حق الوالدين على الأبناء
يحيى بن موسى الزهراني
إمام الجامع الكبير بتبوك
بسم الله الرحمن الرحيم
المقدمة
الحمد لله الذي قرن طاعته بطاعة الوالدين ، وألزم حقوقه بحقوق الوالدين ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، الواحد الفرد الصمد ، الواهب الماجد ، وأشهد أن نبينا محمداً صلى الله عليه وسلم ، الذي حث الأبناء وأمرهم ببر الوالدين ، وحذرهم ورهبهم من مغبة العقوق ، وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين . . أما بعد :
فحق الوالدين على الأبناء لا يستطيع أن يحصيه إنسان ، فهما سبب وجود الأبناء والبنات بعد الله عزوجل ، ولن يستطيع الأبناء أن يحصوا ما لاقاه الأبوان من تعب ونصب وأذىً ، وسهر وقيام ، وقلة راحة وعدم اطمئنان من أجل راحة الأبناء والبنات وفي سبيل رعايتهم ، والعناية بهم ، فسهر بالليل ، ونصب بالنهار، ورعاية واهتمام بالتنظيف في كل وقت وحين ، وحماية من الحر والبرد والمرض ، وتعهد وتفقد لحالة الأبناء من جوع وشبع ، وعطش وروى ، وتحسس لما يؤلمهم فهما يقومان بالعناية بالابن أشد عناية ، فيراقبان تحركاته وسكناته ، ومشيه وجلوسه ، وضحكه وعبوسه ، وصحته ومرضه ، يفرحان لفرحه ، ويحزنان لحزنه ، ويمرضان لمرضه ، فالأم حملت وليدها تسعة أشهر في الغالب تعاني به في تلك الأشهر ما تعاني من آلام و مرض ووهن وثقل ، فإذا آن وقت المخاض والولادة ، شاهدت الموت ، وقاست من الآلام ما الله به عليم ، فتارة تموت ، وتارة تنجو ، وياليت الألم والتعب ينتهي بالوضع لكان الأمر سهلاً يسيراً ، ولكن يكثر التعب والنصب ويشتد بعده ، فحملته كرهاً ووضعته كرهاً .(1/1)
فتذبل الأم وتضعف لمرض وليديها وفلذة كبدها وتغيب بسمتها إن غابت ضحكته ، وتذرف دموعها إذا اشتد به المرض والوعك ، وتحرم نفسها الطعام والشراب ، إن صام طفلها عن لبنها ، بل وتلقي بنفسها في النار لتنقذ وليدها ، وتتحمل من الذل والشقاء أمثال الجبال كي يحيا ويسعد وتموت راضية إذا اشتد عوده وصلب ، ولو كان ذلك على حساب صحتها وقوتها وسعادتها .
ترى الحياة نوراً عندما ترى طفلها ووليدها وفلذة كبدها مع الصبيان يلعب ، أو إلى المدرسة يذهب ، وهي تعيش اللحظات الحاسمة في حياته عندما تنتظر تفوقه ونجاحه ، وتخرجه وزواجه ، ثم بعد أن يشب ويشق طريقه في هذه الحياة تنتظر الأم بكل شوق ولهف ماذا سيكون جزاء الأعمال التي قدمتها له ؟ بماذا سيكافئها من أجل تضحياتها وجهودها وآلامها ؟ هل سيكون جزاء الإحسان هو الإحسان ؟ أم سيذهب كل ذلك أدراج الرياح ؟ ويكون جزاء الإحسان هو النكران ؟ .
هذه هي الأم التي أوصى النبي ( ثلاث مرات بها عندما سأله رجل من يبَر ، فلها ثلاثة أضعاف حق الوالد ، ولذلك جعل الله الجنة تحت قدميها .
والوالد ! وما أدراك ما الوالد ؟ ذلك الرجل الذي يكد ويتعب ، ويجد ويلهث ، ويروح ويغدو من أجل راحة ابنه وسعادته ، فالابن لا يحب بعد أمه إلا أباه الذي إذا دخل هش وبش به ، ولعب معه ومرح ، وإن خرج تعلق به ، وبكى من أجله وصرخ ، وإذا حضر قعد على حجره ، مستنداً على صدره ، وإذا غاب سأل عنه وانتظره بكل شوق وحب ، فإذا رضي الوالد أعطى ولده ما يريد ، وإذا غضب أدبه بالآداب الشرعية ، أدبه بالمعروف من غير عنف ولا إحراج .(1/2)
ولكن ؟ وللأسف فسُرعان ما ينسى ذلك الابن الجحود ينسى الجميل وينكر المعروف ذلك الابن المغرور ، فعصيان بالليل وتمرد بالنهار ، وعقوق للوالدين جهاراً نهاراً ، واعلم أن طاعة الوالدين واجبة بكتاب الله وسنة نبيه ( ، قال تعالى : { واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئاً وبالوالدين إحساناً } [النساء36] ، وقال ( : (( رغم أنف ، ثم رغم أنف ، ثم رغم أنف ، من أدرك أبويه عند الكبر ، أحدهما أو كلاهما فلم يدخل الجنة )) [مسلم] ( وذلك كناية عن الذل وإلصاق الأنف بالتراب هواناً ) .
ولن يكافئ الولد والديه على ما قاما به من رعاية وتربيه إلا كما قال (: (( لا يجزي ولد والداً إلا أن يجده مملوكاً فيشتريه فيعتقه )) [مسلم] .
فاللهم حبب إلينا والدينا ، وأعطف عليهما قلوبنا ، واجعلنا نرأف بهما ونبرهما ونرد لهما بعض ما قدماه لنا من إحسان ، واللهم ارحمهما واغفر لهما وسامحهما واجعل الجنة مآلهما ، ولا تضيع أجرهما إنك على كل شئ قدير .
وللوالدين على الأبناء حقوقاً كثيرة لا تعد ولا تحصى مكافئة لما قاما به من مساعٍ حميدة من أجل راحة الأبناء ، وتنشأتهم تنشأة إسلامية ، راجين بذلك ما عند الله والدار الآخرة ، ثم راجين من الله تعالى حسن الرعاية من أبنائهما إثر تربيتهما لهم ، ومن هذه الحقوق :
1- بر الوالدين :(1/3)
لقد حث الإسلام ، هذا الدين الحنيف الصالح لكل زمان ومكان على بر الوالدين في كتاب الله عز وجل وسنة نبيه ( لما لهما من فضل وحقوق على الأبناء ، فقال جل من قائل سبحانه : { ووصينا الإنسان بوالديه حسناً } [ العنكبوت 8] ، وقال تعالى : { ووصينا الإنسان بوالديه حملته أمه وهناً على وهن وفصاله في عامين أن اشكر لي ولوالديك } [لقمان 14] فهي أي الأم في تعب وجُهد من قبل الولادة ثم أثناءها ثم بعدها، وكذلك الأب يسهر لتعب الابن ويحزن لمرضه ، ويقلق ويخاف عليه أثناء غيابه ، فاستحقا بذلك البر بهما ، فهما - أي الأبوان- ربيا أطفالهما صغاراً واعتنوا بهما كباراً، فاستحقا بذلك الشكر والبر جزاء ما قدما وقاما به من حسن التربية والتنشئة ، واستحقا البر جزاءً موفوراً ، فبر الوالدين واجب وفريضة على الأبناء ، وفي برهما أجر كبير وثواب عظيم ، فبرهما من أفضل الأعمال وحقهما هو الحق الثالث بعد حق الله تعالى وحق نبيه ( .
وبر الوالدين مقدم على بر غيرهما من الناس ، سواءً الأولاد أو الزوجة أو الأصدقاء أو الأقرباء ، أوغير أولئك من الناس ، بر الوالدين مقدم على أولئك جميعاً .
وبر الوالدين يكون بكل ما تصل إليه يد الأبناء من طعام وشراب وملبس وعلاج وكل ما يحتاجانه من خدمة وبر ومعروف قال تعالى : { ووصينا الإنسان بوالديه إحساناً حملته أمه كرها ووضعته كرها وحمله وفصله ثلاثون شهراً حتى إذا بلغ أشده وبلغ أربعين سنه قال رب أوزعني أن أشكر نعمتك التي أنعمت علي وعلى والديّ وأن أعمل صالحاً ترضه وأصلح لي في ذريتي إني تبت إليك وإني من المسلمين أولئك الذين نتقبل عنهم أحسن ما عملوا ونتجاوز عن سيئاتهم في أصحاب الجنة وعد الصدق الذي كانوا يوعدون } [ الأحقاف 15/16] .(1/4)
وعن أبي عبد الرحمن عبدالله بن مسعود ( قال : سألت النبي ( : أي العمل أحب إلى الله تعالى ؟ قال : (( الصلاة على وقتها )) قلت ثم أي ؟ قال : (( بر الوالدين )) قلت ثم أي ؟ قال : (( الجهاد في سبيل الله)) [ متفق عليه] .
فجعل رسول الله ( ، بر الوالدين أفضل من الجهاد في سبيل الله ، وما ذاك إلا لعظم حقهما على أبنائهما ، فالأم حملت ووضعت وأرضعت وأطعمت وسقت وسهرت وتعبت ، فكان لبنها الغذاء والطعام ، وحجرها المرقد والمنام ، والأب يعطي وينفق ويعمل ليل نهار من أجل توفير المسكن والملبس والمطعم والمشرب فوجب برهما ، ومن برهما الإنفاق عليهما ، وشراء الطعام والشراب الذي يشتهيانه لهما ، وإدخال الفرح والسرور عليهما ولو كان ذلك على حساب الأبناء ، ومساعدتهما في كل ما يحتاجانه من أعمال ، ومن برهما أن لا يجلس الابن وأبواه واقفان ، وأن لا يمشي أمامهما ، ولا يركب السيارة حتى يركب أبوه وأمه قبله ، ويساعدهما في النزول والقعود والنهوض والوقوف إذا احتاجا إلى ذلك ، ويجلس معهما حال مرضهما ويسعى جاهداً لعلاجهما ، ولا يبخل عليهما بمال ولا وقت ، ولا يدخر جهداً في إرضائهما ، ويحثهما على الدعاء له في كل وقت وحين ، ويدعوا هو لهما لعل الله أن يرحمها بكثرة دعاءه لهما ، قال تعالى : { وبراً بوالديه ولم يكن جباراً عصياً } [ مريم 14 ] أثنى الله عز وجل على يحيى على السلام لبره بوالديه .
وقال تعالى : { وبراً بوالدتي ولم يجعلني جباراً شقياً } [ مريم 32] وذكر الله تعالى عيسى عليه السلام وماله من صفات وهبها الله إياه ومنّ بها عليه ، وذكر منها بره بوالدته .
ومهما قدم الأبناء من بر لوالديهم فلن يوفوهم حقوقهم لأن لهما قدم السبق في ذلك ، عن أبي هريرة ( قال : قال رسول الله (: (( لا يجزي ولد والداً ، إلا أن يجده مملوكاً فيشتريه فيعتقه )) [ مسلم] .(1/5)
وعن أنس ( ، أن رسول ( قال : (( من أحب أن يبسط له في رزقه وينسأ له في أثره فليصل رحمه )) [ متفق عليه] .
فالحديث يدل على أن صلة الرحم سبب في توسيع الرزق وزيادته وكثرة طرق الخير وأبوابه ، وزيادة في العمر وطول الأجل ، ومن أوكد وألزم صلة الرحم بر الوالدين ، فبرهما سبب لبسط الرزق وزيادته ، وطول العمر وامتداده ، وعقوقهما سبب لقلة الرزق وضيق المعيشة ، وقصر الأجل وسوء الخاتمة ، قال ( : (( من سره أن يمد له في عمره ويزاد في رزقه فليبر والديه وليصل رحمه )) [ أحمد ] .
وعن عبدالله بن عمر قال : (( رضا الرب في رضا الوالد ، وسخط الرب في سخط الوالد )) [ رواه البخاري في صحيح الأدب المفرد ] وقال الألباني رحمه الله تعالى ، حسن موقوفاً ، وصحيح مرفوعاً .
وقال بن عباس : ( إني لا أعلم عملاً أقرب إلى الله من بر الوالدة ) [ صحيح الأدب المفرد ] .
وفي الأدب المفرد للبخاري من حديث عبدالله بن عمر أن رجلاً جاء إلى النبي ( يبايعه على الهجرة ، وترك أبويه يبكيان ، فقال : (( ارجع إليهما وأضحكهما كما أبكيتهما )) .
فانظر كيف حث الشارع على احترام الوالدين وبرهما فلم يؤذن لذلك الرجل بالهجرة حتى يضحكهما وهذا والله من كمال هذا الدين الحنيف ، دين الإسلام العظيم ، ومن رحمة سيد الخلق بالآباء والأمهات ، وأكثر ما يحتاج الوالدين إلى الأبناء عند كبرهما وطعنهما في السن ، فيحتاجان من أبنائهما البر ، بل أشد البر ، وأوفى الكيل ، وأعطف الحال ، وأطيب الكلام ، في هذه السن المتقدمة ، فيجب برهما ومساعدتهما على الأكل والشرب والنوم والاستيقاظ ، والنهوض والجلوس ، واللبس والخلع ، والخروج والدخول ، بل حتى لو احتاج الأمر إلى أن يدخلهما المرحاض ويزيل الأذى عنهما لوجب عليه ذلك .(1/6)
ويحتاجان في هذه السنة المتأخرة من العمر إلى مزيد الإنفاق عليهما ، لعدم قدرتهما على العمل واستحصال ما تقوم به حياتهما من أكل وشرب ولبس وغير ذلك من مقومات الحياة ، فوجب الإنفاق عليهما دون تردد أو تكاسل ، أو بخل أو شح .
قال ( : (( لا يسأل رجل مولاه من فضل هو عنده فيمنعه إياه ، إلا دعي له يوم القيامة فضله الذي منعه شجاع أقرع )) [ أبو داود وهو حسن ] ، فإذا سأل الوالدان الابن فضلا يملكه من ماله فلا يتأخر ولايتكلكل ويتململ ، بل يسرع إلى طلبهما وإعطائهما ما يحتاجانه من ذلك الفضل ، وإن لم يفعل ذلك مثل له يوم القيامة ذلك المال الذي يبخل به ثعباناً ذهب شعر رأسه من شدة السم .
