أكبله ، وجعلت أحمله ويعييني ، حتى قدمت به المدينة ، فأتيت به النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فقلت : يا رسول الله أنكح عناق ؟ فأمسك ولم يرد علي شيئاً حتى نزلت : " الزاني لا ينكح إلا زانية أو مشركة والزانية لا ينكحها إلا زان أو مشرك " فقال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) : " يا مرثد " الزاني لا ينكح إلا زانية أو مشركة والزانية لا ينكحها إلا زان أو مشرك " فلا تنكحها " . قال الخطابي : هذا خاص بهذه المرأة ، إذ كانت كافرة فأما الزانية المسلمة فإن العقد عليها صحيح لا ينفسخ . وقال الشافعي رحمه الله تعالى : قال عكرمة : معنى الآية أن الزاني لا يريد ولا يقصد إلا نكاح زانية . قال : والأشبه ما قاله سعيد بن المسيب أن هذه الآية منسوخة ، نسخها قوله تعالى : " وأنكحوا الأيامى منكم " وهي من أيامى المسلمين .
الأمثال : قالوا : لا تنفط في هذا الأمر عناق . أي لا تعطس ، والنفيط من العناق مثل العطاس من الإنسان . وهو كقولهم : لا ينتطح فيها عنزان . وسيأتي إن شاء الله تعالى في محله .
عناق الأرض : دويبة أصغر من الفهد طويل الظهر يصيد كل شيء حتى الطير ، وهو التفه الذي تقدم ذكره ، في باب التاء المثناة فوق . وقال في نهاية الغريب : قال قتادة : عناق الأرض من(2/213)
"""""" صفحة رقم 214 """"""
الجوارح دابة وحشية أكبر من السنور ، وأصغر من الكلب ، والجمع عنوق . يقال في المثل : لقي عناق الأرض وأعق عناق أي داهية . يريد أنها من الحيوان الذي يصاد به إذا علم .
العنبس : الأسد ، وبه سمي الرجل وهو فنعل من العبوس . والعنابس من قريش أولاد أمية بن عبد شمس الأكبر ، وهم ستة : حرب وأبو حرب وسفيان وأبو سفيان وعمرو وأبو عمرو وسموا بالأسد والباقون يقال لهم الأعياص .
العنس : الناقة القوية الصلبة ويقال هي التي اعنونس ذنبها ، أي وفر . قاله الجوهري . والعنسة أيضاً اسم للأسد علم مشتق من العنوس قاله ابن سيده .
العنبر : سمكة بحرية كبيرة يتخذ من جلودها الترس . ويقال للترس عنبر . وقد تقدم ذكرها في باب الباء الموحدة .
روى البخاري عن جابر رضي الله تعالى عنه ، قال : بعثنا رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ، وأمر علينا أبا عبيدة ، نلتقي عيراً لقريش ، وزودنا جراباً فيه تمر لم يجد لنا غيره ، فكان أبو عبيدة يطعمنا تمرة تمرة ، قال : فقلت : كيف كنتم تصنعون بها . قال : كنا نمصها كما يمص الصبي ، ثم نشرب عليها الماء ، فتكفينا يومنا إلى الليل ، وكنا نضرب بعصينا الخبط ، ثم نبله بالماء فنأكله .
فانطلقنا على ساحل البحر ، فرفع لنا شيء كهيئة الكثيب الضخم ، فأتيناه فإذا هي دابة تدعى العنبر . قال : فقال أبو عبيدة : إنها ميتة ، ثم قال : لا بل نحن رسل رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ، وفي سبيل الله ، وقد اضطررتم فكلوا ، قال : فأقمنا عليها شهراً ، ونحن ثلاثمائة ، حتى سمنا ، يعني تقوينا ، وزال ضعفنا ، وإلا فما كانوا سمانا قط ، قال : ولقد رأيتنا نغترف من وقب عينيها بالقلال الدهن ونقتطع القطعة قدر التور . ولقد أخذ منا أبو عبيدة ثلاثة عشر رجلا فأقعدهم في عينها ، وأخذ ضلعاً من أضلاعها فأقامه ، ثم رحل أعظم بعير معنا فمر من تحتها ، وتزودنا من لحمها . فلما قدمنا المدينة ، أتينا رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ، فذكرنا ذلك له فقال : " هو رزق أخرجه الله لكم فهل معكم من لحمه فتطعمونا " ؟ قال : فأرسلنا إلى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) منه فأكله . وسرية أبي عبيدة هذه يقال لها سرية الخبط . وكانت في رجب سنة ثمان من الهجرة ، وكان فيها عمر بن الخطاب وقيس بن سعد مع أبي عبيدة رضي الله تعالى عنهم . وحديثها رويناه في الغيلانيات وهو أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) بعث أبا عبيدة رضي الله تعالى عنه ، في سرية فيها المهاجرون والأنصار ، ثلاثمائة رجل إلى ساحل البحر ، إلى حي من جهينة ، فأصابهم جوع شديد ، فقال قيس بن سعد : من يشتري مني تمراً بجزور ، يوفيني الجزور هاهنا ، وأوفيه التمر بالمدينة ؟ فجعل عمر يقول : واعجبا لهذا الغلام لا مال له يدين في مال غيره فوجد رجلا من جهينة ، فقال له قيس : يعني جزوراً أوفيكه وسقاً من تمر المدينة . فقال الجهني : والله ما أعرفك ، فمن أنت ؟ فقال : أنا ابن سعد بن عبادة بن دليم . فقال الجهني : ما أعرفني بنسبك ، وذكر كلاماً ، فابتاع منه خمس(2/214)
"""""" صفحة رقم 215 """"""
جزائر ، كل جزور بوسق من تمر ، يشترط عليه البدوي تمر ذخيرة مصلبة من تمر آل دليم ، فيقول قيس : نعم . قال : فاشهد لي قال : فأشهد له نفراً من الأنصار ، ومعهم نفر من المهاجرين . قال قيس : إنما أشهد من تحب ، وكان فيمن أشهد عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه ، فقال عمر : ما أشهد على هذا بدين ، ولا مال له ، إنما المال لأبيه ، فقال الجهني : والله ما كان سعد ليبخس في وسقة من تمر ، وإني أرى وجهاً حسناً وفعالا شريفة . فكان بين عمر وقيس كلام ، حتى أغلظ عمر لقيس ، ثم أخذ الجزر فنحرها لهم في مواطن ثلاثة ، كل يوم جزوراً ، فلما كان اليوم الرابع ، نهاه أميره وقال له : أتريد أن تحفر ذمتك ولا مال لك ؟ قال : فأقبل أبو عبيدة ومعه عمر ، فقال : عزمت عليك أن لا تنحر ، فقال قيس : يا أبا عبيدة أترى أبا ثابت يقضي ديون الناس ، ويحمل الكل ، ويطعم في المجاءة ، ولا يقضي عني وسقة من تمر لقوم مجاهدين في سبيل الله ؟ فكاد أبو عبيدة أن يلين له ، وجعل عمر يقول : اعزم عليه ، فعزم عليه وبلغ سعداً ما أصاب القوم من المجاعة فقال : إن يكن قيس كما أعرف ، فسينحر للقوم ، فلما قدم قيس لقيه سعد فقال : ما صنعت في مجاعة القوم ؟ قال : نحرت . قال : أصبت ، ثم ماذا . قال : نحرت . قال : أصبت ، ثم ماذا ؟ قال : نحرت . قال : أصبت ، ثم ماذا ؟ قال : نهيت . قال : ومن نهاك ؟ قال : أبو عبيدة أميري . قال : ولم ؟ قال : زعم أنه لا مال لي ، وإنما المال لأبيك فقلت : إن أبي يقضي عن الأباعد ، ويحمل الكل ، ويطعم في المجاعة ، ولا يصنع هذا بي ؟ قال : تلك أربع حوائط أدناها حائطاً نجذ منه خمسين وسقاً . قال : وقدم البدوي مع قيس فأوفاه وسقته ، وحمله وكساه . فبلغ ذلك النبي ( صلى الله عليه وسلم ) من فعل قيس فقال : " إنه من قلب جود " .
والعنبر المشموم ، قيل : إنه يخرج من قعر البحر ، يأكله بعض دوابه لدسومته ، فيقذفه رجيعاً ، فيوجد كالحجارة الكبار ، فيطفو على الماء ، فتلقيه الريح إلى الساحل ، وهو يقوي القلب والدماغ ، نافع من الفالج واللقوة والبلغم الغليظ . وقال ابن سيده : العنبر يخرج من البحر ، وأجوده الأشهب ثم الأزرق ثم الأصفر ثم الأسود . قال : وكثيراً ما يوجد في أجواف السمك الذي يأكله ويموت . وزعم بعض التجار أن بحر الزنج يقذفه كجمجمة الإنسان ، وأكبرها وزنه ألف مثقال . وكثيراً ما تأكله الحيتان فتموت ، والدابة التي تأكله تدعى العنبر .
الحكم : قال الماوردي والروياني في كتاب الزكاة : لا زكاة في العنبر والمسك . وقال أبو يوسف : فيهما الخمس . وقال الحسن وعمر بن عبد العزيز وعبد الله العنبري وإسحاق : يجب الخمس في العنبر . واحتج الشافعي عليهم بقول ابن عباس رضي الله تعالى عنهما في العنبر ، إنما هو شيء عصره البحر ، أي لفظه ، وليس بمعدن حتى يجب فيه الخمس . وروي عنه صريحاً أنه قال : لا زكاة فيه .
وروى جابر أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال : " العنبر ليس بغنيمة " ، وهذا ينفي وجوب الزكاة فيه . قالا ، أي الماوردي والروياني : وأكثر الفقهاء على أن العنبر طاهر ، وقال الشافعي : سمعت من قال : رأيت العنبر نابتاً في البحر ، ملتوياً مثل عنق الشاة . وقيل : إن أصله نبت في البحر وله رائحة ذكية . وفي البحر دويبة تقصده لذكاء رائحته ، وهو سمها ، فتأكله فيقتلها ويلفظها البحر ، فيخرج العنبر من بطنها .(2/215)
"""""" صفحة رقم 216 """"""
وقالا في كتاب السلم : يجوز السلم في العنبر ، ولا بد من بيان أنواعه ووزنه ، فالعنبر منه الأشهب والأبيض والأخضر والأسود ولا يجوز حتى يسمى ذلك . وقال الشافعي : يجوز بيع العنبر ، وقال أهل العلم به : إنه نبات والنبات لا يحرم منه شيء . قال : وحدثني بعضهم ، أنه ركب البحر فوقع إلى جزيرة فيه ، فنظر إلى شجرة مثل عنق الشاة ، فإذا ثمرها عنبر ، قال : فتركناه حتى يكبر ثم نأخذه ، فهبت الريح فألقته في البحر . قال الشافعي : والسمك ودواب البحر تبتلعه أول ما يقع منه ، لأنه لين ، فإذا ابتلعته قلما تسلم منه إلا قتلها لفرط الحرارة فيه ، فإذا أخذ الصياد السمكة ، وجده في بطنها فيقدر أنه منها ، وإنما هو ثمر نبت .
وأما خواصه : فقال المختار بن عبدون : العنبر حار يابس ، وهو دون المسك ، وأجوده الأشهب الخفيف الدسم ، وهو يقوي القلب والدماغ ، ويزيد في الروح وينفع من الفالج واللقوة والبلغم الغليظ ، ويولد شجاعة ، لكنه يضر من اعتاده الباسور ، وتدفع مضرته بالكافور وشم الخيار . ويوافق الأمزجة الباردة الرطبة والمشايخ ، وأجوده ما استعمل في الشتاء . قالوا : والعنبر جماجم أكبرها ألف مثقال ، تبرز من عيون في البحر وتطفو على الماء ، فيسقط عليها الطير فتأكلها فتهلك . وقيل : إنه روث دابة ، وقيل : إنه من غثاء البحر ، وأجوده الأشهب وضده الخمري وله زهومة لابتلاع السمك ، ويتصفى منه عند عمله رمل والله تعالى أعلم .
العنتر : الذباب الأزرق ، وقيل : مطلق الذباب . وفي الصحيحين عن عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنهما ، في حديثه الطويل المشتمل على كرامات ظاهرة للصديق رضي الله تعالى عنه ، ومعناه أن الصديق ضيف جماعة ، وأجلسهم في محله ، وانصرف إلى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فتأخر رجوعه ، فلما رجع قال : أعشيتموهم ؟ قالوا : لا . فأقبل على ابنه عبد الرحمن وقال : يا عنتر ، فجدع وسب ومعناه دعا عليه بقطع الأنف ونحوه . وجاء يا عنيتر مصغراً شبهه بذلك تحقيراً له ، وقيل : شبهه بالذباب الأزرق لشدة أذاه . وروي بالغين المعجمة وبالثاء المثلثة وهو الأكثر ، ومعناه : يا لئيم . وعنترة اسم رجل وهو عنترة بن شداد بن معاوية العبسي ، وهو أحد فرسان العرب وشعرائها ومتيميها ، وهو من أبطال الجاهلية ، ويضرب المثل بشجاعته . قال سيبويه : نون عنترة ليست زائدة .
العندليب : الهزار بفتح الهاء ، والجمع العنادل لأنك ترده إلى الرباعي ثم تبني منه الجمع والتصغير ، والبلبل يعندل إذا صوت . وما أحسن قول أبي سعيد المؤيد بن محمد الأندلسي الشاعر المجيد في وصف طنبور :
وطنبور مليح الشكل يحكي . . . بنغمته الفصيحة عندليبا
روى لما ذوى نغماً فصاحا . . . حواها في تقلبه قضيبا
كذا من عاشر العلماء طفلا . . . يكون إذا نشأ شيخاً أديبا
ومن محاسن شعره قوله :(2/216)
"""""" صفحة رقم 217 """"""
أحب العذول لتكراره . . . حديث الحبيب على مسمعي
وأهوى الرقيب لأن الرقيب . . . يكون إذا كان حبي معي
ومما يستجاد من محاسن شعره أيضاً :
احذر صديقاً ما ذقا . . . مزج المرارة بالحلاوة
يحمي الذنوب عليك . . . أيام الصداقة للعداوة
وما أحسن قوله :
ونهاية الدنيا وغاية أهلها . . . ملك يزول وستر قوم يهتك
تحلو فتعقب غصة ومرارة . . . وتحب وهي بنا تصول وتفتك
وكافت وفاته سنه سبع وخمسين وخمسمائة .
وحكمه : حل الأكل لأنه من الطيبات .
وهو في الرؤيا يدل على ولد ذكي والله أعلم .
العندل : البعير الضخم الرأس يستوي فيه الذكر والأنثى . العنز : الأنثى من المعز ، والجمع أعنز وعنوز . روى البخاري وأبو داود ، عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله تعالى عنهما ، أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال : " أربعون خصلة أعلاها منيحة العنز ، من عامل يعمل بخصلة منها ، رجاء ثوابها ، وتصديقاً بموعودها ، إلا أدخله الله الجنة " ، قال حسان بن عطية الراوي ، عن أبي كبشة : فعددنا ما دون منيحة العنز من رد السلام ، وتشميت العاطس ، واماطة الأذى عن الطريق ، ونحوه ، فما استطعنا أن نصل إلى خمس عشرة خصلة . قال ابن بطال : لم يذكر النبي ( صلى الله عليه وسلم ) الخصال في الحديث . ومعلوم أنه عليه الصلاة والسلام كان عالماً بها لا محالة ، إلا أنه ( صلى الله عليه وسلم ) لم يذكرها لمعنى هو أنفع لنا من ذكرها ، وذلك والله أعلم ، خشية أن يكون التعيين لها ، زهداً في غيرها ، من أبواب المعروف وسبل الخير . وقد جاء عنه عليه الصلاة والسلام ، من الحث والحض على أبواب من الخير والبر ، ما لا يحصى كثرة . قال : وقد بلغني عن بعض أهل عمرنا ، أنه تتبعها في الأحاديث ، فوجدها تزيد على أربعين خصلة ثم ذكرها إلى آخرها .
قلت : وتشميث العاطس بالشين المعجمة وبالسين المهملة ، فالأول إشارة إلى جمع الشمل ، لأن العرب تقول : أشمتت الإبل ، إذا اجتمعت في المرعى ، وقيل : معناه الدعاء لشوامته ، وهو اسم للأطراف ، والثاني إشارة إلى أن يرزق السمت الحسن . قلت : وقد روى صاحب الترغيب والترهيب ، في باب قضاء حوائج المسلمين ، عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب ، رضي الله عنا قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) : " للمسلم على أخيه المسلم ثلاثون حقاً لا براءة له منها إلا بالأداء أو(2/217)
"""""" صفحة رقم 218 """"""
العفو يغفر زلته ويرحم عبرته ويستر عورته ويقيل عثرته ويقبل معذرته ويرد غيبته ويديم نصيحته ويحفظ خلته ويرعى ذمته ويعود مرضته ويشهد منيته ويجيب دعوته ويقبل هديته ويكافئ صلته ويشكر نعمته ويحسن نصرته ويحفظ حليلته ويقضي حاجته ويشفع مسألته ويقبل شفاعته ولا يخيب مقصده ويشمت عطسته وينشد ضالته ويرد سلامه ويطيب كلامه ويزيد إنعامه ويصدق أقسامه وينصره ظالماً أو مظلوماً ، أما نصره ظالماً فيرده عن ظلمه ، وأما نصره مظلوماً فيعينه على أخذ حقه ، ويواليه ولا يعاديه ويسلمه ولا يخذله ، ويحب له من الخير ما يحب لنفسه ، ويكره له من الشر ما يكره لنفسه " ، ثم قال : سمعت رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يقول : " إن أحدكم ليدع من حقوق أخيه شيئاً فيطالبه به يوم القيامة ، . ثم قال علي رضي الله تعالى عنه : إن أحدكم ليدع تشميت أخيه إذا عطس ، فيطالبه به يوم القيامة فيقضي له عليه . فهذه مع ما عده حسان بن عطية يجتمع منها أكثر من أربعين خصلة .
فائدة : روى أبو القاسم سليمان بن أحمد الطبري ، في كتاب الدعوات ، بإسناده عن سويد بن غفلة ، قال : أصابت علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه فاقة فقال لفاطمة رضي الله تعالى عنها : لو أتيت النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فاتته وكان عند أم أيمن فدقت الباب ، فقال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) لأم أيمن : " إن هذا الدق لدق فاطمة ، ولقد أتتنا في ساعة ما عودتنا أن تأتينا في مثلها فقومي فافتحي لها الباب " . قال : فقامت أم أيمن ففتحت لها الباب ، فلما دخلت قال ( صلى الله عليه وسلم ) : " يا فاطمة لقد أتيتنا في ساعة ما عودتنا أن تأتينا في مثلها " . فقالت : يا رسول الله هذه الملائكة طعامها التسبيح والتحميد والتقديس ، فما طعامنا ؟ فقال ( صلى الله عليه وسلم ) : " والذي بعثني بالحق ما اقتبس في آل محمد نار منذ ثلاثين يوماً ، وقد أتتنا أعنز فإن شئت أمرت لك بخمسة أعنز ، وإن شئت علمتك خمس كلمات علمنيهن جبريل آنفاً " . قالت : بل علمني الخمس التي علمك جبريل . قال ( صلى الله عليه وسلم ) : " قولي يا أول الأولين ، ويا آخر الآخرين ، ويا ذا القوة المتين ، ويا راحم المساكين ، ويا أرحم الراحمين " . قال : فانصرفت حتى دخلت على علي بن أبي طالب ، فقالت : ذهبت من عندك إلى الدنيا فأتيتك بالآخرة ، وذكرت له ذلك ، فقال : خير أيامك خير أيامك . وفي كتاب صفوة التصوف للحافظ أبي الفضل محمد بن طاهر المقدسي ، أن جابر بن عبد الله رضي الله تعالى عنهما دخل على رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فقال : " يا جابر هؤلاء الأعنز إحدى عشرة عنزاً في الدار أحب إليك أم كلمات علمنيهن جبريل آنفاً يجمعن لك خير الدنيا والآخرة " . فقال : يا رسول الله ، والله إني لمحتاج ، وهذه الكلمات أحب إلي فقال ( صلى الله عليه وسلم ) : " قل اللهم إنك البر خلاق عليم ، اللهم إنك غفور حليم ، اللهم إنك تواب رحيم ، اللهم إنك رب العرش العظيم ، اللهم إنك الجواد الكريم ، اغفر لي وارحمني واجبرني ووفقني وارزقني واهدني ونجني وعافني واسترني ولا تضلني وأدخلني الجنة برحمتك يا أرحم الراحمين " . قال : فطفق يرددهن حتى حفظتهن . ثم قال ( صلى الله عليه وسلم ) : " تعلمهن وعلمهن عقبك من بعدك " . ثم قال ( صلى الله عليه وسلم ) : " يا جابر استبقهن معك " . قال : فاستبقتهن معي . وفي تفسير القشيري وغيره ، أن إبراهيم عليه الصلاة والسلام لما هاجر بولده إسماعيل وأمه هاجر إلى مكة ، مر على قوم من العماليق ، فوهبوا لإسماعيل عليه الصلاة والسلام عشرة أعنز ، فجميع أعنز مكة من نسلها . وهذا نظير ما تقدم في حمام الحرم ، وأنه من نسل(2/218)
"""""" صفحة رقم 219 """"""
الحمامتين اللتين عششتا على النبي ( صلى الله عليه وسلم ) في الغار .
فائدة أخرى : قال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) : " لا ينتطح فيها عنزان " . والسبب في ذلك أن امرأة من خطمة ، كان يقال لها عصماء بنت مروان من بني أمية ، كانت تحرض على المسلمين وتؤذيهم ، وتقول الشعر ، فجعل عمير بن عدي عليه نذراً لله عز وجل لئن رد الله رسوله سالماً من بحر ليقتلنها . فلما رجع رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) من بدر ، عدا عليها عمير في جوف الليل فقتلها ، ثم لحق بالنبي ( صلى الله عليه وسلم ) معه الصبح ، فلما قام ( صلى الله عليه وسلم ) ليدخل مجلسه ، قال لعمير بن عدي : " أقتلت عصماء " ؟ قال : نعم فهل علي في قتلها من شيء ؟ فقال ( صلى الله عليه وسلم ) : " لا ينتطح فيها عنزان " . فأول ما سمعت هذه الكلمة منه ( صلى الله عليه وسلم ) ، وهي من الكلام الموجز البديع المفرد الذي لم يسبق إليه . وكذلك قوله ( صلى الله عليه وسلم ) : " حمي الوطيس ، ومات حتف أنفه ، ولا يلدغ المؤمن من جحر مرتين ، ويا خيل الله اركبي ، والولد للقراش وللعاهر الحجر ، وكل الصيد في جوف الفرا ، والحرب خدعة ، وإياكم وخضراء الدمن ، وإن مما ينبت الربيع ما يقتل حبطاً أو يلم ، والأنصار كرشي وعيبتي ، ولا يجني على المرء إلا يده ، والشديد من غلب على نفسه عند الغضب ، وليس الخبر كالمعاينة ، والمجالس بالأمانة ، واليد العليا خير من اليد السفلى ، والبلاء موكل بالمنطق ، والناس كأسنان المشط ، وترك الشر صدقة ، وأي داء أدوأ من البخل ، والأعمال بالنيات ، والحياء خير كله ، واليمين الفاجرة تدع الديار بلاقع ، وسيد القوم خادمهم ، وفضل العلم(2/219)
"""""" صفحة رقم 220 """"""
خير من فضل العبادة ، والخيل معقود في نواصيها الخير ، وأعجل الأشياء عقوبة البغي ، وإن من الشعر لحكمة ، والصحة والفراغ نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس ، ونية المؤمن خير من عمله ، ونية المنافق شر من عمله ، والولد للوطء ، واستعينوا على قضاء الحوائج بالكتمان . فإن كل في نعمة محسود ، والمكر والخديعة في النار ، ومن غشنا ليس منا ، والمستشار مؤتمن ، والندم توبة ، والدال على الخير كفاعله ، وحبك الشيء يعمي ويصم ، والعارية مؤداة ، والأيمان قيد الفتك .
وأمثال ذلك من كلامه ( صلى الله عليه وسلم ) ، وإنما خص رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) العنز دون سائر الغنم ، لأن العنز إنما تشام العنز ثم تفارقها وليس كنطاح الكباش وغيرها .
وروى ابن دريد أن عدي بن حاتم ، لما قتل عثمان رضي الله تعالى عنه ، قال : لا ينتطح فيها عنزان . فلما كان يوم الجمل فقئت عينه فقيل له : لا ينتطح في قيل عثمان عنزان ؟ قال : بلى وتفقأ عيون كثيرة ، كذا ذكر هذا الخبر ابن إسحاق والدمياطي وغيرهما . وعن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه ، قال : حدثني الصادق المصدوق أبو القاسم ( صلى الله عليه وسلم ) : " أن أول خصم يقضى عليه يوم القيامة عنزان ذات قرن وغير ذات قرن . رواه الطبراني في معجمه الأوسط ، وفيه جابر الجعفي وهو ضعيف .
وحكمها : الحل ويفدى بها الغزال إذا قتله المحرم وسيأتي تحقيق ذلك إن شاء الله تعالى في باب الغين المعجمة . الأمثال : قد تقدم في الحديث قوله عليه الصلاة والسلام " لا ينتطح فيها عنزان " أي لا يلتقي فيها اثنان ضعيفان لأن النطاح من شأن التيوس والكباش لا العنوز ، وهو إشارة إلى قضية مخصوصة لا يجري فيها خلف ولا نزاع وقالوا : فلان أضرط من عنز . وقالوا : أعنز بها كل داء يضرب للكثير العيوب من الناس والدواب . قال الفزاري : للعنز تسعة وتسعون داء . والعنز العقاب الأنثى في قول الشاعر :
إذا ما العنز من ملق تدلت . . . ضحياً وهي طاوية تحوم(2/220)
"""""" صفحة رقم 221 """"""
فمراده بالعنز هنا العقاب الأنثى .
الخواص : مرارة العنز ، إذا خلطت بنوشادر ، ونتف شعر من مكان في البدن ، وطلي به الموضع ، لم ينبت فيه شعر البتة . وقال ارسطو : مرارة العنز ، إذا خلطت بكراث ، وطلي بها مكان الشعر المنتوف ، لم ينبت فيه شعر البتة . وإذا غسلت ساقها وسقي من به سلس البول أبرأه . وإن كتبت بلبنها على قرطاس ، لم تبن كتابته فإن ذر عليه رماد ظهرت الكتابة .
وقال هرمس : إذا أخذ من دماغ العنز ومن دم الضبع ، وزن دانق من كل واحد ، وزن حبتين من كافور ، وعجن باسم شخص ، تولد فيه روحانية المحبة إذا طعم ذلك . ومن أخذ من مرارتها وزن دانق ، ومثله من دمها ، ومن دماغ سنور أسود نصف دانق ، وأطعمه إنساناً قطع عنه شهوة الجماع ولا يصل إلى امرأة حتى يحل عنه . وحله أن يسقى أنفحة ظبية في لبن عنز ، ويكون سخناً والله تعالى أعلم .
العنظب : الذكر من الجرادة وفتح الظاء لغة فيه . قال الكسائي : يقال العنظب والعنظاب والعنظوب والأنثى عنظوبة ، والجمع في المذكر عناظب قال الشاعر :
رؤوس العناظب كالعنجد
والجمع في المؤنث عنظوبات . وفي كتاب سيبويه العنظباء بالمد والضم .
العنظوانة : الجراد الأنثى والجمع عنظوانات . وقد تقدم ذكر الجراد وما فيه في باب الجيم .
عنقاء مغرب ومغربة : من الألفاظ الدالة على غير معنى . قال بعضهم : هو طير غريب يبيض بيضاً كالجبال ، ويبعد في طيرانه . وقيل : سميت بذلك لأنه كان في عنقها بياض كالطوق . وقيل : هو طائر يكون عند مغرب الشمس . وقال القزويني : إنها أعظم الطير جثة ، وأكبرها خلقة تخطف الذيل كما تخطف الحدأة الفأر ، وكانت في قديم الزمان بين الناس فتأذوا منها ، إلى أن سلبت يوماً عروساً بحليها فدعا عليها حنظلة النبي عليه السلام ، فذهب الله بها إلى بعض جزائر البحر المحيط ، وراء خط الاستواء . وهي جزيرة لا يصل إليها الناس ، وفيها حيوان كثير كالذيل والكركند والجاموس والبقر وسائر أنواع السباع وجوارح الطير .
وعند طيران عنقاء مغرب يسمع لأجنحتها دوي كدوي الرعد القاصف والسيل ، وتعيش الذي سنة . وتزاوج إذا مضى لها خمسمائة سنة ، فإذا كان وقت بيضها ، يظهر بها ألم شديد . ثم أطال في وصفها . وذكر ارسطاطاليس ، في النعوت ، أن عنقاء مغرب قد تصاد فيصنع من مخالبها أقداح عظام للشرب . قال : وكيفية صيدها أنهم يوقفون ثورين ويجعلون بينهما عجلة ، ويثقلونها بالحجارة العظام ، ويجعلون بين يدي العجلة بيتاً ، يختبئ فيه رجل معه نار ، فتنزل العنقاء على الثورين لتخطفهما . فإذا نشبت أظفارها في الثورين أو أحدهما لم تقدر على اقتلاعهما لما عليهما من الحجارة الثقيلة ، ولم تقدر على الاستقلال لتخلص مخالبها ، فيخرج الرجل بالنار فيحرق أجنحتها . قال : والعنقاء لها بطن كبطن الثور ، وعظام كعظام السبع ، وهي من أعظم سباع الطير انتهى .(2/221)
"""""" صفحة رقم 222 """"""
وقال الإمام العلامة أبو البقاء العكبري ، في شرح المقامات : إن أهل الرس كان بأرضهم جبل يقال له مخ ، صاعد في السماء قدر ميل ، وكان به طيور كثيرة وكانت العنقاء به وهي عظيمة الخلق لها وجه كوجه الإنسان ، وفيها من كل حيوان شبه . وهي من أحسن الطيور ، وكانت تأتي هذا الجبل في السنة مرة ، فتلتقط طيوره ، فجاءت في بعض السنين ، وأعوزها الطير فانقضت على صبي فذهبت به ، ثم ذهبت بجارية أخرى ، فشكوا ذلك إلى تبيهم حنظلة بن صفوان عليه السلام ، فدعا عليها فأصابتها صاعقة فاحترقت . وكان حنظلة بن صفوان عليه السلام في زمن الفترة بين عيسى ومحمد عليهما الصلاة والسلام انتهى . وذكر غيره أن الجبل يقال له فتح وسميت العنقاء لطول عنقها ، ثم إنهم قتلوا نبيهم فأهلكهم الله تعالى . وذكر السهيلي ، في التعريف والأعلام ، في قوله تعالى : " وبئر معطلة وقصر مشيد " أن البئر هي الرس ، وكانت بعدن لأمة من بقايا ثمود وكان لهم ملك عمل حسن السيرة ، يقال له العلس ، وكانت البئر تسقي المدينة كلها ، وباديتها وجميع ما فيها من الدواب والغنم والبقر وغير ذلك ، وكانت لهم بركات كثيرة عليها ورجال كثيرون موكلون بها وأوان من رخام ، وهي شبه الحياض كثيرة يملأ الناس منها وآخر للدواب ، والقوم عليها يستقون الليل والنهار يتداولون ذلك . ولم يكن لهم ماء غيرها وطال عمر الملك ، فلما جاءه الموت ، طلوه بدهن لتبقى صورته ولا يتغير ، وكذلك كانوا يفعلون بموتاهم ، إذا كانوا ممن يكرم عليهم ، فلما مات شق عليهم ورأوا أن أمرهم قد فسد ، وضجوا بالبكاء ، فاغتنمها الشيطان منهم ، فدخل في جثة الملك بعد موته بأيام كثيرة وأخبرهم أنه لم يمت ولا يموت أبداً . ثم قال : ولكن تغيبت عنكم حتى أرى صنيعكم . ففرحوا أشد الفرح ، وأمر خاصته أن يضربوا له حجاباً بينه وبينهم ، ليكلمهم من ورائه كي لا يعرف الموت في صورته . فنصبوه صنماً من وراء حجاب ، وأخبرهم أنه لا يأكل ولا يشرب ولا يموت أبداً وأنه لهم إله . وكان ذلك كله يتكلم به الشيطان على لسانه ، فصدق كثير منهم ذلك وارتاب بعضهم ، وكان المؤمن المكذب له أقل من المصدق له ، وكان كلما تكلم ناصح منهم زجر وقهر ، وفشا الكفر فيهم وأقبلوا على عبادته ، فبعث الله إليهم نبياً ، كان ينزل الوحي عليه في النوم دون اليقظة ، اسمه حنظلة بن صفوان فأعلمهم أن الصورة صنم لا روح له ، وأن الشيطان قد أضلهم وأن الله سبحانه لا يمثل بالخلق ، وأن الملك لا يجوز أن يكون شريكا لله تعالى ، ووعظهم ونصحهم وحذرهم سطوة ربهم ونقمته ، فآذوه وعادوه وهو يعظهم وينصح لهم حتى قتلوه وطرحوه في بئر . فعند ذلك حلت عليهم النقمة ، فباتوا شباعاً رواء من الماء ، فأصبحوا والبئر قد غار ماؤها ، وتعطلت رشاؤها ، فصاحوا بأجمعهم وضج النساء والولدان ، وأخذهم العطش وبهائمهم حتى عمهم الموت ، وشملهم الهلاك وخلفهم في أرضهم السباع ، وفي منازلهم الثعالب والضباع ، وتبدلت جناتهم بالسحر وشوك القتاد ، فلا يسمع فيها إلا عزيف الجن ، وزئير الأسد . نعوذ بالله من سطواته ، ومن الإصرار على ما يوجب نقماته .
قال : وأما القصر المشيد ، فقصر بناه شداد بن عاد بن أرم ، ولم يبن في الأرض مثله فيما(2/222)
"""""" صفحة رقم 223 """"""
ذكر ، وحاله كحال هذه البئر ، في إيحاشه بعد الأنس ، وافقاره بعد العمران ، فلا يستطيع أحد أن يدنو منه على أميال لما يسمع من عزيف الجن والأصوات المنكرة ، بعد النعيم والعيش الرغد ، وانتظام الأهل كالسلك ، فبادوا وما عادوا . فذكرهم الله تعالى في هذه الآية موعظة وذكرى وتحذيراً من غب المعصية وسوء عاقبة المخالفة نعوذ بالله من ذلك .
وروى محمد بن إسحاق عن محمد بن كعب القرظي ، قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) : " أول الناس دخولا الجنة يوم القيامة عبد أسود " وذلك أن الله تعالى بعث نبياً إلى أهل قرية فلم يؤمن به من أهلها أحد إلا ذلك العبد الأسود ، ثم إن أهل تلك القرية عدوا على ذلك النبي فحفروا له بئراً ، فألقوه فيها ، ثم ألقوا عليه حجراً ضخماً ، فكان ذلك العبد الأسود يذهب ويحتطب على ظهره ، ثم يأتي بحطبه فيبيعه ويشتري به طعاماً وشراباً ، ثم يأتي إلى تلك البئر ، فيرفع تلك الصخرة ، ويعينه الله عليها ، ثم يدلي إليه طعامه وشرابه ، ثم يرد الصخرة كما كانت . فمكث كذلك ما شاء الله . ثم ذهب يحتطب يوماً ، كما كان يصنع ، فجمع حطبه وحزم حزمته ، وفرغ منها فلما أراد أن يحملها ، أخذته سنة من النوم ، فاضطجع فنام فضرب الله على أذنه سبع سنين ، ثم إنه هب فتمطى لشقه الآخر ، فاضطجع فضرب الله على أذنه سبع سنين ، ثم إنه هب فاحتمل حزمته ولا يحسب أنه نام إلا ساعة من نهار ، فجاء إلى القرية فباع حزمته ، ثم إنه اشترى طعاماً وشراباً كما كان يصنع ، ثم ذهب إلى البئر والتمس النبي فلم يجده ، وقد كان بدا لقومه ما بدا ، فاستخرجوه وآمنوا به وصدقوه ، فكان النبي يسألهم عن ذلك العبد الأسود ما فعل به فيقولون : لا ندري حتى قبض الله ذلك النبي ، وأهب الله ذلك العبد الأسود من نومته بعد ذلك . فقال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) : " إن ذلك العبد الأسود لأول من يدخل الجنة " . قلت : وقد ذكر في هذا الحديث أنهم آمنوا بنبيهم الذي استخرجوه من الحفرة ، فلا ينبغي أن يكونوا المعنيين بقوله تعالى : " وأصحاب الرس " لأن الله تعالى أخبر عن أصحاب الرس ، أنه دمرهم تدميراً إلا أن يكونوا دمروا بأحداث أحدثوها ، بعد نبيهم الذي استخرجوه من الحفرة وآمنوا به ، فيكون ذلك وجهاً .
قال ابن خلكان : ورأيت في تاريح أحمد بن عبد الله بن أحمد الفرغاني نزيل مصر أن العزيز بن نزار ابن المعز صاحب مصر اجتمع عنده من غرائب الحيوان ، ما لم يجتمع عند غيره ، فمن ذلك العنقاء ، وهو طائر جاءه من صعيد مصر ، في طول البلشون ، لكنه أعظم جسماً منه ، له لحية وعلى رأسه وقاية ، وفيه عدة ألوان ومشابهة من طيور كثيرة ، وقد تقدم ، عن الزمخشري ، أن العنقاء انقطع نسلها ، فلا توجد اليوم في الدنيا .
وفي آخر ربيع الأبرار ، في باب الطير عن ابن عباس ، قال : إن الله تعالى خلق ، في زمن موسى عليه الصلاة والسلام ، طائراً يسمى العنقاء ، لها أربعة أجنحة من كل جانب ، ووجه كوجه الإنسان ، وأعطاها الله تعالى من كل شيء قسطاً ، وخلق لها ذكراً مثلها ، وأوحى إلى موسى أني خلقت طائرين عجيبين ، وجعلت رزقهما في الوحوش التي حول بيت المقدس ، وجعلتهما زيادة فيما(2/223)
"""""" صفحة رقم 224 """"""
وصلت به بني إسرائيل فتناسلا وكثر نسلهما . فلما توفي موسى عليه الصلاة والسلام ، انتقلت فوقعت بنجد والحجاز ، فلم تزل تأكل الوحوش ، وتخطف الصبيان إلى أن نبئ خالد بن سنان العبسي من بني عبس ، قبل النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ، فشكوا إليه ما يلقون منها فدعا الله عليها ، فانقطع نسلها وانقرضت ، فلا توجد اليوم في الدنيا .
وفي كتاب البدء ، لابن أبي خيثمة ، ذكر خالد بن سنان العبسي ، وذكر نبوته ، وذكر أنه كان وكل به من الملائكة ، مالك خازن النار وأنه كان من أعلام نبوته ، أن ناراً يقال لها نار الحدثان ، كانت تخرج على الناس من مفازة ، فتأكل الناس والدواب ، ولا يستطيعون ردها ، فردها خالد بن سنان ، فلم تخرج بعد ذلك . وذكر شراح الفصوص لابن عربي له قصة غريبة بعد موته ، وستأتي إن شاء الله تعالى الإشارة إلى شيء من ذلك في لفظ العير .
وروى الدارقطني أن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) قال : " كان نبياً ضيعه قومه " . يعني خالد بن سنان . وذكر غيره من العلماء أن ابنته أتت النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فبسط لها رداءه ، وقال : " أهلا ببنت خير نبي " أو نحو ذلك . وذكر الكواشي والزمخشري وغيرهما أنه كان بين عيسى ومحمد ( صلى الله عليه وسلم ) أربعة أنبياء : ثلاثة من بني إسرائيل ، وواحد من العرب وهو خالد بن سنان العبسي . وذكر البغوي أنه لا نبي بينهما ، والله أعلم . وكان القاضي الفاضل ينشد كثيراً :
وإذا السعادة لاحظتك عيونها . . . نم فالمخاوف كلهن أمان
واصطد بها العنقاء فهي حبالة . . . واقتد بها الجوزاء فهي عنان
وتقدم في العقاب أنه مراد أبي العلاء المعري بقوله :
هي العنقاء تكبر أن تصادا . . . فعاند من تطيق له عنادا
الأمثال : يقال : حلقت به عنقاء مغرب . يضرب لمن يئس منه . قال الشاعر :
الجود والغول والعنقاء ثالثة . . . أسماء أشياء فلم توجد ولم تكن
وسيأتي ، إن شاء الله تعالى ، ذكر هذا البيت في الغول أيضاً .
التعبير : العنقاء في المنام رجل رفيع مبتدع لا يصحب أحداً ، ومن رأى العنقاء كلمته نال رزقاً من قبل الخليفة ، وربما يصير وزيراً ، ومن ركب العنقاء غلب شخصاً لا يكون له نظير ، وعن صادها فإنه يتزوج بامرأة جميلة وربما تعبر العنقاء بولد ذكر شجاع لمن أخذها وله امرأة حامل والله أعلم . العنكبوت : دويبة تنسج في الهواء ، وجمعها عناكب ، والذكر عنكب وكنيته أبو خيثمة وأبو(2/224)
"""""" صفحة رقم 225 """"""
قشعم ، والأنثى أم قشعم ووزنه فعللوت وهي قصار الأرجل كبار العيون للواحد ثمان أرجل وست عيون ، فإذا أراد صيد الذباب لطأ بالأرض ، وسكن أطرافه ، وجمع نفسه ، ثم وثب على الذباب ، فلا يخطئه . قال أفلاطون : أحرص الأشياء الذباب ، وأقنع الأشياء العنكبوت . فجعل الله رزق أقنع الأشياء في أحرص الأشياء ، فسبحان اللطيف الخبير . وهذا النوع يسمى الذباب ومنها نوع يضرب إلى الحمرة له زغب ، وله في رأسه أربع إبر ينهش بها وهو لا ينسج بل يحفر بيته في الأرض ، ويخرج في الليل كسائر الهوام . ومنها الرتيلاء ، وقد تقدم الكلام عليها في باب الراء المهملة . وقال الجاحظ : ولد العنكبوت أعجب من الفروج الذي يخرج إلى الدنيا كاسباً كاسياً ، لأن ولد العنكبوت ، يقوى على النسج ساعة يولد ، من غير تلقين ولا تعليم ، ويبيض ويحضن ، وأول ما يولد عوداً صغاراً ثم يتغير ويصير عنكبوتاً ، وتكمل صورته عند ثلاثة أيام ، وهو يطاول السفاد ، فإذا أراد الذكر الأنثى جذب بعض خيوط نسجها من الوسط ، فإذا فعل ذلك فعلت الأنثى مثله ، فلا يزالان يتدانيان حتى يتشابكا فيصير بطن الذكر قبالة بطن الأنثى .
وهذا النوع من العناكب حكيم ، ومن حكمته أنه يمد السدى ، ثم يعمل اللحمة ، ويبتدئ من الوسط ويهيئ موضعاً لما يصيده من مكان آخر كالخزانة ، فإذا وقع شيء فيما نسجه وتحرك ، عمد إليه وشبك عليه حتى يضعفه ، فإذا علم ضعفه ، حمله وذهب به إلى خزانته ، فإذا خرق الصيد من النسج شيئاً عاد إليه ورمه ، والذي ينسجه لا يخرجه من جوفه بل من خارج جلده . وفمه مشقوق بالطول وهذا النوع ينسج بيته دائماً مثلث الشكل ، وتكون سعة بيته بحيث يغيب فيه شخصه .
فائدة : أسند الثعلبي وابن عطية وغيرهما ، عن علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه ، أنه قال : طهروا بيوتكم من نسج العنكبوت ، فإن تركه في البيت يورث الفقر . وفي مراسيل أبي داود ، عن يزيد بن مزيد ، أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال : " إن العنكبوت شيطان فاقتلوه " . وهو في كامل ابن علي ، في ترجمة مسلمة بن علي الخشني عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما ، ولفظه أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال : " العنكبوت شيطان مسخه الله فاقتلوه " . وهو حديث ضعيف ويزيد بن مزيد الهمداني المصنعاني الدمشقي ، أدرك عبادة بن الصامت ، وشداد بن أوس ، وهو القائل : والله لو أن الله تعالى توعدني ، إن أنا عصيت ، أن يسجنني في الحمام لكان حرياً أن لا تجف لي عين . وطلبوه للقضاء فقعد يأكل في السوق فتخلص بذلك منهم .
وروى أبو نعيم ، في الحلية ، في ترجمة مجاهد أنه قال في قوله تعالى : " أينما تكونوا يدرككم الموت ولو كنتم في بروج مشيدة " أنه قال : كان فيمن كان قبلكم امرأة وكان لها أجير ، فولدت جارية فقالت لأجيرها : اقتبس لنا ناراً فخرج فوجد بالباب رجلا ، فقال له الرجل : ما ولدت هذه المرأة ؟ فقال : جارية . فقال : أما أن هذه الجارية لا تموت حتى تبغي بمائة رجل ويتزوج بها أجيرها ، ويكون موتها بالعنكبوت . فقال الأجير في نفسه : فأنا والله ما أريد هذه بعد أن تبغي بمائة ، لأقتلنها فأخذ شفرة ودخك فشق بطن الجارية وخرج على وجهه ، فركب البحر فخيط بطن(2/225)
"""""" صفحة رقم 226 """"""
الصبية ، وعولجت فشفيت وشبت وطلعت من أجمل نساء عصرها ، وكانت تبغي فأتت ساحلا من سواحل البحر ، وأقامت هناك تبغي . ولبث الرجل ما شاء الله ، ثم قدم ذلك الساحل ، ومعه مال كثير ، فقال لامرأة من أهل ساحل البحر : ابتغي لي أجمل امرأة في القرية أتزوجها ، فقالت : هاهنا امرأة من أجمل الناس ولكنها بغي فقال : ائتيني بها . فأتتها فقالت : قد قدم رجل له مال كثير وقال لي كذا وكذا فقلت كذا وكذا . فقالت : إني قد تركت البغاء ، ولكن إن أراد تزوجته . قال : فتزوجها فوقعت منه موقعاً عظيماً ، وأحبها حباً شديداً ، فبينما هو يوماً عندها ، إذ أخبرها بأمره ، فقالت : أنا تلك الجارية ، وأرته الشق في بطنها . ثم قالت : وقد كنت أبغي ، فما أدري بمائة أو أقل أو أكثر . قال : فإنه قد قال لي يكون موتها بالعنكبوت ، فبنى لها برجاً في الصحراء وشيده ، فبينما هو وإياها يوماً في ذلك البرج إذا عنكبوت في السقف ، فقال : هذا عنكبوت ، فقالت : هذا يقتلني لا يقتله أحد غيري فحركته فسقط ، فأتته فوضعت إبهام رجلها عليه ، فشدخته فساح سمه بين أظفارها ولحمها ، فاسودت رجلها وماتت . فأنزل الله تعالى هذه الآية " أينما تكونوا يدرككم الموت ولو كنتم في بروج مشيدة " . وقال أكثر المفسرين : إن هذه الآية نزلت في المنافقين الذين قالوا في قتلى أحد : لو كانوا عندنا ما ماتوا وما قتلوا . فرد الله عليهم بقوله " أينما تكونوا يدرككم الموت ولو كنتم في بروج مشيدة " .
والبروج : الحصون ، والقلاع المشيدة : المرفوعة المطولة . قال قتادة : معناه في قصور محصنة .
وقال عكرمة : مجصصة ، والمشيد المجصص . ويكفي العنكبوت فخراً وشرفاً نسجها على رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) في الغار ، والقصة في ذلك مشهورة في كتب التفاسير والسير وغيرها .
ونسجت أيضاً على الغار الذي دخله عبد الله بن أنيس رضي الله عنه ، لما بعثه النبي ( صلى الله عليه وسلم ) لقتل خالد بن نبيح الهذلي بالعرنة ، فقتله ، ثم احتمل رأسه ودخل في غار ، فنسجت عليه العنكبوت . وجاء الطلب ، فلم يجدوا شيئاً ، فانصرفوا راجعين . ثم خرج فسار إلى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) والرأس معه ، فلما رآه النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال : " قد أفلح الوجه " . قال : وجهك يا رسول الله ، ووضع الرأس بين يديه وأخبره الخبر ، فدفع إليه النبي ( صلى الله عليه وسلم ) عصا كانت بيده وقال : " تخطر بهذه في الجنة " . فكانت عنده إلى أن حضرته الوفاة ، فأوصى أهله أن يدفنوها في كفنه ففعلوا . وكانت مدة غيبته ثمان عشرة ليلة .
وفي الحلية للحافظ أبي نعيم عن عطاء بن ميسرة ، قال : نسجت العنكبوت مرتين على نبيين ، على داود حين كان جالوت يطلبه وعلى النبي ( صلى الله عليه وسلم ) في الغار .
وفي تاريخ الإمام الحافظ أبي القاسم بن عساكر ، أن العنكبوت نسجت أيضاً على عورة زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهم ، لما صلب عرياناً في سنة إحدى وعشرين ومائة ، فأقام مصلوباً أربع سنين ، وكانوا وجهوه لغي القبلة ، فدارت خشبته إلى القبلة ،(2/226)
"""""" صفحة رقم 227 """"""
ثم أحرقوا خشبته وجسده رحمه الله . وكان قد بايعه خلق كثير ، وحارب متولي العراق يوسف بن عمران ، عم الحجاج بن يوسف الثقفي ، فظفر به يوسف ففعل به ذلك . وكان ظهوره في أيام هشام بن عبد الملك ، ولما خرج أتاه طائفة كثيرة من أهل الكوفة ، وقالوا له : تبرأ من أبي بكر وعمر ، حتى نبايعك ، فأبى ، فقالوا : إذن نرفضك . فمن ذلك سموا الرافضة . وأما الزيدية فقالوا : لا نتولاهما ونتبرأ ممن تبرأ منهما ، وخرجوا مع زيد فسموا الزيدية . وروى زيد عن أبيه زين العابدين وجماعة ، وروى له أبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه .
تتمة : ذكر ابن خلكان ، في ترجمة يعقوب بن جابر المنجنيقي ، أنه وقف بالقاهرة على كراريس من شعره ، ورأى فيها البيتين المشهورين المنسوبين إلى جماعة من الشعراء ولا يعرف قائلهما على الحقيقة وهما :
ألقني في لظى فإن أحرقتني . . . فتيقن إن لست بالياقوت
جمع النسج كل من حاك لكن . . . ليس داود فيه كالعنكبوت
قال : فعمل يعقوب بن صابر في جوابهما هذه الأبيات :
أيها المدعي الفخار دع الفخ . . . ر لذي الكبرياء والجبروت
نسج داود لم يفد ليلة الغا . . . ر وكان الفخار للعنكبوت
وبقاء السمند في لهب النا . . . ر مزيل فضيلة الياقوت
وكذاك النعام يلتقم الجم . . . ر وما الجمر للنعام بقوت
وقد تقدم في السمندل الإشارة إلى هذه الأبيات . وحكم العنكبوت : تحريم الأكل لاستقذارها .
الأمثال : قالوا : أغزل من عنكبوت وقالوا : أوهن من بيت العنكبوت قال الله تعالى : " مثل الذين اتخذوا من دون الله ا أولياء كمثل العنكبوت اتخذت بيتاً وإن أوهن البيوت لبيت العنكبوت لو كانوا يعلمون إن الله يعلم ما يدعون من دونه من شيء وهو العزيز الحكيم ، وتلك الأمثال نضربها للناس وما يعقلها إلا العالمون " . فضرب الله ببيتها المثل لمن اتخذ من دونه آلهة لا تضره ولا تنفعه ، فكما أن بيت العنكبوت لا يقيها حراً ولا برداً ولا قصد أحد إليها ، فكذلك ما اكتسبوه من الكفر ، واتخذوه من الأصنام ، لا يدفع عنهم غداً شيئاً . والعالمون كل من عقل عن الله عز وجل ، وعمل بطاعته ، وانتهى عن معصيته ، فهم يعقلون صحة هذه الأمثال وحسنها وفائدتها . وكان جهلة قريش يقولون : إن رب محمد يضرب الأمثال بالذباب والعنكبوت ، ويضحكون من ذلك ، وما علموا أن الأمثال تهز المعاني الخلفية في الصور الجلية .(2/227)
"""""" صفحة رقم 228 """"""
الخواص : إذا وضع نسج العنكبوت على الجراحات الطرية ، في ظاهر البدن حفظها بلا ورم ، ويقطع سيلان الدم إذا وضع عليه ، وإذا دلكت الفضة المتغيرة بنسجه جلاها . والعنكبوت الذي ينسج على الكنيف ، إذا علق على المحموم يبرأ بإذن الله تعالى . وإن لف في خرقة وعلق على صاحب حمى الربع نفعه وأذهبها ، وكذلك إذا سحق العنكبوت وهو حي ، ومرخ به صاحب الحميات أذهبها . وإذا بخر البيت بورق الآس الرطب هرب منه العنكبوت ، قاله صاحب عين الخواص .
التعبير : العنكبوت في المنام رجل قريب العهد بالزهد ، وقيل : العنكبوت امرأة ملعونة تهجر فراش زوجها . وبيت العنكبوت ونسجها وهن في الدين للآية الكريمة المتقدم ذكرها في الأمثال . وقيل : العنكبوت في الرؤيا نساج فمن نازع العنكبوت نازع رجلا نساجاً أو امرأة والله أعلم .
العود : المسن من الإبل وهو الذي قد جاوز في السن البازل والخلف وجمعه عودة ، والناقة عودة . ويقال في المثل : زاحم بعود أودع ، أي استعن على أمرك بأهل السن وأهل المعرفة ، فإن رأي الشيخ المسن خير من رأي الغلام ومعرفته . والعود المطافيل ، تقدم ذكرها في أول الباب ، في لفظ عائد . قال الجوهري : يقال لها ذلك إذا ولدت لعشرة أيام أو خمسة عشر يوماً ثم هي مطفل بعد والجمع مطافيل ومطافل .
العواساء : بفتح العين ممدود الحامل من الخنافس حكاه أبو عبيدة .
العوس : بالضم ضرب من الغنم يقال كبش عوسي .
العومة : بالضم دويبة تسبح في الماء ، كأنها فص أسود مد ملكة والجمع عوم . قاله الجوهري .
العوهق : الخطاف الجبلي ويقال للغراب الأسود ، ويقال للبعير الأسود الجسيم العوهق الطويل يستوي فيه الذكر والأنثى .
العلا : القطا وسيأتي إن شاء الله تعالى في باب القاف .
العلام : الباشق ، وقد تقدم ذكره في باب الباء .
العيثوم : الضبع حكاه الجوهري عن أبي عبيدة ، وقال غيره : العيثوم أنثى الذيل .
العير : الحمار الوحشي والأهلي أيضاً والجمع أعيار ومعيوراء وعيور . روى ابن ماجه من حديث عتبة بن عبد الله السلمي أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال : " إذا أتى أحدكم أهله فليستتر ولا يتجردا تجرد العيرين " ورواه البزار من حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه والطبراني من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله تعالى عنه . وروى النسائي في عشرة النساء ، من حديث عبد الله بن سرجس أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال : " إذا أتى أحدكم أهله فليلق على نفسه ثوباً ولا يتجردا تجرد العيرين " . وروى(2/228)
"""""" صفحة رقم 229 """"""
أبو منصور الديلمي من حديث أنس رضي الله تعالى عنه ، أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال : " لا يقعن أحدكم على أهله كما يقع الحمار وليكن بينهما رسول قالوا : وما الرسول . قال : " القبلة والكلام اللين " .
وفي الحديث : " إذا أراد الله بعبد سوءاً أمسك عليه ذنوبه حتى يوافيه يوم القيامة كأنه عير " . شبه لعظم ذنوبه بالحمار الوحشي ، وقيل : أراد الجبل الذي بالمدينة اسمه عير وكان النبي ( صلى الله عليه وسلم ) يكرهه ، فكان يضرب به المثل في المكروهات غالباً . وعير العين جفنها قال الشاعر : زعموا أن كل من ضرب الع - ير موال لنا وأنى الولاء قال أبو عمرو بن العلاء : ذهب من كان يعرف معنى هذا البيت . فائدة : روي أن خالد بن سنان العبسي ، لما حضرته الوفاة ، قال لقومه : إذا أنا دفنت فإنه سيجيء عانة من حمير يقدمها عير فيضرب قبري بحافره ، فإذا أنتم رأيتم ذلك فانبشوا عني فإني سأخرج فأخبركم بعلم الأولين والآخرين ، فلما مات واتفق ما قاله لقومه أرادوا أن يخرجوه ، فكره ذلك بعض ولده وقالوا : إنا نخاف أن ينسب إلينا إنا نبشنا قبر أبينا . ولو فعلوا لخرج إليهم وأخبرهم لكن أراد الله غير ذلك . وقد تقدم أن ابنته أتت النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فبسط لها رداءه وقال لها : أهلا ببنت خير نبي أو نحو ذلك . وروي أنها سمعت رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يقرأ " قل هو الله أحد " فقالت : كأن أبي يقرأ هذا . وروي أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال : " ذاك نبي أضاعه قومه " . وقال الشاعر يهجو رجلا :
لو كنت سيفاً كنت غير عضب . . . أو كنت ماء كنت غير عذب
أو كنت لحماً كنت لحم كلب . . . أو كنت عيراً كنت غير ندب
أي غير صريع في الحاجات .
