المقدمة أحس قلقا بالغا على مستقبل الإسلام وأمته وأوطانه ، فإن القوى المخاصمة له تطمع فى استئصال حقيقته ، واستباحة بيضته . وهى ترى أن الظروف ملائمة لبلوغ هذه الغاية الهائلة..! وعندما أنظر إلى الواقع الكئيب أجد أعداءنا يتقدمون بخطا وئيدة وخطط صريحة حينا، ماكرة حينا آخر.. ولكنها خطط مدروسة على كل حال، محسوبة المبادئ والنهايات، لا مكان فيها للدعاوى والمغالطات، ولا للارتجال والمجازفات..! أما نحن المسلمين فعلى العكس من ذلك كله.. وقد نكسب تقدما ما فى بعض الميادين وسرعان ما نفقد ثماره فى ميادين أخرى تكون خسائرنا فيها أبهظ.. وعندما أشعر بأن حلقات الحصار تضيق حول الإسلام، وأن مكاسب عداته تكثر على مر الأيام أتساءل: هل وعى تاريخنا الطويل أحوالا فى مثل هذه القساوة والخباثة؟ وأتردد فى الجواب قليلا!! لقد سقطت الدولة الإسلامية قديما ، وناوشها الأعداء من الشرق والغرب، واحتلوا عواصمها، وألحقوا بها أفدح الخسائر.. ومع ذلك نهضت من عثرتها واستأنفت المسير، فلم لا تكون ظروف اليوم كظروف الأمس؟ وأقول لنفسي : لعل!! ثم أدرك أننى أغالط ، لأسباب ينبغى شرحها إن أردنا مواجهة الحقيقة والنجاة من عواقب الخداع..
ص _006(1/1)
لقد أقام ا لاستعمار العالمي " إسرائيل " فى أرضنا من عشرين سنة وكان الإنجليز قبل ذلك بثلاثين سنة يخلقون الجو الذى يمهد لقيام إسرائيل ويستجلبون اليهود من كل بلد لينشئوا على أنقاضنا كيانهم الجديد.. وإذا كانت هذه السنوات الخمسون قد وعت الإعداد والتنفيذ فى فلسطين فإنها قد وعت أيضا التدويخ والتفتيت للعرب حول فلسطين، من المحيط الهادر إلى الخليج الثائر كما يحلو للبعض أن يصف حدود الأمة العربية التائهة..!! ونشرح ما نعنى فنقول: إن اليهود الذين بدأ استجلابهم من سنة 1917 لم يضيعوا ساعة عبثا.. لكأنهم تمثلوا بقول الشاعر: قف دون رأيك فى الحياة مجاهدا إن الحياة عقيدة وجهاد..!! فشرعوا لفورهم يحولون اليهودية إلى عقيدة بعث وبذل، وفداء وإخاء! ثم كرسوا أعمارهم لعمل موصول الجهاد بالليل والنهار.. وأخذت أوروبا وأمريكا تمدان جرثومة العدوان الجديد بما تشاء كى تضمنا لها التفوق والنصر. أما العرب فإنهم فى أرضهم الواسعة كانوا يمضون منحدرين إلى القاع.. العقيدة فى بلادهم وهى الإسلام تذبل وتنكمش، وروح الجهاد تناوشها اللذات المطلوبة والشهوات الغالبة. الخمسون السنة التى أعقبت وعد بلفور شهدت إحياء لليهودية وللقتال من أجلها فى فلسطين!! وشهدت فى الوقت نفسه إماتة للإسلام، أو إضاعة لتعاليمه وشرائعه، أو إهانة لحدوده وحقوقه، أو تنكرا لعنوانه وشعاره فى الأرض العربية من المحيط إلى الخليج، مع حذف وصفى " الثائر الهادر " لحدود هذه الأمة العربية الجديدة التى خلقها البعثيون والقوميون!!. تلك الأمة التى رأت- بدولها الأربعة عشر- أن توهى صلتها بالأمة الإسلامية الكبرى، لأنها أوهت صلتها بالإسلام ذاته..! وجاءت النتائج كما رسم الاستعمار الذى أقام إسرائيل.. ص _007(1/2)
انهزم العرب أمام اليهود من سنة 1948 إلى سنة 1967 فى حروب متتابعة. والسبب واضح فإن روح اللهو لا تغلب روح الجد، وفاقد الإيمان لا يقاوم من يتحركون بيقين راسخ.. والواقع أن اليهود كسبوا معاركهم ضدنا منذ أفلح الغزو الثقافي فى زحزحتنا عن ديننا، وتهوين قيمه ومثله وأحكامه أمام أعيننا، ومنذ أفلح فى خلق شباب يقاد من غرائزه الجنسية، ويغرى بعبادة الحياة الدنيا وينسى ربه وآخرته.. إن مصدر خشيتى على الإسلام هو موقف العرب من دينهم ! إن العرب يريدون أن يدخلوا بغير دين فى معركة دينية.. ومع أن مطارق الهزيمة التى وقعت على أم رأسهم كانت كفيلة بإزالة هذا الوهم إلا أن عملاء الشيطان يستميتون فى مكافحة هذه اليقظة، والحيلولة دون اعتناق العرب للإسلام، كلا لا يتجزأ.. ولا يستغربن أحد هذا التعبير!! فإن العودة إلى الإسلام لا تقبل إذا كانت كلمات تمرق من الأفواه ولا علاقة لها بالواقعين الفردي والاجتماعى.. لكى تكون العودة إلى الإسلام صحيحة لابد من أمور ثلاثة: ( أ ) هيمنة التربية الدينية على مراحل التعليم كلها. (ب) رد جميع القوانين إلى الفقه الإسلامى، وربطها ربطا موثقا بالشريعة الإسلامية. (جـ) تحكيم الإسلام فى التقاليد الاجتماعية السائدة ومحو ما يخالف الدين، وإثبات ما يلائمه. ويوم يحس جماهير العرب بأن أمورهم تسير إلى هذه الوجهة فسوف يندفعون كالسيل وراء حكوماتهم ، ويومئذ تماع إسرائيل كما يذوب الملح فى الماء ، فلا يبقى لها شكل ولا موضوع.. لقد تأملت فى الصورة التى تمت بها هزائمنا خلال العشرين السنة الأخيرة فرأيت ما يدعو إلى الدهشة.. كنا أكثر من عدونا عددا، وأقوى عدة.. ص _008(1/3)
ولو فرضنا جدلا، أننا كنا مثله أو دونه قليلا فإن من المقطوع به أننا لم نحسن القتال بما حملنا من سلاح، ولا ثبتنا به المدة المناسبة، ولا آذينا به عدونا الإيذاء المستطاع.. كانت هزائمنا فريدة فيما تتركه من انطباعات مخزية. إننا هزمنا أنفسنا، وقلدنا خصومنا شرفا فوجئوا به.. وما تقول فى قوم ينبهون إلى أنهم قد يهاجمون يوم كذا.. فإذا هم فى هذا اليوم غافلون أو نيام، أحرقت طائراتهم على ا لأرض، وبوغتوا بما شل حراكهم خلال ساعات، وأكسبوا اليهود دعاوى عريضة، وتركوا جباهنا تقطر من الحياء والذل!! كانت أسباب الهزيمة خلقية، ودينية قبل كل شيء وبعد كل شيء . ومع ذلك فإن العرب ابتلوا بمن يكذب عليهم يوم محنتهم فيتحدث عن تفوق اليهود العسكري ومهارتهم " ا لتكنولوجية ". أى تفوق وأية مهارة؟؟ وتذكرت قصة الريفي الذى جاء إلى القاهرة، واشترى الترام من أحد المحتالين.. إن هذه القصة لا تدل على عبقرية المحتال قدر ما تدل على أن المشترى مغفل كبير.. والذين يرجعون أسباب هزيمة العرب أمام اليهود- وخصوصا فى المعارك الأخيرة- إلى عبقرية اليهود إنما يريدون مواراة قصة استغفال محزنة.. إنهم يريدون أن نذهل عن عيبنا كى تتكرر المأساة نفسها.. لقد علم القاصى والدانى أن اليهود امتدوا فى فراغ، وأن رجالنا يوم اللقاء كانوا فى سكرتهم يعمهون، وصدق القائل: رب أصباح محزنات يتركها المرقص اللعوب !! فهل نعمى عن علتنا المهلكة ثم ننسب النتائج إلى الوهم، ونزعم أن اليهود غلبونا لعبقريتهم الحربية وتفوقهم فى كذا وكذا... يقول التاريخ إن شبيها لهذه المأساة وقع من تسعة قرون، فقد انهزم العرب أمام الحملة الأولى للصليبيين دون سبب معقول! كان الصليبيون قد هبطوا من أوروبا إلى الشرق الأوسط وهم يجرون أقدامهم جرا، ص _009(1/4)
وبلغت بهم المجاعة إلى حد أن أكلوا الجيف، ولم تكن ظروفهم تمكنهم من كسب أى معركة. ومع ذلك فقد هزموا العرب الموفورى القوة والعدة والصحة والشبع. وذبحوا سبعين ألفا منهم فى القدس!! لماذا؟ لأن العرب كانوا فى حالة من الفرقة والبطر والفسوق والغفلة تحرمهم من رعاية الله، وتبعد عنهم النصر القريب..! كذلك انهزمنا اليوم، وبين أصابعنا من أسباب الغلب ما لو سانده الإيمان الصاحى، والحماس الصادق، لروع اليهود ومن وراءهم.. لقد سمعت رجلا يعلق على ضرب اليهود لمطار بيروت تعليقا مرا، يقول: أينزلون، ويحرقون الطائرات، ويمكثون فى المطار ريثما ينفذون مرادهم، ثم يصعدون دون أن يفقد جندي منهم نعله!! لو أن مع رجل واحد مسدسا لألحق بهم بعض الخسار!! لو أن هناك رجالا يحملون العصى فقط ما عاد اليهود سالمين على هذا النحو!! لكأن القوم كانوا فى نزهة!! يا حسرة على العباد، أين الرجال؟؟ والجواب ضاعوا مع ضياع الإيمان!! إن الدين بالنسبة لنا نحن المسلمين ليس ضمانا للآخرة فحسب إنه أضحى سياج دنيانا وكهف بقائنا. ومن ثم فإني أنظر إلى المستهينين بالدين فى هذه الأيام على أنهم يرتكبون جريمة الخيانة العظمى، إنهم- دروا أو لم يدروا- يساعدون الصهيونية والاستعمار على ضياع بلدنا وشرفنا ويومنا وغدنا..!! فارق خطير بين عرب الأمس وعرب اليوم. الأولون لما أخطئوا عرفوا طريق التوبة، فأصلحوا شأنهم، واستأنفوا كفاحهم، وطردوا عدوهم... أما عرب اليوم فإن الاستعمار الثقافي أحدث تخريبا شديدا فى ضمائرهم وأفكارهم، وربما رأيت الواحد منهم يبلغ الأربعين أو الخمسين من عمره ولا يعرف كيف يصلى ! أما حصيلته من سائر المعارف الإسلامية فتتذبذب عند درجة الصفر!! ص _010(1/5)
وهذا الجيل الفارغ القلب واللب صيد سهل للمذاهب المادية أو للمبشرين وسماسرة الغرب ، لأنه- مهما كبرت الوظائف التى وضع فيها لم يتجاوز مرتبة الطفولة من الناحية الدينية. وقد يعترض نفر من هؤلاء على العودة إلى الإسلام اعتراضا مكشوفا، أو مطويا ، إما لأنه فاسد النفس ، أو لأن الجهل أتاهه وحيره. يقول أحدهم: إن العودة إلى الإسلام سوف تغضب المسيحيين العرب ! قلت: لماذا يغضبون؟ إننا لا نسخط على تمسكهم بالنصرانية ولا نعترضهم فى ذلك.. ومن الذى قال إننا نرضى الآخرين بترك ديننا؟ وإذا كان الآخرون لا يرضون إلا بذلك فمن الذى يجعل لهذا الرضا قيمة؟ ويقول ثان: إن العودة إلى الإسلام سوف تغضب الشيوعيين وهم الذين يمدوننا بالسلاح !! قلت إن الشيوعيين تهمهم مصالحهم، وهم إنما يسوؤهم أن نأخذ أسلحتهم ونسلمها لليهود! فإذا تعاملوا مع رجال يقدرون اليد المسداة ، ويحسنون النكاية فى عدوهم كان هذا خيرا لهم ولنا.. ويقول ثالث: إن أمريكا تساعد إسرائيل بدوافع صليبية مطوية فإذا أعلنا إسلامنا وتشبثنا بوحيه أسفرت عن وجهها وأعلنت علينا حربا مكشوفة..! قلت إن أمريكا لم تدخر جهدا فى تغليب اليهود علينا، ولو أنها فعلت مع إسرائيل ما فعلته فى فيتنام ما بالينا بها لو كنا أصحاب إيمان.. ويقول رابع: لا مانع من العودة إلى بعض الإسلام، أما العودة إليه كله فصعبة، وقد تغير الزمان..!! قلت: الكفر ببعض القرآن كفر به كله ، والإسلام هو الحل الأوحد لجميع مشكلاتنا المعاصرة ، وليس هناك عائق أمام عودتنا لديننا لو أردنا.. إن الصعوبة المدعاة هى فى نفوسنا نحن... تلك النفوس التى ضللها الغزو الثقافي الحاقد على الإسلام.. فجعلها تحسب حسابا لكل شيء إلا لله وحده..!! ص _011(1/6)
إن العراك بيننا وبين بنى إسرائيل سوف يمتد سنين عددا ، فإذا أحببنا أن نذوق حلاوة النصر فالطريق إليه بينة.. أما إذا كررنا أنفسنا القديمة، وأساليبنا القديمة ، فلن نحصد إلا ثمرات الغرور، وما أبشع مذاقها وأمره!! إنه ليحزنني أن أرى العرب يتخلون عن رسالتهم العظمى. أو يأخذونها بضعف واسترخاء. أو ينفذون ما يحلو لهم ويهملون ما لا تهوى أنفسهم. أو يخشون الناس ولا يخشون الله.. إن عقبى ذلك هو ما بلونا مبادئه، ولا نريد أن نجر بواقيه.. إنا نجأر بهذه الصيحات لعلها تنفع فى مدافعة ما لا نطيق من بلاء. وقد كنت- بحاسة المؤمن الغيور- أرصد أحوال الأمة العربية قبل الهزيمة وبعدها، فأشعر بمدى قربها أو بعدها عن دينها، ومدى قدرة التيارات الأجنبية على التطويح بها هنا وهناك.. وكلما قرأت كلمة ضالة، أو سمعت تعليقا منحرفا، أو تدبرت توجيها زائفا أمسكت بالقلم لأرد فى نطاق ما أستطيع قوله وعمله.. غير أننى لم أتبين إلى هذه الساعة انعطافا حقيقيا نحو الإسلام يعيد بناء الأمة العربية داخل إطاره الواضح. وذاك سر إشفاقي وقلقي . ((قُلْ رَبِّ إِمَّا تُرِيَنِّي مَا يُوعَدُونَ)) " المؤمنون 93 " . ((رَبِّ فَلا تَجْعَلْنِي فِي القَوْمِ الظَّالِمِينَ)) " المؤمنون 94 " . ((وَإِنَّا عَلَى أَنْ نُرِيَكَ مَا نَعِدُهُمْ لَقَادِرُونَ)) " المؤمنون 95 " . الفقير إلى الله تعالى محمد الغزالى ص _013(1/7)
صِرَاع بَين رسَالتين كان بنو إسرائيل أول أمرهم ممثلين لعقيدة التوحيد وسط شعوب قلما تعرف حقيقة الإيمان بالله واليوم الآخر. والانفراد بعقيدة صحيحة بين أمم ضالة يتطلب غير قليل من العناء والمصابرة ، فقد يسأم الإنسان تكاليف الغربة الروحية، وقد يبتلى بمن يضيق به وبعقيدته ويحاول فتنته عنها..! ومن هنا رأينا يعقوب يجمع أبناءه قبيل موته، ويريد أن يطمئن على سيرتهم بعد أن يغادر الحياة، ترى أيظلون على الإيمان الذى شرفوا به أم يتبعون غيرهم على الشرك والفساد؟؟ ((أم كنتم شهداء إذ حضر يعقوب الموت إذ قال لبنيه ما تعبدون من بعدي قالوا نعبد إلهك وإله آبائك إبراهيم وإسماعيل وإسحاق إلها واحدا ونحن له مسلمون)) . وكلمة الإسلام قديما وحديثا هى العنوان الفذ للدين الأثير عند الله، بما يتضمنه هذا الدين من توحيد للخالق، واستقامة على أمره، وإنفاذ لوصاياه، وإقامة لأحكامه... وقد كان يوسف الصديق أشرف رجال هذه ا لأسرة ، وأصلح أولاد يعقوب وأرعاهم لتعاليم أبيه فى حياته وبعد مماته. وكان يقدر نعمة الاختيار الإلهي لبيت يعقوب كي يحرس التوحيد ويرفع لواءه.. ولذلك رأيناه فى السجن ينتهز الفرص فيدعو المسجونين إلى الله ، وينفرهم من الوثنية ، ويشرح لهم معالم الإيمان الحق.. وكان السجناء قد لحظوا قدرته على استنباط الغيوب من خلال تعبير الرؤيا، فقال ص _014(1/8)
لهم يوسف : ((… ذلكما مما علمني ربي إني تركت ملة قوم لا يؤمنون بالله وهم بالآخرة هم كافرون * واتبعت ملة آبائي إبراهيم وإسحاق ويعقوب ما كان لنا أن نشرك بالله من شيء ذلك من فضل الله علينا وعلى الناس ولكن أكثر الناس لا يشكرون)) . ويوسف بهذه الكلمات ينوه بمكانة أسرته، ووظيفتها الرفيعة فى قيادة الناس إلى الله الواحد، ونبذ الوثنية السائدة على عهده. ولذلك يتابع نصحه لرفقاء السجن قائلا: ((يا صاحبي السجن أأرباب متفرقون خير أم الله الواحد القهار ، ما تعبدون من دونه إلا أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ما أنزل الله بها من سلطان إن الحكم إلا لله أمر ألا تعبدوا إلا إياه ذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس لا يعلمون)) . ومن الإنصاف أن نقول: إن أبناء يعقوب فى تاريخهم المتقدم وفوا بعهدهم لأبيهم، وقاوموا أمواج الوثنية التى حاولت أن تجرفهم، ولعلهم تحملوا فى ذلك آلاما رهيبة. وأي آلام أبشع من تذبيح الأبناء واستحياء النساء؟ لكنهم مع تلك المحن لم يفقدوا شخصيتهم، ولم يذوبوا فى غيرهم، ولم ينسوا أصل رسالتهم. وفى ذلك يقول القرآن الكريم عنهم ((ولقد اخترناهم على علم على العالمين ، وآتيناهم من الآيات ما فيه بلاء مبين)) . لكن بنى إسرائيل مع سير الزمان واختلاف الليل والنهار أخذوا يبددون أمجادهم، ويغاضبون ربهم، ويتنكرون لمواريثهم، ولم ينشأ هذا الانحراف من غلبة عدو عليهم وتأثيره فيهم، بل نشأ من اعتزازهم بالله، وجراءتهم عليه، وابتذالهم لنعمه.. وأضحوا كالولد المدلل لا ينتظر منه أدب، ولا تثمر فى تقويمه عظة. وتطرق هذا العوج إلى المبادئ التى اختيروا لإعلاء منارها وتمهيد سبلها، فإذا هم يخلطون التوحيد بالشرك ، ويذهلون ذهولا مطلقا عن اليوم الآخر، ويرتكبون المعاصي دون حذر، وينسون قاعدة الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر ، وينطلقون على ظهر الأرض ما تسيرهم إلا غرائزهم الدنيا مقترنة بدعاوى عريضة ومزاعم مكذوبة. فكانوا بهذا المسلك(1/9)
الجديد شرا من الأمم التى كلفوا قديما بتعليمها وتأديبها وفضلوا تفضيلا عليها . . ! ! ص _015
ومن رحمة الله بعباده أنه يقيل عثراتهم، ويغفر زلاتهم، ولا يؤاخذهم لأول ما يفرط منهم ، وقد أمهل بنى إسرائيل طويلا كيما يثوبوا لرشدهم ويعتذروا عن أخطائهم ، وبعث فيهم أنبياء كثيرين يذكرونهم بالله ويخوفونهم نقمته.. لكن القوم لم يرعووا ويدعوا ما هم فيه ، بل تأدت بهم الشراسة الجامحة أن يعتدوا على أنبياء الله فيقتلوا من ضاقوا بنصحه منهم ((لقد أخذنا ميثاق بني إسرائيل وأرسلنا إليهم رسلا كلما جاءهم رسول بما لا تهوى أنفسهم فريقا كذبوا وفريقا يقتلون ، وحسبوا ألا تكون فتنة فعموا وصموا ثم تاب الله عليهم ثم عموا وصموا كثير منهم والله بصير بما يعملون)) . وكان آخر اختبار سقطوا فيه موقفهم من عيسى بن مريم ، فقد جاءهم هذا الإنسان الصالح يبغي ترقيق قلوبهم وتهذيب طباعهم وإلزامهم حدود الله وتعاليم الوحي الأعلى واعتناق حقيقة الدين بدل الاستمساك بقشوره والخروج على جوهره.. ولكنهم سخروا منه أقبح سخرية ، ورموه وأمه بأغلظ الإفك ، ثم ابتغوا قتله كشأنهم مع من سبقه ، بيد أن الله نجاه منهم ووقاه شرهم . . وكان هذا كما قلنا آخر اختبار لبنى إسرائيل ، فقد كانت النبوات وقفا عليهم ، وهدايات السماء تنبعث من أرضهم. وطالما سطعت أشعة الوحي ساحات المسجد الأقصى على أيدى رسل كرام، غير أن هذه الأشعة ضاعت بين غيوم كثيفة من الشهوات.. ومحا أثرها شعب عز على العلاج بعد أن تغلغل الفساد الخلقي و الفساد الاجتماعى فى أعماقه.. وقررت العناية العليا أن تنقل قيادة الإنسانية من جنس إلى جنس، أو من أولاد إسرائيل إلى أولاد إسماعيل، أو من اليهود إلى العرب.. كان عيسى بن مريم آخر إسرائيلي يرسل إلى قومه، وكان تكذيبهم له آخر جرم يختم به تاريخهم الديني..! ثم يجيء دور العرب بعدئذ ليفتتحوا صفحة جديدة فى الحياة، بعد ما ملأ اليهود الصفحات السابقة بمخازيهم(1/10)
ومآسيهم ((وإذ قال عيسى ابن مريم يا بني إسرائيل إني رسول الله إليكم مصدقا لما بين يدي من التوراة ومبشرا برسول يأتي من بعدي اسمه أحمد فلما جاءهم بالبينات قالوا هذا سحر مبين ، ومن أظلم ممن افترى على الله الكذب وهو يدعى إلى الإسلام والله لا يهدي القوم الظالمين)) . ص _016
وفى تسويغ هذا الانتقال الحاسم ، وسرد أسبابه وملابساته ، وفى تعريف العرب بمكانتهم الإنسانية الجديدة ، ودورهم القيادي الخطير، وفى تقرير الواجبات الثقيلة التى تفرضها هذه الرسالة العظمى على العرب.. فى هذا كله نزلت آيات شتى نريد أن نتدبرها ونتدارس دلالاتها وأبعادها.. يقول الله لنا- نحن العرب- ((لقد أنزلنا إليكم كتابا فيه ذكركم أفلا تعقلون)) . ويقول للنبي الخاتم ((وإنه لذكر لك ولقومك وسوف تسألون)) . ويقول عن منازل الناس فى خدمة هذه الرسالة والوفاء لها ((ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا فمنهم ظالم لنفسه ومنهم مقتصد ومنهم سابق بالخيرات بإذن الله ذلك هو الفضل الكبير)) . وفى مواضع كثيرة من القرآن الكريم بين الله للعرب لماذا ملكهم زمام الوحي بعد أن انتزعه من اليهود، وكيف يتقاضاهم ذلك الإخلاص لله وحراسة رسالته والسهر على أدائها.. فلننظر إلى سورة الجمعة ، وكان يوم الجمعة فى الجاهلية يسمى يوم العروبة ، حتى غلبت التسمية الشرعية نظرا للصلاة الجامعة التى تحشد الناس فيه.. بدأت هذه السورة بتسبيح الله والثناء عليه بما هو أهله.. ثم شرعت تتحدث عن العرب ، وكيف اختار الله منهم نبيا يربيهم ليربى بهم العالم ، ويعلمهم ليعلم بهم الآخرين ((هو الذي بعث في الأميين رسولا منهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين)) . نعم كان العرب قبل الإسلام فى جاهلية طامسة وتأخر ظاهر، ثم أحيا الإسلام مواتهم وأعلى ذكرهم ونقلهم بتعاليمه من السفوح إلى القمم ومن ذيل القافلة البشرية إلى طليعتها: ((ذلك فضل الله(1/11)
يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم)) . ثم يذكر الله جل شأنه فى هذه السورة: لماذا آثر العرب بهذه المنزلة بعد أن كانت قديما لغيرهم ، فيقول ((مثل الذين حملوا التوراة ثم لم يحملوها كمثل الحمار يحمل أسفارا بئس مثل القوم الذين كذبوا بآيات الله والله لا يهدي القوم الظالمين)) . وهذه الآية واضحة فى أن اليهود فقدوا صلاحيتهم لحمل رسالات السماء فقدانا ص _017
أبديا لأنهم فقدوا القدرة على الانتفاع بالوحي الإلهي ، ولم يستطيعوا تهذيب أنفسهم به فكيف يقدرون على تهذيب غيرهم ؟ إن صاحب القلب القاسي لا يجدر به أن يحمل عناصر الرحمة لغيره وصاحب الذهن المغلق ليس أهلا لتوعية الآخرين ، وفاقد الشيء لا يعطيه..!! وحامل الكتب الذى لا يدرى ما فيها لا يصلح تلميذا فكيف يكون أستاذا ؟ لهذا صرف الله رسالته عن اليهود إلى العرب لعل الآخرين يحسنون الوصاية عليها والسير بها.. وإن كان اليهود بعد ما رأوا هذا التحول المباغت فى ابتعاث الأنبياء قد استماتوا فى تكذيب الرسالة الجديدة والعدوان على صاحبها فقال الله جل شأنه: ((يريدون ليطفئوا نور الله بأفواههم والله متم نوره ولو كره الكافرون ، هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون)) . وفى مواضع أخرى من القرآن الكريم سجلت هذه المقارنة بين اليهود والعرب تسجيلا يحمل فى أطوائه مسالك يجب أن تدرس وفرائض يجب أن تعرف ، لأنها تعرفنا ما وقع من غيرنا ، وما ينبغى أن يقع منا.. فى سورة آل عمران وصفنا الله بقوله ((كنتم خير أمة أخرجت للناس …)) لماذا ؟ أهو امتياز عنصري أو تفضيل جغرافي ؟ كلا، لا هذا ولا ذاك . إنما هو لخصائص خلقية وفكرية تنفع الإنسانية جمعاء بعد ما تنفع أصحابها أولا ، هذه الخصائص هى قوله: ((…تَأْمُرُونَ بِالمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ المُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ …)) . وهذه الخصائص هى التى فقدها أصحاب الرسالة السابقة فعزلوا عن منصب(1/12)
القيادة العامة للناس . لذلك قال مباشرة: ((…وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَّهُم مِّنْهُمُ المُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الفَاسِقُونَ)) . والأمم تؤاخذ بما يسود كثرتها الكبرى من عوج ورذيلة ، ووجود قلة صالحة لا يغنى عنها ولا يجنبها المصير المحتوم..!! وظاهر من تعبير القرآن الكريم أن قدر الأمة مرتبط بمدى إيمانها ، وأن سبقها لغيرها ، وترجيحها عليه ، منوطان بحرصها على فضائلها . ص _018
وإلا فسوف يصيبها ما أصاب غيرها . . ومن أخطاء أهل الكتاب الأولين أنهم ظنوا أنفسهم أبناء الله وأحباءه . وأنهم قادرون على فضله يمنحونه من شاءوا وقادرون على مغفرته يبيعونها صكوكا لمن يدفع الثمن ، وهذا كله تطاول بالباطل فإن الأفراد والأمم تعلو إذا قدرت على التحليق ، وتهبط إذا فترت منها الهمم ، وغلب علها الكسل . وليس لأحد قط أن يتدخل فى هذه القوانين الصارمة: ((…ما لهم من دونه من ولي و لا يشرك في حكمه أحدا)) . ولذلك عندما رسم القرآن الكريم الطريق أمام الأمة الجديدة بين أن الله يختار من يشاء، من خلقه ليحمله ما يشاء من أمره، وأن هذا التحميل اختيار مقيد لا اختيار مطلق، فقال جل جلاله: ((الله يصطفي من الملائكة رسلا و من الناس إن الله سميع بصير ، يعلم ما بين أيديهم و ما خلفهم و إلى الله ترجع الأمور)) . ثم شرح بعد ذلك الرسالة التى آذن العرب بحملها، والأعباء الشريفة التى تقترن بها فقال: ((يا أيها الذين آمنوا اركعوا و اسجدوا و اعبدوا ربكم و افعلوا الخير لعلكم تفلحون ، وجاهدوا في الله حق جهاده هو اجتباكم و ما جعل عليكم في الدين من حرج ملة أبيكم إبراهيم هو سماكم المسلمين من قبل وفي هذا ليكون الرسول شهيدا عليكم و تكونوا شهداء على الناس فأقيموا الصلاة وءاتوا الزكاة و اعتصموا بالله هو مولاكم فنعم المولى ونعم النصير)) . وظاهر من هذا السرد التاريخي أنه كان هناك شعب مختار فسد فعزل..!! وأن هناك شعبا آخر وقع(1/13)
عليه الاختيار، ليبلغ رسالات الله ويضيء الطريق أمام الأحياء . نعم هناك شعب آخر مكلف أن يتصدر الركب الإنسانى المنطلق يحدوه باسم الله ، ويعطيه الأسوة الحسنة من تمسكه بهداه . . شعب يتعلم من محمد ثم يعلم الآخرين . ويطبق تعاليمه على نفسه ثم يجعل منها نماذج لغيره . ((… لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا …)) . ص _019
تلك هى الحقيقة التى تاه عنها جمهور كثيف من العرب فتخطفته زبانية الأرض ، ثم هوت به فى مكان سحيق..!! والصراع الدائر الآن هو بين المطرودين من أصحاب الرسالة الأولى ، وبين التائهين من أصحاب الرسالة الخاتمة . . فلنشرح أدوار هذا الصراع ، وملابساته المرة . . * * * إن اليهود الذين كذبوا عيسى منذ عشرين قرنا ، وكذبوا بعده محمدا مضوا فى الطريق التى اختطوها لأنفسهم ، وعاشوا فى حدود ما لديهم من تعاليم وتوارثوا من تقاليد وتحملوا غضب الله عليهم بجلادة تثير الدهشة . إنهم على امتداد الزمان والمكان لم يتخلوا عن رأيهم فى أنفسهم أنهم شعب الله المختار . . ولقد تقاذفتهم الأقطار والفلوات فما نسى بعضهم بعضا ولا تلاشوا فى الأمم التى ضاقت بهم ونظرت إليهم شزرا . ولما كان النصارى يعتقدون أن اليهود قتلة عيسى وسبب بلائه فإن الأمم النصرانية تقربت إلى الله بإذلال اليهود حيث كانوا ، واستباحة دمائهم لأتفه التهم ، حتى قيل: لولا ظهور الإسلام لبادت اليهودية من فوق ظهر الأرض!! ولم يتورع شعب مسيحي فى طول أوروبا وعرضها على إلحاق الأذى باليهود جهد ما يستطيع . ومع هذا كله فإن اليهود شقوا مستقبلهم وسط هذه الصعاب ، موقنين أنهم شعب الله المختار ، ومؤملين فى مستقبل أفضل ، مستقبل يفرضون فيه مشيئتهم على العالم ، وتتوج السلطة العليا فيه رأس إسرائيل . . واستطاع علماء بنى إسرائيل وأغنياؤهم أن يملئوا ثغرات واسعة فى علاقة المسيحية باتباعها ، وأن يكملوا قصورها فى تغطية حاجات الخاصة والعامة الأدبية والمادية(1/14)
على السواء . فما كاد يقبل عصر النهضة مع القرن السادس عشر الميلادى حتى شرع اليهود يبنون لجنسهم دعائم مكينة ، وواصلوا البناء فى صمت ومكر حتى أمكنهم خلال القرن العشرين أن يكونوا فى مختلف القوميات الأوروبية والأمريكية طائفة ظاهرة اليسار والارتقاء . . ص _020
وهنا شرع بنو إسرائيل يلبون دواعي الحنين فى دمهم لبناء دولتهم الدينية وتحقيق حلمهم القديم فى حكم العالم . . وسنحت الفرصة بسقوط الخلافة الإسلامية ، وغيبوبة العرب عن رشدهم ، وذهولهم الهائل عن رسالتهم ، فضرب اليهود ضربتهم ، واحتلوا فلسطين . . وبديهي أن اليهود وحدهم ما كانوا ليقدروا على ما فعلوا . . إن الحقد المشترك على الإسلام وأمته وجد فى العدوان اليهودي أداة ترضيه ، وتنفذ ما يبتغيه ولذلك رحب به وأعانه- ولا يزال- على بلوغ أهدافه . أول أولئك الحاقدين الصليبيون الجدد ، فإن الساسة الأمريكيين والأوروبيين المبغضين للإسلام وأمته يرون فى إقامة دولة لليهود على هذه البقعة من أرضنا خطوة لها ما بعدها فى زلزلة الكيان الإسلامى كله . . ومن ثم حرصوا على خذلاننا فى كل ميدان وتخييب آمالنا فى كل سعى ، ولم نر من خمسين سنة- أى منذ بدأ احتلال اليهود لفلسطين- سياسيا مسيحيا يعارض اليهود أو يرثى للعرب المنكوبين . . حتى الجنرال ديجول رئيس حكومة فرنسا الذى يشاع الآن أنه نصير للحق العربى ، لم يفكر قط فى أن فلسطين للعرب وأن اليهود مغتصبون لها.. غاية ما صنع أنه- لأمر ما- وقف ضد التوسع اليهودي الحالي ، وأيد ما يسمى : " محو آثار العدوان " . . ! ! أما بقاء إسرائيل فى موقعها المرسوم المحذور فليس موضع جدل . والواقع أن السلاح الأمريكى والفرنسي والإنجليزي هو الذى سفك دمنا ، ونهب حقنا ، واستباح وجودنا وتاريخنا ، وأنكر حاضرنا ومستقبلنا . واليهود هم الأداة الطيعة التى اختيرت لتحقيق هذا المأرب . . وإلى جانب الصهيونية والصليبية عملت الشيوعية العالمية عملها فى إقامة(1/15)
إسرائيل ، وساندتها فى المجال الدولي مساندة مكشوفة . . ولا ريب أن الشيوعيين يسرهم أن ينقسم العرب قسمين واهيين إثر قيام إسرائيل فى مكانها الموجع الذى تحتله الآن ، فإن ضعف الإسلام- بضعف العرب- يساعد على نشر الشيوعية وإزاحة سدود ضخمة من أمامها.. وموقفها الحالي من التوسع اليهودي تمليه ظروف سياسية معقدة.. ص _021
وسط هذه الفتن والمحن أقبلت اليهودية العالمية تريد استعادة نشاطها الأول، معتقدة أن الإسلام أكذوبة يجب أن تنتهي ، وأن أمته خرافة آن أن تزول.. أى أن الهدف المخطط هو إزالة دين ، ومحو أمة..!! وإسرائيل الكبرى تمتد شرقا وغربا من الفرات إلى النيل وتهبط جنوبا حتى تشمل الحجاز ، وتستوعب مكة والمدينة . وحجتهم أنه فى هذه البقاع تجول أسلافهم وانتشروا ، وأن الظروف التى شردتهم قد انتهت . وأن العرب الذين يستوطنون هذه الأرض ليسوا أهلا للبقاء فيها . وإن المقدسات الإسلامية إنما تستمد مكانتها الروحية من تعلق أصحابها بها وقدرتهم على حمايتها ، ولكن محمدا مات وترك بنات . . ! ! هكذا كانت التظاهرات اليهودية تجأر بالهتاف فى مدينة القدس حيث المسجد الأقصى. وقد رأيت بعيني صور الجنود اليهود يحملون التوراة فى اليد اليمنى والمسدسات فى اليد اليسرى ، وهم على صهوات دباباتهم المنطلقة بهم فى ربوعنا المقفرة ، وأرضنا الذليلة الموحشة . . إن الأمانى التى دفنت فى تراب الذل نحو ثلاثين قرنا انتفضت بالحياة بغتة ، وجرت معها عداء الصليبية لرسالة التوحيد ، وعداء المادية لرسالات السماء ، ولوحي الله جملة وتفصيلا ، ثم هجمت على العرب المنقسمين على أنفسهم ، الزائغين عن رسالاتهم ، واستطاعت أن تكسو وجوههم بالقار ، وأن تملأ ديارهم بالعار. تلك حال اليهود ومن والاهم فلنلق نظرة عجلى على أكناف الميدان العربى . * * * اشتبك العرب مع اليهود ثلاث مرات: سنة 1948، سنة 1956، سنة 1967، وانهزمت دولهم خلال هذه المعارك هزائم شائنة ، وكانت(1/16)
كل هزيمة أسوأ من سابقتها وأشد خزيا . وإذا بقيت الروح الدينية والأساليب الخلقية لدى العرب على المستوى المعهود فى معاركهم السابقة فلن يكسبوا معركة أبدا ، بل سيخسرون وجودهم كله ، ويذهبون فى خبر كان . ص _022
إن اليهود يقاتلون بدافع من إيمان ، ويعملون كما شرحنا آنفا لتحقيق رسالة دينية ومدنية معا . أما العرب فإن ساستهم خلال خمسين سنة كانوا ينفذون مخططا استعماريا لإبعاد الدين عن آفاق الحياتين الخاصة والعامة . . ! ويوم يلتقي رجل ملتهب المشاعر بعقيدة ما ، مع رجل لم يستنر فؤاده بحقيقة دينه ، بل لا يدرى من حقائق هذا الدين قليلا ولا كثيرا فماذا تكون النتيجة ؟ إنها الهزائم المرة التى ذقناها . . إنه لا يفل الحديد إلا الحديد ، ولا يقف أمام معتدين باسم الدين إلا مدافعون باسم الدين . . إن اليهودي يأبى أن يأكل لحم الخنزير مثلا ، لأنه محرم فى دينه ، ولديه ضمير ديني يمنعه من هذا الطعام بقوة . أما المسلم الذى أمامه فهو يشرب الخمر المحرمة فى دينه دون ضمير رادع ! . . ولست أتهم كل أحد بهذا الاتهام ، ولكن عددا من القادة والضباط يشربون الخمر جهرة فى شتى الجيوش العربية . . واليهودي يتعبد يوم السبت ، ويصوم الأيام المقررة عنده . وعندنا لفيف ضخم من الرجال لا يصلون الجمعة ولا يصومون رمضان ، بل إن الصلاة متروكة فى بعض الجيوش فى كل الأوقات . . فإذا طوينا هذه الصفحة من المخالفات لأمر الله ، فلنلفت النظر قبل طيها إلى أننا لا نبكى لمعاص فردية تقع من هذا أو ذاك ، أو أننا نرد نتائج ضخمة إلى سيئات محدودة . . كلا كلا . . إننا نميط اللثام عن حقيقة مخيفة ، وهى أن الدين أبعد إبعادا متعمدا عن ميادين الحرب والسلام جميعا . وإنه حظر على صوت الإسلام أن يخترق الآذان بالتوجيه الواجب بينما كانت اليهودية تعمل عملها فى جبهة القتال ووراء الجبهة . . فهل نلام إذا تصورنا أن إبعاد الإسلام عن هذه الميادين ليس إلا عملا لحساب(1/17)
إسرائيل ، أو لحساب القوى التى تساندها كليا أو جزئيا ؟ كل الدلائل تشير إلى صدق هذا الاتهام . . ص _023
والغريب أن العرب فى تفلتهم من قيود الدين وآدابه ظهرت عليهم أعراض طفولة عقلية ونفسية مزرية ، فلم يتصرفوا مع عدو أو صديق تصرف الرجولة الناضجة ، والسيرة الواثقة الجادة ، بل على العكس ، كانت خططهم الحربية هزيلة وكانت مع هزالها مفضوحة ، وكانت خطبهم ذات رنين عال ولهجة مفزعة . . فلما التقى الجمعان تكشف اللقاء عن مهزلة ، بل إننا هزمنا من غير قتال ، وانتحرنا دون أن نلحق بخصومنا ضرا يذكر . . والمرتقب من كل عاقل أن يدرس هزيمته ، ويحدد عللها حتى يتجنبها مستقبلا . . فهل فعلت الدول العربية ذلك ؟ وهل رسمت سياستها التربوية والدعائية والعسكرية على ضوء ما مسها من كروب ؟ لم يقع شيء من هذا.. وأذكر أننى كنت أتحدث مع مقاتل شهد معركة الصبحة فى الخمسينيات فقال لى: والله لقد قاتلنا بشدة وعزم . فقلت له: لكن اليهود استولوا على الموقع ! ! فقال: إننا والله كبدناهم خسائر جسيمة ، غير أننا ما كنا نحصد منهم صفا بمدافعنا حتى ينبت مكانه صف آخر وهو يرتل الأناشيد الدينية . . وهززت رأسي عجبا وأنا أسمع هذا الكلام ثم تساءلت بيني وبين نفسي: كم نشيدا دينيا يحفظه شبابنا ؟ كم آية قرآنية تغرى بالاستشهاد ، أو حكمة نبوية توحى بالثبات والتحمل يعيها ضباطنا وجنودنا ، ويرددونها فى ساعات الهول . . ؟ إذا كانت الحاجة أم الاختراع فالإيمان أبو الاختراع وأمه . . إن المؤمن يؤرقه طلب النصر ويفتق له وجوه الحيل ويبصره بأنواع الخدع ، ويبعثه على التنقيب فى فجاج الأرض وآفاق السماء ، راصدا العدو ، مستعدا لمواجهته . . أفذلك ما فعله العرب ؟ لا ، لأن بناءهم النفسى والاجتماعى لم ينهض على قواعد الإسلام . . ثم اعترتهم الطفولة الفكرية والخلقية التى ذكرناها ، فإذا هم ينكرون هزائمهم الثلاث خلال عشرين سنة ، ويزعمون أنها ، أو بعضها كان انتصارا . .(1/18)
وقد قرأت مقالات شتى تريد لتقنعنا بأن الهزيمة ليست فقدان الأرض ، وضياع المعدات ، وخسارة الرجال ! ! لا إن الهزيمة عند هؤلاء شيء آخر لا تعرفه قواميس اللغة ولا مفاهيم الناس ، وهكذا . . ص _024
يقضى على المرء فى أيام محنته حتى يرى حسنا ما ليس بالحسن وأحقر ما سمعته فى أعقاب هذه الهزائم تعليل الهزيمة بأي شيء إلا ضعف العقيدة والخلق ، وما ينشأ عن ضعف العقيدة والخلق ، من فوضى فى وضع الخطط ، وترتيب الرجال ، ونسيان الله ، والحرمان من توفيقه وتأييده . . وضربت كفا على كف وأنا أسمع الرفيق نور الدين الأتاسى يقول: إن سبب الهزيمة هو عدم التطبيق الكامل للاشتراكية ! ويوم يقع قياد العرب فى أيدى ساسة من هذا الطراز فهيهات أن ينجح لهم قصد ، أو تعلو لهم راية ، ولله فى خلقه شئون . وأعرف أن هناك من يعترض على تفكيري هذا ويستنكره ، إنه الصنف المسكين الذى تخرج وفق البرامج الدراسية التى خلفها الاستعمار فى بلادنا . قال لى أحد هؤلاء: تريد حربا دينية ؟ إن هذا اللون من الحروب انتهى مع العصور الوسطى ، سيروا مع الزمن واطلبوا حربا تحريرية معقولة . . ! وقلت لمحدثي: إننى لا أطلب حربا دينية ، إنه قد فرضت على حرب دينية أتسمع أن الدولة التى تسمت باسم نبي قديم وألغت كل القوميات الحديثة ، وصهرت يهود اليمن مع يهود نيويورك فى أخوة دينية شاملة ، وألهبت المشاعر الدينية عند النصارى المؤمنين بالعهد القديم ، وحركت ذكرياتهم الصليبية الدفينة ليهجموا على المسلمين معها ، هذه الدولة تعلن علينا أى نوع من الحروب أيها الإنسان الذكي ؟ حرب أكل وشرب؟ حرب رياضة وتسلية؟ حرب مجد شخصي لملك مغرور؟ إنها حرب دينية فرضت علينا ! وما بد أن نواجهها راضين أو كارهين ! وإقصاء الدين- وهو فى جبهتنا الإسلام- معناه هلاك الأبد . . فقال لى: لكن الحرب الدينية عنوان مثير ، وهو يجر علينا متاعب لا نستطيعها ! ! فقلت له: إن الحرب الدينية عنوان كريه بالمفهوم(1/19)
الذى تعارف عليه الغربيون ، لأن هذه الحرب فى تفكيرهم وفى تاريخهم كانت تشن لفتنة ناس عن معتقداتهم بقوة السلاح ، أو لتغليب مذهب على آخر وإدخال الناس فيه كرها . . ص _025
وهذا المفهوم السيئ للحروب الدينية لا نعرفه فى ماضينا ولا فى حاضرنا ، ومع هذا كله فلماذا يوصف دفاعنا عن ديننا وأرضنا وتاريخنا ومقدساتنا بأنه حرب دينية رجعية ؟؟ ولماذا سكتت أبواق الدعايتين الغربية والشرقية عن هجوم إسرائيل علينا، ووجهها الديني ليس موضع جدال . . هل يباح لليهودية أن تعلن حربا علينا دينية ، ولا يباح للإسلام ذلك ؟ وهو يدافع وهى تهجم ؟ . . أم إن القضاء على الإسلام هدف مشروع ؟ وصياح أهله وهم يدفعون عنه عمل مستهجن ؟؟ لقد أفلح الاستعمار فى خلق جيل يستحي من الانتماء لدينه ، ويرفض العمل تحت لوائه ، وهذا الجيل الذى صنعه الغزو الثقافي هو الطابور الأول لا الطابور الخامس الذى ألحق بنا الهزائم ، ونكس رؤوسنا فى كل ميدان . . ومن هنا يبدأ العمل الحقيقي للدعاة المسلمين ، من هذا الخط تبدأ الجهود المضنية لإنقاذ أمة تمكن أعداؤها من أن يوجهوها ضد نفسها ورسالتها . . من هذا الخط ينبغى أن تبدأ حركة إحياء مستوعبة مستغرقة تصل حاضرنا بماضينا ، وتعرفنا من نحن ؟ . وما وظيفتنا فى الدنيا ؟. وماذا يراد بنا ؟. وماذا يراد منا ؟. إن العمل بالإسلام ليس كفالة لآخرتنا فقط بل هو ضمانة حياتنا الآن . . وإنها لحماقة كبرى أن نجهل رسالتنا التى اصطفانا الله لأدائها فنفقد مكانتينا الأدبية والمادية ، ونخسر الأولى والآخرة جميعا . . * * * ماذا يعنى قيام إسرائيل على أنقاضنا ؟ يقول المؤرخ الإنجليزي " ويلز " إن اليهود اتخذوا الرب كنزا وادخروه لجنسهم ! ! واليهود الذين فعلوا ذلك من عشرات القرون لم يتغير فسادهم النفسى ولا غرورهم الجنسي ، ولقد كذبوا عيسى ومحمدا- وما زالوا يكذبونهما- لأنهما حاولا إصلاح هذا الفساد وقمع ذلك الغرور . . ص _026(1/20)
واستئناف اليهود أداء رسالتهم الأولى يعنى توطيد أركان الربا ، والخنا ، والتفرقة العنصرية ، واستغلال الشعوب ، كما يعنى تقطيع حبال الإنسانية مع الله ، ونسيان اليوم الآخر ، وإهمال الجوانب الروحية . وذلك بداهة غير الإتيان على الرسالة الإسلامية من القواعد ، وتمزيق للشعب العربى كل ممزق . . ونحن شئنا أم أبينا ، سندخل مع اليهود فى حرب بقاء أو فناء ، فإما انتصرنا عليهم وإما أتم أبناؤنا ما عجزنا عنه . فإن نجح أبناؤنا فبها ونعمت ، وإلا فعلى الأحفاد استئناف النضال إلى آخر الدهر . . ومع استعار هذه الحرب إلى ما شاء الله نريد أن نقول للمسلمين كلاما طويلا يدركون منه حقيقة رسالتهم وسر نكبتهم . وهو كلام يعيدهم إلى الصراط المستقيم ، ويقربهم من يوم النصر ، ويشرح لهم سنن الله التى تنطبق عليهم وعلى غيرهم . فإنه من المستحيل أن يرعانا الله إذا استبطنا نحن المسلمين خلائق اليهود الأقدمين مسخهم الله بمعاصيهم قردة وخنازير . يستحيل أن يفعل الله هذا ، والذى سيقع أن يلتقي اليهود بأشباههم ثم تعمل القوانين الطبيعية عملها فينتصر الأذكى على الأغبى والأدهى على الأجهل وذاك ما كان ! ! * * * ظننت لأول وهلة أن حديث القرآن الكريم عن بنى إسرائيل إنما كثر واستفاض بعد الهجرة النبوية أى بعد أن جمع اليهود والمسلمين وطن مشترك وجوار قريب . ثم تبينت خطئي بعد أن تدبرت الوحي النازل فى مكة ، فقد ظهر لى أنه تكرر ذكر بنى إسرائيل فى القرآن المكي تكرارا يشمل أغلب السور . . ولا عجب فقد ذكر اسم موسى فى القرآن نحو مائة وعشرين مرة ، فما ذكر اسم نبي ولا ملك بهذه الكثرة ولا تحدث الوحي عن أمة من الأمم الأولى كما تحدث عن اليهود . ص _027(1/21)
لقد جاء ذكرهم فى الأنعام والأعراف والإسراء وطه ويونس وهود وجميع الحواميم والطواسين وسور أخرى كثيرة . والسور التى أحصيناها هنا مكية كلها ، وقوله تعالى: ((إن هذا القرآن يقص على بني إسرائيل أكثر الذي هم فيه يختلفون)) آية من سورة النمل المكية.. وعجيب واليهود فى مكة نفر لا يؤبه لهم ، أن يعنى القرآن بقصصهم كل هذه العناية . ! ولقد ساءلت نفسى: ما السبب فى هذا السرد المفصل لتاريخ بنى إسرائيل فى مكة قبل المدينة ؟ أهو تعريف المسلمين بحقيقة القوم الذين سيخالطونهم فيما بعد ؟ إن هذه إجابة غير مقنعة . . وبعد تأمل غير قليل وجدت أن هذا التاريخ يحوى فى طياته العناصر الحقيقية لقيام الأمم ، واستقلالها بأمورها ، وازدهار حضارتها ، كما يحوى العناصر الحقيقية لانهيار الأمم ، وذهاب ريحها ، واضمحلال أمرها . . والقصص القرآني من أبرز الوسائل لتربية الأفراد والجماعات ، وقد كان المسلمون المستضعفون فى مكة بحاجة إلى أن يعرفوا كيف تحول اليهود الأوائل من ذل هائل ، إلى تحرر وتمكين ، وما هى الفضائل التى لابد من استجماعها كي تبلغ الأمم هذه الغاية الكريمة . وقد تولت السور المكية هذا الشرح ، ورأت القلة المستضعفة كيف تحول شعب تذبح صبيته ، وتستحيا نسوته ، إلى شعب مكين فى الأرض سيد على ظهرها ! . وقد سئل ابن القيم: أيمكن للرجل أولا ثم يبتلى ، أم يبتلى أولا ثم يمكن له ؟ فقال: يبتلى أولا ثم يمكن له . وتلا قوله تعالى: ((وجعلنا منهم أئمة يهدون بأمرنا لما صبروا وكانوا بآياتنا يوقنون)) . والآية من سورة السجدة المكية ، وهى تنبه إلى أن الصبر واليقين أساسا الكفاح الطويل الذى يصل بالأمم المناضلة إلى هدفها . . وقد أكد القرآن هذه الحقيقة الاجتماعية فى سورة الأعراف ((وأورثنا القوم الذين كانوا يستضعفون مشارق الأرض ومغاربها التي باركنا فيها وتمت كلمة ربك الحسنى …)) . ص _028(1/22)
((…عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَا صَبَرُوا وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُوا يَعْرِشُونَ)) . وهكذا تفاوتت مصائر أقوام كانت بداية أمرهم متفاوتة أبعد التفاوت فالفراعنة يصدرون الأوامر بالقتل والسبي ، وحملة التوحيد يمضون فى الطريق المضرجة بالدماء والأحزان . . فأما الأولون فقد جنوا عاقبة جبروتهم صغارا وانهيارا: ((وجعلناهم أئمة يدعون إلى النار ويوم القيامة لا ينصرون ، وأتبعناهم في هذه الدنيا لعنة ويوم القيامة هم من المقبوحين)) . أما الآخرون المعتصمون بحبل الله المستمسكون بعروة الإيمان والتقوى ، فقد ظفروا وعمروا: ((وجعلناهم أئمة يهدون بأمرنا و أوحينا إليهم فعل الخيرات و إقام الصلاة و إيتاء الزكاة و كانوا لنا عابدين)) . إلا أن البشر كثيرا ما ينجحون فى امتحانات البأساء والضراء حتى إذا وسع الله عليهم وغمرتهم نعماؤه ، لم يحسنوا اجتياز الاختبار الجديد . وما أكثر الذين حولتهم السلطة إلى جبابرة متسلطين ، وحولتهم الثروة إلى طغاة مستكبرين . . وكان من المنتظر من بنى إسرائيل أن يستغلوا تمكين الله لهم فى نصرة دينه وإسعاد عباده ، إلا أنهم سرعان ما فتكت بهم جراثيم السطوة والثروة فلم يفلتوا من الجزاء المعد لأمثالهم: ((سل بني إسرائيل كم آتيناهم من آية بينة ومن يبدل نعمة الله من بعد ما جاءته فإن الله شديد العقاب)) . وقد بين الله للمسلمين مراحل هذا التبديل لنعمة الله ، وأوضح مظاهره فى أخلاق القوم ومسالكهم ، وما فعل جل شأنه ذلك إلا ليتجنب المسلمون المزالق التى هوت بغيرهم ، فإن الأمم لا تنكب جزافا ، ولا تساق إليها المصائب خبط عشواء ، ولكنها قوانين الله التى يخضع لها الأولون والآخرون ولا تقبل فيها شفاعة ، ولا يقف حكمها استثناء . إن الله نحى أبناء إسرائيل عن المنصب الذى لم يقدروه قدره ، واستقدم العرب ليقودوا الإنسانية حيث عجز أبناء عمومتهم . . والغريب أن التوجيه الذي(1/23)
قيل لهؤلاء قيل لأولئك على تباعد الزمان بين الفريقين . ص _029
ففى لذعة من لذعات الألم صرخ بنو إسرائيل بنبيهم موسى قائلين: ((…أوذينا من قبل أن تأتينا ومن بعد ما جئتنا قال عسى ربكم أن يهلك عدوكم ويستخلفكم في الأرض فينظر كيف تعملون)) . ترى أإذا تحررتم وسدتم تحسنون وتعدلون ؟ أم ترتكبون الآثام وتستحلون المحارم ؟ وبعد أعصار طوال جيء بالأمة الإسلامية بعد إقصاء بنى إسرائيل الذين أساءوا وظلموا ، فماذا قال الله للأمة الجديدة ؟ قال: ((ولقد أهلكنا القرون من قبلكم لما ظلموا وجاءتهم رسلهم بالبينات وما كانوا ليؤمنوا كذلك نجزي القوم المجرمين ، ثم جعلناكم خلائف في الأرض من بعدهم لننظر كيف تعملون)) . ذات القول الذى قيل لبنى إسرائيل . . من قرون سحيقة . . ! فلنقارن بين تاريخ وتاريخ ، وعوج وعوج، لنعرف ما لنا وما علينا . وهل وفينا أم غدرنا ، وهل ما أصابنا كان جور الليالي علينا؟ أم هو صنع أيدينا وحصاد ما غرسنا ؟ إذا كلف الله أمة برسالة ، فيجب أن تكون حالها الظاهرة والباطنة ، ومعاملاتها الداخلية والخارجية صورة دقيقة لهذه الرسالة ، صورة تحبب الآخرين فيها ، وتغريهم باعتناقها . أما أن ينفر الدعاة غيرهم من قبول الدعوة ، فهذه هى الخيانة الكبرى . . ! وحملة الدعوة المخلصون يخشون أن يقع لهم أو يقع منهم ما يكون حجابا للآخرين أو عائقا عن تصديق دعوتهم . . وبهذا فسر العلماء قول المؤمنين: ((… ربنا عليك توكلنا وإليك أنبنا وإليك المصير ، ربنا لا تجعلنا فتنة للذين كفروا …)). وكيف يكون المؤمنون فتنة للذين كفروا ؟ قال المفسرون: تصيبهم هزائم بسبب تقصيرهم فينظر الكفار إلى هذه الهزائم ويقولون: لو كانوا على حق ما مستهم تلك المصائب . . ص _030(1/24)
إن الدعاة الصادقين يخشون أشد الخشية أن يكونوا عبئا على رسالتهم أو سببا للتحول عنها.. ولعل هذا سر قول النبي صلى الله عليه وسلم " من آذى ذميا كنت خصمه ". لماذا ؟ لأن إيذاء الذمي ليس ظلما عاديا لواحد من الناس ، كلا ، إن الذمي المظلوم سوف يعتقد أن مصدر متاعبه هو دين المؤذى لا شخصه . وبذلك يكره الدين وصاحبه وينصرف عن الدخول فيه ، فتكون مساءة فردية سببا فى كفر أفراد وجماعات . وبنو إسرائيل عاملوا الأمم الأخرى بأسلوب حافل بالدناءة والشره ، وتواضعوا على أكل أموالهم ، واستباحة حقوقهم ، وافتروا على الله تعاليم يزعمون فيها أنه ليس عليهم من حرج فى هذا اللون من السلب والاختطاف . ((… ذلك بأنهم قالوا ليس علينا في الأميين سبيل ويقولون على الله الكذب وهم يعلمون ، بلى من أوفى بعهده واتقى فإن الله يحب المتقين)) . ولن تنكب أمة رسالتها بأسوأ من صرف الناس عنها بهذه الطريقة الخسيسة. ومن المؤسف أن المسلمين أثاروا فى أفق الدعوة الإسلامية ضبابا لا آخر له. بقولهم وعملهم على سواء . فتخلفهم العلمى مزعج ، وهبوطهم الخلقي شديد ، وهذا وذاك صدود عن سبيل الله وفتنة كبرى . . ! ! وربما كان المسلمون فى معاملاتهم للأجانب عن دينهم وبلادهم أدنى إلى الشرف والكرم ، بل ربما كانوا هم المغبونين المرجوحين . . بيد أن المسلمين بيقين لا يعطون صورة صحيحة ولا مقاربة للإسلام . والشعوب المتطلعة إلى التفوق العلمى ، والكرامة السياسية ، والرفاهية الاجتماعية ، والإنتاج الواسع ، وغير ذلك من مظاهر الارتقاءين الأدبى والمادي ، فى قنوط تام من أن يكون المسلمون نماذج لهذا أو لشيء منه..! وهذه الشعوب المتطلعة ترد الأمية الشاملة بين جماهير المسلمين ، إلى الدين الذين توارثوه لا غير . . ! ص _031(1/25)
فإذا كانت تعاليم الإسلام فى الأوج وكانت حال المسلمين فى الحضيض فإن هذا التناقض سيظل أبدا مثار ارتداد عن الإسلام ، أو اتهام له . . ! فهل تحسب أن الله يكرم أمة من الأمم بدين عظيم فتأبى هى الكرامة ، ثم تعكس هوانها على دينها وبعد ذلك تفلت من العقاب الأعلى . . ؟ كلا.. ومن هنا تتابعت السياط الكاوية على الأمة المفرطة ، وتناولتها اللطمات من كل جانب . . وبلغ من إيجاع القدر للمفرطين أن اليهود كانوا هم الأداة التى ضربوا بها ! كأن المسلمين لم يضربوا بعصا ، حين أخطئوا ، لقد ضربوا هذه المرة بإخوان القردة ونعال الأرض . . ! وما من منكر ارتكبه أبناء إسرائيل قديما واستحقوا به غضب الله إلا فعل المسلمون فى العصور الأخيرة مثله . . ! وكتابنا شاهد علينا ، فلننظر: ما الذى نسب إلى هؤلاء ولنقارن بين ما وقع منا ، وما نسب إليهم . . أخذت المواثيق على بنى إسرائيل ألا يسفكوا الدماء ، وألا يروعوا الآمنين ، وألا يشردوا رجلا من بيته ، ويخرجوه من أهله . ففعلوا ذلك كله ، وفعلنا نحن مثله . . تأمل قوله تعالى: ((وإذ أخذنا ميثاقكم لا تسفكون دماءكم ولا تخرجون أنفسكم من دياركم ثم أقررتم وأنتم تشهدون ، ثم أنتم هؤلاء تقتلون أنفسكم وتخرجون فريقا منكم من ديارهم تظاهرون عليهم بالإثم والعدوان …)). وهذا الميثاق يتضمن- بلغة عصرنا- ضمانات لحقن الدماء ، وحفظ الحريات، وإشاعة الطمأنينة . والواقع أن القيمة العليا ، أو الميزة العظمى للمجتمع المتدين أن يكون الإيمان مصدر أمان لكل فرد فيه ، وأن يكون الإسلام مبعث سلامة وعافية ورضا . . أما أن يحيا الضعيف قلقا على حرماته ، وأن يمشى فى البلاد خائفا يترقب ، أما أن ينتفخ القوى ويبسط يده بالأذى دون رادع ، أما أن يستطيع ملاك السلطة اختطاف الناس من بيوتهم أو بتعبير القرآن الكريم إخراجهم من ديارهم فهذا وضع لا يستقر معه إيمان . . ص _032(1/26)
