حيَّ على الجهاد
تأليف/ الدكتور وسيم فتح الله
بسم الله الرحمن الرحيم
(يأيها النبي حرِّض المؤمنين على القتال)
(سورة الأنفال – آية 65)
"لمّا كان الجهادُ ذِروةَ سنام الإسلام وقُبَّتَه، ومنازلُ أهله أعلى المنازل في الجنة، كما لهم الرفعةُ في الدنيا، فهم الأعلون في الدنيا والآخرة، كان رسولُ الله صلى الله عليه وسلم في الذروةِ العليا منه، واستولى على أنواعِه كلِّها فجاهد في الله حقَّ جهاده بالقلب، والجنان، والدعوة، والبيان، والسيف، والسنان، وكانت ساعاتُه موقوفةً على الجهاد بقلبه، ولسانه، ويده. ولهذا كان أرفعَ العالمين ذكراً، وأعظمَهم عند الله قدراً"
ابن قيم الجوزية رحمه الله تعالى
بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على قائد المجاهدين وإمام الغُرِّ المحجَّلين، بعثه اللهُ تعالى بالسيف بين يدي الساعة وبالكتابِ المبين، فجاهدَ الكفارَ بالحجة والبيان، وبلَّغهم رسالةَ ربه بالسنة والقرآن، حيث أمره الله تعالى: (فاصدَع بما تُؤمر وأعرِض عن المشركين) سورة الحجر – آية 94، ثم كان أمرُ الله تعالى بالجهاد: (يأيها النبيُّ جاهد الكفارَ والمنافقين) سورة التوبة – آية 73، فما لانت له قناةٌ يجاهدُ أئمة الكفر حتى أتاه اليقين، فصلوات ربي وسلامه عليه، وعلى أزواجه وآله الطيبين، وصحابته الأخيار الأبرار الذين ساروا مِن بعده على درب الجهاد، ففتحوا بإذن ربهم البلاد أجميعن، وبعد؛(1/1)
فإنه لا يخفى على أحدٍ ما يتعرض له الإسلام اليوم من حملةٍ مسعورة، وما تتعرض له شعائر الإسلام الظاهرة من تشويهٍ وتشكيكٍ وتعطيل، وما يعانيه أهل الإسلام من غربة الدين، ومن هزيمة المنتسبين إليه تحت وطأة الشبهات، وغفلة الشهوات، وجَلَبة إبليس ومَن تبعه من الشياطين. كما لا يخفى أن عبادة الجهاد تمثِّلُ أحد أهم شعائر الدين التي تتعرض لحملة تشويهٍ وتعطيلٍ منهجيةٍ مِن قِبل أعداء الإسلام الظاهرين والخوَنة المستبطنين، حتى رانت حملاتُ التشويه هذه على القلوب، وأُلجمت بها ألسنة الناس عن بيان الحق، فأصبح كثيرٌ من المنتسبين للإسلام اليوم غافلين سادرين عن فريضة الجهاد، لاهين عن تحديث أنفسهم بها وإعداد العدة لها، وإذا ما زلَّ اللسان بذكر الجهاد فعلى سبيل التنصل من العنف والإرهاب، واختزال هذه العبادة العظيمة في سياقٍ تاريخيٍ قد طواه النسيان، وحلَّ مكانه خطابُ التوهين والتخذيل والتثبيط ابتغاء إماتة فريضةِ الجهاد في سبيل الله، ويا له من خطابٍ منكرٍ مخالفٍ لمقتضى العزةِ الإيمانية حيث قال تعالى: (ولا تهِنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلَون إن كنتم مؤمنين) سورة آل عمران – آية 139، ومخالفٍ لأمر الله تعالى: (ولا تَهِنوا في ابتغاء القوم إن تكونوا تألمون فإنهم يألمون كما تألمون وترجون من الله ما لا يرجون وكان الله عليماً حكيماً) سورة النساء – آية 104، ولأمرِه تعالى: (فلا تَهِنوا وتدْعُوا إلى السَلم وأنتم الأعلون والله معكم ولن يَتِرَكم أعمالكم) سورة محمد – آية 35. فالله تعالى يريد لنا العِزة، ويريد منا الصبر والمصابرة على مشاق الدعوة والجهاد في سبيل الله، والله تعالى يريد منا أن نحسن الظن به سبحانه، وأن نكون على يقين بأنَّ ألم الجهاد يسيرٌ عارضٌ في مقابل آلام الآخرة، وأن نكون على يقين بأنَّ الله تعالى لن ينقصَنا من أعمالنا شيئاً، إن نحن أخلصنا البذل والعطاء والتضحية والفداء في سبيل الله تعالى، هذا مع العلم(1/2)
والإيمان بأن الله تعالى غنيٌ عنا، لا تنفعه طاعة الطائعين، ولا تضره معصية العاصين، سبحانه وتعالى وجل في علاه، إنما هو الاصطفاء والاختيار والتمحيص والاختبار ليتأهلَ مَن كتب اللهُ تعالى له السعادة لدار النعيم الدائم، وليحقَّ القولُ على الكافرين والمنافقين في دركات الجحيم، قال تعالى: (ولَنَبلُوَنَّكم حتى نعلمَ المجاهدين منكم والصابرين ونبلُوَ أخباركم) سورة محمد – آية 31، وقال تعالى: (ولِيعلم الله الذين آمنوا ويتخذَ منكم شهداء والله لا يحب الظالمين) سورة آل عمران – آية 140.(1/3)
ولما كنا نحن أتباع رسول الله صلى الله عليه وسلم مأمورين بإحياء سنته، وإظهار شعائر ملته، وموالاة أهل ديانته، والبراءة من أهل عداوته، كان حقاً علينا السعي بكل ما نملك لإحياء هذه الفريضة العظيمة بقلوبنا، وألسنتنا، وجوارحنا، يجاهدُ كلٌ منا بما يستطيع مِن ذلك كلَّ ما يتوجه إليه الجهاد من النفوس والشياطين والكفار والمنافقين. وهذا الكتاب رسالةٌ أوجهها إلى نفسي أولاً، ثم إلى كل إخواني في الله تهييجاً وتحريضاً على الجهاد باعتباره عبادةً ربانية، وشريعةً محمدية، لها شروطها ومقدماتها وأركانها وواجباتها وسننها وفقهها وأحكامها، لا يسع أحداً منا الإقدامُ عليها إلا بتحرير ركنَي السلامة في الأعمال؛ تجريد النية الخالصة لله تعالى، وتجريد المتابعة الخالصة لرسول الله صلى الله عليه وسلم. فالنية الخالصة بالجهاد تحت راية الإسلام لا غَير، لنصرة الإسلام لا غير، والمتابعة الخالصة بضبط هذه العبادة لتكون وفق الشرع فتؤتي أُكلَها وثمارَها وتمنع مِن تحولها إلى تهارجٍ وسفكِ دماءٍ عبثي لا يحقق للشريعة مقصداً، ولا يؤلف على الإسلام أحداً. والمقصود أن هذا الكتاب لا يُقصد منه تحرير وبيان الأحكام الفقهية للجهاد، فلذلك مكانه في متون الفقه وحِلَق العلم وتوجيهات العلماء، وإنما هو كتابٌ في الحث على هذه العبادة والحض عليها، حتى إذا استجاب المخاطَب لهذا التهييج والتحريض توجّه الخطابُ عليه بالتفقه في كيفية أداء هذه العبادة على وجهها المشروع، فكما أن ما يُكتب في بيان فضائل العبادات كالصلاة والصوم والزكاة والحج لا يُغني ولا يُعفي أحداً مِن تعلُّم كيفية أداء هذه العبادات على وجهها المشروع، فكذلك الحال مع هذا الكتاب، ومَن فهم مما يأتي فيه على أنه دعوةٌ للتكفير المنفلت من ضوابط الشرع، والتهارج المؤجج لنار الفتنة، والتقاتل الذي لا يَعرف لدماء المسلمين حُرمةً فيمضي على غير بينةٍ وعلى هدىً ولا كتابٍ منير فأنا أُشهد الله أني(1/4)
منه ومن ذلك بريء.
إن المقصود من هذا الكتاب تسليط بعض الضوء على روح الجهاد والتحليق في علياء سمائه، والتعرف على سمو غاياته، وتحديث النفس بالإعداد له، حتى تتوق النفوس إلى تتبع خطى سلف هذه الأمة بجهادٍ صحيحٍ يُبذل فيه الدم والمال في سبيل الله، فإذا بسفينة الإسلام تمضي من جديد، وإذا بدماء الشهداء روافد تروي شجرة التوحيد، فتنتشر أغصانها وأوراقها ليستظل بها كلُّ باحثٍ عن الحق منعه من الوصول إليه سلطانٌ جائر أو حكمٌ كافر، وليتناول من قطافها كلٌّ مَن تعطشت روحه إلى شيءٍ من معاني التوحيد والفناء في حبِّ الله سبحانه وتعالى، والعزوفِ عن الدنيا كل الدنيا، في سبيل نيل كرامة الشهيد ومنزلة الشهداء، نسأل الله تعالى أن يوفقنا لذلك.
اللهم ما وفقتني إليه من كلمة حقٍ وقول صوابٍ في هذا الكتاب فمنك وحدك لا شريك لك، وما كان منه خلاف الحق فأنا منه بريء، وأستغفرك وأتوب إليك منه، ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهب لنا من لدنك رحمة، إنك أنت الوهاب.
وكتب
الفقير إلى عفو ربه
وسيم بن محمود فتح الله
24 ربيع الآخر 1429 هجرية
الموافق 30 نيسان /أبريل 2008 ميلادية
الفصل الأول:
الجهاد؛ مفهومه وأهدافه
"يا رسولَ الله، ما لنا وللغنائم، إنما نحن قومٌ نجاهدُ في دين الله حتى يُعبدَ اللهُ"
عمر بن الخطاب رضي الله عنه
الفصل الأول: الجهاد مفهومه وغايته(1/5)
الجهاد في سبيل الله ذروة سنام الإسلام، والجهاد في سبيل الله عنوان عزة الإسلام وراية سؤدده، والجهاد في سبيل الله إعلاءُ كلمة الله تعالى، وإسفالُ كلمة الكفر، وإذلالُ أهل الإباق عن عبودية الله عز وجل؛ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :"رأس الأمر الإسلام، وعموده الصلاة، وذروة سنامه الجهاد" سنن الترمذي – حديث 2616 ، وقال صلى الله عليه وسلم: " بُعثت بين يدي الساعة بالسيف حتى يُعبد الله وحده لا شريك له، وجُعل رزقي تحت ظل رمحي، وجعل الذلة والصغار على من خالف أمري، ومن تشبه بقومٍ فهو منهم" مسند الإمام أحمد – حديث 5115، وقال الله تعالى: (وقاتلوهم حتى لا تكون فتنةٌ ويكون الدينُ كلُّه لله) سورة الأنفال – آية 39 ، وقال الله تعالى: (قاتِلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يُحرِّمون ما حرَّم الله ورسوله ولا يَدِينون دِين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يُعطوا الجزية عن يدٍ وهم صاغرون) سورة التوبة – آية 29.(1/6)
إن تعبيد الناس لله سبحانه وتعالى هو المقصد الشرعي الأسمى للجهاد في سبيل الله إذاً؛ وليس هذا مرادفاً لإكراه الناس على اعتقاد الإسلام ولا يستلزمه، والسر في فهم المسألة أن نميز ما بين العقيدة المستقرة في القلب طواعيةً، بحيث لا يمكن لإنسانٍ أن يُكره إنساناً آخر عليه، وبين انقياد ظاهر الناس لحكم الله عز وجل طوعاً أو كرهاً مما يندرج تحت جنس العبودية القهرية لله تعالى كما قال عز وجل: (أفغَير دين الله يبغون وله أَسلَمَ مَن في السماوات والأرض طوعاً وكرهاً وإليه يُرجعون) سورة آل عمران – آية 83. فقلب الفرد بين حالين؛ أحدهما اعتقاد ما أمر الله به من توحيده وإفراده بالطاعة والانقياد، والثاني استكباره عن ذلك واعتقاد ما ينافيه من الشرك والإلحاد. وأما ظاهر الفرد، فإما أن يستطيع التعبير عن معتقده القلبي إذا انتفت الموانع من ذلك، وإما أن توجد الموانع التي لا تُمكنّه من التعبير عن معتقده فيبقى مكبوتاً مقهوراً، بل قد يصير مكرَهاً على إظهار خلاف ما يعتقده بقلبه. فإذا تأملنا في حق الله عز وجل في تعبيد مخلوقاته له سبحانه وتعالى، وتأملنا في حكمة الله عز وجل في اختبار المكلَّفين ضمن دائرة الاختيار الشرعي، وتأملنا في قهر الله عز وجل لمخلوقاته ضمن دائرة التقدير الكوني، تبين لنا أن الله تعالى له حقُّ تعبيد الناس له وحده لا شريك له، وأن الله تعالى قد أرسل رسلَه ليدعوا الناس إلى عبادته وحده لا شريك له، فكان منهم من اعتقد ذلك بقلبه وعبد الله طوعاً ضمن دائرة التخيير الشرعي، فاستحق حماية الله عز وجل له بتشريع ما يزيل موانعَ إظهار عبوديته لله سبحانه وتعالى، وكان منهم من استكبر عن هذه العبودية الطوعية ليعقد قلبه على ما يخالف توحيد الله من شركٍ وكفر، فاستحق أن يُقهر تحت سوط العبودية القهرية لحكم الله تعالى، دون أن يُغير ذلك شيئاً من معتقده القلبي، ودون أن يُكره على ترك كفره الظاهر، فيكون حُكمُ الله تعالى(1/7)
المفروض عليه من جنس العقوبة، لا من جنس الإكراه على الدين.
إن فهم هذه المسألة يزداد وضوحاً عند التدبر في الغايات التي ينتهي إليها القتال في النصوص الشرعية المتقدمة آنفاً، وهي :
حتى يُعبد الله وحده لا شريك له
حتى لا تكون فتنةٌ ويكون الدين كله لله
حتى يُعطوا الجزية عن يدٍ وهم صاغرون
فالغاية الأولى: في قوله صلى الله عليه وسلم "بُعثت بين يدي الساعة بالسيف حتى يُعبد الله وحده لا شريك له" إن نظرنا فيه إلى معنى "حتى" أنها للغاية والانتهاء، دلَّت على أن هذا هو الحد الذي يجب كف القتال عند بلوغه، وهذا المعنى موافقٌ لحديثه صلى الله عليه وسلم:"أُمِرت أن أقاتلَ الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة، فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحق الإسلام وحسابهم على الله" صحيح البخاري – حديث 25، فمعنى "حتى" هنا لبيان الغاية التي يجب عندها الكف عن القتال.(1/8)
وإن نظرنا إلى "حتى" أنها لبيان علة القتال، اتجه المعنى إلى إزالة الموانع التي تصد الناس عن الإعلان بظاهرهم عما يعتقدون بقلوبهم من إيمانهم بالله وبرسوله، فيتحرر العباد عندئذٍ من قهر العباد الذين يصدون عن سبيل الله ويبغونها عوجاً، وإن إهمال الجهاد الذي هذا علته يؤدي إلى قهر المؤمنين ومنعهم من إظهار دينهم، كما قال تعالى : (مَن كفرَ بالله مِن بعد إيمانه إلا مَن أُكرِه وقلبُه مطمئنٌ بالإيمان ولكن من شرح بالكفر صدراً فعليهم غضبٌ من الله ولهم عذابٌ عظيم) سورة النحل – آية 106 ، فهذا المستثنى من الغضب هو الذي أُكره على إظهار الكفر مع كونه مؤمناً في الباطن، ولا يخفى أن الله تعالى قد يبتلي عباده المؤمنين بتسليط بعض عدوهم عليهم، لكنه سبحانه لا يخذل عباده المقهورين المؤمنين به على وجه الدوام، ولهذا فإن هذه العلة في الجهاد علة واضحة لا إشكال فيها، وهي إزالة الموانع التي تمنع المؤمنين من إظهار إيمانهم بالله تعالى، وإزالة الموانع التي تمنع القابلين للإيمان مما يحول بينهم وبين سماع دعوة الإسلام.
فالحاصل من الوجهين في معنى "حتى" في حديث السيف، بيان الحد الذي يَحرُم عنده قتال الناس، وبيان علة الجهاد وهي رفع الموانع التي تصد المؤمنين عن إظهار إيمانهم، وليس فيما تقدم إكراهٌ لأحد على اعتناق الإسلام، فليتبنه لهذا.
والغاية الثانية: في قوله تعالى (وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله) سورة الأنفال – آية 39، فالكلام هنا على دلالة شطري الآية؛
فالشطر الأول يدل على علة القتال وهو منع الفتنة؛ أي فتنة أهل الإيمان بما يمنعهم من إظهار دينهم وإكراههم على إظهار غيره، كما افتتنت قريش أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم أول الدعوة ونكلت بهم ما لا يخفى على أحد.(1/9)
وأما دلالة الشطر الثاني فتتعلق بمعنى كون الدين كله لله، وهل يدل هذا على إكراه الناس كافة على الدخول في الإسلام؟ وإن تحرير الجواب يسيرٌ من خلال الوقوف عند كلٍ من المعنى الشرعي والمعنى اللغوي للفظ "الدين":
فالوجه الأول:حمل لفظ "الدين" في الآية على معناه الشرعي وهو الإسلام كما في قوله تعالى : (إن الدين عند الله الإسلام) سورة آل عمران – آية 19
والوجه الثاني: حمل لفظ "الدين" على معناه اللغوي وهو الحُكم، كما في قوله تعالى: (ما كان لِيأخذ أخاه في دين المَلِك) سورة يُوسف – آية 76 أي في حكم الملك وقانونه.
ولعل المعنى اللغوي وهو الحكم أقرب إلى غايات جهاد الطلب هنا، وتوضيحه أن الكافر يُعرض عليه إحدى ثلاث: الإسلام أو الحرب أو الجزية، فإن أسلم طوعاً فبها، وإن قَبِل الجزية طوعاً أو كرهاً بعد الحرب فقد نزل على حكم الله عز وجل، وإن أَبى إلا الحرب فغلب المسلمين فالحرب سجال، وإن غلبه المسلمون وتمكنوا منهم أنزلوا فيهم حكم الله على تفصيلٍ عند الفقهاء ليس هذا محله، ولكن الشاهد أن ما ينزله عليهم المسلمون هنا هو حكم الله عز وجل دون أن يكرهوهم على الإسلام وهذا هو المطلوب، أعني نفي شبهة الإكراه على الإسلام. والدليل على أن هذا الحكم الذي يُنزله المؤمنون بالمغلوبين من الكفار هو حكم الله عز وجل ما صح في الحديث لمّا حكَّم رسول الله صلى الله عليه وسلم سعدَ بن معاذ في بني قريظة، بعد أن ظفر بهم بعد خيانتهم العهد في غزوة الخندق، فقال صلى الله عليه وسلم :"لقد حكمتَ فيهم بحكمِ الله، وقال مرة: لقد حكمت بحكم الملك" صحيح مسلم – حديث 1768.(1/10)
ويؤكد هذا المعنى أن الله تعالى قال: (ولو شاء ربك لآمن مَن في الأرض كلهم جميعاً أفأنت تُكره الناس حتى يكونوا مؤمنين) سورة يونس – آية 99، فدل على أن إرادة الله الكونية لم تتعلق باعتناق الناس الإسلام كُرهاً، ولكن هذا لا يمنع أن يفرض الله تعالى على عباده حكمَه أو قهرَه أو عذابَه كوناً وقدراً أيضاً. وقد يكون هذا القهر بأيدي المؤمنين كما قال تعالى: (قاتِلوهم يُعذبهم الله بأيديكم ويُخزِهم وينصركم عليهم ويَشفِ صدورَ قومٍ مؤمنين. ويُذهب غيظ قلوبهم ويتوبُ الله على مَن يشاء والله عليمٌ حكيمٌ) سورة التوبة – آية 14-15؛ فهذه مقاصد لقتال وجهاد الكفار ليس فيها إكراههم على اعتناق الإسلام، بل فيها قهرهم بعذاب الله تعالى عقوبةً لهم على الكفر، ولست أدري أحداً فيه مِسكة من عقل ينازع اللهَ تعالى حقَّه في أن يعاقبَ من أبق من عبيده بما شاء من ألوان العقوبة والخزي.(1/11)
أما إذا حُمل لفظ "الدين" في الآية على الإسلام فيقوى مورد الالتباس عند البعض، فيظن أن في هذا إكراهاً للناس على دخول الإسلام، وإنما أُتي هؤلاء من غفلتهم عن أن دين الله تعالى وهو الإسلام حقٌ في نفسه، وأنه لا تصح مقارنته بغيره من الأديان الباطلة في نفس الأمر، فظن هؤلاء المساكين أن مقام دين الله تعالى كمقام غيره من الأديان الباطلة، بحيث يجب أن تتاح فرصة الاختيار منها بحرية مطلقة وعلى قدمٍ سواء، وهذا إنما أُتي من الغفلة عن مقام دين الله تعالى وأنه هو الدين الحق وحده، لا من جهة اعتقادنا نحن أتباع هذا الدين، بل من جهة الدين نفسه، فالإسلامُ حقٌ في نفس الأمر سواءٌ آمن الناس بذلك أم لم يؤمنوا. وحيث إن الأمر كذلك فمن حق الله تعالى على عباده أن يفرض تمكين دينه وفق ما تقتضيه حكمته من أساليب بالدعوة تارة وبالقتال تارة أخرى، وفي هذا وهذا خيرٌ للعباد، كما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "عجب الله من قومٍ يدخلون الجنة في السلاسل" صحيح البخاري – حديث 3010، وبيانه ما صح عن أبي هريرة رضي الله في قوله تعالى (كنتم خيرَ أمةٍ أُخرجت للناس) سورة آل عمران – آية 110 قال:"خير الناس للناس، تأتون بهم في السلاسل في أعناقهم حتى يدخلوا في الإسلام" صحيح البخاري – حديث 4557، قال الحافظ ابن حجر رحمه الله :"قال ابن الجوزي:معناه أنهم أُسروا وقُيدوا، فلما عرفوا صحة الإسلام دخلوا طوعاً فدخلوا الجنة، فكان الإكراه على الأسر والتقييد هو السبب الأول" فتح الباري – 6/145.(1/12)
فحاصل الأمر هنا أن كون الدين كله لله تعالى إما أن يراد به أن الحكم في الناس مسلمهم وكافرهم لله تعالى وحده، فهذا الحق لله تعالى وحده لا ينازع فيه من لديه أدنى مسكة من عقل. وإما أن يراد به نفس الإسلام، وقد تقدم بيانه من جهة رفع الموانع التي تصد من اعتنق الإسلام باطناً عن إعلانه ظاهراً، ومن جهة تحصيل مصالح العباد في الآجل لمن أراد الله أن يهديه فيجعل قهره في الابتداء طريقاً لتعرفه على الإسلام واعتناقه طوعاً في الانتهاء، فسبحان الله ما أوسع علمه وما أعظم حكمته وما أكمل قدرته.