كانت تلك جملاً من بعض بر الأبناء بالوالدين ، أما العقوق - أعاذنا الله جميعاً منه - فإنه محرم ، ممقوت صاحبه ، متوعد بالعذاب في الدنيا قبل الآخرة ، وهو مقرب للنيران ، ومبعد عن الجنان .(1/7)
فهذا القاسي القلب ، الجاحد الناكر ، الشقي النفس، الخبيث الطباع، المتحجر الضمير، الذي يريد كل شيء لنفسه فكل همه أن يأخذ ولا يعطي، ويُخدم ولا يَخدم، يطيب كلامه مع الناس، ويسوء مع والديه، يتحبب ويتودد إلى الناس، ويتنكر لوالديه، يتبسم في وجوه الآخرين ويعبس في وجه والديه، ويختار الأحجار الكلامية والنابية لوالديه، وينظر إليهما بعين الجحود، ويتصرف مع والديه بوحشيه وهمجية وبأمور تسلطية تعسفية ، فإذا سمع هذا العاق لوالديه منهما مالا يرضيه، يذل أمه ويبكيها ويبطش بأبيه ويرميه ويعز زوجته ويرضيها، إذا حصل شجار بين الأبوين والزوجة أسرع إلى إرضاء زوجته، وخطأ والديه وأشبعهما سباً وركلاً، يأكل وزوجته ويجوع والداه، يشتري لزوجته أفخر الملابس وأغلاها وأحسنها، وإذا وجد مع أمه قميصاً أو قميصين اتهمها بالتبذير والبذخ، يكرم زوجته، ويهين أمه المسكينة التي حملته اشهراً عدة، صامت ليأكل، وعطشت ليروى، وقامت ليقعد، وسهرت لينام، وحزنت ليفرح، ثم قابل ذلك كله بالجحود والعقوق ، قال ( : (( ألا أنبئكم بأكبر الكبائر؟ )) (ثلاثا) ، قالوا : بلى يا رسول الله ! قال : (( الإشراك بالله ، وعقوق الوالدين ، وجلس وكان متكئاً ألا وقول الزور )) فما زال يكررها حتى قلت : ليته سكت [ الأدب المفرد وهو صحيح ] .(1/8)
فحال هذا العاق مع والده، حال محزنة، فإذا وقف أبوه جلس هو ومد رجليه، وإذا ناقش أبوه أظهر له علمه هو وجهل أبيه، يناديه والده فلا يجيب، ويأمره فلا يطيع، وإن أعان والديه بمال تكبر واستعلى يدير ظهره لأبويه وهو يكلمهما، تراه راكباً سيارته وأبوه واقف أمامه يخاطبه، يهرب من أبويه الفقيرين لا يمد لهما يد المساعدة والعون، ويوم يصبح ذا منصب وشوكة ومكانة ويكلمه أبوه أمام الناس صب عليه جام غضبه ، وأشبعه من اللعنات ، وأوسعه باللكمات ، يبتعد عن والديه أميالاً حتى لا يقول الناس هذان أبوا ذلك الرجل، ولم يعلم ذلك العاق أن دمعة الأبوين المظلومين بسبب ظلم الأبناء تقع من الله بمكان ، ويجعلها على العاقين ناراً ووبالاً ، فرضى الله من رضاهما، وسخطه سبحانه من سخطهما والظلم ظلمات يوم القيامة، قال تعالى : { والذي قال لوالديه أف لكما أتعدانني أن أخرج وقد خلت القرون من قبلي وهما يستغيثان الله ويلك آمن إن وعد الله حق فيقول ما هذا إلا أساطير الأولين ( أولئك الذين حق عليهم القول في أمم قد خلت من قبلهم من الجن والأنس إنهم كانوا خاسرين } [ الأحقاف17/18 ] .
وقال تعالى : { وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحساناً( إما يبلغن عندك الكبر أحدهما أو كلاهما فلا تقل لهما أف ولا تنهرهما وقل لهما قولاً كريماً( واخفض لهما جناح الذل من الرحمة وقل رب ارحمهما كما ربياني صغيراً } [ الإسراء23/24 ] .
قال ( : (( من أكبر الكبائر شتم الرجل والديه قالوا : يا رسول الله وهل يشتم الرجل والديه قال : (( نعم ، يسب أبا الرجل فيسب أباه ، ويسب أمه فيسب أمه )) [ متفق عليه ] .
وقال ( : (( لعن الله من لعن والديه)) [ صحيح الأدب المفرد ] .
ففي الأحاديث السالفة الذكر الوعيد الشديد لمن عق والديه أو أساء إليهما ولو بالإشارة ولو بأقل كلمة وهي ( أف ) ، فيحرم عقوقهما أو سبهما أو شتمهما أو إهانتهما، ويحرم إلحاق الأذى بهما .(1/9)
فأين أولئك الطغاة الظلمة ؟ أين أولئك القساة العاقين ؟ عن تلك الآيات والأحاديث الصحاح ، والتي أمر الله فيها ببر الوالدين والإحسان إليهما ورهب وخوف من عقوقهما ، وألزم وأوجب برهما وصلة الرحم التي لا توصل إلا بهما ، فهما أقرب الرحم للرجل قال تعالى : { فهل عسيتم إن توليتم أن تفسدوا في الأرض وتقطعوا أرحامكم( أولئك الذين لعنهم الله فأصمهم وأعمى أبصارهم } [ محمد 22-23] .
وقال تعالى : { والذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل ويفسدون في الأرض أولئك لهم اللعنة ولهم سوء الدار } [ الرعد 25 ] .
فأخبر الله سبحانه أن العقوق من أكبر الكبائر، وقطيعة الرحم تدل على العقوق لأن الوالدين من الرحم بل أقرب الرحم للرجل والمرأة، لهذا استحق العاق لوالديه اللعنة من الله عز وجل، واللعن : يعني الطرد والإبعاد من رحمة الله تعالى، وقد توعد الله عز وجل العاق بالعقوبة الشديدة يوم القيامة وهي سوء العاقبة فتكون عاقبة العاق يوم القيامة عاقبة وخيمة وهو ملعون مطرود من رحمة ربه - ولا حول ولا قوة إلا بالله - واعلم أن العقوق دين ، فكما يدين الإنسان يُدان، فمن عق والديه عقه أبناؤه عندما يكون في أمس الحاجة لهم في كبره، فلا يجد منهم إلا اللعن والشتم والضرب والطرد بل وقد يقذفون به في دار العجزة حتى يلقى حتفه، هذا هو الجزاء الأرضي لمن عق والديه أن يعقه أبناؤه، قال ( : (( برَّوا إباءكم تبركم أبناؤكم وعفوا تعف نساؤكم )) [ الطبراني بإسناد جيد ] .
وإليك أيها الابن وأيتها البنت هذه الأحاديث التي تنفر من عقوق الوالدين وترهب من ذلك وتخوف منه ، ومنها :(1/10)
أخرج النسائي والبزار واللفظ له باسنادين جيدين والحاكم ، وقال صحيح الإسناد، عن ابن عمر رضي الله عنهما، عن رسول الله ( قال : (( ثلاثة لا ينظر الله إليهم يوم القيامة، العاق لوالديه، ومد من الخمر، والمنان عطاءَه وثلاثة لا يدخلون الجنة العاق لوالديه، والديوث، والرجلة من النساء)) .
وأخرج أحمد واللفظ له والنسائي والبزار والحاكم وقال صحيح الإسناد عن عبدالله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما أن رسول الله ( قال : (( ثلاثة حرم الله تبارك وتعالى عليهم الجنة، مدمن الخمر، والعاق، والديوث الذي يقر الخبث في أهله )) .
وقال ( : (( كل الذنوب يؤخر الله منها ما شاء إلى يوم القيامة إلا عقوق الوالدين، فإن الله يعجله لصاحبه في الحياة الدنيا قبل الممات)) [ رواه البخاري في الأدب المفرد بمعناه، والطبراني في الكبير، والحاكم في المستدرك ] .
ومن أقبح العقوق وأشنعه أن يترفع الولد على والديه ويتكبر عليهما، فربما سُئل هذا العاق عن والده فقال : هذا السائق، أو الخادم أو الطباخ، وربما سألت هذه العاقة عن أمها فقالت : هذه الخادمة، أو هذه الفراشة ـ نعوذ بالله من الانتكاسة وعمى البصيرة ـ .
وفيما ذكرت من الأدلة الحاثة على بر الوالدين ، والمحذرة من عقوقهما كفاية، وذلك لمن أراد العبرة والاعتبار، والعظة والاتعاظ ، فترى البار بوالديه محبوب لدى الناس ، محبب إلى القلوب، مقرب إلى النفوس ، يتمنى الناس وده والقرب منه، ويتأهب الجميع لمساعدته إذا وقع في ضيق أو حرج .
أما العاق لوالديه، فإن الله يبغضه ويسخط عليه فلذلك لا قبول له في الدنيا، لا محب له من الناس، الجميع ينفر منه ويهرب عنه، فهو شر وقد يلحق شره غيره .
2- الإحسان إليهما :(1/11)
لقد أمر المولى جل شأنه في عدد من آيات القرآن الكريم بالإحسان إلى الوالدين وعدم التأفف من ذلك، فقال تعالى : { وقضى ربك أن لا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحساناً إما يبلغن عندك الكبر أحدهما أو كلاهما فلا تقل لهما أف ولا تنهرهما وقل لهما قولاً كريماً( واخفض لهما جناح الذل من الرحمة وقل رب أرحمهما كما ربياني صغيراً } [ الإسراء23/24 ] وقال تعالى : { واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئاً وبالوالدين إحساناً } [ النساء 36 ] .
فقد ألزم الله وأمر وأوجب ألا يُعبد غيره، وأن يُحسن إلى الوالدين إحساناً تاماً غير ناقص، إحساناً ملؤه الوفاء ورد الجميل، لأنهما سبب الوجود والتربية فلا إنعام بعد إنعام الله تعالى أعظم من إنعام الوالدين، فهما لا يطلبان إنعاماً ولا ثواباً من أبنائهما، لما يتميزون به من عفة النفس والسؤدد فما يقومان به وما يقدمانه بغير عوض، فلا يطلبان جزاءً ولا شكوراً، ولكن ذلك واجب على الأبناء { هل جزاء الإحسان إلا الإحسان } [ الرحمن60 ] فالوالدان لا يقطعان عن أبنائهما موارد الكرم ولو كان الابن غير بار، وهذا واضح مجرب ملموس .
وهما يريدان أن يكون الابن بأعلى المراتب والمناصب وذلك من غاية شفقتهما على الولد، فهما لا يحسدان ولدهما إذا كان أفضل منهما بل يتمنيان له ولاخوته مزيد الرفعة والعلو في هذه الدنيا والآخرة، فكان من حقهما على أبنائهما الإحسان إليهما بكل ما يصل بيد الابن من خير يستطيع تقديمه لهما خصوصاً إذا كبر أحدهما أو كبر الاثنان، فيجب العناية بهما ورعايتهما، فإذا وصلا إلى حال الضعف والكبر والعجز وصارا عندك في آخر العمر كما كنت عندهما في أوله، وجب عليك أن تحنوا عليهما وتشفق عليهما وتتلطف لهما، وتعاملهما معاملة الشاكر لمن أنعم عليه، على أن الفضل لهما أولاً وآخراً بعد الله عز وجل .(1/12)
ومن الإحسان إليهما عدم التأفف من شئ تراه أو تشمه من أحدهما أو منهما مما يتأذى به الناس ولكن اصبر على ذلك وأحتسب الأجر عليه من الله جل وعلا كما صبرا عليك في صغرك، وأحذر الضجر والملل قليلاً أو كثيراً، وعليك بالرفق واللين معهما والله لا يضيع اجر من أحسن عملاً0
ومن الإحسان إليهما أن لا تنقص عليهما ولا تكدرهما بكلام أو فعل لا يرضيانه، ولا تزجرهما ولا ترفع صوتك فوق صوتهما، ولا تخالفهما على سبيل الرد عليهما والتكذيب لهما، فإن فعلت ذلك فابشر بالخير الجزيل من الكريم الجليل .
ومن الإحسان إليهما مخاطبتهما بلطف واختيار الكلام الحسن الطيب المقرون بالاحترام والتواضع لهما ولين الجانب، وأحذر أن تحدق بعينيك في وجههما فإن ذلك من العقوق، أرشدهما وعلمهما الخير والإحسان والدين إذا كان جاهلين ببعض الأحكام، أرشدهما بالأدب والمرؤة0
خاطبهما بلطف ولا تدعوهما بأسمائهما ولكن قل، يا أبي، يا أمي، يا والدي، يا والدتي، وانظر إليهما بعين الرأفة والرحمة والتواضع، فإن فعلت ذلك فإنك من المحسنين بإذن رب العالمين .
ومن الإحسان إليهما أن تدعو لهما بالرحمة، كما قال تعالى : { وقل رب أرحمهما كما ربياني صغيراً } وأي شئ يرجوه الإنسان بعد رحمة الله له، فوجب عليك أيها الابن أن تدعو لهما بالرحمة من الله تعالى لما بذلاه من جهد وتعب معك من قبل الولادة إلى أن أصبحت شاباً يافعاً فيا ليت شعري، أين شباب اليوم من البر والإحسان بالوالدين، ولا أقول إلا اللهم لا تجعلنا بأبنائنا أشقياء، وارزقنا ذرية صالحة تنفعنا في الدنيا والآخرة، واجعلنا بارين بآبائنا محسنين إليهما، واجعل أبنائنا بارين بنا محسنين إلينا، فإنك أنت الجواد الكريم .
جاء رجل إلى النبي ( يستأذنه في الجهاد فقال ( : (( أحي والداك ؟)) قال : نعم، قال : (( ففيهما فجاهد)) [ متفق عليه ] .(1/13)
وفي رواية لهما : أقبل رجل إلى النبي ( فقال : أبايعك على الهجرة والجهاد أبتغي الأجر من الله تعالى، قال: (( فهل من والديك أحد حي ؟)) قال: نعم بل كلاهما، قال : (( فتبتغي الأجر من الله تعالى ؟)) قال: نعم، قال: (( فارجع إلى والديك فأحسن صحبتهما)) [ متفق عليه ] .
