حوار مع الذات
دراسة
محمد بلقاسم خمّار
حوار مع الذات
مقالات
من منشورات اتحاد الكتاب العرب
2000
البريد الالكتروني: E-mail : unecriv@net.sy
aru@net.sy
موقع اتحاد الكتّاب العرب على شبكة الإنترنت
www.awu-dam.com
تصميم الغلاف للفنانة : نسرين المقداد
((
تمهيد
- الحوار.. هو تبادل وجهات النظر المختلفة، بين شخصين أو فئتين أو أكثر، حول موضوع معين، للوصول إلى نتيجة، تكون محل اتفاق المتحاورين، بالاقتناع، أو بالتنازلات، والتراضي، وقد لا يتمخض الحوار عن أية نتيجة، ويكون مصيره الفشل.
- والحوار يكون نزيهاً وحقيقياً، إذا كان مبنياً على الحجة القوية والموضوعية والصراحة، والتواضع.. دون لف أو دوران..
وقد يكون /مغشوشاً/ معتمداً على الحيلة والنفاق، والتمويه وعلى التلميح بالقوة والتهديد، أو بالإغراء والوعود الكاذبة.
ومن مميزات الحوار الجاد، والعادل، أن تتوفر فيه شروط التوازن والتكافؤ بين الجهات المتحاورة، وأن يتضمن قاسماً مشتركاً من بعض النوايا الحسنة، مع تمتع الجميع بالحرية في التعبير وإبداء الرأي.. والسعي الفعلي نحو النتيجة أو الحل..
وطبعاً.. في موضوعي التمهيدي هذا. لا أريد أن أزج بنفسي في فلسفة الحوار ولا في تاريخه وشواهده، أو تعدد أوجهه وأساليبه.. ولكن تكفي الإشارة إلى أن ما قد يطلق عليه اسم الحوار، ليس في أغلب حالاته حواراً بالمعنى الدقيق.
- فحوار الصم الذي كان يجري سابقاً بين القوتين المتصارعتين في العالم، لم يكن سوى تنابذ، وتكاثر، واستعراض للعضلات..
وحوار الأطفال والمجانين الذي نسمع عنه أحياناً داخل بعض البرلمانات أو المحافل الأجنبية، ما هو إلا جدل عقيم، وتصفيات لحسابات خاصة، أو من أجل الإشهار.. والتأجيل في البت!؟(1/1)
والحوار الذي مارسته اسرائيل مع بعض الجهات العربية، وكان مبنياً على النفاق، والغدر، وطمس الحقائق، وتزييف الجغرافية والتاريخ.. ذلك البهتان الصارخ، لا يمكن أبداً أن يسمى -موضوعياً- بالحوار.
وحتى الحوار، الذي يتوقف عليه مصير الأمن والسلام في الجزائر هذا الحوار الأمل، مع الأسف إلى حد الآن لم يحقق مضامينه العادلة، بسبب هذه الثنائية الأحادية -إن صح التعبير- حيث نلاحظ في كل جهة تقريباً، رأيين متباعدين.. معتدلاً ومتطرفاً.. وكلما لاحت بارقة أمل في الحل، عصفت بها ريح التشاؤم من جانب الرأي المتشدد..
لا أريد أن أخوض غمار الحوار.. سواء مع مواضيعه المتنوعة، أو مع أصحابه المحنقين.. وكل ما أريد أن أقوله هو أنني سأتحاور مع نفسي، وسأبدأ هذه التجربة بكل نزاهة، وموضوعية والتزام..
وربما أصدق حوار، هو حوار الإنسان الواعي، مع ذاته العاقلة.
ويا ليت أهل الحوار، قبل أن يباشروا أي حوار مع غيرهم -يبدؤون بجلسة حوارية نزيهة مع أنفسهم، يناقشون فيها حقيقتهم قبل حقوقهم وواقعهم قبل مواقعهم، ومالهم، وما عليهم، قبل إعداد الإحتياطات، وحفر المطبات وتغليف الأسئلة والإجابات..
ولو قامت حكومة الولايات المتحدة بحوار صادق مع ذاتها، لضربت على نفسها حصاراً من حديد، خجلاً مما فعلته، وتفعله مع العرب والمسلمين..!؟
وشتان، في الأحلام المثالية، الموغلة في الخيال.. وبين هذا الزمن الأناني، العنصري الهمجي..!؟.
قلت إنني سأتحاور مع نفسي بصراحة.. أتحاور كإنسان عربي يعتز بنسبه، ويحتقر أحياناً نفسه، دون تشاؤم ويحترم بعضاً من الآخرين من أبناء وطنه الكبير..
والحوار مع النفس، هو كالمقابلة الصحفية مع الذات، وهذا ليس بالأمر الغريب.
سأطرح أسئلة، وأحاول الإجابة عنها، بما يتناسب مع إمكانياتي الفكرية البسيطة، ويتماشى مع همومي واهتماماتي الثقافية، والاجتماعية، والنفسية، وهي في الغالب نفس الهموم لأي مواطن عربي مثلي من المحيط إلى الخليج..(1/2)
إن أبناء الشعب العربي، هم نسخة طبق الأصل عن بعضهم البعض، وهو ما تبرهن عليه كل اللقاءات العفوية التي تتيحها الصدف بينهم.. نفس المشاعر، نفس الآمال، نفس الآلام.. نفس اللامبالاة بعد ذلك.. رغم عهودهم الثقيلة، والمليئة بالحواجز، والتأشيرات، وعزلة الذاكرة..
لذا فإن المقابلة مع الذات، قد لا تختلف كثيراً عن المقابلة مع الآخر الذات..
وهنا أستثني أي حوار مشحون بنوايا التحامل أو الاستفزاز.. إنه ليس من الذات البريئة في شيء! وقد جرت العادة في كثير من المقابلات الصحفية، أن تكون مسبوقة باتفاق مبدئي بين السائل والمجيب حول الأساس في ما يجب أن يقال، وما لا يقال.
وقد يصل الاتفاق أحياناً، إلى أن السائل يعطي للمسؤول كافة الصلاحيات في اختيار الأسئلة التي يفضل الإجابة عنها.. أو حتى يضع لنفسه الأسئلة المستحسنة لديه، خاصة إذا كان المسؤول كبيراً، أو كان الصحفي السائل، كسولاً.. أو دون مستوى الإجابات..
ومن المعروف أن القراء يفضلون دائماً الصراحة والحرارة، والجرأة، في أي حوار، ويبقى - بالطبع- لكل مقام مقال.
عزيزي القارئ..
وإنني على ثقة بأن ما يشغل بال أي مواطن عربي، صادق -مع نفسه وأمته، هو ما يشغل بال كل العرب الشرفاء.
تشرين الأول 5/8/1995
((
أين نحن من الثورة الثقافية
لست متشائماً، ولا أرضخ لذلك، وفي الوقت نفسه لا أستسيغ أن أذهب بتفاؤلي إلى حد السذاجة أو الغرور.. ولذا فأنا أعتقد بأن أصعب وأقسى معركة يمكن أن نخوضها بجدية وعمق ولا مناص من خوضها هي معركة الثورة الثقافية.
إن مسؤولية إنجاح الثورة التحريرية المسلحة كانت مسؤولية عامة ملقاة على عاتق الشعب كله، لأن كل مواطن مخلص مهما كانت إمكانيته الخاصة كان يستطيع وبصورة ما أن يشارك في هدم صرح الاستعمار.(1/3)
وعندما انطلقت الثورة الصناعية في بلادنا، لا أحد يستطيع أن ينكر أن السلطة العليا للشعب هي التي مهدت لها ثم خططت ونفذت، حيث شيدت المعامل والمصانع وجهزتها، وما زالت تخطط وتبني وتعد إلى جانب ذلك حتى العمال والفنيين.
وما ينطبق على الثورة الصناعية قد ينطبق على الثورة الزراعية، بالإضافة إلى مشاركة النخبة الواعية بتنظيم حملات التطوع والتوجيه بين صفوف الفلاحين.
أما بالنسبة للثورة الثقافية فإن الهدف الأساسي لها هو التغير الجذري والتحول العميق للإنسان نفسه. إنه السعي إلى إحداث تجديد شامل في أفكار ومفاهيم المواطن الحالي مما قد يجعله يختلف تمام الاختلاف عما كان عليه في الماضي، وما كانت تتميز به شخصيته من شوائب التخلف والتشتت والجهل.
إنها تعني بالتقريب أن يصبح كل الجزائريين قادرين بذواتهم وإرادتهم، أقوياء بوحدتهم وتفهمهم، متفتحين بوعيهم وذكائهم مفكرين بتجاربهم وثقافتهم، ومتشبثين بماضيهم وحاضرهم ومستقبلهم مرتبطين بوطنهم مؤمنين بعروبتهم وعقيدتهم يفرقون بين النافع والضار ويعرفون حقائق السعادة والازدهار التي تكمن في اكتمال الشخصية الوطنية، واحترام الصالح العام.
وإذن فالإنسان أو المواطن هو المقصود مباشرة بالثورة الثقافية.. إنها ترمي إلى علاجه وإزالة كل بقايا الضعف فيه، ثم تفجير طاقاته المبدعة، ليكتسح بها كل الميادين، ويغير بواسطتها وجه الحياة والتاريخ.
وإذا كان الإنسان هو المتأثر الأول بالثورة الثقافية فإنه من جهة أخرى هو المؤثر في خلقها وتسييرها وتفجيرها في نفسه وفي المجتمع.. إنه بصورة طبيعية يفعل وينفعل، والعكس، وتلك هي سنة الطبيعة في مسيرات الثورة والنضج والتطور الإنساني.(1/4)
إن الثورة الصناعية التي تركز ثقلها على تغير أوضاع الإنتاج الآلي وتوفيره وتحريره، والثورة الزراعية التي تعمل على تحويل وجه الأرض إلى جنة، وتهيئة المستوى اللائق للشعب.. إن هاتين الثورتين إذا كانتا تتجهان مباشرة إلى خدمة الاقتصاد الوطني، فإنهما وبلا ريب تؤثران في تحسين وضعية المجتمع وبالتالي في تدعيم الثورة الثقافية.. وتهيئة الإنسان الجزائري لأداء واجباته على أحسن وجه.. إلا أن دور الثورة الثقافية في إعداد المواطن الصالح يبقى هو الدور الأساسي والمهم.. وبدون نجاحها لا يمكن لأي تكامل اجتماعي أن يتحقق، ولا لثمار الأرض أو أدوات الإنتاج مهما تقدمت أن تتقدم بنا في شيء.
إن الشرط الأول والضروري لانطلاق النهضة ونشوء الحضارة هو قبل كل شيء وجود الإنسان المتمكن من مقدراته في عقله وبدنه وسلوكه، وبعد ذلك تأتي الإمكانيات المادية الأخرى لتساعده على تحقيق مطامحه وغاياته.
وهنا لا بد من الإشارة إلى أن القيادة الثورية في البلاد قد بذلت جهوداً محمودة في دفع الثورة الثقافية إلى الأمام، وخاصة بما كرسته لها من إمكانيات التعليم والتكوين وبما يظل ينادي به رئيس مجلس الثورة والحكومة بضرورة قيام المثقفين بواجباتهم الوطنية ووضع اللغة العربية في مكانها اللائق بها باعتبارها المعبرة عن سيادتنا وثقافتنا وتربيتنا وتقاليدنا وتقدمنا ومصيرنا.
ولكن، هل تحرك كل المثقفين ليواصلوا ما بدأته القيادة؟
فالثورة المسلحة -كما قلت- كان كل مواطن يستطيع أن يفعل شيئاً ما من أجلها.
- وفي الثورة الصناعية خططت الحكومة وبذلت وشيدت، وبدأ العامل ينفذ.
- وفي الثورة الزراعية خططت الحكومة وبذلت ووجهت، وأخذ الفلاح ينفذ.
- وفي الثورة الثقافية، مهدت الحكومة وبذلت، ولكن.. على من يلقي واجب التنفيذ؟ أليس على المثقفين؟! وإذن، فأين نتائج أعمالهم الثورية بعد إحدى عشر سنة من الاستقلال؟(1/5)
وإن من أقصده بالمثقفين، هم كل مثقف جزائري مهما كانت مسؤوليته أو نوع أعماله، ونشاطه.. وإذن ألا يحق لنا أن نطرح مثل هذه الأسئلة:
1- أين الذين تعربوا من مثقفي الفرنسية، وصاروا يؤدون نشاطاتهم ومهامهم باللغة الوطنية، على اعتبار أنها اللغة الأم، وقاعدة الثورة الثقافية وميدان مسيرتها.
2- وإذا استثنينا الرئاسة ووزارة التعليم الأصلي والشؤون الدينية، وبعض المصالح القليلة، فمن هم المعربون الذين شاركوا في مسؤولية تسيير أية إدارة ذات مصالح مهما كان نوع اختصاصها.. وطبعاً هنا ليس الذنب ذنب المعربين.
3- ولماذا إلى حد الآن لم يتم تعريب بعض الوزارات والمؤسسات الوطنية الأخرى مما لها علاقة مباشرة بالشعب وبقضاياه الاجتماعية والتوجيهية أو على الأقل بعض مصالحها الإدارية التي ليست في حاجة ملحة إلى استعمال الاصطلاحات الأجنبية ولا ضرورة تستدعيها لتفسير أعمالها باللغة الفرنسية.
4- الحزب هو قاعدة الشعب وهو أيضاً طليعة كل نضال ثوري فهل دعمه المثقفون كما يجب.
5- ودور البلديات في التوعية ونشر جو التعريب، هل يؤدي مهمته؟ ونحن في العاصمة وفي غيرها ما زلنا نشاهد الشوارع بأسماء (فيفياني) (ديزلي) (وكلوزيل) وغيرها، وكل المظاهر تشعرك أنك في مدينة فرنسية.
6- والتلفزيون، ألا يجدر أن نشير إليه وهو يقدم لنا يومياً برامج ومقابلات ومسلسلات ومسرحيات وأفلاماً فرنسية لا علاقة لها مطلقاً بخدمة العربية والثقافة الوطنية؟ وإن كنا لا ننكر دوره في التوجيه العام.
7- ومؤسسة الأفلام السينمائية، هل حاولت مرة ترجمة شريط أجنبي، أو عرض فيلم عربي مهم داخل القاعات الراقية، اللهم إلا في المناسبات التي قد تحدث كل ثلاث أو أربع سنوات.
8- ومهمة المسرح في التعريب أين هي الأعمال والإبداعات التي تم تعريبها وهي لا تتجاوز أصابع اليد.(1/6)
9- والشركة الوطنية للنشر والتوزيع ما هي أثارها الإيجابية في القراء وفي ما يقرؤون، وفي المدن والقرى؟ إنها.. فعلاً. تتحرك -ولكن في أي اتجاه، وبأي كمية، وعلى أي كيفية- في مسيرة الثورة الثقافية؟
... ألا يجدر بها أن تنتبه وتضاعف جهودها أكثر.
10- والتعليم عندنا.. هل توجد للتربية مكانة فعالة بجانبه وهل هناك جدوى من جيل غني بعلمه، ضعيف في أخلاقه ومبادئه وسلوكه..؟ وهذا إذا سلمنا بأن التكوين العلمي للطلاب هو كما ينبغي.!
11- ونوادي الشباب، والثقافة، والأدب، هل لها وجود يستحق الذكر.؟ إنها لو كانت بنسبة واحد في المائة فقط من مجموع ما لدينا من حانات لكان ذلك كافياً.
12- والمحاضرات، والندوات، والمؤتمرات الثقافية هل هي متوفرة بصورة دائمة ومنظمة وشاملة لكل أنحاء القطر؟.
13- إحياء التراث الفكري الوطني بطريقة منظمة وجدية على مسؤولية من؟
14- كتابة ونشر قصص البطولات الوطنية في الثورة، وسير الشهداء، وتعميمها على الناشئة؟
15- ترجمة الآثار الثقافية والأدبية الجزائرية إلى اللغة العربية؟
16- تجنيد أساتذة الجامعات والثانويات والأدباء من أجل تنشيط الحياة الثقافية بين الجماهير..؟
17- تعريب جريدة الجمهورية في الغرب الجزائري. وتزويد الصحافة الوطنية بما يبدو أنها في حاجة إليه، خاصة ما يتعلق بالإطارات القادرة.
18- المكتبات العربية بالنسبة للمطالعة وبالنسبة لبيع الكتب عددها ضئيل جداً، ومن الضروري الاكثار منها وتعميمها.
19- معاهد إطارات التكوين للشباب والرياضة، والدورات التدريبية لتسيير المخيمات الصيفية، لا يوجد هناك أي مبرر لبقائها مفرنسة ومن الأنسب تعريبها جميعاً.
هذه.. وغيرها.. كلها نقاط إيجابية ولكنها في حالة ضعف أو انحراف تحتاج إلى تكميل أو تعديل أو ثورة لتسهم بصورة أساسية وفعالة في إنجاح الثورة الثقافية، وإيصالها إلى الهدف المنشود.(1/7)
وهناك نقاط سلبية يمكن أن تعرقل من مسيرة هذه الثورة إذا لم تبعدها عن طريقها، وفي مقدمة هذه العوائق، ومن أخطرها.. أولئك الذين قد يرمي بهم سوء الحظ في صميم معركة التسيير وهم لا يفقهون من الثقافة شيئاً.. أو لا يؤمنون إلا بما يجيء عن طريق البحر.
وبعد.. لقد آن الآوان لأن تشرق شمس الثورة الثقافية داخل معاملنا ومصانعنا، وبين مزارعنا وحقولنا، وفي منازلنا وشوارعنا.. وقبل كل شيء في نفوسنا العطشى إلى النور.
فمتى ينجلي عنا ضباب السنين البائدة؟
وإلى معركة الثقافة الوطنية أيها المثقفون المناضلون.. بلا تردد.. ولا انتظار.
((
من هم المثقفون العرب؟
في هذا الزمن.. الذي تغيرت فيه المفاهيم وانقلبت معه كثير من القيم والعادات والتقاليد العربية الأصيلة، وأصبحت الثوابت الأساسية للشخصية العربية كالوحدة، والحرية بمعناها الواسع، واللغة العربية.. أصبحت مهددة، بالتناسي، واللامبالاة.. وفي بعض الأقطار.. مهددة حتى بالإلغاء والاندثار.. في هذا الزمن الجائر.. لم يعد في استطاعة أغلب المتألمين من هذا الواقع المر، سوى طرح أسئلة الاستنكار، والتعجب، ووضع الكثير من علامات الاستفهام.. ولكن دون الوصول إلى فهم يشفي الغليل وينقذ العليل...؟
- ومن بين هذه الأسئلة: ما هو دور المثقفين العرب في هذه المراحل الصعبة..؟
ويبدو لي، قبل محاولة الإجابة عن هذا السؤال، أن نتساءل بيننا وبين أنفسنا من هم المثقفون العرب..؟
فإذا اعتبرنا الثقافة، كخلاصة معرفية، متطورة، للمواريث والمكاسب، التي يمتلكها الفرد أو المجتمع، من تجارب، وإنجازات. ولغة وأساليب حياتية متميزة. ذات مرجعيات تاريخية، وبيئوية، واجتماعية، وذات دوافع حضارية واستشرافية مستقبلية..(1/8)
إذا نظرنا إلى الثقافة بهذا الاعتبار الشامل العام. فإننا قد نجدها تشمل كل أفراد الشعب العربي، وبالتالي فإن لكل مواطن عربي، نصيباً من ثقافة أمته.. وله في الوقت نفسه جزء معتبر مما يطرح على المثقفين من مسؤولية، عليه أن يقوم به حسب قدراته ومؤهلاته..
وإذا اعتبرنا أن المثقفين العرب، هم كل المبدعين في الآداب والفنون الجميلة. والمسرح والسينما.. وهم كل الكتاب والصحفيين والدارسين، والمحاضرين، ورجال السياسة، والمعاهد والجامعات ورجال الاقتصاد والفلسفة والتاريخ، والاجتماع، والتربية، وعلم النفس.. والقانون، والشريعة، والطب والصيدلة، والزراعة والصناعات. وهم كل المعنيين بالعلوم الحديثة والتكنولوجيا وكل ما له علاقة بالمعارف التي يزخر بها هذا العصر. إذا اعتبرنا أن المثقفين العرب هم هؤلاء الدكاترة والأساتذة. والسادة من خريجي الجامعات والموهوبين فلا ريب أن عددهم في الوطن العربي -حالياً- يحسب بالملايين..
وأعتقد أنه من الإجحاف: أن نتصور أو نحصر المثقفين في الأدباء والكتاب والفنانين. ورجال العلوم الإنسانية فقط.. فلكل عالم. مهما كان تخصصه محدوداً علاقة ما بالمجتمع، وله وعي وخيال وطاقة.. ومعرفة -ولو بسيطة- بما تعانيه أمته من تمزقات، وآفات.. وبالتالي عليه جانب من المسؤولية كأي مثقف عربي..
ومن المثير للانتباه، والحيرة. أننا عندما نتأمل حركية الواقع البشري في المجتمع العربي -بصفة عامة- لا نشعر شعوراً غامراً، بوجود هؤلاء الملايين من المثقفين العرب، كوزن له ثقله، ودفعه، وديناميكيته وفاعليته، وكقوة فكرية وعملية. بارزة بحركيتها مؤثرة بحيويتها. لافتة للانتباه بمآثرها وآثارها. وذات مفعول محسوس في سلوكيات المواطنين وأذواقهم، واهتماماتهم.(1/9)
ومن الغريب أننا نجد بعض المظاهر والممارسات الممنوعة، والسلبية، استطاعت أن تحقق سطوتها وسيطرتها في بعض الأقطار العربية، متحدية كل الموانع والحدود، كأشرطة الأغاني التافهة، وبعض المواد الكمالية والصور الرخيصة والكتابات الخرافية المدسوسة. وحتى النكت والإشاعات المغرضة.. إضافة إلى آفات كثيرة، تسمم بنيتي الجسم والفكر في المجتمع، وتمس بعمق تماسك الإنسان وصفاء روحه، وقدسية شرفه.. وهذه السلبيات الخطيرة نجدها بفضل (ذكاء) مهربيها، استطاعت أن تنتقل من قطر عربي إلى آخر، دون جوازات سفر. وبلا رهبة أو خوف، بينما نجد إبداعات وإنجازات المثقفين العرب، سواء كانت مطبوعة أو مصنوعة.. مقروءة أو مسموعة، نجدها لا تستطيع أن تتجاوز حدودها القطرية.. وفي بعض الأقطار.. قد لا تجتاز حتى أطراف عاصمتها، نتيجة للإهمال والتراخي، وسوء التوزيع..!؟
قد يقول قائل: إن السبب في ضعف مردود المثقفين، وقلة تماسكهم، يعود إلى تهميشهم، وعزلهم، لغياب الديمقراطية، وحرية الحركة والتعبير، وانعدام الظروف الملائمة للازدهار الثقافي بصفة عامة، وخاصة في الأقطار، غير المستقرة..
وهنا يتردد في الذهن.. سؤال /حرج/ وهو كيف استطاع جيل المثقفين العرب في مطلع هذا القرن، وحتى الخمسينيات.. كيف استطاعوا أن يحققوا ذلك الإنبعاث الحيوي الرائد للحركة الثقافية العربية..؟ وأن يؤسسوا لهم مناخاً صحياً متفاعلاً، من الإنتاج، والتواصل، والتعارف، والتأثير الإيجابي في أغلب شرائح المجتمع العربي، رغم ضآلة العدة وقلة العدد، وسيطرة الأعداء المستعمرين على أغلب الأقطار العربية..؟(1/10)
في عهد الاستعمار كان من النادر أن تسمح الظروف بلقاء المثقفين العرب مع بعضهم البعض.. وكانت الوسائل الوحيدة لتعارفهم وتواصلهم هي قلة من الكتب والمجلات والصحف المهربة، خاصة بين الشرق والمغرب العربيين، ثم بعض المراسلات، وندرة من اللقاءات الثنائية، في بعض العواصم الأوروبية أو خلال مواسم الحج... ومع ذلك كان لهم تأثير لا يوصف، وصدى لا يحد...!
واليوم.. في عهد التحرر العربي السياسي، تكاثرت وتنوعت اللقاءات، والزيارات، بين الأفراد، والجماعات، والمنظمات، والاتحادات والأحزاب والجمعيات.. وتعددت الاتفاقيات المتمخضة عن التعاون الرسمي.. والمؤتمرات، والندوات: (لجان، خبراء، مستشارين، دارسين، تقنيين، محاضرين، شعراء..) إلى ما هنالك من حوافز التلاقي، ومشجعات التواصل، والتعارف بين المثقفين العرب على اختلاف اهتماماتهم، وتخصصاتهم، ومع ذلك لا يظهر على أغلب أفراد الشعب العربي، أنهم يمتلكون، إحساساً واضحاً أو تأثرات ملموسة، بهؤلاء الملايين، من المثقفين العرب...؟
لا ننكر أن هناك أسماء بارزة، ورائدة، لمثقفين عرب فرضوا حضورهم الدائم والمشرف على الساحات الثقافية وعلى ذاكرة الأجيال الراهنة.. إلا أنهم قلائل، وقد يعدون بالعشرات، لا بالملايين..! مما جعلهم نجوماً موغلة في أبعاد آفاق الكون، ترى العيون بصيصهم القاصي دون أن تقوى على الاستنارة بهم، في ظلمة هذا الليل العربي الدامس..(1/11)
هناك نقطة أخرى، تتطلب تساؤلاً، وحواراً مع الذات.. وهي.. رغم كثرة رجال الثقافة، في بعض الأقطار العربية، نلاحظ أن هناك تلازماً عكسياً، وتناسباً تنافرياً بين عمق الأفكار الثقافية، واهتمام الجماهير.. فكلما كانت الفكرة المطروحة ذات بعد تأملي، أو زخم علمي، أو تحسس جمالي راق.. كانت الجماهير، أقل حضوراً وأضعف حماساً.. وعندما تتسطح الحوافز.. لإثراء الفكر، أو إثارته، عندما يتضاعف اهتمام الجمهور، ويتزايد، إقباله، كما نشاهد ذلك خلال المهرجانات الفولكلورية الراقصة، ولقاءات الوعظ والإرشاد، ومباريات كرة القدم..!؟
ما هو السبب يا ترى في هذه الجفوة.. وهذه الفجوة، بين المثقفين والجمهور.. هل هي الأمية، وضعف الإدراك، والانشغالات المادية الطاغية..؟ أم هي عزلة المثقفين داخل هالاتهم، ونخباتهم، وشللهم.. وإحساسهم بأنهم فوق غيرهم من الناس..؟ أم هناك طرف ثالث...!؟
حسب رأيي.. لا هذا.. ولا ذاك.. وإنما هنالك أسباب أخرى، يجب أن نتحاور لنكتشفها..
واسمحوا لي أن أنهي هذا الموضوع، بسرد هذه الواقعة الطريفة.. والموضوع لم ينته بعد..
منذ سنوات، أقمنا في مقر اتحاد الكتاب الجزائريين مهرجاناً شعرياً، بمناسبة يوم الأرض في فلسطين.. ونشرنا في الإذاعة والصحف خبر ذلك المهرجان.. وكانت الدعوة عامة..
كان عدد الشعراء خمسة عشر شاعراً من مختلف الأقطار العربية.. وحضر الشعراء.. وحان موعد افتتاح المهرجان، ولكن عدد الحاضرين من الجمهور لم يتجاوز عشرة أشخاص.. وانتظرنا المزيد، وأخذ الوقت يمضي دون زيادة في عدد الحضور، وكنت وقتها مسيراً للحفل، أجلس على المنصة، وسبعة من الشعراء عن يميني، وسبعة آخرون منهم عن يساري.. وأمامي في القاعة الكبيرة عشرة من الرؤوس.. فجاءتني فكرة. ونفذتها.. طلبت من الجمهور أن يتفضل فيجلس على المنصة بينما يستلم الشعراء القاعة لإلقاء قصائدهم منها.. لأن القاعة من حق الأكثرية..!
وكان الشعراء أكثر من الجمهور..(1/12)
تشرين: 19/8/1995
((
الحسُّ الجمالي.. والعنف..!؟
هذه المرحلة الصعبة التي تجتازها الجزائر الآن.. والتي بلغت ذروة العنف، إلى درجة القتل والدمار والخراب.. من المؤكد أنها تؤلم، وتقلق كلَّ عربي، وفيّ لعروبته.. وكل إنسان محب للإنسانية والخير..
ولا ريب أن كل من يشغل باله حال الجزائر اليوم، يتساءل بينه وبين نفسه:
ما هو السبب الذي أدى إلى هذه الوضعية الكارثية..؟ وأين يكمن الحل يا ترى..!؟
ولكوني عشت آمال وآلام الجزائر، طيلة أيام عمري تقريباً -ملتصقاً بأحداثها، متفاعلاً مع ما يقع فيها من مستجدات وظواهر، ومن خفايا ومظاهر.. ربما أستطيع أن أفتح حواراً مع نفسي أناقش فيه سبب هذه الأزمة الخانقة...
وقبل كل شيء أشير إلى أمر معلوم، وهو أن مشاكل الجزائر الحالية، لا تعود إلى سبب واحد.. وإنما إلى عدة أسباب، خارجية.. وداخلية متعددة المصادر: تاريخية واستعمارية، واجتماعية، وسياسية، واقتصادية، وثقافية وغيرها...
وكل سبب من هذه الأسباب قائم بذاته، مبني على دوافع وعوامل خاصة، ومنطلق ضمن غايات معينة وله تفرعات جانبية، يصعب أحياناً حصرها.. مع العلم بأن كل هذه الأسباب المتعددة المصادر والتفرعات.. رغم تناقضاتها، مما عمق حدة الاختلاف، وشدة التنافر، فإنها من جهة أخرى، تبدو متلاقية متساندة، بآثارها السلبية، ونتائجها السيئة.!
طبعاً.. لا يسمح المجال في هذا الحوار القصير، أن أتناول بالمناقشة كل الأسباب المذكورة، لذلك سأقتصر على الجانب الثقافي.. وحتى هذا الجانب لا أعتقد بأن مقالاً واحداً سيفيه حقه، بكل تفرعاته وتشعباته.(1/13)
سوف لا أتعرض.. مثلاً -إلى مشكلة اللغة العربية والتعريب وتهميش المعربين.. ولا إلى موضوع إهمال التاريخ والجغرافية.. أو ضعف مادة التربية في المنظومة التعليمية، وصراع الفرنكفونية ودسائس الفرنكوفيليين، وقضايا الاهتمام بالشباب، والآداب والفنون، ومسألة الأمية، وشبه انعدام هياكل ووسائل انبعاث الحركة الثقافية العميقة والرائدة..
سأطرح فقط مسألة ثقافية واحدة، قد تبدو بسيطة، إلا أنها في رأيي، ذات أهمية بالغة، لما لها من علاقة أساسية ووطيدة، بتكوين الإنسان، وتحديد سلوكه، وإبراز معالم شخصيته المتحضرة الراقية.. تلك الشخصية المتمتعة بكل مزايا الوعي، والذكاء، وحب الخير والجمال، والشفقة والرحمة واستعمال الحكمة والعقل في معالجة الأمور..
هذه المسألة.. هي الحس الجمالي عند الإنسان الجزائري..! هل كانت هناك رعاية له أو اهتمام به..؟
- للإجابة: أقول: نعم- ولا...!
نعم -على احتمال وجود النوايا الحسنة- فقد بذلت جهود جبارة، وصرفت أموال باهظة، من أجل خدمة الأجيال، وتعميم التعليم، وبناء المدارس والجامعات، والمؤسسات الرياضية، الضخمة، ونشر الفنون والموسيقا الفلولكلورية، وإحياء المناسبات، والمهرجانات الكبيرة الصاخبة.. وكانت أنشطة التسلية متوفرة في الكثير من الأمكنة، وفي أغلب وسائل الإعلام.. وكانت هناك معاهد التكوين، ودور، ومراكز الثقافة.. كانت -وما زالت هناك إنجازات هائلة لا يمكن نكرانها.. وقد نستطيع القول، بأنها قد وفرت لبعض الشرائح، نوعاً من الفائدة العملية، ومن الراحة النفسية، ولكن هل استطاعت أن تهذب الذوق، وترتفع بمستوى الحس الجمالي في نفوس الأجيال الشابة..؟
أعتقد أنها لم تستطع تحقيق أي شيء إيجابي مهم، "بل كانت أحياناً تساعد على تدهور السلوك والذوق العام- ومن هنا أقول، لا. أي أن تربية الحس الجمالي السامي بكل ما يتطلبه من شروط بشرية ومناخية، ووسائل.. لم يلق أية رعاية أو انتباه..!(1/14)
وقد يعود السبب في ذلك - بصورة إجمالية- وعلى احتمال وجود النوايا الحسنة- إلى جهل المعنيين بموضوع تكوين الإنسان، وتربية الجيل.. وليس هناك تفسير (بريء) آخر.
كان هناك اعتقاد سائد، بأن تحقيق القفزة الجبارة للانطلاق من التخلف إلى التقدم، ومن الضعف إلى القوة، ومن عهود الانحطاط إلى عصر التكنولوجيا.. يتطلب التركيز على المستقبل، بعيداً عن الماضي وعلى امتلاك الآلة قبل الإنسان، وعلى الواقع الجاف بلا خيال ولا عاطفة.. وعلى الرياضيات بدل الشعر.. والفيزياء والكيمياء، قبل التاريخ والجغرافيا والاعتماد على اللغة الفرنسية (الحية) عوضاً عن العربية (الآخروية) وهلمَّ جرا..!
وكأن المهام والقضايا الإنسانية تتعارض وتتناقض مع قضايا العلوم والتكنولوجيا الحديثة..!؟
واختفت حكمة الجدود، وغابت الأمثال الشعبية وتلاشت فنون الصناعات التقليدية، وتجمدت هياكل المتاحف، والمسارح، ودور السينما، النوادي، والمكتبات، وتعطل النشر خاصة بالنسبة للأطفال، واختل نظام التوزيع، وأصبحت أفلام العنف والرعب، هي قبلة أغلب المشاهدين..!
أصبح من العادي على الطفل الصغير، عندما يشاهد وردة يافعة، تزين منظر حديقة، أن يركض نحوها، فيقطفها وعندما يرمي بها، تدوسها الأقدام دون حرج..!
وصار المراهق، إذ أراد التفاخر ببراعته في الرماية والتسديد، يحمل أمام الجميع حجراً، ويرمي به مصباحاً كهربائياً أو لوحاً زجاجياً، وقد يبتسم البعض تشجيعاً له..!
أما أغلب الشباب، فلم يعد يهمهم في الزمن والوطن سوى القوة، وشريكة العمر، والسكن..!؟
وتوزع الكهول والشيوخ بين المقابر، والتقاعد أو التنازل إلى مواقع الأطفال، والمراهقين..!
وأسجل /قبل أي احتجاج/ بأن هذه الصفات، لا تنطبق على كل المواطنين، إلا أنها تشكل ظاهرة بارزة، نأمل ألا تعم أو تتجذر.. ولا بد من الانتباه إليها..(1/15)
وهنالك ظاهرة أخرى، تدل على انحراف الذوق وانقلاب المفاهيم.. حيث أضحت بعض المبادئ، الوطنية الثابتة كالوحدة الشعبية، والهوية العربية الإسلامية، والقيم السامية والتقاليد النبيلة، ومعطيات الثورة، وتجارب النضال هذه الثوابت المقدسة، أضحت خجولة في الإفصاح عن وجهها، اللهم إلا بين ذويها.. بينما أصبح الموتورون وحتى بعض /التقدميين/ يصرحون بكل جرأة، واعتداد، بأن العصر هو عصر /المتغيرات/ ولا داعي للاهتمام بأي شيء إذا لم تفرزه الحداثة والعصرنة الأوربية..! وكم رددوا قولهم بوقاحة: ليذهب التاريخ إلى المزبلة..!؟
من المعلوم -كما يقال- لا وجود لشيء في الطبيعة اسمه، الفراغ.. وبالفعل، فعندما يختفي النور والحب، والجمال.. لا بد وأن تحل محلهم الظلمة والبغضاء، والبشاعة.. وهو ما يحدث عندما يختفي الحس الجميل من شخصية الإنسان..
وكبرهان على ذلك، سأختم هذا الحوار: بهذه الحكاية الطريفة:
اشترى رجل ثري جاهل، قصراً عظيماً، داخل حديقة زاهرة.. وصادف أن غرفة نوم ذلك الرجل، كانت نوافذها، تطل وتتلامس، مع فروع أشجار باسقة سامقة.. وكانت تلك الأشجار مأوى لمئات من العصافير الصغيرة، تلجأ إليها عند الغروب فتنام فوق أغصانها وبين أوراقها، وفي الصباح الباكر تستيقظ مزقزقة فرحة سعيدة، ثم تغادرها طلباً للرزق واستمتاعاً بالحياة...
انتبه ذلك الغني الجاهل، إلى أن تلك العصافير توقظه عند مطلع الفجر بزقزقاتها الصاخبة، وتحرمه من لذة النوم العميق المتواصل...
وفكر.. وتدبر.. وتفتق ذهنه عن وسيلة حاسمة، يخلصه من إزعاجات العصافير، وزقزقاتها المؤذية بالنسبة إليه.
عندما قام من نومه ظهراً، استدعى العمال، وأمرهم بقطع كل الأشجار المحيطة بنوافذ قصره، حتى لا يبقى أي مكان لعصفور يمكن أن يزقزق فيه بالقرب منه..!
كانت أعمار تلك الأشجار تتجاوز عشرات السنين. إلا أن عملية قطعها لم تستغرق سوى يوم واحد..!(1/16)
ونام الجاهل ليلته الأولى دون أن يشعر بمرور وقت الفجر فيها.. وهاجرت العصافير الصغيرة، عندما لم تجد مأواها كما كان..!
وفي الليلة الثانية وكان الفصل صيفياً، والنوافذ مشرعة.. وبمجرد أن خيم الظلام أخذت أفواج البعوض والحشرات، تتوافد في هجومات شرسة، على غرفة نوم الجاهل، لتمتص دماءه، وتحرمه نهائياً من النوم..!
واحتار ذلك الغني الجاهل، ماذا يفعل..؟
فقال له أحد الفلاحين.. ألم تكن تعلم بأن زقزقة العصافير هي من أجمل الأنغام..؟ وأن الحشرات المؤذية لا تتجرأ على اقتحام مواطن العصافير..؟
ما عليك الآن سوى أن تغرس أشجاراً جديدة وتصبر.. ثم تنتظر عودة العصافير.. أو فاغلق نوافذك وعش داخل الجحيم..!؟
يقول العلامة، عبد الرحمن بن خلدون: "المغلوب مولع أبداً، بالاقتداء بالغالب، في شعاره، وزيّه، ونحلته، وسائر أحواله وعوائده..".
هذه المقولة المشهورة، وإن صدقت وتطابقت مع الواقع، بالنسبة لبعض الشعوب الضعيفة والهزيلة من أساساتها الحضارية، ومقوماتها الروحية والفكرية والمادية، فإنها تاريخياً -على الأقل- لا تنطبق على كل الشعوب وإذن، فهي ليست قاعدة عامة، ومطلقة، تصلح لكل زمان وكل مكان..
فالشعب العربي -مثلاً- عاش في فترة ماضيه القديم عهوداً جائرة- مغلوباً على أمره، مجزءاً تحت سطوة أمم قوية مثل الروم، والفرس، والأحباش.. إلا أنه بفضل محافظته على خصائصه الذاتية، ومعطياته البيئوية، واعتزازه بشخصيته.. استطاع أن يظل صامداً مستقلاً في خياراته وأن يمتنع عن أي ذوبان أو إدماج في بوتقة الحضارات القوية المسيطرة. إلى أن تبلور وعيه وتنامى إدراكه بالحرية المبنية على العدل، والأسس الإنسانية، فأشرقت شمس إسلامه الحنيف، وأنشأ دولته الواحدة، تلك الدولة التي بلغت حضارتها العربية الإسلامية أوجها الممتاز مما جعل الأمم الأخرى تقتدي بها وبشعبها في كل شيء كما يقتدي المغلوب بالغالب، ومن بينها أمم الروم، والفرس، والأحباش..؟(1/17)
وبالنسبة لهذا العصر.. كلنا نذكر ما لحق بالأمة الألمانية خلال الحرب العالمية الثانية- من دمار، وإبادة، وسيطرة من طرف الحلفاء وأسلحتهم الفتاكة..!
وكذلك ما أصاب اليابان من تدمير وقتل وتخريب.. ولم يمض نصف قرن من الزمن، حتى شاهدنا ذلك الجبار الألماني، كيف يقف على قدميه، حيوياً قوياً موحداً، متمتعاً بكل خصائصه ومقوماته الأصيلة والحديثة..!
وإذا باليابان ينتفض كالمارد العملاق، فارضاً طابعه، وهيبته، واحترامه- يكاد أن يسيطر على العالم كله بإبداعاته وإنتاجاته الفكرية والمادية.. وتكاد الأمم التي قهرته بالأمس، أن تعترف بأنها مقهورة أمامه، ولا يسعها إزاء تفوقه سوى أن تقتدي به وتسير على منواله في سائر أحواله..!؟
ومن المعلوم أن الأقطار العربية التي عانت من الهيمنة الاستعمارية طيلة عقود كثيرة، ظلت متمسكة بقيمها الأساسية متشبثة بمميزاتها الأصيلة، وثوابتها السامية، فلم يستطع الاستعمار محو معالمها الذاتية، رغم كل محاولاته التشويهية المتواصلة، ورغم ما كانت تقاسيه تلك الأقطار من حرمان وتجهيل، من قمع وتفقير، ومن ظلم وتقييد..!
ومما لا ريب فيه أن الشعب العربي في الجزائر كان في مقدمة الأقطار العربية، بما تحملّه وعاناه من شراسة الاستعمار وجرائمه وويلاته طيلة قرن وثلاثين سنة، ومع ذلك.. ظل محصناً بقيمه وعاداته النبيلة.. يقظاً متفتحاً أمام كل الأحداث والتطورات، محافظاً على كرامته وعزة بقائه إلى أن أخذ استقلاله، بقوة الحجة، والسلاح، سنة 1962.
وإذن، فمقولة ابن خلدون -كما قلت -ليست قاعدة ثابتة- يمكن أن تطبق على كل الشعوب..!(1/18)
ولكن ما يثير حيرتي، ويجعلني دائم التساؤل، والتحاور مع نفسي، هو، لماذا أغلب الأقطار العربية، بعد أن نالت استقلالاتها، أخذت تتساقط خارج أرضيتها الصلبة وتتباعد عن إنجازاتها وعطاءاتها الحضارية الراقية، وعاداتها وتقاليدها السامية، وثقافتها العريقة، والأصيلة المتطورة، من لغة، وفكر، وعقيدة وسلوك، وإحساس وذوق.. خاصة بعد حرب حزيران 1967 حيث ساد التشاؤم، وعمّ القلق وأصبح كل مواطن يتحرك يشعر أنه داخل نفق رهيب، ونحو مستقبل غامض مجهول..!؟
لماذا كل هذا التمزق، والأنانية القطرية الضيقة والاختلافات، والخلافات، والانبهارات بما يحققه الآخرون..!؟ إلا من رحم ربك..!
ومما يحز في النفس حقاً.. هو هذا الواقع المرعب الذي تجتازه الجزائر اليوم..!
لقد أشرت إلى أن مقولة (المغلوب مولع أبداً بالغالب..)
لم تحقق مفهومها عند العرب في عهدهم الجاهلي، ولا عند أمم أخرى كالألمان واليابانيين، ولا في الأقطار العربية التي رزحت عهوداً قاسية تحت نيران الاستعمار، بل لقد حدث العكس حيث أصبحت تلك الأمم والأقطار هي صاحبة الغلبة على من كان هو الغالب، وتأتي الجزائر -أيضاً- في المقدمة، حيث استطاعت بفضل البطولة والفداء والتضامن والمد العربي، في ظرف سبع سنوات ونصف أن تتغلب بالفعل على جبروت الاستعمار الذي كان هو الغالب، فتحول إلى مغلوب وطرد من الأرض، ونالت الجزائر استقلالها..
ولكن ما نلاحظه اليوم على بعض الشرائح الاجتماعية في الجزائر، هو حقاً مثير للدهشة والعجب، إنه الانقلاب الغريب في المفاهيم السائدة، والإطلاقات المنطقية..!(1/19)
لقد أصبح الوضع المعكوس، هو الصحيح، والعليل هو السليم، والشاذ هو القاعدة، والمتناقض هو المعقول، ومن بين هذه التقاطعات التي صارت تبدو متوازية مع المفاهيم مقولة ابن خلدون التي أضحت بيننا تحمل عكس معناها بكل جرأة وصراحة، وبدون أي خجل أو إحراج.. إنها الآن. وبكل بساطة تحولت إلى أن/ الغالب هو المولع باقتداء المغلوب..!)
وهو الواقع الذي نحياه بكل صوره البشعة، وأبعاده الخطيرة..!؟
إن كل الشواهد التاريخية، والوقائع، والمواقف الثورية النضالية، تؤكد بأن الاستعمار، لم يتمكن من زعزعة الشخصية الجزائرية، ولا من التأثير الجذري في مقوماتها الحضارية الإنسانية إلى أن غادر البلاد، مطروداً، ذليلاً...!
وانطلاقاً من تلك الشخصية الوطنية القوية، استطاع الشعب الجزائري - ومن خلال ثورته المسيسة والمسلحة- أن يتغلب على أعتى وأضخم قوة مدعمة بالأحلاف، والأموال والعلم والرجال..
فكيف نرى هذا القطر الآن.. وهو الغالب في الأمس الغريب، نراه مولعاً بالاقتداء بـ "المغلوب" في شعاره وزيه ونحلته (ولغته) وسائر أحواله وعوائده"!..
وإلى درجة أننا قد نجد بين أفراده من يتمنى بلهفة وشوق الحصول على جنسية عدوه، ويسعى بجهد إلى نيلها ولربما هناك من يتمنى عودة المحتلين كأسياد إلى ديار الشهداء والأحرار..!؟
من حسن الحظ أن هذه الظاهرة، ليست عامة، ولا تمثل وجهة الأغلبية. ولكنها موجودة.. ولا شك أنها تتطلب الحذر، وتحتاج إلى دراسة معمقة، من طرف علماء النفس والاجتماع والسياسة لمعرفة أسبابها، وكشف دوافعها لإيجاد العلاج الناجح لها..(1/20)
من الطبيعي جداً، ومن المشروع أن يكون سعي الأفراد والجماعات متجهاً دائماً نحو الأفضل، والأرقى، والأجمل.. ومن هنا فإن أي مطمح أو عمل في سبيل اللحاق بما حققته الدول الأجنبية من تطور وازدهار في حياتها الحضارية الراهنة، هو أمر ضروري، بل وواجب على كل عربي، يعتز بماضيه العريق، ويجتهد لبعث حضارته وأمجاده، واللحاق بالأمم المتقدمة.. وفي هذا المجال يستحسن الاقتداء ولو وصل إلى درجة التقليد المتبصر الواعي..
أما الاقتداء الذي يحمل أشكال وصور العبودية، والتبعية والارتياح للهيمنة، والانقياد الأعمى، فذلك ما يثير العجب والقلق!
وأتصور.. لو كانت هناك روابط اتصال وتنسيق دائمة بين الأقطار العربية، يتم خلالها العمل المتكامل، والمواقف المتضامنة مع التنافس والتسابق من أجل الأحسن.. لو تم ذلك لما وصلت بعض أقطارنا إلى مثل هذا الحد من الجنوح..!
فمثلاً عندما انتهت حرب الجزائر سنة 1962 مع الاستعمار وحققت استقلالها، ظن كل العرب، وفي مقدمتهم الجزائريون أنفسهم بإن كل الأخطار قد زالت، ولم يبق سوى جو البناء والتشييد في ظل الحرية والاستقلال..!
ولكن غاب عن الجميع أن تلك الحرب بالنسبة للاستعمار لم تنته أبداً وأنها استمرت شرسة، عنيفة، حامية الوطيس، ولكن بدون مدافع، دبابات، وطائرات مقنبلة.. وإنما بما هو أدهى وأمر. بالفكر والكتاب، والمجلة، والشريط السمعي والبصري.. بالمتعاونين والمستشارين والمعلمين.. بالهدايا، والإغراء، والترغيب، بالخونة، والعملاء، والحاقدين، وبكل ما من شأنه أن يهدم الكيان الوطني ليقيم محله، تماثيل وأصناماً وأبواقاً، تلبي رغبات الاجتياح الجديد، وتنقاد /بسعادة/ للهيمنة الاستعمارية الجديدة..!؟
إن الجزائر اليوم، تتهاوى تحت ضربات التآمر الأجنبي الناقم، في شبه غفلة من أعين العرب والمسلمين، الذين مدوا إليها يد العون الفعالة خلال ثورتها المسلحة، ثم اعتقدوا -عندما استقلت- أن حربها مع الاستعمار قد انتهت..!(1/21)
إنها الآن تعيش عمق مأساة الحرب المدمرة، اقتصادياً وثقافياً، وزراعياً، ومن المؤسف أن المتحاربين بالسلاح فيها، هم من أبنائها.. جزائريون، يقتلون جزائريين، والأسلحة تتهاطل عليهم من مزاريب /المغلوب/ سابقاً.. ومن كل المغلوبين أمثاله..!
الذين صاروا محل إعجاب واقتداء..!؟
- الشعب الجزائري، معروف عنه أنه شجاع، وكريم ومتسامح.. وقد عبر عن ذلك -بعد الاستقلال، وعلى لسان قيادته عندما فاجأ العالم بقوله للفرنسيين/ عفا اللَّه عما سلف/!/ ورمى بقرن وأربعين سنة من القمع والقتل والتحقير والحرمان والاذلال.. ورمى بها خلف حدود الذاكرة وداخل مقابر النسيان..!؟ ويا ليته لم يفعل..!
وهاهم الناس في الجزائر يقتلون أنفسهم اليوم.
ألا يوجد من يذكرهم أو يتذكر: /عفا اللَّه عما سلف/!
أو يقول لهم: لا تنسوا أنكم كنتم الغالبين..!؟
هل هناك صراع بيننا وبين أبنائنا..؟
كنت في نهاية الركعة الأخيرة من صلاة العصر.. عندما أفزعني صوت قويٌّ للباب، وهو يغلق بشدة، يشبه الإنفجار..!
أنهيت الصلاة باستعجال، وركضت نحو شرفة منزلي المطلة على باب العمارة- وبعد لحظة قصيرة، رأيت ولدي الشاب خارجاً مندفعاً في اتجاه الشارع.. فناديته بلهجة حاسمة، طالباً منه العودة حالاً، وبسرعة..!
ويبدو أنه قطع سلالم الطوابق الثلاثة، بخطوات قليلة عملاقة.. حيث تفاجأت به بعد لحظة خاطفة، واقفاً أمامي وهو يلهث، ويسألني: ماذا تريد؟
أمسكت بيده، وجررته نحو قاعة الجلوس.. وكان جهاز التلفاز داخلها يملأ الأجواء بضجيجه المزعج..!
- قلت له: أنت فتحته!.. فلماذا لم تغلقه، وأنت تغادر المنزل..؟ أغلقه الآن!.
فأغلقه، وهو يقول: كنت أظنك ستأتي لمشاهدته..!
ثم سحبته من يده إلى غرفة نومه، وكانت مصابيحها الكهربائية الثلاثة مضاءة.. فسألته: وهذه الأضواء، لماذا لم تطفئها وأنت تخرج من غرفتك..(1/22)
أم هل كنت تظنني سآتي لمشاهدتها.. والتمتع بأنوارها..!؟ -فاطفأها بصمت.. وعرجت به نحو حنفية الحمام وكان ينساب منها خيط رقيق متواصل من الماء..! وهذه لماذا لم تحكم أغلاقها جيداً.. أم أن ذلك فوق طاقتك!؟
- أجابني بنبرة تدل على نفاد صبره: إنك يا أبي دائماً، لا تهتم إلا بالأمور البسيطة التافهة.. وقد أضعت لي الآن، موعداً هاماً كنت مرتبطاً به.. وتركني.. وانصرف مسرعاً غاضباً..!
- مباشرة جلست على أقرب مقعد.. وفتحت حواراً مع ذاتي..
- مما لا ريب فيه أن أغلب الآباء أمثالي غير راضين تماماً عن أبنائهم الشباب، في سلوكهم، وتصرفاتهم، ونوعية أذواقهم، فهل يعني ذلك أن جيلنا كان في شخصيته وإنجازاته، أعظم من جيل الأبناء..؟
لتحديد مرحلة جيلنا، نفترض أنه من مواليد الثلاثينيات أو قبلها أو بعدها بقليل، أي أن أعمار أفراده اليوم، تتراوح بين الخمسين والسبعين سنة...
ونفترض أن جيل أولادنا هم من مواليد الستينيات تقريباً أي أن أعمارهم حالياً هي بين الخامسة والعشرين، والخامسة والثلاثين سنة، أما ما فوق ذلك حتى الخمسين، فهم مخضرمون..
وقبل الخوض في مسألة التفاضل بين الجيلين، أرى من الضروري تسجيل بعض الحقائق التي تؤكد بالفعل أن هناك اختلافاً واضحاً بين الجيلين تفرضه طبيعة الحياة، وتغيرات الزمن، مع العلم بأن كل والد يتمنى أن يكون أبناؤه أحسن منه، وبالتالي يتطلع كل جيل أن يكون الجيل الذي يرثه من قومه أعظم منه..!(1/23)
- الحقيقة الأولى: اختلاف ظروف النشأة، وطرق التربية، ووسائل التنمية والجو الاجتماعي العام لمرحلة الطفولة والمراهقة عند الجيلين.. فالجيل الأول، أي جيلنا يكاد يكون بأغلب أفراده، قد عاش محروماً من التمتع بأفياء طفولته، ومراتع مراهقته.. جيلنا انتقل مباشرة من مرحلة الإدراك الأولى إلى مرحلة الشباب والرجولة.. مرحلة الإحساس بالمسؤولية، والنضج المبكر، نتيجة للعوامل الكثيرة التي كانت تؤثر في الأسرة وفي المجتمع العربي خلال الثلاثينيات والأربعينيات من هذا القرن العشرين.. وهي عوامل متعددة الأنواع والأشكال سياسية واقتصادية، يغلب عليها الطابع السلبي وتتمثل في الاستعمار، والفقر، والأمية، وما ينتج عنها من حرمان، وضعف، وتخلف ومنها تولدت في نفوس جيلنا عناصر التحدي، والعمل، والأمل..
بينما جيل الستينيات -رغم بعض الهزات أو الإحباطات التي شاهدها- فإنه قد توفرت لديه الكثير من الإمكانات المادية والنفسية.. التي ساعدت الطفل على الإحساس بطفولته، وهيأت للمراهق جو مراهقته، خاصة من طرف الوالدين والأولياء.. حيث اجتهدوا بتلقائية في السعي إلى تعويض ما فاتهم في مطلع حياتهم الشقية، إلى أبنائهم، بتقديم كل ما يستطيعون لهم، من أسباب الدلال، والرفاهية، وحرية الاختيار والتصرف بالإضافة إلى ما وفرته السلطات الوطنية من متطلبات التعليم والتكوين، والرعاية الصحية ووسائل الترفيه..
- الحقيقة الثانية: جيلنا ابتداء من عمر مراهقته، جرفته تيارات التحرر الوطني، فانغمس في معارك النضال السياسي، القطري والقومي إلى درجة التأجج، والالتهاب الثوري المسلح ضد المستعمرين والأنظمة العميلة الفاسدة، وقد تطلب منه أن يعيش بعيداً عن نزواته الذاتية، ورغباته الأنانية العابرة، في سبيل تحقيق أهدافه الوطنية الكبرى..(1/24)
بينما جيلنا الثاني، جيل الأبناء لم تسعفه الظروف لتبني أو رسم أهداف عظيمة واضحة، وتحمل مسؤولية إنجازها فاتجه نحو الغايات الآنية، وانطلقت فئات منه تخوض غمار التناقضات الحضارية الراهنة، ومعالم الصراع الاقتصادي محاولة قدر الإمكان، اللحاق بمواكب التقدم التكنولوجي، المتسارعة في تطورها، والمحاطة في الوقت نفسه، بحواجز مكهربة يصعب اختراقها..!
- الحقيقة الثالثة: هي وجود نوع من الاتهامات المتبادلة بين الجيلين..؟ فنحن نتهم أبناءنا بأنهم انفصلوا عن تقاليد (الأبوة) وتمردوا على نظام (الوصاية) الذي كنا نحن مرتبطين به، محترمين له -فشقوا عصا الطاعة مما جعلنا نتصور بأنهم أصبحوا لا يشبهوننا في حب الوطن والتعلق به، وفي تحمل المصاعب، وقوة الصبر، والاجتهاد في العمل، والتشبث بالعادات والقيم الاجتماعية السامية.
وهم من طرفهم، يتهموننا بالتزمت، واحتكار السلطة، والريادة، وارتكاب الأخطاء. والانغلاق، وسد منافذ الانطلاق في وجوههم.. مما أدى بالكثير منهم -حسب رأيهم- إلى التركيز على قضاياهم المصلحية الشخصية.. أو التسكع في سبل اللامبالاة.. أو المغامرة خارج الوطن..
وفي هذه النقطة بالذات، عندما أحاور نفسي، أجد أن كلا الاتهامين باطل من أساسه..؟
- فجيلنا، لم يبق فيه من الأحياء، الأقوياء، إلا قلة قليلة.. وما تبقى على قيد الحياة، عاجز، أو متقاعد..
- وجيل أبنائنا، هم الذين يملؤون ميادين الوطن العربي الواسعة، بنسبة قد تفوق 70% من عدد السكان.
- جيلنا كان أغلب أفراده من الأميين.
- وجيل أبنائنا يضم العدد الأكبر من المتعلمين والمتكونين.
- جيلنا.. ربما كان يحظى بالاحترام والشفقة من طرف آبائه لما كان يعانيه من شظف وتقشف، وبؤس، واحتياج.. ولما كان ينتظره من مهام صعبة خطيرة، تستدعي التضحية بالحياة.. وبكل عزيز..(1/25)
ولكن الجيل الحالي هو أيضاً يحظى بحبنا واعتزازنا وبما نعقده عليه من آمال جسام في أن نصل بهذا الوطن الممزق، إلى مصاف الأمم المتوحدة القوية الراقية..
ومن المؤكد أن جيلنا يدرك بأن لكل جيل خصائصه ومميزاته وظروفه الزمنية، خاصة في هذا العصر، الذي أصبح العالم فيه /قرية صغيرة/ بفضل تطور الإعلام والاتصال، وهو ما جعل علاقة الشاب بجهاز التلفزة، أكثر ارتباطاً -أحياناً- من علاقته بأبويه، وأفراد أسرته..!
حقيقة رابعة.. ونتيجة للغزو الثقافي الأجنبي، وهيمنة الإعلام الخارجي، وانتشار التعليم، والتراجم، والأفلام، والكتب والمجلات بما تحمله، من معطيات ثقافية متعددة، ومتنوعة، ومن نظريات وعقائد مختلفة.. تكونت لدى أبنائنا، خاصة المتعلمين -أذواق جديدة.. تتغاير في جوانب كثيرة مع أذواقنا القديمة، وخاصة في مجالات الفنون، والموسيقا، واللباس، وقد جذبت مباهج العصر البراقة نفوس بعض شبابنا، وأغرتهم برونقها، فأصبحوا يبحثون عن المكاسب المادية السهلة، ويتنافسون في الحصول على أكبر ربح ممكن بأقل جهد مبذول -مما أدى ببعضهم حتى إلى ترك مقاعد الدراسة، على أساس أن الشهادة الثانوية أو الجامعية، لا تضمن الفوائد المادية المرجوة، وأن التجارة أو الأعمال /البزنسية/ هي خير وسيلة لجمع المال..! وهذا يعني أن التزود بالثقافة والعلم لم يعد يهم الكثير من الشباب..!؟
هذا التغاير في الأذواق، والاختيارات المصيرية كوّن هو الآخر جدلاً حاداً بين بعض الآباء وأبنائهم، ونتج عنه نوع من تبادل الاتهامات..
أقول الاتهامات، وذلك لأبعد عن هذا الموضوع مفهوم الصراع.. لأنني لا أعتقد بوجود أي صراع حقيقي بين جيلنا، وجيل أبنائنا- ربما يوجد صراع في جانب ما، بين أبناء الجيل الواحد، بسبب التسابق والتنافس، المتوازي، نحو ترويض الحاضر، ورسم الصورة المستقبلية، تبعاً لوجهات النظر المتعددة..(1/26)
أما بالنسبة لجيلنا وجيل أبنائنا، فالقضية لا تتجاوز حدود النقد، وتبادل التهم، وهي جدلية طبيعية ونزاع لا بد وأن يحدث، بين ماضٍ وما زال لم تختف بقاياه وحاضر جديد لم تكتمل ملامحه بعد..
وهنا أعود إلى طرح التساؤل الأول: هل أن جيلنا كان في شخصيته وإنجازاته أعظم من جيل أبنائنا..؟
وباختصار -أعتقد أنه علينا أن ننتظر ثلاثين سنة قادمة، لنحكم على هذا الجيل، ونقدم في حقه الإجابة الصحيحة..
بالفعل.. حقق جيل الآباء مهام صعبة، قدم من أجلها خيرة شبابه شهداء من أجل الحرية والاستقلال، ووضع اللبنات الأولى لعهد ما بعد الاستقلال. ولا ننكر أنه مرّ بأخطاء.. والذي لا يعمل هو الذي لا يخطئ..
ولكن المهام التي تنتظر جيل أبنائنا، هي أصعب، وأخطر -لأن استعمار اليوم غير استعمار الأمس، وأحوال وأهوال القرن الواحد والعشرين ليس لها مثيل، ولأن المحافظة على الحرية واستكمال مستلزماتها هي أصعب بكثير من عملية تحقيق الاستقلال السياسي، وأخذه بالقوة والنضال..
لذا فما علينا سوى أن نواصل، بما تبقى لدينا من جهد، لتوفير أسباب المنعة والنجاح لأبنائنا الشباب، وأن نستمر في إحالة المسؤوليات الجسام عليهم، وكلنا ثقة بهم، وتفاؤل بمستقبلهم، سائلين اللَّه أن يوفقهم، وينصرهم، ويسدد خطاهم في خدمة أمتهم العربية، هذه الأمة المجيدة الخالدة، والتي كانت: خير أمة أخرجت للناس.
تشرين 27/9/1995
((
خاطرات.. وأحلام..
وبصرى الشام..؟
عندما دخلت مدينة بصرى الشام، وسرت فوق طرقاتها الأثرية المرصوفة بالحجر المصقول.. وأقواس النصر تستقبلني بدون أبواب موصدة.. والأعمدة السامقة الشامخة، تقف على جانبي، كأنها فصيلة من الجنود الجبابرة، تقدم لي التحية...!
عندما دخلت مدينة بصرى الشام أحسست برعشة من الاعتزاز الممزوج بالحزن القومي.. تكتسح كياني..! وبمزنة من هموم الوطن، تغمرني بدموع الحيرة، والشوق.. وتذكرت الجزائر ومدينة /تيمفاد/...!؟(1/27)
من اللافت للنظر أن هناك أشياء، وصفات.. وطبائع وعادات.. معالم ومعتقدات.. كثيرة، وكثيرة، تربط بالتماثل والتشابه بين الجزائر وسورية، رغم ما يبن البلدين من آلاف الكيلو مترات..
ها هي مدينة بصرى الشام الأثرية، في قلب حوران الأشم بألوان حجارتها وأفياء أزقتها، وملامح ماضيها العتيد.. إنها تتشابه تماماً مع شقيقتها مدينة تيمفاد الأثرية في حضن الأوراس الأشم..!
كانت تيمفاد، في عهد الأمن والاستقرار، تقيم مهرجاناتها الدولية للموسيقا والرقص، كشقيقتها بصرى، الشام.. فلماذا الآن يتقلص العطاء، وينكمش التواصل، وتحرم الجماهير البريئة من معايشة لحظات سعيدة عزيزة..!؟
لماذا لا أشاهد اليوم فرقة فنية من الجزائر في سورية..؟
ولماذا يعيش المواطن الجزائري الآن بعيداً عن أفراح تيمفاد، وأعراس بصرى الشام..!؟
هل هي مشيئة الحاقدين!؟ أم أنه مجرد إمتحان سنجتاز مرحلته بنجاح..!؟
أنا لست مؤرخاً، ولا علاقة لي بعلم الآثار، ولكنني أقدس تاريخ بلادي، وأعتزّ بكل أثر عريق فوق أرضي العربية ما كان مصدره.. إذ يكفي أنه ملك لوطني.. فوق تربته وتحت سمائه..
عندما تجولت في أرجاء بصرى الشام، أحسست بأنني أعيش تاريخاً حياً متواصلاً.. من أوابده، وروافده البائدة، إلى موارده وعوائده السائدة..
الحياة التي كانت تنبض وتدب منذ عشرات القرون، أراها ما زالت تتحرك بحيوية، وقوة، ووعي، ونحن في نهاية القرن العشرين..!؟
بصرى الشام.. إذن، هي مدينة لآثار الحياة ومدينة لحياة الآثار، كدوحة خضراء يانعة، ترمي بجذورها إلى أعماق الأرض، تتمايل أغصانها المورقة، لتعانق أشعة الشمس...
مسرحها اليوناني العظيم الضخم، يقال أنه من أكبر المسارح الأثرية في العالم.. وإنني شخصياً زرت كل أقطار أمتنا، ولم أر له مثيلاً في كبره وتماسكه وروعته في الوطن العربي على الأقل..(1/28)
هذا المسرح، الذي يضم اليوم حوالي عشرين ألف مشاهد جالس، في احتفالية ثقافية راقية.. ألا يدل على أن التاريخ العربي، هو سيد التواريخ.. وإن التاريخ العربي ظل متسلسل الأمجاد، مرتبط الحلقات، منذ بزوغ إنسانية الإنسان، وأنه سيظل على نفس المنوال.. هكذا وإلى الأبد.. لأنه، وببساطة -ممتنع عن التلاشي والذوبان..!
لقد كان مهرجان بصرى الشام، الثالث عشر، فرصة ممتازة لي، للمتعة، وللاكتشاف، وللتأمل، وللحلم الجميل..
تمتعت خلال أربع ليال زاهرة، بمتابعة لوحات ساحرة، في الرقص، والموسيقا، والغناء، قدمتها فرق أجنبية وعربية، فتية ناضجة..!
وما زاد في متعتي، وأثار إعجابي، هو هذا الجمهور الفنان الغفير، بتفاعله وتناغمه وتواكبه مع الفرق الناشطة إلى درجة الاندماج الكلي معها..!
كان المشاهدون.. يقفون صفوفاً صفوفاً.. أمام خدود مقاعدهم الحجرية العريضة، يصفقون ويهتفون، وهم يتمايلون بطرب وانسجام، وعندما تهزهم المقطوعات واللقطات الفاتنة، ينخرطون معها -شباناً وفتيات- في رقصات جماعية متناسقة مثيرة للبهجة والعجب، مما جعلني أرصد، بلهفة، تلك التدخلات العفوية الجميلة، والف برأسي نحو كل الجهات كي لا تفوتني مشاهدها الطريفة المحببة.. حتى شعرت بالتوعك يجتاح عنقي.!؟
لقد كانت مدرجات المسرح، المفرطة في الارتفاع بمقاعدها الصخرية، وجوانبها الشبه دائرية.. كانت تبدو وكأنها مرآة عملاقة، ينعكس ويرتسم عليها كل ما يحدث على الخشبة من حيوية، وحركة ونشاط.. وكانت الموسيقا تملأ الفضاءات، والفرح يبتسم في عيون الجميع..
تمنيت لو لم تفتني كل سهرات المهرجان، الخمس عشر.. ومع ذلك شعرت بغبطة الارتياح وواجب الامتنان للصديق الذي أتاح لي بدعوته ومرافقته سانحة غالية كريمة. لا تنسى.(1/29)
لقد اكتشفت في بصرى الشام، أن هذه المدينة العريقة تمتاز بظاهرة نادرة، وهي توقف الزمن بين عتباتها، وخلوده فوق أمكنتها..! فالزمن فيها دائم الانسياب كالشلال ولكن جريانه لا يختفي بعد مروره، ولا يتلاشى ليحل محله زمن آخر..
بل يظل دائم التراكم والدوران، والحضور الحي..!
مواقع الآثار الشامخة، والمتماسكة بإصرار ومنازل السكان العامرة، بالأطفال، والحياة.. بناء حجري متماثل في الشكل واللون، والتحدي.. والأصوات واحدة، سواء تلك التي تعترضك في الدروب وأمام الأبواب مرحبة محيية.. أم تلك التي تحس بها من أطياف الجدود.. الأبعدين، والأقربين تناجيك من خلال كل الزوايا، والأكمات..
السومريون،، الآشوريون، الكلدانيون، الأراميون، السريانيون النسطوريون، النبطيون، الكنعانيون، الفينيقيون، كل أجدادنا العرب، القدامى وأبناؤهم العرب المسلمون، هذه الأواصر العريضة الكبيرة، أحسست بوجودها أمامي، وأنا أطوف أحياء مدينة بصرى.. الصغيرة..!
وقفت أشاهد مسجد المبرك، هذا المكان الذي بركت فيه ناقة الرسول محمد عليه الصلاة والسلام.
عندما رافق عمه في تجارة إلى الشام، وكان وقتها شاباً يافعاً وتذكرت كيف اهتم بأمره الراهب بحيرا النسطوري وألح على رؤيته، وأكرمه، وتنبأ برسالته، وحث عمه على ضرورة حمايته، وحراسته من مؤامرات اليهود عليه..!
إذن فالحقد قديم، وعداوة اليهود للعرب والمسلمين عميقة الجذور..!؟
ورأيت جامع الخضر عليه السلام.. ومدرسة أبي الفداء والمسجد المملوكي، ومسجد عمر، وقلعة الأيوبيين، والخنادق، المحيطة بها، وخزانات المياه الهائلة والحمامات، وأقواس النصر، والسوق الحجري، والطرق المرصوفة بالصخر المصقول والأعمدة العملاقة حولها، والكاندرائية والمعابد، والكنائس التي تشير إلى أقدم العهود.. رأيت..
ورأيت غابات الزيتون.. وبساتين الفواكه والكروم، وآثار السواقي والأنهار والحصون..!(1/30)
- قلت في نفسي: لماذا علق بعض الكتاب على مسلسل /الجوارح/ الذي عرضته التلفزة السورية منذ شهور وقالوا بأنه مسلسل خيالي لا ينطبق مع واقع التاريخ العربي ولا مع حياة البدو في أجوائهم القاحلة..
وأتصور لو تذكر هؤلاء الكتاب، بعض المناطق الزاهرة في حوران وغيره.. ولو ساروا بخيالهم إلى مضارب الغساسنة في تحديهم لمظاهر القياصرة.. لربما اكتشفوا أن حياة /البدو/ في تلك العهود، كانت أكثر مما شاهدناه في الجوارح -فروسية، ورفاهاً، وجمالاً.. وخضرة، وألواناً وألحاناً..؟
اجتمعت بمشايخ مسنين، تتجاوز أعمارهم التسعين وكانت دهشتي عارمة، عندما استمعت إلى ذكرياتهم التاريخية المجيدة، خاصة ما يتعلق منها بنضالهم الشجاع أيام ظلم الأتراك وغزو المستعمرين الفرنسيين.
كان أحدهم يشبه تماماً /الوهاج والد الباشق/ ويحتفظ بعدة رسائل وأوسمة شرفية، ورثها عن جده الذي سجل في حياته مواقف إنسانية، وقومية بطولية خالدة شهد بها له، حتى الأجانب..!
- تمنيت لوان تلك الذكريات والحكايات، تحولت إلى كتب.. أو أفلام للتواصل مع ذاكرة الأجيال.
- وتمنيت لو كان مهرجان بصرى الشام الفني، مرفوقاً بمعارض، وأنشطة ثقافية، وفكرية، تثريه، وتلبي أذواق كل الزائرين، وهذا ليس على همة وزارة الثقافة ببعيد، وتمنيت أن أعود إلى بصرى الشام مرة أخرى، وأرى بعض أسرارها التي ما زالت خافية.. وأرى وجهها أكثر بهاء في أناقته وصفائه.. وجماله وجلاله.. وهو حلم، يبدو أنه سيتحقق، ما دامت الإرادة الواعدة متوفرة.
تشرين 3/10/1995
((
ثقافة الجزائر قبل الاستقلال:
لا يمكنني الإدعاء، بأنني سأفي الحديث حقه من الإحاطة في موضوع ثقافتنا في الماضي، ولا حتى في عهود الأمس القريب، فذلك فوق إمكاناتي الراهنة، وأمره يحتاج إلى مراجع كثيرة، وجهد كبير..(1/31)
ولعل أبرز من تصدى إلى هذا الجانب، وأجاد فيه هو الدكتور بلقاسم سعد اللَّه، في مجلداته حول تاريخ الثقافة الجزائرية.. وفي كتبه الأخرى في نفس الموضوع.
إن ما أريده فقط، هو الإشارة إلى أن ثقافتنا خلال الثورة المسلحة.. وفي فترة عهد الاستعمار الفرنسي أي طيلة قرن وثلاثين سنة، كانت فارضة وجودها، سائدة بمعالمها ومعانيها، متمتعة بقوتها وحيويتها، مقتدرة بصمودها وتحدياتها، مما خيب كل مؤامرات المستعمرين، وأعجز كل محاولاتهم التخريبية لإبادتها، أو تذويبها في ثقافتهم، أو مسخها وتشويهها.
وظلت الثقافة العربية الإسلامية دائماً هي منبع الشعب الجزائري، الذي ارتوت منه كل ملاحمه، وبطولاته عبر تاريخه الطويل الحافل بالصراعات والانتصارات...