والغاية الثالثة: في قوله تعالى (قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يُحرِّمون ما حرَّم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يُعطوا الجزية عن يدٍ وهم صاغرون) سورة التوبة – آية 29، وهذه آيةٌ جامعةٌ لمعاني الجهاد وغاياته العظيمة، إذ جمعت موجب القتال وهو الكفر، وغايته وهو تحكيم شرع الله، وبيَّنت أقسامَ الناس من حيث الانقياد لهذا الحكم، وهم أهل الحرب المندوب إلى قتالهم، وأهل الجزية الصاغرون المقهورون بحكم الله، وأهل الإيمان المسلمون طوعاً.
والكلام في هذه الآية حول معنى "حتى" أيضاً؛ فأما "حتى" بمعنى الغاية فتفيد بيان الحد الذي لا يجوز تعديه في قتال أهل الكتاب ومَن في حكمهم وهو قبولهم الجزية، بل عدم جواز قتالهم ابتداءً إذا أذعنوا للجزية ابتداءً. وأما "حتى" بمعنى العلة فتفيد أن علّةَ قتالهم قهرُهم تحت حكم الله تعالى؛ عقوبةً لهم على كفرهم من جهة، وتعريفاً لهم بالإسلام عن قرب بعد انقهارهم تحت حكمه من جهة أخرى، ليجد من شاء اللهُ تعالى له الهداية أثر ذلك قبولاً وإذعاناً طوعياً للإسلام، وليس في أي مما تقدم إكراه أحدٍ على الإسلام،بل فيه آثار ربوبية وألوهية الملك الحق، وفيه آثار أسمائه الحسنى وصفاته العلى، فلله الحمد على ما وفَّق إليه.(1/13)
ويمكن إجمال مفهوم الجهاد وفق هذه الغايات والمقاصد لجهاد الطلب في قوله تعالى: (وجعل كلمةَ الذين كفروا السفلى وكلمةُ الله هي العليا) سورة التوية – آية 40، وهو المعنى المصرح به في الحديث، أنه جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: الرجل يقاتل للمغنم، والرجل يقاتل للذِكر أي ليذكر الناس شجاعته ، والرجل يقاتل ليُرى مكانه، فمن في سبيل الله؟ قال:" مَن قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله" صحيح اليخاري – حديث 2810.(1/14)
بقيت مسألةٌ يدندن حولها كثير من المخَذِّلين اليوم، حيث يبثون مفهوماً للجهاد يضيق بالنفوس المؤمنة المتشوقة إلى بعثرة أجسادها في محراب الشهادة، ويضيق عن استيعاب سمو الإسلام وهو يحلِّق بأرواح الموحدين ليستقر بها تحت عرش الرحمن، ذلك المفهوم القاصر الذي أقره الإسلام حاجةً من حوائج الإنسان كما أقر الحاجة إلى الماء والغذاء، ولكنه لم يجعله أبداً حداً لبذل النفوس والغوالي في سبيل الله عز وجل، وقد توهم هؤلاء أن ابتداء تشريع القتال بقوله تعالى: (أُذن للذين يُقاتَلون بأنهم ظُلموا وإن الله على نصرهم لقدير) سورة الحج – آية 39 توهموا أن هذا الإذن حدٌ لدوافع الجهاد وغاياته، بحيث إذا كُفَّ العدوان عن الأجساد والأموال والأعراض والأوطان فقد أَفَلَت شمس الجهاد، في حين أن المتدبر في تأخر هذا الإذن في الدفاع عن النفس الذي يمثل حاجةً فطرية ضرورية لكل إنسان، مع ما في هذا التأخير من فوات كثير من الأنفس التي قضت في العهد المكي تحت سياط القهر والتنكيل الجسدي مع فوات الأموال والأعراض والتهجير من الأوطان، إن المتدبر في هذا كله الذي يقول المحققون إنه كان لمصلحة الدعوة وللتمكين للدعوة، ليُدرك أن حقيقة تأخير الإذن في القتال دفاعاً عن النفس ما هو إلا صورة من صور بذل النفس والمال والأهل والوطن في سبيل الله، نعم إنه صورةٌ من الجهاد فُتك فيها بالأنفس كما يُفتك بها في ساحات جهاد الطلب، وأُفنيت فيها الأموال كما تُفنى في إعداد جهاد الطلب، وتشتت فيها الأهلون كما يُشتتون في جهاد الطلب، وهُجِرت فيه الأوطان كما تُهجر في سياق جهاد الطلب، وما ذلك كله إلا تحقيقاً لمفهوم الجهاد؛ بذلُ كلِّ ما نملك لإعلاء كلمة الله تعالى...(1/15)
إن الذين يقصرون مفهوم الجهاد على الدفاع عن النفس والأموال والأبناء لا يبتعدون كثيراً عن حال بني إسرائيل حيث وصفهم الله تعالى: (ألم تَرَ إلى الملأ من بني إسرائيل من بعد موسى إذ قالوا لنبيٍ لهم ابعث لنا ملكاً نقاتل في سبيل الله) هكذا زعموا أنهم يريدون القتال في سبيل الله، فأراد نبيهم أن يحقق ويحرر مفهوم القتال (قال هل عسيتم إن كُتب عليكم القتال ألا تُقاتلوا)، فانظر كيف كان تحريرهم لنية القتال في سبيل الله (قالوا وما لنا ألا نقاتل في سبيل الله وقد أُخرجنا من ديارنا وأبنائنا) نعم هذه حقيقة قتالهم دفاع عن حظوظ النفس، فلما كان هذا حالهم محَّصهم الله تعالوا وميز خبيثهم من طيبهم (فلما كُتب عليهم القتال تولَّوا إلا قليلاً منهم والله عليم بالظالمين) الآية المجزأة كلها من سورة البقرة – آية 246، نعم هؤلاء الذي يقصرون مفهوم الجهاد على الدفاع عن النفس والوطن هم من جنس أولئك الكثير المتولي، أما نحن فحديثنا عن أولئك القليل، وما أقلهم عدداً، وما أعظم شأنهم عند الله وهم يؤدون الشهادة التي نكل عنها الكثير الكثير غيرهم...(1/16)
إن جهاد الدفع حقٌ أقره الإسلام، ولكنه ارتقى به فوق رتبة حظوظ النفس، وجعله جهاداً يدفع به عن مقاصد الشريعة الغراء لا عن حظوظ النفس المجردة، فهو بهذه الدرجة يرتقي إلى مفهوم الجهاد الحقيقي في الإسلام، مفهوم إعلاء كلمة الله تعالى، أما أن يُحجَّم مفهوم الجهاد في حفظ حظوظ النفس، فهذا لعمري مما تشترك به الإنسانية جمعاء مسلمهم وكافرهم، بل إنه لمما تشترك فيه البهائم، وهل من حيوان متحرك إلا وهو يدافع عن نفسه فطرةً وغريزة، فحاشا الإسلام أن تكون ذروة سنامه من جنس فطرة البهائم، كلا، بل إن ذروة سنام الإسلام نسيان حظوظ النفس جميعاً، وبثها بين شقي الرحى لتستحيل عبقاً من دم الشهادة، وليتبعثر مسكاً يعطر أرجاء الكون بأعظم شهادة شهدها مخلوق؛ شهادة أن لا إله إلا الله، وهذا هو الجهاد في سبيل الله....
الفصل الثاني:
الجهاد؛ غايةٌ ووسيلة
"والذي نفس محمدٍ بيده، لوددت أني أغزو في سبيل الله فأُقتل، ثم أغزو فأُقتل، ثم أغزو فأُقتل"
رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم
الفصل الثاني:الجهاد؛ غايةٌ ووسيلة
الجهاد في سبيل الله عبادة وأي عبادة، إنه العمل الذي لا يستطيع أحدٌ من العباد أن يأتي بمثله إلا أن يظل صائماً قائماً مدة خروج المجاهد في سبيل الله، قال النبي صلى الله عليه وسلم :"مَثلُ المجاهد في سبيل الله كمثل الصائم القائم القانت بآيات الله، لا يفتُر من صيامٍ ولا صلاة، حتى يرجع المجاهد في سبيل الله تعالى" صحيح مسلم – حديث 1878. وقال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم قلت: يا رسول الله أي العمل أفضل؟ قال: الصلاة على ميقاتها. قلت: ثم أي؟ قال: ثم بر الوالدين. قلت: ثم أي؟ قال: الجهاد في سبيل الله" صحيح البخاري – حديث 2782.(1/17)
فمنزلة الجهاد في سبيل الله إذاً منزلة العبادات المشروعة لمحض التعبد لله تعالى، لا مجرد منزلة الوسائل الموصلة إلى مقاصد أُخرى كدفع العدو ونحوه. وتأمل كيف جعل النبي صلى الله عليه وسلم عِدل الجهاد في سبيل الله الصيام والقيام المستمرين طيلة خروج المجاهد، فدل على أن الجهاد من جنس العبادة المحضة لا من جنس الوسائل المحضة. فليتأمل هذا جيداً من يُلبِّسُ على المسلمين فيزعم أن الجهاد في سبيل الله وسيلة للدفاع عن المسلمين والإسلام فحسب، وأنه إذا أمكن تحقيق ذلك بوسيلة أخرى أو لم يكن هناك عدوان على المسلمين فلا حاجة للجهاد، ولا يخفى أن مآل هذا القول تعطيل الجهاد في سبيل الله عز وجل، أعني جهاد الطلب الذي شرعه الله ورسوله صلى الله عليه وسلم لإعلاء كلمة الله وإسفال كلمة الكفر.
قال النبي صلى الله عليه وسلم: "والذي نفسي بيده، لولا أن رجالاً من المؤمنين لا تطيب أنفسُهم أن يتخلفوا عني، ولا أجد ما أحملهم عليه، ما تخلَّفتُ عن سريّةٍ تغدو في سبيل الله، والذي نفسي بيده لوددت أني أُقتل في سبيل الله ثم أُحيا، ثم أُقتل ثم أُحيا، ثم أُقتل ثم أُحيا، ثم أُقتل" صحيح البخاري – حديث 2797، فها هو أكرم خلق الله تعالى صلوات الله وسلامه عليه يتمنى الخروج في كل سريّة وغزوة في سبيل الله، ثم يُفصح عن غرضه الشريف من ذلك فإذا به الاستشهاد في سبيل الله؛ لا مرة، ولا مرتين، بل مرات ومرات، تكون خاتمتها أن يُقتل بأبي هو أمي صلوات الله وسلامه عليه في سبيل الله، وفي سبيل الله وحده...(1/18)
إن المتدبر في الحديث السابق لَيدرك أن كل سرية تخلَّف عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم شفقةً على من لا يستطيع الخروج من المسلمين كانت كافيةً في رفع الحرج عن الأمة المسلمة، وبلغة الفقهاء نقول إنها كافية في أداء فرض الكفاية في الجهاد الواجب، أو قل إنها كانت كافية كوسيلة لتحقيق هدف الغزوة أو السرية تلك، ومع ذلك فقد تمنى صلوات الله وسلامه عليه الخروج معها لا لشيء إلا لطلب الشهادة في سبيل الله، فهل بقي في النفس شك في أن الجهاد في سبيل الله غاية مقصودة لذاتها فضلاً عن كونها وسيلة لتحقيق مقاصدها ومصالحها؟(1/19)
إن الإسلام دين الفطرة، وهو دينٌ لا يُنكر حاجات بني آدم ولا يحجر عليه ما فيه تحصيلُ مصالحه ودرءُ مفاسده، بل إن أحكام الشريعة كلها إنما جاءت لدرء المفاسد وتحقيق المصالح في العاجل والآجل كما نبه على ذلك العلامة العز بن عبد السلام رحمه الله، فليس كلامنا هنا في نفي أن يكون الجهاد وسيلةً مشروعةً لدفع خطرٍ أو رد صائلٍ اعتدى على الأمة أو بعضها أو حتى فردٍ واحدٍ منها، بل إن الإسلام قد قرر حق الفرد الواحد في الدفع عن ماله ولو أفضى ذلك الدفع إلى هلاكه، فلأن يشرع الإسلام الجهاد وسيلةً للدفاع عن حرمات الأمة من باب أولى، فعن أبي هريرة قال: "جاء رجلٌ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، أرأيت إن جاء رجل يريد أخذ مالي؟ قال: فلا تعطه مالك. قال: أرأيت إن قاتلني؟ قال: قاتِله. قال: أرأيت إن قتلني؟ قال: فأنت شهيد. قال: أرأيت إن قتلتُه؟ قال: هو في النار" صحيح مسلم – حديث 140، فتأمل في قوله صلى الله عليه وسلم "فأنت شهيد" فإنه يدل على مشروعية هذا القتال، ولئن كان في حفظ المال جائزاً ففي حفظ الأعراض والأنفس من باب أولى. ولكن الذي نتكلم فيه أن الإسلام قد ارتقى بفطرة الدفاع عن النفس وما تملك، ليصل بها إلى آفاق أسمى تعلو فيها الروح عن مجرد تلبية حاجاتٍ فطرية، لتتنسك في محراب العبودية باذلةً أَنفَسَ ما لديها في سبيل بارئها وخالقها الذي هو أحب إليها من كل شيء. لقد ارتقى الإسلام بالجهاد ليصبح عَلَماً على حلاوة الإيمان وتحقيقاً لمعنى قوله صلى الله عليه وسلم: "ثلاثٌ من كُنَّ فيه وجد حلاوة الإيمان: أن يكون اللهُ ورسولُه أحبَّ إليه مما سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله، وأن يكره أن يعود في الكفر كما يكره أن يُقذف في النار" صحيح البخاري – حديث 16، نعم؛ إن من أحب الله ورسوله أكثر مما سواهما بذل في سبيل إعلاء كلمة الله تعالى كل ما يملك، ومن أحب عباد الله لله تعالى دافع عنهم بكل ما يملك، ومن(1/20)
كره الكفر وأحب الإيمان بذل في سبيل تعبيد الناس لله كل ما يملك، وبهذه المنطلقات يتحول الجهاد إلى غاية بذاتها لا ترتبط بمجرد تحقيق مصالح الأمة الإسلامية بدفع عدو أو تأمين سبيل أو رباط ثغرٍ، بل إن الأمة لو كُفيت ذلك لتمنى المؤمن المتذوق لحلاوة الإيمان أن يجاهد في سبيل الله لنفس الجهاد، كما تمناه بأبي هو وأمي صلوات الله وسلامه عليه لنفس الجهاد ولنفس الشهادة، وهذا ما نريده من قولنا إن الجهاد غاية كما أنه وسيلة، بل إن كونه غاية ألصق بمفهوم العبودية من كونه وسيلة، والله أعلم.
ومما يؤكد أن الجهاد عبادة محضة ما رواه ابن عمر رضي الله عنهما قال: "عرضني رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أُحدٍ في القتال وأنا ابن أربع عشرة سنة فلم يُجِزني، وعرضني يوم الخندق وأنا ابن خمس عشرة سنة فأجازني" صحيح مسلم – حديث 1868؛ فهي إذا عبادةٌ لها شروط وضوابط شرعية، وليست مجرد وسيلة لا نظر فيها إلى ضوابط ولا قيود. ولو أن نظرة الإسلام إلى الجهاد كانت من باب الوسيلة الصرفة التي لا قيود لها ولا ضوابط لما رد رسول الله صلى الله عليه وسلم أحداً ممن يمكن أن يساهم في القتال، لا سيما وأن الموعد الجنة، ولكن واقع الأمر لم يكن كذلك، فتأمل هذا كله رعاك الله.(1/21)
لقد وثَّق القرآن الكريم عَقداً فريداً ليس له مثيلٌ في تاريخ البشرية، إنه عقدٌ بين المخلوق الفقير والخالق الغني جل في علاه، فقال تعالى: (إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة يقاتلون في سبيل الله فيَقتلون ويُقتَلون وعداً عليه حقاً في التوراة والإنجيل والقرآن ومن أوفى بعهده من الله فاستبشروا ببيعكم الذي بايعتم به وذلك هو الفوز العظيم) سورة التوبة – آية 111، وجعل القرآن الكريم هذا العقد الفريد محور التجارة في سوقٍ ربحها الجنة، فقال تعالى: (يأيها الذين آمنوا هل أدلكم على تجارة تنجيكم من عذابٍ أليم. تؤمنون بالله ورسوله وتجاهدون في سبيل الله بأموالكم وأنفسكم ذلكم خيرٌ لكم إن كنتم تعلمون. يغفر لكم ذنوبكم ويُدخلكم جناتٍ تجري من تحتها الأنهار ومساكن طيبةً في جنات عدن ذلك الفوز العظيم. وأُخرى تحبونها نصرٌ من الله وفتحٌ قريب وبشِّر المؤمنين) سورة الصف – آية 10-13. فهذه هي السوق، وهذه هي السلعة، وهذه هي التجارة الرابحة.وإن الكثير من سواد الأمة اليوم، ومن رجال وشباب الأمة اليوم يريد أن يقدم للإسلام قسطاً من ثمن البيع الذي عقده مع الله عز وجل، ويريد أن يتاجر في هذه السوق برأس المال الذي يملكه : نفسه وماله، فإذا بالبعض يخرج عليه في زي ناصحٍ وما هو بناصح، وفي دعوة عاقلٍ وما هو بعاقل، لسان حاله يقول: لا تضيع نفسك رخيصة، فالمعركة الحقيقية ليست هنا، وها قد ذهب عشرات بل مئات بل آلاف الشباب إلى ما أنت ذاهبٌ إليه، فلم يرجعوا بشيء، ولم يحققوا للأمة شيئاً، فما الفائدة من ذهابك، وتضييع نفسك، بل إن الأفضل لك أن تحافظ على نفسك لتقدم شيئاً للإسلام، وتقدم شيئاً للأمة. فيالها من شبهة قوية، ويا له من كلام جميل لولا أنه يصطدم مع الحقيقة القرآنية التي تقول بل وتحث وتحرض على هذا الذي يحاولون ثني عزائم الشباب عنه؛ بذل النفس رخيصةً في سبيل الله...(1/22)
بل نقول بكل ثقة: إن المعركة الحقيقية اليوم تتمثل هنا في معترك النفس والمال، فليذهب العشرات والمئات والألوف بل ومئات الألوف، بل ولتذهب الأمة كلها ولتحترق في أخدود أصحاب الأخدود إذا كان هذا هو ثمن نصرة العقيدة، وإنها والله ليست بالخسارة، ولا بالعبث، ولا بتضييع مقدرات الأمة، لكن الخسارة أن نجلس ونحن نرى ملايين الأمة تُذبح كالنعاج دونما احتساب في دفع عدوان أو رد صائل أو إعلان نفير الجهاد في سبيل الله، في حين أن إهدار هذه الدماء في جهادٍ شرعيٍ صحيح في سبيل الله تعالى هو عين الفوز وعين الربح، فلقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "تكفل الله لمن جاهد في سبيله، لا يُخرجه إلا الجهادُ في سبيله وتصديقُ كلماته بأن يدخله الجنة، أو يرجعه إلى مسكنه الذي خرج منه مع ما نال من أجر أو غنيمة" صحيح البخاري – حديث 3123. نعم ، هذا هو الميزان الذي يزن به التاجر المسلم مادة تجارته ليقدر مقدار ربحه، ألا ربِح البيع، ألا ربِح البيع...
الفصل الثالث:
الجهاد؛ تحديثٌ وإعداد
" لئن اللهُ أشهدَني قتال المشركين، لَيَرَيَنَّ اللهُ ما أصنع" ...
أنس بن النضر رضي الله عنه
فوجدنا به بضعاً وثمانين ضربةً بالسيف، أو طعنةً برمح أو رميةً بسهم، ووجدناه قد قُتل وقد مثِّل به المشركون فما عرفه أحد إلا أخته ببنانه.