وإني والله ! لأتسائل أين الشباب والشابات في هذا الزمان عن هذين الحديثين ؟ أين الأبناء والبنات عن حقوق الوالدين؟ والله إنه تضييع وتفريط لا مثيل له ولا شبيه، ولا ند له ولا نظير ، وما ذاك إلا بسبب الابتعاد عن الدين والعكوف على الخليع من القنوات والفضائيات والإنترنت، حتى أصبح أولئك الشباب لا يفرقون بين القريب والبعيد، بين الوالدين وغيرهما، فلا يرى الوالدان من الأبناء إلا كل جفاء، ولا يسمعون إلا أصواتاً كالرعد القاصف، ألفاظاً نابية وكلمات حقيرة مدوية، فلعن وسب، وشتم وقذف .
فلا حول ولا قوة إلا بالله، اللهم أنا نعوذ بك من ولد يشيبنا قبل المشيب ، أو يكون علينا وبالاً ، أين أولئك العاقين عن قول النبي ( : (( الوالد أوسط أبواب الجنة)) ؟ [ الترمذي وابن ماجه بسند صحيح ] .
وقال ( : (( رضى الرب في رضى الوالدين وسخطه في سخطهما))
فأي فلاح وأي نجاح يرجوه أولئك العاقون لوالديهم فوالله لا فلاح لهم ولا رفعة إلا بالإحسان إلى الوالدين والبر بهما وطاعتهما فيما يأمران وفيما ينهيان ، فقد أخبر بذلك نبي الهدى والرحمة عليه أفضل الصلاة وأتم السلام بقوله : (( من سره أن يمد له في عمره ويزاد له في رزقه، فليبر والديه وليصل رحمه)) [ أحمد ] ولا شك أن من الإحسان إلى الوالدين برهما وصلة رحمهما وغير ذلك من أمر البر والصلة .
3- طاعة الوالدين :(1/14)
ومما أمر الله به الأبناء طاعة الوالدين في كل ما أمرا به ودعيا إليه ما لم يكن في ذلك معصية لله عز وجل ، فإنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق سبحانه ، وفي ذلك قال تعالى : { وإن جاهداك على أن تشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعهما وصاحبهما في الدنيا معروفاً واتبع سبيل من أناب إلي ثم إلى مرجعكم فأنبئكم بما كنتم تعملون } [ لقمان 15 ] .
فطاعة الوالدين من أوجب الواجبات ولو كانا كافرين أو فاسقين عاصيين، غير أنه لا طاعة لهما في معصية الله جل وعلا ، فإذا دعا الأبوان الأبناء إلى أي معصية لله عز وجل أو لرسوله ( فلا طاعة لهما في ذلك ، وإنما الطاعة بالمعروف ، ويجب لين الجانب لهما وتعريفهما أن في ذلك معصية توجب غضب الجبار سبحانه ، وإخبارهما بما يدل على عدم طاعتهما في حال المعصية بما ورد في كتاب الله وسنة نبيه ( .
ففي طاعتهما الخير العظيم ، والأجر الجزيل من الله تعالى في الدنيا والآخرة ، أما عصيانهما ففيه شر وفساد جسيم ، ووبال كبير ، أيضاً في الدنيا والآخرة ، وكما ذكرنا أن الطاعة في المعروف ، فطاعة الوالدين واجبة في كل أمر إلا أمراً فيه معصية .
عن بن عمر رضي الله عنهما قال : كانت تحتي امرأة وكنت أحبها ، وكان عمر- أي عمر بن الخطاب والده - يكرهها فقال لي : طلقها : فأبيت ، فأتى عمر ( النبي ( فذكر ذلك له ، فقال النبي ( : (( طلقها)) [ أبو داود والترمذي وقال حسن صحيح ] .
فعمر بن الخطاب ( الخليفة الراشد الذي وافق القرآن في عدة مواضع لم يأمر ابنه عبدالله بطلاق زوجته دون سبب شرعي وإنما كان هناك سبب لم يخبر به ابنه فلذلك أمره بطلاقها ، وأمره ( بطاعة والده بطلاقها ، فعمر ( كان يرى مالا يراه ابنه فأمره بطلاقها لضعفها في دينها .(1/15)
فطاعة الوالدين واجبة في كل أمر من الأمور التي يفرضها الإسلام ، فعن أبي الدرداء ( قال : أوصاني رسول الله ( بتسع : (( ...... وأطع والديك ، وإن أمراك أن تخرج من دنياك ، فاخرج لهما...)) [ رواه البخاري في الأدب المفرد وحسنه الألباني ] .
وعن طيلسة بن مياس قال : كنت مع النجدات - قوم من الحرورية - فأصبت ذنوباً لا أراها إلا من الكبائر ، فذكرت ذلك لابن عمر قال : ماهي : قلت : كذا وكذا ، قال : ليست هذه من الكبائر ، هن تسع : الإشراك بالله ، وقتل نسمة ، والفرار من الزحف ، وقذف المحصنة ، وأكل الربا ، وأكل مال اليتيم ، وإلحاد في مسجد ، والذي يستسخر، وبكاء الوالدين من العقوق ، قال لي بن عمر : أتفرق - أتخاف - من النار وتحب أن تدخل الجنة ؟ قلت : أي والله ، قال : أحي والداك ؟ قلت : عندي أمي ، قال : فوالله لو ألنت لها الكلام وأطعمتها الطعام لتدخلن الجنة ما اجتنبت الكبائر )) [ السلسلة الصحيحة ] .
فطاعة الوالدين سبب لدخول الجنة ، ولذلك قال العلماء إذا أمر الوالدان الابن بطلاق زوجته ، فإنه لا يجب عليه طاعتهما ولا يكون ذلك من قبيل العصيان أو العقوق لهما ، إلا أن يكون منها ـ أي الزوجة ـ سوء خلق وأدب نحو الأبوين ، أو ضعف في دينها بحيث لا تقوم بما أمر الله به من أوامر مثل : أداء الصلوات أو الصيام أو غير ذلك ، ففي هذه الحالة يتم مناصحتها فإن أطاعت فالحمد لله ، وإن أبت فلا بد من طاعة الوالدين في طلاقها ، ولهذا لما جاء رجل إلى الإمام أحمد بن حنبل وسأله ، قال : إن أبي يقول : طلق امرأتك ، وأنا أحبها ، قال : لا تطلقها ، قال : أليس عمر بن الخطاب أمر ابنه عبدالله أن يطلق امرأته ، قال : حتى يكون أبوك مثل عمر.(1/16)
قال الشيخ محمد بن عثيمين في شرحه على رياض الصالحين : [ لأن عمر نعلم علم اليقين أنه لن يأمر عبدالله بطلاق زوجته إلا لسبب شرعي ، وقد يكون ابن عمر لم يعلمه ، لأنه من المستحيل أن عمر يأمر ابنه بطلاق زوجته ليفرق بينه وبين زوجته بدون سبب شرعي ، فهذا بعيد .
وعلى هذا فإذا أمرك أبوك أو أمك بأن تطلق امرأتك ، وأنت تحبها ، ولم تجد عليها مأخذاً شرعياً فلا تطلقها ، لأن هذه من الحاجات الخاصة التي لا يتدخل أحد فيها بين الإنسان وبين زوجته ] انتهى .
وعن أبي الدرداء ( أن رجلاً أتاه قال : إن لي امرأة وإن أمي تأمرني بطلاقها ؟ فقال سمعت رسول الله ( يقول : (( الوالد أوسط أبواب الجنة ، فإن شئت فأضع ذلك الباب أو احفظه )) [ صحيح أخرجه الترمذي وابن ماجة ] .(1/17)
ولا يعارض هذا الحديث الذي قبله وقلنا أنه لايطاع الوالدان في طلاق الزوجة إلا إذا كانت تؤذي الوالدين بفعل أو كلام قبيح , أو لم تكن تصلي أو كانت عاصيه لزوجها كخروجها سافرة كاشفة أو ماأشبه ذلك من الأمور المحرمة ولم تنته عن ذلك الأمر فوجب حينئذ طاعة الوالدين بطلاقها . وطاعة الوالدين وبرهما مقدم على جميع نوافل الأعمال , ولهذا بوب مسلم في صحيحه باب تقديم بر الوالدين على التطوع بالصلاة وغيرها , ثم ذكر قصة جريج الراهب وهي كما ذكرها الإمام مسلم في صحيحه قال : عن أبي هريرة ( أنه قال : وكان جريج رجلاً عابداً فاتخذ صومعة فكان فيها فأتته أمه وهو يصلي فقالت ياجريج فقال يارب أمي وصلاتي فأقبل على صلاته فانصرفت فلما كان من الغد أتته وهو يصلي فقالت : ياجريج , فقال : يارب أمي وصلاتي فاقبل على صلاته , فانصرفت , فلما كان من الغد أتته وهو يصلي , فقالت : ياجريج , فقال : أي رب أمي وصلاتي فاقبل على صلاته , فقالت : اللهم لاتمته حتى ينظر إلى وجوه المومسات ـ يعني الزانيات ـ فتذاكر بنو إسرائيل جريجاً وعبادته وكانت امرأة بغي يتمثل بحسنها فقالت إن شئتم لأفتننه لكم , قال : فتعرضت له فلم يلتفت إليها فأتت راعياً كان يأوي إلى صومعته فأمكنته من نفسها فوقع عليها فحملت فلما ولدت قالت : هو من جريج , فأتوه فأنزلوه وهدموا صومعته وجعلوا يضربونه , فقال : ما شأنكم , قالوا : زنيت بهذه البغي فولدت منك , فقال : أين الصبي فجاءوا به , فقال : دعوني حتى أصلي فلما انصرف أتى الصبي فطعن في بطنه , وقال : ياغلام من أبوك ؟ قال : فلان الراعي , فأقبلوا على جريج يقبلونه ويتمسحون به وقالوا : نبني لك صومعتك من ذهب, قال : لا أعيدوها من طين كما كانت ففعلوا .(1/18)
فانظر كيف أدّى عصيان الوالدين إلى أن أفتتن رجلاً عابداً , عن أبي هريرة ( قال : قال رسول الله ( : (( ثلاث دعوات لا ترد : دعوة الوالد لولده ، ودعوة الصائم ، ودعوة المسافر )) [ حسن وهو في صحيح الجامع الصغير وزيادته ] .
وقال ( : (( ثلاث دعوات مستجابات لا شك فيهن ، دعوة الوالد على ولده ، ودعوة المسافر ، ودعوة المظلوم )) [ حسنه الألباني في صحيح الجامع الصغير ] .
فما أصاب جريج العابد كان بسبب دعوة أمه عليه، فدعوة الوالدين من الدعوات التي يستجاب لصاحبها .
فتجب طاعة الوالدين فيما أمر به ما لم يكن ذلك الأمر معصية، فهما الجنة والنار، من أطاعهما فقد امتثل أمر ربه وأمر رسوله ( بطاعتهما وحصل له مقصود هذه الطاعة من زيادة الخير والرزق وبركة العمر وزيادته، والفوز بالجنة بإذن الله تعالى، ومن عصاهما فقد عصى الله تبارك وتعالى واستحق سخطه فهو قريب من النار والعياذ بالله ، وسيقع له مثل ما فعل بأبويه من أبنائه ، لأن هذا دين كما أخبر بذلك المصطفى ( فقال : (( بروا آباءكم تبركم أبناؤكم )) .
فإنه لا سعادة ولا فوز للإنسان إلا في رضى والديه عنه ، فكم من أناس حُرموا لذة الحياة الدنيا بسبب عقوق الوالدين وعصيانهما ، فهم من نكد إلى نكد ، ومن مصيبة إلى أخرى ، فكانت عاقبتهم وخيمة، وخاتمتهم سيئة ، بسبب عقوق للوالدين .
وعلى العكس من ذلك من بَرَ والديه وأطاعهما وداوم على ذلك ولم يتأفف أو يتضجر من ذلك فاز برضى ربه سبحانه ، لأن رضى الرب في رضى الوالدين ، وسخطه من سخطهما .
واقرأ ماذا يقول والد لابنه العاق :
غدوتك مولوداً ومنتك يافعاً
تعل بما أجني عليك وتنهل
إذا ليلة ضافتك بالضم لم أبت
لسقمك إلا ساهراً أتململ
كأني أنا المطروق دونك بالذي
طرقت به دوني فعيني تهمل
تخاف الردى نفسي عليك وإنها
لتعلم أن الموت وقت مؤجل
فلما بلغت السن والغاية التي
إليها مدى ما كنت فيك أؤمل
جعلت جزائي غلظة وفظاظة
كأنك أنت المنعم المتفضل(1/19)
فليتك إذا لم ترع حق أبوتي
فعلت كما الجارالمصاقب يفعل
فأوليتني حق الجوار ولم تكن
علي بمال دون مالك تبخل
فاللهم أجرنا من العقوق ، واجعلنا ممن يقوم بالحقوق .
4- بر الأم مقدم على بر الأب :
الأم هي التي حملتك في بطنها أشهراً تسعاً في الغالب وتحملت آلام الحمل والوضع حتى كأنها ترى الموت رأي عين ، ثم قاست وجع الوضع آلاماً جسام ، ثم بعد ذلك أرضعتك حولين أو أقل ، وتكبدت المشاق والتبعات في رعايتك والعناية بك وتحملت التعب الكثير في تمريضك والاهتمام بك وكثرة الخدمة والتربية والحنان والإشفاق عليك .
وهي تسهر الليالي من أجل راحتك، وتقوم بك حال صراخك، وتحتضنك عند خوفك وقلقك واضطرابك، كانت تفديك بنفسها من كل شر ومكروه، تجوع هي لتشبع أنت ، وتعطش هي لتروى أنت ، تسهر هي لتنام أنت .
ثم هي تحضن صغيرها وتحن عليه وتدفئه في الأيام الباردة خوفاً عليه من الأمراض الهالكة ، وتقوم بتلطيف الجو له في اليوم الحار خوفاً عليه من ضربة الشمس وشدتها ، فهي أشد عناية بطفلها من غيرها ولذلك استحقت حقها مضاعفاً ثلاث مرات على حق الأب، عن أبي هريرة ( قال : جاء رجل إلى رسول الله ( فقال : يارسول الله، من أحق الناس بحسن صحابتي ؟ قال : ((أمك)) قال : ثم من ؟ قال : ((أمك)) قال : ثم من ؟ قال : ((أمك)) قال : ثم من ؟ قال : (( أبوك)) [ متفق عليه ] .
وفي رواية لمسلم : يارسول الله من أحق الناس بحسن الصحبة ؟ قال : (( أمك ثم أمك ثم أمك ثم أبوك ثم أدناك أدناك )) ، فحق الأم مضاعف على حق الأب بثلاثة أضعاف .
