حِكَمُ وفَوَائِدُ الابتلاء
وَمَا يُهَوِّنُ عَلَى الْمُبْتَلى
تمهيد
إن الحمد لله تعالى نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهد الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادى له، وأشهد أن لا ِِإله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.....
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ } ( سورة آل عمران: 102)
{ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} ( سورة النساء: 1)
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا ( 70 ) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا } ( سورة الأحزاب:70،71 )
أما بعد....
فإن أصدق الحديث كتاب الله – تعالي- وخير الهدي هدي محمد - صلى الله عليه وسلم - ، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
وبعد ..،
ففي الابتلاء فوائد عظيمة، وحكم ربّانية جليلة:
منها ما ظهر لنا بالاستقراء وعُلِمَ ما فيه من النعماء، ومنها ما لم يظهر، لكن ادَّخر الله به فضلاً غزيراً.
فقال تعالى: { فَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللّهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً } (النساء:19)
وصدق القائل حيث قال:
إذا اشتدَّت البلوى تخَفَّفْ بالرضا ... عن الله قَدْ فَازَ الرضِيُ الْمُرَاقِبُ
وكم نِعْمَةٍ مقْرُونَةٍ بِبَلِيَّةٍ ... على النَّاسِ تَخْفي والبَلايا مَوَاهِبُ(1/1)
يقول ابن القيم ـ رحمه الله ـ كما في شفاء العليل في مسائل القضاء والقدر والحكمة والتعليل صـ432:
"ولو ذهبنا نذكر ما يطلع عليه أمثالنا من حكمة الله في خلقه وأمره؛ لزاد ذلك على عشرة آلاف موضع، مع قصور أذهاننا، ونقص عقولنا ومعارفنا، وتلاشيها وتلاشي علوم الخلائق جميعهم في علم الله كتلاشي ضوء السراج في عين الشمس. وهذا تقريب وإلا فالأمر فوق ذلك" .أهـ
وللأمراض والأسقام ـ خاصة ـ فوائد وَحِكَم، أشار ابن لقيم إلى أنه أحصاها، فزادت على مائة فائدة.
وهذه بعض فوائد وحِكَم الابتلاء.
- فَوَائِد وحِكَم الابتلاء -
1ـ أنه يُمَحِّصُ ما في القلبِ:
قال تعالى: { وَلِيَبْتَلِيَ اللّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحَّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَاللّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} ( الأعراف:154)
قال ابن القيم – رحمه الله -:
" تمحيص ما في قلوب المؤمنين: هو تخليصه وتنقيته وتهذيبه، فإن القلوب يخالطها بغلبات الطبائع وميل النفوس وحكم العادة وتزيين الشيطان واستيلاء الغفلة ما يضاد ما أودع فيها من الإيمان والإسلام والبر والتقوى، فلو تركت في عافية دائمة مستمرة لم تتخلص من هذه المخالطة ولم تتمحص منه، فاقتضت حكمة العزيز أن قيض لها من المحن والبلايا ما يكون كالدواء الكريه لمن عرض له داء، إن لم يتداركه طبيبه بإزالته وتنقيته من جسده وإلا خيف عليه من الفساد والهلاك.
2ـ أنه يفرق بين الطيب والخبيث:
قال تعالي:{مَّا كَانَ اللّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنتُمْ عَلَيْهِ حَتَّىَ يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلَكِنَّ اللّهَ يَجْتَبِي مِن رُّسُلِهِ مَن يَشَاءُ فَآمِنُواْ بِاللّهِ وَرُسُلِهِ وَإِن تُؤْمِنُواْ وَتَتَّقُواْ فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ } ( آل عمران: 179)(1/2)
فالإنسان الخبيث هو الذي يحب أن يعيش في الرخاء، ولا يحب ولا يرضى بالشدة بدلاً منه، ولا باليسر عُسراً.
أما الإنسان الطيب فهو الذي يؤمن بقوله تعالى:
{ قُل لَّن يُصِيبَنَا إِلاَّ مَا كَتَبَ اللّهُ لَنَا هُوَ مَوْلاَنَا وَعَلَى اللّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ } (التوبة: 51)
قال ابن كثيرـ رحمه الله ـ:
أي لابد أن يعقد سبباً من المحنة يظهر فيه وليه، ويفتضح فيه عدوه، يُعرف به المؤمن الصابر، والمنافق الفاجر.
قال أحد السلف:
الناس ما داموا في عافية فهم مستورون، فإذا نزل بهم بلاء صاروا إلى حقائقهم، فصار المؤمن إلى إيمانه، وصار المنافق إلى نفاقه.
كما قال تعالي: { الم * أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ } ( العنكبوت: 1-3)
قال تعالي: { أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُم مَّسَّتْهُمُ الْبَأْسَاء وَالضَّرَّاء وَزُلْزِلُواْ حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللّهِ قَرِيبٌ } ( البقرة: 214)
وقال تعالي:{ أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللّهُ الَّذِينَ جَاهَدُواْ مِنكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ} ( آل عمران: 142)
يقول ابن القيم ـ رحمه الله ـ:
ليعلم المبتلى أن المصيبة ما جاءت لتهلكه وتقتله، وإنما جاءت لتمتحن صبره وتبتليه، فيتبين حينئذ هل يصلح لاستخدامه وجعله من أوليائه وحزبه أم لا ؟ فإن ثبت اصطفاه واجتباه وخلع عليه خلع الإكرام وألبسه ملابس الفضل، وجعل أولياءه وحزبه خدماً له وعوناً له.
3ـ: إظهار المحب من المبغض، أي أنه يظهر المحب لمن نزل به البلاء أو المبغض له:(1/3)
فلا تظهر المحبة والبغضاء إلا لمن نزل به البلاء
فإذا حلت المصيبة بالإنسان تجد هناك من يلتف حوله من أهل الفضل والخير، ويقدمون العون ويد المساعدة، ويسخرون في ذلك الولد والمال، وربما يقدم نفسه في خدمة هذا المبتلى، فتجد الواحد منهم يسعى ويجد ويجتهد في رفع هذا البلاء أو تخفيفه بقدر المستطاع، لكن على الجانب الآخر الشامت الذي يفرح بنزول هذا البلاء، وقد كان قبل نزول البلاء بهذا المبتلى حنوناً في الظاهر مشفقاً، يلتف حوله وقت العافية والرخاء، لكن وقت البلاء ونزول المصيبة إما في الجسد أو المال ينفَضُّ عنه، بل ربما يطعن فيه ويظهر فجوره ويجاهر بشماتته.
وهكذا دوماً المصائب، تُفرز وتظهر الناس، فيكون هناك أهل الفضل والصلاح تنفعك بعد المصيبة صحبتهم، وآخرين ظهر معدنهم لتكون على حذر منهم، فتظهر المصائب المُحب من المبغض.
جزي الله الشدائد كُل خير ... عرفت بها عدِّوي من صديقي
4ـ القيام بالعبودية على اختلاف الأحوال:
فلابد للعبد أن يعلم أن الله تعالى يربيه على السراء والضراء والنعمة والبلاء، فيستخرج منه عبوديته في جميع الأحوال .(1/4)
فإن العبد على الحقيقة من قام بعبودية الله على اختلاف الأحوال، وأما عبد السراء والعافية الذي يعبد الله على حرف، فإن أصابه خير اطمأن به، وإن أصابته فتنة انقلب على وجهه، فليس من عبيده الذين اختارهم لعبوديته، فلا ريب أن الإيمان الذي يثبت على محل الابتلاء والعافية هو الإيمان النافع وقت الحاجة، وأما إيمان العافية فلا يكاد يصحب العبد ويبلغه منازل المؤمنين، وإنما يصحبه إيمان يثبت على البلاء والعافية، فالابتلاء كير العبد ومحك إيمانه: فإما أن يخرج تبراً أحمر، وإما أن يخرج زغلاً محضاً، وإما أن يخرج فيه مادتان ذهبية ونحاسية، فلا يزال به البلاء حتى يخرج المادة النحاسية من ذهبه، ويبقي ذهباً خالصاً، فلو علم العبد أن نعمة الله عليه في البلاء ليست بدون نعمة الله عليه في العافية لشغل قلبه بشكره ولسانه، اللهم أعنى على ذكرك وشكرك وحُسن عبادتك، وكيف لا يشكر من قيض له ما يستخرج خبثه ونحاسه وصيره تبراً خالصاً يصلح لمجاورته والنظر إليه في داره؟
فنسأل الله أن يسترنا بعافيته، ولا يفضحنا بابتلائه بمنه وكرمه.
(طريق الهجرتين – لابن القيم صـ263-264)
فإن الله تعالى إنما خلق خلقه للابتلاء والامتحان، فيستخرج منهم عبودية السراء وهي الشكر، وعبودية الضراء وهي الصبر، وهذا لا يتم إلا بأن يقلب الله الأحوال على العبد، حتى يتبين صدق عبوديته لله تعالى، وإذا كان المرء مؤمناً حقاً فإن كل أمره خير، فإنه إن كان في سراء شكر فكان خيراً له، وإن كان في ضراء صبر فكان خيراً له.
كما قال عليه الصلاة والسلام:
"عجباً لأمر المؤمن، إن أمره كله خير، وليس ذاك لأحد إلا للمؤمن، إن أصابته سراء شكر فكان خيراً له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيراً له"
(مسلم من حديث صهيب)
5 ـ أنه يكون سبباً في الرجوع إلى الله تعالى، والوقوف ببابه والتضرع والاستكانة والدعاء:(1/5)
قال تعالي: {وَإِذَا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ دَعَوْا رَبَّهُم مُّنِيبِينَ إِلَيْهِ} ( الروم: 33)
وفي الأثر: إن الله ليبتلى العبد وهو يحبه؛ ليسمع تضرعه ودعاءه
فكم من عبد لما نزل به بلاء قام لينفض عنه غبار الغفلة ويرفع يديه بالدعاء والإنابة والتوبة متضرعاً لله تعالى
قال بعض السلف: سنة الله استدعاء عباده لعبادته، بسعة الأرزاق، ودوام المعافاة؛ ليرجعوا إليه سبحانه بنعمته، فإذا لم يفعلوا ابتلاهم بالبأساء والضراء لعلهم إليه يرجعون.
قال تعالي: { وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّبِيٍّ إِلاَّ أَخَذْنَا أَهْلَهَا بِالْبَأْسَاء وَالضَّرَّاء لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ }(الأعراف:94)
وكان بعض السلف: إذا فتح له في الدعاء عند الشدائد، لم يحب تعجيل إجابته خشية أن يقطع عما فتح له .
يقول المنبجي كما في تسلية المصاب صـ151 باختصار:
وقد ذم الله تعالى من لم يتضرع إليه، ولم يستكن له وقت البلاء كما قال تعالي:
{ وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُم بِالْعَذَابِ فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ} ( المؤمنون:71)
والعبد أضعف من أن يتجلد على ربه ولا يشكو إليه حاله، فإذا كان سادات الخلق وهم الأنبياء المعصومون ـ صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين ـ قد أثنى الله تعالى عليهم حيث شكوا ما بهم إلى الله تعالى، قال موسى - عليه السلام - : { رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ} ( القصص:41)
وشكوى أيوب ويعقوب عليهم السلام إلى الله - عز وجل - ، وإعراض العبد عن الشكوى إلى الله من الجهل به .
قيل لبعضهم: كيف تشتكي إلى من لا تخفي عليه خافية في الأرض ولا في السماء؟ قال:
قالوا: تشكو إليه ... ما ليس يخفي عليه
فقلت ربي يرضى ... ذل العبيد لديه
فيا أيها المُبتلى:(1/6)
اعلم أن الله – تعالى – يعامل عبده معاملة من ليس كمثله شيء في أفعاله، كما ليس كمثله شيء في صفاته، فإنه ما حرمه إلا ليعطيه ولا أمرضه إلا ليشفيه، ولا أفقره إلا ليغنيه، ولا أماته إلا ليحييه.
فالله تعالى يبتلى العبد ليفتح له باباً من أبواب العبادة إلا وهو الدعاء:
قال تعالى:{ وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ}(غافر: 6)
وفي سنن الترمذي بسند صحيح أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال:
"الدعاء هو العبادة " (صحيح سنن الترمذي:185)
ويا أيها المٌبتلى:
إذا أردت أن يستجيب الله لك في الشدة، فعليك أن تكثر من الدعاء في الرخاء.
فقد أخرج الترمذي والحاكم عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال:
" من سرَّه أن يستجيب الله له عند الشدائد والكرب، فليكثر الدعاء في الرخاء".
فالعبد في أشد الحاجة إلى أن يسأل ربه حاجته، وأن يلجأ إليه عند كربه
قال تعالي:{ أ َمَّن يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاء الْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ }
( النمل: 62)
وتتمة للفائدة فهذه بعض الأدعية والتي جعلها الله تعالى كاشفة للهموم والغموم:
1. عن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - :
" ما أصاب أحداً قط هم ولا حزن فقال: " اللهم إني عبدك وابن عبدك وابن أمتك، ناصيتي بيدك، ماضٍ في حكمك، عدلٌ فيَّ قضاؤك، أسألك بكل اسم هو لك سميت به نفسك أو علمته أحداً من خلقك، أو أنزلته في كتابك، أو استأثرت به في علم الغيب عندك، أن تجعل القرآن ربيع قلبي، ونور صدري، وجلاء حُزني، وذهاب همي، إلا أذهب الله همه وحُزنه، وأبدله مكانه فرجاً"، قال: فقيل: يا رسول الله ألا نتعلمها ؟(1/7)
فقال:" بلي، ينبغي لمن سمعها أن يتعلمها " (أحمد والحاكم وصححه الألباني في صحيحه 199)
وفي رواية: " فقولوهن وعلموهن، فإن من قالها التماس ما فيهن؛ أذهب الله - عز وجل - حزنه وأطال فرحه" .
2. عن أبي بكرة قال: قال رسول الله : - صلى الله عليه وسلم -
" دعوات المكروب: اللهم رحمتك أرجو، فلا تكلني إلى نفسي طرفة عين، وأصلح لي شأني كله لا إله إلا أنت " ( أحمد وأبو داود والبخاري في الأدب المفرد وهو في صحيح الجامع 3388)
3. عن ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يقول عند الكرب:
" لا إله إلا الله رب السموات ورب الأرض ورب العرش الكريم" ( البخاري ومسلم وأحمد)
4. عن أسماء بنت عُميس قالت: قال لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - :
" ألا أعلمك كلمات تقولينَهُنَّ عند الكرب أو في الكرب: الله الله ربي لا أشرك به شيئاً"
( أحمد وأبو داود والنسائي)
وعند الطبراني في الأوسط من حديث عائشة ـ رضي الله عنها ـ بلفظ:
"إذا أصاب أحدكم هم أو لأواء فليقل ..." الحديث
وعند الطبراني في الأوسط أيضاً عن ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ :
" يا بني عبد المطلب إذا نزل بكم كرب أو حمة أو جهداً أو لأواء فقولوا: الله الله ربنا لا شريك له."
5. الصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - :
عن الطفيل بن أُبي بن كعب عن أبيه قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا ذهب ثُلثا الليل قام فقال:" يا أيها الناس اذكروا الله اذكروا الله جاءت الراجفة تتبعها الرادفة جاء الموت بما فيه جاء الموت بما فيه"، قال أبي: قلت: يا رسول الله: إني أُكثرُ الصلاة عليك فكم أجعل لك من صلاتي؟ " ما شئت" قال: قلت: الربع، قال:" ما شئت، فإن زدت فهو خير لك"، قال: قلت: فالثلثين. قال:" ما شئت"، فإن زدت فهو خير لك، قلت: أجعل لك صلاتي كُلها، قال: " إذاً تُكفي همك، ويُغفَر لك ذنبك" ... ... ... ... (أحمد بسند حسن حسنه الألباني)(1/8)
وفي رواية لأحمد: " إذاً يكفيك الله ـ تبارك وتعالى ـ ما أهمك من دُنياك وآخرتك".
6. عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأبي طلحة:
"التمس غلاماً من غلمانكم يخدمني، فخرج بي أبو طلحة يردفني وراءه، فكنت أخدم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كلما نزل فكنت اسمعه يُكثر أن يقول: " اللهم إني أعوذ بك من الهم والحزن، والعجز والكسل، والجُبن والبُخل، وضلع الدين وغلبة الرجال" (البخاري)
7. عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا كربه أمر قال:
" يا حي يا قيوم برحمتك أستغيث" ... ... ... ... ... (الترمذي بسند حسن)
وعند الحاكم بلفظ: كان إذا نزل به هم أو غم قال: "يا حي يا قيوم برحمتك أستغيث".
8. عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يتعوذ من جهد البلاء ودرك الشفاء وسوء القضاء وشماتة الأعداء. ... ... ... ... ... ... ... (البخاري ومسلم).
9. عن معاذ بن عبد الله بن خُبيب، عن أبيه أنه قال:
خرجنا في ليلة مطر وظُلمةٍ شديدة نطلب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليُصلي لنا، فأدركناه، فقال:
" أصليتم؟" فلم أقُل شيئاً، ثم قال: " قل" فلم أقل شيئاً، ثم قال:" قل" فقلت: يا رسول الله، ما أقول: قال: " قل: قل هو الله أحد والمعوذتين حين تُمسي وحين تُصبح ثلاث مراتٍ تكفيك من كل شيءٍ" ... ... ... ... ... (أبو داود والترمذي والنسائي وأحمد بسند صحيح)
10. عن علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - قال:
علمني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا نزل بي كرب أن أقول": لا إله إلا الله الحليم الكريم، سبحان الله وتبارك الله رب العرش العظيم، والحمد لله رب العالمين."
وفي لفظ: " ألا أعُلمك كلاماتٍ إذا قلتهن غُفر لك، على أنه مغفور لك، لا إله إلا الله العلي العظيم، لا إله إلا الله الحليم الكريم، سبحان الله رب العرش العظيم، الحمد لله رب العالمين". ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... (أحمد بسند صحيح).(1/9)
11. عن أُم الدرداء، عن أبي الدرداء - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال:
" من قال حين يُصبح، وحين يٌُمسي: حسبي الله لا إله إلا هو عليه توكلت وهو رب العرش العظيم سبع مرات؛ كفاه الله - عز وجل - همه من الدنيا والآخرة."
(أبو داود في السنن موقوفاً: قال الألباني في الضعيفة، وجملة القول أن إسناد الموقوف رجاله ثقال بخلاف المرفوع)
6ـ أنه يُخِّلص العبد من الكبر والعجب والفخر والخيلاء والتجبر:
وليعم أهل المصائب أنه لولا محن الدنيا ومصائبها، لأصاب العبد من أدواء الكبر والعجب والفرعنة وقسوة القلب ما هو سبب هلاكه عاجلاً وآجلاً، فمن رحمة أرحم الراحمين أن يتفقده في الأحيان بأنواع من أدوية المصائب، تكون حمية له من هذه الأدواء، وحفظاً لصحة عبوديته، واستفراغاً للمواد الفاسدة الرديئة المهلكة
فلولا أنه ـ سُبحانه وتعالى ـ يداوي عباده بأدوية المحن والابتلاء؛ لطغوا وبغوا وعتوا وتجبروا في الأرض وعثوا فيها فساداً. فإن من شيم النفوس إذا جعل لها أمر ونهي وصحة وفراغ وكلمة نافذة من غير زاجر (1) شرعي يزجرها تمردت وسعت في الأرض فساداً، مع علمهم بما فٌعل بمن قبلهم
فكيف لو حصل لهم مع ذلك إهمال؟
فسبحان من يرحم ببلائه، ويبتلى بنعمائه
كما قيل:
قد يٌنعم الله بالبلوى وإن عظمت ... ويبتلى الله بعض القوم بالنعم
(تسلية أهل المصائب صـ21)
والإنسان بطبعه ـ إلا من رحم الله ـ ينسي إكرام المنعم الكريم ـ جل وعلا ـ ولا يشكره على إنعامه، ولذلك قال تعالي: { وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ} ( سبأ: 13)
وقال تعالى: {وَإِذَا مَسَّ الإنسان الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنبِهِ أَوْ قَاعِداً أَوْ قَآئِماً فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَن لَّمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَّسَّهُ كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} ( يونس: 12)
__________
(1) زاجر: رادع(1/10)
ولذا فإن الإنسان إذا لم يشعر بنعمة ربه عليه ويوقن بأنه فقير إلى ربه، وأن الله غني عن الخلق أجمعين. وأنه هو الضعيف، وأن الله هو القوى العزيز. فإن لم يشعر العبد بذلك فسوف يُصاب بأدواء الكبر والخيلاء والتجبر لا محالة.
فمن كمال رحمة الله أن يبتلى العبد؛ ليشعر العبد بأنه عبد وأنه يستمد عزته من التذلل لله ـ جل وعلا ـ ويستمد قوته من اللجوء والتوكل على الله ويستمد أسباب حياته كلها من افتقاره إلى الملك
ـ جل جلاله ـ
فإنما نمرود لو كان فقيراً سقيماً فاقد السمع والبصر لما حاجَّ إبراهيم في ربه، لكن حمله بطر الملك على ذلك، ولو ابتلى فرعون بمثل ذلك لما قال: أنا ربكم الأعلى.
قال الله - عز وجل - : { وَمَا نَقَمُواْ إِلاَّ أَنْ أَغْنَاهُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ مِن فَضْلِهِ } ( التوبة: 74)
وقال تعالي: { كَلَّا إِنَّ الْإِنسَانَ لَيَطْغَى {6} أَن رَّآهُ اسْتَغْنَى} ( العلق: 6-7)
وقال تعالى: { وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ } ( الشورى: 27)
فالله - عز وجل - إذا أراد بعبده خيراً سقاه دواء الابتلاء والامتحان على قدر حاله، يستخرج منه الأدواء المهلكة، حتى هذبه ونقاه وصفاه وأهَّله لأشرف مراتب الدنيا وهي عبوديته، ورقاه أرفع ثواب الآخرة وهو رؤيته" (تسلية أهل المصائب صـ21)
كتب بعض الكتَّاب إلى صديق له في محنة لحقته:
إن الله يمتحن العبد ليكثر التواضع له، والاستعانة به، ويُجدد الشكر على ما يوليه من كفايته، ويأخذ بيده في شدته؛ لأن دوام النعم والعافية يبطران الإنسان، حتى يعجب بنفسه، ويعدل عن ذكر ربه.
7ـ تكفير السيئات ومحوها:
فالمصائب كفارات مع أنها يسيرة فانية وهي تدفع عقوبات الآخرة مع أنها خطيرة باقية.
وقد جعل الله تعالى حتى الهموم والغموم فضلاً عن المصائب من أسباب تكفير السيئات.(1/11)
أ ) فقد أخرج البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال:
"ما يصيب المسلم من نصب ولا وصب، ولا هم ولا حزن، ولا أذى ولا غم حتى الشوكة يُشاكها إلا كفر الله بها من خطاياه"
ـ نصب: تعب. ... ... ... ... ـ وصب: وجع.
وعند البخاري ومسلم من حديث عائشة ـ رضي الله عنها ـ أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال:
" ما من مصيبة تصيب المسلم إلا كفَّر الله بها عنه، حتى الشوكة يشاكها"
ـ المصيبة: ما نزل بالإنسان من مكروه،
ـ "إلا كفر الله بها عنه" أي: يكون ذلك عقوبة بسبب ما صدر منه من المعصية، ويكون ذلك سبباً لمغفرة ذنبه، فبذلك يحصل الأمرين معاً حصول الثواب ورفع العقاب.
وفي رواية مسلم:" ما يصيب المؤمن من وصب ولا نصبٍ، ولا سقمٍ ولا حزنٍ حتى الهم يهمه إلا كفر به من سيئاته "
ب) وأخرج البخاري ومسلم عن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - قال:
دخلت على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وهو يوعك( الوعك: قيل: هو الحمى) فقلت: يا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، إنك توعك وعكاً شديداً، قال: " أجل. إني أوعك كما يُوعك رجلان منكم" قلت: ذلك أن لك أجرين، قال: أجل. ذلك كذلك. ما من مسلم يصيبه أذى، شوكة فما فوقها، إلا كفر الله بها سيئاته كما تحط الشجرة ورقها"
جـ) وأخرج الترمذي بسند صحيح عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - :
" ما يزال البلاء بالمؤمن والمؤمنة في نفسه، وولده، وماله حتى يلقى الله تعالى وما عليه خطيئة " ... ... ... ... ... ... ... ... ... (صحيح الجامع:5815)
وأخرج الترمذي والنسائي وأحمد وأبو بكر بن أبي الدنيا عن أم سلمة
ـ رضي الله عنها ـ قالت، سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول:
" ما ابتلى الله عبداً ببلاءٍ وهو على طريقة يكرهها، إلا جعل الله ذلك البلاء كفارة وطهوراً، ما لم ينزل ما أصابه بغير الله، أو يدع غير الله في كشفه"(1/12)
وأخرج الإمام مسلم عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال:
" لما نزلت { مَن يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ } (1) بلغت من المسلمين مبلغا شديداً، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " قاربوا وسددوا ففي كل ما يصاب به المسلم كفارة، حتى النكبة ينكبها أو الشوكة يشاكها"
ـ حتى النكبة ينكبها: هي مثل العثرة برجله، وربما جرحت إصبعه، وأصل النكب: الكب والقلب
وعن عائشة ـ رضي الله عنها ـ قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - :
" لا تصيب المؤمن شوكة فما فوقها إلا قص الله بها من خطيئته"
ـ إلا قص الله بها من خطيئته: أي: نقص وأخذ.
ولقد روي الإمام أحمد عن الوليد بن مسلم الأوزاعي عن عمر بن عبد العزيز أنه قال:
" ما أحب أن يهون علي سكرات الموت، فإنه آخر ما يكفر عن المرء المسلم. "
يقول ابن القيم ـ رحمه الله ـ كما في مدارج السالكين:
لأهل الذنوب ثلاثة أنهار عظام يتطهرون بها في الدنيا، فإن لم تفِ بطهرهم، طهروا في نهر الجحيم يوم القيامة:
1. نهر التوبة النصوح.
2. نهر الحسنات المستغرقة للأوزار المحيطة بها (حسنات ماحيات)
3. نهر المصائب العظيمة المكفرة. (مصائب مكفرات)
فإذا أراد الله بعبده خيراً أدخله أحد هذه الأنهار الثلاثة، فورد القيامة طيباً طاهراً، فلم يحتج إلى التطهير الرابع (نهر الجحيم).
وقال أيضا ـ رحمه الله ـ كما في زاد المعاد:
الإنسان الخبيث يتفجر من قلبه الخبث على لسانه وجوارحه، والإنسان الطيب يتفجر من قلبه الطيب على لسانه وجوارحه. وقد يكون في الشخص مادتان فأيها غلب عليه كان أهل لها، فإذا أراد الله به خيراً طهره من المادة الخبيثة قبل الموفاة، فيوافيه يوم القيامة مطهراً فلا يحتاج إلى تطهيره بالنار. فيطهره منها بما يوفقه له من التوبة النصوح والحسنات الماحيات والمصائب المكفرات حتى يلقى الله وما عليه خطيئة.
__________
(1) )) (النساء:123) .(1/13)
ويمسك عن الآخر مواد التطهير فيلقاه يوم القيامة بمادة خبيثة، ومادة طيبة وحكمته تعالى تأبى أن يجاوره أحد في داره بخباثته فيدخله النار طهرة له.
فإذا خلصت سبيكة إيمانه من الخبث صلح حينئذ لجواره ومساكنة الطيبين من عباده.
8ـ تحصيل الأجر والثواب:
فقد أخرج الترمذي بسند حسن عن جابر بن عبد الله - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال:
" ليَوَدَّنَّ أهل العافية يوم القيامة، أن جلودهم قُرِضَتْ بالمقاريض مما يرون من ثواب أهل البلاء" ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ( الصحيحة: 2206)
وفي رواية أخرى: "يود أهل العافية يوم القيامة حين يُعطى أهلُ البلاءِ الثواب لو أن جلودهم كانت قُرِضَتْ في الدنيا بالمقاريض"
ويعلم المبتلى أنه كلما أزداد البلاء ازداد الأجر.
فقد أخرج الإمام أحمد والترمذي من حديث محمود بن لبيد - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال:
" إن عظم الجزاء مع عظم البلاء."
9ـ الرفعة في الدرجات:
فقد أخرج ابن حبان والحاكم عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال:
" إن الرجل ليكون له المنزلة عند الله فما يبلغها بعملٍ، فلا يزال الله يبتليه بما يكره حتى يبلغه إياها." ... ... ... ... ... ... ( صحيح الجامع: 1625)،( الصحيحة: 2599)
فقد يكون عمل الرجل لا يبلغه الدرجة التي أعدها الله له في الجنة، فيبتليه ليرفع درجته في الجنة التي فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر.
وعند أبي داود من حديث محمد بن خالد عن أبيه عن جده، وكانت له صحبة قال:
قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - :
"إن العبد إذا سبقت له من الله منزلة لم يبلغها بعمله ابتلاه الله في جسده أو ماله أو في ولده حتى يبلغه المنزلة التي سبقت له من الله تعالى"
وأخرج الإمام مسلم عن الأسود قال:(1/14)
" دخل شاب من قريش على عائشة وهي بمنى وهم يضحكون، فقالت: ما يضحككم؟ قالوا: فلان خر على طنب فسطاط، فكادت عنقه أو عينه أن تذهب، فقالت: لا تضحكوا: فإني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: " ما من مسلم يشاك شوكة فما فوقها، إلا كتبت له بها درجة ومحيت عنه بها خطيئة".
ـ الطنب: هو الحبل الذي يشد به الفسطاط.
ـ الفسطاط: بيت من الشعر، وهو الخباء ونحوه.
قال النووي في شرح مسلم ( 19/ 99) في قوله - صلى الله عليه وسلم - :
" ما من عبد يشاك شوكة محيت عنه بها خطيئة" ، وفي بعض النسخ: " وحط عنه بها،
وفي رواية: " إلا كتب الله بها حسنة وحطّت عنه خطيئة"
في هذه الأحاديث بشارة عظيمة للمسلمين، فإنه قلما ينفك الواحد منهم ساعة من شيء من هذه الأمور، وفيه تكفير الخطايا بالأمراض والأسقام ومصائب الدنيا وهمومها وإن قلت مشاقها.
