حقيقة الانتصار
أ. د .ناصر بن سليمان العمر
تقديم
إن الحمد لله، نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مُضلّ له، ومن يُضلل فلا هاديَ له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)(1) [سورة آل عمران: الآية: 102]. (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً)(2) [سورة النساء، الآية: 1].
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً)(3) [سورة الأحزاب، الآيتان: 70، 71].
أما بعد، فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد، صلى الله عليه وسلم وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة، في النار.
وبعد:
فقد تأملت في واقع الدعوة اليوم، وما مرت به في خلال هذا العصر من محن وابتلاءات، ورأيت أن الأمة تعيش يقظة مباركة، وصحوة ناهضة، والدعاة يجوبون الآفاق، والجماعات الإسلامية انتشرت في البلدان، حتى وصلت إلى أوربا وأمريكا، وقامت حركات جهادية في بعض بلاد المسلمين كأفغانستان وفلسطين وأرتيريا والفلبين وغيرها.
__________
(1) - سورة آل عمران آية: 102.
(2) - سورة النساء آية: 1.
(3) - سورة الأحزاب آية: 70-71.(1/1)
ولكن لحظت أن هناك مفاهيم غائبة عن فهم كثير من المسلمين، مع أن القرآن الكريم قد بينها، بل وفصلها، ورأيت أن كثيرا من أسباب الخلل في واقع الدعوة والدعاة، يعود لغياب هذه الحقائق.
ومن هذه المفاهيم مفهوم "حقيقة الانتصار"، حيث إن خفاءه أوقع في خلل كبير، ومن ذلك: الاستعجال، والتنازل، واليأس والقنوط ثم العزلة، وهذه أمور لها آثارها السلبية على المنهج وعلى الأمة.
من أجل ذلك كله عزمت على بيان هذه الحقيقة الغائبة، ودراستها في ضوء القرآن الكريم.
وأسأل الله التوفيق والسداد والإعانة.
أهمية الموضوع
تبرز أهمية الموضوع وسببه من خلال الفهم الخاطئ لمعنى حقيقة انتصار الداعية، والخلط فيه بين معنى انتصار الداعية وبين انتصار الدعوة، وظهور الدين، حيث نتج عن هذا الفهم وهذا الخلط عدة أمور -سلبية- أهمها:
1- تصور كثير من الناس أن هذا الداعية لم ينتصر ولم ينجح في دعوته؛ لأنه لم يتمكن من تحقيق الأهداف التي يدعو إليها، ويسعى لتحقيقها، مما يؤدي إلى التشكيك في منهجه، وانصراف بعض المدعوين عنه.
2- استعجال النتائج وتحقيق الأهداف.
مِن قِبَل كثير من الدعاة، فإن بعض الدعاة إذا بدأ في دعوته فإنه يرسم منهجًا جيدًا يسير من خلاله لتحقيق أهدافه، ولكن إذا مضى زمن ولم يتحقق شيء من ذلك، أو تحقق شيء يرى أنه لا يساوي الجهود المبذولة، فيقوم بتعديل منهجه السليم إلى منهج خاطئ يستعجل فيه الثمار، وذلك ناتج عن تصوره الخاطئ في فهم حقيقة ما يجب عليه، وإنه إذا لم تتحقق أهدافه فإنه لم يقم بما أوجبه الله عليه، غافلا عن الفرق بين الأمرين، أو جاهلا لذلك.
3- الانحراف عن المنهج.
وذلك أنه لن يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها، فالداعية ملزم بأن يلتزم بمنهج أهل السنة والجماعة، وهو ما كان عليه رسول الله، صلى الله عليه وسلم وصحابته.(1/2)
بل هو ما ورد في الحديث الصحيح: " عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ " (1).
وهو ما نفهمه من قوله -تعالى-: (وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ)(2) [سورة الأنعام الآية: 153].
إلى غير ذلك من الآيات والأحاديث التي تبين وجوب الالتزام بمنهج الكتاب والسنَّة.
فبعض الجماعات والدعاة، حرصًا منهم على نصر الإسلام، وتصورا منهم أن ظهور الدين وزوال الكفر والفساد مقياسا لنجاح دعوتهم، وأمام ضغط الظالمين ومساوماتهم، واستعجال الأتباع وعدم صبرهم، يسعى هؤلاء للحصول على بعض المكاسب نصرة لهذا الدين ودفاعا عنه، ولكن هذا الأمر قد يقتضي التنازل عن بعض أصول الإسلام، وهنا يأتي الداعية إلى محاولة تطبيق قاعدة المصالح والمفاسد، فينحرف عن المنهج وهو لا يدري، ويستسلم لمساومات الأعداء وألاعيبهم.
4- اليأس والقنوط ثم الاعتزال.
طريق الدعوة طريق طويل وشاق، مليء بالعقبات والمحن والابتلاءات، وقليل من الدعاة من يجتاز هذا الطريق وهو ثابت على دعوته، ملتزم بمنهجه.
__________
(1) - أخرجه أحمد: 4/126، 127 وأبو داود (4607) وابن ماجة (43) والترمذي (2676) وقال هذا حديث حسن صحيح.
(2) - سورة الأنعام آية: 153.(1/3)
وكثير من الدعاة عندما يسير في الطريق ثم يجد أن الأعوام تمضي وهو لم يحقق شيئا مما يدعو إليه، ويحاول إعادة الكرة مرة بعد أخرى، ولا يرى أثرا مباشرا لدعوته، تبدأ عنده الشكوك والأوهام، فمرة: يتهم نفسه، وأخرى قومه، وثالثة: أتباعه ومؤيديه، ثم يصل في النهاية إلى أن هؤلاء القوم لا تنفع معهم دعوة، ولا يستجيبوا لداع أو نذير، ويقول لنفسه: كفاني ما كفانيا، وعليك بخاصة نفسك والسلام، و(لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ)(1) - [سورة البقرة، الآية: 272] يفهمها فهما خاطئا- و(لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ)(2) [سورة المائدة، الآية: 105] يضعها في غير موضعها.
وهنا ييئس من قومه، ويقنط من هداية الله لهم، ثم يعتزل الدعوة ويترك القوم وشأنهم.
ومنشأ هذه النتيجة التي وصل إليها عدم إدراكه واستيعابه لحقيقة الانتصار، وأنه قد يكون صبره على قومه مع عدم استجابتهم أعظم له أجرا، وذخرا ونصرا، مما لو آمنوا بما يدعو إليه واتبعوه.
هذه الآثار -وغيرها- التي نتجت في أغلب أحوالها عن الخلط في مفهوم الانتصار، وعدم قدرة كثير من الدعاة التفريق بين انتصار الدين وبين انتصار الداعية.
ومما سبق تتضح أهمية هذا الموضوع، وحاجة الدعاة وطلاب العلم إلى تجليته وبيانه، وبخاصة أن القرآن الكريم، قد وردت فيه آيات كثيرة، تقرر مفهوم الانتصار، ومهمة الداعية، والفرق بين المهمة وبين النتيجة والأثر.
وفي الصفحات التالية تقرير لهذه الحقيقة وتجلية لها، ومن الله نستمد العون والتأييد.
مفهوم النصر وحقيقته
قال الله -سبحانه وتعالى-: (إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ)(3) [سورة غافر، الآية: 51].
__________
(1) - سورة البقرة آية: 272.
(2) - سورة المائدة آية: 105.
(3) - سورة غافر آية: 51.(1/4)
وقال -سبحانه-: (وَكَانَ حَقّاً عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ)(1) [سورة الروم، الآية: 47]. وقال: (إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ)(2) [سورة محمد، الآية: 7]. وقال -جل ذكره-: (وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ)(3) [سورة الحج، الآية: 40]. وقال: (وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ)(4) [سورة الصافات، الآيات: 171 - 173].
هذه الآيات وأمثالها تدل على انتصار الداعية، سواء أكان رسولا أو أحد المؤمنين، وهذا الانتصار يكون في الحياة الدنيا قبل الآخرة.
والذي علمناه من القرآن والسنة، أن من الأنبياء من قتله أعداؤه ومثّلوا به، كيحيى وشعياء وأمثالهما، ومنهم من هم بقتله قومه، فكان أحسن أحواله أن يخلص منهم حتى فارقهم ناجيا بنفسه، كإبراهيم الذي هاجر إلى الشام من أرضه مفارقا لقومه، وعيسى الذي رفع إلى السماء، إذ أراد قومه قتله، ونجد من المؤمنين من يسام سوء العذاب، وفيهم من يلقى في الأخدود، وفيهم من يستشهد، وفيهم من يعيش في كرب وشدة واضطهاد، فأين وعد الله لهم بالنصر في الحياة الدنيا؟ (5) وقد طُردوا أو قتلوا أو عذبوا؟
نحن نعلم يقينا، أن وعد الله لا يتخلف أبدا، ومنشأ السؤال والإشكال أننا قصرنا النظر على نوع واحد من أنواعه، وهو النصر الظاهر وانتصار الدين، ولا يلزم أن يكون هذا هو النصر الذي وعد الله به أنبياءه ورسله وعباده المؤمنين.
__________
(1) - سورة الروم آية: 47.
(2) - سورة محمد آية: 7.
(3) - سورة الحج آية: 40.
(4) - سورة الصافات آية: 171-173.
(5) - انظر تفسير الطبري 24/74 وفي ظلال القرآن 5/3085.(1/5)
والله قد وعدهم بالنصر، وهو متحقق لا شك في ذلك، ولا مرية، وذلك في الحياة الدنيا قبل الآخرة، لأن الله -سبحانه- قال: (إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ)(1) [غافر الآية: 51]. ومن أصدق من الله قيلا.
وتجلية لهذه القضية، وبيانا لهذا الجانب لا بد من إيضاح معنى النصر، وأنه أشمل مما يتبادر إلى أذهاننا، ويسبق إلى أفهامنا إن النصر له وجوه عدة، وصور متنوعة أهمها ما يلي:
1- أن النصر قد يكون بالغلبة المباشرة والقهر للأعداء على أيدي هؤلاء الأنبياء والرسل، كما حصل لداود وسليمان، عليهما السلام (وَقَتَلَ دَاوُدُ جَالُوتَ وَآتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ)(2) [سورة البقرة، الآية: 251]. (وَكُلّاً آتَيْنَا حُكْماً وَعِلْماً) (3) [سورة الأنبياء، الآية: 79]. (عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ)(4) [سورة البقرة، الآية: 102]. (قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكاً لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي)(5) [سورة ص، الآية: 35].
وكذلك موسى، عليه السلام، نصره الله على فرعون وقومه، وأظهر الدين في حياته، (وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُوا يَعْرِشُونَ)(6) [سورة الأعراف، 137]. (فَأَنْجَيْنَاكُمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ)(7) [البقرة، الآية: 50].
__________
(1) - سورة غافر آية: 51.
(2) - سورة البقرة آية: 251.
(3) - سورة الأنبياء آية: 79.
(4) - سورة البقرة آية: 102.
(5) - سورة ص آية: 35.
(6) - سورة الأعراف آية: 137.
(7) - سورة البقرة آية: 50.(1/6)
ونبينا محمد، صلى الله عليه وسلم نصره الله نصرا مؤزرا، وأهلك أعداءه في بدر، وما بعدها حتى ظهر دين الله، وقامت دوله الإسلام. (إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً)(1) [سورة الفتح، الآية: 1]. (إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجاً)(2) [سورة النصر، الآيتان: 1- 2].
وهذا النوع من الانتصار هو النصر الظاهر، وهو أول ما يتبادر إلى الأذهان عند إطلاق كلمة النصر، للأسباب التالية:
أ- لأنه نصر ظاهر يراه الناس ويحسون به.
ب- أنه هو الانتصار الذي يجمع بين انتصار الدين وظهوره وانتصار الداعية.
ج - أنه محبب إلى النفوس، وهو النصر العاجل، "والنفس مولعة بحب العاجل" ولذلك قال -سبحانه-: (وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ )(3) [سورة، الصف: 13].
2- أن النصر قد يكون بإهلاك هؤلاء المكذبين، ونجاة الأنبياء والمرسلين، ومن آمن معهم، كما حدث لنوح، عليه السلام، حيث نجاه الله وأهلك قومه، )فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُوناً فَالْتَقَى الْمَاءُ عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ وَحَمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا جَزَاءً لِمَنْ كَانَ كُفِرَ)(4) [سورة القمر، الآيات: 10-14].
وكذلك قوم هود، (فَأَنْجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَقَطَعْنَا دَابِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنَا وَمَا كَانُوا مُؤْمِنِينَ)(5) [سورة الأعراف، الآية: 72].
__________
(1) - سورة الفتح آية: 1.
(2) - سورة النصر آية: 1-2.
(3) - سورة الصف آية: 13.
(4) - سورة القمر آية: 10-11-12-13-14.
(5) - سورة الأعراف آية: 72.(1/7)
وقوم صالح، (فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ)(1) [سورة الأعراف، الآية: 78].
وقوم لوط، (وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَراً فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ)(2) [سورة الأعراف، الآية: 84].
وقوم شعيب، (فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمْ عَذَابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ إِنَّهُ كَانَ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ)(3) [سورة الشعراء، الآية: 189]. إن أخذ المجرمين بالعذاب الأليم نصر عظيم للداعية، وكبت للمكذبين والمرجفين، والله يمهل ولا يهمل أبدا:
(فَكُلّاً أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِباً وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ)(4) [سورة العنكبوت، الآية: 40].
3- قد يكون الانتصار بانتقام الله من أعدائهم، ومكذبيهم، بعد وفاة هؤلاء الأنبياء والرسل، كما حدث مع من قتل يحيى، -عليه السلام- وشعياء، ومن حاول قتل عيسى، عليه السلام، قال الإمام الطبري في تفسير الآية:
__________
(1) - سورة الأعراف آية: 78.
(2) - سورة الأعراف آية: 84.
(3) - سورة الشعراء آية: 189.
(4) - سورة العنكبوت آية: 40.(1/8)
(إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا)(1) [سورة غافر، الآية: 51] "إما بإعلائنا لهم على من كذبنا.. أو بانتقامنا في الحياة الدنيا من مكذبيهم بعد وفاة رسولنا من بعد مهلكهم، كالذي فعلنا من نصرتنا شعياء بعد مهلكه، بتسليطنا على قتلته من سلطنا حتى انتصرنا بهم من قتلته، وكفعلنا بقتلة يحيى من تسليطنا بختنصر عليهم حتى انتصرنا به من قتله له، وكانتصارنا لعيسى من مريدي قتله بالروم حتى أهلكناهم بهم (2) " وهذا يدخل تحت قوله -تعالى-: (وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لانْتَصَرَ مِنْهُمْ)(3) [سورة محمد، الآية: 4]. أي: لانتقم.
4- أن ما يتصوره الناس هزيمة قد يكون هو النصر الحقيقي، كالقتل، والسجن والطرد والأذى.
أليس قتل الداعية شهادة في سبيل الله. (وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ)(4) [سورة آل عمران، الآية: 169]. (قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ)(5) [سورة يس، الآيتان: 26، 27].
(قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ)(6) [سورة التوبة، الآية: 52]. فقتل الداعية انتصار للداعية من عدة جوانب، أهمها:
(أ) الشهادة، وهي من أعظم أنواع الانتصار، (وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ)(7) [سورة آل عمران، الآيتان: 169، 170].
__________
(1) - سورة غافر آية: 51.
(2) - تفسير الطبري 24/74.
(3) - سورة محمد آية: 4.
(4) - سورة آل عمران آية: 169.
(5) - سورة يس آية: 26-27.
(6) - سورة التوبة آية: 52.
(7) - سورة آل عمران آية: 169-170.(1/9)
(ب) انتصار المنهج وظهوره، كما حدث لعبد الله الغلام عندما قتله الملك، فقال قوم: "آمنا بالله رب الغلام" (1).
ونجد في العصر الحاضر سيد قطب -رحمه الله- كان قتله انتصارا لمنهجه الذي عاش من أجله، ومات في سبيله، حتى قال أحد الشيوعيين وهو في سجنه: إنني أتمنى أن أقتل كما قتل سيد وينتشر مبدئي وكتبي كما انتشرت كتب سيد قطب.
بل إننا وجدنا مطابع النصارى في لبنان تسارع إلى طباعة ونشر كتب سيد -يرحمه الله- كالظلال، والمعالم، وخصائص التصور الإسلامي، لما تدره من أرباح هائلة، نظرا لكثرة القراء والمستفيدين.
وهذا ما قصده سيد عندما قال: إن كلماتنا وأقوالنا تظل جثثا هامدة حتى إذا متنا في سبيلها وغذيناها بالدماء عاشت وانتفضت بين الأحياء.
(ج) الذكر الطيب بعد وفاته، قال إبراهيم، عليه السلام، (وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ)(2) [سورة الشعراء، الآية: 84 ]. والمقتول في سبيل الله له ذكر طيب عند المؤمنين، وهذا أمر مشاهد ومحسوس.
وكذلك الطرد والإخراج، قد يكون انتصارا للداعية، حين يتصور كثير من الناس أن هذا هزيمة له، ولذا فإن الله -جل وعلا- قال عن رسوله، صلى الله عليه وسلم حين أخرجته قريش من مكة. (إِلاّ تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ)(3) [سورة التوبة، الآية: 40].
ولا شك أن خروجه من مكة كان انتصارا من عدة أوجه، أهمها:
(1) أن الله نجاه من المشركين، وحماه منهم، وأعماهم عنه، حيث أرادوا قتله.
(ب) أن الدعوة انتقلت إلى بيئة أخرى تحميها وتؤازرها بدل أن كان رسول الله، صلى الله عليه وسلم محاربا مطاردا، وأصحابه يعذبون ويقتلون، ولا يتمكنون من إظهار عبادتهم لله كما حدث لهم في المدينة.
__________
(1) - قطعة من قصة أصحاب الأخدود أخرجها مسلم (3005) من حديث صهيب.
(2) - سورة الشعراء آية: 84.
(3) - سورة التوبة آية: 40.(1/10)
(ج) قيام دولة الإسلام في المدينة، وانطلاقة الجهاد بعد ذلك، ثم بدء دخول الناس في دين الله أفواجا.
وكذلك نجد أن هجرة الصحابة للحبشة كانت انتصارا لهم، وكبتا لأعدائهم، ولذلك لاحقتهم قريش إلى هنالك، ولكنهم عادوا خائبين حيث حماهم النجاشي، بل أسلم ودخل في دين الله !!