ومن جوامع الكلم للنبي صلى الله عليه وسلم "الإيمان قيد الفتك ، لا يفتك مؤمن" أى أن الإيمان يغل اليد عن العدوان ويحجز عن الأذى . وقد أخذ الله على بنى إسرائيل- قديما- أنه لما قامت لهم دولة ، وملك بعضهم السلطة ، هانت عليه أخوة الدين ، فبغى ، وأفسد ، وقاتل ، وأسر . . وقد نظرت إلى تاريخ المسلمين وخصوصا هذه الأعصار ، فوجدته نسخة أخرى من خلال اليهود الذين قبح الشارع صنعهم ، وأوهى بها بناءهم .. حتى لقد خيل إلى أن الشعوب العربية من الخليج إلى المحيط ، دون غيرها من شعوب الأرض ، استمتاعا بالحقوق الطبيعية للإنسان . . ولقد رأيت بعض المعارضين يفرون من وجوه الحكام إلى أوروبا ، فإذا وراءهم من يقتلهم حيث لجئوا . . ! فماذا يقول الأوروبيون الذين لا يدينون ديننا ، فى مثل هذه التصرفات ؟ وكيف يكون رأيهم فى الإسلام وأهله . . ؟ أذكر أنى منذ ربع قرن كتبت خاطرة بعنوان " حرب الحزازات وحرب العصابات " قارنت فيها بين ضحايانا من القتلى فى الخصومات العائلية وبين ضحايا الشعوب التى تقاتل من أجل حرياتها ، فوجدت ضحايانا أكثر فى هذا الشقاق العائلي أو هذا النزاع الداخلى بين المسلمين ! ! كأن فينا قوله تعالى: ((… تحسبهم جميعا وقلوبهم شتى …)) . والأمة التى يغرى بعضها على بعض ، تحرم عناية الله وبركته فى الأولى والآخرة . وقد عرفنا كيف كرم الله بنى آدم ، وكيف نظر رسول الله إلى الكعبة ثم قال: "ما أطيبك وأطيب رائحتك وما أعظمك وأعظم حرمتك، والمؤمن أعظم حرمة عند الله منك، حرمة دمه وعرضه وماله ". إن هذه مقدسات، ومع ذلك فإن الجور استباحها. ولما كان الإسلام كلا لا يتجزأ، فإن الله عد استباحة بعض محارمه إضاعة لها كلها، كما عد الكفر ببعض أنبيائه كفرا بهم جميعا ((… أفتؤمنون ببعض الكتاب …)) ص _033(1/27)
. . . وتكفرون ببعض فما جزاء من يفعل ذلك منكم إلا خزي في الحياة الدنيا ويوم القيامة يردون إلى أشد العذاب وما الله بغافل عما تعملون * أولئك الذين اشتروا الحياة الدنيا بالآخرة فلا يخفف عنهم العذاب ولا هم ينصرون)) . والتلويح بعدم النصر إشارة إلى أن وسائل القسوة والبطش لا تكسب ذويها عزة فى الدنيا كما لا تكسبهم كرامة فى الدار الآخرة . ومن خيانة الأمة لرسالتها أن تبرد عاطفتها تجاه حقوق الله ، وأن تجعل حبها وبغضها مرتبطين بمصالحها لا بمبادئها . ولو أنك رأيت امرأ ينظر إلى علم بلاده وهو يمزق مثلا ثم لا يبالي ، ما ترددت فى الحكم عليه بأنه خائن . كذلك عندما ترى تابعا لدين ما يستهين بشعائر دينه فما يعنيه حلالها ولا حرامها ، إنك ما تتردد فى اتهام عقيدته . ويوجد ناس ما يسوؤهم أبدا أن تعطل الصلاة ، ولا أن تذبح الأعراض. أهؤلاء بينهم وبين الله علاقة حسنة ؟ مستحيل . . فإذا رأيتهم يصادقون تاركي الفرائض ، وفاعلي المناكر ، فهل يحسبون مع ذلك فى عداد المؤمنين ؟ كلا . . عندما تحلل اليهود من دينهم على هذا النحو قال الله فيهم: ((ترى كثيرا منهم يتولون الذين كفروا لبئس ما قدمت لهم أنفسهم أن سخط الله عليهم وفي العذاب هم خالدون * ولو كانوا يؤمنون بالله والنبي وما أنزل إليه ما اتخذوهم أولياء ولكن كثيرا منهم فاسقون)) . وظاهر أن تقاليد الخير تذبل وتتلاشى مع ضعف الحماس لها ، وأن تقاليد الشر تنمو وترسو مع ضعف النكير عليها . من أجل ذلك كانت الخصائص الأولى للأمة التى تحمل رسالة الإسلام: الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر . وكانت الشروط الأولى لانتصارها أن يكون هذا النصر طريقا لتكوين بيئة تزدهر يها العبادة ، ويسودها التراحم وتستحكم فيها الرقابة على السلوك العام ، وتظهر العلامات ص _034(1/28)
الحمراء والخضراء باستمرار فى طريق المبادئ والأخلاق ، فما كان معروفا سمح له بالمرور ، وإلا وقف فى مكانه وأغلقت فى وجهه كل الطرق . . ! ! ذلك معنى قوله جل جلاله فى سرد مؤهلات النصر ((الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة و آتوا الزكاة و أمروا بالمعروف و نهوا عن المنكر ولله عاقبة الأمور)) . فهل أرض الإسلام الآن على هذا المستوى الشريف الغيور اليقظ ؟ أم إن العلل الخلقية والاجتماعية استوطنت بلادنا ، وغفا الحراس عنها أو غطوا فى نوم عميق ؟ فى اليهود الذين وبخهم الوحي الإلهي ، وردد لعنهم على لسان المرسلين تقرأ قوله تعالى: ((وترى كثيرا منهم يسارعون في الإثم والعدوان وأكلهم السحت لبئس ما كانوا يعملون ، لولا ينهاهم الربانيون والأحبار عن قولهم الإثم وأكلهم السحت لبئس ما كانوا يصنعون)) . فهل هذا الوصف للمجتمع اليهودي اللعين وحده ؟ أم تراه صادقا على مجتمعات شتى فى العواصم الإسلامية الصاخبة بالعصيان ودواعيه ، الطافحة بجراءة الفساق ، وجبن العلماء ؟ أيحسب عاقل أن هذه أسباب النصر والتحرر ؟ إن فى بلادنا من يدافع عن حرية الإلحاد ، والسكر ، والزنا ، بلسان طلق ، فإذا حدث عن حرية الإيمان والعفاف واليقظة الفكرية والأدبية امتعض واشمأز فهل يجر الهزيمة والعار إلا مثل هؤلاء الدواب ؟ والله عز وجل ما أكرم أحدا قط لصورة اللحم والدم ، إنما أكرم من عباده من زكت شمائلهم ، وطهرت سرائرهم ، وصلحت علانيتهم ، وساروا فى أرضه دعاة له ، يمجدون اسمه ، وينفذون حكمه ، ويرفعون علمه . . من استجمع هذه الخلال فهو سيد ، وإن كان من الجنس الأبيض أو الأصفر أو الأسود ، فما للون أو للنسب وزن عند الله . وقد ذكرنا أن بنى إسرائيل كرموا ونعموا ، يوم حملوا رسالة التوحيد ، وتحملوا فى سبيلها العنت . . ثم زعموا بعد ذلك أن تكريمهم وتنعيمهم ليسا لهذه الأسباب ، إنما هما لأنه بينهم وبين الله صلة خاصة ، جعلت جنسهم ممتازا على الخلق كافة . .(1/29)
ص _035
بم هذا الامتياز ؟ لقد قال الله لهم ولمن زعم زعمهم ((…بل أنتم بشر ممن خلق …)) . والغريب أنه فى هذا العصر الأعجف فعل العرب مثل ما فعل اليهود الأقدمون، فقالوا: نحن عرب ، عظمتنا ليست من رسالة الإسلام التى درسناها وطبقناها، لقد كنا أمة عريقة قبل أن يجيء الإسلام ، ويمكن أن نكون أمة عريقة بعيدا عن تعاليم الإسلام..! ومن ثم قامت فى بلاد العرب نبضات تؤخر الدين وتقدم الجنس . وهذا كلام من أبطل الباطل ، فالعرب قبل الإسلام كانوا أمة نكرة ، وبغير الإسلام سيكونون ذيلا للبشرية . . ولا أعرف أقواما يستحقون أن تملأ أفواههم بالبعر كهؤلاء العروبيين السخفاء . . إن نبذ الوحي الإلهي والافتخار بمكانة مفتعلة عند الله أو عند الناس أمر عابه الله على بنى إسرائيل ، ويعيبه على العرب أبناء إسماعيل . وفى هؤلاء وأولئك يمكن أن يساق قوله وتعالى: ((ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب يدعون إلى كتاب الله ليحكم بينهم ثم يتولى فريق منهم وهم معرضون ، ذلك بأنهم قالوا لن تمسنا النار إلا أياما معدودات وغرهم في دينهم ما كانوا يفترون ، فكيف إذا جمعناهم ليوم لا ريب فيه ووفيت كل نفس ما كسبت وهم لا يظلمون)) . ومما يندى له جبين المسلم المخلص فى هذه الأيام السود أن اليهودي الأمريكى طرح جنسيته وجاء فلسطين باسم الدين . أما العرب فيقال لهم: انسوا الدين واعتصموا بجنسيتكم العربية وحدها . فماذا كانت النتيجة ؟ أضاعت القومية العربية فلسطين ، وظفر بها اليهود وأقاموا بها إسرائيل . . إن الكوارث العسكرية التى أصابتنا خلال هذه السنوات العشرين مزقت الملاءة المسدلة على جسم ممدد معتل تسرح الجراثيم القاتلة فى أوصاله طولا وعرضا. وأظنه ظهر لكل ذى عينين أن الأمة الرائعة ، الفارعة ، التى طوفت بالإسلام فى المشارق والمغارب ، قد استحالت أمة واهية الخلق ، معوجة السلوك ، ضعيفة الأخذ ص _036(1/30)
لربها ولنفسها ، يفكر شبابها فى الملذات العاجلة، ويتسابق نساؤها وراء الزينات الفاضحة ويذهل حكامها عن شرائع الله وحدوده المقررة، وتتقطع علاقاتهم الروحية والاجتماعية به فما يصطفون له فى الصلوات الجامعة والعبادة الخاشعة.. أفهذه مؤهلات النصر المرتقب، ومستنزلات التأييد الأعلى من المعز المذل؟؟ وزاد الطين بلة أن الأمة التى استرخت قبضتها على تعاليم السماء عجزت كذلك أن تمسك بأسباب النجاح الدنيوي المعتاد.. فظلال فشلها الديني امتدت إلى شئونها الاقتصادية والفنية والإدارية فأصبح العمل الإنسانى الميسور للآخرين يخرج من بين يديها كما يخرج السقط من بطن الأم لا تعرف له ملامح ، ولا يرجى له بقاء ! ! وقد رمقت ببصر دامع وقلب مكلوم معركة سيناء الأخيرة . كان قائد الأعداء واسع الخبرة والحيلة ، وصل إلى منصب القيادة بعد ما دمى بدنه ، وهو يصعد من السفح إلى القمة . . وكان كما ظهر من سيرته محدود الشهوة ، ممدود الفكرة ، خدوما لعقيدته ، معتزا بدينه وكتابه ، يقود جيشا على غراره إيمانا ونظاما . . أما نحن فقد اجتمعت فى قيادتنا نقائص كل الصفات التى توافرت لدى عدونا... فهل كان الحكيم الخبير يلغى سننه الكونية وقوانينه الأزلية الأبدية فيجعل الفوضى تهزم النظام ، والهوى يغلب العقيدة . . ؟ لقد انتهى العرب إلى النتيجة التى صنعوا هم مقدماتها ، دينا ودنيا . وسيبقون على خط الهزيمة ما بقيت تلك المقدمات موطدة لديهم . . ولقد كشفت هذه الهزائم- خلال السنوات العشرين، بل منذ وعد بلفور 1917 أن الأدوية التى وصفها الزعماء السياسيون للأمة المريضة ، لم تكن أدوية شافية بل كانت سموما كاوية ، ، فإن هؤلاء الزعماء تشابهت قلوبهم فى مخاصمة الدين ونبذ شرائعه وفضائله . . ثم اختلفوا . . فمنهم من أعلن كفره بالإسلام عقيدة وشريعة وعبادة وتقاليد وأخلاقا . ومنهم من طوى هذا الكفر فى صدره- من باب السياسة والكياسة وخداع الجماهير- ثم مضى فى طريقه(1/31)
يبعد الأمة عن دينها عمليا ، فلا يرى نورا للإسلام إلا أطفأه ولا نشاطا إلا عوقه . ص _037
وخلال هذه المدة المتطاولة من 1917 إلى الآن استطاع اليهود- باسم الدين- أن يحولوا وعدا خياليا إلى حقيقة واقعة . . أما نحن الذين أبعدنا الإسلام عن المعركة ، فقد ظللنا نتدحرج حتى بلغنا الوهدة التى سقطنا فيها. وها نحن أولاء نحاول جاهدين أن نخلص منها ، وأن نقف على أقدامنا مرة أخرى . . ومن العجز أن نولول! فى آثار نكبة لحقتنا ، إلا أنه من العقل أن نحول دون تكرار هذه النكبات.. ومن العقل أن ننصح المخطئين، وأن نصدهم عن المضى فى طريق الخطأ القديم. وإذا كانوا لا يحسنون إلا السير فى هذا الطريق فليذهبوا إلى حيث ألقت ويتركوا الأمة الإسلامية تعود إلى دينها ، وتعالج قضاياها بمنطق العقيدة والجهاد . . ألا فليعلموا أنه عرض على اليهود وطن قومي لهم فى أوغندة ، وفى مهاجر أخرى ، فأبوا إلا فلسطين ! لماذا ؟. قالوا: هناك نداء الإيمان والذكريات والتاريخ الأول . . وانقاد الاستعمار لهم ، ومنحهم أرضنا . . فلنتدبر هذا المنطق اليهودي ، ولنقس به مقررات أحد المؤتمرات العربية التى انعقدت من بضع سنين ورأت أن قضية فلسطين ، قضية عربية بحتة وقالت للمسلمين فى كل مكان : لا شأن لكم بها . . ! ! أى لغو هذا وأي إفك ؟؟ إن قضية فلسطين طوال أدوار التاريخ قضية دينية والغزاة الجدد هجموا- كما زعموا- ملبين نداء الدين . فلحساب من توصف قضية فلسطين بأنها عربية من شأن العرب ؟ إن الذين فعلوا ذلك لم يحرفوا مفهوم القضية فقط ، ولم يحرموها تأييد جماهير المسلمين فقط ، بل فعلوا ذلك ليمسخوا معناها الحقيقي عند العرب أنفسهم ولينفسوا عن حقد ضد الإسلام تعلموه من زبانية الغزو الثقافي المسيطر على تيارات الفكر فى بلادنا . . إن عاطفة التدين تشد زناد النشاط الإنسانى بقوة ، وتبلغ به أبعد الآماد . وعندما يفقد المسلمون هذه العاطفة بتأثير الاستعمار الثقافي ، فمعنى(1/32)
ذلك أن ص _038
أمريكا أمدت اليهود لا بخمسين طائرة حديثة ، بل بخمسمائة طائرة ، لا بل بعدد لا يحصى من المقاتلات التى تدك حصون العرب ، وترغم جيوشهم على الفرار. إن فقدان العرب لعاطفة التدين وهم يقاتلون إسرائيل يساوى حصول إسرائيل على القنبلة الذرية ! ! على أننا لا نطلب العودة إلى الإسلام لتكون هذه العودة إنقاذا لسمعتي العرب السياسية والعسكرية ، واستردادا لخسائر لم ينقطع إلى اليوم سيلها . لا ، إن هذه النتيجة المحققة سوف تجيء من تلقاء نفسها . ولكننا نطلب العودة إلى الإسلام لأن الإسلام حياتنا ورسالتنا ومعاشنا ومعادنا ، واختيار الله لنا ، وتشريفه لماضينا ومستقبلنا . . ! فكيف نرتد على أعقابنا وننسى الرسالة العظمى التى آثر الله بها جنسنا ولغتنا ، ورفع بها قدرنا وتاريخنا ؟ ثم ماذا أفدنا من جحد الإسلام . . ؟ الهزائم التى تسود بها الوجوه ، والتى جعلت البغاث يستنسر بأرضنا والتى حقرتنا عند أنفسنا وعند الناس ؟ إلا أنه لا يعترض العودة إلى الإسلام إلا أحد رجلين: مرتد يكره هذا الدين ، ويميل بهواه مع أعدائه الكثيرين فى الشرق والغرب . أو جاهل يظن التمسك بالإسلام رجعية توصم بالتعصب ، ويرى فى القومية المجردة طريقا لبناء الدولة الحديثة بعيدا عن الطائفية وشتى التهم . فها نحن أولاء ، ندور فى عاصفة تريد اقتلاع جذورنا ، ومحو أوطاننا فماذا كسبنا من هذه القومية الكافرة ؟ لا عاصم اليوم من أمر الله إلا من رحم.. لا نجاة للعرب إلا إذا ألقوا أنفسهم فى أحضان الإسلام . ونعود إلى ما يزعمه اليهود من أن لهم حقا تاريخيا فى هذه المناطق . . من هو إسرائيل الذى يتمسحون باسمه ؟ لقد كان رجلا صالحا يحيا مع أولاده فى بادية الشام ، كان رب أسرة كبيرة من هذه الأسر التى تنتظر رزق الله فى أرضه الواسعة . . . ص _039(1/33)
لم يكن صاحب إقطاعات ضخمة ، ولا سلطة معروفة ، وما يزيد عن غيره من البدو إلا بدعوة التوحيد التى حرص عليها . . وكان أولاده حاشا يوسف الصديق أصحاب خلق رديء ، وغيرة ذميمة ، وعندما أجدبت البادية وتعرض سكانها للمجاعة استضاف يوسف أباه وأخوته ليجدوا فى مصر كهفا يأوون إليه ويطعمون من خيره . . وشكرا لهذه النعمة ، وتنويها بحقها ، وتوديعا للماضي المؤسف جاء على لسان يوسف لأبويه وإخوته ((…ادخلوا مصر إن شاء الله آمنين)) وقوله كذلك ((…وقد أحسن بي إذ أخرجني من السجن وجاء بكم من البدو من بعد أن نزغ الشيطان بيني وبين إخوتي …)) . فهل إذا استضافت مصر أسرة محرجة كان ذلك صك عبودية لمصر؟ أى ضيافة فى الدنيا تتبعها هذه المزاعم ؟ ما كان إسرائيل صاحب حقوق فى بادية الشام ، ولا كان صاحب حقوق فى وادي النيل . . ثم نمت العائلة الضيفة ووقعت بينها وبين المصريين جفوة لم تتبين أسبابها بجلاء ، هل ترجع إلى أن أفرادها كرهوا الاندماج فى الشعب المصرى ؟ أو ترجع إلى أن أفرادها لم يشتركوا فى مقاومة الغزاة الذين هاجموا مصر ؟ أم كلا الأمرين ؟ . إلا أن هذه الجفوة حولها فرعون إلى حرب إبادة لا عدل فيها ولا رحمة . . وقضت حكمة الله ألا يتجاور الشعبان فى أرض واحدة فبعث موسى بطلب معقول. هو السماح لبنى إسرائيل بمغادرة البلاد فناشد موسى فرعون أن يقبل ذلك ((…فأرسل معنا بني إسرائيل و لا تعذبهم قد جئناك بآية من ربك والسلام على من اتبع الهدى)) . إلا أن جنون العظمة استبد بفرعون ، وأبى الأحمق إلا أن يدخل فى عناد مع القدر ، انتهى آخر الأمر بمصرعه . ونجا بنو إسرائيل من العذاب المهين وأراد موسى أن يدخل بهم فلسطين ليجدوا فيها الأمن الذى ينشدون ، وكانت فلسطين عصرئذ مسكونة بنفر من الجبابرة العتاة ، ص _040(1/34)
وما كاد نبؤهم يقرع مسامع بنى إسرائيل حتى ضجوا من الفزع ، وأبوا إباء تاما أن يجيبوا موسى إلى طلبه . . ومنذ ترك موسى وقومه مصر أخذت المخازى النفسية لليهود تتكشف ويظهر أن هذه المخازى كانت مطوية تحت ثياب الذل والمسكنة ، فلما شعروا بالتحرر أخذوا يجمحون يمنة ويسرة دون ضابط . . وكان موسى أول من تعرض لأذى قومه ، وسوء عشرتهم ، واستجابتهم وتقديرهم ((وإذ قال موسى لقومه يا قوم لم تؤذونني وقد تعلمون أني رسول الله إليكم فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم والله لا يهدي القوم الفاسقين)) . وقضت حكمة الله أن يؤدب بنى إسرائيل فأتاههم فى صحراء سيناء أربعين سنة مات خلالها هذا النبي الكريم وهو ضائق بقومه وهلكت فى التيه الأجيال التى لا تصلح للحياة والجهاد ، ونبت جيل آخر كتب الله له أن يدخل فلسطين . نعم دخلها لينفذ فيها سنة كونية لم يمض كبير وقت بعدها حتى تطبق عليه نفسه هذه السنة الصارمة ، فتنفذ فيه كما نفذت فيمن سبقه . . إن الجبابرة السابقين احتلت أراضيهم وغلبوا على أمرهم ، ثم جاء بنو إسرائيل من بعدهم ليقيموا حكما دينيا صالحا يوفر لهم ولغيرهم الأمان والإيمان. وكانت التوراة بين أصحابها دينا ودولة وكان لهم فيها هدى ونور. فهل أقام بنو إسرائيل ذلك المجتمع المنشود ، وأخلصوا لله فيه ؟ . . إنهم سرعان ما فسقوا عن أمر الله واستشرت فيهم العلل التى أومأنا إليها آنفا. فإذا بختنصر وقومه يهجمون على المتدينين الكذبة ، ويدمرون هيكلهم ، ويسوقون الألوف المؤلفة من شبابهم أسرى إلى " بابل " وانهارت إسرائيل ولما يمض على تكوينها زمن يذكر . . ومنح الله بنى إسرائيل فرصة ثانية ، فتحرروا من الأسر البابلي واستردوا قواهم الضائعة ، وأقاموا الهيكل ، واستأنفوا تاريخهم ، بيد أن العلل الكامنة فى دمائهم لم تفارقهم ، وتفاقمت شرورهم بالعدوان على رسل الله واستباحة دمائهم.. وقد أنهى الرومان الحكم الإسرائيلي الثانى ، واحتلوا فلسطين كلها . .(1/35)
ص _041
فكم تظن مدة الحكمين اليهوديين لفلسطين ؟ قرابة مائة وثلاثين سنة ! ! ولم يكن هذا الانهيار السياسى ختام الوجود الديني لليهود ، بل كان ختام وجودهم الديني كما ذكرنا تكذيبهم لرسالة عيسى بن مريم فإن الله عز وجل نقل النبوة بعدها إلى العرب . وبذلك انتهى دور بنى إسرائيل فى توجيه الضمير البشرى . هل حكم بنى إسرائيل لبقعة ما فى الشرق الأوسط قرنا أو قرنين يعطيهم فيها حقوقا أبدية ؟ اللهم لا . . ! ! إن عمر بن الخطاب لما تسلم القدس من بطريقها المسيحي اشترط عليه هذا البطريق الناصح ألا يدخل اليهود القدس ! ! وليتنا تذكرنا هذا الشرط ولكننا ننسى . وقد عرف المؤرخون أن تسامحنا الديني خلال تاريخنا الطويل تحول إلى غفلة دفعنا ثمنها فادحا . . على أن اليهود أنفسهم يجب أن يعلموا أن ما يدعون من حق فى فلسطين لا يقوم على سند ديني محترم ، فهم لم يغيروا شيئا من خلائقهم التى أحلت بهم سخط الله فى الدنيا والآخرة . . هم يعلمون أن لعنة الله تبعتهم وهم يفرون من بلد إلى بلد ، فماذا صنعوا للخلاص منها ؟ لا شيء ، إنهم وراء جميع الأزمات الروحية والمادية التى تدوخ الجنس البشرى ، وتميل به عن الصراط المستقيم . . والذين يختبئون وراء إسرائيل يعلمون أن الوجه الديني لربيبتهم يخفى وراءه نيات سوداء للبشرية جمعاء . والحق أن إسرائيل تجسيد لكل الأحقاد التى طفحت ضد العروبة والإسلام . وأن الأساس الوحيد لقيامها لا يلتمس فى المشارق والمغارب ، وإنما يلتمس فى منطقة الشرق الأوسط هذه ، أعنى قلب الأمة العربية . ص _042(1/36)
إن تفريط العرب فى الإسلام، ونسيانهم لرسالتهم العظمى، وتحولهم إلى شعوب متعطلة متبلدة هو الذى خلق هذه المأساة.. إننا لم نخف الله فخوفنا الله بذباب الأرض . وجعل الأقربين والأبعدين ينظرون بشماتة وازدراء إلى جراحاتنا التى لا ينقطع لها نزيف . إن عشرات الدول الكبرى والصغرى نظرت إلى اللص يسطو على البيت، فانضمت إليه ضد رب البيت الذى شرع يدافع بدهشة ولهفة عن مسكنه!! إنه يدافع منتظرا أى عون إنساني من أولئك المتفرجين على المعركة . وهيهات.. ولو تسللت إلى ضمائر هؤلاء المشاركين فى الهيئة الدولية لوجدتهم يقولون: هذا اللص أولى من الحيوان الذى يقطن الدار ! إنها داره ولكنه لا يستحقها . . ! تلك هى سريرة عدد كبير من الدول التى تسخر من ضعفنا ، وبالتالي تحكم علينا لا لنا . . والسبب ؟ السبب نحن لا غيرنا ، وذاك أرفق عقاب ينزله الله بأمة تخلت عن دينه ، وأدارت ظهرها لتعاليمه . . ! ! وسوف يبقى الوضع كذلك حتى نذكر أننا مسلمون. وأن الإسلام يفرض علينا تشكيل أوضاعنا الخلقية والفكرية والاجتماعية والتشريعية على نحو آخر . عندئذ تطلع الشمس وتختفي الأشباح .. ص _043(1/37)
يهودية وصهيونية سمعته يقول: اليهودية شيء والصهيونية شيء آخر . . ! اليهودية دين سماوي كالنصرانية والإسلام . أما الصهيونية فنزعة سياسية متطرفة استغلها الاستعمار الغربي لبلوغ مآربه. اليهودية دين قديم له مصادره المقدسة . أما الصهيونية فحركة حديثة ولدت فى نهاية القرن التاسع عشر للميلاد ، وغذتها ونمتها ظروف عنصرية ودولية طارئة . . قلت له: تعنى أن اليهودية لا أطماع لها فى فلسطين ، وأنها لم تبيت عدوانا على العرب الآمنين ، وأن التوراة والتلمود وسائر الأسفار المقدسة بريئة مما تفعله دولة إسرائيل ، وأن الحرب المعلنة علينا من خمسين سنة ليست دينية ! ! قال: نعم هذا بدقة ما أريد أن أذكره ! ! . . قلت: أوَلو قرأت عليك من نصوص الكتب المقدسة ما يدحض هذه الأوهام؟. قال: كيف ؟ يستحيل أن تتضمن هذه الكتب المقدسة استباحة أرضنا وجنسنا والاستهانة بحقوقنا المؤكدة؟ قلت: بل سأقرأ عليك من الكتب المقدسة المتداولة بين أيدى القوم ما يزيح هذه الغشاوة عن الأعين ، وما يشرح أن فلسطين كانت ملكا لبنى إسرائيل خاصا بهم ، وأنهم أجلوا عنها عقابا إلهيا للآثام التى ارتكبوها ، وأن الإله الذى عاقبهم تجاوز- بعد – عن سيئاتهم ، وقرر إعادتهم إلى أرضهم الأولى كي تفيض عليهم سمنا وعسلا وخمرا ، وأن هذا الإله ندم على ما فعل بشعبه المختار ، ورد إليه مجده ، ووطنه ، كي تتوطد سلطته و سيادته على أنقاض غيره من الأمم . . ! ! هكذا تقول صحائف التوراة والتلمود وإصحاحات العهد القديم التى يتعبد اليهود فى المشرق والمغرب بتلاوتها ، والتى يستوحون منها سياستهم فى القديم والحديث على سواء ! ! ص _044(1/38)
وعلى ضوء هذه السطور المقدسة بل على نارها المحرفة أكلت حقوق العرب، وتواصى الأوروبيون والأمريكيون باجتياحها . . ! ثم جاء اليهود فى الوقت المناسب ليتسلموا أرض المعاد التى حدثتهم كتبهم عنها، وباشروا حرب الإبادة التى لابد منها ليسود جنسهم ، وتقوم مملكتهم..!! وقد كانوا فى إقبالهم من شتى القارات إلى فلسطين معبئين بشعور ديني عارم تعمل من ورائه هذه النصوص، كما أنهم فى بنائهم دولة إسرائيل ومقاتلتهم العرب أصحاب الأرض، كانوا مفعمين بهذه العاطفة الدينية المرتكزة على كلمات التوراة والتلمود وإصحاحات العهد القديم ! ! قال الرجل: أين هى تلك النصوص التى تشير إليها ؟ قلت: أنصت وسأضع بين يديك ما يشرح رأينا نحن المسلمين فيها.. فإننا معشر المسلمين نؤمن بموسى وتوراته.. أما ما دوَّنه جامعو العهد القديم ونسبوه إلى الله فأمر آخر يتجاور فيه الحق والباطل والجد والهزل ! ! ربما كان قريبا من الصدق أن الله شتت بنى إسرائيل لما اقترفوه من ذنوب. وفى القرآن الكريم شرح دقيق لذلك جلونا طرفا منه فيما مضى.. ومن ثم فنحن نقبل إجمالا ما ورد فى صحف العهد القديم من أسباب النكال ببني إسرائيل والحكم بتمزيقهم فى أرجاء الأرض . . ولنقرأ معهم هذه الكلمات الواردة فى كتبهم . . " لأجل ذلك قال السيد الرب: من أجل أنكم ضججتم أكثر من الأمم التى حواليكم، ولم تسلكوا فى فرائضي ، ولم تعملوا حسب أحكامي ، ولا عملتم حسب أحكام الأمم التى حواليكم . لذلك- هكذا قال السيد الرب- ها إنى أيضا عليك ، وسأجرى فى وسطك أحكاما أمام عيون الأمم ، وأفعل بك ما لم أفعل ، وما لن أفعل مثله بعد بسبب كل أرجاسك ! . لأجل ذلك تأكل الآباء الأبناء فى وسطك ، والأبناء يأكلون آباءهم ، وأجرى فيك أحكاما وأذرى بقيتك كلها فى كل ريح " (7 – 10: الإصحاح الخامس ، حزقيال ) . ص _045(1/39)
" من أجل أنك صفقت بيديك ، وخبطت برجليك ، وفرحت بكل إهانتك للموت على أرض إسرائيل . فلذلك هأنذا أمد يدي عليك ، وأسلمك غنيمة للأمم ، واستأصلك من الشعوب ، وأبيدك من الأراضى ، أخربك فتعلم أنى أنا الرب " (6- 7 الإصحاح الخامس والعشرون حزقيال ) . " ويكون فى ذلك اليوم ، يقول الرب: إنى أقطع خيلك من وسطك، وأبيد مركباتك ، وأقطع مدن أرضك ، وأهدم كل حصونك ، وأقطع السحر من يدك ، ولا يكون لك عائفون . وأقطع تماثيلك المنحوتة ، وأنصابك من وسطك فلا تسجد لعمل يديك فيما بعد " (10- 13: الإصحاح الخامس ميخا ) . " إلى الجلاء إلى السبى يذهبون. والرئيس الذى فى وسطهم يحمل على الكتف فى العتمة ويخرج ، ينقبون فى الحائط ليخرجوا منه . يغطى وجهه لئلا ينظر الأرض بعينيه . وأبسط شبكتى عليه فيؤخذ فى شركي وآتى به إلى بابل إلى أرض الكلدانيين ولكن لا يراها وهناك يموت . . وأذرى فى كل ريح جميع الذين حوله لنصره وكل جيوشه . واستل السيف وراءهم . فيعلمون أنى أنا الرب حين أبددهم بين الأمم وأذريهم فى الأراضي . وأبقى منهم رجالا معدودين ، من السيف ، ومن الجوع ، ومن الوباء ، لكي يحدثوا بكل رجاساتهم بين الأمم التى يأتون إليها فيعلمون أنى أنا الرب ". (11- 16: الإصحاح الثانى عشر ، حزقيال ) . ونحن نجزم بأن الله لعن بنى إسرائيل لعصيانهم وعدوانهم ، ونستفيد هذه الحقيقة من كتابنا الوثيق قبل استفادتها من أى شيء آخر.. فهل تغير من خلائق اليهود ما استحقوا من أجله اللعنة ، لقد مرت آلاف السنين على هذا الشعب المطارد ، قاتل الأنبياء ، المتمرد على وحي السماء ! ، وبعث الله عيسى إليهم فكذبوه وحاولوا قتله ، وبعث إليهم محمدا من بعده فكذبوه وحاولوا قتله ، وتتابعت الأعصار وهم حيث حلوا فى أرض الله نماذج للأثرة والقسوة وأكل الربا وإشاعة الخنا . . ص _046(1/40)
بيد أن كاتب العهد القديم وعد اليهود بأنهم سيعودون إلى فلسطين التى نفوا منها ! وتوارث القوم هذا ا لأمر ، وأحسوا كأن هذا القطر إرث لابد أن يئول إليهم ، وأن غيرهم طارئ عليه يجب أن يزول . . وعلى هذا الأساس عومل العرب ، وعولج وجوداهم التاريخي والديني !! ولنقرأ هذه الكلمات من العهد القديم: " برائحة سروركم أرضى عنكم، حين أخرجكم من بين الشعوب، وأجمعكم من الأراضي التى تفرقتم فيها، وأتقدس فيكم أمام عيون الأمم ! فتعلمون أنى أنا الرب حين آتى بكم إلى أرض فلسطين! إلى الأرض التى رفعت يدي لأعطى آباءكم إياها ". (41- 42 من الإصحاح العشرين : حزقيال ) . أى نشوة دينية عارمة تغمر اليهود وهم قادمون من كل فج وصوب أرض فلسطين ؟ وهذا النص الديني يسوقهم . . ! وقبل أن استطرد فى إيراد النصوص الدينية التى تحدث اليهود عن أرض المعاد ، وعن قيام دولة جديدة لهم لابد من أن أقف لأشرح وأشرح..! إن بنى إسرائيل لم يحدثوا توبة يستحقون بها الرحمة العليا ، فهم تائهون عن الحق فى مجالي الاعتقاد والعمل ، وهم وراء أزمات الإيمان والأخلاق التى تزلزل الكيان البشرى ، وتهددهم بالدمار الشامل.. وعودتهم الجزئية إلى فلسطين ترجع أولا إلى طبيعة الجبهة المناوئة لهم ، أو إلى أصول الأمة التى ورثت الدعوة من بعدهم- كما أسلفنا شرح ذلك فى الفصل السابق - . إن العرب تخلوا عن قيادة الدعوة العالمية للإسلام . بل تجردوا من جملة فضائله وعزائمه . بل تسلمت السلطة فى بعض أقطارهم حكومات ترفض الإسلام دولة وتكرهه نظاما ( ! ) . فى هذا الليل المعتكر من الفتن المتلاحقة قد يأذن الله لليهود بعودة لا قرار لها ، لأن اليهود لا يحملون بذور رسالة إنسانية صالحة ، ولأن حملة الرسالة الإسلامية الباقية سوف يستفيقون من غفلتهم أو يتغلبون على هزائمهم ، ويستأنفون مقاتلة اليهود حتى يجهزوا عليهم . . أليس من تعاجيب الليالي أن تتخلى الأمة العربية عن الإسلام ؟ عن الحق الذى(1/41)
رفع ص _047
الله به قدرها ؟ وتزعم وسائل الإعلام بها أن قضية فلسطين ليست إسلامية ! وذلك فى الوقت الذى يتشبث العبريون فيه بتوراتهم ويعدون فيه فلسطين قسمة إلهية لهم ؟؟ وهل يبحث عاقل عن سر هزائم العرب بعد هذا التفاوت الهائل فى الروح المحرك لكلا الفريقين ؟. فلنقرأ عن أرض المعاد لا كما يتحدث كتاب الصهيونية ، بل كما يتحدث العهد القديم نفسه ، لنقرأ هذا النص الطويل : " لذلك فقل لبيت إسرائيل- هكذا قال السيد الرب- ليس لأجلكم أنا صانع يا بيت إسرائيل بل لأجل اسمي القدوس الذى نجستموه فى الأمم حيث جئتم ، فأقدس اسمي العظيم المنجس فى الأمم الذى نجستموه فى وسطهم ، فتعلم الأمم أنى أنا الرب . يقول السيد الرب : حيت أتقدس فيكم قدام أعينهم ، وآخذكم من بين الأمم، وأجمعكم من جميع الأراضي ، وآتى بكم إلى أرضكم، وأرش عليكم ماء طاهرا فتطهرون من كل نجاساتكم ومن كل أصنامكم أطهركم . وأعطيكم قلبا جديدا ، وأجعل روحا جديدة فى داخلكم ، وأنزع قلبك الحجر من لحمكم ، وأعطيكم قلب لحم ، وأجعل روحى فى داخلكم وأجعلكم تسلكون فى فرائضي وتحفظون أحكامي وتعملون بها . وتسكنون الأرض التى أعطيت آباءكم إياها وتكونون لى شعبا وأنا أكون لكم إلها ، وأخلصكم من كل نجاساتكم. وأدعو الحنطة وأكثرها ولا أضع عليكم جوعا ، وأكثر ثمر الشجر وغلة الحقل لكيلا تنالوا بعد عار الجوع بين الأمم فتذكرون طرقكم الرديئة ، وأعمالكم غير الصالحة وتمقتون أنفسكم أمام وجوهكم من أجل آثامكم وعلى رجاساتكم . لا من أجلكم أنا صانع- يقول السيد الرب- فليكن معلوما لكم ، فاخجلوا واخزوا من طرقكم يا بيت إسرائيل- هكذا يقول السيد الرب . فى يوم تطهيري إياكم من آثامكم أسكنكم فى المدن، فتبنى الخرب، وتفلح الأرض الخربة عوضا عن كونها خربة أمام عينى كل عابر، فيقولون هذه الأرض الخربة صارت جنة عدن. والمدن الخربة والمقفرة والمنهدمة محصنة معمورة ! فتعلم الأمم الذين تركوا حولكم أنى(1/42)
أنا الرب ، بنيت المنهدمة وغرست المقفرة . . أنا الرب تكلمت وسأفعل ، هكذا قال السيد الرب . ص _048
بعد هذه أطلب من بيت إسرائيل لأفعل لهم . أكثرهم كغنم أناس . كغنم مقدس كغنم أورشليم فى مواسمها ، فتكون المدن الخربة ملآنة غنم أناس فيعلمون أنى أنا الرب " (22- 38 الإصحاح السادس والثلاثون: حزقيال ). وهذا النص.. أيضا : " هو ذا عينا السيد الرب- على المملكة الخاطئة وأبيدها عن وجه الأرض غير أنى لا أبيد بيت يعقوب تماما يقول الرب ، لأنه هأنذا آمر فأغربل بيت إسرائيل بين جميع الأمم كما يغربل فى الغربال وحبة لا تقع إلى الأرض. بالسيف يموت كل خاطئي شعبي القائلين لا يقترب الشر ولا يأتى بيننا . فى ذلك اليوم أقيم مظلة داوود الساقطة ، وأحصن شقوقها ، وأقيم ردمها وأبنيها كأيام الدهر ، لكي يرثوا بقية أدوم وجميع الأمم الذين دعى اسمى عليهم. يقول الرب الصانع هذا.. ها أيام تأتى- يقول الرب يدرك الحارث الحاصد. ودائس العنب باذر الزرع، وتقطر الجبال عصيرا وتسيل جميع التلال ، وأرد سبى شعبى إسرائيل فيبنون مدنا خربة ، ويسكنون ويغرسون كروما ويشربون خمرها ويصنعون جنات ويأكلون أثمارها . وأغرسهم فى أرضهم ولن يقلعوا بعد من أرضهم التى أعطيتهم . قال ! الرب إلهك " (8- 15 الإصحاح التاسع : عاموس ) . ونختم بهذا النص: " هكذا قال رب الجنود هأنذا أخلص شعبي من أرض المشرق ومن أرض مغرب الشمس، وآتى بهم فيسكنون فى وسط أورشليم ويكونون لى شعبا وأنا أكون لهم إلها بالحق والبر " (7- 8 الإصحاح الثامن : زكريا). هذه نصوص لم يكتبها " موشى ديان " فى هذا القرن ولم يكتبها " هرتزل " فى القرن الماضى . ولم تتمخض عنها مؤتمرات الصهيونية فى سويسرا أو فى فرنسا.. إنها- عند ذويها- آيات وحي يتلى ، ومعالم دين يتبع . . وليس اليهود وحدهم الذين يؤمنون بهذه الوعود السماوية لبنى إسرائيل بل كثير من النصارى الذين يجعلون إصحاحات العهد القديم أجزاء من الكتاب(1/43)
المقدس ، خصوصا الكنائس الإنجيلية (البروتستانت) الذين يمثلون أكثر شعوب إنجلترا والولايات المتحدة!! ص _049
ولكن عصابة من الكتاب العرب أخذت على عاتقها تغطية هذه الحقائق الدينية ، والزعم بأن " إسرائيل " تمثل الصهيونية ولا تمثل اليهودية ، وأن الدين لا علاقة له بهذه الحرب الناشبة لإبادة العرب وتهويد فلسطين ! ! أهو الجهل الأعمى؟ ربما ، ومن البلاء أن يكون الرأى لمن يملكه لا لمن يبصره !! أهو الإقصاء المتعمد لدور الإسلام فى المعركة؟ ذلكم أغلب الظن، بل هو جملة اليقين. وعمل أولئك الكتاب هو تسميم الفكر العربى حتى يدخل العرب معركتهم الحاسمة بلا روح ، أى بلا إيمان ديني واضح دافع.. ونعود إلى كلمات العهد القديم التى دونا بعضها هنا.. إن موسى عليه السلام لا صلة له بهذه الوعود وتوراته لم تتضمن إشارة. ثم إن احتلال أية بقعة من الأرض لا يعطى المحتل الحق الأبدي فى امتلاكها.. وبنو إسرائيل دخلوا فلسطين محتلين ، ومكثوا بها أقل مدة مكثها جنس آخر عمر هذه الأرض. فوجودهم التاريخي بها لا يمنحهم أى حق للبقاء فيها أو العودة إليها. نعم، نحن نؤمن أن أسرة يعقوب حملت راية الدعوة إلى الله ، وتنقلت بها بين وادي النيل وربوع فلسطين. لكن أولاد يعقوب نكسوا هذه الراية فيما بعد، وتنكبت كثرتهم سبيل الحق، وجارت على الوحي ورسله. فعزلهم الله إلى الأبد عن هذا المنصب، وآثر به أمة أخرى كانت فيها الرسالة الخاتمة. ثم صب غضبه على بنى يعقوب الخونة وذراهم فى الأمم كما سجل ذلك كاتبو إصحاحات العهد القديم فيما نقلناها هنا. لكن حاخامات اليهود مزجوا فى حياة المجتمع اليهودي بين أمرين متناقضين. أولهما الحرص على مخاصمة الرسالات السماوية الصادقة، ومجافاة أهدافها الإنسانية الرفيعة.. والآخر التشبث بالانتساب إلى أسرة الدعوة الإلهية، والزعم بأنهم أبناء الله وأحباؤه، ويتبع ذلك بداهة أملهم فى عودة مجدهم القديم ومملكتهم الأولى.. ص _050(1/44)
والحاخامات الذين كتبوا العهد القديم من عند أنفسهم نضجت آمالهم على ما دونوا فكانت هذه البشائر التى تسلى بها اليهود دهرا، ثم حولوها فى هذا العصر إلى أمر واقع.. ونحن لا نستغرب الانتصار المبدئي الذى أحرزه اليهود ، ولكنا نقول: إنه لم يتم لخير فيهم بل لشر فى غيرهم.. إن رجالهم ونساءهم وشيبهم وشبابهم جاءوا رافعين عقائدهم بنداء التوراة، ملتفين حول إيمان زائف على حين كان العرب المثقفون يستحون من الانتساب للقرآن ، وينسحبون من مواطن التدين الحقيقي فترادفت النكبات والنكسات وكان ما ندى له جبين الحر..! وضاعف من هزائم العرب أن الحقد الصليبى الذى لم تخب جذوته يوما كان يشد من أزر المعتدى ، ويعينه إذا ضعف ، ويسدد رميته إذا طاشت.. ولو أن اليهود وحدهم كانوا فى المعركة لكانت فلول العرب على ما بها من تمزق مادي وتمزق معنوى قديرة على كسر إخوان القردة. إلا أن العرب ووجهوا بالعبء مضاعفا . لقدر شاءه الله فكان ما كان..!! وما دمنا فى سياق البشارات الدينية والوعود الإلهية. فإن لدينا فى كتاب الله وسنة رسوله ما يكمل آمال اليهود فى أرض المعاد.. إنهم سيعودون فعلا ، ولكن ليفنوا لا ليحيوا ، ولتنتهي رسالتهم فى هذه الدنيا لا لتتجدد. ففى الحدث الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه ستكون مقتلة عظيمة بين المسلمين واليهود فيقتل المسلمون اليهود، حتى إذا اختفى اليهودي خلف حجر نادى الحجر يا مسلم هذا يهودي تعال فاقتله . أجل.. إن اليهود سيتجمعون بعد شتات ولكن ليتحقق فيهم قول الله عز وجل ((وإذ تأذن ربك ليبعثن عليهم إلى يوم القيامة من يسومهم سوء العذاب إن ربك لسريع العقاب وإنه لغفور رحيم)) . ص _051(1/45)
على أن ما يبيته القدر لبنى إسرائيل من بلاء ماحق لن يوقعه بهم العرب- من حيث هم عرب- ولكن يوقعه بهم العرب بعدما يعودون إلى الإسلام ظاهرا وباطنا ، ويعرفون به حكومات وشعوبا ، ويكون النداء المعهود المتداول : يا مسلم هذا يهودي تعال فاقتله . . نعم، يا مسلم ، لا أى نداء آخر . . إن حرب الإبادة قد وضعت خطتها لإفناء الجنس العربى وإحلال بنى إسرائيل مكانه ، والحقيقة إن الإسلام بالنسبة للعرب ليس فقط الهداية العليا لعباد الله ، ولكنه طوق النجاة العاصم من الغرق بالنسبة إلى هؤلاء العرب ، والخيط الباقي ليظلوا على قيد الحياة إن أرادوا الحياة . فهم- رضوا أو سخطوا- يواجهون حربا دينية تشنها مشاعر مخلوطة بشغاف القلوب ، وليس كما يحكى لهم الكذبة يواجهون حربا استعمارية عادية . وأريد- بوصفي إنسانا مسلما- أن أذكر رأي فى الحروب الدينية.. إنها صورة بشعة أن يقتل امرؤ آخر ليجعل من دمه طريقا إلى الجنة. إنها صورة بشعة أن أقول لآخر: اعتقد ما أقول وإلا افترستك وأنا أشعر بلذة الولوغ فى دمك.. إن الإسلام عدو مبين لهذا النوع من الحروب. بل إن رسالة محمد صلى الله عليه وسلم كانت القاضية على كل قتال من هذا اللون القاسي.. فهل كذلك فكر واضعو هذا العهد القديم؟ يستطيع أى قارئ أن يطالع فى الأسفار المقدسة " أوامر الله " باستئصال الأعداء، رجالا ونساء وأطفالا، واستئصال ما يملكون من حيوان ونبات، ونشر الخراب فوق كل شبر من أرض لأعداء إسرائيل.. وعندما كنت أقرأ أخبار القرى العربية التى اختفت من الوجود، والبيوت التى دمرت بعد ما فر أصحابها مروعين كنت أعلم أن بنى إسرائيل إنما نفذوا أحكام التوراة- فيما يزعمون. إن واضعي هذه الأسفار كانوا جزارين فى ثياب متدينين، وكان ضحاياهم فى هذا العصر الأشأم من العرب المسلمين.. ص _0 ص(1/46)
وقد قام اليهود بمذبحة " دير ياسين " وغيرها من المجازر استجابة دينية حرفية للتعاليم التى يتدارسونها ويتوارثونها. وهى تعاليم- فيما نرى نحن المسلمين- مبتوتة الصلة بأنبياء الله ، إن زعمها هؤلاء وحيا من السماء. واليهود فجرة مهرة ، وقد عقدوا مع المستعمرين معاهدة للنفع المتبادل وللتنفيس عن الحقد المشترك ، ولست أدرى بالضبط أى الفريقين كان أقدر على تسخير الآخر والإفادة منه.. وإن كان المسلمون بيقين هم الفريق المغبون الفادح الخسار . إن سخط الله على بنى إسرائيل لم تنقض أسبابه ولعلها لن تنقضي أبدا ما داموا على طبائع الملعونين من أسلافهم قسوة فؤاد ، وشره نفس ، وأكل سحت ، وفساد معتقد ، وبغيا فى الأرض ، واستطالة على الخلق.!! وإذا كان الله قد ضرب بهم بعض الشعوب التى فرطت فى جنبه فليس ذلك رضا، وتقريبا بعد إبعاد، فإن الهيكل الأول هدمه الوثنيون، وقد تسلط على بنى إسرائيل قديما من هم شر منهم. ومسلمو اليوم يتعرضون لبلاء طويل بغير شك. ومن يدرى؟ قد يكون ذلك باعثا لهم على صلح مع الله وعودة إلى الإسلام الذى هجروه.. وعندئذ تكون هذه المحنة منحة وتكون الضارة النافعة. ومهما ساءت الأمور فإم حلم إسرائيل بحكم العالم من أورشليم لن يتحقق، فإن الحجب بدأت تتمزق عن آثار اليهود الرهيبة فى أرجاء الأرض.. وخصوصا وسط العالم المسيحي.. ص _053(1/47)
إن سلطة الكنائس المسيحية على الضمير والسلوك فى أوروبا وأمريكا إسمية للأسف.. وقد تمكن بنو إسرائيل بوسائلهم الجلية و الخفية من نشر الفتن الجنسية والعنصرية والفلسفات المادية والإلحادية فى جنبات القارتين الكبيرتين.. فهل هذه رسالة السماء التى حملها أنبياء بنى إسرائيل قديما ويريد ذراريهم بها أن يكونوا شعب الله المختار ؟؟ فى محاضرة للدكتور أحمد خليفة وزير الأوقاف الأسبق سمعت منه أن اليهود يسيطرون على الولايات المتحدة سيطرة كاملة، وعلى أوروبا الغربية سيطرة شبه كاملة، وأن الميادين التى أحكموا قبضتهم عليها هى: المصارف المالية، والجامعات الكبرى، ووسائل الإعلام..! ومن يضع قبضته على هذه الثلاث ضمن أن يصوغ الفكر كما شاء، وأن ينشر ما يرضيه ويحجب ما يرفضه، وأن يبسط يديه حيث تجدي النفقة، ويمسك متى أراد.. قال: ومن يتابع تاريخ الفكر البشرى ويتعرف دور اليهود فيه يتبين أنهم يصطنعون الفلسفات التى تحطم كل المقدسات، وتحطم احترام الإنسان لنفسه، وتحرمه من الإيمان وسكينة النفس. قال: واليهودية العالمية تعلم أن الشباب هو مستقبل الأمم وعتادها وذخرها.. إذن لابد أن يفسد الشباب، وتختل أمامه الموازين، وتضطرب القيم.. ومن هنا سيطروا على أسواق الخمر والقمار والمخدرات- كما أن باعهم طويل فى عالم الخلاعة والتهتك- والذى يزور السجون والإصلاحيات فى الولايات المتحدة يجد نزلاءها الملونين المسيحيين، ولا يجد بها يهوديا..! إنهم يقودون حملة التخريب والإفساد مع الاحتفاظ بكيانهم وتماسكهم. قال المحاضر: إنك فى أمريكا تقرأ ما يريد اليهود لك أن تقرأه، وتفتح الراديو لتسمع ما يريد اليهود أن يذاع، وتفتح التلفزيون لترى ما يريد اليهود أن ترى، ويذهب الأبناء إلى الجامعة لتعبأ عقولهم بما يريد اليهود أن يتعلموه، وفى كل أسبوع تقبض المرتبات من خزائن اليهود، هذا هو الأخطبوط الذى يسيطر على الغرب، هذه هى الطفيليات التى تمتص دماء العالم..(1/48)
نقول: وهذه هى وظيفة شعب الله المختار التى يبلغ بها رسالة السماء إلى ص _054
الأرض ، ويعلم البشر الصلاة والزكاة والتقوى والأدب ، ويذكرهم بيوم الحساب وما وراءه من خلود طويل !! إن اليهودي ذكى كالشيطان ، وله أن يزعم ما يشاء إلا أنه صاحب دين يهدى إلى البر والرشد ، ويستحق من أجله ميراث الأقطار والأجناس. ومن هنا فإن مصير اليهودية العالمية إلى بوار ! لكن متى ؟ عندما يثوب المسلمون إلى رشدهم ويعودون إلى رسالتهم ويتركون الترهات التى لعبت بزمامهم وأضلت سعيهم.. وذلك يحتاج منا إلى همسات وصرخات.. والمؤسف أن وسائل الإعلام فى الأمة العربية حريصة أشد الحرص على أن تفرق بين اليهودية والصهيونية ، وعلى أن تجعل القارئ أو المستمع العربى يقصى الدين إقصاء عن الصراع الدائر اليوم على اغتصاب فلسطين وما حولها.. وقد رأيت- من النصوص التى سقناها- ضلال هذا المسلك، وبعده عن التاريخ والواقع ، وتخذيله لوسائل الدفاع التى ينبغى توفيرها فى وجه هجوم ديني حاقد!! إن الصهيونية ليست وليدة بحث اليهود عن وطن لهم بعد ما أحسوا وحشة الغربة فى أرض الله الواسعة. كلا، فقد وسعتهم بلدان شتى ، وعاشوا فيها جزءا من أبنائها الأصلاء، ووصلوا إلى درجة فاحشة من الثراء ، ومناصب كبيرة فى الحكم.. ولكنهم رجحوا نداء دينهم على علاقاتهم بأوطانهم ، وآثروا التجارب مع توراتهم وتلمودهم على الذوبان فى الوطنية الأمريكية أو الألمانية أو الروسية أو المصرية أو العراقية . سيرتهم فى مختلف القارات واحدة، ونزوعهم إلى خدمة عنصرهم ، وحسب ديدنهم فى كل مكان وزمان.. لقد عاش اليهود ملوكا بيننا نحن المصريين فى أواسط هذا القرن، فلم تركوا مصر إلى إسرائيل ؟ فرارا من اضطهاد ؟ إنه نداء الدين وحده. وهم الآن يحيون ملوكا فى أمريكا وفى أوروبا الغربية ولكنهم عرضوا مصالح الأوطان التى وسعتهم للبوار. ص _055(1/49)
فى سبيل ماذا ؟ فى سبيل إسرائيل ، فى سبيل دولة دينية تجمعهم ، فى سبيل الملك الذى تهفو إليه ضمائرهم ، ويتلون آياته فى صحف العهد القديم على أنه وعد الله الذى لا يتخلف لهم ولذراريهم من بعدهم..!! إن الصهيونية نزعة سياسية تولدت عن الاضطهاد النازي فى ألمانيا.. فإن اليهود قبل هذا الاضطهاد بسنين أو قرون- كما رأيت- كانوا يحلمون بامتلاك فلسطين وطرد أهلها منها أو إبادتهم فيها.. ونحن لا نقر فى العالم أجمع أى تفرقة جنسية ، ولكن مسلك اليهود فى ألمانيا كان هو السبب الأول فى إهاجة الألمان عليهم وإيقاع المذابح الشائنة بهم. لقد ظهر أن ولاء اليهود لأوطانهم الرسمية مزيف ، وأن ولاءهم الأول هو لجنسهم وتاريخهم وأمانيهم الحرام فى حقوق الآخرين. وربما تعرض اليهود فى أمريكا بعد سنين معدودة لمثل ما تعرض له أسلافهم فى ألمانيا النازية ، عندما يصحو الأمريكيون فيجدون أن مصالحهم فى العالمين العربى والإسلامى قد تلاشت لأن يهود أمريكا قد باعوا هذه المصالح فى سبيل قضاياهم الخاصة.. والمهم ونحن نواجه معركة الحاضر والمستقبل أن نحذر من الببغاوات التى تردد بغباء كلمات لا تفهمها، وتريد بجهلها الغالب إبعاد اليهودية والإسلام عن المعركة مع أن المعركة لا تعنى إلا القضاء على الإسلام لحساب القوى المعادية له ! ! . . ـ لا تبعدوا اليهودية والإسلام عن المعركة . ـ التنادي بالإسلام هو صيحة النجاة . إننا لقينا العنت من أولئك الشامخين بجهلهم ، سواء أكانوا فى الصحف أو الإذاعات ، أو المسارح . . وظاهر أنهم ثمار الاستعمار الثقافي لبلادنا ، ذلك الاستعمار الناقم على الإسلام وحده ، الحريص على تربية أجيال تكره شرائعه وفضائله ، وترفض مناسكه وشعائره وتنسى ماضيه وحاضره . تلك هى الأجيال التى وقفت فى ميدان السياسة تصف الغزو اليهودي لفلسطين ، بأنه حركة عنصرية ، أو عدوان محلى ، أو تعاون بين الإمبريالية والصهيونية ، أو تآمر رأسمالي على حركات(1/50)
التحرر الحديث ، أو غير ذلك من الترهات التى أتقنها الجيل المستكبر الفاشي هنا وهناك . ص _056
ولو أن واحدا من هؤلاء ذهب إلى أقرب مكتبة ، ودفع قروشا قليلة أو كثيرة واشترى العهد القديم وحده ، أو الكتاب المقدس كله ، ثم كلف خاطره القراءة فيه لوجد التخطيط الديني لإسرائيل الكبرى واضحا فى صحائفه ، ولوجد الكفن الذى يلف رفات العرب منسوجا من كلماته ، ولوجد حرب الإبادة التى تعرض لها قومه ناضحة بين سطوره . إن مؤامرة الاستعمار فى القرون الأخيرة خلع العرب من دينهم فى الوقت الذى يتحمس فيه كل ذى دين لدينه ! ! إن صحف العهد القديم لم تكتف بحداء بنى إسرائيل كي يجيئوا من كل مكان إلى فلسطين ، بل صورت لهم البقاع التى ينزلون بها ، والحدود التى تفصل كل سبط عن أخيه ! ! ووزعت عليهم دمشق وحماة وبيروت وعشرات من البلاد الواقعة قرب البحر المتوسط . . اقرأ هذه السطور من سفر حزقيال : " لذلك هكذا قال السيد الرب: الآن أرد سبى يعقوب وأرحم كل بيت إسرائيل ، وأغار على اسمي القدوس. فيحملون خزيهم وكل خيانتهم التى خانوني إياها عند سكنهم فى أرضهم مطمئنين ولا مخيف . عند إرجاعي إياهم من الشعوب، وجمعي إياهم من أراضى أعدائهم، وتقديسي فيهم أمام عيون أمم كثيرين ، يعلمون أنى أنا الرب إلههم بإجلائي إياهم إلى الأمم ثم جمعهم إلى أرضهم. ولا أترك بعد هناك أحدا منهم ! ولا أحجب وجهي عنهم بعد، لأني سكبت روحى على بيت إسرائيل! يقول السيد الرب.. "!! (الإصحاح التاسع والثلاثون: 25- 29). " فى السنة الخامسة والعشرين من سبينا، فى رأس السنة، فى العاشر من الشهر، فى السنة الرابعة عشرة بعد ما ضربت المدينة. فى نفس ذلك اليوم كانت على يد الرب وأتى بى إلى هناك. فى رؤى الله أتى بى إلى أرض إسرائيل ووضعني على جبل عال جدا عليه كبناء مدينة من جهة الجنوب. ص _057(1/51)