وفيه رفع الدرجات بهذه الأمور وزيادة الحسنات، وهذا هو الصحيح الذي عليه جماهير العلماء. أهـ
10ـ حصول رضا الله ـ تعالى ـ:
فكما أن الابتلاء تمحيص للذنوب والسيئات وبلوغ الدرجات العالية في الجنات وأعلى من ذلك كله حصول ـ رضا الله العظيم ـ الذي هو أفضل من الجنة ونعميها المقيم. جزاءً وفاقاً، فكما أن المبتلى رضي بالبلاء فإن الله تعالى يرضى عنه.
فقد أخرج البخاري ومسلم عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - :
إن الله - عز وجل - يقول لأهل الجنة: يا أهل الجنة، فيقولون: لبيك ربنا وسعديك، والخير في يديك، فيقول: هل رضيتم؟ فيقولون: وما لنا لا نرضى يا ربنا وقد أعطيتنا ما لم تعط أحداً ! فيقول: ألا أعطيكم أفضل من ذلك، فيقولون: وأي شيءٍ أفضل من ذلك ؟
فيقول: أُحل عليكم رضواني فلا أسخط عليكم بعده أبداً.
11ـ دخول جنة الرحمن:
أخرج الإمام مسلم من حديث أنس - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - :
" حُفت الجنة بالمكارة وحٌفت النار بالشهوات"(1/15)
جاء في فتح الباري ( 11/ 320):
والمكاره: هي كل ما تكرهه النفس ويشق عليها، وهذا يتناول مجاهدة النفس في القيام بالطاعات واجتناب المعاصي، والصبر على المصائب والتسليم لأمر الله فيها.
ولهذا كان جزاء من فقد بصره ثم صبر على هذا المكروه وهذا البلاء الذي تكرهه النفس، كان جزاؤه الجنة.
فقد أخرج البخاري أن الحبيب النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: يقول الله - عز وجل - : "إذا ابتليت عبدي بحبيبتيه فصبر، عوضته منهما الجنة ـ يريد عينيه ـ"
وهناك فوائد أخرى، منها علي سبيل المثال:
أولاً : تذكير العبد بذنوبه، فربما تاب إلى الله - عز وجل - ، فالتوبة لله تعالى أعظم عزاء له من كل شيء.
فيقول بعض السلف: إن العبد ليصاب بالمصيبة فيذكر ذنوبه، فيخرج من عينه مثل رأس الذباب دمعاً من خشية الله فيغفر الله - عز وجل - له.
ثانياً: زوال قسوة القلب مع حدوث رقة له وانكسار العبد لله - عز وجل - ، وذلك ملاحظ عند حلول المصائب، وذلك والله خير من كثيرٍ من طاعات الطائعين، فانكسار المذنب خير وأعظم من صولة المطيع.
ثالثاً: مقت الدنيا لإنكادها، وبعث النفس على العمل ليوم معادها.
رابعاً: البلاء يقطع قلب المؤمن عن الالتفات إلى المخلوقين، ويوجب له الإقبال على الخالق الذي لا شريك له، فالمشركون وهم مشركون حكى الله عنهم إخلاص الدعاء عند الشدائد.
{ فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ} ( العنكبوت: 65)
فكيف بالمؤمنين ؟ وقال تعالي: {وَإِذَا مَسَّكُمُ الْضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَن تَدْعُونَ إِلاَّ إِيَّاهُ } ( الإسراء: 67)
خامساً: رحمة أهل البلاء ومساعدتهم على بلواهم، فإن العبد إذا أحس بألم المصيبة رق قلبه لأهل المصائب والبلايا ورحمهم .(1/16)
وأخيراً: معرفة قيمة وقدر العافية، فإن النعم لا تُعرف أقدارها إلا بعد فقدها، فلا يعرف نعمة إلا من ذاق مرارة ضدها، وبضدها تتميز الأشياء، فيحصل بذلك الشكر الموجب للمزيد من النعم؛ لأن ما وسع الله بالعافية وأنعم: أكثر وأعظم مما ابتلى وأسقم، فلابد أن يلجأ إلى الله في السراء والضراء، ففي الضراء حتى يكشفها عنا وفي السراء تدوم علينا وتزيد، قال تعالى:
{وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِن كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ } ( إبراهيم: 7)
وحتى شكر الله فهو نعمة من الله تحتاج منا إلى شكر ليوفقنا الله إليها.
فهذا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يعلم معاذ بن جبل أن يقول في دبر كل صلاة:
" اللهم أعنى على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك" ... ... ... ... (أبو داود والنسائي).
ويقول الله تعالى ـ حاكياً عن سليمان - عليه السلام - : { وَقَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحاً تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ} (النمل: 19)
- مَا يُهَوِّنُ عَلَى الْمُبْتَلَى -
(أسباب الصبر على البلاء)
هناك جملة من الأسباب تهون على المبتلى وتخفف عنه ألم المصيبة منها:
1ـ أن يعلم أن القدر جرى بها، وأنها مقدرة في أم الكتاب قبل أن يخلق، فلا بد منها:
فإنه ليس لأحد مفر عن أمر الله وقضائه، ولا محيد له عن حُكمه النافذ وابتلائه.
قال تعالي: { قُل لَّن يُصِيبَنَا إِلاَّ مَا كَتَبَ اللّهُ لَنَا هُوَ مَوْلاَنَا وَعَلَى اللّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ } (التوبة: 51)
وقال تعالي: {مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ }
(الحديد: 22)(1/17)
قال ابن جرير ـ رحمه الله ـ: من قبل أن نبرأ الأنفس ، يعني: من قبل أن نخلقها.
وقال جل وعلا: { مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَن يُؤْمِن بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} (التغابن: 11)
قال ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ:
" بإذن الله " بأمر الله، يعني عن قدرته ومشيئته" ... ... ... ... ( تفسير ابن كثير ( 8/ 363)
وقال ابن جرير ـ رحمه الله ـ:
" ومن يؤمن بالله يهد قلبه" يقول: " ومن يصدّق بالله فيعلم أنه لا أحد تصيبه مصيبة إلا بإذن الله بذلك يهدي قلبه"، يقول: " يوفق الله قلبه بالتسليم لأمره والرضا بقضائه" أ.هـ (تفسير ابن جرير: 28/ 123)
وقال علقمة ـ رحمه الله ـ في تفسير هذه الآية:
" هو الرجل تصيبه المصيبة، فيعلم أنها من عند الله، فيرضى ويسلم"
(تفسير ابن جرير: 28/123، تفسير ابن كثير: 8/ 163)
أخرج مسلم عن عبد الله بن عمرو - رضي الله عنه - قال سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول:
" كتب الله مقادير الخلائق قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة" .
أخرج أبو داود عن عبادة بن الصامت - رضي الله عنه - قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول:
"إن أول ما خلق الله القلم، قال له: اكتب قال: رب وماذا أكتب، قال: اكتب مقادير كل شيء حتى تقوم الساعة"
وفي لفظ عند الترمذي: "اكتب القدر ما كان وما هو كائن إلى الأبد"
أخرج البخاري معلقاً ووصله النسائي عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - :
"يا أبا هريرة جف القلم بما أنت لاق" .
قال الحافظ ابن حجر ـ رحمه الله ـ:
" جف القلم بما أنت لاق" أي: نفذ المقدور بما كتب في اللوح المحفوظ، فبقي القلم الذي كتب به جافاً لا مداد فيه، لفراغ ما كتب به ... ... ... ... ... ... (فتح الباري: 9/119)
أخرج الإمام أحمد عن عبد الله بن عمرو - رضي الله عنه - قال، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - :(1/18)
" جف القلم بما هو كائن "
وفي لفظ عند الترمذي: " جف القلم على علم الله "
ولهذا لما جئ بسعيد بن جبيرـ رحمه الله ـ إلى الحجاج ( ليقتله ) بكى رجل، فقال سعيد: ما يبكيك؟ قال: لما أصابك، قال، فلا تبك، كان في علم الله أن يكون هذا، ثم تلا:
{ مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ } (الحديد: 22)
... ... ... ... ... ... ... (طبقات ابن سعد: 6/261، سير أعلام النبلاء: 4/337 )
فإذا علم المبتلى هذا بأن هذه المصيبة مقدرة عليه في أم الكتاب فلابد منها فجزعه لا يزيده إلا بلاءً.
قال بعض الحكماء يقول:
الجزع لا يرد الفائت، ولكن يسر الشامت.
وكان على بن أبي طالب - رضي الله عنه - يقول:
من رضي بقضاء الله جرى عليه وكان له أجر، ومن لم يرضى بقضاء الله جرى عليه وحبط أجره"
وقال على بن أبي طالب - رضي الله عنه - :
" إنك إن صبرت جرت عليك المقادير وأنت مأجور، وإن جزعت جرت عليك المقادير وأنت مأزور"
(الرضا لابن أبي الدنيا صـ29)
وقال يحيي بن معاذ ـ رحمه الله ـ:
ابن آدم، ما لك تأسف على مفقود لا يرده عليك الفوت؟ وما لك تفرح بموجود لا يتركه في يديك الموت.
فقضاء الله نافذ كالسيف وأمره واقع لا راد لقضائه ولا معقب لحكمه فعلى العبد أن يسلم ويصبر ويرضى .
كان بعض الحكماء يقول:
العاقل يفعل في أول يوم من المصيبة ما يفعله الجاهل بعد أيام، ومن لم يصبر صبر الكرام سلا سلو البهائم.
فهو يريد بذلك قول النبي - صلى الله عليه وسلم - الثابت في صحيح مسلم:
" إنما الصبر عند الصدمة الأولى"
وقال بعض الحكماء:
" المصيبة للصابر واحدة وللجازع اثنتان" ... ... ... ... (العقد الفريد: 3/338، جنة الرضا: 3/14)
وكان بعض السلف قد عزى مصاباً فقال له:
" إن صبرت فهي مصيبة واحدة، وإن لم تصبر فهما مصيبتان.(1/19)
فالعاقل هو الذي يعلم أن المصيبة إذا وقعت فلا فائدة من الاعتراض على أمر الله. فالمؤمن العاقل هو الذي يعلم أن الخير كل الخير (في ذلك الوقت) في الفوز بثواب الرضا والصبر على هذا البلاء. فليس هناك أسوأ من العبد الذي يخرج بالبلاء والذنب المترتب على تسخطه على أمر الله وليس هناك أفضل من العبد الذي يغتنم لحظات البلاء للفوز بالأجر والرضوان والاقتراب من جنة الرحمن ـ جل وعلا ـ .
وثقتْ نفسُ عارفٍ فاطمأنت ... رضيت بالذي قضي فتهنَّت
لاح نورُ الهدى لها مع يقينٍ ... فاستضاءت بذاك ثم استكنَّت
فرمت باللذيذ من كل عيشٍ ... وإلى أقرب مالك المُلْكِ حنَّت
فيا أيها المصاب:
إياك وكلمة: " لو " ، فإذا كانت إصابتك بهذه المصيبة بسبب من الأسباب: كحادث سيارة أو حريق بالنار، أو سقوط من علو، أو بسبب عمل قمت به، فلا تفتح على نفسك باباً للشيطان فتقول: لو فعلت كذا لكان كذا، ولو لم أفعل كذا لم يكن كذا ... إلى غير ذلك مما فيه اعتراض على القدر، وإنما عليك التسليم بما حصل، واليقين بأن ما أصابك فلابد من حصوله، وأنه ما شاء الله لابد أن يقع على وفق مشيئته ـ جل وعلا ـ .
ولهذا قال النبي عليه الصلاة والسلام:
"احرص على ما ينفعك، واستعن بالله ولا تعجز، وإن أصابك شيء فلا تقل: لو أني فعلت كان كذا وكذا، ولكن قل: قدر الله وما شاء فعل، فإن " لو" تفتح عمل الشيطان" (مسلم)
قال السعدي ـ رحمه الله ـ:
" إذا أصاب العبد ما يكرهه فلا ينسب ذلك إلى ترك بعض الأسباب التي يظن نفعها لو فعلها، بل يسكن إلى قضاء الله وقدره، ليزداد إيمانه، ويسكن قلبه، وتستريح نفسه، فإن " لو " في هذه الحال تفتح عمل الشيطان بنقص إيمانه بالقدر، واعتراضه عليه، وفتح باب الهم والحزن المضعف للقلب.
(بهجة القلوب صـ39)
ولا يبلغ العبد حقيقة الإيمان حتى يعلم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه، وما أخطأه لم يكن ليصيبه
كما قال عليه الصلاة والسلام:(1/20)
" لكل شيء حقيقة، وما بلغ عبد حقيقة الإيمان حتى يعلم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه، وما أخطأه لم يكن ليصيبه" ... ... (أحمد من حديث أبي الدرداء وهو في صحيح الجامع: 2150)
وأخبر - صلى الله عليه وسلم - أن قبول العمل الصالح موقوف على الإيمان بالقدر، وأن ما أصاب العبد لم يكن ليخطئه ن وما أخطأه لم يكن ليصيبه.
فعن زيد بن ثابت - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال:
" لو أن الله عذب أهل سماواته وأهل أرضه، لعذبهم وهو غير ظالم لهم، ولو رحمهم لكانت رحمته خيراً لهم من أعمالهم، ولو أنفقت مثل أُحد ذهباً في سبيل الله ما قبله الله منك حتى تؤمن بالقدر، وتعلم أن ما أصابك لم يكن ليخطئك، وأن ما أخطأك لم يكن ليصيبك، ولو مت على غير هذا لدخلت النار." (أبو داود، وابن ماجة وأحمد وهو في صحيح الجامع:5244)
2ـ أن يعلم أن الله قد ارتضاها له واختارها وقسمها، وأن العبودية تقتضي رضاه بما رضي له به سيده ومولاه:
فالله - عز وجل - له الملك كله وله الحمد كله قد أذل الخلق وقهرهم، كما قال تعالى:
{ مَّا مِن دَآبَّةٍ إِلاَّ هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ } ( هود: 56)
وهذا من تمام الإيمان بربوبية الله - عز وجل - ومشيئته النافذة فما شاء كان وما لم يشأ لم يكن.
فيتدبر العبد ذل العبودية, وكيف أنه عبد مدبر مقهور، ناصيته بيد ربه يتصرف فيه مالكه كيف يشاء ويبتليه بما شاء، وليس له إلا الرضا والتسليم، بل والمحبة والإيمان الكامل بكمال العدل والحكمة وإليه الإشارة بقوله: { الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُواْ إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ} ( البقرة: 156)
فإذا ابتلي العبد المؤمن اقتضى إيمانه أن يريد ما أراد الله تعالى، ويرضى بما يقدر، إذ لو لم يكن كذلك كان خارجاً عن حقيقة العبودية.(1/21)
ولا شك في أن تدبر هذه المعاني يخفف من ألم المصيبة، ويفتح على العبد أبواباً من المعرفة بالله - عز وجل - والتسليم له، وكذلك المعرفة بنقص العبد وفقره وذله، والأول يورث كمال الحب لله - عز وجل - ، والثاني يورث تمام الذل له وهما شقا العبادة، كمال الحب مع تمام الذل. كما يقال: العارف يخرج من الدنيا وما قضى وطره من شيئين ثناؤه على ربه - عز وجل - ، وبكاؤه على نفسه.
