مقدمة الحديث عن الأسلاف يكون لغوا لا معنى له يوم يجرى على ألسنة العاطلين اعتذارا عن تقصيرهم أو افتخارا بأصولهم . ونحن نكره الحديث عن المسلمين الأوائل إذا صحبته هذه النية أو قارنه هذا التفريط.. لكن هذا الحديث يصبح واجبا يوم يكون لهؤلاء الأسلاف دين مجحود وحق مهدر. ويوم يكون الذين انتفعوا بهم مصابين بداء الغمط والنسيان أو مصابين بداء الحقد والنكران . يومئذ لا يبقى بد من التنويه بالجميل القديم ، واليد السابقة . وقد كانت أوروبا فى ظلام دامس يوم كان العرب ينتقلون بين أقطار الأرض انتقال الشروق من أفق إلى أفق ، ويحملون معهم يقظة الأفكار والأفئدة وشرف السيرة والخلق فلو لم يجيء العرب برسالتهم هذه ما كان أمام الغرب إلا أحد مصيرين . إما أن يتلاشى مع الجهالات والضغائن التى خالطت شئونه ظاهرا وباطنا ، وذلك هو الأرجح هاما أن يتأخر صحوه إلى القرن السادس والعشرين أو السادس والثلاثين للميلاد بدل أن تهز كيانه حركة الإحياء خلال القرن السادس عشر . غير أن المبادىء النفسية والعقلية التى صحبت الحضارة الإسلامية ورشحت من دار الإسلام على ما جاورها من أقطار ، عجلت- ونستطيع أن نقول خلقت- اليقظة الأوروبية الأخيرة وأمدتها بأسباب النماء . وسيقول المتعصبون العميان : لا وسنظل نؤكد الحقيقة التى لا تخفى على دارس منصف .. قد ينكر اليابانيون أنهم استفادوا شيئا من مدنية الغرب ، وقد يزعمون أنهم ورثوا العلم عن آبائهم الأولين . ولكن الحقيقة الكبيرة لا تنطمس مع هذه المزاعم . وقد ينكر الأوروبيون أنهم استفادوا شيئا من حضارة الإسلام . وقد يزعمون أنهم بنوا مدنيتهم على مواريثهم الدينية والفلسفية . بيد أن هذا العقوق السافر لا نلقاه إلا بالزراية على تزوير التاريخ والاستغراب لضياع المعروف ****
ص _006(1/1)
على أن المعرفة الإنسانية والرفعة الاجتماعية لم تحتكرهما على مر العصور قارة من القارات . وقلما بقى جنس من الأجناس قديرا لأمد طويل على قيادة العالم ، وإنارة الطريق أمامه . إن الأمم للأسف لا تطيق البقاء على أسباب المجد والعظمة أزمنة متواصلة وسرعان ما تتسلل إليها جراثيم الوهن ، وتدب فى كيانها علل التخلف . لكن العناية العليا لا تدع الشعلة المضيئة تسقط على الأرض ويعم الظلام . إن أمما أخرى تهيئها ظروفها للبروز إلى الميدان والعمل مكان الذين انسحبوا. ولا تزال تعمل فى جد حتى يصيبها بدورها ما أصاب غيرها . فيعيد التاريخ نفسه وبهذا السباق فى ميادين الحياة تصلح الحياة . قال الله تعالى: (…ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض ولكن الله ذو فضل على العالمين) . * * * ولقد خدم المسلمون قرابة ألف سنة ثم وهنت أذرعهم عن حمل المصباح . أجل ، لقد خانوا الإسلام فى ميادين شتى ، فخلعوا بذلك الأجنحة التى أعانتهم على التحليق ، ولم يبق إلا أن يستقروا على الثرى . والقدر الأعلى لا يحابى أحدا ، ولابد أن يطبق قوانينه العادلة على البشر قاطبة . وإنك لتضحك الضحك الذى هو شر من البكاء عندما تعلم أن المغاربة كانوا أشد الناس حفظا للقرآن ، وأن المصريين كانوا أحسن الناس تغنيا به ، وأن الأتراك كانوا أحسن الناس كتابة له ثم ماذا ؟ فأين العمل به ، فى حنايا النفس وأرجاء المجتمع وأحشاء الدولة ؟ أين العمل به فى تزكية القلب وترقية اللب وإشاعة البر والتعاون فى أكناف الأمة ، وإقامة العدل والحق فى أعمال الحكومة .؟؟ لقد تأخر المسلمون عن جدارة . ولا مكان للمراء فى أن ما أصابهم من إرهاق الغزو وتنكر الدهر هو الجنى لما غرسوا . وجاء تأخرهم فى الوقت الذى كانت فيه أمم أخرى تخطو نحو الصدارة ، تريد أن تحتل المكان الخالى . ولماذا ييقى المكان خاليا ؟ وما الذى يمنع الآخرين من التربع فيه ؟ * * * ص _007(1/2)
إن نقائض الحياة تلفت النظر بقوة . والناس تعجب عندما ترى البخيل غنيا والكريم فقيرا ، وربما تندر العامة بالدنيا التى تمنح القرط من لا أذن له . ولقد لفت نظرى من هذه النقائض قول جبران: " الناس رجلان: رجل نام فى النور. ورجل استيقظ فى الظلام ". قلت: ما أصدق هذا القول على المسلمين الذين أغفوا ، وأشعة الوحى الصادق تغمر ما حولهم وما أصدقه كذلك على أولئك الذين استيقظوا فى الظلام وساروا بقوة وهم محرومون من شعاع يهديهم الطريق، ويصلهم بالسماء عن يقين. ولا تزال النقائض تترى . وليس هناك ما يقف تتابعها . وقصة حقوق الإنسان مثل آخر لهذه المفارقات. إن المبادئ التى طالما صدرناها للناس يعاد تصديرها إلينا على أنها كشف إنسانى ما عرفناه يوما ولا عشنا به دهرا ..!! ولا غرو . لقد كان ظهور هذه المبادىء منذ اندلاع الثورة الفرنسية شيئا جديدا فى حياة الغرب . والكعكة فى يد اليتيم عجب ! ونحن لا نجادل فى نفاسة هذه المبادئ . بيد أن الذين يفكرون فى إعانة مصر بتصدير القطن إليها ، لا يصنعون شيئا ، فالقطن فى أرضها وفير الثمر جيد المادة ونحن نملك تراثا عامر الخزائن بالمبادئ الرفيعة والمثل العليا . ونخشى أن يجىء يوم يصدر الغرب إلينا فيه غسل الوجوه والأيدى والأقدام على أنه نظافة إنسانية للأبدان . فإذا قلت : ذلك هو الوضوء الذى نعرفه . قال لك المتحذلقون المفتوتون : لماذا لا تعترف بتأخرك وتقدمه ؟؟ وفقرك وغناه ؟؟ ومع هذا الجهل المطبق فلن نكذب على أنفسنا ولن نفتأ نذكر ما لدينا لا لنقول فقط : بضاعتنا ردت إلينا ؟ بل لنهيب بالقاصرين والغافلين أن يستردوا ثقتهم فى أنفسهم وحضارتهم ، ويحددوا بدقة ما لهم وما عليهم ، ثم ليس كل ما يجىء من قبل الغرب الظافر القوى محل تقديرنا . فنحن أصحاب رسالة تنزلت علينا من السماء ، نحاكم إلى تعاليمها كل شىء ، ما وافقها وإن كان مجلوبا إلى أرضنا فهو حق ، وما خالفها وإن كان عرفا مقررا لدينا فهو(1/3)
باطل . ومن الإنصاف أن نزكى مجموعة من المبادئ والشعارات التى انتشرت فى الغرب وانسجمت مع فطرة الله التى فطر الناس عليها . فإذا كانت هذه المبادئ والشعارات مأنوسة لنا مدروسة فى ديننا من قرون فمن هضم النفس أن نجعلها مخترعات حديثة . لذلك أعجبنى من الدكتور على عبد الواحد وهو يتحدث عن حقوق الإنسان أن يقول : ص _008
" ترجع أهم حقوق الإنسان العامة إلى حقين رئيسيين . المساواة والحرية . وقد ادعت الأمم الديمقراطية الحديثة أن العالم الإنسان مدين لها بتقرير هذين الحقين ، فذهب الإنجليز إلى أنهم أعرق شعوب العالم فى هذا المضمار !! وزعم الفرنسيون أن هذه الاتجاهات جميعا كانت وليدة ثورتهم . وأنكرت أمم أخرى على الإنجليز والفرنسيين هذا الفضل وادعته لنفسها . والحق أن الإسلام هو أول من قرر المبادىء الخاصة بحقوق الإنسان فى اكمل صورة وأوسع نطاق ، وأن الأمم الإسلامية فى عهد الرسول- عليه السلام- والخلفاء الراشدين من بعده كانت أسبق الأمم فى السير عليها " . وأنا لا أكتفى بإثبات أن الإسلام من الناحية التاريخية سبق سبقا بعيدا ، بل أريد أن أقول ما هو أصرح من ذلك . لقد ألفت رسائل حسنة فى إثبات فضل الإسلام على حركات الإصلاح الدينى فى أوروبا .. إن هذه الحركات التى قلمت أظافر الكهنة ، وأبطلت صكوك الغفران ، وهذبت تقاليد الرهبنة ، وكسرت احتكار التفاسير الإنجيلية ، وألزمت رجال الدين أن يرفعوا وصايتهم عن نشاط العقل الإنسانى .. إن هذه الحركات لم تعرفها أوروبا إلا على أضواء الثقافة الإسلامية فى العصور الوسطى . وضميمة أخرى إلى هذا الفضل : إن ما حفل به الإسلام من حريات ، وما شرعه من عدالة ومساواة ، وما ضمنه للجماهير من كرامة ، لم يكن يدرس فى عواصم الأمة الإسلامية وحدها . لقد عبر إلى أوروبا مع شتى الثقافات الأخرى ، وظل يحرك الحياة الأوروبية حتى انفجرت فى ثورات التحرر تهتف بمبادئ ما كانت معروفة فى أرضها خلال القرون(1/4)
الماضية . وكما يختفى ماء المطر ليظهر بعد حين نبعا جياشا ، أو عينا جارية ، كمنت آثارنا العلمية ، ثم انبجست بهذا الرى عندما تأذنت الأقدار . إنه ليس فى المواريث الروحية أو الفكرية لأوروبا ما يسمح أبدأ بثورات اجتماعية أو نشاط رحب . كانت الكنيسة قد حكمت على العقل بالسجن المؤبد ونفذت حكمها . وكانت قد حكمت أيضا على التسامح بالعقوبة نفسها ونفذت حكمها .. وخمدت جذوة التسامى فى النفس الإنسانية تحت وطأة هذه الظروف الخانقة لولا ما كان يهب... من بعيد... من وراء الحدود التى أغلقها التعصب.. من بلاد الإسلام التى ص _009(1/5)
بلغ فيها الذكاء الإنسانى شأوا يذكر.. لولا هذا وحده ما نهضت أوروبا ولا استفاقت من غشيتها. إلا أن الخمول الشنيع الذى ران علينا فى القرون الأخيرة جعل تركة الخلافة المفلسة تنتهب . ثم تمحى من فوقها كل علامة وتوضع عليها أيدى الملاك الجدد ثم يقال : إن العرب ما قدموا للعالم خيرا قط . وأن الإسلام وأهله عالة على الأولين والآخرين . ألا ( لعنة الله على الظالمين ، الذين يصدون عن سبيل الله ويبغونها عوجا وهم بالآخرة كافرون ). وسوف يرى القارئ فى هذا الكتاب - بالنصوص الحاسمة - أن آخر ما أملت فيه الإنسانية من قواعد وضمانات لكرامة الجنس البشرى كان من أبجديات الإسلام . وأن إعلان الأمم المتحدة عن حقوق الإنسان ترديد عادى للوصايا النبيلة التى تلقاها المسلمون عن الإنسان الكبير والرسول الخاتم (محمد بن عبد الله - صلى الله عليه وسلم - ) * * * عندما رغب إلى أن أكتب فى هذا الموضوع لم أنشط نفسيا لتلبية هذه الرغبة مع إعزازى لأصحابها . وذلك أن لى كتابات قديمة فيه ولا أحب تكرار ما سبق أن شرحته . ثم قدرت الفائدة من جمع هذه المعانى فى نظام متكامل تحت عنوان مشهور . فقلت : قد يكون ذلك أعون على خدمة الدعوة الإسلامية . فلما بدأت الكتابة شعرت بأن الإسلام أغزر وأخصب مما قدرت . إن عظمة هذا الدين غير متناهية . وإن الكاتب قد يحرز قدرا من الإجادة فى تصوير تعاليمه غير أن ما يكتبه هو المدى الذى يبلغ إليه بصره وحسب . وكلما استنارت بصيرته رأى في أمجاد الإسلام في كل ميدان ما لم يكن قد رأى من قبل وصدق الله العظيم ( وفوق كل ذي علم عليم ) ولو أن أحد أئمتنا الأقدمين تناولوا هذا الموضوع - بما أنسناه فى هؤلاء الأئمة العمالقة من نفاذ بصر وسناء روح - لكان لتأليفه شأن آخر * * * وإنى لأرجو الله أن يتدارك بلطفه ما فى هذا الجهد من قصور ، وأن يتجاوز بعفوه عما لحقنا من تقصير. ولقد عمدت إلى شرح الإسلام شرحا مجردا ، واعتمدت على الكتاب(1/6)
والسنة وسيرة الخلافة الراشدة ، وفقه الأئمة المعتمدين ، غير متقيد بمذهب ما ، ورأيت أن أنشر فى ذيل الكتاب صورة كاملة لوثائق حقوق الإنسان كما نادت بها الجمعية العامة بالأمم المتحدة . ص _010
على أن أشير فى الهامش إلى أرقام المواد المتصلة بالبحوث الإسلامية من هذا الإعلان العالمى ، والله أسأل أن يسبغ علينا نعمة التوفيق .
آمين
محمد الغزالى
* * *
ص _011
بسم الله الرحمن الرحيم تمهيد إن المظالم التى وقعت على الناس فى الأعصار الطويلة الماضية تركت فى ضمائر الأمم رغبة عميقة أن تتحصن ضدها ، وألا تتعرض فى المستقبل لمثلها . والواقع أن تجارب الأمم مع الطغاة والمستبدين كانت كثيرة ومريرة . وأن الجهاد النبيل لتخليص الأفراد والجماعات من قيود الذل والانحطاط ظل موصولا على اختلاف الأزمنة والأمكنة . ولا يجوز أن تضيع ثمراته . ولا أن تفرط الإنسانية فى مكاسبها . ولما كان الإسلام هو الرسالة الخاتمة لديانات السماء كلها . وقد جاء العالم بعد أشواط من سيرة حافلة بالدروس والعبر ، فقد ضمنه الله- جل وعلا- من التعاليم ما يكفل للبشر حياة مستقرة . وما يوضح الحقوق المقررة لكل إنسان . بل ما يفصل هذه الحقوق تفصيلا يمنع الريبة والجدل . إن قدر الإنسان- فى ظل الإسلام- رفيع . والمكانة المنشودة له تجعله سيدا فى الأرض والسماء . ذلك أنه يحمل بين جنبيه نفخة من روح الله ، وقبسا من نوره الأقدس . وهذا النسب السماوى هو الذى رشحه ليكون خليفة عن الله فى أرضه . وهو الذى جعل الملائكة- بل صنوف المخلوقات الأخرى- تعنو له وتعترف بتفوقه (إذ قال ربك للملائكة إني خالق بشرا من طين ، فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين) . إنه بهذه التسوية الإلهية . وهذه النفخة العلوية أصبح متميزا على سائر المخلوقات . وانتقل إلى كيانه أثر من أوصاف الخالق الأعلى . فهو حى قادر مريد سميع بصير عالم متكلم ، ومهدت له هذه الأرض كى تقله .(1/7)
وهذه السماء كى تظله فما فى الأرض من مرافق له . وما في السماء من كواكب وعناصر له (ألم تروا أن الله سخر لكم ما في السماوات وما في الأرض وأسبغ عليكم نعمه ظاهرة وباطنة). وصحيح أن للبشر أخطاء لا يليق أن يتورطوا فيها ، وأن لهم مسالك ما كان ينبغى أن تقع منهم . ص _012
ولكن كرامة الجنس الإنسانى فى جملته لا تسقط بهذه الأخطاء وتلك المسالك وأن نعمة إيجاده وإمداده لا تهدر لهذه العثرات البشرية . وقد سبق- فى بدء الخليقة- أن تساءل الملائكة : أيستحق الإنسان كرامة الوجود والتفضيل مع ما يشوب تاريخه الطويل من آثام ؟ (…أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك…). وكان الجواب الإلهى أن الجنس الإنسانى جدير بالحياة والتكريم وأن زيغ أفراد وجماعات منه لا يسلب أبناء آدم المكانة التى بوأهم الله إياها . (…إني أعلم ما لا تعلمون). وهكذا بدأت قافلة الإنسان تشق طريقها فى الحياة . وتثبت جدارتها للسيادة فى الكون الكبير . بيد أن الإنسانية تردت فى المزالق التى اعترضتها . وأصابها كثير من الهوان والانحطاط الذى كاد ينسيها أصلها ووجهتها ... أصلها العريق ، ووجهتها الكريمة . وقد تعهد الله جماهير البشر برسله كى يقودوا القافلة ويهدوها الطريق . ثم جاء الإسلام بتعاليمه الخالدة من كتاب وسنة . فكان نفحة ضخمة من السماء لتوطيد مكانة الإنسان على الأرض . كان حماية له من الآفات التى تمسخ وظيفته فى الوجود أو تحرمه الحقوق المقررة له منذ الأزل ، مادية كانت هذه الحقوق أو أدبية . وركائز هذه الحقوق كانت إلى القرن الماضى لا تعدو الجوانب السياسية والمدنية .. ثم زادت حساسية الجماهير ، وبدأ تطلعها : إلى آفاق أعلى ، فتقررت الحقوق : الاجتماعية ، والاقتصادية ، والثقافية . وأحصاها جميعا الميثاق العالمى إحصاء يستوعب التفاصيل ولا يسأم التكرار . وقد عدنا إلى الإسلام .. نستخرج منه هذه الحقائق جملة ، وسرنا فى خط يحاذى هذا(1/8)
الميثاق ، ولكنه يتجنب التكرار ، وربما خالفناه فى بعض الأحكام لأننا نشرح الإسلام ونبسط وجهات نظره قبل كل شىء . والمهم أن نعرض الدليل المقنع ، ونرد الشهبات الذائعة . * * * ص _01 ص
المساواة العامة * الحقوق السياسية والمدنية : البشر المنتشرون فى القارات الخمس أسرة واحدة انبثقت من أصل واحد ينميهم أب واحد وأم واحدة . لا مكان بينهم لتفاضل فى أساس الخلقة وابتداء الحياة. والتكليف الإلهى يتجه إليهم جميعا على سواء . بوصف أنهم يتوارثون الخصائص النفسية والعقلية الشائعة فى جنسهم كله . وأنهم أهل لكل ما كفل الله للإنسانية من كرامة ، وناط بها من واجب . قال الله تعالى : (يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالا كثيرا ونساء ...). وقال تعالى: (يا بني آدم إما يأتينكم رسل منكم يقصون عليكم آياتي فمن اتقى وأصلح فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون) . إن هذين النداءين نماذج لضروب النداء التى وردت فى القرآن الكريم والتى تنضح بأن الإنسانية معنى مشترك . يتساوى سكان الأرض فى حقيقته ونتيجته ، لا فرق بين أهل المناطق الحارة والمناطق الباردة ، ولا فرق بينهم جميعا الآن وبين آبائهم من قرون مضت أو ذراريهم بعد قرون مقبلة . * * * ولا نكران أن البشر يختلفون فى لغاتهم ، وألوانهم ، من الناحية العامة . لكن هذا الاختلاف لا يؤبه له ، ولا يخدش ما تقرر من تساويهم فى الحقيقة الإنسانية الأصلية . إنه كاختلاف ألوان الورود فى البستان ، أو اختلاف الأزياء التى يرتديها الإنسان . وقد رفض الإسلام رفضا حاسما أن يكون ذلك مثار تفرقة ، أو سبب انقسام بل جعله بالنسبة إلى الخالق الكبير آية على إبداعه : (ومن آياته خلق السماوات والأرض واختلاف ألسنتكم وألوانكم إن في ذلك لآيات للعالمين) . وبالنسبة إلى الناس أنفسهم مثار تعارف لا تناكر ، وائتلاف لا اختلاف . قال تعالى: (يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى(1/9)
وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم إن الله عليم خبير). ص _014
ويقول صاحب الرسالة ـ صلى الله عليه وسلم ـ وهو يخطب الناس فى حجة الوداع " أيها الناس ، إن ربكم واحد ، وإن أباكم واحد ، كلكم لآدم ، وآدم من تراب أكرمكم عند الله أتقاكم ، ليس لعربى على عجمى ولا لعجمى على عربى ، ولا لأحمر على أبيض ، ولا لأبيض على أحمر فضل إلا بالتقوى : ألا هل بلغت ؟ اللهم فاشهد . ألا فليبلغ الشاهد منكم الغائب ". * * * لا يجوز التمييز بين الناس لفروق مفتعلة : واجه الإسلام عند ظهوره بيئة محلية تضطرب فيها موازين المساواة ، ويجار على الحقوق العامة لغير سبب مشروع . فقد يضام المرء لسواد لونه ، أو لقلة ماله ، أو لضعف أسرته ، أو لما شابه ذلك من صفات وشارات . وما عرفته البيئة العربية فى جاهليتها من هذه المساوئ عرفته الأمم الأخرى من روم وفرس ، وإن تنوعت أسباب التفرقة . فلما شرع الإسلام يهدى الحيارى ، ويقود الناس إلى الصراط المستقيم لم تأخذه هوادة فى محق مآثر الجاهلية ، ورد الاعتبار المفقود إلى جماهير الخلق على اختلاف الألوان والأوضاع . كان العرب فى جاهليتهم يزدرون السود ويؤخرون منزلتهم ، حتى أن الشاعر الفارس عنترة بن شداد أهدرت مكانته الاجتماعية ، وأقصاه أبوه عنه لا لشيء إلا للونه الأسود . مع أن الرجل من الشجعان المقاديم والشعراء المعدودين . فلما ظهر الإسلام كان المؤذن الأول لرسول الله "ـ صلى الله عليه وسلم ـ " بلالا ، العبد الأسود ، وكان صوته هو الذى ينادى جماعة المؤمنين خمس مرات كل يوم للوقوف بين يدى الله . ولما فتحت مكة صعد بلال هذا فوق الكعبة المقدسة ، يرفع عقيدته بشعار الإسلام. ( الله كبر الله كبر . . أشهد أن لا اله إلا الله ). وتجادل مرة الصحابى المعروف أبو ذر الغفارى مع أحد الزنوج . واشتط به الغضب فقال له " يا ابن السوداء " . وسمع الرسول "ـ صلى الله عليه وسلم ـ " هذه الكلمة(1/10)
النابية ، فأنكرها أشد الإنكار وقال لأبى ذر: "أعيرته بأمه ؟ إنك امرؤ فيك جاهلية " . ص _015
ومما قاله: " طف الصاع ، طف الصاع ، ليس لابن البيضاء على ابن السوداء فضل إلا بالتقوى أو بعمل صالح " . وقد ندم أبو ذر على فعلته ، وأثرت كلمات الرسول"ـ صلى الله عليه وسلم ـ " فى نفسه فألصق خده بالأرض ، وقال للأسود : " قم فطأ على خدى " . وبهذا التعليم المبين الحاسم محا الإسلام من المجتمع كل نزعة إلى التفرقة العنصرية . والحق أن لون الجلد الإنسانى لا يسوغ أن يكون مثار تقديم أو تأخير ، فالمدار على الخلق والسلوك فى تحديد القيم . لقد كان عبادة بين الصامت ـ وهو من الصحابة الأجلاء ـ أسود اللون ، وكان رئيس الوفد الذى أرسله عمرو بن العاص لمفاوضة المقوقس عظيم القبط . فضاق به المقوقس لسواده وبسطة جسمه ، وطلب من الوفد أن يتكلم غيره. فردوا عليه : إن هذا أفضلنا رأيا وعلما ، وهو سيدنا وخيرنا ، وقد أمره الأمير علينا فلا نخالف أمره . فعجب المقوقس : كيف يكون الأسود أفضلهم ! فردوا عليه بأن الألوان ليست ما تقاس به الرجال ، وأن الإسلام لا يعرف فى تقويم البشر إلا الخلق والمواهب الفاضلة . ومما عرفته مجامع الجاهلية ، ولا يزال معروفاً فى شتى المجتمعات ، أن يكون الفقر منقصة لأصحابه ، وأن تكون الطبقات الفقيرة محقورة الشأن مضيعة الفرص. وقد استنكر الإسلام هذه النظرة ، وأقصاها إقصاء تاما فى تقديره للأفراد والجماعات ، وعول على القيمة الإنسانية المجردة فى رضاه وسخطه ، وقدحه ومدحه ، دون أى حساب للغنى والفقر ، والإقلال والإكثار . ( يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم أو الوالدين والأقربين إن يكن غنيا أو فقيرا فالله أولى بهما ) . ونظرا لأن قلة الثروة كانت عاملا ملحوظا فى حرمان طوائف غفيرة من حقوقها الإنسانية ، ومكانتها الاجتماعية فقد انحاز الإسلام إلى جانب أولئك المستضعفين حتى تتساوى كفتهم مع(1/11)
غيرهم ، ويرتفع عنهم ما نزل بهم من بلاء وهوان . جاء عن النبى "ـ صلى الله عليه وسلم ـ " أنه سأل جليسا له ، وقد مر بهما رجل : ما رأيك فى هذا ؟ فقال : هذا رجل من أشراف الناس ، هذا والله حرى إن خطب أن يزوج ، وإن شفع أن يشفع ، وإن قال أن يسمع لقوله . ص _016
فسكت رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ . ثم مر رجل آخر فقال الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ : ما رأيك فى هذا ؟ فقال : يا رسول الله ، هذا رجل من فقراء المسلمين . هذا والله حرى إن خطب ألا يزوج ، وان شفع ألا يشفع ، وإن قال ألا يسمع لقوله . فقال رسول الله "ـ صلى الله عليه وسلم ـ " : ( هذا خير من ملء الأرض من مثل هذا ). وعن مصعب بن سعد بن أبى وقاص قال : رأى سعد أن له فضلا على من دونه!. فقال رسول الله "ـ صلى الله عليه وسلم ـ " : ( هل ترزقون وتنصرون إلا بضعفائكم ) ؟ وقال : " ابغونى فى ضعفائكم ، إنما ترزقون وتنصرون بضعفائكم" . والضعفاء ليسوا هم العجزة والمرضى ، إنما هم سواد الشعب ممن لا تلمع أسماؤهم ولا تشتهر أشخاصهم وأعمالهم ، فهم الجنود المجهولون فى أيام الحرب والسلم . ومعنى قول الرسول "ـ صلى الله عليه وسلم ـ " : ابغونى بينهم ، أى لا تبحثوا عنى بين السادة والكبراء ، ولكن ابحثوا عنى وسط هذه الجماهير .. وقد تضطرب المجتمعات الإنسانية ويختل ميزانها وتنقسم إلى أشراف وسوقة أو سادة ورقيق . والإسلام طبعا عدو لهذه القسمة الجائرة . وقد بلى فى مكة باختبار لموقفه من هذه الحال ، وكان ذلك لأول عهده بالحياة ووطأة الهاجمين عليه من أصحاب الحول والطول " إن دخول المستضعفين فى هذا الدين أزعجهم وخافوا مغبته ، فأرسلوا لمحمد "ـ صلى الله عليه وسلم ـ" يقولون له : اطرد هؤلاء عنك ، ونحن لا نرى بأسا من اعتناق دينك . فرفض الرسول "ـ صلى الله عليه وسلم ـ " هذا العرض . فبعثوا إليه مرة أخرى يقولون له : إن لم يكن من بقائهم بد فليكونوا فى مؤخرة الصفوف ونتولى نحن(1/12)
الصدارة . ففكر الرسول "ـ صلى الله عليه وسلم ـ " فى هذا العرض الجديد . إن الصدارة إنما يظفر بها أهل الكفاية وأصحاب السبق فى الإيمان والعمل . أيمكن أن نكل المؤمنين إلى إيمانهم ونتألف هؤلاء الأقوياء بإجلاسهم فى مكان الصدارة ، حتى إذا تشربت أفئدتهم الإيمان كاملا تركوا هذه العنجهية من تلقاء أنفسهم ؟ وبينما رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فى هذه المقابلة نزل الوحى يحسم القضية كلها : ص _017
(ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه ما عليك من حسابهم من شيء وما من حسابك عليهم من شيء فتطردهم فتكون من الظالمين ، وكذلك فتنا بعضهم ببعض). وهكذا ألقت السماء كلمتها إن المبادئ لا يضحى بها ولو من ناحية الشكل ومن دخل فى دين الله فليخلع عن نفسه أردية الجاهلية كلها ولا يشعر بأنه أرجح من غيره لامتيازات مبهمة مدعاة " . صنع الإسلام من العرب أمة جديدة ، وصب أوضاعها الاجتماعية في قالب سماوى راق ، فخرجت على الناس تحمل رسالة الحق والخير وتريهم من نهج حياتها وطريقة التعامل بين أبنائها أن الإنسان العربى كائن آخر . كائن ينفى عقله الخرافات ويطرد قلبه الرذائل ، ويرفض سلوكه الهوان ، وينطلق على ظهر الأرض مدفوعا ببواعث الصدق والعدالة متحريا مرضاة الخالق ، وكرامة المخلوق مسترسلا مع نداء الطبيعة البشرية المتعشقة للكمال والسيادة ، نداء الفطرة الأصلية ، وهل الإسلام إلا هذه الفطرة ؟ (فأقم وجهك للدين حنيفا فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس لا يعلمون) . والعرب عندما اتصلوا بجيرانهم الأقوياء من فرس ورومان ، وعندما اشتبكوا معهم في معارك دامية ، لم يكونوا عنصرا يدعى التفوق الجنسى ويخضع الآخرين لامتيازه المادى والأدبى . كلا .. كلا .. فلا العرب الأولون تطرق إلى نفوسهم هذا الزعم ، ولا القرآن الكريم تضمن لفظا واحدا يبيح هذه الدعوى . وإنما بين القرآن الكريم أن(1/13)
فضل الأمة الجديدة يعود للخصائص المعنوية التى اقترنت بها وحسب . فالعالم من حولهم عصفت به المظالم وأحاطت به الأرزاء والمغارم . والحقيقة الإنسانية فى كلتا الدولتين الكبيرتين شوهها الاستبداد السياسي "والفوضى الاجتماعية وكان العرب وحدهم القادرين على محو هذا المنكر ، وإسداء ما تفتقر إليه الشعوب من معروف . وفى هذا يقول الله تعالى : (كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله) . بهذه الأوصاف ، وبهذه الأهداف ، خرج العرب من الجزيرة ليحرروا مصر والشام وغيرها من سطوة الرومان وبأسهم ، وليحرروا الجماهير العانية من أهل فارس ، وليرى ص _018(1/14)
هؤلاء وأولئك ألوانا من العدالة والكرامة والحرية والمساواة لم يعهدوها فى حكامهم من قبل . لم يكن خروج العرب من جزيرتهم غزو اجتياح وتملك كما يزغم المتعصبون الذين يريدون تلوين التاريخ بما فى نفوسهم من سواد . إنما كان خروجهم حرب تحرير وإنقاذ ، أثمرت السعادة للبلاد المفتوحة قبل أن تثمر الخير للفاتحين أنفسهم . وكانت حقوق الإنسان الجدير بالخلافة عن الله فى أرضه أول ما قرر الإسلام فى الأقطار التى آلت إليه . ولذلك لم تمض برهة طويلة حتى كان النابغون من الأجناس الأخرى يؤمون العرب أنفسهم فى المحاريب ويدرسون الكتاب والسنة فى المدائن والقرى . لقد أصبحوا سادة وقادة لهؤلاء العرب فى بعض الميادين ، وأصبحوا مساوين لهم فى ميادين أخرى . ذكر السخاوي فى شرح ألفية الحديث للعراقي أن هشام بن عبد الملك قال للزهرى ، وهو إمام الحديث : من يسود أهل مكة ؟ قال : عطاء . قال هشام : فيم سادهم ؟ قال : بالديانة والرواية . فقال هشام : نعم من كان ذا ديانة حقت له الرياسه ، ثم سأله عن اليمن ومصر والجزيرة وخراسان والبصرة والكوفة ، فأخذ الزهرى يعد له سادات البلاد وكانوا من الموالى ، حتى أتى على ذكر النخعى ، فقال : إنه عربى ، فقال هشام : والله ليسودن الموالى العرب ، ويخطب لهم على المنابر . هذا الوضع يعتبر نجاحا رائعا للدعوة الإسلامية . وقد تقع أخطاء من بعض العرب الذين يغريهم السلطان فيزعمون أن لهم حقا يمتازون به على غيرهم . لكن هل يسكت قادة الإسلام وحملة دعوته على هذه الأخطاء ؟ لا .. إنهم يعالجونها بصرامة ، ليؤكدوا طبيعة الإسلام فى احترام " الإنسان " وإعزاز جانبه ورفعة شأنه ، مهما اختلفت الأجناس والمذاهب والأديان . عندما كان عمرو بن العاص واليا على مصر فى عهد الخليفة الراشد عمر بن الخطاب ، اشتبك ابن له مع أحد المصريين ، وأغراه سلطان أبيه فضرب الرجل . ومصر يومئذ حديثة عهد بالفتح ، والمنظور أن يستكين المضروب لابن القائد(1/15)
الفاتح الذى هزم أكبر دولة فى الأرض ، ورمى بجيشها فى البحر الأبيض . لكن المجنى عليه كان يأنس فى الإسلام وحكمه غير هذا الذى نزل به . فأقسم ليبلغن شكواه إلى أمير المؤمنين عمر . ص _019
واستحمق الولد الضارب ، فقال : افعل .. فلن تضيرنى شكواك ، أنا ابن الأكرمين ..!! أرأيت هذا الإدلال بالنسب المدعى ؟ فبينما كان عمر بن الخطاب فى خاصته وعمرو بن العاص وابنه فى المجلس والمدينة غاصة بالوفود فى موسم الحجيج قدم المصرى المظلوم وقال لعمر : يا أمير المؤمنين إن هذا وأشار إلى ابن عمرو ضربنى ظلما ، ولما توعدته بالشكوى إليك ، قال : افعل فلن تضرنى شكواك أنا ابن الأكرمين . فنظر عمر بن الخطاب إلى عمرو بن العاص نظرة استنكار وقال له هذه الكلمة العظيمة : " متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا " ثم توجه إلى الشاكى ، وناوله سوطه ، وقال له : اضرب ابن الأكرمين كما ضربك . وإن عمر أنصف الإسلام بهذا الحكم من نزق بعض الناس . والإسلام يعرف ويقدم من سيرة الرسول نفسه ، ومن سير الخلفاء الراشدين الذين جاءوا من بعده " عليكم بسنتى وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدى ، عضوا عليها بالنواجذ " والمفاهيم التى قررها الإسلام لوظيفة الحكم وأشخاص الحاكمين كانت شيئا جديدا كل الجدة بالنسبة لما عرف فى دنيا الفرس والرومان يومئذ فالإسلام سوى بين الحاكم والمحكوم فى الحقوق العامة ، واعتبر الحكم وظيفة لخدمة اجتماعية محدودة السلطة لقاء أجر معين . وهذا المعنى كان مجهولا كل الجهل بل منكورا كل النكر فى الإمبراطوريات الضخمة التى تقسمت أقطار العالم . فالقيصر المقدس فى القسطنطينية وملك الملوك الحاكم بأمره فى المدائن رجال فوق البشر . وذواتهم مصونة لا تمس . وهم لا يكلفون بخدمة الرعايا ، وإنما تكلف الرعايا بخدمتهم . وفي منطق هذه السيادة الباهرة ما قال فرعون مصر لقومه : (أنا ربكم الأعلى) . وما قال ملك فرنسا لقومه : " أنا الدولة "(1/16)
. فكيف يتصور الإسلام رئيس الدولة ؟ إن الله أمر صاحب الرسالة أن يعرف نفسه للناس : (قل إنما أنا بشر مثلكم يوحى إلي). فلما تولى أبو بكر الخلافة بعد رسول الله "ـ صلى الله عليه وسلم ـ " خطب الناس فقال : ص _020
" أيها الناس إنى وليت عليكم ولست بخيركم . فإن أحسنت فتابعونى ، وان صدفت فقومونى . القوى فيكم ضعيف حتى آخذ الحق منه ، والضعيف فيكم قوى حتى آخذ له الحق . أطيعونى ما أطعت الله ورسوله فإن عصيت فلا طاعة لى عليكم ". وجاء عمر بعده فقال : " لوددت أنى وإياكم فى سفينة فى لجة البحر تذهب بنا شرقا وغربا فلن يعجز الناس أن يولوا رجلا منهم فإن استقام اتبعوه ، وإن جنف قتلوه ، فقال طلحة : وما عليك لو قلت : وإن تعوج عزلوه ، فقال عمر : لا .. القتل أنكل لمن بعده ". وكتب لأبى موسى الأشعرى واليه على الكوفة يقول : لا يا أبا موسى .. إنما أنت واحد من الناس غير أن الله جعلك أثقلهم حملا ، إن من ولى أمر المسلمين يجب عليه ما يجب على العبد لسيده " . وقال أمير المؤمنين عثمان بن عفان حينما ضاق الناس ببعض تصرفاته : "إنى أتوب وأنزع ، ولا أعود لشىء عابه المسلمون . فإذا نزلت من منبرى فليأتنى أشرافكم فليرونى رأيهم . فوالله لئن ردنى الحق عبدا لأذلن ذل العبيد " . وقال عمر بن الخطاب للناس يوما : " ما قولكم لو أن أمير المؤمنين شاهد امرأة على معصية ؟ " . - يعنى أتكفى شهادته فى إقامة الحد عليها ؟؟ فقال له على بن أبى طالب : " يأتى بأربعة شهداء أو يجلد حد القذف شأنه فى ذلك شأن سائر المسلمين " . إن هذه الثورة الإسلامية الهائلة فى سياسة الحكم ووظيفة أصحابه هى التى أطلقت جيوش العرب من مكانها فى الجزيرة لهدم عروش الجبارين وإقرار مبدأ المساواة بين الناس . إن أولئك المسلمين الأحرار عدوا القياصرة والأباطرة أصناما حية ورأوا من إخلاصهم لكلمة التوحيد أن تتحول هذه الأصنام إلى أنقاض. فليس من توحيد الله أن يثنى إنسان صلبه ثم(1/17)
يهوى على الثرى ليقبل نعل رجل ما ، تصفه الأساطير بأنه إمبراطور !!. والغريب أن تلك الصور التى هدمها الإسلام من قرون طوال لا تزال لها بقايا بين الناس حتى الآن ..!! * * * ص _021
سر هذه المساواة : وظاهر أن مبدأ المساواة الذى اعتنقه المسلمون ، محا من أفهامهم وأقطارهم نظام الطبقات نابع من عقيدة التوحيد ذاتها ، وما انبنى على عقيدة التوحيد هذه من عبادات وتعاليم . فقد تعلم المسلمون من أصل دينهم أن الذى تعنوا له الوجوه ، وتسجد فى حضرته الأرواح والأجساد وتستجيب لندائه وحكمه الخاصة والعامة هو قيوم السماوات والأرض وحده . وأن البشر قاطبة ينتظمهم سلك العبودية المطلقة لله وحده . وأن من حاول التطاول فوق هذه العبودية السارية فى الأشخاص والأشياء وجب قمعه حتى يستكين فى مكانته لا يعدوها . (إن كل من في السماوات والأرض إلا آتي الرحمن عبدا ، لقد أحصاهم وعدهم عدا ، وكلهم آتيه يوم القيامة فردا) . وخالق البشر زودهم بقوى مختلفة ومواهب شتى ليختبر كل امرىء منهم فيما آتاه ، وليسأله يوم العرض ماذا عمل به ..؟؟ فليس صاحب السلطة فى هذه الدنيا رجلا محظوظا شاءت له الأقدار أن يتحكم . ولا صاحب الثروة رجلا كذلك شاءت له الأقدار أن يتمتع . لا .. فكلا الرجلين مختبر فى وضعه معرض للنجاح والفشل كأى إنسان آخر مؤاخذ أو مثاب وفق استقامته أو عوجه . وعمله موضع الملاحظة الدقيقة من الله ، ومن الناس ، قال تعالى : (وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون وستردون إلى عالم الغيب والشهادة فينبئكم بما كنتم تعملون) . ثم إن المسلم فى نظرته إلى الناس- قويهم وضعيفهم - يعرف أن زمام أمورهم فى النهاية بين يدى الله . وأن هذا الزمام لن يفلت منه أبدا ولن يستطيع أحد إسقاطه من بين يديه . ومن ثم فهو متوجه برغبته ورهبته . وقلقه أو طمأنينته إلى الله وحده ، غير هياب لجبار عنيد ، أو مبال بذى بأس شديد ، وقد وثق من قول الله له : (وإن يمسسك الله(1/18)
بضر فلا كاشف له إلا هو وإن يمسسك بخير فهو على كل شيء قدير ، وهو القاهر فوق عباده وهو الحكيم الخبير) . ص _022
بهذا الروح المفعم باليقين والإباء أبى الإنسان المسلم الاعتراف بأن لأحد من الخلق اختراق أسوار المساواة العامة والاستعلاء على غيره من الناس . ومن هذا الفهم الإسلامى الحق قال الشاعر : إذا الملك الجبار صعر خده مشينا إليه بالسيف نعاتبه ص _02 ص
الحقوق القضائية قبل أن نتحدث عن المساواة أمام القانون ينبغى أن نبسط الحديث فى توفير الضمانات لإقرار العدل وسيادة الحق . فان من أهم بواعث الأمن ، واستتباب السكينة ، والشعور بالراحة النفسية والكرامة الخاصة أن يحس كل إنسان بأنه فى حصانة تامة من أى حيف قانونى . وأن القوانين موضوعة لحمايته لا لإهانته . وأن ما ينسب إليه أو إلى غيره من خطأ أو انحراف ، لا يصدق لأول وهلة : بل يأخذ طريقا واضحا من التحقيق والتثبت . إن سوق التهم جزافا ، وإيقاع العقوبات حسب الأهواء زلازل تدك معالم الجماعة ، وتهوى بها إلى درك سحيق . وقد كان المستبدون- ولا يزالون- يتصيدون خصومهم ثم يلصقون بهم الشبهات ويصدرون ضدهم الأحكام . فلا غرو أن يتطلع الإنسان إلى جو تسوده العدالة ، وتمحص فيه القضايا تمحيصا يقوم على النزاهة والدقة ، فلا يعاقب برىء ولا ينجو مجرم . إن الإسلام رسالة تستهدف إقامة العدل ، وأنبياء الله كلهم بعثوا من بدء الخليقة لإذاقة الناس حلاوته قال تعالى : (لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط …) . وقال تعالى: (إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل …) . ومعرفة أحكام الله فى قضايا الناس لا تحتاج إلى جهد صعب . إنما الذى يحتاج إلى الجهد العسير معرفة قضايا الناس نفسها واستكشاف الحقيقة من بين الألفاظ التى يصنعها الدهاء والمكر ، فإن للناس حيلا هائلة فى إخفاء ما يرتكبون من آثام ، وتضليل(1/19)
القضاء عن إيقاع العقاب فى محله الصحيح . من أجل ذلك لا بد للقضاء من وسائط حصيفة لإماطة النقاب عن الحق حتى يصدر الحكم لا ريب فيه . وقد بين القرآن الكريم أن العلم بالأحكام قدر مشترك بين كثيرين ولكن الإحاطة بأحوال الناس هبة لا ينالها إلا الأقلون . ص _024
(وداود وسليمان إذ يحكمان في الحرث إذ نفشت فيه غنم القوم وكنا لحكمهم شاهدين ، ففهمناها سليمان وكلا آتينا حكما وعلما). هذا الفهم الخاص وسيلة لاستبانة الواقع وضبط الحكم عليه . وقد كان الخلفاء الراشدون يختارون القضاة من أصحاب هذه الفراسة الصادقة . فهذا عمر بن الخطاب رضى الله عنه أتته امرأة فشكرت عنده زوجها وقالت : هو من خير أهل الدنيا يقوم الليل حتى الصباح ويصوم النهار حتى يمسى ، ثم أدركها الحياء . فقال : جزاك الله خيراً فقد أحسنت الثناء . فلما ولت قال كعب بن سوار: يا أمير المؤمنين .. لقد أبلغت فى الشكوى إليك . فقال : وما اشتكت ؟. قال زوجها . قال : علي بها . فقال : اقض بينهما . قال : أقضى وأنت شاهد ؟ قال : إنك قد فطنت إلى ما لم أفطن له . قال : إن الله تعالى يقول : (فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع). صم ثلاثة أيام وافطر عندها يوما ، وقم ثلاث ليال وبت عندها ليلة . فقال عمر: هذا أعجب إلي من الأول . فبعثه قاضيا لأهل البصرة ، فكان يقع له فى الحكومة من الفراسة أمور عجيبة وكذلك شريح فى فراسته وفطنته . قال الشعبى : شهدت شريحا وجاءته امرأة تخاصم رجلا ، فأرسلت عينيها وبكت . فقلت : يا أبا أمية .. ما أظن هذه البائسة إلا مظلومة . فقال : يا شعبى .. إن أخوة يوسف جاءوا أباهم عشاء يبكون . وتقدم إلى إياس بن معاوية أربع نسوة . فقال إياس بعدما رمقهن : أما إحداهن فحامل ، والأخرى مرضع ، والأخرى ثيب ، والأخرى بكر ، فنظروا فوجدوا الأمر كما قال . قالوا : وكيف عرفت ؟ فقال أما الحامل فكانت تكلمنى وترفع ثوبها عن بطنها فعرفت أنها حامل ، وأما(1/20)
المرضع فكانت تضرب ثديها فعرفت أنها مرضع ، وأما الثيب فكانت تكلمنى وعينها فى عينى فعرفت أنها ثيب ، وأما البكر فكانت تكلمنى وعينها فى الأرض فعرفت أنها بكر " . والشريعة لم تحص كل الوسائل التى تعين على إقامة العدل ، وعلى عقد محاكمات شريفة تمسك بالمجرمين وحدهم وتطلق سراح الأبرياء . لقد تركت ذلك لاجتهاد الناس وتطور الزمان ، وما دام العدل فى نظر الشارع غاية تقصد لذاتها فكل ما يوصل إليه يعد شريعة ، وإن لم يصرح الشارع به ويذكر تفاصيله . ص _025(1/21)
وقد توهم البعض أن المنقول من الكتاب والسنة استوعب ضروب الحيطة والإثبات فى التحقيق والقه حاء. وقال بناء على ذلك: لا سياسة إلا ما وافق الشرع. وقد رد علي ذلك العلامة ابن عقيل فقال: " السياسة هو الفعل الذى يكون معه الناس أقرب إلى الصلاح وأبعد عن الفساد، وإن لم يضعه الرسولـ صلى الله عليه وسلم ـ أو نزل به الوحى . فإن أردت بقولك ما وافق الشرع : أى لم يخالف ما نطق به الشرع فصحيح ، وإن أردت لا سياسة إلا ما نطق به الشرع فغلط وتغليط للصحابة " . " قال ابن القيم: من له ذوق فى الشريعة واطلاع على ما لها وتضمنها لغاية مصالح العباد فى المعاش والمعاد ، ومجيئها بغاية العدل الذى يسع الخلائق ، وأنه لا عدل فوق عدلها ، ولا مصلحة فوق ما تضمنته من المصالح ، وتبين له أن السياسة العادلة جزء من أجزائها وفرع من فروعها . وأن من أحاط علما بمقاصدها وحسن فهمه فيها ، لم يحتج معها إلى سياسة غيرها البتة ؟ فإن السياسة نوعان : سياسة ظالمة فالشريعة تحرمها ، وسياسة عادلة تستخرج الحق من الظالم الفاجر ، فهى من الشريعة علمها من علمها وجهلها من جهلها " . ويتضح من هذا البيان السديد أن جميع الضمانات التى توضع لشل السلطة التنفيذية عن مصادرة الحريات واعتقال الأفراد واستسهال التهم هى ضرب من حراسة العدل ، وإن كل ما تثمره التجارب مستقبلا من ضمانات أزيد فإن الشريعة لا تأباه ، بل تحث على اتخاذه وترى إقامته من إجابة نداء الله فى قوله تعالى : (يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين لله شهداء بالقسط ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى واتقوا الله إن الله خبير بما تعملون) . على أن أمر الحظر والإباحة والتحليل والتحريم لا يخضع لرأى حاكم ما ، بل هو ابتداء يرجع إلى الشريعة فى نصوصها الخاصة أو قواعدها العامة . ومعنى ذلك أن الحاكم لا يستطيع أن يؤاخذ أى إنسان بعمل هو فى رأيه جريمة تستحق ؟ العقاب بينما ذلك تصرف لم(1/22)
يتناوله القانون العام . ومن مصادر الطمأنينة فى المجتمع أن يعلم كل إنسان الحدود التى يقف عنها فلا يعتديها ، وأن يشعر حين يعتديها أن المؤاخذة التى يؤاخذ بها ليست جبروت حاكم ولا سطوة سلطان ، إنما هى حق الله ، ومصلحة الجماعة . والحاكم حين ينفذ القانون بأمانة لا يوصف باستبداد ، والرعية حين تستجيب لهذا التنفيذ وتعين عليه لا توصف بذلة . وإنما يجيئ الاستبداد عندما يكون هوى الحاكم شرعا ، وتجىء الذلة عندما يكون انقياد الناس ضعفا ورهبة . ص _026(1/23)
ومن ثم يقوم المجتمع الإسلامى على أنواع من التشريعات تضبط الصواب والخطأ ، وتحدد ما هو حسن وما هو قبيح ، ما هو جريمة ، وما هو مباح . وللفقهاء المسلمين باع طويل فى هذا المجال ، وذلك على عكس مجتمعات أخرى لم تصل إلى مرتبة من النضج القانونى إلا بعد تدرج طويل سمحت مبادئه لنفر من المستبدين أن يأخذوا الأبرياء بأشياء هى فى نظرهم تهم ، وفى نظر غيرهم سلوك معتاد . وبعد أن اتضحت معالم الشريعة التى يتحاكم الناس إليها نحب أن نقرر تساوى الجميع أمامها ، فإن العدالة لا تتجزأ وهى فى نظام الدولة كالفضيلة فى حياة الفرد أو كالشعاع فى طبيعة الشمس لا تتخلف ولا تتغير . المؤمن والكافر أمام القانون سواء . وقد عاب القرآن الكريم على اليهود أنهم يفاوتون بين أتباع الأديان فى معاملاتهم ، وبين أن ذلك ينافى التقوى والوفاء : (ومن أهل الكتاب من إن تأمنه بقنطار يؤده إليك ومنهم من إن تأمنه بدينار لا يؤده إليك إلا ما دمت عليه قائما ذلك بأنهم قالوا ليس علينا في الأميين سبيل ويقولون على الله الكذب وهم يعلمون * بلى من أوفى بعهده واتقى فإن الله يحب المتقين) . والآية واضحة فى أن اختلاف الدين لا يجوز أن يكون مدعاة لتغابن أو تظالم . وإذا كانت هناك طوائف معادية ، وبيننا وبينها خصام ، فذلك كله يجب إبعاده عن مقتضيات العدالة وأحكام القانون . (…ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى واتقوا الله إن الله خبير بما تعملون) . وقد جرت سنة الإسلام على التسوية المطلقة بين الدلالة على هذه المساواة المنشودة. وطالما احتكم مسلمون وغير مسلمون إلى القضاء الإسلامى فكانت العدالة تفرض نفسها وتأخذ طريقها إلى شتى أطراف المتنازعين دون تفرقة ما . إن الإسلام دين يقوم على السماحة فى معاملة الآخرين ، وعلى احترام أواصر الإنسانية التى تجمع بين بنى آدم قاطبة . وقد امتاز الإسلام بهذا المسلك النبيل فى أيام كان التعصب الدينى الأعمى(1/24)
يسود أهل الأرض . فلما بعث نبى الرحمة سن المسلمين مكارم الأخلاق ومسالك البر والفضل فعن طريق البخارى عن جابر قال : " مرت بنا جنازة فقام لها النبى ـ صلى الله عليه وسلم ـ وقمنا فقلنا: يا رسول الله إنها جنازة يهودى ؟ قال : إذا رأيتم الجنازة فقوموا " . ص _027
وفى رواية أخرى : " أليست نفسا ؟ " . وروى سفيان : سمعت عن حماد بن أبى سليمان يحدث عن الشعبى أن أم الحارث بن أبى ربيعة ماتت وهى نصرانية فشيعها أصحاب النبىـ صلى الله عليه وسلم ـ . وعن "سعيد بن جبير" : قلت لابن عباس : رجل فينا مات نصرانيا وترك ابنه . قال : ينبغى أن يمشى معه ويدفنه . والأثران الأخيران أثبتهما ابن حزم فى كتاب المحلى " باب الجنائز " . ونحن نحب أن نبنى علاقتنا بالآخرين على هذه السماحة ، معتقدين أن ديننا هو الذى يأمرنا بهذا البر لمن عايشنا مسالما ولم يعتد علينا أو يظاهر المعتدين. وكما تهدر الفوارق الدينية أمام القانون تهدر الفوارق الطبقية ؟ فلا تمييز لحاكم على محكوم ، ولا لغنى على فقير ولا لكبير على صغير . فرئيس الدولة إذا أساء لكانس الطريق وجب منه القصاص . ووقفا على سواء أمام القانون لتقام فيهما العدالة ، لا يعوقها عائق . حدث أن النبى ـ صلى الله عليه وسلم ـ - وكان فى بيت أم سلمة- دعا وصيفة لها مرارا فلم ترد حتى استبان الغضب فى وجهه . فخرجت أم سلمة تبحث عنها فوجدتها تلعب فقالت لها : أراك هنا تلعبين ورسول الله يدعوك ؟ فأقبلت على رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وهى تقول : والذى بعثك بالحق ما سمعتك ! . وكان بيد رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ سواك . فقال لها: لولا خشية القود لأوجعتك بهذا السواك وكتب عمر بن الخطاب منشورا للناس يقول فيه: إنى لم أبعث عمالى- يعنى الولاة- ليضربوا جلودكم ولا ليأخذوا أموالكم . فمن فعل به ذلك فليرفعه إلى لأقتص له . فقال عمرو بن العاص : لو أن رجلا أدب بعض رعيته أتقصه منه ؟ فقال عمر: (أى(1/25)
والذى نفسى بيده لأقصنه منه وقد رأيت رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يقص من نفسه * * * وقصة جبلة بن الأيهم معروفة . فقد كان الرجل أميرا تتوفر له شارات السيادة فى الجاهلية والإسلام . وكان أول عمره نصرانيا فأسلم مع من دخل من جماهير العرب فى هذا الدين. ص _028
عرض له يوما أن كان يطوف بالكعبة فزاحمه أعرابى من العامة ، وداس ثوبه غير قاصد فاستشاط الأمير غيظا ولطم الأعرابى على وجهه . ورفعت إلى عمر بن الخطاب القضية ، فحكم بالقصاص إلا أن يعفو الأعرابى . فقال جبلة مستكبرا : كيف .؟ وهو سوقة وأنا ملك . فقال عمر قولته الحاسمة : إن الإسلام سوى بينكما .. !! وطلب الأمير الغاضب مهلة يراجع فيها نفسه فر أثناءها إلى أرض الرومان راجعا إلى النصرانية . ومرتدا عن الإسلام . لقد ترك أرض المساواة وآثر أرض الطبقات . ترك شريعة تتشدد فى تكريم الإنسانية تحت أى إهاب ، ومع أى نصيب من المال ، إلى دولة فيها الملوك والأمراء ، وفيها الرعاع والفقراء ، وفيها ترجيح الفوارق المزعومة للنسب والدم والمال . وقد روى الرواة أن ضمير جبلة استيقظ ، وتحركت فى نفسه هواجس المندم ! أيفقد المرء دينه لشعور طائش يخامره ، ما أخسر الصفقة !! لذلك قال : تنصرت الأشراف عن عار لطمة وما كان فيها لو صبرت لها ضرر تكنفنى منها لجاج ونخوة وبعت لها العين الصحيحة بالعور فياليت أمى لم تلدنى وليتنى رجعت إلى الأمر الذى قاله عمر وربما سأل سائل : أما كان يمكن علاج هذه القضية بقدر أقل من الصرامة وقدر أكبر من التجاوز ، بدلا من شريعة المساواة التى انتهى تطبيقها بارتداد شخص عن الإسلام ؟ ونحن نسارع إلى كشف هذه الشبهة :- إن عمل عمر وأمثاله من رؤساء الإسلام ليس تقرير حكم فى قضية خاصة إنما هو تقرير مبدأ عام تحتكم إليه الأجيال ، وتثبيت قاعدة بدأ بها الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ نفسه فلا يجوز أدنى تفريط فيها . وهذا الأعرابى الغامض فى الناس الذى انتصف(1/26)