ولما أتى بى إلى هنا إذا برجل منظره كمنظر النحاس وبيده خيط كتان وقصبة القياس وهو واقف بالباب . فقال لى الرجل: يا بن آدم: انظر بعينيك واسمع بأذنيك واجعل قلبك إلى كل ما أريكه لأنه لأجل إراءتك أتى بك إلى هنا. أخبر بيت إسرائيل بكل ما ترى. وإذا بسور خارج البيت محيط به وبيد الرجل قصبة القياس ستة أذرع طولا بالذراع وشبر..! فقاس عرض البناء قصبة واحدة وسمكه قصبة واحدة. ثم جاء إلى الباب الذى وجهه نحو الشرق وصعد فى درجه وقاس عتبة الباب قصبة واحدة عرضا والعتبة ".. إلخ إلخ إلخ: (ا لإصحاح الأربعون والحادي والأربعون والثانى والأربعون حيث ينتهى وصف قياس بيت الهياكل). " ثم ذهب بى إلى الباب. الباب المتجه إلى الشرق. وإذا بمجد أنه إسرائيل جاء فى طريق الشرق وصوته كصوت مياه كثيرة، والأرض أضاءت من مجده. " وقال لى يا بن آدم هذا مكان كرسيي ، ومكان باطن قدمي ، حيث أسكن فى وسط بنى إسرائيل إلى الأبد ، ولا ينجس بعد بيت إسرائيل اسمى القدوس، لا هم ولا ملوكهم ". (الإصحاح الثالث والأربعون). " وإذا قسمتم الأرض ملكا تقدمون تقدمة للرب قدسا من الأرض طوله خمسة وعشرون ألفا طولا والعرض عشرة آلاف ". (الإصحاح الخامس والأربعون). " هكذا قال السيد الرب: هذا هو التخم الذى به تمتلكون الأرض بحسب أسباط إسرائيل الاثنى عشر: يوسف قسمان ، وتمتلكونها أحدكم كصاحبه- على الهيئة- التى رفعت يدي لأعطى آباءكم إياها ، وهذه الأرض تقع لكم نصيبا . وهذا تخم الأرض: ـ نحو الشمال من البحر الكبير طريق حثلون إلى المجيء إلى صدد : حماة وبيروتة وسبرائيم التى بين تخم دمشق وتخم حماة وحصر الوسطى التى على تخم حوران ، ويكون التخم من البحر حصر عينان تخم دمشق والشمال شمالا. وتخم حماة وهذا جانب الشمال . ص _058(1/52)
ـ وجانب الشرق بين حوران ودمشق وجلعاد وأرض إسرائيل الأردن من التخم إلى البحر الشرقي تقيسون ، وهذا جانب المشرق . ـ وجانب الجنوب يمينا من ثامار إلى مياه مريبوث قادش النهر إلى البحر الكبير. وهذا جانب اليمين جنوبا . ـ وجانب الغرب البحر الكبير من التخم إلى مقابل مدخل حماة، وهذا جانب الغرب ، فتقسمون هذه الأرض لكم لأسباط إسرائيل ". (الإصحاح السابع والأربعون) ، * * * هكذا وضع أنبياء بنى إسرائيل الأقدمون خطة تمزيق العرب ، وتقسيم تراثهم على أسباط إسرائيل . وقد نقلت هذه السطور من العهد القديم وإن كنت لم أفهم أغلب الأسماء التى تحدد تخوم الأرض ، أو توضح اتجاهات الزحف اليهودي كما أوصى به كاتبو ذلك العهد . . ويظهر أن اليهود لخصوا المراد فى الجملة المشهورة " أرض إسرائيل من الفرات إلى النيل ". وهم أدرى بما فى كتبهم المقدسة ، وأدرى بما يعنيه " حزقيال " متلقى هذه الخريطة عن الوحي الإلهي ! ! كما يدينون . . ! ! وأريد أن أقول باسم الإسلام المستوحش المكتئب كلمة حاسمة . كلمة سوف تبدو غريبة على الآذان التى طمسها الهوان والإذلال أمدا طويلا ، والتى مرنت على سماع الزور والباطل وحده . إن الدين قد انتقل انتقالة واسعة عن المفهوم البدائي الضيق الذى ألفه الإسرائيليون ، مفهوم الهيكل ، ومملكة الرب ، والشعب المختار ، وحكم العالم باسم رب الجنود عن طريق حكماء صهيون أو بيت إسرائيل . . إن هذه الكلمات المصورة لمعنى الدين أليق بالعهد البدائي الذى كانت قبائل إسرائيل فيه تغدو وتروح بقيادة رعاة محليين يؤدون واجبهم حينا ، أو يقتلون قبل هذا الأداء المفروض . ص _059(1/53)
لقد أصبح للدين مفهوم أرحب ، ليس فيه هيكل مقدس ، ولا شعب مختار، ولا أدب محتكر ! حقيقة هذا الدين أن الله رب العالمين أجمعين على السواء . وأن التقدم عنده ليس بالنسب ولا بالادعاء بل بالخلق الزكي والتقوى المهيمنة. لا كهانة هناك ولا تهاويل ولا هياكل . . شيئان فقط هما أساس العلاقة بين الله الأحد ، وبين كل إنسان يمشى على قدميه فى القارات الخمس : الإيمان والعمل الصالح ! . إن محاولة بنى إسرائيل مسخ مفهوم الدين على النحو الذى جمدوا عليه من عشرات القرون جريمة فاحشة لا يمكن قبولها . لقد جاء عيسى بن مريم ليكسر القيود الصلبة التى أراد بنو إسرائيل حبس الدين داخلها . وكان مجيئه تمهيدا للرسالة الخاتمة التى مزجت الدين بكل أشواق الإنسانية الرفيعة من الإيمان المهدى والأخوة العامة ، حيث لا مكان للتسامي إلا بالقلب السليم والفكر السليم.. نعم بعث الله محمدا مسويا بين أجناس البشر فى الولاء للحى القيوم مسقطا كل سلطان مفتعل فى ميدان الروح أو فى ميدان المال . . فإذا أراد بنو إسرائيل أن يلحقوا بقافلة الإنسانية الحرة المتآخية فلابد أن يؤمنوا بعيسى ومحمد ! ! وإذا كانوا حراصا على استعادة مجدهم القديم فطريق الخلاص مفتوحة أمامهم ولكي يعرفوها جيدا قال الله لهم ((يا بني إسرائيل اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم وأوفوا بعهدي أوف بعهدكم وإياي فارهبون ، وآمنوا بما أنزلت مصدقا لما معكم …)) . . إن بنى إسرائيل يحلمون أن يحكموا العالم من هيكلهم وهم مصرون على تصديق ما لديهم وحده ، وتكذيب كل ما جاء به عيسى ومحمد . . وما لديهم مزيج من وحي الله وهوى الأنفس . ص _060(1/54)
ولو افترضنا جدلا أنه حق لا ريب فيه ، فإن الوقوف عنده وحده ونبذ ما أوحى الله بعده ، مسلك لا تصلح به الدنيا ولا يسعد به عباد الله . . ومن هنا اشترط الإسلام أن يكون الإيمان بكتب الله كلها ، ورفض ما سوى ذلك من إيمان مبتور فقال جل شأنه : ((…يا أهل الكتاب لستم على شيء حتى تقيموا التوراة والإنجيل وما أنزل إليكم من ربكم …)) . وعلى لسان موسى- كبير أنبياء بنى إسرائيل- ذكر ربنا جل جلاله أن أبواب رحمته مفتوحة لعباده ، وأن الصلحاء الأتقياء يستطيعون دخولها متى شاءوا فعندما دعا موسى ((…اكتب لنا في هذه الدنيا حسنة وفي الآخرة إنا هدنا إليك …)) كان الجواب الإلهي له ((…عذابي أصيب به من أشاء ورحمتي وسعت كل شيء فسأكتبها للذين يتقون ويؤتون الزكاة والذين هم بآياتنا يؤمنون ، الذين يتبعون الرسول النبي الأمي الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم …)). إن قيادة العالم باسم الله ليست سهلة يستطيعها اليهود بمهارتهم المالية وألاعيبهم الشيطانية ، وتسخيرهم للشعوب المفرطة ، وانتهازهم للفرص المتاحة. . وقد نبأ القرآن الكريم أن التاريخ اليهودي سيتفاوت بين مد وجزر ومعصية وطاعة ، وهزيمة ونصر . وقال لهم بعد هدم هيكلهم الأثير ((إن أحسنتم أحسنتم لأنفسكم و إن أسأتم فلها …)) . . وقال لهم أيضا ((…و إن عدتم عدنا …)) . أى إن عدتم للفساد عدنا للانتقام ! ! وقد عاد اليهود إلى فلسطين- لأسباب شتى- فكيف عادوا ؟ وما هى مثلهم العليا ، وما مواقفهم من وصايا الله للنبي الخاتم والنبي الذى سبقه وبشر به ؟ لقد عادوا متشبثين بما لديهم وحده ، مكذبين لكل ما جد بعد.. وكسبوا نصرا بعد نصر على من ؟ على أوزاع من العرب جهلوا رسالتهم ، ونسوا تاريخهم ، وعاشوا فى دنيا الناس أذنابا ، وعن كتاب الله وهدى نبيه غرباء . . ! ! ص _061(1/55)
إن مجموعة الشعوب الإسلامية تشعر بجزع مر لا للحروب التى جرت بين العرب واليهود ، ولكن للطريقة التى جرت بها هذه الحروب ، ولمظاهر الانحلال والفسق عن أمر الله التى ملأت جوها .. كان العرب أزهد الناس فى كتابهم ، وكان اليهود ألصق الناس بتوراتهم.. كان اللص متحمسا فى الهجوم وكان رب البيت باردا فى الدفاع . . وبلغ من نجاح الغزو الثقافي لبلادنا أن الحرب تعلن لفرض دين، واجتياح أمة . ومع ذلك تتبارى وسائل الإعلام فى تضليل الفكر العربى وتصف هذه الحرب بأي شيء إلا أنها تتصل بالدين . . ولم ذلك ؟ حتى لا يستيقظ الوعي الإسلامى العارم وتتجاوب الأصداء بضرورة العودة العامة الجادة إلى الإسلام لوقف هذا الفناء القادم ! ! لكن آمالنا أن غرائز الأمم تصحو لملاقاة الخطر الداهم ، وأن التنادي بالإسلام سوف يكون اليوم صيحة النجاة . وسوف يكون غدا صيحة النصر. . ((وقل الحمد لله سيريكم آياته فتعرفونها وما ربك بغافل عما تعملون)) . ص _062(1/56)
من أين تهبُّ رياح التغيير ؟ عندما هزم الله المشركين فى موقعة بدر، وأذل كبرياءهم تنزلت آيات كريمة تكشف أسرار ا لانكسار الذى أصاب القوم ، وتصف اللطمات التى تناولت الهالكين من كل جهة فقال جل شأنه ((ولو ترى إذ يتوفى الذين كفروا الملائكة يضربون وجوههم وأدبارهم وذوقوا عذاب الحريق)) . ولكن لم هذه النهاية الفاجعة ؟ والخزي المحيط ؟ يقول الله ((ذلك بما قدمت أيديكم وأن الله ليس بظلام للعبيد)) . إن هذا الختام الكالح جزاء عادل لأناس كرهوا ما أنزل الله ، وتبعوا هوى الأنفس ، وملكهم غرور القوة ، واستحلوا حرمات الضعاف ، ولم يقفهم عند حقوق الحق أدب ولا خلق ! والمنهزمون فى بدر ليسوا بدعا من الأمم الأخرى ، فقد بين القرآن الكريم أن ذلك دأب الله فى جماهير الكفار والظلمة على اختلاف الزمان والمكان . وسنة الله فى العصاة لا تتخلف ، فإن شؤم معاصيهم لاحق بهم وإن طال المدى ((كدأب آل فرعون و الذين من قبلهم كفروا بآيات الله فأخذهم الله بذنوبهم إن الله قوي شديد العقاب ، ذلك بأن الله لم يك مغيرا نعمة أنعمها على قوم حتى يغيروا ما بأنفسهم …)) . وعند هذا التعليل الأخير نقف وقفة تدبر واعتبار ! فإن الله لا يبدل أمن الأمم قلقا ، ولا رخاءها شدة ، ولا عافيتها سقاما لأنه راغب فى أن يذيق الناس المتاعب ويرميهم بالآلام . كلا ، إنه بر بعباده ، يغدق عليهم فضله وستره ويصبحهم ويمسيهم برزقه ومغفرته ، ص _063(1/57)
ولكن الناس يحسنون الأخذ ولا يحسنون الشكر ويمرحون من النعم ولا يقدرون وليها تبارك اسمه ! وعندما يبلغ هذا الجحود مداه ، وعندما ينعقد الإصرار عليه فلا ينحل بندم ولا توبة ، عندئذ تدق قوارع الغضب أبواب الأمم ! وتسود الوجوه بهزائم الدنيا قبل نكال الآخرة . . إن الله لا يتغير ولكن الناس هم الذين يتغيرون ، وذلك معنى الآية : ((…إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم …)) . ولما كان الخطاب الإلهي فى الآيات التى ذكرنا يعنى أهل مكة المنهزمين، فلنعد بالذاكرة مع ماضى القوم ، وما ضم فى أطوائه من رفاهة ونعماء . . لقد امتن الله على قريش بأمرين جليلين هما الغاية القصوى للحياة على ظهر الأرض : الشبع وهو ملاك الحريات الاقتصادية . والأمن وهو ملاك الحريات السياسية. ومن ثم قال لهم: ((فليعبدوا رب هذا البيت ، الذي أطعمهم من جوع و آمنهم من خوف)) . وما أحلى أن يجد المجتمع ضروراته ومرفهاته مبذولة لا تنغصها أزمة ، ولا يعكرها ضيق ! وما أحلى أن يجد المجتمع كرامته مصونة لا يهدرها باغ ، ولا يستبيحها حاكم ظلوم ! . . الشبع والأمان هما العدل الاجتماعى والعدل ! السياسى اللذان تهفو إليهما الأمم ، وتسعد فى ظلهما الشعوب ، فإذا ظفر بذلك بلد ، فمن حق الله عليه أن يؤمن به ، ويسارع إلى طاعته ، ويحل حلاله ، ويحرم حرامه . . غير أن الأمم للأسف كثيرا ما تنسى هذا الخير كله ، وتتمرد على بارئها الأعلى ، وقد حرم الله قريشا ما تيسر لها من متع ، ثم قال يصف ما حل بها: ((وضرب الله مثلا قرية كانت آمنة مطمئنة يأتيها رزقها رغدا من كل مكان فكفرت بأنعم الله فأذاقها الله لباس الجوع والخوف بما كانوا يصنعون)) . ص _064(1/58)
الجوع والخوف بدل الشبع والأمان اللذين طالما استراحت فى ظلهما . تلك عقبى لامحيص عنها لكل جحود ! وننظر إلى زعماء مكة وهم يقادون أسرى فى طرقات المدينة بعد الهزيمة التى كسرت غرورهم ، وأدبت شراستهم ، وهنا نجد القرآن الكريم ينصح المنكسرين فيدلهم على طريق الكرامة الضائعة والطمأنينة المفقودة : ((يا أيها النبي قل لمن في أيديكم من الأسرى إن يعلم الله في قلوبكم خيرا يؤتكم خيرا مما أخذ منكم ويغفر لكم …)) . وهذا- مرة أخرى- هو طريق النجاة ، أن تنطوي القلوب على الخير، وتحسن علاقتها بالناس ورب الناس . إن هؤلاء الأسرى المنكسرين خرجوا من ديارهم- كما وصف القرآن: ((…بطرا و رئاء الناس و يصدون عن سبيل الله …)) . وليس أحق بالقمع وإذلال الأنف ، من أناس تستخفي أنفسهم وراء أسوار من الصلف والغطرسة ، ويريدون بأعمالهم العلو فى الأرض والظهور بين الناس. والأنكى من هذا الشر أنهم يمقتون الوحي وحملته ، ويطاردون الإسلام ورسالته ، واتخذوا هذا القرآن مهجورا ، وجعلوا سبيل الله موحشة لطول ما ترادف على سالكيها من أنواء وأعباء . . وها هم أولاء مطروحون فى أغلالهم لا عاصم ولا مجير ، وقد تلقوا درسا موجعا يردهم إلى الله لو عقلوا ، ترى هل يستفيدون منه ؟ إن التوبة معروضة عليهم ، واسترجاع ما يحبون ميسر لهم . بيد أن الله لا يخدع ، فالعودة إليه استقامة قلب لا شقشقة لسان ، وإذا حاول الطبع البشرى أن يغدر فإن الله بالمرصاد ، ولذلك يقول الله لنبيه : ((وإن يريدوا خيانتك فقد خانوا الله من قبل فأمكن منهم والله عليم حكيم)) . إن استنارة الفكر ، وصفاء النفس ، والتسامى بالطباع ، وتهذيب الباطن قد تحسب كلمات رائجة فى ميدان التربية وحسب ، وهذا خطأ ، إنها كلمات اجتماعية وسياسية إلى جانب معناها الشائع . ص _065(1/59)
والواقع أن استقامة المجتمع كله ، ونجاح الأمة فى سياستها العامة ، وبلوغها مكانة عالية مرموقة يجيء قبل أى شيء آخر من الفرد المكتمل ، من النفس النظيفة ، من الغرائز المهذبة من القلب الحافل بالخير والرحمة ، المؤثر للصدق والعدالة . . ولدى أمتنا العربية كنوز مشحونة بهذه المعانى ، تسع أهل الأرض جميعا لو وزعت عليهم ، ولكن العرب ذاهلون عنها مفرطون فيها.. وقد أنظر إلى الرجال والنساء ، إلى الأساتذة والتلامذة ، إلى الرؤساء والمرءوسين ، إلى العلماء والعمال ، فأجد أننا خنا تراثنا العريق ، وتعلقنا بقشور باطلة ، وأن أكثرنا مصروف عن دينه الضخم العظيم إلى دنيا تزلزلت فيها قدمه ، وسبق فيها خصمه .. فلا غرو إذا فتح المسلمون أعينهم على حاضر كريه ومستقبل مغلق.. وفى سلسلة المفاسد النفسية المحيطة بكل شيء عندنا سوف يلمح العدو والصديق مفسدة لا نظير لها بين أهل الأرض من كل جنس ، هى عمق الفجوة بين الحاكم والمحكوم فى شعوب عربية كثيرة.. فإن أغلب الحكام العرب مبغضون لدى الجماهير ، ليس لهم رصيد من حب ولا ولاء ، ولا تقدير . . ! ! وفى الوقت الذى يحمل فيه الفلاحون " الفيتناميون " أسلحتهم وهم فى حقولهم ليقاوموا بها الأمريكيين الغزاة ، وفى الوقت الذى يتعاون فيه الحاكم والمحكوم هناك تعاون الوالد والأبناء على حماية البيت ومقاومة اللص. فى هذا الوقت تجد الحكام العرب يخشون من وضع السلاح بين أيدى الجماهير العربية ! ! لماذا ؟ لأنهم يخشون على أنفسهم منه ؟ ولذلك فإن الشعوب العربية لم تتح لها إلى الآن فرصة قتال حقيقي لليهود.. ولا أرتاب فى أن أعداءنا عندما ينظرون إلى طبيعة السياسة العربية، ومسلك الرؤساء العرب- فى بعض الأقطار- سيشعرون بالرضا والأمل. وقد يوقنون ببقائهم فوق أرضنا، بل فوق صدورنا إلى آخر الدهر.. إن بنى إسرائيل يرمقون الحدود الإسلامية من أربعة عشر قرنا ما تحدثهم نفوسهم ص _066(1/60)
أبدا باقتحامها ، حتى جاء هذا القرن الأشأم فطمع فينا من لا يدفع عن نفسه، وشرع اليهود من خمسين سنة يوطدون أقدامهم فى فلسطين ليثبوا إلى ما وراءها ، والظروف تواتيهم ، والأيام تنتقل بهم من نصر إلى نصر.. والسبب ؟ نفوسنا نحن العرب والمسلمين ، إنهم لم ينتصروا بقواهم الخاصة قدر ما انتصروا بفراغ قلوبنا من الإيمان ، وافتقار صفوفنا إلى الوحدة . . لقد تسللوا إلى بلادنا عن طريق شهواتنا اليقظى، وإخلادنا إلى الأرض وحبنا للدنيا، وسعارنا إلى اللذات والرياء..!! إن فنون المتع التى استوردناها من الغرب خلال الخمسين سنة الأخيرة تكفى لتدمير أمة ناهضة ، فكيف بأمة عليلة !! وإنه ليخيل إلي أن اليهود لو كشفوا عن خباياهم لمنحوا بعض الرؤساء العرب جوائز سخية ، لأنهم هم الذين مهدوا طريق الغزو ، وأطفئوا نار المقاومة ، ودمروا روح الإيمان ، ومزقوا أواصر الوحدة ، وخلقوا أجيالا متنكرة لدينها ولغتها وتقاليدها ومثلها ، فى الوقت الذى يبنى فيه اليهود كيانهم على الدين واللغة والتقاليد والمثل العبرانية . . هل أمام العرب منفذ للنجاة ؟ نعم ، بل منافذ رحبة . يوم يعالجون عللهم من أصولها ، ويوم ينسجون أنفسهم وأحوالهم الداخلية على المنوال الذى نسج عليه الأسلاف العظام . . يومئذ فقط تهب رياح التغيير ولكن كيف يصنعون ؟ ذلك ما نجيب عليه فى الأحاديث التالية إن شاء الله . . * * * ص _067(1/61)
هَل عن الإسلام غِنى ؟ حاجة الأمم إلى العقائد لتتحرك وتسير كحاجة الطائرات إلى الوقود لتحلق وتنطلق ، أو حاجة الآلات إلى شتى القوى لتدور وتنتج . . وقد ظل العرب دهرا طويلا والإسلام هو العقيدة الدافعة ، والشريعة الضابطة ، والشعاع الهادي ، والديدبان الحارس . . وفضل الإسلام على العرب كفضل الماء والهواء والضياء على الزروع والثمار. لست أقول جمعهم من شتات ، أو نظمهم من فوضى ! ! وإنما خلقهم من عدم ، وجعلهم أصحاب دولة ورسالة وحضارة وما كانوا قبل ذلك شيئا مذكورا . . وقد مرت على العرب أيام نحس وسعد ، وشدة ورخاء ، وما فى ذلك عجب فإن الخط البياني لسير الأمم فى التاريخ لا يلزم مستوى واحدا . . والمسلمون على الإجمال كانوا إذا اعتلت أمورهم لم يتيهوا عن أسباب الشفاء . سرعان ما يعودون إلى دينهم يعتصمون بحبله ويستمسكون بهديه ، فتنزاح عنهم العلل ، وتسرى فى أوصالهم العافية . . إلا أن العصر الحديث وفد على العرب والمسلمين بحدث مستغرب بلبل فكرهم ، وأزاغ خطوهم ، فبدل أن يلتمسوا دواءهم كما اعتادوا من كتاب ربهم وسنة نبيهم ، جاء من يقول لهم : لا . . هناك عقيدة أخرى نريد أن تحل محل الإيمان المألوف المتوارث ؟ هناك مبدأ آخر يجب أن تسير تحت لوائه الجماهير ، وأن ترتبط به الحركات والسكنات ، وأن تتحمل فى سبيله المغارم والتضحيات .. وأن يتناسى ما عداه أو يذكر على تحرج وإخفات . . ص _068(1/62)
ذلك هو مبدأ " القومية " بمعناها الإقليمي الضيق أو بمعناها العروبي الواسع !.. والبديل الجديد لم يجرؤ أول أمره على القول بأنه خصم للإيمان أو عوض مطلق عنه !! فإن هذا التصريح يفسد عليه خطته . ومن هنا اكتفى بأن ينتزع لنفسه حق الحياة والتوجيه بدعوى أنه ممثل جيد للدين ، أو صديق له ، أو نائب عنه ، أو ما شئت من تعلات وعناوين!.. حتى إذا استغلظ عوده ، وأعانت الثقافة الأوروبية على ترسيخ مفهومه، وتوسيع دائرته ، أخذ يكشف عن دخيلة نفسه ، ويقول للإسلام: لا شأن لك بالحياة ، عش معزولا عن الواقع أو اذهب إلى القبور ! ولم يكن من هذا الافتراق بد فى نهاية المرحلة . . إن القوميات الضيقة أو الواسعة عندما طرقت أبواب البلاد العربية عقدت مصالحة ماكرة بينها وبين الإسلام ، فاعترفت بأن الإسلام دين الدولة، وأن اللغة العربية لسانها الرسمي .. وهى مصالحة مدخولة شعر المؤمنون معها بأن ولاءهم لله ورسوله قد زحزح عن مكانته ، فبعد أن كان قائلهم يقول : أبى الإسلام لا أب لى سواه إذا افتخروا بقيس أو تميم جاءت القوميات الجديدة تقطعه عن إخوانه فى العقيدة، وتزهده فيما لروابطها من إيحاء. بل إن متطلبات هذا البديل الدخيل لم تلبث أن طغت على أوامر الإسلام ونواهيه ، فأضحى الالتزام بها طوعا لا تكليفا !.. ونشب فى ضمائر المسلمين عراك صامت أو صارخ فى مقابلة هذا الوضع الطارئ على تاريخهم وأحوالهم ، وكان هذا العراك يهدأ أو يهيج حسب الظروف المحلية والعالمية التى تفرض لحاضرهم ومستقبلهم . إلى أن أعلنت القومية العربية على لسان زعمائها فى بعض الأقطار الإسلامية رفضها للإسلام ، أساسا للتوحيد والتشريع ، ودعامة للتربية والتنمية، وصيغة للحياتين الخاصة والعامة وسط الكثرة العظمى المؤمنة به وإما التهديد الرهيب لمستقبله ومستقبلهم . فكان هذا الإعلان إنذارا لجماهير المسلمين أن لا محيص من عودة صريحة شاملة ص _069(1/63)
لدينهم ، عودة لا يبقى معها هذا الانشطار فى الولاء ، أو هذا الازدواج فى التوجيه ، أو هذا الإغضاء عن حدود الله وحقوقه لملابسات أصبح الاكتراث بها لا موضع له . . إن القياد القومى للمسلمين فى مختلف بلدانهم بدد قواه فى الهدم أكثر مما بددها فى البناء ،، ولكي تدرك هذه الحقيقة تصور أن زعيما سياسيا لإنجلترا أراد أن يجعلها بلدا زراعيا لا صناعيا ، أو أراد أن يجعل مهارتها العسكرية صحراوية لا بحرية . ماذا عساه يفعل هذا الزعيم ؟ إنه سيشن حربا على البيئة السائدة ، والمهارات الموروثة ، والمصالح القائمة ، والتقاليد المرعية ، محاولا دفعها كلها إلى الطريق الذى يريد . . وهذه جميعا لن تستسلم له ، وسوف تستعصي على مراده . . قد تقول: ربما يكون عبقريا فيكرهها على التحول الذى يبغي . . ونقول: ذاك لو أمكن عقلا وعدلا أن تستجيب له طبيعة البيئة ، لكن بلادا ليست خصبة التربة كيف يجود فيها الزرع ، وبلادا تحيط بها الأمواج كيف تجيد حرب الصحراء . . ؟ ؟ كذلك القول فى جميع النهضات التى تريد التنكر للإسلام بين أهليه ، وسدنته الأقربين ، وحملته الأوائل ، أعنى العرب . إن هذه النهضات بذلت جهودا غير مشكورة فى تجاهل الإسلام ، وتجهيل الأجيال الجديدة فيه ، وصرف الأفئدة والأفكار بعيدا عنه . . والأمم المغلوبة على أمرها تحس هذه المحاولات وتجاهد للتغلب عليها وإبطال آثارها . فكان من نتائج هذا الانفصال المعنوي بين الشعوب وحكامها أن ضاعت جهود عظيمة فى الأخذ والرد ، والجذب والشد.. وجمد المسلمون فى بلادهم على حين تقدمت ثورات أخرى برئت من هذا التفاوت والتناقض . وقد ضحكت ضحكا مريرا وأنا أقرأ فى بعض الصحف أن هناك فكرة لإرسال صور الفنانين والفنانات إلى المقاتلين فى الجبهة ! ! هذا هو أسلوب التحريض على الاستبسال والاستشهاد كما يفهمه رجال من حملة الأقلام . . ! ! أتعرف أحقر من هذا التفكير فى مواجهة اليهود ؟ ص _070(1/64)
ولكن البعد عن الدين يلد العجائب . . ! إننا قد بلغنا الآن المرحلة التى تردنا إلى ديننا على عجل . . ولأشرح هنا أمرين مهمين . أولهما : إن العرب لا يلم شملهم إلا دين ، ولا يسحق خصوماتهم إلا دين ، ولا يوحد كلمتهم إلا دين .. كذلك كانوا قديما وكذلك نجدهم فى هذا العصر. إن النفسية العربية لا يدخلها مفتاح قط ، ويتمكن من الدوران فى أعماقها ، والتحريك لأقصى مشاعرها وأفكارها ، إلا أن يكون هذا المفتاح دينا ..!! إن العرب فى جاهليتهم تقاتلوا أربعين سنة من أجل ناقة قتلها الطيش ، وهم فى عصرنا هذا ما زالوا يحملون خصائص أسلافهم فى الجاهلية ما يفطمهم عنها إلا أن يؤمنوا بالله ويتذاكروا الإسلام ..! وقد قسمتهم الدنيا فى الجاهلية ألف حزب بينها من الثارات نار لا تنطفئ أبدا ، حتى جاء محمد بدينه العظيم فصنع المعجزة ((وألف بين قلوبهم لو أنفقت ما في الأرض جميعا ما ألفت بين قلوبهم ولكن الله ألف بينهم إنه عزيز حكيم)). إن الخلافات بين العرب الآن حقيقة ما يستطاع إخفاؤها ، ومع أن حماهم قد استبيح والأزمات المادية والأدبية قد سودت وجوههم ، إلا أنهم ما زالوا مفترقي القلوب ممزقي الصفوف . . ولن يزالوا كذلك حتى يغسل الإيمان قلوبهم ، ويجمع صفوفهم ، ويعيد بناءهم ، ويرصهم فى ميدان القتال مجاهدين أشرافا- لا شبابا مائعا يتفرس فى ملامح الفنانات والفنانين ! ! والأمر الآخر ، أن العرب الآن يواجهون تجمعا دينيا تحت علم اليهودية، وهذا التجمع الحقيقي آخى بين اليهود النازحين من اليمن واليهود القادمين من أمريكا ، ومحا الفروق القومية واللغوية ، وجمع بين المتباعدين على أساس التوراة والتلمود واللغة العبرية وشحن القلوب بحماس العقيدة ، وذكريات التاريخ ، وقداسة القضية التى يستحب الفناء تحت علمها . . ! ! فإذا كان الدين سلاحا روحيا وماديا فى الجبهة التى يقابلها العرب فكيف يطلب من العرب أن يتجردوا من الدين فى مثل هذا اللقاء ؟ ص _071(1/65)
وهل ينتظر أن يصمد أناس قلوبهم خربة من الدين أمام أناس لهم دينهم الذى يلهب حماسهم، ويذكى بأسهم، ويغريهم بصنع العجائب..؟ ذاك عن اليهود ، أما العدو الآخر الذى يختبئ وراءهم فما الذى حمله على إيذائنا ودفعه إلى عداوتنا ؟ أسباب اقتصادية ؟ كلا ، إنه يخسر ماديا فى معاونته لبنى إسرائيل ومحاربته للعرب ، إنها الأحقاد الدينية التاريخية التى تجعل أمريكا وحلفاءها يجورون علينا ويهشون لمصائبنا ويشمتون من هزائمنا. بل يشاركون فى صنعها ، فبسلاحهم نقتل ، وبسياستهم نخذل . . ! فهل يتعلق كل ذى دين بدينه ويتصرف بمنطقه- أو هكذا يرى- على حين يطلب من المسلمين وحدهم أن يدعوا دينهم ؟؟ لقد استقدم الإنجليز اليهود إلى فلسطين ، وأعطى من لا يملك وطنا لمن لا يستحق ، فلماذا فعل الإنجليز ذلك ، إن قائدهم العسكري الكبير صرح بدخيلة نفسه عندما دخل القدس فزعم أنه بذلك أنهى الحروب الصليبية أنهاها بداهة لحساب قومه الذين ملكوا ما لم يملكه " ريتشارد " من قبل ثم تصرفوا فى أملاكهم على هذا النحو ، مزيدا من التنكيل بالإسلام والمسلمين ! ! ثم ورثت " الولايات المتحدة " إنجلترا . . ورعت بنى إسرائيل رعاية أنطقت ألسنتهم بالشكر والمحبة ، وها هى ذى أمداد أسلحتهم تنهمر على بنى إسرائيل إعدادا لهجوم آخر يكون أنكى وأقسى ! ؟ فهل هذه السخائم الدينية تواجه من جانب المسلمين بالزهد فى الإسلام ؟! أم هى- بواعث الدفاع عن النفس- تفرض عليهم أن يهرعوا إلى كنف دينهم يحتمون به ، ويجمعون إخوانهم فى كل مكان ليلاقوا هذا البلاء المبين ؟؟ إن القومية العربية فشلت فى الدفاع عن بيت المقدس ، وهو الحرم الثالث لنا نحن المسلمين ، فهل ننتظر حتى تفشل فى الدفاع عن المدينة المنورة نفسها واليهود يعدونها من أملاكهم الأولى وتراثهم القديم ؟ آن للعرب أن يعودوا ظاهرا وباطنا إلى الله ، وأن يجعلوا الإسلام شارة واضحة لكفاحهم المرتقب . فليس يغنى عنهم شيئا أن يتعلقوا بنزعات(1/66)
مجلوبة وقوميات هجرها مبتدعوها.. ص _072
وليس يغنى عنهم شيئا أن يصحبوا الإسلام على غش ، أو يتقربوا إلى الإسلام ببعض المظاهر الجوفاء . . قد يقال : لكن العودة بالعالم كله إلى الحروب الدينية الأولى شيء لا يطاق وربما كانت عواقبه شؤما على مستقبل البشرية أجمع . ونشرح هذا الاعتراض فى الحديث التالى، ونبسط الإجابة عليه . * * * ص _073
متى تنتهي هذه الأحقاد ؟ نحن المسلمين لا نعرف التعصب الديني ، وإذا عرفناه مر بنفوسنا خاطرا مساورا ، أو وسواسا عابرا ، فما بنينا عليه سياسة ، ولا أقمنا عليه تقليدا ، ولا عرف لنا فى الحياة وجهة ! ! وقد أقام اليهود بين ظهرانى العرب والمسلمين أعصارا طويلة ، وأعدادا كثيفة ، وتوزعتهم جهات متباعدة ، لا جهة واحدة . فكانت تعاليم الإسلام ترعاهم فى غرب إفريقيا على شاطئ الأطلسي ، وفى شرق القارة على جوانب النيل كما كانت ترعاهم جنوبي الجزيرة العربية فى اليمن ، وشماليها فى العراق . وعلى امتداد التاريخ واتساع الرقعة لم يلق اليهود ذرة من المعاملة الشرسة الغليظة التى عرفها إخوانهم فى أوروبا . . لقد كان العالم المسيحي يصب عليهم جام غضبه ، ويلقحهم ببغضائه أينما حلوا. لم يكن يهود روسيا أحسن حالا من يهود فرنسا ، وهؤلاء فى شرق أوروبا وأولئك فى غربها . ولم يكن يهود إنجلترا أحسن حالا من يهود أسبانيا ، وهؤلاء فى الشمال وأولئك فى الجنوب . ثم ظهر هتلر فى ألمانيا أخيرا ففعل بهؤلاء المنكودين ما فعل. إن التعصب المسيحي داء عياء ، وقد كانت المذاهب الدينية الكنسية يضيق بعضها ببعض ويستبيحه فكيف بها فى معاملة الآخرين ؟ ولن تبرح ذاكرة العالم مآسي الحروب الصليبية القديمة ، ومجازرها المروعة ، وقد أصاب المسلمين منها بلاء عظيم . فلا غرو إذا تطلعت الدنيا إلى خلاص من هذا الشر المستطير. ص _074(1/67)
ولا عجب إذا رحبت بطي الصفحة القديمة واستفتحت صفحة أملأ بالصفاء ، وأندى بالسماحة . . من يكره هذا التحول النبيل ؟ إننا نتشوق من أعماق قلوبنا إلى عالم تغمر الحريات أكنافه وتظفر فيه الشعوب بالأمان . . ألا لعنة الله على تجار الحروب ، وموقدي نارها . ! كم نود أن يتوطد السلام فى عالم تستقر فيه حقوق الإنسان وكرامات الأمم.. لكن هل مستقبل الإنسانية يأخذ هذا الاتجاه ؟ كلا . . ونحن المسلمين فى هذه الآونة الحاسمة نشعر بأن الآخرين يقيمون كيانهم على أنقاضنا ، ويبنون سعادتهم على شقوتنا . وعندما يضع نفر من الناس خطتهم فى الثراء على ثروة مسروقة ، أو خطتهم فى البناء على أرض منهوبة فهيهات أن يتمخض هذا البدء عن نهاية صالحة. إنه كمسلك أخوة يوسف عندما رسموا الطريق لراحتهم المنشودة فقالوا ((اقتلوا يوسف أو اطرحوه أرضا يخل لكم وجه أبيكم وتكونوا من بعده قوما صالحين)) . هكذا تتعاون الصهيونية والصليبية على إقامة السلام العالمي ، ومنع الحروب الدينية أو المدنية . . اسحقوا العرب والإسلام ، وأقيموا لبنى إسرائيل دولة كبرى على أطلال هذا الماضى الكريه ، وبعدئذ سيحظى العالم بالاستقرار والرفاهية . . هذه هى سياسة الآخرين تجاهنا ، وهى سياسة حولت الخطب النارية لبطرس الناسك إلى كلمات فيها ليونة الأفعى ، وسمها الزعاف . . فهل يلام المسلمون إذا قاوموا هذا الموت الزاحف الحاقد بكل ما يملكون من عقائد وطاقات . . والآن لنكشف القوى التى تحرك إسرائيل والتى تزين للدول الاستعمارية إمدادها بالمال والسلاح . . لقد اجتمع مؤتمر مسكونى للكنائس كلها فى روما تحت رعاية البابا الأكبر.. ماذا كان الهدف من عقد هذا المؤتمر ؟ كان الهدف إبداء العطف على اليهود فى المرحلة التى يمرون بها من تاريخهم المعاصر . . ص _075(1/68)
كان الهدف عقد صلح حقيقي بين المسيحية واليهودية ، يستطيع اليهود بعده أن يتوجهوا بنشاطهم كله ضدنا . . لو كان الهدف من هذا المؤتمر منع اضطهاد اليهود ، لانعقد أيام هتلر، أو فى أعقاب حركته العنصرية. أما أن ينعقد بعد انتهاء النازية بعشرات السنين، وبعد انتصار الدول المشايعة لليهود، ثم يقال: إنه مؤتمر لمنع اضطهاد اليهود ! فهذا عبث صغير بالأذهان !.. إن اليهود فى وضع سمح لهم باضطهاد غيرهم ، فكيف يزعم زاعم أن مؤتمر الكنائس العالمية اجتمع لمنع الأذى النازل باليهود ؟ إن المؤتمر للأسف أخذ عنوانا خادعا.. وحقيقته هى دعم العدوان اليهودي ضد العرب ، أو الكيد للإسلام وأهله بطريقة جديدة . وبابا روما والسادة الذين عاونوه تجاهلوا حقوق أهل فلسطين ، وأصموا آذانهم عن صراخ اللاجئين ، وكل ما عناهم- بعد- هو تدويل القدس ، أو بتعبير صريح ، طرد المسلمين منها وحسب !.. ولننظر إلى عبارات الوثيقة التى أصدرها المؤتمر لنرى العجائب فى تدليل اليهود ، والتلطف معهم ، والدفاع عنهم . . أى فى معاونتهم على حربنا ، وشد أزرهم وهم يهجمون علينا . . تدبر هذه العبارة فى صدر الوثيقة المذكورة " إن الكنيسة- ذلك المخلوق الجديد فى المسيح وشعب العهد الجديد- لا يمكن أن ينسى أنها استمرار لذلك الشعب الذى تفضل الله عليه برحمته الواسعة فى يوم من الأيام بتحقيق عهده القديم موكلا إليه الوحى المذكور فى كتب العهد القديم ". وهذا الكلام واضح الدلالة فى أن المؤتمر يعد الكنيسة المسيحية استمرارا للوجود اليهودي الأول . ما هذا الذوبان كله ولم ذلك الملق ؟ ونتابع عبارات الوثيقة التى صدرت دعما لبنى إسرائيل فى هذا العصر المشئوم : ".. ولا تنسى الكنيسة أن المسيح ولد- من ناحية الجسد- فى الشعب اليهودي ، وأن أم المسيح ، مريم العذراء ، والحواريين ، وهم أساس ودعامة الكنيسة قد ولدوا أيضا فى الشعب اليهودي ، وتضع الكنيسة نصب أعينها ما قاله بولس الرسول فى شأن(1/69)
ص _076
اليهود الذين هم إسرائيليون ولهم التبنى والمجد والعهود والاشتراع والعبادة والمواعيد " (الرسالة إلى أهل رومية: 9/ 4). ولما كان المسيحيون قد تسلموا من اليهود ذلك التراث العظيم فإن هذا المجمع المسكونى يهدف إلى التشجيع والتوصية بمراعاة التعارف والاحترام المتبادل تماما بين المسيحيين واليهود والذى سيصبح عميقا عن طريق البحث اللاهوتى والحوار الأخوى ". أرأيت هذا الذوبان كله ؟ وهذا ا لاسترضاء والتقارب الناعمين ؟ ثم تمضى الوثيقة فتقول : " من الواجب أن نذكر أن اتحاد الشعب اليهودي مع الكنيسة هو جزء من الأمل المسيحي ، والواقع أن الكنيسة حسب تعاليم بولس الرسول (رسالة رومية 11/ 5) تفتح بعقيدة متينة ورغبة أكيدة فى وجه ذلك الشعب باب الدخول فى سلطان شعب الله كما وطده المسيح . . " وأخيرا ترشد الوثيقة إلى أنه " عند تلقين الدين المسيحي يجب عدم إظهار الشعب اليهودي كأنه ملعون . . إلخ ". وهكذا أمكن بعد عشرين قرنا من حياة المسيح عليه السلام أن يصطلح اليهود والنصارى . . ولكن علينا وعلى بلادنا وحاضرنا ، مستقبلنا. وإخفاء للضغائن الصليبية العنيفة فى هذه الوثيقة الشاذة أوصى المؤتمر المسكونى بمحبة المسلمين أيضا . وإعلانا لهذا الحب مضت دولة إسرائيل فى حربها المكشوفة ضدنا تمدها أمريكا وإنجلترا وألمانيا بل أثيوبيا وأوغندا وكينيا ، وشتى الدول المسيحية ، بما تشاء . وإنفاذا لهذه الوثيقة وتمشيا مع روحها نجحت مؤامرة الإغضاء من العدوان الإسرائيلي وفشلت كل المحاولات لاستصدار قرار بانسحاب الإسرائيليين من الأراضي التى احتلوها ، ولم ينطق أحد بكلمة عطف على العرب ! ! ومع الظروف التى جعلت فرنسا خصما لحلفائها السابقين ، فإن الفرنسيين فى موقفهم الجديد يصرون على بقاء إسرائيل- أى على إفناء فلسطين- وعلى منحها حق المرور فى خليج العقبة وقناة السويس دون عائق !! فهل يلومنا عاقل إذا صرخنا نكشف هذا الغل الدفين ؟ هل يلومنا(1/70)
عاقل إذا قلنا إننا نواجه حربا دينية عالن بها اليهود من جانبهم ، وعالنت بها الكنيسة فى المجمع المسكونى الأخير ؟ ص _077
إننا لسنا هواة حروب دينية أو مدنية ، ولا نحسن الانحراف مع نزعات التعصب الأعمى . ولو أن يهود العالم أجمعين عاشوا فى قلب العالم الإسلامى مواطنين شرفاء ما أساء إليهم أحد ، بل لأخذوا مكانتهم العلمية ومكانتهم السياسية جنبا إلى جنب مع المسلمين والمسيحيين الذين يحيون بيننا آمنين وافرين !.. بيد أن الهجوم المسلح الذى شنه اليهود علينا أخيرا ، وأعانتهم عليه المنظمات الدينية والسياسية الغربية يعطي القضية وجها آخر ، ويميط اللثام عن لون خسيس من الأحقاد التى لابد أن تواجه باستماتة وبأس ، وأن تحشد فى صدها جميع القدرات الروحية والعسكرية . وما بد- والحالة هذه- من جعل الإسلام قاعدة الدفاع ، والاستعانة بالروح الإسلامية فى طرد الغزاة المحدثين ، كما طرد أسلافهم أو اشباههم من الصليبيين الأقدمين . ولا حرج علينا أن نستعين بكل سلاح أو نرحب بكل عون . . لحساب من يقال للعرب: إن الحرب الدائرة فوق أرضهم لا علاقة لها بالدين، وأنها مطامع بشرية محددة ؟ ولحساب من توصف الحروب الصليبية القديمة بأن الدين لم يكن مشعل نارها ، ولا محرك أحقادها ، بل كانت غزوا استعماريا فقط ؟ . . لحساب من يشاع هذا الإفك وتوضع الحجب على وجه الحقيقة حتى لا يراها أحد ؟ . . إن المستفيد من إقصاء الإسلام عن المعركة ، وإيهام أتباعه أن العقيدة لا دور لها فى هذه المأساة هم اليهود ومن خلفهم من ورثة الضغائن فى أوروبا وأمريكا . . والخاسر هو الإسلام والمسلمون والعرب والمستعربون . وعندما يدفن الإسلام فى زوايا الإهمال فستدفن قبله فلسطين وما حولها من بلاد . والغريب أن ذلك ما ترتفع به عقائر ، وتخطه أقلام يجب أن يعرفها الناس وأن يحذروا حملتها . . * * * ص _078(1/71)
جذور المعركة القائمة أهو وفاء للعروبة أن يصر نفر غير قليل من رجال السياسة وأصحاب الأقلام على هجر الإسلام وسحب ذيول الصمت على اسمه ووحيه وحتفه حتى لا يعتصم به أحد ؟؟ ما هذه العروبة الغريبة ؟ إن من المتناقضات الجديرة بالكشف أن هناك أناسا يتحمسون للقومية ومع ذلك فهم يكرهون اللغة العربية !! ودعك من أنهم يعجزون عن الكلام بها ، ولكن المثير حقا أنهم فى مجال الإذاعة يؤثرون الحديث بالعامية ويفضلونها على الفصحى ، ويضيقون بقواعد النحو والصرف بله ألوان البلاغة وفنون التعبير.. وهم ساخطون على الشعر القديم وبحوره المنغومة وموسيقاه الجزلة ويفضلون عليه هراء يسمونه الشعر المنثور أو النثر المشعور.. وهم يرفضون بعنف أن تكون اللغة العربية لغة العلم والدرس فى كليات الطب والصيدلة والهندسة وغيرها ، ويتحمسون لبقاء الإنجليزية أو أية لغة أخرى بدل العربية !! وهم يغلبون على المجامع الأدبية والعلمية واللغوية ويستطيعون بهذه الغلبة محو الطابع العربى واللفظ العربى من آفاق نشاطنا الحديث كله أو جله ، حتى لنخشى نحن المخلصين لتاريخنا وثقافتنا ، أن تزول صبغتنا القومية على مر الأيام . ولقد تساءلت: أهذا النفر المشتغل بالقومية العربية أو المتزى بزيها ، صادق فيما يزعم ؟ إنه لو كان عربيا حقا ، وكان يدين بغير الإسلام ما أكن لمحمد صلى الله عليه وسلم ، وتراثه هذه البغضاء الرهيبة . . وإذا لم تكن الأمجاد العلمية والقانونية والحضارية التى اقترنت بالرسالة المحمدية فخرا للعرب فبماذا يفخر العرب ؟ ص _079(1/72)
الحقيقة التى ينبغى أن تقرر- أو التى آن أن تكشف- أن هذا النفر من الناس الذين علا صياحهم فى الأيام الأخيرة ليسوا منا فى قليل ولا كثير! إنهم نبت استعماري مغشوش الضمير والتفكير.. يهمه نشر الشيوعية وحسب إن كان من أذناب الجبهة الشرقية.. أو يهمه نصر الأسلوب الغربي فى الحياة إن كان من أذناب الجبهة الغربية.. وقد اتفق هؤلاء وأولئك على مخاصمة الإسلام ومطاردته فى ميدان التربية، والتشريع، والتوجيهين الخاص والعام، وبناء تقاليد اجتماعية لا تعترف بالحلال والحرام، والصلاة والصيام، وغير ذلك من آداب الدين ومعالم التقوى.. ثم وقعت هزيمتنا الشائنة فى يونية سنة 1967 وكانت اللطمة من العنف والعمق بحيث يفيق منها المخمور ويئوب الشارد.. بيد أن الذين مردوا على النفاق لم يعرفوا إلى التوبة طريقا، فأخذوا يهرفون بعدها بكلام كذب لا يزيد الأمة إلا خبالا ولا ينقلها من كبوتها الحاضرة إلا إلى كبوة أوسع وأشنع . . كان السبب الأول والأخير لهزائمنا المتلاحقة أمام اليهود فقدان العقيدة الحارة والأخلاق الحارسة، ونضوب معين الإيمان من قلوب تعلقت بالشهوات ونسيت المثل الرفيعة . . كان السبب الأول والأخير لهزائمنا أننا كنا أحفادا أخساء لأجدادنا الكبراء، فما قلدناهم فى طلب الآخرة وحب الشهادة، ولا قلدناهم فى أداء الفرائض، والتزام الفضائل، واحتقار الدنايا ، واطراح الأهواء.. ولنفرض أن جمهرة الجنود طيبة المعدن، فما جدوى ذلك إذا كان قيادها فى أيدى قوم يذكرون أنفسهم ولا يذكرون الله ؟ أو فى أيدى قوم يحتقرون دينهم على حين يحترم خصمهم دينه ؟ وحلت الكارثة.. وشرع الثرثارون يذكرون السبب ! ! وغاظنا أن يتواصى الجميع بقول كل شيء إلا الحق ، كأن التذكير بالإسلام جريمة الجرائم ، أو كأن العودة إليه هى المحظور المخيف . . ! ! ص _080(1/73)
ومن المضحكات فى تعليل انتصار اليهود أن جيشهم كان عصريا ! كأنما تكونت الجيوش العربية فى القرن الماضى ، ولم تتكون فى السنوات السبع الأخيرة ! ! ومن طرائف التعليل كذلك عزو انتصار اليهود إلى تفوقهم فى " التكنولوجيا " كأن هزائم الأمريكيين أمام ثوار " فيتنام " سببها أن الفيتناميين أبرع من عدوهم فى هذه " التكنولوجيا ". إن المراد من هذا كله ، الصمت عن أثر العقيدة فى كسب المعارك.. ولا أعرف عاقلا ينكر آثار القوى المعنوية فى إحراز النصر، ولكن لما كانت العقيدة عندنا هى الإسلام ، ولما كان ذكر الإسلام بغيضا عند هؤلاء الكاتبين فقد فضلوا طول اللغو على ذكر الحق توا . ومؤامرة الصمت هنا تواطؤ متعمد على إماتة حديث الدين ، واستبقاء الجمهور بمعزل عنه . . ((ذلك بأنهم قالوا للذين كرهوا ما نزل الله سنطيعكم في بعض الأمر والله يعلم إسرارهم ، فكيف إذا توفتهم الملائكة يضربون وجوههم وأدبارهم ، ذلك بأنهم اتبعوا ما أسخط الله وكرهوا رضوانه فأحبط أعمالهم)) . * * * وتنشر الصحف فى التعقيب على المعركة ونتائجها كلاما تتجاهل فيه الطبيعة الدينية لقيام إسرائيل ، وتتجاهل فيه مقررات المؤتمر المسكونى العالمي المنعقد فى روما ، وتوصياته الحانية على اليهود . . ومضيا فى إبعاد الإسلام عن النزاع كله يقول الأستاذ " محمد حسنين هيكل": كان بين الأسئلة المطروحة فى هذه المناقشة مثلا: هل القضية فلسطينية بالدرجة الأولى ، عربية بالدرجة الثانية ؟ أم هى عربية بالدرجة الأولى ، فلسطينية بالدرجة الثانية ؟ وبالتالي: هل يحتمل شعب فلسطين أساسا مسئولية المواجهة ضد الاغتصاب الإسرائيلي لوطنه ؟ ثم تساعده الأمة العربية فى هذه المسئولية؟ أم إن المسئولية على الأمة العربية وفى الطليعة منها بحكم انتمائه الوطنى شعب فلسطين ؟؟ وهذا الكلام خطأ كله ! فرضان لا ثالث لهما !! هل النزاع فلسطيني أم عربى ؟ وأين الإسلام والمسلمون ؟ ص _081(1/74)
لقد تناساهما الكاتب عن عمد ! واليهود لا يطلبون أفضل من هذا التفكير لإنجاح سعيهم . . ومع أن قضية فلسطين دينية عند أتباع التوراة والإنجيل والقرآن.. ومع أن أمر المسجد الأقصى يهم المسلمين فى كل قارة ، كما يهمهم أمر المسجد النبوي مثلا ، ولا يزعم أحمق أنه يهم السعوديين وحدهم . . ومع هذا كله ، فإن المشكلة ليست فى جر المسلمين قاطبة إلى المعركة . المشكلة أن يفتقد الدين مكانته العتيدة بين العرب أنفسهم ، وأن يقاتلوا عدوهم عن عقيدة مهيمنة واستماتة مؤمنة . . ويوم يعود العرب- فى قطر واحد من الأقطار المحيطة باليهود- إلى الإسلام، فإن دولة واحدة من دولهم ستؤدب دولة العصابات ! ويوم يعجز 30 مليون مسلم فى مصر عن طرد هؤلاء المعتدين فبطن الأرض خير من ظهرها . ويمضى الكاتب فى تدوين الفكر العربى ، وإتاهة العرب عن طريق الرشد فيزعم أن احتضان الأمريكان ، وحلفائهم لليهود مسألة غامضة تحتاج إلى دراسة علمية ! ! أما الصبغة المفضوحة لهذه العلاقة ، أما الأحقاد الصليبية المتفجرة ضدنا ، أما الطبيعة الروحية للولايات المتحدة والطبيعة الكاثوليكية لدول أمريكا الجنوبية ، فهذا كله يمر عليه الكاتب كأنه لا يدريه ولا يسمع به ! ! والغرض؟ إبعاد الصبغة الدينية عن الطرف الآخر ، لكي لا يفكر أحد فى إضفاء الصبغة الدينية على الكفاح عندنا . واسمع إليه يتساءل: " ما هى أصول التاريخ اليهودي ؟ ما علاقة اليهودية بالصهيونية ؟ ما علاقة الدولة فى إسرائيل بالأقليات اليهودية فى العالم كله "؟ ويجيب: " ليست هناك مراكز ومعاهد بحث كافية تعمل وتنتج باللغة العربية "!! أقرأت هذا الهزل.. وإلى أن تنشأ هذه المعاهد فى بلادنا ثم تنشر بحوثا جامعية فى حقيقة العدوان اليهودي فعلينا نحن المسلمين إبعاد الإسلام عن المعركة ! وربما نشرت هذه البحوث فى ظل السلطات اليهودية المنتصرة على العرب التائهين أو الباحثين عن الحقيقة ! ص _082(1/75)
إن اليهود كما قلت لا ينتظرون من وسائل الإعلام لدينا أن تخدمهم بأفضل من هذا التفكير.. ويمضى الكاتب فيتساءل: " ما هى حقيقة الصلة بين الولايات المتحدة وإسرائيل، وإلى أى مدى ارتباطهما "؟ وبعد أن يعرض عدة إجابات ليس بينها أى ذكر لدين ما ، يقول: " الحقيقة فى ظنى تكمن فى نقطة ما وسط كل هذه الأقوال، ولابد من بحث علمى عنها "!. ولا أريد إطالة التعليق على هذه الأفكار ، فإن الأمر لا يحتمل الميوعة ولا التسويف . إن على المسلمين أن يستيقظوا ليدافعوا عن دينهم وأرضهم وتاريخهم فى وجه حرب قذرة تأخذ طابعا دينيا مكشوفا لا ريب فيه. إننا نواجه حربا دينية تستهدف اجتثاث جذورنا، والتطويح برسالتنا ومكانتنا . أما جعل الحرب دفاعا عن القومية العربية بعد تجريدها من الدين فهو منته يقينا إلى إضاعة الكيان القومى واللغة العربية على السواء . لن يحمى العرب إلا الإسلام ، يوم يعتصمون به خلقا وشرعا وسيرة ، ونظاما . . أما مع أوضاعهم الشائعة اليوم فالأمل بعيد بعيد . . * * * ص _083(1/76)
هذا هو الطريق الفقر الحقيقي فى الأمة الإسلامية الكبيرة يرجع إلى هذا الشلل الغريب فى الهمم والمواهب ، وهذا التخلف السحيق فى مجالي الإنتاج والإجادة.. ثم إلى ذلكم العبث بمعنى الإيمان والنكوص عن منطقه.. إلى جانب تعلق وضيع بالشهوات ، ونهمة بادية إلى الدنيا ! وما نصف خصومنا بأنهم يكرهون الحياة وملذاتها ، بيد أن الأمم القوية تبلغ ما تهوى بوسائلها الخاصة ، أما الأمم الضعيفة فهى تلهث وراء غيرها ، أو تتعلق بركابهم تعلق المتسلقين بمركبات النقل ، أو تعلق المتسولين بأذيال السادة . والنهوض الحقيقي هو إزالة هذه العلل ، وفناء جراثيمها ، وقدرة الأمة على الاستغناء بعلمها وإنتاجها ، والاستهداء بإيمانها وفضائلها ، والاستعلاء على متاع الدنيا بحيث تأخذ منه بقدر ، وتنصرف عنه متى تشاء ! ويؤسفني التصريح بأن الشعوب الإسلامية ، حتى يومنا هذا ، لم تبدأ نهضة صحيحة ، وأن مظاهر التقدم التى نراها أو نسمع عنها هى امتداد لنشاط القوى الكبرى أكثر مما هى تطلع المتأخرين للتقدم . . فالغرب الصليبى يصطنع شعوبا شتى لخدمة مآربه ويمدها بكثير من عونه المادي وقليل من تقدمه الحضاري . والشرق الشيوعي ينافسه فى ذلك الميدان ، ويحاول الاستفادة من أخطائه ، أو يحاول ميراثه إذا انتهى فى مكان ما . . وجمهرة المتعلمين أوزاع ، وبعضهم يؤثر النمط الغربي فى الفكر والسلوك وآخرون قد أعجبتهم الماركسية فاصطبغوا ظاهرا وباطنا بنزعتها.. أما الذين يتشبثون بالعقائد والفضائل الإسلامية ويريدون بناء المجتمع الكبير على دعائم الوحي المحمدي فقلة غامضة من الناس ، ولا أقول منكورة الوجهة منكودة الحظ . . ص _084(1/77)
هب أن ثورة قامت فى جنوب اليمن تجعل الحياة الصينية أو الروسية مثلها الأعلى، أتكون هذه الثورة نهضة إسلامية؟ أم تكون نجاحا للفكر الشيوعي العالمي ؟؟ من أجل ذلك قلت: إن الشعوب الإسلامية لم تبدأ بعد نهضة صحيحة ، تكون امتدادا لتاريخها ، وإبرازا لشخصيتها أو نماء لأصلها وتثبيتا لملامحها.. ومن الغلط تصور أنى أحرم الاستفادة من تجارب الآخرين ومعارفهم!! كيف وهؤلاء الآخرون ما تقدموا إلا بما نقلوه عن أسلافنا من فكر وخلق ووعى وتجربة . . ؟ ؟ إن دولة الخلافة الراشدة اقتبست فى بناء النظام الإسلامى من مواريث الروم والفرس دون غضاضة . . وعندما آكل أطعمة أجنبية أنا بحاجة إليها فالجسم الذى نما هو جسمى، والقوى التى انسابت فى أوصاله هى قواي !! المهم عندي أن أبقى أنا بمشخصاتي ومقوماتي !! المهم أن أبقى وتبقى فى كيانى جميع المبادئ التى أمثلها والتى ترتبط بي وأرتبط بها ، لأنها رسالتى فى الحياة، ووظيفتي فى الأرض.. هذا هو مقياس النهضة ، وآية صدقها أو زيفها ، فهل فى العالم الإسلامى نهضات جادة تجعل الإسلام الحنيف وجهتها والرسول الكريم أسوتها؟ إنا هنا شديدو الحرص على جعل البناء الجديد ينهض على هاتيك الدعائم.. وإذا كنا نستورد من الخارج ثمرات التقدم الصناعى ، وننتفع من خبرة غيرنا من آفاق الحياة العامة ، فليكن ذلك فى إطار صلب من شرائعنا وشعائرنا. فإنه لا قيمة لأحدث الآلات إذا تولى إدارتها قلب خرب ، ولا قيمة لأفتك الأسلحة إذا حاول الضرب بها فؤاد مستوحش مقطوع من الله مولع بالشهوات.. إن بناء النفوس والضمائر يسبق بناء المصانع والجيوش وهذا البناء لا يتم إلا وفق تعاليم الإسلام . . تنشئة تصوغ الأجيال الجديدة ، وتقاليد تحكم العلاقات السائدة ، ورعاية ظاهرة وباطنة للعبادات المفروضة ، ومعالنة جازمة بما فى الدين من أهداف ، ومقاطعة حاسمة لما يعترضه من مسالك . . وكل بناء معنوى للأمة يتنكر للإسلام ، أو يخافت بذكره ، أو يغض(1/78)
من شأنه ، فهو مرفوض جملة وتفصيلا . . ! ولقد جربنا جعل مظاهر المدنية فوق باطن فارغ مظلم فماذا صنعنا ؟ ص _085