الأمثال : قالت العرب : معيوراء تكادم الأعيار جمع عير ، والتكادم التعارض ، يضرب مثلا للسفهاء تتهارش . وقالوا : " نجي عيراً سمنه " قال أبو زيد : زعموا أن حمراً كانت هزالا فهلكت في جدب ، ونجا منها حمار ، كان سميناً فضرب به المثل في الحزم قبل وقوع الأمر . أي انج قبل أن لا تقدر على ذلك . ويضرب أيضاً لمن خلصه ماله من مكروه . وقالت العرب : قد حيل بين العير والنزوان يضرب لمن أيس منه . قال الشاعر :
أهم بأمر الحزم لو أستطيعه . . . وقد حيل بين العير والنزوان
وذكر ابن خلكان في ترجمة أبي أحمد الحسن بن عبد الله بن سعيد العسكري من ذلك شيئاً ينبغي الوقوف عليه . قال : كان الصاحب بن عباد يود الاجتماع بأبي أحمد العسكري ولا يجد إليه سبيلا ، فقال لمخدومه مؤيد الدولة بن بويه : إن عسكر مكرم قد اختلت أحوالها وأحتاج إلى أن أكشفها بنفسي ، فأذن له في ذلك فلما أتاها توقع أن يزوره أبو أحمد المذكور فلم يزره فكتب(2/229)
"""""" صفحة رقم 230 """"""
الصاحب إليه :
ولما أبيتم أن تزوروا وقلتم . . . ضعفنا فلم نقدر على الوخدان
أتيناكم من بعض أرض نزوركم . . . وكم منزل بكر لنا وعوان
نسائلكم هل من قرى لنزيلكم . . . بملء جفون لا بملء جفان
وكتب مع هذه الأبيات شيئاً من النثر ، فجاوبه أبو أحمد عن النثر بنثر مثله وعن هذه الأبيات بالبيت المشهور وهو :
أهم بأمر الحزم لو أستطيعه . . . وقد حيل بين العير والنزوان
فلما وقف الصاحب على الجواب ، عجب من اتفاق هذا البيت له ، وقال : والله لو علمت أنه يقع له هذا البيت ، لما كتبت إليه على هذا الروي . وهذا البيت لصخر أخي الخنساء . وهو من جملة أبيات مشهورة . وكان صخر المذكور قد حضر محاربة بني أسد ، فطعنه ربيعة بن ثور الأسدي فأدخل بعض حلقات الدرع في جنبه ، وبقي مدة حول في أشد ما يكون من المرض ، وأمه وزوجته سليمى يمرضانه . فضجرت زوجته منه ، فمرت بها امرأة فسألتها عن حاله ، فقالت : لا هو حي فيرجى ولا ميت فينسى فسمعها صخر فأنشد :
أرى أم صخر لا تمل عيادتي . . . وملت سليمى مضجعي ومكاني
وما كنت أخشى أن أكون جنازة . . . عليك ومن يغتر بالحدثان
لعمري لقد نبهت من كان نائماً . . . وأسمعت من كانت له أذنان
وأي امرئ ساوى بأم حليلة . . . فلا عاش إلا شقا وهوان
أهم بأمر الحزم لو أستطيعه . . . وقد حيل بين العير والنزوان
فللموت خير من حياة كأنها . . . معرس يعسوب برأس سنان
وقالوا : كل شواء العير جوفان ، قيل : اجتمع فزاري وثعلبي وكلبي في سفر ، فاشتووا حماراً وحشياً ، فغاب الفزاري في بعض حاجاته ، فأكل صاحباه العير ، واختبأ له غرموله ، فلما جاء قدماه له وقالا : هذا قد اختبأناه لك ، فجعل يأكل ولا يسيغه فضحكا منه ، فاخترط سيفه وقال : لأقتلنكما إن لم تأكلاه فأبى أحدهما ، فضربه بالسيف ، فأبان رأسه . وكان اسمه مرقمة ، فقال صاحبه : طاح مرقمة فقال الفزاري : وأنت إن لم تلقمه أراد إن لم تلقمها طرحت رأسك . وقد عيرت فزارة بهذا الخبر حتى قال سالم بن دارة في ذلك :
لا تأمنن فزارياً خلوت به . . . على قلوصك واكتبها بأسيار لا تأمننه ولا تأمن بوائقه . . . بعد الذي امتل اير العير بالنار
أطعمتم الضيف جوفانا مخاتلة . . . فلا سقاكم إلهي الخالق والباري(2/230)
"""""" صفحة رقم 231 """"""
وقالوا : أذل من عير . قيل : المراد به الوتد ، لأنه يشج رأسه أبداً . وقيل : المراد به الحمار ، وقال الشاعر :
ولا يقيم على خسف يراد به . . . إلا الاذلان عير الحي والوتد
هذا على الخسف مربوط برمته . . . وذا يشج فلا يرثى له أحد
وقال خالد بن الوليد رضي الله تعالى عنه ، عند موته : لقيت كذا وكذا زحفاً ، وما في جسدي موضع شبر إلا وفيه ضربة بسيف أو طعنة برمح أو رمية بسهم ، ثم ها أنا أموت حتف أنفي كما يموت العير ، لا نامت أعين الجبناء .
العير : بالكسر الإبل التي تحمل الميرة ، ويجوز أن تجمعه على عيرات . وفي الحديث أنهم كانوا يترصدون عيرات قريش .
فائدة : قال الله تعالى : " واسأل القرية التي كنا فيها والعير التي أقبلنا فيها " قال ابن عطية : القرية مصر . قاله ابن عباس وغيره ، وهو مجاز ، والمراد أهلها . وكذلك قوله والعير هذا قول الجمهور وهو الصحيح . وحكى أبو المعالي في التلخيص ، عن بعض المتكلمين ، أنه قال : هذا من الحذف ، وليس من المجاز ، قال : وإنما المجاز لفظة تستعار لغير ما هي له ، وحذف المضاف هو غير المجاز ، هذا مذهب سيبويه وغيره من أهل النظر ، وليس كل حذف مجازاً . ورجح أبو المعالى في هذه الآية أنه مجاز ، وحكى أنه قول الجمهور ، أو نحو هذا . وقالت فرقة : بل أحالوه على سؤال الجمادات والبهائم حقيقة من حيث هو نبي فلا يبعد أن تخبره بالحقيقة ، قال : وهذا وان جوز فبعيد .
فائدة أخرى : أول من قال : " لا في العير ولا في النفير " أبو سفيان بن حرب ، وذلك أنه لما أقبل بعير قريش ، وكان النبي ( صلى الله عليه وسلم ) تحين انصرافها من الشام ، فندب المسلمين للخروج معه وأقبل أبو سفيان حتى دنا من المدينة ، وقد خاف خوفاً شديداً ، فقال للمجد بن عمرو : هل أحسست بأحد من أصحاب محمد ؟ فقال : ما رأيت أحداً أذكره إلا راكبين أتيا إلى هذا المكان ، وأشار إلى مكان عدياً وبسيساً عيني رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ، فأخذ أبو سفيان أبعاراً من أبعار بعيريهما وفركها فإذا فيها نوى ، فقال : علائف يثرب ، هذه عيون محمد فضرب وجوه عيره عن يسار بدر ، وقد كان بعث إلى قريش يخبرهم بما يخافه من النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ، فأقبلت قريش من مكة ، فأرسل إليهم أبو سفيان يخبرهم أنه قد أحرز العير ويأمرهم بالرجوع ، فأبت قريش أن ترجع ، ومضت إلى بحر ورجع بنو زهرة منصرفين إلى مكة ، فصادفهم أبو سفيان فقال : يا بني زهرة لا في العير ولا في النفير . قالوا : أنت أرسلت إلى قريش أن ترجع . ومضت قريش إلى بدر ، فأظهر الله نبيه ( صلى الله عليه وسلم ) عليهم ولم يشهد بدراً من بني زهرة أحد . قال الأصمعي : يضرب هذا المثل للرجل يحط أمره ويصغر قدره ، والله تعالى أعلم .
عير السراة : طائر كهيئة الحمامة .(2/231)
"""""" صفحة رقم 232 """"""
العيس : بكسر العين الإبل البيض يخالط بياضها شيء من الشقرة ، واحدها أعيس والأنثى عيساء ، ويقال هي كرام الإبل وما أحسن قول الأول :
ومن العجائب والعجائب جمة . . . قرب الحبيب وما إليه وصول
كالعيس في البيداء يقتلها الظما . . . والماء فوق ظهورها محمول
وفي حديث سواد بن قارب وشدت العيس بأحلاسها .
العيساء : بفتح العين الأنثى من الجراد ، وقد تقدم ما في الجراد في باب الجيم .
العيلام : والعيلان بفتح العين فيهما الذكر من الضباع وفي الحديث ، أن الخليل عليه الصلاة والسلام يريد أن يحمل أباه آزر ليجوز به الصراط فينظر إليه فإذا هو عيلام أمدر ، والعيلام ذكر الضباع ، والياء والألف زائدتان قاله في نهاية الغريب .
العيثوم : الضبع عن أبي عبيدة ، وقد تقدم قبل ذلك بورقة ، وقال الغنوي : والعيثوم الأنثى من الذيلة وأنشد الأخطل :
تركوا أسامة في اللقاء كأنما . . . وطئت عليه بخفها العيثوم
العين : من الألفاظ المشتركة ، قال بعض أهل اللغة ممن تكلم على الألفاظ المشتركة : إن العين طائر أصفر البطن والظهر في حد القمري .
العيهل : الناقة السريعة ، قال أبو حاتم : ولا يقال جمل عيهل .
عيجلوت : كحيزبون اسم النملة المذكورة في القرآن ، وسيأتي إن شاء الله تعالى اختلاف العلماء في اسمها في باب النون في لفظ النمل . ابن عرس : وكنيته أبو الحكم وأبو الوثاب وهي دابة تسمى بالفارسية راسو ، وهي بكسر العين وإسكان الراء المهملتين ، تجمع على بنات عرس وبني عرس ، حكاه الأخفش . قال القزويني : هو حيوان دقيق يعادي الفأر ، يدخل جحره ويخرجه ، ويعادي التمساح فإن التمساح لا يزال مفتوح الفم ، وابن عرس يدخل فيه وينزل جوفه ويأكل أحشاءه ويمزقها ، ويخرج ويعادي الحية أيضاً ، ويقتلها . وإذا مرض يأكل بيض الدجاج فيزول مرضه .
وحكي أن ابن عرس تبع فأرة فصعدت شجرة ، فلم يزل يتبعها حتى انتهت إلى رأس الغصن ، ولم يبق لها مهرب ، فنزلت على ورقة وعضت طرفها ، وعلقت نفسها بها ، فعند ذلك صاح ابن عرس ، فجاءته زوجته فلما انتهت إلى تحت الشجرة ، قطع ابن عرس الورقة التي عضتها الفأرة فسقطت فاصطادها ابن عرس التي كانت تحت الشجرة .
وقال عبد اللطيف البغدادي : وأظنه الحيوان المسمى بالدلق ، وإنما يختلف لونه ووبره(2/232)
"""""" صفحة رقم 233 """"""
بحسب البلاد قال في طبعه : إنه يسرق ما وجد من فضة وذهب ، كما يفعل الفأر وربما عادى الفأر فقتله ، ولكن خوف الفأر من السنور أشد من خوفه منه . قال : وهو كثير الوجود في منازل أهل مصر ، قال : وقد حكي من فطنته ، أن رجلا صاد فرخاً منها وحبسه في قفص بحيث تراه أمه ، فلما رأته ذهبت ثم جاءت وفي فمها دينار ، فألقته بين يديه كأنها تفتدي ولدها فلم يتركه لها ، فذهبت وعادت بدينار آخر حتى كمل العدد خمساً ، فلما رأت أنه لا يطلقه ذهبت وعادت بخرقة كأنها تشير إلى فراغ حاصلها فلم يكترث بها ، فلما رأت ذلك منه عادت إلى دينار منها لتأخذه ، فخشي الرجل من ذلك فأطلق لها ولدها . وقد تقدم في باب الجيم في الجرذ حديث ضباعة بنت الزبير ، أن المقداد بن الأسود ذهب يقضي حاجته فإذا جزد يخرج من جحره ديناراً ثم ديناراً ثم لم يزل كذلك ، إلى أن أخرج سبعة عشر ديناراً ، ثم أخرج خرقة حمراء قد بقي فيها دينار واحد ، فكانت ثمانية عشر ، فذهب بها إلى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فأخبره وقال : خذ صدقتها . فقال عليه الصلاة والسلام : " هل هوت إلى الجحر بيدك ؟ " فقال : لا . فقال له عليه الصلاة والسلام : " بارك الله لك فيها " . قال الجاحظ : ابن عرس نوع من الفأر وأنشد قول الشمقمق :
نزل الفارات بيتي . . . رفقة من بعد رفقه
ثم قال :
وابن عرس رأس بيتي . . . صاعداً في رأس طبقه
ثم قال يصفه :
صبغة أبصرت منها . . . في سواد العين زرقه
مثل هذا في ابن عرس . . . أغبش تعلوه بلقه
فوصفه بكونه أغبش أبلق ، وأنه من الفأر . وهو أنواع ثلاثة عشر ستأتي في أماكنها ، إن شاء الله تعالى . وقال أرسطاطاليس ، في نعوت الحيوان ، والتوحيدي في الإمتاع والمؤانسة : إن الأنثى من بنات عرس ، تلقح من أفواهها وتلد من أذنابها . وقال في كفاية المتحفظ : ابن عرس هو السرعوب ، ويقال له النمس ، وهو غلط . والذي قبله قريب منه . والجمع بينه وبين كلام الجاحظ عسر لأن النمس ليس من جنس الفأر ، والصواب ما قاله الجاحظ من أنه نوع من الفأر . وقال الشيخ قطب الدين السنباطي : بنات عرس هي هذه التي في بيوت مصر ، وفيما قاله قصور ، فإن بنات عرس أنواع كما يأتي عن الرافعي قريباً .
الحكم : قيل : يحرم أكله لأنه كالفأر ، والمشهور حله ، بل قال في شرح المهذب : يحل بلا(2/233)
"""""" صفحة رقم 234 """"""
خلاف ، وفيه وجه حكاه الماوردي أنه يحرم . وحكى في الشرح الصغير الوجهين ، وقال : الأظهر الحل ، وهذه المسألة ساقطة من الشرح الكبير والروضة ، والأشبه أنه من صنيع النساخ ، وإلا فكلام الشرح لا يستقيم إلا بذكرها ، ولذلك كتبها فيه ، كما في الشرح الصغير ، الشيخ عز الدين النشائي على حاشية نسخته . وقال الرافعي ، في كتاب الحج : إن بنات عرس أنواع . والغزالي قال : إنه يشبه الثعلب ، وكلام الغزالي يقتضي أن ابن عرس هو النمس ، لأنه يشبه الثعلب بأسنانه وطول ذنبه ، وإن كان أصغر منه جثة . وقال القاضي أبو الطيب : لا أعلم خلافاً بين الأصحاب في حل ابن عرس ، لأنه لا يتقوى بنابه ، وكذا ذكر صاحب البحر . والمشهور الحل ، كما في الشرح الصغير والمختصرات المشهورة كالتنبيه والوجيز والحاوي الصغير . الخواص : دماغه يكتحل به فينفع من ظلمة العين ، وإن جفف وشرب بخل نفع من الصرع ، ولحمه يستعمل ضماداً لوجع المفاصل ، وشحمه يطلى به السن تقع سريعاً ، ومرارته إن شربت ، وهي حارة ، قتلت من وقتها . وعمه يطلى به الخنازير يحللها . وإن خلط دمه بدم الفأر ، ومزج بماء ، ورش في بيت ، وقعت الخصومة بين أهله ، وإن دفن ابن عرس وفأرة في بيت ، فعل كما يفعل الدم ، وزبله يجعل على الجراحات يقطع الدم ، وإن أخذ كفاه وعلقتا على امرأة لم تحبل ما دام ذلك عليها والله تعالى أعلم .
وهو في الرؤيا : يدل على الزواج للأعزب بامرأة صبية والله تعالى أعلم .
أم عجلان : طائر ، قاله الجوهري ، وقال ابن الأثير : طائر أسود ، يقال له قوبع ، وقيل : طائر أسود أبيض الذنب ، يكثر تحريك ذنبه يقال له الفتاح .
أم عزة : الظبية وعزة ابنتها .
أم عويف : دويبة صغيرة ، ضخمة الرأس مخضرة ، لها ذنب طويل ، وأربعة أجنحة ، إذا رأت الإنسان قامت على ذنبها ، ونشرت أجنحتها ، وهي لا تطير . ويقال لها ناشرة برديها ، يلعب بها الصبيان ويقولون لها :
أم عويف انشري برديك . . . ثمت طيري بين صحراويك
إن الأمير خاطب بنتيك . . . بجيشه وناظر إليك
كذا قاله في المرصع . وهذه تشبه أن تكون أم حبين المتقدمة في باب الحاء المهملة .
أم العيزار : السبيطر ، ووقع في المهذب ، في باب الهدنة أن عاقر ناقة صالح اسمه العيزار بن سالف ، وهو تصحيف بلا خلاف ، وإنما عاقر الناقة اسمه قدار بضم القاف ، ثم دال مهملة مخففة ثم ألف ثم راء مهملة هكذا ذكره جميع أهل التواريخ والقصص والأسماء وأهل اللغة كالجوهري وغيره ونبه عليه النووي رحمه الله تعالى .
باب الغين المعجمة
الغاق : والغاقة : نوع من طير الماء معروف مشهور .(2/234)
"""""" صفحة رقم 235 """"""
الغداف : غراب القيظ وجمعه غدفان ، بكسر الغين المعجمة ، وربما سموا النسر الكثير الريش غدافاً . وكذلك الشعر الأسود الطويل ، وقال ابن فارس : الغداف هو الغراب الضخم . وقال العبدري وغيره من أئمة أصحابنا : هو غراب صغير أسود لونه كلون الرماد .
الحكم : أباح الشعبي أكل الغراب الأسود الكبير ، الذي يأكل الحبوب والزرع ، فأشبه الحجل . وقال أبو حنيفة : الغربان كلها حلال . وروى هشام بن عروة ، عن أبيه عروة بن الزبير ، عن عائشة رضي الله تعالى عنها ، أنها قالت : إني لأعجب ممن يأكل الغراب وقد أذن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) في قتله للمحرم وسماه فاسقاً ، والله ما هو من الطيبات وأما مذهب الشافعي ، فحاصل ما في الروضة أن الغداف يحرم أكله ، والذي في الرافعي أنه حلال ، وهذا هو المعتمد في الفتوى ، كما نبه عليه شيخنا في المهمات .
الخواص : قال القزويني : إذا أخذت شحم الغداف مع دهن ورد ، ودهنت به وجهك ، ودخلت على السلطان قضى حاجتك .
الغذي : السخلة والجمع غذاء ، مثل فصيل وفصال ، ومنه قول أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه لعامل الصدقة : احتسب عليهم بالغذاء ، ولا تأخذهما منهم . وأنشد الأصمعي :
لو أنني كنت من عاد ومن إرم . . . غذى بهم ولقمانا وذا جدن
ورواه خلف الأحمر غذى بالتصغير حكاه الجوهري وغيره .
الغراب : معروف ، وسمي بذلك لسوافه . ومنه قوله تعالى : " وغرابيب سود " وهما لفظان بمعنى واحد . ومن أحاديث راشد بن سعد أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال : " إن الله تعالى يبغض الشيخ الغربيب " فسره راشد بن سعد بالذي يخضب بالسواد . وجمعه غربان وأغربة وأغرب وغرابين وغرب . وقد جمعها ابن مالك في قوله :
بالغرب أجمع غراباً ثم أغربة . . . وأغرب وغرابين وغربان
وكنيته أبو حاتم وأبو جحادف وأبو الجراح وأبو حفر وأبو زيدان وأبو زاجر وأبو الشؤم وأبو غياث وأبو القعقاع وأبو المرقال قال الشاعر :
إن الغراب وكان يمشي مشية . . . فيما مضى من سالف الأجيال
حسد القطاة ورام يمشي مشيها . . . فأصابه ضرب من العقال
فأضل مشيته وأخطأ مشيها . . . فلذاك سموه أبا المرقال
ويقال له ابن الأبرص وابن بريح وابن داية ، وهو أصناف : الغداف والزاغ والأكحل ،(2/235)
"""""" صفحة رقم 236 """"""
وغراب الزرع والأورق . وهذا الصنف يحكي جميع ما يسمعه . والغراب الأعصم عزيز الوجود . قالت العرب : أعز من الغراب الأعصم . وقال ( صلى الله عليه وسلم ) : " مثل المرأة الصالحة في النساء ، كمثل الغراب الأعصم في مائة غراب " . رواه الطبراني من حديث أبي أمامة .
وفي رواية ابن أبي شيبة ، قيل : يا رسول الله وما الغراب الأعصم . قال : " الذي إحدى رجليه بيضاء " . وروى الإمام أحمد والحاكم في مستدركه ، عن عمرو بن العاص رضي الله تعالى عنه ، قال : كنا مع رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) بمر الظهران ، فإذا بغربان كثيرة ، فيها غراب أعصم أحمر المنقار والرجلين ، فقال ( صلى الله عليه وسلم ) : " لا يدخل الجنة من النساء إلا مثل هذا الغراب ، في هذه الغربان " وإسناده صحيح . وهو في السنن الكبرى للنسائي . قال في الإحياء : الأعصم أبيض البطن . وقال غيره : الأعصم أبيض الجناحين . وقيل : أبيض الرجلين أراد عليه الصلاة والسلام قلة الصالحة في النساء ، وقلة ، من يدخل الجنة منهن ، لأن هذا الوصف في الغربان عزيز قليل .
وفي وصية لقمان لابنه : يا بني اتق المرأة ، فإنها تشيبك قبل المشيب ، واتق شرار النساء فإنهن لا يدعون إلى خير ، وكن من خيارهن على حذر . وقال الحسن : والله ما أصبح رجل يطيع امرأته فيما تهوى إلا كبه الله في النار . وقال عمر رضي الله تعالى عنه : خالفوا النساء ، فإن في خلافهن البركة . وقد قيل : شاوروهن وخالفوهن . وفي السيرة ، في قصة حفر زمزم لما رأى عبد المطلب قائلا يقول له : احفر طيبة ، قال : وما طيبة ؟ قال : زمزم . قال : وما علامتها ؟ قال : بين الفرث والدم ، عند نقرة الغراب الأعصم . قال السهيلي : في ذلك إشارة إلى أن الذي يهدم الكعبة صفته كصفة الغراب ، وهو ذو السويقتين . روى مسلم عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه ، أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال : " يخرب الكعبة ذو السويقتين رجل من الحبشة " . وفي البخاري ، عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما ، عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ، أنه قال : " كأني به أسود أفحج ، يقلعها حجراً حجراً " . وفي حديث حذيفة الطويل ، " كأني بحبشي أفحج الساقين ، أزرق العينين ، أفطس الأنف ، كبير البطن ، وأصحابه ينقضونها حجراً حجراً ، ويتناولونها حتى يرموا بها إلى البحر " . يعني الكعبة . ذكره أبو الفرج ابن الجوزي ، وذكر الحليمي أن هذا يكون في زمن عيسى عليه السلام . وفي الحديث : " استكثروا من الطواف بهذا البيت قبل أن يرفع فقد هدم مرتين ويرفع في الثالثة " . وكراب الليل ، قال الجاحظ : هو غراب ترك أخلاق الغربان ، وتشبه بأخلاق البوم ، فهو من طير الليل . وسمعت بعض الثقات يقول : إن هذا الغراب يشاهد كثيراً في الليل . وقال ارسطاطاليس ، في النعوت : الغربان أربعة أجناس ، أسود حالك ، وأبلق ومطرف ببياض لطيف الجرم يأكل الحب ، وأسود طاوسي براق الريش ، ورجلاه كلون المرجان ، يعرف بالزاغ ، وفي(2/236)
"""""" صفحة رقم 237 """"""
الغراب كله الاستتار عند السفاد ، وهو يسفد مواجهة ، ولا يعود إلى الأنثى بعد ذلك لقلة وفائه . والأنثى تبيض أربع بيضات وخمساً ، وإذا خرجت الفراخ من البيض طردتها ، لأنها تخرج قبيحة المنظر جداً ، إذ تكون صغار الأجرام كبيرة الرؤوس والمناقير ، جرداء اللون ، متفاوتة الأعضاء ، فالأبوان ينظران الفرخ كذلك فيتركانه ، فيجعل الله قوته في الذباب والبعوض الكائن في عشه إلى أن يقوى وينبت ريشه ، فيعود إليه أبواه . وعلى الأنثى أن تحضن وعلى الذكر أن يأتيها بالمطعم . وفي طبعه أنه لا يتعاطى الصيد . بل إن وجد جيفة ، أكل منها وإلا مات جوعاً ، ويتقمقم كما يتقمقم ضعاف الطير ، وفيه حذر شديد وتنافر . والغداف يقاتل البوم ويخطف بيضها ويأكله ، ومن جيب أمره أن الإنسان إذا أراد أن يأخذ فراخه ، يحمل الذكر والأنثى في أرجلهما حجارة ، ويتحلقان الجو ويطرحان الحجارة عليه يريدان بذلك دفعه .
قال الجاحظ : قال صاحب منطق الطير : الغراب من لئام الطير ، وليس من كرامها ، ولا من أحرارها ومن شأنه أكل الجيف والقمامات ، وهو إما حالك السواد شديد الاحتراق ، ويكون مثله في الناس الزنج فإنهم شرار الخلق تركيباً ومزاجاً ، كمن بردت بلاده ولم تنضجه الأرحام ، أو ثخنت بلاده فأحرقته الأرحام ، وإنما صارت عقول أهل بابل فوق العقول ، وكمالهم فوق الكمال ، لأجل ما فيها من الاعتدال . فالغراب الشديد السواد ، ليس له معرفة ولا كمال ، والغراب الأبقع كثير المعرفة ، وهو الأم من الأسود انتهى . والعرب تتشاءم بالغراب ، ولذا اشتقوا من اسمه الغربة والاغتراب والغريب . فائدة أجنبية : اسم الغربة مجموع من أسماء دالة على محصول اسم الغربة فالغين من غمر وغرور وغيبة وغم وغلة ، " وهي حرارة الحزن ، وغرة وغول وهي كل مهلكة ، والراء من رزء وردع وردى وهو الهلاك ، والباء من بلوى وبؤس وبرح وهو الداهية ، وبوار وهو الهلاك ، والهاء من هوان وهول وهم وهلك ، قاله محمد بن ظفر ، في السلوان . وغراب البين الأبقع . قال الجوهري : هو الذي فيه سواد وبياض . وقال صاحب المجالسة : سمي غراب البين لأنه بان عن نوح ، على نبينا وعليه أفضل الصلاة والسلام ، لما وجهه لينظر إلى الماء ، فذهب ولم يرجع . ولذلك تشاءموا به . وذكر ابن قتيبة أنه سمي فاسقاً ، فيما أرى ، لتخلفه حين أرسله نوح عليه السلام ، ليأتيه بخبر الأرض ، فترك أمره ووقع على جيفة . قال عنترة :
ظعن الذين فراقهم أتوقع . . . وجرى ببينهم الغراب الأبقع
وقال صاحب منطق الطير : الغربان جنس من الأجناس التي أمر بقتلها في الحل والحرام ، من الفواسق ، اشتق لها ذلك الاسم من اسم إبليس ، لما يتعاطاه من الفساد الذي هو شأن إبليس ، واشتق ذلك أيضاً لكل شيء اشتد أفاه . وأصل الفسق الخروج عن الشيء ، وفي الشرع الخروج عن الطاعة انتهى .
قال الجاحظ : غراب البين نوعان ، أحدهما غراب صغير معروف باللؤم والضعف ، وأما الآخر فإنه ينزل في دور الناس ، ويقع على مواضع إقامتهم إذا ارتحلوا عنها ، وبانوا منها . قال : وكل غراب غراب البين ، إذا أرادوا به الشؤم لا غراب البين نفسه الذي هو غراب صغير أبقع .(2/237)
"""""" صفحة رقم 238 """"""
وإنما قيل : لكل غراب غراب البين ، لأنه يسقط في منازلهم إذا ساروا منها وبانوا عنها ، فلما كان هذا الغراب لا يوجد إلا عند بينونتهم عن منازلهم ، اشتقوا له هذا الاسم من البينونة .
وقال المقدسي ، في كشف الأسرار ، في حكم الطيور والأزهار ، في صفة غراب البين : هو غراب أسود ينوح نوح الحزين المصاب ، وينعق بين الخلان والأحباب ، إذا رأى شملا مجتمعاً أنذر بشتاته ، وإن شاهد ربعاً عامراً بشر بخرابه ، ودروس عرصاته ، يعرف النازل والساكن بخراب الدور والمساكن ، ويحذر الآكل غصة المآكل ، ويبشر الراحل بقرب المراحل ، ينعق بصوت فيه تحزين ، كما يصيح المعلن بالتأذين وأنشد على لسان حاله :
أنوح على ذهاب العمر مني . . . وحق أن أنوح وأن أنادي
وأندب كلما عاينت ركباً . . . حدا بهمو لو شك البين حادي
يعنفني الجهول إذا رآني . . . وقد ألبست أثواب الحداد
فقلت له : اتعظ بلسان حالي . . . فإني قد نصحتك باجتهاد
وها أنا كالخطيب وليس بدعا . . . على الخطباء أثواب السواد
ألم ترني إذا عاينت ركبا . . . أنادي بالنوى في كل ناد
أنوح على الطلول فلم يجبني . . . بساحتها سوى خرس الجماد
فأكثر في نواحيها نواحي . . . من البين المفتت للفؤاد
تيقظ يا ثقيل السمع وافهم . . . إشارة من تسير به العوادي
فما من شاهد في الكون إلا . . . عليه من شهود الغيب بادي
وكم من رائح فيها وغاد . . . ينادي من دنو أو بعاد
لقد أسمعت لو ناديت حياً . . . ولكن لا حياة لمن تنادي
فدل قوله : وقد ألبست أثواب الحداد ، وليس بدعا على الخطباء أثواب السواد ، أنه أسود ، وقوله : فلم يجبني بساحتها سوى خرس الجماد ، أنه يوجد عند مفارقة أهل المواضع لها ، وأما قوله : وينغق بين الخلان والأحباب ، فهو بالغين المعجمة ، عند جمهور أهل اللغة ، وهو الذي قاله ابن قتيبة ، وجعل غيره خطأ .
ونقل البطليوسي ، عن صاحب المنطق ، أنه قال : نعق الغراب ونغق . قال : وهو بالغين المعجمة أحسن . وحكى ابن جني مثل ذلك . وقد أحسن الصاحب بهاء الدين زهير وزير الملك الصالح نجم الدين أيوب بن الملك الكامل محمد بقوله في البين من أبيات :
لقد ظلمتني واستطالت يد النوى . . . وقد طمعت في جانبي كل مطمع
إلى كم أقاسي فرقة بعد فرقة . . . وحتى متى يا بين أنت معي معي
وقالت علمنا ما جرى منك بعدنا . . . فلا تظلميني ما جرى غير أدمي(2/238)
"""""" صفحة رقم 239 """"""
وله ملغزا في قفل وقد أجاد :
وأسود عار أنحل البرد جسمه . . . وما زال من أوصافه الحرص والمنع وأعجب شيء كونه الدهر حارساً . . . وليس له عين وليس له سمع
وله شعر جيد ، وشعره عند أهل الصناعة يسمى السهل الممتنع . وكان متمكناً من الملك الصالح ولا يتوسط إلا بالخير ، وكانت وفاته سنة ست وخمسين وستمائة رحمه الله تعالى .
ويقال : إذا صاح الغراب مرتين ، فهو شر ، وإذا صاح ثلاث مرات فهو خير على قدر عدد الحروف . ولما كان صافي العين حاد البصر سموه بالأعور . وقال الجاحظ : إنهم إنما سموه بالأعور تطيراً منه وتشاؤماً به وليس به عور . وقيل : إنما سموه أعور تفاؤلا بالسلامة منه ، كما سموا البرية بالمفازة ، واليد الشمال باليسار .
والتطير أصله من الطير إذا مر بارحاً أو سانحاً أو قعيداً أو ناطحاً ، فالبارح ما أتى من ناحية الميامن والسانح ، بالنون والحاء المهملة ما أتى من ناحية المياسر ، والناطح ما تلقاك والقعيد ما استدبرك . وإنما كان الغراب هو المقدم عندهم في باب الشؤم ، لأنه لما كان أسود ولونه مختلفاً إن كان أبقع ، ولم يكن على إبلهم شيء أشد من الغراب . وكان حديد البصر يخاف من عينيه كما يخاف من عين المعيان قدموه في باب الشؤم انتهى . وقيل : إنما سموه أعور لتغميض إحدى عينيه أبداً ، من قوة بصره . قاله ابن الأعرابي ، وسيأتي في الأمثال شيء من هذا .
فائدة : قال صاحب العشرات : اسم الغراب من الأسماء المشتركة ، يقع على الثلج وعلى الضفيرة من الشعر وعلى المعول وعلى رأس الورك وعلى الغراب نفسه . قال : أنشدني أبو عبد الله المهلبي ، يعني نفطويه كنى عنه لأنه كان في زمانه ، عن ثعلب عن ابن الأعرابي :
يا عجباً للعجب العجاب . . . خمسة غربان على غراب
وقال ارسطاطاليس في النعوت : غراب البين جسمه أسود ومنقاره ورجلاه صفر ، ومأكله من جميع النبات واللحوم . وفي الحديث أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) " نهى عن نقرة الغراب " . يريد بذلك تخفيف السجود ، وأنه لا يمكث فيه ، إلا قدر وضع الغراب منقاره فيما يريد أكله . وروى البخاري في الأدب ، والحاكم في المستدرك والبيهقي في الشعب ، وابن عبد البر وغيرهم عن عبد الله بن الحارث الأموي ، عن أمه ريطة بنت مسلم ، عن أبيها ، أنه قال : شهدت مع النبي ( صلى الله عليه وسلم ) حنيناً ، فقال : " ما اسمك " ؟ قلت : اسمي غراب . فقال ( صلى الله عليه وسلم ) : " بل أنت مسلم " . وإنما غير النبي ( صلى الله عليه وسلم ) اسمه لأنه حيوان خبيث الفعل ، خبيث المطعم ، ولذلك أمر ( صلى الله عليه وسلم ) بقتله في الحل والحرم .
وفي سنن أبي داود أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أتاه رجل فقال : " ما اسمك " ؟ قال : أصرم . قال : " بل أنت زرعة " . وإنما غيره لما فيه من معنى الصرم وهو القطع . قال أبو داود : وغير النبي ( صلى الله عليه وسلم ) اسم(2/239)
"""""" صفحة رقم 240 """"""
العاص وعزيز وعقلة وشيطان والحكم وحباب وشهاب وأرض تسمى عفرة فسماها النبي ( صلى الله عليه وسلم ) خضرة . فالعاص كرهه لمعنى العصيان ، وإنما صفة المؤمن الطاعة والاستسلام . وعزيز إنما غيره لأن العزة لله تعالى وشعار العبد الذلة والاستكانة ، وقد قال الله تعالى عندما قرع بعض أعدائه : " ذق إنك أنت العزيز الكريم " وعقلة معناه الشدة والغلظة ، ومن صفة المؤمن اللين والسهولة . قال ( صلى الله عليه وسلم ) : " المؤمنون هينون لينون " . والشيطان اشتقاقه من البعد عن الخير . والحكم هو الحاكم الذي لا يرد حكمه ، وهذه الصفة لا تليق بغير الله سبحانه وتعالى . والحباب اسم الشيطان ، والشهاب اسم للشعلة من النار والنار عقوبة الله تعالى ، وهي محرقة مهلكة ، نسأل الله النجاة منها . وأما عفرة فهو نعت لأرض لا تنبت شيئاً ، فسماها خضرة على معنى التفاؤل لتخضر وتزرع .
وفي سنن أبي داود والنسائي وابن ماجه من حديث عبد الرحمن بن شبل ، وليس له في الكتب الستة سواه أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) " نهى المصلي عن نقرة الغراب " . ورواه الحاكم بلفظ " نهى عن نقرة الغراب وافتراش السبع وأن يوطن الرجل المكان كما يوطنه البعير " . يريد بنقرة الغراب تخفيف السجود ، وأنه لا يمكث فيه إلا قدر وضع الغراب منقاره فيما يريد أكله .
وروى أبو يعلى الموصلي ، والطبراني ، في معجمه الأوسط ، عن سلمة بن قيصر أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال : " من صام يوماً ابتغاء وجه الله ، باعده الله من النار كبعد غراب طار وهو فرخ حتى مات هرماً . وفي إسناده ابن لهيعة ، وفيه كلام . وروى أبو هريرة رضي الله تعالى عنه مثله عن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) . ورواه الإمام أحمد في الزهد والبزار ، وفيه رجل لم يسم ، وقد تقدم في باب الحاء المهملة ، في لفظ الحية ، ما رواه الدارقطني عن أبي أمامة قال : دعا النبي ( صلى الله عليه وسلم ) بخفيه ليلبسهما فلبس أحدهما ثم جاء غراب فاحتمل الآخر ورمى به فخرجت منه حية فقال ( صلى الله عليه وسلم ) : " من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يلبس خفيه حتى ينفضهما " وفي إسناده هشام بن عمر ، وذكره ابن حبان في الثقات وهو حديث صحيح إن شاء الله تعالى . وقد تقدم في الأسود السالخ حديث نظير هذا .
وروى الإمام أحمد في الزهد ، عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما ، أنه كان إذا نعب الغراب قال : اللهم لا طير إلا طيرك ولا خير إلا خيرك ولا إله غيرك . وروينا عن ابن طبرزذ ، بإسناده إلى الحكم بن عبد الله بن حطان عن الزهري ، عن أبي واقد عن روح بن حبيب قال : بينما أنا عند أبي بكر رضي الله تعالى عنه ، إذ أتي بغراب ، فلما رآه بجناحين حمد الله تعالى ثم قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) : " ما صيد قط صيد إلا بنقص من تسبيح ، ولا أنبت الله تعالى نابتة إلا وكل بها ملكاً يحمي تسبيحها حتى يأتي به يوم القيامة ، ولا عضدت شجرة ولا قطعت ، إلا بنقص من تسبيح ، ولا دخل على امرئ مكروه إلا بذنب ، وما عفا الله عنه أكثر " . يا غراب اعبد الله ، ثم خلى سبيله . وسيأتي نظير هذا في لفظ القسورة ، من كلام عمر رضي الله تعالى عنه .(2/240)
"""""" صفحة رقم 241 """"""
فائدة أخرى : قال أبو الهيثم : يقال : إن الغراب يبصر من تحت الأرض بقدر منقاره . والحكمة في أن الله تعالى بعث إلى قابيل ، لما قتل أخاه هابيل ، غراباً ولم يبعث له غيره من الطير ، ولا من الوحش أن القتل كان مستغرباً جداً ، إذ لم يكن معهوداً قبل ذلك فناسب بعث الغراب . قال الله تعالى : " واتل عليهم نبأ ابني آدم بالحق إذ قربا قرباناً " الآيات . قال المفسرون : كان قابيل صاحب زرع ، فقرب أرذل ما عنده وأدناه ، وكان هابيل صاحب غنم فعمد إلى أفضل كباشه فقربه . وكان دليل القبول أن تأتي نار تأكل القربان ، فأخذت النار الكبش الذي قربه هابيل ، فكان ذلك الكبش يرعى في الجنة ، حتى أهبط إلى إبراهيم عليه الصلاة والسلام في فداء ولده إسماعيل عليه الصلاة والسلام . وكان قابيل أسن ولد آدم عليه الصلاة والسلام .
وروي أن آدم حج إلى مكة وجعل قابيل وصياً على بنيه فقتل قابيل هابيل فلما رجع آدم قال : أين هابيل ؟ فقال : لا أدري . فقال آدم : اللهم العن أرضاً شربت دمه فمن ذلك الوقت لم تشرب الأرض دماً " .
ثم إن آدم بقى مائة عام لا يبتسم ، حتى جاءه ملك الموت ، فقال له : حياك الله يا آدم وبياك ، قال : وما بياك ؟ قال : أضحكك . وروي أن قابيل حمل أخاه هابيل ومشى به حتى أروح ، ولم يدر ما يصنع به ، فبعث الله غرابين ، فقتل أحدهما الآخر ، ثم بحث في الأرض بمنقاره ودفنه ، فاقتدى به قابيل ، فكان بعث الغراب حكمة كبرى ليرى ابن آدم كيف المواراة ، وهو معنى قوله تعالى : " ثم أماته فأقبره " وروى أنس رضي الله تعالى عنه أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال : " امتن الله تعالى على ابن آدم بالريح بعد الروح ولولا ذلك ما دفن حبيب حبيباً " .
وقابيل أول من يساق إلى النار من ولد آدم قال الله تعالى : " ربنا أرنا الذين أضلانا من الجن والإنس " وهما قابيل وإبليس .
وروى أنس رضي الله تعالى عنه أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) سئل عن يوم الثلاثاء ، فقال : " يوم الدم فيه حاضت حواء ، وفيه قتل ابن آدم أخاه " . قال مقاتل : وكان قبل ذلك السباع والطيور تستأنس بآدم ، فلما قتل قابيل هابيل ، هربت منه الطير والوحش ، وشاكت الأشجار ، وحمضت الفواكه ، وملحت المياه ، واغبرت الأرض . وروى أبو داود ، عن سعد بن أبي وقاص رضي الله تعالى عنه ، أنه قال : يا رسول الله إن دخل علي إنسان في الفتنة ، وبسط إلي يده فقال : " كن كخير ابني آدم " . وتلا هذه الآية . عجيبة : نقل القزويني عن أبي حامد الأندلسي أن على البحر الأسود ، من ناحية الأندلس ، كنيسة من الصخر ، منقورة في الجبل ، عليها قبة عظيمة وعلى القبة غراب لا يبرح ، وفي مقابل القبة مسجد يزوره الناس ، يقولون : إن الدعاء فيه مستجاب ، وقد شرط على القسيسين ضيافة(2/241)
"""""" صفحة رقم 242 """"""
من يزور ذلك المسجد من المسلمين ، فإذا قدم زائر ، أدخل الغراب رأسه في روزنة على تلك القبة ، وصاح صيحة ، وإذا قدم اثنان صاح صيحتين ، وهكذا كلما وصل زوار صاح على عددهم ، فتخرج الرهبان بطعام يكفي الزائرين . وتعرف تلك الكنيسة بكنيسة الغراب ، وزعم القسيسون أنهم مازالوا يرون غراباً على تلك القبة ، ولا يدرون من أين يأكل أو يشرب .
عجيبة أخرى : قال أبو الفرج المعافى بن زكريا ، في كتاب الجليس والأنيس له : كنا نجلس في حضرة القاضي أبي الحسن فجئنا على العادة فجلسنا عند بابه ، وإذا أعرابي جالس كانت له حاجة ، إذ وقع غراب على نخلة في الدار فصرخ ثم طار ، فقال الأعرابي : إن هذا الغراب يقول : إن صاحب هذه الدار يموت بعد سبعة أيام ، قال : فزجرناه فقام وانصرف ، ثم خرج الإذن من القاضي إلينا فدخلنا فوجدناه متغير اللون مغتماً ، فقلنا له : ما الخبر ؟ فقال : رأيت البارحة في النوم شخصاً يقول :
منازل آل عباد بن زيد . . . على أهليك والنعم السلام
وقد ضاق صدري لذلك ، فدعونا له وانصرفنا . فلما كان في اليوم السابع من ذلك اليوم دفن . قال القاضي أبو الطيب الطبري : سمعت هذه الحكاية من لفظ شيخنا أبي الفرج المذكور .
عجيبة أخرى : قال يعقوب بن السكيت : كان أمية بن أبي الصلت في بعض الأيام يشرب ، فجاء غراب فنعب نعبة ، فقال له أمية : بفيك التراب ، ثم نعب أخرى ، فقال له أمية : بفيك التراب . ثم أقبل على أصحابه ، فقال : أتدرون ما يقول هذا الغراب ؟ زعم أني أشرب هذا الكأس فأموت ، وأمارة ذلك أنه يذهب إلى هذا الكوم فيبتلع عظماً فيموت . قال : فذهب الغراب إلى الكوم فابتلع عظماً فمات ثم شرب أمية الكأس فمات من حينه .
قلت : وأمية بن أبي الصلت الكافر مذكور في مختصر المزني والمهذب وغيرهما ، في كتاب الشهادات . وسمع النبي ( صلى الله عليه وسلم ) شعره الذي فيه حكمة واقراره بالوحدانية والبعث . واسم أبي الصلت عبد الله بن ربيعة بن عوف وكان أمية يتعبد في الجاهلية ، ويؤمن بالبعث وينشد في ذلك الشعر الحسن وأدرك الإسلام ولم يسلم . وروى الترمذي والنسائي وابن ماجه عن الشريد بن سويد رضي الله تعالى عنه ، قال : ردفت رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يوماً فقال : " هل معك من شعر أمية بن أبي الصلت شيء " قلت : نعم . فقال : " هيه " فأنشدته بيتاً ، فقال : " هيه " ثم أنشدته بيتاً . فقال : " هيه " حتى أنشدته مائة بيت فقال ( صلى الله عليه وسلم ) : " إن كاد ليسلم " . وفي رواية : " لقد كاد أن يسلم بشعره " وإنما قال ( صلى الله عليه وسلم ) ذلك لما سمع قوله :
لك الحمد والنعماء والفضل ربنا . . . فلا شيء أعلى منك حمداً وأمجد
وفي مسند الدارمي ، من حديث عكرمة ، عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال : صدق النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أمية بن أبي الصلت في أبيات من شعره في قوله :(2/242)
"""""" صفحة رقم 243 """"""
زحل وثور تحت رجل يمينه . . . والنسر للأخرى وليث مرصد
فقال ( صلى الله عليه وسلم ) : " صدق " . قال :
والشمس تطلع كل آخر ليلة . . . حمراء يصبح لونها يتورد
فقال ( صلى الله عليه وسلم ) : " صدق " . قال :
تأبى فما تطلع لنا في رسلها . . . إلا معذبة وإلا تجلد
فقال ( صلى الله عليه وسلم ) : " صدق " . قال السهيلي ، في التعريف والإعلام ، في قوله تعالى : " واتل عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا فانسلخ منها " الآية . قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما : إنها نزلت في بلعام بن باعورا ، وقال عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله تعالى عنهما : إنها نزلت في أمية بن أبي الصلت الثقفي .
وكان قد قرأ التوراة والإنجيل في الجاهلية ، وكان يعلم أنه سيبعث نبي من العرب فطمع أن يكون هو ، فلما بعث النبي ( صلى الله عليه وسلم ) وخرجت النبوة عن أمية حسده وكفر . وهو أول من كتب باسمك اللهم ، ومنه تعلمت قريش ، فكانت تكتب به في الجاهلية . ولتعلم أمية هذه الكلمة نبأ عجيب ذكره المسعودي ، وذلك أن أمية كان مصحوباً تبدو له الجن ، فخرج في عير من قريش ، فمرت بهم حية فقتلوها ، فاعترضت لهم حية أخرى تطلب بثأرها ، وقالت : قتلتم فلاناً ثم ضربت الأرض بقضيب ، فنفرت الإبل فلم يقدروا عليها ، إلا بعد عناء شديد ، فلما جمعوها ، جاءت فضربت ثانية فنفرت ، فلم يقدروا عليها إلا بعد نصف الليل ، ثم جاءت فضربت ثالثة فنفرتها ، فلم يقدروا عليها حتى كانوا أن يهلكوا بها عطشاً وعناء ، وهم في مفازة لا ماء فيها . فقالوا لأمية : هل عندك من حيلة ؟ قال : لعلها . ثم ذهب حتى جاوز كئيباً ، فرأى ضوء نار على بعد فاتبعه حتى أتى على شيخ في خباء ، فشكا إليه ما نزل به وبصحبه ، وكان الشيخ جنياً ، فقال : اذهب فإن جاءتكم فقولوا : باسمك اللهم سبعاً . فرجع إليهم وقد أشرفوا على الهلكة فأخبرهم بذلك فلما جاءتهم الحية قالوا ذلك ، فقالت : تباً لكم من علمكم هذا ؟ ثم ذهبت . وأخذوا إبلهم وكان فيهم حرب بن أمية بن عبد شمس ، جد معاوية بن أبي سفيان ، فقتله الجن بعد ذلك بثأر الحية المذكورة وقالوا فيه :
وقبر حرب بمكان قفر . . . وليس قرب قبر حرب قبر
وقد أسلمت عاتكة أخت أمية بن أبي الصلت هذا ، وأخبرت عنه بخبر ، ذكره عبد الرزاق في تفسيره . وسيأتي إن شاء الله تعالى ، في هذا الكتاب ، في باب النون ، في الكلام على النسر ما يوافق ذلك .
الحكم : يحرم أكل الغراب الأبقع الفاسق ، وأما الأسود الكبير وهو الجبلي ، فهو حرام(2/243)
"""""" صفحة رقم 244 """"""
أيضاً ، على الأصح ، وبه قطع جماعة ، وغراب الزرع حلال على الأصح . وقد تقدم حكم العقعق والغداف . وقال أبو حنيفة : الغربان كلها حلال . روى البخاري في صحيحه ، عن عبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنهما ، أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال : " خمس من الدواب ليس على قاتلهن جناح : الغراب والحدأة والفأرة والحية والكلب العقور " . وفي سنن ابن ماجه والبيهقي ، عن عائشة رضي الله تعالى عنها أنها قالت : قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) : " الحية فاسقة ، والفأرة فاسقة ، والغراب فاسق " . وفي سنن ابن ماجه أيضاً قيل لابن عمر رضي الله تعالى عنهما : أيؤكل الغراب قال : ومن يأكله بعد قول رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فيه إنه فاسق ؟ . وهذه الفواسق الخمس لا ملك لأحد فيها ولا اختصاص ، كذا نقله الرافعي في كتاب ضمان البهائم ، عن الإمام وأقره . وعلى هذا فلا يجب ردها على غاصبها .
الأمثال : قال الشاعر :
ومن يكن الغراب له دليلا . . . يمر به على جيف الكلاب
وقالوا : لا أفعل كذا حتى يشيب الغراب ، أي لا أفعل أبداً ، لأن الغراب لا يشيب أبداً . روى الحافظ أبو نعيم في حليته ، في ترجمة سفيان بن عيينة ، عن مسعر بن كدام ، أن رجلا ركب البحر فانكسرت السفينة فوقع في جزيرة ، فمكث ثلاثة أيام لم ير أحداً ، ولم يأكل ولم يشرب ، فتمثل بقول القائل :
إذا شاب الغراب أتيت أهلي . . . وصار القار كاللبن الحليب
فأجابه صوت مجيب لا يراه :
عسى الكرب الذي أمسيت فيه . . . يكون وراءه فرج قريب
فنظر فإذا سفينة قد أقبلت ، فلوح إليهم فأتوه فحملوه ، فأصاب خيراً كثيراً . وقالوا : أبصر من غراب . زعم ابن الأعرابي أن العرب تسمي الغراب الأعور لأنه يغمض أبداً إحدى عينيه ، ويقتصر على النظر بإحداهما من قوة بصره . وقال غيره : إنما سموه أعور لحدة بصره على طريق التفاؤل قال بشار بن برد الأعمى :
وقد ظلموه حين سموه سيداً . . . كما ظلم الناس الغراب بأعورا
وقد تقدم عن أبي الهيثم ، أن الغراب يبصر من تحت الأرض ، بقدر منقاره . وقالوا : أخيل من غراب أو أزهى وأبكر من غراب ، فإنه أشد الطير بكوراً . وقالوا : أبطأ من غراب(2/244)
"""""" صفحة رقم 245 """"""
نوح . وذلك أن نوحاً عليه الصلاة والسلام أرسله لينظر هل غرقت البلاد ويأتيه بالخبر ، فوجد جيفة طافية على وجه الماء فاشتغل بها ، ولم يأته بالخبر ، فدعا عليه فعقلت رجلاه ، وخاف من الناس . وقالوا : كأنهم كانوا غراباً واقعاً ، يضرب فيما ينقضي سريعاً ، فإن الغراب ، إذا وقع لا يلبث أن يطير . وقالوا : كالغراب والذئب يضرب للرجلين بينهما موافقة فلا يختلفان ، لأن الذئب إذا أغار على غنم تبعه الغراب ليأكل ما فضل منه . وقالوا : الغراب أعرف بالتمر وذلك أن الغراب لا يأخذ إلا الأجود منه ، ولذلك يقال : اوجد تمرة الغراب ، إذا وجد شيئاً نفيساً . وقالوا : أشأم من غراب البين ، وإنما لزمه هذا الاسم لأنه إذا بان أهل الدار للنجعة ، وقع في موضع بيوتهم يلتمس ويتقمقم فيتشاءموا به ، ويتطيروا منه ، إذ كان لا يعتري منازلهم إلا إذا بانوا ، فلذلك سموه غراب البين . وقال فيه شاعرهم :
وصاح غراب فوق أعواد بانة . . . بأخبار أحبابي فهيمني الفكر
فقلت : غراب باغتراب وبانة . . . ببين النوى تلك العيافة والزجر
وهبت جنوب باجتنابي منهم . . . وهاجت صبا قلت : الصبابة والهجر
وقالوا : أحذر من غراب . حكى المسعودي ، عن بعض حكماء الفرس ، أنه قال : أخذت من كل شيء أحسن ما فيه ، حتى انتهى بي ذلك إلى الكلب والهرة والخنزير والغراب ، قيل له : فما أخذت من الكلب ؟ قال : ألفه لأهله ، وذبه عن صاحبه . قيل : فما أخذت من الهرة ؟ قال : حسن تأنيها ، وتملقها عند المسألة . قيل : فما أخذت من الخنزير . قال : بكوره في حوائجه . قيل : فما أخذت من الغراب ؟ قال : شدة حذره . وقالوا : أغرب من غراب ، وأشبه بالغراب من الغراب .
غريبة : رأيت في كتاب الدعوات ، للإمام أبي القاسم الطبراني ، وفي تاريخ ابن النجار ، في ترجمة أبي يعقوب يوسف بن الفضل الصيدلاني ، وفي الإحياء ، في كتاب آداب السفر ، عن زيد بن أسلم عن أبيه ، قال : بينما عمر رضي الله تعالى عنه جالس يعرض الناس ، إذ هو برجل معه ابنه فقال له : ويحك ما رأيت كراباً أشبه بغراب من هذا بك قط قال : يا أمير المؤمنين ، هذا ما ولدته أمه إلا وهي ميتة فاستوى عمر جالساً وقال له : حدثني حديثه ، قال : يا أمير المؤمنين خرجت لسفر ، وأمه حامل به ، فقالت : تخرج وتتركني على هذا الحال حاملا مثقلة ؟ فقلت : استودع الله ما في بطنك . ثم خرجت فغبت أعواماً ثم قدمت فإذا بابي مغلق . فقلت : ما فعلت فلانة ، قالوا : ماتت . فقلت : إنا لله وإنا إليه راجعون ، ثم انطلقت إلى قبرها ، فبكيت عندها ، ثم رجعت فجلست إلى بني عمي ، فبينما أنا كذلك ، إذ ارتفعت لي نار من بين القبور ، فقلت لبني عمي : ما هذه النار ؟ فقالوا : ترى على قبر فلانة كل ليلة فقلت : إنا لله وإنا إليه راجعون ، أما(2/245)
"""""" صفحة رقم 246 """"""
والله لقد كانت صوامة قوامة عفيفة مسلمة ، انطلقوا بنا إليها فانطلقنا ، فأخرت الناس وأتيت القبر فإذا القبر مفتوح ، وإذا هي جالسة ، وهذا الولد يدور حولها ، وإذا مناد ينادي : أيها المستودع ربه وديعته خذ وديعتك . أما والله لو استودعت أمه لوجدتها فأخذته وعاد القبر كما كان والله يا أمير المؤمنين . قال أبو يعقوب : فحدثت بهذا الحديث في الكوفة ، فقالوا : نعم هذا الرجل كان يقال له خزين القبور .
وقريب من هذا الخبر في غريب اتفاقه ، ولطيف مساقه ، ما حكاه الحافظ المزني في تهذيبه ، في ترجمة عبيد بن واقد الليثي البصري ، أنه قال : خرجت أريد الحج ، فوقفت على رجل بين يديه غلام من أحسن الغلمان صورة ، وأكثرهم حركة ، فقلت : من هذا . ومن يكون ؟ قال : ابني . وسأحدثك عنه . خرجت مرة حاجاً ، ومعي أم هذا الغلام ، وهي حامل به ، فلما كنا في بعض الطريق ، ضربها الطلق فولدت هذا الغلام وماتت . وحضر الرحيل ، فأخذت الصبي ، فلففته في خرقة ، وجعلته في غار ، وبنيت عليه أحجاراً ، وارتحلت وأنا أرى أنه يموت من ساعته . فقضينا الحج ، ورجعنا فلما نزلنا ذلك المنزل ، بادر بعض أصحابي إلى الغار فنقض الأحجار فإذا هو بالصبي يلتقم إبهاميه فنظرنا فإذا اللبن يخرج منهما . فاحتملته معي فهو الذي ترى .
الخواص : إذا علق منقار الغراب على إنسان حفظ من العين ، وكبده تذهب الغشاوة اكتحالا ، وإذا علق طحاله على إنسان هيج الشبق ، وإذا سقي إنسان من دمه مع نبيذ أبغض النبيذ حتى لا يرجع يشربه ، وبيضه إذا طرح في النورة نفع مستعمله . ودمه إذا جفف وحشي به البواسير أبرأها . وقلبه ورأسه إذا طرحا في النبيذ وسقي الإنسان منه من يريد محبته ، فإن الشارب يحب الساقي محبة عظيمة . ولحم المطوق إذا أكل مشوياً ، نفع القولنج . ومرارة الغراب إذا طلي بها إنسان مسحور بطل عنه السحر . وإذا غمس الغراب الأسود بريشه في الخل وطلي به الشعر سوده . وزبل الغراب الأبلق الذي يسمى اليهودي ينفع الخنازير والخوانيق . وإن صر في خرقة وعلق على الصبي الذي لم يبلغ الحلم ، نفعه من السعال المزمن وقطعه . وإذا أكل الغراب الكتلة سقط ولم يقدر على الطيران ، لا سيما في زمن الصيف . التعبير : الغراب في المنام يحل على رجل مخامر غدار واقف مع حظ نفسه ، وربما عل على الحرص في المعاش ، وربما كان حفاراً . وممن يستحل قتل النفس ، وربما عل على الحفر في الأرض ودفن الأموات ، لقوله تعالى : " فبعث الله غراباً يبحث في الأرض " الآية . وربما دل الغراب على الغربة والتشاؤم بالأخبار ، والغموم والأنكاد ، وطول السفر ، وعلى ما يوجب الدعاء عليه من أهله وأقاربه ، أو سلطانه لسوء تدبيره .
