ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
سلسلة كتاب الأمة
العدد 87 - محرم 1423هـ - السنة الثانية والعشرون
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
حقوق الإنسان
محور مقاصد الشريعة
الأستاذ الدكتور أحمد الريسوني
الأستاذ الدكتور محمد الزحيلي
الأستاذ الدكتور محمد عثمان شبير
تقديم بقلم :
عمر عبيد حسنه
الحمد لله الذي جعل حرية التدين، التي تعتبر من أرقى الحقوق الإنسانية، وتأصيل كرامة الإنسان، خيارًا لا إكراه فيه، فقال تعالى: (( لا إِكْرَاهَ فِى ?لدّينِ.. )) (البقرة:256)، وقال مخاطبًا نبيه صلى الله عليه وسلم وكل من يسير على سبيله، مقررًا لحقيقة يعتبر التزامها من الدين والطاعة والعبودية، كما يعتبر الخروج عليها من المنكر والفسوق والعصيان، بقوله: ((لَّسْتَ عَلَيْهِم بِمُسَيْطِرٍ)) (الغاشية:22)، وقوله على سبيل الاستفهام الإنكاري: ((أَفَأَنتَ تُكْرِهُ ?لنَّاسَ حَتَّى? يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ)) (يونس:99)، وقوله محددًا مهمة النبوة: ((فَإِنَّمَا عَلَيْكَ ?لْبَلَـ?غُ)) (آل عمران:20)، ((وَمَا عَلَى ?لرَّسُولِ إِلاَّ ?لْبَلَـ?غُ ?لْمُبِينُ)) (النور:54).
ذلك أن الإنسان مخلوق مكرم بتكريم الله له، قال تعالى: ((وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِى ءادَمَ..)) (الإسراء:70)، يمتلك العقل الذي يجعله أهلاً للاختيار، فهو مختار كذلك، أراد الله الخالق له أن يريد ويختار، والاختيار من أعلى درجات التكريم، وبذلك فهو المخلوق المكلف المسؤول، ولا مسؤولية بدون حرية، فإذا سقطت الأهلية (العقل) رفعت المسؤولية، وإذا أخذ ما وهب سقط ما وجب.
ولعلنا نقول في تعريف الإنسان وتمييزه عن سائر المخلوقات: بأنه المخلوق المكلف، أي المسؤول، وأن أي انتهاك لحرية الاختيار اعتداء على إنسانية الإنسان وإهدار لآدميته.(1/1)
والصلاة والسلام على من كانت الغاية من بعثته إلحاق الرحمة بالعالمين، واسترداد إنسانية الإنسان، وكانت غاية مهمته إبلاغ الناس بما أُرسل به، قال تعالى: (( وَمَا عَلَى ?لرَّسُولِ إِلاَّ ?لْبَلَـ?غُ ?لْمُبِينُ)) (النور:54)، وقال تعالى: ((فَإِنَّمَا عَلَيْكَ ?لْبَلَـ?غُ)) (آل عمران:20)، وكانت وسيلته الدعوةُ بالحكمة والموعظة الحسنة والمجادلة بالتي هي أحسن، والحوار بالدليل والبرهان، قال تعالى: ((?دْعُ إِلِى? سَبِيلِ رَبّكَ بِ?لْحِكْمَةِ وَ?لْمَوْعِظَةِ ?لْحَسَنَة))ِ (النحل:125)، وقال: ((وَلاَ تُجَـ?دِلُواْ أَهْلَ ?لْكِتَـ?بِ إِلاَّ بِ?لَّتِى هِىَ أَحْسَنُ)) (العنكبوت:46).. ومن دعائم عقيدة الإسلام، أن الحجة والبينة والبرهان سبيل الإيمان والتحقق باليقين.. وبعد:
فهذا كتاب الأمة السابع والثمانون: "حقوق الإنسان.. محور مقاصد الشريعة"، لمجموعة من الباحثين المتخصصين، استمرارًا للمضي في طرح مشروعات فكرية جماعية للقضايا المعاصرة، ومعاودة فتح ملفها واستدعائها، لتصبح همًا ثقافيًا، ومحركًا اجتماعيًا، وفرضًا كفائيًا، ومحرضًا حضاريًا، وشاحذًا للعقول، وسبيلاً للحوار الداخلي.(1/2)
ولعل من الأولويات اليوم تتمثل في إعادة تشكيل النخبة، عقل الأمة، أو الطائفة القائمة على الحق، تمثلاً وبلاغًا، وتأسيس مرجعيتها في ضوء معرفة الوحي وتجربة النبوة الخاتمة وتطبيقات الخلافة الراشدة ومسيرة خيرة القرون، بحيث تمتلك من الرؤية الشرعية ما يمكنها من فقه الواقع بإشكالياته المتعددة، والقدرة على تحديد الاستطاعة، مناط التكليف في كل مرحلة، ومن ثم تنزيل الأحكام الشرعية بعد التحقق من توفر شروط محالها، اهتداءً بالسيرة النبوية، واعتبارًا بالتاريخ الخاص بمسيرة الأمة المسلمة، والعام بتاريخ الأمم، الذي يمكِّن من اكتشاف السنن الفاعلة في الحياة، أو قوانين الحركة الاجتماعية، حتى تتمكن من تسخيرها، ومدافعة قدر بقدر، بعيدًا عن المجازفات وإهدار الطاقات، والمجاهدة تحت رايات عمِّيَّة، وترك ما تستطيع إلى ما لا تستطيع، والاندفاع للإقدام على الفعل من خلال حالة الإحباط، والإعجاب بالموقف دون القدرة على النظر في تداعياته، وتحويل الأمة المسلمة إلى رصيد تضحيات جاهز للاستخدام والاستغلال من قبل (الآخر)، وتصفية الحسابات الدولية والإقليمية بدماء المسلمين، تحت شعارات ظاهرها فيه الرحمة وباطنها من قبله العذاب.
إن حالة التخلف والإحباط التي نعاني منها، تؤدي إلى خلل في التوازن وضبط النسب، وتغيّب التطلع إلى التحلي والتأهل بصفات البطولة في المجالات المتعددة، والتحول إلى انتظار البطل المنقذ، والقفز من فوق السنن، الأمر الذي لم تدّعيه النبوة، ولم تمارسه.(1/3)
وقد تكون الإشكالية التي نعاني منها ليست في عدم وجود قيم ضابطة لمسيرة الحياة ومعايير لتقويمها وتحديد مواطن الخلل التي تعتريها، ولا في عدم وجود تجربة تاريخية وتنزيل لهذه القيم على واقع الناس، ولا في شمولية هذه القيم وتغطيتها لجميع مناحي الحياة البشرية، من القوة والضعف، والسقوط والنهوض، والنصر والهزيمة، والدعوة والدولة، وحقوق المسلم والمعاهد والمحارب.... إلخ، وإنما تتحدد الإشكالية -فيما نرى- بسوء التعامل مع القيم، الذي يؤدي إلى العبث بهذه الأحكام، والقراءة المغلوطة لمحالها، ومن ثم سوء تنزيلها على واقع الناس، ذلك أنه من المعروف شرعًا وعقلاً أن لكل حكم شرعي مواصفات وشروط لابد من توفرها في محل تنزيل الحكم، بعد النظر في توفر الاستطاعة، التي هي مناط التكليف.
إن العبث في التعامل مع الأحكام الشرعية، ومحاولة الاستشهاد بها والارتكاز إليها في تسويغ مشروعية الفعل البشري، دون الإدراك لوجود الاستطاعة، وتوفر شروط المحل، يوقع بإشكالات كبيرة جدًا، تكرس التخلف والتراجع، وقد تُحدث أزمة ثقة بالقيم والنصوص نفسها، واتهامها بالعجز عن تقديم الحلول المطلوبة، وانتشال الأمة من معاناتها.
ولا شك أن هناك أحكامًا شرعية منوط إنفاذها بالسلطة المسلمة، كالعقوبات، والفصل في الخصومات، وإبرام المعاهدات، والقضاء بين الناس...إلخ، ونصيب الفرد من التكليف بها لا يخرج عن السعي والعمل لإيجاد السلطة المسلمة التي تضطلع بإنفاذها، أما التطاول لتنفيذها من قبل الأفراد بحجة غياب السلطة المسلمة من خلال فقه بئيس فتخلق من المشكلات والفوضى ما لا يعلمه إلا الله سبحانه وتعالى.(1/4)
إن عدم الإدراك الكامل لمواصفات الخطاب، في الكتاب والسنة، وحدود التكليف، وحدود الاستطاعة، وتوفر المحل، سوف يؤدي إلى العبث بالأحكام -كما أسلفنا- وتنزيل خطاب المعركة على محل الدعوة، وخطاب الدعوة على ساحة المعركة، أو خطاب المعركة على ساحة المعاهدة، ذلك أنه من المعلوم أن هناك أحكامًا شرعية تمثل خطاباً للمعركة والتعبئة النفسية والتحريض على القتال والغلظة في المواجهة، وأخرى تمثل خطابًا للدعوة والحوار والمجادلة باللين والحكمة وعدم الغلظة والفظاظة، وثالثة لبناء العلاقات الاجتماعية والوفاء بالمعاهدات وعقود الذمة، الأمر الذي إذا لم يدرك بفقهٍ سليم فسوف يؤدي إلى لون من التدين المغشوش والضلال للسعي، ونحن نحسب أننا نحسن صنعًا، كما يؤدي إلى تغييب مقاصد الشريعة ودورها الفاعل في حياة الناس.
ولا يقل عن ذلك خطورة ما نلاحظه من التقطيع في النسيج الثقافي للأمة، حيث أصبحت أمماً انفرط عقدها، وتحولت إلى طوائف معجبة بنفسها وفكرها واجتهادها، وغيبت معاني الأخوة الشاملة، وانسدت أقنية الحوار الداخلي والتفاهم وبناء القاعدة المشتركة.
ونعود إلى القول: بأن الإشكالية هي في التباس الذات بالقيم، وصور ومسالك التدين بقيم الدين، وبذلك تعطلت عمليات النقد والتقويم والمراجعة والاجتهاد، وحاول كثير ستر عوراتهم الفكرية وعجزهم عن توليد الأحكام بالتستر بالقيم نفسها، والحديث عن قدسيتها وعظمتها وإنجازها التاريخي.
ولا نزال نرى: بأن الإشكالية ليست بالقيم المعصومة، وإنما بكيفية التعامل معها، أو بمعنى أكثر دقة: إن الإشكالية ليست في الدين وتعاليمه وإنما بصور التدين وكيفية التعامل مع هذه القيم، وتوليد البرامج والخطط التي تسع حركة الحياة، في ضوء الاستطاعات أو الإمكانات المتوفرة والظروف المحيطة.(1/5)
ولعل من نعمة الله على أمة الرسالة الخاتمة الخالدة، التي اصطفاها الله لوراثة الكتاب والاضطلاع بمسؤولية ما انتهت إليه النبوة تاريخيًا، أن وحي السماء الذي هو مصدر المعرفة الأساس، لم يتعرض للتفاصيل والجزئيات بشكل عام، بل ناط ذلك بالعقل الذي يمارس الاجتهاد ووضع البرامج والآليات، في إطار معرفة الوحي، التي اكتفت بوضع القيم الضابطة للمسيرة، والمعايير المطلوبة للتقويم والمراجعة والقياس للفعل البشري، المصوبة للمسيرة، ومن لوازم ذلك امتلاك القدرة على الاستجابة لتطور الحياة، واحترام العقل البشري، ومنحه الحرية والإرادة التي بها يتحقق تكريم الإنسان وتكليفه ومسؤوليته.
فالقيم، ومصدرها معرفة الوحي، وهي معصومة عن الخطأ، ويعتبر من خصائصها الخلود، تشكل أطرًا مرجعية؛ والبرامج المؤطرة بالقيم، ومصدرها معرفة العقل، ويجري عليها الصواب والخطأ، وتعتبر من وسائل تحقيق الخلود، منوط بها توفير الاستجابة لتطور الحياة.
وتبقى الغاية الأساس أو المقصد الأساس من إرسال الرسل وإنزال القيم هو إلحاق الرحمة بالعالمين وتحقيق سعادة الإنسان في دنياه وآخرته، قال تعالى: ((وَمَا أَرْسَلْنَـ?كَ إِلاَّ رَحْمَةً لّلْعَـ?لَمِينَ)) (الأنبياء:107).
ويكاد يكون المنطلق أو المحور الرئيس لتحقيق هذه السعادة وإلحاق الرحمة وتوفير الحقوق، التي تحفظ إنسانية الإنسان وتحمي كرامته، يتمثل في إيقاف تأله البشر بعضهم على بعض، وعدم القبول بأن يكون الإنسان المخلوق مصدرًا لوضع القيم للآخرين المخلوقين مثله، حتى لا تتحول لتصبح جسرًا للتأله عليهم والتشريع لهم والترفع عنهم.(1/6)
ولعلنا نقول هنا: بأن أصل الشر في الدنيا وانتهاك الحقوق الإنسانية والفساد وسفك الدماء، كامن في تسلط الإنسان على الإنسان، وإن هذا التسلط، أو إن شئت فقل: "التأله"، أخذ على مدار التاريخ والرحلة البشرية أشكالاً متعددة ومتنوعة، وكان لكل عصر آلهته وطاغوته.. فمنذ فجر التاريخ، في العهد الزراعي، أخذ هذا التأله أو التسلط صورة الإقطاعي الذي يملك الأرض والإنسان، ويتصرف كما يحلو له، ولا تزال عقدة أقنان الأرض تتسلل بشكل أو بآخر إلى كثير من النفوس في مجالات الحياة المختلفة، الأمر الذي يزري بكرامة الإنسان.
ولعل من أخطر أشكال التسلط وأعتاها هو تلبس الحكم بالألوهية، واعتبار الحاكم هو المتحدث باسم الله، أو هو ظل الله على الأرض، ينفذ إرادته ويتحكم بالبشر كما يحلو له، وأن أية معارضة أو قعود عن طاعة الأوامر هو عصيان لله تعالى.. فباسم الله قد يُستغل البشر، وتُنتهك الحرمات، وتُستباح الأعراض، وتُوضع القيم والتشريعات، التي لا تقبل المناقشة ولا النقد.
ومن أشكال التسلط وانتهاك حقوق الإنسان التي حفظها التاريخ أيضًا، تسلط طبقة رجال الدين، التي شكلت نوعًا من الكهانة واحتكار تفسير إرادة الله والتسلط على البشر باسم الدين، والتحكم بدنيا الناس وأخراهم، وابتزاز أموالهم وأعراضهم بما يسمى "الاعتراف والغفران"، وتصرفهم بالمصير والآخرة، وبيع صكوك الغفران، بما أسمي بالحكم "الثيوقراطي" أو الديني، والذي كان من الطبيعي الخروج عليهم، ذلك الخروج الذي لم يقتصر على رفض سلطة رجال الدين والكهنوت وتسلطهم وتصويب الممارسات التي لا علاقة لها بنصوص الدين، وإنما كان خروجًا وانسلاخًا من الدين كله وما يمت إليه بصلة.(1/7)
إن الخروج على الواقع المنحرف، للتخلص من الحكم الثيوقراطي أوتسلط رجال الدين، جاء معالجة للانحراف ولكن بانحراف مماثل، لم يكن في صالح إنسانية الإنسان وحقوقه، وإنما هروبًا من تسلط البشر باسم الله إلى الوقوع من ألوهية البشر، لكن بشكل ولون آخر.
ومن أشكال التسلط والتأله في التاريخ أيضًا، الادعاء بأن العرق الآري، يمتلك من الخصائص والصفات المتميزة مالا يملكه الآخرون، الأمر الذي يبرر له استعمار الآخرين، والتحكم بأحوالهم، وسوقهم وفق إرادته، لأنهم يتصفون بالدونية بأصل الخلق فهم عضويًا غير مؤهلين.
ومن آثار ذلك أيضًا، الادعاء بتميز الرجل الأبيض.. وقد يكون الأخطر من هذا جميعه الادعاء أيضًا باختيار الله لشعب دون سائر الشعوب والأجناس، لا على كسبٍ فَعَله هذا الشعب وإنما بأصل الخلق، وقد يكون منهم المؤمن والكافر والفاسق... إلخ، وما يترتب على ذلك من العنصرية والتمييز والاعتداء على عدل الله، الذي يدّعون ذلك باسمه.
ومن صور وأشكال التسلط أيضًا، التسلط باسم الطبقة، والادعاء بأنها صاحبة المصلحة الحقيقية، وكذلك الحزب القائد، باعتبارهم لأنفسهم أنهم قدر الأمة، ومطاردة الآخرين على أنهم أعداء الشعب.(1/8)
وقد لا يتسع المجال هنا لمزيد من فتح النوافذ على أشكال التسلط والظلم، وإهدار كرامة الإنسان، والعبث بحقوقه، مصدر الشر في العالم، وحسبنا أن نقول: بأنه لا مجال لاسترداد كرامة الإنسان وحماية حقوقه إلا بإيقاف هذا التسلط المتأتي من التأله البشري بكل أشكاله، وإعادة تصويب مفهوم الألوهية، وأنها مصدر القيم التي يتساوى الناس أمامها جميعًا، بحيث تستمد هذه القيم والمعايير من مصدر خارج عن الإنسان، ومن ثم التمييز بين قيم الدين المعصومة، وصور التدين التي يمكن أن تلحق بها إصابات وممارسات مخطئة وظلم محتمل، لذلك قال تعالى: ((?لَّذِينَ ءامَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَـ?نَهُمْ بِظُلْمٍ)) (الأنعام:82).. فالتلبس بين قيم الدين وصور التدين وادعاء العصمة لسلوك الناس، نوع من الظلم والعتو في الأرض والعودة إلى التسلط ولكن بفلسفة أخرى.
وبالإمكان أن نقول بكل الاطئمنان: بأن الدعوة إلى الإيمان بالله وعدم الإشراك به، بأي نوع من أنواع الشرك، هو السبيل الوحيد لتوفير كرامة الإنسان وتحقيق إنسانيته ومساواته بالآخرين، فالتوحيد في نهاية المطاف يعني التحرير.. والذين يحاولون إلغاء الألوهية بهذا المفهوم، أو تحييده عن حياة الناس، إنما يفعلون ذلك ليجعلوا من أنفسهم آلهة - ولكل عصر آلهة- لأن الإيمان بالله واستمرار القيم والمعايير منه تسوِّيهم بغيرهم.(1/9)
وقد يكون من المفيد أن نذكر: أن القيم المشرِّعة للحقوق الإنسانية، والمعايير وموازين التقويم الحارسة لها والضامنة لامتدادها، عندما تُستمد من مصدر خارج عن الإنسان، من الخالق العالِم بأحوال الناس، البريء من الهوى والانحياز والخطأ، المتصف بصفات الكمال، يتلقاها الناس بالقبول، لشعورهم بالتساوي وعدم التمييز أمامها، والعدل في إنفاذها، إضافة إلى أن احترامها والالتزام بها إنما يتم بدافع داخلي وبوازع ذاتي، لاعتقادهم بأن الذي شرعها وأمر بالتزامها يعلم السر وأخفى، ويحاسب عن التقصير بها أو الانتهاك لها.. وليس هذا فقط، بل وجود تشريعات لبيانها، وعقوبات لانتهاكها، وبذلك تتحصل القناعة والثواب بها من داخل النفس، وتصان بالتشريعات الملزمة والعقوبات للمعتدي عليها.
بينما عندما توضع تلك القيم والمعايير من الإنسان نفسه، فزيادة على احتمال أن تتحول إلى وسيلة للتسلط والتعالي والانحياز، لأن الإنسان، أي إنسان، مهما حاول التحرر فهو يقع بشكل طبيعي تحت تأثير تربيته ومجتمعه وقبيلته وطائفته وحزبه وأهوائه ونزواته، إضافة إلى عمره المحدود وعلمه المحدود، الذي لا يمكن أن يحيط بالحاضر والمستقبل، فالإنسان نفسه يرى في وقت ما لا يراه في وقت آخر.
ومن جانب آخر، يمكن لنا أن نطرح السؤال الكبير: ماهي الضمانات التي تجعل من الآخرين محل قبول واحترام لهذه المعايير البشرية، وعلى الأخص أن الناس خلقهم الله، ويشعرون وكأنهم يعيشون على مائدة مستديرة -بالتعبير الدبلوماسي- أي خلقوا متساوون في الحقوق، فبأي حق يمكن لبعضهم أن يعطي نفسه حق التشريع ووضع القيم للآخرين؟ وماهي الضمانات ألا تجيئ هذه القيم منحازة ومحققة لمصلحة من وضعها، وأداة للتسلط على الموضوعة له؟(1/10)
أما إذا استمدت من مصدر خارج عن الإنسان فيتساوى أمامها الجميع، حيث تبرأ من الانحياز بأصل مصدرها، وتحمي كرامة الإنسان، وتمنحه الحق في وضع البرامج والآليات للتعامل مع هذه القيم الضابطة لمسيرة الحياة، وبذلك لا تلغي الإنسان وإرادته ونمو عقله، وتحميه من السقوط والانهيار، ولا تسمح بتسلطه وتألهه على البشر من أمثاله، والانشغال بوضع فلسفات وتسويغات لعمليات انتهاك حقوق الإنسان هنا وهناك.
وقبل أن نقدم بعض الملامح لقضية حقوق الإنسان، وكونها محور مقاصد الشريعة، لابد أن نشير هنا إلى قضية مركزية في مسألة حقوق الإنسان وحماية كرامته وتقرير إنسانيته، تتمثل في القيمة الكبرى التي حسمها الإسلام ولم يساوم عليها وهي عدم الإكراه، فلا إكراه، ولا إجبار، قال تعالى: ((لا إِكْرَاهَ فِى ?لدّينِ)) (البقرة:256)، وقال تعالى: ((وَمَا أَنتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ فَذَكّرْ بِ?لْقُرْءانِ مَن يَخَافُ وَعِيدِ)) (ق:45).
لقد جعل الله السبيل إلى الاقتناع بالدين هو التفكير والعلم والقراءة والاستدلال والبرهان، وجعل السلاح الأقوى في التأثير هو القلم.. وليس من قبيل المصادفة أن يكون أول ما نزل قوله تعالى ((?قْرَأْ))، ((عَلَّمَ ))، ((عَلَّمَ بِ?لْقَلَمِ)) ، وأن مشروعية الجهاد دائمًا جاءت لمدافعة الظلم وحماية حرية الاعتقاد.. وتبقى الإشكالية استبدال السيف بالقلم، نتيجة للقهر والإحباط.(1/11)
فالإكراه بكل المعايير إسقاط للعقل، أساس كرامة الإنسان، وإلغاء للإرادة والاختيار، وسبيل للتسلط والفساد وسفك الدماء والظلم، وقتل للإنسان، بل هو أشد من القتل، ذلك أن إجبار الإنسان على دين أو مبدأ أو عقيدة لا يختارها ولا يقتنع بها، أو حرمانه من عقيدة أو دين يختاره، أشد فظاعة من قتله، لأن ذلك قتل لإرادته واختياره، وإلغاء لإنسانيته، وإسقاط لكرامته، لذلك قال تعالى: (( وَ?لْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ ?لْقَتْلِ)) (البقرة:191)، فجريمة القتل على فظاعتها ومخاطرها تبقى دون جريمة الإجبار والإكراه.. والمعروف أن الله شرع الجهاد، على الرغم مما يقع فيه من القتل، لحماية اختيار الناس، والحيلولة دون إكراههم أو إجبارهم أو فتنتهم، فقال تعالى: (( وَقَـ?تِلُوهُمْ حَتَّى? لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ ?لدّينُ للَّهِ)) (البقرة:193)، وفي ذلك إلغاء لتأله البشر.
وقد يبدو كلامنا عن "الإكراه" هو من بعض الوجوه إغراق في الابتعاد عن الواقع، ذلك أن المسلمين اليوم عاجزون حتى عن الدفاع عن أنفسهم، ناهيك عن إكراه الآخرين، وأن عمليات "الإكراه" والاغتصاب السياسي والثقافي والإعلامي والعسكري تمارس ضدهم على المستويات كافة ، إلا أن ذلك لم يمنعنا من التأكيد على أن شعار المسلمين الدائم يبقى هو: "لا إكراه"، بعيدًا عن جميع أنواع ردور الفعل.
لذلك يمكن أن نخلص إلى الحقيقة التي هي أشبه بالبدهيات: بأنه لا إنسان بلا دين، أي بلا معايير، بلا قيم، وأن الإشكالية التاريخية بين النبوة من جانب والطاغوت من جانب آخر هي في مصدرية تلقي القيم (الدين)، ونسخ ألوهية البشر، وإفراد الله بالتوحيد، والتوحيد هو التحرير -كما أسلفنا- أو تلقي القيم من البشر، لأن ذلك مهما ادعي له من الموضوعية والحياد فهو جسر للتسلط، والتأله، والانحياز، والاستغلال، والطاغوت، أي الطغيان، والإجبار.(1/12)
ولعل الخطورة التي تتأتى من قبل أتباع النبوات، إنما تتأتى من صور التدين ومسالكه، وذلك عندما يتحول بعضهم إلى طبقة من الكهنة تحتكر المعرفة، ويحل فهمها محل القيم المعصومة، ويصبح سلوكها هو المعيار والمقياس ومصدر القيم، وتحاول تحويل الناس المؤمنين من قيم ومعايير الله الشارع، المعصومة، المبرأة من الانحياز والظلم، إلى فهم البشر، إلى فهم الشارح الظني، الذي يجري عليه الخطأ والصواب، وعند ذلك يهتز المعيار، وتتداخل انحيازات البشر وتأثيراتهم ورغباتهم، فتنقلب المعادلة، فبدل أن يُعرف الرجالُ بالحقِ يُعرف الحقُ بالرجالِ، ويبدأ الاستغلال والتسلط، لكن هذه المرة باسم الدين، الذي يعتبر الملجأ الأخير للناس.
والخشية هنا أن يفقد الناس ثقتهم بالقيم نفسها لا بحملتها فقط، ويصعب عليهم تجاوز الصورة المجسدة أمامهم إلى الحقيقة المجردة، فيكون التنكر لقيم الدين التي إنما شرعت لتحقيق الخلاص، فتحولت على يد الكهنة إلى أخطر مجال للاستغلال والتسلط، وهكذا يتحول الناس من جحيم إلى جحيم، وكلما دخلت أمة لعنت أختها، وتستمر رحلة العذاب والقهر والإجبار وإهدار كرامة الإنسان وحقوقه، وتشيع الفلسفات والتسويغات، ويقتل الإنسان عمليًا، سواء أكان ذلك بمطارق من حديد أو بحبال من حرير.
ولقد حذر الله سبحانه وتعالى الأمة الخاتمة من علل التدين التي لحقت بالأمم السابقة، وما يمكن أن تحدثه الكهانات الدينية من الظلم والتسلط والاستغلال، لتكون على بينةٍ من أمرها وحذرٍ من سوء العاقبة، فقال تعالى: (( ?تَّخَذُواْ أَحْبَـ?رَهُمْ وَرُهْبَـ?نَهُمْ أَرْبَاباً مّن دُونِ ?للَّهِ)) (التوبة:31).. وقد يكون فيما ورد في تفسير الآية وبيان معناها ما لا يحتاج أي استزادة لمستزيد:(1/13)
روى الإمام أحمد والترمذي، عن عدي بن حاتم، رضي الله عنه: أنه لما بلغته دعوة رسول الله صلى الله عليه وسلم فر إلى الشام، وكان قد تنصر في الجاهلية، فأُسرت أخته وجماعة من قومه، ثم مَنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم على أخته وأعطاها، فرجعت إلى أخيها فرغّبته في الإسلام وفي القدوم على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقدم عدي إلى المدينة، وكان رئيسًا في قومه طيئ، وأبوه حاتم الطائي المشهور بالكرم، فتحدث الناس بقدومه، فدخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي عنق عدي صليب من فضة، وهو يقرأ هذه الآية: (( ?تَّخَذُواْ أَحْبَـ?رَهُمْ وَرُهْبَـ?نَهُمْ أَرْبَاباً مّن دُونِ ?للَّهِ )) قال فقلت : إنهم لم يعبدوهم، فقال: "بلى إنهم حرموا عليهم الحلال، وأحلوا لهم الحرام، فاتبعوهم، فذلك عبادتهم إياهم"... وهكذا قال حذيفة بن اليمان وعبد الله بن عباس وغيرهما في تفسير: (( ?تَّخَذُواْ أَحْبَـ?رَهُمْ وَرُهْبَـ?نَهُمْ أَرْبَاباً مّن دُونِ ?للَّهِ )) : إنهم اتبعوهم فيما حللوا وحرموا" (مختصر تفسير ابن كثير، مجلد2، ص136-137).
وقد لا نكون بحاجة كبيرة للكلام عن دور الإسلام، أو دور القيم والمعايير الإسلامية، في تأسيس وتأصيل حقوق الإنسان، سواء على مستوى القيم والمبادئ أو على مستوى التطبيق والتجسيد والممارسة الحضارية، أي على مستوى الثقافة والحضارة معًا، واعتبار ذلك دين من الدين، وعبادة من العبادات، التي هي جزء من عقيدة المسلم، لا يخرج من عهدة التكليف إلا بأدائها، بل لعلنا نقول: إن حقوق الإنسان في الإسلام جزء من العقيدة، أو هي من صلب العقيدة، وأن ممارستها نوع من العبادة التي يترتب عليها الثواب في الفعل والعقاب في الامتناع.(1/14)
ولم يكتف الإسلام بأن جعلها قناعات فكرية ووصايا ومواعظ وآداب أخلاقية فقط، وَكَل أمر الالتزام بها إلى ضمير الإنسان وقناعته، وإنما أيد ذلك بتشريعات ملزمة وعقوبات صارمة لمن يخرج عليها، باعتبار أن لها بعدًا اجتماعيًا يتجاوز الإنسان، وأقام لها أيضًا الحراسات والرقابة العامة والمستمرة، من مهام الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أو ما يسمى بمهام الحسبة بشكل عام، على مختلف الأصعدة، فالتقى بذلك الوازع الداخلي والرقابة الذاتية مع التشريع الملزم، مع الرقابات والحراسة الدائمة من داخل النفس ومن خارجها.
ويبقى الإيمان بيوم الحساب وقاية للناس من الإحباط والارتكاس والارتداد عن الالتزام بالحقوق، عند عدم تحصل النتائج في الدنيا، وبذلك يستمر الخير حتى ولو غاب إنفاذ التشريع الملزم أو تراجعت الرقابة العامة.
ولابد من العودة إلى التأكيد: بأن ما أتت به النبوة في الكتاب والسنة، في هذا المجال وفي غيره، هو عبارة عن قيم ومعايير ضابطة لمسيرة الحياة، وأن أمر التشريعات والبرامج والخطط والتأسيس والتأصيل لهذه القيم إنما نيط بالعقل البشري، ليرتقي بوسائل إقرار حقوق الإنسان ويحققها ويحميها ويطور لها الرقابات والمنظمات وآليات الاحتساب ضمن مرجعية القيم، وأن الكثير من التخاذل قد لحق بالأمة المسلمة، بسبب عجزها وتقصيرها في تطوير هذه الآليات.
لقد تطورت التشريعات وتطورت الآليات والتنظيمات، وتطورت وسائل الرقابة العامة حتى غدا الإعلام اليوم، المقروء والمسموع والمكتوب والمشاهد، سلطة رابعة من سلطات الدول، بل نكاد نقول: إنه يتطور ويتطور ليقفز إلى المقدمة فيكون السلطة الأولى، ذلك أن الرقابة ترقى بالأداء، وتصوب الخطو، وترشد إليه، وتكشف الخطأ، وتفضح الاختلاس والاختلال والرشاوى، لكنها في غياب القيم والمعايير الضابطة قد تتحول إلى وسيلة بيد أهل الظلم والاستكبار، فتجعل الحق باطلاً والباطل حقًا.(1/15)
وبالإمكان القول: إن مؤسسات حقوق الإنسان، وأشكال الحسبة والرقابة العامة ومنظمات المجتمع، المتجاورة مع النظام السياسي في بلاد المسلمين، إن وجدت، لا تزال تعاني من غربة الزمان والمكان، وكأنها تعيش بمعزل عن العالم وما حققه من تقنيات وتشريعات في هذا المجال، ودائمًا نجد لأنفسنا العزاء بالهروب إلى القيم للاحتماء بها وبما حققته من إنجاز تاريخي لتغطية مركب النقص وستر العورات، وتستمر في حياتنا الكهانات حتى تكون فوق الحساب والتقويم والمراجعة والنقد، خشية أن يكون ذلك موجّه للقيم ذاتها، وتستمر رحلة التستر على الأخطاء والأشخاص باسم حماية قيم الدين، ونُسْبَقُ من العالم، ونبقى نراوح في مكاننا، ونظن أننا نقطع المسافات بالصياح والهياج والصراخ، حالنا في ذلك أشبه ما يكون بحال الطفل الذي يستخدم الصراخ لاستدعاء أمه كلما أراد شيئًا.