صنعنا ناسا: ((وإذا رأيتهم تعجبك أجسامهم وإن يقولوا تسمع لقولهم كأنهم خشب مسندة يحسبون كل صيحة عليهم …)). وهذا اللون من الناس فاشل فى سلمه ، مخذول ! فى حربه ، ما تسانده إلى غاية أرض ولا سماء . . البناء الحقيقي للنفوس يستهدف أمرين جليلين . . أولهما إسلامي بحت يحرك المسلم من يقظة الفجر إلى هدأة الليل بحماس العقيدة ، وطهر الصلاة ، وشرف الإخلاص وحب الله ورسوله . وكلتا الجهتين الشرقية والغربية تكره ذلك الأمر، وتأبى أن يأخذ الإسلام طريقه فى الحياة بهذا الوضوح . والأمر الآخر حيوي بحت ، أساسه التفوق العلمى والتفوق العملي فى كل أفق امتدت إليه الحضارة الحديثة من استصلاح التربة إلى غزو الفضاء ! ولنكن صرحاء ! إن هذا التفوق لا يولد من تلقاء نفسه ، إن التبريز فى هذا المجال يتطلب رغبة فى المعرفة ، وشوقا إلى المجهول ، وعزما على اقتحام كل عقبة ، وهذه المشاعر لا تلدها إلا عقيدة مكينة ! وإذا كانت الحاجة أم الاختراع كما يقولون فإن العقيدة المسيطرة أقوى من الحاجة فى الاندفاع والتحمل واستشفاف الغيوب ! إن الجندي المؤمن يرمق الظلام فى جنح الليل بطرف يكاد يخترق سدوله، ويبحث عن ألف حيلة لمقاومة العدو ودحره . . والعامل المؤمن يجفف العرق ، وينفى عن نفسه التعب ، لأنه ببواعث الحب لا القهر ، يريد خدمة أمته وإعلاء رسالته . . والمحزن فى شئون المسلمين أنهم من عشرات السنين لا يمكنون من الحياة وفق إيمانهم الأثير، وأنهم- أيضا- يلفظون كل ما يعرض عليهم من إيمان بديل . . ! ونتج عن ذلك أن أعمالهم الخاصة ونهضاتهم العامة تولد ميتة ، وأنهم إن تحركوا ففى مكانهم ! ! وقد تحركت اليابان منذ قرن فى موكب نهضة صناعية عارمة ، ونجحت حركتها من هذا التدافع اللعين بين ما يفرض على الشعب من خارج، وما يهفو إليه من داخل فماذا(1/79)
كانت النتيجة ؟ ص _086
أضحت أمة من أنجح أمم الدنيا ، ولا تزال برغم هزيمتها فى الحرب الأخيرة أمة مرهوبة العزم ، إن لم يكن فى صناعات الحرب ففى صناعات السلام . . أما العالم الإسلامى خلال هذا القرن فقد رزق بحكام يريدون محو دينهم أو تشويه صلته بهذا الدين ، فكانوا شؤما على يومه وغده . . إن النهضة الحقيقية هى التى تفلح فى استثارة قوى النفس، وفى جعل الأمة على اختلاف طوائفها كخلية نحل نشاطا ونظاما. ولنزد الموضوع جلاء.. لقد نشأ عن الانفكاك بين العقيدة والعمل عجز رهيب فى أداء الأعمال العادية حتى ليخيل إلى أن عوام المسلمين أصبحوا دون غيرهم من الخلق فى نواحي الإنتاجيين المادي والأدبي . . وكثيرا ما كنت أذكر قول أبى الطيب المتنبى: إنا لفي زمن ترك القبيح به من اكثر الناس إحسان وإجمال فأحس مقدار هبوطنا عن المستوى الإنسانى الرفيع فى الإتقان والإجادة!! إن النجاة من السقوط قد تكون شيئا مقبولا، ولكن ليس كل نجاح يحسب تفوقا.. قد يبدأ إنسان من العرج ويستطيع السير، ولكنه لا يمنح جائزة بتاتا فى العدو لمجرد القدرة على المشي . . والمتنبى يحتقر أهل زمانه لأنهم فقدوا ملكة الإجادة ولا يحسنون فعل العظائم !! فكيف لو رأى المعاصرين لنا من موظفين وعمال فى كل شأن دق أو جل. إن هؤلاء- لانعدام بواعث الإيمان والتقوى- تعوج فى أيديهم الأعمال المستقيمة فلا يصلون بها إلى المستوى المقبول بله مستوى النبوغ والعبقرية!! راقبت يوما بعض الناس الذين تكثر دعاواهم ولا تؤمن بلاياهم ، ثم عدت من نظرتي إليهم وأنا أضع يدي على سبب مبين من أسباب تأخرنا . . نظرت إليهم فوجدت العمل يخرج من بين أيديهم ناقصا غير تام ، شأنهم غير جميل ، ووجدتهم لا يأسون على ذلك ، ولا تحركهم أشواق إلى إدراك ما فاتهم ، وبلوغ مرتبة أفضل . فعلمت أنهم أناس تنقصهم موهبة الإتقان ، وأن أمامهم أشواطا واسعة من التدريب والعلاج حتى تكسب أيديهم المهارة المطلوبة وتستحب(1/80)
نفوسهم الإجادة والتفوق . . وأعدت النظر مرة أخرى فى سلوكهم فرأيتهم يطلبون على عملهم الناقص ثمنا كبيرا ويرتقبون من غيرهم التقدير المضاعف. ص _087
أو هم يفرضون على الآخرين مطالبهم مهما فدحت دون تقديم مقابل معقول..!! فأحسست أن لهم طبعا جشعا كثير التطلع إلى طيبات الحياة، وليتهم يتوسلون إلى مطامعهم بجهد مبذول مقدور. كلا، إنهم من الناحية النظرية ضعيفو الكفاية ، ومن الناحية النفسية ضعيفو الأمانة ، فأي بلاء هذا ؟ أمثال هذه العلل هبوط حقيقي بالمستوى الإنسانى ، ونزول ! مؤكد من مرتبة الإحسان التى يفرضها الدين ، ويبنى ترتيبه على تحصيلها . إن الحصاد الغالي للجهد البشرى بعد طول الكدح فى هذه الحياة ، أن يخرج الإنسان من هذه الدنيا بثمرة واحدة هى " العمل الحسن ". وذلك ما أكده القرآن الكريم عندما قال: ((الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملا …)) . وقال ((إنا جعلنا ما على الأرض زينة لها لنبلوهم أيهم أحسن عملا)) . فأي عمل حسن لامرئ تخرج الأعمال من بين أصابعه وكأنما أجهض عنها فهى كالسقط الذى لم تكتمل ملامحه ! وأي عمل حسن لامرئ منطلق الرغبات كالطفل المدلل يطلب فقط وعلى الدنيا أن تلبى ! ! إن النجاح الكبير فى هذه الحياة الدنيا وعند الله أن ننمى عقولنا وقلوبنا تنمية توفى على الغاية ، والله جل شأنه يقول: ((وما نرسل المرسلين إلا مبشرين ومنذرين فمن آمن وأصلح فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون)) . الإيمان والإصلاح قرينان لا ينفكان . وليس من الإصلاح المنشود المفروض أن يكون الإنسان غير مأمون على إجادة واجب أو غير مأمون- إذا أجاده- على المغالاة فيه ، وطلب مكانة لا يستحقها عليه ! ! ومرة أخرى نقول: إن إعادة الحياة إلى العقيدة الإسلامية لتحتل مكانها فى الضمير ثم إلى الشريعة لترسم خط السير فى المجتمع الكبير ، هو وحده طريق النهوض الصحيح. * * * ص _088(1/81)
القِيم الرُّوحية .. كلمة غامضة مُبهمة شاعت كلمة " القيم الروحية " على ألسنة الكتاب والخطباء فى الأيام الأخيرة . وهى كلمة جدت فى الأدب العربى الحديث ولم نقرأها فى أساليب الأولين . . ولم نشعر عندما سمعناها لأول مرة بإنكار لمدلولها المتبادر إلى الأذهان. إذ كانت- فيما فهمنا- تعنى التسامى بالنفس، والعناية بالخلق، والاعتراض على التفكير المادي ، ورفض وجهته فى السلوكين الخاص والعام.. وتلك جميعا معان مأنوسة مستلطفة ، نقبلها نحن المسلمين ، ونراها بعض تراثنا الديني بلا ريب . لكن الكلمة تكررت فى مواطن شتى ، وأحاطت بها ملابسات مقصورة! بل يمكن القول بأنها أضحت مصطلحا سياسيا له مفهومه وغايته عندما يطلق هنا وهناك . . والظاهر أن هذه الكلمة ، كلمة القيم الروحية ، تعنى مجموعة الأديان الأرضية والسماوية التى تعتنقها جماهير مكثفة من البشر ، وتصبغ وجهتها فى الحياة بطابع غيبي بارز ، وضروب من العبارات مقررة ، وأنماط من السلوك يستمسك بها الأتباع ولا يحيدون عنها أبدا . أى أن هذه القيم تشمل البوذية والهندوكية واليهودية والمسيحية والإسلام وكل ما يتقرر فى هذا الميدان التقليدي المأثور، ميدان الدين والمتدينين ومن إليهم..!! وضم هذه النزعات كلها تحت عنوان القيم الروحية اختصار حسن، كما أن كلمة "المشروبات الروحية " تعنى جميع السوائل المسكرة مهما اختلفت الأسماء فى شتى الأقطار !! وتعبير " القيم الروحية "بهذا المفهوم الجامع تستحق دراسة متمهلة كي نحدد منه موقفنا . ص _089(1/82)
فإن طي الحق والباطل تحت عنوان واحد أمر نرفضه ابتداء ! ومن هنا فنحن نستبعد الأديان الأرضية من نطاق هذه القيم ولا نعترف بدين إلا ما كان له أصل سماوي محترم . أى أن الأديان فى نظرنا لا تعنى إلا الإسلام ، فالنصرانية ، فاليهودية . أما الفلسفات الأخرى التى تحولت بين أيدى أتباعها إلى دين فهى فى نظرنا ضروب من الوثنيات مبتوتة الصلة بالله الواحد ، مصروفة بطبيعتها عن الاستمداد منه والاستعداد للقائه . وقد تتعصب لهذه النحل ألوف مؤلفة من البشر ، ليكن فلها ما تشاء.. لكن ليس لنا أن نسلك هذه المذاهب مع الأديان السماوية فى نظام واحد. ثم إن الشرق الأوسط لا يعرف هذه المذاهب ولا أتباعها ، ولذلك لن يضار أحد من إطلاق هذا العنوان المستحدث على الأديان السماوية وحدها- أعنى به تعبير القيم الروحية . بقى أن نتساءل : ما السر فى ابتداع هذا العنوان ليشمل الأديان الثلاثة ؟ والجواب لعله محو ما يشاع فى أوروبا من أن التدين والتعصب صنوان ، وأن الخلاف الديني يضر بالقضايا العامة للأوطان . . ونحن نكره ضيق الأفق ، وانحراف العاطفة ، اللذين يسيطران على بعض القاصرين ويسيئان الإساءة كلها إلى حقيقة الدين . بيد أن ذلك الوهم لا مكان له فى حياتنا ولا فى تاريخنا . ويمكننا أن نقول بقوة: إن التعصب الوطنى والعنصري والديني رذيلة تنتقل فى المجتمعات الأوروبية من قديم ولا تعرفها مجتمعاتنا العربية. إنها هناك وباء مقيم ، أما فى بلادنا فقد تبدو أعراض المرض على أفراد محصورين ثم يتلاشى الداء العارض كما تتلاشى غيمة دخان أمام رياح متجددة. ومن ثم فإن هذا العنوان لا يجتلب لهذا السبب ، ونحن نرفض إنشاء مصطلحات سياسية جديدة للرد على تهم أنشأها لفيف من الكذبة . . هل هناك قصد آخر من وراء تعبير القيم الروحية ؟ لعله منع استغلال طوائف الإقطاعيين والرأسماليين والكهان لفطرة الدين . ص _090(1/83)
والجواب أننا نرفض كل استغلال للدين وانحراف به عن هدفه . ومن الحق الذى لا يمكن جحده أن ثورات التحرر الكبرى فى بلادنا كانت دينية ، وآخر هذه الثورات سنة 1919، فإن ساحة الأزهر كانت مصدرها ووقودها ، وكان رجال الدين المسيحي مع علماء المسلمين فى القيام عليها.. أما التحرر الاجتماعى ، فإن رواده الأوائل من المفكرين الإسلاميين. ومعروف أن علماء الأزهر قاطبة من أبناء الفلاحين والعمال، وأنهم ما كانوا قط طبقة إقطاع فى هذه البلاد. ومن ثم فإن هذه الشبهة مردودة كسابقتها، ولا نقبلها أساسا لفرض هذا المصطلح السياسى الجديد.. بقى شيء آخر هو أننا نحن المسلمين نرى فى وصف الإسلام بأنه قيمة روحية وحسب بخسا لحقيقته ، وانتقاصا لتعاليمه ، وانسياقا مع التفكير الاستعمارى فى هجر شرائعه ، ودك شعائره ، وإبعاده عن الحياة العامة.. أهو إتيان على الاسم بعد الإتيان على الجوهر. ومن الإنصاف أن أذكر هنا تفسيرا للدكتور عبد العزيز كامل شرح فيه كلمة القيم الروحية شرحا حسنا . فقد رد المعنى المراد إلى قوله تعالى: ((ينزل الملائكة بالروح من أمره على من يشاء من عباده …)). وقوله: ((وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا …)). وبهذا التفسير اعتبر كلمة القيم الروحية شاملة لتعاليم الإسلام كلها وأن المناداة بها تعنى رجع المسلمين أصول دينهم وفروعه..!! ولا شك أن هذا تفسير ذكى ، يوائم بين العنوان المجلوب والرغبة المنشودة، ولا اعتراض لنا عليه من هذه الجهة . . وإنما نعترض على كلمة القيم الروحية من ناحيتين أخريين ! أولاهما أن هذا التفسير الصحيح لا يدركه إلا الأقلون ولا تؤيده التصرفات الملابسة للنطق به . ص _091(1/84)
والثانية أن عنوان ديننا معروف من عشرات القرون ، هو الإسلام: ((…هو سماكم المسلمين من قبل وفي هذا ليكون الرسول شهيدا عليكم و تكونوا شهداء على الناس …)). فلماذا نترك عنوان ديننا الأثير المقرر ونتوارى تحت عناوين غامضة وشارات مبهمة ؟؟ إنا ننظر إلى أتباع الأديان الأرضية والسماوية فى كل قارة فنرى كل واحد منهم يملأ فمه بالانتساب إلى دينه والانضواء تحت لوائه . واليهود الذين شاركوا فى تفجير الذرة لم يشعروا بغضاضة من إحياء اسم إسرائيل والمكابرة الوقحة ببناء دولة له . . فلم يتوارى اسم الإسلام وحده ؟ ولماذا يطالب المسلمون وحدهم بالتخفي والاستخذاء ؟؟ لقد قيل من زمان بعيد: إن الدين لا صلة له بالدولة. ثم قيل لا صلة له بالاقتصاد. ثم قيل لا صلة له بالقانون. ثم قيل إن الأخلاق المدنية أهدى من الأخلاق الدينية. ثم قيل إن العبادات وسيلة تزكية وليست مقصودة لذاتها. وطبق هذا القول المنكر على الإسلام. فماذا أصبح الإسلام بعد هذا البتر والتطويح ؟ . وعندما يطوى الاسم الذى اختاره الله لنا من خمسين قرنا فقال ((…هو سماكم المسلمين من قبل …)) ويذكر بدله تعبير " قيم روحية " فعلام يدل هذا ؟ ألا يدل على تهرب وكراهية ؟ كراهية للاسم بعد إضاعة المسمى ! ! من أجل هذا المحذور أرجو إحياء الإسلام موضوعا وشكلا، وحقيقة واسما، فذلك أحق وأولى.. * * * ص _092(1/85)
لم احتفَلوا ومَاذا استفادوا ؟ الحديث عن رسول الله حبيب إلى كل قلب ، فإن صنائع معروفه طوقت أعناقنا ، وثمرات جهاده الشاق هى التى تحيى ضمائرنا وتمسك كياننا.. وإذا كان المثل السائر " من علمنى حرفا صرت له عبدا " فكيف بمن هيأ لنا الرشد فى الدنيا ، والنجاة فى الأخرى ؟ إن دينه فى رقابنا ضخم وجميله فى أفئدتنا مغروس. ومع ذلك فقد كنت أقدم رجلا وأؤخر أخرى عندما كنت أدعى إلى أحفال المولد الشريف لأتحدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ! ! كنت أشعر بأن هذه الأحفال صلة مفتعلة بين المسلمين ونبيهم ، وأن الخطب التى تلقى فيها دعاوى حب لا يساندها دليل ، ولا يؤيدها واقع .. كانت هناك مداح للنبى منظومة ومنثورة ، وشارات فرح بذكراه مطوية ومنشورة ولكن لم يكن هناك ما يدل على صدق الأتباع وحسن التأسي ، بل لقد هرع إلى سرادقات الموالد بين المغرب والعشاء ناس لم يصلوا المغرب ولا العشاء ! ! إن الأمر لا يعدو المشاركة فى تقليد مكرر مألوف . . وذكرت أبياتا للبوصيرى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فخيل إلى أن الرجل كان يعنى جماهيرنا عندما قال فى بردته : فإن فضل رسول الله ليس له حد فيعرب عنه ناطق بفم! وكيف يدرك فى الدنيا حقيقته قوم نيام تسلوا عنه بالحلم؟ نعم، كيف يدرك هذه الأفواج النائمة الهائمة حقيقة النبوة التى أيقظت العقل من سباته ، وبدلت ليل العالم إلى نهار ، وفكت أغلال الذل عن أجيال طالما عاشت فى الذل ، وقضت أعمارها فى الهوان . . ؟ ؟ ص _093(1/86)
لقد كنت أوقن وأنا أنقل الخطوات هنا وهناك أن المسلمين لا يعرفون حقيقة النبوة ، ولا يفقهون معنى الرسالة ، ولا يدركون ما يجب عليهم بإزائها، إنهم- كما عبر البوصيرى- قوم نيام يتسلون عن الحقائق بالأحلام. والنيام الذين يبدون فى صور الأيقاظ كثيرون . وأسمع إلى أبى الطيب يصف فريقا منهم ، وكأنه معنا فى هذا العصر ، يصف المجتمع الإسلامى المعتل : أرانب غير أنهمو ملوك مفتحة عيونهم نيام! بأجسام يحر القتل فيها وما أسيافها إلا الطعام! تأمل هذا الوصف لعبيد الشهوات ، وصرعى الملذات ، إنهم يظلون منكبين على دنياهم حتى يختنقوا داخلها كما يختنق دود القز بالإفرازات التى ينسجها . . والأمم التى تستسلم لدناياها على هذا النحو لا تصلح للحياة ، ولا تنتصر على عدو بله أن تتصدر القافلة الإنسانية وتخدم رسالة عالمية ! ! وهذا الفريق من المخدرين فى مشاعرهم ، المتبلدين فى أفكارهم ، عبء على العقائد التى يعتنقها ، إنه يشينها ولا يزينها ، ويلقى عليها أوزاره بدل أن يدعها تغسل عنه أوضاره .. ومن حق كل ذى لب أن يسأل: هل المسلمون الذين يحتشدون ألوفا لتحية المولد النبوي منطقيون مع أنفسهم ومبادئهم ؟ ما أظن الواقع ولا الخيال يجيبان بالإيجاب.. إن احتفالات المسلمين بميلاد نبيهم مع تركهم لأركان دينه ، وصدهم عن سبيله ، مرض نفسى واجتماعي يحتاج إلى الدرس والشرح . . ! ! وقد لاحظت فى تجاربي مع الناس ، أن البعض يكتفى فى إثبات ولائه لأهل الصدارة وأولى الأمر ، بكلمات ملق يزورها ، ومظاهر زلفى يجيدها . . ! فإذا تقاضاه الولاء المزعوم موقفا صارما ، أو مغرما ثقيلا ، كان أول الفارين! وكم فى الدنيا من أناس يخدعون الآخرين بهذا الأسلوب الميسور، يقتربون منهم ما دام الاقتراب رخيص الثمن سريع النفع ، فإذا بهظ الثمن أو عز النفع لم تجد لهم أثرا ! ! ص _094(1/87)
وقديما تطوع المنافقون بالاقتراب- البدني- من رسول الله، وذكروا أنهم يؤمنون به ! ونزل الوحي الأعلى يقول: ((إذا جاءك المنافقون قالوا نشهد إنك لرسول الله والله يعلم إنك لرسوله والله يشهد إن المنافقين لكاذبون)) . وشهادة الله على المنافقين بالكذب إنما جاءت بعد أن فضحت مواقفهم وسرائرهم ، فما صدقوا فى جهاد فرض عليهم ، ولا اطمأنوا لحكم صدر فى قضاياهم ، ولا بادروا إلى صلاة جامعة ، ولا سارعوا إلى نفقة مطلوبة . . إنهم مؤمنون عندما يكون الإيمان كلاما ، أما عندما يكون جدا وإقداما فللأمر وجه آخر ! ! : ((بل قلوبهم في غمرة من هذا ولهم أعمال من دون ذلك هم لها عاملون)) . وقد كثرت الأحفال الرسمية والشعبية بميلاد الرسول الكريم ، أحياها مسلمو هذا العصر الذين هزمتهم شراذم اليهود ، وأنزلت بهم خزيا ليس لسواده نظير فى تاريخ المسلمين أجمع . . فأي علاقة مفتراة بين أولئك المسلمين وبين نبيهم المجاهد الشجاع الصبور ؟ إن العلاقة الوحيدة المقبولة بين المسلمين ونبيهم هى التأسي به ، والسير تحت لوائه ، والتزام سننه القويم ، وصراطه المستقيم . . فمن فعل ذلك فهو أولى الناس به فى الدنيا والآخرة وإن لم يحيى لمولده ذكرى ! ومن شرد عن هذا الهدى ، فقد انقطع بالرسول سببه ، وإن أقام لمولده عشرات السرادقات . . فى أيامنا هذه التى نلتمس فيها أهل الفداء والنجدة ، ليذودوا عن العقائد والحرمات ، أرمق بالإجلال العميق الصحابي الذى يقول: إنه لا يبالي على أية صورة يموت ! سواء كسر رأسه ، أم مزق صدره ، أم شق بطنه ،- أم قصم ظهره ، إن صور الهلاك كلها لا تقلقه . إنه معنى بشيء واحد فقط ، أن يموت وهو مسلم . فإن اطمأن إلى هذا المصير مات مستريحا على أى جنب وبأي جرح . ص _095(1/88)
ورجاؤه فى الله أن يتقبل ذلك الفداء ، وأن ينزل بركاته على أشلاء قطعت فى سبيله . ولست أبالي حين أقتل مسلما على أى جنب كان فى الله مصرعى وذلك فى ذات الإله وإن يشأ يبارك على أوصال شلو ممزع هل تفرست فى ملامح هذا الشهيد النبيل ؟ هل تسمعت إلى هذا النغم الموقن الجليل ؟ أولئك هم الرجال الذين رباهم محمد وتعلموا منه كيف يحيون لله وكيف يموتون لله ، وأولئك هم الرجال الذين دمروا معاقل الظلم ، وتركوا اليهود وغير اليهود يولون الأدبار فى أقطار الأرض ! والاتصال الصحيح بمحمد إنما يكون بمعرفة ربه ، وإحياء وحيه ، وإحلال حلاله ، وتحريم حرامه ، وتوقير أحكامه ، وتكوين الأجيال الجديدة على خلقه وعبادته وجهاده . إن محمدا هو الكتاب الذى تلقاه وعاش به وله . فما تكون حالنا إذا قال الرسول عنا: ((…يا رب إن قومي اتخذوا هذا القرآن مهجورا)) . لقد أحسست كربا شديدا وأنا أسمع قائد جيوش اليهود يقول: نحن نقاتل من أجل التوراة واليهودية وأرض المعاد ! ! يقولها دون غموض ولا استحياء ولا توجس على حين تنطبق شفاه الزعماء العرب والمسلمين فلا يجرءون على إرسال مثل هذا التصريح فى الدفاع عن القرآن والإسلام والأمة الكبرى المحروبة تحت وطأة ألف هاجم من الشرق والغرب . . هل ذكر التوراة شرف وذكر القرآن جرم ؟ هل يتبجج الناس بباطلهم ونتوارى نحن بحقنا ؟ إن محمدا النبى الأمين هو أجدر إنسان فى العالم بأن يقتفى أثره ويشاد بتراثه ، وإن كتاب محمد هو الوحي الصادق الذى تلمس النجاة فى آياته ، ويرتقب الخير من اتباعه ، ويشرف الساسة بتلاوته وتدبره ، والتنويه به ، وجمع القلوب عليه . . إن ميلاد محمد ليس سوقا اقتصادية لجر المنافع بالبيع والشراء ، وليس استجلاء تاريخيا لبعض ما فى المتاحف من آثار وأخبار . . ص _096(1/89)
إن أمر محمد ودينه وأمته أعظم عند الله وعند الناس من هذه الأحفال الرخيصة دينية أو دنيوية . . وإذا لم نقرر بناء مجتمعنا على عقيدة محمد وشريعته فلا داعي للاحتفال بمولده ، وإظهار ولاء مكذوب له . . وبقيت كلمة حاسمة تتصل بمستقبلنا مع اليهود ، ولا نسأم من تكرارها. إن الاعتقاد الديني يشد زناد النشاط الإنسانى شدا هائلا ، ومن ثم يخرج العمل وكأنه قذيفة لا يقفها دون مداها شيء . فإذا قرر اليهود أن يعلنوا حربا دينية ، وأبينا نحن إلا أن نجعل الدين مظاهر لا تعمر قلبا ، ولا تصوغ خلقا ، ولا تسوى صفا ولا تحكم معاملة ، ولا تصنع مثلا أعلى فالويل لنا فى القريب والبعيد . . إن السياط الموجعة إذا لم تفلح فى إعادة الرشد إلى الزائغين فستتبعها قوارع فاجعة ، وهزائم فاضحة . فهل يؤمن قومنا ويعودون إلى الله ، أم تمضى فيهم سنة الأولين أولئك الذين لم يؤمنوا حتى يروا العذاب الأليم . . ؟ ؟ * * * ص _097(1/90)
أجيَال النّصر وأجيَال الهزيمة ليس الانتصار والانكسار حظوظا عمياء تصيب الأمم وهى غير مستحقة لها ، أو تفجؤها على غير توقع منها ، أو تلتوى بمسيرها فتقهرها على وجهة كانت تؤثر سواها . . كلا فإن الأمور تتدافع إلى نهايتها وفق سنن كونية دقيقة . . وخواتيم الصراع بين الأمم لا تقع خبط عشواء ، ولا تكيلها الأقدار جزافا ، بل تجيء وفق مقدمات منتظمة ، كما تجيء النتائج بعد استكمال الأسباب . . ! ! وربما كان ما يصيب الأفراد أحيانا من نوازل مبهمة سببا فى عد المصائب جملة أقدارا قاهرة . وربما كان ذلك ما جعل المتنبى يقول: ألا لا أرى الأحداث مدحا ولا ذما فما بطشها جهلا ولا كفها حلما وهذا الكلام من نزوات الشعراء ، ومما قد يتسلى به الغافلون عندما تؤدبهم السماء. والحق أنى عندما أتأمل فى هزائمنا المتلاحقة أمام اليهود خلال العشرين السنة الأخيرة أشعر بأن الغزو الثقافي قد حقق مراده وفق ما يشتهى . وأن ما غرسه فى بلادنا قد أتى ثماره المرة كلها . وأن جهوده الماكرة فى ميادين التعليم والإعلام منذ استعمر الأراضى والعقول لم تضع سدى ! ! من عشرات السنين والأجيال الجديدة تذاد عن القرآن الكريم ذودا ، وتجهل فى آياته تجهيلا . . من عشرات السنين والتاريخ الإسلامى تعكر منابعه ، وتقلل حصصه ، ويلحق تارة بالتاريخ القومى ، وتارة بالتاريخ الأجنبى ، حتى لا يحسب محمد وأصحابه آباءنا الروحيين والفكريين . . ! ! ص _098(1/91)
من عشرات السنين وعلوم العقيدة والفقه والتربية والأدب تطارد من التعليم العام لتكون بضاعة بعض الأزهريين المغموصين . وأخيرا تزوى البضاعة وحملتها فى ركن بعيد عن الأضواء لتتلاشى على مر الأيام . . من عشرات السنين والأوضاع المقلوبة التى تشبه عوامل التعرية تنحت مقوماتنا من الإيمان والصلاة والتقوى ، وتطلق أسراب الديدان لتلتهم كل نبت يبدو للشرف والوفاء والحياء . . فلما التقى الجمعان فى سيناء وغير سيناء وقع ما كان الاستعمار يمهد له من قديم ، ويسوق الأمور إليه بتؤدة وصبر ! ! إن كل القوى الناقمة على الإسلام اختبأت وراء الاستعمار الحديث لتنال منه بشتى الأساليب ، فإذا احتاج الأمر إلى المكر لانت ، وإذا احتاج الأمر إلى القسوة بطشت . وهى فى لينها تدس السموم ، وفى شدتها تحترف الهمجية والجبروت وفى كلتا الحالتين لا تنام عن غايتها أبدا . إنها تريد بناء مجتمعات منسلخة عن الإسلام ، مرتدة عن هديه فى البيت والشارع والمدرسة والمحكمة وسائر مناحى الحياة العامة . . وقد وصل الغزو الثقافي إلى غايته المنشودة ، وانعكس ذلك كله على معاركنا مع بنى إسرائيل . . ذلك أن المعارك يربحها طلاب التضحية من أصحاب العقائد ، ولا يربحها عباد الشهوات من أبناء الدنيا . . وينبغي أن أجيب هنا عن شبهة روجها القاصرون . . إن العلم سلاح عظيم فى إحراز النصر، هذه حقيقة لا يحتاج كشفها إلى عبقرية ، ولا يمارى فيها إلا مجنون . وبناء الدولة على العلم هو وظيفة كل حكم راشد ، وخصوصا العلم التجريبي والتطبيقي . . لكن العلم أداة تستخدم لنصرة من يمتلكها . والجبهات المتصارعة فى العالم اليوم تتنافس فى تحصيل العلم وتعرف أسراره وتكثير رجاله . ص _099(1/92)
الشرق الشيوعي والغرب الصليبى كلاهما يتوسلان بالتفوق العلمى لدعم موقفه ومد سلطانه . فالعلم هنا أو هنالك وسيلة لإنجاح المعتقد أو تغليب المذهب . . فكيف يجيء فى هذه الأيام العجاف من يريد تزهيدنا فى العقيدة باسم الحاجة إلى العلم ؟ وفى أى بلاد يقال هذا الكلام ؟ فى بلاد الإسلام الذى احتفى بالعلم من أول آية نزلت فيه !. لقد لاحظت أن ضعف العقيدة خلق فى بلادنا صنفين من المتعلمين كلاهما لا خير فيه . الأول: صنف يكتفى من العلم بقشوره ، أو إجازاته الرسمية فهو لا ينفذ إلى لبابه ، ولا يستفيد أو يفيد من حقائقه . والآخر: صنف اغتر بالقدر الذى أحرزه ، ويريد أن يحيا به ملكا غير متوج ، وكأنه تعلم ليستكبر ويطغى . . ! ! والصنفان يكثران حيث يضعف الإيمان، وتهى الأخلاق ، وتفحش الأثرة . وأصحاب العقائد حين يقبلون على العلم يجودون فيه ، لأن طلب الكمال غايتهم، ولأن العلم وسيلة رائعة- كما شرحنا- لإعزاز مبادئهم وقومهم. وفى فراغ الجو من الإيمان الباعث على الحركة ، وجدنا ناسا ثرثرتهم أكثر من إنتاجهم! ودعاواهم أكثر من حقائقهم ! وشهواتهم أملك لأزمتهم ! مع أنهم تخرجوا من شتى الجامعات المدنية أو العسكرية . . ماذا أرى الآن بعد الهزائم المخزية التى نكست رءوسنا ؟ أقواما يضحكون ولا يبكون ! ينطلقون إلى القهوات والأندية ليسمروا ويعبثوا ، أو إلى الشواطئ ليلهوا ويلعبوا ! ! كان ينبغى أن تكون هذه الجباه مقطبة لكنها مبسوطة ! كان ينبغى أن تكون هذه الشفاه مزمومة لكنها منفرجة ! وماذا أقرأ الآن ؟ خليطا هائلا من الأخبار والبحوث كأنما حشدها امرؤ يريد أن يسرق عقلي حتى لا أفكر ! وأن يسرق ضميري حتى لا يستيقظ ! وأن يملأ أذني بطنين مزعج من الأحداث المفتعلة حتى يختفي صوت المعركة القائمة . . ص _100(1/93)
فإذا فرض الواقع الأسيف نفسه . سمعت من يرجع الهزيمة إلى ألف سبب غير سببها الحقيقي ! ومن يلتمس لها ألف دواء إلا دواءها الصحيح. ويستحيل أن يتكون جيل النصر فى هذا الجو الأغبر . . لقد اجتهد الاستعمار خلال قرن من الزمان أن يعودنا ترك الصلوات وحب الشهوات . فلماذا لا يتصدر الرؤساء والوزراء والمحافظون صفوف المصلين ويحرصون على مرضاة الله ؟ ولماذا لا تحل المشكلات " الجنسية " بالاستعفاف وتيسير الزواج بدل إشاعة التبرج وتوطيد أركان الفحشاء ؟ ولقد استمعنا إلى خصومنا يغالون بوصايا الأنبياء ، ويتمسكون بتعاليم كتبهم ، ويصرح وزير حربية إسرائيل دون خجل ولا وجل بأنه يحارب من أجل التوراة واليهودية وأرض المعاد كما روت ذلك الصحف . على حين يخجل رؤساء العرب ويوجلون من الانتساب إلى القرآن والتشبث بآياته ، لأن الغزو الثقافي أمات علاقاتهم بالدين والنبي والصحابة والتابعين ! ! لو كان العرب مجموعات من الدراويش الطيبين هزمهم التخلف العلمى الشائن لقلنا: إن التنويه بالعلم فريضة ، وهذا التنويه لا يتطلب عبقرية فى المناداة به . إن محمد على الأمي وابنه إبراهيم استكملا هذا النقص واستطاعا بالجيش المصرى أن يكسبا معارك عظيمة فى القارات الثلاث . . إن جيشنا من خيرة جيوش الأرض عندما يرزق القيادة الصالحة.. لكن العرب هزمتهم أزمة الإيمان فى قلوبهم ، والقحط الرهيب فى المثل والأخلاق . لقد فتكت بهم فوضاهم الداخلية قبل أن تفتك بهم سيوف الأعداء . وهذا المصير الحقير هو ما خطط له الاستعمار الفكرى الضائق بالقرآن والرسول ومنهج الإسلام كله منذ ظهر الإسلام . . إنه صنع أجيال ، فيجب علينا نحن أن نصنع أجيال النصر..! وأجيال النصر لا يصنعها قوم انحلوا عن دينهم ! وتنكروا لتاريخهم..! إن الأيدى المتوضئة لا الأيدى الملوثة هى التى تصنع هذه الأجيال.. * * * ص _101(1/94)
اذكُروا .. واحذروا فى مطالع القرن الثالث عشر للهجرة ، والتاسع عشر للميلاد ، كان العالم الإسلامى يخضع للخلافة العثمانية فى وحدة سياسية جمعت أطرافه تقريبا ما عدا أندونيسيا التى احتلها الهولنديون ، والهند الإسلامية التى احتلها الإنجليز. وكان هذا الكيان الضخم مسرحا لعلل فاتكة أكلت عقله وضميره وبدنه. كان العملاق- الذى آلت إليه مواريث الراشدين والأمويين والعباسيين- يترنح فى الميدان الدولي ، وينتزع خطاه بصعوبة فوق أرض توشك أن تكون مقبرته! وكان لقب الرجل المريض هو الاسم الذى شهر به فى طول الدنيا وعرضها.. كأن مرضه آفة فذة تستحق الذيوع والتندر ! ! لكن المريض الكبير لم يسلم الروح بسهولة ، فقد صارع آلامه الداخلية والخارجية صراعا دلى على تشبثه بالحياة ، وقدرته على المقاومة ، ولم يستسلم للموت إلا بعد مائة وخمسين سنة بدأت بعد حملة فرنسا على مصر ، ثم الجزائر ، وانتهت فى أعقاب الحرب العالمية الأولى بعد ما اقتسم الحلفاء التركة الهائلة ، وبعد ما أوعزوا للكماليين أن يرمو بالخلافة فى البحر . . ! ! ومع الألم الذى يستشعره المسلم لتمزق أمته ، وذهاب خلافته ، وضياع وحدته ، فلابد من الاعتراف بالحقيقة المهينة.. وهى أن الخلافة التركية لم تكن جديرة بالبقاء لا من ناحية الدين ولا من ناحية الدنيا.. ففى عهدها بعدت الشقة بين المسلمين والإسلام بعدا رهيبا بل لقد حال الإسلام أثرا بعد عين.. وإذا كانت حضارته الأولى قامت على الحقائق والفضائل، فإن العالم الإسلامى أجمع فى ظل السيادة التركية كانت تذرعه الخرافات والتفاهات جيئة وذهوبا بين المحيطين الهادرين. ووسعت الضغائن الفجوة بين العرب والترك، فكان ظلم هؤلاء وكانت خيانة أولئك، سر الاستعمار الذى أطبق بليله الحالك على أمة ضريرة مهيضة، حائرة..!! ص _102(1/95)
وفى الوقت الذى كانت دولة الإسلام تنحدر فيه إلى الغروب، كانت هناك حضارة أخرى تولد فى أفق عريض، وتأخذ طريقها إلى امتلاك أزمة الأمور فى أرجاء الأرض كلها.. والحضارة الأوروبية الوارثة قادتها أول الأمر نهضة عقلية مادية ناشطة جريئة ، وقد نشب بينها وبين النصرانية خصام دام مر..!! إلا أن رجال الكنيسة سرعان ما واءموا بين ما لديهم وبين هذه اليقظة الجديدة فظفروا منها بحق الحياة ، ثم بحق المشاركة والتوجيه ،. وهذا الازدواج اصطحب معه الأحقاد الدينية القديمة ، فإذا السياسة الأوروبية الحديثة- برغم الجو العلمى الذى نبتت فيه- تمليها سياسات ناقمة جائرة ، تؤثر الباطل على الحق ، والجور على الإنصاف ، والتعصب على السماحة ، وتحاول بنزق غريب أن تهين الإسلام وأمته فى كل مكان !! وقبل أن نشرح تفاصيل هذا السلوك نحب أن نلفت النظر إلى أن الجو العلمى الذى نبتت فيه الحضارة الحديثة لم يكن من صنع أوروبا ولا أمريكا. وما كانت تربية القارتين خلال الأزمنة الماضية بهذا الجو. " لقد ازدهرت الحضارة الإسلامية فى القرون الهجرية الأولى، وحمل العرب والمسلمون المشعل الحضارى فى هذا الدور من أدوار التاريخ الإنسانى، فأضاء للغرب ظلمات عصوره الوسطى! هذه حقيقة تاريخية اعترف بها الغربيون أنفسهم، وأقر مؤرخوهم- من أمثال ويلز، وديورانت، وتوينبى- بأن النهضة الحديثة فى أوروبا تدين بوجودها لما تلقت من الشرق العربى الإسلامى، الذى كان يقود البشرية على درب الحضارة فى العصر الوسيط ".. بيد أن البغضاء الكامنة على الإسلام أهالت التراب على اليد التى أسداها.. ولم تلبث إلا قليلا حتى جعلت الدول الكبرى ، تتحرك وراء هدف واحد ، هو الحيلولة دون قيام دولة إسلامية كبرى ، وتعميق الجراحات التى أصابت الأمة الإسلامية لعلها تنتهي بها إلى التلاشي والفناء.. وهى ترى أنها أفلحت خلال القرنين الماضيين فى تقطيع أوصال الخلافة وتمريغ كرامتها فى الوحل.. فلتمض فى(1/96)
الطريق نفسها ! ص _103
ولتعمل ظاهرا وباطنا على تشديد الخناق حول رقبة الإسلام وآماله فى الحياة ! ولتستخدم الحيلة والسلاح جميعا فى خذلان كل قضية إسلامية وتأليب أى خصم ضدها . وفى سبيل القضاء على الإسلام ، ومنع الاتجاه إليه ، أو التجمع عليه، وضعت أوروبا هذه النقط الثابتة ، وجعلتها محور سياستها مع مختلف الحكومات والشعوب الإسلامية : أ- تمثل الخلافة الإسلامية أبوة روحية وثقافية ، وقوة اقتصادية وعسكرية وسياسية ، وقد حرصت أوروبا على تجريد المسلمين من هذا اللواء الجامع وذلك الرمز المهيب ، وأوحت بإهالة التراب على كل كلام فى موضوعه ، حتى لا يظفر الإسلام فى حاضره أو مستقبله بنظام يلم شمل المسلمين فى مختلف القارات ويحدد قافلتهم وهى تسير مع الزمن ! ذلك فى الوقت الذى يدعم فيه السلطان الروحي والثقافى والسياسي للبابا ، وتستقبل كلماته وكأنها وحي مصون . ومما لا يمكن تجاهل دلالته أبدا أن بابا روما أصدر قرار حرمان ضد رئيس حكومة الأرجنتين فسقط الرجل سقوطا مدويا لم يقم منه إلى الآن ، وها قد مضت عشرة أعوام وهو شريد طريد . أما رجالات الإسلام الذين هم مظنة التجميع العام لأمته أو التجميع المحدود ، فدون بروزهم وثباتهم مصاعب وأهوال ..!! 2- واجتهدت السياسات الاستعمارية فى قتل الأخوة الإسلامية ، ووضعت خطتها لكي تجعل من " المواطنة " ومن " القوميات الضيقة " بديلا وحيدا للجامعة ا لإسلامية. وبذلك تبعثر المسلمون على نحو سبعين جنسية كل جنسية معزولة عن الأخرى ، أو محبوسة وراء فواصل مادية وأدبية لا حصر لها.. وعندما قامت الجامعة العربية رحبنا بها على أساس أنها جزء من كل ، أو خطوة على الطريق . ولكن الإنجليز الذين أوعزوا بتكوينها كانوا يريدونها عروبة مقطوعة عن الدين ، متنكرة للإسلام ! ص _104(1/97)
والغريب أن دعاة القومية العربية تأثروا بهذا الإيحاء الأجنبى ، فكان السر الأهم وراء تجمعهم طلب الحياة وحسب ، فى عالم يلتهم الكبار فيه الصغار..! أى أن اتقاء الخطر الذى يتعرض له الضعاف هو أساس التنادى بالقومية. وفى ذلك يقول المازنى: " لو أن هذه القومية العربية لم تكن إلا وهما لا سند له من حقائق الحياة والتاريخ لوجب أن نخلقها خلقا ! فما للأمم الصغيرة أمل فى حياة مأمونة ، وما خبر مليون من الناس مثلا ؟ ماذا يسعهم فى دنيا تموج دولها بالخلق ؟ وكيف يدخل فى طوقهم أن يحموا حقيقتهم ؟ ويذودوا عن حوضهم ؟ إن أية دولة تتاح لها الفرصة تستطيع أن تثب عليهم ، وتأكلهم بلحمهم وعظمهم، ولكن مليون فلسطيني إذا أضيف إليهم مليونا الشام ، وملايين مصر والعراق مثلا يصبحون شيئا له بأس يبقى ". والمازنى- غفر الله له- يقول ذلك سنة 1935. فكيف لو عاش ورأى العرب وحدهم أعجز من أن يوفروا الأمان لأنفسهم أمام أعداد ضخمة من الخلق تكيد لهم ، وتعمل على استئصال شأفتهم ؟ إن العرب ما يزيدون عن 8/ 1 المسلمين، وإن الجامعة الإسلامية، ببواعث الإيمان الواحد، والفداء الواجب هى التى تستطيع وحدها أن تدفع عنهم الضر..!! ولكن الاستعمار شديد الحرص على إخفات صوت الإسلام فى معركة البقاء العربى ذاته..!! 3- وعندما أفلح الاستعمار فى تقسيم الأمة الكبرى إلى عشرات الأمم فرض على كل أمة وحدها ما يأتى: ( أ )- أن تقصى التربية الإسلامية عن برامجها وهى تكون الأجيال الناشئة. (ب)- أن تمحو التقاليد الإسلامية فى ميدان العلاقات العامة. (ج)- أن تقطع الصلة بين قانونها وبين الشريعة الإسلامية. وبهذه الضمانات الفاجرة اطمأن الاستعمار الغربي إلى أن الإسلام سوف يتلاشى يقينا، وأن بقاياه فى الأنفس والبيئات كما قيل: تتخلف الآثار عن أصحابها حينا ويدركها الفناء فتتبع !! وما مستقبل دين يحيا بنوه دون تربية فاضلة ، أو تقاليد عاقلة ، أو أحكام عادلة ؟ إن الفتن الظاهرة(1/98)
والباطنة التى تلف أحوال الناس فى هذا الانحلال الهائل لا حصر لها ولا حد لضررها . . ص _105
وذلك ما نرى أثره فى كثير من البلاد الإسلامية التى تحسب نفسها متحررة لأن جيوش الاستعمار جلت عن أرضها ، وهى فى الحقيقة مجرورة وراء هذا الاستعمار بحبال أكثرها خفى وأقلها مكشوف !! 4- والاستعمار العالمي ضائق باللغة العربية ودائب على حربها ، وقد أفلح فى جعلها لغة ثانوية فى الميدان الدولي ، لا ، بل بين أهليها أنفسهم . وفى الوقت الذى تحيا فيه اللغات الميتة فتنشط الصهيونية فى بعث العبرية، وتنشط الهند فى تمزيق الأكفان عن لغتها البالية، فى هذا الوقت تبعد اللغة العربية عن ساحات العلم ، وتصر الجامعات الحديثة عندنا على رفض التعليم بها ، وكذلك تبعد لغة التخاطب فى أكثر الإذاعات عن الأسلوب العربى مؤثرة اللهجات العامية . إنهم يحيون الموتى ونحن نميت الحي ..!! ومنذ ربع قرن كان الأزهريون يلتزمون قواعد النحو ومخارج الحروف. فما زالت بهم السخرية ، وما زال الاستهزاء بكلماتهم وعمائمهم فى الشارع والمسرح ، حتى تركوا اللغة العربية وقرت عين الاستعمار. 5- والتاريخ الإسلامى ! إن التجهيل فيه والاستهانة به ، والإزراء عليه ، خطة رسمت بعناية ومكر ، وذلك كي تنشأ الأجيال المحدثة وهى مفصولة روحيا وذهنيا عن آبائها الأصلاء ، وقد لاحظ شوقى ذلك ، فقال : مثل القوم نسوا تاريخهم كلقط فى الناس انتسابا أو كمغلوب على ذاكرة يشتكى من صلة الماضى انقضابا إن الشعب الأمريكى يتصيد له ماضيا، حتى يحس أن له جذورا فى دنيا الناس، وهو الآن يبسط جناحيه فى حماية الصهيونية والصليبية، ليلتصق بالتاريخ العام. أما نحن فإن الاستعمار ختلنا عن تاريخنا العريق ليفقدنا الثقة بأنفسنا، ورسالتنا، وما نستطيع إسداءه للحياة من حق وخير. فهل نلين معه؟ أيها المسلمون.. ذاك بعض ما نستطيع اليوم إثباته، فاذكروا واحذروا.. اذكروا ما يريده بكم عدوكم. واحذروا أن تعينوه على(1/99)
أنفسكم. * * * ص _106
هذه البقايا النجسة عرفنا على وجه اليقين أنه عندما احتل الفرنجة أقطار الشرق الإسلامى فى القرون المتأخرة كانوا يحملون معهم أحقادهم القديمة على الإسلام وأمته لم ينقص سوادها إلا أنهم جاءوا هذه المرة أوسع حيلة وأعظم مكرا، واستطاعوا بطرقهم الجديدة الخبيثة أن يلحقوا بالإسلام وأمته هزائم فاضحة وضربات مهينة ما كانوا ليقدروا عليها لو جاءوا سافرين!. وقد تفاوتت مدة بقائهم فى أراضى الأمة المغلوبة على أمرها، إذ مكثوا فى بعضها عشرات السنين، وفى بعضها الآخر مئات السنين. والمهم أنهم لما اضطروا تحت ضغوط كثيرة للجلاء عن بعض هذه البلاد لم يجلوا عنها إلا بعد أن خلفوا أجيالا ترنو إليهم، وتتعلق بهم، وتعمل معهم ضد دينها ، وتاريخها ، وأمتها ، ورسالتها.. وقد ذكرت فى الموضوع السابق كيف حرص الاستعمار، فى فترة حكمه المباشر أن يجرد الأمة من التربية الحافظة والتقاليد المرعية، والأحكام الرادعة، وأن يميت الإسلام فى هذه الأرجاء كلها حتى ينشأ من ينشأ من البنين والبنات وهى إلى الحيوان أقرب منه إلى الإنسان.. وحتى تفقد المجتمعات الإسلامية وحدة الشعور والهدف، وتنحل من رباط العقيدة وأدب السلوك.. ولكي يدرك القارئ مبلغ نجاح الاستعمار الأوروبي فى إدراك مآربه أنقل إليه صورة من النشاط الصحافي فى القاهرة عاصمة العروبة والإسلام !! والصورة من مجلة آخر ساعة ، العدد الصادر فى 31/ 7/ 1968. فتحت عنوان خادع " دعوة إلى الفساد " نشرت المجلة رسالة لمكاتبها فى لندن يقدم فيه المراسل اللندنى كتابا صدر هناك (عن الجنس والمجتمع) . . ص _107(1/100)
وقد قرأت خلاصة وافية لهذا الكتاب القذر، تقدمها مجلة آخر ساعة لقرائها فى معرض من البرود أو القبول، وفى إطار من الإغراء أو الدفاع. ويتم هذا كله واليهود فى بلادنا يطئونها دون محاذرة، ويضربونها دون رد.. تحت العنوان الماكر يقول الكاتب- العربى المسلم-: " العالم على حافة فساد جنسي رهيب ، ومع ذلك فصمام الأمان ما زال فى أيدينا.. يمكننا أن نضغط عليه قليلا فننقذ العالم، ونتفادى هذه الثورة الجنسية التى تهدده.. وفى سبيل إنقاذ العالم يجب علينا أن نتنازل عن بعض القيم والمبادئ الأخلاقية والمثل العليا..!! وبعد ذلك سترتاح نفوسنا وسنعيش حياتنا فى هدوء، ولن تهددنا أى ثورات جنسية فى المستقبل. فأولا لكي نحقق كل ذلك يجب أن نترك لبناتنا شيئا من الحرية الجنسية، ونضع أعصابنا فى ثلاجة فلا نثور ولا نغضب، أو نحاول الثأر لشرفنا إذا اكتشفنا أن البنت ليست عذراء قبل الزواج..! شيء آخر علينا أن نفعله، إذا أردنا إنقاذ العالم من الثورة الجنسية التى تهدده، وهو أن نترك لزوجاتنا أيضا الحرية الكاملة بعد الزواج ، فلا نمانع ، أو نعترض ، أو حتى نعلق بأي كلمة إذا اكتشف أحدنا أن لزوجته عشيقا أو صديقا..! ومقابل ذلك يكون من حقنا نحن الرجال أن نفعل ما نشاء علنا بعد الزواج بعد أن كنا نفعله سرا.. فكما تفعل الزوجة يمكننا نحن أيضا أن نفعل نفس الشيء . يقول الكاتب الغيور على دينه وشرفه وأمته (!!). هذه الآراء الجريئة قرأتها فى كتاب صدر أخيرا فى لندن بعنوان: (الجنس والمجتمع، نظام جديد للعلاقات الجنسية) ومؤلفة الكتاب دكتورة " هيلين رايت " وهى من أشهر طبيبات النساء، وعمرها ثمانون عاما، وما زالت تمارس المهنة حتى الآن..! وإلى جانب ذلك فقد يهمك أن تعرف أنها مسيحية متدينة، وعملت مبشرة لمدة خمس سنوات فى الصين لحساب الكنيسة الإنجليزية. ص _108(1/101)
وتؤكد " هيلين رايت " أنها ليست إباحية ولم تفعل فى حياتها شيئا يخالف تعاليم الدين ، وأنها وضعت فى كتابها هذا خلاصة تجربتها فى عالمى النساء والطب طوال هذه السنوات التى عاشتها والتى ما تزال تعيشها. نقول: ولعل من تدين الكاتبة وتأثرها بتعاليم الكنيسة هذه القصة التى تحكيها، فهى تروى قصة سيدة متزوجة جميلة وشابة لتؤيد نظريتها الخاصة بالسماح بالعلاقات الجنسية خارج نطاق الزواج. تقول هيلين: ذات يوم زارتني سيدة صغيرة وكانت مضطربة اضطرابا شديدا، لأنها أصبحت غير قادرة على الاستجابة لرغبات زوجها الجنسية نتيجة للملل والمسئولية. ووجدت هذه السيدة الصغيرة صديقا، ثم أصبحت عشيقته ! وبعد فترة شعرت براحة نفسية ، وبدأت تتجاوب مع زوجها تجاوبا كاملا..!! فى أول الأمر شعرت بالذنب ، ولكن زوجها لم يعرف بهذه العلاقة ، وسعد سعادة كاملة بتجاوبها معه . وظل الحال على هذا المنوال حتى الآن ، ولمدة ست سنوات ! وعلاقتها بزوجها وحبيبها فى منتهى القوة والجميع يعيشون فى سعادة..!! هكذا عرضت المجلة العربية ما ينبغى أن تكون عليه العلاقة بين الرجال والنساء فى منطق امرأة وضيعة ، وإن زعمتها طبيبة وراهبة!! وفى هذا المقال غرائب شتى نقف عند كل غريبة منها لحظات.. أولى هذه الغرائب الجملة الأولى منه! " العالم على حافة فساد جنسي رهيب "!! فما الوقاية من هذا الفساد المحذور، وكيف ندفع شره عن العالم؟؟ العلاج هو إباحة الزنا لكل امرأة تزوجت أم لم تتزوج ، وإباحة الزنا لكل رجل تزوج أم لم يتزوج ..!! إذا لم نفعل هذا وقع العالم فى فساد جنسي رهيب !! ويتساءل أولو الألباب: أى فساد يتوقع العالم بعد هذا الانطلاق الفاجر الداعر؟! والجواب عند الرجال الفضلاء المشرفين على تحرير مجلة " آخر ساعة "!! وغريبة ثانية فى هذا الكلام هو وصف الكاتبة بأنها سيدة فاضلة اشتغلت مبشرة فى الصين لحساب الكنيسة الإنجليزية، وأنها لا تفعل ما يخالف الدين.. ص _109(1/102)
وآية التدين فى سلوك هذه المرأة أنها ترحب بجريمة الزنا ترحيبا حارا، وأنها ترضى بها فى بيتها كما ترضى بها فى بيوت الآخرين! ومعنى وصف هذه المرأة بالتدين أن شرائع السماء لا ترى فى الزنا عملا فاحشا، وأن الزناة من الجنسين ناس صالحون !! أو كما يقول الأستاذ يوسف السباعى رئيس التحرير فى تسويغ بيع الجسد الإنسانى والارتزاق من المتع الحرام: " صاحب ماكينة الطحين وصاحب عربة التاكسي يتعاملان بما يملكان ، ولو كانت لك ماكينة طحين أو عربة تاكسي لتعاملت بهما مع الناس ، ولكنك يا مسكينة لا تملكين غير هذا الجسد وسيلة للتعامل " !! هكذا يجرى منطق البغاء على لسان إحدى المومسات فى رواية " نحن لا نزرع الشوك ". وهى رواية قذرة تتابع فصولها بانتظام فى المجلة العربية الشهيرة.. ونحن نعلم أن بعض الناس يعيش أغلب أوقاته فى شبكة " المجارى ". ويبدو أن بعض الأدباء ألف الحياة فى مجارى المجتمع ومساربه السفلى. والمدهش أنه يريد جر الآخرين إلى مستواه الخلقي . أو أنه يريد نقل روائحه المنتنة إلى ظاهر الحياة محاولا طمس ما نبت فوقها من حدائق ، وما فاح منها من عطور.. كذلك يصنع كتاب الجنس فى بلادنا وفى أكثر أقطار الدنيا.. وغريبة ثالثة فى المقال المنشور، إنه " رسالة لندن إلى المجلة ". فى هذه الأيام العجاف، والعرب جاثون على أقدامهم أمام عدوهم الألد! وسواد الهزيمة يكسو وجوه الأقربين والأبعدين ! والعالم أجمع ينظر شزرا إلى الكثرة المسحوقة أمام سلالة القردة والخنازير!. فى هذه الأيام العجاف قد نرسل رجال صحافتنا إلى لندن، ليدافعوا عن قضايانا المخذولة، أو ليحبطوا محاولات بنى إسرائيل، أو ليبعثوا إلينا بجديد فى ميادين العلم والصناعة، أو ليرشدوا أبناء جنسهم إلى تجربة نافعة أو كشف مفيد! لكن الرسالة التى تجيء من لندن ليقرأها الناس فى القاهرة المهزومة، وليقرأها العرب الكاسفو البال فى كل مكان هى هذا اللغو الحقير.. وغريبة رابعة: أن هذا(1/103)
الذى تنشره دار أخبار اليوم، هو نفسه الذى نشرته دار الهلال ص _110
لسيمون دى بفوار، وهو الذى تدور من حوله روزا ليوسف، وهو الذى تبنته جريدة الأهرام عندما استقدمت جان بول سارتر وعشيقته وفرضتهما فرضا على الحياة العامة فى بلادنا..! فما سر هذا التلاقى ؟.. (أتواصوا به بل هم قوم طاغون) .. الواقع أن المنبع الذى استقى منه هؤلاء كلهم واحد. والوجهة التى ينطلقون إليها ، ويشدون العرب معهم نحوها معروفة ..! إنها الانسلاخ التام من الإسلام كتابا وسنة ، ونبذ الماضى العريق لأمتنا ، والتقليد الصغير لماديات الغرب المنحل ، وليكن ما يكون !! وغريبة خامسة، لقد قيل: إن صوت المعركة يجب أن يعلو كل شيء، وألا يزاحمه فى ضمائر الناس وأفكارهم شيء .. فأين صوت المعركة فى هذا السفه الفاشي وهذا الذهول الغالب ؟ لكأن هناك مؤامرة على إخفات هذا الصوت ، وجعله أنين امرئ محتضر، أو همس الضمير المهزوم فى صدر مجرم آثم..! أين صوت المعركة فى هذا الهزل المغرى بالعصيان، والجرأة على الله، ونسيان الفضائل والولوع بالملذات.. عندما انهزم المشركون فى بدر، قالت امرأة أبى سفيان: لا أمس طيبا حتى أدرك ثأري من محمد . وتملك المرأة جنون الثأر فعافت المتع الحلال وصدت عن اللهو والتسلية. وما أرضاها إلا أن تجيء فى غزوة أحد لتأكل كبد حمزة بعد مقتله، تنفيسا عن حقدها لما أصاب قومها.. أريد من رجال صحافتنا أن يكونوا كهذه المرأة فى الشعور بمرارة الهزيمة وضرورة الثأر. إنهم متبلدون عميان لا يرون مصابنا، ولا يحسون الحسرة لما نزل! بنا. وهم الآن يقومون بعمل هائل ، هو تدويخ الأمة، وبلبلتها، وبعثرة أفكارها ، وإضعاف أعصابها .. ص _111(1/104)
ومن المستفيد من هذا كله؟ الصهيونية والاستعمار!! وغريبة سادسة، أو حقيقة سادسة وأخيرة هى؟ هل هؤلاء الكتاب مسلمون عرب؟ لا، فما هم عرب ولا هم مسلمون! لقد سحب الاحتلال الأجنبى جيوشه بعد أن صنع أولئك الأمساخ وفق مواصفات ترضى ضغنه على الإسلام وتملأ بالضباب حاضره ومستقبله. انسحب تاركا أزمة الأمور بين هذه الأيدى الشريرة لتنال من ديننا وأمتنا ، أكثر مما نال هو ، وتلحق بنا أشنع مما ألحق هو..!! فهل تحررنا حقا من الأثقال التى آدت ظهورنا ، وأعجزت خطونا ؟.. اللهم ، لا.. حتى ينقرض هذا الصنف الملتاث من عبيد الغزو الثقافي المنتشرين فى كل مكان والذى تمتلئ بهم شتى وسائل الإعلام.. * * * ص _112
بواعِث الحِقد على لغتنا اهتمامي باللغة العربية ناشئ عن اهتمامي بالإسلام نفسه ، وألوان الهجوم عليه ، وضروب التقصير فى خدمته ، وهذا الاهتمام قد يجعلني أغلغل البصر فى أشياء قد تبدو مستغربة لأول وهلة ، أجل ، ربما عجب القارئ عندما يعلم أنى أقرأ ما يسمونه الشعر المرسل ، وأتعرف اتجاهات الفكر الحديث فى كلماته الملمومة من هنا وهناك .. ومن بين القصائد التى استوقفتني هذه القصيدة التى نشرتها الأهرام للشاعر محمد الفيتورى ، أنقلها هنا على استحياء، لأن تسمية هذه الألفاظ شعرا كتسمية البصل رمانا ، والطماطم جواهر ، والفول لوزا على نحو ما يصنع الباعة الجائلون فى أزقة القاهرة ! نار خطايانا تسيل فى حنايانا فلنتكئ على عظام موتانا ولنصمت الآنا.. برج كنيسة قديمة وراهب قلق وغيمة تشد قدميها وتعبر الأفق ورجل بلا عنق.. وامرأة على الرصيف تنزلق وقطة فى أسفل السلم تختنق.. وصوت ناقوس يدق يرسم دورة على الفضاء ، ويدق.. إلخ. ص _113(1/105)