وقل مثل ذلك عن السجن والتعذيب والأذى، فإن انطلاقة الداعية قد تكون بداية من سجنه أو إيذائه.
فهذا داعية اتهم في عرضه من قبل أعدائه، وتصور كثير من الناس أن هذا الداعية قد انتهى، ولن يكون له شأن بعد اليوم، ولكن كانت هذه التهمة انطلاقة كبرى لهذا الداعية، من عدة أوجه:
(1) انتصر على نفسه حيث عرف أن رهبة السجن أكبر من حقيقته، حيث أدخل السجن مرتين، فأصبحت لديه مناعة من الخوف أو الرهبة من غير الله.
(ب) تكشف له الباطل، وعرف زيف بعض من كان يتلبس بالحق تمويها وخداعا.
(جـ) عرف صديقه من عدوه، وكما قال الشاعر:
جزى الله الشدائد عني كل خير
عرفت بها صديقي من عدوي
(د) زاد عدد طلابه ومحبيه، وكثر المستمعون للحق الذي يدعو إليه، فأصبحوا عشرات الآلاف بل ويزيدون.
(هـ) كبت الله أعداءه وخصومه، وتجرعوا كأس الهزيمة وهم ينظرون.(1/11)
أليس هذا هو الانتصار في الحياة الدنيا قبل الآخرة؟! (وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لا يَعْلَمُونَ)(1) [سورة المنافقون، الآية: 8]. وقبل أن نغادر هذا النوع من أنواع الانتصار، لا بد من الوقوف أمام حقيقة تخفى على الكثيرين، وهي نوع من أنواع انتصار الداعية، ذلك أن الداعية عندما يقتل أو يسجن أو يؤذى أو يطرد فإن خصمه قد ذاق ألوان الأذى المعنوي والعذاب النفسي قبل أن يقدم على ما أقدم عليه، بل وأحيانا بعد أن يفعل فعلته، فإنه لا يجد للراحة مكانا، ولا للسعادة طعما، ولذا فإن الحجاج بن يوسف عند ما قتل سعيد بن جبير، ذاق ألوان العذاب النفسي حتى كان لا يهنأ بنوم، ويقوم من فراشه فزعا ويقول: ما لي ولسعيد، حتى مات وهو في همه وغمه.
ولهذا جاء القرآن معبرا عن هذه الحقيقة، كما في سورة آل عمران، فقال -سبحانه-: (وَإِذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ)(2) [سورة آل عمران، الآيتان: 119، 120].
وقال -سبحانه-: (وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْراً)(3) [سورة الأحزاب، الآية: 25].
__________
(1) - سورة المنافقون آية: 8.
(2) - سورة آل عمران آية: 119-120.
(3) - سورة الأحزاب آية: 25.(1/12)
بينما نجد الداعية يعيش في سعادة وهناء، قال الإمام الطبري في قوله -تعالى-: (وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ)(1) [سورة الصافات، الآيات: 171 - 173] قال: كان بعض أهل العربية يتأول ذلك، ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين بالسعادة (2) وهذا -أيضا- معنى حديث رسول الله، صلى الله عليه وسلم " عجبا لأمر المؤمن أن أمره كله خير -وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن- إن أصابته سراء شكر فكان خيرا له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيرا له " (3).
ولذلك قال شيخ الإسلام معبرا عن هذه الحقيقة: ماذا ينقم مني أعدائي؟ أنا جنتي وبستاني في صدري، قتلي شهادة، ونفي سياحة، وسجني خلوة.
وهو ما عناه أحد الزهاد عندما قال: لو يعلم الملوك وأبناء الملوك ما نحن فيه من اللذة والنعيم لجالدونا عليه بالسيوف.
وهنا ندرك من المنتصر ومن المنهزم، وأن الانتصار والهزيمة أبعد معنى مما يراه الناس في الظاهر، بل هناك حقائق قد لا تدرك بالعيون، وصدق من قال:
اصبر على مضض الحسو
فالنار تأكل نفسها
د فإن صبرك قاتله
إن لم تجد ما تأكله
5- أن ثبات الداعية على مبدئه، هو انتصار باهر، وفوز ساحق، حيث يعلو على الشهوات والشبهات، ويجتاز العقبات بشجاعة وثبات، بل إنه لا يمكن أن يتحقق الانتصار الظاهر إلا بعد تحقق هذا الانتصار، فإبراهيم، عليه السلام، وهو يلقى في النار كان في قمة انتصار، (قَالُوا ابْنُوا لَهُ بُنْيَاناً فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ فَأَرَادُوا بِهِ كَيْداً فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَسْفَلِينَ)(4) [سورة الصافات، الآيتان: 97، 98].
__________
(1) - سورة الصافات آية: 171-172-173.
(2) - تفسير الطبري 23/114.
(3) - أخرجه مسلم (3999).
(4) - سورة الصافات آية: 97-98.(1/13)
والإمام أحمد -رحمه الله- عندما ثبت على مبدئه في محنة القول بخلق القرآن، ورفض الاستجابة لجميع الضغوط ومحاولات التراجع كان في قمة انتصاره.
وأصحاب الأخدود وهم يلقون في النار، ولا يقبلون المساومة على دينهم، ويفضلون الموت في سبيل الله كانوا هم المنتصرين، (وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ)(1) [سورة البروج، الآية:8].
ونجد هذا المعنى من معاني الانتصار في الحديث الذي رواه خباب عندما جاء إلى رسول الله، صلى الله عليه وسلم وقال له: ألا تستنصر لنا، ألا تدعو لنا؟ قال: " كان الرجل فيمن قبلكم يحفر له في الأرض فيجعل فيه فيجاء بالمنشار فيوضع على رأسه فيشق بأثنتين وما يصده ذلك عن دينه، ويمشط بأمشاط الحديد ما دون لحمه من عظم أو عصب وما يصده ذلك عن دينه " (2) الحديث.
فبين، صلى الله عليه وسلم أن الانتصار هو الثبات على الدين، وعدم التراجع مهما كانت العقبات والمعوقات.
6 -أن النصر قد يكون بقوة الحجة، وصحة البرهان، قال الإمام الطبري في قوله تعالى: )وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ)(3) [سورة الصافات، الآيتان: 171، 172]. يقول -تعالى ذكره- ولقد سبق منا القول لرسلنا أنهم لهم المنصورون، أي مضى بهذا منا القضاء والحكم في أم الكتاب، وهو أنهم لهم النصرة والغلبة بالحجج.
قال السدي: (إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ)(4) بالحجج. (5)
وقال الطبري في قوله -تعالى-: (فَأَرَادُوا بِهِ كَيْداً فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَسْفَلِينَ)(6) أي فجعلنا قوم إبراهيم الأذلين حجة، وغلبنا إبراهيم عليهم بالحجة. (7).
__________
(1) - سورة البروج آية: 8.
(2) - أخرجه البخاري (3612).
(3) - سورة الصافات آية: 171-172.
(4) - سورة الصافات آية: 172.
(5) - تفسير الطبري 23/114.
(6) - سورة الصافات آية: 98.
(7) - تفسير الطبري 23/75.(1/14)
وكذلك نجد هذا المعنى في قوله - تعالى: (وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ)(1) [سورة الأنعام، الآية: 83]. والرفع هو الانتصار.
وكذلك في سورة البقرة بعد أن ذكر الله محاجة الذي كفر لإبراهيم في ربه، قال الله -تعالى- (فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ)(2) [سورة البقرة، الآية: 258]. والبهت هو الهزيمة، أي انهزم الكافر وانتصر إبراهيم بالحجة والبرهان.
إذن فانتصار الداعية بقوة حجته هو انتصار حقيقي، بل هو وسيلة من أهم وسائل انتصار الدين وظهوره.
7- أن انتصار الداعية، غير محصور في زمان أو مكان، فزمانه الحياة الدنيا ثم الآخرة، ومكانه أرض الله الواسعة.
ولذا فقد يضطهد الداعية في مكان وينتصر في مكان آخر، كما حدث لنبينا محمد، صلى الله عليه وسلم فقد اضطهد في مكة، ثم انتصر في المدينة أولا ثم في مكة ثانيا.
وموسى، عليه السلام، اضطهد في أرض فرعون وانتصر بعد ذلك في مكان آخر، وقد يضطهد الداعية في زمان، ثم ينتصر في زمان آخر. كما حدث لشيخ الإسلام ابن تيمية، فمات في سجنه -رحمه الله- ولكن انتصرت دعوته أعظم الانتصار بعد عدة قرون من وفاته ولا تزال.
وهذا أمر معلوم ومشاهد، فكم من داعية هزم في مكان وانتصر في مكان آخر، وأوذي في زمان وانتصر في زمان آخر، سواء في حياته أو بعد وفاته.
8- أخيرا، فإن النصر قد يكون بالمنع، أي بحماية الداعية ومنع أعدائه من الوصول إليه، قال -سبحانه-: (وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ)(3) [سورة البقرة، الآية: 48]. أي يمنعون (4)
وقال- جل وعلا-: (فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئينَ)(5) [سورة الحجر، الآية: 94، 95].
__________
(1) - سورة الأنعام آية: 83.
(2) - سورة البقرة آية: 258.
(3) - سورة البقرة آية: 48.
(4) - انظر تفسير الطبري 1/269 وهو قول لابن عباس.
(5) - سورة الحجر آية: 94-95.(1/15)
قال الإمام الطبري في معنى هذه الآية: فاصدع بأمر الله، ولا تخف شيئا سوى الله، فإن الله كافيك من ناصبك وآذاك، كما كفاك المستهزئين. (1).
وقال -سبحانه-: (وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ)(2) [سورة المائدة، الآية: 67].
هذه بعض أوجه النصر، بل أهم أنواع النصر، ولو تأملنا في هذه الأوجه ثم نظرنا إلى سيرة الأنبياء والرسل، عليهم وعلى نبينا أفضل الصلاة والسلام، لوجدنا أن كل واحد منهم قد تحقق له نوع من هذه الأنواع أو أكثر من نوع، كما حدث لنبينا محمد، صلى الله عليه وسلم فقد انتصر بظهور الدين وتمامه، وانتصر بإهلاك من كذبه في بدر وما بعدها، وانتصر، وهو يخرج من مكة، وانتصر بالحجة والبرهان، وانتصر بالمنع من الأعداء، وانتصر في مكان غير بلده، وانتصر بالثبات على دين الله والصدع بكلمة الحق، (وَلَوْلا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً)(3) [سورة الإسراء، الآية: 74].
ويتفاوت الأنبياء والرسل، عليهم السلام، في الانتصارات التي حققوها، ولكن وعد الله قد تحقق لهم (وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ)(4) [سورة الصافات، الآيات:171، 172، 173].
وكذلك كل مؤمن صادق فسيتحقق له الانتصار، سواء في حياته أم بعد مماته تحقيقا لوعد الله: (إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ)(5) [سورة غافر، الآية: 51].
ومن خلال ما سبق يتضح لنا المفهوم الشامل للانتصار، وأنه لا يجوز لنا أن نحدد نوع الانتصار الذي نريده.
__________
(1) - تفسير الطبري 14/69.
(2) - سورة المائدة آية: 67.
(3) - سورة الإسراء آية: 74.
(4) - سورة الصافات آية: 171-172-173.
(5) - سورة غافر آية: 51.(1/16)
فالأمر لله من قبل ومن بعد، ولسنا سوى عبيد له، سبحانه، نسعى لتحقيق عبوديته، ومن كمال العبودية أن نعلم ونوقن يقينا جازما لا شك فيه أن وعد الله متحقق لا محالة، ولكننا قد لا ندرك حقيقة هذا الأمر لحكمة يعلمها الله، وقد يتأخر النصر ابتلاء وامتحانا، وصدق الله العظيم: (وَكَانَ حَقّاً عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ)(1) [سورة الروم، الآية: 47].
ما مهمتنا ؟
من أجل أن نفقه حقيقة الانتصار لا بد من أن نعرف المهمة التي كلفنا الله بها فبمقدار القيام بهذه المهمة يتحقق الانتصار.
هل مهمتنا أن نقوم بهداية الناس؟ أو مهمتنا أن نسعى ونجد في دعوة الناس للهداية والإيمان؟.
هل مهمتنا أن نجبر الناس على الإيمان؟ أو مهمتنا أن نبين لهم الطريق إلى الإيمان؟ إن مهمة الأنبياء والرسل والدعاة تتلخص في كلمة واحدة، إنها: البلاغ.
بل إن مسئوليتهم محصورة في هذا الجانب وحده.
والآيات في هذا كثيرة، جاءت مقررة لهذه الحقيقة، التي تغيب عن أذهان كثير من الدعاة والمصلحين.
ونقف قليلا مع بعض هذه الآيات: قال -سبحانه-: (فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ)(2) [سورة النحل، الآية: 35]. وقال: (وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ)(3) [سورة النور، الآية: 54]. وقال في سورة الشورى: (فَإِنْ أَعْرَضُوا فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلاغُ)(4) [سورة الشورى الآية: 48]. وفي سورة أخرى: (فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَإِنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلاغُ الْمُبِينُ)(5) [سورة التغابن، الآية: 12] وفي المائدة: (فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلاغُ الْمُبِينُ)(6) [سورة المائدة، الآية: 92].
__________
(1) - سورة الروم آية: 47.
(2) - سورة النحل آية: 35.
(3) - سورة النور آية: 54.
(4) - سورة الشورى آية: 48.
(5) - سورة التغابن آية: 12.
(6) - سورة المائدة آية: 92.(1/17)
قال الإمام الطبري في قوله -تعالى-: (وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاغُ)(1) [سورة آل عمران، الآية: 20]. إن أدبروا معرضين عما تدعوهم إليه من الإسلام، وإخلاص التوحيد لله رب العالمين، فإنما أنت رسول مبلغ، وليس عليك غير إبلاغ الرسالة إلى من أرسلتك إليه من خلقي، وأداء ما كلفتك من طاعتي (2).
وقال ابن عاشور في الآية نفسها: وإن تولوا وأعرضوا عن قولك لهم: آسلمتم، فليس عليك من إعراضهم تبعة، فإنما عليك البلاغ، فقوله: (فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاغُ)(3) وقع موقع جواب الشرط، وهو في المعنى علة الجواب، فوقوعه موقع الجواب إيجاز بديع، أي لا تحزن، ولا تظنن أن عدم اهتدائهم، وخيبتك في تحصيل إسلامهم، كان لتقصير منك، إذ لم تبعث إلا للتبليغ، لا لتحصيل اهتداء المبلغ إليهم (4).
ومن أجل تأكيد هذه الحقيقة، وهي أن مهمة الأنبياء والرسل هي البلاغ، جاءت آيات أخرى تبين أن هداية الناس ليست لا للأنبياء ولا للرسل ولا لغيرهم، قال -سبحانه-: (وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ)(5) [سورة يونس، الآية: 99]. وقال -جل وعلا -: (إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ)(6) [سورة القصص، الآية: 56]. وقال: (فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً)(7) [سورة الكهف، الآية: 6]. ومثلها: )(لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ)(8) [سورة الشعراء، الآية: 3].
__________
(1) - سورة آل عمران آية: 20.
(2) - انظر تفسير الطبري 3/215.
(3) - سورة آل عمران آية: 20.
(4) - التحرير والتنوير 3/205.
(5) - سورة يونس آية: 99.
(6) - سورة القصص آية: 56.
(7) - سورة الكهف آية: 6.
(8) - سورة الشعراء آية: 3.(1/18)
وفي سورة أخرى: (فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ)(1) [سورة فاطر، الآية: 8].
وتتحدد مهمتنا بقول الحق -وهو البلاغ- كما في هذه الآية: (وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ)(2) [سورة الكهف، الآية: 29].
ونختم هذه الآيات بهاتين الآيتين: (وَإِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقاً فِي الْأَرْضِ أَوْ سُلَّماً فِي السَّمَاءِ فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِينَ)(3) [سورة الأنعام، الآية: 35].
أما آية الذاريات فجاءت مؤكدة المعنى بأسلوب آخر: (فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَمَا أَنْتَ بِمَلُومٍ وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ)(4) [سورة الذاريات، الآيتان: 54، 55].
هذه بعض الآيات التي وردت في كتاب الله محددة مهمة الأنبياء والرسل والدعاة، ونافية أي مهمة أخرى قد يتصور الدعاة أنها من مسئوليتهم، وهي ليست كذلك.
إن مهمتنا هي البلاغ، وليس الإكراه، والسعي لهداية الناس، وليس تحقيق هدايتهم، واتخاذ الخطوات والسبل المشروعة لتغيير الواقع السيئ، لا تغيير الواقع.
__________
(1) - سورة فاطر آية: 8.
(2) - سورة الكهف آية: 29.
(3) - سورة الأنعام آية: 35.
(4) - سورة الذاريات آية: 54-55.(1/19)
إننا عندما ندرك هذه الحقائق، ونتعامل معها، نفهم حقيقة النصر الذي نسعى للفوز به، ونعلم من المنتصر ومن المهزوم، وعندما تغيب هذه الأسس والأصول والمنطلقات قد يحيد الداعية عن الطريق، ويخشى أن يكون ممن قال الله فيه: )قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً) (1) [ سورة الكهف، الآيتان: 103، 104] وإن كانت هاتان الآيتان في الكفار، فإن معناهما قد يشمل في بعض مدلوله أولئك.
أمثلة من القرآن
تأصيلا لهذا المفهوم، ومزيد بيان لهذه القضية، سأختار أمثلة من كتاب الله، تقصّ سير الأنبياء والمرسلين وبعض الدعاة من الأمم السابقة، حيث يتضح من خلال هذه القصص، المنهج الذي سلكه أولئك، والنتائج التي حققوها، ليكون عبرة ونبراسًا لنا ومن يأتي بعدنا.
وسأعرض كل قصة بالقدر الذي أرى أنه يحقق الغرض من إيرادها، مقتصرًا على أبرز هذه القصص، وأقربها صلة بموضوعنا.
1- قصة نوح
ذكر الله -سبحانه وتعالى- نوحا، عليه السلام، في تسع وعشرين سورة من سور القرآن، وقد جاء في بعضها في أكثر من موضع، ومنها سورة نزلت بكاملها في نوح وقومه، وهي سورة نوح.