ويقول ابن الجوزي ـ رحمه الله ـ:
والمؤمن الحق هو من إذا اشتد به البلاء زاد إيماناً، فليس المؤمن بالذي يؤدي فرائض العبادات صورة ويتجنب المحظورات فحسب، إنما المؤمن هو الكامل الإيمان، لا يختلج في قلبه اعتراض ولا يساكن نفسه فيما يجرى وسوسه، وكلما اشتد البلاء عليه زاد إيمانه وقوى تسليمه، وقد يدعو فلا يرى للإجابة أثراً وسره لا يتغير لأنه يعلم أنه مملوك وله مالك يتصرف بمقتضى إرادته فإن احتلج في قلبه اعتراض خرج من مقام العبودية إلى مقام المناظرة كما جرى لإبليس.
والإيمان القوى يظهر أثره عند قوة البلاء، فلم يبق إلا التسليم للمالك والرضا بما قدر.
يقول ابن القيم ـ رحمه الله ـ:
فإنه سبحانه ـ لا يقضى لعبده المؤمن قضاءً إلا كان خيراً له، ساءه ذلك القضاء أو سرَّه، فقضاؤه لعبده المؤمن عطاء خيراً له، ساءه ذلك القضاء أو سره، فقضاؤه لعبده المؤمن عطاء وإن كان في صورة المنع، ونعمة وإن كانت في صورة محنه وبلاؤه عافيه وإن كان في صورة بليه، ولكن لجهل العبد وظلمه لا يعد العطاء والنعمة والعافية إلا ما التذَّ به في العاجل وكان ملائماً لطبعه، ولو رزق العبد من المعرفة حظاً وافراً تعد المنع نعمة، والبلاء رحمة، وتلذذ بالبلاء أكثر من لذته بالعافية وتلذذ بالفقر أكثر من لذته بالغني، وكان في حال القلة أعظم شكراً من حال الكثرة،
فالراضي هو الذي يعد نعم الله عليه فيما يكرهه أكثر وأعظم من نعمة الله عليه فيما يٌحبه.
ـ كما قال بعض السلف:(1/22)
ارضى عن الله في جميع ما يفعله بك، فإنه ما منعك إلا ليعطيك ولا ابتلاك إلا ليعافيك، ولا أمرضك إلا ليشفيك، ولا أماتك إلا ليحييك.
فإياك أن تفارق الرضا عنه طرفة عين، فتسقط من عينه.
قال أبو عثمان الحيرى ـ رحمه الله ـ:
منذ أربعين سنة ما أقامنى الله في حالٍ فكرهته، وما نقلني إلى غيره فسخطته.
اللهم ارزقنا نعمة الرضا
شهد الحسن - رضي الله عنه - رجلاً يقول:
" اللهم ارض عني، فقال له الحسن: لو رضيت عن الله لرضي الله عنك!
فقال له الرجل: وكيف أرضى عن الله ؟!!
قال الحسن: إذا سُررت بالنقمة سرورك بالنعمة فقد رضيت عن الله، وسوف يرضى الله عنك.
فالعبد قد يصبر على المصيبة ولا يرضى بها، فالرضا أعلى من مقام الصبر؛ لكن الصبر اتفقوا على وجوبه، والرضا اختلفوا في وجوبه؛ والشكر أعلى من مقام الرضا؛ فإنه يشهد المصيبة نعمة، فيشكر المُبْلِي عليها.
وروى ابن أبي الدنيا بإسناده عن ابن عون أنه قال:
ارض بقضاء الله على ما كان من عٌسر ويٌسر؛ فإن ذلك أقل لغمِّك، وأبلغ فيما تطلب من أمر آخرتك، واعلم أن العبد لن يصيب حقيقة الرضا، حتى يكون رضاه عند الفقر والبلاء، كرضاه عند الغنى والرخاء، كيف تستقضى الله في أمرك، ثم تتسخط إن رأيت قضاءه مخالفاً لهواك ؟!
ولعل ما هويت من ذلك، لو وُفِّق لك، لكان فيه هلكك، وترضى قضاءه إذا وافق هواك، وذلك لقلة علمك بالغيب، وكيف تستقضيه ؟ إن كنت كذلك ما أنصفك من نفسك، ولا أصبت باب الرضا.
وعن سليمان بن المغيرة قال:
كان فيما أوحى الله تعالى إلى داود - عليه السلام - : إنك لن تلقاني بعمل هو أرضى لي عنك ولا أحط لوزرك من الرضا بقضائي. ولن تلقاني بعمل هو أعظم لوزرك، ولا أشد لسخطي عليك من البطر؛ فإياك يا داود والبطر.
يقول أبو الدرداء - رضي الله عنه - :
إن الله إذا قضي قضاءً أحب أن يرضى العبد به.
فنعم للصبر والرضا، ولا للجزع والتسخُّط.(1/23)
فقد أخرج الترمذي عن أنس - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال:
" إن الله إذا أحب قوماً ابتلاهم فمن رضي فله الرضا، ومن سخط فله السخط"
وفي رواية: ومن جزع فله الجزع.
فأنفع الأدوية للمصاب موافقة ربه وإلهه فيما أحبه ورضيه له، وإن خاصية المحبة وسرها موافقة المحبوب، فمن ادعى محبة محبوب، ثم سخط ما يحبه، وأحب ما يسخطه، فقد شهد على نفسه بكذبه، وأسخط عليه محبوبة "
وذكر الغزالي في الإحياء ( 4/ 368):
لما قدم سعد بن أبي وقاص مكة، وقد كان كُف بصره، جاءه الناس يهرعون إليه، كل واحد يسأله أن يدعو له فيدعو لهذا ولهذا، وكان مجاب الدعوة، قال عبد الله بن السائب: أتيته وأنا غلام فتعرفت عليه فعرفني. وقال: أنت قارئ أهل مكة ؟ قلت: نعم. فذكر قصة، قال في آخرها: فقلت له: يا عم، أنت تدعو للناس فلو دعوت لنفسك فرد عليك بصرك ؟! فتبسم وقال: يا بُني قضاءُ الله سبحانه عندي أحسن من بصري .
فعليك ـ أخي المريض ـ أن تحب ما أحب الله لك. وترضى بما رضيه لك.
قال مطرف ـ رحمه الله ـ: أتيت عمران بن حصين - رضي الله عنه - يوماً، فقلت له: إني لأدع إتيانك لما أراك فيه، ولما أراك تلقى (يعني: من شدة المرض) فقال: فلا تفعل، فوالله إن أحبه إلىّ أحبه إلى الله تعالى" .
وقال محمد بن علي ـ رحمه الله ـ :
" ندعو الله فيما نحب، فإذا وقع ما نكره لم نخالف الله فيما أحب" ... (الرضا عن الله ص 79).
فالحمد لله العادل فيما قدره وقضاه، القادر القاهر بما أمر به من أمره وأمضاه، فمن رضي بذلك أنعم عليه فأرضاه، ومن سخطه فله السخط، ولقد أبعده وأقصاه، فبؤساً للذين لقضائه يسخطون، وتعساً لمن بأحكامه يتبرمون، وهنيئاً لمن لأفعاله يُسلمون، ولحكمه يستسلمون، فهم بُكل قضاه راضون. وعلى كل حالٍ قائلون: { إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ (156) أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ }(1/24)
(البقرة 156/157).
سبحان من ابتلى أُناساً ... أحبهم والبلا عطاءُ
فاصبر لبلوي وكن راضياً ... فإن هذا هو الدواءُ
سلِّم إلى الله ما قضاه ... ويفعل الله ما يشاءُ
3ـ أن يعلم أن في عقبى هذا الدواء من الشفاء والعافية والصحة وزوال الألم ما لم تحصل بدونه، فإذا طالعت نفسه كراهة هذا الدواء ومرارته فلينظر إلى عاقبته وحسن تأثيره.
1ـ قال تعالي في حديث الأفك: { لَا تَحْسَبُوهُ شَرّاً لَّكُم بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ } ( النور: 11)
2ـ قال الله تعالي: { وَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تُحِبُّواْ شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ وَاللّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ } ( البقرة: 216)
قال الإمام ابن القيم ـ رحمه الله ـ كما في الفوائد صـ200:
في هذه الآية عدة حكم وأسرار ومصالح للعبد؛ فإن العبد إذا علم أن المكروه قد يأتي بالمحبوب، والمحبوب قد يأتي بالمكروه، لم يأمن أن توافيه المضرَّة من جانب المسرَّة، ولم ييأس أن تأتيه المسرة من جانب المضرة لعدم علمه بالعواقب؛ فإن الله يعلم منها ما لا يعلمه العبد.
3ـ وقال الله تعالي: { فَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللّهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً} ( النساء: 19)
وفي مثل هذا قال القائل:
لعلّ عتبك محمودٌ عواقبه ... وربما صحت الأجسام بالعِلَلِ
قال عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - :
لا أبالي أصبحت على ما أحب أو على ما أكره، لأني لا أدري الخير فيما أحب أو فيما أكره.
وقال الحسن ـ رحمه الله ـ :
لا تكرهوا البلايا الواقعة والنقمات الحادثة، فلرب أمر تكرهه فيه نجاتك، ولربك أمر تؤثره فيه عطبك.
قال التنوخي ـ رحمه الله ـ:
كان يقال: المحن آداب الله - عز وجل - لخلقه، وتأديب الله يفتح القلوب والأبصار.(1/25)
وقال كذلك: سمعت أبا إسحاق إبراهيم بن العباس ابن محمد بن صول الكاتب يصف الفضل بن سهل، ويذكر تقدمه وعلمه وكرمه، وكان مما حدثني به أنه برئ من علة كان فيها، فجلس للناس وهنوه بالعافية، فلما فرغ الناس من كلامهم قال الفضل: إن في العلل لنعماً لا ينبغي للعاقل أن يجهلها: تمحيص للذنب، وتعريض لثواب الصبر، وإيقاظ من الغفلة، وإذكار بالنعمة في حال الصحة، واستدعاء للمثوبة وحض على الصدقة، وفي قضاء الله وقدره بعد الخيار.
فليعلم كل من أصيب بمصيبة سواء في نفسه أو ماله أو ولده أن هذا وقع برضا مالكه وخالقه، فيجب عليه أن يرضى بما يرضى به السيد، ويعاقب نفسه إذا جزعت ويقول لها: أما علمت أن هذا لابد منه فما وجه الجزع ؟ ! وإنما هي ساعة كأن لم يكن ما كان، ومن تلمح العواقب هان عليه مرارة الدواء.
يا صاحب الهم إن الهم منفرج ... أبشر بخير فإن الفارج الله
اليأس يقطع أحياناً بصاحبه ... لا تيأسن فإن الكافي الله
إذا بٌليت فثق بالله وارض به ... فإن الذي يكشف البلوى هو الله
الله يُحدث بعد العسر ميسرة ... لا تجزعن فإن الصانع الله
والله ما لك غير الله من أحدٍ ... فحسبك الله في كلٍ لك الله
فرب أمر محزن لك في عواقبه الرضا ... ولربما اتسع المضيق وربما ضاق الفضا
كم مغبوط بنعمة هي داؤه، ومحروم من دواء حرمانه هو شفاؤه. كم من خير منشور وشر مستور، ورب محبوب في مكروه، ومكروه في محبوب.
قال الله تعالي:{ وَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تُحِبُّواْ شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ وَاللّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ}
( البقرة: 216)
لا تكره المكروه عند حلوله ... إن العواقب لم تزل متباينة
كم نعمة لا يستهان بشكرها ... لله في طي المكاره كامنة
فلابد للمصاب أن يُحسن الظن بالله - عز وجل - ويعلم أن الله سيجعل له فرجاً ومخرجاً،
فقد قال تعالي: { فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً{5} إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً} ( الشرح: 5، 6)(1/26)
وقال - صلى الله عليه وسلم - في وصيته لابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ:
" واعلم أن النصر مع الصبر، وأن الفرج مع الكرب، وإن مع العسر يسراً"
(أحمد عن أنس السلسلة الصحيحة:2382)
4ـ تذكر الموت وسرعة الانتقال عن هذه الدار، فالموت ما ذُكِرَ في شدة وضيق إلا وسعه، ولا ذُكِر في سعة إلا ضيقها.
فقد أخرج ابن حبان والطبراني في الأوسط بسند حسن عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " أكثروا من ذكر هاذم اللذات فما ذكره عبد قط وهو في ضيق إلا وسعه عليه، ولا ذكره وهو في سعة إلا ضيقها عليه" ... ... ... ... ... ... (صحيح الجامع:1211)
وقوله: " هاذم اللذات" بالذال، أي: قاطع اللذات" ... ... ... ... ( لسان العرب: 12/ 606)
والمراد أن العبد إذا ذكر الموت وهو في حالة ضيق من مرض أو غيره، هان عليه ذلك وتوسع عليه ما هو فيه من الضيق؛ لعلمه بسرعة الارتحال عنه وموافاته لثوابه وأجره. وإذا ذكره في حال سعة ضاقت عليه؛ لعلمه بالانتقال عنها وسرعة زوالها، وهذا خير له من أن ينهمك في الملذّات وينسى الموت وما وراءه.
وقال عمر بن عبد العزيز ـ رحمه الله ـ:
" إذا كنت من الدنيا فيما يسوؤك فاذكر الموت، فإنه يسهل عليك" ( الفرج بعد الشدة: لابن أبي الدنيا ص 42)
وقال الماوردي ـ رحمه الله ـ في الأسباب التي تسهل المصيبة:
" فمنها استشعار النفس بما تعلمه من نزول الفناء، وتقضي المسار، وأن لها آجالاً منصرمة، ومدداً منقضية، إذ ليس في الدنيا حال تدوم، ولا لمخلوق فيها بقاء" ( أدب الدنيا والدين صـ 460)
5ـ ومما يهون على أهل البلاء ويخفف عنهم ألم المصيبة، أن يتذكروا نعم الله عليهم فإذا أخذ فكم أعطى، وإذا ابتلى فكم عافى:(1/27)
مر رجل على واحد من السلف الصالح وقد قُطعت يداه ورجلاه ومع ذلك يبتسم ويقول: الحمد لله الذي عافاني مما ابتلى به كثيراً من الناس. فتعجب الرجل وقال له: وأي شيء عافاك الله منه؟!! فقال الرجل الصالح: عافاني من الشرك وأنعم عليّ بنعمة التوحيد والإيمان .. ألا تستحق تلك النعمة أن أسجد لله شكراً ؟ قال تعالي: {وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ اللّهِ لاَ تُحْصُوهَا} ( النحل: 18)
قال بعض السلف: حق الله أثقل من أن يقوم به العباد، ونعم الله أكثر من أن يحصيها العباد، ولكن أصبحوا تائبين وأمسوا تائبين.
ومن أعظم هذه النعم، أن يتذكر كيف هداه الله للإسلام وجعله من أمة خير الأنام - صلى الله عليه وسلم -
قال تعالى: { قُلْ بِفَضْلِ اللّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ هُوَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ} ( يونس: 58)
ثم يتذكر نعمة السمع والبصر والسلامة من العلل والآفات، فمهما تذكر العبد هذه النعم، تسلى عن مصيبته ووجد شغلاً في حمد الله عليها، والقيام بواجب شكرها.