ودعك من أضغاث الأحلام التى ينقلك إلى جوها هذا الكلام المفكك.. ودعك من تقطع الروابط العقلية بين هذه الألفاظ المتصيدة، فهى كما قيل: سمك ، لبن ، تمر هندي .. ولكن الشيء الذى لا تدعه ، والذى يثير انتباهك حتما ، هو جراثيم الاستعمار الثقافي ، أو الغزو الصليبى الذى سيطر على هذا الشاعر الهائم.. فهو فى القاهرة المدينة المعروفة بشمسها الصاحية ، ومآذنها السامقة، وصبغتها الإسلامية الأولى. ولكن التبعية الفكرية والنفسية الغالبة على هذا الشخص التائه، جعلته لا يرى إلا الغيوم وأبراج الكنائس والرهبان القلقين، ورنين النواقيس، وكأنه فى لندن أو روما لا فى مصر!! إن هذا الإنسان مثل الألوف من الخلق سلخهم التحرر الجديد من ماضيهم وحاضرهم فهم يعرفون كل شئ إلا دينهم ولغتهم وقومهم . ولست أكتب هذا الكلام نقدا للشعر المرسل ، فأمره أتفه من ذلك !! ولكنى أشرح الأحوال النفسية وراء البغضاء الكامنة ضد اللغة العربية وقضاياها فى شتى الميادين.. إننى قلق على مستقبل لغتنا ومتبين للمؤامرات الخفية والمشروعات الخبيثة التى تستهدف إماتة هذه اللغة آخرا، بعد جعلها الآن لغة ثانوية فى مجالات العلوم والصناعات، وفى مجالات الحديث العام والخطابة الرسمية.. والقضاء على العربية مخطط تبشيري مدروس بعناية وينفذ بتؤدة وإصرار، وقد بدأ هجوما على الحروف العربية التى تكتب بها بعض اللغات الإسلامية ، فأمكن خلال الخمسين السنة الأخيرة إماتة هذه الحروف فى أندونسيا وماليزيا وتنزانيا ونيجيريا وغيرها. وذلك حتى تنقطع العلاقة بالمؤلفات الدينية التى كتبها الأسلاف خلال ألف سنة. ونجحت هذه الحركة، وشبت الناشئة المسلمة فى عشرات السنين الأخيرة ، وهى لا تحسن قراءة ما كتب الآباء ، أى شبت جاهلة بدينها ، متجهمة لثقافته . فإذا علمت أن اللغة الساحلية، ولغة الهاوسا- وهما اللغتان الشائعتان فى نيجيريا وماليزيا، هما لهجات عربية وأن أكثر الكلمات منقولة عن لغتنا(1/106)
عرفت أى خسار لحق بالإسلام من شاطئ المحيط الهادي إلى الهندى إلى الأطلسي.. ص _114
وقد أطمع الاستعمار هذا النجاح الذى أصابه غنيمة باردة ، فحاول أن يلغى الحروف العربية فى مصر نفسها، وحمل لواء هذا الارتداد عبد العزيز فهمى باشا.. رئيس محكمة النقض والإبرام ، وهى أعلى هيئة قضائية فى البلاد ، ولكن الله سلم فسحقت الفتنة فى مهدها .. بيد أن الاستعمار لم ييأس من بلوغ مآربه فشرع يقص أطراف العربية بصور شتى، ويجعل النطق بها عورة ! وسخر بعض الحكام فى الدواوين وبعض الممثلين فى المسارح ، ليوصلوه إلى ما يبغي . وإن المريض الآن ليذهب إلى طبيبه فى حي السيدة زينب مثلا ، فيخرج من عنده بورقة قد كتب عليها بالإنجليزية دواؤه ، وداؤه ، وكأنه يعيش فى روديسيا ، أو فى جنوب إفريقيا ، ولا أقول فى لندن أو واشنطن!! وربة البيت فى بيتها وصاحب العمل فى مصنعه لا يعرفان إلا مئات وألوف الأسماء والمصطلحات الغربية ، لأن العربية معزولة عزلا عن هذه الآفاق..! وبدهى أن قتل اللغة العربية قضاء على الإسلام نفسه، وردم للمنابع التى ينبجس منها، ويسيل فى المشارق والمغارب..! وقد نشطت المقاومة الإسلامية لهذا المصير الهائل، وبين يدى الآن نداء لأخ كريم من رجالات التعليم يصرخ فيه بضرورة تعريب التعليم كله ويقول: " إنه لا توجد أمة حرة فى العالم كلة تمارس العلم بلغة أجنبية. ولو استعرضنا أمم أوروبا وأمريكا جميعها، وكذلك الأمم الحرة المستقلة فى آسيا كاليابان والصين وتركيا والشعبين العربيين سوريا والعراق، لما وجدنا أمة تتداول العلم بلغة غير لغتها. فقد نقلت الأمم المختلفة العلم إلى لغاتها لتيسره لأبنائها، ولتصير العلوم من أهم دعائم ثقافتها، ومقومات حضارتها وتاريخها، ولكي يحيا العلم فى الأمة وتحيا الأمة بالعلم. ولذلك سمى عصر نقل العلوم إلى اللغات القومية بأوروبا " عصر إحياء العلوم " كما سمى أيضا " عصر النهضة، والثورة العلمية ". ثم إن لغة(1/107)
الأمة هى لواؤها الذى ترفعه فى مجالي الحضارة والمعرفة، فإن حرمنا ص _115
هذا اللواء من بعض العلوم كان لواء متداعيا ضعيفا يدل على التأخر أكثر مما يدل على الرفعة. ولقد كنا ندرس العلوم كلها بلغتنا العربية منذ عهد محمد على حتى جاء الاحتلال المشئوم ، فأصدر الإنجليز قرارا سنة 1889 يرغمون فيه المصريين على أن يتعلموا باللغة الإنجليزية ، بدلا من اللغة العربية . وذلك لتحقيق أهداف استعمارية قاتلة . منها قصر التعليم على طائفة خاصة وطبقة معينة ، تدين لهم بالولاء وتتولى الوظائف الحكومية . ومنها إضعاف الروح القومية بين المتعلمين ، لأن اللغة الأجنبية التى يتعلم بها المرء ، تؤثر فى عقليته وتفكيره ، وتوجه ولاءه توجيها بعيدا عن أهداف أمته ، مما يمكن للاستعمار فى النفوس والقلوب . لذلك قاوم المصريون المخلصون هذا القرار الاستعمارى الغاشم واستطاع رجال القانون أن يمنعوا تنفيذه فى مدرسة الحقوق فظل القانون بلغتنا لم يمسه سوء . ولما تولى سعد زغلول نظارة المعارف سنة 1906 أصدر قرارا قوميا، يلغى القرار الاستعمارى السابق، ويقضى بتعريب التعليم فى جميع المراحل التعليمية. ولكن الإنجليز حاربوا تعريب التعليم العالي بكل قواهم حتى إنهم أخرجوا سعدا من نظارة المعارف ، إذ رأوه مصرا على التعريب.. ثم استطاع الزعيم المالي طلعت حرب أن يعرب علوم المال حين أنشأ بنك مصر. ولما جاءت حكومة الثورة ودرست هذه المسألة ، واطلعت على نظم التعليم فى العالم كله ، لم تتمالك أن أصدرت قرارا يقضى بتعريب ما تبقى من التعليم الجامعي ، وبدأ تنفيذ القرار ، وسار التعريب بطيئا حتى تم تعريب مقرر عامين دراسيين، ولو ظل التعريب على هذا المنوال لتم الآن تعريب كل شيء.. ولكن الحزب المتعلق باللغة الإنجليزية المناوئ لحركة التعريب، انتصر أخيرا فأرجع إلى لغة الإنجليز السيادة فى الجامعة ، وتم إبعاد لغتنا عن هذه الكليات ، كما أبعدها الإنجليز عن التعليم(1/108)
بقرار سنة 1889، وذلك رغم قرار التعريب الذى صدر، ص _116
ورغم أن نقل العلم إلى لغة الأمة هو الأمر الطبيعى الفطري ، الدال على تمام الاستقلال ، واكتمال الحرية وسيادة الأمة سيادة حقيقية فى كل شئونها، ورغم أن بقاء العلم باللغة الأجنبية فى أية أمة من الأمم دليل تبعيتها لغيرها وهو بصمة الاستعمار الباقية على جبينها. وقد ألفت كتب ومراجع عربية فى المقادير التى تم تعريبها حديثا، فألفت كتب فى الطب والهندسة والكيمياء والزراعة وغيرها، واستطاع ثلاثة أطباء من المجمع اللغوى ترجمة الموسوعة الطبية الأمريكية وهى موسوعة قيمة تقع فى اثنى عشر جزءا. ولكن هذه الحركة العلمية التأليفية وقفت الآن بوقوف التعريب فى الجامعة، وهذا دون شك خسارة كبرى تصيب الأمة فى حضارتها وثقافتها، وفى كيانها العلمى والفكرى. من أجل ذلك وغيره مما لا يتسع المجال لذكره، يمكن أن تتدارك الدولة هذا الأمر الخطير قبل فوات الأوان ، فتكلف لجانا متخصصة فى كل علم بإتمام تعريبه ، والتأليف فيه وترجمة كل ما يستجد من نظريات ومبتكرات أولا فأولا فذلك من أهم عوامل تقدم الأمة ورقيها . والذين يستطيعون التعريب كثيرون ، منهم :- أ- أساتذة الجامعات. 2- أساتذة جامعة الأزهر. 3- علماء المجمع اللغوى. 4- العاملون فى الوزارات والمصالح كأطباء الصحة والمهندسين ورجال التربية والتعليم. ولا شك فى أن تعريب العلوم من مقومات المعركة الحالية ، ومن عوامل الإعداد لها ولما بعدها ، فإن ذلك هو الطريق السوي إلى توحيد المشاعر، وتمكين الولاء للقومية فى النفوس ، كما أنه السبيل إلى جعل العلم مفتوحا للمجتمع ، ميسرا للجميع ، فيستطيع أن ينتفع به العامل والصانع والفلاح، يستفيد منه أبناء الأمة جميعهم تقدما فى عملهم وفهما لإمكاناتهم. كما أن هذا هو التحول الاشتراكي فى العلم الذى سارت عليه كل الأمم الحرة المتقدمة. ص _117(1/109)
وإلا فكيف تتحقق اشتراكية العلم مع بقائه فى تلك الأطر الفولاذية التى فرضها علينا الاستعمار تحقيقا لأهدافه الهدامة . وليس تعريب العلوم صعبا ولا عسيرا ، إنه ميسور للغاية ، جالب لأكبر المنافع للأمة . بل هو الوسيلة الفريدة لاستقلالها السياسى وقدرتها على أداء رسالتها العظيمة هنا وهناك . فهل يصدر قرار حاسم كهذا الذى أصدره سعد زغلول من ستين سنة؟ * * * قرأت هذا المنشور الذى كتبه رجل غيور على العروبة والإسلام، وتبينت فكرته لأني أبصر ما فيها من سداد ، وما ينتج عنها من خير. ولأني أعرف أنها صيحة ستذهب سدى ، ما لم يدركها النصراء المخلصون.. لكن هل سيحتفي بها سدنة القومية عندنا؟ لا.. لأنهم دعاة العامية ، وحراس التبعية الفكرية والعاطفية لأوروبا بقسميها الشرقي والغربي . . ! ! * * * ص _118(1/110)
تفتيت الحقيقة بداية التحول عنها أصاب جهاز " التلفزيون " عندي عطل مبهم فلم تظهر الصورة المرتقبة ، ونظرت إلى الجهاز الجاثم فى مكانه لا يؤدى عمله نظرة استغراب ! وتحسسته بيدي فخيل إلى أنه لا ينقص شيئا من آلاته الجلية والخفية.. وأخيرا جاء العامل المتخصص فى إصلاحه ، واستبدل بجزء تالف منه جزءا صالحا ، واستأنف الجهاز عمله ، وشرع يحقق الفائدة المرجوة منه !! وقلت فى نفسى: إن الجهاز كله توقف عن أداء رسالته حتى تعاونت أجزاؤه الصغار والكبار على تحقيق وظائفها المنوطة بها !! ولا عجب فقد توقفت الدبابة عن السير والقتال لقطعة تنقصها فى مقدمتها أو مؤخرتها.. وقد يتعطل مصنع عن الإنتاج تكلف إنشاؤه الألوف المؤلفة من الجنيهات لأنه يفتقر إلى تكملة لا تساوى مائة جنيه.. وهكذا شئون الحياة المادية والأدبية قد يصيبها عطل فادح لأن شطرها أو أغلبها موجود ، وبقيتها الأخرى مفقودة عن خطأ أو تعمد. ومن ثم قد ترى أمامك أشياء صالحة ، ولكنها قليلة الجدوى لأنها مبتورة ، وما تتم قيمتها وتبرز ثمرتها إلا إذا دارت الحياة فيها وفيما يكملها ، وعندئذ ينطلق التيار فى دائرته المغلقة فيسطع النور .. إن تعاليم الإسلام كذلك ، لا تصلح الحياة وتقام المجتمعات إلا على النحو الذى شرحنا .. وعناصر الوحي تشبه عقاقير الأدوية لا يتم الشفاء بها إلا إذا أخذناها كما جاءت . أما إذا طرحنا عقارا ، وتناولنا آخر فلن يذهب لنا سقام .. ص _119(1/111)
وقد وجدت أن كثيرا من علل المسلمين الفكرية والنفسية، بل عللهم الاقتصادية والسياسية ترجع إلى أنهم يجدون مع بعض النصوص ويهزلون مع بعضها الآخر، فلا يحصلون من هذا التناقض إلا ضياع النصوص كلها..! ولا يفيدون من النصوص التى عملوا بها- فيما يزعمون- شيئا طائلا! لأن وجودها المنقوص فى المجتمع كوجود جهاز " التلفزيون " الذى سقت لك خبر عطله أول هذا المقال.. تأمل معي هذا الحكم الشرعي فى فرع من فروع الفقه الإسلامى.. يقول الله تعالى: (وإذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن فأمسكوهن بمعروف أو سرحوهن بمعروف ولا تمسكوهن ضرارا لتعتدوا ..). إلى هنا يمكن تقدير الحكم العملي فى شأن يتصل بكيان الأسرة، وربما لا يشغل العلماء أنفسهم عند تقرير الحكم بأبعد من ذلك عند إيراد النص.. أفهذا ما فعل القرآن الكريم ؟ لا، لقد أعقب ذلك بخمس جمل تتضمن فنونا من النصح والتأديب والتربية يضيع المجتمع إن أضاعها. فقال جل شأنه: 1- (.. ومن يفعل ذلك فقد ظلم نفسه ..) 2- (.. ولا تتخذوا آيات الله هزوا ..) 3- (.. واذكروا نعمة الله عليكم وما أنزل عليكم من الكتاب والحكمة يعظكم به ..) 4- (..واتقوا الله) 5- (.. واعلموا أن الله بكل شيء عليم). وعندما توجد فى بلادنا أحكام الطلاق ولا توجد معها بقية المعانى التى صاحبتها فى هذه الآية فسوف يلعب بكتاب الله ، ولن تزيد الأمة إلا خبالا..!! خذ مثلا آخر، لقد نهى الإسلام عن السرقة وأمر بقطع يد السارق ، بيد أن هذا الحد من حدود الإسلام يكون خيرا وبركة مع إحياء أوامر الله كلها وإقامة شعب الإيمان الكثيرة التى تسد يقينا كل ثغرة ، وتمنع أى غبن ، وتطارد آفات البطالة والجوع عند البعض ، وآفات النهب والحيف والسرف عند البعض الآخر. ص _120(1/112)
أما مع رفع كل رقابة عن طرق الاكتساب وإتاحة الثراء من شتى الوجوه الحرام ، وإيقاع الضعاف فى عقابيل البأساء والضراء، فالأمر يحتاج إلى تبصر فى التطبيق. ومعاذ الله أن نتريث فى إقامة حد من حدود الله، ولكنا نقول مقالة الحسن، وقد رأى الشرطة تقبض على لص فقال: سارق السر يسعى به إلى سارق العلانية..!! وما كذلك دين الله.. وسمعت متحدثا فى الدين يذكر أنه لا حدود للمهر، ويستشهد بقصة المرأة التى اعترضت عمر بن الخطاب لما أراد تقييد المهور. والقصة صحيحة، ولكن المتحدث قليل الفقه فى الإسلام ضعيف الشعور، بمآسي المسلمين اليوم..! إن الجمهرة من الشباب ألفت أن تقضى صدر عمرها، ولا أقول شطره، فى التسول الجنسي والانحراف الشائن ، وكل تعسير للحلال سيتبعه حتما تيسير الحرام. فكيف يلقى فقيه ربه بإقرار هذه الحال ، أو إقرار ما يؤدى إليها يقينا ؟؟ إن قصة عمر مع المرأة المعترضة تفهم فى جو كان الرجل يستطيع فيه الزواج مثنى وثلاث ورباع.. وكان الحرام فلتات نادرة أو استثناء من قاعدة عامة.. أما اليوم فإن العرف السائد بين جماهير المسلمين فى الزواج والمهور والهدايا ، لا صلة له بتقوى الله ، ولا إشاعة الاستعفاف ، ولا إقرار الطهر النفسى والطهر الاجتماعى. إنه عرف يقوم فى جملته على رذائل الرياء ، والكبرياء ، ورغبة أسر كثيرة فى الانتفاخ والتعاظم .. إن الإسلام كل لا يتجزأ ، والشبكة التى تنسج تعاليمه تفقد جدواها عندما تخرق من جانب واحد ، فكيف إذا تعددت فيها الخروق ، وتفاحش الإهمال والتلف ؟؟ والواقع أن هجر بعض الأحكام الإسلامية ، وإلف بعضها الآخر هدم لمبدأ السمع والطاعة المأخوذ على جماعة المؤمنين . فإن تقسيم الوحي الإلهي على هذا النحو لا يعدو أن يكون تحكيما للهوى الشخصي فيما ورد ، فما أعجبنا قبلناه وما لم نسغه رفضناه.. وهذا قريب من مسلك المشركين أنفسهم مع رسول الله، فإنهم لم يردوا كل ما ص _121(1/113)
جاء به، بل وافقوه على البعض، وحاربوه على البعض الآخر، ولذلك أمره الله بالثبات على الكل وقال: (فلعلك تارك بعض ما يوحى إليك وضائق به صدرك أن يقولوا لولا أنزل عليه كنز أو جاء معه ملك إنما أنت نذير والله على كل شيء وكيل) . واتباع الهوى فى استبقاء حكم واطراح آخر معناه أن ما استبقى لسر لأن الله أمر به !! فقد أمر بغيره كذلك ، فلماذا ترك ؟ معناه أن ما استبقى ظفر بالحياة لأنه أرضى رغباتنا فقط .. ولو صادمها لطوحنا به هو الآخر .. وقد نبه القرآن الكريم إلى أن فساد بنى إسرائيل نشأ مع هذا العوج فقد أخذت عليهم المواثيق بأمور سواء ، ففعلوا بعضها وتناسوا بعضها ، لأنهم يتصرفون وفق شهواتهم ، ولا يرتبطون بأمر الله ونهيه !! فكان التعقيب الإلهي على هذا السلوك: (… أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض فما جزاء من يفعل ذلك منكم إلا خزي في الحياة الدنيا ويوم القيامة يردون إلى أشد العذاب وما الله بغافل عما تعملون) .. " الأمة الإسلامية اليوم موزعة على عشرات الدول ، وأمر الإسلام فى كل دولة منها يستحق الدراسة ، ويؤسفني أن أقول : إنى لم أره مكتمل الشكل والموضوع فى قطر من أقطار الفيحاء . . هناك مجتمعات لا تعترف بالحدود والقصاص، ومجتمعات لا تعترف بدساتير الحريات والحقوق، ومجتمعات لا تعترف بالحلال والحرام، وأخرى تترك الصلاة والصيام وأخرى ... إلخ . وأعداء الإسلام كلما رأوا جزءا منه أصابه الشلل ، سارعوا بالتدخل الماكر ليزيدوا الطين بلة ، أو ليزيدوا المريض علة .. ونحن نصرخ بأولئك المسلمين المفرطين أن يرجعوا إلى دينهم كله ، لا يدعون منه شيئا ، ولا يفرطون فى جانب ، ولا يأذنون لعدو سافر ، ولا لصديق جاهل أن يصرفهم عن كتاب ربهم وسنة نبيهم ، فذاك وحده طريق النصفة والانتصار .. ص _122(1/114)
إن شعب الإيمان التى تبلغ السبعين موزعة توزيعا دقيقا على الدائرة الرحبة التى تمتد إليها وظيفة الإيمان وتنتشر فيها أشعته. ولما كان الإسلام علاقة تشمل النفسى والمجتمع والدولة وتتناول المعاش والمعاد فى إطار من معرفة الله ورقابته فإن تعاليمه تشبه شبكة الأعصاب المبسوطة فى الكيان الإنسانى كله لا تخلو منها جلدة بين الرأس والقدم. قال تعالى: (…ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شيء وهدى ورحمة وبشرى للمسلمين) . ومن الخطأ تصنيف تعاليم الإسلام على أساس فني ، وتصور أن بعضها يقوى وينمو ، فى حين بعضها الآخر يذبل ويذوى . إن ذلك قد يجوز فى عالم الدراسات النظرية حيث ينجح الطالب فى مادة ويرسب فى أخرى لأنه استوعب الأولى وأهمل الثانية . أما فى المجتمع الكبير فإن اعتلال بعض الإسلام ينقل العلة إلى البعض الآخر على عجل أو على مهل ما لم تسارع بالاستشفاء والتصون وإنفاذ أوامر الله فى كل مجال . فضعف العقيدة مثلا ليس يترك أثره الردىء فى صلة المسلم بربه بل يتعدى ذلك إلى موقف الفرد من الجماعة، وموقف الدولة من العالم أجمع. وترك الصلاة ليس معصية خاصة فقط بل هو ذريعة إلى انهيار الأخلاق وانتشار الآثام . وإهمال الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر ليس برودا فى عاطفة التدين فقط ، ولكنه آية على موت الضمير الاجتماعى وتلاشى رسالة الأمة . والاستعمار الحديث فى حملته على الإسلام لا يقوم بهجوم شامل على كل شيء، إنه أذكى من ذلك وأدهى. إنه يصر على إماتة بعض التعاليم أو سرقتها من الوعي العام عالما أن ما بقى سيتبع ما أخذ . ترى هل سنخدع عن ديننا أم ندافع عن كل ذرة منه. * * * ص _123(1/115)
جهَاد الغُرباء كان التاريخ الإسلامى يتدحرج خلال الأعصار الأخيرة لفساد الحكام ، وعجز العلماء ، وذهول الأمة جمعاء عن وظيفتها ورسالتها..! لكن تسجيل هذه الهزائم والاعتراف بنتائجها لم يقعا إلا منذ خمسين سنة تقريبا ، فقد انسحبت الجامعة الإسلامية من الميدان العالمي بعد تنكيس راية الخلافة ، وأخذت الثقافة الإسلامية بعدها تضمحل..! لقد كانت هذه الثقافة زاحفة فى الماضى، ثم توقفت مكانها أيام الضعف، ثم تراجعت وانكمشت أيام الهزائم، تاركة وراءها فراغا تملؤه الثقافة الأجنبية والأفكار الدخيلة.. وفى رسالة وجيزة عن الأدب والحياة قرأت هذه السطور: هزمت الفكرة الإسلامية فى الحرب العالمية الأولى، ثم انتهت دولة الخلافة بعد ذلك بقليل، وبرز دعاة الحضارة الأوروبية بوجوههم سافرة، ولقيت دعوتهم رواجا، خاصة عند الشباب الذى عاش فى جو الثورة المغرى بالتمرد على كل قديم ، والذى وجد فى بريق الحضارة الأوروبية ما ينادى شبابه إلى مواطن الهوى ، فأخذ يشارك فى المجتمعات المختلطة ، وأقبل على تعلم الرقص الغربي ، ويمتع نفسه بالمشاركة فى احتفال الأوروبيين بأيام الآحاد ، وبرأس السنة الميلادية خصوصا فى المدن الكبيرة كالإسكندرية والقاهرة حيث كانت تحتل الجاليات الأجنبية مكانا بارزا فى الهيئة الاجتماعية ، بما تملك من مصانع ومتاجر وفنادق ، وبما لها من معاهد وأندية ، وبما كانت تكفله لها الامتيازات الأجنبية من مزايا . وتردى الناس فى حمى التقليد للأجانب فى كل شيء، فى لباسهم وفى طريقة حياتهم وفى كلامهم وملبسهم . وأصبح الرجل يخجل إن أخطأ فى ذلك ، ولا يخجل إن جهل أمور دينه أو جهل لغته أو عبثت الدنيا بتقاليده .. يقول الدكتور طه حسين بعد أن يسرد ما اقتبسته مصر من نظم الغرب فى مختلف ص _124(1/116)
مظاهر حياتها الحديثة- وذلك فى كتابه: مستقبل الثقافة فى مصر-: " وإني لأتخيل داعيا يدعو المصريين إلى أن يعودوا إلى حياتهم القديمة التى ورثوها عن آبائهم فى عهد الفراعنة ، أو فى عهد اليونان والرومان وفى عصرها الإسلامى ، أتخيل هذا الداعي وأسأل نفسى ، أتراه يجد من يسمع له ؟ فلا أرى إلا جوابا واحدا يتمثل أمامي ، بل يصدر من أعماق نفسى ، وهو أن هذا الداعي- إن وجد- لم يلق بين المصريين إلا من يسخر منه ويهزأ به !.. هكذا يقول الدكتور الأوروبي الثقافة والوجهة !!.. وهو فى مقالته البينة الدلالة يرى الدعوة إلى الحياة الإسلامية مدعاة إلى الهزء والسخرية ، ثم هو يضم العصر الإسلامى إلى عهود اليونان والرومان والفراعنة الأقدمين أى إلى العهود التى بادت وانقضى أجلها ولا سبيل إلى بعثها.. وهذا الكلام المحقور هو قرة عين الاستعمار ، وهو ما يبذل الغزاة الجدد جهودا مضنية لإشاعته، وإقناع الجماهير به حتى لا يكون إسلام، ولا مسلمون.. لكن الأمة الإسلامية فى المشارق والمغارب قاومت القتلة وأجراءهم!! ومع أننا لا نزال ضعافا فى جبهات شتى ، ومع أن وساوس الجريمة لا تزال تغلى فى أفئدة خصومنا ، ومع أن المخلصين لدينهم تحملوا مغارم فادحة وهم يدفعون عنه ، ومع ذلك كله فإن الواقفين بجانب الإسلام صامدون آملون. وقد التقطوا الراية التى سقطت على الثرى من نصف قرن وهم بسبيل رفعها سياسيا وثقافيا بإذن الله . وأولى بشائر الخير أن جمهرة المسلمين لم تزهد فى دينها، ولا أساءت الظن بأصالته وصدقه ، ولا هى خدعت بالأديان والمبادئ الأخرى فحسبتها أزكى مما لديها ، إن الأمر- فى الإسلام وغيره- كما قيل : أمامك فانظر أى نهجيك تنهج طريقان شتى، مستقيم وأعوج !! والمعركة تزداد على الأيام حدة، وبقدر ما يبدى المسلمون من صلابة ينمو نشاط خصومهم وتتسع دائرة هجومهم . بل إن القوى المتناقضة تناسب ما بينهما- ولو إلى حين- لتستطيع إصابة الإسلام فى مقاتله ، وفض(1/117)
الأنصار المتحمسين عنه . وذلك يكشف عما يتعرض له المجاهدون الصادقون من متاعب وأحزان، على أننا لن نخون الله ورسوله ما حيينا ، حتى نورث الإسلام أبناءنا كما ورثناه عن آبائنا . ص _125
بل حتى نمسح آثار الهزائم الشائنة التى لحقت به فى غير ميدان.. ولقد شكا لى صديق ما يلقاه العاملون للإسلام من غمط وهوان. قال: إنهم يتجاهلون فى حياتهم ، وتسحب عليهم أذيال النسيان بعد مماتهم. فمحمد فريد وجدى صاحب دائرة المعارف الإسلامية، ورئيس تحرير مجلة الأزهر، والأستاذ محمد الخضر حسين الإمام الورع والأديب والمؤلف والشيخ محمد عبد الله ، والشيخ عبد الوهاب خلاف. و.. و.. و. هؤلاء تناستهم المحافل الرسمية، وطوت ذكراهم فى الوقت الذى تفرد فيه ليالي لتكريم ذكرى سيد درويش وزكريا أحمد وأضرابهما ممن برزوا فى ميادين التسلية واللهو والغناء والموسيقا .. قلت: يا صديقي إن المجتمع الذى يزدرى أبا حنيفة ويكرم أبا نواس مجتمع تافه ! ولكن هذا المجتمع هو الذى صنعه الغزو الثقافي ليجعل الناشئة الإسلامية تشب وهى مرخصة للحق مغلية للباطل ، صادة عن الإيمان عاشقة للهزل، مستهينة برجال المعرفة الإسلامية معظمة للأقزام أو العمالقة فى أية معرفة أخرى... وقد مات منذ فترة العلامة محمد فؤاد عبد الباقى فما شعر بمماته أحد ولا تحدثت عنه فى مصر صحيفة، وهو الرجل الذى ألف المعجم المفهرس لألفاظ القرآن ، والمعجم المفهرس لألفاظ الحديث- وقد طبعت منه هولندا 41 جزءا- حتى وفاته ، واللؤلؤ والمرجان فيما اتفق عليه الشيخان ، وموطأ مالك، وعشرات من البحوث والمقالات. وقد كف بصر الرجل الكبير وهو يخدم الثقافة الإسلامية ، فلما مات أهيل عليه التراب فى صمت، ومضى لا يلوى على شيء. ومشيت بنفسي فى جنازة المجاهد المؤمن صالح حرب " باشا " ولو شئت أن أعد المشيعين لجثمان الراحل الطيب لعددتهم. إن عشرات السنين فى خدمة الإسلام نسيتها القاهرة السكرى من غير خمر، المشغولة بغير(1/118)
شيء ، الشاردة فى الحياة لا تعرف لها وجهة !! وأسارع إلى أن العاملين لله ما يعنيهم رأى لناس فيهم ، وما يثبط هممهم أن يجدوا الإنكار والازورار ، فإن نشدانهم لوجه الله وحده ، وتطلعهم إلى ثوابه الدائم هما غرضهم الأعلى . ولكنى آسى لما قصصت من عقوق ، لما فى ذلك من دلالة على سقوط المجتمع ، وهبوط قيمه ، ورواج الباطل فيه ، ووحشة الحق بين أهليه ..!! ص _126
وإذا كان المجاهدون للإسلام فى مجالات الثقافة يلقون هذه الجهامة ، فهم فى مجالات الحكم لا يستطيعون أن يضعوا قدما !! ذلك أن العداوات العالمية الرهيبة لهذا الدين استطاعت بوسائلها الباطنة والظاهرة أن تملأ هذا الطريق بالضحايا . ولقد تساءلت : لماذا قتل " عدنان مندريس " فى تركيا ؟ فقيل لى إن الجريمة التى استحق بها الشنق محاولته الخفية أن يعود بتركيا إلى الإسلام ! وقد بدأ ذلك فى إعادته الأذان باللغة العربية إلى المساجد . إن اليوم الذى سمع فيه الأتراك كلمة " الله أكبر " تشق أجواء الفضاء من ذرى المنائر كان يوما مشهودا ، وبلغ جيشان المشاعر بالناس فى السكك، أن الدموع غلبتهم ، وصرخات الإيمان والاستبشار عمتهم . فهل تدع الصليبية العالمية هذا الجرم يمر من غير عقاب ؟؟ وكذلك كان مقتل الزعيمين الإفريقيين المسلمين أحمدو بللو، وأبى بكر تفاوة.. إن الجريمة التى استحقا بها القتل هى سيرهما بالإسلام فى وسط إفريقيا سيرا حثيثا عاقلا متئدا... كيف يسكت خصوم الإسلام على ذلك ؟ وقتل الرجلان وعشرات آخرون فى مجزرة أعقبها صمت مفتعل مقصود. ولكن الله العدل تتبع القتلة بالقصاص ، ومنذ عشرين شهرا والدماء تراق بغزارة فى نيجيريا . وتحاول الكاثوليكية العالمية بتعصب وغضب أن تقسم نيجيريا قسمين ، وأن تجعل من " بيافرا " أداة لها فى تنفيذ مآربها.. تلك المآرب التى بدأت بسفك الدم الإسلامى دون ما سبب .. إننا نشعر بأن العمل للإسلام مثار قلق وأذى.. وأن المجاهدين فى سبيل الله لا يرون(1/119)
إلا النظر الحانق، والجو الخانق..!! ليكن ، فلن ندع الإسلام أبدا ، محتمين بالله مما نجد ونحاذر!!: (وما لنا ألا نتوكل على الله وقد هدانا سبلنا ولنصبرن على ما آذيتمونا وعلى الله فليتوكل المتوكلون) . * * * ص _127
الذين اتخذوا دينهم لعباً ولهواً نظرت فى الطريقة التى يؤدى بها المسلمون عباداتهم فوجدتها متوافقة مع موقف المسلمين العام من تعاليم دينهم ، ذلك الموقف المنطوى على الإهمال والإضاعة.. أمس القريب ودع المسلمون رمضان واستقبلوا أشهر الحج فهل استفادت الأمة من صيامها وهل تستفيد من حجها ؟؟ لقد كنت أضحك ضحكا مرا وأنا أسمع أغاني رمضان ، والاستبشار بقدومه ، والحزن لفراقه !! كنت موقنا أن المغنى مفطر ، وأن المغنية لم تفكر يوما فى صيام ! كنت أسمع الألحان والأنغام وأنا استغرب كيف تحول الدين إلى طبل وزمر وصياح ومجون.. كنت أعرف أن شهر الصيام والقيام قد غاضت منه معانيه الرفيعة ، وحولته الطبائع المرضى إلى شهر طعام وشراب وتسال وألغاز وضجيج طويل أبعد ما يكون عن الجد والصدق. وعرفت يقينا أن المسلمين حكموا على بعض تعاليم دينهم بالموت . وحكموا على البعض الآخر بالمسخ والتشويه . . إن الله لما شرع العبادات شرح الحكمة المقترنة بها ، والثمرة المرجوة منها. فإذا أديت هذه العبادات تأدية عقيمة أو صورية فإن هذه التأدية لا تزيد عن الإهمال والترك إلا قليلا .. إذا كانت غاية الصوم التقوى كما قال الله تعالى: (…كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون) ثم جاء من صام ولم يستفد من طاعته التقوى المنشودة فما قيمة صومه ؟. ص _128(1/120)
وإذا كانت الصلاة طهارة للقلب ووضاءة للخلق، وانتهاء عن المناكر، ثم جاء من يصلى دون أن يحقق فى روحه أو سلوكه شيئا من ذلك فما قيمة صلاته؟ نعم ، ربما كان هذا الأداء دليلا على خيط يربط المسلمين بدينهم على نحو ما.. ويستطيع المربون أن يهذبوا هذه العلاقة ، وينقوها من عللها. وهذا صحيح.. وأحب أن أشير إلى أن مراصد التبشير الغربي تنتشر صورا عن المجتمعات الإسلامية فى رمضان، وتثبت إحصاءات عن عدد الصائمين ونسبتهم فى الأمة ، وتستنتج من ذلك كم بقى على المسلمين لينسلخوا من دينهم نهائيا ؟ كلما رأوا عدد المفطرين يزيد باطراد !! فهل يدرك ذلك المشايخ الخربو الذمم الذين يصدرون فتاوى عامة بالإفطار، لجماهير غفيرة من الناس ، بعد أن يحرفوا الكلم عن مواضعه ، وبعد أن يغمضوا عيونهم عن الملابسات المحيطة بالسؤال والسائلين ؟ أعجبني عندما كنت فى الكويت- خلال رمضان- أنى لم أر مجاهرا بفطر، فمن كشفت سوءته رمى به فى السجون . ليت شعرى لماذا لم يطبق ذلك النظام فى مصر ؟ ولكن كم فى مصر من مفاسد اجتماعية تتطلب مبضع الجراح ليشفى ويكفى..؟ وها قد خرج المسلمون من رمضان لتطالعهم أشهر الحج.. وأغلب عشاق الحج من الفقراء الذين لا تلزمهم الفريضة، ومع ذلك يزحمون موسمه! وجمهور القادرين الواجدين مصروف القلب عن هذا الركن الجليل. وتلك بعض نتائج الغزو الثقافي لبلادنا العليلة فى المشارق والمغارب.. ومع هذا الحساب للمقبلين والمدبرين فإن الموسم العظيم يعج بالألوف المؤلفة. وتعود بنا الذاكرة إلى الماضى البعيد عندما كان الحج شعيرة حية من شعائر الإسلام الحي . شعيرة تتقرر فيها سياسة المسلمين نحو أعدائهم ، وتوجه هذا الفيضان البشرى من شتى الأجناس والألوان ليمحو ويثبت من صور الحياة ما يشاء !! فى حجة مضت إبان العهد الأول ، وقف على بن أبى طالب يصك آذان المعتدين ص _129(1/121)
والمجرمين بهذا الإنذار الإلهي: (…واعلموا أنكم غير معجزي الله وأن الله مخزي الكافرين) . لقد تحمل المسلمون الكثير من غدر خصومهم، وخبث مؤامراتهم، وطول تبجحهم إ! وها قد آن أوان القصاص والتأديب، وانتهت عهود المطاولة والتريث: (وأذان من الله ورسوله إلى الناس يوم الحج الأكبر أن الله بريء من المشركين ورسوله فإن تبتم فهو خير لكم وإن توليتم فاعلموا أنكم غير معجزي الله وبشر الذين كفروا بعذاب أليم) . فهل يوجد اليوم بين الحكام المسلمين من يستغل الحشود المائجة يوم الحج الأكبر، ويلقى الخطبة نفسها التى ألقاها على بن أبى طالب ؟ إن الإسلام فى خطر مقترب ، ووجه مكتئب !.. وكل يوم يمر تسقط من بنائه لبنة ، ويضيع من أرضه قيراط ، فهل يذهب الحجيج ويعودون ، لتقام لهم الأحفال ، وتزجى لهم التهاني ، وتسند إلى أسمائهم ألقاب ! وأمر المسلمين فى إدبار ، وتاريخهم المعاصر يلف به إطار من العار؟؟ أتلك هى الغاية من فريضة الحج ؟ وذلك هو الربح الذى يحصله الحجاج لدينهم ودنياهم ؟ كيف هوى المسلمون بشعائر دينهم إلى هذا الدرك ؟ ولحكمة عليا شاء الله أن تكودن المساجد الثلاثة التى تشد إليها الرحال فى هذه المنطقة فى الشرق الأوسط . إنه فى هذا الشرق درجت الديانات ، وفيه تقع الأماكن المقدسة . وفى هذا الشرق أقام الإسلام للعرب دولتهم الكبرى ، وجعل منهم أمة مرموقة بعد أن لم يكونوا فى التاريخ شيئا مذكورا .. لكن العرب خانوا تعاليم الإسلام عدة مرات فأصابهم من ضربات القدر ، وخزى الأيام ما أصابهم !! خانوه أول مرة فى أواخر القرن الرابع الهجرى عندما أوهنوا أمرهم ، وتقطع بينهم ، وتبعوا أهواءهم . ص _130(1/122)
وتفرقوا شيعا فكل قبيلة فيها أمير المؤمنين ومنبر ! ! وعندئذ جاء أول فوج للصليبيين، واكتسح المقاومة الواهنة وأرخص الدماء فى القدس المهزومة حتى خاضت فى مجراها سنابك الخيل.. وكما كانت هذه البقاع من أرض الله لا تعنى العرب وحدهم، وإنما تعنى المسلمين من كل جنس وبلد ، فإن فساد العرب أصلحته الأجناس الإسلامية الأخرى !! فتقدم الأكراد والأتراك باسم الإسلام ونشلوا العرب من وهدتهم . وما زالوا يقاتلون الصليبيين حتى أجلوهم عن المواطن التى احتلوها ، وما زالوا كذلك يجالدون التتار حتى كسروا شوكتهم . وعاد العرب والمسلمون إلى فلسطين بعد ما طهرها الإيمان المجرد والإخلاص لله والعمل لدينه .. وخان العرب الإسلام مرة ثانية فى الأندلس ، يوم غرقوا فى الملاهي، وملئوا أفواههم فخرا بعصبيتهم القبلية ، ونزعاتهم العنصرية ، ونسوا أن الإسلام محا كل هذه الدعاوى ، وطمس مآثر الجاهلية ، واستحيا قيم الإيمان والفضيلة وحدها فى موازين البشر . فماذا كانت العقبى ؟ لقد دخلوا بالإسلام أرض الأندلس ، فلما جحدوه وتذاكروا عروبتهم ونبضت عروق الجاهلية فى سيرتهم ، طردوا من هذه الأرض شر طردة وأقفرت منهم مغان طالما عمرت بشيبهم وشبابهم . كأن لم يكن بين الحجون إلى الصفا أنيس ولم يسمر بمكة سامر! واليوم يعيد التاريخ نفسه ، فهل نتعظ قبل أن تدور علينا رحاه فتطحننا كما طحنت من قبلنا من المفرطين واللاهين ؟؟ إن القدس سقطت فى يد اليهود.. والزحف الجديد يضمر فى طواياه السود إبادة أمة وإزالة تاريخ .. والعرب فى أوضاع الهزيمة التى وقع فيها من قبل أسلافهم المفرطون أولئك الذين انسحبوا من الأندلس ، واندحروا أمام الصليبيين القدامى !! نعم فى الأوضاع نفسها !.. ص _131(1/123)
فرقة بين الأمراء والرؤساء لا تجمع قلبا على قلب . نهمة إلى الشهوات هبطت من الكبار إلى الصغار، وجعلت الكل يطلبون الدنيا بخسة ، ويركضون وراء مآربها ركض الوحش فى البرية ، بلا عقل ولا تقوى . . وزاد الطين بلة بلاء جد على التاريخ العربى، لم يعرف يوما فى صحائفه الأولى!! هذا البلاء، قوم يجردون العروبة من الإسلام، ويقطعونها عن أبيها الروحي والفكرى والحضاري والعسكري ، ويريدون إفهام الأجيال الناشئة أنهم أولاد أنف الناقة وتأبط شرا وأمثالهم من قادة الفكر فى عالم الأساطير!! (…ألا لعنة الله على الظالمين ، الذين يصدون عن سبيل الله ويبغونها عوجا وهم بالآخرة هم كافرون). إننى أحذر العرب من هذه البلايا التى تجمعت عليهم!!. وما أرى الوقت يتسع للتلكؤ فى العودة إلى الله.. ولا يزال يرن فى سمعي قول صديقي المجاهد المسلم محمد على الغتيت " إن الشعوب التى لا تبصر بعيونها سوف تحتاج إلى هذه العيون لتبكى طويلا " * * * ص _132(1/124)
أمانة الإسلام هى الهدف الأخير لم ينقض عهد النبوة الخاتمة والخلافة الراشدة حتى كانت ألوية الإسلام ترفرف على جنبات الشرق الأوسط كله، وحتى استطاعت شعوبه العانية أن تكسر أغلال الأسرين الروماني والفارسى وتتنفس الصعداء بعد ذل طويل!! أجل تحررت مصر والشام بعد استعباد قرون ، وتحررت عن اليمين والشمائل أقطار رحبة فى إفريقيا وآسيا . واستوطن الإسلام هذه البلاد كلها بعد ما ارتضاه أهلها ودخلوا فيه أفواجا وجماهير.. والشرق الأوسط وما حوله مجمع القارات المعمورة، ومهد الديانات والحضارات الكبرى، ومهب رياح التغيير فى العالم كله. والأمة المهيمنة عليه تملك مفاتيح الشرق والغرب، وتقدر على فرض نفسها فى كل مجال، أو على القليل أمة لا يجوز تجاهلها وإسقاط حسابها !. فكيف إذا اعتنقت رسالة سيالة تمتد من قلب إلى قلب، وتنتقل من شبر إلى شبر؟ إن هذا الوضع يتيح لها فرصا رائعة، ويرشحها لمكانة مرموقة ويلقى بين أصابعها بإمكانات ضخمة!!.. وآباؤنا الأوائل عندما طووا رايتي الروم والفرس، وخلفوهما فى هذه البقاع رسخوا أقدامهم فيها بالعدل والرحمة، وجعلوا منها منطلقا لأداء رسالتهم الكبرى فكانوا يصدرون للعالم الشرائع والمثل، والأخلاق والأفكار كما نصدر نحن الآن النفط والقطن وأشياء أخرى !!. ولا ريب أن هذه المكانة الجغرافية كما تمنح الكثير تكلف الكثير وبقدر ما تعين الأصدقاء تؤلب الأعداء.. ومن هنا فإن خصوم الإسلام بذلوا على مر العصور جهودا متتابعة لحرمانه من هذه الميزة ، وشنوا الحروب صريحة وغادرة لزلزلة هذا الكيان وزحزحة أصحابه عنه . ص _133(1/125)
وإننا لنكون على حظ كبير من الغباوة إذا ظننا أعداءنا سيتركوننا نحيا بديننا كما نشاء فى تلك الأوطان الطيبة الغالية.. وما الحروب الصليبية فى صورتها القديمة ثم فى صورتها الحديثة إلا ترجمة دقيقة لرغبات خصومنا فى الخلاص هنا ومن ديننا.. إنهم يودون أولا الاستيلاء ولو على موضع قدم !! فإذا تم لهم ذلك كان المعبر الذى تنساح منه جيوشهم فى أحشائنا لتجهز علينا بوسيلة أو بأخرى!!. وليس المهم أن يكون هذا الموضع مصر أو الشام أو كليهما أو قطعة منهما. المهم هو الحصول على رأس الجسر الذى يمر منه العدوان!! وليس المهم أن يكون هذا الهجوم عسكري الطابع، فقد تكون الأساليب الأخرى أجدى وأنكى وإن طال المدى!!.. ولا نستطيع هنا التأريخ للمحاولات الثقافية والاقتصادية والسياسية التى سلكها الغرب للقضاء علينا، وإنما نكتفي بآخر تلك المحاولات وأدهاها وأقساها.. لقد قفز الأوروبيون فى الأعصار الحديثة إلى مقدمة القافلة البشرية، واستغلوا أخطاء المسلمين وخطاياهم فنحوهم بقوة عن مكان القيادة ، وتولوا هم تلك الوظيفة!!.. وشهدت الدنيا الأمتين العربية والإسلامية تنحدران إلى السفح بعد ما كانتا فى القمة ، كما شهدت الأوروبيين الذين كانوا عميانا فى القرون الأولى يتأنقون فى مدنيتهم الجديدة، ويدلون بها على الآخرين!.. ومن السفه أن ألوم خصمي على مهارته وتفريطي ، لقد كنا وما زلنا سبب ما ألم بنا من كوارث !!. وفى قيادة الأوروبيين للعالم أخذوا يضعون الخطط فى أناة ودهاء للقضاء على خصومهم الأقدمين ، وضمان بقائهم إلى آخر الدهر قادة الدنيا وسادتها ! ولكن كيف والدهر قلب ؟ وللحضارات والدول أعمار كما للأفراد !. هنا شرع العقل الاستعمارى الذكي يفكر ، ويقلب الأمر على وجوهه، ويحتال للبلاء قبل وقوعه.. من أين يمكن أن يجيء الخطر ، وكيف يتم تلافيه من الآن ؟؟ لقد تألفت لجنة دولية بأمر " السير هنرى كامبل باترمان " رئيس الوزارة البريطانية ، ص _134(1/126)
وتمثلت فيها كبريات الدول المستعمرة ، واستمع أعضاؤها إلى الرئيس البريطاني وهو يقول: " إن الإمبراطوريات تتكون وتنمو وتقوم ثم تستقر حينا من الدهر، ثم تبدأ طريقها إلى الغروب رويدا رويدا ، ثم تتلاشى وتزول !. والتاريخ مليء بهذه الأطوار والأدوار التى انطبقت على شتى الأمم والنهضات ، دون استثناء.. فهناك إمبراطوريات روما وأثينا والهند والصين، وقبلها بابل وآشور ومصر. فهل لديكم أسباب أو وسائل تجنبنا هذا المصير، وتحول دون انهيار الاستعمار الأوروبي بعد ما بلغ ذروته اليوم ؟ لقد أصبحت أوروبا قارة قديمة، استنفدت مواردها، وحالت معالمها بينما الآخر لا يزال فى شبابه يتطلع إلى مزيد من العلم والتنظيم والرفاهية. هذه مهمتكم أيها السادة وعلى نجاحها يتوقف رخاؤنا وتبقى سيطرتنا. ونحن نلحظ أن السياسى البريطاني تعمد ألا يذكر فى الدول القديمة الغاربة العرب أو الترك. كما نلحظ أنه ينوه بفرص التقدم والوثوب المتكاثرة فى أرجاء العالم الآخر، هذا العالم المحذور النهوض واليقظة !! ترى ماذا يعنى بالضبط ؟ على كل حال لقد باشرت اللجنة مهمتها بعد ما استمعت إلى توجيهات مؤلفها الكبير ودرست الوسائل المستطاعة لحماية الاستعمار الغربي وتوفير ضمانات البقاء الأبدي له ، ثم انتهت فى تقريرها الذى صدر سنة 1907 إلى ما يأتى: أولا: استبعاد أى خطر على السلطان الأوروبي من المستعمرات التى تحررت بعد ما غلب عليها البيض مثل أستراليا وكندا وجنوب إفريقيا وغيرها.. والتقليل من خطر استقلال الهند والملايو والهند الصينية وغيرها لأن المشكلات الدينية والطائفية ستشغل هذه البلدان ، إن هى استقلت ، لأجل غير محدود . والتقليل كذلك من خطر منح الاستقلال للمستعمرات الإفريقية أو البلدان المبعثرة فى المحيطين الأطلسي والهادي ، وذلك لتطرفها وانعزالها الجغرافي . ثانيا: وهنا الجزء المهم فى التقرير- ترى اللجنة أن الخطر على الاستعمار يكمن فى منطقة الشرق الأوسط ،(1/127)
فهذه المنطقة مهد الحضارات والديانات ويسكنها شعب ص _135
تتوافر له من وحدة تاريخه ولغته ومثله وآماله كل مقومات التجمع والترابط علاوة على ثرواته الطبيعية ونزعة أهله إلى التحرر. ولمواجهة هذا الخطر اقترحت اللجنة على الدول ذات المصالح المشتركة ما يأتى: ( أ )- السيطرة على البحر الأبيض لأنه الشريان الحيوى للاستعمار والقنطرة الموصلة بين الشرق والغرب.. (ب)- استبقاء هذه المنطقة مجزأة ، وفرض التفكك المستمر على شعبها ومنع كل محاولة لعودة هذا الشعب إلى وحدته الطبيعية ، والحيلولة بأي طريقة دون أى ارتباط فكرى أو روحى أو تاريخي يسودها. (جـ)- فصل الجزء الإفريقي من هذه المنطقة عن جزئها الآسيوي بإقامة حاجز بشرى قوى وغريب يملأ الجسر البرى الواصل بين القارتين، بحيث يشكل فى هذه المنطقة وقريبا من برزخ السويس قوة صديقة للاستعمار الأوروبي وعدوا لأهل البلاد..!! هذه هى مقررات لجنة باترمان . وظاهر أنها طوفت بالعالم كله تتحسس مصادر الخطر على الاستعمار فلم تجد أمة تخشى نهضتها ، ويخاف على مستقبل الاستعمار من يقظتها ، إلا الأمة الإسلامية ، أو بطريق التحديد العرب الذين هم دماغ الإسلام وقلبه . فوضعت أصبع الاستعمار على مكمن القلق ، وقالت له : عليك به !! وعندى أن اللجنة الموقرة لم تأت بجديد حين استثارت أحقاد العالم الصليبى على الإسلام وأمته ، إنها أكدت مشاعر كانت منتشرة مستقرة فى كل مكان . إن الجديد الذى جاءت به هو ما اقترحته على قومها من تبنى أماني اليهود، والعمل على ضرب العالم الإسلامى بالصهيونية الحديثة !! وقد استجاب الساسة الأوروبيون والأمريكيون- وبين الجميع قاسم مشترك- لهذه الدعوة. فمهدت إنجلترا بإصدار وعد بلفور مقررة إنشاء وطن قومي لليهود. ثم ثنت أمريكا ببسط وصايتها وحمايتها على الدولة المفتعلة قائلة : إن إسرائيل خلقت لتبقى !! ص _136(1/128)
وظاهر أن اليد التى تضربنا يد صليبية، وأن الآلة التى استعملت فى ضربنا يهودية.. ومن العبث الكلام فيما يحرك اليد الآثمة من حقد وغضب وخسة وعدوان.. وإنما يجب الكلام فى الطريقة التى تم بها غرس هذه الشوكة فى جانبنا، والطريقة التى تستبقى بها هذه الشوكة لتؤدها وظيفتها القذرة. إن المعارك العسكرية التى أدت إلى قيام إسرائيل هى أتفه ما هيأه الاستعمار لبلوغ هدفه.. أما ما سبق هذه المعارك ولاحقها من تدابير ثقافية، واجتماعية، واقتصادية، وسياسية، فهو العمل الحقيقي الذى أنتج قيام إسرائيل.. استطاع الاستعمار تقسيم العرب وحدهم إلى نحو عشرين دولة وإمارة.. وجعل لكل شلو من أشلاء المنطقة المحروبة قومية خاصة وعلما ملونا!!.. ولقد سئل وزير مصرى من أربعين سنة ماذا صنع لفلسطين ؟ فقال: إنه مسئول عن مصر لا غير. أى لا عروبة ولا إسلام !! فهل يريد الاستعمار تمهيدا أفضل من ذلك ؟. فلما أمكن توحيد العرب وتجميع شملهم كان الاستعمار قد سرق الإيمان من قلوبهم وصفوفهم ، فإذا هم يجتمعون دون عقيدة وغاية . فلا جرم أن تهزمهم أية جماعة يلمها إيمان حار!! وتجمع الأصفار لا ينتج عددا، ولا يجلب مددا.. إن الدين من وراء اليد الضاربة والآلة المستخدمة، فكيف يفقده المدافعون عن أنفسهم وكيانهم؟. يقول الدكتور " وايزمان " فى مذكراته: " ينسبون إلى فضل الحصول على تصريح "بلفور " ولكن الحقيقة أن السبب الرئيس لفوز اليهود بتأييد بريطانيا لهم والموافقة على إنشاء وطن قومي فى فلسطين يجمع شتاتهم هو إيمان الإنجليز بالعهد القديم وتأثرهم بتعاليمه، وأن رجالا من أمثال بلفور وتشرشل ولويد وجورج كانوا متدينين من أعماق قلوبهم ومؤمنين بما ورد فى هذا الكتاب. ص _137(1/129)
وقد نظروا إلينا معشر اليهود على أننا نمثل فكرة يعتقدونها اعتقادا تاما". هذا هو تدين الساسة الذين حاربونا وهو نموذج لتدين ترومان وجونسون وغيرهما.. فهل آمن الساسة العرب بمقدساتهم الإسلامية إيمان هؤلاء بمقدساتهم اليهودية والنصرانية ؟؟ كلا.. كلا، بل أكثر هؤلاء ما قرأ القرآن، ولا اطلع على السنة، ولا درس تاريخ سلفه الأول .. إن الغرض من إنشاء إسرائيل، كما رأيت قتل دين، وتمزيق أتباع ! وإذا لم يعبئ العرب قواهم المادية والأدبية على هذا الوعي فلن يزدادوا من النصر إلا بعدا.. * * * ص _138(1/130)
حَديث ذو شجُون أفدت كثيرا من الأيام التى قضيتها فى السودان، وشكرت لجامعة أم درمان الإسلامية فرص اللقاء التى يسرتها لى مع طلاب المعرفة فى العاصمة والأقاليم. إن السودان ينمو بقوة، وملامحه الإسلامية تتضح وتكتمل ، واعتقادي أنه كفء لملء الفراغ الديني وسط القارة التى استيقظت من رقادها ، وإن كان ذلك يحتاج إلى جهود ضخمة ، فإن حدود السودان المترامية تصله بثماني دول، بعضها يعد من خمسين سنة ليكون مركز الاستعمار التبشيري ، ومصدر الإزعاج والتعويق لكل حركات التحرر فى القارة !! ولذلك فإني بقدر ما سررت لطلائع النهضة الإسلامية التى وجدتها أحسست بوادر قلق لما قد يتمخض عنه المستقبل . إن الجبهات المعادية للإسلام شديدة الخبث محذورة الشر، ولابد من التيقظ لها حتى لا نلدغ ونحن غارون مسترسلون. والسودانيون عرب أصلاء ، بل هم أوغل فى العروبة وأدنى إلى ملامحها وشمائلها من مجتمعات عربية أخرى فى إفريقيا وآسيا.. وقد تسألني: لماذا أصدر هذا الحكم الغريب ؟ والجواب: أسلوب المعاملة بين الحاكم والمحكوم.. رأيت شابا ينادى أحد الوزراء باسمه المجرد ، وغلبتني الدهشة أول الأمر، ولكنى كتمت ما بي حتى أعرف ما سوف يتم ، وتلفت الوزير عندما سمع اسمه ، دون أن يبدو عليه شيء وجرى حوار سريع فى الموضوع الذى نودي من أجله.. ثم ذهب كل إلى حال سبيله.. ص _139(1/131)
ونظرت إلى صديق لى نظرة تنطوى على الدهشة ، فقال لى مبتسما: هنا يستطيع أى مواطن أن يقول للسيد إسماعيل الأزهري رئيس مجلس السيادة: أزهري ! ماذا فعلت فى موضوع كذا ؟ وسيجيبه الرئيس بما عنده دون نكر أو هجر!! لقد زرت بلادا عربية كثيرة، ومنذ شهرين اثنين كنت فى الكويت، وهناك يستطيع رجل الشارع أن ينادى صاحب أكبر منصب دولة بقوله، أبا فلان.. ويجيب أبو فلان هذا- سواء أكان وزيرا أكبر أو أصغر- يجيب داعيه بمودة وبشر.. إن بقايا الإسلام لا تزال لاصقة بأفئدتهم.. أما فى مصر فقد ألغيت الألقاب على الورق فقط ، والويل لمن ينادى كاتبا أو إداريا باسمه أو كنيته . إن حاجته لن تقضى ، وما أحسبه ينصرف سالما.. إننا ألغينا الألقاب لنعيد الصحة النفسية إلى جماعات أكلها الذل والتفاوت ، لكن العلل التى يتأذى منها الأحرار لا تزال دونها قلاع وأسوار! والتقيت بأحد الدعاة العائدين من جنوب السودان، وبادرته بالسؤال: كيف الحال هنالك؟ فقال: فى طريق الاستقرار وإن كان مشعلو الفتنة لم يزولوا.. واستوضحته الخبر، فعرفت أن جماعات المبشرين- وهم يعملون وفق سياسة مرسومة- وضعت بذور شر مستطير فى هذه البقاع. إن الإنجليز فى أثناء حكمهم عزلوا الجنوب عن الشمال عزلا تاما، ومكنوا الكنائس الغربية أن تتولى كل شيء فى المجالين الثقافي والاجتماعى. فلما استرد السودان حريته وجد نفسه أمام شعور طافح بالبغضاء من الجماعات التى صنعها أولئك المبشرون. ولكن ما جبل عليه المسلمون من احترام للحريات الدينية جعلهم يلقون الأمر الواقع بشيء من الرضا، ووضعوا خطتهم على أساس تعاون شتى الأديان فى مجتمع تذوب فيه الفوارق المفتعلة.. غير أن المبشرين رفضوا هذه الخطة، وأعلنوا الحرب عليها وعلى منفذيها، ص _140(1/132)