لقد امتدت حالة الطفولة لتستغرق حياتنا، حتى ظننا أن كل مشكلاتنا يمكن أن تحل بالصياح والبكاء والصراخ والحماس والخطب الرنانة، وكأننا لما نشبع بعد خطبًا حماسية وصراخًا لا يجدي، على الرغم من كل هذا التقهقر وهذا الزمن الضائع، وهذه الفجوة الرعيبة بين قيمنا الإسلامية وواقعنا المتردي، دون أن يتملكنا القلق السوي الذي يدفعنا لاكتشاف الخلل وسبل معالجته.(1/16)
وعلى أحسن الأحوال، فإننا نعيش في حالة ترقبٍ، انتظارًا لظهور البطل صاحب السلطة والقدرة الخارقة على قهر العدو، ومواجهة الخصم، يقدم حياته فداءً ويقاتل نيابة عنا، ليثأر لنا من (الآخر)، الذي ندعي دائمًا أنه سبب تخلفنا؛ بدل إشاعة معاني البطولة في النفوس ليتطلع إليها أفراد الأمة جميعها، والبحث عن المؤهلات والصفات الموضوعية التي تنتج البطل والمبدع والمخترع والمتفوق، وتؤهل لنهوض الأمة، حتى أن بعضنا بات لا يكاد يبصر من تاريخنا إلاّ فترات الغزوات والانتصارات، أما ما هي المؤهلات التي حققت هذه الانتصارات، وأن نفقه لماذا شرعت تلك الغزوات، وماذا حققت هذه الانتصارات، وكيف تعاملت مع السنن والأقدار، وما قدمت من التضحيات، لتوفير حقوق الإنسان وحمايتها من الانتهاك، وكيف ساهمت في إقرار حرية التدين والاختيار، ولماذا شُرع الإقدام على الموت وتقديم الشهداء، فذلك لايزال من الفقه الغائب.
لقد أباح الإسلام قتل أعداء حرية الاختيار الذين يمارسون الفتنة - لأن الفتنة حرمان للإنسان من حق الاختيار- وقرر الشعار الكبير: "لا إكراه"، ولكن مع الأسف، فإن ذلك لا يزال يقرأ بأشكال مغلوطة، أو لا يحظى إلا بالقليل من الدراسات، لأن ذلك يقتضي اجتهادًا وتفكيرًا وجهدًا كبيرًا، بينما الكثير منا -حتى في المؤسسات الأكاديمية- لا يُحسن إلا الشحن والنقل من الماضي والتفريغ في الحاضر، ولو اختلف الزمان والمكان والإنسان، وذلك إلقاء بالتبعة على (الآخر) من بعض الوجوه أيضًا.(1/17)
وقد لا نكون بحاجة إلى التأكيد بأن حقوق الإنسان في الإسلام إنما شرعت بأصل الخلق، ولم تأت ثمرة لمعاناة أو مظاهرات أو صراعات بين الحاكم والمحكوم، أو بين العمال وأصحاب المعامل، أو بين الطبقات الغنية والفقيرة، أو ثمرة للثورات والحروب، فانتزعت انتزاعًا.. وإنما هي مقاصد الدين وغاياته العليا، ورسالة النبوة التاريخية، وأن الصراع التاريخي بين النبوة والكافرين بها هو بين إنكار هذه الحقوق وتقريرها.
من هنا ندرك مقاصد النبوة الخاتمة "الإسلام"، التي تعتبر جماع النبوات من لدن آدم عليه السلام، والتي انتهت إليها أصول النبوات جميعًا، وأن المؤمن بها مؤمن بالنبوة التاريخية ومتلق عنها، قال تعالى: (( وَإِنَّ هَـ?ذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً و?حِدَةً وَأَنَاْ رَبُّكُمْ فَ?تَّقُونِ)) (المؤمنون:52)، وأن الصراع التاريخي كان بين التوحيد والتحرير وبين الخارجين عليه، الذين يريدون أن يجعلوا من أنفسهم آلهة تتسلط على الناس، بين إقرار حقوق الإنسان وبين انتهاكها، لذلك نرى أن مرتكزات العقيدة، والشريعة، والأخلاق، والمسالك، في الرسالة الخاتمة، جميعها تتمحور حول هذه الحقوق أو هذه المقاصد، إيمانًا وتشريعًا وممارسة ورقابة، للوقاية من الانتهاك لها، إلى درجة يمكن أن نقول معها: إن حقوق الإنسان في حقيقة الأمر هي مقاصد الشريعة، أو مقاصد الدين، وأن مقاصد الدين هي حقوق الإنسان في الإسلام.(1/18)
وقد يكون من المفيد أن نتوقف قليلاً عند هذه النقطة، فنلقي عليها بعض الضوء بما يمكن أن يتسع له المجال، فنقول: لقد استقرأ كثير من العلماء التكاليف الشرعية، أوامرها ونواهيها، في العقيدة والشريعة والعبادة والأخلاق، في الأصول والفروع، وأخذوا بعين الاعتبار أيضًا مراتب الحكم الشرعي في الفعل والكف، أو في الأمر والنهي، وخلصوا إلى أن الشريعة (الدين) إنما جاءت لتحقيق مصالح العباد في دنياهم وآخرتهم، وحمايتهم من المفاسد وما يفضي إليها، أي أنها تمحورت حول جلب المصالح ودرء المفاسد، وأن هذه المصالح لا تتحقق والمفاسد لا تدرأ إلا بتوفير ما اصطلحوا على تسميته الكليات الخمس، أو الضروريات الخمس، التي لا تستقيم الحياة وتستقر وتستمر بدونها، وهي: الدين، والنفس، والعقل، والنسل، والمال.. ورأوا، بعد التحري والاستقصاء والاستقراء، أن أي أمر أو نهي هو عائد إليها في نهاية المطاف، إما بشكل مباشر أو بشكل غير مباشر، وإنما شرع لتحقيق إحدى هذه الكليات الخمس، أو الضروريات الخمس.
فالدين: حاجة فطرية وضرورة حياتية، وعدم "الإكراه "، تحقيق لكرامة الإنسان؛ والنفس: إشباع غريزة الحياة، إقراراً وحماية؛ والعقل: محل أهلية الإنسان وتميزه، يستلزم حق التفكير والإرادة والاختيار؛ والنسل: نزوع وحاجة أصلية للجنس الآخر، يقتضي الحق في ممارسة الجنس بالطرق المشروعة وحماية الأنساب؛ والمال: تلبية لنزعة التملك والاحتياز وما يترتب على ذلك من حق التصرف والتملك والأهلية...إلخ، ولذلك اعتبر الإسلام هذه المقاصد من الثوابت الأساسية لاستقامة الحياة، ورتب على الإخلال بها أو الانتهاك لها عقوبات رادعة.(1/19)
لقد اعتبر الإسلام الاعتداء على هذه الحقوق جريمة كبرى، وعظم أمرها، كما أنه لم يدع أمر تحديد العقوبة لرأي البشر واجتهادهم، وإنما نص على الجريمة ونص على العقوبة وحددها، وما العقوبات الحدية في الإسلام، أو العقوبات المنصوص عليها، إلاّ حماية لهذه الحقوق الإنسانية الأساسية وراجعة إليها.
فالقصاص وحد الحرابة والفساد في الأرض، يحمي حق الحياة، فمن قتل نفسًا بغير نفس فكأنما قتل الناس جميعًا، ويحقق الأمن الاجتماعي والنفسي؛ وحد السرقة، إضافة إلى تحريم الغش والاحتكار والربا والميسر والغصب وما وضع لها من عقوبات تعزيرية، يحمي حق التملك؛ وحد الشرب وتحريم المسكرات والمفترات يحمي حق العقل، محل التفكير والتعبير؛ وحد القذف يحمي حق صيانة الأعراض؛ وحد الزنى يحمي حق النسل وعدم اختلاط النسب؛ وحد الارتداد يحمي حق الاختيار والتدين والخروج على الجماعة والعبث بدينها (التارك لدينه المفارق للجماعة).
وهكذا نرى أن الإسلام اعتبر الاعتداء على الحقوق الأساسية جريمة كبرى، ونص على عقوبتها بما أسمي بالحدود الشرعية، والحدود هي العقوبات النصية التي لا مجال للاجتهاد فيها.
وصحيح أن الحدود قد لا تنشئ حقوقًا أو مجتمعًا تسوده هذه الحقوق، وإنها وإن كانت تساهم بذلك، لكنها في الأصل لحماية هذه الحقوق وليس لإنشائها، وما وراء ذلك من الانتهاكات الجزئية لهذه الحقوق فترك أمر تحديد عقوباتها للاجتهاد بما أسمي بالتعزيرات.. فإذا كانت عمدة القانون الجنائي: لا جريمة ولا عقوبة إلا بنص، ليكون المواطن على بينة من أمره، أدركنا أهمية التنصيص على العقوبات والجرائم الكبرى، التي تنال كيان المجتمع وتنتهك حقوق الإنسان، والتي لم يترك أمرها للاجتهاد من جانب، وكيف أن هذا التنصيص تعليم للإنسان بأهمية النص على العقوبات التعزيرية الاجتهادية أيضًا، ليكون الإنسان على بينة مما يلحقه عند الفعل أوالامتناع عن الفعل.(1/20)
وقد تكون المشكلة اليوم، وعلى الأخص في عالم المسلمين، قضية حقوق الإنسان بين القيم الدينية والمسالك البشرية، أو بين نصوص الدين وواقع التدين، ذلك أنه بالإمكان القول: بأن كثيرًا من علل التدين التي لحقت بالأمم السابقة، والتي حُذرنا منها، قد تسربت إلينا بشكل أو بآخر، فجعلت صورة التدين وعلى الأخص التعاطي مع حقوق الإنسان بهذا الشكل البئيس، حيث تسربت إلينا بعض الكهانات، واستمرأها بعضنا، فأصبح يتوهم أنه هو الإسلام والإسلام هو، ولابد أن يُحترم ويُكرم ويعظم ويبجل، لأن تكريمه تكريم للإسلام وتعظيم له، ولا يجوز أن يحاسب أو يراجع، لأنه يمثل قيم الإسلام، والقيم معصومة فهو يمارس المعصوم وإن لم يدَّع ذلك، وبدل أن يكون في خدمة الأمة، يتمثل قيم الإسلام في سلوكه ويجسدها في حياته وعلاقاته، تصبح الأمة في خدمته، وبدل أن يكون في خدمة المؤسسة التي يعمل فيها تصبح المؤسسة في خدمته(!)
لذلك نرى بعض الناس نفر من الدين بسبب هذه الصور المنفرة، ونرى كثيرًا من أفراد المجتمع في هذا المناخ الردئ والتدين المغشوش استمرأ هذه الكهانة، وقد لا يكون له أدنى كسب شرعي، وقد يكون أمضى عمره في تخصصات علمية- وذلك من الفروض الكفائية كما هو معلوم- فيغادرها إلى نوع من صناعة المشيخة ومنابر الوعظ والإرشاد، ويعيش نوعًا من العطالة، وقد يوقع الأمة جمعيها في الإثم لعدوله عن تخصصه، وبدل أن يكون في خدمة المجتمع يريد أن يصبح المجتمع في خدمته، وبذلك تمارس صور من التدين تزري بقيم الدين وتحاصرها وتهون من شأنها، بدل أن تغري بها، فتتحول المشكلة من أزمة تدين لتصبح أزمة دين، والعياذ بالله.(1/21)
وقد لا نجد حرجًا في القول: بأن هؤلاء الذين غادروا تخصصاتهم العلمية إلى منابر الوعظ والإرشاد، قد أهدروا بذلك حقوق الأمة عليهم، حيث لم يقوموا بواجباتهم، ولم يكتفوا بذلك وإنما تجاوزوا إلى مطالبة الأمة بحقوق لا يستحقونها، أو حقوق ليست لهم، لأن مالهم من حقوق إنما يتقرر في ساحة اختصاصهم مما تحتاج إليه الأمة.
ولعل من أخطر الإصابات التي نعاني منها على الأصعدة المتعددة، الاستمرار في هذه الصورة من الضخ الخطابي والكتابي عن تميز حقوق الإنسان في الإسلام، وعظمة القيم الإسلامية، وتفردها، وصوابيتها، وقدرتها على استرداد إنسانية الإنسان وتحقيق أمنه وسلامه، والإنجاز التاريخي العظيم لهذه القيم، وتنتهي مهمتنا عند النزول من على درجات المنبر، دون التفكير بواقع المسلمين المتردي وانتهاك حقوق الإنسان وإهدار كرامته، ودون التفكير بوضع البرامج والآليات لتنزيل القيم الإسلامية على واقع الناس، وتجسيد هذه الحقوق في حياتهم العملية، والانطلاق إلى فضاءات المجتمع والأمة، ووضع البرامج، وإقامة المؤسسات والروابط والندوات والنوادي المعنية بحقوق الإنسان وتحقيق كرامته، وإعادة النظر بتطوير نظام الحسبة ومؤسسات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وإغراء الناس بالقيم الإسلامية، وإقناعهم بها، والإيمان بدورها في تحقيق كرامة الإنسان وتأمين حقوقه.
إن استمرار الكلام عن عظمة الإسلام، وما منحه للإنسان من حقوق، دون النظر في واقع المسلمين وأسباب العطالة لهذه القيم والتبصر بكيفية إعادة فاعليتها فأمر محزن قد ينال من القيم نفسها -كما أسلفنا- ويحمل الناس على التطلع إلى ما عند (الآخر) لعل فيه الخلاص، وعلى الأخص إذا كان من يدعون إلى تلك القيم هم أول من ينتهكها بسلوكهم، ولا يبصرون إلا حقوقهم، ولا يرون شيئًا من واجباتهم.(1/22)
ولا يعفينا من المسؤولية الإلقاء بالتبعة على (الآخر)، على الأنظمة السياسية والأجهزة الأمنية، أو صور الاستبداد السياسي بشكل عام، لأن فضاءات المجتمع كبيرة، وكبيرة جدًا، ودوائر الخير فيه تتسع لبذر الخير ورعايته، لكن المشكلة أننا نحاصر أنفسنا، أو نسوغ عطالتنا، دون أن نفكر كيف نتحول نحن إلى أدوات للتغيير، كل بحسب موقعه.
ولعل من المفارقات العجيبة والأمور الغريبة، أن تكون حقوق الإنسان أكثر انتهاكًا في عالم المسلمين، الأمر الذي يقود مجتمعنا، في معظم الأحيان، إلى انفجارات اجتماعية ومجازفات خطيرة، تهلك الأمة وتجعل بأسها بينها شديد، وتبدد الطاقة، وتقضي على الآمال، وتغري (بالآخر)، حيث يتمتع الإنسان بأقدار كبيرة من حقوقه وكرامته، لأنه قد يجد نفسه هناك ويفتقد نفسه هنا، وقد يستطيع أن يقول في الشارع ما لا يستطيع قوله في بعض مساجد العالم الإسلامي(!) وهذا من البلاء والفتنة والصراع الثقافي الذي لا ينفع معه الادعاء، ذلك أن إمكانية النهوض الحضاري ترتكز أساسًا على كرامة الإنسان وحماية حقوقه، حتى يتمكن من استثمار طاقاته والانطلاق وإعادة البناء، خاصة أن كل الادعاءات التاريخية لعوامل النهوض التي تجاوزت الإنسان إلى أشيائه باءت بالفشل، وفتحت المجال لتقدم (الآخر)، والمشكلة أننا نلغي الإنسان ومن ثم نتساءل: لماذا هذا التخلف؟!
ولعل من نعمة الله تعالى على هذه الأمة، امتلاكها لإمكان النهوض الحضاري عندما تعزم على الرشد وتأخذ ما آتاها الله بقوة.. فهي تمتلك النص الإلهي السليم، أو القيم المعيارية للفعل والسلوك البشري، الخارجة عن وضع الإنسان وعبثه.(1/23)
كما تمتلك التجربة المعصومة من السيرة في تنزيل هذه القيم على واقع الناس، وتجسيدها في برامج وممارسات بشرية، إضافة إلى التاريخ الغني بعبر السقوط والنهوض، التي لم تقتصر على تجربة الرسالة الخاتمة وإنما تتقدم إلى الإفادة من رصيد تجربة النبوة التاريخية، والكثير من الفترات التاريخية التي مكنتها من التجاوز ومعاودة الانطلاق.. فسلامة المعايير كفيلة بإعادة التصويب باستمرار.. وتبقى المشكلة في كيفية التعامل مع المعايير أكثر منها في مسالك الناس وصور التدين.
وعلى الرغم من واقع الإنسان في عالم المسلمين، أو واقع حقوق الإنسان، التي قد لا ترقى إلى مستوى حقوق الحيوان في بعض الثقافات والمجتمعات الأخرى، مع ذلك ما تزال القيم الإسلامية - معقد الأمل- في امتداد وصعود وظهور، والإيمان بها يمتد في سائر الحضارات والثقافات والشعوب، مهما كانت درجة رقيها أو تخلفها، ولعل ذلك مؤشر على أن القيم الإسلامية الخالدة قادرة على إقناع الإنسان بها، والارتحال إليها، مهما كانت سويته الحضارية، ومهما كان الواقع الإسلامي، وهذا من الإمكان الحضاري للقيم الإسلامية القادرة باستمرار على انتشال الإنسان ليجد إنسانيته فيها، وهذا مؤذن بظهور الدين (الإسلام) على الدين كله، على الرغم من إصابات المتدينيين التي قد لا تثير الاقتداء.
ولا نزال نعتقد أن الإصابة الأساس تكمن في أدوات توصيل القيم الإسلامية وما نالها من العطب.. ومما لا شك فيه أن الالتزام بها أو التحلي بها وتوصيلها بالقدوة، يعتبر من أهم وسائل توصيلها وأكثرها تأثيرًا.
فالإسلام اليوم يظهر وينتشر بقوة مبادئه، وسلامة معاييره، وبعدها عن التحيز، ورصيدها في الفطرة الإنسانية، وتحقيقها لكرامة الإنسانية.. ولعل الإشارة إلى بعض المنطلقات الأساسية لحقوق الإنسان، تفسر لنا انتشاره وظهوره المستقبلي على الدين كله.(1/24)
وقد يكون من أبرز المنطلقات: إعلان المساواة التي هي روح الحضارة الإنسانية، فالناس في الإسلام ينحدرون من أصل واحد، يقول تعالى: (( يأَيُّهَا ?لنَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَـ?كُم مّن ذَكَرٍ وَأُنْثَى?....)) (الحجرات:13)، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: "الناس بنو آدم، وآدم من تراب....." (أخرجه الترمذي).
والإيمان في الإسلام بالإله الواحد، وتوجيه الخطاب للناس جميعًا، يسوي بين الناس، ويدفع تأله البشر وتسلط بعضهم على بعض، والتخلص من العنصريات والألوان والأجناس والشعب المختار، ذلك أن الإسلام دين مفتوح للجميع، والأكرم هو الأتقى، وليس حكرًا على جنس أو عرق أو طبقة أو جغرافية أو لون، وأن الحضارة الإسلامية جاءت نسيجًا من جميع العروق والأجناس والطبقات والمواقع الجغرافية.. فالتوحيد يعني التحرير -كما أسلفنا- ذلك أن الإشكاليات التاريخية المستهدِفة لإنسانية الإنسان وحقوقه إنما تركزت حول التمييز بشتى أشكاله، وتسلط الإنسان على الإنسان، وإكراه الإنسان على ما لم يقتنع به.. فالقيم التي معيارها وشعارها: "لا إكراه"، مرشحة لوراثة الحضارة والإنسانية واسترداد إنسانية الإنسان في كل مواقعها .
وهذا الكتاب، أُريد له أن يكون محاولة للتأصيل والتدليل على أن مقاصد الشريعة، بعد النظر والتدقيق، هي حقوق الإنسان، الهدف منها توفير الحقوق وحمايتها، وبيان ما تتميز به التعاليم والمعايير الإسلامية من منطلقات تؤكد وحدة الأصل البشري، وما يترتب عليها من المساواة التي تعتبر روح الحضارة، والتأكيد على كرامة الإنسان بأصل الخلق والتكوين، لمجرد كونه إنسانًا، مهما كان لونه وجنسه ودينه، كما تؤصل وتؤسس لحرية الاختيار تحت شعار: "لا إكراه"، وتعتبر أن إلغاء الاختيار والإرادة إسقاطٌ لإنسانية الإنسان.(1/25)
إن "الإكراه"، أكبر من القتل، قال تعالى: ((وَ?لْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ ?لْقَتْلِ)) (البقرة:217)، وإن الاعتداء على حقوق الإنسان يشكل جريمة اجتماعية وفردية، رتب الإسلام عليها عقوبات نصية حدية، ولم يترك أمرها للاجتهاد، حيث لا تستقيم الحياة إلا بتوفيرها.
والكتاب محاولة أيضًا لتحرير بعض الأحكام الفقهية، وأهمية الاجتهاد في إدراك مواصفات الخطاب الإلهي، وشروط تنزيله على محاله، عندما تتوفر الاستطاعات التي تعتبر مناط التكليف، وأهمية تطوير وسائل الرقابة العامة لحراسة الحقوق، وإبراز دور الحسبة في حماية الحقوق، والتأسيس لهذه الوسائل في إطار المجتمع المدني، ومحاولة فك الحصار عن القيم الإسلامية، وإعادة النظر بوسائل توصيلها لإلحاق الرحمة بالعالمين.
وتشتد الحاجة أكثر فأكثر إلى مثل هذه البحوث في ظل الموجة العاتية لانتهاكات حقوق الإنسان، باسم حقوق الإنسان، وعودة التأله البشري، وتسلط الإنسان على الإنسان، تحت مظلة الدفاع عن حقوق الإنسان، حيث أعطت بعض الدول لنفسها حق "الفيتو"، الذي أشبه ما يكون بالمقصلة التي تقطع رقاب الشعوب، وتغتال حقوق الأمم وليس الأفراد.
ونعتقد أن ما نقدمه في هذا الكتاب، هو استدعاء لبعض الأبعاد الحضارية الغائبة لمقاصد الشريعة، وإشاعة روح الاحتساب، وتصحيح صور من التدين، والتمييز بين قيم التدين ومسالك المتدينين، والوصول إلى بناء إنسان الواجب، إنسان الفاعلية، الذي يحتسب في حمل الفكرة ويضحي في سبيلها، دون أن يبالي بما يناله من أذى، أو ينتظر من فوائد وحقوق.
والحمد لله رب العالمين.
إنسانية الإنسان قبل حقوق الإنسان
الأستاذ الدكتور أحمد الريسوني
مما لا شك فيه أن فكرة حقوق الإنسان، بتسميتها وفلسفتها ومضامينها المتداولة اليوم، هي فكرة غربية وثقافة غربية، بغض النظر عن التقائها وتقاطعها مع كثير من المبادئ والقيم الدينية، بل واستمدادها منها بشكل مباشر أو غير مباشر.(1/26)
ومما لا شك فيه أيضًا أن حركة حقوق الإنسان هي تطور إيجابي نوعي في تاريخ البشرية التواقة دومًا إلى عديد من الشعارات والنداءات والمكتسبات التي جاءت بها حركة حقوق الإنسان الحديثة.
غير أن حركة حقوق الإنسان هذه، المنتمية إلى الحضارة الغربية وإلى الثقافة الغربية، تفتقر إلى المرتكزات الثابتة والغايات المقصورة الواضحة، وإلى المعايير الضابطة والموجِّهة. وهذا ما يجعلها في كثير من الأحيان تتأرجح وتتخبط وتسير في الاتجاه وضده حتى إنها تسير أحيانًا في خدمة الإنسان، وأحيانًا ضد الإنسان وفطرته، أحيانًا في خدمة الشعوب، وأحيانًا ضد إرادة الشعوب واختياراتها وقيمها.
وأهم خلل - في نظري- تعاني منه حركة حقوق الإنسان وثقافة "حقوق الإنسان"، هو أنها ركزت على حقوق الإنسان وأهملت أصل هذه الحقوق ومناطها الذي هو الإنسان، فكانت كمن اعتنى بجني الثمرة وتلميعها وأعرض عن سقي الشجرة وتهذيبها. والحقيقة أن هذا مجرد مثال للقيم المقلوبة المنكسة في الحضارة الغربية والثقافة الغربية، كما قال الله تعالى : (( أَفَمَن يَمْشِى مُكِبّاً عَلَى? وَجْهِهِ أَهْدَى? أَمَّن يَمْشِى سَوِيّاً عَلَى صِر?طٍ مُّسْتَقِيمٍ)) (الملك:22) ، فالتركيز على حقوق الإنسان، مع إهمال كيان الإنسان، ومع إهدار جوهر الإنسان، هو من قبيل تركيزهم على حقوق الإنسان دون تركيز مماثل على واجبات الإنسان حتى أصبحنا أمام إنسان الحقوق لا أمام حقوق الإنسان، ومن قبيل تضخيمهم للبعد الفردي على البعد الجماعي لحقوق الإنسان، إلى غير ذلك من القيم المقلوبة.
إنسانية الإنسان أولاً:(1/27)
الوضع الطبيعي والسوي هو أن تكون العناية بالإنسان - من حيث هو إنسان - أسبق وأكثر من العناية بحقوق الإنسان، لأن هذه الحقوق إنما أضيفت للإنسان واستحقها، لكونه إنسانًا، وليس لأنه كائن من الكائنات ومخلوق من المخلوقات، وإلا لوجب أن نتحدث بنفس المنطق وبنفس الدرجة عن حقوق الحيوان، وحقوق الحيتان، وحقوق الشجر والحجر.
فالعناية بالإنسان قبل حقوق الإنسان هي التي تسمح لنا أولاً بتحديد سبب هذا الامتياز، وثانيًا تجعلنا نصون سبب هذا الامتياز ونحافظ عليه، وربما نحسنه ونرقيه، وتجعلنا ثالثًا نوجه حقوق الإنسان بما يتلاءم ولا يتعارض مع هذا الامتياز الذي هو سبب وجود حقوق الإنسان، حتى لا نكون كمن يتمسك بالربح ويضيع رأس المال، بل نجعل الربح يعزز رأس المال وينميه.
فبماذا استحق الإنسان هذه الحقوق؟ وبماذا استحق كل هذه الحركة وهذه المعركة من أجل تلك الحقوق؟ لاشك أن هناك خصوصية وتفضيلاً وامتيازًا لهذا الإنسان، وإلا فلو رجعنا إلى مبدأ المساواة بين المخلوقات، لكان علينا أن نقول: كفانا من حقوق الإنسان، فقد أخذ هذا الإنسان على مدار التاريخ أضعاف أضعاف ما أخذته بقية المخلوقات من حقوق. علينا الآن - ونحن في عصر المساواة والإخاء والتسامح والتكافل - أن نركز على حقوق الكائنات الأخرى التي تتعرض لأبشع أشكال الاستغلال وأقصى درجات الإهمال لحقوقها، ويتم ذلك على يد الإنسان ولفائدة الإنسان؟(1/28)
لن أمضي مع هذا الافتراض وهذا الاستطراد، مادمنا مجمعين على أفضلية الإنسان وامتيازه على باقي المخلوقات وعلى أن له من الحقوق ما ليس لها، وأن من حقوقه أن يسخرها ويستعملها لمصلحته، كما قال الله عز وجل: ((وَسَخَّرَ لَكُمْ مَّا فِى ?لسَّمَـ?و?تِ وَمَا فِى ?لاْرْضِ جَمِيعاً مّنْهُ إِنَّ فِى ذَلِكَ لاَيَـ?تٍ لّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ))(الجاثية:13)، وكما في قوله أيضا: ((وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِى ءادَمَ وَحَمَلْنَـ?هُمْ فِى ?لْبَرّ وَ?لْبَحْرِ وَرَزَقْنَـ?هُمْ مّنَ ?لطَّيّبَـ?تِ وَفَضَّلْنَـ?هُمْ عَلَى? كَثِيرٍ مّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً)) (الإسراء:70)
ولذلك أعود وأركز على قضية هذا البحث، القضية المهملة أو المغيبة لدى حركة حقوق الإنسان وفي ثقافة حقوق الإنسان؛ ألا وهي إنسانية الإنسان، وسبب الامتياز والتفضيل لهذا الإنسان.
في قصة خلق آدم ـ عليه السلام ـ تصريح بما خص الله تعالى به جنس الإنسان من أسباب التمييز والتكريم والتفضيل، نقرأ ذلك في أمثال هذه الآيات:
((وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَـ?ئِكَةِ إِنّي جَاعِلٌ فِى ?لارْضِ خَلِيفَةً)) (البقرة:30)، (( وَعَلَّمَ ءادَمَ ?لاسْمَاء كُلَّهَا)) (البقرة:31)، (( عَلَّمَ ?لإِنسَـ?نَ مَا لَمْ يَعْلَمْ )) (العلق:5) ، (( ?لرَّحْمَـ?نُ (1) عَلَّمَ ?لْقُرْءانَ (2) خَلَقَ ?لإِنسَـ?نَ (3) عَلَّمَهُ ?لبَيَانَ)) (الرحمن:1-4)، (( وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَـ?ئِكَةِ إِنّى خَـ?لِقٌ بَشَرًا مِّن صَلْصَـ?لٍ مّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ (28) فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِى فَقَعُواْ لَهُ سَـ?جِدِينَ)) (الحجر:28-29)، (( لَقَدْ خَلَقْنَا ?لإِنسَـ?نَ فِى أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ )) (التين:4).
- فهذا الإنسان جعله الله خليفة في الأرض، وهو تشريف وتمكين لا نعلم مخلوقًا آخر حظي به.(1/29)
- والله تعالى علم آدم الأسماء كلها، والأسماء هي مفاتيح العلم والتعلم. وهو سبحانه علمه ما لم يكن يعلم، ومن ذلك أنه علمه البيان، والبيان ليس مجرد النطق والكلام، بل البيان، قبل ذلك، فكر ونظم للأفكار، ثم بيانها.
- والله عز وجل خلق هذا الإنسان في أحسن تقويم وأكمل هيئة.
- والأهم من هذا كله، وسر هذا كله، هو أنه سبحانه نفخ فيه من روحه. وهذه الميزة في الحقيقة تمثل نوعًا من التشريف والتكريم لا يكاد يدركه عقل أو يستوعبه فكر، ولذلك جاء في الآية الأخرى: (( قُلِ ?لرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبّى وَمَا أُوتِيتُم مّن ?لْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً )) (الإسراء:85)، ولا نعلم مخلوقًا آخر نفخ الله تعالى فيه من روحه ومنحه هذا الامتياز.
وعن هذا الامتياز ترتب أول حق من حقوق الإنسان، وذلك حين أمر الله عز وجل الملائكة بالسجود لآدم. فالعلة الحقيقية لإسجاد الملائكة لآدم هي التسوية الخاصة الفائقة لهذا الكائن، تم تتويجها بالنفخ فيه من روح الله، وهذا واضح في النظم القرآني: ((فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِى فَقَعُواْ لَهُ سَـ?جِدِينَ )) (الحجر:29)، فهو سجود لهذه الخاصية ولأجلها، وليس كما زعم التعيس إبليس الذي أبى أن يسجد وقال: (( أَءسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِينًا )) (الإسراء:61)، وقال: (( لَمْ أَكُن لاِسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِن صَلْصَـ?لٍ مّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ)) (الحجر:33)، حيث رأى في سجوده لآدم سجودًا لكائن طيني لا أقل ولا أكثر.
فالنفخ في الإنسان من روح الله هو سبب سموه وتفوقه، ومنبع مواهبه ومؤهلاته، والمدد الدائم لتساميه وترقيه. قال القاضي أبو بكر ابن العربي عند تفسير قوله تعالى: ((لَقَدْ خَلَقْنَا ?لإِنسَـ?نَ فِى أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ))، قال: " ليس لله تعالى خلق هو أحسن من الإنسان؛ فإن الله خلقه حيًا، عالماً، قادرًا، مريدًا، متكلمًا، سميعًا، بصيرًا، مدبرًا، حكيمًا، وهذه صفات الرب"[1].(1/30)
هذه الصفات الربانية التي منح الإنسان قبسًا منها، ومنح القدرة على تنميتها واستثمارها هي كنز الإنسان ورصيده الأغلى، وهي التي تمنحه هذا التفوق وهذا الامتياز على سائر الكائنات والمخلوقات، وبفضلها صارت له ـ دون غيره ـ قضية اسمها قضية حقوق الإنسان.
الإنسان بين البعد الديني والبعد الطيني:
لاشك أن الإنسان الحقيقي، صاحب الرفعة والامتياز، إنما هو الإنسان الذي تحدثت عنه الديانات ونزلت لأجله الرسالات، فجعلت منه محور الكون وسيد الكون، وأخبرت أنه يستمد من روح الله ومستخلف عن الله، وهو لذلك يجب أن يظل مؤمنًا بالله، مرتبطًا به، عابدًا له، وإلا انقطعت حباله وتمزقت أوصاله، فهذا هو الإنسان ذو البعد الديني.
أما حركة حقوق الإنسان، والمرجعية الفكرية التي تؤطرها وتوجهها اليوم، فهي لا تكاد تلتفت إلى الأبعاد الروحية والربانية والدينية للإنسان، بل لا تكاد تلتفت إلى هذا الإنسان صاحب حقوق الإنسان، ولا ترى في الإنسان وحقوق الإنسان سوى مجموعة من الطلبات والرغبات والتطلعات التي تحقق للإنسان احتياجاته المادية والجسدية ومحسناته السياسية والقانونية.
ومادام هذا الإنسان - عندهم- قد تم تجريده من أي أصل روحي، ومن أي بعد ديني، ولم تعد فيه ولا له ثوابت ولا مقدسات، فإن حقوقه نفسها تصبح خاضعة للتطوير والتكييف المستمر بلا حدود ولا محددات. المهم هو أن تستجيب لرغبات الإنسان في بعده الطيني.(1/31)
قلت قبل قليل: إن إبليس لم ير في الإنسان إلا بعده الطيني، مع أن الخالق سبحانه قد نص وصرح في خطابه بأنه سوّاه ونفخ فيه من روحه، فالإصرار على تجاهل البعد الروحي للإنسان هو أول توجه أيديولوجي ضال عرفه التاريخ. ومهما تكن الأوصاف والمصطلحات التي يتم إضفاؤها على النظرة المادية للإنسان وعلى التفسير المادي للإنسان، مثل الحداثة، والعقلانية، والعلمية، والموضوعية...، فإن ذلك لا يعدو أن يكون تجديدًا وزخرفة لنظرة إبليس التي لا ترى في الإنسان سوى أنه كائن طيني صنع ((مِن صَلْصَـ?لٍ مّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ)).