فلا تكن ممن يذكر المصائب وينس النعم.
أخرج ابن أبي الدنيا في المرض والكفارات وابن جرير في تفسيره عن الحسن البصري ـ رحمه الله ـ في قوله: {إِنَّ الْإِنسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ} ( العاديات: 6) قال: يذكر المصائب وينس النعم.
وتأمل قصة عروة بن الزبير ـ رحمه الله ـ كيف كان صبره ؟ وكيف كان استحضاره لنعم الله عليه ؟ وهو في أشد المحنة وتسليه بما أبقاه الله عليه، وخلاصتها أن عروة أصيب بمرض الأَكِلَة في رجله وهو مسافر، فقرر الطبيب قطعها من منتصف الساق فقطعها، ثم أصيب في ذلك السفر بموت ابنه محمد حيث رفسته بغلة، فجعل عروة يقول ـ وقد اجتمعت عليه المصيبتان في آن واحد ـ:(1/28)
" اللهم كان لي بنون سبعة فأخذت واحداً وأبقيت لي ستة، وكان لي أطراف أربعة فأخذت واحداً وأبقيت لي ثلاثة، ولئن أخذت لقد أبقيت، ولئن ابتليت فقد عافيت، وما ترك جزأه من القرآن في تلك الليلة ." (أخرجه ابن أبي الدنيا في المرض والكفارات، وفي سير أعلام النبلاء: 4/ 429)
فالذي دفعه إلى هذا أنه لم ينس نعم الله عليه .
ـ الأَكِلَة: بفتح الهمزة وكسر الكاف: داء يقع في العضو فيأكل منه . ... ... ... (اللسان: 11/22)
قال ابن القيم ـ رحمه الله ـ:
تهوين البلية بأمرين:
أحدهما: أن يعد نعم الله عليه، وأياديه عنده، فإذا عجز عن عدها، وأَيِسَ من حصرها ـ هان عليه ما هو فيه من البلاء، ورآه ـ بالنسبة إلى أيادي الله ونعمه ـ كقطرة من بحر.
الثاني: تذكر سوالف النعم التي أنعم الله بها عليه . فهذا يتعلق بالماضي وتعداد أيادي المنن يتعلق بالحال" أهـ ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... (مدارج السالكين: 2/167)
وانظر إلي أيوب - عليه السلام - لما مكث في بلواه ثماني عشرة سنة فقالت له امرأته: يا أيوب. لو دعوت ربك لفرج عنك . فقال: قد عشت سبعين سنة صحيحاً، فهل قليل لله أن أصبر له سبعين سنة؟
( قصص الأنبياء لابن كثير ص 259)
وأنشد محمود الوراق ـ رحمه الله ـ:
يا أيها الظالم في فعله ... والظلم مردود على من ظلم
إلى متى أنت وحتى متى ... تشكو المصيبات وتنسى النعم
(الشكر لابن أبي الدنيا صـ 95)
وقال بكر المزني ـ رحمه الله ـ:
" إن أردت أن تعلم قدر ما أنعم الله عليك فغمض عينيك، يعني لتعلم قدر نعمة الله عليك في البصر خاصة. ... ... ... ... ... ... ... ... ... (الشكر لابن أبي الدنيا صـ157)
6 ـ أن يتهم نفسه ويعلم أن هذه المصيبة بما كسبت يداه وأُوتيَ مِنْ قِبَلِ نفسه:
قال تعالي: { وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ} ( الشورى:30)
وقال تعالى: { وَمَا أَصَابَكَ مِن سَيِّئَةٍ فَمِن نَّفْسِكَ} ( النساء:79)
قال ابن القيم ـ رحمه الله ـ:(1/29)
وهذا عام في كل مصيبة دقيقة وجليلة، فشغله شهود هذا السبب بالاستغفار الذي هو أعظم الأسباب في دفع تلك المصيبة .
وأخرج الترمذي والطبراني في المعجم الصغير(2/ 103) من حديث البرّاء - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "ما اختلج عرق ولا عين إلا بذنب، وما يدفع الله عنه أكثر" ( صحيح الجامع: 308)
وفي رواية: " وما يعفو الله عنه أكثر"
ـ الاختلاج: الحركة والاضطراب ...
قال على بن أبي طالب - رضي الله عنه - :
ما نزل بلاءً إلا بذنب، ولا رُفع إلا بتوبة .
وقال شاعر الزهد بالأندلس " أبو عمران المرتلى " المتوفَى سنة 604هـ:
شكوت دائي إلي طبيبي ... فقال: إني به عليم
أدواء أدوائك المعاصي ... فأنت من أجلها سقيم
وبالمتاب الشفاء منها ... إني بمن تاب لي رحيم
قال تعالي:{أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُم مُّصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُم مِّثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}
( آل عمران: 165)
وقال - عز وجل - : { وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ} ( الشورى:30)
فليُسرع حينئذ بالتوبة والاستغفار، عسى أن يغفر له ربه ويتوب عليه ويرفع درجته ويصطفيه .
... ... ... ... ... ... ( النهاية 2/ 60)
7ـ أن يعلم المبتلى أن المصيبة قد تكون أكبر من هذا فخفف الله عنه فابتلاه بما هو عليه الآن، ولو شاء الله لكانت أعظم من هذا:
قال شريح القاضي ـ رحمه الله ـ:
" إني لأصاب بالمصيبة، فأحمد الله عليها أربع مرات، أحمد إذ لم يكن أعظم منها، وأحمد إذ رزقني الصبر عليها، وأحمد إذ وفقني للاسترجاع لما أرجو من الثواب، وأحمد إذا لم يجعلها في ديني"
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ( سير أعلام النبلاء 4/ 105)
وقال حبيب بن عبيد ـ رحمه الله ـ :
"وما ابتلى الله عبداً ببلاء إلا كان لله عليه فيه نعمة ألا يكون ابتلاه بأشد منه"
(الشكر لابن أبي الدنيا صـ 131)(1/30)
ومن أمثال العرب: " إن في الشر خياراً " ومعناه: بعض الشر أهون من بعض
قال الزمخشري: " يضرب في تهوين المصيبة علماً أن في المصائب ما هو فوقها"
(المستقصى في أمثال العرب:1/413)
8 ـ أن يعلم أن البلاء علامة على محبة الله تعالى له وإرادة الخيرية:
فقد أخرج البخاري من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - :
" من يرد الله به خيراً يُصِب منه "
وأخرج الترمذي وابن ماجة بسند صحيح عن أنس - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - :
"إن عظم الجزاء مع عظم البلاء، وإن الله إذا أحب قوماً ابتلاهم، فمن رضي فله الرضا، ومن سخط فله السخط"
وانظر إلى قوله - صلى الله عليه وسلم - : " وإن الله إذا أحب " فليس الشأن أن تحب الله إنما الشأن أن يحبك الله، وأهل البلاء هم أهل محبته.
وفي الحديث: "والله لن يلقى الله حبيبه في النار" ... ... ... ... ( صحيح الجامع: 407)
قال المباركفوري ـ رحمه الله ـ:
" إن عظم الجزاء": أي كثرته " مع عظم البلاء" فمن ابتلاه الله فجزاؤه أعظم
" ابتلاهم" أي اختبرهم بالمحن والرزايا
" فمن رضي" بما ابتلاه به " فله الرضا" منه تعالى وجزيل الثواب
" ومن سخط " أي: كره بلاء الله وفزع ولم يرض بقضائه " فله السخط" منه تعالى وأليم العذاب. ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... (تحفة الأحوذي: 7/77)
وأخرج الإمام أحمد والترمذي عن محمود بن لُبَيْد - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال:
" إن الله إذا أحب قوماً ابتلاهم، فمن رضي فله الرضا، ومن سخط فله السخط"
وفي رواية: " فمن صبر فله الصبر ، ومن جزع فله الجزع"
وأين هذا الخير الذي أراده الله بعبده عندما يبتليه بالبلاء؟
الخير في أنه ـ سبحانه وتعالى ـ يطهره بهذا البلاء من الذنوب والمعاصي والآثام، فيوافيه يوم القيامة ولا ذنب له.
كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم - في مسند الإمام أحمد بسند صحيح:(1/31)
" فما يبرح البلاء بالعبد حتى يتركه يمشي على الأرض وما عليه خطيئة"
وأما إذا أراد الله بعبده شراً أمسك عنه مواد التطهير: من بلاء في جسده أو ماله أو ولده ... أو غير ذلك من ألوان البلاء، حتى يرد على الله يوم القيامة وقد أثقلت الذنوب كاهله .
وفي هذا يقول النبي - صلى الله عليه وسلم - كما عند الترمذي بسند صحيح من حديث أنس - رضي الله عنه - :
" إذا أراد الله بعبده الخير عجل له العقوبة في الدنيا، وإذا أراد بعبده الشر أمسك عنه بذنبه حتى يوافي به يوم القيامة". ... ... ... ... ... ... ( صحيح الجامع: 308)
وكان بعض السلف يقول: " لولا مصائب الدنيا لوردنا القيامة مفاليس "
وأخرج البخاري من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - :
" مثل المؤمن كمثل الخامة من الزرع من حيث أتتها الريح كفأتها، فإذا اعتدلت تكفأ بالبلاء، والفاجر كالأرزة صماء معتدلة حتى يقصمها الله إذا شاء".
وعند البخاري أيضاً من حديث عبد الله بن كعب عن أبيه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال:
" مثل المؤمن كالخامة من الزرع تُفيؤُها الريح مرة وتعدلها مرة، ومثل المنافق كالأرزة لا تزال حتى يكون انجعافها مرة واحدة"
ـ قال الخليل: الخامة: الزرع أول ما ينبت على ساق واحد.
ـ تفيؤها: تميلها أو ترقدها.
ـ الأرزة: شجر بالشام يقال لثمره الصنوبر، وقيل شجر صلب معتدل لا يحركه هبوب الرياح.
ـ انجعافها: أي انقلاعها أو انكسارها من وسطها أو أسفلها .
ومعنى الحديث: أن المؤمن حيث جاءه أمر الله انصاع له وأطاع، فإن وقع له خير فرح به وشكر، وإن وقع مكروه صبر ورجا فيه الخير والآجر إذا اندفع عنه اعتدل شاكراً.
والكافر لا يتفقد الله باختياره، بل يحصل له التيسير في الدنيا ليتعسر عليه الحال في الميعاد، حتى إذا أراد الله إهلاكه قصمه، فيكون موته أشد عذاباً عليه، وأكثر ألماً في خروج نفسه(1/32)
وقيل: المعني أن المؤمن يتلقى الأعراض الواقعة عليه لضعف حظه في الدنيا، فهو كأوائل الزرع شديد الميلان لضعف ساقه والكافر بخلاف ذلك،
فالنبي - صلى الله عليه وسلم - قال كما في صحيح مسلم:
"وأما الكافر فيطعم بحسنات ما عمل بها لله في الدنيا، حتى إذا أفضى إلى الآخرة لم تكن له حسنة يُجزى بها"
فهؤلاء جازاهم الله أجور أعمالهم، فأعطاهم في الدنيا من الصحة والأمن والرزق والأولاد، ولم ينقصهم شيئاً من أجورهم لكن في الآخرة ليس لهم إلا النار.
وقد مثل النبي - صلى الله عليه وسلم - المؤمن بخامة الزرع الذي لا تزال الريح تميله من جانب إلى آخر
حيث قال - صلى الله عليه وسلم - :" مثل المؤمن كمثل الزرع، لا تزال الريح تميله، ولا يزال المؤمن يصيبه البلاء، مثل المنافق كمثل شجرة الأرْز (1) ، لا تهتز حتى تستحصد (2) ، وفي لفظ:" مثل المؤمن كمثل خامة (3) الزرع، يفئ (4) ورقه من حيث أتتها الريح تكفئها (5) ، فإذا سكنت اعتدلت، وكذلك المؤمن يكفأ بالبلاء، ومثل الكافر كمثل الأرْزة صماء (6) ، معتدلة حتى يقصمها الله إذا شاء " (7)
__________
(1) )) الأرز: بفتح الراء، وسكونها وهو الأشهرـ شجرة الأرز، وهو خشب معروف يشبه شجر الصنوبر وقيل: شجر معتدل صلب لا يحركه هبوب الريح
وقيل: هو الصنوبر. انظر: النهاية (1/38)، شرح صحيح مسلم للنووي (17/157) ، الفتح ( 10/107) .
(2) )) تستحصد: بفتح أوله وكسر الصاد على الأشهر، أي: لا تتغير حتى تنقلع مرة واحدة كالزرع الذي انتهى يبسه. ( شرح صحيح مسلم ـ الموضع السابق) .
(3) )) الخامة: القصبة اللينة من الزرع ( شرح مسلم، الموضع السابق).
(4) )) يفئ: أي يتحرك ويميل. (انظر النهاية(3/483).
(5) )) أي: تميلها (انظر ترتيب القاموس(4/62).
(6) )) أي: صلبة شديدة بلا تجويف . (فتح الباري(10/108).
(7) )) رواه البخاري(10/103) (ح 5644)، ( 13/446)، (ح 7466)، ومسلم (4/216) (ح 2809) من حديث أبي هريرة،
واللفظ الأول لمسلم، والثاني للبخاري في الموضع الأخير، وأخرجاه ـ أيضاً ـ من حديث كعب..(1/33)
قال المهلب ـ رحمه الله ـ:
"معني الحديث أن المؤمن حيث جاءه أمر الله انطاع له، فإن وقع له خير فرح به وشكر، وإن وقع له مكروه صبر ورجا الخير، فإذا اندفع عنه اعتدل شاكراً، والكافر لا يتفقده الله باختياره، بل يحصل له التيسير في الدنيا، ليتعسر عليه الحال في المعاد، حتى إذا أراد الله إهلاكه قصمه، فيكون موته أشد عذاباً عليه وأكثر ألماً في خروج نفسه" أ.هـ ( فتح الباري:10/107)"
وقال النووي ـ رحمه الله ـ: قال العلماء:
" معني الحديث أن المؤمن كثير الآلام في بدنه أو أهله أو ماله، وذلك مكفر لسيئاته، ورافع لدرجاته. وأما الكافر فقليلها، وإن وقع به شيء لم يكفر شيئاً من سيئاته، بل يأتي بها يوم القيامة كاملة" ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... (شرح صحيح مسلم: 17/158)
كما قال تعالي: {مَن كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لاَ يُبْخَسُونَ * أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ إِلاَّ النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُواْ فِيهَا وَبَاطِلٌ مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } (هود: 15-16)
وها هو عثمان بن أبي العاص الثقفي كان قبل إسلامه لا يصاب بالمرض أو البلاء، ولكنه عندما أسلم نزل به البلاء والمرض وهذا تأكيد لما مضى .
فقد أخرج الإمام مسلم عن عثمان بن أبي العاص الثقفي - رضي الله عنه - :
أنه شكا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وجعاً يجده في جسده منذ أسلم، فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ضع يدك على الذي تألم من جسدك وقل: بسم الله ثلاثاً وقل سبع مرات: أعوذ بالله وقدرته من شر ما أجد وأحاذر.