الفصل الثالث: الجهاد تحديثٌ وإعداد(1/23)
كان البكّاؤون على عهد النبي صلى الله عليه وسلم قومٌ لم يعرف التاريخ البشري لهم مثيل؛ إنهم نفرٌ من الصحابة جاؤوا النبي صلى الله عليه وسلم وهو يُعِدُّ العدة لأثقل غزوة في عهده غزوة تبوك أو غزوة العسرة، وقد جاءه هؤلاء النفر يستحملونه - أي يطلبون منه صلى الله عليه وسلم أن يعطيهم من الدواب ما يحملهم في الغزو - ليخرجوا معه صلى الله عليه وسلم، فلما اعتذر أنه لا يجد لهم الركوب بكوا، وعُرفوا بالبكائين، ولندع أسماء هؤلاء النفر العظيم لكتب الطبقات والسير، لأن الذي سعى بهم في معراج رضوان الله تعالى فعلهم لا اسمهم، وهذا الذي سجله القرآن الكريم موقفاً عزَّت البشرية أن تقدم مثله، قال تعالى: (ولا على الذين إذا ما أتَوك لتحملهم قلت لا أجد ما أحملكم عليه تولّوا وأعينهم تفيض من الدمع حَزَنَاً ألّا يجدوا ما ينفقون) سورة التوبة – آية 92، فيا لهم من رجال، بل يا لهم من جبال...(1/24)
إن الجهاد في سبيل الله عبادة لها مقدماتها وأسبابها، وإن السعي في تحصيل هذه المقدمات والأسباب هو عنوان صدق المسلم في تحقيق هذه العبادة وتأديتها على الوجه الذي يُرضي الله تعالى عنه. ولقد وردت النصوص صريحةً في تأصيل هذه المسألة قرآناً وسنة؛ فلقد أمر الله تعالى المسلمين بإعداد العدة لإرهاب عدو الله وعدوهم من المنافقين والكافرين حيث قال تعالى: (وأعِدُّوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدوّ الله وعدوّكم وآخرين مِن دونهم لا تعلمونهم الله يعلمهم وما تُنفقوا من شيء في سبيل الله يُوَفَّ إليكم وأنتم لا تُظلمون) سورة الأنفال – آية 60، ثم جاء في القرآن الكريم قوله تعالى فاضحاً المنافقين الذين اعتذروا عن الخروج في الجهاد: (ولو أرادوا الخروج لأعدُّوا له عُدَّةً ولكن كره الله انبعاثهم فثبّطهم وقيل اقعدوا مع القاعدين) سورة التوبة – آية 46، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"من مات ولم يغزُ، ولم يُحدِّث به نفسه مات على شعبةٍ من نفاق" صحيح مسلم – حديث 1910. فلا يرتاب مسلمٌ بعد هذه النصوص في أن علامة الصدق مع الله تعالى في هذه العبادة هي الصدق في الإعداد؛ إعداد النفس بتحديثها بالجهاد في سبيل الله وبتعاهدها على الموت في سبيل الله، وإعداد المال بكسبه من طيب وإنفاقه في عدة الحرب، وإعداد الجسد من حيث القوة والبأس، حتى إن الشرع أباح السبق لما فيه من تحفيز النفوس وتهييجها على الاستعداد للقتال في سبيل الله، فقال صلى الله عليه وسلم :" لا سبقَ إلا في نصلٍ أو خُفٍّ أو حافر" سنن الترمذي – حديث 1700، فالمسابقات التي توقع الشحناء بين المسلمين أو تكون فيها نوع من المقامرة ممنوعة شرعاً، لكن المسابقة في الرمي أو الركوب لمّا كان فيه نوعُ تهييجٍ على القتال وتدريبٍ على المواجهة العسكرية كان مأذوناً بها شرعاً، بل قد صح في الحديث أنه خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم على قومٍ مِن أَسْلَم يتناضلون(1/25)
بالسوق فقال: "ارموا بني إسماعيل، فإن أباكم كان رامياً، وأنا مع بني فلان - لأحد الفريقين - فأمسكوا بأيديهم، فقال: ما لهم؟ قالوا: وكيف نرمي وأنت مع بني فلان؟ قال:ارموا وأنا معكم كلكم" صحيح البخاري – حديث 3507. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"الخيل لثلاثة؛ لرجلٍ أجر، ولرجلٍ ستر، وعلى رجلٍ وزر. فأما الذي له أجر فرجلٌ ربطها في سبيل الله فأطال لها في مرج أو روضة، فما أصابت في طِيَلِها ذلك المرج والروضة كان له حسنات، ولو أنها قطعت طيلها فاستنت شَرَفاً أو شَرَفين كانت آثارها وأرواثها حسنات له، ولو أنها مرت بنهر فشربت منه ولم يُرِد أن تُسقى به كان ذلك حسنات له وهي لذلك الرجل أجر، ورجل ربطها تغنياً وتعففاً ولم ينس حق الله في رقابها ولا ظهورها فهي له ستر، ورجلٌ ربطها فخراً ورياء ونواء فهي على ذلك وزر" صحيح البخاري – حديث 7356، ما أجمل المعاملة مع رب العالمين؛ إن أنت أعددت الخيل للجهاد في سبيل الله كان في سيرها وعدوها وشربها وروثها حسنات لك، لا لأن الله تعالى يناله من ذلك كله شيء سبحانه هو الغني، بل لأن هذا الإعداد هو لإعلاء كلمة الله تعالى وإسفال كلمة الكفر والباطل، ولأن هذا الإعداد علامة الصدق في التعامل مع الله، وعلامة الصدق في الوفاء ببيعتك أيها العبد مع سيدك، البيعة على الموت في مقابل الجنة...(1/26)
وإن هذا الموضع من التهييج على الغزو والقتال في سبيل الله يعول كثيراً على تحقيق التوازن بين منظومتي الأسباب الكونية والشرعية؛ وهذا جليٌ في الآية المتقدمة حيث قال الله سبحانه وتعالى: (ولو أرادوا الخروج لأعدُّوا له عدةً) سورة التوبة – آية 46، فإرادة الخروج في سبيل الله استكمال للسبب الشرعي، وإعداد العدة من راحلةٍ وقوةٍ جسديةٍ وسلاحٍ استكمالٌ للسبب المادي، وإن الصدق في تعاطي السببين هو وحده السبيل إلى تحصيل الإسناد الشرعي والكوني من الله تعالى. فالإسناد الشرعي بالتأييد بنصر الله والسكينة والربط على القلوب وتجريد خوفها وتوكلها لله تعالى وحده لا يكون إلا من نصيب أولئك الذين صدقوا في استجابتهم لتهييج الله ورسوله صلى الله عليه وسلم لهم، قال تعالى: (الذين استجابوا لله والرسول من بعد ما أصابهم القرح للذين أحسنوا منهم واتقوا أجرٌ عظيم. الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشَوهم فزادهم إيماناً وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل. فانقلبوا بنعمةٍ من الله وفضل لم يمسسهم سوء واتبعوا رِضوان الله والله ذو فضلٍ عظيم) سورة آل عمران – آية 172-174، والإسناد الكوني من الله تعالى لا يكون إلا من نصيب من بذل غاية الجهد واستفرغ غاية الوسع في الإعداد المادي، ثم تقاصرت عنه الأسباب لا لِخَوَرٍ في العزيمة، ولا لضعفٍ في الهمة، ولا لغفلةٍ عن حسن الإعداد، وإنما لأمرٍ خارجٍ عن وسعه ولحكمة ابتلاه الله تعالى بها، فهؤلاء هم الذين يبارك الله تعالى في قِلَّتهم كما قال تعالى: (يأيها النبي حرِّض المؤمنين على القتال إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مائتين وإن يكن منكم مائةٌ يغلبوا ألفاً من الذين كفروا بأنهم قومٌ لا يفقهون) سورة الأنفال – آية 65، وهذه النسبة وهي الصمود أمام عشرة أضعاف المجاهدين المسلمين كان في بادئ الأمر ثم خففه الله تعالى إلى مقابلة الضعف حيث قال تعالى (الآن خفف الله عنكم وعلم أن فيكم ضعفاً فإن(1/27)
يكن منكم مائة صابرة يغلبوا مائتين وإن يكن منكم ألفٌ يغلبوا ألفين بإذن الله والله مع الصابرين) (الأنفال – آية 66)، قال الحافظ ابن كثير رحمه الله :"كل واحد بعشرة ثم نسخ هذا الأمر وبقيت البشارة" (تفسير ابن كثير – 2/325)، وهؤلاء هم الذين يؤيدهم الله بمدد من الملائكة كما قال تعالى: (بلى إن تصبروا وتتقوا ويأتوكم من فورهم هذا يمددكم ربكم بخمسة آلاف من الملائكة مسوِّمين) سورة آل عمران – آية 125، وبمددٍ من الريح وبمددٍ من جند الله المرابطين في كل زوايا الكون كما قال سبحانه وتعالى: (يأيها الذين آمنوا اذكروا نعمة الله عليكم إذ جاءتكم جنودٌ فأرسلنا عليهم ريحاً وجنوداً لم تروها وكان الله بما تعملون بصيراً) سورة الأحزاب – آية 9. فمدار المسألة إذاً على تحقيق الصدق والإخلاص في تعاطي أسباب الإعداد الشرعية، وبذل غاية الجهد في تعاطي أسباب الإعداد الكونية، وعندها تسعف المؤمنين المجاهدين منظومةُ الإسناد الربانية لتثبت الجنان وتقوي عزم السواعد والبنان، كما في قوله تعالى: (ثم أنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين وأنزل جنوداً لم تَرَوها وعذَّب الذين كفروا وذلك جزاء الكافرين) سورة التوبة – آية 26.
ولعظم مكانة هذا الإعداد المعنوي والجسدي للقيام بواحد من أعظم فرائض هذا الدين بعد توحيد الله تعالى، جعل الله تعالى مجرد الصدق في قصد الإعداد بلاغاً لمنزلة الشهيد، ولو لم يستشهد، بل ولو لم يتيسر له الخروج للجهاد، فعن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "مَن سأل الله الشهادة بصدق، بلَّغه الله منازل الشهداء، وإن مات على فراشه" صحيح مسلم – حديث 1909، فتأمل هذا الذي يُزهِّدك فيه المرجفون والمخذلون، وتأمل هذا الذي يعدك به الله تعالى على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم، وصدق الله تعالى: (الشيطان يَعِدُكم الفقر ويأمركم بالفحشاء والله يعدكم مغفرة منه وفضلاً والله واسع عليم) سورة البقرة – آية 268(1/28)
إن حقيقة التحديث والإعداد إذاً هي في ذلك البكاء الذي علمنا إياه البكاؤون على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإن حقيقة التحديث والإعداد للجهاد في سبيل الله تعالى تنطلق من قواعد إيمانية راسخة ينظر من خلالها المؤمن بعين السخرية إلى صرعى الهوى وعبيد الدنيا: (الذين قالوا لإخوانهم وقعدوا لو أطاعونا ما قُتِلوا قل فادرؤوا عن أنفسكم الموت إن كنتم صادقين) سورة آل عمران – آية 168، وينتهي من خلالها عند أمر الله عز وجل: (يأيها الذين آمنوا لا تكونوا كالذين كفروا وقالوا لإخوانهم إذا ضربوا في الأرض أو كانوا غزًّى لو كانوا عندنا ما ماتوا وما قُتلوا ليجعل الله ذلك حسرةً في قلوبهم والله يحي ويميت والله بما تعملون بصير) سورة آل عمران – آية 156، وإن حقيقة التحديث والإعداد أن يوطن المرء نفسه على اللحاق بفسطاط أهل الإيمان، والتمايز عن فسطاط أهل الكفر والنفاق عند إعلان داعي الجهاد في سبيل الله، كما قال تعالى: (وما أصابكم يوم التقى الجمعان فبإذن الله وليعلم المؤمنين. وليعلم الذين نافقوا وقيل لهم تعالَوا قاتلوا في سبيل الله أو ادفعوا قالوا لو نعلم قتالاً لاتّبعناكم هم للكفر يومئذٍ أقرب منهم للإيمان يقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم والله أعلم بما يكتمون) سورة آل عمران- آية 166- 167 ، وإن حقيقة التحديث والإعداد القلبي للجهاد في سبيل الله أن يثمر ذلك التحديث والإعداد سعياًً حثيثاً لتحصيل أسباب القتال المادية من مال وقوة وراحلة وسلاح، ومن لم يسعَ في تعاطي شيء من ذلك فليعالج قلبه فإنه لا يزال مريضاً إما بمرض الشبهة الذي يخذله عن بذل النفس والمال في سبيل الله، أو مرض الشهوة الذي يلهيه عن إهلاك النفس والمال في سبيل الله...(1/29)
بقيت كلمة في هذا الموضع تتعلق بواقعنا المعاصر وما نحن فيه من حرب شعواء على الإسلام وأهله والمرابطين على ثغوره، إذ لا يخفى أن الجهاد والمجاهدين محاصرون اليوم في كل مكان، ولربما تسرب تثبيط الشيطان وحزبه إلى قلب أحدنا من جهة استحالة التمكن من الوصول إلى ساحة قتال في سبيل الله، وجواب هذه الشبهة عدم الالتفات إليها البتة، لأن العالم كله اليوم ساحة جهاد، إن لم يكن اليوم فغداً، وإن لم يكن غداً فبعد غد، ولا ريب أن لكل مسلم صادق اليوم نصيب من هذا التحديث والإعداد، حتى أولئك الذين حُبسوا عن ساحات القتال بمسؤوليات الزوجية قد فتح الله تعالى لهم باب التحديث والإعداد وهم في بيوتهم بل وهم على أسرتهم في سويعات الخلوة الزوجية، فعن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:" قال سليمان بن داود عليهما السلام: لأطوفنَّ الليلة على مائة امرأة أو تسع وتسعين كلهن يأتي بفارس يجاهد في سبيل الله. فقال له صاحبه أي ذكره الملَك أن يقول إن شاء الله فنسي ولم يقل عليه السلام.: قل إن شاء الله، فلم يقل إن شاء الله، فلم تحمل منهن إلا امرأة واحدة جاءت بشق رَجُل. والذي نفس محمدٍ بيده لو قال إن شاء الله لجاهدوا في سبيل الله فرساناً أجمعون" صحيح البخاري – حديث 2819، وترجم الإمام البخاري رحمه الله لهذا الحديث بقوله:"من طلب الولد للجهاد"، قال الحافظ ابن حجر رحمه الله:"أي ينوي عند المجامعة حصول الولد ليجاهد في سبيل الله فيحصل له بذلك الأجر وإن لم يقع له ذلك" فتح الباري – 6/34، فأي شيء عظيم هي مكانة الجهاد في الإسلام حتى أقحمت شريعة الإسلام هذه العبادة في كل تفاصيل حياة المسلم حتى في خلوته الزوجية وفي أخص لحظات الجسد ولذاته، فإذا بهذه اللحظات الجسدية تتحول من مجرد لذة عابرة إلى تحديث وإعداد للمساهمة في تكوين ذروة سنام الإسلام، أعني الجهاد، بأغلى ما نملك، أعني الولد...(1/30)
وليعلم كل مسلم أنه مهما صدق الله في تحديث نفسه وإعدادها للغزو في سبيل الله، فإن الله تعالى سيقر عينه بيوم تثج فيه جراحاته ثجاً، وتتبعثر فيه أشلاؤه في أرجاء الكون، لتدوي بصيحة لا إله إلا الله، فتنصدع لها قلوب الكفر، وتنخلع لها أفئدة الطاغوت، وتسرح نفسه في حواصل طير خضر تلعق من ثمر الجنة حيث شاءت، ثم تأوي إلى قناديل معلقة بالعرش، وحينها يتمنى لو كانت له ألف نفسٍ، ولو كان له ألفُ جسد، ليعدها للجهاد في سبيل الله، وليبعثرها في أرجاء الكون مرات ومرات، وهذا هو التحديث والإعداد للجهاد...
الفصل الرابع:
الجهاد؛ جيشٌ وإسناد
"ألستم تعلمون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: مَن حفر رومة فله الجنة، فحفرتها. ألستم تعلمون أنه قال: مَن جهز جيش العسرة فله الجنة، فجهزته"
أمير المؤمنين عثمان بن عفان رضي الله عنه
الفصل الرابع: الجهاد جيشٌ وإسناد
إن تحرير مكان النية والمتابعة في عبادة الجهاد يحتاج إلى انقيادٍ مطلقٍ لأمر الشرع في سياق تطبيق هذه العبادة، فعبادة الجهاد في سبيل الله لا تقوم على القتال والمسايفة فحسب، بل لها مقدماتها ومقوماتها المتنوعة، سواءٌ أكان في سياق الإعداد السابق للقتال أم في سياق القتال نفسه، وعليه فإن المجاهد في سبيل الله ابتغاء وجه الله وانقياداً لأمر الله تعالى، يحبس نفسه في الموقف الذي أنزله إياه الله تعالى، وإن هذا المجاهد الذي ينزل حيث أنزله الله تعالى حقيقٌ بالفوز بدعاء النبي صلى الله عليه وسلم حيث قال:"طوبى لعبدٍ آخذٍ بعنان فرسه في سبيل الله، أشعثَ رأسُه مغبرةٍ قدماه، إن كان في الحراسة كان في الحراسة، وإن كان في الساقة كان في الساقة الساقة جمع سائق: وهم الذين يسوقون جيش الغزاة ويكونون من ورائه يحفظونه، إن استأذن لم يؤذن له، وإن شفع لم يُشفَّع" صحيح البخاري – حديث 2887.(1/31)
إن أهمية التزام المجاهد ومن في حكمه بهذا الذي تقدم تتمثل في أمرين اثنين؛ أولهما التعبير عن الالتزام بأمر الشرع الذي يبذل دمه وماله في سبيل نصرته، والثاني تحقيق المقومات السببية لنجاح المواجهة العسكرية من إعداد وإمداد وتنوع في المهام العسكرية والإمدادية. ولقد سجل القرآن الكريم ذلك المشهد الذي تخلف فيه البعض عن التزام هذه المنظومة، فلنتأمل قوله تعالى: (ولقد صَدَقَكَم الله وعده إذ تَحُسّونهم بإذنه حتى إذا فشلتم وتنازعتم في الأمر وعصيتم من بعد ما أراكم ما تُحبون منكم من يريد الدنيا ومنكم من يريد الآخرة ثم صَرَفَكَم عنهم لِيَبتَلِيَكم ولقد عفا عنكم والله ذو فضلٍ على المؤمنين) سورة آل عمران – آية 152، وذلك حين تخلى بعض الرماة الذين أمرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يحموا ظهور المجاهدين في غزوة أُحد، تخلى أولئك النفر عن الموقف الذي أوقفهم إياه رسول الله صلى الله عليه وسلم فانكشف الجيش بأسره، وحصل ما حصل من انقلاب النصر العسكري إلى الفشل، ومقومات الفشل هنا ذات شقين؛ شق شرعي يتمثل في نفس مخالفة أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وشق ميداني يتمثل في انكشاف الجيش بسبب تفريط فرقة حراسة في واجبها، فاجتمع الإخلال بالسبب الشرعي مع الإخلال بالسبب الكوني في تحقيق مقومات الفشل العسكري. وما أكثر حاجة المسلمين اليوم إلى التدبر في هذا الدرس القرآني، لا سيما وأن طبيعة الحملة العسكرية الشرسة التي تتعرض لها الأمة الإسلامية اليوم تستنفر كل فردٍ من هذه الأمة، ولكن ليس كل فردٍ منها مستنفراً للمسايفة، بل كلٌ مستنفرٌ بحسب وضع الشرع وتوجيهه وبسحب كفاءته وإمكانياته، والله أعلم.(1/32)
نحن إذاً بحاجةٍ اليوم إلى الثبات كلٌ في موقعه؛ فعلى المجاهد بسلاحه أن يرابط على ثغره ولا يشغله الشوق إلى زوجٍ وولد، وعلى القائد الميداني أن يرابط في ميدانه يوجه ويسدد لا تشغله مناصب تنظيمية ومكاسب حركية زائلة، وعلى العالم أن يرابط على قلمه الذي يوقّع به عن الله عز وجل ورسوله صلى الله عليه وسلم فلا يوقِّع إلا على حق، ولا يخاف في الله لومة لائم، فإن الأعين ناظرةٌ إناه، وإن الآذان تصغي لفتواه، وإن أصبع المجاهد على رشاشه ينتظر ماذا يقول العالم، وإن القائد في الميدان يريد إجازة الخطة العسكرية يصغي لما يقوله العالم، وعلى من تكفل أهل المجاهد ألا يفرط فيهم وأن يقدمهم على نفسه، فإن المجاهد ما خرج إلا وقد أوكلهم بعد الله تعالى إليك، وعلى من أسبغ الله تعالى عليه رداء المال أن ينفق منه راجياً أن ينال فضل المجاهد وأجره وإن لم ينل حكمه، وعلى من ضاق عليه الأمر في خروجٍ أو ردءٍ أن لا يبرح يدعوا ربه ويتمنى الخروج صادقاً من قلبه فإن الله يبلغه ذلك، وعلى النساء أن يكففن عن أزواجهن فلا يرهقوهم بما لا طائل منه من متاع الدنيا الزائل، ولتنشغل أرحامهن بصناعة الشهداء، ولتنشغل قلوبهن وألسنتهن بالضراعة والدعاء إلى الله عز وجل أن يتخذ من ولدها وزوجها مجاهداً أو شهيداً، وعلى الأبوين ألا يضنوا على الله بفلذات أكبادهم ما لم يكونوا معذورين لا يستطيعون حيلةً ولا سبيلاً، وعلى كل مسلم مفارقٍ لجماعة المسلمين ببدنه أن يهجر ديار الكفر وينضم إلى سواد الأمة اليوم قبل أن لات حين ندم، عسى أن يلحقه شيء من روح الصحوة التي انبعثت في جسد الأمة اليوم، وعسى أن تناله وشيجة الولاء الإيماني المنقطعة بسبب إقامته بين ظهراني الكفار المحاربين لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم، وعلى كل فتى وفتاة ناشئين في هذه الأمة العظيمة أن يرتقوا بأهدافهم وطموحاتهم اليوم، وأن يتساءلوا عن حاجة الأمة إليهم، فتباً لمالٍ نجمعه فلا يزيدنا من الله(1/33)
إلا بُعداً، وتباً لشهادةٍ علمية نحوزها لنوظفها في مصانع الكفر وأقبية السياسة الصليبية، ومرحى بشاب نشأ في طاعة الله، وشابة نشأت في رحاب مدرسة النبوة، فانكبا على أوامر الله عز وجل يجهضان بها أوامر الشيطان وجنده، وهكذا فلن يعدم أحدنا اليوم أن يتخذ لنفسه في هذه المعركة موقعاً، ثم ليحدث نفسه بالثبات والرباط على هذا الموقع كما أمر رسولنا وقائدنا صلى الله عليه وسلم الرماة أن يلتزموا موقعهم، فإن المعركة لا تزال في بدايتها، وإنه لم يحن وقت جمع الغنيمة بعد، فلنوطن أنفسنا إذاً على أن لا ندع رباطاً إلا إلى رباطٍ خيرٍ منه، وأن لا ننشغل بغير الغاية السامية التي نحن فيها، وإننا والله لنجد ريح الجنة من هاهنا وهاهنا، فليلزم كلٌ مكانه، ولنعلم أن أشد الرباط ما كان على ثغر التقوى، فإنه هو الذي أتعب من سبقنا، وهو الذي نجى به الله تعالى من نجى من سلفنا، ثم لنعلم أن لا عزة لنا إلا بِذُلٍّ نطرح به أنفسنا بين يدي الله عز وجل، وسيفٍ نصون به جناب التوحيد، ونرفع به لواء إمام الغر المحجلين، والله غالبٌ على أمره، ولكن أكثر الناس لا يعلمون...(1/34)
إن صناعة الجيش المسلم وتشكيلة الإسناد الإسلامي ليست مقتصرة إذاً على خطوط إمداد المؤن والعتاد، وليست مهمة خاصة بما يسمى وزارة الدفاع في المصطلح المعاصر، كلا! إن صناعة الجيش المسلم وتشكيلة الإسناد الإسلامي صناعة فريدة على مستوى الفرد، وصناعة فريدة على مستوى المجتمع كل المجتمع، إنها صناعة الجسد الواحد، إنها صناعة الأمة بأسرها، إنها الصناعة التي تمكن أمير المؤمنين عمر على منبر الجمعة في المدينة من أن يهتف بأمير جيشه المقاتل في فارس :"يا سارية الجبل"، فيشد المسلمون ظهورهم بالجبل ويهزم الله عدوهم ذكر هذه القصة الإمام اللالكائي في الاعتقاد (1/314)، والحافظ ابن حجر في الإصابة (3/5) وغيرهما وهي قصة مشهورة، وهذا غاية ما يكون من التحام أفراد الأمة الإسلامية، وهذا غاية ما يكون من التوفيق والسداد والتأييد من الله عز وجل لعباده الذين بلغوا الغاية في التعاون على البر والتقوى، وشد ظهور بعضهم البعض في الجهاد والوقوف صفاً واحداً ضد أعداء الله وأعداء دين الله. فلنتأمل بعض مقومات هذه الصناعة ولنتأمل بعض عناصر الإسناد الإسلامي التي يسع كل واحد منا اليوم المرابطة على ثغرٍ منها أو أكثر:(1/35)
عن أسلم أبي عمران قال: غزونا من المدينة نريد القسطنطينية وعلى الجماعة عبد الرحمن بن خالد بن الوليد والروم ملصقوا ظهورهم بحائط المدينة، فحمل رجلٌ على العدو فقال الناس: مه مه لا إله إلا الله، يلقي بيديه إلى التهلكة! فقال أبو أيوب: إنما نزلت هذه الآية فينا معشر الأنصار لما نصر الله نبيه وأظهر الإسلام، قلنا: هلم نقيم في أموالنا ونصلحها، فأنزل الله تعالى: (وأنفقوا في سبيل الله ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة) سورة البقرة – آية 195، فالإلقاء بالأيدي إلى التهلكة أن نقيم في أموالنا ونصلحها وندع الجهاد. قال أبو عمران: فلم يزل أبو أيوب يجاهد في سبيل الله حتى دفن بالقسطنطينية" سنن أبي داود – حديث 2512. نعم، هكذا كانت الخطوة الأولى في فطام الفرد المسلم عن النفس والمال، كي يتمكن من بذلهما في تشكيلة الإسناد المسلم والجيش المسلم، وهكذا فعل صدر هذه الأمة رضوان الله عليهم، ولعلي لا أبالغ إذا قلت إن الإسناد الحقيقي للجيش المسلم في كل مكان هو ذلك الرجل المسلم الذي لا يتردد لحظة في بذل نفسه وكل ما يملك في سبيل الله، لا يختلج الأمر في صدره ولا يتلجلج، ولعلي لا أبالغ إذا قلت إن معجزة الإسلام تتمثل في صناعة هذا الأنموذج الفريد، وفي إرداف الجيش المسلم بأمثال هؤلاء على مر الزمن وتعاقب الأجيال، ولقد بشر رسول الله صلى الله عليه وسلم ببقاء هذا الأنموذج حياً ظاهراً مظفراً منصوراً إلى أن يأتي أمر الله تعالى، قال صلى الله عليه وسلم:"لا تزال طائفة من أمتي يقاتلون على الحق ظاهرين إلى يوم القيامة" صحيح مسلم – حديث 1923.(1/36)
ولا يقتصر إسناد الجيش المسلم على خطوط إمداده وعتاده كما ذكرنا، بل إنه يمتد إلى أعماق المجتمع المسلم، وينتشر في ثنايا المجتمع المسلم؛ في أروقة بيوته، ومحاريب مساجده، ودكاكين تُجّاره، وحلقات دراسته، إنه في خلافة أهل مجاهد وحفظهم، وفي دعاء إمام وقنوته وتأمين من ورائه، وفي مال تنفقه اليد اليمنى تجهز به غازياً فلا تدري به اليسرى، وفي علمٍ نافعٍ يُحرِّضُ على قتال أعداء الله ونصرة جنده المؤمنين، فما أروع هذه المنظومة الإسنادية التي اختصرها رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث قال:"من جهز غازياً في سبيل الله فقد غزا، ومن خلف غازياً في سبيل الله بخيرٍ فقد غزا" صحيح البخاري – حديث 2843، فيا أيها الجندي المسلم دونك الدنيا بأسرها الميدان؛ إن كنت في الحراسة ففي الحراسة، وإن كنت في الساقة ففي الساقة، وإن بُعثت في الطليعة انبعثت، وإن استُخلفت في المدينة فبخير خلفت، وإن جيشاً هكذا إسناده لجيشٌ فريدٌ حقاً، إنه الجيش المسلم.