بالطبع -كان هناك القمع والحرمان، والفقر والجهل والإغراء والترهيب... وكل أساليب محو الشخصية، وتدميرها وتخريبها.. ولكن مقابل ذلك، كان الشعب الجزائري بفضل أصالة ثقافته، وقوة مصادرها الحضارية.. متماسكاً في وحدته متشبثاً بلغته وعقيدته، متحلياً بقيمه وتقاليده السامية، ضمن خصاله العربية النبيلة، وأخلاقه الإسلامية الفاضلة.
كان رجال الثقافة وأقطابها هم الذين قادوا معارك الجهاد ضد الدخلاء، ابتداء من الأمير عبد القادر الجزائري ووالده الشيخ محي الدين.. مروراً بعشرات الثورات والانتفاضات.. إلى حركة الأمير خالد في مطلع القرن العشرين.(1/32)
وعندما انطلقت الحركة الوطنية السياسية في بداية هذا القرن، كانت حصانتها الأساسية وسلاحها الأول هو الثقافة الوطنية. فأسست الجمعيات الثقافية المنبثقة عن حزب الشعب، وجمعية العلماء المسلمين الجزائريين.. والكشافة الإسلامية الجزائرية.. وافتتحت المدارس الحرة، والنوادي، وظهرت الجمعيات الرياضية الخاصة، وكذلك الجمعيات المسرحية، والفنية، والأدبية.. وكانت كل الجمعيات الوطنية، واضحة المبادئ والأهداف، حثيثة النشاط السري والعلني، وثيقة الصلة بالجماهير.. يحدوها أمل واحد، وهو النضال من أجل الوصول إلى الحرية والاستقلال.
وطيلة عهد حكم الاستعمار، كانت الصناعات الحرفية التقليدية منتشرة داخل كل أحياء المدن والأرياف والقرى والبوادي في الجزائر، وقد استطاع الشعب بواسطتها أن يستغني عن كل منتوجات الأجانب، من ألبسة وأدوات عمل وأثاث منزلي ووسائل نقل وكل ما له مساس بحاجات المواطنين حتى الكماليات منها.
وكانت الأراضي الصعبة والضيقة التابعة لأبناء الوطن، فوق قمم الجبال أو داخل بعض الواحات الصحراوية النائية، مزدهرة بزراعاتها القليلة، وأنعامها ودواجنها، حافظة لكرامة أهلها من الفلاحين، مؤمنة لهم عيش الكفاف والعفاف، لأنها كانت مدعومة بالتعاون والجهد، محصنة بكل أساليب الرعاية الثقافية الغنية بتجاربها وقيمها الإنسانية الموروثة عن الأجداد عبر عشرات القرون.(1/33)
ولعل كل الجزائريين، والمطلعين العرب، يعرفون عملية ما يسمى في الجزائر بـ "التويزة" وكيف كانت تبرز حقيقة التآزر والتعاون والتضامن في أجمل وأروع الصور.. حيث أن أي مواطن كان إذا عزم أمره على بناء منزل، أو عزق أرض أو حرثها وزراعتها أو إحاطة بستانه بالأسوار الطوبية. أو جني الثمار، وجمع الغلال.. أو أي عمل صعب فما عليه سوى أن يخبر أهل حيه أو جيرانه بأنه عازم على إقامة "تويزة" -وهي تعني العمل الجماعي الصعب -في يوم كذا.. وإذا بالمتطوعين يهرعون إليه من كل حدب وصوب حتى من خارج حدود قريته، أو مدينته، وممن لا يعرفونه وكأن المشاركة في عمل التويزة، هو أمر واجب، وشيء مقدس فيساعدونه بجهدهم وخبرتهم، وينجزون العمل الذي كان يمكن أن يستغرق شهراً أو أكثر، في يومين أو ثلاثة.
ومن الطريف أن المشاركين في "التويزة" يرفضون أن يأتيهم طعامهم من مكان خارج عملهم، بل يقوم بعضهم بطبخه في عين المكان، ضمن قدرة كبيرة أو عدة قدور ويتناولونه في جو من المرح، والغناء، والسعادة..
كان من النادر أن تجد جزائرياً لا يمتلك في ذاكرته حصيلة معتبرة من القصص والأشعار الشعبية الرقيقة، ومن الحكم والأمثال الشعبية الهادفة، ذلك لأنه يتلقاها من أجداده ووالديه منذ طفولته الأولى، ويستمر على سماعها واستيعابها في الشارع، وفي السوق، وحيث اتجه.
أما الشعراء الشعبيون ونطلق عليهم "أصحاب الشعر الملحون" أي غير الفصيح، فكانوا يعدون بالمئات ومع الأسف أغلبهم ضاعت أشعارهم بعد موتهم لأن أغلبهم كانوا أميين، ولم تسجل قصائدهم.. هنا أريد أن أسجل اسم واحد منهم، كان اسمه: بعطوش الإبراهيمي، وكان بدوياً وشاعراً فحلاً، وفارساً شجاعاً، يذكرنا بامرئ القيس، كان يلقي قصائده الفخرية والوطنية على نفس واحد، وبنبرة تثير الدهشة والإعجاب، وكانت القصيدة الواحدة من قصائده تتجاوز المئة بيت، ولكنه لم يكن ليتلعثم أو يتردد.. كانت ذاكرته جبارة.. ومات، وماتت قصائده معه..!(1/34)
وكانت الصحف والمجلات -رغم خطورة مهنتها، وقساوة ظروفها، وحساسية نشرها.. كانت تتحدى العراقيل ويتحمل أصحابها أفدح المصاعب، وأقسى المصائب لتواصل إشراقاتها المتقطعة، ونضالها الدائب ولو من خلف قضبان السجون...
ولعل أغلب المثقفين العرب يذكرون كفاح الشيخ الصحفي والشاعر والمؤرخ أبي اليقظان إبراهيم، الذي أصدر بمفرده عشر صحف ما بين العقدين الثاني والثالث لهذا القرن وكيف تحمل السجون والأذى من أجل ذلك.
وغيره العشرات من أمثال عمر راسم، والطيب العقبي، وعبد الحميد بن باديس أمام النهضة الجزائرية.. وعندما نلتفت إلى الجوانب السلوكية الاجتماعية والأخلاقية في الشخصية الثقافية للشعب العربي في الجزائر... نجد أن العلاقات الأخوية المبنية على التراحم، والتسامح، والصدق، كانت هي العلاقات السائدة والشاملة... وكان المواطنون.. أفراداً وجماعات -يتنافسون، ويتسابقون في البرهنة على اتصافهم بخصال الشهامة والشجاعة والنخوة، والكرم والفروسية والنجدة... وكان أقدس شيء عندهم، هو موضوع الشرف خاصة إذا تعلق الأمر بالمرأة أو الأبناء.. إنه الفصل الوحيد بين الموت والحياة.. إذ.. لا حياة دون شرف...
كان الأميون.. وما أكثرهم في عهد الاستعمار "سجل التاريخ أن فرنسا عندما دخلت الجزائر سنة 1830 -كان عدد الأميين في الجزائر، أقل بكثير مما هم في فرنسا.. وعندما استقلت الجزائر سنة 1962 -كان عدد الأميين من الجزائريين يفوق 90% من المواطنين...!"
- كان الأميون، وما أكثرهم... مدركين لجهلهم، متواضعين خجولين بين قوم عشيرتهم، وفي علاقاتهم الحذرة مع غيرهم يخاطبون المتعلم مهما كان مستواه بسيطاً بكل إكبار واحترام وتقدير، وقليل جداً.. ما كان الإنسان يصادف في طريقه جاهلاً يجهل أنه جاهل..!؟(1/35)
- كان الحرف العربي شقيقاً لقطعة الخبز، محبوبان مقدسان، عند كل أفراد الشعب، ومن المحرمات أن يلقى بأحدهم في الأرض أو فوق قارعة الطريق... أو داخل قمامة الفضلات.. فالخبز هو غذاء الجسد والحرف هو غذاء الروح، ومن الجريمة رميهما، دون إيداعهما مكاناً أميناً منعزلاً...
- الاحتفالات الدينية، والتاريخية والوطنية، والموسمية، وحتى الأسطورية العريقة، كانت تحيا من طرف المواطنين كلهم، وتعد لها المحافل، وتقام الزينات والعراس، ويشارك الجميع في الابتهاج بها مما يثير حنق الأجانب.. خاصة مناسبات عيد الفطر والأضحى، والمولد النبوي، ويوم عاشوراء، والهجرة ومنتصف شعبان، وكل شهر رمضان، وبعض الذكريات الانتصارية ضد المستعمرين في العصر الحديث، وفي الماضي مثل غزوة بدر وفتوح مكة...!
ومن الجدير هنا.. الإشارة إلى جامعة الزيتونة بتونس، وجامعة القرويين بفاس، والجامع الأزهر بالقاهرة، إن هذه المراكز العلمية والثقافية الهامة كان لها أعظم الأثر في تزويد الكثير من الجزائريين بالعلم والمعرفة.. وبالاتصال المباشر، برواد الاصلاح والثورة مما قيض للجزائر نخبة معتبرة من رجال النهضة والتطور...
وفي الوقت نفسه، لا يجب أن ننكر دور بعض الوطنيين من الثوريين التقدميين الذين تخرجوا من معاهد الغرب الأوروبي وكان لهم نعم الأثر في إحياء الشخصية الوطنية المعاصرة، وتدعيمها رغم افتقارهم أحياناً، لفهم ومعارف الحضارة العربية الإسلامية، وتقديرها حق قدرها..
والخلاصة أن الثقافة العربية الجزائرية كانت قبل الاستقلال -بكل جوانبها- قائمة بدورها العفوي والطبيعي على أحسن ما يرام.. وكانت هي المناعة والحصانة ضد كل الدسائس... وكانت أعظم تعبير عن شخصية الشعب الجزائري المستقلة، رغم غياب الاستقلال في ذلك الوقت.
(( ... ... ... تشرين 4/5/1996
بداية المسيرة بين الألغام والأخطاء:(1/36)
منذ خمسة عشر قرناً، حيث أشرقت شمس الإسلام فوق الأرض، وتغلغلت أنوارها داخل كل أرجاء الوطن العربي، ومن بينها الجزائر.. وأجزاء كثيرة من المعمورة.. منذ مطلع ذلك الفجر الحضاري المجيد ترعرعت وتأصلت الثقافة العربية الإسلامية في الجزائر وانطلقت مدعمة بالمواريث العريقة للشعب تؤثر وتتأثر، تعطي وتأخذ، تواكب وترفد..
وقد سجل التاريخ للجزائر أروع الصفحات وأشرفها في مختلف الميادين القيادية، والبطولية والعلمية، وأعظم الذكريات في مواقف الشجاعة والمروءة والشهامة العربية النادرة..
وقد كانت ثقافة الشعب، المتمثلة في طباعه وأخلاقه وقيمه وعاداته كانت تلك الثقافة الجزائرية العربية الإسلامية هي السلاح الإنساني الجبار للذود عن الكيان والانتصار على العاديات والصمود المعجز في جبهات النضال للقضاء على أية محاولة عدائية للسيطرة والنفوذ ومن أجل الحرية الكريمة التي لا يرضى أي عربي شريف بديلاً عنها.
ولا ريب أن ثورة أول تشرين الثاني 1954 تلك الثورة العملاقة المعجزة التي التحم فيها الفكر مع الزند والبندقية والقلم، والرجل مع المرأة في زحف فدائي واحد.. وبإرادة مصممة واحدة.. تلك الثورة المثالية المتكاملة.. ربما لم تكن لتحقق كل تلك المكاسب فوق أرض المعارك المسلحة وفي مختلف المحافل الدولية وتلك المكانة العزيزة والمرموقة في قلوب كل الأشقاء والأصدقاء وأنصار الحرية في كل مكان لو لم تنطلق من أرضيتها الثقافية العربية الإسلامية، المدعمة بكل أسس الصدق والالتزام وحب التضحية والشهادة والاستقامة في الأخلاق والانضباط واحترام النظام وأولوية الحق والعدل..
لقد نجحت الثورة الجزائرية وحققت الاستقلال، وكان من الممكن أن تظل على نفس الوتيرة، وتواصل مسيرتها لبناء مجتمع سعيد وخلاق.. ولكن / تجري الرياح بما لا تشتهي السفن/.(1/37)
إن المتأمل حالياً في وضعية الإنسان الجزائري، وفي حالة مجتمعه الراهنة من نواحي السلوك واللغة والأفكار والعلاقات والطباع والمواقف والتصرفات تجاه البنية الذاتية للمجتمع أو تجاه الآخرين.. إن المتأمل في هذه المستحدثات الطارئة والمستوردة الغريبة لا يتصور أبداً أن هذا الذي يراه هو بالفعل استمرار أو تسلسل طبيعي لذلك المجتمع الثوري العظيم بثقافته الرائدة التي كانت تتفاعل مع مختلف الحضارات والظروف بكل حصافة وانتباه وذكاء، ذاك المجتمع السليم المتماسك والغني بتضحياته ونشاطه وتجاربه ومعارفه.. الصامد بثبات أمام كل العواصف والتيارات والمفاجآت..!؟.
مما لا شك فيه، أن إشراق شمس الاستقلال بعد السنين القاسية الطويلة، من الظلم والعبودية والحرمان ومن الشقاء والألم والحزن قد شكلت صدمة قوية عارمة ومفاجأة مذهلة لدى الجميع -رغم انتظارهم لها وتأكدهم من حدوثها -إلا أنها كانت ذات أثر اهتزازي عنيف لدى الكثير من النفوس البسيطة الساذجة وكانت تشكل الأغلبية -نظراً لانتشار الأمية- فاستسلمت للذهول والكسل، وللراحة والاتكال باحثة عن الاطمئنان والسعادة وعن أكبر ربح ممكن مقابل أقل جهد مبذول.. إلى درجة أن بعض المواطنين تعجبوا- عندما طلبت منهم المصالح المعنية- دفع أجور النقل في القطار أو تسديد فواتير ما استهلكوه من ماء، وكهرباء وغاز في مطلع الاستقلال، وتساءلوا مستنكرين: كيف نسدد هذا..!
ألسنا الآن في عهد الاستقلال..!؟ أما أجور المساكن التابعة للدولة فلم تدفع مستحقاتها إلا بعد ما يقرب من عشر سنوات من الاستقلال وكانت مبالغها قليلة جداً، وشبه رمزية..!.(1/38)
يضاف إلى ذلك أن التشبث بالثوابت الوطنية والخلال الثقافية القومية والحرص على المحافظة عليهما، هذا الاتجاه العام كان في عهد الاستعمار يمثل الملجأ الطبيعي الأمين والضمان الأمثل.. المنقذ للشعب من كل أخطار الإبادة والتدمير الاجتماعي والنفسي.. ويقف حاجزاً منيعاً ضد كل محاولات المحو والادماج والتجنيس والتنصير على الأسلوب الاستعماري البشع..! هذه المساعي المتواصلة والمفضوحة التي كان المستعمر لا يتوقف عن ممارستها وبذل أقصى الجهود والإمكانات والوسائل اللامشروعة من أجل تحقيقها كان الشعب منتبهاً لها.. مدركاً بحسه الثقافي لأغراضها السيئة.
كان كل المواطنين متيقنين بأن أية غفلة لتمرير دسائس الأعداء ستؤدي بهم إلى التهلكة وكانوا يفرقون بين من هو مسيحي مؤمن يأتي إلى زيارة البلاد في رحلة سياحية بريئة وبين من يدعي المسيحية وهو كافر ملحد، لا يقيم لتعاليم الأديان أي وزن، ولا يهمه إلا التعصب والاستغلال وإبادة الشعوب الضعيفة.
ومن هنا لم يحظ المستعمرون في الجزائر بأية ثقة أو ائتمان من طرف الشعب الجزائري العربي المسلم.
وعندما تحقق الاستقلال وغادر المستعمر البلاد، برجاله وأذنابه، بأعلامه ورموزه. بعدته وعتاده وأصبحت الجزائر مسيرة من طرف أبنائها فلذات أكبادها.. عندما تنفس المواطنون الصعداء.. وألقوا بكل أتعابهم وأثقال مسؤولياتهم واحتياطاتهم وحذرهم، وحتى ذاكرتهم المرجعية ورعاية مصادر ثقافتهم.. ألقوا بكل شيء على كاهل السلطة الوطنية الحاكمة..!.
ومما يؤسف له أن السلطة تحملت هذه المسؤولية بكل عفوية وحماس.. وربما أعتقدت أنها تمثل كل شيء وقادرة على كل شيء، من هنا بدأت المأساة بين التناقضات والأخطاء..!؟.(1/39)
خلال الانتفاضة الأولى للثورة الجزائرية، قال ضابط فرنسي كبير: "إن الجزائر ستأخذ استقلالها لأن عهد الاستعمار القديم قد انتهى زمنه.. ولذا يجب علينا أن نفكر في كيفية الهيمنة على الجزائر من الخارج لأن حكمها من الداخل قد مضى زمنه انتهى".
ومنذ انطلاقة الثورة وخاصة منذ سنة 1957 أخذت فرنسا تكثف جهودها الثقافية إلى جانب فعالياتها العسكرية الجبارة من أجل تثبيط المعنويات الشعبية وزرع دوافع التردد والشك وبذر الفتن والتفرقة بين السكان المواطنين، وكان لعلماء النفس والإذاعة المسموعة أخطر الأدوار في التمويه عن الحقائق ونشر الإشاعات وبث سموم الإحباط والانهيارات..
كما كان مشروع قسنطينة ومخططات الجنرال /شال/ ولاكوست/ وغيرهم.. ثم /شارل دي غول/ من بين أهم الوسائل والبرامج التي اعتمدت عليها فرنسا/ قبل الاستقلال/ لإعداد الأرضية المناسبة من أجل بقائها في الجزائر واستمرار وجودها وهيمنتها الثقافية والاجتماعية على الجزائر بعد استقلالها..!.
وقد كان ذلك واضحاً في بعض نصوص اتفاقية /إيفيان/ التي أبرمت بين الجزائر وفرنسا قبل الاستقلال.
ويوم الاستقلال /قبله بقليل/ انسحبت فرنسا من الجزائر وبكل شيء لديها في الجزائر يمكن حمله بمن فيهم اليهود والعملاء الجزائريون الذين كانوا يتعاونون مع المستعمرين وكان ذلك في مطلع صيف 1962م.
وظن بعض الأبرياء البسطاء أن مأساة قرن وثلاثين سنة من الاستيطان العنصري الغاشم قد زالت إلى الأبد.. وطرحت شعارات للتقدم والعروبة، والنهضة والتحرر المطلق.. ولكن كان أخطر هذه الشعارات هو: عفا الله عما سلف.. وبدأت النوافذ تفتح دفاتها وتتساقط من خلالها غربان العودة من الغرب لإعادة الحياة لمزابل التاريخ ونشر روائح العفونة والتسمم وتطبيق برنامج الاستعمار الخارجي..؟.(1/40)
قبل أن يغادر الاستعمار البلاد كان قد كوّن إطارات جزائرية مفرنسة من المراهقين ومن أنصاف المتعلمين ومن منشطي المخيمات الصيفية من الممرنين ومن بعض أبناء العملاء له ليصبحوا بعد ذلك النواة القاعدة لإدارة الجزائر المستقلة خاصة أن اللغة الفرنسية حسب الاتفاق وبعض القناعات كانت هي اللغة المفضلة..
وبطريقة ما تواصلت الحملة العدائية من أجل تشويه الثوابت الوطنية ورمى لغة الشعب بكل التهم والإشاعات المهينة.. واستفحل موضوع التفرقة بين أبناء الوطن الواحد على أساس عربي دخيل وبربري أصيل.. ونشطت حركة الجمعيات /الخيرية/ التنصيرية "الفاشلة!" وبدأت مختلف الآفات الاجتماعية تتسرب عبر جميع القنوات الحدودية والإعلامية والثقافية الغازية وبكل الوسائل الممكنة.. كل ذلك بسبب الحقد والانتقام ومن أجل تركيع هذا العملاق الذي انتصب واقفاً بقوة رغم أنوفهم.. ألا وهو الشعب العربي في الجزائر..!؟.
يذكر التاريخ أن /اللورد كرومر/ عندما كان حاكماً لمصر في مطلع هذا القرن نصحه مستشاره /دانلوب/ بقوله: "إن كل حركة وطنية نامية لا بد لها وأن تعتمد على مجموعة من المفكرين المثقفين القادرين على استخدام عقولهم لرعاية حركتهم وتطورها، وبالمقابل فإن الاستعمار هو أيضاً في حاجة إلى فئة من مثقفي ذلك البلد لينفذوا أغراضه في مختلف الميادين".
وقد استطاعت فرنسا قبل الاستقلال أن تجند مثقفيها وأن تهيئ لخدمتها مجموعة من /الفرنكوفيليين/ وهم المرتبطون بحبال الود والولاء لفرنسا، إضافة إلى نطقهم بلغتها، المسحورين بحبها من بعض الجزائريين.. من أنصاف المثقفين وضعفاء النفوس، أو من أولئك الذي حرمتهم /عقدهم/ من المشاركة في الثورة أو مناصرتها، فلم يكتب لهم شرف الوقوف إلى جانبها أو الجهاد بين صفوف مناضليها وهذا ما زادهم بعد الاستقلال مرضاً وتعقيداً وحقداً على كل من هو وطني مخلص..!.(1/41)
وهنا أرى من الأمانة التاريخية أن أشير إلى أن كل القيادات العليا التي تعاقبت على تسيير دفة السلطة في الجزائر منذ الاستقلال حتى اليوم كانت في جملتها من الوطنيين المخلصين ومن المجاهدين الذين حملوا راية الثورة والكفاح ضد الاستعمار إلى أن استقلت البلاد.
وطبعاً.. فالشعب الجزائري حامي الثورة وراعيها لم يكن ليرضى أبداً.. أن يتولى أمر قيادته أحد من غير الوطنيين المجاهدين، كما أنه لم يكن بمقدور أحد أن يتقدم لمنصب القيادة إذا لم يكن مؤيداً بتاريخه الوطني النزيه.
بالفعل، لقد برزت بعض الانحرافات القيادية التسييرية بشكل ملحوظ في مطلع الثمانينيات إلا أن بؤرة الداء الخبيث كانت تكمن في انحراف بعض الإداريين من الموظفين المسيرين والمقررين والمنفذين ممن تنكروا لثقافتهم الوطنية ومعطياتها الرائدة جهلاً بها أو استلاباً وانصياعاً لثقافة المستعمر الملغومة أو لمرض آخر في نفوسهم فكانوا أكبر حجر عثرة في مسيرة أي تطور حضاري يتلاءم مع شخصية الإنسان الجزائري ويتواكب مع ماضيه العريق ويلبي مطامحه النهضوية في حاضره ومستقبله المنشود.
وبذلك حققت فرنسا في الجزائر المستقلة ما لم تكن تحلم به وهي تستعمرها.. فمثلاً بالنسبة لانتشار اللغة الفرنسية على حساب اللغة العربية الوطنية تمكنت الفرنسية من اكتساح أغلب الأنشطة الإدارية والاقتصادية والسياحية وجل المعاملات في المدن الكبرى بينما تقلصت وتراجعت اللغة الوطنية وكأنها لغة أجنبية غريبة.. لقد تحقق للفرنسية في ثلاثين سنة من الاستقلال ما لم تستطع تحقيق جزء بسيط منه في مدة قرن وثلاثين سنة من الهيمنة الفرنسية؟.(1/42)
وكان الجنرال /شارل ديغول/ بعد استقلال الجزائر مباشرة واعتماداً على بعض النصوص الثقافية في اتفاقية /إيفيان/ يشجع الشباب الفرنسي للتوجه إلى الجزائر من أجل نشر اللغة والثقافة الفرنسية /المقولبة/ وقد بلغ في تشجيعه إلى منح المكافآت المالية المغرية والإعفاء من الخدمة العسكرية الإلزامية لكل شاب فرنسي يذهب إلى الجزائر لخدمة اللغة الفرنسية فيها؟!.
ومن المهازل المؤسفة.. أن المتعاونين الفرنسيين إبان العقد الأول للاستقلال كانوا عندما يحلون بأرض الجزائر يستقبلون من طرف بعض الموظفين الإداريين بكل تكريم وترحاب بينما يجد بعض الوافدين من الأقطار الشقيقة -لنفس المهام- بعض المصاعب والعراقيل.. كل ذلك بسبب تصرفات صنائع الثقافة الفرنسية من بعض المسلوبين ولهدف معلوم وهو أن تظل الجزائر بعيدة عن حظيرتها العربية وثقافتها الأصيلة.. وحتى يسهل القضاء على لغتها وبالتالي على شخصيتها الثقافية العربية الإسلامية؟.
تشرين 14/5/1996
((
دور النخبة المثقفة
هناك سؤال وجيه قد يرد إلى الأذهان... وهو:
ماذا كان دور النخبة المثقفة في خدمة الثقافة، وبالتالي، القضاء على جذور الأزمة..؟
وطبعاً.. للإجابة الوافية عن هذا السؤال، يتطلب الأمر الكثير من التحليل، والتعليل، والسرد، والشرح، وهو ما لا يسمح به المقام في مثل هذا الموضوع المجمل.. ولكن -باختصار- يمكن القول:
أولاً: إن كلمة "النخبة" بمعناها الاصطفائي البارز، والمميز، لم يكن لها المقام الواضح والفارق بين عموم المثقفين الجزائريين.. وهذا يعود لأسباب اجتماعية لها علاقة بالتاريخ والثورة، وبنفسية الجماهير التي ترفض أي تمايز طبقي بين أفرادها، خاصة فيما له علاقة بها كالثقافة.
ويعود كذلك، إلى ما حدث بعد الاستقلال من تهميش للثقافة والمثقفين، حيث وقع شبه غياب كامل للشروط المهيئة لذلك كالنوادي، والصالونات الثقافية، والتشجيع المادي والمعنوي، وظروف اللقاءات بين المثقفين.(1/43)
ورغم ذلك يجوز -تفاؤلاً- أن نعتقد بوجود "نخبة" قلية العدد خاصة من بين بعض المحظوظين، ممن توارثوا المجد عن أبائهم، أو عن الوظائف السامية التي شغلوها لفترة ما، أو ممن احتضنته دور النشر الأوروبية... وأيضاً ممن فرضوا أنفسهم بجديتهم، وجودة إنتاجهم مع الإشارة إلى أن هؤلاء المثقفين لا يشكلون طبقة منفصلة.
ثانياً: ومن الانصاف الاعتراف، بأن المثقفين الجزائريين، قد استطاعوا خلال عقد الستينيات والسبعينيات، أن ينجزوا إبداعات ثقافية جادة ورائعة، في مجالات المسرح والسينما، والنشر في ميادين الفكر، والآداب والفنون ومختلف العلوم الإنسانية.. وفي ميادين الموسيقا والباليه، والرسم، وإحياء التراث وبعض الصناعات التقليدية... وقد سجلوا حضوراً مشرفاً في أغلب الملتقيات العربية والدولية... ولكن ما يلاحظ هو أن استمرارية تلك الانجازات الإبداعية والثقافية قد توقفت في شبه جمود تام، قبل الثمانينيات بقليل، نتيجة لضعف الإمكانات وقلة الوسائل، وانعدام الرعاية والمتابعة، بسبب التدخلات العشوائية -أحياناً- من طرف بعض المسيرين لدفة الثقافة، وهم أبعد الناس عنها..! وهكذا لم تبق سوى بعض المبادرات المتقطعة. أو المحاولات الفردية لبعض الكتب والمؤلفين والمخرجين.
أما تلك الأنشطة الفولكلورية السطحية، المتمثلة في استهلاك التراث. أو تكرار ما تركه الفنانون القدماء من رقص وموسيقا وغناء.. والتي تختنق بها المهرجانات الضخمة في مختلف المناسبات، وننفق من أجلها الأموال الباهظة.. تلك الأنشطة الغوغائية لا أعتقد أن لها أي انتساب جوهري بالثقافة أو المثقفين...!(1/44)
ثالثاً: إن الإزدواجية اللغوية بين المتفرنسين الذين تخرجوا من الجزائر أو من المعاهد الأوروبية في مطلع الاستقلال، وبين المتعلمين بالعربية من خريجي معاهد تونس والمغرب، وجامعات المشرق العربي... هذه الازدواجية الأحادية اللغة، قد شكلت معضلة كبيرة، وهوة رهيبة في علاقات الاتصال، والحوار، والتفاهم، بين شرائح المثقفين الجزائريين، بل أدت أحياناً إلى وجود نوع من التنافر التلقائي، وسوء الفهم، حيث كان المتفرنس يتخيل في المثقف بالعربية، إنساناً رجعياً متأخراً يعيش مع العواطف والأحلام، والانفعالات الساذجة ويهوى الخرافات والأساطير ويتأثر بكل الغيبيات الدينية، والأخلاق المحافظة المتزمتة، وبالتالي فهو إنسان مغلق محدود الأفق، لا يصلح لأن يتعايش أو يتلاءم مع وسائل وأساليب العصر الحديثة، ولا يستطيع "مسبقاً" أن يباشر بأية مسؤولية ذات علاقة بالمعارف والعلوم المتطورة، وليس في مقدوره أن يتولى مهام إدارية تسييرية مهما كانت، ولو وظيفة بسيطة في مكتب صغير..!؟
وعلى أساس هذه الأحكام الاعتباطية الجائرة، تم نثر أغلب المثقفين بالعربية -ففي مطلع الاستقلال- بين مدارس التعليم لتدريس قواعد النحو، والدين، وبين المساجد، ومراكز الشؤون الدينية... ثم بعد ذلك جرى الحاق ممن يحملون شهادات حقوقية بأجهزة العدالة، ومؤسسات القضاء...!؟
وكان المتعلم بالعربية -في الوقت نفسه- ينظر إلى المثقف المتفرنس نظرته إلى محتكر متغطرس متكبر. جاهل بلغته الوطنية معتد عليها. بعيد عن ثقافة شعبه، وثوابته وتقاليده مرسخ لمظاهر المستعمر، مكرس لأساليبه وعلاقاته المشبوهة، متهاون في وطنيته وشعبيته، وعقيدته، وشخصيته المستقلة. وبالتالي فهو مسلوب لا يستحق أي ثقة أو احترام...!؟(1/45)
سوء الفهم هذا أدى إلى تمزيق وحدة المثقفين، وتشتيت جهودهم التي كان من المفروض أن تتركز وتتمحور حول عملية إحياء الثقافة الوطنية وإنمائها، ونشرها، ضمن مساعي البناء التقدمي في عهد الاستقلال، بل ما حدث هو العكس، حيث اتجهت بعض الجهود المغرضة، نحو نشر التهم والإشاعات ووضع العراقيل والمطبات بين المثقفين، ومن طرف المثقفين أنفسهم...!؟
وتجدر الإشارة إلى أن المتعلمين بالفرنسية، والناطقين بلغتها، وهم ما يطلق عليهم اسم الفرنكفونيين.. قد وقعوا في خطأ فادح، حيث لم ينتبهوا إلى الفارق الكبير، الموجود بينهم، وبين من يسمون بالفرنكوفيليين... أولئك الذين تجاوزوا حدود رابطة اللغة الفرنسية، في علاقاتهم بالثقافة الفرنسية، إلى روابط التعاطف والإعجاب والانبهار بكل ما له علاقة بالأمة الفرنسية.
لقد كان المتفرنسون رغم اختلاف مبادئهم الوطنية وأفكارهم الثقافية يشكلون كتلة واحدة لا يشوبها أي تمايز أو فرق...!
إن الثقافة الوطنية -في الحقيقة- تجمع بين كل أبناء الوطن المثقفين، مهما تعددت لغاتهم، ووسائل تعبيرهم ومصادر معارفهم.. المهم هو وعي التاريخ واحترام اللغة الوطنية والإيمان بقيم الوطن، وحريته، وسيادته، والتعبير الصادق عن آمال شعبه ومطامحه.
ومما لا ريب فيه أنه قد لايوجد مثقف لا يحترم ولا يجل الكاتب والشاعر الجزائري المعروف مالك حدود -رحمه اللَّه- مع أنه كان لا يحسن حتى الحديث العادي، باللغة العربية ولكنه كان وطنياً مخلصاً.. وقد تصدى لمناهضة كل الفرنكوفيليين...!(1/46)
نفس الخطأ الذي وقع فيه الفرنكوفونيون الوطنيون، وقع فيه أيضاً "في بداية الأمر" المثقفون باللغة العربية، إذ لم يفرقوا هم. كذلك بين فرنكوفوني، وفرنكوفيلي، واعتبرهم شلة واحدة.. وهكذا تواصل سوء التفاهم، الناتج عن سوء التقدير، وانعدام اللقاء والحوار.. خاصة أن الجو الاجتماعي العام -كان يعاني ندرة في الهياكل والمؤسسات الثقافية - كما سبق ذكره- إضافة إلى الضعف في حركة الترجمة ووسائل الاتصالات المعرفية كالكتب، والمجلات، والندوات الدولية، كل هذه العوائق زادت في تعميق شقة التباعد بين المثقفين، وساعدت على خلق زمر منفصلة عن بعضها، لا تجمعها إلا الحساسيات الوهمية والصراعات النفسية الخاطئة والباطلة، وهذا ما أدى بهم جميعاً إلى عدم استطاعتهم القيام بالدور الثقافي المناط بهم كما يجب...!
ومن الجدير بالملاحظة أن الثقافة كميزة بشرية دالة وكعطاء حضاري خلاق.. لها اتصال مباشر بشخصية الإنسان، وتكوينه وتطوره، وسلوكه.. وهي وسيلة وغاية في الوقت نفسه تهدف إلى ترقية المجتمع، والفرد، وتربية الذوق العام، وإلى التسامي بالفكر، والوجدان وتقديس العمل والإنتاج.
ومن هنا يأتي دورها الأساسي والحاسم، في إنجاح مشاريع التنمية، بكل جوانبها الاقتصادية، والاجتماعية، والتعليمية وحتى السياسية.
والثقافة تشكل عنصراً فعالاً، في تحصين الإنجازات الصناعية والعمرانية والزراعية... وفي حمايتها وتطويرها وذلك لما توفره للإنسان من وعي وذكاء، وحسن تسيير وتدبير، ومقدرة على استشراف المستقبل، وتلمس المناهج السليمة الضامنة لاستمرارية النجاح...
الثقافة.. بهذا المفهوم -مع الأسف- لم تلق أية عناية أو انتباه ضمن أغلب برامج ومخططات التنمية الكثيرة والضخمة التي أنجزتها الجزائر خلال الثلاثين سنة الماضية...(1/47)
وحتى عندما طرح شعار الثورات الثلاث: الصناعية والزراعية والثقافية.. نجد أن شعار الثورة الثقافية هو الوحيد الذي لم يحظ بالاعتمادات الكافية وبالاهتمام المطلوب..! وظل يتراوح بين وهج الشعار ولهيب الانتظار..!؟
كل ذلك أدى إلى هيمنة الفراغ الثقافي.. ذلك الفراغ الرهيب الذي امتلأ بكل ما هو كارثي، وظلامي وتخريبي.. وأدى بالبلاد إلى الوضع المأساوي الذي تعيشه اليوم..!؟
وحتى لا نكون متشائمين، نؤكد بأن الجزائر قادرة في أي وقت أن تستعيد سلامتها الكاملة، فقط عليها أن تعود.. إلى وعيها الثقافي الأصيل.. وإلى منابع ثورتها، وأمجادها الخالدة، وأن تجند كل أبنائها الأكفاء الأوفياء، لطرد شوائب الحاضر، ورسم ملامح المستقبل الجميل... وهو ما نرجوه من القيادة المسؤولة.
(( ... ... تشرين 29/5/1996
التربية والتعليم:
إذا كان التعليم، يعني تمكين الفرد من القدرة على القراءة والكتابة، ليستطيع متابعة اكتساب المعارف والعلوم، واستيعاب ما أنجزه المفكرون والعلماء في مختلف المجالات والميادين العملية والنظرية.. وكل ما له علاقة باكتشافات العقل.. وتجارب البشرية.
فإن التربية تعني بناء الشخصية الإنسانية، وتهذيب السلوك، وترقية الذوق، وتقويم الضمير، وتنمية الروح الاجتماعية وتقوية الإدراك والذكاء، وبعث نوازع العمل، والإنتاج والإبداع، وتشجيع الميول إلى اعتناق الهوايات الجميلة، والمفيدة.. وحب كل ما هو حق، وعدل، وخير...
ومن الملاحظ على مسيرة التعليم في الجزائر، أنها كانت قليلة الاهتمام بالجانب التربوي، في أغلب مناهجها، وبرامجها، ومراحل تدرجها من الابتدائي إلى الجامعي...!
أما حدائق ورياض الأطفال-دون السادسة- فقد كانت شبه معدومة في القرى والأرياف... وقليلة في المدن الكبرى، وليست متوفرة على كل الشروط اللازمة، خاصة في كفاءات المربيات، ووسائل العناية المطلوبة...(1/48)
ومن هنا، كانت عملية التعليم، التي تكثفت ونشطت منذ بداية الاستقلال.. وتمخضت عن مئات الآلاف، بل الملايين من حاملي الشهادات.. كانت ضئيلة المردود النوعي ضعيفة النتائج العملية... بسبب خلوها من عنصر التربية، النفسية، والسلوكية، والوطنية، وإهمالها لترسيخ القيم الحضارية والجمالية، التي تشكل القاعدة الصلبة في تنشئة الأجيال، وبناء شخصيتهم.
وفي رأيي -يعود سبب هذا الاهمال في الجانب التربوي إلى عوامل كثيرة، منها:
1- حقاً.. أن السلطة -ومنذ مطلع الاستقلال- قد أعطت لمسألة التعليم أهمية قصوى، وأنفقت من أجله القسط الأكبر من ميزانية الدولة السنوية... إلا أن جزءاً كبيراً من تلك النفقات، كان يصرف في دفع أجور مئات الآلاف من الأساتذة والمعلمين والمستخدمين.. وفي بناء المنشآت وتجهيزها، وفي بعض الخدمات الأخرى... أما ما ينفق مباشرة من أجل توفير المناخ التربوي ووسائل التوعية التربوية.. والإيضاح، وأحكام المراقبة، والتنسيق والرعاية بين المدرسة والأسرة والشارع، والعناية بالحدائق والرحلات، والزيارات الهادفة المنظمة وتوطيد العلاقات بين التلاميذ، والمعلمين، ومسيري المدرسة بوسائل النشر، والأنشطة الثقافية المتنوعة... كل هذه الدعائم والمحفزات التربوية، كانت إمكاناتها المادية والثقافية محدودة ولا تلبي حاجات التلاميذ والطلاب...
مع العلم بأن السلطة كانت تشعر، بأنها تقدم في سبيل التعليم، أضخم المبالغ المالية.. وهو شعور صادق... ولكن كان ينقصه شيء من التدقيق، والمقارنة ومتابعة النتائج النهائية، المتوخاة من التربية والتعليم...!
2- هناك مسألة أخرى، وهي عدم الاستقرار وعدم التخصص، بالنسبة للمشرفين على تسيير شؤون التربية والتعليم.(1/49)
لقد كان المسؤولون عن وزارة التربية والتعليم أكثر تخصصاً والتصاقاً واهتماماً بالقضايا السياسية، بدل القضايا التربوية، وعلم النفس، والعلوم الإنسانية الأخرى.. هذه الثغرات الهامة في التكوين العلمي للمسؤولين أدت إلى شبه غياب تام، للمنهج التربوي المتواصل، والواضح دون أن ينتبه إلى ذلك المسؤولون المباشرون من أصحاب عدم الاختصاص...!؟
وكانت هناك مسألة أخرى وهي عدم استقرار مسؤولي التربية والتعليم في مناصبهم لمدة زمنية كافية...!؟
3- هناك مواد تعليمية، ذات علاقة أساسية وفعالة بالتربية وخاصة بالتربية الوطنية وهي مواد:
التاريخ، والجغرافيا، والرياضة البدنية، والموسيقا والغناء والأناشيد الوطنية، والرسم، والأشغال اليدوية... مثل هذه الأساسيات التربوية كانت أما مفقودة نهائياً في المدرسة، أو موجودة بصورة ضئيلة واختيارية، أو ممنوعة بعد ذلك مثل ما حدث لمادتي التاريخ والجغرافيا، عندما ألغيتا تماماً... ثم أعيد لهما الاعتبار بعد ذلك..
هذا التقصير في العناية بالمواد السابقة، كان له أبلغ الأثر في إضعاف مادة التربية وحرمان التلاميذ من الإرتواء من مناهلها...!(1/50)
4- كان المشرفون على مصالح التعليم، منذ انطلاقاته الأولى يسعون إلى "جزأرة" المدرسة الجزائرية، أي جعل كل إطاراتها جزائرية، والاستغناء عن كل المساعدات الخارجية.. وهو -في رأيي- سعي منطقي، وضروري... إلا أن شدة الحماس، والتسرع في تكوين المعلمين والمكونين "بكسر الواو" -ضمن تربصات، ودورات تدريبية قصيرة المدى، قد أدى إلى وجود، وترشيح بعض الإطارات الضعيفة القاصرة، والمفتقرة للحصيلة البيداغوجية والثقافية اللازمة، مما جعلها غير قادرة على التحكم والسيطرة أثناء أداء مهمتها.. ومما أضاع الثقة بينها وبين التلاميذ، وأدى بهم إلى فقدان الارتباط والانضباط بينهم وبين أغلب معلميهم، ثم حدا بهم بعد ذلك إلى نوع من الانفصام خارج أقسام الدراسة، ثم ضياع نوازع الهيبة والاحترام على مستوى الشارع بين المعلمين والتلاميذ...!
5- عملية استعانة الجزائر، في العشرية الأولى للاستقلال بالآلاف من المعلمين المتعاونين الأشقاء العرب، الذين وفدوا إلى الجزائر من كل الأقطار العربية تقريباً إما عن طريقة التعاقد الحكومي المنظم، أو التعاقد الحر... هذه العملية الضرورية، كان ينقصها الكثير من التنظيم والتدقيق والتحقيق...
ومما يذكر أن أغلب المتعاونين لم يكونوا خاضعين لعملية الانتقاء بالاختبار، والاطلاع الكافي، كما كانت تفعل /مثلاً/ بعض دول الخليج العربي، من خلال انتدابها للمعلمين المتعاونين معها، من بعض الأقطار العربية، خاصة في عقد الستينيات.
فالجهة الجزائرية المعنية بإيفاد وجلب المتعاونين المعلمين، لم تكن تدقق كثيراً في كفاءات وخبرات وأخلاق، وسوابق، والأوضاع العائلية والاجتماعية للمتعاقدين معها..
ولم تكن تراعي فيهم مقدرتهم على التلاؤم مع ظروف المجتمع الجزائري، وأوضاعه الجديدة، واستعدادهم لتحمل بعض المصاعب التي يمكن أن تحدث، كمشاكل السكن، والنقل، والإقامة، واختلاف أنواع الأكل، واللهجات المحلية، والعلاقات بصفة عامة.(1/51)
أما المتعاقدون الأحرار فقد كانوا في عداد المغامرين، وقد تمكن كثير منهم من الحصول على مناصب في سلك التعليم، نظراً لاحتياجات البلاد في تلك الفترات.
ومع الأسف -ورغم وجود عدد /لا بأس به/ من المعلمين العرب الأكفاء، ممن أدوا رسالتهم التعليمية في الجزائر، على أكمل وجه- فقد كانت هناك فئة انتهازية مادية معروفة.. أثارت الكثير من شائعات التقصير في أداء المهمة، وفي المس المؤذي بمسيرة التربية والتعليم بل وحتى بالمسار الأخلاقي للمجتمع..!؟
هنا.. ربما ترتفع أصوات بعض المعلمين، الذين أدوا مهامهم بأمانة وصدق، في سلك التعليم في الجزائر، وأصابهم بعض الأذى الاجتماعي أو الإداري...!؟
وهنا -أيضاً- أقول لهم: إن كل التصرفات الاجتماعية كانت ناتجة، إما عن ردود فعل لتصرفات سيئة من طرف بعض المتعاونين المخطئين... أو عن نية مبيتة وحقد، لكل ما هو عربي، بقصد التفرقة والانفصال...!
وأما عن طريق بعض الإداريين "الفرنكوفيليين" ممن كانوا يسعون بجميع الوسائل لتنفير العرب من الجزائر، أو تنفير الجزائريين من كل العرب...
ولا مانع هنا من أن أسجل، بأنني عندما عدت إلى الجزائر من سورية سنة 1965 وأنا أحمل شهادة دار المعلمين... وليسانس في التربية وعلم النفس والفلسفة من جامعة دمشق، وخبرة أربع سنوات عملية في التعليم.. عندما عدت إلى بلدي، وكانت في أشد الحاجة إلى الأساتذة والمعلمين.. تقدمت بطلب للانخراط في سلك التدريس إلى الجهة المعنية.. وانتظرت شهرين كاملين من بداية السنة الدراسية، ثم أخبرت بأن ملف طلبي قد ضاع، فجددت ملفاً آخر.. وبعد لأي تم تعييني في ثانوية تبعد عن العاصمة عشرة كيلومترات، ولم أكن أمتلك لا سكناً ولا وسيلة للمواصلات... فرفضت قبول الوظيفة.. وقوبل رفضي بكل ارتياح..! وبعد سنين علمت أن كل تلك التصرفات المضادة، والعراقيل المصطنعة كانت من طرف بعض الإداريين الموتورين التافهين من أعداء المثقفين باللغة العربية!؟(1/52)
6- أما المتعاونون الأجانب، وجلهم من فرنسا، فإن الحديث عنهم لا يتطلب استفاضة في الشرح، لأن مهمتهم كانت معروفة وواضحة ومحددة.. وهي خدمة اللغة الفرنسية، ونشرها على حساب اللغة العربية ومحاربتها... وملء أذهان الطلاب بكل ما يعزز مكانة الثقافة الفرنسية في نفوسهم، ويوطد دعائم الإعجاب بها.. والولاء لها..
وقد كانت من بين مهامهم استبعاد أي شيء تكون له علاقة بالتربية الوطنية وبالأخلاق العربية الإسلامية.
كان بعضهم، يجبر الطلاب على مطالعة المجلات والجرائد الفرنسية، ومنها صحيفة "لوموند" ثم يسألونهم أسبوعياً عما قرأوه فيها بحجة أنماء المعارف والمعلومات...!
وكان بعضهم يقيم للطلاب الرحلات، وحفلات الرقص لزرع ما يشاؤون من عادات وأفكار سطحية، وتحريضية..
وقد بلغت الجرأة ببعضهم إلى حد طلب التخفيف والإقلال من مظاهر الاحتفالات بالأعياد الوطنية، كذكرى قيام الثورة في أول نوفمبر، وذكرى عيد الاستقلال في الخامس من شهر جويلييه. ويعملون بجهد لنشر ثقافة النسيان مبررين ذلك، بضرورة العمل على تصفية المشاعر بين أجيال الشعبين، وإلغاء كل ما من شأنه أن يذكر بالجرائم والمكائد، والأحقاد القديمة... في زعمهم..!؟
وهكذا.. لم تكن مادة التربية في التعليم، شبه غائبة فقط، بل كانت محاربة بكل ما هو مشوه، ومنفر، ونقيض،.. وبذلك فتح الباب أمام الكثير من الآفات، والعقد الاجتماعية والنفسية لتنتشر بين الطلاب، مما أدى أيضاً إلى ضعف فاعلية التعليم، وضآلة مردوده، إلا بين من رحم ربك من الناجين!؟.
كم هي مأساة بحجم هزائم الجنون -أن يصبح الإنسان- رغم تأكده من براءته- يشعر بالخجل من نفسه ومن قومه، إلى درجة الإحساس القاتل بالمهانة والضآلة أمام أي إنسان آخر، لا علاقة له بنسبه..!
((
الفرصة الأخيرة..؟(1/53)
وكم هي كارثية، حالة تسرب الشك إلى أبسط السمات الدالة على قيمة إنسانية الإنسان والمتوفرة بشكل عادي ومجاني لدى كل أبناء هذا العصر، فنتساءل بحيرة: هل نحن أقل وأضعف من كل الناس..!؟
لماذا كل المجموعات البشرية، التي تربطها مع بعضها البعض أواصر مادية، روحية، ومعنوية، وعلاقات واضحة..
مصالح مشتركة، لغة واحدة، عادات وقيم، وثقافة متشابكة متلاحمة.. أرض وتراث وتاريخ. آلام. وآمال كل المجموعات البشرية.. نجدها متكتلة، متضامنة، متفاهمة -على الأقل في أساسيات الوطن والكيان القومي- ونجدها معتزة بشخصيتها وكرامتها، ومتشبثة بحقوقها ووجودها، مستميتة من أجل فرض هيبتها واحترامها، صامدة ثابتة على مبادئ العهد، والوعد والشرف.. إلا نحن العرب أبناء النصف الأخير من القرن العشرين فقد تحولنا إلى مهزلة عالمية في هذا الزمن الشرير..!!!
إن ما يبدو علينا هو أننا نتمتع بالخبرات والتجارب القاسية.. بالمال وكثرة الرجال. بالمواريث الماجدة من جلائل الأعمال والخصال، وملاحم الشهداء والأبطال، وبمئات الجامعات، وملايين المثقفين.. وأننا ندرك كل ملامح ومعطيات وسلبيات هذا العهد، الوحيد القرن..!
فلماذا إذن كل هذا التخاذل، والتنازل والانهيار في وعينا العملي -وروابطنا القومية، ووحدتنا العربية، وتضامننا النهوضي المشرف..؟ لماذا نركز في نوايانا وسلوكاتنا على كل ما هو عكس المفروض والمطلوب، نرهف حساسيتنا إلى حد التوتر ضد بعضنا، ونرصد بلذة كل نسبة أو حركة تفرقنا، ونتابع بحماس، كل شائعة تطعن تلاقينا، وقد نتحرش ببعضنا ظلماً وجهلاً فنثير النعرات، ونهدد، ونتوعد، ونسعد لشقائنا.. ونشقى لسعادتنا.. إن لاحت صدفة..!؟.(1/54)
وبالمقابل.. نتراكض، ونتسابق خبباً وهرولة سراً وعلانية، فرادى، وأقطاراً.. في أقصى مغاربنا وأقصى مشارقنا لنقدم أدلة الولاء، وحجج الاستكانة، وبراهين حسن النية المغفلة، لأعدائنا، وجزّارينا والحاقدين علينا، والعاملين بصراحة من أجل تدميرنا وإبادتنا، وإزالتنا نهائياً من الحياة..!؟
نمدّ لهم أكفنا المرتعشة الصفراء، بخشوع وخنوع.. نهبهم مشاعر الإجلال، والإكبار، والإعجاب.. نفتح أمامهم أحضان العناق والحب.. ونمنحهم بسخاء ما بقي لدينا من ثقة قاصرة، وطاعة عمياء.. واستسلام رخيص..!؟
إنها لظاهرة غريبة عجيبة، لا أعتقد أن أي عبقري في الفلسفة، أو في علوم الاجتماع والنفس والسياسة ونظريات الحداثة المعاصرة.. يستطيع أن يجد لها تفسيراً منطقياً يتناسب مع السلوك الطبيعي لأي إنسان طبيعي..؟
.. إنها الانتحار الذاتي مع سبق القصد والإصرار..!!؟
ولو حدث.. وعاد إلى حياتنا هذه، بعض أولئك الذين كرسوا أعمارهم لخدمة هذه الأمة، وارتحلوا وهم متيقنون من قرب نهضتها القومية، ووحدتها الشاملة، وتحررها الكامل أمثال: أمين الريحاني، والمازني والعقاد، وابن باديس، ورئيف الخوري، والأرسوزي، وساطع الحصري، وشكيب أرسلان، وكثير غيرهم ممن تركوا لنا مشاعلهم الوهاجة، وفارقونا منذ عهد قريب جداً.. لو عادوا إلينا، وشاهدونا مع هذه التناقضات المصطنعة، وهذا الانحدار المزري، واللا مبرر.. لا أتصور إلا أنهم سينتحرون -كشهداء القدس- كمداً وغيظاً.. ويموتون مرة ثانية، وهم يرددون بخيبة لستم منا.. ولسنا منكم..!!؟
ولو عاد شهداؤنا الذين سقوا هذه الأرض الغالية بدمائهم الزكية الطاهرة.. لو عادوا بأجساهم القانية، لجاهدوا فينا، انتقاماً للشرف العربي الممزق، وما يرين حوله من إهانات، وإهمال، وضياع..!(1/55)
أقولها بصراحة.. لم يبق الآن إلا سورية العربية بقيادتها المخلصة الشجاعة وبشعبها القومي الواعي، هي الوحيدة في هذا الوقت /الليكودي/ التي تواجه بصمود وإصرار -خطر الضربة القاضية على كل العرب.. وأعتقد أن الفرصة الآن هي أكثر من مناسبة، لأن نتخلى عن أنانيتنا المريضة، وفرديتنا الهزيلة، عن إقليميتنا الضيقة، وقطريتنا المزيفة.. عن غرورنا وأخطائنا الفادحة.. وعن مواقفنا الاستسلامية المتخاذلة.
ولا أتخيل أن هناك عاقلاً من العرب، ما زال يثق في صدق أو صداقة أمريكا وحلفائها مع العرب، أو في أمان، وسلام اسرائيل معهم.. وليس هناك عاقل أو حتى مجنون، يلدغ من جحر واحد آلاف المرات..!!؟
أم هل نحن مستعدون دائماً للارتماء فوق فخاخ الأعداء القاتلة..!؟ لقد طالت المهزلة المأساة، أكثر من اللازم.
فلنتوحد إذاً -ولو لردع الظالمين- ولنتضامن ونتعاون، من أجل البقاء الكريم الشريف.. إنها فرصتنا الأخيرة، ومسؤولية اغتنامها تقع على حكامنا وطلائعنا الواعية، وليس أمامنا سبيل ثالث إما النصر أو الاستشهاد.. أما طريق الاستسلام فهو الموت التافه الملعون..!
تشرين 10/ 6/ 1996
((
آفات.. وانحرافات..!
إن الثقافة المؤسسة، من ذاتية الإنسان المتميزة، والمعبرة بصدق عن صميم حقيقته، عن فكره، وتجاربه وسلوكه، عن تراثه وتاريخه، ومعطياته الراهنة، والمستقبلية.. إن هذه الثقافة، هي نفسها الخلاصة المتكاملة، والحصيلة المتبلورة، التي تتشكل منها شخصية المجتمع، وهوية أفراده.(1/56)
عندما نتحسس في مجتمع ما، شيوع مظاهر الانحرافات، وتعدد الآفاق، فذلك دليل قاطع على تخلخل البنية الاجتماعية واهتزاز الشخصية الوطنية.. وانذار مشؤوم، بقرب موعد الاضمحلال أو التلاشي، للمحصنات الأساسية والمناعات الذاتية لهوية الفرد، ومميزاته الدالة عليه.. وبالتالي، قد يغدو مجرد رقم بشري هجين، بلا مناعة، أو مرجعية، أو سند.. ويعود كل ذلك إلى فساد البيئة الثقافية، حيث تتفشى الطفيليات والأمراض بين أوصالها.
ومن المعروف عن المجتمع الجزائري، في كل ماضيه العريق أنه كان مجتمعاً نقياً، صافياً سليماً من جميع الآفات الهدامة والخطيرة، كالرشوة، والمحسوبية، والجهوية، والأنانية، والقسوة، والنفاق، والتملق، واللامبالاة، والكسل، وسوء الظن..!؟
ذلك لأنه كان محصناً، ومتشبعاً بتقاليده الثقافية السامية.
وبأخلاقه الحميدة، المبنية على القناعة، والعفة، والأمانة، والمروءة، والرحمة، والصراحة، والشعور بالمسؤولية، والصدق في العهود، والالتزام بالوعد، وحسن المعاملة.
إن انتشار تلك الآفات، أو بعض العادات السيئة الأخرى، مثل تعاطي المخدرات من طرف فئات معينة.. والجهر بالمعاصي، والمنكرات.. وتحدي الأعراف الاجتماعية، وشيوع ظاهرة الطلاق والسرقات، وعمليات الاحتيال.. كل هذه العاهات والأدواء، لم يكن المجتمع الجزائري يعرفها من قبل، خاصة بالوضع الذي أصبحت عليه..!
ولا ريب أنها داهمت البلاد، من خلال عدة قنوات مغرضة، ومدسوسة، منها: الحدود، وقلة المراقبة، والغزو الإعلامي الأجنبي، وضعف التوجيه الداخلي، وحرية التنقل والاتصالات الخارجية مع غياب الوعي والتنظيم، بالإضافة إلى ما يعانيه المواطن -أحياناً- في الداخل من احتياجات وضغوطات نفسية، وما يفرزه الواقع- في بعض المواقف، من تناقضات اجتماعية، قد تدفع بملاحظها إلى التمرد والإحباط ثم الانحراف..!؟(1/57)
ومن الأكيد أن بعض الآفات الجديدة، مثل قلة الثقة، والاحترام، وسقوط الهيبة، بين المواطنين أنفسهم وبينهم وبين بعض أجهزة السلطة، تعود بالدرجة الأولى إلى ما يحدث أحياناً من غياب للمصداقية، والتطابق الفعلي، بين التشريع والتنفيذ.. بين التخطيط والتطبيق.. بين القول والعمل.. وبين مظاهر الأشياء، وشعاراتها البراقة مع بواطنها الغامضة المخلة.. وخاصة عندما يتعلق الأمر بما يمس مقدسات الشعب، أو أساسيات حياته، وأقواته، ومطامحه، وآماله المستقبلية..!؟
لقد عبئ الشعب وحمس خلف الخطابات السياسية فتجند وراءها، وأصغى إليها بكل إمعان وطموح.. ولكنه كان في الغالب ما يجد نفسه، يراوح مكانه دون تحول جذري يذكر.. ولم تكن هناك الفرص متاحة للمبادرات الخاصة لكي تنطلق، بينما كانت بعض المغامرات الجريئة، والمدعومة قد تجد طريقها نحو النجاح.. ولو بأساليب الاحتيالات والتمويه تحت غطاء الشرعية..!
وعندما يئس الشعب من جدوى الخطاب السياسي بكل أساليبه واتجاهاته الأديولوجية من اليسار إلى اليمين.. تحول بآذانه المتلهفة لسماع الجديد، واكتشاف آفاقه، وأصغى إلى الخطاب الديني.. الذي بشره بنعمة الحل، وخير الدنيا، والآخرة، والتخلص من كل المصاعب والآفات..! ولكن ها هي الدماء تسيل والأرواح البريئة تزهق، والجرائم تتقاطر.. والشعب يموت ببطء، والثقافة مازالت غائبة عن الميدان..!؟
وكأني أحس بهتاف كل مواطن في نفسه يصرخ من أعماق جروحه، ومن أغوار مصائبه ورعبه، ولسان حاله يردد: أين الخطاب الثقافي.. (لماذا -إلى حد الآن- لم تمنح له الفرصة لينطق.. ويستنطق العقل والوجدان والحس المرهف الجميل..!؟
إن مسالة الثقافة الوطنية العربية الإسلامية هي من بين أبرز الهواجس، المعبرة عن طبيعة الشعب، ونواياه الطيبة وهي لا تفتأ تحرك ذاكرته، وأحلامه.. وتؤجج انتظاره اليومي على أساس أنها هي الدعامة الصلبة لوحدته ووعيه وصيانة كيانه، وضمانة مستقبل الأجيال.(1/58)
وإن تفشي الفراغ الثقافي، وسريانه داخل بعض الفئات، وتحكمه في ذهنياتهم، هو الذي أدى إلى ظهور بعض الانحرافات كانحراف التحايل على القوانين، في ارتكاب المخالفات. ومنها عدم تطبيق الأوامر الرئاسية المتعلقة بوجوب استعمال اللغة العربية من طرف بعض الإداريين المتحكمين..!
إن مثل هذا التحايل المنحرف، يدل ببساطة على خطورة المرض، وفداحة الجرم، فإذا مرت مثل هذه المخالفات الشنيعة دون ردع أو عقاب فذلك قد يعتبر برهاناً على ضعف السلطة أو على تحالفها مع المخالفين.. وفي كلتا الحالتين فإن اختراق القانون يؤدي إلى انعدام الثقة، وضعف الهيبة وإلى طغيان الفوضى
واستمرار العبث... وحينئذ يزول الاحترام، والانضباط وتعم الأنانية، والظلم... وتصبح البغضاء هي سيدة المواقف...!؟
إننا نكون مبالغين، إذا ألقينا بكل تبعات نقائصنا على كاهل الاستعمار، ومخلفاته، ومؤامراته المتواصلة..
إنه بالفعل لايريد الخير لبلادنا.
ولكن كيف استطعنا، في وقت ما، أن نهزمه، ونتحرر منه، وننتصر عليه...!؟..
وخلال ثورتنا المسلحة.. ألم نجابه مكائد العملاء، ودسائس الأذناب من بعض الجزائريين، ونرد مكرهم، وكيدهم إلى نحورهم.!؟.
وعندما استقلت الجزائر، وطرح شعار: /عفا الله عما سلف/ هل يعني ذلك بأننا كنا نعتقد أن كل المواطنين هم من الملائكة الطاهرين.. وأنه لايوجد بينهم أبالسة. ومنحرفون..!؟.(1/59)
لاأحد يستطيع أن ينكر ماحققته الجزائر الفتية من انحيازات جبارة، في ميادين التنظيم والصناعة والتعليم والعمران.. وفي بعض المجالات الأخرى، خاصة في عقدي الستينيات، والسبعينيات، ولولا دناءة الأيدي المخربة لكانت الجزائر اليوم، تجاوزت مرحلة التخلف... خاصة وقد حظيت بثروات وخيرات يعجز اللسان عن الإحاطة بالتعبير عنها.. إلا أن سموم الأعداء وطعنات الحاقدين وظلم ذوي القربى، وعقوق بعض الأبناء... كل هذا ظل كالمرض الأليم المزمن ينهش الجسد والأرض، ويشوه الرأي والفكر، ويفسد ويعكر الأجواء، في غياب العلاج الأنجع والأهم، وهو الاهتمام بالثقافة وترقية الإنسان...!
إنه من السهل على المرء، بوسائل التقنية الحديثة أن يهدم مدينة كاملة، في ظرف ثوان قليلة إلا أنه من الصعب على أية طاقة تخريبية متطورة، أن تدمر ثقافة شعب عريق في مدة قصيرة... ولكن مع طول الزمن ومواصلة التشويه، والحث، والحفر، والاجتثاث ومع تعاقب اختفاء الرموز البشرية، والمعالم والمآثر. بدون تواصل أو تعويض، فإن النتائج عندئذ ستكون مرعبة، وقد تنمحي كل الشواهد الثقافية، قبل أن يحس بها غالبية الناس، أو تدركها انتباهات الأجيال الناشئة، المبتورة من علاقاتها الاستراتيجية الهادفة، بالآباء والجدود..!؟
إن اختفاء الكثير من مرجعيات، ومرتكزات الثقافة الجزائرية، في أدبياتها، وإبداعاتها، وخصالها، وعاداتها وطبائعها المميزة، ومظاهر أنفتها وكبريائها، وصفاتها الإنسانية الراقية...
إن اختفاء مثل هذه المصادر والقيم أو ظهور بوادر اختفائها... لما يبعث على الحيرة والقلق ويتطلب الانتباه المركز والإسراع بتدارك الأمور قبل تفاقمها، واستحالة علاجها...! مع العلم بأن كل منطلقاتنا وأسسنا الثقافية الأصيلة لاتحمل في جوهرها وغاياتها النبيلة، أي تضارب أو تعارض مع مفاهيم التطور والتجديد ومعاني الحداثة والعصرنة، كما يدعي ذلك بعض أصحاب الفلسفات المستوردة، من خصوم ثوابت الشعوب..!؟(1/60)
يقول مثل شعبي جزائري: "كل خائن ينعس، إلا خائن الدار.." والمقصود بخائن الدار، هو اللص الذي يسرق منزله..!
هذا المثل قد ينطبق على بعض جوانب الثقافة الجزائرية، التي صمدت أمام الغزاة الأجانب طيلة قرون كثيرة، وامتنعت عن أية محاولة للمحو أو الذويب..
ثم تحولت بصورة مفاجئة إلى مواطن هشة، ومواقف لينة، تتلاشى متداعية، أمام الغزو الأجنبي الغادر، بمساعدة أو تسامح من طرف بعض أبنائها المضللين.. وإنها لعملية انتحار ذاتي رهيب.
إذا لم نسارع جميعاً إلى النجدة، والعلاج..!؟
13/7/1996
((
جبهة التحرير الوطنية؟
إن الحديث عن الوضعية الثقافية في الجزائر، بعد الاستقلال دون الإشارة إلى جبهة التحرير الوطني هو حديث، ناقص ومبتور ويظل حديثاً استعراضياً فضفاضاً.. مبهم الأسباب غامض النتائج وفي حاجة إلى الدقة والوضوح..
إن جبهة التحرير الوطني، هذه الجبهة التي كانت إبان الثورة المسلحة، معجزة النضال، ومفخرة العرب، وكل الأحرار في العالم لما برهنت عليه من شجاعة، وحنكة وحسن تدبير، وحكمة في التنظيم والتسيير..
هذه الجبهة العتيدة الرائدة، كيف استطاع بعض الانتهازيين أن يتسربوا داخل صفوفها، بعد سنة 1962، وكيف تمكنت الحساسيات السياسية، المكبوتة في أعماقها أن تستيقظ وتتحرك بعد كمون طويل، ثم تعمل بجرأة على تمزيقها، وتفجيرها خلال ضربتها القاضية في خريف 1988-!؟
لقد كان من المتوقع، والبديهي.. أن تكون جبهة التحرير بعد الاستقلال هي حاملة الرسالة الحضارية البنائية، ورائدة الإنسان الوطني الواعي، وحامي الثقافة الوطنية ودافعتها إلى التطور والازدهار.. وذلك لسلامة مبادئها الثورية، وثراء تجاربها وخبراتها، ولاحتوائها على خيرة أبناء الشعب من المناضلين الأوفياء، ولأشرافها، واحتضانها كل القوى الحية، التنظيمية في البلاد، من عمال، وفلاحين ونساء، وشباب، ومجاهدين ومثقفين، ومهنيين..!(1/61)
إن ماكان يلاحظ على الجبهة، ومنذ السنوات الأولى للاستقلال، أنها بدأت تفقد شيئاً فشيئاً عنصر المثقفين بين صفوفها، إلى أن أصبحت شبه مفرغة منهم، خاصة بالنسبة للإطارات الفاعلة داخل أجهزتها الحساسة، باستثناء بعض القلائل، الملتزمين بقيم الثورة المتشبعين بروحها، ممن ظلوا كجنود مجهولين، يعملون في ظل الخلايا، ويواجهون بصبر غطرسة بعض أشباه المثقفين من المسيرين وكذلك أولئك المثقفون من مختلف القطاعات الذين كانوا يجندون لفترات معينة للمساهمة في أعمال اللجان الكبرى والفرعية، التي تنظمها الجبهة.. وغالباً ماتظل نصوصها حبراً على ورق..!
ربما نجد بعض الجبهويين ممن ينطبق عليهم قول الشاعر:
ولمارأيتُ الجهل في الناس فاشياً ... تجاهلت، حتى ظُنَّ أني جاهل...!
ولكن أمثال هؤلاء، أليسوا هم أقرب إلى الانتهازيين منهم إلى المناضلين المثقفين..!؟
وحتى حال الأنشطة الفكرية أو الثقافية بصفة عامة لم تكن بأحسن، من حال المثقفين المهمشين، وهنا يجب أن أشير إلى الندوات السياسية والفكرية الهامة التي كانت الجبهة تشرف على عقدها وتنظيمها داخل الوطن وبمشاركات وطنية أو إقليمية أو دولية تترك أصداء إيجابية رائعة... إلا أن تلك الندوات كانت مؤقتة ومحصورة بين فئات معينة. /متخصصة/ ولاتمس كل المعنيين بالمحيط الثقافي من الجماهير.
أما تلك الأنشطة الموصوفة تجاوزاً بالثقافية، فهي لاتتعدى مقاصد الترفيه والتسلية واستعراضات الفولكور المستهلك والمهرجانات الصاخبة والتظاهرات العابرة خلال المناسبات الرسمية.
إن جبهة التحرير الوطني التي حكمت البلاد طيلة ست وعشرين سنة كحزب وحيد، وسلطة تشريعية وتنفيذية كاملة، وأنجزت مهام جبارة في ميادين كثيرة لتجعل المرء يتساءل لماذا أهملت الجانب الثقافي..! (ولماذا تهمش، في عهدها، عدد هام من المثقفين وخاصة المثقفين بالعربية..!؟
هل لأنّ السلطة الحقيقية كانت بيد الموظفين الإداريين من غير المناضلين..؟(1/62)
أو أن بعض الحساسيات الخبيثة والمنافقة التي كانت مدسوسة كالسوس داخل بنية الحزب، وتعمل في الخفاء من أجل التخريب والفساد هي التي كانت السبب في تسطيح الثقافة وتنفير المثقفين...!؟
لاريب أنه سيأتي يوم ليقول التاريخ كلمته الصريحة في هذا الموضوع.
ومن المعروف والمتفق عليه أن المحتوى العقائدي والمضامين النظرية والتوثيقية للجبهة، هي فوق كل الشبهات، بالإضافة إلى مايمتاز به، من عمق وغنى، وصدق وإخلاص ووفاء للمبادئ، وصلاحية وشمول للأهداف.
لقد كان حظ الثقافة من سنة 1962 إلى 1982 مجرد مديرية صغيرة تابعة لوزارة الإعلام.. وعندما أنشئت وزارة الثقافة لأول مرة، انطلقت مع إمكانيات بشرية ومادية قليلة وضعيفة.. وكانت الميزانية المخصصة لها من طرف خزينة الدولة، أقل بكثير من أية ميزانية لأية وزارة أخرى...!؟
وهذا ماجعلها عاجزة عن تحقيق الآمال التي كانت تراود المثقفين والمواطنين الذين استبشروا خيراً بإنشائها..!
ومنذ أن تأسست وزارة الثقافة، وهي تعاني من عدم التفرغ لمتطلباتها، والتمركز حول مهامها، ... كما كانت تعاني أيضاً من عدم الاستقرار في إطاراتها السامية، مما أفقدها المناخ اللائق لاستمرارية التطور، ومتابعة وتنفيذ البرامج والمخططات، والمشاريع الثقافية..!
-فبالنسبة لعدم تمركزها حول مهامها، كانت دائماً تابعة أو متبوعة... ضمن ازدواجية وظيفية وإدارية معقدة، حيث نجدها مرة متبوعة بوزارة السياحة، وأحياناً تابعة لوزارة الإعلام... وأخرى تتحول إلى كتابة دولة.. وقد يختفي اسمها نهائياً. كما حدث لها سنة 1990- وهي في الثامنة من عمرها، -إذ ألغي اسمها من تشكيلة الحكومة الجديدة آنذاك.. وبعد عودتها، أعيد إلغاؤها من تشكيلة حكومية أخرى سنة 1993- وكأنها شيء موبوء، يهدد وجوده الدائم بانتشار الأمراض...!؟(1/63)
-وبالنسبة لعدم الاستقرار، يكفي الإشارة فقط إلى أنه بين سنة 1985-وسنة 1993- شهدت وزارة الثقافة، وجوه تسعة وزراء، تولوا مهامها بالتتالي والتوقف.. وكل مسؤول جديد، يحدث إصلاحات جديدة ويغير من يشاء.. ومايشاء..!؟ إن المتأمل في هذه الضبابيات والغيوم القاتمة التي هيمنت على الثقافة الوطنية.. والتي أدت إلى هذه الأوضاع المؤلمة التي يعيشها الجزائر حالياً، ليتساءل بعجب... ألم يدرك المعنيون بعد.. أن أسباب كل هذه الأزمات المدمرة، إنما تعود بالدرجة الأولى إلى الوضع الثقافي المتردي، وإلى إفرازات الجهل، والفراغ، والتظليم السائد...؟
هناك بالطبع أسباب، وأزمات اقتصاد وبطالة، وسكن وكسل، وأنانية.. ومع ذلك فالأسواق مليئة بكل شيء..
وشوارع المدن كانت منذ فترة قصيرة أرصفتها مليئة بالخبز الأبيض المرمي، وحركة التهريب نشطة وعندما تتعطل ساعة الفرد، قد لايجد أين يصلحها..!؟
إن الأزمة الحقيقية، والجوهر، والأم.. هي أزمة الفكر والوجدان، والذوق.. أزمة الروح والنفس.. أزمة افتقار الإنسان إلى ثقافته..
وهذا مايجعلها تتمثل في اللامبالاة، والاتكال وقلة الإنتاج، وسوء التسيير، وانتشار الآفات والانحرافات، وضعف الهيبة، وقلة الاحترام.. ثم التطرف الفكري، والسياسي، والديني.. إلى حد القتل الغدر، والتخريب...!
فإذا أردنا أن نتحرر من أطواق هذه الأزمات الخانقة، فما علينا إلا أن نرجع إلى ثقافتنا، ونرجع ثقافتنا إلينا،.. ونعيد إلى ذواتنا، ذلك الإنسان الجزائري.. الطيب..
14/7/1996
((
خفايا الأسماء.. ودوافعها
لا أعتقد أن هناك كائناً بشرياً، ليس له اسم يعرف به، ويدل عليه خاصة بعد تطور لغة الإنسان، وانتقالها من مرحلة الإشارة والإيماء إلى لغة التعبير بالكلام المنطوق، وبعد أن اتسعت آفاق الفكر والمعرفة، وتعددت، وتنوعت المسميات.(1/64)
ومن المعلوم أن كل من يحمل اسماً خاصاً به، لم يكن له في الحقيقة، أي دخل في اختيار ذلك الاسم... إلا في بعض الحالات القليلة النادرة، مما لايجوز القياس عليها.. لذا يمكن اعتبار أي مسمى، على أنه ضحية من يسميه، إذا كان الاسم الذي أطلق عليه لايتوافق مع ذوقه، ولايرضيه، بعد اكتمال وعيه وإدراكه..