إن قصة نوح مع قومه قصة عظيمة مليئة، بالدروس والعبر، ومما يكسبها أهمية خاصة ما تميزت به، ومن ذلك:
(أ) أن نوح، عليه السلام، أول رسول إلى البشر، وكل أول له خصوصيته وميزته.
(ب) طول المدة التي قضاها في قومه، حيث مكث (950) سنة.
(جـ) أن نوحا، عليه السلام، من أولي العزم من الرسل.
(د) كثرة وروده في القرآن، حيث ورد (43) مرة. في (29) سورة من سور القرآن، أي في ربع سور القرآن - تقريبا (2).
وسأذكر بعض الآيات التي وردت تقص علينا سيرة نوح مع قومه، ثم أقف بعض الوقفات حولها:
__________
(1) - سورة الكهف آية: 103-104.
(2) - لأن سور القرآن (114)، و (29) ربع (116).(1/20)
قال -سبحانه وتعالى- في سورة الأعراف: (لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ)(1) [سورة الأعراف، الآية: 59].
هذا جوهر دعوة نوح، حيث دعاهم إلى عبادة الله وتوحيده، وحذرهم من مغبة مخالفته.
وتأتي مرحلة أخرى يواجه فيها قومه بعد استكبارهم وعدم استجابتهم، قال -سبحانه- في سورة يونس: (وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَقَامِي وَتَذْكِيرِي بِآياتِ اللَّهِ فَعَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْتُ فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ لا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَلا تُنْظِرُونِ)(2) [سورة يونس، الآية: 71].
وتأتي أطول قصة لنوح مع قومه في سورة هود، حيث حاجهم وجادلهم وبين لهم طريق الهداية، حتى قالوا: (يَا نُوحُ قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ)(3) [سورة هود، الآية: 32].
ثم يبين الله له النهاية في هؤلاء (وَأُوحِيَ إِلَى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ فَلا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا وَلا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ)(4) [سورة هود، الآيتان: 36، 37].
ونقف بعض الوقفات المهمة حول قصة نوح، مما له ارتباط بموضوعنا:
1- كم لبث نوح في قومه؟ (وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً إِلَى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَاماً)(5) [سورة العنكبوت، الآية: 14].
__________
(1) - سورة الأعراف آية: 59.
(2) - سورة يونس آية: 71.
(3) - سورة هود آية: 32.
(4) - سورة هود آية: 36-37.
(5) - سورة العنكبوت آية: 14.(1/21)
2- ما هي الأساليب التي اتخذها نوح لتبيلغ رسالة ربه؟ لقد اتخذ كل وسيلة مشروعة في محاولة لهدايتهم وتعبيدهم لله؛ (قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلاً وَنَهَاراً فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائي إِلَّا فِرَاراً وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَاراً ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهَاراً ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَاراً)(1) [سورة نوح، الآيات: 5-9].
3- ماذا كانت النتيجة من هؤلاء؟:
(قَالُوا أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ)(2) [سورة الشعراء، الآية: 111] ثم قالوا: (لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يَا نُوحُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمَرْجُومِينَ)(3) سورة [الشعراء، الآية: 116].
4- من آمن مع نوح؟ لم يؤمن معه إلا قليل، حتى إن زوجته لم تؤمن به، وكذلك أحد أبنائه، ولنقرأ هذه الآيات:
(قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَمَنْ آمَنَ وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ)(4) [سورة هود، الآية: 40].
(وَنَادَى نُوحٌ رَبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ)(5) [سورة هود، الآية: 45.] (قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ )(6) [سورة هود، الآية: 46].
__________
(1) - سورة نوح آية: 5-6-7-8-9.
(2) - سورة الشعراء آية: 111.
(3) - سورة الشعراء آية: 116.
(4) - سورة هود آية: 40.
(5) - سورة هود آية: 45.
(6) - سورة هود آية: 46.(1/22)
(ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً لِلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ وَامْرَأَتَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللَّهِ شَيْئاً وَقِيلَ ادْخُلا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ)(1) [سورة التحريم، الآية: 10].
5- وأخيرا ماذا قال نوح، عليه السلام؟ (قَالَ رَبِّ إِنَّ قَوْمِي كَذَّبُونِ فَافْتَحْ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ فَتْحاً وَنَجِّنِي وَمَنْ مَعِيَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ)(2) [سورة الشعراء، الآيتان: 117، 118]. (فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ)(3) [سورة القمر، الآية: 10]. (وَقَالَ نُوحٌ رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّاراً إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِراً كَفَّاراً)(4) [سورة نوح، الآيتان: 26، 27].
6- وتحقق الانتصار لنوح بعد هذه الرحلة الشاقة العسيرة: (فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُوناً فَالْتَقَى الْمَاءُ عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ وَحَمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا جَزَاءً لِمَنْ كَانَ كُفِرَ وَلَقَدْ تَرَكْنَاهَا آيَةً فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ)(5) [سورة القمر، الآيات: 10-15].
هذه قصة نوح، ومع هذه السنوات التي قضاها، بل القرون، حيث لبث قرابة عشرة قرون، ماذا كانت النتيجة؟
(أ) لم يؤمن من قومه إلا قليل، قيل: إنهم ثلاثة عشر بنوح، عليه السلام، قال ابن إسحاق: نوح وبنوه الثلاثة، سام، وحام، ويافث، وأزواجهم، وستة أناس ممن كان آمن به (6).
__________
(1) - سورة التحريم آية: 10.
(2) - سورة الشعراء آية: 117-118.
(3) - سورة القمر آية: 10.
(4) - سورة نوح آية: 26-27.
(5) - سورة القمر آية: 10-11-12-13-14-15.
(6) - انظر تفسير الطبري 8/215.(1/23)
(ب) لم تؤمن زوجته ولا أحد أبنائه كما سبق، وهم أقرب الناس إليه.
(جـ) ومع ذلك، فإنه يعد منتصرا، بل إنه حقق أعظم الانتصارات، ويتمثل ذلك فيما يلي:
1- صبره وثباته طوال هذه القرون، وعدم ميله إلى محاولات قومه -وحاشاه من ذلك- أو تأثره باستهزائهم وسخريتهم (وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ قَالَ إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ)(1) [سورة هود، الآية: 38].
2- حماية الله له من كيدهم ومؤامراتهم: (قَالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يَا نُوحُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمَرْجُومِينَ)(2) [سورة الشعراء، الآية: 116].
3- إهلاك قومه الذين كذبوه بالغرق، (وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنَا إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْماً عَمِينَ)(3) [سورة الأعراف، الآية: 64].
4- نجاة نوح ومن آمن معه، (فَأَنْجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ )(4) [سورة الأعراف، الآية: 64]. (وَحَمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا)(5) [سورة القمر، الآيتان: 13، 14].
5- إن قصة انتصار نوح وإهلاك قومه أصبح آية يعتبر بها، وجعل الله لنوح لسان صدق في الآخرين (وَلَقَدْ تَرَكْنَاهَا آيَةً فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ)(6) [سورة القمر، الآية: 15].
__________
(1) - سورة هود آية: 38.
(2) - سورة الشعراء آية: 116.
(3) - سورة الأعراف آية: 64.
(4) - سورة الأعراف آية: 64.
(5) - سورة القمر آية: 13-14.
(6) - سورة القمر آية: 15.(1/24)
(ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كَانَ عَبْداً شَكُوراً)(1) [سورة الإسراء، الآية: 3]. (سَلامٌ عَلَى نُوحٍ فِي الْعَالَمِينَ)(2) [سورة الصافات، الآية: 79]. (إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ)(3) [سورة آل عمران، الآية: 33].
وهكذا تتضح حقيقة النصر، من خلال قصة نوح وقومه.
وقبل أن أتجاوز قصة نوح، عليه السلام، وقفت عند آية وردت في سورة نوح، حيث، قال: (إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِراً كَفَّاراً)(4) [سورة نوح، الآية: 27].
وبما أنه لم يكن في الأرض يومئذ إلا قوم نوح، وقد كفروا بالله، وتمردوا على رسوله، سوى فئة قليلة هي التي آمنت به، فإن الله -سبحانه- أهلك جميع من في الأرض، يومئذ سوى نوح ومن آمن معه، حماية للمنهج الذي ذكر نوح أنه معرض للزوال إن بقي هؤلاء، فأهلك هؤلاء على كثرتهم من أجل عدد من البشر يحملون الحق ويذودون عنه. والدليل على أنه لم يبق سوى من يحمل رسالة التوحيد أن الله -تعالى- قال: (ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ)(5) [سورة الإسراء، الآية 3]. قال الإمام الطبري في تفسير هذه الآية: وذلك أن كل من على الأرض من بني آدم فهم من ذرية من حمله الله مع نوح في السفينة.
قال قتادة: والناس كلهم ذرية من أنجى الله في تلك السفينة.
قال مجاهد: بنوه ونساؤهم ونوح (6).
وقيل هم ثلاثة عشر، رجالا ونساء (7).
__________
(1) - سورة الإسراء آية: 3.
(2) - سورة الصافات آية: 79.
(3) - سورة آل عمران آية: 33.
(4) - سورة نوح آية: 27.
(5) - سورة الإسراء آية: 3.
(6) - انظر تفسير الطبري 15/19.
(7) - انظر تفسير الطبري 8/215.(1/25)
قال -سبحانه-: (أُولَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ)(1) [سورة نوح، الآية: 58]. إن الانتصار وهو انتصار المنهج لا الأفراد، والعبرة ليست بكثرة المؤمنين والمستجيبين للحق، وإنما في المنهج الذي يحمله أولئك سواء أقلوا أم كثروا، ولذا فإن بضعة نفر أو يزيدون، ولا يتجاوزون ثلاثة عشر فردا يحملون الإسلام ويحققون معنى العبودية، يهلك أهل الأرض جميعا حماية لهؤلاء وللمنهج الذي يمثلونه ويحملونه، ما دام أن هناك خطرا يهدد بزوالهم، ومن ثم زوال المنهج الذي يحملونه: (إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِراً كَفَّاراً)(2) [سورة نوح، الآية: 27].
ولهذا قال رسول الله، صلى الله عليه وسلم في بدر وهو يناجي ربه: " اللهم إن تهلك هذه العصابة من أهل الإسلام لا تعبد في الأرض... " (3) الحديث. واستجاب الله لمحمد، صلى الله عليه وسلم ونصره في بدر وما بعدها، كما استجاب لنوح، عليه السلام، من قبله.
ومن علامات انتصار دين الإسلام، أنه لن تستطيع قوة في الأرض أن تهلك جميع المؤمنين كما كان يخشى في عهد نوح أو في أول الرسالة -كما سبق-، لأن رسول الله، صلى الله عليه وسلم بين هذا كما ورد في الحديث الصحيح: " لا تزال طائفة من أمتي قائمة بأمر الله لا يضرهم من خذلهم أو خالفهم حتى يأتي أمر الله وهم على ذلك " (4).
2- أصحاب القرية
__________
(1) - سورة مريم آية: 58.
(2) - سورة نوح آية: 27.
(3) - أخرجه مسلم (1763).
(4) - أخرجه البخاري (3641)، ومسلم (1037).(1/26)
وهي القصة التي ذكرها الله في سورة (يس)، ولنقرأ هذه الآيات: (وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلاً أَصْحَابَ الْقَرْيَةِ إِذْ جَاءَهَا الْمُرْسَلُونَ إِذْ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُمَا فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ فَقَالُوا إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ قَالُوا مَا أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا وَمَا أَنْزَلَ الرَّحْمَنُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَكْذِبُونَ قَالُوا رَبُّنَا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ وَمَا عَلَيْنَا إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ قَالُوا إِنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ وَلَيَمَسَّنَّكُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ)(1) [سورة يس، الآيات: 13-18]. قرية واحدة، وهي قرية أنطاكية كما ذكر المفسرون، يرسل إليها رسولان، وعندما لم يؤمن بهما أهل هذه القرية، يرسل الله ثالثا، ومع ذلك فيبقى هؤلاء على إصرارهم وكفرهم، وما زادهم إرسال الرسول الثالث إلا عتوا ونفورا، بل هددوا برجم هؤلاء الرسل وقتلهم: (لَنَرْجُمَنَّكُمْ وَلَيَمَسَّنَّكُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ)(2) [سورة يس، الآية: 18].
وهل انتهت القصة عند هذا الحد، بل جاءهم رجل رابع، وهو من بني جلدتهم وناصح لهم، (وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ)(3) [سورة يس، الآية: 20]. ويستمر في حواره معهم ودعوتهم، وهذه المرة لم يهددوه، كما هددوا من قبله بل قتلوه عندما خالفهم، وهذا شأن الطغاة فإنهم لا يتحملون أن يخالفهم أحد من بني قومهم أو حاشيتهم.
وهكذا ثلاثة رسل وداعية من أهل هذه القرية لقرية واحدة، ومع ذلك لم يستجيبوا للدعاة، ولم يكتفوا بعدم الاستجابة، بل هددوا الرسل -وقيل قتلوهم- وقتلوا الداعية الرابع.
__________
(1) - سورة يس آية: 13-14-15-16-17-18.
(2) - سورة يس آية: 18.
(3) - سورة يس آية: 20.(1/27)
إن مقاييس الأرض تظهر أن هؤلاء الرسل لم ينتصروا ولم يحققوا أهدافهم، وأن هذا الداعية استعجل في الكشف عن هويته وإيمانه، ولذلك لقي جزاءه؟ هكذا يقوم الحدث في نظر من لم يفهم حقيقة الانتصار، ولا معنى الهزيمة.
أما منطق الحق، ومنهج النبوة، فيعلن أن هؤلاء قد نصروا نصرا مؤزرا، وأن أصحاب القرية هم الخاسرون، ويتمثل النصر في الحقائق التالية:
1- أن هؤلاء الرسل قد بلغوا رسالة الله، ولم يستسلموا لشبه أهل القرية أولا، وتهديدهم ثانيا، وهذه هي مهمتهم: (وَمَا عَلَيْنَا إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ)(1) [سورة يس، الآية: 17]. ومن أدى ما عليه فقد انتصر وفاز ونجح.
2- إيمان رجل من أهل القرية بهم، وتأييده لهم علانية، يعد نصرا وانتصارا له ولهم، ولذلك كان رد أهل القرية عنيفا تجاهه، لأنهم شعروا بخذلانه لهم، وخذلانهم نصر لأولئك الرسل.
3- أن قتل هذا الداعية نصر له ولمنهجه (قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ)(2) [سورة التوبة: 52]. ولذلك، (قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ)(3) [سورة يس، الآية: 26]. فتمنى أن يعلن عن فوزه وانتصاره، (يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ)(4) [سورة يس، الآيتان: 26، 27].
4- وتتويجا لانتصارات هؤلاء الرسل وهذا الداعية، جاءت النهاية المحققة: (وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى قَوْمِهِ مِنْ بَعْدِهِ مِنْ جُنْدٍ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا كُنَّا مُنْزِلِينَ إِنْ كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ خَامِدُونَ)(5) [سورة يس، الآيتان: 28، 29].
إن الدعاة في أمس الحاجة إلى أن يقفوا مع قصة أصحاب القرية، ويتدبروا أبعادها ونهاياتها.
__________
(1) - سورة يس آية: 17.
(2) - سورة التوبة آية: 52.
(3) - سورة يس آية: 26.
(4) - سورة يس آية: 26-27.
(5) - سورة يس آية: 28-29.(1/28)
ثلاثة رسل، وداعية مخلص صادق لقرية واحدة، ومع ذلك فلم يؤمنوا، وعدم إيمانهم لم يفت في عضد هؤلاء الرسل، ولم يمنع هذا الداعية من قول كلمة الحق، دون استعجال أو تنازل أو يأس.
بل إن هذا الداعية، كما ورد عند الطبري، كان يقول أثناء قتل قومه له: "اللهم اهد قومي فإنهم لا يعلمون"، بل إننا نلمس من قوله (يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ)(1) أنه لا يقول هذا تشفيا ولا من أجل إغاظتهم، ولكن من أجل هدايتهم، لأنهم إذا علموا أنه كان على الحق وقد قالوا للرسل: (وَمَا أَنْزَلَ الرَّحْمَنُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَكْذِبُونَ)(2) [سورة يس، الآية: 15]. كان أرجى لهدايتهم.
وهذا من حرصه على هداية قومه، وهكذا يكون الداعية، محبا لهداية الناس، لا يحمل الحقد ولا الضغينة، وهذا هو الانتصار على النفس الذي يسبق الانتصار الظاهر، ومن حرم الانتصار على نفسه، فلن ينتصرعلى غيره.
3- أصحاب الأخدود
قال الله - تعالى: (قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ)(3) [سورة البروج، الآية: 4-8].
قصة أصحاب الأخدود قصة عجيبة، تصور لنا معنى من معاني الانتصار الذي نتحدث عنه، وتبين أن استجابة الناس، أو ظهور الدين ليس هو المقياس الوحيد للانتصار، بل إن ثبات الداعية وانتصار المنهج هو قمة الانتصار.
ولأهمية هذه القصة، فسأذكرها بتمامها، كما أوردها العلامة ابن كثير -رحمه الله- حيث قال في تفسير هذه الآيات:
__________
(1) - سورة يس آية: 26.
(2) - سورة يس آية: 15.