ومن خلال ما سبق تعلم صدقاً ما أخبر عنه النبي - صلى الله عليه وسلم - كما في مسند الإمام أحمد:
" عجباً لأمر المؤمن لا يقضي الله له شيئاً إلا كان خيراً له "
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله ـ كما في الحسنة والسيئة صـ 327:(1/34)
" وما يصيب الإنسان إن كان يسرُّه فهو نعمة بينة، وإن كان يسوؤه فهو نعمة من جهة أنه يكفر خطاياه ويثاب بالصبر عليه، ومن جهة أن فيه حكمة ورحمة لا يعلمها {وَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تُحِبُّواْ شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ وَاللّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ} ( البقرة: 216)
وقد قال في الحديث:
"والله لا يقضي الله للمؤمن قضاء إلا كان خيراً له، إن أصابته سراء شكر، فكان خيراً له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيراً له" أ.هـ ( أخرجه الإمام مسلم من حديث صهيب)
وقال ابن القيم ـ رحمه الله ـ:
" من تمام رحمة أرحم الراحمين تسليط أنواع البلاء على العبد، فإنه أعلم بمصلحته، فابتلاؤه له وامتحانه ومنعه من كثير من أغراضه وشهواته ـ من رحمته به، ولكن العبد لجهله وظلمه يتهم ربه بابتلائه، ولا يعلم إحسانه إليه بابتلائه وامتحانه. فهذا من تمام رحمته به، لا من بخله عليه، كيف؟! وهو الجواد الماجد، الذي له الجواد كله، وجود جميع الخلائق في جنب جوده أقل من ذرة في جبال الدنيا ورمالها .
ومن رحمته ـ سبحانه ـ بعباده أن نغص عليهم الدنيا وكدرها، لئلا يسكنوا إليها ولا يطمئنوا إليها ويرغبوا في النعيم المقيم في داره وجواره، فساقهم إلى ذلك بسياط الابتلاء والامتحان، فمنعهم ليعطيهم، وابتلاهم ليعافيهم، وأماتهم ليحييهم" ... ... ... ( إغاثة اللهفان: 2/174)
وقال أيضا:ً
" الرب ينعم على عبده بابتلائه، ويعطيه بحرمانه، ويصحه بسقمه، فلا يستوحش عبده من حالة تسوؤه أصلاً، إلا إذا كانت تغضبه عليه وتبعده منه" ( عدة الصابرين صـ 71)
وقال أيضاً:
قال وهب بن منبه ـ رحمه الله ـ: "لا يكون الرجل فقيهاً كامل الفقه يعد البلاء نعمة، ويعد الرخاء مصيبة، وذلك أن صاحب البلاء ينتظر الرخاء، وصاحب الرخاء ينتظر البلاء.
(عدة الصابرين ص 109)
وقال بعض أهل العلم:(1/35)
" لنعم الله علينا فيما زوى عنا من الدنيا أفضل من نعمه علينا فيما بسط لنا منها، وذلك أن الله لم يرض لنبيه الدنيا، فأن أكون فيما رضي الله لنبيه وأحب له أحب إلي أن أكون فيما كره له وسخطه"
( عدة الصابرين: صـ 157)
9 ـ ومما يهون على المبتلى ويخفف عنه ألم المصيبة: أن يعلم أن الله يكافأه في الدنيا خير مما فقد إذا صبر واحتسب:
إن من كرم الله تعالى على عباده الذين يبتليهم أنه يكافأهم في الدنيا ويعوضهم على ما فقدوه، ومن هذا القبيل،
1. ما حدث لأيوب - عليه السلام - :
فقد أخرج البذار وأبو يعلى وابن حبان والحاكم: عن أنس - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال:
"إن أيوب نبي الله - صلى الله عليه وسلم - لبث في بلائه ثمان عشرة سنة، فرفضه القريب والبعيد إلا رجلين من إخوانه كانا من أخص إخوانه، كانا يغدوان إليه ويروحان.
فقال أحدهما لصاحبه: تعلم، والله لقد أذنب أيوب ذنباً ما أذنبه أحد من العالمين،
قال له صاحبه: وما ذاك ؟ قال: منذ ثمان عشرة سنة لم يرحمه الله فيكشف ما به،
فلما راح إليه لم يصبر الرجل حتى ذكر ذلك له.
فقال أيوب: لا أدري ما تقول غير أن الله يعلم أني كنت أمر على الرجلين يتنازعان فيذكران الله، فأرجع إلى بيتي فأكفر عنهما كراهية أن يُذكر الله إلا في حق.
قال: وكان يخرج إلى حاجته، فإذا قضى حاجته أمسكت امرأته بيده فلما كان ذات يوم، أبطأ عليها فأوحى الله إلى أيوب في مكانه :{ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هَذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ }(ص:42) فاستبطأته فبلغته، فأقبل عليها قد أذهب الله ما به من البلاء فهو أحسن ما كان،
فلما رأته قالت: أي بارك الله فيك، هل رأيت نبي الله هذا المُبتلى؟
والله على ذلك ما رأيت أحداً كان أشبه به منك إذ كان صحيحاً،
قال: فإني أنا هو، وكان له أندران: أندر القمح، وأندر الشعير، فبعث الله سحابتين،(1/36)
فلما كانت إحداهما على أندر القمح، أفرغت فيه الذهب حتى فاض، وأفرغت الأخرى على أندر الشعير الورق حتى فاض"
وهكذا أخي المبتلى ...
تجد العبرة والتسلي والتعزي بما جرى لهذا النبي الكريم، حيث بقي أسير مرضه ثمانية عشرعاماً، حتى إن الناس ملوا زيارته، لطول المدة، فلم يبق معه إلا رجلان من إخوانه يزورانه، فلما أراد الله له الشفاء وتمت المدة المقدرة للمرض شفاه الله بسبب يسير، لكن جعل الله أثره عظيماً، فمنه السبب ومنه النتيجة والأثر.
ثم أنعم الله على أيوب - عليه السلام - بالأموال العظيمة من الذهب والفضة، إثابة له على صبره مع ما ادخره له في الآخرة من عظيم الثواب.
2. ما حدث لإبراهيم - عليه السلام - عندما ابتلاه الله بذبح ابنه فوجده طائعاً لأمره،ففداه بذبحٍ عظيم، وأمره ببناء البيت الحرام
3. ما حدث لأم سلمة لما مات زوجها فصبرت واحتسبت،عوضها الله خيراً منه: " رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "
4. ما حدث لأمر سليم زوجة أبي طلحة حين صبرت على فقد ولدها، عوضها الله خيراً من ذلك ولداً جاء من نسلهتسعة أولاد كلهم يحفظون القرآن .
5. ويعقوب - عليه السلام - غاب عنه ولده يوسف سنين عديدة وهو يصبر، ويكابد الآلام، ثم يفقد ابنه الثاني، ويصبر ويفقد بصره ولم يفقد صبره، ويعوضه الله أن يعودوا إليه جميعاً ويجمع شمل أولاده، ويعود إليه بصره.
6. ويوسف - عليه السلام - يسجن ظلماً ويصبر، ثم يخرج يملك خزائن الأرض.
7. وموسي - عليه السلام - يغيب عن أمه صغيراً وعن قومه كبيراً فيصبر، فتكون له العاقبة.
8. والنبي محمد - صلى الله عليه وسلم - يخرجه قومه من بلده ـ وهي أحب البلاد إليه ـ فيصبر ويحتسب ولكنه يرجع إليها عزيز الجانب.
10 ـ ومما يهون على المبتلى: انتظار الفرج:
فانتظار الفرج يهون المصيبة ويعين على الصبر عليها
فعلى المبتلى أن يحسن الظن بربه تعالى، ويعلم أن الله سيجعل له فرجاً ومخرجاً.(1/37)
قال تعالي:{ فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً{5} إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً} ( الشرح: 5، 6)
وأخرج الإمام أحمد عن أنس - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ:
"واعلم إن النصر مع الصبر وإن الفرج مع الكرب، وإن مع العسر يسراً"
ولرب نازلة يضيق بها الفتي ... ذرعاً وعند الله منها المخرجُ
ضاقت فلما استحكمت حلقاتها ... فرجت وكان يظنها لا تفرجُ
قال ابن القيم ـ رحمه الله ـ:
" انتظار روح الفرج يعني راحته ونسيمه ولذته، فإن انتظاره ومطالعته وترقبه يخفف حمل المشقة، ولاسيما عند قوة الرجاء أو القطع بالفرج، فإنه يجد في حشو البلاء من روح الفرج ونسيمه وراحته: ما هو من خفي الألطاف وما هو فرج معجَّل"
قال الماوردي ـ رحمه الله ـ في الأسباب التي تسهل المصيبة وتخفف الشدة:
ومنها أن يتصور انجلاء الشدائد، وانكشاف الهموم، وأنها تتقدر بأوقات لا تنصرم قبلها، ولا تستديم بعدها، فلا تقصر بجزع، ولا تطول بصبر، وإن كل يوم يمر بها فهو يذهب منها بشطر ويأخذ منها بنصيب، حتى تنجلى وهو عنها غافل.
وقال بعض الشعراء:
عواقب مكروه الأمور خيار ... وأيام ضر لا تدوم قصار
وليس بباق بؤسها ونعيمها ... إذا كر ليل ثم كر نهار
11ـ ومما يهون على المبتلى ويخفف عنه ألم المصيبة، التأسي بأهل المصائب:
يقول ابن القيم ـ رحمه الله ـ كما في زاد المعاد ( 4/190):
" ومن علاجه أن يطفئ نار مصيبته ببرد التأسي بأهل المصائب، ولينظر يمنة فهل يري إلا محنة؟! ثم ليعطف يسرة فهل يري إلا حسرة؟! وأنه لو فتش العالم لم يرَ فيهم إلا مبتلى، إما بفوات محبوب، أو حصول مكروه، وأن سرور الدنيا أحلام نوم، أو كظلٍ زائلٍ، إن أضحكت قليلاً أبكت كثيراً،
وإن سرت يوماً ساءت دهراً، وإن متعت قليلاً منعت طويلاً، وما ملأت داراً خيرة إلا ملأتها عبرة، ولا سرته بيوم سرور إلا خبأت له يوم شرور.(1/38)
قال ابن مسعود - رضي الله عنه - : " لكل فرحة ترحة، وما ملئ بيت فرحاً إلا ملئ ترحاً، "
وقال ابن سيرين ـ رحمه الله ـ : ما كان ضحك قط إلا كان من بعده بكاء".
وذكر ابن الجوزي ـ رحمه الله ـ بإسناده عن عبد الله بن زياد:
أنه حدثه من قرأ في الكتب أن ذا القرنين لما رجع من مشارق الأرض ومغاربها، وبلغ أرض بابل مرض مرضاً شديداً، فلما خاف أن يموت كتب إلى أمه: يا أماه، اصنعي طعاماً، واجمعي من قدرت عليه، ولا يأكل طعامك من أصيب بمصيبة، واعلمي هل وجدت لشيء قراراً باقياً وخيالاً دائماً ؟! إني قد علمت يقيناًَ أن الذي أذهب إليه خير من مكاني، قال: فلما وصل كتابه صنعت أمه طعاماً، وجمعت الناس، وقالت: لا يأكل هذا من أصيب بمصيبة، فلم يأكلوا، فعلمت ما أراد
فقالت: من يبلغك عني أنك وعظتني فاتعظت، وعزيتني فتعزيت، فعليك السلام حياً وميتاً"
( تسلية أهل المصاب صـ20، 21 وسنده فيه مقال)
فبرد التأسي لأهل المصائب يطفئ نار المصيبة ويهون الخطب .
قالت الخنساء ـ رضي الله عنها ـ تنعى أخاها صخراً وذلك قبل الإسلام:
ولولا كثرة الباكين حولي ... على إخوانهم لقتلت نفسي
وما يبكون مثل أخي ولكن ... أُعزِّي النفس عنهم بالتأسي
وهذا المعنى قد حرمه الله - عز وجل - أهل النار، فإن المخلدين فيها كل واحد محبوس وحده، فهو يظن أن لم يبق في النار سواه.
وبالنظر إلى حال الأنبياء ـ وهم قدوتنا ـ كانوا أكثر الناس ابتلاء ثم الذين دونهم ثم الأمثل فالأمثل، فإذا قرأت في سيرتهم وعرفت أحوالهم هان عليك ما تجد من ألم المصيبة وشدة البلاء.
قال تعالي: { أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُم مَّسَّتْهُمُ الْبَأْسَاء وَالضَّرَّاء وَزُلْزِلُواْ ..}
( البقرة: 214)
يقول ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ:(1/39)
" أخبر الله تعالي المؤمن أن الدنيا دار بلاء وأنه مبتليهم فيها، وأخبرهم أنه هكذا فعل بأنبيائه وصفوته لتطيب أنفسهم فقال:{ مَّسَّتْهُمُ الْبَأْسَاء وَالضَّرَّاء وَزُلْزِلُواْ ..}
( أخرجه ابن أبي حاتم وابن المنذر) (الدرر المنثور)
ـ البأساء: الفتن والضراء: السقم وزلزلوا: بالفتنة وأذى الناس إياهم.
يقول ابن الجوزي ـ رحمه الله ـ:
علاج المصائب بسبعة أشياء:
الأول: أن يعلم بأن الدنيا دار ابتلاء، والكرب لا يرجى منه راحة.
الثاني: أن يعلم أن المصيبة ثابتة.
الثالث: أن يقدر وجود ما هو أكثر من تلك المصيبة.
الرابع: النظر في حال من ابتلي بمثل هذا البلاء، فإن التأسي راحة عظيمة.
الخامس: النظر في حال من ابتلي أكثر من هذا البلاء فيهون عليه هذا .
السادس: رجاء الخلف، إن كان من مضى يصح عنه الخلف: كالولد والزوجة .
السابع: طلب الأجر بالصبر في فضائله، وثواب الصابرين وسرورهم في صبرهم، فإن ترقى إلى مقام الرضي فهو الغاية . أهـ
12ـ أن يعلم أن هذه المصيبة هي دواء نافع ساقه إليه الطبيب العليم بمصلحته الرحيم به، فليصبر على تجرعه ولا يتقيأه بتسخطة وشكواه، فيذهب نفعه باطلا:
" ابن القيم "
فاعلم أيها المبتلى ... أن الله سبحانه أرحم بك من نفسك ومن والديك ومن الناس أجمعين.
قال تعالى: { كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ } (الأنعام:12)
وقال سبحانه: {كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ } ( الأنعام: 54)
وهذا إخبار منه سبحانه بأنه كتب الرحمة على نفسه تفضلاً منه بذلك، من غير أن يوجبها عليه موجب أو يقترحها عليه مقترح . وقال جل وعلا: {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ} (الأعراف: 156)
وقال أيضاً إخباراً عن دعاء الملائكة: { رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَّحْمَةً وَعِلْماً} (غافر:7)
وقال سبحانه وتعالى: {وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ } (الأنبياء:83)(1/40)
وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - :
" لما خلق الله الخلق كتب في كتابه، فهو عنده فوق العرش: إن رحمتي تغلب غضبي"
وفي رواية: "إن رحمتي سبقت غضبي"
وأخرج البخاري ومسلم عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - قال:
" قدم على النبي - صلى الله عليه وسلم - سبي، فإذا امرأة من السبي تحلب ثديها تسعى إذا وجدت صبياً في السبي أخذته فألصقته ببطنها وأرضعته، فقال لنا النبي - صلى الله عليه وسلم - : أترون هذه المرأة طارحة ولدها في النار؟ قلنا: لا. وهي تقدر أن لا تطرحه، فقال: لله أرحم بعباده من هذه بولدها"
فإذا علمت أن الله أرحم بك من نفسك ومن والدتك، دعاك هذا إلى الاستسلام لما يقضيه، والصبر على تدبيره، لعلمك أن ما يصيبك هو عين الرحمة بك؛ لأن الذي قضاه عليك أرحم الراحمين .