والدي -رحمه الله- أنجب ثلاثة أولاد، وثلاث بنات، وكان رجل دين، ومن عشاق الرسول الأعظم صلى الله عليه وسلم فسمى الولد الأول: محمداً، والثاني: أحمد، والثالث محمد بلقاسم... وأطلق على البنت الأولى اسم: فاطمة، والثانية: الزهراء، والثالثة: فاطمة الزهراء...! -ورغم أن الأهل والعشيرة قاموا بحل هذا الإشكال تلقائياً، ومنذ طفولتنا الأولى، أصبح أخي الأكبر ينادى باسم /حمَّة/ بفتح الحاء وصرت أنادى باسم /حمادي/.. إلا أنني وأخي كلما كنا مجتمعين ووجه نداء باسم محمد... نجيب في لحظة واحدة بنعم... ونطرق إحراجاً وخجلاً.. وفي الغالب يكون الوالد هو من ينادينا..!
أحياناً أحاور نفسي، وأقول: ألا يمكن أن يكون مستقبلا -من حق كل إنسان، عندما يبلغ سن الرشد، أن يسأل قانونياً، إذا كان يرغب في تبديل اسمه الطفولي أو الإبقاء عليه؟
ألا يحترم كل الناس تلك المقولة الخالدة التي نطق بها عمر بن الخطاب (ر) وهي "متى استعبدتم الناس، وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً..."؟
قد يقول قائل: إن مفهوم الحرية أعمق، وأشمل، وأعظم، من مجرد اسم يطلق على مولود، جنين، لاقوة له ولاقدرة على الاختيار، ولاعلى استعمال الفكر.. وإن الحرية متلازمة مع القوة والعقل، ولايمكن أن تتحقق دونهما...
ثم إن الإنسان عندما يطلق عليه اسم ما، منذ ولادته وينادى به في كل لحظة.. وحين.. يصبح ذلك الاسم جزءاً ثابتاً من شخصيته، يتبناه راضياً، بحكم التكرار والتعود وليست هناك أية مشكلة.(1/65)
غير أننا عندما نتأمل بعض الأسماء في مختلف أقطارنا العربية، قد نشعر بالغرابة أوالدهشة، أو الاستنكار أو بالرغبة في الابتسام، وأحياناً نحس حتى بالخجل..!؟
في الجزائر مثلاً، نجد أسماء: بو منفوخة /الأعرج/ بو قره /الخامج/ قملة /طبال/ بو جعران /العمياء/ كريشة/ وغيرها مما هو أدهى وأمر.. وربما نفس الأسماء الرديئة نجدها في أقطار عربية أخرى، مما قد يثير الاشمئزاز بالنسبة لمن لم يتعود سماعها، وتصك أذنيه لأول مرة..!
طبعاً.. كثيراً مانشاهد في /الجريدة الرسمية/ أحكاماً قضائية، تنص على تغيير أسماء أو ألقاب، تلبية لطلب أصحابها، ونتيجة لنفورهم منها.. ولكن، يبدو أن مثل هذا النفور الواعي، والناتج عن حس رهيف، وتذوق سليم، لا يتوفر لدى كل المواطنين.. وتظل الأجيال القادمة تتحمل عبء بشاعة بعض الأسماء، مالم توضع خطة تربوية محكمة لتنقيتها وإصلاحها..؟
قد يرد تساؤل، وهو: لماذا لايختار كل الأولياء أسماء جميلة ومنتقاة لأولادهم..؟
ومع التنبيه إلى أنني لا أدعي المقدرة، للإجابة الوافية عن مثل هذا التساؤل، إلا أنني أتصور أن هناك عوامل كثيرة، تتدخل في إثارة الدوافع الخفية، لإطلاق اسم ما، على مولود ما.. ومن بينها:
-الجهل بالتاريخ العربي، وأمجاده، وشخصياته البارزة..
وأذكر أنني عندما أطلقت اسم: لؤي على ولدي البكر، رفض موظف تسجيل المواليد، الموافقة على هذا الاسم، بحجة أنه اسم أجنبي، غير عربي ولم أتمكن من إقناعه إلا بعد أن اطلعته على قائمة أجداد الرسول صلى الله عليه وسلم من عبد المطلب إلى سيدنا إبراهيم الخليل... وكان من بينهم اسم لؤي..!
ونفس الشيء، وقع لصديق لي، سمى ابنته نسرين..!
-ضيق الأفق، وضعف الخيال، وانعدام مواكبة الحاضر، والمستقبل بالمعايشة الجمالية والإبداعية.. مما يجعل ابتكار الأسماء الجديدة حدثاً نادراً، إلا عند قلة من المثقفين الذواقين، أو عند بعض رجال البدو..(1/66)
-تأثير الغزو الثقافي والإعلامي الأوروبي، والانبهار بسطحيات الحضارة الغربية، حيث انتشرت بين بعض الطبقات العربية أسماء مشوهة ومحرفة، كتسمية ناظم: نازيم /وإبراهيم: باهو/ وعبد القادر: كادير/ وثريا: سورايا/ وسميرة: ميغو/ وفائزة: فيفي/ وفاطمة: فوفو/ وعائشة: شوشو/.. الخ.
-التقليد التام للمجتمع الأوروبي وخاصة الفرنسي منه بالنسبة لبعض العائلات العربية المسيحية، حيث نجد الأسماء العربية لبعض القديسين مثل جرجس أو جريس، تحول إلى جورج/ وميخائيل إلى ميشيل/ وبطرس إلى بيتر.. ويوسف إلى جوزيف/ ويعقوب إلى جاك/ ومريم إلى ماري/ وسوسن إلى سوزان/.. كما أن هناك الأسماء الفارسة التي شاع استعمالها وكأنها أسماء عربية مثل شيرين، وغيرها..
-الافتخار بالقوة والغلبة.. والاعتزاز بمظاهر الهيبة والشجاعة ونجد ذلك في تلك الأسماء، التي كان أجدادنا العرب، يطلقونها على أبنائهم، خاصة الذكور منهم. كصخر، وضرار، ومرار، وعلقمة، وشجاع، وفارس، وسيف، ومهند، إلى ماهناك من الأسماء التي تبعث الرعب في النفوس...
بينما كان أجدادنا يسمون غلمانهم وعبيدهم، أسماء غاية في الرقة والجمال، مثل: نديم، ونسيم، وأنيس، ونعيم، وسعيد، وصبوح، وكانوا يقولون أسماء أبنائنا لأعدائنا ومواجهتهم، أما أسماء خدمنا فهي لنا.
-الوازع الديني: و(خير الأسماء ماعبد أو حمد) بحيث يستمدون أسماء أبنائهم، إما بذكر العبد، مضافاً إلى اسم الجلالة، كعبد الله، وعبد الواحد، وعبد الكريم.. وأسماء اللّه الحسنى قد تفوق تسعة وتسعين اسماً..
وإما تؤخذ من أحد أسماء الرسول الأعظم، وهي كثيرة مثل، محمد، وأحمد، ومحمود، وطه، وياسين.. الخ.
-العوامل الأيديولوجية، القبلية، والطائفية، والسياسية، إذ يختار اسم المولود، حسب مايتناسب مع نزعة الوالد وميوله تبعاً للأشخاص، أو المواقع، والأحداث والذكريات التي يعتز بها الوالد، أو يقدسها، ويفتخر بولائه لها...(1/67)
أذكر أن والدي رحمه الله، كان دائماً يكرر تلاوة هذين البيتين من الشعر، على نية الابتهال والدعاء.. يقول:
لي خمسة "أطفئ بهم ... حر الوبا.. والحاطمة
المصطفى، والمرتضى ... وابناهما، وفاطمة
-الإعجاب، والتشبه، والاقتداء بالشخصيات التاريخية الهامة من أبطال، وقادة، وعلماء، ومشايخ، وأدباء، وفنانين، وغيرهم من العظماء..
تخليد ذكرى الآباء، والأجداد، والأقارب، والأصدقاء، والأحباب بإعادة إطلاق أسمائهم على الأبناء.
التفاؤل بالمستقل الأفضل، وبحياة السعادة والخير، مثل: مبروك ومرزوق، وسعد، وسعيد، وغنية، ومباركة، ونجاح.. الخ...
-الخوف من الموت، ومحاولة إبعاده، بالنسبة لبعض الأسر التي لايعيش أبناؤها كثيراً، فيطلقون عليهم أسماء مثل عياش، والشايب، ومعمر، محفوظ...
-التطير من عيون الحساد، وهنا -في الغالب- يتم اختيار الأسماء المذمومة والبشعة، كالأقرع، والعايب، والأعمش، ومسكين، ودرويش، وشحادة، وجروة، وعبدة، ورخيسة، وعندنا في الجزائر قد يصادف المرء فتاة حادة البصر ساحرة العينين، وهي تحمل اسم العمياء..!
-وفي الجزائر أيضاً، يطلق اسم بركاهم أي كفاهم /أو حدة/ أي وضع حد/ بالنسبة للوالدين الذين ينجبان البنات فقط.
وهناك دوافع عاطفية ذاتية صرفة، مبعثها الشوق إلى البنين، مثل حبيب وحبيبة والغالي والغالية وعزيز، وعزيزة، وفؤاد ونور العين.. الخ.
وبالإضافة إلى ماتقدم، هناك الأسماء المأخوذة من محاسن الطبيعة وروائعها كالربيع، والصقر، والزهور، والورد، والجبال، والرياض، والبحر، والشمس والقمر، والنجوم، وغيرها.(1/68)
ومن المؤكد أن دوافع ومصادر اختيار الأسماء كبيرة جداً، ومتنوعة، ومن الصعب حصرها في موضوع قصير مثل هذا... وإن مايهمنا هو لفت النظر إلى ضرورة دراستها واكتشاف كل خفاياها ووجوب وضع خطة منهجية تربوية وإعلامية، لتوعية المواطنين العرب، حتى يتمكنوا من منح أبنائهم وبناتهم أسماء، تعبر عن هويتهم، ومكانة أمتهم الحضارية، وفي الوقت نفسه، تنال رضاهم عند الكبر، وترسخ في نفوسهم مشاعر الاعتزاز، والارتياح، والسعادة وقبل أن أختتم هذا الموضوع أشير إلى بعض الحقائق وهي:
الأولى: أن الاستعمار خلال هيمنته على بعض الأقطار العربية، وخاصة الجزائر، بذل غاية جهده في القضاء على الشخصية الثقافية للمواطنين، فعلاوة على محاربة اللغة العربية، والإسلام والتاريخ سعى أيضاً إلى تشويه أسماء الأهالي، وألقابهم.. وإن أغلب الألقاب والأسماء الذميمة، كانت من وضع الإدارة الاستعمارية وبمساعدة بعض /الساخرين/ من أذناب المحتلين الأجانب، وأذكر أن المعمرين، كانوا يطلقون اسم /فاتمة/ على كل عاملة جزائرية تشتغل عندهم ويطلقون اسم: /مهاميد/ على أي عامل ينادونه من الجزائريين، وذلك قصد الإهانة.. والاستهانة باسمي محمد، وفاطمة...!؟
وتجدر الإشارة إلى أن أغلب أفراد الشعب الجزائري قد تنبهوا إلى ذلك، وخاصة بعد الاستقلال، حيث بدأت الأسماء النقية تكتسح سجلات المواليد...
ومن الطريف أن بعض المواطنين في الستينيات، صاروا يبحثون عن بعض الصحف المشرقية، التي تنشر أسماء الناجحين في الامتحانات وخاصة في سورية، لاختيار اسم ملائم من بين قوائمها...(1/69)
-الثانية: من المعروف أن جل الأقطار العربية، تضم بين سكانها مجموعات من الأعراق المختلفة، وقد وحدتهم المواطنة والعروبة والإسلام -ولكن- مع الأسف- هناك أقليات شعوبية مغرضة، وعميلة، مافتئت تبث سموم التمزق والتفرقة، فسعت إلى محاربة اللغة العربية، ثم إلى تبني أسماء موغلة في القدم، غريبة عن روح العصر، ولاتنسجم مع منطق التفاهم والذوق العام...
الثالثة: واقع التجزئة المقيتة التي عاشتها الأمة العربية طيلة قرون... هذا الواقع المر الذي باعد بين اللهجات، وبعض العادات.. قد أثر أيضاً في اختلاف أسماء الأشخاص، بين قطر وآخر، حتى أصبحت بعض الأسماء التي نجدها في قطر، قد لانعثر على شبيه لها في قطر آخر..!
والحقيقة الرابعة: تتمثل في مايقوم به العنصريون الغربيون تجاه العرب خارج الوطن العربي.. فقد ذكرت صحيفة /الأوبسرفاتور/ الفرنسية منذ أشهر أن مئات المهاجرين العرب، وخاصة من المغرب العربي، في فرنسا، يسعون لدى المحاكم لتغيير أسمائهم العربية بأسماء /تأويلية/ محرفة، حتى يتمكنوا من الحصول على عمل أو مسكن، ويفلتوا من عقاب التمييز العنصري وعراقيله.
أما أولئك العرب الذين تزوجوا من أجنبيات، فأغلب أولادهم يحمل كل واحد منهم اسمين، اسم من الأدب، واسم من الأم: /سليمان واستيفان/ صالح وموريس/ حفيظ وتيري/ وهلم جرا...!؟
وهنا نتساءل: إذا استطعنا أن نجمع، وننشر، ونعمم قائمة شاملة بالأسماء العربية اللائقة على كل الأقطار العربية... فهل هناك مؤسسة عربية، قادرة على متابعة تنفيذها وصيانتها من التشويه، والمحافظة عليها، وعلى سلامة وكرامة من يحملها..؟
هل تستطيع جامعة الدول العربية مثلاً، أن تتبنى مثل هذا الموضوع الهام..؟؟
29/7/1996
((
العروبة والإسلام والثقافة:(1/70)
إذا نظرنا إلى الثقافة، كعامل أساسي مؤثر في تشكيل المضامين الفكرية والتعبيرية، وفي بلورة الأساليب الحياتية، بالنسبة لأنشطة العمل، والإبداع، وتوجيه العلاقات، والسلوكات المتميزة.. فإننا من الصعب، أن نجد في المجتمع الجزائري ظاهرة سلوكية، أو فكرة عفوية، لاتستمد أصولها، ومنطلقاتها من قيم ومقدسات العروبة والإسلام.. اللهم إلا في بعض الحالات الشاذة أو المتعمدة..!
فالإيمان باللّه متجذر منذ خمسة عشر قرناً في قلوب الجميع... وحتى العصاة، وأصحاب الآراء المتمردة.. نجدهم عندما يحل شهر رمضان -مثلاً- يمتنعون تلقائياً عن كل المحرمات، ويصومون.. وعندما يدركهم الكبر، يحجون... ويعتقدون بالقضاء والمكتوب ويقدسون الشهادة والاستشهاد، ويجهرون بكلمة: اللّه أكبر... أمام كل طارئ، وفي كل موقف حرج، وعند كل خطوة، تدفع بهم نحو أمر مجهول...
وحب الرسول العربي محمد صلى الله عليه وسلم وتعظيمه وتقديره يهيمن على نفوس الجميع.. ومن الصعب حصر البراهين الدالة على ذلك...
يكفي أن نذكر أن أغلب أسماء الجزائريين، هي من أسماء الرسول وآل بيته، وصحبه.. وشعارهم: "خير الأسماء ماعبّد أو حمّد".
وإن احتفالات الشعب بذكرى المولد النبوي، لتفوق احتفالاته بأية مناسبة أخرى مهما عظمت...!
وهناك قصص ونوادر كثيرة عن بعض الجزائريين، الذين أقدموا على ضرب أناس لايعرفونهم، خارج القطر، وكان السبب هو أنهم سمعوهم يوجهون كلاماً بذيئاً إلى شخصية الرسول... وكان من جملتهم الشيخ العباس بن الحسين، العالم الجزائري المعروف، وقد روى لي -رحمه اللّه- القصة بنفسه، قال:(1/71)
وعندما كنت طالباً في المغرب، ركبت مرة قطاراً فوجدت فيه شجاراً بين مغربي ويهودي... وكان الناس يشاهدون بحياد عندما سمعت اليهودي يذكر اسم محمد بمكروه فأظلمت الدنيا في عيني... وتقدمت منه، وضربته برأسي حتى خرّ مغمياً عليه فسألني الناس: لماذا لم تضربه عندما كان يوجه شتائمه إلى اسم الجلالة.. اللّه..؟ فقلت لهم: اللّه هو ربي وربه.. أما محمد فهو لي.. ويخصني"!.
ولم أسمع عن جزائري ذهب إلى الحج، ولم ينفجر باكياً أمام روضة الرسول...
إن عروبة الجزائر، بما فيها من تاريخ حافل بالأمجاد والفتوحات.. ومن قيم وتقاليد، وعادات... النجدة، والتضامن، والتعاون، والأخوة، والأمانة، والوفاء، والصدق، والتضحية، والبذل، والشجاعة، والمروءة، والنظافة، والطهر، والتواضع، والصراحة، والعدل، وملامح البطولة والجهاد.. هذه القيم الفاضلة السامية لم يتشبث الشعب الجزائري بها إلا من خلال وفائه وإخلاصه لعروبته وإسلامه..
وكل جزائري يفخر، ويعتز بأنه مسلم عربي. والقرآن عربي ويوم الجمعة يوم العروبة وشهر رمضان شهر عربي، والكعبة ومناسك الحج في أرض عربية، والمساجد التي تشد إليها الرحال، في مدن عربية... وإن الرسول صلى الله عليه وسلم، قد قال: "من أحب العرب فقد أحبني ومن أبغضهم فقد أبغضني.." وقال: "إذا ذل العرب، ذل الإسلام."
وقال: "ياأيها الناس.. أن الرب واحد، والأب واحد، وإن الدين واحد.. وليست العربية بأحدكم من أب أو أم.. وإنما هي اللسان، فمن تكلم العربية فهو عربي..".
من هذه المآثر الخالدة، ومن أمثالها، جاءت عروبة الجزائري المسلمة، وازدهرت ثقافتها..
وحتى عندما حاول الاستعمار سلخ الشعب من ثقافته، ومنع المواطنين من حفظ القرآن، ودراسة الأدب والتاريخ العربي وتشويه الدين بالشعوذات والآفات.. عجز وفشلت مخططاته. بفضل تمسك الشعب بتقاليده العربية الإسلامية، التي كانت أرقى وأعظم من تقاليد المستعمرين..!(1/72)
لقد ظلت العروبة في الجزائر، وحتى اليوم، هي وعاء الإسلام الأمتن، وظل الإسلام هو مضمون الإنسان الجزائري الأنقى.. وهو طباعه وصفاته، وعلاماته.. وبالتالي هو ثقافته الشاملة.. وإنه لما يثير العجب.. في هذا الزمن المتناقض أن نرى أو نسمع من يصف بعض الجزائريين بالكفار..! ومن يدعي بأنه علم الجزائريين كلمة: اللّه أكبر..! ومن يحاول فصل الجزائر عن عروبتها، وإسلامها..!
إنه من المستحيل أن نتصور وجوداً للشعب الجزائري خارج إطار ومحتوى عروبته وإسلامه، ومن ثمة فمن غير الممكن تجريده من ثقافته..
أية قوة تستطيع أن تلغي مصادر خصاله، ومحفزات خلاله في صيانة العرض والشرف والعناية بالجار، والفرح بالضيف ومساعدة الغريب، إجلال الوالدين، ورعاية الأطفال، وطلب العلم، والجهر بالسلام، وواجب العمل والإنتاج، وزيارة الأهل وعيادة المريض، ومشاعر الشفقة والرحمة والحنان، واحتمال الصبر وحب الوطن، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر..
أية قوة تستطيع تجريد الشعب من هذه المعطيات الثقافية العربية الإسلامية.. إلا في حالة واحدة، وهي أن يباد لآخر نفس فيه.. وهذا أيضاً من المستحيل..!؟
إن الثقافة في الجزائر، ترمي بجذورها إلى أعمق أعماق التاريخ.. ثم استمدت من العروبة والإسلام أعظم آدابها المسرودة والمكتوبة، وأجمل فنونها الفنية المتنوعة، من زخارف ومنمنمات.. ومن أشكال وألوان ومقاييس للألبسة وهندسة العمران، ومن أغاني وأناشيد للفرح البريء.. ومن أحجام ورموز للأواني والأثاث.. وطرق للوقاية والعلاج. وانتقاء للأطعمة واللحوم، وأصباغ وعطور للزينة والتجميل وأنواع للرياضة واللعب، وأساليب للزراعة والتشجير والري.. ومواسم للبهجة والأعراس.. بالإضافة إلى أنشطة أخرى، لاتعد ولاتحصى..(1/73)
طبعاً.. لايوجد شعب على هذه الكرة الأرضية خالياً من النقائص والآفات.. فالخير دائم الصراع من الشر... والفضيلة لاتفتأ تجابه الرذيلة.. ولكن العبرة تكمن في النتيجة، ولمن تكون الغلبة؟
وبالفعل، فقد أخذت بعض المظاهر السيئة التي تتنافى مع ثقافتنا وتربيتنا العربية الإسلامية تطفو على الساحة الوطنية، وتبدو كالأوبئة الفتاكة مثل الفتنة والخيانة، والقتل، والغدر، والرشوة، والسرقة، والنفاق، والغرور، والبخل، والفسق، والتبذير، والتردد، والظلم، والاعتداء، والغش، والاحتيال، والأنانية واللامبالاة، والكسل، والعصيان، والفوضى..
كل هذه الموبقات والشرور. لم يكن الشعب الجزائري يشهدها إلا في حالات نادرة جداً -فكيف انتشرت بين جنباته.؟
من المؤكد أن المؤامرات والأحقاد الأجنبية ضد العروبة والإسلام، لم تتوقف أبداً عن سعيها التخريبي، وكيدها الأسود، خاصة في هذا الوقت الذي أصبحت فيه القوة الخارقة بأيدي الأعداء الناقمين... والجزائر بحكم مؤهلاتها لايطمئن لها الناقمون أن تبقى على سلامتها.. وماينطبق على الجزائر قد ينطبق على الأقطار العربية الإسلامية الأخرى، التي تعاني من الضغط والظلم والحيف...
ولكن هذا، لايعفي أبناء الوطن من تبعات الغفلة أمام الأخطار، وتدهور الأوضاع، وتردي الإيجابيات إلى مواقع السلبيات..
كما ذكرت سابقاً، فقد ألقى الشعب، بكل احتياطاته، وحذره، وانتباهاته، بمجرد أن رفرفت راية الاستقلال في سمائه -على كاهل السلطة الحاكمة.. لأنها منه.. ومن المؤسف "أيضاً" أن السلطة فرحت ورحبت بذلك.. اعتبرت نفسها الوصية على كل شيء..!؟
وفي هذه الأثناء، أخذ تهميش المثقفين يتضاعف.. وبدأت الثقافة -بصفة عامة- تتقهقر.. ومن بينها مظاهر الثقافة العربية الإسلامية.(1/74)
لقد كان من بين الأخطاء، هو أن المعنيين لم يعطوا للدين الإسلامي، حقه من الرعاية والإدراك ومنهجية التنمية والتطوير، والمتابعة.. وحتى بعض الباقين من رجال جمعية العلماء المسلمين، من الذين احتضنوا عملية الإصلاح الديني في عهد الاستعمار، هؤلاء القلائل بعضهم أخرسه إغراء المنصب وبعضهم عزلته مطامحه السياسية، والبعض الآخر انزوى، أو أبعده العجز والشيخوخة..!؟
إن الإسلام.. بعباداته ومعاملاته.. بتفتحه وسماحته، وبقياساته واجتهاداته، بثقافته ومبادراته وقبل كل شيء، بنصوصه المقدسة، ومآثره الحضارية المتطورة.. هذا الدين لم ينل حقه في الكثير من المجالات، ومن أهمها مجالات التربية والتعليم، والتكوين، التي أنفقت الدولة من أجلها أضخم النفقات...!؟
أذكر أن مدارس التعليم الأصلي، التي كانت مسيرة من طرف وزارة الشؤون الدينية.. كان جل طلابها من الذين رفضتهم أو لفظتهم مدارس التعليم الرسمية، بحجة كبر السن، أو بسبب تخلفهم الذهني، أو لأوضاعهم العائلية، والاقتصادية وماينتج عنها، من فوضى وتقصير..!
لقد كان هذا الحل -ظاهرياً- يبدو منطقياً ومنصفاً.. ولكن ماذنب الدين الإسلامي العظيم في ذلك..؟
لا أنكر أن مدارس التعليم الأصلي تخرج منها عباقرة آنذاك وهم الآن أساتذة ودكاترة ولكن تخرج منها أيضاً عدد كبير من الأئمة والخطباء، والوعاظ، ممن كان لهم أسوأ تأثير على الثقافة العربية الإسلامية، وأعطوا أبشع صورة للعروبة والإسلام، وللحضارة الإنسانية بصفة شاملة.. وهو ماشجع الأعداء على توفير الحجة للإمعان في تحطيمنا..!؟
ومن الأخطاء أيضاً أن الطلاب المتفوقين من أصحاب الشهادات الثانوية، كانوا يوجهون إلى التخصصات في الفروع العلمية كالرياضيات والطب والهندسة. ليتخرجوا بعد ذلك متفرنسين بعيدين كل البعد عن الاحتكاك بالجماهير المتمتعة بقدر من ثقافتها العربية الإسلامية..!؟(1/75)
لقد كان من المفروض أن تعطى للتعليم والتربية والدراسات الإسلامية نفس الحظوظ -على الأقل- التي أعطيت للتخصصات العلمية الأخرى وذلك لتمكين الدين والشريعة الإسلامية من خدمات رجال متمتعين بالتفوق المدرسي، وبالطاقات الذهنية المبدعة والقدرات العالية في الذكاء، وحسن التأويل والاستنباط..
إن هذا لايعني أن المتخصصين في قضايا العلوم الفقهية، والشؤون الدينية في الجزائر، ينطبق عليهم كلهم ماذكرته عن بعض خريجي مدارس التعليم الأصلي، بل بالعكس هناك في الجزائر شباب ورجال كثيرون يتمتعون بباع واسع في حصيلتهم المعرفية، وعمق اطلاعهم، ومقدرتهم على الإقناع وتوظيف الحجة بالإضافة إلى استقامة سلوكهم وحسن سيرتهم..
إن الجزائر، تتوفر على عدد لابأس به من أقطاب الإسلام، وعلماء الشريعة ورجال التقوى، والأئمة الصالحين..
والخطباء الجيدين.. ولكن ربما /للتقيّة/ لم نعد نرى أصحاب الحق في أماكنهم حيث الموضوعية والصدق..
ولاريب أن للصراعات الدينية السياسية، دخلاً في ذلك!؟
إنني أعتقد -في الأوضاع الراهنة خاصة أن وزارة الشؤون الدينية، لاتقل في شيء عن أهمية الوزارات ذات السيادة مثل الداخلية، والخارجية والعدل وغيرها.. وذلك لما للشؤون الدينية من علاقات واسعة ويومية بكل المواطنين...
ولما لها من حساسية وتأثير في التوجيه والتربية وترقية العواطف، ونشر المودة والأخوة بين المواطنين..
من هنا يمكنني أن أطرح هذا السؤال:
هل أن وزارة الشؤون الدينية، تتمتع بكل الإمكانات البشرية والمادية اللازمة..؟
إن كل الجزائريين -تقريباً- مسلمون فلماذا لايستغل هذا الاتفاق العظيم في حل الكثير من الخلافات...؟
لماذا لانفتح أبوابنا ونوافذنا لتسطع شمس ثقافتنا الجزائرية العربية الإسلامية، داخل كل بيت، وفي كل قلب وننطلق متحدين في مسيرتنا النهضوية الحديثة إلى جانب كل الأقطار والشعوب الحرة، التقدمية، المتطورة...!؟
8/8/1996
((
العربية والتعريب(1/76)
ليس هناك ماهو أكثر ارتباطاً، وتفاعلاً، وتأثراً وتأثيراً بالثقافة والفكر، مثل اللغة.. بل هناك تلازم حتمي، والتحام طبيعي بينهم، بحيث، لو انتفت اللغة لتلاشت الثقافة. واختفى الفكر..
ولعل معاني ومظاهر انتعاش الثقافة الوطنية.. وسيادة الهوية واستقلال الشخصية، لأي شعب من الشعوب.. هذه الثوابت الأساسية لايمكن أن تتحقق كاملة محترمة، إلا في ظل انتعاش وسيادة واستقلال اللغة القومية لذلك الشعب..
ومادمت قد أشرت /سابقاً/ إلى موضوع اللغة في الحديث عن الشباب.. والرياضة.. أرى من الضرورة أن أتطرق إلى قضية اللغة، والتعريب.. مع العلم بأن الحديث عن التعريب في الجزائر، يتطلب كتابة المجلدات، لإيفائه حقه من العرض، والتحليل والاستنتاج...
ولربما تأتي الجزائر في مقدمة كل الأقطار العربية، التي شغلتها قضية التعريب، والدفاع المتواصل عن اللغة العربية، منذ قرون وخاصة في عهد الاستعمار الفرنسي... وبصورة خاصة بعد الاستقلال حيث أصبحت اللغة العربية، محور اهتمام المراكز والمؤسسات، والحوار اليومي للجمعيات واللجان،.. والصراع المتواصل بين المدافعين والمناوئين.
ومن المؤكد أن العربية، ظلت دائماً هي لسان الشعب المعبر عن حياته، ومشاعره، ومقدساته "وهذا ماجعلها -رغم مالاقته من دسائس- محتفظة ببقائها، متمتعة بحب أبنائها لها وتعلقهم بها.. منتصرة على كل أعدائها الحاقدين..
لذلك.. فإنني في هذه العجالة، سوف لن أركز على جوانب القوة والمناعة، والصمود للغة العربية في الجزائر، فهذه أمور طبيعية.. وسأكتفي بالإشارة العابرة فقط إلى بعض السلبيات، والأسباب المعرقلة التي كان من المفروض أن تزول بسرعة، ولايستمر وجودها:(1/77)
1-كلنا يدرك بأن المجهودات البشرية والمادية الجبارة، التي كانت مجندة لخدمة اللغة الفرنسية في الجزائر، زمن الاستعمار.. كانت تقابلها مجهودات أضخم وأخطر لمحاربة اللغة العربية، ومحاولة القضاء عليها نهائياً.. لأن المستعمر لم تكن تهمه قضية تغيير أوتنمية معارف الجزائريين، ونشر لغته وثقافته بينهم، بقدر ماكان يسعى إلى التجهيل، والتدمير والإبادة التامة..! وقد كانت العروبة والإسلام، هما الهدف الأساسي، في كل الهجمات الوحشية المتواصلة، لمحو هوية الشعب، ومحق شخصيته، وتشتيت صفوفه..!؟
2-وكانت من بين الدسائس المسمومة، مؤامرة التفريق بين المواطنين وهدم تاريخهم الأخوي، وتمزيق وحدتهم، وذلك بتقسيمهم بين جزائري بربري أصيل، وجزائري عربي دخيل..! وحيكت هذه المؤامرة انطلاقاً من مفاهيم عرقية بالية، واعتبارات لغوية غير متوازنة ولامتكافئة..!؟
ومع أن من يسمون برابرة، لاتجمعهم منطقة إقامة واحدة وإنما يقطنون أماكن متفرقة ومتباعدة في مختلف أرجاء شمال أفريقيا.. وحتى لهجاتهم اللغوية مختلفة المعاني والتعابير في بعض جملها، إلى درجة أن بعضهم قد لايفهم لهجة البعض الآخر.. مع ذلك فقد ركزوا اعتمادهم على اللهجة البربرية كرابطة قومية وبرهان وجود.. حتى لكأن كل من يتحدث اللهجة البربرية /الأمازيغية/ هو تلقائياً بربري، وكل من يتكلم العربية فقط.. هو من جذور عربية. وواقع توزيع السكان، وكثرة ترحالهم وتنقلهم عبر الزمن وتجدد إقاماتهم بين منطقة وأخرى، ينفي تلك الأطروحة اللغوية، ويؤكد العكس أحياناً، حيث نجد عائلات كانت تتكلم البربرية وعندما استطونت مدناً معربة، أصبح أبناؤها لايحسنون الكلام إلا بالعربية ونجد عرباً بدواً استوطنوا منطقة بربرية.. /قبائلية/ فأصبحت لهجتهم الوحيدة هي الأمازيغية..!(1/78)
لقد أثبت كل المؤرخين النزهاء، بأن البرابرة، هم في الأصل من عرب اليمن، نزحوا إلى أفريقيا خلال موجات من الهجرة منذ الزمن القديم.. وإن لهجتهم موجودة حالياً لدى بعض القبائل اليمنية، وهي ذات أصول عربية، ومليئة بمفرداتها...
كما أن الواقع الراهن ينفي وجود أية علاقة عريقة بين القبائل البربرية، نظراً لاختلاف أشكالهم وأحجامهم وألوانهم، كما ينفي ذلك أية صلة لهم بأوروبا، كما ادّعى بعض المؤرخين المغرضين في حملاتهم لفصل الأمازيغ عن العرب.. هذا بالإضافة إلى أنه، قد لاتوجد عائلات بربرية، تستطيع أن تقدم تسلسلاً لأصولها عبر عشرين جداً مثلاً كوثيقة مكتوبة، اللهم إلا بعض العائلات التي تحمل لقب /الشرفاء/ وهذه، تنتهي أنسابها عند بعض أصحاب الرسول من العرب الكرماء -وبنفس الشيء يقال عن عرب المغرب العربي..!
ولكن الاستعمار، تبعاً لشعاره /فرق تسد/ أشاع منذ عهد الحركة السياسية الوطنية، وقبل قيام الثورة المسلحة، أن اللغة العربية في الجزائر هي لغة أجنبية وإن البربرية هي الأصيلة، والأصيلة، وافتتحت لها الأقسام والمختبرات في جامعة /فانسان/ بفرنسا من أجل تطويرها وتنقيتها من المفردات العربية... وباعتبارها لغة فقيرة في مفرداتها ومضامينها وبدون حروف، وبلا أرقام.. لذلك -يرى المستعمرون -أنها لاتستطيع على حالتها الراهنة أن تلبي المتطلبات العلمية للعصر وإذاً.. فلتكن اللغة الفرنسية هي البديل، وهي صاحبة الأولوية بالنسبة للجزائريين..!؟
ومن الغريب أن هذه الأطروحة المؤامرة المفضوحة، قد وجدت لها آذاناً صاغية لدى بعض المسلوبين فتشكلت منهم مجموعة حاقدة تبذل الجهد لمحاربة اللغة العربية... أكثر من جهدها لخدمة الأمازيغية...!؟(1/79)
خلال الحركة السياسية الوطنية، كان الاستعمار يشيع بين بعض الفئات قوله: "إذا كنتم تسعون إلى إخراج فرنسا من الجزائر، لأنها استعمرتها.. فأولى بكم أن تخرجوا العرب أولاً، لأنهم استعمروا بلدكم قبلنا، ومازالوا فيه..!"!؟
وكأن الاستعمار، قد غاب عن ذهنه، بأن كل الجزائريين هم جنس واحد.. نساؤهم، أمهاتهم، كلهم وأبناؤهم وبناتهم أخوال وخالات، وأجداد وجدات، هذا إذا لم نسلم بأنهم كلهم أشقاء وأبناء عمومة..
لقد صهرتهم بوتقة الإسلام في لحمة واحدة، منذ خمسة عشر قرناً.. ووحدتهم لغة القرآن، وأمجاد التاريخ وصدق المشاعر، وحب الأرض، وملاحم النضال المشترك..
وكانت ثورة أول نوفمبر المظفرة التي وقف فيها أبناء الشعب جنباً إلى جنب إلى أن تمكنوا من طرد المستعمرين، كانت أعظم ردّ على كل الدساسين، لأن الشعب الجزائري، هو شعب أصيل عربي مسلم، مصيره واحد، وآلامه، وآماله واحدة.
3-وأشير إلى موقف بعض المثقفين بالفرنسية.. فإنهم بحكم جهل أغلبيتهم بالثقافة والتاريخ، والوضع الحضاري للأقطار العربية.. لايرون أية ضرورة في نشر العربية، وإعطائها مكانة السيادة والشمول، وعلى أساس -كما يعتقدون- أنها ليست لغة علم، واقتصاد وتكنولوجيا حديثة، ومن المفيد لنا -في رأيهم-استعمال لغة معاصرة وحية مثل اللغة الفرنسية...!؟
وهناك بعض الفرانكفونين، مازالوا حتى الآن يتصورون بأن جل الأقطار العربية، هي حالياً تعيش حياة البداوة بين الخيام، والجمال. وأن العربية لاتعدو أن تكون لغة شعر، ودين وآخرة..! وكما يقول المثل: من جهل شيئاً عاداه...!؟(1/80)
4-باعتبار أن أغلب الأجهزة الإدارية النافذة والحساسة مفرنسة، فإن اللغة العربية –بصورة تلقائية- تصبح بدون مفعول أو جدوى لأنها لاتأثير لها في المعاملات والعلاقات المصلحية الخاصة، والعامة، وبذلك تركن في زوايا الإهمال والنسيان.. إنها حسب قول بعضهم: لاتنفع في جلب الفوائد، ولا في قضاء الحاجات... ولا تجدي في الحصول على رغيف الخبز.. وبالتالي فهي ليست للحياة..!؟
وحتى في مجال الإبداعات، والاهتمامات الثقافية والأدبية، والفنية، فإن اللغة العربية الفصحى تعاني من الإحباط والتنكر، والصدود.. إما من طرف الجماهير التي طغت عليها مشاكلها المادية، ومشاغلها اليومية، فلم يبق لديها الوقت للالتفات إلى المتعة الذهنية والفكرية... وإما من طرف (فرسان) اللغة العامية الدارجة من الذين يخافون الفصحى لجهلهم بها، أو لكرههم لها..!
5-وقد نتج عن سيطرة هذا الواقع المر، وجود المئات من الطلاب المتخرجين، من المدرسة الأساسية، ومن الجامعة -أقسام العلوم الإنسانية المعربة- كالفلسفة، وعلم النفس والآداب، وعلم الاجتماع.. وجودهم، كبطالين، بدون عمل، وبلا ضمان لتشغيلهم مما اضطر بعضهم للعودة إلى الفرنسية وإتقانها، واحتضانها على حساب لغتهم العربية، حتى يتمكنوا من مصارعة شبح البطالة وامتلاك جواز السفر نحو الوظيفة (المخبزة)!؟
6-لقد كانت الإدارة المفرنسة -دائماً- هي السبب المباشر وغير المباشر في عرقلة عملية التعريب وتأخيرها.. وخلق الظروف الملائمة لاتساع دائرة استعمال اللغة الفرنسية، هذا رغم كثرة النصوص القانونية الواضحة والصريحة والملزمة بضرورة استعمال اللغة العربية، ونشرها، وتعميمها كلغة وطنية رسمية، معبرة عن سيادة الشعب وهيبة الدولة ووحدة الوطن واحترام المثقفين..(1/81)
فبالنسبة للنصوص السياسية نجد الدعوة الملحة للتأكيد، ووجوب المحافظة على عروبة الجزائر وإسلامها بلغتها، وكل قيمها السامية... نجد هذه الدعوة جلية حاسمة خلال كل المواقف. والمآثر، والشهادات التاريخية المجيدة التي سجلتها الجزائر عبر الزمن، ومن خلال صراعها النضالي والجهادي الطويل..
ونجدها مدعمة بالتصميم والإصرار في النداء الأول للثورة التحريرية 1945 -كما نجدها في كل مواثيق وقرارات حزب جبهة التحرير الوطني، الذي قاد الثورة، وحكم البلاد بعد الاستقلال أكثر من ربع قرن- وبالنسبة للنصوص القانونية، نجدها أيضاً واضحة صريحة وصارمة أحياناً:
أ- ومن أهم هذه النصوص القانونية: الدستور الجزائري، الذي يؤكد أن اللغة العربية، هي اللغة الوطنية والرسمية للجزائر العربية المسلمة. (ونحذر أن تكون الأصوات المرتفعة حالياً بطلب إعادة النظر في الدستور أنها تسعى إلى تغيير بعض ثوابته..).
ب- الأمر الرئاسي 68-92 المؤرخ في 26/4/1968 والمتضمن إجبارية معرفة اللغة الوطنية، على الموظفين، ومن يماثلهم (عند صدور هذا الأمر، تحولت كل المؤسسات الإدارية إلى ورشات مدرسية لتعليم اللغة العربية خارج أوقات الدوام.. أقسام ومقاعد، ومعلمون، ونشاط منقطع النظير.. ثم أخذ الحماس يختفي شيئاً فشيئاً.. وخمدت الجذوة وانتهى الخوف)
ج- الأمر الرئاسي 70-20 المؤرخ في 19/2/1970 والمتضمن وجوب استعمال اللغة العربية في تحرير جميع وثائق الحالة المدنية. (وقد تم العمل بهذا الأمر، وهو ساري المفعول حتى اليوم).
د- الأمر الرئاسي 73-55 المؤرخ في 1/10/1973- والمتضمن تعريب الأختام الوطنية.
هـ- الأمر الرئاسي 76-35 المؤرخ في 16-4/1976 والمتضمن التربية والتعليم، وجعل اللغة العربية هي لغة التعليم.. في جميع مواد التدريس (مدة تسع سنوات، أي الابتدائي والمتوسط). أما اللغات الأجنبية، فتدرس كلغات فقط والفرنسية من ضمنها (وهو مايسمى بنظام التعليم الأساسي).(1/82)
و- الأمر الرئاسي 91-5 المؤرخ في 16/1/1991 والمتضمن تعميم استعمال اللغة العربية، وينص في مادته (36): "أن تطبق أحكام هذا القانون فور صدوره، على أن تنتهي العملية بكاملها في أجل أقصاه: 5 يوليو سنة 1992" وفي 4يوليو من سنة 1992 صدر مرسوم تشريعي يمدد الأجل الأقصى المنصوص عليه في المادة /36/ دون تعيين أو تحديد لهذا الأجل..!؟
بالإضافة إلى كل هذه النصوص والأوامر القانونية.. هناك الكثير من القرارات الصادرة بشأن تعريب المحيط الاجتماعي وتعريب المناقشات والمراسلات الرسمية، والإعلام، والإشهار، والعناوين، إلى غير ذلك من الخطوات التسجيلية التي تمت لفائدة التعريب..
ورغم كل هذه المواثيق، والأوامر، والقرارات الرسمية، فقد ظلت القوى الخفية، المعادية للغة الشعب هي المتحكمة في لوالب التنفيذ، وهي صاحبة الباع الأوسع والكلمة النافذة في التحايل على القوانين، ومقدسات الوطن وإيجاد المبررات الواهية لخنقها، ومواصلة تسديد الطعنات في قلب اللغة العربية، من أجل سلامة اللغة الفرنسية..!؟
إن أعداء اللغة العربية في بلادنا، هم في الوقت نفسه أعداء لجميع اللغات الحية الأخرى، كالإنكليزية والألمانية، والروسية، والإسبانية، وغيرها... إنهم لايريدون الحياة والتفوق والهيمنة في الجزائر إلا اللغة الفرنسية وحدها... وفقط..!!!؟
طبعاً.. هناك بعض النقاط المضيئة في أفق العربية في الجزائر ولايجوز إخفاؤه، لأنها تشكل مصدراً هاماً للتفاؤل بالمستقبل..
وهي:
1-المدرسة الأساسية، وقد تخرج منها حتى الآن، الملايين من الشباب المعلمين بالعربية، والمعتزين بها، وهم يشكلون اليوم، أعظم رصيد، وخير حصانة للثقافة الوطنية نظراً لتمكنهم من معرفة منابع حضارتهم، وثقافتهم ولغتهم، بالإضافة إلى معرفتهم الجيدة باللغات الأجنبية الحية.(1/83)
2-هناك بعض المؤسسات المركزية الهامة كوزارتي العدل والشؤون الدينية وهي معربة تماماً.. وقد فرض التعريب نفسه في أقسام كثيرة لجميع الوزارات الأخرى، وبعض المؤسسات والشركات.. وهو يتقدم تدريجياً...
3-وقد شمل التعريب أيضاً أغلب التنظيمات والجمعيات، والمجالس المنتخبة والبلديات، وأجهزة الإعلام المرئية والمسموعة، والكثير من المجلات والصحف اليومية والأسبوعية.
4-بالإضافة إلى إنتاج المبدعين في مختلف المجالات الأدبية، حيث يمثل الجانب المكتوب منها بالعربية حوالي 90% من الإنتاج الوطني.. كما أن المسرح والسينما يستعملان في الغالب نصوصاً قريبة من الفصحى.
ومما لاريب فيه أن الانتصار في الأخير، سيكون إلى جانب العدل والحق.. وثوابت الشعب، الثقافية العربية الإسلامية.. وماضاع حق وراءه مطالب.
17/8/1996
((
لاقوة أعظم من قوة الحق
عندما يتأمل الإنسان، أوضاع الوطن العربي الراهنة، وماتحمله في أحداثها، وبين طياتها، من تجزئة ذاتية، واختلاف في الآراء، وتعارض في الأفكار، وتشتت في الاتجاهات، وتبديد للمجهودات، وعدم مبالاة بمفاجآت المستقبل و(مصير) المصير المشترك....!
ثم.. عندما يلتفت الإنسان إلى وضعية الوطن العربي خلال النصف الأول من هذا القرن، وكيف كانت الأقطار العربية تشعّ وعياً وطموحاً، وتتفجر ثورة وجهاداً، وتتعانق حباً وتماسكاً، وتضامناً... وتتلهف شوقاً، وسعياً للوحدة والحرية والاشتراكية.. أو العدالة الاجتماعية كما يريد البعض تسميتها...(1/84)
وعندما يتأمل الإنسان... حالة الوطن العربي، طيلة هذا القرن العشرين، تبهره الدهشة، ويأخذه العجب. أمام ظاهرة غريبة شاذة، تتناقض تماماً مع سنن الحياة وقوانين التاريخ، ومجريات التطور الطبيعي والعادي،.... هذه الظاهرة تتمثل في ذلك البون الشاسع، والتمايز الواضح بين سمات وشخصية أفراد الأمة العربية، بالنظر إلى سلوكهم، ومبادئهم وأنشطتهم، وآمالهم، خلال النصف الأول من هذا القرن.. وبين شخصية أفراد نفس الأمة، خلال النصف الثاني من القرن نفسه، وما أحاق بها من جنوح وانتكاس، وتدهور مخيّب للآمال...!؟
يتساءل الإنسان بحيرة: ألم يكن من المفروض، والطبيعي أن تكون أوضاعنا -مع تقدم الزمن- أرقى، وأقوى، وأحمى...
وقد انتقلنا من الاستعمار إلى الاستقلال، ومن العبودية إلى الحرية، ومن العزلة إلى الانطلاق، ومن الجهل والأمية إلى العلم والتعليم، ومن المرض إلى الصحة، ومن القلة إلى الكثرة، ومن القمع والخوف، إلى الأمن والسلام، ومن الحرمان والفقر، إلى امتلاك ثرواتنا، وامتلاء جيوبنا بالأموال...!؟
كنا نعيش تجزئة قطرية، مفروضة علينا بقوة الحديد والنار. وكنا نتألم منها، ونستنكرها، وناضلنا من أجل القضاء على كل هيمنة أو سيطرة أجنبية تحتم علينا مخططاتها بالقوة، وثرنا... وانتصرنا.. وإذ بنا نفرض على أنفسنا تلك التجزئة، ونرضى بها، ونعتبرها واقعاً منطقياً مقبولاً، واختياراً حراً ينبع من قناعات ذاتية راسخة لايجوز تغييرها. أو تحويلها...!؟(1/85)
ونتيجة لاقتناعنا /الباطني/ بالتجزئة، أمسى الحديث عن الوحدة العربية،... نادراً مقلاً.. خافتاً خجولاً، عارضاً متحفظاً. وقد ينظر إليه كإقحام محرج. هذا بالنسبة للمؤمنين السابقين بالوحدة.. أما المتنكرون لها، والذين كانوا لايجرؤون في الماضي على الجهر بعدائهم لها، وإظهار حقدهم عليها.. فقد صاروا هم الصادحون الجهوريون بمحاربتها، ودس الإشاعات حولها، واتهامها بأنها رجعية، وعرقية، وخيالية ومستحيلة.. وأنه ليس في الإمكان أحسن مما هو كائن...!؟
والكلام عن الثورة الشعبية، الهادفة إلى التغيير الاجتماعي الجذري، والساعية إلى تحقيق ماهو أشرف، وأفضل.. الكلام عن الثورة كحل لإلغاء بعض الترسبات، أصبح متهماً بأنه (موضة) قديمة، لاتتناسب مع عصر الحوار.! وأصبحت كل محاولة أو حركة للتغيير. تعطى اسم /العنف/ وكل وطني ثوري مقاوم يدافع عن أرضه المغتصبة، أو عرضه المنتهك.. يطلقون عليه اسم /الإرهابي/.. ويطارد كأي مجرم خطير.. حتى من طرف بعض الذين يدافع عن كرامة أبنائهم، وسيادة مستقبل أحفادهم...!؟
والاشتراكية التي كانت تعني في زمن الالتزام الرائد عزة المواطن وكرامته وحريته.. وتعني القضاء على الاستغلال والصراع الطبقي وهيمنة الأقلية،.. وتعني الديمقراطية والعدالة والمساواة.. وبالتالي. سعادة ورفاهية المجتمع.. هذه الاشتراكية التي لم تتجاوز في تطبيقها لدى بعض أقطارنا مرحلة الشعار والتحفز،.. سقطت من أذهان ومطامح الكثيرين من دعاتها، بمجرد أن سقط الاتحاد السوفييتي..! وكأننا تبنيناها لأجله، لا لحاجتنا إليها.. أو كأن انهيار نظام الاتحاد السوفييتي. هو بالضرورة انهيار لمفهوم الاشتراكية وتطبيقها...! مما يعطي شهادة تفوق، وحسن سلوك للرأسمالية، والنظام الليبرالي الأوحد...!؟(1/86)
لاريب أنه قد وقعت أخطاء تطبيقية، تكون فادحة أحياناً، في عهد تبنينا للاشتراكية، ولكن ذلك لايعني عدم صلاحية الاشتراكية، بقدر مايعني عدم صلاحية المطبقين لها، وفسادهم، وضعفهم النفسي.!
أما الحرية،.. التي أسال الشعب العربي من أجلها أنهاراً من الدماء،.. ودفع -عربوناً لها- الملايين من خيرة أبنائه.. الحرية هذه.. أين هي الآن...!؟
ليس هناك داع أن نذكر أسماء الأقطار العربية التي تفتقد إلى حريتها الكاملة، فهي لكثرة نوائبها، معروفة وواضحة كالشمس... وكوضوح أعداء العرب، رغم محاولة بعض العملاء التستر عليهم، والتشكل كالسحب تحت سمائهم ليخفوا عن الأنظار خيوط أشعتهم المحرقة القاتلة...!!
إننا عندما نذكر الحرية، أو نتساءل عن وجودها، فإن المقصود بها هو الحرية كقيمة إنسانية تسمو إلى الكمال والمطلق... الحرية كقوة.. ومن لاقوة له، لا حرية لديه.. الحرية كإمكانية للفرد والمجتمع في التمتع بالأمن، والسعادة، والاستقرار..
حرية الفكر والتعبير.. حرية الحركة والتنقل.. حرية الأرض والثروات الوطنية.. وقبل كل شيء حرية المواطن العربي كإنسان محترم... هذه الحرية، عندما نبحث عنها داخل أقطارنا نجدها -مع الأسف- مطعونة بخناجر متنوعة، منها مايستعمل بأيدينا، جهلاً. أو أنانية أو غروراً.. ومنها ماهو بأيدي أعدائنا المتمثل بقتل الأبرياء، وتدمير العمران. واغتصاب الأرض، والحضارات، والاتهامات. والدسائس والمؤامرات التي لاتنتهي ضد الشعوب والأمة العربية...!؟
والغريب.. إننا، ونحن غرقى نتخبّط في مصائبنا ومصاعبنا المتشابهة، مازلنا نتحاشى أن نمسك بأيدي بعضنا البعض للخروج من أزماتنا!.. ونمد أذرعنا وأكفنا لمن ألقوا بنا في خضم الكارثة، منتظرين نجدتهم...! وكأننا فقدنا حاسة الإدراك، والتمييز..!؟(1/87)
مازلنا.. نشملهم بعيون الإعجاب، ننظر بشراهة إلى أسواقهم الوحيدة أو المشتركة، ونتفاءل بـ /حمائم/ سلامهم وهي تتنزه عبر آفاقنا، نحزن لقتلاهم، ونسعد بأفراحهم ونحتضنهم عند اللقاء بحرارة ووفاء..!.. نستعذب وعودهم مهماً خالفت... نتغاضى عن غطرستهم وصدودهم.. نعشق مدنهم، وأشكالهم، وألوانهم، ونتبنى آراءهم، ومدارسهم، وقد نحلم، إلى أن نصبح نسخة طبق الأصل عنهم. وإن كنا نعرف أن ذلك من رابع المستحيلات خاصة، أنهم لن يسمحوا لنا بذلك أبداً...!؟
هاهي أقطارنا من المغرب إلى المشرق، -ونحن نقف أمام عتبة انتهاء القرن العشرين- بين الفوضى. والضعف، والتمرد، والتبعية، والإرهاب، والحصار. والفقر والمرض، والعمالية، والفتن، والتمزق، والتشرد... وبين غموض المستقبل، وخطورة عواقب المصير...!
وهاهي سورية الآن -ولا أكون مبالغاً إذا قلت إنها عملياً- تقف في الطليعة، وحيدة صامدة، تجهر بالوحدة وتدافع عن الحرية، وتتشبث بالمحافظة على العدالة، والتضامن، وسلامة المجتمع... فلاحها، يزرع ويجني، وعاملها، يجتهد وينتج، ومثقفها يبدع، ويكتب، وينشر، وكل عنصر فيها يتحرك، وينشط ويعطي الثمار...
سورية هذه -علمياً، تقف وحيدة، أمام أحفاد الأعداء من الصهاينة ومن لف معهم.. وكلهم يسعون إلى عزلها، أو محاصرتها، وإضعافها، لا لشيء.. إلا لأنها تحمل راية العروبة بالإخلاص، وتعتمد في بنائها على جهد أبنائها، وتعمل دون هوادة أو كلل لصيانة أمنها واستقرارها، وسلامة مكتسباتها...!
لا لشيء.. إلا لأنها تقدس واجباتها الوطنية، والقومية، والإنسانية، ولا ترضى بالتفريط في حقوقها مهما كان الثمن...(1/88)
لا لشيء.. إلا لأنها امتنعت عن الإعاقة والتركيع.. واحتفظت بما كنا جميعاً نمتلكه من نخوة وشهامة خلال النصف الأول من القرن العشرين. فواصلت مسيرتها المتطورة، واستطاعت بيقظتها، وحسن قيادتها، وعبقرية أبنائها، أن تجتاز -بكل جدارة- النسكات والتدهورات التي مست كل العرب... وحققت نهضة، نادرة المثال.. وهذا كما أسلفت -مازاد في إيغال الحقد، وإشعال لهيب النقمة في نفوس الأعداء المتحرشين.
وبعد.. ألا يجدر بكل العرب والمسلمين اليوم أن يلتفوا حول سورية أشقاء متساندين، قلباً وقالباً.. ليبرهنوا لكل المعتدين الظالمين أن التحالف من أجل الشر، لابد من أن يقف في وجهه تضامن، وتلاحم من أجل الخير،.. وإن العزة العربية، والأخوة الإسلامية وإن غفتا أو خفت صوتهما لفترة، فإن صحوة الضمائر الحية مستيقظة دائماً، وإن الحق العادل، لاتهزمه القوة الغاشمة، بل إن القوة الحقيقية الغالبة هي الحق نفسه، وليس هناك قوة أعظم من قوة الحق إذا عرف أصحابه كيف يأخذونه..
فلنعمل، ولنلتف كلنا مع سورية العربية، لنفتح ونذلل نتوءات العراقيل، ولندخل إلى جانبها، بوابة القرن الواحد والعشرين، ورؤوسنا مرفوعة، وكرامتنا مصونة وحريتنا قوية، سيدة، مهابة.
8/9/1996
((
مرض الذاكرة.. و/العقدة/..!؟
مع أنني منذ ربع قرن، وأنا أكتب عن الذاكرة، وأنشر في بلدي شهرياً، موضوعاً بعنوان /مذكرات نساي/.. إلا أنني متأكد، من أن أغلب القراء العرب، ليست لديهم أية فكرة عن المرض الذي أصابني، وتمركز في ذاكرتي، واستمر يتحداها، ويشوش عليها طيلة خمس وعشرين سنة كاملة.
لقد عشت عقدين ونصف تحت طغيان النسيان، الذي خيم على بصيرتي بغشاوته الكالحة، كالليل الدامس، وحرمني من وعيي الإحساس، بتصور ماحدث لي، أو ماجرت به الأيام من أحلام أو أوهام آلام..!؟(1/89)
معلوم، أننا -نحن العرب- لانعرف بعضنا جيداً، ولا علم لنا بما يصيبنا أو يقع لبعضنا البعض من سرّاء أو ضراء.. والسبب البسيط، والمباشر، والأصغر في ذلك.. هو أن كتبنا، وصحفنا، ومجلاتنا /المحلية/ لاتتعدى حدود أقطارنا.. لذلك ظلت أحوالنا عنا خفية، وظلت أخبار مرضى /النسياني/ قطرية، مع أن أسبابها، ونتائجها، كانت في مجملها عربية.؟.
طبعاً.. هناك أسباب أخرى أكبر وأخطر.. فمثلاً أن يحكم كاتب، ومثقف عربي، على كاتب ومثقف عربي آخر بأنه نكرة، ولا وجود له، ولاحق له في الانتساب إلى المثقفين، أو استلام أية مسؤولية ثقافية، لا لشيء، إلا لأن حضرة الكاتب الأول، لم يقرأ له ولايعرف /سابقاً/ اسمه ولم يتشرف باللقاء معه...!؟
هذه /العقدة/ الشخصية الفرادية، قد نجد لها شبيهاً في /عقدة/ المثقفين المغاربة، والمثقفين المشارقة وهي مسألة تاريخية، وجماعية، يستحسن تناولها بالدرس والتحليل، ولكن ليس في هذا الموضوع مجال لها...
منذ أن عدت إلى دمشق، وأنا أشعر بتحسن تدريجي في صحة ذاكرتي.. ولم أعد أنسى -جملة وتفصيلاً- كل المشاهد، والأحداث التي تمر بي- كما كنت في السابق- إلا أنني صرت أحياناً، لا أستطيع أن أميز أو أفرق -بوضوح بين الأحداث والمستجدات التي تقع.... وأصبحت الوقائع التي أعيشها يومياً، تختلط في ذاكرتي، وتندمج وتتلاحم، ثم تتمايه.. ثم تبرد.. وتتحول إلى كتلة رصاصية كالصخرة الجلمود.. تتسلق كالغازات السامة، قمة رأسي، وتهد كاهلي وتخنق مشاعري، وتوتر أعصابي بالأرق، والقلق والرعب وتجعلني أرى حافة الانهيار العصبي، وأتخيل برهبة هوة الجنون...!!(1/90)
عندما تنتابني هذه الحالة، أسارع بالذهاب إلى غرفتي.. وأحمل ورقة وقلماً، وأبدأ في ممارسة طقوس /علماء النفس/ وإن كنت منهم بريئاً.. أعصر أفكاري.. أركز على معطيات اليوم.. أفتش في الداخل والخارج.. أستبطن /الأنا/ وأستنطق /الآخر/.. وأستقرئ وأستنتج وأجند كل معاولي لتفتيت تلك الصخرة /العقدة/ وأحلل.. وأجهد ذاكرتي إلى درجة الصداع الحاد.. وأتعذب.. وأتعذب.. إلى أن أصل أخيراً إلى فك الطلسم، واكتشاف اللغز.. فأجزئ /العقدة/ وأفتت الصخرة، وأكتشف العناصر الأساسية التي ركبتها، وشكلتها،.. وبعد ذلك أتنفس الصعداء.. وأهدأ.. وأستريح..!!
أما إذا نسيت أحد أجزاء /العقدة/ ولم أتمكن من اكتشافه وتذكره -ربما لتفاهته- فتلك مصيبة كبرى، وأظل منزعجاً مهموماً، مغموماً ليوم أو أكثر، إلى أن يخطر ببالي صدفة، فأبتهج، ألعنه، وتملؤني نشوة عارمة من السعادة والارتياح..!
ومن المؤسف أنه لاتكاد تمر أيام قليلة حتى تقع على رأسي ماتشبه تلك الصخرة القاتمة الغامضة، مرة أخرى وبالعذاب والصبر. وإرادة الحياة /العاقلة/ أفك أسلاكها المتداخلة الشائكة، وأجد الحل.. وهكذا! دواليك..!؟
وكتوضيح لما يحدث لي أسوق هذا المثل الواقعي:
في اليومين، الثالث والرابع من شهر أيلول -96- ودون ترتيب للزمن-! قمت مبكراً، وفتحت الراديو على نشرة أخبار دمشق.. وإذا بالمذيع يخبر أن إسرائيل ستقوم ببناء عشرة آلاف وحدة سكنية للمستوطنين اليهود في منطقة /الجولان/..
صدمت.. وتألمت.. وتعجبت.. ثم تساءلت: إلى متى يظل العرب، ساكنين، راضين، جاهلين، أو متجاهلين لايهتمون بمصيرهم المهدد بالانهيار والزوال...!؟
وإذا كانوا أنانيين أو يائسين من جدواهم.. ألا يفكرون في مستقبل ومصير أبنائهم، وبناتهم...!؟(1/91)
مستوطنات إسرائيلية في القدس، والخليل وغزة، وكل الضفة الغربية.. وشبهها في جنوب لبنان.. ومن يدري.. فقد تجند الصهيونية في المستقبل القريب الملايين من المرتزقة، والمشردين "من غير العرب" وتمنحهم الجنسية الإسرائيلية وتقيم لهم مستوطنات، في مواقع إضافية أخرى، في المشرق العربي والمغرب العربي.. وتقضي نهائياً على وجودنا المتقوقع داخل كياناتنا الهزيلة المجزأة، الممزقة، وبذلك يتحقق حلم التاريخ للعدو.. وتنتهي فصول قصة العرب...!؟ وبعد لحظات، فتحت بأصابع متشنجة /محطة لندن الإذاعية/.. وصدمت مرة ثانية بالمذيع يقول: "أن الولايات المتحدة، تقصف الآن بالصواريخ العملاقة، مدن العراق.. وأن العرب كلهم -تقريباً..! يستنكرون ولكن أمريكا مصممة على مواصلة القصف.." وطز.! تصورت مأساة الشعب العراقي، في امتداداتها وفي نكبة أبنائه، ومنشآته.. وسيادته العربية...!؟
وانتبهت إلى أن أكثر من مئتي مليون عربي هم الآن يتحسرون، ويأكلون.. ويمارسون الجنس بنشوة فكرية عارمة...!؟
-وفي المساء، اتصل بي صديق، وأخبرني، بأن زلزالاً عنيفاً هز الجزائر صباح هذا اليوم /الثالث/ من الشهر وأحسست بموجة من اللهب تكتسح معدتي، وبجفاف في حلقي، وبأشواك باردة تنزغ جانبي، وبرعب رهيب يجتاح كل كياني...!
يارب.. ماهو مصير الأولاد.. والأهل، والأصدقاء.. والناس.. الآن..؟ يا لهذه الجزائر الشقيّة التعسة..!
ألم تكفها زلازل النفوس.. فتتزلزل الأرض أيضاً...!!؟
لطفك بنا.. يارب..
وقررت زوجتي أن تسافر مباشرة، وبسرعة إلى الجزائر لترى أولادها،.. وذهبنا إلى وكالة الخطوط الجوية، وكانت الصدمة الرابعة.. حيث أكد لنا مسؤول الوكالة بأن كل مقاعد الطائرة محجوزة طيلة هذا الشهر كله..
ولا مجال للمحاولة.. وكدنا نجن..!!؟(1/92)
وفي المساء.. جلست كالعادة يومياً، أمام شاشة التلفزة لأشاهد مسلسل /كاسندرا/ وقد تابعت حلقاته منذ بدايته، وكنت أتحرق شوقاً إلى معرفة ماستسفر عنه محاكمة /لويس دافيد/.. وبصراحة فأنا لا أستريح لهاذ الاسم.. وربما هي /عقدتي/ من كامب دافيد/ ولكنني لا أوافق أستاذي (شوقي بغدادي) في أن المسلسل تافه.. على كل حال مرت الخامسة، وأنا أمام الشاشة الصغيرة حتى السادسة، وبعد الانتظار، ضاق صبري فغادرت المنزل وقصدت المعرض.. ليلاً.. دخلت معرض دمشق الدولي، وزرت عدة أجنحة بحثاً عن جناح الجزائر، لقد كنت مشتاقاً لرؤيتها.. وعندما عثرت عليه رميت في بهوه خطوة واحدة ووجدتني في وسطه، أستوعب كل محتوياته، وبسرعة البرق أبصرتها كلها: خرائط بترولية، مطابخ غازية، قطع لكوابل كهربائية، وسيدة جميلة ترش الزوار بالعطور وهي تبتسم بخجل.. وهذا كل شيء...!؟
-صدمت.. خنقتني العبرات، بكيت بصمت.. تأوهت.. أهذي هي الجزائر بلد الخيرات، والثروات والثورات والمزارع والمصانع، و(الثقافات)..!؟
وكظمت حسرتي. وحيرتي.. وتأويلاتي.. وخرجت...!؟
-عندما عدت من المعرض إلى منزلي اكتشفت أن ساعتي الثمينة، قد سقطت من يدي، وكانت هدية عزيزة من ولدي، فحزنت على ضياعها، وتشاءمت...!؟
أمضيت ليلة الخامس من أيلول، بين الأرق، والقلق والمغص، والحموضة، والكوابيس الرهيبة المزعجة.. وفي الصباح استيقظت من حالة /اللانوم/ إلى حالة مزرية تعسة، يثقلني الخمول والتوتر، وتأكلني الحيرة والقلق، ويسيطر عليّ، إحساس مرعب من الخوف، والتوقعات السيئة المجهولة، حتى لكأنني إنسان محكوم عليه بالإعدام...!؟(1/93)
قصدت شارع الحمراء بدمشق، فتخيلت أنني ملاحق بجريمة أجهلها، تصورت أن كل المارة يرمقونني بامتعاض، وكان أي صوت لزمور أو لطفل أو لبائع.. يجعلني أقفز في الهواء مذعوراً مرتعداً.. دخلت مقهى /الهافانا/ وطلبت فنجان قهوة، وعندما حملته لآخذ رشفة منه، ارتعشت يدي، فانسكب نصفه، ولم أستطع توصيله إلى شفتي ولمحني الناس، فوضعته على الطاولة، ودفعت ثمنه وانسحبت..! إنني مرعوب، خائف من أمر خطير مجهول، لا أدرك فحواه، ولكنه ينتظرني..؟.. أن عقاباً قاسياً يتربص بي..! ولكن ماهو ذنبي..!؟ لم أسرق.. لم أخن.. لم أكذب أو أنافق.. لم أتآمر.. لم أقم بأي شيء مكروه.. إنني أعرف نفسي، وأتذكر ذلك جيداً.. وحتى منزلي لم أغادره إلا لزيارة المعرض...!
نعم.. لقد كان جناح الجزائر متواضعاً إلى درجة محزنة.. أحسست أن /العقدة/ اهتزت.. أمسكت برأس الخيط.. لقد صدمني وضع الجناح الجزائري..!
-أدركت أن جزءاً صغيراً من صخرة العقدة الجاثمة فوق صدري، ينفصل عنها، ويتدحرج باسم الجناح..! تساءلت: هل هناك أجزاء أخرى مزعجة..؟
وشيئاً فشيئاً.. بدأت خيوط الفجر، تتلاحق لتكتسح عتمة الليل وتحرّر الحقيقة..
-المستوطنات الإسرائيلية في الجولان خرافة، وتهريج.. ومادامت سورية العربية، متشبثة بأرضها، وحقها الكامل فيها، فلن تنال إسرائيل شبراً واحداً منها، حتى ولو هددت ببناء مئات الآلاف من المستوطنات.. وأذكر بما قاله (المعري) في مايشبه المقام...!؟
-قصف العراق بالصواريخ. ومهما قتلوا أو دمروا فلن يستطيعوا إفناء الشعب العراقي.. إنه في كل مكان في أرضه، وفي قلوبنا، وفي العالم، وفي حضارته التي لن تندثر، وإرادته التي لاتقهر..
-زلزال الجزائر.. لقد مرّ دون خسائر في الأرواح مع أن الجزائر قد تعودت -منذ قرون- على بذل الأرواح.. ولكن المهم -كما عهدته الجزائر دائماً- وهو شفاء الجراح، وتحقيق النجاح، والمحبة والأفراح..
وزوجتي ستسافر إلى أبنائها خلال هذا الأسبوع.(1/94)
هناك شيء ظل خافياً لم أتذكره، إنه يثير حيرتي، ويحفر كالمثقب الدوار في أعماق ذاكرتي.. لابد أنه أمر جلل وشيء هام.. حاولت تذكره، ولكن دون جدوى...!؟
وفي تمام الساعة الخامسة من اليوم الخامس، جاء الفرج، وعمت الفرحة ربوع متاهاتي.. لقد تذكرت آخر جزء مؤذ في تلك /العقدة/ المحلولة المفتتة..
إنه شيء تافه. حلقة مسلسل /كاسندرا/ التي احتجبت قبل يوم أمس...!؟ تساءلت وأنا أحاور نفسي -ألا يصح أن ينطبق على الأمة، ماينطبق على أحد أفرادها...!؟
ألا يمكن أن تكون أمراض الجزء، هي نفسها أمراض الكل...!؟
وإذاً.. ألا يجوز لنا أن نعتبر بأن العرب حالياً يعيشون /عقدة/ صخرية غامضة، تبدو إفرازاتها في الخوف من المجهول، والرعب من الآخر، وعدم الثقة بالأقربين، والشعور بالضعف إلى حد الاستسلام للأعداء عند البعض...!؟
أما مكونات /عقدتنا/ الأساسية، فهي بلا ريب -التجزئة، والجهل، والتخلف، والأنانية، والغرور، وانعدام التعارف والتواصل، وهيمنة السياسي على الثقافي...!؟
ألا تستطيع أن تقوم أمتنا /ككل/ بعملية /تحليل نفسي/ لتكشف /عقدتها وتبادر إلى علاج مرضها، حيث تنتعش الذاكرة العربية...!؟
وينتهي زمن الشتات...!؟
21/9/1996
((
مراحل الشعر الجزائري..؟
سألتني صديقة جزائرية، شاعرة أيمكن تقسيم حركة الشعر في الجزائر -زمنياً- إلى:
1-مرحلة ماقبل الاستقلال.
2-فترة الثورة المسلحة.
3-مرحلة مابعد الاستقلال..؟
-بالفعل.. فقد اعتمد بعض المؤرخين، ونقاد الأدب الجزائري.. انتهاج هذه الطريقة الزمنية التاريخية، لتحديد مراحل تطور الأدب الجزائري، والشعر بصفة خاصة.. وذلك اعتباراً لأهمية هذه الفترات في صنع التحولات الكبرى للإنسان الجزائري.(1/95)
ولاريب أن هذه المراحل الثلاث، تحمل في تعاقبها الزمني، تمايزاً واضحاً، وتغيرات عميقة، مسّت صميم المجتمع، وبنية الفكر، وكان لها تأثير جذري، وتحول أساسي، في تطوير شخصية الشعب الجزائري، أفراداً وجماعات، وفي بلورة الكثير من الفوارق، والمزايا بين الأجيال المتعاقبة..
ولكن.. حتى نستطيع أن نضبط قليلاً، مرحلة ماقبل الاستقلال، لابد من تعيين تاريخ واضح لبدايتها، ولايمكن أن نقرنه بسنة 1830، تاريخ بدء الغزو الاستعماري للجزائر، لأن فرنسا لم تبسط هيمنتها الكاملة على الجزائر إلا بعد انقضاء القرن التاسع عشر تقريباً...!؟
ثم إن الهيمنة التركية طيلة أربعة قرون في الجزائر، هل يمكن اعتبارها في مرحلة ماقبل الاستقلال، أم لا..؟
طبعاً.. هناك اختلافات في وجهات النظر، حول هذا التساؤل الأخير، فثمة من يعتبر عهد الأتراك، امتداداً للخلافة الإسلامية وأن الجزائر كباقي الأقطار العربية الأخرى التي كانت تحت لواء الراية العثمانية، لم تكن مستعمرة، وإنما كانت جزءاً من الدولة الإسلامية الكبيرة في ذلك الوقت..
وهناك من يعتقد، بأن عهد الحكم التركي، كان عهداً استعمارياً، بكل معنى الكلمة، نظراً لأسباب كثيرة، منها:
التفرد بالسلطة، والتمييز بين الأتراك والعرب، في تولي المناصب الهامة، وإهمال اللغة العربية، ومحاولة تسييد اللغة التركية، وقلة الاهتمام بمصالح المواطنين، واحتكار الأماكن والأراضي الجميلة والثرية.. وأخيراً ضعف مقاومة السلطة الحاكمة أمام الغزو الاستعماري ضد الجزائر العاصمة، واستسلامها بسرعة فائقة، مما يبرهن على أن مسؤوليتها لم تكن منطلقة من وازع وطني، أو مؤسسة على قاعدة إسلامية صلبة..(1/96)
وفي سياق تحديد مراحل الشعر الجزائري العربي، يجدر بنا أن لانهمل تلك الحقبة الممتدة من القرن السادس الميلادي إلى القرن الرابع عشر، أي منذ القرن الأول الذي انتشرت فيه الرسالة الإسلامية بكل ماتحمله من قيم. وآداب، ولغة، وتقاليد عربية إلى بداية العهد العثماني.. ولاشك أنها حقبة طويلة وهامة، تحمل الكثير من مآثر الإبداع، والازدهار، والتطور الثقافي...