وفجروا ثورة جائرة، وقتلوا عدة آلاف من المسلمين بينهم جمهور من النساء والأطفال.. قلت: وماذا يبغون؟ قال: إن عدد المسيحيين هناك ربما بلغ ثلاثمائة ألف من جملة السكان وهم نحو ثلاثة ملايين يتبعون عقائد بدائية وثنية. ويظهر أن المشرفين على التبشير يخشون أن يتحول الوثنيون إلى الإسلام عندما يتيسر الاختلاط بين المسلمين والجنوبيين ، ومن هنا يصبح المتنصرون قلة ، ويفقدون الحديث باسم الجنوب كله. ومنعا لهذه النتيجة أعلنوا التمرد وكان رجال التبشير يلقنونهم أن الإسلام دين التفرقة العنصرية، وأنه هو الذى خطف آباءهم وباعهم فى أسواق النخاسة، وأنه سيوقع بهم فى الغد ما وقع لآبائهم فى الماضى.. على أن العصابات المتمردة قضى عليها، وأمكن منع الأمداد التى تجيئها من وراء الحدود وأمكن إشعار هؤلاء المخدوعين أن المسلمين لا يأكلون لحوم البشر كما كانوا يسمعون فى عظات الآحاد من المرسلين الأوروبيين.. قلت، وأنا أهمس إلى نفسى: الله المسئول أن يجنب السودان مؤامرات الاستعمار الحديث.. إن هذه المؤامرات أغرقت نيجيريا فى برك الدم، وقد قضت على زعامات إسلامية فارعة، ولا تزال جراحات التدخل الأجنبى تسيل، وهى مصممة على ضرب الإسلام فى صميمه ، والله وحده يعلم كيف ستستقر الأمور هناك.. والتقيت فى أم درمان برجلين من زعماء المسلمين فى " ماليزيا " وهششت لمرآهما وقلت: أتعرف على أحوال إخواننا فى الشرق الأقصى، فإن الشقة بيننا وبينهم بعيدة. وكان الرجلان قد اطلعا على بعض ما أكتب فكان حرصهما على شرح الأمور لى بعض ما يطوفان البلاد الإسلامية من أجله. واستمعت إليهما وكان الأسى ينشر ضبابه فى أقطار نفسى رويدا رويدا، فلما أتما حديثهما خيم الصمت على مجلسنا وسرحنا مع خيالات قابضة.. كنت أعلم أن المسلمين فى الملايو كثرة فإذا هم اليوم قلة تبلغ 45% من جملة السكان فكيف حدث هذا ؟ يرجع ذلك إلى أمرين مهمين: ص _141(1/133)
الأول أن الصينيين يهاجرون إلى البلاد فى أعداد كبيرة، ويكسبون الجنسية الملاوية بسرعة . والآخر أن التناسل بين الصينيين يزداد دون عوائق ، والأسرة الصينية العادية تتكون فى المتوسط من خمسة عشر شخصا. وليس غريبا فى البيئة الصينية أن يتبع الأم عشرون ولدا لها !!! والكثرة تفرض وجوديها المادي والأدبي طوعا أو كرها.. والمسلمون شرعوا ينكمشون من الناحيتين الاجتماعية والاقتصادية فإن التجارة تكاد تكون حكرا على الصينيين، وقد استطاع هؤلاء وفق نظام ربوي رهيب أن يشددوا الخناق على الفلاحين المسلمين، وأن يستولوا على نتاج الأرض بالثمن البخس. وقلت لمحدثي: لكن رئيس حكومتكم مسلم، وأظن أنه دعا إلى مؤتمر إسلامي عالمي يعقد خلال هذه الأيام. فقال لى فى لهجة مشوبة بالمرارة: إن حكومتنا تنفذ السياسة الإنجليزية بدقة ، وهى شديدة الالتزام لخطتها ووجهتها . ولعلك تعلم أن الحكومات الأوروبية متفقة على معاداة الإسلام. غير أن للإنجليز أسلوبا خاصا فى قتل هذا الدين يحقق غرضهم دون ضجة.. إنهم يقطعون شريانا حيويا له ثم يدعونه ينزف فى صمت ويموت على مهل. أو هم يرسلون عليه غازا مميتا كالغاز الذى يصيب المغتسل داخل الحمام ، فإذا هو يدخل فى غيبوبة مخدرة لذيذة إلى أن يقضى نحبه ، كذلك يفعل الإنجليز مع الإسلام، إنهم يقتلونه بين أيدى أهله، وأهله مسحورون، وقد يبتسمون وهم يموتون !! أما قصة المؤتمر الإسلامى الذى تتحدث عنه، فهى لا تعدو قصة تمثيلية متقنة الإخراج سائرة مع الهدف المرسوم لا تنحرف عنه قليلا ولا كثيرا. ما قيمة مؤتمر لا يناقش قضايا الموت والحياة لأمتنا الكبرى، ويشغل نفسه برؤية الهلال واختلاف المطالع، كأن هذه المسألة قضية المصير، مع أن أركان الإيمان وبقاء أمته فى مهب الريح. ص _142(1/134)
إننا فى ماليزيا نرى هذه المؤتمرات دعاية انتخابية يحسنها الحكام المنتسبون إلى الإسلام الخارجون على أحكامه . وطويت هذا الحديث المليء بالقصص فقد كان على أن أسافر إلى " الأبيض " لألقى بعض المحاضرات فى هذه المدينة الكبيرة. واكتشفت وأنا أستمع إلى الأسئلة المعروضة على أن هناك حزبا قد تألف فى العاصمة وامتدت له بعض الفروع فى الأقاليم يدعو إلى ترك السنة والاكتفاء بالقرآن الكريم.. فقلت للجمهور: هل وصلتكم أنتم الآخرين هذه الدعوة ؟ إنها انتشرت بيننا حينا ثم تلاشت ، وكنت أحسب صاحبها مجنونا، ولكنى وجدت هذا النشاط المريب قد امتد إلى الهند شرقا، وإلى تونس غربا، وأن كتبا عديدة تحمل جراثيمه، فعلمت أن مؤتمرات التبشير والاستشراق المتخصصة فى إفساد الفكر الإسلامى مستخفية وراء بعض هؤلاء الأشخاص المخدوعين أو الخداعين.. وإذا كانت هذه المحاولات السمجة تموت فى أماكنها لتفاهة موضوعها، وانصراف الجميع عنها ، فإن تكرار ظهورها هنا وهناك يدل على أن أعداء الإسلام لا تنتهي لهم لجاجة.. وأنهم ما يزالون يجدون مطايا لهم فى كل بلد ، فاحذروا أيها الأخوة تلك المطية الجديدة التى ظهرت فى بلدكم ..!! واستوقفني مبنى شامخ ، مديد على الأرض ، ذاهب فى الأفق، يتوسط المدينة الكبيرة ، ويرى من أغلب شوارعها. فتساءلت: ما هذا المبنى ؟ فقيل لى: الكنيسة التى شادها المسيحيون أخيرا !! فقلت فى نفسى: تلك سياستهم فى ربوع العالم الإسلامى كله ، يبنون المعابد، لا لأداء الشعائر الدينية فقط ، بل لإظهار المسيحية وكأنها الدين الغالب الذى يضع طابعه على الأرض فى رسوخ واعتداد بالنفس دون أى اكتراث بمشاعر الكثرة الموجودة التى تعتنق دينا آخر. ص _143(1/135)
ثم خاطبت رفيقي : إنها لا شك تتسع لجمهور كثيف من المصلين!.. كم نسبة المسيحيين هنا فى السكان ؟ فقال يبلغون 2% !! فقلت: حسنا، لقد بنيت كما لو كان السكان 40% لعل فى ذلك ما يخرس بعثات التبشير التى تتهم المسلمين بالتعصب. لكن، هل يسكتون ؟ لا أتوقع، فإن ضعف المسلمين المزرى سيسمح للألسنة الكذوب أن تفتري عشرات التهم ، أولها الحيف على الآخرين !! ولن يجد ضعيف نصفة فى عالم يسوده منطق الغاب ونهم الذئاب . ص _144(1/136)
تزوير التاريخ للاستعمار الحديث براعة منكرة فى تزوير التاريخ، وإخفاء بعض معالمه، وإبراز البعض الآخر، بعد تشويه المفاهيم، وتحريف الكلم عن مواضعه.. وغرضه من هذا هو خداع الأجيال الناشئة عن أصلها، ولى زمامها عن وجهتها العتيدة.. وكما ينتقل مجرى النهر لتنسكب مياهه فى مصب آخر، أو لتذهب بددا فى أرض عمياء، ينقل مجرى التاريخ، وتحور أحداثه وأحكامه حتى يصبح لها معنى بدل معنى، وتوجيه غير توجيه.. وقد تضافر المستعمرون على تمزيق التاريخ الإسلامى وتحريفه خلال القرنين الأخيرين ليكون فى سياقه الجديد المختلق عونا على الغزو الثقافي الواسع المنظم، وليمكن على إيحائه المصنوع صب الأمة الإسلامية الكبرى فى القوالب الكثيرة التى أعدت لها. وهى قوالب شكلت بعناية ودهاء، كي تتبدد خلالها رسالة القرآن، وتتلاشى فى طول العالم وعرضه أمته الواحدة.. وقد ساعد على نجاح هذه الخطة إلى حد ما الضعفان الخلقي والعلمى اللذان صارت إليهما الأمة أيام العثمانيين. وأبرز مظاهر هذا النجاح وجود جماعات غفيرة تعتقد أن الدين لم يكن وراء حركات المقاومة للحملات الأجنبية على البلاد..! أى أنه- خلال القرن الماضى- لم يكن له دور فى مدافعة الاحتلال الفرنسي ثم الاحتلال الإنجليزي الطويل.. كانت المقاومة نابعة من بواعث أخرى مادية ، أو محلية ، أو عنصرية ، أو أى شيء آخر.. إلا الدين!! ويتبع ذلك الفهم عزل الدين مستقبلا عن حركات التحرر، وميادين المقاومة.. ص _145(1/137)
ومن يدرى؟ فقد ينمو هذا الوهم، ويوغل فى الشرود ليتهم الدين نفسه بأنه قيد على حركات الشعوب، وآمالها فى حياة أرقى وأرغد!! ولا يطلب الاستعمار الثقافي أكثر من هذا الضلال.. ونرى لزاما علينا أن نكشف الحقائق التى يراد طمسها، وأن تقطع هذه السلسلة من الترهات والأباطيل التى راجت بين القاصرين والأغرار. عندما احتل الفرنسيون مصر، كان الإسلام وحده ، ولا شيء غيره هو الذى أشعل نار المقاومة المسلحة والمقاومة السلبية. لقد استمات المسلمون فى مناضلة الغزاة وتعويق تقدمهم، وأرخصوا أنفسهم وأموالهم فى سبيل الله، ولم يجبنوا أمام تفوق الفرنسيين العسكري ورجحان كفتهم فى كل شيء ، ولا أمام الخيانات المفاجئة من بعض المواطنين..!! وقاد الأزهر حرب الدفاع المقدس، فحكم الفرنسيون على عشرات من علمائه الشبان بالقتل، ونفذ فيهم حكم الإعدام فرادى وجماعات ..! كما نفذ حكم الإعدام بطريقة بشعة قذرة فى سليمان الحلبى قاتل الجنرال كليبر ، ودخل الغزاة بخيلهم ورجلهم صحن الأزهر.. ولكن الثورة التى اشتعلت فى القاهرة والأقاليم لم تنطفئ جذوتها، وظلت جثث القتلى تفوح روائحها فى القاهرة وحدها أكثر من ثلاثين يوما.. ويقدر عدد المسلمين القتلى فى مقاومة الغزو الفرنسي بنحو نصف مليون قتيل فى مدن الوجهين القبلي والبحري والقاهرة.. ولكن الغريب المخزي أن صور هذه المقاومة الباسلة طويت طيا ، بل محيت محوا من صحائف التاريخ المدروس بين جماهير الطلاب والمثقفين..! وسطر فصول المأساة نفس بارد ميت!! وقام جهد مزوري التاريخ على أمرين: أولهما سحب ذيول النسيان على دور الإسلام فى المعركة وإغفال تضحيات المسلمين الجسيمة وخسائرهم الفادحة فى الأرواح والأموال. الأمر الآخر- وهو ما يطيش له اللب- إبراز الحملة الفرنسية على أنها خير وبركة لمصر والمصريين!! فأي زور هذا الزور؟؟ وأي هوان هذا الهوان؟؟ ص _146(1/138)
وقامت الثورة العرابية فى مصر، وهى من ناحية الوزن التاريخى لثورات المبادئ تشبه الثورة الفرنسية. إذ هى حركة تمرد على مفاسد بعض الملوك ومظالمهم، وتحرير للشعوب المضطهدة، ورد لحقوقها المسلوبة. والفارق بين الثورتين، أن الفرنسيين قاموا بدوافع إنسانية مجردة ضد التحالف الجائر بين النظام الملكي ورجال الدين على افتراس الجماهير وانتهاب حقها.. أما الثورة العرابية فقامت بدوافع إسلامية ضد طغيان ملك مستبد، وعصبيات جاهلية، ولذلك قادها علماء الأزهر، ودعوا لها، ودافعوا عنها وحوكموا من أجلها. بل إن أحمد عرابى كان أزهريا يستمد ثقافته العامة وحكمه على الأمور من تعليمه الديني .. وقد دعم الثورة العرابية الفريقان المتباينان من علماء الأزهر. رجال الفكر الحر وفى طليعتهم الشيخ محمد عبده ومدرسته. ورجال التربية والتصوف وفى طليعتهم الشيخ عليش ، والشيخ أبو عليان ، وسائر شيوخ الطرق. ومعنى هذا أن رجالات الإسلام على اختلاف مشاربهم كانوا ظهيرا للثورة العسكرية الشعبية ضد مظالم الأسرة المالكة، والافتيات على الأمة.. وأن الإسلام كان موقد هذه المقاومة العامة، وباسط أدلتها، ومضرم مشاعرها. وأنه لم يستورد مبادئ من هنا أو من هناك لتشحن قلوب المصريين الفارغة أو تعلمهم ما يجهلون..! وتدخل الإنجليز لقتل الثورة فى مهدها، واستطاعوا بخبثهم الاستعمارى أن يستصدروا فتوى من الخليفة التركى بأن عرابى عاص، ثائر، لا تجوز مساندته. ولكن علماء الأزهر سارعوا فكذبوا الخليفة المضلل، وأصدروا فتوى بأن عرابى على حق، وأن العمل معه جهاد.. وشاءت الأقدار أن تنهزم هذه الثورة، وأن يحتل الإنجليز مصر.. وبدأت مأساة تزوير التاريخ.. ص _147(1/139)
فأهيل التراب على دور الإسلام والأزهر فى كفاح المظالم السياسية والاقتصادية، وأطبق الصمت على ما فعله رجال عظام- ببواعث دينية خالصة- لإحقاق الحق وإبطال الباطل.. والغرض من هذا التآمر المريب غمر الدين وأهله، حتى يبدو الإسلام وكأنه مخدر للشعوب!! وإنها لخسة محقورة منكورة أن يجرد الشريف من فضائله، ثم تطرح عليه معايب الآخرين.. ولكن ذلك ما وقع، فقد محيت الصبغة الدينية عن هذه الثورة وعرضت فى الكتب المدرسية وغيرها مجردة من طابعها الإسلامى، كما يجرد الدم من كراته الحمراء والبيضاء، فماذا يبقى منه؟؟ لقد أصبحت وكأنها قصة قائد ثار على الحكومة فى شيلى أو كمبوديا!! وكفى.. * * * واشتعلت نيران الثورة ضد الاحتلال الإنجليزي سنة 1919 وجاء هذا الغليان المحلى بعد أن أفلح الاستعمار العالمي فى تقطيع الأمة الإسلامية الكبيرة سبعين قطعة لكل قطعة منها لواء مخطط ، وجنسية مقررة ، وتاريخ خاص!! ولكن المسلمين حيث كانوا، أبوا أن يفهموا الوطنية على أنها عبادة التراب، أو يفهموا القومية على أنها التعصب لجنس.. لقد واجهوا الأمر الواقع بتغليب منطق الإيمان وروح الأخوة، وأفهموا مواطنيهم من أتباع الأديان الأخرى أنهم مرعيو الذمام محفوظو العهود والمصالح حتى لا ينخدعوا بالدس الأجنبى. ولم تشذ ثورة سنة 1919 عن سابقاتها، فكان الأزهر وفروعه فى الأقاليم حطبها الجزل، وكان الجهاد فى سبيل الله حاديها المسموع، وكان الأمل فى جنة الرضوان عزاء الشباب الذى صارع الغزاة حتى الموت..! إن نداء الدين لم تضعفه المنسيات والملهيات التى صنعها الاستعمار بدهاء وأناة خلال عشرات السنين. ولعل الثورة الجزائرية التى قدمت مليونا ونصف مليون شهيد لإتمام طرد الفرنسيين من البلاد شاهد صدق على هذه الحقيقة. ص _148(1/140)
فبعد مائة وثلاثين سنة بقيت جذوة الإيمان متوقدة تحت التراب، ما إن وجدت النفس الذى يضرمها، حى التهبت نارها، واندلعت ألسنتها، واحترف الاستعمار فى سعيرها.. بيد أن محاولات الكيد للإسلام لم تنته، وأحسبها لن تنتهي ، ولعل أسوأها الآن إبراز التاريخ السابق والتاريخ اللاحق، أو القريب والبعيد، فى صورة مأفوكة الملامح مزورة التقاسيم توهم الناظر أنه ليس وراء حركات المقاومة الوطنية دين دافع ولا عقيدة موروثة..!! وصحافتنا لا غفر الله لها تشيع هذا الكذب . ورأيي أن ذلك يحدث لخدمة أعداء العرب والإسلام، فإن عزل الدين عن روح المقاومة، فى الوقت الذى يمتزج الدين فيه بطلائع الهجوم ليس إلا توهينا للمدافعين وتثبيطا لهممهم، وحرمانا لهم من أمضى أسلحتهم.. وليت شعرى لماذا يقبل العالم تجمعا على أساس اليهودية يقوم بالعدوان، ويرفض تجمعا على أساس الإسلام يقوم بالدفاع ؟؟ ولماذا تشوه الأحداث وتلفق الوقائع لإخفاء الوجه الإسلامى الشجاع وهو يكافح بشرف وفداء لحماية نفسه وأرضه ؟ ولحساب من يقع هذا كله ؟ إن المستفيد من هذا المسلك النابي هو الاستعمار والصهيونية ، ونحن وحدنا الخاسرون ! ويتصل بجحد الدين وإنكار أثره اختلاق التهم لأهله، أو انتهاز خطأ يقع من أحدهم لتحمل أوزاره جماعات المتدينين فى كل مكان، بل ليحاسب الدين. نفسه بهذا الخطأ ويحكم عليه بالإبعاد والإهمال!! منذ أيام كنت أقرأ كلمات لشاعر معروف، شاعر اشتهر بالغزل فى نعال النسوان وجواربهن وفساتينهن، وفوجئت وأنا أقرأ بحملة على الدين والخطباء والمنابر فتساءلت: ما هذا السخف؟ وما سره؟ لقد كان هذا الشاعر يشدو لجيل الخنافس، ويلهب الشهوات الهاجعة كي تنطلق لا تلوى على شيء .. ص _149(1/141)
فهو وأمثاله من أسباب الكارثة التى أصابت العرب أمام اليهود! ثم سمعناه يتألم للهزيمة النازلة، فقلنا لعلها توبة، وجدير بالمنحرفين أن توقظهم وخزات الهزيمة النكراء التى ألمت بنا.. ولقد صحت ضمائر شتى، وتذاكرت ضرورة العودة إلى الدين والإنابة إلى الله بعد الذى وقع.. ولكن سماسرة الاستعمار تحركوا على عجل ليمنعوا التعلق بالإسلام، ويسدوا الطرق المفتحة إليه، إنهم يريدون تطويل الغيبوبة التى وقعت فيها الأمة، إنهم يريدون تكثير الضباب الذى يحجب الرؤية، إنهم يريدون بقاء الزور الذى استخفت وراءه الحقائق.. من أجل ذلك يكتب أحدهم أن الإسلام لم يصنع ثورة شعبية، ويكتب ثان أن ضياع الإيمان لا مدخل له فى الهزيمة، ويكتب ثالث أن الدين يكتفى بإرسال الدعاء الحار على الأعداء ، ويكتب رابع عن ضرورة إصلاح قوانين الأسرة!! فهى قضية المصير.. وتتنافس الأقلام العميلة لإتاهة الجماهير، وتعمية السبل أمام السائرين!! لا شك فى أن من المتصلين بالدين ناسا لهم أغلاط وسيئات. وتأديب هؤلاء حق.. ولو أن الذين يضيقون بهؤلاء المنحرفين يغضبون لله لشاركناهم غضبهم وعذرناهم فى حكمهم.. لكنى رأيت من يتهم علماء الدين بطلب الدنيا، فلما تأملت فى سيرته، وجدته مجنونا بحب الحياة واصطياد أطايبها! ووجدته يزدرى علماء الدين كما يزدرى لصوص العمارات لصوص الأحذية، أى أن لصا ذكيا يسخر من لص غبي !! ووجدت هذا الذى يندد بانحراف المتدينين إذا رأى مؤمنا شريفا ذكيا نابها ضاق به، وعمل على هدمه، واجتهد فى إخفات صوته وإزالة أثره..!! لم ذلك ؟ ولحساب من ؟ ص _150
إن الإجابة ليست بعيدة ، إن المقصد هو النيل من الإسلام نفسه، والحفاوة بما يؤخره والكراهة لما يقدمه.. ونسأل مرة أخرى: من المستفيد من هذه الأحوال ؟ والجواب الفذ الاستعمار والصهيونية فإن العودة إلى الإسلام مفتاح التغيير للموقف المستغلق فى الشرق العربى كله.. ص _151(1/142)
نهج الأحرار وَراء نبيهم البطل فى السهول المستوية ينداح السيل حتى يبلغ منتهاه ما يعترضه شيء .. وفى حقول الأرز والقمح تهب الرياح ، فتميل السيقان الغضة كلها، ما ينتصب منها عود.. وبين جماهير الدهماء، ينتشر التقليد الخاطئ أو العرف السيئ فما يرده ذكاء. أو تمتد رهبة السلطان المستبد وسطوة الملك الطائش فما يقمعها تمرد.. ولكن هناك رجالا من معادن فريدة تشذ عن هذا العموم المبين ! فهم الجبال التى توقف مد السيل، والأشجار التى لا تنثني مع هبوب العاصفة.. وهم الصاحون بين السكارى، فإذا شاع خطأ تعرضوا هم له بالنقد، وإذا ألف الناس مسلكا لم يعجبهم تصرفوا هم منفردين على طريقة المعرى حين قال: تثاءب عمرو إذ تثاءب خالد بعدوى فما أعدتنى الثؤباء وإذا ركع الناس بين يدى ملك ظالم، أو استكانوا لأوضاع مزرية، لمحت فى أبصارهم بريق الأنفة، وفى سيرتهم شرف الحرية، فما يستريحون حتى تنجو البلاد والعباد من آثار الفساد، وقيود العبودية. أولئك هم الثوار الذين يعتز بهم الإيمان، وتستقيم بهم الحياة. وإذا كان الله جل شأنه قد صان العمران البشرى بالجبال، وقال فى كتابه : (وجعلنا في الأرض رواسي أن تميد بهم و جعلنا فيها فجاجا سبلا لعلهم يهتدون) فقد اقتضت حكمته العليا أن تصون المجتمع الإنسانى بهذا النفر من حراس الحقائق الرفيعة وحماة المعالم الفاضلة..! ص _1 ص(1/143)
فهم الدواء الخالد لكل ما يفشو فى الدنيا من علل ، وهم الأمل الباقي لبقاء الخير فى الأرض ، وإن ترادفت النوب واكفهرت الآفاق . ربما كان عشق الحق خليقة فيهم فطرهم الله عليها كما قال سبحانه: (وممن خلقنا أمة يهدون بالحق وبه يعدلون). ولعشق الحق أعباء مرهقة ، أولها الصبر على تثبيط الخاذلين، وكيد المعوقين والمخالفين بيد أن طبيعة الثورة على الباطل لا تكترث لشيء من هذا وفى الحديث الصحيح : " لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم حتى تقوم الساعة- أو حتى يأتى أمر الله- وهم على ذلك ". وأكثر الناس يعرف الحق معرفة حسنة ، غير أنه لا يأسى لهزيمته ، ولا يأسف لضياعه ! أو لعل إحساسا من الضيق يخامره لخذلان الحق ، إلا أن هذا الإحساس يصطدم بمصالح النفس وضرورات العيش ، ومطالب الأولاد ، فيتراجع المرء رويدا رويدا عن هذا الشعور النبيل ، ويؤثر الاستسلام على المقاومة ، والاستكانة للواقع عن تغييره وإنكاره . . ! وهذا السلوك لا يتفق مع طبيعة الإيمان ، ويستحيل أن تتقبله نفس ثائرة لله ، مؤملة فيما عنده . . فالغضب لله ورسوله يذهل فى سورة يقينه عما يحرص عليه الجبناء من حياة ومتاع ، ولا يرى أمامه إلا نصرة الحق ورفع لوائه وليكن ما يكون . . عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لا يؤمن عبد حتى أكون أحب إليه من ولده ووالديه والناس أجمعين ". على أن من العبث انتظار التفانى فى الحق من عبيد أهوائهم ، وصرعى نزواتهم ، إن الأمر يحتاج إلى تربية وتبصرة حتى يكون مذاق الإيمان أحلى فى فم الإنسان من كل لذة عاجلة . وعندما يشعر امرؤ بالسعادة لأنه واسى محروما ، أو نصر ضعيفا ، أو آمن قلقا ، أو آوى هائما ، أو أحصن عرضا ، أو حقن دما ، فهو إنسان كبير.. ومثله أهل لأن يفتدى عناصر الإيمان بالنفس والنفيس ! ص _153(1/144)
والثائرون ضد الظلم والناقمون من أعوانه رجال من ذلك المعدن الصلب، واندفاعهم لتقليم الأظافر الشرسة ضرب من الإصلاح العام للحياة والأحياء (…ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض …). حيث يكون العسف والخسف، لابد أن يكون الإسلام دينا ثائرا يطلب النصفة والرحمة . وحيث يكون الاستعلاء والاستعباد، لابد أن يكون المسلمون ثوارا ينشدون العزة والكرامة. وقد تكون عقبى الجهاد موتا فى غربة، أو قتلا فى معركة، والثائرون ضد الباطل أدنى الناس إلى البلاء والعطب.. وماذا فى هذا؟ إن ما يحذره غيرهم هو الذى ينشدون لأنفسهم ! وتلك طبيعة الثائرين، إما أن يحيوا كما يريدون. أو يموتوا كما يريدون.. إنهم عزيمة تؤثر فى الحياة سلبا وإيجابا، وليسوا عربات تشد إلى جياد الآخرين.. ويعجبني قول الطرماح بن حكيم، وهو يسعى إلى الغنى حتى لا يحتاج إلى فسقة الأمراء فى عهده ، أو إلى عداة الخلفاء- كما سماهم: وإنى لمقتاد جوادى وقاذف به، وبنفسي، العام إحدى المقاذف لأكسب مالا، أو أئول إلى غنى من الله، يكفينى عداة الخلائف ثم اسمع إلى هذا الثائر الضارب فى مناكب الأرض طلبا للعزة يقول: فيارب إن حانت وفاتى فلا تكن على شرجع يعلى بخضر المطارف ولكن قبرى بطن نسر، مقيله بجو السماء، فى نسور عواكف!! وأمسى شهيدا ثاويا فى عصابة يصابون فى فج من الأرض خائف!! والمسلمون اليوم لن ينجحوا فى حرب الاستعمار إلا إذا استهتروا بالموت وأحبوه فى ذات الله . إن أولئك الرجال الكبار هم أصحاب اليد الطولى فى صوغ التاريخ، وتوجيه أحداثه . ص _154(1/145)
والأفراد النابهون لا الجماهير الكثيفة هم صناع الحياة وقادة الفكر والخلق ! ! فكم من أمة ظلت تغط فى سباتها دهرا حتى جاء من أيقظها فثارت.. وكم من أمة شردت عن الصراط المستقيم حتى رزقت من هداها فرشدت.. على أن أولئك المتفردين العباقرة أنواع ! فمنهم من رمق القافلة التائهة وأبى أن يندفع معها فى وجهتها، واكتفى بأن ينفض يديه من أمرها ، وألا يشاركها فى مسيرها ، وكأن أبا العلاء المعرى يصور نفسية هؤلاء عندما قال : خذى رأيى ، وحسبك ذاك منى على ما فى من عوج وأمت وماذا يبتغى الجلساء عندى؟ أرادوا منطقى وأردت صمتى؟ ويوجد بيننا أمد قصى فأموا سمتهم وأممت سمتى والواقع أن اعتزال المجتمع الماجن الفاجر جهد غير قليل. ترى هل هذا هو التغيير بالقلب الذى عده الحديث الشريف أضعف الإيمان؟ ربما ، ولكنى ألحظ أن هذا الموقف قد يكلف صاحبه تضحيات فادحة ، فإن المغاضبين لله قد يطلبون الأعوان على سيرتهم بالرغبة أو الرهبة . وربما قالوا : من ليس منا فهو علينا ! ! وهنا تقع محن شداد، فإن الإمام الأعظم أبا حنيفة كان مزورا عن حكام عصره ، مكتفيا بتفقيه الجماهير فى دين الله، ولكن هؤلاء رأوا ضمه إلى صفوفهم كرها بأن عينوه قاضيا للقضاة ، ومات الإمام فى السجن وهو يرفض المنصب المعروض!! وهناك رجال من طراز آخر، لا يدعون المنكر يمر سالما أبدا، ويأبون إلا كشف زيفه وهدم صنمه، ومقاومة الجماهير العاكفة عليه.. وإذا كنا فى مجالس المناظرة، أو عند تحبير المقالات، نظن اعتراض التقاليد المستقرة أمرا سهلا، فإن ذلك عند المعاناة العملية أمر شديد الوعورة مقلق الأخطار.. إن للوثنية عبادا يأكلون من يخدشها.. وانظر شدة غضب هؤلاء على من يعترض طريقهم فى قوله تعالى: (وإن يكاد الذين كفروا ليزلقونك بأبصارهم لما سمعوا الذكر ويقولون إنه لمجنون). ص _155(1/146)
وانظر شدة تمسكهم بباطلهم وإصرارهم على ملازمته أبدا فى قوله تعالى: (وإذا رأوك إن يتخذونك إلا هزوا أهذا الذي بعث الله رسولا ، إن كاد ليضلنا عن آلهتنا لولا أن صبرنا عليها …) ! ! فى وجه هذا التعصب الهائل ، وفى وجه القوى الخفية ، والجلية التى تؤازره ، يعمل المصلحون لتغيير أوضاع وتبديل أحوال، ويتعرضون لنكد الحياة وسوء المنظر فى الأهل والمال ! ! وعندي أن العبادة المنقطعة فى الصوامع ضرب من البطالة ، أو هى على إحسان الظن والتعبير من المتع المعنوية ، واللذات الروحية، يوفر لأصحابه الجو النفسى السعيد وحسب..!! لكن هل يتغير وجه الحياة الدميم بهذه العبادة الخالصة؟ هل تنكمش سطوة الباطل بهذه الرهبانية المستوحشة من الخلق المنقبضة عن الدنيا ؟ كلا.. إن الصلاح تزكية النفس ، والإصلاح تزكية المجتمع . والمسلم الحقيقي هو الذى يتعهد نفسه بالتقوى ويقبل فى الوقت نفسه على المجتمع ليؤازر الحق ويعوق الباطل ، ويحب فى الله ويبغض فى الله ، ويكثر سواد المؤمنين ويوهن كيد الكافرين . إن الحياد فى كل معركة بين الخسة والشرف ليس موقفا مقبولا ، وأصحاب هذا الموقف هم إلى الكفر أقرب منهم إلى الإيمان..!! إن إبراهيم الخليل لما رفض الوثنية لم يسترح حتى هدم الأصنام ، وكذلك فعل خاتم الأنبياء ، وإن كان طريقه أطول وجهده أشق !! ومن ثم كانت رسالات الله تغييرا حقيقيا للنفس والمجتمع ، وثورة لا تجرد على العوج والفساد والظلم . كانت محوا وإثباتا ، محوا لعرف سيئ وإثباتا لعرف صالح ، محوا لتشريع ضال وإثباتا لتشريع حق . . إن كل هداية لا تتحول من صلاح نفسى إلى إصلاح اجتماعي فهى- فى باب الخير- ص _156(1/147)
كالجنين الذى سقط قبل استكمال نموه ، فما قدرت له حياة ممتدة، ولا عرف له تاريخ مشرف . وبدهى أن ينهزم الخير السلبي أمام الشر الإيجابي.. ماذا فعل صالحونا- فى قرون الضعف- لما آثروا العبادة فى زواياهم وتركوا لغيرهم أن يكتشف أستراليا والدنيا الجديدة وينقل إليهما عقائده وتقاليده؟ ما أفاد الدين من سيرتهم شيئا طائلا على حين ظفر بالحياة من ظفر!! وإني لأنظر إلى نعمة الإيمان التى تغمرنا فأجدها ثمرة قوم وثبوا بالإيمان من أرض إلى أرض ، ووضعوا طابعهم بقوة على المجتمع ، فسرت صبغتهم من جيل إلى جيل . . على رجال الحق لا أن يثبتوا عليه فقط بل أن يصعدوه من أفق إلى أفق وينقلوه من قلب إلى قلب . فإن الباطل المتحرك على ظهر الأرض لن يوقفه إلا إيمان متحرك ناشط مقدام . . ! فى ذكرى الميلاد الشريف أرنو إلى صاحب الرسالة العظمى بإعظام ودهشة وأتساءل: كيف استطاع اليتيم الفرد إعداد القوة التى فتكت بالباطل المستكبر واستخلصت من براثنه حقوقا منهوبة ، وشعوبا مستباحة ؟ كيف أعاد إلى الحق رونقه بعد ما تكدر ، وقيمته بعد ما ابتذلت ؟ إنها السيرة المعجبة المعجزة التى أقلقت المبطلين ، وقذفت فى نفوسهم الفزع حتى ليقول هذا الرسول البطل: " نصرت بالرعب من مسيرة شهر "!! أين من هذا الأوج ، أمتنا التى استنسر فى أرضها البغاث ، وبالت على آلهتها الثعالب ؟ ؟ ما أبعد هذه الأمة عن محمد ! وأضلها عن طريقه ! * * * ص _157(1/148)
مستقبل العلاقات بين الدين والمتدينين تشق المذاهب المادية طريقها فى الحياة بقوة ، حتى ليظن بعض المتشائمين أن الأديان فى معركة انسحاب ! فإن جماهير كثيفة من البشر قطعت صلتها بالسماء ، أو جمدت هذه الصلة فى إطار يجعلها أقرب إلى الموت منها إلى الحياة . . ولست مع أولئك المتشائمين فى الفزع من المستقبل ، ولكن الأمور إذا بقيت تسير فى مجراها المشاهد ، فإن الظلام المادي سيطبق على كل شيء ، ويزحف على كل أفق . وسيكون المتدينون أنفسهم- على اختلاف معتقداتهم السماوية- هم السبب فى ضياع الإيمان وفشل قضاياه . . ! إن المذاهب المادية تستغل أخطاء خصومها، وتنفذ إلى غايتها من الفجوات الكبيرة فى أفكارهم ومسالكهم . ولا يرجع شيوع الإلحاد والانحراف إلى ما فيهما من نفع عاجل، بل إلى أن المتدينين لم يحسنوا حل ما فى الحياة من مشكلات ! وليتهم قنعوا بهذا القصور، لقد زاد الطين بلة أنهم جعلوا من علاقة بعضهم البعض الآخر مشكلات قاسية دامية ! فكيف يفلحون مع هذه النقائض الغريبة ؟ وبين يدي العالم كله مشكلة " إسرائيل " فهى دولة قامت على أساس دينى يستهدف جمع يهود العالم أجمع فى بقعة من الأراضي ليست مجهلا من المجاهل ولا قفرا من القفار، ولكنها بقعة عامرة بأهليها الأصلاء الذين اطمأنوا بها ، واستقروا فيها من دهور . . ومع ذلك فإن الضمير الديني لدى " الصهيونيين " استباح لنفسه تشريد هؤلاء ، وتدمير حاضرهم ومستقبلهم ! ص _158(1/149)
والضمير الديني لدى " الاستعماريين " من أوروبيين وأمريكيين حالف زميله على غيه ، وعاونه على ارتكاب جريمته، وأمده بالسلاح ليفتك وبالمال ليقوى ويضرى ! فهل هذا التدين الأعوج أهل للحياة والبقاء ؟ أو ليس هذا العوج عذرا للماديين كي يسيئوا الظن بالدين كله ويحاولوا اقتلاعه من جذوره ؟ إننى أدين بالإسلام ، وأثق ثقة مطلقة فى وجود الله وصلاحية وحيه لهداية الخلق ، وقيادتهم إلى الخير والرشد . . وأرمق الصراع القديم بين شتى الشرائع السماوية ، فأشعر بالأسى والألم وأود لو تاحت الفرص فى الحاضر أو المستقبل لتعاون مثمر بين أهل الكتاب كلهم ، ترقى به الإنسانية ، وتقف فى وجه المادية العمياء والعدوان الغشوم . . ! وبدهى أنه لا يقوم هذا التعاون إلا بعد استخفاء الأحقاد، وتلاشى نيات السوء ، وانتهاء الرغبات المجنونة فى القضاء علينا وعلى ديننا، وانقضاء هذه الجرأة المستهجنة على حقوقنا الطبيعية فى الحياة والاستقرار . أما مع اتفاق مجموعة قليلة أو كثيرة من الدول الصغرى و الكبرى على إماتة فلسطين وإحياء إسرائيل فهيهات أن يكون ذلك دلالة على خير، أو أمارة على سلام، فإن المشاعر الكامنة وراء هذا الاتفاق لا تخفى علينا، والضغائن التاريخية المتنفسة خلفه نذير شر مستطير . . إن انتشار المادية فى الأخلاق والثقافات يرجع- كما أومأت- إلى سلوك المتدينين أكثر مما يرجع إلى ترحيب الخاصة والعامة بالكفر والإباحة والتحلل. وإن أتباع موسى وعيسى ومحمد يستطيعون كتابة صفحة جديدة مضيئة فى تاريخ العالم ، لكن المداد الذى تكتب به هذه الصفحة لا يجوز أبدا أن يكون من دماء المضطهدين وعبرات اللاجئين ! أو بتعبير أصرح لا يجوز أن يكون من دماء المسلمين ! وإذا لم يفهم الآخرون هذه الحقيقة فإن الأديان سوف تستهلك نفسها فى صراع داخلي مشئوم ، وسوف ينفتح الطريق واسعا فسيحا أمام منازع الإلحاد والرذيلة والكفر بالله واليوم الآخر . . ذلك ، ويخطئ كثير من الناس(1/150)
عندما يظن الأديان السماوية متباعدة الأصول متنافرة الاتجاه ، فإن الله بعث أنبياءه على مر الزمان بدين واحد . . ص _159
والحقائق التى أراد تعليمها للناس فى مجالات التربية النفسية والتعارف الاجتماعى متقاربة إن لم تكن متحدة، والمرسلون على اختلاف أممهم أخوة.. وهذه القرابة الروحية من حقها أن تجمع لا أن تفرق ، وأن توقظ مشاعر التعاون والتعاطف لا مشاعر القطيعة والخصام . وعند التأمل فى تعاليم الإسلام نجد عشرات الأدلة على صدق ما ذكرنا. فالقرآن الكريم يؤكد أن الإسلام الذى جاء على لسان محمد صلى الله عليه وسلم يتفق فى أصوله وغاياته مع ما أوحى الله لأنبيائه الأقدمين . قال تعالى: (شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه …). ومعنى هذه الآية واضح ، فإن العقائد الأساسية فى كل الديانات التى بلغها هؤلاء المرسلون واحدة . والديانات الباقية الآن ، والتى" يتبعها جمهور كثير من الناس هى اليهودية والمسيحية والإسلام . وأتباع هذه الأديان الثلاثة يحترمون أبا الأنبياء إبراهيم ، ويعتبرونه جذر الشجرة التى تفرعت مع امتداد العصور ، وأنبتت موسى وعيسى ومحمدا. وكان ينبغى أن يتفق الكل على نشر التوحيد ، وتعريف الأمم الجاهلة برب العالمين ولكنهم للأسف لم يتفقوا . والقرآن الكريم فى الآية السابقة يوصى المسلمين بأن يتعاونوا مع غيرهم على نشر هداية السماء (…أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ ولا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ …). والواقع أنه مما يزرى بالضمير الديني أن تنشب العداوة بين المتدينين على اختلاف مللهم ، وأن تتسع بينهم هوة الخلاف مع أنه جدير بهم أن يتعاملوا فيما بينهم بالود والعدل والرحمة. والقرآن الكريم يذكر أن محمدا صلى الله عليه وسلم جاء مؤكدا لما قبله لا ناقضا له ، وليس هذا فى أصول الإيمان وحدها ، بل فى مكارم الأخلاق، وفروع العبادات التى لا ينضج التدين(1/151)
ويتم الكمال البشرى إلا بها . ص _160
خذ مثلا هذه المجموعة من التعاليم التى وصى الله بها بنى إسرائيل على ألسنة أنبيائهم الكثيرين.. (وإذ أخذنا ميثاق بني إسرائيل لا تعبدون إلا الله وبالوالدين إحسانا وذي القربى واليتامى والمساكين وقولوا للناس حسنا وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة …) . إن هذه التعاليم كلها هى نفسها التى أمر الإسلام بها. فعبادة الله وحده، والإحسان إلى الوالدين والأقارب، ورعاية الأيتام وإعانة المساكين، وإلانة القول لخلق الله كلهم ، آداب لابد للمؤمن منها قال الله فى كتابه: (واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا وبالوالدين إحسانا وبذي القربى واليتامى والمساكين والجار ذي القربى والجار الجنب والصاحب بالجنب وابن السبيل …) . والصفح عن المسىء ومقابلة الشر بالخير، والقبيح بالجميل وهى تعاليم أبرز ما تكون فى خطبة عيسى عليه السلام وهو يعظ أتباعه فى الموعظة النبيلة التى جاء فيها.. " ومن لطمك على خدك الأيمن فأدر له الأيسر ". إن هذه الروح المتسامية فى سماحتها ، المطهرة من دنس الحقد هى هى التى جعلت نبى الإسلام يقول: " أمرت أن أصل من قطعنى ، وأن أعطى من حرمني وأن أعفو عمن ظلمني ". والمفروض أن هذا اللون من السلوك العالى مقصود به تدريب الإنسان على فعل الخير ونشدان الكمال المطلق إيثارا لما عند الله من مثوبة ، وإحرازا لرضاه الأعلى دون نظر إلى ما يستحقه المعتدى من قمع ، أو ما تفرضه العدالة من قصاص . لكن عندما يستشرى الشر وتضيع الحقوق وتترنح الأفراد والجماعات تحت وطأة الظلم فلابد من استعمال الشدة... والمسيحية والإسلام فى ذلك سواء.. فعيسى صاحب الكلمات الرقيقة السابقة يقول: " ما جئت لأحمل سلاما بل سيفا". والقرآن الكريم يقول: (والذين إذا أصابهم البغي هم ينتصرون ، وجزاء سيئة سيئة مثلها فمن عفا وأصلح فأجره على الله إنه لا يحب الظالمين ، ولمن انتصر بعد ظلمه فأولئك ما عليهم من سبيل) . ص _161(1/152)
أى لا حرج على أى مؤمن أن يقاوم المعتدى ويكسر شوكته. والأديان الثلاثة توصى بحفظ العرض ، وضبط العلاقات الجنسية فى حدود الأسرة التى توثقت بكلمة الله. والنهى عن الزنا أحد الوصايا العشر التى تواصى بها العهدان القديم والجديد . والواقع أن الإسلام فى سبيل صيانة الأعراض والدماء والأموال أحيا الأحكام السماوية التى تناستها الأمم السابقة ، بل إنه لام اليهود لأنهم يريدون الخروج على تعاليم التوراة ، وكان ينبغى أن ينفذوا حكم الله فى هدوء مهما كان الحكم صارما. قال تعالى: (وكيف يحكمونك وعندهم التوراة فيها حكم الله ثم يتولون من بعد ذلك …). والقصة وردت فى يهودي اعتدى على عرض امرأة ، وكان لابد من رجمه حسب أحكام التوراة.. ولكن اليهود تجاهلوا حكم كتابهم فأمر نبي الإسلام باحترامه . وحديث القرآن الكريم عن التوراة والإنجيل يستدعى النظر والتنويه، فهو يقول عن التوراة (إنا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور يحكم بها النبيون الذين أسلموا للذين هادوا …). ويقول عن الإنجيل: (وقفينا على آثارهم بعيسى ابن مريم مصدقا لما بين يديه من التوراة وآتيناه الإنجيل فيه هدى ونور …). ثم يقول الله جل شأنه عن القرآن الكريم: (وأنزلنا إليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه من الكتاب ومهيمنا عليه …). ومعنى الهيمنة المذكورة أن القرآن نزل بعد التوراة بنحو ثلاثين قرنا، وهى فترة تطورت فيها البشرية تطورا يستدعى بعض التغيير فى الشرائع الفرعية التى تحكم العلاقات وتنظم الطوائف ، وتسير سياسة الحكم والمال وفق قواعد لا تسمح بالفوضى والهوان والبأساء والضراء . ص _162(1/153)
وذلك ما وسع الإسلام دائرة الكلام فيه، وأتى فيه بجديد، لا يناقض أصول الديانات السابقة بل يصون هذه الأصول أو لا يخدشها. وليس من أصالة الرأى أن يطلب من الإسلام الجمود مع تطور الإنسانية فإن اللباس الذى يصلح لصبى صغير لا يصلح مطلقا لرجل كبير. وعصرنا الحاضر يحتاج إلى أن يسير حياته الاجتماعية: أولا: على الإيمان بالله وحده، وهو ما تواصت به جميع الرسالات السماوية قال تعالى: (و ما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون) . ثانيا: على الإخلاص فى إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة، وهو ما شرعه الله لكل الأمم على اختلاف الأزمنة قال الله تعالى: (و ما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين حنفاء و يقيموا الصلاة و يؤتوا الزكاة…) . ومما لا شك فيه أن الصلاة شعيرة مهمة لتصفية النفس الإنسانية ووصلها بالسماء، وأن الزكاة فريضة لدعم التكافل الاجتماعى وإقرار الأخوة العامة بين البشر. ثالثا: حراسة الفضيلة وإشاعتها، وكره الرذيلة ومحو جراثيمها وهذه هى حقيقة الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر التى شاعت فى كل دين، وكلف بها جمهور المؤمنين. وقد خاصم عيسى عليه السلام اليهود وندد بهم لأنهم- كما عبر القرآن (كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه لبئس ما كانوا يفعلون) . رابعا: معاملة البشر كافة بضمير رحيم وخلق فاضل. وقد ندد القرآن الكريم بأن بعض المتدينين لا يبالى بإساءة من ليسوا على دينه، واستباحة حقهم فقال: (ومن أهل الكتاب من إن تأمنه بقنطار يؤده إليك ومنهم من إن تأمنه بدينار لا يؤده إليك إلا ما دمت عليه قائما ذلك بأنهم قالوا ليس علينا في الأميين سبيل ويقولون على الله الكذب وهم يعلمون ، بلى من أوفى بعهده واتقى فإن الله يحب المتقين) . خامسا: إشاعة العدالة والرحمة والسلام فى الأرض، وهذه تعاليم شاعت فى الكتب السماوية كلها، وينبغي أن تنسق جهود المؤمنين لنشرها ودعمها قال تعالى مبينا السر فى بعثة محمد صلى(1/154)
الله عليه وسلم: (وما أنزلنا عليك الكتاب إلا لتبين لهم الذي اختلفوا فيه وهدى ورحمة لقوم يؤمنون) ص _163
وقال: (ما يقال لك إلا ما قد قيل للرسل من قبلك إن ربك لذو مغفرة وذو عقاب أليم) . ومن الحمق الزعم بأن الأديان نسخ متعددة من كتاب واحد، وأننا نبغي بهذا الاستعراض نفى ما بينها من فروق أو جمع أتباعها على وحدة فكرية ومذهبية مطلقة . . إن ذلك مستحيل بداهة ، ولكننا ننشد إبراز العوامل المشتركة التى تقارب ولا تباعد ، وترجح السلام على الخصام والألفة على الوحشة ، وتفسح مجالا للتعاون على البر والتقوى ! إنه مع ضيق الخلق ، وفساد الطوية وتفاهة التفكير- يمكن أن يتقاتل أبناء الدين الواحد ، وتتشعب بهم عشرات السبل فلا يلتقون أبدا . . ومع سعة الخلق ، وشرف النفس ، وسلامة الرأى ، يمكن أن يتعاون أشياع رسالات مختلفة ، ويقدمون للإنسانية خيرا كثيرا ، مع بقاء كل طرف منهم مستمسكا بدينه حريصا على تعاليمه . . وأحب أن ألفت النظر إلى نوع منكور من التلاقى الواقع فى بعض المجتمعات ! هناك تلاق بين أناس ينتسبون بالاسم فقط إلى عقائدهم ، فتراهم منحلين عن أديانهم موضوعا وإن انتموا إليها شكلا ، وما جمعتهم إلا الشهوات والمآرب الدنيا . هذا التجمع لا يدل على سماحة ، ولا يصح الاستشهاد به على انتهاء التعصب الديني ! ! إنه شارة انحلال ديني عام ، وليس شارة تعاون مشكور . الذى أبغيه أن يوفى كل ذى دين بحقوق دينه ، فلا ينسى ربه ولا لقاءه ولا الرحمة بعباده ، وينظر إلى مخالفيه نظرة لا حقد فيها ولا تبرم ولا حيف ولا جفاء ! ! بل نظرة تقوم على البر والعدالة والإحسان . . وعندها أنه مما يعين على ذلك فى الظروف العالمية القائمة أن يجتمع مؤتمر مسكونى مسيحي آخر، فيعطف على عرب فلسطين فى محنتهم، ويمحو أثر المؤتمر المسكونى السابق الذى أبدى عاطفة مستغربة نحو اليهود فى فترة يهجمون فيها على بلادنا ويزعمون أنهم أولى بها منا ، ويريدون بناء وطن(1/155)
لهم على أنقاضنا . . ص _164
إن ذلك- لو تم- سيكون بداية إغلاق الطريق أمام المادية الزاحفة على كل شيء ، المستهينة بكل قيمة ، المحتقرة لرسالات السماء على سواء . أما إذا بقى الاستعمار يجرر وراءه أحقاد العصور الخالية، ويجرئ اليهود على احتلال أرضنا واغتصاب حقنا ، فإن النار التى أشعلها ستحرقه قبل غيره، وسيندم حين لا مكان لندم.. إننى باسم الإسلام أعرض سلاما شريفا فهل يقبل هذا العرض أم يرفض؟ وأعرف أننا فى فترة من تاريخنا لا نحسد عليها.. ولكننا بعون الله سوف نجتازها، وسوف نحاسب من أعان على قتلنا، ومن تركنا نحتفظ بحق الحياة.. إننا لا نطلب من مؤتمر مسكونى جديد أن يسدى إلينا يدا ، بل أن يكف عنا الأذى ، ويمنع عدوان أتباع حاقدين . . أما الإيعاز إلى بعض الطوائف الجاحدة أن تعرقل الكفاح العربى وأن تضرب المكافحة الفلسطينية فتلك قبيحة ينمو مع الزمن عارها ولن تنسى لأصحابها.. فهل نجد سميعا لهذا النداء؟؟ ص _165(1/156)
التبشير الأمريكى يضغط على إندونيسيا كان تصوري لمستقبل العلاقة بين الإسلام والمسيحية واضحا ، قريبا ، ميسور القبول والتنفيذ ، يخضع لقاعدة عادلة محترمة : أن نتعاون على ما اتفقنا عليه ، ويعذر بعضنا بعضا فيما اختلفنا فيه . ولم أتصيد هذه القاعدة من أفق بعيد. فإن الإسلام الذى آثرته وأحببته ، يقبل قيام الزوجية بين رجل مسلم وامرأة من أهل الكتاب ، يرعاها ، ويحنو عليها ، وتنشأ بينهما عواطف الود والرحمة ، مع بقاء كل منهما على دينه ! فكيف بعد ذلك تضيق أرض الله الواسعة بتجاور دينين، وائتلاف فريقين! لكن هذه المشاعر التى نبعت من سماحة الإسلام لم تلق التجاوب المرتقب! فإن الطرف الآخر- خصوصا الأوروبيين والأمريكيين- كان سوداوى المزاج ، جياش الأحقاد ، لا يكن للإسلام وأتباعه قبولا ولا سلاما . . ! وعندما واتته القوة ليغزو أراضى المستضعفين وضع السيف موضع الندى ، ولم تواته فرصة للإجهاز على الأمة الجريح إلا اهتبلها ! وتاريخ الاستعمار الغربي يقطر بالدم الحرام ، ويؤلف صفحات متخمة بالفساد والفوضى . وقد أحس كثير من العقلاء أن هذا الاستعمار استغل المسيحية أسوأ استغلال ، وأنه فى سبيل نزواته الجائرة لم يتق الله ، ولم يرع حتى بقايا الوحى التى ينتمى إليها . . وقد ظهر ذلك فى العلاقات الداخلية بين المسيحيين الغربيين أنفسهم ، فإن الكاثوليك افترسوا البروتستانت حيثما كانوا ، وسجلت الحروب الدينية مآسى تقشعر منها الجلود . كما بدا أن التفرقة العنصرية تفرض نفسها باسم الدين، وتقسم أبناء آدم قسمة فاجرة تجعل الضعة قرين أحدهما أبدا، وإن تساوى مع أخيه فى الوطن والدين! ص _166(1/157)
فإذا كان ذلك مسلك القوم بإزاء بعض منهم فماذا يتوقع من مسلكهم بإزائنا؟ هل نتوقع إلا العداوة الضارية والخصومة القاسية؟ أقول ذلك ما انتهيت من مطالعة نداء حزين وجهه مسلمو أندونيسيا الى إخوانهم فى أرجاء العالم كله . . إنهم يشكون من تحالف تم بين الكنائس الكاثوليكية والكنائس البروتستانتية يستهدف تنصير المسلمين بالدس والرشوة والختل.. وهذا التحالف يعتمد على سيل لا ينفد من المال الأمريكى، والدعاية الخادعة. وقد مهد لهذا الهجوم الصليبى الجديد أن أندونيسيا ظلت أكثر من ثلاثة قرون ترزح تحت وطأة الاستعمار الهولندى المتعصب الجائح. وهو استعمار استنزف مواردها، وعرق عظمها، وبث المسبغة فى شرقها وغربها فاذا جاء الأمريكيون فى أعقاب هذا الليل ففتحوا الملاجئ للأطفال، والمستشفيات للمرضى، والمدارس لطلاب العلم، واستعانوا بهذه الوسائل على زلزلة الإسلام ومحو عقائده فقد يصلون إلى شىء من النجاح.. بل لقد أعلنوا أنهم أفلحوا فى تنصير الألوف من أبناء المسلمين ! وكان الإسلام- فى استفاقته من الاستعمار الهولندى- قد بلى بزحف آخر نكأ جراحه ، وزاد ضراءه ، وهو الزحف الماركسى الذى يستأصل الإيمان كله. وقاوم المسلمون المتعبون الضربات التى تنهال عليهم من هنا ومن هناك، ولا يزالون يدافعون عن دينهم وكيانهم ويومهم وغدهم.. ولكن التبشير الأمريكى الغادر ماض فى طريق الهجوم وكأنما ظن أن الأمور قد تمهدت له، وأنه واصل حتما الى القضاء على الإسلام والمسلمين. وهذه الرغبة المجنونة فى الإتيان على دين ضخم ، له أتباع يفتدونه بالنفس والمال جعلت مسلمى أندونيسيا يتنادون لوقف الخطر الداهم ، وتنبيه المسلمين فى كل مكان إلى مصدره الآثم.. وعندما درسنا الأحوال فى أندونيسيا ، وتتبعنا مراحل هذا العراك الناشب وجدنا أن الجنرال " سوهارتو " رئيس الدولة قد تدخل فى الموضوع ليقى البلاد شره . ص _167(1/158)
و " سوهارتو " رجل مسلم ، يرأس دولة تعداد المسلمين فيها قريب من مائة مليون . ولكنه لم يتدخل فى القضية بهذه الصفة ! ! لقد تدخل مقترحا عقد مؤتمر للأديان يحول دون وقوع نكبة قومية عامة ! وأهاب بالجبهات المشتبكة فى الخلاف أن تنهى التوتر بإصدار بيان أو ميثاق يرتضيه زعماء الأطراف ! وقال: إن الحكومة مهتمة بخطورة الموقف الناشئ عن رغبة الكاثوليك والبروتستانت فى التوسع على حساب غيرهم ، وأنه يجب على كل فريق أن يتسامح مع الآخر ، وألا يستهدف المعتنقون لدين ما ، تحويل أتباع دين آخر إليهم . . وقد رفض زعماء النصارى بعد انعقاد المؤتمر أن يقبلوا التفاهم مع المسلمين ، وأعلنوا أنهم لن يكفوا عن التبشير . والواقع أن روح التحدى والاستهانة كانت مسيطرة عليهم ، بل إن الوئام الذى نشر ظلاله بين المسلمين والمسيحيين فى بعض أقطار أندونيسيا كان يغيظ قادة الهجوم الصليبى الجديد ، وذاك ما يستشفه القارئ من كتبهم الذائعة . ففى كتاب " تبشيرنا فى أندونيسيا اليوم " تأليف الدكتور " و. ب سيجابات " تقرأ فى صفحة 85 هذه العبارة " طالما تنعمت كنائس جزائر الملوك ونصاراها بروح من الألفة والأخوة تربط بينهم وبين المسلمين ! لكنهم بالرغم من ذلك يعيشون معيشة محزنة لأن هذا الوئام يشل قواهم ، ويخدع أنظارهم ، فلا يؤدون واجبهم التبشيرى تجاه إخوانهم المسلمين ! فنأمل أن تتمكن البروتستانت فى جزائر الملوك من التغلب على جميع المصاعب المرة التى لا بد أن يلاقوها فى ميدان التبشير " ! والعبارة ناضحة بنبذ صداقة المسلمين ، ومحاولة فتنتهم عن دينهم والتحريض على تحمل كل ما ينشأ عن محاولة التبشير من صعاب ومرارة ! ! فكيف ينجح مؤتمر يدخله رجال الكنائس بهذه الروح الشريرة ؟ وقد حاول السيد محمد ناصر وغيره من زعماء المسلمين أن يكفكفوا من هذه النزعة المعتدية ، وأن يلتقوا مع رجال الكنائس على طريق الاعتدال والإنصاف.. وأندونيسيا تعانى مشكلات جمة ، فإن(1/159)
الحاكم السابق " سوكارنو " فتح أبوابها لجميع التيارات التى تزلزل الإسلام وتفتن أتباعه . ص _168
ومكن للشرق والغرب على سواء من ترويج المبادئ التى تصرف الأجيال الناشئة عن دينها ، وتغريها بالفرار منه !.. فإذا وجد صلابة من بعض الفئات تولى السيف العلاج، وامتلأت المنافى بالمجاهدين ، والقبور بالشهداء !.. وقام سباق هائل بين الشيوعية والصليبية ، أيتهما ترث البلد المنكوب وتستولى على حاضره ومستقبله ؟ والمسلمون الحيارى بعد ما نجوا من الاستعمار الهولندى ليقعوا فى استعمار داخلى شر منه وأنكى . وشاء الله الكبير أن تفشل الشيوعية فى الاستيلاء على مقاليد أندونيسيا وأن يستنقذ المسلمون أنفسهم منها بعد مذابح ذهب فيها مئات الألوف . وبقيت المسيحية فى ساحة تناثرت فيها الأشلاء ، وتشابكت فيها برك الدماء .. بقيت لتصاول الإسلام، وتحاول النيل منه مستعينة بالجاه الأمريكى والعون الأجنبى .. ونحن لا نبتئس بهذا الموقف ، فليس جديدا ! ولا نقلق من نتائجه فقد جرب القوم هذا السلاح معنا فانقلب مفلولا.. وقد كنا نريد أن تسير العلاقة بين الدينين فى نهج أصفى وأرضى ، ولكن غيرنا يصر ويأبى ، فماذا نصنع ؟ ما بد من الصمود لهذا الهجوم وقبول مرارة الوضع الحاضر، ذلك الوضع الذى يغرى خصومنا بالضرب وهم آمنون من الثأر .. ولعل الغد القريب أو البعيد يأتى بالفرج المرقوب ! ونتساءل: ماذا كان مصير مؤتمر الأديان الذى اقترح الجنرال سوهارتو عقده ، وانتظر من ورائه سلاما بين المسيحية والإسلام فى أندونيسيا ؟ لقد كتب الحاج " مصطفى بشير " رئيس تحرير مجلة القبلة رسالة إلى الشيخ أحمد حسن الباقورى مدير جامعة الأزهر ينبئه فيها بمصير ذلكم المؤتمر، ويصف بعض ما لاقى المسلمون فيه من تجهم وحيف فيقول : لقد أحبط النصارى من الكاثوليك والبروتستانت مؤتمر الأديان المنعقد فى 30/ 11/ 1967 بجاكرتا لأنهم لم يقبلوا مشروع الميثاق الذى عرضته الحكومة ولم ص _169(1/160)