له رئيس الدولة إنما هو مثل للإنسانية كلها فى صورتها العارية عن الألقاب والأنساب فالغضب لها تحديد لموقف الإسلام مما يجب لها فى كل زمان ومكان . وقد حاول البعض فى عصر الرسول الكريم أن يخدش قاعدة المساواة العامة أمام القانون ، فقوبلت محاولاته بكل شدة . وذلك أن قريشا أهمها أمر المرأة المخزومية التى تقرر قطع يدها لثبوت جريمة السرقة عليها . ص _029
فرأوا أن يستشفعوا بأسامة بن زيد إلى رسول الله "صلى الله عليه وسلم" كى يتجاوز عن إقامة الحد لما لأسرة المرأة من مكانة . وكان الناس يعلمون أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - شديد الحب لأسامة ولأبيه زيد الذى قتل فى معركة مؤتة . فلما تحدث أسامة فى الشأن الذى جاء من أجله غضب الرسول "صلى الله عليه وسلم" منه وانتهره وقال له مستنكرا : (أتشفع فى حد من حدود الله يا أسامة؟). ثم قام فى الناس خطيبا يقول لهم : " إنما أهلك الذين من قبلكم أنهم كانوا إذا سرق الشريف تركوه ، وإذا سرق الضعيف أقاموا عليه الحد . وأيم الله .. لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها ". وبهذا القول الحاسم أرسى حجر المساواة العامة بين الناس كلهم أمام شريعة الله. * * * فى الصعيد العالمى: العدالة فى القضاء ، والمساواة بين الناس ، خصائص تشرف بها الحضارات وتزكو . وقد يزيدها شرفا وزكاة أن تسيل هذه المعانى منها سيلان الأشعة من جرم الشمس ، لأن طبيعتها الحرارة والضياء أعنى أن بعض الحضارات قد تلجأ إلى العدالة والمساواة خصوصا فى الصعيد العالمي تحت وطأة ظروف معينة ، فهى- والحالة هذه - عدالة عارضة لسلوكها ، طارئة على خلقها ، وليست أصيلة فيه. لكن الفضيلة حقا أن تعدل ، لا لشىء ، إلا لوجه الله الذى علمك أن تقوم بين الناس بالقسط . إن اللصوص إذا كانوا عصابة للسطو قد يقسمون غنائمهم بالسوية . وقد يتحرج بعضهم من الحيف على البعض الآخر حتى لا يقعوا جميعا فى أيدى رجال الشرطة وفى زمننا هذا تضطر الدولة(1/27)
الكبرى إلى معاملة بعض الدول الصغرى بنزاهة واستقامة ، لماذا ؟ أهى الراعية المحمودة لحق الضعاف ؟ . كلا . . ص _0 ص 0
إنما هو الإبقاء على التوازن الدولى ، والخوف من الاصطدام بقوة مرهوبة. لكن الإسلام التزم جانب العدالة المطلقة يوم دانت له الأرض ، ولم يبق على ظهرها سلطان مرهوب !! كان الإسلام يستطيع إبادة الجماعات القليلة التى رفضت أن تدين به بين المحيطين. ولو فعل هذا لكان متمشيا مع منطق المعاملة بالمثل . ولكن الإسلام أبى عن ترفع ونزاهة ... وبقيت ملل شتى فى أرضه شاهد صدق على طبيعته ! كان يمكن أن يعامل الآخرين معاملة يظهر فيها بين الحين والحين طابع التمييز لأبنائه ، والميل على غيرهم ، والإغضاء عن حقوقهم ...! لكنه لم يعرف هذه السيرة ، لأن القيام لله بين الناس له أسلوب سيعرض على رب الناس ، العليم بذات الصدور . ويسرنا أن نقرأ شهادة خالصة لوجه الحق كتبها الزعيم العربى المحقق العلامة فارس الخورى ينصف بها هذا الدين ، ويصف بها عدالته فى الداخل والخارج ، ويقارن بين شرائعه ، والشرائع الأخرى ، فيظهر المقارنة ما امتاز به الإسلام من سماحة وبر . 1- أننا نشعر بسعادة غامرة عندما نرى نصرانيا عربيا صافي النفس والفكر. ينوه بما فى الإسلام من عدالة وسماحة مع من لا يدينون به ، ثم يسند هذا الشعور بحقائق علمية منتزعة من صميم التاريخ . 2- أنا وجدنا فى بعض الكلمات التى تناول بها شريعة موسى عليه السلام ما يستدعى تعليقا يسيرا . لابد من إيراده حتى يستقيم الرأى من أوله إلى آخره . قال الأستاذ الكبير : " وشريعة موسى تحتوى أظهر الأمثلة بين الشرائع الإلهية للشدة ، فهى مبنية على القتل العام ، ومحو سكان البلاد المفتوحة ، سواء أكانوا أسرى حرب أو مسلمين صلحا . ولا فرق بين رجل مسلح محارب ، أو شيخ أعزل ، أو امرأة ، أو طفل . فالكل يذهبون طعام السيوف ، تمحو اسمهم من تحت السماء ، لا يقف إنسان فى وجهك حتى تنفيهم تدريجيا(1/28)
لئلا تكثر عليك وحوش البرية " . والبون شاسع بين شريعتى موسى ومحمد عليهما السلام .. فالأولى تأمر بالتقتيل بدون إنذار ، ولا عهد ، ولا صلح ، ولا دعوة لإيمان .. فلا يقبل من الأعداء التهود ، ولا يعصمهم من القتل والفناء الإيمان خوفا من الارتداد فيم ابعد .. ولا سع لهم بالرحيل والجلاء عن بلادهم لتخلوا لليهود الفاتحين ، خوفا من استجماع القوى والكر على الغاصبين ... ص _0 ص 1
والشريعة الثانية تأمر بدعوتهم إلى الإسلام، فإن قبلوا الدعوة عصموا دماءهم وأعراضهم وأموالهم. وإن أبوا فالجزية، وإن أبوا فالقتال، وهذه دعوة دينية قبل كل شىء. قال موسى عليه السلام لقومه: " كل ما كان تدوسه بطون أقدامكم يكون لكم من البرية ولبنان، من نهر الفرات إلى البحر الغربى يكون تخمكم " (تث 11: 24). وهذا أيضا خالفته بها الشريعة الإسلامية السمحاء ، فتركت الأرض لسكانها، وفرضت عليها خراجا كما فرضت الجزية على السكان لتمويل المحاربين فى الجيش مقابل إقرار الأمن. وإقامة العدل، وحماية البلاد.. وهو عين ما تفعله كل سلطة عادلة حتى فى هذه الأيام..، وهنالك فى شريعة موسى- عليه السلام- قاعدة أخرى، تطبق على البلاد والمدن البعيدة الخارجة عن الحدود المذكورة فى الفقرة السابقة مما هو ضمن تخوم بنى إسرائيل فقد جاء فيها: " حين تقرب من مدينة لكى تحاربها استدعها إلى الصلح ". فإن أجابتك إلى الصلح وفتحت لك أبوابها فكل الشعب المولود فيها يكون لك للتسخير ويستعبد لك. وإن لم تسالمك بل عملت معك حربا فحاصرها. وإذا دفعها الرب إلهك إلى يدك فاضرب جميع ذكورها بحد السيف وأما النساء والأطفال والبهائم وكل ما فى المدينة فهو غنيمتك تغتنمها لنفسك هكذا تفعل بجميع المدن البعيدة عنك جدا التى ليست من مدن هؤلاء الأمم هنا. وأما مدن هؤلاء الشعوب التى يعطيك الرب إلهك نصيبا فلا تستبق منها نسمة ما بل تحرمها تحريما " (تث 2: 10). ومعنى التحريم فى هذه الآية وغيرها القض(1/29)
ل العام، يعنى حرب الإبادة. فانظر يا رعاك الله إلى هذا الصلح، وإلى هذه القواعد.. أما حفظ العهود، ووجوب العمل بها فى شريعة موسى، فهو محصور بالعهود المعقودة بين بنى إسرائيل فقط. ولا يجب على الإسرائيلى أن يحتفظ بعهده مع الوثنى التاعس، ولا مع العدو المحارب..!! وهذا غير ما جاءت به الشريعة الإسلامية من الوفاء بالعهد، وانكار النكث والنقض، وأمثلة ذلك كثير ".. نقول: ونحن نريد أن نفرق تفريقا واسعا بين شريعة موسى كما جاءت من عند الله، وبين التعاليم التى يتمسك بها اليهود الآن.. إن موسى ومحمدا- عليهما الصلاة والسلام- إخوة . ص _0 ص 2(1/30)
وإذا كان القرآن الكريم قد فرش أمام المسلمين الأوائل طريقا مليئا بالهدى والنور ، فتلك طبيعة الوحى الإلهى فى كل زمان ومكان . إن الله وصف القرآن الكريم بقوله : (ولكن جعلناه نورا نهدي به من نشاء من عبادنا). ووصف التوراة بقوله : (إنا أنزلنا التوراة فيها هدى). وحرب الإبادة التى قرأنا نصوصها ، والتى تقوم على إهلاك الحرث والنسل وحصد الأطفال والنساء واجتياح البرئ والمريب ، ودمار الحاضر والمستقبل ، هذه الحرب المجرمة لا يمكن أن يوعز بها أو يرضى عنها موسى.. عليه الصلاة والسلام. كيف؟ وهو نبى مرسل من عند الله للإصلاح والرحمة؟ ولا يمكن أن تتضمنها آيات التوراة، وإلا ما كانت هدى ولا نورا..! والله جل شأنه ليس ربا محليا لبنى إسرائيل يعطف على مدينهم. فيحرم أخذ الربا منه. ويقسو على المدين من الأمم الأخرى فيبيح ماله للمرابين!! إن هذه التعاليم من إفك اليهود وليست شريعة لموسى. وإن العقيدة الإسلامية تنزه موسى. وتسند إليه أكرم النعوت، وتجليه لنا رجلا غيورا علي الحق، متطلعا إلى رحمة الله يقول: (رب بما أنعمت علي فلن أكون ظهيرا للمجرمين). ( …رب إني لما أنزلت إلي من خير فقير). والمفروض فى أى دين سماوى أنه يعلق قلوب الناس بالدار الآخرة . فكيف يتصور أن التوراة الحاضرة لا تذكر الدار الآخرة أبدأ !! كيف تكون هذه التعاليم شارة على دين سماوى ؟ فما تكون إذن شريعة كارل ماركس ؟ إن أحداً لا يلومنا نحن المسلمين إذا قلنا : إن التحريف تطرق إلى هذه النصوص وأوهى الثقة بها . ومع ذلك فهى المنبع المقدس ، لا لليهود ، وحدهم ولكن لجماهير غفيرة من البشر فى الشرق والغرب ..!! ونستطرد بعد ذلك إلى ذكر ما قال الأستاذ فارس الخورى . " ولم يضع السيد المسيح عليه السلام شريعة دنيوية ولا تعرض لذلك تلاميذه الحواريون . وبقى أتباعهم فى الدنيا مطلقى الأيدى ، يواجهون كل زمان بما يناسبه من الشرائع والأحكام . ص _0 ص ص(1/31)
وبعد أن تخلصوا من سلطة البابا الزمنية وسائر رجال الدين، انقسمت شعوبهم إلى أقسام حسب عناصرها ولغاتها، وحدود أرضها. وألفت دولا تبادلت بينها الاعتراف بالحقوق القائمة على قاعدة المساواة. ونشأ عن هذا الاعتراف ، تلك القواعد التى ولدتها الحاجة والتعامل، وسموها بالشرع الدولى . وصار كل شخص له جنسية واحدة ينتمى بموجبها إلى دولة، ويتمتع بجميع الحقوق التى يتمتع بها مواطنوه، كما تتمتع الدولة بكل حق يتمتع به غيرها. وبهذه العهود نشأت فكرة الوطنية الأرضية على أنقاض العصبية النسبية والجامعة الدينية. وصارت الأقاليم هى التى تربط البشر المقيمين فيها، وأحدهم إلى الآخر، بدون نظر إلى دينه أو نسبه. وقبلت قاعدة المساواة بين المقيمين فى أرض واحدة كما قبلت هذه القاعدة بين الدول أيضا . وكل دولة تعامل الأخرى بموجب القواعد المقررة فى حقوق الدول العامة. وتعامل الشخص المنتمى إلى غيرها بموجب قواعد حقوق الدول الخاصة. والشرع الإسلامى فى عرف حقوق الدول العامة، يقسم الدنيا إلى دارين: دار الإسلام ودار الحرب. وقد أضاف بعضهم إلى ذلك دار العهد. وفى عرف حقوق الدول الخاصة، يقسم البشر إلى أربعة أقسام: مسلمين، وذميين، ومعاهدين، وحربيين. فما كان من قواعده عائدا لمعاملة أهل دار الحرب يدخل فى نطاق حقوق الدول العامة. وما كان من قواعده عائدا لمعاملة أقسام البشر الثلاثة غير المسلمين يشبه حقوق الدول الخاصة المعروفة فى هذا الزمان. وليس من المنتظر أن يجعل المسلمون لغير المسلمين فى بلاد الإسلام نفس الحقوق التى للمسلمين فى كل شيء . فهذه الدول الحديثة فى عصر الحضارة الباهرة الذى نحن فيه، لا تمنح الأجانب النازلين فى بلادها حق المساواة مع أبناء البلاد. فليس لهم حق التوظف، ولا حق الانتخاب، ولا حق احتراف بعض الحرف المخصوصة، ولا حق التنقل الحر، ولا حق التمتع المطلق بحماية القوانين، واستثمار الحرية، مثل الرعايا المحليين. وأنت تعلم أن(1/32)
اختلاف الدين فى دولة الإسلام هو مثل اختلاف الجنسية فى هذا العصر. والإسلام جنسية عامة لكل المسلمين فى دار الإسلام. ص _0 ص 4
وقد بنيت الدعوة الإسلامية على وحدة الدولة كما بنيت على وحدانية الله ولذلك لم يقرر فى الشرع وجود دول إسلامية متعددة، لكل واحدة ما للأخرى من الحقوق والاستقلال. ونصوص الشريعة الغراء عن معاملة غير المسلمين فى دار الإسلام كثيره حتى أن أهل الذمة بقيت لهم محاكمهم المذهبية، تفصل فى النزاع بينهم فى أمور الزواج والطلاق والنفقة والنسب والوصية والوقف والحضانة والإرث وتحرير التركات وسائر ما هو من الأحوال الشخصية، أو من الخصومات الطائفية الصرفة- التى لا تهم المسلمين- ولا تمس كيان الدولة. وقد كان للبطريرك فى دمشق سجن متصل بالكنيسة يحبس فيه من يستحق التأديب من النصارى. ومرة حبس الأخطل شاعر بنى أمية، وقيده بسبب كثرة سكره، ولم يطلقه حتى شفع فيه الخليفة نفسه. وأوصى سيدنا محمد "ـ صلى الله عليه وسلم ـ " بأهل الذمة فقال: " لهم ما لنا وعليهم ما علينا . ومن آذى ذميا كنت خصمه يوم القيامة.. " . وأما سيدنا موسى فقد جعل فروقا عظيمة فى المعاملة والحقوق بين اليهودى وغير اليهودى فقال فى التوراة : " لا تقرض أخاك الإسرائيلى بربا فضة ، أو ربا طعام ، أو ربا شئ مما يقرض بربا.. للأجنبى تقرض بربا.. ولكن لأخيك لا تقرض بربا ". وقس على هذه القاعدة سائر القواعد الاجتماعية فى المعاملات والعقوبات. فكان الحكم فى الشريعة الموسوية يختلف باختلاف أشخاص الخصوم، والعقوبة تخف على اليهودى وتشتد على الأجنبى مع وحدة الجرم. وجاء فى موضع آخر من التوراة: " اليهود يقرضون أمما كثيرة- يعنى بالربا- وهم لا يقرضون " (تث 15: 6). ويسقط الدين بمرور الزمان بعد سبع سنين عن العبرانى . وأما عن الأجنبى فلا يسقط أبدأ ولا يمر عليه الزمان. ثم إن شريعة موسى الكليم استهدفت أمور الدنيا فقط . وليسر فى التوراة إشارة ما إلى خلود(1/33)
بعد الموت أو ثواب فى الآخرة على عمل صالح فى الدنيا . بل كل ما فيها من هذا القبيل وعود بالمكافأة فى الدنيا ، كالوعد بطول العمر ، والشفاء من الأمراض ، وإعطاء النسل الصالح، وتكثير المال وغلة الأرض، والانتصار على الأعداء وتوطئة أكناف المعيشة، وتمهيد سبل الرفاهية، والتسلط على الغير، وأمثال ذلك. من الوعود الدنيوية الصرفة. ص _0 ص 5
وأما الذين يعبدون غير الرب أو يرتكبون المنكرات المعدودة فى التوراة فهناك وعيد وتهديد بتسليط الأعداء عليهم، يغلبونهم، ويسلبون أموالهم ونساءهم، ومنع الأرض من إعطائهم غلتها، والسماء عن صب أمطارها، وإرسال الأوبئة عليهم لتهلكهم وأمثال ذلك من مصائب الدنيا وآفاتها. أتينا على هذه المقايسة الموجزة بين الشريعتين الإلهيتين الموسوية، والمحمدية المستندتين على كتابى التنزيل التوراة والقرآن، وتبينا الفروق البارزة بينهم. أما أمر المقايسة بين الشرع الإسلامى والشرع الرومانى مثلا فلا نراه يستقيم لنا بالنظر لاختلاف الهدف والسنة بين الشرعين . الأول منهما قائم على قواعد العدل المطلق، ومقتضيات العقول. والثانى على المصالح والمنافع الدنيوية.. فيبنى على هذا التخالف أن الأساس فى الشرع الإسلامى مصلحة الفرد فى الدنيا والآخرة. وفى الشرع الرومانى مصلحة الجماعة فقط. وهذه المبادئ ظاهرة آثارها فى كل صفحة من صفحات هذين الشرعين العظيمين، تفرق بينهما تفريقا يتعاصى على المزج والتوحيد، حتى أن الحكيم يستنبط استنباطا الحكم بالمسائل المعروضة فى كل من الشرعين ، إذا اعتبر بهذه القواعد، ورجع إليها، وفى الأعم الأغلب يكون ظنه يقينا. مثال ذلك: مرور الزمن إما أن يسقط الحق، وإما أن يسقط الدعوى فالشرع الإسلامى لا يمكن أن يقول بسقوط الحق، لأن الحق يبقى فى الذمة والفرد لا تبرأ ذمته إلا بالوفاء أو بالإبراء مهما مر من الزمان على الحق ولذلك قال: إن الحق لا يسقط بتقادم الزمان، وإنما يمنع الحاكم عن سماع(1/34)
الدعوى. فلم يكتف الشارع الإسلامى بتأمين مصلحة الدنيا بل استهدف مصلحة الآخرة أيضا. وفى حين أن الشارع الرومانى اتخذ الجانب الآخر وقال: إن الحق المتروك يسقط، والساقط لا يعود. ولم يكترث بأثقال الذمة وعقاب الآخرة. لذلك نرى أنه ليس من السلامة القول إن أحد هذين الشرعين مأخوذ عن الآخر وقد ص _0 ص 6
يكون المتأخر منهما استعان بسابقة التذكير والجمع والتعريب، وإنما لم يعتمد عليه فى التحليل واستنباط الأحكام فإن له فى ذلك منهاجا آخر غير منهاج رفيقه. وإذا طالعت أقوال فقهاء الأمتين فى إحدى المسائل، تجد كل فئة تعلل اجتهادها بطريقتها الخاصة، مراعية المبادئ المتقدم ذكرها، غير متأثرة بالأساليب وطرق التعليل التى سلكتها الفئة الأخرى. وقد أشرنا بذلك إلى صعوبة المقايسة بين الشرعين. ومن أين لأمير من أمراء القرون الوسطى، غير مأخوذ بالعاطفة الدينية، وغير حريص على سلامة الآخرة، أن يجعل رائده تقوى الله فى حروبه وغزواته، ويحرص على كل ما ينيله ثواب الخلود، والمرتبة العالية فى الجنة بالتزام العدل والرحمة، والبعد عما يشوب طهارة النفس وفضائل الأخلاق؟ ذلك ما نراه شائعا بين أمراء المسلمين وقوادهم ونجد أمثلة كثيرة. ومن أحسن ما نذكره فى هذا القبيل أن عمر بن الخطاب كتب إلى سعد بن أبى وقاص ومن معه من الأجناد يقول: ".. ونح منازلهم (جنودك) عن قرى أهل الصلح والذمة، فلا يدخلها من أصحابك إلا ممن تثق بدينه. ولا يرزأ أحدا من أهلها شيئا فإن لهم حرمة وذمة، ابتليتم بالوفاء بها كما ابتلوا بالصبر عليها، فما صبروا لكم فوفوا لهم ". ففى هذا الأمر الصريح لا يكتفى أمير المؤمنين ابن الخطاب بالتوصية الحسنة بأهل الصلح والذمة، بل تجاوز فى الرفق بهم العهود المقطوعة لهم. وفيها أنهم يضيفون عسكر المسلمين ثلاثة أيام. أما هو فأمر بتنحية العسكر عن قراهم حتى لا يصابوا بأذى ولا معرة وفى هذه الفقرة بيان يدلى به هذا الإمام العظيم عن ثقل وطأة(1/35)
الفاتحين على أهل البلاد، ومرارة نفس الغالب فى عدم الاعتداء على مغلوبه فقال لقومه: "إنكم ابتليتم بالوفاء بحرمة أهل الصلح وذمتهم، كما ابتلوا هم أيضا بالصبر على تغلبكم وتحكمكم بهم فى بلادهم، فعليهم الصبر، وعليكم الوفاء ". * * * ونحن المسلمين نعرف أن عمر لم يكن من هؤلاء الساسة الذين يملى عليهم الطمع حركاتهم وسكناتهم ، فيعاملوا الشعوب معاملة من يختلها عن مصالحها أو يساومها على استقرارها. ص _0 ص 7
ولم يكن من أولئك القادة العسكريين الذين يضربهم بطش السيف فيصيحون فى وحشية: " الويل للمغلوب ". لا . . لا . . إن عمر كان رافدا من روافد الرحمة العامة التى بعث بها نبى الرحمة. وعندما أرسل جيوش الإسلام إلى البلاد المجاورة لم يكن يرسل الجيوش لتسلب دولا مستقلة استقلالها، أو دولا مستقيمة استقامتها. إنه حرر المستعمرات الرومانية فى آسيا وافريقيا من أولئك الرومان الدخلاء ورد إلى الشعوب الأصلية حرياتها كلها، الدينية، والاقتصادية على سواء. كما أسقط حكم الأكاسرة ، ومنع الوثنيات السياسية من الاستعلاء فى الأرض. ولم تمض سنون قلائل حتى كان أولئك الفرس مساوين للعرب - باسم الإسلام- أو قادة لهم.. أما قصة الضيافة التى ألمح إليها الكاتب ، فيجب أن نعلم أصلها ! إن "الضيافة حق على المسلم قبل الذمى. ووردت آثار نبوية أن المسلم الذى يمتنع عن ضيافة إخوانه- فى حدود المدة المقررة- يكره عليها قانونا، مادام قادرا على هذه الاستضافة. إلا أن عمر رضى الله عنه، خشى أن يشعر أهل الذمة بأن ذلك استضعاف لهم، فأمر ألا يخرجوا بتقاليد الكرم الإسلامى، وأوعز إلى الجيش أن يدعهم وشأنهم على أن ما يقع إبان المعارك، وفى حومة الميدان شئ غير ما يشرع من قوانين وتعاليم تقر العلائق بين المسلمين وغيرهم على وجه الدوام. والأستاذ فارس الخورى قد بين أن الشريعة الإسلامية قد التزمت العدالة والفضيلة والمساواة فى هذا المجال. وقد علمت أنها أرجح كفة(1/36)
وأشرف وجهة من قوانين الرومان، وأنها أسمى وأزكى من تلك القوانين التى تسمى زورا شريعة موسى، وموسى منها براء. والبحث المقارن الذى طالعناه هنا يستحق التسجيل والتنويه. إن هذا البحث صادق فى جملته وتفصيله. ولكنا نريد أن نبين آثاره فى تفكير الغرب المعاصر وتشريعه، خصوصا وهو يعامل الآخرين. إن خلو النصرانية من الجانب التشريعى فى الدماء والأموال وسائر المعاملات معروف، فهى عقيدة فقط . ورسالة عيسى فى حقيقتها تصديق للتوراة وتكميل لها . ولا يزال النصارى يرون العهدين القديم والجديد جزءين لشئ واحد هو الكتاب المقدس. ص _0 ص 8(1/37)
والمشكلة التى لا حل لها أبدا ، هى أن العهد القديم الذى بين أيدى اليهود والذى يمثل شريعة موسى شئ واهن الصلة بالوحى ، وقد عرفت ما عراه ، واستنبت وجهته فى الحرب والسلم ، وتفرقته فى الفضيلة والرذيلة بين جنس وجنس . وهذا المنحنى الزائغ ترك طابعه فى ساسة أوروبا وأمريكا .. فالشعوب والحكومات هناك واقعة فى دائرة النفوذ الأدبى والاقتصادى والسياسى لليهود. فكيف بتعذيب إنسان وقتله ؟ وقد تخاصمهم أفرادا أو جنسا لأسباب محدودة. بيد أن مقدسات اليهود الفكرية والقانونية- وقد عرفنا قيمتها- هى التى تسيطر على الغرب وحضارته. الدار الآخرة لا اكتراث بها ولا التفات إليها. الحلال والحرام- كما خطته السماء- لا تعويل عليه فى تشريع أو نظام. فإذا جاء القانون الرومانى بعد ذلك، وسد الثغرات الزمانية فى الأساس الدينى الذى يقوم عليه الغرب، عرفت أى خلط فى سياسة التقنين عند القوم. ومدى انعدام كل سناد سماوى لها. (بل اتبع الذين ظلموا أهواءهم بغير علم فمن يهدي من أضل الله وما لهم من ناصرين) والمستغرب أن يجئ نفر قاصر من سكان هذه البلاد فيرنو ببصره إلى شرائع الغرب يحسبها شيئا طائلا ، ويذهل عن كنوز الحق المبعثرة بين يديه عن يمين وشمال. * * * حق الحياة والسلامة والأمان: وهب الله نعمة الحياة للإنسان، وجعل حياطتها كلا وجزءا ، وصيانتها مادة ومعنى فى طليعة الأهداف التى أبرزها الدين، وتحدث فيها الرسل مبشرين ومنذرين. ولا عجب فإن إشقاء حيوان وإزهاق روحه ظلما يعده الله العدل الرحيم جريمة يدخل فيها الإنسان النار. قال رسول الله "ـ صلى الله عليه وسلم ـ ": (دخلت امرأة النار فى هرة حبستها، فلا هى أطعمتها ولا هى تركتها تأكل من حشاش الأرض " . وروى النبى- ـ صلى الله عليه وسلم ـ - (أن رجلا أصابه ظمأ شديد ، فنزل بئرا ليرتوى من ص _0 ص 9(1/38)
مائها ، فلما خرج منها رأى كلبا يلهث يلحس الثرى من العطش فقال: لقد أصاب الكلب من الظمأ مثل الذى أصابنى ، فنزل البئر وملأ خفه وسقى الكلب فشكر الله له فغفر له ". أرأيت كيف أن إراحة حيوان وحفظ حياته باب إلى رضوان الله ؟ وكيف أن إتعاب حيوان وإهدار حياته باب إلى سخطه ؟ فإذا كانت هذه نظرة الإسلام إلى قيمة الحياة فى المخلوقات الدنيا، فما تكون عنايته وجائزته لمن يدعم حق الحياة بين الناس؟ وما تكون نقمته وعقوبته لمن يستهين بهذا الحق؟ إن القرآن الكريم يعد إزهاق الروح جريمة ضد الإنسانية كلها. ويعد تنجيتها من الهلاك نعمة على الإنسانية كلها. ( أنه من قتل نفسا بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعا ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا ). وتوكيدا لحق الحياة حتى لا يضار فيها أحد يقول الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ : " لزوال الدنيا أهون على الله من قتل رجل مسلم ". وعن ابن عباس رضى الله عنهما: ( قتل بالمدينة قتيل على عهد رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ لم يعلم من قتله ، فصعد النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ المنبر فقال: ( يا أيها الناس.. يقتل قتيل وأنا فيكم ولا يعلم من قتله ؟ لو اجتمع أهل السماء والأرض على قتل امرئ لعذبهم الله- إلا أن يفعل ما يشاء ). والمسلم وغير المسلم سواء فى حرمة الدم واستحقاق الحياة. والاعتداء على المسالمين من أهل الكتاب هو فى نكره وفحشه كالاعتداء على المسلمين وله سوء الجزاء فى الدنيا والآخرة . وعن عمرو بن العاص أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: ( من قتل معاهدا لم يرح رائحة الجنة ). وفى رواية أخرى: ( من قتل قتيلا من أهل الذمة حرم الله عليه الجنة ). إن الحياة الكاملة مصونة، والاعتداء عليها بالقتل جريمة، وكذلك الاعتداء على جزء منها، وتعريضه للتلف أو التشويه. فذلك كله فى نظر الإسلام عدوان أساس العقوبة فيه القصاص. وإنما شرع القصاص تأمينا للسلامة المطلقة بين الناس.(1/39)
ص _040
وهذا معنى قوله تعالى: (ولكم في القصاص حياة) . فأنواع القصاص التى أقامها الشارع هى كلها ضوابط وحصانات لإشاعة حق الحياة فى أسمى صورها بين الناس أجمعين . ومن هنا حرم الإسلام كل عمل ينتقص من هذا الحق. سواء أكان هذا العمل تخويفا أو إهانة أو ضربا أو اعتقالا ، أو تطاولا أو طعنا فى العرض فإن حياة الإنسان المادية والأدبية موضع الرعاية والاحترام. قال عليه الصلاة والسلام: (ظهر المسلم حمى إلا بحقه ) . وقال: ( من جرد ظهر مسلم بغير حق لقى الله وهو عليه غضبان) . وليس ذلك التحذير بالنسبة إلى المسلمين وحدهم. فقد روى هشام بن حكيم أنه مر بالشام على أناس من الأنباط ، وقد أقيموا فى الشمس وصب على رؤوسهم الزيت فقال : ما هذا ؟ قيل يعذبون فى الخراج . فقال هشام : أشهد لسمعت رسول الله "صلى الله عليه وسلم" يقول : (إن الله يعذب الذين يعذبون الناس فى الدنيا). ودخل على الأمير فحدثه فأمر بهم فحلوا . إن الإسلام يحب إشاعة الطمأنينة التامة فى أكناف المجتمع. بحيث ينال الإنسان - مسلما كان أو غير مسلم - نصيبا موفورا من طمأنينة الحياة واستقرارها. حدث زيد بن سعنة وهو من أحبار اليهود أنه أقرض النبى - صلى الله عليه وسلم - قرضا كان قد احتاج إليه ليسد به خللا فى شئون نفر من المؤلفة قلوبهم . ثم رأى أن يذهب قبل ميعاد الوفاء المحدد ليطالب بدينه . قال: أتيته - يعنى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأخذت بمجامع قميصه وردائه ونظرت إليه بوجه غليظ . قلت له: يا محمد ألا تقضينى حقى ؟ فوالله ما علمتكم بنى عبد المطلب إلا مطلا ! ولقد كان لى بمخالطتكم علم !!. ونظر إلى عمر وعيناه تدوران فى وجهه كالفلك المستدير. ثم رمانى ببصره فقال: يا عدو الله.. أتقول لرسول الله "صلى الله عليه وسلم" ما أسمع ، وتصنع به ما أرى ص _041(1/40)
فوالذى نفسى بيده لولا ما أحذر فوته لضرب سيفى رأسك. ورسول الله "صلى الله عليه وسلم" ينظر إلى فى سكون وتؤدة . فقال: (يا عمر أنا وهو كنا أحوج إلى غير هذا ، أن تأمرنى بحسن الأداء. وتأمره بحسن اتباعه. اذهب به يا عمر فأعطه ، وزده عشرين صاعا من تمر مكان ما رعته) قال زيد : فذهب بى عمر، فأعطانى حقى وزادنى عشرين صاعا من تمر فقلت : ما هذه الزيادة يا عمر ؟ قال أمرنى رسول الله "صلى الله عليه وسلم" أن أزيدك مكان ما رعتك * * * إن ترويع يهودى آذى صاحب الرسالة بلسانه ويده لم يأذن صاحب الرسالة به. وأمر أن يبذله مكانه عوضا تطيب به نفسه. والحق أن الإسلام يوصد كل الأبواب أمام نفر من الخلق يستهينون بأقدار الآخرين وحقوقهم، خصوصا الحكام الذين قد يدهمون البيوت لتفتيشها، أو يعتقلون خصومهم، ويقيدون حركاتهم دون ارتباط بقانون أو رعاية لقضاء. تلك كلها سياسات جائرة تصطدم بما يقرره الإسلام فى مجتمعه من تأمين مطلق للفرد، وحس دقيق بحقوقه الشخصية. إن النظرة المجردة داخل بيت الإنسان اعتداء على حرمته، وقد أدب الرسول أمته ألا تفعل هذا. وحظر على أى امرئ أن يدخل بيتا إلا بإذن صاحبه. عن أبى ذر قال: قال رسول الله "صلى الله عليه وسلم" : (أيما رجل كشف سترا ، فأدخل بصره قبل أن يؤذن له ، ففد أتى حدا لا يحل له أن يأتيه ، ولو أن رجلا فقأ عينه بسبب ذلك لهدرت). وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (لا تأتوا البيوت من أبوابها يعنى مواجهة تجعل القادم يكشف ما هنالك ولكن ائتوها من جوانبها فاستأذنوا فإن أذن لكم فادخلوا وإلا فارجعوا). فهل يتصور فى دين هذه معالمه أنه يبيح اقتحام البيوت لمعتد أو متسلط كما يؤثر ذلك عن عصور الاستبداد !! إن تعريض مسلم لأى فزع جريمة . وحق الحياة الآمنة من المخاوف والمظالم لابد من إثباته فى حياة الجماعة . ص _042(1/41)
قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: ( لا يحل لمسلم أن يروع مسلما ) . وفى رواية: ( لا ترعوا المسلم فإن روعة المسلم ظلم عظيم ). وعندما يكون التخويف مقرونا بسلاح ما فإن الإثم يتضاعف. قال رسول الله "ـ صلى الله عليه وسلم ـ : ( لا يشر أحدكم إلى أخيه بالسلاح، فإنه لا يدرى لعل الشيطان ينزع فى يده، فيقع فى حفرة من النار ). وقد ضرب رسول الله "ـ صلى الله عليه وسلم ـ " أروع الأمثلة كى نغرس فى النفوس تقديس حق الحياة. فإن العرب منذ بعثة إبراهيم الخليل كانوا يقدسون الكعبة ويشدون إليها الرحال من أقصى الآفاق. فتأمل كيف وقف النبى " ـ صلى الله عليه وسلم ـ " أمام هذه الكعبة يقول: ( ما أطيبك وأطيب ريحك، وما أعظمك وأعظم حرمتك، والذى نفس محمد بيده ، لحرمة المؤمن عند الله أعظم من حرمتك : ماله ، ودمه ). أرأيت إشعارا بقداسة حق الحياة وكرامة الإنسان كهذا الإشعار الجليل؟ ومرة أخرى ينوه الرسول بقداسة حق الحياة ، فيعمد إلى استثارة المشاعر نحو ما تواضع المسلمون وغيرهم ، على إجلاله ، وهو الشهر الحرام والبلد الحرام . فيسمعه الناس يخطب فى حجة الوداع يقول: ( أى يوم هذا ؟ قلنا: الله ورسوله أعلم، فسكت حتى ظننا أنه سيسميه بغير اسمه ! قال: أليس يوم النحر؟ قلنا: بلى، ثم قال: أى شهر هذا؟ قلنا: الله ورسوله أعلم، فسكت حتى ظننا أنه سيسميه بغير اسمه: قال: أليس ذا الحجة؟ قلنا: بلى ! ثم قال: أى بلد هذا؟ قلنا: الله ورسوله أعلم، فسكت حتى ظننا أنه سيسميه بغير اسمه ! فقال: أليست البلدة مكة؟ قلنا: بلى . قال: فإن دماءكم وأموالكم- أحسبه قال: وأعراضكم- عليكم حرام كحرمة يومكم هذا فى شهركم هذا فى بلدكم هذا ، وستلقون ربكم فيسألكم عن أعمالكم، ألا لا ترجعون بعدى ضلالا بضرب بعضكم رقاب بعض ، ألا هل بلغت؟ ألا فليبلغ الشاهد منكم الغائب إن أصداء هذه الصيحات الحانية الحذرة لا تزال ترن فى الآذان والأفئدة تضفى صبغة القداسة على دم الإنسان(1/42)
وماله وعرضه. وتجعل المحافظة على حق الحياة فى مستواها ص _04 ص
الأعلى متصلة بعنوان الإسلام وحقيقته، فـ (المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده). وقد اعتبر الإسلام الجماعة مسئولة عن حماية هذا الحق . ماذا يحدث إذا حاول البعض إهدار ما كفله الدين للفرد من طمأنينة وكرامة؟ إن الدولة بلا ريب هى المسئولة الأولى عن حماية القانون لكن الدولة ليست حاضرة فى كل زمان ومكان لتحقيق هذه الغاية . ومن هنا وجب على الجماعة أن تتعاون بينها لشد أزر من يعتدى عليه والوقوف بجانبه حتى يتم استنقاذه مما يراد به . وقد قرن الإسلام ذلك بحقوق الأخوة المفروضة بين أبنائه . قلنا فى كتابنا خلق المسلم : " وأخوة الدين تفرض التناصر بين المسلمين، لا تناصر العصبيات العمياء، بل تناصر المؤمنين المصلحين لإحقاق الحق وإبطال الباطل: وردع المعتدى وإجارة المهضوم ، فلا يجوز ترك مسلم يكافح وحده فى معترك ، بل لابد من الوقوف بجانبه ، على أى حال ، لإرشاده إن ضل وحجزه إن تطاول والدفاع عنه إن هوجم ، والقتال معه إذا استبيح ... وذلك معنى التناصر الذى فرضه الإسلام . قال رسول الله "صلى الله عليه وسلم": "انصر أخاك ظالما أو مظلوما، قال: أنصره مظلوما، فكيف أنصره ظالما ؟ قال : تحجزه عن ظلمه فذلك نصره". إن خذلان المسلم شئ عظيم ، وهو - إن حدث - ذريعة خذلان المسلمين جميعا، إذ سيقضى على خلال الإباء والشهامة بينهم ، وسوف يخضع المظلوم طوعا أو كرها لما وقع به من ضيم.. ثم ينزوى بعيدا وتنقطع عرى الأخوة بينه وبين من خذلوه. وقد هان المسلمون أفرادا ، وهانوا أمما يوم وهت أواصر الأخوة بينهم، ونظر أحدهم إلى الآخر نظرة استغراب وتنكر، وأصبح الأخ ينتقص أمام أخيه فيهز كتفيه ويمضى لشأنه كأن الأمر لا يعنيه. إن هذا التخاذل جر على المسلمين الذلة والعار، وقد حاربة الإسلام حربا شعواء ، ولعن من يقبعون فى ظلاله الداكنة الزرية. قال رسول الله "صلى الله عليه وسلم": لا(1/43)
يقفن أحدكم موقفا يضرب فيه رجل ظلما ، فإن اللعنة تنزل على من حضره حين لم يدفعوا عنه " . فإذا رأيت أن إساءة نزلت بأخيك أو مهانة وقعت عليه، فأره من نفسك الاستعداد لمظاهرته، والسير معه حتى ينال بك الحق ويرد الظلم . ص _044
وروى عن النبى ـ صلى الله عليه وسلم ـ : " من مشى مع مظلوم حتى يثبت له حقه ثبت الله قدميه على الصراط يوم تزل الأقدام " . * * * ص _045
الحريات إذا منح الله الإنسان عقلا فلكى يفكر به ويهتدى بنوره فتلك وظيفة العقل ، وثمرته المرجوة ، والله جل شأنه يكره أن يهدر إنسان هذه المنحة فيحيا أحمق وهو يستطيع الرشد ، بليدا وهو يستطيع النظر. وإذا ذرأ الله الناس على فطرة سليمة ينبعثون منها كما ينبعث السهم إلى غايته. فهو يأبى عليهم عوج الطبع ، وزيغ الخطو، وضلال الوجهة. إن المهندس الذى يبتكر آلة لتدور بمحركات داخلية، لا يعتبر هذه الآلة صحيحة ولا ناجحة إلا إذا دارت وفق ما قدر لها، وأدت الغرض المقصود منها. أما إذا أديرت باليد لعطل أصابها، أو جرتها دابة مثلا، فهى آلة فاشلة لا تساوى شيئا . وكل تدين يصحبه فساد الفطرة وشلل العقل فهو تدين تافه عديم القيمة، لأنه أمات الحقيقة الإنسانية، وجعل تعاليم الدين أعوادا تغرس فى الثلج أو الصخر، هيهات أن يكون لها ورق أو ثمر. ومن هنا فنحن نرفض فهم الإسلام بعيدا عن منطق الفطرة والعقل، لأنه من المستحيل سلخ الشئ عن حقيقته، ثم إصدار حكم له أو عليه. والإسلام دين الفطرة والعقل، هكذا وصفه كتابه، وأقامه نبيه، ومن العبث تجريد دين من خصائصه، ثم محاولة تصوره وتصويره. ويؤسفنا أن بعض المسلمين لم يتعرفوا على الإسلام التعرف الواجب، فساء عملهم به بعد ما ساء فهمهم له. وقضية الحريات الأساسية للإنسان تتطلب فى شرحها استعراض الإسلام نصا وروحا ، حتى يعرف بعيدا عن التطبيقات الخاطئة والتقليد المجرد. ونحن باسم الله نحصى هذه الحريات. الحرية السياسية: وهى تعنى فى عصرنا هذا(1/44)
أمرين: ( أ ) حق كل إنسان فى ولاية الوظائف الإدارية صغراها وكبراها ما دام بكفايته أهلا لتوليها. (ب) حق كل إنسان أن يبدى رأيه فى سير الأمور العامة، وتخطئتها أو تصويبها وفق ما يعتقد. والحريات السياسية بشقيها تقوم على أن المناصب المختلفة وسائل لخدمة المجتمع، وأن ما يشغلها موضع الرقابة الدقيقة من جمهور الأمة . ص _046
والواقع أن الإسلام لا يفهم وظائف الحكم داخل هذا النطاق المحكم. رئيس الدولة فمن دونه من الموظفين أشخاص تختارهم الأمة، ولا يفرضون عليها أبدا . وهى تختارهم لما تتوسمه فيهم من صلاحية لإدارة الأعمال التى تسند إليهم ، وتعطيهم نظير ذلك أجرا يقوم بأودهم ويكفل معايشهم وأولادهم . وهم باقون فى وظائفهم ومستحقون أجرتها ما بقيت لهم هذه الصلاحية، وإلا نُحُّوا عنها وخلفهم عليها من يقدر على أعبائها. ليست ولاية أى وظيفة وفقا على أسرة من الأسر، فما يزعمه الملوك من حق إلهى ينولون به شئون الناس خرافة لا أصل لها. إن النبوة اصطفاء من الله ، أما الخلافة عن النبوة فى حكم الناس بالحق الذى بينه الله فهذا أمر موكول للمسلمين يختارون له الأكفأ والأرشد . عندما توفى النبى "ـ صلى الله عليه وسلم ـ " ، فكر الصحابة لفورهم فيمن يخلفه على سياسة شئونهم الدينية والدنيوية. وكان هذا التفكير فى نظرهم من الخطورة بحيث أعجلهم البت فيه عن دفن الجثمان الطاهر. فلما اجتمعوا فى سقيفة بنى ساعدة - كيما يختاروا الرئيس الأعلى للأمة- كانوا يتشاورون بحرية ظاهرة ، فى ترشيح أكفأ من يعرفون ليلى الأمر بعد رسول الله "ـ صلى الله عليه وسلم ـ ". والتطلع للقيادة غريزة معتادة . ولا حرج فى هذا التطلع إذا كان المرء يعرض مواهبه لتكون في خدمة الأمة ورسالتها. إنما الإثم على الذين يرغبون فى الصدارة طلبا للوجاهة، وتأميلا فى مظاهر الدنيا الفارغة ودون اكتراث بطبيعة الرسالة التى يحملونها. والذى يهمنا أن الروح الذى سيطر على هذا الاجتماع(1/45)
الفريد كان غريبا وسط ما يدور فى العالم يومئذ من توارث السلطة، أو السطو عليها بالسيف. لقد تحدث المؤتمرون فيمن يختار خليفة ، ثم انتهوا إلى مبايعة أبى بكر، الذى برهن فى مدة حكمه القليلة أن أيامه كانت امتدادا لعهد الرسول "ـ صلى الله عليه وسلم ـ " نفسه . إن أبا بكر كان من بيت ضعيف فى قريش ، وترشيحه لا يقود إلا للخصائص النفسية التى تطلب فى كل قائد يحب ويقدم عن طواعية وإعزاز. ثم تولى إمارة المؤمنين عمر بن الخطاب، وقد شرحنا فى كتاب آخر الظروف العسكرية التى كانت تكتنف الدولة الإسلامية شرقا وغربا ، أيام أبى بكر، وخطورة إجراء انتخاب واسع لتنصيب الخليفة الثانى . ص _047(1/46)
لكن هل قضت تلك الظروف باغتصاب مشيئة الرأى العام ، أو الميل عن طبيعة الشورى الإسلامية ؟ لا ، إن الخليفة الأول أدى واجبه أداء كريما وسط الأعاصير التى واجهت الإسلام من قبل الروم والفرس جميعا . قال الأستاذ عثمان خليل عثمان: " إذا كان أبو بكر قد اختار عمر قبيل وفاته ، فما كان ذلك تعيينا من جانبه وحده ، بل إنه عهد بذلك للناس أول الأمر وقد جمعهم من أجله ، وقال لهم: " إنه قد نزل بى ما ترون ولا أظننى إلا ميتا... فأمروا عليكم من أحببتم ، فإنكم إن أمرتم فى حياة منى كان أجدر ألا تختلفوا بعدى ". ولكنهم لم ينتهوا فى الأمر لرأى فردوه إلى أبى بكر ، فاستشار، وانته إلى ترشيح عمر. وعرض الأمر على الناس فوافقوا على اختياره ، ولم يمنع ذلك من وجود معارضين فى الرأى خلال هذه الاستشارات . فمما يذكر أن بعض الأفراد دخلوا على أبى بكر قبيل الوفاة وقال له أحدهم : ما أنت بقائل لربك إذا سألك عن استخلافك عمر علينا وقد ترى غلظته ، وهو إذا ولى كان أفظ وأغلظ ؟ فرد أبو بكر قائلا " أبالله تخوفنى ؟ خاف من تزود من أمركم بظلم !! أقول: "اللهم إنى قد استخلفت على أهلك خير أهلك ". ازاء هاتين السابقتين فى اختيار الوالى. عندما جاء دور عمر فى ترك الأمانة بعد الطعنة القاتلة التى أصابته، وبعد أن قيل له " أوص يا أمير المؤمنين.. استخلف " قال رضى الله عنه : أأتحمل أمركم حيا وميتا ..؟! وإن أستخلف فقد استخلف من هو خير منى . يعنى أبى بكر وإن أترككم فقد ترككم من هو خير منى ، رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ . ثم ذكر أسماء ستة من كبار الصحابة- هم عثمان بن عفان وعلى بن أبى طالب ، عبد الرحمن بن عوف ، وسعد بن أبى وقاص ، وطلحة بن عبيد الله والزبير بن العوام - وأضاف إليهم أبنه عبد الله على أن يكون له رأى دون أن تكون له الخلافة . وترك للمسلمين فى النهاية البت فى الأمر . ومما أثر عن عمر كذلك أن المغيرة بن شعبة زين له يوما أن يستخلف ابنه(1/47)
عبد الله على المسلمين من بعده ، فأبى ذلك قائلا : ص _048
" لا أرب لنا فى أموركم ، وما حمدتها فأرغب فيها لأحد من بيتى. إن كان خيرا فقد أصبنا منه ، وان كان شرا فبحسب آل عمر أن يحاسب منهم رجل واحد". كما أثر عن عمر بن عبد العزيز عندما آل إليه ملك بنى أمية بالوراثة أنه دعا الناس إلى المسجد، وقال قوله المأثور: " أيها الناس.. إنى قد ابتليت بهذا الأمر أى وراثة الحكم عن غير رأى منى فيه ، ولا طلبة له، ولا مشورة من المسلمين. وإنى قد خلعت ما فى أعناقكم من بيعتى ، فاختاروا لأنفسكم ". وقد تصايح الناس فى المسجد هاتفين به أميرا للمؤمنين عن رضا واختيار. ورغب بعض الناس إليه قبيل إسلام روحه ، أن يعهد بالخلافة من بعده لمن يرى ، فأبى أن يقع فى مثل المحظور الذى وقع فيه بنو أمية . ونذكر فى هذا الخصوص كذلك أن عليا ـ كرم الله وجهه ـ عندما ذهب بعض الصحابة إلى بيته، ليبايعوه خليفة بعد مقتل عثمان وألحوا عليه فى قبول البيعة: قال: " ففى المسجد، فإن بيعتى لا تكون خفية ، ولا تكون إلا عن رضا المسلمين..". كما أنه بعد أن تولى الخلافة قرابة خمس سنوات، وطعنه فى المسجد عبد الرحمن بن ملجم من الخوارج، وشعر المسلمون بدنو أجله أقبل بعضهم وقالوا: "إن فقدناك ولا نفقدك أفنبايع الحسن ؟ ". فقال لهم : " ما آمركم ولا أنهاكم .. أنتم أبصر .. ". الخلافة بيعة حرة ، وهى أمانة ثقيلة ، يطلب لها أعظم الناس تقى وعلما . وغيرها من المناصب يحمل هذا الطابع نفسه . ولا يجوز أن تتدخل فى ملئه أسباب الطمع والتطلع والسيطرة . " فمن معانى الأمانة وضع كل شئ فى المكان الجدير به، واللائق له، فلا يسند منصب إلا لصاحبه الحقيق به. ولا تملأ وظيفة إلا بالرجل الذى ترفعه كفايته إليها . واعتبار الولايات والأعمال العامة أمانات مسئولة ثابت من وجوه كثيرة. فعن أبى ذر قال : قف : يا رسول الله .. ألا تستعملنى ؟ أى تولينى عملا قال: فضرب بيده على منكبى . ثم قال:(1/48)
" يا أبا ذر إنك ضعيف . وإنها أمانة وإنها يوم القيامة خزى وندامة . إلا من أخذها بحقها وأدى الذى عليه فيها ". إن الكفاية العلمية أو العملية ليست لازمة لصلاح النفس فقد يكون الرجل رضي السيرة حسن الإيمان ولكنه لا يحمل من المؤهلات المنشودة ما يجعله منتجا في وظيفة معينه. ألا ترى إلى يوسف الصديق ؟ إنه لم يرشح نفسه لإدارة شئون المال بنبوته وتقواه فحسب بل بحفظه وعلمه أيضا : ص _049
(…قال اجعلني على خزائن الأرض إني حفيظ عليم ) . وأبو ذر لما طلب الولاية لم يره الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ جلدا لها فحذره منها . والأمانة تقضى بأن نصطفي للأعمال أحسن الناس قياما بها فإذا ملنا عنه إلى غيره لهوى أو رشوة أو قرابة فقد ارتكبنا لتنحية القادر ولتولية العاجز خيانة فادحة. قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم): ( من استعمل رجلا على عصابة وفيهم من هو أرضى لله منه . فقد خان الله ورسوله والمؤمنين ) . وعن يزيد بن أبى سفيان قال: قال لى أبو بكر الصديق حين بعثنى إلى الشام: يا يزيد .. إن لك قرابة عسيت أن تؤثرهم بالإمارة وذلك أكثر ما أخاف عليك بعد ما قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) . ( من ولى من أمر المسلمين شيئا فأمر عليهم أحدا محاباة فعليه لعنة الله ، لا يقبل الله منه صرفا ولا عدلا حتى يدخله جهنم ) . والأمة التى لا أمانة لها هى الأمة التى تعبث فيها الشفاعات بالمصالح المقررة وتطيش بأقدار الرجال الأكفاء لتهملهم وتقدم من دونهم . وقد أرشدت السنة إلى أن هذا من مظاهر الفساد الذى سوف يقع آخر الزما" جاء رجل يسأل رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : متى تقوم الساعة ؟ فقال له: ( إذا ضيعت الأمانة فانتظر الساعة) ! فقال: وكيف إضاعتها ؟ قال: (إذا وسد الأمر لغير أهله فانتظر الساعة ) . وظائف الدولة فى نظر الإسلام أعمال لها مواصفات معينة من استجمعها رشحته مواهبه لها دون نظر إلى شئ آخر. والمأخوذ على الحكام المستبدين أنهم(1/49)
يؤثرون بالوظائف أنصارهم أو يخصون بها بعض العصبيات ويفقدونها معالمها العامة. والإسلام يرفض ذلك كله. فإذا باشر حاكم ما سلطات الوظيفة المخولة له فإن يده ليست مطلقة يفعل ما يشاء. بل هو يتصرف تحت رقابة الأمة التى يريد أن يطمئن إلى سلامة مصالحها، وإلى استقامة رسالتها فى هذه الحياة. وذاك ما ندب الحاكم للقيام به، واستحق طاعة العامة من أجله. ولعمر بن الخطاب قول مأثور فى هذا الصدد، حيث قال: "أيما عامل لى ظلم أحدا وبلغتنى مظلمته فلم أغيرها . فأنا ظلمته ..!! ". " أرأيتم إذا استعملت عليكم خير من أعلم ثم أمرته بالعدل ، أكنت قضيت ما على ..؟ قالوا : نعم ، فقال : لا ، حتى أنظر عمله ، أعمل بما أمرته أم لا " ؟. ص _050(1/50)
وقد ظلم أحد الولاة رجلا من الرعية فى أرضه فشكاه إلى عمر فبعث إليه يقول : " أنصف فلانا من نفسك وإلا فأقبل .. والسلام " . فرد الوالى الأرض إلى صاحبها . وفى خطاب له إلى أحد الولاة يقول كذلك: " افتح لهم بابك وباشر أمورهم بنفسك ، فإنما أنت رجل منهم غير أن الله جعلك أثقل منهم حملا ". كما كتب إلى عامله أبى موسى الأشعرى يقول: " قد بلغ أمير المؤمنين أنه فشا لك ولا"هل بيتك هيئة فى لباسك ومطعمك ومركبك ، ليس للمسلمين مثلها . فإياك يا عبد الله أن تكون مثل البهيمة التى مرت بواد خصب ، فلم يكن لها هم إلا السمن ، وإنما حتفها فى السمن . واعلم أن للعامل مردا إلى الله ، فإذا زاغ العامل زاغت رعيته ، وإن أشقى الناس من شقيت به رعيته ". ولقد بلغ عمر أن أميره على الكوفة- سعد بن أبى وقاص- قد بنى لنفسه منزلا فخما ، وجعل عليه حاجبا ، فأرسل مفتشه محمد بن مسلمة وأمره أن يأخذ زيتا وحطبا .. فيحرق قصر سعد ، وبعث معه بكتاب جاء فيه: " بلغنى أنك بنيت قصرا اتخذته حصنا ويسمى بيت سعد ، وجعلت بينك وبين الناس بابا ، فليس بقصرك ولكنه قصر الخبال .. لا تجعل على منزلك بابا يمنع الناس من دخوله وتنفيهم به عن حقوقهم ". بل لقد كتب إلى عمرو بن العاص- والى مصر- يقول له: " بلغنى أنك تتكى فى مجلسك ، فإذا جلست فكن كسائر الناس ". * * * لأمير المؤمنين عمر بن الخطاب نظرات صارمة فى حياطة الدين ورعاية أمته ، والارتفاع بالحكم عن مستوى الشبهة ، والتزام منطق الورع فيما يتصل بالمال العام . إن من حقه- لأنه رئيس الدولة- أن يتقاضى راتبا من أموال المسلمين أليس يكدح لهم ، ويشتغل لمصلحتهم ؟ لكنه أبى أن يأخذ من مال المسلمين شيئا ، إلا أن يحتاج فيأخذ ، للضرورة ، لا لأنه موظف . وسياسته فى ذلك حددها فى تلك الكلمة: ( أنا فى مال المسلمين كولى اليتيم إن استغنيت استعففت ، وإن افتقرت أكلت بالمعروف " .. !! من أجل ذلك رفض عمر أن يكون ولاته أصحاب(1/51)
مدخرات من مرتباتهم يتجر لهم فيها ، ويعود عليهم نماؤها . ص _051