(3) - سورة البروج آية: 4-5-6-7-8.(1/29)
قال الإمام أحمد: حدثنا عفان، حدثنا حماد بن سلمة عن ثابت، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن صهيب أن رسول الله، صلى الله عليه وسلم قال: " كان فيمن كان قبلكم ملك وكان له ساحر، فلما كبر الساحر قال للملك: إني قد كبر سني، وحضر أجلي، فادفع إلي غلاما لأعلمه السحر، فدفع إليه غلاما كان يعلمه السحر، وكان بين الساحر وبين الملك راهب، فأتى الغلام على الراهب فسمع من كلامه فأعجبه نحوه وكلامه، وكان إذا أتى الساحر ضربه وقال: ما حبسك؟ وإذا أتى أهله ضربوه، وقالوا: ما حبسك؟ فشكا ذلك إلى الراهب، فقال: إذا أراد الساحر أن يضربك فقل: حبسني أهلي، وإذا أراد أهلك أن يضربوك فقل: حبسني الساحر، فبينما هو ذات يوم إذ أتى على دابة فظيعة عظيمة قد حبست الناس فلا يستطيعون أن يجوزوا، فقال: اليوم أعلم أمر الراهب أحب إلى الله أم أمر الساحر، قال: فأخذ حجرا، فقال: اللهم إن كان أمر الراهب أحب إليك وأرضى من أمر الساحر فاقتل هذه الدابة حتى يجوز الناس، ورماها فقتلها، ومضى الناس، فأخبر الراهب بذلك، فقال: أي بني أنت أفضل مني وإنك ستبتلى، فإن ابتليت فلا تدل علي.(1/30)
فكان الغلام يبرئ الأكمه والأبرص وسائر الأدواء ويشفيهم (1) وكان للملك جليس فعمي، فسمع به فأتاه بهدايا كثيرة، فقال: اشفني، فقال ما أنا أشفي أحدا، إنما يشفي الله عز وجل فإن آمنت به دعوت الله فشفاك، فآمن فدعا الله فشفاه، ثم أتى الملك فجلس منه نحو ما كان يجلس، فقال له الملك: يا فلان، من رد عليك بصرك؟ فقال: ربي. فقال: أنا؟ قال: لا، ربي وربك الله، قال: أولك رب غيري؟ قال: نعم، ربي وربك الله، فلم يزل يعذبه حتى دل على الغلام، فبعث إليه فقال: أي بني: بلغ من سحرك أن تبرئ الأكمه والأبرص، وهذه الأدواء؟ قال: ما أشفي أحدا، إنما يشفي الله عز وجل قال: أنا؟ قال: لا، قال: ولك رب غيري؟ قال: ربي وربك الله، فأخذه -أيضا- بالعذاب فلم يزل به حتى دل على الراهب، فأتى بالراهب، فقال ارجع عن دينك، فأبى فوضع المنشار في مفرق رأسه حتى وقع شقاه، وقال للأعمى: ارجع عن دينك، فأبى، فوضع المنشار في مفرق رأسه حتى وقع شقاه إلى الأرض، وقال للغلام: ارجع عن دينك، فأبى، فبعث به مع نفر إلى جبل كذا وكذا، فقال: إذا بلغتم ذروته فإن رجع عن دينه وإلا فدهدهوه، فذهبوا به، فلما علوا به الجبل قال: اللهم اكفنيهم بما شئت، فرجف بهم الجبل فدهدهوا أجمعون. وجاء الغلام يتلمس حتى دخل على الملك فقال: ما فعل أصحابك، فقال: كفانيهم الله -تعالى- فبعث به مع نفر في قرقور، فقال: إذا لججتم به البحر فإن رجع عن دينه وإلا فغرقوه في البحر، فلججوا به البحر، فقال الغلام: اللهم اكفنيهم بما شئت، فغرقوا أجمعون، وجاء الغلام حتى دخل على الملك، فقال: ما فعل أصحابك؟ فقال: كفانيهم الله -تعالى- ثم قال للملك: إنك لست بقاتلي حتى تفعل ما آمرك به، فإن أنت فعلت ما آمرك به قتلتني، وإلا فإنك لا تستطيع قتلي، قال: وما هو؟ قال تجمع الناس في صعيد واحد، ثم تصلبني على جذع وتأخذ سهما من كنانتي، ثم قل: بسم الله رب الغلام، فإنك إذا فعلت ذلك قتلتني، ففعل
__________
(1) - بإذن الله.(1/31)
ووضع السهم في كبد قوسه، ئم رماه، وقال: بسم الله رب الغلام، فوقع السهم في صدغه، فوضع الغلام يده على موضع السهم ومات، فقال الناس: آمنا برب الغلام.
فقيل للملك أرأيت ما كنت تحذر؟ فقد والله نزل بك، قد آمن الناس كلهم، فأمر بأفواه السكك فخدد فيها الأخاديد، وأضرمت فيها النيران، وقال: من رجع عن دينه فدعوه، وإلا فأقحموه فيها، قال: فكانوا يتعادون ويتدافعون، فجاءت امرأة بابن لها ترضعه، فكأنما تقاعست أن تقع في النار، فقال الصبي: اصبري يا أماه فإنك على الحق " (1).
هذه قصة أصحاب الأخدود بطولها، وقد أوردتها لأهميتها، وقد أعجبت بما قاله سيد قطب -رحمه الله- حول هذه القصة مبينا حقيقة الانتصار فيها، ولذا سأذكر بعض ما قاله، ثم أضيف ما أراه حولها مما له صلة بموضوعنا:
وكان مما قال -رحمه الله-: (2)
"في حساب الأرض يبدو أن الطغيان قد انتصر على الإيمان، وأن هذا الإيمان الذي بلغ تلك الذروة العالية، في نفوس الفئة الخيرة الكريمة الثابتة المستعلية، لم يكن له وزن ولا حساب في المعركة التي دارت بين الإيمان والطغيان".
في حساب الأرض تبدو هذه الخاتمة أسيفة أليمة.
حساب الأرض يجيك في الصدر شيء أمام هذه الخاتمة الأسيفة.
ولكن القرآن يعلم المؤمنين شيئا آخر، ويكشف لهم عن حقيقة أخرى.
إن الحياة وسائر ما يلابسها من لذائذ وآلام، ومن متاع وحرمان، ليست هي القيمة الكبرى في الميزان، وليست هي السلعة التي تقرر حساب الربح والخسارة، والنصر ليس مقصورا على الغلبة الظاهرة، فهذه صورة واحدة من صور النصر الكثيرة.
__________
(1) - رواه مسلم (3005) من حديث صهيب رضي الله عنه [73 - (3005) كتاب الزهد].
(2) - سأختار من كلامه ما له صلة بهذا الموضوع.(1/32)
إن الناس جميعا يموتون، وتختلف الأسباب، ولكن الناس لا ينتصرون -جميعا- هذا الانتصار، ولا يرتفعون هذا الارتفاع، ولا يتحررون هذا التحرر، ولا ينطلقون هذا الانطلاق إلى هذه الآفاق، إنما هو اختيار الله وتكريمه لفئة كريمة من عباده، تشارك الناس في الموت، وتنفرد دون -كثير من- الناس في المجد، المجد في الملأ الأعلى، وفي دنيا الناس -أيضا- إذا نحن وضعنا في الحساب نظرة الأجيال بعد الأجيال.
لقد كان في استطاعة المؤمنين أن ينجوا بحياتهم في مقابل الهزيمة لإيمانهم، ولكن كم كانوا يخسرون أنفسهم، وكم كانت البشرية كلها تخسر، كم كانوا يخسرون وهم يقتلون هذا المعنى الكبير، معنى زهادة الحياة بلا عقيدة، وبشاعتها بلا حرية، وانحطاطها حين يسيطر الطغاة على الأرواح، بعد سيطرتهم على الأجساد.
(وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ)(1) [سورة البروج، الآية: 8]. حقيقة ينبغي أن يتأملها المؤمنون الداعون إلى الله، في كل أرض، وفي كل جيل.
إن المعركة بين المؤمنين وخصومهم هي في صميمها معركة عقيدة، وليست شيئا آخر على الإطلاق وإن خصوهم لا ينقمون منهم إلا الإيمان، ولا يسخطون منهم إلا العقيدة (2)
وبعد هذه الدروس التي استخلصها سيد قطب من هذه القصة، أقف عدة وقفات حولها:
1- ثبات الراهب والأعمى، وتخلي الأعمى عن جميع متع الحياة الدنيا في مقابل أن يظفر بعقيدته، إن الراهب قد انتصر في معركة بقائه أو بقاء عقيدته، فاختار أن تبقى العقيدة ولو خسر حياته.
أما الأعمى فقد انتصر مرتين، انتصر عندما تخلى عن مكانته عند الملك مع ما في ذلك من جاه ومكانة، وانتصر عندما تخلى عن حياته في مقابل عقيدته.
__________
(1) - سورة البروج آية: 8.
(2) - انظر معالم في الطريق فصل: هذا هو الطريق ص 173.(1/33)
إن الراهب والأعمى قد خلدا لنا معاني عظيمة من معاني الانتصار الحقيقي، بعيدا عن التأويل والتبرير الذي يغطي فيه كثير من الناس ضعفهم وخورهم بستار يوهمون فيه الآخرين أنهم إنما فعلوا ذلك من أجل الدين، ولو صدقوا لعلموا أن انتصار الدين بأن يفعلوا ما فعله الراهب والأعمى.
2- عجيب أمر هذا الغلام! لماذا دل الملك على مقتله، ولماذا -مادام أن الله قد منعه من الملك- لم يؤثر البقاء ليبلغ رسالة ربه، ويدل الناس على الدين الحق، ويبقي على حياته سالما.
هذا سؤال قد يتبادر إلى الأذهان:
والمفهوم التي لم تعرف حقيقة الانتصار. إن الغلام قد أدرك -بتوفيق من الله- أن كلمة في لحظة حاسمة صادقة، تفعل ما لا تفعله آلاف الكلمات في عشرات السنين.
إن الحياة مواقف، يتميز فيها الصادق من غيره، وقد سنحت فرصة عظيمة لا يجوز تفويتها، ولا يليق تبرير ضياعها، وكما قيل: "إذا هبت رياحك فاغتنمها" وقد هبت رياح هذا الغلام، وهل رياحه إلا تبليغ رسالة ربه، ولو دفع حياته ثمنا رخيصا في سبيل الله؟
إنه انتصار الفهم، وانتصار الإرادة، وانتصار العقيدة عندما تتحول في صدر صاحبها إلى قوة مؤثرة، وحياة صادقة، وليست على هامش حياته وسلوكه وتفكيره، إن هذا الغلام قد انتصر عدة مرات في معركة واحدة، وموقف واحد:
انتصر بقوة فهمه وإدراكه لأقصر وأسلم الطرق لنصرة دينه وعقيدته، وإخراج أمته ومجتمعه من الظلمات إلى النور.
وانتصر بقدرته على اتخاذ القرار الحاسم في الوقت المناسب، متخطيا جميع العقبات، ومستعليا على الشهوات وحظوظ النفس ومتاع الحياة الدنيا.
وانتصر على هذا الملك الغبي، الذي أعمى الله بصيرته، فأخرب ملكه بيده، فإنها لا تعمى الأبصار، ولكن تعمى القلوب التي في الصدور.
إن الناس قد يتعجبون لأن الغلام قد دل الملك على مقتله، ولكنهم لا يدركون أن الملك قد قتل نفسه بيده لا بيد غيره، فأيهما أولى بالعجب والتعجب؟(1/34)
إن الغلام أقدم وهو يعي حقيقة ما يفعل: أما الملك فأعمته سكرة الملك وشهوة السلطان عن أن يدرك ما خطط له هذا الغلام، في هذه المعركة الفاصلة التي مات فيها فرد وحيت أمة.
وانتصر الغلام عندما تحقق ما كان يتصوره ويتوقعه وقدم نفسه من أجله، فآمن الناس وقالوا: آمنا بالله رب الغلام.
إن دقة التخطيط وبراعة التنفيذ، وسلامة التقدير، نجاح باهر، وفوز ظاهر.
وانتصر الغلام عندما فاز بالشهادة في سبيل الله، فكل الناس يموتون، ولكن القليل منهم من يستشهدون.
وانتصر أخيرا عندما خلد الله ذكره قدوة لمن بعده، وذكرا حسنا على لسان المؤمنين، حيث جعل الله له لسان صدق في الآخرين.
3- وتتويجا لهذه الانتصارات المتلاحقة:
تأتي نهاية القصة، عندما آمن الناس برب الغلام، آمنوا بالله وحده وكفروا بالطاغوت، وهنا جن جنون الملك، وفقد صوابه، فاستخدم كل ما يملك من وسائل الإرهاب والتخويف، في محاولة يائسة، للإبقاء على هيبته وسلطانه وتعبيد الناس له.
ثم يحفر أخاديده، ويوقد نيرانه، ويأمر زبانيته وجنوده بإلقاء المؤمنين في النار، وتأتي المفاجأة المذهلة، بدل أن يضعف من يضعف، ويهرب من يهرب، لا تسجل الرواية أن أحدا منهم تراجع أو جبن أو هرب، بل نجد الإقدام والشجاعة، وذلك بالتدافع إلى النار، وكأن الغلام قد بث فيهم الشجاعة، والثبات وها هم يجدون في اللحاق به، وكأنهم يتلذذون في تقديم أرواحهم فداء لدينهم، تموت الأجسام وتحيا الأرواح عند خالقها: (وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ)(1) [سورة آل عمران، الآية: 169].
من لم يمت بالسيف مات بغيره
تنوعت الأسباب والموت واحد
__________
(1) - سورة آل عمران آية: 169.(1/35)
والحالة الفريدة التي وردت في الرواية، هي تلك المرأة التي خافت على رضيعها، ولكنها نسيت أنها قد أرضعته الإيمان والشجاعة والإقدام مع اللبن الذي كان يشربه، فطلب منها التقدم، فأقدمت.
أي أمة تلك، وأي قوم أولئك، مع الزمن الطويل الذي عاشوه في الظلام، والسنوات التي استعبدهم فيها هذا الملك، ومع قصر المدة التي عرفوا فيها الإيمان، فقد عرفوا المنهج حق المعرفة، وكأنهم عاشوا فيه كما عاش الراهب طول عمره، أو تربوا عليه كما تربى الغلام في صباه.
إنه الإيمان إذا خالط بشاشة القلوب، ولامس الأرواح يفعل العجب.
لقد رأينا في قصة الراهب والأعمى ثم الغلام انتصارا فرديا.
ولكننا في قصة أولئك المؤمنين نرى انتصارا جماعيا، قل أن يحدث له في التاريخ مثيلا.
إنه صفاء العقيدة، ووضوح المنهج، وسلامة الطريق، وفهم حقيقة الانتصار.
4- وقبل أن نغادر هذه القصة، يرد سؤال في الأذهان:
ماذا حل بهذا الملك وحاشيته وجنده؟
وهل ذهبت دماء هؤلاء المؤمنين وأرواحهم دون انتقام من الله لمن قتلهم؟
إننا لا نجد في القرآن ولا في السنة أي ذكر لهؤلاء الظلمة، وماذا كان مصيرهم في الدنيا، ولله في ذلك حكمة قد تخفى علينا.
نعم وردت آية في آخر قصتهم فيها دعوة لهم وتحذير (إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ)(1) [سورة البروج الآية: 10].
قال الحسن البصري: "انظروا إلى هذا الكرم والجود، قتلوا أولياءه، وهو يدعوهم إلى التوبة والمغفرة" (2).
إن هذه النهاية تحقق معنى من معاني الانتصار، من المنتصر؟ الذي نصر عقيدته ودين ربه، وحرق بضع دقائق، ثم انتقل إلى جنات النعيم، أو ذلك الذي تمتع بأيام في الحياة الدنيا ثم مآله -إن لم يتب- إلى عذاب جهنم وعذاب الحريق؟.
__________
(1) - سورة البروج آية: 10.
(2) - تفسير ابن كثير4/496.(1/36)
هل هناك مقارنة بين الحريق الأول، والحريق الثاني، حريق الدنيا، وحريق الآخرة؟ إنها نقلة بعيدة، وبون شاسع، أما المؤمنون الذين حرقوا في الدنيا، فـ (لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ)(1) [سورة البروج الآية: 11] وتعلن النتيجة التي لا مراء فيها، ولا جدال:
(ذَلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ)(2) أليس هذا هو الانتصار؟.
أحاديث في الانتصار
وردت بعض الأحاديث عن رسول الله، صلى الله عليه وسلم نجد فيها دلالة لحقيقة الانتصار، وإزالة لما يتوهم من معنى الهزيمة.
وسأذكر أربعة أحاديث، وأقف مع كل حديث مبينا وجه الاستدلال فيه.
1-الحديث الأول
أخرج الإمام البخاري في صحيحه من حديث ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله، صلى الله عليه وسلم " عرضت علي الأمم فأخذ النبي يمر معه الأمة، والنبي يمر معه العشرة، والنبي يمر معه الخمسة، والنبي يمر وحده، فنظرت فإذا سواد كثير، قلت: يا جبريل: هؤلاء أمتي؟ قال: لا، ولكن انظر إلى الأفق، فنظرت فإذا سواد كثير، قال هؤلاء أمتك، وهؤلاء سبعون ألفا قدامهم لا حساب عليهم ولا عذاب " (3) الحديث.
وفي رواية عن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: خرج علينا النبي، صلى الله عليه وسلم يوما فقال: " عرضت علي الأمم، فجعل يمر النبي معه الرجل، والنبي معه الرجلان، والنبي معه الرهط، والنبي ليس معه أحد... " (4) الحديث.
وفي رواية لمسلم، عن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله، صلى الله عليه وسلم " عرضت علي الأمم فرأيت النبي ومعه الرهيط والنبي ومعه الرجل والرجلان، والنبي ليس معه أحد، إذ رفع لي سواد عظيم... " (5) (6) الحديث.
__________
(1) - سورة البروج آية: 11.
(2) - سورة البروج آية: 11.
(3) - أخرجه البخاري (6541).
(4) - أخرجه البخاري (5752).
(5) - الرهيط: قال النووي هم بضم الراء تصغير الرهط. وهي الجماعة دون العشرة. مسلم بشرح النووي 3/53.
(6) - أخرجه مسلم (220).(1/37)
وقد ورد الحديث بروايات أخرى في معنى هذه الروايات.
وتبرز صلة هذا الحديث في موضوعنا من خلال ما يلي:
1- ورد في الحديث، أن الرسول، صلى الله عليه وسلم نظر إلى سواد كثير، وفي رواية: سواد عظيم، ثم رأى سوادا كثيرا -آخر- سد الأفق.
والسواد الأول هم ممن آمن بموسى، عليه السلام، والسواد الآخر هم أمة محمد، صلى الله عليه وسلم وهذا يمثل نوعا من أنواع الانتصار الظاهر، حيث انتشر الدين وآمن الناس، حتى بلغوا هذا المبلغ، وهو النوع الأول من أنواع الانتصار التي أشرت إليها سابقا، ومثل ذلك النبي الذين يمر ومعه الأمة.
2- ورد في الحديث، أن النبي يمر معه العشرة، والنبي ومعه الخمسة، والنبي يمر وحده، وفي رواية: فجعل النبي يمر معه الرجل، والنبي معه الرجلان، والنبي ليس معه أحد.
ونحن لا نشك في انتصار الأنبياء والرسل كما أخبرنا الله -جل وعلا- بذلك فقال: (إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ)(1) [سورة غافر، الآية: 51]. وغيرها من الآيات التي سبق ذكرها.