وللأسف فإن حركة حقوق الإنسان تمضي اليوم مشدودة إلى هذه النظرة، ومحكومة بهذه الفلسفة، بل إنها تزداد إيغالاً فيها. فالاحتياجات والحقوق الدينية والروحية والخلقية مغيبة أو مهمشة، والحقوق المادية الجسدية هي المهيمنة. وأنا أعني بالدرجة الأولى التطورات الجارية حاليًا ومؤخرًا في مفهوم حقوق الإنسان وفي توظيف حقوق الإنسان، وإن كانت الأدبيات والإعلانات الحقوقية الأولى لهذا العصر مسكونة هي أيضًا بالهواجس المادية والحقوق الجسدية، مع إشارات مبهمة وخاطفة إلى بعض الحقوق المعنوية.
فالإعلان العالمي لحقوق الإنسان الصادر عن الجمعية العامة للأمم المتحدة في 10 ديسمبر 1948م، وهو أكثر نضجًا وتوازنًا من كل ما سبقه، قد تحدث بتفصيل وإسهاب عن حقوق الحرية، والمساواة، والحياة، والسلامة البدنية، والمحاكمة العادلة والعلنية، والإقامة، والتنقل، واللجوء هربًا من الاضطهاد، والتملك، وتقلد الوظائف العامة، والشغل، والأجر العادل، وحق الراحة والتمتع بأوقات الفراغ، والصحة، والرفاهية، والخدمات الاجتماعية، ومنع التعذيب والاعتقال التعسفي والنفي والمعاملة القاسية أو الوحشية.(1/32)
وهذا كله جيد ولا غبار عليه، ولكن الحقوق والتدابير التي تعتني بالإنسان وبجوهر الإنسان، وبالأبعاد النفسية السامية للإنسان، والتي تجعل الإنسان إنسانًا، وتبقي الإنسان إنسانًا، وتجعله أكثر ارتقاءً وسموًا، هذه الحقوق غائبة ساقطة، أو إن بالغنا في تحسين الظن وتحسين الفهم نقول: إنها هامشية باهتة غامضة؛ وذلك مثل الإشارات الخاطفة إلى مفردات العقل، والضمير، والكرامة، والشرف، والسمعة، وحماية الأسرة. وهذه -على كل حال- إشارات إيجابية لبعض الجوانب الإنسانية، لكن أيًّا منها لم يحظ بمادة مستقلة، وأكثرها لم تخصص له حتى جملة مستقلة، ولذلك قلت إنها مفردات.
فالمادة الأولى حين تتحدث عن كون الناس يولدون أحرارًا متساوين في الكرامة والحقوق، تضيف : "وقد وُهبوا عقلاً وضميرًا"، ثم لا نجد شيئًا قليلاً ولا كثيرًا يحفظ العقل والضمير أو يطالب بالمحافظة عليهما أو يندد بتضييعهما وتخريبهما.
والمادة الثانية عشرة تنص على أنه: "لا يتعرض أحد لتدخل تعسفي في حياته الخاصة أو مسكنه أو مراسلاته، أو لحملات على شرفه وسمعته، ولكل شخص الحق في حماية القانون من مثل هذا التدخل أو تلك الحملات".
شيء مهم أن يُحمى الإنسان في شرفه وسمعته بمقتضى القانون، لكن ما هو أولى بالعناية والحماية هو وجود هذا الشرف وبقاؤه بقاءً حقيقيًا، وليس مجرد ادعاء الشرف واللجوء إلى القانون لحماية هذا الادعاء. بل أكثر من هذا: كيف نبقي فكرة الشرف والسمعة موجودة وذات اعتبار لدى الناس؟ وإلا فقد لا نجد من يعتبر أن له شرفًا وسمعة، أو أن هناك شيئًا حقيقيًا ومصلحة حقيقية اسمها الشرف والسمعة، خاصة إذا لم يكن يترتب عليهما درهم ولا دينار، ولا سجن ولا تعذيب؟(1/33)
ولعل أهم شيء يخدم الإنسان وإنسانية الإنسان في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان هو هذه الجملة التي جاءت في الفقرة الثانية من المادة (26): "يجب أن تهدف التربية إلى إنماء شخصية الإنسان إنماءً كاملاً".. ولكن للأسف بقي هذا الإنماء الكامل مبهمًا ومفتوحًا على جميع الاحتمالات، بينما لم يكن بيانه وضبطه يتطلب أكثر من كلمتين أو ثلاث، لو أضيفت لكانت هذه الجملة -على ضآلتها- إضافة نوعية إلى ثقافة حقوق الإنسان ومواثيق حقوق الإنسان.
غير أن المشكل الأكبر والأخطر لا يكمن في الأدبيات والمواثيق الحقوقية الكلاسيكية، وإنما يكمن - كما أشرت من قبل- في الممارسات والتطورات الجارية اليوم باسم حقوق الإنسان، وإن كانت تعتبر امتدادًا طبيعيًا لتلك.
فباسم حقوق الإنسان تصدر النداءات والتوصيات للاعتراف بحق الشذوذ الجنسي، وبحق الزواج المثلي، وبشرعية الأسرة الناشئة عنه، وبالحق في إجهاض الأجنة ولو كانت في شهرها التاسع وبدون أي ضرورة، وبالحق في تغيير الجنس من ذكر لأنثى ومن أنثى لذكر.
ومنذ بضعة شهور نسمع عن الحملة وعن الضغوط الموجهة ضد مصر، لما يجري فيها من محاكمة لبعض الأفراد من طائفة الشواذ المثليين، حتى إن ستين منظمة للشواذ عبر العالم وجهت نداءً تضامنيًا معهم تحت شعار: "يا شواذ العالم اتحدوا"، وقامت مجموعة من أعضاء الكونجرس الأمريكي بتوجيه رسالة احتجاجية وتحذيرية للرئيس المصري يلوحون فيها بالسعي إلى قطع المعونات الأمريكية لمصر[2].. وكل هذا يتم باسم حقوق الإنسان.
وباسم حقوق الإنسان يدافعون عما يسمونه حرية العقيدة، أي عقيدة، ولو تجسدت في حركة عبادة الشيطان أو في السحر والشعوذة والوصول إلى الانتحار الجماعي.(1/34)
وباسم حقوق الإنسان يضغطون من أجل تعليم الطفل الثقافة الجنسية والحق في الممارسة الجنسية. وقد يصلون إلى أن يجعلوا الثقافة الجنسية مادة دراسية إلزامية ثم يسعون بعد ذلك لكي تكون لهذه المادة حصصها التطبيقية حتى لا تبقى مادة نظرية جافة أو غير مفهومة.
وباسم حقوق الإنسان يجري هدم العلاقة الإنسانية الطبيعية والفطرية بين الرجل والمرأة، لتحويلها إلى علاقة تنافس وصراع وخصام بعد أن كانت على مر العصور وعند جميع الأمم والشعوب علاقة حب وتعلق وتكامل ووئام.
وباسم حقوق الإنسان يحاولون إلغاء ما بين الرجل والمرأة من اختلافات وتمايزات فطرية ليفرضوا عليهما المساواة التطابقية القسرية.
وباسم هذه المساواة، تحولت المرأة إلى مجال الامتهان والابتذال، تساق إليه بوتيرة وكيفية مذهلة لم يسبق لها مثيل في تاريخ الإنسان.. فالمرأة أصبحت سلعة.. والمرأة مسخرة لترويج البضائع والإعلان عنها.. والمرأة للمتعة الحرام، وللمنافسة بين القنوات التلفزيونية وجلب المشاهدين لها.. والمرأة لعرض الأزياء، أو لعرض الأشلاء باسم الأزياء...!
حينما يجرد الإنسان من بعده الروحي، ويختصر في بعده الطيني، وحينما تنبني حقوق الإنسان على هذا الأساس وتوجه في هذا الاتجاه، فإننا نجد حينئذ حقوق الإنسان عبارة عن نسخة مطورة ومزيدة ومنقحة عن حقوق الحيوان.(1/35)
إن الحرية الجسدية، والحاجات الجسدية، والرعاية الصحية، والرفاهية المعيشية، ومنع الاعتقال والتجويع والتعذيب، وضمان قسط مناسب من الراحة، والاشتغال في حدود الطاقة، وحماية الضعيف من القوي، والانتصاف له ممن ظلمه، هذه ونحوها من أمثالها ومما يتفرع عنها، كلها حقوق لا غبار عليها وعلى ضرورتها، ولكن العكوف عليها والانحصار في دائرتها يجعلها لا تختلف كثيرًا وجوهريًا عن حقوق الحيوان كما تضمنها الإسلام في نصوصه وقواعده، وهي الحقوق التي يلخصها الإمام عز الدين بن عبد السلام في هذين النصين اللذين أوردهما لكل من أراد أن يدرس ويقارن.
قال رحمه الله: "القسم الثالث حقوق البهائم والحيوان على الإنسان، وذلك أن ينفق عليها نفقة مثلها ولو زمنت أو مرضت بحيث لا ينتفع بها، وأن لا يحملها ما لا تطيق، ولا يجمع بينها وبين من يؤذيها من جنسها أو من غير جنسها بكسر أو نطح أو حرج، وأن يحسن ذبحها إذا ذبحها، ولا يمزق جلدها ولا يكسر عظمها حتى تبرد وتزول حياتها، وأن لا يذبح أولادها بمرأى منها، وأن يفردها ويحسن مباركها وأعطانها، وأن يجمع بين ذكورها وإناثها في إبان إتيانها (حق الجنس والتناسل) وأن لا يخذف صيدها ولا يرميه بما يكسر عظمه أو يرديه بما لا يحلل لحمه"[3].
وقال في نص آخر : "فصْلٌ في الإحسان إلى الدواب المملوكة، وذلك بالقيام بعلفها أو رعيها بقدر ما تحتاج إليه، وبالرفق في تحميلها ومسيرها، فلا يكلفها من ذلك مالا تقدر عليه، وبأن لا يحلب من ألبانها إلا ما فضل عن أولادها، وأن يهنأ جرباها ويداوي مرضاها، وإن رأى من حمَّل الدابة أكثر مما تطيق فليأمره بالتخفيف عنها، فإن أبى فليطرحه بيده، فمن رأى منكم منكرًا فليغيره بيده، وقال : "إذا سافرتم في الخصب فأعطوا الإبل حظها من الأرض ( أي دعوها تأكل من نبات الأرض)، وإذا سافرتم في السنة (أي الجدب) فبادروا بها نقيها (عجلوا السير والرجوع بها لتأكل) وقد غفر لبغي بسقي كلب"[4].(1/36)
تزكية الإنسان ثانيًا :
إذا كانت إنسانية الإنسان، بما تعنيه من خصائص وامتيازات لهذا الكائن، هي أول ما يجب أن نحافظ عليه ونصونه، وننطلق منه في كل ما يتعلق بالإنسان، فإن تزكية الإنسان يجب أن تكون الهدف الثاني والمحدد الثاني لحركة حقوق الإنسان، ولكل نشاط يستهدف الإنسان.
فالتزكية هي المقصد الأسمى الذي يريده الله لعباده في هذه الدنيا، وهي منتهى ما بعث الله لأجله رسله، وخلاصة ما ضمنه شرائعه.
والتزكية -كما هو متفق عليه عند اللغويين والمفسرين- تتضمن معنيين، أو هي تزكية ذات وجهين هما التطهير والتنمية. فالتزكية في الأمور المعنوية هي التطهير من العيوب والأدران والآفات (أي من الصفات السلبية)، وتنمية المحاسن والفضائل وعناصر الخير ( أي الصفات الإيجابية).
قال الشيخ محمد الطاهر بن عاشور: "التزكية تطهير النفس، مشتقة من الزكاة وهي النماء؛ وذلك لأن في أصل خلقة النفوس كمالات وطهارات، تعترضها أرجاس ناشئة عن ضلال أو تضليل، فتهذيب النفوس وتقويمها يزيدها من ذلك الخير المودع فيها، قال تعالى: ((لَقَدْ خَلَقْنَا ?لإِنسَـ?نَ فِى أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ (4) ثُمَّ رَدَدْنَـ?هُ أَسْفَلَ سَـ?فِلِينَ (5) إِلاَّ ?لَّذِينَ ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ ?لصَّـ?لِحَـ?تِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ)) (التين:4-6).. وفي الحديث: "بعثت لأتمم مكارم الأخلاق"، ففي الإرشاد إلى الإصلاح والكمال نماء لما أودع الله في النفوس من الخير في الفطرة" [5].
ويقول الشيخ سعيد حوى رحمة الله عليه : "فزكاة النفس تطهيرها من أمراض وآفات، وتحققها بمقامات، وتخلقها بأسماء وصفات، فالتزكية في النهاية تطهر وتحقق وتخلق"[6].
وإذا كان الدين قد اعتنى عناية تامة بالأبدان وصحتها وطهارتها وتغذيتها وتزكيتها، فلا شك أن عنايته العظمى هي تلك الموجهة إلى تزكية النفوس وإصلاحها لأنها عنصر تفرد الإنسان ومجال ارتقائه، كما قال الشاعر:(1/37)
أقبل على النفس واستكمل فضائلها فأنت بالنفس لا بالجسم إنسان
ولقد نص القرآن الكريم في كثير من آياته على كون تزكية الإنسان وترقيته هي مقصود بعث الرسل عمومًا، وخاتمهم رسول الإسلام خصوصًا، قال تعالى: (( ?لَّذِى بَعَثَ فِى ?لامّيّينَ رَسُولاً مّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ ءايَـ?تِهِ وَيُزَكّيهِمْ وَيُعَلّمُهُمُ ?لْكِتَـ?بَ وَ?لْحِكْمَةَ وَإِن كَانُواْ مِن قَبْلُ لَفِى ضَلَلٍ مُّبِينٍ )) (الجمعة:2).
فالآية الكريمة ناطقة صريحة في أن الرسول e بُعث إلى الناس لتزكيتهم، وإذا كانت تلاوة آيات الكتاب وتعليم معانيه وأحكامه وحكمته هي نفسها وسائل ومعابر للتزكية، فالنتيجة أن التزكية هي المعنى الغائي والهدف النهائي للرسل والرسالات في هذه الحياة الدنيا.
ومما يلفت الانتباه والتأمل في هذا الموضوع كون المعنى المنصوص عليه في هذه الآية قد تكرر في القرآن الكريم ثلاث مرات أخرى:
- ففي سورة البقرة على لسان إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام: ((رَبَّنَا وَ?بْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مّنْهُمْ يَتْلُواْ عَلَيْهِمْ آيَـ?تِكَ وَيُعَلّمُهُمُ ?لْكِتَـ?بَ وَ?لْحِكْمَةَ وَيُزَكّيهِمْ إِنَّكَ أَنتَ ?لعَزِيزُ ?لحَكِيمُ )) (البقرة:129).
- وفيها أيضًا: (( كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولاً مّنْكُمْ يَتْلُواْ عَلَيْكُمْ آيَـ?تِنَا وَيُزَكِيكُمْ وَيُعَلّمُكُمُ ?لْكِتَـ?بَ وَ?لْحِكْمَةَ وَيُعَلّمُكُم مَّا لَمْ تَكُونُواْ تَعْلَمُونَ )) (البقرة:151).
- وفي سورة آل عمران: (( لَقَدْ مَنَّ ?للَّهُ عَلَى ?لْمُؤمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مّنْ أَنفُسِهِمْ يَتْلُواْ عَلَيْهِمْ ءايَـ?تِهِ وَيُزَكّيهِمْ وَيُعَلّمُهُمُ ?لْكِتَـ?بَ وَ?لْحِكْمَةَ وَإِن كَانُواْ مِن قَبْلُ لَفِى ضَلَـ?لٍ مُّبِينٍ )) (آل عمران:164).(1/38)
ولقد جاءت في القرآن الكريم نصوص أخرى تنبه على أن تزكية الإنسان يجب أن تكون هي الغاية القصوى والمقصد لكل نشاط إنساني، والمعيار الذي يحدد نجاحه وفلاحه، كقوله عز وجل: ((وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا(7) فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا(8) قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّـ?هَا (9) وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّـ?هَا)) (الشمس:7-10)، وقوله تعالى: ((قَدْ أَفْلَحَ مَن تَزَكَّى?)) (الأعلى:14).
وإذا كانت الصفات الخيرة الحسنة هي الأكثر تأصلاً وعمقًا في كيان الإنسان، فإن اتصاف هذا الإنسان منذ البداية ببعض النقائص، مع قابليته لاكتساب صفات سيئة وشريرة، وقابلية النقائص الأصلية للنمو والتضخم، هي كذلك أمور ملموسة ومعيشة، بل ومصرح بها في نصوص الوحي، فالآية السابقة: ((وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا(7) فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا)) تفيد القابلية للاتصاف بالصفات الصالحة وتنميتها (التقوى) وبالصفات الفاسدة وتنميتها (الفجور).
وفي عالم النفوس -كما في عالم الأجسام- فإن الله تعالى الذي خلق الداء خلق له ومعه الدواء، فلكل داءٍ دواء، ولكل عيب شفاء، قال تعالى: (( إِنَّ ?لإنسَـ?نَ خُلِقَ هَلُوعاً (19) إِذَا مَسَّهُ ?لشَّرُّ جَزُوعاً (20) وَإِذَا مَسَّهُ ?لْخَيْرُ مَنُوعاً (21) إِلاَّ ?لْمُصَلّينَ(22) ?لَّذِينَ هُمْ عَلَى? صَلاَتِهِمْ دَائِمُونَ(23) وَ?لَّذِينَ فِى أَمْو?لِهِمْ حَقٌّ مَّعْلُومٌ (24) لّلسَّائِلِ وَ?لْمَحْرُومِ (25) وَ?لَّذِينَ يُصَدّقُونَ بِيَوْمِ ?لدّينِ (26) وَ?لَّذِينَ هُم مّنْ عَذَابِ رَبّهِم مُّشْفِقُونَ (27) إِنَّ عَذَابَ رَبّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ )) (المعارج:19-28).(1/39)
والإنسان قابل، بل ميال، للبغي والطغيان، وشفاء ذلك في أن يعرف ربه ويعرف أنه راجع إليه وواقف للحساب بين يديه: ((إِنَّ ?لإِنسَـ?نَ لَيَطْغَى? (6) أَن رَّءاهُ ?سْتَغْنَى? (7) إِنَّ إِلَى? رَبّكَ ?لرُّجْعَى?)) (العلق:6-8)، وقوله سبحانه وتعالى: (( فَأَمَّا مَن طَغَى? (37) وَءاثَرَ ?لْحَيَو?ةَ ?لدُّنْيَا (38) فَإِنَّ ?لْجَحِيمَ هِىَ ?لْمَأْوَى? (39) وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبّهِ وَنَهَى ?لنَّفْسَ عَنِ ?لْهَوَى?)) (النازعات:37-40).
ومعلوم في جميع الديانات أن أهم وأبلغ تزكية يحصل عليها الإنسان ويرتقي فيها - بعد الإيمان بالله تعالى- هي ما شرعه سبحانه من عبادات وقربات، كالذكر والتفكر والصلاة والصوم والحج والزكاة وسائر النفقات.
وإن من أخص خصائص الإنسان أنه كائن متدين أو كائن متعبد، عن طواعية واختيار. فالملائكة تعبد الله بصورة جِبِليَّة خالصة، ليس لها فيها اختيار أو رفض، أو تأخير أو تقصير، وبقية الكائنات تخضع لسنن الله تعالى ونواميسه، في حركاتها وسكناتها، وحياتها وموتها، ونموها وتكاثرها، وغير ذلك من شؤونها. والإنسان يشترك معها في هذا الخضوع التلقائي، أو في هذه العبودية الاضطرارية، ولكنه يتميز بعبودية أخرى يتجاوب معها أو يتنكر لها بإرادته واختياره، وهي عبودية التعبد أو عبودية التدين. فبها يتميز، وبها يتزكى، وبها يحافظ على سموه وسر تفوقه على سائر المخلوقات. ولذلك كانت هذه الخاصية مقصدًا عامًا وأساسيًا من مقاصد الشريعة. وفي هذا المعنى يقول الإمام الشاطبي رحمه الله تعالى: "المقصد الشرعي من وضع الشريعة إخراج المكلف عن داعية هواه حتى يكون عبدًا لله اختيارًا كما هو عبد لله اضطرارًا"[7].(1/40)
وإذا كانت شرائع الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم قد جاءت بحفظ كافة حقوق الإنسان، وعلى يد الأنبياء عرف الناس فكرة الحقوق والواجبات، ومن شرائعهم ومبادئهم وقيمهم التي زرعوها في تاريخ البشرية وثقافاتها، استمدت حركة حقوق الإنسان وجودها ومشروعيتها وأهم مبادئها، فإن هذه الشرائع والرسالات المنزلة كانت كلها تبتدئ بقضية عبادة الله، باعتبارها الضامن والداعم لأخص خصائص الإنسان التي عليها تنبني مشروعية حقوق الإنسان، فضلاً عن كونها مجالاً للتسامي والترقي لا يشبهه شيء ولا يدانيه شيء. وهكذا ما من نبي بعثه الله إلا قال لقومه: ((ي?قَوْمِ ?عْبُدُواْ ?للَّهَ))[8] فلذلك صار تدين الإنسان وتعبده لربه الصفة المميزة للإنسان وسلوكه"مما يجوز معه أن نعرف الإنسان بأنه الكائن الحي المتدين. فالهوية الإنسانية تكون في حقيقتها هوية دينية"، كما يقول الدكتور طه عبد الرحمن[9].
والعبادة كما هو معلوم تشمل الإنسان في روحه وعقله ونفسه وعاطفته وبدنه وحواسه وماله ووقته وفكره وعلمه. ومعنى هذا أن العبادة تزكي الإنسان بكل جوانبه وأبعاده. غير أن تزكية النفوس خاصة تبقى ذات أولوية واضحة في التعاليم والتكاليف الدينية، إذ النفس هي مجمع الآفات والنزعات والشهوات: ((إِنَّ ?لنَّفْسَ لامَّارَةٌ بِ?لسُّوء إِلاَّ مَا رَحِمَ رَبّى)) (يوسف:53).(1/41)
ومن أمثلة الآفات النفسية التي وجهت العبادات لمعالجتها وتزكية الإنسان منها: آفة شدة التعلق بالمال، والحرص عليه، والشح به. فبسبب ذلك يتعادى الناس ويتخاصمون، ويتصارعون، ويقتتلون، وبسبب ذلك يفرط الإنسان في كثير من قيمه ومبادئه، وتتضخم أنانيته وذاتيته، ويفقد توازنه وطمأنينته، فلذلك جاءت تعاليم الإسلام وتكاليفه غنية بالتوجهات والتدابير الخاصة بمعالجة هذه الآفة. والنصوص المتعلقة بهذا الموضوع كثيرة متنوعة، وخاصة تلك المتعلقة بالتوجيهات القيمية النظرية، وأقتصر على بعض النصوص الإجرائية العملية الموجهة بشكل صريح إلى تزكية الإنسان من هذه الناحية.
فمن المعلوم أن من أركان الإسلام الخمسة فريضة الزكاة، ودور هذه الفريضة في تزكية الإنسان وترقيته واضح معلن من الاسم نفسه (الزكاة)، فهي زكاة للنفس الإنسانية أولاً وأساسًا. والآية الكريمة التي أمرت بأخذ الزكاة من ذوي الأموال عللت ذلك بهذه العلة دون غيرها من علل الزكاة ومقاصدها، قال تعالى: (( خُذْ مِنْ أَمْو?لِهِمْ صَدَقَةً تُطَهّرُهُمْ وَتُزَكّيهِمْ بِهَا)) (التوبة:103).
ولم يقل خذ من أموالهم صدقة تطهر أموالهم وتزكيها لهم، بل تطهرهم وتزكيهم هم أنفسهم. فالذي يزكي ماله، يزكي في الحقيقة نفسه ويطهرها، قال العلامة الكاساني في بدائعه : " الزكاة تطهر نفس المؤدي، وتزكي أخلاقه بتخلق الجود والكرم وترك الشح والضن، إذ الأنفس مجبولة على الضن بالمال، فتتعود السماحة وترتاض لأداء الأمانة وإيصال الحقوق إلى مستحقيها، وقد تضمن ذلك كله قوله تعالى: ((خُذْ مِنْ أَمْو?لِهِمْ صَدَقَةً تُطَهّرُهُمْ وَتُزَكّيهِمْ بِهَا)) (التوبة:103).
وإن الله تعالى قد أنعم على الأغنياء وفضلهم بصنوف النعمة والأموال الفاضلة عن الحوائج الأصلية وخصهم بها، فيتنعمون ويستمتعون بلذيذ العيش. وشكرُ النعمة فرضٌ عقلاً وشرعًا، وأداء الزكاة إلى الفقير من باب شكر النعمة"[10].(1/42)
ووظيفة التزكية ليست خاصة بالزكاة، بل هي منصوص عليها وعلى طلبها في كافة أوجه الإنفاق الشرعي، قال تعالى: (( فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى? وَ?تَّقَى?(5) وَصَدَّقَ بِ?لْحُسْنَى?(6) فَسَنُيَسّرُهُ لِلْيُسْرَى?(7) وَأَمَّا مَن بَخِلَ وَ?سْتَغْنَى? (8) وَكَذَّبَ بِ?لْحُسْنَى?(9) فَسَنُيَسّرُهُ لِلْعُسْرَى?(10) وَمَا يُغْنِى عَنْهُ مَالُهُ إِذَا تَرَدَّى?(11) إِنَّ عَلَيْنَا لَلْهُدَى? (12) وَإِنَّ لَنَا لَلاْخِرَةَ وَ?لاْولَى?(13) فَأَنذَرْتُكُمْ نَاراً تَلَظَّى?(14) لاَ يَصْلَـ?هَا إِلاَّ ?لاْشْقَى(15) ?لَّذِى كَذَّبَ وَتَوَلَّى?(16) وَسَيُجَنَّبُهَا ?لاْتْقَى(17) ?لَّذِى يُؤْتِى مَالَهُ يَتَزَكَّى?)) (الليل:5-18)، وقال سبحانه: (( لَن تَنَالُواْ ?لْبِرَّ حَتَّى? تُنفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ)) (آل عمران:92).
وليست العبادات وحدها هي مجال التزكية والترقية للإنسان وللنفس الإنسانية، بل إن كل ما في الإسلام موجه لتحقيق هذا الهدف وهذا المقصد. ومن ذلك مجال المعاملات والعلاقات الاجتماعية. ومن يلقي نظرة ولو سريعة على كتب السنة النبوية فسيجد أبواب الأخلاق والآداب والفضائل والعلاقات الإنسانية، غزيرة شاملة تتناول كل جوانب النفس البشرية وكل ما تحتاجه من فضائل ومكارم وما يعرض لها من آفات ورذائل.
وقد يبدو لبعض الناس أن ما عرفته البشرية اليوم من ارتقاء قانوني ومن تقدم حقوقي، وما وصلت إليه في كثير من الأقطار من تحقيق سيادة القانون وإقامة دولة الحق والقانون، يغني عن التعاليم الدينية ويحقق مقصودها بشكل أكثر نجاعة وفاعلية.(1/43)
ولاشك عندي أن نوعًا من الترقي القانوني الحقوقي قد تحقق، وأنه جدير بالتقدير والاعتبار، ولكن الارتقاء القانوني والضبط التشريعي لبعض المبادئ والحقوق، لا يمثل إلا تقدمًا ظاهريًا إلزاميًا، يظل محكومًا بموازين القوة وحضور الرقابة والردع، دون أن يحدث تزكية أو أثرًا حقيقيًا في النفس وفي الضمير. وما أكثر ما نرى دعاة حقوق الإنسان، وحماة حقوق الإنسان، ودركيي حقوق الإنسان، يتنكرون لمبادئهم وشعاراتهم ويقلبون لها ظهر المجن، ويكشفون عن زيفهم وسطحية ثقافتهم الحقوقية، ويتحولون إلى وحوش ومناصرين للوحشية التي لا تعرف للإنسان حقًا ولا كرامة، ولا ترقب فيه إلاًّ ولا ذمة. فلذلك لا بد من التزكية الحقيقية الذاتية، ثم بعد ذلك، أو بجانب ذلك، تأتي المواثيق والحوافز القانونية والتدابير الإلزامية دعمًا للتزكية، أو حيث لم تنفع التزكية، وحيث لم تكن كافية، حسب الحالات.
وفي ظل تدهور إنسانية الإنسان، وفي غيبة تزكية الإنسان، ها نحن نرى الجهود الضخمة الهائلة والمتواصلة التي بذلت لأجل حقوق الإنسان، وتكاثرت وتراكمت لأجلها قناطير مقنطرة من البيانات والإعلانات والمواثيق والاتفاقات والدساتير والقوانين، تداس كلما احتيج لذلك، أو تعاد صياغتها أو تفسيرها كلما احتيج لذلك.
لقد كانت فكرة العدالة والحق في العدالة أسمى وأكثر ما شغل حركة حقوق الإنسان، وقد احتل هذا الحق حيزًا كبيرًا في الأدبيات والمواثيق والقوانين الحقوقية، ومع ذلك كله مازال حق العدالة وقوانين العدالة ملكًا لذوي القوة والنفوذ والغلبة، يطبقونه متى شاءوا، ويعطلونه متى شاءوا، ويفسرونه ويكيفونه كيف شاءوا.(1/44)
ولعل أهم تطور حصل في هذه المسألة هو أن الظلم أصبح اليوم قانونيًا مؤسسيًا أكثر من ذي قبل.. قديمًا كان الظلم يقع بمقتضى الغلبة والبطش الصريح، بدون قانون وبدون مؤسسات، بل بسبب غيبة القانون وغيبة المؤسسات، أما الظلم اليوم فيتم باسم العدالة وبواسطة مؤسسات العدالة ومن خلال القوانين المستصدرة لأجل العدالة!
أي ظلم أفدح وأعظم من كون خمس دول (هي الدول دائمة العضوية بمجلس الأمن ) قد أعطت لنفسها حق التحكم في البشرية كلها، تتحكم في السلم والحرب والسياسة والاقتصاد، وتعاقب وتكافئ، وتعطي الشرعية لمن تشاء وتنزعها عمن تشاء.. وفق معايير ومصالح واعتبارات هي تضعها وهي تغيرها! أين حق العدالة؟ ليس للأفراد، بل للشعوب والدول!! أين المساواة.؟
حينما نقرأ الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، الصادر عن الجمعية العامة للأمم المتحدة، نجده يطالعنا في الفقرة الأولى من ديباجته بكون "الاعتراف بالكرامة المتأصلة في جميع أعضاء الأسرة البشرية وبحقوقهم المتساوية، هو أساس الحرية والعدل والسلام في العالم".
ثم نجد في مادته الأولى: "يولد جميع الناس أحرارًا متساوين في الكرامة والحقوق".. فهل توجد في عالم اليوم مساواة في الكرامة والحقوق لعموم البشر؟ هل يقيمون اعتبارًا للمواد القانونية المذكورة؟
القارة الإفريقية بكاملها ليس لها عضوية دائمة بمجلس الأمن، وكذلك قارة أمريكا اللاتينية، لأنهما قارتان فقيرتان. والعالم الإسلامي الذي تمثل دوله ثلث الدول الأعضاء في الأمم المتحدة، ليس له بمجموعه عضوية دائمة في مجلس الأمن؟
وهكذا، فالفقراء في العالم، والمسلمون في العالم (وهذه هي الأغلبية العظمى فيه) ليس لهم حق في المساواة، وليس لهم حق التقرير، ولا حق التأثير في شؤون هذا العالم ولا في شؤونهم هم أنفسهم.. فكيف يمكن التحدث عن الديمقراطية وعن الحقوق المتساوية التي هي أساس العدالة، والعدالة هي المتطلب المركزي لحركة حقوق الإنسان ؟!(1/45)
قد يقال: إن المقصود بالعدالة وبالحقوق المتساوية حقوق الأفراد، مع بعضهم ومع حكوماتهم ومحاكمهم! وأقول: وهذه أدهى وأمر، كيف يتم التركيز على حقوق الأفراد - على علاتها وآفاتها- ويتم إسقاط حقوق الأمم والشعوب؟ وإسقاط حق شعب واحد يعني إسقاط حقوق عشرات الملايين، فكيف بشعوب ودول تعد بالعشرات؟
على أن الأمر لا يتعلق فحسب بحق المساواة، الذي هو أبسط مظاهر العدالة، بل إن عدم المساواة في هذه الحالة يعني ما لا يحصى من التوابع والتداعيات، ومن المظالم والاختلالات، يكون ضحيتها ملايين البشر، في حقوقهم المادية والمعنوية، بما في ذلك حقهم في الحياة.
إن الحركة الحقوقية بحاجة ماسة إلى أن تكون حركة أخلاقية وليس مجرد حركة قانونية ثقافية وفكرية. فبدون أخلاق وبدون تخليق، ستظل حركة حقوق الإنسان دائرة حول المظاهر دون أن تصل إلى المخابر، وستظل تشتغل بالوسائل من غير تقدم في تحقيق المقاصد. وأكثر من ذلك كله، ستظل عرضة للتكييف والتوجيه والتعطيل، بحسب ما يريده أصحاب الغلبة والنفوذ وذوو النزوات والشهوات.