الفصل الخامس:
الجهاد؛ نفيرٌ وطلب
"إيانا تريدُ يا رسول الله؟ والذي نفسي بيده لو أمرتنا أن نُخيضها البحر لأخضناها، ولو أمرتنا أن نضرب أكبادها إلى برك الغماد لفعلنا"
سعد بن عبادة رضي الله عنه
الفصل الخامس: الجهاد نفيرٌ وطلب(1/37)
قال ربنا سبحانه وتعالى: (يأيها الذين آمنوا ما لَكَم إذا قيل لكم انفِروا في سبيل الله اثَّاقلتم إلى الأرض أرضيتم بالحياة الدنيا مِن الآخرة فما متاع الحياة الدنيا في الآخرة إلا قليل. إلا تنفِروا يعذِّبكم عذاباً أليماً ويستبدل قوماً غيركم ولا تضرُّوه شيئاً والله على كل شيء قدير) سورة التوبة – آية 38-39. فيا له من عتاب، ويا لها من خسارة تلك التي يمنى بها من تخلف عن تلبية نداء ربه وخالقه يستنفره لنصرة دينه وإعلاء رايته، والله غنيٌ عنه وعن نصرته، وإنما هو محض الابتلاء والتمحيص، وتمييز الخبيث من الطيب بغية اتخاذ الشهداء الذين يشهدون على أعظم حقيقة في الكون؛ شهادة أن لا إله إلا الله، يبذلون في سبيل أداء هذه الشهادة أغلى ما يملكون؛ النفس والمال. ولهذا كان هذا المجاهد الذي لبى النداء ونفر مع النافرين خير الناس. فقد صح في الحديث أن أبا سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قيل: يا رسول الله أي الناس أفضل؟ فقال رسول الله: "مؤمنٌ يجاهد في سبيل الله بنفسه وماله" قالوا: ثم من؟ قال: "مؤمنٌ في شِعبٍ من الشِّعاب يتقي الله ويدع الناس من شره" صحيح البخاري – حديث 2786. أما أولئك القابعون بعد استنفارهم في أقبية الذل والهوان يرتعون في ماديات الدنيا الرخيصة، ويمرغون أنوفهم في ذلها، فإن نصيبهم من نصرة الله قول الله تعالى: (فَرِحَ المخلَّفون بمقعدهم خِلافَ رسولِ الله وكرِهوا أن يجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله وقالوا لا تنفِروا في الحر قل نارُ جهنم أشد حراً لو كانوا يفقهون) سورة التوبة – آية 81، وإن حظهم من الرضا قوله تعالى: (رضُوا بأن يكونوا مع الخوالف وطُبع على قلوبهم فهم لا يفقهون) سورة التوبة – آية 87.(1/38)
لقد أعز الله تعالى الإسلام والمسلمين بفتح مكة ودخولها دخول الفاتحين المظفرين، وتطهير حرمها وكعبتها من رموز الكفر والشرك وطواغيت الباطل وأدران الجاهلية، ولكن متى كان هذا الفتح؟ لقد كان هذا الفتح بعد أن فطم الله تعالى جنود الفتح الإسلامي عن كل شيء؛ عن الوطن والأرض والمال والولد والقبيلة والعشيرة، لقد فطمهم عن الدنيا وما فيها بهجرة واجبةٍ فرضها الله تعالى على أولئك النفر العظيم من صدر هذه الأمة الإسلامية، وكانوا هم النخبة بحق حيث سجَّل لنا ذلك القرآن الكريم: (لا يستوي منكم مَن أنفق مِن قَبلِ الفتحِ وقاتَل أولئك أعظمُ درجةً مِن الذين أنفقوا مِن بعدُ وقاتَلوا وكلاً وعد الله الحسنى والله بما تعملون خبير) سورة الحديد – آية 10. لقد كان من الممكن أن يأذن الله تعالى للمسلمين الأوائل أن يقاتلوا أهل الكفر والشرك ممن ناصبهم العداء بمكة وهم في مكة دون أن يرحلوا عنها، ولكن ربما كان القتال آنذاك دفاعاً عن أرضٍ أو مالٍ أو أهلٍ أو عشيرةٍ أو أي رخيصٍ آخر من متاع الدنيا، وعندها لم يكن القتال لِيَتَمحَّض نفيراً يلبي به العبد المجاهد نداء ربه، ولكن الأمر كان خلاف ذلك.(1/39)
لقد كان الاستنفار الأول لصدر هذه الأمة استنفار هجرة فريدة في التاريخ الإنساني؛ هجرة إلى الله، وهجرة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. لقد كان ذلك الاستنفار تقطيعاً لأوصال الدنيا وفطاماً عن رضاعها، فكانت تلك الهجرة العظيمة إلى الله التي ينخلع فيها العبد من كل ما يملك، منهم من خرج من ماله، ومنهم من خرج من أهله، ومنهم من خرجت من زوجها، ومنهم من خرج من جاهه، فكان نعم التوحيد توحيد القصد، وكان نعم التأله لله وحده. كما كانت تلك الهجرة العظيمة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بتجريدٍ في المتابعة لا نظير له في تاريخ الرسل وأصحاب الرسل، وبهذه الهجرة الخالصة إلى الله ورسوله صلى الله عليه وسلم كان الجند المسلم على أهبة الاستعداد لتلبية نداء الجهاد والاستنفار لفتح مكة المبين تحقيقاً لوعد الله عز وجل: (إنّا فتحنا لك فتحاً مبيناً) سورة الفتح – آية 1، وأصبح هذا الفتح العظيم الذي صفت فيه القلوب لخالقها، وانقادت الجوارح لأمر نبيها معيار النفير والجهاد الصادق في سبيل الله تعالى، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا هجرة بعد الفتح، ولكن جهاد ونية، وإذا استُنفرتم فانفروا" صحيح البخاري – حديث 2825، نعم، لقد أصبح فتح مكة وما سبقه من إعداد إيماني هو المعيار، وأصبحت النفرة في سبيل الله محاكاة للهجرة الأولى يطلِّق فيها العبد دنياه طلاقاً بائناً، وأصبح الجهاد في سبيل الله محاكاةً لذلك الفتح العظيم، وبهذا تمضي الهجرة والفتح الأوليان لسلف هذه الأمة، وتبقى هجرة القلوب وشعلة الجهاد باقيةً للخَلَف المتابعين بإحسان إلى يوم القيامة، نسأل الله أن يجعلنا منهم...(1/40)
إن استنفار المسلم في سبيل الله اختبارٌ حقيقي لحياة هذا المسلم وانفعاله لأمر خالقه، وإن خلوده إلى الأرض حكاية عبدٍ ميت، وحكاية جسدٍ أثقلته شهوات الدنيا، وحكاية قلبٍ أنهكته شبهاتها، إنه الرضى بالهوان بدلاً من العز، وانشغال بزهرة الدنيا الفانية عن جنة الآخرة الباقية، إنه حكاية الذل الذي حذر منه رسول الله صلى الله عليه وسلم : "إذا تبايعتم بالعِينة، وأخذتم أذناب البقر، ورضيتم بالزرع، وتركتم الجهاد، سلَّط الله عليكم ذلاً لا ينزعه حتى ترجعوا إلى دينكم" سنن أبو داود – حديث 3462، وها نحن اليوم ندفع ضريبة الذل هذه من دمائنا وأعراضنا وأموالنا؛ فدماء المسلمين اليوم أرخص الدماء، وأعراض المسلمين اليوم مستباحة ليس لها حظ من النصرة إلا بعض الفتاوى الباهتة التي تبيح إجهاض المسلمة المغتصبة التي تحمل مِن جنود الشيطان وهذا الذي حصل من مجرمي الصرب الذي اغتصبوا آلاف المسلمات البوسنيات، ولا حول ولا قوة إلا بالله، وليس المقصود هنا الإنكار على من أفتى بهذه الفتوى المرجوحة، بل المقصود أن حق أخواتنا المسلمات اللواتي انتُهكت أعراضهنّ أن تُستنفر لأجلهنّ جيوش المجاهدين لقطع دابر من تجرأ على أعراضهن، ولكن أين السامع، وأين المجيب؟، وأموال المسلمين اليوم نهب لكل من هب ودب، فمتى يكون النفير أيها المؤمن المجاهد، ومتى تكون اليقظة من الغفلة عن نداء الجهاد الذي توعد الله من تولى عنه بالاستبدال حيث قال: (يأيها الذين آمنوا مَن يرتدَّ منكم عن دينه فسوف يأتي الله بقومٍ يحبهم ويحبونه أذلةٍ على المؤمنين أعزة على الكافرين يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله واسعٌ عليم) سورة المائدة – آية 54.(1/41)
وتأمل أيها المؤمن المجاهد، كيف كان حال النبي صلى الله عليه وسلم بعد فتح مكة الذي كان إيذاناً بمضي فريضة الهجرة الخاصة، وبقاء الهجرة المعنوية بالنية، والهجرة الحسية من دار الكفر وفسطاطه إلى دار الإسلام وفسطاطه، ومن ملاذ الدينا إلى قوارع سيوف الجهاد، فلم يكد يدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة بجيش الصحابة المجاهدين حتى أخذ يرسل السرايا في طلب رؤوس الكفر وطواغيت الشرك وأوثانه، ليطهر أرض العرب من رجز الطاغوت، وليعلن فرضية جهاد الطلب بالفعل كما أعلنها بالقول؛ فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم بخالد بن الوليد رضي الله عنه إلى العزى ليهدمها فخرج إليها فهدمها، وبعث بعمرو بن العاص رضي الله عنه إلى سواع ليهدمه فخرج إليه وهدمه، وبعث سعد بن زيد رضي الله عنه إلى مناة فخرج إليها وهدمها، وتوالت السرايا والبعوث لتؤكد على أن فتح مكة لم يكن تحريراً لوطن، ولا ثأراً لمال وأهل، ولا لأي شيء من متاع الدنيا الزائل، وإنما كان فتح مكة لأجل تطهير البلد الحرام من شوائب الكفر، لتكون قاعدة انطلاق لحركة جهاد عالمية تطهر الأرض كل الأرض من رجس الأوثان، وتحرر الإنسان كل الإنسان من عبودية غير الله إلى عبودية الله وحده لا شريك له، وتخرجه من ضيق الدنيا إلى سعة الآخرة.(1/42)
ولقد تحقق كل ذلك بفضل الله تعالى ثم بجهاد المجاهدين الصادقين الذي لم يكلوا ولم يملوا، ولم يضعوا السيوف عن عواتقهم حتى فنت الجيوش تلو الجيوش، وهي تمرر راية التوحيد من جيلٍ إلى الذي يليه، ولن تزال راية الجهاد هذه تتناقلها جيوش المسلمين حتى يتم ما بشر به نبينا صلى الله عليه وسلم: "ليبلغنَّ هذا الأمر ما بلغ الليل والنهار، ولا يترك الله بيت مدر ولا وبر إلا أدخله الله هذا الدين بعز عزيز أو بذل ذليل؛ عزاً يعز اللهُ به الإسلام وذلاً يذل اللهُ به الكفر" مسند الإمام أحمد – حديث 16998. ولعل المسلمين اليوم يظنون أن مسألة الفتح الإسلامي وجهاد الطلب أمرٌ طوته صفحة التاريخ وتحققت غاية ما في البشارات النبوية منه آنفاً، ولم يعد لنا حظ من ذلك إلا الوقوف على الأطلال وتذاكر مجد الأوائل، وإلى هؤلاء نقدم حديث عبد الله بن عمرو بن العاص وسئل أي المدينتين تفتح أولاً القسطنطينية أو رومية؟ فدعا عبد الله بصندوق له حِلَق قال: فأخرج منه كتاباً قال: فقال عبد الله: "بينما نحن حول رسول الله صلى الله عليه وسلم نكتب إذ سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم: أي المدينتين تُفتح أولاً قسطنطينية أو رومية؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:مدينة هرقل تُفتح أولاً، يعني قسطنطينية" مسند الإمام أحمد - حديث 6645، فتأمل أيها المسلم هذه البشارة بل أقول هذا التكليف النبوي العظيم، ولقد حرص المسلمون منذ الصحابة رضوان الله عليهم على الفوز بشرف تحقيق هذه الفتوح، فها هو أبو أيوب الأنصاري رضي الله عنه وأرضاه يغزو ويرابط مع جيوش المسلمين حتى قضى مرابطاً عند هذا الثغر، ودُفن هناك ليكون عَلَماً للأجيال من بعده، فإذا بهذا الفتح يتحقق على يد السلطان العثماني محمد الفاتح رحمه الله تعالى بعد ثمانمائة عام من البشارة النبوية، ولئن فاز أولئك بشرف هذا الفتح الذي لا تزال آثاره مضمخة بعبق مسك الشهداء، فإن القسطنطينية اليوم تتنظر فتحاً جديداً(1/43)
يكون من ورائه فتح رومية، فأين سواعد المشمرين، وأين همم المجاهدين؟ مخطئ من يظن إذاً أن مسألة الفتوحات الإسلامية وجهاد الطلب إرثٌ تاريخيٌ نلوكه في حلقات الدرس ثم نلفظه مع فقه الواقع، كلا والله، فلقد قال الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم: "الخيل معقودٌ في نواصيها الخير إلى يوم القيامة؛ الأجر والمغنم" صحيح البخاري – حديث 2852، قال الحافظ ابن حجر رحمه الله:"والمغنم المقترن بالأجر إنما يكون من الخيل بالجهاد" فتح الباري – 6/56، وعن تميم الداري رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يقول ليبلغن هذا الأمر ما بلغ الليل والنهار، ولا يترك الله بيت مَدَر ولا وَبَر إلا أدخله الله هذا الدين، بعز عزيز أو بذل ذليل؛ عزاً يعز اللهُ به الإسلام، وذلاً يذل اللهُ به الكفر"، وكان تميم الداري يقول: قد عرفت ذلك في أهل بيتي، لقد أصاب من أسلم منهم الخير والشرف والعز، ولقد أصاب من كان منهم كافراً الذل والصَغار والجزية. مسند أحمد – حديث 16998(1/44)
ولقد خط لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم منهجاً عظيماً لتحقيق جهاد الطلب هذا، فعن سليمان بن بريدة عن أبيه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أمَّر أميراً على جيشٍ أو سريةٍ أوصاه في خاصته بتقوى الله عز وجل، ومَن معه من المسلمين خيراً، ثم قال:" اغزوا باسم الله في سبيل الله، قاتلوا مَن كفر بالله، اغزوا فلا تغلوا، ولا تغدروا، ولا تمثِّلوا، ولا تقتلوا وليداً، وإذا لقيت عدوك من المشركين فادعهم إلى ثلاث خصال - أو خلال - فأيتهن ما أجابوك فاقبل منهم، وكف عنهم، ثم ادعهم إلى الإسلام، فإن أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم، ثم ادعهم إلى التحول من دارهم إلى دار المهاجرين، وأخبرهم أنهم إن فعلوا ذلك، فلهم ما للمهاجرين، وعليهم ما على المهاجرين، فإن أبَوا أن يتحولوا منها، فأخبرهم أنهم يكونون كأعراب المسلمين، يجري عليهم حكم الله الذي يجري على المؤمنين، ولا يكون لهم في الغنيمة والفيء شيء إلا أن يجاهدوا مع المسلمين، فإن هم أبوا فسلهم الجزية، فإن هم أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم، فإن هم أبوا فاستعن بالله وقاتلهم، وإذا حاصرت أهل حصن فأرادوك أن تجعل لهم ذمة الله وذمة نبيه صلى الله عليه وسلم، فلا تجعل لهم ذمة الله ولا ذمة نبيه ولكن اجعل لهم ذمتك وذمة أصحابك، فإنكم أن تُخفِروا ذممكم وذمم أصحابكم أهون من أن تخفروا ذمة الله وذمة رسوله، وإذا حاصرت أهل حصن فأرادوك أن تنزلهم على حكم الله، فلا تنزلهم على حكم الله ولكن أنزلهم على حكمك فإنك لا تدري أتصيب حكم الله فيهم أم لا" صحيح مسلم – حديث 1731، وهذا حديث عظيم، ولله الحمد.(1/45)
ولئن كان الأصل في هذا الاستنفار أن يكون تحت قيادة الدولة الإسلامية المقيمة لشرع الله الآمرة بالمعروف والناهية عن المنكر والحافظة لحدود الله، حتى تتحقق عبادة الجهاد في أكمل صورها، تُجيِّش الجيوش لنصرة الحق ومحق الباطل، فإن سمو هذه العبادة قد بلغ مبلغاً عظيماً في الإسلام بحيث لا تتعطل هذه الفريضة السامية ولو لم تتيسر مقومات أدائها على أكمل صورة، ذلك أن فريضة الجهاد في سبيل الله تصلح أن تكون عبادةً فرديةً بنفس القدر الذي تصلح أن تكون فيه عبادةً جماعية، فالجهاد شريان حياة الأمة الإسلامية، والشريان منه الكبير ومنه الصغير، منه ما يضخ الدم إلى كامل الجسد ومنه ما يضخ الدم إلى أجزاء صغيرة منه، وبكلٍ تقوم حياة الجسد. نعم كل قتالٍ هو جزء من شبكة شرايين الأمة، وكل شهيدٍ هو جزء من روح هذه الأمة، فلقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مِن خير معاشِ الناس لهم، رجلٌ ممسكٌ عنان فرسه في سبيل الله يطير على متنه، كلما سمع هيعة أو فزعة طار عليه، يبتغي القتل والموت مظانه" صحيح مسلم – حديث 1889، يا لها من عبادة تلك التي يتتبع بها العبد مواطن قتله راجياً الفوز بالشهادة، ليس له همٌّ في حياته إلا إجابة داعي النفير أينما كان، عسى أن يفوز بموطن قتله وساحة شهادته، فيا لها من حياة، ويالها من عبادة، ويا له من رجل...(1/46)
بقي أن نقول إن الفضل والتحريض والتهييج قد ورد حثَّاً على جهاد الطلب الذي يراد منه نشر دعوة الحق ودمغ الباطل به وكسر شوكته وذهاب دولته، فمن باب أولى أن يكون التحريض والتهييج متناولاً لجهاد الدفع الذي يذاد به عن الحرمات الثلاث؛ الدم والعرض والمال، ولقد قال النبي صلى الله عليه وسلم:"من قُتل دون دينه فهو شهيد، ومن قُتل دون ماله فهو شهيد، ومن قُتل دون دمه فهو شهيد، ومن قُتل دون أهله فهو شهيد" الأحاديث المختارة – حديث 1092 وقال إسناده حسن، ولئن كانت الأمة الإسلامية اليوم في مرحلة استضعاف وانكشاف، فليكن من نزعة الفطرة الإنسانية السليمة التي تدفع المرء ليذود عن هذه الحرمات الثلاث التي أقرها الإسلام، وجعل من قُتل في سياق الذود عنها ابتغاء وجه الله من أهل الشهادة، فليكن من هذا كله ترويضاً للأمة على فريضة الجهاد الأسمى، أعني جهاد الطلب المتمحض لإعلاء كلمة الله، وليتحول العالم كله اليوم إلى ساحات تدريب ومناورات عسكرية حية نحشد فيها طاقاتنا كل طاقاتنا في سبيل ذلك، فها هو نداء النفير، فهل من مستنفر...
الفصل السادس:
الجهاد؛ ترصدٌ ورباط
"إذا مِتُّ فاحملوني، فإذا صاففتم العدو، فارموني تحت أرجُلِكم"، فقبره مع سور القسطنطينية...