وغراب الزرع يدل على ولد الزنا ، والرجل الممزوج بالخير والشر ، والغراب الأبقع يدل على رجل معجب بنفسه كثير الخلاف ، وهو من الممسوخ . فمن صاد غراباً نال مالا حراماً في ضيق بمكابدة . ولحم كل طير وريشه وعظمه مال لمن حواه في المنام . وإذا رأى الغراب على زرع أو شجر فإنه شؤم ، ومن رأى غراباً في داره فإن فاسقاً يخونه في امرأته ، ومن رأى غراباً يحدثه فإنه(2/246)
"""""" صفحة رقم 247 """"""
يرزق ولداً خبيثاً . وقال ابن سيرين : بل يغتم غماً شديداً ، ثم يفرج عنه ، ومن رأى كأنه يأكل لحم غراب ، فإنه يأخذ مالا من قبل اللصوص ، ومن رأى غراباً على باب الملك ، فإنه يجني جناية يندم عليها ، أو يقتل أخاه ثم يندم على ذلك ، لقوله تعالى : " فأصبح من النادمين " فإن رأى الغراب يبحث فالدليل قوي على قتل الأخ ، ومن رأى غراباً خدشه ، فإنه يهلك في البرية أو يناله ألم ووجع ، ومن رأى كأنه أعطي غراباً ، نال سروراً . وقال أرطاميدورس : الغراب الأبقع يدل على طول الحياة وبقاء المتاع ، وربما دل على العجائز ، وذلك لطول عمر الغراب وهن رسل النساء . ومن الرؤيا المعبرة أن رجلا رأى كأن غراباً سقط على الكعبة ، فقصها على ابن سرين فقال : رجل فاسق يتزوج بامرأة شريفة ، فتزوج الحجاج بابنة عبد الله بن جعفر بن أبي طالب رضي الله تعالى عنهم أجمعين .
الغر : بضم الغين ضرب من طير الماء أسود الواحدة غرة الذكر والأنثى في ذلك سواء قاله ابن سيده .
الغرنيق : بضم الغين وفتح النون قال الجوهري والزمخشري : إنه طائر أبيض طويل العنق ، من طير الماء ، وقال في نهاية الغريب : إنه الذكر من طير الماء ، ويقال له : غرنيق وغرنوق . وقيل هو الكركي . وعن أبي صبرة الأعرابي أنه إنما سمي بذلك لبياضه . قال الهذلي يصف غواصاً :
أجاز إليهما لجة بعد لجة . . . أزل كغرنيق الضحول عموج
وإذا وصف به الرجال ، فواحدهم غرنيق وغرنوق بكسر الغين وفتح النون فيهما وغرنوق بالضم فيهما . وقيل : الغرانيق والغرانقة طيور سود في قدر البط .
روى الطبراني بإسناد صحيح عن سعيد بن جبير أنه قال : مات ابن عباس رضي الله تعالى عنهما بالطائف ، فشهدنا جنازته ، فجاء طائر لم ير مثله على خلقة الغرنيق ، حتى دخل في نعشه ثم لم ير خارجاً منه . فلما دفن تليت هذه الآية على شفير القبر ، لم ندر من تلاها " يا أيتها النفس المطمئنة ، ارجعي إلى ربك راضية مرضية ، فادخلي في عبادي ، وادخلي جنتي ، ثم روى مسلم عن عبد الله بن ياسين نحوه . إلا أنه قال : جاء طائر أبيض يقال له الغرنوق . وفي رواية كأنه قبطية . والقبطية ثياب بيض من كتان نسج مصر ، تنسب إلى القبط بالضم فرقاً بين الأيام والثياب والجمع القباطي .
قال القزويني : الغرنوق من الطيور القواطع وهي إذا أحست بتغير الزمان عزمت على الرجوع إلى بلادها ، فعند ذلك تتخذ قائداً حارساً ، ثم تنهض معاً فإذا طارت ترتفع في الهواء حتى لا يعرض لها شيء من السباع ، فإذا رأت غيماً أو غشيها الليل أو سقطت للطعم أمسكت عن الصياح كي لا يحس بها العدو ، وإذا أرادت النوم ، أدخل كل واحد منها رأسه تحت جناحه ، لعلمه أن الجناح أحمل ، للصدمة من الرأس ، لما فيه من العين التي هي أشرف الأعضاء ، والدماغ(2/247)
"""""" صفحة رقم 248 """"""
الذي هو ملاك البدن ، وينام كل واحد منها قائماً على إحدى رجليه ، حتى لا يكون نومه ثقيلا ، وأما قائدها وحارسها فلا ينام ، ولا يدخل رأسه في جناحه ولا يزال ينظر في جميع الجوانب ، فإذا أحس بأحد صاح بأعلى صوته . ثم حكى عن يعقوب بن إسحاق السراج أنه قال : رأيت رجلا من أهل رومية قال : ركبت بحر الزنج فألقتني الريح إلى بعض الجزائر ، فوصلت منها إلى مدينة أهلها أناس قامتهم قدر ذراع ، وأكثرهم عور ، فاجتمع علي منهم جمع فأخذوني وانتهوا بي إلى ملكهم ، فأمر بحبسي ، فحبست في شبه قفص ، ثم رأيتهم في بعض الأيام يستعدون للقتال ، فسألتهم فقالوا : لنا عدو يأتينا في مثل هذه الأيام ، فلم نلبث إلا وقد طلعت عليهم عصابة من الغرانيق ، وكان عورهم من نقرها أعينهم ، فأخذت عصا وشددت عليها فطارت وهربت فأكرموني لذلك .
فائدة : قال القاضي عياض وغيره : إن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) لما قرأ سورة والنجم وقال : " أفرأيتم اللات والعزى ، ومناة الثالثة الأخرى " قال : " تلك الغرانيق العلا وإن شفاعتهن لترتجى " فلما ختم السورة سجد ، وسجد من معه من المسلمين والكفار لما سمعوه أثني على آلهتهم . ثم أنزل الله تعالى عليه : " وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي إلا إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته " الآية . وأجابوا عنه بضعف الحديث ، فإنه لم يخرج أحد من أهل الصحيح ولا رواه ثقة بإسناد صحيح سليم متصل ، وإنما أولع به وبمثله المفسرون والمؤرخون المولعون بكل غريب ، المتلقفون لكل صحيح وسقيم .
والذي منه في الصحيح أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قرأ والنجم وهو بمكة فسجد وسجد معه المسلمون والمشركون والجن والإنس هذا توهيمه من جهة النقل ، وأما من جهة المعنى فقد قامت الحجة ، وأجمعت الأمة ، على عصمته ( صلى الله عليه وسلم ) ونزاهته عن مثل هذا ، ولم يجعل الله تعالى للشيطان عليه ، ولا على أحد من الأنبياء سبيلا . وعلى تقدير صحة ما رووه ، وقد أعاذنا الله من صحته ، فالراجح في تأويله عند المحققين أنه عليه الصلاة والسلام كان كما أمره الله تعالى يرتل القرآن ترتيلا ، ويفصل الآيات تفصيلا في قراءته ، فمن ثم ترصد الشيطان لتلك السكتات ، ودس كلاماً في تلك الكلمات محاكياً نغمة رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) بحيث يسمعه من دنا إليه من الكفار ، فظنوها من قوله ( صلى الله عليه وسلم ) ، ولم يقدح ذلك عند المسلمين .
بل روى محمد بن عقبة أن المسلمين لم يسمعوها وإنما ألقاها الشيطان في أسماع الكفار وعقولهم . وأيضاً فمجاهد والكلبي فسر الغرانيق العلا بأنها الملائكة ، وذلك أن الكفار كانوا يعتقدون أن الملائكة بنات الله تعالى . كما حكاه جل وعلا عنهم ورده عليهم في السورة بقوله تعالى : " ألكم الذكر وله الأنثى " فأنكر الله تعالى كل ذلك من قولهم . ورجاء الشفاعة من الملائكة صحيح . فلما تأوله المشركون على أن المراد به ذكر آلهتهم ، ولبس عليهم الشيطان ذلك وزينه في قلوبهم ، وألقاه إليهم ، نسخ الله تعالى ما ألقى الشيطان ، وأحكم آياته ، ورفع تلاوة ما(2/248)
"""""" صفحة رقم 249 """"""
حاوله الشيطان ، كما نسخ كثير من القرآن ورفعت تلاوته وكان في إنزال الله تعالى لذلك حكمة . وفي نسخه حكم ليضل به من يشاء ويهدي به من يشاء ، وما يضل به إلا الفاسقين ، ليجعل ما يلقي الشيطان فتنة للذين في قلوبهم مرض ، والقاسية قلوبهم وإن الظالمين لفي شقاق بعيد وليعلم الذي أوتوا العلم أنه الحق من ربك فيؤمنوا به فتخبت له قلوبهم وإن الله لهادي الذين آمنوا إلى صراط مستقيم . فائدة أخرى : روى الإمام محمد بن الربيع الجيزي ، في مسند من دخل مصر من الصحابة ، رضي الله تعالى عنهم ، عن عقبة بن عامر رضي الله تعالى عنه ، أنه قال : كنت عند رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) أخدمه ، فإذا أنا برجال من أهل الكتاب معهم مصاحف أو كتب ، فقالوا : استأذن لنا على رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ، فانصرفت إليه فأخبرته بمكانهم فقال ( صلى الله عليه وسلم ) : " ما لي ولهم يسألونني عما لا أدري إنما أنا عبد لا علم لي إلا ما علمني ربي عز وجل أ ثم قال ( صلى الله عليه وسلم ) : " ابغني وضوءاً " فتوضأ . ثم قام إلى مسجد في بيته فركع ركعتين ، فلم ينصرف حتى عرفت السرور في وجهه والبشر . ثم قال ( صلى الله عليه وسلم ) : " اذهب فأدخلهم ومن وجدت من أصحابي بالباب فأدخله معهم " قال : فأدخلتهم ، فلما رفعوا إلى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) قال : " إن شئتم أخبرتكم عما أردتم أن تسألوني قبل أن تتكلموا ، وإن شئتم تكلموا له وأخبركم " . فقالوا : بل أخبرنا قبل أن نتكلم قال ( صلى الله عليه وسلم ) : " جئتم تسألونني عن ذي القرنين ، وسأخبركم عما تجدونه مكتوباً عندكم إن أول أمره أنه غلام من الروم أعطي ملكاً ، فسار حتى بلغ ساحل أرض مصر ، فابتنى عنده مدينة يقال لها الإسكندرية ، فلما فرغ من بنائها ، أتاه ملك فعوج به حتى استقله ، فرفعه ثم قال له : انظر ماذا ترى تحتك ، قال : أرى مدينتي وأرى مدائن معها ، ثم عرج به وقال : انظر ماذا تحتك قال : قد اختلطت مدينتي مع المدائن فلا أعرفها ، ثم زاد فقال : انظر فقال : أرى مدينتي وحدها لا أرى معها غيرها فقال له الملك : إنما تلك الأرض كلها ، والذي ترى محيطاً بها هو البحر . وإنما أراد ربك عز وجل أن يريك الأرض وقد جعل لك سلطاناً . وسوف يعلم الجاهل ويثبت العالم ، فسار حتى بلغ مغرب الشمس ، ثم سار حتى بلغ مطلع الشمس ، ثم أتى السدين ، وهما جبلان لينان يزلق عنهما كل شيء ، فبنى السد ، ثم جاء يأجوج ومأجوج ثم قطعهم فوجد قوماً وجوههم وجوه الكلاب ، يقاتلون يأجوج ومأجوج ، ثم قطعهم فوجد قوماً قصاراً يقاتلون القوم الذين وجوههم وجوه الكلاب ، ثم مضى فوجد أمة من الغرانيق يقاتلون القوم القصار ، ثم مضى فوجد أمة من الحيات تلتقم الحية منها الصخرة العظيمة ، ثم أفضى إلى البحر المحيط بالأرض " فقالوا : نشهد أن أمره كان هكذا كما ذكرت وإنا نجده هكذا في كتبنا .
وروي أن ذا القرنين ، لما بنى السد وأحكمه ، انطلق يسير حتى وقع على أمة صالحة يهدون بالحق وبه يعدلون ، مقسطة مقتصدة يقسمون بالسوية ، ويحكمون بالعدل ، ويتراحمون حالهم واحدة وكلمتهم واحدة ، وأخلاقهم مستقيمة ، وطريقتهم مستوية ، وقبورهم بأبواب بيوتهم ، وليس لبيوتهم أغلاق ، وليس عليهم أمراء ، ولا بينهم قضاة ، ولا بينهم أغنياء ولا فقراء ، ولا أشراف ولا ملوك ، لا يختلفون ولا يتفاضلون ، ولا يتنازعون ولا يتسابون ، ولا يقتتلون ولا يضحكون ، ولا يحزنون ولا تصيبهم الآفات التي تصيب الناس ، وهم أطول الناس أعماراً ، وليس(2/249)
"""""" صفحة رقم 250 """"""
فيهم مسكين ولا فقير ، ولا فظ غليظ . فلما رأى ذلك ذو القرنين ، عجب من أمرهم وقال : خبروني أيها القوم خبركم فإني قد أحصيت الدنيا كلها ، برها وبحرها ، شرقها وغربها ، فلم أر أحداً مثلكم ، فخبروني خبركم ، قالوا : نعم فسل عما تريد ، فقال : خبروني ما بال قبوركم على أبواب بيوتكم . قالوا : عمداً فعلنا ذلك لئلا ننسى الموت ، ولئلا يخرج ذكره من قلوبنا . قال : فما بال بيوتكم ليس عليها أغلاق ؟ قالوا : ليس فينا متهم وليس منا إلا أمين . قال : فما بالكم ليس عليكم أمراء ؟ قالوا : لا حاجة لنا بذلك . قال : فما بالكم ليس عليكم حكام ؟ قالوا : لأنا لا نختصم قال : فما بالكم ليس فيكم أغنياء ؟ قالوا : لأننا لا نتكاثر بالأموال . قال : فما بالكم ليس فيكم ملوك . قالوا : لأنا لا نرغب في ملك الدنيا . قال : فما بالكم ليس فيكم أشراف ؟ قالوا : لأنا لا نتفاخر . قال : فما بالكم لا تتنازعون ولا تختلفون ؟ قالوا : من صلاح ذات بيننا . قال : فما بالكم لا تقتتلون ؟ قالوا : من أجل أنا سسنا أنفسنا بالحلم . قال : فما بال كلمتكم واحدة وطريقتكم مستقيمة ؟ قالوا : من قبل أنا لا نتكاذب ولا نتخادع ولا يغتاب بعضنا بعضاً . قال : فأخبروني من أي شيء تشابهت قلوبكم واعتدلت سرائركم ؟ قالوا : صحت نياتنا فنزع بذلك الغل من صدورنا ، والحسد من قلوبنا . قال : فما بالكم ليس فيكم مسكين ولا فقير . قالوا : من قبل إنا نقتسم بالسوية . قال : فما بالكم ليس فيكم فظ غليظ ؟ قالوا : من قبل الذل والتواضع لربنا . قال : فلأي شيء أنتم أطول الناس أعماراً ؟ قالوا : من قبل أنا نتعاطى بالحق ونحكم بالعمل . قال : فلأي شيء لا تضحكون ؟ قالوا : لئلا نغفل عن الاستغفار . قال : فما بالكم لا تحزنون ؟ قالوا : من أجل أنا وطنا أنفسنا للبلاء ، مذ كنا أطفالا ، فأحببناه وحرصنا عليه . قال : فلأي شيء لا تصيبكم الآفات كما تصيب الناس ؟ قالوا : لأنا لا نتوكل على غير الله تعالى ، ولا نعمل بالأنواء والنجوم .
قال : حدثوني هكذا وجدتم آباءكم . قالوا : نعم وجدنا آباءنا يرحمون مساكينهم ، ويواسون فقراءهم ، ويعفون عمن ظلمهم ، ويحسنون إلى من أساء إليهم ، ويحلمون على من جهل عليهم ، ويصلون أرحامهم ، ويؤدون أمانتهم ، ويحفظون وقت صلواتهم ، ويوفون بعهودهم ، ويصدقون في مواعيدهم ، فأصلح الله بذلك أمرهم ، وحفظهم ما داموا أحياء ، وكان حقاً عليه أن يخلفهم بذلك في عقبهم . فقال ذو القرنين : لو كنت مقيماً عند أحد ، لأقمت عندكم ، ولكن لم أؤمر بالإقامة . وقد ذكرنا الاختلاف بين العلماء في نسبه واسمه ونبوته في باب السين المهملة في السعلاة .
الحكم : يحل أكل الغرانيق لأنها من الطيبات .
الخواص : زبل الغرنيق يسحق بالماء وتبل فيه فتيلة ويجعل في الأنف ينفع من كل قرحة تكون فيها والله أعلم .
الغرغر : بالكسر الدجاج البري ، الواحدة غرغرة وأنشد أبو عمرو لابن أحمر :
ألفهم بالسيف من كل جانب . . . كما لفت العقبان حجلي وغرغرا(2/250)
"""""" صفحة رقم 251 """"""
وفي كتاب الغريب ، قال الأزهري : كان بنو إسرائيل ، من أهل تهامة ، أعز الناس على الله ، فقالوا قولا لم يقله أحد ، فعاقبهم الله تعالى بعقوبة ترونها الآن بأعينكم ، جعل رجالهم القردة ، وبرهم الذرة ، وكلابهم الأسود ، ورمانهم الحنظل ، وعنبهم الأراك ، وجوزهم السرو ، ودجاجهم الغرغر ، وهو دجاج الحبش لا ينتفع بلحمه لرائحته .
وحكمه : حل الأكل ، لأن العرب لا تستخبثه والله أعلم .
الغرناق : بالكسر طائر حكاه ابن سيده .
الغزال : ولد الظبية إلى أن يقوى ويطلع قرناه ، والجمع غزلة وغزلان ، مثل غلمة وغلمان ، والأنثى غزالة . كذا قاله ابن سيده وغيره . واستعمله الحريري في آخر المقامة الخامسة ، كذلك في قوله : فلما ذر قرن الغزالة طمر طمور الغزالة أراد بالأول الشمس ، وبالثاني الأنثى من أولاد الظباء ، وقد غلطه في ذلك بعضهم . والصواب عدم تغليطه ، فإنه مسموع مستعمل نظماً ونثراً . قال الصلاح الصفدي ، في شرح لامية العجم : وما أحسن قول القائل :
غدوت مفكراً في سر أفق . . . إذا ما العلم مبدؤه الجهاله
فما طويت له سبل الدراري . . . إلى أن أظفرته بالغزاله
قال : وأنشدني لنفسه العلامة أبو الثناء محمود في وصف العقاب :
ترى الطير والوحش في كفها . . . ومنقارها ذا عظام مزاله
فلو أمكن الشمس من خوفها . . . إذا طلعت ما تسمت غزاله قال : وقد غلطوا الحريري في قوله : فلما ذر قرن الغزالة طمر طمور الغزالة ، قالوا : لم تقل العرب الغزالة إلا للشمس ، فلما أرادوا تأنيث الغزال ، قالوا : الظبية . ثم هي بعد ذلك ظبية والذكر ظبي ، قاله في التحرير ، وقال : اعتمده ، فقد وقع فيه تخليط في كتب الفقهاء .
قلت : وقد وقع هو في ذلك ، في باب محرمات الإحرام . ووقع للرافعي أيضاً بعض اختلاف تقدم التنبيه على بعضه ، في الكلام على حكم الظبي ، وقد تنازع جمال الدين يحيى بن مطروح ، وأبو الفضل جعفر ابن شمس الخلافة في بيت كل منهما ادعاه وهو هذا :
وأقول : يا أخت الغزال ملاحة . . . فتقول : لا عاش الغزال ولا بقى
وبها سميت المرأة غزالة ، وهي امرأة شبيب بن يزيد الشيباني الخارجي ، خرج في خلافة عبد الملك بن مروان ، والحجاج أمير العراق يومئذ ، وخرج بالموصل وهزم عساكر الحجاج وحصره في قصر الكوفة ، وضرب باب القصر بعموده فنقبه ، وبقيت الضربة فيه إلى أن خرب قصر الإمارة ، وكانت زوجته غزالة ، نذرت أن تصلي في مسجد الكوفة ركعتين ، تقرأ فيهما بسورة البقرة وآل(2/251)
"""""" صفحة رقم 252 """"""
عمران ، ففعلت وكانت شجيعة وقيل فيها :
وفت غزالة نذرها . . . يا رب لا تغفر لها
وهرب الحجاج في بعض حروبه مع شبيب من غزالة ، فعيره عمران بن قحطان السدوسي بقوله :
أسد علي وفي الحروب نعامة . . . فتخاء تنفر من صفير الصافر
هلا كررت إلى غزالة في الوغى . . . بل كان قلبك في جناحي طائر
وحكي أن الحجاج ، لما برز له شبيب الخارجي ، في بعض أيام محاربته ، أبرز إليه غلاماً له ألبسه لباسه المعروف به ، وأركبه فرسه الذي لم يكن يقاتل إلا عليه ، فلما رآه شبيب غمس نفسه في الحرب إلى أن خلص إليه ، فضربه بعمود ، وكان بيده ، وهو يظنه الحجاج ، فلما أحس الغلام بالضربة ، قال : أخ بالخاء المعجمة ، فعرف شبيب منه بهذه اللفظة ، أنه عبد فانثنى عنه ، وقال : قبح الله ابن أم الحجاج ، أيتقي الموت بالعبيد ؟ .
قال الجوهري : والعرب إنما تنطق بهذه اللفظة بالحاء المهملة ، ولما عجز الحجاج عن شبيب ، بعث إليه عبد الملك عساكر كثيرة من الشام ، فتكاثروا على شبيب فهرب فلما حصل على جسر دجلة بالأهواز ، نفر به فرسه وعليه الحديد الثقيل ، من درع ونحوه فألقاه في الماء ، فقال له بعض أصحابه : أغرقاً يا أمير المؤمنين . قال : ذلك تقدير العزيز العليم ، فلما غرق ألقاه دجلة إلى الساحل ، فحملوه إلى الحجاج فشق بطنه واستخرج قلبه ، فإذا هو كالحجر ، إذا ضربت به الأرض نبا عنها ، فشق فكان داخله قلب صغير كالكرة ، فشق فأصيب فيه علقة من الدم . وكان شبيب إذا صاح على الجيش لا يلوي أحد على أحد . ولما غرق أحضر عبد الملك عتبان الحروري ، وهو يرى رأي الخوارج ، فقال : يا عدو الله ألست القائل :
فإن يك منكم كابن مروان وابنه . . . وعمرو ومنكم هاشم وحبيب
فمنا حصين والبطين وقعنب . . . ومنا أمير المؤمنين شبيب
فقال : لم أقل ذلك يا أمير المؤمنين ، وإنما قلت : ومنا أمير المؤمنين شبيب ، فقبل قوله وعفا عنه . وهذا الجواب في نهاية الحسن ، فإنه إذا كان قوله ومنا أمير المؤمنين شبيب مرفوعاً كان مبتدأ فيكون شبيب أمير المؤمنين ، وإذا نصب ، كان معناه ومنا يا أمير المؤمنين شبيب .
ولم يخرج عليهم أحد مثل شبيب ، فإن أيامه طالت وهزم عساكر كثيرة وجبى الخراج وقال أبو يوسف الجوهري :(2/252)
"""""" صفحة رقم 253 """"""
وإذا الغزالة في السماء ترفعت . . . وبدا النهار لوقته يترجل
أبدت لقرن الشمس وجهاً مثله . . . تلقى السماء بمثل ما تستقبل
أراد بالغزالة الشمس وقت ارتفاعها فيقال : طلعت الغزالة ، ولا يقال غربت الغزالة . وقد أبدع الصفي الحلي في غلام قلع ضرسه وأجاد حيث قال :
لحى الله الطبيب تعدى . . . وجاء لقلع ضرسك بالمحال
أعاق الظبي في كلتا يديه . . . وسط كلبتين على غزال وفي سنن أبي داود ، ومن حديث ابن عباس رضي الله تعالى عنهما ، الذي رواه مسلم أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) لما قدم مكة ، قال المشركون : إنه يقدم عليكم غداً قوم وهنتهم الحمى ، فلما كان الغد جلسوا مما يلي الحجر ، " فأمر النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أصحابه أن يرملوا ثلاثة أشواط ، ويمشوا ما بين الركنين ، ليرى المشركون جلدهم " ، فقال المشركون : هؤلاء الذين زعمتم أن الحمى قد وهنتهم ، هؤلاء كأنهم الغزلان ، فإن قيل : هذا الحديث يعارضه ما في صحيح مسلم ، عن ابن عمر وجابر رضي الله عنهم قالا : " إن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) رمل من الحجر الأسود حتى انتهى إليه ثلاثة أطواف " ، فالجواب أن حديث ابن عباس رضي الله تعالى عنهما ، كان في عمرة القضاء ، سنة سبع قبل فتح مكة وكان أهلها مشركين حينئذ وحديث ابن عمرو جابر رضي الله تعالى عنهم كان في حجة الوداع ، فيكون متأخراً فتعين الأخذ به ، وهو الصحيح من المذهب .
وحكم الغزال الحل كما تقدم في باب الظاء ، في لفظ الظبي ، وفيه إذا قتله المحرم أو في الحرم عنز . كذا في المحرر والمنهاج والتنبيه والمناسك وغيرها . واستدلوا لذلك بقضاء الصحابة رضي الله عنهم فيه بذلك . والذي في زوائد الروضة ، وصححه في شرح المهذب تبعاً للإمام أن الغزال اسم للصغير من ولد الظباء ذكراً كان أو أنثى إلى أن يطلع قرناه ، ثم الذكر ظبي والأنثى ظبية ، ففي الغزال ما في الصغار ، فإن كان ذكراً فجدي وإن كان أنثى فعناق .
الأمثال : قالوا : أنوم من غزال لأنه إذا رضع أمه فروى امتلأ نوماً ، وقالوا : تركت الشيء ترك الغزال لظله وظله كناسه الذي يستظل به من شدة الحر ، وهو إذا نفر منه لا يعود إليه البتة ، وقالوا : أغزل من غزال ، ومغازلة النساء محادثتهن ، ويوصف بالغزل غير الغزال من الحيوان كما قيل :
قد ألبستني في الهوى . . . ملابس الصب الغزل
إنسانة فتانة . . . بدر الدجى منها خجل(2/253)
"""""" صفحة رقم 254 """"""
إذا زنت عيني بها . . . فبالدموع تغتسل
وقد تقدم في الظبي قولهم ترك الغزال لظله ومن محاسن شعر المتنبي :
بدت قمراً ومالت خوط بان . . . وفاحت عنبرا ورنت غزالا
وأنشد الثعالبي لبعض شعراء عصره :
رنا ظبيا وغنى عندليبا . . . ولاح شقائقا ومشى قضيبا
الخواص : دماغ الغزال ، يداف بدهن الغار ويغلى ، ثم يؤخذ منه فيداف بماء الكمون ، ويشرب منه قدر جرعة ، ينفع للسعال ، ومرارته تخلط بقطران وملح ، ويشرب منها صاحب السعال ، الذي يقذف القيح والدم جزءاً بماء حار يبرأ بإذن الله تعالى . وشحمه إذا طلى به إنسان إحليله ، وجامع امرأته لم تحب سواه . وقد تقدم في خواص الظبي ، أن لحم الغزال حار يابس وأنه ينفع في القولنج والفالج ، وأنه أصلح لحوم الصيد والله أعلم .
الغضارة : القطاة قاله ابن سيده وسيأتي إن شاء الله تعالى في باب القاف .
الغضب : الثور والأسد ، وقد تقدما في باب الهمزة والثاء المثلثة .
الغضف : القطا الجوني شكل معروف عند العرب .
الغضوف : الأسد والحية الخبيثة ، وقد تقدما في باب الهمزة والحاء المهملة .
الغضيض : ولد البقرة الوحشية ، وقد تقدم لفظ البقرة الوحشية في باب الباء الموحدة .
الغطرب : الأفعى ، عن كراع ، وقال بعضهم : هذا تصحيف إنما هو بالعين المهملة والظاء المعجمة .
الغطريف : فرخ البازي ، والذباب ، والسيد الشريف والسخي ، الجمع غطارفة .
الغطلس : كمعملس ، الذئب وقد تقدم في باب الذال المعجمة .
الغطاطا : بالفتح ضرب من القطا غبر الظهور والبطون والأبدان سود بطون الأجنحة ، طوال الأرجل والأعناق ، لطاف لا تجتمع أسراباً ، وأكثر ما تكون ثلاثاً أو اثنتين ، الواحدة غطاطة ، كذا قاله الجوهري . وقال ابن سيده : الغطاط القطا . وقيل : القطا ضربان فالقصار الأرجل الصفر الأعناق السود القوادم الصهب الخوافي ، هي الكدرية والجونية ، والطوال الأرجل البيض البطون الغبر الظهور الواسعة العيون هي الغطاط . وقيل : الغطاط ضرب من الطير ليس من القطا .
الغفر : بالضم ، ولد الأروية ، والجمع أغفار . والغفر بالكسر ولد البقرة الوحشية .
الغماسة : مشددة طائر ينغمس في الماء كثيراً ، ولذلك عدوه من طير الماء ، والجمع غماس . الغنافر : بالضم الضبعان الكثير الشعر ، وقد تقدم لفظ الضبع في باب الضاد المعجمة .(2/254)
"""""" صفحة رقم 255 """"""
الغنم : الشاء لا واحد له من لفظه ، والجمع أغنام وغنوم وأغانم وغنم مغنمة أي كثيرة ، هذه عبارة المحكم . وقال الجوهري : الغنم اسم مؤنث موضوع للجنس ، يقع على الذكور والإناث وعليهما جميعاً ، وإذا صغرتها ألحقتها الهاء فقلت : غنيمة ، لأن أسماء الجموع التي لا واحد لها من لفظها ، إذا كانت لغير الآدميين فالتأنيث لها لازم ، يقال : له خمس من الغنم ذكور فتؤنث العدد ، وإن عنيت الكباش إذا كان يليه من الغنم ذكور لأن العدد يجري في تذكيره وتأنيثه على اللفظ ، لا على المعنى . والإبل كالغنم في جميع ما ذكرناه ، وقد أجاد الإمام الشافعي رضي الله تعالى عنه حيث يقول :
سأكتم علمي عن ذوي الجهل طاقتي . . . ولا أنثر الدر النفيس على الغنم
فإن يسر الله الكريم بفضله . . . وصادفت أهلا للعلوم وللحكم
بثثت مفيداً واستفدت ودادهم . . . وإلا فمخزون لدي ومكتتم
فمن منح الجهال علماً أضاعه . . . ومن منع المستوجبين فقد ظلم
روى عبد بن حميد بسنده إلى عطية ، عن أبي سعيد الخدري رضي الله تعالى عنه قال : افتخر أهل الإبل وأهل الغنم عند رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ، فقال عليه الصلاة والسلام : " السكينة والوقار في أهل الغنم ، والفخر والخيلاء في أهل الإبل " . وهو في الصحيحين بألفاظ مختلفة منها السكينة والوقار في أهل الغنم والفخر والرياء في الفدادين أهل الخيل والوبر . وفي لفظ الفخر والخيلاء في أصحاب الإبل والسكينة والوقار في أصحاب الشاء . أراد بالسكينة السكون ، وبالوقار التواضع ، وأراد بالفخر التفاخر بكثرة المال والجاه ، وغير ذلك من مراتب أهل الدنيا ، وبالخيلاء التكبر والتعاظم . ومنه قوله تعالى : " إن الله لا يحب كل مختال فخور " ومراده بالوبر أهل الإبل لأنه لها كالصوف للضأن والشعر للمعز ، ولذلك قال الله تعالى : " ومن أصوافها وأوبارها وأشعارها أثاثاً ومتاعاً إلى حين " وهذا منه ( صلى الله عليه وسلم ) إخبار عن أكثر حال أهل الغنم وأهل الإبل وأغلبه . وقيل : أراد به عليه الصلاة والسلام أي بأهل الغنم أهل اليمن ، لأن أكثرهم أهل غنم ، بخلاف ربيعة ومضر ، فإنهم أصحاب إبل .
وروى مسلم عن أنس رضي الله تعالى عنه ، أن رجلا سأل النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فأعطاه غنماً بين جبلين ، فأتى قومه فقال : يا قوم أسلموا فوالله إن محمداً ليعطي عطاء رجل لا يخاف الفقر .
وقد تقدم في باب الدال المهملة في الكلام على الدجاج ، الحديث الذي رواه ابن ماجه أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) " أمر الأغنياء باتخاذ الغنم ، وأمر الفقراء باتخاذ الدجاج " ، وقال عند اتخاذ الأغنياء الدجاج : " يأذن الله بهلاك القرى " . وقد بينا معناه ، في شرح سنن ابن ماجه ، وبينا أن في إسناده علي بن عروة الدمشقي ، وأن ابن حبان قال : كان يضع الحديث .(2/255)
"""""" صفحة رقم 256 """"""
والغنم على ضربين ضائنة وماعزة ، قال الجاحظ : اتفقوا على أن الضأن أفضل من المعز . قلت : وصرح الأصحاب بذلك في الأضية وغيرها واستدلوا على أفضليته بأوجه منها : أن الله تعالى بدأ بذكر الضأن في القرآن ، فقال : " ثمانية أزواج من الضأن اثنين ، ومن المعز اثنين " ، ومنها قوله تعالى ، حكاية على الخصمين : " إن هذا أخي له تسع وتسعون نعجة ولي نعجة واحدة " ولم يقل تسع وتسعون عنزاً ، ولي عنز واحدة . ومنها قوله تعالى : " وفديناه بذبح عظيم " وأجمعوا كما قال الحافظ أنه كبش . وسيأتي الكلام على ذلك ، إن شاء الله تعالى ، في باب الكاف . ومنها أن الضأن تلد في السنة مرة وتفرد غالباً ، والمعز تلد مرتين وقد تثنى وتثلث والبركة في الضأن أكثر . ومنها أن الضأن إذا رعت شيئاً من الكلأ فإنه ينبت وإذا رعت المعز شيئاً لا ينبت ، وقد تقدم ، لأن المعز تقلعه من أصوله والضأن ترعى ما على وجه الأرض . ومنها أن صوف الضأن أفضل من شعر المعز وأعز قيمة ، وليس الصوف إلا للضأن . ومنها أنهم كانوا إذا مدحوا شخصاً قالوا : إنما هو كبش ، وإذا ذموه قالوا : إنما هو تيس ، وإذا أرادوا المبالغة في الذم قالوا : إنما هو تيس في سفينة . ومما أهان الله به التيس ، أن جعله مهتوك الستر مكشوف القبل والدبر ، بخلاف الكبش . ولهذا شبه النبي ( صلى الله عليه وسلم ) المحلل بالتيس المستعار . ومنها أن رؤوس الضأن أطيب وأفضل من رؤوس المعز ، وكذلك لحمها فإن أكل لحم الماعز يحرك المرة السوداء ، ويولد البلغم ويورث النسيان ، ويفسد الدم ، ولحم الضأن عكس ذلك انتهى .
فائدة : قال أبو زيد : يقال لما تضعه الغنم من الضأن والمعز حال وضعه سخلة ، ذكراً كان أو أنثى . والجمع سخل بفتح السين ، وسخال بكسرها ، ثم لا يزال اسمه ذلك ما دام يرضع اللبن ، ثم يقال للذكر والأنثى ، بهمة بفتح الباء والجمع بهم بضمها ، ويقال لولد المعز حين يولد سليل وسليط ، فإذا بلغ أربعة أشهر وفصل عن أمه وأكل من البقل ، فإذا كان من أولاد المعز فهو جفر . والأنثى جفرة والجمع جفار .
وذكر في كفاية المتحفظ ، أن الجفر والجفرة يقعان على الطفل والطفلة من بني آدم حين يأكلان الطعام انتهى . فإذا قوي وأتى عليه حول فهو عريض بفتح العين المهملة وكسر الراء والياء المثناة التحتية ، وبالضاد المعجمة في آخره وجمعه عرضان بكسر العين والعتود نوع منه وجمعه أعتدة وعتدان . وقال يونس : جمعه أعتدة وعتدة ، وهو في كل ذلك جدي والأنثى عناق إذا كان من أولاد المعز ، ويقال له إذا اتبع أمه تلو لأنه يتلو أمه ، ويقال للجدي أمر بضم الهمزة وتشديد الميم وبالراء المهملة في آخره ، ويقال له هلع وهلعة بضم الهاء وتشديد اللام ، والبكرة العناق أيضاً ، والعطعط الجدي ، فإذا أتى عليه حول ، فالذكر تيس والأنثى عنز ، ثم يكون جذعاً في السنة الثانية والأنثى جذعة ، فإذا طعن في السنة الثالثة فهو ثني ، والأنثى ثنية ، فإذا طعن في السنة الرابعة كان رباعياً والأنثى رباعية ، ثم يكون خماسياً والأنثى خماسية ، ثم يكون سداسياً والأنثى سداسية ، ثم يكون ضالعاً والأنثى كذلك . ويقال ضلع يضلع ضلوعاً والجمع الضلع بتشديد الضاد واللام .(2/256)
"""""" صفحة رقم 257 """"""
قال الأصمعي : الحلان والحلام من أولاد المعز خاصة . وفي الحديث " في الأرنب يصيبها المحرم حلان " . قال الجاحظ : وقد قالوا في أولاد الضأن ، كما قالوا في أولاد المعز إلا في مواضع . قال الكسائي : هو خروف في العريض من أولاد المعز ، والأنثى خروفة . ويقال له حمل والأنثى رخل بفتح الراء المهملة وكسر الخاء المعجمة وجمعه رخال بضم الراء المهملة . وهو مما جمع على غير قياس كما قالوا في المرضع ظئر وظؤار ، وفي ولد البقرة الوحشية فرير وفرار ، وللشاة القريبة العهد بالنتاج ربى ورباب ، وللعظم الذي عليه بقية من اللحم عرق وعراق ، وللمولود مع قرينه توأم وتؤام ، والبهمة للذكر والأنثى من أولاد الضأن والمعز جميعاً ، ولا يزال كذلك حتى يأكل ويجتر ، ثم هو قرقر بقافين مكسورتين والجمع قرقار وقرقور . وهذا كله حين يأكل ويجتر . والجلام بكسر الجيم ، الجدي أيضاً والبذج بفتح الباء الموحدة والذال المعجمة وبالجيم في آخره من أولاد الضأن خاصة ، والجمع بذجان .
روى ابن ماجه وشيخه ابن أبي شيبة ، بإسناد صحيح عن أم هانئ رضي الله تعالى عنها ، أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال لها : " اتخذي غنماً فإن فيها بركة " وشكت إليه امرأة أن غنمها لا تزكو ، فقال لها ( صلى الله عليه وسلم ) : " ما ألوانها " . قالت : سود . فقال : " عفري " ، أي استبدلي ، " أغناماً بيضاً فإن البركة فيها " . وفي الحديث : " صلوا في مرابض الغنم وامسحوا رغامها " . والرغام ما يسيل من الأنف وقد تقدم ، في البهيمة ما رواه أبو داود في أبواب الطهارة ، عن لقيط بن صبرة أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ، كانت له مائة شاة لا يريد أن تزيد ، وكانت كلما ولدت سخلة ذبح مكانها شاة . وروى مالك والبخاري وأبو داود والنسائي وابن ماجه عن أبي سعيد الخدري قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) : " يوشك أن يكون خير مال المسلم غنماً يتبع بها شعف الجبال ومواقع القطر يفر بدينه من الفتن " . شعف الجبال ، بفتح الشين المعجمة والعين المهملة رؤوسها وشعف كل شيء أعلاه قال ابن بطال : قال أبو الزناد : خص النبي ( صلى الله عليه وسلم ) الغنم من بين سائر الأشياء حضاً على التواضع ، وتنبيهاً على إيثار الخمول ، وترك الاستعلاء والظهور ، وقد رعى الأنبياء والصالحون الغنم . وقال ( صلى الله عليه وسلم ) : " ما بعث الله نبياً إلا رعى غنماً " . وأخبر ( صلى الله عليه وسلم ) " أن السكينة في أهل الغنم " . وروى الطبراني والبيهقي في الشعب ، عن نافع عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما ، أنه خرج في بعض نواحي المدينة ومعه أصحاب له ، فوضعوا له السفرة فمر بهم راعي غنم ، فسلم فقال له ابن عمر : هلم يا راعي فكل معنا ، فقال : إني صائم . فقال له ابن عمر رضي الله تعالى عنهما : أتصوم في هذا اليوم الشديد الحر ، وأنت في هذه الجبال ترعى هذه الغنم ؟ فقال له : إني والله أبادر أيامي هذه الخالية . فقال له ابن عمر يريد أن يختبر ورعه : هل لك أن تبيعنا شاة من غنمك هذه فنعطيك ثمنها ونطعمك من لحمها فتفطر عليه ؟ فقال : إنها ليست لي ، إنها غنم سيدي . فقال له ابن عمر : وما عسى سيدك فاعلا إذا فقدها ؟ وقلت : أكلها الذئب فولى الراعي(2/257)
"""""" صفحة رقم 258 """"""
عنه وهو يقول : فأين الله يرفع بها صوته ويشير بإصبعه إلى السماء فجعل ابن عمر يردد قول الراعي ذلك . فلما قدم المدينة ، اشترى العبد الراعي والغنم ، وأعتق العبد ووهب منه الأغنام ، وروى أحمد بإسناد صحيح عن أبي اليسر عمرو بن كعب رضي الله تعالى عنه قال : والله إني لمع رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) بخيبر عشية ، إذ أقبلت غنم لرجل من اليهود تريد حصنهم ، ونحن محاصروهم ، إذ قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) : " من يطعمنا من هذه الغنم " قلت : أنا يا رسول الله . قال : " فافعل " . قال : فخرجت أشتد مثل الظليم ، فلما نظر إلي رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) مولياً قال : " اللهم أمتعنا به " فأدركت الغنم ، وقد وصل أوائلها الحصن ، فأخذت شاتين من آخرها ، فاحتضنتهما تحت يدي ، ثم أقبلت بهما أشتد كأنه ليس معي شيء ، حتى ألقيتهما عند رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ، فذبحوهما وأكلوهما .
وكان أبو اليسر رضي الله تعالى عنه من آخر أصحاب رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) موتاً ، وكان إذا حدث بهذا الحديث بكي ، ثم قال : امتعوني بعمري حتى صرت آخرهم موتاً انتهى . وكان أبو اليسر آخر البدريين موتاً رضي الله تعالى عنهم .
وفي الاستيعاب وغيره قصة إسلام الأسود الحبشي الذي كان يرعى غنماً لعامر اليهودي ، أنه أتى النبي ( صلى الله عليه وسلم ) وهو محاصر لبعض حصون خيبر ، ومعه الغنم فقال : يا رسول الله أعرض علي الإسلام فعرضه عليه فأسلم . ثم قال : يا رسول الله إني كنت أجيراً لصاحب هذه الغنم ، وهي أمانة عندي ، فكيف أصنع فيها ؟ فقال : " اضرب في وجوهها فسترجع إلى ربها " . فقام الأسود ، فأخذ حفنة من حصى ، ورمى بها في وجوهها ، وقال : ارجعي إلى صاحبك ، فوالله لا أصحبك بعدها أبداً ، فرجعت الغنم مجتمعة ، كأن سائقاً يسوقها حتى دخلت الحصن ، ثم تقدم يقاتل مع المسلمين ، فأصابه حجر فقتله ، وما صلى لله صلاة قط ، فأتي به إلى النبي ( صلى الله عليه وسلم ) وقد سجي بشملة كانت عليه فالتفت إليه رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ثم أعرض عنه . فقالوا : يا رسول الله لم أعرضت عنه ؟ فقال ( صلى الله عليه وسلم ) : " إن معه الآن زوجتيه من الحور العين ، ينفضان التراب عن وجهه ، ويقولان : ترب الله وجه من ترب وجهك وقتل من قتلك " . قال أبو عمرو : إنما رد رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) الغنم إلى الحصن ، لأن ذلك كان مصالحاً عليه ، أو كان قبل حل الغنائم .
وفي الحديث أنه عليه الصلاة والسلام قال : " ما من نبي إلا وقد رعى الغنم " . قيل : وأنت يا رسول الله ؟ قال : " وأنا " . وثبت في صحيح البخاري ، وسنن ابن ماجه ، واللفظ له عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال : إن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال : " ما بعث الله نبياً إلا راعي غنم " . فقال له أصحابه : وأنت يا رسول الله ؟ قال : " وأنا كنت أرعاها لأهل مكة بالقراريط " . قال سويد : يعني كل شاة بقيراط . وفي غريب الحديث للقعنبي ، " بعث موسى عليه الصلاة والسلام وهو راعي غنم ، وبعث داود عليه الصلاة والسلام وهو راعي غنم ، وبعثت وأنا راعي غنم أهلي بأجياد " . وفي الحديث(2/258)
"""""" صفحة رقم 259 """"""
" آجر موسى عليه الصلاة والسلام نفسه بعفة فرجه ، وشبع بطنه . فقال له ختنه شعيب عليه السلام : إن لك في غنمي ما جاءت به قالب لون " . جاء تفسيره في الحديث أنها جاءت على غير ألوان أمهاتها ، كأن لونها قد انقلب .
والحكمة في أن الله تعالى جعل الرعي في الأنبياء تقدمة لهم ، ليكونوا رعاة الخلق ، ولتكون أممهم رعايا لهم . وروى الحاكم في مستدركه عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) : " رأيت غنماً سوداً دخلت فيها غنم كثير بيض " . قالوا : فما أولته يا رسول الله ؟ قال : " العجم يشركونكم في دينكم وأنسابكم " . قالوا : العجم ؟ يا رسول الله قال : " لو كان الإيمان معلقاً بالثريا لناله رجال من العجم " . وفي رواية قال ( صلى الله عليه وسلم ) : " رأيت في المنام غنماً سوداً ، يتبعها غنم عفر . يا أبا بكر عبرها " قال : هي العرب تتبعك ثم يتبعها العجم . فقال ( صلى الله عليه وسلم ) : " هكذا عبرها الملك سحرا " .
وقد رأى النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أنه ينزع في قليب وحوله أغنام سود وغنم عفر ، ثم جاء أبو بكر فنزع نزعاً ضعيفاً ، والله يغفر له ، ثم جاء عمر فاستحالت غرباً يعني الدلو ، فلم أر عبقرياً يفري فريه . فأولها الناس بالخلافة لأبي بكر وعمر رضي الله تعالى عنهما ، ولولا ذكر الغنم السود والعفر لبعدت الرؤيا عن معنى الخلافة والرعاية ، إذ الغنم السود والعفر عبارة عن العرب والعجم . وأكثر المحدثين لم يذكروا الغنم في هذا الحديث . وذكره الإمام أحمد والبزار في مسنديهما وبه يصح المعنى .
ودخل أبو مسلم الخولاني على معاوية ، فقال : السلام عليك أيها الأجير . فقالوا : قل : السلام عليك أيها الأمير . فقال : السلام عليك أيها الأجير . فقالوا : قل : السلام عليك أيها الأمير . فقال : السلام عليك أيها الأجير . فقال لهم معاوية : دعوا أبا مسلم فإنه أعلم بما يقول . فقال أبو مسلم : إنما أنت أجير استأجرك رب هذه الغنم لرعايتها ، فإن أنت هنأت جرباها ، وداويت مرضاها ، وحبست أولاها على أخراها ، وقال سيدها . وإن أنت لم تهنأ جرباها ، ولم تداو مرضاها ، ولم تحبس أولاها على أخراها ، عاقبك سيدها .
وفي رسالة القشيري ، في باب الدعاء ، أن موسى عليه الصلاة والسلام مر برجل يدعو ويتضرع فقال موسى : إلهي لو كانت حاجته بيدي لقضيتها فأوحى الله تعالى إليه : يا موسى أنا أرحم به منك ، ولكنه يدعوني وله غنم ، وقلبه عند غنمه ، وأنا لا أستجيب لعبد يدعوني وقلبه عند غيري . فذكر موسى للرجل ذلك ، فانقطع إلى الله تعالى بقلبه فقضيت حاجته .
وفي المجالسة للدينوري ، من حديث حماد بن زيد ، عن موسى بن أعين الراعي ، قال : كانت الغنم والأسد والوحش ترعى في خلافة عمر بن عبد العزيز رضي الله تعالى عنه ، في موضع واحد ، فعرض ذات يوم لشاة منها ذئب ، فقلت : إنا لله وإنا إليه راجعون ، ما أرى الرجل الصالح إلا قد هلك . قال : فحسبناه فوجدناه قد مات في تلك الساعة .(2/259)
"""""" صفحة رقم 260 """"""
وعن عبد الواحد بن زيد ، قال : سألت الله ثلاث ليال أن يريني رفيقي في الجنة ، فقيل لي : يا عبد الواحد رفيقك في الجنة ميمونة السوداء . فقلت : وأين هي ؟ فقيل لي : هي في بني فلان في الكوفة . فذهبت إلى الكوفة أسأل عنها ، فإذا هي ترعى غنماً ، فأتيت إليها ، فإذا غنمها ترعى مع الذئاب ، وهي قائمة تصلي ، فلما فرغت من صلاتها قالت : يا ابن زيد ليس هذا الموعد ، إنما الموعد الجنة . فقلت لها : وما أدراك أني ابن زيد ؟ فقالت : أما علمت أن الأرواح جنود مجنحة ما تعارف منها ائتلف ، وما تناكر منها اختلف . فقلت لها : عظيني . فقالت : واعجباً لواعظ يوعظ ؟ فقلت لها : ما لي أرى أغنامك ترعى مع الذئاب ؟ قالت : إني أصلحت ما بيني وبين الله ، فأصلح ما بيني وبين غنمي والذئاب .
فائدة : في الموطأ عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه ، وزيد بن خالد الجهني رضي الله تعالى عنه ، قالا : إن رجلين اختصما إلى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فقال أحدهما : اقض بيننا يا رسول الله بكتاب الله تعالى ، وقال الآخر : وكان أفقههما : أجل يا رسول الله اقض بيننا بكتاب الله ، وائذن لي أن أتكلم . فقال له : " تكلم " فقال : إن ابني كان عسيفاً على هذا فزنى بامرأته ، فأخبروني أن على ابني الرجم ، فافتديته من غنمي بمائة شاة وبجارية لي ، ثم إني سألت أهل العلم فأخبروني أن على ابني جلد مائة وتغريب عام ، وإنما الرجم على امرأته . فقال ( صلى الله عليه وسلم ) : " أما والذي نفسي بيده لأقضين بينكما بكتاب الله تعالى ، أما غنمك وجاريتك فرد عليك ويجلد ابنك مائة ويغرب عاماً " . وأمر ( صلى الله عليه وسلم ) أنيساً الأسلمي " أن يأتي امرأة الآخر فإن اعترفت فرجمها فاعترفت فرجمها " . وهذا الحديث مذكور في الصحيحين .
وروى البخاري عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال : قال عمر رضي الله تعالى عنه : إن الله بعث محمداً بالحق ، وأنزل عليه الكتاب ، وكان مما أنزل الله عليه آية الرجم قرأناها وعقلناها ووعيناها ورجم رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ورجمنا بعده ، وأخشى إن طال على الناس زمان ، أن يقول قائل : والله ما نجد آية الرجم في كتاب الله فيضلوا بترك فريضة أنزلها الله .
والرجم في كتاب الله حق على من زنى إذا أحصن من الرجال والنساء ، إذا قامت البينة أو كان الحمل أو الاعتراف ، والرجم نسخت تلاوته وبقي حكمه . وقال أبو حنيفة : التغريب منسوخ في حق البكر ، وعامة أهل العلم على أنه ثابت لما روى ابن عمر رضي الله تعالى عنهما أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ضرب وغرب ، وأن أبا بكر ضرب وغرب ، وأن عمر ضرب وغرب . والمحصن من اجتمعت فيه أربعة أوصاف : العقل والبلوغ والحرية والإصابة ، فإن زنى فحده الرجم مسلماً كان أو ذمياً . وذهب أبو حنيفة وأصحابه إلى أن الإسلام من شرائط الإحصان ، فلا رجم على الذي عندهم . ودليلنا أنه صح عن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) أنه رجم يهوديين كانا قد أحصنا . وإن كان الزاني غير محصن بأن لم تجتمع فيه هذه الأوصاف الأربعة ، نظر إن كان غير بالغ أو كان مجنوناً ، فلا حد عليه ، وإن كان حراً بالغاً عاقلا ، غير أنه لم يصب بنكاح صحيح ، فعليه جلد مائة وتغريب عام وإن كان عبداً ، فعليه جلد خمسين . وفي تغريبه قولان : فإن قلنا يغرب فقولان : أصحهما نصف سنة ، كما(2/260)
"""""" صفحة رقم 261 """"""
يجلد خمسين . ولهذه المسألة تتمات مذكورة في كتب الفقه .
وذكر المفسرون في قوله تعالى : " وداود وسليمان إذ يحكمان في الحرث إذ نفشت فيه غنم القوم " الآية . عن ابن عباس وقتادة والزهري أن رجلين دخلا على داود عليه السلام ، أحدهما صاحب حرث والآخر صاحب غنم ، فقال صاحب الزرع : إن هذا تفلتت غنمه ليلا فوقعت في حرثي فأفسدته ولم تبق منه شيئاً . فأعطاه داود رقاب الغنم بالحرث . فخرجا من عنده ، فمرا على سليمان عليه السلام ، فقال : كيف قضى بينكما ؟ فأخبراه ، فقال سليمان : لو وليت أمركما لقضيت بغير هذا . فدعاه داود فقال له : بحق النبوة والأبوة يا بني إلا ما حدثتني بالذي هو أرفق بالفريقين . فقال سليمان : ادفع الغنم إلى صاحب الحرث ينتفع بحرها ونسلها وصوفها ومنافعها ويبذر صاحب الغنم لصاحب الحرث ، مثل حرثه فإذا صار الحرث كهيئته يوم أكل ، دفع إلى أهله وأخذ صاحب الغنم غنمه . فقال داود : القضاء كما قضيت .
وكان عمر سليمان يوم حكم بهذا الحكم إحدى عشرة سنة . والنفش الرعي بالليل ، والهمل الرعي بالنهار . وهما الراعي بلا راع .
ونختم الكلام على الغنم بما في أول عجائب المخلوقات عن موسى بن عمران عليه الصلاة والسلام ، أنه اجتاز بعين ماء ، في سفح جبل ، فتوضأ منها ثم ارتقى الجبل ليصلي ، إذا أقبل فارس فشرب من ماء العين ، وترك عندها كيساً فيه دراهم ، وذهب ماراً ، فجاء بعده راعي غنم فرأى الكيس فأخذه ومضى . ثم جاء بعده شيخ عليه أثر البؤس ، وعلى رأسه حزمة حطب ، فوضعها هناك ثم استلقى ليستريح ، فما كان إلا قليل حتى عاد الفارس يطلب كيسه فلم يجده ، فأقبل على الشيخ يطالبه به فأنكر ، فلم يزالا كذلك حتى ضربه ولم يزل يضربه حتى قتله . فقال موسى : يا رب كيف العدل في هذه الأمور ؟ فأوحى الله تعالى إليه إن الشيخ كان قد قتل أبا الفارس ، وكان على الفارس دين لأبي الراعي مقدار ما في الكيس ، فجرى بينهما القصاص وقضى الدين وأنا حكم عدل . قال في كتاب المحكم والغايات : قال أصحاب التجارب : ومما يورث الغم المشي بين الأغنام ، والتعمم جالساً ولبس السراويل قائماً ، وقص اللحية بالأسنان ، والقعود على أسكفة الباب ، والأكل بالشمال ، ومسح الوجه بالأذيال ، والمشي على قشور البيض ، والاستنجاء باليمين والضحك في المقابر .
الحكم : يحل أكل الغنم وبيعها بالنص والإجماع . ويجب في سائمتها الزكاة ، ففي كل أربعين شاة شاة جذعة ضأن أو ثنية معز . وفي مائة وإحدى وعشرين شاتان ، وفي مائتين وواحدة ثلاث شياه ، وفي أربعمائة أربع شياه ، ثم في كل مائة شاة شاة والسنة أن تقلد إذا جعلت هدياً إلى البيت العتيق ، لما روى البخاري عن عائشة رضي الله تعالى عنها ، أنها قالت : كنت أفتل قلائد الهدى للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) ، فقلد الغنم . وهذا الحديث حجة للشافعي وأحمد وإسحاق وأبي ثور في(2/261)
"""""" صفحة رقم 262 """"""
مشروعية ذلك . وقال مالك وأبو حنيفة : لا تقلد الغنم ، والظاهر أن الحديث لم يبلغهما .
فرع : فتح إنسان مراح غنم ، فخرجت ليلا ورعت زرعاً فإن كان الذي فتحه المالك ، ضمن الزرع ، وإن كان غير المالك لم يضمن . والفرق أن المالك يلزمه حفظها في الليل فإذا فتح عليها ضمن ، وغير المالك لا يلزمه حفظها ، فإذا فتح عليها لم يضمن . قاله في البحر وسيأتي في باب الميم ، الإشارة إلى إتلاف الماشية .
وأما الأمثال : فقد تقدم بعضها في باب الجيم ، وبعضها في باب الشين المعجمة ، وكذلك الخواص وسيأتي طرف منها في المعز في باب الميم ، إن شاء الله تعالى .
التعبير : الغنم في الرؤيا رعية صالحة طائعة ، وتدل على الغنيمة والأزواج والأولاد والأملاك والزرع والأشجار الحافلة فالثمار ، فذوات الصوف نساء كريمات جميلات ذوات مال وعرض مستور . والشعاري نساء صالحات فقيرات ، ذوات عرض مبذول بكشف عوراتهن ، خلافاً لذوات الصوف فإن عوراتهن مستورة بالألية . قاله ابن المقري .