وكما يقول د.طه عبد الرحمن: "فإن ضرورة الخُلق للإنسان كضرورة الخَلق سواء بسواء، فلا إنسانية بدن أخلاقية"[11].. ولذلك كان جوهر رسالة الأنبياء، صلوات الله وسلامه عليهم، هو غرس الأخلاق، وتنمية الأخلاق، وصيانة الأخلاق، كما قال خاتمهم ومتمم مقاصدهم، نبي الإسلام : "بعثت لأتمم مكارم الأخلاق"[12].
الهوامش :
[1] أحكام القرآن، 4/415، دار الفكر للطباعة والنشر، بيروت، د.ت.
[2] عن جريدة التجديد المغربية، عدد 260، بتاريخ 4 يناير 2002م.
[3] قواعد الأحكام في مصالح الأنام، 1/141، دار المعرفة، بيروت، د.ت.
[4] شجرة المعارف والأقوال وصالح الأقوال والأعمال، ص 169، تحقيق إياد الطباع، الطبعة الأولى، 1989م/1410هـ، دار الطباع ، دمشق.
[5] التحرير والتنوير، 2/49، الدار التونسية للنشر، 1984م.(1/46)
[6] المستخلص في تزكية الأنفس، الطبعة الثالثة، 1405هـ/1985م ، دار السلام للطباعة والنشر والتوزيع.
[7] الموافقات، 2/168.
[8] تكرر هذا المعنى كثيرًا في القرآن الكريم على لسان الأنبياء خطابًا لأقوامهم، انظر على سبيل المثال سورة الأعراف، الآيات 59، 65، 73، 85 وسورة هود الآيات 50، 61، 84.
[9] سؤال الأخلاق، الطبعة الأولى، 2000م، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، المغرب.
[10] بدائع الصنائع، 2/4، طبعة دار الفكر، بيروت، 1417هـ/1996م.
[11] سؤال الأخلاق، ص 55.
[12] الموطأ، كتاب حسن الخلق.
مقاصد الشريعة .. أساس لحقوق الإنسان
الأستاذ الدكتور محمد الزحيلي
مقدمة:
الحمد لله، علم القرآن، خلق الإنسان، علمه البيان، والصلاة والسلام على الإنسان الكامل، معلم الناس الخير، ومرشد البشرية إلى ما فيه صلاحهم وفلاحهم؛ محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبعد:
فقد كرّم الله الإنسان، واصطفاه على سائر خلقه، وجعله سيدًا في الأرض، وأمده بالوحي السماوي، والرعاية الإلهية، والشرع القويم، وأرسل له الأنبياء والرسل، وأنزل عليه الكتب، ليسير على الهدي السديد، والصراط المستقيم، وشرع له الأحكام لبيان الحقوق والواجبات..ولكن الإنسان ظلوم جهول.. جُبِل على العدوان والشر أحيانًا، وكثيرًا ما يكون ذئبًا على أخيه الإنسان، إن لم يكن أشد فتكًا به من الوحوش الضارية.(1/47)
وظهر ظلم الإنسان للإنسان، والاعتداء عليه، طوال التاريخ في صور عديدة، وتحت شعارات مختلفة، ولأسباب متنوعة، داخلية وخارجية، عرقية وعنصرية، أخلاقية ومالية، دينية واقتصادية، وخاصة في العصور المظلمة في أوروبا، المسماة بـ (العصور الوسطى)، مع غياب العقيدة الصحيحة، والدين الحق، والشريعة السمحاء.. وتكرر الدمار والإبادة للإنسان من أخيه الإنسان، في القرن العشرين في عدة حروب، ثم كانت الحرب المدمرة الفتاكة الأولى في القرن الحادي والعشرين، وقد يتفاقم الظلم والعدوان في إطار الأسرة الواحدة.
وقام المفكرون والمصلحون في أوروبا خاصة، وفي العالم عامة، يحذرون من هذا الظلم والعدوان، ويدعون للاعتراف بحقوق الإنسان، حتى ظهر لأول مرة إعلان حقوق الإنسان في فرنسا، عام 1789م. ولكنه اقتصر على الدعاية، وكان مجرد شعار، لكنه ترك أثره في توعية الأفراد والشعوب، حتى صدر الإعلان العالمي لحقوق الإنسان عام 1948م، ثم الاتفاقية الدولية بشأن الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، والاتفاقية الدولية بشأن الحقوق المدنية والسياسية عام 1966م، وظهرت منظمات حقوق الإنسان.
ومع غياب الوعي الإسلامي الشامل خلال القرنين الماضيين، وتخلف المسلمين، وإلغاء تطبيق الشريعة الإسلامية في معظم البلاد الإسلامية، وفرض الفكر الأجنبي، والغزو الثقافي والقوانين المستوردة، اختل وضع المواطن المسلم، وظهرت انتهاكات الحقوق، وارتفع على الأفق السؤال والاستفسار عن حقوق الإنسان في الإسلام، فنهض العلماء والدعاة والمصلحون لبيان تكريم الله للإنسان، وأن الشرع الحنيف جاء -أصلاً- من أجل الإنسان، وأن مقاصد الشريعة المقررة أساسًا هي المنطلق الرئيس لإنسانية الإنسان، وهي المرجعية الوحيدة لحقوق الإنسان، وهذا يستدعي العودة أولاً لحظيرة الدين، لينعم الإنسان بظلال الشريعة الوارفة، ويمارس عمليًا حقوق الإنسان، ويطبقها فعلاً وليس دعاية وشعارًا.(1/48)
وهذا موضوع البحث في هذه الورقات المعدودة، لنذكّر بمقاصد الشريعة، وما تحتويه من حقوق، وما تتضمنه من التزام حقيقي بذلك، دون الوقوف وراء النصوص البراقة، والدعايات الخادعة، والمتاجرة بالمبادئ، والكيل بمكيالين، والتستر وراء منظمات حقوق الإنسان، لتسويق السموم والأهداف الاستعمارية الفكرية والثقافية والاقتصادية والسياسية، للتأكيد أن الله تعالى قرر حقوق الإنسان لخلقه، وبيّنها في شرعه، وجعلها واجبات دينية فرض أداءها على العباد، لتأخذ طريقها للتطبيق الصحيح، مع الثواب لفاعلها، والعقاب الديني والدنيوي لمن يتجاوزها أو ينتهكها.
ونسأل الله التوفيق والسداد، وعليه التكلان.
مفهوم المقاصد:
المقاصد لغة: جمع مَقْصَد، من قصد الشيء، وقصد له، وقصد إليه قصدًا، من باب ضرب، بمعنى طلبه، وأتى إليه، واكتنزه، وأثبته.. والقصد: هو طلب الشيء، أو إثبات الشيء، أو الاكتناز في الشيء، أو العدل فيه[1].
ومقاصد الشريعة في اصطلاح العلماء هي: الغايات والأهداف والنتائج والمعاني التي أتت بها الشريعة، وأثبتتها في الأحكام، وسعت إلى تحقيقها وإيجادها والوصول إليها في كل زمان ومكان[2].
تحديد مقاصد الشريعة:
إن الله تعالى خلق الإنسان على أحسن تقويم، وكرّم بني آدم غاية التكريم، وفضلهم على سائر المخلوقات، وسخر لهم ما في الأرض جميعًا وما في السموات وجعلهم الخلفاء في الأرض.
وإن الله تعالىلم يخلق الإنسان عبثًا، ولم يتركه سدى، وإنما أرسل له الرسل والأنبياء، وأنزل عليهم الكتب والشرائع، إلى أن ختم الله الرسل بسيدنا محمدصلى الله عليه وسلم: (( رَّسُولَ ?للَّهِ وَخَاتَمَ ?لنَّبِيّينَ )) (الأحزاب:40)، وختم الكتب والشرائع بالقرآن العظيم وشريعة الإسلام، فأكمل به الدين : (( ?لْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِى وَرَضِيتُ لَكُمُ ?لأسْلاَمَ دِيناً )) (المائدة:3).(1/49)
وتهدف هذه الشريعة إلى تحقيق السعادة للإنسان في الدنيا لتحقيق خلافته في الأرض، فجاءت أحكامها لتأمين مصالحه، وهي جلب المنافع له، ودفع المضار عنه، فترشده إلى الخير، وتهديه إلى سواء السبيل، وتدله على البر، وتأخذ بيده إلى الهدي القويم، وتكشف له المصالح الحقيقية، ثم وضعت له الأحكام الشرعية لتكون سبيلاً ودليلاً لتحقيق هذه المقاصد والغايات، وأنزلت عليه الأصول والفروع لإيجاد هذه الأهداف، ثم لحفظها وصيانتها، ثم لتأمينها وضمانها وعدم الاعتداء عليها.
وحدد العلماء مقاصد الشريعة بأنها تحقيق مصالح الناس في الدنيا والآخرة، أو في العاجل والآجل، قال العز بن عبد السلام رحمه الله تعالى: "اعلم أن الله سبحانه لم يشرع حكمًا من أحكامه إلا لمصلحة عاجلة أو آجلة، أو عاجلة وآجلة، تفضلاً منه على عباده"، ثم قال: "وليس من آثار اللطف والرحمة واليسر والحكمة أن يكلف عباده المشاق بغير فائدة عاجلة ولا آجلة، لكنه دعاهم إلى كل ما يقربهم إليه"[3].. ومصالح الناس في الدنيا هي كل ما فيه نفعهم وفائدتهم وصلاحهم وسعادتهم وراحتهم، وكل ما يساعدهم على تجنب الأذى والضرر، ودفع الفساد، إن عاجلاً أو آجلاً.
وقد وردت الأحكام الشرعية لجلب المصالح للناس، ودفع المفاسد عنهم، وأن كل حكم شرعي إنما نزل لتأمين أحد المصالح، أو لدفع أحد المفاسد، أو لتحقيق الأمرين معًا.
وما من مصلحة في الدنيا والآخرة إلا وقد رعاها المشرع، وأوجد لها الأحكام التي تكفل إيجادها والحفاظ عليها.
وإن الشرع الحكيم لم يترك مفسدة في الدنيا والآخرة، في العاجل والآجل، إلا بينها للناس، وحذرهم منها، وأرشدهم إلى اجتنابها والبعد عنها، مع إيجاد البديل لها[4].(1/50)
والدليل على ذلك الاستقراء الكامل للنصوص الشرعية من جهة، ولمصالح الناس من جهة ثانية، وأن الله لا يفعل الأشياء عبثًا في الخلق والإيجاد والتهذيب والتشريع، وأن النصوص الشرعية في العقائد والعبادات، والأخلاق والمعاملات، والعقود المالية، والسياسة الشرعية، والعقوبات، وغيرها، جاءت معللة بأنها لتحقيق المصالح ودفع المفاسد.
فالعقيدة بأصولها وفروعها جاءت لرعاية مصالح الإنسان في هدايته إلى الدين الحق، والإيمان الصحيح، مع تكريمه والسمو به عن مزالق الضلال والانحراف، وإنقاذه من العقائد الباطلة، والأهواء المختلفة، والشهوات الحيوانية، فجاءت أحكام العقيدة لترسيخ الإيمان بالله تعالى، واجتناب الطاغوت، ليسمو الإنسان بعقيدته وإيمانه إلى العليا، وينجو من الوقوع في شرك الوثنية، وتأليه المخلوقات من بقر وقرود، وشمس وقمر، ونجوم وشياطين، وإنس وجن، ويترفع عن الأوهام والسخافات والخيالات، والأمثلة على ذلك واضحة وصريحة وكثيرة، من التاريخ القديم والحديث، ومذكورة في النصوص الشرعية.
وفي مجال العبادات وردت نصوص كثيرة تبين أن الحكمة والغاية من العبادات إنما هي تحقيق مصالح الإنسان، وأن الله تعالى غني عن العبادة والطاعة، فلا تنفعه طاعة ولا تضره معصية، وأن العبادات تعود منافعها للإنسان في كل ركن من أركانها، أو فرع من فروعها، والنصوص الشرعية صريحة في ذلك وكثيرة.
وفي المعاملات بيّن الله تعالى الهدف والحكمة منها، وأنها لتحقيق مصالح الناس بجلب النفع والخير لهم، ودفع المفاسد والأضرار والمشاق عنهم، وإزالة الفساد والغش والحيف والظلم من العقود، لتقوم على المساواة والعدل بين الأطراف.
وتتجلى مصالح العباد في تحريم الخبائث والمنكرات لدفع الفساد والضرر عن الإنسان، وحمايته من كل أذى أو وهن.(1/51)
وتظهر مصالح الإنسان بشكل قطعي في الدعوة إلى مكارم الأخلاق، وحسن التعامل، والإحسان إلى الإنسان، وتجنب الإساءة إليه ولو بالحركة والإشارة والكلمة واللسان، واليد والتصرفات، لتسود المودة بين الناس، ويكونوا كما صورهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: "مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى"[5]، وهذا يوجب بيان أهمية معرفة المقاصد.
أهمية معرفة المقاصد وفوائدها:
إن تحديد الهدف والمقصد لعمل ما، هو الباعث لأدائه، والمحرك لتحقيقه، والدافع لإنجازه والامتثال له، والموضح للغاية منه.
كما أن الهدف والمقصد يحدد الطريق السوي للوصول إليه، لاختصار الوقت، واختيار المنهج الأمثل له، حتى لا تتشعب الأهواء وتتبدد الجهود.. وإن معرفة مقاصد الشريعة في أحكامها وفروعها لها أهمية عظيمة وفوائد كثيرة، للمسلم عامة، وللباحث والعالم والفقيه والمجتهد خاصة، وتتجلى في الأمور التالية:
1- إن معرفة المقاصد تبين الإطار العام للشريعة، والتصور الكامل للإسلام، وتوضح الصورة الشاملة للتعاليم والأحكام، لتتكون النظرة الكلية الإجمالية للفروع، وبذلك يعرف الإنسان ما يدخل في الشريعة، وما يخرج منها.. فكل ما يحقق مصالح الناس في العاجل والآجل، في الدنيا والآخرة، فهو من الشريعة، ومطلوب من المسلم (فهو واجب عليه، وحق لغيره، وبالعكس).. وكل ما يؤدي إلى الفساد والضرر والمشقة والاضطراب فهو ليس من الشريعة، بل هو منهي عنه، فيحرم على المسلم فعله لأنه يضر بنفسه أو بغيره، ويجب على الآخرين الامتناع عنه رعاية لحق سائر الناس[6].(1/52)
2- إن معرفة مقاصد الشريعة تبين الأهداف السامية التي ترمي إليها الشريعة في الأحكام، وتوضح الغايات الجليلة التي جاءت بها الرسل وأنزلت لها الكتب، فيزداد المؤمن إيمانًا إلى إيمانه، وقناعة في وجدانه، ومحبة لشريعته، وتمسكًا بدينه، وثباتًا على صراطه المستقيم، فيفخر برسوله، ويعتز بإسلامه، وخاصة إذا قارن ذلك مع بقية التشريعات والديانات والأنظمة الوضعية.
3- إن مقاصد الشريعة تعين في الدراسة المقارنة على ترجيح القول الذي يحقق المقاصد، ويتفق مع أهدافها في جلب المنافع ودفع المفاسد، مثل مراعاة جانب الفقراء في الزكاة، ورعاية جانب الصغار والأيتام والوقف في المعاملات، وهي المنارة والمشكاة التي تضئ للحكام في السياسة الشرعية، وقضاء المظالم، وفيما لا نص فيه.. كما تساعد المقاصد على الترجيح عند تعارض الأدلة الكلية والجزئية في الفروع والأحكام، مما يؤكد أن التعارض ظاهري بين الأدلة، ويحتاج إلى معرفة السبيل للتوفيق بينها، قال تعالى: (( أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ ?لْقُرْءانَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ ?للَّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ ?خْتِلَـ?فاً كَثِيراً)) (النساء:82).
4- إن بيان مقاصد الشريعة يبرز هدف الدعوة الإسلامية التي ترمي إلى تحقيق مصالح الناس، ودفع المفاسد عنهم، وذلك يرشد إلى الوسائل والسبل التي تحقق السعادة في الدنيا، والفوز برضوان الله في الآخرة.(1/53)
وإن مهمة الأنبياء والرسل كانت تهدف إلى تحقيق هذه المقاصد، وإن العلماء ورثة الأنبياء في الدعوة إلى الصلاح والإصلاح، وتسعى للخير والبر والفضيلة، وتحذر من الفساد والإثم والرزيلة والشر، لذلك كانت وظائف الأنبياء أنبل الأعمال وأشرف الأمور في تقرير حقوق الإنسان، وهي أسمى الغايات وأقدس المهمات، ومن سار على طريقهم لحق بهم، ونال أجرهم، ولذلك يحرص الدعاة والمصلحون إلى اقتفاء الرسل، والدعوة إلى التزام الشرع الحنيف لتحقيق السعادة لبني الإنسان، ومنع الاعتداء على حقوقه، أو تجاوز حدوده.
5- إن مقاصد الشريعة تنير الطريق في معرفة الأحكام الشرعية الكلية والجزئية من أدلتها الأصلية والفرعية المنصوص عليها، وتعين الباحث والمجتهد والفقيه إلى فهم النصوص الشرعية وتفسيرها بشكل صحيح عند تطبيقها على الوقائع، كما ترشد إلى الصواب في تحديد مدلولات الألفاظ الشرعية ومعانيها، لتعيين المعنى المقصود منها، لأن الألفاظ والعبارات قد تتعدد معانيها، وتختلف مدلولاتها، فتأتي المقاصد لتحديد المعنى المقصود منها.
6- إذا فقد النص على المسائل والوقائع الجديدة، رجع المجتهد والفقيه والقاضي والإمام إلى مقاصد الشريعة لاستنباط الأحكام بالاجتهاد والقياس والاستحسان، وسد الذرائع والاستصلاح والعرف، بما يتفق مع روح الدين، ومقاصد الشريعة وأحكامها الأساسية.
هذه الفوائد تحتم على الباحث والعالم والفقيه والمجتهد أن يضع مقاصد الشريعة نصب عينيه، لتضئ له الطريق، وتصحح له المسار، وتعينه على الوصول إلى الحق والعدل والصواب والسداد.(1/54)
وقد لمس رجال التشريع هذه الأهمية والفوائد، ولجأت السلطات التشريعية في الدول المعاصرة إلى وضع المذكرة التفسيرية للقانون، أو للنظام، لتبين للناس المقصد العام له، والمقصد الخاص لكل مادة، ليستطيع القضاة والمحامون وشراح القانون من حسن فهم القانون وحسن تطبيقه وتنفيذه والقياس عليه، أو التوسع فيه، أو الحفاظ عليه، أو تطويره، بما يتفق مع روح التشريع والقصد الذي وضع من أجله..وتطلب معظم الأنظمة من القضاة أن يحكموا بمبادئ العدالة، وبما يتفق مع المبادئ العامة عندما يفقدون النص في النظام على أمر ما.
واتفق فقهاء الشريعة على أن تصرفات الإمام أو من ينوب عنه منوطة بالمصلحة، أي أن جميع تصرفات الحكام والمسؤولين مرتبطة بتحقيق مصالح الناس، فإن خرجت من المصلحة إلى المفسدة كانت باطلة، وتعرض أصحابها إلى المسؤولية في الدنيا والآخرة، ووضع الفقهاء القاعدة الفقهية المشهورة: "التصرف على الرعية منوط بالمصلحة"[7].
تقسيم المقاصد بحسب المصالح:
تبين مما سبق أن مقاصد الشريعة هي تحقيق مصالح الناس، ولكن المصالح ليست على درجة واحدة من حيث الأهمية والخطورة وحاجة الناس إليها، وإنما هي على مستويات مختلفة، ودرجات متعددة، فبعض المصالح ضروري وجوهري يتعلق بوجود الإنسان ومقومات حياته، وبعضها يأتي في الدرجة الثانية، ليكون وسيلة مكملة للمصالح الضرورية السابقة، وتساعد الإنسان على الاستفادة الحسنة من جوانب الحياة المختلفة في السلوك والمعاملات وتنظيم العلاقات، وبعض المصالح لا تتوقف عليها الحياة، ولا ترتبط بحاجيات الإنسان، وإنما تتطلبها مكارم الأخلاق والذوق الصحيح، والعقل السليم، لتأمين الرفاهية للناس، وتحقيق الكماليات لهم[8].
ومن هنا حصر العلماء مصالح الناس، وقسموها بحسب أهميتها وخطورتها وأثرها في الحياة وحاجة الناس إليها إلى ثلاثة أقسام، وأن مقاصد الشريعة جاءت لتحقيق هذه المصالح بأقسامها الثلاثة، وهي:
1- المصالح الضرورية:(1/55)
وهي التي تقوم عليها حياة الناس الدينية والدنيوية، ويتوقف عليها وجودهم في الدنيا ونجاتهم في الآخرة، وإذا فقدت هذه المصالح الضرورية اختل نظام الحياة، وفسدت مصالح الناس، وعمّت فيهم الفوضى، وتعرض وجودهم للخطر والدمار والضياع والانهيار، وضاع النعيم في الآخرة، وحل العقاب.
وهذه المصالح الضرورية هي الأساس لحقوق الإنسان، وهي السند لها، والركيزة التي تعتمد عليها، والكوكب الذي تشع منه، سواء كانت حقوقًا عامة تنادي بها جميع الأمم والشعوب والدساتير والمواثيق العالمية، والقوانين والاتفاقات الدولية، وتسمى الحقوق الأساسية للإنسان، ومنها حق الحياة، وحق التدين، وحق الحرية، وحق المساواة، أم كانت حقوقًا فرعية وخاصة، وكلا النوعين هي واجبات على الآخرين يجب عليهم الالتزام بها، وحفظها لأصحابها، لأن كل حق يقابله واجب، والحق هو مصلحة مقررة شرعًا أو قانونًا، فالحق منفعة تثبت لإنسان على آخر، فالحق مصلحة قررها الشرع أو القانون، لينتفع بها صاحبها، ويتمتع بمزاياها، وبالتالي تكون واجبًا والتزامًا على آخر يؤديه، لتحقق الغاية منها [9].
- حصر المصالح الضرورية:
وتنحصر المصالح الضرورية للناس في نظر الإسلام في خمسة أشياء، وهي الدين، والنفس، والعقل، والنسل أو العرض أو النسب، والمال.
وجاءت الشريعة الغراء لحفظ هذه المصالح الضرورية، وذلك بتشريع الأحكام التي تحفظ الدين، وتحفظ النفس، وتحفظ العقل، وتحفظ النسل أو العرض أو النسب، وتحفظ المال[10].
واتفقت الشرائع السماوية على مراعاة هذه الحقوق الأساسية والمصالح الضرورية للناس، فنادت بها، وحرصت عليها، وعملت على حمايتها وحفظها.(1/56)
قال حجة الإسلام الغزالي رحمه الله تعالى: "ومقصود الشرع من الخلق خمسة: وهو أن يحفظ عليهم دينهم، ونفسهم، وعقلهم، ونسلهم، ومالهم، فكل ما يتضمن حفظ هذه الأصول الخمسة فهو مصلحة، وكل ما يفوت هذه الأصول فهو مفسدة، ودفعها مصلحة" ثم قال: "وهذ الأصول الخمسة حفظها واقع في رتبة الضرورات، فهي أقوى المراتب في المصالح"[11].
ثم قال الغزالي: "وتحريم تفويت هذه الأمور الخمسة، والزجر عنها، يستحيل ألا تشتمل عليه ملة من الملل، وشريعة من الشرائع التي أريد بها إصلاح الخلق، ولذا لم تختلف الشرائع في تحريم الكفر، والقتل، والزنى، والسرقة، وشرب المسكر"[12].
2- المصالح الحاجية:
وهي الأمور التي يحتاجها الناس لتأمين شؤون الحياة بيسر وسهولة، وتدفع عنهم المشقة، وتخفف عنهم التكاليف، وتساعدهم على تحمل أعباء الحياة، وإذا فقدت هذه الأمور لا يختل نظام الحياة، ولا يتهدد وجود الناس، ولا ينتابهم الخطر والدمار والفوضى، ولكن يلحقهم الحرج والضيق والمشقة، ولذلك تأتي الأحكام التي تحقق هذه المصالح الحاجية للناس، لترفع عنهم العسر، وتيسر لهم سبل التعامل، وتساعدهم على صيانة مصالحهم الضرورية وتأديتها، والحفاظ عليها عن طريق الأحكام الحاجية، كالرخص في العبادات، وأحكام المعاملات[13]، كما سيأتي بيانها.
3- المصالح التحسينية:
وهي الأمور التي تتطلبها المروءة والآداب والذوق العام، ويحتاج إليها الناس لتسيير شؤون الحياة على أحسن وجه، وأكمل أسلوب، وأقوم نهج، وإذا فقدت هذه الأمور فلا تختل شؤون الحياة، ولا ينتاب الناس الحرج والمشقة، ولكن يحسون بالضجر والخجل، وتتقزز نفوسهم، وتستنكر عقولهم، وتأنف فطرتهم من فقدها.
وهذه الأمور التحسينية ترجع إلى ما تقتضيه الأخلاق الفاضلة، والأذواق الرفيعة، وتكمل المصالح الضرورية، والمصالح الحاجية على أرفع مستوى وأحسن حال[14].
الوسائل الشرعية لتحقيق المقاصد:(1/57)
جاءت الشريعة الإسلامية لتأمين المصالح جميعها، بأن نصت على كل منها، وبينت أهميتها، وخطورتها ومكانتها، في تحقيق السعادة للإنسان، ثم شرعت الأحكام لتحقيقها.
ويدل الاستقراء والبحث والدراسة والتأمل بأن الشرع الحنيف جاء لتحقيق مصالح الناس الضرورية والحاجية والتحسينية، وأن الأحكام الشرعية كلها إنما شرعت لتحقيق هذه المصالح، وأنه ما من حكم شرعي إلا قصد به تحقيق أحد هذه المصالح أو أكثر، بحيث يكفل التشريع جميع المصالح بأقسامها الثلاثة.
وكان منهج التشريع الإسلامي لرعاية هذه المصالح باتباع طريقين أساسيين: الأول: تشريع الأحكام التي تؤمن تكوين هذه المصالح وتوفر وجودها.. الثاني: تشريع الأحكام التي تحفظ هذه المصالح وترعاها وتصونها، وتمنع الاعتداء عليها أو الإخلال بها، وتؤمن الضمان والتعويض عنها عند إتلافها أو الاعتداء عليها[15]، وبذلك تصان حقوق الإنسان، وتحفظ، وينعم الناس بها، ويتمتعون بإقرارها عمليًا في الحياة، وهو ما نريد تفصيله.
أولاً: حفظ الدين، وحق التدين:
الدين الحق مصلحة ضرورية للناس، لأنه ينظم علاقة الإنسان بربه، وعلاقة الإنسان بنفسه، وعلاقة الإنسان بأخيه الإنسان ومجتمعه، والدين الحق يعطي التصور الرشيد عن الخالق، والكون، والحياة، والإنسان، وهو مصدر الحق والعدل، والاستقامة، والرشاد.
والدين الذي نقصده هو الإسلام بمعناه الكامل، الذي يعني الاستسلام لله سبحانه وتعالى، ودعا له الأنبياء جميعًا، وخصه ربنا بقوله: (( إِنَّ الدّينَ عِندَ ?للَّهِ ?لإِسْلَـ?مُ)) (آل عمران:19)، وقوله تعالى : (( وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ ?لإسْلَـ?مِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِى ?لاْخِرَةِ مِنَ ?لْخَـ?سِرِينَ )) (آل عمران:85).(1/58)
وقد شرع الإسلام أحكام الدين، وتكفل الله تعالى بيانه للناس منذ لحظة وجودهم على الأرض، فقال تعالى: (( وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ ?لإسْلَـ?مِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِى ?لاْخِرَةِ مِنَ ?لْخَـ?سِرِينَ )) (البقرة:38)، وأناط الله تعالى التكليف والمسؤولية بعد بيان الدين، فقال سبحانه وتعالى: (( وَمَا كُنَّا مُعَذّبِينَ حَتَّى? نَبْعَثَ رَسُولاً)) (الإسراء:15).
فبين الشرع أحكام العقيدة والإيمان كاملة في آيات كثيرة، وشرع الإسلام أركان الدين الخمسة، وبيّن أنواع العبادات وكيفيتها، لتنمية الدين في النفوس، وترسيخه في القلوب، وإيجاده في الحياة والمجتمع، ونشره في أرجاء المعمورة، وأوجب الدعوة إليه بالحكمة والموعظة الحسنة، لإخراج الناس من الظلمات إلى النور.
ومن أجل حفظ الدين ورعايته، وضمانه سليمًا، وعدم الاعتداء عليه، ومنع الفتنة فيه، شرع الإسلام الجهاد في سبيل الله، فقال تعالى: (( وَقَـ?تِلُوهُمْ حَتَّى? لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ ?لدّينُ للَّهِ)) (البقرة:193)، وقال سبحانه وتعالى: ((وَجَـ?هِدُوا فِى ?للَّهِ حَقَّ جِهَـ?دِهِ))(الحج:78)، وقال تعالى: ((ي?أَيُّهَا ?لنَّبِىُّ جَـ?هِدِ ?لْكُفَّـ?رَ وَ?لْمُنَـ?فِقِينَ وَ?غْلُظْ عَلَيْهِمْ )) (التوبة:73).
وشرع الإسلام عقوبة المرتد، لأن ردته عبث في الدين والمقدسات، قال تعالى: (( وَمَن يَرْتَدِدْ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُوْلئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَـ?لُهُمْ فِي ?لدُّنْيَا وَ?لاْخِرَةِ وَأُوْلئِكَ أَصْحَـ?بُ ?لنَّارِ هُمْ فِيهَا خَـ?لِدُونَ)) (البقرة:217)، واتفق الفقهاء على وجوب قتل المرتد لقوله صلى الله عليه وسلم: "من بدل دينه فاقتلوه"[16]، وقوله عليه الصلاة والسلام: "لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث: الثيب الزاني، والنفس بالنفس، والتارك لدينه المفارق للجماعة"[17].(1/59)
وشرع الإسلام -لحماية الدين- عقوبة المبتدع، والمنحرف عن دينه، وطلب الأخذ على يد تارك الصلاة، ومانع الزكاة، والمفطر في رمضان، والمنكر لما عُلِم من الدين بالضرورة، وغير ذلك، لإبعاد الناس عن الخبط في العقائد، والعزوف عن منابع الإيمان، ولحفظهم عن مفاسد الشرك، ولإنقاذهم من وساوس الشياطين، وعدم الوقوع في الانحراف والضلال، وحتى لا يسفَّ العقل في تأليه الطواغيت وعبادتها، فينقذ البشرية من الاعتقادات الباطلة، والعبادات المزيفة، والترانيم السخيفة[18].
ولم يقتصر الإسلام على أحكام إيجاد الدين وحفظه، بل شرع الأحكام الحاجية لصيانة الدين، وبقائه على أحسن صورة، وأجملها، فشرع الرخص في العبادات والعقيدة لرفع الحرج والمشقة عند الناس للتخفيف عنهم، فأجاز النطق بالكفر عند الإكراه، وأباح الفطر في رمضان للأعذار، وشرع قصر الصلاة وجمعها للمسافر والحاج، وأجاز للعاجز صلاة الفرض قاعدًا أو مستلقيًا على جنب، وأباح التيمم والمسح على الجبيرة، والمسح على الخفين.
ثم شرع الإسلام الأحكام التحسينية للناس للحفاظ على الدين، فشرع الله في العبادات أحكامًا متنوعة، لتكون العبادة على أقوم السبل، كالطهارة وستر العورة، وأخذ الزينة عند كل مسجد، والتطوع بنوافل العبادات، وإقامة المساجد، والنداء للصلاة بالآذان، وهو شعار الإسلام لإعلان التوحيد الخالص.. وشرع صلاة الجماعة، وترتيب الصفوف للصلاة، وخطبة الجمعة، والعيدين، لتعليم الناس دينهم ودنياهم.. وفي الجهاد حرّم قتل النساء والصبيان والرهبان، ومنع قطع الشجر وإتلاف المزروعات، ونهى عن الغدر والتمثيل بالقتلى، وطلب الإحسان في معاملة الأسرى، وفرض التبليغ قبل الحرب، ومنع الإكراه في الدين.. وهذا يقودنا للتفصيل في أهم حقوق الإنسان الأساسية، وهو حق التدين.
حق التدين:(1/60)
يعتبر حق التدين، أو حرية الاعتقاد، من أهم حقوق الإنسان بعد حق الحياة، إن لم يسبقه معنويًا ويفوق عليه؛ لأن الدين أحد الضروريات الخمس، وهو أهم الضروريات، ويقدم على حق الحياة، لذلك شُرع الجهاد في سبيل الدين، وشرع الجهاد بالنفس والاستشهاد في سبيل الدعوة والحفاظ على الدين، لضمان حرية العقيدة، وحق التدين، ليحيا الإنسان الحياة الكريمة العزيزة، منسجمًا مع معتقده ودينه، وخاصة إذا كان الدين هو الحق الثابت، المنزل من الله تعالى، المحفوظ من التحريف والتبديل، المنسجم مع الفطرة والواقع، والتصور الصحيح عن الكون والحياة والإنسان.
وحق التدين مرتبط بالعقل والفكر، وحرية الإرادة والاختيار والقناعة الشخصية للإنسان، والعقيدة تنبع من القلب، ولا سلطان لأحد عليها إلا لله تعالى.
لذلك نص القرآن الكريم على حرية الاعتقاد وحق التدين صراحة، مع التحذير من الضلال والفساد، فقال تعالى: ((لا إِكْرَاهَ فِى ?لدّينِ قَد تَّبَيَّنَ ?لرُّشْدُ مِنَ ?لْغَيّ)) (البقرة: 256) ، وقال تعالى: (( وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لآمَنَ مَن فِى ?لاْرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنتَ تُكْرِهُ ?لنَّاسَ حَتَّى? يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ )) (يونس:99).. وأرشد القرآن إلى الدين الحق، وهو دين الفطرة، فقال تعالى: ((فِطْرَةَ ?للَّهِ ?لَّتِى فَطَرَ ?لنَّاسَ عَلَيْهَا لاَ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ ?للَّهِ ذَلِكَ ?لدّينُ ?لْقَيّمُ )) (الروم:30).