أبو أيوب الأنصاري رضي الله عنه
الفصل السادس: الجهاد ترصدٌ ورباط(1/47)
إن الجهاد في سبيل الله عبادة تجمع الأمر بتحصيل الأسباب الشرعية والكونية في توازنٍ دقيق، فلا يركن المجاهد إلى أسباب القوة المادية مجردةً عن عبودية التوكل، كما لا يتوانى عن أخذ ما أمر الله ورسوله صلى الله عليه وسلم به من أسباب، هي مؤشرات على بذل المسلم وسعَه في تحصيل آلة الجهاد، غير متكلٍ عليها بل مفوضاً أمره إلى الله تعالى. ونحن نجد رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلم أصحابه آيات التوكل على الله، متجردين بذلك عن كل ما سواه، في نفس الوقت الذي يخرج فيه للقتال وقد وضع المغفر، وأخذ اللأمة، وصف الصفوف، وتحصن بالجبال، ووارى في خروجه، وبث العيون، ووضع الحرس على الثغور والربط، كل ذلك ليعلم هذه الأمة أن العبودية كل العبودية في تجريد التوكل لله تعالى، وأن العبودية كل العبودية في حسن الظن بالله تعالى، والأخذ بالأسباب التي خلقها وجعلها أسباباً لما أمر المسلمين به من قتال أهل الكفر، وكسر شوكتهم، وإعلاء كلمة التوحيد، وإسفال كلمة الكفر.(1/48)
إن سوء فهم منظومة النصر في الإسلام قد تدفع بالبعض إلى توهم أن مجرد الانتساب إلى الإسلام هو مناط النصر، في حين أن النص القرآني الصريح يشير إلى غير ذلك، فتأمل قوله تعالى: (يأيها الذين آمنوا إن تنصروا الله ينصركم ويثبِّت أقدامكم) سورة محمد – آية 7، فالنصر من الله في مقابل النصرة من المؤمنين وهي تقتضي تعاطي أسباب النصر العسكري من عدد وعدة، وهذا التعاطي هو كغيره من أعمال العبادات لا تحقق شيئاً بنفسها، وإنما هي أمارات صدق المكلف في تحقيق إيمانه بالله تعالى، فالذي يفهم من قوله تعالى: (وما النصر إلا من عند الله العزيز الحكيم) سورة آل عمران – آية 126 تركَ أسباب الإعداد العسكري توكلاً على الله بزعمه، فعليه أن يفهم من قول الرسول صلى الله عليه وسلم :"ما من أحد يُدخله عملُه الجنة. فقيل: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: ولا أنا، إلا أن يتغمدني ربي برحمة" صحيح مسلم – حديث 2816 تركَ العبادات والأعمال والركون إلى رحمة الله، وليس الأمر كذلك في الحالين البتة؛ فكما أن العمل والعبادة سببٌ لتحصيل رحمة الله المفضية لدخول الجنة، فكذلك الأخذ بأسباب القوة المادية والإعداد العسكري سببٌ لتحصيل نصرة الله عز وجل. ولا بد من قراءة السيرة النبوية قراءةً متأنية فاحصة لندرك تمام الإدراك أن الربط على القلوب والتثبيت للأقدام لا يكون من نصيب المتقاعسين القاعدين عن الإعداد والترصد والمرابطة على ثغر الجهاد ليكون جاهزاً في كل زمان ومكان لمقارعة أعداء الحق ومنازلة جند الباطل دحضاً لكلمة الكفر تحت أقدام الموحدين، وإعلاءً لكلمة الله سبحانه وتعالى.(1/49)
ولقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "عينان لا تمسهما النار، عينٌ بكت من خشية الله، وعينٌ باتت تحرس في سبيل الله" سنن الترمذي – حديث 1639، وقال صلى الله عليه وسلم: "رباط يومٍ في سبيل الله خيرٌ من الدنيا وما عليها، وموضع سَوط أحدكم من الجنة خير من الدنيا وما عليها، والروحة يروحها العبد في سبيل الله أو الغدوة خير من الدنيا وما عليها" صحيح البخاري – حديث 2892، فلنتأمل هذه الأحاديث في فضل الترصد والرباط والحراسة في الجهاد، ولنتأمل كيف عمل الصحابة رضوان الله عليهم بهذه الأحاديث؛(1/50)
فعن جابر بن عبد الله قال: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة ذات الرقاع، فأصاب رجلٌ من المسلمين امرأة رجل من المشركين، فلما انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم قافلاً أتى زوجها، وكان غائباً، فلما أُخبر حلف لا ينتهي حتى يهريق في أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم دماً، فخرج يتبع أثر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنزل رسول الله صلى الله عليه وسلم منزلاً فقال: مَن رجلٌ يكلؤنا ليلتنا هذه؟ فانتدب رجلٌ من المهاجرين ورجلٌ من الأنصار قالا:نحن يا رسول الله. فقال صلى الله عليه وسلم: فكونا بفم الشِعب. قال: وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه نزلوا إلى شعب من الوادي، فلما خرج الرجلان إلى فم الشعب قال الأنصاري للمهاجري: أي الليل أَحبُّ إليك أن أكفيك، أوله أو آخره؟ قال: اكفني أوله. قال: فاضطجع المهاجري فنام، وقام الأنصاري يصلي، وأتى زوجُ المرأة، فلما رأى شخص الرجل، عرف أنه ربيئة القوم، فرماه بسهم فوضعه فيه، فنزعه فوضعه وثبت قائماً يصلي، ثم رماه بسهمٍ آخر فوضعه فيه فنزعه وثبت قائماً يصلي، ثم عاد له الثالثة فوضعه فيه، فنزعه فوضعه، ثم ركع فسجد، ثم أهب صاحبه وقال: اجلس فقد أُتيت، فوثب، فلما رآهما الرجل عرف أنه قد نذر به هرب، فلما رأى المهاجري ما بالأنصاري من الدماء قال: سبحان الله! أفلا أهببتني أول ما رماك؟! قال: كنت في سورة أقرأها، فلم أحب أن أقطعها حتى أنفذها، فلما تابع علي الرمي ركعت فآذنتك، وأيم الله لولا أن أضيع ثغراً أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم بحفظه لقطع نفسي قبل أن أقطعها أو أنفذها" صحيح ابن حبان – حديث 1096، وأخرجه ابن خزيمة في صحيحه – حديث 36، وأبو داود في سننه – حديث 198.(1/51)
فهذا الصحابي الجليل عبّاد بن بشر رضي الله تعالى عنه وأرضاه تتقطع نفسه، ويتمزق جسده، وتنتثر دماؤه وهو ثابتٌ على ثغره، مشغولٌ بكتاب ربه، ولولا خوفه أن تفتلت نفسُه فيضيع ثغر المسلمين لما أوقظ صاحبه، فأي تربية هذه التي تعلم هؤلاء الجند الربانيين السمو الروحاني الذي ما بعده سمو، وما هذا الانضباط العسكري الذي يعرف الجندي المسلم به متى يقف عند حد استطاعته لا جُبناً عن الموت ولكن حفظاً لمصلحة الجماعة، والتزاماً بمنظومة الأسباب التي أُمر بتحصيلها. إن فعل هذا الصحابي الجليل هو مدرسة عسكرية بكل ما تحمله الكلمة من معنى؛ مدرسةٌ في الإعداد المعنوي، ومدرسةٌ في الإعداد المادي، ومدرسةٌ في الانضباط العسكري، ومدرسةٌ في العمل الجماعي، إنها مدرسةٌ ربانيةٌ محمديةٌ تجمع خصائص النص القرآني البديع: (وكأيِّن مِن نبيٍ قاتَل معه رِبيُّون كثيرٌ فما وهنوا لما أصابهم في سبيل الله وما ضَعُفوا وما استكانوا والله يحب الصابرين. وما كان قولَهم إلا أن قالوا ربنا اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين. فآتاهم الله ثوابَ الدنيا وحسن ثواب الآخرة والله يحب المحسنين) سورة آل عمران- آية 146-148.(1/52)
وإن من المهام العظيمة التي تتعلق بالترصد والمرابطة على ثغور المسلمين مراقبة وترصد الجواسيس والعيون الذين يتطلعون على عورات المسلمين وأسرارهم التي تمس أمن الدولة الإسلامية، بحيث لا يُسمح لأحد أن يهدد أمن المسلمين بنقل خبرٍ أو كشف سرٍ يضر بجماعة المسلمين، فعن إياس بن سلمة بن الأكوع عن أبيه قال: أتى النبيَّ صلى الله عليه وسلم عينٌ من المشركين وهو في سفر، فجلس عند أصحابه يتحدث، ثم انفتل، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "اطلبوه واقتلوه"، فقتلتُه فنفله سلبه" صحيح البخاري – حديث 3051 والعين هو الجاسوس. والسلب : ما يغنم من الحربي المقتول في الحرب.، وعن علي رضي الله عنه يقول:" بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم أنا والزبير والمقداد فقال: انطلقوا حتى تأتوا روضة خاخ اسم موضع بين مكة والمدينة فإن بها ظعينة الظعينة: المرأة تكون في الهودج معها كتاب فخذوه منها. قال: فانطلقنا تَعادَى بنا خيلنا حتى أتينا الروضة، فإذا نحن بالظعينة، قلنا لها: أخرجي الكتاب. قالت: ما معي كتاب. فقلنا: لَتُخِرِجِنَّ الكتاب أو لَنُلقِيَنَّ الثياب. قال: فأخرجته من عقاصها، فأتينا به رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإذا فيه من حاطب بن أبي بلتعة إلى ناس بمكة من المشركين يخبرهم ببعض أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم .."الحديث صحيح البخاري – حديث 4273. فهذه الأحاديث وغيرها تبين دور القائد المسلم وجنود الإسلام في حراسة وأمن الدولة الإسلامية، وتبين لنا شرع الله تعالى في قطع دابر هؤلاء وخطرهم، وهل أُتي المسلمون على مدى التاريخ إلا من قبل ضعاف النفوس الذين يبيعون دينهم بدنيا غيرهم، ألا فلينتبه المسلمون اليوم من هؤلاء، وليكونوا على حذرٍ من أن نؤتى من داخلنا ومن بين ظهرانينا، وإن خطر هؤلاء لا يمكن درؤه إلا بأمرين؛ أولهما الترصد لهم وكشف تحركاتهم، وثانيهما إرهابهم بالقوة والعدة التي يعدها المجاهدون للجهاد، كما قال تعالى: (وأعدّوا(1/53)
لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل تُرهبون به عدوَّ الله وعدوَّكم وآخرين من دونهم لا تعلمونهم الله يعلمهم) سورة الأنفال – آية 60، فهؤلاء الذين من دون عدو الخارج والذين لا نعلمهم هم المنافقون الذين يتربصون ويتتبعون عورات المسلمين ليدلوا حلفاءهم من الكفار عليها، ولأجل هذا نص العلماء على عدم تولية أهل الذمة أي شيء من الولايات العامة أو الخاصة، لا سيما تلك التي يطلعون من خلالها على أسرار المسلمين، فتأمل هذا ثم ارث لحال المسلمين اليوم وقد علا بينان الباطل بين أظهرهم، واستأسدت فئران الكفر عليهم، واستنسر البغاث بأرضهم، فكان الحذر اليوم من هؤلاء أجدر، ودرء خطرهم عن المسلمين أولى، والله المستعان وحده على ذلك.(1/54)
ومما يدخل في هذا الباب من ترصد العدو والمرابطة على ثغر الجهاد بث العيون وبعث الطلائع يأتون بخبر العدو، ففي الصحيح عن جابر رضي الله عنه: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الأحزاب:"من يأتينا بخبر القوم؟ فقال الزبير: أنا. ثم قال: من يأتينا بخبر القوم؟ فقال الزبير: أنا. ثم قال: من يأتينا بخبر القوم؟ فقال الزبير: أنا. ثم قال: إن لكل نبيٍ حوارياً، وإن حواري الزبير" صحيح البخاري – حديث 4113، قال الحافظ ابن حجر رحمه الله في شرح الحديث:" وفي الحديث جواز استعمال التجسس في الجهاد، وفيه منقبة للزبير، وقوة قلبه، وصحة يقينه" فتح الباري – 6/53، رضي الله عن الزبير وأرضاه، فهذا بابٌ عظيمٌ حقاً من أبواب الجهاد، والخوف على النفس فيه كبير، ولكن النفوس تهون في سبيل مرضاة الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، ومخاطرة المرء بنفسه في سبيل نصرة جيش الإسلام يسيرة، وها نحن اليوم نعيش حملةً همجيةً رعناء تحارب الإسلام والمسلمين في كل مكان، ونرى أن ما يسمى بالحرب الإعلامية جزءٌ محوري من هذه الحرب، وإن قيمة المعلومات الميدانية التي يأتي بها المجاهد عن أحوال العدو في أرضه وداره لا تقدر بثمن، وإذا احتاج المجاهد أن يرابط في بلاد الكفر مدةً يتحسس ويتجسس فيها ما يكون مدداً معلوماتياً مهماً لجند المسلمين، فنرجو أن يكون ذلك من جنس الرباط والله أعلم، ونرجو لصاحبه عند الله تعالى الأجر والمثوبة، والحمد لله.
إن الرباط في سبيل الله على ثغور المسلمين عبادة عظيمة إذاً، إنها حالة استصحاب دائم للجهاد في سبيل الله، وما أجمل فتوى شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى حيث سئل عن سكنى مكة والبيت المقدس والمدينة المنورة على نية العبادة والانقطاع إلى الله تعالى، والسكنى بدمياط وإسكندرية وطرابلس وقد كانت هذه المدن من ثغور المسلمين آنذاك على نية الرباط، أيهم أفضل؟ فأجاب رحمه الله برحمته الواسعة:(1/55)
"الحمد لله، بل المقام في ثغور المسلمين كالثغور الشامية والمصرية أفضل من المجاورة في المساجد الثلاثة، وما أعلم في هذا نزاعاً بين أهل العلم، وقد نص على ذلك غير واحد من الأئمة، وذلك لأن الرباط من جنس الجهاد، والمجاورة غايتها أن تكون من جنس الحج، كما قال تعالى: (أجعلتم سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام كمن آمن بالله واليوم الآخر وجاهد في سبيل الله لا يستوون عند الله) سورة التوبة – آية 19" مجموع الفتاوى – ابن تيمية – 28/7، وقد صح عن سلمان رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "رباط يوم وليلة خيرٌ من صيام شهر وقيامه، وإن مات جرى عليه عمله الذي كان يعمله، وأُجري عليه رزقه، وأمن الفتَّان" صحيح مسلم- حديث 1913، فأين المرابطون اليوم من ثغور المسلمين، أين..
الفصل السابع:
الجهاد؛ ثباتٌ وذكر لله
" اللهم مُنزل الكتاب، ومُجري السحاب، وهازم الأحزاب، اهزمهم، وانصرنا عليهم"
رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم
الفصل السابع: الجهاد ثباتٌ وذكر لله(1/56)
عن ابن عباس قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم يوم بدر: "اللهم إني أَنشُدُك عهدك ووعدك، اللهم إن شئت لم تُعبد" فأخذ أبو بكر بيده فقال: حسبك، فخرج وهو يقول: (سيُهزم الجَمْعُ ويولّون الدُبُر) سورة القمر – آية 45، صحيح البخاري – حديث 3953، وعنه رضي الله عنه قال: حدثني عمر بن الخطاب قال:"لما كان يوم بدر نظر رسولُ الله صلى الله عليه وسلم إلى المشركين وهم ألف، وأصحابه ثلاثمائة وتسعة عشر رجلاً، فاستقبل نبيُ الله صلى الله عليه وسلم القِبلة، ثم مدَّ يديه فجعل يهتف بربه: "اللهم أنجز لي ما وعدتني، اللهم آت ما وعدتني، اللهم إنك إن تُهلك هذه العصابة من أهل الإسلام لا تُعبد في الأرض". فما زال يهتف بربه ماداً يديه مستقبلَ القبلة، حتى سقط رداؤه عن منكبيه، فأتاه أبو بكر فأخذ رداءه، فألقاه على منكبيه، ثم التزمه من ورائه وقال: يا نبي الله، كفاك مناشدتك ربَّك، فإنه سينجز لك ما وعدك، فأنزل الله عز وجل: (إذ تستغيثون ربَّكم فاستجاب لكم أني ممدكم بألفٍ من الملائكة مردِفِين) سورة الأنفال – آية 9، فأمده الله بالملائكة" صحيح مسلم – حديث 1763.(1/57)
لقد كانت غزوة بدر أولى الغزوات الكبرى التي جعلها الله تعالى فرقاناً بين الحق والباطل، وكانت بحقٍ عنوانَ مرحلةٍ جديدةٍ للإسلام بل للبشرية أجمع، ونحن نجد أن هديَ النبي صلى الله عليه وسلم في ذِكر الله عز وجل في هذه الغزوة هديٌ عظيمٌ كامل بأبي هو وأمي صلى الله عليه وسلم، وسجل القرآن الكريم ذلك كما في حديث عمر المتقدم، وجاء القرآن الكريم بتقرير مسألة الذِكر في الجهاد تقريراً محكَماً باقياً ما بقيت للجهاد للراية، فقد قال الله تعالى: (يأيها الذين آمنوا إذا لقيتم فئةً فاثبتوا واذكروا الله كثيراً لعلكم تفلحون. وأطيعوا الله ورسوله ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم واصبروا إن الله مع الصابرين) سورة الأنفال – آية 45-46، وكان دأب رسول الله صلى الله عليه وسلم ذِكرُ الله تعالى في القتال، فعن أنس بن مالك قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا غزا قال: "اللهم أنت عضدي ونصيري، بك أحُول، وبك أَصول، وبك أقاتل" سنن أبي داود – حديث 2632، وبلغ من ثباته صلى الله عليه وسلم ساعة انكشف المسلمون في بعض الغزوات والمعارك مبلغاً عظيماً يدل على كمال تأييد الله تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم، ويدل على كمال مقومات وخصائص القيادة العسكرية الفذة في شخص رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ قال رجلٌ للبراء بن عازب رضي الله عنهما: أفررتم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم يومَ حُنين؟ قال:" لكن رسول الله لم يفر، إن هوازن كانوا قوماً رماة، وإنا لما لقيناهم حملنا عليهم فانهزموا، فأقبل المسلمون على الغنائم واستقبلونا بالسهام، فأما رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يفر، فلقد رأيته وإنه لعلى بغلته البيضاء، وإن أبا سفيان آخذٌ بلجامها، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول:" أنا النبي لا كَذِب، أنا ابن عبد المطلب" صحيح البخاري – حديث 2864، وفي رواية مسلم رحمه الله : "فأقبل القومُ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو سفيان بن الحارث(1/58)
يقود به بغلته، فنزل ودعا واستنصر، وهو يقول: أنا النبي لا كذب، أنا ابن عبد المطلب، اللهم نَزِّل نصرك". قال البراء: كنا والله إذا احمر البأس نتقي به، وإن الشجاع منا للذي يحاذي به، يعني النبي صلى الله عليه وسلم. صحيح مسلم – حديث 1776 قلت: هذا والله هو الثبات، وهذا والله هو الذكر عند اللقاء، وهذا والله هو القائد المسلم بأبي هو وأمي صلوات الله وسلامه عليه.
وإن ها هنا شبهةً قد تطرأ على البعض، وقد يُلبِّس بها البعض على مكانة الجهاد في سبيل الله، ذلك أنه قد صحت أحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد يُفهم من ظاهرها تفضيل عبادةِ الذِكر على عبادة الجهاد، فيتقاعس الناس عن أداء العبادة المفضولة حسب هذا الفهم الخاطئ، ويصرفون همتهم للعبادة الأفضل حسب ظنهم، فعن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "ألا أنبئكم بخيرِ أعمالكم، وأزكاها عند مليككم، وأرفعِها في درجاتكم، وخيرٍ لكم من إنفاق الذهب والوَرِق، وخيرٍ لكم من أن تَلقَوا عدوكم، فتضربوا أعناقهم، ويضربوا أعناقكم. قالوا: بلى. قال: ذكر الله تعالى" سنن الترمذي – حديث 3377، وعن معاذ بن جبل أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما عمل آدميٌ عملاً قط أنجى له من عذاب الله من ذكر الله" مسند أحمد – حديث 22132، فهذه الأحاديث قد يستشكل بها البعض الترغيب في الجهاد والقتال وبذل النفوس وسفك الدماء في عبادةٍ مفضولة بالنسبة إلى ذكر الله، ولقد حقق العلامة الحافظ ابن قيم الجوزية رحمه الله هذه المسألة تحقيقاً نفيساً فبين أن المراتب ثلاثة، المرتبة الأولى اجتماع الذكر والجهاد وهي أعلى المراتب وهي تحقيق قوله تعالى: (يأيها الذين آمنوا إذا لقيتم فئةً فاثبتوا واذكروا الله كثيراً لعلكم تفلحون) سورة الأنفال – آية 45، والمرتبة الثانية وهي دون الأولى مرتبة الذكر بلا جهاد، والمرتبة الثالثة وهي دون الثانية مرتبة الجهاد بلا ذكر وهذه(1/59)
المرتبة لا يُشك أنها دون الذِكر المجرَّد لدلالة النصوص على ذلك، قال ابن قيم الجوزية رحمه الله : "والذاكرُ أفضلُ من هذا (أي من المجاهد الغافل)، وإنما وُضع الجهاد لأجل ذكر الله، فالمقصود من الجهاد أن يُذكر الله، ويُعبد وحده، فتوحيده وذكره وعبادته هو غاية الخلق التي خُلقوا لها" حاشية ابن القيم – 7/127، وبيان المراتب الثلاثة من كلامه رحمه الله بتصرف ، وما بين القوسين من كلامي.، فالخلاصة والجمع بين النصوص ما قاله الحافظ ابن قيم الجوزية: "إن الذاكر المجاهد أفضل من الذاكر بلا جهاد ومن المجاهد الغافل، والذاكر بلا جهاد أفضل من المجاهد الغافل عن الله تعالى، فأفضل الذاكرين المجاهدون، وأفضل المجاهدين الذاكرون" الوابل الصيب من الكلم الطيب – ابن قيم الجوزية – 1/58.