إذن لابد من دراسة موضوع /الشعر الجزائري ماقبل الاستقلال/ دراسة وافية، وجيدة، وشاملة لكل الأزمنة المعروفة.
وأقترح مؤقتاً اعتبار المرحلة الحديثة، منذ حلول مطلع هذا القرن العشرين، وبتحديد أدق، منذ قيام الحرب العالمية الأولى حيث تشكلت وانطلقت الحركات السياسية الوطنية، وبدأت عملية افتتاح المدارس الحرة، بقيادة الإمام الشاعر، الشيخ، عبد الحميد بن باديس /1913/ وتوالى نشوء الجمعيات السياسية والأدبية والفنية، وأخذت الصحف والمجلات الوطنية في الصدور. والانتشار -رغم محاربة الاستعمار- وتنامي الوعي الجماهيري. وعمت أفكار وتحركات المقاومة، والدعوة للاستقلال.
وقد كان عدد الشعراء الذين يمثلون هذه المرحلة كبيراً، أذكر منهم محمد العيد آل خليفة.. ومفدي زكريا... والهادي السنوسي وبلقاسم خمار (العم).. والطيب العقبي، وابن باديس، وبلعابد الجيلالي، ومحمد الصالح رمضان، وجلول بدوي، وعبد الرحمن العقون، والزاهري وعبد الكريم.. وغيرهم.. بالإضافة إلى الشعراء الذين كانوا يكتبون باللغة الفرنسية، أمثال مالك حداد، ومحمد ديب، وناديا قندوز وغيرهم.
ومع أن مضامين وأساليب شعراء العربية في مرحلة الحركة الوطنية، كانت متأثرة -قليلاً- وبالقيم الدينية، والفكر الإصلاحي ومشبعة بمفاهيم النهضة الإسلامية، في توجهات جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده وشكيب أرسلان.. بالنسبة للجوانب الأخلاقية، والمثالية في البحث والسعي إلى تحقيق العدالة، والمساواة، وإحقاق الحق.(1/97)
مع ذلك ظل جيل هذه المرحلة، يقترب بسرعة نحو الواقع الماثل. والتحول الحضاري المعاصر، ويتطور في تأملاته ووجهة نظره من عقد إلى عقد.. ليلتحق، بحركة التجديد المواكبة للأحداث خاصة لدى الشعراء، مفدي زكريا، وبلقاسم خمار العم، ومحمد العبد آل خليفة.. حيث انفجرت في أشعارهم الجميلة، شعارات الوطنية، والقومية، والحرية، والدعوة إلى المقاومة والتمرد، ضد المحتلين، والتبشير بالثورة المسلحة.. وفي هذه الفترة تأسس حزب الشعب الجزائري بشقيه العلني، والسري، وبنداءاته الداعية إلى ضرورة اندلاع الثورة المسلحة لطرد المستعمرين.. وقد تبلور ذلك منذ مطلع الأربعينيات.
لقد كان شعراء مرحلة الحركة الوطنية كلهم من رعيل القصيدة العمودية، مما جعلهم من هذه الناحية الشكلية، وفي بداية انطلاقهم.. امتداداً لشعراء الجزائر في القرن التاسع عشر، وعلى رأسهم القائد الشاعر، الأمير عبد القادر الجزائري. أما من جهة اللغة، والمحتوى والغايات، فهناك فارق كبير. وهذا عكس ماظهر لدى شعرائنا خلال عهد الثورة المسلحة /1954-1962/ حيث انطلقت القصيدة الحديثة بتفعيلاتها المتحررة إلى جانب العمودية، التي واكبت تطور الشعر العربي منذ مطلع الخمسينيات.
ولم يكن هناك بين أجيال الثورة من الشعراء، أي صراع أيديولوجي أو (شللي) كما وقع ذلك خلال مرحلة مابعد الاستقلال.. لقد كانت هموم الثورة هي الدافع الموحّد الوحيد، وكانت صرامة انضباطها لاتسمح بأي تفرقة أو انقسام.
كان شعراء الثورة، يكتبون القصيدة الحرة، والعمودية في المرحلة نفسها.. وحسب مقتضيات المقام، والحالات النفسية والاجتماعية، وظروف السياسة، وسير المعارك المسلحة، وكانت كل الاهتمامات منبعثة، ومنصبة على حقائق الواقع والوطن، وأهداف الثوار والمناضلين.. وآلام المعاناة، وفضح جرائم الاستعمار، وتفنيد ادعاءاته ومزاعمه، وبث الطموح وروح الأمل، والتبشير بالمستقبل، وقرب الانتصار الأكبر.(1/98)
ومن بين شعراء مرحلة الثورة المسلحة، نذكر:
بلقاسم سعد اللّه.. ومحمد الصالح باوية، ومحمد الصالح الخرفي، وصفدي زكريا (مخضرم) وعبد القادر السائحي.. وعبد الرحمن زناقي وصالح خباشة، وأحمد معاش، ومحمد بلقاسم خمار، وغيرهم.
بالنسبة للمرحلة الثالثة، أي مابعد الاستقلال أرى كذلك ضرورة تحديدها، وعدم تركها هكذا، دون الإشارة إلى التحولات الجذرية العميقة التي هزت المجتمع. وكان لها تأثير بالغ في انقلاب الأوضاع، وتحول المفاهيم، وتجدد المعتقدات، وأساليب الحياة.
إنني -من وجهة نظري- لا أحبّذ طريقة تصنيف الشعراء الجزائريين بعد الاستقلال، تبعاً لتعاقب العقود، والعشريات السنوية، كما درج على استعمال ذلك بعض نقادنا من الشباب، حيث قسموا الشعراء إلى فئات الستينيات، والسبعينيات والثمانينيات، وهلم جرا. إلى مالا نهاية.. وأرى في هذا التصنيف، اعتباطية جزافية، وعبثاً فوضوياً، مصدره ميول انفصالية -انفصالية.. وإلا ماذا نقول عن بعض شعراء الخمسينيات الذين مازالوا إلى الآن يواكبون حركة الإبداع، وينشدون شعراً جيداً..فإلى أي (عشرية) ننسبهم...!؟ وكذلك غيرهم..؟
وأعتقد أنه يمكننا اعتبار حوادث الخامس من أوكتوبر (تشرين الأول) 1988- كنقلة أساسية، في إفراز جيل جديد من الشعراء الشباب.. جيل يحمل هموماً مغايرة، ويختلف عمن سبقوه في نوعية أفكاره، وسلوكاته، وتطلعاته، وحتى في أوضاع تعليمه وتكوينه.. وعلاقاته التاريخية والاجتماعية، وخاصة في تأثراته ومعطياته النفسية... لقد كانت حوادث أكتوبر عنيفة، وسريعة، وشاملة، أثرت تأثراً عميقاً في نفوس جيل الشباب الجزائري. هذا الشباب الذي يختلف كثيراً عن جيل مابعد الاستقلال، ممن شهدت طفولتهم أعوام الثورة المسلحة، وترعرعوا تحت ظلالها..(1/99)
ومن المعلوم، أنه بعد حوادث 1988، انتهى نظام الحزب الواحد الحاكم، وانطلقت التعددية الحزبية، وبدأت الصراعات السياسية، والعقائدية، في جو من الديمقراطية المطلقة إلى حد التجاوز والفوضى، وبدأت الأزمة الاقتصادية تشتد، وتفشت البطالة والبيروقراطية، والمحسوبية، واحتدّ التطاحن من أجل السلطة، كما أن الثقافة العربية ظلت مهمّشة مع مثقفيها، من هنا... وجد الشعراء الشباب أنفسهم -وهم أكثر الناس حساسية- وجدوا أنفسهم داخل دوّامات خانقة، مفعمة بالفراغ والحيرة والقلق وغموض المستقبل، والمصير المجهول...!؟ وهذا مادفع بهم في إبداعاتهم..
إما إلى الإفراط في الذاتية، والتشاؤم، والتركيز على الجسد والجنس، والرمزية والأعراف.. أو إلى التفريط، بتجاوز حدود المنطق والمعقولية، والتوازن.. مع الانغماس داخل بؤر التطرف وقواقع التعصب باسم الأصولية والسلفية أحياناً.. أو عند آخرين.. باسم الحداثة الغربية والعصرنة، ونكران الهوية والدعوة إلى الانضمام...!؟
طبعاً.. هناك فئة ثالثة من شعراء هذه المرحلة وهي ذات وزن كمي ونوعي.. ظلت متمتعة بتوازنها الوطني الهادف والجاد، في مضامينها وأشكالها الإبداعية، فلم تبالغ في اصطناع المحتوى، ولم تنجرف في وراء الاقتباسات الشاذة عن شخصيتها القومية، وفي الوقت ذاته لم تخل في العناية بجمالية النص، وحداثة الفكرة، ومسايرة التطور..
وأذكر من شعراء هذه الفئة الأخيرة، عز الدين ميهوبي، وأبو زيد حرزاليه، وعياش يحياوي، وسليمان جوادي.. وغيرهم..!
وأشير إلى أن من بين شعراء هذه المرحلة أي مابعد 1988، عدداً جماً من الفتيات الشاعرات، يتجاوز الخمسين شاعرة، ممن يمتلكن موهبة حقيقية، وحساً راقياً، وثقافة عميقة، ويبشرن بمستقبل زاهر، واعد..
كما أشير إلى أن كل من وردت أسماؤهم من الشعراء في هذا الموضوع، لهم دواوين شعر مطبوعة، ولا أدري.. هل أطلع عليها أشقاؤنا في المشرق العربي؟
3/10/1996
(((1/100)
النفق.. والساحرة والبوّاس..!؟
ربما تأتي الأمة العربية، في مقدمة كل أمم العالم، لما شهدته من هجمات عدوانية خارجية، ولما خاضته من صراعات وحروب. ضد أطماع الغزاة الأعداء، ومحاولاتهم المتكررة، للقضاء على الجنس العربي، وامتلاك مواقعه، وأرضه، وخيراته..
وعندما نعود إلى التاريخ، قديمه وحديثه، ونتذكر حملات واكتساحات الأحباش، والفرس، والروم، والمغول، والتتار، والصليبيين والمستعمرين الغربيين.. ثم نتأمل نوايا وأهداف الوجود الإسرائيلي فوق الأرض العربية، ومايتبعه من وسائل القوة والاستغلال، ودعم الدولة الأمريكية الأقوى، ومن يلف حولها، نتأكد بأن قيام إسرائيل في فلسطين منذ 1948- وهو بمثابة أخطر وأطول، وأعمق نفق للموت، يحفر في جسد الأمة العربية ويمتد بكوارثه، كمرض السل، من المحيط إلى الخليج..!!
-نفق مظلم، رطب، لزج.. زرعت فيه كل أنواع الفطريات السامة، وتنتشر منه كل العفونات النتنة، والجراثيم الموبوءة، وكل الآفات التي تفتك بصحة العرب، وتهدد عافيتهم، وسلامتهم ومصيرهم المأمول..!!
وقد كان أقطاب العالم، يدركون خطورة ذلك النفق وأثره الدائم في تأزم الأمراض العربية، ودوره الأساسي في تدهور الصحة الإنسانية بصفة عامة.. ولكن.. لكي يظل العرب في حالة هزال مزمن.. كان الأقوياء، من ورثة الصليبيين والمستعمرين، هم من قدم المؤازرة والعون، وساعد بالفؤوس والجرافات، والألغام، في شق ذلك النفق المرعب، وكانوا راضين بمصائبه وويلاته.. بل كثيراً مااستعملوه لتمرير قاذوراتهم وميكروباتهم الفتاكة، وفضائحهم، وجرائمهم البشعة للإطاحة بالأبرياء،.. والغافلين..!؟(1/101)
ومن اللافت للانتباه أن ذلك النفق الخطير الموحش أصبح مصنعاً همجياً، ورهيباً لصنع أنفاق أخرى، متنقلة وقارة تماثله قسوة، ووحشية، وشراسة.. ظواهرها قد تبدو مموهة، مزركشة، لتوحي بالاطمئنان.. ودواخلها بشعة مرعبة، كمجاري جهنم، تنفث الدخان واللهب، وتوزع الحمى والطاعون.. وتنذر بالدمار، والطوفان...!؟
-أنفاق.. بالعشرات -والمئات.. حفرت في كل أرجاء المعمورة.. من قبل.. وخاصة منذ 1948.. وبعد ميلاد النفق الأعمق.. الكيان...!؟
-أنفاق.. للإرهاب، والغدر، والاغتيال، والقتل الجماعي، والتآمر، والدس، ونشر الحزازات والفتن...!
-أنفاق.. للإشاعة المغرضة، والتمويه، وحبط العزائم. وخفض المعنويات، وزرع البلبلة والفوضى..!
-أنفاق للتهويل، والتضليل، والنفاق، والتجسس، واكتشاف الضمائر الميتة، وامتلاكها، وتوظيفها للخيانات..!
-أنفاق.. للإغراء، والترغيب، والوعود الكاذبة، والنوايا البراقة الملغومة، واصطناع الطيبة، وطلاء العنصرية والنقمة والحقد، بألوان مزيفة للديمقراطية، والمحبة والرحمة.
-أنفاق.. للمتاجرة بالمرتزقة، والأسلحة، والرقيق، والجنس والمخدرات، والتزوير، وكل أنواع السموم والآفات..!
..عشرات.. ومئات الأنفاق المحفورة، داخل أقطار الموطن العربي، وفي مختلف أنحاء العالم تحت عناوين كثيرة سياسية، وفكرية، واقتصادية ومالية، وأدبية وفنية واجتماعية، ونفسية، وتاريخية، وثقافية، وزراعية، وإعلامية، ودينية، وتعاونية، وأمنية، وسلامية، إلا أنها، كلها عبارة عن أذرع /نفقية/ متوحشة لأخطبوط واحد هو ذاك النفق الشرير الرهيب.. إسرائيل.(1/102)
والشعب العربي، يعرف جيداً حقيقة هذه الأنفاق ويتململ غضباً، وألماً وحسرة.. كلما سمع بفتح نفق جديد.. -ومع الأسف- هناك من بين العرب، من لم تحرك فيهم هذه الأنفاق أي إحساس شهم، الحيطة أو الخشية، أو اليقظة، بل هناك منهم من شارك في احتفال فتح بعضها.. واقتحمها مع الزائرين بغباء.. وسار في مساربها ودهاليزها الغامضة القاتمة...!؟
مخيم داود.. وأوسلو.. ووادي عربة.. وأروقة واشنطن.. ألم تحفر في كل هذه الأماكن وغيرها، أنفاق للمهازل والذل، والعار..!؟
ولولا تماسك سورية ولبنان.. والتزام القيادة السورية بمبادئ الشرف، والعدل، والحق.. لولا ذلك.. لشاهدنا منذ وقت قريب، نفقاً جديداً يفتح باسم /لبنان أولاً/!
إن هذه الأنفاق، لاتعني أنها مستعصية على الهدم والإزالة، فقد حطمت حرب تشرين التحريرية -1973- جزءاً كبيراً منها ومع ذلك ظلت عملية الحفر مستمرة...!؟
أما النفق الأرضي الذي "شنته إسرائيل أخيراً، تحت جذور المسجد الأقصى، ثالث الحرمين، وأول قبلة للمسلمين.. -أما هذا النفق /السياحي/ ما يدّعون- فهو يعني بالدرجة الأولى، استهانة، واستخفافاً بكل العرب والمسلمين، وهذه منتهى الحماقة، كما يعني إيجاد وسيلة للمزيد من قتل الوطنيين المخلصين، وإمعاناً في إذلال الموالين، وتسجيد الراكعين، وإثباتاً للرأي المعادي، بأن المؤمن، يمكن أن يلدغ من حجر واحد أكثر من مرتين.. عشرين.. وخمسين.. مرة.. وهو عكس ماقاله الرسول في زمنه، عن المؤمنين الصادقين في إيمانهم...!؟
وقد تذكرت -يوم فتح نفق القدس- حكاية كان والدي -رحمه اللّه- قد حكاها لي، منذ الأربعينيات، ولمست فيها شبهاً كبيراً لما يحدث لبعضنا في هذا الزمن الفاجر الرديء،.. تقول الحكاية:
كان رجل كريم المعشر، حسن المظهر، شجاعاً غامضاً طيب السمة، حلو الحديث، كثير الثقة بمن لايعرفهم..!(1/103)
هذا الرجل كان أعزب، يعيش وحيداً، ويسكن غرفة تقع في مدخل مسجد المدينة.. ولكن رواد الجامع، لايذكرون أنهم شاهدوه بين صفوف المصلين..! إلا أن سمة التقوى والورع كانت بادية في تصرفاته وسلوكه.. لذلك كان إذا مشى في الشارع -بتواضعه الجهم وابتسامته العريضة التي لاتفارق شفتيه -يشير إليه كل المارة بالتقدير ويحيونه، ويصافحونه.. وكان هو لايكتفي بمصافحة أهل الطريق له.. بل يرتمي نحوهم بحماس، فيعانقهم، ويقوم بتقبيل كل واحد منهم في رأسه، وفي كل أجزاء وجهه، مما جعل بعض المتفكهين يطلقون عليه اسم "البوّاس".
اشتهر الرجل بين أهل حيّه، ولشدة بساطته، وتغيبه أحياناً عن الأنظار، صار جيرانه -بعد مرور الزمن- يشعرون نحوه ببعض الغموض والتضارب.. ويتخيلون في شخصيته صفات متناقضة، بين الزهد، والتهالك.. بين البطولة والجبن.. بين الصرامة واللين.. بين التقوى والفسق.. بين الصدق والنفاق. إلى درجة أن بعضهم جعله في قمة أهل الحكمة والعقل، بينما يؤكد آخرون أنه متذبذب، ومجنون..!
وكانت في المدينة نفسها امرأة لعوب، تعيش مع أمها تحت سقف واحد. وقد انتشرت حول المرأتين إشاعات سيئة تجزم أنهما تمارسان أعمال السحر، والبغاء، وتتاجران بالمخدرات وتقومان باختطاف الأطفال وبيعهم..
انتبهت المرأة اللعوب لذلك الرجل البوّاس، فأثار فضولها، فراقبته مدة، ثم صممت على امتلاكه..
-قالت لأمها: لقد تعلقت بالبوّاس.
-سألتها الأم: هل أحببته حقاً؟ أم مجرد نزوة عابرة، وخطة ماكرة، كما عهدتك دائماً..؟
-أجابت اللعوب: لست من مقامه، لأقع في غرامه.. ولكن نظراً لمكانته بين الجيران، وسمعته الطيبة، فقد أردت الاستيلاء عليه والسيطرة على قلبه، وبذلك نأخذ من حسناته، ونستفيد من علاقاته، وبواسطته نستميل قلوب الناقمين علينا..(1/104)
-رمقتها أمها بنظرة مليئة بالحب والإعجاب، وقالت لها لم أتصور أنك وصلت إلى هذا الحد من الذكاء والدهاء..! فانصرفي إليه.. وقيديه.. واعتمدي عليّ، في كل أمر تجدين صعوبة فيه...!؟
اعترضت اللعوب الساحرة طريق الرجل، فحيته وصافحته.. وهمّ بمعانقتها وبوسها، فتمنعت.. ولكنها بكلامها المعسول، وبحركات الدلال والإغراء استطاعت أن تستميله قليلاً.. وبعد مراوغات، طلبت منه أن يزورها ليلاً، حتى لايراه أحد وأخبرته بأنها ستكاشفه بسر هام، وخطير...!؟
وعندما أسدل الليل أستاره تسلل /البوّاس/ وطرق بابها.. فاستقبلته مع أمها بالفرح والترحاب، وأجلسته إلى جانبها وأمها، وقدمت إليه أشهى المآكل، وأعذب المشروبات، ولم يدر المسكين أنه منذ تلك اللحظة أخذ يتعاطى سموم السحر الأسود، في كل لقمة.. وكل جرعة...!؟
وبدأ السحر يعطي مفعوله.. فسأل بلهفة ماهو ذلك السر الهام الذي قلت أنك ستبوحين به إليّ..؟
قالت -وهي تتصنع العشق والهيام- بصراحة لقد تعلقت بك من أول نظرة.. وكم أتمنى لو ترضى بالعيش معي، وسأكون لك نعم الخادمة..!
أحس /البوّاس/ بنشوة عارمة من الغرور، تكتسح كيانه.. فرد بكبرياء المسحور: أنا أعيش معك هنا..!؟ ماذا يقول الناس عني...!؟ فإذا كنت بالفعل متعلقة بي فلا مانع عندي.. أنا أيضاً أشعر بالميل إليك.. ولكن تعالي أنت، وعيشي معي..!
-قالت له الساحرة اللعوب- وهي تبتسم بخبث وتهكم-: أيعقل أن تعيش امرأة مع رجل في جامع...!؟
وتدخلت الأم لحل الإشكال، فاقترحت أن تشتري له منزلاً في الحي المجاور لحيهما، ليسكنه مع ابنتها العزيزة.. وبعد لحظة صمت.. تم الاتفاق على ذلك...!؟
كانت المرأة الساحرة، تقوم يومياً بإطعام الرجل وسقيه من نقيع سحرها الفتاك.. وتجري عليه سلسلة من التجارب المهينة لترى مدى تأثره، وما وصل إليه من طاعة وانقياد...!(1/105)
تغيرت أحوال الرجل، وتبدلت طباعه وتصرفاته.. حتى أصبح أغلب المعجبين به سابقاً، لايحيونه عندما يرونه.. ولايعطون لبسمته العريضة أي اهتمام..
وعندما أحسّت الساحرة بأن ضحيتها أصبح كالخاتم في إصبعها، تديره كما تشاء، أحبت أن تجري عليه آخر تجربة.. فاستدعته إلى المطبخ، وسحبت ملعقة أكل، وملأتها مرقاً أحمر.. ثم ناولته إياها، وهي تأمره بقولها: اذهب بهذه الملعقة إلى أمي في الحارة المجاورة وإياك أن تسقط ولو قطرة واحدة منها.. وقل لها أن تتذوقها وتخبرني، هل ملحها مضبوط، أم في حاجة إلى المزيد..!؟
شق البوّاس الشوارع، هو يحمل ملعقة المرق، ويحاذر في خطاه، والناس مندهشون، يتعجبون من أمره.. حتى وصل منزل الأم الكبرى الساحرة.. وعندما استلمت الملعقة، وعرفت المطلوب، قالت له: ارجع إلى بنتي الغالية، وقل لها: يكفيه.. فلو زدت عليه لفقدته ولايبقى لك شيء منه..!؟
19/10/1996
((
خواطر مع الثورة الجزائرية في ذكرى اندلاعها الثانية والأربعين
في أول ساعة من اليوم الأول من نوفمبر /تشرين الثاني/ 1954 اندلعت الثورة الجزائرية العارمة.. واليوم -1996- يكون قد مرّ على انطلاقها، اثنتان وأربعون سنة..!
تلك الثورة التي هزّت الشعب الجزائري ورفعت رأس العرب، وملكت حبهم وإجلالهم، وأحرزت تقدير الأحرار واحترامهم.. وأدهشت العالم، وأرعدت فرائس المستعمرين والمعتدين..!
تلك الثورة التي تبوّأت قمة الإعجاب والتقدير، والمجد وأيقظت شعوب آسيا وأفريقيا، وأمريكا اللاتينية، وقضت على أسطورة نفوذ القوة الغاشمة.. إذا وقفت في وجهها قوة الإرادة والتصميم، وجابهتها شجاعة الحق المهضوم، وانتفاضة العدل المحروم..!
تلك الثورة التي قال عنها الأعداء قبل الأصدقاء: إنها ثورة مثالية في التاريخ.. وأنها معجزة القرن العشرين..!(1/106)
اثنان وأربعون سنة تمر إذن -منذ قيام الثورة الكبيرة.. بالاستقلال.. بعد سبع سنوات ونصف من الجهاد المتواصل، ليل، نهار.. وبفضل البطولات والتضحيات، وكان ثمن النصر باهظاً قاسياً مرعباً.. مليوناً ونصف مليون من الشهداء.. وأكثر الآلاف من المشردين ومايقرب من مليون سجين ومليون من الموقوفين داخل المحتشدات الجماعية ومئات الآلاف من المشوهين والمقعدين والأرامل والأيتام.. وخطوط الموت تطوّق القطر الجزائري من أقصى شرقه إلى أقصى غربه بأسلاكها الشائكة المكهربة، ومطبات ألغامها الغادرة، والتي مازالت حتى اليوم، تفتك بين الحين والآخر، بالأبرياء من المواطنين..؟
ورغم كل شيء فظيع.. انتصرت الثورة بفضل احتضان الشعب لها بوعي واقتدار وباستبسال جيش التحرير، وحكمة وحنكة جبهته الذكية العتيدة..
فكم هي عظيمة ونادرة المثال ثورة الجزائر المسلحة..! وكم هي باهظة التكاليف، غالية القيمة، حرية الجزائر واستقلالها..!؟
وهاهي اثنان وأربعون سنة تمرّ.. فهل نعتبرها بناء تكاملياً متصاعداً في عمر الثورة.. أم هي مجرد ذكرى تمر.. لانتصار تحقق، وبطولات سُجلّت.. وتضحيات قُدمت وماض حدث وانقضى، ولم تبق منه سوى الذكريات...!؟
الآن تمرّ بخاطري صورة لواقعة تاريخية هامة، وهي أن الثورة الفرنسية التي انفجرت سنة 1789- قام أبناؤها بعد أربعين سنة وقليل.. أي سنة 1830 بالهجوم على الجزائر لاستعمارها..!
وهاهي الثورة الجزائرية بعد أربعين سنة وقليل وقد تجاوزت سن الرشد في حساب الاستدلال الفكري للنضج -ها هي توحي بتساؤل محزن: أين هي الآن...!؟ وأبناء أرضها على من يهجمون...!؟ على أنفسهم..! يا للأسف...!؟
من حسن الحظ أن الثورة الجزائرية المسلحة، قد حققت انتصارها على جبروت الاستعمار، وأفشلت كل خطط ودسائس المضادين، والمخالفين، والمناوئين...(1/107)
وقد كان انتصارها دافعاً مباشراً، وحافزاً مصلحياً، لأن تندمج في تياره جميع الفئات التي كانت تعارض الثورة خفية أو علناً.. بل أخذ بعضهم يحاول بجرأة، أن ينسب لنفسه الباع الأوفر في مسيرة تحقيق الحرية.. ويعلم الله والراسخون في الثورة ماتنطوي عليه نفوس أولئك المتطفلين من حقد، وسوء نية وشعور بالنقص.. ومن مثل هؤلاء المنافقين المنقلبين جاءت أمراض جبهة التحرير الوطنية إبان مسيرتها الاستقلالية خلال ربع قرن.. ومن مثلهم تشكلت أغلب الأزمات التي تعيشها الجزائر اليوم..! أن الثورة الجزائرية لم تنته.. ولم تمت.. ومازالت أملاً حياً يتأجج في قلوب أبناء الشهداء، والمجاهدين، والمثقفين الملتزمين وفي حلم الشعب النابض بالحياة.. وفي سلوكه الثوري الذي صار سمة بارزة في طبعه وسلوكه، وعلامة مضيئة دالة عليه..
ومن المعلوم أن نجاح الثورة، لايحقّق التغيير الاجتماعي الجذري والشامل، إلا بعد مدة من الزمن قد تطول، وقد تقصر.. ويقدرها المفكر /جون ديوي/ بفترة ظهور جيل جديد، تكون قد تكونت عاداته الفكرية في الظروف الجديدة التي أوجدتها الثورة...
ويحدوني أمل بأن هذا الجيل، هم من طلائع شبابنا، من أبناء الشهداء والمجاهدين، وأبناء المدرسة الأساسية، وأبناء العمال والفلاحين.. وهم من يشكل تقريباً أغلب أفراد المجتمع الجزائري المستقبلي..
إن قيم الثورة الجزائرية، الرائدة الهادفة.. مازالت تشغل حيزاً كبيراً وعميقاً ومؤثراً في ضمير الشعب، وتطلعات أجياله الناشئة، وتتفاعل يومياً مع آمالهم، ومطامحهم.. ذلك لأنها هي دوح كرامتهم، وشرط بقائهم، ومصدر مجدهم وفخرهم، ووسيلة تقدمهم وسعادتهم، وازدهارهم.. هذه القيم الأساسية الثابتة تتمثل في جانب منها في:
-وحدة الشعب الوطنية التي تتعارض مع الفتنة، والتفرقة، والتمزق.
-وفي تضامن المواطنين وتساندهم، ضد الخيبة والفشل والصراع المصلحي.(1/108)
-وفي الاجتهاد والجهد -والعمل الدؤوب المنتج- المستبعد لكل سلبيات البطالة والكسل، والملغي لكل أسباب الحاجة والندرة، والفاقة، والفقر..
-وفي الغيرية، والتعاطف، والتسامح، بلا أنانية أو ضعف أو اختلال.
-وفي التضحية، والتعفف والقناعة، دون استغلال أو شراهة، أو طمع.
-وفي الأخوّة والمحبة والانسجام -بعيداً عن مظاهر العداوة والغدر والاغتيال.
-وفي التنظيم الدقيق، واحترام قوانينه.. ماينفي كل فوضى أو تناقض، أو انتكاس.
-وفي التنسيق المحكم المتكامل، الذي يمنع أي تسرب للانتهازية أو التلاعب والكيد..
-وفي الاعتماد على الذات، بلا اتكال على الغير، أوانتظار لما يجود به الآخرون.
-وفي إحياء الثقافة الوطنية كسبيل أو حد لسيادة الشخصية الوطنية واحترامها بلا تبعية مهينة أو استلاب ممقوت، أو استيراد لقشور الحضارات.
-وفي نشر التربية والتعليم والتكوين على أسس معطياتنا التاريخية الأصيلة ومنابعنا العربية الإسلامية الغنية، وتطلعاتنا المعاصرة، والمتحررة.
-وفي نشر العدل، وتحقيق المساواة، وفتح فرص الحياة أمام الجميع.
-وفي مواصلة الجهود الثورية، من أجل التطور، والتقدم وإحراز المكانة المنشودة بين شعوب العالم.
-وفي صيانة العرض والشرف، وكرامة المواطن، والحفاظ على مكارم الأخلاق، وكل العادات الحميدة، والتقاليد السامية.
-وفي العناية بتاريخ الثورة، واستلهام ملاحمه الخالدة، واحترام المجاهدين، والاعتزاز بماضيهم، ومواقفهم، وتقديس الشهداء. والوفاء بعهودهم، وبالأمانة الكبرى التي تركوها بين أيدينا ألا وهي: حرية الوطن بكل ماتعنيه كلمة الحرية، من قوة ومناعة، ومن حصانة ورقي،.. ومن تقدم وانطلاق...(1/109)
قيم كثيرة، صميمية بليغة، وهادفة رائعة.. خلدتها ثورة أول نوفمبر -1954- في سلوك وأفكار أبنائها الأوفياء، وفي كل مواثيقها وقوانينها... وفي مآثرها وآثارها البطولية المجيدة الراسخة، في الفكر والسلوك.. في الآفاق والأرض، في الزمن والمكان.. في الذاكرة والآمال.. ومن واجبنا -وواجب كلّ عربي يعتز بأمجاد أمته- أن لانهمل هذه القيم الرائدة، وأن نعمل على بعثها ونشرها، وترسيخها في نفوس أجيالنا الناشئة، ودعمها وتطويرها بما تتطلبه من وسائل الدعم، والإشهار، والانتشار...
ومما لاريب فيه أن هذه القيم تعاني اليوم -ربما في جل أقطارنا- من انتكاسة لامثيل لها، حيث اختفت أو كمنت تحت ظلال قاتمة، وضبابيات كثيفة مؤلمة.. من الإهمال والجهل، واللامبالاة.. أو من التآمر، والكيد والحقد.. وبالمقابل.. طفحت على السطوح أضدادها وعكوساتها، ونقائضها من مختلف الآفات والمصائب مما يثير الرعب والأسى، والاشمئزاز في كل نفس واعية.. ولكن مهما امتدت طفيليات الأشواك فوق دروبنا، فيجب أن نؤمن بأنها لن تستطيع القضاء على جذور السوامق البواسق، في منابتنا -وسيورق الدوح، وتعود مواسم الازدهار والغلال.
لقد كانت الثورة الجزائرية "فورة غيظ الحقيقة" كما عبر عن ذلك قديماً /فيكتور هيغو/ عن الثورة بصفة عامة..
كانت الثورة الجزائرية، فورة غيظ المظلومين والمحرومين، وانتفاضاً للعدل المطعون، والثقافة الوطنية المنسية، والتقاليد السامية المهانة، ومن أجل الحياة الكريمة الشريفة.
ثورة ضد الفقر والجهل، والمرض.. والتمييز العنصري، وكل عوامل الإبادة، والتدمير والتذويب..(1/110)
كانت ثورة كلية شاملة جامعة، لكل أسباب اندلاع الثورات الكبرى في العالم.. فهي اقتصادية بسبب الاحتكار والإجحاف، والحصار.. وهي اجتماعية بسبب الإحباط، والاضطهاد، والاحتقار.. وهي سياسية بسبب الوعود الكاذبة، والتزوير، ونوايا الفرنسة.. وهي ثقافية بسبب مالاقته الشخصية الوطنية من محاولات السلخ، والتزوير، والامحاء.. وهي قومية عربية، بسبب ماتعرض له تاريخ الشعب، ولغته، وعاداته من محاربة، وتشويه وإنكار.. وهي دينية إسلامية بسبب ماعانته عقيدة الشعب من محاولات التحريف، ومالحق بالمساجد والأوقاف، من تخريب ونهب، وهوان.. وهي بعد ذلك ثورة نقابية، طلابية كشفية، نسائية، جماهيرية.. ثورة قيم، ومبادئ، وقوانين.. من أجل الكرامة الإنسانية، والمروءة العربية، والحرية، والانطلاق.. ثورة منظمة هادفة.. من أجل قيام الجمهورية الجزائرية المستقلة، المؤمنة بوحدة المغرب العربي كجزء لايتجزأ من الأمة العربية، وكوسيلة فعالة في سبيل تحقيق وحدتها.. وتماسكها، وقوتها..
ومن هنا كانت الثورة الجزائرية بحق، ثورة مثالية، ومفخرة للعروبة، ومعجزة للقرن العشرين..
واليوم -وبقلب يملؤه /غيظ الحقيقة/ المكبوت- نكرر التساؤل: أين هي الثورة الجزائرية الآن، من مسارها الطبيعي المأمول، والذي كان من المفروض أن تواصل تدرجها الراقي فيه..!؟
أين أبناء الجزائر المخلصين، ليعاودوا الالتفاف المتلاحم، حول قيم، ومبادئ وأهداف ثورتهم العظيمة، بلا تفرقة أو خصام أو نزيف.. ويشقوا طريقهم متحدين نحو معارك البناء، والتشييد، والنهضة...!؟
هل نسينا وفاءنا لعهد الشهداء...!؟ هل نسينا أشواقنا للسعادة والأمن، والسلام...!؟ وإلى أي مصير نحن سائرون...!؟ فلتكن هذه الذكرى الغالية العزيزة، منعطفاً خيّراً لتصحيح المسار، والنصر للثورة والشعب، والمجد للعروبة، والعزة للإسلام، والخلود لشهدائنا الأبرار.
23/10/1996
((
عبد الحميد بن هدوقة ورحيل الأدباء..!؟(1/111)
عندما يتوقع الإنسان حدوث خطر ما.. وقوع كارثة فوق رأسه.. يلتفت يمنة ويسرة.. يبحث عن حل.. طوق يخرجه إلى بر النجاة، يتذكر المنجدين من الأهل، يستعرض قائمة الأصدقاء الأوفياء القادرين...!
يحفر أعماق نفسه، يفتش عن حيلة.. وسيلة.. يفكر في المواجهة.. تراوده عملية الهروب.. يحلم بمعجزة.. قوة غيبية خارقة تنقذه.. يبتهل إلى اللّه، يسأله العون. ثم.. يستسلم إلى الصبر مجبوراً.. وينتظر بقلق ورعب لحظة إطلالة المصير المجهول...!؟
-الشاعرة الجزائرية /صفية كتو/ لم تتحمل مرارة الصبر، ولم تستطع الانتظار.. مع أنها كانت في أوج فتوتها، وعنفوان شبابها -ولو تشبثت بقليل من الأمل، وشيء من التحدي والثبات لانتصرت على أزمتها.. ولكنها فضلت الفرار من الحياة كلها وانتحرت...!؟
-الروائي المسرحي /كاتب ياسين/ غدرت به /نجمة/ وكان متمرداً على الواقع المزري، فالتجأ إلى ريف المشاكسة، وأخذ يسافر ويتجول في غيبوبة الحلم المطلق.. ومارس بلا مبالاة طقوس الانتحار البطيء.. ثم مات دون أن ينتحر.. مات كأي شجاع متهور...!؟
-أما الشاعر /أحمد عروة/.. والكاتب المسرحي /مصطفى كاتب/ والشاعرة /ناديا قندوز/ والكاتب /الجنيدي خليفة/ والمفكر الكاتب /مولود قاسم/ هؤلاء الأدباء.. ارتحلوا بغتة. بصورة مفاجئة دون أن يعلنوا مسبقاً عن أسباب رحيلهم ويبدو أن للملل والإحباط دوراً صارماً في إقناعهم بالهجرة النهائية إلى العالم الآخر...!؟
الشيخوخة لم تكن قد مسكت بتلابيبهم بعد.. وهي بريئة من ذنب ترحيلهم.. كما أن السقام /الجسدية/ لم تكن على معرفة سابقة بهم.. وإذاً، فهم الذين فضلوا الانسحاب بهدوء، أمام منظر تخاذل الصحاب وفي وقت اختفاء الأهل عن دائرة العصبة، ومنافذ الحمية...!؟(1/112)
-يمكننا أن نقول عن الشاعر /ابن رحمون/ والكاتب /عبد المجيد بن حبة/ أنهما قتلهما الهرم.. ولكن ألم يكن لأشجان الغربة داخل حظيرة الوطن..! وآلام الاغتراب بين الأقارب والجيران والأحباب...! ألم يكن لهذين الجرحين، اليد الطولى في دفعهما إلى عزلة الكآبة وتحريضهما على المبادرة باستيطان المقبرة...!؟
-/الطاهرة جعوط/ و /الهادي فليسي/ و /يوسف السبتي/ هؤلاء.. اختطفهم الموت، في هنيهة، قصيرة كالبرق.. حادة كالسيف.. لقد اغتالهم عنف الحقد.. وأطفأ شموعهم ريح صرصر.. في ليل عاصف طويل...!؟
ولكن /عمار بلحسن/ و /عبد الحميد بن هدوقة/.. ماسبب موتهما؟
-قد يقولون: المرض.!.. وهاهو /يلتسين/ العجوز قد شفي والحمد للّه..!
-وقد يقولون: الأجل -وهنا أجد نفسي عاجزاً عن الإجابة.. ومع ذلك أريد أن أواصل الحديث حتى أختتم هذا الموضوع فمعذرة..!
-عمار بلحسن../ كان في مطلع الأربعين، قوي البنية، فتي الحركة، جم النشاط، والإبداع.. ضحوكاً بشوشاً.. سعيداً بين أسرته الصغيرة وأصدقائه الكثيرين.. في جامعة وهران.. وفي اتحاد الكتاب، وفي كل زاوية ثقافية بالجزائر.. وكل أرجاء الوطن العربي الشاسعة وكان متفائلاً، يحب الحياة، كما يحب العلوم الاجتماعية.. وإذاً.. لماذا استسلم للداء الداهم، واستكان بين مخالب الموت...!؟ هل هي مثالية /السوسيولوجيا/ في مجتمع مسموم..؟ أم أن قصصه عن البحر أغرته بالسباحة، ثم ساقته إلى أعماق اليم، وأغرقته..؟
أم أنها ذكريات الزمن الصعب، في قريته الحبيبة /مسيردة/ قد أغوته بضرورة العودة جسداً وروحاً إلى مخابئ الماضي السحيق...!؟
وربما هناك سبب آخر، جعله يختار نهاية فصل الخريف ليلقي بنفسه خارج هذا الكون كأية ورقة ريشية جميلة صفراء.. تمتطي صهوة الرياح، وترتفع إلى اللانهاية...!؟(1/113)
-عبد الحميد بن هدوقة، هو أيضاً انتظر موسم نهاية الخريف، لهذه السنة، وانفصل عن الغصن.. لم يكن في ربيع الشباب، عمره إحدى وسبعون سنة، ولكن من يراه مقبلاً، يظن أنه يخطو في عقد الخمسين.. فارع الطول، أسود الشعر، بض الوجه، لاتكاد البسمة الوقور تفارق شفتيه.. ومنذ ثلاث سنوات قدم لنا آخر رواية له بعنوان: /غداً يوم جديد/ فماذا قصد بذلك..؟
في الفترة نفسها تلاقينا في إحدى زوايا العاصمة، فأعطاني رقم هاتفه المنزلي، وقال لي: إنه رقمي الجديد، وأرجو أن لاتعطيه لأحد.. إنني مهدد..!
لقد كان يعيش هواجس الرعب، وخطر العنف.. ويدرك أن الاغتيال يتربص به في أي وقت...!؟
وعندما تلاقينا خلال الأسبوع الثقافي الجزائري بدمشق في نيسان السنة الماضية، كان حزيناً، كئيباً، ثقيل الخطا.. قال لي بالحرف: "إن شريحة جيلنا ستظل دائماً تدفع ثمن مايرتكبه الأوباش من أخطاء.. لقد كتب علينا أن نكون من الضحايا الأحياء، في عهد الاستقلال، بعد الضحايا الشهداء في معركة الحرية السابقة..". وعبر لي عن إعجابه بنهضة سورية.. وتساءل: ماذا ينقصنا حتى نكون في طليعة الدول المزدهرة...!؟
لقد كان من حق عبد الحميد، أن يعاني تصورات الرعب، ويتمثل خواطر الإرهاب والعنف، ويتوجس الغدر والاغتيال.. ذلك لأن له تاريخاً حافلاً، يبوئه مكانة مرموقة لاستهداف أي تآمر خبيث..!(1/114)
لقد التحق بجبهة التحرير الوطنية منذ الانطلاقات الأولى للثورة الجزائرية -ثم انضم إلى فريق الإذاعة بتونس عام 1958- وواصل إلى يوم الاستقلال 1962- حيث عاد إلى الجزائر واستمر في مهامه الإذاعية إلى سنة 1977- وقد أذيعت له حوالي مئتي تمثيلية بالإضافة إلى نصوصه الأخرى من قصصية، وشعرية.. وحتى عندما تفرغ للكتابة، لم تنقطع إمداداته الإبداعية للإذاعة الجزائرية والإذاعات الأخرى، العربية، والأجنبية.. أما كتاباته الأدبية الصحفية فقد بدأت انطلاقتها منذ أن نشرت له أول قصة سنة 1952- بعنوان: /حاملو الأزهار/.. ثم أخذ يتربع صدور الأعمدة في المنشورات والجرائد الجزائرية، والتونسية مثل:
/النهضة/ و /الزهرة/ و /الصباح/ و/شمال أفريقيا/..
وللأمانة التاريخية، أسجل بأنني لم أطلع كثيراً -حتى الآن- على نصوص إبداعية لعبد الحميد، أبرز فيها همومه مع الثورة الجزائرية المسلحة وإبان غليانها حيث كان يعيش في تونس، ملتصقاً، بحدودها اللاهبة...!؟
منذ سنة 1960- أخذت المجموعات القصصية لكاتبنا تتصدر رفوف المكتبات مثل /ظلال الجزائر/ و /الأشعة السبعة/.. و /الكاتب/ وغيرها.. كما أن أعماله الروائية كانت قد أخذت في فرض وجودها العربي والعالمي، وصارت دور النشر الداخلية والخارجية تتسابق إلى طبعها، وترجمتها..
وهكذا أصبح عبد الحميد الذي يتقن الفرنسية إلى درجة الإبداع الجيد بها، ولكنه يفضل الكتابة بالعربية.. أصبح هذا الاسم لافتاً للانتباه، مثيراً لخلجات الحب، وفي الوقت نفسه -لنزعات الحسد والحقد- خاصة بعد أن ذاع صيته في الآفاق، وصدر له ديوانه الشعري الأول: /الأرواح الشاغرة/..(1/115)
ابن هدوقة، كغيره من المثقفين، ممن نالهم أحياناً بعض الإهمال والتهميش خلال فترات معينة من عهد الاستقلال لم يكن راضياً عن وضعه.. كان كمثقف واع، يحس بمآسي الغبن، ويشعر بنوع من الإجحاف والإحباط، يمس مكانته في نفسه وملكاته في إبداعه.. ومع ذلك فقد كان أحسن حظاً من غيره...!؟
كان في أغلب أوقاته محاطاً بالاحترام والتقدير من طرف الجميع.. وقد تدرج في مناصب المسؤولية إلى مرتبة رئاسة المجلس الاستشاري للدولة.. ورئاسة المجلس الأعلى للثقافة وذلك في المنتصف الأول للتسعينيات الراهنة.. ولعل ماكان يزعجه هو حقيقة: /دوام الحال من المحال..!/..
ابن هدوقة.. كان -يبدو- خجولاً.. منطوياً.. متواضعاً.. أنيقاً، هادئاً، وإذا تكلم أقنع، ويمتاز في كتاباته بأسلوب جميل، أخاذ، رصين.. وبفكر عميق ثاقب.. ولغة قوية مطواعة كان لامعاً..! وكان يمكن أن يحاط بالحب، كما يحاط بالحسد..
والده رجل عالم وجيه.. ولد في قريته الصغيرة /الحمراء/ وفي القرية الكبيرة المجاورة/ /المنصورة/ شب عبد الحميد، وحفظ القرآن ودرس مبادئ اللغة العربية، وتعلم في المدارس الفرنسية ثم حوله والده إلى معهد /الكتانية/ بقسنطينة للدراسة بالعربية حيث داوم فيه مدة خمس سنوات، /عبد الحميد من ولاية/ سطيف/.
ولاعتبار أنه كان مزدوج اللغة، فقد ساقته الظروف إلى مدينة /مرسيليا/.. ثم إلى مدينة /غرونوبل/ بفرنسا.. حيث أنهى فيها دراسة /علم صناعة البلاستيك/ وعمل في مجال تخصصه لمدة.. ثم عاد إلى مدينة قسنطينة سنة 1949- وبعد ذلك ذهب إلى تونس، ودرس في معبد التمثيل لمدة أربع سنوات.
لقد رشحته مواهبه وإمكانياته في اللغة الفرنسية إلى أن يشتغل في إذاعة /باريس/ لمدة سنوات...!؟
ولكن جاذبية الثورة الجزائرية، سحبته إلى تخومها في تونس، وأدمجته في إذاعتها الحرة، منذ 1958- إلى يوم الاستقلال، وإضافة إلى ذلك كان منتجاً في الإذاعة التونسية..(1/116)
ابن هدوقة.. أديب جزائري.. عربي، وطني مثقف، نعتز بتاريخه، ونفخر بإبداعاته الجزائرية، العربية الإنسانية الراقية..
كتب وحاضر عن هموم الثقافة، والأدب، والمسرح، والسينما، والعادات، والتقاليد، والتراث، والحداثة.. وتفاعل مع إرهاصات المستقبل العربي المأمول..
له خمس روايات مطبوعة -على ما أذكر- منها /ريح الجنوب/ و /الجازية والدراويش/ و.. /غداً يوم جديد/ ...!؟
مات عبد الحميد بن هدوقة في شهر تشرين الأول 1996- ومنذ بداية التسعينيات حتى اليوم، فارق الحياة -بمختلف الوسائل والطرق- أكثر من اثني عشر أديباً جزائرياً /وهناك شاعر شاب معروف، وقد نسيت اسمه، مات منتحراً../ وبعد.. وفي هذا الزمن الجحود.. ألا يمكننا أن نطلق صرخة واعية، ضد موت الأدباء في الوطن...!؟
وليسمح لي الجميع أن أقول: أستغفر اللّه؟
24/11/1996
((
حضارات.. ومواقف.. ونداء..؟
من المؤكد أن أية حضارة إنسانية -مهما بلغت عظمتها، وعبقرية أبنائها، لا يمكن أن تستمر في نموها، وتواصل مسيرتها، وتحافظ على ازدهارها وتطورها، إذا هي انعزلت عن غيرها من الحضارات الأخرى، وانغلقت على نفسها، واكتفت بمواردها الذاتية، وعطاءاتها المحلية الخالصة..(1/117)
ويشهد التاريخ أن الحضارة العربية. قد بلغت أوج إشراقها في الوطن العربي من بغداد إلى الأندلس. وذلك لما امتازت به من تسامح، وعدل وتفتح على مختلف الحضارات السابقة، وعدل وتفتح على مختلف الحضارات السابقة، فاستوعبتها، وغربلتها، واقتبست منها ما يتلاءم مع شخصيتها وتطلعاتها.. وبعد التمحيص والنقد. والانتقاء أضافت إليها من عبقريتها العربية ما يواكب العصر. والتطور الفكري العربي.. وأبدعت بموازاتها ملامح مبتكرة ناصعة، وأسسا ودعائم راسخة لحضارة عربية حديثة رائدة. بهوية مستقلة واضحة، ودلائل متميزة ومناهج وأساليب خاصة، كانت الجسر الأعظم والأوحد الذي انتقلت بواسطته أوروبا والعالم الغربي إلى منافذ عصره النهضوي الحديث، وحقق بفضل الروافد العربية نقلته النوعية الجبارة، من أزمنة الظلام والصراع والانحطاط إلى عهود القوة، والمنعة والتفوق..
وكما شقت الحضارة العربية السالفة، طريقها المتحرر القوي في ظل إبداعاتها، وقيمها وتقاليدها. وسلوكاتها الدالة عليها والمعبرة عن لسانها، وفكرها، وطبيعة أرضها وإنسانها، وتجارب تاريخها الحافل بالخبرات.
انطلقت كذلك الحضارة الغربية المعاصرة. مع روافدها- متقدمة. متمكنة بفضل إرادة أبنائها، ومواصلة جهودهم للانطلاق والتحرر بالاعتماد على إمكاناتهم الذاتية والخارجية في التأسيس، والإبداع، والابتكار.
ويظل هناك فارق كبير مميز بين الحضارتين العربية والأوروبية.. وهو بينما نجد الحضارة العربية في مرحلة بنائها أو في فترة تألقها. قد اتسمت بالمواقف الإنسانية النزيهة الصادقة من مختلف الحضارات السابقة كالهندية واليونانية والفارسية وغيرها.. ونفضت عن بعضها الغبار وبسطت أمامها آفاق الإحياء والحياة، وأسباب البقاء والخلود خاصة في مجالات الفلسفة والعلوم والآداب والفنون وفتحت أبواب العطاء الكريم لكل بني البشر دون تعصب أو تمييز..(1/118)
نجد بالمقابل أن الحضارة الغربية. قد قامت على نوازع الغيرة. والتعصب، والحسد تجاه الحضارة العربية.. فدمرت جزءاً كبيراً من تراثها وآثارها، وشوهت أجزاء أخرى، واحتكرت بعضها.. ثم في آخر الأمر تنكرت لها، ولم تعترف بوجودها، خاصة في ميادين الفكر، والفلسفة، والتطبيقات العلمية العملية، ولم يشذ عن هذا الموقف التعصبي السلبي إلا قلة من النزهاء الغربيين ممن اعترفوا بفضل العرب على حضارتهم ونهضتهم!
ربما في الماضي.. خلال قرون الضعف العربي والتمزق والجهل لم يكن من المتوقع ولا من الممكن أن يقوم العرب جبهة واحدة للدفاع عن مكانتهم الحضارية اللامعة في التاريخ.. ولكن الآن.. وبعد أن تحررت جل الأقطار العربية.. وأصبح أبناؤها متمتعين بقدر ما من العلم والوعي. وبإمكانات كافية من الطاقات البشرية والمادية .. الآن، أصبح يتحتم علينا جميعاً أن نعتز بماضينا الساطع، وفضلنا على الغير. وأن نلقي المزيد من الأضواء على تاريخنا الزاخر بالمآثر وأن نقوم في الوقت نفسه باستشراف مستقبلنا وتخطيط صوره. ومساراته، بما يتناسب مع مطامحنا وآمالنا وعلى هدي من أساليب وفتوحات العصر الحديث، وسمات حضارتنا العربية الخالدة.
الحضارة الغربية في مواقع هامة من أسسها ودعائمها قامت على ما سلبته من المجتمع العربي، فكراً، وديناً، وأرضاً وطاقات بشرية ومادية، لا تعد ولا تحصى.. فنهبوا كنوزنا العلمية الثمينة بعد أن تتلمذوا علينا، وحاربونا باسم الدين المسيحي الذي هو من إشراقات آفاقنا العربية، واستعمروا أرضنا، واستغلوا خيراتها، وسخروا أجدادنا وآباءنا للدفاع عنهم في حروبهم الكونية، والإقليمية ضد بعضهم البعض، وبعد أن وحدوا شعوبهم وأممهم قاموا بتمزيق أمتنا إلى أقطار ودويلات.. وها هم اليوم يقفون حجر عثرة في طريق قوتنا، وتقدمنا، ووحدتنا، ويكيدون بالدس لثوابتنا، ومقدساتنا وقيمنا.. ويبذلون قصارى جهدهم لإلغائنا نهائياً من سجل التاريخ المستقبلي..!!؟(1/119)
ولو تأمل أي إنسان مدرك ومنصف - مهما كان جنسه- ما قدمه العرب والمسلمون.. للإنسانية والعالم عبر مختلف الأمكنة والأزمنة من أفضال، وأياد، وخدمات لا تقدر ولا يحاط بها.. وما قدم الصهاينة والإسرائيليون..!
لأدركه العجب والخجل من كيفيات وأنواع الجزاء السيء الشنيع الذي يلاقيه العرب من قادة العالم! وما تحظى به إسرائيل من رعاية، ودعم وحماية!؟
ولكن ما يثير العجب والخجل أكثر، هو مواقف بعض الأثرياء من العرب أنفسهم.. ممن نسوا علاقتهم ورابطتهم الحميمية بقومهم وأهلهم. وغفلوا عن مكانة أجدادهم النبيلة الماجدة.. وارتموا بأجسادهم، وأموالهم وأهوائهم، بين أحضان الأقوياء الحاقدين يزيدونهم قوة على قوة، ويساعدونهم بلا وعي، على النيل من نهضة أمتهم.. دون أن يلتفتوا نحو أشقائهم في أغلب أقطارهم وينتبهوا لما يعانونه من مصاعب، ومصائب وأخطار.؟!
-كذلك مواقف بعض مثقفينا المزرية، من تاريخ عروبتهم، ومكانة لغتهم، ووحدة أمتهم، إلى درجة أن وصل الجحود ببعضهم إلى القول: التاريخ إلى المزبلة! والتراث إلى المقبرة! واللغة العربية لا تتماشى مع العصر، ولا تساير التطور .. وما يتبعها من ثوابت التضامن، والعدل والتكامل هي مجرد انفعالات عاطفية، وشعارات خرافية واهية، لا علاقة لها بمنطق واقعية هذا العصر، المتسم بالديموقراطية المطلقة، وحرية الانفصام والانفصال، وتعددية الاختيارات والتناقضات.. وتنوع الهويات والثقافات.. عصر الحداثة الأمريكية، والنظام الوحيد القطب والوحيد، صاحب الحق في أن يفعل ما يشاء في هذا العالم؟!(1/120)
وأخيراً موقف بعض المسؤولين العرب من أنفسهم ومن قضايا أمتهم الحساسة.. حتى أصبح كل متأمل لتصرفاتهم وحركاتهم وسكناتهم.. يشعر بهم أو يتخيلهم كأنهم يعيشون في عهود ما قبل سقوط /غرناطة/ يتظاهرون بقشور الهيبة المزيفة، والبذخ المصطنع، ويتخاصمون مع أشقائهم وأبناء عمومتهم، ويتحالفون مع أعدائهم، ويواصلون ارتكاب الأخطاء إلى أن يسقطوا قتلى أو أسرى في شباك خصومهم.. حلفائهم.. وتتكرر مأساة أبو عبد الله الأصغر عندما /بكى كالنساء على ملك ضاع. لم يحافظ عليه كالرجال/...!؟
كل الأقطار العربية اليوم في أشد الحاجة إلى أن تتكاتف وتتساند مع بعضها.. وتترفع عن كل الحساسيات ، والأخطاء السابقة.
سورية.. تحمل الآن راية النهضة الرائدة، والسيادة العربية الكريمة المتحررة وتتصدر مواكب الطلائعيين لإعادة الاعتبار للأمة العربية في ماضيها، وحاضرها ومستقبلها..
هذا القطر العربي الأبي ألا يستحق مواقف فاعلة أبية من كل العرب.. أغنياء ومثقفين.. ومسؤولين..!؟
ومن العالم كله بكباره وصغاره .. ألا يستأهل التقدير، والإنصاف والمساندة..!؟
الجزائر العربية.. أم البطولات والثورات والتضحيات التي كسرت شوكة الاستعمار في إفريقيا، ورفعت رأس العروبة عالياً، وشحذت عزائم كل الأحرار في العالم.. هذا القطر الذي تكالبت عليه قوى الشر والتخريب من كل مكان.. ألا يتطلب مواقف تضامنية جادة وفاعلة من كل العرب الأغنياء والمثقفين والمسؤولين!؟
ليبيا العربية.. لأنها غنية بطاقاتها وبمطامحها وبإيمانها الثابت بحق العرب في انتهاج سبل تقدمهم وتطورهم وحقهم في وحدتهم وتلاحمهم.. لأنها فتحت صدرها للإنسانية باسم المكارم العربية.. اخترعوا لها سببا تافها- يحدث يومياً في كل مكان -وحاصروها: وعرقلوا تحركها الهادف إلى خير الجميع.. هذا القطر الشجاع.. ألا يستحق أن نفتح له كل قلوبنا للطيران والتحليق في كل آفاق الانطلاق العربي.؟!(1/121)
وفلسطين.. عصب الحس العربي.. أنتركهم هكذا- أعداء وعملاء- يعزلونها عن المعركة المصيرية الحاسمة، وعن القضية العربية الواحدة.. ويبتلعونها شبرا فشبرا، ويوماً بعد يوم، باسم الحرب المشتعلة ضدها تحت رايات السلام!!؟
.. ومصر.. واليمن. وكل الأقطار العربية.. ألا يجدر بالعرب من أغنياء.. ومثقفين، ومسؤولين إن يشرعوا أذرعهم، ويوحدوا فكرهم القومي ويحتضنوا بعضهم متسامحين، متعاونين، حتى يبدعوا حداثة عربية أصيلة، وعصرنة عملية ناجعة، وينقذوا شعوبهم من الذوبان والضياع.. ويتركوا للأجيال القادمة، فرصة للشكر، ومجالاً للامتنان، ولفتات للتقدير، والاحترام..!؟
والأجيال القادمة هم أبناؤنا.. وأحفادنا! أيها الأغنياء العرب.. على الأقل.. فكروا قبل الانفاق.. أين تضعون أموالكم؟.. ولماذا؟.. وما الفائدة النظيفة والشريفة التي سيتحدث عنها التاريخ بعدكم..!؟
-ويا أيها المثقفون.. يكفينا تمظهرا بالنجومية المسروقة من سماوات الآخرين.. وتبني آرائهم، وأسمائهم في ما نكتب أو نقول!.
يكفينا اصطناع /التنظيرات/ المستمدة من مدارس الغير وتطبيقاتها على حساب أساسيات كياننا، وسيادة أمتنا، وهوية شخصيتنا وثوابت شعبنا ووجودنا.. لنقتبس.. ولكن لنتحرر أيضاً ونبدع من صميم أعماقنا، وأحلامنا..؟!
ويا مسؤولون.. اتقوا الله والتاريخ.. في أنفسكم وشعوبكم وسيكون التوفيق حليفكم، وحليف كل الأوفياء للوطن.
((
ثقافة الطفل الجزائرية بين الأمس واليوم
الطفل.. هو حصيلة امتداد الماضي، بما فيه من سعادة وشقاء.. أو آمال وآلام.. وهو ربيع الحاضر المغشى بالأشواك أو الموشّى بالرياحين والورود.. وهو مرآة المستقبل التي قد يعكس الواقع صورتها، فنراها باهتة كئيبة، أو ناصعة جميلة، مكللة بالانتصارات والأمجاد..(1/122)
والطفل.. منذ أن وجدت البشرية فوق هذه الأرض، كان دائماً محور الحب والعطف، والحنان، انطلاقاً من حكمة قانون البقاء، وسنن استمرارية الحياة، بما فُطرت عليه الغريزة الطبيعية للأمومة والأبوة، من حماية، وتنشئة ومتابعة.. إلى ما يخطى به الطفل من رعاية ذوي القربى وأهل العشيرة.. إلى ما يلاقيه من عناية وتربية وتوجيه من طرف مجتمعه، والقائمين عليه.. إلى ما وصلت إليه الحضارة الإنسانية حالياً، بعد بزوغ فجر التيكنولوجيا وتطور الدراسات المستقبلية التي أصبح بإمكانها أن تخطط، وترسخ بدقة الحياة المنشودة للأجيال، وأن تحقق لهم كافة الظروف التي تتناسب مع حاجات العصر، ومتطلبات المرحلة، وتلبي كل الأهداف الرامية إلى توفير القوة، وإحكام السيطرة، وتحقيق السيادة.
وإنه لمن الصعب أن نحصي أو نلخص ما عاناه الأطفال الأبرياء في هذا العالم، من ويلات الظلم، والاضطهاد، والتمييز، ومن شرود الجهل والمرض والفقر، ومن كوارث الطبيعة، ومصائب الحروب..
وعندما نلتفت إلى ماضي الطفل الجزائري.. فقد لا نجد فرقاً كبيراً بينه، وبين وضعية الطفل في المغرب العربي أو الوطن العربي بصفة عامة، وخاصة بعد إشراقه شمس الإسلام، حيث أن أغلب العوامل المؤثرة اجتماعياً، وتربوياً وثقافياً متشابهة بحكم وحدة اللغة والدين، والقيم والتقاليد والعادات.. وبحكم المسار التاريخي المشترك، والتماثل أو التكامل البيئوي والجغرافي، والتواصل الفكري والعملي بين كل المواطنين العرب..
غير أن كارثة استعمار الجزائر من طرف فرنسا، في بداية العقد الرابع من القرن التاسع عشر، كانت نقطة تقهقر جذري في وضعية الطفل الجزائري، حيث تم عزله نهائياً عن كل أشقائه وجيرانه وأطفال العالم، وبدأت عملية إغراقه في بحر موحش متلاطم، من القهر، والجهل، والحرمان.(1/123)
لقد بُليت -بعد الجزائر- أقطار المغرب العربي، والمشرق، بآفة الاستعمار.. إلا أن نوعية استعمار الجزائر، كانت بعيدة الاختلاف، في الغايات والأساليب والنتائج عن كل الأقطار العربية الأخرى، المستعمرة..!
لقد كانت غاية الاستعمار الفرنسي في الجزائر هي أن يمحقها تماماً من الوجود، وأن يستبدلها بفرنسا جديدة، قلباً وقالباً.. وذلك لا يتأتى له إلا باجتثاث النسل الجزائري من جذوره، بتدميره جهلاً ومرضاً وتشريداً وقتلاً.. أو على الأقل بتنصيره، وتهجيره، وتشويه شخصيته، وهذا ما تعرض له الطفل الجزائري وعاناه، طيلة قرن وثلاثين سنة من حكم الاستعمار.
عندما غادر الاستعمار الفرنسي الجزائر سنة -1962- كانت نسبة الأمية بين الذكور الجزائريين أكثر من 90% أما بين الجزائريات فقد تجاوزت 96% وكان المشردون عن وطنهم أو منازلهم يعدون بالملايين!.
ربما من حسن حظ الشعب الجزائري إبّان الاستعمار أنه -بدوافع من الحقد والاستغلال والتمييز العنصري، تم طرده من مدنه وأراضيه، ورمي به فوق قمم الجبال، وبين شعابها، وداخل أعماق الصحارى، وسط سيوف رمالها، حيث اضطره شظف العيش إلى الاعتماد على جهده الذاتي، وإمكانياته التقليدية البسيطة في تدبير أمور حياته. وأكد ودعم بذلك سر بقائه، ومعجزة تصديه ضد كل عوامل الإبادة والفناء. والفضل في ذلك يرجع إلى عبقرية الشعب النابعة من خبرته في الصراع، وتمرسه على العمل، ومن قيمه الخالدة والمتمثلة في الإيمان بالله ، وكتابه وسنة رسوله.. والتشبث بالتقاليد والعادات الجزائرية الكريمة العريقة.. والعربية النبيلة الفاضلة.. وبكل خلال الصبر والمقاومة، والثبات..
وقد كان الأطفال الجزائريون هم العُرى الوثيقة التي ربطت قيم الشخصية الوطنية بأبنائها، جيلاً بعد جيل، وكانت المرأة الجزائرية هي الحامية والمحافظة على هذه الروابط المقدسة.(1/124)
كل الجزائريين تقريباً.. ينظرون إلى أطفالهم على أنهم كبار في مسؤولياتهم وسلوكاتهم، وإن كانوا صغاراً في أحجامهم.. الطفل كالرجل، والطفلة كالمرأة عليهم واجبات الطاعة ، عند الاستطاعة، ولهم حقوق الرعاية والحنان.. وكأنهم يتمثلون قول الشاعر العربي:
إذا بلغ الفطامَ لنا صبيّ ... تخرّ له الجبابر ساجدينَ
وقول حطّان بن العلي:
وإنما أولادُنا بيننا ... أكبادنا تمشي على الأرضِ
لو هبّتِ الريح على بعضهمْ ... لامتنعتْ عيني من الغُمْضِ
-ومن هنا، كان الأطفال يحظون بمتابعة ذويهم، فيحفّظونهم القرآن الكريم، ويعلمونهم مبادئ الدين واللغة، داخل الزوايا والمساجد، ويسمحون لهم بممارسة بعض الألعاب، والتمتع بحكايات المسنّين، وتحصينهم بتلقينهم الحكم، والأمثال الشعبية، وتكوينهم في أشغال الصناعات والحرف التقليدية، وتلقينهم فنون الزراعة والتجارة إلى جانب فنون الفروسية، والدفاع عن النفس، وذلك حسب ما يتناسب مع الوضعية الاجتماعية، لكل مجموعة أو عائلة.
وكانت أفراح الأطفال تصل ذروتها- إذ يتضاعف تكريمهم والإحتفاء بهم، خلال مناسبات الأفراح بالولادة، والختان، وفي الأعياد، والاحتفالات الدينية والموسمية، وعند اختتام حفظ القرآن الكريم أو أحزاب وسوّر معينة منه، وكذلك عندما يقوم الأطفال بأي عمل يستحقون الشكر عليه.
ولم يكن هناك، ما هو أقسى وأمر على نفس الجزائري، من أن يرى طفله مهاناً أو جائعاً، أو مريضاً.. مما قد يدفع به حتى إلى القتل أو الموت من أجل إنقاذ فلذة كبده.. اللهم إلا في حالة التعارض بين الشرف أو الولد، فإن الاختيار لا يكون إلا للشرف.
كل جزائري يتمنى أن يكون ولده أحسن منه، حياةً ومستقبلاً.. وكانت المرارة، تكتسح قلب كل أب يرى ابنه لا يقرأ أو لا يكتب.. ولكن ما الحيلة، وقد أغلق الاستعمار كل أبواب المعرفة والعلم في وجوه الأطفال الجزائريين وفتح أمامهم، أبواب التشويه، والانحراف والتدمير..؟(1/125)
لقد عمدت فرنسا -منذ بداية الاحتلال- إلى فتح المدارس الابتدائية في المدن لتعليم بعض الأطفال الجزائريين. وقد اتسمت خطتها التعليمية تلك بصفات معينة نذكر منها:
1-كان الهدف من تعليم الأطفال الجزائريين، هو نشر اللغة الفرنسية، بنيّة تعميم استعمالها، للقضاء على اللغة الوطنية العربية، ثم لتسهيل عملية التفاهم في التخاطب مع الجزائريين، لتيسير أساليب استغلالهم كمستخدمين.
2-كان المستعمرون مختلفين في موضوع تعليم الجزائريين، فبعضهم ومن بينهم رجال الكنيسة، يرون ضرورة نشر اللغة الفرنسية بين المواطنين تسهيلاً لتنصيرهم، وإبعادهم عن مقوماتهم العربية الإسلامية.. بينما كان البعض الآخر، يخالف ذلك، ويرى في تعليم الجزائريين خطورة بالغة، ويحبذون أسلوب تجهيلهم، وتصفيتهم ثقافياً وجسدياً، حتى يتم القضاء النهائي عليهم.
... وقد أدى هذا الاختلاف في وجهتي النظر إلى تذبذب عملية التعليم الفرنسية، وتأرجحها الدائم في الضعف، والتوقف.
3-كان عدد الأطفال الجزائريين في المدارس الفرنسية، لا يمثّل إلا نسبة ضئيلة بالمقارنة مع أطفال الأقلية الفرنسية في الجزائر.
4-كانت المناهج والبرامج التعليمية الخاصة بالجزائريين، تختلف في مضمونها وأساليبها، ووسائل تحقيقها اختلافاً كبيراً عما كانت عليه في المدارس الخاصة بالأطفال الفرنسيين.
5-كان أغلب الأطفال الجزائريين، لا يسمح لهم بأن يتجاوزوا في مراحل تعليمهم. مستوى الشهادة الابتدائية مهما كان مبلغ اجتهادهم، أو درجة تفوقهم!
6-كانت المدرسة الابتدائية الفرنسية الخاصة بالجزائريين مفرنسة 100% وفي مادة التاريخ كان الطفل الجزائري مجبوراً على قراءة مثل هذا النص: "بلادنا قديماً تسمى الغال /le gaule/ وأجدادنا يسمون: الغاليون /les gaulois/..!؟".(1/126)
7-وطبعاً لم تكن هناك أية علاقة إنسانية، تربط بين الطفل الفرنسي والطفل الجزائري، مما جعل بينهما هوة سحيقة من التنافر، وسوء الظن. وانطلاقاً مع بداية الحرب العالمية الأولى أخذ الوعي السياسي الوطني يتنامى ويتضاعف بين الجماهير.. وكانت سنة 1913، بداية التحرك الفعلي لرائد النهضة الجزائرية الإمام عبد الحميد بن باديس الذي أرسى قاعدة التعليم الجزائري الحرّ، وبدأ عملياً بالتدريس في مدينة قسنطينة، ثم تأسس حزب الشعب الجزائري، وجمعية العلماء المسلمين الجزائريين.. وأخذت المدارس العصرية الجزائرية الحرة تنتشر في المدن والقرى، رغم الملاحقات الشرسة لها، ولمعلميها بالإغلاق، والتهديد والسجن من طرف الحكام الفرنسيين.
ورغم صدور قانون 24 ديسمبر 1940- الذي ينص على منع تعليم الأدب العربي بجميع فنونه، ومنع تدريس التاريخ والجغرافية المتعلقين بالجزائر والعرب والمسلمين، ومنع تعليم المواد العلمية، والرياضية ومنع تفسير القرآن، وخاصة الآيات الداعية إلى الجهاد، والتضحية، وباختصار منع التعليم بالعربية منعاً شاملاً وباتاً، إلا برخصة من الصعب أن تُمنح.. ولكن إذا منحت، يمكن سحبها بسهولة، وفي أي وقت!
رغم كل تلك الإجراءات والملاحقات المصحوبة بالظلم، والقمع، والعقوبات القاسية، فقد شق التعليم الجزائري الحر، طريقه بقوة، وبصعوبة، وصبر، إلى أن أصبح عدد المستفيدين منه من الأطفال الجزائريين يقارب المائة ألف طفل جزائري، تلقوا جميعهم معارفهم من طرف معلمين وطنيين مناضلين، لقنوهم في السر والجهر، كل مبادئ الجهاد والحرية، والوفاء للوطن. وهنا يجدر بنا أن نشير إلى المساهمات الأساسية والفعالة في العناية بالأطفال، وتثقيفهم وتوجيههم إلى تلك الجمعيات والتنظيمات الوطنية، من ثقافية، وفنية، ورياضية، وفي مقدمتها منظمة الكشافة الإسلامية الجزائرية، التي كانت أهم مدرسة تربوية وتكوينية هادفة، في تنشئة الأجيال وإعداد المجاهدين الشجعان.(1/127)
كما لا ننسى ما قدمه معهد عبد الحميد بن باديس في قسنطينة، وبعض المعاهد الوطنية الأخرى، وكذلك جامع الزيتونة وفروعه بتونس، وجامعة القرويين بالمغرب ومدارس وجامعات المشرق العربي... لا ننسى ما قدمته هذه المنارات العلمية الزكية من خدمات جليلة لتعليم النشئ الجزائري، وتوعيته، وإعداده خير إعداد.
أما في مجال الكتابة للأطفال أو عنهم.. فإنه من النادر أن نجد كاتباً أو شاعراً جزائرياً لم يمنح جزءاً من اهتماماته وأوقاته الفكرية الإبداعية لأطفال الوطن.
ربما قد لا نجد كاتباً تفرد بسرد ذكريات طفولته كما فعل طه حسين في كتابه /الأيام/ إلا أن الإشارات إلى أحزان الطفولة المعذبة، وأحلام الصبا، وذكريات الماضي بحلوها ومرها.. كانت تقريباً هاجساً دائماً يحرك مشاعر وأقلام أغلب الكتاب الجزائريين..