ثم هدد القرآن من أعرض عن الإيمان الصحيح بالله تعالى، وبشريعته الغراء، فقال تعالى: (( وَقُلِ ?لْحَقُّ مِن رَّبّكُمْ فَمَن شَاء فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاء فَلْيَكْفُرْ)) (الكهف:29)، لأن الإنسان يولد أصلاً على الفطرة، حتى يبدلها بفعل إنساني، أو إيحاء شيطاني، فقال صلى الله عليه وسلم: "كل مولود يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه"[19].
التسامح الديني:(1/61)
إن الإسلام ضمن حرية الاعتقاد للمسلمين أولاً، ومنع الإكراه على الدين ثانيًا، وقرر التسامح الديني مع سائر الأديان، مما لا يعرف التاريخ له مثيلاً، ويظهر ذلك في المبادئ التالية:
1- حرية الاعتقاد لغير المسلم:
إن الإسلام لا يلزم الإنسان البالغ العاقل على الدخول في الإسلام، مع القناعة واليقين أن الإسلام هو الدين الحق المبين، وأن عقيدته هي الصواب والصراط المستقيم، وأنها المتفقة مع العقل، ومع ذلك يترك للإنسان البالغ حرية الاعتقاد، واختيار الدين الذي يريده، على أن يتحمل نتيجة هذ الاختيار، لما ورد في الآية السابقة: ((لا إِكْرَاهَ فِى ?لدّينِ قَد تَّبَيَّنَ ?لرُّشْدُ مِنَ ?لْغَيّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِ?لطَّـ?غُوتِ وَيُؤْمِن بِ?للَّهِ فَقَدِ ?سْتَمْسَكَ بِ?لْعُرْوَةِ ?لْوُثْقَى? لاَ ?نفِصَامَ لَهَا))(البقرة:256).
وأكد القرآن هذه المعاني في عدة آيات، فقال الله تعالى: ((وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لآمَنَ مَن فِى ?لاْرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنتَ تُكْرِهُ ?لنَّاسَ حَتَّى? يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ)) (يونس:99)، وقال تعالى: ((لَّيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَـ?كِنَّ ?للَّهَ يَهْدِى مَن يَشَاء)) (البقرة:272). فالهداية من الله تعالى.. والرسول صلى الله عليه وسلم والدعاة والعلماء من بعده، مجرد مبلغين وناصحين ومذكرين، قال تعالى: ((فَذَكّرْ إِنَّمَا أَنتَ مُذَكّرٌ (21) لَّسْتَ عَلَيْهِم بِمُسَيْطِرٍ)) (الغاشية:21-22).
وبالتالي فإن الإسلام يترك للإنسان حريته واختياره في العقيدة؛ لأن الإيمان أساسه إقرار القلب وتسليمه، وليس مجرد كلمة تلفظ باللسان، أو طقوس وحركات تؤدي بالأبدان. ولكن القرآن دعا إلى إعمال العقل، وإجهاد الفكر لمعرفة الحق، والوصول إلى الخالق الواحد الأحد، وحث لذلك على معرفة الحقائق، واكتشاف أسرار الكون، وخزائن الأرض، مما يجعل التفكير ليس مجرد حق، بل هو فريضة إسلامية وعقلية.
2- احترام بيوت العبادة:(1/62)
وهذا فرع من حرية الاعتقاد واحترام للعقيدة التي يختارها الإنسان، لذلك يترك الإسلام لغير المسلم حرية ممارسة العبادات التي تتفق مع عقيدته، ثم يأمر بالمحافظة على بيوت العبادة التي يمارس فيها شعائره، ويحرم على المسلمين الاعتداء على بيوت العبادة أو هدمها أو تخريبها، أو الاعتداء على القائمين فيها، سواء في حالتي السلم والحرب.. والوثائق التاريخية كثيرة في وصية الخلفاء لقادة الجيوش، وفي المعاهدات التي أبرمت في التاريخ الإسلامي، وعند الفتوحات ومنها الوثيقة العمرية مع أهل بيت المقدس، والدليل المادي الملموس شاهد على ذلك ببقاء أماكن العبادة التاريخية القديمة لليهود والنصارى وغيرهم في معظم ديار الإسلام والمسلمين.
3- المعاملة الإنسانية من المسلم لغير المسلمين:
يطلب الإسلام من المسلم أن يعامل الناس جميعًا بالأخلاق الفاضلة، والمعاملة الحسنة، وحسن المعاشرة، ورعاية الجوار، والمشاركة بالمشاعر الإنسانية في البر والرحمة والإحسان، وهي أمور يومية وشخصية وحساسة وذات تأثير نفسي كبير، بدءًا من معاملة الأبوين المشركين، إلى الإحسان للأسير، إلى الإنفاق على الأقارب وصلة الرحم والجيران غير المسلمين.
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يزور أهل الكتاب، ويكرمهم، ويحسن إليهم، ويعود مرضاهم، وسار المسلمون على سنته ونهجه طوال التاريخ.. وكان هذ السلوك القويم أحسن وسيلة للدعوة للإسلام، والترغيب فيه، والتحبيب بأحكامه، مما دفع الملايين إلى اعتناقه.(1/63)
وإن منهج الإسلام في المعاملة الإنسانية لا يفرق بين الناس في الدين والعقيدة، لذلك أوجب إقامة العدل بين جميع الناس، ومنع الظلم عامة، وحمى الدماء والأبدان والأموال والأعراض للمسلمين ولغير المسلمين، وأمر بالإنصاف ولو مع العداوة واختلاف الدين، قال تعالى: (( يَأَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ للَّهِ شُهَدَاء بِ?لْقِسْطِ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَانُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُواْ ?عْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى? وَ?تَّقُواْ ?للَّهَ إِنَّ ?للَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ )) (المائدة:8).
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من ظلم مُعاهِدًا، أو انتقصه حقًا، أو كلفه فوق طاقته، أو أخذ منه شيئًا بغير طيب نفس منه، فأنا حجيجه يوم القيامة"[20]، وروى الخطيب -بإسناد حسن- أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: "من آذى ذميًا فأنا خصمه، ومن كنت خصمه خصمته يوم القيامة"، وفي رواية للطبراني -في الأوسط- بإسناد حسن، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: "من آذى ذميًا فقد آذاني، ومن آذاني فقد آذى الله"[21].
وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يسأل القادمين من الأقاليم عن حال أهل الذمة، كما يسأل عن المسلمين والولاة والقضاة، وكان علي بن أبي طالب رضي الله عنه، يقول: "إنما بذلوا الجزية لتكون أموالهم كأموالنا ودماؤهم كدمائنا"، وسار على هذا المنهج الخلفاء والولاة.
وكانت هذه المعاملة الأدبية الإنسانية مع غير المسلمين سببًا رئيسًا في ترغيب الناس في الإسلام، ودخولهم في العقيدة، ومشاركتهم في الدين، وانضوائهم تحت راية الإسلام.
4- المعاملة المالية بين المسلمين وغيرهم:
قرر الشرع الإسلامي أن غير المسلم له ما للمسلمين، وعليه ما عليهم، وبالتالي أجاز الإسلام التعامل الكامل مع غير المسلمين، وقرر لهم الحقوق والواجبات نفسها التي وضعها للمسلمين، وكفلها لجميع المواطنين في دار الإسلام.(1/64)
ونتيجة لذلك عاش غير المسلمين في ظلال الخلافة الإسلامية، وفي أحضان المجتمع الإسلامي طوال الأحقاب والقرون، وكانوا ينعمون بالأمن والأمان، والعدل والإحسان، والحرية الدينية، والمشاركة في شؤون الحياة المالية والعلمية والوظائف كما ينعم المسلمون، وأنه إذا وقع ظلم أو اعتداء في بعض فترات التاريخ فإنه يقع مثله على المسلمين، وقد يكون أشد، كما حصل مع اليهود والمسلمين في الأندلس، والمسلمين والنصارى في فلسطين المحتلة، مع التركيز على المعاملة المتميزة لأهل الكتاب في بلاد المسلمين.
وعرف التسامح الإسلامي في التاريخ بصورة مشرقة لم تعرف البشرية له مثيلاً ولا نظيرًا في القديم والحديث، وشهادات المستشرقين والمؤرخين تؤكد ذلك، ويحسن مقارنتها بما فعل الرومان قبل الإسلام مع المخالفين لهم في العقيدة، وما فعله الأسبان في الأندلس، وما ارتكبه الصليبيون في القدس وبلاد الشام، وما يزال يفعله في كثير من بلاد المسلمين اليوم، مما لا مجال للتوسع فيه.
حكم الارتداد عن الإسلام:
وهنا تثار مسألة يظهر فيها شيء من التناقض والتعارض بين حرية التدين والاعتقاد وتحريم الردة عن الإسلام، لما أجمع عليه الفقهاء من اعتبار الردة جريمة كبرى، تستوجب العقاب الشديد في الدنيا، والعقاب الوبيل في الآخرة، لقوله تعالى: (( مَن يَرْتَدِدْ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُوْلئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَـ?لُهُمْ فِي ?لدُّنْيَا وَ?لاْخِرَةِ وَأُوْلئِكَ أَصْحَـ?بُ ?لنَّارِ هُمْ فِيهَا خَـ?لِدُونَ)) (البقرة:217)، وقوله صلى الله عليه وسلم: "من بدل دينه فاقتلوه"[22].(1/65)
والحقيقة أن هذا الحكم الشديد للمرتد هو فرع عن حرية التدين والاعتقاد، لأن الإسلام لا يكره أحدًا على اعتناقه والدخول فيه، إلا إذا حصل عنده القناعة التامة، والرضى الكامل، والإقرار بأن الإسلام حق، فيعلن إسلامه، وينضوي تحت لوائه.. واتفق العلماء على أنه لا يقبل التقليد في العقيدة والإيمان، ولا بد من موافقة العقل والتفكير على ذلك، فإن ارتد بعد ذلك فهو إما أنه دخل الإسلام نفاقاً ورياء، ولمصلحة خسيسة، وبقي الكفر في قلبه، فهذا يتلاعب في العقيدة والمقدسات ونظام الأمة، فيستحق القتل لهذه الجريمة؛ وإما أنه خرج من الإسلام لوسوسة شياطين الإنس والجن، وإغوائهم وإغرائهم، فهنا يستتاب، وتكشف له الحقائق، ويناقش في شبهاته، حتى لا يبقى له حجة، وتزال عنه الأوهام، فإن أصر على الباطل فإنه يقتل لجريمة العبث بالمقدسات والعقائد والأديان، وخروجه عن النظام العام، وخيانته للأمة التي ترعاه، والدولة التي تحميه، فقتل المرتد هو بحد ذاته حماية لحق التدين حتى لا يصبح هذا الحق ألعوبة وسخرية ومهانًا ورخيصًا كسقط المتاع.
لذلك انفرد الإعلان الإسلامي لحقوق الإنسان في هذه النقطة المجمع عليها عن غيره، ونص أنه يتعين على المسلم -بعد أن اهتدى إلى الإسلام بالإيمان الصحيح المقنع بوجود الله تعالى، والاعتراف بوحدانيته، وتصديق نبيه- يتعين عليه الثبات عليه، ونصت المادة العاشرة منه على أنه "لما كان على الإنسان أن يتبع دين الفطرة، فإنه لا يجوز ممارسة أي لون من الإكراه عليه، كما لا يجوز استغلال فقره أو ضعفه أو جهله لتغيير دينه إلى دين آخر، أو إلى الإلحاد".
أما في المواثيق الدولية وإعلانات حقوق الإنسان فإن حق التدين، وحرية الاعتقاد، ليس لها تاريخ بعيد في الغرب وأوروبا خاصة، وسائر أنحاء العالم، وإنما كان الإكراه على الدين هو السائد، والتعصب الديني هو السياسة العامة حتى قامت الثورة الفرنسية وأعلنت حرية التدين.(1/66)
وجاء الإعلان العالمي لحقوق الإنسان فنص على ذلك بتواضع واستحياء، ولم يخصص لذلك مادة مستقلة، وإنما جاء عرضًا ضمن المادة (81) التي تنص "لكل شخص الحق في حرية التفكير والضمير والدين، ويشمل هذا الحق حرية تغيير ديانته أو عقيدته، وحرية الإعراب عنهما بالتعليم والممارسة وإقامة الشعائر ومراعاتها، سواء أن ذلك سرًا أم مع الجماعة".
كما نشير إلى أن الجهاد لم يهدف إلى إكراه أحد على الإسلام، وإنما كان منصبًا على تبليغ الدعوة، وإزالة حكم الطواغيت، وإخراج الناس من عبادة العباد إلي عبادة الله، ومن جَوْر الحكام إلى عدل الإسلام، ولرفع العقبات أمام الدعوة، لتنفيذ حرية العقيدة والتدين، وإزالة الظلم، حتى يتمكن الناس من التفكير في العقيدة، واختيار الدين الحق، والإيمان الصحيح، قال خالد بن الوليد رضي الله عنه: "إنا لا نكره أحدًا على الإسلام، ولو كان الكافر يُقَاتَل حتى يسلم لكان هذا أعظم الإكراه على الدين".
ثانيًا: حفظ النفس وحق الحياة:
المراد بها النفس الإنسانية، وهي ذات الإنسان، وهي مقصودة بذاتها في الإيجاد والتكوين، وفي الحفظ والرعاية.
وشرع الإسلام لإيجادها وتكوينها: الزواج للتوالد والتناسل لضمان البقاء الإنساني، وتأمين الوجود البشري من أطهر الطرق، وأحسن الوسائل، ولاستمرار النوع الإنساني السليم على أكمل وجه وأفضله وأحسنه، ثم حرم الزنى وبقية أنواع الأنكحة الفاسدة الباطلة التي كانت في الجاهلية، وتسود في الظلام، ومنع المومسات والخوادن، واستئجار الرجل لنسله، وتعدد الرجال.
وشرع الإسلام لحفظ النفس وحمايتها، وعدم الاعتداء عليها، وجوب تناول الطعام والشراب واللباس والمسكن، وأوجب القصاص والدية والكفارة، وحرم الإجهاض والوأد.(1/67)
ثم شرع الإسلام الأحكام الحاجية في إيجاد النفس وحمايتها، فطلب رعاية الحمل والجنين، ومنح الحامل والمرضع رخصًا للتخفيف عنهما ورعاية وضعهما، ثم وضع الأحكام للأولاد بدءًا من الولادة في التسمية والحضانة والتربية والتأديب، والغذاء الحلال، والتعليم حتى البلوغ.
كما شرع الإسلام الطلاق، كدواء لأمراض الزوجية المستعصية، وهو أبغض الحلال إلى الله، وجعل الدية على العاقلة في القتل الخطأ، تخفيفًا على القاتل، وأن الحدود تدرأ بالشبهات، ورغب ولي القتيل بالعفو عن القصاص والإحسان إلى الجاني.
وفي سبيل حماية النفس، حرم الإسلام الانتحار، لأنه اعتداء على النفس الإنسانية، وشرع القصاص في النفس والأعضاء والجروح لحماية النفس من جهة، وإبقائها على أحسن صورة خلقها الله تعالى، ونص القرآن الكريم على الحكمة من القصاص، فقال تعالى: ((وَلَكُمْ فِي ?لْقِصَاصِ حَيَو?ةٌ يأُولِي ?لالْبَـ?بِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ)) (البقرة:179).
وأثنى الله تعالى على المتقين الذين يعفون، ثم يحسنون، فقال تعالى: (( ?لَّذِينَ يُنفِقُونَ فِى السَّرَّاء وَ?لضَّرَّاء وَ?لْكَـ?ظِمِينَ ?لْغَيْظَ وَ?لْعَـ?فِينَ عَنِ ?لنَّاسِ وَ?للَّهُ يُحِبُّ ?لْمُحْسِنِينَ)) (آل عمران:134).(1/68)
وشرع الله الأحكام الحاجية والتحسينية لحفظ النفس، والحفاظ الكامل على الذات الإنسانية، فشرع الكسب للرزق الحلال الطيب، وأباح الطيبات من المطعومات والثمار، واهتم برعاية الجسم رعاية كاملة، فدعا إلى النظافة والطهارة، وندب إلى الرياضة والمبارزة، واعتبر الجسم السليم والقوة الجسدية ميزة في الأشخاص، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف، وفي كلٍ خير، احرص على ما ينفعك، واستعن بالله ولا تعجز، وإن أصابك شيء، فلا تقل: لو أني فعلت كذا لكان كذا، ولكن قل: ما قدر الله وما شاء فعل، فإن لو تفتح عمل الشيطان"[23]، وفي الحديث علاج لأمراض النفس، لمنع التردد والقلق والاضطراب.
ونلاحظ أن الحديث جمع بين القوة الجسدية والقوة النفسية والمعنوية، ثم ربط الأمرين بالإيمان بالله تعالى، وبالتسليم بالقضاء والقدر.(1/69)
وطلب الإسلام البعد عن كل ما فيه هلاك محقق للجسم، أو خطر محدق، أو ضرر منتظر، وحرم كل ما يضر بالجسم، أو يوهنه، أو يضعفه، واتخذ جميع الوسائل لحفظ الحياة، وبذل الطاقة في صيانتها وسلامتها، والعناية بكمال الصفات، وكمال البدن، وحرم لحم الخنزير والميتة والدم، لضررها بالجسم وفساد تركيبها، وحذّر من الأمراض، وخاصة المعدية، وشرع التداوي، وأباح الزينة، وطلب الاعتدال في الطعام والإنفاق والشراب، وغيرها من الطيبات، وأنكر الامتناع عن الطعام زهدًا وتقشفًا، ونهى عن التبتل في العبادة، لأنه يضني الجسم، وحرم صوم الوصال، ومنع صيام الدهر، وجعل التكليف بقدر الاستطاعة، وفتح أبواب الرخص في العبادة والأحكام خشية العنت والمشقة، وصرح الفقهاء بقاعدة "صحة الأبدان مقدمة على صحة الأديان"، وأقام الإسلام منهجًا سديدًا لتنظيم الغرائز المختلفة والميول المتباينة، والعواطف المتعددة، وحرص على التوازن بينها، دون أن تطغى غريزة على أخرى، فيقع الإنسان في المهالك، وينتابه الشذوذ، أو تتحكم فيه الأهواء والشهوات، وتصرفه عن الجوانب العقلية والنفسية والروحية، فيختل نظام الإنسان والحياة.
حق الحياة:
يعتبر حق الحياة أول الحقوق الأساسية وأهمها بين حقوق الإنسان، وهو الحق الأول للإنسان، وبعده تبدأ سائر الحقوق، وعند وجوده تطبق بقية لحقوق، وعند انتهائه تنعدم الحقوق.
وحق الحياة هو حق للإنسان في الظاهر، ولكنه في الحقيقة منحة من الله تعالى الخالق البارئ، وليس للإنسان فضل في إيجاده، وكل اعتداء عليه يعتبر جريمة في نظر الإسلام[24].(1/70)
ولكن هذا الحق اعتراه الخلل والخطر في أحقاب التاريخ، فكانت بعض الشرائع تجيز قتل الأرقاء، ويتولى - أحيانًا - رئيس العائلة أو القبيلة أو الملك والسلطان حق الحياة والموت على الأفراد، وكان الأب - في الجاهلية- يحق له وأد البنات، ولا يزال هذا الخطر الداهم يهدد الإنسان حتى في الوقت الحاضر، وكثيرًا ما يقتل الأبرياء جورًا وظلمًا وعدوانًا لأوهى الحجج، وأسخف المسوغات التي لا يقرها العقل والشرع، وكثيرًا ما تكون حياة الإنسان محلاً للتجارب عند صنع الأدوية وأدوات التدمير الشامل.
ثم جاءت المواثيق المعاصرة تؤكد على حق الحياة، فنص الإعلان العالمي لحقوق الإنسان على ذلك، فقال: "لكل فرد الحق في الحياة والحرية وسلامة شخصه" (المادة/3)، ونصت الاتفاقية الدولية لحقوق الإنسان المدنية والسياسية، أنه "لكل إنسان الحق الطبيعي في الحياة، ويحمي القانون هذا الحق، ولا يجوز حرمان أي فرد من حياته بشكل تعسفي" (م/6ف1)، ونص الإعلان الإسلامي لحقوق الإنسان على هذا الحق بصيغة إسلامية، فقال: "الحياة هبة الله، وهي مكفولة لكل إنسان، وعلى الأفراد والمجتمعات والدول حماية هذا الحق من كل اعتداء عليه، ولا يجوز إزهاق روح دون مقتضى شرعي" (م/2ف).
فحق الحياة حق مقدس ومحترم في نظر الشريعة الإسلامية، ويجب حفظه ورعايته وعدم الاعتداء عليه، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كل المسلم على المسلم حرام: دمه وماله وعرضه"[25]، وجاء في خطبة الوداع: "إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم حرام عليكم كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا"[26].
وحق الحياة مكفول في الشريعة لكل إنسان حتى للجنين.. ويجب على سائر الأفراد أولاً، والمجتمع ثانيًا، والدولة ثالثًا، حماية هذا الحق من كل اعتداء، مع وجوب تأمين الوسائل اللازمة لضمانه، من الغذاء والطعام والدواء والأمن، وعدم الانحراف. وينبني على ذلك عدة أحكام شرعية نذكرها باختصار شديد:(1/71)
1- تحريم قتل الإنسان: إلا لأسباب محددة، لأن حق الحياة مصون ومقدس بالنصوص القاطعة والدامغة، لما ورد في الحديثين السابقين ، ولقوله تعالى: (( وَلاَ تَقْتُلُواْ ?لنَّفْسَ ?لَّتِى حَرَّمَ ?للَّهُ إِلاَّ بِ?لْحَق)) (الأنعام:151)، وقرر القرآن الكريم العقوبة المناسبة للقاتل، وهو القصاص، مع الإشارة إلى حكمته من ذلك، فقال الله سبحانه وتعالى: ((وَلَكُمْ فِي ?لْقِصَاصِ حَيَو?ةٌ يأُولِي ?لالْبَـ?بِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ)) (البقرة:179)، وقال تعالى: (( يأَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ ?لْقِصَاصُ فِي ?لْقَتْلَى)) (البقرة:178)، فإن وقع القتل خطأ فيجب الدية تعويضًا للمجني عليه وورثته، مع الكفارة على الجاني[27].
2- تحريم الانتحار: لأن الحياة ليست في الحقيقة ملكاً لصاحبها، بل هي هبة من الله تعالى، والروح أمانة في يد صاحبها، فلا يحل له الاعتداء عليها، ولذلك اعتبر الإسلام الانتحار جريمة شنيعة، وأن لصاحبه أشد الإثم والعقاب في الآخرة، لما روى الشافعي رحمه الله، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: "من قتل نفسه بشيء من الدنيا عُذّب به يوم القيامة"[28].
3- تحريم الإذن بالقتل: وهذا فرع عن الأمر السابق، ويثبت الإثم للآذن وللمأذون له إن نفذ، لأن حق الحياة لا يجوز التصرف فيه إلا لله تعالى المحيي المميت.
4- تحريم المبارزة: وهي الاقتتال بين شخصين لإثبات حق، أو لدفع العار والإهانة، لقوله صلى الله عليه وسلم: "إذا التقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار، قالوا: يا رسول الله، ما بال المقتول؟ قال: كان حريصًا على قتل صاحبه"[29].
5- تحريم الإجهاض: وهو قتل الجنين في الرحم، فإن حصل عمدًا، وباعتداء، وجب فيه الغُرة، وهي نصف عشر الدية، وإن نزل حيًا ثم مات فتجب فيه الدية كاملة.
6- إباحة المحظورات للحفاظ على الحياة: وذلك باتفاق الفقهاء للقاعدة: "الضرورات تبيح المحظورات".(1/72)
7- حرمة إفناء النوع البشري: وذلك عندما يستعر القتال بين قبيلتين أو شعبين، أو تكتل دولي ضد آخر، أو ضد شعب أو أمة، ولذلك حرص الإعلان الإسلامي لحقوق الإنسان على التحذير من هذا الوباء، وخاصة في عصرنا الحاضر الذي تطورت فيه الأسلحة الفتاكة والمدمرة، كالقنابل الذرية أو النووية أو الجرثومية أو الكيميائية أو المشعة، وغيرها من أسلحة الدمار الشامل والفتك الإجرامي الذي يصيب الأبرياء والأطفال والشيوخ حتى أثناء الحرب.
ومن هذا المنطلق حرم جمهور العلماء فكرة تحديد النسل، والقضاء على الذرية، ولم يسمحوا إلا في صور محددة لتنظيمه وترشيده.
ويلحق بحق الحياة وجوب المحافظة على الكرامة الإنسانية، لأن الإنسان جسد فيه الحياة، وروح تتسامى في العلياء، وعقل يقدر الأشياء، فلا يقتصر حق الحياة على الجسد مع المهانة والمذلة، والله سبحانه كرّم بني آدم، كما سبق، وخلقه في أحسن تقويم.. كما يتصل بحق الحياة احترام الإنسان الميت، فيكرم بالغسل والتكفين والصلاة عليه ودفنه، ويحرم الجلوس على القبر، ونبشه، مع وجوب وفاء ذمة الميت قبل توزيع التركة[30].
ثالثاً: حفظ العقل، وحق التفكير والحرية:
العقل أسمى شيء في الإنسان، وأبرز ميزة وصفة تميزه عن بقية الحيوان.. وهو أعظم منحة من رب العالمين للإنسان، ليرشده إلى الخير، ويبعده عن الشر، ويكون معه مرشدًا ومعينًا.
والعقل هو مناط التكريم والتفضيل للإنسان، قال القرطبي رحمه الله: "وإنما التكريم والتفضيل بالعقل"، وقال: "والصحيح الذي يعول عليه أن التفضيل إنما كان بالعقل الذي هو عمدة التكيف، وبه يعرف الله، ويفهم كلامه"[31].
وإن وجود العقل لا دخل للإنسان فيه، وإنما هو مجرد جزء من إيجاد النفس، وذلك منحة وهبة من الله الخالق البارئ، وليس للعقل أحكام خاصة به بالذات، وإنما أحكامه أحكام النفس والجسم عامة، وربط الله تعالى به التكليف، مع الصلة الوثيقة بين النفس والعقل، أو الجسد والعقل والروح.(1/73)
ولكن الحفاظ على العقل يختلف عن الحفاظ على النفس، ويختص بوسائل خاصة، فشرع الإسلام أحكامًا للحفاظ على العقل، مع أحكام الحفاظ على النفس، فدعا الإسلام إلى الصحة الكاملة في الجسم، لتأمين العقل الكامل، فالعقل السليم في الجسم السليم، وحرّم الإسلام الخمر وجميع المسكرات التي تضر سائر الجسم، ثم تزيل العقل خاصة، وتلغي وجوده، وتؤثر عليه.
وشرع الإسلام حد الخمر لمن يتناول هذه المشروبات الكحولية النجسة الضارة، لأن الحفاظ على العقل يمثل مصلحة ضرورية للإنسان، وإلا فقد أعز ما يملك[32].
ومن الوسائل الحاجية للحفاظ على العقل، واعتباره في الأحكام والتصرفات وسائر أعمال الإنسان، وضع الفقهاء أحكام الصبي المميز، والمعتوه، وأحكام تصرفات المجنون، وأحكام الحجر على السفيه والمبذر.
ومن أجل الاحتياط التحسيني على حفظ العقل وصيانته حرّم الإسلام القليل من الخمر، وإن لم يسكر، سدًا للذرائع، ودرءًا للمفاسد، فكل ما أدى إلى الحرام فهر حرام، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما أسكر كثيره فقليله حرام"[33]، وقال عليه الصلاة والسلام: "كل مسكر خمر، وكل خمر حرام"[34]، وقال أيضًا: "كل شراب أسكر فهو حرام"[35]، واعتبر رسول الله صلى الله عليه وسلم الخمر "أم الخبائث"[36]، و"مفتاح كل شر"[37]، ولعن رسول الله صلى الله عليه وسلم: "شارب الخمر، وساقيها، وبائعها، ومشتريها، وعاصرها ومعتصرها، وحاملها والمحمولة إليه"[38]، لأن الإسلام يريد أن يسد منافذ الشيطان بشكل حاسم، ويقطع دابر الشر عند العقل احترامًا وتقديسًا واعتبارًا.
كما تحرم المخدرات والمفترات، وسائر ما يزيل العقل ويؤثر عليه.
حق التفكير، وحرية الرأي والتعبير:(1/74)
ويرتبط بالعقل حق الإنسان بالتفكير، حتى بالتدين والاعتقاد، كما سبق، وأن الإسلام جعل التفكير فريضة دينية، لإعمال العقل، وحثّه على الانطلاق والعمل، والنظر في الكون والحياة، وفي الأرض والسماء، ومنحه الحرية في الاعتقاد والتدين، وحرية التفكير المرتبط بالبحث والاختيار لكشف الحقائق، ومعرفة أسرار الكون، والاستفادة مما فيه، وحرية التعبير والدعوة إلى الخير، وحرية العمل، والمسكن، والانتقال، وغيره.
وتعني الحرية -عادة- الملكة الخاصة التي تميز الكائن الناطق عن غيره، وتمنحه السلطة في التصرف والأفعال، عن إرادة وروية ورضى، دون إجبار، أو إكراه، أو قسر خارجي، وذلك بإعمال العقل، والتفكير في الأسباب والنتائج، والوسائل والغايات، لأن الإنسان يختار أفعاله عن قدرة واستطاعة على العمل أو الامتناع عنه، دون ضغط خارجي ودون الوقوع تحت تأثير القوى الأجنبية عنه، فالحرية هي حرية الإنسان تجاه أخيه الإنسان من جهة، وبما يصدر عنه باختياره من جهة أخرى.
ولكن هذه الحرية ليست مطلقة، وإلا أدت إلى الفوضى والدمار والتناقض، ولذلك يجب تقييدها، ولها قيدان أساسيان، الأول: أن تتوقف حرية الشخص عند حرية الآخرين، والثاني: أن تقييد حرية التفكير في حدود العقل وإمكانياته المادية، دون الغيبية، وأن تقيد بالأنظمة والقوانين العادلة التي ترعى المصالح العامة، وتشرف على ممارسة الحريات حتى لا تنقلب وبالاً على أصحابها، وهو ما نراه اليوم في إطلاق الحريات في بعض الجوانب، وغلّ يد الأفراد والشعوب في جوانب أخرى.
وتظهر حرية الرأي جلية بما قرره الإسلام من حق الاجتهاد في أمور الدين والدنيا، وهو بذل الجهد في معرفة الأحكام الشرعية من أدلتها، مع فتح باب الاجتهاد على مصراعيه للعلماء.(1/75)
وتظهر أيضًا في باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وفي مراقبة الحكام، ونصحهم، ومشاركتهم في اتخاذ القرار بالشورى، دون استبداد أو تحكم أو تسلط، مع ممارسة الحرية السياسية.
وكان الخلفاء والحكام يطلبون من الناس إبداء الرأي، ويلتمسون منهم النصح والإرشاد، ويتخذون ذلك ديدنًا لهم بجماعة خاصة، وبشكل عام مع الجماهير مما لا مجال للتوسع فيه[39].
وكانت حرية الرأي والتعبير من أكبر الجرائم في أوروبا، وكان الحكام يحتجون بالحق الإلهي في الحكم والعصمة والسداد في الرأي، حتى ظهرت الثورة الفرنسية فأعلنت حرية الرأي والتعبير، ونص على ذلك الدستور الفرنسي، ثم نص عليها معظم الدساتير وإعلانات الحريات الأساسية، وكرسها الإعلان العالمي لحقوق الإنسان في المادة التاسعة، مع تقييدها في المادة (92)، ثم نص عليها الإعلان الإسلامي لحقوق الإنسان في المادة (22).
رابعًا: حفظ العرض أو النسل، وحقوق الأسرة:
العرض فرع عن النفس الإنسانية، والأمر الضروري فيه حفظ النسل من التعطيل، ويأتي حفظ النسب أو العرض أمرًا حاجيًا ووسيلة له.. والعرض ما يمدح به الإنسان أو يذم، وهو أحد الصفات الأساسية للإنسان، التي تميزه عن بقية الحيوان، وهو ما حرص عليه العرب، وجاء الإسلام فأقره، وصار حفظ النسل من الضروريات، والقصد حفظه بأرقى الوسائل وأشرف الطرق.
وإن وجود النسل فرع عن وجود النفس التي شرع الله تعالى لوجودها الزواج، ويتأكد وجود النسل والنسب الصحيح بأحكام الأسرة من حسن اختيار الخطيبة، ثم عقد الزواج والمهر، ثم رعاية الزوجة والحمل، ثم وجود الأحكام الخاصة لكل من الزوجين، والمصاهرة، والمحرمات في الزواج، ووجوب النفقة الزوجية ونفقة الأقارب، ثم الوصية بالأولاد عامة، والبنات خاصة، وإقرار الميراث بسبب الزوجية والقرابة لتوثيق الروابط المادية والمعنوية.(1/76)
وإن الحفاظ على النسل مقصود لذاته من جهة، ويعتمد على وسيلة حفظ العرض، ورعاية الذرية من جهة أخرى، حتى لا تختلط الأنساب، وتضيع الذرية، ويتشرد الأطفال، فتحل بالإنسانية النكبات والويلات والأمراض الاجتماعية والجنسية.