وتوصل الأم وتبر وتطاع وإن كانت غير مسلمة لحديث أسماء بنت أبي بكر الصديق رضي الله عنهما، قالت : قدمت على أمي وهي مشركة في عهد رسول الله ( ، فاستفتيت رسول الله ( قلت : قدمت على أمي وهي راغبة ( طامعة عندي تسألني شيئاً ) أفأصل أمي ؟ قال : (( نعم صلي أمك )) [ متفق عليه] .(1/20)
وما وافقها النبي ( على صلتها لأمها إلا لعظم حق الأم عند الله تعالى، وأنها مقدمة في البر على غيرها لأنها ضعيفة لا تأخذ بحقها، ولا تستطيع الدفاع عن نفسها ، فهي تحتاج إلى من يدافع عنها ويساعدها على تدبير أمورها وقضاء شؤونها لها وتوصيلها لزيارة رحمها وإعادتها، وغير ذلك من الأمور التي لا تستطيع أداءها بنفسها .
وعن معاوية بن جاهمة رضي الله عنهما أن جاهمة جاء إلى النبي ( فقال : يارسول الله أردت أن أغزو وقد جئت أستشيرك ، فقال ( : (( هل لك من أم )) ؟ قال : نعم ، قال : (( فالزمها فإن الجنة عند رجلها)) وفي رواية : (( الزمها فإن الجنة تحت أقدامها)) [ النسائي وأحمد بسند صحيح] .
قال بن عباس رضي الله عنهما : (( إني لا أعلم عملاً أقرب إلى الله عز وجل من بر الوالدة )) [ البخاري في الأدب المفرد وهو صحيح في الصحيحة ] .
وبر الأم من الأمور التي تساعد على جلاء المعصية وذهاب حرها بإذن الله تعالى إذا وجد من صاحب المعصية أو الذنب التوبة والإقبال على الله تعالى والإنابة إليه سبحانه ، فقد روي عن أبي بكر بن حفص أن رجلاً قال : يارسول الله إني أصبت ذنباً عظيماً ، فهل لي من توبة ؟ قال : هل لك من أم ؟ قال : لا ، قال : هل لك من خالة ؟ قال : نعم ، قال : فبرها ] ( حديث حسن رواه البغوي في شرح السنة ) ، وفي الحديث المتفق عليه ، عن البراء عن النبي صلى الله عليه وسلم : [ الخالة بمنزلة الأم ] ، فهل هناك أعظم من بر الوالدة ؟ انظر كيف كان برها سبباً لمحو الذنوب والمعاصي ، ودافعاً لمحوها ، وذلك لعظم شأن الأم عند الله تعالى ، وعند عدم وجود الأم فهناك بر الخالة لأنها بمنزلة الأم في الحنان والعطف والرعاية بصغار أختها ، فاستحقت هي الأخرى هذه المنزلة العظيمة من نبي الرحمة والهدى عليه أفضل الصلوات وأزكى التسليم . ولهذا قال مكحول : بر الوالدين كفارة للكبائر ، ولا يزال الرجل قادراً على البر مادام في فصيلته من هو أكبر منه .(1/21)
وعن أبي بردة أنه شهد بن عمر، ورجل يماني يطوف بالبيت حمل أمه وراء ظهره وهو يقول :
إني لها بعيرها المذللْ
إن أُذعرتْ ركابها لم أُذعَرْ
ثم قال : يا بن عمر ؟ أتراني جزيتها ؟ قال : لا ، ولا بزفرة واحدة )) [صحيح الإسناد وهو عند البخاري في الأدب المفرد] .
فانظر إلى ذلك الرجل الذي حمل أمه على ظهره وطاف بها حول الكعبة سبعة أشواط، على ما في ذلك من مشقة وألم، وتعب ونصب ، ثم سأل بن عمر، هل جازى أمه على ما قامت به من حمل وولادة وإرضاع ورعاية وعناية وتكبير، فأجابه بن عمر، لا، ولا بزفرة، أي ولا بطلقة واحدة من طلقات الولادة - فلا إله إلا الله - كم في زماننا هذا، من يبكي أمه ظلماً وعدواناً ، وقسوة وعقوقاً ؟ فكم من عاق لها ؟ وكم من محزن لها ؟ فأين هؤلاء القوم عن أولئك السلف، رحم الله الأولين والآخرين .
وعن بن عباس قال : قال رسول الله (: (( من أصبح مطيعاً لله في والديه أصبح له بابان مفتوحان من الجنة وإن كان واحداً فواحد، ومن أمسى عاصياً لله في والديه أصبح له بابان مفتوحان من النار، وإن كان واحداً فواحد، قال رجل : وإن ظلماه ؟ قال : (( وإن ظلماه، وإن ظلماه، وإن ظلماه )) .
ولما ماتت أم إياس الذكي القاضي، بكى عليها فقيل له في ذلك فقال : كان لي بابان مفتوحان إلى الجنة فغلق أحدهما .
وكان رجل من المتعبدين يقبّل كل يوم قدم أمه فأبطأ يوماً على أصحابه فسألوه فقال : كنت أتمرغ في رياض الجنة، فقد بلغنا أن الجنة تحت أقدام الأمهات .
وعن أبي عيسى المغيرة بن شعبة (، عن النبي ( قال : (( إن الله تعالى حرم عليكم عقوق الأمهات، ومنعاً وهات، ووأد البنات، وكره لكم قيل وقال، وكثرة السؤال، وإضاعة المال)) [ متفق عليه ].
وقيل لعلي بن الحسين إنك من أبر الناس، ولا تأكل مع أمك في صفحة فقال : أخاف أن تسبق يدي يدها إلى ما تسبق إليه عيناها فأكون قد عققتها.
تذكر أيها الابن وتذكري أيتها البنت !(1/22)
تذكرا ! زمن حمل الأم بكما في بطنها وأنه علة من العلل ، ووقت أن كانت تلدكما وهي مما بها من آلام وأوجاع ، ليست من الأحياء ولا من الأموات .
وتذكرا ! ما يحدث لها من نزيف لدمها من أجل أن تعيشا .
وتذكرا ! أنكما كنتما تمصان دمها مدة الرضاع، وسرورها بكما لا وصف له ولا مثيل .
وتذكرا ! تنظيفها لبدنكما وملابسكما من الأقذار والأوساخ .
وتذكرا ! خوفها وفزعها عندما يعتريكما مرض أو سقم .
وتذكرا ! حرصها عليكما على أن تعيشا لها ولو حرمت نفسها الطعام والشراب .
وتذكرا ! سهرها وألمها عندما تتوجعان وتتألمان ، فهل جزاء الإحسان إلا الإحسان؟
ثم بعد أن يشب الصغيران ويكبران يقابلان ذلك بالعقوق ونكران الجميل، فيكيلان للأم المسكينة كيلاً من الكلمات القاسية، ويمطرانها بوابل من اللعن ومد اليد ، والرجل ، ويقومان بنهرها وقهرها وتوبيخها والتأفف منها، والدعاء عليها، والتكبر عليها .
بل قد تعامل الأم الحنون معاملة الخدم، فليلها ونهارها طبخ ونفخ، وتنظيف وترتيب للبيت، بل ويأمرانها أن تقوم بتربية أولادهما، ومن شدة عقوق الابن يقوم باستخدامها خادمة لزوجته فالأم الضعيفة التي تعبت وقاست ألم الموت بتربية ذلك الابن، تقابل بعد ذلك بأن تكون خادمة لتلك الزوجة العاقة أيضاً، وإلا لما رضيت بذلك . وفي نهاية المطاف تطرد الأم المسكينة من البيت ، فتتشرد في الشوارع والأزقة ، وتبحث عن مأوى فلا تجد ، وتتلمس الطعام فلا يحصل لها ؟(1/23)
ولسان حال ألام يقول : يابني ؟ ألم أحملك في بطني تسعة أشهر؟ ألم ألدك وأنا أرى الموت بعيني ؟ ألم أرضعك ؟ ألم أطعمك ؟ ألم أسقك ؟ ألم ألبسك ؟ ألم أنظفك ؟ ألم أبك ألماً حين مرضك ؟ ألم أفرح لنجاحك وتفوقك ؟ أتقابل الإحسان بالإساءة ؟ أتقابل الحسنة بالسيئة ؟ يابني اتق الله في ؟ يابني ارحم ضعفي وعجزي وقلة حيلتي ؟ حسبي الله ونعم الوكيل ، ولسانها يلهج بالدعاء لك رغم ذلك بأن يحفظك الله لها وأن لا يريها فيك مكروهاً ، وهي تقول : اللهم أصلح ابني، ووفقه للعطف علي ، والرأفة بي، اللهم اجعله يرحم ضعفي وكبر سني فإني لا أقوى على رفض أوامره، وأوامر زوجته ، اللهم وفقه للبر بي قبل موتي، أنت حسبي ووكيلي .
لا حول ولا قوة إلا بالله ! أهكذأ أيها العاقان ؟ تقابلان الرحمة بالغلظة، أتقابلان العطف والحنان، بالشدة والجفاء ؟ أهكذا تقابلان البر بالعقوق ؟ والله لتندمان إن لم تتوبا إلى الله قبل موتهما وموتكما ، فبروا آباءكم تبركم أبناؤكم .
فمن أراد السعادة والراحة والاطمئنان والفوز بالجنة، فليبر أمه، لأن الجنة تحت قدميها، فهي الجنة أو النار، ولأن رضى الله في رضى الوالد وسخط الله في سخط الوالد .
لا تنسيا أن الله أمر وألزم وأوجب بر الوالدين، ومن الوالدين الأم فلها أعظم الحق والبر والصلة بعد حق الله تعالى وحق نبيه ( وتجب صلتها حتى ولو كانت على غير الإسلام، وذلك مصداقاً لقوله تعالى : ((وإن جاهداك على أن تشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعهما وصاحبهما في الدنيا معروفاً)) [لقمان 15] .
ولذلك أمر النبي ( أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما أن تصل أمها مع أن أمها كافرة .
فتجب طاعة الوالدة وإن أمرتك بأي أمر إلا أن يكون في ذلك الأمر معصية لله، فإن كان ذلك فإنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق . ولكن تجب صلة الوالدة وبرها ، وتطاع حتى ولو كانت كافرة أو فاسقة لأن لها حق القرابة .(1/24)
ومما فشا وانتشر واستشرى عند بعض الناس، أن يلعن والديه - والعياذ بالله - وهذه هي الحالقة التي تحلق الدين من قلوب أولئك الناس، وقد جاء النهي والتحذير والتحريم لمن تسبب في لعن والدية فما بالك بمن يلعنهما أصلاً، فعن عبدالله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما أن رسول الله ( قال : (( من أكبر الكبائر شتم الرجل والديه)) قالوا : يارسول الله، وهل يشتم الرجل والديه ؟ قال : (( نعم، يسب أبا الرجل، فيسب أباه، ويسب أمه، فيسب أمه )) [ متفق عليه ] .
وفي رواية : (( إن من أكبر الكبائر أن يلعن الرجل والديه )) قيل : يارسول الله : كيف يلعن الرجل والديه ؟ قال : (( يسب أبا الرجل فيسب أباه، ويسب أمه فيسب أمه )) .
فمن بر الوالدين أن يمسك الإنسان لسانه عن شتم الناس وسبهم ، أو لعن والديهم حتى لا يكون سبباً في لعن والديه، والأم أحد الوالدين، فلا تعرضها للسب والشتم وتكون سبباً في العقوق .
5- بر الأب :
الأب هو رب الأسرة وعائلها الأول بعد الله عز وجل فهو الذي يعمل ليل نهار من أجل أن يجلب لأبنائه الطعام والشراب واللباس وغير ذلك مما يحتاجه الأبناء ، إذا مرض أحد الأبناء أسرع الأب بنجدته وإسعافه وتمريضه، هو من يقوم بتوصيل الأبناء إلى مدارسهم وإرجاعهم إلى المنزل، الأب ذلك الإنسان العطوف الحنون، الذي يحمل بين جنبيه قلباً كبيراً مملوءاً حباً وشفقة ورحمة لصغاره وأبنائه، يلهو ويمرح معهم ويداعبهم تارة، ويعلمهم ما ينفعهم تارة، يتحمل الصعاب ويقتحم الشدائد الجسام من أجل راحة أبنائه وإسعادهم، يوفر لهم كل ما يفيدهم ويعينهم على طاعة ربهم، يعلم أبنائه الصلاة صغاراً ويزجرهم ويضربهم عليها كباراً، حتى يعتادونها ويطيقونها .
يعلم أبنائه ما ينفعهم ولا يضرهم، يدخلهم حلقات تحفيظ القرآن الكريم للبنين والبنات، ويختار لهم أصدقاء الخير، وأصحاب الصلاح، ويجنبهم أصدقاء الشر وأصحاب الزيغ والفساد، وأهل الضلال .(1/25)
فحري بكل ابن وابنة أن يقدرا لوالدهما هذا الجهد ويشكران له حُسِن التربية، وحسن التعليم ، وواجب على الأبناء البر بأبيهما عند كبره وبعد موته فله أكبر الحق في ذلك، وتذكروا أيها الأبناء فرحة الأب بنجاحكم وتفوقكم، وتذكروا مدافعته عنكم بيده ولسانه ممن يعتدي عليكم، وتذكروا راحته واطمئنان قلبه عندما يراكم حوله جلوساً، وتذكروا دعاءَه لكم بأن يصلحكم ربكم ويهديكم ويفتح على قلوبكم ويا لفرحته عندما يرى أحدكم أو جميعكم في أعلى الوظائف والمناصب، والفرحة التي لا تعدلها فرحة عندما يراكم كما أراد متمسكين بشرع الله وسنة نبيه ( ، فهذه والله الأمنية التي يتمناه كل أب وأم لأبنائهم .
فالأب جنة أو نار للأبناء، فمن بر والده وأطاعه واحترمه ووقره كان من الفائزين السعداء، ومن عق والده وعصاه وأهانه وحقره كان من الخاسرين الأشقياء ، وأعلم أن الدين لابد أن يرجع إلى صاحبه، فالبر والعقوق دين، فمن بر أبيه بره ابنه، ومن عق أبيه عقه ابنه، وهكذا الأيام يداولها الله عز وجل بين الناس .
قال تعالى : { ووصينا الإنسان بوالديه إحساناً } [ الأحقاف ] .