ومنذ الأمير عبد القادر الجزائري، قائد الجهاد الأول، الذي كان يناجي قرينته في شعره، ويناديها /أم البنين/ إلى رائد النهضة الجزائرية عبد الحميد بن باديس الذي عقد كل آمال الشعب الجزائري في نهضة أطفاله، حيث يقول في نشيده الخالد:
شعب الجزائر مُسْلِمُ ... وإلى العروبة ينتسبْ
***
يا نشءُ أنت رجاؤنُا ... وبك الصباح قد اقترب
خذ للحياة سلاحها ... وخض الخطوب ولا تهب
واقلع جذور الخائنين ... فمنهم كل العطب
واهزز نفوس الجامدين ... فربما حيّ الخشب
واذق نفوس الظالمين ... السمّ يمزج بالرهب..
*** ...
إلى أن يقول:
فإذا هلكتُ فصيحي: ... تحيا الجزائرُ والعربْ
ويتضاعف عدد الشعراء، ويتوالى إنشادُهم وتمجيدهم لأطفال الجزائر، الذين يتوسمون فيهم وحدهم، طوق النجاة، وابتسام المستقبل، وضمانة الحياة الكريمة، المتوجة بالنصر، والحرية، والنهوض.(1/128)
وفي مقدمة هؤلاء الشعراء: مفدي زكريا، ومحمد العبد آل خليفة، والجيلالي بالعابد، وأبو اليقظان، والطيب العقبي.. وغيرهم كثيرون، مما كان لأناشيدهم فعل اللهب في تأجيج الحماس الوطني: ورفع المعنويات، خاصة عندما تنطلق تلك الأناشيد المنغّمة من حناجر أطفالنا الصغار، الذين كانوا بالفعل من خيرة المحرضين على اندلاع الثورة، وطرد المستعمرين.
وعندما يرد اسم الثورة، يجب أن نسجل بكل فخر واعتزاز، تلك الأدوار البطولية الرائعة، التي قام بها أطفالنا إبان جهاد آبائهم خلال الثورة المسلحة.
لقد كان الطفل الجزائري، وهو من شهور ميلاده الأولى، يحمل بين طيات قماطه، على ذراعي أمه رسائل ووثائق، ومتفجرات ومسدسات.. لتبليغها إلى المجاهدين.
وكان الأطفال من سن السادسة إلى الرابعة عشرة من عمرهم، ينقلون الأخبار إلى المجاهدين، ويساعدونهم على اكتشاف مواقع العدو، ويحملون إليهم المؤونة والمعلومات داخل سلالهم، ومحافظهم، وجلابيبهم، ويقومون بحراستهم في مخابئهم، عند ساعات الاستراحة، ويمدونهم بكل عبارات التشجيع، وإشارات الحب والإعجاب.
أما بعد سن الرابعة عشرة فما فوق، فقد كان أطفالنا، يحملون السلاح، ويقاتلون إلى جانب الثوار، داخل الأحراش والجبال، وبالإضافة إلى مهامهم -إذا كانوا متعلمين- في الكتابة، والتسجيل والقراءة.
ولعله من الصعب أن نحصي قصص وبطولات وإنجازات وتضحيات الأطفال الجزائريين خلال الثورة المسلحة..
ومن المعلوم أن أهم الأفلام الجزائرية الطويلة والجيدة التي أنتجت بعد الاستقلال، قد ركزت على هذا الجانب لأهميته، ومصداقيته، وجعلت من بطولة الطفل الجزائري موضوعاً أساسياً لها.
لقد كان الطفل الجزائري قبل الاستقلال، محور اهتمام الكثير من الشعراء، والكتاب والخطباء، من رجال الثقافة والسياسة والدين في الجزائر.. وكانت دوافع اهتمامهم ترتكز على مواضيع كثيرة، منها:(1/129)
1-التعبير عن مشاعر العطف، والحب، والحنان، والاعتزاز بالطفولة كامتداد طبيعي جميل للأمل والحياة.
2-الإشفاق والتوجع في حالة ضعفهم أو احتياجهم أو مرضهم.. ورثاؤهم بمرارة في حالة الموت.
3-التعبير عن الشوق الدائم، والاحتراق المؤلم، عند الغربة والفراق..
4-النظر إليهم كرمز للأمل، ووسيلة للإنقاذ، وتفاؤلٍ بالمستقبل الزاهر المنشود.
5-اعتبارهم كمصدر فعّال، للاستنفار، وبعث النخوة، والحميّة، وإذكاء روح الحماس، من أجل الثأر لهم لما يعانونه من قهر، وعنصرية، وحرمان من طرف المستعمرين.
6-التوجه إليهم بالتنبيه، والتحذير، والدعوة إلى التسلح بالأخلاق الفاضلة، والسلوك القويم، والثبات على تعاليم الدين الإسلامي الحنيف، والتقاليد الوطنية السامية.
ومن عادات الأسر الجزائرية أنهم يقيمون الولائم والأفراح إذا ازداد عندهم ولدٌ ذكر، ويعتبرونه دليل خير على استمرارية النسل، وعمران الدار، وقوة العُصبة.. ويبتهجون أيضاً إذا ازدادت بنت، ويتفاؤلون بأنها ستكون وجه سعد، وبشارة نجاح لأسرتها..
أما المنزل الخالي من الأطفال، فهو منظور إليه كالطلّل، يوحي بالكآبة والوحشة، وغالباً ما يكون نذير شؤم لإحداث المشاكل الزوجية ووقوع الطلاق.
وبعد استقلال الجزائر عظمت واتسعت دوائر الرعاية والاهتمام بالأطفال، حيث شملت مختلف الميادين الاجتماعية والصحية، والتعليمية والتكونية والثقافية، إلى درجة أن الجانب الأكبر من ميزانية الدولة ينفق من أجل الأطفال، الذين يشكلون أضخم نسبة عددية بين السكان، هذا بالإضافة إلى نفقات الأهل، والمؤسسات الأخرى المعنية بالأطفال وبوسائلهما الذاتية الخاصة.
ولكن مع الأسف- هناك ثغرات وأخطاء كثيرة، ورهيبة، كانت السبب في إحداث عكس النتائج المرجوة من كل هذه الاهتمامات والنفقات مما عاد على أطفالنا بالكثير من السلبيات والنفائض التي ربما لم تكن في الحسبان.
ومن بين هذه الأخطاء والثغرات ما يلي:(1/130)
1-أغلب المبالغ المالية الضخمة، المخصصة في ميزانية الدولة من أجل تعليم وتكوين الأطفال، تصرف على المستخدمين وإطارات التعليم، وتأثيث وتهيئة المؤسسات، ولا يبقى سوى جزء بسيط يخصص للأطفال مباشرة، مما لا يفي بحاجاتهم التربوية، والنفسية، والجمالية.
2-هناك مبالغ مالية هامة، تصرف في مجالات التسلية السطحية ذات المردود الضعيف، والتي لا تؤثر أي تأثير إيجابي في تكوين شخصية الطفل.
3-وحتى النفقات الباهظة التي يقدمها الأهل من أجل تنشئة أولادهم، في الغالب تكون غير مرشدة، ولا تخضع لأية منهجية أو تخطيط.. مما قد تكون لها نتائج عكسية، تؤثر سلباً في مستقبل الطفل، خاصة إذا كانت تلك النفقات مكرسة لتدليل الطفل، وإغراقه في مظاهر الرفاهية والبذخ المفرط.
4-اقتصار المدرسة الجزائرية على التعليم، دون الاهتمام الكبير بالجوانب التربوية.. وطنياً وأخلاقياً وجمالياً.
5-الازدواجية اللغوية في التعليم الابتدائي، وتغلب الفرنسية على العربية، خاصة قبل وجود المدرسة الأساسية.
... وقد أدى ذلك إلى البلبلة والتشويش في أذهان الكثير من الأطفال الذين لا يلمسون أي انسجام بين لغات الأسرة، والشارع، والمدرسة، مما أدى ببعضهم حتى إلى أمراض التأتأة، وعيوب النطق، وسببت لهم في إحداث بعض العقد النفسية الخطيرة.
6-الكثيرات من أمهات ونساء المدن يحبذون -لعقدة نقص- التخاطب باللغة الفرنسية، ولو كنّ لا يتقنّها جيداً وقد أدى ذلك إلى نفس الأمراض السابقة، بالإضافة إلى إحداث فوارق في طرق التعبير، وفي نمط السلوك والتصرف بين أطفال المدن، وأطفال القرى والأرياف.
7-عدم الاستقرار في برامج ومناهج المنظومة التعليمية، حيث ظلت المدرسة الجزائرية، عرضة للتبديل والتغيير، وأصبح أطفالنا ضحيةً للتجارب المتكررة، نتيجة للاختلافات في الآراء، والتوجهات الشخصية.(1/131)
8-لم تعتن المدرسة الجزائرية كثيراً بتعليم الآداب والفنون، والتربية الدينية، والوطنية، وترقية الذوق الجمالي والحس المرهف لدى الأطفال، وحتى النصوص المختارة التي تقدم لهم- رغم قلتها- لم تكن منتقاة بطريقة ذكية ومتطورة وفعالة.
9-الكثير من الحصص الإعلامية، المبرمجة للأطفال، تقدم لهم أحياناً باللغة الدارجة أو بفصحى مليئة بالأخطاء التعبيرية.
10-وأغلب الحصص المتلفزة من أشرطة علمية أو ترفيهية، خاصة بالأطفال، تُعرض عليهم باللغة الفرنسية..؟
11-غياب مسرح العرائس /الكاراكوز/ نهائياً- وترفّع الكثير من الممثلين الجزائريين وكذلك الممثلات، عن المشاركة في المسرحيات والبرامج الخاصة بالأطفال!
12-الآن.. لا يوجد منزل جزائري تقريباً- لا يشاهد أطفاله أغلب البرامج التيلفزيونية الفرنسية والأوربية بواسطة الهوائيات المقعّرة /البارابول/ رغم ما تحمله من تناقضات وتوجيهات سيئّة.
13-هناك جمعيات خيرية ناشطة، ومتمتعة بدعم إعلامي كبير، مهتمة بالأطفال اللقطاء، والمعوّقين، وهذا شيء عظيم، ومحبب.. ولكن ما يثير الانتباه هو قلة أو انعدام الجمعيات التي تهتم بالأطفال الأسوياء، والمتفوقين.
14-ندرة رياض الأطفال رغم كثيرة أولئك الصغار الأبرياء الذين يعانون من ضيق السكن، واشتغال الوالدين أو ضعف أحوالهم المادية.
15-ضعف الاهتمام بأناشيد الأطفال العربية الجميلة، وشيوع انتشار الأغاني العامية، والبذيئة أحياناً خاصة داخل المخيمات الصيفية، وأثناء الرحلات والتجمعات الرياضية.
16-بدء انتشار الأناشيد باللهجات المحلية، مما قد يفرق بين أطفال الوطن الواحد، في الذوق، والوعي، ويؤدي بهم إلى عدم فهم بعضهم البعض.
17-الغياب التام لدور الكبار في الشارع، مما نفى سلطة المجتمع، فلم يعد له أي مفعول في التوجيه أو النقد، أو أي تدخل بالنهي أو الأمر- بالنسبة لتصرفات الأطفال غير اللائقة خارج منازلهم.(1/132)
18-تفاقم انتشار الآفات الاجتماعية، والعادات السيئة بين الأطفال، مع انعدام المراقبة.. والردع..
19-انعزال الأطفال الجزائريين عن أشقائهم الأطفال في المغرب العربي أو الوطن العربي بصفة عامة، حيث لا يوجد أي اتصال أو تواصل منظم، ولو بواسطة الكتب والمجلاّت والبرامج الإعلامية المفيدة.
... ومن المدهش أن طلابنا المتفوقين في نيل باكالوريا /1993/ كانت مكافأتهم، رحلة سياحية إلى فرنسا..!؟
20-ومن بين الثغرات العميقة في بنية الطفولة الجزائرية، انتشار الأمية، وظاهرة تسرب الدراسين، لأسباب اجتماعية واقتصادية وثقافية، ونتيجة لضعف الوعي وإشاعات المؤامرات الحاقدة ضد أجيالنا، كقولهم: ماذا تفيد الشهادة العليا، والأغنياء بدون شهادات!؟
ومن المؤلم أن عملية التسرب هذه، شملت حتى الطلاب الجامعيين، حيث يغادرون مدرجاتهم، رغم توفر أسباب النجاح لهم، بحجة أن الشهادات العليا أصبحت لا تنفع.
وهنك بالطبع ثغرات وأخطاء أخرى لا يتسع المجال لذكرها جميعاً، خاصة ما يتعلق منها بالكفاءة والإشراف، والتسيير، وعدم الاستقرار، واستيراد النظريات والتجارب من الشعوب الأخرى، بدون تماثل أو تكافؤ أو حذر..
أما بالنسبة للكتابة الموجهة مباشرة إلى الأطفال، فهي بصفة عامة قليلة، ودون المستوى المطلوب.
ونشير إلى أنه -وإلى حد الآن- لا يوجد في الجزائر، كتاب أو شعراء، متفرغون للكتابة إلى الأطفال، على غرار ما نشاهده في كثير من الأقطار العربية، ولو بنسبة أقل من عظمة الكاتب الكبير كامل كيلاني، أو الشاعر العبقري سليمان العيسى.. والقاص زكريا تامر.
ومع ذلك فالأدباء الجزائريون، قد أعطوا منذ الاستقلال اهتماماً محسوساً في محاولات الكتابة للأطفال شعراً ونثراً.. وفي مقدمة هؤلاء، الشعراء:
-محمد الأخضر السائحي.
-جمال الطاهري
-بوزيد حرز الله
-كاتب هذا الموضوع
-وشعراء آخرون، غابت عني أسماؤهم الآن، ومجموعة من الكتاب، وخاصة كتاب القصة القصيرة.(1/133)
كما أن أغلب الصحف والمجلات الجزائرية دأبت بصفة شبه دائمة، إلى تخصيص ركن بين صفحاتها موجه للأطفال.
وقد قامت الشركة الوطنية للنشر والتوزيع، ثم المؤسسة الوطنية للكتاب، بإصدار مجموعات ومسلسلات، من الكتب، والمجلاّت المصورة الموجهة للأطفال.
وكذلك فعلت بعض المؤسسات المستقلة والخاصة بالطباعة، والنشر. ولكن ما لا يلاحظ على كل هذه الإصدارات الخاصة بالأطفال هو أنها:
1-متقطعة الصدور، وغير متواصلة، إذ نجد كثيراً من العناوين بعد أن تستقطب حولها الأطفال، لمدة سنتين أو ثلاث. نختفي فجأة، ولا يرى لها بعد ذلك أثر..
2-بعض المنشورات، وخاصة المجلات المصورة التي تتناول الحكايات، والقصص القصيرة، وألعاب التسلية، نجدها في الغالب، ضئيلة المحتوى، سطحية الموضوع، خالية من أي تأثير دائم في نفسية الطفل، أي يزول مفعولها، بمجرد الانتهاء من قراءتها.
3-تغلّب الجانب التجاري على الجانب التثقيفي التربوي، بالنسبة
... لبعض المنشورات المبالغ في زخرفتها على حساب مواضيعها. وخاصة تلك الكتب والمجلات المستوردة من لبنان، والتي غالباً ما تكون مترجمة أو مقتبسة من الكتابات الأجنبية.
4 ـ غلاء أسعار مجلات وكتب الأطفال، بحيث لا يكون في استطاعة أي طفل شراؤها.
5 ـ سوء التوزيع على المستوى الوطني، مما يجعل بعض الولايات محرومة من رؤية الإنتاج الخاص بالأطفال.
6 ـ يلاحظ كذلك في محتوى مايقدم للأطفال، عدم تخصص الكتاب في ذلك، وعدم تمكنهم من علم النفس، والتربية، والثقافة الأدبية الجمالية، بصفة عامة.(1/134)
وهذا ما أدى ببعض الكتاب إلى تناول قضايا مستقبل الطفل، بالأسلوب الخطابي المباشر، وبوسائل الأمر والنهي... وتناولوا موضوع التوجيه الأخلاقي الديني، على طريقة الوعظ والإرشاد، ... وعالجوا مسألة التثقيف اللغوي والعلمي، بطريقة الشرح المدرسي الكلاسيكي،.... وتطرقوا إلىتربية الخيال،بواسطة الخرافات... والأساطير، التي تجعل النبات والجماد يتحدث،... والأحلام كالواقع الملموس.
ـ أما اختبارات الذكاء والتسلية، فهي لا تعدو بعض الألغاز القديمة، والصور والأرقام الخفية، والأخطاء السبعة، والكلمات المتقاطعة....!.
وإن الطفل الجزائري مازال إلى حد الآن يجعل الكثير من آداب بلاده، ومعالمها،ومآثرها، وملاحم ثورة التحرير المليئة بكنوز الأدب والفكر...
أما بالنسبة لمعرفة المغرب العربي، أو البلاد العربية، فالطفل الجزائري، بصفة عامة، يجعل عنها كل شيء.
إن أطفالنا اليوم في ذكائهم. واتساع مداركهم العصرية العامة، وفي اتصالهم الدائم بالإعلام الثقافي الأجنبي وفي مطامحهم. وتطلعاتهم للمستقبل ـ إنهم اليوم، غير أطفال الأمس... وهم رغم ما ينعمون به من سيادة وحرية. فهم أكثر حيرة وقلق، وشقاء من أطفال الأمس المستعمرين...!.
إنهم في أشد الحاجة إلى ما يرقى بسلوكهم ويهذب أذواقهم، ويوحّد أفكارهم وأنظارهم، ويلبي حاجاتهم اليومية، ويجيب عن تساؤلاتهم البريئة، ويحبب إليهم أرضهم وشعبهم، وينمّي فيهم قوة الاعتزاز بالنفس وحرية الشخصية، والثبات على الأصل.
إنهم مستقبلنا المنشود، فلنعمل جميعاً على بنائه والظفر به، من أجل البقاء الكريم الأفضل لوطننا.
- مجلة / الثقافة السورية.
- مطلع- 1996.
((
الإرهاب و"الدونمة" اليهودية الجديدة.
-1-(1/135)
الإرهاب... هو كل اعتداء أو عدوان داخلي أو خارجي يقع على مجتمع ما، ضمن فترات متقاربة و مفاجئة. فيصيب الأبرياء من الأفراد والجماعات، ويتكرر وقوعه من مصادر شبه مجهولة. في الموقع والزمان، ويحدث سلسلة متعددة الحلقات من مآسي القتل والدمار، والنهب والاغتصاب، وكل إفرازات الجرائم البشعة، مما يجعل المجتمع الذي يعاني منه، يعيش حالة رعب دائم وهلع، وذعر مستمر، ويتخبط داخل أوحال مظلمة خطرة من الفوضى والجمود، والفاقة، وانعدام الثقة، والأمن والاستقرار.
والإرهاب العنيف المصحوب بالاغتيالات الغادرة، والتخريب، المتعمد، لا يبدأ هكذا. فجائياً كما تحدث العواصف الشتوية المدمرة، بل غالباً ما تكون له مقدمات وممهدات من الإرهاب غير الدموي الذي يبدأ تشكله في غياب الثقافة والوعي الوطني، وانحراف التربية والتوجيه، فيتفشى الفساد، وتضعف السلطة، وتغيب العدالة ويتخاذل الأمن، وتكثر جرائم السرقات، والرشوة، والعمالة، والمحسوبية، والكسل، والنفاق، وتتلاشى الحريات والآمال، ويسود التذمر والتشاؤم، ويصبح الناس لا يفكرون أو ينتظرون إلا في ساعة التغيير الحاسم...
ومن الواضح أن المراحل التي تسبق الإرهاب الدموي. تشكل إرهاباً على المثقفين الملتزمين فتبعدهم وتهمشهم، وإرهاباً على المناضلين الوطنيين فتجهض تحركاتهم الرائدة. وإرهاباً على المواطنين فتشغلهم بالهموم اليومية القاسية، وإرهاباً على السلطة نفسها فتشوه بنيتها، وتسمم نشاطها بالانتهازيين والوصوليين والمنافقين.
... وشيئاً فشيئاً تتسرب هواجس الخوف... والقلق والتبرم... بين الجميع، ويأخذ الناس في الشعور الحاد بالحيرة والإرهاب في الأمن.. في الغذاء. في العمل، في التفكير والتعبير. والذوق... في الهوية. في الوحدة الوطنية، في الأخوة والتعاون... ثم يأتي الإرهاب الدموي ليهدد الأحياء في حقهم في الحياة...!.(1/136)
وحدوث الإرهاب الدموي، يمثل قمة الانحراف للعمل الثوري، الهادف إلى التغيير الجذري البناء.. ذلك لأن الثورة في التمهيد لتفجيرها، تعتمد على المثقفين والوطنيين الأوفياء، وطاقات الشعب الخلاقة... بينما الإرهاب في بدايات نشوئه الأولى، يبعد كل هذه العناصر الرائدة المبدعة.... ويعتمد على الغوغاء، والغدر، والوعود الكاذبة وعندما يفشل في تحقيق أغراضه الآنية المرتجلة يلجأ إلى الفتك بكل ماهب ودب. دون حساب لنتائجه الأخيرة المرعبة...!.
والإرهاب أشد خطراً، وأكثر إيلاماً من الكوارث الطبيعية الساحقة.. لأن هذه الكوارث الطبيعية الساحقة... لأن هذه- مهما عظمت- فهي قليلة الحدوث ويمكن /علمياً/ التنبؤ بوقوعها، واتخاذ الاحتياطات اللازمة لتحاشي بعض أضرارها، وهي عند نزولها لا تفرق بين ظالم أو مظلوم. وبالتالي فهي لا تحمل في طياتها أي معنى للانتقام، أو غرض للتآمر، والحقد أو الطمع، لذلك فآثارها النفسية، قد تحمل الألم والحزن والأسى لما تحدثه من خسائر، إلا أنها لا تثبط العزائم،ولا تدفع إلى اليأس، ولا تشجع على الهروب المتواصل، بل قد تساعد أحياناً على جمع الشمل، وشحذ الجهود. وإيقاظ نوازع المحبة والشفقة والرحمة في القلوب، وينطبق عليها المثل "الأزمة تلد الهمة...".
قد يصيب بلداً، زلزال رهيب، فتهب كل دول العالم القادرة، وكل البلدان الصديقة لنجدة ذلك البلد بالمساعدات والمواساة... ويتمادى الإرهاب الدامي في بلد آخر، ويهلك من جرائه عشرات الآلاف من الأبرياء.ويتألم كل ذي قلب مرهف... ولكن لا أحد يستطيع أن يقدم علاجاً ناجحاً لاستتباب الأمن والسلام...!.
-2-
والإرهاب أيضاً هو أشد وقعاً وأسوأ أثراً من المخدرات، وإن كانت هناك صلة وطيدة وشبه بين الاثنين. حيث أن لكل منهما تجاراً ومدمنين، وضحايا من الأبرياء.(1/137)
1 ـ فتجار الإرهاب، غالباً ما يكونون محصنين بقوة العنف، والمال، والقناعات النابعة من المطامح والنظريات الخاصة بهم... ويعيشون مختبئين عن أعين ضحاياهم من المجتمعات والأفراد. داخل القصور المحروسة أوفي أجواف الكهوف. وأغوار المغارات أو حتى في أعماق السجون.. أوخلف أقنعة مزيفة، وأزياء تنكرية.. وباسم مختلف الشعارات السياسية، والدينية، والاقتصادية، وغيرها من ذوات المظاهر المغرية البراقة التي تستميل السذج، والموتورين، وضعاف النفوس...
بينما تجار المخدرات، هم في الغالب، أفراد. وعصابات مغامرة، هدفهم الأساسي هو كسب الأموال وتكريسها، وهو ما يدفعهم أحياناً إلى السعي وراء امتلاك المراكز السلطوية، ومناصب النفوذ للمزيد من القوة والربح... وهم في مجمل حياتهم ونشاطهم ملاحقون قانونياً، منبوذون كمجرمين، لذلك لا يجدون في أنفسهم حيلة للسيطرة المطلقة على العالم، والهيمنة على كل مقدراته... وهذا بعكس تجار الإرهاب الكبار الذين قد يستعملون حتى المخدرات وكل الآفات، لإفساد الأجيال وإضعاف الشعوب... وهدفهم الأساسي هو الاستحواذ الكامل على هذا الكوكب الأرضي بما فيه، بواسطة القوة والإرهاب وبطاقات العلم والتكنولوجيا وشعارات العولمة والقطبية الوحيدة والإعلام، وبارقات السلام وحقوق الإنسان.
ومن صفات أباطرة الإرهاب أنهم يعتبرون أنفسهم فوق البشر، وينصبون أنفسهم أوصياء عليهم، ولو أدى بهم الأمر إلى تهديد الشعوب الحرة والضعيفة باستعمال الأسلحة الفتاكة لإخضاعها...!.(1/138)
2 ـ أما مدمنو الإرهاب... وهم عملاء وصنائع تجار الإرهاب الكبار سواء أدركوا ذلك أم لم يدركوا فهم المرتزقة مادياً أو معنوياً ويحترفون الإرهاب كمهنة شريرة، وسيلتها القتل والدمار والتخريب، وهم في أكثريتهم ينطوون مسبقاً على نفسيات مخلخلة معقدة، وميول عدوانية حاقدة. ودوافع انتقامية لأتفه الأسباب... نتيجة لعوامل كثيرة ماضية، وراهنة، قد يكون السبب في تشكلها الجهل، والعجز الفكري، والفاقة، والبطالة، والتهميش، مع التشبع بالآراء الداعية إلى العصيان والتمرد، وهدم أركان المجتمع بأوضاعه الراهنة، للقضاء على الخيبة والفساد -حسب تصورهم- سعياً إلى إقامة مجتمع آخر مختلف عن سابقه، وأنسب لهم منه ولذا فإن كل إرهابي في بداية ممارسته لأعماله الوحشية الدموية، قد يكون مستنداً إلى مبررات ذاتية، نابعة من قناعات سياسية أو اقتصادية أو عنصرية، أو دينية معينة... وبعد تكرار الممارسات الإرهابية وتواصلها، من تقتيل وذبح وتمثيل وتشويه، تتحول تلك الممارسات إلى عادة مرضية راسخة ويصبح الإرهابي مدمناً على أعماله البشعة، كمدمن المخدرات... يهوى القتل ويستلذ بتعذيب الغير، وتغمره نشوة عارمة، ومتعة كبرى وهو يرى أمامه، دماء ضحيته تفور وتتطاير بغزارة وكأنه مجنون يمثل مسرحية هزلية مفرحة، أو وحش كاسر جائع، يمزق جسد فريسته بشراهة ونهم...
إنه مرض مزمن صعب علاجه... وهو أخطر مرض لجنون البشر... وأين منه مرض جنون البقر...؟
وأن /السادي/ الذي يسعد بإيلام غيره، هو أقل قسوة وشراسة من الإرهابي المدمن على إرهابه، الذي لا يفرق بين مذنب أو بريء.. بين صغير أو كبير... بين رجل أو امرأة... المهم هو الذبح... ومن أجل الذبح فقط...!.
إنه قوة هوجاء، عمياء، هدفها الأخير الموت والفناء، كاللهب المسعور، يأتي على الأخضر واليابس، ويقضي على كل مايجده في طريقه من عناصر الحياة...!.(1/139)
إن مدمن المخدرات، هو إنسان يؤذي نفسه بالدرجة الأولى، لأنه يمارس مع ذاته عملية انتحار بطيء... وكما يتمتع وحده بنشوة مخدراته، يعاني وحده قساوة آلامة عند حرمانه منها... وإن كان قد يصيب عائلته والمقربين منه بأذى بالغ، وإضرار جسيمة، ومع ذلك فهو يستحق الشفقة والعناية به أما الإرهابي المدمن على إهلاك الأبرياء، فأية شفقة يستحق..؟!..
- إن ضحايا المدمنين على المخدرات من أبناء وزوجات وأقارب... يمكن إنقاذهم، وإسعافهم بالمساعدات الفعالة، وإيواؤهم، وتوفير المناخ السليم لهم، بعيداً عن المدمنين من ذويهم.
أما ضحايا مدمني الإرهاب، فهم القتلى والمعطوبون والأيتام والأرامل، واللاجئون والمشردون، وكذلك المصابون بصدمات نفسية عنيفة إثر مشاهدتهم لعمليات ذبح أهلهم، مما أدى ببعضهم إلى الجنون، وبالبعض إلى الذهول والتيه والبكم..هؤلاء الضحايا أية مساعدة يمكن أن تفيدهم...؟!...
ولا ننسى أن نشير إلى أكبر وأعظم ضحايا مدمني الإرهاب ألا وهو المجتمع... والوطن كله بما يصيبه من شلل وركود، ومن فاقة واحتياج، ومن تقهقهر وتردي، ومن كآبة وحزن وأسى....!.
إن ضحايا مدمني الإرهاب، أغلبهم من قوافل الأبرياء.. المساقين رغم أنوفهم فوق دروب الآلام والذعر، نحو مصير العذاب والتلاشي، والاندثار...
لقد شهد العالم منذ القدم، موجات عاتية مظلمة من الإرهاب الوحشي، كان أقربها إلى زماننا، وألصقها بأقطارنا هجومات المغول والتتار، والحروب الصليبية، وجرائم التتريك، ومآسي الحربين العالميتين، وفظائع الاستعمار الغربي، ومصائب التمييز العنصري... وأخيراً كارثة الوجود الصهيوني في قلب الأمة العربية فلسطين، واحتلاله لأوردة هذا القلب الدفاقة: الجولان وجنوب لبنان...!..(1/140)
ومن المعلوم أن أشكال الإرهاب وصوره، كثيرة ومتنوعة، ومن بينها تلك التصرفات الظالمة من طرف بعض الحكام الأنانيين في حق شعوبهم، وأبناء جلدتهم، حيث لا تأخذهم بهم رأفة ولا رحمة... ولكن الشيء العجيب اليوم، هو أن يتجرأ الإرهابيون الحقيقيون فيتهمون ضحاياهم بأنهم هم الإرهابيون، ويطلقون على أنفسهم اسم حماة الأمن، ورعاة السلام...!!؟...
كان الاستعمار الفرنسي خلال أعوام الثورة الجزائرية المسلحة، ينعت المجاهدين باسم الخارجين عن القانون... وهو ادعاء قد يكون مقبولاً إذا فهمنا منه خروجهم عن قانون الاستعمار الفرنسي نفسه... وكان أيضاً ينعتهم بأسماء كثيرة زائفة مثل المخربين، والفلاّقة... وغير ذلك.
أما أن تطلق حكومة أمريكا، وهو مرتع الإرهاب والتهويد والغطرسة في العالم، ومعها فلذة كبدها إسرائيل، ومن لف حولهما.. إذ يطلقون اسم الإرهابيين على ضحاياهم من المدافعين عن أنفسهم في فلسطين ولبنان، وسورية، فذلك ما يبعث على الدهشة.... ويدعو إلى السخرية!!...
قوم "استعمرت أرضهم، ونهبت ممتلكاتهم، وسلبت دورهم، وشردوا خارج حدودهم، وحل محلهم غزاة، كلهم محاربون ناقمون حاقدون عنصريون، برجالهم، ونسائهم وأطفالهم، مدججون بأسلحة الفتك والدمار، وبنوايا الغدر والإبادة الشاملة للجنس العربي... وبكل أساليب العنف والإرهاب.. هؤلاء المعتدون يريدون من ضحاياهم المسلوبين أن يستسلموا لمصيرهم القاتم القاتل... أو أن يعاملهم العالم كإرهابيين خضوعاً لمشيئة أمريكا وإسرائيل، وتوابعهما من العنصريين والعملاء...!!؟؟(1/141)
لقد كانت إسرائيل الإرهابية، منذ احتلالها لفلسطين دائماً هي /السباقة/ في هجوماتها. واعتداءاتها الإرهابية المسلحة على المدن والقرى الفلسطينية العزلاء... وعلى الأقطار العربية القريبة من شرورها... وحادثة مجزرة /قانا/ البريئة لا تزال صورها الإرهابية ماثلة للعيان، وفي الأذهان... فمن هم الإرهابيون إذن..؟ هل ـ هم أطفال /قانا/ الشهداء..!!؟؟...
ومن المؤكد، أن إسرائيل تتمنى أن تفعل بالعرب مافعله أسلافها من غزاة القارة الأمريكية بالهنود الحمر... ولكن هيهات فشتان بين الشعبين، والحضارتين والمكانين... والزمانين...!!...
لقد أثبتت عدالة الله، وقوانين الطبيعة الإنسانية وكل الشواهد التاريخية.. أن الإرهابيين الطغاة، وكل المعتدين، أفراداً كانوا... أم قبائل أم شعوباً، وأمماً... مهما تمادى ظلمهم وظلامهم، فلابد وأن تدور عليهم الدوائر، وتمحقهم نهايات قاسية، لا تبقى لهم أثراً، إلا سوء الذكر، ولعنات الأجيال والتاريخ....
وحتى تلك الغارات الخاطفة التي كانت تقوم بها بعض القبائل العربية في العهد الجاهلي ضد قبائل أخرى فإننا عندما نذكرها نشعر بنوع من الاشمئزاز رغم أنها لم تكن منبعثة من نفوس مجبولة على الجريمة والشر، وإنما كانت لها دوافع اجتماعية تفرضها تقاليد ذلك العصر، كالثأر، والدفاع عن الشرف،... كما كانت لها حوافز اقتصادية، تستدعيها ظروف القحط والجفاف... ومتطلبات المعيشة الصعبة..
كما أن تلك الغارات لم تكن تشمل كل القبائل العربية، ولم تكن متواصلة الحدوث... بالإضافة إلى أن المجتمع القبلي العربي في ذلك الوقت، كان بطبيعته مجتمعاً محارباً، ومهيأ نفسياً وبدنياً لمواجهة الطوارئ والمفاجآت بما يمتاز به أفراده من دراية وحسن تدريب على مختلف فنون الفروسية والقتال... وكانت الشجاعة والإقدام والمروءة والنخوة، من الصفات الأساسية البارزة لكل عربي.(1/142)
وعندما جاء الإسلام، حافظ على الكثير من القيم العربية الكريمة والنبيلة، وأضاف إليها بالطبع، الكثير أيضاً من القيم الروحية والمادية السامية، خاصة فيما يتعلق بكرامة الإنسان وحرمته، وأخلاق الحرب وحسن المعاملة والجوار والتضامن والتعاون على دفع الأذى. والتلاقي تحت ظلال المحبة والشفقة والرحمة، والعطف والتسامح.
لقد منع الإسلام خلال الصراعات المسلحة، منعاً باتاً، إلحاق الأذى بالأبرياء، وأوصى بأن لا يقتل المحاربون من أعدائهم طفلاً أو امرأة أو شيخاًمسناً، أو مزارعاً يخدم أرضه أو رجل دين متعبداً، ولو كان من غير دينهم، وأن لا يقتلوا حيواناً آهلاً، ولا يقلعوا شجرة مثمرة... وقال عليه الصلاة والسلام: "ارحموا من في الأرض، يرحمكم من في السماء"، فلماذا يحدث الآن في بعض المواطن المسلمة، وفي الجزائر بالذات!!؟...
إنني لا أستطيع أبداً أن أصدق أو أتصور، أن من ارتكبوا تلك المجازر الذبحية الجماعية النكراء في حق النساء والأطفال والفتيات والعجزة.. لا أتصور أبداً أن من قام بتلك الجرائم البشعة. يحمل في نفسه -ولو أقل من مثقال ذرة- من الإيمان، أو الإنسانية، أو تقاليد الجزائر المسلمة العريقة!؟...
وأكاد أجزم بأن هناك عناصر مغشوشة، مدسوسة أجنبية حاقدة على العروبة والإسلام، وعلى الجزائر بالأخص، استطاعت أن تتسرب داخل الأرياف والقرى، والمدن، منذ زمن، وأن تتبنى /صورياً/ سمات الجزائريين وعاداتهم وأزياءهم ولهجاتهم، ثم أخذت في الخفاء، تشعل نيران الفتنة، وتعيث في الأرض جوراً وفساداً....؟
وبالمناسبة ترد إلى ذهني أخبار جماعة (الدونمة) اليهودية، وكيف اخترقت أجهزة ومصالح، ومعتقدات، الدولة العثمانية... ويخطر لي هذا التساؤل: هل هناك /دونمة/ جديدة في الجزائر...؟..(1/143)
ثم.. أليست هناك حملة ضارية بزعامة بعض المسؤولين في الولايات المتحدة، والغرب، وإسرائيل ضد العروبة والإسلام، واتهامهما على أنهما المصادر الأساسية لإنتاج الإرهاب، وتصديره إلى العالم...!...
والجزائر كانت وما زالت منبعاً لأمجاد العروبة والإسلام في نضالها، ومواقفها ومطامحها. وأخلاق شعبها.. أليس هذا كافياً لأن تركز عليها كل حملات التشويه والتخريب والتدمير؟ وكبر هان على مصداقية الاحتمال السابقة أورد هذه القصة.
أخبرني الشيخ سعيد رباح، رحمه الله، عندما زرته في منزله قبل وفاته بشهور سنة 1995- وهو مناضل معروف قدم إلى سورية سنة 1920 وفرّ من الجيش الفرنسي والتحق بالجيش العربي السوري ثم عمل في السفارة الفرنسية، وكان على صلة تعاون دائم بمكتب جبهة التحرير الوطنية بدمشق، خلال أعوام الثورة الجزائرية المسلحة.
أخبرني القصة التالية، قال:
"في بداية الستينات، والجزائر على أبواب الاستقلال اتصل بي الشيخ الغسيري مسؤول مكتب الجبهة، يسألني عن رجل مسلم يدعى الحاج يعقوب.. يريد أخذ الجنسية الجزائرية عن طريق حكومة الثورة والسفر إلى الجزائر، مع زوجته وأولاده إذا سمحت الظروف بذلك... وطلب مني أن أستفسر له عن حقيقة هذا الرجل.
ويقول الشيخ سعيد، عندما تقصيت أخبار هذا الرجل اكتشفت أنه يهودي، اعتنق الإسلام، وأدى فريضة الحج، ولكن بعض جيرانه، ومن يعرفونه... لا يثقون في تصرفاته ولا في إسلامه... وأخبرت مسؤول جبهة التحرير في دمشق بذلك، ونصحته بعدم مساعدته، وفعلاً لم يمنحه الشيخ الغسيري أية وثيقة للموافقة، إلا أننا بعد مدة، علمنا أن ذلك /اليعقوب/ قد سافر مع أسرته إلى لبنان، ومنها إلى الجزائر، ولا يعلم أحد حتى الآن في أية مدينة أو قرية يسكن... وماهو الاسم الجديد الذي يحمله، ولا ماهي أعماله وأحواله؟!...(1/144)
وقد أكد لي -رحمه الله- اعتقاده بأن مايحدث في الجزائر اليوم... وإن كانت دوافعه ومبرراته المباشرة، تبدو جزائرية -إلا أن وسائله وآثاره، ونتائجه المأساوية لا يمكن أبداً أن تكون من فعل جزائريين وطنيين أصليين... وإنما هي بلا ريب من صنع أيد أجنبية مدسوسة، وفي مقدمتهم الصهاينة والعنصريون الغربيون والخونة والعملاء المأجورون.
لقد استطاعت جماعة /الدونمة/ اليهودية، أن تتغلغل في جسم الدولة العثمانية إلى درجة أن بعض أفرادها تبوأوا صدارة أصحاب القرار، ومراتب السلطة والحكم، وشغلوا مسؤوليات التشريع والتنفيذ، ورجال الدين الإسلامي والقضاء...
وربما مازالوا إلى الآن هم رجال الحل والربط في تركيا، وإلاّ... ما معنى كل هذا التهافت على التعاون مع إسرائيل، دون أي اعتبار لمشاعر كل العرب والمسلمين. واستنكارهم لذلك؟...
إذن... مايمنع أن تكون ظاهرة الإرهاب والتخريب والعداء السافر ضد أي تحرك نهضوي في بعض الأقطار العربية التقدمية هو من صنع /دونمة/ جديدة، همها الوحيد، هو السعي للقضاء على كل المقومات العربية الأساسية. من وحدة ودين وقومية، وحرية وتطور اقتصادي مستقل...!؟...
ومن الملاحظ،.. أن أي قطر عربي استطاع أن يتخلص من هيمنة الاستعمار أو ما يشبهه... بفضل إمكاناته الذاتية، ووعيه الشعبي التحرري، ونضاله المستميت، وتطلعاته المستقبلية الجادة.. إلاَّ وأخذت القوى العدائية الخفية تجرّه إلى الخلف... بكل الوسائل، وبمختلف الأساليب التعسفية المفضوحة، والدالة بجلاء على أنها ليست من نتاج أبناء الشعب... ولا علاقة لها بمكونات شخصيته الإنسانية الأساسية ولا همّ لها بحاضره المتحفز، ولا بماضيه المجيد، ولا وجود لها في كل المآثر العربية الإسلامية النبيلة وتتناقض مع كل مفاهيم المنطق والعقل، وحقائق سنن التطور في هذه الحياة...!(1/145)
تزرع الفتنة، ويؤجج العنف، وينتشر الرعب والإرهاب. وتعم البلبلة والفوضى، وتتلاشى الثقة بين المواطنين داخل أجواء متوترة، محفوفة بالفاقة والخطر، وسيادة اللا أمن واللا استقرار، وعندما تتتابع النكسات والترديات داخل بعض الأقطار العربية -خاصة في المنتصف الأخير للقرن العشرين- عندها يتوجهون بالتهم العنصرية ضد العرب والمسلمين، على أنهم قوم أو جنس، جنت عليهم مقوماتهم الفكرية والنفسية والدينية، وعاداتهم وتقاليدهم... وأنهم لا يستطيعون التقدم ولا يقدرون علىالنهوض، ولا ينسجمون مع الحضارة المعاصرة، مالم يتخلصوا من سماتهم، وخصائصهم...!!!؟...
- ألا... وكم هي دعوة بلهاء للانتحار...!.. من طرف الأعداء المتآمرين، وتلاميذهم من بعض الساسة والمثقفين ممن انعدمت وطنيتهم، وساءت تربيتهم، ومات وعيهم القومي العربي، ففقدوا كل إحساس بالكرامة، وصاروا يشكلون واجهة للانحراف والاستسلام، وحجة قائمة لتشويه سمعة العرب والمسلمين لدى الرأي العام الخارجي، بالإضافة إلى بث الشك في بعض النفوس من أجيالنا الناشئة، ضد طاقات شعبهم المبدعة، وثوابت أمتهم الخالدة...
وباختصار فإننا حالياً -في وضع لا نحسد عليه- وحتى نحافظ على ما تبقى لدينا من وجود.. وأن نتخلص من بعض مصائبنا... ما علينا إلاّ أن نتضامن ونتوحد، ونعمل بجد وحذر ونفرّق -بشجاعة- بين الصديق والعدو، بين ماهوأصيل... ومن هو/دونمة/ دخيل...!؟؟
/تشرين/12/6/1997.
((
تأملات عربية، في الحاضرة والوجود!..
الحياة تتواصل جارية متدفقة، كنهر فيضاني جارف، لا يمهل، ولا يرحم...
والأيام تتوالى متسارعة، متطايرة، كفقاعات رغوية فارغة.. لا قيمة لها، ولا هدف....
والساعات في زمننا المحلي، لم يعد لها وجود في الإحساس ولا إحساس في الوجود...(1/146)
ومع ذلك فالزمن خارج محيطنا العربي لا يفتأ يشغل جزءاً من اهتمامه اليومي، بالحديث عنا عن خلافاتنا وتمزقنا، عن الإرهاب وإسلامنا، عن إسرائيل وعروبتنا... عن الأحلاف ضدنا، وسرقات أراضينا، ومياهنا، وبعض رجالنا.. عن بناء المستوطنات والتطبيع، وإقامة المؤتمرات واللقاءات الودية مع الأعداء والفساد...
ومن الأكيد أننا منذ نصف قرن تقريباً، ونحن -كعرب لا حول لنا ولا دخل ولا إرادة، في صياغة أفكارنا ولا في صنع أحداثنا، ولا في موتنا أو حياتنا، ولا حتى في أحلامنا وإذاعة نشراتنا الإخبارية... كل شيء أصبح مفروضاً علينا من الخارج ومن تدخلات أمريكا وإسرائيل بالتحديد وفي الأغلب. ونحن كل مايمكننا القيام به وهو رد الفعل المباشر أو /الشرطي/ البافلوفي/ فقد يكون هذا الرد إيجابياً منا، فنرفض ونتمرد، ونتحمل العقوبات، ونستشهد. ونطالب دون خوف أو خجل. بالوحدة والتضامن... وقد يكون رد فعلنا سلبياً، فنتخاذل ونهرول، ونطعن /المنطق/ فنجعل /عدو الصديق أو الشقيق صديقاً أو شقيقاً/ ونفتح له بين منازلنا /دوحة/ للظلال والتأمل. والاستعداد. ونمثل كل أشكال الانبطاحات!...
كل يوم يولد مئات الآلاف من أبنائنا بين ظهرانينا وكل يوم يموت مئات الآلاف من أفراد هذه الأمة المظلومة ومن يولد، ومن يموت كلاهما يجهل مصيره... ونحن الأحياء نعيش كل لحظة من بقايا أعمارنا، تحت سياط التساؤل المرعب.... كيف سيكون مستقبلنا، هذا الغريب المجهول الخارج عن إرادتنا..؟!...
بالأمس، ودعنا الشاعر العربي الكبير محمد مهدي الجواهري إلى مثواه الأخير، بعدأن أقام في هذا الزمن الغبي مايقرب من مئة عام... فماذا جنى من حنين مطامحه... وماذا اقتنى من رصد مستقبله وملامحه... وماذا أخذ معه للسابقين من صور عربية نورانية ملوّنة، تزكي عمره، وتتوج شعره وتثلج صدره وتجعله بين الخالدين مطمئناً سعيداً، يباهي بفخره، وبشره وقومه!؟...(1/147)
أتخيل أن الفقيد العظيم، الجواهري سيصافح أهل الفردوس خجولاً حزيناً لا من نفسه، فقد أعطى وناضل وأبدع كأي عبقريي ملتزم بطل ولكن من بعض /النوابض/ في قلب أمته العربية.. ممن حولوا دفق دمائهم إلى غير مجاريها، واستعاروا أوردة مطاطية، اصطناعية أصبحت هي المحرك لهم وقضت على كل مابين الشياطين وبينهم من حواجز وفروق...؟!...
وسيكون خجولاً حزيناً أيضاً من كل العرب والمسلمين الذين فارقهم... وتركهم أحياء دون أن يحركوا ساكناً وإهانة رسولهم الأعظم ما زالت تلوكها الأفواه ويتناقلها الأثير؟!...
وقد يحكي له /الشيخ العباس بن الحسين/ وهو أديب فقيه مجاهد جزائري كانت آخر مهامه... إماماً لمسجد باريس، ومات بالسكتة القلبية منذ سنوات، مباشرة بعد الزيارة التي أداها له السيد ياسر عرفات... يحكي للجواهري كما حكى لنا حيث قال:
"كنت داخل القطار في المغرب الأقصى، حيث كنت أدرس في جامعة القرويين بفاس، وإذا بشجار حاد ينطلق بين مغربي ويهودي، فأخذا يتبادلان الشتائم المقذعة، ثم اشتد السباب بينهما فصار اليهودي يتفوه بكلام سيء عن اسم الجلالة، ثم ذكر محمداً بكلام فاحش، فلم أشعر إلا وأنا أقوم من مقعدي وأنهال على اليهودي ضرباً مبرحاً حتى أغمي عليه... توقف القطار عندأول محطة، وقامت الشرطة بحجزي، وسألوني:
-"ما دخلك أنت في موضوع الشجار، ولماذا ضربت اليهودي فأجبتهم أنا لم أتدخل عندما تشاتما... ولم أتدخل عندما ذكر اليهودي الله بسوء... لأن الله هو للجميع.. أما عندما أساء إلى سيدنا محمد، فهذا يخصني شخصياً لأن محمداً هو منا، وإلينا ولكل العرب والمسلمين ولن نسمح لمخلوق بالإساءة إليه، ولو متنا من أجل ذلك".
رحم الله الشيخين العباس، والجواهري وأمثالهما من الشرفاء الأباة.(1/148)
وفي هذا الزمن المتخاذل، هاهي يهودية، فاسقة، في مدينة الخليل، وعبر شبكات الانترنيت تسيء بالغ الإساءة إلى رسول المسلمين، محمد العربي، وإلى صحبه الكرام، وتهزأ بالسيدة العذارء، وعيسى عليهم السلام... واستخفافاً بالمسلمين والمسيحيين وكأن اليهود، هم فقط أصحاب الدين الصحيح...؟!...
تحدث هذه الإهانات الكبرى، في الوقت نفسه الذي تعقد فيه المؤتمرات الإسلامية والمسيحية مشرقاً ومغرباً أسيوياً وإفريقياً وتنافس فيها قضايا احترام المقدسات وتدعيم روابط التفاهم الروحية، والأخوة الدينية.... بينما الصهيونية تهزأ بأصحاب الرسالات السماوية، وتتحدى المؤمنين بها ..! ويمضي ذلك التحدي الشرس فلا يلقى من المؤتمرات سوى الاستنكارات والتنديدات الشفوية الخافتة ومن المساجد والكنائس سوى التذمرات والدعوات اللامستجابة مثل / اللهم فرق جمعهم وشتت شملهم، ويتم أطفالهم، ورمّل نساءهم، وخذهم أخذ عزيز مقتدر...!!... ومن العجيب أن نتائج مثل هذه الدعوات، هو ماينطبق علينا تماماً، ونعيشه كواقع راهن مرّ... لأننا ننسى: (أن الله لا يغير مابقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم). وننسى: (وقل اعملوا...).
ولست أدري متى يتفق العرب والمسلمون على التأكد من هذه البدهية التاريخية الواضحة، وهي أن عداوة الصهاينة للعرب والمسلمين، لا علاج لها و لا شفاء منها، إلا بانقراض أحد الطرفين. أو بوجود قوة دولية عادلة وخارقة... تفوق قوة "ذي القرنين"، بآلاف المرات، فتبني سد ياجوج وماجوج بين الصهاينة وبين العرب والمسلمين، على أن يكون ذلك السد خارج أرض العرب، لأن إسرائيل قد ملأت أغوارها أنفاقاً رهيبة، تحت التراب، وتحت الماء.... وداخل النفوس الضعيفة....(1/149)
ولست أدري متى يعترف العرب والمسلمون بقناعاتهم الداخلية، وبإدراكهم الراسخ في أعماقهم، بأن كل مسرحيات وحيل وتلاعبات الإسرائيليين، أصبحت أكثر من معروفة ومكشوفة، وغبية أيضاً... ولا أعتقد أن غباءنا يتجاوز غباء اليهود... ولا يمكن أن يكون هو السبب في تجاهلنا لمدركاتنا. وانصرافنا إلى عكس الحقائق التي تبهرنا يومياً... ولا ريب أن هناك عاملاً آخر... أخطر بكثير من مسألة الغباء....؟!..
مَنْ مِنَ العرب والمسلمين يجهل هذه المهازل:
1 ـ في أعقاب نكسة حزيران 1967 ـ أخذ جنود الصهاينة يتصايحون بشعارات تسيء إلى الإسلام، وهم يحتسون الخمرة في ساحة المسجد الأقصى، أول القبلتين، وثالث حرم مقدس للمسلمين، ولم تشد له منهم أية ركاب...!؟...
2 ـ وفي سنة 1969 قام الصهيوني العنصري الناقم: "دينيس مايكل" بإشعال النيران في المسجد الأقصى وحرقه... وتأوه المسلمون... وفاضت دموعهم...!..
3 ـ وفي أعقاب حرب تشرين 1973. التي أظهرت للناس أن إسرائيل ليست غولاً ولا معجزة... في أعقاب تلك الحرب، قامت قوات الصهيونية -انتقاماً لهزيمتها- بهدم عدد من المساجد في القرى والمدن الفلسطينية، ومصادرة الأراضي التي كانت مخصصة لبناء دور للعبادة للمسلمين والمسيحيين على السواء..
4 ـ وفي مطلع الثمانينات قامت الحركة الصهيونية، بطبع مئات الآلاف من النسخ المنقوصة والمحرفة للقرآن الكريم، ولولا غيرة بعض الشباب من المؤمنين لتم توزيعها في أرجاء العالم وعلى أوسع نطاق .
5- وفي التسعينيات قام صهيوني حقود مجرم بفتح نار رشاشه على المسلمين. وهم يؤدون صلاة الصبح، في الحرم الإبراهيمي فقتل منهم العشرات وهم بين يدي الله.
6 ـ وفي بدايات هذه التسعينات تناقلت الأنباء، خبر افتتاح حانة في تل أبيب أطلق عليها صاحبها الفاسق، اسم /مكة/... المكرمة. واهتزت مشاعر المسلمين، وظلت الأيدي مسدلة...!؟...(1/150)
7 ـ وهاهي /تيتيانا/ تقوم -بأمر من شلتها الكافرة- الفاجرة، برسم وتوزيع ملصقات، تسيء إلى قداسة الرسول الأعظم وصحبه الراشدين.
... وفي الوقت نفسه كان الجنود الصهاينة يقومون في إحدى المدارس في مدينة الخليل، بتمزيق مصاحف القرآن الكريم، ورميها، والدوس عليها...!...
8 ـ وتتواصل حتى الآن عمليات فتح الدهاليز والأنفاق وأشغال الحفر والتخريب، تحت المسجد الأقصى، والمعالم والآثار الإسلامية في القدس، وفوق كل ثرى فلسطين.. ومن بينها الحفر المزمع القيام به في مقبرة /باب الأسباط/ بحجة البحث عن جثث اليهود الذين قتلوا في حرب 1948.
9 ـ ما زالت المحاولات العدوانية الوقحة، قائمة على قدم وساق من طرف غلاة اليهود. ليتمكنوا من الصلاة، داخل المسجد الأقصى، حيث لا يبقى -بعد ذلك- للمسلمين، مكان خاص بهم، يقابلون فيه وجه ربهم!...
إن جرائم الصهيونية، ضد الله، والدين والإنسانية، لا تحصى، ولا تعد... وهي في كل حين تزداد شراسة وضراوة... فيا أيها العرب والمسلمون.. أنتم يامن تتربعون على مواقع السلطة والحكم. وتملكون حق القرار والتنفيذ، وبأيديكم مفاتيح القوة والأمر،... أين أنتم...؟
إن شعوبكم قد أمرضها وباء السجال السياسي، وأذلتها الإهانات، وصدمات الاحتقار، وكاد أن يجننها الانتظار، لساعة الشهادة أو الانتصار... وليست ببعيدة منها لحظة الانفجار....
لقد طفح الكيل، وبلغ السيل الزبى.... وليست مبادرة (الدقامسة) وهيجان رماة الحجر، واستشهاد المسبّلين البطلين في انفجار القدس الأخير، إلا إرهاصات ثورية لما سيأتي بعدها من زلزال وطوفان، لا يبقى ولا يذر....
إن إسرائيل تدرك تمام الإدراك، أن السلام لا يمكن أن يتحقق إلا بوجود(1/151)
السلام الحقيقي للعرب، وسلام العرب، يكمن في عودة أراضيهم، ولمّ شمل أهاليهم، واسترجاع حقوقهم المغتصبة، وحريتهم المهدورة، واحترام مقدساتهم وعودتهم إلى حياتهم الكريمة.. مع الأمن والاطمئنان، ودون أي استفزاز أو تهديد... وعلى إسرائيل أن تكف عن محاولاتهم الإجرامية الفاشلة وأن تعترف بالحقائق التاريخية والراهنة، وهي تدركها تمام الإدراك.. فالاسلام خالد برسالته وصفائه ونقائه، ولن يطوله تشويه أو تزييف...
والمقدسات الإسلامية، لن يؤثر فيها أو يلغيها تخريب أو تحريف.
والرسول العربي محمد عليه الصلاة والسلام، الذي أرسله الله (هادياً ومبشراً ونذيراً، وداعياً إلى الله بإذنه، وسراجاً منيراً) هو أسمى وأعظم، وأجل من أن تمسّ مكانته أو يؤثر، في الملايين المؤمنين بشريعته، حديث كذاب أو رسم...: أو نباح كلاب.
والقرآن الكريم، قال الله فيه: (إنا نحن نزّلنا الذكر،وإنا له لحافظون). فهو نور ساطع من رب العالمين، منزه مصون، ويعمر صدور كل المؤمنين.
وأن الأمة العربية، التي يحفل تاريخها المجيد بانتصاراتها على كل البغاة، والطغاة الظالمين، قد وجدت لتبقى، ولن يزعزعها عن موقع حياتها الخالدة، كيد الكائدين.
وستعود الأراضي العربية إلى أهلها، وينتصر الجولان وجنوب لبنان، وكل شبر مسروق من هذه الأرض الزكية.
ومن المجدي لإسرائيل أن تنسحب مما هو ليس لها، وأن تتراجع عن عمليات الاستيطان، فوق بقاع سلبتها من أبنائها، وأحفادها، ومن تاريخ آبائها وأجدادها. بقاع لا يمكن أن تتغير هويتها، ولا أن تنهب ملكيتها، ولا أن يتبدل ترابها العربي الممزوج بعرق ودماء أسلافنا الأولين.
من المجدي لإسرائيل أن تنسحب وتتراجع قبل أن يدركها الندم، فوق بذور مزروعة لحنين الثأر، وانتقام الشرف، وغضبة الحق المهضوم.(1/152)
وأشير إلى أن الولايات المتحدة، إذا استمرت في وقوفها إلى جانب تعديات ومظالم إسرائيل إنما هي في الواقع كأنها تقف ضد إسرائيل نفسها. وستخسرها بعد أن خسرت كل العرب الشرفاء... ذلك لأن موقعها إلى جانب الباطل الذي لن ينتصر يتنافى تماماً مع العقل والحكمة. وبعد النظر.
وأخيراً... مَنْ مِنْ مسؤولي العرب والمسلمين سيبادر إلى اغتنام شرف الوحدة والتضامن، ضد الأخطار التي تهدد الجميع...؟
إن انتصار الحق سيأتي اليوم أو غداً، وليس موعده ببعيد، فالخزي والعار لمن سيلعنهم التاريخ، وطوبى لمن تهتف الأجيال مآثرهم، وتتغنى بأمجادهم وترفع نصبهم الشامخة، فوق ساحات الشهادة والشهامة والكبرياء. طوبى للمناضلين والمسبَلين من أجل عزة هذا الوطن الغالي.
10 /تشرين / آراء ودراسات/ الاثنين: 4/8/1997.
((
إشارات... وذكريات... مع الجنوب الجزائري
في شتاء 1947، اتجهت برفقة صديقين، أكبر سناً مني، هما: /صالح جوامع، وصادق دبابيش/ اتجهنا نحو غابة نخيل قرب قرية /سيدي بركات/وجلسنا تحت شجرة زيتون، وبعد حديث قصير، أخرج /صالح/ من داخل ثوبه، مصحفاً للقرآن الكريم، فوضعت فوقه يمناي، وأقسمت أن أكون جندياً مناضلاً في حزب الشعب الجزائري، ملتزماً بتنظيمه السري، مجاهداً في سبيل حرية الوطن، إلى أن نطرد الاستعمار، أو أموت شهيداً.
اليوم يمر نصف قرن على هذا الحدث الذي كان له الدور الأكبر في تربية شخصيتي، وتحديد سلوكي، وفي كل ما مارسته من نشاط، وما عانيته من ظروف... منذ خمسين سنة خلت.. إلى اليوم وغداً...
وفي مطلع شتاء 1948 غادرت مدينتي: بسكرة، عروس الصحراء وبوابتها، وملكة الجنوب، وأم النخيل، وسيدة التمور، وموطن الأهل، ومربع الطفولة، ومانحتي أول حب في حياتي...
من قسنطينة إلى تونس، إلى سورية، إلى الجزائر العاصمة، ثم إلى سورية من جديد.. ولم أعد أرى بسكرة، إلا لماماً وإن كانت ذكرياتها لا تفارقني أبداً...!...(1/153)
عندما تركت مدينتي، وارتميت بين أحضان الغربة والاغتراب، كان عمري ست عشرة سنة... وها إنني اليوم وقد تجاوزت الستين أعود إلى ذكريات الطفولة وبواكير الشباب، وأسترجعها وكأنها حدثت منذ أمس قريب.
ولن أستطيع في هذه المساحة المحسوبة من الورق والوقت أن أسجل كل مايجول بخاطري من ذكريات عن /بسكرة/ والجنوب الجزائري بصفة عامة، وسأكتفي بذكر إشارات عابرة تتعلق بلغة البدو، وقربها الكبير من الفصحى، وببعض عادات وتقاليد أبناء الجنوب الجزائري.
وقبل الخوض في الموضوع أشير إلى بعض الحقائق:
1 ـ رغم أن الاستعمار الفرنسي، ظل في الجزائر، طيلة /130/ سنة، فإن هناك من عرب البادية الجزائريين وخاصة جل النساء البدويات، ممن تعاقبت أجيالهم خلال عهدالاستعمار، لم يروا في حياتهم ولا فرنسياً واحداً ولم يشعروا يوماً أنهم يعيشون دون حرية أو استقلال.
2 ـ قد كان لتشبث أهل البادية بقيمهم العربية العريقة، وبتعاليم دينهم الإسلامي، وحفظ القرآن وترتيله... دور كبير في نقاء لغتهم، وتواصل تقاليدهم النبيلة السامية....
3 ـ وكان لهجرات بني هلال الفضل الأكبر، لا في صفاء لغة الأجيال المتعاقبة، بل في نشر العربية، وتوطيدها عبر كافة أرجاء القطر الجزائري.(1/154)
وتبعاً لطبائع البدو الذي يميلون بالفطرة، في اختيار أماكن إقامتهم، إلى البطاح الشاسعة الواسعة، فقد وجدوا في الجنوب الجزائري، أنسب مكان لحلهم وترحالهم، نظراً لما يتمتع به من رحابة في الآفاق، ومناخ ملائم، ولما يتوفر فيه من واحات وارفة الظلال، ومياه زاخرة رقراقة، وأمن، وكلأ لهذا نجد أن كل القبائل العربية -تقريباً- من بني هلال وما تفرع عنهم، قد استوطنوا بوابات الصحراء الكبرى، في الجنوب الغربي والشرقي، للجزائر وعمروا مدناً قديمة كثيرة، كالأغواط، والجلغة، وبوسعادة والمسيلة، وبريكة، وإليانة، وبسكرة، والوادي، وما يتبع هذه المدن من مئات القرى، الممتدة ضمن شريط أخضر خلاب من غابات النخيل عبر مئات الكيلو مترات.
أشير كذلك إلى أن عرب البدو في الجنوب الجزائري لم يكونوا منفصلين أو معزولين عن إخوانهم في جهات الوطن الأخرى... فرغم المضايقات والمحاصرات الجائرة التي كانت تمارسها سلطة الاستعمار ضد المواطنين والجزائريين بصفة عامة، لعزلهم عن بعضهم، وتفريق شملهم... فقد كان للبدو، رحلتهم السنوية الدائمة، نحو الشمال، والشرق، والغرب في فصل الصيف، ونحو الجنوب في الخريف، والشتاء والربيع، وكان أبناء الجبال، والسواحل، والهضاب الجزائرية لا ينقطعون في زياراتهم لمناطق الجنوب، لقضاء مآربهم، وللتمتع بما تمتاز به الصحراء الجزائرية، من دفء، وهواء طلق، وفتنة وجمال، وحمامات معدنية، ومعالم دينية وأثرية، و/زوايا/ تعليمية، ومدن عريقة في حضارتها، وطيبة أهلها بالاضافة إلى ما اشتهر به أبناء الصحراء من كرم ووفاء، ونخوة، وأمان...(1/155)
هذه الاتصالات الدائمة بين البدو، والحضر، لم يكن لها أي تأثير سلبي على عادات وتقاليد أهل البادية، بل بالعكس كان للبدو في كثير من الحالات تأثير بالغ الأثر، في نفوس وعادات وتقاليد أهل المدن. لما يتسم به البدوي، من عفوية، وذكاء وحسن سلوك، ولما يمتاز به من شهامة، وشجاعة وصدق وفصاحة... وجمال في التعبير... ومقدرة في المبادرة، وسرعة البديهة والإبداع...
فعندما رأى البدوي /الدراجة الهوائية/ أطلق عليها مباشرة اسم /الدوامة/ ... وأطلق اسم /السماع/ على المذياع، والرفرافة على الطائرة العمودية... والبهرة، على الأنوار الاصطناعية. ولم يكن هناك شيء مستحدث يشاهده البدوي، إلا ويعطيه اسماً يتناسب مع بعض خصائصه.
ومن الملاحظ أننا -حالياً- كلما اتجهنا من الشمال إلى الجنوب، أحسسنا بأن لغة المواطنين تزداد صفاء وفصاحة وعذوبة، حتى نصل مضارب أبناء الصحراء، فنجدها لغة فصحى -تقريباً-.
وقد أخذني العجب عندما زرت بعض مدن الجزيرة في سورية مثل الرقة، ودير الزور، والحسكة، والقامشلي، ورأس العين، حيث شعرت وأنا أستمع لحديث أهلها وكأنني مع سكان من مدن بوسعادة، أو بسكرة، أو المسيلة...!..
وأشير إلى المرأة في البادية، أكثر محافظة على سلامة اللغة وإثرائها من الرجل، وذلك بسبب محافظتها التلقائية الصارمة على عاداتها وتقاليدها الأصيلة، وعدم اتصالها بمن هم ليسوا من قومها، وشدة حذرها من الأجانب وقوة تعلقها بأسرتها، ومجتمعها، وحبها لهم... ومع الأسف نجد العكس لدى بعض نساء المدن الشمالية خاصة... ممن تخلين عن بعض مقوماتهن الأساسية كاللغة وأصبحت يفضلن الكلام باللغة الفرنسية، مما كان له أسوأ الأثر على سلوك الرجال، وتربية الأجيال...!؟...(1/156)
وفي الجنوب الجزائري، نجد إلى حد الآن كثيراً من المفردات العربية، التي أصبحت في حكم النادرة، والغريبة.. نجدها مستعملة لدى السكان هناك، مثل: غبش.. ملكوع... خور.. أجدب... قاحل... ماحل... أجرد... بلقع... افرم... شمطاء... ينطع، يكرع.. يبرك... جواب... لواب... ثامر... غامر... إلى غير ذلك من المفردات الكثيرة التي يصعب حصرها...
وفي البادية... يطلقون اسم الحكيم على الطبيب.. واسم الراقي على من يقوم برقية الملسوع، ويسمون مكان الوضوء: المطهرة، ودرجات السلم: العتبات... ومفردها عتبة... أما بيت الشعر والوبر، فتسمى الخيمة أو العشة... ولكل جزء منها اسمه الخاص مثل الركائز... والستائر، والخالفة، والطارفة، والحواذق، والمواثق أو الأوتاد...
وظاهرة التفاؤل، والتشاؤم، والتطير ما زالت إلى اليوم منتشرة بين أغلبية أبناء البادية والجزائرية... لذلك فهم يطلقون على بناتهم أسماء متفائلة مثل: مبروكة، ومسعودة، وهنية، ونعيمة، وآمنة بالإضافة إلى الأسماء العربية المعروفة مثل فاطمة، وخديجة وزينب... وأسماء أخرى: مثل الواهمة، والناعسة، والجازية، أما الصبيان، فهم خوفاً من الحسد، وحتى يتمتع أولادهم بطول العمر، يطلقون عليهم أسماء كريهة، مثل الأعرج والأعوج والأكوص، والأطرش، والعقون، والأحول، والأجنف، والبشايب، وطبعاً يستعملون الأسماء العربية المعروفة مثل تامر وعامر وجابر ومحمد وأحمد وزيد... وغيرها....
ومما تجدر الإشارة إليه أن بدو المغرب العربي، بصفة عامة، لا يستعملون أسماء أبنائهم ككنية لأسمائهم كما هو الحال في بدو المشرق العربي، فلا يقولون: "أبو فلان"، أو "أم فلان"، وإنما قد يسمى الطفل منذ ولادته بكنية تابعة لاسمه، لا علاقة لها بوالديه، مثل أبو القاسم محمد العلوي، وابن الفضل علي الزياني، وأبو زيد أحمد الإبراهيمي وهلم جرا... وقد تسمى البنت منذ ولادتها أم السعد... أم الخير... أم الفضل... الخ....(1/157)
ومن دوافع التفاؤل عند أهل الجنوب.. استعمالهم لعكس الكلمات التي قد توحي بالتشاؤم، أو التطير، عند سماعها فجأة... فيسمون الملح: الربح- والإبرة: المفتاح- والفحم: البياض- والنار: العافية- والأعمى: البصير- ويستعملون كلمة: اربح... بدل تعال أو اقبل- وزين الباب، بدل أغلقه- وبيت النور، عوض أطفئه... كما يستعملون في أحاديثهم الكثير من الأدعية مثل: بارك الله فيك. وطال عمرك- ويعطيك الصحة، وكثر خيرك والله يعينك، وينجيك ويسترك... الخ.
ومن أساليب بدو الجزائر في الكلام، لجوؤهم إلى الاختصار والإيجاز، وتوظيفهم لكلمة واحدة في أغراض شتى، ويفهم المعنى المقصود، حسب الإشارة أو السياق، فمثلاً كلمة /صحة/ تقال لمن ينتهي من الأكل أو الشرب، وتعني هنيئاً لك - وتقال عند التفاهم على أمر ما أو ضرب موعد، وتعني اتفقنا -وتقال للتحية وتعني أهلاً وسهلاً... وتقال بمعنى شكراً- وتقال حتى للوعيد والتهديد... ويقصد بها... سترى ما سأفعله...!...
وبالنسبة للمرأة المتزوجة، فمن النادر أن تنادي أو تخاطب زوجها باسمه الصريح، وإنما تشير إليه بقولها: ... أنت... أو اسمع... أو هو.. أو هذاك...!..
ونظراً لكون البدوي، بطبعه، كثير الحركة والتجوال في أرجاء الصحراء الواسعة، فإنك عندما تسأله عن مكان ما، ويجيبك بإشارة من يده، مع حركة عمودية من رأسه وهو يقول لك: هناك... فاعلم أنك ستسير ثلاثين أو أربعين ميلاً، حتى تصل إلى ذلك المكان.
وبينما نجد صيغة التصغير، في بعض المدن الجزائرية كالعاصمة مثلاً، ليس لها أي مدلول واضح كقولهم عن الحمص: الحميصة وقولهم: الفليفلة، الربيطة، الخبيزة، الشريبة. فإن التصغير عند بدو الجنوب يستعمل ضمن مقاصده المعروفة، فيقولون في حالة الدلال: وريدة لوردة، وصويلح لصالح... وفي حال الشفقة، مسيكين لمسكين.. وفي حالة التقليل:(1/158)
قميحات لقمح.. ودريهمات لدراهم.. وفي حالة التصغير اطفيل واطفيلة، لطفل وطفلة، وفي حالة التحقير رويجل لرجل، ومرية لمرأة... وهلم جرا... واعتباراً لما يتمتع به البدوي من أخلاق سامية في الحياة، والاحترام، والمحافظة على العرض والشرف، فإنه حتى في حالة غضبه، وشتمه لخصمه، لا يتلفظ بالكلمات النابية، وإنما يعاير بما يتنافى مع الخلال الحميدة ولا يسب الدين أو المقدسات أبداً.
وكثيراً من أبناء البدو والجزائريين، مازالوا إلى اليوم يلجؤون في كلامهم إلى طريقة قلب الحروف في بعض الكلمات فيقولون مثلاً: نحن عماه... ويقصدون معه... وأمر عصيب بدل صعيب... والسمش... عوض الشمس.
ومن مميزات بدو الصحراء الجزائرية، نطقهم السليم لجميع الأحرف العربية باستثناء حرف القاف الذي يتحول عند بعض القبائل إلى الجيم المصرية فيقولون القمر، والقافلة، والقيلولة، وقال، ويقول... أما بعض المفردات مثل القرآن، والقريب، والقر....، فينطقون قافها نطقاً سليماً...!....
وهناك مناطق في الجنوب الغربي ينطقون بالغين قافاً فيلفظون: الغابة، قابة، والغزال، القزال، والغربال: القربال... الخ.
ومن المعروف عن بدو الصحراء، أنهم في غالبيتهم لا يميلون إلى تفخيم الحروف، والأسماء كما هو الحال عند بدو المشرق العربي كما أن تحريف نطقهم للقاف أو الغين، لا يؤثر كثيراً في التباس الفهم للنطق، كما قد نجد ذلك في اللهجات العربية في اليمن، والكويت، وبدو العراق وسورية، وأهل مصر... حيث تتحول الجيم إلى ياء.. أو قاف... والثاء إلى سين، والذال والظاء إلى زاي... والكاف إلى شين هذا بالإضافة إلى أن كلام بدو الجنوب الجزائري... طبيعي جداً، في صوته ونبرته... ولا يحمل أية نغمة أو ترنيم أو تمطيط مثير للانتباه...(1/159)
ومن الجدير الإشارة إليه أن الكثير من سكان الجنوب الجزائري يعمدون في كلامهم، إلى تسكين أو جر أول حرف في اسم العلم، والفعل الماضي... فيقولون: أمحمد... أعلي، أحمد، أعمر.... ويقولون: اشرب، ارجع، اسمع، في شرب... ورجع وسمع...
وأخيراً أذكر أن رحلة الشتاء والصيف التي كانت تشكل علامة بارزة في حياة بدو الجنوب، قد أخذت حالياً، ومنذ الاستقلال، في الاختفاء والتلاشي نتيجة لتطور المواصلات، وتنامي العمران، وتوفر وسائل الاستقرار، وانتشار المدارس، ونمو حركة التعليم واستحداث القرى الجديدة، وإغراءات الإقامة في المدن الكبرى...