ومن حق أى موظف ـ شرعا ـ أن يقتصد ، ويثمر أمواله فى أى وجه شاء ، ما دام لا يستغل نفوذه فى تجارة أو احتراف . بيد أن أمير المؤمنين رأى أن الدولة الإسلامية فى مستهل عصر البناء . وأنها فى فترة تقديم النماذج الرفيعة للحكم الذى يتجرد عن كل نفع فى سبيل نصرة الرسالة ورعاية الجماهير. لقد بدأ الإسلام مسيره السياسى فى عصر كانت الشعوب فيه مأكلة للحكام. فأراد أن يعرف العالمون وجهة نظر الإسلام الجديدة فى علاقة الشعوب بحكامها ، وهى أن الحاكم أجير وحسب . وأن ما يأخذه من المال العام ثمن عرقه فى خدمة الناس ، وأن من حدثته نفسه بأن هذا المال إرث له عن آبائه ، أو أن يده فيه مطلقة التصرف فهو ضال يجب الضرب على يده . وشى آخر يعتقد عمر بن الخطاب أنه المنتظر من أصحاب محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ الأقربين. ألا يلوا مناصبهم وفى نفوسهم حرص على ما تدره من راتب ، أو ما تقتضيه من وجاهة . فإذا بدا على أحدهم أنه أثرى فى وضعه الجديد لم يستبقه عمر ، وإن كانت ثروته من حلال ، يجب أن يكونوا مثله فى التجرد ، وإلا طردهم من وظائفهم. وعلى ضوء هذا تدرك حقيقة كل المرويات فى هذا الشأن من عزل عن المناصب ومصادرة للأموال. وللحاكم أعمال عادية يسوس بها الأمور، وتعد من شئون الدنيا التى لا نص للشارع فيها. وهذا الضرب من الأعمال لا يجوز أن يستبد الحاكم به، بل ينبغى أن يستشير أهل الذكر ويستطلع آراءهم، فهو فيه عرضة للخطأ والصواب، ولا يقبل منه أن ينطلق وفق ما يبدو له. إن رسول الله "ـ صلى الله عليه وسلم ـ " بين أنه- وراء دائرة الوحى- بشر يستمع لآراء الآخرين، ويستنير بها، وهو معرض للنسيان أو للخطأ فى شئون الدنيا. فكيف يزعم أحد الحاكمين أنه لا يخطئ، أو أنه مستغن عن المشيرين. عن موسى عن طلحة عن أبيه، قال: مررت مع رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ بقوم على رؤوس النخل فقال: "(1/52)
ما يصنع هؤلاء ؟ " فقالوا: يلقحونه- يجعلون الذكر فى الأنثى فتلقح فقال رسول الله "ـ صلى الله عليه وسلم ـ" : " ما أظن يغنى ذلك شيئا " قال: فأخبروا بذلك، فتركوه ، فأخبر رسول الله "ـ صلى الله عليه وسلم ـ " بذلك ، فقال: ( إن كان ينفعهم ذلك فليصنعوه، فإنى إنما ظننت ظنا ، فلا تؤاخذونى بالظن ، ولكن إذا حدثتكم عن الله شيئا فخذوا به، فإنى لن أكذب على الله عز وجل " . ص _052
ورواه رافع بن خديج رضى الله عنه قال: قدم نبى الله "ـ صلى الله عليه وسلم ـ " المدينة وهم يأبرون النخل- يعنى يلقحون النخل- فقال: " ما تصنعون ؟ " قالوا: شىء كنا نصنعه فى الجاهلية ، قال: " لعلكم لو لم تفعلوا كان خيرا " فتركوه ، فنفضت- أو فنقصت- قال: فذكروا ذلك له، فقال: ( إنما أنا بشر، إذا أمرتكم بشئ من دينكم فخذوا به، وإذا أمرتكم بشئ من رأيى فإنما أنا بشر ) . لكن من هؤلاء الذين يستشيرهم الحاكم؟ أهم أصدقاؤه الذين يسارعون فى هواه، أو العفاة الذين يلتمسون العطاء، أو المتملقون الذين يرجون حوله الصدارة ؟؟. لو كان الحاكم يتولى شئون ضيعة خاصة له لجاز له أن يستعين بمن أحب، لكن الأمر يتصل بمصلحة أمة ورسالتها، ولذلك فمن حق الأمة أن تطمئن إلى رجال الشورى هؤلاء وأن تثق من تمثيلهم لها، ومن وفائهم بحقوقها. وقد ثبت أن رسول الله "ـ صلى الله عليه وسلم ـ " كان يستشير أصحابه ، وكان ينزل على مشورتهم. فإذا اختلفت الآراء نزل على رأى الكثرة ، وسيرته فى ذلك واضحة فى غزوة بدر وأحد والأحزاب. فإذا الحاكم جار وانحرف، وجب على الأمة أن تنقد أخطاءه وتقوم انحرافه وتكشف جوره ، فإن طبيعة الجماعة الإسلامية أن تتأبى على المنكر، وألا تترك له قرارا . قال رسول الله "ـ صلى الله عليه وسلم ـ ": ( من رأى منكم منكرا فليغيره بيده ، فإن لم يستطع فبلسانه ، فإن لم يستطع فبقلبه ، وذلك أضعف الإيمان " . والحق أن الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر من الخصائص الأولى للأمة(1/53)
الإسلامية ، والشعار الواضح من بين شعائر الإسلام . فبه صارت خير أمة أخرجت للناس ، وعلى أساسه وعدت بالتمكين فى الأرض . والصدارة على الصعيد العالمى . (…ولينصرن الله من ينصره إن الله لقوي عزيز ، الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر ولله عاقبة الأمور) . والتعقيب على أخطاء الحاكم بالنقد ليس أمرا مباحا فحسب ـ كما يظن من مفهوم كلمة الحرية السياسية ـ بل هو فى تعاليم الإسلام حق لله على كل قادر ، والسكوت عن هذا النقد تفريط فى جنب الله . ومن ثم فعلى حملة الأقلام وأرباب الألسنة أن يشتبكوا مع عوج الحاكمين فى معارك حامية لا تنتهى أو ينتهى هذا العوج ، وكل حركة فى هذا السبيل جهاد . ص _05 ص(1/54)
فإذا بلغ الأمر حد التضحية ، فـ ( سيد الشهداء حمزة ورجل قام إلى إمام جائر فأمره ونهاه فقتله ). وخلع الحاكم إذا خان الله ورسوله وجماعة المسلمين واجب . غاية ما هنالك أن تقدير زيغ الحاكم ، وتقدير عواقب عزله . لا يرجع فيه إلى رأى واحد من الناس ، ولا إلى تصرفات تكون موضع تأويل . أو تكون وجهة نظر لها وزنها . عن جنادة بن أبى أمية قال: ( دخلنا على عبادة بن الصامت وهو مريض. قلنا: أصلحك الله، حدث بحديث ينفعك الله به سمعته من النبى ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: (دعانا النبى (ـ صلى الله عليه وسلم ـ) فبايعناه. فقال فيما أخذ علينا: أن بايعنا على السمع والطاعة فى منشطنا ومكرهنا وعسرنا وشرنا وأثره علينا. وألا ننازع الأمر أهله إلا أن تروا كفرا بواحا عندكم من الله فيه برهان ). ويقول ابن حزم: " والواجب ، إن وقع شئ من الجور ـ وإن قل ـ أن يكلم الإمام فى ذلك ويمنع منه ، فإن امتنع ، وراجع الحق ، وأذعن للقود ، من البشرة أو من الأعضاء ، ولإقامة حد الزنا والقذف والخمر عليه . فلا سبيل إلى خلعه وهو إمام كما كان لا يحل خلعه ، فإن امتنع من إنفاذ شئ من هذه الواجبات عليه ولم يرجع وجب خلعه وإقامة غيره ممن يقوم بالحق لقوله تعالى: ( وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان ) ولا يجوز تضييع شئ من واجبات الشرائع ". * * * الحرية الفكرية : وظيفة العقل أن يفكر كما أن وظيفة العين أن تبصر. وتوهم أن الإنسان يعيش بعقل معطل التفكير كتوهم أن الإنسان يعيش بعين منغمضة، ويد مشلولة، وقدم مقيدة.. الخ، وذلك رد للأشياء عن مجراها الطبيعى. ويستحيل قبول ذلك فى دين شارته الأولى الفطرة، والاستقامة من طبائع الأشياء. والنظرة الأولى فى القرآن الكريم تورث يقينا جازما بأن الإسلام يبنى الاعتقاد الصحيح على النظرة فى الكون.. وأنه يجعل اليقين الحق ثمرة التفكير الحق، كما يجعل الكفر ثمرة عقل أصابته آفة سلبته نوره ، أو ضللت(1/55)
مسيره . فى الإيمان بالته ورسوله تسمع هذه الآيات : (قُلْ إِنمَّا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا ..) . ص _054
وفى تفسير طبيعة الرسالة وشخصية الرسول: (قل لا أقول لكم عندي خزائن الله ولا أعلم الغيب ولا أقول لكم إني ملك إن أتبع إلا ما يوحى إلي قل هل يستوي الأعمى والبصير أفلا تتفكرون) . وقد لفت النظر إلى أسرار التشريعات المختلفة عبادية أو اجتماعية : ( يسألونك عن الخمر والميسر قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس وإثمهما أكبر من نفعهما ويسألونك ماذا ينفقون قل العفو كذلك يبين الله لكم الآيات لعلكم تتفكرون ، في الدنيا والآخرة ). وفى إشعار الإنسان بأن هذا الكون كله خلق لارتفاقه ، ويسر بره وبحره وعلوه وسفله له : (وَسَخَّرَ لَكُمْ مَّا فِي السَّمَاوَاتِ ومَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا مِّنْهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) . (هو الذي أنزل من السماء ماء لكم منه شراب ومنه شجر فيه تسيمون ، ينبت لكم به الزرع والزيتون والنخيل والأعناب ومن كل الثمرات إن في ذلك لآية لقوم يتفكرون) . والحق أن الإسلام لا يلوم على حرية الفكر، بل يلوم على الغفلة والذهول. وهو لا يجعل هذه الحرية أيضا من المباحات التى يباشرها من شاء، ويتركها من شاء ، بل يجعلها حقا لله على الإنسان . فالمصابون بكسل التفكير واسترخاء العقل عصاة فى نظر الإسلام. وتتفاوت جرائمهم بمقدار ما يترتب عليها من اضطراب الصلات الإنسانية بالله وبالحياة. وتبدأ حرية التفكير من علاقة المسلم بدينه نفسه، فإن قوام الإسلام ولب رسالته كتاب مفتوح ميسر للذكر، مطلوب من الأمة أن تتدبره وأن تستفيد منه شرائعها جميعا . ومنذ نزل القرآن الكريم وشق الرسول به طريق الحياة. شرع العقل الإسلامى يشتغل بجهد رائع، ويعمل فى حرية مطلقة، ويختلف العلماء باختلاف أساليب البحث ووسائل النظر- دون أى حرج . حتى إنك لتتناول(1/56)
فريضة كالصلاة ، فترى فى أعمالها منذ افتتاحها بالتكبير واختتامها بالتسليم سبعين حكما قد يكون أحدها مضادا للآخر. ومع ذلك فإن الحرية الهائلة التى أتاحها الإسلام للباحثين المجتهدين وسع تلك الأنحاء ، مع تقدير متبادل وأخوة فى الدين مقررة . وربما اختلف الأولون فى كلامهم عن العقائد نفسها فقدم بعضهم العقل على النقل ، ص _055
وقدم آخرون النقل على العقل. وعند التأمل نرى أن الفريقين يقدران قيمة العقل الإنسانى ويعرفان له مكانته الضخمة. لكن الفريق الذى يؤخره على النقل يحدد له مجال عمله الناجح، ويقصره على الميدان الذى يستطيع فيه ترتيب المقدمات واستخلاص النتائج. أما الزج بالفكر الإنسانى فى عالم ما وراء المادة ليبتكر أحكاما وينشئ تصورات. فهذا تحميل للعقل فوق طاقته. ومن العبث انتظار خير منه فى هذه المجالات. والخلاف بين المحافظين من أهل السنة والمتطرفين من المعتزلة يبدأ من هذه النقطة. فأهل السنة يحترمون العقل؟ لأنهم مسلمون يتصلون بكتاب الله الذى رفع قدره، وكرم أهله. لكن إقحام العقل فى عالم الغيب، وتكليفه بدراسة فاحصة لما وراء المادة ظلم للعقل واعنات له. والمعتزلة أخطاؤا عندما اعتمدوا على الفكر الإنسانى فى هذا الميدان البعيد. قال الأستاذ أحمد أمين: " فجوهر الخلاف إذن بين هؤلاء المعتزلة وأهل السنة، هو سلطة العقل ومداها وحدودها.. رأى المعتزلة أن العقل البشرى قد منح من السلطة والسعة ما يمكنه من إقامة البرهان حتى على ما يتعلق بالله . فلا حدود للعقل إلا براهينه ، ولا زلل ولا خطأ متى صح البرهان ، فاستعملوا البراهين فى أدق الأمور وأصعبها وأعقدها . إذ فى استطاعة العقل الوصول إلى الحق فيها . وكانت نزعة المعتزلة هذه متجلية فى كل أبحاثهم يسيرون وراء البرهان إلى نهايته ويثيرون أصعب المشاكل وأعقدها، ثم يتعرضون لحلها، فإذا تم لهم حلها- أو على الأقل اعتقدوا بحلها-، تأولوا آيات القرآن على مقتضاها. وعلى العكس(1/57)
من ذلك الآخرون. رأوا أن العقل أضعف من ذلك وأن استطاعته محدودة بإدراك ما يتعلق بشأنه هو، أو أقل من ذلك، وأنه منح القدرة على أن يدرك البرهان على وجود الله، والنبوة العامة، ونبوة محمد خاصة. ولم يمنح القدرة على معرفة كنه الله وصفاته. فلنؤمن بما جاء به أنبياؤه. ولنقف عندما قالوا، ولا نثر مشاكل لم يأت بها الأنبياء، ولنسد الطريق على من يثيرونها. فإن جادلناهم فى شئ ففى بيان خطئهم وفساد طريقتهم. ونحن نؤمن بحرية التفكير فى أوسع نطاق ، بيد أن المهم ضمان الأصالة والجودة لهذا التفكير، حتى يعود من رحلاته المعنوية بحصيلة كريمة . والفارق بعيد بين التخمين ودفع العقل وإلى بناء قصور على الرمال وبين التفكير الذى ص _056(1/58)
يقوم على منطق مرتب ، وينتهى بيقين محترم . وقد نهى الله جل شأنه عن التخمين ، والتعلق بالأفكار الرجراجة الحائرة: (ولا تقف ما ليس لك به علم إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسئولا) . وقد اعتل الفكر الإسلامى يوم استعمل حريته العظيمة فى بحوث الإلهيات القصية عن مداركه وحطها بفلسفات دخيلة عقيمة لا قيمة لها. وصح سيره عندما التزم الميدان الذى تمهد له، ميدان الحياة التى بين أيدينا. وقد وصل فى هذا الميدان إلى كشوف عظيمة الجدوى فى علوم الرياضة والطبيعة والفلك ، وكانت الحرية المتاحة له حاديا أمينا ، فلم يتعرض البحث لأى لون من ألوان العسف أو الخطر ، بينما كانت أوروبا توصد أبواب النظر على كل المفكرين ، وتتبعهم بالإرهاب والمقت. " إننا نعد ما بلغه المجتمع الإسلامى من الجمود العقلى فى أشد عصور تأخره طورا من أطوار الإصلاح الذى بدأته أوروبا يومئذ. فلم يشهد هذا المجتمع ما شهدته أوروبا من تحجر العقل وشل الفكر وجدب الروح وقسوة الضمير فى مصادرة الحياة والضراوة فى إبادة الكتب ومحاربة العلم والعلماء وإنزال أقسى العقوبات وأقصاها بالمفكرين من أجل أفكار تبدو لنا الآن عادية كانوا يعلنونها فى سبيل الإصلاح والتجديد. ويذكر التاريخ أن عدد الذين عوقبوا فى أوروبا بلغ ثلاثمائة ألف أحرق منها اثنان وثلاثون ألفا أحياء كان منهم العالم الطبيعى " برنو ". وقد نقصت منه آراء أشدها قوله بتعدد العوالم فحكم عليه بالقتل وأحرق ميتا. وعوقب العالم الطبيعى الشهير " جاليليو " بالقتل لأنه اعتقد بدوران الأرض حول الشمس. وحبس " دى رومنس " فى روما حتى مات ، ثم حوكمت جثته وكتبه فحكم عليها بالحرق وألقيت فى النار لأنه قال: إن " قوس قزح " ليست قوسا حربية بيد الله ينتقم بها من عباده إذا أراد ، بل هى من انعكاس ضوء الشمس فى نقط الماء . وأصاب " جيوفث " فى جنيف ، و" فايتى " فى تولوز ما أصاب هؤلاء وحرقا شيا على النار لآراء لا تستوجب(1/59)
حتى التعزير، إن لم نقل تستوجب الاحترام والتقدير. ولا جدال فى أن تاريخ الإسلام لم يعرف هذا الاضطهاد الشنيع لحرية الفكر والعلم الذى عرفته أوروبا " . ص _057
ماذا كانت حالة المسلمين فى تلك الحقبة من الزمن؟ لقد ألف المسيو " سيديو " الوزير الفرنسى الأسبق وأحد علماء الغرب المنصفين كتابا أسماه " خلاصة تاريخ العرب " تضمن اعترافا مشكورا بما قدمه المسلمون للعالم من ثمرات نشاطهم العقلى الحر. وقد ترجم هذا الكتاب المرحوم على باشا مبارك، ونثبت هنا مقتطفات تشهد بالمدى الذى وصلت إليه الحرية العلمية فى تاريخنا القديم، وكيف أسدت إلى التقدم العمرانى أخلد الأيادى... " أتى النبى "ـ صلى الله عليه وسلم ـ " فربط علائق المودة بين قبائل جزيرة العرب، ووجه أفكارها إلى مقصد واحد أعلى شأنها حتى امتدت سلطاتها من نهر التاج- المار بأسبانيا والبرتغال!- إلى نهر الكنج- وهو أعظم أنهار الهند، وانتشر نور العلم والتمدن بالشرق والغرب، وأهل أوروبا إذ ذاك فى ظلمة القرون المتوسطة وجهالتها، وكأنهم نسوا نسيانا تاما ما وصل إليهم من أحاديث اليونان والرومان أسلافهم الأقدمين ". واجتهد العباسيون ببغداد والأمويون بقرطبة والفاطميون بالقاهرة فى تقدم الفنون، ثم تمزقت ممالكهم وفقدوا شوكتهم السياسية فاقتصروا على السلطة الدينية التى استمرت لهم فى أرجاء ممالكهم. " وكان لديهم من المعلومات والصنائع والاستكشافات ما استفاده منهم نصارى أسبانيا حين تم طردهم منها، كما أن الأتراك والمغول بعد تغلبهم على ممالك آسيا استفادوا معارف من تغلبوا عليهم ". ثم قال فى صحيفة (9) فى وصف التمدن العربى- الذى تمكنت أصوله فى آفاق الدنيا القديمة أقوى تمكن-: " ولا نزال إلى الآن نرى آثاره حين نبحث عن مبادئ ما نحن عليه من المعلومات الأوروبية، فان العرب فى غاية القرن الثامن بعد الميلاد فقدوا الحمية الحربية وشغفوا بحوز المعارف حتى أخذت مدائن قرطبة وطليطلة(1/60)
والقاهرة وفاس ومراكش والرقة وأصفهان وسمرقند تفاخر بغداد فى حيازة العلوم والمعارف . وقرئ ما ترجم إلى العربية من كتب اليونان فى المدارس الإسلامية، وبدل العرب همتهم فى الاشتغال بجميع ما ابتكرته الأفهام البشرية من العلوم والفنون، وشهروا فى غالب البلاد- خصوصا البلاد النصرانية من أوروبا- بابتكارات تدل على أنهم أئمتنا فى المعارف. ولنا شاهد صدق على علو شأنهم الذى تجهله الفرنج من أزمان مديدة. الأول: ما أثر عنهم من تواريخ القرون المتوسطة وأخبار الرحل والأسفار وقواميس ما اشتهر من الأمكنة والرجال والمجاميع الشاملة لكثير من الفنون الفاخرة. والثاني: ما كان لديهم من الصناعات الفائقة والمبانى الفاخرة والاستكشافات المهمة فى الفنون، وما وسعوا دائرته من علوم الطب والتاريخ الطبيعى والكيمياء الصحيحة ص _058(1/61)
والفلاحة والعلوم الأخرى التى مارسوها بغاية النشاط. وقد أتى المسيو " سيديو " فى كتابه هذا على بعض السيرة النبوية والتاريخ الإسلامى، وتوسط فى بحثه ولم يكن مجحفا أو جافيا، ونقل عنه الأستاذ محمد فريد وجدى فى كتابه ( الإسلام دين عام خالد ) فى الجزء الأول منه بصحيفة (42) أنه: " لقد كان المسلمون متفردين بالعلم فى تلك القرون المظلمة، فنشروه حيث وطئت أقدامهم، وكانوا هم السبب فى خروج أوروبا من الظلمات إلى النور ". ونجاة المجتمع الإسلامى من هذه الشائنة التى خيمت على أوروبا يعود إلى طريقة القرآن الكريم فى ربط الإنسان بالكون الذى يحيا بين أرضه وسمائه. فقد علمت أنه يجعل الإيمان نتيجة التأمل فى آفاقه. (ومن آياته خلق السماوات والأرض واختلاف ألسنتكم وألوانكم إن في ذلك لآيات للعالمين) . (وتلك الأمثال نضربها للناس وما يعقلها إلا العالمون). كما يجعل هذا الكون نفسه مسخرا للإنسان لا يصعب على مناله شئ منه (ألم تروا أن الله سخر لكم ما في السماوات وما في الأرض وأسبغ عليكم نعمه ظاهرة وباطنة) ولم يقدم القرآن نظرية علمية معينة للناس يلزمهم بها ويؤاخذهم إذ تجاوزوها. كلا. لقد أوصاهم بالنظر والتأمل وتركهم أحرار الفكر فيما يفهمون ويقررون. وهو واثق من أن العقل الدؤوب المكافح المتحرى للحقائق وحدها لن يؤوب من سياحاته البعيدة والقريبة إلا بما يدعم الإيمان. ويعلى فى هذا العالم مكانة الإنسان. وفى الحكم على الأشخاص والأشياء احترم الإسلام الخصائص الفردية للإنسان نفسية كانت أو عقلية ، فإن البشر ليسوا طبعة واحدة من كتاب معين. كلا. إن التفاوت بينهم بعيد الآماد حتى لتحسبهم من عناصر شتى. وان كانوا جميعا من تراب. وهذا الاختلاف فى أمزجتهم وأفكارهم ملحوظ فى أحداث الحياة التافهة والجليلة. فما أكثر ما تشتجر الآراء. وتتباعد المذاهب. وقد احترم الإسلام حرية الفكر لكل فرد من الناس. ما دامت محكومة بحسن النية، وشرف الوجهة، ومنح(1/62)
كل امرئ حق الإبانة عن رأيه كما تكون فى نفسه. واصطبغ بطبعه الحاد أو الهادئ وبرز بتفكيره الحرفى أو المرن. ففى غزوة بدر استمع الرسول إلى أبى بكر الحليم يرى العفو عن الأسرى واستمع إلى عمر الحازم يرى مؤاخذتهم بما اقترفوا. فشبه الأول بإبراهيم وعيسى، وشبه الآخر بنوح وموسى . ص _059
فإن إبراهيم كان حليما يوم قال: (…فمن تبعني فإنه مني ومن عصاني فإنك غفور رحيم) . وعيسي كان حليما يوم قال: (إن تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم) . ونوح كان حازما يوم قال: (رب لا تذر على الأرض من الكافرين ديارا ، إنك إن تذرهم يضلوا عبادك ولايلدوا إلا فاجرا كفارا) . وموسى كان حازما يوم قال: (ربنا إنك آتيت فرعون وملأه زينة وأموالا في الحياة الدنيا ربنا ليضلوا عن سبيلك ربنا اطمس على أموالهم واشدد على قلوبهم فلا يؤمنوا حتى يروا العذاب الأليم) . ومن أروع ما يتعلق بحرية الرأى فى الإسلام ، أن عليا كرم الله وجهه قد فوت على نفسه الخلافة بعد عمر، تمسكا بحريته فى الرأى والاجتهاد، فقد انتهت المفاوضات والشورى بعد مقتل عمر إلى أن يحسم الأمر فيها عبد الرحمن بن عوف فدعا الناس إلى المسجد، وكان الأمر قد غدا بين على وعثمان، فوقف فى المسجد ونادى من بين الناس عليا ليبايعه خليفة للمسلمين على أن يعمل بكتاب الله وسنة رسوله واجتهاد الشيخين- أبى بكر وعمر- فرفض على ذلك إلا أن يكون عمله بكتاب الله وسنة رسوله ويجتهد رأيه، فدفع عبد الرحمن يد على ونادى عثمان فقبل العهد الذى رفضه على .. فكان خليفة بدلا منه. كما أن لعلى موقفا ممن خرجوا على خلافته وسموا " بالخوارج " فقد بعث إليهم عبد الله بن عباس فناظرهم، فرجع إلى صفوف على أربعة آلاف منهم وأصر أربعة آلاف أخر على عدم الرجوع، فأرسل إليهم يقول: " كونوا حيث شئتم وبيننا وبينكم أن لا تسفكوا دما حراما ولا تقطعوا سبيلا، ولا تظلموا أحدا، فإن فعلتم نبذت إليكم الحرب " كما قال(1/63)
لهم مرة أخرى " لا نبدأ بقتال ما لم تحدثوا فسادا ". لقد رغب الإمام الكبير فى أن يدع هؤلاء الناس ورأيهم- مهما ساء فيه- على ألا يحدثوا على الدولة شغبا، وألا يظلموا من الناس أحدا ... وهذا تصرف حق، وما تعرف أعرق الدول حرية غيره .. فتأمل كيف نبعت حرية الفكر المؤمن من طبائع شتى ومشت فى هذه المناهج المختلفة. وهى أفكار قادة الإيمان من رسل الله وتابعيهم بإحسان ؟؟ فإذا تجاوزت هذه النواحى النفسية وجدت حرية الفكر تنبع من اختلاف الطبائع الذهنية للناس . ص _060(1/64)
ففى غزوة بنى قريظة لما قال "ـ صلى الله عليه وسلم ـ " لأصحابه ( من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يصلين العصر إلا فى بنى قريظة ) ، وأوشكت الشمس على المغيب. قال الحرفيون: الصلاة فى بنى قريظة ، ولو فات الوقت !! وقال أهل الفحوى: إنما أراد الإسراع !! وصلوا فى الطريق .. وبلغ النبى ما فعل الفريقان ، فأقرهما جميعا على وجهات نظرهما. إن حرية الفكر، لم تزدهر فى جماعة كما ازدهرت فى حضارة الإسلام . * * * الحرية الدينية: الإيمان الصحيح المقبول يجئ وليد يقظة عقلية واقتناع قلبى، إنه استبانة الإنسان العاقل للحق، ثم اعتناقه عن رضا ورغبة. وقد عرض الإسلام نفسه على الناس فى دائرة هذا المعنى المحدد، غير متجاوز له فى قليل ولا كثير. قصاراه أن يوضح مبادئه، وأن يمكن الآخرين من الوقوف عليها فإذا شاءوا دخلوها راشدين ، وإذا شاءوا تركوها وافرين. (وقل الحق من ربكم فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر). إن الحرية الدينية فى أرحب مفاهيمها هى التى حددت وظيفة صاحب الرسالة! ما وظيفة صاحب رسالة يحترم هذه الحرية ويبنى عليها سياسته ؟ إنها لا تعدو الشرح والبيان، واستخدام القلم واللسان فى تحبيب دينه للناس وترغيبهم فى قبوله. وقد كان محمد "ـ صلى الله عليه وسلم ـ " مثلا فريدا فى سلوك هذا النهج . إن الوحى الذى تنزل كان محور دعايته فهو يقرؤه على الناس ويسجله فى صحائف هادية لمن يرغب فى الاطلاع ..! هذه هى خطته فى إبلاغ رسالته. (نحن أعلم بما يقولون وما أنت عليهم بجبار فذكر بالقرآن من يخاف وعيد). (فذكر إنما أنت مذكر ، لست عليهم بمسيطر) . وربما نفر من هذه الرسالة من لم يؤمن بألوهية قط ، وربما نفر منها عبدة الأصنام ، وربما نفر منها اليهود والنصارى . ص _061(1/65)
ليكن فليأخذ كل امرئ وجهته التى ارتضاها أما أنت فاثبت على الهدى الذى شرح الله صدرك به. (فلذلك فادع واستقم كما أمرت ولا تتبع أهواءهم وقل آمنت بما أنزل الله من كتاب وأمرت لأعدل بينكم الله ربنا وربكم لنا أعمالنا ولكم أعمالكم لا حجة بيننا وبينكم الله يجمع بيننا وإليه المصير) والقارئ اللبيب يرى أن الكتاب العزيز قد تناول المعارضين له والكافرين به بأساليب شتى ، ليس من بينها قط إرغام أحد على قبول الإسلام وهو عنه صاد، كل ما ينشده الإسلام أن يعامل فى حدود النصفة والقسط، وألا تدخل عوامل الإرهاب فى صرف امرئ انشرح صدره به. ولم يكن على الإسلام من بأس، ولن يكون عليه بأس أبدأ لو أصر ألوف المنتسبين إلى الأديان الأخرى على البقاء في معتقداتهم. فكلمة: (لكم دينكم ولي دين) . وكلمة: (لي عملي ولكم عملكم) . هذه الكلمات وأمثالها مما تردد فى صدر الإسلام هى التى ظلت تتردد فى أواخر العهد المدنى ويخاطب بها كل إنسان. فالإسلام لم يفرض على النصرانى أن يترك نصرانيته ، أو على اليهودى أن يترك يهوديته ، بل طالب كليهما- ما دام يؤثر دينه القديم- أن يدع الإسلام وشأنه، يعتنقه من يعتنقه ، دون تهجم مر أو جدل سيئ . * * * كن مسيحيا أو إسرائيليا ، ولكن لا تكن خصما للإسلام ونبيه وأتباعه تتمنى لهم الشر وتتربص بهم الدوائر . وإذا استفحل فى نفسك الكره لهذا الدين ، فاحذر أن يتجاوز فؤادك إلى الحياة الخارجية عراكا مسلحاً ، وإلا فأنت الملوم . واسمع إلى قول الله فى سورة البقرة يخاطب أهل الكتاب . (قل أتحاجوننا في الله وهو ربنا وربكم ولنا أعمالنا ولكم أعمالكم ونحن له مخلصون) . وفى سورة آل عمران: (وقل للذين أوتوا الكتاب والأميين أأسلمتم فإن أسلموا فقد اهتدوا وإن تولوا فإنما عليك البلاغ والله بصير بالعباد) . ص _062(1/66)
وفى سورة النساء- بعد ما ذكر تفضيل اليهود للوثنية على الإسلام- قال لهم: (إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل إن الله نعما يعظكم به إن الله كان سميعا بصيرا) . وفى سورة المائدة- وهى آخر السور نزولا- تحدد وظيفة الرسول بهذه الآيات: (ما على الرسول إلا البلاغ والله يعلم ما تبدون وما تكتمون) ويقول: (وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول واحذروا فإن توليتم فاعلموا أنما على رسولنا البلاغ المبين) . فى سورة التوبة- وهى التى أعلنت الحرب على طوائف من أهل الكتاب- ترى السورة ختمت بهذا التوجيه . (فإن تولوا فقل حسبي الله لا إله إلا هو عليه توكلت وهو رب العرش العظيم). لم يقل فإن تولوا فعليهم اللعنة، أو لابد لك من مقاتلتهم حتى يتخلعوا عن دينهم، ويدخلوا فى ديننا، كلا.. إن توليتم فالملجأ إلى الله من كيدكم إن أغراكم الشيطان بكيد، أو دفعكم إلى حرب. والواقع أن الإسلام لم يشتبك فى قتال مع النصارى أو اليهود إلا بعد أن وصل هؤلاء وأولئك إلى منزلة فى السلوك والسياسة عريت عن الشرف والعدالة، وبعدت عن مرضاة الله كما يصورها موسى وعيسى أنفسهما، فهم تمردوا على أنبيائهم قبل أن يتمردوا على محمد "ـ صلى الله عليه وسلم ـ " وهدموا حدود الحلال والحرام كما ألت إليهم قبل أن يهدموا حدود الحلال والحرام كما بينها القرآن الكريم وكما شرحها النبى المتواضع النبيل محمد بن عبد الله "ـ صلى الله عليه وسلم ـ " ، وفى مثل هذه الحالات تكون موالاة الكافرين خيانة لمبادئ الحق، ويكون النزول على إرادتهم تسليما مطلقا للباطل وأهله. ومع ذلك ، فان القتال الذى وقع لم يشترط الإسلام لانتهائه شروطا تخرج الناس عن الحق كما يتصورونه، وتدخلهم فى الحق كما يصوره. كلا. هناك شروط يرضاها الجميع، وتتفق مع أفهام الفريقين المتنازعين مهما ضاقت أو اشتطت. هى العدل والرحمة، ودائرة العدل والرحمة رحبة الآفاق، واسعة الأقطار،(1/67)
يتعاون فيها أهل الأديان جميعا على حسن الجوار، وكرم اللقاء بل إنها تتسع للمؤمنين، ولمن لا يدين بدين. إن الحرية الدينية التى كفلها الإسلام لأهل الأرض لم يعرف لها نظير فى القارات الخمس ، ولم يحدث أن انفرد دين بالسلطة ، ومنح مخالفيه فى الاعتقاد كل أسباب البقاء ص _06 ص
والازدهار مثل ما صنع الإسلام . وقد كانت أوروبا- وهى أرقى هذه القارات فى العصر الأخير- من النماذج الرديئة لحرية التدين، بل إن الحروب الدينية التى اشتعلت فى أرجائها وبقيت إلى اليوم فى مخلفاتها السياسية والثقافية معا حروب دمرت الضمير الإنسانى وألصقت به معرات بالغة السواد. وإذا كان الإسلام حيث يسود يمنح الآخرين حرية العقل والضمير فإن الآخرين إذا سادوا سلبوا أتباع الإسلام حقوقهم، وأذاقوهم عذاب الهون، من أجل ذلك نريد أن نبسط الكلام مرة أخرى فى حقيقة الإسلام وموقفه من اليهود والنصارى. إننا إذا وصفنا الإسلام بأنه دعوة إلى الوحدة الدينية العامة ما عدونا الصواب إنه دعوة إلى الإيمان بالله رب العالمين، وإلى احترام الرسالات التى جاء بها من لدنه جميع الأنبياء والمرسلين. أى أن المسلم مكلف أن يؤمن بموسى مثل إيمانه بمحمد، وأن يؤمن بعيسى مثل إيمانه بمحمد، فإذا كفر بواحد منهما، أو تناوله بقالة سوء فقد انسلخ عن الإسلام. (قولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وما أوتي موسى وعيسى وما أوتي النبيون من ربهم لا نفرق بين أحد منهم ونحن له مسلمون) . وهو يسابق اليهود إلى الإيمان بالتوراة التى أنزلت على موسى . ويسابق النصارى إلى الإيمان بالإنجيل الذى أنزل على عيسى . وإيمانه بالكتابين السابقين ضميمة لابد منه للإيمان بالكتاب الخاتم . (ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين ، الذين يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون ، والذين يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك وبالآخرة هم يوقنون)(1/68)
فالإسلام هو يهودية موسى مع زيادة جديدة، وهو نصرانية عيسى مع زيادة جديدة، ولو أنصف الأتباع القاصرون على ما لديهم دون هذه الزيادات ما وجدوا فى الأمر شيئا يستثير الخصومة التى حرقت الأجيال ، ووسعت شقة الخلاف دون مسوغ ظاهر ... وإذا كان المسلم يرى نفسه تابعا لموسى وعيسى فماذا ينقم اليهود والنصارى منه ؟ قد يقال: ينقمون هذه الزيادة التى انفرد بها والجواب: فليسعهم ما وسعه! وأن الدين الجديد لا يقترح عليهم- إذا رفضوه- إلا أن يحاسنوه ، وأن يقروا أصله كما أقر أصولهم وفى مجتمع يضم أناسا مختلفى الدين قد يثور نقاش بين هؤلاء وأولئك من الأتباع ص _064(1/69)
المتحمسين ، وهنا نرى تعاليم الإسلام صريحة فى التزام الأدب والهدوء . (ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن إلا الذين ظلموا منهم وقولوا آمنا بالذي أنزل إلينا وأنزل إليكم وإلهنا وإلهكم واحد ونحن له مسلمون). ولا بأس بمساجلات عقلية تسودها روح المباريات الرياضية ، وتترك فيها الفرصة للإنسان أن يتأمل ما عنده ، ويكتشف قيمته الحقيقية، والقرآن الكريم به حشد رائع من الاستدلالات الوثيقة التى تناولت بالرد الشبه السائدة لدى معارضيه، والشبه التى يمكن أن يختلقها الجدل ولن تعرف الأعصار المتطاولة حتى قيام الساعة كتابا مثل القرآن الكريم يعرض قضية الإيمان ويدعهما بأنواع الأدلة معتمدا على حرية العقل والضمير وحدها فى إحقاق الحق وإبطال الباطل ... (أم اتخذوا آلهة من الأرض هم ينشرون ، لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا فسبحان الله رب العرش عما يصفون ، لا يسأل عما يفعل وهم يسألون ، أم اتخذوا من دونه آلهة قل هاتوا برهانكم هذا ذكر من معي وذكر من قبلي بل أكثرهم لا يعلمون الحق فهم معرضون) . وأنت ترى محمدا " ـ صلى الله عليه وسلم ـ " فى هذا الدفاع عن قضية التوحيد يطلب من خصومه الدليل وينضم فى دفاعه عن توحيد الله إلى الأنبياء الذين سبقوه والكتب التى جاءوا بها . إن الجو الذى ينتظر ميلاد الإيمان الصحيح فيه هو جو الحرية النبيلة والطمأنينة الشاملة ، وهو ما ينشده الإسلام للناس كافة ، قد يؤمن بعض الناس بالرشوة وقد يؤمن بعض آخر بالسيف ، وقد ينتقل الإيمان بطريق التوارث من الأسلاف إلى الأخلاف ، لكن المثل الأعلى الذى رسمه القرآن الكريم للإيمان، هو تفكير هادئ واع فى آفاق الأرض والسماء، يعود المرء منه وهو معلق القلب برب الأرض والسماء. هذا ما تعلمناه من القرآن الكريم حين يقول: (إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب ، الذين يذكرون الله قياما وقعودا وعلى جنوبهم ويتفكرون في خلق السماوات(1/70)
والأرض ربنا ما خلقت هذا باطلا سبحانك فقنا عذاب النار ، ربنا إنك من تدخل النار فقد أخزيته وما للظالمين من أنصار ، ربنا إننا سمعنا مناديا ينادي للإيمان أن آمنوا بربكم فآمنا) . أما التقليد المجرد ومتابعة الآباء فيما يأخذون ويتركون، والسير وراء القافلة المنطلقة دون معرفة هدف أو تبين طريق هذا ليس شأن الإنسان، إنه شأن القطعان وجماعات الدواب التى يسيرها صفير مبهم تأكل وتشرب وتفترق وتلتئم على طنينه دون فهم وهل عاب القرآن الكريم على عباد الأصنام إلا هذا المسلك ص _065(1/71)
(وإذا قيل لهم اتبعوا ما أنزل الله قالوا بل نتبع ما ألفينا عليه آباءنا أولو كان آباؤهم لا يعقلون شيئا ولا يهتدون ، ومثل الذين كفروا كمثل الذي ينعق بما لا يسمع إلا دعاء ونداء صم بكم عمي فهم لا يعقلون) . يقول الإمام الشيخ محمد عبده: " إن التقليد بغير عقل ولا هداية شأن الكافرين، وإن المرء لا يكون مؤمنا إلا إذا عقل دينه وعرفه بنفسه حتى اقتنع به فمن ربى على التسليم بغير عقل، وعلى العمل ولو صالحا بغير فقه غير مؤمن. فليس القصد من الإيمان أن يذلل الإنسان للخير كما يذلل الحيوان بل القصد أن يرتقى عقله وترتقى نفسه بالعلم ، فيعمل الخير وهو يفقه أنه الخير النافع المرضى لله . ويترك الشر وهو يفهم سوء عاقبته ودرجة مضرته " . * * * حول حرية الارتداد : من أولئك المؤمنين الأحرار الذين رضوا بالله ربا وبالإسلام دينا وبمحمد "ـ صلى الله عليه وسلم ـ " رسولا تتكون الأمة المسلمة والدولة المسلمة، ويتأسس مجتمع تحكمه شبكة من الشرائع الدينية تتغلغل فى أنحائه كلها كما تنتشر شبكة الأسلاك الكهربائية، أو أنابيب المياه فى العواصم الكبرى. وعمل العقيدة فى هذه التعاليم هو عمل الروح فى الجسد. ومن عناصرها وآثارها تتمهد الدعامة التى تنبنى عليها " دار الإسلام " بكل ما تحفل به هذه الدار من نظم عامة وتقاليد مقررة ومسالك مرسومة. وذلك أن الإسلام عقيدة وشريعة، والداخل فيه عن طواعية إنما يعلن انتظامه مع واجبات الحياة الجديدة وحقوقها. إن الإسلام ليس عقيدة قلبية مجردة ، بل هو سلوك اجتماعى بعيد الآماد، يتعرض لحياة الإنسان من المهد إلى اللحد، ويمد سرادقه ليشمل المدرسة والمحكمة والبيت والشارع والسوق والديوان، وما خفى من أحوال النفس، وما علن من شئون الدولة. وعلى ضوء هذا التقرير الصادق نسأل: هل الإسلام يبيح حرية الارتداد عنه؟ أو بعد هذا البيان الذى ظهر منه أن الإسلام إيمان ونظام معا، يتجه السؤال هكذا: هل يبيح الإسلام حرية الخروج(1/72)
عليه؟ ومن حق دين تلك طبيعته ألا يسارع بالرضا! فليس فى الأولين والآخرين نظام يعطى على نفسه صكا بحرية الخروج عليه!! ولنكن صرحاء فى مواجهة حرية الارتداد هذه ..! ص _066
هب رجلا يريد أن يكفر بالله ويكون شيوعيا . إن الشيوعية تعنى لا إله ، والحياة مادة ، ولها بعد ذلك نظر خاص فى الأساس الاجتماعى الذى تقوم عليه الدولة . فهل يطلب من الإسلام أن يقر ببلاهة حرية الارتداد على هذا النحو ؟ هب رجلا يريد أن يكفر بالله ويكون وجوديا . إن الوجودية فلسفة تضع كل قيد عن السلوك الإنسانى وتنكر ما نسميه عبادات وفضائل وتقاليد ، وتجعل الدنيا انطلاقا فوضويا لا زمام له ، فهل يطلب من دين- رسالته عقيدة وشريعة- أن يأذن بهذا الشرود باسم الحرية ؟ قد تقول: إن الارتداد عن الإسلام إلى غير دين قط، ربما وضعت أمامه العوائق حماية للنظام العام وصيانة للقانون القائم . ولا بأس من تقييد حرية الارتداد فى هذا المجال ... ولكن إذا أراد امرؤ أن يتهود أو يتنصر فهل تمنعه ؟ والجواب: أن الأمر يحتاج إلى مزيد من الإيضاح حتى تعرف هذه القضية على حقيقتها . فإن الإسلام واجه ناسا يدخلون فيه خداعا ، ويخرجون منه ضررا فهل ينتظر من دين- هو بطبيعته عقيدة قلبية وشريعة اجتماعية- أن يقابل هذه المسالك ببلادة ؟ كلا . لقد أباح لليهود والنصارى أن يعيشوا إلى جواره فى مجتمع واحد لهم فيه ما للمسلمين وعليهم فيه ما على المسلمين ، فلماذا يترك هؤلاء أو أولئك دينهم ويدخلون الإسلام ثم يخرجون منه ؟ لقد حاول اليهود قديما الإساءة إلى الإسلام بهذا الأسلوب . (وقالت طائفة من أهل الكتاب آمنوا بالذي أنزل على الذين آمنوا وجه النهار واكفروا آخره لعلهم يرجعون ، ولا تؤمنوا إلا لمن تبع دينكم قل إن الهدى هدى الله أن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم أو يحاجوكم عند ربكم قل إن الفضل بيد الله يؤتيه من يشاء والله واسع عليم ، يختص برحمته من يشاء والله ذو الفضل العظيم) . وربما حاول(1/73)
غير اليهود ذلك فى أى وقت. وحرية الارتداد هنا معناها الوحيد: إعطاء الآخرين حرية الإساءة إلى الإسلام، وإهانة عقيدته والاحتيال على شريعته. فهل يقبل هذا منطق سليم ؟ ولنفرض أن يهوديا أو نصرانيا أسلم لغرض ما كالزواج بامرأة مثلا. أفليس من حماية اليهودية أو النصرانية أن يعاقب أى خارج منهما لغرض دنئ ، إذا فاته عاد إلى دينه الأول. إن التنقل بين شتى الأديان ليس أمرا سهلا ، ولا ينبغى أن ينظر إليه بقلة اكتراث. ص _067(1/74)
وهاك حقيقة أشرنا إليها فى صدر هذا البحث ونرى حقا علينا أن نعود لبسط القول فيها . إن الارتداد قلما يكون أمرا قلبيا وحسب..! ولو كان كذلك ما أحس به من أحد. إن الارتداد فى أغلب صوره ستار نفسى للتمرد على العبادات والتقاليد والشرائع والقوانين ، بل على أساس بناء الدولة نفسها ، ومواقفها من خصومها الخارجيين. ولذلك كثيرا ما يرادف الارتداد جريمة الخيانة العظمى . وتكون مقاومته واجبا مقدسا . على أن الارتداد- فى ظلال النظام الإسلامى- يمثل شذوذا منكرا . لا يمكن بتة تصور بقائه مع استقرار الأنظمة العامة وتوفير المهابة والنفاذ لها . ولقد علمت أن الإسلام يتناول بقوانينه كل شئ فى المجتمع فى كل لحظة من النهار والليل. فكيف يكلف باستبقاء شخص ارتداده القلبى إلى طعن وشغب أو على الأقل إلى عدم تعاون وفقدان ثقة ؟ ولكى تعرف الشمول فى طبيعة الإسلام وإحاطة قوانينه بأرجاء المجتمع دانيها وقاصيها ننقل هذه الفقرات من السياسة الشرعية لابن القيم رحمه الله، وهى وان وصفت وظائف الدولة على عهده إلا أنها بينة الدلالة على وصف الجهاز التنفيذى للدولة الإسلامية والأهداف التى يعمل لها، وغرضنا من إبراز هذا الشمول بيان استحالة قبول الردة فى مجتمع هذه سماته وتلك واجباته. وقال: " وجمع الولايات- أى الوظائف- الإسلامية: مقصودها الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر، لكن من المتولين- الموظفين- من يكون بمنزلة الشاهد المؤتمن، والمطلوب منه: الصدق، مثل صاحب الديوان، الذى وظيفته أن يكتب المستخرج والمصروف: ومثل النقيب والعريف الذى وظيفته: إخبار ولى الأمر بالأحوال. ومنهم من يكون بمنزلة الآمر المطاع، والمطلوب منه: العدل، مثل الأمير والحاكم والمحتسب. ومدار الولايات كلها على الصدق فى الإخبار والعدل فى الإنشاء وهما قرينان فى كتاب الله تعالى، وسنة رسوله " ـ صلى الله عليه وسلم ـ " قال تعالى: (وتمت كلمة ربك صدقا وعدلا) . وقال النبى "ـ صلى الله(1/75)
عليه وسلم ـ" لما ذكر الأمراء الظلمة: " من صدقهم بكذبهم ، وأعانهم على ظلمهم، فليس منى ولست منه ولا يرد على الحوض. ومن لم يصدقهم بكذبهم ولم يعنهم على ظلمهم فهو منى وأنا منه وسيرد على الحوض ". وقال تعالى: (هل أنبئكم على من تنزل الشياطين ، تنزل على كل أفاك أثيم) . " فالأفاك " الكاذب. و " الأثيم " الظالم الفاجر . وقال تعالى (لنسفعن بالناصية ، ناصية كاذبة خاطئة) . ص _068
وقال النبى"ـ صلى الله عليه وسلم ـ ":(عليكم بالصدق، فإن الصدق يهدى إلى البر، وإن البر يهدى إلى الجنة، وإياكم والكذب. فإن الكذب يهدى إلى الفجور والفجور يهدى إلى النار" . قال: " ومن الولاة جماعة تختص بإقامة الحدود ، من القتل والقطع والجلد ، ويدخل فيها الحكم فى دعاوى التهم التى ليس فيها شهود ولا إقرار، كما تختص ولاية القضاء بما فيه كتاب وشهود وإقرار، والنظر فى الأبضاع والأموال التى ليس لها ولى معين، والنظر فى حال نظار الوقوف وأوصياء اليتامى وغير ذلك . وأما ولاية الحسبة: فخاصتها الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر فيما ليس من خصائص الولاة والقضاة، وأهل الديوان ونحوهم، فعلى متولى الحسبة أن يأمر العامة بالصلوات الخمس فى مواقيتها، ويعاقب من لم يصل بالضرب والحبس، وأما القتل: فإلى غيره، ويتعاهد الأئمة والمؤذنين، فمن فرط منهم فيما يجب عليه من حقوق الأمة، وخرج عن الشرع ألزمه به واستعان فيما يعجز عنه بوالى الحرب والقاضى. واعتناء ولاة الأمور بإلزام الرعية بإقامة الصلاة: أهم من كل شئ فإنها عماد الدين وأساسه وقاعدته، وكان عمر بن الخطاب ـ صلى الله عليه وسلم ـ يكتب إلى عماله: "إن أهم أمركم عندى الصلاة، فمن حفظها وحافظ عليها حفظ دينه، ومن ضيعها كان لما سواها أشد إضاعة" . ويأمر والى الحسبة بالجمعة والجماعة وأداء الأمانة والصدق، والنصح فى الأقوال والأعمال، وينهى عن الخيانة وتطفيف المكيال والميزان. والغش فى الصناعات والبياعات، ويتفقد(1/76)
أحوال المكاييل والموازين وأحوال الذين يصنعون الأطعمة والملابس والآلات فيمنعهم من صناعة المحرم. على الإطلاق كآلات الملاهى ، وثياب الحرير للرجال ويمنع من اتخاذ أنواع المسكرات . ص _069
ويمنع صاحب كل صناعة من الغش فى صناعته ، ويمنع من إفساد نقود الناس وتغييرها، ويمنع من جعل النقود متجرا فإنه بذلك يدخل على الناس من الفساد مالا يعلمه إلا الله . ومضى ابن القيم يحصى ما يجب على الموظفين أن ينفذوه من تعاليم الشريعة حتى لترى المجتمع الإسلامى متماسكا أشد التماسك بروح الإسلام السارى فى أوصاله كلها. فما يكون للمرتد مكان وسط مجتمع على هذا النحو. * * * الحرية المدنية : ونعنى بها كل التصرفات النابعة من شعور الإنسان بذاته وضرورة اعتراف الجماعة بشخصه، وأهليته المطلقة للتصرف وفق ما يريد . وعلى أساس هذه الحرية يملك كل إنسان أن يقيم حيث يشاء ، وأن يسافر متى شاء ، وأن يجتمع بمن يريد الاجتماع بهم ، وأن يحوز من المال ما يكسب ، وأن يحترف من المهن ما يهوى ، وأن يباشر العقود التى يرى إبرامها ويفسخ التى يريد فسخها من بيع وشراء ، وشركة ووكالة وكفالة وإيجار. الخ، وذلك كله بداهة وفق قانون يمنع الضرر والعدوان حتى لا يشتط أحد فى استخدام حريته فيؤذى الآخرين، وينال من حرياتهم هم. وهذه الحرية تبدأ من غريزة الشعور الإيجابى بالذات- كما يعبر علماء النفس- ولذلك فهى أساس لضروب شتى من الحريات. بل إن المفهوم السائد للحرية بين الجماهير يكاد لا يعدوها . وضدها العبودية أو الاسترقاق الذى يفقد الإنسان فيه أهليته ولا يملك زمام نفسه. والله عز وجل خلق الإنسان كامل المسئولية وشرع له التكاليف الدينية ورتب عليها المثوبة والعقوبة ، على أساس إرادته الحرة وامتلاكه المطلق للاتجاه ذات اليمين أو ذات الشمال . (لا يكلف الله نفسا إلا وسعها لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت). (وأن ليس للإنسان إلا ما سعى ، وأن سعيه سوف يرى ، ثم يجزاه الجزاء(1/77)
الأوفى) . وخطاب الله للمكلفين ما يصح أن يتوجه إليهم لولا هذه الحرية المقررة للإنسان والتى هى نواة شخصيته المعنوية . ذلك ، ثم إن الأصل فى الأشياء الإباحة .. ودائرة الحلال التى يمرح فيها الإنسان رحبة الأكناف . ص _070
(هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعا). وعندما تنظر إلى المحرمات التى حذر الشارع من مواقعتها تجد طائفة محصورة من الأعمال الرديئة هى فى حقيقتها ليست قيدا على الحرية قدر ما هى سياج لحريات الآخرين أو إرشاد الإنسان حتى لا يستعمل حريته فى إيذاء نفسه. فموقف الشارع من الناس أنه : (…يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم). هل لأحد بعد ذلك أن يقيد حرية الآخرين أو يسلبهم إرادتهم؟ لا. إلا أن يكون ظالما يستمرئ العدوان . ويتطاول فوق أخيه الإنسان دون سبب ما . * * * وهنا يتساءل البعض: كيف أباح الإسلام الرق؟ أو قبل وجوده فى أرضه إذا كان الغير أباحه ؟ ونحن نرحب بالكلام فى هذا الموضوع ، وننتهزها فرصة لتناول القضية كلها بالبحث والتمحيص . وسنرى أن الإسلام تعرض لإفك كثير، على حين نجا مجرمون عريقون فى الإجرام، فلم تشر إليهم للأسف إصبع الاتهام. * * * إن الإسلام صنع للرقيق ما لم يصنعه غيره، ولو سارت الأمور إلى وجهتها وفق ما رسم ما تعرضت أجيال غفيرة لهذا البلاء المبين. على أن الإسلام ما أقر قط حرب الخطف التى انتشرت فى العصور القديمة والحديثة، والتى وسعت دائرة الاسترقاق على نحو شائن رهيب، وجعلت أذاه يلطم أشرف الوجوه وأجدرها بالكرامة. لقد بيع أحد الأنبياء فى أسواق العبودية بثمن بخس دراهم معدودة.. أفتظن ذلك عملا يرتضيه دين ؟ إن اختطاف الأحرار من بلادهم، وطبعهم بميسم الرق كان المصدر الأكبر لانتشار الرقيق فى القارات الخمس، بل كان المصدر الفذ للرق الذى عرف فى أوروبا وأمريكا فى القرون الأخيرة. وهؤلاء المظلومون من البشر(1/78)
أحرار.. أحرار . وإطلاق إسارهم ليس تحريرا للرقيق إنما هو إعاده الحرية إلى أهلها الأحقاء بها الأصلاء فيها برغم ما عراهم من عسف أثيم ووصف ذميم . والإسلام يعد من خصوم الله- خصومة البشر- من يقترف ذلك الجرم. يقول الله ص _071
تعالى فى حديثه القدسى: " ثلاثة أنا خصمهم يوم القيامة، ومن كنت خصمه خصمته، رجل أعطى بى ثم غدر ، ورجل باع حرا فأكل ثمنه، ورجل استأجر أجيرا فاستوفى منه العمل ولم يعطه أجره " . يقول الرسول " ـ صلى الله عليه وسلم ـ ": " ثلاثة لا يقبل الله منهم صلاة: من تقدم قوما وهم له كارهون ، ورجل أتى الصلاة دبارا- أى يصيبها بعد أن تفوته- ورجل اعتبد محرره " . * * * ونرى إيفاء الموضوع حقه بنقل أجزاء من بحثنا فى الرق عن كتابنا: "الإسلام والاستبداد السياسى " : " جاء الإسلام والرق من دعائم الحياة الاقتصادية والاجتماعية فى العالم كله. وأسباب الاسترقاق تتبع منازع الشهوات وعربدة القوى المتحركة.. فاتجه هذا الدين إلى استنقاذ أولئك البائسين من السجون التى يدورون داخل قضبانها أبدا . وكان من أوائل الوحى النازل بمكة فى صدر الإسلام قوله تعالى: (فلا اقتحم العقبة ، وما أدراك ما العقبة ، فك رقبة ، أو إطعام في يوم ذي مسغبة ، يتيما ذا مقربة) . وليس فى كتاب الله ولا فى سنة رسوله نص يأمر بالاسترقاق، ولكن هناك مئات النصوص تدعو إلى العتق. ومن قواعد الفقهاء التى يرجعون إليها فى شتى الأحكام أن الشرع يتشوف إلى الحرية ولما كانت مسألة الأرقاء شديدة التعقيد وقتئذ. فقد تدرج الإسلام فى حلها كما تدرج فى تحريم الخمر. وجملة التعاليم التى بين أيدينا من الكتاب والسنة، تشهد بأن الإسلام عند ظهوره وجد منابع الرق كثيرة. ومصارفه قليلة أو معدومة، فكثر المصارف، ونظمها ووسعها وردم المنابع، أو وضع لها من الوصايا ما يجعلها تجف من تلقاء نفسها وقد تسأل: لماذا لم يتعجل الغاية المنشودة؟. وما الذى يضطره إلى التدرج فى علاج(1/79)