وقال تعالى : { وبالوالدين إحساناً } [ النساء ] ، وقال ( : (( الوالد أوسط أبواب الجنة )) [الترمذي وهو حسن صحيح] .
وقال ( : (( لا يدخل الجنة قاطع رحم )) [ متفق عليه ] .
وقال (: (( إن أبر البر أن يصل الرجل ود أبيه )) [ صحيح الجامع ] ، أي أن يصل صديق أبيه بعد موته .
فانظر كيف أمر النبي ( بصلة قرابة الأب بعد موت الأب، فما بالك بصلة الأب نفسه وبره وطاعته وتوقيره واحترام رأيه ، فإنها منزلة عظيمة وهمة عالية، لابد أن يتطلع إليها كل الأبناء والبنات على حد سواء .(1/26)
فلا بد للأبناء أن يقابلوا ذلك الإحسان والجميل والحب والعطف والشفقة من الأب بأكثر منه . لأنه جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : [ من صنع إليه معروفاً فقال لفاعله : جزاك الله خيراً ، فقد أبلغ في الثناء ] ( المشكاة 3024 وهو حديث جيد ) ، وقال عليه الصلاة والسلام : [ من لم يشكر الناس لم يشكر الله ] ( الترمذي وأحمد وإسناده صحيح انظر المشكاة3025 ) ويصدق ذلك قوله تعالى : { وإذا حييتم بتحية فحيوا بأحسن منها أو ردوها إن الله عان على كل شيء حسيباً } ( النساء 86 ) . فإذا كان ذلك في السلام والتحية فما بالك أيها الابن وأيتها البنت بالتربية والتعليم الذي كلف الوالد جهداً ووقتاً ومالاً ، ألا يستحق منا جميعاً أن نكافئه على الأقل بمثل ما قدم ؟ بلى والله ! إذن أين الهمة ؟ وأين الطاعة بالمعروف ؟ وأين البر والإحسان ؟
6- الدعاء لهما :
لقد دعا المولى جل وعلا وحث الدعاء للوالدين لأنهما أصل الأبناء، فلذلك وجب الدعاء لهما في حياتهما وبعد موتهما، قال تعالى : { وقل رب ارحمهما كما ربياني صغيراً } [ الإسراء ] .
وقد حث النبي ( على الدعاء للوالدين بعد موتهما براً بهما ، فقال عليه الصلاة والسلام : (( إذا مات بن آدم، انقطع عمله إلا من ثلاث : صدقة جارية، أو علم ينتفع به ، أو ولد صالح يدعو له )) [ مسلم ] .
وذكر العلماء أن أفضل ما يقدم للوالدين من البر بعد موتهما هو الدعاء لهما، وعلى الابن أن يتخير مواضع إجابة الدعاء، والمواطن التي يستجاب فيها الدعاء ، حتى يقدم ذلك لوالديه براً بهما .
فيجد الابن ويجتهد في الدعاء لوالديه حتى يصل ذلك لهما وينفعهما عند ربهما بعد موتهما، ويدعو لهما بالرحمة والمغفرة وأن يجزل لهما المثوبة والأجر ويغفر لهما الزلل والوزر، وأن يعفو عنهما ويتجاوز عنها ، ويغفر لهما ما قدما وما أخرا وما أسررا وما أعلنا ، وأن يجعل الجنة مآلهما، وأن ينجيهما من النار، إلى غير ذلك من الدعاء لهما .(1/27)
ومن البر بهما بعد موتهما زيارة قبرهما والدعاء لهما والزيارة تخص الرجال فقط أما النساء فلا يجوز لهن ذلك للنهي الوارد من النبي ( : [ لعن الله زائرات القبور ] ( أحمد والترمذي وبن ماجة ) . ومعلوم أن اللعن لا يكون إلا على أمر محرم .
وكذلك زيارة أصدقاء الأب بعد موته والتحرز من صداقة عدوهما بعد موتهما لما في ذلك من العقوق لهما .
7- استئذانهما :
من بر الوالدين ومن طاعتهما واحترام رأيهما أن لا يجاهد الابن إلا بإذنهما، فقد أمر النبي ( بذلك في الحديث الذي أخرجه البخاري ومسلم عن عبدالله بن عمرو رضي الله عنهما قال : جاء رجل إلى نبي الله ( فاستأذنه في الجهاد، فقال : أحي والداك ؟ قال : نعم، قال : (( ففيهما فجاهد )) .
وعن أبي سعيد ( أن رجلاً من أهل اليمن هاجر إلى رسول الله ( فقال : (( هل لك أحد باليمن ؟ قال : أبواي ، قال : أذنا لك ؟ قال : لا، قال : فارجع إليهما فاستأذنهما، فإن أذنا لك فجاهد، وإلا فبرهما )) [أبو داود] .
فبر الوالدين أفضل من الجهاد في سبيل الله، وهو أوجب الواجبات، ومقدم على فروض الكفاية والتطوع .
وهذا الاستئذان إذا لم يكن الجهاد فرض عين فحينئذ لا يجب استئذان الأبوين للجهاد .
وإذا كان خروج الابن لغير الجهاد فيستحب له أن يستأذنهما لذلك الغرض رجاء بركة دعوتهما وحصول المقصود من ذلك، وإلا فإنه لا يجب عليه أن يستأذنهما ذلك .
ومما يجب والله أعلم أنه لا يختار الابن أو الابنة الصديق أو الصديقة إلا بإذنهما، لأنهما إن لم يوافقا على ذلك الصديق أو الصديقة ففي ذلك من العقوق ما فيه . وقد يورد نفسه المهالك باختيار ما لم يرض والديه .
8- زيارتهما ومساعدتهما وتقديم الهدية لهما :(1/28)
زيارة الوالدين من أوجب الواجبات التي لا غنى للأبناء عنها، وذلك من أجل تفقد أحوالهما ورعايتهما ومعرفة ما يحتاجان إليه من متطلبات الحياة وضرورياتها، فزر والديك وأدخل على قلوبهما الانشراح والفرح والسرور والغبطة بزيارتك لهما ، وتجاذب معهما أطراف الحديث وليكن ذلك بلطف ولين جانب منك، واحذر أثناء حديثك معهما أن ترفع صوتك عليهما أو تقاطعهما أثناء حديثهما، وإن رأيت أنهما قد رغبا في النوم والراحة فلتقطع حديثك بكل أدب واحترام حتى لا تحرجهما، فلن يقولا لك أخرج، ولكن تفهماً منك أنت لما يريدان ، وعليك أن تستشف ذلك من نظرهما وكلامهما وحركتهما . فزرهما كلما رغبا في ذلك، ولا أفضل ولا أجمل عند الوالدين من أن يدخل ابنهما عليهما بهدية تدخل السرور والبهجة عليهما وتزيد صلة الرحم وتقويها، خصوصاً بعد زواج الأبناء، فإن الأب والأم يحسان بفراغ كبير في المنزل ويشعران بشيء من الوحدة، وبعض العناء والتعب وذلك لأنهما قبل ذلك كانا يشعران بالراحة والاطمئنان عندما كان الأبناء بينهما وحولهما ومعهما ، يضحكان ويلعبان ويتحدثان مع هذا وهذه، وكان الأبناء يقومان بخدمات والديهم، وإجابة طلباتهم وتلبيتها، أما بعد زواج الأبناء وخروجهم من منزل والديهم فيشعر الأبوان بالوحدة وعدم الاطمئنان وبعض التعب والكدر، ويشعران بوقت فراغ كبير ، حيث ملأ الأبناء قلوب والديهم محبة وعطفاً ، وامتلأ البيت بحركاتهم وسكناتهم ولعبهم والضحك ، فمن أجل ذلك وجب على الأبناء رعاية الوالدين وزيارتهما وتفقد حالهما وإجابة دعوتهما، وتلبية طلبهما بكل حب وتقدير وإخلاص وعدم تذمر، والتودد إليهما والتحبب لهما وزيارتهما في كل وقت وحين .(1/29)
وما أجمل أن يدخل الابن والبنت على والديهما بهدية وإن كانت ذات قيمة قليلة، فالقيمة معنوية وليست نقدية ، فمعناها عند الأبوين كبير ولن تشعر بذلك إلا إذا وصلت إلى ما وصلا إليه من كبر وتقدم في السن، ففرحتهما بالهدية قد لا تعدلها فرحة، وقد قال عليه الصلاة والسلام : (( تهادوا تحابوا)) [ حسن ، انظر الإرواء 1601 ] .
فالهدية تقع بمكان بالنسبة للمهداة إليه بغض النظر عن قيمتها المادية، ولكن العبرة بقيمتها المعنوية حيث أنها تدخل السرور على الوالدين ويحسان بإقبال أبنائهما عليهما وعدم جفائهما، فتسود المحبة بين الأبناء والآباء، ويزيد الترابط أكثر وأكثر مما يزيد معه البر بالوالدين .
وما أجمل أن يقوم الأبناء بمساعدة الوالدين في جميع أعمالهما، فالوالدان أكثر ما يحتاجان إلى أبنائهما عند كبرهما وطعنهما في السن، فهما في هذه الحالة يريدان أن يقدم الأبناء لهما مزيد المساعدة والعون، فواجب الأبناء مد يد العون والمساعدة في كل شيء يحتاجه الوالدان حتى يردوا لوالديهم ولو شيئاً يسيراً من الواجب الذي عليهم تجاه آبائهم وأمهاتهم .(1/30)
فمن واجب الأبناء مساعدة الوالد في جلب طلبات المنزل وتوصيل من هم أصغر منهم إلى مدارسهم وإعادتهم إلى المنزل مرة أخرى، ومساعدة الوالد في زيارته للناس وأثناء زيارة الناس له، وذلك بتقديم كل ما من شأنه زيادة في البر، ومن واجب البنات مساعدة الأم في شؤون المنزل من طبخ وكنس وتنظيف وترتيب وإعداد الطعام وتقديمه ، ورفعه بعد الفراغ منه وتنظيفه ، واستقبال الضيوف من النساء وتقديم المشروبات، ثم توديعهن، على أن تكون الأم هي المشرفة والمربية في ذات الوقت، فهي تعطي النصائح والتوجيهات السليمة والسديدة بدون إحراج أو رفع صوت على بناتها لكي يقمن بواجبهن على أكمل وجه، وهكذا فواجب المساعدة للوالدين كبير ، وقد يحتاج الوالدان إلى زيارة الأبناء إذا كانوا في مناطق أخرى بعيدة عنهم ، فأقول : أيها الأبناء ؟ أعينوا والديكم على ذلك بالتودد لهما والتكرار والإلحاح في طلب الزيارة منهما ، فأطب لهما الطعام والكلام ، وحث الزوجة والأبناء على احترام والديك ، واحذر من التذمر بطول مكوثهما عندك أو زيارتهما لك ، وانظر كم مكثت عندهما من العمر ودهر السنين ، صاحبهما في هذه الدنيا معروفاً .
ولا يقتصر الاهتمام بالوالدين على ما ذكرت فقط بل يتعدى إلى أكثر من ذلك .
9- المحافظة على سمعتهما :(1/31)
المحافظة على سمعتهما الطيبة وهذا من الحقوق التي للوالدين على الأبناء ، وذلك بامتثال أوامرهما واجتناب نواهيهما، وتقبل آرائهما، واختيار الجليس الصالح، والبعد عن مجالسة الأشرار والفساق من الناس، حتى لا تضيع سمعة الأبناء ومن ثم لا يُساء إلى سمعة الوالدين . والحذر من كل ما من شأنه أن يكون سبباً في القدح في الوالدين أو الإساءة إليهما ، ويكون ذلك بالسفر إلى الخارج من أجل أمور محرمة لا ترضي الله عز وجل ، ولا ترضي نبيه ( ثم لا ترضي أحداً من الناس ، أو استعمال المخدرات والمسكرات ، أو شرب الدخان ، أو التعرض لنساء المسلمين في الأسواق والطرقات ، أو ارتكاب الفواحش المحرمة كالزنا واللواط ـ والعياذ بالله ـ أو غير ذلك من الأمور المحرمة أو المعيبة التي تقدح في الشخص نفسه أو من يعوله ويقوم عليه بالتربية والتعليم .
10- إجابة نداءهما بسرعة :
ومن حقوق الوالدين على الأبناء المسارعة في إجابة نداء الوالدين وعدم التلكؤ وعدم التذمر أو الانزعاج من ذلك ، ولا يقدم نداء أحد عليهما ، بل يُقبل الأبناء على تلبية طلبات الوالدين بكل حب وشوق وتطلع إلى خدمتهما لأن لهما قدم السبق والتقدم في التربية وحسن التعليم والقيام بواجب الأبناء على أكمل وجه وأحسنه ، فلا أقل من يرد الأولاد لوالديهم هذا الفضل . بل الواجب أن يتسابق الأبناء في خدمة والديهم كل يريد رضاهما وصفحهما عنه . وليحذر الأبناء كل الحذر من التأفف أو الكسل في إجابة نداءهما .
11- عدم الدخول عليهما إلا بإذنهما:
فإذا أراد الأبناء زيارة الوالدين فلا بد من استئذانهما في ذلك، لأنهما قد يكونان في حالة لا يريدان من أبناءهما أن يشاهدوهما عليها، أو قد يكونا قد خلدا للراحة بعض الوقت، أو قد يكونا لم يتهيئا للزيارة، فينبغي على الأبناء أخذ الإذن بالدخول على الوالدين حتى لا يقعان في إحراج مع أبنائهم .
12- احترامهما عند الجلوس وعند المشي :(1/32)
فلا ينبغي للابن أن يجلس في مكان أعلى من والديه ولا يوازيهما في ذلك، بل يجلس في مكان هو أخفض من مكانهما حتى لا يترفع عليهما ويرى في نفسه فضيلة عليهما فيدفعه ذلك إلى الغرور والعجب والتكبر، ومما لا ينبغي أيضاً أن يمشي أمامهما بل يمشي خلفهما، وإذا صعدا مكان مرتفعاً أو درج أو سلم كان الابن خلفهما حتى لو تعثرا استطاع أن يكون درعاً لهما من السقوط، وأثناء نزولهما من مكان مرتفع أو سلم أو درج فينبغي أن يكون الابن أمامهما، فلو سقط أحدهما استطاع الابن أن يقيه بنفسه ، ويقع هذا العمل وذاك الصنيع من البر بمكان .