وقال المقدسي : من رأى أنه يسوق معزاً وضأناً ، فإنه يلي على عرب وعجم ، فإن أخذ من ألبانها وأصوافها فإنه يجبي منهم أموالا ، ومن رأى غنماً واقفة في مكان ، فإنهم رجال يجتمعون في ذلك الموضع ، في أمر من الأمور . ومن رأى غنماً استقبلته فإنهم أعداء يظفر بهم ، ومن رأى شاة تمشي أمامه ، وهو يمشي ولا يحركها ، تعطلت عليه معيشته ، وربما تبع امرأة ولا تحصل له . وألية الغنم مال المرأة ، ومن رأى كأنه يجز شعر الغنم فليحذر من الخروج من داره ثلاثة أيام ، وقال جاماسب : من رأى قطيع غنم سر دائماً . ومن رأى شاة واحدة سر سنة . والنعجة امرأة ، فمن ذبح نعجة افتض امرأة مباركة ، لقوله تعالى : " إن هذا أخي له تسع وتسعون نعجة ولي نعجة واحدة " ومن رأى أن صورته تحولت على صورة غنمه نال غنيمة .
الغواص : طائر تسميه أهل مصر الغطاس وهو القرلي الآتي في باب القاف إن شاء الله تعالى .
قال القزويني في الأشكال : هو طائر يوجد بأطراف الأنهار ، يغطس في الماء ويصطاد السمك ، فيتقوت منه ، وكيفية صيحه أنه يغوص في الماء منكوساً بقوة شديدة ، ويمكث تحت الماء ، إلى أن يرى شيئاً من السمك فيأخذه ، ويصعد به ومن العجائب لبثه تحت الماء ، ويوجد كثيراً بأرض البصرة انتهى .
قال بعضهم : رأيت غواصاً غاص فطلع بسمكة ، فغلبه غراب عليها ، فأخذها منه ، فغاص مرة أخرى وطلع بسمكة أخرى ، فأخذها منه الغراب ، ثم الثالثة كذلك ، فلما اشتغل الغراب بالسمكة . وثب الغواص فأخذ برجل الغراب ، وغاص به تحت الماء حتى مات الغراب ، ثم خرج هو من الماء .(2/262)
"""""" صفحة رقم 263 """"""
الحكم : قال القزويني : إن أكله حلال وهو المفهوم من كلام الرافعي وغيره .
الخواص : دمه يجفف ويسحق مع شعر إنسان ، فإنه ينفع من الطحال ، وكذلك عظمه يفعل به مثل ذلك والله أعلم . الغوغاء : الجراد إذا احمر وبدت أجنحته ، وهو يذكر ويؤنث ويصرف ولا يصرف ، واحدته غوغاءة وغوغاوة ، وبه سميت سفلة الناس المنتسبو إلى الشر المسرعو إليه . قال أبو العباس الروياني : الغوغاء من يخالط المفسدين والمجرمين ، ويخاصم الناس بلا حاجة ، ولذلك قالوا : أكثر من الغوغاء . وفي تاريخ ابن النجار عن ابن المبارك ، قال : قدمت على سفيان الثوري بمكة ، فوجدته مريضاً شارب دواء فقلت له : إني أريد أن أسألك عن أشياء ، قلت : أخبرني من الناس ؟ قال : الفقهاء . قلت : فمن الملوك ؟ قال : الزهاد . قلت : فمن الأشراف . قال : الأتقياء . قلت : فمن الغوغاء ؟ قال : الذين يكتبون الحديث ، يريدون أن يأكلوا به أموال الناس . قلت : فمن السفلة ؟ قال : الظلمة انتهى . والغوغاء أيضاً شيء يشبه البعوض ، إلا أنه لا يعض ولا يؤذي .
الغول : بالضم ، أحد الغيلان ، وهو جنس من الجن والشياطين ، وهم سحرتهم . قال الجوهري : هو من السعالي والجمع أغوال وغيلان ، وكل ما اغتال الإنسان فأهلكه فهو غول ، والتغول التلون . قال كعب بن زهير بن أبي سلمى رضي الله تعالى عنه :
فما تدوم على حال تكون بها . . . كما تلون في أثوابها الغول
ويقال : تغولت المرأة إذا تلونت . ويقال : غالته غول ، إذا وقع في مهلكة . والغضب غول الحلم . فائدة : سأل رجل أبا عبيدة عن قوله تعالى : " طلعها كأنه رؤوس الشياطين " وإنما يقع الوعد والإيعاد ، بما قد عرف مثله ، وهذا لم يعرف فأجابه بأن الله تعالى كلم العرب على قدر كلامهم أما سمعت امرأ القيس كيف قال :
أتقتلني والمشرفي مضاجعي . . . ومسنونة زرق كأنياب أغوال
وهم لم يروا الغول قط ، ولكنه لما كان يهولهم أوعدوا به ، قال أبو عبيدة : ومن يومئذ عملت كتابي الذي سميته المجاز . وأبو عبيدة كنيته ، واسمه معمر بن المثنى البصري النحوي العلامة ، كان يعرف أنواعاً من العلوم ، وكانت العربية وأخبار العرب وأيامها أغلب عليه ، وكان مع معرفته يكسر الشعر إذا أنشده ، ويلحن إذا قرأ القرآن ، وكان يرى رأي الخوارج ، وكان لا يقبل شهادته أحد من الحكام ، لأنه كان يتهم بالميل إلى الغلمان . قال الأصمعي : دخلت يوماً أنا وأبو عبيدة إلى المسجد ، فإذا على الأسطوانة التي يجلس إليها أبو عبيدة مكتوب :
صلى الإله على لوط وشيعته . . . أبا عبيدة قل بالله آمينا
قال : فقال لي : يا أصمعي امح هذا . فركبت ظهره ومحوته . ثم قلت : بقيت الطاء فقال : هي شر(2/263)
"""""" صفحة رقم 264 """"""
الحروف ، الطامة في الطاء ، امحها . وقيل : إنه وجدت ورقة في مجلس أبي عبيدة فيها هذا البيت وبعده :
فأنت عندي بلا شك بقيتهم . . . منذ احتلمت وقد جاوزت تسعينا
وروي أن أبا عبيدة خرج إلى بلاد فارس قاصداً موسى بن عبد الرحمن الهلالي ، فلما قدم عليه ، قال لغلمانه : احترزوا من أبي عبيدة فإن كلامه كله دق ، ثم حضر الطعام فصب بعض الغلمان على ذيله مرقاً ، فقال له موسى : قد أصاب ثوبك مرق ، وأنا أعطيك عوضه عشرة أثواب ، فقال أبو عبيدة : لا عليك فإن مرقكم لا يؤذي ، أي ما فيه دهن ، ففطن لها موسى وسكت .
توفي أبو عبيدة في سنة تسع ومائتين ، وهذا أبو عبيدة بالهاء والقاسم بن سلام أبو عبيد بغير هاء ، وكلاهما من أهل اللغة . ومعمر بفتح الميمين بينهما عين مهملة ساكنة وآخره راء مهملة . وكان والد أبي عبيدة من قرية من أعمال الرقة ، يقال لها باجروان ، وهي القرية التي استطعم أهلها موسى والخضر عليهما السلام ، كذا قاله ابن خلكان وغيره ، وتقدم في باب الحاء المهملة ، في الحوت عن السهيلي أن القرية المذكورة في القرآن برقة ، والله تعالى أعلم .
وروى الطبراني ، في الدعوات والبزار برجال ثقات ، من حديث سهيل بن أبي صالح عن أبيه ، عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه ، أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال : " إذا تغولت لكم الغيلان ، فنادوا بالأذان ، فإن الشيطان إذا سمع النداء ، أدبر وله جصاص " . أي ضراط . قال النووي ، في الاذكار : إنه حديث صحيح ، أرشد ( صلى الله عليه وسلم ) إلى دفع ضررها بذكر الله تعالى . ورواه النسائي ، في آخر سننه الكبرى ، من حديث الحسن عن جابر بن عبد الله رضي الله تعالى عنه ، بلفظ أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال : " عليكم بالدلجة فإن الأرض تطوى بالليل فإذا تغولت لكم الغيلان فبادروا بالأذان " . قال النووي رحمه الله تعالى : ولذلك ينبغي أن يؤذن أذان الصلاة ، إذا عرض للإنسان شيطان ، لما روى مسلم عن سهيل بن أبي صالح أنه قال : أرسلني أبي إلى بني حارثة ، ومعي غلام لنا أو صاحب لنا ، فناداه مناد من حائط باسمه ، فأشرف الذي معي على الحائط ، فلم ير شيئاً ، فذكرت ذلك لأبي ، فقال : لو شعرت أنك ترى هذا ما أرسلتك ، ولكن إذا سمعت صوتاً فناد بالصلاة ، فإني سمعت أبا هريرة يحدث عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أنه قال : " إن الشيطان إذا نودي بالصلاة أدبر " .
وروى مسلم عن جابر بن عبد الله ، أنه قال إن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال : " لا عدوى ولا طيرة ولا غول " . قال جمهور العلماء : كانت العرب تزعم أن الغيلان في الفلوات ، وهي جنس من الشياطين ، تتراءى للناس وتتغول تغولا أي تتلون تلوناً ، فتضلهم عن الطريق وتهلكهم ، فأبطل النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ذلك ، وقال آخرون : ليس المراد بالحديث نفي وجود الغول ، وإنما معناه إبطال ما تزعمه العرب ، من تلون الغول بالصور المختلفة واغتيالها ، قالوا : ومعنى لا غول ، أي لا تستطيع(2/264)
"""""" صفحة رقم 265 """"""
أن تضل أحداً . ويشهد له حديث آخر : " لا غول ولكن السعالي " ، قال العلماء : السعالي بالسين المهملة المفتوحة والعين المهملة سحرة الجن كما تقدم .
ومنه ما روى الترمذي والحاكم عن أبي أيوب الأنصاري رضي الله تعالى عنه ، أنه قال : كانت لي سهوة فيها تمر ، فكانت تجيء الغول كهيئة السنور ، فتأخذ منه فشكوت ذلك إلى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فقال : " اذهب فإذا رأيتها فقل بسم الله أجيبي رسول الله " . قال : فأخذها فحلفت أن لا تعود فأرسلها ، وجاء إلى النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فقال : " ما فعل أسيرك " . قال : حلفت أن لا تعود . قال ( صلى الله عليه وسلم ) : " كذبت وهي معاودة للكذب " . قال : فأخذها مرة أخرى فحلفت أن لا تعود فأرسلها ، ثم جاء إلى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فقال : " ما فعل أسيرك " ؟ قال : حلفت أن لا تعود ، قال ( صلى الله عليه وسلم ) : أكذبت وهي معاودة للكذب " قال : فأخذها ، وقال : ما أنا بتاركك حتى أذهب بك إلى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ، فقالت : " إني ذاكرة لك شيئاً آية الكرسي ، اقرأها في بيتك فلا يقربك شيطان ولا غيره . فجاء إلى النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ، فقال : " ما فعل أسيرك " ؟ فأخبره بما قالت ، فقال ( صلى الله عليه وسلم ) : " صدقت وهي كذوب " . قال أبو عيسى الترمذي : هذا حديث حسن غريب .
وهذا روى مثله البخاري ، فقال : قال عثمان بن الهيثم : حدثنا عوف عن محمد بن سيرين ، عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال : وكلني رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) بحفظ زكاة رمضان ، وذكر القصة ، وفيها فقلت : يا رسول الله زعم أنه يعلمني كلمات ينفعني الله بها فخليت سبيله . فقال ( صلى الله عليه وسلم ) : " ما هي " ؟ قلت : قال : إذا أويت إلى فراشك فاقرأ آية الكرسي كلها فإنه لا يزال عليك عن الله حافظ ، ولا يقربك شيطان حتى تصبح . وكانوا أحرص شيء على الخير . فقال ( صلى الله عليه وسلم ) : " وأما إنه صدقك وهو كذوب ، تعلم من تخاطب منذ ثلاث ليال يا أبا هريرة " . قال : لا . قال ( صلى الله عليه وسلم ) : " ذلك الشيطان " . قال النووي رحمه الله : وهذا الحديث متصل ، فإن عثمان بن الهيثم أحد شيوخ البخاري الذين روى عنهم في صحيحه .
وأما قول أبي عبد الله الحميدي في الجمع بين الصحيحين إن البخاري أخرجه تعليقاً ، فغير مقبول ، فإن المذهب الصحيح المختار عند العلماء ، والذي عليه المحققون ، أن قول البخاري وغيره قال فلان ، محمول على سماعه منه ، واتصاله إذا لم يكن مدلساً . وكان قد لقيه ، وهذا من ذلك ، وإنما المعلق ما أسقط البخاري فيه شيخه أو أكثر ، بأن يقول : في مثل هذا الحديث قال عوف أو قال محمد بن سيرين أو قال أبو هريرة . وروى الحاكم في المستدرك وابن حبان عن أبي بن كعب رضي الله تعالى عنه أنه كان له جرين تمر ، وكان يجده ينقص فحرسه ليلة فإذا هو بمثل الغلام المحتلم ، قال : فسلمت فرد علي السلام ، فقلت : من أنت ناولني يدك ؟ فناولني ، فإذا يد كلب وشعر كلب فقلت : أجني أم إنسي ؟ فقال : بل جني . فقلت : إني أراك ضئيل الخلقة أهكذا خلق الجن ؟ قال : لقد علمت الجن أن ما فيهم أشد مني فقلت : ما حملك على ما صنعت ؟ قال : بلغني أنك رجل تحب الصدقة ، فأحببت أن أصيب من طعامك ، فقلت : فما يجيرنا منكم ؟ قال : تقرأ آية الكرسي ، فإنك إن قرأتها غدوة ، أجرت منا حتى تمسي ، وإن قرأتها حين تمسي أجرت منا حتى تصبح . قال : فغدوت إلى(2/265)
"""""" صفحة رقم 266 """"""
رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ، فأخبرته فقال : " صدقك الخبيث " . ثم قال : صحيح الإسناد .
وروى الحاكم أيضاً عن أبي الأسود الدؤلي ، قال : قلت لمعاذ بن جبل : حدثني عن قصة الشيطان ، حين أخذته . فقال : جعلني رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) على صدقة المسلمين ، فجعلت التمر في غرفة ، فوجدت فيه نقصاناً ، فأخبرت النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فقال : هذا الشيطان يأخذ منه ، قال : فدخلت الغرفة وأغلقت الباب علي ، فجاءت ظلمة عظيمة ، فغشيت الباب ثم تصور في صورة أخرى ، ثم دخل لي من شق الباب ، فشددت إزاري علي ، فجعل يأكل من التمر فوثبت عليه فضبطته فالتفت يداي عليه ، فقلص : يا عدو الله ما جاء بك هاهنا ؟ فقال : خل عني فإني شيخ كبير ذو عيال ، وأنا فقير وأنا من جن نصيبين ، وكانت لنا هذه القرية قبل أن يبعث صاحبكم ، فلما بعث أخرجنا منها فخل عني فلن أعود إليك ، فخليت عنه . وجاء جبريل عليه السلام فأخبر النبي ( صلى الله عليه وسلم ) بما قال .
قال : فصلى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) الصبح ، ثم نادى مناديه أين معاذ ؟ فقمت إليه . فقال ( صلى الله عليه وسلم ) : " ما فعل أسيرك يا معاذ " ؟ فأخبرته ، فقال : " أما أنه سيعود " . قال : فعدت فدخلت الغرفة ، وأغلقت علي الباب ، فجاء الشيطان ، فدخل من شق الباب فجعل يأكل من التمر ، فصنعت به كما صنعت في المرة الأولى ، فقال : خل عني فإني لن أعود إليك . فقلت : يا عدو الله ألم تقل في المرة الأولى لن أعود ثم عدت ؟ قال : فإني لن أعود ، وآية ذلك أن لا يقرأ أحد منكم خاتمة سورة البقرة ، فيدخل أحد منا في بيته تلك الليلة . ثم قال : صحيح الإسناد .
وفي مسند الدارمي عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه ، قال : خرج رجل من الإنس فلقيه رجل من الجن ، فقال له : هل لك أن تصارعني ؟ فإن صرعتني علمتك آية ، إذا قرأتها ، حين تدخل بيتك ، لم يدخله شيطان ، فصارعه فصرعه الإنسي . وقال : إني أراك ضئيلا شخيتاً ، كأن ذراعيك ذراعا كلب ، أفهكذا أنتم أيها الجن كلكم أم أنت من بينهم ؟ فقال : إني منهم لضليع ، ولكن عاودني الثانية ، فإن صرعتني علمتك ، فصرعه الإنسي . فقال : تقرأ آية الكرسي ، فإنها لا تقرأ في بيت إلا خرج منه الشيطان له حبج كحبج الحمار ، ثم لا يدخله حتى يصبح . فقيل لعبد الله : أهو عمر ؟ قال : ومن عسى أن يكون إلا عمر قوله : الضئيل ، معناه الدقيق النحيف ، والشخيت الهزيل الخسيس المجفر الجنبين ، والضليع الوافر الأضلاع ، والحبج الضراط . وقوله إلا عمر بالرفع بدل من محل من ، ومحله الرفع بالابتداء . وقد تقدم في باب الجيم في الكلام على لفظ الجن حديث في مسند الدارمي بهذا المعنى . والذي ذهب إليه المحققون أن الغول شيء يخوف به ولا وجود له كما قال الشاعر :
الغول والخل والعنقاء ثالثة . . . أسماء أشياء لم توجد ولم تكن
ولذلك سموا الغول خيتعورا وهو كل شيء لا يدوم على حالة واحدة ويضمحل كالسراب وكالذي ينزل من الكوى في شدة الحر كنسج العنكبوت قال الشاعر :(2/266)
"""""" صفحة رقم 267 """"""
كل أنثى وإن بدا لك منها . . . آية الحب حبها خيتعور
وقال قوم : الغول ساحرة الجن ، وهي تتصور في صور شتى . وأخفوا ذلك من قول كعب بن زهير بن أبي سلمى رضي الله تعالى عنه :
فما تكون على حال تدوم بها . . . كما تلون في أثوابها الغول
وقد تقدم ذلك قريباً ، وفي دلائل النبوة للبيهقي ، في أواخره ، عن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه أنه قال : إذا تغولت لأحدكم الغيلان ، فليؤذن ، فإن ذلك لا يضره . وتزعم العرب ، أنه إذا انفرد الرجل في الصحراء ظهرت له في خلقة الإنسان ، فلا يزال يتبعها حتى يضل عن الطريق ، فتحنو منه وتتمثل له في صور مختلفة ، فتهلكه روعاً . وقالوا : إذا أرادت أن تضل إنساناً ، أوقدت له ناراً فيقصدها فتفعل به ذلك . قالوا : وخلقتها خلقة إنسان ، ورجلاها رجلا حمار . قال القزويني : ورأى الغول جماعة من الصحابة ، منهم عمر رضي الله تعالى عنه ، حين سافر إلى الشام ، قبل الإسلام ، فضربها بالسيف . وذكر عن ثابت بن جابر الفهري أنه لقي الغول وذكر أبياته النونية في ذلك .
الأمثال : قالت العرب : " فلان أقبح من الغول " ومن زوال النعمة ، ومن قول بلا فعل ، والله تعالى أعلم .
الغيداق : بفتح الغين ، ولد الضب ، وهو أكبر من الحسل ، وقال خلف الأحمر : الغياديق الحيات .
الغيطلة : بالفتح أيضاً البقرة الوحشية . قاله ابن سيده . ويقال لجماعة البقر الوحشي الربرب ، بباءين موحدتين وراءين مهملتين ، وكذلك الإجد ، بكسر الهمزة والجيم قاله في الكفاية .
الغيلم : كديلم ذكر السلاحف ، وقد تقدم ذكر السلاحف ، في باب السين المهملة .
الغيهب : ذكر النعام ، والغيهب : الذي لا عقل له . قاله السهيلي ، في تفسير شعر مكرز بن حفص ، في أوائل غزوة بدر والله تعالى أعلم .
باب الفاء
الفاختة : واحدة الفواخت ، من ذوات الأطواق ، وهي بفتح الفاء وكسر الخاء المعجمة وبالتاء المثناة ، في آخرها ، قاله في الكفاية ، ويقال للفاختة : الصلصل أيضاً بضم الصادين المهملتين انتهى .
وزعموا أن الحيات تهرب من صوتها ، ويحكى أن الحيات كثرت في أرض فشكوا ذلك إلى(2/267)
"""""" صفحة رقم 268 """"""
بعض الحكماء ، فأمرهم بنقل الفواخت إليها ، ففعلوا ذلك ، فانقطعت الحيات عنها . وهي عراقية وليست بحجازية ، وفيها فصاحة وحسن صوت ، وصوتها يشبه المثلث ، وفي طبعها الإنس بالناس وتعيش في الدور ، والعرب تصفها بالكذب ، فإن صوتها عندهم ، هذا أوان الرطب ، وتقول ذلك والنخل لم يطلع ، قال الشاعر :
أكذب من فاختة . . . تقول وسط الكرب
والطلع لم يبدلها . . . هذا أوان الرطب
قلت : ويحتمل أنها إنما وصفت بالكذب ، لما قاله الغزالي رحمه الله تعالى ، في الإحياء ، في أواخر كتابي الصبر والشكر ، إن كلام العشاق الذين أفرط حبهم يستلذ بسماعه ، ولا يعول عليه ، كما حكى أن فاختة كان يراودها زوجها ، فمنعته نفسها ، فقال لها : ما الذي يمنعك عني ؟ ولو أردت أن أقلب لك ملك سليمان ظهراً لبطن لفعلت لأجلك ؟ فسمعه سليمان عليه الصلاة والسلام ، فاستدعاه وقال : ما حملك على ما قلت ؟ فقال : يا نبي الله إني محب ، والمحب لا يلام وكلام العشاق يطوى ولا يحكى ، وهو كما قال الشاعر :
أريد وصاله ويريد هجري . . . فاترك ما أريد لما يريد
وقد تقدم في العصفور نظير هذا .
فائدة : اعلم أن الناس قد كثر كلامهم ، في وصف المحبة ، ونعت العشق ، فسلك كل منهم مذهباً أداه إليه نظره واجتهاده ، وسأختصر من أقوالهم قدراً يسيراً كافياً .
قال عبد الرحمن بن نصر : أهل الطب يجعلون العشق مرضاً ، يتولد من النظر والسماع ، ويجعلون له علاجاً كسائر الأمراض البدنية ، وهو مراتب ودرجات بعضها فوق بعض .
فأول مرتبة منه تسمى الاستحسان ، وهي المتولدة من النظر والسماع ، ثم تقوى هذه المرتبة بطول الذكر في محاسن المحبوب وصفاته الجميلة ، فتصير مولدة ، وهي الميل إليه والتألف بشخصه ، ثم تتأكد المودة فتصير محبة ، والمحبة هي الائتلاف الروحاني ، فإذا قويت هذه المرتبة صارت خلة ، والخلة من الآدميين هي تمكن محبة أحدهما من قلب صاحبه ، حتى تسقط بينهما السرائر ، فإذا قويت هذه المرتبة صارت هوى ، والهوى هو أن المحب لا يخالطه في محبة محبوبه تغير ، ولا يداخله تلون ، ثم يزيد الحال فيصير عشقاً ، والعشق هو إفراط المحبة حتى لا يخلو المعشوق من تخيل العاشق ، وفكره وذكره لا يغيب عن خاطره وذهنه ، فعند ذلك تشتغل النفس عن تنبيه القوى الشهوانية ، فيمتنع من الطعام والشراب لاشتغال النفس عن تنبيه القوى الشهوانية ، ويمتنع من الفكر والذكر والتخيل والنوم ، لاستضرار الدماغ ، فإذا قوي العشق صار تيماً ، وفي هذه الحالة لا يوجد في قلبه فضل لغير صورة المعشوق ، ولا ترضى نفسه سواها ، فإذا تزايد الحال صار ولهاً ، والوله هو الخروج عن الحدود والترتيب ، فتتغير صفاته ، ولا تنضبط أحواله ، ويصير موسوساً لا يدري ما يقول ، ولا أين يذهب فحينئذ تعجز الأطباء عن مداواته ، وتقصر آراؤهم عن معالجته ، لخروجه عن الحد الضابط . وقد أجاد القائل حيث قال :(2/268)
"""""" صفحة رقم 269 """"""
يقول أناس لو نعت لنا الهوى ووالله ما أدري لهم كيف أنعت فليس لشيء منه حد أحده . . . وليس لشيء منه وقت موقت
إذا اشتد ما بي كان آخر حيلتي . . . له وضع كفي فوق خدي وأصمت
وأنضح وجه الأرض طور بعبرتي . . . وأقرعها طوراً بظفري وأنكت
وقد زعم الواشون أني سلوتها . . . فما لي أراها من بعيد فأبهت
قال جالينوس : العشق من فعل النفس ، وهو كامن في الدماغ والقلب والكبد ، وفي الدماغ ثلاثة مساكن : التخيل في مقدمه ، والفكر في وسطه ، والذكر في مؤخره ، فلا يكون أحد عاشقاً ، إلا إذا كان بحيث إذا فارق معشوقه لم يخيل من تخيله وفكره وذكره ، فيمتنع من الطعام والشراب لاشتغال قلبه وكبده ، ومن النوم لاشتغال الدماغ بالتخيل والفكر للمعشوق ، فتكون جميع مساكن النفس قد اشتغلت به ، ومتى لم يكن كذلك لم يكن عاشقاً ، فإذا لها العاشق خلت هذه المساكن ، فرجع إلى حال الاعتدال .
وقال أبو علي الدقاق : العشق تجاوز الحد في المحبة ، ولهذا لا يوصف الله تعالى بالعشق ، لأنه لا يوصف بأن يجاوز الحد في محبة العبد ، وإنما يوصف بالمحبة . كما قال تعالى : " يحبهم ويحبونه " فمحبة الله تعالى للعبد هي إرادته لإنعام مخصوص عليه ، كما أن رحمته إرادة الإنعام . وقال قوم : محبة الله تعالى للعبد مدحه وثناؤه عليه ، وقيل : بل محبة الله لعبده صفة من صفات فعله ، فهي إحسان مخصوص يليق بالعبد ، وأما محبة العبد لله تعالى فحالة يجدها في قلبه يحصل منها التعظيم له ، وايثاره رضاه ، وقلة الصبر عنه والاحتياج إليه والاستئناس بذكره .
وقد اختلف في اشتقاق المحبة والعشق ، فقال بعضهم : الحب اسم لصفاء المودة ، لأن العرب تقول لصفاء بياض الأسنان ونضارتها حبب ، وقيل : هو مشتق من حباب الماء بفتح الحاء ، وهو معظمه ، لأن المحبة معظم ما في القلوب من المهمات وقيل : اشتقاقه من اللزوم والثبات ، يقال : أحب البعير إذا برك فلم يقم ، فكأن المحب لا ينزع قلبه عن ذكر محبوبه . وأما العشق فاشتقاقه من العشقة ، وهو نبات يلتف بأصول الشجر التي يقاربها في منبتها ، فلا تكاد تتخلص منه إلا بالموت ، وقيل : إن العشقة نبات أصفر متغير الأوراق فسمي العاشق به لاصفراره وتغير حاله . وقيل : أعم حالات الحب وأشهرها وأعظم صفات الهوى وأظهرها ثلاثة أوصاف ، ملازمة لا يستطيعون دفعها ، وهي النحول والسقم والذبول ، والله أعلم .
وهدا الطائر يعمر كثيراً ، وقد ظهر منه ما عاش خمساً وعشرين سنة ، وما عاش أربعين سنة ، كما حكاه أبو حيان التوحيدي وأرسطو قبله .
الحكم : يحل أكلها وبيعها بالاتفاق .
الأمثال : قالوا : " أكذب من فاختة " . وقالوا : " فلان الفاختة عنده أبو ذر " .
الخواص : دمها ودم الحمام الأسود ، إذا طلي بهما البرص غير لونه . وزبلها ، إذا علق على(2/269)
"""""" صفحة رقم 270 """"""
صبي بصرع أبرأه . ودمها ، إذا قطر في العين أذهب الآثار المزمنة من ضربة أو قرحة أو غيرهما .
التعبير : قال ابن المقري : الفواخت والقماري والدبسي وما أشبهها ، يدل ملكها في الرؤيا على العز والجاه وظهور النعم ، لأنها لا تكون في الغالب إلا عند المتنعمين ، وربما دلت على أهل العبادة ، والانقطاع والقراءة والتسبيح والتهليل . قال الله تعالى : " وإن من شيء إلا يسبح بحمده " وربما دلت على المطربين ، وأصحاب اللهو والغناء والرقص ، وربما دلت على الزوجات والإماء . وقال المقدسي : الفاختة في المنام ولد كذاب ، وقيل : الفاختة امرأة كذابة غير ألفة ، وفي دينها نقص . وقال ارطاميدورس : الفاختة امرأة صاحبة مروءة وشكل ، والله أعلم .
الفأر : بالهمز جمع فأرة ومكان فترأى : كثير الفأر ، وأرض فئرة أي ذات فأر ، وكنية الفأرة : أم خراب وأم راشد ، وهي أصناف : الجرذ والفأر المعروفان وهما كالجاموس والبقر والبخاتي والعراب ، ومنها : اليرابيع والزباب والخلد ، فالزباب صم والخلد عمي ، وفأرة البيش ، وفأرة الإبل وفأرة المسك ، وذات النطق ، وفأرة البيت وهي الفويسقة التي أمر النبي ( صلى الله عليه وسلم ) بقتلها في الحل والحرم . وأصل الفسق الخروج عن الاستقامة والجور ، وبه سمي العاصي فاسقاً ، وإنما سميت هذه الحيوانات فواسق على الاستعارة لخبثهن ، وقيل : لخروجهن عن الحرمة في الحل والحرم ، أي لا حرمة لهن بحال ، وقيل : سميت بذلك لأنها عمدت إلى حبال سفينة نوح عليه الصلاة والسلام ، فقطعتها ، روى الطحاوي في أحكام القرآن بإسناده عن يزيد بن أبي نعيم ، أنه سأل أبا سعيد الخدري رضي الله عنه لم سميت الفأرة الفويسقة ؟ فقال : استيقظ النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ذات ليلة ، وقد أخذت فأرة فتيلة السراج لتحرق على رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) البيت ، فقام إليها وقتلها وأحل قتلها للحلال والمحرم . وفي سنن أبي داود ، عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما ، قال : جاءت فأرة فأخذت تجر الفتيلة ، فجاءت بها فألقتها بين يدي رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) على الخمرة التي كان قاعداً عليها ، فأحرقت منها موضع درهم . الخمرة : السجادة التي يسجد عليها المصلي ، سميت بذلك لأنها تخمر الوجه ، أي تغطيه .
ورواه الحاكم عن عكرمة عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما ، قال : جاءت فأرة فأخذت تجر الفتيلة ، فذهبت الجارية تزجرها ، فقال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) : " دعيها " . فجاءت بها فألقتها بين يدي النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ، على الخمرة التي كان قاعداً عليها ، فأحرمت منها موضع درهم ، فقال عليه الصلاة والسلام : " إذا نمتم فأطفؤا سرجكم فإن الشيطان يدل مثل هذه على هذا فتحرقكم " . ثم قال : صحيح الإسناد . وفي صحيح مسلم وغيره أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) " أمر بإطفاء النار عند النوم " وعلل ذلك بأن الفويسقة تضرم على أهل البيت بيتهم ناراً . وفي الصحيح أيضاً أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال : " لا تتركوا النار في بيوتكم حين تنامون حتى تطفؤوها " . قال النووي رحمه الله تعالى : هذا عام ، يدخل فيه نار السراج وغيرها . وأما القناديل المعلقة في المساجد وغيرها ، فإن خيف حريق بسببها دخلت في(2/270)
"""""" صفحة رقم 271 """"""
الأمر بالإطفاء ، وإن أمن ذلك كما هو الغالب ، فالظاهر أنه لا بأس بتركها ، لانتفاء العلة التي علل بها النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ، وإذا انتفت العلة زال المنع ، وقد تقدم في باب الصاد المهملة ، في لفظ الصيد الكلام على الفواسق الخمس ، وما ألحق بها مما يباح قتله للمحرم ، وفي الحرم .
والفأر نوعان : جرذان وفئران ، وكلاهما له حاسة السمع والبصر ، وليس في الحيوانات أفسد من الفأر ولا أعظم أذى منه ، لأنه لا يبقي على حقير ولا جليل ، ولا يأتي على شيء إلا أهلكه وأتلفه ، ويكفيه ما يحكى عنه في قصة سد مأرب ، وقد تقدمت في باب الخاء المعجمة ، في لفظ الخلد ، ومن شأنه أنه يأتي القارورة الضيقة الرأس ، فيحتال حتى يدخل فيها ذنبه ، فكلما ابتل بالدهن أخرجه وامتصه حتى لا يدع فيها شيئاً . ولا يخفى ما بين الفأر والهر من العداوة ، والسبب في ذلك ما تقدم في أول خواص الأسد من حديث زيد بن أسلم رضي الله تعالى عنه ، أن نوحاً عليه الصلاة والسلام لما حمل في السفينة ، من كل زوجين اثنين شكا أهل السفينة الفأرة وأنها تفسد طعامهم ، ومتاعهم فأوحى الله تعالى إلى الأسد ، فعطس فخرجت منه الهرة فتخبأت الفأرة منها .
تذنيب : قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما : اتخذ نوح السفينة في سنتين ، وكان طول السفينة ثلاثمائة ذراع ، وعرضها خمسون ذراعاً ، وطولها في السماء ثلاثون ذراعاً ، وكانت من خشب الساج ، وجعل لها ثلاثة بطون ، فحمل في البطن الأسفل الوحوش والسباع والهوام ، وفي البطن الأوسط الدواب والأنعام ، وركب هو ومن معه في البطن الأعلى مع ما يحتاج إليه من الزاد . وروي أن الطبقة السفلى ، كانت للدواب والوحوش ، والوسطى للإنس ، والعليا للطير . فلما كثرت أرواث الدواب ، أوحى الله تعالى إلى نوح أن اغمز ذنب الذيل ، ففعل فوقع منه خنزير وخنزيرة ، فأقبلا على الروث . فلما وقع الفأر بحرف السفينة جعل يقرضها وحبالها ، فأوحى الله تعالى إليه أن اضرب بين عيني الأسد فضرب ، فخرج من منخره سنور وسنورة فأقبلا على الفأر .
وعن الحسن قال : كان طول السفينة ألفاً ومائتي ذراع وعرضها ستمائة ذراع . والمعروف ما روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن طولها ثلاثمائة ذراع . وقال قتادة رضي الله تعالى عنه : كان بابها في عرضها ، وقال زيد بن أسلم : مكث نوح عليه السلام مائة سنة يغرس الأشجار ويقطعها ، ومائة عام يعمل الفلك . وقال كعب الأحبار : مكث نوح عليه السلام ، في عمل السفينة ثلاثين سنة . وقيل : غرس الشجر أربعين سنة وجففه أربعين سنة .
وزعم أهل التوراة ، أن الله تعالى أمره أن يصنع الفلك من خشب الساج ، وأن يضعه أزور ، وأن يطليه بالقار من داخله ومن خارجه ، وأن يجعل طوله ثمانين ذراعاً ، وعرضه خمسين ذراعاً ، وطوله في السماء ثلاثين ذراعاً . والذراع إلى المنكب ، وأن يجعله ثلاث أطباق : سفلى ووسطى وعليا ، وأن يجعل فيه كوى فصنعه نوح كما أمر الله تعالى .
وأما الزباب والخلد : فتقدما .
وأما اليربوع : فسيأتي في بابه ، وقد تقدم في باب العين المهملة في لفظ العقعق ، عن سفيان(2/271)
"""""" صفحة رقم 272 """"""
بن عيينة ، أنه قال : ليس شيء من الحيوان يخبأ قوته إلا الإنسان والنملة والفأرة والعقعق ، وبه جزم في الإحياء في باب التوكل . وعن بعضهم قال : رأيت البلبل يحتكر . ويقال إن للعقعق مخابئ إلا أنه ينساها . وفي البخاري ومسلم عن أبي هريرة ، أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال : " فقدت أمة من بني إسرائيل ، ولا يدري ما فعلت ، ولا أراها إلا الفأر ألا تراها إذا وضع لها لبن الإبل لم تشربه ، وإذا وضع لها لبن الشاة شربته " . قال النووي وغيره : ومعنى هذا أن لحوم الإبل وألبانها ، حرمت على بني إسرائيل دون لحوم الغنم وألبانها ، فدل امتناع الفأرة من لبن الإبل ، دون لبن الغنم ، على أنها مسخ من بني إسرائيل .
وأما فأرة البيش : وهو بكسر الباء الموحدة ، وبالياء المثناة تحت وبالشين المعجمة في آخره وهو السم ، فدويبة تشبه الفأرة ، وليست بفأرة ولكن هكذا يسمى ، وتكون في الغياض والرياض وهي تتخللها طلباً لمنابت السموم ؟ فتأكلها فلا تضرها ، وكثيراً ما تطلب البيش وهو سم قاتل كما تقدم هنا . وفي باب السين المهملة في لفظ السمندلي ، قاله القزويني ، في الأشكال .
وأما ذات النطاق : فهي فأرة منطقة ببياض ، وأعلاها أسود ، شبهوها بالمرأة ذات النطاق ، وهي التي تلبس قميصين ملونين وتشد وسطها ، ثم ترسل الأعلى على الأسفل . قاله القزويني أيضاً .
وأما فأرة المسك : فهي غير مهموزة ، لأنها من فار يفور ، وهي النافجة كذا قاله الجوهري .
وفي التحرير ، فارة المسك مهموزة كفأر الحيوان ، ويجوز ترك الهمز كما في نظائره . وقال الجوهري وابن مكي : ليست مهموزة وهو شذوذ منهما . وقول الشاعر :
كأن بين فكها والفك . . . فارة مسك ذبحت في سك
مراده شقت ، والذبح أصله الشق والقطع ، والسك ضرب من الطيب يركب من مسك وغيره . وقال الجاحظ : فارة المسك نوعان : النوع الأول دويبة تكون في بلاد التبت تصاد لنوافجها وسررها فإذا صيدت شدت بعصائب ، وتبقى متدلية فيجتمع فيها دمها ، فإذا أحكم ذلك ذبحت فإذا ماتت قورت السرة التي عصبت ، ثم تدفن في الشعير حيناً حتى يستحيل ذلك الدم المختنق هناك الجامد بعد موتها ، مسكاً ذكياً ، بعد أن كان لا يرام نتناً . وما أكثر من يأكلها أي الفأرة عندنا قلت : وتعجبه من كثرة آكليها يدل على استطابتها ، والفقهاء لم يتعرضوا لهذا النوع . ثم قال : والنوع الثاني جرذان سود ، تكون في البيوت ، ليس عندها إلا تلك الرائحة اللازمة ، وهذا النوع رائحته كرائحة المسك ، إلا أنه لا يؤخذ منه المسك ، وقد تقدم في باب الظاء المشالة في لفظ الظبي ، ذكر المسك وحكمه . قلت : والمشهور أن فأرة المسك سرر الظباء كما تقدم .
وأما فأرة الإبل فقال في الصحاح : هي أن تفوح منها ريح طيبة ، وذلك إذا رعت العشب وزهره ، ثم شربت وصدرت عن الماء نديت جلودها ، ففاحت منها رائحة طيبة فيقال لتلك(2/272)
"""""" صفحة رقم 273 """"""
الرائحة : فأرة الإبل . عن يعقوب ، قال الراعي يصف إبلا :
لها فأرة زفراء كل عشية . . . كما فتق الكافور بالمسك فاتقه
وأما الفأرة التي خربت سد مأرب : فهي الخلد ، وقد تقدم ذكر قصتها ، في باب الخاء المعجمة . وروى الحاكم والبيهقي عن مجاهد ، في تفسير قوله تعالى : " حتى تضع الحرب أوزارها " يعني حتى ينزل عيسى ابن مريم عليه السلام ، فيسلم كل يهودي وكل نصراني وكل صاحب ملة ، وتأمن الفأرة الهر والشاة الذئب ولا تقرض فأرة جراباً ، وتذهب العداوة من الأشياء كلها وذلك ظهور الإسلام على الدين كله . الحكم : يحرم أكل جميع أنواع الفأر إلا اليربوع ، كما سيأتي في بابه ، إن شاء الله تعالى ، ويكره أكل سؤر الفأر ، وقال ابن وهب عن الليث : كان ابن شهاب يعني الزهري يكره أكل التفاح الحامض ، وسؤر الفأر ، ويقول : إنهما يورثان النسيان ، وكان يشرب العسل ، ويقول إنه يورث الذكاء . وقد جمع الشيخ علم الدين السخاوي ما يورث النسيان في أبيات فقال :
نوق خصالا خوف نسيان ما مضى . . . قراءة ألواح القبور تديمها
وأكلك للتفاح ما كان حامضا . . . وكزبرة خضراء فيها سمومها
كذا المشي ما بين القطار وحجمك ال . . . قفاء ومنها الهم وهو عظيمها
ومن ذاك بول المرء في الماء راكدا . . . كذلك نبذ القمل لست تقيمها
ولا تنظر المصلوب في حاله صلبه . . . وأكلك سؤر الفأر وهو تميمها
تتمة : روى البخاري عن ابن عباس ، عن ميمونة بنت الحارث زوج النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قالت : إن فأرة وقعت في سمن فماتت ، فسئل النبي ( صلى الله عليه وسلم ) عنها ، فقال : " ألقوها وما حولها وكلوه " . ورواه أبو داود والنسائي عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه بمعناه . ورواه الترمذي عنه ، ثم قال : وهو غير محفوظ . سمعت البخاري يقول : إنه خطأ ، يعني من طريق أبي هريرة .
قلت : والصواب أنه صحيح ، ورواه الطحاوي في بيان المشكل عنه ، بلفظ : " إن كان جامداً فخذوها وما حولها فألقوه ، وإن كان ذائباً فاستصبحوا به " . وإنما لم يدخل البخاري في الحديث قوله ( صلى الله عليه وسلم ) : " وإن كان مائعاً فأريقوه " ، لأنه من رواية معمر عن الزهري ، فاستراب بانفراد معمر بها .
والعلماء مجمعون على أن حكم السمن الجامد ، تقع فيه الميتة أنها تلقى وما حولها ، ويؤكل بقيته . وأما المائع ، كالخل والزيت والسمن المائع واللبن والشيرج والعسل المائع ، فلا خلاف أنه لا يؤكل ، والمشهور جواز الاستصباح به لكن يكره ، وقيل : لا يجوز ، لقوله تعالى : " والرجز(2/273)
"""""" صفحة رقم 274 """"""
فاهجر " . قال أبو العالية والربيع : الرجز بالضم والكسر : النجاسة والمعصية ، وكل هذا في غير المساجد . فأما المساجد فلا يستصيح به فيها جزماً . ويحل دهن السفن به ، وأن يتخذ صابوناً يغسل به ولا يباع . وقال أبو حنيفة والليث : يجوز بيع الدهن النجس ، إذا بين نجاسته . وقال أهل الظاهر : لا يجوز بيع السمن ، ولا الانتفاع به ، إذا وقعت فيه الفأرة ، ويجوز بيع الزيت والخل والعسل وجميع المائعات ، إذا وقعت فيها . قالوا : لأن النهي إنما ورد في السمن دون غيره . الأمثال : قالوا : ألص من فأرة وأكسب من فأرة وأسرق من ذبابة . وهي الفأرة البرية ، تسرق كل ما تحتاج إليه وما تستغني عنه .
الخواص : قال في كتاب عين الخواص : رأس الفأرة يشد في خرقة كتان ، ويعلق على رأس صاحب الصداع الشديد ، يزول صداعه ، وينفع من الصرع ، وعين الفأر تشد في قلنسوة إنسان يسهل المشي عليه ، وإن بخر البيت بزبل ذئب أو زبل كلب ، هربت منه الذيران . وإن خلط العجين بزبل حمام وأكله الفأر ، أو أي حيوان كان مات . وإن دق بصل الفأر وجعل على أبواب حجرتهن فأي فأر شم رائحته مات . وإن جعل على باب جحر الفأر ورق الدفلى مع القلقند لم تبق فيه فأرة . وإن دق عظم ساق الجمل دقاً ناعماً ، وديف بماء وسكب في جحرة الذيران ، فإنه يقتلهن . وإن أخفت فأرة وقطع ذنبها ودفنت وسط البيت ، لم يدخل ذلك البيت فأر ما دامت فيه ، وإذا بخر بكمون ولوز ونطرون عند جحرتهن متن من ساعتهن ، وإن بخر البيت بحافر بغل أسود هرب منه الفأر . وإن علقت عين فأرة على من به حمى الربع أبرأته . وذنب الفأر إذا جعل في جلد حمار ، وجعلا في خرقة حرير وعلق على اليد اليسرى ، فمن يكون له حاجة فإنها تقضى عند الملوك وغيرهم . وبول الفأر يقلع الكتابة من الورق ، وطريق أخذ بوله أن يصاد في مصيدة بحديدة ، ويوضع إناء وتجعل المصيدة من ناحية الحديدة ، على فم الإناء ، ويرى الفأر السنور ، فإنه يبول من ساعته لشدة خوفه ، ويكتب للفأر على أربع صفائح قصدير ، وتجعل في أوكار الفأر وهو هذا : يا ربيق يا سلويرا . قلت : وقد أذكرني هذا ما يقلع الزيت وغيره ، من الأدهان من القرطاس والجلد والريش ، وغير ذلك أن يؤخذ التراب الذي يجعله النساء في رؤوسهن في الحمام الأزرق المحترق فيلق ناعماً كالكحل ، ويوضع على القرطاس الذي أصابه الزيت ، أو غيره ويثقل تثقيلا جيداً يوماً وليلة ، ثم يرفع ، فإن القرطاس يصير نقياً ليس به أثر ، وهو سر عجيب مجرب . وأما سم الفأر فهو التراب الهالك عند أهل العراق ، وهو السك ، يؤتى به من خراسان من معادن الفضة ، وهو نوعان : أبيض وأصفر ، إن جعل في عجين وطرح في البيت ، وأكل منه الفأر مات . وكذلك كل فأرة تجد ريح تلك الفأرة حتى يموت الجميع .
التعبير : قال المعبرون : الفأرة في الرؤيا امرأة فاسقة ، لأن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال : " اقتلوا الفويسقة " وقيل : الفأرة امرأة يهودية نائحة ملعونة ، أو رجل يهودي فاسق ، أو لص نقاب . وربما دل الفأر على الرزق ، فمن رأى فأراً في بيته كثيراً ، كثر رزقه لأنه لا يكون إلا في مكان فيه رزق ،(2/274)
"""""" صفحة رقم 275 """"""
ومن خرج الفأر من منزله ، قلت بركته ونعمته ، ومن ملك فأراً ملك خادماً ، لأن الفأر يأكل مما يأكل الإنسان ، وكذلك الخادم يأكل مما يأكل سيده . ومن رأى فأراً يلعب في داره نال خصباً في تلك السنة ، لأن اللعب لا يكون إلا من الشبع ، وأما الفأر الأبيض والأسود ، فإنه يدل على الليل والنهار ، فمن رآه يغدو ويروح فإنه يدل على طول حياته ، ومن رأى الفأر كأنه يقرض في ثيابه ، فهو معلن بما يمر من أجله ، ومن رأى فأراً ينقب فإنه لص نقاب فليحذره والله تعالى أعلم .
الفادر : المسن من الأوعال .
الفازر : بالزاي قبل الراء ، نمل أسود فيه حمرة .
الفاشية : الماشية ، وجمعها فواش ، وهي التي تفشو من المال كالإبل والبقر والغنم السائمة ، لأنها تفشو أي تنتشر في الأرض . ويقال : أفشى الرجل ، إذا كثرت مواشيه . روى مسلم في الأشربة ، وأبو داود في الجهاد ، من حديث أبي خيثمة عن أبي الزبير ، عن جابر قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) : " لا ترسلوا مواشيكم وصبيانكم إذا غابت الشمس حتى تذهب فحمة العشاء " . زاد أبو داود : " فإن الشياطين تعبث إذا غابت الشمس " . وفحمة العشاء ظلمتها واسوداها ، شبه سوادها بالفحم ، وفسرها بعضهم بإقبال أول ظلامه . وفي الحديث : " ضموا مواشيكم إذا دخل الليل " . وسيأتي ، في باب الميم ، إن شاء الله تعالى ذكر هذا الكلام .
الفاعوس : كجاموس ، الحية والوعل والأفعى . قاله ابن الأعرابي . وأنشد في ذلك :
قد يهلك الأرقم والفاعوس . . . والأسد المدرع الهوس
قال : ولم يأت في الكلام فاعول لام الفعل منه سين ، إلا الفاعوس ، وهو الحية والوعل ، والبابوس وهو الصبي الرضيع ، والراموس وهو القبر ، والقاموس وهو وسط البحر ، والقابوس وهو الجميل الوجه ، والعاطوس هو دابة يتشاءم بها ، والفانوس وهو النمام ، والجاموس وهو ضرب من البقر ، والجاروس وهو الكثير الأكل .
وقال ابن دريد : والكابوس وهو الذي يقع على الإنسان في نومه ، والناموس وهو صاحب سر الخير ، والجاسوس وهو صاحب سر الشر . وفي الصحيحين أن ورقة بن نوفل قال : هذا الناموس الذي أنزل على موسى بن عمران ( صلى الله عليه وسلم ) .
قال النووي وغيره : اتفقوا على أن المراد به هنا جبريل عليه الصلاة والسلام . وسمي بذلك لأن الله تعالى خصه بالوحي وعلم الغيب ، وسيأتي هذا أيضاً في باب النون ، إن شاء الله تعالى ، في لفظ الناموس . والله تعالى أعلم .
الفاطوس : سمكة عظيمة تكسر السفن ، والملاحون يعرفونها ، فيتخذون خرق الحيض ويعلقونها على السفينة ، فإنها تهرب منهم . قال القزويني : ولعل هذا هو حوت الحيض ، وقد تقدم ذكره في باب الحاء المهملة .(2/275)
"""""" صفحة رقم 276 """"""
الفالج : بالجيم في آخره الجمل الضخم ذو السنامين يحمل من الهند ، وهو الدهانج بفتح الدال وبالجيم في آخره ، كما تقدم في باب الدال المهملة ، وفي الحديث " أن فالجاً تردى في بئر " .
فالية الأفاعي : بنات وردان ، وسيأتي إن شاء الله تعالى ، في آخر باب الواو . وقيل هي ضرب من الخنافس رقط تألف العقارب في جحرة الضب .
الأمثال : قالت العرب : آيتكم فالية الأفاعي . وجمعها الفوالي لأنها إذا خرجت ، يعلم أن الضب خارج لا محالة ، وإذا رؤيت في الجحر علم أن وراءها العقارب والحيات والأفاعي ، يضرب لأول شر ينتظر بعده شر منه والله تعالى أعلم .
فتاح : كصياح طائر يكنى أم عجلان ، تقدم في آخر باب العين المهملة . الفتع : عود أحمر يأكل الخشب قال الشاعر :
غداة غادرتهم قتل كأنهم . . . خشب تقصف في أجوافها الفتع
الواحدة فتعة قاله ابن سيده .
الفحل : الذكر من ذي الحافر والظلف والخف وغير ذلك من في الروح ، وجمعه : أفحل وفحول وفحولة وفحال وفحالة . قال البخاري ، في الجهاد : وقال راشد بن سعد : كان السلف يستحبون الفحولة من الخيل ، لأنها أجرى وأجرأ . أي أسرع وأجسر .
وروى الحافظ أبو نعيم من طريق غيلان بن سلمة الثقفي ، قال : خرجنا مع رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ، في بعض أسفاره ، فرأينا منه عجباً جاء رجل فقال : يا رسول الله إنه كان لي حائط فيه عيشي وعيش عيالي ، ولي فيه ناضحان فحلان وقد منعاني أنفسهما ، وحائطي وما فيه فلا يقدر أحد أن يدنو منهما ، فنهض نبي الله ( صلى الله عليه وسلم ) حتى أتى الحائط ، فقال لصاحبه : " افتح " . فقال : إن أمرهما عظيم فقال ( صلى الله عليه وسلم ) : " افتح " فلما حرك الباب أقبلا ولهما رغاء وجلبة ، فلما انفرج الباب ونظرا إلى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) بركا ثم سجدا ، فأخذ النبي ( صلى الله عليه وسلم ) برؤوسهما ، ثم دفعهما إلى صاحبهما ، وقال : " استعملهما وأحسن علفهما " . فقال القوم : تسجد لك البهائم أفلا تأذن لنا بالسجود لك ؟ فقال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) : " إن السجود لا ينبغي إلا للحي القيوم ، الذي لا يموت ولو أمرت أحداً أن يسجد لأحد لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها " .
ورواه الطبراني من حديث ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال : ورجاله ثقات ، وروى الحافظ الدمياطي ، في كتاب الخيل ، عن عروة البارقي أنه قال : كانت لي أفراس ، وفيها فحل شراؤه عشرون ألف درهم ، ففقأ عينه دهقان ، فأتيت عمر رضي الله تعالى عنه ، فأخبرته ، فكتب إلى سعد بن أبي وقاص رضي الله تعالى عنه ؟ أن خير الدهقان بين أن يعطيه عشرين ألفاً ويأخذ الفحل وبين أن يغرم ربع الثمن . فقال الدهقان : ما أصنع بالفحل ؟ وغرم ربع الثمن . وقد تقدمت الإشارة إلى هذا ، في باب الحاء المهملة ، في لفظ الحيوان . وفي الصحيحين وغيرهما :(2/276)
"""""" صفحة رقم 277 """"""
" يعض أحدكم أخاه كما يعض الفحل " . وفي السنن : " يضرب أحدكم امرأته ضرب الفحل " .
وروى الشافعي رحمه الله تعالى في مسنده بإسناد على شرط مسلم عن عبد الله بن الزبير رضي الله تعالى عنهما أنه قال : إن لبن الفحل لا يحرم ، ومعناه أن حرمة الرضاع لا تثبت بين المرتضع وبين زوج المرضعة الذي اللبن منه ، وإنما تنتشر الحرمة إلى أقارب المرضعه لا غير . وروي هذا عن ابن عمر وابن الزبير رضي الله تعالى عنهم ، وبه قال داود الأصم ، وهو اختيار عبد الرحمن ابن بنت الشافعي . والذي ذهب إليه الفقهاء السبعة والأئمة الأربعة وغيرهم من علماء الأمة ، أن حرمة الرضاع تثبت بين المرتضع وبين المرضعة ، وبين زوجها الذي منه اللبن فتكون المرضعة أمال وزوجها أباً له كما إذا ولدته من مائة ، وكانا أبوين له ، لحديث عائشة رضي الله تعالى عنها المتفق على صحته في قصة فلح بن أبي القعيس ، وحديثها أيضاً المتفق عليه أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال : " يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب " . وإنما تثبت حرمة الرضاع بشرطين : أحدهما أن يكون قبل استكمال المولود حولين ، لقوله تعالى : " والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين " ولقوله ( صلى الله عليه وسلم ) : " لا يحرم من الرضاع إلا ما يفتق الأمعاء " . وفي رواية " لا رضاع إلا ما أنشر العظر وأنبت اللحم " . وإنما يكون هذا في حال الصغر . وعند أبي حنيفة مدة الرضاع ثلاثون شهراً لقول تعالى : " وحمله وفصاله ثلاثون شهراً " . والشرط الثاني أن يكون خمس رضعات متفرقات ، كل رضعة إلى الشبع . روي ذلك عن عائشة وعبد الله بن الزبير رضي الله عنهم ، وبه قال مالك والشافعي وذهب جماعة من أهل العلم إلى أن قليل الرضاع وكثيره محرم ، وهو قول ابن عباس وابن عمر رضي الله عنهم . وروي عن سعيد بن المسيب ، وإليه ذهب الثوري ومالك في إحدى الروايات ، والأوزاعي وعبد الله بن المبارك وأبو حنيفة ، فإن كان للرجل خمس بنات أو زوجات ، أمهات أولاد ، فأرضعت كل واحدة رضعة واحداً جنيناً واحداً ، ففيه ثلاثة أوجه : أحدها لا يقع التحريم ، والثاني يصير ابناً له ولا يصير ابناً للمرضعات ، والثالث يصير ابنا له وللمرضعات ، فإذ وصل اللبن إلى جوفه بحقنة ، ففيه قولان : وإن اختلط اللبن بمائع ووصل إلى جوفه ثبتت الحرمة ، وإن كان مغلوباً على أصح القولين . وللمسألة فروع مبسوطة في كتب الفقه .
قلت : وقد أذكرني اللبن حديثاً رواه الإمام أحمد عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال : " لا أخاف على أمتي إلا اللبن فإن الشيطان بين الرغوة والضرع " . وروى أيضاً من حديث عقبة بن عامر رضي الله تعالى عنه ، أن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) قال : " سيهلك من أمتي أهل اللبن " . قيل : من هم يا رسول الله ؟ قال : " أناس يحبون اللبن فيخرجون من الجماعات(2/277)
"""""" صفحة رقم 278 """"""
ويتركون الجمعات . قال الحربي : أظنه أراد يتباعدون عن الأمصار وعن صلاة الجماعة ، ويطلبون مواضع اللبن ، في المراعي والبراري والبوادي . وقال غيره : أراد قوماً أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات .
وفي صحيح البخاري ، من حليث ابن عمر رضي الله تعالى عنهما ، أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) " نهى عن عسب الفحل " . والأشهر في تفسيره أنه ضراب الفحل كما قال الشاعر :
ولولا عسبه لرددتموه . . . وشر منيحة فحل يعار
وقيل : المراد ثمن مائه ، ففي رواية الشافعي وأحمد وأبي داود ، في بعض نسخه ، نهى عن ثمن عسب الفحل ، وقيل : العسب أجرة ضرابه ، فيحرم ثمن مائه . وكذا أجرته في الأصح . الأمثال : قال العسكري : ومن الأمثال المستحسنة قولهم : أذلك الفحل لا يقدع أنفه " . وقد تمثل به ورقة بن نوفل في النبي ( صلى الله عليه وسلم ) حين خطب خديجة بنت خويلد رضي الله تعالى عنها . ويقال : بل تمثل به أبو سفيان بن حرب حين خطب النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ابنته حبيبة رضي الله تعالى عنها . قال : وأصحاب الحديث يرونه " الفحل لا يقرع أنفه " بالراء ، انتهى . قال الشماخ :
إذ ما استافهن ضربن منه . . . مكان الرمح من أنف القدوع
قوله : استافهن يعني حماراً يستاف أنثى ، فيرمحنه إذا استافهن ، والسوف الشم . وقوله : مكان الرمح من القدوع أراد بالقدوع المقدوع ، وهذا من الأضداد . يقال : طريق ركوب إذا كانت تركب ، ورجل ركوب للدواب إذا كان يركبها ، وناقة رغوث إذا كانت ترضع ، وحوار رغوث إذا كان يرضع ، وشاة حلوب إذا كانت تحلب ، ورجل حلوب إذا كان يحلب الشاة ، والقدوع هنا البعير قدع أنفه ، وهو أن يريد الناقة الكريمة ، ولا يكون كريماً فيضرب أنفه بالرمح حتى يرجع . يقال : قدع أنفه عن كذا ، أي منع عنه ، وأنشد الشيخ شرف الدين الدمياطي في أم الفضل زوجة العباس بن عبد المطلب لعبد الله بن يزيد الهلالي :
ما أنجبت نجيبة من فحل . . . بجبل نعلمه أو سهل
كسته من بطن أم الفضل . . . زوجة المصطفى في الفضل خاتم الأنبياء وخير الرسل . . . أكرم بها من كهلة وكهل
وقالوا : الفحل يحمي شوله معقولا ، والشول تقدم في باب الشين المعجمة أنها النوق ، التي جف لبنها وارتفع ضرعها ، وأتى عليها من نتاجها سبعة أشهر أو ثمانية ، الواحدة شائلة ، والشول : جمع على غير قياس . ومعقولا نصب على الحال ، أي أن الحر يحتمل الأمر الجليل في حفظ أهله وحريمه ، وإن كان به علة ، وقد تمثل بذلك هاشم بن عتبة بن أبي وقاص أخي سعد بن أبي(2/278)
"""""" صفحة رقم 279 """"""
وقاص ، حين فقئت عينه باليرموك ، وهو الذي افتتح جلولا من بلاد فارس ، وهزم الفرس . وكانت جلولا تسمى فتح الفتوح ، وبلغت غنائمها ثمانية عشر ألف ألف ، وشهد صفين مع علي رضي الله عنه ، وكانت معه الراية وهو على الرجالة وقتل يومئذ وهو يقول :
أعوز يبغي أهله محلا . . . قد عالج الحياة حتى ملا
لا بد أن يفل أو يفلا
فقطعت رجله يومئذ ، وهو يقاتل من دنا منه وهو بارك ، ويقول : الفحل يحمي شوله معقولا . وفيه يقول أبو الطفيل عامر بن واثلة رضي الله عنه :
يا هاشم الخير جزيت الجنه . . . قاتلت في الله عدو السنه
ومن أحكام الفحل ، أن من غصب فحلا وأنزاه على شاته ، فالولد للغاصب ، ولا شيء عليه للإنزاع ، لكن إذا نقص الفحل بذلك ، غرم أرش نقصه . وإن غصب شاة وأنزى عليها فحلا فالولد لصاحب الشاة .
تذنيب : قال يونس : جميع الألبان معتدلة ، وقال الرازي : الحلو حار ، وأجوده ما كان من ضأن فتى ، وهو ينفع الصدر والرئة ، ويضر أصحاب الحميات ، وهو يولد غذاء جيداً ، ويوافق أصحاب الأمزجة المعتدلة والصبيان وأجود أكله في الربيع . وأما اللبن الحامض ، فبارد رطب ، وأجوده الكثير الزبد ، وهو ينفع لتسكين العطش ، ويضر بالأسنان واللثة ، ويدفع ضرره التمضمض بماء العسل ، ويولد خلطاً محموداً ، يوافق أصحاب الأمزجة المعتدلة والغلمان ، وأجود استعماله في الصيف ويختار اللبن بعد الولادة بأربعين يوماً ، ويختلف بحسب صفته ، فالمطبوخ مع الحنطة والأرز ، يوافق أصحاب الأمزجة الحارة ، وما نزع زبده ومائيته ، ويقال له الودع ينفع الأمزجة الحارة ، وإذا ألقى في اللبن الحصا المحمى حتى تذهب مائيته نفع من الذرب ، والذي أخرج غلظه بالأنفحة ، إذا خلط بالسكنجبين السكري نفع من الحكة والجرب ، ولبن الاتن ينفع من السل والدق ، ولبن اللقاح نافع من الاستسقاء إذا خلط مع أبوالها ، وما خثر من اللبن فهو بارد يمسك الطبع ، ويولد خلطاً غليظاً وسدداً ، وحجارة في الكلى انتهى .
تتمة : اللبن في المنام فطرة الإسلام ، وهو مال حلال يناله بلا تعب لقوله تعالى : " لبناً خالصاً سائغاً للشاربين " وأما الرائب فهو مال حرام لحموضته ، وخروج دسومته ، ولبن الغنم مال شريف ، ولبن البقر غنى ، ولبن الخيل ثناء حسن ، ولبن الثعلب شفاء من مرض ، ولبن البغل عسر وهول ، ولبن النمر عدو يظهر ، ولبن الأسد مال من سلطان ، ولبن حمار الوحش شك في الدين ، ولبن الخنزير مصيبة في العقل والمال لمن شربه في المنام ، وقيل : إصابة مال عظيم ، لكن(2/279)
"""""" صفحة رقم 280 """"""
يخشى على عقل شاربه ، ولبن ابن آدم زيادة في المال ، إذ هو زاد في الثدي ، ولا يحمد لمن رضعه فإنه يدل على داء مكروه . قال محمد بن سيرين : لا أحب الراضع ولا المرضع ، فإن شربه المريض ، شفي من مرضه ، لأن به كان نشؤه وقوته ومن بدد اللبن فقد ضيع دينه ، ومن رأى اللبن يخرج من الأرض ، فإنها فتنة يراق فيها الدم على قدر ذلك اللبن ، ولبن الكلاب والذئاب والسنانير خوف أو مرض . وقيل : إن لبن الذئب مال من سلطان ، ورياسة على قوم . ولبن الهوام ، من شربه فإنه يصالح أعداءه ، والله تعالى أعلم .
الفدس : بالضم العنكبوت ، والجمع فدسة كفردة . الفرأ : الحمار الوحشي ، والجمع الفراء ، مثل جبل وجبال ، وفي المثل " كل الصيد في جوف الفرا " . قاله النبي ( صلى الله عليه وسلم ) لأبي سفيان بن الحارث . وقيل : لأبي سفيان بن حرب ، كذا قاله أبو عمر بن عبد البر ، وقال السهيلي : الصحيح أنه ( صلى الله عليه وسلم ) قاله لابن حرب يتألف به ، وذلك أنه استأذن على النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ، فحجب قليلا ثم أذن له ، فلما دخل قال : ما كدت تأذن لحجارة الجلهمتين ، وهما جانبا الوادي ، فقال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) : " يا أبا سفيان أنت كما قيل : " كل الصيد في جوف الفرا " ، قال له النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ذلك يتألفه عن الإسلام ، يعني إذا حجبتك منع كل محجوب ، وقال ( صلى الله عليه وسلم ) كلامه على فتح مكة ، الأصح أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قاله لأبي سفيان بن الحارث ، وكان رضيع النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أرضعتهما حليمة ، وكان آلف الناس له قبل النبوة لا يفارقه ، فلما بعث ( صلى الله عليه وسلم ) كان أبعد الناس وأهجاهم له ، إلى أن أسلم ، فكان أصح الناس إيماناً ، وألزمهم لرسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ، وأصل هذا المثل أن جماعة ذهبوا إلى الصيد ، فصاد أحدهم ظبياً ، والآخر أرنباً ، والآخر حمار وحش ، فاستبشر صاحب الأرنب وصاحب الظبي بما نالا ، وتطاولا على الثالث فقال الثالث : " كل الصيد في جوف الفرا " ، أي الذي رزقت وظفرت به مشتمل على ما عندكما ، وذلك أنه ليس فيما يصيده الناس أعظم من حمار الوحش . ثم اشتهر ذلك المثل واستعمل في كل حاو لغيره وجامع له قال الشاعر :
يقولون كافات الشتاء كثيرة . . . وما هي إلا واحد غير ممتري
إذا صح كاف الكيس فالكل حاصل . . . لديك وكل الصيد في جوف الفرا
الفراش : دواب مثل البعوض ، واحدتها فراشة ، وهي التي تطير وتتهافت في السراج لضعف أبصارها ، فهي بسبب ذلك تطلب ضوء النهار ، فإذا رأت فتيلة السراج بالليل ظنت أنها في بيت مظلم ، وأن السراج كوة في البيت المظلم إلى الموضع المضيء ، فلا تزال تطلب الضوء ولرمي بنفسها إلى النار ، فإذا جاوزتها ورأت الظلام ظنت أنها لم تصب الكوة ، ولم تقصدها على السداد ، فتعود إليها مرة بعد مرة ، حتى تحترق .
قال الإمام حجة الإسلام الغزالي : ولعلك تظن أن هذا لنقصان فهمها وجهلها ، ثم قال : فاعلم أن جهل الإنسان أعظم من جهلها ، بل صورة الإنسان في الاكباب على الشهوات ، والتهافت فيها ، أعظم جهالة منها ، لأنه لا يزال يرمي بنفسه فيها إلى أن ينغمس فيها ويهلك هلاكاً(2/280)
"""""" صفحة رقم 281 """"""
مؤبداً . فليت جهل الآدمي كان كجهل الفراش ، فإنها باغترارها بظاهر الضوء ، إن احترقت ، تخلصت في الحال ، والآدمي يبقى في النار أبد الأباد ، أو مدة مديدة ، ولذلك كان رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يقول : " إنكم تتهافتون في النار تهافت الفراش وأنا آخذ بحجزكم " . انتهى . ولقد أجاد مهلهل بن يموت في قوله :
جلت محاسنه عن كل تشبيه . . . وجل عن واصف في الحسن يحكيه
انظر إلى حسنه واستغن عن صفتي . . . سبحان خالقه سبحان باريه
النرجس الغض والورد الجني له . . . والأقحوان النضير الغض في فيه
دعا بألحاظه قلبي إلي عطبي . . . فجاءه مسرعاً طوعاً يلبيه
مثل الفراشة تأتي إذا ترى لهبا . . . إلى السراج فتلقي نفسها فيه
وقال عون الدين العجمي :
لهيب الخد حين بدا لطرفي . . . هوى قلبي عليه كالفراش
فأحرقه فصار عليه خالا . . . وها أثر الدخان على الحواشي فائدة : قال الله تعالى : " يوم يكون الناس كالفراش المبثوث " شبههم بالفراش في الكثرة والانتشار ، والضعف والذلة ، والتطاير إلى الداعي ، من كل جانب كما يتطاير الفراش . روى مسلم عن جابر رضي الله تعالى عنه : قال : سمعت رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يقول : " إن مثلي ومثلكم كمثل رجل أوقد ناراً ، فجعل الجنادب والفراش يقعن فيها ، وهو ينبهن عنها وأنا آخذ بحجزكم عن النار وأنتم تتفلتون من يدي " وروى مسلم أيضاً عن ابن مسعود قال : لما أسري برسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) انتهي به إلى سمرة المنتهى ، وهي في السماء السادسة إليها ينتهي ما يعرج من الأرض فيقبض منها ، وإليها ينتهي ما يهبط به ومن فوقها ، فيقبض منها ، قال تبارك وتعالى : " إذ يغشى السمرة ما يغشى " قال : فراش من ذهب . وروى البيهقي ، في الشعب عن النواس بن سمعان رضي الله تعالى عنه أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال : " ما لي أراكم تتهافتون في الكذب ، تهافت الفراش في النار ، كل الكذب مكتوب إلا الكذب في الحرب ، والكذب في إصلاح ذات البين ، وكنب الرجل على امرأته ليرضيها " .(2/281)
"""""" صفحة رقم 282 """"""
الحكم : تحريم الأكل .
الأمثال : قالوا : أطيش من فراشة وأضعف وأذل وأجهل وأخف وأخطأ من فراشة ، لأنها تلقي نفسها في النار ، كما قالوا : أخطأ وأجهل من ذباب ، لأنه يلقي نفسه في الطعام الحار وفيما يهلكه ، قال الشاعر :
سفاهة سنور وحلم فراشة . . . وأنك من كلب المهارش أجهل
التعبير : الفراش في المنام عدو ضعيف مهين عظيم الكلام ، وقال ارطاميدروس : الفراش للفلاحين يدل على البطالة والله أعلم .
الفرافصة : بالضم اسم للأسد ، وبالفتح اسم لرجل وقيل : كل فرافصة في العرب ، فهو بالضم إلا فرافصة أبا نائلة صهر عثمان رضي الله تعالى عنه ، فإنه بالفتح ، وهو الذي ذكره مالك في الموطأ ، في أبواب الصلاة عن يحيى بن سعيد عن ربيعة بن عبد الرحمن عن القاسم بن محمد أن الفرافصة بن عمير الحنفي قال : ما أخذت سورة يوسف إلا من قراءة عثمان بن عفان إياها في الصبح من كثرة ما كان يرددها .
الفرخ : ولد الطائر ، هذا الأصل وقد استعمل في كل صغير من الحيوان والنبات ، والأنثى فرخة وجمع القلة أفرخ وأفراخ ، والكثرة فراخ . روى أبو داود بإسناد صحيح على شرط الشيخين ، عن عبد الله بن جعفر أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أمهل آل جعفر ثلاثاً ثم أتاهم فقال : " لا تبكوا على أخي بعد اليوم ، ثم قال ( صلى الله عليه وسلم ) : " ادعوا إلى بني أخي " . فجيء بنا كأننا أفرخ ، فقال ( صلى الله عليه وسلم ) : " ادعوا إلي الحلاق " ، فأمره فحلق رؤوسنا .
وروى البزار ، عن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ، كان في بعض مغازيه فبينما هم يسهون ، إذ أخذوا فرخ طير فأقبل أحد أبويه ، حتى سقط على أيدي الذين أخذوا الفرخ ، فقال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) : " ألا تعجبون لهذا الطير أخذ فرخه فأقبل حتى سقط في أيديهم " ؟ قالوا : بلى يا رسول الله . فقال ( صلى الله عليه وسلم ) : " والله لله أرحم بعباده من هذا الطير بفرخه " .
وفي سنن أبي داود ، في أوائل كتاب الجنائز ، من حديث عامر الرام أخي الخضر بضم الخاء وإسكان الضادين المعجمتين ، وهو فرد في الأسماء ، قال : بينما نحن عند رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) إذ أقبل رجل عليه كساء وفي يده شيء قد لف عليه طرف كسائه ، فقال : يا رسول الله إني لما رأيتك أقبلت ، فمررت بغيضة شجر ، فسمعت فيها أصوات فراخ طائر ، فأخذتهن فوضعتهن في كسائي ، فجاءت أمهن فاستدارت على رأسي فكشفت لها عنهن فوقعت عليهن ، فلففتها معهن ،(2/282)
"""""" صفحة رقم 283 """"""
وها هن فيه معي . فقال ( صلى الله عليه وسلم ) : " ضعهن عنك " . فوضعتهن وأبت أمهن إلا لزومهن ، فقال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) لأصحابه : " أتعجبون لرحمة أم الفراخ فراخها " . قالوا : نعم يا رسول الله . قال ( صلى الله عليه وسلم ) : " فوالذي بعثني بالحق نبياً لله أرحم بعباده من أم هؤلاء الأفراخ بفراخها ، ارجع بهن حتى تضعهن من حيث أخذتهن " . فرجع بهن وأمهن ترفرف عليهن . وروى مسلم عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال : " إن لله مائه رحمة قسم منها رحمة في دار الدنيا فبها يعطف الرجل على ولده ، والطير على فراخه ، فإذا كان يوم القيامة صيرها مائة رحمة فعاد بها على الخلق " . قال أبو أيوب السجستاني : إن رحمة الله قسمها في دار الدنيا وأصابني منها الإسلام ، وإني لأرجو من تسع وتسعين رحمة ، ما هو أكثر من ذلك .
وروى مسلم أيضاً والنسائي والترمذي ، عن ثابت عن أنس رضي الله تعالى عنه ، أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) عاد رجلا من المسلمين قد خفت ، وفي رواية الترمذي : قد جهد فصار مثل الفرخ ، فقال له النبي ( صلى الله عليه وسلم ) : " هل كنت تدعو الله بشيء أو تسأله إياه " ؟ قال : نعم . كنت أقول : اللهم ما كنت معاقبي به في الآخرة فعجله لي في الدنيا . فقال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) : " سبحان الله لا تطيقه ولا تستطيعه ، أفلا قلت : اللهم آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار " . قال : فدعا الله به فشفاه .
ومعنى قوله : مثل الفرخ أنه ضعف ونحل جسمه ، وخفي كلامه . وتشبيهه له بالفرخ يدل على أنه تناثر أكثر شعره ، ويحتمل أن يكون شبهه به لضعفه ، والأول أوقع في التشبيه . ومعلوم أن مثل هذا المرض لا يبقى معه شعر ولا قوة . وفي هذا الحديث النهي عن الدعاء بتعجيل العقوبة ، وفيه فضل الدعاء باللهم آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار ، وفيه جواز التعجب بقول : سبحان الله ، وقوله ( صلى الله عليه وسلم ) : " إنك لا تطيقه " ، يعني أن عذاب الآخرة لا يطيقه أحد في الدنيا لأن نشأة الدنيا ضعيفة لا تحتمل العذاب الشديد ، والألم العظيم ، بل إذا عظم على الإنسان هلك ومات . وأما نشأة الآخرة ، فهي للبقاء إما في النعيم أو العذاب ، إذ لا موت ، كما قال الله تعالى : في حق الكفار " كلما نضجت جلودهم بدلناهم جلوداً غيرها ليذوقوا العذاب " نسأل الله العافية في الدنيا والآخرة ، ثم إن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أرشده إلى أحسن ما يقال لأنها من الدعوات الجوامع التي تتضمن خير الدنيا والأخرة ، وذلك أن النكرة في سياق الطلب عامة ، فكأنه يقول : اعطني كل حالة حسنة في الدنيا والآخرة .
وقد اختلفت أقوال المفسرين في الآية اختلافاً يدل على عدم التوفيق ، وعلى قلة التأمل لوضع الكلمة ، فقيل : الحسنة في الدنيا العلم والعبادة ، وفي الآخرة الجنة والمغفرة ، وقيل : العافية ، وقيل : المال وحسن المآل ، وقيل : المرأة الصالحة والحور العين .
والصحيح الحمل على العموم ، قال النووي : وأظهر الأقوال في تفسير الحسنة أنها في الدنيا(2/283)
"""""" صفحة رقم 284 """"""
العبادة والعافية وفي الآخرة الجنة والمغفرة . وقيل : الحسنة نعيم الدنيا ونعيم الآخرة .
وفي تاريخ ابن النجار وعوالي أبي عبد الله محمد بن عبد الله بن المثنى بن أنس بن مالك الأنصاري قاضي البصرة وعالمها ومسندها ، وهو من كبار شيوخ البخاري ، من حديث الحسن بن أبي الحسن عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال : " كان فيمن قبلكم رجل يأتي وكر طائر ، كلما أفرخ أخذ فراخه فشكا ذلك الطائر إلى الله تعالى ما يفعل به ، فأوحى الله تعالى إليه إن عاد فسأهلكه ، فلما أفرخ ذلك الطير ، خرج ذلك الرجل كما كان يخرج ، فبينما هو في بعض الطريق سأله سائل فأعطاه رغيفاً كان معه يتغذاه ، ثم مضى حتى أتى الوكر ووضع سلمه ثم صعد فأخذ الفرخين وأبواهما ينظران إليه ، فقالا : ربنا إنك لا تخلف الميعاد ، وقد وعدتنا أنك تهلك هذا إذا عاد ، وقد عاد وأخذ فرخينا ولم تهلكه ، فأوحى الله إليهما ، ألم تعلما أني لا أهلك أحداً تصدق بصدقة في يومه بموتة سوء وقد تصدق " .
فائدة : كانت رؤية فرخ الطائر سبباً لتمني حنة امرأة عمران الولد ، وذلك أنها كانت عاقر لم تلد إلى أن عجزت ، فبينما هي في ظل شجرة إذ رأت طائراً يزق فرخاً فتحركت نفسها للولد وتمنته " فقالت : رب إني نذرت لك ما في بطني محرراً فتقبل مني إنك أنت السميع العليم " ، أي السميع لدعائي العليم بضميري ، فنذرت أن تتصدق به على بيت المقدس ، فيكون من سدنته وخدمته ، وكان ذلك في شريعتهم جائزاً فحملت بمريم ، وهلك عمران وهي حامل " فلما وضعتها ، قالت : رب إني وضعتها أنثى والله أعلم بما وضعت وليس الذكر كالأنثى وإني سميتها مريم وإني أعيذها بك وذريتها من الشيطان الرجيم ، فتقبلها ربها بقبول حسن وأنبتها نباتاً حسناً " ووصفها بأنها أحصنت فرجها . قال الزمخشري : إحصاناً كلياً عن الحلال والحرام جميعاً . كما قال تعالى : " ولم يمسسني بشر ولم أك بغياً " وقال السهيلي : أحصنت فرجها ، يريد فرج القميص ، أي لم يتعلق بثوبها ريبة ، فهي طاهرة الأثواب ، وفروج القميص أربعة : الكمان والأعلى والأسفل فلا يذهبن فكرك إلى غير هذا ، وهذا من لطيف الكناية لأن القرآن أنزه معنى وأوجز لفظاً ، وألطف إشارة ، وأحسن عبارة ، من أن يريد ما يذهب إليه وهم الجاهل ، لا سيما والنفخ من روح القدس ، بأمر القدوس ، فأضف القدس إلى القدوس ، ونزه المقدسة عن الظن الكاذب والحدس وبالله التوفيق .
فرع : ومن أحكام الفرخ أنه إذا غصب إنسان بيضاً فحضنه دجاجه ، كانت الفراخ لصاحب البيض لأنها من عين المغصوب ، وقال أبو حنيفة رضي الله تعالى عنه : يضمن البيض ولا يرد الفراخ ، واستدل على ذلك بأنه خلق سوى البيض ، قال تعالى في سورة المؤمنون : " ثم أنشأناه خلقاً آخر " .
وفي كتاب التحفة المكية للقاضي نصر العمادي ، عن إبراهيم بن أدهم رحمه الله تعالى أنه قال : بلغني أنه كان رجل من بني إسرائيل ذبح عجلا بين يدي أمه فأيبس الله يده ، فبينما هو ذات(2/284)
"""""" صفحة رقم 285 """"""
يوم جالس وإذا بفرخ طائر سقط من وكره فجعل ينظر ويبصبص إلى أبويه ، وأبواه ينظران ويبصبصان إليه ، فأخذه ذلك الرجل ورده إلى وكره رحمة له فرحمه الله لرحمته لذلك الفرخ ، ورد عليه يده بما صنع والله تعالى أعلم .
التعبير : الفراخ المشوية في المنام مال ورزق بتعب لمسه النار ، فمن رأى أنه أكل لحم فرخ نيئاً فإنه يغتاب أهل بيت النبي ( صلى الله عليه وسلم ) وأشراف الناس ، ومن أكل لحم فراخ السباع من الطير كالشاهين والصقر والعقاب ونحوها ، فإنه يغتاب أولاد الملوك أو ينكحهم ، ومن اشترى فرخاً مشوياً فإنه يستأجر أجيراً والله تعالى أعلم .
الفرس : واحد الخيل ، والجمع أفراس الذكر والأنثى في ذلك سواء ، وأصله التأنيث ، وحكى ابن جني والفراء فرسة . وقال الجوهري : هو اسم يقع على الذكر والأنثى ، ولا يقال للأنثى فرسة ، وتصغير الفرس فريس ، وإن أردت الأنثى خاصة لم تقل إلا فريسه بالهاء ، ولفظها مشتق من الافتراس ، لأنها تفترس الأرض بسرعة مشيها . وراكب الفرس فارس ، وهو مثل لابن وتامر أي صاحب لبن وصاحب تمر ، وفارس أي صاحب فرس ، ويجمع على فوارس ، وهو شاذ لا يقاس عليه . روى أبو داود والحاكم عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) كان يسمي الأنثى من الخيل فرساً ، قال ابن السكيت : يقال لراكب في الحافر من فرس أو بغل أو حمار فارس . قال الشاعر :
وإني امرؤ للخيل عندي مزية . . . على فارس البرذون أو فارس البغل
وقال عمارة بن عقيل بن بلال بن جرير : لا أقول لصاحب البغل فارس ، ولكن أقول بغال ، ولا أقول لصاحب الحمار فارس ، ولكن أقول خمار . وكنية الفرس : أبو شجاع ، وأبو طالب ، وأبو محرك ، وأبو مضي ، وأبو المضمار ، وأبو المنجي . والفرس أشبه الحيوان بالإنسان ، لما يوجد فيه من الكرم وشرف النفس ، وعلو الهمة . وتزعم العرب أنه كان وحشياً ، وأول من ذلله وركبه إسماعيل عليه السلام . ومن الخيل ما لا يبول ولا يروث ، ما دام راكبه عليه . ومنها ما يعرف صاحبه ، ولا يمكن غيره من الركوب عليه . وكان لسليمان عليه السلام خيل ذوات أجنحة . والخيل نوعان : هجين وعتيق ، والفرق بينهما أن عظم البرذون أعظم من عظم الفرس ، وعظم الفرس أصلب وأثقل من عظم البرذون ، والبرذون أحمل من الفرس ، والفرس أسرع من البرذون ، والعتيق بمنزلة الغزال والبرذون بمنزلة الشاة ، فالعتيق من الخيل ما أبواه عربيان ، سمي بذلك لعتقه من العيوب ، وسلامته من الطعن فيه بالأمور المنقصة ، والعتيق الكريم من كل شيء ، والخيار من كل شيء التمر والماء والبازي والشحم . وسميت الكعبة البيت العتيق لسلامتها من عيب الرق ، لأنها لم يملكها ملك من الملوك الجبابرة قط . وسمي أبو بكر الصديق رضي الله تعالى عتيقاً لجماله ، ويقال لأن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال له : " أنت عتيق الرحمن من النار " . ولم يزل بعين الرضا من الله . ويقال لأن أمه كان لا يعيش لها ولد ، فلما عاش سمته عتيقاً لأنه عتق من الموت .(2/285)
"""""" صفحة رقم 286 """"""
فائدة : قال الزمخشري ، في تفسير سورة الأنفال : وفي الحديث " أن الشيطان لا يقرب صاحب فرس عتيق ، ولا دار فيها فرس عتيق " . وروى الحافظ شرف الدين الدمياطي ، في كتاب الخيل ، حديثاً عزاه إلى ابن منده في كتاب الصحابة وإلى ابن سعد في الطبقات ، وإلى ابن قانع في معجم الصحابة ، من حديث عبد الله بن عريب المليكي ، عن أبيه عن جده أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال : " إن الشيطان لا يخبل أحداً في دار فيها فرس عتيق " انتهى . وكذلك رواه الحارث بن أبي أسامة ، عن المليكي ، عن أبيه عن جده عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ، ورواه الطبراني في معجمه ، وابن عدي في كامله ، في ترجمة سعيد بن سنان ، ثم ضعفه .
وروى القاضي أبو القاسم علي بن محمد النخعي ، في كتاب الخيل ، وهو كتاب لطيف نسخته موقوفة بالفاضلية ، قال : حدثنا الحسن بن علي بن عفان ، قال : حدثنا الحسن بن عطية ، عن طلحة بن زيد عن الوضين بن عطاء عن سليمان بن يسار ، أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ، قال في هذه الآية " وآخرين من دونهم لا تعلمونهم الله يعلمهم " قال : هم الجن لا يدخلون داراً فيها فرس عتيق . وقال مجاهد ، في تفسير هذه الآية : هم بنو قريظة . وقال السدي : هم أهل فارس . وقال الحسن : هم المنافقون . وقيل : هم كفار الجن ، كما تقدم . قال ابن عبد البر ، في التمهيد : الفرس العتيق هو الفاره عندنا . وقال صاحب العين : هو السابق .
وفي المستدرك ، من حديث معاوية بن حديج ، بالحاء المهملة المضمومة ، والدال المهملة المفتوحة ، وبالجيم في آخره ، وهو الذي أحرق محمد بن أبي بكر بمصر رضي الله تعالى عنهما ، عن أبي ذر رضي الله تعالى عنه ، عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أنه قال : " ما من فرس عربي إلا يؤذن له كل يوم بدعوتين : يقول اللهم كما خولتني من خولتني فاجعلني من أحب ماله إليه " . ثم قال : صحيح الإسناد .
ولهذا الحديث قصة ، ذكرها النسائي ، في كتاب الخيل من سننه ، فقال : قال أبو عبيدة : قال معاوية بن حديج : لما افتتحت مصر ، كان لكل قوم مراغة يمرغون فيها دوابهم ، فمر معاوية بأبي ذر رضي الله تعالى عنهما ، وهو يمرغ فرساً له ، فسلم عليه ثم قال : يا أبا ذر ما هذا الفرس ؟ فقال : هذا فرس لا أراه إلا مستجاب الدعاء ، قال : وهل تدعو الخيل وتجاب ؟ قال : نعم ، ليس من ليلة إلا والفرس يدعو فيها ربه ، فيقول : رب إنك سخرتني لابن آدم وجعلت رزقي في يده ، اللهم فاجعلني أحب إليه من أهله وولده . فمنها المستجاب ، ومنها غير المستجاب ، ولا أرى فرسي هذا إلا مستجاباً . وروى الحاكم عن عقبة بن عامر رضي الله تعالى عنه مرفوعاً ، قال : إذا أردت أن تغزو ، فاشتر فرساً أدهم محجلا طلق اليمين ، فإنك تغنم وتسلم . ثم قال : صحيح على شرط مسلم . والهجين الذي أبوه عربي وأمه عجمية ، والمقرف ، وهو بضم الميم وإسكان القاف ، وبالراء المهملة والفاء في آخره عكسه . وكذلك في بني آدم ، وأنشد أبو عبيد القاسم بن سلام لهند ابنة النعمان بن بشير :(2/286)
"""""" صفحة رقم 287 """"""
وهل هند إلا مهرة عربية . . . سليلة أفراس تحللها بغل
فإن نتجت مهراً كريماً فبالحري . . . وإن يك أقراف فمن قبل الفحل
قال البطليوسي في شرحه : هكذا رويناه : فمن قبل الفحل . والرواية الأخرى :
وإن يك أقراف فما أنجب الفحل
وقال : قد روي هذا الشعر لحميدة بنت النعمان بن بشير ، وأنها قالته في الفيض بن عقيل الثقفي . فمن رواه لحميدة روى :
وما أنا إلا مهرة عربية وكانت حميدة في أول أمرها تحت الحارث بن خالد المخزومي فتركته وقالت فيه :
فقدت الشيوخ وأشياعهم . . . وذلك من بعض أقواليه
ترى زوجة الشيخ مغمومة . . . وتمسي لصحبته قاليه
فطلقها الحارث وتزوجها روح بن زنباع فتركته وقلته وهجته فقالت فيه :
بكى الخز من روح وأنكر جلده . . . وعجت عجيجاً من جذام المطارف
وقال العباء نحن كنا ثيابهم . . . وأكسية مطروحة وقطائف
فطلقها روح ، وقال : ساق الله إليك فتى يسكر ويقيء في حجرك ، فتزوجها الفيض بن عقيل الثقفي ، فكان يسكر ويقيء في حجرها . فكانت تقول : أجيبت في دعوة بن زنباع ، وكانت تهجوه وتقول :
سميت فيضاً وما شيء تفيض به . . . إلا بسلحك بين الباب والدار
فتلك دعوة روح الخير أعرفها . . . سقى الإله ثراه الأوطف الساري
قال البطليوسي : قد أنكر كثير من الناس رواية بغل بالباء ، لأن البغل لا ينتج . قالوا : والصواب نغل بالنون ، وهو الخسيس من الدواب .
وفي سنن البيهقي ، في كتاب البيوع ، وأن عبد الرحمن بن عوف اشترى من عثمان بن عفان رضي الله تعالى عنهما ، فرساً بأربعين ألفاً . والفرس الذي اشتراه النبي ( صلى الله عليه وسلم ) من الأعرابي وشهد له به خزيمة اسمه المرتجز ، واسم الأعرابي سواد بن الحارث المحاربي وكان النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ابتاعه منه ، فاستتبعه ليقبض ثمنه منه ، فأسرع النبي ( صلى الله عليه وسلم ) المشي وأبطأ الأعرابي ، فساومه رجال لا يشعرون أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ابتاعه منه ، فنادى الأعرابي إن كنت مبتاعاً هذا الفرس ، وإلا بعته ؟ فقال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) : " أو ليس قد ابتعته منك " ؟ فقال الأعرابي : لا والله . وطفق الأعرابي يقول : هلم بشهيد فقال خزيمة : أنا أشهد ، فأقبل النبي ( صلى الله عليه وسلم ) على خزيمة فقال : " بم تشهد " قال : بتصديقك يا رسول الله ،(2/287)
"""""" صفحة رقم 288 """"""
فجعل رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) " شهادة خزيمة بشهادة رجلين " . أخرجه أبو داود والنسائي والحاكم .
وفي رواية في الحديث " هل حضرتنا يا خزيمة " ؟ قال : لا . قال : " فكيف تشهد بذلك " ؟ فقال خزيمة : بأبي أنت وأمي يا رسول الله أصدقك على أخبار السماء ، وما يكون في غد ولا أصدقك في ابتياعك هذا الفرس فقال عليه الصلاة والسلام : " إنك لذو الشاهدتين يا خزيمة " . وفي رواية صحيحة عند الطبراني أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ، قال : " من شهد له خزيمة أو شهد عليه فحسبه " . وقال السهيلي : وفي مسند الحارث زيادة ، وهي أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) رد الفرس على ذلك الأعرابي ، وقال : " لا بارك الله لك فيها " . فأصبحت من الغد شائلة برجليها ، أي ماتت .
ومن أغرب ما اتفق لخزيمة رضي الله تعالى عنه ، ما رواه الإمام أحمد من عدة طرق ، برجال ثقات أنه رأى في النوم أنه سجد على جبهة رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ، فجاء النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ، فذكر له ذلك ، فاضطجع له النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فسجد خزيمة على جبهته .
وفي مسند الإمام أحمد ، عن روح بن زنباع أنه روى عن تميم الداري رضي الله تعالى عنه ، أنه قال : إن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال : " من نقى لفرسه شعيراً ثم جاء حتى يعلفه كتب الله له بكل شعيرة حسنة " . ورواه ابن ماجه بمعناه .
وفي كتب الغريب أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال : " إن الله عز وجل يحب الرجل القوي المبدي المعيد على الفرس " . أي المبدي المعيد الذي أبدى في غزوه وأعاد ، فغزا مرة بعد مرة ، أي جرب الأمور طوراً بعد طور . والفرس المبدي المعيد الذي غزا عليه صاحبه مرة بعد أخرى ، وقيل : هو الذي قد ريض وأدب وصار طوع راكبه . وفي الصحيح أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ركب فرساً معروراً لأبي طلحة ، وقال : " إن وجدناه لبحراً " . وفي الفائق ، إن أهل المدينة فزعوا مرة فركب ( صلى الله عليه وسلم ) فرساً مقرفاً وركض في آثارهم ، فلما رجع قال : " إن وجدناه لبحراً " . قال حماد بن سلمة : كان هذا الفرس بطيئاً . فلما قال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) هذا القول ، صار سابقاً لا يلحق . وروى النسائي والطبراني من حديث عبد الله بن أبي الجعد أخي سالم بن أبي الجعد ، عن جعيل الأشجعي رضي الله تعالى عنه ، قال : خرجت مع رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) في بعض غزواته ، وأنا على فرس عجفاء ، فكنت في آخر الناس ، فلحقني النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فقال : " سر يا صاحب الفرس " ، فقلت : يا رسول الله إنها فرس عجفاء ضعيفة ، قال : فرفع ( صلى الله عليه وسلم ) مخفقة كانت معه فضربها بها ، وقال : " اللهم بارك فيها " . فلقد رأيتني ما أملك رأسها حتى صرت قدام القوم ، ولقد بعت من بطنها باثني عشر ألفاً .
وروي عن خالد بن الوليد رضي الله تعالى عنه ، أنه كان لا يركب في القتال إلا الإناث لقلة صهيلها . قال ابن محيريز : كان الصحابة رضي الله تعالى عنهم يستحبون ذكور الخيل عند الصفوف ، وإناث الخيل عند البيات والغارات .(2/288)
"""""" صفحة رقم 289 """"""
وروى البخاري عن سعيد المقبري ، أنه قال : سمعت أبا هريرة رضي الله تعالى عنه يقول : قال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) : " من احتبس فرساً في سبيل الله تعالى إيماناً بالله عز وجل واحتساباً وتصديقاً بوعده فإن شبعه وريه وروثه وبوله في ميزانه يوم القيامة " . يعني حسنات .
وروى مالك عن زيد بن أسلم عن أبي صالح عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه ، أن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) قال : " الخيل لرجل أجر ، ولرجل ستر ، وعلى رجل وزر " ، فأما الذي هي له أجر فرجل ربطها في سبيل الله تعالى ، فأطال لها في مرج أو روضة ، فما أصابت في طيلها ذلك من المرج أو الروضة كانت له حسنات ، ولو أنها قطعت طيلها ذلك فاستنت شرفاً أو شرفين كانت أبوالها وأرواثها له حسنات ، ولو أنها مرت بهر فشربت منه ولم يرد أن تسقى منه كان ذلك له حسنات ، فهي لذلك أجر ، ورجل ربطها تغنياً وتعففاً ولم ينس حق الله تعالى في رقابها ولا ظهورها فهي لذلك ستر ، ورجل ربطها فخراً ورياء ونواء لأهل الإسلام فهي على ذلك وزر .
وسئل ( صلى الله عليه وسلم ) عن الحمر فقال : " ما أنزل الله علي فيها شيئاً إلا هذه الآية الجامعة الفاذة " فمن يعمل مثقال ذرة خيراً يره ومن يعمل مثقال ذرة شراً يره " وقد تقدم قريب من ذلك . وروى ابن حبان ، في صحيحه عن أبي عامر الهوزني ، عن ابن كبشة الأنماري ، واسمه عمرو بن سعد ، أنه أتاه فقال : أطرقني فرسك فإني سمعت رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يقول : " من أطرق فرساً فعقب له كان له كأجر سبعين فرساً حمل عليها في سبيل الله تعالى ، وإن لم يعقب كان كأجر فرس حمل عليها في سبيل الله " .
وفي طبع الفرس الزهو والخيلاء والسرور ، بنفسه والمحبة لصاحبه ، ومن أخلاقه الدالة على شرف نفسه وكرمه أنه لا يأكل بقية علف غيره ، ومن علو همته أن أشقر مروان كان سائسه ، لا يدخل عليه إلا بإذن وهو أن يحرك له المخلاة ، فإن حمحم دخل ، وإن دخل ولم يحمحم شد عليه ، والأنثى من الخيل ذات شبق شديد ، ولذلك تطيع الفحل من غير نوعها وجنسها . قال الجاحظ : والحيض يعرض للإناث منهن لكنه قليل ، والذكر ينزو إلى تمام أربعين سنة ، وربما عمر إلى تسعين . والفرس يرى المنامات كبني آدم ، وفي طبعه أنه لا يشرب الماء إلا كدراً ، فإذا رآه صافياً كدره . ويوصف بحدة البصر ، وإذا وطئ على أثر الذئب خدرت قوائمه حتى لا يكاد يتحرك ، ويخرج الدخان من جلده . قال الجوهري : ويقال إن الفرس لا طحال له ، وهو مثل لسرعته وحركته . كما يقال : البعير لا مرارة له أي لا جسارة له .
وأفاد الإمام أبو الفرج بن الجوزي أن من واظب على البداءة في لبس النعل باليمين ، والخلع باليسار أمن من وجع الطحال . وأفاد غيره أن سورة الممتحنة ، إذا كتبت وغسلت أو سقي المطحول ماءها فإنه يبرأ بإذن الله تعالى . ومما جرب أيضاً فوجد نافعاً أن تكتب هذه الحروف على(2/289)
"""""" صفحة رقم 290 """"""
قطعة فرو ، وتعلق على الجانب الأيسر وتترك بطول الجمعة وهذه صورة ما يكتب : ا د ا ح ح هم مامل ملما محد إلى راى 18973 صالح صح وصح م له صالح دون مانع من إلى ان تنصره ومره ومما جرب للطحال أيضاً أن يكتب ويعلق على العضد الأيسر وهو هذا : 259481923 ح ح د د صوع ومما جرب أيضاً ، أن يكتب في ورقة ويحرق في ملعقة على الطحال : وعلم بضميرهم .
ومما جرب أيضاً أن يكتب في يوم السبت ، قبل طلوع الشمس ، ويربط بخيط صوف ، ويعلق على الجانب الأيمن مثل تعليق السيف وهو هذا كما ترى : ح ح ه د م ص ها ا ص ا ح ا ا ح ماتت إلى الابد وروينا في كتاب المجالسة للدينوري المالكي ، في آخر الجزء العاشر عن إسماعيل بن يونس .
قال : سمعت الرياشي يقول عن أبي عبيدة وأبي زيد ، أنهما قالا : الفرس لا طحال له ، والبعير لا مرارة له ، والظليم لا مخ له . قال أبو زيد : وكذلك طير الماء ، وحيتان البحر لا ألسنة لها ، ولا أدمغة . والسمك لا رئة له ، ولذلك لا يتنفس وكل في رئة يتنفس . وروى الجماعة إلا ابن ماجه ، من حديث مالك عن الزهري ، عن سالم وحمزة ابني عبد الله بن عمر ، عن أبيهما رضي الله عنه أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال : " إن يكن الخير في شيء ففي ثلاث : المرأة والدار والفرس " . وفي رواية " الشؤم في ثلاث : المرأة والدار والفرس " وفي رواية " الشؤم في أربع : المرأة والدار والفرس والخادم " .
قلت : وقد اختلفت العلماء في معنى الحديث ، فقيل : معناه على اعتقاد الناس في ذلك لا أنه خبر من النبي ( صلى الله عليه وسلم ) عن إثبات الشؤم . وروي ذلك عن عائشة رضي الله تعالى عنها ففي مسند أبي داود الطيالسي ، عنها أنه قيل لها : إن أبا هريرة رضي الله تعالى عنه يقول : قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) : " الشؤم في ثلاث المرأة والدار والفرس " . فقالت عائشة رضي الله تعالى عنها : لم يحفظ أبو هريرة لأنه دخل ورسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يقول : " قاتل الله اليهود ، يقولون : الشؤم في ثلاث المرأة والدار والفرس " . فسمع آخر الحديث ولم يسمع أوله انتهى .
قال البطليوسي : وهذا غير منكر أن يعرض لأنه عليه الصلاة والسلام كان يذكر في مجالسة(2/290)
"""""" صفحة رقم 291 """"""
الأخيار حكاية ويتكلم بما لا يريد به أمراً ولا نهياً ، ولا أن يجعله أصلا في دينه ، وذلك معلوم من فعله ، مشهور من قوله . وهذا نظير ما اتفق في قوله ( صلى الله عليه وسلم ) " إن الميت ليعذب ببكاء أهله عليه " . وفي الصحيحين لكن قالت عائشة رضي الله تعالى عنها إنما مر رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) على يهودية ، وهم يبكون عليها فقال عليه الصلاة والسلام " إنهم يبكون وإنها لتعذب ببكاء أهلها عليها " . وقال مالك وطائفة : قوله ( صلى الله عليه وسلم ) " الشؤم في ثلاث " الحديث . على ظاهره ، فإن الدار قد يجعل الله سكناها سبباً للضرر والهلاك ، وكذلك المرأة والفرس والخادم ، يجعل الله الهلاك أو الضرر عند وجودهم بقضاء الله وقدره .
وقال ابن القاسم : سئل مالك عن هذا ، فقال : كم من دار سكنها قوم فهلكوا ، ثم سكنها آخرون فهلكوا . يعني أنه عام على ظاهره . وقال الخطابي : وكثيرون هو في معنى الاستثناء من الطيرة ، أي أن الطيرة منهي عنها ، إلا أن يكون له دار يكره سكناها ، أو امرأة يكره صحبتها ، أو فرس أو خادم يكره إقامتهما ، فليفارق الجميع بالبيع ونحوه ، وطلاق المرأة . وقال آخرون : شؤم الدار ضيقها وسوء جيرانها وأذاهم ، وشؤم المرأة عدم ولادتها وسلاطة لسانها وتعرضها للريب ، وشؤم الفرس أن لا يغزى عليها . وقيل : حرانها وغلاء ثمنها ، وشؤم الخادم سوى خلقه وقلة تعهده لما فوض إليه ، وقيل : المراد بالشؤم هنا عدم الموافقة . واعترض بعض الملحدة بحديث " لا طيرة " على هذا ، وأجاب ابن قتيبة وغيره بأن هذا مخصوص من حديث لا طيرة ، أي لا طيرة إلا في هذه الثلاثة . قال الحافظ الدمياطي : ومن أغرب ما وقع لي في تأويله ، ما رويناه بالإسناد الصحيح عن يوسف بن موسى القطان ، عن سفيان بن عيينة ، عن الزهري عن سالم ، عن أبيه رضي الله تعالى عنهما ، أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال : " البركة في ثلاث : في الفرس والمرأة والدر " . قال يوسف : سألت سفيان بن عيينة عن معنى هذا الحديث ، فقال سفيان : سألت عنه الزهري ، فقال الزهري : سألت عنه سالماً ، فقال سالم : سألت عنه أبي عبد الله بن عمر ، فقال عبد الله بن عمر : سألت عنه النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فقال : " إذا كان الفرس ضروباً فهو مشؤوم ، وإذا كانت المرأة قد عرفت زوجاً غير زوجها فحنت إلى الزوج الأول فهي مشؤومة ، وإذا كانت الدار بعيدة عن المسجد فلا يسمع فيها الأذان والإقامة فهي مشؤومة ، وإذا كن بغير هذه الصفات فهن مباركات " . وفي الموطأ أن رجلا أخبر النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أنهم سكنوا داراً وعددهم كثير ، ومالهم وافر فقل العدد وذهب المال فقال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) : " دعوها ذميمة " . وأمرهم ( صلى الله عليه وسلم ) بالخروج منها ، لاعتقادهم ذلك فيها ، وظنهم أن الذهاب للعدد والنفاد للمال ، إنما كان منها ، وليس كما ظنوا ولكن الباري سبحانه وتعالى جعل ذلك وقتاً لظهور قضائه وقدره ، فيجهل الخلق ذلك ، فينسبونه إلى الجماد الذي لا ينفع ولا يضر ، وهذا كقوله عليه الصلاة والسلام : " لا عدوى ولا طيرة ولا يورد ممرض على مصح " . لأن الله تعالى يخلق الجرب في الصحيح فيعتقد المصح أن ذلك من(2/291)
"""""" صفحة رقم 292 """"""
الجرب فيتأذى قلبه ودينه . وقد تقدمت الإشارة إلى ذلك ، وهذه الدار كانت دار الأسود بن عوف أخي عبد الرحمن بن عوف رضي الله تعالى عنه وهو السائل .
وفي سنن أبي داود ، من حديث فروة بن مسيك رضي الله تعالى عنه قال : قلت : يا رسول الله ، أرض عندنا يقال لها أرض أبين ، هي أرض ريفنا وميرتنا ، وإنها وبيئة ، أو قال : وباؤها شديد ، فقال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) : " دعها عنك فإن من القرف التلف " . قال ابن الأثير : القرف ملابسة الداء ومداناة المرض ، والتلف الهلاك وليس هذا من باب العدوى ، وإنما هو من باب الطب ، فإن استصلاح الهواء من أعون الأشياء على صحة الأبدان ، وفساد الهواء من أسرع الأشياء إلى الأسقام .
فائدة : قال السهيلي في الكلام على غزوة في قرد : في الفرس عشرون عضواً ، كل عضو منها يسمى باسم طائر ، فمنها النسر والنعامة والهامة والباز والسمامة والسعدانة ، وهي الحمامة ، والقطاة والذباب والعصفور والغراب والصرد والخرب ، وهو ذكر الحبارى ، والناهض ، وهو فرخ العقاب ، والخطاف ، ذكرها وبقيتها الأصمعي . وروى فيها شعراً لجرير .
تتمة : روى الإمام أحمد بإسناد صحيح ، عن أبي الطفيل ، أن رجلا ولد له غلام على عهد رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ، فأتى به النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فأخذ عليه الصلاة والسلام ببشرة جبهته و " دعا له بالبركة " ، فنبتت شعرة جبهته كهيئة غرة الفرس ، وشب الغلام ، فلما كان زمن الخوارج أحبهم ، فسقطت الشعرة من جبهته ، فأخذه أبوه فقيده وحبسه ، مخافة أن يلحق بهم . قال : فدخلنا عليه فوعظناه ، وقلنا له : ألم تر إلى بركة دعوة رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) كيف وقعت من جبهتك ؟ فما زلنا به حتى رجع عن رأيهم ، فرد الله عز وجل الشعرة بعد في جبهته ، وتاب ولم تزل إلى أن مات .
وروى الطبراني عن عائذ بن عمرو رضي الله تعالى عنه ، قال : أصابتني رمية وأنا أقاتل مع رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يوم خيبر في وجهي فلما سالت الدماء على وجهي ولحيتي وصدري ، سلت رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) الدماء عني ، ثم دعا لي فكان ذلك الموضع الذي أصابته يد رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) في صدري له غرة سائلة كغرة الفرس .
وذكر ابن ظفر ، في أعلام النبوة ، أن حبراً يهودياً ، أوطن مكة فأتى ذات غدوة إلى مجلس فيه ملأ من بني عبد مناف وبني مخزوم ، فقال : هل ولد الليلة فيكم مولود ؟ فقالوا : ما نعلمه . فقال : أما إذا أخطأكم ، فاحفظوا ما أقول لكم : ولد الليلة نبي هذه الأمة الآخرة ، وآيته أن بين كتفيه شامة صفراء ، حولها شعرات متتابعات ، كأنهن عرف فرس ، يمتنع من الرضاع ليلتين . فتصدع القوم من مجلسهم يتعجبون لقوله ، فلما صاروا إلى منازلهم ، أخبرهم نساؤهم أنه ولد لعبد الله بن عبد المطلب غلام ، فلما التقوا في ناديهم ، تحدثوا بذلك ، وجاءهم اليهودي فأخبروه ، فقال : اذهبوا بي إليه حتى أراه ، فخرجوا به فدخلوا على آمنة ، وقالوا : أخرجي إلينا ابنك ، فأخرجته لهم ، فكشفوا عن ظهره فرأوا خاتم النبوة ، فأغمي على اليهودي ، فلما أفاق سألوه ، فقال :(2/292)
"""""" صفحة رقم 293 """"""
خرجت النبوة من بني إسرائيل . ثم قال : لا تفرحوا به فوالله ليسطون عليكم سطوة ، يخرج خبرها إلى المشرق والمغرب .
وذكر الكلبي ، في تفسير قوله تعالى : " وقالت النصارى المسيح ابن الله ذلك قولهم بأفواههم " الآية ، أن النصارى كانوا على دين الإسلام إحدى وثمانين سنة ، بعدما رفع عيسى عليه الصلاة والسلام يصلون إلى القبلة ، ويصومون رمضان ، حتى وقع فيما بينهم وبين اليهود حرب ، وكان في اليهود رجل شجاع يقال له بولس ، وكان قتل جملة من أصحاب عيسى عليه الصلاة والسلام ، فقال يوماً لليهود : إن كان الحق مع عيسى فكفرنا به فالنار مصيرنا ، فنحن مغبونون إن دخلوا الجنة ودخلنا النار ، ولكن سأحتال وأضلهم حتى يدخلوا النار ، وكان له فرس يقال له العقاب ، يقاتل عليه ، فعرقب فرسه وأظهر الندامة ، ووضع على رأسه التراب ، فقالت له النصارى : من أنت ؟ فقال : بولس عدوكم ، وقد نوديت من السماء أن ليس لك توبة إلا أن تتنصر ، وقد تبت ، فأدخلوه الكنيسة ، فدخل بيتاً فيها ، فأقام سنة لا يخرج منه لا ليلا ولا نهاراً ، حتى تعلم الإنجيل ، ثم خرج ، فقادت نوديت أن الله تعالى قد قبل توبتك ، فصدقوه وأحبوه .
ثم مضى إلى بيت المقدس ، واستخلف عليهم نسطور ، وعلمه أن عيسى ومريم والإله كانوا ثلاثة ، ثم توجه إلى الروم وعلمهم اللاهوت والناسوت ، وقال لهم : لم يكن عيسى بإنس ولا بجن ولكنه ابن الله ، وعلم ذلك رجلا يقال له يعقوب ، ثم دعا رجلا يقال له يعقوب ، ثم دعا رجلا يقال له ملكان ، وقال له : إن الإله لم يزل ولا يزال عيسى ، فلما استمكن منهم دعا هؤلاء الثلاثة واحداً واحداً ، وقال لكل واحد منهم : أنت خالصتي وقد رأيت عيسى في المنام فرضي عني . وقال لكل واحد منهم : إني غداً أذبح نفسي فادع الناس إلى نحلتك ، ثم دخل المذبح فذبح نفسه ، وقال : إنما أفعل ذلك لمرضاة عيسى . فلما كان يوم ثالثه دعا كل واحد منهم الناس إلى نحلته ، فتبع كل واحد منهم طائفة من الناس ، فافترقت النصاري ثلاث فرق : نسطورية ويعقوبية وملكية ، فاختلفوا واقتتلوا ، فقال الله تعالى : " وقالت النصارى المسيح ابن الله ذلك قولهم بأفواههم " الآية . قال أهل المعاني : لم يذكر الله تعالى قولا مقروناً بالأفواه والألسن إلا كان ذلك زوراً .
