حُرِّيَّة الصَّحافة في الإسلام والنُّظم الإعلاميّة الوضعيّة
( د. عفاف عبد الله أحمد (1) ()
مُقَدِّمَة:
تمثِّل الصَّحافة رافداً رئيسياً للتَّاريخ الاجتماعيّ، والسِّياسيّ، والثَّقافيّ، ومستودعاً زاخراً بكلّ ما هو جدير بالاهتمام والتَّأمُّل، كما تُعَدُّ من أهم الوثائق التي يُعتمد عليها في الدِّراسات السِّياسيّة؛ وذلك للعلاقة الوثيقة بين الصَّحافة والسِّياسة، وتُعَدُّ الصَّحافة كذلك من الوسائل المهمة التي تستغلها الحكومات لخدمة مصالحها.
إنَّ الأعمال الصَّحفيّة هي انعكاس للأوضاع السِّياسيّة والاقتصاديّة والثَّقافيّة السَّائدة في المجتمع، وتتخذ الحكومات الصَّحافة من أجل الدِّفاع عن أفكارها وخططها وبرامجها في كثير من الأحيان. ولهذا أثارت حُرِّيَّة الصَّحافة
ـ وما تزال ـ تثير الكثير من الجدل داخل المجتمع الصَّحفيّ داخل السُّودان وخارجه، بحسبان أنَّ الصَّحافة من أهم الوسائل الإعلاميّة التي تدافع عن المصلحة العامّة، بالإضافة إلى أنَّها العاكسة لقضايا الحياة اليوميّة.
ولما كانت السِّياسة الإعلاميّة والصَّحافيّة لأيّة دولة هي انعكاس لفلسفة النِّظام السِّياسيّ القائم وتوجيهاته، والواقع الفكريّ للنخبة الحاكمة، ويرتبط النِّظام الإعلاميّ إلى حد كبير بنوعيّة الحكومة التي يعيش في ظلها، ومن ثَمَّ فإنَّ النِّظام الإعلاميّ يعكس ويدعم فلسفة الحكومة وتوجُّهاتها، والصَّحافة بهذا المعنى تأخذ دوماً أشكال التَّركيبات السِّياسيّة والاجتماعيّة للدَّولة.
__________
(1) (() أستاذ مساعد بقسم الصَّحافة والنَّشر ـ كلية الدّعوة والإعلام بالجامعة.(1/1)
ويتخذ الإعلام طابعاً حسب الأنظمة السِّياسيّة الحاكمة، ولكلِّ نظام نظرته الخاصّة بحُرِّيَّة الصَّحافة، ولذلك فإنَّ أهم الأسس التي تُقاس بها حُرِّيَّة الصَّحافة في بلد ما هي التَّشريعات المفروضة على استقاء الأنباء ونشرها دون رقابة من قِبَل السُّلطة الحاكمة لحماية الأشخاص العموميين من النَّقد، وعلى الصَّحافيّ وهو يمارس عمله ألاَّ يخشى إلاَّ الله سبحانه وتعالى، ويضع نصب عينيه قوله تعالى [الإسراء: 36]، وكذلك قوله تعالى [ق: 18].
وحُرِّيَّة التعبير ليس معناها إيذاء الآخرين، وإثارة الفضائح، بحُجَّة إشباع رغبة الجمهور لمعرفة كلّ ما هو جديد ومثير. ومن هنا جاءت أهمية البحث في حُرِّيَّة الصَّحافة والضَّوابط والحدود التي وضعها الإسلام لممارسة هذه الحُرِّيَّة في ظلّ المتغيرات المحليّة والإقليميّة والدَّوليّة، وفي ظلّ ثورة المعلومات والعولمة، وقد كَثُرَ الحديث عن ضرورة وضع قوانين تعمل على تنظيم الحُرِّيَّة الصَّحافيّة وتتماشى مع القيم الإسلاميّة.