13- عدم التكبر عليهما :
فيحرم على الابن أن يتكبر على والديه لأنهما أصله فلولا الله عز وجل ثم الوالدين لما وجد على هذه الأرض ، ثم لو عرف ذلك الابن من أي شيء خلق ؟ وماذا يحمل ؟ وماذا سيكون مصيره بعد الموت ؟ لما تكبر على والديه ولا على أحد من الناس، فأوله نطفة قذرة ويحمل في بطنه العذرة وأخره جيفة نتنه، ثم ليس من برهما أن يتكبر الابن عليهما، بل إن ذلك من العقوق المحرم بل من أشد العقوق .
فيحرم على الابن أن ينتسب إلى غير والديه من أجل منصب أو مكانة أو عرض من أعراض الدنيا يحصل عليه ليشعر في نفسه بأنه أفضل من والديه، بل لا بد أن يتحبب إليهما ويتودد لهما ويرأف بهما ويعطف عليهما أكثر من ذي قبل، لأنه لم يصل إلى ذلك المنصب والمكانة إلا ببركة دعائهما بعد الله عز وجل .
بل يرفع رأسه شامخاً وبكل فخر وعزة يقول هذا أبي وهذه أمي، فإن فعل ذلك فليبشر بالخير من الله عز وجل . وإن أساء لهما بعد حصوله على مناصب الدنيا الزائلة فسيكون المصير الخسران والوبال إن سخطا عليه وغضبا ، فما طار طير وارتفع إلا كما طار وقع . ومن تواضع لله رفعه ، ومن تعاظم وتكبر على الله وعلى عباد الله وضعه الله عز وجل حتى يكون مثل الذر هواناً وصغاراً له واحتقاراً .
بر الوالدين قصص وعبر(1/33)
لقد أمر الله جل وعلا ببر الوالدين وكذلك أمر به نبيه ( ، قال تعالى : { وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحساناً} [ الإسراء ] ، وقال ( : (( رضى الله في رضى الوالد، وسخط الله في سخط الوالد )) [ رواه البخاري في صحيح الأدب المفرد ] .
وهاك أخي القارئ الكريم وأختي القارئة الكريمة هذه النماذج والقصص الواقعية الدالة على أهمية بر الوالدين في حياة الأبناء والبنات ، وما ينتج عن ذلك من حسن خاتمة ، وفضل مآل ومصير :
1. عن عبدالله بن دينار عن عبدالله بن عمر رضي الله عنهما أن رجلاً من الأعراب لقيه بطريق مكة فسلم عليه عبدالله بن عمر وحمله على حمار كان يركبه، وأعطاه عمامة كانت على رأسه، قال بن دينار ، فقلنا له : أصلحك الله إنهم الأعراب وهم يرضون باليسير، فقال عبدالله بن عمر : إن أبا هذا كان وُدَّاً لعمر بن الخطاب ( ، وإني سمعت رسول الله ( يقول : (( إن أبر البر صلة الرجل أهل ود أبيه )) [ مسلم ] .
2. وفي حديث الثلاثة الذين أغلقت عليهم الصخرة باب الغار ذكر أحدهم فقال : ( اللهم كان لي أبوان شيخان كبيران وكنت لا أغبق قبلهما أهلاً ولا مالا، فنأى بي طلب الشجر يوماً فلم أرح عليهما حتى ناما فحلبت لهما غبوقهما فوجدتهما نائمين فكرهت أن أوقظهما فلبثت والقدح على يدي انتظر استيقاظهما حتى برق الفجر فاستيقظا فشربا غبوقهما ، اللهم إن كنت فعلت ذلك ابتغاء وجهك ففرج عنا ما نحن فيه من هذه الصخرة ، فأنفرجت شيئاً.....) [ البخاري ومسلم ] .
3. وروى وهب بن منبه في حديث طويل أن فتى كان براً بوالديه وكان يحتطب على ظهره فإذا باعه تصدق بثلثه وأعطى أمه ثلثه، وأبقى لنفسه ثلثه، فقالت له أمه يوماً إني ورثت من أبيك بقرة فتركتها في البقر على اسم الله، فإذا أتيت البقر فادعها باسم إله إبراهيم .(1/34)
فذهب فصاح بها ، فأقبلت فانطقها الله ، فقالت : اركبني يافتى ، فقال الفتى : إن أمي لم تأمرني بهذا ، فقالت : أيها البر بأمه لو ركبتني لم تقدر علي ، فانطلق فلو أمرت الجبل أن ينقلع من أصله معك لانقلع لبرك بأمك .
4. كان عمر ( إذا أتى عليه أفراد اليمن سألهم أفيكم أويس بن عامر ؟ حتى أتى عليه ، فقال : أنت أويس بن عامر ؟ قال : نعم ، قال ، من مراد ثم من قرن ؟ قال : نعم ، قال : فكان بك برص فبرأت منه إلا موضع درهم ؟ قال : نعم ، قال : لك والدة ؟ قال : نعم ، قال : سمعت رسول الله ( يقول : يأتي عليكم أويس بن عامر مع أمداد اليمن من مراد ثم من قرن كان به برص فبرئ منه إلا موضع درهم ، له والدة هو بها بر ، لو أقسم على الله لأبره ، فإن استطعت أن يستغفرلك فافعل ، فاستغفرلي ،, فقال له عمر : أين تريد ؟ قال : الكوفه ، قال : ألا أكتب لك إلى عاملها ؟ قال : أكون في غبراء الناس أحب إلي ـ فلا إله إلا الله ـ انظر إلى هذه المنزلة التي بلغها وحظي بها هذا البار بأمه حتى أن النبي ( أخبر عنه وعن بره بأمه ، وقال لعمر فاروق الأمة أحد المبشرين بالجنة : إن استطعت أن يستغفر لك فافعل .
5. وروي أن رجلاً لا يصعد على الطابق العلوي وأمه في الطابق السفلي ، فسئل عن ذلك ، فقال : لا أصعد على طابق وأمي تحتي مخافة أن أكون قد عققتها .
وقد قيل : لا تسكن طابق ووالداك في الطابق الذي تحته براً بهما .
6. وروي أن رجلاً طاف بأمه حول الكعبة سبعة أشواط وهو يحملها على ظهره ، وعندما انتهى سأل بن عمر رضي الله عنهما ، فقال : يابن عمر أتراني قد جزيتها قال : لا ، ولا بزفرة من زفراتها . هكذا فليكن البر .(1/35)
7. وهذا أحد العلماء المحدثين يجلس حوله مئات التلاميذ ليدرسهم ويحدثهم وإذا بأمه تدخل عليه أثناء درسه وتقول له : يافلان فيقول : لبيك يا أماه فتقول : اذهب وأطعم الدجاج ، فيقول : لبيك يا أماه ، انظر أخي الكريم ؟ عمل حقير صدر من قلب كبير ، صدر من الأم الحنون ، من الأم التي تحت قدميها الجنة ، فلم يرد عليها بقوله انتظري حتى ينتهي الدرس ، ولم يقل لها بعد قليل ، بل أغلق كتابه وذهب وأطعم الدجاج ، ثم رجع إلى درسه وأكمل حديثه ، (( أولئك الذين نتقبل عنهم أحسن ما عملوا ونتجاوز عن سيئاتهم في أصحاب الجنة وعد الصدق الذي كانوا يوعدون )) [ الأحقاف16 ] .
8. ولما ماتت أم إياس القاضي المشهور بكى عليها فقيل له في ذلك فقال : كان لي بابان مفتوحان إلى الجنة فغلق أحدهما .
9. وكان رجل من المتعبدين يقبل كل يوم قدم أمه فأبطأ يوماً على أصحابه فسألوه فقال : كنت أتمرغ في رياض الجنة ، فقد بلغنا أن الجنة تحت أقدام الأمهات .
وإنني أتسائل أين نحن من بر أولئك السابقين ؟ لا شك أننا في تقصير وتفريط ، نشكوا إلى الله سوء الحال ، ونعوذ بالله من شر المآل .
عقوق الوالدين قصص وعبر
لقد حرم الله تعالى العقوق، وحذر منه النبي ( ، قال تعالى : { ولا تقل لهما أف ولا تنهرهما وقل لهما قولاً كريماً } [ الإسراء23 ] ، وقال ( (( الكبائر، الإشراك بالله ، وعقوق الوالدين ، وقتل النفس ، واليمين الغموس)) [ البخاري ] ، وعن أنس ( قال : ذكر رسول الله ( الكبائر، فقال : (( الشرك بالله ، وعقوق الوالدين )) [ متفق عليه ] .
وقال القائل في عقوق الوالدين :
فلا تطع زوجة في قطع والدة
عليك يابن أخي قد أفنت العمرا
فكيف تنكر أماً ثُقلُك احتملت
وقد تمرغت في أحشائها شُهُراً
إلى أن قال :
فلا تفضل عليها زوجة أبداً
ولا تدع قلبها بالقهر منكسراً
والوالد الأصل لاتنكر لتربية
وأحفظ لا سيما إن أدرك الكبرا
فما تؤدي له حقاً عليك ولو
على عيونك حج البيت واعتمرا(1/36)
وإليك أخي القارئ وأختي القارئة هذه القصص والوقائع التي يندى لها الجبين وتدمع لها العيون وتنهمر منها الدموع ، وتتفطر منها القلوب، في عقوق الوالدين :
1. ذكر أن شاباً كان مكباً على اللهو واللعب ، لا يفيق عنه وكان له والد صاحب دين ، كثيراً ما يعض هذا الابن ويقول له : يا بني احذر هفوات الشباب وعثراته ، فإن لله سطوات ونقمات ما هي من الظالمين ببعيد ، وكان إذا ألح عليه زاد في العقوق ، وجار على أبيه ، ولما كان يوم من الأيام ألح على أبنه بالنصح على عادته فمد الولد يده على أبيه ، فحلف الأب مجتهداً ليأتين بيت الله الحرام ، فيتعلق بأستار الكعبة ويدعوا على ولده ، فخرج حتى انتهى إلى البيت الحرام فتعلق بأستار الكعبة وأنشأ يقول :
يا من إليه أتى الحجاج قد قطعوا
عرض المهامه من قرب ومن بعد
إني أتيتك يا من لا يخيب من
يدعوه مبتهلاً بالواحد الصمد
هذا منازل لا يرتد من عققي
فخذ بحقي يا رحمن من ولدي
وشل منه بحول منك جانبه
يا من تقدس لم يولد ولم يلد
فقيل أنه ما استتم كلامه حتى يبس شق ولده الأيمن ، نعوذ بالله من العقوق ، ومن فساد القلوب ، ومن جميع المعاصي والذنوب.
2. وذكر أحدهم فقال : ذهبت أنا وأسرتي في نزهة بحرية ، وإذا نحن بعجوز على بساط جالسة على الشاطئ ، يقول : فجلسنا وتعشينا وتسامرنا حتى انتصف الليل ، وعندما أردنا العودة إلى المنزل وإذا بتلك العجوز على حالتها ، فذهبت إليها ، وقلت يا أمي الوقت قد تأخر ، فهل تذهبين معنا قالت : لا ، ابني وضعني هناك وقال أن عنده شغل وسيعود ، قال : يا أمي ولكن الوقت قد تأخر ، فقالت : لن أذهب حتى يعود ولدي وأذهب معه ، وأعطاني هذه الورقة ، فأخذ ذلك الرجل الورقة وإذا مكتوب فيها : يرجى ممن عثر على هذه العجوز أن يأخذها إلى دار الرعاية .(1/37)
رعاية المسنين ، ولا حول ولا قوة إلا بالله، فوالله إنه لأشد وأعظم وأشنع أنواع العقوق ، أهذا هو حق الأم المسكينة التي كبرت وكسر جناحها ، أهذا هو حق الأم التي أوصى لها النبي ( بثلاثة أضعاف حق الأب ، أهكذا يكون البر بالأم التي حملتك في بطنها شهوراً ؟ وقاست خلال ذلك الآلام والمتاعب دهوراً ، أهكذا يقابل الإحسان بالإساءة ؟ ويقابل عطفها وحنانها وحبها بالعقوق والجفاء والغلظة ، قال ( : (( إن الله تعالى حرم عليكم عقوق الأمهات .....)) [ متفق عليه ] . وقال ( : (( لعن الله من لعن والديه )) [ صحيح الأدب المفرد ] ، هذا إذا كان العقوق لهما بالكلام ، فما بالك بمن يرمي أمه أو أباه أو كليهما في دور رعاية العجزة والمسنين أو يودعهما المصحات والمستشفيات من غير سؤال ولا اطمئنان ، ومن يهجر أمه ويتركها فريسة يتلقفها الأشرار من الناس أو يودعها دور الرعاية ،إنا لله وإنا إليه راجعون . عن ثوبان قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : [ لا يرد القضاء إلا الدعاء ، ولا يزيد في العمر إلا البر ، وإن الرجل ليحرم الرزق بالذنب يصيبه ] ( حديث حسن انظر شرح السنة 13/6 ) ، فهل هناك أقبح أو أفظع من عقوق الوالدين ، والله إن العقوق لذنب يحرم معه المرء بركة الرزق ورغد العيش ، ويحصل له الحرمان وقصر العمر والأجل ، ويحرم صاحبه دعاء الوالدين .
اللهم اغفر لنا ولوالدينا، اللهم ارحم والدينا كما ربيانا صغاراً، اللهم تجاوز عن سيئاتهما، وثقل موازينهما بالحسنات،اللهم أعنا على البر بوالدينا حتى يبرنا أبناءنا إنك سميع مجيب الدعوات .(1/38)
3. وهذه قصة أخرى لعاق رمى أمه في دار العجزة ولم يزرها لعدة سنوات، وزمن طويل لم يعرفها، حتى الاتصال لم يتصل عليها، حرم نفسه برها، وأكتسب الإثم بعقوقها، وعندما حانت ساعة وفاتها وأخذت في الاحتظار بكت، ونادت المسؤولين وقالت لهم اتصلوا على ولدي، أريد أن أضمه قبل أن أموت، أريد أن أقبله، أريد أن أعانقه، مع كل ذلك العقوق إلا أن حنانها وعطفها وحبها لوليدها أبى عليها إلا أن تضمه وتقبله وتعانقه ! فما ذا عساه يفعل ذلك العاق المجرم ؟ أيهرع لزيارتها ؟ أينكب عليها مقبلاً ومتسامحاً ؟ أيذرف دموع الحزن والأسى على ما فرط في جنب أمه ؟ لا هذا ولا ذاك ، ولكن كانت المفاجأة المتوقعة منه ومن أمثاله أهل العقوق والإجرام أن اتصلوا على ولدها، وقالوا له: إن أمك تحتضر وتريد أن تراك، وتقبلك وتملأ عينيها برؤيتك قبل أن تموت، فقال هذا المجرم العاق: ما عندي وقت، وقتي ضيق، عندي أعمال، عندي تجارات ثم أغلق الهاتف، ثم ماتت هذه الأم، ولم تر ولدها ماتت ساخطة عليه، فاتصل المسؤولون على الولد فقالوا: لقد ماتت أمك العجوز، فرد قائلاً: أكملوا الإجراءات وادفنوها.