وذكر الإمام ابن بليان والغزالي وغيرهما ، أن الرشيد لما ولي الخلافة زاره العلماء بأسرهم ، إلا سفيان الثوري فإنه لم يأته ، وكان بينه وبينه صحبة ، فشق عليه ذلك ، فكتب إليه الرشيد كتاباً يقول فيه : بسم الله الرحمن الرحيم ، من عبد الله هارون أمير المؤمنين ، إلى أخيه في الله سفيان بن سعيد الثوري ، أما بعد يا أخي ، فقد علمت أن الله آخى بين المؤمنين ، وقد آخيتك في الله مؤاخاة لم أصرم فيها حبلك ، ولم أقطع منها ودك ، وإني منطو لك على أفضل المحبة ، وأتم الإرادة ، ولولا هذه القلادة التي قلدنيها الله تعالى ، لإتيتك ولو حبواً لما أجد لك في قلبي من المحبة ، وأنه لم يبق أحد من إخواني وإخوانك ، إلا زارني وهنأني بما صرت إليه ، وقد فتحت بيوت الأموال ، وأعطيتهم المواهب السنية ما فرحت به نفسي ، وقرت به عيني ، وقد استبطأتك ، وقد كتبت كتاباً(2/293)
"""""" صفحة رقم 294 """"""
مني إليك ، أعلمك بالشوق الشديد إليك ، وقد علمت يا أبا عبد الله ما جاء في فضل زيارة المؤمن ومواصلته ، فإذا ورد عليك كتابي هذا فالعجل العجل . ثم أعطى الكتاب لعباد الطالقاني ، وأمره بإيصاله إليه وأن يحصي عليه بسمعه وقلبه ، دقيق أمره وجليله ، ليخبره به . قال عباد : فانطلقت إلى الكوفة ، فوجدت سفيان في مسجده ، فلما رآني على بعد ، قام وقال : أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم وأعوذ بك اللهم من طارق يطرق إلا بخير ، قال : فنزلت عن فرسي بباب المسجد ، فقام يصلي ولم يكن وقت صلاة ، فدخلت وسلمت فما رفع أحد من جلسائه رأسه إلي ، قال : فبقيت واقفاً وما منهم أحد يعرض علي الجلوس ، وقد علتني من هيبتهم الرعدة ، فرميت بالكتاب إليه ، فلما رأى الكتاب ، ارتعد وتباعد منه ، كأنه حية عرضت له في محرابه ، فركع وسجد وسلم ، وأدخل يده في كمه ، وأخذه وقلبه بيده ، ورماه إلى من كان خلفه ، وقال : ليقرأ بعضكم فإني أستغفر الله أن أمس شيئاً مسه ظالم بيده . قال عباد : فمد بعضهم يده إليه ، وهو يرتعد كأنه حية تنهشه ، ثم قرأه فجعل سفيان يبتسم تبسم المتعجب ، فلما فرغ من قراءته ، قال : اقلبوه واكتبوا للظالم على ظهره ، فقيل له : يا أبا عبد الله إنه خليفة ، فلو كتبت إليه في بياض نقي لكان أحسن ، فقال : اكتبوا للظالم في ظهر كتابه ، فإن كان اكتسبه من حلال فسوف يجزى به ، وإن كان اكتسبه من حرام فسوف يصلى به ، ولا يبقى شيء مسه ظالم بيده عندنا فيفسد علينا ديننا فقيل له : ما نكتب إليه ؟ قال : اكتبوا له : بسم اله الرحمن الرحيم ، من العبد الميت سفيان ، إلى العبد المغرور بالآمال هارون ، الذي سلب حلاوة الإيمان ، ولذة قراءة القرآن ، أما بعد ، فإني كتبت إليك أعلمك أني قد صرمت حبلك ، وقطعت ودك ، وإنك قد جعلتني شاهداً عليك بإقرارك على نفسك في كتابك ، بما هجمت على بيت مال المسلمين ، فأنفقته في غير حقه وأنفذته بغير حكمه ولم ترض بما فعلته وأنت ناء عني ، حتى كتبت إلي تشهدني على نفسك ، فأما أنا قد شهدت عليك ، أنا وإخواني الذين حضروا قراءة كتابك ، وسنؤدي الشهادة غداً بين يدي الله الحكم العدل ، يا هارون هجمت على بيت مال المسلمين بغير رضاهم ، هل رضي بفعلك المؤلفة قلوبهم ، والعاملون عليها في أرض الله ، والمجاهدون في سبيل الله ، وابن السبيل ؟ أم رضي بذلك حملة القرآن ، وأهل العلم يعني العاملين ، أم رضي بفعلك الأيتام والأرامل ، أم رضي بذلك خلق من رعيتك . فشد يا هارون مئزرك ، وأعد للمسألة جواباً ، وللبلاء جلباباً ، واعلم أنك ستقف بين يدي الحكم العدل ، فاتق الله في نفسك ، إذ سلبت حلاوة العلم والزهد ، ولذة قراءة القرآن ، ومجالسة الأخيار ، ورضيت لنفسك أن تكون ظالماً ، وللظالمين إماماً ، يا هارون قعدت على السرير ، ولبست الحرير ، وأسبلت ستوراً دون بابك ، وتشبهت بالحجبة برب العالمين ، ثم أقعدت أجنادك الظلمة دون بابك وسترك ، يظلمون الناس ولا ينصفون ، ويشربون الخمر ويحدون الشارب ، ويزنون ويحدون الزاني ، ويسرقون ويقطعون السارق ، ويقتلون ويقتلون القاتل ، أفلا كانت هذه الأحكام عليك وعليهم ، قبل أن يحكموا بها على الناس فكيف بك يا هارون غداً إذا نادى المنادي من قبل الله : أحشروا الظلمة وأعوانهم ؟ فتقدمت بين يدي الله ويداك مغلولتان إلى عنقك ، لا يفكهما إلا عدلك وانصافك ، والظالمون حولك وأنت لهم إمام أو سائق إلى النار ، وكأني بك يا هارون وقد(2/294)
"""""" صفحة رقم 295 """"""
أخذت بضيق الخناق ووردت المساق ، وأنت ترى حسناتك في ميزان غيرك ، وسيآت غيرك في ميزانك ، على سيآتك بلاء على بلاء ، وظلمة فوق ظلمة ، فاتق الله يا هارون في رعيتك ، واحفظ محمداً ( صلى الله عليه وسلم ) في أمته ، واعلم أن هذا الأمر لم يصر إليك إلا وهو صائر إلى غيرك ، وكذلك الدنيا ، تفعل بأهلها واحداً بعد واحد ، فمنهم من تزود زاداً نفعه ، ومنهم من خسر دنياه وآخرته ، وإياك ثم إياك ، أن تكتب إلي بعد هذا فإني لا أجيبك ، والسلام . وألقى الكتاب منشوراً من غير طي ولا ختم ، فأخذته وأقبلت به إلى سوق الكوفة ، وقد وقعت الموعظة بقلبي فناديت يا أهل الكوفة من يشتري رجلا هرب إلى الله ؟ فأقبلوا إلي بالدراهم والدنانير ، فقلت : لا حاجة لي بالمال ولكن جبة صوف وعباءة قطوانية ، فأتيت بذلك فنزعت ما كان علي من الثياب ، التي كنت أجالس بها أمير المؤمنين ، وأقبلت أقود الفرس الذي كان معي ، إلى أن أتيت باب الرشيد حافياً راجلا ، فهزأ بي من كان على الباب ، ثم استؤذن لي ، فلما رآني على تلك الحالة قام وقعد وجعل يلطم رأسه ووجهه ، ويدعو بالويل والحرب ، ويقول : انتفع الرسول وخاب المرسل ما لي وللدنيا والملك يزول عني سريعاً فألقيت الكتاب إليه مثل ما دفع إلي فأقبل يقرؤه ودموعه تتحدر على وجهه ، وهو يشهق ، فقال بعض جلسائه : يا أمير المؤمنين قد اجترأ عليك سفيان ، فلو وجهت إليه فأثقلته بالحديد وضيقت عليه السجن ، فجعلته عبرة لغيره ، فقال هارون : اتركوا سفيان وشأنه يا عبيد الدنيا ، المغرور من غررتموه ، والشقي والله حقاً من جالستموه ، إن سفيان أمة وحده . ولم يزل كتاب سفيان عند الرشيد يقرؤه دبر كل صلاة ويبكي حتى توفي رحمه الله تعالى .
وذكر ابن السمعاني وغيره أن المنصور كان يبلغه عن سفيان الإنكار عليه في عدم إقامة الحق ، فتطلبه المنصور فهرب إلى مكة ، فلما حج المنصور بعث بالخشابين أمامه ، وقال : حيثما وجدتم سفيان فاصلبوه ، فوصل الخشابون ونصبوا الخشب فأتى الخبر بذلك وسفيان نائم ، ورأسه في حجر الفضيل بن عياض ، ورجلاه في حجر سفيان بن عيينه ، فقالا له خوفاً عليه وشفقة : لا تشمت بنا الأعداء ، فقام ومشى إلى الكعبة والتزم أستارها عند الملتزم ، ثم قال : ورب هذه البنية لا يدخلها يعني المنصور ، فزلقت راحلته في الحجون ، فوقع من على ظهرها ، فمات لوقته . فخرج سفيان وصلى عليه . وقد تقدمت الإشارة إلى ذكر شيء من مناقبه ووفاته في باب الحاء المهملة ، في لفظ الحمار .
الحكم : قال الشافعي رضي الله تعالى عنه : ما لزم اسم الخيل من العراب والمقاريف والبراذين ، فأكلها حلال ، وهو قول القاضي شريح والحسن وابن الزبير وعطاء وسعيد بن جبير وحماد بن زيد والليث بن سعد وابن سيرين والأسود بن يزيد وسفيان الثوري وأبي يوسف ومحمد بن الحسن وابن المبارك وأحمد وإسحاق وأبي ثور وجماعة من السلف . وقال سعيد بن جبير : ما أكلت أطيب من معرقة برذون ، ودليل هذا ما اتفق عليه البخاري ومسلم من حديث جابر رضي الله تعالى عنه قال : " نهى رسول الله في يوم خيبر عن لحوم الحمر الأهلية وأرخص في لحوم الخيل " وذهب أبو حنيفة ومالك والأوزاعي إلى أنها مكروهة ، إلا أن كراهتها عند مالك كراهة(2/295)
"""""" صفحة رقم 296 """"""
تنزيه لا كراهة تحريم . واستدلوا بما في سنن أبي داود والنسائي وابن ماجه أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) " نهى عن أكل لحوم الخيل والبغال والحمير " ، لقوله تعالى : " والخيل والبغال والحمير لتركبوها وزينة ، وقال صاحب الهداية من الحنفية : فإن قلت الآية خرجت مخرج الامتنان ، والأكل من أعلى منافعها ، والحكيم لا يترك الامتنان بأعلى النعم ويمتن بأدناها .
قلت : الجواب أن الآية خرجت مخرج الغالب لأن الغالب في الخيل إنما هو الزينة ، والركوب دون الأكل ، كما خرج قوله ( صلى الله عليه وسلم ) : " وليستنج بثلاثة أحجار " ، مخرج الغالب لأن الغالب أن الاستنجاء لا يقع إلا بالأحجار انتهى .
وقال الشافعي ومن وافقه : ليس المراد من الآية بيان التحليل والتحريم ، بل المراد منها تعريف الله عباده نعمه وتنبيههم على كمال قدرته وحكمته ، وأما الحديث الذي استدل به أبو حنيفة ومالك ومن وافقهما ، فقال الإمام أحمد : ليس له إسناد جيد وفيه رجلان لا يعرفان ولا ندع الأحاديث الصحيحة لهذا الحديث .
وقد روى الشيخان عن جابر بن عبد الله رضي الله تعالى عنه قال : " نهى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يوم خيبر عن لحوم الحمر الأهلية وأذن في لحوم الخيل " . وفي لفظ " أطعمنا رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) لحوم الخيل ونهانا عن لحوم الحمر الأهلية " . رواه الترمذي وصححه . وفي لفظ " سافرنا ، يعني مع النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ، فكنا نأكل لحوم الخيل ، ونشرب ألبانها " .
وفي الصحيحين عن أسماء بنت أبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنهما أنها قالت : نحرنا فرساً على عهد رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فأكلناها . وفي رواية : ونحن بالمدينة . وفي مسند الإمام أحمد : نحرنا فرساً على عهد رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فأكلناها نحن وأهل بيته . وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما ، قال : إن الفرس إذا التقت الفئتان تقول : سبوح قدوس رب الملائكة والروح ، ولذلك كان له من الغنيمة سهمان .
وكذلك رواه عبد الله بن عمر بن حفص بن عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنهما عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) . ولا يعطى إلا لفرس واحد عربياً كان أو غير عربي ، لأن الله سبحانه وتعالى قال : " وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل " ولم يفرق بين عربي وغيره ، ولم يرد في شيء من الأحاديث تفرقة ، بل الجمع مثل قوله ( صلى الله عليه وسلم ) : " الخيل معقود في نواصيها الخير إلى يوم القيامة " الأجر والغنيمة . وقال الإمام أحمد : لما سوى العربي سهم وللعربي سهمان لأثر ورد في ذلك عن عمر رضي الله تعالى عنه لكنه لم يصح عنه . ولا يعطى لفرس أعجف وما لا غناء به ، لأنه كل على صاحبه .(2/296)
"""""" صفحة رقم 297 """"""
ويتعهد الإمام الخيل إذا دخل دار الحرب ، ولا يدخل إلا فرساً شديدا ، ويسهم للفرس المستعار والمستأجر ، ويكون ذلك للمستعير والمستأجر . والأصح أنه يسهم للفرس المغصوب لحصول النفع به ، والأصح أنه للراكب ، وقيل للمالك ولو كان القتال في ماء أو حصن وأحضر فرس أسهم له ، لأنه قد يحتاج إليه ولو أحضر اثنان فرساً مشتركاً بينهما فقيل : لا يعطيان سهم الفرس ، لأنه لم يحضروا واحد منهما بفرس تام .
وقيل يعطى كل واحد منهما سهم فرس لأن معه فرساً قد يركبها ، وقيل يعطيان سهم فرس مناصفة ولعل هذا هو الأصح . ولو ركب اثنان فرساً ، وشهدا الوقعة ، فعن بعض الأصحاب أنهما كفارسين لهما ستة أسهم ، وعن بعضهم أنهما كراجلين لتعذر الكر والفر ، وقيل لهما أربعة أسهم : سهمان لهما ، وسهمان للفرس . واختار ابن كج وجهاً رابعاً حسناً ، وهو أنه إن كان فيه قوة الكر والفر مع ركوبهما فأربعة أسهم ، وإلا فسهمان .
فائدة أجنبية : قال في شرعة الإسلام : إن مقدم العسكر ينبغي له أن يتشبه بأصناف من الخلق فيكون في قلب الأسد ، لا يجبن ولا يفر وفي كبر النمر لا يتواضع للعدو ، وفي شجاعة الدب يقاتل بجميع جوارحه ، وفي الحملة كالخنزير لا يولى دبره إذا حمل ، وفي الغارة كالذئب إذا أيس من وجه أغار من وجه ، وفي حمل السلاح الثقيل كالنملة تحمل أضعاف وزن بدنها ، وفي الثبات كالحجر لا يزول عن مكانه ، وفي الصبر كالحمار ، إذ أثقله ضرب السيوف ، وطعن الرماح ، ونصول السهام ، وفي الوفاء كالكلب إذا دخل سيده النار تبعه ، وفي التماس الفرصة كالديك ، وفي الحراسة كالكركي ، وفي التعب كاليعر ، وهي دويبة تكون بخراسان تسمن على التعب والكد والشقاء ، كما سيأتي إن شاء الله تعالى في باب الياء .
فرع : حمار نزا على فرس فأحبلها يكون لبن الفرس حلالا طاهراً ولا حكم للفحل في اللبن في هذا الموضع بخلاف الأناسي لأن لبن الفرس حادث من العلف ، فهو تابع للحمها ولم يسر وطء الفحل إلى هذا اللبن ، فإنه لا حرمة هناك تنتشر من جهة الفحل ، إلا إلى الولد خاصة ، فإنه يكون منه ومن الأم فغلب عليه التحريم . وأما اللبن فلم يتكون بوطئه وإنما تكون من العلف لم يكن حراماً . فائدة : كان للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) أفراس : السكب : اشتراه من أعرابي من بني فزارة بعشرة أواق بالمدينة ، وكان أدهم وكان اسمه عند الأعرابي الضرس فسماه النبي ( صلى الله عليه وسلم ) السكب ، وهو من سكب الماء ، كأنه سيل ، والسكب أيضاً شقائق النعمان وهو أول فرس غزا عليه رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) . وسبحة هو الذي سابق عليه ( صلى الله عليه وسلم ) فسبق ففرح بذلك . والمرتجز الذي تقدم ذكره ، سمي بذلك لحسن صهيله . ولزاز ، قال السهيلي : ومعناه أنه لا يسابق شيئاً إلا لزه أي أثبته . والظرب ، واللحيف ، قال السهيلي : كأنه يلحف الأرض بجريه ، ويقال فيه اللخيف بالخاء المعجمة ذكره البخاري في جامعه من حديث ابن عباس رضي الله تعالى عنهما . والورد أهداه له تميم الداري فأعطاه عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه فحمل عليه في سبيل الله تعالى وهو الذي وجده يباع برخص هذه السمعة متفقه عليها . وقيل : كان له ( صلى الله عليه وسلم ) غيرها ، وهي الأبلق وذو العقال والمرتجل وذو(2/297)
"""""" صفحة رقم 298 """"""
اللمة والسرحان واليعسوب والبحر وكان كميتاً ، والأدهم وملاوح والطرف بكسر الطاء المهملة والسحا والمراوح والمقدام ومندوب والضرير ذكره السهيلي في أفراسه ( صلى الله عليه وسلم ) . فهذه خمسة عشر فرساً مختلف فيها ، وقد بسط الكلام عليها الحافظ الدمياطي وغيره .
الأمثال : قال ( صلى الله عليه وسلم ) : " بعثت أنا والساعة كفرسي رهان ، كادت تسبق إحدهما الأخرى بأذنها " . وقالوا : هما كفرسي رهان يضرب للاثنين يستويان في الشيء ، وهذا التشبيه يقع في الابتداء لا في الانتهاء ، لأن النهاية تجلى عن سبق أحدهما لا محالة . وقالوا : أبصر من فرس وأطوع وأشد . وقالوا : فلان كالأشقر إن تقدم نخر وإن تأخر عقر . لأن العرب تتشاءم من الأفراس بالأشقر .
تتمة : ذكر في الإحياء ، في الباب الثالث من كتاب أحكام الكسب ، روي عن بعض الغزاة في سبيل الله ، قال : حملت على فرسي لأقتل علجاً فقصر بي فرسي فرجعت ، ثم دنا مني العلج فحملت ثانية فقصر بي فرسي ، ثم حملت الثالثة فقصر بي فرسي ، وكنت لا أعتاد منه ذلك فرجعت حزيناً ، وجلست منكس الرأس منكسر القلب ، لما فاتني من العلج ، وما ظهر لي من خلق الفرس ، فوضعت رأسي على عمود الفسطاط ، وفرسي قائم فرأيت في المنام كأن الفرس يخاطبني ، ويقول لي : بالله عليك أردت أن تأخذ العلج على ثلاث مرات ، وأنت بالأمس اشتريت لي علفاً ، ودفعت في ثمنه درهماً زائفاً لا يكون هذا أبداً . فانتبهت فزعاً وذهبت إلى العلاف وأبدلت له ذلك الدرهم .
تتمة أخرى : روى ابن بشكوال ، في كتاب المستغيثين بالله عز وجل ، عن عبد الله بن المبارك المجمع على دينه وعلمه وورعه ، أنه قال : خرجت إلى الجهاد ومعي فرس فبينما أنا في بعض الطريق إذ صرع الفرس ، فمر بي رجل حسن الوجه طيب الرائحة ، فقال : أتحب أن تركب فرسك . قلت : نعم . فوضع يده على جبهة الفرس حتى انتهى إلى مؤخره ، وقال : أقسمت عليك أيتها العلة بعزة عزة الله وبعظمة عظمة الله وبجلال جلال الله وبقدرة قدرة الله وبسلطان سلطان الله وبلا إله إلا الله وبما جرى به القلم من عند الله وبلا حول ولا قوة إلا بالله إلا انصرفت . قال : فانتفض الفرس وقام ، فأخذ الرجل بركابي وقال : اركب فركبت ولحقت بأصحابي ، فلما كان من غداة غد وظهرنا على العدو فإذا هو بين أيدينا ، فقلت : ألست صاحبي بالأمس ؟ قال : بلى . فقلت : سألتك بالله من أنت ؟ فوثب قائماً فاهتزت الأرض تحته خضراء ، فإذا هو الخضر عليه السلام . قال ابن المبارك رضي الله تعالى عنه : فما قلت هذه الكلمات على عليل إلا شفي بإذن الله تعالى .
الخواص : إذا علقت سن الفرس العربي على صبي سهل طلوع أسنانه بلا ألم ، وإن وضعت سنه تحت رأس من يغط في النوم انقطع غطيطه ، ولحمه يطرد الرياح ، وعرقه يطلى به عانة الصبي وإبطه فلا ينبت فيهما شعر ، وهو سم قاتل للسباع والثعابين جميعاً ، وإذا أخذت شعرة من(2/298)
"""""" صفحة رقم 299 """"""
ذنب الفرس ، وجعلت على باب بيت ممدودة ، لم يدخل ذلك البيت بق ما دامت الشعرة كذلك ، وإن شربت امرأة دم برذون لم تحبل أبداً . ورماد حافر الفرس إذا خلط بزيت ، وجعل على الخنازير أبرأها ، وإذا سقيت امرأة لبن فرس ، وهي لا تعلم أنه لبن فرس ، وجامعها زوجها من ساعتها ، حملت منه بإذن الله تعالى ، وإن شربته بالعسل صارت مجامعتها لذيذة ، وإذا سحق بصل الفأر ومسح به أسنان الفرس الحرون لان وذهبت صعوبته ، وزبل الفرس إذا جفف وسحق وذر على الجراحات قطع دمها ، وإن كحل به البياض العارض في العين أزاله وإن دخن به أخرج الولد من البطن .
فصل في صبغ البراذين : قال صاحب عين الخواص : إذا سخن الماء تسخيناً شديداً بحيث يذهب الشعر ، وصب على البرذون فإنه يحلق شعره ذلك ، وينبت له شعر مخالف لما ذهب عنه من اللون . قال : ومما يصير الأشهب أدهم أن يؤخذ مردارسنج وعفص وزنجار ونورة وزاج الأساكفة وطين خوري بالسوية ، يدق الجميع ويعجن بماء حار ويصبغ به الفرس البرذون ويترك يوماً وليلة ، ثم يغسل من الغد ، فيصير أدهم . وإن طلي بعض جسده بذلك وترك بعضه كان أبلق ، ومما يصير به الأدهم أبرش الحرض إذا طبخ مع ورق الدفلى ، وصفي ماؤه ثم طبخ أيضاً مع القلى ومخ جوز سائل ثم يغسل به البراذين فتصير شهباء . ومما يصير الأشهب أدهم أيضاً ، أن يؤخذ قشور الجوز الرطب وتطبخ مع الآس ، ووسخ الحديد ثم يغسل به البرذون غسلا نقياً ويطلى بذلك فيصير أدهم ، ويبقى سواده ستة أشهر والله أعلم .
التعبير : الفرس في الرؤيا تعبر بالحامل بولد ذكر فارس ، وتعبر برجل وتجارة وشريك وامرأة ، فمن رأى فرساً مات في يده فذلك موت من ينسب إليه الفرس من الولد أو المرأة أو الشريك ، والفرس الأبلق في الرؤيا أمير مشهور ، وقد تقدم ذكره في باب الخاء المعجمة ، في لفظ الخيل ، والفرس الأسود والأدهم يدلان على المال ، والأصفر والمريض يدلان على المرض لمن ركب أحدهما أو كليهما ، والأشقر يدل على دين وحزن ، وقيل فتنة .
وقال ابن سيرين رحمه الله : لا أحب الأشقر لشبهه بالدم ، والأشهب يعبر برجل صاحب قلم ، كذا عبره ابن سيرين وقال : ألا تراه سواداً في بياض ؟ والكميت يدل على القوة واللهو وربما دل على الحرب والضرب ، ومن ركب فرساً وأجراه حتى عرق فإنه يركب أمراً فيه هوى نفس ، وتلف مال لمكان العرق ، والعرق أيضاً تعب ، وأما الركض فإنه ارتكاب هوى لقوله تعالى : " لا تركضوا وارجعوا إلى ما أترفتم فيه " ومن نزل عن فرسه ، ولم يكن له نية في الرجوع ، فإنه يعزل إن كان والياً .
والفرس الجموح رجل مجنون ، والحرون متهاون بطيء بطر . ومن رأى شعر ذنب فرسه كثيراً زاد ماله وأولاده ، وإن كان سلطاناً كثر جيشه ، ومن قطع ذنب فرسه فإنه لا يخلف ولداً ، وإن كان له أولاد فإنهم يموتون وإن كان سلطاناً ذهب جيشه ، وكذلك إذا كان منتوفاً تفرق الجيش الذي يتبع صاحب الفرس ، ومن ركب فرساً وكان ممن يليق به ركوب الخيل ، نال عزاً وجاهاً ومالا ،(2/299)
"""""" صفحة رقم 300 """"""
لقوله عليه الصلاة والسلام : " الخيل معقود في نواصيها الخير " . وربما صادف رجلا جواداً ، وربما سافر لأن السفر مشتق من الفرس ، فإذا كان حصاناً تحصن من عدوه ، وإن كان مهراً رزق ولداً جميلا ، وإن كان اكديشاً ربما عاش زماناً ، وإن كان برذوناً توسط حاله وعاش لا يستغني ولا يفتقر ، وإن كان الفرس حجراً تزوج إن كان أعزب امرأة ذات جمال ومال ونسل ، والأصيل شريف بالنسبة إلى غير الأصيل ، وربما علت الفرس على الدار الحسنة البناء . وقال ابن المقري : من رأى أنه ركب فرساً أشهب ، نال عزاً ونصراً على العدا ، لأنه من خيل الملائكة . والأدهم هم ، والأغر المحجل علم وورع ودين ، لقوله ( صلى الله عليه وسلم ) : " إنكم ستردون على يوم القيامة غراً محجلين من أثر الوضوء " . ومن ركب كميتاً ربما شرب خمراً لأنه من أسمائها ومن ركب فرساً لغيره ، نال منزلته أو عمل بسنته خصوصاً إن كان مركوباً معروفاً يليق به انتهى .
ومن رأى أنه يقود فرساً ، فإنه يطلب خدمة رجل شريف ، ولا خير في ركوب الفرس في غير محل الركوب كالسطح والحائط والحبس ، وربما دل الفرس الخصي على خادم واعتبر بكل مركوب ما يليق فالسرج للفرس ، والكور للجمل وكذلك المحمل والهودج والمحفة للبغال والبراح للحمير ، فمن ركب حيواناً بما لا يليق به من العدة ، تكلف أو كلف غيره ما لا يطيق ، والدابة بلا لجام ولا مقود امرأة زانية ، لأنها كيفما أرادت مشت . وكذلك الفرس العائز ، ومن رأى أنه يأكل لحم فرس نال ثناء حسناً واسماً صالحاً ، وقيل إنه مرض لصفرته ، ومن نازعه فرسه خرج عليه عبده وإن كان تاجراً خرج عليه شريكه ، ومن الرؤيا المعبرة أن رجلا أتى ابن سيرين رحمة الله تعالى عليه ، فقال : رأيت كأني راكب على فرس قوائمه من حديد ، فقال له ابن سيرين رحمه الله : توقع الموت والله تعالى أعلم .
فرس البحر : حيوان يوجد في نيل مصر ، له ناصية كناصية الفرس ، ورجلاه مشقوقتان كالبقر ، وهو أفطس الوجه ، له ذنب قصير ، يشبه ذنب الخنزير ، وصورته تشبه صورة الفرس ، إلا أن وجهه أوسع وجلده غليظ جداً وهو يصعد إلى البر ، فيرعى الزرع وربما قتل الإنسان وغيره . وحكمه : حل الأكل لأنه كالخيل المتوحشة التي تعدو في غالب أحيانها .
الخواص : إذا أحرق جلده وخلط بدقيق كرسنة ، وطلي به داء السرطان أبرأه في ثلاثة أيام . ومرارته إذا تركت في الماء ثلاثين يوماً ثم سحق واكتحل بها أربعة عشر يوماً ، أو أربعة وعشرين يوماً بعسل لم تصبه النار ، أذهبت الماء الأسود من العين . وسنة نافعة لوجع البطن ، إذا علقت على من أشرف على الموت ، من وجع المعدة من التخمة والامتلاء ، يبرأ بإذن الله تعالى . وجلده إذا دفن في وسط قرية لم يقع فيها شيء من الآفات ، وإذا أحرق وجعل على الورم أذهبه وسكن وجعه .
التعبير : الفرس البحري في الرؤيا يدل على كذب وأمر لا يتم .
فصل : والبحر في الرؤيا يعبر بملك وحبس لمن وقع فيه ، ولم يمكنه الخروج منه وبرجل عالم(2/300)
"""""" صفحة رقم 301 """"""
وكريم ، فيقال بحر علم وبحر كرم ، ويعبر بالمنيا ، فمن رأى كأنه قاعد على متن المجر أو مضطجع عليه فإنه يداخل ملكاً ويكون منه على خطر ، لأن الماء لا يؤمن من الغرق فيه ، ومن رأى أنه شرب من ماء البحر ، نال مالا من الملك فإن شربه كله ناد مال الملك كله ومن رأى البحر من بعيد ولم يخالطه فإن ذلك أمر يفوته ، ومن رأى أنه يشرب من مائه وله شريك ، فإنه يفارقه لقوله تعالى : " وإذ فرقنا بكم البحر " ، ومن رأى كأنه يمشي في البحر ، وفي طريق يابس ، فإنه يأمن من الخوف لقوله تعالى : " فاضرب لهم طريقاً في البحر يبساً لا تخاف دركاً ولا تخشى " . ومن رأى أنه غاص في البحر ، ليخرج شيئاً من الدر ، فإنه يدخل في غامض العلم ، ومن قطع البحر سبحاً إلى الجانب الآخر ، فإنه ينجو من هول وغم ، ومن سبح في البحر في زمن الشتاء ، ناله هم من قبل ملك أو أصابه مرض أو يحبس أو يناله وجع من الرياح ، وإذا دخل البحر إلى درب الناس ، وبل القماش أو أكل وحشه طعام الناس ، فإن الملك يظلم أهل تلك الناحية . وربما دل على طول الشقاء في تلك السنة ، لا سيما إذا كان مضطرباً كثير الموج فإنه يدل على مضار كثيرة . والبحيرة في الرؤيا تدل على القضاة والولاة والموالي الذين يفعلون الأشياء بالأمر ، والبحيرة الصغيرة تدل على امرأة غنية ، والبحر إذا كان هادئاً دل على البطالة ، والبحيرة للمسافر تدل على تعذر السفر .
تتمة : وأما النهر في الرؤيا فإنه يدل على رجل جليل ، فمن دخل في نهر فإنه يخالط رجلا من الأكابر ، ولا يحمد الشرب من النهر ، وقيل : إنه يدل على سفر لمن دخله لأن ماءه منتقل مسافر ، ومن رأى أنه وثب من النهر إلى الجانب الآخر ، فإنه ينجو من هم وينصر على عدوه ، والدخول في النهر دخول في عمل السلطان ، وإذا جرى الماء في الأسواق ، والناس يتوضؤون منه وينتفعون به ، فذلك عدل من سلطان ، فإن جرى فوق الأسطحة وبل قماش الناس في دورهم ، فذلك جور من السلطان أو عدو يطغى على الناس ، ومن رأى نهراً خرج من داره ولم يضر أحداً ، فإنه معروف منه يصل إلى الناس ، ومن رأى أنه صار نهراً فإنه يموت بنزف الدم . فصل : وأما رؤية عين الماء ، فإنها كرامة ونعمة وبلوغ أمنية إذا كان الرائي مستوراً ، ومن رأى كأن عيناً نبعت من داره ، دل على مشتري جارية ، فإن خرجت من الدار إلى ظاهرها فإنه مال قد ذهب ، والماء الراكد في الدار هم باق فإن كان صافياً فهم مع صحة جسم ، ولا يكره من العيون إلا ما ركد ماؤه ولم يجر ، ومن شرب من ماء عين أصابه هم ، فإن كان بارداً فلا بأس به والله تعالى أعلم .
الفرش : صغار الإبل ، وقيل : هو من الإبل والبقر والغنم ما لا يصلح إلا للذبح ومنه قوله تعالى : " حمولة وفرشاً " قدم الحمولة على الفرش ، لأنها أعظم في الانتفاع إذ ينتفع بها في الأكل والحمل . قال الفراء : ولم أسمع للفرش بجمع . قال : ويحتمل أن يكون مصدراً سمي به من قولهم فرشها الله تعالى ، فرشاً أي بثها بثاً .(2/301)
"""""" صفحة رقم 302 """"""
الفرانق : بضم الفاء الببر البريد وهو الذي ينذر بالأسد ، وقد تقدم في باب الباء الموحدة .
الفرفر : كهدهد طير من طيور الماء صغير الجثة على قدر الحمام .
الفرفور : كعصفور طائر ، قاله الجوهري ولعله الذي قبله .
الفرع : بفتح الفاء والراء المهملة وبالعين المهملة في آخره أول نتاج البهيمة . ثبت في الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه ، أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال : " لا فرع ولا عتيرة " . وذلك أنهم كانوا يذبحونه ولا يأكلونه رجاء البركة في الأم وكثرة نسلها . والعتيرة بفتح العين المهملة ذبيحة كانوا يذبحونها في اليوم الأول من شهر رجب ويسمونها الرجبية .
الحكم : في كراهتهما وجهان الصحيح الذي نص عليه الشافعي واقتضته الأحاديث ، أنهما لا يكرهان بل يستحبان . وروى أبو داود بإسناد حسن أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) " نهى عن معاقرة الأعراب " . وهي مفاخرتهم فإنهم كانوا يتفاخرون بأن يعقر كل واحد منهم عمداً من إبله فأيهم كان عقره أكثر كان غالباً ، فكره النبي ( صلى الله عليه وسلم ) لحمها لئلا يكون مما أهل به لغير الله تعالى .
وروى أبو داود أيضاً أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) " نهى عن طعام المتبارين " .
فائدة : حكى الإمام العلامة أبو الفرج الأصبهاني وغيره ، أن الفرزدق الشاعر المشهور ، واسمه همام بن غالب كما تقدم ، كان أبوه غالب رئيس قومه ، وأن أهل الكوفة أصابتهم مجاعة فعقر غالب أبو الفرزدق المذكور لأهله ناقة وصنع منها طعاماً ، وأهدى إلى قوم من بني تميم جفاناً من ثريد ، ووجه جفنة منها إلى سحيم بن وثيل الرياحي رئيس قومه وهو القائل :
أنا ابن جلا وطلاع الثنايا . . . متى أضع العمامة تعرفوني
وقد تمثل بذلك الحجاج في خطبته يوم قدم الكوفة أميراً ، فكفأها سحيم وضرب الذي أتى بها وقال : أنا مفتقر إلى طعام غالب إذ نحر هو ناقة نحرت أنا أخرى ، فوقعت المعاقرة بينهما فعقر سحيم لأهله ناقة ، فلما كان من الغد عقر لهم غالب ناقتين ، فعقر سحيم لأهله ناقتين ، فلما كان اليوم الثالث عقر غالب لأهله ثلاثاً ، فعقر سحيم لأهله ثلاثاً ، فلما كان اليوم الرابع عقر غالب مائة ناقة فلم يكن عند سحيم هذا القدر فلم يعقر شيئاً ، وأسرها في نفسه . فلما انقضت المجاعة ودخل الناس الكوفة ، قال بنو رياح لسحيم : جررت علينا عار الدهر : هلا نحرت مثل ما نحر غالب ، وكنا نعطيك مكان كل ناقة ناقتين ، فاعتذر بأن إبله كانت غائبة . ثم عقر ثلاثمائة ناقة وقال للناس : شأنكم والأكل وكان ذلك في خلافة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب كرم الله وجهه ورضي عنه ، فاستفتي في حل الأكل منها فقضى بحرمتها . وقال : هذه ذبحت لغير مأكلة ولم يكن(2/302)
"""""" صفحة رقم 303 """"""
المقصود منها إلا المفاخرة والمباهاة فألقيت لحومها على كناسة الكوفة . فأكلها الكلاب والعقبان والرخم .
الفرعل : كقنفذ ولد الضبع والجمع الفراعل . روى البيهقي عند عبد الله بن زيد قال : سألت أبا هريرة رضي الله تعالى عنه ، عن ولد الضبع ، فقال : ذاك الفرعل فيه نعجة من الغنم قال أبو عبيد : الفرعل عند العرب ولد الضبع والذي يراد من هذا الحديث قوله نعجة من الغنم يعني أنها حلال بمنزلة الغنم . قال الكميت :
وتسمع أصوات الفراعل حوله . . . يعاوين أولاد الذئاب الهقالسا
يعني حول الماء الذي وردوه . الأمثال : قالوا : أغزل من فرعل وهو من الغزل والمراودة . وقال الميداني : هو من الغزل بمعنى الخرق ، يقال : غزل الكلب إذا تبع الغزال ، فإذا أدركه ثغا الغزال في وجهه ففتر ودهش . ولعل الفرعل يفعل ذلك إذا تبع صيده . فقالوا : أغزل من فرعل انتهى .
وقال ابن هشام : إن عكرمة بن أبي جهل ، ألقى رمحه يوم الخندق وانهزم ، فقال فيه حسان بن ثابت رضي الله تعالى عنه :
وفر وألقى لنا رمحه . . . لعلك عكرم لم تفعل
ووليت تعدو كعدو الظلي . . . م ما أن يجوز عن المعدل
ولم تبق ظهرك مستأنساً . . . كان قفاك قفا فرعل
الفرقذ : ولد البقرة وأبو فرقد كنية الثور الوحشي .
الفرنب : بكسر الفاء قال ابن سيده : هو الفأر وقيل ولد الفأر من اليربوع .
الفرهود : كجلمود . ولد السبع وقيل : ولد الوعل ويقال أيضاً للغلام الغليظ وصرفوه . فقالوا تفرهد إذا سمن .
الفروج : الفتي من الدجاج والضم فيها لغة حكاها اللحياني والجمع الفراريج . أنشد الجوهري عن الأصمعي :
أقبلن من بئر ومن سواج . . . والقوم قد ملوا من الإدلاج
يمشون أفواجاً على أفواج . . . مشي الفراريج مع الدجاج
وحكمه وخواصه : كالدجاج .
وأما تعبيره : فالفراريج في الرؤيا هي أولاد السبي ، لأن الدجاج جوار ومن سمع أصوات(2/303)
"""""" صفحة رقم 304 """"""
الفراريج ، فإنه يسمع كلام قوم فسقة ، ومن أكل لحم الفراريج ، أكل مالا من رجل كريم . والفراريج تدل على أمر يتألف عاجلا بلا تعب ، لأن الفراريج لا تحتاج إلى كلفة التربية ، والله تعالى أعلم .
الفرير والفرار : ولد النعجة والماعزة والبقرة ، ويقال : هو من أولاد المعز ما صغر جسمه . وقيل : الفرير واحد والفرار جمع قاله ابن سيده .
فسافس : كخنافس حيوان كالقراد شديد النتن ، قاله ابن سينا . وقال القزويني : يشبه أن يكون البق ، إذا سحقت وجعلت في ثقبة الإحليل نفعت من عسر البول . وقد تقدم في باب الباء الإشارة إلى هذا .
الفصيل : ولد الناقة إذا فصل عن رضاع أمه ، وهو فعيل بمعنى مفعول كجريح وقتيل بمعنى مجروح ومقتول ، والجمع فصلان بضم الفاء وفصال بكسرها . روى الإمام أحمد ومسلم عن زيد بن أرقم رضي الله تعالى عنه ، قال : خرج النبي ( صلى الله عليه وسلم ) على أهل قباء وهم يصلون الضحى ، فقال ( صلى الله عليه وسلم ) : " صلاة الأوابين إذا رمضت الفصال " . وهو أن تحمى الرمضاء ، وهو الرمل ، فتبرك الفصال من شدة حرها وإحراقها أخفافها . وروى الإمام أحمد أيضاً وأبو داود من حديث دكين بن سعيد الخثعمي قال : أتينا رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ، ونحن أربعون وأربعمائة راكب نسأله الطعام فقال عليه الصلاة والسلام : " يا عمر اذهب فأطعمهم " . فقام عمر وقمنا معه فصعد بنا إلى غرفة فأخرج المفتاح ففتح الباب ، فإذا في الغرفة من التمر شبه الفصيل الرابض ، فقال : شأنكم فأخذ كل منا ما شاء من ذلك التمر ، ثم التفت وإني لمن آخرهم فكأنما لم نرزأ منه تمره . وقال ابن عطية ، في تفسير سورة الفلق : حدثني ثقة أنه رأى عند بعضهم خيطاً أحمر ، وقد عقدت فيه عقد على فصلان فمنعت بذلك رضاع أمهاتها ، فكان إذا حل عقدة جرى ذلك الفصيل إلى أمه في الحين فرضع .
فرع : دخل فصيل رجل في بيت رجل ، ولم يمكن إخراجه إلا بنقض البناء ، فإن كان بتفريط صاحب البيت ، بأن غصبه وأدخله نقض ، ولم يغرم صاحب الفصيل شيئاً ، وإن كان بتفريط صاحب الفصيل ، نقض البناء ولزمه أرش النقض ، وإن دخل بنفسه نقض أيضاً ، ولزم صاحب الفصيل أرش النقض على المذهب ، وبه قطع العراقيون ، وقيل : وجهان ثانيهما لا أرش عليه .
الأمثال : قالوا : أتخم من فصيل لأنه يرضع أكثر مما يطيق ، ثم يتخم ، وقالوا : كفضل ابن المخاض على الفصيل . أي الذي بينهما من الفضل قليل يضرب للمتقاربين في رجوليتهما . وقالوا : استنت الفصال حتى القرعى . يضرب للذي يتكلم ، مع الذي لا ينبغي له أن يتكلم بين يديه ، لجلالة قدره ، والقرعى : جمع قريع كمريض ومرضى ، وهو الذي به قرع بالتحريك ، وهو بثر أبيض يطلع في الفصال ، ودواؤه الملح وحباب ألبان الإبل والله تعالى أعلم .(2/304)
"""""" صفحة رقم 305 """"""
التعبير : الفصيل في المنام ولد شريف ، وكل صغير من الحيوان إذا مسه الإنسان فهو هم والله تعالى أعلم . الفلحس : كجعفر : الدب والكلب المسن ، وفلحس رجل من رؤساء بني شيبان ، كان إذا أعطي سهمه من الغنيمة ، سأل سهماً لامرأته ، وسهماً لناقته ، فقيل : اسأل من فلحس الفلو : والفلو بضم الفاء وفتحها وكسرها المهر الصغير ، والجمع أفلاء . قال سيبويه : لم يكسروه على فعل كراهة الإخلال ، ولا كسروه على فعلان كراهة الكسرة قبل الواو ، وإن كان بينهما حاجز ، لأن الساكن ليس بحاجز حصين . قاله ابن سيده ، وقال الجوهري : الفلو بتشديد الواو المهر لأنه يفتلي عن أمه أي يفطم . وقد قالوا للأنثى : فلوة ، كما قالوا عدو وعدوة والجمع أفلاء مثل عدو وأعداء وفلاوى ، مثل خطايا . وأصله فعائل . وقال أبو زيد : إذا فتحت الفاء شددت الواو ، وإذا كسرت خففت . فقلت : فلو مثال جرو ، وفلوته عن أمه وافتليته إذا فطمته ، وفرس مفل ومفلية ذات فلو .
وفي الصحيحين وغيرهما عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه ، أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال : " ما تصدق أحد بصدقة من كسب طيب ، إلا أخذه الرحمن بيمينه ، وإن كان تمرة فيربيها كما يربي أحدكم فلوه أو قلوصه ، حتى تكون مثل الجبل أو أعظم " . وفي رواية " فتربو في كف الرحمن حتى تكون أعظم من الجبل " . قال الماوردي وغيره : هذا الحديث وشبهه إنما عبر به النبي ( صلى الله عليه وسلم ) على ما اعتاده في خطابهم ليفهموا ، فكنى هنا عن قبول الصدقة بأخذها بالكف ، وعن تضعيف أجرها بالتربية . قال القاضي عياض : لما كان الشيء الذي يرتضى ويعز يتلقى باليمين ويؤخذ بها استعمل في مثل هذا ، واستعير للقبول والرضا إذ الشمال بضد ذلك في هذا . قال : وقيل : المراد بكف الرحمن هنا وبيمينه كف الذي يدفع إليه الصدقة ويمينه ، واضافتها إلى الله تعالى إضافة ملك واختصاص ، لتوضع هذه الصدف فيها لله عز وجل . قال : وقد قيل في تربيتها وتعظيمها حتى تكون أعظم من الجبل ، أن المراد بذلك تعظيم ذاتها ويبارك الله تعالى فيها ، ويزيدها من فضله حتى تثقل في الميزان . وهذا الحديث نحو قوله تعالى : " يمحق الله الربا ويرب الصدقات " وفي سنن أبي داود ، من حديث الزبير بن العوام أنه حمل على فرس يقال له غمر أو غمرة ، فرأى مهراً أو مهرة من أفلائها تباع تنسب إلى فرسه فنهي عنها ، أي نهي عن ابتياعها ، وعن إدخالها في ملكه ، بعد أن تصدق بها والله تعالى أعلم .
الفناة : البقرة والجمع فنوات .
الفنك : كالعسل دويبة يؤخذ منها الفرو ، قال ابن البيطار : إنه أطيب من جميع الفراء يجلب كثيراً من بلاد الصقالبة ، ويشبه أن يكون في لحمه حلاوة ، وهو أبرد من السمور ، وأعدل وأحر من السنجاب يصلح لأصحاب الأمزجة المعتدلة .(2/305)
"""""" صفحة رقم 306 """"""
وحكمه : الحل ، لأنه من الطيبات ، ونقل الإمام أبو عمر بن عبد البر في التمهيد ، عن أبي يوسف أنه قال في الفنك والسنجاب والسمور : كل ذلك سبع مثل الثعلب وابن عرس .
الفنيق : الفحل الكريم من الإبل الذي لا يركب ولا يهان لكرامته عليهم ، وجمعه فنق وأفناق ، ومنه حديث الحجاج لما حاصر ابن الزبير بمكة ، ونصب المنجنيق عليها ، وقال : خطاؤه كالجمل الفنيق .
الفهد : واحد الفهود ، وفهد الرجل أشبه الفهد في كثرة نومه وتمرده ، وفي حديث أم زرع : " إن دخل فهد . وزعم أرسطو أنه يتولد بين نمر وأسد ، ومزاجه كمزاج النمر ، وفي طبعه مشابهة لطبع الكلب في أدوائه ودوائه . ويقال : إن الفهدة إذا أثقلت بالحمل حن عليها كل ذكر يراها من الفهود ، ويواسيها من صيده ، فإذا أرادت الولادة هربت إلى موضع قد أعدته لذلك . ويضرب بالفهد المثل في كثرة النوم ، وهو ثقيل الجثة يحطم ظهر الحيوان في ركوبه . ومن خلقه الغضب ، وذلك أنه إذا وثب على فريسة لا يتنفس حتى ينالها ، فيحمى نذلك وتمتلئ رئته من الهواء الذي حبسه فإذا أخطأ صيده رجع مغضباً وربما قتل سائسه .
قال ابن الجوزي : إن الفهد يصاد بالصوت الحسن قال : ومتى وثب على الصيد ثلاث مرات ، ولم يدركه غضب . ومن خلقه أنه يأنس لمن يحسن إليه . وكبار الفهود أقبل للتأديب من صغارها ، وأول من اصطاد به كليب بن وائل ، وأول من حمله على الخيل يزيد بن معاوية بن أبي سفيان ، وأكثر من اشتهر باللعب بها أبو مسلم الخراساني . فائدة : سئل الكيا الهراسي الفقيه الشافعي عن يزيد بن معاوية هل هو من الصحابة أم لا وهل يجوز لعنه أم لا ؟ فأجاب أنه لم يكن من الصحابة لأنه ولد في أيام عثمان رضي الله تعالى عنه ، وأما قول السلف ففيه لكل واحد من أبي حنيفة ومالك وأحمد قولان : تصريح وتلويح . ولنا قول واحد : التصريح دون التلويح ، وكيف لا يكون كذلك وهو المتصيد بالفهد واللاعب بالنرد ومدمن الخمر ؟ ومن شعره في الخمر قوله :
أقول لصحب ضمت الكأس شملهم . . . وداعي صبابات الهوى يترنم
خذوا بنصيب من نعيم ولذة . . . فكل وإن طال المدى يتصرم
وكتب فصلاً طويلاً أضربنا عن ذكره ثم قلب الورقة وكتب : ولو مددت ببياض لأطلقت العنان وبسطت الكلام في مخازي هذا الرجل . وقد أفتى الغزالي في هذه المسألة بخلاف ذلك ، فإنه سئل عمن يصرح بلعن يزيد بن معاوية هل يحكم بفسقه أم يكون ذلك مرخصاً فيه ؟ وهل كان يريد قتل الحسين ، أم كان قصده الدفع ؟ وهل يسوغ الترحم عليه أم السكوت عنه أفضل ؟ فأجاب : لا يجوز لعن المسلم أصلاً ومن لعن المسلم فهو المعلون ، وقد قال عليه الصلاة والسلام : " المسلم ليس بلعان " . وكيف يجوز لعن المسلم وقد ورد النهي عن ذلك ؟ وحرمة المسلم أعظم من حرمة الكعبة ، بنص من النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ، ويزيد صح إسلامه وما صح قتله للحسين رضي الله تعالى عنه ولا(2/306)
"""""" صفحة رقم 307 """"""
أمره ولا رضاه بذلك ، ومهما لم يصح ذلك عنه لم يجز أن يظن ذلك به فإن إساءة الظن أيضاً بالمسلم حرام . قال الله تعالى : " يا أيها الذين آمنوا اجتنبوا كثيراً من الظن إن بعض الظن إثم " وقال ( صلى الله عليه وسلم ) : " إن الله حرم من المسلم دمه وماله وعرضه وأن يظن به ظن السوء " . ومن أراد أن يعلم حقيقة من الذي أمر بقتله لم يقدر على ذلك ، وإذا لم يعلم وجب إحسان الظن بكل مسلم يمكن إحسان الظن به . ومع هذا لو ثبت على مسلم أنه قتل مسلماً ، فمذهب أهل الحق أنه ليس بكافر ، والقتل ليس بكفر بل هو معصية ، وإذا مات القاتل ، فربما مات بعد التوية ، والكافر لو تاب من كفره لم يجز لعنه ، فكيف من تاب من قتل . ولم يعرف أن قاتل الحسين مات قبل التوبة وهو الذي يقبل التوبة عن عباده ، فإذا لا يجوز لعن أحد ممن مات من المسلمين ، ومن لعنه كان فاسقاً عاصياً لله عز وجل ، ولو جاز لعنه فسكت لم يكن عاصياً بالإجماع ، بل لو لم يلعن إبليس طول عمره لا يقال له في القيامة : لم لم تلعن إبليس ؟ ويقال للاعن : لم لعنت ومن أين عرفت أنه ملعون ؟ والملعون هو المبعد من الله عز وجل ، وذلك لا يعرف إلا فيمن مات كافراً فإن ذلك علم بالشرع ، وأما الترحم عليه فجائز بل مستحب ، بل داخل في قولنا : اللهم اغفر للمؤمنين والمؤمنات فإنه كان مؤمناً .
والكيا الهراسي هو أبو الحسن عماد الدين علي بن محمد الطبري ، كان من رؤوس معيدي إمام الحرمين وثاني الغزالي ، وتوفي في المحرم سنة أربع وخمسمائة ببغداد ، وحضر دفنه الشريف أبو طالب الزينبي وقاضي القضاة أبو الحسن بن الدامغاني مقدماً الطائفة الحنفية ، وكان بينهما وبينه في حال الحياة منافسة ، فوقف أحدهما عند رأسه والآخر عند رجليه فقال ابن الدامغاني :
وما تغني النوادب والبواكي . . . وقد أصبحت مثل حديث أمس
وأنشد الزينبي :
عقم النساء فلا يلدن شبيهه . . . إن النساء بمثله عقم
وقد تقدم في باب الحاء المهملة ، في الحمام ذكر شيء من مناقب الإمام الغزالي ووفاته رحمه الله تعالى .
وذكر ابن خلكان أن الرشيد خرج مرة إلى الصيد ، فانتهى به الطرد إلى موضع قبر علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه الآن ، فأرسل فهوداً على صيد فتبعت الصيد إلى موضع قبره ، ووقفت الفهود عند موضع القبر الآن ، ولم تتقدم على الصيد ، فتعجب الرشيد من ذلك فجاءه رجل من أهل الخبرة وقال : يا أمير المؤمنين أرأيتك إن دللتك على قبر ابن عمك علي بن أبي طالب ما لي عندك ؟ قال : أتم مكرمة . قال : هذا قبره . فقال له الرشيد : من أين علمت بذلك . قال : كنت أجيء مع أبي فيزور قبره ، وأخبرني أنه كان يجيء مع جعفر الصادق رضي الله تعالى عنه فيزوره ، وأن جعفراً كان يجيء مع أبيه محمد الباقر فيزوره ، وأن محمداً كان يجيء مع أبيه علي زين(2/307)
"""""" صفحة رقم 308 """"""
العابدين فيزوره ، وأن علياً كان يجيء مع أبيه الحسين فيزوره ، وكان الحسين أعلمهم بمكان القبر . فأمر الرشيد أن يحجر الموضع ، فكان أول أساس وضع فيه ، ثم تزايدت الأبنية فيه ، في أيام السامانية ، وبني حمدان وتفاقم في أيام الديلم أي أيام بني بويه . قال : وعضد الدولة هو الذي أظهر قبر علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه وعمر المشهد هناك وأوصى أن يدفن فيه ، وللناس في هذا القبر اختلاف متباين حتى قيل إنه قبر المغيرة بن شعبة الثقفي رضي الله تعالى عنه . وأصح ما قيل إنه مدفون بقصر الإمارة بالكوفة انتهى .
قلت : وعلي رضي الله تعالى عنه لا يعرف قبره على الحقيقة .
وعضد الدولة اسمه فناخسر وأبو شجاع بن ركن الدولة أبي علي الحسن بن بويه الديلمي .
وكان عضد الدولة أعظم بني بويه مملكة دانت له العباد والبلاد ، وأطاعه كل صعب القياد ، وهو أول من خوطب بالملك في الإسلام كما تقدم ، وأول من خطب له على المنابر ببغداد بعد الخليفة ، ويلقب بتاج الملة أيضاً وكان محباً للعلوم وأهلها ، وكان يحسن إليهم ويجلس معهم ، ويفاوضهم في المسائل ، فقصده العلماء والشعراء من كل بلد ، وصنفوا له الكتب وامتدحوه وقد تقدم ذكر وفاته في باب الهمزة في لفظ الأوز .
الحكم : يحرم أكله لأنه ذو ناب فأشبه الأسد لكنه يجوز بيعه للصيد به ولا خلاف في جواز إجارته .
الأمثال : قالوا : أثقل رأساً من الفهد وأنوم من فهد ، وأوثب من فهد ، وأكسب من فهد وذلك أن الفهود الهرمة التي تعجز عن الصيد لأنفسها تجتمع على فهد فتي ، فيصيد لها في كل يوم شبعها .
الخواص : أكل لحمه يورث حدة الذهن وقوة البدن ، ومن سقي من دمه غلبت عليه البلاهة ، وبرثنه إذا ترك في موضع هرب منه الفأر . وقال صاحب عين الخواص : قرأت في بعض الكتب ، أن بول الفهد إذا تحملت به امرأة لم تحبل ، وربما تصير عاقراً .
التعبير : الفهد في المنام عدو مذبذب ، لا يظهر العداوة ولا الصداقة ، فمن نازعه نازع إنساناً كذلك . وقال ابن المقري : إن رؤيته تدل على العز والرفعة والدلال مع الصخب والعياط ، وربما دل على ما يدل عليه الجارح من الوحش والله تعالى أعلم .
الفور : بالضم الظباء وهو جمع لا واحد له من لفظه ، يقال : لا أفعل كذا ما لألأت بأذنابها ، أي حركتها ، ويروى ما لألأت العفر بأذنابها وهي الظباء أيضاً .
الفولع : طائر أحمر الرجلين كأن رأسه شيب مصبوغ ، ومنها ما يكون أسود الرأس وسائر خلقه أغبر حكاه ابن سيده .(2/308)
"""""" صفحة رقم 309 """"""
الفيصور : كقيطون الحمار النشيط .
الفويسقة : الفأرة روى البخاري وأبو داود والترمذي ، عن جابر بن عبد الله رضي الله تعالى عنه أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال : " خمروا الآنية ، وأوكئوا الأسقية ، وأجيفوا الأبواب ، وكفوا صبيانكم ، فإن للجن سيارة خطفة وأطفئوا المصابيح عند الرقاد ، فإن الفويسقة ربما أخذت الفتيلة وأحرقت أهل البيت " . قيل : سميت فويسقة لخروجها عن الناس ، واغتيالها إياهم في أموالهم بالفساد ، وأصل الفسق الخروج ، ومن هذا سمي الخارج عن الطاعة فاسقاً . يقال فسقت الرطبة عن قشرها إذا خرجت عنه .
الفياد : كصياد ، ذكر البوم ويقال الصدى .
الفيل : معروف وجمعه أفيال وفيول وفيلة ، قال ابن السكيت : ولا تقل أفيلة ، وصاحبه فيال . قال سيبويه : يجوز أن يكون أصل فيل فعل ، فكسر من أجل الياء كما قالوا : أبيض وبيض وكنيته أبو الحجاج وأبو الحرمان وأبو غفل وأبو كلثوم وأبو مزاحم ، والفيلة أم شبل . وفي ربيع الأبرار كنية فيل أبرهة ملك الحبشة أبو العباس واسمه محمود ، وقد ألغز بعضهم في اسمه فقال :
ما اسم شيء تركيبه من ثلاث . . . وهو ذو أربع تعالى الإله
قيل تصحيفه ولكن إذا ما . . . عكسوه يصير لي ثلثاه والفيلة ضربان : فيل وزندبيل ، وهما كالبخاتي والعراب والجواميس والبقر والخيل والبراذين والجرذ والفأر والنمل والذر ، وبعضهم يقول : الفيل الذكر ، والزندبيل الأنثى ، وهذا النوع لا يلاقح إلا في بلاده ومعادنه ومغارس أعراقه ، وإن صار أهلياً . وهو إذا اغتلم أشبه الجمل في ترك الماء والعلف حتى يتورم رأسه ، ولم يكن لسواسه إلا الهرب منه ، وربما جهل جهلاً شديداً ، والذكر ينزو إذا مضى له من العمر خمس سنين ، وزمان نزوه الربيع ، والأنثى تحمل سنتين ، وإذا حملت لا يقربها الذكر ولا يمسها ولا ينزو عليها إذا وضعت إلا بعد ثلاث سنين .
وقال عبد اللطيف البغدادي : إنها تحمل سبع سنين ولا ينزو إلا على فيلة واحدة ، وله عليها غيرة شديدة ، فإذا تم حملها وأرادت الوضع دخلت النهر حتى تضع ولدها ، لأنها لا تلد إلا وهي قائمة ، ولا فواصل لقوائمها فتلد ، والذكر عند ذلك يحرسها وولدها من الحيات . ويقال : إن الفيل يحقد كالجمل ، فربما قتل سائسه حقداً عليه ، وتزعم الهند أن لسان الفيل مقلوب ولولا ذلك لتكلم . ويعظم ناباه وربما بلغ الواحد منهما مائة من ، وخرطومه من غضروف وهو أنفه ويده التي يوصل بها الطعام والشراب إلى فيه ، ويقاتل بها ويصيح ، وليس صياحه على مقدار جثته لأنه كصياح الصبي ، وله فيه من القوة بحيث يقلع به الشجرة من منابتها ، وفيه من الفهم ما يقبل به التأديب ويفعل ما يأمره به سائسه ، من السجود للملوك وغير ذلك من الخير والشر ، في حالتي السلم والحرب وفيه من الأخلاق أن يقاتل بعضه بعضاً ، والمقهور منهما يخضع للقاهر ، والهند تعظمه لما اشتمل عليه من الخصال المحمودة ، من علو سمكه وعظم صورته ، وبديع منظره ،(2/309)
"""""" صفحة رقم 310 """"""
وطول خرطومه ، وسعة أذنيه ، وثقل حمله ، وخفة وطئه ، فإنه ربما مر بالإنسان فلا يشعر به لحسن خطوه واستقامته . ويطول عمره ، فقد حكى أرسطو أن فيلاً ظهر أن عمره أربعمائة سنة ، واعتبر ذلك بالوسم . وبينه وبين السنور عداوة طبيعية ، حتى إن الفيل يهرب منه ، كما أن السبع يهرب من الديك الأبيض ، وكما أن العقرب متى أبصرت الوزغة ماتت .
وذكر القزويني أن فرج الفيلة تحت إبطها ، فإذا كان وقت الضراب ، ارتفع وبرز للفحل ، حتى يتمكن من إتيانها ، فسبحان من لا يعجزه شيء .