مع العلم بأن بدو الجنوب، منذ القدم -لم يكونوا كلهم من أصحاب رحلة الشتاء والصيف... بل كان لكل قبيلة مجموعة تقيم بصفة دائمة داخل واحات النخيل، أو على أطرافها، ويشتغلون بالرعي، أو الحراسة، أو الزراعة، وفلاحة النخيل.. وتكوّن تلك المجموعة المقيمة حلقة اتصال وجوار دائم مع أقاربهم وذويهم من البدو الرحالة، ساكني الخيام. ولا ريب أن هناك علاقة قديمة وعريقة بين العرب البدو، وزراعة النخيل في الجزائر، وهو ما يتجلى في ثراء وتنوع المسميات والمفردات العربية الخاصة بالنخيل وبكل ماله علاقة بالمحيط العام للواحات. كأسماء الأعشاب والحيوانات والطيور والملابس، والمآكل.. وغيرها...
وكمثال على ذلك، أورد بعض المفردات الخاصة بثمار التمر، وتطور مراحل نضجه، فهو في نموه الأول: طلحة أو طلعة ثم جمار، ثم شمارخ. ثم لؤلؤ، ثم عرجون، ثم بلح، ثم بساس، ثم بسر، ثم بشميط، ثم منقر، ثم رطب، ثم تمر جاف أوواقر.. وكذلك نجد أيضاً أسماء كثيرة لكل أجزاء النخلة ومراحل عمرها، وكلها عربية، كما نجد مئات الأسماء لأنواع التمور الفصلية، حسب طعمها وشكلها، وحجمها ولونها.. وحتى رائحتها...
ومن المعروف عند سكان الجنوب أنهم إذا ذكروا أهل قرية لابد وأن يقرنوها بكلمة عرب.. فيقولون عرب قرية كذا.. وعرب قرية كذا.(1/160)
وختاماً... فهذه مجرد إشارات وذكريات عابرة استرجعتها بعد عشرات السنين من الغياب عن الجنوب أمل أن تكون فيها بعض الجدوى لن يهمهم الأمر....
وطبعاً، لم يتسع المجال لأن أشير إلى ما تزخر به بادية الجزائر، من حكم، وأمثال شعبية، واساطير، وقصص مروية، وزجل، وشعر، وتظاهرات تمثيلية خاصة: بالأعراس والفروسية، والمواسم الدينية، والرحلات. ومعارك الثأر، وندوات الصلح.. إن هذا الأمر قد يحتاج إلى أكثر من كتاب كما يحتاج إلى دراسة ميدانية منهجية، معمقة... وهذا مالا أستطيع أن أدعيه.
7 / تشرين/ .19/8/1997.
((
حقوق الإنسان ..وغيظ الحقيقة...!؟...
فكرت منذ مدة، أن أكتب /كلمة/ في موضوع: حقوق الإنسان. وخاصة حقوق الإنسان العربي، مساهمة في مايبذله المهتمون بهذا الجانب... وتأييداً، وتدعيماً لاتجاه نشاط الدكتور جورج جبور في هذا الحقل...
والدكتور جبور، سياسي مفكر، ومثقف، ومناضل ملتزم كأغلب الرواد العرب السوريين، ممن حملوا مشعل الانطلاقة. وأبدعوا مبادرة التحرك الفكري الهادف للدفاع عن الحقوق المغيبة، والحقوق المهضومة في راهن أمتنا العربية، والسعي إلى توعية الرأي العام العربي، والدولي ببعض قضايانا الهامة، والتي ما زالت حتى الآن، تعاني بعض الإهمال والتناسي...(1/161)
ومع أنه من الصعب، أن يحصي المرء، عطاءات المفكرين العرب السوريين، للوطن العربي، والإنسانية في ميادين الأدب والفلسفة. والعلوم، والتراجم، والتعريب، والفنون. فإن من المسلم به أن الفضل الأكبر في إحياء ونشر اليقظة القومية الوحدوية والنضال من أجل تحقيقها، يعود إلى رجالات سورية من أمثال زكي الأرسوزي، وساطع الحصري، وسليمان العيسى، وغيرهم كثيرون... ممن استوعبوا حضارة أسلافهم، وتشبعوا بقيمها وأمجادها، تفتحوا -بذكاء وفطنة- على حضارة العصر، وأدركوا بإيمانهم الراسخ، أن الحقوق العربية المجهولة أو المسلوبة، لا يمكن أن تسترد كاملة، إلا بوحدة العرب وتساندهم... وأن الواجبات العربية لصنع النهضة، واستكمال شروط الرافد العربي للحضارة الإنسانية... هذه الواجبات، لن تنجز أداءها الكامل، إلا في ظل وحدة عربية كاملة، وشاملة، من المحيط إلى الخليج.
الدكتور جورج جبور، من يتابع كتاباته ومحاضراته، واتصالاته، يكتشف أنه يكرس جل وقته، وجهده لخدمة قضية حقوق الإنسان العربي تاريخياً، وحالياً، وقد كان من بين الأوائل الذين نفضوا الغبار، عن معاهدة /حلف الفضول/ التي حضر اجتماعها -في مكة المكرمة، وداخل بيت عبد الله بن جدعان- الرسول العربي محمد عليه الصلاة والسلام، وكان في أول شبابه.. حضرها مع بعض أعمامه. وبعد أن جاءته الرسالة النبوية، قال عنها: لو دعيت إليه /الحلف/ في الإسلام للبيت، وقد تم ذلك سنة 590م، انطلاقاً من تلك المعاهدة التاريخية الإنسانية، يسعى الدكتور جورج جبور، لجعلها رمزاً أممياً ودولياً، لبداية العمل والاهتمام بحقوق الإنسان، قبل تبني الغرب لفكرتها بستة قرون خلت...(1/162)
والدكتور جبور لا يفتأ يدعو -كتابة واتصالاً- مع مختلف الجهات العربية والدولية لصيانة، وحماية حقوق الأفراد، والجماعات والشعوب، ضمن المساواة والتعاون المشترك في إطار الحريات الثقافية، والاجتماعية، والسياسية، وضمان حقوق الإنسان القومية والجغرافية/ في أن يعيش ضمن دولة قومية تستعمل لغته، وتضم شمل أبناء قوميته، وأساس القومية هي اللغة في معظم الحالات.../ بالإضافة إلى التركيز على حقوق الإنسان العربي.
***
الواقع أنني اطلعت على محاضرة الدكتور جورج جبور، وهي بعنوان: حقوق الإنسان العربي في عالم اليوم.. وكان قد ألقاها عام 1992-بدعوة من الجمعية العربية للعلوم السياسية في القاهرة، وطبعت في كتيب سنة 1995.
كنت أنوي أن ألخصها لأهميتها في الساعة الراهنة، وأعلق ببعض الإضافات على ماجاء فيها، خاصة مايتعلق بكثافة الهجرة اليهودية في فلسطين، وتشريد أبنائها، وإقامة المستوطنات على الأراضي العربية المغتصبة، وانحياز السياسة الأمريكية الصارخ إلى جانب إسرائيل... ولكن...!.
ومع الأسف.. محطات الأخبار في بعض الإذاعات الخارجية، أوهنت عزيمتي، وشلت قريحتي وشتتت فكري وساقتني مكبل الإرادة مضطرب البال، وراء انفعالات وتأثرات آنية جارحة قاسية، جراء ما التقطه يومياً من أخبار القتل، والذبح، والتدمير، في الجزائر الحبيبة...!؟...
ومايحدث من مآسي، ومهازل صهيونية غادرة يندى لها جبين التاريخ والإنسانية خجلاً، وغيظاً... في فلسطين ولبنان، والجولان الأشم!؟..
الجزائر... مسقط رأسي... ومرتع طفولتي، ومثوى آبائي، وموئل أهلي وأبنائي... الجزائر اليوم... ماذا يحل بها..؟! وكيف السبيل إلى أنقاذها من هذا النزيف الوحشي البشع!؟..(1/163)
- ذكرت محطة /لندن/ الإذاعية منذ أيام، أن جمعيات الرفق بالحيوان وبعض الشخصيات.,.. احتجت بشدة، وهددت إذا استمر استغلال الحمير لحمل الأطفال والتنزه بهم فوق الشواطئ البريطانية بحجة أن الحمير يتعرضون لحرارة الشمس، مما يرهقهم، ويعذبهم وقد يعرضهم للمرض...!؟..
وأتساءل: لو أن جماعة ما هاجمت تلك الحمير بالفؤوس، والخناجر، والرصاص، ومزقتها إرباً إرباً، ماذا سيفعل الشعب الإنكليزي، وحكومته في مثل هذه الحالة...؟
وطبعاً مايقال عن بريطانيا، يقال أيضاً عن فرنسا وألمانيا، وإيطاليا، وبلجيكا، وسويسرا، والولايات المتحدة، ومحظيتها إسرائيل... لأن كل هذه الدول الديمقراطية والمتقدمة جداً، تهتم بحقوق الحيوان، وتعمل على الرفق به، بينما نجدها في الوقت نفسه تحتضن أوكار الإرهابيين، وتحمي نشاطهم وتنشر إعلامهم، باسم الديمقراطية الخاصة بهم، وباسم الحرية التي لا تمس حريتهم...!؟
حقوق الحمير، والكلاب، والقطط... محمية مصونة.. في أمريكا، والغرب، إلى درجة أتصور مستقبلاً، أن أمريكا ستقوم بملاحقة ومعاقبة أي فلاح في العالم الثالث يقوم بضرب حماره أو نهر كلبه، أما الإنسان العربي فلا حق له في حقوقه الجلية المشروعة..! لا حق له في أرضه وأرض أجداده، بين أقاربه وعائلته.. ومن حق العرب أن يقتلوا بعضهم، فإن لم يفعلوا فمن حق إسرائيل، وغيرها أن يحاصروهم، ويقتلوهم...!؟..
في الجزائر اليوم، يقتل أبناء الوطن -أشك في ذلك- بعضهم بعضاً، وهذا مايريده الكبار من حماة الديمقراطية وحقوق الإنسان...!؟...
وفي لبنان، يتعاون الصهاينة مع شلّة من الخونة من جماعة /لحد/ لقتل أبناء الشعب اللبناني الصامد، وتخريب مدنه ونموه!؟...
وفي فلسطين... يقتل الشعب، ويسجن، ويشرد، وتسلب أراضيه، وتنتهك مقدساته الإسلامية والمسيحية بمباركة أمريكا... وأحياناً بمساهمة بعض العملاء المتخاذلين من المرتزقة العرب...!؟..(1/164)
إنني أتصور، لو أن راية حقوق الإنسان التي ترفرف فوق بعض المؤسسات في عواصم أمريكا والغرب.. لو تحولت تلك الراية إلى ثوب يرتديه المسؤولون عن الحقوق في تلك البلدان لرأينا إنها عاجزة عن أن تطول قاماتهم المديدة، ولن تصل أكثر من سرّات بطونهم، وتترك العورات مكشوفة مفضوحة، كواقع الأعمال تثير السخرية والاشمئزاز...!؟
المواطن المحظوظ في أمريكا أو الغرب -وهم كثيرون- قد لا تهمه أحاديث حقوق الإنسان، والخوض في مواضيع رعايتها وحمايتها والدفاع عنها... ذلك لأنه هو شخصياً، يعي حقوقه ويدرك ماله وما عليه، ويعرف كيف يدافع عنها فردياً وجماعياً إذا مست.. وقد لا تمس باستثناء بعض الهوامش الملحقة بالمواطنية، من عرب وإفريقيين، وآسيويين، رغم صراعهم الدائم، لأنهم يدركون مالهم، وما عليهم... أما السواد الأعظم من أبناء شعبنا العربي في أغلب أقطارهم، فلا أعتقد أن لهم تصوراً واضحاً، أو معرفة ناضجة كاملة بمالهم وما عليهم، من حقوق وواجبات... وقد لا يتحركون -ككل- للدفاع عن أنفسهم، إلا عندما يفتقدون رغيف الخبز، أو يحسون بحد السكين يغوص في العظم...!.
أبناء الشعب العربي، في أغلبيتهم... تملى عليهم الواجبات، حسب مقتضى الظروف فبعضهم يقوم بها والبعض الآخر لا يلتفت لأدائها.. ومن لا يؤدي واجباته فقد يعاقب، وقد لا يصيبه أي أذى...!..
أما الحقوق، فقد لا تعتبر حقاً، وإنما تعطى على أساس أنها مكرمة، ومنحة... وعندما تزف لأصحابها كالعروس تقام الأفراح، وترفع الأعلام، وتسيل الأقلام- وتتجند لها كل وسائل الإعلام...!؟
وإنني أتساءل-بحماسة مشروعة- ما علاقة هيئة الأمم المتحدة، أو منظمة العفو أو محكمة العدل الدوليتين، بحقوقنا نحن العرب...؟(1/165)
ماذا فعلت هذه الهيئات والمنظمات في قضايا التزامها بتطبيق قراراتها الخاصة بانسحاب إسرائيل من الجولان والأراضي الفلسطينية المحتلة بعد /67/ والخروج من الجنوب اللبناني المحتل..!؟ وهل احتجت على بعض العواصم الكبرى التي تؤوي الإرهابيين، وتنطلق منها النشرات والدعايات، والأسلحة لقتل الفلاحين والعمال البؤساء في قرى الجزائر...؟...
- هل بقي هناك من يصدق بأن مايحدث في الجزائر، لا علاقة للأيدي الأجنبية الخارجية فيه..!؟
لا ريب أن التاريخ سيسجل بعجب، واستغراب واستنكار عن نهاية هذا القرن العشرين، وكيف تحولت دول زعيمة، مليئة بالعلماء والمثقفين... دول تضع أحذيتها فوق سطح المريخ، وتتبنى ريادة العدالة في العالم، ثم تلاحق المناضلين والنساء والأطفال عندما يطالبون بحريتهم وعودة أراضيهم المسلوبة، وتنعتهم بأنهم إرهابيون ومخربون!...
ومن غرائب هذا الزمن أن إسرائيل، تضرب مدن لبنان المستقل بالصواريخ، فتقتل وتجرح، وتهدم... تضربه من جنوبه المحتل من طرفها، ثم تتقدم بشكوى إلى هيئة الأمم ضده...!؟
- هل تظل الأمم المتحدة -هكذا- تستقبل الشكاوى من الظالمين والمظلومين، دون أن تحرك ساكناً.؟..
لماذا لا تجرب هذه الهيئة الموقرة، أن تتقدم هي -على الأقل- بشكوى إلى جهة ما، ولو كانت /هي الخصم والحكم/ ومعذرة للمتنبي- لعل عكس الوقائع، قد تكون له جدوى، في زمن المعكوسات والمتناقضات...!.
وأخيراً... أهمس في أذن الصديق جورج جبور: ياليتك تستنبط لنا طريقة أخرى لحماية حقوق الإنسان العربي حتى يصبح كل مواطن يعي ماله وما عليه، من أبسط الحقوق والواجبات إلى أكبرها وأعظمها، دون اللجوء إلى الغير...
إن الحقوق كالحرية، تؤخذ ولا تعطى... وتنبع من شعور، وصبوة الإنسان إليها عندما يفتقدها، لا أن تمنح إليه كهدية ممنونة، أو يظل محروماً منها طيلة حياته..!.(1/166)
أما ضحايا الإرهاب في الجزائر، فأقول لهم: لستم وحدكم الضحايا، فالجزائر كلها ضحية معكم، وأن كان ألمكم أقسى وأمر... والمجرمون، هم كل المنحرفون، والأقوياء الحاقدون والطماعون، وسيكشفهم المستقبل... أما كيف وقعنا في فخ المؤامرة الدنيئة، فذلك لأننا لم نكن نعي حقوقنا وواجباتنا بعمق، ولم نتبين حدودهما بوضوح...!..
أما إسرائيل- وهي أكبر مصائبنا في هذا القرن المحتضر - فلا أقول لها متشائماً كما قال أبو العلاء المعري: /لدوا للموت وابنوا للخراب/ فإنني ما زلت إلى حد الآن من عشاق السلام في ظل الحق، والكرامة، والشرف... ولكن أقول لها، وتغمرني الثقة والأمل، سيعود إلى حظيرته الجمل، بسنامه الشامخ، وبكل ماحمل، ولن يضيع حق وراءه صاحبه المطالب به حتى النصر أو الاستشهاد.
السبت 6/9/1997 (العدد 6903)،
ص 7 تشرين
((
التعريب في الجزائر ... بين الأمس واليوم...؟
كانت اللغة العربية الدارجة، والقريبة من الفصحى-خاصة في البوادي، القرى، والأرياف الجزائرية- هي اللغة السائدة، والشاملة لكل أبناء الشعب-باستثناء بعض المناطق، التي كانت لها لهجة أمازيغية خاصة، بالإضافة إلى إتقانها العربية الدارجة- وذلك طيلة عهد الاستعمار الفرنسي، الذي هيمن على القطر مدة /130/ سنة، وقد تحقق ذلك للأسباب والدوافع التالية:
1 ـ علاقة اللغة بالدين، فالشعب الجزائري كله مسلم يقدس القرآن الكريم، يعلمه ويحفظه لأبنائه، مع احترام الحرف العربي إلى درجة التقديس، حيث كان يحرم رميه في الأرض، ، خشية أن يداس.
2 ـ رد الفعل الطبيعي، على ماكان المستعمر يقوم به من محاربة ضارية ومستمرة للغة العربية، والتعاليم الإسلامية، وكل مايمت إليهما، من صلة في الآداب والتاريخ، والقيم، والعادات، سعياً إلى محو شخصية الوطن، وتدمير مقوماته الأساسية.(1/167)
3 ـ انتشار الأمية بين المواطنين، نتيجة لمنعهم من تعليم لغتهم واعتبارها (أجنبية)!؟.. وحرمانهم من التعليم في المدارس الفرنسية تدعيماً لإنجاح خطة ترسيخ الثالوث الاستعماري الرهيب: الجهل.. والفقر.. والمرض... وقد أدى ذلك إلى إيقاظ نوازع التحدي بين المواطنين، وزادهم تشبثاً بلغتهم ودينهم...
من المعلوم أن بداية افتتاح المدارس العربية الحرة، لم تنطلق إلا في عام 1913 - بريادة الإمام عبد الحميد بن باديس، وخلال تضحيات ونضال المواطنين وعلى رأسهم أعضاء جمعية العلماء والمسلمين الجزائريين.
كما أنه من المعروف، أن نسبة الأمية بين أفراد الشعب الجزائري بلغت سنة 1954، وهو عام اندلاع الثورة الجزائرية المسلحة.. بلغت: 94% بين الرجال، وأكثر من 96% بين النساء.
4 ـ تشبث الشعب بصفاء وسلامة كيانه، ووحدته الوطنية وشخصيته المتميزة، واعتزازه بعاداته وتقاليده وتاريخه المجيد، وقيمه العربية السامية... وقد تبلورت مظاهر هذه المقومات في الأمثال والحكم. والأشعار الشعبية، وفي قواعد الأخلاق والسلوك العام. وفي أساليب ممارسة المهن الزراعية والحرفية، والصناعات التقليدية، وفي عشق المواطنين، لكل مايربطهم بتراثهم ومواريثهم الثقافية، خاصة من خلال السيرة النبوية وقصص الفتوحات الإسلامية، وحكايات /ألف ليلة وليلة/ و/عنترة بن شداد/، و/سيف بن ذي يزن/ و/هجرة بني هلال/ وغيرها من المآثر والروايات والأساطير، والملاحم الخالدة.
5 ـ وقد كان للمرأة الجزائرية دور هام وفعال، في المحافظة على اللغة العربية المنطوقة، نظراً لمكانتها العائلية، ولإشرافها على تنشئة الأجيال وتدبير الشؤون الداخلية للأسرة، وبما حباها الله من مقدرة فائقة على الابتكار والإبداع، وتوليد المفردات الحديثة، لكل ما يستجد من مسميات، ومواقف لغوية طارئة.(1/168)
6 ـ وعندما أخذت الحركة الوطنية السياسية تترعرع وتنشط منذ مطلع هذا القرن العشرين، وأخذ عدد المتخرجين من المدارس العربية الحرة، ومن جامعات المغرب العربي، في تزايد مستمر... انطلقت حركة الوفد الطلابية، نحو مدارس وجامعات المشرق العربي في مصر وسورية، ولبنان،والأردن، والعراق، والكويت، والسعودية. لتنهل من المعارف العربية، ومختلف العلوم... وهنا يجب أن نشير بفخر إلى الأدوار الفعالة، التي أدتها - في البداية- لخدمة المعارف العربية في الجزائر، كل من معهد عبد الحميد بن باديس، بقسنطينة، وجامعة الأزهر في القاهرة وجامعة دمشق في سورية، وجامعة القرويين في المغرب، وجامع الزيتونة في تونس، ثم بعض (الزوايا) العريقة في الجزائر، حيث شارك الجميع في تأسيس وتشكيل النواة الأولى لجيل المثقفين والعلماء والرواد في العقود الأولى لهذا القرن، ممن كرسوا حياتهم لخدمة اللغة العربية وتطويرها في الجزائر، وأعدوا الإطارات الطلابية للدراسات المعاصرة المتطورة في المشرق العربي، وفي أغلب عواصمه العربية، ومن بينها ليبيا الشقيقة.
7 ـ وباندلاع الثورة الجزائرية - التي واصلت تأججها أكثر من سبع سنوات حتى انتصرت- ازدادت مكانة اللغة العربية، قوة، وحيوية، خاصة إنها كانت لسان الثورة المعبر عن مبادئها وأهدافها، وكانت الوسيلة الأكثر ثقة واحتراماً في مراسلات ووثائق ومعاملات جيش التحرير، وجبهة التحرير... وفي ثقافة مئات الطلاب الذين أخذوا يتخرجون من جامعات المشرق العربي...
ومن المؤلم... أنه منذ الاستقلال سنة 1962م، بدأت اللغة العربية، تتراجع تدريجياً، عن موقع سيادتها العملي، إلى جانب اللغة الفرنسية، التي تبوأت فجأة، مرتبة الصدارة خاصة في الإدارة، وبرامج التعليم، ومختلف الأنشطة الاقتصادية والسياسية الهامة.(1/169)
لقد كان الدستور الجزائري ينص بوضوح، على أن اللغة العربية هي اللغة الوطنية والرسمية للبلاد، كما أن كل مواثيق الثورة الصادرة عن جبهة التحرير الوطنية، تؤكد على ذلك إلا أنه.. شتان بين ماهو نظري... وماهو تطبيقي عملي...!..
ويعود السبب في انتكاسة اللغة العربية، منذ إعلان الاستقلال، إلى عوامل كثيرة، منها ماهو خارجي... ومنها ماهو داخلي...
وفي مقدمة العوامل الخارجية، تأتي عودة الجنرال /ديغول/ إلى قيادة فرنسا سنة 1958، وكانت الثورة الجزائرية في أوج لهيبها فبادر إلى وضع الخطط المتنوعة لإخمادها والقضاء على جميع الوسائل المدعمة للثورة... ومن بينها مواصلة عملية محاربة اللغة العربية، وإحلال الفرنسية محلها... وقد ساعده دهاؤه على الإدراك بأن الجزائر لابد من أن تنال استقلالها كنتيجة حتمية لثورتها العارمة، وانطلاقاً من هذا الوعي الذكي أخذ -إلى جانب محاربة الثوار بكل أسلحة الفكر والنفس.. والحديد والنار- أخذ يهيئ المواقع المستقبلية اللائقة، لترسيخ اللغة الفرنسية، في جزائر مابعد الثورة... وذلك بتكوين مئات الإطارات الجزائرية تكويناً فرنسياً متوسطاً، وإعدادهم، لاستلام مختلف المناصب الإدارية في الجزائر، بعد الاستقلال، وبعد انسحاب فرنسا منها وذلك ماتم بالفعل.
وقد ساعدت اتفاقية /إيفيان/ وخاصة مايتعلق منها بالتعاون المستقبلي مع فرنسا في مجالات الثقافة، وإعطاء اللغة الفرنسية، مكانة مرموقة في الإدارة والتعليم... ساعد ذلك على تثبيت اللغة الفرنسية، ونشرها، وتمكنها...
كما أن التآمر الخارجي ضد اللغة الوطنية، ظل عنيفاً شرساً... متلبساً مختلف المظاهر، الجهوية، والإغرائية، والتعاونية والإنسانية، بواسطة الكتب والصحف، والمجلات، والهدايا التعليمية، والمنح التكوينية والدراسة، وجميع القنوات الإعلامية ومختلف الواردات الخارجية...
أما العوامل الداخلية، فهي عديدة، ومتشعبة ومنها:(1/170)
1 ـ استلام بعض المراكز السلطوية الحساسة، من طرف بعض الفرانكوفونيين الكهول، ومن أفواج الشباب الذين تخرجوا من المدارس والجامعات الفرنسية والأوروبية بصفة عامة، وأغلبهم من الناطقين بالفرنسية حتى في حياتهم العادية والعائلية، وقد وجدوا أمامهم مناصب الإدارة مهيأة لاستقبالهم متماشية مع تكوينهم، بالإضافة إلى شبه انعدام معارفهم بالثقافة العربية ، واطلاعهم السليم على حضارتها، وإمكانياتها.. مما دفع بهم -رغم وطنيتهم- ومساهمتهم الجادة في الثورة... إلى التشبث بخطة الفرنسة... وأحياناً، حتى إلى مهاجمة اللغة العربية ومحاربة مثقفيها على اعتقاد بأنها /العربية/ لا تتساير مع مقتضيات التطور والتقدم، والنهضة الحديثة، وأنها لا تعدو أن تكون لغة فن وأدب... ودين...!؟..
2 ـ تهميش الثقافة العربية -والثقافة بصفة عامة، بحجة أن التركيز يجب أن ينصب إلى الأولويات الضرورية كالعلوم التكنولوجية والصناعة، والاقتصاد... ولا ضرر من تأجيل الثانويات الأخرى كالحركة الثقافية مثلاً...!؟..
3 ـ وجود أقلية... ولكنها فاعلة... زمن الأعداء الحاقدين على اللغة العربية من بعض الجزائريين أنفسهم، حيث يعتبرون العربية لغة دخيلة لا تمثل اللغة الأصلية للوطن... والفرنسية أولى منها في الانتشار والتشجيع لأنها لغة الحياة والتقدم...!؟...
4 ـ الضعف المادي والمعنوي للمثقفين باللغة العربية، وحتى من الذين تخرجوا من جامعات المشرق العربي، والمغرب العربي، وهذا الضعف يعود إلى سببين تاريخيين وهما:
... أغلب الذين سمحت لهم الظروف للدراسة -قبل الاستقلال- في أوروبا، كانوا يستندون على قاعدة مادية متينة، نظراً لظروف أوليائهم وأقاربهم، الوظيفية ، أو التجارية، أو الزعامية، والوجاهية بينما كان الطلاب الدارسون بالعربية ينحدرون من فئات العمال، والفلاحين...(1/171)
ب ـ وبحكم التأثيرات العائلية، ونمط السلوك، ونوعية الأخلاقيات المعاشة... فقد كان الذين درسوا في أوروبا يتمتعون بقدر كبير من فطنة الحداثة، وتقدير المصلحة الذاتية، مع اللباقة في المعاشرة والأناقة في الملبس والتلاؤم مع مختلف الظروف... بينما كان المثقفون بالعربية -في غالبيتهم - يخضعون لمثالية تكوينهم ومنهجية تربيتهم الدينية المبنية على القناعة والحياء والطيبة المفرطة إلى حد الغباء أحياناً...!.
... هذا... بالإضافة إلى عملية التشتيت المقصود، ضد المعربين ومن طرف بعض عتاة الإدارة المفرنسة، حيث فرقوهم عبر وظائف ثانوية في القضاء، والتعليم، والشؤون الدينية، وهمشوهم بعيداً عن ميادين الخبرة، ومواقع التجارب العملية، خارج مجالات السياسة واتخاذ القرار، وممارسة السلطة التنفيذية.
... ومن الجدير الإشارة إلى أن مثل هذه الحالات، هي الآن آخذة بسرعة في الاختفاء،وتكاد أن تنتهي تماماً...
5 ـ تخلي أفراد الشعب، عن مواقف الحذر واليقظة وردود الفعل الصارمة، التي كانوا يتسلحون بها إبان الوجود الاستعماري، وركونهم إلى الاطمئنان، واللامبالاة واتكالاً على فلذات أكبادهم، الذين حملوا راية الاستقلال وتبوأوا سدة الحكم، والتسيير بدل العدو الأجنبي... وهكذا شيئاً فشيئاً أخذت المآثر الخالدة تتوارى، والتقاليد السامية تتراجع، واللغة العربية تعاني من الجفاء... ومن مرارة صراعها الدائم مع اللغة الأجنبية المتفوقة...!؟(1/172)
لا أتصور أنه يوجد قطر عربي، شغله موضوع التعريب مثل ما شغل الجزائر... لقد كرس له من الزمن أكثر من ثلاثين سنة... وما زال حديث الساعة وشاغل الناس... وأهدرت من أجله الأموال الباهظة، وانتظمت له آلاف الاجتماعات، وعشرات الندوات والمؤتمرات... وتأسست لمناقشة موضوعه الكثير من اللجان، والجمعيات، وصدرت في حقه المراسيم والقرارات وعشرات الآلاف من المقالات والبحوث والدراسات... ورغم كل ذلك.. ما زالت الفرنسية، هي صاحبة الكلمة المسموعة، داخل الكثير من المؤسسات والإدارات، وما زال المثقفون بحرف الضاد، على هامش أصحاب حرف /الغو/...!؟...
إن المعركة /النفسية/ بين العربية والفرنسية في الجزائر، لم تتوقف يوماً، من الاستقلال، وهي معركة مصيرية، وحاسمة، قد لا تظهر سجالاتها الصراعية من خلال العلاقات الاجتماعية، والمناقشات، والحوارات، والأخذ والرد، والاحتجاج، والتبرير... بقدر ما تظهر في عمق الصراعات الخفية الأخرى... والمتمثلة في اختلافات الأفكار، ووجهات النظر، وتناقضات معطيات النقد، والتحليل حول مفهوم الهوية، ومعاني الثوابت والمتغيرات، وقيم الشخصية، والوحدة الوطنية، واستقلالية السيادة، واكتمال الحرية، وانطلاقها المؤثر في كل ماله علاقة بها... من قوة، وفكر، وثقافة، وتعبير، واقتصاد، وسياسة في إطار تحقيق الهدف النهضوي للجزائر، وفي دائرة الانتماء العربي، والإسلامي، ومستلزمات العصر الحديث.(1/173)
ويجب أن نعترف بأن التعريب في الجزائر-رغم المناوآت الضارية ضده- قد استطاع أن يحقق خطوات نوعية وكمية جبارة، ويسجل إنجازات هامة، في كثير من المجالات مثل التعليم الأساسي، والعلوم الإنسانية، والقضاء، والإعلام، وبعض مراكز التكوين، وتعريب المحيط الاجتماعي... كما أن بعض المؤسسات قد عربت تماماً، مثل وزارات العدل، والشؤون الدينية، والمجاهدين وأقسام كبيرة في الوزارات الأخرى، والبلديات، وبعض الولايات، والمجالس المنتخبة، وأنشطة المسرح، والسينما، والإبداعات الأدبية، والعلوم الإنسانية، والكثير من الصحف، والمجلات... ويعود الفضل في كل ذلك إلى المناعة الذاتية للغة العربية وتأصلها إلى احتضان الشعب عفوياً لها، وإلى النوايا السليمة لبعض المسؤولين، وإلى المجهودات المتواصلة التي يقوم بها أنصار التعريب في الجزائر ومن طرف المثقفين، ورجال التربية والتعليم وكل الوطنيين الأوفياء.
وهناك ظاهرة مبشرة، يحسن التنويه بها، وهي أن أغلب الموظفين والمسؤولين في الجزائر اليوم، يتقنون العربية كتابة ونطقاً.. عكس ماكان سائداً منذ وقت قريب وجلهم من الجيل الجديد المتخرج من المدرسة الأساسية، أو من أصحاب الإرادة المخلصة في اكتساب لغتهم الوطنية اعتماداً على جهدهم الخاص، ونذكر من هؤلاء كمثال الدكتور بوعلام بن حمودة، الذي أتقن العربية ومعارفها مع أن ثقافته الأساسية فرنسية واستطاع أن يعرب وزارة العدل، حينما كان وزيراً عليها، وهو الآن يشغل منصب الأمين العام لحزب جبهة التحرير الوطنية.
كما أذكر أنني استمعت السنة الماضية إلى خطاب مرتجل متلفز، ألقاه رئيس الحكومة السيد أحمد أو يحيى، استمر أكثر من ساعتين، وكان كله بلغة عربية نظيفة وبسيطة، لم تشبها أية كلمة أجنبية، كما كان يحدث سابقاً من طرف لبعض المسؤولين،(1/174)
وكما يقول المثل: تفاؤلوا بالخير تجدوه... فقد تكون تشكيلة المجلس الوطني التشريعي الحالي، مبعث طموح وأمل لازدهار اللغة الوطنية، وانتصار عملية التعريب في الجزائر، حيث أن الأحزاب الأربعة الكبرى، التي حظيت بأغلب الأصوات فيه.. وماهو معروف عن زعمائها... من معرفة وثقافة عميقة بمعطيات اللغة العربية ومكانتها النهضوية، ومن إيمان عميق بقيم الشعب ومقدساته وثوابته... هؤلاء الزعماء مع الملايين من أنصارهم سيكونون أعظم دافع وسند لعودة العربية إلى مكانها الطبيعي وفتح الآفاق الجديدة الخيرة، لإلغاء ظلام التفرقة والتبعية والإرهاب... وفتح منافذ النور في وجوه أبناء الشعب الجزائري، لينعموا بنقاوتهم وصفائهم وكرامتهم وأمنهم ووحدتهم وتضامنهم، وانطلاقهم السعيد نحو الأفضل، والأرقى...؟
الاثنين 15/9/1997 (العدد 6911)، تشرين
((
الجزائر وسورية...شوق واحد
هناك سر عظيم، مازالت بعض أسبابه خفية حتى اليوم.. ألا وهو سر ذلك التشابه الكبير في الطبع والسلوك، والنوازع النفسية، الموجودة منذ القدم بين أبناء سورية، وأبناء الجزائر... والذي ربط بينهم بمودة جماهيرية نادرة، وعواطف إنسانية عميقة، قل أن توجد بين بلدين متجاورين.. إلا أنها تأصلت بين بلدين تفصلهما مسافات تقدر بآلاف الأميال...!؟
عندما قام الرئيس اليمين زروال بزيارته الأخيرة إلى دمشق -أيام 13/14/15- أيلول 1997- كنت أتابع باهتمام تحركاته وكلماته... ومما أثار انتباهي أنه لم يلفظ اسم الرئيس القائد، حافظ الأسد، إلا وأسبقه بكلمة: أخي!..
كما لاحظت أن الرئيس حافظ الأسد، منذ أن استقبل الرئيس اليمين زروال على سلم الطائرة، والبسمة المضيئة لم تفارق شفتيه، حتى غادر المطار...!.(1/175)
كلمة /أخي/ في الجزائر.. كلمة، بالغة العمق، سامية المعنى، أصيلة، عريقة، قد تتجاوز في نشأتها خمسة عشر قرناً، وهي نداء عائلي للتخاطب بين كل أفراد الشعب الجزائري، في جميع الحالات والظروف وفي مختلف المواقع والمواقف... وهي ليست مجرد تعبير عاطفي أو ديباجة للمجاملة.. وإنما هي تبيان لإحساس صادق واعتقاد جازم، بصلة القربى، وعلاقة التلاحم والتضامن، واقتناع داخلي بأحقية إبداء الرأي، وتقديم المشورة والمشاركة الفعالة في السراء والضراء.
وكلمة /أخي/ عندما يقولها الجزائري، قد تكون لها مدلولات كثيرة متنوعة، حسب الوضعية، والحالة والموقف، الذي تقال فيه، ويفهم سياقها ومعناها، من نبرة وملامح قائلها، حين التلفظ بها.
وقد أحسست بأن الرئيس زروال، عندما كان يتوجه بها إلى الرئيس الأسد، كلما ذكر اسمه... أحسست أنها كانت تصدر من قلب يفيض صدقاً وحباً، وثقة، وارتياحاً...
كما أحسست من بسمة الرئيس الأسد التي انطبعت على شفتيه طيلة فترة الاستقبال. إنها كانت أجمل تعبير عفوي، صادق، عن مشاعر الأخوة والفرح، وأنها كانت مرفوقة ببريق ساطع يشع من عيني الرئيس، مفعم بالمحبة والاعتزاز وكأنه يلتقي بعزيز شبّ معه، وطالت غيبته، ثم رآه بعد الفراق الطويل...!.
منذ مدة كتبت عن العلاقة الحميمية بين سورية والجزائر. وجاءت في الموضوع هذه الجمل: "... يبدو أن سورية والجزائر، كانتا في الأزل بقعة جغرافية واحدة، بشبابها وترابها، بأخلاقها وأرزاقها، بطباعها... وصراعها.. فحملها الله بيديه الكريمتين، ساعة توزيع الحياة، وتوظيف الكائنات على هذا الكوكب العامر، ثم وضع ما باركته يمناه في المشرق... وما باركته يسراه في المغرب... وقال لهما: ... -عز وجل-: كونا شوقاً واحداً يتأجج بين قطرين: الشام والجزائر...".(1/176)
ما أشبه /تسلمان ودمشق/ في مروجهما، وغيطانهما، وشلالاتهما، ومساجدهما وآثارهما... وحرفهما وصناعاتهما التقليدية وفنونهما وعاداتهما... وفي رقة أهلهما، ولطفهم وأناقتهم، وجمالهم، وحسن لياقتهم في الحديث...
وما أشبه الجزائر العاصمة باللاذقية... أو طرطوس، ووهران بجبلة أو بانياس... وقسنطينة مدينة القصور وا لجسور بحلب مدينة القصور، وروعة الصخور... وما أشبه بسكرة أو المسيلة بالرقة أو دير الزور...!...
نفس الصراعات التاريخية مع الرومان والأتراك والفرنسيين..!.
نفس السواحل، والجبال والصحارى، والسهول والغابات، ونفس المواسم والغلال والمناخ.. بغض النظر عن فارق الاتساع الحالي بين البلدين ومن المعروف أن سورية في جغرافيتها القديمة.. وقبل أن يقسمها الاستعمار إلى أقطار كانت شاسعة الأرجاء... مترامية الأطراف.
وعندما تألمت نفوس الجزائريين وأثقل كاهلهم جور الاستعمار.. شدوا رحالهم، واتجهوا أفراداً، وجماعات برجالهم ونسائهم وأطفالهم نحو بلاد الشام... فمروا بتونس، وليبيا ومصر، والأردن، وفلسطين... وتحملوا عناء السفر... ولم يطب لهم المقام إلا فوق أرض سورية وبين أهلها الكرام.
وقد جرى ذلك منذ القدم.. ثم خلال هجرة الأمير عبد القادر الجزائري مع أهله وأصحابه.. ولم تتوقف مواكب الجزائريين نحو دمشق خاصة من أهل السياسة والعلم، ورجال الدين... وكان من بينهم العلاقمة الشيخ الخضر بن الحسين/ شيخ الأزهر سابقاً/ وهو العربي الوحيد الذي تولى مشيخة /الأزهر/ من غير المصريين/... وكذلك شقيقه العلامة الشيخ زين العابدين بن الحسين، الذي استوطن دمشق، ودفن فيها، وترك بعده خيرة الأبناء في العلم والعمل، وأطيب الآثار في الفكر والسلوك...(1/177)
- وبالمقابل. فهناك آلاف الأساتذة والمعلمين، من أبناء سورية.. اتجهوا نحو الجزائر، بمجرد أن نالت استقلالها فساهموا في حركة التعليم، ومعركة العلم ونصرة التعريب، وتدعيم أركان الحرية والاستقلال... ومنهم من أخذ الجنسية الجزائرية، وقرر الإقامة الدائمة بين أهله وذويه الجدد من الجزائريين..
ومن الطريف... أن بعض الجزائريين، ممن كانوا يحملون أفكاراً خاطئة ضد اللغة العربية... كانوا أحياناً - عن قصد أو جهل في مطلع السنوات الأولى للاستقلال- يقومون بمضايقة بعض المعلمين، من بعض الأقطار العربية، وذلك من أجل تنفيرهم من الجزائر- وبمجرد أن يعلموا أن ذلك المعلم هو من سورية، يعتذرون له ويبتسمون في وجهه بفرح وهم يقولون له.. أنتم أولاد سورية إخوتنا وبلدكم بلد الرجال... ونحن نحبكم..!؟...
- ومن الصعب تفسير سر هذا الحب والاحترام!؟... سورية، في هذا الزمن المتكالب ضد العرب والشرفاء- يحاصرها التآمر والحقد من أغلب حدودها... وكذلك الجزائر في هذا التوقيت نفسه...
وفي هذا العصر المتطور جداً... لم تعد المسافات البعيدة بين الدول تشكل عائقاً للاتصال الدائم والتساند والتضامن، والتعاون المتواصل المشترك. أمريكا.. تقيم قواعدها في أغلب بقاع الأرض الأجنبية عنها، وتتهادى... وتترصد أساطيلها في كل بحار الدنيا- تقريباً...!
وإسرائيل... تقفز ببهلوانية من جنوب محتلاتها إلى أقصى الشمال والشرق العربي، وتفتح لها أحلافاً عدوانية وأسواقاً استغلالية، في تركيا، وبعض بلدان الخليج..!.
والأوروبيون كلهم، بالإضافة إلى مشاريع ومنجزات وحدتهم- يتسابقون لنشر ظلالهم في كل القارات الأخرى...!.
ونحن العرب... رغم كثرة أقطارنا، واتساع أراضينا وبحارنا، وقوة إمكاناتنا البشرية والمادية... ورغم مصائب تجزئتنا، ومصاعب وضعيتنا.. مازلنا إلى حد الآن مشتتين متباعدين-فوق بقعة واحدة- يجمعنا التجامل، ويفرقنا اختلاف الرأي...!؟..(1/178)
ولست أدري إلى متى سيدوم الحال بالنسبة إلينا، ونحن نرى كل أمم العالم، تتكتل وتتحد، فنجاهرهم بالتحية والإعجاب وننظر إلى وحدتنا نظرة تبرم، وخوف، وارتياب...!؟..
وياليت- إضافة إلى ما أبرم من اتفاقيات تعاونية بين الجزائر وسورية- ياليت هذا التعاون يتواصل ويتطور أكثر فأكثر... كماً وكيفاً.. ليشمل كل الميادين التكاملية في الاقتصاد، والشؤون السياسية والاجتماعية والعلمية وخاصة ميادين الثقافة.... بمفهومها الواسع الشامل....
وكم أتمنى أن يتم ذلك بين كل الأقطار العربية ولم .. لا.. مادام الأمر لا يتطلب أكثر من قليل من الشجاعة والحرية، والنوايا الحسنة..!؟
وكم أتمنى أن يتبادل الرؤساء العرب، الأوسمة والدروع والسيوف كهديا، وأن يتبادل أبناء شعبها في أقطارهم، وعبر بحارهم "هدايا" بواخر الشباب والكتب، والتفاح، والألبسة والآلات والمعدات، وكل المواد الأخرى المرغوبة...
كم أتمنى أن أرى بواخرنا، وطائراتنا، تمخر العباب وتخترق الأجواء، بين أقطارنا، محملة بالمحبة، والوعي والتكامل، لإنعاش هذا الشعب العربي، ولنشر الهيبة والثقة، والاعتزاز بين أفراده. وبينه وبين الأمم الأخرى، وليس هذا على الإرادات القومية المخلصة بصعب أو بعيد..!..
السبت 27/9/1997 (العدد 6922). تشرين
((
في الذكرى الثالثة والأربعين للثورة.
هاهي ذكرى مرور ثلاث وأربعين سنة على قيام ثورة أول نوفمبر 1954.. في الجزائر، تمر اليوم، والرعب يخيم والدماء تسيل، والمستقبل تتقاذفه وتناقضات الاحتمالات..!؟..
والتفاؤل وارد، والآمال سائدة...!!...
ولا ريب في أن الكاتب النزيه، في مثل هذه الظروف، لا يستطيع أن يتشبث بالأمل في اقتراب ساعة الانفراج والحل، وأن يتفاءل بالخير، جرياً وراء المثل القائل: "تفاؤلوا بالخير تجدوه..."....(1/179)
لقد تجاوزت الجزائر اليوم. مرحلتها الانتقالية، التي كانت تعاني من نقص كبير في تنظيم وشرعية مؤسساتها القانونية والتنفيذية الأساسية، وبعد الانتخابات الرئاسية، والدستورية، والتشريعية.. والبلدية لم يبق أمامها إلا أن تركز جهدها المنظم والفعال لإعادة الحياة الطبيعية للشعب، ونشر المحبة... والتفاهم، والأمن والاستقرار بين المواطنين وهذا الأمل هو من أكبر الدوافع للتفاؤل بالخير، والثقة بالمستقبل.
إن ما حدث ويحدث في الجزائر، قد أسفر -في مجالات الإبداع والكتابة، وخاصة من طرف الصحفيين- عن الكثير من التناقضات في الآراء التحليلية والتركيبية للأوضاع في الجزائر، فمنها ماكان دقيقاً نزيهاً منصفاً، ومنها ماكان مجرد نقل لأخبار الوكالات دون تحقق أوتأكيد، ومنها ماكان مجرد انطباع وإنشاء... ومنها -مع الأسف- ماكان مغرضاً حاقداً، يزيف الحقائق، ويثير الفتنة ويذكر بالثارات والنعرات، وكأنه يدعو إلى المزيد من إراقة الدماء، ونشر الدمار.. وهذا خاصة من طرف بعض الأجهزة المرتبطة بالامبريالية. والاستعمار والصهيونية، والعنصرية... تلك الأجهزة التي تعمل دائماً بأساليب غير مباشرة لتحطيم الدول التقدمية الواعية، في عالم العروبة والإسلام.
إنني شخصياً، وفي هذه المرحلة بالذات، لم تعد لي المقدرة لا على التحليل، ولا على التركيب، وإن كل مايمكنني اعتقاده واعتناقه. وإضماره والبوح به، هو التفاؤل بالخير، والثقة من المستقبل، والأمل في التغلب على المصاعب. والأماني الجميلة، والابتهال إلى الله، أن يوفقنا إلى تحقيق النصر والعدالة والسلام، وليست هذه التوقعات بالغريبة أو البعيدة المنال...(1/180)
وإن هذا السلوك وهذه المشاعر مني، مبعثها دوافع كثيرة، منها أن الجزائر، قد برهنت خلال صراعها الطويل مع المصائب والشرور، أنها ما إن يعتقد كل الناس، بأنها قد دخلت مرحلة (الغيبوبة) وأن لا نجاة لها من الوقوع في الكارثة النهائية، حتى تتنفس بعمق، وتستيقظ بقوة فتسترد عافيتها. وتقف على قدميها منتصرة عظيمة صامدة، كالعملاق الجبار... واسألوا التاريخ؟...
ومنها... أنني في بُعدي /الجسدي/ عن الجزائر قد تقاسمتني وهدّت تفكيري أنباء الأحداث، المنصفة منها والمغرضة... الصادقة فيها والكاذبة.. وأخذت دوامة الحيرة والقلق تلفني، إلى أن شلّت كل حركة للمعرفة الحقيقية الموضوعية في عقلي..! وإذن لم يبق لي سوى الأمل، والتفاؤل والدعاء.. وهذا من أضعف المواقف.. ومن أقواها من جهة أخرى...!؟...
لقد أثبت العلم أن للحواس البشرية حدوداً وعتبات دنيا، وقصوى، لا تستطيع إمكاناتها الذاتية أن تتجاوزها.
- فالعين لا تتمكن من رؤية مازاد بعده أو نقص عن المسافة المطلوبة أو الحجم المعيّن.. والفكر أيضاً، وهو أسير الحواس، واللغة وعطاءات المحيط المعرفية... الفكر أيضاً كثيراً مايقف عاجزاً أمام بعض المظاهر الكونية أو الاجتماعية ولا يستطيع استيعاب أو فهم أي شيء عنها أو فيها، مهما تقدمت التكنولوجيا، وتوفرت وسائل العلم... ووسائط السيطرة...؟!..
يقولون: إن المجانين فقط.. هم من يحدثون أنفسهم، بصوت مرتفع... ولكن في عصرنا العجيب هذا، يبدو أن أغلب العقلاء أصبحوا يتخاطبون مع ذواتهم، بصوت عال.. وهم يسيرون أو يجلسون منفردين، وربما رافقت نبراتهم الجهورية، ضحكات هستيرية، وإشارات بالرأس والذراعين لرسم علامات تعجب، أو لتوضيح ما يقولونه لأنفسهم بأنفسهم...!؟..
خلال الثمانينات - تلك العشرية المشؤومة التي بدأت تستفحل فيها أزمة /الثقافة/ في الجزائر - في تلك الفترة انتشرت حركة البناء الذاتية والخاصة بالمساكن وغيرها، من طرف المواطنين.(1/181)
وقد صحب تلك الحركة العمرانية/ الفوضوية/ ندرة خانقة في مواد البناء، وارتفاع أسعارها، إلى درجة أن /الرمل/ أصبح من الأشياء المفقودة والنادرة..!.
في ذلك الوقت شاعت نكتة بين المواطنين تقول: إذا رأيت رجلاً يمشي وحيداً، وهو يحدث نفسه بصوت مرتفع، ويلوح في الفضاء مشيراً بيديه، فاعلم أنه ممن بلاهم الله بالوقوع في مصيبة البناء..!؟
وأعترف اليوم أنني. قد ضبطت نفسي أكثر من مرة، وأنا أجلس وحيداً في غربتي أو غرفتي.. وصوتي يجلجل بكلام متضارب متداخل، مليء بالاستفهام، والتعجب والاستنكار أمام عجزي عن الفهم...!؟
هاهي ذكرى، مرور ثلاث وأربعين سنة على قيام ثورة أول نوفمبر 1954 - في الجزائر. تمر اليوم فماذا حدث لي...؟ هل أدركني الجنون في عزِّ النضج والرشد... في سن الثالثة والأربعين من عمر ثورة أول نوفمبر...!!!؟..
- نوفمبر.. في أعوامه السبعة والنصف.. في مرحلته الثورية الملحمة الرائدة، عاش بجد وكد، مشروعاً عمرانياً، ضخماً جباراً، وعملية بناء عظيمة هائلة، قامت على هدم كل العوائق والمزالق، وإزالت كل الطحالب والنتوءات.. وتثبيت دعائم الأسس العميقة على أرضية صلبة في أحضان الشعب، فاستطالت الأعمدة قوية مستقيمة، متماسكة الجدران متينة السقوف راسخة الأركان.. وكانت مادة ولحمة تشييد البنيان مليون ونصف مليون من الشهداء الأبرار ومئات الآلاف من المجاهدين والشجعان، والتضحية والصبر والإيمان.
وبعد النصر والاستقلال، تكاثر عدد/ المتطوعين/ و/المتعاونين/، من الداخل والخارج لإكساء /عمارة/ نوفمبر بعد أن قام هيكلها، وتعددت الآراء حول اللوازم التي يجب أن تستعمل في إنهاء عملية التشطيب والتزويق والطلاء والتبليط -وفتح النوافذ والأبواب، واختيار أنواع الأقفال والأخشاب ومد المياه، وخيوط التنوير، ووضع ستار القماش أو المخمل والحرير..!؟..(1/182)
ويبدو أن غالبية المتطوعين في مهمة الإكساء قد سحرتهم نظرية القصور، ولغة العسل والحرير، فغرقوا داخل فسيفساء لامعة ساطعة.... ليست من طينة المكان، ولا من /مودة/ الزمان.. ولا علاقة لها بماضي الحرمان أو حاضر السكان، أو مستقبل الأوطان.. وفي مراحل البناء الفوضوي، الشخصي المتسرع في الثمانينيات.. كان.. ياما كان..!!؟...
- في الخمسينيات كانت خاتمة الأبطال هي الشهادة والمنون...
- وفي الثمانينيات.. ومابعدها صارت العاقبة هي الذبح أو الجنون..!؟...
- نوفمبر.. يا أنت... يانحن في إرادتنا القوية، وعزيمتنا الفتية وعلاقاتنا الأخوية، ونضالنا الدؤوب، وشهامتنا العربية...
- نوفمبر... يا أنت... يا جزائرنا في حبها وحنانها، في هيبتها وأمانها، وفي دينها ولسانها في عقيدتها الإسلامية، وحيوية شبانها، وسماحة إنسانها...
- نوفمبر... يا أنت... يا أرضنا الطاهرة، الزكية، الخصب الثرية، الكريمة الأبية الودود، الولود البهية....
- نوفمبر... يا أنت... يا خلاصة تاريخ مجيد وصراع القرون العنيد.. وطريقنا إلى المناعة والحرية والأفق السعيد...!..
- نوفمبر... يا أنت... يا رضاء الرب واستجابة الشعب وثمرة التضامن والغيرية، والنضال، والحب..!.
- نوفمبر... يا أنت... يانحن.... يا أنا.. لقد أرهقتنا الآلام والأحزان، وطال بنا الفراق وأحرقتنا الأشواق... إلى ديارنا، إلى بسمات أطفالنا وجيراننا، إلى أغانينا وألحاننا.. إلى ليالينا وضحكات أقمارنا.. إلى كل أبنائك.. أبنائنا!؟...
فمتى تعود إلينا بعد أن نعود إليك.. إلى أنفسنا التي كدنا أن نفقد هويتها.. إلى شعبنا بعماله وفلاحيه.. ومعلميه.. وبكل إنسان منه... وفيه...!؟
متى.. نعود إليك.. في فرحة عيد الحرية والاستقلال... في همة الرجال... وعلى دروب التسامح والآمال..؟!..
- متى نخرج من دوائر المنون، وزوايا الجنون، ومواقع الريب والظنون..!؟..
- نوفمبر... ألم يحن الوقت لكي نكون...!؟(1/183)
- دونك.. لا نكون... وبك فقط... نكون...!؟
الثلاثاء: 4/11/1997 ثقافة تشرين 7
((
"مقامات" معاصرة.. في مواقف محاصرة..!.
-1-
الوطن العربي، في عهود الفواصل، والعوازل، والحدود بين مخالب الجمارك، والمعارك والسدود... وعند تنافر الملابس... واللهجات، والنيات... وتضارب التنافس، والاتجاهات والسياسات... الوطن العربي الممزق المجهود، في هذا الزمن الموبوء، المنكود باليهود، وأشباه اليهود من قتلة الهنود، إلى أذناب الليكود.. يمكن لبعض مواطنيه من العرب، من عشاق الذهب، أو الباحثين عن مقعد ولقب.. إذا اعتنقوا مقولة: (الناس على دين ملوكهم) ووافقوا على ترويض، وتطبيع سلوكهم، ولو كانوا سابقاً من المناضلين، أو من نجوم المثقفين، يمكن لهم بلا جبر أو قهر، وبكل بساطة ويسر... أن ينسوا تاريخهم، ويتنكروا لهويتهم، ويغيروا لغتهم، وتفكيرهم ومصيرهم... وينفتحوا بالعفو عن عدوهم وجلادهم.. ويقدموا له حتى أولادهم وبلادهم... ويصبحوا وبفضل الولاء المجاني والتبعية... يصبحوا، يضحوا... يمسوا... لأنفسهم، ولبعضهم أعداء.. وخدماً وعبيداً لخصومهم الحقيقيين الألداء... يحرقهم الندم... ويطاردهم الهم والغم... ويأكلهم الداء... ولا يجدون طبيباً، أو دواء..!؟..
أعتقد أن أهل المروءة، والنجدة، في أمتنا، أكثر بكثير من أهل المذلة والردة، في محنتنا... فإن قدر الله... وحدث ما قلناه، بعد أن تنتكس العقول، وتخرس الشفاه، فإن ذلك سيكون دليلاً وعلامة.. على اقتراب فناء العالم... وقيام القيامة... ويومها، تطوى رسالة العروبة طي الكتاب.. ويعود الدين- كما كان- مع الغربة والاحتجاب.. وتفتح أبواب الحساب.. فمن كان من أهل الكرامة والوفاء، فإلى جنة النعيم المقيم.... ومن كان من أهل النذالة والجفاء، فإلى أعماق الجحيم، ومن عاش مع الحياة فسيتحول إلى رماد... مفقود، موجود، يطرده العدم، ويرفضه الخلود...!!؟...
-2-(1/184)
* في نفس المكان، وفي عهود بعيدة عن هذا الزمان، كانت اللغة العربية، الأصيلة الأبية، هي لغة الإعجاز والبيان، وفصاحة اللسان، وقوة الحجة، وانطلاقة البرهان، وصاحبة الريادة والسلطان.. هذا ما كان/ ياما كان/ في غير هذا العصر، والأوان...!..
أما الآن... ونحن نعاني من التدهور والحرمان... فقد صارت الفصاحة مناحة.... والبيان بهتان... والفكر مكر... والبرهان خذلان بين ضجيج الطرشان....!
كانت الفصاحة ملتحمة متلازمة مع الشجاعة... الأولى في التعبير والإفحام بالكلام.. والثانية في التدبير، والإفصاح بالحسام...! أسلافنا الفرسان، وحدوا في طباعهم النبيلة المتحررة، بين الكلمة المؤثرة، والضربة المدمّرة...
قال المتنبي:
الخيل والليل والبيداء تعرفني ... والسيف والرمح والقرطاس والقلم
وفي سنين الخذلان، صار بعضنا كأنه يقول:
الخوف واللين والحرباء تشبهني ... والزيف /والردح/والوسواس والندم..!.
* النبي موسى /عليه السلام/ يبدو أنه كان عيي اللسان، قاصر التبيان، فاستعاض عن حيوية شفتيه، بعضلات زنديه.. وعن قناعة الكلمات، بتسديد اللكمات... فضرب، وقتل واختفى، وارتحل... وأدركه الصواب... فتاب... ومن الله عليه فبارك إحدى يديه، وأعانه بأخيه هارون في حواره مع فرعون...!؟
* إسرائيل... فصاحتها مذمومة... وحجتها معدومة، وكل نواياها وأساليبها خبيثة، ملغومة...!، وهي قديماً مصابة باللعنة من /مكة/ وبالجريمة من /روما/...
- مشهورة، بالكيد والمكر، وبالحقد والغدر ترى السلام.. في الانتقام والخصام... والأمان، في قتل النسوان والصبيان... والتفاوض والحوار، في تفجير القنابل وإطلاق النار... قوّتها المزعومة، لا تساوي ظفر ثومة. لو لم تكن من أختها الكبرى مدعومة...!.
منطقها افتراء... ووهم وجناية...! وعاقبتها ستكون وخيمة النهاية..!!...
***
عجباً... لمن يفكر في احتضان إسرائيل... واستقبالها بالعناق والتقبيل... خاصة إذ كان ممن ينتسب إلى أمة العرب....!!؟(1/185)
هل هذا يعني أن الصهاينة، أبرياء من اغتصاب فلسطين، ومجزرة دير ياسين، واحتلال الجولان وجنوب لبنان... وجرائم الخليل، والجليل، وعشرات المجازر التي لا تحصى، وتدنيس المقدسات، والمسجد الأقصى...!؟ أم هناك مبررات أخرى...!!
- علامة استفهام كبرى؟..
-3-
- (إن ياجوج وماجوج مفسدون في الأرض).... وعندما اشتكى جيرانهم من طغيانهم إلى ذي القرنين، القوي، الغني، الأمين... فكر وتدبر... ثم أمر-بعد أن قرر... ببناء سد متين شديد... من الحجر، والنحاس. والحديد/ لا تطبيع ولا حوار... ولا حسن جوار... مع الأشرار.../ وقال: آتوني أفرغ عليه قطراً... أي معدن النحاس لتدعيم الأساس...! قطراً بالكسر، البعيد عن معاني الضم، والفتح...!؟
* وكنا أمة واحدة، ماجدة، ناهضة... رائدة.. وعندما تغيّرت الأوضاع وتحكّم فينا الرعاع.. جاء الاستعمار الحاقد، الغدار، فمزقنا مزقاً، مزقاً... وجزأنا قطراً قطراً... بالضم في القاف... وإليه... وإلى كل مصائب الاختلاف والانجراف...!؟...
* وتبقى لفظة /قطر/ بالفتح، وتعني العسل، وكل حلو كالتمر والسكر... هي في الواقع بعيدة عن معاني /الفتح/ إلا شكلياً... ولكن مابال الأذرع التي فتحت فيها لاحتضان من شتموا صاحب المغارة ودنسوا القبة والمنارة وقطعوا أطراف أطفال الحجارة... مامعنى هذا /الفتح/ يا خلية العسل الحلو...!؟
إن /الدوحة/ بما تحمله من اخضرار، وثمار، وظلال لا تصلح أن تكون إلا أعراساً للعصافير، ورياضاً للأطفال ومواويل للأزهار والأشعار... ومواقع للخير والجمال...
الدوحة لنا... منذ /آدم، وهابيل/ فهل يجوز أن يستنسخ بين خمائلها /قابيل/ وتبنى فيها أوكار لغربان إسرائيل...!؟..
لا أتصور أبداً أن العسل الصافي الحر، المستخرج من حدائق العمر، سيتحول إلى قطران /نتن/ مر...!؟
تشرين /11/11/1997 ثقافة.
((
العيد السادس والثلاثون لاستقلال
الجزائر... والعربية(1/186)
بحلول يوم 5/7/1998 يكون عمر الجزائر المستقلة قد بلغ ستة وثلاثين عاماً... ومن المعلوم أن تاريخ الجزائر حافل بالكدح، والنضال، والصراع... وواجه شعبها خلال آلاف السنين أكثر من عشرين حملة عدوانية خارجية، وانتصر عليها، بفضل يقظة شعبها، وبطولات أبنائه، وكبريائهم، وكان آخر تلك الحملات الطامعة الشرسة هجوم القوات الاستعمارية الفرنسية، التي دامت طيلة 130 سنة. وأخيراًتم الانتصار. وطرد الاستعمار بعد ثورة شعبية مسلحة استمرت سبع سنوات ونصف. وقدمت خلالها، مليوناً ونصف مليون من الشهداء الأبرار، ومن خيرة أبناء الشعب الجزائري.
وكان يوم 5/7/1962 يوم شروق شمس الاستقلال، يوم فرحة الشعب الكبرى، الشاملة، الصاخبة، العميقة... فرحة يصعب وصفها، وربما -إلى حد الآن- لم يعش الشعب بعدها، فرحة تشبهها في عفوية الانطلاق، وصدق المشاعر وشمولية الإحساس بالبهجة، والسعادة والارتياح..
ومنذ مطلع الاستقلال طرحت الجزائر -بنفس عفوية الفرحة، وحب الخير لكل الناس - طرحت شعارات سياسية إنسانية هامة، كان يتوخا منها أن تدعم النضال، وتمتن عرى التضامن، وتؤسس لحياة كريمة فاضلة، مفعمة بالمحبة، والسيادة، والأمن والرفاه.. من تلك الشعارات: "الثورة الجزائرية بمبادئها، ومواثيقها وتجاربها، ليست للتصدير"... "حسن الجوار والاحترام المتبادل"، و"عفا الله عما سلف"...
- ومع الأسف- فعوض أن تؤدي تلك الشعارات إلى نتائجها الإيجابية المأمولة- وأدت في الكثير من المواقف والمواقع، إلى عكس ماكان منتظراً منها...!.
1 ـ فجبهة التحرير، التي كانت تمثل الجناح السياسي المفكر والمدبر للثورة الجزائرية، أصبحت مجرد أداة مظهرية للسلطة التنفيذية، ولم تتمكن حتى من (تصدير الثورة) إلى أجيال شعبها.. مما أدى بها أخيراً وبعد 26 سنة من التلازم مع الحكم، وإلى التلاشي، والتفتت كحزب وحيد بعد أحداث أوكتوبر سنة 1988.(1/187)
2 ـ وجيراننا، وفي مقدمتهم فرنسا /جارة الشمال/ تأججت أطماعهم ومكائدهم ومؤامراتهم... ضد الأرض، والثروات الطبيعية، والإنسان.
... وقد اعتقدوا بأن الجزائر الجريحة المريضة بارهاقات سبع سنوات ونصف يمكن بسهولة كبح جماحها وترويضها مما أدى أحياناً حتى إلى نشوب الحرب، وهذا منذ سنة 1963 ـ أو إلى محاولة إفلاسها اقتصادياً، كما حدث مع صادراتها من البترول، والخمور،وغيرهما، بالإضافة إلى نكران الجميل من البعض!..
3 ـ أما "عفا الله عما سلف"، فقد نتج عنها خيبة الخلف... وكان من أول مساوئها: فرنسة الإدارة الجزائرية، وعودة أبناء وأخوان أعداء الأمس القريب من الفرنسيين /الموتورين/ إلى الجزائر داخل أثواب المتعاونين، والمستشارين، والمعلمين وبالتالي إبعاد اللغة العربية الوطنية، من جميع المواقع الحساسة. وإحلال الفرنسية محلها، مما أدى إلى تهميش المتعلمين بالعربية، وإهمال الثقافة الوطنية، وتعرية الشعب -وهو الغني بمأثره العربية الإسلامية- من كل ماكان يرتديه من حلل القيم السامية. والتقاليد النبيلة. والأخلاق الفاضلة. وسلوكات الأخوة والتضامن والغيرية والتسامح... وباختصار إبعاده عن منابع ثقافته العميقة الصافية المعبرة عن خصوصيته، ومميزاته، وشخصيته السيادية الراقية...!...
وحتى عندما أعلنت الثورات الثلاث /الصناعية والزراعية والثقافية.. كانت الأخيرة، هي الوحيدة التي لم تنطلق، وظلت أسيرة التظاهرات السطحية، والمهرجانات الفولكلورية البدائية التي كان كل فرسانها من الانتهازيين والأميين الجهلاء.(1/188)
إنني كثيراً ما كنت أتصور تلك التقسيمات التي أشارت إليها الفلسفة اليونانية القديمة. وأقارنها مع الواقع، فيبدو لي الشعب أي شعب، بمجموع أفراده وكأنه إنسان واحد عملاق رأسه الفكر والثقافة وقلبه اللغة والعقيدة يضخها عبر عروقه كدمائه.الحارة، ذراعيه وساقيه، فتحدث الحركة، والنشاط ويتكاثر الإنتاج، وتتطور الصناعة والتجارة. وتشتد معدته الملآنة المشبعة، كمحرك فعال لازدهار الزراعة والفلاحة، وحيوية الأطراف العاملة، ويحدث التكامل، ويعم النور وينتشر السلام والرخاء.
كما يعصرني الألم، عندما أرى شعباً.. أي شعب انتكس فكره وتنوسيت ثقافته، وانحرفت روحه فهزلت أطرافه، وخوت معدته. ولم تبق لديه سوى غرائزه البهيمية تسوقه إلى الاندفاع الأعمى نحو الجنوح، والآفات!...
لا أحد كان يخطر بباله، أو يصدق أن الجزائر بأمجادها وتاريخها النضالي الطويل، وبمآثرها العربية الإسلامية، وبما قدمته لعروبتها وإسلامها، وأحرار العالم من روافد، وخدمات وتضحيات تصبح بعد عقدين أو ثلاثة من الاستقلال مترددة متعثرة، بسبب ما يقوم به بعض الطامعين والمتآمرين من تخريب جرائم يندى لها جبين البشرية... وتظل لغتها الوطنية متردية متبعثرة. مهملة في إدارتها غريبة بين أهلها.
من يصدق أن الجزائر البهية الثرية الغنية بأراضيها الشاسعة وخيراتها الباطنة والظاهرة، الواسعة... وشبابها الكثير القوي الفتي... هذا البلدي الزكي الطيب الأبي... يصبح في يوم ما في حاجة إلى عون... أو رهين ديون؟(1/189)
كان من المفروض أن تكون الجزائر، منذ مطلع الثمانينيات قد خرجت من طوق البلدان النامية أو المتخلفة... وهاهي ست وثلاثون سنة تمر من عمر الاستقلال، والإدارة ، والبنوك، والمخططات والمشاريع، والجامعات، والاتصالات الخارجية. وحتى أنشطة الرياضة البدينة تجري وتحاك كلها باللغة الفرنسية، فماذا استفادت الجزائر من استعمال هذه اللغة (الحيّة) في مسارات التطور، والتقدم وترقية الإنسان وتوفير الرفاهية، والانسجام والسعادة له؟...
مما لا ريب فيه أن اللغة الفرنسية لغة حية ومتطورة ولها رصيد هائل في إنجازات الفكر والأدب، والفنون والعلوم، ونفس الشيء ينطبق على لغات كل الأمم المتقدمة حالياً في جميع القارات... ولكن ألا يعني ذلك أن الدور الأساسي والأول لحيوية أية لغة وازدهار حياتها إنما يعود إلى أبناء صلبها الحقيقيين إلىوعيهم وحبهم ونشاطهم واعتزازهم بشخصيتهم. التاريخية والوطنية، ومطامعها القومية التي لا يحدها حد...؟
هل يمكن لأية سلطة في العالم أن تستعمل لغة أجنبية عن شعبها لترتقي به إلىمستوى شعب تلك اللغات الأجنبية...؟
ثم، هل يوجد عاقل اليوم، يشك في مناعة وقوة اللغة العربية، ومقدرتها على الإبداع والإنتاج، واستيعاب مختلف العلوم والآداب والفنون...؟
وهاهي سورية اليوم، تتبوّأ بجدارة مكانة الطليعة النهضوية أمام أغلب دول العالم الثالث، فبأي لغة تنطق وتبدع، وتخترع، وبأي لسان تعلم.... وتكون، وتتكلم، أليس باللغة العربية؟(1/190)
من المؤكد أننا كجزائريين- وككل الشعوب المتحفزة للنهوض- سنظل دائماً في حاجة حتمية إلى الاتقان والاستفادة من مختلف اللغات الأجنبية الحية. وفي مقدمتها قد تأتي اللغة الفرنسية نظراً لقرب الجوار ولدواعي الروابط التاريخية الكثيرة إلا أن ذلك لا يعني أبداً أن نتنازل عن لغتنا الوطنية أو ننزل بها دون مراتب السيادة، وأولوية الشمولية ومشاعر العشق... وأي إهمال للغة الوطنية هو إهانة قاسية للتاريخ والوطن، وطعنة قاسمة، في صميم الذاتية لأجيالنا الصاعدة، واللاحقة.
ومن الجدير بالذكر الإشارة والتنويه بأن كل القادة الوطنين الذين تعاقبوا علىتسيير دفة السلم في الجزائر كانوا من المجاهدين المخلصين، وكانوا يدركون أهمية اللغة الوطنية وضرورة سيادتها وإحلالها المكانة اللائقة بها، إلا أن المصالح المتفرنسة صاحبة التنفيذ المباشر، كانت دائماً تقف بالمرصاد ضد أية خطوة إيجابية لصالح التعريب الشامل.
واذكر أنه في نهاية الستينيات والسبعينيات صدرت عدة مراسيم رئاسية. /أربعة/ لصالح استعمال العربية، إلا أن تطبيق تلك الأوامر العليا، يبدأ بمظاهر الاستعداد والحماس المزيف.. ثم يتلاشى تدريجياً مع الأيام، / وتبقى حليمة مع عادتها القديمة/ كما يقول المثل عندنا.....!
وفي تاريخ 16/1/1991 صدر أمر رئاسي يتضمن الشروع في عمليه تعميم استعمال اللغة العربية، وينص في مادته /36/ على: "أن تطبق أحكام هذا القانون فور صدوره على أن تنتهي العملية بكاملها في أجل اقصاه 5/7/1992، وفي 4/7/1992. صدر مرسوم تشريعي من طرف المجلس الاستشاري في ذلك الوقت، يمدد الأصل المنصوص عليه في المادة /36/ إلى أجل غير محدد!...
ومن مصائب المصادفات أنه منذ ذلك التاريخ المشؤوم والجزائر تعيش مآسي الاضطراب والإرهاب، والصراعات التفريقية المدمرة...(1/191)
وطبعاً.. فإن ذلك لا يعود بشكل مباشر إلى تجميد عملية التعريب، ولا علاقة له بذلك... ولكن بتأمل لمجريات الأوضاع السائدة السابقة، يمكن أن نتصور /بشكل غير مباشر/ أن هناك تأثير بالغ المفعول، بسبب تهميش الثقافة الوطنية، وازدواجية اللغة التي ربما نتجت عنها ازدواجية فكرية. ووقوف اللغة العربية في الدرجة الثانوية العملية، وإهمال رعاية الوعي والذوق الجمالي العام، وإفراغ الإنسان الجزائري من وعيه الوطني، وحصانته الروحية الذكية، واصطدام الشباب بأبواب الفراغ... كل ذلك أدى بالبلاد إلى ما تعانيه من غياب الشفقة والرحمة، والتضامن والحب..
وألقى بها في متاهات البحث المادي... إلىأن جاء الرئيس الأمين زروال، وانتخبه الشعب قائداً ومنقذاً له. ومن يومها أخذت الجزائر تستعيد مؤسساتها الدستورية الوطنية، والمحلية، حتى أكملت ترتيب وضعها القانوني الأمثل... وتخلصت من كل عوائق المراحل الانتقالية.. وها هي شيئاً فشيئاً.. وبكل حكمة وثقة وتفاؤل تسترجع أمنها، وثقتها، واستقرارها، وتعود إلى قواعدها المأمولة، سالمة، لقد كان من بين الإنجازات الوطنية الهامة التي تحققت في مطلع عهد الرئيس الأمين زروال... ماتم في أواخر سنة 1996 حيث أصدر المجلس الوطني الانتقالي تشريعاً يلغي بموجبه قانون تجميد اللغة العربية، السالف الذكر.. ويحدد تاريخ 5/7/1998 موعداً لبدء تعميم استعمال اللغة العربية في جميع الإدارات والمصالح الحكومية، والمؤسسات التعليمية المختلفة.