وشرع الإسلام للحفاظ على النسل والعرض أحكامًا كثيرة تبدأ من غض البصر، ومنع القذف، والإساءة للعرض.. وأقام الشرع حد القذف، وهو ما انفرد به الإسلام في العالم القديم والحديث، بأن جعل مجرد الشتم في العرض والنسب من حدود الله تعالى، كما هو ثابت بنص القرآن الكريم، في سورة النور، ثم يأتي حد الزنا على المعتدي على العرض والنسل ماديًا وعمليًا.
وحرّم الإسلام التبني، لأنه اعتداء على نسب الطفل، ونسل أبيه، وأنه يمثل سرقة الدم الحقيقي للإنسان.. ومنع الإسلام الخلوة بالأجنبية، لأنها ذريعة للزنى، وإشاعة للفاحشة، وسوء الظن والاتهام في العرض.. كما حرم الإسلام الخصاء الذي يؤدي إلى قطع النسل، كما حرم تحديد النسل، خشية أن يؤدي لنقص البشرية، وانقراض الجنس البشري، وهو ما ظهرت بوادره في معظم دول أوروبا وروسيا من نقص مخيف في عدد السكان، ولذلك يسعون لتعويضه بالسماح بالهجرة ومنح الجنسية والتوطين من بلاد أخرى.
وإكمالاً لهذه الأحكام وضع الشارع الحكيم ما يراعي المصالح الحاجية والتحسينية لحفظ النسل والعرض، فوضع شروطًا لعقوبة الزنا، والقذف، لأن الحد عقوبة كاملة، فيشترط كون الجريمة كاملة، وندب الشرع إلى الستر في ذلك، وأمر بدرء الحدود بالشبهات، فعن عائشة رضي الله عنها، قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ادرأوا الحدود عن المسلمين ما استطعتم، فإن كان له مخرج فخلوا سبيله، فإن الإمام أن يخطئ في العفو خير من أن يخطئ في العقوبة"[40].
حقوق الأسرة:(1/77)
يرتبط حفظ النسل والعرض بتكوين الأسرة التي تعتبر الخلية الأولى في المجتمع الإنساني، وهي نواته وعماده، لأن الإنسان يولد فيها، وينشأ في أحضانها، ويترعرع في جنباتها، ويتطبع بطباعها، وتنغرس فيه بذور الخير والشر، أو الفضيلة والرذيلة، أو الاستقامة والانحراف، ثم يخرج إلى المجتمع متأثرًا بأسرته وتربيته الأولى.
وتشمل الأسرة الأبوين والأولاد والإخوة الذين ينضوون تحت اسم العائلة الصغرى، ثم تتوسع لتشمل الأقارب من جهتي الأب والأم، والجد والجدة.
وتكوين الأسرة يتم - في نظر الإسلام- حصرًا بالزواج الذي يتحقق منه الإنجاب، ومن ثم حرّم الإسلام جميع العلاقات الواهية التي كانت منتشرة في الجاهلية الأولى، والتي بدأت تعود إلى الظهور، مما يثبت الشرع والعقل والواقع والنتائج صحة النظرة الإسلامية وسلامتها.
لذلك شرع الإسلام الزواج، وجعله سنة ومندوبًا للأفراد، وواجبًا للأمة عامة،ونظم الشرع الحنيف شؤون الزواج، وخصّه بمجموعة كبيرة من الآيات والأحاديث، وأفرده الفقهاء في جميع المذاهب بأبواب مستقلة، ولعله أهم الأبواب وأوسعها بعد العبادات، مما لا مجال لعرضه مفصلاً، ويدرس اليوم في الأحوال الشخصية.
لكن أصابت الأسرة في التاريخ القديم والحديث نكبات شديدة، واعتراها خطب شديد، ولعب الهوى والشهوة والجنس دورًا شيطانيًا خبيثًا، ولا تزال الأسرة تُستهدف بوسائل متعددة، وتعقد لذلك المؤتمرات والندوات، ولكن استقر العمل في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان بما يتفق مع الشرع الإسلامي الذي سبقه بأربعة عشر قرنًا، فاعتبر الأسرة هي أساس المجتمع، وأناط بها سائر المسؤوليات العائلية (م/61ف2).(1/78)
ونصت المادة العاشرة من الاتفاقية الدولية بشأن الحقوق الاقتصادية والاجتماعية على وجوب منح الأسرة أوسع حماية ومساعدة ممكنة، إذ أنها الوحدة الاجتماعية والطبيعية الأساسية في المجتمع، ثم أكدت المادة (32) من الاتفاقية الدولية بشأن الحقوق المدنية والسياسية على أهمية الأسرة، ونصت صراحة على أن "العائلة هي الوحدة الاجتماعية الطبيعية والأساسية في المجتمع، ولها الحق بالتمتع بحماية المجتمع والدولة، وتعترف بحق الرجال والنساء... بتكوين أسرة".. وجاء الإعلان الإسلامي لحقوق الإنسان، فنظم بعض أحكام الأسرة والزواج باختصار شديد في المادة الخامسة، وأحال بالتوسع إلى كتب الفقه الإسلامي.
خامسًا: حفظ المال:
المال شقيق الروح كما يقولون، وهو ما يقع عليه الملك، ويستبد به المالك عن غيره، وهو الوسيلة الأساسية التي تساعد الناس على تأمين العيش وتبادل المنافع والاستفادة من جوانب الحياة الكثيرة، وهو ما سخره الله تعالى للإنسان في هذا الكون، ولذلك كان المال مصلحة ضرورية، وإلا صارت حياة الناس فوضى وبدائية وهمجية.
وشرع الإسلام لإيجاد المال وتحصيله السعي في مناكب الأرض والكسب المشروع وإحياء الموات والاصطياد في البر والبحر، واستخراج كنوز الأرض.
وشرع الإسلام في سبيل الانتفاع بالمال المعاملات الشرعية التي تكفل الحصول عليه، وتوفيره للمسلم، والتبادل به، كالبيوع، والهبة، والشركات، والإجارة وسائر العقود المالية.
وشرع الإسلام لحفظه وحمايته ومنع الاعتداء عليه أحكامًا كثيرة، فحرم السرقة، وأقام الحد على السارق، وحرم قطع الطريق، وسمى فاعليه بالمحاربين لله، وأقام لهم حدًا متميزًا، وهو حد المحاربين أو قطاع الطريق، وأجاز تقويم الأموال، وحرم أكل أموال الناس بالباطل، واعتبر العقد عليها باطلاً، ومنع اتلاف أموال الآخرين، وشرع الضمان والتعويض على المتلف والمعتدي[41].(1/79)
وأرشد الإسلام إلى حسن استعمال الأموال والتصرف فيها، حتى قرر المبدأ الإسلامي: "نعم المال الصالح للرجل الصالح"، فإن أساء صاحب المال ذاته في ماله، وتعسّف في استعماله، ووضعه في غير مواضعه الشرعية قرر الإسلام الحجر على المعتوه، والسفيه، والمبذر.
وشرع الإسلام - لتنمية المال وتداوله- البيوع، والشركات، والإجارة، لتأمين التعامل الصحيح بين الناس، وإرشادهم إلى القواعد السليمة والأسس العادلة في التبادل والأخذ والعطاء، لتأمين حاجات الناس، وجلب النفع لهم، ودفع الضرر عنهم.
وقرر الإسلام المؤيدات المدنية في الأموال والعقود، منها: البطلان، والفساد، والخيارات، ورخّص في بعض العقود التي لا تنطبق عليها الأسس العامة في العقود، فشرع السَّلَم، وهو بيع المعدوم، وأجاز الاستصناع، والمزارعة، والمساقاة، لرفع الحرج عن الناس في التعامل.
كما حرّم الإسلام الغش والتدليس والاحتكار، وحرم الإسراف والتقتير في الإنفاق، وإضاعة المال، ونهى عن بيع الإنسان ما ليس عنده، وبيع الإنسان على بيع أخيه، ونهى عن بيع النجاسات، ولم يعتبرها مالاً، لضررها على الإنسان، ونهى عن الغرر، والجهالة في البدلين، وكل ما يؤدي إلى التخاصم، لتتم مصالح الناس دون الوقوع في الخصومات والخلافات والأحقاد والضغائن بين الأفراد.
وجمع الإسلام بين الأحكام المالية والأخلاق السامية، ورعاية القيم والآداب الراقية، والفضائل الحميدة، ومن ذلك شروط الطهارة، والإحسان بالتعامل، والإنفاق من الطيب، وإحسان الأضحية... وغيرها.
وهكذا نلاحظ أن الإسلام شرع لكل مصلحة ضرورية للناس أحكامًا تكفل إيجادها وتكوينها، وترعى حفظها وصيانتها، وأحكامًا مكملة ومتممة، لتأمين المصالح الحاجية والتحسينية لكل مصلحة ضرورية، وذلك ليؤمن للناس حفظ الضروريات، ويكفل بقاءها واستمرارها، ثم أباح الله تعالى المحظورات إذا تعرضت المصالح الضرورية للخطر والتهديد.
حق التملك:(1/80)
ويتعلق بحفظ المال عدة حقوق من حقوق الإنسان، وأبرزها وأهمها حق التملك، ويعني الاعتراف بحق الملكية الفردية للإنسان، وتمكين المالك من سلطة التصرف بالشيء، والاستفادة منه واستغلاله.. والأصل أن يكون في الأعيان، ثم قرر في المنافع والحقوق، واليوم شمل الحقوق الأدبية.
والتملك في الأصل يقع على المال، الذي هو أحد الضروريات الخمس في الإسلام، ويعتبر المال أحد الدعائم الأساسية في التعامل، ويلعب رأس المال دورًا مهمًا في الحياة، وهوأحد عناصر الإنتاج، مع العمل والموارد الطبيعية، ويشكل حجر الزاوية في نظام الدول، وانقسامها -بحسب موقفها من المال والملكية- إلى أنظمة مختلفة، بل ومتباينة.. والمال نفسه من نعم الحياة من جهة، وهو زينتها، وفُطر الإنسان على حبه من جهة أخرى.
وأقر القرآن الكريم حق التملك، فنسب المال إلى الإنسان والناس، لأنهم يستأسرون به، ويعملون على حيازته، والاستفادة منه، والتصرف فيه، فقال تعالى مقررًا مشروعية الملكية، وسبل انتقالها: (( يَأَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ لاَ تَأْكُلُواْ أَمْو?لَكُمْ بَيْنَكُمْ بِ?لْبَـ?طِلِ إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَـ?رَةً عَن تَرَاضٍ مّنْكُمْ)) (النساء:29)، وقال تعالى: (( وَلاَ تَأْكُلُواْ أَمْو?لَكُمْ بَيْنَكُم بِ?لْبَاطِلِ)) (البقرة:188)، وقال تعالى: ((وَلاَ تُؤْتُواْ ?لسُّفَهَاء أَمْو?لَكُمُ ?لَّتِى جَعَلَ ?للَّهُ لَكُمْ قِيَـ?ماً )) (النساء:5)، وقال سبحانه وتعالى: ((ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ لاَ تُلْهِكُمْ أَمْو?لُكُمْ وَلاَ أَوْلَـ?دُكُمْ عَن ذِكْرِ ?للَّهِ)) (المنافقون:9)، وقال تعالى: ((وَإِن تُبتُمْ فَلَكُمْ رُءوسُ أَمْو?لِكُمْ لاَ تَظْلِمُونَ وَلاَ تُظْلَمُونَ)) (البقرة:279).(1/81)
كما أثبت القرآن الكريم حق التصرف بالمال، فقال تعالى: ((وَسَيُجَنَّبُهَا ?لاْتْقَى (17) ?لَّذِى يُؤْتِى مَالَهُ يَتَزَكَّى? )) (الليل:17-18)، وقال تعالى: ((مَّثَلُ ?لَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْو?لَهُمْ فِي سَبِيلِ ?للَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ)) (البقرة:261)، وقال تعالى: ((?لَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْو?لَهُمْ بِ?لَّيْلِ وَ?لنَّهَارِ سِرّا وَعَلاَنِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُم عِندَ رَبّهِمْ)) (البقرة:274)، مع إقرار سبل الكسب والاستثمار، كما سبق.
والأصل في الملكية أن تكون للأفراد، وهي الملكية الفردية.. وأقر الإسلام الملكية العامة للدولة في الأموال التي تتعلق بها حاجات الأمة، وتهم مصالح الناس، ويتصرف فيها ولي الأمر بما فيه المصلحة العامة، كتملك مصادر الثروة، ومصانع الأسلحة، والصناعات الكبيرة، والموارد الطبيعية.. وأقر الشرع الملكية الشخصية الاعتبارية، كالوقف والمسجد والشركات.
ويتفرع على ذلك حماية المال الذي ثبت في النصوص الشرعية السابقة التي منعت أكل أموال الناس بالباطل، مع الاستعانة بأجهزة الدولة في ذلك، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كل المسلم على المسلم حرام: دمه، وماله، وعرضه"[42].
وقال في حجة الوداع: "إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم حرام عليكم كحرمة يومكم هذا..."[43].
وقال عليه الصلاة والسلام: "لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيب نفس منه"[44].
وقرر الفقهاء القواعد الفقهية لذلك، منها: "لا يجوز لأحد أن يأخذ مال أحد بلا سبب شرعي"، و"لا يجوز لأحد أن يتصرف في ملك الغير بلا إذن"[45].
وحذر الرسول صلى الله عليه وسلم من إتلاف المال، فقال: "من أخذ أموال الناس يريد إتلافها أتلفه الله"[46]، وقال أيضًا: "على اليد ما أخذت حتى تؤديه"[47]، وقرر الفقهاء ضمان الأموال.(1/82)
وإن حق التملك، وحرمة الملك، لا يعني الاستئثار المطلق، وحرية التصرف المطلقة، وإنما رسم الشارع لذلك نظامًا محكمًا لصرف المال والانتفاع به، وصرفه في طرقه المشروعة، وتعلق حق الآخرين فيه، وهي واجبات على المالك، وحقوق لغيره، ومنها:
1- إخراج الزكاة والصدقات.
2- النفقة على النفس والأهل والأولاد والأقارب.
3- استثمار المال في الوجوه المباحة شرعًا، فيجب استثماره، وخاصة مال اليتيم والمحجور عليه، ويحرم ادخاره واكتنازه وتعطيل منافعه.
4- تطبيق نظام الميراث على التركة بعد الموت.
5- قيود الملكية الواردة على المحل، وعلى سلطات المالك في الانتفاع والتصرف والاستغلال، والقيود المتعلقة بالمصلحة العامة، والقيود المتعلقة بالعدالة الاجتماعية، والتكافل بين الأفراد، مع الاعتراف بحرية التعاقد للتصرف بالملك حسب الإرادة والرضى.
وإن حق التملك مقرر في جميع الأنظمة والشرائع، مع تفاوتها في القيود، وأسباب التملك، وسلطات المالك، وطرق الانتفاع والاستثمار.. ولما طغى الإقطاع في أوروبا وظهرت الرأسمالية واستبداد الأغنياء بمقدرات الشعوب والأمم، وجاء رد الفعل بالشيوعية وإنكار الملكية، جاءت إعلانات حقوق الإنسان والاتفاقات الدولية بإقرار حق الملكية -المادة (71) من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، والمادة الأولى من الاتفاقية الدولية بشأن الحقوق الاقتصادية، والاتفاقية الدولية بشأن الحقوق المدنية، والمادة (51) من الإعلان الإسلامي لحقوق الإنسان- مما يتفق مع ما جاء في الشرع الحكيم.
وبعد:
فهذه لمحات سريعة، ومقتطفات يانعة عن مقاصد الشريعة الإسلامية وصلتها بحقوق الإنسان، ونستنتج الأمور التالية:
1- إن مقاصد الشريعة هي المنطلق الحقيقي والأساس لحقوق الإنسان.
2- إن الشرع الحنيف جاء أصلاً من أجل الإنسان، وتحقيق مقاصده، وذلك بجلب النفع له، ودفع الضرر عنه، وتأمين السبل الموصلة لذلك، وضمان الرعاية والعناية للحفاظ على الحقوق.(1/83)
3- إن التطبيق الحقيقي لحقوق الإنسان يكمن في التطبيق العملي للدين الحق، وهذا يستدعي العودة الجادة للالتزام بالعقيدة الصحيحة، والتدين الكامل الشامل، دون الاقتصار على الدعاية والشعارات والمتاجرة بحقوق الإنسان لأهداف استعمارية: سياسية، واقتصادية، وفكرية، وتربوية، وثقافية، ومصالح ذاتية.
4- تتدرج مصالح الإنسان على درجات، أهمها المصالح الضرورية، وهي حفظ الدين، وحفظ النفس، وحفظ العقل، وحفظ النسل أو العرض، وحفظ المال، ثم تأتي المصالح الحاجية التي ترعى المقاصد الخمسة، ثم المصالح التحسينية التي تكمل المقاصد، وتصونها في أحسن أحوالها.
5- إن معرفة مقاصد الشريعة لها أهمية بالغة في بيان الإطار العام للشريعة، وتحديد أهدافها السامية، والمعاونة على الدراسة المقارنة والترجيح، وإبراز هدف الدعوة، والإنارة في الاجتهاد والاستنباط.
6- ورد في الشرع أحكامًا كثيرة، لبيان أحكامًا الدين وحفظه ومنع التلاعب فيه، وأعطى حق التدين حقه، وربطه بالفكر والعقل، وحرية الاعتقاد، واحترام بيوت العبادة، والمسامحة مع غير المسلمين، وعدم الإكراه في الدين، والتساوي في المعاملة المالية بين المسلم وغيره، مع تشريع العقوبة للمرتد، لأنه متلاعب بالدين، ويخالف النظام العام، ويعبث بالعقيدة، فاقتضى ذلك الحماية للدين نفسه.
7- نظم الإسلام إيجاد النفس بأفضل الطرق، وحرص على المحافظة عليها، ومنع الانتحار، والاعتداء عليها، وأوجب القصاص على العدوان العمد، وقرر حق الحياة لكل إنسان حتى للجنين، وأباح المحظورات للضرورة عند الحفاظ على النفس، وحرم إفناء النوع البشري بأية وسيلة تدميرية.
8- كرم الله الإنسان، وفضله بالعقل، ولذلك أوجب حفظه وترشيده في الصحة الكاملة، وحرم كل ما يؤثر عليه أو يزيله، ثم منحه حق التفكير، بل فرض التفكير على الإنسان، وأعطاه حرية الرأي والتعبير ضمن قيود مضبوطة.(1/84)
9- إن حفظ النسل والعرض والنسب من خصائص الإنسان، فأوجب الشرع الحفاظ عليه حتى تدوم البشرية في أنصع صورها، مع أفضل القيم والأخلاق، ومنع اختلاط الأنساب والتبني، وأسهب الفقهاء في أحكام الأسرة، وجودًا، وحفظًا، وحماية، لأنها اللبنة الأولى في المجتمع، ومحط آمال العقلاء.
10- المال شقيق الروح، وشرع الإسلام الأحكام لإيجاده وتحصيله، واستثماره، وتداوله في المعاملات المتنوعة، وأقر حق التملك، والتصرف بالمال، وأوجب فيه الحقوق لأداء الصفة الاجتماعية فيه، لتحقيق التكافل والمواساة، ليكون الملك والمال وسيلة لتأمين رفاهية الإنسان وكفايته وتلبية حاجاته.
ويظهر كل من ذلك الصلة الوثيقة بين مقاصد الشريعة وحقوق الإنسان، التي تعتبر واجبات والتزامات متبادلة بين الأفراد لإقامة العدل والإحسان والمساواة ورعاية شؤون الإنسان فردًا وجماعة.
نسأل الله أن يرد المسلمين إلى دينهم، ردًا جميلاً، لينعموا بسعادة الدارين، كما حصل للأجيال السابقة، فيكونوا خير خلف لخير سلف. وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم،
والحمد لله رب العالمين.
الهوامش :
[1] القاموس المحيط، 1/327، مادة قصد؛ معجم مقاييس اللغة، 5/95؛ المصباح المنير، 2/691؛ مختار الصحاح، ص536؛ تهذيب الأسماء واللغات، 2/93.
[2] مقاصد الشريعة الإسلامية، الطاهر بن عاشور، ص13؛ الأصول العامة لوحدة الدين الحق، الدكتور وهبة الزحيلي، ص61.
[3] شجرة المعارف والأحوال، له، ص401.
[4] انظر: ضوابط المصلحة، للدكتور محمد سعيد رمضان البوطي، ص45 وما بعدها، وقال العلامة القرافي رحمه الله تعالى: "الشرائع مبنية على المصالح"، شرح تنقيح الأصول، ص427؛ وقال ابن تيمية رحمه الله تعالى: "جاءت هذه الشريعة لتحصيل المصالح وتكميلها، وتقليل المفاسد وتعطيلها"، الفتاوى الكبرى، 20/48؛ السياسة الشرعية، له، ص47.(1/85)
[5] هذا الحديث أخرجه البخاري بلفظ "ترى المؤمنين..." (5/2238 رقم5665)؛ ومسلم باللفظ الأعلى (16/140 رقم2586)؛ وأحمد (4/270).
[6] يقول العلامة ابن القيم: "إن الشريعة مبناها وأساسها على الحكم ومصالح العباد في المعاش والمعاد، وهي عدل كلها، ورحمة كلها، وحكمة كلها، فكل مسألة خرجت عن العدل إلى الجور، وعن الرحمة إلى ضدها، وعن المصلحة إلى المفسدة، وعن الحكمة إلى العبث، فليست من الشريعة، وإن أُدخلت فيها بالتأويل، فالشريعة عدل الله بين عباده، ورحمته بين خلقه، وظله في أرضه، وحكمته الدالة عليه، وعلى صدق رسوله صلى الله عليه وسلم أتم دلالة وأصدقها"، أعلام الموقعين، 3/5، تحقيق الوكيل، 3/14 (بدون تحقيق).
[7]القواعد الفقهية على المذهب الحنفي والشافعي،ص436؛المادة78 من مجلة الأحكام العدلية.
[8] انظر: قواعد الأحكام، للعز بن عبد السلام، 1/29 ومابعدها، 42 وما بعدها، ص71 وما بعدها؛ حقوق الإنسان في الإسلام، الدكتور محمد الزحيلي، ص80.
[9] حقوق الإنسان في الإسلام، الدكتور محمد الزحيلي، ص9، 140.
[10] المستصفى، 1/286؛ الموافقات للشاطبي، 2/4؛ علم أصول الفقه، الشيخ عبد الوهاب خلاف،ص199، ط8؛ الأصول العامة لوحدة الدين الحق، الزحيلي، ص60-61.
[11] المستصفى، له، 1/287.
[12] المستصفى، 1/288؛ وانظر: فلسفة العقوبة، للشيخ محمد أبو زهرة، ص42؛ الأصول العامة لوحدة الدين الحق، ص5.
[13] المستصفى 1/289.
[14] الموافقات، 2/6؛ علم أصول الفقه، خلاف، ص200؛ المستصفى، 1/290.
[15] الموافقات، 2/5، علم أصول الفقه، ص201؛ الأصول العامة لوحدة الدين الحق، ص65.
[16] هذا الحديث أخرجه البخاري (3/1098رقم 2854) وأصحاب السنن وأحمد عن ابن عباس رضي الله عنهما (نيل الأوطار، 7/201؛ الفتح الكبير،3/175)، مسند أحمد (1/2، 7، 282، 283، 5/231).(1/86)
[17] هذا الحديث أخرجه البخاري (6/2521 رقم 6484)، ومسلم (11/164 رقم1676)، وأصحاب السنن وأحمد عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه (نيل الأوطار، 7/7؛ الفتح الكبير 3/356).
[18] المستصفى، 1/287؛ الموافقات 2/5؛ ضوابط المصلحة، ص119.
[19] هذا الحديث أخرجه البخاري (1/456 رقم 1292)، ومسلم (16/207 رقم2658).
[20] هذا الحديث أخرجه أبو داود (2/152)، والبيهقي (5/205).
[21] انظر الفتح الكبير (3/144).
[22] هذا الحديث صحيح، وسبق بيانه.
[23] هذا الحديث أخرجه مسلم (16/215 رقم 2664)، وابن ماجه (1/31)، وأحمد (2/366،370)؛ وانظر: الفتح الكبير (3/251).
[24] انظر بحثًا مستفيضًا عن حق الحياة في اشتراكية الإسلام، لأستاذنا العلامة الداعية الدكتور مصطفى السباعي، ص59 وما بعدها؛ حقوق الإنسان في الإسلام، للدكتور محمد الزحيلي، ص86، 141.
[25] هذا جزء من حديث أخرجه مسلم (16/120رقم 2564)، وابن ماجه (2/1298)، وأبو داود والترمذي (انظر: نزهة المتقين، 1/251، الفتح الكبير، 2/322) عن أبي هريرة رضي الله عنه.
[26] هذا جزء من حديث أخرجه البخاري عن ابن عمر (6/2490 رقم 6403)، وعن أبي بكرة (1/37، 52، رقم 67، 105)، ومسلم عن جابر(8/182 رقم1218).
[27] انظر اشتراكية الإسلام، ص61؛ التشريع الجنائي الإسلامي، عبد القادر عودة، 1/446 -447.
[28] الأم (6/4)، وأحاديث تحريم الانتحار وأدلته كثيرة.
[29] هذا الحديث أخرجه البخاري (1/20 رقم31)، ومسلم (18/11 رقم 2888)، وأخرجه أبو داود والنسائي وابن ماجه وأحمد عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه (الفتح الكبير، 1/87).
[30] انظر اشتراكية الإسلام، ص66 وما بعدها؛ حقوق الإنسان في الإسلام، ص141 وما بعدها.
[31] تفسير القرطبي 10/294؛ وانظر تفسير الطبري، 15/125، 30/242؛ تفسير القاسمي، 10/3950؛ في ظلال القرآن، سيد قطب، 5/346؛ تفسير ابن عربي، 4/194.(1/87)
[32] انظر الأصول العامة لوحدة الدين الحق، الدكتور وهبة الزحيلي، ص136.
[33] هذا الحديث أخرجه أبو داود (2/294)، والترمذي (5/607)، وابن ماجه وأحمد (6/71، 72، 131)، وابن حبان والنسائي عن جابر وعائشة (الفتح الكبير، 3/79).
[34] هذا الحديث أخرجه البخاري (1/95، 5/2121)، ومسلم (13/169، 172) وأحمد (2/16، 29، 31، 134)، وأبو داود(2/293)، والترمذي (5/598)، وابن ماجه (2/1124)، وانظر التلخيص الحبير، 4/73.
[35] هذا الحديث رواية ثانية للحديث الأول أخرجها البخاري ومسلم عن عائشة رضي الله عنها.
[36] هذا الحديث أخرجه القضاعي بهذا اللفظ، وأخرجه الدار قطني والطبراني في الأوسط بألفاظ قريبة.
[37] هذا الحديث أخرجه الحاكم في المستدرك (4/145).
[38] هذا الحديث أخرجه أبو داود (2/292)، وأحمد (1/316، 2/97) عن ابن عمر رضي الله عنهما، وأخرجه الحاكم (الفتح الكبير، 3/13).
[39] انظر الحرية السياسية في الإسلام، في: اشتراكية الإسلام، ص85؛ حقوق الإنسان في الإسلام، الدكتور محمد الزحيلي، ص183 وما بعدها.
[40] هذا الحديث أخرجه الترمذي مرفوعًا وموقوفًا (4/688)، وابن ماجه (2/850)، والحاكم (4/384)، والبيهقي (8/238)؛ وانظر نيل الأوطار (7/110)؛ التلخيص الحبير (4/56).
[41] انظر الموافقات، 2/5؛ علم أصول الفقه، خلاف، ص201؛ قواعد الأحكام، 2/5؛ الأصول العامة لوحدة الدين الحق، ص153.
[42] هذا حديث صحيح، سبق بيانه.
[43] هذا جزء من حديث صحيح، سبق بيانه.
[44] هذا الحديث أخرجه البيهقي عن خيفة الرقاشي وغيره (6/97، 100)، وأحمد (5/425)، والدار قطني (3/25، 26)، وابن حبان (موارد الظمآن، ص283)، والحاكم وغيره (الفتح الكبير، 3/359).
[45] المادة (96، 97 من مجلة الأحكام العدلية)؛ القواعد الفقهية في المذهب الحنفي والشافعي، الدكتور محمد الزحيلي، ص504، 511.(1/88)
[46] هذا جزء من حديث أخرجه البخاري (2/841 رقم 2257)، وأحمد(2/361، 417)، وابن ماجه (2/806)، الفتح الكبير (3/151).
[47] هذا حديث أخرجه أحمد (5/8، 13)، والحاكم(2/47)، وأبو داود (2/265)، والترمذي وقال: حديث حسن صحيح (4/482)، وابن ماجه (2/802)، والبيهقي (6/90، 94)، والدارمي (2/262).
إحياء وتطوير مؤسسة الِحسْبة لحماية حقوق الإنسان
الأستاذ الدكتور محمد عثمان شبير
إن مؤسسة الحسبة في الإسلام من أكثر المؤسسات الدينية التي لاقت اهتمامًا كبيراً من أغلب علماء الدين الإسلامي، من فقهاء، وقضاة، ومفسرين، وشراح أحاديث، وأدباء، ومؤرخين، ومترجمين، ومفكرين. ويرجع سبب ذلك إلى أن تلك المؤسسة تعبر تعبيراً صادقاً عن وعى الإنسان تجاه نفسه وتجاه مجتمعه وتجاه دينه. كما أن لهذه المؤسسة دوراً كبيراً في حماية حقوق الإنسان، فتعد آلياتها من أكبر الضمانات لتلك الحقوق.
وقد جاء هذا البحث، في هذا العصر، لإبراز دور مؤسسة الحسبة في حماية حقوق الإنسان، بعد أن مرت عليها فترات من التاريخ أدت إلى طمس معالمها الحقيقية، وتشويه صورتها في أذهان كثير من المسلمين بسبب بعض التصرفات الخاطئة الصادرة عن بعض القائمين عليها.
ويشتمل البحث على مبحثين: الأول حول: تطور مفهوم الحسبة في الإسلام، والثاني حول: دور الحسبة في حماية حقوق الإنسان.
المبحث الأول: تطور مفهوم الحسبة في الإسلام
للحسبة في الإسلام مفهوم واسع لا يقتصر على تلك الولاية الدينية العامة التي يسند أمرها الإمام إلى بعض الموظفين، وإنما يتعدى ذلك إلى تلك المؤسسات المدنية التي تقوم برعاية حقوق الإنسان في المجتمع الإسلامي. وتستند هذه السعة في مفهوم الحسبة إلى المعنى اللغوي للحسبة، والمعنى الاصطلاحي لها، وتأصيلها الشرعي.
وفيما يلي بيان ذلك.
أولاً: المعنى اللغوي للحسبة:(1/89)
الحسبة في اللغة: (بكسر الحاء و تسكين السين) اسم من الاحتساب كالعدة من الاعتداد. والاحتساب مأخوذ من الحَسْب، وهو على عدة معان[1]:
فالمعنى الأول: العد و الحساب، فتقول:حَسَبْت الشيء أحسبه حساباً وحسباناً:إذا عددته. ومنه قوله تعالى: (( وَ?لشَّمْسَ وَ?لْقَمَرَ حُسْبَاناً )) (الأنعام: 96) وقال تعالى: ((وَلِتَعْلَمُواْ عَدَدَ ?لسِّنِينَ وَ?لْحِسَابَ )) (الإسراء: 12).
ويندرج تحت هذا المعنى احتساب الإنسان الأجر عند الله تعالى؛ إذا عده ضمن ما يدخر عنده تعالى. والاحتساب بهذا المعنى: إما أن يكون في الأعمال الصالحة، و إما أن يكون في الأعمال المكروهة التي تنزل بالإنسان. ففي الأعمال الصالحة، يكون بالقيام بأعمال البر على الوجه المرسوم فيها طلباً للثواب المرجو. وورد فيها قوله صلى الله عليه وسلم: "من صام رمضان إيماناً واحتساباً غُفر له ما تقدم من ذنبه"[2]، وقوله صلى الله عليه وسلم: "من اتبع جنازة مسلم إيماناً واحتساباً، وكان معه حتى يُصلى عليها ويفرغ من دفنها، فإنه يرجع من الأجر بقيراطين..."[3].. وأما في الأعمال المكروهة، فيكون بالمبادرة إلى طلب الأجر وتحصيله بالتسليم والصبر. وورد فيها أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث برسالة لابنته التي توفي ولدها: "إن لله ما أخذ وله ما أعطى، وكلٌ عنده بأجلٍ مسمّى، فلتصبر ولتحتسب"[4].
والمحتسب يدخر الأجر عند الله تعالى على كل ما يقوم به من عمل، وما يلاقيه من نصب وتعب.
وأما المعنى الثاني للحسب فهو الكفاية، فيقال: احتسب بكذا: اكتفى به. ومنه قوله تعالى: (( وَقَالُواْ حَسْبُنَا ?للَّهُ وَنِعْمَ ?لْوَكِيلُ)) (آل عمران: 173)، وقوله تعالى: ((وَكَفَى? بِ?للَّهِ حَسِيباً)) (النساء:6).. والمحتسب يعتمد في كل أعماله على الله تعالى وحده لا شريك له.(1/90)
وأما المعنى الثالث للحسب فهو الإنكار، فيقال احتسب عليه: أي أنكر عليه. وتسمية الإنكار بالاحتساب من قبيل تسمية المسُبب بالسبب؛ لأن الإنكار على صاحب المنكر سبب للأمر بإزالته، وهو الاحتساب.
وأما المعنى الرابع للحسب فهو التدبير، فيقال: فلان حسن الحسبة في الأمر: أي حسن التدبير له والنظر فيه وفق القوانين والأنظمة.. والمحتسب يقوم بتدبير خاص، وهو تدبير تطبيق الشرع الإسلامي. وهو أحسن وجوه التدبير.