وإن أنواع الذكر عند القتال تتناول كل ما هو ذكرٌ شرعاً من صلاةٍ وتسبيحٍ وتكبيرٍ وتهليلٍ، وقراءة قرآن، ودعاء، بل حتى الأراجيز والأشعار المهيجة على الحرب والقتال في سبيل الله نرجو أن تكون كذلك، ومن أمثلة الأخير ما صح عن البراء رضي الله عنه قال: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يوم الخندق، وهو ينقل التراب حتى وارى الترابُ شعرَ صدره، وكان رجلاً كثير الشعر، وهو يرتجز برجز عبد الله بن رواحة:
اللهم لولا أنت ما اهتدينا ولا تصدقنا ولا صلينا
فأنِزلنْ سكينةً علينا وثبت الأقدام إن لاقينا
إن الأعداء قد بغوا علينا إذا أرادوا فتنةً أبينا
يرفع بها صوته" صحيح البخاري – حديث 3034.(1/60)
ومن الذكر عند القتال والغارة ما صح عن أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج إلى خيبر، فجاءها ليلاً، وكان إذا جاء قوماً بليل لا يُغِيرُ عليهم حتى يصبح، فلما أصبح خرجت يهود بمساحيهم ومكاتلهم، فلما رأوه قالوا: محمد والله، محمد والخميس الخميس: الجيش، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "الله أكبر، خربت خيبر، إنا إذا نزلنا بساحة قومٍ (فساء صباحُ المنذَرين) سورة الصافات – آية 177، صحيح البخاري – حديث 2945.(1/61)
ومن أبرز المواقف التي سجلها القرآن الكريم للثبات والذكر عند مصافة العدو ولقائه، قوله تعالى عن مؤمني بني إسرائيل وهم الفئة القليلة مع طالوت في مواجهة فئة الكفر الكثيرة بقيادة جالوت، قال الله تعالى: ( ولما برزوا لجالوت وجنوده قالوا ربنا أفرِغ علينا صبراً وثبّت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين) سورة البقرة – آية 250 وكانت ثمرة هذا الذكر والدعاء والثبات الإيماني الفريد : (فهزموهم بإذن الله وقتل داودُ جالوتَ وآتاه الله الملك والحكمة وعلمه مما يشاء) سورة البقرة – آية 251. وهنا معنى مهم لا بد من الوقوف عنده، أعني في قصة طالوت وجالوت، ذلك أن الله تعالى قد سجل ثلاثة مواقف للملأ من بني إسرائيل في سياق الجهاد، كان أولها استفتاح الملأ من بني إسرائيل على ربهم يطلبون القتال في سبيل الله، قال تعالى: (ألم تر إلى الملأ من بني إسرائيل من بعد موسى إذ قالوا لنبي لهم ابعث لنا مَلِكاً نقاتل في سبيل الله قال هل عسيتم إن كُتب عليكم القتال ألّا تُقاتِلوا قالوا وما لنا ألّا نقاتِل في سبيل الله وقد أُخرجنا من ديارنا وأبنائنا فلما كُتب عليهم القتال تولَّوا إلا قليلاً منهم والله عليمٌ بالظالمين) سورة البقرة – آية 246، ثم كان الموقف الثاني منهم في مخالفة أمر القيادة العسكرية وعدم توطين أنفسهم على التزام طاعة الله عز وجل، قال تعالى: ( فلما فصل طالوتُ بالجنود قال إن الله مبتليكم بِنَهَرٍ فمن شرب منه فليس مني ومن لم يطعمه فإنه مني إلّا من اغترف غُرفةً بيده فشربوا منه إلا قليلاً منهم) سورة البقرة – آية 249، ثم كان الموقف الثالث بعد هذا الاختبار الرباني، وهو موقف المصافة ولقاء العدو حيث قال تعالى: (فلما جاوزه هو والذين آمنوا معه قالوا لا طاقة لنا اليوم بجالوت وجنوده قال الذين يظنون أنهم ملاقوا الله كم من فئةٍ قليلةٍ غلبت فئةً كثيرةً بإذن الله والله مع الصابرين) سورة البقرة – آية 249، فهم قليلٌ من قليل من(1/62)
قليل، ورحم الله الشيخ المجاهد نحسبه والله حسيبه عبد الله عزام عبد الله عزام رحمه الله من العلماء العاملين المجاهدين في هذا العصر، جاهد ضد السوفييت الشيوعيين في أفغانستان المسلمة نسأل الله تعالى أن يعجل بفتحها من جديد وتحريرها من أيدي الصليبيين كما حررها من أيدي الشيوعيين بالأمس القريب، آمين. وكاني أراه يتدبر هذه الآيات وهو يقول: "قليلٌ هم الذين يحملون المبادئ، وقليل من هذا القليل الذين ينفرون من الدنيا من أجل تبليغ هذه المبادئ، وقليلٌ من هذه الصفوة الذين يقدمون أرواحهم ودماءهم من أجل نصرة هذه المبادئ والقيم، فهم قليلٌ من قليلٍ من قليل، ولا يمكن أن يوصل إلى المجد إلا من هذا الطريق، وهذا الطريق وحده".(1/63)
إن ذكر الله تعالى ليس مجرد كلام، وإن الاستفتاح على الله تعالى وتمني لقاء العدو له تبعاته، وليس مجرد كلام يلقى على عواهنه، ولهذا ورد النهي عن تمني لقاء العدو وورد الأمر بالثبات عند لقائه، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض أيامه التي لقي فيها انتظر حتى مالت الشمس، ثم قام في الناس خطيباً قال: "أيها الناس؛ لا تتمنوا لقاء العدو، وسلوا الله العافية، فإذا لقيتموهم فاصبروا، واعلموا أن الجنة تحت ظلال السيوف. ثم قال: اللهم مُنزِل الكتاب، ومُجرِي السحاب، وهازم الأحزاب، اهزمهم وانصرنا عليهم" صحيح البخاري – حديث 2965-2966. فالدعاء وذكر الله تعالى أهم مقومات الثبات والصبر عند اللقاء، وليس ثبات الجسد في الظاهر إلا انعكاساً لثبات القلب في الباطن، وتأمل مصداق ذلك في قوله تعالى لأهل بدر: (إذ يُغشِّيكم النعاس أَمَنَةً منه ويُنَزِّلُ عليكم من السماء ماءً لِيُطهِّركم به ويُذهب عنكم رجز الشيطان ولِيربط على قلوبكم ويُثبّت به الأقدام) سورة الأنفال – آية 11، فهذه الآية العظيمة قد جمعت مقومات الثبات الباطن والظاهر، حيث أشارت إلى طهارة الظاهر بنعمة الماء الذي أنزله الله تعالى على المجاهدين من السماء، وأشارت إلى طهارة الباطن بإذهاب رجز الشيطان ووساوسه وخواطره السيئة، ثم بينت الآية الكريمة أثر هذه الطهارة الباطنة والظاهرة، حيث أورثت طهارةُ الباطن ثباتَ القلب ورباطةَ الجأش فقال تعالى (وليربط على قلوبكم)، وأورثت طهارةُ الظاهر ثباتَ الأقدام حيث قال تعالى (ويثبت به الأقدام)، وما هذا الثبات والرباط إلا ثمرة استحضار عظمة الله الذي يتوكل عليه المجاهدون، وثمرة ذكر الله تعالى عند مصافة العدو والتحام الصفوف، وإن هذا الذكر والثبات والرباط هو المعول عليه لكسر جيوش الكفار وخلع قلوبهم، قال تعالى في الآية التالية: (إذ يوحي ربك إلى الملائكة أني معكم فثبِّتوا الذين آمنوا سأُلقي في قلوب الذين كفروا الرعب فاضربوا(1/64)
فوق الأعناق واضربوا منهم كلَّ بنان) سورة الأنفال – آية 12، فأي شيء يصمد أمام تثبيت الله تعالى جندَه الموحدين، وأي شيء يصمد أمام زلزال المؤمنين يجلبون على فئران الكفر يحطمون رؤوسهم، ويكسرون شوكتهم، فيعذب الله تعالى مَن شاء مِن الكفار بمَن شاء مِن جنده المؤمنين، وهذه هي ثمرة الذكر، وهذه هي حقيقة الذكر. وتأمل ذكر الله الذي يُثمر عزة الدين، وفلقَ هامِ الكافرين لتعلم سمو هذه المنزلة، ولتعلم أن ما بين ذكر الله تعالى والجهاد في سبيله ليس من جنس التضاد والتنافر في شيء، كما يتوهم الواهمون ويزعم المرجفون، بل إن ما بينهما هو التكامل في العبادة الربانية، أعني تكامل حضورِ القلب وتكامل حضورِ الجسد، ليخصع الجميع في محراب العبودية والانقياد لأمر الله تعالى، وليصبح كلٌ من الجسد والقلب عنواناً على صدق الآخر، فلا يكون الذكر مجرد تمتماتٍ بالشفاه، ولا يكون الجهاد مجرد كُلُومٍ ودماء، بل ينصهر القلب والجسد واللسان معاً في ساحة القتال في أجمل مشهد من مشاهد توحيد الله تعالى، وفي أصدق وفاء بصفقة البيع مع الله تعالى، أفيقنع مسلمٌ بعد هذا بذِكر الله تعالى في الخَلَوات والجسدُ محرومٌ من ضربة سيفٍ وطعنة رمحٍ ورمية سهم، أم يقنع المقاتِلُ بضرباتٍ تُفني الجسد والقلبُ غافلٌ لاهٍ لا يدري فيم يفنى الجسد، ولا يدري في أي شيء يموت؟! لا والله لا يقنع المسلم بهذا البتة، فعن أبي بكر بن عبد الله بن قيس عن أبيه قال: سمعت أبي وهو بحضرة العدو يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن أبواب الجنة تحت ظلال السيوف" فقام رجلٌ رثُّ الهيئة فقال: يا أبا موسى، آنت سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول هذا؟ قال: نعم. قال: فرجع إلى أصحابه فقال:أقرأُ عليكم السلام، ثم كسر جفن جفن السيف : غمده سيفه فألقاه، ثم مشى بسيفه إلى العدو، فضرب به حتى قُتل" صحيح مسلم – حديث 1902، اللهم اجعلنا ذلك الرجل...
الفصل الثامن:
الجهاد؛ كرٌ وفرٌ(1/65)
"يا سارية الجبل، يا سارية الجبل، يا سارية الجبل"
أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه
ثم قَدِم رسول الجيش، فسأله عمرُ فقال: يا أمير المؤمنين هُزمنا، فبينا نحن كذلك إذ سمعنا صوتاً ينادي: يا سارية الجبل، ثلاثاً، فأسندنا ظهرنا إلى الجبل، فهزمهم الله تعالى.قيل لعمر: "إنك كنت تصيح بذلك"
الفصل الثامن: الجهاد كرٌ وفرٌ
إن الثبات أمام جحافل الكفر وجند الشيطان يفتقر إلى تثبيت الله تعالى لجند الموحدين، ولا يملك المسلم إلا أن يتعاطى أسباب هذا الثبات، ثم يرجو محض الفضل والنعمة من الله تعالى بتحقيق ثمرته. وإن من هذه الأسباب بعد إخلاص النية لله تعالى وتجريد القصد في الجهاد إعلاءً لكلمته جلَّ وعلا، وتجريد المتابعة لرسول الله صلى الله عليه وسلم في القتال تحت لواء التوحيد لا غير، أن يحترز المؤمن المجاهد من الفرار والتولي من المعركة، فقد قال الله تعالى: (يأيها الذين آمنوا إذا لقيتم الذين كفروا زحفاً فلا تولّوهم الأدبار. ومن يُولِّهم يومَئذٍ دُبُرَه إلا متحرفاً لقتالٍ أو متحيِّزاً إلى فئةٍ فقد باء بغضبٍ من الله ومأواه جهنم وبئس المصير) سورة الأنفال – 15-16، وصح في الحديث عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "اجتنبوا السبع الموبقات. قيل: يا رسول الله، وما هن؟ قال: الشرك بالله، والسحر، وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق، وأكل مال اليتيم، وأكل الربا، والتولي يوم الزحف، وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات" صحيح مسلم – حديث 89، فلا يخفى أن التولي من المعركة والفرار من القتال كبيرةٌ من الكبائر التي يتوجب الحذر من الوقوع فيها، وإن تلاحم الصفوف والتقاء جيوش الحق والباطل مظنة تسرب الخوف والهلع إلى النفوس، فكان من رحمة الله تعالى بجند الإيمان وعباد الرحمن أن حذَّرهم من مغبة الفرار من القتال، وإلا صار لهم حظٌ من قول بني إسرائيل لموسى عليه السلام فقد قال تعالى: (قالوا يا موسى إنّا لن ندخلها(1/66)
أبداً ما داموا فيها فاذهب أنت وربك فقاتلا إنّا هاهنا قاعدون) سورة المائدة – آية 24، وتأمل هذا الموقف من بني إسرائيل في مقابل موقف صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه يقول: "شهدت من المقداد بن الأسود مشهداً لأن أكون صاحبَه أحبُّ إليَّ مما عُدِل به، أتى النبي صلى الله عليه وسلم وهو يدعو على المشركين فقال: "لا نقول كما قال قوم موسى (فاذهب أنت وربك فقاتلا)، ولكنا نقاتل عن يمينك، وعن شمالك، وبين يديك وخلفك"، فرأيت النبي صلى الله عليه وسلم أشرق وجهه وسرَّه" يعني قوله صحيح البخاري – حديث 3952.
ولقد كان هذا الثبات عزيمةً من الله تعالى، وكان شأنه في أول الإسلام أشد ثم خففه الله تعالى برحمته،(1/67)
فقد قال الله تعالى : (يأيها النبي حسبك الله ومن اتبعك من المؤمنين. يأيها النبي حرِّض المؤمنين على القتال إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مائتين وإن يكن منكم مائةٌ يغلبوا ألفاً من الذين كفروا بأنهم قومٌ لا يفقهون. الآن خفّف الله عنكم وعلم أن فيكم ضعفاً فإن يكن منكم مائةٌ صابرةٌ يغلبوا مائتين وإن يكن منكم ألفٌ يغلبوا ألفين بإذن الله والله مع الصابرين) سورة الأنفال – آية 64-66، وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: لما نزلت (إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مائتين)، شق ذلك على المسلمين حين فرض عليهم أن لا يفرَّ واحدٌ من عشرة، فجاء التخفيف فقال: (الآن خفف الله عنكم وعلم أن فيكم ضعفاً فإن يكن منكم مائةٌ صابرة يغلبوا مائتين)، قال: فلما خفف الله عنهم من العدة، نقص من الصبر بقدر ما خُفف عنهم" صحيح البخاري – حديث 4653، ولكن بقيت بشارة الآية كما ذكر ابن كثير رحمه الله، وبقيت القاعدة الأساسية التي يقاتل عليها المسلمون المجاهدون: (كم من فئةٍ قليلة غلبت فئةً كثيرةً بإذن الله) سورة البقرة – آية 249، ولكن الحديث هنا عن المقام التكليفي الذي لا يسوغ للمجاهد الفرار فيه، أما مقام البركة والبشارة فذلك شأن آخر...
بقي الكلام في قوله تعالى: (ومن يُولِّهم يومَئذٍ دُبُرَه إلا متحرِّفاً لقتالٍ أو متحيِّزاً إلى فئةٍ فقد باء بغضبٍ من الله ومأواه جهنم وبئس المصير) سورة الأنفال – 16، إذ ليس كل فعلٍ فيه انحرافٌ عن موضع القتال مرادفٌ للفرار المذموم، فلقد استثنت الآية الكريمة مَن ولَّى دُبُرَه للكفار في المعركة بهدف التحرف للقتال من قبيل الكر والفر، ومن قبيل الاستدراج والإغراء للعدو، واستثنت مَن ولَّى العدو دبره لينحاز إلى فئة المسلمين، ولعل بيان هذا الحكم يحتاج إلى بيان وقائع من السيرة النبوية المطهرة كي تطمئن نفس المجاهد إلى التمييز بين الفرار المذموم المحرم وبين تولية الدبر لمقصد شرعي محمود؛(1/68)
فعن أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم نعى زيداً وجعفراً وابن رواحة للناس قبل أن يأتيهم خبرهم فقال: "أخذ الرايةَ زيدٌ فأُصيب، ثم أخذ جعفر فأُصيب، ثم أخذ ابن رواحة فأُصيب وعيناه تذرفان، حتى أخذ الراية سيفٌ من سيوف الله حتى فتح الله عليهم" صحيح البخاري – حديث 4262، وكان هذا في غزوة مؤتة، وقد واجه فيها جيشُ المسلمين آنذاك وهم ثلاثة آلاف جيشَ هرقل وفيه مائة ألف من الروم، ومائة ألف انضموا إليهم من قبائل أخرى، وقد تشاور المسلمون في شأن مواجهة جيش هرقل، حتى قال لهم عبد الله بن رواحة رضي الله عنه وأرضاه:"يا قوم، والله إن الذي تكرهون للتي خرجتم تطلبون؛ الشهادة، وما نقاتل الناس بعددٍ ولا قوة ولا كثرة، ما نقاتلهم إلا بهذا الدين الذي أكرمنا الله به، فانطلقوا، فإنما هي إحدى الحسنيين؛ إما ظفر وإما شهادة" زاد المعاد – 3/337، فمضى الناس حتى لاقوا الروم بتخوم البلقاء، وكانت موقعة عظيمة بين المسلمين والروم، اقتتلوا وكانت الراية في يد زيد بن حارثة، فلم يزل يقاتل بها حتى شاط في رماح القوم وخرَّ صريعاً، ثم أخذ الراية جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه، فقاتل بها حتى إذا أرهقه القتال اقتحم عن فرسه فعقرها، ثم قاتل حتى قُتل، فكان جعفر أول من عقر فرسه في الإسلام عند القتال، فقُطعت يمينه فأخذ الراية بيساره، فقُطعت يساره فاحتضن الراية حتى قُتل، ثم أخذ الراية عبد الله بن رواحة رضي الله عنه، وتقدم بها وهو على فرسه، وجعل يستنزل نفسه ويردد بعض التردد ثم نزل، ثم أخذ سيفه وتقدم وقاتل حتى قُتل، وأخذ الراية ثابت بن أقرم أخو بني عجلان فقال: يا معشر المسلمين، اصطلحوا على رجلٍ منكم، قالوا: أنت، قال : ما أنا بفاعل، فاصطلح الناس على خالد بن الوليد، فلما أخذ الراية دافع القومَ، وحاش بهم ثم انحاز بجيش المسلمين وانصرف بالناس، واستنقذ الجيش زاد المعاد – 3/338 بتصرف واختصار يسير. ولقد استطردت بعض الشيء في سرد(1/69)
وقائع المعركة ليتبين السياق الذي انحاز فيه خالد بن الوليد رضي الله عنه بالجيش، وليتبين أن الانحياز بجيش المسلمين واستنقاذه من مثل هذه المجابهة التي لم يشهد لها التاريخ مثيلاً؛ ثلاثةُ آلاف مجاهد من المسلمين في مقابل مائتي ألف من الكفار، إن الثبات في هذه المواجهة بحد ذاتها انتصار عسكري، وإن الانحياز بالجيش واستنقاذه من هلاكٍ محتم انتصار عسكري، وهذا هو مفهوم الكر والفر، والمجابهة والانحياز إلى فئة المسلمين، وإن موقف خالد بن الوليد في هذه المعركة وإقرار الرسول صلى الله عليه وسلم على تصرفه في الانحياز بالجيش يبين لنا أن جهاد الدولة الإسلامية ليس قتال تهور وهلاك، بل هو إقدام وشجاعة في موضعه، وحكمة وحنكة في موضعها، والله تعالى أعلم.
ويؤكد هذا المعنى ما جاء عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول لما هُزم أبو عبيدة :"لو أتوني كنت فئتهم" سنن البيهقي الكبرى – حديث 17864. والمقصود أن الانحياز بجيش المسلمين إلى جماعة المسلمين بنية التحيز لاستئناف الكرِّ مرةً أخرى لا يدخل في كبيرة التولي يوم الزحف، قال الموفق ابن قدامة رحمه الله :"وأما التحيز إلى فئة فهو أن يصير إلى فئةٍ من المسلمين ليكون معهم، فيقوى بهم على عدوهم، وسواء بعُدت المسافة أو قرُبت" المغني – 9/255.
وأما التحرف للقتال فمعناه كما قال ابن قدامة رحمه الله :"أن ينحاز إلى موضعٍ يكون القتال فيه أمكن، مثل أن ينحاز من مواجهة الشمس أو الريح إلى استدبارهما، أو من نزلة إلى علو، أو من معطشة إلى موضع ماء، أو يفر بين أيديهم لتنتقض صفوفهم، أو تنفرد خيلهم من رجالتهم، أو ليجد فيهم فرصة، أو ليستند إلى جبل ونحو ذلك مما جرت به عادة أهل الحرب، وقد روي عن عمر رضي الله عنه أنه كان يوماً في خطبته إذ قال: يا سارية بن زنيم الجبل" المغني – 9/255.(1/70)
بقيت كلمة في مسألة مهمة اليوم، وهي ما بات يُعرف بحرب العصابات، حيث إن انفراط عقد الدولة الإسلامية، وتعطيل الجهاد "الرسمي" قد كشف بلاد المسلمين لأعدائهم، وباتت جيوش الكفار تصول وتجول وتعيث في أراضي المسلمين فساداً، فأرض المسلمين في شتى أرجاء المعمورة أصبحت ساحة استعمار لجيوش الكفار، وأصبح الجهاد منوطاً بأفراد وجماعات استشعروا ثقل الأمانة وواجب التصدي لجيوش الكفر التي تستبيح دماءنا وأعراضنا وأموالنا وديارنا، وغنيٌ عن القول أن هذا الجهاد هو من جهاد الدفع الذي يُقصد منه دفع أذى الكفار عن المسلمين، ولا تشترط له راية ولا إذن على ما هو مبسوط في كتب الفقه، والشاهد هنا أن طبيعة هذا القتال المعروف اليوم بحرب العصابات والذي يندرج تحت جهاد الدفع، يستلزم بطبيعته أن يأوي المجاهدون إلى فئةٍ من المسلمين، ويستلزم تعاوناً وتكاملاً وتكاتفاً بين المجتمع المسلم الواقع تحت احتلال الكفار من جهة، وعصبة المجاهدين الذين نذروا نفوسهم ونفروا من دفء فراشهم ودعة عيشهم لنصرة الإسلام والمسلمين، ولدفع أذى الكافين المحاربين. إن فهم حيثية الكر والفر، والتحرف والتحيز في القتال عظيمة النفع في تهييج المجتمع المسلم على احتضان عصبة المجاهدين وتمكينهم من الأمن الحركي اللازم لهم لتسديد الضربات الموجعات المفجعات المهلكات ضد جيوش الكفر والعدوان، ولئن كان مفهوم التحرف والتحيز في القتال مطبَّقاً في عصر النبوة والخلافة ما بين المجتمع المسلم وجيوش المسلمين الخارجة في جهاد الطلب والدعوة، فلأن تكون مطبقة قائمة في حرب العصابات التي يخوضها المجاهدون اليوم ضد معسكرات الكفر هو من باب أولى، وإذا عُلم هذا، تبين عظم الجريمة التي يقوم بها المنتسبين إلى الإسلام من بني جلدتنا حين يدلّون الكفار على عورات المجاهدين، ويتعاونون مع جيوش الكفر تعاوناً خسيساً رخيصاً من أجل تتبعهم والقضاء عليهم، خابوا وخسروا، وهؤلاء المجرمون لا يقومون(1/71)
بخلخلة منظومة الجهاد هذه فحسب، بل إنهم يخلعون بيعة الإسلام من أعناقهم بتولي الكافرين ضد المسلمين، ألا بئس المولى، ألا بئس العشير.
الفصل التاسع:
الجهاد وريح الجنة
"يا رسول الله، أَجِدُني أَجِدُ ريحَ الجنة"، وفاضت نفسه رحمه الله...