قال ابن عطاء الله:
" ليخفف عليك البلاء علمك بأنه سبحانه هو المبتلي، فالذي واجهتك منه الأقدار هو الذي عودك حسن الاختيار " ... ... ... ... ... ... ... ... ... (جنة الرضا:3/33)
يقول ابن الجوزي ـ رحمه الله ـ:
المؤمن في الشدة ينبغي أن يراعي الساعات، ويتفقد فيها أحوال النفس، ويتلمح الجوارح مخافة أن يبدو من اللسان كلمة أو من القلب تسخط، فكأن قد لاح فجر الأجر فانجاب ليل البلاء، ومدح الساري بقطع الدُّجَي، فما طلعت شمس الجزاء إلا وقد وصل إلي منزل السلامة، ولقد رأيت كثيراً من المغفلين يظهر عليهم السخط بالأقدار، وفيهم من قل إيمانه فأخذ يعترض، وفيهم من خرج إلى الكفر ورأي أن ما يجري كالعبث، وقال: ما فائدة الإعدام بعد الإيجاد والابتلاء ممن هو غني عن أذانا ؟ ويحك أحضر عقلك واسمع ما أقول: أليس قد ثبت أن الحق سبحانه مالك وللمالك أن يتصرف في ملكه كيف يشاء ؟ أليس قد ثبت أنه حكيم والحكيم لا يعبث؟(1/41)
فلا تعترض على الله بعقلك، ولا تنكر الحكمة إذا لم تتوصل إليها بفهمك، فلم يبق إلا أن نضيف العجز عن فهم ما يجري إلى أنفسنا ونقول: هذا فعلُ عالم حكيم، ولكن لا يبين لنا معناه، ولا نفهم حكمته ولم تتوصل عقولنا إلى سببه، وليس هذا بعجيب فإن موسي - عليه السلام - خفي عليه وجه الحكمة في نقض السفينة الصحيحة وقتل الغلام الجميل، فلما بَيَّن له الخضر وجهة الحكمة أذعن، فلنكن مع الخالق على الأقل كموسي مع الخضر، فنسأل الله - عز وجل - عقلاً مسلماً يقف على حده، ولا يعترض على خالقه ومُوجدِه، ثم الويل للمعترض، أيَرُد اعتراضه ما فات فما يستفيد إلا الخزي، نعوذ بالله ممن خُذل.
فلتعلم أيها المبتلى ...
أن الله تعالي لم يقدر عليك هذه المصيبة ليهلكك بها ولا ليعذبك، إنما ابتلاك ليمتحن صبرك ورضاك عنه
* لما أرادوا قطع رجل عروة بن الزبير قالوا له: لو سقيناك شيئاً كي لا تشعر.
قال: إنما ابتلاني ليرى صبري.
* وروى ابن أبي الدنيا قال:
لما أدخل إبراهيم التيمي سجن الحجاج رأي قوماً مقرنين في السلاسل، إذا قاموا قاموا معاً، وإذا قعدوا قعدوا معاً فقال: يا أهل بلاء الله في نعمته، ويا أهل نعمة الله في بلائه إن الله - عز وجل - قد رآكم أهلاً يبتليكم فرأوه أهلاً للصبر، فقالوا: من أنت رحمك الله ؟ قال: أنا ممن يتوقع من البلاء مثل ما أنتم عليه فقال أهل السجن: ما نحب أن أخرجنا.
ولاشك أن مع الابتلاء يحصل الكرب والهم، لكن شتان بين كرب المبتلى الراضي وبين كرب المبتلى الساخط، قال الله تعالي: { إِن تَكُونُواْ تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللّهِ مَا لاَ يَرْجُونَ } ( النساء: 104)(1/42)
ومعني هذه الآية: أن المسلمين كما يُصيبهم الجراح والقتل كذلك يحصل لأعدائهم في الحرب، فهم في ذلك سواء، ولكن المسلمين يرجون من الله المثوبة والنصر، وأعدائهم لا يرجون شيئاً من ذلك، فكلا الفريقين في الحرب والقتال سواء، لكنهم في الأجر والمثوبة والهدف والنية مختلفين، وكذلك الراضون والساخطون، المؤمنون المطمئنون والعاصون المتذبذبون في الابتلاء والفتن سواء، فكلا من الفريقين يبتلى، ولكن شتان بين ابتلاء الراضي المؤمن والساخط المسلم، فطالما أن الابتلاء واقع لا محالة لكلاهما، فلأن تكون مبتلى راضياً مؤمناً خير لك من أن تكون مبتلاً ساخطاً.
فالمصاب من حُرم الثواب.
فمن تحقق هذا وعرفه وشاهده بقلبه، علم أن نعم الله على عبده المؤمن في البلاء أعظم من نعمه عليه في الرخاء وهذا تحقيق معني الحديث الصحيح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - :
" لا يقضي الله للمؤمن قضاءً إلا كان خيراً له، إن أصابته سراء شكر فكان خيراً له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيراً له وليس ذلك إلا للمؤمن " ... ... ... (مسلم).
وفي رواية أخري عند مسلم من حديث صهيب الرومي قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - :
" عجباً لأمر المؤمن أن أمره كله خير، وليس ذاك لأحد إلا للمؤمن، وإن أصابته سراء شكر فكان خيراً له، وإن أصابته ضراء صبر لكان خيراً له.
ومن هاهنا كان العارفون بالله لا يختارون إحدى الحالتين على الأخرى، بل أيهما قدر الله رضوا به وقاموا بعبوديته اللائقة .
قيل ليحيي بن معاذ: متي يبلغ العبد إلى مقام الرضا ؟
فقال: إذا أقام نفسه على أربعة أصول فيما يعامل به ربه فيقول:
إن أعطيتني قبلت، وإن منعتني رضيت، وإن تركتني عبدت، وإن دعوتني أجبت.
وقال سعيد بن المسيب: قال لقمان لابنه: " لا ينزلن بك أمر رضيته أو كرهته إلا جعلت في الضمير منك أن ذلك خير لك" ... ... ... ... ... (الرضا لأبن أبي الدنيا صـ 40)
وقال ابن ناصر الدين الدمشقي ـ رحمه الله ـ:(1/43)
يجري القضاء وفيه الخير نافلة ... لمؤمن واثق بالله لا لاهي
إن جاءه فرج أو نابه ترح ... في الحالتين يقول: الحمد لله
(برد الأكباد عند فقد الأولاد صـ 9)
هنيئاً لأهل البلاء الصابرين:
هنيئاً لأهل البلاء إذا صبروا واحتسبوا: فالصبر هو عبودية الضراء، وهو واجب باتفاق.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله ـ كما في تسلية أهل المصائب صـ 173:
الصبر على المصائب واجب باتفاق أئمة الدين.
ويقول ابن القيم ـ رحمه الله ـ أيضاً كما في مدارج السالكين:
هذا والصبر واجب باتفاق العلماء وأعلى من ذلك الرضا بحكم الله، وقيل عن الرضا: إنه واجب
وقيل: هو مستحب، وقد أجمع العلماء على أن حكمه لا يقل عن الاستحباب.
وقال ابن القيم ـ رحمه الله ـ كما في مدارج السالكين (2/152):
وهو واجب بإجماع الأمة، وهو نصف الإيمان، فإن الإيمان نصفان: نصف صبر، ونصف شكر.
وقال أيضاً: والصبر يتحقق بثلاثة أمور:
1. حبس النفس عن الجزع.
2. حبس اللسان عن الشكوى للخلق.
3. حبس الجوارح عن فعل ما ينافي الصبر ... (عدة الصابرين صـ 13، مدارج السالكين:2/156)
والصبر أنواع:
1. صبر على طاعة الله
2. صبر عن معصية الله .
3. وصبر على امتحان الله، أو على أقدار الله تعالي.
وهذه الأنواع ذكرها الحافظ في الفتح (11/325) في شرحه للحديث الذي أخرجه البخاري ومسلم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال:
" حفت الجنة بالمكاره، وحفت النار بالشهوات"
وعند البخاري: "حجبت" بدل "حفت"
ـ والمكاره: هي كل ما تكرهه النفس ويشق عليها، وهذا يتناول مجاهدة النفس في القيام بالطاعات واجتناب المعاصي والصبر على المصائب، والتسليم لأمر الله فيها.
لكن ما هو الصبر؟
الصبر لغة: الحبس والكف.
الصبر في الشرع: حبس النفس عن الجزع والتسخط، وحبس اللسان عن الشكوى، وحبس الجوارح عن المعصية: كاللطم وشق الثياب.
وقيل الصبر هو: الوقوف مع البلاء بحسن الأدب.(1/44)
وقد ذكر الله تعالي الصبر في القرآن في نحو من تسعين موضعاً، وأضاف إليه أكثر الخيرات والدرجات وجعلها ثمرة له.
1. أن الله جمع للصابرين ثلاثة أمور لم يجمعها لغيرهم. وهي:
الصلاة منه عليهم، ورحمته لهم، وهدايته إياهم.
قال تعالي: { وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ{155} الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُواْ إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ }
( سورة البقرة: 155، 156)
قال ابن كثير ـ رحمه الله ـ: قال عمر - رضي الله عنه - : نعم العدلان، ونعمت العلاوة
{ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ } فهذان العدلان، { وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ } فهذه العلاوة
والعدلان: وهو ما يوضع على جانبي البعير، يعدل كل منهما الآخر، والعلاوة: هي ما توضع بين العدلين، وهي زيادة في الحمل، وكذلك هؤلاء أعطوا ثوابهم وزيدوا أيضاً. أ هـ
(تفسير ابن كثير:1/285)
وقال بعض السلف وقد عزي على مصيبة نالته فقال:
"مالي لا أصبر، وقد وعدني الله على الصبر ثلاث خصال، كل خصلة منها خير من الدنيا وما عليها"
( يقصد الآية السابقة ) ( عدة الصابرين صـ 85)
2. ومن فضل الصبر أن الله أثنى على أهله
فقال تعالي: {وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاء والضَّرَّاء وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ} (البقرة: 177) وهو كثير في القرآن .
3. الإخبار منه تعالى بأن أهل الصبر هم أهل العزائم.
قال تعالي: { وَلَمَن صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ} ( سورة الشورى: 43)
أي: مما يعزم من الأمور التي إنما يعزم على أجلها وأشرفها.
4. الصبر يورث صاحبه درجة الإمامة في الدين .
قال ابن تيمية ـ رحمه الله ـ:
" بالصبر واليقين تنال الإمامة في الدين" ثم تلا قوله تعالي:(1/45)
{وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ} سورة السجدة: 24)
(مدارج السالكين: 2/153، وعدة الصابرين صـ 84).
لو لم يكن في الصبر من فضيلة إلا الفوز بمحبة الله تعالي لكفي.
5. إيجابه سبحانه وتعالي ـ محبته لهم ( أي لأهل الصبر ).
قال تعالي: { وَاللّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ} (آل عمران:146)
ومحبة الله لعبده هي أعظم مكسب يحصل للعبد، فإن العبد إذا كان محبوباً لله،أقبل عليه الخير من كل جهة، واندفع عنه الشر والأذى، وتحققت له سعادة الدنيا والآخرة .
6. إيجابه معيته لهم، وهي معية خاصة، تتضمن حفظهم ونصرهم وتأييدهم
وهي غير المعية العامة ـ وهي معية العلم والإحاطة ـ قال تعالي: { وَاصْبِرُواْ إِنَّ اللّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ }
(الأنفال: 46)
قال بعض السلف:" ذهب الصابرون بخير الدنيا والآخرة، لأنهم نالوا من الله معية الله " ...
( عدة الصابرين صـ 134)
7. إيجاب الجزاء لهم بأحسن أعمالهم.
قال تعالي: { وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُواْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } (النحل: 96)
8. الإخبار بأنه ما يلقى الأعمال الصالحة وجزاءها والحظوظ العظيمة إلا أهل الصبر
كقوله تعالي: { وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِّمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً وَلَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الصَّابِرُونَ } (القصص: 80)
وقال تعالي: { وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ } (فصلت: 35)
وللفوز بهذه المنح الربانية وهذا الأجر الكبير العظيم، لابد من الاحتساب والصبر على البلاء
قال تعالي: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اصْبِرُواْ وَصَابِرُواْ وَرَابِطُواْ وَاتَّقُواْ اللّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} (آل عمران: 200)(1/46)
وقال تعالي: { وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ{34} الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَالصَّابِرِينَ عَلَى مَا أَصَابَهُمْ وَالْمُقِيمِي الصَّلَاةِ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ } (الحج: 34- 35)
وقال تعالي: { وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ ..إلى قوله ... أَعَدَّ اللَّهُ لَهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً } ( الأحزاب:35)
وقال تعالي: { وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُبَوِّئَنَّهُم مِّنَ الْجَنَّةِ غُرَفاً تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ {58} الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ{59} ( العنكبوت: 58ـ59)
وقال تعالي: {أُوْلَئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُم مَّرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُوا } ( القصص:54)
9. إطلاق البشرى لأهل الصبر.
قال تعالي:{وَ لَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوفْ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الأَمَوَالِ وَالأنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ}
(البقرة: 155)
أهل البلاء الصابرون يعطيهم الله تعالي بغير حساب.
10. إيجابه ـ سبحانه وتعالي ـ الجزاء لهم بغير حساب.
قال تعالى: {ٌ إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ} ... (الزمر:10)
قال الأوزاعي ـ رحمه الله ـ:
" ليس يوزن لهم ولا يكال، إنما يغرف لهم غرفاً. ... ... ... ... ... ( تفسير ابن كثير:7/90)
وقال سليمان بن القاسم ـ رحمه الله ـ: " كل عمل يُعرف ثوابه إلا الصبر،
قال تعالي: {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ } ... (الزمر:10)
قال: كالماء المنهمر ... ... ... ... ... ... ... ... ... (عدة الصابرين صـ 85)
فكل طاعة لها أجر معلوم، وثواب مقدور، إلا الصبر فإنه يغرف لأهله غرفاً، فلا تنظر إلى سواء الحال، ولكن تأمل جميل المآل.
11. الإخبار أن الفوز بالمطلوب المحبوب، والنجاة من المكروه المرهوب ودخول الجنة ـ إنما نالوه بالصبرـ(1/47)
كقوله تعالي: { جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَالمَلاَئِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِم مِّن كُلِّ بَابٍ{23} سَلاَمٌ عَلَيْكُم بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ } (الرعد:23- 24)
12. وجعل الله الفوز بالجنة والنجاة من النار لا يحظى به إلا الصابرون .