ياله من عقوق وأي عقوق، أترمي الأم في دار المسنين، أترمي قرة العين، ومهجة الفؤاد دور الرعاية ، أترمي من جعلت بطنها لك وعاءً، وصدرها لك طعاماً، وحجرها لك مجلساً، أتترك تلك الحبيبة التي سهرت الليالي والأيام حبيسة الجدران ، أتعق من قاست المتاعب والآلام، وتركت الشراب والطعام من أجل راحتك و خدمتك، { هل جزاء الإحسان إلا الإحسان } [ الرحمن60 ] .
وقال تعالى : { ووصينا الإنسان بوالديه إحساناً حملته أمه كرهاً ووضعته كرها وحمله وفصاله ثلاثون شهراً } [ الأحقاف15 ] .(1/39)
وأخرج النسائي والبزار واللفظ له بإسنادين جيدين والحاكم وقال صحيح الإسناد، عن بن عمر رضي الله عنهما عن رسول الله ( قال : (( ثلاثة لا ينظر الله إليهم يوم القيامة، العاق لوالديه، ومدمن الخمر، والمنان عطاءه، وثلاثة لا يدخلون الجنة، العاق لوالديه، والديوث، والرجلة من النساء )) .
4. وكان هناك رجلاً يحث ابنه على طريق الهداية والاستقامة ولبث على هذه الحال سنين، ولما كبر الأب، تأفف منه الابن ولم يحسن إليه في كبره، بل حمله على جمله وذهب به إلى الصحراء ولما توسط الصحراء، سأله الوالد فقال : يابني أين تريد الذهاب بي، قال : يا أبي لقد مللتك ولقد سأمتك، قال : وماذا تريد ؟ قال : أريد أن أذبحك، قال يابني ماذا تقول ؟ قال أريد أن أذبحك لقد مللتك ياأبي، فقال الأب : إن كنت ولابد فاعلاً ، فاذبحني عند تلك الصخرة ، قال : ولم ياأبي ، قال : فإني قد قتلت أبي عند تلك الصخرة فاقتلني عندها وسوف ترى من يقتلك من أبنائك عند تلك الصخرة . لأن الجزاء من جنس العمل .
وقال تعالى : { من يعمل سوءاً يجز به ولا يجد له من دون الله ولياً ولا نصيراً } [ النساء123 ] وقال ( : (( بروا أباءكم تبركم أبناءكم )) فالبر والعقوق دين ، ولا بد من الوفاء بالدين ، وكما تدين تدان ، (( فمن يعمل مثقال ذرة خيراً يره * ومن يعمل مثقال ذرة شراً يره )) [ الزلزلة7/8 ] .(1/40)
5. وهذه أم تقول لولدها يابني أريد أن أزور فلانة أذهب بي إليها، فيقول : لا أستطيع فترجته أمه قالت: يابني أريد أن أزورها دقائق معدودة، قال : نعم أذن، ولكن سوف أتيك بعد ثلاثين دقيقة بالضبط، فإذا جئت فسأضرب البوري فإذا ما خرجت فسأذهب، فعندما أوصلها عاد بعد ثلاثين دقيقة عاد وضرب البوري مرة ومرتين فما خرجت فذهب وولى وتركها لوحدها، فإذا به وهو في أثناء الطريق يصاب بحادث، فيجلس في المستشفى ستة أشهر لايستطيع الحراك، وكل ذلك من العقوق، قال تعالى : { واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئاً وبالوالدين إحساناَ } [ النساء36 ] وقال ( : (( إن الله حرم عليكم عقوق الأمهات ومنعاً وهات ووأد البنات ...)) [ متفق عليه ] .
فكم من والدة قاست متاعب الحياة ومصاعبها مع ولدها وابنتها،
يعاملها الولد والزوجة كخادمة وطباخة وغسالة ومربية في
المنزل، تُعامل الأم المسكينة بكل قسوة، بعد أن أحدودب ظهرها وخارت قواها، وضعفت أركانها، بعدما قضت السنين الطويلة في رعاية صغيرها وفلذة كبدها ووليدها بعد ذلك كله، وبعد أن شب وبلغ سن الرجولة أصبح فكاً مفترساً، وحيواناً شهوانياً، وإنساناً عاقاً، قابل الإحسان بالجحود، وقابل العطف بالعقوق، فالأم مسكينة لا حول لها ولا قوة فبعد أن ربت وتعبت وأرادت الراحة على أخر عمرها، قابلها أبنها بالأعمال الشاقة، والأشغال المتعبة التي لا يقواها الرجال الأقوياء ، نكراناً وكفراً لنعمة الله عليه بأن منّ عليه بأم يعيش في كنفها ويبرها حتى يجد مرضاة ربه سبحانه ، ولكن انقلب الأمر رأساً على عقب ، فقابل النعمة بالكفران وكل ذلك بدافع من تلك الزوجة المجرمة القاسية العاقة - فلا حول ولا قوة إلا بالله- لم تعرف الأم المسكينة طعم الراحة عندما كان صغيراًً، وأذاقها ألم ذلك كبيراً .(1/41)
فاصبري أيتها الأم والوالدة الحنون ، فإن فرج الله قريب ، وانتظر أنت أيها العاق السافل فوالله لتذوقن ألم ذلك العقوق ومره عاجلاً أم آجلاً ، قال ( : (( كل الذنوب يؤخر الله منها ما يشاء إلى يوم القيامة إلا عقوق الوالدين فإن الله يعجله لصاحبه في الحياة قبل الممات )) [ الطبراني في الكبير والحاكم في المستدرك والبخاري في الأدب المفرد ] ، وكم من أم عانت مرارة العقوق وألم التعب والنصب من ابنتها التي تتأفف من الوقوف مع أمها، وتخجل من وجود أمها ، وإذا سئلت من هذه ؟ قالت : هذه الخادمة أو الطباخة أو الفراشة - نعوذ بالله من العقوق - ونعوذ بالله من الخذلان.
وتلك الأم المسكينة لا حول لها ولا قوة ، التزمت الصمت حباً لابنتها وعطفاً عليها ، ترضى الأم بما يقال عنها حتى لا تغضب ابنتها العاقة ، فوالله كما تدينين سوف تدانين ، وهذا دين لابد من أن تستوفينه قريباً أم بعيداً .
سئل الحسن : ما بر الوالدين ؟ قال : أن تبذل لهما ما ملكت ، وتطيعهما فيما أمراك ما لم يكن معصية ، قيل : فما العقوق ؟ قال : أن تهجرهما وتحرمهما ، ثم قال : أما علمت أن نظرك في وجوه والديك عبادة ، فكيف بالبر بهما ؟
وقال عروة بن الزبير : ما بر والده من سد الطرق إليه .
وقال أبو هريرة وهو يعظ رجلاً في بر أبيه : لا تمش أمام أبيك ، ولا تجلس قبله ، ولا تدعه باسمه .
وقال طاووس : من السنة أن يوقر أربعة : العالم ، وذو الشيبة ، والسلطان ، والوالد ، ومن الجفاء أن يدعوا الرجل والده باسمه .(1/42)
وكم سمعنا عن والدين يعيشان عيشة تعيسة شقية مع ولدهما وزوجته، فالولد والزوجة يأكلان ويشربان ألذ وأطيب وأشهى المأكولات والمشروبات ، والوالدان يقومان وينامان على ألم الجوع والعطش ، ويذهب العاق والعاقة إلى المنتزهات ويتركان الوالدين بين أربع جدران يقاسيان ألم المرض والتعب، والحسرة والوحدة ، فإذا مرضت الزوجة مرضاً بسيطاً سهلاً يستطيع علاجه الممرض أو الصيدلاني أقام الدنيا ولم يقعدها فيذهب بها إلى أرقى المستشفيات وأكبر المستوصفات ، ويعرضها على أكابر الأطباء وجهابذتهم ، أما إذا مرض الوالدان تأفف من مرضهما، وصاح في وجههما، دائماً مرضى ، وأبداً سقماً ، ويذهب إلى الصيدلية ويجلب لهما علاجاً، وقد لا يجلب لهما شيئاً ويطلب منهما الصبر وقد يذكرهما بأهمية الصبر ومراتبه ، لا تعليماً ، ولاكن عقوقاً وجرماً ، وقد ينهرهما ويزجرهما وكل ذلك من العقوق الذي لا يُرضي الله ولا نبيه ولا يرضى عن ذلك من لديه مثقال ذرة من إيمان .
فهكذا يكون جزاء الإحسان ، هكذا يكون رد الجميل ، أيقابل الحب والحنان، بالكراهية والغلظة، أيقابل العطف والبر بالقسوة والعقوق .
لكما أيها الوالدان :
أيها الوالدان الكريمان، أيها الوالدان وفقكما ربكما ورعاكما وأقر أعينكما بصلاح أبنائكما ، إذا أردتما أن يبركما أبنائكما فكونا عوناً لهم على ذلك بعد الله عز وجل وذلك بأمور ينبغي مراعاتها من قبلكما وهذه الأمور لابد أن تؤخذ بعين الاعتبار حتى تدفعا أبنائكما للبر بكما:
أولاً : التربية الصحيحة السليمة :
وذلك بأن تكون تربية الأبناء تربية موافقة لكتاب الله تعالى وسنة نبيه ( باتباع الأوامر واجتناب النواهي .(1/43)
فلا تكون الحياة مع الأطفال كلها شقاء وتعاسة وذلك بأن يُعنف الابن أو البنت على كل صغيرة وكبيرة، بل يُغض الطرف عن بعض الخطأ البسيط والزلل السهل الذي لا قصد فيه ولا عمد، فيوضح لهما الخطأ الذي حصل، وما كان لازماً فعله من الصواب، ثم عند تكرار الخطأ المتعمد، يبين الصواب من الخطأ بطريقة سليمة وسهلة، ولا يعنف أو يوبخ الأبناء أمام بعضهم البعض إلا في حالات نادرة، ولكن يبين للجميع الخطاء الذي حصل من أحدهم وما وجه الصواب في ذلك .
ثم ليحذر الآباء والأمهات كل الحذر من توبيخ الأبناء أو رفع الصوت عليهم أو تأنيبهم أو ضربهم في مجتمعات الناس، فهذا خطأ كبير، وغلط جسيم وجهل عظيم، بل إن ذلك دليل على عدم وعي الأباء والأمهات بأساليب التربية السليمة، فإن ذلك الأمر دافع إلى عداء نفسي يكمن داخل نفوس الأبناء بل إن البعض منهم يعتبره ديناً لابد من وفاءه من الآباء، فيحصل بذلك العقوق عند كبر الأبناء .
فبعض الآباء ما إن يأتيه الضيوف والزوار إلا ويغضب ويزمجر ويعبس في وجوه أبنائه ، فيأمر وينهى ويطلب ويمنع ، هات هذا وأعد ذاك وقدم هذا وأخر ذاك حتى يقع الأبناء في حرج شديد فيصاب أغلبهم باضطرابات نفسية ، وعقد داخلية ، فيحصل بذلك مفاسد عظيمة على الفرد والأسرة والمجتمع ، ويقع الجميع في مالا تحمد عقباه وما ذاك إلا بسبب خوفهم من أن يحرجوا أمام الناس .(1/44)
بل إن بعض الأباء يكون سبباً لأن يحتقر الناس أبنائه فلا يقيمون لهم وزناً ولا يعيرونهم اهتماماً ، وذلك بسبب سب الأب لأبنائه وشتمه لهم في مجالس ومجتمعات الناس فتجده يتلفظ بألفاظ سيئة وقبيحة ، لا تمت للدين بصلة ، بل قد يتعدى ذلك إلا أن يقذف الأبناء أمام الرجال والأطفال إما بكلام فاحش بذي أو بفعل أقبح وأشنع ، ونسي ذلك الأب أنه سيكبر ويحتاج إلى بر أولئك الأبناء الذين أشبعهم إهانة وذلاً ، فعندما يتقدم به السن ويقترب من الشيخوخة ويصبح ضعيفاً هزيلاً وهم أقوياء ملئا ، عند ذلك يأخذون بحقهم منه ، لأن قلوبهم قد امتلأت حقداً وغلاً وغيظاً على أبيهم فهاهي ساعة الصفر للانتقام قد حانت وقربت فماذا عساها تكون العاقبة والنتيجة ؟
فهؤلاء الأبناء الذين لم يعرفوا للأبوة مكاناً ولا للحنان والعاطفة طريقاً ولا للتربية السليمة سبيلاً فلابد أن يكونوا للعقوق قريبين ، وللبر بعيدين ما عرفوا إلا الإهانة ، وما تجرعوا إلا كأس الذل والمهانة ، وما ذاقوا إلا وابل الضرب والكدمات ، والغليظ من الكلمات ، فقذفوا الآباء والأمهات إلى المستشفيات والمصحات ، ودور المسنين والمسنات ، فكما تدين تدان.
فليس معنى ذلك أن يترك الأب والأم الحبل على الغارب فيتركون الأبناء رائحين غادين بدون سؤال ولا استفسار ، بل لابد من التربية السليمة وأن يسود الود والاحترام والألفة والمحبة والعاطفة الحسنه الطيبة جو الأسرة ، لابد أن يسود كل ذلك أرجاء البيت المسلم ، حتى ينشأ الأبناء والبنات نشأة إسلامية صحيحة ، فيحصد الوالدين ثمرات ذلك براً وحباً من الأبناء .
فكونوا أيها الأباء والأمهات خير عوناً لأبنائكم على بركم .