سعد بن الربيع رضي الله عنه
الفصل التاسع:الجهاد وريح الجنة
قال الله تعالى: (والعاديات ضبحاً. فالموريات قدحاً. فالمغيرات صبحاً. فأَثَرن به نَقعاً. فَوَسَطن به جمعاً) سورة العاديات – آية 1-5، إنها أقسامٌ عجيبةٌ حقاً، يقسم رب العزة سبحانه وتعالى بالخيل العاديات التي تغير صبحاً على معاقل الكفر، وتثير بحوافرها غبار النقع، وتتوسط الجموع وكأنها سهم خارق لا يمنعه شيء عن الوصول إلى هدفه، ولكن هذا الذي يراه الناظر ضباح خيل، وقدح حوافر، وغبار نقعٍ، كيف يراه المجاهد في سبيل الله، وكيف يستشعره وهو يستشرف الشهادة والقتل في سبيل الله؟
فلنتأمل في هذه المواقف من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولنتدبر كيف كان استشعارهم لعناصر المعركة حيث يثار النقع، وتغير الخيل، وينقدح الشرر من حوافرها المصطكة بأرض المعركة، لنتدبر كيف يستشعر المجاهد ساحة المعركة في لحظات صفاء قلبه، وثبات يقينه، وعلو همته، وصدق إخلاصه لله تعالى، ولنرى إن كان يرى ما يراه الناظر بعينيه، أم أنه يرى شيئاً آخر غير ذلك، ويستشعر شيئاً آخر غير ذلك، فلنتدبر:(1/72)
عن أنس رضي الله عنه: "أن عمَّه غاب عن بدرٍ فقال: غبت عن أول قتال النبي صلى الله عليه وسلم، لئن أشهدني الله مع النبي صلى الله عليه وسلم، لَيَرَيَنَّ اللهُ ما أُجِدُّ. فلقي يوم أُحُد، فهُزم الناس، فقال:اللهم إني أعتذر إليك مما صنع هؤلاء - يعني المسلمين - وأبرأ إليك مما جاء به المشركون. فتقدم بسيفه فلقي سعد بن معاذ، فقال: أين يا سعد، إني أجد ريح الجنة دون أُحُد، فمضى فقُتل، فما عُرف حتى عرفته أخته بشامةٍ -أو ببنانه- وبه بضعٌ وثمانون من طعنة وضربة ورمية بسهم" صحيح البخاري – حديث 4048.
وعن خارجة بن زيد بن ثابت عن أبيه قال:" بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم يومَ أُحُد لطلب سعد بن الربيع، وقال لي: إن رأيته فأقرئه مني السلام، وقل له: يقول لك رسولُ الله، كيف تجدك؟ قال: فجعلت أطوف بين القتلى فأصبته وهو في آخر رمق، وبه سبعون ضربةً ما بين طعنةٍ برمح، وضربةٍ بسيف، ورمية بسهم، فقلت له: يا سعد، إن رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يقرأ عليك السلام، ويقول لك: خبرني كيف تجدك؟ قال: على رسول الله السلام، وعليك السلام، قل له: يا رسول الله، أجدني أجد ريح الجنة، وقل لقومي الأنصار: لا عذر لكم عند الله أن يُخلص إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وفيكم شفر يطرف، قال وفاضت نفسه رحمه الله" المستدرك على الصحيحين – حديث 4906، وقال الحاكم: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه.(1/73)
هذان أنموذجان من سيرة صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، يحكون لنا شيئاً عجيباً، ويصورون لنا مشهداً غريباً مختلفاً عما يراه باقي الناس، إنهم يجدون ريح الجنة، وأي جنة، إنها جنة عرضها السماوات والأرض، وإن هذا الذي يجده المجاهد في سبيل الله من ريح الجنة يفسر لنا شعورهم باستبطاء الشهادة، واستثقال الانتظار الحاصل لأي عارضٍ يحول بينهم وبين القتل في سبيل الله، تأمل ذلك الصحابي الجليل عمير بن الحمام رضي الله عنه وأرضاه، فقد جاء في الحديث في غزوة بدر: "فدنا المشركون، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: قوموا إلى جنةٍ عرضها السماوات والأرض. قال: يقول عمير بن الحمام الأنصاري: يا رسول الله، جنة عرضها السماوات والأرض! قال: نعم. قال: بخٍ بخٍ. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما يحملك على قولك بخ بخ. قال: لا والله يا رسول الله، إلا رجاءة أن أكون من أهلها. قال: فإنك من أهلها. فأخرج تُمَيراتٍ من قَرنه، فجعل يأكل منهن، ثم قال: لئن أنا حييت حتى آكل تمراتي هذه، إنها لحياةٌ طويلة. قال: فرمى بما كان معه من التمر، ثم قاتلهم، حتى قُتل" صحيح مسلم – حديث 1901.
نعم، إنها حياةٌ طويلة لمن يجد ريح الجنة، وإنها لحياة طويلة لمن أيقن يقين المعايِن للأمر فأدرك أن ما يحول بينه وبين جنة الرحمن هو إراقة دمه في سبيل الله، ففيم التباطؤ، وفيم والتأخر، وأي تمراتٍ أو أُكلات تلك التي تُؤخره عن الجنة...
قد يقول قائلٌ إن هذه التعابير هي أساليب لغوية لا يُراد منها حقيقتها، ولكننا نقول إن تصرفات الصحابة تدل على أنهم يتكلمون عن حقائق يعاينونها فينفعلون لها في لحظات صدق نادرة الحدوث عزيزة الوجود في السلوك البشري.(1/74)
ولقد بلغ من صدق انفعال الصحابة رضوان الله عليهم لتهييج رسول الله صلى الله عليه وسلم لهم على الجهاد والشهادة، من خلال تلك الأوصاف الحسية للجنة والطريق الموصل إليها، لقد بلغ بهم الصدق في التجاوب والانفعال أن استطاعوا بفضل الله تعالى أن ينقلوا هذا الانفعال لغيرهم ممن لم يسمع من رسول الله صلى الله عليه وسلم مباشرة، ليقوم هؤلاء بمثل ما قام به الصحابة الأبرار من تتبع ريح الجنة، واختصار الطريق إليها، والاستظلال بالسيوف المؤدية بهم إلى الشهادة، إلى مفتاح الجنة، فعن أبي بكر بن عبد الله بن قيس عن أبيه قال: سمعت أبي وهو بحضرة العدو يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن أبواب الجنة تحت ظلال السيوف"، فقام رجلٌ رث الهيئة فقال: يا أبا موسى، آنت سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول هذا؟ قال: نعم. قال: فرجع إلى أصحابه، فقال:"أقرأ عليكم السلام"، ثم كسر جَفنَ سيفه فألقاه، ثم مشى بسيفه إلى العدو، فضرب به حتى قُتل" صحيح مسلم – حديث 1902.(1/75)
ولئن بلغ بك العجب أخي مبلغاً، فتأمل انفعال ملائكة الرحمن وتجاوبهم مع أولئك النفر الخُلَّص من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، الذي صدقوا الله تعالى فصدقهم، فإذا بحقائق الغيب والآخرة أمورٌ محسوسة معاينة كما أحس أولئك النفر بريح الجنة، ورأوا أبوابها تحت ظلال السيوف، واستشرفوا دخول الجنة على عجل لما آمنوا بها عين اليقين، تأمل كيف تتجاوب ملائكة الرحمن مع بعض هؤلاء حين ينفرون من الدنيا كل الدنيا، استجابةً لداعي الجهاد، وتلبية لصيحة النفير، فعن حنظلة بن أبي عامر أخي بني عمرو بن عوف أنه التقى هو وأبو سفيان بن حرب يوم أُحُد، فلما استعلاه حنظلة، رآه شداد بن الأسود - وكان يقال له ابن شعوب - قد علا أبا سفيان، فضربه شدادُ فقتله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن صاحبكم - يعني حنظلة - لتغسلُه الملائكة، فاسألوا أهله ما شأنه؟ فسئلت صاحبتُه صاحبته :أي زوجته فقالت: خرج وهو جُنُب حين سمع الهاتفة الهاتفة: اي صيحة النفير للجهاد. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لذلك غسلته الملائكة" حلية الأولياء – 1/357، والإصابة في تمييز الصحابة 2/127. إنه لشيء عجيبٌ حقاً، ولكن أين العجب ممن لا يرى في غبار النقع سوى ريح الجنة، ولا يرى تحت بوارق السيوف سوى مفاتيح أبواب الجنة، أين العجب...
الفصل العاشر: الجهاد وصناعة النصر
"ما على هذا اتبعتُك، ولكن اتبعتك على أن أُرمى ههنا - وأشار إلى حلقه- بسهمٍ فأموت، فأدخُل الجنة"
رجلٌ من الأعراب لرسول الله صلى الله عليه وسلم
فأُتي به النبي صلى الله عليه وسلم يُحمل، قد أصابه سهمٌ حيث أشار، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أهوَ هو؟ فقالوا: نعم. قال: صدق الله فصدقه"
الفصل العاشر: الجهاد وصناعة النصر(1/76)
قد ينظر الكثير منا إلى فتح مكة باعتباره مَعلم النصر لصدر الأمة الأول، وهو مَعلم انتصار عظيم وفتح من الله مبين لا ريب، ولكن هل هو حقيقة الانتصار أم ثمرته؟ وهل التمكين في الأرض هو جوهر النصر أم هو تتويج له؟ وإن لم يكن كذلك فما هي حقيقة النصر التي لا يضر معها تخلف حصول الثمرة وتأخر حفل التتويج؟
لقد سبقت فتحَ مكة معاركُ عظام وأحداث جِسام لم تكن ساحتها ميدان القتال بعد، كما لم تكن عدتها السيف والسنان بعد، وإنما كانت معركةً من نوع آخر وكان تدافعاً من نوع آخر، كانت معركة اسمها (فاصدع بما تؤمر وأعرض عن المشركين) سورة الحجر – آية 94، وكانت معركة اسمها : (لكم
دينكم وليَ دين) سورة الكافرون – آية 6؛ ودارت رحى المعركة الأولى حول تجريد التوحيد : (واذكر اسم ربك وتبتل إليه تبتيلاً. رب المشرق والمغرب لا إله إلا هو فاتخذه وكيلاً) سورة المزمل – آية 8-9، وكانت عُدة المعركة الثانية : (فلا تطع المكذبين. ودُّوا لو تدهن فيدهنون) سورة القلم – آية 8-9. واشتدت أتون هذه الحرب وتمحضت معها حقيقة التوحيد في قلوب أولئك النفر، فإذا بهم يتلذذون في آهاتهم، ويتنعمون في أنَّاتهم، قد أغناهم حب الله عن كل ما سواه، وشغلهم مشهد العبودية عن مشهد التسخط على الأذى فيه سبحانه وتعالى، وكانت تلك بداية معركة التحرير وأولى ملامح الانتصار...(1/77)
ثم أخذ مشهد المعركة يتميز شيئاً فشيئاً، وأخذت معالم الطريق تتضح شيئاً فشيئاً. نعم، لقد بدأ أولئك النفر يدركون أنه لا بد من تسديد بعض أقساط الجنة؛ فكانت الأقساط من أموالهم تارة، ومن أجسادهم ولحومهم تارة،كانت من الولد والأهل تارة، ومن العشيرة والوطن تارة. قطعوا ما بينهم وبين الناس ليقيموا ما بينهم وبين الله، وطلقوا الدنيا ليخطبوا الآخرة، وأفرغوا قلوبهم من كل ما سوى الله، فتهيأت لغرسة التوحيد فيها. هُجِّروا فهاجروا، وعُذِّبوا فصابروا، استُنصروا فنصروا، واستُنفروا فنفروا، وكلما تجردوا من علائق الدنيا كلما تميزت عندهم معالم النصر، وغدت ملامح الانتصار وحقيقته أكثر وضوحاً، وأشد نوراً من ذي قبل...
ثم كان تحول ميدان المعركة إلى السيف والرمح، وكانت بدر وما أدراك ما بدر، ولكن بريق النصر العسكري ونشوة اندحار العدو ومادته قد يخطف الأبصار أحياناً بل قد يعميها عن بعض الحقائق، فلربما ظن المسلمون أن النصر العسكري والغلبة والظهور المادي أمرٌ لازمٌ ملازم، بل قد تزين نفسُ المرء له أنها تستحق هذا الظهور حتماً، كيف لا وقد اجتمعت الدواعي من التزام الحق وتأييد السيف له والإثخان في العدو وكسر شوكته وشكيمته، ولكن ليس هذا هو النصر، أو قل: ليس هذا هو تمام النصر، بل كان لا بد من جولةٍ أُخرى يكتمل فيها انتصار الإسلام والمسلمين، وهكذا كانت غزوة أُحُد...(1/78)
دخل المسلمون غزوةَ أُحد، ولربما كانت نشوةُ النصر في بدر آخذةً بلب بعضهم، ولربما حسب بعضهم أنه ومنذ بدر نصرٌ بلا هزيمة وغلبةٌ بلا انكسار، ولربما توهم البعض أن مجرد التزامِ طريق الحق موجبٌ لدوام الظهور والتمكين، وعندما انقلبت موزاين المعركة وتجرد المسلمون من كل رداء خلا العبودية المطلقة لله تمحضت آنذاك معالم النصر؛ عندما كُسرت ثنية النبي بأبي هو وأمي صلى الله عليه وسلم وشج وجهه الشريف تمحضت معالم النصر في أمةٍ هكذا قائدها، أمة رأس الحربة فيها هو الإمام القائد أو قل الرئيس الحاكم، أمةٌ لا ينشغل حاكمها بكرسي الدنيا عن كرسي الآخرة، قائدٌ يستشير الصغير والكبير، وينزل عند رأي المخالف فيما لا يُغضب الله تعالى تطييباً للقلوب وجبراً للخواطر، قائدٌ يصمد حين يلتفت الناس، ويرفع لواء الحق حين يتواني عنه الناس، قائدٌ يسدد شيئاً من أقساط الجنة من لحمه ودمه حين يلوذ الناس بلحومهم ودمائهم...
وعندما لم يبق مع النبي صلى الله عليه وسلم غير طلحة وسعد ، وعندما قام أبو دجانة أمام رسول الله صلى الله عليه وسلم فترَّس عليه بظهره والنبل يقع عليه وهو لا يتحرك، وعندما جعلت أم عمارة نسيبة بنت كعب تذود عن النبي صلى الله عليه وسلم بكل ما أوتيت من قوة في تسعة رهطٍ اجتمعوا حول النبي صلى الله عليه وسلم حين انفض عنه الناس، هنالك لاحت معالم النصر. وعندما أصيب زوج وأب وأخ المرأة من بني دينار وهي لا تسأل إلا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى إذا رأته قالت: كل مصيبةٍ بعدك جَلَل (أي هينة) عندها كان أحد معالم الانتصار، عندما تحقق تقديم حب الله ورسوله على كل ما سواهما عندها كان النصر...(1/79)
وعندما انحسر المسلمون وقد أعجبتهم قوتهم وعددهم لا يلوي أحدٌ منهم على أحد في كمين العدو لهم في حُنين، تقدَّم النبي صلى الله عليه وسلم بنفسه آنذاك ليعلن للناس جميعاً مسلمين وكفاراً أن أمر هذه الدعوة قائمٌ مهما انحسر عنه الناس، وأن راية الحق أبداً مشرَّعة مهما انكسرت لجندها شوكة، فأخذ بأبي هو وأمي صلى الله عليه وسلم يدفع بغلته نحو الكفار وهو ينادي : أنا النبي لا كذب، أنا ابن عبد المطلب، عندها كان النصر، وعندها جلجلت كلمة الحق، أما ما كان بعد ذلك من اجتماع كتائب الحق على كلمة النبي صلى الله عليه وسلم وقهر عدوهم فلم يكن إلا ترجمة لهذا النصر وثمرة من ثماره ليس إلا...
وليس هذا النصر الذي نتحدث عنه ظاهرةً عابرةً في تاريخ أمتنا، بل هو جزء لا يتجزأ من مسيرة كلمة التوحيد عبر العصور، فلقد انتصرت كلمة التوحيد من قبل حين سمت أرواح الموحدين فوق حضيض الدنيا، ورضيت بأن تحرق أجسادها في أخدود الكفر لتحلق أرواحها في سماء التوحيد ولتتعانق في حواصل طير خضر في سماء الجنة؛
إن سورة البروج في القرآن ليست تسجيلاً وثائقياً لمذبحةٍ شنيعة لا يسعنا سوى التألمُ لحال أصحابها، كلا، إن سورة البروج تسجيلٌ لانتصارٍ تاريخي لكلمة التوحيد على شرذمة الكفر، نعم لقد قهر أصحاب الأخدود أجسادَ الموحدين وأحرقوها لكنهم لم يهزموا ولا نفسَ طفلٍ واحد منهم، وليس القول بانتصار الموحدين يومها ضرباً من المبالغة أو تطييب الخواطر كلا، بل هو والله الانتصار الحقيقي ، وأي انتصار لأهل التوحيد أعظم من شهادة الله تعالى لهم بالإيمان، وأي هزيمة على الكفار أشد من تربص عذاب الحريق بهم، وأي حريق...(1/80)
وقل مثلَ هذا في لقطات الانتصار التاريخية لكلمة الحق على الباطل، فلقد انتصرت كلمة الحق من ذي قبل حين قال هابيل: (لئن بسطت إليَّ يدك لتقتلني ما أنا بباسطٍ يديَ إليك لأقتلك إني أخاف الله رب العالمين) سورة المائدة – آية 28، وانتصرت كلمة الحق حين قالت هيتَ لك فقال الكريم بن الكريم بن الكريم : (معاذ الله إنه ربي أحسن مثواي إنه لا يفلح الظالمون) سورة يوسف – آية 23، وانتصرت كلمة الحق حينما قال سليمان عليه السلام : (أتمدوننِ بمالٍ فما آتاني الله خيرٌ مما آتاكم بل أنتم بهديتكم تفرحون) سورة النمل – آية 36، وانتصر الحق أيضاً يوم أن قذف الله تعالى نور الإيمان في قلوب سحرة فرعون فإذا أنصار الباطل بالأمس شهداء الحق اليوم : (فأُلقي السحرة سُجَّداً قالوا آمنا برب هارون وموسى) سورة طه – آية 70 ، ولعل الانتصار قد بلغ ذروته حين استخف المؤمنون الجدد بعذاب الدنيا لِما لاقوه من حلاوة الإيمان : (قالوا لن نُؤثِرَك على ما جاءنا من البينات والذي فطرنا فاقضِ ما أنت قاض إنما تقضي هذه الحياة الدنيا) سورة طه – آية 72، نعم هذه مواقف من الانتصار على النفس حيث قُهرت ومُنعت ولُجِمت عن التعدي على الدم المعصوم والفرج الحرام والمال غير المستَحَق والمنصب والجاه الفارغين، وإن سِجل هذه الأمة سجلٌ حافلٌ بالانتصارات، بل هو سلسلة متصلة من الانتصار سواءٌ أثمر غلبةً عسكرية أم لم يُثمر، وسواءٌ أحقق نصراً ميدانياً أم لم يحقق...(1/81)
وإن المتأمل في طبيعة النصر الذي قدمنا نماذج منه ليدرك أن حقيقة الأمر ومداره على التمسك بالحق مهما كان الثمن، والثقة بوعد الله مهما تأخرت الثمرة، ولهذا فإني أقول بكل ثقة إن مشهد النصر الحقيقي لم يكن في قوله تعالى : (فهزموهم بإذن الله وقتل داودُ جالوتَ وآتاه الله الملك والحكمة) سورة البقرة – آية 251 بقدر ما كان في قوله تعالى : (إن الله مبتليكم بنهرٍ فمن شرب منه فليس مني ومن لم يَطعمه فإنه مني إلا من اغترف غُرفةً بيده) سورة البقرة – آية 249، نعم هنا كانت معالم النصر لأقوام ومعالم الهزيمة لآخرين : (فشربوا منه إلا قليلاً منهم) سورة البقرة – آية 249، وهؤلاء القليل هم الذين تعوّل عليهم أمة الإسلام في كل زمان ومكان، أما عند الغلبة العسكرية والظهور والتمكين فما أكثر المسلمين حينذاك وما أكثر من يحبون الدين آنذاك، ولكن شتان بين من أحب الدينَ والدين غريب وبين من أحب الدينَ والدين تجبى إليه ثمرات كل شيء، وهذه هي حقيقة النصر...(1/82)
إن الجهاد في سبيل الله تعالى لتحقيق النصر بهذا المفهوم يحتاج إلى دراية بصناعة النصر، وتوطين للنفس على تحري أسباب بذل النفس في سبيل الله، وليست قصة ذلك الأعرابي المؤمن إلا تجسيداً فردياً فريداً لصناعة النصر هذا، فعن شداد بن الهاد: أن رجلاً من الأعراب جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فآمن به واتبعه، ثم قال: أهاجرُ معك، فأوصى به النبي صلى الله عليه وسلم بعض أصحابه. فلما كانت غزوةٌ غنِم النبي صلى الله عليه وسلم سبياً، فقسمَ وقسمَ له، فأعطى أصحابَه ما قسم له، وكان يرعى ظهرهم، فلما جاء دفعوه إليه، فقال: ما هذا؟ قالوا: قسمٌ قسمه لك النبي صلى الله عليه وسلم، فأخذه فجاء به إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ما هذا؟ قال: قسمته لك. قال: ما على هذا اتبعتك، ولكني اتبعتك على أن أُرمى إلى ها هنا - وأشار إلى حلقه - بسهمٍ فأموت، فأدخل الجنة. فقال: إن تصدق الله يصدقك. فلبثوا قليلاً، ثم نهضوا في قتال العدو، فأُتي به النبي صلى الله عليه وسلم يُحمل قد أصابه سهمٌ حيث أشار، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أهوَ هو؟ قالوا: نعم، قال: صَدَقَ اللهَ فصدقه، ثم كفنه النبي صلى الله عليه وسلم في جبة النبي صلى الله عليه وسلم، ثم قدّمه فصلى عليه، فكان فيما ظهر مِن صلاته: اللهم هذا عبدك، خرج مهاجراً في سبيلك، فقُتِل شهيداً، أنا شهيدٌ على ذلك" سنن النسائي (المجتبى) - حديث 1953. وما أحسب هذا الأعرابي إلا تأويل قوله تعالى: (إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله ثم لم يرتابوا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله أولئك هم الصادقون) سورة الحجرات – آية 15.