قال تعالى: {إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِمَا صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمُ الْفَائِزُونَ } (المؤمنون:111)
فاصبر أيها المريض:{ فَعَسَى اللّهُ أَن يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِّنْ عِندِهِ } (المائدة:52)
وإذا تكلمنا عن الصبر لا ننسي أيوب - عليه السلام - فقد ضُرِبَ به المثل في الصبر. .
صبر أيوب - عليه السلام - :
قال تعالي: { وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ{83} فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِن ضُرٍّ وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُم مَّعَهُمْ رَحْمَةً مِّنْ عِندِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ } ( الأنبياء: 83،84)
قال ابن كثير ـ رحمه الله تعالي ـ في تفسيره ( 3/188):
يذكر تعالى عن أيوب - عليه السلام - ما كان أصابه من البلاء في ماله وولده وجسده، وذلك أنه كان له من الدواب والأنعام والحرث شيء كثير وأولاد كثيرة ومنازل مرضية، فابتلي في ذلك كله وذهب عن آخره، ثم ابتلي في جسده يقال بالجذام في سائر بدنه، ولم يبق منه سليم سوي قلبه ولسانه يذكر بهما الله - عز وجل - حتى عَافَّهُ الجليس وأفراد في ناحية من البلد ولم يبق أحد من الناس يحنو عليه سوي زوجته كانت تقوم بأمره، ويقال إنها احتاجت فصارت تخدم الناس من أجله
وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : "أشد الناس بلاءً الأنبياء ثم الصالحون ثم الأمثل فالأمثل"
وفي الحديث الآخر:"يبتلى الرجل على قدر دينه فإن كان في دينه صلاة زيد له في بلاءه"
( الصحيحة: 143)(1/48)
وقد كان نبي الله أيوب - عليه السلام - غاية في الصبر وبه يضرب المثل في ذلك .
وقال يزيد بن ميسرة:
لما ابتلى الله أيوب - عليه السلام - بذهاب الأهل والمال والولد ولم يبق شيء له أحسن الذكر ثم قال: أحمدك رب الأرباب الذي أحسنت إلىَّ أعطيتني المال والولد فلم يبق من قلبي شعبة إلا قد دخله ذلك، فأخذت ذلك كله مني وفرغت قلبي، فليس يحول بيني وبينك شيء، لو يعلم عدوي إبليس بالذي صنعت حسدني. قال: فلقى إبليس من ذلك منكراً.
( تفسير ابن كثير: 3 /188)
وها هو النبي - صلى الله عليه وسلم - يبيِّن فضل الصبر
1. فقد أخرج الحاكم في المستدرك من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال:
"ما رزق الله عبداً خيراً له ولا أوسع من الصبر" ... ... ... ... ( صحيح الجامع: 5926)
يقول المناوي في فيض القدير ( 5/447) في شرحه لهذا الحديث:
لأنه إكليلٌ للإيمان، وأوفر المؤمنين حظاً من الصبر أوفرهم حظاً من القرب من الرب. والصبر رزق من الله لا يستبد العبد بكسبه، وما يضاف إلى كسب العبد هو التصبُّر، فإذا حمل على نفسه التصبر أمده الله بكمال الصبر، وفي الخبر "من يتصبر يصبره الله " فإذا رزقه الصبر كان أوسع من كل نعمة واسعة؛ لأنه يُسهل بالصبر جميع الخيرات وترك المنكرات وتحمل المكروهات المقدرات والرزق المشار إليه رزق الدين والإيمان". أهـ
2. وأخرج البخاري ومسلم عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال:
" من يتصبر يصبره الله، وما أعطي أحد عطاءً خيراً وأوسع من الصبر".
ـ التصبر: تكلف الصبر، والمعنى: فإذا صبَّرت نفسك وألزمتها ذلك، صار ذلك سجية لها لا يشق عليها.
وقال السندي في حاشيته على النسائي( 5/96):
أي يتكلف في تحمل مشاق الصبر، وفي التصبُّر بباب التكلف إشارة إلى أن تكملة الصبر تحتاج في الحصول إلى الاعتبار وتحمل المشاق من الإنسان". أهـ
وقال المباركفوري في تحفة الأحوذي(6/170):(1/49)
أي يطلب توفيق الصبر من الله تعالي؛ لأنه قال تعالي: { وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلاَّ بِاللّهِ }(النحل:127)
أو يأمر نفسه بالصبر ويتكلف في التحمل عن مشاقه .
وقوله: "يصبره الله"، قال السندي: من التصبير أي جعله صابراً. أهـ
وقال المباركفوري: أي يسهل عليه الصبر. أهـ
وقال القاري: وذلك لأن مقام الصبر أعلى المقامات؛ لأنه جامع لمكارم الصفات والحالات؛ ولذا قُدِّم على الصلاة في قوله تعالى: {وَاسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ } (البقرة:45)
ومعنى كونه أوسع أنه تتسع به المعارف والمشاهد والأعمال والمقاصد أهـ. ( تحفة الأحوذي: 6/170)
3. وأخرج الإمام مسلم عن أبي مالك الأشعري - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال:
"الصلاة نور، والصدقة برهان، والصبر ضياءُ، والقرآن حجة لك أو عليك "
قال النووي ـ رحمه الله ـ في شرحه لهذا الحديث (3/103):
المراد أن الصبر محمود، ولا يزال صاحبه مستضيئاً مهتدياً مستمراً على الصواب. أهـ
وقيل: قوله " ضياء" يعني في ظلمة القبر، لأن المؤمن إذا صبر على الطاعات والبلايا في سعة الدنيا، وعن المعاصي فيها جازاه الله بالتفريج والتنوير في ضيق القبر وظلمته.
4. وأخرج أبو داود عن المقداد - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - :
" إن السعيد لمن جُنِّبَ الفتن، ولمن ابتُلِيَ فصبر." ... ... ... ... ( صحيح الجامع 1637)
5. وأخرج ابن أبي شيبة بسند صحيح عن جابر - رضي الله عنه - قال:
"قيل يا رسول الله أي الإيمان أفضل؟، قال الصبر والسماحة".
قال ابن القيم ـ رحمه الله ـ:
وهذا من أجمع الكلام وأعظمه برهاناً وأوعبه لمقامات الإيمان من أولها إلى آخرها، فإن النفس يراد منها شيئان: بذل ما أمرت به وإعطاؤه، فالحامل عليه السماحة وترك ما نهيت عنه والبعد منه فالحامل عليه الصبر.
وأخرج البخاري معلقاً في كتاب التفسير عن علقمة أنه قال في قوله تعالي:(1/50)
{ وَمَن يُؤْمِن بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ } (1) قال: هي المصيبة تصيب الرجل فيعلم أنها من عند الله فيرضَى ويُسَلِّم.
فمن صبر على البلاء والمصيبة انقلبت محنته منحةً عظيمة، واستحالت بليته عطية جسيمة، وصار ما كرهه محبوباً، وللأجور العظيمة حائزاً مصيباً.
ولذلك جاء في وصية النبي - صلى الله عليه وسلم - لابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ كما عند الإمام أحمد: " واعلم أن في الصبر على ما تكره خيراً كثيراً"
- أقوال السلف في الصبر -
*قال عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - : " ووجدنا خير عيشنا بالصبر" ... ... ( الزهد لابن المبارك ص 222)
وقال أيضاً: " أفضل عيش أدركناه بالصبر، ولو أن الصبر كان من الرجال كان حليماً"
( عدة الصابرين ص 111)
*وقال علي - رضي الله عنه - :" والصبر من الإيمان بمنزلة الرأس من الجسد، فإذا قطع الرأس بار الجسد،
ثم رفع صوته فقال: ألا إنه لا إيمان لمن لا صبر له " ... ... ... (عدة الصابرين ص 111)
وقال أيضاً: الصبر مطية لا تكبو " ... ... ... ... ... ... ( عدة الصابرين ص 111)
*وقال عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - :
" الصبر نصف الإيمان، والإيمان اليقين كله " ... ... ... ... ( المعجم الكبير للطبراني: 9/107)
وقال أيضاً: الإيمان نصفان: نصف صبر، ونصف شكر" ... ... ... ( عدة الصابرين ص 128)
*وقال عمر بن عبد العزيز ـ رحمه الله ـ:
"ما أنعم الله على عبد نعمة فانتزعها منه، فعاضه مكانها الصبر، إلا كان ما عوضه خيراً مما انتزعه"
( عدة الصابرين ص 112)
*وقال الحسن ـ رحمه الله ـ:
الصبر كنز من كنوز الخير، لا يعطيه الله إلا لعبد كريم عنده " ... ... ... (عدة الصابرين ص 111)
وقال أيضًا: " ما جرعتين أحب إلى الله من جرعة مصيبة موجعة محزنة، ردها صاحبها بحسن عزاء وصبر، وجرعة غيظ ردها بحلم" ... ... ... ... ... ( عدة الصابرين ص 114)
*وقال عمرو بن بكير ـ رحمه الله ـ:
صبرت فكان الصبر خير مغبة ... وهل جزع يجدي علي فأجزع
__________
(1) )) (التغابن:11).(1/51)
ملكت دموع العين حتى رددتها ... إلى ناظري فالعين في القلب تدمع
(عدة الصابرين صـ 115)
*وقال الشاعر:
الصبر مثل اسمه، مر مذاقته ... لكن عواقبه أحلى من العسل
( مدارج السالكين:2/158)
*وقال محمد بن يسير:
إن الأمور إذا انسدت مسالكها ... فالصبر يفتح منها كل ما ارتتجا (1)
لا تيأسن وإن طالت مطالبه ... إذا استعنت بصبر أن ترى فرجا
أخلق (2) بذي الصبر أن يحظى بحاجته ... ومدمن القرع للأبواب أن يلجا
( أدب الدنيا والدين صـ 458)
*قال عون بن عبد الله: الخير الذي لا شر معه: الشكر مع العافية، والصبر مع المصيبة.
سؤال يبحث عن إجابة: هل المؤمن يثاب ويؤجر على المصيبة أم على الصبر عليها والرضا؟
اختلف أهل العلم في ذلك على قولين:
القول الأول: أنه لا ثواب للمصاب إلا على الصبر، واستدلوا بقول الله تعالى:
{ إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ} ... (الزمر:10)
ويجيب عن هذا سلطان العلماء العز بن عبد السلام فيقول:
أنه لا يؤجر على المصائب؛ لأن الأجر يكون من الكسب، والمصائب ليست من الكسب، بل الأجر على الرضا والصبر.أهـ
أي أن الثواب إنما يكون على فعل العبد لا على فعل الله فيه، وقد قال تعالى: {الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُواْ إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ (156) أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ}
( سورة البقرة: 156، 157)
فما حصل من صلاة ورحمة وهداية إنما هو بسبب استرجاعهم
وكذلك حديث أبي طلحة الخولاني - رضي الله عنه - أنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - :
__________
(1) )) ما ارتتجا: انفلق ... ... ... ( ترتيب القاموس (2/299).
(2) )) أخلق: جدير به ... ... ( ترتيب القاموس (1/99).(1/52)
" إذا مات ولد العبد قال الله لملائكته: قبضتم ولد عبدي؟ فيقولون: نعم، فيقول: قبضتم ثمرة فؤاده؟ فيقولون: نعم، فيقول: ماذا قال عبدي؟ فيقولون: حمدك واسترجع، فيقول الله: ابنوا لعبدي بيتاً في الجنة وسموه بيت الحمد"
وحكي الخطابي عن غيره:
إن المرء لا يؤجَر على المصيبة؛ لأنها ليست من صُنعه، وإنما يؤجر على حسن تثبته وجميل صبره.
وكذلك قال القرطبي في الفهم:
إنه لابد من الصبر والاحتساب على المصيبة حتى يؤجر العبد، واستدل بقول الله تعالي:
{وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ{155} الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُواْ إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ } ( سورة البقرة: 155، 156)
القول الثاني: إن المصاب يثاب على كل مصيبة تنزل به، واستدلوا بقول الله تعالى:
{ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لاَ يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلاَ نَصَبٌ وَلاَ مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَلاَ يَطَؤُونَ مَوْطِئاً يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلاَ يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَّيْلاً إِلاَّ كُتِبَ لَهُم بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ } (التوبة:120)
وعند البخاري أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال:
" ما من مسلم يموت له ثلاثة من الولد لم يبلغوا الحِنْث إلا أدخله الله الجنة بفضل رحمته إياهم"
وقد تعقب ابن حجر ـ رحمه الله ـ القرطبي فقال:
الأحاديث صحيحة صريحة في حصول الأجر بمجرد حصول المصيبة، أما الصبر والرضا فقدر زائد يمكن أن يثاب عليها زيادة على ثواب المصيبة .
وقال القرافي ـ رحمه الله ـ:
المصائب كفارات جزماً، سواء اقترن بها الرضا أم لا، ولكن إذا اقترن بها الرضا عظم التكفير وإلا قل .
والتحقيق: إن المصيبة كفارة لذنب يوازيها، وبالرضا يؤجر على ذلك، فإن لم يكن للمصاب ذنب عوض عن ذلك بالثواب بما يوازيه.
فالمصائب كفارات للذنوب
فقد أخرج البخاري عن عائشة – رضي الله عنها – أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال:(1/53)
" ما من مصيبة تصيب المسلم إلا كفَّر الله بها عنه، حتى الشوكة يشاكها"
أما الأجر والثواب فلا يكون إلا مع الصبر والرضا
فقد أخرج البخاري عن أنس - رضي الله عنه - قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: إن الله - عز وجل - قال:
"إذا ابتليت عبدي بحبيبتيه فصبر، عوضته منهما الجنة ـ يريد عينيه ـ"
وعند مسلم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال:
"عجباً لأمر المؤمن، إن أمره كله خير، وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن، إن أصابته سراء شكر فكان خيراً له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيراً له"
ويقول شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله ـ كما في مجموع الفتاوى(10/124):
المصائب التي تجري بلا اختيار العبد: كالمرض، وموت العزيز عليه، وأخذ اللصوص ماله
إنما يثاب على الصبر عليها، لا علي نفس ما يحدث من المصيبة، لكن المصيبة يكفر بها خطاياه،
فإن الثواب إنما يكون على الأعمال الاختيارية وما يتولد منها .
وبعد...
فهذا آخر ما تيسر جمعه في هذه الرسالة
نسأل الله أن يكتب لها القبول وأن يتقبلها منا بقبول حسن، كما أسأله سبحانه أن ينفع بها مؤلفها وقارئها ومن أعان علي إخراجها ونشرها ......إنه ولي ذلك والقادر عليه .
هذا وما كان فيها من صواب فمن الله وحده، وما كان من سهو أو خطأ أو نسيان فمني ومن الشيطان، والله ورسوله منه براء، وهذا بشأن أي عمل بشري يعتريه الخطأ والصواب، فإن كان صواباً فادع لي بالقبول والتوفيق، وإن كان ثم خطأ فاستغفر لي
وإن وجدت العيب فسد الخللا ... جل من لا عيب فيه وعلا
فاللهم اجعل عملي كله صالحاً ولوجهك خالصاً، ولا تجعل لأحد فيه نصيب
والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات .
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين،
هذا والله تعالى أعلى وأعلم .........
سبحانك اللهم وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك(1/54)