وها نحن نجد النبي يأتي يوم القيامة، ومعه العشرة، والآخر معه الخمسة، وثالث ومعه الرجلان، ورابع ومعه رجل واحد، والخامس وليس معه أحد.
والأمر الذي يجب ألا يغيب عن أذهاننا أن النبي الذي معه العشرة والخمسة والرهيط قد لا يكونون قد آمنوا به واتبعوه في حياته، بل قد يكون بعضهم بعد وفاته، لأن الذين رآهم رسول الله، صلى الله عليه وسلم من أمته ليسوا الذين آمنوا به في حياته صلى الله عليه وسلم فقط، بل منهم من آمن به في حياته، ومنهم من آمن به بعد وفاته إلى قيام الساعة، وإن كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يختلف عن غيره من الأنبياء بأنه خاتمهم وآخرهم.
__________
(1) - سورة غافر آية: 51.(1/38)
وبهذا نفهم أن الانتصار ليس بكثرة الأتباع فحسب، وقبول الناس واستجابتهم، هذا نوع من أنواع الانتصار كما سبق، وبخاصة إذا كان الأتباع على المنهج الحق، وإلا فلا عبرة بالكثرة والقلة.
والمعادلة التي نخرج منها، والحقيقة التي نظفر بها، أن النبي -كل نبي- لا شك في انتصاره في الحياة الدنيا قبل الآخرة، وها نحن نجد عددا من الأنبياء ليس معهم إلا أفرادا، بل بعضهم ليس معه أحد.
فالنتيجة أن هناك أنواعًا أخرى من الانتصار، أشمل مما قد يتبادر إلى أذهان كثير من الناس، وبعض الدعاة. إن إدراكنا لهذه الحقيقة وتعاملنا معها هو نوع من الانتصار الذي نبحث عنه بل هو أول الخطوات لتحقيق الانتصار.
2- الحديث الثاني
عن خباب بن الأَرَتْ - رضي الله عنه - قال: " شكونا إلى رسول الله، صلى الله عليه وسلم وهو متوسد بردة في ظل الكعبة، فقلنا: إلا تستنصر لنا، أو تدعو لنا؟ فقال: قد كان من قبلكم يؤخذ الرجل فيُحفر له في الأرض فيجعل فيها، ثم يؤتى بالمنشار فيوضع على رأسه فيجعل نصفين، ويمشط بأمشاط الحديد ما دون لحمه وعظمه، ما يبعده ذلك عن دينه، والله ليتمن الله -تعالى- هذا الأمر، حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت فلا يخاف إلا الله والذئب على غنمه، ولكنكم تستعجلون " (1).
ولنقف هذه الوقفات:
1- خبّاب - رضي الله عنه - جاء إلى رسول الله، صلى الله عليه وسلم يطلب منه الدعاء بالنصر - هكذا أطلق خباب، وهو يريد النصر الظاهر، برفع العذاب والأذى الذي كانت قريش تصبه على رسول الله، صلى الله عليه وسلم وصحابته.
فنقله رسول الله، صلى الله عليه وسلم نقلة أخرى مبينا له معنى آخر من معاني الانتصار، وهو الثبات على دين الله، وتحمل المشاق والعقبات، حتى لو ذهبت روح المسلم فداء لدينه وعقيدته.
__________
(1) - أخرجه البخاري (3612).(1/39)
2- ثم يذكر له رسول الله، صلى الله عليه وسلم النصر الظاهر وأنه متحقق، ويقسم رسول الله، صلى الله عليه وسلم على ذلك، ولكنه لا يتحقق إلا بعد الثبات والصبر.
3- ونجد أن ما ذكره رسول الله، صلى الله عليه وسلم وأقسم على حصوله وهو إتمام هذا الدين -وهو نوع من الانتصار- قد لا يتحقق في حياة الداعية، فمسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت حدث بعد وفاة رسول الله، صلى الله عليه وسلم.
فعلى الداعية أن يعي هذا الأمر، وأن انتصار الدين لا يتعلق بشخصه.
4- " ولكنكم تستعجلون " صدق رسول الله، صلى الله عليه وسلم إن حرص كثير من الدعاة على انتصار هذا الدين قد يؤدي بهم إلى ارتكاب ما يعوقه، وهو الاستعجال، إنهم يريدون أن يروا النتائج في حياتهم، بل في أول حياتهم -أحيانا- وهذا لم يتحقق لكثير من الأنبياء والرسل.
ويعلمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن النصر يحتاج إلى الصبر والثبات والتفاؤل مع عدم العجلة.
ويعلمنا أن النصر أشمل مما قد يتبادر إلى أذهاننا.
فليس النصر مقصورا على النصر الظاهر، والنصر الظاهر لا يلزم أن يتحقق في حياة الداعية.
3- الحديث الثالث
عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال، قال رسول الله، صلى الله عليه وسلم
أن الله عز وجل قال: " من عادى لي وليا فقد آذنته بالحرب " (1). الحديث.
والشاهد من هذا الحديث القدسي، أن المؤمن إذا أيقن أن الله معه، ويجب أن يوقن بذلك، ومن كان وليا لله فإن الله معه، وإذا الله كان معه، يعلن الحرب على من آذاه أو عاداه، فيستلزم ذلك أن يؤمن إيمانا لا شك فيه أن الله سينصره، لأن المعركة لم تعد بين الداعية وعدوه، وإنما هي حرب من الله على هذا المعادي، وبدهي أن نعلم من المنتصر ومن الخاسر؟ !!.
ومادام الأمر كذلك، فإن الله -جل وعلا- هو الذي يقدر نوع الانتصار وزمانه ومكانه، ولا يخضع هذا لرؤيتنا القاصرة، أو رغباتنا المحدودة، أو اجتهاداتنا البشرية.
__________
(1) - أخرجه البخاري (6502).(1/40)
وما علينا إلا أن نعلم يقينًا أن المعركة محسومة من أولها، معروفة نتائجها قبل بدايتها، وأن نتعامل بإيجاب مع هذا اليقين، فلا نستعجل ولا نيأس، ولا نتصرف تصرفا قد يكون سببا لحرماننا من النصر الذي لا شك فيه: (وَكَانَ حَقّاً عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ)(1) [سورة الروم، الآية: 47].
4- الحديث الرابع
عن عثمان بن عفان - رضي الله عنه - قال: كان رسول الله، صلى الله عليه وسلم إذا مر بهم وهم يعذبون يقول: " صبرا، آل ياسر فإن موعدكم الجنة " (2).
إن الصبر نوع من أعظم أنواع الانتصار، فبالصبر يسمو الإنسان على رغباته ويعلو على متع الحياة الدنيا.
والصبر سمة الرجال الأخيار (نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ)(3).
إنه بالصبر ينتصر على نفسه أولا، وينتصر على عدوه، ثانيا، وينصر مبدأه ثالثا. إننا عندما نذكر انتصار الإسلام في مراحله الأولى نتذكر آل ياسر: ياسر وسمية وعمار.
إن هذا البيت بصبره وجهاده، وتقديم حياته فداء لهذا الدين، ممن وضع اللبنات الأولى لعزة هذا الدين وظهوره.
لقد انتصروا على ذواتهم أولا، وعلى المشركين ثانيا، ونصروا الإسلام ثالثا.
ثم لهم الجنة بعد ذلك، (فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ)(4) [سورة آل عمران، الآية: 185]. (ذَلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ)(5) [سورة البروج الآية: 11].
وأجد أنّ قصة الصحابي الجليل عمير بن الحمام في بدر قصة تسجل انتصارًا باهرًا للداعية، فالوقوف عندها واستخلاص ما فيها من دورس وعبر يعطي دلالة على ما نحن بصدده.
سورة العصر و حقيقة النصر:
قال الإمام الشافعي -رحمه الله-: "لو تدبر الناس هذه السورة لوسعتهم". (6).
__________
(1) - سورة الروم آية: 47.
(2) - رواه الحاكم 3/388 - 389 وصححه الألباني في فقه السيرة (107).
(3) - سورة ص آية: 30.
(4) - سورة آل عمران آية: 185.
(5) - سورة البروج آية: 11.
(6) - تفسير ابن كثير 4/547.(1/41)
فما علاقة هذه السورة بحقيقة الانتصار؟
إن هذه السورة ترسم منهج النصر بصورة واضحة جلية، وتصحح الفهم الخاطئ بحصر قضية الانتصار بصورة واحدة أو نوع منفرد.
كيف ذلك؟
يقسم الله - سبحانه وتعالى- أن كل إنسان في خسر، أي خسارة وهلاك وبوار، إلا من استثنى بعد ذلك.
والمستثنى من الخاسرين، هو الفائز والرابح والمنتصر.
فلننظر في شروط الانتصار
1- الإيمان، (إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا)(1).
2- عمل الصالحات، (وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ)(2).
3- التواصي بالحق، (وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ)(3).
4- التواصي بالصبر، (وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ)(4).
هذه شروط النصر، فمن استكملها فقد خرج من الخسران ونجا، وبالتالي فقد انتصر وفاز وأفلح.
وهنا -بعد تقرير هذه القضية- نأتي للدلالة على فهم حقيقة الانتصار في هذه السورة.
فالله -سبحانه وتعالى- لم يذكر من شروط الانتصار تحقق النتائج، واهتداء الناس واستجابتهم.
إذن النصر ليس محصورا في تلك السورة فقط، والله -سبحانه- حكم بانتصار المسلم ونجاته من الخسران إذا استكمل الشروط الأربعة، وليس منها أن يستجيب الناس له، أو أن تتحقق الأهداف التي يسعى إليها، فهذا الأمر ليس له، وليس من لوازم النصر، وهذا رحمة من الله وفضل (وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ)(5) [سورة البقرة، الآية: 105].
بل قد استوقفني في هذه السورة أمران مهمان، لهما علاقة في رسم منهج الانتصار، وهما:
1- التواصي بالحق، لأن الإنسان قد يضعف أو يزل أو ينحرف، فيحتاج إلى من يوصيه بالمنهج، محافظة عليه وصيانة له، فكم من إنسان يتصور أنه على الحق، وهو قد حاد عنه، واتبع السبل من حيث لا يدري، ومع ذلك يقول:
__________
(1) - سورة العصر آية: 3.
(2) - سورة آية: 3.
(3) - سورة العصر آية: 3.
(4) - سورة العصر آية: 3.
(5) - سورة البقرة آية: 105.(1/42)
لماذا لم أنتصر، وما سر تأخر النصر؟ (قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ)(1) [سورة آل عمران، الآية: 165].
فالتواصي بالحق سبيل لتحقق النصر الذي وعد الله به عباده المؤمنين، وعاصم من الانحراف عن صراط الله المستقيم.
2- التواصي بالصبر:
ولا يمكن أن يتحقق النصر لمستعجل الشيء قبل أوانه، ولا لليائس والقانط من رحمة الله.
والتواصي بالصبر يمنع من الاستعجال، ويبعد اليأس والقنوط.
ومن هنا فإن المؤمن إذا التزم بالحق وتمسك به وسار عليه ولم يحد عنه، ثم صبر وصابر غير مستعجل ولا يائس، فإن النصر متحقق له لا محالة (وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلاً)(2) [سورة النساء، الآية: 122]. بل إن التزام الحق والصبر، هو النصر الذي لا يتحقق نصر دونه.
أسباب تأخر النصر الظاهر
النفس مجبولة على حبّ العاجل، وتحقق النصر الظاهر لدين الله أمر محبب إلى النفس كيف لا، وهو ظهور دين الله وقمع الباطل وأهله، ولذلك قال -سبحانه-: (وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ)(3) [سورة الصف، الآية: 13].
ونحن مأمورون بالسعي لإقامة دين الله (وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ)(4) [سورة البقرة، الآية: 193].
وكثير من الناس -وأخص الدعاة منهم- يستبطئون تحقق النصر، وقد يسبب لهم هذا الأمر شيئا من اليأس أو الانحراف عن المنهج، ويغفلون عن الأسباب التي تؤخر النصر الظاهر، مع أن معرفة هذه الأسباب أمر مهم، وله آثاره الإيجابية على حياة الدعاة والمدعوين والأتباع، وذلك أن هذه الأسباب على نوعين:
1- أسباب سلبية، والمعرفة بها سبيل إلى تلافيها وإزالتها.
__________
(1) - سورة آل عمران آية: 165.
(2) - سورة النساء آية: 122.
(3) - سورة الصف آية: 13.
(4) - سورة البقرة آية: 193.(1/43)
2- أسباب إيجابية، وفقهها وإدراكها عامل مؤثر في ثبات الداعية على المنهج الرباني، سواء تحقق النصر عاجلا أو آجلا.
وسأقف مع أبرز الأسباب التي تكون عاملا مؤثرا في تأخير النصر أو عدم وقوعه في حياة الداعية أو على يديه، وسأختصر فيها حسب مقتضى المقام:
1- تخلف بعض أسباب النصر المشروعة:
وذلك أن للنصر أسبابًا، فإذا تخلّفتْ هذه الأسباب أو بعضها تخلف النصر؛ لأن السبب عند الأصوليين، هو ما يلزم من وجوده الوجود، ومن عدمه العدم لذاته، وإن كان لا يلزم من وجود السبب هنا وجود النصر لمانع آخر، ولكن يلزم من عدمه العدم.
فمثلا: نجد من أسباب النصر المشروعة الإعداد للمعركة لأن الله -تعالى- يقول:
(وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ)(1) [سورة الأنفال، الآية: 60]. فعدم الأخذ بالأسباب سبب من أسباب الهزيمة أو تأخر النصر.
10- قد يكون انتصار الداعية بعد وفاته أعظم من انتصاره في حياته، لأن المراد هو انتصار المنهج، أما الأشخاص فإن الله قد تكفل بإثابتهم وإكرامهم، جزاء دعوتهم وصدقهم، ولذلك جاءت الآيات تبين هذا الأمر:
__________
(1) - سورة الأنفال آية: 60.(1/44)
(وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ)(1) [سورة آل عمران، الآية: 169]. (قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ)(2) [سورة يس، الآية: 26، 27]. (ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ)(3) [سورة النحل، الآية: 32]. (إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ)(4) [سورة فصلت، الآية: 30، 31]. إلى غير ذلك من الآيات.
وكم من داعية لم ينتصر الدين في حياته، ولكنه انتصر أعظم الانتصار بعد مماته، فهذا عبد الله الغلام، وسبق بيان قصته، وكذلك شيخ الإسلام ابن تيمية مات في سجنه، ولكن منهجه انتصر انتصارا باهرا بعد عدة قرون من وفاته.
وسيد قطب سجن ثم قتل، ولكن مؤلفاته انتشرت أكبر الانتشار بعد قتله!!.. وهكذا.
__________
(1) - سورة آل عمران آية: 169.
(2) - سورة يس آية: 26-27.
(3) - سورة النحل آية: 32.
(4) - سورة فصلت آية: 30-31.(1/45)
11- أن تأخر النصر فيه ابتلاء وتمحيص للدعاة، وفيه من العبر والدروس ما يفيد اللاحقون منه فوائد جمة. قال -تعالى-: (أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ)(1) [سورة البقرة، الآية: 214]. وقال: (الم أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ)(2) [سورة العنكبوت، الآية 1 - 3]. والآيات كثيرة معلومة.
وبعد:
فهذه أبرز أسباب تأخر النصر الظاهر حسب ما تبين لي، وقد تتكشف لنا أسباب تأخر النصر، وقد لا تتكشف.
والذي يجب أن نعتقده أن علينا فعل الأسباب الشرعية، سعيا لنصرة دين الله، أما تحقق النصر فليس لنا بل هو لله (وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ)(3) [سورة آل عمران، الآية: 126].
والنصر لن يتحقق إلا إذا حان موعده في علم الله لا في تقديرنا القاصر.
ولن يتحقق النصر إلا بعد الإيمان الجازم بوعد الله، (وَكَانَ حَقّاً عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ)(4) [سورة الروم، الآية: 47].
أما من عنده شك وريبة فلا يستحق النصر (5).
__________
(1) - سورة البقرة آية: 214.
(2) - سورة العنكبوت آية: 1-3.
(3) - سورة آل عمران آية: 126.
(4) - سورة الروم آية: 47.
(5) - انظر في ظلال القرآن تفسير سورة الحج 4/2427 ففيه كلام قيم حول بعض ما ذكر.(1/46)
2- قد يكون سبب تأخر النصر حدوث مانع من الموانع، والمانع هو: ما يلزم من وجوده العدم، ولا يلزم من عدمه وجود ولا عدم لذاته. والموانع كثيرة جدا، كالظلم والركون للكفار والمعاصي وغيرها. وموانع النصر هي أسباب الهزيمة، ولذلك نجد في غزوة أحد لما بدت علامات النصر ثم وقعت المخالفة من الرماة لأمر الرسول، صلى الله عليه وسلم حلت الهزيمة، كما قال - تعالى-: (أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ)(1) [سورة آل عمران، الآية: 165]. قال محمد بن إسحاق وابن جرير والربيع بن أنس والسدي. (قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ)(2) أي بسبب عصيانكم لرسول الله، صلى الله عليه وسلم حين أمركم ألا تبرحوا مكانكم فعصيتم، يعني بذلك الرماة. (3).
وفي حنين لماذا تأخر النصر، يقول - سبحانه-: (لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئاً وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ)(4).
حيث ذكر الله - سبحانه- أن قول أحد المسلمين لن نغلب اليوم من قلة، وكان عددهم (12) ألفا (5) مانعا من موانع النصر، لأن الله - سبحانه- وكلهم إلى كثرتهم فلم تنفعهم شيئا، ثم تحقق النصر بعد ذلك عندما زال هذا المانع حيث ثبت أن الكثرة وحدها لا تجلب النصر، وإنما الاعتماد على الله -سبحانه- بعد الأخذ بالأسباب.
ومن خلال ما سبق يتضح أهمية مراعاة الأسباب، والحرص على تحصيلها، مع تلافي الموانع واجتنابها.
3- الانحراف عن المنهج
__________
(1) - سورة آل عمران آية: 165.
(2) - سورة آل عمران آية: 165.
(3) - انظر تفسير ابن كثير 1/425.
(4) - سورة التوبة آية: 25.