وبالفعل... وحتى الآن... فقد تعودنا من الرئيس الأمين زروال، أنه يفعل ما يقوله، وينفذ ما يقرره، ويفي بما يعد به... لذلك فإن كل المخلصين النزيهين، والصادقين في حبهم للجزائر، ينتظرون بكل ثقة وتفاؤل يوم 5/7/1998، موعد تطبيق عملية تعميم استعمال اللغة العربية، وهو في الوقت نفسه يوم الذكرى السادسة والثلاثين لاستقلال الجزائر وعيد الشباب الجزائري، فتحية ومبروك... وأجمل التمنيات...(1/192)
وكما تحرر الإنسان الجزائري من الاستعمار بعد أكثر من قرن من الثورات والمعاناة، وسبع سنوات ونصف من الحرب الجهادية الدامية... وتحقق النصر الأكبر والأشرف... سينطلق عهد مجيد جديد، في أجواء الوحدة الوطنية والتآزر، والعمل البناء المفيد... وفي ظل السيادة الوطنية الكاملة، بعد أن تأخذ اللغة العربية الوطنية استقلالها الكامل.
وكان الله في نصرة كل المخلصين. ... ... ... 5/7/1998.
سأكسّر قلمي..؟
مرت أكثر من سبعة أشهر متتالية، لم أستطع خلالها أن أكتب جملة واحدة مفيدة..!
وخلال هذه المدة قرأت مئات المواضيع والمقالات، ولم أجد في واحدة منها، ما يشفي الغليل، أو يثير الاهتمام، رغم حيوية وحرارة، وأحقية، وصدق، وعمق الكثير منها. لقد كنت أشعر، عند الانتهاء من أي موضوع. أنني عايشت أفكاره ومعانيه من قبل ودون نتيجة.. ولا جديد..! كنت أحياناً أحاول أن أرغم نفسي على الكتابة.. فأطرح طبق الأوراق البيضاء، أمامي، وأحمل القلم.. وأسدد نظري في نقطة ما، غير مرئية من جدار غرفتي، وتتسمر عيناي دون حركة، ويتوقف تفكيري.. ويتجمد.. يسبح في لا شيء.. وأظل ساهماً في عدمية، لا زمان لها، ولا مكان في حالة لا تشبه اليقظة أو النوم.. إلى أن ترعدني صرخة حادة مفاجئة لصبي أو زمور سيارة.. أو تتسرب ذبابة طائشة بين عيني وعدسة نظارتي.. هناك فقط استفيق لواقعي- وأدرك أن شهية الكتابة مختنقة في نفسي ولا مجال للعناد.
أحس -أحياناً- أننا نحن الكتاب العرب- أشقى، وأتعس من المسكين (سيزيف).
هو يحمل الصخرة إلى قمة الجبل، وعندما يضعها، تتدحرج إلى الأسفل، فينزل وراءها، ويرفعها فوق كاهله مرة أخرى، إلى أن يصل القمة -فيضعها، وتنحدر.. وهكذا دواليك- إلى ما لا نهاية..!(1/193)
أما نحن، فنرفع صخورنا فوق أعناقنا، ونصعد بها إلى شاهق القمم، وعند بلوغها، تدفعنا أيد شيطانية خفية، لا علاقة لها بغضب الآلهة فنسقط، ونهوي نحو المنحدر، والصخور تهتز فوق أجسادنا وأرواحنا، وترفسنا.. وترضرضنا إلى أن نصطدم بوحشية القاع..!
أكثر من خمسين سنة، من عمر ذاكرتي، وأنا أعيش -شخصياً- هذه الحالة /السيزيفية/ الأقسى، والأمر.. حتى أصبحت عملية السقوط، عادة مزمنة في طبعي، وإدماناً آسراً، لا أستطيع الفكاك منه.. لقد صرت أتعمد أن الصعود المجاني، وأنا لا أحمل شيئاً، ولا رغبة لي في رؤية شواهقه.. فقط لكي أسقط بعد ذلك، مدفوعاً بأيدي الحراس، وتحت أعتاب القمة.. ثم أتهاوى، وأتهاوى كالريشة بين فراغات المنحدرات..
"من يهن، يسهل الهوان ... ما لجرح بميت إيلام..!"
أكلنا التراث أكلاً لما، وأحببنا المال حباً جما... مدحنا، هجونا، سطونا على شرائح /المعلقات/ تبنينا بعض تعاليم /بروتوكولات حكماء صهيون/ اختلسنا صفحات من كتب ماركس.. وفرويد.. والطهطاوي.. وسيد قطب.. تاجرنا بأصداء فلسطين، والجزائر، والبوسنة، وأفغانستان.. تضامنا مع أحلام اللاجئين، والفقراء، والسود.. وكلما خلونا مع أنفسنا قبل اللحظة المباشرة للنوم..
لا أدري بماذا يفكر غيري.. أما أنا فأحلم بأنني أعانق سيدة شقراء..!؟
كل النصوص أصبحت مكررة، أو مقتبسة أو مسروقة.. وأصبح سوق /الصياغة/ مزدهراً بالكنايات والاستعارات والتشابيه، والرموز والرسوم الفسيفسائية الملونة من هنا.. وهناك.. وحتى نفحاتنا الإبداعية لم تعد قادرة على الاستلهام إلا بخيال مستورد، أو صور فضائية أو أوصال لأحداث يصنعها الآخرون، ونحن نقوم بمسح معالمها بالسنتنا، أو لحسها إن وجدنا لها طعماً..!؟(1/194)
منذ خمسين سنة.. والقبور تبلع، والأرحام، تدفع، ونحن نقبع في نفس المستنقع..! نفس الأعداء.. الأصدقاء.. نفس الخلافات، نفس الانقسامات والخيانات، والمؤامرات.. مع نفس التعليقات والتحليلات والانتقادات، ونفس الشكاوى، والاحتجاجات والاستنكارات..!؟
وعندما -حطم الوحدويون- غيرنا -جدار برلين.. قام بعضنا- خلسة- فجمعوا حجارة أطفالنا، وبنوا على أكوامها جسر وارسو..!؟
وعندما انهار جسر وارسو نشطت حركة /ليلية/ فوق جسر وادي عربة..! ثم بدأت الأشغال في حفر نفق.
- تحت الأراضي التركية، بين خليجي العقبة، والبوسفور..!
- وعندما.. وعندما..! وهل هناك شيء لم نكتب أو نقرأ عنه؟
هل هناك حادثة مرت بماضينا أو واقعنا الحافل بالملمات المؤلمة.. والمحزنة، والمخزية لم نشبعها نصوصاً، وخطباً وقصائد، وعظات، وتصريحات..؟!..
هل هناك مشكلة، تخصنا- وما أكثر مشاكلنا- لم نسجل لها، شبه حلول بالمؤتمرات والندوات واللجان، والزيارات.. إلى درجة أننا أصبحنا نطلق اسم الديمومة، على بعض المؤتمرات، واللجان..! فماذا كانت النتائج..؟!
إن الكاتب الموظف المحترف الذي يعيش على مردود ما يكتبه، قد لا يلام، لأنه إن لم يفعل ذلك سيموت جوعاً.. وهو يستحق الرحمة، والشفقة..!
أما الكاتب الذي صار هاوياً بعد طول احتراف مثلي فماذا في استطاعته أن يكتب أو يقول بعد الآن.؟!
خمسون سنة.. ونحن –مكانك راوح- ألم يحن الوقت لنعمل أي شيء.. أي شيء.. ولو تكسير الأقلام.."؟!..
سأحاول بالنسبة لي أن أكسر قلمي.. فهل أقدر..؟
تشرين 9/7/1998
((
أجيالنا المثقفة
كثيراً ما تساءلت:.. لماذا نحن مثقفي هذا الوطن لم نقم حتى الآن، بعمل موحد متواصل جاد؟
لماذا ظلت أقوالنا أكثر من أعمالنا، وأحلامنا تطغى على أفعالنا، وآمالنا لا تكاد تتجاوز مطامحنا الشخصية في حظوة أو منصب، أو جاه وشهرة، أو مال وبنين..؟!(1/195)
لماذا بقينا دائماً مشتتين، منقسمين، فكريا، وأيديولوجياً، ودينياً وطبقياً؟.. وعندما نلتقي، نبكي مآسي مجتمعنا مع مصائب التمزق ودوامات الفتن، وأمراض التخلف، وأحزان الذل، والقهر، والهوان؟!..
ثم نسأل عن أسواق البلد المضيف قبل أن يعود كل واحد منا إلى منزله!
ماذا قدمنا من عمل موحد، ضد ما تعيشه بعض مجتمعاتنا من عنف، وإرهاب وانحدار، غير التساؤل، والتعجب، والاستنكار والتأسف، والتعميم، والتضخيم، ونشر البلبلة والشكوك..؟!
ماذا قدمنا للغتنا العربية، التي هي أساس هويتنا، وعنوان شخصيتنا، ومصدر وجودنا، ومرجعية تاريخنا، وحضارتنا، وضمان مستقبلنا؟.. هذه اللغة التي تكالبت على نهبها وقتلها خناجر الأجنبي، وفؤوس الشعوبية، وأمراض الجهل والعامية، وكل آفات الحقد، والتآمر، والدس..!
هل جال بخاطر مثقفينا الأوفياء الواعين تأسيس جمعية أو رابطة قومية أو عربية إسلامية لنصرة هذه اللغة المحاصرة أو الدفاع عنها جماهيرياً. وإعلامياً، وسياسياً، وحتى دينياً..؟
ومن المؤكد أن جل مثقفينا، انطلقوا في نشأتهم، وبداية مسيرتهم -منذ نهايات القرن الماضي- انطلقوا أو نزحوا من الأرياف، والبوادي، وقمم الجبال من الأكواخ الخشبية والأحواش الطينية، والبيوت الحجرية المظلمة، لا يعرفون أضواء الأسلاك، ولا مياه الأنابيب، ولا رنات الهواتف ولا أشكال الأجهزة ولا أسرار المدن، ومتاهات العواصم..!
لا يعرفون حتى كيف يرتدون الثياب ويأكلون الطعام ويمشون في الأسواق المزدحمة..!(1/196)
انطلقوا فرادى من أوساطهم الفقيرة البائسة تحدوهم آمال التخلص من أوبئة الفاقة والحرمان، فاجتهدوا وكدوا، وتحملوا كل مضايقات التقشف، والتقتير وتعلموا ودرسوا.. منهم من اقتصر زاده على ما أخذه من معارف داخل عواصم وطنه.. ومنهم من سمحت له الظروف أو الحظوظ، فاكتسب معارفه من إحدى عواصم الغرب.. وعندما جمعتهم ميادين العمل في وطنهم، فرقتهم الأفكار، والنزعات واللغات، السلوكات والتصرفات.. وانطلقت منهم شرور الفتنة وكارثة الصراع الهدام.. صراع تافه، بين قديم جامد، وجديد جاحد.. بين عجز في التفكير والتقدير والتدبير، وبين انبهار، واستلاب بقشور التنوير.. ولولا انبعاث الحركات الوطنية، وبزوغ ملامح الثورات الشعبية، التي أخذت ترعد من هنا، وتبرق من هناك في مختلف أرجاء الوطن العربي..
لولا ذلك لتلاشى أو ذاب مثقفونا الأوائل إما بالتقهقر والاندثار، أو بالانصهار في بوتقة الاستعمار.. وطبعاً فإن هذا الوصف لا ينطبق على قادة المبادرات النضالية من أبطالنا الواعين الأحرار.
وترعرع جيلنا الثاني.. منذ العقود الأولى لهذا القرن، داخل معامع المظاهرات، والصدامات، والثورات المسلحة.. فأنشد، وكتب، وخطب، وتشرد، وتغرب، وتمتع، وتعذب.. كل حسب مطمحه، وعزمه، وظروفه.. إلى أن أخذت أجراس الحرية والاستقلال تدق هنا وهناك.. فظهرت أفواجنا منقسمة أيضاً، بين أصحاب السيادة، وأصحاب الشهادة، وأصحاب العبادة، وقليل من أصحاب الريادة، وكثير من أصحاب اللامبالاة، والنفاق والمجاملات. والتمرد، والتهميش.. وضحايا الإبادة..!
إن جذور الحرمان، تتبع تربتها فيما تنبت من سيقان وأغصان، فإن كانت من أرض طيبة زكية، أعطت ثماراً كريمة شهية، وإذا كانت من أرض فاسدة بور، انبتت الشوك والحسك، وكل الشرور..
وإلا فما معنى ما نشاهده اليوم في بعض شيوخ مثقفينا، ومؤيديهم من رعيل الجيل الثالث.. من تقوقع باسم الاختصاص. أو تفرغ للبلع والامتصاص،(1/197)
أو تنكر لكل المبادئ الوحدوية، والنضالية، والشيم العربية، التي هي
الطريق الأوحد للخلاص..؟!
نحن أبناء الجيل الثاني، منا من رحلوا.. وأغلبنا متقاعدون، ومنا موظفون، وحزبيون، ومستقلون ومهاجرون، ولاجئون، وتجار وفقراء إلا من كبرياء الكرامة.
لقد ولدنا من مخاض الألم، والدم، ومن عقدة الخوف من العدم.. لم نعش في حياتنا طفولة، ولا مراهقة واجهتنا كالرجال الهرمين، وعندما أدركنا عهود الاستقلال الوطني، رضينا بالقليل.. وأسرعنا قبل فوات الأوان إلى امتلاك نصف ديننا، فتزوجنا، ولما رزقنا آخر العمر بالخلف، ألغينا دورنا كسلف..!
من النادر أن نجد أباً من جيلنا، وجه أبناءه ليحملوا عنه رسالة ثقافية تعبر عن امتداد مطامحه السابقة، أو تدل على نمو وتطور توجهاته الفلسفية في الحياة.. فالكاتب لا يلد كاتباً، والشاعر لا ينجب شاعراً، هذا يعني أنه لم تكن لنا مطامح عميقة مستقبلية، ولا فلسفة راسخة عقلية.. كانت تسيرنا العواصف.. ثم العواطف، والقعود عن المواقف..!
أنا -شخصياً- درست علم النفس، والتربية والمنطق.. وأدخلت أبنائي المدارس، والجامعات لمن أراد.. ووفرت لهم كل ما يحتاجونه، ومالا يحتاجونه -حسب المستطاع- من ألبسة، وأغذية، وأدوية، وألعاب، وكتب ومجلات، ونزهات ورحلات.. وفرت لهم كل شيء كنت محروماً منه في الماضي، غير أنني لم أفكر بأن أساعدهم على تحقيق ما كنت أحلم به في المستقبل..!
لم أتدخل في رسم معالم حياتهم المقبلة.. ولا في تنمية ميولهم حسب ذوقي، ولا في توجيههم العلمي المدرسي، ولا حتى في متابعتهم بعد المرحلة الثانوية.
كنت أزعم أن الاعتماد على النفس، والحرية هما طريقا النجاح، وخلق الشخصية القوية والمسؤولة..
فمنهم من تابع دراسته الجامعية، ومنهم من اختار سبيلاً آخر، وكنت راضياً في جميع الحالات.(1/198)
أبي -رحمه الله- لم يكن في استطاعته أن يقدم لي شيئاً محسوساً، ورمى بي أعزل، داخل المعترك، وكان يراقبني من بعيد، فيبتسم ويبكي عندما أنجح، ويصفر وجهه، ويحني رأسه عندما أفشل، وكان ثائراً دائماً، ضد اليأس، والكسل ولا يبدو عليه الغضب إلا وقت الشدة القاهرة.
أما أنا، فقد كنت راضياً عن أبنائي في جميع الحالات، ولا يعرفون عني سوى القناعة، والاعتزاز بهم، والاستسلام لمطالبهم والاستعداد لخدمتهم.
وقضاء حاجاتهم.. كنت أنتقم من نفسي لنفسي، في خدمتهم.. وكانوا يحبونني.. ومازالوا إلى درجة العبادة، ولكن هل يحترمونني بنفس الدرجة؟.. ربما..! وربما!..
ذكرت سابقاً، أننا نحن أبناء الجيل الثاني: منا مهاجرون ولاجئون وتجار.. وأسجل حالياً بأنني أعيش مع فئة اللاجئين باختيارهم، الساكنين بين صقيع الاغتراب، ولهيب الشوق، ورعب الآفاق الدامسة.. وكان يمكن أن أكون من فئة المهاجرين /الأذكياء/ إلا أن بعض الأمراض العصبية والهضمية المزمنة، والتي أصابتني خلال الثورة المسلحة.. منعتني من اكتساب ميزة المقدرة على التلاؤم مع جميع الظروف.. وها أنني أعيش مع العوز وسوء الهضم..!
جيلنا الثاني من مواليد العشرينيات فما فوق، بعقدين أو ثلاثة- أغلبهم مروا في تكوينهم الأساسي، بالمساجد، والمدارس الحرة، والمعاهد الوطنية، والزوايا.. وهناك من واصلوا رحلة طلب العلم إلى المغرب، أو تونس، أو ليبيا، أو مصر، أو سورية أو لبنان، أو الأردن، أو السعودية أو الكويت. وعندما عادوا إلى مضارب الأمل، من أجل العمل، وجدوا أمامهم الجدران والأبواب، وخانتهم الحركة، ولفظهم الخطاب.. فعاشوا بين الضباب والسراب، يزحفون من زرداب إلى زرداب..(1/199)
هناك فئة أخرى من نفس جيلنا، من أبناء البشوات والأعيان، وأصحاب الأملاك والقطعان، وأصدقاء حكام زمان.. وتجار الممنوعات، والأديان.. من أبناء فلان بن فلان.. وفلتان بن فلتان.. مروا في تكوينهم الأساسي، بالمدارس الأجنبية، ثم واصلوا رحلتهم السعيدة البراقة، إلى باريس، أو لوزان، أو لندن أو برلين، أو استوكهولم، أو امستردام.. وحتى إلى نيويورك، وموسكو وطوكيو، وبكين.. وبقفزة لماعة واحدة انتقلوا من صهوة الرفاهية والثروة، إلى حقل ثمار الثورة... وصدق من قال: خياركم في الجاهلية، خياركم في الإسلام، ومن المعلوم أن خيارنا في الجاهلية كان لهم أصدقاء ومناصرون من القياصرة، والكياسرة، وعتاة الأحباش.. ولماذا لا يعيد التاريخ نفسه..!؟
جيلنا /المعربز/ أي المتعلم بالعربية، كما يقول الآخرون عنه.. هو الآن متهم، بالعنصرية اللغوية، وبالعنف الإسلامي، والأوراق الصفراء، وبالآخرة المنافية للحياة، وبالتأخر والتشتت، وبكل الصفات الذميمة.. إلا أن أبناءنا من الجيل الثالث، رغم إهمالنا /المقصود/ لهم، باسم الحرية والاعتماد على النفس.. هذا الجيل الطلائعي الطالع، هم الذين سيغيرون موازين الأوضاع، إلى الأعدل، والأشمل، والأحسن.. وهم الذين سيعلنون براءة كل متهم مظلوم، في ظل ثقافة وطنية صميمية واعية، وشاملة، تجمع الحلم بالواقع، وتوصل الأصيل الخالد، بالجديد الماجد، وتربط بين كل أبناء الجيل الثالث، بأواصر اللغة والفكر، والتضامن والوحدة، وحب الوطن الذي هو حق، وواجب على الجميع..
لقد انتهى عهد أحادية اللغة.. هذا معرب فقط، وذاك مفرنس فقط.. وأصبح الجميع يتقنون -إلى جانب لغتهم العربية- أكثر من لغة حية إتقاناً جيداً. وهذا هو الواقع الحقيقي الآن، رغم كيد الحاقدين، وتشكيك المتآمرين..
وسينتهي قريباً عهد العنف، وآفات الحضيض والسقف، والتهميش على الرف ويعم الأمن والسلام ويتحد للعرب الصف.(1/200)
وأخيراً أكرر دعوتي لتأسيس الرابطة العربية الإسلامية لانتصار اللغة العربية، فهل من مبادر..؟ وهل من مجيب..؟
تشرين 26/8/1998
((
وحدة الهوية الوطنية والصراع العرقي
لقد كرست فرنسا كل جهودها لتشتيت تماسك الشعب الجزائري، وتفتيت خريطته، وإلغاء تاريخه، وهويته، وعندما حالفها الفشل، مع وسائل التدمير بالحديد والنار لجأت إلى جيشها (الأول) من الآباء البيض والأخوات، لتنصير الشباب بوسائل الإغراء، والترغيب، ففشلت أيضاً، فعمدت إلى أساليب أخرى، مبنية على الأكاذيب والإشاعات، وتزييف التاريخ ففتحت المختبرات العلمية لدراسة الأعراق واللهجات البربرية وتفريغها من مفرداتها العربية، واستبدالها بمفردات فرنسية.. وكتابتها -بدل الحروف العربية- بحروف لاتينية، وتجنيد كافة الوسائل النفسية، والفنية والمادية، لإقناع بعض الفئات من الشباب البربري، بأنهم هم أصحاب الجزائر الأصليون، ولا علاقة تاريخية أو عرقية لهم بالعرب، وأن لهجاتهم، يجب أن تكون هي اللغة الوطنية الرسمية للجزائر. -وإن كانت بدون حروف وأرقام- ولابأس أن تحل الفرنسية محلها، باعتبارها لغة علم وحياة، إلى أن تتطور اللهجة البربرية، وتصبح في مستوى اللغة الفرنسية!!؟
وأشير إلى أن الأقلية المثقفة ثقافة غربية، ممن يعتنقون الأفكار العرقية من البربر، وكذلك بعض الفرانكوفونيين يجهلون تماماً، تاريخهم ولغتهم العربية، وكذلك بعض اليساريين المتطرفين أيديولوجياً، في الجزائر.. هؤلاء جميعاً شكلوا طيلة ست وثلاثين سنة خلت، من عمر الاستقلال أخطر طابور تخريبي لمحاربة اللغة العربية، والوقوف إلى جانب اللغة الفرنسية، وبذل أقصى الجهود لأن تظل هي لغة الإدارة، والمؤسسات الهامة في الجزائر... وكانت صفات المدح والتقدير لفضائل ومحاسن اللغة الفرنسية، لا تكاد تحصر.. وبالمقابل توجه للعربية كل أوصاف، التأخر، والذم، والرجعية، والصعوبة، إلى ما هنالك مما يصعب حصره.(1/201)
إن الإنسان العاقل ليعجب ويحتار من أمر أناس يعيشون بين قومهم، في حب، وتقدير، واحترام ككل المواطنين، وبلادهم تتطلب منهم المزيد من التماسك والتآخي لتحقيق تقدمها وازدهارها في ظل الحرية والاستقلال، والخيرات الكثيرة المتوفرة، بشراً وأرضاً طيّبة، وثروات باطنية وظاهرية هائلة، وتاريخ واحد مجيد..
أناس مثل هؤلاء، يتنازلون عن قوتهم الذاتية الضاربة في أعماق الوجدان وحقائق الواقع، ليلحقوا أنفسهم بحالة الأقليات المحرومة والمضطهدة في العالم، ويتبنون مطالبها الانفصالية؟.. وقد يتساءل المرء.. كيف يركن عاقل إلى السعي من أجل أن ينفصل عن نفسه.. وقومه وأهله..!؟
في الجزائر اليوم، ومنذ الاستقلال، أغلب المراكز الوظيفية السامية في جميع المؤسسات، والشركات، والمرافق الاقتصادية والبنوك والتربية والتعليم، هي مسيّرة من طرف جزائريين من أصل أمازيغي، دون أن يثير ذلك أية حساسية أو اختلاف على أساس البدهية الوطنية السائدة، وهي أن لا فرق بين جزائري وجزائري، فكلهم أخوة في الدين.. فأية جريمة خبيثة هذه تعمل على تحطيم الشعب العملاق، والوطن في الماضي، والحاضر، والمستقبل.. وجعله مجموعات من الأقزام الضعيفة المتناحرة..!؟
إنه من المؤكد، وبلا أي شك أن للقوى الأجنبية الحاقدة الدور الأساسي الفعال في كل ما يحدث في الجزائر من مصائب وتدمير، وانشقاقات.. وفي مقدمة هذه القوى الظالمة: فرنسا وإسرائيل.. ولكل عقده، وأحقاده، وأطماعه، وانتقاماته، ومراميه..(1/202)
إن فرنسا مازالت تواصل حملتها المكثفة، سراً وعلناً ضد تعميم اللغة العربية في الجزائر، ولا يهمها حتى لو أفنى الجزائريون بعضهم بعضاً.. وفي الوقت نفسه تعمل على حماية لغتها، ورعايتها ودعمها، حيث نجدها تقف بشدة وعنف ضد أية نعرة قومية أو لغوية، في داخلها كما هو الشأن مع /الكورسيكيين/ و /البرتانيين/ وكذلك في مواجهة غزو اللغة الإنكليزية، بالقرارات والقوانين العقابية الصارمة... وتعمل خارجياً، خاصة في محيط الدول الفرانكفونية، على أن تظل لغتها هي السيدة المهيمنة إلى الأبد.. ومن الملاحظ أن الجرائر رسمياً ليست عضواً في المجموعة الفرانكفونية..؟!
بعد خمس سنوات من استقلال الجزائر أي /1967/ عندما انطلقت شعارات العروبة والإسلام، تدوّي بين كل الأرجاء، تطالب بالتركيز على التاريخ، والحضارة، واللغة العربية في إطار الوحدة الوطنية.. في ذلك الوقت، قامت فرنسا بتأسيس الأكاديمية الفرنسية للدراسات البربرية في جامعة /فانسان/، وتدريس اللهجات البربرية في بعض الجامعات الفرنسية؟
وفي الوقت نفسه. وبعده.. ظل أغلب أفراد الجالية الجزائرية في فرنسا، وجلهم من البربر، يعانون الأمرّين من شتى ضروب التمييز العنصري، واعتداءات القتل والإهانة والتهميش دون تفريق بين جزائري وآخر، وذلك من طرف الفرنسيين المتطرفين..؟!
وعندما أعلنت الدولة الجزائرية بدء تطبيق قانون استعمال اللغة العربية، في موعده المحدد، ثارت ثائرة الإعلام الفرنسي وشن حملة ضارية ضد اللغة العربية، واعتبرها كارثة كبرى حلّت بالجزائر... وكعبرة للتاريخ والأجيال، أورد بعض عناوين الجرائد الفرنسية التي ملأت بها صفحاتها الأولى، وبالخط العريض.
- قالت /ليبراسيون/: "التعريب بالقوة في الجزائر" وقالت: "نظام اللغة الواحدة بالجزائر.." وكتبت: "السلطة الجزائرية تفرض لغتها"! وكتبت: "العربية الفصحى تعمّم على حساب العربية الجزائرية والبربرية، والفرنسية.."..!؟(1/203)
- وقال عنوان /لوموند/: "تمرد ضد التعريب في الجزائر"!
- وقال عنوان /لونوفال أو بسرفاتور/: "فرض العربية بالكرباج"!
- وقالت الـ /فيكارو/ في عنوانها الأساسي، وكأنها تدعو إلى العصيان والتمرد: "تعبئة ضد التعريب في الجزائر.."..!؟
هذا.. بالإضافة إلى التجمعات الاحتجاجية، والتظاهرات الصاخبة التي ملأت بعض المدن الفرنسية، وشقت شوارع باريس، تنادي بسقوط العربية، وقيام البربرية والفرنسية، مقامها..!؟
وفي نفس المجال، لا ننسى الإشارة إلى ما صرح به أعضاء البرلمان الأوروبي، في أواخر السنة الماضية (1997) من أن: "اللغة العربية في الجزائر، هي لغة الإرهاب، والتطرف الإسلامي.."!.. في حين أن شبكات الإرهابيين الذين يعيثون فساداً في الجزائر كانوا ذلك الوقت، وقبله متمركزين، ومحميين، ومدعّمين في جل العواصم الأوروبية..!!؟
وعندما نذكر ما يحمله الغرب وأمريكا، وفرنسا بصفة خاصة من عداء وكره للعرب والمسلمين، يجب أن لا ننسى ما تقوم به إسرائيل من تنمية
وإذكاء لهذا العداء..
وما تسخّره لأجل ذلك من أموال، وإعلام، وإشاعات، وتزييف لحقائق التاريخ والواقع.. وقد أثبتت الحقائق أن الصهيونية كانت دائماً، خلف إثارة النعرات العنصرية، والدسائس التي تحاك ضد وحدة الشعب الجزائري، ومن أجل التشكيك في هويته العربية الإسلامية.
ومعلوم الآن، أن هناك العديد من المستشرقين اليهود، وأفراد /الموساد/، وأعضاء /الدونما/ الجديدة، يجوبون أقطار المغرب العربي، والدول الإفريقية المجاورة له، ينشرون سمومهم، ويحاولون إقناع السذج في بعض القبائل البربرية، بأنهم من جذور عبرية يهودية، ولا علاقة لهم بالعروبة أو الإسلام..!
ويبدو أن بعض الفئات قد أخذت بمقولتهم التدميرية وصارت تبني تاريخاً على أساس هذا الافتراء المدسوس..
وها هو بيان /حزب جبهة الديمقراطيين الجزائريين/ الذي نشرته جريدة /الخبر/ الجزائرية اليومية. بتاريخ 6/8/1998..(1/204)
يتوجه إلى الشعب قائلاً في مطلعه:
"تذكير تاريخي:
"شعب الجزائر، شعب الأطلنط، والليبيين، والقرمانت، مبدع الكتابة والفلاحة، ومخترع العجلة والملاحة.. مؤسس الحضارة التانيتية، والأسر الفرعونية، شعب أبنائه(؟) سيدنا موسى عليه السلام ملك الشعب (المستضعفين) الرسول الإفريقي المنحدر من الأمازيغ صاحب كتاب التوراة... ثاورات.. وتالمونت التلمود.."
ويستمر البيان بجرأة، في مهاجمة اللغة العربية، والمدرسة الأساسية، وفكرة الأمة أو الوحدة العربية.. ويدعو في الأخير"إلى إنشاء اتحاد كونفدرالي لبلدان شمال أفريقيا، يمتد من جزر الكناري إلى البحر الأحمر.."؟!
ومما لا ريب فيه أن لإسرائيل اليد الطولى في نشاط حركة الانعزاليين في جزر الخالدات، وقيامهم بإنشاء برلمان، ومكتب تنفيذي بربريين، من أجل الإمعان في تمزيق أقطار المغرب العربي، وتشويه هويتهم الأصيلة، خدمة للصهيونية، والمصالح الغربية، وإرضاء لنوازع الحقد الإجرامي، المتأجج في نفوسهم ضد العرب والمسلمين..!؟
ومما فسح المجال أمام أعداء العروبة والإسلام، ليوغلوا في بث شرورهم ومكائدهم، هو موقف المفكرين العرب من مثقفين وسياسيين حياديين أكفاء، حيث نجدهم إلى حد الآن لم يتناولوا بصورة جماعية، موحدة ومنسقة، مسألة الاتجاهات العرقية في الوطن العربي، وعلى رأسها القضية البربرية. وذلك لمعالجتها من مختلف جوانبها التاريخية، والسياسية، واللغوية، والثقافية والاجتماعية، وفضح دور الأطراف الأجنبية في تشويه حقائقها، واصطناع الصراعات السلبية حولها... ولنشر الوعي بين الجماهير، وتنبيههم بجميع الوسائل الممكنة، لمجابهة ما يحدث بين ظهرانيهم من فتن ومؤامرات لضرب وحدة الأجيال العربية الصاعدة.(1/205)
لقد توهم بعض المثقفين أن هناك صراعاً بين فرنسا وأمريكا، أو بين أوروبا وأمريكا من أجل الهيمنة على اقتصاديات بعض الأقطار الإفريقية، واستبشروا خيراً بعواقب هذا الصراع على أنه سيجعل المتصارع عليه في موقف قوة، وضغط، يتيح له أن يحقق أهدافه الوطنية، وأن /يدلل/ نفسه كما يشاء..!
وكأنهم نسوا أن إسرائيل، عدوة العرب رقم واحد، قد ترعرت في ظل صراع القطبين الكبيرين، الاتحاد السوفييتي سابقاً، وأمريكا وأوروبا.. ترعرعت على أنقاض البنية العربية واغتصاب أراضيها وتشريد وقتل أبنائها..!؟
ولم يستفد العرب أي شيء يستحق الذكر من صراع القطبين الكبيرين.. فماذا سيستفيدون من صراع قطب رأسمالي واحد، مع نفسه..؟ قطب كالأخطبوط، له رأس واحد وعدة أذرع متحركة متشابكة أحياناً..!؟
وإذا فلا مجال لخلاص العرب والمسلمين، ولا أمل في تحررهم الكامل إلا باعتمادهم على أنفسهم، على تكتلهم وتعاونهم، ويقظتهم.. وعلى مثقفيهم وسياسييهم الملتزمين الأكفاء.. وعلى قوتهم الجماهيرية الفاعلة من عمال، وفلاحين، وشباب، ونساء.. ضمن اتحاداتهم، وتجمعاتهم المنظمة..
وهل نصدق من يقول بأن البربر ليسوا عرباً..؟ لقد أثبت كل المؤرخين والباحثين النزهاء أن البربر الأمازيغ هم قبائل عربية، ترجع في جذورها الأولى إلى بلاد اليمن، وهو ما أثبتته كل الوثائق التاريخية، والنقوش والحفريات، وكل المكتشفات الأثرية، ويعود ذلك إلى العصر الحجري المتأخر عندما تم اكتشاف البقايا العظمية لإنسان /مشتى العربي/ وقد عاش في الفترة ما بين /12320- 6500/ قبل الميلاد في منطقة المغرب العربي.
ويورد الباحث الأستاذ محمد علي مادون/ في كتابه /عروبة البربر/ أكثر من /84/ وثيقة دامغة، تؤكد عروبة البربر..!(1/206)
لقد أطلق علينا الإغريق والرومان القدماء، اسم /بربر/، وأطلق علينا الفرنسيون اسم /بيكو/.. وأطلق علينا الصهاينة مع بقية البشر، غيرهم، اسم /الكوييم/ أي الضالين وجعلتنا النازية والفاشية في مرتبة، قريبة من القرود.. وكل ذلك لتحقيرنا والسخرية منا ظلماً، وافتراء!!؟
فمتى نستيقظ، ونتجاوز كل هذه الانقسامات والفتن، ونوحّد جهودنا لخدمة هذا الوطن..؟
تشرين 10/9/1998
((
الجالية الجزائرية في فرنسا.. ولغة المنفى..!
من المعروف أن الجاليات أو الأقليات، التي تغادر موطنها الأصلي لسبب ما، وتستقر داخل مجتمع آخر، تظل بصورة ملحوظة، محافظة على بعض عاداتها وتقاليدها وسلوكاتها الأصلية وخاصة على بعض الأسس المكونة لهويتها الوطنية القومية كاللغة والدين..
*وهذا ما نراه واقعاً حقيقياً لدى أغلب الجاليات في الوطن العربي كالأرمن، والهنود واليونانيين وغيرهم في المشرق العربي وكالفرنسيين والإسبان والأفارقة وغيرهم.. في المغرب العربي.
ونراه كذلك في فرنسا، في أقليات البرتغاليين، والأتراك والبولنيين، والإسبان والأفارقة وأبناء بعض الأقطار العربية، وغيرهم.
ولكن هناك ظاهرة تبدو لأول وهلة مثيرة للاستغراب والتساؤل، ألا وهي ظاهرة نسيان اللغة الوطنية، بالنسبة لكثير من أبناء الجالية الجزائرية في فرنسا..!؟
ربما يقول قائل: إن اللغة الوطنية بالنسبة لبعض الجزائريين قد نسيت حتى داخل الجزائر، فكيف نستغرب نسيانها في فرنسا..؟
ولتوضيح بعض جوانب المسألة نقول:(1/207)
ربما -بالفعل- نجد أغلب سكان المدن الجزائرية الكبيرة، وخاصة بين الموظفين، وفي المناطق الشمالية على الأخص، نجدهم يميلون إلى التحدث بالفرنسية، حتى في الأمور البسيطة، إلا أنه -وأقولها عن يقين- من النادر جداً، أن يوجد جزائري، لا يحسن التكلم باللغة الدارجة، وهي قريبة من العربية الفصحى، في أغلب مفرداتها، وتعابيرها... إلا أن عدم استعمالها لدى البعض، يعود لأسباب كثيرة، منها ماله علاقة مباشرة بالتربية، والمحيط العائلي، وبتنوع التشكلات الفكرية والنفسية لدى بعض الفئات، مما رسخ في الأذهان قناعات مختلفة نورد نماذج منها كالتالي:
- هنالك فئة الفرنكفونيين، الذين بحكم تربيتهم، وتعليمهم ومحيطهم -خاصة من أجيال ما قبل الاستقلال- فهم يجهلون كل شيء تقريباً، عن تاريخ حضارتهم العربية الإسلامية. وثقافتهم الوطنية المستمدة من حياة الشعب... وإمكانيات لغتهم العربية، ومقدراتها على مواكبة التطور، ومتطلبات العصر، ولا يتصورون مفتاحاً لأسرار التقدم إلا في استعمال لغة أجنبية حية، كالفرنسية مثلاً...!
وهناك فئة /الفرنكوفيليين/ الذين ينظرون إلى اللغة الفرنسية نظرة عشق، وانبهار، وإعجاب.. ويشعرون بالسعادة الكبرى، واللذة العارمة، وهم يتحدثون بها... وهذه الفئة، ترى في بقية لغات العالم الأخرى، منزلة لا تستحق العناية أو الاهتمام، لأنها دون مستوى الفرنسية في سحرها، وحلاوتها.. مهما كانت تلك اللغات عظيمة ومتطورة، ومن بينها اللغة العربية...!
وفئة بعض الموظفين، الذين يعتقدون بأن التكلم بالعربية قد يلصق بهم، تهمة جهل الكلام بالفرنسية، أو تهمة الانفصام عن الشلة المفرنسة، مما قد يفقدهم امتيازاتهم الوظيفية، لذلك فهم يلحون على التحدث بالفرنسية في كل وقت.(1/208)
وهناك فئة، تتكون من الذين لا يحملون للعربية أي ود أو اعتبار، بل إنهم ينفرون منها، ويعدونها لغة دخيلة، لا علاقة لها باللغة الأصلية للجزائريين القدامى، وبالتالي فهم يفضلون الفرنسية عنها... ومن حسن الحظ، أن من يعتنقون مثل هذه الاعتقادات، الاستعمارية المنشأ، هم قلة، ولا وزن لهم حتى بين بعض دعاة "الأمازيغية" أنفسهم الذين يؤكدون العلاقة الحميمية بين العربية، والبربرية.. ويؤمنون بأن من أقدس ثوابت الجزائريين العربية والإسلام...
من هنا، يمكن الإشارة إلى فئة أخرى، لا تحمل من الإسلام إلا الاسم الشخصي، حيث انعدمت عندها كل ممارسة للشعائر الدينية وتقطعت لديها كل الأواصر المتصلة بحضارة الإسلام، ومعطياته الفكرية، والسلوكية.. ونظراً للعلاقة الوثيقة بين اللغة العربية والإسلام ككل.. فقد أهملت العربية تبعاً للابتعاد عن الإسلام.
وثمة فئة المستخدمين من الأميين البسطاء حيث نشاهدهم يحاولون التحدث بالفرنسية، وهم يجهلون الكتابة والقراءة بها، وإنما فقط (يتببغون) بها، لعقدة في نفوسهم، ظناً منهم أن من يتكلم الفرنسية، هو الأكثر تحضراً، وتمدناً واحتراماً...!
ومن بين هذه الفئة، توجد الكثيرات من نساء المدن، مع الأسف -ممن يعتقدن كذلك، أن الكلام بالفرنسية دليل على رقي الشخص وثقافته، وتمتعه بصفة اللياقة التقدمية المعاصرة...!
أما الأغلبية الساحقة من أفراد المجتمع الجزائري، فهم يستعملون اللغة العربية الدارجة في مختلف مجالات تعبيرهم.
وأستسمح القارئ الكريم لأحكي له هذه الحادثة الطريفة:
في سنة 1968، صدر مرسوم رئاسي، يجبر كل الموظفين بوجوب تعلم اللغة العربية، قراءة وكتابة، وحدد كآخر أجل للتطبيق العملي لما جاء في المرسوم، بثلاث سنوات بحيث أن أي موظف، لا يكون لديه مستوى مقبول من استعمال في استعمال اللغة الوطنية، عام 1971- فإن مرتبه الشهري سيجمد ويمكن أن يفصل من عمله..(1/209)
وكنت حينئذ مستشاراً بإحدى الوزارات، فكلفت بتنظيم عملية تدريس اللغة العربية، بعد ساعات العمل، لكل الموظفين في الوزارة، دون استثناء، إلا من يتقن العربية... وقمت بتقسيم الموظفين -بعد الاختبار- إلى ثلاثة أقسام، قسم الذين لا يحسنون القراءة، والكتابة بالعربية، وقسم الذين لديهم معرفة بسيطة بذلك.. وقسم.. الذين يمكن أن يتقدموا لنيل الشهادة الابتدائية كمترشحين أحرار..
اتصلت من مكتبي بأحد المديرين، ممن لم يسمع عنهم أبداً، أنهم تلفظوا بجملة عربية.. وكنت بواسطة الهاتف أحدثه بالعربية، وهو يجيبني -طبعاً- بالفرنسية.. وأخيراً أخبرته بأنه مسجل في قسم الذين لا يحسنون العربية، لا قراءة، ولا كتابة، ولا نطقاً...! وطلبت منه أن يستعد للحضور، بعد انتهاء فترة العمل الرسمية.
وكم كانت دهشتي كبيرة عندما قال لي بعربية طليقة فصيحة: أتعرف من قال هذا الشعر:
قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل
بسقط اللوى، بين الدخول، فحومل
واستمر في إنشاد معلقة امرئ القيس، حتى أوقفته، وقلت له: هذا يكفي.. وقال لي: إنه يحفظ أشعاراً عربية كثيرة... ويحفظ نصف القرآن الكريم، ومجموعة من الأحاديث النبوية.. وأنه درس الأدب والفقه في قريته، مدة سنين طويلة...!
قلت له: لقد فاجأتني... إنني لم أكن أظن أنك ..؟.... في العربية هكذا... وإذن.. لماذا لا تتكلم إلا بالفرنسية...!؟
كان يقهقه وهو يجيبني قائلاً: لابد أن نعيش يا أخي، إنها الوسيلة الوحيدة لأكل الخبز الأبيض!!؟ ..........
إن الفرق شاسع، وكبير، بين الذين لا يتكلمون ..؟. العربية داخل الجزائر، وبين الذين يعيشون مهاجرين كجاليات في أوربا، وفرنسا.. فالذين يستعملون الفرنسية داخل الوطن، لا يعجزون عن استعمال العربية عندما يريدون أو يضطرون لذلك...(1/210)
أما المهاجرون ممن قضوا سنين طويلة في ديار الغربة، فإن أغلبهم، أصبح عاجزاً عن التحدث بلغته الوطنية، لغة آبائه وأجداده.. وخاصة من طرف الأجيال التي ولدت وترعرعت في الخارج.
ولكي نوضح بعض الجوانب في سبب جهل أو نسيان بعض الجزائريين للغتهم الوطنية في المهجر، لابد من إعادة ذكر هذه الحقيقة التاريخية المؤلمة، وهي أن فرنسا منذ أن احتلت الجزائر، وهي تسعى بجميع الوسائل إلى إبادة اللغة العربية، ومحوها نهائياً من ذاكرة الجزائريين... وعندما فتحت أبواب بلدها للمهاجرين الجزائريين منذ العقود الأولى للاستعمار -كان القصد من ذلك، هو استغلال الأيدي العاملة، الرخيصة الكلفة.. وتفريغ الجزائر من سواعد أبنائها، وفرنسة كل الذين يستقرون فوق ترابها، خاصة إذا علمنا أن جل المهاجرين، هم من الفقراء المحتاجين ممن يعتمدون في كسب قوتهم على جهدهم العضلي، دون أن تكون لهم، أية حصانة ثقافية أو علمية.. وكان همهم الوحيد، هو كيف يتمكنون وبسرعة من التلاؤم مع محيطهم الجديد، والغريب عن عاداتهم وتقاليدهم.. وكيف يحظون برضا أرباب عملهم، ويستطيعون فهم، وتلبية أوامرهم في مواقع عملهم..؟
هذا... مع الإشارة إلى أن هجرات الجزائريين إلى أوروبا، وفرنسا بالذات لم تكن موجهة ومنظمة من طرف جهات وطنية مسؤولة، ولم تخضع لقوانين أو شروط مسبقة.. وإنما كان أغلبها مجرد مغامرات فردية وعائلية، هروباً من البطالة والفاقة، أو من كيد وظلم المعمرين، بالإضافة بعد ذلك، إلى أطماع البعض في كسب المال الأوفر أو إلى الافتتان بأحلام وبريق الغرب...(1/211)
وحتى عندما نلاحظ أحياناً، تكدس بعض الجاليات الجزائرية، والمغاربية بصفة عامة، داخل تجمعات سكنية متقاربة، غالباً ما تكون في أطراف المدن، فإن ذلك لا يعني أن هناك تخطيطاً جماعياً مقصوداً، وإرادة استراتيجية واعية في التكتل ولم الشمل من طرف الجالية بقدر ما هو تصرف خاضع لظروف السكن القاسية، ولضعف الإمكانيات المادية للمهاجرين، ولأساليب العزل المقصود من طرف الفرنسيين، وخاصة المتعصبين منهم ممن لا يرضون بمجاورة العرب.. وهذا ما يدل على أن تلك التجمعات أو المجمعات السكنية، إنما هي في الحقيقة، أماكن اجبارية للإقامة، وليست اختيارية.. وأتصور أنه.. لولا تميز الكثير من الفرنسيين بصفات الاستعلاء والكبرياء.. وبما عرف عنهم من اعتزاز بالذات، ورفض لأي جسم غريب في أن يعيش بينهم مثلهم، مع تشبع الكثير منهم باعتبارات الفوارق الاجتماعية، والطبقية، وشيوع مظاهر ومواقف التمييز العنصري، خاصة تجاه العرب، وعلى الأخص أبناء المغرب العربي.. لولا ذلك، لربما تلاشى حتى ما نسميه اليوم بالجالية، نتيجة لجميع الظروف السيئة، والتي تؤدي إلى محو الشخصية وتدمير التاريخ وكما يقول المثل "رب ضارة، نافعة!".
هذا... بالنسبة للجيل الأول، من الذين شدوا الرحال نحو فرنسا، قبل الاستقلال، وبعده مباشرة....
*الجيل الثاني: من أبناء المهاجرين الجزائريين الذين ولدوا في فرنسا وتوفر لبعضهم الحظ في قسط من التعليم أو التكوين المهني.. هؤلاء، أغلبهم يجهلون التكلم بلغتهم الوطنية، باستثناء الذين مازالت تربطهم، علاقات تواصل دائمة، وزيارات متواصلة مع أقاربهم في الجزائر، وهم قلة...!(1/212)
ورغم امتلاك هؤلاء المولودين في فرنسا، للجنسية الفرنسية فهم لا يتمتعون بحق المواطنة الكامل، في المعاملة والاحترام كبقية الفرنسيين. ولقد اضطر بعضهم إلى تغيير أو تحريف اسمه العربي إلى ما يشبه الاسم الأوروبي، حتى يتخلصوا من المضايقات، ومن الحرمان من العمل، بسبب أسمائهم...! إنهم يعيشون الغربة بكل معانيها.. غربة الوطن، وغربة الحياة الاجتماعية، وغربة اللغة، التي عبر عنها الكاتب الجزائري المعروف /مالك حداد/ بقوله: "إنني أعيش في لغة المنفى! والغربة حتى عن الآباء والأمهات الذين يعيشون مع أبنائهم في منزل واحد، ويتخاطبون معهم بلغتهم العربية، ولكن أولئك الأبناء لا يستطيعون الرد عليهم إلا باللغة الفرنسية... إنه منظر مؤلم إن يشهد الإنسان أماً تتكلم مع ولدها بلغة، وهو يبادلها الحديث بلغة أخرى، والابن يفهم ما تقول والدته، وهي تفهم ما يقوله ولدها، ولكن لا أحد منهما يستطيع أن يعبر بلغة الآخر...!؟
أغلب الأقليات في العالم، وفي مختلف الأزمنة تشكل عنصر قوة ضاغطة، ومؤثرة.. في أغلب المجتمعات التي تتعايش معها، وذلك لأنها مكتسبة لعناصر مناعتها، وحصانتها المتمثلة في الخصائص التالية:
1- الإرادة الواعية في التكتل والتماسك، ووضع استراتيجية للتضامن، والتعاون المشترك، من أجل ضمان حياة منيعة كريمة.
2- المحافظة بالتخطيط والبرمجة على مواصلة التعليم، والتكوين، ومساعدة العاجزين لتحقيق ذلك.
3- التمتع بالرصيد الثقافي والحضاري الوطني، لسلوكاتهم الفردية والجماعية. والدافع لهم على إحياء مآثرهم الثقافية، ومواصلة الأنشطة الجماعية حولها...
4- التمسك بالقيم القومية والدينية، بأساليب تتماشى مع مقتضيات العصر والتطور، مع الإيمان العميق والمدرك لقضايا الوطن الأصلي وأوضاعه الراهنة...(1/213)
5- وبالتالي... حب الوطن، والتعلق الدائم به، والحنين إليه، كجزء من كيان الذات، وجوهر الشخصية، وليس فقط كموقع ذكريات لمنازل الأهل، ومقابر الجدود...
6- مواصلة الجهات المعنية، في السلطة الوطنية، بالاتصالات المجدية الدائمة مع جاليتها في الخارج، وتأمين كل أسباب الرعاية والحماية والتوجيه لها... وتمكينها من معرفة ومتابعة كل ما يجري داخل الوطن الأم.. من تغييرات وتحولات بواسطة الكتب والمجلات، والمراكز الثقافية ومختلف الوسائل الإعلامية، وتنظيم الزيارات في جميع المناسبات وإشعارهم بصورة مستمرة إن دولتهم الوطنية، ليست غائبة عنهم، خاصة في ما يتعلق بحماية كرامتهم ومقدساتهم، وهوية شخصيتهم..
ورغم أن الجالية الجزائرية في الخارج، وفي فرنسا بالذات وأوربا، قد التفتت إليها السلطة الوطنية في العهد الحالي، وأعطتها الكثير من الاهتمام، والانتباه... خاصة بعد أن أحدثت لأجلها مؤسسات سامية للعناية بها، وأصبح لها تمثيل معتبر في المجلس الوطني الشعبي (البرلمان)، إلا أنها مازالت في حاجة إلى عناية أكبر، وأكثر، خاصة ما يتعلق بحاجاتها للإمكانيات الاجتماعية والتربوية، وللمؤسسات الثقافية، العاملة باللغة الوطنية، ولترسيخ معاني الوطنية والاعتزاز بالنفس، اعتماداً عليها، مع الثقة المطلقة بأن وطنهم الأصلي، هو دائماً إلى جانبهم في السراء والضراء وأنه ملجؤهم الأول والأخير...
ولقد قارنا مثلاً -سابقاً- بين موقف فرنسا عندما يصاب فرنسي بمكروه في الجزائر، وموقف الجزائر عندما يصاب جزائري بمكروه في فرنسا، لوجدنا الفرق كبيراً جداً إلى درجة مخجلة..!
ومن هنا فإن الجالية الجزائرية في فرنسا، تعيش بصورة دائمة أحاسيس عدم الاطمئنان وقلة الأمن، وضعف الحماية، وغموض المستقبل رغم كل التنازلات والتضحيات التي تقدمها من أجل فرنسا....؟(1/214)
ومن المعروف أن الأكثرية، عندما تتصف في غالبيتها بالعنصرية فإن الأقلية التي تعيش بينها تلجأ بتلقائية إلى العصبية، والانطواء، والتكتل... ولكن من الملاحظ على الجزائريين في فرنسا، أن أغلبهم لا علاقة له بأي عصبية أو تعصب، اللهم إلا في بعض الحالات النادرة والخطرة.. عندما يصل بهم الأذى إلى أقصى درجات الإهانة والألم..
ومن مظاهر عدم تعصب الجزائريين، أنهم غالباً ما يواجهون مشاكلهم الطارئة كأفراد، بينما تواجه السلطات الفرنسية أخطاءهم الفردية كجماعات، دون تفريق بين مذنب أو بريء.. وهذا ما دلت عليه مواقف كثيرة، ومن بينها تلك الجرائم البشعة، والتي راح ضحيتها مئات الجزائريين الأبرياء، حتى امتلأ نهر /السين/ بجثثهم خلال مظاهرات اكتوبر 1961...!
وأتصور أن عدم تعصب الجزائريين وتكتلهم الفعال، في أرض الغربة بأوربا.. لا يعود إلى سجايا التواضع، والتسامح التي اشتهر بها أبناء الشعب الجزائري، وإنما يعود إلى الشعور بالخوف من تأزم العلاقة بينهم، وبين أبناء المجتمع الآخر، وسعياً وراء كسب ثقة أرباب العمل، والتخفيف من حدة أذى العنصريين، لذلك فهم يطبقون مقولة المثل: "يا غريب، خليك أديب": ومع الأسف، فهذا "الأدب" يبدو أنه قد تجاوز حدوده كثيراً، عندما أصبح يمس هوية الإنسان وشخصيته الوطنية، وينسبه لغته الأم!؟..
لقد ظلت مختلف الجاليات في فرنسا، محتفظة بلغتها الوطنية تستعملها بين أفراد أسرتها، وجاليتها، إلى جانب اللغة الفرنسية أسرتها، وجاليتها، إلى جانب اللغة الفرنسية عند الضرورة، وهو ما نراه عند الجاليات التركية، والبرتغالية والإيطالية والإسبانية، وغيرهم.. باستثناء الجزائريين النطاقين أساساً، وأصلاً.. بالعربية، فقد أضاعوا لغتهم، وخاصة بين أبناء الجيل الثاني والثالث.. ممن كانت فرنسا هي مسقط رؤوسهم، منذ الاستقلال..(1/215)
ومن المؤكد أن عجز الجيل الأول من المهاجرين الناتج من الأمية، واضمحلال المعارف الثقافية، وضحالة التكوير والوعي.. كل ذلك كان له تأثير بالغ، في شبه انفصام الأبناء عن شخصية آبائهم.. التي لم تكن لديها أية مقدرة على السيطرة والتحكم، في تربية الأبناء.. وبالتالي تمزقت الروابط بين الأجيال، وحلت محلها، مشاكل الحيرة، والقلق والشرود..!
ولو قارنا مقارنة بسيطة بين العلاقات الأسرية لدى أفراد الجالية الجزائرية في سورية مثلاً، وأفراد الجالية الجزائرية في فرنسا، لوجدنا بونا شاسعاً، وفارقاً كبيراً، في عمليات التماسك والانسجام، والتفاؤل والاحترام المتبادل لدى الأولى... وعكسه في كثير من الحالات لدى الثانية...
إن أغلب الجزائريين المهاجرين في فرنسا، يدركون تماماً بأنهم غير مرغوب فيهم، وغير محبوبين.. رغم خدماتهم التي لا يمكن تعويضها أو الاستغناء عنها من طرف فرنسا -وحتى بعد أن تنازلوا- مرغمين بحكم الظروف والزمن- عن لغتهم الوطنية.. ومع ذلك، تبقى غربتهم قائمة إلى حين.. كشر لابد منه، وهذا ما يبدو لهم، حسب تقديراتهم..
وأخيراً، فإن ما سجلته من انطباعات ذاتية، عن الجالية الجزائرية في فرنسا هو مجرد رأي شخصي، وإشارة إلى وضعية اللغة العربية بينهم، هذه الوضعية المخجلة، والتي كان من المفروض ألا تحدث بين أفراد جالية، لها خلفيتها الحضارية العريقة، ولها تاريخها الحافل بالأمجاد، وتراثها المتنوع الثري، ولها مآثر ثورتها الحديثة، المكللة، بالملامح والبطولات والانتصارات ولها حاضرها، ومستقبلها الواعد بكل خير..(1/216)
وأعتقد أن حوالي مليون جزائري أو أكثر من المهاجرين في فرنسا، أغلبهم من الشباب الأقوياء، أعتقد أنه كان في مقدورهم أن يقدموا.. ويفعلوا الكثير في سبيل أن تبقى الجزائر قوية بمكانتها الثقافية والاقتصادية. وبكل مقوماتها الأساسية في الداخل والخارج، ولكن مثل هذا الدور، كان هو أيضاً يتطلب الكثير من العناية والرعاية والتهيئة، والإعداد...!؟
إن التاريخ العربي اليوم، يفتخر بما قدمه أدباء المهجر من سوريين ولبنانيين للغة العربية، وآدابها، وعلومها من إبداع رائع متجدد، وإثراء قيم متميز،، وكذلك من دعم اقتصادي هام لأقطارهم.. رغم أنهم كانوا كبقية الجاليات، يعيشون مشاق الغربة، وآلام الفراق، وصعوبات التلاؤم الأولى مع المجتمعات الجديدة.
فكيف حال الجالية الجزائرية في الغرب.. وبلادها تعاني من أزمات خانقة، تبعث على أكثر من مجرد الحيرة والإشفاق؟
إنني متيقن بأن مستقبل جاليتنا، سيكون أعظم، وأنجع، وأشرف وأسعد، وذلك بفضل يقظتهم، وعناية سلطتهم الوطنية بهم... كما أنني متيقن من أن كل جزائري يحب وطنه الأم إلى درجة العبادة.. ولكن هناك تساؤل: على أية صورة يجب أن يكون هذا الحب..؟ وبأية لغة..!؟
صوت الأحرار 15/2/1999
((
تأملات.. في الشعب والسلطة والرئيس
* لو أمعنا النظر، في مفهوم الشعب، بصورة تحليلية تجزيئية، لوجدناه مجرد كميات تراكمية هائلة، من الفرادى والمجموعات المترابطة أو المتنافرة، حسب الطبائع والأغراض، والمصالح الخاصة، المتشكلة من مجموعات من التوافقات أو التناقضات المتفاعلة مع بعضها سلباً أو إيجاباً والتي تضم كل شرائح المجتمع، من الصالح والطالح، ومن الطيب والشرير، ومن العاقل والمجنون، ومن المتعلم والأمي، ومن المجتهد والخامل ومن الوطني والخائن، والأمين واللص، والسليم والمريض، إلى ما هنالك من الصفات البشرية التي قد لا تعد، ولا تحصى..(1/217)
ولكن إذا تأملنا بعمق حقيقة القوى الكامنة والبارزة في روح الشعب ووحدته، ونتائج أنشطته، نجد أن مفهوم الشعب، لا علاقة له مطلقاً بأساليب التحليل والتجزئة، لأنه يقوم أساساً على مبدأ الكلية الشاملة، وعلى وحدة المركب المتكامل، المبني على التنوع في أبعاده ومضامينه وأشكاله، وعلى التغيير المتطور في حركيته، ونموه، وتأثيراته، وعلى التلاحم المتماسك المتراص في الدفاع عن وجوده وبقائه..
الشعب هو خليفة الله في الأرض والوطن، وهو الطاقة الجبارة التي يصعب تحديد مفعولها، أو الإحاطة بقدراتها، أو سبر أعماقها، وحصر عطاءاتها، أو التحكم المطلق في كل نزاعاتها أو نزواتها..
وقد يبدو الشعب أحياناً، وكأنه عملاق هائل، يتمتع بعقلية طفل عاطفي بريء..أو مخلوق درويش طيب ساذج، يحب، ويطيع، ويتردد..وقد يكره ويغضب ويعطي، دون أن يؤذي أو يضر..ولكن -أحياناً أخرى-ينقلب الشعب إلى فيلسوف حكيم داهية -لا يجاريه أحد،أو إلى عواصف هوجاء تسوق السحب والأمطار، وتحدث الزلازل، والكوارث والحرائق، وتدمر كل شيء يقف في طريقها..
الشعب كيان عملي، متعدد الاختصاصات، ومنه تنبثق السلطات التي تتوزع وتتقاسم معها مهامها في التفكير والتنظير، والتوجيه، واستخلاص المعارف من تجارب الشعب، وصراعاته عبر القرون، وتوظيف كل المواريث الناجعة، والمعطيات المعاصرة المفيدة، لرسم معالم المسيرات نحو الأمن، والاستقرار والتقدم.
ومن المعلوم أنه ما من ثورة شعبية تحررية حدثت في التاريخ، وحالفها النصر، إلا وكانت في منطلقاتها ومراحل مسارها، خاضعة لسلطة فكرية واعية ومدبرة.
وما من شعب بلغ ذروة الرقي والنهضة، إلا وكان مسيراً من طرف قيادات حكيمة منه.. تتمتع بحصافة الرأي، وعمق الثقافة، والمقدرة الفائقة في التسيير والتوجيه، والتقدير، والتدبير..
الشعب دائماً، هو السيد، وهذا ما يؤمن به كل قائد واع نزيه، وما تؤكده كل الدساتير والقوانين الديمقراطية الحقة.(1/218)
الشعب هو السيد، لأنه الأغلب، والأعم والأشمل وهو الذي يبني، ويزرع ويصنع، وهو الذي يمنح ويرفد ويبدع، وبكدحه وتضحياته، ومن أصلابه ينتج الحياة والحماة.. والعلماء والمفكرين.. والأدباء والسياسين والقادة والأبطال، ورجال التكنولوجيا، والدين..
وبالتالي... هو من ينشئ الأعراف، ويرسم الأهداف، ويؤسس القيم والتقاليد، ويواكب التطورات ويصنع النهضات والحضارات.. وبأمجاده وذاكرته، يسلسل حلقات التاريخ وبجهده وعطائه يملأ الحاضر ويعمره، وبمطامحه وتصوراته يخطط معالم المستقبل، ويستشرف إنجازاته.. وقبل كل شيء، فالشعب هو مصدر السلطات ومنبعها، ومرجعيتها ومفرزها ومرشحها لقياداته..
وإن أية سلطة تنشأ خارج كيان الشعب، أو منه، ولكن دون إرادته، فهي إما سلطة استعمارية عدوة تجابه بالحراب.. وإما سلطة ديكتاتورية طاغية، تواجه بالتذمر والكبت، إلى أن يولد الانفجار..
وهنا لابد من الإشارة إلى أنه في حالات تفشي الفوضى والآفات الصادرة والواردة، لابد من وجود سلطة وطنية حازمة صارمة شديدة البأس، تراعي العدل، ولا تتردد في الضرب بلا رحمة على أيدي المنحرفين والمخربين..
وما دام الشعب، هو مصدر السلطة، ومرجعيتها الأساسية، فلا يجوز لأية سلطة مهما كانت أن تستهين برشد الشعب، وتعتبر نفسها صاحبة الوصاية المطلقة عليه... إن الشعب في كل القضايا الهامة يجب أن يظل هو صاحب المشورة والرأي الأخير، وأن يرتكز دور السلطة فيه على التشريع، والاقتراح والتنفيذ، في إطار ما يقدمه الشعب أو يستوحي منه من مطالب وحاجات...(1/219)
إن السلطة الحكيمة هي التي تستطيع أن تستخلص من آمال الشعب وتطلعاته، وأوضاعه واحتياجاته، ما يحدد نشاطها، ويبلور أعمالها وإنجازاتها.. ومن الخطأ اعتماد تجارب سلطة أخرى في شعب آخر، على شعب لا علاقة له بذلك الشعب الآخر.. فالشعوب تختلف حاجاتها وأساليب حياتها بقدر اختلاف ثقافاتها وخبراتها وجغرافية أراضيها، وما يصلح لأمة من الأمم، قد يكون ضاراً لغيرها..
إن سلطة الدولة على الشعب، لا تبرز في التعامل مع المواطنين بالأمر والنهي، بل تبرز في أداء المسؤولية والقيام بالواجب وتنسيق العلاقات التصاعدية من أصغر إلى أكبر مسؤول..
وإن مفهوم السلطة الحديث، يختلف تماماً عن المفاهيم البالية، مثل الأبوية والقبلية، والعشائرية، والإقطاعية، والجهوية، والدينية والحزبية.. إنها تشبه وصاية الأسياد على الخدم، أو وصاية الأولياء على الأطفال اليتامى أما وصاية السلطة المنبثقة عن إرادة الشعب الواعية فهي أعمق وأعظم وأشرف، لأنها مبنية على الثقة والاحترام، وعلى التكليف والإلتزام، والعهود الصادقة والتعاون المشترك..
وقد جاءت عملية تقسيم السلطات وتوزعها لتؤكد مبدأ احترام السلطة للشعب.
فالسلطة التشريعية تمثل مبدأ استشارة المواطنين والأخذ باختياراتهم عن طريق ممثليهم المنتخبين..
- والسلطة التنفيذية تمثل التطبيق، والسهر عليه.
- والقضائية ترعى الحقوق، وتنشر العدل والمساواة
-والإعلام لمختلف وسائله المقروءة، والمسموعة والمرئية يمثل التوجيه والمتابعة، والمراقبة، ونشر الوعي بين أبناء الشعب..
ولعل من مساوئ نظام الحزب الوحيد الحاكم. هي اختلاط السلطات أو تمركزها في جهة واحدة، مما يتسبب عنه الكثير من الخلط، والتقصير، والعجز.(1/220)
ولو تمعنا في الحديث النبوي الشريف "كلكم راع، وكل راع مسؤول عن رعيته..." لبدا لنا بوضوح، أن السلطة في معناها الواسع، تشمل كل أفراد الشعب ذلك لأنها تعني المسؤولية بمفهومها الكامل، وكل مواطن مسؤول عن جانب ما، يتعلق بأي دور له في الحياة والمجتمع أو العائلة... وربما أقل درجات المسؤولية وأخطرها في الوقت نفسه، هي أن يكون الفرد مسؤولاً بكفاءة عن نفسه.
ولو مثلنا الشعب بتركيبته الكلية المتلاحمة بجسم إنسان مكتمل الأعضاء، لظهرت لنا السلطة الحاكمة بمثابة الرأس، بما فيه من مخ وحواس، وأعصاب واصلة، مع العلم بأن ذلك الرأس، سيختل أو يتعطل نشاطه الحيوي بمجرد ما يقع أي ضرر أو تلف أحد أعضاء جسمه، ومن هنا كانت من أول اهتمامات المخ المستعجلة أن يحافظ على سلامة وتوازن بقية أعضاء الجسد... ومن مهام الجسد الأولية أن يحمل رأسه برعاية وعناية، ويرفع هامته بقوة واعتزاز...
ورئيس الدولة يمثل قمة الرأس، وجبهته، وجبينه ورأس الهرم بالنسبة للسلطة.. وللشعب... لذا فإن من أول المزايا التي يجب أن يتمتع بها هي الهيبة، والثقة والاحترام..
- فالهيبة توحي بها قوة الشخصية والصراحة. والترفع عن الرغبات السطحية العابرة.
- والثقة، تصنعها مطابقة الأقوال مع الأعمال، وصدق الوعود مع العهود.
- والاحترام يحققه العدل مع الرعية والمساواة بين المواطنين كل حسب مكانته، ومستحقاته..
ولا ريب أن للإعلام دوراً حساساً هاماً، في اكتشاف الرجال الأوفياء القادرين، وتسليط الأضواء عليهم وتعريف الشعب، بمواهبهم وكفاءتهم وصلاحيتهم.(1/221)
الإعلام إذا توفرت فيه الحرية، والموضوعية والصدق هو وحده القادر على التعبير بصراحة وحيادية عن حقائق الرجال وعن الفوارق بين من يرشحه ماضيه الحافل بالخبرات والإنجازات وإمكانيات القيادة الناجحة، وبين من تقدمه وعوده وعهوده، ولا علم للناس بإمكانياته الذاتية، في التسيير والتدبير، بحيث يكون المستقبل معه، خاضعاً لظروف الحظوظ، واحتمالات الصدف..!؟
ومن الضروري الإشارة إلى أن هناك رجالاً يتمتعون بكل كفاءات القيادة والتسيير، ولكن يمنعهم تواضعهم أو تعففهم من الحديث عن أنفسهم، وفي مثل هذه الحالات يأتي أيضاً دور الإعلام الواعي الذكي..
إن الإعلام الكفء الرائد، هو الذي يعمل من أجل كل أبناء الشعب، دون إقصاء أو تفريق.. ويقدم مصلحة الوطن العامة، دون التأثر بالاعتبارات التعددية أو الاختلافات الإيديولوجية والطبقية.. والإعلام الملتزم بكل قضايا الوطن الهامة، بقدر ما يكون صادقاً مع نفسه، يكون جريئاً في أداء واجباته ومسؤولياته، ولا يسمح أن تستغل منابره، ولو باسم الشعارات المزيفة للديمقراطية أو حقوق الإنسان..
وبالتالي فالإعلام، بمختلف وسائله، يستطيع بحكمة وأمانة، توجيه الجماهير نحو الذي يستحق البيعة والولاية.
ولا شك أن من يترشح لتحمل مسؤولية قيادة الشعب، وهي مسؤولية ضخمة وخطيرة وقاسية، يكون أكثر توفيقاً في كسب ثقة الجماهير، إذ كان شعبياً اجتماعياً في علاقاته، حيادياً في ارتباطاته، مستقلاً في أفكاره وتوجهاته.. غير موال بالانصياع لجهة دون أخرى، وغير مقيد بالتزامات أو تعهدات لفئة معينة، متحرراً من كل ضغوط الطاعة والامتثال إلا لله وحده، ولقناعته وإرادته المستقلة، ومستلزمات الشعب.(1/222)
ومن بين امتيازات المترشح المستقل، إذا كان صالحاً لما ترشح له، أنه سيحظى بما يشبه الإجماع من طرف أغلب فئات الناخبين، نظراً لتأهله واستحقاقه ذلك.. ولكون إجماع الأغلبية حوله، من المفروض أن لا يثير أية حساسية أو تذمر، داخل أوساط التعدديات والجهات الأخرى المنافسة..
والإجماع في حالة الرئيس المستقل.. إذا تم، فلا يعني منحة أو منه، أو دين من طرف الذي زكى أو ساند، بقدر ما يعني السعي الحميد لتحقيق آمال وأهداف الشعب النبيلة، وخدمة مصالح البلاد، في اختيار الرجل المناسب للمكان المناسب، ومن أدى واجبه الوطني فهو لا يحتاج إلى مكافأة، وكما يقول المأثور: لا شكر على واجب.
ومع الأسف/.. كثيراً ما نلاحظ، خلال مواعيد الانتخابات الهامة، استيقاظ الطموحات الشخصية، الضيقة والمقاصد الانتهازية، ومواقف التملق والنفاق المعبرة بمظاهر الإخلاص الكاذب، نلاحظها لدى- بعض (النشطين) لخدمة هذا أو ذاك لا لوجه الحق، أو منفعة الشعب، وإنما بقصد التسلق، والحصول على جائزة ما..!؟
مثل هذه التصرفات المغشوشة، قد تمس مستقبلاً بسمعة وحصانة استقلالية الرئيس، خاصة إذا استطاعت تلك الفئة المموهة، أن تبلغ مواقع الحاشية، أو مكانة المساعدين المقربين.. وأن أصحاب الطبائع الفاسدة، هو أصل كل فساد، واختلال، وسقوط.
وإن التاريخ المليء بمشاهد النكسات التي حدثت في مسيرة بعض الحكام، لا لنقص ذاتي فيهم، وإنما بسبب تصرفات الأنانية والطمع، وسوء التربية، والعلاقات المشبوهة الناتجة عن سلوكات بعض الموالين لهم والمتعاونين معهم..
لذا.. فمن الضروري أن تكون قوة شخصية المسؤول الأول، مستمدة قبل كل شيء من ذاته وسلوكه.. من سهره وجهده.. من حيطته وحذره، من فكره وحسن تدبيره، ومن الثقة الكاملة بينه وبين بساطة الشعب وعفويته، وإخلاص الجيش وانضباطه، وممن لا يتسرب الشك إلى نزاهتهم من العلماء والمثقفين والمجاهدين.(1/223)
إن الرئيس بحكم المنطق والدستور، هو القائد الأعلى لرجال القوات المسلحة في بلده، لذلك فإن دور الجيش يظل دائماً هو العامل الأساسي في كبرياء الشعب وكرامته وهيبته، وفي نظافة السلطة ونزاهتها واستقامتها، وفي قوة الرئيس وحصانته ومناعته..
إن جيشنا الوطني الشعبي، الذي هو امتداد تاريخي متطور، كما نوعا، لجيش التحرير الوطني، يشكل بمبادئه ورسالته، بمواريثه وتجاربه، بتجهيزاته وإمكانياته الجبارة بشكل ميزة فريدة نادرة، بين كل الجيوش الأخرى.. إنه يثقف ويكون ويعلم.. ويبني ويعبد ويصنع، ويحرث ويسقي ويزرع ويحمي ويساند وينصر، ويحفظ الأمن والاستقرار، ويصون ببسالة مقدسات الوطن، وحرية الجزائر الغالية..
ومن الأكيد أن جزائرنا الحبيبة ستخرج من كل أزماتها الراهنة، والتي هي في كثير من جوانبها مفتعلة أو مدسوسة، ستخرج جزائرنا، غريزة قوية منتصرة بفضل ما يجب أن يتواصل من انسجام وتعاون واجتهاد بين الشعب والجيش، والسلطة المتمثلة في الرئيس وكل رجاله الأوفياء.