قضية لها خطرها فى حاضر الحياة ومستقبلها ونحن نسرد الملابسات التى اكتنفت قصة الرقيق لنعرف مدى ما بذله الإسلام فى صيانة النفس البشرية، وتحريرها من إسار الذلة والمهانة، موقنين بأن الأمور لو سارت على ما يشتهى هذا الدين لبطل الرق من قرون. فإذا حدث أن قضية الرق تعقدت فمرد تعقدها إلى الاستبداد الأعمى الذى جار على ص _072
حقوق الأحرار أنفسهم فاغتالها . والحكومات التى تبنى وجودها على استلاب حقوق الآخرين لا ينتظر أن تؤدى ما عليها من حقوق ، ومن العبث أن تنتظر من مستعبدى الأحرار أن يحرروا العبيد أبطل الإسلام ما كان متعارفا من أسباب الاسترقاق. ورفض ما كان مشروعا لدى الرومان من أن اقتراف بعض الجرائم أو الاعسار فى سداد دين يهوى بالإنسان من مرتبة الحرية ويمسخه عبدا مهينا . ومضى الإسلام فى طريقه يحرر النفوس من آصار الشهوات وينقذ المستضعفين من قيود المذلة، حتى إن عظماء العرب اعتبروا هذا المسلك الإسلامى عائقا يحول بينهم وبين الدين الجديد، وهاجت فى دمائهم حمية الجاهلية فسألوا الرسول مستنكرين كيف يسوى بينهم وبين هؤلاء العبيد ومشى إليه أبو جهل يكلمه: أجئت ترفع ابن سمية الذليل إلى منازل السادة؟ قال: نعم، ونمكن لهم فى الأرض ونجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثين. ثم تكالبت العرب على المسلمين تبغى فتنتهم وأعلنت على النبى وأصحابه حربا شعواء ، وكانت الأيام بين الفريقين دولا . والقتل والأسر طبيعة محتومة فى كل قتال، والعرف السائد يومئذ أن الأسرى لا حرمة لهم ولا حق، وأنهم بين أمرين أحلاهما مر ، القتل أو الاسترقاق . فماذا فعل المسلمون بما لديهم من أسرى؟ إن التعاليم التى بين أيديهم توصى بهم خيرا. إنها تصف المؤمنين بأنهم: (ويطعمون الطعام على حبه مسكينا ويتيما وأسيرا ، إنما نطعمكم لوجه الله لا نريد منكم جزاء ولا شكورا) . والرسول عندما يحض على مكارم الأخلاق يقول : " عودوا المريض ، وأطعموا الجائع ، وفكوا العانى أى(1/80)
أطلقوا سراح الأسير . إنه لا حرج على المسلمين من ترك هؤلاء بعدما سقطوا فى أيديهم غير أنه لا ينبغى لأصحاب الدعوة المضطهدة أن يجهلوا حقيقة وضعهم ، فهم لم يحاربوا إلا ردا للعدوان ، ومنعا للفتنة ، وإقرارا لحرية الرأى . وهؤلاء الأسرى الذين فقدوا اليوم حريتهم إنما جزاهم القدر بسوء صنيعهم لقد سقطوا فى أيدى المسلمين كما سقط أشراف فرنسا فى يد ثوارها وكما سقط قياصرة روسيا فى يد شعبها، ومع أن أحدا من أولئك الكبراء لم ينج من المصير القاتم، ومع أن سادة العرب الذين سقطوا فى أيدى المسلمين الأولين، كانوا يستحقون النهاية نفسها، إلا أننا نجد القرآن ينصح أولئك الأسرى فى أول معركة بين المسلمين والمشركين : ص _07 ص(1/81)
(يا أيها النبي قل لمن في أيديكم من الأسرى إن يعلم الله في قلوبكم خيرا يؤتكم خيرا مما أخذ منكم ويغفر لكم والله غفور رحيم ، وإن يريدوا خيانتك فقد خانوا الله من قبل فأمكن منهم والله عليم حكيم) . ومن هذا الخطاب ندرك الروح التى يصدر الإسلام عنها فى معاملته لمن حشدوا الجموع لقتله، ولمن ظلموا بضعة عشر عاما يوقعون المظالم الفاجعة بجمهور المسلمين يريدون إنفاءهم ، أو إضلالهم . فهل من حسن السياسة أن يطلق سراح الأسرى فورا ؟ ذلك أمر يتعلق بمصلحة الدولة العامة، وعلى الحكومة أن تواجه الظروف المتغايرة بمسالك مناسبة لها . فى بدر قبل المسلمون الفداء . وفى الفتح قال الرسول لأهل مكة : " اذهبوا فأنتم الطلقاء " . وفى غزوة بنى المصطلق رأى النبى أن يتزوج أسيرة من هذا الحى المغلوب ليرفع مكانته ، وتم له ما أراد ، وتحرج الناس من استرقاق الأصهار الجدد فأطلقوهم ! وكان من الممكن تحريم الاسترقاق أصلا . ولكن هذا التصرف من المسلمين يعتبر عبثا ، لأن أعداءهم سيرفضون التقيد بهذا التحريم ثم ينشأ عن ذلك أن أسرى المسلمين لديهم يستعبدون ، وأسرى المشركين لدينا يحررون ! وفى أى حرب يقع هذا التناقض؟ فى حرب نحن فيها المدافعون عن حرية العقل والضمير، الكابحون لجماح المعتدين والمتكبرين ، وغيرنا فيها يطبق سياسة شاعر الجاهلية القائل ؟ بغاة ظالمين ، وما ظلمنا ولكنا سنبدأ ظالمينا ! لذلك اضطر الإسلام إلى السير على قاعدة المعاملة بالمثل حتى لا يضار من تعلقه المطلق بالحرية الكاملة . وفى الوقت الذى أذن فيه للحكومة أن تقابل بالاسترقاق من يستعبدون رعيتها جعل النص فى معاملة الأسرى محددا لمثله العليا فحسب . (حتى إذا أثخنتموهم فشدوا الوثاق فإما منا بعد وإما فداء حتى تضع الحرب أوزارها) . إن هذا الأسير الكافر فى حرب أوضحنا بواعثها ، كان رجلا ظالما أو كان أداة لتنفيذ ظلم ، استغل الحرية المتاحة له فى الطغيان على حقوق الآخرين . فمن(1/82)
العدالة أن يسلب قسطا من حرية لم يحسن الانتفاع بها. ص _074
كذلك من العدالة إذا عوقب على جرمه السابق أن يرفع عنه العقاب فور ظهور أمارة على توبته واستقامته ، وأن تهيأ فرص كثيرة لإعادة حريته إليه، ولو لم يقض المدة الكافية لتطهره من آثامه الأولى ! فلعل ما يتكشف لعينيه من فضائل القوم الذين حاربهم قبلا يرد إليه صوابه الغارب ، ويعيده إنسانا كاملا، لا يجور ولا يجار عليه .. وهذا ما صنعه الإسلام. والقواعد التى شرعها فى معاملة الرقيق تجمع بين العدالة والرحمة، وفى الوقت الذى يفك فيه عقدتهم ويستعد لإطلاق سراحهم- تمشيا مع مثله الفاضلة- يقدر أن ذلك قد يقتضى فترة ما، فهو يوصى بجعل هذه الفترة اللازمة عهدا من البر والمواساة والإحسان يختم بالحرية التى ينشدها الشرع لكل إنسان. وفى سبيل هذه الحرية جعل ثمن الزكاة المفروضة يرصد سنويا لتحرير العبيد، كما جعل العتق كفارة فى عقوبات القتل الخطأ، والظهار، والأيمان، وإفطار رمضان. ثم دعوة عامة إلى العتق تحس فيها عواطف المناشدة والرجاء كيما يطلق سراح أولئك المناكيد ابتغاء وجه الله . وقبل أن يستمتع هؤلاء القوم بحرياتهم المفقودة، سنت لهم قوانين لا تعرف فى أرقى معسكرات الأسرى، لو سمع بها أسرى الحروب العامة فى " أوروبا " لسال لها لعابهم وحسدوا القدامى عليها: ا- كفل لهم غذاء وكساء كغذاء وكساء أوليائهم . روى أبو داوود عن المعرور. بن سويد قال: دخلنا على أبى ذر بالربذة فإذا عليه برد ، وعلى غلامه مثله ، فقلنا: يا أبا ذر.. لو أخذت برد غلامك إلى بردك فكانت حلة وكسوته ثوبا غيره ؟ قال: سمعت رسول الله " ـ صلى الله عليه وسلم ـ " يقول: " هم إخوانكم جعلهم الله تحت أيديكم ، فمن كان أخوه تحت يده فليطعمه مما يأكل وليكسه مما يكتسى ولا يكلفه ما يغلبه ، فإن كلفه ما يغلبه فليعنه 2- حفظت كرامتهم فلا يجوز خدشها بكلمة نابية . روى أبو هريرة قال : قال أبو القاسم نبى التوبة " ـ صلى(1/83)
الله عليه وسلم ـ " : "من قذف مملوكاً بريئاً مما قال أقيم عليه الحد يوم القيامة إلا أن يكون كما قال" . وروى عمار بن ياسر عن النبى "ـ صلى الله عليه وسلم ـ" قال: "من ضرب مملوكه ظلما قيد منه يوم القيامة" . وروى أبو داوود أن عمر أعتق مملوكا له، ثم أخذ من الأرض عودا أو شيئا فقال: مالى فيه من الأجر ما يساوى هذا.. سمعت رسول الله "ـ صلى الله عليه وسلم ـ" يقول: ص _075
" من لطم مملوكا له أو ضربه فكفارته عتقه " . وروى أحمد عن أم سلمة قالت: كان رسول الله "ـ صلى الله عليه وسلم ـ" فى بيتى ، وكان بيده سواك فدعا وصيفة لها- فلم ترد- حتى استبان الغضب فى وجهه ! وخرجت أم سلمة إلى الحجرات فوجدت الوصيفة وهى تلعب ببهيمة فقال: أراك تلعبين بهذه البهيمة ورسول الله يدعوك ؟ فقالت: لا والذى بعثك بالحق ما سمعتك.. فقال رسول الله "ـ صلى الله عليه وسلم ـ": " لولا خشية القود لأوجعتك بهذا السواك " . ص - يتقدم العبد على الحر فيما يفضله فيه من شئون الدين والدنيا. وقد صحت إمامته فى الصلاة، وكان للسيدة عائشة أم المؤمنين عبد يؤمها فى الصلاة. بل لقد أمر المسلمون بالسمع والطاعة إذا ملك أمورهم عبد ما دام أكفأ من غيره. وعن ابن عباس عن النبى "ـ صلى الله عليه وسلم ـ" قال: "عبد أطاع الله وأطاع مواليه، أدخله الله الجنة قبل مواليه بسبعين خريفا. فيقول السيد: رب، هذا كان عبدى فى الدنيا، قال جازينه بعمله. وجازيتك بعملك " . وقد تسأل: لماذا لا يوهب الأسير الحرية إذا أسلم؟ والجواب: إنها حقه فى الحال، أما إذا تأخر إسلامه بعد أن يضرب عليه الرق، فمن حقه كذلك أن ينطلق كيف شاء، لكن الإسلام خشى ألاعيب المنافقين، يظهر أحدهم الإيمان حتى إذا نجا بنفسه عاد إلى قومه يحمل معهم السلاح ليسئ إلى من أحسنوا إليه. أما إذا كان الرجل صادقا فى الإسلام فلن تضره مهلة يسترد بعدها حريته فى منفذ من المنافذ السابقة، وقد أمر الولى أن يتحرى حال صاحبه(1/84)
فإن وجده مخلصا سعى فى فكاكه: (والذين يبتغون الكتاب مما ملكت أيمانكم فكاتبوهم إن علمتم فيهم خيرا وآتوهم من مال الله الذي آتاكم). إن الحرية حق أصيل للإنسان ، ولا يسلب امرؤ هذا الحق إلا لعارض نزل به، كما أن الانطلاق فى الأرض الفضاء مباح للإنسان الطبيعى، وإنما يحكم عليه بالسجن لإثم ارتكبه حتى إذا استوفى العقوبة المقررة ، وظن أن حاله قد انصلح فكت قيوده ، وعاد إلى حريته الأولى . والإسلام- عندما قبل الرق فى الحدود التى أوضحناها- احتسبه قيدا مؤقتا لإنسان استغل حريته أسوأ استغلال . ألم يحمل السيف ليحرم الآخرين حرية العقل والضمير ؟ فإذا سقط إثر حرب عدوان انهزم فيها ، فإن امساكه بمعروف مدة أسرة تصرف سليم . ص _076(1/85)
وإذا حدث لامرئ ما أن استرق ثم ظهر أنه أقلع عن غيه، ونسى ماضيه القديم وأضحى إنسانا بعيد الشر قريب الخير. فهل إذا طلب إطلاق سراحه بعد تعويض يؤديه يجاب إلى طلبه. الإسلام يرى إجابته إلى رغبته . ومن الفقهاء من يوجب ذلك إيجابا . ومنهم من يستحبه استحبابا . والأصل فى القضية تلك الآية الكريمة التى ذكرناها آنفا (والذين يبتغون الكتاب مما ملكت أيمانكم فكاتبوهم إن علمتم فيهم خيرا وآتوهم من مال الله الذي آتاكم) . وظاهر الآية يفيد وجوب تسريح العبد ، إذا علمنا خيره ، وطلب هو المكاتبة، وعلى المجتمع أن يساعده على الانطلاق والتحرر. وتستطيع الدولة إعانته من بيت المال. والأمر بتخفيف العوض المطلوب واضح فى صدر الآية بالنسبة إلى الرجال، أعنى الفتيان. * * * أما الفتيات فإن الأمر بمكاتبتهن مقرون بتحذير يعيه أهل الإيمان . ذلك أن المغالاة فيما يكلفن بأدائه قد يلجئهن إلى بيع أعراضهن ابتغاء الحرية وذلك مسلك لا يرتضيه مسلم . ومن ثم يجب عليه أن يتساهل فى تحريرها حتى لا يستكرهها على البغاء ، فيأثم هو بطلب الدنيا ، ويغفر الله لها لما وقعت فى مسلكها من حرج . ذلك هو الرأى الذى نختاره فى تفسير الآية ، والذى يليق بنظم القرآن وتماسك معانيه . أما ما يحكى عن فتيات عبد الله بن أبى اللواتى كان يرسلهن للمتاجرة بأعراضهن. فمع أن عبد الله هذا شخص وضيع إلا أن ذكره هنا مقحم غير مستساع . والأولى فى شرح الآية الكريمة ما قررنا . ونزعة الإسلام إلى التحرير العاجل تلمسها فى قول النبى- ـ صلى الله عليه وسلم ـ -: (من أعتق رقبة مسلمة أعتق الله بكل عضو منه عضوا منه من النار ، حتى فرجه ) . وعن أبى نجيح السلمى قال: حاصرت مع رسول الله "ـ صلى الله عليه وسلم ـ" الطائف فسمعته يقول: (أيما رجل مسلم أعتق رجلا مسلما فإن الله عز وجل جاعل وفاء كل عظم من ص _077(1/86)
عظامه، عظما من عظام محرره، وأيما امرأة مسلمة أعتقت امرأة مسلمة فإن الله عز رجل جاعل وفاء كل عظم من عظامها عظما من عظام محررتها من النار ". كما أوصى النبى "ـ صلى الله عليه وسلم ـ" بالرقيق كثيرا ، وذلك منذ العهد الأول باتخاذ الأسرى إلى أواخر حياته "ـ صلى الله عليه وسلم ـ" ، فقد ثبت أنه لما وزع أسرى بدر على الصحابة قال لهم: "استوصوا بالأسرى خيرا " . ويقول أحدهم ، وهو أبو عزيز بن عمير أخو مصعب بن عمير: كنت فى رهط من الأنصار حين أقبلوا بى من بدر فكانوا إذا قدموا غداء أو عشاء خصونى بالخبز وأكلوا التمر لوصية الله إياهم بنا . وروى أن النبى "ـ صلى الله عليه وسلم ـ" أعطى أبا الهيثم أسيرا وأوصاه بإحسان معاملته . فلما أخبر زوجته بذلك قالت له: لن نستطيع أن ننفذ وصية الرسول إلا بإعتاقه فأعتقه. وقد ذكر ابن هشام أن النبى "ـ صلى الله عليه وسلم ـ" أمر بإكرام ثمامة بن أثال الحنفى حين أسر فقال: أحسنوا اساره، ورجع رسول الله " ـ صلى الله عليه وسلم ـ " إلى أهله فقال: " اجمعوا ما كان عندكم من طعام فابعثوا به إليه" وأمر بلقحته- الناقة الحلوب- أن يغدى عليه بها ويروح . وكان مما قاله النبى "ـ صلى الله عليه وسلم ـ" قبل وفاته بخمس ليال: "الله، الله فيما ملكت أيمانكم". وقال أيضا: " إذا وضع لأحدكم خادمه طعامه ثم جاء به قد ولى حره ودخانه فليقعده معه فليأكل، فإن كان الطعام مشفوها - أى كثرت عليه الشفاه فصار قليلا- فليضع فى يده منه أكلة أو أكلتين " . وروى أن عليا كرم الله وجهه أعطى غلامه دراهم ليشترى بها ثوبين متفاوتى القيمة، فلما أحضرهما أعطاه أرقهما نسيجا وأغلاهما قيمة، وحفظ لنفسه الآخر وقال له: أنت أحق منى بأجودهما لأنك شاب تميل نفسك للتجمل ، أما أنا فيكفينى هذا . وروى أن عثمان بن عفان ـ رضى الله عنه ـ دعك أذن عبد له على ذنب فعله ثم قال له عثمان بعد ذلك : تقدم واقرص أذنى ، فامتنع العبد فألح عليه، فبدأ(1/87)
يقرص بخفة، فقال له: اقرص جيدا، فإنى لا أتحمل عذاب يوم القيامة. فقال العبد: وكذلك يا سيدى، اليوم الذى تخشاه، أنا أخشاه أيضا . كما تذكر الروايات أن عبدا لزين العابدين رفع شاة وكسر رجلها فسأله سيده: لماذا فعلت هكذا؟ فقال: لأثير غضبك ، فرد عليه : وأنا سأغضب من علمك- وهو إبليس- اذهب فأنت حر لوجه الله . ص _078
وكان عبد الرحمن بن عوف إذا مشى بين عبيده لا يميزن أحد منهم لأنه لا يتقدمهم ، ولا يلبس إلا من لباسهم . وقال أبو مسعود البدرى: كنت أضرب غلاما لى بالسوط فسمعت صوتا من خلفى: اعلم أبا مسعود، فلم أفهم الصوت من الغضب، فلما دنا منى إذا هو رسول الله "ـ صلى الله عليه وسلم ـ" فإذا هو يقول: " اعلم أبا مسعود أن الله أقدر عليك منك على هذا الغلام ". فقلت: لا أضرب مملوكا بعده أبدا ، وفى رواية، فقلت: يا رسول الله هو حر لوجه الله تعالى . فقال: " أما لو لم تفعل للفحتك بالنار- أو لمستك النار) . وجاء رجل إلى رسول الله "ـ صلى الله عليه وسلم ـ" فقال: إن لى مملوكين يكذبوننى ويخونوننى ويعصوننى ، وأشتمهم وأضربهم، فكيف أنا منهم؟ فقال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : " إذا كان يوم القيامة يحسب ما خانوك وعصوك وكذبوك وعقابك إياهم فوق ذنوبهم فإن كانت كفافا لا لك ولا عليك ، وإن كان عقابك إياهم فوق ذنوبهم اقتص لهم منك الفضل" فتنحي الرجل فجعل يهتف ويبكي، فقال رسول الله "ـ صلى الله عليه وسلم ـ": أما تقرأ قول الله تعالي: (ونضع الموازين القسط ليوم القيامة فلا تظلم نفس شيئا وإن كان مثقال حبة من خردل أتينا بها وكفى بنا حاسبين) . فقال الرجل: يا رسول الله، ما أجد لى ولهؤلاء خيرا من مفارقتهم أشهدك أنهم كلهم أحرارا . وقال- ـ صلى الله عليه وسلم ـ -: "ما خففت عن خادمك من عمله كان لك أجرا فى موازينك". ويروى أن عمرـ رضى الله عنه ـ كان يذهب إلى العوالى فى كل يوم سبت، فإذا وجد عبدا فى عمل لا يطيقه وضع عنه منه، وقد مر(1/88)
يوما بمكة فرأى العبيد وقوفا لا يأكلون مع سادتهم، فغضب وقال لمواليهم : ما لقوم يستأثرون على خدامهم؟ ثم دعا الخدم فأكلوا معهم، وعندما سافرـ رضى الله عنه ـ إلى بيت المقدس للتفاوض مع البطريرك فى تسليم البلد عقب حصار جيش أبى عبيدة لها لم يكن معه هو وغلامه إلا ناقة واحدة فكانا يتناوبان ركوبها الواحد بعد الآخر، إلى أن اقتربا من بيت المقدس، وكان الدور للغلام فى الركوب، فلم يجد عمر غضاضة من المشى وغلامه راكب ، حتى دخلا بيت المقدس على هذه الحال. كما يروى أن رجلا دخل على سلمان رضي الله عنه فوجده يعجن، فقال له: يا أبا عبد الله ما هذا ؟ فقال: بعثنا الخادم فى شغل ، فكرهنا أن نجمع عليه عملين .. ورأى أبو هريرة رجلا على دابة، وغلامه يسعى خلفه، فقال له: يا عبد الله.. احمله خلفك فإنما هو أخوك، ثم قال: لا يزال العبد يزداد من الله بعدا ما مشى خلفه. ص _079(1/89)
هذا ما أسداه الإسلام للرقيق من أياد ! فماذا قدمت له اليهودية ؟… لننظر. . إن اليهود قسموا أبناء آدم قسمين: بنو إسرائيل قسم ، وسائر البشر- قسم آخر.. فأما بنو إسرائيل فيجوز استرقاق بعضهم حسب تعاليم معينة نص عليها العهد القديم. وأما غيرهم. فهم أجناس منحطة، يمكن استبعادها عن طريق التسلط والقهر، لأنهم سلالات كتبت عليها الذلة باسم السماء من قديم، جاء فى الإصحاح الحادى والعشرين من سفر الخروج 2- 12 ونصه: " إذا اشتريت عبدا عبرانيا فست سنين يخدم، وفى السابعة يخرج حرا مجانا، إن دخل وحده، فوحده يخرج، إن كان بعل امرأة تخرج امرأته معه، إن أعطاه سيده امرأة وولدت له بنين وبنات فالمرأة وأولادها يكونون للسيد، وهو يخرج وحده، ولكن إذا قال العبد: أحب سيدى وامرأتى وأولادى لا أخرج حرا، يقدمه سيده إلى الله، ويقربه إلى الباب أو إلى القائمة، ويثقب سيده أذنه بالمثقب يخدمه إلى الأبد، وإذا باع رجل ابنته أمة لا تخرج كما يخرج العبيد، إن قبحت فى عينى سيدها الذى خطبها لابنه فبحسب حق البنات يفعل لها، إن اتخذ لنفسه أخرى لا ينقص طعامها وكسوتها ومعاشرتها، وإن لم يفعل لها هذه الثلاث تخرج مجانا بلا ثمن "... ... أما استرقاق غير العبرانى فهو بطريق الأسر والتسلط ، لأنهم يعتقدون أن جنسهم أعلى من جنس غيرهم، ويلتمسون لهذا الاسترقاق سندا من توراتهم فيقولون: إن حام بن نوح- وهو أبو كنعان- كان قد أغضب أباه، لأن نوحا سكر يوما ثم تعرى وهو نائم فى خبائه، فأبصره حام كذلك، فلما علم نوح بهذا بعد استيقاظه غضب، ولعن نسله الذين هم كنعان، وقال كما فى التوراة، سفر التكوين إصحاح 9: 25 و 26-: " ملعون كنعان عبد العبيد يكون لاخوته، وقال: مبارك الرب إله سام، وليكن كنعان عبدا لهم ". وفى الإصحاح نفسه: 27: " ليفتح الله ليافث فيسكن فى مساكن سام وليكن كنعان عبدا لهم ". وقد أتى رجال الدين فى انجلترا بهذه الفتوى، عندما طلبت الملكة " اليزابيث "(1/90)
الأولى سندا يبرر تجارتها فى الرقيق التى كانت تسهم فيها بنصيب كبير !!. * * * ونريد أن نسأل جمهرة المبشرين والمستشرقين الذين بسطوا ألسنتهم فى الإسلام دون أدنى حياء أو أدب. لقد شرحنا ما صنع الإسلام للرقيق ، فماذا صنعت النصرانية ؟ . * * * ص _080
جاء الدين المسيحى فأقر الرق الذى أقره اليهود من قبل ، ونص القديسون على شرعية خدمة الرقيق لسادتهم ، وليس فى الإنجيل نص يحرمه أو يستنكره . ومن الغريب أن المؤرخ " وليم موير " يعيب سيدنا محمدا "ـ صلى الله عليه وسلم ـ" بأنه لم يبطل الرق حالا ، مع تغاضيه عن موقف الإنجيل من الرق، حيث لم ينقل عن السيد المسيح ، ولا عن الحواريين ، ولا عن الكنائس شئ فى هذه الناحية. بل كان بولس يوصى فى رسائله بإخلاص العبيد فى خدم سادتهم، فقال فى رسالته إلى أهل أفسس : " أيها العبيد، أطيعوا سادتكم حسب الجسد بخوف ورعدة فى بساطة قلوبكم كما للمسيح ، ولا بخدمة العين كمن يرضى الناس ، بل كعبيد المسيح ". عاملين مشيئة الله من القلب. خادمين بنية صالحة كما للرب ليس للناس. " عالمين أنه مهما عمل كل واحد من الخير، فذلك يناله من الرب عبدا كان أم حرا ". وأوصى الرسول بطرس بمثل هذه الوصية . وأوجبها آباء الكنيسة . * * * وأضاف القديس الفيلسوف " توما الأكوينى " رأى الفلسفة إلى رأى الرؤساء الدينيين ، فلم يعترض على الرق بل زكاه ، لأنه على رأى أساتذه أرسطو حالة من الحالات التى خلق عليها بعض الناس بالفطرة الطبيعية . * * * وأقر القديسون أن الطبيعة جعلت بعض الناس أرقاء . * * * وفى المعجم الكبير للقرن التاسع عشر " لاروس " : " لا يعجب الإنسان من بقاء الرق واستمراره بين المسيحين إلى اليوم، فإن نواب الدين الرسميين يقرون صحته ويسلمون بمشروعيته "، وفيه: " الخلاصة أن الدين المسيحى ارتضى الاسترقاق تماما إلى يومنا هذا، ويتعذر على الإنسان أن يثبت أنه سعى فى إبطاله". وجاء فى قاموس الكتاب المقدس(1/91)
للدكتور " جورج يوسف ". إن العالم " شاق " قال: إن المسيحية لم تعترض على العبودية من وجهها السياسى، ولا من وجهها الاقتصادى، ولم تحرض المؤمنين على منابذة جيلهم فى آدابهم من جهة العبودية، حتى ولا على المباحثة فيها، ولم تقل شيئا ضد حقوق أصحاب العبيد، ولا حركت العبيد إلى طلب الاستقلال، ولا بحثت عن مضار العبودية، ولا قسوتها، ولم تأمر ص _081
بإطلاق العبيد حالا .. وبالإجماع لم تغير النسبة الشرعية بين المولى والعبد بشئ، بل بعكس ذلك فقد أثبتت حقوق كل من الفريقين وواجباته ". ومن العبث أن نقارن بين تعاليم الإسلام النقية والسنية التى شرحناها من قبل وبين هذه التعاليم . ونسأل أخيرا: ماذا صنعت أوروبا الحديثة للرقيق؟. إن أوروبا لا تعرف الدين إلا وسيلة لإشباع آثامها، وإرضاء أطماعها. وهى قلما تستوحى روحه أو نصوصه فيما تشرعه من سياسات لمعاملة الآخرين. وليس لديها من بأس فى أن تنتفع بالعقائد الدينية أو برجال الدين، إذا كان ذلك يشوه الإسلام ، وينتقص أمته عندما اتصلت أوروبا بإفريقيا السوداء كان هذا الاتصال مأساة إنسانية، عرضت الزنوج لبلاء هائل طوال خمسة قرون. فإن الدول الأوروبية نظمت اختطاف هؤلاء المساكين واجتلابهم إلى بلادها لتكلفهم بأشق الأعمال. فلما اكتشفت أمريكا آخر القرن الخامس عشر ازداد البلاء النازل بهؤلاء السود التعساء لأن عبء الخدمة المنوط بهم أصبح يمتد إلى قارتين بدل قارة واحدة. وتقول دائرة المعارف البريطانية: ج 2 ص 779 مادة (Slavery): إن اصطياد الرقيق من قراهم المحاطة بالأدغال كان يتم بإيقاد النار فى الهضيم الذى صنعت منه الحظائر المحيطة بالقرى ، حتى إذا نفر أهل القرية إلى الخلاء تصيدهم الإنجليز بما أعدوا لهم من وسائل . وعدا من كانوا يموتون من هذا القنص الآدمى فى الرحلة إلى الشاطئ الذى ترسو عليه مراكب الشركة الإنجليزية وغيرها كان ثلث الباقين يموت بسبب تغير الطقس، ويموت فى أثناء الشحن(1/92)
حوالى 4.5 % منهم و 12 % في أثناء الرحلة. أما من كانوا يموتون فى المستعمرات فلا حصر لهم، فإن مستعمرة جاميكا البريطانية وحدها قد دخلها سنة 1820 ما لا يقل عن ثمانمائة ألف رقيق، ولم يبق فى تلك السنة منهم سوى ثلثمائة وأربعين ألفا وكثر عدد الزنوج فى أمريكا حتى بلغ حوالى عشرين مليونا. هاجر أكثرهم منذ أعلن تحريرهم، وأسسوا لهم مملكة فى افريقيا تعرف الآن باسم "ليبريا " الذى يحمل معنى الحرية. وكان احتكار تجارة الرقيق على سواحل إفريقيا مقصورا على الأسبانيين، ثم انتقل إلى البرتغاليين من 1580- 1640، ثم تسابقت الدول الأوروبية إلى هذه التجارة بعد ذلك. وتذكر دائرة المعارف البريطانية أيضا أن التجار البريطانيين كانوا يوردون الرقيق إلى ص _082(1/93)
المستعمرات الأسبانية، ومكثت هذه التجارة مدة طويلة فى أيدى شركات حصلت من الحكومة البريطانية على حق احتكارها، ثم اطلقت فيها أيدى جميع الرعايا البريطانيين، ويقدر " برايان ادوارد " مجموع ما استولى عليه البريطانيون من الرقيق، واستعبدوه من المستعمرات خلال المدة 1680- 1786 بحوالى 2.1 ص 0.000 شخص . * * * * اليزابيث الأولى تاجرة الرقيق : وبلغت هذه التجارة أوج اتساعها قبل حرب الاستقلال الأمريكية وكانت قواعدها فى ليفربول ولندن وبريستول ولانكشاير . وكانت الملكة اليزابيث الأولى تشارك فيها، وأعارت التجار بعض أساطيلها، وقد حكمت هذه الملكة من 1558- 160 ص وكانت شريكة لجون هوكنز أعظم نخاس فى التاريخ ، وقد رفعته إلى مرتبة النبلاء ، إعجابا ببطولته، وجعلت شعاره رقيقا يرفل فى السلاسل والقيود . ومن المفارقات الطريفة أن السفينة التى أعارتها لجون هوكنز، كانت تسمى "يسوع "، وكان مخصصا للإبحار بالرقيق من الموانى المذكورة إلى مواطن الإستعباد 192 سفينة تتسع حمولتها فى الرحلة الواحدة لحوالى 47.146 رقيقا ، وتعطلت تجارة البريطانيين فيه أثناء الحرب الأمريكية قليلا . ثم تزايدت بعدها تزايدا كبيرا . * عنصرة عمياء : وقد طلبت إنجلترا من رجال الدين مبررا لهذه التجارة، فأسعفوها بنصوص التوراة التى تقدمت فى الكلام على الرق عند اليهود . وبمقتضى هذه الفتوى التى تبدو فيها الصيغة العنصرية واضحة- رغم الستار الدينى الشفاف- كان استعباد الزنوج مباحا بل واجبا عند الأوروبيين، لأنهم سلالة يافث بن نوح ، وظلوا على هذه العقيدة حتى القرن العشرين ! وقد بلغت معاملة الأرقاء منتهى القسوة فى هذه الفترة ولم يعد الرقيق مجرد خادم فى المنزل أو عامل يزاول بعض الشئون العامة للدولة، أو مظهرا من مظاهر الترف ، بل رحل إلى المستعمرات ، وأرهق بالعمل وأهمل شأنه كل الإهمال . مما كان يودى بحياة الكثير منهم . وكانت توضع بعض القوانين لمعالجة أمر(1/94)
الرقيق ، غير أنها كانت دائما ضده ، كانت منظمة للاستعباد لا قاضية عليه ، وكان أول قانون صدر بهذا الخصوص هو قانون "بترونيا" الرومانى ومما جاء فيه: " أنه يحرم على السادة إلزام العبيد بمقاتلة الوحوش إلا بإذن القاضى " . ص _08 ص
* القانون الأسود: وفى 17 مارس سنة 1685 صدر القانون الأسود لتنظيم أحوال الأرقاء فى المستعمرات، ولكنه مع صرامته وشدته لقى معارضة شديدة. ومما جاء فيه: " من اعتدى منهم على السادة بأقل اعتداء قتل، وإذا سرق عوقب أشد العقاب، وإذا أبق العبد قطعت أذناه ورجلاه وكوى بالحديد المحمى، وإذا أبق للمرة الثانية قتل ". وكان الإنجليز فى مستعمرة جامايكا يعدمون من أبق أكثر من ستة أشهر. وللسيد إذا قتل عبده أمكن أن يوجد مبررا للقتل ويبرأ، وكانت الجمعيات الاستعمارية لا تهتم بعلاقة السيد بعبده، وحرمت على الملونين وظائف البيض، كما حرمت التزاوج بينهم، ومنعت تمكين الأسود من التعليم. وفى عهد لويس الرابع عشر كان القانون ينص على احتقار الجنس الأسود مهما كانت منزلته، ولا يعطون مميزات الجنس الأبيض بأية حال. وفى الولايات الجنوبية بأمريكا كان الرقيق مهانا جدا ، وإذا تجمع منهم سبعة فى الطريق عد ذلك جريمة، ويجوز للأبيض إذا مر بهم أن يقبض عليهم ويجلدهم عشرين جلدة. وقد نص القانون على أن العبيد لا نفس لهم ولا روح، وليست لهم فطانة ولا ذكاء ولا إرادة، وأن الحياة لا تدب إلا فى أذرعهم فقط!! وبمثل هذه القوانين الظالمة كانت حرية الزنجى خيالا لا حقيقة له، ولكنه إذا أذنب كانت مسئوليته جسيمة كبيرة، فهو من جهة الواجبات إنسان عاقل مسئول، ومن جهة الحقوق شئ لا روح له إلا أذرعهم فقط. وفى سنة 1859 صوتت الجمعية التشريعية فى " أركانزا " على طرد جميع الملونين من أراضيها، وأنذرت من لم يفارق الوطن قبل أول يناير سنة 1860 ببيعه فى المزاد . * * * وأخيرا نهض نفر من ذوى القلوب الكبيرة، بعد أن ثارت ضمائرهم لهذه(1/95)
الوحشية المتوارثة فى معاملة الرقيق، وتنادوا بتحريره، وتم القضاء عليه وعلى تجارته فى القرن الأخير. . وأى منصف يطالع ما أوردناه من حقائق، يعلم أن الأوروبيين قبل غيرهم من الخلق هم المسئولون عن فصول هذه المأساة كلها . وأن التعاليم التى شاعت بينهم كمنت وراء سلسلة من المظالم التى وقعت بالبشرية . وأن الذين تجرأوا على إقحام الإسلام فى هذا الموضوع أحق الناس بالمثل السائر " رمتنى بدائها وانسلت " . ص _085
الرجل والمرأة فى المجتمع ـ الحقوق الاجتماعية بين المرأة والرجل : ليس هنالك فارق بين الرجل والمرأة فى الحقوق والحريات التى شرحناها آنفا ، فكلا الجنسين صنو الآخر فى قصة الحياة الإنسانية من بدء الخليقة حتى المصير الأخير . (وأنه خلق الزوجين الذكر والأنثى ، من نطفة إذا تمنى ، وأن عليه النشأة الأخرى) (والليل إذا يغشى ، والنهار إذا تجلى ، وما خلق الذكر و الأنثى ، إن سعيكم لشتى). وجملة العقائد والعبادات والأخلاق والأحكام التى شرعها الله للإنسان، يستوى فى التكليف بها والجزاء عليها الرجل والمرأة . وإذا كانت الحياة الإنسانية على ظهر الأرض اختيارا للإخلاص والوفاء، واستقامة الفكر والسلوك، فإن الإنسانية بنوعيها سواء فى هذا المضمار . قد يسبق الرجل، وقد تسبق المرأة، ولا دخل لصفات الذكورة والأنوثة فى تقديم أو تأخير ، ولا فى مثوبة أو عقوبة . فربما دخل الرجل النار، ودخلت زوجته الجنة، وربما حدث العكس (ضرب الله مثلا للذين كفروا امرأة نوح وامرأة لوط كانتا تحت عبدين من عبادنا صالحين فخانتاهما فلم يغنيا عنهما من الله شيئا وقيل ادخلا النار مع الداخلين ، وضرب الله مثلا للذين آمنوا امرأة فرعون إذ قالت رب ابن لي عندك بيتا في الجنة ونجني من فرعون وعمله ونجني من القوم الظالمين). * * * إن حواء خلقت من آدم كما نبأنا القرآن الكريم: (يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها). والأولاد بعد(1/96)
ذلك ذكورا أو إناثا جاءوا ثمرة واحدة لتواصل الأبوين الأولين: (وبث منهما رجالا كثيرا ونساء). فمن الجنون تصور أحد الجنسين غريبا عن الآخر ، أو دونه مكانة (بعضكم من بعض ) . وما شاع فى أذهان نفر من المتدينين أن النساء خلق أدنى من الرجال ، لا سند له من دين الله . ص _086
بل إن إسقاط التكاليف الشرعية عن النساء ، كما يحدث فى بعض البلاد الإسلامية عصيان سافر دنه ، وخروج على تعاليم كتابه ، فإن النساء شقائق الرجال فى كل شىء. (إن المسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات والقانتين والقانتات والصادقين والصادقات والصابرين والصابرات والخاشعين والخاشعات والمتصدقين والمتصدقات والصائمين والصائمات والحافظين فروجهم والحافظات والذاكرين الله كثيرا والذاكرات أعد الله لهم مغفرة وأجرا عظيما) وكل ما صنع الدين أنه وزع الاختصاصات العملية توزيعا يوافق طبائع الذكورة والأنوثة . وبالتالى خفف عن النساء بعض الأعباء ، وألزمهن ببعض الوصايا : 1- الصلاة والصيام مثلا واجبان على الرجال والنساء سواء بسواء إلا أن المرأة معفاة من الصلاة فى دورة العادة الشهرية التى تمر بها. وفى فترة الولادة وما يتصل بها، وهى كذلك معفاة من الصيام، ولكن تقضى ما فاتها منه فى أيام أخرى. ويجوز لها، وهى ترضع أولادها، أن تدع الصيام، وتقضى أو تفدى. 2- ما كانت المرأة تتأثر نفسيا وعاطفيا بهذه الدورات البدنية التى تعتادها، وكثيرا ما ينحرف مزاجها، مما يجعلها مظنة خطأ فى تصوير ما تشاهد من أحوال الناس، وأحداث الحياة، فقد احتاط الدين فى القضاء بشهادتها منفردة، وضم إليه ، للاستيثاق شهادة امرأة أخرى. ص - لما كان الرجل بعيدا عن مشاغل الحيض والنفاس والحمل والرضاع كان أجلد على ملاقاة الصعاب، ومعاناة الحرف المختلفة، وكان الضرب فى الأرض ابتغاء الرزق ألصق به هو، ومن ثم فقد كلفه الإسلام بالإنفاق على زوجته، وعلى قرابته الإناث الفقيرات . 4- تبع ذلك أن نصيب(1/97)
المرأة فى الميراث نصف نصيب الرجل غالبا ، لأنه المسئول عن النفقة كما قدمنا، فهى إذا تزوجت أخذت منه المهر، واستحقت عده النفقة، ومن الظلم أن تسوى معه فى الميراث بعد تحميله هذه الواجبات . 5- لرجل رب الأسرة ، وهو في البيت رئيسه القوام عليه . قال تعالى : (الرجال قوامون على النساء بما فضل الله بعضهم على بعض وبما أنفقوا من أموالهم) . 6- لرجال هم المرشحون الأوائل لشغل المناصب الكبرى فى المجتمع والدولة والخدمة العسكرية . وسنتحدث عن حكمة ذلك بعد قليل لتعرف وجهة نظر الإسلام كاملة . * * * ص _087(1/98)
وهذه الفروق مع التطبيق العدل الدقيق لا تخدش المكانة الإنسانية للمرأة . بل إن الإسلام- إذ يعترف بهذه الفروق- يتمشى مع طبائع الأشياء، ولا يستطيع تجاهل فطرة الله فيها . لكن الذى يحدث للأسف أن بعض المترجلات من النساء يريد أن يشتط فى طلب ما ليس له، وأن بعض القساة من الرجال يريد هضم المرأة والافتيات على مالها من حقوق. والإسلام منهج آخر، بين التفريط والإفراط . والمعروف من تعاليمه أنه رفض رفضا باتا أسلوب الجاهلية فى معاملة المرأة واستنقذ كيانها المادى والمعنوى ، من غمط ظاهر ، بل من استهانة شنعاء . والفروق التى أحصيناها هى استثناءات من قاعدة عامة ، استثناءات لها سرها وحكمتها، غير أن مسلك بعض المجتمعات جعل الاستثناء هو القاعدة، والقاعدة هى الاستئناء ، وذاك ما يستنكره الإسلام الذى شرع المساواة فى الحقوق والحريات الأساسية كلها، ونص على التفاوت والتقييد، لا ليهين المرأة، بل ليقيم العدالة، ويوجه كلا الجنسين إلى ما يحسنه. ويوائم خلقته وفطرته . * * * الحرية الدينية مكفولة للمرأة كفالة مطلقة ، مثلها فى ذلك مثل الرجل . وقد أباح الإسلام أن تبقى المرأة اليهودية أو النصرانية على دينها وهى زوجة المسلم وأم لأولاده : (يسألونك ماذا أحل لهم قل أحل لكم الطيبات وما علمتم من الجوارح مكلبين تعلمونهن مما علمكم الله فكلوا مما أمسكن عليكم واذكروا اسم الله عليه واتقوا الله إن الله سريع الحساب ، اليوم أحل لكم الطيبات وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم وطعامكم حل لهم والمحصنات من المؤمنات والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم إذا آتيتموهن أجورهن محصنين غير مسافحين ولا متخذي أخدان …) . لكن الإسلام يرفض الزواج بالمرأة الملحدة التى لا تعترف بالألوهية أو المرأة التى تعبد الأصنام . والسر فى ذلك أن أساس تكوين الأسرة وهو العشرة الزوجية التى يراعى فيها وجه الله ، ويترك فيها الحرام ، ويقتصر على الحلال . والملحدات(1/99)
يستبحن ما يحلو لهن ، أما اللاتى لهن دين سماوى فإن ما وقر فى نفوسهن من تعاليم السماء يحجبهن عن الرذيلة . ص _088
واحتراما لعقيدة المرأة المسلمة رفض الإسلام أن تتزوج رجلا من أهل الكتاب لا يؤمن بدينها ، وقد يتناول نبيها بالتجريح والإساءة إذ هو كافر به وهذا المسلك لا ينتظر من مسلم يتزوج كتابية إذ هو يحترم كل نبى سبق ، ويؤمن به إيمانه بنبيه. * * * أما الحرية السياسية فقد أشرنا سابقا إلى أنها تعنى أمرين: رقابة الأمة على الحاكمين ، والتعقيب بالنقد على ما قد يخطئون فيه . وحق ولاية الوظائف كلها لأى امرئ يستكمل شرائط ولايتها. والمرأة والرجل سواء فى الشطر الأول فكلاهما مسئول أمام الله عن قول الحق وإسداء النصح، والأمر بالمعروف والنهى عن المنكر. (والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة ويطيعون الله ورسوله أولئك سيرحمهم الله إن الله عزيز حكيم) . وقد أسهمت المرأة الإسلامية بنصيبها كاملا فى هذا الشأن فبايعت على نصرة الإسلام، وبايعت على العمل بتعاليمه، وهاجرت من أجله وقاتلت أحيانا فى سبيله. والدارس لسيرة النبى "ـ صلى الله عليه وسلم ـ" يرى شواهد ذلك كله جلية.. فإن النساء المؤمنات هاجرن من مكة إلى الحبشة والى المدينة. ومن آمن منهن من الأنصار حضرن موسم الحج، وبايعن الرسول- ـ صلى الله عليه وسلم ـ - بيعة "العقبة الكبرى". وفى المدينة ومكة بعد الفتح بايع النساء النبى "ـ صلى الله عليه وسلم ـ" على مكارم الأخلاق ومحاسن الأعمال وسائر شرائع الإسلام. (يا أيها النبي إذا جاءك المؤمنات يبايعنك على أن لا يشركن بالله شيئا ولا يسرقن ولا يزنين ولا يقتلن أولادهن ولا يأتين ببهتان يفترينه بين أيديهن وأرجلهن ولا يعصينك في معروف فبايعهن واستغفر لهن الله إن الله غفور رحيم). وثبت أن عددا من النساء شاركن فى معارك الجهاد الدينى الذى فرض على الإسلام وهو يشق(1/100)
طريقه وسط عوائق الجاهلية الأولى وخصوماتها العنيفة، وأدين بعض أعمال الإسعاف والخدمة النبيلة .. بل أنه عندما ثارت الفتن بين المسلمين الأوائل شاركت المرأة برأيها فوقفت من تخطب فى صفين مؤيدة لعلى بن أبى طالب. وخرجت عائشة أم المؤمنين تحرض على " على " وتخطئ صنيعه . . ومعروف أن عمر رجع عن رأى له أمام اعتراض امرأة ، فقد فكر فى تحديد المهور ، وخطب يمنع المغالاة فيها ، فقالت له المرأة : ص _089
الله يقول: (…وآتيتم إحداهن قنطارا فلا تأخذوا منه شيئا …) فالله يعطينا. وأنت تمنعنا ؟ فتراجع عمر وقال: " امرأة أصابت ورجل أخطأ " !! لكن الإسلام لا يرى فى المرأة الكفاية لتولى رياسة الدولة وتوجيه دفة الحكم ، ويأبى على المسلمين اختيارها لهذا المنصب . وصح أن الرسول "ـ صلى الله عليه وسلم ـ" لما بلغه أن الفرس ولوا بنت كسرى ملكة عليهم قال: ( لن يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة ) . وجمهور الفقهاء على أن الرجال أولى بالمناصب السياسية والإدارية من النساء. وعلى ذلك جرت سنة الخلافة الراشدة ، كما جرت سنة الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ من قبل ، فلم يسند منصب رياسى للمرأة . إن القدرة الوظيفية لأعمال المرأة وأفكارها تحتاج إلى شرح علمى وثيق، حتى لا نكلفها فوق طاقتها، فنظلم الأعمال التى توكل إليها، ونضيع الأعباء المنوطة بها . والحق أن الإسلام لما قرر إعفاء المرأة فى أثناء الحيض والنفاس من الصلوات المكتوبة ، كان متمشيا مع منطق الطبيعة فى ضرورة الرفق بها . ولما قرر الاستيثاق من شهادتها بضميمة أخرى إليها كان كذلك متمشيا مع ما أكده الطب من تغيرات عامة وهامة .... تصيبها باستمرار . وأن هذا التخفيف فى تكاليفها الشرعية والعقلية يجعلنا لا نسوى بينها وبين الرجل فى مشقات الحياة ومشاغلها. ذكر الدكتور " فان ديلفد " فى كتابه (الزواج المثالى) الذى ترجمه ترجمة حرفية كاملة الدكتور " محمد فتحى " : " إن الأعراض البدنية الشائعة فى المرأة(1/101)
قبل الحيض وخلاله ما يأتى: الصداع غالبا فيمن اعتدن الصداع فى هذه الفترات، ويزداد تدفق اللعاب، ويتمدد الكبد ويتضخم، ويحدث مغص فى الكيس الصفراوى ، ويضطرب الهضم، وتضطرب شهية الأكل فإما أن تحس المرأة بجوع شديد أو تعاف الطعام . وكثيرا ما يحدث الغثيان ، والميل إلى القئ ، ويسوء النفس ، ويزداد الريح فى الأمعاء ، ولكن كل دورة شهرية تنتهى عادة ، بالإمساك . وتظهر الاضطرابات فى الدورة الدموية، فالنبض غالبا لا يكون منتظما متشابها وتضطرب ضربات القلب، وتتورم الأوردة الدموية، ويبرد القدمان، ويتضخم الرسغان والركبتان وتحتقن الأغشية الأنفية كما تحدث آلام مفصلية . ص _090(1/102)
وتتضخم الغدة الدرقية والحبال الصوتية بشكل ملحوظ، ويفقد الجهاز الصوتى قدرته لما يصيب الجزء الخلفى من الحنجرة من تمدد وارتخاء فى الغدد والعروق الدموية، ويتضح هذا فى السيدات اللاتى يستعملن صوتهن بكثرة كالمدرسات، إذ يبدو التعب فى صوتهن بسرعة، كما يصيبه التغير الملحوظ، ويتجلى هذا فى الغناء فيبعد الصوت عن النغم الموسيقى، ويفقد الجرس والتنغيم وتقل القدرة على تنويع الأنغام . ويظهر فى العين اضطراب فى أعمالها ووظائفها، وتلتهب قليلا وتبدو " نقط وبقع " غريبة، ويضيق مجال الرؤية ضيقا ملحوظا، وتقل القدرة على تمييز الألوان. وتصيب حاسة السمع أعراض متشابهة، وأما أنسجة الجسم العامة فهى تنبسط وترتخى أو تتضخم وتحتقن، ويكمل سوء الحال بشحوب الوجه شحوبا شديدا، واحمراره بسرعة عند التأثر، وظهور تجعدات أو دوائر زرقاء تحت العيون ". قال الدكتور " فان ديفلد ": " لقد ذكرت كل هذه الأعراض بالتفصيل لأظهر أن المرأة الحائض تكاد تكون مريضة... بل هى مريضة بعض المرض ثم ذكر أن هذه الأعراض تتوزع فتظهر طائفة منها فى امرأة وطائفة فى أخرى أى أنها لا تتجمع كلها فى امرأة واحدة. إن البحث فى الفروق المادية والمعنوية بين الرجال والنساء لا يزال موضع اهتمام العلماء فى بلاد كثيرة. ومع استفحال الشيوعية والنظريات الإباحية يحاول كثير من الناس الزعم بأن هذه الفروق معدومة أو تافهة. ونحن نؤكد قيام هذه الفروق، ونرى أنها بالنسبة إلى الحقيقة الإنسانية بين الجنسين تافهة حقا، ولكنها بالنسبة إلى توزيع الوظائف والأعباء عليهما جميعا لا يمكن تجاهلها أبدا ... ومن المستحسن أن نتدبر ما نشرته جريدة " الأهرام " تحت العناوين الآتية- وان كان محاولة يائسة لإثبات المساواة المطلقة بين الجنسين-!!! " الاختلافات العقلية بين الرجال والنساء وهل تؤثر على ريادة الفضاء؟ التقاليد ألزمت المرأة بمقاييس الأنوثة فحرمتها العقلية التحليلية والابتكارية. البنات(1/103)
يجدن فنون الكلام والآداب، والأولاد يظفرون بجوائز الجبر والحساب. إلى أى مدى تختلف المرأة عن الرجل جسمانيا وعقليا ؟ وهل هذه الاختلافات طبيعية فرضها التكوين الجسمانى والتفاعلات الكيميائية فى جسميهما؟ أم هى نتيجة للقيود الاجتماعية المفروضة على المرأة ؟ ". وكانت الإجابة على هذه الأسئلة موضوع حلقة بحث عقدت أخيرا فى المركز الطبى بجامعة " كاليفورنيا " وعرضت فيه نتائج دراسات امتدت نحو عشر سنين . ص _091
وجاء الرد على البعض الآخر فى التجربة الناجحة التى أجرتها رائدة الفضاء الروسية حين أقامت فى الفضاء نحو ثلاثة أيام . * * * ـ هرمونات الذكور والإناث : الإنسان سواء أكان ذكرا أم أنثى مجموعة من التفاعلات الكيميائية ، كما قال العالم الفرنسى "لافوازييه " فالهرمونات التى تسري فى جسده هى التى تقرر نصيبه من الرجولة والأنوثة. وسواء أكنا رجالا أم إناثا، ففى أجسام الجنسين كليهما غدد تفرز الهرمونات الذكرية والأنثوية. وإذا ما زاد الإفراز زاد نصبينا من مظاهر الرجولة كالصوت الخشن، ونمو شعر الصدر واللحية، وإصابة الرأس بالصلع. وإذا ما زاد الإفراز الثانى زاد نصيبنا من مظاهر الأنوثة كنمو الثدى ، وطول شعر الرأس وغيرهما ...!! ووجه مؤتمر " كاليفورنيا " اهتمامه إلى دراسة الاختلافات العقلية بين النساء والرجال. وكان أبرع ما نوقش فيه الدراسة التى قدمتها الباحثة النفسية الدكتورة "اليانور ماكوبى" والتى قالت فيها: إن الاختلافات بين الرجال والإناث أضعف مما تظن حتى فى الناحية العضوية!! * * * ـ الرجال أكثر ابتكارا : وفى الجزء الأول من بحثها درست الإحصاءات وسجلت الاختلافات العقلية بين الجنسين خلال الأربعين سنة الأخيرة- وهى الفترة التى فتحت فيها أبواب التعليم العالى والدراسات الجامعية للنساء . ودلتها دراستها على أن الرجال أكثر إنتاجا وابتكارا من النساء حتى فى المجالات الأدبية. وعندما انتقلت إلى ميدان الدراسات العلمية(1/104)
والبحوث، زادت الفجوة بين الجنسين أى برز تخلف المرأة . وقالت: " إن عددا قليلا من النساء الجامعيات يندمجن فى المشكلات العلمية ويحاولن ابتكار نظريات جديدة وذلك بعد أن درست حالات أربعمائة من الجنسين ممن حصلوا على درجة الدكتوراه ". وقالت: "إن نحو نصف النساء من هذه الفئة لم يسجلن بحوثا جديدة، ولم تكن عقبتهن الزواج أو ولادة الأطفال، لأن الإنتاج العلمى لمن تزوجن تساوى مع من بقين بغير زواج " . ص _092
وعقب هذه المرحلة من الدراسة انتقلت إلى مرحلة أخرى وهى إجراء التجارب على الجنسين لتتعرف علة هذا التخلف إن كانت أصيلة أو طارئة. ومن هذه الاختيارات أثبتت أن البنات يتفوقن على الأولاد فى طلاقة اللسان، والقدرة على التعبير، ورواية القصص بعد إتمام خمس أو ست سنوات من المرحلة الابتدائية. * * * ـ الصفات التحليلية : أما الأولاد فكانوا يتفوقون ويحصلون على الجوائز فى العلوم الرياضية وعمليات التحليل فى الجبر والهندسة وغيرها من العمليات التى تحتاج إلي تفكير منطقى كبير . وظهر هذا الخلاف أيضا فى اختبارات الذكاء التى تؤهل للالتحاق بالجامعات . فإن نسبة الذكاء فى الصبيان كانت أعلى ولم يكن السبب فى تخلف النساء أنهن يكرهن العمل مهندسات أو باحثات فى العلوم الرياضية والطبيعية، بل كان نقصا فى الصفات التحليلية للعقل ... !!! ووصلت إلى هذه النتيجة بعد إجراء مجموعة من الاختبارات المختلفة التى تبين الملكات العقلية من حيث الاستقلال فى التفكير، والاعتماد على الغير، وتحليل المشكلات، ودلاقة اللسان، والتفكير فى العلم، والقدرة على التركيز على الأشياء المطلوبة وإهمال غيرها. وقالت: إن الفتيات يختلفن عن الأولاد فى طريقة صقل تفكيرهن ليصرن أكثر ميلا إلى النظرة العامة الشاملة والوقائية، وأقل ميلا إلى الناحية التحليلية. وقد يفيدهن هذا التفكير فى حياتهن، ولكنه لا يؤدى إلى مستوى ذكاء مرتفع وابتكارى وهو الاتجاه الضرورى للعلوم(1/105)
وبحوثها، ولهذا فإن قلة من النساء يحصلن على التفكير التحليلى. ماذا يقول مدعو التسوية المطلقة بين الذكور والإناث فى كل شئ أمام هذه المقررات العلمية التى تعرضها امرأة باحثة ؟ إنهم يعترفون مكرهين بهذه الفروق المحسوسة. بيد أنهم يردون وجودها إلى التقاليد الاجتماعية التى تسود العالم. ولعمرى إن هذه التقاليد محيت بالحديد والنار فى روسيا وغيرها من الدول الحمراء. ومع ذلك، وبعد نصف قرن من التجربة الهائلة، لا تزال المرأة فى وضعها الثانى، والرجل فى المرتبة الأولى. نعم هناك أفراد شواذ فى كلا الجنسين، هناك نساء يفقن رجالا ورجال تحكمهم أحيانا نساء. والشذوذ لا يخدش القاعدة ، بل يؤكدها. ص _09 ص(1/106)