وفي الحلية ، في ترجمة أبي عبد الله القلانسي ، أنه ركب البحر في بعض سياحاته ، فعصفت عليهم الريح ، فتفرع أهل السفينة إلى الله تعالى ونذروا النذور ، إن نجاهم الله تعالى ، وألحوا على أبي عبد الله في النذر ، فأجرى الله على لسانه أن قال : إن خلصني الله تعالى مما أنا فيه ، لا آكل لحم الفيل . فانكسرت السفينة وأنجاه الله تعالى وجماعة من أهلها إلى الساحل . فأقاموا به أياماً من غير زاد ، فبينما هم كذلك ، إذا هم بفيل صغير فذبحوه وأكلوا لحمه ، سوى أبي عبد الله ، فلم يأكل منه وفاء بالعهد الذي كان منه . قال : فلما نام القوم ، جاءت أم ذلك الذيل تتبع أثره وتشم الرائحة ، فكل من وجدت منه رائحة لحمه داسته بيديها ورجليها إلى أن تقتله . قال : فقتلت الجميع ، ثم أتت إلي فلم تجد مني رائحة اللحم ، فأشارت إلي أن أركبها ، فركبتها فسارت بي سيراً شديداً الليل كله ، ثم أصبحت في أرض ذات حرث وزرع ، فأشارت إلى أن أنزل ، فنزلت عن ظهرها فحملني أولئك القوم إلى ملكهم ، فسألني ترجمانه ، فأخبرته بالقصة . فقال لي : إن الفيلة قد سارت بك في هذه الليلة مسيرة ثمانية أيام . قال : فلبثت عندهم إلى أن حملت ورجعت إلى أهلي . وفي كتاب الفرج بعد الشدة للقاضي التنوخي ، قال : حدثني الأصبهاني من حفظه ، قال : قرأت في بعض أخبار الأوائل ، أن الإسكندر لما انتهى إلى الصين ونازلها ، أتاه حاجبه ذات ليلة وقد مضى من الليل شطره ، فقال له : إن رسول ملك الصين بالباب ، يستأذن بالدخول عليك ، فقال : ائذن له ، فلما دخل وقف بين يديه وقبل الأرض ثم قال : إن رأى الملك أن يخليني فليفعل ، فأمر الإسكندر من بحضرته بالانصراف ، فانصرفوا ولم يبق سوى حاجبه ، فقال له الرسول : إن الذي جئت له ، لا يحتمل أن يسمعه غير الملك ، فأمر الإسكندر بتفتيشه ، ففتش فلم يوجد معه شيء من السلاح ، فوضع الإسكندر بين يديه سيفاً مصلتاً ، وقال له : قف مكانك . وقل ما شئت ، وأمر حاجبه بالانصراف ، فلما خلا المكان قال له الرسول : اعلم أني أنا ملك الصين لا رسول له ، وقد حضرت بين يديك ، لأسألك عما تريد مني ، فإن كان مما يمكن الانقياد له ، ولو على أصعب الوجوه ، أجبت إليه واغتنيت أنا وأنت عن الحرب . فقال له الإسكندر : وما آمنك مني ؟ قال : لعلمي بأنك رجل عاقل ، وأنه ليس بيننا عداوة متقدمة ، ولا مطالبة بدخل ، ولعلمي أيضاً أنك تعلم أن أهل الصين ، متى قتلتني لا يسلمون إليك ملكهم ، ولا يمنعهم عدمهم إياي أن ينصبوا لأنفسهم ملكاً غيري ، ثم تنسب أنت إلى غير الجميل وضد الحزم . فأطرق الإسكندر(2/310)
"""""" صفحة رقم 311 """"""
مفكراً في مقالته ، ثم رفع رأسه إليه ، وقد تبين له صدق قوله ، وعلم أنه رجل عاقل . فقال له : أريد منك ارتفاع ملكك ثلاث سنين عاجلاً ، ونصف ارتفاعه في كل سنة . فقال له ملك الصين : هل غير هذا شيء ؟ قال : لا . قال : قد أجبتك إلى ذلك . قال : فكيف يكون حالك حينئذ ؟ قال : أكون قتيل أول محارب ، وأكلة أول مفترس . قال : فإن قنعت منك بارتفاع سنتين ، كيف يكون حالك ؟ قال : أصلح ما يكون ذلك مذهباً لجميع لذاتي . قال : فإن قنعت منك بالسدس . قال : يكون السدس موفراً ، والباقي للجيش ولأسباب الملك . قال : قد اقتصرت منك على هذا ، فشكره وانصرف . فلما أصبح الصباح وطلعت الشمس ، أقبل جيش الصين حتى طبق الأرض كثرة ، وأحاط بجيش الإسكندر ، حتى خافوا الهلاك ، فتواثبوا إلى خيولهم فركبوها واستعدوا ، فبينما هم كذلك ، إذ ظهر ملك الصين على فيل عظيم وعليه التاج ، فلما رأى الإسكندر ، ترجل ومشى إليه ، وقبل الأرض بين يديه ، فقال الإسكندر : أغدرت ؟ قال : لا والله . فقال : ما هذا الجيش ؟ قال : أردت أن أعلمك أني لم أطعك من قلة ولا ضعف ، وأن ترى هذا الجيش ، وما غاب عنك أكثر منه ، لكني رأيت العالم الأكبر مقبلاً عليك ممكناً لك ، ممن هو أقوى مني ومنك . وأكثر عدداً ، فعلمت أنه من حارب الإله غلب وقهر ، فأردت طاعته بطاعتك ، والذلة لأمره بالذلة لك . فقال له الإسكندر : ليس ينبغي أن يؤخذ من مثلك شيء ، وما رأيت أحداً يستحق التفضيل والوصف بالعقل غيرك ، وقد أعفيتك من جميع ما أردته منك ، وأنا منصرف عنك . فقال له ملك الصين : أما إذ فعلت ذلك فإنك لا تخسر ، ثم قدم له ملك الصين من الهدايا والتحف والألطاف ، أضعاف ما قرره معه ، ورحل الإسكندر عنه .
قلت : وقد أذكرتني هذه الحكاية ، ما حكاه صاحب ابتلاء الأخبار ، عن الإسكندر مع ملكة الصين الأقصى ، قال : إن الإسكندر لما سار في الأرض ، وفتح البلاد سمعت به ملكة الصين ، فأحضرت من أبصر صورة الإسكندر ، ممن يعرف التصوير ، وأمرتهم أن يصوروا صورته ، في جميع الصنائع ، خوفاً منه ، فصوروه في البسط والأواني والرقوم ، ثم أمرت بوضع ما صنعوه بين يديها ، وصارت تنظر لذلك ، حتى أثبتت معرفته ، فلما قدم عليها الإسكندر ونازل بلدها ، قال الإسكندر للخضر يوماً : قد خطر لي شيء أقوله لك ، قال : وما هو ؟ قال : أريد أ أدخل هذه البلدة متنكراً ، وأنظر كيف يعمل فيها ؟ قال : افعل ما بدا لك . فلما دخلها الإسكندر ، نظرت إليه الملكة من حصنها ، فعرفته بالصور التي عندما ، فأمرت بإحضاره فلما مثل بين يديها ، أمرت به فوضع في مطمورة ، لا يعرف الليل فيها من النهار ، فبقي فيها ثلاثة أيام لا يأكل ولا يشرب ، حتى كادت قوته أن تسقط ، واختبط عسكره لأجل غيبته والخضر يسكنهم ويسليهم ، فلما كان اليوم الرابع ، مدت ملكة الصين سماطاً نحو مائة ذراع ووضعت فيه أواني الذهب والفضة والبلور ، وملأت أواني الذهب باللؤلؤ والزبرجد ، وأواني الفضة بالدر والياقوت الأحمر والأصفر ، وأواني البلور بالذهب والفضة ، وما في ذلك شيء يؤكل إلا أنه مال لا يعلم قدره إلا الله تعالى . وأمرت فوضع في أسفل السماط ، صحن فيه رغيف خبز البر وشربة من الماء ، وأمرت بإخراج الإسكندر ، وأجلسته على رأس السماط ، فنظر إليه فأبهره ذلك وأخذت تلك الجواهر ببصره ولم ير فيه شيئاً للأكل ، ثم نظر فرأى في أدنى السماط إناء فيه طعام ، فقام من مكانه ومشى إليه وجلس عنده ، وسمى وأكل ، فلما فرغ من أكله ، شرب من الماء(2/311)
"""""" صفحة رقم 312 """"""
كفايته ، ثم حمد الله تعالى وقام وجلس مكانه أولا ، فخرجت عليه ، فقالت له : يا سلطان بعد ثلاثة أيام أما صد عنك هذا الذهب والفضة والجوهر سلطان الجوع ؟ وقد أغناك عن هذا كله ما قيمته درهم واحد ؟ فمالك والتعرض إلى أموال الناس ، وأنت بهذه المثابة ؟ فقال لها الإسكندر : لك بلادك وأموالك ، ولا بأس عليك بعد اليوم ، فقالت له : أما إذا فعلت هذا فإنك لا تخسر ، ثم إنها قدمت له جميع ما كانت قد أحضرته ، وكان شيئاً يحير الناظر ، ويذهل الخاطر ، ومن المواشي شيئاً كثيراً . فنزل إلى عسكره ، وقبل هديتها ورحل عنها . وذكر غيره أنه كان في الهدية ثلاثمائة فيل ، وأنه دعاها إلى الله تعالى فآمنت وآمن أهل مملكتها .
غريبة : ذكر صاحب النشوان أن خارجياً خرج على ملك الهند ، فأنفذ إليه الجيوش ، فطلب الأمان فأمنه فسار الخارجي إلى الملك ، فلما قرب من بلد الملك ، أمر الملك الجيش بالخروج إلى لقائه ، فخرج الجيش بآلات الحرب ، وخرجت العامة تنتظر دخوله ، فلما أبعدوا في الصحراء ، وقف الناس ينتظرون قدوم الرجل ، فأقبل وهو راجل في عدة رجال ، وعليه ثوب ديباج ومئزر في وسطه ، جرياً على زي القوم ، فتلقوه بالإكرام ، ومشوا معه حتى انتهى إلى فيلة عظيمة ، قد أخرجت للزينة ، وعليها الفيالون ، وفيها فيل عظيم يختصه الملك لنفسه ، ويركبه في بعض الأوقات ، فقال له الفيال لما قرب منه : تنح عن طريق فيل الملك ، فلم يبد له جواباً ، فأعاد عليه القول ، فلم يبد له جواباً ، فقال له : يا هذا احذر على نفسك وتنح عن طريق فيل الملك ، فقال له الخارجي : قل لفيل الملك يتنحى عن طريقي ، فغضب الفيال وأغرى الفيل به بكلام كلمه به ، فغضب الفيل وعدا إلى الخارجي ، ولف خرطومه عليه ، وشاله الفيل شيلا عظيماً ، والناس يرونه ثم خبط به الأرض ، فإذا هو قد وقع منتصباً على قدميه قابضاً على خرطوم الفيل ، فزاد غضب الفيل فشاله الثانية ، أعظم من الأولى ، وعدا ثم رمى به الأرض فإذا هو قد حصل مستوياً على قدميه ، منتصباً قابضاً على الخرطوم ، ولم ينح يده عنه فشاله الفيل الثالثة ، وفعل به مثل ذلك فحصل على الأرض منتصباً قابضاً على الخرطوم ، وسقط الفيل ميتاً ، لأن قبضه على الخرطوم تلك المدة منعه من التنفس فقتله . فأخبر الملك بذلك ، فأمر بقتله ، فقال له بعض وزرائه : يجب أيها الملك أن يستبقى مثل هذا ، ولا يقتل فإن فيه جمالا للمملكة ، ويقال إن للملك خادماً ، قتل فيلا بقوته وحيله ، من غير سلاح ، فعفا عنه واستبقاه . وذكر الطرطوشي وغيره أن الفيل دخل دمشق ، في زمن معاوية بن أبي سفيان رضي الله تعالى عنهما ، فخرج أهل الشام لينظروه لأنهم لم يكونوا رأوا الفيل قبل ذلك ، وصعد معاوية سطح القصر للفرجة ، فلاحت منه التفاتة ، فرأى رجلا مع بعض حظاياه في بعض حجر القصر ، فنزل مسرعاً إلى الحجرة ، فطرق بابها فكيل : من ؟ قال : أمير المؤمنين ، ففتح الباب ، إذ لا بد من فتحه طوعاً أو كرهاً ، فدخل أمير المؤمنين معاوية فوقف على رأس الرجل وهو منكس رأسه ، وقد خاف خوفاً عظيماً ، فقال له معاوية : يا هذا ما الذي حملك على ما صنعت من دخولك قصري ،(2/312)
"""""" صفحة رقم 313 """"""
وجلوسك مع بعض حرمي ؟ أما خفت نقمتي ؟ أما خشيت سطوتي ؟ أخبرني يا ويلك ، ما الذي حملك على ذلك ؟ فقال : يا أمير المؤمنين ، حملني على ذلك حلمك . فقال له معاوية : أرأيت إن عفوت عنك تسترها علي ، فلا تخبر بها أحداً ؟ قال : نعم . فعفا عنه ووهب له الجارية ، وما في حجرتها وكان شيئاً له قيمة عظيمة . قال الطرطوشي : فانظر إلى هذا الدهاء العظيم والحلم الواسع كيف طلب الستر من الجاني انتهى .
فائدة : لما كان أول المحرم سنة اثنتين وثمانين وثمانمائة من تاريخ ذي القرنين ، وكان النبي ( صلى الله عليه وسلم ) يومئذ حملا في بطن أمه ، حضر أبرهة الأشرم ملك الحبشة يريد هدم الكعبة ، وكان قد بنى كنيسة بصنعاء ، وأراد أن يصرف إليها الحاج ، فخرج رجل من بني كنانة ، فقعد فيها ليلا فأغضبه ذلك ، وحلف ليهدمن الكعبة ، فخرج ومعه جيش عظيم ، ومعه فيله محمود ، وكان قوياً عظيماً ، واثنا عشر فيلا غيره ، وقيل : ثمانية . فلما بلغ المغمس ، وهو على ثلثي فرسخ من مكة ، مات دليلة أبو رغال هناك ، فرجمت العرب قبره . والناس يرجمونه إلى الآن . وروى أبو علي بن السكن ، في سننه الصحاح ، أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) كان إذا كان بمكة ، وأراد أن يقضي حاجة الإنسان ، خرج إلى المغمس .
ثم إن أبرهة بعث خيلا له إلى مكة ، فأخنت مائتي بعير لعبد المطلب ، فهم أهل الحرم بقتاله ، ثم عرفوا أنهم لا طاقة لهم به فتركوه . وبعث أبرهة إلى أهل مكة يقول لهم : إني لم آت لحربكم وإنما جئت لهدم هذا البيت ، فإن لم تتعرضوا دونه بحرب ، فلا حاجة لي بدمائكم فقال عبد المطلب لرسوله : والله لا نريد حربه ، وما لنا من حاجة ، هذا بيت الله وبيت خليله إبراهيم ( صلى الله عليه وسلم ) فهو يحميه ممن يريد هدمه .
ثم خرج عبد المطلب إلى أبرهة ، وكان عبد المطلب جسيماً وسيماً ما رآه أحد إلا أحبه ، وكان مجاب الدعوة ، فقيل لأبرهة : هذا سيد قريش الذي يطعم الناس في السهل ، ويطعم الوحش والطير في رؤوس الجبال ، فلما رآه أجله وأجلسه معه على سريره . ثم قال لترجمانه : قل له : سل حاجتك . فقال : حاجتي أن يرد الملك علي مائتي بعير أصابها لي . فلما قال ذلك ، قال له أبرهة : قل له : قد كنت أعجبتني حين رأيتك ، ثم زهدت فيك حين كلمتني أتكلمني في مائتي بعير وتترك بيتاً هو دينك ودين آبائك ، قد جئت لهدمه فلم تكلمني فيه ؟ فقال عبد المطلب : إني أنا رب الإبل وإن للبيت ربا سيمنعه منك . قال أبرهة : ما كان ليمتنع مني . فقال عبد المطلب : أنت وذاك . فرد أبرهة على عبد المطلب إبله ، ثم انصرف إلى قريش فأخبرهم الخبر ، وأمرهم بالخروج من مكة إلى الجبال والشعاب ، ثم قام عبد المطلب فأخذ بحلقة باب الكعبة ودعا الله تعالى ثم قال :
لا هم أن المرء يم . . . ع رحله فامنع حلالك
وانصر على آل الصلي . . . ب وعابديه اليوم آلك
لا يغلبن صليبهم . . . ومحالهم أبداً محالك(2/313)
"""""" صفحة رقم 314 """"""
ثم أرسل حلقة الباب ، وانطلق هو ومن معه من قريش إلى الجبال ، ينظرون ما أبرهة فاعل بمكة إذا دخلها ، فحينئذ جاءت قدرة الواحد الأحد القادر المقتدر ، فأصبح أبرهة متهيئاً لدخول مكة وهدم البيت ، وقدم فيله محموداً أمام جيشه ، فلما وجه الفيل إلى مكة أقبل نفيل بن حبيب ، كذا في سيرة ابن هشام . وقال السهيلي : نفيل بن عبد الله بن جزء بن عامر بن مالك ، فأخذ بأذن الفيل وقال : ابرك محموداً وارجع راشداً فإنك في بلد الله الحرام . ثم أرسل أذنه ، فبرك الفيل فضربوه بالحديد حتى أدموه ليقوم فأبى فوجهوه إلى اليمن فقام يهرول ، فوجهوه إلى الشام ففعل مثل ذلك ، فوجهوه إلى مكة فبرك . فعند ذلك أرسل الله تعالى عليهم طيراً أبابيل ، ترميهم بحجارة من سجيل ، فتساقطوا بكل طريق ، وهلكوا على كل منهل ، وأصيب أبرهة حتى تساقط أنملة أنملة ، حتى قدموا به صنعاء وهو مثل فرخ الطائر ، فما مات حتى انصاع قلبه عن صدره ، وانفلت وزيره وطائر يحلق فوقه ، حتى بلغ النجاشي ، فقص عليه القصة ، فلما أتمها وقع عليه الحجر ، فخر ميتاً بين يديه . وإلى هذه القصة أشار النبي ( صلى الله عليه وسلم ) بقوله في الحديث الصحيح : " إن الله تعالى حبس عن مكة الفيل ، وسلط عليها رسوله والمؤمنين " .
وفي صحيح البخاري وسنن أبي داود والنسائي ، من حديث المسور بن مخرمة ومروان بن الحكم رضي الله تعالى عنهما ، يصدق كل واحد منهما حديث صاحبه ، قالا : خرج رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) زمن الحديبية ، حتى إذا كان بالثنية التي يهبط عليهم منها بركت به راحلته ، فقال الناس : حل حل فألحت ، فقالوا : خلأت القصواء ، فقال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) : " ما خلأت القصواء وما ذاك لها بخلق ولكن حبسها حابس الفيل " . الخلاء في الإبل كالحران في الخيل ، والمعنى في التمثيل بحبس الفيل أن الصحابة رضي الله تعالى عنهم ، لو دخلوا مكة لوقع بينهم وبين قريش قتال في الحرم ، وأريق فيه دماء وكان منه الفساد ولعل الله سبحانه وتعالى قد سبق في علمه ، ومضى في قضائه ، أنه سيسلم جماعة من أولئك الكفار ، وسيخرج من أصلابهم قوم مؤمنون ، فلو استبيحت مكة لانقطع ذلك النسل وتعطلت تلك العواقب والله أعلم .
قيل : كان أبرهة المذكور جد النجاشي الذي كان في زمن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ، وكان مولد رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) عام الفيل ، بعد هلاك أصحاب الفيل بخمسين يوماً ، قالت عائشة رضي الله تعالى عنها : رأيت قائد الفيل وسائسه أعميين مقعدين يستطعمان الناس بمكة .
وروي أن عبد الملك بن مروان ، قال لقباث بن أشيم الكناني : يا قباث أنت أكبر أم رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ؟ فقال : رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) أكبر مني ، وأنا أسن منه ، ولد ( صلى الله عليه وسلم ) عام الفيل ، ووقفت بي أمي على روث الفيل وهو أخضر ، وأنا أعقله . قال السهيلي : قوله فبرك الفيل ، فيه نظر ، لأن الفيل لا يبرك ، فيحتمل أن يكون فعل فعل البارك ، الذي يلزم موضعه ، ولا يبرح ، فعبر بالبروك عن ذلك . ويحتمل أن يكون بروكه سقوطه إلى الأرض ، لما دهمه من أمر الله سبحانه وتعالى .(2/314)
"""""" صفحة رقم 315 """"""
قال : وقد سمعت من يقول : إن في الفيلة صنفاً يبرك كما يبرك الجمل ، فإن صح ، وإلا فتأويله كما قدمناه . قال : وقول عبد المطلب : لاهم . . . الخ . إن العرب تحذف الألف واللام من اللهم وتكتفي بما بقي . والحلال متاع البيت ، وأراد به سكان الحرم . ومعنى محالك كيمك وقوتك . والكنيسة التي بناها أبرهة بصنعاء تسمى القليس ، مثل القبيط سميت بذلك لارتفاع بنائها وعلوها ، ومنه القلانس لأنها في أعلى الرؤوس ، يقال : تقلس الرجل وتقلنس إذا لبس القلنسوة ، وتقلس طعاماً إذا ارتفع من معدته إلى فيه .
وكان أبرهة قد استذل أهل اليمن في بنائها ، وكلفهم فيها أنواعاً من السخر وكان ينقل إليها الرخام المجزع ، والحجارة المنقوشة بالذهب والفضة ، من قصر بلقيس صاحبة سليمان بن داود عليهما الصلاة والسلام ، وكان من موضع هذه الكنيسة على فراسخ ، ونصب فيها صلباناً من الذهب والفضة ، ومنابر من العاج والآبنوس ، وكان يشرف منها على عدن .
وكان حكمه في العامل فيها إذا طلعت عليه الشمس ، قبل أن يعمل قطع يده ، فنام رجل من العمال ذات يوم حتى طلعت الشمس ، فجاءت أمه معه ، وهي امرأة عجوز ، فتضرعت إليه تستشفع لابنها ، فأبى إلا قطع يده ، فقالت : اضرب بمعولك اليوم ، فاليوم لك وغداً لغيرك فقال : ويحك ما قلت ؟ قالت : نعم كما صار هذا الملك من غيرك إليك ، فهو خارج عن يدك بمثل ما صار إليك فأخذته موعظتها ، وعفا عن ولدها وأعفى الناس من السخر فيها . فلما هلك ومزقت الحبشة كل ممزق ، أقفر ما حول هذه الكنيسة ، وكثر حولها السباع والحيات ، وكان كل من أراد أن يأخذ منها شيئاً أصابته الجن ، فبقيت من ذلك العهد بما فيها من العدد والخشب المرصع بالذهب والآلات المفضضة التي تساوي قناطير مقنطرة من الأموال إلى زمن أبي العباس السفاح . فذكروا له أمرها وما يتهيب من جنها ، فلم يرعه ذلك ، وبعث إليها أبا العباس بن الربيع عامله على اليمن ، ومعه أهل الحزم والجلادة ، فخربها واستأصلها ، وحصل منها مالا كثيراً ، وباع منها ما أمكن بيعه من رخامها وآلاتها . فخفي بعد ذلك رسمها وانقطع خبرها ودرست آثارها . وكان الذي يصيبهم من الجن ، ينسبونه إلى كعيب وامرأته وهما صنمان كانت الكنيسة بنيت عليهما ، فلما كسر كعيب وامرأته ، أصيب الذي كسرهما بالجذام ، فافتتن بذلك رعاع اليمن وطغامهم ، وذكر أبو الوليد الأزرقي أن كعيباً كان من خشب وكان طوله ستين ذراعاً . وإلى قصة أبرهة أشرت بقولي في المنظومة في أول كتاب السير :
فجاءهم أبرهة بالفيله . . . وبجيوش أقبلت محتلفه
وأمهم في عسكر كالليل . . . مستظهراً برجله والخيل
وقد أتى الأسود نحو الحرم . . . واستاق ما كان به من نعم
فأم ذاك الوقت عبد المطلب . . . أبرهة والسعي في الخير طلب
فمذ رأى أبرهة وجها سما . . . مهابة عظمه رب السما
انحط عن سريره منهبطا . . . وقعدا على بساط بسطا
وقال : سل ما شئت من أمور . . . فقال رد مائتي بعير(2/315)
"""""" صفحة رقم 316 """"""
قد أخذت من جملة الأموال . . . فقال : قد هونت في السؤال
لو قلت لي لا تهدمن البيتا . . . وارجع وعد من حيثما أتيتا
قابلت ما قلت بالامتثال . . . من غير إمهال ولا إهمال
فقال : هذي إبلي وهذا . . . بيت له خالقه أعاذا
لا أسأل اليوم سواء فيه . . . إن له رباً علا يحميه
ثم أتى شيبة باب الكعبة . . . فقال : إذ يسأل فيه ربه
يا رب لا أرجو لهم سواكا . . . يا رب فامنع عنهم حماك
إن عدو البيت من عاداك . . . فامنعهم أن يخربوا قراكا
فأجلبوا برجلهم والخيل . . . وأقبلوا كقطع من ليل
محموده من فوقه مذموم . . . بهيمة سواده بهيم
يروم هدم البيت ذي الأركان . . . وقتل ما فيه من السكان
ويستحل الجرم المعظما . . . ويستبيح البلد المحرما
فقام يدعو الله عبد المطلب . . . بدعوات جيشهن ما غلب
في يده حلقته الوثقى التي . . . ما خاب من أمسكها في أزمة
فأنجز الله له ما طلبه . . . وأنجح الرب العظيم مطلبه
وفيلهم محمود ليل داج . . . وكان يكنى بأبي الحجاج
وقال قوم بأبي العباس . . . وكان معروفاً بعظم الباس
أمسكه بأذنه نفيل . . . قال له وشاع هذا القيل :
ابرك أو ارجح راشداً محمود . . . فإن هذا بلد محمود .
فأوجعوه بالحديد ضربا . . . للسير نحو البيت وهو يأبى
وأن يوجه لسواه يبتدر . . . ثم عليه أحد لم يقتدر
فأرسل الله على الذي فجر . . . طيراً أبابيل رمت جنس الحجر
مهيئاً للقوم من سجيل . . . فهم كعصف بعدها مأكول
والملك المطاع عضواً عضوا . . . مزق ثم لم ينل مرجوا
وكان عام الفيل عام المولد . . . لأحمد خير الورى محمد
فائدة أخرى : إذا دخل إنسان على من يخاف شره فليقرأ : كهيعص حم عسق ، وعدد حروف الكلمتين عشرة ، يعقد لكل حرف أصبعاً من أصابعه ، يبدأ بإبهام يده اليمنى ، ويختم بإبهام يده اليسرى ، فإذا فرغ عقد جميع الأصابع ، قرأ في نفسه سورة الفيل ، فإذا وصل إلى قول تعالى " ترميهم " كرر لفظ ترميهم عشر مرات ، يفتح في كل مرة إصبعاً من الأصابع المعقودة ، فإذا فعل ذلك ، أمن شره وهو عجيب مجرب .(2/316)
"""""" صفحة رقم 317 """"""
ومن الفوائد المجربة : ما أفادنيه بعض أهل الخير والصلاح ، أن من قرأ سورة الفيل ، ألف مرة ، في كل يوم مائة مرة ، عشرة أيام متوالية ، وبقصد من يريده بالضمائر ، وفي اليوم العاشر ، يجلس على ماء جار ، ويقول : اللهم أنت الحاضر المحيط بمكنونات الضمائر ، اللهم عز الظالم وقل الناصر ، وأنت المطلع العالم ، اللهم إن فلاناً ظلمني وأذاني ، ولا يشهد بذلك غيرك ، اللهم إنك مالكه فأهلكه ، اللهم سربله سربال الهوام ، وقمصه قميص الردى ، اللهم اقصفه . يكرر هذه اللفظة عشر مرات ، ثم يقول : " فأخذهم الله بذنوبهم ، وما كان لهم من الله من واق " فإن الله يهلكه ويكفيه شره . وهو سر لطيف مجرب .
وروي أن عمرو بن معد يكرب رضي الله تعالى عنه حمل يوم القادسية على رستم ، وهو الذي كان قدمه يزدجرد ملك الفرس يوم القادسية على قتال المسلمين ، فاستقبل عمرو رستم وكان رستم على فيل عظيم ، فحذف عمرو قوائمه بضربة ، فسقط رستم وسقط الفيل عليه ، مع خرج كان عليه ، فيه أربعون ألف دينار ، فقتل رستم وانهزمت العجم . وهذه الضربة لم يسمع بمثلها في الجاهلية ولا في الإسلام . وروي أن الروم حملت القوائم المذكورة ، وعلقوها في كنيسة لهم . فكانوا إذا عيروا بانهزام ، يقولون : لقينا قوماً هذه ضربتهم ، فيترجل أبطال الروم فيرونها ، ويتعجبون من ذلك . وذكر أبو العباس المبرد ، أن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه قال يوماً : من أجود العرب ؟ قيل له : حاتم . قال : فمن فارسها ؟ قيل : عمرو بن معد يكرب . قال : فمن شاعرها ؟ قيل : امرؤ القيس . قال : فأي سيوفها أمضى ؟ قيل : صمصامة عمرو بن معد يكرب رضي الله تعالى عنه .
وأفاد السهيلي أن صمصامة عمرو بن معد يكرب كانت حديدة ، وجدت عند الكعبة ، من دفن جدهم أو غيره ، وأن ذا الفقار سيف رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ، كان من تلك الحديدة أيضاً . قال : وإنما سمي ذا الفقار لأنه كان في وسطه مثل فقرات الظهر ، وكان قبله ( صلى الله عليه وسلم ) للعاص بن منبه ، سلبه منه يوم بدر .
الحكم : يحرم أكل الفيل على المشهور ، وعلله في الوسيط ، بأنه ذو ناب مكادح أي مغالب مقاتل . وفي وجه شاذ حكاه الرافعي عن أبي عبد الله البوشنجي ، وهو من أئمة أصحابنا أنه حلال . وقال الإمام أحمد : ليس الفيل من أطعمة المسلمين ، وقال الحسن : وهو منسوخ ، وكرهه أبو حنيفة ، ورخص في أكله الشعبي ، ويصح بيعه لأنه يحمل عليه ويقاتل به وعليه ، وراكبه يرضخ له من الفيء أكثر من راكب البغل . ولا يطهر الفيل عندنا بالذبح ، ولا يطهر عظمه بالتنقية ، سواء أخذ منه بعد ذكاته ، أو بعد موته ، ولنا وجه شاذ أن عظام الميتة طاهرة ، وهو قول أبي حنيفة ، ومن وافقه لكن المذهب نجاستها مطلقاً .
وعند مالك أن عظمه يطهر بصقله ، كما تقدم في باب السين المهملة ، في لفظ السلحفاة . ولا(2/317)
"""""" صفحة رقم 318 """"""
يجوز بيعه ولا يحل ثمنه ، وبهذا قال طاوس وعطاء بن أبي رباح ، وعمر بن عبد العزيز ومالك وأحمد . وقال ابن المنذر : خص فيه عروة بن الزبير وابن سيرين وابن جريج . وفي الشامل أن جلد الفيل لا يؤثر فيه الدباغ لكثافته .
وفي صحة المسابقة على الفيل وجهان : وقيل قولان أصحهما أنها تصح لما روى الشافعي وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه وابن حبان ، وصححه عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال : " لا سبق إلا في خف أو حافر أو نصل " والسبق بفتح الباء ما يجعل للسابق على سبقه من جعل ، وجمعه أسباق ، وأما السبق بإسكان الباء ، فهو مصدر سبقت الرجل أسبقه ، والرواية الصحيحة في هذا الحديث لا سبق بفتح الباء ، وأراد به أن الجعل والعطاء لا يستحق إلا في سباق الخيل والإبل والنصال ، لأن هذه الأمور عدة في قتال العدو ، وفي بذل الجعل عليها ترغيب في الجهاد ولم يذكر الشافعي الفيل ، وقال أبو إسحاق : تجوز المسابقة عليه لأنه يلقي عليه العدو كما يلقي على الخيل ، ولأنه ذو خف والصورة النادرة تدخل في العموم ، على الأصح عند الأصوليين .
ومن الأصحاب من قال : لا تصح المسابقة عليه ، وبه قال أحمد وأبو حنيفة ، لأنه لا يحصل الكر والفر عليه ، فلا معنى للمسابقة عليه ، فإن قال قائل : فالإبل كالفيل في هذا المعنى ، فالجواب أن العرب تقاتل على الإبل أشد القتال ، وذلك لهم عادة غالبة والفيل ليس كذلك . ومن قال بالأول ، قال : إنه يسبق الخيل في بلاد الهند والله أعلم . تذنيب : في سنة تسعين وخمسمائة سار نيارس أكبر ملوك الهند ، وقصد بلاد الإسلام فطلبه الأمير شهاب الدين الغوري صاحب غزنة ، فالتقى الجمعان على نهر ماجون ، قال ابن الأثير : وكان مع الهندي سبعمائة فيل ومن العسكر ألف ألف نفس ، فصبر الفريقان ، وكان النصر لشهاب الدين الغوري ، وكثر القتل في الهنود حتى جافت منهم الأرض ، وأخذ شهاب الدين تسعين فيلا ، وقتله ملكهم نيارس ، وكان قد شد أسنانه بالذهب ، فما عرف إلا بذلك . ودخل شهاب الدين بلاد نيارس ، وأخذ من خزائنه ألفاً وأربعمائة حمل من المال ، وعاد إلى غزنة . قال : وكان من جملة الفيلة التي أخذها شهاب الدين الغوري فيل أبيض ، حدثني بذلك من رآه انتهى .
الأمثال : قالوا : آكل من فيل وأشد من فيل وأعجب من خلق فيل . روي أنه كان في مجلس الإمام مالك بن أنس رحمه الله تعالى ، جماعة يأخذون عنه العلم ، فقال قائل : قد حضر الفيل ، فخرج أصحابه كلهم للنظر إليه إلا يحيى بن يحيى الليثي الأندلسي ، فإنه لم يخرج ، فقال له مالك : لم لم تخرج لترى هذا الخلق العجيب فإنه لم يكن ببلادك ؟ فقال : إنما جئت من بلدي لأنظر إليك ، وأتعلم من هديك وعلمك ، ولم أجئ لأنظر إلى الفيل . فأعجب به مالك رضي الله تعالى عنه ، وسماه عاقل أهل الأندلس ، ثم إن يحيى عاد إلى الأندلس ، وانتهت إليه الرياسة بها . وبه اشتهر مذهب مالك في تلك البلاد ، وأشهر روايات الموطأ وأحسنها رواية يحيى وكان معظماً(2/318)
"""""" صفحة رقم 319 """"""
عند الأمراء ، وكان مجاب الدعوة . توفي سنة أربع وثلاثين ومائتين ، وقبره بمقبرة ابن عباس بظاهر قرطبة يستسقى به .
ونظير هذه الحكاية ما اتفق لأبي عاصم النبيل ، واسمه الضحاك بن مخلد بن الضحاك ، فإنه كان بالبصرة فقدمها فيل ، فذهب الناس ينظرون إليه ، فقال له ابن جريج : ما لك لا تخرج تنظر إلى الفيل ؟ فقال : لأني لا أجد منك عوضاً فقال له : أنت النبيل . فكان إذا أقبل ، يقول ابن جريج : جاء النبيل . قال البخاري : سمعت أبا عاصم يقول : منذ عقلت أن الغيبة حرام ، ما اغتبت أحداً قط . وقالوا : أثقل من فيل . قال الشاعر :
أنت يا هذا ثقيل . . . وثقيل ثقيل
أنت في المنظر إنسا . . . ن وفي الميزان فيل
الخواص : من سقي من وسخ أذن الفيل ينام سبعة أيام ، ومرارته يطلى بها البرص ويترك ثلاثة أيام ، فإنه يذهب . وعظمه يعلق على رقاب الصبيان يدفع عنهم الصرع ، وإذا علق العاج ، الذي هو عظمه ، على شجرة لم تثمر تلك السنة . وإذا بخر الكرم والزرع والشجر بعظمه لم يقرب ذلك المكان عود ، وإن دخن به في بيت فيه بق مات البق . ومن سقي من نشارة العاج في كل يوم ، وزن درهمين بماء وعسل جاد حفظه ، وإن شربتها المرأة العاقر سبعة أيام ، ثم جومعت بعد ذلك حبلت بإذن الله تعالى . وجلده إذا شد منه قطعة على من به حمى نافض تزول عنه ، وإذا نام عليه صاحب التشنج يزول عنه ، وإذا أحرق زبله وسحق بعسل وطلي به الأجفان التي سقط شعرها نبت ، وإذ شربت المرأة بوله ، وهي لا تعلم ، ثم جومعت لم تحبل . وزبله إذا علق عليها لم تحبل أيضاً ، ما دام عليها . ودخان جلده يبرئ البواسير . التعبير : الفيل في المنام ملك أعجمي مهاب ، بليد القلب حامل الأثقال عارف بالحرب والقتال ، فمن ركب فيه فيلا أو ملكه أو تحكم عليه ، اتصل بسلطان ونال منه منزلة سنية ، وعاش عمراً طويلا في عز ورفعة ، وقيل : إن الفيل رجل ضخم أعجمي ، فمن ركب فيلا وكان ذا طوع له ، فإنه يقهر رجلا ضخماً أعجمياً شحيحاً . ومن ركب فيلا في نومه بالنهار فإنه يطلق زوجته ، لأنه كان في الزمن المتقدم في بلاد الفيلة من طلق زوجته أركب فيلا ، وطيف به حتى يعلم الناس ، ومن ركب من الملوك فيلا وهو في حرب فإنه يهلك لقوله تعالى : " ألم تر كيف فعل ربك بأصحاب الفيل " إلى آخر السورة ، ومن ركب فيلا بسرج ، تزوج بنت رجل ضخم أعجمي ، وإن كان تاجراً عظمت تجارته ، ومن افترسه فيل نزلت به آفة من سلطان ، وإن كان مريضاً مات ومن رعى فيلة فإنه يواخي ملوك العجم وينقادون له ، ومن حلب فيلة فإنه يمكر برجل أعجمي . وينال منه مالا ، وقالت اليهود : الفيل في المنام ملك كريم لين الجانب ذو مدارة صبور ، ومن ضربه فيل بخرطومه نال خيراً ، ومن ركبه نال وزارة وولاية ، ومن أخذ شيئاً من ورثة استغنى . ويحل أيضاً على قوم صالحين . وقيل : من يرى الفيل يرى أمراً شديداً ، ثم ينجو منه . وقالت النصارى : من رأى فيلا ولم يركبه أصابه نقصان في بدنه أو خسران في ماله . ومن رأى فيلا(2/319)
"""""" صفحة رقم 320 """"""
مقتولا في بلدة ، مات ملكها ، أو يقتل رجل مذكور . ومن قتل فيلا قهر رجلا أعجمياً ، ومن ألقاه الفيل تحته ولم يفارقه ، فإنه يموت ، وإذا رؤي الفيل في غير بلاد النوبة ، فإنه يدل على فتنة ، وذلك لقبح لونه وسماجته . وإن رؤي في البلاد التي يوجد فيها فهو رجل من أشراف الناس . والمرأة إذا رأت الفيل فلا يحمد لها ذلك ، على أي صفة رأته . وتعبر الفيلة بالسنين كالبقر ، وخروج الفيل من بلد فيه طاعون دليل خير لهم وزوال الطاعون عنهم ، وإذا ركب الفيل في بلد فيه بحيرة فهو ركوب سفينة ، والله تعالى أعلم .
فصل في فضل العقل وزينه ، وقبح الجهل وشينه
قال بعض الحكماء : العقل ما عقل به عن السيئات ، وحض القلب على الحسنات ، والعقل معقل عن الدنيات ، ونجاة من المهلكات ، والنظر في العواقب قبل حلول المصائب ، والوقوف عند مقادير الأشياء ، قولا وفعلا ، لقوله ( صلى الله عليه وسلم ) : " أعقلها وتوكل " . وقد أجمع الحكماء والعلماء والفقهاء ، أن جميع الأمور كلها ، قليلها وجليلها ، محتاجة إلى العقل ، والعقل محتاج إلى التجربة ، وقالوا : العقل سلطان وله جنود ، فرأس جنوده التجربة ، ثم التمييز ثم الفكر ثم الفهم ثم الحفظ ثم سرور الروح ، لأن به ثبات الجسم والروح سراج نوره العقل .
وفي الحديث : " ما قسم الله لعباده خيراً من العقل " وروي أن جبريل عليه الصلاة والسلام ، أتى آدم عليه السلام فقال : إني أتيتك بثلاث : فاختر واحدة منها ، فقال : وما هي . فقال : الحياء والعقل والدين . فقال آدم عليه السلام : قد اخترت العقل . فخرج جبريل عليه الصلاة والسلام إلى الحياء والدين ، فقال : ارجعا فقد اختار العقل عليكما . فقالا : إنا أمرنا أن نكون مع العقل حيث كان . وقال بعضهم : من استرشد إلى طريق الحزم بغير دليل العقل فقد أخطأ منهاج الصواب . والعقل مصباح يكشف به عن الجهالة ، ويبصر به الفضل من الضلالة ، ولو صور العقل لأظلمت معه الشمس ، ولو صور الجهل لأضاء معه الليل ، وما شيء أحسن من عقل زانه أدب ، ومن علم زانه ورع ، ومن حلم زانه رفق ، ومن رفق زانه تقوى .
وروي أن جبريل عليه الصلاة والسلام أتى النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فقال : يا محمد أتيتك بمكارم الأخلاق كلها في الدنيا والآخرة . فقال : " وما هي " ؟ فقال : " خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين " ، وهو يا محمد عفوك عمن ظلمك ، واعطاء من حرمك ، وصلة من قطعك ، وإحسانك إلى من أساء إليك ، واستغفارك لمن اغتابك ، ونصحك لمن غشك ، وحلمك عمن أغضبك . فهذه الخصال قد تضمنت مكارم الأخلاق ، في الدنيا والآخرة . وأنشد بعضهم في معنى ذلك فقال :
خذ العفو وأمر بعرف كما . . . أمرت وأعرض عن الجاهلين
ولن في الكلام لكل الأنام . . . فمستحسن من ذوي الجاه لين(2/320)
"""""" صفحة رقم 321 """"""
ومن طرق العقل الحميدة : القناعة وهي كنز لا يفنى ، والصدقة وهي عز باق ، وتمام عز الرجل استغناؤه عن الناس . ومن طرقه أيضاً الحياء ، وقد قيل :
إذا قل ماء الوجه قل حياؤه . . . ولا خير في وجه إذا قل ماؤه ومن طرقه أيضاً حسن الخلق . روي عنه ( صلى الله عليه وسلم ) أنه قال : " أكمل المؤمنين إيماناً أحسنهم خلقاً " . وروي أن يحيى بن زكريا عليهما السلام لقي عيسى ابن مريم عليهما السلام فتبسم عيسى في وجهه ، فقال يحيى : ما لي أراك لاهياً كأنك آمن فقال عيسى : ما لي أراك عابساً كأنك آيس فقالا : لا نبرح حتى ينزل علينا وحي . فأوحى الله تعالى إليهما : أحبكما إلي أحسنكما خلقاً .
تتمة : ذكر الغزالي وابن بلبان وغيرهما ، أن أبا جعفر المنصور حج ونزل في دار الندوة ، وكان يخرج سحراً فيطوف بالبيت ، فخرج ذات ليلة سحراً فبينما هو يطوف ، إذ سمع قائلا يقول : اللهم إني أشكو إليك ظهور البغي والفساد في الأرض ، وما يحول بين الحق وأهله من الطمع . فهرول المنصور في مشيته حتى ملأ مسامعه ، ثم رجع لدار الندوة ، وقال لصاحب الشرطة : إن بالبيت رجلا يطوف فائتني به . فخرج صاحب الشرطة فوجد رجلا عند الركن اليماني ، فقال : أجب أمير المؤمنين ، فلما دخل عليه ، قال : ما الذي سمعتك آنفاً تشكو إلى الله من ظهور البغي والفساد في الأرض وما يحول بين الحق وأهله من الطمع ؟ فوالله لقد حشوت مسامعي ما أمرضني فقال له : يا أمير المؤمنين إن الذي دخله الطمع حتى حال بين الحق وأهله ، وامتلأت بلاد الله بذلك بغياً وفساداً أنت فقال المنصور : ما هذا ؟ أو قال : ويحك كيف يدخلني الطمع ، والصفراء والبيضاء ببابي ، وملك الأرض في قبضتي ؟ فقال الرجل : سبحان الله يا أمير المؤمنين ، وهل دخل أحداً من الطمع ما دخلك ؟ استرعاك الله أمور المؤمنين وأموالهم ، فأهملت أمورهم واهتممت بجمع أموالهم ، واتخذت بينك وبين رعيتك حجاباً من الجص والأجر ، وحجبة معهم السلاح ، وأمرت أن لا يدخل عليك إلا فلان وفلان ، نفراً استخلصتهم لنفسك ، وآثرتهم على رعيتك ، ولم تأمر بإيصال المظلوم ، ولا الجائع ولا العاري ولا أحد إلا وله في هذا المال حق فلما رآك هؤلاء الذين استخلصتهم لنفسك ، وآثرتهم على رعيتك ، تجمع الأموال ولا تقسمها ، قالوا : هذا قد خان الله ورسوله ، فما لنا لا نخونه ؟ فأجمعوا على أن لا يصل إليك من أمور الناس إلا ما أرادوا ، فصار هؤلاء شركاءك في سلطانك ، وأنت غافل عنهم ، فإذا جاء المظلوم إلى بابك ، وجدك قد أوقفت ببابك رجلا ينظر في مظالم الناس ، فإن كان الظالم من بطانتك ، علل صاحب المظالم بالمظلوم ، وسوف به من وقت إلى وقت ، فإذا جهد وظهرت أنت ، صرخ بين يديك ، فيضرب ضرباً شديداً ليكون نكالا لغيره وأنت ترى ذلك ولا تنكر ، ولقد كانت الخلفاء قبلك ، من بني أمية ، إذا انتهت إليهم الظلامة أزيلت في الحال .
ولقد كنت أسافر الصين يا أمير المؤمنين فقدمته مرة ، فوجدت الملك الذي به قد فقد سمعه فبكى ، فقال له وزراؤه : ما يبكيك أيها الملك لا أبكى الله لك عيناً ؟ فقال : والله ما بكيت لمصيبة(2/321)
"""""" صفحة رقم 322 """"""
نزلت بي ، وإنما أبكي لمظلوم يصرخ بالباب ، فلا أسمع صوته . ثم قال : إن كان صمعي قد ذهب فإن بصري لم يذهب ، نادوا في الناس أن لا يلبس أحداً ثوباً أحمر إلا مظلوماً . وكان يركب الفيل طرفي النهار ، ويدور في البلد لعله يجد أحد لابساً ثوباً أحمر ، فيعلم أنه مظلوم فينصفه ، هذا يا أمير المؤمنين رجل مشرك غلبت رأفته على شح نفسه بالمشركين فكيف لا تغلب رأفتك على شح نفسك بالمؤمنين وأنت مؤمن بالله وابن عم رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ؟ يا أمير المؤمنين : إنما تجمع المال لإحدى ثلاث : إن قلت : إنما أجمع المال للولد ، فقد أراك الله عبرة فيمن تقدم ممن جمع المال للولد ، فلم يغن ذلك عنه ، بل ربما مات فقيراً ذليلا حقيراً ، إذ قد يسقط الطفل من بطن أمه وليس له مال ، ولا على وجه الأرض من مال إلا ودونه يد شحيحة تحويه ، فلم يزل يلطف الله تعالى بذلك الطفل ، حتى تعظم رغبة الناس فيه ، ويحوي ما حوته تلك اليد الشحيحة ، ولست بالذي تعطي ، وإنما الله المعطي . وإن قلت : إنما أجمعه لمصيبة تنزل بي ، فقد أراك الله سبحانه وتعالى عبرة في الملوك والقرون الذين خلوا من قبلك ، ما أغنى عنهم ما أعدموا من الأموال والرجال والكراع ، حين أراد الله بهم ما أراد . وإن قلت : إنما أجمعه لغاية هي أجسم من الغاية التي أنت فيها ، فوالله ما فوق منزلتك إلا منزلة ، لا تدرك إلا بالعمل الصالح . فبكى المنصور بكاء شديداً ثم قال : كيف أعمل والعلماء قد فرت مني ، والعباد لم تقرب مني ، والصالحون لم يدخلوا علي ؟ فقال : يا أمير المؤمنين افتح الباب ، وسهل الحجاب ، وانتصر للمظلوم ، وخذ من المال ما حل وطاب ، وأقسمه بالحق والعمل ، وأنا ضامن من هرب منك أن يعود إليك فقال المنصور : نفعل إن شاء الله تعالى . وجاءه المؤذنون فآذنوه بالصلاة ، فقام وصلى . فلما قضى صلاته طلب الرجل فلم يجده . فقال لصاحب الشرطة : علي بالرجل الساعة فخرج يتطلبه ، فوجده عند الركن اليماني ، فقال له : أجب أمير المؤمنين . فقال له : ليس إلى ذلك سبيل . فقال : إذا يضرب عنقي فقال : لا ، ولا إلى ضرب عنقك من سبيل . ثم أخرج من مزود كان معه رقاً مكتوباً ، فقال : خذه فإن فيه دعاء الفرج ، من دعا به صباحاً ، ومات من يومه مات شهيداً ، ومن دعا به مساء ، ومات من ليلته مات شهيداً ، وذكر له فضلا عظيماً وثواباً جزيلا . فأخذه صاحب الشرطة ، وأتى المنصور فلما رآه قال له : ويلك أو تحسن السحر قال : لا والله يا أمير المؤمنين ، ثم قص عليه فأمر المنصور بنقله ، وأمر له بألف دينار . وهو هذا : اللهم كما لطفت في عظمتك وقدرتك دون اللطفاء ، وعلوت بعظمتك على العظماء ، وعلمت ما تحت أرضك كعلمك ما فوق عرشك ، فكانت وساوس الصدور كالعلانية عندك ، وعلانية القول كالسر في علمك ، فانقاد كل شيء لعظمتك ، وخضع كل ذي سلطان لسلطانك ، وصار أمر الدنيا والآخرة كله بيدك ، اجعل لي من كل غم وهم أصبحت أو أمسيت فيه فرجاً ومخرجاً ، اللهم إن عفوك عن ذنوبي وتجاوزك عن خطيئتي وسترك على قبيح عملي أطمعني أن أسألك ما لا أستوجبه منك ، مما قصرت فيه فصرت أدعوك آمناً ، وأسألك مستأنساً ، فإنك المحسن إلي وأنا المسيء إلى نفسي ، فيما بيني وبينك تتودد إلي بالنعم ، وأتبغض إليك بالمعاصي ، فلم أجد كريماً أعطف منك على عبد لئيم مثلي ، ولكن الثقة بك حملتني على الجرأة عليك ، فجد اللهم بفضلك وإحسانك علي ، إنك أنت الرؤوف الرحيم . وروي أن الرجل المذكور كان الخضر عليه السلام .(2/322)
"""""" صفحة رقم 323 """"""
الفينة : طائر يشبه العقاب ، إذا خاف البرد انحدر إلى اليمن ، قاله ابن سيده . والفينات الساعات يقال لقيته الفينة بعد الفينة ، أي الحين بعد الحين ، وإن شئت حذفت الألف واللام ، فقلت : لقيته فينة بعد فينة ، فكأن هذا الطائر لما كان في حين ينحدر إلى اليمن ، وفي حين آخر يذهب عنها سمي باسم الزمان .
أبو فراس : كنية الأسد ، يقال : فرس الأسد فريسته يفرسها فرساً وافترسها ، أي دق عنقها وأصل الفرس هذا ثم كثر حتى قيل لكل قتل فرس ، وبه سمي أبو فراس بن حمدان ، أخو سيف الدولة بن حمدان ، وكان ملكاً جليلا وشاعراً مجيداً حتى قيل : بدئ الشعر بملك ، وختم بملك : بدئ بامرئ القيس واسمه حندج ، وختم بأبي فراس . ونظير ذلك قولهم : بدئت الرسائل بعبد الحميد ، وختمت بابن العميد والله تعالى أعلم .
باب القاف
القادحة : الدودة ، يقال : قدح الدود في الأسنان والشجر قدحاً . قاله الجوهري .
القارة : الدبة .
القارية : كسارية ، هذا الطائر القصير الرجلين ، الطويل المنقار ، الأخضر الظهر ، تحبه العرب وتتيمن به ، ويشبهون به الرجل السخي . وهي مخففة قال الشاعر :
أمن ترجيع قارية تركتم . . . سباياكم وأبتم بالعناق
قال ابن الأعرابي : معنى البيت أفزعتم لما سمعتم ترجيع هذا الطائر وتركتم سباياكم ورجعتم بالخيبة ؟ فالعناق هنا الخيبة ، والجمع القواري . قال يعقوب : والعامة تقول : قارئة بالتشديد . كذا قاله الجوهري . وقال البطليوسي ، في الشرح : العرب تتيمن بالقواري وتتشاءم بها ، فأما تيمنهم بها فإنها تبشر بالمطر ، إذا جاءت . والسماء خالية من السحاب . قال النابغة الجعدي :
ولا زال يسقيها ويسقي بلادها . . . من المزن زحاف يسوق القواريا
وأما تشاؤمهم بها ، فإن أحدهم إذا لقي منها واحدة من غير غيم ولا مطر خاف ورجع . وقال ابن سيده : القارية طير خضر يحبها الأعراب ، ويشبهون الرجل السخي بها ، وذلك لأنها تنذر بالمطر .(2/323)
"""""" صفحة رقم 324 """"""
قال بعضهم : ومن ذلك قول النبي ( صلى الله عليه وسلم ) : " الناس قواري الله في الأرض " . أي شهوده ، لأن بعضهم يتبع أحوال بعض ، فإذا شهدوا الإنسان بخير أو شر فقد وجب ، والقواري واحدها قار وهو جمع شاذ .
قلت : ويدل لصحة هذا المعنى قوله عليه الصلاة والسلام : " أنتم شهداء الله في الأرض " . وحكمها : الحل لأن العرب كانت تأكلها ، قاله الصيمري وغيره ، وقالوا في كتاب الحج : الحمام يفدى بشاة ، وما دونه من القواري وغيرها يفدى بالقيمة . وهذا دليل على حل أكلها ، وتصريح بأن القارية ليست من الحمام . وكلام أهل اللغة لا يساعده . فقد قال ابن السكيت ، في إصلاح المنطق : القواري طيور خضر لها ترجيع . وقد تقدم تفسير هدير الحمام بالترجيع في صوته ، وتقدم أن غير الحمام يشاركه في اللعب وإذا كان غير الحمام يشاركها في اللعب ألغى اعتباره ، ووجب اعتبار الهدير وهو الترجيع ، فوجب أن تكون القارية من الحمام ، وأنها تفدى بشاة دون القيمة ، كسائر الحمام وللنظر في هذا التعارض مجال .
القاق : طائر مائي طويل العنق .
وحكمه : حل الأكل كما تقدم .
القاقم : دويبة تشبه السنجاب ، إلا أنه أبرد منه مزاجاً وأرطب ، ولهذا هو أبيض يقق ، ويشبه جلده جلد الفنك ، وهو أعز قيمة من السنجاب .
وحكمه : الحل لأنه من الطيبات .
القانب : الذئب العواء والمقانب الذئاب الضاربة ، وقد تقدم لفظ الذئب في باب الذال المعجمة .
القاوند : طائر يتخذ وكره على ساحل البحر ، ويحضن بيضه سبعة أيام في الرمل ، ويخرج أفراخه في اليوم السابع ، ثم يزقها سبعة أيام أيضاً ، والمسافرون في البحر يتيمنون بهذه الأيام ، ويوقنون بطيب الوقت وحلول أوان السفر . وقيل : إن الله تعالى إنما يمسك البحر عن هيجانه في زمن الشتاء ، عن بيض هذا الطائر وفراخه ، لبره بأبويه ، عند كبرهما ، وذلك أنهما إذا كبرا حمل إليهما قوتهما ، وعالهما حياتهما إلى أن يموتا . وهذا الطائر المتخذ منه شحم القاوند المعروف ، وهو يقيم المقعد ويحلل البلاغم المزمنة . وفي المفردات : دهن القاوند معروف كالسمن ، يؤتى به من بلاد اليمن ، ومن الحبشة والهند ، ويقال إنه يستخرج من ثمر شجرة كالجوز ، ويطحن في المعاصر ، ويستخرج ، ينفع الأمراض الباردة وأوجاع الأعصاب .
القبج : بفتح القاف وإسكان الباء الموحدة ، وبالجيم في آخره ، واحدة قبجة الحجل ، والقبجة اسم جنس يقع على الذكر والأنثى ، حتى تقول : يعقوب ، فيختص بالذكر ، وكذلك(2/324)
"""""" صفحة رقم 325 """"""
الدراجة حتى تقول حيقطان ، والبومة حتى تقول صدي أوفياد ، والحبارى حتى تقول خرب ، وكذا النعامة حتى تقول ظليم ، والنحلة حتى تقول يعسوب ، ومثله كثير .
وقال كراع في المجرد : القبج فارسي معرب ، لأن القاف والجيم أو الكاف لا يجتمعان في كلام العرب ، كالجوالق وجلق والقبج والكليجة وهو مكيال صغير ، وما كان نحو ذلك . وفراخ القبج تخرج كما الفراريج ، كما تقدم ، وإناثه تبيض خمس عشرة بيضة ، والذكر يوصف بالقوة على السفاد ، كما يوصف الديك والعصفور ، ولكثرة سفاده يقصد موضع البيض ، فيكسره لئلا تشتغل الأنثى بحضنه عنه ، ولهذا ، الأنثى إذا أتى أوان بيضها ، تهرب وتختبئ رغبة في الفراخ ، وهي إذا هربت بهذا السبب ضاربت الذكور بعضها بعضاً ، وكثر صياحها ، ثم إن المقهور يتبع القاهر ، ويسفد القوي الضعيف ، والقبج يغير أصواته بأنواع شتى ، بقدر حاجته إلى ذلك ، ويعمر خمس عشرة سنة ، ومن عجيب أمرها ما حكاه القزويني : أنها إذا قصدها الصياد ، خبأت رأسها تحت الثلج ، وتحسب أن الصياد لا يراها ، وذكورها شديدة الغيرة على إناثها ، والأنثى تلقح من رائحة الذكر ، وهذا النوع كله يحب الغناء والأصوات الطيبة ، وربما وقعت من أوكارها عند سماع ذلك فيأخذها الصياد .