يريدوا التنازل عن موقفهم المسىء وبدا أنهم لا يشعرون إلا بحقوقهم الخاصة، ويرفضون الاعتراف بحقوق غيرهم. والغير هنا هم جمهرة السكان فى أندونيسيا المسلمة!!.. ويقول رئيس تحرير مجلة القبلة فى معرض الشكوى من مطالب تلك القلة المتحدية كلاما طويلا نجمله فى الحقائق الآتية : ( أ )- يرفض الكاثوليك والبروتستانت أن تكون القوانين السائدة مستمدة من الشريعة الإسلامية ولو كان تطبيقها بعيدا عنهم ! وقد اعترضوا على الدكتور محمد ناصر وهو يقرر ضرورة تنفيذ الشريعة الإسلامية بالنسبة إلى المسلمين إلى جانب الاعتقاد فى إله واحد . (ب)- يحاول هؤلاء بناء كنائس فى المناطق الإسلامية الخالصة على أساس أن وضع الطابع المسيحى على الأرض تمهيد لتنصير أهلها مستقبلا.. وهذا التصرف واضح الاستثارة لمشاعر المسلمين ، وقد اعترضه إخواننا بشدة . (جـ)- يشن التبشير الأمريكى حملات سفيهة على صاحب الرسالة الإسلامية ولا يفتأ يتناول شخصه الكريم بالإهانة والافتراء والتجريح. والغريب أن المسيحيين لجئوا إلى إحباط المؤتمر بتقديم طلب غريب، فقد اقترحوا حضور ممثلين للأحزاب والمنظمات غير الدينية لتشارك فى بحوثه ومقرراته . ولا ندرى كيف يشارك البوذيون والشيوعيون ومن على شاكلتهم من الوثنيين والملاحدة فى مؤتمر لتصفية الخلافات بين المسلمين والنصارى! وقد أبت الحكومة الأندونيسية الإصغاء إلى هذا المقترح لأنه يزيد المسائل تعقدا، ويضعف الآمال فى الوصول إلى حل يقر الأمن فى البلاد . وأخيرا قال الجنرال " سيماتوبانج "- وهو أمريكى النزعة والوجهة- مهما اتفق عليه ممثلو الأطراف فى هذا المؤتمر فلن يكون اتفاقهم مقيدا لمجلس الكنائس الكاثوليكية والبروتستانتية، ولن يلزمها العمل بمقتضاه لأن كلا منهما له استقلال تام وحرية كاملة. وبهذا التهديد أصبح نقاش المؤتمر لغوا، وجهده باطلا! وكانت الحجة البارزة لقادة التبشير الأمريكى أنهم ينفذون أوامر الله وأن التبشير جزء من(1/161)
حرية التدين.. ص _170
ونحن نقف هنا لنحسم هذه المخادعة الصغيرة.. إننا نحن المسلمين أول من يقر حرية التدين على ظهر هذه الأرض! وأول من يرحب بالجدل المفتوح، والحوار المطلق فى قضايا الدين كلها، أصولا و فروعا. وأول من يكسر القيود، ويزيح العوائق التى قد يضعها البعض على حرية العقل والضمير.. بل نحن المسلمين نعد جو الحرية الطلق هو أنسب الأجواء لنماء معتقداتنا، ودخول الناس أفواجا فى ديننا. إن الاستبداد الفكرى هو العدو الأول لنا.. والبيئات التى تحرس الخطأ وراء أسوار من التقاليد والكهانة هى التى تستعصى علينا.. ومن المضحك أن يقول رجال التبشير الغربى إنهم طلاب حرية دينية، وأن يتهموا مسلمى أندونيسيا بالتنكر لهذه الحرية أو الضغط عليها.. إن وظيفة المبشرين معروفة، لمسناها فى بلادنا، وسمعنا أنباءها فى كل بلد نزلوه.. ولو وصفناها بأنها سرقة العقائد ما عدونا الحقيقة. لقد جاءت مبشرة أمريكية إلى أسيوط، واستطاعت أن تربى فى ملجئها مئات اللقطاء من أولاد المصريين، ليشبوا على النصرانية، فهل هذه هى الحرية المطلوبة؟ وقامت المدارس الأجنبية بتعليم أبناء الزنوج فى إفريقيا حتى نالوا أعلى الشهادات من جامعات الغرب، ثم عادوا ليحكموا البلاد لحساب الاستعمار. وفى ظل هذا الحكم، وقبله، وضعت عوائق هائلة حتى لا ينتشر التعليم بين المسلمين، وحتى لا يرتفع مستواهم الثقافى فينصفوا أنفسهم وبلادهم.. فهل هذه هى الحرية المطلوبة ؟ وفى البلاد التى يرتفع فيها المستوى الأدبى للمغلوب، على الغالب! وللمقهور، على القاهر! كأريتريا بالنسبة إلى الحبشة، ماذا صنع التبشير؟ إنه يعتمد على السيف فى إخراس الألسنة، وتمهيد الأرض بالسلاح لاستقبال دين جديد، وترك ما تقدس وتعشق من دين، فهل هذه هى الحرية المطلوبة..؟ ص _171(1/162)
إن الحرية التى يتحدث عنها أولئك المبشرون هى خلو المكان من الشرطة حتى يستطيع المعتدون إتمام جرائمهم فى اطمئنان. فلا غرو إذا تنادى مسلمو أندونيسيا بالجهاد المقدس لوقف هذا الاعتداء المبيت على دينهم وبلادهم. أو كما يقول الحاج مصفى بشير فى عبارات حماسية مشكورة: " إنه بدافع العزم والحزم لنيل النصر أو الشهادة، نلبى دعوة الله، ونتحرك أفواجا أفواجا بلا انقطاع لإقامة الدين على أساس متين، مستمسكين بالعروة الوثقى فى اليسر والعسر، باذلين الأنفس والأموال فى سبيل الله، صامدين فى ميادين الكفاح إلى آخر رمق حتى يحق الحق ويبطل الباطل ". ومرة أخرى أسأل نفسى وغيرى: ألا يمكن وضع حد لهذه الخصومات المتفجرة بين الإسلام والنصرانية؟ لقد أعلنت مرارا عن رغبتنا نحن المسلمين فى إرساء العلاقات بين الدينين على قواعد معقولة، تحقن الدماء وتفتح صفحة جديدة فى تاريخ العالم..!! من خمس عشرة سنة تفضل السيد وزير الأوقاف الشيخ أحمد حسن الباقورى فأنابنى عنه لحضور المؤتمر المسيحى الإسلامى المنعقد فى الإسكندرية. وكانت الفكرة التى تدارسناها وغلبت على نفوسنا أن هذا التلاقى خير للعالم أجمع إذا ساده الإخلاص وصلحت فيه النيات.. وإنه لكسب جميل كريم أن نحط عن كواهل الناس أحقادا ظلت أعصارا، وأن تضع الحروب الدينية أوزارها، ويتعاون المتدينون على إنشاء عالم أدنى إلى السلام وأبعد عن الشحناء.. إننا معشر المسلمين نؤمن بالوحدانية المطلقة، وإذا كان المسيحيون يجنحون إلى التثليث فهم ينتمون به إلى التوحيد- كما يقولون. أى ينتهون إلى أن للعالم ربا لا شك فى حياته ومجده. وأن الناس صائرون إليه بعد الموت ومحاسبون أمامه. وأن العباد فى هذه الدنيا يجب أن يتعاملوا على أسس من الفضائل المرعية والحقوق المكفولة . ص _172(1/163)
وأن الظلم مرتعه وخيم، وأن مسالك الرذيلة لا تليق بعباد الله الصالحين، وأن.. وأن.. إلخ. إننا مدفوعون ولا أقول مخيرون إلى أن نلقى الخير بخير أشمل، وأن نرد التحية بأحسن منها. والتعاون المقترح بين المسيحيين والمسلمين فى نطاق الإنسانية الرحبة لن يمنع أحد الفريقين من القيام بواجباته الدينية الخاصة.. بهذه العواطف النقية ذهبت وتحدثت.. وقد استمعت إلى الجانب الأخر فوجدت كلاما لا بأس به. ولكن الصخرة التى اصطدم بها هذا المؤتمر وتحطم عليها، والتى سوف تصطدم بها جميع المؤتمرات المتشابهة وتتفانى عندها هى السياسة الصليبية التى تهيمن على أفئدة الغربيين وعقولهم. فهم يريدون سلاما يخزينا، ويزرى بديننا، ويحط من قدرنا..! إنهم بطريقة مستهجنة سمجة يريدون تهويد فلسطين، وتشريد أهلها، ولا يشعرون بحياء من المصارحة بهذه الجريمة القذرة ثم هم فى إفريقيا- حيث يسود الإسلام- يقيمون حكومات ليست صورة حقيقية ولا مقاربة للشعوب المحكومة، بل حكومات مطلوب منها أن تمحو الإسلام وأن تتجاهل الكثرة التى تعتنقه، وأن تحارب لغته وتقاليده وجامعته!! فإذا اطمأنت إلى هذا الشكل من الحكومات، منحته الاستقلال وأعلنت الجلاء، بعد ما ضمنت ذيلا لها فى المنظمات العالمية الكبرى..! وهذه السياسة لا تلتقى مع الآخرين على مثل رفيعة تستمد وجاهتها من طبيعتها النيرة كلا، إنها تعتمد على القوة، وما تغرى به القوة من كبرياء وطغيان وما تخلفه من ضغائن ومظالم. ولذلك نرى جماهير الإفريقيين فى جنوب القارة ووسطها يفتك بهم المستوطنون البيض، والضمير الغربى صامت.. ومعنى هذا أننا نحن المسلمين لا نتعامل مع مسيحيين يحسنون التدين والتقوى حتى وفق معتقداتهم نفسها، بل نتعامل مع ناس قرروا أن يدوسوا مبادئهم ثم جاءوا تحت لواء المسيحية يريدون أن تنخلع على ديننا، ونقبل الدنية فى شئوننا كلها..!! فهل يقبل عاقل الاستسلام لهؤلاء ؟ ص _173(1/164)
إننا مضطرون لمقاتلتهم بكل سلاح ورد طغواهم بكل وسيلة. وبقاء الضغائن القديمة يعود وزرها عليهم لا علينا.. ولألفت النظر هنا إلى أمور ذات بال فى الأحداث الأخيرة. إن المذاهب المادية تطوى الطريق إلى غايتها البعيدة بسرعة مذهلة، وإذا كانت العقائد لم تزل بعد، فإن ما يرتبط بها من عبادات وتقاليد يتهاوى شيئا فشيئا. ودور العقائد نفسها سيجئ فى نهاية المطاف. والغريب أن الدول المسيحية تؤثر أن ينفسح الطريق أمام الشيوعية ولا تسمح للإسلام بحياة!! وحتى يكون كلامى مقترنا بأدلته أذكر هذه الحقائق: عندما كافح العرب الاستعمار البريطانى جنوبى اليمن، وفرضت الظروف على الإنجليز أن يرحلوا، آثر المستعمرون الراحلون أن يسلموا البلاد إلى الجبهة القومية، وهم يعلمون ميولها اليسارية المفرقة، وأبوا أن يسلموها لجبهة التحرير الموالية لمصر. وعشية الرحيل المرسوم شن القوميون الحمر غارة على رجال الجبهة وأهليهم وبيوتهم بلغ ضحاياها مئات القتلى فى عدن من الأطفال والنساء والرجال. حتى تعب الناس من تشييع الجنائز واستخراج الجثث الهالكة تحت الأنقاض. هكذا خرج الإنجليز بعدما جعلوا الشيوعية ترثهم لا الإسلام!! وفى الهند، عندما استعمرها الإنجليز، نظر الغزاة فوجدوا تحت وطأتهم مسلمين وهنادك، فقرروا دون تردد أن يرجحوا كفة الوثنية على الإسلام. يقول السيد "سجار حيدر " سفير باكستان فى القاهرة: " إن أضابير التاريخ تشهد بأعمال الوحشية والقسوة التى تعرض لها المسلمون على أيدى البريطانيين إذ كانوا يشنقون الناس بعد محاكمات سريعة، ويطلقون عليهم النار لأسباب تافهة، ويسلطون عليهم ضغوطا سياسية واقتصادية مرهقة. وقد استهدفت السياسة البريطانية أن تجعل المسلمين تحت تصرفها المطلق، فلم يمض وقت طويل حتى ألفى المسلمون أنفسهم مجردين لا من السلطة والقوة وحسب، بل مجردين من ثرواتهم وما ملكت أيديهم..!! ص _174(1/165)
ولم تعد اللغة الفارسية لغة رسمية للبلاد، بل أهمل شأنها- لأنها تمثل وعاء الثقافة الإسلامية هناك- وأميت العمل بالقانون الجنائى الإسلامى، وحرفت الشريعة الإسلامية، وأنكر على أى مسلم أن يشارك فى حكم الهند..!! ". ووصف الشاعر محمد إقبال هذه الحال فقال: " لقد اعتبر البريطانيون المسلم متسولا".. ومضى الإنجليز فى هذه الخطة قرنا بعد قرن، حتى وقر فى نفوس المسلمين الهنود أن الاستعمار البريطانى يترصد للإسلام وأمته فى كل مكان، ويحاول الإيقاع بهم حيثما وجدوا. وقد لخص كاتبان هما " إدوارد طومسون " و " ج. ت. جارات " الوضع كما يأتى: لقد أضافت السياسة الإنجليزية خلال السنوات التى سبقت الحرب العالمية الأولى الكثير إلى تبرم المسلمين، فقد التهمت الدول ا لأوروبية، الدول المحمدية، واحدة تلو أخرى. وكان البريطانيون إما مشاركون مشاركة مباشرة كما حدث فى مراكش وفارس، وإما موافقون نفسيا كما حدث فى طرابلس.. وقد عدت حروب البلقان التى نشبت 1912- 1913 جزءا من هجوم عام شنه الأوروبيون على الإسلام.. إلخ. وظاهر من تاريخ الإنجليز فى الهند أنهم خذلوا الإسلام وناصروا الوثنية. أما فى فلسطين حيث نشب النزاع بين الإسلام واليهودية فإن دور إنجلترا قد تحدد من غير موازنة، فقد انحازت بكل ما تملك من دهاء وسلاح إلى اليهودية ضد الإسلام والعرب.. وإنجلترا مثل صادق لسائر دول الغرب الصليبى، فإن هذه الدول على استعداد مطلق لمحاربة الإسلام ومساندة أى خصم له.. والعجيب أن المسلمين إذا تفطنوا لهذه الحقيقة وأخذوا لها حذرهم، قيل عنهم بوقاحة: إنهم متعصبون. ولا يحسبن القارئ أن هذا اللدد فى الخصام استجد فى العصور المتأخرة لظروف طارئة، وإن العصور الوسيطة امتلأت بآثار هذا التعصب العنيف. ص _175(1/166)
ومن المؤرخين من يرجع هجوم التتار على الإسلام إلى تحريض الصليبيين لأولئك الهمج ومعاونتهم لهم فى تدمير الإسلام حكومات وشعوبا . وعلى أية حال فإن ما نزل بالمسلمين من كروب وأهوال على أيدى أولئك المغيرين يعد من الأحداث الفريدة فى الدهر، لكن الذى يثير الدهشة حقا شعور الشماتة والتشفى الذى أظهره النصارى المقيمون بين العرب وهم يرون إخوانهم الموحدين يهانون ويبادون..!! يقول ابن كثير فى الجزء الثالث عشر من كتابه " البداية والنهاية ": أرسل هولاكو- وهو نازل على حلب- جيشا مع أمير من كبار رجال دولته يسمى " كتبغا نوين " يريد دمشق، فبلغها الجيش الزاحف سنة 658 هـ آخر صفر، وكان هولاكو قد كتب أمانا لأهل البلد، قرئ بالميدان الأخضر، وشاع بين الناس خبره. إلا أن الناس كانوا على وجل من أن يغدر بهم، فكم من أمان بذله التتار ثم خاسوا فيه ! ووقع المحذور، فما هى إلا ليال حتى استحر القتل فى وجوه البلد، وأخذ الخراب يسرى فى أرجائها، ولم يدع التتار مئذنة إلا هدموها، ولا برجا إلا خربوه.. ثم ولى الفاتحون أحد قوادهم حاكما على دمشق بعد أن دهاها ما دهاها، وكان اسم الحاكم التتارى " ابل سيان " يقول ابن كثير: وكان لعنه الله معظما لدين النصارى، فاجتمع عليه أساقفتهم وقسوسهم فعظمهم جدا، وزار كنائسهم، وصارت لهم به دولة وصولة.. بل إن طائفة من النصارى ذهبوا إلى هولاكو حاملين معهم الهدايا والتحف، وقدموا من عنده ومعهم أمان لطائفتهم..! ودخل الوفد العائد من باب " توما " وهم ينادون بشعارهم.. ومعهم أوان فيها خمر، وقماقم ملآنة خمرا يرشون منها على وجوه الناس وثيابهم! ويأمرون كل من يجتازونه فى الأزقة والأسواق أن يقوم لصلبانهم! ودخلوا من درب الحجر، فوقفوا عند رباط الشيخ أبى البيان ورشوا عنده خمرا وكذلك على باب مسجد درب الحجر الصغير والكبير!! واجتازوا السوق حتى وصلوا لدرب الريحان أو قريبا منه، فوقف خطيبهم فوف دكة ص _176(1/167)
دكان فى عطفة السوق فمدح دين النصارى وذم دين الإسلام وأهله.. فإنا لله وإنا إليه راجعون.. "!! ثم يقول ابن كثير: " وكان فى نيتهم لو طالت مدة التتار أن يخربوا كثيرا من المساجد وغيرها.. ولما وقع هذا اجتمع قضاة المسلمين والفقهاء والشهود، فدخلوا القلعة يشكون هذه الحال إلى القائد " ابل سيان " فأهينوا وطردوا وقدم كلام رؤساء النصارى عليهم..!! ". لقد عوملوا على المبدأ الاستعمارى المشهور: الويل للمغلوب. وكما قلت: ليس عجيبا أن يفتك الوثنيون بالموحدين على أبشع الصور، وإنما العجب أن يشارك النصارى فى ذلك، أو يشمتوا ويفرحوا من بعيد!! ولقد عاشوا أعصارا مع المسلمين آمنين فى ذمتهم ظافرين بلون من الحياة أهدأ وأنعم مما ظفر به البروتستانت فى جوار الكاثوليك. أجل، إن نصارى الشرق فى جوار المسلمين كانوا أسعد حالا من إخوانهم فى أوروبا نفسها. فلم كل هذا الغل والرضا بمصائب المسلمين؟ واليوم تعمل الحراب الإسرائيلية فى أحشاء العروبة والإسلام، فمن الذى يمسك بالحربة ويحركها؟ الاستعمار العالمى. إننى أستعرض الآلام القديمة والجديدة ثم أذكر قول الشاعر: كل خليل كنت خاللته لا ترك الله له واضحة..!! كلهم أروغ من ثعلب ما أشبه الليلة بالبارحة!! ومع كل ما حوى التاريخ من سخائم تحمر أو تصفر لها وجوه المعتدين فنحن مستعدون أن ننسى، وأن نفتح مع القوم صفحة جديدة لعلاقات يسودها العدل والبر.. فهل يفعلون ؟ أغلب الظن أن أضغان القوم علينا لن تبلى.. إننا نحن المسلمين محكومون فى نظرتنا إلى اليهود والنصارى بأمرين يوجبان السماحة والاعتدال: ص _177(1/168)
أولهما: أننا مصدقون بالرسالات الأولى ومكرمون لأنبيائها. والآخر: أننا نحترم الفكر الإنسانى، ونقيم الإيمان على حرية الإرادة ونعطى مخالفينا فى الرأى، الحقوق التى لنا، ولا نلزمهم إلا بالواجبات التى علينا.. وقد توارثت أجيال المسلمين هذه المعانى حتى أصبحت تقاليد مقررة فى مجتمعاتهم السابقة واللاحقة.. إلا أن أهل الكتاب، أو نفرا كبيرا منهم، يستكثر علينا حق الحياة، ولا يبادلنا المشاعر الحسنة التى نكنها لهم. ومع أن هذه الحقيقة المريرة برزت بوجهها الكالح على امتداد العصور، فإن طيبة قلبنا تحملنا على النسيان والتغاضى..! بيد أننا نأبى أن تتحول طيبتنا إلى غفلة، وسماحتنا إلى حماقة.. إن الاستعمار الحديث واضح الرغبة فى صرفنا عن ديننا، وتحقير إيماننا ظاهرا وباطنا. وقد مزق الحجب عن قصده، وشرع- سياسيا وعسكريا- يكيد لنا ويجهز علينا.. وهو اليوم يقوم بجهد مزدوج.. إنه يوسع حملات التبشير ويدعمها بكل أسباب النجاح . ثم هو يحاول أن يستغل نصارى الشرق ليطعنوا المسلمين فى ظهورهم وليوهنوا صفوفهم وهم يردون العدوان عن أنفسهم وبلادهم. ونحن نرمق هذه الجهود بعيون مفتوحة، وقلوب مجروحة. إن الله لن يتخلى عنا، فنحن عباده الأوابون إليه، المستعينون به.. ونظن نصارى الشرق أعقل من أن يستجيبوا لتلك الدعوات الخائنة، إنهم لن يعاونوا الاستعمار فى الحرب التى تدور الآن بيننا وبينه.. إنهم لن يخذلوا الفدائيين الذين يقاومون الصهيونية..!! إنهم لن يفرطوا فى حق المواطنة، ولن ينسوا الجوار الشريف الذى جمعنا زمانا طويلا.. وأعلم أن البعض وقع فى هذا الشرك، وشرع ينال منا.. لقد اطلعت على كتب شتى، تتناول ديننا، ونبينا، وتاريخنا بأساليب دنيئة ولكننا سنتغلب على هذه الجراح ونسير.. ص _178(1/169)
وإذا كنت أثبت هنا كلمات تنضح بالسموم ضدنا فلكى أقول للعقلاء إن هذا لا يليق . . !! جاء فى كتاب " الخريدة النفيسة فى تاريخ الكنيسة " ما يأتى وصفا للإسلام ورسوله وتاريخه. والكتاب مطبوع فى القاهرة عام 1964 (بمطبعة قاصد خير) بالفجالة. والسطور التى نقتطفها من الجزء الثانى ص 1 9، 92، 93.. قال المؤلف: " إن محمدا صاحب الشريعة الإسلامية، ومشترعها، ولد فى شبه جزيرة العرب بالحجاز، بمدينة مكة من قبيلة قريش سنة 569. وقد تيتم من والديه وهو فى سن الخامسة من عمره.. فرباه عمه أبو طالب، وعلمه التجارة والأسفار، وأول أسفاره كان وهو فى سن الرابعة عشرة.. سافر مع نفر من قبيلته إلى الشام، ولما رجع أخذته أرملة غنية تدعى خديجة.. فصار يتجر لها ثم تزوجها بها .. وكان ذكاؤه الطبيعى مفرطا، وأفكاره وقادة، وفى أثناء تردده إلى سوريا وفلسطين عاشر كثيرين من النصارى واليهود، وخالط عامتهم وخاصتهم، وسمع تعاليم كثيرة لهم، بعضها من الكتاب المقدس، وبعضها خرافات كانت تلهج بها العامة، فكان يعلق ذلك فى ذاكرته ومذكراته (!!). ولما بلغ سنه الأربعين سنة، كان حفظ شيئا كثيرا من تلك التعاليم الصحيحة والكاذبة ومزجها بتصوراته (!!) . ولعدم وقوفه على مصادر التعاليم الصحيحة..!!- وهو الكتاب المقدس-.. لما أراد أن يدونها.. زاد فيها ونقص.. وغير وبدل.. كما يعلم ذلك من قرأ حوادث الكتاب المقدس المسرودة فى القرآن.. (!!). ص _179(1/170)
ومن ثم قصد أن يظهر بمظهر نبى أمام العرب.. (!!) لا سيما عرب قريش وكانوا عبدة أصنام، فاستعظموا تعاليمه، وجزعوا منه، واقترحوا عليه أن يؤيدها بأعجوبة سماوية.. فعظم عليه الاقتراح، ولم يجد مناصا سوى الاعتذار التافه (!)، والاحتجاج الفارغ بعدم إيمان السالفين بالعجائب .. (!!) وأن الله أرسله وزوده بالوحى فقط لإرشاد الناس وهدايتهم (سورة الأنعام آية 37، والأعراف آية 202 والرعد آية 8، وبنى إسرائيل آية 62، والعنكبوت آية 49). وكان يدعو الناس إلى التسليم بدعوته وقبولها فى أول أمره بالحسنى والرفق، واللين والرضا، ويتظاهر بعدم إكراه أحد وإلزامه قبول الإسلام.. وقد وردت بهذا الشأن نصوص كثيرة فى القرآن لا محل لإيرادها.. (راجع سورة البقرة آية 257، وآل عمران آية 19، والأنعام آيات 66، 104، 107، ويونس آيتى 99، 100، والأحزاب آية 47، والنمل آية 126، وبنى إسرائيل 156، والزمر آية 42). ويظهر أنه كان مراعيا للظروف فقط (!!).. وخاصة ظروفه (!!).. فتظاهره بدعوته الناس إلى قبول تعاليمه غير مكرهين كان فى حال ضعفه.. (!!). فلما اشتد أزره انقلب إلى العكس كما يعلم من نصوص أخرى عكس التى أشرنا اليها.. (راجع البقرة آية 188، والتوبة آيات 5، 28، 71، ومحمد آية 4 ، والنساء آيتى 83 ، 88). وكذلك راعى فى أول الأمر خاطر اليهود ليكونوا أعوانا له، وجعل وجهة المصلين بيت المقدس، فلما قويت شوكته نقض هذا الأمر، وجعل وجهة المصلين الكعبة فى مكة، وهى معبد أصنام قديم لعرب قريش، لا يزال فيه حجر أسود يدعى العرب أنه نزل من الجنة. ص _180(1/171)
وطلب محمد من كبار قريش أن يزيلوا الأصنام من الكعبة فتوقفوا، والتمس منه نفر أن يكرم معبوداتهم لكيلا ينفر الناس من دعوته فأكرمها ومدحها..! بقوله.. "أفرأيتم اللات والعزى، ومناة الثالثة الأخرى، تلك الغرانيق العلى.. وإن شفاعتهن لترتجى". وقد ورد ذلك فى سورة النجم ولكن العبارة الأخيرة حذفها جامعو القرآن، لأنهم رأوا أنها محطة بمنزلة محمد. ولكن المفسرين أثبتوها، وأثبتوا نسبتها لمحمد واعتذروا عنه! وأشهرهم ابن عباس. وقد أحس محمد بغلطته، وعدل عنها، فنقم عليه عبدة الأصنام وقصدوا إيذاءه، وضمروا له الشر، فلما انكشف له سوء مقصدهم، هجر مكة وهرب إلى المدينة.. (!!) وكان ذلك فى سنة 622.. ومن سنة هروبه (!!) يبدأ بتاريخ الإسلام، واستمر بعد ذلك إحدى عشرة سنة كان يشن فى أثنائها الغارات على القبائل، وينهبهم (!!) ويسلب أمتعة القوافل (!!) وينكل بالمقاومين له حتى قوى أمره.. " (!!). ذلك ما يكتب عنا فى بلادنا!! وهو واضح الدلالة فى إهانة مقدساتنا واستباحة حرماتنا، وإرخاص كل صلة، وكشف القناع عن شر مستطير. وأحب أن أتجاوز هذا اللغو الهابط.. وغاية ما أنبه إليه المسلمين أن الاستعمار طامع فى اجتياح دينهم طمعه فى اجتياح بلادهم، وسرقة خيراتهم..! وإن الأمر يحتاج إلى يقظة مضاعفة.. وكلمة هامسة إلى مواطنينا من أهل الكتاب: أن يضربوا على أيدى سفهائهم، فلا يزيدوا الطين بلة..!! ولا يحملوا القلة المدللة على جحد النعمة ومعاونة الأعداء.. إننا نحن المسلمين نعامل مخالفينا فى الدين معاملة لا نظير لها نبلا وسماحة ولم ص _181(1/172)
يحدث أن ظفر بمثلها المختلفون من أهل الملل الأخرى حين عايش بعضهم بعضا أو عامله. وقد كنت أريد أن أطوى هذه المثالب، وأتغاضى عن ذكرها، لولا أن جهات مسئولة هى التى أسهمت فى طبعه ونشره، هكذا يقول مؤلفه فى نهاية الجزء الثانى صفحة 591 وعبارته بتمامها: " تم بعون الله طبع هذا الكتاب النفيس فى يوم 30 من أبيب سنة 1680 للشهداء، الموافق 6 من أغسطس سنة 1964 للميلاد فى عهد غبطة البابا المعظم الأنبا " كيرلس السادس " حفظه الله. ولولا اهتمامه بنا، ومساعدته، وتشجيعنا ببركاته وصلواته المقبولة ما أمكننا أن نقوم بهذه المهمة، نسأل الله أن يحفظه لنا ذخرا، وللرهبنة والكنيسة فخرا ".. ونحن نأسف لهذا الخطأ فى جنبنا، بل لهذه الخطيئة، ونوصى إخواننا المسلمين أن ينسوها، ونوصى إخواننا المسيحيين ألا يكرروها !. * * * ص _182(1/173)
التبشير والاستعمار وآلام أخرى يكاد المراقبون والنقاد يجمعون على أن الأوروبيين والأمريكيين ليسوا مولعين بالتدين، ولا ميالين إلى التقوى، وإن صلتهم بالله لا تتجاوز الشكل إلى الموضوع، وأن إحتفاءهم بالمناسبات الدينية يقوم على تحويل الآحاد ومختلف الأعياد إلى فرص للاستجمام وشباك للهو والمرح بريئا أو غير برىء. والأوروبيون والأمريكيون- إجمالا- يجنون ثمرات تقدم علمى رائع رفه معايشهم، ونعم حضارتهم، وربما استطاع هذا التقدم أن يلطف مسالكهم ويهذب غرائزهم إلا أن بيئات كبيرة فى كلتا القارتين لم يرفع العلم الإنسانى مستواها إلا فى الكلمات والملابس..! أما ما وراء ذلك فهناك القتل، والخطف، والاغتصاب، والفوضى الجنسية، والكبرياء العنصرية، وعبادة الحياة الدنيا، والتجهم أو الإنكار لما وراءها.. ومع هذا السلوك الهابط فإن الأوروبيين والأمريكيين يهتمون بالتبشير ويرصدون لرجاله وأغراضه أموالا طائلة، ويتابعون نشاطه ونتاجه بيقظة! ومع أن الحكومات فى كلتا القارتين لا تبالى أن يؤمن أبناؤها أو يلحدوا.. إلا أنها تولى الدين فى إفريقيا وآسيا قدرا ملحوظا من رعايتها، وتتوسل به إلى تذليل الصعاب، وحطم الخصوم. ولننظر إلى فلسطين فى ظل " الانتداب البريطانى " لنرى آثار هذا الاتجاه فى تحقيق الأغراض الاستعمارية بين سكان هذا القطر المحروب.. كان تسعة أعشار الفلسطينيين مسلمين عربا فكيف يمكن تذويب عروبتهم وإسلامهم معا ؟ وكيف يمكن خلق الظروف التى تتمخض عن قيام "إسرائيل " كما وعدت بذلك بريطانيا..؟! لن أتعرض هنا للأساليب الاقتصادية والعسكرية على شناعتها ووحشيتها، وإنما أتعرض للنواحى الدينية وحسب. ص _183(1/174)
كان بفلسطين معهد لتخريج الدعاة المسلمين يسمى " الكلية الصلاحية " أمر الانتداب البريطانى بالإجهاز عليه عشية باشر الحكم فى البلاد. وقد نشرت إحدى الصحف تاريخا موجزا لهذه الكلية جاء به: "كلية صلاح الدين الأيوبى ". " كانت تقوم فى الناحية الشمالية الشرقية على بعد عشرات الأمتار من الحرم الشريف فى المكان المعروف بدير القديسة حنا ويقال إن هذا المكان جعل مدرسة إسلامية قبل صلاح الدين الأيوبى. ولكن اسمها التصق بصلاح الدين حينما جعل منها مدرسة للفقه الشافعى بطلب من فقهاء الشافعية ومر عليها زمن تقلبت فيه بين يد النصارى والمسلمين. حتى كانت سنة 1914م (1333 هـ). وقام على بلاد الشام القائد التركى " جمال باشا " حيث أعادها مدرسة دينية إسلامية لإعداد مبشرين للعالم الإسلامى وبالأخص للهند والصين. وسماها " كلية صلاح الدين الأيوبى " وعرفت بين الناس بالكلية الصلاحية كما درس بها علماء من مختلف البلاد فى ذلك الوقت من أمثال: محمد اسعاف النشاشيبى، وجودت الهاشمى، وعبد القادر المغربى السورى الذى كان فيما بعد نائب رئيس المجمع العلمى العربى بدمشق، ثم عبد العزيز جاويش، ورستم حيدر، وجميل النيال، وعبد الرحمن سلام.. إلخ. وكان شيخ الإسلام فى الأستانة يحول مرتبات هذه المدرسة من تركيا بوساطة متصرف القدس. وبدخول الجيش الإنجليزى القدس فى 8/ 12/ 1917 م أعيدت هذه المدرسة إلى يد الآباء البيض الفرنسيين وهى اليوم مدرسة أكليريكية دينية للروم الكاثوليك ". والواقع أن هذا التاريخ مدخول، فالمدرسة كانت تقوم بتعليم الفقه الإسلامى ثم حولها الترك إلى كلية للدعاة تخدم الإسلام فى الداخل والخارج.. فلما ملك الإنجليز الأمر حولوها إلى كلية لتخريج المبشرين المسيحيين، وسلموها إلى جماعة البيض الفرنسية وهى جماعة لها دور هائل فى محاولة تنصير المغرب العربى أيام الاحتلال الفرنسى . والتعبير بأنها " أعيدت " للفرنسيين يتمشى مع الفكر التبشيرى(1/175)
الذى يرى أن آسيا الوسطى ومصر والشمال الافريقى كله كانت مستعمرات رومانية، ويجب أن تعود كما كانت وقد بذل الاحتلال البريطانى لمصر جهودا شاقة لإبعاد الأمة عن دينها، وعن المناسبات التاريخية التى تربطها به. ص _184
نشرت جريدة الأخبار تحت عنوان " احتج الإنجليز على الاحتفال بعيد الهجرة فى إذاعة القاهرة منذ 40 عاما قالت: احتفل العالم الإسلامى أمس بعيد الهجرة، وهو بداية العام الجديد منذ أمر عمر بن الخطاب بجعل الهجرة أساس التقويم الإسلامى. وقد احتفت به الإذاعة المصرية لأول مرة سنة 1934 ميلادية بقرار من " مدحت عاصم " أول مدير للإذاعة المصرية بعد أن أصبحت حكومية- وكانت من قبل تشرف عليها مؤسسات أهلية- وأمر المدير المصرى أن يبدأ الاحتفال بصلاة الفجر..! وعد ذلك حدثا غريبا، وواجه المدير المصرى معارضة شديدة من الإنجليز المشرفين على الإذاعة..! وكانت الحجة المعلنة أن الإداريين والفنيين سوف يسهرون إلى الثانية صباحا، ورد عليهم السيد مدحت عاصم بأن هؤلاء يسهرون فى رأس السنة الميلادية حتى مطلع الفجر، وبعده إلى الصباح، وإذن فلابد- بالقياس- من الاحتفال بالسنة الهجرية وسكت المعترضون كارهين فإن الاحتفال بالسنة الميلادية لذيذ أما الاحتفال بذكرى الهجرة فشئ ممجوج أو لعله شىء رجعى..!! المهم أن الإنجليز بعد أن ألغوا الكلية الصلاحية، واطمأنوا إلى أنه لن يكون للإسلام دعاة مرشدون فى فلسطين رأوا أن يستجلبوا إلى الأرض المستباحة مللا أخرى تثير الفوضى الدينية فيها، وتبلبل الأفكار، وتكثر الظروف المهيئة لقيام إسرائيل وهم من قبل شجعوا البهائية، واحتضنوا طاغيتها الداهية عباس عبد البهاء، ورفعوا منزلته ماديا وأدبيا، فجعلوا " عكا " كعبة البهائيين المبثوثين فى بقاع شتى، وربطوهم بفلسطين روحيا ووثقوا الصلات بين المحافل البهائية ودعاة الصهيونية، حتى تخدم إحداهما الأخرى ويتظاهرا جميعا على الإسلام. بيد أن ذلك لا يكفى فلابد من(1/176)
استقدام القاديانية إلى فلسطين هى الأخرى كى تشارك فى صنع الشتات الإسلامى وتمهد للوجود اليهودى. وغلام أحمد منذ نشأ فى الهند كان صوت سادته ومنفذ إرادتهم، وأذكر أنى لما زرت " أوغندا " منذ عامين وجدت مسجدا للقاديانية فى أعظم ميادين العاصمة.. وشاء الله أن ينقرض هؤلاء السماسرة من " أوغندا " بعد أن انقطع الاستعمار الإنجليزى منها.. لكنهم فى فلسطين بعد أن تركت لليهود يبنون بها دولتهم التى رفع الإنجليز قواعدها.. والمجلة التى نقلنا عنها خبر الكلية الصلاحية البائسة تذكر النشاط ص _185(1/177)
القاديانى داخل إسرائيل وكأنه ولد ونما بطريقة طبيعية، فهى تسوق القصة على هذا النحو: لقد كان الأستاذ المولوى جلال الدين شمس أول مبشر أوفد من قبل الخليفة الثانى للجماعة الأحمدية إلى بلدان الشرق الأوسط. وذلك فى أواخر العشرينات من هذا القرن، وكان قد مهد لهذه الحملة حضرة المولوى زين العابدين أستاذ تاريخ الأديان فى كلية صلاح الدين الأيوبى فى القدس. وقد بدأ عمله فى دمشق الشام إلى أن اضطر إلى الانتقال لمدينة حيفا بفلسطين بسبب المعارضة الشديدة التى لقيها من علماء المسلمين هناك وبناء على طلب من الحكومة الفرنسية آنذاك. وفى حيفا أسس جماعة وبشر بدعوة المهدى زمنا ما حتى تسنى له الاتصال بأهل قرية الكبابير الواقعة على جبل الكرما والمجاورة لحيفا فقبل معظم سكانها الأحمدية وأقام بها مركزا تبشيريا سنة 1929 م وفى السنة التالية بنى المسجد الموجود حاليا ثم أضيفت إليه دار التبليغ، وأنشئت سنة 1934 م المطبعة الأحمدية وبدأ المركز يصدر مجلة (البشرى) وهى المجلة الأحمدية الوحيدة فى بلاد الشرق الأوسط التى ما زالت تصدر بإسرائيل كما بوشر فى الحال بفتح مدرسة ابتدائية لتعليم البنين والبنات وكذلك مدرسة ليلية لتعليم الكبار. وقد تطورت المدرسة مع الزمن إلى أن أصبحت اليوم تضم ثمانية صفوف ابتدائية وروضة أطفال ولها بناية أنيقة وقاعة جميلة. والمدرسة الأحمدية فى الكبابير هى أيضا المدرسة الإسلامية الوحيدة فى البلاد التى تدار بصورة مستقلة عن جهاز التعليم الحكومى. لقد كان المركز فى الكبابير حتى قيام دولة إسرائيل يشرف على الأعمال التبشيرية الأحمدية فى جميع بلدان الشرق الأوسط. وكانت الكبابير نقطة انتقال للمبشرين القاصدين من الشرق إلى الغرب أو العائدين من الغرب إلى الشرق. لكن نشاطه انحصر بعد سنة 1948 م فى إسرائيل وحدها.. وبعد حرب الأيام الستة سنة 1967 م امتد نشاط الجماعة إلى الضفة الغربية وإلى قطاع غزة، وللأحمدية اليوم عدد(1/178)
غير قليل من الأتباع فى هاتين المنطقتين. ولابد من التنويه إلى أن الجماعة الأحمدية فى إسرائيل تمارس نشاطها بحرية ولها مكانة محترمة لدى الأوساط الرسمية والشعبية فى هذا البلد. ص _186
ويشرف على المركز اليوم الأستاذ بشير الدين عبيد الله تساعده هيئة إدارية ينتخبها أفراد الجماعة المحلية، وكذلك جمعية خدام الأحمدية للشباب ولجنة إماء الله للنساء يقمن كل يوم بواجباتهن نحو الجماعة تحت رعاية المبشر. وفى الكبابير اليوم نحو ثمانى مائة أحمدى يكونون الغالبية الساحقة من سكان القرية.. والمعروف أن كلتا النحلتين المبتدعتين، البهائية والقاديانية، تخدم الاستعمار العالمى وتشد أزره فى ضرب الإسلام والعدوان على أمته، وهى لون آخر من التبشير يتفق فى الغاية ويختلف فى المنهج. وليس كل مدد يصل إلى المبشرين من الشعوب الأوروبية والأمريكية يتسم بالعدوان، ويتعمد مقدمه النيل منا والعدوان علينا.. ففى الدهماء عدد كبير من السذج والقاصرين يحسب أنه يرضى الله بما يبذل من مال.. وربما عذر حكومته وهى تباشر أحط وسائل الفتنة والسرقة للعقائد والمقدسات.. على أن الحكومات الاستعمارية عقدت صلحا دائما بين ضميرها وهواها، وأقنعت به نفسها ورعاياها، واستمرأت بمقتضاه تسخير الدين فى تحقيق ما تسعى وراءه من أطماع.. والتبشير يتطلب أمرين متكاملين: أولهما: العنوان الذى يستر خبيئته ويجعل له- فى الظاهر- وظيفة أخرى ثقافية أو اجتماعية أو طبية.. إلخ يمضى تحت شعارها إلى هدفه. والثانى: وهو فى نظرنا شديد الخطورة- تكوين الظروف التى تشغل الشعوب بحوار مفتعل، أو قضايا وهمية، أو مسالك محيرة تتبدد فيها الطاقة، وتتشعب الآراء والأهواء. إن هذه الظروف المصنوعة تشبه سحب الدخان التى تتحرك خلفها الجيوش الزاحفة، فلا يوضع أمامها عائق ولا يوقفها استعداد أو حذر. وما أشك فى أن التبشير العالمى ، جند أقلاما كثيرة فى الأمتين العربية والإسلامية: ـ تشن حربا من الصمت(1/179)
مثلا على كتب جيدة نافعة لتقدم أخرى ضارة تافهة.. ـ أو تطفئ شعلة من الحق فى مكانها قبلما تتحول إلى سراج وهاج لو تركت للنمو الطبيعى.. ـ أو تخلق سرابا من المناهج تحدو إليه ألوف الشباب ليلهثوا فى طلبه ثم يعودوا بخفى حنين . ص _187
ـ أو تسوى بين اليقينيات والأوهام لتهدم مكانة الأولى وما ينبغى لها من قداسة أو تتدخل فى الجبهة المناوئة لها كى تساعد على جعل قيادتها معتلة هزيلة.. المهم إحداث شتات وبعثرة فى الوقت الذى يجد فيه رجال التبشير للقيام بدورهم كاملا والميدان خال من الحراس، أو الحراس مشغولون فيه بغيرهم. وقد وصل الذين يعملون فى خدمة الأغراض التبشيرية إلى أعداد رهيبة، وننقل هنا ما ذكرته مجلة دعوة الحق التى تصدرها وزارة الأوقاف المغربية فى عددها الأخير قالت: نشرت دائرة معارف الكنيسة (إنسكلوبيديا) الأرقام التالية عن النشاط الكنسى: 1- لدى الكنيسة الكاثوليكية … ر 250 ألف متفرغ فى العالم (مبشرين) بينما يبلغ مجموع العاملين لخدمة الكنيسة الكاثوليكية …، 600 ، 1 مليون وستمائة ألف نسمة. 2- خلال ربع قرن من عام 1925إلى 19 ص حول المبشرون13.000.000ثلاثة عشر مليون شخص إلى الكاثوليكية بمعدل نصف مليون سنويا. 3- لدى الكنيسة البروتستانتية 43.000 ثلاثة وأربعون ألف متفرغ (مبشرين) يديرون 1600 ألفا وستمائة مركز ومستشفى فى العالم لأغراض التبشير. وقد زاد عدد البروتستانت فى ربع القرن من عام 1925 إلى 19 ص حوالى 30.000.000ثلاثين مليونا والجدير بالغرابة أن هذا النشاط الباهر يتم فى صمت، وأن صحفنا البارعة الذكية متواصية على كتمانه، زاهدة فى الإشارة إليه. وتلتحق بحرب التبشير حرب الإسكان والتهجير، وقد تمت- بتآمر عالمى- جريمة محو الوجود العربى فى فلسطين، وتسليم الأرض إلى المستوطنين اليهود المجلوبين من أطراف الدنيا.. وقد ذكرنا فى بعض كتبنا: كيف أخذت إنجلترا جزيرة قبرص من تركيا، وكانت إسلامية خالصة ثلاثة عشر(1/180)
قرنا فاستقدمت إليها المستوطنين اليونانيين حتى كادت تذهب بصبغتها الأولى، وتقوم الآن حركة لضمها إلى اليونان التى لم تعرف هذه الجزيرة من بدء التاريخ..!! وفى ظلام الغفلة والصمت تحاول عناصر معينة شراء أراض ذات قيمة تاريخية أو عسكرية ثم تحشد أتباعها فيها ليظهروا بغتة بمطالب شاذة يحميها القانون..!! ص _188
ولا أدرى إلى متى يبقى العرب والمسلمون ذاهلين عن مصيرهم مع تل المؤامرات المدروسة التى تفاجئهم بين حين وحين.. ولا أحس غضاضة من التنبيه إلى قضية تحديد النسل،، إن أعداء الإسلام يعرفون النتائج المادية والمعنوية التى تترتب على الكثرة العددية للأمة الإسلامية، ومن ثم يجتهدون فى إقناع المسلمين- وحدهم- بجدوى قلة النسل، وأقول مؤكدا- وحدهم- لأن رؤساء الأديان الأخرى أجمعوا أمرهم على تكثير نسلهم.. ومن المفيد أن أذكر أن المسلمين فى الأقطار الشيوعية بعد ذبول معروف الأسباب أخذوا يكثرون. لعل هذه الكثرة مصداق المثل السائر " بقية السيف أنمى "..!! وقد قرأت دراسة علمية دقيقة نشرتها مجلة (دعوة الحق) فى هذا الموضوع ختمته بهذه الحقائق " بعد انحسار دام نصف قرن على الأقل أخذ المسلمون يتزايدون، تزايدا طبيعيا كبيرا فى المناطق التى درسناها وبهذا زادت نسبتهم فى السنين الأخيرة فى البلاد الشيوعية الأربع (الاتحاد السوفييتى، يوغسلافيا، ألبانيا، بلغاريا)، التى سبقت دراستها.. ـ فمن بين كل ألف سوفييتى كان 113 مسلما سنة 1939 فصار 136 مسلما سنة 1971 ـ ومن بين كل ألف يوغسلافى كان 112 مسلما سنة 1931 فصار 151 مسلما سنة 1971 ـ ومن بين كل ألف ألبانى كان 686 مسلما سنة 1930 فصار 707 مسلمين سنة 1969 ـ ومن بين كل ألف بلغارى كان 133 مسلما سنة 1949 فصار 170 مسلما سنة 1971. وهذا هو نفس الوضع فى معظم بلاد العالم حيث يتزايد المسلمون أكثر من غيرهم وهذا يكشف هدف الدعايات الخبيثة لتحديد النسل بين المسلمين. فواجب كل مسلم من جهة الوقوف(1/181)
ضد هذه الدعايات ومن جهة أخرى العمل على تحسين وضع المسلمين المادى ووضعهم المعنوى. ونحن نضع بين أيدى قرائنا هذه المعلومات ليدركوا الكثير مما يغيب عمدا عن العيون. * * * ص _189
عدوان إلى آخر رمق أشارت صحف القاهرة إلى مرحلة جديدة من مراحل العدوان على أرض العروبة والإسلام . والمرحلة التى يتم إنفاذها فى صمت ، والتى تعرض أنباؤها تحت عنوان خادع ، تقوم على إسكان خمسين ألف يهودى فى بلاد الحبشة فى منطقة " غوندار " التى تقع على الحدود السودانية الحبشية ! وقد عرض حكام الحبشة خمسين ألف فدان يمكن استصلاحها لتكون نواة المهجر الجديد . وربما سأل القارئ: لماذا لا يأخذ هؤلاء اليهود طريقهم إلى إسرائيل بدل الحبشة ؟ والجواب: أن هؤلاء اليهود من الدرجة الثانية، ويطلق عليهم " الفلاشا " وفى نسبهم إلى اليهودية غموض ، وكانوا يعيشون فى الشرق الإفريقى معيشة ظاهرة التخلف ، ويرتزقون من بعض الحرف البدائية .. حتى نظم الغرب العلاقات بين الحبشة وإسرائيل من النواحى الروحية والاقتصادية والسياسية فأخذ وضع " الفلاشا " يتحسن ، والتحق عدد منهم بوحدات الشرطة ، وفرق الجيش الأثيوبى ، وصعدوا فى مدارج الترقى حتى أصبح لهم عضو فى مجلس الوزراء ! ! وقد تولت إسرائيل إنشاء مدارس فى منطقة " غوندار " يتربى فيها الفلاشيون على يد معلمين إسرائيليين ، كما استقدمت بعثات منهم إلى أرض إسرائيل (!) لتدريبهم التدريب الذى يحقق الأغراض المرجوة فى مستقبل ليس ببعيد !! ولعل ما يحقق زيادة التقارب والالتحام بين إسرائيل وأثيوبيا أن توضع الخطط الصارمة كى ينكمش نشاط الكثرة الإسلامية التائهة فى الحبشة ، فلا يسمع لها صوت ، بل لا يحس لها وجود ..!! ص _190(1/182)
وذلك حتى تجد أمدادا لا مقطوعة ولا ممنوعة من الدعم الأثيوبى لاقتصادها، ومن ثم تستطيع أن تمزق العرب ، وتضرى عليهم . ويوم تلفظ العروبة أنفاسها فإن شمس الإسلام ستجنح إلى الغروب. وهذا هو ما يستهدفه الاستعمار الناشط وراء سياسة " أثيوبيا " وقيام إسرائيل..!! وخطة توطين بعض اليهود فى الحبشة التى شرحتها جريدة " جويش كرونيكل " اليهودية ، والتى تعمل لها الوكالة اليهودية من بضع سنين ليست فى نظرنا أمرا ذا بال!! وأحسبنى قريبا من الصدق إذا قلت: ان هذا أخف الطعنات التى وجهها الاستعمار إلينا. فإن الدم الإسلامى النازف بغزارة فى الشرق الإفريقى يكشف عن مأساة فاجعة تقع وراء أسوار من السكون المفتعل، وأخشى ألا نصحو حتى تكون الضحية قد طواها العدم . والضحية هنا شعب مسلم كبير هو شعب " أرتيريا ". إن مسلمى أرتيريا يقاتلون قتال المستميت منذ ربع قرن ليظفروا بحريتهم الدينية واستقلالهم السياسى، ضد استعمار باطش، أعماه الحقد، وأغرته السلطة.. ومع فداحة الخسائر التى نزلت بهم فهم لم يضعوا السلاح ولم يستسلموا لليأس، وجبهة تحرير أرتيريا تعمل بإيمان ومصابرة لاستبقاء الإسلام والعروبة على أرض الأجداد ، وتقاوم سلطان أثيوبيا وهو يهجم بالسلاح الأمريكى لمحو هذا كله..!! إن جبهة تحرير أرتيريا تقوم بالعمل التاريخى الضخم الذى قامت به من قبل جبهة تحرير الجزائر، والذى تقوم به الآن جبهة تحرير فلسطين! ويظهر أنها تلقى من أعداء الإسلام فى ميدانها الصعب مواجهة أعتى وعدوانا أعنف ، لأنهم يخشون أن يكون مصيرهم مصير أغلب المستعمرين فى البلاد التى استردت حريتها.. إن هذا التوجس يجعل الجيش الأثيوبى غاشما فى سطوه، طاغيا فى عدوه ! وهاك نموذجا لما يقع هنالك من مصائب طامة ذكرها الصحافى السويدى " لارزبرو " رئيس تحرير مجلة " كانلوسبوستن " وزميله "برتل روبن" عضو البرلمان السويدى- وكانا فى زيارة خاصة لأرتيريا : " فى يوم عاصف تدلت فيه اثنتان(1/183)
وعشرون جثة من جثث الثوار على أعواد المشانق فى مدينة كرن ، إحدى مدن أرتيريا الرئيسية . وفى الوقت نفسه كانت تتدلى سبع عشرة جثة أخرى بمدينة قندع الواقعة بين أسمرة العاصمة ، ومصوع الميناء " . ص _191
يا حزناه على أمة الإسلام ، ما أرخص دمها ، وأهون أحرارها ..! تسعة وتسعون بطلا من رجالات الله تتأرجح جثثهم فى مهاب الريح دفعة واحدة على هذا النحو الرهيب !! نكالا بأتباع محمد ، وترويعا لطلاب الجهاد ، وإذلالا لأحرار الناس . معرض للردى تتمثل فيه كل ضغائن البشرية الخسيسة على الدين الذى رفع قدر الإنسان . وتبرز من خلاله الأحقاد التى ورثها المستعمرون الجدد عن الصليبيين الأقدمين. تلك الأحقاد التى لا يخف مع الزمن سوادها ، والتى تحيرنا نحن كيف نطفئها ونستريح من نارها ودخانها.. إن الكثرة المسلمة فى أرتيريا كأختها المسحوقة داخل الحبشة تتعرض لحرب إبادة حقيقية . وقد بدأت محنة هذا القطر التعيس منذ قضت هيئة الأمم المتحدة بضمه إلى أثيوبيا رغم أنفه ، ومع أن هذا الضم أخذ أول الأمر صورة اتحاد " فيدرالى" إلا أنه سرعان ما تحول إلى إذابة للقطر المستضعف ، وإفناء لشخصيته ، ولغته ، ودينه ، وتاريخه ، ومستقبله !! وبدهى أن يقاوم مسلمو أرتيريا كما قاوم إخوانهم فى الجزائر وفلسطين من قبل ، وهنا جن جنون المعتدين وحاولوا بوحشية هائلة أن ينتهوا من الثورة الأبية فاجتاحوا عشرات القرى يحصدون من فيها وما فيها بالرصاص والقنابل.. غير أن الأبطال المجهولين نظموا صفوفهم فى جبهة تحرير شجاعة مثابرة ، قاتلت الجيش الأثيوبى وأذلته فى معارك شتى .. وفى العام الماضى فر القرويون الأرتيريون أمام حملة انتقام حبشية شديدة شنها عليهم الجيش الذى سلحه الأمريكيون تسليحا جيدا ، واجتاز هؤلاء البائسون حدود السودان فى حال منكرة ، فقد أحرقت قراهم ومزارعهم ومواشيهم ، واستبيحت حرماتهم ، وتعقبتهم الغارات الملحة تبغى القضاء عليهم، وتناثر موتاهم دون(1/184)
دفن لتأكلها الوحوش !! وقال شاهد عيان يصف هؤلاء اللاجئين: لقد كانوا هياكل بشرية، وكان الجوع والعطش قد برحا بهم وهدا كيانهم . على أن جبهة تحرير أرتيريا مضت على درب الجهاد الطويل الممض. وقد عرفت رئيسها المؤمن المصابر الجلد الأستاذ إدريس آدم رئيس مجلس ص _192
النواب السابق. كما قابلت الكثير من فتيان البلد الثائر على الضيم ، وتفرست فى ملامحهم عزيمة الجهاد حتى لقاء الله .. إلا أن هناك حقيقة أحب أن أثبتها فى هذه الكلمة العجلى.. إن الأعداء القابعين وراء البحار يعملون على تهويد فلسطين هم هم الأعداء الذين يعملون على تنصير أرتيريا ، وإن اختلفت أساليب الجريمة وأدوات التنفيذ.. والغرض الظاهر الباطن لدى هؤلاء إصابة الإسلام فى صميمه ، وتمزيق أمته شذر مذر. فما الذى يجعل العرب شديدى الجؤار لمحنة فلسطين ، منكرى الصمت بإزاء مسلمى أرتيريا ؟؟ إن الجامعة العربية لم تكترث عندما سلب هؤلاء المسلمون استقلالهم وسلموا إلى الحبشة لتسترق أعناقهم ، وكان فى مقدورها أن تقاوم وترفض . لكن الجامعة العربية- ونقولها كاسفى البال- لا تهتم بأمر المسلمين ولا تشغل بقضاياهم ، وهى- إذ تستصرخ الضمير العالمى لأهل فلسطين- تفعل ذلك إعلانا لأخوة جنس وحسب ! والجامعة العربية إذ تؤثر هذا المسلك تخون دينها وتاريخها وتنفصل عن الأمة العربية ذاتها فلا تترجم عن مشاعرها ولا عن أمانيها.. بل إن الجامعة العربية تخون قوميتها المزعومة بتجاهلها قضية أرتيريا، فإن الشعب المسلم المضطهد هناك، يتكون من قبائل عربية الدم واللغة مثل الألوف المؤلفة من سكان وادى النيل ! ولا ندرى كيف تناسى السياسيون الجبناء هذه الحقيقة عندما صمتوا صمت القبور على وأد إخوانهم العرب ؟ والجامعة العربية إذ تتجهم للإسلام تغرق فى مسلك مدنى انتهى أمده وانكشفت حقيقته فإن اليهود لا يستحون من الانتساب إلى أبيهم إسرائيل إذا استحى العرب من الانتساب إلى أبيهم محمد !! والأمريكيون(1/185)
لا يستحون من عرض الإنجيل وتأييد بعثاته إذا استحى العرب من عرض القرآن وبلاغ رسالاته . فإلى متى تنفض الجامعة العربية يديها من قضايا الشعوب الإسلامية المأكولة فى إفريقيا وغيرها ؟ بل إلى متى تعد قضية فلسطين عربية خالصة وهى اليوم نهب عدوان دينى سافر يؤازره حقد تاريخى قديم ؟؟ ص _193
إن العرب إذا خانوا الإسلام فلن يفيدوا من ارتدادهم إلا الضياع والمعرة وسيحيق بهم قوله تعالى (أولئك الذين اشتروا الحياة الدنيا بالآخرة فلا يخفف عنهم العذاب ولا هم ينصرون). إن هذه الميوعة باسم السياسة انتهت بالقضاء على العروبة فى أرتيريا، فإن السلطات الأثيوبية شنت حملات شعواء على اللغة العربية- وهى لغة البلاد الرسمية وفق المادة 38 من دستور أرتيريا- وبدأت هذه الحملات بإهمال الطلبات والعرائض المكتوبة بهذه اللغة، ثم بإزالة اللافتات العربية.. واستطاعت أخيرا أن تمنع تدريسها فى شتى مراحل التعليم الرسمى منه والشعبى ، عندما عزز الأثيوبيون سيطرتهم السياسية سنة 1956. وقد أحرقت الكتب العربية التى استوردها وزير المعارف الأرتيرى من القاهرة. أما خريجو الجامعات العربية فيمنحون نصف مرتب خريجى الجامعات الأخرى حتى تموت رغبة الشباب فى كل دراسة عربية. وفى سنة 1963 منعت الحبشة تدريس الإسلام إلا باللغة الأمهرية لأنها تعلم أنه لا يوجد كتاب واحد عن الإسلام بهذه اللغة. وهكذا قضت الحبشة بجرة قلم على مستقبل دين وشعب، والعرب ينظرون واجمين. ومعروف أن للأمريكيين قواعد كبيرة فى أرجاء البلاد، تحرس الاستعمارين الدينى والسياسى فى هذه البقاع المنكوبة، وقد ذكرت جبهة الثوار أنها فى بعض الاشتباكات مع الأحباش أسقطت طائرة هليكوبتر أمريكية كانت تساعد المعتدين! ونحن لا نستغرب هذا المسلك، وإنما نستغرب أن يتراخى عرب الشمال الإفريقى فى خدمة دينهم ومساعدة أخوتهم، فى الوقت الذى ألف فيه الاستعمار مجموعات من الحكومات الحاقدة تطارد الإسلام وتتعقب(1/186)
أنصاره !! إن جبهة تحرير أرتيريا تلقى فنونا من الصد والتهرب من أناس يخونون قوميتهم وعقيدتهم على سواء !! ص _194