ومن الخير- بعد تنمية مواهب المرأة إلى أقصى حد- توجيهها إلى ما تحسن من أعمال وجعلها فى المجتمع أساس الأسرة ، وسياجها المكين ، لا مدار الأهواء المتاحة والنزوات المباحة ...!!! إن التقاليد قد تجور فيجب حينئذ التوفيق حين رأت تفوق الذكور على الإناث- فى الجملة- فأرجعت السبب إلى طبيعة التربية التى تكتنف حياة الفتاة. إنها تزعم أن إشعار الأنثى بأنها أنثى، وتهيئتها لتكون فى وصاية الآخرين، وتوجيهها إلى استرضاء الجنس الآخر، وكسب إعجابه، وهو السبب فى أن النساء لا يتساوين مع الرجال كما وكيفا فى الريادات والقيادات العقلية والفنية الدقيقة. وتمضى الدكتورة فى خطئها فتقول: إن النساء فى هذا التخلف يشبهن الأولاد المدللين، أى أن الذكور الذين يتعرضون لذات الظروف التربوية التى تتعرض لها المرأة يشبون أدنى إلى النساء . وتجئ باحثة أخرى ، لتحرض النساء على خلع طبائعهن ، فى التحبب إلى الرجال ، ومحاولة الاستقلال النفسى فى الحياة ، فإن ذلك المسلك يجعلهن جنسا مساويا للرجال أولا وآخرا. وهذا الكلام ينطوى على أمانى جوفاء لا يساندها شئ من الحق . ولنتدبر ما يقوله أصحاب هذه الدعوى لنرى أنه لا يخدم غرضهم . * * * ـ التقاليد هى السبب : أما سبب هذا الاختلاف فى رجحان الرجل على المرأة فيرجع إلى التربية التى يظهر أثرها فى الجنسين. فالأولاد المدللون الذين يحرص الآباء على حمايتهم ينشأون فى العادة كالبنات، ويكونون بارعين فى الأعمال اللغوية والأدبية، وضعافا فى الحساب. أما الأطفال الذين منحهم آباؤهم حرية التصرف والاعتماد على النفس، فقد امتازوا فى الغالب بعقليات تحليلية وابتكارية ، وشخصيات استقلالية . وقالت الدكتورة " ماكوبى " : " إن مفتاح هذه الاتجاهات العقلية يظهر فى عمليات التربية الأولى، كيف تسمح للطفل وتشجعه على الابتكار وتحمل المسئولية، ولا نتيح له فرصة الاعتماد على سواه فيما يبذل من نشاط. ففى هذا النشاط الحر تتألف(1/107)
الشخصية الابتكارية المستقلة القليلة التأثر بما يدور حولها. ويظهر هذا فى الفتيات ذوات التفكير التحليلى ، فهن قلما يكترثن لما حولهن ولكنا نعتبرهن تبعا لمقاييسنا الاجتماعية فقدن صفة الأنوثة. ص _094
وبحكم الأوضاع الاجتماعية فإن الفتيات أكثر تأثرا من الأولاد بما يقوله الآخرون عنهن من آراء. وهن مطالبات أكثر من الأولاد بالانضواء تحت لواء المطالب الاجتماعية واحترامها. ولعل هذا هو السبب فى تفوقهن فى فنون الفصاحة والكلام . وبحكم التقاليد الاجتماعية أيضا يخف الضغط والتجريح للأولاد فينفتح أمامهم باب التحرر العقلى ، بل حتى عدم الاهتمام بالآخرين وهذا التحرر هو الطريق إلى العقلية العلمية الابتكارية ". وهكذا تعتذر السيدة عن تخلف النساء !! . * * * مقاييس الأنوثة : وقالت الباحثة " ماريا مان " : " إن النساء مصابات باضطراب عقلى يجعل الأنوثة مثلا أعلى لديهن كضمان للسعادة. فهن يطالبن بأن يكن نحيلات القوام، أنيقات، مرحات، عذبات الحديث، وذوات جاذبية جنسية، ويعرفن كيف يتفنن فى طهو الطعام، وتربية الأولاد، ومعاونة الزوج، فإن خالفت إحداهن ذلك النهج خرجت على التقاليد". وهذا سر تخلفها العلمى فى نظر هذه الباحثة.. وأيد الدكتور " أدموند أوفر ستريت " الأخصائى فى أمراض النساء جانبا من البحوث السابقة من الناحية الكيميائية ، بقوله : " إن جسم كل أنثى أو ذكر يحوى غددا تفرز هرمونات " استروجين " الأنثوية، و" أندروجين " الذكرية . وقد يكون التفكير التحليلى من خواص الذكور بسبب زيادة هرمونهم، ولكنه لا يعنى التفوق العقلى على الإناث، بل يعنى أن لكل منهما اختصاصه، وأن أحدهما يكمل الآخر. وإذا ما زاد تحرر المرأة وتغيرت نظرة المجتمع إلى الأنوثة وصفاتها فمن الجائز أن تتساوى المرأة بالرجال فى الصفات العقلية وتكون قادرة مثله على الابتكار والاكتشاف ... " ونقول نحن: إن التربية قد تقوى نماء الشجرة ، وتهذب امتدادها طولا وعرضا،(1/108)
وتظهر ثمارها كيفا وكما ولكنها لن تغير طبيعته أبدا .. وتربية الجنسين كليهما واجبة وتعليق أوسع الآمال على هذه التربية معقول. ولكن انتظار انقلاب إنسانى يجعل الرجل والمرأة سواء فى كل شىء خطل فستظل المرأة الحامل ، ص _095
والمرضع، وربة البيت، وحاضنة الأولاد. وستظل كل شهر تتهيأ لإنشاء الأجيال الجديدة وتتعرض أجهزتها الجثمانية لعناء مستفادة الشدة فى الإعداد لهذا الخلق !! ونحن نعرف أن بعض النساء تكثر فى كيانهن " هرمونات الذكورة، وربما تمردن على طبيعة الأنثى لهذا العرض الشاذ ، وأمكنهن مشاركة الرجال فى بعض التكاليف الشاقة " نعم ، وفى بلادنا نساء يقدن المعارك أحيانا ، ويضربن بالسكين !! وقد نرى شبابا .. لعل هرمونات الأنوثة كثيرة فى جسمه- فهو طرى مستضعف. بيد أن هذا أو ذاك ، لا يهدم الطبيعة العامة التى تفرض نفسها على الواقع مهما كابر المكابرون ... * * * ومن هنا قلنا بتوزيع الأعمال حسب طبائع الجنس . فمن وضع الأمور فى مواضعها أن تشغل المرأة الوظيفة العتيدة المهيأة لها وظيفة ربة البيت .. وأن يشغل الرجل الوظائف الحيوية فى كل ناحية من نواحى الحياة الشاقة ولا يجوز أن تشغل امرأة إحدى هذه الوظائف مع وجود شاب عاطل كفء لها. فإن ذلك حكم على الرجل بالقعود حيث يجب أن يعمل ويستطيع الأداء الكامل، ثم هو- فى الوقت نفسه- حكم على المرأة بالعمل حيث لا تستطيع الإجادة ، وتعطيل لها عن الوظيفة التى تتقنها، والتى لا يحسن الرجل شيئا منها، وهى القيام على البيت والأولاد . أريد أن أقول فى جلاء: إن استخراج المرأة من البيت ليس سدادا لثغرات فى ميدان الزراعة والصناعة والتجارة - ودعك من ظروف الحرب - وليس إنجازا للأوراق المهملة فى الدواوين ولا ترويجا للبضائع المكدسة فى الدكاكين. إنه مجون من بعض الرجال الذين يريدون تيسير المتاع بالمرأة، وابتذال محاسنها ، وجعلها تحت بصر الذئاب ، أو بين أيديهم كلما شاءوا . وتوظيف المرأة فى(1/109)
الجهاز الإداري للدولة يتبع الصالح العام للأمة ، والإسلام يقبله فى نطاق محدد . قال الأستاذ الشيخ/ محمد أبو زهرة . " أما تمكين المرأة من العمل فقد قررنا أن الشريعة لا تعارضه ، ولكن على أساس أن عمل المرأة فى الحياة هو أن تكون ربة الأسرة ، فهى التى تظلها بعطفها وحنانها ، ترأم أولادها وتغذيهم بأعلى الأحاسيس الاجتماعية وهى التى تربى فيهم روح الائتلاف مع المجتمع حتى يخرجوا إليه ، وهم يألفون ، ويؤلفون. ص _096(1/110)
إن الغذاء الروحى الذى تقدمه الأم لأولادها يربى أجسامهم وينميهم، فقد أثبتت التجارب العلمية التى أجريت لاختيار نمو الأطفال الذين ينشئون فى الملاجئ أو دور الحضانة، والأطفال الذين يتربون بين آبائهم وأمهاتهم أنه بعد تجاوز السنة الأولى من أعمارهم يكون نمو الطفل بين أبويه أوضح وأكثر لأنه يحتاج بعد السنة الأولى إلى غذاء من العواطف كما يحتاج إلى غذاء من المادة. بل ثبت أن غذاء العاطفة ينميه ولو لم تكن الرعاية الصحية كاملة من كل الوجوه. أما النمو النفسى والعقلى والتهذيبى والسيطرة على الغرائز فإنه يكون كاملا فى الطفل بين أبويه، بينما يكون دون ذلك بكثير فى الملجأ أو دار الحضانة. ولا يمكن تنظيم الأسرة من غير ربة بيت راعية كالئة كما قال النبى- ـ صلى الله عليه وسلم ـ -: "المرأة راعية فى بيت زوجها ومسئولة عن رعيتها " . وذلك ليس هو النظام الشرعى الاجتماعى فقط ، بل هو النظام الطبيعى. ولهذا قلنا: إن عمل المرأة لا يكون من الناحية الشرعية والاجتماعية أصليا بل يكون استثنائيا، وأعلنا رأينا: هو أن المرأة تعمل فى أحوال أربع: الأولى: أن تكون المرأة ذات نبوغ خاص يندر فى الرجال والنساء معا، والمصلحة الاجتماعية توجب فى هذه الحالة أن تعمل ليعود ذلك النبوغ على المجتمع بنفع عام، ولا تخمده بإخمالها. افتذهب قوة عاملة لك من القوى النادرة والمرأة فى هذا تترك جزءا من أمومتها فى سبيل المصلحة العامة. والثانية: أن تتولى المرأة عملا هو أليق بالنساء، كتربية الأطفال فى سنيهم الأولى وتعليمهم، وذلك إلى سن التاسعة أو الحادية عشرة وهى السن التى قررتها الشريعة لحضانة الأطفال، فيكون الطفل فى حضانة أمه داخل البيت، وفى عطف المرأة ورعايتها بالمدرسة. ومثل تعليم الأطفال تطبيب النساء، ولقد قرر الفقهاء أن بعض هذه الأعمال فرض كفاية كالقابلات، فان عملهن من فروض الكفاية. ولذلك قرر كمال الدين بن الهمام، من فقهاء الحنفية، أن الزوج(1/111)
ليس له منع امرأته من الخروج إذا كانت تحترف عملا هو من فروض الكفاية الخاصة بالمرأة، ولكنه نصح هذه المحترفة بألا تخرج متبرجة غير كاملة فى تصرفاتها. الحال الثالثة: أن تعين زوجها فى ذات عمله، وهذا كثير فى الريف، فالمرأة الريفية إذا كان زوجها عاملا زراعيا ، أو مالكا صغيرا ، أو مستأجرا لمساحة ضئيلة تعاونه امرأته فى عمله معاونة كاملة ، فهو يخرج من داره حاملا فأسه، وهى معه حاملة وعاء البذر، وحولهما أولادهما يتعلقون بثيابهما ويحملان بعضهم على أذرعهما، ولو كان للمرأة صورة ص _097(1/112)
مثالية فى مجتمعنا لكانت صورة تلك المرأة الكادحة العاملة العاطفة لا هؤلاء النساء اللاتى يغشين الاندية والملاهى ودور الغناء .. و. ويلغطن فى مجالسهن بالحلال والحرام !!. الحال الرابعة: أن تكون فى حاجة إلى العمل لقوتها وقوت عيالها إذا فقدت العائل هى وهم فكان لابد أن تعمل لهذه الضرورة أو تلك الحاجة الملحة. ونقرر هنا أن المبادئ الإسلامية ما كانت لتجعل مثل هذه المرأة فى حاجة لأن تعمل ، لأن بيت المال كان يتولى الإنفاق عليها، ويجرى لها رزقا منتظما من بيت مال الزكوات والضوائع إن كانت مسلمة ، أو بيت مال الخراج والجزية إن لم تكن مسلمة ، وذلك تطبيعاً لقول النبى ـ صلى الله عليه وسلم ـ : ( من ترك مالا فلورثته ، ومن ترك عيالا فإلى وعلى ) . * * * والمرأة والرجل فى حرية المدنية سواء . فشخصيتها المعنوية ثابتة، وحقها فى التصرف ومباشرة جميع العقود مقرر فى الشريعة ، لها أن تبيع وتشترى ، وأن توكل عن نفسها ، وأن تكون وكيلة عن غيرها ، وليس هنالك ما يميز الرجل عنها فى هذا المجال .. وفى عقد الزواج كلام يجب أن يذكر هنا، ليعرف منه مدى حق المرأة ومدى الحرية الممنوحة لها. لا يجوز لأحد إكراه المرأة على الزواج بمن تكره . قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: ( لا تنكح الأيم حتى تستأمر ، ولا البكر حتى تستأذن . قالوا : يا رسول الله ، كيف إذنها ؟ قال : أن تسكت ) . وعن خنساء بنت خدام، أن أباها زوجها – وهى ثيب دون تعرف رأيها ، فأتت رسول الله- تشكو- فرد نكاحها . وعن ابن عباس: أن جارية بكرا أتت رسول الله " ـ صلى الله عليه وسلم ـ " ، فذكرت له أن أباها زوجها وهى كارهة ، فخيرها النبى ( ـ صلى الله عليه وسلم ـ) ، أى رد الأمر إلى مشيئتها . وعن عبد الله بن بريدة عن أبيه: " جاءت فتاة إلى رسول الله "ـ صلى الله عليه وسلم ـ": فقالت: " إن أبى زوجنى من ابن أخيه ليرفع بى خسيسته !!. قال الراوى: فجعل الرسول أمرها إليها . قالت:(1/113)
قد أجزت ما صنع أبى ، ولكن أردت أن أعلم النساء أن ليس إلى الآباء من الأمر شئ ص _098
وإذا كان رضا المرأة لابد منه فى عقد الزواج، فمن الذى يباشر هذا العقد؟. يقول بعض الفقهاء: من حقها أن تستقل بمباشرة هذا العقد، فهو كأى عقد آخر يصح لها أن تباشره، وان كان الأولى بها والأليق بحياة المرأة أن تكل ذلك إلى أبيها أو أحد أوليائها ... ... على أن الإسلام أباح لولى المرأة أن يعترض على الزواج إذا أساءت البنت التصرف فيه ، بأن اختارت لنفسها شخصا ساقط المروءة مطعون الكفاية. لأن هذا الزواج يسئ إلى مستقبلها وإلى كرامة أسرتها ، وقد تكون الدوافع إليه شهوة عابرة أو نزوة طائشة . أما إذا كان الزوج المختار لا مطعن فيه ، فليس لأحد حق الاعتراض عليه . ويرى فقهاء آخرون ضمانا لاستقرار الأسرة أن يباشر العقد الولى نفسه- بعد الاستيثاق من رضا الزوجة- فذلك أحوط وأسلم. وفى كلتا الحالتين، لا نجد انتقاصا من الحرية المدنية للمرأة. إذ الأمر يتعلق بالشكل لا بالموضوع فيستحيل إمضاء عقد دون رضاها. * * * والبيت هو المستقبل الطبيعى للمرأة، والمجال المهيأ لها كى تنشئ الحياة وتعد الأجيال. وعمل المرأة فيه بعيد المدى، فإن أنوثتها هى وحدها التى تشيع فيه السكينة والرضا، وهذا الجو الصافى هو الذى يستعمل فيه الطفل نماءه النفسى والبدنى . وعلاقة الرجل بالمرأة ، والمرأة بالرجل أكبر من أن تخطها نصوص القانون وأحكام القضاء ، فإن الامتزاج المفروض بينهما يكاد يجعل منهما شخصا واحدا، ووصف القرآن الكريم لهذه الصلة ناضح بهذا المعنى. ( هن لباس لكم وأنتم لباس لهن ). ( ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة ) . ومع ذلك فإن هناك معالم بقيت واضحة تحرس هذه العواطف الكريمة من بوادر الأثرة والطغيان . والحقوق والواجبات فى البيت متبادلة بين الزوجين فى كل شئ ولكن للبيت رئيسا يرجع إليه الإشراف الأخير، فهو الذى أقام(1/114)
هذا البيت، وهو المسئول الأول عن مطالبه ، والأولاد ينسبون إليه ويعرفون به. ص _099
وهو يكدح أغلب عمره كى يوفر لهذا البيت سعادته وطمأنينته .. فكيف تناط بعنقه هذه التبعات كلها ثم يهدر حقه فى الولاية على بيته ؟. إن هذه الرياسة أثر المسئولية التى لا تنفك عنه !. والواقع أن العمل خارج البيت هو شريان البقاء للحياة داخل البيت . والعمل خارج البيت معصوب برأس الرجل الذى زودته الأقدار بطاقة موصولة على الكدح والمعاناة . أما الزوجة فماذا تصنع إذا عرتها آلام الحمل والوضع والرضاع ؟. إنها مقهورة – والحالة هذه – على البقاء فى حجرتها والتوارى عن أنظار الناس وضروب التعامل معهم .. إن الخصائص النفسية والبدنية التى يمتاز بها جنس الرجال فى الحياة الخارجية هى التى أهلتهم لشتى القيادات فى جملة الميادين الإنسانية . ومن ثم كان الرجل قواما على أسرته ، ولا مساغ لنزاع فى هذه الأهلية . فهل القوامة المقررة للرجل تعنى إهدار الحرية المدنية للمرأة ، ومنعها من التصرف فى أملاكها . أو التدخل فى إدارتها ؟ لا.. إن شخصيتها مصونة ومشيئتها حرة ، ورياسة البيت شئ ، وهذا شئ آخر وبعض الناس توهم من قوله تعالى: ( الرجال قوامون على النساء بما فضل الله بعضهم على بعض وبما أنفقوا من أموالهم ). إن المرأة دون الرجل ماديا وأدبيا ، وأن هذه المرتبة النازلة تجعل القوامة قوامة استعلاء وهيمنة . وهذا خطأ ، فقد شرحنا آنفا أن المرأة والرجل ينميهما أب واحد وإذا كان معدن الخليقة متحدا فلا مكان للوصف بالخساسة والنفاسة . وبينا أن المرأة قد تكون أفضل من زوجها بالعلم والأدب والتقوى ومنزلتها بهذه المواهب أرفع عند الله والناس من منزلة زوجها فكيف مع هذا يتصور أن جنس الرجال أفضل من جنس النساء لا بشئ إلا بصفة الذكورة والأنوثة . إن هذا باطل . باطل . * * * ص _101(1/115)
كيان الأسرة تكوين الأسرة : الإسلام يعد الزواج من العبادات. ويرفض وصف النزوع الجنسى بأنه دس ما دام يتحرك فى حدود الشريعة، ويمشى وفق ضوابطها. إن الشخص الذى طعم باسم الله ويستغل القوى المذخورة فى بدنه فى مرضاة الله شخص صالح، وكذلك الرجل يفضى إلى المرأة أو المرأة تفضى إلى الرجل، وكلاهما ما يستحل الآخر إلا باسم الله. إن هذه الصلة قربة.. ومن ثمرتها يتصل مركب الحياة على ظهر الأرض. ويزداد الإيمان قوة بما ينضم إلى الآباء من أولاد. ولذلك يقول الله جل شأنه: ( فالآن باشروهن وابتغوا ما كتب الله لكم ). وقد شرد بعض الناس عن الجادة، وظن اعتزال النساء عبادة، فأنكر عليهم النبى " ـ صلى الله عليه وسلم ـ " ذلك ، وقرر أن الزواج من سنن النبوة قال تعالى : ( ولقد أرسلنا رسلا من قبلك وجعلنا لهم أزواجا وذرية ) . وطبيعى أن الزواج يكون عبادة مطلوبة ممن توافرت لديه دواعية المادية والمالية . أما الذين ضعفت غرائزهم ، أو لا طاقة لهم على تكوين أسرة . فم معذورون. ولماذا ينكل الرجل عن الزواج، وهو فى المرأة راغب وعلى نفقتها قادر ؟؟. إن هذا القعود مظنة شر أو هو الشر عينه. ولو قدرنا أن رجلا رائع العزم استطاع أن يقهر مطالب هذه الغريزة الجنسية وأن يخرس نداءها فى دمه فما هى قيمة هذا الانتصار؟. وما نتيجة تلك الرهبانية؟. نتيجتها تغليب الفناء على الحياة والسلبية على الإيجابية. ثم إن رضوان الله لا ينال بتلك الوسيلة القاهرة. أيهما أنفع لقضايا الحق وأجدر بوصف الإيمان، وأجدى على جماهير الخلق. هندى يصوم شهرا ، ولا يتحرك من شدة الهزال. أم فارس يخوض المعارك لنصرة العدالة وإنصاف المظلومين وتفجير ينابيع الخير، وتيسير مرافق الأرض له ولأولاده وللناس أجمعين ؟. إن الإسلام آثر الطريق الآخر، ورفض مزاعم الجهاد النفسى عند الرجل الأول. وعند التأمل ترى اللون الثانى من الجهاد أشق وأيمن. ولذلك يقول رسول الله "ـ صلى الله عليه وسلم ـ" : ((1/116)
رهبانية أمتى الهجرة والصوم والصلاة والحج والعمرة). ص _102
وهذا الحديث واضح فى الدلالة على المنهج العلمى الإيجابى للإسلام ولكن هل كبت الرهبانية يتبعه حقا صفاء النفس ونصاعة الضمير؟ إن ذلك ما نمارى فيه ، بل نجزم أن إلحاح الوساوس وتنغيص العقد يملأ الحياة الإنسانية فى هذه الأحوال. وقلما يصفو إيمان أو يكتمل دين مع هذه الأحوال، ولذلك حث نبى الإسلام على الزواج حثا بالغا قال: ( إذا تزوج العبد فقد استكمل نصف الدين ، فليتق الله فى النصف الباقى ) . وقال: " من أراد أن يلقى الله طاهرا مطهرا فليتزوج الحرائر ". وقال: ( معشر الشباب.. من استطاع منكم الباءة فليتزوج، فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء ). وعن أبى أمامة عن النبى ـ صلى الله عليه وسلم ـ أنه كان يقول . ( ما استفاد المؤمن بعد تقوى الله خيرا له من زوجة صالحة، إن أمرها أطاعته، وإن نظر إليها سرته، وإن أقسم عليها أبرته، وإن غاب عنها نصحته فى نفسها وماله) . وقد نظر كثير من الفقهاء إلى هذه النصوص. وبنى عليها أن الزواج واجب، وهم متفقون على أنه عبادة، ومنهم من ارتقى به إلى رتبة الفرائض التى لا يجوز لمسلم التفريط فيها. على أنه لا خلاف بين علماء المسلمين فى أن الزنا فاحشة من أشد الفواحش نكرا . وأن المجتمع الذى ييسرها ويستبيح مقدماتها ، ويستهين بنتائجها مجتمع فاجر ظلوم. والقرآن الكريم يضع جريمة الزنا فى صف واحد مع الشرك بالله وقتل النفس التى صان الله دمها ، وتوعد بالخلود فى الجحيم من يقارف ذلك. ( والذين لا يدعون مع الله إلها آخر ولا يقتلون النفس التي حرم الله إلا بالحق ولا يزنون ومن يفعل ذلك يلق أثاما ، يضاعف له العذاب يوم القيامة ويخلد فيه مهانا ، إلا من تاب وآمن وعمل عملا صالحا ) إن الرجل يتطلع إلى المرأة ويرغب فى الالتقاء بها، والمرأة تتطلع إلى الرجل وترغب فى الالتقاء به، ولا سبيل إلى ذلك فى نظر الإسلام إلا(1/117)
عن طريق تكوين الأسرة وكل ما يباح للزوجين من الآخر، محظور فى الحياة العادية ابتداء من النظرة فما بعدها إن البيت وحده هو الذى يضم باسم الله كلا الجنسين، أما الرجل الأجنبى والمرأة ص _10 ص
الأجنبية فإن التصون الكامل هو أساس العلاقات بينهما. وقد وضع الإسلام التعاليم الآتية فى المعاملات العامة بين الرجال والنساء. وإنفاذ هذه التعاليم هو الذى يجعل الأسرة تولد فى المجتمع ولادة مبرأة من الدنس، وهو الذى يوفر لها- بعد- كل حماية مطلوبة: ا- غض البصر: فليس يجوز لأحد أن يتأمل ملامح الآخرين، إجابة لنزوة جنسية، والعين الجريئة عين آثمة. (قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم ويحفظوا فروجهم ذلك أزكى لهم إن الله خبير بما يصنعون ، وقل للمؤمنات يغضضن من أبصارهن ويحفظن فروجهن) . والنظرة المريبة التى تدفع إليها الشهوة مفتاح شرور كثيرة، ويتبعها ما يسميه علماء النفس بتداعى المعانى. إذ أن التصورات الجنسية المعتلة تفسد الضمير، وتطلق الأمانى المحرمة، ولهذا روى " النظرة سهم مسموم " ، أى أن جراحاتها ليست سطحية ينتظر على عجل برؤها ، بل قد تلحقها غوائل مهلكة وإدمان النظر، يعرض على القلب صورا لا حصر لها من مثيرات الفتنة. وكنت إذا أرسلت طرفك رائدا لقلبك يوما أتعبتك المناظر رأيت الذى لا كله أنت قادر عليه ولا عن بعضه أنت صابر ولذلك كان غض البصر نوعا من الجهاد الأدبى المبارك. قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ " : ( ثلاثة لا ترى أعينهم النار ، عين حرست فى سبيل الله ، وعين بكت من خشية الله ، وعين كفت عن محارم الله ). 2- إخفاء الزينة ومنع التبرج: الجمال العادى للرجل أو المرأة لا حرج فيه ولا يلام أحد الجنسين على إبدائه، ولا تكلف المرأة بإخفائه عن الأعين. ( ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها ) . أما تكلف ما يزيد على الحد وتعمد إظهاره لإثارة الانتباه فلا يجوز. ( ولا يضربن بأرجلهن ليعلم ما يخفين من زينتهن وتوبوا إلى الله(1/118)
جميعا أيها المؤمنون لعلكم تفلحون ). ص _104
وقد أمر الإسلام المرأة أن تغطى رأسها وصدرها ، وأن ترخى ثوبها. وهذا من غير شك أصون لها وأدل على حشمتها، خصوصا المرأة الشابة. وقد يرخص للعجائز بالتخفف من الملابس فى غير تبرج، لكن القرآن الكريم نصح باستكمال الثياب ، ووصف ذلك بأنه دليل العفه ، (والقواعد من النساء اللاتي لا يرجون نكاحا فليس عليهن جناح أن يضعن ثيابهن غير متبرجات بزينة وأن يستعففن خير لهن …). والحق أن رغبة بعض النساء فى الإغراء والاستهواء تملأ الدنيا ببدع فى الملابس، وصور للأزياء، ليس فيها أثارة من تقوى، ولا أمارة على دين. وكل هذه محاولات طائشة لإثارة الرجال، كلما بردت محاولة، أو قل فعلها ظهرت محاولة أشنع حتى انتهى الأمر بالعرى على الشواطئ ، وذلك كله جر الدمار على الأسرة ، وجر العلاقات الجنسية إلى مستوى الحيوانات . ص - سد ذرائع الفساد: وذلك بمنع الخلوة، والاختلاط الفاجر، فأما خلوة الرجل بامرأة أجنبية عنه فإن ذلك باب إلى ما لا تحمد عقباه، ولن يجد الشيطان فرصة أسنح منها للإغراء بالمنكر. وكل حريص على سلامة العرض يقر الإسلام فى تحريمه الخلوة. قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : ( لا يخلون أحدكم بامرأة إلا مع ذى محرم ) . فإن كانت المرأة مع أبيها أو أخيها مثلا جازت المجالسة، وإلا فلا. والإسلام الذى يباعد الجنسين عن الانحراف، ويأمر بالغض والعفاف، ويضع سدا بعد سد أمام جريمة الزنا، يرفض بداهة الأحفال التى يلتقى فيها الجنسان فى عصرنا هذا، راقصة أو غير راقصة. وتجد فيها الغرائز الدنيا متنفسا لها أى متنفس. فإنها- إذا لم تتح لها الفواحش الكبرى- قنعت بما دونها أو بما يسد مسدها من عناق وملامسة. قال رسول الله "ـ صلى الله عليه وسلم ـ" : " لأن يطعن فى رأس أحدكم بمخيط من حديد خير له من أن يمس امرأة لا تحل له " . ويرفض الإسلام كذلك أن يدخل أقارب الرجل على زوجته وهو غائب عن بيته ،(1/119)
وسبيلهم فى ذلك سبيل الأجانب. ص _105
وربما التقى الجنسان فى ساحات ممهدة لاستقبال عباد الله كلهم كالمساجد، فيجب أن يطهر كل إنسان قلبه، وأن يغض بصره، وألا يحاول تعكير جو العبادة بمسلك ناب. ( خير صفوف الرجال أولها وشرها آخرها ، وخير صفوف النساء أخرها وشرها أولها ) . وأدب الإسلام فى أن تصلى المرأة فى الصفوف المؤخرة ظاهر الحكمة فلا يسوغ أن تركع وتسجد أمام الرجال !.، مهما كانت ملابسها سابغة . ومن حماية الإسلام للأسرة أنه يعاقب على الزنا بالجلد حينا، وبالقتل حينا آخر، فهو يأمر بالرجم حتى الموت للزوج أو الزوجة إذا قارف أحدهما هذه الفاحشة. إن الاضطراب الجنسى مدمر للمجتمعات وجالب لغضب الله، والواقع أن الشباب الذين يمرنون على رى غرائزهم من الحرام، لا يحسنون العيش فى جو الأسرة، ولا يألفون ما فيه من رضا وقناعة.. إن تعودهم البغاء ترك فى نفوسهم عاهات خلقية مستديمة، وذاك سر تشدد الدين فى محاربة الزنا. والحضارة الحديثة مضادة للدين فى هذا المنطق، إنها جعلت المرأة كلا مباحا للأعين والأيدى. وصار كثير من الشبان يمتنع عن الزواج لأن ما ينشده من لذات على مرمى نظره. وقد تصدع بناء الأسرة تبعا لذلك...!!! كتب الشيخ البهى الخولى يشرح: " لماذا يمتنع الشباب عن الزواج "؟ فقال: يمتنع عن الزواج لأن الزواج قيد يحجزه عن التخوض فيما يشاء من اللذة المتجددة، فقد أقبلت عوامل التطور الحديث على كثير من المجتمعات الغربية بحريات واسعة فى الفكر، والقول، والعقيدة، والسلوك الخاص، وأنشأت لهم أهدافا فى المال، والمنفعة واللذة الحسية، تعارض ما كان لهم من أهداف روحية، ومقاييس لمعانى العرض والعفة، وصار لكل منهم حريته الواسعة فى حياته الخاصة يفعل ما يريد، دون رقابة من قانون أو تحرج من عرف، بل يفعل ما يريد بتحريض من العرف، وعطف من المجتمع. وكان من ذلك أن تفجرت الشهوات وسادت عبادة الجنس، وراح جنون اللذة يستبد بألباب كثير من(1/120)
أفراد تلك المجتمعات، فرأوا فى الزواج قيدا يحد من حرياتهم فى ابتغاء ما يريدون، فنبذوا حياة الأسرة وركنوا إلى المخاللة والمخادنة، كلما فترت رغبة أحدهم فى خليلة، أو فترت رغبتها هى فيه انصرف كل منهما عن صاحبه إلى حيث اللذة فى رغبة جديدة، وشوق أشد... ولا شك أن ذلك يفضى إلى قلة النسل، أى إلى تناقص عدد السكان وضعف الأمة فى مقوماتها العددية، ومقوماتها المعنوية، وقد ظهرت آثاره السيئة منذ عشرات السنين فى ص _106(1/121)
بعض البيئات الأوروبية، وأخذت فى الازدياد والنمو والاتساع حتى شملت كثيرا من الدول. وها نحن أولاء نرى كثيرا من علماء الاجتماع يدقون نواقيس الخطر، وينذرون أممهم ـ إذ تمهل حياة الأسرة ـ سوء المصير بانهيار الأخلاق، وانحلال وروابط المجتمع ، وانقراض النسل، ولقد وقف المارشال " بيتان " غداة احتلال الألمان فرنسا فى الحرب العالمية الأخيرة، ينادى قومه إلى الفضيلة ويعزو الهزيمة إلى هجر حياة الأسرة فكان مما قاله: " زنوا خطاياكم فأنها ثقيلة فى الميزان ، إنكم نبذتم الفضيلة، وكل المبادئ الروحية. ولم تريدوا أطفالا فهجرتم حياة الأسرة وانطلقتم وراء الشهوات تطلبونها فى كل مكان ، فانظروا إلى أى مصير قادتكم الشهوات " . * * * إن الدولة- باسم الإسلام- مكلفة أن تعنى أعظم العناية بإنشاء الأسر وحياطتها، وتوفير ضمانات الاستقرار لها، وتحسس ما تلده الظروف الاقتصادية والثقافية والسياسية من آثار تمسها، نعم! هى مسئولة عن ذلك مسئولياتها عن التموين والتعليم والدفاع ، وما شابه هذه الأغراض التى لا يمكن تركها للأفراد لأنها من صميم عمل الدولة . إننا نرى تأمين العفة فى الأمة لا يقل عن توفير الخبز لها . وإذا كان تسعير المواد الضرورية واجبا على الحكومة فى أحيان شتى، فان تحديد المهور وضبط مقدمات الزواج لا يقل ضرورة عن تسعير اللحوم والفواكه . والدولة- قبل الأفراد- المسئولة الأولى عن محو شارات التبرج وأسباب الإغراء، ومصادرة الفوضى الجنسية والخلقية... إن الغرب قليل الاكتراث بالحلال والحرام فى علاقة الذكر بالأنثى. لكن الإسلام- على العكس من هذا التحلل- شديد الاكتراث بهذه العلاقة شديد الحساسية بكل عوج تتهدده الأسرة قبل تكوينها وبعده. ولقد فحشت نسبة اللقطاء فى عواصم الغرب واهتمت الحكومات هنالك ببناء الملاجئ لاستقبالهم، وارتفعت الأصوات تطلب التسوية بينهم وبين الأبناء الشرعيين!! ومستقبل الأسرة تتهده أمواج من الآثام الطاغية(1/122)
حتى ليوشك أن يغرق فيها . . ونحن مصابون بالقردة التى تقلد فى الشر، وتزوق صوره للأمة الإسلامية، فهى تطلب بقاء التبرج الذى تسرب إلى مجتمعنا، وتكره اعتراضه، وتوسع دائرته بالقلم واللسان. وهى تستدر الشفقة على اللقطاء.. وتريد أن يعترف القانون بهم اعترافه بالأبناء الشرعيين . ص _107
وهى تغرى المرأة فى كل مكان، وتنادى ببناء دور حضانة تودع فيها النسوة العاملات أولادهن، مع أن الحرف والوظائف التى تساق لها أولئك العاملات يمكن أن يسدها الشباب العاطل ، وما أكثره ولقد تبنت إحدى الصحف الكبرى تشغيل الفتيات محصلات فى السيارات العامة ودقت الطبول بعنف تحية للموظفات الجدد، وهى تعلم أن هذه المهنة فى بلادنا يضج منها أولو البأس من الرجال. وفشل المشروع طبعا بعد أيام من تنفيذه لكن لماذا يحشر النساء حشرا فى أعمال يطلبها الشبان ويمكن أن يتولوها، وأن يتزوجوا بدل تعطلهم هؤلاء النسوة ؟. وبذلك تعمل الفتاة داخل البيت ويعمل الرجل خارجه، بدلا من أن يتسكع الرجل فى الطريق وتعمل المرأة فى الديوان أو فى الدكان إن تكوين الأسر هدف يدعو له الإيمان وتدعم به الفضيلة . والأسرة هى المنبت الطبيعى للأولاد، والبيئة التى تترعرع أعوادهم فيها زاكية. ودور الحضانة التى تؤوى اللقطاء أو أولاد العاملات والموظفات لا تغنى أبدا عن البيت ولا عوض فيها قط عما يشيع فى جوه من رقة ورحمة وحنو. نحن لا نبغض أولاد الزنا، لأنهم أولاد زنا، فهم مجنى عليهم من غيرهم قبل أن يتهموا بالجناية على أحد. بيد أننا نلفت النظر إلى أن الطريقة التى جاءوا بها إلى الحياة، والحرمان الذى حف مهادهم حتى كبروا يقرن نماؤهم بوحشة قد تتحول إلى ضغينة على المجتمع. وقد كان الفرنسيون فى الحرب القذرة التى شنوها على الجزائر أخيرا يجندون فرقا من هؤلاء الأبناء تقوم بأردأ المهمات فى القرى والمدن الإسلامية. إن قسوة طبعهم تغريهم بأسوأ الأعمال. ونحن نريد بهذا الكلام استنكار(1/123)
الاتجاه إلى بناء دور الحضانة لأولاد العاملات، والإصرار على تشغيل المرأة، وتهوين رسالتها داخل البيت إن هذا من تحريف العمل عن مواضعه. * * * انتهاء الزوجية: إذا دب الشقاق إلى البيت، وتعذر جمع شمله، وتنافر ود أهله، فلا محيص من الفرقة بين الزوجين . والفرقة أمر بغيض وقد يتعدى شرها الزوجين إلى غيرهما . ص _108
ولذلك لا يصار إليها إلا بعد اليأس من المصالحة، واستئناف حياة أهدأ وأطيب. والمفروض من التئام شمل الأسرة إقامة حدود الله. فيعف أحدهما الآخر ويعينه على السكينة النفسية ويمكنه من أداء واجباته الاجتماعية والتفرغ لاتقانها... فإذا استحال ذلك فلكلا الزوجين أن يترك الآخر... ونبدأ بحق الزوجة فى الانفصال ، لو جاز الكلام فيه. إذا أبغضت المرأة زوجها فإن إمساكها بالعصا لا معنى له، وليس المقصود من البيت أن تتحول جدرانه إلى سجن تحبس المرأة فيه بقوة ورجال الشرطة. قال تعالى: (فأمسكوهن بمعروف أو فارقوهن بمعروف). ومهما كان الرجل محبا لزوجته فمان رفضها البقاء معه يجب أن يقدر ويجاب وقد أعطاها الشارع- والحالة هذه- حق الخلع، وهو أن ترد على زوجها المهر الذى دفعه ويحكم القضاء بالفرقة. قال تعالى: (فإن خفتم ألا يقيما حدود الله فلا جناح عليهما فيما افتدت به). وعن ابن عباس أن جميلة بنت سلول أتت النبى ـ صلى الله عليه وسلم ـ فقالت: والله ما أعتب على ثابت بن قيس - زوجها- فى دين ولا خلق ولكنى أكره الكفر فى الإسلام.. لا أطيقه بغضا . فقال لها النبى "ـ صلى الله عليه وسلم ـ ": تردين عليه حديقته وهى المهر الذى أداه لها ؟ قالت: نعم. فأمر. النبى (ـ صلى الله عليه وسلم ـ) أن يأخذ ما ساق ولا يزداد والإسلام الذى جعل للمرأة أن تخالع ، وأباح للقضاء أن يقدر رغبتها، جعل الطلاق من حق الرجل مباشرة. ذلك أنه- من الناحية المالية- هو الغارم، دفع المهر وتحمل النفقة فليس من السهل عليه أن يرمى ماله فى البحر، ثم هو أضبط لعواطفه(1/124)
وأملك لزمام نفسه فلا يفكر فى الفرقة إلا مكرها، ولو تصورنا الطلاق حقا للمرأة لتصورنا رجلا يدفع مهره اليوم ويؤثث البيت، ثم تضع المرأة يدها على ذلك كله... وتطلق . إن لكل من الزوجين تحت وطأة الظروف العصيبة أن ينفصل عن الآخر. وقد أقر الشارع هذا. ووضع له نظاما عادلا مقبولا بقى أن تعرف ما هو الطلاق الذى جعله الإسلام حقا للرجل لقد جعل الإسلام الطلاق على مراحل متأنية متراخية، لا تسمح للنزوات العارضة، ولا للغيوم العابرة أن تهدم بناء الأسرة . فإذا رغب رجل فى الطلاق تريث إذا كانت زوجه حائضا . حتى تطهر . ص _109(1/125)
فإذا طهرت لم يقربها وأوقع الطلاق . وهذا الطلاق لا يحل عقد الزوجية ، بل تبقى الزوجة فى البيت لا يجوز أن تخرج منه هى ، ولا أن يخرجها هو منه ... وتبقى قرابة شهر حتى تحيض مرة أخرى ثم تطهر وهنا يجئ المحل الصحيح للطلاق الثانى- قبل أن يقترب منها . ونظن هذه المهلة فرصة واسعة ليراجع الطرفان أنفسهما ويصلحا أحوالهما. ونحن نختار من أقوال الفقهاء المسلمين القول: بأنه لو طلقها بعد ما واقعها لم يقع الطلاق ، كما لو طلقها فى أثناء الحيض . إن طلاق السنة الصحيحة هو ما شرحنا. فإن طلقها مرة ثانية فى الطهر الثانى الذى لم يمسها فيه بقيت فى بيتها كذلك حتى تحيض وتطهر للمرة الثالثة . وهنا يجئ قوله تعالى: (فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان). أى تجئ الطلقة الثالثة والأخيرة التى يتم بعدها التفريق بين الزوجين فى بينونة كبرى . وفى وصف طلاق السنة الذى شرحناه جاء أن النبى ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال لابن عمر حين طلق امرأته وهى حائض: " ما هكذا أمرك الله تعالى؟ إنما السنة أن تستقبل الطهر استقبالا وتطلقها لكل قرء تطليقة " وما روى أنه عليه الصلاة والسلام قال لعمر: " مر ابنك فليراجعها ثم ليدعها حتى تحيض ثم تطهر ثم ليطلقها إن شاء " فقد أخرج الشافعى ومالك والشيخان عن ابن عمر: أنه طلق امرأته وهى حائض. وذكر ذلك عمر لرسول الله "ـ صلى الله عليه وسلم ـ" فتغيظ فيه رسول الله "ـ صلى الله عليه وسلم ـ" ثم قال: " ليراجعها ، ثم بمسكها حتى تطهر ثم تحيض فتطهر، فإن بدا له أن يطلقها فليطلقها طاهرا قبل أن يمسها، فتلك العدة التى أمر الله تعالى أن يطلق لها النساء" وقرأ عليه الصلاة والسلام: ( يا أيها النبي إذا طلقتم النساء فطلقوهن لعدتهن ) ، أى فى قبل عدتهن بضم القاف والباء وكسر اللام. وكان ابن عمر يقرأ الآية كذلك، وكذلك ابن عباس. قال الألوسى عليه الرحمة فى تفسيره " روح المعانى " : وفى وقوع الثلاث بلفظ واحد وكذا فى وقوع الطلاق مطلقا فى(1/126)
الحيض خلاف، فعند الإمامية لا يقع الطلاق بلفظ الثلاث، ولا فى حالة الحيض لأنه بدعة محرمة، وقد قال ص _110
"ـ صلى الله عليه وسلم ـ!: ( من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد ) . ونقله غير واحد عن ابن المسيب وجماعة من التابعين. انتهى. وجمهور الفقهاء الأقدمين جعلوه بدعيا ويقع الطلاق به. وهم في هذا يتبعون اجتهاد عمر بن الخطاب رضى الله عنه، فإن الرجال فى عهده أساءوا الانتفاع بالمهلة التى منحهم الله إياها فى إيقاع الطلاق واستعجلوا أمرا كانت لهم فيه أناة. وبدلاً من أن يلتزموا منهج السنة، آثروا البدعة المحرمة، ونطقوا بالطلقات الثلاث دفعة واحدة، وكان ذلك إذا حدث على عهد النبى "ـ صلى الله عليه وسلم ـ " غضب منه أشد الغضب ولم يجعله إلا واحدة فقط، لكن عمر أراد تأديب هؤلاء المشتطين وإلزامهم ما التزموا فجعل الثلاث طلقات فى لفظ واحد ثلاث ... وهذه السياسة العمرية قد تكون مجدية على المجتمع فى عهده . وهو قد قصد بها حماية الأسرة من الألفاظ العابثة . أما وقد تغيرت الأحوال وتأدت هذه السياسة إلى الإضرار بالأسر لا حمايتها، فإن العودة إلى الحكم الأول أولى . وذلك ما اتجه إليه الفقهاء الآن . وللمحققين من الباحثين كلام طويل فى هذه المسألة . فمن رام الوقوف على سرها فعليه بمؤلفات ابن حزم كالمحلى ومؤلفات ابن القيم كالهدى، وقد جمع الحافظ محمد بن إبراهيم الوزير فى ذلك رسالة حافلة، وقرر ما ألهم الله إليه. وذكر الإمام محمد الشوكانى فى شرحه للمنتقى أطرافا من ذلك، قال: والحاصل أن الاتفاق كائن على أن الطلاق المخالف لطلاق السنة يقال له: طلاق بدعة، وقد ثبت عنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ : ( أن كل بدعة ضلالة ) . ولا خلاف أيضاً أن هذا الطلاق مخالف لما شرعه الله فى كتابه وبينه رسوله "ـ صلى الله عليه وسلم ـ" فى حديث ابن عمر، وما خالف ما شرعه الله ورسوله فهو رد لحديث عائشة عنه "ـ صلى الله عليه وسلم ـ " ( كل عمل ليس عليه أمرنا(1/127)
فهو رد ) وهو حديث متفق عليه ، فمن زعم أن هذه البدعة يلزم حكمها ، وأن هذا الأمر الذى ليس من أمره ـ صلى الله عليه وسلم ـ يقع من فاعله ويعتد به ، لم يقبل منه ذلك إلا بدليل ، ولا دليل " انتهى . وما دمنا نود الالتزام الدقيق لسنة النبى "ـ صلى الله عليه وسلم ـ" فلنلفت النظر إلى أن بعض الفقهاء ـ تمشيا مع اجتهاد يصلح لأزمنتهم هم وحدهم- كان يفتى بوقوع الطلاق، لأسباب غير واضحة فى إيقاعه . ص _111
وربما كان ذلك منهم شدة حساسية بكرامة الأسرة ، وحرصا على تأديب العابثين بمستقبلها . غير أن هذا التشدد أفضى إلى عكس المقصود ، فأصبح انحلال الأسرة بكلمة تفلت من وراء العقل والنية شيئا معتادا . وهذا أمر يعرض المجتمع لزلازل هائلة ، ويعقب من الندامة والحسرة ما لا طريق لعلاجه ، فضلا عن مخالفته لأسلوب السنة الصحيح فى التطليق . ولذلك نحن نشدد فى العودة إلى منهج الإسلام المبين فى هذا الموضوع الحساس ونفسر كل شك لمصلحة الأسرة وجانب بقائها . إننا نقرأ فى بعض الكتب كلاما يستشف منه مطالعه أن انحلال الأسرة فى مثل سهولة جرعة ماء ، وهذا الكلام أبعد ما يكون عن منطق الإسلام وعن الصالح العام . ولنضرب لذلك الأمثلة : أجمع العلماء على أن الحلف بغير الله لا يجوز وأن اليمين المشروعة هى بالله جل جلاله . قال رسول الله "ـ صلى الله عليه وسلم ـ": " من كان حالفا فليحلف بالله أو ليصمت " . وقال: " من حلف بغير الله فقد أشرك " . وأجمعوا- دون خلاف- على أن من حلف بشئ غير الله لم تلزمه كفارة يمين إذا حنث ، فلا طعام ولا صيام . ومع ذلك فقد ذهب فريق من العلماء إلى أن الطلاق يمين تنحل بها الأسرة! لماذا؟. وهب أن البعض أفتى بذلك تأديبا فهل يعتبر قوله شرعا أبدا ؟ اللهم لا… وفى القرآن الكريم إشعار بأن الطلاق ينبغى الإشهاد عليه . قال تعالى: (…فأمسكوهن بمعروف أو فارقوهن بمعروف وأشهدوا ذوي عدل منكم …) . والسياق فى الآية الكريمة ظاهر الدلالة(1/128)
على أن الفرقة والإمساك ينبغى الإشهاد عليهما . ذكر الطبرسى : " أن الظاهر من النص أنه أمر بالإشهاد على الطلاق ، وأنه مروى عن أئمة أهل البيت رضوان الله عليهم أجمعين ، وأنه أمر للوجوب ، وشرط على صحة الطلاق". * * * ص _112
ـ من ذهب إلى وجوب الإشهاد على الطلاق وعدم وقوعه بدون بينة : ومن ذهب إلى وجوب الإشهاد واشتراطه لصحته من الصحابة: أمير المؤمنين على بن أبى طالب، وعمران بن حصين رضى الله عنهما، ومن التابعين: الإمام محمد الباقر والإمام جعفر الصادق، وبنوهما أئمة أهل البيت رضوان الله عليهم، وكذلك عطاء وابن جريج وابن سيرين رحمهم الله، ففى " جواهر الكلام " عن على رضى الله عنه أنه قال لمن سأله عن طلاق بدر منه : " أشهدت رجلين عدلين كما أمر الله عز وجل ؟ . قال : لا . قال : اذهب فليس طلاقك بطلاق " . وروى أبو داوود فى سننه : عن عمران بن حصين رضى الله عنه ، أن سئل عن الرجل يطلق امرأته ثم يقع بها، ولم يشهد على طلاقهما ولا على رجعتها فقال: " طلقت لغير سنة، وراجعت لغير سنة، أشهد على طلاقها، وعلى رجعتها، ولا تعدا وقد تقرر فى الأصول: أن قول الصحابى: من السنة كذا فى حكم المرفوع إلى النبى "ـ صلى الله عليه وسلم ـ" على الصحيح، لأن مطلق ذلك إنما ينصرف بظاهره إلى من يجب اتباع سنته، وهو رسول الله "ـ صلى الله عليه وسلم ـ" ، ولأن مقصود الصحابى بيان الشرع لا اللغة والعادة كما بسط فى موضعه . وأخرج الحافظ السيوطى فى " الدر المنثور " فى تفسير آية : ( فإذا بلغن أجلهن فأمسكوهن بمعروف أو فارقوهن بمعروف وأشهدوا ذوي عدل منكم ) . عن عبد الرزاق عن ابن سيرين أن رجلا سأل عمران بن حصين عن رجل طلق ولم يشهد وراجع ولم يشهد، قال: بئس ما صنع، طلق لبدعة، وراجع لغير سنة فليشهد على طلاقه وعلى مراجعته، وليستغفر الله. فإنكار ذلك من عمران رضى الله عنه، والتهويل فيه وأمره بالاستغفار لعده إياه معصية ، ما هو إلا لوجوب الإشهاد عنده(1/129)
رضى الله عنه كما هو ظاهر . وفى كتاب " الوسائل " عن الإمام أبى جعفر الباقر عليه رضوان الله ، قال: الطلاق الذى أمر الله عز وجل به فى كتابه والذى سن رسول الله " ـ صلى الله عليه وسلم ـ أن يخلى الرجل عن المرأة ، إذا حاضت وطهرت من محيضها، أشهد رجلين عدلين على تطليقه، وهى طاهر من غير جماع، وهو أحق برجعتها ما لم تنقض ثلاثة قروء. وكل طلاق ما خلا هذا فباطل، ليس بطلاق. ص _11 ص
وقال جعفر الصادق ـ رضى الله عنه ـ: " من طلق بغير شهود فليس بشئ ". قال السيد المرتضى فى كتاب " الأنصار " : حجة الإمامية فى القول بأن شهادة عدلين شرط في وقوع الطلاق ، ومتى فقدت لم يقع الطلاق هى قوله تعالى : (وأشهدوا ذوي عدل منكم) . فأمر تعالى بالإشهاد . وظاهر الأمر فى عرف الشرع يقتضى الوجوب، وحمل ما ظاهره الوجوب على الاستحباب خروج عن عرف الشرع بلا دليل. وأخرج السيوطى فى " الدر المنثور " عن عبد الرزاق وعبد بن حميد عن عطاء قال: " النكاح بالشهود، والطلاق بالشهود، والمراجعة بالشهود". وروى الإمام ابن كثير فى تفسيره عن ابن جريج: أن عطاء كان يقول فى قوله تعالى: (وأشهدوا ذوي عدل منكم) . قال: " لا يجوز فى نكاح ولا طلاق ولا إرجاع إلا شاهدا عدل كما قال عز وجل، إلا من عذر". فقوله: لا يجوز، صريح فى وجوب الإشهاد على الطلاق عنده ـ رضى الله عنه ـ لمساواته له بالنكاح ، ومعلوم ما اشترط فيه من البينة . إذا تبين لك أن وجوب الإشهاد على الطلاق هو مذهب هؤلاء الصحابة والتابعين المذكورين تعلم أن دعوى الإجماع على ندبه المأثورة فى بعض كتب الفقه مراد بها الإجماع المذهبى لا الإجماع الأصولى الذى حده- كما فى "المستصفى "- اتفاق أمة محمد "ـ صلى الله عليه وسلم ـ " خاصة على أمرين من الأمور الدينية لانتفاضه بخلاف من ذكر من الصحابة والتابعين ومن بعدهم من المجتهدين. وتبين مما نقلناه قبل عن السيوطى وابن كثير: أن وجوب الإشهاد لم ينفرد به علماء آل(1/130)
البيت عليهم السلام ما نقله السيد مرتضى فى كتاب " الانتصار " بل هو مذهب عطاء وابن سيرين وابن جريج كما أسلفنا. وفقهاء الظاهر يرفضون كذلك وقوع الطلاق بدون إشهاد. ويقللون الصور التى يقع بها الطلاق تقليلا يحمى عقدة الزواج ويصون كيان الأسرة. وعمادهم فى فهمهم، ظاهر النصوص فى الكتاب والسنة. فمن ظن اجتهادهم بعيدا عن الإسلام فقد أوغل فى الخطأ ! كيف ؟ وهو الظاهر من تعاليم الإسلام ؟ . وقد رفض هؤلاء ألفاظ الكناية فى الطلاق حين توسع غيرهم فقبل كل لفظ يفيد الفرقة ما دام مصحوبا بنيتها . كما اشترطوا لصحة الطلاق أن يكون فى مواجهة الزوجة ، وأن يقوم الزوج به مباشرة. ص _114(1/131)
ورفضوا الطلاق المعلق، والموصوف، والخطأ، وأيمان الطلاق، وأن تكون العصمة بيد المرأة.. الخ. وقد لخص الشيخ محمد الخضرى آراءهم كما دونها ابن حزم فى كتابه "المحلى" ويسرنا أن نثبت هذه الخلاصات بشئ من التصرف : ا- لا يقع الطلاق إلا بأحد ألفاظ ثلاثة: الطلاق، التسريح، والفراق، وما اشتق منها إذا نوى بها الطلاق.- والنية هى الإرادة الواعية-. فإن قال فى شئ من ذلك: لم أنو الطلاق.. صدق فى الفتيا. ولم يصدق فى لفظ الطلاق خاصة وما تصرف منه فى القضاء. وصدق فى سائر ذلك فى القضاء أيضا. وما عدا هذه الألفاظ فلا يقع بها طلاق البتة- نوى بها طلاقا أو لم ينو- لا فى فتيا، ولا فى قضاء، مثل الخلية والبرية. وأنت مبرأة، وقد أبرأتك، وحبلك على غاربك، وقد وهبتك لأهلك... الخ. 2- لا تجوز الوكالة بالطلاق. ص - من طلق امرأته وهو غائب عنها لم يكن طلاقا ، وهى امرأته كما كانت يتوارثان إن مات أحدهما، وجميع حقوق الزوجية قائمة بينهما. 4- من طلق وهو غير قاصد إلى الطلاق ، لكن أخطأ لسانه، فإن قامت عليه بينة بأنه يريده قضى عليه بالطلاق ، وإن لم تقم عليه بينة ، لكن أتى مستفتيا لم يلزمه الطلاق. 5- اليمين بالطلاق لا تلزم- وسواء بر أو حنث لا يقع به طلاق ولا طلاق إلا كما أمر الله عز وجل... ولا يمين إلا كما أمر الله عز وجل على لسان رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ . 6- الطلاق بالصفة كما هو باليمين، كل ذلك لا يلزم. ولا يكون طلاقا إلا كما أمر الله تعالى به وعلمه، وهو القصد إلى الطلاق، وأما ما عدا ذلك فباطل وتعد لحدود الله. 7- من قال: إذا جاء رأس الشهر فأنت طالق، أو ذكر وقتا ما، فلا تكون طالقا بذلك لا الآن. ولا إذا جاء رأس الشهر. 8- من جعل إلى امرأته أن تطلق نفسها لم يلزمه، ولا تكون طالقا طلقت نفسها أم لم تطلق . ص _115(1/132)