(( ... ... ... صوت الأحرار 4/3/1999
الثقافة أولاً.. يا سيادة الرئيس القادم
* لا ريب أن عودة السلم والأمن والاستقرار في الجزائر، تأتي في مقدمة الأولويات، وتتصدر كل الضروريات التي يجب أن تحظى بما في الإمكان، من طاقة وجدية وتركيز. ومن المؤكد أن عودة السلم والأمن والاستقرار تتطلب - بالإضافة إلى الحوار الموضوعي العادل- توفير مساحة معقولة من الأرضية الصالحة لزرع بذور الأمل، ونمو بشائر الثقة والاطمئنان في النفوس، وذلك بالعمل الصادق الجاد، لإنجاز بعض ما يتطلع إليه المواطنون بلهفة وإلحاح، من حاجات، ومتطلبات أساسية وضرورة مستعجلة.
مواكبة مع هذا مباشرة، وعلى مختلف الآماد القصيرة والمتوسطة، والبعيدة، تأتي مسألة عودة الثقافة إلى وطنها الجزائر، قبل كل المسائل الأخرى، مهما كانت أهميتها في نظر السياسيين، والتقنيين، وأصحاب المخططات والمشاريع من المعنيين.(1/224)
ها هو قد مر على استقلالنا ما يقرب من أربعين سنة، بذلت فيها جهود جبارة، وأهدرت خلالها إمكانيات مادية هائلة، من أجل النهوض بالصناعة، والزراعة، والري، والمواصلات والنقل والعمران، والتعليم، والصحة، والسياحة، والتجارة وغيرها.. وأهملت الثقافة إهمالاً تاماً..! فماذا كانت النتيجة!؟
وها نحن اليوم جميعاً، ننتظر بعيون الترقب والأمل، وبقلوب التشويق والرجاء، ما بعد 15 أفريل 1999 وكأننا مازلنا في بداية 1962، نتطلع إلى موعد عيد الاستقلال، والانعتاق..!؟
ماذا استفدنا من 37 سنة في عمر الاستقلال؟ (ولا أعني الانتهازيين، والمتسلقين، والمنافقين).. وكم أضعنا من جهود، وأمال، وأرواح، ووقت ثمين!؟
إنه من الواجب الأكيد على أي مسؤول، سيكون على رأس قيادة هذا الشعب أن يفكر ويتدبر في نتائج غياب الثقافة الوطنية الحقة؟ وأن يقتنع بأن كل ما تم القيام به من لقاءات ولجان، وتظاهرات مناسباتية مؤقتة، تحت شعار الثقافة لا علاقة لها مطلقاً بالمعنى الحقيقي للثقافة، رغم ما استهلك فيها من طاقات..!
وليسأل أي مواطن نفسه: ما هي الحصيلة التربوية والمعرفية، أو الفائدة المادية، أو المتعة الجمالية والمعنوية التي خرج أو تزود بها، أثر أي مهرجان سطحي ضخم شاهده أو شارك فيه..؟... وحتى أولئك الفنانون المحرومون، الذين كانوا يطبلون ويزمرون ويرقصون،، ماذا نالهم من نفع في ترقية مداركهم وأساليبهم الفنية، وفي تحسين أوضاعهم العائلية والاجتماعية..؟
الثقافة، أعظم، وأعمق، وأشمل، وأدوم، وأرقى من كل تلك التظاهرات الغوغائية التي كانت تقام في مناسبات الأفراح، والأتراح، حيث تسيطر الفوضى والضوضاء، ويختلط الحابل بالنابل، ثم تطفأ الأضواء، ولا تبقى لها في الأذهان صورة أو رائحة، أو طعم.!؟(1/225)
وطبعاً.. كلامي هذا لا يعني أنني أنفي بعض المبادرات الثقافية الجيدة، وأتنكر لتلك الخطوات القليلة التي كان لها مسار ثقافي رسمي، ثم سرعان ما يتوقف مع الأسف، مثل مهرجان تيقماد، وملتقيات الفكر الإسلامي، وبعض المجلات التي سطعت ثم اختفت، وبعض الأنشطة الفصلية لمراكز ودور الثقافة، واتحاد الكتاب والجاحظية، والجامعات والمكتبة الوطنية..
الثقافة -في نظري- هي ليست تلك الأنشطة المحدودة الأمكنة والأزمنة والرواد.. والتي تنطلق وتتحرك تبعاً للأوامر والتعليمات، وحسب المناسبات أو النزوات الثقافية هي الخلاصة المعرفية الشاملة، المتطورة، والنابعة من معطيات المواريث الغنية، والمكاسب الناجعة التي يمتلكها الفرد، والمجتمع، من تجارب وخبرات، ولغة وأساليب حياتية متميزة، ذات مرجعيات تاريخية وبيئوية واجتماعية، وذات دوافع وجذور حضارية عريقة، وأسس استشرافية مستقبلية، تطبع هوية المواطن، وتبرز شخصيته الإنسانية الدالة عليه، وتحدد طريقة سلوكه ولباسه ومأكله، ونوعية علاقاته وعاداته وتقاليده، وأساليب تعابيره وحركته، وأشكال إنتاجه وإبداعه، انطلاقاً من الموروث الصالح إلى المكتسب المعاصر، ضمن السلسلة المتواصلة، المتحركة داخل مجرى التطور الحضاري نحو الأكمل والأفضل.
هذا هو المفهوم العميق الشامل، للثقافة، والذي تم -مع الحسرة والألم- إيقاف مساره العضوي، منذ الاستقلال حيث أهمل الإنسان الجزائري، روجاً، وفكرا، وذوقا، نتيجة لضعف الوعي والإدراك، وللنظرة الخاطئة في
تصنيف الأولويات..؟!
الثقافة، هي جوهر الإنسان، وصفاته ووجوده، وحياته.. لا فرق بين رجل أو امرأة، بين كبير أو صغير بين عالم وجاهل، بين فقير أو غني، بين فاسق أوتقي.. إنها خلال، وسمات مشتركة بين كل أفراد المجتمع الواحد، ومن تعاليمها، وأعرافها، ومميزاتها تنشأ المسؤوليات، والأعمال، والواجبات والحقوق، والأنظمة والقوانين، ومن أعماقها ينبض ضمير الشعب الحي.(1/226)
ومن الملاحظ أن ثقافتنا قبل الاستقلال، وفي عهود الأمية، والقمع والاحتلال، كانت أكثر حيوية وثباتاً ومفعولاً" مما نمتلكه اليوم من بقايا ثقافية في بطون بعض الكتب، وذاكرات المسنّين، أو في القشور البراقة الملونة لشظايا الثقافات المستوردة..!؟
وقد لا أكون مبالغاً إذا قلت: لدينا اليوم ما يقرب من سبعة ملايين أمي، لا يقرأ ولا يكتب.. وفي الوقت نفسه، قد يكون لدينا ما يقرب من ثلاثين مليوناً من الأميين ثقافياً، وهم كل أفراد هذا الشعب التعس..!؟
وأعتقد جازماً، بأن كل ما يعانيه الوطن اليوم من مآسي، ومصاعب، يعود في الدرجة الأولى إلى غياب الثقافة الوطنية، الذي تسبب في إضعاف وضياع الإنسان الجزائري، بانهيار أغلب المميزات والقيم التي كان يتمتع ويتحصن بها،.. ومن بينها:
1- العلاقات الاجتماعية، المبنية على الحب، والنزاهة، والنجدة، والوفاء للوطن، والثقة بالذات
2- روح المسؤولية، المؤسسة على تقديس العمل، والإخلاص في أدائه، والاعتزاز بالواجب، والفخر في القيام به.
3- التعلق بالأرض، وخدمتها، وبالتاريخ، وأمجاده، ورواياته وحتى أساطيره، والتطلع إلى المستقبل الزاهر الكريم.
4- التشبث المتين، بالهوية الوطنية، وبالانتماء العربي الإسلامي، القائم على الأخوة، والتضامن، والتعاون تحت الظلال الوارفة الزكية الوطنية.
5- رهافة الحسْ الجمالي، والذوق السامي، والرفيع. ومشاعر الشفقة والحنان، والاحترام المتبادل بين الجميع.
6- حيوية المعطيات الدينية السائدة كقيم راسخة خالدة للعبادة، والتعامل ونشر الأخلاق الكريمة الفاضلة
7- التعلق بمبادئ العدالة، والمساواة في الحقوق والواجبات وامتلاك الشجاعة والصراحة للدفاع عن الحق.
8- العناية بتربية الأجيال الصاعدة، فكراً، وروحاً، وسلوكاً ابتداء من الأسرة إلى المدرسة- إن كانت- إلى الشارع إلى المحيط العام للمجتمع.(1/227)
9- تقدير المرأة، وإنصافها تبعاً لتحولات التطور، وحسب ما تقتضيه الحقوق المشروعة، والتقاليد السامية للمجتمع.
10- تمكين الشباب من نيل ما لهم وما عليهم، دون (تدليل) مفرط أو حرمان مقيت.
11- سرعة التلاؤم مع مختلف الظروف، وسرعة المبادرة نحو العمل، وبذل الجهد، تبعاً للإمكانيات المتاحة.
12- مصداقية القول مع العمل، والوعود مع العهود، و (الرجل عند كلمته).
13- المحافظة على التقاليد الموروثة الراسخة، كالشرف، والكرم والقناعة، والتواضع، وعزة النفس، وغيرها كثيراً.
14- الحيطة والذكاء في التعامل مع الناس، وخاصة الأجانب، مع المقدرة الفائقة في اقتباس كل ما هو نافع، ويعود على المجتمع بالفائدة والخير..
كل هذه المميزات، وغيرها، التي كان يتمتع، ويتحصن بها الإنسان الجزائري غابت أو انعكست أو انحرفتْ بسبب غياب الثقافة الوطنية الحقة.. وغابت معها المكانات المرموقة للغة، والكتاب، والمجلة، والإبداعات الرائدة، والمكتبات، وقاعات العروض، والمسارح والآثار والمتاحف والنوادي، والمنتزهات، ورياض الأطفال، والحدائق العامة، والإنارة الجيدة، والنظافة العامة، ومراكز الاستجمام والموسيقى الراقية، والصناعات التقليدية المزدهرة، والتخطيط العمراني المنظم، والسياحة والرياضة الناجحتين، ومختلف الفنون الوطنية الجميلة..
كل هذه العناصر الأساسية للثقافة، والتي تشكل اللبنات الضرورية اللازمة لبناء إنسانية الإنسان وشخصيته، غابت وتلاشت وانحرفت عن مغزاها بعدما أبعد الإنسان الجزائري عن ممارستها والتفاعل اليومي معها، وصيانتها، ورعايتها، وخاصة منذ أن:(1/228)
1- فتحنا نوافذ استقلالنا، وقمنا بتجميد حيوية الذاكرة الوطنية الثورية، باسم شعار (عفا الله عما سلف) وخلقنا توجهاً (ثقافياً) ومصطنعاً وسطحياً ينظر بعين الإعجاب والانبهار إلى أبناء المستعمر السابق وحلفائه.. ويعتبرهم جديرين بالثقة والائتمان والتعاون، في كسب الخبرات، والنهوض بالجزائر المستقلة..!!؟
2- همشنا الكثير من المجاهدين الأوفياء، ولم نستفد من تجاربهم ولا من ذكرياتهم، ووجهنا بعضهم توجيهات مادية صرفة وأهملنا تاريخ وجغرافية الوطن.
3- استعملنا التردد والحذر في التعاون مع الدول العربية الشقيقة باستثناء مسألة التعليم وراودنا الشك في إمكانياتهم النهوضية ونظرنا إليهم كشعوب ما تزال تعيش عهد البداوة، وهي نظرة، فيها الكثير من الدس والتآمر، من طرف بعض المغرضين.
4- أبعدنا لغتنا الوطنية عن مراكز التنمية والتسيير، كالإدارة والصناعة، والعلاقات الخارجية، والمراسلات، والتعامل مع الجماهير.
5- أهملنا الأرض، والفلاحة، والزراعة، وكل الأنشطة المبنية على التراث والموروث، والحركة الإبداعية الراقية، ومنها المهارات اليدوية التقليدية، والمهن الحرفية، والصناعات الصغيرة.
6- ذوبنا طاقات الشباب في لهيب الشعارات البراقة والإغراءات بالوعود العقيمة، وصنعنا منهم جيلاً للبطالة، والكسل، وللتذمر، والتمرد.
7- أقصينا العلماء، والأدباء، والفنانين، وكل المثقفين الشرفاء عن مواقع التأثير.. وكان لغياب الثقافة أكبر الأثر في مضاعفة إقصائهم وتهميشهم!
8- لم نقم بأي عمل جذري وملموس، وطويل النفس، من أجل النهوض بالمرأة والطفولة، خاصة في مجالات التكوين، والتربية والتوعية، وفي مجالات التمتع بالحقوق والواجبات والتوجيه الوطني السليم.
9- اعتنينا بالرياضة كملهاة وتسلية، وحركة نخبوية وأهملنا الرياضة الجماهيرية، ومعارف التربية البدنية.(1/229)
10- لم نحفز أصحاب المواهب، والإبداع والابتكار، والاختراع، ووجهنا الأوائل من طلابنا نحو العلوم والرياضيات وأغفلنا الاهتمام برجال الشؤون الدينية، والأدبية، وكل العلوم الإنسانية بصفة عامة.
11- نسينا جالياتنا في الخارج، فلم نمتن أواصر العلاقات معهم، ولم نسندهم كما يجب، ولم نمكنهم من معرفة كل ما يجري في وطنهم الأصلي، وبذلك لم نستفد منهم، ولم يستفيدوا منا.
12- طرحنا شعار (الرجل المناسب في المكان المناسب) وبفضل "التدخلات" خاصة على مستوى المؤسسات الحساسة لم نطبقه حيث أصبح من النادر أن تجد مسؤولاً تتناسب مؤهلاته مع المهام التي يشغلها.
وفي غيبة الخطاب الثقافي، مل الشعب روتينية الخطب السياسية الحماسية الواعدة بدون مردود، وجاء الخطاب الديني، ثم مله الشعب. لغيبيته وهيجانه وترهيبه... وساد ظلام الوحشية والقسوة، والأنانية بين الاستئصال والتدمير وترعرعت وانتشرت آفات العنصرية والقبلية والعشائرية، والمحسوبية، والواسطة والرشوة، والتملق، والنفاق، والطمع، والسرقة، والحسد، والكذب، والادعاء والغرور، والانتهازية، والتآمر والانحلال، والتهريب، والدعارة، والمخدرات...
إن ثقافة أي شعب أصيل هي بمثابة النور الساطع، الذي ينير له سبل الحركة، والحياة فإذا غابت الثقافة، اختفى النور، وعم الظلام حيث تتولد وتنمو كل مصائب التعثر والمرض، والتخلف، والفتنة، والوحشية، وإن أي كلام عن الديمقراطية أو التعددية أو التداولية، أو الحرية، وحقوق الإنسان، أو البرامج النهضوية.. كل كلام عن مثل هذه الأسس الإنسانية الحضارية، هو كلام فارغ من الضمانة الوحيدة لتحقيقه إذا لم يدعم بالأرضية الثقافية الخصبة التي ترعاه وتحميه من الزيف والفشل، وتحصنه بوعي الإنسان المتشبع بقيمه الثقافية، وبإدراكه الكامل لما يتطلبه الوطن.
سيادة الرئيس القادم
غياب الثقة هو السبب المباشر في ما تعانيه جزائرنا اليوم من أزمات خطيرة وحادة.(1/230)
وإن إحياء الثقافة الوطنية، وعودتها بقوة وكثافة، وتبصر إلى نفوس المواطنين وأجوائهم هو العلاج الوحيد والأمثل، لعودة السلم والأمن والاستقرار.. واسترجاع الثقة، والهيبة والسعادة والازدهار..
فأعيدوا للثقافة سيادتها، وحقوقها، ومكانتها، واجمعوا شتاتها، وأحيوا مواتها ألحقوها بما فاتها، وسيكون النصر إلى جانبكم ويخلد التاريخ مآثركم، وحالفكم التوفيق.
صوت الأحرار 7/4/1999
((
تحية العزة والكرامة
* العزة والكرامة صفتان بشريتان عظيمتان، لا تقومان بذاتهما، وإنما لابد لهما من إنسان يتصف بهما، ويكون موصوفاً لهما، فنقول عنه: الإنسان العزيز الكريم، إذا كان فرداً، وإذا كان مجتمعاً نصفه بالشعب السيد، صاحب العزة والكرامة..
ومن الملاحظ أن بشر العالم الثالث، بصفة عامة أفراداً وجماعات، أغلبهم لا يتمتعون بالخصائص الكاملة للعزة والكرامة، سواء كانوا حكاماً أو محكومين، فالمواطن الضعيف مغلوب على أمره، مهان ذليل، والمواطن القوي متسلط، جبار، ولا يصح أبداً أن يوصف بالعزيز الكريم..! ويعود كل ذلك إلى تفشي الظواهر والصفات المضادة والمنافية للحياة الكريمة كالتخلف، والضعف، والجهل، والفقر، والعبودية والعنصرية، والديكتاتورية المستبدة، والبيروقراطية والجهوية، والمحسوبية... وغيرها من الآفات التي تلغي الوعي الثقافي، وتهمش الطاقات، وتحد الحيات، وتحاصر المواهب وتقيد المبادرات، وتحبط النشاط والعمل... وكل شعب وما بلي به...!؟.
ومن نتائج إفرازات مثل هذه الآفات، أن تنتشر المذلة والمهانة والمسكنة
وأن يسود التملق والنفاق، والكذب، وأن تعم مظاهر الانتهازية والغرور، والرياء، وكل التطبعات والسلوكات الخبيثة السيئة..!(1/231)
وأعتقد أن العزة والكرامة، -وهما صفتان متقاربتان في الدلالة والمفهوم- متلازمتان في وجودهما، بحيث لا توجد كرامة بلا عزة، ولا عزة بدون كرامة، كما أنهما تعتبران من السمات الطبيعية الأصيلة والراقية التي يتميز بها كل إنسان متحضر، سوي سليم مكتمل الشخصية والسيادة، موفور الحقوق، حي الضمير، مقتدر على حمل المسؤولية وأداء الواجب عميق الوعي، مرهف المشاعر والأحاسيس..
العزة والكرامة كالهواء النقي الشفاف، من حق أي إنسان أن يتنفس ليعيش، لا فرق بين كبير وصغير، أو بين رجل أو امرأة، أو بين حاكم ومحكوم.
وإن فقدان العزة والكرامة في أي شعب، يؤدي به كمجموع إلى فقدان الوحدة.. والتكامل والتضامن والهيبة النفسية من قوته وتماسكه، ويؤدي بأفراده- كل حسب تركيبته؟ النفسية إلى مهاوي ومساقط مختلفة، من الهجرة، والاعتزال، إلى التمرد والثورة أو إلى اللصوصية، والرشوة، والتسول، ثم الانحلال والدعارة والخيانة..
وكبرهان على صحة ما أقول يمكننا أن نورد ثلاثة وجوه لنتائج فقدان العزة والكرامة وما ترتب عنهما من مواقف وردود أفعال لدى الشعب الجزائري، خاصة في عهد الاستعمار:
1- فقد سجل التاريخ أنه بمجرد أن وطئت أقدام الجيوش الفرنسية الباغية تراب أرضنا، قام أبناء الشعب الأباة بحمل السلاح، وإشعال نيران الثورات، ضد المعتدين المتغطرسين، ثورة إثر ثورة إلى أن اندلعت ثورة أول نوفمبر المباركة، فطردت الأعداء وأعادت للجزائر عزتها وكرامتها.
2- عندما أخذت قوات المحتل، تتوغل داخل المدن والقرى تهين وتذل المواطنين قامت مئات العائلات من الشيوخ والنساء والأطفال، بمغادرة ديارهم ومواقع ذكرياتها واتجهت مهاجرة نحو الأقطار العربية والإسلامية، وحتى الدول الأوروبية، حفاظاً على عزتها وكرامتها.(1/232)
3- هناك فئة من ضعاف النفوس تعودت على الذل والهوان، فسقطت داخل مستنقعات التبعية والعمالة والخيانة وشكلت أرضية هشة تحت أقدام الدخلاء، فاستعملوها ضد عزتهم وكرامتهم، وداسوها باحتقار إلى أن خسفت بهم الأرض جميعاً ولم يبق منهم غير ذكريات العار، وأحقاد النقمة والدمار!؟
طبعاً.. أمثال هذه الفئة الحقيرة سيعملون بكل ما بقي فيهم من جهد لإيذاء الجزائر في عزة أبنائها الأوفياء وكرامتهم حتى يصبح كل المواطنين –كما يتمنون- أمثالهم وإن أبغض الناس على نفوسهم هم الشهداء والمجاهدون وكل المواطنين الصالحين، ولكن.. هيهات.. فإن سيوف العزة والكرامة أصلب وأمضى، من كل أسلحة الخيانة والغدر، خاصة إذا كانت تلك السيوف محمولة بأكف الجزائريين المخلصين الأوفياء.
العزة، في القاموس العربي، تحمل الكثير من المعاني والمترادفات ومن بينها: القوة الضاربة، والندرة المثالية، والمياه السائلة، والمتانة والمناعة، والغلبة، والنصر، والعظمة، والمحبة، والأنفة والشرف والحمية، والمناصرة، والصلابة والشدة (والمعزوزة: هي الأرض التي أصابها العز، أي المطر الشديد)
أما الكرامة، فهي كذلك تعني: العزة، والنفاسة، والسهولة، والجودة، والفخر، والغلبة، والعظمة، والنزاهة، والشرف والهدية، والغيث، والمعجزة، والصيانة، والطيبة والصفح، والسخاء، والسماح، والرزق، والحسن، والكثرة، والليونة، والرضا، والحسب والنسب والأخلاق الفاضلة والخصب، والخير العميم..
ومن الملفت للانتباه أن جل ما تعهد به السيد عبد العزيز بوتفليقة في برنامجه للشعب، يأتي مضمناً بين معاني العزة والكرامة وخاصة "إخماد نار الفتنة" و"إنعاش الاقتصاد"، و"إعادة الكرامة للشعب"، و"إحلال الجزائر مكانتها المرموقة على المستوى الدولي"...(1/233)
فما أروع لغتنا العربية، وما أجمل، وأغنى وأسمى معانيها تلك المعاني الطيبة الكريمة الراقية، التي كانت ما وجدت إلا لبناء صرح الحضارات، وإثراء الفكر، ونقاء الروح، وصقل الذوق، وصيانة حقوق الإنسان، أينما وجد وحيثما كان..!
يقول الرسول الأعظم (عليه الصلاة والسلام): "أكرموا عزيز قوم ذل"، هذا بالنسبة لفرد، داخل مجموعة كبيرة من الأعزاء، فماذا نقول إذن، إذا كان عدد كبير من أبناء الشعب، قد سدت في وجوههم سبل العزة والكرامة وأغلقت أمامهم أبواب الحرية والانطلاق...!؟
المجال هنا لا يكفي لأن أذكر المصائب والمصاعب واعدد العراقيل والمطبات، وأشرح نتائج الأنانية والغرور، والتعالي والتجبر والاستغلال والطمع.. ولكن يمكن الإشارة إلى حقيقة مأساوية واحدة، كان لها لعل السم في الدسم، ونتج عنها كل ما نعانيه من ضعف، وخيبة وألم، ألا وهي: تغييب الثقافة الوطنية لعقود، عن أفكار وأذواق وسلوكات المواطنين.
وحتى لا أكرر ما قلته في مرات سابقة، أحيل القارئ الكريم إلى الاطلاع على مقالي المنشور يوم الأربعاء 7/4/1999 في هذه الجريدة الغراء، تحت عنوان "الثقافة أولاً.. يا سيادة الرئيس القادم.. ففيه ما يشفي الغليل، ويغني عن الإشارة بالقليل".
العزة.. والكرامة.. شعار ذكي، وعميق وصادق حمله المجاهد الرئيس عبد العزيز بوتفليقة عنوان أساسي وحساس، وشامل، لحملته الانتخابية للرئاسيات، وها هو قد فاز فيها فوزاً معتبراً.. ولا أجد لدي كمواطن، سوى أن أهنئه، وأرجو له من الله التوفيق، وأتقدم إليه بتحية العزة والكرامة (وإذا حييتم بتحية فحيوا بأحسن منها) وليس هناك ما هو أحسن من الوفاء بالعهد، وفتح سبل العزة والكرامة أمام كل المواطنين.
صوت الأحرار 22/4/1999
((
ملامسات في العربية واللغات الأجنبية..؟(1/234)
أعتقد أن الكتابة عن اللغة العربية في الجزائر، هي من أولويات ما يجب أن يهتم به كل مثقف وطني، يتشبث بهويته، ويعتز بشخصيته المتميزة، ويسعى لحماية وصيانة عروبته وإسلامه، وحرية وطنه وازدهاره..
* وإن طرح مشكلة اللغة العربية في بلادنا، لا يجوز أن تخضع لزمان أو مكان، ولا لأي ظرف سياسي أو شخصي، ما دامت لغتنا إلى حد اليوم لم تأخذ مكانتها السياسية اللائقة في كل مجالاتنا الحياتية..
والله وحده، القادر على منح المغفرة للذين اتخذوا من (قميص) العربية والتعريب، راية لغزواتهم الطموحية، حتى إذا انتصروا في نيل منصب ما، كسروا رماح أقلامهم، المدافعة عن العربية، وأشهروا أقلاماً أخرى لميادين أخرى، أو استسلموا للخرس المخملي، سعداء مطمئنين..!!
حقائق:
أولاً: لا أتصور أنه يوجد في الجزائر اليوم، من يقف ضد تعليم أبنائه لغة أجنبية حية، وحتى الذين فاتهم قطارها وقت الطفولة، وتعلموا العربية فقط.. قام أكثرهم بتدارك تعلم الفرنسية أو الإنكليزية، أو الإثنين معاً، وأتقنوهما إتقاناً جيداً... أما الذين لم تسعفهم الظروف الخاصة.. فأغلبهم يعاني من عقدة التأسف، والندم، نظراً لازدراء أحوالهم، باستثناء قلة من الشيوخ، وبعض رجال الدين..
ومن الملاحظ أن المعربين الذين تعلموا اللغة الأجنبية في كبرهم، هم أكثر بكثير من الفرنكفونيين الجزائريين، الذين حافظوا باعتزاز على أحاديتهم اللغوية الفرنسية، ولم يعيروا لغتهم الوطنية أي التفات أو اعتبار..!
حكاية:
عندما كنت في السنة الثالثة ابتدائي في المدرسة الفرنسية سنة 1940.. هجم والدي "الإمام" يوم الجمعة على مدير المدرسة، وأخرجني بالقوة لأداء صلاة الجمعة، وعندما احتج المدير خاطبه أبي قائلاً:
لن يعود ولدي إلى مدرستكم. إنكم تعلمون أبناءنا الكفر.. وأذكر أنني كنت أبكي عندما سحبني والدي من المدرسة، ومن وسط رفاقي.(1/235)
اليوم، أولادي يتقنون العربية، والفرنسية، والإنكليزية ولكل زمن مقاييسه ومبادؤه وأفكاره..
الحقيقة الثانية:
حتى قبل الاستقلال، كان بعض الأذكياء العصريين المدركين لمتطلبات المستقبل الواعد، يوجهون أبناءهم نحو الأخذ بزمام المستقبل الواعد، يوجهون أبناءهم نحو الأخذ بزمام اللغات الأجنبية، وفي مقدمتها الفرنسية، داخل الوطن وخارجه، ومن بينهم زعماء وطنيون، وأئمة وعلماء في الثقافة العربية والإسلامية. بحيث كاد أن ينحصر الإقبال على تعلم العربية وحدها في ذلك العهد.. فقط على أبناء الأرياف والبوادي وعلى الأميين والفقراء وبعض العائلات المحافظة على القيم الدينية والوطنية حسب مفهومها ومعتقداتها..
ثالثاً: لا أذكر أن المدرسة الجزائرية، منذ الاستقلال حتى اليوم، قد تخلت عن تعليم اللغة الأجنبية لطلابها.. فإذا كان هناك ضعف ملحوظ، لدى بعض الطلاب، في التحصيل العلمي بصفة عامة، أو في التمكن من إتقان اللغات بصفة خاصة، وبما فيها اللغة العربية، فإن ذلك يعود إلى ضعف البرامج والمناهج التعليمية والتربوية، وضحالة بعض المعلمين، ويعود كذلك إلى فقر المحيط الاجتماعي الثقافي والمعرفي.. وحياد الشارع وقلة الهياكل المساعدة على تنشئة وتوجيه الأجيال.
وإذن.. فتعليم اللغة الأجنبية للتلاميذ الجزائريين، لم تقف أمامه أية معارضة، من طرف الداعين إلى ضرورة سيادة اللغة الوطنية... بل بالعكس، فإن المعارضة الوحيدة التي قامت ضد تعليم لغة أجنبية، وأولى في العالم، هي معارضة الفرنكفونيين ضد اللغة الإنكليزية، عندما أشيع بأنها ستحل في التعليم محل اللغة الفرنسية... وكذلك يوم هدد الرئيس الراحل هواري بومدين، بأنه قد يضرب الفرنسية بضرتها الإنكليزية... يومها دب الذعر والرعب في قلوب الفرنكوفيليين، وكان كارثة رهيبة ستقع عليهم، وتصايحوا بأن الفرنسية هي غنيمة حرب غالية، اكتسبتها الجزائر خلال ثورتها المسلحة، ولا يجوز التفريط فيها...!(1/236)
أما المثالب والنقائص التي لفقت ضد اللغة العربية، فلم يجد أعداء اللغات الأجنبية- باستثناء الفرنسية طبعاً- أي وسيلة لاستعمالها، لتفاهتها..
مثالب، وافتراءات:
قد يصدق المثل القائل: "من جهل شيئاً عاداه"، ولكن ما هو بعيد عن المصداقية والحقيقة، أن نرى أعداء العربية، ومن يجهلونها من الفرنكوفيليين. نطقاً وكتابة، ونحواً وصرفاً، وفقهاً وتاريخاً، وثراء منقطع النظير، ومواكبة للعصر بكل حيثياته، ومصطلحاته وفتوحاته العلمية.... نراهم ينصبون أنفسهم قضاة، وفلاسفة في اللغة العربية، ويطلقون عليها أحكاماً مزيفة، مستوحاة من أحقادهم، وأسيادهم وعواطفهم المنحازة، فيصفون العربية بأوصاف شتى، منها:
1) أنها لغة بالغة الصعوبة والتعقيد، قراءة وكتابة.. وكأنها أصعب من لغات الصينيين، والهنود، واليابانيين، الذين صنعوا بلغاتهم أعظم الإنجازات التيكنولوجية الحديثة، وأطلقوا بها الصواريخ العابرة القارات...!؟.
2) وأنها لغة الكتب الصفراء، والتمائم، وغيبيات الدين والآخرة، ولا تصلح للحياة.. ونسوا أن حضارة الغرب، والعالم الحالية، تدين في الكثير من إنجازاتها إلى عصر الحضارة العربية الزاهرة، حيث كانت المعارف والعلوم العربية، ومنجزات الحضارات القديمة الراقية، تعبر إلى أوروبا عبر جسور بغداد والأندلس، باللغة العربية، لغة الهندسة، والرياضيات والفلك، والطب، والفلسفة وغيرها من العلوم الإنسانية الأخرى.
3) ويقولون، إنها لغة العواطف والخيال، والأدب، أي لا علاقة لها بالعلوم... وهذا افتراء واضح تفضحه كل الحقائق التاريخية والراهنة.. مع العلم بأن العاطفة هي أساس العلاقات الإنسانية النبيلة، وأن الخيال هو الركيزة الأولى للإبداع والاختراع، والابتكار العلمي.. وأن الآداب والفنون هما دليل تحضر الأمم، وازدهار شعوبها، وكم في الغرب حالياً من عباقرة الأدب، ومشاهير الفن، تعتز بهم بلادهم بشعوبها وحكامها ويقدمون لهم كل آيات التكريم والتقدير..(1/237)
4) ويقولون بأن العربية فقيرة من المصطلحات العلمية الحديثة والمتطورة يومياً، وهذه كلمة حق بالنسبة للإنسان لا للغة، ذلك بأن فقر اللغة من المصطلحات العلمية لا يعد نقصاً فيها، بقدر ما هو نقص في عطاء الإنسان المثقف، وفقر في حصيلته المعرفية المتواصلة، وفي محدودية إمكانياته المادية والمعنوية لإثراء لغته بما يبدعه ويخترعه، أو يقتبسه ويترجمه..
... ومن المهازل أن نرى بعض المثقفين الجزائريين اليوم يقومون بترجمة الإنتاج الفكري المكتوب باللغة الإنكليزية إلى اللغة الفرنسية، وكأنهم لا لغة لهم، ثم يتحدثون عن فقر المصطلحات في اللغة العربية..!؟.
5) ومن المثير للعجب حقاً، ما وجه أخيراً للغة العربية، وخاصة من طرف بعض أعضاء البرلمان الأوروبي.. والصحف الفرنسية، من أن اللغة العربية هي لغة الإرهاب .. وكأن مئات الملايين ممن يتكلمون العربية في العالم هم إرهابيون.
طبعاً كنت أشير هنا بالتعليق إلى من يقولون بأن العربية في الجزائر، هي لغة أجنبية.. وربما هنا يكمن سر كل المصائب والمصاعب التي تعانيها العربية في بلادنا.. ولكن يكفي فقط بأن أقول، بأن اللغة العربية، لم تكن في يوم من الأيام عبر تاريخها الطويل لغة عرقية أو عنصرية.. إنها لغة كل الشعوب المؤمنة بفعالية الوحدة الوطنية، وقوة التضامن و الأخوة الإنسانية.
- تساؤلات
لقد تم رفع التجميد، عن مرسوم تطبيق تعميم استعمال اللغة العربية في الجزائر.. فماذا كانت النتائج حتى الآن..؟
- مدارس الحضانة الخاصة في بلدنا اليوم، تعلم أطفالنا، اللغة الفرنسية، ابتداء من السنة الثانية من أعمارهم... وحتى الذين لم تساعدهم ظروفهم المادية لنيل شرف إلحاق أبنائهم بتلك الأحضان فإن الأمهات داخل المدن، أغلبهم لا يتكلمن مع أطفالهن إلا بالفرنسية، فهل هذا يتماشى مع قواعد التربية وعلم النفس، ومع شروط النمو الطبيعي للشخصية والفكر، والروح الوطنية..!؟ ومع احترام وحب اللغة الوطنية!؟.(1/238)
- وها قد مرت أكثر من 36 سنة على استعادتنا لاستقلالنا، أمضيناها كلها، تحت تسيير إدارة مفرنسة بمعاملاتها ومخططاتها، وبرامجها، ودراساتها، وكلياتها العلمية والاقتصادية.. وحتى الرياضية والتربية البدنية.. أمضيناها كلها باللغة الفرنسية.. فماذا استفادت الجزائر في مجالات النهضة، والتطور والتقدم..
إلا أننا نشعر أحياناً بأننا قد تقهقرنا أكثر إلى الوراء.. خاصة في أوضاعنا الثقافية والاجتماعية الشاملة..!؟
وإذا كانت الفرنسية -رغم ذلك- قد تفيد في بعض الميادين فماذا نستفيد منها عندما تصبح هي لغة الشارع والمنزل..؟
أم أننا نهوى سلخ جلودنا للعراء..!؟
- وعندما نكيل التهم الباطلة ضد العربية والمعربين، فلنتساءل بموضوعية: أية مسؤولية حساسة في الدولة. استلمها المعربون وأثبتوا فشلهم فيها..؟
الأمخاخ الجزائرية من المهاجرين، والمساهمين بفعالية وجدارة في تطوير العلوم، والصناعات، في كل القارات الخمس فلماذا لا نبحث عن أسباب هجرتهم، ونسعى لإعادتهم إلى الوطن..؟
- ومئات الآلاف من الجاليات الجزائرية في مختلف أنحاء العالم، هل لدينا إحصائيات وافية عما يتوفر بينهم من عباقرة وأفذاذ..؟
الخلاصة:
أرى من الأحسن لنا أن نعود إلى أنفسنا، ونتمعن في ما آلت إليه أوضاعنا بصفة عامة، وأن نحاول تغيير أساليبنا في القول والعمل. بما ينفعنا، ويخدم مصالح بلادنا..
يجب أن نحترم سيادة لغتنا، ولا نستسهل التعبير عن استعدادنا الدائم في التخلي عنها، بسبب كذا.. أو كذا.. من المنطقي والمعقول أن نستعمل اللغة الأجنبية، في أي مجال تعجز العربية حالياً في استعماله.. ولكن مثل هذه المجالات المحدودة يجب أن تطبق في مواقعها الأكاديمية المتخصصة، بعيداً عن الشارع، وكل من لا يعنيهم الأمر.. وأن نعمل بجد وإخلاص لتطوير لغتنا.. ولا نفتح المجال أمام المترصدين، والباحثين عن أية حجة للتنكر للغة الوطنية.. والساعين إلى إلغائها..!(1/239)
يجب أن نستفيد من تجاربنا الماضية الغنية القاسية، ونسأل أنفسنا: هل التشبث بتاريخنا، ووحدتنا الوطنية والجغرافية وهويتنا، ولغتنا العربية، هي أسباب تدهور أحوالنا اليوم أم أن العكس تماماً هو السبب..؟
وأخيراً: أهمس في آذان كل المخلصين القادرين الشرفاء أن يمدوا يد العون إلى السيد الرئيس كجنود خفاء، لا طمعاً في سلطة أوجاه.. ولا نفاقاً أو رياء.. وإنما لوجه الله والوطن..
فإنني أتوسم. فيه منقذاً للجزائر، ومعيداً لها وجهها الباسم الزاهر، ووفقنا الله لما فيه خير البلاد. والعباد
صوت الأحرار 27/5/1999
((
خواطر متفائلة في الذكرى -37- لاستقلال الجزائر
منذ أن اندلعت ثورة الجزائر المظفرة في أول تشرين الثاني 1954.. وأنا. بصورة عفوية. أجد نفسي منساقاً للكتابة عنها، شعراً ونثراً وذلك كلما حلت ذكراها الغالية أو هزني الحنين إلى تمثل أصدائها القوية الماجدة..
وقد تسلسلت كتاباتي دون انقطاع عبر /45/ سنة، وتنوعت طيلة هذه السنين. وتراوحت بين الثورة. والتمرد، والحزن والألم، والأمل والفرح والتذمر والنقد والاستنكار، والاحتجاج، والخيبة والحسرة، والغربة والاغتراب.. تبعاً لتغير الظروف، وتنوع الدواعي والأسباب..
إلا أن الشيء الوحيد الذي كنت دائماً أعتز به في كتاباتي، هو الثقة بالله، وبالوطن والنفس.. والتفاؤل المطلق، بأن الجزائر مهما صادفت في واقعها من تحديات وعقبات ومصائب وأزمات..
فإن الانتصار، لابد من أن يكون حليفاً لمصائرها وتتويجاً لصبرها ومقاومتها، وخاتمة سعيدة لكل ماعانته من صعوبات وآلام..(1/240)
ومنذ أن أشرقت شمس استقلال الجزائر إلى اليوم، وخلال /37/ سنة لم يفتني. ولو مرة واحدة. يوم الخامس /تموز/ عيد الاستقلال دون أن أستقبله -تلقائياً- بموضوع أو قصيدة، أعبر فيها عما تجيش به مكنونات نفسي، وما أعيشه داخلياً في عمق الأمكنة بكل زواياها ومنعرجاتها وساحاتها.. وأتفاعل بما يشبه الخض أو المخاض مع أوجاع زمن الحرية بماضيه وحاضره ومستقبله، وبقصر اللحظات الجميلة فيه، التي كانت تلوح في الأفق بين الحين والآخر كالبرق الخاطف ثم سرعان ما تختفي وتزول، ليحل محلها فصل طويل من تقلبات الناس وتفاقم الأحداث، ومواسم مجدية من الضباب والصقيع..!
لقد تألمت أغلب أيام عهد الاستقلال، وكان هناك فرق كبير بين آلام أعوام الثورة التي تشبه آلام الأنبياء وهم يؤدون الرسالة ويجهرون بالحق.. وآلام الاستقلال بين قساوة الأهل، وظلم ذوي القربى..!؟
تألمت من الوضع المأساوي لثقافتنا الوطنية، وهي مهمشة منسية.. ومن منظر المثقفين وهم مهملون مشردون..!
ومن حالة اللغة العربية المزرية في بلدها، وبين قومها، وهي لا تكاد ترفع صوتها إلى جانب اللغة الأجنبية السيدة..!
وتألمت من قيمة وصورة الإنسان الجزائري، وهو ينأى يوماً فيوماً عن شخصيته الحقيقية، وعن منابع أصالته الثرية الصافية الراقية، من عادات حميدة، وتقاليد سامية، وسلوكات مميزة ممتازة، متجلية في حب الوطن والتضامن، والأخلاق الفاضلة.. وفي عشق الحكمة.. والمثل الشعبي والإبداع الفكري والأدبي والفني، وفي الاعتزاز بالعمل، والوفاء بالعهد، وصيانة الأمانة، والمحافظة على الشرف.(1/241)
وتألمت كلما مررت بسهولنا، وهي نهب الإسمنت والأعشاب الضارة، وبجبالنا وهي تودع ظلال التين والزيتون.. وبغاباتنا، وجذوع نخيلها صرعي، وأشجارها ترتعش خوفاً من الحريق وبهضابنا وهي تفتح صدرها العالي العاري شوقاً إلى احتضان حلل السنابل الخضراء.. وبسواحلنا وهي خجلى تترقب من يقدم لغسل رمال شواطئها الذهبية بموجات من بحرنا النقي..!؟
كنت أتألم.. وأتأمل في فساد الأجواء وتعكر الأنواء، وتواصل انتشار الظواهر المؤذية الغربية في مجتمعنا، كالرشوة، واللصوصية والنفاق، والانتهازية وقلة الثقة والاحترام وضعف الروابط الأخوية.. آفات سامة قاتلة لم نكن نعرفها من قبل. وماأن نتغشى واحدة منها حتى تقضي على ما كان يضادها ويناقضها من صفات المروءة والأمان، والكرامة والحياء.. وأوغلت في تفكيك أواصر الشعب، وتمزيق وحدته، وتليين ثوابته.. وعصفت رياح التفرقة، والفتنة، والفاقة، والضعف..!؟
لقد كنت طيلة عهد الاستقلال، وفي بداية كل عهد جديد، أحس بالانتعاش، وأشعر بالتفاؤل والبشر، ويملأ الأمل كياني في انتظار انتصار الحاضر على الماضي، وفي إشراق آفاق المستقبل الزاهر.. ولكن.. ما إن تمر أيام.. أو تتواصل شهور وأعوام حتى أجد نفسي في دوّامة الحيرة والقلق، أتحسر على ما مضى، وأردد في سري وجهري: سقى الله الماضي، وأيام زمان، وإن كانت تحمل بعض الأحزان.. وتلك هي أتعس أمنيات الإنسان!؟
اليوم يراودني تفاؤل قوي جديد يكاد أن يجعلني جازماً في تصوري واعتقادي، انطلاقاً من هذه السنة التي تضم /999/ ومجموعها /27/. بأن الجزائر ستعيد مجدها وعزتها، وسترفع جبهتها وتمتن علاقاتها وبنيتها.. وتفرض كرامة شعبها ودولتها، وتعيد لثقافتها إنسانها، ومكانتها.
هذا التفاؤل العطر، تغلغل في أعماقي منبعثاً من ثلاث مرجعيات مختلفة نوعاً ما:(1/242)
المرجعية الأولى، قياسية، تكهنية، شبه غيبية، وهي أن الرقم /7/ كان دائماً في عهد الجزائر الحديثة يمثل بداية الانفراج، والانعتاق والانتصار والتغلب على المشاكل العويصة والأخطار:
فقد رفرفت أعلام الحرية والاستقلال بعد /7/ سنوات ويزيد من الثورة المسلحة ضد الاستعمار.
وجاء يوم الاستقلال في مطلع شهر تموز رقم /7/
وها هي أعوام العنف والإرهاب تبدأ مسارها نحو المصالحة والأمن الاستقرار بعد /7/ سنوات من الرعب الأسود.
وفي هذا العام نستقبل الذكرى /37/ لعيد الاستقلال، ورقمها يبدأ بـ /7/ وها هو الرئيس الجديد للبلاد يحمل رقم /7/ بعد الستة الذين سبقوه في حكم الجزائر، والستة الذين نافسوه في الانتخابات! أليست هذه المصادفات العجيبة مما يدفع إلى التفاؤل والاستبشار بالحاضر والمستقبل..
وهي أقوى من قشة الغريق على الأقل!؟ المرجعية الثانية، وهي مرجعية إنسانية، تاريخية تجريبية ووطنية ناضجة وتتمثل في شخصية الرئيس نفسه السيد عبد العزيز بوتفليقة، الذي يبدو أن أغلب شروط المسؤولية الريادية، والقيادية متوفرة لديه، خاصة ما يتعلق منها، بالتاريخ النضالي والحنكة السياسية والخبرة العملية في الممارسات التسييرية السابقة بالإضافة إلى بعض السمات والمميزات الأخرى كالثقافة والفصاحة، والتواضع والغيرة على الوطن..
- أما المرجعية الثالثة فهي الجزائر نفسها مقارنة مع الحالة الراهنة التي هي عليها؟(1/243)
إننا بالفعل قد نحس بقرب الكارثة المدمرة، عندما نركز نظرتنا على الجزائر فقط، ونرى ما أصابها من تدهور وأذى وما يحيد بها من نوائب وأخطار.. وحينها يكاد أن يصرعنا اليأس، وتذهب بعقولنا الأحزان.. ولكن إذا أمعنا النظر بطريقة شمولية، متعددة الأمكنة والجوانب.. وتأملنا ما يحدث في دول العالم الثالث، وحتى في بعض البلدان المتقدمة.. فإننا سنكتشف أن ما تعانيه الجزائر وما قاسته هو نفس ما تعانيه أغلب شعوب الأرض في هذا الزمن الحقود الرديء.. مع فارق بسيط في اختلافات المصاعب، وتنوع المصائب.
وفي توقيت أو نسب الشدة والضعف في أثقال النوازل.. وفي اختلاف الأساليب الإعلامية عند عرضها لأوضاع الفواجع، حيث تختلف حالات التستر أو التصريح، ومظاهر الحقيقة أو التضخيم والتهويل كما تفعله معنا بعض أجهزة الإعلام الأجنبية المغرضة. ومراكز انطلاق إشاعاتها. وتمويهاتها.
أغلب المواقع في كل القارات الخمس. دون استثناء. تعاني من العنف والحروب والوحشية والدمار والتشرد، والفقر والتناقضات الطبقية، وضعف التعليم على حساب المطامح الوظيفية والجري وراء الأرباح المادية بدون جهد، وتعاظم الديون الخارجية وما يترتب عنها من شروط مهينة مجحفة وفوائد باهظة لصالح البنوك والشركات الدولية العملاقة وضعف الزراعة، وقلة الاهتمام بالثروات المائية وتجميد الفعاليات المنتجة للمرأة، وهي نصف المجتمع والبطالة المتفشية والمقنّعة أحياناً، وتهميش الثقافات الوطنية تمهيداً لانطلاق غول العولمة.. بالإضافة إلى ظواهر وانحرافات أخرى كثيرة كالمخدرات والكسل واللامبالاة وهلم جرّا!(1/244)
وها هي أغلب أقطارنا العربية تعيش على المساعدات وما يرهق أسواقها من واردات رغم غنى بعضها، وما يتوفر لديها من ثروات في البحر والأرض والشباب.. وتكاد أن تكون المحروقات والسياحة هما المصدرين الهامين، إن لم نقل الوحيدين لموارد بعض أقطارنا مع أن الفضل في وجود ريع هذين الموردين لا يعود في الحقيقة إلى جهد وإبداع الإنسان العربي بقدر ما يعود إلى تدخل الشركات الأجنبية المستثمرة، وإلى خبرائها وآلاتها، وكذلك إلى أفواج السيّاح الوافدين من بلدانهم للتمتع بآثارنا ومناظرنا العجيبة!؟
وإذاً فحالة الجزائر اليوم، هي عادية كغيرها من الحالات الأخرى في الأماكن الأخرى، ولا تحمل أي داع للغرابة أو الاستثناء.. بل قد نجدها في موقع يبعث على الارتياح والتفاؤل إذا ما قورنت بما يحدث في أقطار أخرى، في إفريقيا، وآسيا، وأمريكا اللاتينية.. والأسماء معروفة والأحداث العالمية نتابعها يومياً، ونرجو لكل المعذبين في الأرض، التخلص من شقائهم، والظفر بالانعتاق والنصر.
جزائرنا اليوم بمجرد أن تقف على أرضيتها الصلبة مع الأمن والاستقرار.. ستتمكن من تحقيق قفزة نوعية رائعة نحو التطور والازدهار.. وتلك القفزة المنتظرة، لا تتطلب أكثر من الثقة بالنفس والالتفاف حول الوحدة الوطنية، والعمل الهادف الجاد، مع القيادة الوطنية المخلصة، وفي ظل الثوابت الراسخة للعروبة والإسلام والعصرنة، ومن يحيد يومها عن الصف يجب أن يعلق في الرف..!
لا ننكر أن المسؤولين الذين تعاقبوا على قيادة السلطة في الجزائر، كانوا من المجاهدين، ومن طلائع المناضلين ولكنهم -مع الأسف- لم يكونوا على صلة وثيقة بطلائع نخبة المثقفين الجزائريين من الوطنيين الأوفياء، وهذا ما فتح أحياناً هوة واسعة سحيقة بين السلطة والمثقفين..(1/245)
أما اليوم، ونحن نستمطر غيث /السباعيات/ ونستشرف آفاق العزة والكرامة والنجاة، ونرى في القائد طليعة للثقافة والنضال، وفي الشعب شوقاً مبرحاً إلى جمال الواقع وحقيقة الحياة..
اليوم.. ليس أمامنا سوى الاستبشار بالانتصار وعيداً سعيداً لنا، ..................
وبنا في ذكرى الاستقلال وأفراح الأجيال.. والمجد للجزائر أم المعجزات والرجال.
تشرين 7/7/1999
((
بين الوحدة والسكون. وهنا.. لندن...!؟
الوحدة التي تطاردني منذ سنوات، خيّمت فوقي، وهيمنت وتحكمت.. ولم يعد يجدي في إبعادها عني، لا الحركة.. ولا الهروب ولا حتى محاولات الجلوس بين الأصدقاء.. لقد حوّلتني إلى إنسان شبه متوحش.. ساخط، متجهم، كئيب..
.. أحلام الوحدة العربية، وآلام وحدتي الذاتية، أصبحتا شيئاً واحداً، يعصر القلب، وينخر العظم، ويدفع بالنفس، رويداً، رويداً إلى هاوية الجنون..!؟ الحلم تمايه مع الألم، والوحدة أضحت عزلة قاتلة!؟
.. والسكون الذي يغمرني في منزلي، أصبح يمنعني من القراءة، ويعوقني عن الكتابة أو عمل أي شيء مفيد.. إنه فقط، قادر في كل لحظة، أن يحيلني إلى /اسفنجة/ آدمية، تمتص كل ما يجيش به الخارج من غبار وضجيج وأصوات متناوبة، متداخلة.. متقاربة، متباعدة.. صياح الأطفال، صراخ الباعة المتجولين، نداءات غامضة، دوي المحركات، وأبواق السيارات وأزيز آلات البناء من قطع، وصقل، وعزق، وطرق، ودق، ممزوجة أحياناً بزقزقة العصافير، ومواء القطط.. ونباح الكلاب..!
- أتعجب كيف تستطيع العصافير أن تزقزق أو تغرد داخل ورشات البناء.. وهياكل الإسمنت..!؟
..(1/246)
أحس بالقلق يضايقني إلى درجة الضحك من حالتي.. فأقوم محاولاً طرد السكون من حولي.. حتى أتخلص من ضوضاء الخارج، وأفتح المذياع، وأثبّت أبرته على محطة مشهورة.. فتعزف ساعة /بيغ- بن/ مقطوعة كنائسية احتفالية، وبعد لحظة صمت، من الصعب تحديدها، أتفاجأ بتسديد دقة صداعة مدغومة، نحو جبهتي، من مطرقة فولاذية ثقيلة، فأرتعد.. هنا لندن.. دن.. دن، نفس الوزن.. ونفس المفعول..!
- أيها السادة.. انتقاماً لما قامت به كتائب حزب الله في جنوب لبنان من هجوم بصواريخ الكاتيوشا على مراكز جنود العدو المحتل، فقد قامت طائرات الجيش الإسرائيلي بقصف المدن والقرى اللبنانية، فقتلت عشرة مدنيين، وجرحت العشرات، ودمرت الكثير من المنشآت والبنى التحتية على أساس: العين بالعين.. والسن بالسن.!؟
- كان ينقص المذياع أن يضيف: ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب..!!!
أغلقت المذياع، وأحسست بضجيج داخلي كان أن يخرجني من النافذة، بقفزة هيستيرية عمياء..!
أي عين بعين.. وأي سن بسن..! ألم يكن من الأصح أن يقال: عين حاقدة غادرة، بألف، عين.. بمرج من العيون البريئة، الطاهرة، الساهرة الرحيمة..
وسنٌ اصطناعية متوحشة ناهشة.. بألف سن ناصعة البياض. جميلة المبسم، تمتد جذورها إلى أعماق اللحم الحيّ!
لا أتصور أن المقصود بما ذكر عن العين بالعين... هو القصاص العادل، كما تدل عليه الآية الكريمة.. وإلا ما معنى أن يقف المظلوم في وجه الظالم.. وأن يسعى من أخذت أرضه بالقوة، إلى استعادتها ممن اغتصبوها، بأية وسيلة مهما كانت..!؟
أتعجب من بعض الإعلاميين العرب، في بعض المحطات الأجنبية- وحتى في بعض الفضائيات العربية- كيف يلجأون إلى التهويل، والتضليل! وكيف يحبذون مواقف العويل، والمآسي والويل..!؟(1/247)
إنني عندما أستمع إلى بعضهم، وهم يحلقون كالصقور بأجنحة اللغة العربية، بنبرات الزهو، وفصاحة الكبرياء، أشعر وكأنهم خطباء حروب، أو سحرة بارعون.. أو أطفال متحمسون، يزيحون الأستار، ويكشفون الأسرار، ولا يهمهم ما يكون خلف هذا أو ذاك من فتنة وأخطار.. أو من فضيحة، وعار..!؟
في نيسان من السنة الماضية، أثار انتباهي، في برنامج جديد في إذاعة /لندن/ تحت عنوان /رسائل جزائرية/ له رقم هاتفي قار وفي استطاعة كل شاب جزائري في الغربة، أن يوجه من خلاله، رسالة إلى أهله في الجزائر.. وهزني الهلع، وخشيت أن تكون الجزائر قد أحيطت بجدار حديدي جبار.. ثم تذكرت أن هناك أكثر من إحدى عشرة طائرة، تغادر وتجيء إلى الجزائر يومياً من الخارج، مليئة بالجزائريين والجزائريات...!
فقلت في نفسي: حسبنا الله، ونعم الوكيل، نحن العرب من بعض إخواننا العرب..!؟
وتذكرت هذه الطرفة الواقعية:
منذ أربعين سنة، أنجب أخي الأكبر، طفلة جميلة.. ولكن عندما بلغت الخامسة من العمر، اعتقدنا أنها متخلفة ذهنياً، نظراً لما كانت تتفوه به من مضحك القول وغريبه.. وكثرة الثرثرة، وشدة الجرأة والصراحة.. وكنا لطرافة كلامها، نلاحقها خفية، ونترصد لقاءاتها مع صديقاتها الصغيرات لنتصنت لما تقوله لهن من قول عجيب..
سمعناها مرة تقول لمن حولها من الأطفال: إنكم، من المستحيل أن تتصوروا السعادة التي تملأ قلبي، والأفراح التي فاضت بها دارنا في هذه الأيام.. إننا بالفعل نعيش أعراساً بهيجة... لقد مرضت عمتي الكبرى، وأخذناها إلى المستشفى، ثم أعدناها إلى المنزل، وكانت ترتدي ثياباً جديدة، وصار الأقارب يزوروننا من كل مكان.. وفي الوقت نفسه تطلقت عمتي الثانية من زوجها، وجاءتنا مع أولادها الثلاثة، وستبقى معنا... وقد سمعت أن أبي سيتزوج من امرأة ثانية، ويأتي بها عندنا لتساعدنا، وكانت أمي تبكي من شدة الفرح..! إننا بالفعل نعيش أياماً حافلة بالمسرات، أدامها الله علينا.!؟(1/248)
تشرين 27/7/1999
((
الجزائر بين إرادة الانتصار... ونوايا المتربصين..؟
عودة الجزائر إلى التحكم في زمامها، ونصرة عروبتها، ونجدة قارتها، ومد يد المساندة والعون إلى أبناء العالم الثالث، والوقوف بعزة وكرامة إلى جانب كل دول العالم الناهضة..
هذه العودة الشجاعة الميمونة.. تسعد الأهل ، وتثلج قلوب الأشقاء وتبعث الارتياح والسرور في نفوس كل الأحباب والأصدقاء.. إلا أنها في الوقت نفسه تغيظ الأعداء وتؤجج أحقاد الحاسدين وتثير نوازع السخط والنقمة بين نوايا كل الخونة، والعملاء، والموتورين والمتآمرين..
هذه العودة المباركة المظفرة، كما تحفّز عزائم كل الأوفياء المخلصين للجزائر لمساندتها ومؤازرتها بالعون المادي والمعنوي، والروحي.. حتى تتخطى بنجاح كل ما بقي في طريقها من مطبات، وعقبات ونتوءات..
فإنها أيضاً ستحرّض كل أصحاب الدسائس والتآمر ليضاعفوا من تدابير كيدهم، ويبالغوا في تجنيد أذنابهم، وتكريس أذنابهم حتى تظل الجزائر ضعيفة مستهدفة، أو تطول فترة نقاهتها وبذلك تتراكم شرورهم ويتقوى غرورهم ويستمر انتعاش نهبهم وجورهم، ويزدهر حبورهم، على حساب خيرات الشعب الجريح وأبنائه المحرومين المعذبين، وسمعة قادته الأوفياء المخلصين.
إن الجزائر اليوم، وبقيادة رئيسها الشجاع، عبد العزيز بوتفليقة، تبذل قصارى جهدها للخروج من دوامة العنف ودائرة الإرهاب بإحلال الوئام المدني محل الفتنة والتفرقة والصراع الهدام حتى يسود ربوعها الأمن والسلام والاستقرار وبالتالي ينطلق العمل الجاد الهادف، بالتساند والتآخي للنهوض بالعباد والبلاد..
والجزائر اليوم، تستدعي أوضاعها وظروفها الراهنة أن تكون في غاية الحذر وأقصى درجات الحيطة والانتباه في كل خطوة تخطوها، أو كلمة تصدر عنها، أو علاقة وظيفية أو تعاونية تربطها ببعض الأشخاص أو الجهات وحتى من طرف بعض الأبناء والأصدقاء..!(1/249)
إن زمن اليوم غير زمن الأمس وهو أسوأ منه بكثير.. وناس اليوم، غير ناس الأمس الذين اختفت معهم أغلب سمات الطيبة والنزاهة والصراحة والنضال من أجل الخير والغير..!
ومن المعلوم أن سنين الدماء والدمار والخراب التي مرت بها الجرائم لم تكن معاولها الجهنمية الوحشية بأيدي الإسلاميين المتطرفين فقط، بل كانت أيضاً بمشاركة كل الغلاة المتعصبين من أصحاب الآفاق الضيقة والأفكار العلمانية والأيديولوجية المستوردة، ومن عبيد وعشاق الاستعمار القديم وعصابات المافيات المحلية والدولية، ومجموعات الدعارة والمخدرات والتهريب، من جزائريين وأجانب ومن حملة الثأر والأحقاد الماضية من أوربيين وصهاينة وعملاء ومن طرف حتى بعض الأحزاب المحلية المؤسسة على التبعية والخداع والهدم والتي كانت تستمد من ظاهرة الإرهاب جرأتها وبعض تصرفاتها في أنشطتها الضاغطة.. ولا ننسى كذلك أصحاب الأنانيات الشخصية والعصبوية من ذوي المطامح والمصالح الذاتية من منافقين وانتهازيين وطفيليين وهؤلاء هم أخطر المخلوقات البشرية لصعوبة اكتشافهم، وسرعة تلونهم ومقدرتهم الفائقة على التلاؤم الظاهري مع كل المناسبات والظروف، ولجرأتهم وبراعتهم في الكذب والتزييف والرياء واستعدادهم الدائم للذوبان المموّه مع أي عهد جديد حتى يحققوا ما يبتغون!؟
نشاهد الآن يومياً بفضل مراسيم العفو العام والقوانين الضامنة للعدل في القضاء.. وجدية المساعي الحميدة للمصالحة والوئام الوطني.. نشاهد عودة الآلاف من الإسلاميين المتطرفين إلى جادة الصواب وطلب الغفران والاستعداد للمشاركة في تشييد صرح الأمن والأمان.. ولكن كيف نتأكد من هداية وتوبة الفئات الإجرامية والطفيلية والانتهازية الأخرى...؟
إن سؤالاً مثل هذا لا تتأتى الإجابة عنه إلاّ بشدة اليقظة والحيطة وقوة الانتباه والحذر المتواصل، وبعد جهد جهيد من الفرز والتدقيق والتحقيق..!؟
يقول الشاعر:
"مصائب قوم عند قوم فوائد"(1/250)
ولا ريب إن الذين جنوا الأرباح الطائلة والأموال الهائلة من مصائب الجزائر قد يعدون بعشرات آلاف من الانتهازيين. وكما يقول المثل: /من ازداد غرفاً، ازداد لهفاً/ ويصبح من الصعب كبح جماح المدمنين..! وكم يكون الوضع مؤلماً ومهيناً لو رأينا بعض أمثال هؤلاء (الحرباويين) متمكنين من التلون مرة أخرى بألوان هذا العهد الراهن: مندسّين بين طياته كالسوس الذي يتسرب داخل الأجسام السليمة فينخر بنيتها ويفتت تماسكها!!؟
- وكما يقول شاعر آخر:
لا يكن ظنك إلاّ سيئاً/ إن سوء الظن من أقوى الفطن... وفي هذا الزمن السيء بقوته وضعفه بأغنيائه وفقرائه بعولمته وجاهليته.. يكون من الأنسب أن ننظر إلى السكان في الجزائر اليوم على اعتبار أنهم يتشكلون من أربع فئات متحركة وفاعلة وهادفة:
1) فئة أفراد الشعب وتمثل السواد الأعظم من المواطنين الذين يتحركون بعفوية وتلقائية وببراءة وصمت فيعمرون البوادي والأرياف والمدن ويملأون فراغات الزمن وأغلبهم حالياً من الشباب ومنهم تتشكل اليد العاملة واليد العاطلة ومن بين صفوفهم تقدم الضحايا وتدفع ضرائب الدم والحرمان ومن إفرازاتهم قد تتولد الآفات والانحرافات.. ومع إرشادهم وحسن معاملتهم وقيادتهم تتحقق الانتصارات وتبنى الحضارات وينهمر الخير وتحدث المعجزات.. والشعب بطبيعته ميال إلى السلم والأمن والاستقرار.. وطماح إلى النهضة والقوة والتقدم، تواق إلى السعادة والكرامة والعدل.
2) فئة أصحاب المسؤوليات الوطنية مهما كانت كبيرة أم صغيرة مدنية أم عسكرية، ممن يخدمون المصلحة العامة ويهتمون بقضايا الوطن والمواطنين.. يسعدون لأفراحهم. ويحزنون لآلامهم وأتراحهم، ويسعون دوماً إلى تطوير البلاد وحمايتها والارتقاء بها في مختلف المجالات والميادين..(1/251)
... هؤلاء المسؤولون وأغلبهم جنود مجهولون هم أقرب الناس إلى الشعب لأنهم انبثقوا عنه بفضل كفاءاتهم ومنه يستمدون قوتهم وتواصلهم، بوجوده يمارسون مسؤولياتهم لذلك يحبونه ويشفقون عليه وهو بدوره يحترمهم ويثق بهم وعليهم يعلق آماله وأحلامه الزاهية.
3) فئة الحاقدين والموتورين والمتآمرين ممّن تلاشى حب الوطن من قلوبهم وحل محله حب أوطان أجنبية ونظريات غريبة تتنافى مع قيم ومبادئ الهوية والشخصية الوطنية..
... هؤلاء تربطهم بالخارج أواصر المودة والولاء أكثر من ارتباطهم بالأرض التي منها وعليها يعيشون وبحكم انسلاخهم من تاريخهم وتقاليد شعبهم فهم لا يدركون للضمير وازعاً ولا للشرف دافعاً، ولا يشعرون بالحاجة لأي اعتبار يدخل ضمن مفاهيم السيادة والحرية والاستقلال..! ومنهم تتشكل شراذم الخونة واللصوص والمهربين والمخربين.. ومن حسن حظ الجزائر أن عددهم قليل وبناءهم هش هزيل ومع ذلك لا تجوز الغفلة عنهم ولا التهاون معهم.
4) فئة الانتهازيين والمنافقين والوصوليين والمتسلقين، تتمركز أهداف هذه الفئة في خدمة مصالحهم الذاتية والعائلية، وعلى مبدأ: /الغاية تبرر الوسيلة/
والمهم هي المنفعة الشخصية وفي سبيلها يستطيعون وبسهولة أن يتظاهروا وكأنهم سعادة أوفياء، للمصالح العامة وخدمة المجتمع.. هؤلاء تربطهم بالفئة الثالثة، صفات التجرد من قيم الإخلاص والوفاء للوطن واللامبالاة في ما قد يصيب الشعب من تدهور وتأخر أو ما يلحقه من عذاب وشقاء وهم يعملون في الوقت نفسه لتمتين علاقات قوية ودائمة بمختلف أفراد الفئة الثانية من المسؤولين بواسطة أساليب النفاق والكذب والرياء وبما يتظاهرون به أمامهم من ولاء وصدق وكفاءة وبما يقدمونه لهم من طاعة ومسكنة وتذلل وتفاني في الإخلاص المصطنع، حتى يتمكنوا من الوصول إلى نيل ما يبتغون.. وشعارهم: /تمسكن حتى تتمكن/.(1/252)
ومن طباع هذه الفئة الرابعة أنهم يضمرون أشد الحقد والكره للشرفاء وأصحاب المبادئ الوطنية الثابتة وذوي الكفاءات الحقيقية من المثقفين والوطنيين والمجربين ويعملون بجهد واستمرار للنيل منهم بالنميمة وتلفيق التهم المزيفة ضدهم وحبك الإشاعات والافتراءات حولهم.
والسعي الحثيث لتهميشهم أو إبعادهم نهائياً من محيط الفئة الثانية خاصة عن أصحاب المسؤوليات الهامة.
ولا أستبعد أن يكون دعاة تشكيل أحزاب المؤازرة أو المساندة وبعض النشيطين في تأسيس الجمعيات التدعيمية واللجان التعبوية التحريضية /سلباً أو إيجاباً/ أمام بروز أية ظاهرة أو حادثة اجتماعية طارئة.. وكذلك هواة إقامة التجمعات الكبيرة لأتفه الأسباب وكتابة العرائض والرسائل الحافلة بالأطناب والمديح.. هؤلاء.. جلهم من بين الانتهازيين الوصوليين، باستثناء أولئك الذين يتحلقون حولهم من البسطاء المتحمسين، أصحاب النوايا السليمة، من أبناء الشعب الطيبين وبعد..
فإن الجزائر في هذه المرحلة بالذات، وبقيادة الرئيس عبد العزيز بو تفليقة تواجه تحديات صعبة وقضايا حساسة ضخمة تأتي في مقدمتها:
- إقامة الوئام المدني والمصالحة الوطنية، واستتباب الأمن والعدل والاستقرار.
- إعادة الاعتبار للثقافة الوطنية المعمقة وحيوية إنسانية الإنسان الجزائري.
- نشر سلوكيات وأحاسيس العزة والكرامة بين كل المواطنين.
- استعادة الجزائر لسمعتها المشرفة ومكانتها المرموقة على الساحة الدولية.
- تمكين اللغة الوطنية من سيادتها الكاملة بين أهلها ورعاية التنوع الثقافي الوطني.
- تحسين صورة الإسلام من الاتهامات والتشوهات التي مسته من قريب أو بعيد بسبب أعمال الإرهاب الوحشية.
- إحياء وإنعاش الاقتصاد الوطني وتنمية الصناعات والصادرات المتكاملة وتشجيع الاستثمارات...
- الاهتمام بالفلاحة والزراعة والموارد المائية..
- العمل على التخلص من ضغط الديون الخارجية والاعتماد على الذات. والقضاء على البطالة والكسل(1/253)
- تمكين الشباب من استغلال طاقاته
- استرجاع الأدمغة والكوادر الجزائرية من الخارج.
- تحديث الإدارة وتنقيتها من الفساد وعقليات وأساليب العهود البائدة.
- تطوير المنظومة التربوية وإصلاح تنظيمات المجتمع المدني والتنظيمات الاجتماعية الكبرى.
- ترقية وتحسين العلاقات مع الدول المجاورة على أسس صريحة، وثابتة.
- بناء وحدة المغرب العربي على قاعدة صلبة لا تزول بزوال الرجال.
- تنمية وتدعيم العلاقات والروابط مع الدول العربية الشقيقة.
- متابعة العمل والاهتمام بقضايا أبناء القارة الإفريقية للخروج بهم ومعهم من مصاعب التخلف والصراعات والخلافات والتصحر والأمراض والديون الأجنبية وكل المصائب والآفات.
- الوقوف بقوة وثبات وفعل أمام غزو العولمة الجارفة الذي لا يرحم الضعفاء والمستسلمين والمغفلين..
ومن هنا.. فإن واجب كل المواطنين الشرفاء وكل العرب الأوفياء لعروبتهم وكل المسلمين والمؤمنين بالحرية الإنسانية في العالم أن يقفوا إلى جانب الجزائر اليوم وهي تخطوا فوق دروب الحياة الفاضلة والكرامة الشاملة.. وكان الله بتوفيقه مع كل العاملين الجادين النزهاء.
(((
فهرس المواضيع
تمهيد ... 4
أين نحن من الثورة الثقافية ... 4
من هم المثقفون العرب؟ ... 4
الحسُّ الجمالي.. والعنف..!؟ ... 4
خاطرات.. وأحلام.. ... 4
ثقافة الجزائر قبل الاستقلال: ... 4
بداية المسيرة بين الألغام والأخطاء: ... 4
دور النخبة المثقفة ... 4
التربية والتعليم: ... 4
الفرصة الأخيرة..؟ ... 4
آفات.. وانحرافات..! ... 4
جبهة التحرير الوطنية؟ ... 4
خفايا الأسماء.. ودوافعها ... 4
العروبة والإسلام والثقافة: ... 4
العربية والتعريب ... 4
لاقوة أعظم من قوة الحق ... 4
مرض الذاكرة.. و/العقدة/..!؟ ... 4
مراحل الشعر الجزائري..؟ ... 4
النفق.. والساحرة والبوّاس..!؟ ... 4
خواطر مع الثورة الجزائرية في ذكرى اندلاعها الثانية والأربعين ... 4
عبد الحميد بن هدوقة ورحيل الأدباء..!؟ ... 4
حضارات.. ومواقف.. ونداء..؟ ... 4(1/254)
ثقافة الطفل الجزائرية بين الأمس واليوم ... 4
الإرهاب و"الدونمة" اليهودية الجديدة. ... 4
تأملات عربية، في الحاضرة والوجود!.. ... 4
إشارات... وذكريات... مع الجنوب الجزائري ... 4
حقوق الإنسان ..وغيظ الحقيقة...!؟... ... 4
التعريب في الجزائر ... بين الأمس واليوم...؟ ... 4
الجزائر وسورية...شوق واحد ... 4
في الذكرى الثالثة والأربعين للثورة. ... 4
"مقامات" معاصرة.. في مواقف محاصرة..!. ... 4
العيد السادس والثلاثون لاستقلال الجزائر... والعربية ... 4
سأكسّر قلمي..؟ ... 4
أجيالنا المثقفة ... 4
وحدة الهوية الوطنية والصراع العرقي ... 4
الجالية الجزائرية في فرنسا.. ولغة المنفى..! ... 4
تأملات.. في الشعب والسلطة والرئيس ... 4
الثقافة أولاً.. يا سيادة الرئيس القادم ... 4
تحية العزة والكرامة ... 4
ملامسات في العربية واللغات الأجنبية..؟ ... 4
خواطر متفائلة في الذكرى -37- لاستقلال الجزائر ... 4
بين الوحدة والسكون. وهنا.. لندن...!؟ ... 4
الجزائر بين إرادة الانتصار... ونوايا المتربصين..؟ ... 4
فهرس المواضيع ... 4
(((
هذا الكتاب
مجموعة من المقالات تتناول موضوعات حيوية معاصرة، وفي مقدمتها شؤون الثقافة والمثقف العربي، لاسيما في الجزائر، ودور النخبة المثقفة، وتفشي الفراغ الثقافي، والوضعية الثقافية في الجزائر بعد الاستقلال.
كما تتناول موضوعات تنتقل مابين الجزائر وسورية وغيرهما وتتخذ طابعاً سياسياً تارة، وأدبياً لغوياً تارة أخرى. كأشكال العنف والثورة الجزائرية، إلى جانب محاور أخرى مهمة كالعروبة والإسلام، والعربية والتعريب والشعر الجزائري والفن والأدب.
(((
رقم الإيداع في مكتبة الأسد الوطنية
حوار مع الذات: دراسة / محمد بلقاسم خمّار– دمشق:
اتحاد الكتاب العرب، 2000 – 244 ص؛ 25سم.
1- 961.5 خ م ا ح ... ... ... 2- العنوان
3- خمار
ع- 669/4/ 2000 - ... ... ... ... مكتبة الأسد
(((1/255)