(5) - انظر تفسير الطبري 10/100 وتفسير ابن كثير 2/343.(1/47)
الانحراف عن المنهج مانع من الموانع، ولكن أفردته لأهمية التنبيه عليه، فقد تتبعت بالاستقراء واقع كثير من الجماعات الإسلامية والحركات الجهادية المعاصرة، وبحثت عن سر عدم انتصارها وتحقق ما تعلنه من أهداف خيرة نبيلة، حيث إن تلك الجماعات تسعى لنصرة دين الله، وتحكيم شرعه، فوجدت إن من أبرز الأسباب -حسب ما ظهر لي- انحرافها عن المنهج الصحيح -منهج أهل السنة والجماعة- في ثوابتها أو وسائلها.
وقد يكون الانحراف يسيرا -في نظر البعض- ولكنه خطير جدا ومؤثر في تحقيق النصر.
فمن ذلك التساهل في قضية العقيدة وعدم اعتبارها من الأولويات التي تتميز بها تلك الجماعة.
وكذلك تمييع مفهوم الولاء والبراء، والركون إلى الظالمين ومداهنتهم.
ومن ذلك تأصيل الحزبية، مما يؤدي إلى تفريق كلمة المسلمين، وتنافر القلوب. وكذلك اعتبار أن الغاية تبرر الوسيلة، وهلم جرا.
إن تحرير الأصول والثوابت، وتنقيتها مما قد يشوبها، أمر جوهري وأساس في سلامة منهج الدعوة وصدق التوجه.
وكذلك عرض كل وسيلة من الوسائل على القواعد والأصول الشرعية، حماية لها من الانحراف تحت ضغط الواقع وحجية المصلحة المتوهمة.
4- عدم نضوج الأمة، وضعف استعدادها إن دين الله عظيم، ويحتاج إلى أمة قد تربّت على هذا الدين زمنا حتى تتمكن من حمله وتبليغه للناس.
أمة قد اجتازت المشقة والعقبات قبل أن تحصل على النصر، بل من أجل الحصول عليه.
ئم إن قيام هذا الدين يحتاج إلى طاقات ضخمة، كثيرة العدد، متعددة المواهب والتخصصات، وهذا الأمر يحتاج إلى زمن ليس باليسير، فإعداد الرجال وتربيتهم من أشق المهمات وأصعبها.
ولذلك نجد أن رسول الله، صلى الله عليه وسلم بقي ثلاثة عشر عاما يربي الرجال واحدا واحدا، ويهيئ الأمة جماعة جماعة، استعدادا لحمل الرسالة والذود عنها.
فقوم في دار الأرقم، وآخرون يهاجرون إلى الحبشة، ومرة يحصر الجمع في شعب أبي طالب، ثم تأتي الهجرة إلى المدينة.(1/48)
كل هذا وغيره هيأ هذه الأمة لحمل الرسالة حتى كمل الدين وفتح الله على المسلمين فتحا عظيما.
ومما سبق يتضح أن هذا الأمر يحتاج إلى زمن لتمامه، واكتمال بنائه، وهو سبب من أسباب تأخر النصر وظهور دين الله مهيمنا على البشر.
5- عدم إدراك قيمة النصر:
إن مجيء النصر سريعا دون كبير مشقة ولا عناء، يجعل الأمة المنتصرة لا تعرف قيمة هذا الانتصار، ومن ثم لا تبذل من الجهود للمحافظة عليه ما يستحقه وما يحتاج إليه.
وسأضرب مثلين يوضحان هذه الحقيقة:
(1) الرجل الذي عاش في الفقر ثم جد واجتهد في تحصيل المال حتى أصبح غنيا، نجد أنه يحافظ على هذا المال محافظة عجيبة، ويبذل كل الوسائل الممكنة للذود عنه وحمايته.
وذلك لأنه ذاق طعم الفقر ومذلته، ثم إنه تعب في جمع هذا المال وتنميته، فليس من السهولة أن يفرط فيه، ويكره أن يعود للفقر بعد أن أخرجه الله منه، كما يكره أن يعود للكفر بعد إذ أنقذه الله منه.
أما أولاده وورثته، فتجد أن الكثير منهم لا يولي هذا المال ما يستحقه من عناية واهتمام، بل قد يعبث فيه حتى يصبح فقيرا.
وذلك أنه لم يعرف قيمة هذا المال، ولم يتعب في جمعه وكسبه، ولم يذق طعم الفقر كما ذاقه مورثه.
(ب) قيام الدول وسقوطها:
مما يلحظ بالاستقراء والتتبع أن الدول تكون إبان قيامها قوية مهابة، وتجد أن الأمراء والخلفاء يبذلون جهودا مضاعفة للمحافظة على الدولة، وتلافي جميع أسباب ضعفها.
ثم تأتي أجيال لم تساهم في قيام الدولة، وورثت الملك كما يرث الوارث المال، وهنا ينشغلون عن الدولة بمكاسبها، ويغفلون عن تبعاتها، وتبدأ الدولة في الضعف والتفكك حتى قد يئول الأمر إلى سقوطها.
ولذا فإن مجيء النصر دون تعب أو عناء قد يكون سبباً في عدم استمراره، وصعوبة المحافظة عليه، ومن هنا فقد تقتضي حكمة الله أن يتأخر النصر حتى يستوي الأمر ويوجد الرجال الذين يعرفون قيمة النصر، والثمن الذي يستحقه.(1/49)
6- قد يكون في علم الله -جل وعلا- أن هؤلاء لو انتصروا لن يقوموا بتكاليف الانتصار، (1) من إقامة حكم الله في الأرض، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة. وذلك أن الانتصار ليس مرادا لذاته، وإنما لما يتحقق منه، وهو إخماد الفتنة، وأن يكون الدين كله لله.
وهذا مما يفهم من قوله -تعالى-: (وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ)(2) [سورة الحج، الآية: 40، 41]. وقد لا نعلم نحن سبب ذلك ولكن الله يعلمه.
وذلك أن هناك فئة من الناس تثبت في حالة الشدة والعناء، وتصمد في حالة المواجهة والبلاء ولكنها تضعف وتتقهقر في حالة النعم والرخاء والأمن.
وقوم هذه حالهم لا يستحقون النصر، والله أعلم بما كان، وما يكون، وما لم يكن لو كان كيف يكون.
7- من أسباب تأخر النصر أن الباطل الذي يحاربه الدعاة لم ينكشف زيفه للناس تماما، فقد يجد له أنصارا من المخدوعين فيه، ممن هم ليسوا على هذا الباطل، ولا يقرونه لو اكتشفوا حقيقته.
ومن أبرز الأمثلة على ذلك قصة المنافقين، فكثير من الصحابة -رضوان الله عليهم- لم يكونوا يعرفون عددا من أقطاب النفاق، بل إنهم يحسنون الظن بهم، ولذلك وجدنا من يدافع عنهم، حتى إن بعض كبار الصحابة من الأنصار كانوا يدافعون عن عبد الله بن أُبَيٍّ، لعدم معرفتهم بما كان عليه من الباطل وبخاصة في أول العهد المدني.
__________
(1) - هذا السبب يختلف عن الذي قبله فتأمل.
(2) - سورة الحج آية: 40-41.(1/50)
ولما جاء زيد بن أرقم وأخبر عن مقولة عبد الله بن أبي بن سلول في غزوة بني المصطلق، قال عمر بن الخطاب لرسول الله، صلى الله عليه وسلم مر عباد بن بشر فليقتله، فقال رسول الله، صلى الله عليه وسلم " فكيف يا عمر إذا تحدث الناس أن محمدا يقتل أصحابه؟ لا!! ولكن أذن بالرحيل "
إذن المنافقون في نظر كثير من الناس أصحاب لرسول الله، صلى الله عليه وسلم لأن حقيقتهم لم تنكشف للناس، وحقيقتهم، (هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ)(1) [سورة المنافقون، الآية: 4].
ولذلك قال رسول الله، صلى الله عليه وسلم لعمر في نهاية المطاف لما تكشفت حقيقة هؤلاء عند كثير من المسلمين: " كيف ترى يا عمر؟ أما والله لو قتلته يوم قلت لي: اقتله، لأرعدت له آنف لو أمرتها اليوم تقتله لقتلته قال عمر: قد والله علمت لأمر رسول الله، صلى الله عليه وسلم أعظم بركة من أمري "
فهذا الحديث يصور معنى هذا السبب الذي ذكرته أدقّ تصوير وبيان.
والدخول في معركة مع قوم لم تنكشف حقيقة أمرهم تماما، له آثاره السلبية على الأمة المسلمة، إذ أن بعض المسلمين سيقف في صف أولئك، كما وقف بعض الصحابة مع المنافقين.
كما في الحديث الذي رواه البخاري ومسلم عن عائشة في قصة الإفك وجاء فيه:
__________
(1) - سورة المنافقون آية: 4.(1/51)
" فقام رسول الله، صلى الله عليه وسلم من يومه فاستعذر من عبد الله بن أبي بن سلول، قالت: فقال رسول الله، صلى الله عليه وسلم وهو على المنبر: يا معشر المسلمين من يعذرني من رجل قد بلغني أذاه في أهلي، فوالله ما علمت على أهلي إلا خيرا، ولقد ذكروا رجلا ما علمت عليه إلا خيرا، وما كان يدخل على أهلي إلا معي فقام سعد بن معاذ الأنصاري - رضي الله عنه - فقال: أنا أعذرك منه يا رسول الله، إن كان من الأوس ضربنا عنقه، وإن كان من إخواننا من الخزرج أمرتنا ففعلنا بأمرك، قالت: فقام سعد بن عبادة -وهو سيد الخزرج- وكان رجلا صالحا، ولكن احتملته الحمية، فقال لسعد بن معاذ: كذبت لعمر الله، لا تقتله ولا تقدر على قتله، ولو كان من رهطك، ما أحببت أن يقتل، فقام أسيد بن حضير -وهو ابن عم سعد بن معاذ- فقال لسعد بن عبادة: كذبت لعمر الله لنقتلنه، فإنك منافق تجادل عن المنافقين.
فثار الحيان، الأوس والخزرج حتى هموا أن يقتتلوا ورسول الله، صلى الله عليه وسلم على المنبر، فلم يزل رسول الله، صلى الله عليه وسلم يخفضهم حتى سكتوا، وسكت رسول الله، صلى الله عليه وسلم... " " الحديث (1).
وقد لا يقف بعض المسلمين مع هؤلاء، ولكن سيكون وقوفهم مع الدعاة ضعيفا ومترددا، لأنهم لم يتيقنوا أن هؤلاء على الباطل، مما يؤثر على المعركة التي يخوضها المسلمون ضد أعدائهم، وقد يؤدي إلى فرقة المسلمين وتأخر النصر.
8- ومن أسباب تأخر النصر، أن البيئة المحَارَبَة قد تكون غير صالحة بعد لاستقبال الحق والخير والعدل، مما يقتضي أمورًا تهيئها لذلك قبل الدخول معها في معركة، ومن ذلك بذل جميع الوسائل الشرعية لبيان أن هؤلاء القوم -المحاربين- على الباطل، ومحاولة إقناعهم ودعوتهم وبيان حقيقة الإسلام، وفساد ما هم عليه من باطل.
__________
(1) - أخرجه البخاري (4141) ومسلم (2770).(1/52)
فإن هذا الأمر إن لم يكن سببًا في هدايتهم قبل المعركة فإنه وسيلة لمعرفة الحق، ومن ثم القبول به بعد المعركة، ولذا فإن الدعوة إلى الإسلام تسبق الدخول في المعركة.
9- ومن أسباب عدم الاستجابة لدين الله(1) أن عوامل النصر قد تتوافر بالنسبة للداعية، لكن هناك موانع تتعلق بالمدعوين - كالأمر السابق- ومن ذلك عدم تقدير الله هداية هؤلاء القوم، حيث كتب عليهم الضلالة، قال -سبحانه-: (أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعاً)(2) [سورة الرعد، الآية: 31]. وقال: (فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ)(3) [سورة النحل، الآية: 36]. وقال -جل وعلا-: (أُولَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ)(4) [سورة المائدة، الآية: 41]. إلى غير ذلك من الآيات (5).
التنازل من أجل الانتصار
مما لفت نظري في واقع كثير من الدعاة والجماعات الإسلامية المعاصرة أنها قد تستبطئ النصر، وحرصا منها على دين الله، وتأثرا بكثرة الانتقادات التي توجه لها، لماذا لم تحقق أهدافها بالرغم مما تبذله من جهود، وما مضى من زمن، فإنها من أجل ذلك كله ولغيره من الأسباب قد تقدم بعض التنازلات للحصول على بعض المكاسب للدعوة.
وقد تنوعت صور هذه التنازلات وتعددت، وهم بين مقل ومكثر.
__________
(1) - واستجابة الناس انتصار لدين الله، حتى لو لم يكن هناك معركة وقتال "إذا جاء نصر الله والفتح".
(2) - سورة الرعد آية: 31.
(3) - سورة النحل آية: 36.
(4) - سورة المائدة آية: 41.
(5) - وانظر تفسير الطبري 30/331 تفسير سورة الكافرون لتجد كلاما جيدا.(1/53)
ولأن من أبرز أسباب هذا الأمر -كما ذكرت- هو الحرص لتحقيق الانتصار لدين الله، أو للدعاة وللجماعات (1) ولارتباطه الوثيق في موضوعنا، حيث أشرت إلى ذلك في أول هذا البحث.
فإنني سأقف وقفة مناسبة مع هذه القضية وسأحاول بيانها بإيجاز، نظرا لأن هذا الأمر يستحق بحثا مستقلا مفصلا، ولا أستطيع أن أقوم بذلك من خلال هذا البحث، ولعل الله أن يقيض له من يجليه.
وقد ذهبت أتأمل ما ورد في ذلك في كتاب الله -في ضوء منهجي في هذه الرسالة- فوقفت أمام ثلاث قضايا وردت في القرآن الكريم، عالجها القرآن، ورسم لنا من خلالها منهجا نسير عليه دون زلل أو خلل.
وسأذكر كل قضية، وأسلوب معالجتها، ثم أذكر في النهاية خلاصة ما توصلت إليه حول هذا الأمر، وأسأل الله التوفيق والسداد.
القضية الأولى: سبب نزول سورة الكافرون:
قال الإمام الطبري: حدثني محمد بن موسى الخرشي قال: ثنا أبو خلف، قال: ثنا داود، عن عكرمة عن ابن عباس، " أن قريشا وعدوا رسول الله، صلى الله عليه وسلم أن يعطوه مالا، فيكون أغنى رجل بمكة، ويزوجوه ما أراد من النساء، ويطئوا عقبه، فقالوا له: هذا لك عندنا يا محمد، وكف عن شتم آلهتنا، فلا تذكرها بسوء، فإن لم تفعل فإنا نعرض عليك خصلة واحدة فهي لك ولنا فيها صلاح، قال: ما هي، قالوا: تعبد آلهتنا سنة، اللات والعزى، ونعبد إلهك سنة، قال: حتى أنظر ما يأتي من عند ربي، فجاء الوحي من اللوح المحفوظ " قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ " السورة، وأنزل الله: (قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ) إلى قوله: (فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ) " (2) [سورة الزمر، الآية: 64، 65، 66].
__________
(1) - وانتصار الداعية انتصار لدين الله، كما أن انتصار الدين نصر للداعية.
(2) - تفسير الطبري 3/331.(1/54)
وقال الطبري: أيضا -حدثني يعقوب، قال حدثنا ابن علية، عن محمد بن إسحاق، قال: ثني سعيد بن ميناء مولى البختري، قال: " لقي الوليد بن المغيرة والعاص بن وائل والأسود بن المطلب وأمية بن خلف رسول الله، صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا محمد، هلم فلنعبد ما تعبد، وتعبد ما نعبد، ونشركك في أمرنا كله، فإن كان الذي جئت به خيرا مما بأيدينا كنا قد شركناك فيه، وأخذنا بحظنا منه، وإن كان الذي بأيدينا خير مما في يديك كنت قد شركتنا في أمرنا، وأخذت منه بحظك، فأنزل الله: (قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ) " [سورة الكافرون، الآية: 1]. حتى انقضت السورة (1).
إننا نجد في هذه الأسباب أن قريشا طلبت من رسول الله، صلى الله عليه وسلم أن يتنازل لها، وتتنازل له حتى يلتقيا حول نقطة واحدة.
وقد يقول قائل: لو أن رسول الله، صلى الله عليه وسلم وافقهم على ذلك، وطلب منهم أن يبدأوا بعبادة الله أولا، فإنهم إذا عرفوا الإسلام لن يرجعوا عنه، وفي هذا تحقيق مكسب كبير للإسلام، وتحقيق انتصار، ورفع للبلاء الذي يلاقيه المسلمون.
والجواب أن الله قد حسم هذه القضية، (لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ)(2) وفي آخرها (لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ)(3) [سورة الكافرون، الآية:6].
فالقضية قضية مبدأ، غير قابلة للمساومة ولا لتنازل قيد أنملة، فهذه مسألة من مسائل العقيدة، بل هي العقيدة نفسها.
ودفعا لأي احتمال أو طمع في هؤلاء قال -سبحانه-: (وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ)(4) مرتين، فهو تأكيد حاسم، وخبر جازم من عند علام الغيوب، أنهم لن يعبدوا الله أبدا، لا في الحاضر، ولا في المستقبل، وكأن بعد إيمانهم كبعد استجابة الرسول، صلى الله عليه وسلم لمطلبهم، وهكذا كان، قال الإمام الطبري:
__________
(1) - تفسير الطبري 30/331.
(2) - سورة الكافرون آية: 2.
(3) - سورة الكافرون آية: 6.
(4) - سورة الكافرون آية: 3.(1/55)
(وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ)(1) فيما تستقبلون أبدا "ما أعبد" أنا الآن، وفيما أستقبل، وإنما قيل ذلك كذلك، لأن الخطاب من الله كان لرسول الله، صلى الله عليه وسلم في أشخاص بأعيانهم من المشركين، قد علم أنهم لا يؤمنون أبدا، وسبق لهم ذلك في السابق من علمه، فأمر نبيه، صلى الله عليه وسلم أن يؤيسهم من الذي طمعوا فيه، وحدثوا به أنفسهم، وإن ذلك غير كائن منه ولا منهم في وقت من الأوقات، وآيس نبي الله، صلى الله عليه وسلم من الطمع في إيمانهم، ومن أن يفلحوا أبدا، فكانوا كذلك لم يفلحوا، ولم ينجحوا إلى أن قتل بعضهم يوم بدر بالسيف، وهلك بعض قبل ذلك كافرا، وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل، وجاءت به الآثار.(2)
إن التأمل في هذه القضية، وكيف حسمها القرآن، يعطي من الدورس ما نحن بأمس الحاجة إليه، بل يرسم منهجا واضحا جليا في كيفية مواجهة أساليب كثير من أعداء الإسلام حاضرا ومستقبلا.