9- لا يصح الطلاق ولا الرجعة بدون إشهاد شاهدى عدل. فالمذهب الذى يرفض وقوع الطلاق بغير شاهدين شديد اللصوق بنصوص الكتاب وشواهد السنة، فلماذا ينكل عنه، وتعد الفتوى به مستغربة ؟ . إن شيوع لون من التفكير الإسلامى فى عصر من العصور، لا يعني أن هذا هو الإسلام وحده. فما أخصب الإسلام نفسه وأغزر الثمار التى تنتج عنه على اختلاف الأزمان . وفى ضوء هذا الفهم. نؤيد ما نقله الأستاذ البهى الخولى من أحكام فى الطلاق تتمشى مع منهج السنة وتدعم كيان الأسرة . 1- طلاق الغضبان لا يقع .. ونعنى بعه الغضب العارض لفورة وقتية تضعف معه إرادة المرء عن السيطرة على أعصابه بحيث يقول ما لا يريد ، ويقضى ما لا نية له فيه ... أما الغضب الذى هو وصف لحالة الشقاق المستعصى على العلاج، فإن الطلاق فيه واقع لا محالة، لأنه هو العلاج المقصود لإنهاء الشقاق، وإزالة الحالة الموجبة للقلق والاضطراب... واستدلوا لذلك بقوله - صلى الله عليه وسلم - :" لا طلاق ، ولا عتاق فى إغلاق ". قال ابن القيم فى " أعلام الموقعين " مفسرا الإغلاق: " يعنى الغضب " وبذا فسره أبو داوود فى سننه . إلى أن قال: " والتحقيق أن الغلق يتناول كل من انغلق عليه طريق قصده وتصوره كالسكران، والمبرسم ، " المريض الذى يهذى " والمكره الغضبان. فحال هؤلاء كلهم حال إغلاق.. والطلاق إنما يكون عن وطر، فيكون عن قصد من المطلق وتصور لما يقصده، فإن تخلف القصد أو التصور لم يقع الطلاق". 2- من قال: على الطلاق.. أو الطلاق يلزمنى إن فعلت كذا، أو إن لم أفعل كذا، فطلاقه لا يقع... قال ابن القيم فى أعلام الموقعين: " وهذا مذهب أبى حنيفة، وبه أفتى جماعة من مشايخ مذهبه. وبه أفتى القفال فى قوله: " الطلاق يلزمنى ".. وسر ذلك أن قائل هذه العبارة يتعهد فى المستقبل بأن يطلق امرأته إن فعل كذا، أو إن لم يفعل كذا. وحكم الطلاق أنه يلزم صاحبه إذا أوقعه فعلا . أما قبل أن يوقعه ، فلا " . قال ابن القيم:(1/133)
" وكأنه قال: فعلى أن أطلق، وهو لو صرح بهذا لم تطلق بغير خلاف ". ص - إذا قال الرجل لامرأته: إن كلمت فلانا ، أو إن خرجت من بيتى بغير إذنى ص _116
ـ أو نحو ذلك ـ طالق. ثم كلمت هذا الفلان، أو خرجت من البيت بغير إذنه لا يقع عليها الطلاق . وقد حكى ذلك ابن القيم عن بعض أئمة الشافعية . وقال: " وهذا هو الفقه بعينه ، ولا سيما على أصول مالك وأحمد " . وذكر بعد ذلك كلاما يبين به مطابقة هذا الحكم لأصول مالك وأحمد . 4- من حلف بالطلاق فيمينه لغو غير منعقدة.. ومن حلف به حانثا فطلاقه غير واقع ، ولا يلزمه على هذا الحنث كفارة . قال فى أعلام الموقعين: " وهذا مذهب خلق من السلف والخلف " . وصح ذلك عن أمير المؤمنين على بن أبى طالب كرم الله وجهه . قال بعض فقهاء المالكية وأهل الظاهر: ولا يعرف لعلى فى ذلك مخالف من الصحابة هذا لفظ أبى القاسم التيمى فى شرح أحكام عبد الحق. وقاله قبله أبو محمد بن حزم. وصح ذلك عن طاووس- وهو أجل أصحاب ابن عباس رضى الله عنهما وأفقههم على الإطلاق- قال عبد الرزاق فى مصنفه: " أنبأنا ابن جريح قال: أخبرنى ابن طاووس عن أبيه: أنه كان يقول: الحلف بالطلاق ليس شيئا.. وهذا إسناد عن رجل من أجل التابعين وأفقههم. وقد وافقه عليه أكثر من أربعمائة عالم من بنى فقهه على نصوص الكتاب والسنة دون القياس، ومن آخرهم أو محمد بن حزم " . وقد ذهب بعض الأئمة إلى أن الحلف بالطلاق ليس لغوا ، بل هو يمين شرعية، ولكن لا يقع بها الطلاق أصلا، فإذا كان الحالف حانثا فعليه كفارة يمينه فقط، وهى: ( إطعام عشرة مساكين من أوسط ما تطعمون أهليكم أو كسوتهم أو تحرير رقبة فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام ). ولا علاقة للطلاق نفسه بتلك الكفارة ، فسواء أكفر عن اليمين أم لم يكفر فإنه طلاقه لا يقع " نقول: وحتى هذه الفتوى لا نذهب إليها، فلا الطلاق يمين، ولا الحنث فيه يقتضى كفارة . * * * ص _117(1/134)
الهجرة واللجوء * الهجرة : من حق أى إنسان وقع عليه ضيم فى بلد ما، ولم يستطع دفعه أن يهجر هذا الوطن الظالم وأن يلجأ إلى بلد آخر، يجد فيه حريته وكرامته . والإسلام يقدر دوافع الإباء التى تجعل الإنسان الحر يرفض قبول الدنية . ويهيب بالأحرار من شعوب البلدان الأخرى أن يكرموا وفادته، ويحسنوا مواساته.. ومن تعاليم الإسلام المقررة أنه يوصى المؤمن بمقاومة الطغيان، فإن عجز عن ذلك ماديا ، فلن يعجز عنه نفسيا . والمقاومة النفسية أن يقاطع الطغاة ويأبى موالاتهم، ولو عكروا عليه مقامه . فليس الظلم فقط أن يلطمك معتد أثيم . ولكن الظلم أن تقبل هذه اللطمة وتستكين لوقعها ، وتتودد لصاحبها . الظلم أن يحتل عدو بلدك . وأن يهرع الجبناء لإحسان استقباله . الأول ظلم الغير بإهدار كرامته . والآخر ظلم النفس بإذلال جانبها . وفى هذا النوع الأخير يقول الله جل شأنه : (إنما ينهاكم الله عن الذين قاتلوكم في الدين وأخرجوكم من دياركم وظاهروا على إخراجكم أن تولوهم ومن يتولهم فأولئك هم الظالمون) . نعم، من يصادق المعتدين ظالم، بل هو الجدير باللوم والتقريع، لأن انكسار نفسه هو الذى يغري الآخرين بالجبروت . وتحول الأحرار إلى قطر آخر يلتمسون منه النجدة ، أو يؤملون فيه الاستقرار سنة حميدة . وقد هاجر المسلمون الأولون طورا إلى الحبشة ، وطورا إلى المدينة وهذه الهجرة تمثل ما يسمى الآن باللجوء السياسى . قد نوه القرآن ببسالة المهاجرين وتضحياتهم، كما نوه بسماحة الذين آووهم، وأحسنوا مثواهم: (والذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا في سبيل الله والذين آووا ونصروا أولئك هم المؤمنون حقا لهم مغفرة ورزق كريم) . ص _118(1/135)
إن لقاء اللاجئ المحزون بصدر مفتوح عمل صالح ، وفضيلة مشكورة .. وقد روى أن وفد الحبشة عندما قدم المدينة قام رسول الله "ـ صلى الله عليه وسلم ـ" يخدمهم بنفسه، فقال له أصحابه: نحن نكفيك ! فقال: لا ، إنهم كانوا لأصحابنا مكرمين . فالشعور بالجميل السالف هو الذى بعث الرسول " ـ صلى الله عليه وسلم ـ " على أن يكون هو المحتفى بهم ، المقدر لصنيعهم .. والواجب أن نشعر بما بين البشر جميعا من وشائج القربى ، مهما اختلفت البقاع وتغايرت الحكومات . فإذا منيت قطعة من الأرض بحاكم أثيم يضطهد خصومه فى الدين أو فى الرأى ويضيق عليهم الخناق فلتكن أبواب البلاد الأحرى مفتوحة لتكريم الإنسانية المهانة وإشعارها بالأخوة العامة ، وبأن هناك أهل صلاح ووفاء يكرهون أولئك الذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل . ربما تواضع البشر على رسم تخوم للأرض ، وحدود بين شتى الدول ، بيد أن هذه الخطوط المرسومة بين منازل الناس من أرض الله ، لا تخدش الصلة الجامعة بين أبناء آدم قاطبة ، فلهذه الصلة حقوق خالدة أما الحدود السياسية فهى أمور اعتبارية توجد اليوم وتزول غدا .. وعلى هذا الأساس تفهم قول الله جل وشأنه : (يا عبادي الذين آمنوا إن أرضي واسعة فإياي فاعبدون). (قل يا عبادي الذين آمنوا اتقوا ربكم للذين أحسنوا في هذه الدنيا حسنة وأرض الله واسعة إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب) . (ومن يهاجر في سبيل الله يجد في الأرض مراغما كثيرا وسعة) . ولجوء المظلوم إلى بلد آخر لا يعنى استدامة ما نزل به من ظلم . والحكومات الجائرة تريد لتأييد ظلمها أن تقطع صلة المضطهدين بوطنهم الأول فتحرمهم جنسيتهم الأولى ، فيمسوا بعد هذا الحرمان ، وكأنهم ما كانت لهم بأمتهم روابط ولا ذكريات ولا مصالح ولا حقوق ، لقد ذهبوا فى خبر كان .. كأن لم يكن بين الحجون إلى الصفا أنيس ولم يسمر بمكة سامر وذلك كله باطل فإن التصرفات الجائرة لا يمكن أن(1/136)
تتحول إلى شريعة، ولا أن تحترم لها آثار.. ص _119
وبديهى أن الذى يظفر بتقدير العالم، من يقع عليه الحيف لعقيدته ورأيه. أما الفار لجرم ارتكبه، أو الهارب من عقاب يستحقه فليس بلاجئ سياسى.. ولا يجوز لأحد إيواؤه، بل إن تسليمه للعدالة حق على كل قادر. والإسلام يبيح الهجرة طلبا للثراء وجمع المال، فإن المال فى يد أهل الخير قوة تخدم مثلهم العليا. وإذا كان الأشرار فى سعة من الثروة فإن الفقر لا يجدى فى مقاومتهم فتيلا، بل إن غناهم سيتيح لهم فرصا لتحقيق مآربهم لن يتيح الاقلال مثلها لأهل الخير أبدا. فإذا هاجر امرؤ لطلب المال، بنية خدمة الحق، فإن هجرته هذه تكون لله، وخطواته تكون فى سبيله " نعم المال الصالح للعبد الصالح " . " وليست بقعة فى الأرض أحق من أخرى برسالة المسلم ! ولن يكون المسلم عبدا لمكان ما فى هذه الدنيا يعلق بترابه ويرتبط بأسبابه !! " . وإنما هو ابن رسالته الكبرى، وهذه الرسالة الكبرى تربط فؤاده بالناس ورب الناس، وتوسع أفقه حتى يتسع للعالمين، ورب العالمين. إنه يحب وطنه الذى ولد فيه، واستمتع بخيره، وعاش قطعة من تاريخه وهو يؤدى حقوق هذا الوطن ويستشعرها أكثر مما يستشعرها غلاة المتعصبين للنزعات القومية المحدودة. لكنه- مع ذلك- يخدم حقيقة أكبر من أقطار الأرض وآفاق السماء لأنه يصل قلبه ولبه برب الأرض والسماء، ومن ثم انداحت الدائرة التى يعمل فيها، وذابت الحدود التى تحصرها. وقد عرف سلفنا الأولون هذه الحقيقة وبنوا عليها سلوكهم الاجتماعى والسياسى فكان علم " الجغرافيا " يسمى فى مصطلحهم علم " تقويم البلدان " كأن الغاية من دراسته هى الغاية التى تقصدها من مطالعة " دليل " تشتريه من محطة السكة الحديد لمعرفة المحطات المختلفة ومواعيد وقوف القطار بها . وكان المسافر المسلم ينزح من المغرب ليصل إلى الصين فلا يحمل معه " جواز سفر، ولا يلقى أمامه " حرس حدود " وكان نصف الدنيا مفتوحا له ينتقل فى مشارقه(1/137)
ومغاربه كيف شاء، وكانت نظرته للعالم تجرئه على حساب التسرب فى مجاهيله والتغلغل فى أعماقه، فماذا اطمأن به المقام في ناحية حط بها رحاله، وفى نفسه قول الشاعر : وكل امرئ يولى الجميل محبب وكل مكان ينبت العز طيب ولا شك أن هذه الحياة المتحركة كانت استجابة لتعاليم الإسلام وفهما لسنة رسوله الكريم: روى عبد الله بن عمرو بن العاص أنه قال: مات رجل بالمدينة- ممن ولد بها- فصلى ص _120
عليه رسول الله، ثم قال: " يا ليته مات بغير مولده "!! قالوا: ولم ذاك يا رسول الله؟ قال: " إن الرجل إذا مات بغير مولده قيس بين مولده إلى منقطع أثره فى الجنة " . فانظر إلى هذا التحريض على الهجرة والضرب فى الأرض! من الذى استجاب له، واستمسك به أنحن الذين صنعنا ذلك؟ كلا. إن المقامرين من طلاب الحياة وصناع المجد، هم الذين طوفوا فى البلاد وتركوا طابعهم عليها .. أما القاعدون خلف أسوار بلادهم، فقد استكانوا للدعة والخمول، ومرت عليهم القرون متهالكة مريضة، ثم استيقظوا فجأة فإذا هم أسارى فى أيدى الأقوياء، الذين تركوا بلادهم إلى بلادنا مستعمرين ينشدون الثروة والجاه ". وإذا كانت تعاليم الإسلام تستحب للإنسان التنقل فى الأرض ابتغاء المال إلا أنها تكره له أن يفنى فيه ويتمخض له، والمسلم يربط استقراره فى مكان أو تحوله عنه بسلامة دينه قبل كل شئ . فإن كان فى بيئة يطمئن فيها على عقيدته جاز له أن يقيم فيها وإلا هاجر منها إلى حيث يلتحق بجماعة مؤمنة تعينه على آخرته. ونحن نوصى المغتربين من أهل الإسلام أن يتحسسوا مهاجرهم بحذر، وألا يأذنوا للتيارات السائدة أن تجرفهم أو تجرف ذراريهم معها فإذا أحسوا عزلة تهدد مستقبلهم بفتنة فليعودوا إلى دار الإسلام ، فذلك أبقى على إيمانهم ، وأسلم ودار الإسلام مفتوحة لطلاب الأمن من كل جنس ولون ، فأى مضطهد يستطيع أن يجد فيها ما ينشد من سكينة نفس وراحة بال . لقد ظلت أوروبا مئات السنين تبعث الفزع فى نفوس(1/138)
المخالفين في الدين أو المذهب ، ولم تكن مجتمعاتها تسمح بذرة من الحرية الدينية لأتباع الدين الواحد إذا اختلفت مذاهبهم فى فهمه أما دار الإسلام فلم يكن لهذا الإرهاب ظل فى جنباتها . وأى قادم إلى المسلمين من مخالفيهم فى الدين، فله حق الأمان ما دام طالب أمان. وفى هذا تقرأ قوله تعالى: (وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله ثم أبلغه مأمنه ذلك بأنهم قوم لا يعلمون) . والآية مشرقة الدلالة فيما ينطوى عليه الإسلام من ثقة بتعاليمه واطمئنان إلى وجاهتها وقدرتها على إقناع الخصوم. ص _121(1/139)
وشئ آخر يجب إبرازه هو عذر هؤلاء الخصوم بأنهم لا يعلمون، ومنحهم الفرصة الطويلة ليسمعوا ويعلموا، ومنحهم فرصة أطول ليعودوا مؤمنين إذا أرادوا بعد أن ينفردوا بأنفسهم ويستريحوا فى مأمنهم إن الإنسانية المجردة لها فى دار الإسلام كرامتها والمظلوم أيا كان دينه وجنسه يجب أن تساق له النصفة ويذوق لذة العدل . وقد نوه رسول الإسلام بحلف الفضول الذى عقده أولو الشرف والنبل من عرب الجاهلية وتواصوا فيه بمعاونة المظلوم ، والانتصار له من ظالمه . وقال عليه الصلاة والسلام فى تأييد هذا الحلف: " لو دعيت به فى الإسلام لأجبت ". فلا جرم أن اللاجئين إلى دار الإسلام فرارا من أى عنت ، يلقون من أهل الإسلام الأمان المطلق لذواتهم وأولادهم وأموالهم . . يلقون ذلك مبذولا دون عرض مرجو، إنما هى طبيعة الإسلام فى إحقاق الحق وإبطال الباطل، والأمر بالمعروف والنهى عن المنكر. وقد وضع الفقهاء تعاليم كثيرة فى معاملة الوافدين على دار الإسلام لشتى الأغراض، ولا يهمنا من هذه التعاليم أن نثبت منها ما يقبل التغيير على مر الزمان وتفاوت المصالح، إنما يهمنا إبراز الروح الكامن فى هذه التعاليم من سماحة وتعاون وإنصاف وقسط. قال الأستاذ على منصور فى كتابه " الشريعة الإسلامية والقانون الدولى العام " واصفا رعاية الإسلام لهؤلاء الأجانب المقيمين بين ظهرانينا : أولا ـ بالنسبة لرعايا الدول المحاربة من المستأمنين والذميين: لا يحل فى الإسلام القبض على رعايا الدولة المحاربة المقيمين أو الموجودين فى دار الإسلام رغم قيام حالة الحرب بيننا وبين دولهم، سواء أكان هذا القبض بقصد اعتبارهم أسرى وسبايا، أم بقصد الاعتقال لمجرد أنهم من رعايا الأعداء، أو لمجرد قيام حالة الحرب بيننا وبين دولهم، وما دمنا قد سمحنا لهم بالإقامة من قبل بدار الإسلام وأعطيناهم الأمان والذمة علي أنفسهم فلا يحل لنا أن نغدر بهم أو نقيد حريتهم، وأصل الأمان قول الرسول "ـ صلى الله(1/140)
عليه وسلم ـ " المؤمنين تتكافأ دماؤهم ويجير عليهم أدناهم، وهم يد علي من سواهم ، ويسعى بذمتهم أدناهم ". وقل الله تعالى فى القرآن الكريم : ( وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله ثم أبلغه مأمنه ). وقد ورد فى صبح الأعشى: أن الحربى من الأعداء إذا دخل دار الإسلام للسفارة بين المسلمين كتبليغ رسالة ونحوها أو لسماع كلام الله فهو آمن دون حاجة لعقد أمان ، أما إذا ص _122
دخل للتجارة وأذن له إمام المسلمين أو نائبه، أو من يملك هذا الإذن كإدارة الهجرة فى عصرنا فهو مستأمن لمدة، أى مسموح له بالإقامة لفترة حددها الفقهاء بأقل من سنه وهو فيها آمن على نفسه لا يروع ، فإن احتاجت أعماله التجارية لمدة سنة فأكثر فهو ذمى آمن فى جوار المسلمين وبذمتهم . أما إذا أراد الإقامة الدائمة فى دار الإسلام وقبل أن يدفع " الجزية "- وهى ضريبة معروفة- معاونة منه فى المصارف العامة فله ذلك ولا يروع ولا يخرج ولا يبعد ما دام قائما على الشرط محافظا على الأمن والسكينة غير متجسس علينا. بل إن الإسلام لا يجعل إعطاء الأمان لرئيس الدولة أو لذوى السلطان إلا فى حالة الأمان العام الذى يعقد للعدد الكثير من الأعداء كأهل ولاية أو قبيلة، أما الأمان الخاص وهو ما يشمل فردا من الأعداد أو عددا قليلا منهم فهو صحيح من كل مسلم بالغ، وهو جائز إعطاؤه عند الفقهاء من العبد ومن المرأة ومن الشيخ الكبير ومن المفلس بل من الصبى المميز عند المالكية والحنابلة، فلكل واحد من هؤلاء أن يؤمن من يشاء من الأعداء واحدا أو أكثر فيصبح لهم حق دخول دار الإسلام والإقامة المؤقتة فيها، هذا ويتبع المستأمن فى الأمان ويلحق به زوجته وأبناؤه الذكور القاصرين والبنات جميعا والأم والجدات والخدم ما داموا عائشين مع الحربى الذى أعطاه المسلم الأمان . وحق إعطاء الأمان للعدو ثابت لكل مسلم بالغ لقول الرسول- ـ صلى الله عليه وسلم ـ -: "..ويسعى بذمتهم أدناهم " .(1/141)
وليس لعقد الأمان صيغة معينة وكل لفظ يدل عليه معتبر . وكذلك الإشارة مع القرائن . ونص الفقهاء: على أنه يجب على الإمام أن ينصر المستأمنين ما داموا فى دار الإسلام وأن ينصفهم ممن يظلمهم ، وكذلك أهل الذمة لأنهم تحت ولايته ما داموا فى دار الإسلام . وروى أن بعض الولاة قد رأى أن يحول بين الذميين وبين الإسلام فى مصر كيلا تنقص موارد الدولة فكتب للخليفة عمر بن عبد العزيز يقول: " إن الإسلام أضر بالجزية حتى لقد نقص عشرون ألف دينار من عطاء أهل الديوان " . فكتب إليه الخليفة قولا مأثورا يقرر به الحرية في دخول الإسلام وكفالة ذلك للناس جميعا : " أما بعد: فقد بلغنى كتابك.. فضع الجزية عمن أسلم- قبح الله رأيك- فإن الله بعث محمدا- ـ صلى الله عليه وسلم ـ - هاديا ولم يبعثه جابيا " . ص _12 ص(1/142)
وكان للذميين نوع من التأمين الاجتماعى ضد الشيخوخة والمرض والفقر فإن "خالد بن الوليد " حين كان يقود معارك الفتح فى العراق أعلن فى معاهدة الصلح مع أهل الحيرة - وكانوا مسيحيين : " وجعلت لهم أيما شيخ ضعف عن العمل أو أصابته آفة من الآفات أو كان غنيا فافتقر وصار أهل دينه يتصدقون عليه طرحت جزيته وعيل من بيت مال المسلمين هو وعياله ما أقاموا بدار الإسلام ". هذا، والمماثلة في المعاملة وتكافؤ الفرص والتسامح كل ذلك هيأ للمواهب والقدرات من أهل الذمة أن تظهر وتترعرع فى أحضان المجتمع الإسلامى مثل عبد الملك بن أبهر الكتابى الذى سكن الإسكندرية فى عهد عبد العزيز بن مروان، ويوحنا النحوى الذى عاش فى الإسكندرية أيضا فى عهد عمرو بن العاص، وثيودوكس وثيودون الطبيبان الروميان فى عهد الحجاج بن يوسف حاكم البصرة وجيورجيوس طبيب المنصور، وبختشيوع بن جيورجيوس طبيب الرشيد . ولقد بقت عائلة بختشيوع هذه تحترف الطب عند الخلفاء والأمراء إلى سنة 540 هـ الموافقة لسنة 1058 م. كما لمع فى البيئة الإسلامية المترجم عبد السميع بن نعيمة، والبطريق، وصالح بن يسهلة، وعبدوس بن يزيد، وموسى بن إسرائيل الكونى، وعائلة الطفيورى، كما " اشتهر بعض الأطباء من الهنود والفرس واليهود والنصارى عند الخلفاء " ثانيا ـ بالنسبة لأموال رعايا الأعداء من المستأمنين والذميين وتجارتهم : إن حالة الحرب لا تمنع الاتجار بيننا وبين دول الأعداء عن طريق المستأمنين، بل لا حرج فى أن تخرج من دار الإسلام إلى دار الحرب أى إلى بلاد الأعداء جميع بضائعنا ومنتجاتنا فيما عدا أدوات الحرب ومعداتها . وهذا رأى الجمهور.. وخالف الشافعى فيه . وحجة الجمهور فى ذلك أن النبى " ـ صلى الله عليه وسلم ـ " أهدى أبا سفيان تمر عجوة وبعث إليه بخمسمائة دينار ليوزعها على أهل مكة حين تولاهم القحط . وعلى ذلك فأموال المستأمنين وهم رعايا الدول المحاربة لنا الذين وجدوا فى إقليمنا بإذن(1/143)
سابق منا أموالهم مصونة وتجارتهم قائمة يتولونها بأنفسهم، فلا نصادر من أموالهم شيئا ، ولا نقيد حريتهم فى مباشرة نشاطهم العادى وتجارتهم فقد جاء فى المبسوط للسرخسى : " أموالهم صارت مصونة بحكم الأمان فلا يمكن أخذها بحكم الإباحة ". ص _124
ومن أروع ما يساق تدليلا على سماحة الإسلام وعدالته ما ورد فى المبسوط أيضا للسرخسى حيث قال : " إذا بعث الحربى عبدا له متاجرا إلى دار الإسلام بأمان، فأسلم العبد بعد دخوله دار الإسلام بيع وكان ثمنه للحربى مالكه " . هل خطر على عقل بشر من فقهاء القانون الدولى الأوروبى مهما سمت بهم الحضارة مثل هذا التشدد فى العدالة ورعاية حقوق الأعداء ثم أرأيت كيف أننا نعتبر العبد المملوك للحربى من ضمن ماله، فإذا دخل دار الإسلام بأمان للتجارة وبإذن من مولاه فأسلم اعتبرنا الإسلام مزيلا لحق مولاه عليه فوجب بيعه ودفع ثمنه لمولاه الحربى المعادى لنا. وإنما كان بيعه ليشتريه مسلم فيزول عنه ذل العبودية لكافر أو مشرك كما ذكر ذلك السرخسى وأجمل من هذا: أن المقيم فى بلدنا مستأمن لو عاد إلى بلده دار الحرب- بلد الأعداء- فانضم إليهم وحمل السلاح وأصبح محاربا بالفعل للمسلمين، وكان له مال عندنا فهو له لا نصادره بل تبقى له ملكيته خالصة. فقد ورد فى المغنى لابن قدامة : إذا دخل حربى دار الإسلام بأمن فأودع ماله لدى مسلم أو ذمى أو أقرضهما إياه، ثم عاد إلى دار الحرب نظرنا .. فإن كان قد عرج تاجرا أو رسولا أو متنزها أو لحاجة يقضيها، ثم يعود إلى دار الإسلام فهو على أمانة، آمن على نفسه وعلى ماله . وان خرج بقصد أن يستوطن فى دار الحرب بطل الأمان فى نفسه فلا أمان له فى شخصه، وبقى له الأمان فى ماله، لأنه بدخوله دار الإسلام بأمان ثبت الأمان لماله. فإذا بطل الأمان فى نفسه بدخوله دار الحرب بقى له الأمان فى ماله لاختصاص المبطل بنفسه فيختص البطلان به ". وقد ورد فى مقدمة كتاب السير الكبير " من أنه لو مات(1/144)
المستأمن فى دار الإسلام أو فى دار الحرب أو قتل فى الميدان محاربا المسلمين لا تذهب عنه ملكية ماله وتنتقل إلى ورثته عند جمهور الفقهاء خلافا للشافعى " . * * * ص _125
الكرامة الاقتصادية * العمل : منذ أن هبط آدم وبنوه إلى الأرض وهم مكلفون بالكدح فى ثراها، حتى يستطيعوا العيش، فإن أبدانهم لا تتماسك بها حرارة الحياة، ولا تواتيها قدرة الحركة إلا بوقود متجدد من الغذاء كلما نفذ منه مقدار تبعه مقدار آخر، وهكذا دواليك دون انقطاع إلى أن ينتهى الأجل المكتوب . (وما جعلناهم جسدا لا يأكلون الطعام وما كانوا خالدين) . وكل امرئ مطالب بتحصيل هذا الطعام عن طريق أى عمل يوافق مواهبه وملكاته . إن ينابيع الرزق كثيرة بيد أن تفجيرها يحتاج إلى مشقة بدنية وعقلية لابد أن يتحملها الإنسان وهو جلد . وعندما ذرأ الله الحياة الإنسانية علي ظهر هذه الأرض هيأ شتى العناصر لخدمة الإنسان، ثم أمر هذا الإنسان أن يتزود بالخير الذى ينفعه من هذه المصادر المتاحة (هو الذي جعل لكم الأرض ذلولا فامشوا في مناكبها وكلوا من رزقه) (الذي جعل لكم الأرض فراشا والسماء بناء) . (الذي جعل لكم الأرض مهدا وسلك لكم فيها سبلا وأنزل من السماء ماء فأخرجنا به أزواجا من نبات شتى ، كلوا وارعوا أنعامكم إن في ذلك لآيات لأولي النهى) . (ولقد مكناكم في الأرض وجعلنا لكم فيها معايش). ووصف الأرض بأنها مهد للإنسان تارة، وبأنه مستعمر فيها، أى من حكمة وجوده تعميرها، كل ذلك يشرح الصلة الوثقى بين الإنسان وبين العمل فى هذه الحياة، عملا متصلا مثمرا يتجه إليه بقلبه ولبه جميعا ، لا ليتقنه فحسب بل ليتعرف على عظمة الخالق من خلال ما يعالج من شئون . (والله جعل لكم مما خلق ظلالا وجعل لكم من الجبال أكنانا وجعل لكم سرابيل تقيكم الحر وسرابيل تقيكم بأسكم كذلك يتم نعمته عليكم لعلكم تسلمون) . العمل إذن هو وسيلة للبقاء، والوسيلة تتبع الغاية فى شرفها وخستها . فمن كرس حياته(1/145)
للحق والخير فعمله عبادة ، وكل قطرة عرق تبذل فيه فهى آية جهاد ، توضع فى موازين المرء مع صلاته وزكاته. وقد نبه النبى "ـ صلى الله عليه وسلم ـ" إلى أن العمل للدنيا من الدين، وأن شيمة الأنبياء والمرسلين ص _126
سواء أكان هذا العمل زراعة أو صناعة أو تجارة أو حرفة أو وظيفة . وهاك بعض الآثار الشواهد على منزلة الاحتراف والكدح والسعى فى طلب الرزق بالوسائل الشريفة : عن النبى ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: " ما أكل أحد طعاما قط خيرا من أن يأكل من عمل يده ، وإن نبى الله داوود كان يأكل من عمل يده ". وقال: ( طلب الحلال واجب على كل مسلم ) . وقال: ( أيما رجل كسب مالا من حلال فأطعم نفسه أو كساها فمن دونه من خلق الله فإن له به زكاة ) . وسئل ـ صلى الله عليه وسلم ـ : أى الكسب أفضل ؟ قال: " عمل الرجل بيده وكل بيع مبرور" . وروى عنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ : " إن الله يحب المؤمن المحترف " . وعن كعب بن عجرة: " مر على النبى ـ صلى الله عليه وسلم ـ رجل، فرأى أصحاب رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ من جده ونشاطه ، فقالوا: يا رسول الله.. لو كان هذا فى سبيل الله !!. فقال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : " إن كان خرج يسعى على ولده صغارا فهو فى سبيل الله وإن كان خرج يسعى على أبوين شيخين كبيرين نهو فى سبيل الله . وإن كان خرج يسعى على نفسه يعفها . فهو فى سبيل الله . وإن كان خرج يسعى رياء ومفاخرة فهو فى سبيل الشيطان " إن الإسلام يجعل العمل سمة المسلم، ومظهر تجاوبه مع رسالة الوجود، وانقياده لأمر الله وفقهه لطبيعة الدنيا وحقيقة الدين . ولا يجوز أن يكون حب الحياة بابا إلى طلبها بوسائل رديئة ، فإن العمل الذى أمر الله به محكوم بإطار سميك من أخلاق العفة والصدق والعدالة والرحمة.. وعندما يسر الله لعباده خيرات هذه الأرض نبههم إلى أن ذلك لا يجوز أن يعدو الحلال الطيب. فليس الإنسان وحشا منطلقا فى برية يلتهم مما وقع فى(1/146)
براثنه، كلا. إنه إنسان محاسب على سلوكه، مسئول عن نيته ووسيلته وغايته . ولذلك لا يجوز أن يقع فريسة الغرائز الخسيسة والوساوس الدنيا. ص _127
(يا أيها الناس كلوا مما في الأرض حلالا طيبا و لا تتبعوا خطوات الشيطان إنه لكم عدو مبين) . وقد يستحلى المرء طعاما وصل إلى يده مريب المصدر، ولو علم عقباه فى آخرته لفضل أن يأكل الطين بدل أن يدخل هذا الطعام فى جوفه . يقول رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ لهذا الإنسان : " لأن يأخذ ترابا ـ يجعله فى فيه ـ خير له من أن يجعل فى فيه ما حرم الله عليه". وروى عن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ :" أيما عبد نبت لحمه من سحت فالنار أولى به". وعقبى التهام الحرام عار الدنيا ونار الآخرة . (إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما إنما يأكلون في بطونهم نارا وسيصلون سعيرا) . والعمل الصحيح هو السبب الأول للملكية الصحيحة . والإسلام يحترم هذا العمل ويصون ثمراته ويجعل العدوان عليها جريمة . أما الكسب السئ فلا حرمة له بل إن الإسلام يطلب من كل امرئ حصل على القليل أو الكثير من المال الحرام أن يتخلص منه فورا حتى تكون علاقته بالله سليمة وتوبته إليه مقبولة. فإن الغش والغصب والقمار والسرقة والربا والاحتكار والاستغلال وجميع أنواع الكسب الحرام لا يمكن عدها وسائل للتملك المحترم. إنها- فى حقيقتها- اعتداء على التملك الصحيح وطرق ملتوية لوضع اليد الجائرة على حقوق الآخرين . * * * حرم الإسلام التسول مع القدرة على العمل لأن الإسلام يكره الطفيليات التى تعيش على حساب الآخرين وتعتمد فى بقائها ونمائها على كدها وعرقهم . لماذا يقعد عن العمل امرؤ قادر عليه ويريد ليطعم من سعى العاملين المرهقين؟ هذه جريمة تزرى بصاحبها وتسقط مروءته . قال رسول الله "ـ صلى الله عليه وسلم ـ ": " لا تزال المسألة بأحدكم حتى يلقى الله تعالى وليس في وجهه مزعة لحم " . وقد أبى النبى أن يصلى على متسول مات وعنده مال جمعه(1/147)
من هذا الطريق عن مسعود بن عمرو عن النبى ـ صلى الله عليه وسلم ـ أنه أتى برجل ليصلى عليه فقال: كم ترك؟ قالوا: دينارين أو ثلاثة. قال: ترك كيتين أو ثلاث كيات. فلقيت عبد الله بن القاسم مولى أبى بكر رضى الله عنه فذكرت ذلك له فقال: ذلك رجل كان يسأل الناس تكثرا. وحصيلة هذه الحرفة الدنيئة يجب أن تصادر، وألا تترك لصاحبها فإن كل مال كسبه ص _128
صاحبه من سحت لاحق له فيه . وحرم الإسلام الربا- لأنه كالتسول- أكل المستريح من كدح الكادحين دون تعرض لتعب أو مخاطرة . وهو محرم بين أهل الأرض جميعا ، وتحريمه نصت عليه الأديان كلها . ومن كذب اليهود الزعم بأنه يحل لهم أخذه من الناس . وإن كانت المدنية الحديثة للأسف قد سارت وراءهم فى هذا الإفك . قال الله جل شأنه: (الذين يأكلون الربا لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس ذلك بأنهم قالوا إنما البيع مثل الربا وأحل الله البيع وحرم الربا فمن جاءه موعظة من ربه فانتهى فله ما سلف وأمره إلى الله ومن عاد فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون) . وما يجمعه المرابون من ثروات لا يعترف به الإسلام ، ولا يجوز بقاؤه بأيديهم بل يصادر. (…وإن تبتم فلكم رءوس أموالكم لا تظلمون ولا تظلمون) . * * * وحرم الإسلام الغصب . والغصب اغتيال أموال الناس جهرا وقهرا ، ويغلب أن يكون ذلك فى الأراضى المزروعة ، ولذلك ورد التشديد فى شأنها . فعن أبى مسعود قلت : يا رسول الله.. أى الظلم أظلم ؟ فقال: " ذراع من الأرض ينتقصها المرء المسلم من حق أخيه المسلم. فليس حصاة من الأرض يأخذها إلا طوقها إلى قعر الأرض. ولا يعلم قعرها إلا الله الذى خلقها " . ومهما قل أو كثر ما يغتصبه الإنسان فهو سحت يجب الانخلاع عنه ورده إلى صاحبه قال رسول الله- ـ صلى الله عليه وسلم ـ -: " لا يحل لمسلم أن يأخذ عصا من أخيه إلا بطيب نفس منه " . ولو نظرنا إلى الثروات الكبرى ودققنا النظر فى أصولها، وجدنا أن كثيرا منها-(1/148)
خصوصا الأراضى المقطعة- ليس كسبا خالصا، وأن حقوق الألوف من الخلائق تتعلق بها. وربما استطاع القانون مصادرة بعض الأموال الظاهرة التى لم تعرف لها مصادر واضحة أو التى ثبت أنها حرام . ولكن الإسلام يحرك الضمير الإنسانى كى يبعث المالك على تحرى الحق فيما يملك وإطراح ما عداه مهما خفى أو كثر. فإن الله لا يقبل توبة من يمسك بحقوق الآخرين عنده ويجتاحها دون مبالاة مهما أكثر ص _129
من العبادات. وقدم من صلوات وصدقات . فعن أبى عثمان عن سلمان الفارسى وسعد بن أبى وقاص وحذيفة بن اليمان وعبد الله بن مسعود- حتى عد ستة أو سبعة من أصحاب النبى "ـ صلى الله عليه وسلم ـ" قالوا: "إن الرجل لترفع يوم القيامة صحيفته حتى يرى أنه ناج. فما تزال مظالم بنى آدم تتبعه حتى ما يبقى له حسنة ويحمل عليه من سيئاتهم " . ومعنى هذا أن المكاسب السيئة تحرق العبادات. وهذا غير ما يفهمه البعض- ضلالا- من الدين. أن الإنسان يمكنه ببعض المراسم أن ينال الرضا الأعلى وهو آكل لأموال الناس بالباطل ..!!. والحرام لا يبقى بيد صاحبه أبدا .. وقد كان عمر بن الخطاب ينظر فى ثروات الولاة . فما ظنه منها جاء عن استغلال نفوذ أمر بمصادرته للفور . ولو أن هذه السياسة العمرية نفذت فى كل عصر ومصر لاستراحت الشعوب من بلاء جسيم عظيم . وكان عمر يصادر ما كان يكسبه الولاة من أعمال لا يجوز لهم الاشتغال بها كالتجارة وما إليها ، أو ما كان يأتيهم من هدايا أو أموال نتيجة لاستغلال نفوذهم وجاههم . فعل ذلك- رضى الله عنه - مع ولاته على البصرة . وفعله مع أبى هريرة نفسه عامله على البحرين . فقد أبلغه أنه أثرى فى أثناء ولايته ، فأحصى ثروته وصادر جميع ما شك فى مصدره منها وألحقه ببيت المال . وقد جرى بينهما فى ذلك نقاش طريف يدل على مبلغ حرص عمر على تحقيق العدالة ومحاربة الكسب غير المشروع فقد قال له عمر: "استعملتك على البحرين وأنت بلا نعلين، ثم بلغنى أنك ابتعت أفراسا بألف(1/149)
دينار وستمائة دينار ". فقال أبو هريرة: كانت لنا أفراس تناتجت وعطايا تلاحقت. قال عمر: قد حسبت لك رزقك ومؤنتك وهذا فضل فأده . فقال أبو هريرة: ليس لك . قال عمر: بلى ، والله لأوجعن ظهرك . ثم قام إليه بالدرة فضربه حتى أدماه . ثم قال له: إيت بها . قال أبو هريرة : احتسبتها لله . فقال عمر: ذلك لو أخذتها من حلال وأديتها طائعا. أجئت من أقصى البحرين تجبى ص _1 ص 0
الناس لك لا لله ولا للمسلمين !؟ ما رجعت بك أميمه- أم أبى هريرة- إلا لرعية الحمر . وحدث مثل ذلك مع سعد بن أبى وقاص لما ولاه عمر على الكوفة ، فقد قاسمه عمر ماله حينما شك فى مصدره . وفعل ذلك أيضا مع عمرو بن العاص واليه على مصر، فقد كتب إليه: "أنه فشت لك فاشية من متاع ورقيق وآنية وحيوان، لم تكن لك حين وليت مصر ". فكتب إليه عمرو: " أن أرضنا أرض مزدرع ومتجر. فنحن نصيب فضلا عما تحتاج إليه نفقتنا ". فكتب إليه عمر: " إنى قد خبرت من عمال السوء ما كفى ، وكتابك إلى كتاب من أقلقه الأخذ بالحق، وقد سئت بك ظنا ووجهت إليك محمد بن مسلمة ليقاسمك مالك، فأطلعه وأطعمه، وأخرج إليه ما يطالبك به، وأعفه من الغلظة عليك، فإنه برح الخفاء " . فأذعن عمرو للأمر وترك محمد بن مسلمة يقاسمه المال * * * * أجر العمل : لكل سلعة من هذه السلع المتداولة فى الأسواق سعر حقيقى يمثل ثمن التكلفة وقدر الربح المضاف فى الظروف المعتادة . والأسعار تترك فى ميدان التجارة لقانون العرض والطلب، وتتقلب بين الارتفاع والهبوط تبعا لذلك . وقلما تتدخل الدولة فى تحديد الأسعار، إلا إذا وجدت أن مصلحة الجمهور تتطلب للحماية، عندئذ تفرض سلطان القانون، على مجموعة من المواد التى لا غنى للناس عنها من أغذية وأدوية وأكسية ... وما أشبه ذلك . وأما الأصل العام فهو ترك التجارة حرة، وإطلاق زمام المنافسة فى كل ناحية، وكل سلعة. لكن الشارع الذى ينشد العدل فى كل حال يضع من الوصايا ما يمنع التغابن وما(1/150)
يحمى أولى السذاجة والبساطة من أصحاب الخلابة والمكر ... فهو- مثلا- ينهى أن يبيع حاضر لباد ، وينهى عن تلقى الركبان . ومعنى ذلك أن التاجر المدني قد ينفرد بريفى غافل، فيبيعه السلعة بثمن فاحش. أو أن العارفين بمستوى الأسعار فى المدينة قد يسارعون إلى تلقى جالبى البضائع من خارج فيشترون منهم ما بأيديهم بأرخص من ثمنها والواجب ... هذا اللون من التعزير يرفضه الدين، ويعطى البائع حق الخيار فيما أبرم من عقد إذا كان ص _1 ص 1(1/151)
قد وقع عليه غبن . إن السلع يجب أن تباع بسعر معتدل ، لا وكس فيه ولا شطط . قد حرم الإسلام الاحتكار لأنه إغلاء للسعر بغير علة معقولة . والإسلام يكره الجشع ويضرب على أيدى أصحابه حتى تجد العامة ما تحتاج إليه ميسورا موفورا . * * * ونحن نرى أن الموظفين والعمال أصحاب خبرة ودربة ومهارة ، وأن الخدمات التى يؤدونها للمجتمع لا تعدو أن تكون هى الأخرى سلعا يرتفق الناس بها ولا يستغنون عنها . فهل تترك هذه المواهب والمنافع المقرونة بها فى مهب الريح ترتفع وتنخفض دون ضابط عدل ؟. لا إن الجهد البشرى الذى يبذله موظف أو عامل فى إنجاز أمر من الأمور أو إتقان سلعة من السلع ، له عوض مالى يمكن جعله ثمنا مقبول له . فإذا تدخلت ظروف مصطنعة لبخس هذا الثمن أو المغالاة فيه ، فإن العدالة التى قررتها الشريعة فمنعت المتبايعين فى الأسواق عن التغرير والخداع والاحتكار تنتقل هنا لتمنع كذلك الغلو والحيف ، أو الجشع والانكسار، والواقع أن الخدمات العلمية والفنية واليدوية يجب أن تلقى مقابلا مجزئا لا يشعر معه الموظف أو العامل أن جهده أهدر، وأن مواهبه بيعت بثمن بخس . وقد يكثر العاطلون فى بلد ما، ويطلب صاحب الأرض مثلا من يجنى له حقول القطن، فهل ندع هذه القضية خاضعة لقانون العرض والطلب، فيستطيع المالك استئجار من شاء بأبخس الأسعار إن الظلم الفادح نشأ من السير فى هذه السبيل . إن الإسلام- أول ما ظهر- حمى البدوي الساذج من استغلال أهل الحضر، وأبى إلا أن تباع بضاعته بسعر المثل ، فكيف يسمح باستغلال الضوائق فى الأحوال المشابهة إن من حق هؤلاء الذين يبيعون جهودهم أن يطلبوا تدخل الدولة لحمايتهم، والإسلام أول من يأمر برعايتهم . وقد تألفت فى العالم نقابات مهنية تتمثل فيها المصالح الخاصة لأصحاب الحرف والخدمات المادية والأدبية . وكان الدافع إلى تأليفها الشعور بضرورة التجمع لضمان كرامة العمل والمنتسبين إليه . وهو شعور لا مفر من الاعتراف(1/152)
به بعد ما عرا الجماعة الإنسانية من تطور واسع جعلنا نطالب بتسعير الوظائف فى كل مكان ، وحماية العمل ورجاله من الزراية والحرمان. * * * ص _1 ص 2
على أن ما نقرره هنا من تسعير الوظائف والأعمال بطريق القياس والاستنتاج قد سبق إلى تقريره فقهاء الإسلام القدامى رضى الله عنهم. غاية ما هنالك من فرق أن تسعير العمل فى عصرنا هذا ينظر فيه إلى حماية الطبقات الكادحة ومنع أصحاب الثروة والقوة من إملاء شروطهم عليها . لكن يبدو مما قرأناه فى كتبنا الفقهية القديمة أن التسعير كان يقصد به أولا منع العمال من المغالاة فى طلب أجور باهظة يطيقها أصحاب الأرض أو أصحاب الصناعات تأمل قول ابن القيم فى كتابه " الطرق الحكمية فى السياسة الشرعية " : " فإذا كان الناس محتاجين إلى فلاحة قوم أو نساجتهم أو بنائهم صارت هذه الأعمال مستحقة عليهم يجبرهم ولى الأمر عليهم بعوض المثل " . ولا يمكنهم من مطالبة الناس بزيادة عن عوض المثل . ولا يمكن الناس من ظلمهم بأن يعطوهم دون حقهم . كما إذا احتاج الجند المرصدون للجهاد إلى فلاحة أرضهم ، وألزم ولى الأمر من صناعته الفلاحة أن يقوم بها فإنه يلزم الجند ألا يظلموا الفلاح ، كما يلزم الفلاح أن يفلح الأرض. يعنى ابن القيم أن على المالك أن يدفع أجورا معقولة للفلاحين ، وعلى الفلاحين أن يؤدوا ما كلفوا به بأمانة . ثم قال ابن القيم : " والمقصود أن الناس إذا احتاجوا إلى أرباب الصناعات- كالفلاحين وغيرهم- أجبروا على ذلك بأجرة المثل ، وهذا من التسعير الواجب ، فهذا تسعير الأعمال ". وهذا الكلام الواضح يعطى الحكومات والنقابات حق تسعير جميع الوظائف والمهن على نحو من التراضى والتفاهم ، لا تضار به الأطراف المعنية . فلا صاحب المال يطغى ، ولا باذل الجهد يأسى . ولكنها قاعدة الإسلام (لا تظلمون ولا تظلمون) . * * * ليس من الدين أن يمنح الموظف راتبا دون كفايته ، أو يعطى العامل أجرا دون مهارته ، ولو تم ذلك(1/153)
على أساس عقد مبرم بين الطرفين . فإن إرادة المحرج تنقصها الحرية ، ورضاه الظاهر إنما هو خضوع المحتاج لمن يملك البت فى أمره .. والواجب أن يكون المرتب المبذول مكافئا للجهد المقدم، قال تعالى: (ولا تبخسوا الناس أشياءهم ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها). ص _1 ص ص
إن إيتاء كل ذى فضل فضله أول مظاهر العدالة ، ودعائم الاستقرار فى المجتمع ، وللنفس البشرية حيل شتى فى الافتيات على الآخرين ومحاولة إرضاء الله فى الوقت نفسه فقد ترى الغنى يستأجر عاملا بعشرين قرشا فى حين أن الثمن الحقيقى لجهده خمسون قرشا ، ثم بعد أن يحبس لنفسه الثلاثين الباقية يتصدق بقروش قلائل ، على الفقراء والمساكين، ويشعر بعد العطاء الذى أسداه أنه رجل صالح أرضى الله وأرضى العباد . إن أغلب كبار الملاك ضاعف ثروته عن هذا الطريق وما نحسب هذا إلا ضربا من أكل أموال الناس بالباطل . والتواءات السلوك الإنسانى كثيرة ، ونحن نرى أن العليم بذات الصدور- جل شأنه- لا ينطلى عليه هذا العوج . ولو أنه أعطى الكادح حقه كله لكان ذلك أجدى عليه وأرضى لربه . ونعود لضرب الأمثال مرة أخرى حتى يتضح هذا الكلام . هب الحضرى الذى نهاه رسول الله "ـ صلى الله عليه وسلم ـ " عن تلقى الركبان ، تمكن من استغفال الباعة من البدو ، واشترى منهم بضائعهم بنصف ثمنها ، أيغنى عنه- فيما ارتكب- أن يتصدق على الفقراء ببضعة دراهم ؟ كلا ، لقد تصدق بما لا يملك ، لقد تصدق بجزء من مال كان يجب أن يرده كله للبائع المغبون . كذلك الأمر فى بخس العاملين حقوقهم التى يجب أن يستوفوها كاملة !!. وهنا يجئ سؤال وجيه : كيف يقدر الأجر العادل ؟ والجواب : أن ذلك ليس أمرا مستحيلا إن صلحت النية وقدرت الحقوق لكن تقدير هذا الأجر يجب أن تراعى فيه عدة جهات : أ - صاحب رأس المال الذى لا يجوز أن يهضم أو يجار عليه . ب- المجتمع الذى ينبغى أن تقدم له السلع بثمن معتدل . ج- العامل الذى لابد أن يحيا كريم(1/154)
الجانب مصون الحرمة . والتقاء هذه الأطراف عند حل وسط يحل كل مشكلة . ونحن نعرف أن النزاع سيثور قبل الوصول إلى حل ، وأن الشح الذى أشربته النفوس الإنسانية سيطل برأسه من وراء شتى الرغبات . إننى أكتب هذه السطور و 250 ألف عامل فى فرنسا يتحدون الدولة فى إضراب شامل لزيادة أجورهم ، وألوف العمال المشتغلين بطبع الصحف مضربون كذلك فى أمريكا منذ ستة شهور للغرض نفسه. ص _1 ص 4
ولا عجب ، فإن الرغبة في رفع مستوى المعيشة لا يقف عند حد ، وأيا ما كان الأمر فإن هذه المنازعات سوف تنتهى عند تسوية مرضية أى عند سعر معين للعمل تقرره إرادات حرة متكافئة . ومن الناس من يرفض مبدأ التسعير للجهود وللسلع رفضا مطلقا ويرى ترك الحياة الاقتصادية والاجتماعية تسير سيرها المعتاد ، وفق قوانين العرض والطلب وحدها. ويستدل لوجهة نظره بأن الرسول "ـ صلى الله عليه وسلم ـ " رفض التسعير قولا وعملا . وندع للعلامة ابن القيم الرد على هذا الكلام : " وأما التسعير: فمنه ما هو ظلم محرم ، ومنه ما هو عدل جائز ، فإذا تضمن ظلم الناس إكراههم بغير حق على البيع بثمن لا يرضونه، أو منعهم مما أباح الله لهم، فهو حرام، وإذا تضمن العدل بين الناس مثل إكراههم على ما يجب عليهم من المعاوضة بثمن المثل، ومنعهم مما يحرم عليهم من أخذ الزيادة على عوض المثل، فهو جائز، بل واجب. فأما القسم الأول: فمثل ما روى أنس قال: غلا السعر- على عهد النبى ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، فقال ناس: يا رسول الله.. سعرت لنا ؟ فقال: إن الله هو القابض الرازق ، الباسط المسعر ، وإنى لأرجو أن ألقى الله ولا يطلبنى أحد بمظلمة ظلمتها إياه فى دم ولا مال " . فإذا كان الناس يبيعون سلعهم على الوجه المعروف من غير ظلم منهم، وقد ارتفع السعر- إما لقلة الشئ، وإما لكثرة الخلق- فهذا إلى الله، فإلزام الناس أن يبيعوا بقيمة بعينها ، إكراه بغير حق . وأما الثانى: فمثل أن يمتنع أرباب السلع من بيعها، مع(1/155)
ضرورة الناس إليها إلا بزيادة على القيمة المعروفة، فهنا يجب عليهم بيعها بقيمة المثل، ولا معنى للتسعير إلا إلزامهم بقيمة المثل، فالتسعير ههنا إلزام بالعدل الذى ألزمهم الله به.. " . ثم قال فى الاحتكار : " ومن أقبح الظلم: إيجار الحانوت على الطريق، أو فى القرية بأجرة معينة على ألا يبيع أحد غيره، فهذا ظلم حرام على المؤجر والمستأجر، وهو نوع من أخذ أموال الناس قهرا ، وأكلها بالباطل، وفاعله قد تحجر واسعا فيخاف عليه أن يحجر الله عنه رحمته ، كما حجر على الناس فضله ورزقه . ومن ذلك: أن يلزم الناس ألا يبيع الطعام أو غيره من الأصناف إلا ناس معروفون، فلا تباع تلك السلع إلا لهم، ثم يبيعونها هم بما يريدون، فلو باع غيرهم ذلك منع وعوقب، فهذا من البغى فى الأرض، والفساد، والظلم الذى يحبس به قطر السماء، وهؤلاء يجب التسعير عليهم، وألا يبيعوا إلا بقيمة المثل، ولا يشتروا إلا بقيمة المثل، بلا تردد فى ذلك عند أحد من العلماء، لأنه إذا منع غيرهم أن يبيع ذلك النوع أو يشتريه، فلو ص _1 ص 5(1/156)
سوغ لهم أن يبيعوا بما شاءوا أو يشتروا بما شاءوا، كان ذلك ظلما للناس، ظلما للبائعين الذين يريدون بيع تلك السلع ، وظلما للمشترين منهم . فالتسعير فى مثل هذا واجب بلا نزاع ، وحقيقته: إلزامهم بالعدد، ومنعهم من الظلم، وهذا كما أنه لا يجوز الإكراه على البيع بغير حق ، فيجوز أو يجب الإكراه عليه بحق. ونقول: إن تسعير السلع ربما استغنت عنه بعض المجتمعات الآن أعنى المجتمعات التى نضجت فيها الحرية إلى مدى واسع. أما تسعير الأعمال فلا غنى عنه فى أى مجتمع ، والحكومات تربط موازناتها فى أنحاء الأرض على أساس تحديد رواتب لمتستخدميها من الوزير إلى كانس الطريق. أى أن الأجور توضع ابتداء للأعمال المطلوبة، ثم يبحث بعدئذ عمن يقوم بها، فيستحقها لقاء ما قدم، وكذلك الشركات المختلفة . والعمال ينتظمون فى نقابات تحرس مصالحهم كى تمنع عنها شرور المساومات.. وهذا التحديد للأجور يمنع الغبن ويرفع النزاع أو يضبطه تبع قواعد معقولة . * * * حق التملك للكسب الحلال ثابت لا ريب فيه ولا يجوز لفرد أو لأمة التعرض لهذا الحق بأى لون من ألوان العنت أو المصادرة، ولا تزول الملكية عن صاحبها إلا بسبب مشروع كالبيع، أو الإرث أو ما شابه ذلك مما أحصته احصاء شريعة الله. (يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل). (ولا تؤتوا السفهاء أموالكم التي جعل الله لكم قياما). (ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل وتدلوا بها إلى الحكام لتأكلوا فريقا من أموال الناس بالإثم وأنتم تعلمون) . وقد احترم الإسلام حق الملكية احتراما تاما ، وأقر تصرفات العقلاء فى أملاكهم فلم يعترضها، إلا أنه أثقل هذا المبدأ بالواجبات الاجتماعية النبيلة حتى يكون المال فى يد صاحبه مصدر خير له وللناس . وسوف نفصل هذه الواجبات فى البحث اللاحق . ولكن قبل أن نخوض فى هذا البحث يجب أن نقول : إن الإسلام تجاوب مع الطبيعة الإنسانية فى إقراره لحق التملك فغريزة الاقتناء من(1/157)
الغرائز الأولى فى الناس، ولا معنى لمصادرتها، وقد نهض العمران البشرى على نشاط هذه الغريزة الأصلية. وبعض الفلسفات المادية أنكرت حق التملك على الأفراد ، وزعمت أن الملكية الفردية سر التظالم الذى شقيت به البشرية من قديم العصور . ولو كانت الملكية الفردية كما يصفون لحاربناها دون هوادة، إن الشيوعية التى تستهدف ص _1 ص 6
إسعاد الطبقات الدنيا من العمال والفلاحين لم تسق لهؤلاء البائسين ما منتهم به من سعادة. والواقع أن الهوان الذى يلقاه الفلاح فى ظل مالك الأرض المستبد هو الهوان الذى يلقاه الفلاح فى ظل مدير المزرعة الجماعية.. إنه آلة وآلة هناك . وعند التأمل الصادق لا نرى الشيوعية المستبدة إلا صورة أخرى للرأسمالية المستبدة . أما حق التملك المقرون بمرح الحرية ورحابتها فهو- مع القيود التى فرضها الدين عليه- مصدر رخاء عريض لأصحابه. ولجماهير العمال والفلاحين. ومن لعمال روسيا بحقوق العمال فى أمريكا وأوروبا ؟ إن الحرية صمام الأمن للمجتمعات كلها، وهى الوسيلة الفريدة لمحاربة ما يقع من أخطاء ومن مظالم . ومع أننا نحارب النظم الإقطاعية والرأسمالية التى عانى العالم منها الكثير إلا أننا نظن العامل قد يجد فى كنفها ما لا يجده فى كنف الشيوعية الكافرة .. لماذا كان سواد الأمة قرير العين حقا فى ظل النظام الشيوعى فلماذا لا يتاح حق التصويت الحر لهذه الجماهير كى تبدى رأيها وتختار حكامها ؟ * * * لنعد من هذا الاستطراد إلى ما نحن بصدده . إن المالك أحرص أهل الأرض على تثمير ماله وزيادة إنتاجه. فإذا ملك هذه الحرية فإن ثمرتها عليه وعلى الشعب أجمع . ومع توفير الضمانات التى شرحناها آنفا لتأمين العمال على حاضرهم ومستقبلهم لا يبقى مكان لتبرم بمبدأ الملكية . لكن هناك ثغرات أخرى لابد من الالتفات إليها والمسارعة بسدادها. هناك من يريدون العمل ولا يجدونه . فهل يتركون لتأكلهم البطالة ؟ وهناك من يعجزون عن العمل من النساء(1/158)