وأما المعنى الخامس للحسب فهو الاختبار، فيقال: النساء يحسبن ما عند الرجال، أي يختبرن ما عندهم من تصرفات.. والمحتسب ينظر في تصرفات الناس الظاهرة ويحكم عليها، ويقدم على تغيير المنكر منها بعد التحري والنظر في المآلات.
فالحسبة في معناها اللغوي لا تقتصر على مجرد الإنكار على "الغير" دون النظر إلى النتائج والمآلات، وإنما تتضمن عدة عناصر جوهرية وهي: المبادرة الذاتية إلى تغيير المنكر رجاء طلب الأجر والثواب من الله تعالى، والاختبار والتحري والنظر في المآلات والنتائج، ومراعاة السياسة الحكيمة في تغيير المنكر، واعتماد المحتسب على الله تعالى ليكون خير عون له على تخطي الصعاب والعراقيل التي تعترضه. هذا بالإضافة إلى إنكار المنكر، الذي يعد عنصراً أساسياً في الحسبة.
ثانياً: المعنى الاصطلاحي للحسبة:
الحسبة في اصطلاح الفقهاء تطلق على عدة معان:(1/91)
المعنى الأول: عرفها جمهور الفقهاء - باعتبارها وظيفة دينية يُسندها الإمام للمحتسب- بأنها: "أمر بالمعروف إذا ظهر تركه، ونهي عن المنكر إذا ظهر فعله"[5].. فالمعروف الذي يأمر به المحتسب المعين هو ما أمر به الشرع الإسلامي، والمنكر الذي ينهي عنه المحتسب هو ما ينهي عنه الشرع الإسلامي. وتقتصر وظيفة المحتسب على ما يظهر من الناس من منكرات من غير تجسس عليهم، وذلك بأن تكون مكشوفة للمحتسب: إما بالرؤية، أو السماع، أو النقل الموثوق، الذي يقوم مقامها، كما قال ابن تيمية: "إذا أظهر الرجل المنكرات وجب الإنكار عليه"[6].
وأما المعنى الثاني للحسبة، فقد عرفها كل من ابن بسام وابن الإخوة - باعتبارها وظيفة دينية- بالتعريف السابق مع إضافة عبارة: "وإصلاح بين الناس" فقال ابن الإخوة في تعريفها: "أمر بالمعروف إذا ظهر تركه، ونهي عن المنكر إذا ظهر فعله، وإصلاح بين الناس"[7]، وأيدا ذلك بقول الله تعالى: (( لاَّ خَيْرَ فِى كَثِيرٍ مّن نَّجْوَاهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَـ?حٍ بَيْنَ ?لنَّاسِ)) (النساء:114)، وقوله تعالى: ((وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ ?لْمُؤْمِنِينَ ?قْتَتَلُواْ فَأَصْلِحُواْ بَيْنَهُمَا)) (الحجرات:9)، وأرى أنه لا داعي لتلك الإضافة؛ لأن الإصلاح داخل في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كما قال ابن الإخوة: "إن الإصلاح نهي عن البغي والفساد إلى طاعة الله"[8].
وأما المعنى الثالث للحسبة، فهو ما عرفها به أبو حامد الغزالي، وهي: "شاملة للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر"[9]، وقريب من هذا ما ذكره السنامي: "الحسبة في الشريعة عام تتناول كل مشروع يفعل لله تعالى، كالآذان والإقامة وأداء الشهادة مع كثرة تعدادها. ولهذا قيل: القضاء باب من أبواب الحسبة، وقيل القضاء جزء من أجزاء الاحتساب"[10]، وما ذكره الأصفهاني: "فعل ما يحتسب به عند الله تعالى"[11].(1/92)
والأولى بالاعتبار المعنى الثالث للحسبة، فهي في الشريعة الإسلامية ذات معنى واسع لا تقتصر على تغيير المنكر الظاهر، وإنما تشمل كل ما يفعل، ويراد به ابتغاء وجه الله تعالى، كالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والصدقة، والأذان، والإقامة، وأداء الشهادة، والجهاد في سبيل الله تعالى، وغير ذلك. ويؤيد ذلك: قوله تعالى: (( وَالَّذِينَ صَبَرُواْ ?بْتِغَاء وَجْهِ رَبّهِمْ وَأَقَامُواْ ?لصَّلَو?ةَ وَأَنْفَقُواْ مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرّا وَعَلاَنِيَةً وَيَدْرَءونَ بِ?لْحَسَنَةِ ?لسَّيّئَةَ أُوْلَئِكَ لَهُمْ عُقْبَى? ?لدَّارِ)) (الرعد:22)، وقوله سبحانه وتعالى: (( وَمَثَلُ ?لَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْو?لَهُمُ ?بْتِغَاء مَرْضَاتِ ?للَّهِ وَتَثْبِيتًا مّنْ أَنفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصَابَهَا وَابِلٌ فَأَتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ )) (البقرة:265)، وقوله: ((وَمَا تُنفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ)) (البقرة:272)..(1/93)
فهذه الآيات تشير إلى أنه لابد أن تكون أعمال المسلمين ابتغاء وجه الله تعالى أو حسبة له. ويؤيد ذلك أيضاً قوله صلى الله عليه وسلم: "إن الله ليدخل بالسهم الواحد ثلاثة الجنة: صانعه يحتسب في صنعه الخير، والرامي به، والممد به...."[12]، وقوله صلى الله عليه وسلم:"إن السقط ليجر أمه بسرره إلى الجنة إذا احتسبته"[13]وجاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله! إن قتلت في سبيل الله صابراً محتسباً غير مدبر، أيكفر عني خطاياي؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "نعم"[14]، وقوله صلى الله عليه وسلم لنسوة من الأنصار: "لا يموت لإحداكن ثلاثة من الولد، فتحتسبه إلا دخلت الجنة". فقالت امرأة منهن: أو اثنان يا رسول الله؟ قال: "أو اثنان"[15]، وقد بوّب البخاري في صحيحه باباً بعنوان: "ما جاء في أن الأعمال بالنية والحسبة، ولكل امرئ ما نوى"[16]، ويدخل فيه الإيمان والوضوء، والصلاة، والزكاة، والحج، والصوم، والأحكام. وذكر من الأحاديث قوله صلى الله عليه وسلم: "إذا أنفق الرجل على أهله يحتسبها فهو له صدقة"[17]، وقوله : "إنك لن تنفق نفقة تبتغي بها وجه الله إلا أجرت عليها" [18].. هذه الأحاديث وغيرها تدل دلالة واضحة على عموم الحسبة وشمولها، وعدم اقتصارها على نوع معين من الأحكام، وإنما تشمل جميع الأحكام.(1/94)
ويمكن تعريف الحسبة بناء على ذلك بما يلي: "فعالية المجتمع المسلم في القيام بأعمال البر والخير، وتغيير المنكر وفق السياسة الشرعية، حماية لمقاصد الشريعة الإسلامية".. فالأفراد في المجتمع الإسلامي يتصفون بالإيجابية والفعالية والمبادرة إلى القيام بالأعمال ابتغاء وجه الله، وطلباً للأجر والثواب في الآخرة. ولا يتوقف قيامهم بها على تحصيل الأجرة الدنيوية. فهم يحتسبون عملهم عند الله تعالى سواء حصلوا على أجر دنيوي، بأن كانوا معينين من قبل رئيس الدولة، أم لم يحصلوا، بأن كانوا متطوعين. وهم يراعون في قيامهم بأعمال الحسبة الحدود الشرعية المرسومة، والسياسة الشرعية الحكيمة، فيوازنون بين المصالح والمفاسد التي تترتب على القيام بالأعمال، ولا يقدمون عليها إلا بعد حساب دقيق للنتائج والمآلات. وهم يقصدون من القيام بتلك الأعمال حماية مقاصد الشريعة الإسلامية من ضروريات وحاجيات وتحسينيات، فيعملون على حماية الدين والنفس والعقل والعرض و المال وغير ذلك.
ولا تقتصر هذه الفعالية على الفرد، وإنما تتعدى إلى الجماعة والدولة، فإذا كان الأمر بالمعروف واجب على الفرد المسلم، فإنه واجب على الجماعة، حيث يتعاون عليه الأفراد في الجماعات ويتشاورون فيه لقوله تعالى: ((وَلْتَكُن مّنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى ?لْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِ?لْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ ?لْمُنْكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ ?لْمُفْلِحُونَ)) (آل عمران:104)، وقال تعالى: ((وَتَعَاوَنُواْ عَلَى ?لْبرِ وَ?لتَّقْوَى? وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى ?لإِثْمِ وَ?لْعُدْوَانِ)) (المائدة:2).(1/95)
كذلك فإن الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر هو واجب الدولة بكل مؤسساتها وأجهزتها، قال تعالى: (( ?لَّذِينَ إِنْ مَّكَّنَّـ?هُمْ فِى ?لاْرْضِ أَقَامُواْ ?لصَّلَو?ةَ وَاتَوُاْ ?لزَّكَو?ةَ وَأَمَرُواْ بِ?لْمَعْرُوفِ وَنَهَوْاْ عَنِ ?لْمُنْكَرِ )) (الحج:41)، وقد اشار ابن تيمية[19] إلى هذا، حيث قال: "وإذا كان جماع الدين وجميع الولايات هو أمر ونهي، فالأمر الذي بعث الله به رسوله هو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. وهذا نعت النبي والمؤمنين، كما قال تعالى: (( وَ?لْمُؤْمِنُونَ وَ?لْمُؤْمِنَـ?تِ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِ?لْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ ?لْمُنْكَرِ )) (التوبة:71)".
وهذا واجب على كل مسلم قادر، وهو فرض على الكفاية، ويصير فرض عين على القادر الذي لم يقم به غيره. والقدرة هو السلطان والولاية، فذوو السلطان أقدر من غيرهم، وعليهم من الوجوب ماليس على غيرهم، فإن مناط الوجوب هو القدرة، فيجب على كل إنسان بحسب قدرته، قال تعالى: (( فَ?تَّقُواْ ?للَّهَ مَا ?سْتَطَعْتُمْ )) (التغابن:16).. وجميع الولايات الإسلامية إنما مقصودها الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، سواء في ذلك ولاية الحرب الكبرى مثل نيابة السلطة، والصغرى مثل ولاية الشرطة، وولاية الحكم، أو ولاية المال، وهي ولاية الدواوين المالية وولاية الحسبة.(1/96)
ثم قال: "الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الذي أنزل الله به كتبه وأرسل به رسله من الدين..".. وبيّن سبحانه أن هذه الأمة خير الأمم للناس، فهم أنفعهم لهم وأعظمهم إحساناً إليهم، لأنهم كملوا أمر الناس بالمعروف ونهيهم عن المنكر من جهة الصفة والقدر، حيث أمروا بكل معروف ونهوا عن المنكر لكل أحد، وأقاموا ذلك بالجهاد في سبيل الله بأنفسهم وأموالهم وهذا كمال للخلق. وسائر الأمم لم يأمروا كل أحد بكل معروف، ولا نهوا كل أحد عن كل منكر، ولا جاهدوا على ذلك، بل منهم من لم يجاهد. والذين جاهدوا، كبني إسرائيل، فعامة جهادهم كان لدفع عدوهم عن أرضهم كما يقاتل الصائل الظالم لا لدعوة المجاهدين وأمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر، كما قال موسى لقومه: (( يَاقَوْمِ ادْخُلُوا الاْرْضَ المُقَدَّسَةَ الَّتِى كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَلاَ تَرْتَدُّوا عَلَى? أَدْبَـ?رِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَـ?سِرِينَ(21) قَالُوا يَامُوسَى? إِنَّ فِيهَا قَوْماً جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَن نَّدْخُلَهَا حَتَّى? يَخْرُجُواْ مِنْهَا فَإِن يَخْرُجُواْ مِنْهَا فَإِنَّا د?خِلُونَ...))، إلى قوله تعالى: ((قَالُواْ يَـ?مُوسَى إِنَّا لَنْ نَّدْخُلَهَا أَبَداً مَّا دَامُواْ فِيهَا فَ?ذْهَبْ أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَـ?هُنَا قَـ?عِدُونَ)) (المائدة:21-24)
أنواع الحسبة:
بناء على المفهوم الواسع للحسبة، يمكن تقسيمها إلى قسمين: رسمية وتطوعية:(1/97)
فالحسبة الرسمية التي تخضع لسيادة الدولة، كما قال ابن خلدون، هي وظيفة دينية من باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، الذي هو فرض على القائم بأمور المسلمين(الإمام)، حيث يعين لذلك من يراه أهلاً لها يسمى "المحتسب"، وهو يقوم باتخاذ الأعوان والمساعدين للقيام بتلك المهمة[20]. وقال ابن القيم: "جرت العادة بإفراد هذا النوع بولاية خاصة، كما أفردت ولاية المظالم بولاية خاصة، والمتولي لها يسمى والي المظالم... والمتولي لفصل الخصومات وإثبات الحقوق والحكم في الأنكحة والطلاق والنفقات وصحة العقود وبطلانها المخصوص باسم الحاكم والقاضي"[21]، وهي فرض عين على كل من الإمام والمحتسب.
وتختص ولاية الحسبة بالحكم بين الناس في القضايا التي لا تحتاج إلى دعوى وبينات، فيبحث المحتسب عن المنكرات الظاهرة، ويعزّر ويؤدب على قدرها، ويحمل الناس على المصالح العامة في المدينة، مثل: إقامة الصلوات، والمنع من المضايقة في الطرقات، ومنع الحمالين وأهل السفن من الإكثار في الحمل، والحكم على أهل المباني المتداعية للسقوط بهدمها، وإزالة ما يتوقع من ضررها على السابلة، والضرب على أيدي المعلمين في المكاتب (المدارس) وغيرها في الإبلاغ عن ضربهم للصبيان المتعلمين، ومنع البائعين من الغش و التدليس والتطفيف في المكاييل والموازين، ويتفقد أحوال الصناع الذين يصنعون الأطعمة والملابس والآلات، فيمنعهم من صناعة المحرم على الإطلاق، كآلات الملاهي، وثياب الحرير للرجال، ويمنع من اتخاذ أنواع المنكرات، ويمنع صاحب كل صناعة من الغش في صناعته، ويمنع من إفساد نقود الناس وتغييرها... وغيرها مما يدخل في الإنكار على أرباب الغش في المطاعم و المشارب والملابس. فإن هؤلاء يفسدون مصالح الأمة. والضرر بهم عام لا يمكن الاحتراز منه. فعليه أن لا يهمل أمرهم، وأن ينكل بهم أمثالهم[22].(1/98)
ولا تقتصر اختصاصات المحتسب على الاحتساب على أصحاب المهن الحرة، وإنما تتعدى ذلك إلى الولاة والقضاة، كما ذكر ابن بسام وغيره من المصنفين في الحسبة[23]. ولهذا يشترط في المحتسب أن يكون عدلاً ذا رأي وصرامة وهيبة وعلم بالمنكرات وغير ذلك. كما ذكر الماوردي وغيره: "الحسبة موضوعة للرهبة، فلا يكون خروج المحتسب إليها بالسلاطة و الغلظة تجوزاً فيها ولا خرقاً"[24].
وأما الحسبة التطوعية أو غير الرسمية "الأهلية"، فهي التي طلبتها الشريعة الإسلامية من المكلفين، لأن المسلم مكلف بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. وهي فرض كفاية. ويطلق الفقهاء على من يقوم بهذه الحسبة: "المتطوع" [25] فهو يقوم بها من دون تعيين، ولا تولية من ولي الأمر، وإنما يستند في القيام بها على الواجب الديني الملقى على عاتقه، وهو واجب عام يرتبط بالوسع، ويؤديه كل مسلم حسب طاقته وقدرته، كما قال ابن القيم[26]: "وهذا واجب على كل مسلم قادر، وهو فرض كفاية... فإن مناط الوجوب هو القدرة، فيجب على القادر ما لا يجب على العاجز" قال تعالى: ((فَ?تَّقُواْ ?للَّهَ مَا ?سْتَطَعْتُمْ)) (التغابن:16)، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "إذا أمرتكم بأمر فائتوا منه ما استطعتم"[27].
وتختلف صلاحيات المتطوع عن صلاحيات المحتسب المعين؛ لأن المعين يقوم مقام ولي الأمر في هذا العمل، فيجوز له أن يعزّر ويعاقب في المنكرات الظاهرة، بخلاف المتطوع، فلا يجوز له أن يعزّر ويعاقب في المنكرات الظاهرة، وإنما له النصيحة والوعظ والحوار والمجادلة وغير ذلك من الوسائل السليمة.(1/99)
وإذا كان للمحتسب المعين أن يتخذ الأعوان والمساعدين للقيام بأعمال الحسبة، فإن للمتطوعين وآحاد الناس أن ينظموا أنفسهم ويكونوا الجمعيات والمؤسسات الأهلية للقيام بأعمال الحسبة التي تدخل في صلاحياتهم، ويؤيد ذلك قوله تعالى: ((وَلْتَكُن مّنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى ?لْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِ?لْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ ?لْمُنْكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ ?لْمُفْلِحُونَ)) (آل عمران:104)، وقوله تعالى: ((وَتَعَاوَنُواْ عَلَى ?لْبرِ وَ?لتَّقْوَى? وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى ?لإِثْمِ وَ?لْعُدْوَانِ)) (المائدة:2).
ثالثاً: التأصيل الشرعي للحسبة:
إذا كانت الحسبة تمثل الرقابة العامة على المجتمع، فإن قاعدتها وأصلها هو: "الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر"، كما قال ابن القيم: وهي صفة وصف الله بها هذه الأمة، وفضلها من أجل ذلك على سائر الأمم[28]. وتعد أدلة مشروعية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أدلة الحسبة. وفيما يلي بيان لذلك:
1- قوله تعالى: (( وَلْتَكُن مّنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى ?لْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِ?لْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ ?لْمُنْكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ ?لْمُفْلِحُونَ )) (آل عمران:104).
2- وقوله تعالى: (( كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِ?لْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ ?لْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِ?للَّهِ)) (آل عمران:110).
3- وقوله تعالى: (( وَ?لْمُؤْمِنُونَ وَ?لْمُؤْمِنَـ?تِ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِ?لْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ ?لْمُنْكَرِ )) (التوبة:71).
4- وقوله تعالى، في وصية لقمان لابنه: ((ي?بُنَىَّ أَقِمِ ?لصَّلَو?ةَ وَأْمُرْ بِ?لْمَعْرُوفِ وَ?نْهَ عَنِ ?لْمُنْكَرِ وَ?صْبِرْ عَلَى? مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ ?لاْمُورِ )) (لقمان:17).(1/100)
5- وروى أبو سعيد الخدري رضي الله عنه، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " من رأى منكم منكرًا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان"[29].
6- وعن حذيفة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "والذي نفسي بيده لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر، أو ليوشكن الله أن يبعث عليكم عذاباً منه، ثم تدعونه فلا يستجاب لكم" [30].
7- وعن ابن مسعود رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن أول ما دخل النقص على بني إسرائيل كان الرجل يلقى الرجل، فيقول: يا هذا اتق الله ودع ما تصنع، فإنه لا يحل لك، ثم يلقاه من الغد فلا يمنعه ذلك أن يكون أكيله وجليسه وشريبه وقعيده، فلما فعلوا ذلك ضرب الله على قلوب بعضهم"، ثم قال: (( لُعِنَ ?لَّذِينَ كَفَرُواْ مِن بَنِى إِسْر?ءيلَ عَلَى? لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ?بْنِ مَرْيَمَ ذ?لِكَ بِمَا عَصَوْا وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ (78) كَانُواْ لاَ يَتَنَـ?هَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ )) (المائدة:78-79) ثم قال: "كلا والله لتأمرن بالمعروف، ولتنهون عن المنكر، ولتأخذن على يد الظالم، ولتأطرنه على الحق أطراً، أو تقصرنه على الحق قصراً" [31].
8- وعن أسامة بن زيد رضي الله عنهما، قال:سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يقول: "يؤتى بالرجل يوم القيامة فيلقى في النار فتندلق أقتاب بطنه، فيدور بها كما يدور الحمار بالرحى، فيجتمع إليه أهل النار، فيقولون: يافلان مالك؟ ألم تكن تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر؟ فيقول: بلى، قد كنت آمر بالمعروف ولا آتيه، وأنهى عن المنكر وآتيه"[32].(1/101)
9- وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إياكم والجلوس بالطرقات" قالوا: "يارسول الله مالنا من مجالسنا بد، نتحدث فيها. فقال: فإذا أبيتم إلا المجلس فأعطوا الطريق حقه"، قالوا: وما حق الطريق يا رسول الله؟ قال: "غض البصر، وكف الأذى، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر"[33].
10- وعن أبي بكر الصديق رضي الله عنه، قال: "أيها الناس إنكم تقرأون هذه الآية: (( يأَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لاَ يَضُرُّكُمْ مَّن ضَلَّ إِذَا ?هْتَدَيْتُمْ)) (المائدة:105)، وإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إن الناس إذا رأوا الظالم، فلم يأخذوا على يديه أوشك أن يعمهم الله بعقاب منه"[34].
11- وعن تميم الداري رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "الدين النصيحة"، قلنا: لمن؟ قال: "لله، ولكتابه، ولرسوله، ولأئمة المسلمين وعامّتهم" [35].
12- وقد أجمع العلماء على مشروعية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. ونقل الإجماع كل من ابن عبد البر والجويني وابن حزم والقرطبي، حيث قال ابن حزم: "لا خلاف بين الأمة الإسلامية على وجوبه" [36].
المبحث الثاني:
دور الحسبة في حماية حقوق الإنسان
من أبرز معالم هذا العصر قضية حقوق الإنسان، فهي تشكل مرتكزاً أساسياً للخارطة الدولية. فما دور الحسبة الشرعية في حمايتها؟ إن الجواب عن هذا السؤال يتضمن خمسة محاور: وهي الحسبة ومصدر حقوق الإنسان، والحسبة والغاية من حقوق الإنسان، والحسبة وتحديد مضامين حقوق الإنسان، والحسبة ودور الدولة في حماية حقوق الإنسان، والحسبة ومؤسسات المجتمع المدني التي تشكل إحدى الضمانات لحقوق الإنسان. وفيما يلي بيان لهذه المحاور.
أولاً: الحسبة ومصدر حقوق الإنسان:(1/102)
إذا كان مفهوم حقوق الإنسان في القوانين الغربية المعاصرة يستند إلى القانون الطبيعي المستمد من العقل الإنساني و الطبيعة، وإلى مبادئ العدالة التي تتركز في ضمير الإنسان ووجدانه، وما نتج عنها من حرية فردية وعقد اجتماعي، هذا بالإضافة إلى العلمانية السياسية التي اصطبغ بها الفكر الغربي منذ القرن السابع عشر الميلادي، والتي عملت على استبعاد فكرة وجود قوانين إلهية تحدد حقوق الإنسان، واستبدال هذه القوانين بالقوانين الطبيعية التي لا علاقة لها بالله تعالى لا من قريب ولا من بعيد[37]، فإن الحسبة الشرعية، أو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والذي يعني إحقاق الحق ومقاومة البغي الذي يتعرض له الإنسان؛ تستند إلى الوحي الإلهي المتمثل في القرآن الكريم و السنة النبوية الشريفة، والذي يأخذه الإنسان المسلم بقلب مليء بالإيمان والعقيدة. وهذا يفسر لنا اقتران الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بالإيمان في كثير من الآيات، منها قوله: (( كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِ?لْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ ?لْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِ?للَّهِ)) (آل عمران: 110)، وقوله: ((مّنْ أَهْلِ ?لْكِتَـ?بِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ ءايَـ?تِ ?للَّهِ ءانَاء ?لَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ (113) يُؤْمِنُونَ بِ?للَّهِ وَ?لْيَوْمِ ?لاْخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِ?لْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ ?لْمُنْكَرِ وَيُسَـ?رِعُونَ فِى ?لْخَيْر?تِ وَأُوْلَئِكَ مِنَ ?لصَّـ?لِحِينَ)) (آل عمران: 113-114)، وقوله: ((وَ?لْمُؤْمِنُونَ وَ?لْمُؤْمِنَـ?تِ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِ?لْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ ?لْمُنْكَرِ)) (التوبة: 71).(1/103)
"ومن النماذج الواقعية، ما روى الطبري في تاريخه أن ربعي ابن عامر دخل على رستم قائد الفرس في مجلسه، فبادر رستم بسؤال الشيخ المجاهد: ما جاء بكم؟ فأجابه الرجل المؤمن على الفور: "الله ابتعثنا، والله جاء بنا لنخرج من شاء من عبادة العباد إلى عبادة الله، ومن ضيق الدنيا إلى سعتها، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام"[38].
إن الحسبة الشرعية، بمفهومها الواسع للفرد والجماعة والدولة، هي محور حقوق الإنسان، وتؤصل لمصدر تلك الحقوق، فتربطها بالوحي الإلهى وعقيدة الإيمان بدلاً من ربطها بالطبيعة والعقل الإنساني المجرد ومبادئ العدالة وما ينتج عنها من عقد اجتماعي، وغير ذلك مما تقرره العقلية الغربية. وهذا مما يجعل هذه الحقوق ثابتة وموضوعية، وهي في حراسة عقيدة الإيمان وحمايتها، وهي ترتكز إلى أصول ثابتة في قلب الإنسان المسلم وضميره، تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها، وتجد احتراماً وتقديراً و قداسة من الإنسان.قال الله تعالى: (( إِنَّ ?للَّهَ يَأْمُرُ بِ?لْعَدْلِ وَ?لإْحْسَانِ وَإِيتَآء ذِى ?لْقُرْبَى? وَيَنْهَى? عَنِ ?لْفَحْشَاء وَ?لْمُنْكَرِ وَ?لْبَغْى)) (النحل:90)، وقال تعالى: ((إِنَّ ?للَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ ?لامَـ?نَـ?تِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ ?لنَّاسِ أَن تَحْكُمُواْ بِ?لْعَدْلِ)) (النساء: 58)، أما ربط حقوق الإنسان بالقانون الطبيعي فيجعلها خاضعة لاعتبارات ذاتية ترتبط بمصلحة الدولة أو مصلحة الحكام دون النظر إلى الاعتبارات الموضوعية المتعلقة بإقرار الحقوق والواجبات، ولذلك قيدت نصوص المواثيق الخاصة بهذه الحقوق بالحماية التي كفلتها دساتير الدول[39].
وهذا يفسر لنا التصريحات المتناقضة بشأن حقوق الإنسان في الغرب، وسياسة الكيل بمكيالين ومدى (احترام) الغرب لحقوق الإنسان في غير بلاده!
ثانياً: الحسبة والغاية من حقوق الإنسان:(1/104)
إذا كانت الغاية من حقوق الإنسان في القوانين الغربية المعاصرة هي تقرير القيم الغربية المستندة إلى مبادئ العدالة والحرية الفردية وتسويقها في المجتمعات الإنسانية عن طرق الدعاية الإعلامية، والدعوة إلى العلمانية أحياناً، وفي بعض الأحيان عن طريق الحرب، وتهديد الدول بوضعها في قائمة الدول المساندة للإرهاب والمنتهكة لحقوق الإنسان، فإن الغاية من الحسبة الشرعية هي تحقيق السلام العالمي، الذي يستند إلى تطبيق أحكام الشريعة الإسلامية، وحماية مصالح الناس في الدنيا والآخرة، ودفع الفساد عنهم.
وهي مصالح لا ترتبط بفئة معينة، ولا بجنس الفرد أو لونه أو موطنه، وإنما تشمل جميع الناس. وهي تسعى إلى إيجاد عالم يتمتع فيه الإنسان بالكرامة الإنسانية وبحرية العقيدة والقول، ويتحرر من التسلط والظلم والفزع والفاقة، كما يقول الغزالي وغيره من العلماء المسلمين: "إن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هو القطب الأعظم في الدين... ولو طوي بساطه وأهمل علمه وعمله، لتعطلت النبوة واضمحلت الديانة، وعمت الفترة، وفشت الضلالة، وشاعت الجهالة، واستشرى الفساد، واتسع الخرق، وخربت البلاد، وهلك العباد، ولم يشعروا بالهلاك إلا يوم التناد"[40].
إن الحسبة في غايتها العالمية تؤصل للغاية من حقوق الإنسان، فهي غاية عالمية خالدة، وليست آنية يتوقف وجودها وإقرارها على مصالح الدول والأمم التي تروج لها، وهي ترجع إلى حفظ مقاصد الشريعة في الخلق، كما أشار الشاطبي، حيث ربط بين الحسبة ومقاصد الشريعة. وهذه المقاصد لا تعدو ثلاثة أقسام: وهي الضروريات، والحاجيات، والتحسينيات.
فالضروريات هي التي لا بد منها في قيام مصالح الدين والدنيا، بحيث إذا فقدت لم تجر مصالح الدنيا على استقامة، بل على فساد وتهارج وفوت حياة، وفي الأخرى فوت النجاة والنعيم والرجوع بالخسران المبين.. ويتم حفظ الضروريات بأمرين:(1/105)
الأول: ما يقيم أركانها ويثبت قواعدها، وذلك مراعاتها من جانب الوجود.
والثاني:ما يدرأ عنها الاختلاف الواقع أو المتوقع فيها، وذلك مراعاتها من جانب العدم.
فأصول العبادات راجعة إلى حفظ الدين من ناحية الوجود: كالإيمان، والنطق بالشهادتين، والصلاة، والزكاة، والصيام، والحج، وما أشبه ذلك.. والعادات راجعة إلى حفظ النفس والعمل من جانب الوجود أيضاً: كتناول المأكولات، والمشروبات، والملبوسات، والمسكونات.. والمعاملات راجعة إلى حفظ النسل و المال من جانب الوجود، وإلى حفظ النفس و العقل أيضا.ً. والجنايات راجعة إلى حفظ الجميع من دين ونفس وعرض وعقل ومال من جانب العدم.
والذي يجمع كل ذلك من الجانبين: الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر(الحسبة)، فيجمعها من جانب الوجود الأمر بالمعروف، ومن جانب العدم النهي عن المنكر.
وأما الحاجيات فترجع إلى ما يرفع الحرج عن الناس، ويخفف عنهم أعباء التكليف، وييسر لهم طرق المعاملات و المبادلات. وهي جارية في العبادات والمعاملات والجنايات. ففي العبادات شرعت الرخص تخفيفاً عن المكلفين إذا كان في العزيمة مشقة عليهم: كرخصة الإفطار في رمضان لكل من المريض والمسافر. وفي المعاملات شرعت البيوع والإجارات والمضاربات، ورخص في عقود لا تنطبق على الأصول العامة: كالسلم والاستصناع والمزارعة والمساقاة، وغير ذلك مما يحتاج إليه الناس. وفي الجنايات شرعت القسامة، وضربت الدية على العاقلة، وغير ذلك.(1/106)
وأما التحسينيات فترجع إلى كل ما يجمل حال الناس ويجعلها على وفاق مما يليق بمحاسن العادات، وتجنب الأحوال المداسات التي تأنفها العقول الراجحات. ويجمع ذلك مكارم الأخلاق. وهي جارية في العبادات والمعاملات والعقوبات. ففي العبادات شرعت الطهارة وأخذ الزينة. وفي المعاملات منع الغش والتدليس والتغرير وبيع النجاسات. وفي العقوبات منع من قتل الرهبان والنساء والصبيان الذين لم يشاركوا في القتال، ونهي عن المُثلة و الغدر وغير ذلك[41].
ثالثاً: الحسبة وتحديد مضامين حقوق الإنسان:
إذا كانت المواثيق الغربية المعاصرة لحقوق الإنسان ودساتير الدول لم تتناول مضامين الحقوق بشكل قانوني منظم ومبوب، وإنما عمدت إلى تقريرها بأسلوب عاطفي أدبي، مما يزيد في انتقائية الدول لهذه الحقوق، ويجعلها في مرونة السلطة الحاكمة في إقرار بعض الحقوق أو عدم إقرارها في المجتمع، وليس أدل على ذلك من التفرقة العنصرية ضد الملونين التي تمارسها الدول الديمقراطية التي تدعي دفاعها عن حقوق الإنسان، أو السياسة الاستعمارية البشعة التي تمارسها كثير من الدول الكبرى في العالم[42]، فإن علماء الحسبة الشرعية قد تناولوا مضامين حقوق الإنسان بشكل مبوب يفوت على الدولة الانتقائية في إقرار الحقوق، ويكسب تلك الحقوق الحماية.(1/107)
فقد قسم ابن تيمية الحقوق إلى قسمين: أولهما: الحقوق التي ليست لقوم معينين، بل منفعتها لمطلق المسلمين، أو نوع منهم، كلهم محتاج إليها، وتسمى حدود الله وحقوق الله، ومثّل لذلك بحد قطع الطريق، وحد السرقة، والزنى، والتصرف في الأموال السلطانية (المالية العامة)، والوقف، والوصايا التي ليست لمعين. فهذه من أهم أمور الولايات، ولهذا قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: "لا بد للناس من إمارة، بَرَّة كانت أو فاجرة. فقيل: يا أمير المؤمنين هذه البرة قد عرفناها فما بال الفاجرة؟ فقال: يقام بها الحدود، وتأمن بها السبل، ويجاهد بها العدو، ويقسم بها الفيء"، فهذا القسم يجب على الولاة البحث عنه وإقامته من غير دعوى أحد به: وأما القسم الثاني: فهو الحقوق التي لآدمي معين، وترجع إلى حفظ النفس بالقصاص، والعقل، والمال بتشريع المعاملات وغير ذلك[43].