القضية الثانية: سبب نزول قوله -تعالى-: (وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ)(3) [سورة الأنعام، الآية: 52].
قال الطبري -مسندا إلى ابن مسعود، قال: " مر الملأ من قريش بالنبي، صلى الله عليه وسلم وعنده صهيب وعمار وبلال وخباب ونحوهم من ضعفاء المسلمين، فقالوا: يا محمد: أرضيت بهؤلاء من قومك، هؤلاء الذين من الله عليهم من بيننا، أنحن نكون تبعا لهؤلاء، اطردهم عنك، فلعلك إن طردتهم أن نتبعك، فنزلت هذه الآية: " وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ " " (4).
__________
(1) - سورة الكافرون آية: 3.
(2) - تفسير الطبري 3/331.
(3) - سورة الأنعام آية: 52.
(4) - تفسير الطبري 7/ 200.(1/56)
وفي رواية أخرى قال الطبري -مسند إلى مجاهد- قال: (وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ)(1) بلال وابن أم عبد كانا يجالسان محمدا، صلى الله عليه وسلم فقالت قريش محقرتهما: لولاهما وأمثالهما لجالسناه، فنهي عن طردهم (2).
وفي رواية قال الطبري: حدثني القاسم، قال: ثنا حسين، قال: ثنا حجاج، عن ابن جريج، عن عكرمة في قوله: (وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ)(3) الآية.
قال: " جاء عتبة بن ربيعة، وشيبة بن ربيعة، ومطعم بن عدي، والحرث بن نوفل، وقرضة بن عيد عمرو بن نوفل في أشراف من بني عبد مناف من الكفار إلى أبي طالب، فقالوا: يا أبا طالب، لو أن ابن أخيك يطرد عنه موالينا وخلفاءنا، فإنما هم عبيدنا، وعسفاؤنا، كان أعظم في صدورنا، وأطوع له عندنا، وأدنى لاتباعنا إياه وتصديقنا له، قال: فأتى أبو طالب النبي، صلى الله عليه وسلم فحدثه بالذي كلموه به، فقال عمر بن الخطاب: لو فعلت ذلك حتى ننظر ما الذي يريدون، وإلام يصيرون من قولهم، فأنزل الله تعالى: (وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ) [سورة الأنعام، الآية: 51، 52].
فلما نزلت أقبل عمر بن الخطاب فاعتذر عن مقالته، فأنزل الله - تعالى-: (وَإِذَا جَاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا فَقُلْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ) " (4) [سورة الأنعام، الآية: 54].
وفي رواية أخرى للطبري عن خباب قال فيها:
__________
(1) - سورة الأنعام آية: 52.
(2) - انظر تفسير الطبري 7/202.
(3) - سورة الأنعام آية: 51.
(4) - انظر تفسير الطبري7/202 وهذا الحديث مرسل.(1/57)
فقال كفار قريش: إنا نحب أن تجعل لنا منك مجلسا تعرف لنا العرب به فضلنا، فإن وفود العرب تأتيك، فنستحي أن ترانا العرب مع هؤلاء الأعبد، فإذا نحن جئناك فأقمهم عنا، فإذا نحن فرغنا فاقعد معهم إن شئت، ثم نزل قوله -تعالى: (وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ)(1)(2) [سورة الأنعام، الآية:52].
وقد وردت أحاديث أخرى، ولا يخلو بعضها من ضعف ولكن، يقوي بعضها بعضا فترتقي بمجموعها إلى درجة الحسن لغيره، ومعناها متقارب، وكلها تذكر سببا واحدا للنزول، ولكن في بعض هذه الروايات زيادات على بعض، ويؤكد هذه الروايات الحديث التالي:
من أصح ما ورد في هذا ما رواه مسلم في صحيحه، قال: حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة، حدثنا محمد بن عبد الله الأسدي، عن إسرائيل، عن المقدام بن شريح، عن أبيه عن سعد هو ابن أبي وقاص، قال: " كنا مع النبي، صلى الله عليه وسلم ستة نفر، فقال المشركون للنبي، صلى الله عليه وسلم اطرد هؤلاء لا يجترءون علينا، قال: وكنت أنا وابن مسعود ورجل من هذيل وبلال ورجلان نسيت اسميهما، فوقع في نفس رسول الله، صلى الله عليه وسلم ما شاء الله أن يقع، فحدث نفسه، فأنزل الله عز وجل " وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ " " الآية (3)
__________
(1) - سورة الأنعام آية: 52.
(2) - انظر تفسير الطبري 7/201 وفي سنده السدي وهو ضعيف.
(3) - أخرجه مسلم (2413)، وانظر تفسير ابن كثير 3/80.(1/58)
وذكر ابن كثير في قوله -تعالى-: (وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ)(1) الآية، إنها نزلت في أشراف قريش حين طلبوا من الرسول، صلى الله عليه وسلم أن يجلس معهم وحده، ولا يجالسهم بضعفاء أصحابه، كبلال وعمار وصهيب وخباب وابن مسعود، وليفرد أولئك بمجلس على حدة، فنهاه الله عن ذلك فقال: (وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ)(2) الآية، وأمره أن يصبر نفسه في الجلوس مع هؤلاء فقال: (وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ)(3) الآية (4) [سورة الكهف، الآية: 28].
إن الوقوف مع سبب نزول هاتين الآيتين يضع حدا لكثير من الاجتهادات التي يقدم عليها كثير من الدعاة والجماعات، وهم -ولا شك- يقدمون عليها حرصا على دينهم، ورغبة في انتصار الدين وظهوره، وتحقيقا لبعض الأهداف التي يسعون إليها.
ولكن الغاية -مهما كانت شريفة- فإنها لا تبرر الوسيلة.
تصوروا القضية هكذا:
لو أن جماعة من الجماعات الإسلامية، التي توجد في دول كافرة، وتسعى جاهدة للدعوة إلى دين الله، ونشر رسالة الإسلام، قالت لها تلك الدولة: نحن مستعدون للتفاوض معكم من أجل النظر في الاعتراف بكم، للدخول في الانتخابات مثلا، أو للحصول على بعض الامتيازات للدعوة، ولكن نشترط عليكم أن تبعدوا فلانا وفلانا من قيادتكم، وآخرين من جماعتكم، فإننا لا نعترف بجماعة فيها هؤلاء، والجماعة لا تنقم على هؤلاء الدعاة شيئا في أمر دينهم وعقيدتهم، ولم تكن تفكر في ذلك قبل هذا الطلب، ولكن الدولة لا تريدهم احتقارا لهم.
__________
(1) - سورة الكهف آية: 28.
(2) - سورة الأنعام آية: 52.
(3) - سورة الكهف آية: 28.
(4) - انظر تفسير ابن كثير 3/80.(1/59)
فيا ترى هل تصمد تلك الجماعة، وترفض الموضوع جملة وتفصيلا وتقول: (وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ)(1) [سورة البروج، الآية: 8]. أو تبدأ مناقشة ما يسمى بالمصلحة؟ وماذا يضير لو أبعد هؤلاء من أجل مصلحة الدعوة، وتحقيقا للمكتسبات المتوقعة، إلى غير ذلك من التبريرات؟ أظن. - بحكم معرفتي بواقع بعض الجماعات -أنها ستستجيب لهذه المساومات، وقد استجابت لأقل من ذلك.
بينما حسم القرآن هذه القضية منذ العهد المكي، ورسم لنا منهجا لا لبس فيه ولا غموض (مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ)(2) [سورة الأنعام، الآية: 52].
إنه أمر مخيف جدا، رسول الله، صلى الله عليه وسلم أفضل البشر، وإمام المرسلين، لو فعل هذا، وهو لن يفعله إلا من أجل مصلحة الدعوة، ورسالة الإسلام، لو فعله -وحاشاه من ذلك- سيكون من الظالمين.
ويبين لنا المنهج الذي نسلكه في مثل هذه الطلبات والمساومات، عندما تبدو لنا قضية المصلحة: (وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ)(3) [سورة الكهف، الآية: 29]. الآية.
هذا واجبنا، وتلك مسئوليتنا، أن نقول الحق، أما هل يؤمن الناس أو يكفروا فليس لنا (أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعاً)(4) إن القضية عندما تتعلق بالمبادئ فلا مجال للمفاوضة ولا للتنازل، والمسألة محسومة (لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ)(5) [سورة الكافرون، الآية: 6].
__________
(1) - سورة البروج آية: 8.
(2) - سورة الأنعام آية: 52.
(3) - سورة الكهف آية: 29.
(4) - سورة الرعد آية: 31.
(5) - سورة الكافرون آية: 6.(1/60)
القضية الثالثة: ما ورد في سورة الفتح: قال ابن كثير: نزلت هذه السورة الكريمة لما رجع رسول الله، صلى الله عليه وسلم من الحديبية في ذي القعدة من سنة ست من الهجرة، حين صده المشركون عن الوصول إلى المسجد الحرام، فيقضي عمرته فيه، وحالوا بينه وبين ذلك ثم مالوا إلى المصالحة والمهادنة، وأن يرجع عامه هذا، ثم يأتي من قابل، فأجابهم إلى ذلك: على تكره من جماعة من الصحابة منهم عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -
وقد وردت قصة الصلح في روايات عديدة، منها في الصحيحين وغيرهما. وهي قصة طويلة سأقتصرعلى جزء يسير منها مما له صلة بموضوعنا، وهو مما ثبت في الصحيح.
1- جاء في صحيح البخاري: " فدعا النبي، صلى الله عليه وسلم الكاتب (1) فقال النبي، صلى الله عليه وسلم اكتب: بسم الله الرحمن الرحيم فقال سهيل (2) أما الرحمن فوالله ما أدري ما هو، ولكن اكتب باسمك اللهم، كما كنت تكتب، فقال المسلمون: والله لا نكتبها إلا بسم الله الرحمن الرحيم فقال النبي، صلى الله عليه وسلم اكتب: باسمك اللهم، ثم قال: هذا ما قاضى عليه محمد رسول الله، فقال سهيل: والله لو كنا نعلم أنك رسول الله ما صددناك عن البيت، ولا قاتلناك، ولكن اكتب: محمد بن عبد الله، فقال النبي، صلى الله عليه وسلم والله إني لرسول الله، وإن كذبتموني، اكتب: محمد بن عبد الله " (3).
2- ومما جاء في الصلح: " وإنك ترجع عنا عامنا هذا فلا تدخل علينا مكة، وأنه إذا كان عام قابل خرجنا عنها فتدخلها بأصحابك " (4).
__________
(1) - وهو علي بن أبي طالب.
(2) - سهيل بن عمرو رئيس المفاوضين من قريش.
(3) - أخرجه البخاري (2731، 2732).
(4) - مسند الإمام أحمد 4/330 وانظر تفسير ابن كثير 4/196.(1/61)
3- وجاء -أيضا-: " على أنه من أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم من أصحابه بغير إذن وليه رده عليه، ومن أتى قريشا ممن مع رسول الله، صلى الله عليه وسلم لم يردوه عليه " (1).
هذا بعض ما ورد في الصلح، ولذلك فإن عمر لما بلغه عزم الرسول، صلى الله عليه وسلم على عقد الصلح ولم يبق إلا الكتاب غضب غضبا شديدا وذهب إلى رسول الله، صلى الله عليه وسلم وقال له: يا رسول الله، أولسنا بالمسلمين، أوليسوا بالمشركين؟ " قال صلى الله عليه وسلم بلى، قال: فعلام نعطى الدنية في ديننا؟ فقال، صلى الله عليه وسلم أنا عبد الله ورسوله لن أخالف أمره ولن يضيعني " (2)
إن هذا الصلح الذي اعتبره عمر - رضي الله عنه - دنية في دينه، ومع ما قد يبدو لأول وهلة من صعوبة القبول في بعض الشروط التي كتبت، وبخاصة في نظر المتحمس، هذا الصلح بشروطه سماه الله فتحا مبينا، قال ابن مسعود: إنكم تعدون الفتح فتح مكة، ونحن نعد الفتح صلح الحديبية.
وقال جابر: ما كنا نعد الفتح إلا يوم الحديبية. وقال البخاري: حدثنا عبيد الله بن موسى، عن إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن البراء - رضي الله عنه - قال: تعدون أنتم الفتح فتح مكة، وقد كان فتح مكة فتحا، ونحن نعد الفتح بيعة الرضوان يوم الحديبية، وفي مسند أحمد: فقال النبي، صلى الله عليه وسلم " نزل علي البارحة سورة هي أحب إلي من الدنيا وما فيها (إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا) " [سورة الفتح، الآية: 1].
__________
(1) - مسند الإمام أحمد 4/330 وانظر تفسير ابن كثير 4/196.
(2) - انظر المصدر السابق وتفسير ابن كثير 4/196.(1/62)
وفي رواية أخرى لأحمد عن أنس - رضي الله عنه - قال: نزلت على النبي، صلى الله عليه وسلم (لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ)(1) [سورة الفتح، الآية: 2]. مرجعه من الحديبية، قال النبي، صلى الله عليه وسلم " لقد نزلت على الليلة آية أحب إلي مما على الأرض، ثم قرأها، صلى الله عليه وسلم " (2).
إننا نجد في هذه القضية أن رسول الله، صلى الله عليه وسلم وافقهم على عدة أمور أهمها:
1- أن يكتب باسمك اللهم، بدلا من بسم الله الرحمن الرحيم.
2- أن يكتب: محمد بن عبد الله، بدلا من: محمد رسول الله.
3- أن يؤخر دخول مكة إلى العام القادم.
4- أن يرد من جاء من المشركين مسلما دون إذن وليه، مع أنهم لن يردوا من جاء إليهم مشركا. بل إن رسول الله، صلى الله عليه وسلم قال للصحابة عندما احتج بعضهم على هذه الشروط: " لا يسألوني خطة يعظمون فيها حرمات الله إلا أعطيتهم إياها " رواه البخاري (3).
ولو دققنا النظر في هذه الأمور التي أجابهم إليها رسول الله، لوجدنا أنها لا تتعلق بالعقيدة ولا بالمبدأ، وفرق كبير بينها وبين ما سبق في سورة (الكافرون). وسورة (الأنعام)، وليس فيها اعتراف بالباطل أو إقرار له.
كيف وقد سمى الله هذا الصلح: (فَتْحاً مُبِيناً)(4) ولنقف مع هذه المطالب الأربعة، وقفة يسيرة موجزة، تبين ذلك.
فكتابة "باسمك اللهم" ليس فيها محذور شرعي، فلو أن مسلما قال: باسمك اللهم، وهو لا يعتقد تأويل أو نفي اسم الرحمن الرحيم ولا صفته، فإنه لا يأثم.
__________
(1) - سورة الفتح آية: 2.
(2) - انظر مسند الإمام أحمد. وتفسير ابن كثير 4/182.
(3) - أخرجه البخاري (2731، 2732).
(4) - سورة الفتح آية: 1.(1/63)
وأما: كتابة محمد بن عبد الله، فإن رسول الله، صلى الله عليه وسلم محمد بن عبد الله، وقد نفى، صلى الله عليه وسلم أي احتمال قد يتطرق إلى الأذهان، فقال لهم: " والله إني لرسول الله وإن كذبتموني " فإذا انتفى اللبس جاز الأمر.
وأما رجوعهم هذا العام إلى العام المقبل، فهذه قضية مصلحية تقدر بقدرها، بل إن فيها عدم استجابة للعواطف الجياشة إذا كان سيترتب على هذه الاستجابة مفسدة.
وكم من التصرفات يقوم بها بعض الناس استجابة لعاطفة غير منضبطة تسبب مفاسد عظيمة، قد لا تقدر المفسدة أثناء العاطفة.
وقضية إعادة من جاء مسلما إلى المشركين. قد تبدو مجحفة، وهذه هي النظرة العجلى، أما النظرة المتأنية والبعيدة، والتي تتجاوز مصلحة الأفراد إلى مصلحة الأمة، بل هي في مصلحة الأفراد أنفسهم، فلا يلزم أن يقبلهم المسلمون فأرض الله واسعة، يدل على ذلك قوله، صلى الله عليه وسلم لأبي جندل: " يا أبا جندل: اصبر واحتسب، فإن الله جاعل لك ولمن معك من المستضعفين فرجا ومخرجا " الحديث. (1).
وقوله لأبي بصير لما جاءه في المدينة: " ويل أمة مسعر حرب لو كان معه أحد " (2).
وهكذا كان فقد كان ردهما بداية فتح عظيم للمسلمين.
وبعد:
هذه هي القضايا التي ذكرت أنني سأبين منهج القرآن فيها، وقد فعلت، وهنا آتي لخلاصة الموضوع ونتيجته، فأقول:
إن مفهوم التنازل قد اختلط على كثير من الدعاة والجماعات، وكل منهم يتمسك بدليل يناسبه، دون نظرة شمولية، فنحن بين إفراط وتفريط، والموضوع يحتاج -كما ذكرت سابقا- إلى دراسة شاملة مؤصلة، تجمع فيها الأدلة، وتعرض الوقائع والأحوال، مما يساعد على حسم الموضوع وبيانه.
ومن خلال ما سبق فقد اتضح لي ما يلي:
__________
(1) - رواه أحمد 4/325 انظر تفسير ابن كثير 4/197.
(2) - رواه أبو داود (2765)، وانظر تفسير ابن كثير 4/199.(1/64)
أولا: لا يجوز التنازل عن أمر يتعلق بأصل من أصول الإسلام، أو مبدأ من مبادئه، أو حكم من أحكامه التي حسمها الكتاب والسنة، أو أجمع عليها المسلمون.
ثانيا: أما مسائل الاجتهاد، ووسائل الدعوة ومراحلها، والسياسات الشرعية، فتراعى فيها القواعد، الشرعية الكلية العامة، كقاعدة، درء المفاسد وجلب المصالح، وقاعدة سد الذرائع، وقواعد وأصول: المصالح المرسلة والاستحسان، وغيرها من القواعد المعروفة.
وذلك لا يكون إلا من العلماء المتبحرين، الذين يسوغ لهم الاجتهاد.