والأطفال والشيوخ والمرضى فمن لهؤلاء ؟ إن الإسلام لا يدع أبدا أحد هؤلاء صريع البأساء والضراء ، لقد أوجب الزكوات والصدقات والضرائب حتى يتماسك المجتمع كله فلا يبقى فيه ضائع ولا محروم . والدولة فى نظر الإسلام مكلفة بحمل هذه الأعباء جميعا . ولم نعرف نظاما اجتماعيا سبق الإسلام إلى تقرير كل هذه الحقوق . قال ابن حزم فى كتابه " المحلى " : " وفرض على الأغنياء من أهل كل بلد أن يقوموا بفقرائهم ، ويجبرهم السلطان على ذلك. إن لم تقم الزكوات بهم ، ولا فى سائر أموال المسلمين بهم . فيقام لهم بما يأكلون ص _1 ص 7(1/159)
من القوت الذى لابد منه ومن اللباس للشتاء والصيف بمثل ذلك ، وبمسكن يكنهم من المطر والصيف والشمس وعيون المارة . برهان ذلك قول الله تعالى : (وآت ذا القربى حقه والمسكين وابن السبيل) . وقال تعالى: (وبالوالدين إحسانا وبذي القربى واليتامى والمساكين والجار ذي القربى والجار الجنب والصاحب بالجنب وابن السبيل وما ملكت أيمانكم) . فأوجب تعالى حق المساكين وابن السبيل وما ملكت اليمين مع حق ذى القربى وافترض الإحسان إلى الأبوين وذوى القربى والمساكين والجار وما ملكت اليمين، والإحسان يقتضى كل ما ذكرنا ومنعه إساءة بلا شك . وقال تعالى: (ما سلككم في سقر ، قالوا لم نك من المصلين ، ولم نك نطعم المسكين) . فقرن الله تعالى إطعام المسكين بوجوب الصلاة . وعين رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ من طرق كثيرة فى غاية الصحة أنه قال: " من لا يَرْحَم لا يُرْحَم " . ومن كان على فضلة ورأى أخاه المسلم جائعا عريانا ضائعا فلم يغثه ، فما رحمه بلا شك . وحدث عبد الرحمن بن أبى بكر الصديق: أن أصحاب الصفة كانوا ناسا فقراء ، وأن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال : ( من كان عنده طعام اثنين فليذهب بثالث) . ( ومن كان عنده طعام أربعة فليذهب بخامس أو سادس) . وهذا نفس قولنا . وأخبر عبد الله بن عمر أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: (المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يسلمه ) . فمن تركه يجوع ويعرى- وهو قادر على إطعامه وكسوته- فقد ظلمه وأسلمه . وعن أبى سعيد الخدرى أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال : " من كان معه فضل ظهر فليعد به على من لا ظهر له ، ومن كان له فضل زاد فليعد به ص _1 ص 8(1/160)
على من لا زاد له . قال : فذكر من أصناف المال ما ذكر. حتى رأينا أنه لا حق لأحد منا فى فضل ). وهذا إجماع من الصحابة- رضى الله عنهم- كما يخبر بذلك أبو سعيد . وبكل ما فى هذا الخبر نقول . ومن طريق أبى موسى عن النبى ـ صلى الله عليه وسلم ـ : " أطعموا الجائع وفكوا العانى" . والنصوص من القرآن والأحاديث الصحاح فى هذا تكثر جدا . قال عمر بن الخطاب: لو استقبلت من أمرى ما استدبرت لأخذت فضول أموال الأغنياء فقسمتها على فقراء المهاجرين . وهذا إسناد فى غاية الصحة والجلالة . ويقول على بن أبى طالب كرم الله وجهه : إن الله تعالى فرض على الأغنياء فى أموالهم بقدر ما يكفى فقراءهم. فإن جاعوا أو عروا وجهدوا فبمنع الأغنياء ، وحق على الله تعالى أن يحاسبهم يوم القيامة ويعذبهم عليه . وعن ابن عمر أنه قال : فى مالك حق سوى الزكاة . وعن عائشة أم المؤمنين والحسن بن على وابن عمر أنهم قالوا كلهم لمن سألهم:- يعنى المساعدة - إن كنت تسأل فى دم موجع أو غرم مفظع أو فقر مدقع، فقد وجب حقك. وصح عن أبى عبيدة بن الجراح وثلثمائة من الصحابة- رضى الله عنهم- أن زادهم فنى فأمرهم أبو عبيدة فجمعوا أزوادهم فى مزودين، وجعل يقوتهم إياها على السواء. فهذا إجماع مقطوع به من الصحابة- رضى الله عنهم- لا مخالف لهم منهم . وصح عن الشعبى ومجاهد وطاووس وغيرهم. كلهم يقول: " فى المال حق سوى الزكاة " . وما نعلم عن أحد منهم خلاف هذا. إلا عن الضحاك بن مزاحم فإنه قال: "نسخت الزكاة كل حق فى المال ". قال ابن حزم: وما رواية الضحاك فكيف رأيه !؟ والعجب أن المحتج بهذا أول مخالف له ! فيرى فى المال حقوقا سوى الزكاة، منها النفقات على الأبوين المحتاجين ، وعلى الزوجة ، وعلى الرقيق ، وعلى الحيوان ، والديون والأروش ، فظهر تناقصهم !! فإن قيل : 1ـ قد روى عن ابن عباس قال: من أدى زكاة ماله فليس عليه جناح أن لا يتصدق. ص _1 ص 9(1/161)
2- وأنه قال فى قوله تعالى: (وآتوا حقه يوم حصاده) نسختها العشر ونفس العشر. فنقول: أن الرواية الثانية ساقطة لضعف راويها ، وليس فيها- لو صحت- خلاف لقولنا . وأما الرواية الأولى فإنما هى أن لا يتصدق تطوعا ، وهذا صحيح. وأما القيام بالمجهود ففرض ودين وليس صدقة تطوع . ويقولون: من عطش فخاف الموت ففرض عليه أن يأخذ الماء حيث وجده ، وأن يقاتل عليه . فأى فرق بين ما أباحوا له من القتال على ما يدفع به عن نفس الموت من العطش ، وبين ما منعوه إياه من القتال عن نفسه فيما يدفع به عنها الموت من الجوع والعرى ؟! وهذا خلاف للإجماع وللقرآن وللسنن وللقياس . ولا يحل لمسلم اضطر أن يأكل ميتة أو لحم خنزير، وهو يجد طعاما فيه فضل عن صاحبه لمسلم أو لذمى ، لأن فرضا على صاحب الطعام إطعام الجائع، فإذا كان ذلك كذلك فليس بمضطر إلى الميتة ولا إلى لحم الخنزير، وبالله التوفيق. وله أن يقاتل عن ذلك، فإن قتل فعلى قاتله القود ، هان قتل المانع فإلى لعنة الله ، لأنه منع حقا ، وهو طائفة باغية . قال تعالى: (فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله) . " ومانع الحق باغ على أخيه الذى له الحق . وبهذا قاتل أبو بكر الصديق رضى الله عنه مانع الزكاة . وبالله التوفيق " . أسمعت هذا الكلام الصارم ، ووعيت ما تضمن من تعاليم ؟ إن على الإنسان أن يقاتل دون حقه فى الحياة ، ودون كرامته أن تجرح ، وله باسم الله أن يقاوم ظالميه حتى الرمق الأخير فإما عاش سعيدا ، وإما مات شهيدا ولكن الغريب أن تسمع بعد هذا البيان الحاد نباح كاتب من هؤلاء التائهين الحمر يقول لك: إن الدين أفيون الشعوب أى دين أيها البله ؟؟. إن الإسلام نمط آخر فى الفكر والحياة فوق ما تعلمتم وفوق ما تعرفون . * * * ماذا يفعل الإسلام بعد هذا الذى تبينته من كلام أئمته ؟ العامل يصان ويضمن أجره. ص _140(1/162)
والعاجز يعان ويحفظ وجهه . (فذلكم الله ربكم الحق فماذا بعد الحق إلا الضلال فأنى تصرفون) . ومجتمع تساق فيه العدالة إلى طالب ، والمرحمة إلى مستحقها مجتمع تنقطع منه الشكاة ، وتسوده الطمأنينة . روى المؤرخون أن يحيى بن سعيد قال : بعثنى عمر بن عبد العزيز عاملا على صدقات أفريقية ، فاقتضيتها وطلبت الفقراء نعطيها إياهم ، فلم نجد بها فقيرا ، ولم نجد من يأخذها ! لقد أغنى عمر الناس ...!! فماذا يصنع الوالى بهذه الزكاة المجموعة ؟ قال: اشتريت بها عبيدا وأعتقتهم ، وجعل ولاءهم للمسلمين . كم تظن مدة خلافة عمر بن عبد العزيز ؟ إنها ثلاثون شهرا ، سنتان ونصف لا غير أقامها الرجل على العدل والرحمة، فاستفاض الخير فى الناس ، فما وجد فى الجماهير التى تعمر الأرض بين المحيطين من يشكو ... كان الخليفة الراشد عند أمل الناس فيه ، أو عند تكليف الإسلام له : أبا برا لكل فقير، وسنادا قويا لكل ضعيف . واسمع إلى الشاعر جرير، يصف فعاله للقبائل الضاربة فى فجاج الصحراء البعيدة : كم باليمامة من شعثاء أرملة ومن يتيم ضعف الصوت والنظر ممن يعدك تكفى فقد والده كالفرخ فى العش لم ينهض ولم يطر يدعوك دعوة ملهوف كأن به خبلا من الجن أو مسا من البشر إنا لنرجو إذا ما الغيث أخلفنا من الخليفة ما نرجو من المطر أتى الخلافة أو كانت له قدرا كما أتى ربه موسى على قدر هذى الأرامل قد قضيت حاجتها فمن لحاجة هذا الأرمل الذكر وعمر لا يهتم لمدائح الشعراء ، ولا ينخدع بها ، وعندما سمع هذا التساؤل أمر بإعطاء جرير ، مائة درهم لفقره لا لشعره * * * أوقات الراحة والفراغ : عندما ترنو ببصرك إلى الحقول الخضراء وهى تهتز بسنابل القمح أو لوز القطن لا يجهدك أن تعرف أن فى هذا غذاء بنى آدم ، وأن فى ذلك كساءهم . لكن هل الأرض لا تثمر إلا ما يسد هذه الضرورات التى لابد منها للناس ؟ ص _141(1/163)
لا. إننى جلت فى أرجاء البساتين فوجدت عشرات من الأزهار والورود أبرزتها قدرة الصناع لا لشئ إلا لتكون أمام الناس منظرا رائقا ، يبهر النفوس بما ضم من ألوان وأصباغ .. إن الدنيا ليست هذه الضرورات التى يكدح الناس وراءها . إنها- إلى جانب ذلك- هذا المتاع النفسى الذى يشرح الصدور، ويثير فى البشر مشاعر الإحساس بالجمال. وقد أوح الله فى هذه التربة الخصبة الأمرين معا. ما يحصد من حبوب، ويجنى من فاكهة، وما يشيع السرور فى أرجاء القلب من جمال وانظر وصف القرآن الكريم لآثار المطر: (وأنزل لكم من السماء ماء فأنبتنا به حدائق ذات بهجة) . إن كلمة بهجة هذه رقيقة ساحرة، يهب منها على المكدودين نسيم مائج بالسرور والمرح . وفيها تشويق للانتفاع بزينة الله التى أخرج لعباده. ليست الحياة مادة جامدة، وضرورات كالحة. إن المرفهات والمبهجات إضافات لا تستغنى عنها الحياة فى مسيرها، كما لا تستغنى الإبل عن الغناء الرخيم من حاديها اللبق. والناس- فى حرصهم على المال- إنما يطلبون به المزيد من المتع، ويريدون أن يلبوا أشواقهم النفسية والبدنية فى هذا المجال الفسيح . وما نرى فى هذا حرجا ، إن وقف عند حدود الحلال الطيب، وما أكثره وأرضاه لمن يحترم حدود الله . * * * أثبت علماء النفس أن لكل إنسان طاقة معينة يستطيع أن يؤدى فى نطاقها ما يكلف به من أعمال تأدية حسنة، فإذا تواصلت جهوده ونفذت طاقته وأدركه الكلال فإنه يفقد السيطرة على أعصابه، ويفلت منه زمام التفكير، وتكثر أخطاؤه، حتى يصل إلى حد يصبح معه عمله- إن استطاع عملا- لا جدوى منه ، فالانقطاع عنه أفضل. والإسلام فيما افترض على الناس من عبادات يرعى هذه الحقيقة، ويأبى على المؤمنين أن يأخذهم الحماس فيكلفوا أنفسهم فوق وسعها، ثم تكون العقبى أن يتأدى بهم النصب إلى التعب ثم إلى الانقطاع. وفى هذا يقول ـ صلى الله عليه وسلم ـ : " إن المنبت لا أرضا قطع ولا ظهرا أبقى). ص _142(1/164)
إن التعبد الحق أن يحسن الإنسان قياد نفسه فلا يجشمها ما تقبله اليوم وتنفر منه غدا. ثم ما قيمة هذا التشديد إذا كانت معاملة الإنسان لربه ستكون صادرة عن فؤاد مرهق ، وذهن مغلق ؟ وهل يثمر التعب إلا هذا ؟. قال أخى: دخل رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ المسجد ، وجعل ممدود بين ساريتين، فقال: ما هذا ؟ قال: لزينب تصلى ، فماذا كسلت أو فترت أمسكت به . فقال: " حلوه… ليصل أحدكم نشاطه ، فإذا كسل أو فتر فليرقد " . وعن عائشة رضى الله عنها أن النبى ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: ( إذا نعس أحدكم فى الصلاة فليرقد حتى يذهب عنه النوم ، فإن أحدكم إذا صلى وهو ناعس لعله يذهب يستغفر فيسب نفسه ) . وفى رواية إذا نعس أحدكم وهو يصلى فلينصرف فلعله يدعو على نفسه وهو لا يدرى " . وعن أنس أن النبى ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: " إذا نعس أحدكم فى الصلاة فلينم حتى يعلم ما يقرأه". وحدث سهل بن أبى أمامة عن أبيه أنهما دخلا على أنس بن مالك وهو يصلى صلاة خفيفة ، كأنها صلاة مسافر أو قريبا منها . فلما سلم قال له أبو أمامه : يرحمك الله ، أرأيت هذه الصلاة المكتوبة أم شىء تنفلته ؟ قال: إنها المكتوبة، وإنها صلاة رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، ما أخطأت إلا شيئا سهوت عنه.؟ إن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ كان يقول: " لا تشددوا على أنفسكم فيشدد عليكم، فإن قوما شددوا على أنفسهم ، فشدد عليهم ، فتلك بقاياهم فى الصوامع والديارات رهبانية ابتدعوها ما كتبناها عليهم " . فإذا كان الله قد استن لعباده الترويح والتيسير في شئون الدين . فكيف يرضى لهم الإرهاق واللغوب فى شئون الدنيا . إن الراحة من حق النفس والبدن والأهل والولد . وفى الحديث: " إن لبدنك عليك حقا " . إن الاستجمام من العمل خير وسيلة لاستئنافه بقوة أشد وعزم أحد . ولذلك قيل : من لا راحة له لا عمل له . ص _14 ص(1/165)
وجاء فى الأثر: " روحوا عن القلوب ساعة بعد ساعة ، فإن القلوب إذا كلت عميت " . والنفوس تلتمس راحتها حينا فى أنواع التسلية من لهو ولعب . وحينا آخر فى العودة إلى مشاهد الطبيعة المجردة من ماء وخضرة . ونحن- كما قال أحد الأدباء- بحاجة إلى أن نحدد وقتا للعمل الصحيح ووقتا للعب الصحيح . فان من أدوائنا الموجعة الخلط بين العمل والعبث، والمزج بين الحق والباطل . وتحديد وقت للدعابة والهزل والغناء يعين على تنقية جو الإنتاج والكدح، وتغليب طابع الجد والصرامة على جنباته . إن المسلمين لما حرموا أنفسهم الاستماع إلى الغناء اللاهى، حولوا كتابهم العظيم إلى نص يتلى بتطريب وألحان . وجاء الصوفية فجعلوا الذكر ممزوجا بالنقر على الدفوف والنفخ فى المزامير !!. وهذا هو خلط الحق بالباطل فى أقبح صوره . فإن القرآن لم ينزل لإطراب عشاق السماع كما يحدث الآن . وذكر الله لا يصلح مع المكاء والتصدية . ولكن النفوس لما كانت مطبوعة على حب الغناء، وقد أفتى الجهال بكراهيته ، رأت أن تحتال على بلوغ مآربها بهذا الأسلوب الذى أساء إلى الدين فجعله هزلا . ولو أن الجماهير بدل هذا أشبعت طبيعتها من اللهو المباح، ثم بنت صلتها بالقرآن على مدارسته للعمل به، أو قراءته للتأدب بأدبه ، لكان ذاك أجدى على الدين وعلى الدنيا... * * * ص _145(1/166)
المستوى الثقافى * حق التعليم : يولد الإنسان طفلا ضعيف البدن قاصر الفكر ، ثم يأخذ على مر الزمن طريقه إلى النماء البدنى والارتقاء الفكرى حتى يبلغ أشده . وهو لا يكبر جسما وعقلا من تلقاء نفسه . بل يتزود بمقادير منتظمة من الأغذية تكفل لعظامه أن تمتد، ولعضلاته أن تكتنز. وهو محتاج إلى أقساط منتظمة كذلك من المعرفة حتى يتفتق ذهنه، وتتسع مداركه، ويبصر حقيقة ما يحيط به من الأشخاص والأشياء، ويعى ما يطلب منه وما يجب عليه . لا يولد المرء عالما، بل يبرز إلى الوجود غفل الصحيفة، ثم يستغل حواسه فى الاتصال بما حوله، وعقله للإفادة من تجاربه وتجارب الأولين . وبذلك يتكون وجوده المعنوى ، الذى هو أرقى في وجوده الحسى. (والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئا وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة لعلكم تشكرون) . والإسلام يوثق العلاقات بين الإنسان وبين هذا الكون الذى يحيا بين أرضه وسمائه، ويشد حواسه وبصيرته إلى ما يحفل به هذا العالم من أسرار وقوانين، حتى لا يعيش محجوبا ولا جاهلا . إن البلادة الفكرية رذيلة نفسية قد تكون أخطر من بعض المعاصى الشائنة، ومن ثم رأينا القرآن الكريم يلفت الإنسان إلى ما حوله كى يعرف خصائصه وعجائبه، ثم ينتقل من ذلك إلى معرفة من صاغه وأبدعه... ولنستمع إلى هذا الدرس من عشرات الدروس التى امتلأ بها القرآن الكريم وهو يصل الإنسان بالكون ورب الكون . (إن الله فالق الحب والنوى يخرج الحي من الميت ومخرج الميت من الحي ذلكم الله فأنى تؤفكون) . حينما نطالع على وجه الأرض هذه النخل الباسقة ، وتلك الزروع المسطورة على أديم الحقول ينبغى أن نتساءل من أودع فى النواة والبذرة هذه الخصائص الرائعة ، فإذا هى بعد أن تطمر فى أحشاء الطين تتحرك شاقة حجب البرد والظلمة إلى أعلى ، ثم هى على تراخى الأيام تجود بشتى الثمار . إن الذى جعل الحبة فى التربة تنفلق عن هذا الخير المكنون هو صاحب القدرة التى تجعل الليل يلد(1/167)
الفجر ، فإذا أشعته تغمر الآفاق إثر حركات الفلك فى فضائه، تلك الحركات التى لا نحسها ونحن نيام أو أيقاظ ، ولكننا نعرفها بطول التأمل ونضبط مواقيتها التى لا تختلف أبدا. ص _146
(فالق الإصباح وجعل الليل سكنا والشمس والقمر حسبانا ذلك تقدير العزيز العليم). ثم يمضى القرآن يفتح عين الإنسان هنا وهناك. (وهو الذي جعل لكم النجوم لتهتدوا بها في ظلمات البر والبحر قد فصلنا الآيات لقوم يعلمون). وفى هذا التفتيق الذهنى القوى تتضمن الآيات لمعا من الحقائق الإنسانية التى يعرف المرء منها نفسه ، ومن أين جاء ، وبماذا خلق . (وهو الذي أنشأكم من نفس واحدة فمستقر ومستودع قد فصلنا الآيات لقوم يفقهون) . ثم يعاود القرآن الكريم تذكير الإنسان بقصة الحياة فى النبات ؟ وكيف تتراص الحبوب فى السنابل ، وتتراكب فى الكيزان . وكيف ترى الثمرات نضيدة ، كأنما فرغ المنظم توا من وضعها فى مواضعها . (وهو الذي أنزل من السماء ماء فأخرجنا به نبات كل شيء فأخرجنا منه خضرا نخرج منه حبا متراكبا ومن النخل من طلعها قنوان دانية وجنات من أعناب والزيتون والرمان مشتبها وغير متشابه) وبعد ذلك الاستعراض الرائع تختم الآية بطلب رقيق: (انظروا إلى ثمره إذا أثمر وينعه إن في ذلكم لآيات لقوم يؤمنون) . هذا الدرس الذى نقلناه هنا نموذج لعشرات أمثاله فى القرآن تكشف عن دور الثقافة فى تكوين الإنسان وتكوين الإيمان جميعا. إن الإيمان ليس تخمينات عقل ضرير محبوس فى قفص من الأوهام الذاتية كلا . كلا . إنه أثر اشتباك الإنسان مع الحياة والأحياء ، ونظراته الدائبة الفاحصة لإدراك كل شئ والإحاطة بما وراء كل شئ . ومن هنا كان العلم والدين متلازمين، بل إن أحدهما فى منطق القرآن الكريم سبب ونتيجة للآخر . والمجتمع الذى يلده الإسلام، أو يولد فيه الإسلام، هو المجتمع الذى يسوده جو صحو من الدراسات الأصيلة الحرة. ينمو فيها العقل الإنسانى وتتوطد فيها أواصر الصداقة بين(1/168)
الإنسان وبين ما فى العالم من عناصر وقوانين . وذلك وحده هو الطريق الذى وحده الإسلام للتعرف على الله . ثم اليقين بما جاء من عنده على لسان رسله الأكرمين . * * * ص _147
ما هى الميزة التى جعلت كفة آدم ترجح على غيره ، وجعلت الملائكة نشعر بتفوقه ؟ لقد أجاب على السؤال الذى عجز الآخرون عنه ، عرف أسماء كل شئ وتبين أن له عقلا يدرك به ما حوله من مخلوقات الله ... ومن هنا قلنا: إن أساس الثقافة الإنسانية معرفة الكون والحياة بيد أن هذه المعرفة وسيلة إلى معرفة أعظم، هى معرفة خالق الكون والحياة، ورب كل شئ ومليكه.. رب العالمين. فمن عرف الحياة وتأدى منها إلى الإيمان بالخالق الكبير فهو إنسان، أما من لم يعرف هذا العالم، أو عرفه بطريقة مقلوبة لا تصله بالله فهو حيوان أو شيطان . (إن شر الدواب عند الله الذين كفروا فهم لا يؤمنون). إننا لم تر- كتابا مثل القرآن الكريم يربط الإنسان بالكون، والعقل بالعلم والضمير بالتقوى، والسلوك بالخلق.. ولذلك لا عجب إذا وجدنا فى صعيد واحد حديثا متماسكا متلاحقا عن الإنسان والقرآن والنبات والكواكب وقوانين الكون وموازين العدل !. تدبر قوله تعال: (الرحمن ، علم القرآن ، خلق الإنسان ، علمه البيان) . ثم كيف قرن بين أجرام السماء وحساب دورانها وأنواع النبات ما صعد على ساق، وما زحف على الأرض فقال: (الشمس والقمر بحسبان ، والنجم والشجر يسجدان) . ثم قال ناصحا البشر أن يتواصوا بالعدل بعد أن ألمح إلى قيام السموات والأرض بالحق . (والسماء رفعها ووضع الميزان ، ألا تطغوا في الميزان ، وأقيموا الوزن بالقسط ولا تخسروا الميزان) . ما معنى هذا كله ؟ معناه أن البصيرة الإنسانية مرآة تمسك الحقائق كلها على اختلاف مصادرها. وأن الإنسان عندما يكتمل عقلا وخلقا يتجاوب مع كل شئ فى الوجود تجاوبا صحيحا وصادقا. وسبيل ذلك العلم والدين جميعا ، فهما سلم الارتقاء للإنسان . إن الثقافة المنشودة هى ما يكون(1/169)
امتدادا لملكات الإنسان فى كل هذه المجالات. ولأمر ما كان أول ما نزل من القرآن إشعارا بفضل العلم وأثره وقيمة القلم وخطره. (اقرأ باسم ربك الذي خلق ، خلق الإنسان من علق ، اقرأ وربك الأكرم ، الذي علم بالقلم ، علم الإنسان ما لم يعلم). ص _148
" والعلم الذى يقبل المسلم عليه ، ويستفتح أبوابه بقوة ، ويرحل لطلبه من أقصى المشارق والمغارب ، ليس علما معينا محدود البداية والنهاية فكل ما يوسع منادح النظر، ويزيح السدود أمام العقل النهم إلى المزيد من العرفان، وكل ما يوثق صلة الإنسان بالوجود ويفتح له آمادا أبعد من الكشف والإدراك وكل ما يتيح له السيادة فى العالم والتحكم فى قواه، والإفادة من ذخائره المكنونة " . ذلك كله علم ينبغى التطلع فيه، ويجب على المسلم أن يأخذ بسهم منه . وهذا الشمول دلت عليه الآيات والسنن . فأما الأحاديث المشيرة إلى التزود من المعارف أيا كانت فكثيرة ، منها قول رسول الله " ـ صلى الله عليه وسلم ـ " : " من سلك طريقا التمس فيه علما سهل الله له به طريقا إلى الجنة ". وقال: " ما اكتسب مكتسب مثل فضل علم يهدى صاحبه إلى هدى أو يرده عن ردى ! وما استقام دينه حتى يستقيم عقله". وقال: " لا حسد إلا فى اثنين: رجل آتاه الله مالا فسلطه على هلكته فى الحق . رجل آتاه الحكمة فهو يقضى بها ويعلمها" . وقال: " إن الله وملائكته وأهل السموات والأرض ، حتى النملة فى جحرها وحتى الحوت فى جوف البحر ليصلون على معلم الناس الخير" . فالسياق فى هذه السنن يوجه إلى أى علم يطلب: تعلم الخير، الحكمة، ما يقى من الضرر، ما يقرب من النفع . وتخصيص العلم بلون معين من الثقافة كتخصيص المال بنوع معين من الأملاك لا وجه له. ولا شك أن فى طليعة ما تجب معرفته حق الله على الناس. وحق الناس بعضهم على بعض ، فإن هداية السلوك إلى الصالح العام كبيرة الأثر فى تنظيم الجماعات وتوجيه السياسات . لكن من الخطأ أن تظن العلم المحمود هو دراسة(1/170)
الفقه والتفسير وما شابه ذلك من الفنون فحسب ، وأما ما وراءها فهو نافلة يؤديها من شاء تطوعا أو يتركها وليس عليه من حرج هذا خطأ كبير، فإن علوم الكون والحياة ، ونتائج البحث المتواصل فى ملكوت السماء والأرض لا تقل خطرا عن علوم الدين المحضة، بل قد يرتبط بها من النتائج ما يجعل معرفتها أولى بالتقديم من الاستبحار فى علوم الشريعة " . ص _149
والإسلام رسالة فريدة فى رحابتها الثقافية، لا تشبهها رسالة أخرى من رسالات السماء والأرض. فإن نصوص القرآن الكريم والألوف من السنن المأثورة عن صاحب الرسالة تشكل مادة علمية تتصل بفروع الثقافة الإنسانية كلها، وذاك عدا ما تميزت به من علوم العقائد والعبادات التى ليس لها مصدر يوثق به غير الوحى الأعلى. إن الموضوعات التى تحدث فيها القرآن الكريم وتوسعت فيها السنة النبوية انتظمت- مع استقرار المجتمع الإسلامى- علوما واضحة المناهج معروفة الوجهة.. فإذا تجاوزنا حقائق العقيدة ومراسم العبادة، وجدنا أن الأخلاق والمعاملات، والقوانين الخاصة بالأسرة، والمجتمع- وسياسة الدولة- وعلاقاتها الخارجية، ميادين مهدتها المعارف الإسلامية ولها فيها تعاليم بينة. وهذه الأمور نفسها تناولتها- حتى يوم الناس هذا- مذاهب وفلسفات ونحل شتى، وبنيت لها فى عواصم الأرض مدارس وجامعات. إن الثقافة الإسلامية كما أسلفنا القول واسعة الدائرة، إنها تضم إلى العقائد والعبادات دراسات قانونية ومالية وسياسية، تعد الآن المادة العلمية لمعاهد مدنية بحتة. ونحن لا نحجر على العالم، أن يدرس ما يشاء. غير أننا نلفت النظر إلى أن للسماء توجيهات فى هذه المجالات عرفت على وجه اليقين فى رسالة محمد " ـ صلى الله عليه وسلم ـ " . ولن يزيدها مر الزمن إلا ثباتا وتألقا . هناك أنواع من العلوم لا صلة للدين بها لأنها تتصل بشئون الدنيا وتتبع كفاح الإنسان فى استكشاف المجاهل والإفادة من التجارب والاستزادة من الخبرات المختلفة فى كل فن.(1/171)
لكن صلة الإنسان بالله ، وصلته بنفسه، وصلته بغيره، وما يتطلبه ذلك من فقه فى العقيدة والشريعة وبصر بالتربية والأخلاق، قال الدين فيه كلمته ولم يأذن بتعقيبات ولا بمقترحات للواهمين ولا للخراصين.. ويؤسفنا أن معارف مزورة قد فشت بين الأجيال الحاضرة روجها الحسيون من عباد المادة الذين لا يؤمنون إلا بما يرون ويلمسون، فنشأ عن ذلك الجهل المركب تغير فى فكر الإنسان وسلوكه ومثله جعل أقطارا بأسرها وحكومات قوية تعتنق الإلحاد وتربى الأطفال على الكفر والمروق من أواصل الدين ووحى السماء. وليست المأساة فقط فى اعتناق ثلث البشرية للشيوعية، إنما المأساة فى أن المنطق المادى جرف أمامه جمهرة الخلق، فقلما يتصرف أحد بعيدا عن وساوسه. أما الثقة فى الله على نحو جاد يحمل الإنسان على الاستعداد للقائه، فذلك شعور لا يخامر إلا أفئدة القلائل. ص _150(1/172)
ويستحيل أن تكترث به صحيفة من الصحف أو إذاعة من الإذاعات . إن الخوض فى كل شىء يستغرق الأوقات كلها، ولا يدع بقية للحديث عن الأوهام!! وأود أن أعترف بأن فشو المادية يعود أغلب ما يعود إلى العوج الذى أصاب الرسالات السماوية نفسها، سواء أكان هذا العوج فى أصولها، أو فى الحياة العملية لجمهرة المتدينين. إن الإيمان بالروح تسرب إليه الإيمان بالخرافة، والإغراق فى الخيال، وإن الإيمان بالدار الآخرة تحول إلى جهل بالدنيا وغباء فى تناولها. فكان الماديون بجنوحهم إلى الواقع وحده أدنى إلى النجاح من غيرهم. على أن الحقيقة لا يسوغ أن تذوب فى هذا الموج المتلاطم من الأفكار المضطربة والمسالك الزائغة. وعظمة المواهب الإنسانية تعصمهم من الإخلاد إلى الأرض إذا انكسرت أحيانا الأجنحة الصاعدة بها. ولقد أضاءت فى بقاع كثيرة من الأرض أفكار صالحة، ومعارف جيدة أعادت للإنسان رشده وذكرته بأصله السماوى، وأهابت أن يعيش الحق ويستمسك به، وألا ينخدع بالآراء العائمة فيجرى وراء سراب. ونحن نحتفى بإنتاج العقل الإنسانى الدائب على البحث، الذى يستفيد من الخطأ قدرة على تجنبة، وقدرة أخرى على دعم الحق، والاعتزاز به. * * * الثقافة الصحيحة بين الفكر العقلى والوحى الدينى : قال الله تعالى: (وهذا صراط ربك مستقيما قد فصلنا الآيات لقوم يذكرون) . فى بديهيات الهندسة أن الخط المستقيم لا يتعدد، لأنه أقصر مسافة بين نقطتين، ومهما رسمت من خطوط مستقيمة فهى متطابقة حتما من نقطة الابتداء إلى نقطة الانتهاء، ولن يفترق أحدهما عن الآخر إلا إذا زاغ عن هدفه وانحرف عن وجهته، أى إلا إذا فقد الاستقامة المفروضة فيه- وهذا الذى يصدق فى مجال الحياة الحسية يصدق فى آفاق الحياة الإنسانية كلها، فطريق الحق الذى رسمه الدين هو طريق الحق الذى يهدى إليه الفكر الثاقب والبصر السديد . وهيهات هيهات أن يختلف العقل والنقل أو تتناقض ثمار الوحى والفكر، ما دام كلاهما تصويرا(1/173)
مجردا للحقيقة كما هى دون ريبة أو عوج. ص _151
فى العلاقة بين العلم والدين يجب أن نعرف أن قول العاقل وعمله لا يختلفان، وإذا كان الكون صنع الله والدين كلامه- جل شأنه- فيستحيل أن يكون فى المعارف الكونية ما يخالف العلوم الدينية، إذ العلم ليس إلا وصفا لما صنع الله فى آفاق السماوات، وتقريرا لما بث فيها من قوى وخصائص. وهذا البيان لأفعال الله يستحيل أن يجىء فى وحى الله ما يختلف عنه أو يصطدم به. إن الدين الحق والعلم الحق هما تصوير متكامل للوجود . وقد أنزل الله آياته كى تنير الطريق للسالكين وتجلو معالمه للقاصرين . ونحن- باسم الإسلام- نعتبر تصديق الحقائق العلمية دينا . ومن ثم نوجب على علماء الكون والحياة أن يروا تصديق الحقائق الدينية علما . والواقع أن جحد شىء مما جاء الدين به يقينا ، يساوى الجهل بالقوانين العلمية العادية . ولا فرق فى نظرنا بين متدين يظن الأرض مستطيلة أو مربعة، وبين مثقف محجوب عن أصول الاعتقاد ومراسم العبادة. كلاهما جاهل بأجزاء خطيرة من الحق الذى قامت به الأرض والسماوات، وكلاهما لا يهتدى سواء السبيل إلا إذا استدرك ما فاته واستكمل ما نقصه. على أن القرآن الكريم ليس كتاب مباحث فنية فى علوم الكون والحياة، وغاية ما ألمع إليه أنه- وهو يبنى اليقين على التأمل فى ملكوت السماوات والأرض- وصف هذا العالم بكلمات معجزة حالفها الصدق على اختلاف العصور وارتقاء العقول، فبقيت فى تصوير الحق براقة الدلائل، لا يأتيها الباطل من بين يديها ولا من خلفها لأنها (تنزيل من حكيم حميد) . وصدق هذه الكلمات لا يشغلنا عن الغاية العظمى التى نزل القرآن من أجلها فهو- من قبل ومن بعد- كتاب هداية جامعة للسلوك الإنسانى الصحيح... إنه استوعب كل شىء- يأمر بالخير وينهى عن الشر وأقر كل ما يقرب من الله وزجر عن كل ما يبعد عنه. إن مراحل الصراط المستقيم مفصلة تفصيلا فى هذه الآيات الهادرة بالحق الطاردة للباطل . ما من شىء(1/174)
يصون الأفئدة، أو يضبط الشهوات ويمنع ضراوتها. أو يحفظ الفطر، ويستبقى أصالتها، إلا تكاثرت فى هذا القرآن الكريم مصادره، واتقدت منائره . ومواكب البشر التى ازدحمت على طريق الحياة تحدوها مآراب لا حصر لها، إن القرآن الكريم وضع لها مبادىء الإخاء والعدالة، وأحكم العلاقات التى تسودها، والبرامج التى تقودها، تارة بما غرس فى النفوس من مودة وأدب، وتارة بما شرع من أحكام تقمع الانحراف وتحسم الاعتساف، وتوفر للناس الأمن والمصلحة . ونفاسة ما هذا الكتاب العزيز تجليها المقارنة. ص _152(1/175)
فقبل أن ينزل الوحى ، وفى البلاد التى لم تبلغها أشعته بعد أن نزل، لم يقف العقل الإنسانى جامدا فى حدود المدركات القريبة، بل تطلع إلى معرفة الله، وإلى استكناه طبيعة الحياة ورسالة الإنسان فيها . وكثرت الفلسفات والمذاهب فى فهم العلاقة بين الإنسان وربه، وبين الإنسان وأخيه الإنسان . ومع أن العقل البشرى سار طويلا وحده إلا أن حصيلة فكره انتهت فى الجملة إلى المقررات الدينية الأصيلة، فالإيمان بالته وحده نزعة الكثرة العظمى من الفلاسفة، ولا قيمة للشذوذ، وكذلك تحسين الحسن وتقبيح القبيح، وتعريف المعروف وإنكار المنكر. بل يروى أبو حامد الغزالى فى كتابه " المنقذ من الضلال " أن التوافق فى السياسة الخلقية والاجتماعية بين أحكام الدين، ومقررات الفلسفة يرجع إلى تأثر هؤلاء بمواريث دينية عن النبوات الأولى قبل أن ترجع إلى نبوغ خاص عند هؤلاء المفكرين . على أن فى التفكير البشرى المجرد آفات يجب أن تعرف وتحذر إن المعرفة السطحية كثيرا ما تعصف بألباب القاصرين، وتعلقهم بظواهر لا وزن لها، ولذلك قال أحد المفكرين العرب: إن القليل من الفلسفة يبعد عن الله، ولكن الكثير منها يرد إليه جل جلاله. الواقع أن الاغترار بقليل المعرفة، والاستهانة بما وراءه من مراق عقلية بعيدة المدى: رذيلة انتشرت للأسف بين كثيرين. وما أجمل قول الشاعر: فقل لمن يدعى فى العلم معرفة حفظت شيئا وغابت عنك أشياء ولأمر ما اتجه لرسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ بهذا الخطاب: (وقل رب زدني علما) . أجل : (وفوق كل ذي علم عليم) . وإلى جانب السطحية نحس فى البعد عن هدايات الدين خطرا آخر هو الخلط. فقلما ظهر مذهب فلسفى وأصاب الحق فى نواحيه الإلهية والخلقية والاجتماعية كلها.. بل كثيرا ما امتلأت الحياة بتيارات يتجاوز فيها الحق والباطل والجمال والقبح وهذه الآفات برىء منا الدين لأنه وحى معصوم . (الله لا إله إلا هو ليجمعنكم إلى يوم القيامة لا ريب فيه ومن أصدق من(1/176)
الله حديثا) . الدين- كما جاء من عند الله- هو الخلاصة النقية السهلة التى جمعت الحق كله. فى أسلوب من القول برئ من اللغو والتعقيد، وهو الهدى المغنى عن تجارب الخطأ والصواب. ومتاعب العثور والنهوض. ص _15 ص
والواقع أن الله لما ارتضى لنا الإسلام دينا أراحنا من عنت المشي فى الظلام ، والتردى فى هاويات الأهواء والأوهام . فما أحوجنا إلى أن نسمع دروس السماء من تراث خاتم الأنبياء يقودنا إلى الحق. ويأخذ بنواصينا إلى الرشد، ويغرس فى أفئدتنا الإيمان. إن عالمنا المعنى فقير إلى هذا الإيمان العزيز. " إن الإيمان بالله هو: أساس الفضائل، ولجام الرذائل، وقوام الضمائر؟ وسند العزائم فى الشدائد، وبلسم الصبر عند المصائب. وعماد الرضا والقناعة بالحظوظ، ونور الأمل فى الصدر، وسكن النفوس إذا أوحشتها الحياة، وعزاء القلوب إذا نزل الموت أو قربت أيامه، والعروة الوثقى بين الإنسانية ومثلها الكريمة . ولا يخدعنك عن هذا من يقول لك : إن مكارم الأخلاق تغنى- بوازع الضمير- عن الإيمان. لأن مكارم الأخلاق التى تواضعنا عليها، للتوفيق بين غرائزنا وحاجات المجتمع لابد لها عند اعتلاج الشهوات فى الشدائد والأزمات أن تعتمد على الإيمان، بل إن هذا الشئ الذى نسميه ضميرا إنما يعتمد فى سويدائه على الإيمان . وانقياد الناس لمكارم الأخلاق إنما يكون بزاجر من السلطان، أو وازع من القرآن ، أو رادع من المجتمع . فإذا كنا فى نجوة من سلطان القانون والدين والمجتمع لم يبق لنا وازع إلا الضمير. ونحن فى معركة الشهوات والغرائز مع الضمائر، قل أن نرى الضمير منتصرا إلا عند القلة من الناس، وهذه القلة نفسها لا تستمسك بضمائرها عند جموح الشهوات إلا إذا كانت تخشى الله يا حيران ! ولو تركنا مكارم الأخلاق جانبا ، ونظرنا إلى حاجتنا إلى الإيمان من حيث هو سند فى الشدائد ، وبلسم المصائب ، وسكن للنفوس ، وعزاء للقلوب ، وعلاج لشفاء الحياة ، لوجدنا أننا عند فقد(1/177)
الإيمان ، نكن أسوأ حظا فى الحياة وأدنى رتبة فى سلم المخلوقات من أذل البهائم وأضعف الحشرات وأشرس الضوارى . فالبهائم تجوع كما نجوع ، ولكنها فى نجوة من هم الرزق ، وخوف الفقر ، وكرب الحاجة وذل السؤال . وهى تلد كما نلد ، وتفقد أولادها كما نفقد ، ولكنها فى راحة من هلع المشكلة ، وجزع الميتمة ، وهم اليتامى المستضعفين. وهى فى أجسادها تلتذ كما نلتذ ، وتألم كما نألم ، ولكنها فى راحة مما يأكل القلوب ، ويقرح الجفون ويقض المضاجع ، ويقطع الأرحام ، ويفرق الشمل ، ويخرب البيوت من ص _154(1/178)
المهلكات: كالحسد والكذب والنميمة، والفرية، والقذف، والنفاق، والخيانة والعقوق وكفر النعمة، ونكران الجميل. وهى تعرف بنوع من الإدراك ما يضرها وما ينفعها، ولكنها فى نجوة من أعباء التكليف وأثقال الأوزار، ومضض الشك، وكرب الحيرة، وعذاب الضمير. وهى تمرض كما نمرض، وتموت كما نموت ولكنها فى راحة من التفكير فى عقبى المرض وفراق الأحباب، وسكرات الموت، ومصير الموتى وراء القبور، والضوارى تسفك الدماء لتشبع بلا سرف، ولكنها لا تسفكها أنفا ولا جنفا، ولا صلفا، ولا ترفا.. ولا علوا فى الأرض ولا استكبارا. أما هذا الحيوان الفيلسوف، الضعيف الهلوع، الجزوع، المطماع، المختال، المترف، المتكبر، المتجبر، السافك للدماء الذى لا يأتيه شفاء الحياة أكثر ما يأتيه إلا من تفكيره فإنه لا علاج لشقائه إلا بالإيمان، فالإيمان هو الذى يقويه، وهو الذى يعزيه. وهو الذى يسليه، وهو الذى يمنيه، وهو الذى يرضيه، وهو الذى يجعله إنسانا يسعى إلى مثله الأعلى لتسجد له الملائكة ". * * * إن الثقافة الإسلامية المعاصرة تحتاج إلى كثير من التأمل. فالذى لا ريب فيه أن القرآن معصوم من الخطأ، وأن آياته هى لباب الحق وأن الاهتداء بها منار يقود إلى خير الدنيا والآخرة. والذى لا شك فيه أن التراث القولى والعملى للرسول لقى من العناية ما لم يلقه تراث بشر آخر، وأنه فى جملته هداية نافعة ونهج مستقيم. لكن الثقافة الإسلامية النابعة من تلك الأصول عراها من الشوائب ما يجب التنبيه إليه. ا- انفصلت الدعوة الإسلامية عن الدول الإسلامية من زمن مبكر وتولت شئون المسلمين حكومات تصلها بالإسلام خيوط واهية، وأغلبهم رؤساء أو ملوك يحترفون الحكم شهوة للسلطة، ورغبة فى الثرورة. ولم يقرب هؤلاء الحكام إلا العلماء الذين فى كفايتهم ضعف، وفى أمانتهم غش فأما الراسخون فى العلم، فقد تركوا لضراء الحياة ووعثاء الطريق. فكم فى تراب التاريخ من أئمة دفنت ذخائرهم، وخفيت أسماؤهم وحرمت(1/179)
الجماهير الظمأى من الانتفاع بهم إلا قليلا. ولم تبال الحكومات الإسلامية الجهول أن تدع الشعوب للفراغ، فشغل العوام أنفسهم بفروع الفقه والجدال فى التوافه، والتعلق بالبدع والجرى وراء الأوهام . وتلك كلها آفات لم يعرفها العالم الإسلامى الأول، أيام الرسول والخلافة الراشدة إذ كان الخاصة والعامة أهل جد وعقل ينزل الدين من نفسهم منزلة الوقود من الآلة الجيدة ، ص _155
فهم يدورون به فى الحياة ليملأوه عدلاً ورحمة ، وتعاوناً وإنتاجاً . 2- تسرب إلى الثقافة الإسلامية ركام وبئ من تفكير الإغريق الخرافي ، ومن أكاذيب الأولين . وحفلت كتب العقائد والتفسير والتاريخ بترهات ما كان يجوز أن تنشا بل أن تدرس وتروى . خذ مثلاً ، قصة العقول والأفلاك التى هى أصل الوجود الأعلى عند اليونان، إن هذا الكلام فى ميدان العلم لا يزن بعرة ، ولو كان قائله أرسطو . وهو فى ميدان الدين دجل. ومع ذلك فقد عدوه فلسفة تدرس...!! وما كار يليق بالمسئولين عن الثقافة الإسلامية أن يأذنوا بتسربه إلى بيئتهم العقلية. ولو أن إدارة للرقابة الإسلامية تكونت لتنظيف الثقافة الإسلامية من اليونانيات، والإسرائليات، والنصرانيات، لمحت صحائف كثيرة غاصة بهذا اللغو. والمصيبة ليست فى انتشار هذا الباطل فقط . بل فى المقاييس الإسلامية التى أصابها شئ من الخلل فبدلا من أن تضبط النشاط العقلى بمنطق القرآن الكريم الذى لمسنا نماذج منه، اختلطت بالمنطق اليونانى الذى قلما يلتفت إلى كتاب الكون المفتوح أو يتجه إلى كشف المجهول من قوى الكون وأسراره . ص - انتشرت مع التصوف الدخيل على الأمة الإسلامية صور من الرهبانية وظلال من الجهل بالحياة الدنيا ، والعزوف عن أعبائها ومباهجها جميعاً . وأصبحت الفكر الشائعة عن الدين أنه عدو للحياة . وأن وظيفته الأولى هى إعداد الناس لاستقبال الآخرة بأنواع المراسم وأشكال الطاعات . وأنه- إن لم يزهد أتباعه فى هذه الحياة- فهو لا يبالى(1/180)
بتجهيلهم فيها وانصرافهم عنها، وربما يعد ذلك من كمال التقوى وأمارات حب الله..!! وهذه التصورات كلها خيال مريضى. والذى يطالع القرآن والسنة وسيرة الخلافة الراشدة وكتب الأئمة المتبوعين يدرك أن الإسلام أبعد ما يكون عن هذا الحمق، ولكن الرواسب التى شرحناها تتلقى الآن فى شتى الأذهان وتحتاج إلى جهاد أدبى موصول. * * * وقد أمكن أولى البصائر النيرة من علماء الإسلام ومجددى نهجه أن يشقوا الطريق وسط هذه الظلمات ، وأن يعلنوا حرباً شعواء على كل هذه الآفات الفكرية والنفسية التى نالت من حقيقة الإسلام ومن كرامته والتى استغلها للأسف الشديد أعداء الله وعباد المادة فى الشغب عليه والتنديد به. ص _156(1/181)
إننا لا نخاف من شبهات الإلحاد على بناء الإسلام ذاته فهى تصطدم به كما تصطدم الكرة الطائرة بجدار حصين سميك . ولكن حرصنا كله على أن يخط الحق مجراه فى هذه الحياة نقيا لا تشوبه شائبة . غير أن مرارة نحسها فى حلقونا لأن حظ العلماء النابهين لا يزال تاعسا. إن تعميم النفع بهم دونه جنادل قائمة. وإن آثارهم الأدبية سرعان ما تطوى فى حياتهم أو فى أعقاب وفاتهم. وإن صوتهم فى معايشهم وذراريهم لا يهتم به أكثر من يملكون الأمور. أما الذين يقدمون للناس الغناء واللهو وفنون التسلية، فإن تكريمهم أحياء وأمواتا من أيسر الأمور أو من أوجبها. منذ سنوات ومصر تحتفل بالذكريات السنوية لموت نجيب الريحانى وأشباهه، فهل احتفلت الجهات الشعبية والرسمية بذكرى محمد فريد وجدى، وأحمد أمين وعبد الوهاب خلاف، ومحمد عبد الله دراز ، وأحمد عبد الرحمن البنا، و...، وغيرهم من رجالات الثقافة الإسلامية الذين ماتوا مع هذا الجيل أو بعده؟ لا… إن هؤلاء يموتون فى صمت أو فى ضجة، ثم لا تمر أيام حتى ينسحب عليهم ذيل النسيان ... ومن أسابيع ثارت عاصفة فى الصحف لأن إحدى المغنيات فى شيخوختها لم تجد سعة الرزق التى عرفتها فى شبابها!! واقتضى تكريم الفن ! إرسال النجدة على عجل !! ترى كم من رجال الثقافة الإسلامية يلقون هذه الرعاية عندما يولى شبابهم ؟ إذا ورث الجهال أبناءهم غنى وجاها فما أشقى بنى العلماء * * * * القيمة الحقيقية للفنون: منذ سنين طويلة وأنواع الفن من غناء ورقص وتمثيل تحظى بعناية مضاعفة ويبذل لها من التشجيع المادى والأدبى ما يستثير الدهشة. والمال سيل غدق، والشهرة آفاق عريضة، والاحترام الفردى للفنان، والجماعى لطبقته، مقرر فى المحافل الرسمية والشعبية على سواء. وقد أحسست شيئا غير قليل من الاستغراب لما قرأت كتابا عن الشيخ زكريا أحمد بعد وفاته بأيام قلائل. إن هذا الشيخ لو بقى يتلو القرآن وحده لمات قبل مجئ أجله بخمسين سنة على الأقل !. ولو(1/182)
أنه فقه القرآن وعلومه وتصدر للفتوى بها والخطابة فيها لمات عند مجئ أجله بعد حياة منغصة وعيشة ساخطة . . ص _157
ولكنه اشتغل بتلحين الأغانى، جدها وهزلها- إن كان فيها جد- فعاش كريما، ومات أكرم، وصدر عنه بعد وفاته كتاب لم يصدر مثله بهذه السرعة عن رجالات العلم والأدب عندما وافاهم الأجل الحتم . وتقدير " الفنانين " على هذا النحو يحتاج من الناحية الإنسانية والدينية إلى بعض التأمل. فى روسيا حيث لا دين، حلت الفنون حلولا جزئيا مكان الدين، وحاولت أن تسد الفراغ العاطفى الذى خلخله الإلحاد، وأن تشغل القلوب التى خلت من الله بأنواع شتى من المشاعر التى تصنعها الموسيقى والألحان والأغانى والتمثيليات. ربما كان عناية الشيوعية بالفن عناية هائلة ترجع إلى هذه الضرورة النفسية، ويكاد الفنانون هناك يكونون أغنى الطبقات وأهنأهم بالا، وأدناهم إلى الشهرة. وفى الغرب الرأسمالى يأخذ الفن أيضا أنصبة من العناية الملحوظة، والسبب واضح. فأوروبا الغربية فى حالة تشبع وغنى فاحشين بعد أن ظلت عدة قرون تنهب ثروات للقارتين القديمتين آسيا وإفريقيا. لقد بنت مدنها ومصانعها ومسارحها من حصيلة الاستعمار الذى أذلت به الأحرار، واستنزفت به الحقوق. وهى بعد أن بلغت هذا الحد من الترف ترقص وتغنى ما تشاء. وأمريكا كذلك فى ظروف اليسار والمتاع تجعل للهو جانبا ظاهرا فى حياتها. أما الأمم العربية والإسلامية، فهى على النقيض من العالمين: الشيوعى، والرأسمالى.. إنها أمم لها دين يشغل عاطفتها وفكرها بالكثير. ثم هى أمام واجبات مرهقة من البناء والتعمير تجعلها لا تعطى المجون والملاهى إلا قليلا من وقتها. ويتبع ذلك يقينا أن يكون المغنون وأهل الموسيقى والتمثيل وأشباههم فى منزلة العلماء والمفكرين والمهندسين وأمثالهم. إن الأمة التى ترفع مقدمى المرح، وتؤخر مقدمى الجد أمة مقلوبة الميزان. وتقليدنا للآخرين فى هذا المجال تقليد أعمى، فلا نحن شيوعيون، ولا نحن(1/183)
استعماريون.. عندما مات الممثل " عادل خيرى " كتب الأستاذ محمد زكى عبد القادر يقول: "الفنان الممتاز منحة لا يجود بها الزمن دائما، إنه لا يتربى بالدراسة والبحث والتثقيف ، إنه لا يصنع ، بل يوجد ، وما يتلو وجوده من دراسة وبحث وتثقيف ليس إلا من قبيل الصقل للموهبة التى هى الأساس. ص _158
ومن هنا كان الفنانون ثروة لا تقدر بمال، لان المال لا يصنعها، وهم يبلغون من أفئدة الجماهير ووجدانها ما لا يبلغه أحد، لأنهم يخاطبون الشعور والقلب، ويستخرجون منها أرق ما فيهما، وأعمق ما فيهما. وكثيرا ما يكون الفنانون موضع حسد لما ينالون من شهرة ومن مال وفير فى بعض الأحيان. ولكن الفنان الحق يبذل من فؤاده وجسده أضعاف ما يأخذ، لأن ما يأخذه ليس هدفا، إنما ما يعطيه هو الهدف، ولذلك يعطى بغير حساب. وهو لا يعطى من عقله الصامد. ولكن من وجدانه النابض، والنبض انفعال، والانفعال احتراق. وقلما مات فنان فى عمر الزهور إلا كان موته أشبه بالاحتراق. وحتى من يموت منهم فى سن متقدمة يقترن موته حتما بما يشبه الاحتراق. فالذين- وهم من حسن الحظ قليلون- يشعرون بحسد الفنان لما ينال من شهرة ومال يجب أن يذكروا أن الحياة متوازنة بطبيعتها، وأنها إذ تمنح الفنان ما تمنح تأخذ منه أيضا كفاء ما تمنح " . ونحن نرفض هذا الكلام جملة وتفضيلا ، فإن عد الممثلين والممثلات، والراقصين والراقصات، والمغنين والمغنيات أصحاب عبقريات إنسانية ممتازة تستحق التكريم، ويعتبرون بها قادة محليين أو عالميين، هبوط بالإنسانية وإسقاط لرسالتها. إن مكان هؤلاء فى الحياة العامة ثانوى ، وسيرتهم يجب أن تخضع لرقابة صارمة تضبطها وفق واجبات الأمة ومثلها العليا، ووفق مقرراتها الدينية والخلقية... * * * ص _159(1/184)