ثانياً : حلقات تحفيظ القرآن الكريم :(1/45)
وهذا الموضوع يغفل عنه الكثير من الآباء والأمهات فكم تخرج من حلقات تحفيظ القرآن من الأئمة والخطباء والدعاة والعلماء ، لأن هذه الحلقات تحوي أناس وهبوا أوقاتهم لتعليم كتاب الله عز وجل ، وتعليم الناشئة الأخلاق الحميدة وتحذيرهم من الأخلاق السيئة ، ويتعلم الأبناء في هذه الحلقات بر الوالدين ، والحذر من العقوق, كيف لا ؟ وهم يقرؤون الآيات التي تدل على البر وتحذر من العقوق ، فينشأ بذلك جيلاً صالحاً يخدم والديه ومجتمعه ودينه ووطنه .
فليبادر أولياء الأمور بإلحاق أبنائهم في هذه الحلقات التي تعلم كتاب الله عز وجل وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم ، فكتاب الله تعالى هو الصراط المستقيم ، والحق المبين ، في نور وهدى لمن أتعظ وأتقى .
جاء رجل إلى أحد السلف يشتكي ولده الذي لطمه على وجهه ، فسأله : هل علمته القرآن ؟ قال الوالد : لا قال : هل علمته السنة ؟ قال : لا ، قال : هل علمته أخلاق الصالحين ؟ قال : لا ، قال : حسبك ثور فضربك .
وهذه نتيجة حتمية لمن عاش أبنائه بين الدشوش والإنترنت ، وبين الفيديو والمجلات الخليعة فلابد أن ينشأ هؤلاء الأبناء عُصاة طغاة جبارين ، لا قيم ولا أخلاق عندهم ، بل هم إلى الرذيلة والفساد أقرب ، فينشئون عاقين لوالديهم ، والسبب ؟ تلك التربية السيئة من قبل الآباء والأمهات ، فحينئذ لا تنفع الآهات ، لأن ذلك ما زرعه الآباء والأمهات ، وسيتجرعون ثمرة ذلك غصصاً وكربات .
فأوصي الوالدين بأبنائهم خيراً ، فإذا أراد الوالدان بر الأبناء ، فليحسنوا تربيتهم صغاراً ، يجنوا ثمار ذلك كباراً ، عطفاً وبراً وحناناً .
ثالثاً : اختيار الجليس الصالح :(1/46)
فإذا أردت أن تعرف حال ابنك فلا تسأل عنه أحداً من الناس ، بل اسأل عمن يصاحب ، فكل قرين بالمقارن يقتدي ، فإذا كان أصحابه أهل الدخان وحلق اللحى وهجر الجمع والجماعات ، والجري وراء الملهيات فانتبه واحذر من سقوطه في تلك البؤرة القذرة ، أو أن ينجرف في تيار أولئك الفسقة .
ولكن اختر لابنك وابنتك على حد سواء اختر لهما أصدقاء الخير ، ومن عرف عنهم وعن أهليهم السيرة الطيبة حتى ينشئوا نشأة صالحة تعتز بهم أنت ويعتز بهم مجتمعهم وينفعوا أمتهم ، فهم على الخير وإلى الخير .
راقبهم في مدارسهم في معاهدهم في كلياتهم ، اجعل العين عليهم في روحة ورجعة . أوص عليهم الأوفياء من الناس والمخلصين من المدرسين .
حثهم على حضور المحاضرات والندوات ، هيئهم لذلك بتعويدك لهم صغاراً حتى يعتادوا ذلك كباراً . وأسأل الله العلي العظيم أن يكون عوناً لك وظهيراً في تربيتك لأبنائك .
رابعاً : وسائل الفساد :
هذه نقطة محورية ينبغي أن يراعيها كل أب وكل أم ، فما سبب انحراف الشباب اليوم إلا من تلك الوسائل التي ابتليت بها كثير من البيوت على علم ودراية من الآباء بخطورتها ، ومكمن ضررها .
فكم من أسر ذهب حياؤها وشرفها بسبب إدخال ولي أمرها للدشوش إليها ، مظنة منه بسلامة الأبناء من ذلك وادعاءً منه بترتيب الوقت المناسب لمشاهدة الأبناء لتلك المسلسلات والتمثيليات الهابطة الساقطة التي تحمل بين طياتها الفساد والرذيلة ، وتدعوا إلى الفاحشة والجريمة بل إن كثيراً منها يدعوا إلى البعد عن الدين الإسلامي بكل ما يعرض في تلك القنوات التي تبث السموم القاتلة ، والأب ما بين الوظيفة وجلب الطلبات ، أما البيت والأولاد فلا وقت لهم فتحصل بذلك مفاسد عظيمة ، أقسم بالله أننا في غنىً عنها ولا حاجة لنا بها .
فانتبه أيها الأب المبارك واحذري أيتها الأم الموفقة من الوقوع في
فخاخ الكفرة ، أو جلب تلك الأجهزة الهدامة إلى المنازل من فيديو(1/47)
وتلفزيون أو أجهزة الغناء لأن الغناء داع إلى وسائل الفساد ، فهي شر ووبال ، ودمار وسوء مآل ، واحذروا من تلك المجلات الخليعة الداعية إلى كل فاحشة وسوء خلق ، فإن اتقيتم ذلك كله عاش الأبناء والبيت في سعادة ملئها الحب والوفاء والبر والإخاء .
خامساً : القدوة الحسنة :
كن قدوة حسنة ومثالاً يحتذي به الأبناء ، وأنت أيتها الأم كوني خير دليل لأبنائك وبناتك ، فالأبناء ينظرون للوالدين بعين كلها مراقبة لتصرفات الوالدين فيحصل بذلك التقليد ، فبعض الآباء يريد من أبناءه أن يكونوا رمزاً للعطاء والبر ويكونوا من أهل الخير والصلاح ، وهو يفعل نقيض ما يريد ، فتجده يعمل أعمالاً مشينة قبيحة أمام الأبناء ويأمرهم ألا يفعلوا مثله ، فكيف بالله عليك يكون ذلك ؟ حسن أقوالك وأفعالك يفعل أبنائك مثلك ، وإلا فالعين عليك وتنظر إليك ، فيراقبك الأبناء في كل صغيرة وكبيرة ، فكن قدوة حسنة وأسوة طيبة حتى يكن أبنائك على خير ما تريد وكيفما تطلب ، وكل قرين بالمقارن يقتدي .
أيها الأب الكريم : درب أولادك على برك ، ببرك أنت لوالديك حتى يروا ذلك درساً عملياً ، أطع أنت والديك يراك أبناءك فيفعلون كما تفعل أنت بوالديك ، اخضع بالكلام لوالديك وأطب لهما ذلك ، حتى تكون القدوة الحسنة لهم في أقوالك وأفعالك .
كن حجاباً ودرعاً واقياً وحصناً منيعاً لأبنائك من النار ، وذلك بأن تكلفهم من الأعمال ما لا يطيقون فيقص العصيان والعقوق ، بل ادرأ عنهم عذاب الله وكن رحيماً بهم ، كان بعض السلف لا يأمر ولده بأمر مخافة أن يعصيه في ذلك فيستوجب النار ، وغضب الجبار ، فأين أنت أيها الأب من أولئك السلف الصالحين الذين كانت أعينهم متجهة إلى الآخرة ، وكرهوا الحياة الخاسرة .
فقبل أن تأمر ولدك بأمر انظر عواقبه هل سيستطيع الابن تنفيذه أم لا ؟ فإذا لم يستطع وأمرته فقد أهلكته وأوقعته في العقوق ، ولكن انظر إلى عواقب الأمور .(1/48)
وفي كتاب مسؤولية الأب المسلم ، ويضع الغزالي رحمه الله للوالد بعض الضوابط في تربية الأولاد ومساعدتهم حتى يكونوا بارين به غير عاقين له ، فيقول : [ يعينهم على بره ، ولا يكلفهم من البر فوق طاقتهم ، ولا يلح عليهم في وقت ضجرهم ، ولا يمنعهم من طاعة ربهم ، ولا يمنن عليهم بتربيتهم ] انتهى كلامه .
أيها الأب المبارك : عامل أبنائك كما تحب أن يعاملوك ، فنجد أن بعض الآباء والأمهات فيهم من القسوة والشدة على الأبناء ما الله به عليم ، عامل ابنك كالصديق ، فوالله إنه هو الذي ستجده وقت الضيق ، احترم رأيه وسدد قوله وفعله ، اجعله يقول رأيه وما عنده من اقتراح بكل بساطة وبكل يسر وسهولة دون تعقيد أو تقديح أو تحطيم لرأيه واستهتار بمشورته بل عامله كما تعامل غيره من الناس .
هكذا فلتكن العلاقة بين الآباء والأبناء ، وكذلك بين الأمهات والبنات ، دون سخرية أو استهتار أو شدة أو قسوة أو غلظة ، فإن نحن فعلنا ذلك جنينا ثمار ذلك براً من أبنائنا بإذن ربنا .
سادساً : اختيار الزوج الصالح :
فمن حق الوالدين أن يشاركا الأولاد في اختيار الأزواج الصالحين ، الذين يعينون الأبناء على بر آبائهم والإحسان إليهم عند كبرهم ، فيختار الابن الزوجة الصالحة المعروفة ببرها لوالديها واحترامها لهم لأنها ستكون عوناً له لبره بوالديه ، وكذلك البنت لا تقدم على الموافقة على الزوج والخاطب إلا إذا عرف عنه صلاحه واستقامته وبره بوالديه حتى يكون عوناً ومساعداً لها على بره بوالديها . فاختر أيها الأب لأبنائك من الأزواج من يكون عوناً لهم على برك والإحسان إليك وطاعتك بالمعروف ، من غير تشديد في ذلك أي لا ترغم أحداً من أبنائك على الزواج ممن لايرغب حتى ولو كان صالحاً لأمر النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك .
سابعاً : القسوة على الأبناء :(1/49)
احذر أيها الوالد وفقك الله أن تكون وحشاً كاسراً أو فكاً مفترساً ، تنتظر من أبنائك أدنى خطيئة وأقل زلة لتحاسبهم وتوبخهم ، بل وقد يمتد الأمر بك إلى الضرب والركل والعنيف من الكلام ، بل عليك بالرفق والاتزان والرحمة والحلم والصفح عن بعض الهفوات ، وقليل الزلات ، فالرفق ما كان في شيء إلا زانه ، وما نزع من شيء إلا شانه ، فالشدة لا تولد إلا مثلها ، ولكل فعل رد فعل ، فكما تحب أن يعاملك أبنائك عند كبرك ، فعاملهم به وأنت قوي مستطيع ، عليك باللين وخفض الجانب ، وليس كل خطأ يكون عقابه قسوة الكلام والفعل ، بل لكل خطأ طريقة في علاجه من غير عنف ولا قسوة ، وليس معنى هذا أن نغض الطرف دائماً ، بل لكل حادث حديث ، فهناك أمور يحتاج علاجها إلى صبر وجلد وغض طرف ، وهناك أمور أخرى تحتاج إلى بعض الحزم والغلظة .
فاحرص رعاك الله أن تبني لبنة طيبة حتى تجني غراسها في المستقبل إنشاء الله .
وعليك بتوضيح الخطأ الحاصل وكيف علاجه ، ثم نصيحة تتبع ذلك حتى لا يتكرر مثل ذلك الأمر ، وهكذا حتى يجني الآباء والأمهات بر أبنائهم وبناتهم غداً .
الخاتمة
بر الوالدين لا حد له من قبل الأبناء ، وحقوق الوالدين على أبنائهما كثيرة لا يحصيه أحد ، وليس كل ما ذكرنا سابقاً فقط هو حق الوالدين ، وإنما كان جزءاً من حقوقهم على الأبناء ، وقد جاء في السنة المطهرة أن للوالد حق في أن يأخذ من مال ولده ما يكفيه إن كان فقيراً ، وله أن يأخذ من مال ولده ولو كان الوالد غنياً ، بحيث لا يضر ذلك بالولد ، فلا يأخذ المال كله ، ولا يأخذه ويعطيه غيره من الناس لأن في ذلك إضراراً على الولد .(1/50)
فعلينا معاشر الأبناء أن نسعى جاهدين في إرضاء الوالدين ، والعمل ما أمكننا ذلك للقيام بحقوقهما كاملة من غير نقصان ، فرضاهما من رضا الرب سبحانه وتعالى ، وسخطهما من سخطه ـ نسأل الله رضاه والجنة ونعوذ به من سخطه والنار ـ فواجب على الأبناء البر والإحسان إلى الوالدين لأنهما أصل وجودهم بعد الله تعالى .
فحق الوالدين من آكد الحقوق الخاصة ، يقول العلامة بن سعدي رحمه الله تعالى : وحقوق الوالدين كثيرة ، ولكن ضابطها : ما ذكره الله في كتابه ، فإنه أمر بالإحسان إليهما ، وذلك شامل لكل إحسان بجميع وجوهه ، ويرجع في ذلك إلى العرف والعادة ، فكل ما عده الناس إحساناً فهو داخل في الإحسان المأمور به .
وأخيراً أسأل المولى جلت قدرته أن يصلح نياتنا وذرياتنا ، اللهم يا حي يا قيوم يا ذا الجلال والإكرام أتم على والدينا الصحة والعافية ، واجعلهم شاكرين لنعمك مثنين بها عليك قابليها وأتمها عليهم يارب العالمين ، اللهم ارحم والدينا كما ربيانا صغاراً ، اللهم انظر إلى والدين بعين الرأفة والرحمة وتجاوز عن سيئاتهم يا أرحم الراحمين ، اللهم ارحم والدينا أحياءً وأمواتاً ، اللهم ما عملا من سيئات وظلامات فتجاوز عنهم بفضلك وسعة رحمتك ، اللهم ما عملنا من أعمال صالحة فاجعل لوالدينا منه أوفر الحظ إنك على كل شيء قدير . سبحان ربك رب العزة عما يصفون ، وسلام على المرسلين ، والحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على أفضل الأنبياء والمرسلين ، نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين .
المؤلف من يرجو فضل ربه وعفوه
يحيى بن موسى الزهراني
إمام الجامع الكبير بتبوك
والكاتب بموقع زاد المعاد
لمراسلة الشيخ على أميل مشرف موقع زاد المعاد
تم النشر بواسطة موقع زاد المعاد الذي سيفتتح قريبا
ترقبو الموقع قريبا إن شاء الله
www.zadalmaad.com
www.zadalmaad.ws
shsh909@hotmail.com
المشرف العام اخوكم محبكم في الله
ابو يزيد شايم العنزي(1/51)
الافتتاح التجريبي تقريبا10/11/1425هـ دعواتكم
??
??
??
??
1
13(1/52)