وأخيرا أقول: إن حرصنا على نصر دين الله، وشدة محبتنا لظهوره على الدين كله يجب ألا تكون مخرجة لنا عن الالتزام بالمنهج الشرعي، فإن الغاية لا تبرر الوسيلة.
صور النصر العاجل والآجل في القرآن
جاء النصر في القرآن على عدة صور، أشرت إليها سابقا، ولكن أحببت أن أذكرها مجتمعة باختصار؛ لتكون واضحة أمام الدعاة، ولئلا يتعجلوا وعد الله، فكل شيء عنده بمقدار، فلا يعجله حرص حريص، ولا يردّه كره كاره، وهو العليم الحكيم.
1 -من الأنبياء من أذاه قومه، فنصره الله عليهم، فأهلكهم وأقام الدين في حياته، كموسى ومحمد، عليهما أفضل الصلاة والسلام.
2- ومنهم من ولاه الله الملك - وهذا نصر عظيم- كداود وسليمان، عليهما السلام.
3- ومنهم من أذاه قومه ولم يؤمنوا به، سوى قليل منهم فنجاه الله ومن معه، وأهلك عدوه، ثم لم يبين لنا القرآن ماذا حدث للنبي بعد ذلك، أي: هل آمن به قوم آخرون، أو بقي على من آمن معه ومن آمن من ذرياتهم، كنوح وهود وصالح ولوط.
4-ومنهم من قتله قومه، أو حاولوا قتله، فانتقم الله له بعد حين، كيحيى وعيسى، ومن أرسل لأصحاب القرية (إِنْ كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ خَامِدُونَ)(1) [سورة يس، الآية: 29].
__________
(1) - سورة يس آية: 29.(1/65)
5- ومنهم من يئس من قومه فتركهم، فعاقبه الله، ثم عفا عنه، ولما عاد إليهم، نصره الله نصرا مؤزرا، وظهر الدين وهو يونس (1).
6- ومن الدعاة من قتله قومه فآمن به بعض قومه فقتلوا وحرّقوا، ولكن لا نعلم ماذا حل بهؤلاء القتلة، سوى أن الله دعاهم للتوبة، وتوعدهم إن لم يتوبوا بعذاب جهنم وعذاب الحريق في الآخرة.
وهؤلاء هم أصحاب الأخدود (2)
ولا يعنى هذا أنهم لم ينصروا في الدنيا، فقد بينت أوجه النصر عند ذكر قصتهم.
إن استحضار هذه الصور في ذهن الداعية عامل مساعد في تخطي الصعاب، وتجاوز العقبات الحسية والمعنوية، وتزيد من إيمان الداعية بربه في تحقق موعوده، (وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ)(3) [سورة يوسف، الآية: 21].
وقفة مع قصة يونس عليه السلام.
قال الله -سبحانه وتعالى-: (فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلا تَكُنْ كَصَاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نَادَى وَهُوَ مَكْظُومٌ)(4) [سورة القلم، الآية: 48]. لقد وردت قصة يونس، عليه السلام، في القرآن في عدة مواضع، منها في سورة الأنبياء:
(وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِباً فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ)(5) [سورة الأنبياء، الآية: 87].
__________
(1) - هناك خلاف حول سبب تركه لقومه سيأتي بيانه بعد صفحات.
(2) - انظر كتاب معالم في الطريق ص180، وفي ظلال القرآن تفسير سورة البروج 6/3873.
(3) - سورة يوسف آية: 21.
(4) - سورة القلم آية: 48.
(5) - سورة الأنبياء آية: 87.(1/66)
وأطول قصة له وردت في الصافات (وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ فَلَوْلا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ فَنَبَذْنَاهُ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ سَقِيمٌ وَأَنْبَتْنَا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ فَآمَنُوا فَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ)(1) [سورة الصافات، الآيات: 139-148]. ووردت في سورة القلم: (فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلا تَكُنْ كَصَاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نَادَى وَهُوَ مَكْظُومٌ لَوْلا أَنْ تَدَارَكَهُ نِعْمَةٌ مِنْ رَبِّهِ لَنُبِذَ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ مَذْمُومٌ فَاجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَجَعَلَهُ مِنَ الصَّالِحِينَ)(2) [سورة القلم، الآيات: 48 - 50]. قد وردت قصة يونس بروايات متعددة، واختلف المفسرون حول سبب تركه لقومه، ومعنى قوله -تعالى-: (إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِباً)(3) على قولين:
1- قيل ذهب مغاضبا لربه.
2- قيل ذهب مغاضبا لقومه.
وقد روى الطبري عن ابن عباس والضحاك أنه ذهب مغاضبا لقومه.
وروى عن الشعبي، وسعيد بن أبي الحسن، وسعيد بن جبير أنه ذهب مغاضبا لربه.
وقد رجّح الإمام الطبري بعد ذكر عدة روايات، أنه ذهب مغاضبا لربه، فقال:
__________
(1) - سورة الصافات آية: 139.
(2) - سورة القلم آية: 48-50.
(3) - سورة الأنبياء آية: 87.(1/67)
وهذا القول -أعني قول من قال إنه ذهب مغاضبا لربه- أشبه بتأويل الآية، وذلك لدلالة قوله: (فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ)(1) على ذلك، على أن الذين وجهوا تأويل ذلك إلى أنه ذهب مغاضبا لقومه، إنما زعموا أنهم فعلوا ذلك استنكارا منهم أن يغاضب نبي من الأنبياء ربه، واستعظاما له، وهم بقيلهم أنه ذهب مغاضبا لقومه قد دخلوا في أمر أعظم مما أنكروا. (2)
والذي يعنينا -هنا- أن يونس، عليه السلام، سواء كان قد ذهب مغاضبا لربه أو لقومه، فإنه قد استعجل الأمر، ولم يصبر كما قال -تعالى- لمحمد، صلى الله عليه وسلم (فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلا تَكُنْ كَصَاحِبِ الْحُوتِ)(3) فإنه لم يصبر، وسواء كان، عليه السلام، استعجل إيمانهم أو استعجل العذاب لهم (4) لأنهم قد كذبوه، والإيمان انتصار، وتعذيب المكذبين انتصار للداعية، فإنه قد استعجل الانتصار، عليه السلام، ولذلك عاقبه الله، بأن ابتلعه الحوت، وهو مليم، أي: مذنب.
ولكن الله عفا عنه وكفر له بعد أن نادى في الظلمات واعترف بذنبه، عليه السلام، بل اجتباه ربه فجعله من الصالحين.
فلما رجع إلى قومه بأمر من الله، آمنوا كلهم، (وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ فَآمَنُوا فَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ)(5) [سورة الصافات، الآيتان: 147، 148]. وهذا من أعظم الانتصار.
__________
(1) - سورة الأنبياء آية: 87.
(2) - انظر تفصيل ذلك في تفسير الطبري 17/76.
(3) - سورة القلم آية: 48.
(4) - انظر تفسير الطبري 17/76 وما بعدها.
(5) - سورة الصافات آية: 147-148.(1/68)
قال الإمام الطبري في تفسير قوله -تعالى-: (فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلا تَكُنْ كَصَاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نَادَى وَهُوَ مَكْظُومٌ)(1) [سورة القلم، الآية: 48]. يقول -تعالى- ذكره لنبيه محمد، صلى الله عليه وسلم فاصبر يا محمد لقضاء ربك وحكمه فيك، وفي هؤلاء المشركين، بما أتيتهم به من القرآن وهذا الدين، وامض لما أمرك به ربك، ولا يثنينك عن تبليغ ما أمرت بتبليغه تكذيبهم إياك وأذاهم لك.
(وَلا تَكُنْ كَصَاحِبِ الْحُوتِ)(2) قال قتادة: لا تعجل كما عجل، ولا تغضب كما غضب، "وهو مذموم" أي: مذنب أو مليم.
قال الطبري: أي لا تكن كصاحب الحوت فيعاقبك ربك على تركك تبليغ ذلك، كما حبس يونس في بطن الحوت (3).
إنه أمر عظيم حري بالدعاة أن يفقهوه.
وقفات مهمة
أولا: إذا فهم الداعية حقيقة الانتصار، فإن هذا لا يعني أن يتساهل الداعية في أمر الدعوة، وفي السعي الحثيث لإزالة المنكرات، والجد في محاولة هداية الناس، وذلك أن الشيطان قد يوسوس له فيقول:
أنت مهمتك البلاغ، أما النتائج فليست لك -وهذا حق- فإذن لماذا تحزن أو تتعب نفسك فيما ليس لك. ثم يوسوس له أن هؤلاء الناس لا خير فيهم، ويكفي أنك بيّنت مرة أو مرتين، أو ثلاثا، فإذا لم يستجيبوا فإنك معذور، ولا داعي للاستمرار والإصرار، لأن جهودك ضائعة، ولو استفدت من وقتك في غير هذا الأمر لكان أحسن.
ثم يبدأ الداعية يتراخى شيئا فشيئا، حتى يترك الدعوة وينعزل عن الناس وشأنهم وليس هذا هو المراد، ولكن إدراك حقيقة الانتصار يزيد من حماس الداعية -مع الانضباط- سعيا وراء تحقيق هذا المطلب الذي عز مناله، سواء أكان انتصارا ظاهرا لدين الله، أو كان انتصارا للداعية نفسه -كما سبق تفصيله-.
وعلى الداعية أن يحزن ويفرح، ولكن لا بد أن يكون حزنه وفرحه إيجابيا فعالا.
__________
(1) - سورة القلم آية: 48.
(2) - سورة القلم آية: 48.
(3) - انظر تفسير الطبري 29/44.(1/69)
فحزنه يزيد من حرصه وإصراره على إنقاذ أمته، وهداية قومه، وتعبيد الناس لله جل وعلا.
وفرحه يقوي عزيمته ويشد من أزره للمضي قدما في تحقيق أهدافه متلذذا بنشوة الانتصار وحب الخير للناس.
ثانيا: كل داعية يجب أن يرسم لنفسه منهجا يسير عليه ويحدد أهدافا يسعى لتحقيقها، يستمد ذلك من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم مراعيا حاجة المجتمع الذي يعيش فيه، والواقع الذي يعاصره ولكن بعض الدعاة عندما يسير زمنا في دعوته، ثم يرى ما تحقق على يديه، فيلحظ أنه لم تتحقق الأهداف التي رسمها، ولكن تحقق جزء منها، يشعر أنه فشل في مهمته، وخسر في دعوته، فييئس ثم يتوقف.
وهذا أمر خطير، فإذا كان بعض الأنبياء لم يتحقق على أيديهم هداية رجل واحد، ومع ذلك لم يشكوا في دعوتهم أو يتوقفوا في طريقهم، فكيف برجل ليس نبيا، ومع ذلك حقق بعض ما يدعو إليه؟! ولذلك فقول الرسول صلى الله عليه وسلم لعلي: " فوالله لئن يهدي الله بك رجلا واحدا خير لك من حمر النعم " (1). يدل علي أن هداية رجل واحد انتصار عظيم للداعية، فكيف يكون الداعية مثاليا، إما كل شيء، أو لا شيء؟!
ولذلك فإن كلمة سيد -رحمه الله- "خذوا الإسلام جملة أو دعوه". تحتاج إلى تفصيل، ولا تؤخذ على إطلاقها، فبعض وجوه معانيها حق، وهناك وجوه أخرى فسرت بها هذه الكلمة، يستشهد بها بعض الدعاة، مما يخالف المنهج الصحيح.
__________
(1) - أخرجه البخاري (2942) مسلم، (2406).(1/70)
ثالثا: من أهم أنواع الانتصار هو الانتصار على النفس بل لا يمكن أن يتحقق له أي نوع من أنواع النصر إلا إذا انتصر على نفسه وشهواتها (أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ)(1) [سورة آل عمران، الآية: 165]. (وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى)(2) [سورة النازعات، الآيتان: 40، 41]. (وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ)(3) [سورة النساء، الآية:79]. (فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ)(4) [سورة المائدة، الآية: 30]. (إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ)(5) [سورة الرعد، الآية: 11]. إلى غير ذلك من الآيات.
ومن هنا فإذا تأخر النصر فلنبدأ في بحثنا عن سبب ذلك من أنفسنا، فمِن مأمنه يؤتى الحذر.
الخاتمة
وبعد أن عشنا (6) مع هذا الموضوع وعايشناه، نصل إلى خاتمة المطاف فأقول:
مما سبق اتضح لنا أن حقيقة انتصار الداعية تتمثل فيما يلي:
__________
(1) - سورة آل عمران آية: 165.
(2) - سورة النازعات آية: 40-41.
(3) - سورة النساء آية: 79.
(4) - سورة المائدة آية: 30.
(5) - سورة الرعد آية: 11.
(6) - أنا والقراء.(1/71)
1- التجرد لله والإخلاص له (قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ)(1) [سورة الأنعام، الآيتان: 162، 163]. وقال سبحاله: (وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ)(2) [سورة البينة، الآية: 5]. والعمل الذي لا يصاحبه الإخلاص حري بالرد وعدم القبول.
2- سلامة المنهج، وهو أن يكون وفق ما كان عليه رسول الله، صلى الله عليه وسلم وصحابته، وهذا هو منهج أهل السنة والجماعة، وهو منهج الطائفة المنصورة، والفرقة الناجية، الذين لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم حتى يأتي أمر الله، قال -سبحانه-: (وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ)(3) وقال صلى الله عليه وسلم " تركتكم على البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها بعدي إلا هالك " وقال: " تركت فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعدي أبدا: كتاب الله وسنتي " (4).
__________
(1) - سورة الأنعام آية: 162-163.
(2) - سورة البينة آية: 5.
(3) - سورة الأنعام آية: 153.
(4) - رواه الحاكم في المستدرك وصححه الألباني في صحيح الجامع رقمه 2937.(1/72)
3- الالتزام التام بما يدعو إليه والثبات على الطريق حتى يلقى الله، قال -سبحانه-: (فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ)(1) [سورة الزخرف، الآية: 43]. وقال: (وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى وَإِلَى اللَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ)(2) [سورة لقمان، الآية: 22]. وقال: (أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلا تَعْقِلُونَ وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ)(3) [سورة البقرة، الآيتان: 44، 45]. فالثبات على الطريق، من أقوى عوامل النصر وعلاماته.
بل إن صاحب الباطل إذا ثبت على باطله فغالبا ما ينتصر (4) فكيف بمن هو على الحق المبين؟.
__________
(1) - سورة الزخرف آية: 43.
(2) - سورة لقمان آية: 22.
(3) - سورة البقرة آية: 44-45.
(4) - أي يحقق أهدافه في الدنيا.(1/73)
4- الصدع بالحق، وعدم المداهنة أو الخوف من غير الله قال-تعالى-: (فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئينَ)(1) [سورة الحجر، الآيتان: 94، 95]. وقال: (وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ)(2) [سورة الكهف، الآية: 29]. وقال -سبحانه- (يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ)(3) [سورة المائدة، الآية: 67]. وقال: (وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ)(4) [سورة آل عمران، الآية:187]. وقال: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ)(5) [سورة المائدة، الآية: 8]. إلى غير ذلك من الآيات التي توجب الصدع بالحق والدعوة إليه.
__________
(1) - سورة الحجر آية: 94-95.
(2) - سورة الكهف آية: 29.
(3) - سورة المائدة آية: 67.
(4) - سورة آل عمران آية: 187.
(5) - سورة المائدة آية: 8.(1/74)
5- الصبر وعدم اليأس والإيقان الجازم بوعد الله ونصره لعباده (1) قال -سبحانه-: (وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ)(2) [سورة الصافات، الآيات: 171، 172، 173]. وقال: (إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ)(3) [سورة غافر، الآية: 51]. وقال: (حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا)(4) [سورة يونس، الآية: 110]. وقال: (وَلا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ)(5) [سورة يوسف، الآية: 87]. وقال: (فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ)(6) [سورة الأحقاف، الآية: 35]. وقال: (فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلا تَكُنْ كَصَاحِبِ الْحُوتِ)(7) [سورة القلم، الآية: 48]. وقال: (فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ)(8).
__________
(1) - ذكر الطبري وابن كثير أن ابن جريج قال إن موسى عليه السلام -لما دعا على فرعون بقوله: (ربنا إنك آتيت فرعون وملأه زينة وأموالا في الحياة الدنيا ربنا ليضلوا عن سبيلك ربنا اطمس على أموالهم واشدد على قلوبهم فلا يؤمنوا حتى يروا العذاب الأليم). قال الله تعالى: (قد أجيبت دعوتكما فاستقيما ولا تتبعان سبيل الذين لا يعلمون). [سورة يونس، الآية: 89.] قال ابن جريج: إن فرعون مكث بعد هذه الدعوة أربعين سنة، قبل أن يهلكه الله بالغرق. انظر تفسير الطبري 11/161 وتفسير ابن كثير 2/429.
(2) - سورة الصافات آية: 171-172-173.
(3) - سورة غافر آية: 51.
(4) - سورة يوسف آية: 110.
(5) - سورة يوسف آية: 87.
(6) - سورة الأحقاف آية: 35.
(7) - سورة القلم آية: 48.
(8) - سورة الروم آية: 60.(1/75)
(وَلا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لا يُوقِنُونَ)(1) [سورة الروم، الآية: 60]. وقال: (وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآياتِنَا يُوقِنُونَ)(2) [سورة السجدة، الآية: 24]. وقال: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ)(3) [سورة آل عمران، الآية: 200].
فإذا تحققت هذه المقومات، جاء النصر، فوعد الله لا يتخلف أبدا، بل إن تحقق هذه الأركان في فرد أو جماعة نصر عظيم، وما يأتي بعد ذلك من نصر هو أثر من آثار هذا الانتصار.
وختاما: نقول: (رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْراً وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ)(4) [سورة البقرة، الآية: 250]. (رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ)(5) [سورة آل عمران، الآية: 8]. (رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ)(6) [سورة آل عمران، الآية: 147]. (رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْراً كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلا تُحَمِّلْنَا مَا لا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ)(7) [سورة البقرة، الآية: 286].
__________
(1) - سورة الروم آية: 60.
(2) - سورة السجدة آية: 24.
(3) - سورة آل عمران آية: 200.
(4) - سورة البقرة آية: 250.
(5) - سورة آل عمران آية: 8.
(6) - سورة آل عمران آية: 147.
(7) - سورة البقرة آية: 286.(1/76)
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(1/77)