واجبات بإزاء حقوق الدولة الفاضلة : الحكم فى نظر الإسلام أبوة روح، وإمامة مسجد، وقيادة جند، وإدارة دولة وإذا كان الإنسان يؤجر عند الله بمقدار ما يقيم من حق، ويهدم من باطل، وما يسوق من خير، ويحجز من شر، وما يستر من عورات، ويؤمن من روعات، وما يصون من مصالح، ويدرأ من مفاسد، فالحاكم الطيب العدل مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين. ومنزلته عند الله أسبق من منزلة القائم لا يفتر، والصائم لا يفطر. وذلك أن خير الدنيا والآخرة منوط بعمله، وأن ثمرة كدحه ليست لواحد من الخلق، ولا لنفر من الناس، إنما هى لحاضر أمة ومستقبلها. وعلى قدر ما يحرز الحاكم الصالح من مثوبة الله تكون عقوبة الحاكم الغادر بأمانة وظيفته، المضيع لحقوق الخلائق. فماذا كان هناك ناس يرون الحكم سطوا على المال العام، وكبرا على عباد الله ينقضون لاختطافه، انقضاض الوحش على فريسته، ويدافعون غيرهم عنه دفاع الجشع عن نهمته، والشحيح عن ثروته، فهؤلاء شر من فى الأرض والسماء. وتحصين الإنسانية من هؤلاء واجب مثل تحصينها من الطواعين الجائحة. ولا شك أنهم أفدح سوءا من قطاع الطريق وقتلة الأنفس، وأن حسابهم عند الله شديد. وفى هذا النوع من الحكام والموظفين الخونة يقول الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ : "ويل للأمراء، ويل للعرفاء، ويل للأمناء، ليتمنين أقوام يوم القيامة أن ذوائبهم معلقة بالثريا، يدلون بين السماء والأرض، وأنهم لم يلوا عملا " . وفى رواية أخرى: " ليوشكن رجل أن يتمنى أنه خر من الثريا، ولم يل من أمر الناس شيئا " . إن وظائف الدولة على اختلافها ليست إلا نوعا من الخدمة العامة، وكلما علت وظيفة إنسان عظمت تبعته وانداحت أقطار الدائرة التى يعرق لخدمة الناس فيها، وإقامة حقوق الله بها. فمن توسل بأية رياسة ليخدم نفسه لا ليخدم الناس، وليجيب نزعات الهوى لا ليقر دعائم الحق فهو مجرم أثيم. ص _160(1/185)
وإننا لنرجو أن تتخلص الإنسانية كلها من ضروب الحكم الفاسد، وأن تتكاتف لمنع الجبارين والمغتالين من التسلط على الشعوب وإهانتها وإضاعة مصالحها وإذلال جانبها. والحريات والحقوق التى شرحناها فى الصحائف السابقة تصور ركنا مهما من عمل الحكومات الراشدة، ونهجا سديدا لسيرها. وعندما نؤكد حق كل أمة فى هذا المعانى، وعندما نتحدث بحرارة عن حقوق الإنسان وحرياته، فنحن نعلم أن الفرق ظاهر بين الحرية والفوضى، أو بين حرية الإنسان وحرية الحيوان، أو بين العقل وحرية الشهوة. وفيما أنزل الله من شرائع لعباده بيان شاف عما يفعل المرء ويترك، وعما يحل ويحرم، وتفاصيل هذا كله قريبة المنال. إن الحريات التى نأسى على فوتها، والتى لا تزال جماهير غفيرة من البشر محرومة منها، هى تلك الحريات التى لا يصح الوجود الإنسانى إلا بها، وهى حريات كافح الأنبياء والمصلحون من بعدهم لتقريرها. هناك ألف مليون من البشر فى ظل النظام الشيوعى مكرهون على الكفر بربهم، والانتظام فى تعليم يزدرى الدين، وينال أنكى نيل من مقدساته. هناك فى القارتين القديمتين إفريقيا وآسيا استعمار كالح متعصب يسرق الأقوات والعقائد، ويسمم الأفكار، ويحاول فتنة الأمم اليقظى عن إيمانهم وتضليلها عن أهدافها... إن العالم فقير إلى تقرير الحقوق التى ورد ذكرها هنا، وهى حقوق يتطابق العقل الإنسانى والوحى الإلهى على توكيدها واحترامها . * * * هل طول الحديث عن حقوق الإنسان ينسينا حديثا أسبق منها، وأجدر بالالتفات...؟ الحديث عن واجبات الإنسان...!!! إن الله الذى أفاء هذه النعماء السابغة، وبوأنا تلك المكانة الرفيعة لم يبرزنا إلى الوجود، ويهيئ لنا فرص التفوق المادى والأدبى، لنعيش جهلة به، عتاة عن أمره!! إنه- كل يوم- يستعيد بعضنا إليه بعد ما قضى فى هذه الدنيا فترة طويلة أو قصيرة!!. ترى أتركنا فى هذه الفترة لنتسكع على طريق الحياة لا نذكره، ولا نتقيه ، ولا نستعد للقائه ..؟؟ لبئس الظن(1/186)
ما يروجه الماديون السفهاء عن حقيقة هذا الوجود وثمرته، أولئك الذين يعبدون كل شئ ، وهم يتظاهرون بأنهم تحرروا من عبادة الخالق لكل شئ. ص _161
(أفحسبتم أنما خلقناكم عبثا وأنكم إلينا لا ترجعون ، فتعالى الله الملك الحق لا إله إلا هو رب العرش الكريم ، ومن يدع مع الله إلها آخر لا برهان له به فإنما حسابه عند ربه إنه لا يفلح الكافرون ، وقل رب اغفر وارحم وأنت خير الراحمين ) * * * ص _16 ص
الإعلان العالمى لحقوق الإنسان فى العاشر من ديسمبر (كانون الأول) 1948 أقرت الجمعية العامة للأمم المتحدة الإعلان العالمى لحقوق الإنسان وأذاعته، وبعد هذا الحدث التاريخى دعت الجمعية العامة الدول الأعضاء إلى ترويج نص الإعلان، وإلى العمل على نشره وتوزيعه وقراءته ومناقشته، خصوصا فى المدارس والمعاهد التعليمية بدون أى تمييز بشأن الوضع السياسى للدول أو الأقاليم . * الديباجة: لما كان الاعتراف بالكرامة المتأصلة فى جميع أعضاء الأسرة البشرية وبحقوقهم المتساوية الثابتة هو أساس الحرية والعدل والسلام فى العالم . ولما كان تناسى حقوق الإنسان وازدراؤها قد أفضيا إلى أعمال همجية آذت الضمير الإنسانى، وكان غاية ما يرنو إليه عامة البشر انبثاق عالم يتمتع فيه الفرد بحرية القول والعقيدة ويتحرر من الفزع والفاقة. ولما كان من الضرورى أن يتولى القانون حماية حقوق الإنسان، لكيلا يضطر الفرد آخر الأمر إلى التمرد على الاستبداد والظلم. ولما كانت شعوب الأمم المتحدة قد أكدت فى الميثاق من جديد إيمانها بحقوق الإنسان الأساسية وبكرامة الفرد وقدره وبما للرجال والنساء من حقوق متساوية، وحزمت أمرها على أن تدفع بالرقى الاجتماعى قدما وأن ترفع مستوى الحياة فى جو من الحرية أفسح. ولما كانت الدول الأعضاء قد تعهدت بالتعاون مع الأمم المتحدة على ضمان اطراد مراعاة حقوق الإنسان والحريات الأساسية واحترامها. ولما كان للإدراك العام لهذه الحقوق والحريات(1/187)
الأهمية الكبرى للوفاء التام بهذا التعهد. فإن الجمعية العامة تنادى بهذا الإعلان العالمى لحقوق الإنسان : على إنه المستوى المشترك الذى ينبغى أن تستهدفه كافة الشعوب والأمم حتى يسعى كل فرد وهيئة فى المجتمع، واضعين على الدوام هذا الإعلان نصب أعينهم إلى توطيد احترام هذه الحقوق والحريات عن طريق التعليم والتربية واتخاذ إجراءات مطردة قومية وعالمية، لضمان الاعتراف بها ومراعاتها بصورة عالمية فعالة بين الأعضاء ذاتها، وشعوب البقاع الخاضعة لسلطانها. مادة 1: يولد جميع الناس أحرارا فى الكرامة والحقوق، وقد وهبوا عقلا وضميرا، وعليهم أن يعامل بعضهم بعضا بروح الإخاء . مادة 2: لكل إنسان حق التمتع بكافة الحقوق والحريات الواردة فى هذا الإعلان، دون تمييز، كالتمييز بسبب العنصر أو اللون أو الجنس أو اللغة أو الدين أو الرأى السياسى أو أى ص _164(1/188)
رأى آخر. أو الأصل الوطنى أو الاجتماعى أو الثروة أو الميلاد أو أى وضع آخر، دون أية تفرقة بين الرجال والنساء. وفضلا عما تقدم فلن يكون هناك أى تمييز أساسه الوضع السياسى أو القانونى أو الدولى للبلد أو البقعة التى ينتمى إليها الفرد سواء أكان هذا البلد أو تلك البقعة مستقلا، أو تحت الوصاية، أو غير متمتع بالحكم الذاتى، أو كانت سيادته خاضعة لأى قيد من القيود. مادة ص : لكل فرد الحق فى الحياة والحرية وسلامة شخصه. مادة 4: لا يجوز استرقاق أو استعباد أى شخص، ويحظر الاسترقاق وتجارة الرقيق بكافة أوضاعهما. مادة 5: لا يعرض أى إنسان للتعذيب ولا للعقوبات أو المعاملات القاسية أو الوحشية أو الحاطة بالكرامة. مادة 6: لكل إنسان أينما وجد الحق فى أن يعترف بشخصيته القانونية. مادة 7: كل الناس سواسية أمام القانون ولهم الحق فى التمتع بحماية متكافئة منه دون أية تفرقة، كما أن لهم جميعا الحق فى حماية متساوية ضد أى تمييز يخل بهذا الإعلان وضد أى تحريض على تمييز كهذا. مادة 8: لكل شخص الحق فى أن يلجأ إلى المحاكم الوطنية لإنصافه من أعمال فيها اعتداء على الحقوق الأساسية التى يمنحها إياه القانون. مادة 9: لا يجوز القبض على أى إنسان أو حجزه أو نفيه تعسفيا. مادة 10: لكل إنسان الحق، على قدم المساواة التامة مع الآخرين، فى أن تنظر قضيته أمام محكمة مستقلة نزيهة نظرا عادلا علنيا للفصل فى حقوقه والتزاماته وأية تهمة جنائية توجه إليه. مادة 11: 1- كل شخص متهم بجريمة يعتبر بريئا إلى أن تثبت إدانته قانونا بمحاكمة علنية تؤمن له فيها الضمانات الضرورية للدفاع عنه. 2- لا يدان أى شخص من جراء أداء عمل أو الامتناع عن أداء عمل إلا إذا كان ذلك يعتبر جرما وفقأ للقانون الوطنى أو الدولى وقت الارتكاب، كذلك لا يوقع عليه عقوبة أشد من تلك التى كان يجوز توقيعها وقت ارتكاب الجريمة. مادة 12: لا يعرض أحد لتدخل تعسفى فى حياته الخاصة أو أسرته أو(1/189)
مسكنه أو مراسلاته أو لحملات على شرفه وسمتعه، لكل شخص الحق فى حماية القانون من مثل هذا التدخل أو تلك الحملات. مادة 1 ص : 1- لكل فرد حرية التنقل واختيار محل إقامته داخل حدود كل دولة. ص _165
2- يحق لكل فرد أن يغادر أية بلاد بما فى ذلك بلده كما يحق له العودة إليه. مادة 14 : 1 - لكل فرد الحق فى أن يلجأ إلى بلاد أخرى أو يحاول الالتجاء إليها هربا من الاضطهاد. 2- لا ينتفع بهذا الحق من قدم للمحاكمة فى جرائم غير سياسية أو لأعمال تناقض أغراض الأمم المتحدة ومبادئها. مادة 15 : 1- لكل فرد حق التمتع بجنسية ما. 2- لا يجوز حرمان شخص من جنسيته تعسف ، أو إنكار حقه فى تغييرها. مادة 16 : 1 - للرجل والمرأة متى بلغا سن الزواج حق التزوج وتأسيس أسرة دون قيد بسبب الجنس أو الدين، ولهما حقوق متساوية عند الزواج وأثناء قيامه وعند انحلاله. 2 - لا يبرم عقد الزواج إلا برضا الطرفين الراغبين فى الزواج رضا كاملا لا إكراه فيه. ص - الأسرة هى الوحدة الطبيعية الأساسية للمجتمع ولها حق التمتع بحماية المجتمع والدولة. مادة 17 : 1- لكل شخص حق التملك بمفرده أو بالاشتراك مع غيره . 2 - لا يجوز تجريد أحد من ملكه تعسفا . مادة 18 : لكل شخص الحق فى حرية التفكير، والضمير، والدين، ويشمل هذا الحق حرية تغيير ديانته أو عقيدته، وحرب الإعراب عنهما بالتعليم والممارسة وإقامة الشعائر، ومراعاتها، سواء أكان ذلك سرا أم مع الجماعة . مادة 19 : لكل شخص الحق فى حرية الرأى والتعبير، ويشمل هذا الحق حرية اعتناق الآراء دون أى تدخل، واستقاء الأنباء والأفكار وتلقيها وإذاعتها بأية وسيلة كانت دون تقيد بالحدود الجغرافية . مادة 20 : 1 - لكل شخص الحق فى حرية الاشتراك فى الجمعيات والجماعات السلمية. 2 - لا يجوز إرغام أحد على الانضمام إلى جمعية ما . مادة 21 : 1 - لكل فرد الحق فى الاشتراك فى إدارة الشئون العامة لبلاده إما مباشرة وإما بواسطة ممثلين(1/190)
يختارون اختيارا حرا. ص _166
2- لكل شخص نفس الحق الذى لغيره فى تقلد الوظائف العامة فى البلاد. ص - إن إرادة الشعب هى مصدر سلطة الحكومة. ويعبر عن هذه الإرادة بانتخابات نزيهة دورية تجرى على أساس الاقتراع السرى وعلى قدم المساواة بين الجميع أو حسب أى إجراء مماثل يضمن حرية التصويت. مادة 22 : لكل شخص بصفته عضوا فى المجتمع الحق فى الضمانة الاجتماعية وفى أن تحقق بوساطة المجهود القومى والتعاون الدولى، وبما يتفق ونظم كل دولة ومواردها: الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والتربوية التى لا غنى عنها لكرامته وللنمو الحر لشخصيته . مادة 2 ص : 1- لكل شخص الحق فى العمل، وله حرية اختياره بشروط عادلة مرضية كما أن له حق الحماية من البطالة . 2- لكل فرد دون أى تمييز الحق فى أجر متساو للعمل . ص - لكل فرد يقوم بعمل الحق فى أجر عادل مرض يكفل له ولأسرته عيشة لائقة بكرامة الإنسان تضاف إليه، عند اللزوم وسائل أخرى للحماية الاجتماعية. 4- لكل شخص الحق فى أن ينشئ وينضم إلى نقابات حماية لمصلحته. مادة 24 : لكل شخص الحق فى الراحة، وفى أوقات الفراغ، ولا سيما فى تحديد معقول لساعات العمل وفى عطلات دورية بأجر. مادة 25 : 1- لكل شخص الحق فى مستوى من المعيشة كاف للمحافظة على الصحة والرفاهية له ولأسرته، ويتضمن ذلك التغذية والملبس والمسكن والعناية الطبية وكذلك الخدمات الاجتماعية اللازمة، وله الحق فى تأمين معيشته فى حالات البطالة والمرض والعجز والترمل والشيخوخة وغير ذلك من فقدان وسائل العيش نتيجة لظروف خارجة عن إرادته. 2- للأمومة والطفولة الحق فى مساعدة ورعاية خاصتين، وينعم كل الأطفال بنفس الحماية الاجتماعية سواء أكانت ولادتهم ناتجة عن رباط شرعى أم بطريقة غير شرعية مادة 26 : 1- لكل شخص الحق فى التعليم، ويجب أن يكون التعليم فى مراحله الأولى والأساسية على الأقل بالمجان، وأن يكون التعليم الأولى إلزاميا، وينبغى أن يعمل(1/191)
التعليم الفنى والمهنى، وأن ييسر القبول للتعليم العالى على قدم المساواة التامة للجميع وعلى أساس الكفاءة. 2- يجب أن تهدف التربية إلى إنماء شخصية الإنسان إنماء كاملا ، وإلى تعزيز احترام الإنسان والحريات الأساسية، وتنمية التفاهم والتسامح والصداقة بين جميع الشعوب والجماعات العنصرية أو الدينية، وإلى زيادة مجهود الأمم المتحدة لحفظ السلام . ص _167
ص - للآباء الحق الأول فى اختيار نوع تربية أولادهم . مادة 27: 1- لكل فرد الحق فى أن يشترك اشتراكا حرا فى حياة المجتمع الثقافى وفى الاستمتاع بالفنون، والمساهمة فى التقدم العلمى والاستفاده من نتائجه. 2- لكل فرد الحق فى حماية المصالح الأدبية والمادية المترتبة على إنتاجه العلمى أو الأدبى أو الفنى. مادة 28: لكل فرد الحق فى التمتع بنظام اجتماعى دولى تتحقق بمقتضاه الحقوق والحريات المنصوص عليها فى هذا الإعلان تحققا تاما . مادة 29: 1- على كل فرد واجبات نحو المجتمع الذى يتاح فيه وحده لشخصيته أن تنمو نموا حرا كاملا . 2- يخضع الفرد فى ممارسة حقوقه وحرياته لتلك القيود التى يقررها القانون فقط ، لضمان الاعتراف بحقوق الغير وحرياته واحترامها، ولتحقيق المقتضيات العادلة للنظام العام والمصلحة العامة، والأخلاق فى مجتمع ديمقراطى . ص - لا يصح بأى حال من الأحوال أن تمارس هذه الحقوق ممارسة تتناقض مع أغراض الأمم المتحدة ومبادئها . مادة ص 0: ليس فى هذا الإعلان نص يجوز تأويله على أنه يخول لدولة أو جماعة أو فرد أى حق فى القيام بنشاط أو تأدية عمل يهدف إلى هدم الحقوق والحريات الواردة فيه. * * * ص _169(1/192)
البيان العالمى عن حقوق الإنسان فى الإسلام * تقديم : الحمد لله ، والصلاة على رسول الله ، سيدنا محمد بن عبد الله ، وعلى آله وصحبه ومن اتبع هداه ، وبعد : فهذه هى الوثيقة الإسلامية الثانية، يعلنها المجلس الإسلامى الدولى للعالم.. متضمنة حقوق الإنسان فى الإسلام . ومن قبل أصدر المجلس الوثيقة الأولى " البيان الإسلامى العالمى " . عن النظام الإسلامى متضمنة الأطر العامة لهذا النظام . وإنه لمن دواعى التفاؤل أن ييسر الله صدور الوثيقتين فى مستهل القرن الخامس عشر الهجرى ومع تصاعد الحركة الإسلامية، التى تؤذن بصحوة الأمة، والتقاء شعوبها على كلمة جامعة.. دعوة صادقة للعودة إلى منهاج الله تعالى، وسعيا حثيثا لإعادة صياغة المجتمع الإسلامى على أصول هذا المنهاج . إن حقوق الإنسان فى الإسلام ليست منحة من ملك أو حاكم، أو قرارا صادرا عن سلطة محلية أو منظمة دولية، وإنما هى- حقوق ملزمة بحكم مصدرها الإلهى، لا تقبل الحذف ولا النسخ ولا التعطيل، ولا يسمح بالاعتداء عليها، ولا يجوز التنازل عنها. ووثيقة حقوق الإنسان فى الإسلام- التى نعلنها اليوم- ثمرة طيبة لجهد مخلص أمين، توافر له، وتعاون عليه نخبة صالحة من كبار مفكرى العالم الإسلامى، وقادة الحركات الإسلامية فيه، وقد ارتفعوا بها فوق الواقع الراهن، بما يلابسه من اعتبارات الزمان والمكان والأشخاص الخاصة ببيئة أو شعب، فجاءت بحمد الله وتوفيق منه معبرة عن تمثل صحيح وشامل لحقوق الإنسان، مستمدة من كتاب الله تعالى وسنة رسوله "ـ صلى الله عليه وسلم ـ" . إن المجلس الإسلامى الدولى- وهو يعلن للعالم كله هذه الوثيقة- ليأمل أن تكون زادا للمسلم المعاصر، فى جهاده اليومى، وأن تكون دعوة خير لقادة المسلمين وحكامهم: أن يتواصوا بالحق فيما بينهم وبين أنفسهم، وفيما بينهم وبين غيرهم تواصيا ينتهى بهم إلى مراجعة جادة لمناهج حياتهم، وطرائق حكمهم، وعلاقاتهم بشعوبهم وأمتهم، وإلى احترام "(1/193)
حقوق الإنسان " التى شرعها الإسلام، الذى لا يقبل من مسلم أن يتجاهله، أو يخرج عليه. كما يأمل المجلس: أن تلقى هذه الوثيقة ما هى جديرة به من عناية المنظمات المحلية والدولية، التى تعنى بحقوق الإنسان، وأن تضمها إلى ما لديها من وثائق، تتصل بهذه الحقوق، وتدعو إلى إقرارها فى حياة الإنسان حقيقة واقعة . ص _170
والله تعالى أسأل: أن يجزى خيرا كل من شارك فى إعداد هذه الوثيقة، وأن يفتح لها القلوب، والضمائر، والعقول، بما يحقق ما نرجوه من التجديد الحق لحياة المسلمين. باريس 21 من ذى القعدة 1401 هـ 19 سبتمبر (أيلول) 1981م * * * الأمين العام سالم عزام ص _171(1/194)
مدخل شرع الإسلام- منذ أربعة عشر قرنا- " حقوق الإنسان " فى شمول وعمق، وأحاطها بضمانات كافية لحمايتها، وصاغ مجتمعه على أصول ومبادئ، تمكن لهذه الحقوق وتدعمها. والإسلام هو ختام رسالات السماء، التى أوحى بها رب العالمين إلى رسله- عليهم السلام- ليبلغوها للناس، هداية وتوجيها، إلى ما يكفل لهم حياة طيبة كريمة، يسودها الحق والخير والعدل، والسلام. ومن هنا كان لزاما علي المسلمين أن يبلغوا للناس جميعا دعوة الإسلام، امتثالا لأمر ربهم (ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر) ، ووفاء بحق الإنسانية عليهم، وإسهاما مخلصا فى استنقاذ العالم مما تردى فيه من أخطاء، وتخليص الشعوب مما تئن تحته من صنوف المعاناة. ونحن معشر المسلمين- على اختلاف شعوبنا وأقطارنا- انطلاقا من: عبوديتنا لله الواحد القهار... ومن: إيماننا بأنه ولى الأمر كله فى الدنيا والآخرة، وأن مردنا جميعا إليه، وأنه وحده الذى يملك هداية الإنسان إلى ما فيه خيره وصلاحه بعد أن استخلفه فى الأرض، وسخر له كل ما فى الكون.. ومن: تصديقنا بوحدة الدين الحق، الذى جاءت به رسل ربنا، ووضع كل منهم لبنة فى صرحه حتى كمله الله تعالى برسالة ـ صلى الله عليه وسلم ـ فكان كما قال ـ صلى الله عليه وسلم ـ : ( أنا اللبنة- الأخيرة- وأنا خاتم النبيين.. " . ومن تسليمنا بعجز العقل البشرى عن وضع المنهاج الأقوم للحياة، مستقلا عن هداية الله ووحيه... ومن: رؤيتنا الصحيحة- فى ضوء كتابنا المجيد- لوضع الإنسان فى الكون، للغاية من إيجاده، وللحكمة من خلقة... ومن: معرفتنا بما أضفاه عليه خالقه، من كرامة وتفضيل على كثير من خلقه... ومن: استبصارنا بما أحاطه به ربه- جل وعلا- من نعم، لا تعد ولا تحصى... ومن: تمثلنا الحق لمفهوم الأمة، التى تجسد وحدة المسلمين، على اختلاف أقطارهم وشعوبهم. ومن: إدراكنا العميق، لما يعانيه عالم اليوم من أوضاع فاسدة؟ ونظم آثمة… ومن:(1/195)
رغبتنا الصادقة، فى الوفاء بمسئوليتنا تجاه المجتمع الإنسانى كأعضاء فيه .. ص _172
ومن: حرصنا على أداء أمانة البلاع، التى وضعها الإسلام فى أعناقنا... سعيا من أجل إقامة حياة أفضل... تقوم على الفضيلة، وتتطهر من الرذيلة... يحل فيها التعاون بدل التنكر، والإخاء مكان العداوة... يسودها التعاون والسلام، وبديلا من الصراع والحروب... حياة يتنفس فيها الإنسان معانى: الحرية، والمساواة، والإخاء، والعزة والكرامة... بدل أن يختنق تحت ضغوط: العبودية، والتفرقة العنصرية، والطبقية، والقهر والهوان... وبهذا يتهيأ لأداء رسالته الحقيقية فى الوجود: عبادة لخالقه تعالى. وعمارة شاملة للكون. تتيح له أن يستمتع بنعم خالقه، وأن يكون بارا بالإنسانية التى تمثل- بالنسبة له- أسرة أكبر، يشده إليها إحساس عميق بوحدة الأصل الإنسانى، التى تنشى رحما موصولة بين جميع بنى آدم. انطلاقا من هذا كله: نعلن نحن معشر المسلمين، حملة لواء الدعوة إلى الله- فى مستهل القرن الخامس عشر الهجرى- هذا البيان باسم الإسلام، عن حقوق الإنسان، مستمدة من القرآن الكريم و " السنة النبوية " المطهرة. وهى- بهذا الوضع- حقوق أبدية، لا تقبل حذفا، ولا تعديلا... ولا نسخا ولا تعطيلا... إنها حقوق شرعها الخالق- سبحانه- فليس من حق بشر- كائنا من كان- أن يعطلها، أو يتعدى عليها، ولا تسقط حصانتها الذاتية، لا بإرادة الفرد تنازلا عنها، ولا بإرادة المجتمع ممثلا فيما يقيمه من مؤسسات أيا كانت طبيعتها، كيفما كانت السلطات التى تخولها. إن إقرار هذه الحقوق هو المدخل الصحيح لإقامة مجتمع إسلامى حقيقى... ا- مجتمع: الناس جميعا فيه سواء، لا امتياز ولا تمييز بين فرد وفرد على أساس من أصل، أو عنصر، أو جنس، أو لون، أو لغة، أو دين. 2- مجتمع: المساواة فيه أساس التمتع بالحقوق، والتكليف بالواجبات... مساواة تنبع من وحدة الأصل الانسانى المشترك. (يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى).(1/196)
ص _17 ص
ومما اسبغه الخاق- جل جلاله- على الإنسان من التكريم (ولقد كرمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلا) . ص - مجتمع: حرية الإنسان فيه مرادفة لمعنى حياته سواء، يولد بها، ويحقق ذاته فى ظلها، آمنا من الكبت، والقهر، والإذلال، والاستعباد. 4- مجتمع: يرى فى الأسرة نواة المجتمع، ويحوطها بحمايته وتكريمه، ويهيئ لها كل أسباب الاستقرار والتقدم. 5- مجتمع: يتساوى فيه الحاكم والرعية، أمام شريعة من وضع الخالق- سبحانه- دون امتياز أو تمييز. 6- مجتمع: السلطة فيه أمانة، توضع فى عنق الحاكم، ليحقق ما رسمته الشريعة من غايات، وبالمنهج الذى وضعته لتحقيق هذه الغايات. 7- مجتمع: يؤمن كل فرد فيه أن الله- وحده- هو مالك الكون كله... وأن كل ما فيه مسخر لخلق الله جميعا، عطاء من فضله، دون استحقاق سابق لأحد، ومن حق كل إنسان أن ينال نصيبا عادلا من هذا العطاء الإلهى: (وسخر لكم ما في السماوات وما في الأرض جميعا منه) . 8- مجتمع: تقرر فيه السياسات ، التى تنظم شئون الأمة، وتمارس السلطات التى تطبقها وتنفذها " بالشورى " ( وأمرهم شورى بينهم ومما رزقناهم ينفقون ) . 9- مجتمع: تتوافر فيه الفرص المتكافئة، ليتحمل كل فرد فيه من المسئوليات بحسب قدرته وكفاءته، وتتم محاسبته عليها دنيويا أمام أمته، وأخرويا أمام خالقه (كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته) . 10- مجتمع: يقف فيه الحاكم والمحكوم على قدم المساواة أمام القضاء، حتى فى إجراءات التقاضى. 11- مجتمع: كل فرد فيه هو ضمير مجتمعه، ومن حقه أن يقيم الدعوى- حسبة- ضد أى إنسان يرتكب جريمة فى حق المجتمع، وله أن يطلب المساندة من غيره... وعلى الآخرين أن ينصروه ولا يخذلوه فى قضيته العادلة. 12- مجتمع: يرفض كل ألوان الطغيان، ويضمن لكل فرد فيه: الأمن، والحرية، والكرامة، والعدالة، وبالتزام ما قررته شريعة الله للإنسان من حقوق، والعمل عل(1/197)
تطبيقها، والسهر على حراستها... تلك الحقوق التى يعلنها للعالم: ص _174
" هذا البيان " بسم الله الرحمن الرحيم حقوق الإنسان فى الإسلام 1- حق الحياة: ( أ ) حياة الإنسان مقدسة... لا يجوز لأحد أن يعتدى عليها: (مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا) . ولا تسلب هذه القدسية إلا بسلطان الشريعة وبالإجراءات التى تقرها. (ب) كيان الإنسان المادى والمعنوى حمى، تحميه الشريعة فى حياته، وبعد مماته، ومن حقه الترفق والتكريم، فى التعامل مع جثمانه: "إذا كفن أحدكم أخاه فليحسن كفنه " ، ويجب ستر سوءاته وعيوبه الشخصية: " لا تلبسوا الأموات فإنهم أفضوا إلى ما قدموا " . 2- حق الحرية : أ - حرية الإنسان مقدسة- كحياته سواء- وهى الصفة الطبيعية الأولى التى بها يولد الإنسان: " ما من مولود إلا ويولد على الفطرة " . وهى مستصحبة ومستمرة، ليس لأحد أن يعتدى عليها: (متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا ) . ويجب توفير الضمانات الكافية لحماية حرية الأفراد ، ولا يجوز تقييدها أو الحد منها إلا بسلطان الشريعة ، وبالإجراءات التى تقرها . ب- لا يجوز لشعب أن يعتدى على حرية شعب آخر ، وللشعب المعتدى عليه أن يرد العدوان ، ويسترد حريته بكل السبل الممكنة : (ولمن انتصر بعد ظلمه فأولئك ما عليهم من سبيل) ، وعلى المجتمع الدولى مساندة كل شعب يجاهد من أجل حريته ، ويتحمل المسلمون في هذا واجبا لا ترخص فيه: (الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر). ص _175(1/198)
ص - حق المساواة : ( أ ) الناس جميعا سواسية أمام الشريعة: " لا فضل لعربى على عجمى، ولا لعجمى على عربى، ولا لأحمر على أسود، ولا لأسود على أحمر إلا بالتقوى". ولا تمايز بين الأفراد فى تطبيقها عليهم: " لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها" "ألا إن أضعفكم عندى القوى حتى آخذ الحق له، وأقواكم عندى الضعيف حتى آخذ الحق منه " . (ب) الناس كلهم فى القيمة الإنسانية سواء: " كلكم لآدم وآدم من تراب ". وإنما يتفاضلون بحسب علم لهم: " وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِّمَّا عَمِلُوا " ، ولا يجوز تعريض شخص لخطر أو ضرر بأكثر مما يتعرض له غيره: " المسلمون تتكافأ دماؤهم ". وكل فكر وكل تشريع، وكل وضع يسوغ التفرقة بين الأفراد على أساس الجنس، أو العرق، أو اللون، أو اللغة، أو الدين، هو مصادرة مباشرة لهذا المبدأ الإسلامى العام. (ج) لكل فرد حق في الانتفاع بالموارد المادية للمجتمع من خلال فرصة عمل مكافئة لفرص غيره: (فامشوا في مناكبها وكلوا من رزقه) ، ولا يجوز التفرقة بين الأفراد كما وكيفا: (فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره ، ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره) . 4- حق العدالة: ( أ ) من حق كل فرد أن يتحاكم إلي الشريعة، وأن يحاكم إليها دون سواها: (فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول) . (وأن احكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم) . (ب) من حق الفرد أن يدفع عن نفسه ما يلحقه من ظلم: (لا يحب الله الجهر بالسوء من القول إلا من ظلم) . ومن واجبه أن يدفع الظلم عن غيره بما يملك: "لينصر الرجل أخاه ظالما أو مظلوما: إن كان ظالما فلينهه وإن كان مظلوما فلينصره ". ومن حق الفرد أن يلجأ إلى سلطة شرعية تحميه وتنصفه، وتدفع عنه ما لحقه من ضرر أو ظلم، وعلى الحاكم المسلم أن يقيم هذه السلطة، ويوفر لها الضمانات الكفيلة بحيدتها واستقلالها: " إنما الإمام جنة يقاتل من ورائه ، ويحتمى به " . ص _176(1/199)
(ج) من حق الفرد- ومن واجبه- أن يدافع عن حق أى فرد آخر، وعن حق الجماعة "حسبة " : " ألا أخبركم بخير الشهداء؟ الذى يأتى بشهادته قبل أن يسألها" يتطوع بها حسبة دون طلب من أحد - . ( د ) لا تجوز مصادرة حق الفرد فى الدفاع عن نفسه تحت أى مسوغ: " أن لصاحب الحق مقالا " . " إذا جلس بين يديك الخصمان فلا تقضين حتى تسمع من الآخر، كما سمعت من الأول، فأنه أحرى أن يتبين لك القضاء " . (هـ) ليس لأحد أن يلزم مسلما بأن يطيع أمرا يخالف الشريعة، وعلى الفرد المسلم أن يقول " لا " فى وجه من يأمره بمعصية، أيا كان الأمر: " إذا أمر بمعصية فلا سمع ولا طاعة ". ومن حقه على الجماعة أن تحمى رفضه تضامنا مع الحق: "المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يسلمه " . 5- حق الفرد فى محاكمة عادلة : ( أ ) البراءة هى الأصل: ( كل أمتى معافى إلا المجاهرين ). وهو مستصحب ومستمر حتى مع اتهام الشخص ما لم تثبت إدانته أمام محكمة عادلة إدانة نهائية. (ب) لا تجريم إلا بنص شرعى: (وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا) ، ولا يعذر مسلم بالجهل بما هو معلوم من الدين بالضرورة، ولكن ينظر إلى جهله- متى ثبت- على أنه شبهة تدرأ بها الحدود فحسب: (وليس عليكم جناح فيما أخطأتم به ولكن ما تعمدت قلوبكم) . (ج) لا يحكم بتجريم شخص، ولا يعاقب على جرم إلا بعد ثبوت ارتكابه له بأدلة لا تقبل المراجعة، أمام محكمة ذات طيعة قضائية كاملة: (إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا) ، (وإن الظن لا يغني من الحق شيئا) . ( د ) لا يجوز ـ بحال ـ تجاوز العقوبة، التى قدرتها الشريعة للجريمة: (تلك حدود الله فلا تعتدوها) ، ومن مبادئ الشريعة مراعاة الظروف والملابسات، التى ارتكبت فيها الجريمة درءاً للحدود: " ادرأوا الحدود عن المسلمين ما استطعتم، فان كان له مخرج فخلوا سبيله " . (هـ) لا يؤخذ إنسان بجريرة غيره: (وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى) ، وكل إنسان مستقل بمسئوليته عن أفعاله : ( كل امريء بما(1/200)
كسب رهين ) ولا يجوز بحال- أن تمتد المساءلة إلى ذويه في أهل وأقارب، أو أتباع وأصدقاء: (معاذ الله أن نأخذ إلا من وجدنا متاعنا عنده إنا إذا لظالمون). ص _177
6- حق الحماية من تعسف السلطة : لكل فرد الحق فى حمايته من تعسف السلطات معه، ولا يجوز مطالبته بتقديم تفسير لعمل من أعماله أو وضع من أوضاعه، ولا توجيه اتهام له إلا بناء علي قرائن قوية، تدل على تورطه فيما يرجه إليه: (والذين يؤذون المؤمنين والمؤمنات بغير ما اكتسبوا فقد احتملوا بهتانا وإثما مبينا) . 7- حق الحماية من التعذيب : ( أ ) لا يجوز تعذيب المجرم فضلا عن المتهم: (إن الله يعذب الذين يعذبون الناس فى الدنيا ) . كما لا يجوز حمل الشخص على الاعتراف بجريمة لم يرتكبها، وكل ما ينتزع بوسائل الإكراه باطل: " إن الله وضع عن أمتى الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه " . (ب) مهما كانت جريمة الفرد، وكيفما كانت عقوبتها المقدرة شرعا، فإن إنسانيته، وكرامته الآدمية تظل مصونة. 8- حق الفرد فى حماية عرضه وسمعته : عرض الفرد، وسمعته حرمة لا يجوز انتهاكها: " إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم بينكم حرام كحرمة يومكم هذا فى شهركم هذا فى بلدكم هذا ". ويحرم تتبع عوراته، ومحاولة النيل من شخصيته، وكيانه الأدبى (ولا تجسسوا ولا يغتب بعضكم بعضا ) ، (ولا تلمزوا أنفسكم ولا تنابزوا بالألقاب) . 9- حق اللجوء : ( أ ) من حق كل مسلم مضطهد أو مظلوم أن يلجأ إلى حيث يأمن، فى نطاق دار الإسلام . وهو حق يكفله الإسلام لكل مضطهد، أيا كانت جنسيته، أو عقيدته، أو لونه، ويحمل المسلمين واجب توفير الأمن له متى لجأ إليهم: (وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله ثم أبلغه مأمنه) . (ب) بيت الله الحرام- بمكة المشرفة- هو مثابة وأمن للناس جميعا لا يصد عنه مسلم: (ومن دخله كان آمنا) ، (وإذ جعلنا البيت مثابة للناس وأمنا) ، (سواء العاكف فيه والبادي) . 10- حقوق الأقليات : ( أ ) "(1/201)
الأوضاع الدينية للأقليات يحكمها المبدأ القرآنى العام: (لا إكراه في الدين) . ص _178
(ب) الأوضاع المدنية، والأحوال الشخصية للأقليات تحكمها شريعة الإسلام إن هم تحاكموا إلينا: (فإن جاءوك فاحكم بينهم أو أعرض عنهم وإن تعرض عنهم فلن يضروك شيئا وإن حكمت فاحكم بينهم بالقسط) ، فإن لم يتحاكموا إلينا كان عليهم أن يتحاكموا إلى شرائعهم ما دامت تنتمى- عندهم- لأصل إلهى: (وكيف يحكمونك وعندهم التوراة فيها حكم الله ثم يتولون من بعد ذلك) ، (وليحكم أهل الإنجيل بما أنزل الله) . 11- حق المشاركة فى الحياة العامة : ( أ ) من حق كل فرد فى الأمة أن يعلم بما يجرى فى حياتها، من شئون تتصل بالمصلحة العامة للجماعة، وعليه أن يسهم فيها بقدر ما تتيح له قدرته ومواهبه، إعمالا لمبدأ الشورى: (وأمرهم شورى بينهم) ، وكل فرد فى الأمة أهل لتولى المناصب، والوظائف العامة، متى توافرت فيه شرائطها الشرعية، ولا تسقط هذه الأهلية، أو تنقص تحت أى اعتبار عنصرى أو طبقى: " المسلمون تتكافأ دماؤهم، وهم يد على من سواهم ، يسعى بذمتهم أدناهم " . (ب) الشورى أساس العلاقة بين الحاكم والأمة، ومن حق الأمة أن تختار حكامها، بإرادتها الحرة، تطبيقا لهذا المبدأ، ولها الحق فى محاسبتهم وفى عزلهم إذا حادوا عن الشريعة: " إنى وليت عليكم ولست بخيركم فإن رأيتمونى على حق فأعينونى، وإن رأيتمونى على باطل فقومونى. أطيعونى ما أطعت الله ورسوله، فإن عصيت فلا طاعة لى عليكم " . 12- حق حرية التفكير والاعتقاد والتعبير : ( أ ) لكل شخص أن يفكر، ويعبر عن فكره ومعتقده، دون تدخل أو مصادرة من أحد ما دام يلتزم الحدود العامة التى أقرتها الشريعة، ولا يجوز إذاعة الباطل، ولا نشر ما فيه من ترويج للفاحشة أو تخذيل للأمة : (لئن لم ينته المنافقون والذين في قلوبهم مرض والمرجفون في المدينة لنغرينك بهم ثم لا يجاورونك فيها إلا قليلا، ملعونين أين ما ثقفوا أخذوا وقتلوا تقتيلا) .(1/202)
(ب) التفكير الحر- بحثا عن الحق- ليس مجرد حق فحسب ، بل هو واجب كذلك: (قل إنما أعظكم بواحدة أن تقوموا لله مثنى وفرادى ثم تتفكروا) . (ج) من حق كل فرد ومن واجبه: أن يعلن رفضه للظلم، وإنكاره له، وأن يقاومه ، ص _179
دون تهيب من مواجهة سلطة متعسفة، أو حاكم جائر، أو نظام طاغ: وهذا أفضل أنواع الجهاد: " سئل رسول الله " ـ صلى الله عليه وسلم ـ " : أى الجهاد أفضل؟ قال: كلمة حق عند سلطان جائر " . ( د ) لا حظر على نشر المعلومات والحقائق الصحيحة، إلا ما يكون في نشره خطر على أمن المجتمع والدولة: (وإذا جاءهم أمر من الأمن أو الخوف أذاعوا به ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم) . (هـ) احترام مشاعر المخالفين فى الدين من خلق المسلم، فلا يجوز لأحد أن يسخر من معتقدات غيره ، ولا أن يستعدى المجتمع عليه : (ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله فيسبوا الله عدوا بغير علم كذلك زينا لكل أمة عملهم ثم إلى ربهم مرجعهم) . 1 ص - حق الحرية الدينية : لكل شخص: حرية الاعتقاد، وحرية العبادة وفقا لمعتقده: (لكم دينكم ولي دين). 14- حق الدعوة والبلاغ : ( أ ) لكل فرد الحق أن يشارك- منفردا ومع غيره- فى حياة الجماعة: دينيا، واجتماعيا، وثقافيا، وسياسيا، الخ، وأن ينشى من المؤسسات، ويصطنع من الوسائل ما هو ضرورى لممارسة هذا الحق : (قل هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني) . (ب) من حق كل فرد ومن واجبه- أن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، وأن يطالب المجتمع. بإقامة المؤسسات التى تهيئ. للأفراد الوفاء بهذه المسئولية ، تعاونا على البر والتقوى: (ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر) ،(وتعاونوا على البر والتقوى) ، " إن الناس إذا رأوا الظالم فلم يأخذوا على يديه أوشك أن يعمهم الله بعقاب " . 15- الحقوق الاقتصادية : ( أ ) الطبيعة- بثرواتها جميعا- ملك لله تعالى (لله ملك(1/203)
السماوات والأرض وما فيهن وهو على كل شيء قدير) ، وهى عطاء منه للبشر ، منحهم حق الانتفاع بها: (وسخر لكم ما في السماوات وما في الأرض جميعا منه) ، وحرم عليهم إفسادها وتدميرها: (ولا تعثوا في الأرض مفسدين) . ص _180
ولا يجوز لأحد أن يحرم آخر أو يعتدى على حقه فى الانتفاع بما فى الطبيعة من مصادر الرزق (وما كان عطاء ربك محظورا) . (ب) لكل إنسان أن يعمل وينتج، تحصيلا للرزق من وجوهه المشروعة: (وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها) ، (فامشوا في مناكبها وكلوا من رزقه). (ج) الملكية الخاصة مشروعة- على انفراد ومشاركة- ولكل إنسان أن يقتنى ما اكتسبه بجهده وعمله: (وأنه هو أغنى وأقنى) ، والملكية العامة مشروعة، وتوظف لمصلحة الأمة بأسرها: (ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى فلله وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل كي لا يكون دولة بين الأغنياء منكم). ( د ) لفقراء الأمة حق ممرر فى مال الأغنياء ، نظمته الزكاة : (والذين في أموالهم حق معلوم ، للسائل والمحروم) ، وهو حق لا يجوز تعطيله، ولا منعه، ولا الترخيص فيه، من قبل الحاكم، ولو أدى به الموقف إلى قتال مانعى الزكاة: "والله لو منعونى عقالا، كانوا يؤدونه إلى رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ لقاتلتهم عليه " . (هـ) توظيف مصادر الثروة، ووسائل الإنتاج لمصلحة الأمة واجب، فلا يجوز إهمالها ولا تعطيلها: " ما من عبد استرعاه الله رعية فلم يحطها بالنصيحة إلا لم يجد رائحة الجنة " . كذلك لا يجوز استثمارها فيما حرمته الشريعة، ولا فيما يضر بمصلحة الجماعة. ( و ) ترشيدا للنشاط الاقتصادى، وضمانا لسلامته ، حرم الإسلام : ا- الغش بكل صوره: " ليس منا من غش " . 2- الغرر والجهالة، وكل ما يفضى إلى منازعات، لا يمكن إخضاعها لمعايير موضوعية: " نهى النبى ـ صلى الله عليه وسلم ـ عن بيع الحصاة، وعن بيع الغرر ، " نهى النبى ـ صلى الله عليه وسلم ـ عن بيع العنب حتى يسود(1/204)
وعن بيع الحب حتى يشتد " . ص - الاستغلال والتغابن فى عمليات التبادل : (ويل للمطففين ، الذين إذا اكتالوا على الناس يستوفون ، وإذا كالوهم أو وزنوهم يخسرون) . 4- الاحتكار، وكل ما يؤدى إلى منافسة غير متكافئة: " لا يحتكر إلا خاطئ " 5- الربا ، وكل كسب طفيلى ، يستغل ضوائق الناس: (وَأَحَلَّ اللَّهُ البَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا) . ص _181
6- الدعايات الكاذبة والخادعة: " البيعان بالخيار ما لم يتفرقا فإن صدقا وبيننا بورك لهما فى بيعهما ، وإن غشا وكذبا محقت بركة بيعهما " . ( ز ) رعاية مصلحة الأمة ، والتزام قيم الإسلام العامة ، هما القيد الوحيد على النشاط الاقتصادى ، فى مجتمع المسلمين . 16- حق حماية الملكية : لا يجوز انتزاع ملكية ، نشأت عن كسب حلال ، إلا للمصلحة العامة: (ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل) ، ومع تعويض عادل لصاحبها: "من أخذ من الأرض شيئا بغير حقه خسف به يوم القيامة إلى سبع أرضين" . وحرمة الملكية العامة أعظم، وعقوبة الاعتداء عليها أشد، لأنه عدوان على المجتمع كله، وخيانة للأمة بأسرها: "من استعملناه منكم على عمل فكتمنا منه مخيطا فما فوقه كان غلولا يأتى به يوم القيامة " " قيل يا رسول الله: إن فلانا قد استشهد ! قال: كلا ! لقد رأيته فى النار بعباءة قد غلها ثم قال: يا عمر قم فناد: إنه لا يدخل الجنة إلا المؤمنون- ثلاثا ". 17- حق العامل وواجبه : " العمل ": شعار رفعه الإسلام لمجتمعه: (وقل اعملوا) ، وإذا كان حق العمل: الإتقان: " إن الله يحب إذا عمل أحدكم عملا أن يتقنه ". فإن حق العامل: 1- أن يوفى أجره المكافئ لجهده دون حيف عليه أو مماطلة له: ( أعطوا الأجير أجره قبل أن يجف عرقه ) . 2- أن توفر له حياة كريمة تتناسب مع ما يبذله من جهد وعرق: (ولكل درجات مما عملوا) . ص - أن يمنح ما هو جدير به من تكريم المجتمع كله له (وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون) ، " إن الله يحب المؤمن(1/205)
المحترف " . 4- أن يجد الحماية ، التى تحول دون غبنه واستغلال ظروفه قال الله تعالى: " ثلاثة أنا خصمهم يوم القيامة: رجل أعطى بى ثم غدر، ورجل باع حرا فأكل ثمنه، ورجل استأجر أجيرا فاستوفى منه ولم يعطه أجره " . 18- حق الفرد فى كفايته من مقومات الحياة : من حق الفرد أن ينال كفايته من ضروريات الحياة.. من طعام، وشراب، وملبس، ص _182
ومسكن.. ومما يلزم لصحة بدنه من رعاية. وما يلزم لصحة روحه، وعقله، من علم، ومعرفة، وثقافة، فى نطاق ما تسمح به موارد الأمة- ويمتد واجب الأمة فى هذا ليشمل ما لا يستطيع الفرد أن يستقل بتوفيره لنفسه من ذلك (النَّبِيُّ أَوْلى بِالمؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ) . 19- حق بناء الأسرة : ( أ ) الزواج- بإطاره الإسلامى- حق لكل إنسان. وهو الطريق الشرعى لبناء الأسرة وإنجاب الذرية، وإعفاف النفسي (يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالا كثيرا ونساء) . ولكل من الزوجين قبل الآخر- وعليه له- حقوق وواجبات متكافئة قررتها الشريعة: (ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف وللرجال عليهن درجة) ، وللأب تربية أولاده: بدنيا، وخلقيا، ودينيا، وفقا لعقيدته وشريعته، وهو مسئول عن اختياره الوجهة التى يوليها إياها: " كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته " . (ب) لكل من الزوجين- قبل الآخر- حق احترامه، وتقدير مشاعره، وظروفه، فى إطار من التواد والتراحم (ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة) . (ج) علي الزوج أن ينفق على زوجته وأولاده دون تقتير عليهم: (لينفق ذو سعة من سعته ومن قدر عليه رزقه فلينفق مما آتاه الله) . ( د ) لكل طفل علي أبويه حق إحسان تربيته، وتعليمه، وتأديبه: (وقل رب ارحمهما كما ربياني صغيرا) ، ولا يجوز تشغيل الأطفال فى سن باكرة ، ولا تحميلهم من الأعمال ما يرهقهم، أو يعوق نموهم أو يحول بينهم وبين حقهم فى اللعب والتعلم . (هـ)(1/206)
إذا عجز والدا الطفل عن الوفاء بمسئوليتهما نحوه، انتقلت هذه المسئوليه إلى المجتمع، وتكون نفقات الطفل فى بيت مال المسلمين- الخزانة العامة للدولة- "أنا أولى بكل مؤمن من نفسه، فمن ترك دينا أو ضيعة فعلى ، من ترك مالا فلورثته". ( و ) لكل فرد فى الأسرة أن ينال منها ما هو فى حاجة إليه: من كفاية مادية، ومن رعاية وحنان، فى طفولته، وشيخوخته، وعجزه، وللوالدين على أولادهما حق كفالتهما ماديا، ورعايتهما بدنيا، ونفسيا: " أنت ومالك لوالدك ". ص _18 ص(1/207)
( ز) للأمومة حق فى رعاية خاصة من الأسرة: " يا رسول الله: من أحق الناس بحسن صحابتى ؟ قال: أمك، قال السائل: ثم من ؟ قال: أمك قال: ثم من ؟ قال: أمك. قال: ثم من ؟ قال أبوك " . (ح) مسئولية الأسرة شركة بين أفرادها، كل بحسب طاقته، وطبيعة فطرته، وهى مسئولية تتجاوز دائرة الآباء والأولاد، لتعم الأقارب وذوى الأرحام: " يا رسول الله : من أبر؟ قال: أمك ! ثم أمك ! ثم أباك ثم الأقرب فالأقرب " . (ط) لا يجبر الفتى أو الفتاة على الزواج ممن لا يرغب فيه: " جاءت جارية بكر إلى النبى ـ صلى الله عليه وسلم ـ فذكرت أن أباها زوجها وهى كارهة فخيرها النبى ـ صلى الله عليه وسلم ـ " . 20- حقوق الزوجة : ( أ ) أن تعيش مع زوجها حيث يعيش (أسكنوهن من حيث سكنتم) (ب) أن ينفق عليها زوجها- بالمعروف طوال زواجهما، وخلال فترة عدتها إن هو طلقها: (الرجال قوامون على النساء بما فضل الله بعضهم على بعض وبما أنفقوا من أموالهم) ، (وإن كن أولات حمل فأنفقوا عليهن حتى يضعن حملهن) ، وأن تأخذ من مطلقها نفقة من تحضنهم من أولاده منها، بما يتناسب مع كسب أبيهم (فإن أرضعن لكم فآتوهن أجورهن) . (ج) للزوجة: أن تطلب من زوجها: إنهاء عقد الزواج- وديا- عن طريق الخلع: (فإن خفتم ألا يقيما حدود الله فلا جناح عليهما فيما افتدت به) ، كما أن النساء لها أن تطلب التطليق قضائيا فى نطاق أحكام الشريعة . (هـ) للزوجة حق الميراث من زوجها، كما ترث من أبويها، وأولادها، وذوى قرابتها: (ولهن الربع مما تركتم ) . ( و ) على كلا الزوجين أن يحفظ غيب صاحبه، وألا يفشى شيئا من أسراره، وألا يكشف عما قد يكون به من نقص خلقى أو خلقى ، ويتأكد هذا الحق عند الطلاق وبعده : (ولا تنسوا الفضل بينكم) . 21- حق التربية : ( أ ) التربية الصالحة حق الأولاد على الآباء ، كما أن البر وإحسان المعاملة حق الآباء على الأولاد: (وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحسانا إما يبلغن عندك(1/208)
الكبر أحدهما أو كلاهما فلا تقل لهما أف ولا تنهرهما وقل لهما قولا كريما ، واخفض لهما جناح الذل من الرحمة وقل رب ارحمهما كما ربياني صغيرا) . ص _184
(ب) التعليم حق للجميع. وطلب العلم واجب على الجميع ذكورا وإناثا على السواء: " طلب العلم فريضة على كل مسلم ومسلمة " . والتعليم حق لغير المتعلم : (وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب لتبيننه للناس ولا تكتمونه فنبذوه وراء ظهورهم واشتروا به ثمنا قليلا فبئس ما يشترون) ، ليبلغ الشاهد الغائب . (ج) على المجتمع أن يوفر لكل فرد فرصة متكافئة ، ليتعلم ويستنير: "من يرد الله به خيرا يفقهه فى الدين. وإنما أنا قاسم والله عز وجل يعطى " ولكل فرد أن يختار ما يلائم مواهبه وقدراته : " كل ميسر لما خلق له " . 22- حق الفرد فى حماية خصوصياته : سرائر البشر إلى خالقهم وحده " أفلا شققت عن قلبه " ، وخصوصياته حمى ، لا يحل التسور عليه : (وَلا تَجَسَّسُوا) . " يا معشر من أسلم بلسانه ، ولم يفض الإيمان إلى قلبه: " لا تؤذوا المسلمين ولا تعيروهم ولا تتبعوا عوراتهم ، فإنه من تتبع عورة أخيه المسلم ، تتبع الله عورته ، ومن تتبع الله عورته يفضحه ولو فى جوف رحله " . 2 ص - حق حرية الارتحال والإقامة : ( أ ) حق حرية كل فرد أن تكون له حرية الحركة ، والتنقل من مكان إقامته وإليه، وله حق الرحلة، والهجرة من موطنه، ولا عودة إليه دون ما تضييق عليه، أو تعويق له: (هو الذي جعل لكم الأرض ذلولا فامشوا في مناكبها وكلوا من رزقه) ، (قل سيروا في الأرض ثم انظروا كيف كان عاقبة المكذبين) ، (ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها) . (ب) لا يجوز إجبار شخص على ترك موطنه، ولا إبعاده عنه- تعسفا- دون سبب شرعى: (يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه قل قتال فيه كبير وصد عن سبيل الله وكفر به والمسجد الحرام وإخراج أهله منه أكبر عند الله) . (ج) دار الإسلام واحدة.. وهى وطن لكل مسلم، لا يجوز أن تقيد حركته(1/209)
فيها بحواجز جغرافية، أو حدود سياسية.. وعلى كل بلد مسلم أن يستقبل من يهاجر إليه أو يدخله من المسلمين استقبال الأخ لأخيه. ص _185
(والذين تبوؤا الدار والإيمان من قبلهم يحبون من هاجر إليهم ولا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون) . " وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين " .(1/210)