سير الأمم بين الأصالة والتجديد لو أن استمساك المسلمين بدينهم ضرب من التقليد الجهول ، أو التعصب الذميم ، لكنت أول الناقمين والمحاربين له ! ولكن المسلمين المتشبثين بدينهم فى وجه ضغوط هائلة ، ومكايد ظاهرة وباطنة ، يفعلون ذلك عن وعى سليم واقتناع كريم.. ولو أن دعاة التحلل ونبذ الماضى ، أو التطور والانطلاق مع المستقبل- كما يقولون- يؤثرون هذه الوجهة بعد مقارنة ودراسة ، وحوار مفتوح ، ونقاش نزيه ، لأكننا لهم شيئا من الحرمة ، وعذرناهم عندما يخالفوننا فى رأى !! ولكن هؤلاء يريدون بالختل حينا ، وبالعصا حينا آخر ، أن يصرفوا الجماهير عن غايتها ، ويفتنوها عن عقيدتها ..! فإذا عز عليهم بلوغ مآربهم وجدت أعداء الرأى الحر يصفون غيرهم بالجمود! ووجدت أذناب التيارات الدخيلة يرمون سواهم بالتقليد! ووجدت عملاء النحل الفاسدة، قديمة كانت أو محدثة ، يتهمون رجال الإسلام بالتخلف..!! ومع أن الإسلام منذ بدأ إلى يوم الناس هذا، دعوة إلى الحياة والابتكار، وإلى الفكر الذكى والنشاط الموصول. فقد انقلبت صورته فى أذهان هؤلاء، وأصبح وحده، دون سائر الملل والمذاهب سبب التوقف، وأصبح دعاته حصن الرجعية، وآفة المجتمع، وغير ذلك من النعوت التى يخترعها سماسرة الغزو الثقافى. لقد تقدمت اليابان منذ أكثر من قرن، ولم يجد رجالها حرجا من الانتفاع بالعلم العصرى فى مجاليه النظرى والتطبيقى دون أن يعلنوا حربا على ماضيهم، ودون أن يشتبكوا مع الشعب فى حرب ضروس ليصرفوه عن ديانته الوثنية. وتقدمت الولايات المتحدة فى ميدان الارتقاء العام مع حرصها البالغ على حماية شتى المذاهب الكنسية، بل على نشرها هنا وهناك!! ولقد قرأت وصفا لتكفين الرئيس كنيدى بعد مقتله نشرته مجلة المختار فى يناير ص _195(1/187)
سنة 1964، وهو وصف ينضح بمكانة النصرانية وتقاليدها وإطباق الرسميين والشعبيين على احترامها، جاءت فى الوصف المذكور هذه العبارة: " فى الساعة الثانية عشرة والدقيقة السابعة والخمسين بعد الظهر، أى بعد سبع وعشرين دقيقة من اغتيال " كنيدى " استدعى اثنان من القسس الكاثوليك فى " دالاس " هما الأب " أوسكار هوبر " والأب " تومسون جيمس " ليكونا إلى جوار الرئيس. وسحب الأب هوبر الغطاء عن وجه الرئيس ثم غمس سبابته فى " الزيت المقدس " ، ورسم علامة صليب صغيرة على جبهة كنيدى ، وقال باللاتينية: إننى أغفر لك كل لوم وخطايا باسم الأب والابن والروح القدس آمين!! وإذا كنت حيا فليغفر الله بهذا الزيت المقدس كل خطاياك..!! هذه التقاليد المسيحية فى أمريكا لم تعلن عليها حرب شعواء حتى تستطيع الشعوب التقدم، وتساير موكب الزمن الزاحف كما يهدف بيننا بعض في لا وزن لهم من حملة الأقلام المرموقة!! لقد بقيت هذه التقاليد وحدها، ومضى الأمريكيون فى طريقهم يغزون الفضاء حينا، ويمدون بعثات التبشير بالعونين المادى والأدبى حينا آخر. ولنترك اليابان والولايات المتحدة ولننظر إلى إسرائيل، عدونا اللدود! إن قيام هذه الدولة على الدين حقيقة أوضح من فلق الصبح. والألوف المؤلفة من اليهود الذين يقيمون فى أمريكا يمدونها بما فى طاقتهم من جهد لتنهض وترسخ.. وهم يدفعون السياسة الأمريكية دفعا إلى هذا المجرى المكشوف مستجيبين بذلك لنداء الأخوة الدينية اليهودية، ومستغلين العداء التاريخى نحو الإسلام وأمته من مواريث الصليبية القديمة. ومع هذه الحقائق الملموسة، فإن العصابة المتاجرة بالقلم فى بلادنا تنكر أن يكون للدين أثر فى الجبهة المعادية لنا ! لماذا ؟؟ حتى تخفت الأصوات التى تطلب إحياء الإسلام بين العرب..! حتى تكون الحرب ذات طابع دينى هناك وذات طابع مدنى هنا..! إن تمويت الإسلام هدف مقصود لذاته، ولو كان فى ضياعه ضياع العرب ، وفشل قضاياهم ، وتمزيق(1/188)
شملهم ، واضمحلال أمرهم إلى الأبد !! ص _196
وأنا أعلم كما يعلم غيرى أن هناك يهودا لا يتجاوبون مع إسرائيل، فما دلالة هذا؟ هل إذا كره بعض الإنجليز الاستعمار وصفنا الشعب الإنجليزى بأنه برىء من الاستعمار، وأنه لا يحمل تبعات حروبه الدنسة فى إفريقيا وآسيا وغيرهما بضعة قرون؟ إننا لم نصف كل يهودى على ظهر الأرض بأنه معتد على العرب، ولكننا نصف الجمهرة الساحقة من اليهود بأنها من وراء قيام إسرائيل على أنقاضنا بدافع دينى أعلنه ساستهم وقادتهم. فلم المماراة فى هذه الحقائق الصلبة ؟ بيد أن الذين يبغون إبعاد الإسلام عن ميدان الكفاح ، بل إبعاده عن أسباب الحياة أو إبعاد أسباب الحياة عنه يمضون فى طريقهم مكابرين معاندين. فعندما خطب رئيس الدولة فى عيد القاهرة الألفى ، وارتقب " كيف تستطيع شعوبنا أن توفق بين الأصالة وهى التاريخ، وبين التجديد وهو المستقبل " قلنا- نحن المؤمنين من أبناء هذا الوادى- إن هذه عبارة تدعو إلى التفاؤل، إنها توحى بأن نبنى على قواعدنا، وأن نندفع مع تيارنا، وأن نتجاوب مع طبائعنا العربية المسلمة. فالأصالة فى حياة أمة هى صورتها الروحية، وصبغتها الفكرية والخلقية، وملكاتها فى توجيه الحياة وفق عقيدتها وشريعتها. وإذا كان لنا نحن العرب تاريخ لامع وحضارة مشهودة فمرد ذلك: أجمع إلى الإسلام وحده. وتستطيع الأمة الذكية أن توائم بين جذورها فى الماضى وحركتها إلى المستقبل.. وإذا سهل ذلك على أمم ذات تواريخ تافهة أو أديان شائهة ، فكيف يصعب على أمم أساسها الإسلام باعث الحياة فى الرفات الهامد، وموقد الشرر فى الحجر الجامد ؟؟ إلا أن جريدة الأهرام طلعت علينا بحديث للمستشرق جاك بيرك ، يفسر فيه الأصالة تفسيرا مقلوبا ، ويردها إلى عناصر مادية وآلية.. ويرتاب فى قيمة الأخلاقيات والأدبيات والجماليات من حيث هى المعالم الأولى للأصالة ..!! ويرى هذا المستشرق اللبيب أن بناء السد العالى دلالة بارزة على الحضارة(1/189)
المصرية " الأصيلة " ، ثم يمضى فى حديث موغل فى التضليل واللف إلى أن يكشف عن نفسه أخيرا ، أو يكشف عن الهدف الذى استقدمته من أجله جريدة الأهرام فيقول تحت ص _197
عنوان " ليست الأصالة هى العودة إلى الماضى ": " لقد ولى إلى الأبد بمحاسنه وعيوبه كل ما سبق الثورة الصناعية المعاصرة التى اجتاحت وما تزال تجتاح كل أنحاء العالم وكل صفات الحياة الإنسانية ، فردية كانت أم جماعية.. والأصالة اليوم أن نكشف ذواتنا وأن نهيئها للانسجام مع عالم هذه الثورة الصناعية المكتسحة ، وما هو أبعد منها ". ولا يحتاج المرء إلى جهد قليل أو كثير ليشعر بأن القصد من هذا الحديث منع العرب من التفكير فى دينهم ، والامتداد مع أصولهم السماوية ومثلهم النفسية والاجتماعية. إن ألوف الحيل تختلق اختلاقا لجعل أمتنا تحيا بعيدة عن ينابيعها الروحية حتى لو أحرقها الجفاف وأضنتها الحيرة.. بل حتى لو تهددتها الهزيمة وأحدق بها العدو ، فلحساب من هذا كله ؟؟ أما الثورة الصناعية التى أشار إليها هذا المستشرق فهى حصيلة الارتقاء العلمى الذى شاركت فيه شتى الأجناس والحضارات ، والأمم الكبرى تستغل تفوقها الصناعى فى دعم فلسفاتها الفكرية ومذاهبها الاجتماعية. أى أن هذا التقدم الصناعى وسيلة لخدمة الأهداف الإنسانية للأمم كما تراها كل أمة، فالجهاز الصناعى الهائل فى أمريكا يخدم المنهج الرأسمالى الذى آثره أصحابه. ومثيله فى روسيا يخدم المنهج الاشتراكى المضاد فكيف تتحول الوسيلة إلى هدف كما يريد خداعنا هذا المستشرق ؟ إن الأصالة ترجع ابتداء إلى أسلوب الحياة الذى نريده لأنفسنا، وهذا الأسلوب لا ينفك عن أركان ديننا وأصول حضارتنا وتاريخنا .. وكما يستغل اليهود وغيرهم التفوقين العلمى والعملى فى إعزاز جانبهم وفرض أنفسهم يجب أن يعمل العرب وأن يربطوا ماضيهم بحاضرهم !! أفهذه مشكلة معقدة ومعادلة صعبة كما يصور بعض الكتبة ؟ هل ارتباط كل أمة بدينها سائغ مقبول أما(1/190)
ارتباطنا بإسلامنا فمشكلة المشاكل؟ إن العودة إلى الماضى فى حياتنا نحن العرب معناها استبقاء الرسالة التى تملأ القلوب الفارغة وتنظم الصفوف المعوجة وتقمع الأهواء الفاسدة وتجعل البشر عبادا لله صالحين وخلفاء على أرضه مكرمين. ص _198
إن العودة إلى الماضى تعنى أن نستصحب الوحى الإلهى فى مسيرنا، ونستبقى هداه على طريقنا ، أفذلك ما تحرج به صدور وتغتاظ منه أقوام ؟ لماذا ارتفع هذا الحرج فى المجالات العالمية لما عاد اليهود إلى ماضيهم وأقاموا باسمه دولتهم ؟؟ لماذا لم تتجه جهود الغرب التبشيرية إلى اليابان الوثنية ، واستماتت فى ضرب الإسلام وحده والتنكيل بأتباع محمد ؟ سيقول سماسرة الغزو الاستعمارى للعرب : إن العودة إلى الماضى تعنى أن نعود إلى ركوب الإبل . ونتجاوز هذا الهزل لنقول لأصحابه: بل نريد من هذه العودة أن نهذب حيوانيتكم التى طفحت ، وجعلتنا أضحوكة الناس .. ففى هذه الأيام واليهود جاثمون على صدرنا ممسكون بخناقنا تنشر جريدة الأهرام هذا الإعلان عن رواية جنسية تعرض فى سينمات القاهرة، فتصف كيف سرقت عاهرة رجلا من بيته وكيف " تضمه إلى صدرها فنانا تنقصه حرارة القبلة ، وتشتهى هى الأخرى طعم الحب ، وتبدأ بين الاثنين قصة ، قصة الفنان المتزوج من امرأة تبلدت عواطفها ، وقصة الفتاة الصغيرة الناضجة التى تشتهى ضياع المتعة واللذة !! وعلى الشاعرية ، على النبضة القصيرة والطويلة والعريضة تروى الأيام أحلى وأطعم قصة عشق "......إلخ . هذا هو أسلوب الحياة المتجددة التى ننسلخ بها عن الماضى ، ونواجه به عدوان الاستعمار والصهيونية على بلادنا . هذا هو الأسلوب الذى يستأجر له مستشرقون يفسرون الأصالة بأنها جملة من العناصر المادية .. وعلى هذا النحو تعمل السمسرة الأدبية فى إضاعة الماضى والحاضر والمستقبل جميعا . * * * ص _199(1/191)
تنَاول الدّين بَين الجدّ والهزل بين الإنسان العربى اليوم والإنسان العربى فى صدر الإسلام بون بعيد بعيد.. قد يكون إنسان اليوم أفخر ملبسا ، أو أدسم مطعما ، وأفره مركبا ولكنه من حيث الخصائص الروحية والعقلية تافه ضائع بالنسبة إلى أبيه الأول وسلفه العظيم..! لقد ظهر العرب- منذ بدأ بالإسلام تاريخهم- أمة تقود ولا تقاد، وتدفع ولا تندفع ، وتمنح الآخرين المعرفة والخلق والقانون والحضارة لأن ثروتها فى هذه المبادئ هائلة وحاجة الغير ماسة ، والرغبة فى العطاء موفورة .. أما عرب اليوم فيدهم السفلى ممدودة ترتقب العون المادى أو الأدبى ممن يعطى إذا شاء أو يأبى إذا شاء . وقد يلتقطون اللطمة تلو اللطمة فما يستطيعون لفرط هوانهم أن يرفضوا ضيما ، أو يدركوا ثأرا .. إن الفروق بين الإنسان العربى اليوم والإنسان العربى أمس جسيمة ، لأن إنسان الأمس كان صاحب إيمان عميق ، وخلق عظيم ، وقدرة على الحياة خارقة ، وهمة فى اجتياح العوائق فائقة ..! أما إنسان اليوم فعريان عن هذه الخصائص المعنوية .. ونحن نبذل! جهود الجبابرة كى نطوى المسافة بين حاضره وماضيه، كى نعيده إلى الدين الذى صنع أمجاده، وجعل له فى الدنيا دويا كبيرا، ولم يكن قبله شيئا مذ كورا .. والناس قد يأخذون الدين شكلا لا موضوع له، وصورة لا روح فيها.. وهذا اللون من التدين قد يكون أسوأ من الإلحاد المكشوف، لأن التدين المصحوب بالضعف والبلادة والذهول والغفلة تدين سخيف مهين، لا وزن له عند الله ، ولا أثر له بين الناس ..! ص _200(1/192)
وعندما حاول بنو إسرائيل قديما أن يأخذوا الدين بهذه الطريقة السمجة هددهم الله جل شأنه بالسحق، أو يأخذون الدين أخذا معقولا..! أجل لقد انتزع جبلا من مكانه، وهددهم بالدفن تحت ركامه، إذا كانوا سيتناولون تعاليم الدين بعزيمة خائرة وفكرة غامضة.. قال تعالى: (وإذ نتقنا الجبل فوقهم كأنه ظلة وظنوا أنه واقع بهم خذوا ما آتيناكم بقوة واذكروا ما فيه لعلكم تتقون). وأخذ الوحى الإلهى بحماس باطن وظاهر، واستبصار ما فيه على نحو ينفى الغفلة والنسيان ، أمران لا بد منهما للتدين الحقيقى .. والأمة التى تنظر إلى معالم وحيها ببرود ، وقلة اكتراث ، أو التى تغلبها أهواؤها فتنسى ما كلفت به وتمضى وفق هواها لا وفق هداها، أمة ليست أمينة على رسالة الله ، ولا جديرة برعايته .. وقد حكى القرآن لنا ما هدد الله به قديما بنى إسرائيل حتى نعرف سرا من أسرار سخطه على الأمم . وعندما أطيل النظر فى أحوال العرب اليوم أجد علل تأخرهم ظاهرة .. لأن انتماءهم إلى الإسلام قشرة رقيقة على كنود غليظ !! الناس يؤدون أعمالهم وكأنهم ممثلون لن يأخذوا أجرا ، فلا إتقان ، ولا إخلاص ، ولا جد ، ولا تضحية ..!! أسلوب الأداء خلو من العاطفة الحارة بل العقيدة الدافعة .. التكاذب المستمر هو العملة المتبادلة ، والتجهم للحقيقة أساس فى السلوك العام . . وسائق السيارة يجب أن يلقب بالمهندس ، والحلاق بالطبيب ، والساعى بالريس إلخ . وجنون الرياء والظهور يفتك بالأفراد والأسر والطوائف .. والغرائز الجنسية تقتحم السدود المفتعلة ، وتسلك آلاف الطرق المعوجة ، بعد أن هجرت الحلول الصحيحة لمشكلاتها ! وضعف الشخصية يستقدم فنونا من تقليد المنتصرين فى الشرق والغرب ، ويجعل المجتمع العربى خليطا من المضحكات المبكيات يندى له الجبين .. ص _201(1/193)
إن الإسلام عنوان غير صحيح للأمة الإسلامية المترامية الأطراف، وللأمة العربية التى تتولى بحكم لغتها مكان القيادة لجماهير المسلمين.. وقد نجح الاستعمار الأجنبى فى : ا- ألا نأخذ ما أوتيناه بقوة . 2- وألا نذكر ما فيه . ومن هنا استطاع أن يصرفنا عن لباب ديننا، وأن يسلينا بالقشور الفارغة، وأن يدفعنا على مر الأيام إلى الخلاص منه، والارتداد النهائى عنه.. وأخطر ما بلغه إيجاد مجتمعات خالية من فضائل العقيدة وروابطها والويل لأمة تمارس شئونها المختلفة، وأمرها فرط، وقلبها خرب، وعقلها هواء.. وربما كانت سنة الله فى الأولين تخويفهم بالخوارق حتى يرعووا، ورفع الجبال فوق رءوسهم كى يزعجهم فيستقيموا . ولكن الله لم يرفع جبال " البرانس " فوق عرب الأندلس حتى يدعوا مجونهم وفجورهم ، فإنه ترك بين المسلمين كتابا يقول لهم: (…من يعمل سوءا يجز به …). فلا جرم أن يطردوا من ديار لم يحسنوا الخلافة عن الله ورسوله فيها!! إن القرآن كتاب صارم الحكم على أبنائه وأعدائه جميعا وعندما زعم أهل الكتاب السابقون أن الجنة حكر لهم ، مهما كانت أعمالهم ، كذب الله هذه الأوهام، وكشف أنه لا يستحق كرامته إلا من اتجه إليه بالعمل الحسن (وقالوا لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى تلك أمانيهم قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين ، بلى من أسلم وجهه لله وهو محسن فله أجره عند ربه ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون). فإذا كان العرب لا يولون وجوههم شطر دينهم ولا يتحرون إحسانا فى أمورهم فهل يتوقعون إلا المخاوف والأحزان ؟ فى الأمم الجديرة بالحياة والنصر يؤدى الواجب برغبة باطنة، ودقة ظاهرة، وينطلق الكبار والصغار إلى وظائفهم وحرفهم بباعث من الشوق، لا بسوط من الرهبة، ويتنافس المتنافسون فى إحسان ما بأيديهم ابتغاء وجه الله ومثوبته، وإخلاصا للأمة ومستقبلها، قبل أن يكون شىء من ذلك نظير قروش أو جنيهات .. ص _202(1/194)
وقد كان العرب الأولون- تمشيا مع تربيتهم الدينية الأصيلة- نماذج رائعة فى هذه المجالات، فلما شبت الأجيال الأخيرة فى غير منابتها وأعوزها معنى الإيمان والشرف فى حركتها وسكونها، خانها التوفيق فى الحرب والسلم، فى الداخل والخارج !! وما أشك فى أن العرب يتعرضون لعذاب الاستئصال إذا لم يأخذوا الإسلام بقوة ، ويذكروا ما فيه لعلهم يتقون . ما يمنع الإنسان العربى المعاصر أن يكون كأبيه القديم اعتصاما بالوحى وامتدادا معه ، وعيشا فى إطاره أو موتا فى سبيله ؟ إن الوهدة التى نتقلب فى حمأتها ما ينقذنا منها إلا هذا المنهج المبين . أما الدعاوى العريضة دون سناد من يقين وفداء فقد افتضح خبؤها للخصوم والأصدقاء على سواء ، وأضحت عديمة الغناء . نحن فقراء إلى جيل آخر من الرجال .. والرجولية المنشودة صفة أضفاها القرآن الكريم على صنفين متميزين لم يمنحها غيرهما !! الصنف الأول أولو النجدة والوفاء الذين يقولون الكلمة ويموتون عندها صدقا مع ربهم واحتراما لأنفسهم . وكأنى أنظر إلى أنس بن النضر وهو يقول لرسول الله: غبت عن أول قتال قاتلت فيه المشركين ، أما والله لئن التقينا بالمشركين ليرين الله ما أصنع !! هذه يمين إنسان عارم الثقة بنفسه، وقدرته على الصمود والتضحية! يمين من ورائها إيمان بعيد الآماد لا يزيغ ولا ينبو!! ولقد ثبت هذا الرجل فى أحد ، وتلاشى كيانه بين أسلحة أعداء الله ، ولكنه هو وأنداده من الأبطال كانوا الجسر الذى عبر عليه الإسلام إلينا وإلى قرون أخرى لا يعلمها إلا الله . وجدير بهم ما نزل فيهم من كلام الله الخالد: (من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلا).. ص _203(1/195)
أما الصنف الآخر من الرجال الذين نتطلع إلى ملامحهم الطيبة الطاهرة فهم مدمنو الصلاة، عشاق المسجد ، ذاكرو الله بالغدو والآصال، أصحاب السرائر الصافية، والأيدى السخية، والضمائر المراقبة لربها، المستعدة ليوم الحساب (في بيوت أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه يسبح له فيها بالغدو والآصال ، رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة يخافون يوما تتقلب فيه القلوب والأبصار) . هل نطمع أن تربى الناشئة على هذا الغرار، وأن يكثر فى أمتنا هذا اللون من الرجال !؟ إن العين تلمح أجسادا متحركة بالمآرب الدنيا، وبغام كبار وصغار نسوا الله فأنساهم أنفسهم ، ذلكم هو الغثاء الذى يضيع به اليوم والغد . فهل نتغير ليغير الله ما بنا..؟ إن الهزائم السود التى أصابتنا تعود قبل أى شىء إلى قلة الرجال الذين شرح الكتاب نعوتهم ، ورسم مستواهم ! ان الرجولة عندنا صفة جسدية ترادف الذكورة ، ومع ذلك فهى رجولة ترفض المشقات ، وتعشق الملذات ، وتحسب الشبع والرى والزينة والظهور الشخصى مثلا رفيعة !! والكثرة من هؤلاء قلة! والعراك بهؤلاء لا أمل فيه!! قد أسأل نفسى: لماذا يخرج العمل شائها أو تافها من أيد كثيرة عندنا ؟ مع أن المعارف النظرية لإكماله وإعلائه موفورة .. والجواب الذى لا أرى غيره: هو فقدان الإيمان الحار والاعتقاد الموجه . وتحول الدين فى القلوب إلى قوة كهربائية محاطة بالمواد العازلة المبطلة لأثرها .. وقد عرض ذلك لأهل الكتاب الأولين فأفسد أمورهم وأحبط أجورهم . وحذر الله المسلمين منه عندما قال لهم: (ألم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله وما نزل من الحق ولا يكونوا كالذين أوتوا الكتاب من قبل فطال عليهم الأمد فقست قلوبهم وكثير منهم فاسقون) . ص _204(1/196)
والواقع أن الإنسان العربى اليوم أشبه باليهود والنصارى أيام البعثة، وعلى عهد الخلافة الراشدة ! إنسان طال عليه الأمد، واستغلق فؤاده دون هدايات الله. بل وجد فى العرب من يضيق بالانتساب إلى الإسلام، ومن يغضب إذا ذكر بأحكامه وشرائعه وشعائره!! ولن تقوم للعرب قائمة إلا بعودة حية قوية واضحة للإسلام تنسج حياتيهم الفردية والجماعية على المنوال الذى نسج حياة آبائهم فى العصر الأول، فطلع بهم فجر وولد بهم تاريخ.. ص _205(1/197)
فوضى الحَلال وَالحرام .. فى غيابِ التشريع الحق الأمة الإسلامية اليوم تمثل جماهير كثيفة من الشعوب المتخلفة.. والفروق بين الشعوب المتخلفة والشعوب المتقدمة كثيرة ومنوعة، ويمكن ردها إجمالا إلى خلل حقيقى فى المواهب الإنسانية الرفيعة، خلل علق هذه المواهب عن أداء وظائفها باقتدار وإجادة.. وليس يصعب على من يرقب الأمم المتأخرة أن يلحظ كسلها العقلى فى ميدان المعرفة، وكسلها العملى فى ميدان الإنتاج، وضعف الأخلاق التى تحكم أقوالها وأحوالها، وكثرة التقاليد التى تمثل طابع الرياء والأثرة والملق والضياعين الفردى والاجتماعى . إن هناك انهيارا حقيقيا فى البناء الإنسانى للشعوب المتخلفة ! والإصلاح الجاد يستهدف إعادة هذا البناء ودعمه خلقيا واقتصاديا وسياسيا .. ونحن- المشتغلين بالدعوة الإسلامية- نعالج هذا العمل الشاق ، ونزيح العقبات التاريخية والطارئة التى تعترض طريقنا وما أكثرها . وهناك ناس يعملون لهذا الهدف ، هدف بناء أمة جديدة ، ولكنهم بمؤثرات شتى- لا يرتبطون بالإسلام . ولا يستشيرونه فى حل مشكلة أو شفاء علة ..! وظاهر أن هؤلاء الناس هم الذين نشئوا فى ظل الاستعمار الأوروبى وآذاهم أن تكون بلادهم محقورة الشأن ، زرية الظاهر والباطن ، فأرادوا أن تلتحق بالركب المتقدم عن طريق التشبه به والاقتباس منه .. ولما كان علم هؤلاء بالإسلام قليلا ، فإنهم لم يحاولوا الإفادة منه أو الارتباط به . بل مضوا فى طريق التقليد للشعوب المنتصرة فى ظاهر أمرها وباطنه. وعذرهم- أمام أنفسهم على الأقل- أنهم يبغون النهوض بأمتهم . ولست الآن بصدد نقد هؤلاء ، ولا ذكر مواقفهم المعنتة من الدعاة المسلمين.. ص _206(1/198)
بل على العكس سأتناول باللوم والإنكار مواقف بعض المتدينين القاصرين الذين يسيئون إلى الإسلام من حيث ينشدون خدمته.. إن تبذل النساء فى هذا العصر بلغ حد السفه وهبط إلى درك سحيق من الحيوانية المنكورة .. وصيحات الوعاظ لوقف هذا التيار تذهب بددا .. لماذا ؟ لأن تناولهم لقضايا المرأة مشوب بالغموض أو الجهالة ، متسم بالسلبية والعجز ، محكوم بتقاليد ما أنزل الله بها من سلطان .. وأغلبهم لو أمكنته الفرص لرد المرأة إلى البيت وغلق عليها الأبواب، وحرمها مختلف الحقوق المادية والأدبية ، وجعلها القدم العرجاء للإنسانية السائرة أو الجناح المكسور للأمم الصاعدة ..! والمسلمون فى العصر الماضى خالفوا الإسلام مخالفة مستغربة فى الطريقة التى تحيا بها المرأة ..!! فهم حرموها حق العبادة- بتعبير العصر الحديث- وحظروا عليها دخول المساجد ، ويوجد فى أنحاء مصر نحو سبعة عشر ألف مسجد ، لا ترحب بدخول المرأة ، ولم يبن فى أحدها باب مخصص للنساء ، كما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم حين بنى مسجده بالمدينة المنورة .. وقد بذلنا بعض الجهود ، لتغيير هذه الحال ، ولم ننجح إلا فى حدود تافهة ..! مع أن صفوف النساء فى بيوت الله كانت أحد معالم المجتمع الإسلامى الأول!! وهم حرموها حق العلم- بتعبير العصر الحديث- فلم تفتح المدارس الابتدائية والإعدادية والثانوية والعالية للمرأة إلا بعد محاولات ومجادلات مضنية . ولم تدخل الأزهر إلا بعد تطويره الحديث . مع أن النبى صلى الله عليه وسلم جعل طلب العلم فريضة على الرجال والنساء ، ومع أنه أمر بإخراج النساء وهن حوائض ليشهدن الخير ويعرفن دعوة الإسلام .. وهم رفضوا أن يكون لها دور فى إحقاق الحق ، وإبطال الباطل ، وصيانة الأمة بنشر المعروف ، وسحق المنكر ، مع أن الله قال فى كتابه: (والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر …) . ص _207(1/199)
إن الفكرة التى سيطرت على أدمغة نفر من المتدينين هى عزل المرأة عن الدين والدنيا معا ، واجتياح كيانها الشخصى وكيانها المعنوى .. ولا تزال هذه الفكرة أملا يحركهم ، ويحملهم على ترويج أحاديث موضوعة أو واهية ، وتكذيب أحاديث صحيحة أو حسنة ، وعلى تفسير القرآن الكريم بآراء لم يعرفها أئمته ، ولا قام عليها مجتمع الأصحاب والتابعين !! بل أستطيع القول: إن الجاهلية التى دفعت إليها المرأة المسلمة بهذا الفكر القاصر ، جعلتها دون المرأة فى الجاهلية الأولى .. فإن المرأة العربية ظهرت فى بيعة العقبة الكبرى ، كما ظهرت مبايعة بعد فتح مكة ، وقارب عدد النساء المبايعات ستمائة امرأة ..! وجهلة المتدينين تستكثر على المرأة المسلمة هذه المكانة الكبيرة ، وقد نتج عن هذا التفكير فى قضية المرأة ، وعن التفكير المماثل له فى قضايا أخرى كثيرة أن ظلم الإسلام ظلما شديدا ، وأن أساء به الظن من لم يحط به خبرا ومن لم يحسن له فقها.. وعندى أن إفلات النهضة النسائية من قيود الإسلام الحقيقية يرجع إلى هذا العجز والغباء.. وقد لاحظت أن بعض المصلحين الذين اشتغلوا بتحرير المرأة قد جرأهم هذا الموقف على ارتكاب حماقات سيئة ، بل جرأهم على ترك الإسلام !! فهم لما قاوموا بنجاح أخطاء بعض المتدينين اندفعوا فى طريقهم مغالين فخطئوا الدين نفسه حيث لا مجال لتخطئة ، ولا مكان لتصويب ..! وإنه لمن المحزن أن يسىء الدعاة عرض دينهم فى ميدان ما ، فترفع الثقة بهم فى كل ميدان ، ثم يتفتح الباب على مصراعيه ليتناول من شاء أحكام الإسلام بالمحو والإثبات ، يقبل منها ما يعجبه ، ويرد منها ما ينبو عن مزاجه اللطيف ! أكتب ذلك وبين يدى كتاب مطالعة للمدارس الثانوية ألف على عهد وزارة المعارف وراجعه الدكتور طه حسين بك وآخرون . فى الفصل الثالث من هذا الكتاب حديث عن قاسم أمين وردت فيه هذه العبارات وصفا له ولمذهبه فى الحياة العامة يوم كان يلى منصب القضاء: " ولم يتقيد(1/200)
فى قضائه بآراء الفقهاء أو أحكام المحاكم مما يعتبره أكثر القضاة حجة لا محيد عنها ، بل لم يتقيد بنص القانون إذا لم يصادف هذا النص مكان الاقتناع منه.. وهذا ما جعله ميالا للرأفة فى قضائه ، نافرا أشد النفور من حكم الإعدام!! " . ص _208
فقد كان يرى " أن العفو هو الوسيلة الوحيدة التى ربما تنفع لإصلاح المذنب"، وأن " معاقبة الشر بالشر إضافة شر إلى شر " وأن التسامح والعفو عن كل شىء وعن كل شخص هما أحسن ما يعالج به السوء ويفيد فى إصلاح فاعله " وأن الخطيئة هى الشىء المعتاد الذى لا محل لاستغرابه والحال الطبيعية اللازمة لغريزة الإنسان.. ". " فإذا كانت الجماعة لم توفق بعد إلى إدراك هذه الأفكار وكانت قوانينها التى وكل إلى تطبيقها- هكذا يتحدث قاسم أمين القاضى عن نفسه!!- ما تزال تجرى على سنة القصاص والانتقام ، وما تزال دموية متوحشة فلا أقل من أن يتحاشى الإعدام ، وهو أشد ما فيها وحشية ، وهو العقوبة الوحيدة التى لا سبيل لعلاجها إذا ظهر خطأ القاضى أو ثابت الجماعة إلى رشدها ورأت تعديل أساس عقوبتها بجعل العقوبة للإصلاح لا للقصاص ، أو أخذت بمذهب العفو والتسامح ". والقارئ الذى يطالع هذه الجمل العمياء يحس أن صاحبها يصطدم بالوحى، ويكذب أن فى القصاص حياة. ويوغل مع الخيال فيظن أن العفو العام فى كل حال وعن كل شخص قاعدة الإصلاح الاجتماعى الصحيح !! والكلام كله لغو قبيح ، بل مجون يعزل صاحبه لا عن منصب القضاء وحسب بل عن الفتيا فى مشاكل الناس . ودعك من أن قائل هذا الكلام مجرد تجردا تاما من احترام لنصوص الكتاب والسنة ..! ومع ذلك فإن طلاب المدارس الثانوية أيام وزارة المعارف- يقرءون عقب هذا الكلام الغث تلك العبارات: " كانت روح قاسم روح أديب ، وكانت الروح العصبية الحساسة الثائرة التى لا تعرف الطمأنينة ولا تستريح إلى السكون ، وكانت الروح المشوقة التى لا تعرف الانزواء فى ركن ، بل تظل متمخضة للبحث والتنقيب حتى تنسى(1/201)
نفسها ، وتستبدل بكنهها ما فى الكون من نشاط وجمال .. وفى ظننا أن الدعوة إلى تحرير المرأة من رق الجهل ، ورق الحجاب لم تكن كل برنامج قاسم أمين الاجتماعى وإنما كانت حلقة منه هى أعسر حلقاته وأعقدها ".. ونحن نقول: إن قاسما وغيره ممن نهج فى الحياة منهجه كاونوا أشخاصا ينقصهم ص _209
قدر كبير من العلم الدينى والعلم المدنى ، وأنهم استغلوا القصور الشائن الذى غلب على المتحدثين باسم الإسلام فهجموا على الأمور هجوما شاملا كان شره أكثر من خيره .. وربما استطاعوا أن يكتسحوا رجال الدين- إن صحت التسمية- فى مجال النشاط النسائى لما علمت من حقيقة الموضوع . لكن التطويح بشرائع القصاص ومن ورائها بقية الحدود غباء ضارب الجذور ، وانسلاخ عن الإسلام لا يجدى فيه دفاع ، ولا يساق فيه عذر .. إذا قال الله (…في القصاص حياة …) فجاء غر يقول فى القصاص هلاك! فليس هذا جهلا فقط ، ولكنه ارتداد عن الإسلام وكفر بواح عندنا من الله فيه برهان .. وقد بلغنى أن موظفة فى الإذاعة ، فى أحد برامج السكك ، وصفت قطع يد السارق بأنه وحشية ، ولم يفاجئنى هذا الارتداد الصريح فإن التمهيد الثقافى له بدأ من عهود الاحتلال الأجنبى لشتى البقاع الإسلامية .. وما نقلناه هنا من آراء قاسم أمين التى وضعت بين يدى طلاب الصفوف الثانوية يشهد لذلك .. ونريد أن يعلم القاصى والدانى أن كل طعن فى نصوص الإسلام القاطعة مردود على صاحبه ، وأنه ضرب من الارتداد يخدم الاستعمار الحاقد على بلادنا وتاريخنا .. ولا فرق عندنا بين ارتداد جزئى وارتداد كلى . فإن أبا بكر رضى الله عنه حارب جاحدى الزكاة مع من عاد إلى الوثنية بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم . مع أن مانعى الزكاة زعموا أنهم مؤمنون بالله وإقام الصلاة .. بيد أن هذا الزعم لم يخدع الخليفة الأول ، ولا جمهرة الصحابة ، فقاتلوا الفريقين جميعا ، وعدوا هؤلاء وأولئك كفارا لا شك فى كفرهم . والحقيقة التى لمسناها أن(1/202)
الناقمين على شرائع الحدود والقصاص قوم لا يقين لديهم ولا صلاة لهم ، وأن علاقتهم بالقرآن مقطوعة ، وأنهم ما يستبقون نسبتهم إلى الإسلام إلا لظروف عارضة ، أو ليكيدوا له وهم داخل دائرته . ص _210
وكلمة أخيرة للمتصلين بالعلوم الدينية ، إنه لا يشرفهم أن يدركوا رأيا فقهيا ويجهلوا رأيا آخر ..! إنهم يضرون الإسلام ضررا بالغا حين تكون صورته فى أذهانهم ناقصة أو شائهة ، ثم حين يزعمون مع هذا النقصان والتشويه أنهم علماء الدين وحراسه.. إن القرن الأول- من بين القرون الأربعة عشر التى تمثل تاريخنا- هو أقرب الصور إلى حقيقة ديننا.. فكيف يحكم الإسلام " متن " من متون الفقه ألف أيام الاضمحلال العقلى لأمتنا . أو كيف يحكم الإسلام تصرف تركى فى مجال السياسة أو المجتمع ؟؟ لقد كان الاستبحار العلمى سمة ساطعة لأمتنا فى أعصارها الأولى. فلا يجوز أن يقطعنا عن هذا الماضى الزاهى جهل عارض ، أو فكر غامض. ويوم يعود المسلمون إلى دينهم الحق ، فإن التخلف المزرى اللاصق بهم اليوم ستنجلى غمته وتنكشف ظلمته. وسيأخذون طريقهم مرة أخرى إلى الصدارة ، والتقدم .. * * * ص _211(1/203)
إسلام وَاحد وَإن اختلف الفقهاء المؤمنون أفرادا وجماعات يتحرون صراط الله فى مسالكهم كلها ، ويجتهدون أن تقع أعمالهم وفق مراد الشارع الحكيم سواء فى العبادات المنقولة أو المعاملات المعقولة . وغير المؤمنين يخطئون طريقهم فى الحياة بجهدهم الفكرى وتجاربهم الخاصة . وصلتهم بالوحى الأعلى مقطوعة أو واهيه .. وفى الوقت الذى تحكم فيه النصوص السماوية والقواعد الدينية حياة المؤمنين بالله ، نجد غير المؤمنين ينشطون بفكرهم المجرد للتصرف فى هذه الحياة ، ووضع ما يرون من دساتير وقوانين يظنون أنها تكفل مصالحهم وتضمن سعادتهم.. وقد اتسعت علوم السياسة والاجتماع والأخلاق والاقتصاد وغيرها من العلوم الإنسانية البحتة وانفردت بقيادة الإنسان على ظهر الأرض إلى جانب مجموعة من الفلسفات النظرية التى اشتغل بها العقل البشرى من قديم.. أما المؤمنون بالله ، ونحن فى هذا الفصل نعنى المسلمين خاصة فهم يعتمدون على شمول التعاليم السماوية لشئون حياتهم، ويستغنون بها عما وراءها من مذاهب ونظريات .. معتقدين أن فى هدايات الله الغنى الكامل ، وأن الله جل شأنه قد ضبط معاشهم ومعادهم بكلامه ، وسنة نبيه ، فلا مكان لشىء آخر بعد ..! (الله الذي أنزل الكتاب بالحق والميزان …). (لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط …). والحق أن الوحى الإلهى فى الرسالة الخاتمة قد كفى وشفى فحدد حيث ينبغى ص _212(1/204)
التحديد ، وفصل حيث يستحب التفصيل، وأجمل وعمم حيث يقتضى الأمر إرسال التعليمات مجملة عامة .. وحث العقل على أداء وظيفته فى الفقه والاكتشاف والتبصر والاعتبار ، وحذره أن يجانب الحق بالحدس والتخمين ، وأن يبدد قواه فى اقتحام الغيوب المعجزة .. كما علمه الأدب مع الله ورسوله ، فلا مكان لاقتراحاته حيث يتكلم الوحى ، ولا لابتداعاته حيث مضت السنة .. والمعانى التى قررناها آنفا ليست موضع خلاف بين المسلمين ، ولكن الخلاف أخذ لونا آخر يقترب اقترابا شديدا من هذا الموضوع .. فقد تساءل أسلافنا- غفر الله لهم- عن مكانة العقل بالنسبة إلى الحظر والإباحة ، والفعل والترك ، والاستهجان والاستحسان ، وكانت إجابة كثير منهم أن العقل فى هذا الميدان صفر ، وأن الشرع وحده هو كل شىء .. وفى هذه الإجابة غموض وجور .. فإن العقل يستطيع بنوره الذاتى أن يعرف الشر فى أشياء كثيرة ، وأن يلحظ الخير فى أشياء كثيرة .. وقد لفت القرآن الإنسان إلى أنه بفطرته قادر على التفرقة بين شناعة الجهل وكرامة العلم (…قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون إنما يتذكر أولو الألباب) . وإلى أنه بفطرته يستقبح الظلم ، ويأبى الحكم به (أم حسب الذين اجترحوا السيئات أن نجعلهم كالذين آمنوا وعملوا الصالحات سواء محياهم ومماتهم ساء ما يحكمون) . صحيح أن العقل الإنسانى بحاجة إلى عون من الله ومدد من الوحى.. بيد أن هذه الحاجة لا تعنى بخس قيمته ولا التهوين من قدرته المحدودة فى مجالى التحسين والتقبيح .. لكن جمهور السلف رأى - سدا لباب الاستغناء بالعقل- أن يجعل الشارع صاحب الكلمة الأولى والأخيرة فى هذا المجال ، ويقرر هذا العلامة الزنجانى فى كتابه "تخريج الفروع على الأصول " فيقول: ص _213(1/205)
ذهب الشافعى رضى الله عنه وجماهير أهل السنة إلى أن الطهارة والنجاسة وسائر المعانى الشرعية كالرق والملك والعتق والحرية ، وسائر الأحكام الشرعية ، ككون المحل طاهرا أو نجسا ، وكون هذا الشخص حرا أو مملوكا ، ليست من صفات الأعيان المنسوبة إليها ، بل أثبتها الله تحكما وتعبدا ، غير معللة !! لا راد لقضائه ، ولا معقب لحكمه : (لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا فسبحان الله رب العرش عما يصفون) . ولا تصل آراؤنا الكليلة ، وعقولنا الضعيفة ، وأفكارنا القاصرة إلى الوقوف على حقائقها ، وما يتعلق بها من مصالح العباد ، فذلك حاصل ضمنا وتبعا ، لا أصلا ومقصودا ، إذ ليست المصلحة واجبة الحصول فى حكمه . واحتج على ذلك: بأن الله تعالى إذا جاز أن يعاقب الكافر على كفره ، والفاسق على فسقه ولا مصلحة لأحد فيه ، جاز أن يشرع الشرائع ، وإن تعلق بها مفسدة ، ولا يتعلق بها مصلحة لأحد . ولذلك نرى الله تعالى كلف الإنسان ما ليس فى وسعه فقال تعالى: (…فأتوا بعشر سور مثله مفتريات …) (…فأتوا بسورة مثله …) وقال للملائكة (…أنبئوني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين) وكل ذلك تكليف للإنسان ما ليس فى وسعه ، وذلك ضرر لا مصلحة فيه . وسر هذه القاعدة أن الله تعالى مالك الملك وخالق الخلق ، يتصرف فى عباده كيف يشاء ، ولا كذلك الواحد منا ، فإنه إذا أضر بغيره كان متصرفا فى ملك الغير بالضرر ، وذلك ظلم وعدوان ..!! وذهب المنتمون إلى أبى حنيفة رضى الله عنه من علماء الأصول إلى أن الأحكام الشرعية صفات للمحال والأعيان المنسوبة إليها ، أثبتها الله تعالى ، وشرعها معللة بمصالح العباد لا غير . كما أن الحسن ، والقبح ، والوجوب ، والحظر ، والندب ، والكراهة ، والإباحة ، من صفات الأفعال التى تضاف إليها . غير أنهم قسموا أحكام الأفعال إلى : ما يعرف بمجرد العقل ، وإلى ما يعرف بأدلة الشرع على ما سيأتى . ص _214(1/206)
أما أحكام الأعيان فقد اتفقوا على أنها كلها تعرف بأدلة شرعية ، ولا تعرف بمجرد العقل ، وأنها كلها تثبت بإثبات الله تعالى . واحتجوا فى ذلك بقياس الشاهد على الغائب ، بناء على قاعدة التحسين والتقبيح ، وزعموا أن شرع الحكم لا لمصلحة عبث وسفه ، والعبث قبيح عقلا. وهو كإقدام الرجل اللبيب على كيل الماء من بحر إلى بحر ! فإنه يقبح منه ذلك ويستحق الذم عليه . وإذا تمهدت هذه القاعدة فنقول : الشافعى رضى الله عنه حيث رأى أن التعبد فى الأحكام هو الأصل غلب احتمال التعبد ، وبنى مسائله فى الفروع عليه .. وأبو حنيفة رضى الله عنه حيث رأى أن التعليل هو الأصل بنى مسائله فى الفروع عليه ، فتفرع عن الأصلين المذكورين مسائل .. إلخ . ولست هنا بصدد ترجيح مذهب الأحناف ، وتضعيف رأى الجمهور فالأمر عندى أعمق من ذلك . إن المسلمين كافة يعلمون أن الله هو القاهر فوق عباده وأنه ليس لبشر ما أن يقف أمامه إلا عانى الوجه ، مكسور الشوكة ..! وإن إرادته نافذة فى أرجاء الملكوت لا يعترضها إنس ولا جن (…ألا له الخلق والأمر تبارك الله رب العالمين) . لكن الله- وله المجد الذى لا يبلى- خلق السموات والأرض بالحق لا بالباطل وسير الكائنات فى البر والبحر والجو بالحكمة لا بالفوضى ، ودبر الأمور من الأزل إلى الأبد وفق نظام دقيق لا خبط عشواء ، ولا تقدير مجازف .. (وكل صغير وكبير مستطر) . فكيف يتصور فى شرائعه أن تتجنب المصلحة أو تنطوى على مفسدة؟ إنه حقا لا يسأل عما يفعل ، ولكن لماذا نتصور أن من ذاته فوق المسئولية يجوز أن يصدر عنه ما لا ينبغى ؟ بحجة أنه مالك الملك ؟.. الأولى من ذلك والأدنى إلى الصواب أن تعرف حدود الدائرة التى يستطيع فيها العقل البشرى الإدراك الصحيح والحكم السديد .. ص _215(1/207)
إن الإنسان الفرد يتفاوت حكمه فى مرحلتين من عمره على شىء واحد ، وربما استقبح وهو شيخ ما كان يستحسنه وهو شاب .. وربما نسج القصور غشاوة كثيفة أو خفيفة على أبصارنا فظننا نفعا لنا ما هو ضار بنا (…وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم وعسى أن تحبوا شيئا وهو شر لكم والله يعلم وأنتم لا تعلمون) . فإذا توهمنا عوجا ما فى مظاهر الخلق أو جورا ما فى أحوال الناس فلنتهم أفكارنا نحن ولنعترف بقلة علمنا ، بدل أن نقول (لا يسئل عما يفعل) . وأعتى علماء المادة يعترف بأن ما نجهل أضعاف أضعاف ما نعلم ، وأن حصيلة الذكاء البشرى طوال القرون تشبه عودا من الثقاب أوقد فى ظلمات ليل ضرير الآفاق ! إنه ما يرى فى هذا الكون الكبير إلا النزر اليسير .. وقد شاء رب العالمين أن يزود الإنسان بالعقل ليستبين به فى نطاق محدود الخير من الشر والخطأ من الصواب ، كما زود العين بالقدرة على الرؤية فى نطاق أبعاد معينة .. وربما أصيبت العين بعاهة عارضة تمنعها من النظر البعيد أو القريب بيد أن ذلك لا يعنى أن طبيعة العين العجز عن الرؤية . وكذلك لا نسلم لأحد القول بأن العقل عاجز بطبيعته عن إدراك الحسن والقبح فى الأشخاص والأشياء . ولا نسلم أبدا بأن الكذب والصدق ، والعدل والجور معان متساوية القيمة أصلا حتى تنزل الوحى الأعلى فحسن هذه وقبح تلك .. والذى نراه أن جمهور المسلمين وفى مقدمتهم الإمام الشافعى رضى الله عنه يقصدون بكلامهم فى التحسين والتقبيح رفض تحكيم الفلسفة العقلية فى مسير الإنسان ومصيره ، وحاضره ومستقبله ، وشئون حياته كلها ما دق منها وما جل.. وهو مذهب خطير بلا ريب ، بل هو تجاهل لرسالات الله كلها ، واستعلاء على ما جاء بها ، وقبول ما يعجب ، ورد ما لا يعجب .. ومن فجر الخليقة حاول الإنسان أن يعتمد على نفسه فى الفعل والترك والقبول والرفض . ص _216(1/208)
وفى عصرنا هذا أعطى الإنسان نفسه حرية مطلقة فى التشريعين العام والخاص .. وتصرف فى شتى التقاليد بالمحو والإثبات .. وجعل حقه فى التحسين والتقبيح فوق ما قرع آذانه ليلا ونهارا من آيات الله والحكمة . وما يختلف مسلم ومسلم فى أن ذلك المسلك مردود جملة وتفصيلا . وإذا كانت هناك الآن مقررات فى علوم الاجتماع والاقتصاد ، أو فى ميادين السياسة والقانون تختلف مع نصوص الدين أو قواعده العامة ، فهى فى نظر فقهاء المسلمين قاطبة منكورة مبعدة .. فإن أوامر الله ونواهيه هى المصدر الأعلى ، أو قل هى المصدر الأوحد لما يحظر أو يباح . وقد عاد الزنجانى فى كتابه القيم " تخريج الفروع على الأصول " إلى هذا الموضوع مرة أخرى فقال : ذهب جماهير العلماء إلى أن التحسين والتقبيح راجعان إلى الأمر والنهى ، فلا يقبح شىء لعينه ، ولا يحسن شىء لعينه بل المعنى بكونه قبيحا أو محرما ، أنه متعلق النهى والمعنى بكونه حسنا أو واجبا أنه متعلق الأمر . واحتجوا فى ذلك بأن إيجاب العقل شيئا من ذلك لا يخلو : إما أن يكون ضروريا ، أو نظريا . والأول محال ، فإن الضروريات لا تنازع فيها ، كيف ونحن جم غفير وعدد كثير لا نجد أنفسنا مضطرين إلى معرفة حسن هذه الأفعال ولا قبح نقائضها .. والثانى أيضا محال لإفضائه إلى التسلسل . وذهب المنتمون إلى أبى حنيفة رضى الله عنه من علماء الأصول إلى أن الأفعال تقسم إلى ثلاثة أقسام : فمنها ما يستقل العقل بدرك حسنه وقبحه بديهة ، كحسن الصدق الذى لا ضرر فيه وقبح الكذب الذى لا نفع فيه . ومعنى استقلال العقل بدرك ذلك عندهم ، أنه لا يتوقف على إخبار مخبر ومنها : ما يدرك حسنه وقبحه بنظر العقل " كحسن الصدق المشتمل على الضرر " " وقبح الكذب المشتمل على النفع ". ص _217(1/209)
ومنها ، ما لا يستقل العقل بدرك حسنه وقبحه أصلا ، دون تنبيه الشرع عليه كحسن الصلاة والصوم والحج والزكاة ، وقبح تناول الخمر والخنزير ولحوم الحمر الأهلية . وزعموا أن أمر الشرع فى هذا القسم ونهيه كاشف عن وجه حسن هذه الأفعال وقبحها لعلمه بأن امتثال أمره فيها يدعو إلى المستحسنات العقلية ، وكذلك الترك فى نقيضها من المناهى .. واحتجوا على كون العقل مدركا لمعرفة الحسن والقبح ، بأن البراهمة يقبحون ويحسنون مع إنكارهم الشرائع وجحدهم النبوات .. وقد رفض الزنجانى مذهب الأحناف الذى صوره فى إيجاز ، وآثر عليه غيره . والذى نعود إلى توكيده أن الله جل شأنه هو الحاكم المقسط ، وأنه لا يشرع إلا ما فيه صلاح أمرنا فى العاجل والآجل ، وأنه منحنا عقولا تستطيع أن تبصر وجه الحكمة فى أغلب ما شرع ، وأن ما يفوتها عرفانه فلقصورها عن الإحاطة بكل شىء . وتلك معان لا يختلف الفقهاء فيها ، وما ورد يشعر بخلاف فأساسه الحرج النفسى من مذاهب جائرة عن الطريق الحق أو بتعبير فقهائنا الأقدمين أساسه " سد الذريعة ". وأريد أن أخلص من هذا الاستعراض إلى حقيقة تتصل بموضوع هذا الكتاب.. إن المذاهب الفقهية فى الإسلام يكمل بعضها بعضا ولا يغنى أحدها عن الآخر .. إنها كلها تمثل الفكر الإسلامى الرحب الذى يجب أن يدرس ، ويبحث ، ويخضع للنقد ، والمقارنة ، والترجيح ، والمحو ، والإثبات .. ونحن شديدو الاحترام لأئمتنا الأوائل ، عظيمو التقدير لذكائهم الخارق ، وتقواهم لله ، ونصحهم للأمة ، ومقاومتهم للجور .. غير أننا نشعر بأن كل واحد منهم يمثل لونا من التفوق الذهنى والمناهج العلمية ، وأن الإسلام مجموعة هذه الألوان وغيرها مما يجد على اختلاف الليل والنهار من اجتهاد الفقهاء ، وتطبيق الكتاب والسنة على مختلف الشئون .. إننا حين نطلب تحكيم الإسلام لا نفكر فى إقامة دولة مالكية ، أو دولة حنبلية ، فهذا حمق فى التفكير .. إن الإسلام الذى نستهدى به هو : أولا :(1/210)
الأصول المعصومة من كتاب وسنة . ص _218
وثانيا: جهد العقل الإسلامى فى مواجهة الأحداث المتباينة فى تاريخه الطويل ، ومدى ما أحرز من توفيق ، أو عرض له من خطأ .. ونحن المسلمين فى هذا العصر نواجه الفكر الإنسانى القادم من شتى القارات ، العارض لأنواع الحضارات ، المصور لعشرات النزعات والفلسفات ، فكيف يلقى هذا الفيض الغامر رجل محصور فى مذهب فقهى تعصب له ؟ أو رجل ينتسب إلى فرقة إسلامية ولد فى أحضانها ..؟ إن على دعاة النهضة الإسلامية المعاصرة أن ينخلعوا من هذه القيود وأن تكون لديهم إحاطة علمية بما لديهم مهما كان الرأى فيه . وحسن الإدراك لثقافتنا فى أصولها وفروعها شئ ! وما يميل إليه المرء من رأى أو يؤثره من وجهة شىء آخر ..! ويؤسقنى أن تكون أزمات المعرفة فى بلادنا ، وبين رجالنا ، بعض الضيق الذى نشعر به فى جوانب حياتنا كلها ، المادية والأدبية . وما يخدم الإسلام بهذه الفاقة ، ولا هذا الانحصار .. * * * ص _219(1/211)
ختام قد يستطيع العرب استيراد السلاح من جهة أو أخرى كى يستردوا حقهم الضائع ، ويداووا جراحاتهم الغائرة .. ولكنهم لو أداروا ظهورهم لله ثم جمعوا سلاح المشرق والمغرب فلن يدركوا به إلا ذل الدهر وخذلان الأبد !! ولن يغنى عنهم أن يعطف عليهم ذلك الفريق ، أو يشد أزرهم ذلك الفريق (أم من هذا الذي هو جند لكم ينصركم من دون الرحمن إن الكافرون إلا في غرور) ؟ ليس أمام العرب إلا طريق فذ لتطهير أرضيهم ، وطرد عدوهم واستعادة النضرة إلى وجوه كساها الهوان .. هذا الطريق هو العودة إلى الإسلام ظاهرا وباطنا ، وترسم خطا السلف الأول فى صدق الإيمان وحسن العمل .. لقد اختار الله العرب ليحملوا أمانات الوحى بعد أن عبث بها بنو إسرائيل.. فإذا استهان العرب بهذا الاختيار الإلهى ، وقرروا أن يدعوا العمل بالإسلام ، وأن يتركوا الدعوة إليه ، ورأوا أن يلتحقوا أذنابا أو رءوسا بإحدى الجبهتين المتنافستين فى العالم فهيهات هيهات أن يفلتوا من عقبى هذا الارتداد الخسيس وتلك الخيانة الفاجرة ..!! .. إنهم لن يجنوا من هذا المسلك إلا خيبة السعى وضياع الجهد .. .. إن الله لا يترك الناقضين لعهوده يمرون بسلام .. .. أهون ما يلقونه أن يغلبهم ذباب الأرض وإخوان القردة .. .. وذلك هو حصاد الغرور .. ص _220(1/212)
.. أما طريق الشرف والكرامة فأساسه أن يعرف العرب : بم كانوا أمة؟ وكيف صار لهم فى التاريخ الإنسانى وجود ..؟ لقد طفر الإسلام بهم طفرة رحيبة الآماد ، ونقلهم من عصابات همل إلى رواد حضارة ، ومن أحلاس شهوات إلى قادة هدى وبر ، وأصحاب صلاة وزكاة ..!! فهل جزاء الإسلام الذى رفع خسيستهم أن يأبوا النسبة إليه ، وأن يرفضوا إنفاذ أحكامه وإعلاء شعائره ؟ وهل يستكثر بعد هذا الكنود المر أن يصابوا بالهزائم التى تنكسر بها الرءوس وتشحب لها الوجوه ؟؟ (قد مكر الذين من قبلهم فأتى الله بنيانهم من القواعد فخر عليهم السقف من فوقهم وأتاهم العذاب من حيث لا يشعرون) . ليس للنصر إلا طريق واحد . أن يعلن العرب إسلامهم ، وأن ينعشوا بروح الإيمان ما مات من أحوالهم وأعمالهم ، وأن يسلموا وجوههم لله ثم يمسوا بأصابعهم أى شىء فى متناول اليد فسوف يتحول إلى أداة نصر ومفتاح نجاة ..!! إننى ألمح على الأفق القريب أو البعيد رهبان الليل فرسان النهار وهم يجتازون الحدود مطاردين الظلام الذى غزتنا بوادره .. وكأنى أسمع صرخات التكبير والتوحيد تتجاوب بها أرجاء الصحراء ، وتهتز بها بطون الأودية وهى تنكس أمان بنى إسرائيل فى أرض المعاد وتؤكد للقرون الباقية من عمر الدنيا أن رسالة محمد لم تفن ولن تفنى ، وأن القرآن الكريم هو كلمة الحق الباقية إلى يوم الدين .. لقد أقبل بنو إسرائيل يحادون الله ورسوله ، ويريدون بناء مملكة للتوراة والتلمود على أنقاضنا !! ولقد أعانهم على إدراك مآربهم خصوم الحق والشرف ، وورثة العداوة والبغضاء من أحفاد الصليبيين الأقدمين . بيد أن أحدا لم ينل منا مثل ما نلنا نحن من أنفسنا !!. لقد تركنا- من بضعة قرون- البدع والخرافات والانحرافات تطوح بنا بعيدا عن ديننا ، حتى مهدت للاستعمار سبل الغلب علينا .. ص _221(1/213)
ثم تركنا المستعمر الغاصب يمحو ويثبت كيف يشاء من تعاليمنا ، وتقاليدنا ، وأفكارنا ، ومشاعرنا ، ويقحم من دسه وغثه ما يزيدنا خبالا .. ثم تركنا الأجيال الناشئة تنبت وهى تستغرب دينها ولغتها وتاريخها ومثلها ، وتتحرك على ظهر الأرض مدفوعة تارة بنداء الأثرة ، وتارة بنداء القومية الضيقة .. فلما اصطدمنا بالمتعصبين لدينهم ، دون أن يكون لنا دين نزأر له ، ونغار عليه ، ونغالى به ، كانت النهاية القابضة الأسيفة ؟ ووكلنا الله لأنفسنا..!! فهل ننسف كل هاتيك العقبات قديمها وحديثها ، ونمضى قدما ليوم النصر ؟ إن عدة ذلك الإسلام وحده .. آمل أن يهتدى العرب إلى رسالتهم . وأن يحملوا رايتها ، وأن يستندوا إلى ربهم ثم يرموا بأعدائهم من حيث جاءوا .. أما قبل ذلك.. فلا شىء . إلا حصاد الغرور ..!! * * *(1/214)