وحكمها : حل الأكل لأنها من الطيبات .
الخواص : قال عبد الملك بن زهر : مرارة الذكر منها ، إذا اكتحل بها تنفع من نزول الماء ، وإن خلطت مع ماء الرازيانج واكتحل بها أبرأت من العشى بالليل ، وشحمه ينفع السكتة واللوقة سعوطاً ، وقال أرسطو : مرارة القبج ، إذا خلطت بدهن زئبق وسعط بها المحموم ساعة يحم ، فإنه يبرأ . قال : وصفة صيدهن أن يعجن لهن دقيق الشعير بالخمر ، ويوضع لهن حتى يأكلن ، فإذا أكلنه سكرن . فيصيدن .
القبرة : بضم القاف وتشديد الباء الموحدة واحدة القبر ، قال الجوهري : وقد جاء في الشعر قنبرة كما تقوله العامة ، وقال البطليوسي ، في شرح أدب الكاتب : وقنبرة أيضاً بإثبات النون ، قال : وهي لغة فصيحة ، وهو ضرب من الطير يشبه الحمرة ، وكنية الذكر منه أبو صابر وأبو الهيثم ، والأنثى أم العلعل قال طرفة وكان يصطادها :
يا لك من قبرة بمعمر . . . خلالك الجو فبيضي واصفري
قد رفع الفخ فماذا تحذري . . . ونقري ما شئت أن تنقري قد ذهب الصياد عنك فابشري . . . لا بد من أخذك يوماً فاحذري
والسبب في قوله ذلك أنه كان مع عمه في سفر وهو ابن سبع سنين فنزلوا على ماء ، فذهب طرفة بفخ له ، فنصبه للقنابر وبقي عامة يومه لم يصد شيئاً ثم حمل فخه وعاد إلى عمه ، فحملوا ورحلوا من ذلك المكان ، فرأى القنابر يلقطن ما نثر لهن عن الحب ، فقال ذلك . قال أبو عمرو : والمراد بالجو هنا ما اتسع من الأودية ، وحذف طرفة النون من قوله : فماذا تحذري ، لو فاق القافية أو لالتقاء(2/325)
"""""" صفحة رقم 326 """"""
الساكنين ، قال أبو عبيدة : يروى عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما ، أنه قال لابن الزبير ، حين خرج الحسين رضي الله تعالى عنه إلى العراق :
خلا لك الجو فبيضي واصفري
ولطرفة بن العبد ، قصة عجيبة مع عمرو بن المنذر بن امرئ القيس ، لما كتب له وللمتلمس صحيفتين ، ويقال له عمرو بن هند ، وكان لا يبتسم ولا يضحك ، وكانت العرب تسميه مضرط الحجارة لشدة ملكه ، فإنه ملك ثلاثاً وخمسين سنة ، وكانت العرب تهابه هيبة شديدة . وقال السهيلي : إنه هو عمرو بن المنذر بن ماء السماء ، وهند أمه وسمي أبوه المنذر بابن ماء السماء لشدة جماله ، وهو المنذر بن الأسود ، ويعرف عمرو بمحرق ، لأنه حرق مدينة يقال لها ملهم ، وهي عند اليمامة ، وقال العتبي والمبرد : سمي محرقاً لأنه حرق مائة من بني تميم . ملك ثلاثاً وخمسين سنة .
وكان طرفة غلاماً معجباً فجعل يتخلج في مشيته بين يديه ، فنظر إليه نظرة كادت تبتلعه من مجلسه ، فقال له المتلمس حين قاما : يا طرفة إني أخاف عليك من نظرته إليك ، فقال طرفة : كلا . ثم إنه كتب لهما كتابين إلى المكعبر وكان عامله على البحرين وعمان ، فخرجا من عنده وسارا حتى إذا هبطا بأرض قريبة من الحيرة ، فإذا هما بشيخ معه كسرة يأكلها وهو يتبرز ويقصع القمل ، فقال له المتلمس : بالله ما رأيت شيخاً أحمق وأضعف وأقل عقلا منك فقال له : وما الذي أنكرت علي ؟ فقال : تتبرز وتأكل وتقصع القمل قال : إني أخرج خبيثاً ، وأدخل طيباً ، وأقتل عدواً ولكن أحمق مني والأم حامل حتفه بيمينه ، لا يدري ما فيه فتنبه المتلمس ، وكأنما كان نائماً ، فإذا هو بغلام من أهل الحيرة يسقي غنيمة له من نهر الحيرة ، فقال له المتلمس : يا غلام أتقرأ ؟ قال : نعم . قال : اقرأ هذه ، فإذا فيها باسمك اللهم ، من عمرو بن هند إلى المكعبر ، إذا أتاك كتابي هذا مع المتلمس فاقطع يديه ورجليه وادفنه حياً . فألقى الصحيفة في النهر ، وقال : يا طرفة معك والله مثلها . فقال : كلا ، ما كان ليكتب لي مثل ذلك . ثم أتى طرفة إلى المكعبر ، فقطع يديه ورجليه ودفنه حياً . فضرب المثل بصحيفة المتلمس ، لمن يسعى في حتفه بنفسه ، ويغرر بها . وستأتي الإشارة إلى هذه القصة ، في باب الكاف ، في لفظ الكروان .
وكان سبب إحراق عمرو بن هند لبني تميم ، كما قاله العتبي والمبرد أن عمراً كان له أخ ، وهو أسعد بن المنذر ، وكان مسترضعاً في بني دارم ، فانصرف ذات يوم من صيده وبه نبيذ ، فمر بابل لسويد بن ربيعة التميمي ، فنحر منها بكرة فرماه سوبد بسهم فقتله . فلما سمع عمرو بن هند بقتل أخيه حلف ليحرقن منهم مائة رجل ، فأخذ منهم تسعة وتسعين رجلا ، فقذفهم في النار ، ثم أراد أن يبر قسمه بعدوز منهم ليكمل العدد ، فقالت : هلا فتى يفدي هذه العجوز بنفسه ؟ ثم قالت : هيهات صارت الفتيان حمماً ومر وافد البراجم ، فاشتم رائحة اللحم ، فظن أن الملك قد اتخذ طعاماً ، فعرج إليه فأتى به إليه ، فقال له : من أنت ؟ قال : أنا وافد البراجم ، فقال له عمرو :(2/326)
"""""" صفحة رقم 327 """"""
إن الشقي وافد البراجم ، فذهبت مثلا ثم أمر به فقذف في النار ، وقد أشار إلى ذلك ابن دريد في مقصورته بقوله :
ثم ابن هند باشرت نيرانه . . . يوم أوارات تميماً بالصلى
وأورات موضع ، وهو جمع واحدة أوارة ، وتميم قبيلة ، والصلى وهج النار . والقبرة غبراء كبيرة المنقار كأنما على رأسها قبرة ، وهذا الضرب من العصفور قاسي القلب ، وفي طبعه أنه لا يهوله صوت صائح ، وربما رمي بالحجر ، فاستخف بالرامي ولطأ بالأرض ، حتى يتجاوز الحجر ، وبهذا السبب لا يزال مأخوذاً أو مقتولا ، لأن الرامي يحمله الحنق عليه على مداومة ضربه حتى يصيبه ، وهو يضع وكره على الجادة حباً للأنس . روى الإمام الحافظ أبو بكر الخطيب البغدادي ، بإسناده عن داود بن أبي هند ، قال : صاد رجل قبرة ، فقالت : ما تريد أن تصنع بي ؟ قال : أذبحك وآكلك فقالت : والله إني لا أسمن ولا أغني من جوع ، وما أشفي من قرم ، ولكن أعلمك ثلاث خصال هي خير لك من أكلي : أما الواحدة فأعلمك إياها وأنا على يدك ، والثانية إذا صرت على الشجرة ، والثالثة إذا صرت على الجبل . قال : نعم . فقالت وهي على يده : لا تأسفن على ما فاتك ، فخلى عنها ، فلما صارت على الشجرة قالت : لا تصدقن بما لا يكون ، فلما صارت على الجبل ، قالت : يا شقي لو ذبحتني لوجدت في حوصلتي درة وزنها عشرون مثقالا . قال : فعض على شفته وتلهف ، ثم قال : هاتي الثالثة . فقالت : قد نسيت الثنتين الأوليين ، فكيف أعلمك الثالثة . قال : وكيف ؟ قالت : ألم أقل لك لا تأسفن على ما فاتك وقد تأسفت علي ، وقلت لك : لا تصدقن بما لا يكون ؟ وقد صدقت فإنه لو جمعت عظامي وريشي ولحمي لم تبلغ عشرين مثقالا ، فكيف يكون في حوصلتي درة وزنها عشرون مثقالا .
وحكى القشيري في رسالته ، عن ذي النون المصري رحمه الله ، أنه سئل عن سبب توبته ، فقال : خرجت من مصر إلى بعض القرى فنمت في بعض الصحارى ، ثم فتحت عيني فإذا أنا بقبرة عمياء سقطت من وكرها ، فانشقت لها الأرض ، وخرج منها سكرجتان إحداهما فضة وللأخرى ذهب ، في إحداهما سمسم والأخرى ماء ، فجعلت تأكل من هذه وتشرب من هذه ، قال : فتبت ولزمت الباب إلى أن قبلني ، وعلمت أن من لم يضيع القبرة لا يضيعني .
وحكمها : حل الأكل بالإجماع ، ووجوب الجزاء على المحرم بقتلها .
الخواص : لحمها يحبس البطن ويزيد في الباه ، وبيضها يفعل ذلك ، وإذا ديف زبلها بريق إنسان وطلي به الثآليل قطعها ، وإذا كرهت المرأة زوجها ، فليطل ذكره بشحمها ويجامعها ، فإنها تحبه .
تتمة : في الأسماء قنبر ، بضم القاف وإسكان النون وفتح الباء الموحدة ، جد سيبويه عمرو بن عثمان بن قنبر ، وسيبويه لقب له ، وهي لفظة أعجمية معناها رائحة التفاح وقنبر بضمتين جد إبراهيم بن علي بن قنبر البغدادي ، عن نصر الله القزاز وجد أبي الفتح محمد بن أحمد بن قنبر(2/327)
"""""" صفحة رقم 328 """"""
البزاز وغيرهما ، وأما قنبر بفتح القاف والباء فأبو الشعثاء قنبر ، وهو يروي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما وغيره ذكره ابن حبان في الثقات وقنبر مولى علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه ، قال ابن أبي حاتم : روي عن علي كرم الله وجهه ورضي عنه ، وكان حاجبه .
قال الشيخ في المهذب ، في كتاب القضاء : ولا يكره للإمام أن يتخذ حاجباً ، لأن يرفأ كان حاجب عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه ، والحسن كان حاجب عثمان رضي الله تعالى عنه ، وقنبر كان حاجب علي رضي الله تعالى عنه . قال محمد بن السماك : من عرف الناس داراهم ، ومن جهلهم ماراهم ، ورأس المداراة ترك المماراة . قيل : جلس أبو يوسف يعقوب بن السكيت يوماً مع المتوكل ، وكان يؤدب أولاده ، فجاءه المعتز والمؤيد ولدا المتوكل فقال له : يا يعقوب أيما أحب إليك ابناي هذان أم الحسن والحسين ؟ فقال : والله إن قنبراً خادم علي بن أبي طالب خير منك ومن ابنيك . فقال المتوكل للأتراك : سلوا لسانه من قفاه ، ففعلوا به ذلك ، فمات في ليلة الاثنين لخمس خلون من رجب سنة أربع وأربعين ومائتين . ثم إن المتوكل أرسل لولده عشرة آلاف درهم ، وقال : هذه دية والدك . كذا حكاه ابن خلكان في ترجمته . ومن العجب أنه كان قبل ذلك بيسير أنشد لولدي المتوكل وهو يعلمهما :
يصاب الفتى من عثرة بلسانه . . . وليس يصاب المرء من عثرة الرجل
فعثرته بالقول تذهب رأسه . . . وعثرته بالرجل تبرا على مهل
ومن محاسن شعر ابن السكيت :
إذا اشتملت على اليأس القلوب . . . وضاق لما به الصدر الرحيب
وأوطنت المكارة واستقرت . . . وأرست في أماكنها الخطوب
ولم تر لانكشاف الضر وجهاً . . . ولا أغنى بحيلته الأريب
أتاك على قنوط منك عفو . . . يمن به اللطيف المستجيب
وكل الحادثات إذا تناهت . . . فموصول بها فرج قريب
وعرف أبوه بالسكيت ، لأنه كان كثير السكوت ، طويل الصمت ، وكل ما كان على فعيل أو فعليل فإنه مكسور الأول . وكان ابن السكيت ، رحمه الله ، إماماً في اللغة ، مكثراً من نقل الغريب ، وله تصانيف مفيدة . القبعة : بضم القاف وتخفيف الباء الموحدة ، والعين المهملة المفتوحتين ، طير أبقع مثل العصفور ، يكون عند حجرة الجرذان ، فإذا فزع أو رمي بحجر انقبع فيها . ذكره ابن السكيت المذكور قبله . وقوله : انقبع فيها أي دخل الجحر فالتجأ فيه .
القبيط : كحمير طائر معروف .(2/328)
"""""" صفحة رقم 329 """"""
القتع : بفتح القاف والتاء المثناة والعين المهملة ، دود يكون في الخشب يأكله ، الواحدة قتعة ينزو ثم يقع .
ابن قترة : ضرب من الحيات لا يسلم من لدغته ، وقيل : هو ذكر الأفعى ، وهو نحو من الشبر ، وأبو قترة كنية إبليس قاله ابن سيده وغيره .
القدان : بكسر القاف وبالدال المهملة المشددة . البراغيث ، قاله ابن سيده . وقال غيره : هو دويبة تقرب من البرغوث تقرص قال الراجز :
يا أبتا أرقني القدان . . . فالنوم لا تطعمه العينان
قاله أبو حاتم في كتاب الطير ، وقيل : القدان يوجد كثيراً بالبلاد والطرق الرملة ، والناس يسمونه الدلم يقرص الإبل وغيرها .
القراد : واحد القردان ، يقال قرد بعيرك أي انزع منه القراد ، وقد تقدم الكلام عليه في الحلم . وقد ذكرنا أن مذهبنا استحباب قتل القراد في الإحرام وغيره ، وقال العبدري : يجوز للمحرم عندنا أن يقرد بعيره ، وبه قال ابن عمر وابن عباس وأكثر الفقهاء ، وقال مالك : لا يقرده . قال ابن المنذر : وممن أباح تقريد البعير عمر وابن عباس وجابر بن زيد وعطاء والشافعي وأحمد وإسحاق وأصحاب الرأي ، وكرهه ابن عمر ومالك . وروي عن سعيد بن المسيب أنه قال في المحرم يقتل قرادة : يتصدق بتمرة أو تمرتين . قال ابن المنذر : وبالأول أقول . وتقريد البعير أن سينزع القراد منه ، وفسره ابن الأثير وغيره بأنه الطبوع الذي يلصق بجسمه . وفي تصديق كعب بن زهير رضي الله تعالى عنه :
يمشي القراد عليها ثم يزلقه . . . عنها لبان وأقراب زهاليل
اللبان الصدر ، والأقراب الخواصر ، والزهاليل الملس . وفي حديث أبي جهل ، أن محمداً نزل يثرب وأنه حنق عليكم ، نفيتموه نفي القراد عن المسامع . يعني الآذان أي أخرجتموه من مكة إخراج استئصال ، لأن أخذ القراد عن الدابة قلعه بالكلية ، والأذن أخف الأعضاء شعراً ، بل أكثرها لا شعر عليه ، فيكون النزع منها أبلغ .
الأمثال : قالوا : أسمع من قراد ، وذلك أنه يسمع وطء أخفاف الإبل من مسيرة يوم ، فيتحرك لها ، قال أبو زياد الأعرابي : ربما رحل الناس عن عيارهم بالبادية وتركوها قفاراً ، والقردان منتشرة في أعطان الإبل ، ثم لا يعودون إليها عشر سنين وعشرين سنة ، ولا يخلفهم فيها أحد سواهم ، ثم يرجعون إليها فيجدون القردان في تلك المواضع أحياء ، وقد أحست بروائح الإبل قبل أن توافي فتتحرك لها ، ولذلك قالت العرب : أعمر من قراد . وقال حمزة : العرب(2/329)
"""""" صفحة رقم 330 """"""
تزعم أن القراد يعيش سبعمائة سنة ، وهذا من أكاذيبهم ، وإنما الضجر منهم به دعاهم إلى هذا القول فيه .
وهو في الرؤيا : يدل على الأعداء والحساد الأخساء ، وإن رأى الدلم منتشراً في الأرض والرمل ، فهو كذلك أيضاً والله تعالى أعلم .
القرد : حيوان معروف ، وكنيته أبو خالد وأبو حبيب وأبو خلف وأبو ربة وأبو قشة ، وهو بكسر القاف وسكون الراء ، وجمعه قرود ، وقد يجمع على قردة ، بكسر القاف وفتح الراء المهملة ، والأنثى قردة بكسر القاف وإسكان الراء ، وجمعها قرد بكسر القاف وفتح الراء ، مثل قربة وقرب . وهو حيوان قبيح مليح ذكي سريع الفهم يتعلم الصنعة .
حكي أن ملك النوبة أهدى إلى المتوكل قرداً خياطاً ، وآخر صائغاً . وأهل اليمن يعلمون القردة القيام بحوائجهم حتى إن القصاب والبقال يعلم القرد حفظ الدكان حتى يعود صاحبه ، ويعلم السرقة فيسرق .
نقل الشيخان عن القاضي حسين أنه قال : لو علم القرد النزول إلى الدار وإخراج المتاع ، فنقب وأرسل القرد فأخرج المتاع ، ينبغي أن لا يقطع لأن للحيوان اختياراً . ونقل البغوي في باب حد الزنا أن المرأة لو مكنت من نفسها قرداً فوطئها . فعليها ما على واطئ البهيمة فتعزر في الأصح ، وتحد في قول ، وتقتل في قول . فائدة : قال ابن عباس وعكرمة رضي الله تعالى عنهم في قوله تعالى : " الذي أحسن كل شيء خلقه ، أي أتقنه وقالا : ليست است القرد حسنة ، ولكنها متقنة محكمة ، فجميع المخلوقات حسنة ، وإن تفاوتت إلى حسن وأحسن . قال الله تعالى : " لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم " . والقردة تلد في البطن الواحد العشرة ، والإثني عشر ، والذكر ذو غيرة شديدة على الإناث . وهذا الحيوان شبيه بالإنسان في غالب حالته ، فإنه يضحك ويطرب ويقعى ويحكي ، ويتناول الشيء بيده ، وله أصابع مفصلة إلى أنامل وأظافر ، ويقبل التلقين والتعليم ، ويأنس بالناس ، ويمشي على أربع مشيه المعتاد ويمشي على رجليه حيناً يسيراً ، ولشفر عينيه الأسفل أهداب ، وليس ذلك لشيء من الحيوان سواه .
وهو كالإنسان ، وإذا سقط في الماء غرق كالآدمي الذي لا يحسن السباحة ، ويأخذ نفسه بالزواج والغيرة على الإناث ، وهما خصلتان من مفاخر الإنسان وإذا زاد به الشبق ، استمنى بفيه ، وتحمل الأنثى أولادها ، كما تحمل المرأة ، ومن سر هذا الحيوان أن الطائفة من هذا النوع ، إذا أرادت النوم ينام الواحد في جنب الآخر ، حتى يكونوا سطراً واحداً ، وإذا تمكن النوم منها ، نهض أولها من الطرف الأيسر ، فإذا قعد صاح فينهض من كان يليه ، ويفعل كفعله حتى يكون هذا إلى آخرهم ، يفعلون ذلك في الليل كله مراراً ، وسبب ذلك أنه يبيت في أرض ويصبح في أخرى ، وفيه من قبول التأديب والتعليم ما لا يخفى . ولقد درب قرد ليزيد على ركوب الحمار ، وسابق به(2/330)
"""""" صفحة رقم 331 """"""
مع الخيل ، وفيه يقول يزيد لما سبق بأتان ركبها فارساً :
من مبلغ القرد الذي سبقت به . . . جواد أمير المؤمنين أتان
تعلق أبا قش بها إن ركبتها . . . فليس عليها إن هلكت ضمان
روى ابن عدي ، في كامله ، عن أحمد بن طاهر بن حرملة بن أخي حرملة بن يحيى ، أنه قال : رأيت بالرملة قرداً يصوغ ، فإذا أراد أن ينفخ ، أشار إلى رجل حتى ينفخ له . وفيه ، في ترجمة محمد بن يوسف بن المنكدر عن جابر رضي الله تعالى عنه ، قال : إن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) " كان إذا رأى القرد خر ساجداً " .
وهو في المستدرك ، قبيل كتاب الجمعة . ذكره شاهداً ، وفيه في ترجمة ضمام بن إسماعيل ، أنه روى عن أبي قنبل ، أن معاوية صعد المنبر يوم جمعة ، فقال في خطبته : أيها الناس إن المال مالنا ، والفيء فيؤنا ، من شئنا أعطينا ، ومن شئنا منعنا ، فلم يجبه أحد . فلما كان في الجمعة الثانية ، قال كذلك فلم يجبه أحد . فلما كانت الجمعة الثالثة قال كذلك ، فقام إليه رجل فقال : كلا يا معاوية ، ألا إن المال مالنا ، والفيء فيؤنا ، من حال بيننا وبينه حاكمناه إلى الله تعالى بأسيافنا . فنزل معاوية ، وأرسل إلى الرجل ، فأدخل عليه ، فقال القوم : هلك الرجل ، ثم فتح معاوية الأبواب ، فدخل عليه الناس ، فوجدوا الرجل معه على السرير فقال معاوية : أيها الناس إن هذا الرجل أحياني أحياه الله ، سمعت رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يقول : " ستكون أئمة من بعدي يقولون فلا يرد عليهم ، يتقاحمون في النار كما تتقاحم القردة " ، وإني تكلمت أول جمعة فلم يرد علي أحد شيئاً ، فخشيت أن كون منهم ، ثم تكلمت في الجمعة الثانية فلم يرد علي أحد شيئاً ، فقلت في نفسي أنت من القوم ، فتكلمت في الجمعة الثالثة ، فقام إلي هذا الرجل ، فرد علي فأحياني ، أحياه الله ، فرجوت أن يخرجني الله منهم . ثم أعطاه وأجازه . ورواه ابن سبع ، في شفاء الصدور كذلك ، ورواه الطبراني في معجمه الكبير والأوسط ورواه الحافظ أبو يعلى الموصلي ورجاله ثقات .
وذكر القزويني في عجائب المخلوقات ، أن من تصبح بوجه قرد ، عشرة أيام ، أتاه السرور ولا يكاد يحزن ، واتسع رزقه وأحبته النساء حباً شديداً ، وأعجبن به . وفيما قاله نظر ظاهر . فائدة أخرى : روى الإمام أحمد ، عن أبي صالح ، عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه ، قال : إن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال : " إن رجلا حمل معه خمراً في سفينة ليبيعه ، ومعه قرد قال : فكان الرجل إذا باع الخمر ، ثابه بالماء ثم باعه ، قال : فأخذ القرد الكيس ، فصعد به فوق الدقل ، فجعل يطرح ديناراً في البحر وديناراً في السفينة حتى قسمه " . ورواه البيهقي عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أيضاً بمعناه . ولفظه أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال : " لا تشربوا اللبن بالماء ، فإن رجلا كان فيمن قبلكم يبيع اللبن ويشوبه بالماء ، فاشترى قرداً وركب البحر حتى إذا لجج فيه ألهم الله القرد صرة الدنانير ، فأخذ وصعد الدقل ففتح الصرة ، وصاحبها(2/331)
"""""" صفحة رقم 332 """"""
ينظر إليه فأخذ ديناراً فرمى به في البحر وديناراً في السفينة ، حتى قسمها نصفين ، فألقى ثمن الماء في البحر وثمن اللبن في السفينة " . قال : ومر أبو هريرة رضي الله تعالى عنه بإنسان يحمل لبناً وقد خلطه بالماء ، فقال له أبو هريرة : كيف بك يوم القيامة ، حيث يقال لك خلص الماء من اللبن ؟ وقد تقدم في باب الهمزة ، في لفظ الأسود السالخ حديث يتعلق بهذا والله تعالى أعلم .
فائدة أخرى : روى الحاكم ، في المستدرك عن الأصم ، عن الربيع عن الشافعي ، عن يحيى بن سليم عن ابن جريج ، عن عكرمة قال : دخلت على ابن عباس رضي الله عنهما ، وهو يقرأ في المصحف ، قبل أن يذهب بصره ، ويبكي ، فقلت له : ما يبكيك جعلني الله فداك ؟ فقال : هذه الآية " واسألهم عن القرية التي كانت حاضرة البحر " الآية . ثم قال : أتعرف أيلة ؟ قلت : وما أيلة ؟ قال : قرية كان بها أناس من اليهود ، حرم الله عليهم صيد الحيتان يوم السبت ، فكانت الحيتان تأتيهم في يوم سبتهم شرعاً بيضاً سماناً كأمثال المخاض ، فإذا كان غير يوم السبت ، لا يجدونها ولا يدركونها إلا بمشقة ومؤنة ، ثم إن رجلا منهم أخذ حوتاً يوم السبت ، فربطه إلى وتد في الساحل ، وتركه في الماء ، حتى إذا كان الغد أخذه فأكله ففعل ذلك أهل بيت منهم ، فأخذوا وشووا ، فوجد جيرانهم ريح الشواء ، ففعلوا كفعلهم ، وكثر ذلك فيهم فافترقوا فرقاً : فرقة أكلت ، وفرقة نهت ، وفرقة قالت : لم تعظون قوماً الله مهلكهم ؟ فقالت الفرقة التي نهت : إنا نحذركم غضب الله وعقابه ، أن يصيبكم بخسف أو قذف ، أو بعض ما عنده من العذاب ، والله ما نساكنكم في مكان أنتم فيه ، وخرجوا من السور ثم غدوا عليه من الغد ، فضربوا باب السور فلم يجبهم أحد فتسور إنسان منهم السور ، فقال : قردة والله لها أذناب تتعاوى ، ثم نزل ففتح الباب ، ودخل الناس عليهم فعرفت القردة أنسابها من الإنس ، ولم تعرف الإنس أنسابها من القردة قال : فيأتي القرد إلى نسيبه وقريبه فيحتك به ويلصق إليه ، فيقول الإنسي : أنت فلان ؟ فيشير برأسه أن نعم ، ويبكي وتأتي القردة إلى نسيبها وقريبها الإنسي ، فيقول : أنت فلانة فتشير برأسها أن نعم وتبكي . قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما : فاسمع الله يقول : " أنجينا الذين ينهون عن السوء وأخذنا الذين ظلموا بعذاب بئيس بما كانوا يفسقون " فلا أدري ما فعلت الفرقة الثالثة ، فكم قد رأينا من منكر ولم ننه عنه .
قال عكرمة : فقلت : ما ترى ، جعلني الله فداك أنهم قد أنكروا وكرهوا ، حين قالوا : لم تعظون قوماً الله مهلكهم أو معذبهم عذاباً شديداً ؟ فأعجبه قولي ذلك ، وأمر لي ببردين غليظين ، فكسانيهما . ثم قال : هذا صحيح الإسناد . وأيلة بين مدين والطور على شاطئ البحر . وقال الزهري : القرية طبرية .
وفي معالم التنزيل ، قال عكرمة : فقلت له : جعلني الله فداك ، ألا تراهم قد أنكروا وكرهوا ما هم عليه ، وقالوا : لم تعظون قوماً الله مهلكهم أو معذبهم عذاباً شديداً ؟ وإن لم يقل الله أنجيتهم لم يقل أهلكتهم . فأعجبه قولي ورضي به ، وأمر لي ببردين غليظين ، فكسانيهما وقال : نجت الساكتة .(2/332)
"""""" صفحة رقم 333 """"""
وفي المستدرك أيضاً : عن مسلم الزنجي ، عن العلاء عن أبيه عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه ، قال : إن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ، قال : " رأيت في منامي كأن بني الحكم بن أبي العاص ، ينزون على منبري ، كما تنزو القردة " . فما رؤي النبي ( صلى الله عليه وسلم ) مستجمعاً ضاحكاً حتى مات . ثم قال : صحيح الإسناد على شرط مسلم . وروى الطبراني ، في معجمه الأوسط ، من حديث أبي سعيد الخدري ، قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) : " في آخر الزمان تأتي المرأة فتجد زوجها قد مسخ قرداً لأنه لا يؤمن بالقدر " . فائدة أخرى : اختلف العلماء في الممسوخ هل يعقب أم لا ؟ على قولين أحدهما نعم ، وهو قول الزجاج والقاضي أبي بكر بن العربي المالكي ، وقال الجمهور : لا يكون ذلك . قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما : لم يعش ممسوخ قط أكثر من ثلاثة أيام ، ولا يأكل ولا يشرب . واحتج الأولون بقوله ( صلى الله عليه وسلم ) : " فقدت أمة من بني إسرائيل ، لا أدري ما فعلت ولا أراها إلا الفأر ألا ترونها إذا وضع لها ألبان الإبل لم تشربها ، وإذا وضع لها ألبان غيرها شربتها " . أخرجه مسلم عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه . وبحديث الضب الذي رواه مسلم عن أبي سعيد وجابر قالا : إن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أتي بضب فأبى أن يأكله ، وقال : " لا أدري لعله من القرود التي مسخت " . قال أبو بكر بن العربي المالكي : وفي البخاري عن عمر بن ميمون ، أنه قال : رأينا في الجاهلية قردة قد زنت ، فرجموها ورجمتها معهم . ثبت في بعض نسخ البخاري وسقط من بعضها . والجواب عن ذلك أن الحميدي ، في الجمع بين الصحيحين ، قال : حكى أبو مسعود الدمشقي أن لعمرو بن ميمون الأزدي في الصحيحين حكاية من رواية حصين عنه ، قال : رأيت في الجاهلية قردة قد زنت ، اجتمع عليها قردة فرجموها ورجمتها معهم . كذا حكاه أبو مسعود ، ولم يذكر في أي موضع أخرجه البخاري .
فبحثنا عن ذلك فوجدناه في بعض النسخ لا في كلها ، مذكوراً في كتاب أيام الجاهلية ، وليس في رواية الفربري أصلا شيء من هذا الخبر في القردة ، ولعلها من المقحمات في كتاب البخاري ، والذي قاله البخاري في التاريخ الكبير ، قال : قال لي نعيم بن حماد : أخبرنا هشيم ، عن أبي المليح وحصين عن عمرو بن ميمون الأزدي ، قال : رأيت في الجاهلية قردة اجتمع عليها قردة ، فرجموها ورجمتها معهم . وليس فيه قد زنت ، فلئن صحت هذه الرواية ، فإنما أخرجها البخاري عليلا على أن عمرو بن ميمون قد أدرك الجاهلية ، ولم يبال بظنه الذي ظنه ، وذكر أبو عمر بن عبد البر ، في الاستيعاب ، عن عمرو بن ميمون ، وقال : إنه معدود من التابعين من الكوفيين ، قال : وهو الذي رأى الرجم في الجاهلية بين القردة ، إن صح ذلك ، لأن رواته مجهولون .
وذكر البخاري ، عن نعيم عن هشيم عن حصين عن عمرو بن ميمون الأزدي مختصراً ، قال : " رأيت في الجاهلية قردة زنت فرجموها " . فذكره ، ثم قال : والقصة بطولها تدور على عبد(2/333)
"""""" صفحة رقم 334 """"""
الملك بن مسلم ، عن عيسى بن حطان ، وليسا ممن يحتج بها . وهذا عند جماعة من أهل العلم منكر إضافة الزنا إلى غير مكلف ، وإقامة الحدود على البهائم . ولو صح ، لكانوا من الجن ، لأن العبادات والتكليفات في الجن والإنس دون غيرهما .
وعمرو بن ميمون المذكور ، خرج له أصحاب الكتب الستة ، وحج ستين حجة توفي في سنة سبع وخمسين . وكان من الذين إذا روا ذكر الله تعالى . وأما حديث الضب والفأر فكان ذلك قبل أن يوحى إليه ( صلى الله عليه وسلم ) أن الله تعالى لم يجعل للممسوخ نسلا ، فلما أوحى إليه ، زال عنه ذلك المتخوف ، وعلم أن الضب والفأر ليسا مما مسخ ، فعند ذلك أخبرنا بقوله ( صلى الله عليه وسلم ) ، لمن سأله عن القردة والخنازير ، أهي مما مسخ ؟ فقال ( صلى الله عليه وسلم ) : " إن الله لم يهلك قوماً أو يعذب قوماً فيجعل لهم نسلا وإن القردة والخنازير كانوا قبل ذلك " . وهذا نص صريح ، رواه عبد الله بن مسعود رضي الله تعالى عنه . وقد أخرجه مسلم في كتاب القدر ، وثبتت النصوص بأكل الضب بحضرته ( صلى الله عليه وسلم ) ، وعلى مائدته فلم ينكره . فدل ذلك على صحة ما قلناه .
وعن مجاهد في تفسير آية المسخ ، في بني إسرائيل : إنما مسخت قلوبهم فقط ، وردت أفهامهم كأفهام القردة . وهذا قول تفرد به عن جميع المسلمين . الحكم : أكل القرد حرام عندنا . وبه قال عكرمة وعطاء ومجاهد والحسن وابن حبيب من المالكية . وقال مالك وجمهور أصحابه : ليس بحرام . وأما بيعه فيجوز ، لأنه يقبل التعليم فيمسك الشمعة ، ويحفظ الأمتعة . وقال ابن عبد البر ، في أوائل التمهيد : لا أعلم بين علماء المسلمين خلافاً في أن القرد لا يؤكل ، ولا يجوز بيعه ، لأنه مما لا منفعة فيه . وما علمت أحداً رخص في أكله . والكلب والفيل وذو الناب كله عندي مثله . والحجة في قول رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) لا في قول غيره . وما يحتاج القرد ومثله إلى النهي عنه ، لأنه يبهي عن نفسه بزجر الطباع والنفوس لنا عنه ، ولم يبلغنا عن العرب ولا عن غيرهم أكله . وروي عن الشعبي ، قال : إن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ، " نهى عن لحم القرد " لأنه سبع فيدخل في عموم الخبر .
الأمثال : منها قوله :
واسجد لقرد السوء في زمانه . . . وداره ما دمت في سلطانه
وقالوا : أزق من قرد وأحكى من قرد ، لأنه يحكي الإنسان في أفعاله سوى المنطق قال أبو الطيب :
يرومون شأوي في الكلام وإنما . . . يحاكي الفتى فيها خلا المنطق القرد
وقالوا : أقبح من قرد وأولع من قرد . لأنه إذا رأى الإنسان ، تولع بفعل شيء أخذ بفعله مثله .(2/334)
"""""" صفحة رقم 335 """"""
الخواص : قال الجاحظ : لحم القرد شبيه لحم الكلب ، بل هو شر وأخبث . قال ابن السويدي : إذا علق سنه على إنسان لم يغلبه النوم ولا الفزع بالليل ، وأكل لحمه يمنع من الجذام ، وجلده إذا علق على شجرة دفع عنها ضرر البرد ، وإذا اتخذ من جلده غربال وغربل به الزرشة وزرعت فإنها تسلم من آفات الجراد ، وإذا سقي إنسان من دم قرد وهو حار خرس من وقته ، وإذا رأى القرد طعاماً مسموماً خاف وصاح ، وإذا جعل شعره تحت رأس نائم رأى أهوالا تفزعه .
التعبير : القرد في المنام رجل فيه كل عيب مخالف ، لأن الله تعالى نهاه فلم ينته فمسخه ، ومن رأى قرداً يقاتله وغلب القرد فإن الرائي يمرض ويبرأ ، فإن غلبه القرد فلا يرجى برؤه ، ومن رأى أنه أكل لحم قرد فإنه يعالج داء لا يرجى برؤه منه ، وقالت النصارى : من أكل لحم قرد لبس جديداً ، ومن وهب قرداً في منامه انتصر على عدوه ، ومن رأى قرداً عضه خاصم إنساناً ، ومن رأى قرداً في فراشه فإنه يهودياً يفجر بامرأته ، وكذلك إذا أكل على مائدته ، والقرد رجل زالت نعمته لكبيرة ارتكبها ، ومن نكح قرداً ارتكب فاحشة ، أو خاصم إنساناً ، وقال ارطاميدورس : القرد رجل مكار خداع ، ويمد على مرض المريض ، وما يحدث من القمر ، لأن القرد من حيوان القمر . وقال جاماسب : من صاد قرداً انتفع من جهة السحرة والكهنة ، والله تعالى أعلم .
القردوح : الضخم من القردان ، قاله ابن سيده .
القرش : بكسر القاف ، وإسكان الراء المهملة ، وبالشين المعجمة في آخره دابة عظيمة من دواب البحر ، تمنع السفن من السير في البحر وتدفع السفينة ، فتقلبها وتضربها فتكسرها . قال الزمخشري : سمعت بعض التجار بمكة ، ونحن قعود عند باب بني شيبة ، وهو يصف لي القرش ، فقال : هو مدور الخلقة ، وعظمه كما من مقامنا هذا إلى الكعبة . ومن شأنه أن يتعرض للسفن الكبار فلا يرده شيء إلا أن يأخذ أهلها المشاعل فيمر على وجهه مثل البرق ، ولا يهاب شيئاً إلا النار ، وبه سميت قريش قريشاً قال الشاعر :
وقريش هي التي تسكن البح . . . ر بها سميت قريش قريشا
تأكل الغث والسمين ولاتت . . . رك فيه لذي جناحين ريشا
هكذا في البلاد حي قريش . . . يأكلون البلاد أكلا كميشا
ولهم آخر الزمان نبي . . . يكثر القتل فيهم والخموشا
الخموش الخدوش ، وكلا كميشاً أي سريعاً ، وقال ابن سيده : قريش دابة في البحر لا تدع دابة إلا أكلتها . فجميع الدواب تخافها ، ثم أنشد البيت الأول ، وقال المطرزي : ير سيدة الدواب البحرية . وأشدها ، وكذلك قريش سادات الناس ، وحكى أبو الخطاب بن دحية ، في تسمية قريش ، وفي أول من تسمى به عشرين قولا .
فائدة أجنبية : قريش بن مالك بن النضر بن كنانة جد النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ، هو الذي تنسب إليه قريش ، ومن ولده بدر بن قريش الذي سميت به بدر بدراً وأم النضر برة بنت مر بن أد بن طابخة ، تزوجها كنانة بعد موت أبيه خزيمة ، فولدت له النضر على ما كانت الجاهلية تفعله ، إذا(2/335)
"""""" صفحة رقم 336 """"""
مات الرجل خلفه على زوجته بعده أكبر بنيه من غيرها . كذا قاله السهيلي رحمه الله تعالى ، تبعاً للزبير بن بكار . قال : ولذلك قال الله عز وجل : " ولا تنكحوا ما نكح أباؤكم من النساء إلا ما قد سلف ، أي من تحليل ذلك قبل الإسلام . وفائدة الاستثناء هنا لئلا يعاب نسب النبي ( صلى الله عليه وسلم ) وليعلم أنه ( صلى الله عليه وسلم ) ، لم يكن في أجداده نكاح سفاح . ألا ترى أنه لم يقل في شيء نهى عنه في القرآن نحو : " ولا تقربوا الزنا " " ولا تقتلوا النفس " ولا في شيء من المعاصي التي نهى عنها ، إلا ما قد سلف إلا في هذه الآية . وفي الجمع بين الأختين ، فإن الجمع بينهما كان مباحاً في شرع من قبلنا ، وقد جمع يعقوب عليه الصلاة والسلام بين الأختين وهما راحيل وليا ، فقوله تعالى : " إلا ما قد سلف " التفات إلى هذا المعنى . قال : وهذه النكتة من الإمام أبي بكر بن العربي ، قال الحافظ قطب الدين عبد الكريم : ولما وقفت على هذا ، أقمت مفكراً مدة لكون أن برة المذكورة كانت زوجاً لخزيمة ، فخلف عليها كنانة بن خزيمة ، فجاء له منها النضر بن كنانة وإن هذا وقع في نسب النبي ( صلى الله عليه وسلم ) وقد روينا عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أنه قال : " ما ولدني من سفاج أهل الجاهلية لشيء ، إنما ولدت من نكاح كنكاح الإسلام " إلى أن رأيت أبا عثمان عمرو بن بحر الجاحظ قال ، في كتاب له سماه بكتاب الأصنام : وخلف كنانة بن خزيمة على زوجة أبيه ، بعد وفاته ، وهي برة بنت أد بن طابخة ، جد كنانة بن خزيمة ، ولم تلد لكنانة ولداً ذكراً ولا أنثى ، ولكن كانت ابنة أخيها برة بنت مرة بن أد بن طابخة تحت كنانة بن خزيمة ، فولدت له النضر بن كنانة .
قال : وإنما غلط كثير من الناس ، لما سمعوا أن كنانة خلفه على زوجة أبيه لاتفاق اسمهما ، وتقارب نسبهما ، وهذا الذي عليه مشايخنا وأهل العلم والنسب . قال : ومعاذ الله أن يكون أصاب نسب النبي ( صلى الله عليه وسلم ) نكاح مقت ، وقد قال ( صلى الله عليه وسلم ) : " ما زلت أخرج من نكاح كنكاح الإسلام حتى خرجت من بين أبي وأمي " . ثم قال : ومن اعتقد غير هذا فقد كفر وشك في هذا الخبر . قال : والحمد لله الذي نزهه عن كل وصم ، وطهره تطهيراً انتهى .
قلت : وهذا أرجو به الفوز للجاحظ في منقلبه ، وأن يتجاوز الله عنه ما سطره في كتبه ، وأشرت إلى ذلك في أول كتاب السير من المنظومة بقولي :
محمد خير جميع الخلق . . . جاء من الحق لنا بالحق
دعوة إبراهيم الخليل . . . بشارة المسيح في التنزيل
الطيب الأصول والفروع . . . الطاهر المحتد والينبوع
آباؤه قد طهرت أنساباً . . . وشرفت بين الورى أحسابا
نكاحهم مثل نكاح الإسلام . . . كذا رواه النجباء الأعلام(2/336)
"""""" صفحة رقم 337 """"""
ومن أبى أوشك في هذا كفر . . . وذنبه بما جناه ما اغتفر
نقل ذا الحافظ قطب الدين . . . عن صاحب البيان والتبيين
الحكم : أفتى شيخنا الشيخ جمال الدين الأسنوي رحمه الله تعالى بحل أكل القرش ، وبه صرح الشيخ محب الدين الطبري شارح التنبيه ، في الكلام على التمساح ، ثم استشكل به تحريم التمساح ، وهذا يدل على أنه لا خلاف فيه .
وفي نهاية ابن الأثير التصريح بحله ، لكن قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما : إنه يأكل ولا يؤكل ، ولعل مراده أنه يأكل الحيوانات البحرية ، ولا يستطيع أحد منها أن يأكله . والقرش يوجد ببحر القلزم الذي غرق فيه فرعون ، وهو عند عقبة الحاج ، كما تقدم في باب السين المهملة ، في الكلام على السقنقور ، وإطلاق الجمهور ونص الإمام الشافعي والقرآن العزيز يدل على جواز أكل القرش ، لأنه من السمك ، ومما لا يعيش إلا في الماء . وقد ذكر النووي ، في شرح المهذب ، أن الصحيح أن كل ما في البحر حلال ، ويحمل ما استثناه الأصحاب على ما يعيش في غير الماء .
التعبير : رؤيته في المنام تحل على علو الهمة والشرف في النسب ، فإنه يعلو ولا يعلى عليه والله تعالى أعلم .
القرقس : بكسر القافين ، البعوض ، قال الأصحاب : يستحب قتل المؤذيات للمحرم وغيره ، كالحية والعقرب والخنزير والكلب العقور والغراب والحدأة والذئب والأسد والنمر والدب والنسر والعقاب والبرغوث والبق والزنبور والقراد والحلمة والقرقس وما أشبهها .
القرشام والقرشوم والقراشم : القراد الضخم .
القرعبلانة : دويبة عريضة محبنطئة الظهر والبطن ، وأصله قرعبل فزيدت فيه ثلاث أحرف . لأن الاسم لا يكون على أكثر من خمسة أحرف وتصغيره قريعبة قاله الجوهري .
القرعوش : القراد الغليظ .
القرقف : كهدهد طير صغير .
القرقفنة : بالنون المشددة ، كذا ضبطه في العباب ، روى الدينوري في المجالسة ، وابن الأثير ، من حديث وهب ، " إذا كان الرجل لا ينكر عمل السوء على أهله ، طار طائر يقال له القرقفنة ، فيقع على مشريق بابه ، فيمكث هناك أربعين يوماً ، فإن أنكر طار وذهب ، وإن لم ينكر مسح بجناحيه على عينيه فصار قندعاً ديوثاً ، فلو رأى الرجال مع امرأته ، لم ير ذلك قبيحاً . فذلك القناع الديوث الذي لا ينظر الله تعالى إليه " .
قال إبراهيم الحربي : مشريق الباب مدخل الشمس ، والقناع الديوث الذليل الذي لا يغار(2/337)
"""""" صفحة رقم 338 """"""
ولا يفهم ، وذكره الهروي بمعناه .
القرلي : بضم القاف وكسرها وفتحها ملاعب ظله ، وسيأتي ، إن شاء الله تعالى ، في باب الميم . قال الجواليقي : هو فارسي معرب ، وقال الميداني : إنه طائر صغير الجرم ، حديد البصر ، سريع الاختطاف ، لا يرى إلا فرقاً على وجه الماء على جانب كطيران الحدأة ، يهوي بإحدى عينيه إلى قعر الماء طمعاً ، ويرفع الأخرى إلى الهواء حذراً ، فإن أبصر في الماء ما يستقل بحمله من المك أو غيره ، انقض عليه كالسهم المرسل ، فأخرجه من قعر الماء ، وإن أبصر في الهواء جارحاً مر في الأرض ، ومن أسجاع ابنة الخس : كن حذراً كالقرلى ، إن رأى خيراً تدلى ، أو رأى شراً تولى ، وقال حمرة : قد خالف رواة النسب هذا التفسير ، فقالوا : إن قرلى اسم رجل من العرب ، كان لا يتخلف عن طعام أحد ، ولا يترك موضع طعم إلا قصد إليه ، وإن صادف في طريق قد سلكه خصومة ، ترك ذلك الطريق ولم يمر به ، فذلك قالوا فيه : أطمع من قرلى فهذا ما حكاه النسابون ، في تفسير هذا المثل ، ثم قال : وأنا أقول : إنه خليق أن يكون هذا الرجل تثبه بهذا الطائر وتسمى باسمه قال الشاعر :
يا من جفاني وملا . . . نسيت أهلا وسهلا
ومات مرحب لما . . . رأيت ما لي قلا
إني أظنك تحكى . . . بما فعلت القرلى
الحكم : يحل أكله لأنه من طير الماء .
الأمثال : قالوا : أخطف وأطمع من قرلى وأحذر وأحزم من قرلى .
القرمل : ولد البختى والقرامل الإبل ذوات السنامين . وفي الحديث : تردى قرمل لبعض الأنصار على رأسه في بئر فلم يقدروا على نحره فسألوه ( صلى الله عليه وسلم ) : فقال : " حرقوه ثم قطعوا أعضاءه " . وأما قولهم في المثل : دليل عاذ بقرملة في شجرة ضعيفة لا شوك لها . قال جرير :
كأن الفرزدق إذ يعوذ بخاله . . . مثل الذليل يعود تحت القرمل
يضرب لمن استعان بضعيف لا نصرة له ، لأن القرملة شجرة على ساق لا تكن ولا تظل .
القرميد : الأروية .
القرمود : بفتح القاف ذكر الوعول حكاه ابن سيده .
القرنبى : مقصور ، دويبة طويلة الرجلين مثل الخنفساء ، أو أعظم منها بيسير . وقال(2/338)
"""""" صفحة رقم 339 """"""
الميداني ، في قولهم ألزق من القرنبى : إنها الجعل ، وقال في موضع آخر : مثل الخنفس منقطة الظهر طويلة القوائم . وفي أدب الكاتب أنها أكبر من الخنفساء ، قال الأخطل يصف جارية وبعلها :
ألا يا عباد الله قلبي متيم . . . بأحسن من صلى وأقبحهم بعلا
ينام إذا نامت على عكناتها . . . ويلثم فاها كالسلافة أو أحلى
يدب إلى أحشائها كل ليلة . . . عبيب القرنبى بات يعلو نقا سهلا
قال الجاحظ : إنها تقتات الروث وتطلبه كما يطلبه الجعل .
الأمثال : قالوا : القرنبى في عين أمها حسناء . وقالوا : ألزق من قرنبى لأن كل من بات بالصحراء ، وكل عن قام إلى الغائط تتبعه لأنها نوع من الجعل قال الشاعر :
ولا أطرق الجارات بالليل قابعاً . . . قبوع القرنبى أخلفته مجاحرة
القرهب : كثعلب ، الثور المسن ، قاله الجوهري رحمه الله تعالى وغيره .
القزر : بكسر القاف وبالزاي نوع من السباع ، قال الحطيئة ، لما حبسه عمر رضي الله تعالى عنه :
ماذا تقول لأفراخ بذي مرح . . . خمص الحواصل لا ماء ولا شجر
ألقيت كاسبهم في قعر مظلمة . . . فاغفر عليك سلام الله يا عمر
أنت الإمام الذي من بعد صاحبه . . . القى إليك مقاليد النهى البشر
لم يؤثروك بها إذ قدموك لها . . . لكن لأنفسهم كانت لها الآثر فامنن على صبية بالرمل مسكنهم . . . بين الأباطح يغشاها بها القزر
أهلي فداؤك كم بيني وبينهم . . . من عرض دوية ما يفنى بها الخبر
القرم : الفحل الكريم من الإبل الذي يترك من الركوب والعمل ، ويودع القحة ، والجمع قروم ، والقرم من الرجال السيد العظيم ، المجرب للأمور ، وعلى المثل من ذلك قال الشاعر :
إلى الملك القرم وابن الهمام . . . وليث الكتيبة في المزدحم
عطف صفة على صفة ، لشيء واحد ، كقولك : جاءني الظريف والعاقل ، وأنت تريد شخصاً واحداً ، روى مسلم والنسائي وأبو داود ، من حديث ابن شهاب ، أن عبد المطلب بن ربيعة بن الحارث قال : اجتمع ربيعة بن الحارث والعباس بن عبد المطلب وقالا : لو بعثنا هذين الغلامين عبد المطلب بن ربيعة والفضل إلى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ، وكلماه فأمرهما على هذه الصدقات ، فأديا ما يؤدي الناس وأصابا مما أصاب الناس ، فبينما هما في ذلك ، إذ جاء علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه ، فوقف عليهما فذكرا له ذلك ، فقال : لا تفعلا ، فوالله ما هو بفاعل . وألقى علي رداءه(2/339)
"""""" صفحة رقم 340 """"""
ثم اضطجع عليه وقال : أنا أبو حسن القرم ، والله لا أبرح من مكاني حتى يرجع إليكما ابناكما ، فلما رجعا قالا : ذهبنا إلى النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فقلنا : يا رسول الله أنت أبر الناس ، وأوصل الناس ، وقد بلغنا النكاح ، وقد جئنا لتؤمرنا على بعض هذه الصدقات ، فنؤدي إليك ما يؤدي الناس ، ونصيب ما يصيبون . فسكت ( صلى الله عليه وسلم ) طويلا ، ثم قال : " إن الصدقة لا تنبغي لآل محمد ، إنما هي أوساخ الناس ، ادعوا محمئة بن جزء ونوفل بن الحارث بن عبد المطلب " . قالا : فجاآه ، فقال لمحمئة : " أنكح الفضل ابنتك " فأنكحه ، وقال لنوفل بن الحارث : " أنكح عبد المطلب ابنتك " . فأنكحه . وقال لمحمئة : " أصدق عنهما من الخمس كذا وكذا " . وكان رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) استعمله على الأخماس انتهى .
ملخصاً قوله أنا أبو حسن القرم ، هو بتنوين حسن ، والقرم مرفوع ، قال ذلك لأجل الذي كان عنده من علم ذلك . وكان رضي الله تعالى عنه يقول هذه الكلمة عند الأخذ في بيان قضية تشكل على غيره ، وهو يعرفها . ولذلك جرى كلامه هذا مجرى المثل ، حتى قالوا : " قضية ولا أبا حسن لها " ، أي هذه قضية مشكلة وليس هناك من يبينها ، كما كان يفعل أبو الحسن رضي الله تعالى عنه ، الذي هو علي بن أبي طالب .
القرة : بالضم الضفدعة قاله الجوهري رحمه الله تعالى .
القسورة : الأسد ، قال الله تعالى : " كأنهم حمر مستنفرة فرت من قسورة " . روى البزار بإسناد صحيح عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه ، أنه قال : القسورة الأسد ، قال الشاعر :
مضمر يحذره الأبطال . . . كأنه القسورة الرئبال
وروى ابن طبرزذ ، بإسناده إلى الحكم بن عبد الله بن خطاب عن الزهري عن أبي واقد ، قال : لما نزل عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه الجابية ، أتاه رجل من بني تغلب ، يقال له روح بن حبيب بأسد في تابوت ، حتى وضعه بين يديه ، فقال رضي الله تعالى عنه : أكسرتم له ناباً أو مخلباً . قالوا : لا . قال : الحمد لله سمعت رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يقول : " ما صيد مصيد إلا بنقص في تسبيحه " . يا قسورة اعبد الله ، ثم خلى سبيله .
وقد تقدم في باب الغين المعجمة ، أنه روي عن أبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنه مثل ذلك في الغراب . وقال ابن عباس رضى الله تعالى عنهما في القسورة : هو بلسان العرب الأسد ، وبلسان الحبشة القسورة ، وبلسان فارس سير ، وبلسان النبط أرنا . وقيل القسورة فعولة من القسر ، وهو القهر ، سمي الأسد بذلك لأنه يقهر السباع ، وقال ابن جبير : القسورة رجال القنص ، وقيل القسورة الرجال الشداد ، وقال ثعلب : القسورة سواد أول الليل خاصة لا آخره ، والمعنى فرت من ظلمة الليل ولا شيء أشد نفاراً من حمر الوحش . واللفظة مأخوذة من القسر الذي هو الغلبة والقهر .(2/340)
"""""" صفحة رقم 341 """"""
القشعمان : كالعقربان والثعلبان ، النسر ، قال الشاعر :
تركت أباك قد أطلى ومالت . . . عليه القشعمان من النسور
يقال أطلى الرجل أي مالت عنقه للموت أو لغيره .
القشبة : القردة قاله الجوهري رحمه الله تعالى ، وقال الأصمعي : هي الصغيرة من أولادها .
الأمثال : قالوا : أكيس من قشبة . يضرب مثلا للصغار خاصة .
القصيرى : مقصوراً مصغراً ضرب من الأفاعي . القط : السنور والأنثى قطة ، والجمع قطاط وقططة . قال ابن دريد : لا أحسبها عربية صحيحة . قلت : وهو محجوج بقوله ( صلى الله عليه وسلم ) : " عرضت على جهنم فرأيت فيها المرأة الحميرية صاحبة القط الذي ربطته فلم تطعمه ولم تسرحه " . كذا رواه الربيع الجيزي فيمن ورد مصر من الصحابة رضي الله تعالى عنهم .
ولما أتصلت ميسون بنت بحدل الكلبية أم يزيد بن معاوية بمعاوية ، وكانت ذات جمال باهر ، وحسن غامر ، أعجب بها معاوية رضي الله تعالى عنه ، وهيأ لها قصراً مشرفاً على الغوطة ، وزينه بأنواع الزخارف ، ووضع فيه من أواني الفضة والذهب ما يضاهيه ، ونقل إليه من الديباج الرومي الملون والموشى ما هو لائق به ، ثم أسكنها ، مع وصائف لها ، كأمثال الحور العين ، فلبست يوماً أفخر ثيابها ، وتزينت وتطيبت بما أعد لها ، من الحلي والجوهر ، الذي لا يوجد مثله ، ثم جلست في روشنها ، وحولها الوصائف ، فنظرت إلى الغوطة وأشجارها ، وسمعت تجاوب الطير في أوكارها ، وشمت نسيم الأزهار وروائح الرياحين والنوار ، فتذكرت نجداً ، وحنت إلى أترابها وأناسها ، وتذكرت مسقط رأسها ، فبكت وتنهدت فقالت لها بعض حظاياها : ما يبكيك وأنت في ملك يضاهي ملك بلقيس ؟ فتنفست الصعداء ، ثم أنشدت :
لبيت تخفق الأرواح فيه . . . أحب إلي من قصر منيف
ولبس عباءة وتقر عيني . . . أحب إلي من لبس الشفوف
وأكل كسيرة في كسر بيتي . . . أحب إلي من أكل الرغيف
وأصوات الرياح بكل فج . . . أحب إلي منه نقر الدفوف
وكلب ينبح الطراق دوني . . . أحب إلي من قط ألوف
وبكر يتبع الأظعان صعب . . . أحب إلي من بغل زفوف
وخرق من بني عمي نحيف . . . أحب إلي من علج عنوف
فلما دخل معاوية ، عرفته الحظية بما قالت ، وقيل : إنه سمعها ، وهي تنشد ذلك ، فقال : ما رضيت ابنة بحدل حتى جعلتني علجاً عنوفاً ، هي طالق ثلاثاً ، مروها فلتأخذ جميع ما في القصر ،(2/341)