ويضيف الماوردي قسماً ثالثاً إلى حقوق الله وحقوق الآدميين: وهو الحقوق المشتركة بين حقوق الله وحقوق الآدميين، ولهذا نجده قد قسم الحقوق ثلاثة أقسام وربطها بالحسبة بفرعيها: الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر[44].
وجعل الفرع الأول على ثلاثة أقسام. وهي حقوق تتعلق بالله تعالى وما يجب له، وحقوق تتعلق بالآدميين، وحقوق مشتركة بين الله والآدميين.
فالقسم الأول: المتعلق بحقوق الله على ضربين:
الضرب الأول: ما يلزم الأمر به في الجماعة دون الانفراد: كصلاة الجمعة في وطن مسكون، وصلاة الجماعة في المساجد، وإقامة الأذان فيها. فهي من شعائر الإسلام وعلامات التعبد، فإذا اجتمع أهل بلد أو محلة على تعطيل صلاة الجماعة في مساجدهم، وترك الأذان في إقامة صلواتهم، كان المحتسب مندوباً إلى أمرهم بالأذان والجماعة في الصلوات.
وأما الضرب الثاني:فما يأمر به آحاد الناس وأفرادهم: كالأمر بأداء الصلاة في وقتها وعدم تأخيرها، فيذكر المحتسب بها ويأمر بفعلها.(1/108)
وأما القسم الثاني: المتعلق بالأمر بالمعروف في حقوق الآدميين فعلى ضربين: عام، وخاص:
فالضرب الأول: عام يتعلق بمصلحة عموم الناس: ومثاله ما إذا تعطل شِرب[45] البلد، أو انهدم سوره، فعلى المحتسب أن يأمر المسؤولين بإصلاحه إذا كان في بيت المال مال وإلا لزم الكافة القيام بذلك، فيبادر القادرون إلى إصلاحه، وإن قصروا في ذلك أمرهم المحتسب وحثهم عليه.
وأما الضرب الثاني: من حقوق الآدميين فهو خاص، ويكون فيما إذا مُطلت الديون وأخر المدين القادر على سدادها، فللمحتسب أن يأمر القادرين على السداد بقضاء ما عليهم من ديون إذا حان وقت السداد، إذا طلب منه أصحاب الديون ذلك.
وأما القسم الثالث المتعلق بالأمر بالمعروف فيما كان مشتركاً من حقوق الله تعالى وحقوق الآدميين، فيمثل له بأمر الأولياء بنكاح الأيامى أكفائهن إذا اشتكين للمحتسب، ومنع تعسف الأولياء في حق الولاية عليهن، وإلزام النساء بأحكام العدة إذا فورقن، وله تأديب من خالفت في العدة: بأن تزوجت قبل انتهائها. ويأخذ السادة بحقوق العبيد والإماء و (الخدم)، وأن لا يكلفوا من الأعمال مالا يطيقون، ويأمر من أخذ لقيطاً برعايته، وعدم التقصير في كفالته.
وجعل الفرع الثاني: وهو النهي عن المنكر، على ثلاثة أقسام أيضاً:
فالقسم الأول: يتعلق بحقوق الله تعالى، وهو على ثلاثة أضرب:
الضرب الأول: ما يتعلق بالعبادات، من قصد مخالفة هيئاتها المشروعة، وتعمد تغيير أوصافها المسنونة: كأن يقصد الجهر في صلاة الإسرار، والإسرار في صلاة الجهر، أو أن يزيد في الصلاة أو الأذان أذكاراً غير مسنونة؛ فللمحتسب إنكارها وتأديب المعاند فيها. وكذلك إذا أخل الإنسان بتطهير جسده أو ثوبه أو موضع صلاته أنكره عليه إذا تحقق ذلك، وإذا رأى من يتصدى لعلم الشرع وليس من أهله أنكر عليه ذلك.(1/109)
وأما الضرب الثاني: فما يتعلق بالمحظورات من حقوق الله، مثل منع الناس من مواقف الريب ومظان التهمة: كوقوف رجل مع إمرأة في طريق خال، والمجاهرة بإظهار الخمر، واستعمال الملاهي المحرمة وغير ذلك.
وأما الضرب الثالث: فما يتعلق بالمعاملات من حقوق الله، والبيوع الفاسدة، والعقود المحرمة، والغش في المبيعات، وتدليس الأثمان، وغير ذلك.
وأما القسم الثاني: المتعلق بالنهي عن المنكر في حقوق الآدميين المحضة؛ فيمثل له بتعدي الجيران على بعضهم، إذا طلب المتعدى عليه إنصافه. وكذلك مراقبة أهل الصنائع في الأسواق ومنعهم من الغش.
وأما القسم الثالث: المتعلق بالنهي عن المنكر في الحقوق المشتركة بين حقوق الله تعالى وحقوق الآدميين؛ فيمثل له بالمنع من الإشراف على منازل الناس والإطلاع على عوراتهم، ومنع أئمة المساجد من الإطالة في الصلاة حتى لا يعجز عنها الضعفاء ولا ينقطع عنها ذوو الحاجات. ومنع القضاة من الجور في الأحكام. ومنع أرباب السفن من حمل ما لا تسعه، ويخاف منه غرقها، ومنعهم من السير عند اشتداد الريح، وإذا حمل فيها الرجال والنساء حجز بينهم بحائل. ويراقب المحتسب المحلات التي يرتادها النساء، فإذا كان العامل فيها ممن حسنت سيرته وأمانته أقره فيها، وإن ظهرت منه الريبة وبان عليه الفجور؛ منع من العمل فيها وأدب على ذلك. وينظر المحتسب في مقاعد الأسواق، فيقر منها ما لا ضرر فيه على المارة، ويمنع ما استضر به المارة. ويمنع من التكسب بالكهانة واللهو، ويؤدب عليه الآخذ والمعطي وغير ذلك.
مما سبق من عرض لأنوع حقوق الإنسان في تشريع الحسبة في الفقه الإسلامي، تتبين الأمور التالية:(1/110)
1- إن الحسبة ببيان أنواع الحقوق فيها تستوعب كل ما جاء في إعلانات حقوق الإنسان في الدساتير الحديثة والمواثيق الدولية المعاصرة، فهي تشمل الحقوق الشخصية الذاتية والفكرية والسياسية والقانونية والاجتماعية والاقتصادية والحريات العامة: كحرية التعبير وحرية التنقل والإقامة، والحرية الفكرية والمعنوية، هذا بالإضافة إلى تقرير حق المساواة بين أفراد الدولة أمام شريعة الله تعالى. كما يتمتع أهل الذمة من غير المسلمين بالمساواة أمام القانون والقضاء؛ لأن الذمي من رعوية الدولة الإسلامية ويحمل جنسيتها، فله حقوق المواطنة العامة في الإسلام.
وتزيد حقوق الإنسان في الإسلام على ما جاء في تلك المواثيق بإقرار عبودية الإنسان لخالقه تعالى، وتحريره من العبودية للخلق. وهي ركيزة أساسية في تحقيق إنسانية الإنسان وكرامته، إذ بدونها تبقى حقوقه عرضة للانتهاك.
2- إن الحسبة في عرضها للحقوق الواجبة للإنسان لا تغفل عن الواجبات الملقاة على عاتقه، فيجعل كثيراً من حقوقه واجبات دينية مطالب بها. فإبداء الرأي(الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر) واجب شرعي عليه وحق له كذلك، أوجبه الإسلام على الفرد المسلم في قوله تعالى : ((وَلْتَكُن مّنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى ?لْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِ?لْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ ?لْمُنْكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ ?لْمُفْلِحُونَ)) (آل عمران:104)، واعتبره حقاً له وواجباً على الدولة، فعليها أن تمكن المسلمين من أدائه، في قوله: ((وَشَاوِرْهُمْ فِى ?لاْمْرِ )) (آل عمران:159) كما يجب على الدولة أن تخصص ولاية خاصة بالحسبة، وتعين المحتسب والأعوان.(1/111)
هذا بالإضافة إلى أن الحقوق في الإسلام جاءت مقيدة بالواجبات: فحرية التنقل في داخل بلاد الدولة الإسلامية مقيدة بعدم إلحاق الضرر بالأمة، كأن يكون ذلك البلد ثغراً في مواجهة العدو، وحينئذ فإن على أهله واجب البقاء فيه وعدم الانتقال عنه، ولو تعرضت مرافقه للتلف فيجب على الدولة إصلاحها إن كان في بيت المال مال، والإ وجب على الكافة القيام بالإصلاح، ولا يجوز لهم الانتقال عنه، كما قال الماوردي: "إن كان البلد- أي الذي تعرض شِربه للتلف- ثغراً بدار الإسلام لم يجز لولي الأمر أن يفسح في الانتقال عنه، وكان حكمه حكم النوازل إذا حدثت في قيام كافة ذوي المكنة به. وكان تأثير المحتسب في مثل هذا إعلام السلطان به وترغيب أهل المكنة في عمله. وإن لم يكن هذا البلد ثغراً مضراً بدار الإسلام كان أمره أيسر وحكمه أخف..."[46].
إن الجمع بين الحقوق والواجبات في تشريع الحسبة وغيرها، يؤدي إلى تواضع الإنسان في مطالبته بحقوقه وعدم تسرعه، فقبل المطالبة للآخرين بالحقوق يطالب نفسه بالواجبات الملقاة على عاتقه. وهذا بدوره يؤدي إلى إيجاد إنسان الواجب الذي يستشعر دوره في المجتمع، وبالتالي يكون معطاء فعالاً إيجابياً مدركاً لواجبه تجاه نفسه ومجتمعه ودينه.(1/112)
3- إن تشريع الحسبة قرر الحقوق الجماعية للشعوب ولم يكتف بتقرير حقوق الفرد: مثل حق تقرير المصير والكيان السياسي للأمة، وهي ما يطلق عليها المصلحة العامة أو حق الله تعالى، وهي حقوق مقدمة على الحقوق الخاصة، كما جاء في حديث السفينة، حيث قال النبي صلى الله عليه وسلم: "مَثَلُ المُدْهِن في حدود الله والواقع فيها مثلُ قوم استهموا سفينة، فصار بعضهم في أسفلها، وصار بعضهم في أعلاها، فكان الذي في أسفلها يمرون بالماء على الذين في أعلاها، فتأذوا به فأخذ فأساً فجعل ينقر أسفل السفينة، فأتوه، فقالوا: مالك؟، قال: تأذيتم بي ولا بد لي من الماء، فإذا أخذوا على يديه أنجوه ونجّوا أنفسهم، وإن تركوه أهلكوه وأهلكوا أنفسهم"[47].
رابعاً: الحسبة و دور الدولة في حماية حقوق الأنسان:(1/113)
ولاية الحسبة من الولايات الشرعية العامة الخاضعة لسلطة الدولة، حيث تجب على الإمام بحكم وظيفته في حفظ الدين على أصوله المستقرة وتنفيذ أحكامه، ورعاية حقوق الناس ومصالحهم[48]. ولذلك كان الخلفاء في العصور الأولى للإسلام يباشرونها بأنفسهم، ثم أسندوا أمرها إلى والٍ خاص يُعْرَف بالمحتسب، وأُعطي من الصلاحيات و الأعوان بحيث يقوم بها خير قيام، فيمشي في الأسواق والشوارع ويقتحم أبواب المؤسسات العامة والدوائر الحكومية، ليأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، سواء تعلق ذلك بقيمة من قيم الإسلام معطلة أو بحق من حقوق الناس مهدر، مهما كان مركز ذلك الفاعل للمنكر، فيدخل المحتسب على الأمراء والولاة وينكر عليهم، كما قال ابن الإخوة: "ينبغي للمحتسب أن يقصد مجالس الأمراء والولاة ويأمرهم بالشفقة على الرعية، والإحسان إليهم، ويذكر لهم ما ورد في ذلك من الأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم مثل: "ما من عبد استرعاه الله رعية، ولم يحطها بنصيحة إلا لم يجد رائحة الجنة"[49]، وقال صلى الله عليه وسلم: "ما من وال يلي رعية من المسلمين، فيموت وهو غاش لهم إلا حرم الله عليه الجنة"[50]، ويبين لهم خطر الولاية. ولا يسلم الوالي إلا بمخالطة العلماء والصلحاء وفضلاء الدين ليعلموه طريق العدل.
ومن أعظم خصال الوالي وأحمدها توقياً في نفوس الخاصة والعامة، إنصافه من خاصته وحاشيته وأعوانه، وتفقدهم في كل ساعة، ويمنعهم أن يأخذوا فوق ما يستحقون.. "[51]، ويدخل على القضاة في محاكمهم، كما قال ابن بسام: "ينبغي للمحتسب أن يتردد إلى مجالس القضاة والحكام... فإذا رأى القاضي قد اشتاط على رجل غيظاً أو شتمه أو احتدّ عليه في كلامه ردعه عن ذلك، ووعظه، وخوفه الله عز وجل، فإن القاضي لا يجوز له أن يحكم وهو غضبان، ولا يقول هجراً ولا يكون فظاً غليظاً"[52]..(1/114)
ويراقب المحتسب التجار والصناع، ويشرف على أحوالهم، ويطالع أخبارهم، فيقر المعروف وينكر المنكر، ويمنع صاحب كل صناعة من الغش في صناعته، وكل تاجر من الغش في بضاعته[53].
فعلى المحتسب أن يأخذ على يد الظالم، وأن يحارب الجريمة والانحراف قبل أن يستفحل خطرها ويشتد أمرها، وتفتك بالناس في المجتمع؛ وإلا كان مسؤولاً عن ذلك، ومن ورائه الدولة التي عينته، قال تعالى: (( لُعِنَ ?لَّذِينَ كَفَرُواْ مِن بَنِى إِسْر?ءيلَ عَلَى? لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ?بْنِ مَرْيَمَ ذ?لِكَ بِمَا عَصَوْا وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ (78) كَانُواْ لاَ يَتَنَـ?هَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ)) (المائدة: 78-79).
وإذا جاز للمحتسب اقتحام الدوائر الحكومية العامة، من إدارة الوالي والمحكمة الشرعية وغير ذلك، فلا يجوز له اقتحام بيوت الناس الخاصة والتجسس عليهم، كما ذكر ابن جزي في القوانين ضمن شروط المحتسَب عليه: "أن يكون معلوماً بغير تجسس، فكل من ستر على نفسه وأغلق بابه، لا يجوز أن يتجسس عليه"[54].. وروى الخلال عن أحمد بن حنبل: "أنه سئل عن الرجل يسمع حس الطبل والمزمار ولا يعرف مكانه، فقال: وما عليك؟ وقال: ما غاب فلا تفتش"[55]. وقال ابن تيمية: "إذا أظهر الرجل المنكرات وجب الإنكار عليه"[56].(1/115)
وقال الماوردي: "وأما ما لم يظهر من المحظورات فليس للمحتسب أن يتجسس عنها، ولا أن يهتلك الأستار حذراً من الاستتار بها"[57]، ويؤيد ذلك قوله صلى الله عليه وسلم:"من أصاب من هذه القاذورات فليستتر بستر الله، فإنه من يبدي لنا صفحته نقم عليه كتاب الله"[58]، وقوله صلى الله عليه وسلم: "إنك أن اتبعت عورات المسلمين أفسدتهم أوكدت أن تفسدهم"[59]، وما روي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال: "إن ناساً كانوا يؤخذون بالوحي في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإن الوحي قد انقطع، وإنما نأخذكم الآن بما ظهر لنا من أعمالكم، فمن أظهر لنا خيراً أمناه وقربناه، وليس لنا من سريرته شيء، الله يحاسبه على سريرته" [60].
واستثنى الماوردي من عدم جواز التجسس على الناس حالة واحدة: وهي ما إذا كانت الجريمة على وشك الوقوع، ونقلها إلى المحتسب ثقةٌ عدلٌ. أما إذا لم تكن على وشك الوقوع أو لم يخبر بها ثقة عدل، فلا يجوز التجسس واقتحام البيوت الخاصة للناس، حيث قال: "فإن غلب على الظن استسرار قوم بها لأمارات دلت وآثار ظهرت فذلك ضربان: أحدهما: أن يكون ذلك في انتهاك حرمة يفوت استدراكها: مثل أن يخبره من يثق في صدقه أن رجلاً خلا بامرأة ليزني بها أو برجل ليقتله؛ فيجوز له في مثل هذه الحالة أن يتجسس، ويقوم على الكشف والبحث حذراً من فوات مالايُستدرك من انتهاك المحارم وارتكاب المحظورات... وهكذا لو عرف ذلك قوم من المتطوعة جاز لهم الإقدام على الكشف والبحث في ذلك والإنكار. والضرب الثاني: ما خرج من هذا الحد وقصر عن حد هذه الرتبة؛ فلا يجوز التجسس عليه، ولا كشف الأستار عنه"[61].
هذا يدل دلالة واضحة على أن تشريع الحسبة يحمي الحياة الخاصة للإنسان، فلا يجوز التجسس عليه ولا مراقبته بحجة المصلحة الوطنية، ولا التنصت على مكالماته الهاتفية وغير ذلك.
خامساً: الحسبة ومؤسسات المجتمع المدني التي تشكل إحدى الضمانات لحقوق الإنسان:(1/116)
إذا كان المجتمع المدني يعني أنه المجتمع الذي ينظم أفراده أنفسهم بتنظيمات تطوعية حرة، تملأ الفراغ بين الأسرة والسلطة السياسية والمجتمع، بحيث يتمكن الأفراد من أن يديروا أنفسهم بأنفسهم، من خلال منظماتهم التطوعية، ملتزمين في ذلك بقيم الاحترام ومعاييره والإدارة السلمية للنزاع والخلاف، فهو بهذا المعنى يتضمن عدة عناصر وهي:
العنصر الأول: المبادرة إلى الانضواء في عضويات حرة، وتنظيمات فاعلة تسعى لتحقيق مصالح الناس، وترعى حقوقهم على وجه الكفاية. وبقدر ما يحمل الشخص من بطاقات عضوية في تلك التنظيمات الحرة يكون عنصراً نشطاً في مجتمعه.
العنصر الثاني: التنظيم الجماعي، فهي مؤسسة ذات نظام خاص بها، ينظم حقوق الأفراد وواجباتهم.
العنصر الثالث: اتباع الطرق السليمة في حل الخلافات، فالأفراد في المجتمع المدني يعترفون بحق "الغير" في تنظيم نفسه وحماية حقوقه[62].
فإن الحسبة بمعناها التطوعي تعمل على إيجاد مؤسسات أهلية أو مؤسسات المجتمع المدني، فللمتطوعين أن يبادروا إلى إقامة مؤسسات وجمعيات في سائر حقول الحياة، تنفيذاً لأمر الله تعالى: ((وَلْتَكُن مّنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى ?لْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِ?لْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ ?لْمُنْكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ ?لْمُفْلِحُونَ)) (آل عمران:104)، وقوله تعالى: ((وَتَعَاوَنُواْ عَلَى ?لْبرِ وَ?لتَّقْوَى? وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى ?لإِثْمِ وَ?لْعُدْوَانِ)) (المائدة:2).. فلا بد للمسلمين من تجميع طاقاتهم وتنظيمها حتى تتحول إلى قوة إيجابية فعالة تساند الحق وتقف في وجه الباطل.(1/117)
هذا بالاضافة إلى أن الحسبة التطوعية بحكمها التكليفي، وهو حسب رأي جمهور الفقهاء[63] فرض كفاية، تؤيد إنشاء المؤسسات والجمعيات الأهلية. وبيان ذلك، أن الواجب الكفائي يعني أن على القادر القيام بالمطلوب ومباشرته، فإذا قام به "البعض" سقط الإثم عن الآخرين. وهذا لا يقلل من شأن الواجب الكفائي، وإنما يعلي من مكانته، فهو يقوم برعاية المصالح العامة للمجتمع، كما قال الشاطبي: "وذلك أن الكفائي قيام بمصالح عامة لجميع الخلق"[64].
وقال العز بن عبد السلام: "واعلم أن المقصود بفرض الكفاية تحصيل المصالح ودرء المفاسد دون ابتلاء الأعيان بتكليفه. والمقصود بتكليف الأعيان حصول المصلحة لكل واحد من المكلفين على حدته؛ لتظهر طاعته أو معصيته، لذلك لا يسقط فرض العين إلا بفعل المكلف به، ويسقط فرض الكفاية بفعل القائمين به دون من كلف به في امتداد الأمر. أما سقوطه عن فاعليه؛ فلأنهم قاموا بتحصيل مصلحته، وأما سقوطه عن الباقين فلتعذر التكليف"[65].
وإذا كان الواجب الكفائي يتعلق بالمصالح العامة؛ فإنه يجعل ذلك الواجب واجباً عاماً يلقي على عاتق المسلمين جميعاً القيام به، فالقادر على القيام به يباشره بنفسه، وغير القادر يحمل القادر على مباشرته، كما قال الشيخ محمد الخضري: "الواجبات الكفائية إذا ورد من الشارع طلب شيء منها، فإنما يوجه إلى "البعض" القادر على العمل، وعلى بقية الأمة أن تحمل هؤلاء على العمل إذا هم تهاونوا في القيام به.. فالمستعدون مكلفون بمباشرة العمل، والباقون مكلفون بحمل القادرين على العمل بمباشرته"[66].(1/118)
وعليه، فإن مفهوم واجب الكفاية يتسع ليشمل وجوب تشكيل مؤسسات أهلية للقيام بمصالح الناس عامة. ومن المؤسسات التي تدخل تحت الكفاية المؤسسات الفكرية، ومراكز الدراسات التي تعنى بإصدار النشرات والدوريات البحثية المتخصصة. وقد عدَّ الزركشي تصنيف الكتب العلمية ضمن مجالات فروض الكفاية، فقال: "تصنيف كتب العلم لمن منحه الله تعالى فهماً وإطلاعاً، ولن تزال هذه الأمة مع قصر أعمارها في ازدياد وترق في المواهب"[67].
ومنها: المؤسسات الاجتماعية التي ترمي إلى سد الخلات ودفع حاجات المحتاجين، وإغاثة الملهوفين، وإنقاذ الغرقى، وغير ذلك. ومنها: المؤسسات التطوعية لإصلاح المرافق العامة في حالة عجز ميزانية الدولة عن سد نفقات الإصلاح: كإصلاح شِرب بلد تعطل، أو سور مدينة انهدم، كما قال الماوردي:
"فإن كان في بيت المال مال، لزم إصلاح ما تعطل من بيت المال؛ لأنها حقوق تلزم بيت المال. فأما إذا أعوز بيت المال كان الأمر ببناء سورهم وإصلاح شربهم وعمارة مساجدهم وجوامعهم ومراعاة بني السبيل فيهم متوجهاً إلى كافة ذوي المكنة منهم، ولا يتعين أحدهم في الأمر به، وإن شرع ذوو المكنة في عملهم وفي مراعاة بني السبيل وباشروا القيام به سقط عن المحتسب حق الأمر به، ولم يلزمهم الاستئذان في مراعاة بني السبيل ولا في بناء ما كان مهدوماً. ولكن لو أرادوا هدم ما يعيدون بناءه من المسترم والمستهدم لم يكن لهم الإقدام على هدمه فيما عمّ أهل البلد من سوره وجامعهم إلا باستئذان ولي الأمر دون المحتسب ليأذن لهم في هدمه.."[68].
ومنها: النقابات المهنية والحرفية، فقد أشارت كتب الحسبة إلى ضرورة وجود عريف في كل صنعة من صالح أهلها، خبيراً بصناعتهم، بصيراً بغشوشهم وتدليسهم، مشهوراً بالثقة والأمانة، مشرفاً على أحوالهم، ويطالع المحتسب بأخبارهم[69].(1/119)
وإذا كان اتباع الطرق السليمة عنصراً أساسياً في المجتمع المدني، فإن المتطوعين بالحسبة يباشرونها بالطرق السليمة في تلك المؤسسات، فليس لهم أن يعزروا ويعاقبوا في المنكرات الظاهرة، وإنما لهم النصيحة والوعظ والحوار والمجادلة وغير ذلك من الوسائل السلمية؛ لأن إعطاء صلاحيات تنفيذ العقوبات للمتطوعين وآحاد الناس يثير الفوضى والاضطراب في المجتمع الإسلامي، ويؤدي إلى مفاسد كثيرة، وهو افتيات على الإمام، كما قال ابن عبد السلام: "تولي الآحاد لما يختص بالأئمة مفسدة"[70]، هذا إذا كان الإمام مطبقاً لأحكام الشريعة الإسلامية وملتزماً بها. أما إذا كان جائراً أو غير مطبق لأحكام الشريعة، فقد أجاز الفقهاء لآحاد الناس تولي ما يختص بالأئمة في الأموال خاصة، فلهم أن يوزعوها، ويضعوها في مواضعها، كما قال ابن عبد السلام[71]: "يجوز - يقصد تولي آحاد الناس- لما يختص بالأئمة في الأموال إذا كان الإمام جائراً، يضع الحق في غير مستحقه تحصيلاً لمصلحة ذلك الحق الذي لو دفع إلى الإمام الجائر ولكان دفعه إليه إعانة على العصيان"، وقال تعالى: (( وَتَعَاوَنُواْ عَلَى ?لْبرِ وَ?لتَّقْوَى? وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى ?لإِثْمِ وَ?لْعُدْوَانِ)) (المائدة:2).
ولا شك أن هذه المؤسسات الأهلية السلمية المحتسبة، هي التي تنشئ العمل الجاد المثمر، القادر على حماية حقوق الإنسان أكثر من المؤسسات الرسمية؛ لأنها تكون مستقلة عن السياسة المحلية للدولة، فلا تدور في فلكها، وإنما تدور في فلك مصلحة الأمة، ولأنها تعتمد في الغالب على أناس مخلصين يفرزهم العمل ويبرزهم الميدان، وبالتالي يكونون محل ثقة الناس واحترامهم و تقديرهم. هذا في الأعم الأغلب، وإلا فقد يوجد بين القائمين على المؤسسات الرسمية من يفوق العاملين في المؤسسات الأهلية إخلاصاً لله وغيرة على دينه.
الهوامش :(1/120)
[1] لسان العرب لابن منظور، مادة(حسب)، (1/205)؛ معجم مقاييس اللغة لابن فارس، 2/59؛ المصباح المنير للفيومي، ص185؛ المفردات للأصفهاني، ص116؛ بصائر ذوي التمييز للفيروز آبادى، 2/460؛ النهاية في غريب الحديث لابن الأثير، 1/381.
[2] صحيح البخاري، كتاب الصوم، باب (6)، ص361.
[3] صحيح البخاري، كتاب الإيمان، باب (35)، ص32.
[4] صحيح البخاري، كتاب الجنائز، باب (33)، ص251.
[5] الأحكام السلطانية للماوردي 240؛ والأحكام السلطانية لأبي يعلى الفراء، 284.
[6] مجموع الفتاوى لابن تيمية، 28/ 217.
[7] معالم القربة في أحكام الحسبة لابن الإخوة، ص51؛ وانظر: نهاية الرتبة في طلب الحسبة لابن بسام، ص10.
[8] معالم القربة لابن الإخوة، ص 62.
[9] إحياء علوم الدين للغزالي، 2/312.
[10] نصاب الاحتساب للسنامي، ص83.
[11] المفردات للراغب الأصفهاني، ص117.
[12] سنن الترمذي، كتاب فضائل الجهاد، باب(11)، ص285، وقال: حسن صحيح.
[13] سنن ابن ماجه، كتاب الجنائز، باب (58)، ص175، وهو حديث صحيح.
[14] موطأ الإمام مالك مع تنوير الحوالك، كتاب الجهاد، باب الشهداء في سبيل الله، 1/307.
[15] صحيح مسلم، كتاب البر، باب (151)، ص1147.
[16] صحيح البخاري، كتاب الإيمان، باب (41)، ص34.
[17] صحيح البخاري،كتاب الإيمان، باب (41)، ص34.
[18] صحيح البخاري، كتاب الإيمان، باب (41)، ص34.
[19] الحسبة لابن تيمية (ص14-69-71).
[20] المقدمة، لابن خلدون، ص150؛ بدائع السلك في طبائع الملك لابن الأزرق،1/262.
[21] الطرق الحكيمة في السياسة الشرعية لابن القيم، ص237.
[22] المرجع السابق، والمقدمة لابن خلدون، ص150.
[23] نهاية الرتبة في طلب الحسبة لابن بسام(بتصرف)،(213-215)؛ ومعالم القربة في أحكام الحسبة لابن الإخوة (295-319).
[24] الأحكام السلطانية للماوردي، ص242، والأحكام السلطانية لأبي يعلى الفراء، ص286.
[25] المرجعان السابقان.(1/121)
[26] الطرق الحكيمة لابن القيم، ص237، وانظر:الحسبة لابن تيمية، ص13.
[27] صحيح البخاري، كتاب الاعتصام، باب(2) رقم (7288)، ص1390.
[28] الطرق الحكيمة لابن القيم، ص237.
[29] صحيح مسلم، كتاب الإيمان، باب(20) رقم(177)، ص42.
[30] سنن الترمذي، كتاب القدر، باب(9) رقم(2169)، ص360، وقال: حديث حسن.
[31] سنن الترمذي، كتاب التفسير، باب سورة المائدة رقم(3047)، ص485.و قال: حسن غريب؛ وسنن أبي داود، كتاب الملاحم، باب(17) رقم(4336)، ص473.
[32] صحيح مسلم، كتاب الزهد، باب(7) رقم (7473)، ص1293.
[33] صحيح البخاري، كتاب الاستئذان، باب(2) رقم (6229)، ص1199.
[34] سنن الترمذي، كتاب الفتن، باب(8) رقم (2168)، ص360، وهو حديث صحيح.
[35] صحيح مسلم، كتاب الإيمان، باب (22) رقم (196)، ص44.
[36] الفصل في الملل والأهواء والنحل لابن حزم، 4/171؛ وانظر: الإرشاد للجويني، ص311؛ الجامع لأحكام القرآن للقرطبي، 4/48.
[37] (بتصرف) من حقوق الإنسان بين الشريعة الإسلامية و الفكر القانوني الغربي للدكتور محمد فتحي عثمان، ص11-12؛ حقوق الإنسان بين تعاليم الإسلام وإعلان الأمم المتحدة للغزالي، ص115؛ والنظرية السياسية الإسلامية في حقوق الإنسان الشرعية لمحمد مفتي وسامي الوكيل، ص26-33.
[38] تاريخ الطبري،2/134.
[39] بتصرف من النظرية السياسية لمفتي و الوكيل، ص31-33.
[40] إحياء علوم الدين للغزالي، 2/306، ومعالم القربة في أحكام الحسبة لابن الإخوة، ص61.
[41] بتصرف من الموافقات للشاطبي، 2/8-12.
[42] النظرية السياسية الإسلامية في حقوق الإنسان لمفتي و الوكيل، ص32.
[43] السياسة الشرعية لابن تيمية (بتصرف)، 78-191؛ وانظر: حقوق الإنسان لمحمد فتحي عثمان، ص30-31.
[44] انظر: الأحكام السلطانية للماوردي، ص243-258؛ الأحكام السلطانية لأبي يعلى، ص287-308.
[45] الشِرب: النصيب من الماء المخصص للبلد، أو الذي يسمى بمصلحة المياه.(1/122)
[46] الأحكام السلطانية للماوردي، ص246.
[47] صحيح البخاري، كتاب الشهادات، باب (29) رقم (2686) ص511.
[48] الأحكام السلطانية للماوردي، ص15-16.
[49] صحيح البخاري، كتاب الأحكام، باب(8) رقم (7150) ص1364.
[50] صحيح البخاري، كتاب الأحكام، باب(8) رقم (7151) ص1364.
[51] معالم القربة في أحكام الحسبة لابن الإخوة، ص316-319.
[52] نهاية الرتبة في طلب الحسبة لا بن بسام، ص214.
[53] الطرق الحكيمة في السياسة الشرعية لابن القيم، ص237.
[54] قوانين الأحكام لابن جزى، ص463.
[55] الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لأبي بكر الخلال، ص115.
[56] مجموع الفتاوى لا بن تيمية، 28/217.
[57] الأحكام السلطانية للماوردي، ص252.
[58] المؤطأ للإمام مالك مع تنوير الحوالك، 2/169.
[59] رياض الصالحين للنووي ، تحقيق شعيب الأرناؤوط، الطبعة الرابعة، ص596، قال: رواه أبو داود بإسناد صحيح.
[60] المرجع السابق.
[61] الأحكام السلطانية للماوردي، ص252.
[62] مشروع المجتمع المدني والتحول الديمقراطي لمصطفى حمارنة، ص5؛ وبحث فرض الكفاية لكل من الدكتور عبد الله الكيلاني وعبد الرحمن الكيلاني، مجلة دراسات، مجلد 25، عدد2، ص228.
[63] الفواكه الدواني للنفراوي، 1/463؛ الحسبة لابن تيمية، ص13؛ الطرق الحكيمة لابن القيم، ص237.
[64] الموافقات للشاطبي، 2/177.
[65] قواعد الأحكام في مصالح الأنام للعز بن عبد السلام، 1/41.
[66] أصول الفقه للخضري، ص42.
[67] المنثور في القواعد للزركشي، 3/35.
[68] الأحكام السلطانية للماوردي، ص246.
[69] نهاية الرتبة في طلب الحسبة لابن بسام، ص18، وانظر مقالة النقابات الإسلامية لبرنارد لويس، مجلة الرسالة المصرية، الأعداد 355-356-357-362، سنة 1940م.
[70] قواعد الأحكام في مصالح الأنام للعز بن عبد السلام، 1/80.
[71] المرجع السابق.(1/123)