الفصل الحادي عشر: الجهاد وصناعة الشهيد
" يا نفس إلا تُقتلي تموتي هذا حِمام الموت قد صُليتِ
وما تمنيتِ فقد أُعطيتِ إن تفعلي فِعلَهما هُديتِ"
عبد الله بن رواحة رضي الله عنه، وفعلهما: أي فعل صاحبيه زيد وجعفر
الفصل الحادي عشر: الجهاد وصناعة الشهيد(1/83)
كثيرون هم الذين يتلون قول الحق عز وجل: (إن الله اشترى من المؤمنين أنفسَهم وأموالَهم بأن لهم الجنة يقاتلون في سبيل الله فيَقتلون ويُقتلون) سورة التوبة – آية 111، ولكن قليلون هم الذين يقدرون على الوفاء بهذا البيع المبارك، قليلون جداً، ذلك أن طريق سداد الثمن طريق شائكٌ وَعِر على من تفرق قلبه في أودية الدنيا، طريقٌ مخيفٌ موحشٌ على من لم يألف قلبه الأُنس بالله، طريقٌ مربكٌ محيّر لمن ارتاب قلبه وزاغ بصره، ولهذا ورغم كثرة من يبتدرون السير في أول الطريق فإن القليلون فقط هم الذين يمضون فيه إلى النهاية، فما هي عاقبة ذلك المسير، وأين تنتهي غاية هؤلاء الصفوة ؟ فلنتأمل:
عن المقدام بن معدي كرب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "للشهيد عند الله ست خصال: يُغفر له في أول دفعة، ويُرَى مقعده من الجنة، ويُجار من عذاب القبر، ويَأمن من الفزع الأكبر، ويوضع على رأسه تاج الوقار، الياقوتة منها خير من الدنيا وما فيها، ويُزوَّج اثنتين وسبعين زوجة من الحور العين، ويشفع في سبعين من أقاربه" سنن الترمذي – حديث 1663 وقال : حديث حسن صحيح غريب
نريد أن نتدبر معاً هذه الخصال لندرك ماهية الزاد الذي يتزود به سالكوا هذا الطريق، والبلسم الذي يداوون به جراحاتهم، والأمل الذين يُمنون به نفوسهم، واليقين الذي يُزكون به إيمانهم، فلربما، أقول ربما وجد أحدنا في نفسه العزيمة على المضي في مثل ما مضوا فيه، ولربما استطاع أحدنا أن يبلغ هو الآخر غاية هذا الطريق غير آبهٍ بغبار النقع، غير منتبهٍ لبكاء الأهل، غير ملتفتٍ إلى نعيق أهل التخذيل، ربما...(1/84)
ولا بد لفهم هذه الخصال من فهم عوائق سلوك طريق الشهادة، تلك العوائق التي يسوِّغ بها الواحد منا قعوده ويبرر بها تخلفه والتي منها ما هو لحظِّ النفس وأَمنها، ومنها ما هو لمكان الإنشغال بالواجب الآخر، ومنها ما هو لمكان الند لله في الحب الذي لم يتجرد في قلب المكلف تجرداً تاماً بعد، ولهذا يأتي هذا الحديث بخصاله الست ليعالج هذا الأسقام ويبدد تلك الأوهام، ويدفع بالقلوب القائمة على حرف إلى اتخاذ ذلك القرار، قرار دفع الثمن...(1/85)
فمن العوائق التي تعترض طريق طالب الشهادة توهُّم فوات النفس قبل الاستزادة من الطاعات والقربات وأداء الواجبات، فيُسوِّف العبد حتى يحج وحتى يتمكن قيام الليل من قلبه، وحتى ينتهي من طلب العلم، وحتى ينتهي من خدمة أبويه، وحتى يحصل الشهادة العلمية وحتى يرتقي بعباداته ونوافله إلى مرتبة تليق بالشهيد، وحتى يتوب إلى الله من ذنوبه وينخلع من ثوب معاصيه، وهذه أمور لا تنتهي ومصيدة قلَّ أن ينجو منها من لا يتنبه إليها، ولهذا جاء العلاج النبوي في أول خصلة "يُغفر له في أول دفعة ويُرى مقعده من الجنة" لينبِّه طالب الشهادة بحق أنه مهما فاته من خير النوافل والعبادات الأخرى، فإن الله يعوضه ذلك ويوصله إلى الغاية من تلك العبادات والواجبات الأخرى، فلا يحزن على ما قد يفوته من تلك الطاعات فقد أبدله الله خيراً منها وهو في طريق الشهادة، قال تعالى: (ذلك بأنهم لا يصيبهم ظمأٌ ولا نَصَبٌ ولا مخمصةٌ في سبيل الله ولا يطأون موطئاً يغيظ الكفار ولا ينالون من عدو نيلاً إلا كُتِب لهم به عمل صالح إن الله لا يضيع أجر المحسنين) سورة التوبة – آية 120، وأبدله خيراً منها عند بلوغ رتبة الشهادة بأن يغفر له ذنوبه ويريه مقعده من الجنة، وروحه تترقب يوم الجزاء وهي تطير في سماء الجنة في حواصل طيرس خضرٍ كما أخبر المعصوم صلى الله عليه وسلم، فإن كنت صادقاً في طلب الجنة فالطريق سالكٌ أمامك، وإن كانت عباداتك الأخرى إمعاناً في التزام الإسلام، فهاك ذروة سنام الإسلام...(1/86)
ومن العوائق التي تعترض طريق طالب الشهادة ما قد يتعرض له من أذى الناس لبغضهم له وكرههم للطريق الذي سلكه، حتى إنه ليصبح متهماً مجرماً في أعين هؤلاء المجرمين حقاً، ولربما تمكنوا من إلحاق الأذى والضرر وبعض العذاب بطالب الشهادة، فيسقط البعض ضحية هذه الفتنة، قال تعالى: (ومن الناس من يقول آمنّا بالله فإذا أُوذي في الله جعل فتنة الناس كعذاب الله) سورة العنكبوت – آية 10، في حين تصمد القلة، وتحتاج هذه القلة في صمودها إلى شيء من السلوى والتسلية ليعينها على الصبر على هذا البلاء، وهنا يأتي البلسم النبوي "ويُجار من عذاب القبر" ليروِّح عن نفس طالب الشهادة ويذكره بأن هؤلاء وإن آذوه في الدنيا فإن أذاهم ليس بشيء أمام عذاب وفتنة القبر، أما هم فواقعٌ بهم لا محالة وأما هو فمجارٌ منه بفضل الله ، فتحصل لنفس طالب الشهادة طمأنينةٌ عجيبة يهزأ بها بهذا الأذى التافه الذي يوقعه به أعداء الله، وتستحيل آهاتُ الألم أنفاس توحيد تعيد لطالب الشهادة ذكرى بلال : أَحدٌ أَحد، أَحدٌ أَحد ... وكيف يلتفت طالب الشهادة لشيء من هذا الأذى بعد ذاك، كيف؟(1/87)
ومن العوائق التي قد توهن نفس طالب الشهادة ما يعرض له من وحشةٍ وفزغٍ في الطريق، فلربما كان وحده أو مع رفقة يسيرة، ربما ضاقت عليه الأرض وأحاطت به قوى الطاغوت، ربما انقطعت عنه أسباب الأمن، واختلج في النفس خوفُ الطبيعةِ والجِبلَّة، فكيف يعمل؟ وبمَ يأنس؟ وإلى من يركن؟ هل يعود من حيث أتى وتنتهي رحلة الشهادة بالخسران والتولي يوم الزحف، هل يهادن ويداهن طلباً لأمن نفسه طارحاً همَّ الدعوة وراء ظهره؟ وكيف يفعل ذلك وقد بشَّره الحبيب صلى الله عليه وسلم أنه في مقابل هذا الفزع العابر والهلع اليسير سيبلغ مبلغاً من الأمن في عرصات يوم القيامة، حين تضج الخلائق وتذهل كل مرضعةٍ عما أرضعت، وتضع كل ذات حملٍ حملها، وترى الناس سكارى وما هم بسكارى، وفيما الناس في ذلك إذ هو يعيش بشارة النبي صلى الله عليه وسلم "ويأمن من الفزع الأكبر"، فأي فزعٍ يثنيه عن طريق الشهادة بعد هذه البشارة ، وأي خوفٍ يتسرب إلى قلبه وقد أمن الفزع والخوف الحقيقي يوم القيامة؟(1/88)
ومن العوائق في طريق طالب الشهادة ما قد يعتريه من ذلٍ وانكسارٍ لمفارقة الأهل والوطن والعشيرة حيث الركن والاعتزاز والمنعة، بل قد يقع أسيراً في يد عدوه فتنكسر نفسه بذلك، وقد يعيش بعدئذٍ شريداً طريداً لا سيما في عصور انحسار بيضة الدين، فلربما سولت له نفسه العودة من قبل خوض غمار هذا الأمر، ولربما برَّر ذلك بعدم تعريض المؤمن للمذلة والمهانة، فإذا بالدواء الشافي لهذه العلة يجتثها من القلب قبل أن يتشربها، فذلُّ الدنيا عابرٌ محتمل بل مأجور عليه إن احتسب،وكرامة الدنيا ليست بشيء في حقيقة الأمر عندما تقارن بهاتيك الخصلة العظيمة على رؤوس الأشهاد بين يدي الحق " ويوضع على رأسه تاج الوقار الياقوتة منها خير من الدنيا وما فيها" فهبني ذاك الوقار ومرحباً معه بذل الدنيا الفانية، ولعمري ما هو بذلٍ على الحقيقة إن كان في الله ولله، فدأب المؤمن أبداً أن المبتلي هو الله فما يضرني أي موقع أراده الله تعالى لي في الدنيا طالما هو موقعٌ يرضيه عني، أما تاج الوقار ذاك فلا كانت الدنيا بأسرها في مقابل التتويج به..(1/89)
وقد يتجاوز البعض كثيراً من تلك العوائق ثم يقع في مصيدة الحب الفاني؛ حب الزوجة والأهلون، كيف أغادر سرير الراحة ووطاء الدعة واللذة، كيف أغادر حضن الزوجة الدافئ وكيف أودع بسمتها الفاتنة، كيف أدعها ومن يطعمها ويسقيها ويقوم على شؤونها؟ وينسى المسكين أن مطعمها وساقيها هو الله ، وينسى أن حباً يحجبه عن الجدير بالحب الأوحد هو عدوٌ له فليحذره كما حذّر الله تعالى منه : (يأيها الذين آمنوا إن من أزواجكم وأولادكم عدواً لكم فاحذروهم) سورة التغابن – آية 14، نعم للزوجة حقٌ ولكن فوقه حق الله، وللزوجة حبٌ ولكنه تابع لحب الله، وفوقه وفوق كل حبٍ حبُ الله، ولمكان صعوبة الفراق ولتمكُّن الزوجة من قلب العبد جاءت السلوى وجاء الجزاء من جنس العمل، فلما تركت زوجة الدنيا لله أبدلك الله زوجات من حور الجنة، تأمل "ويزوج اثنتين وسبعين زوجة من الحور العين"، بل لئن كانت الزوجةُ صالحةً مُعينةً طالب الشهادة على سلوك الطريق فإن كرم الله يقضي باجتماع الشمل في الجنة إن شاء الله، قال تعالى: (والذين آمنوا واتبعتهم ذريتهم بإيمانٍ ألحقنا بهم ذريتهم وما ألتناهم من عملهم من شيء) سورة الطور – آية 21، فكيف تتخلف عن المسير لأجل متاعٍ زائل يسير، كيف؟
وقريب مما سبق عائق الأهلون والأقارب ومقاساة الغربة والبعد والشوق، وهو أمر يشق على الأقارب كما يشق على طالب الشهادة، فكان من روعة هذه الخصلة أن عوضت الطرفين جزاء صبرهما واحتسابهما، نعم عوضت الشهيد عن غربته عن أهله وعوضت الأقارب عن صبرهم على فراقه، قال صلى الله عليه وسلم : "ويُشفَّع في سبعين من أقاربه"، فأي قريبٍ لك لا يتمنى خروجك واستشهادك وهو يرجو هذا الخير، وأي عائقٍ لك في أقاربك وهم يدفعونك للشهادة دفعاً، أي عائق؟...(1/90)
هكذا إذاً يُصنع الشهداء في مدرسة محمد صلى الله عليه وسلم، وهكذا يكون تأهيل المسلم لهذه المرتبة السامية، ليحمل همًّ الدعوة ويرفع راية الإسلام ولو على أوصال شلو ممزق. ولقد تخرجت الدفعة الأولى من الشهداء الأبرار على عين الله وعين رسوله صلى الله عليه وسلم، وكان موعد الاختبار في أُحد، وكانت صناعة الشهدء في أُحد حجر الأساس في بناء الإسلام كل الإسلام من بعد. ثم قامت الدولة الإسلامية في المدينة المنورة، ورسخت دعائم و أركان السيادة لشرع الله عز وجل، وعاين المؤمنون الأوائل قول الله تعالى: (واذكروا إذ أنتم قليلٌ مستضعفون في الأرض تخافون أن يتخطفكم الناس فآواكم و أيدكم بنصره ورزقكم من الطيبات لعلكم تشكرون) سورة الأنفال – آية 26، عاينوه واقعاً وحقيقةً لا مراء فيها، وبدأ النبي صلى الله عليه و سلم يومئ لأصحابه بإشارات الوداع، ولكن أي وداع؟ إنه وداع المربي المعلم الشفوق بأمته الحريص على ثبات أصحابه. إنه وداع من لم تطمئن نفسه ويسكن قلبه حتى كشف الستار عن حجرته لينظر إلى الصِدِّيق رضي الله عنه يؤم جموع الصحابة في الصلاة فتقر عينه، لأن حقيقة هذا الجهاد الذي مضى فيه بأصحابه رضوان الله عليهم هو إعلاء كلمة الله وإقامة شعائر دينه، فكيف كانت إيماءات الوداع وكيف كانت وصية قائد الأمة بعد أن انقلب الضعف تمكيناً والسر بالعقيدة جهراً، ودين الله تعالى حكماً فوق أعناق الكفر ورؤوس الضلال؟ فلنتأمل!
عن عقبة بن عامر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج يوماً فصلى على أهل أُحد صلاته على الميت، ثم انصرف إلى المنبر فقال: "إني فرطكم و أنا شهيد عليكم و إني والله لأنظر إلى حوضي الآن ، و إني أُعطيت مفاتيح خزائن الأرض _ أو مفاتيح الأرض _ و إني و الله ما أخاف عليكم أن تشركوا بعدي، و لكن أخاف عليكم أن تنافسوا فيها" صحيح البخاري – حديث 1344(1/91)
نعم، إن طبيعة النفس البشرية قد تميل إلى النسيان في غمرة الفرح وفي ساعة اللذة وفي نشوة الانتصار، ولربما كان بعض المسلمين في أواخر عهد النبي صلى الله عليه وسلم على غير علم بأولئك الذين سددوا القسط الوافر من ثمن الظهور و التمكين، فكان لابد للمعلِّم القائد من تذكيرٍ و تنويرٍ؛ تذكير أولئك الذين قد ينسون ما قدمه إخوانهم في بدايات الدعوة والدولة، وتنوير أولئك الذين دخلوا الإسلام و للإسلام دولة، و لذا انصرف بأبي هو وأمي صلى الله عليه وسلم ليقف على شهداء أُحد ويصلي عليهم، ليقدم لهم عربون الوفاء والحب والتقدير ، وكأني به صلى الله عليه و سلم يقول لكل مسلم في كل أرضٍ و زمانٍ: هؤلاء هم الرجال، هؤلاء الذين انقلبت غيبيات الدين لديهم حقائق ماثلة لأعيانهم وشخوصهم فلم يكادوا يروا غيرها، فإذا هم يشتمون ريح الجنة ويتقلبون في أنهارها ويتفيؤون في ظلالها، في حين لا يرى غيرهم إلا غبار النقع، وحر الرمضاء، وأثر الدمار والقتل والتشريد. لقد رأى أولئك الجنة كما رأى النبي صلى الله عليه و سلم الحوض أمامه و هو يخاطب الصحابة على منبره؛ حقيقة لا يلوث نقاءها شك قلب مريض أو لهو نفس هاوية …(1/92)
لقد كانوا سبعين شهيداً في غزوة أُحد، ولكنهم كانوا أكثر من ذلك بكثير، لقد كانوا حقيقة هذا الدين، وكانوا حقيقة الأنموذج الإيماني، وكانوا حقيقة التلمذة في مدرسة النبي محمد صلى الله عليه وسلم. نحن مدينون إذاً _ بعد الله عز و جل _ إلى هؤلاء، ونحن ممتنون لهم غاية الامتنان، وإننا لنقف اليوم بعد مئات السنين لنصلي وندعو لشهداء أُحد كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم، و لكن لابد لهذه الوقفة من آية صدق و علامة إخلاص، وهذا ما يجب أن نقف عليه اليوم لمراجعة أنفسنا. ولقد خط لنا بأبي هو وأمي صلى الله عليه و سلم معالم الطريق في كلماته على المنبر آنذاك، خط لنا في ذلك الموقف معالم المنهج العقدي بنفس القوة والوضوح الذي خط به معالم المنهج العملي. و إذا كان ثمن الثبات على المنهج أشلاءٌ ودماء فلتكن السلعة مستحقة لذلك، ولتجلُ الراية وليتضح الهدف؛ أهو لعاعة الدنيا أم صدق التجرد لله عز وجل نيةً وللنبي صلى الله عليه وسلم متابعةً، ثم لنتساءل ونحن نعاني مواقف الخوف والتشريد اليوم عن مدى رسوخ تلك الحقائق الإيمانية في قلوبنا وعن مدى استعدادنا لدفع الثمن،كل الثمن ..(1/93)
أقولها مرة أخرى، نحن نقف اليوم ونتشبث بديننا وتلتهب بذلك أطرافنا وتغلي صدورنا وربما تشق قبورنا، ولكننا لا يمكن أن ندرك قيمة ما في أيدينا غاية الإدراك إلا إذا قدمنا عربون الوفاء والتقدير لمن سنوا لنا منهج التضحية و الفداء. ولئن كان شهداء بدر وأُحد والأحزاب يدخلون في هذه الزمرة أصالةً وابتداءً، فإننا نُكنّ نفس المحبة والوفاء والتقدير لكل من سار على نهجهم تبعاً، فلا يمكن لأحدنا أن يزعم الانتساب إلى الصدر الأول من الشهداء وهو يتبرأ اليوم ممن يسير على نهجهم، ولا يمكن لأحدنا أن يزعم تشبثه بهذا الدين وهو يتنصل ويتبرؤ اليوم ممن لا يزالون يسددون أقساطه. ولهذا لابد لنا ونحن نراجع أنفسنا ومواقفنا من أن نعلن بكل قوة و اعتزاز و شموخ أننا نحب هؤلاء؛ نعم إني أحبكم و أحب من يحبكم، و إني لأبغض مَن تبرأ منكم، و أبغض مَن يبخسكم حقكم، أحبكم شهداء أُحد...
نعم أحب شهداء أُحد وأحب كل من سار على دربهم ولا أبالي، و إني أدعو كل إخواني وأخواتي إلى أن يرفعوا أوسمة المجد والعزة والفخار على جباههم وصدورهم بالانكباب على التنافس فيمن يكون ضمن الموكب القادم والذي يليه، فسفينة الإسلام لابد لها كي تسير من بحرٍ أحمر تمخر عبابه، ولا بد لمن أحب هؤلاء من أن يأخذ بأسباب السير على طريقهم، فالجنة حق والشهادة حق ورسول الله صلى الله عليه و سلم حق والإسلام حق ، وهكذا تكون صناعة الشهيد...
خاتمة(1/94)
هذه بعض المعالم التي يسَّر الله تعالى لنا التوقف عندها حول فريضة الجهاد السامية، منها ما قدَّم تصوراً لمفهوم الجهاد، ومنها ما رسم أهدافه وغاياته، ومنها ما أشار إلى مقدماته ومتطلباته، ومنها ما أشار إلى أسبابه المادية، ومنها ما نبه على آفاقه الروحانية. ولقد استنبطنا هذه المعالم بما وفق الله تعالى إليه من التدبر في آيات الكتاب الصريحة، ونصوص السنة الصحيحة، وتأمل أقوال العلماء، وقراءة تاريخ أسلافنا النبلاء. ولا شك أننا اليوم بحاجة إلى تجديد عرض الجهاد كمفهومٍ إسلاميٍ أصيلٍ لا يمكن اجتزاؤه عن عقيدة التوحيد وشرعة الإسلام بحال من الأحوال، كما لا يمكن تصور قيام بعثٍ إسلامي صحيح دونه، فإن قوام هذا الدين كما قال شيخ الإسلام أبو العباس رحمه الله تعالى: كتابٌ يهدي، وسيفٌ ينصر، وهذا صحيح مستنبطٌ من قوله تعالى: (لقد أرسلنا رسلَنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط وأنزلنا الحديد فيه بأسٌ شديد ومنافع للناس وليعلم الله من ينصره ورسلَه بالغيب إن الله قويٌ عزيز) سورة الحديد – آية 25.
إن إحياء فريضة الجهاد اليوم واجبٌ شرعي، وضرورة حيوية لاستنهاض الأمة من واقع الخذلان والتثبيط والتخلف إلى واقع النهضة والريادة والقيادة، وإن العالم اليوم بحاجةٍ إلى ريادةٍ وقيادةٍ إسلاميةٍ تخرجه من مستنقعات الحضارة المادية، وتحرره من أسر العبودية البشرية، وأطماع الهيمنات الاستبدادية. إن العالم اليوم بحاجة إلى جهادٍ إسلاميٍ واعٍ يحرر الإنسان كل الإنسان من عبودية الشهوات والشهبات، ومن تبعية البشر بعضهم لبعض، ومن قهر البشر بعضهم لبعض.
وختاماً أنبه على ما ذكرته في المقدمة من أن ما في هذه الرسالة من تحريض وتهييج على القيام بفريضة الجهاد يستلزم تعلم فقه الجهاد، ولا يعفي أحداً أو يجيز له القيام بهذه العبادة إلا على وجهها المشروع وفق النية المعتبرة شرعاً.(1/95)
سبحان ربك رب العزة عما يصِفون، وسلامٌ على المرسلين، والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على الرسول الأمين، وعلى أزواجه وآل بيته الطاهرين، ومن اتبع هداهم وسار على نهجهم إلى اليوم.
الفهرس
الموضوع الصفحة
مقدمة 3
الفصل الأول: الجهاد مفهومه وأهدافه 6
الفصل الثاني: الجهاد غايةٌ ووسيلة 13
الفصل الثالث: الجهاد تحديثٌ وإعداد 18
الفصل الرابع: الجهاد جيشٌ وإسناد 24
الفصل الخامس: الجهاد نفيرٌ وطلب 29
الفصل السادس: الجهاد ترصدٌ ورباط 35
الفصل السابع: الجهاد ثباتٌ وذكر لله 41
الفصل الثامن: الجهاد كرٌ وفرٌ 47
الفصل التاسع:الجهاد وريح الجنة 52
الفصل العاشر: الجهاد وصناعة النصر 56
الفصل الحادي عشر: الجهاد وصناعة الشهيد 61
الخاتمة 67(1/96)