مشكلة البحث:
حُرِّيَّة الصَّحافة من الموضوعات المهمة التي شغلت الرَّأْي العام، وتم التركيز عليها بصورة كبيرة منذ مطلع القرن الحادي والعشرين. والمتتبع لوسائل الإعلام المختلفة يسمع ويشاهد العديد من الموضوعات ذات الصِّلة بحُرِّيَّة الصَّحافة، منها على سبيل المثال: اعتقال واغتيال الصَّحافيّين، ومصادرة وإغلاق الصحف أو تعطيلها... الخ.
ومن كلّ ما تقدّم اتضح للباحثة أنَّ الأنظمة السِّياسيّة المختلفة لها دور واضح فيما تتمتع به الصَّحافة من حُرِّيَّة في استقاء المعلومات ونشرها، ويظهر ذلك بجلاء عند مقارنة تناول الصَّحافة السُّودانيّة للقضايا المختلفة خلال فترات الحكم الحزبيّ والحكم العسكريّ التي تعاقبت على دفة الحكم في السُّودان منذ استقلاله عام 1956م، إلى يومنا هذا. والتَّحوُّلات التي حدثت للصَّحافة خلال تلك الفترات.
مصادر الاستدلال على المشكلة:(1/2)
? من خلال قراءات الباحثة للصُّحف المحليّة والأجنبيّة والكتب التي تناولت حُرِّيَّة الصَّحافة.
? ملاحظة الباحثة من خلال حضورها المؤتمرات والنَّدوات الإعلاميّة داخل السُّودان التي نظّمها المجلس القوميّ للصَّحافة وبعض الجهات ذات الصَّلة بالصَّحافة. وتركيز المؤتمرين على مناقشة حُرِّيَّة الصَّحافة وعلاقتها بالأنظمة السِّياسيّة الحاكمة.
? من خلال ممارسة الباحثة للعمل الصَّحفيّ في السُّودان لفترة عشر سنوات امتدت من 1987 الى 1997م.
معايير اختيار الدِّراسة:
[1] إنَّ هذه المشكلة مرتبطة بمشكلات المجتمع؛ لأنَّ حُرِّيَّة الصَّحافة لا تختلف عن حُرِّيَّة المجتمع. فلا يمكن أنْ تكون هنالك صحافة حُرَّة في مجتمع لا يتمتَّع بالحُرِّيَّة.
[2] التأصيل للصَّحافة بوضع الأسس والضَّوابط التي تُمكِّن الصَّحافيّين من أداء رسالتهم دون وجود رقيب عليهم غير الله سبحانه وتعالى.
[3] وقفت الباحثة على المشكلة كظاهرة جديرة بالدِّراسة من خلال خبرتها العمليّة بالصَّحافة السُّودانيّة لمدة عشر سنوات، ودعمت تلك الخبرة بالمعرفة العلميّة بالتَّخصُّص.
أهداف البحث:
[1] هدف عام:
يتمثّل في تقديم معلومات يمكن أنْ تفيد العاملين في مجال الصَّحافة ليتمكنوا من معالجة الوضع في الصُّحف من حيث: الملكيّة، وأوضاع الصَّحفيّين، والتَّعامل مع المعلومات أو الرَّسائل الإعلاميّة، والتأصيل لحُرِّيَّة الصَّحافة، والوقوف على ما تتمتَّع به من عناصر المشروعيّة، ثُمَّ رسم الحدود وتبيان الضَّوابط التي إذا تجاوزت الحُرِّيَّة حداً من حدودها أو افتقدت عنصراً من عناصر ضوابطها فقدت سند مشروعيتها، وخاصّة فيما يتعلّق بالرَّقابة المباشرة وغير المباشرة التي تمارسها السُّلطة الحاكمة على الصَّحافة، وفيما يتعلَّق بالرَّقابة الذَّاتيّة لدى الصَّحافيّين.
[2] أهداف فرعيّة:
? الوقوف على أثر النِّظام السِّياسيّ في حُرِّيَّة الصَّحافة.(1/3)
? الكيفيّة التي يتم بها التَّأثير في حُرِّيَّة الصَّحافة.
? معرفة أبعاد تدخُّل السُّلطة التَّنفيذيّة في العمل الصَّحفيّ من خلال المواد التي تُنشر.
? معرفة العوامل التي تؤثِّر في حُرِّيَّة الصَّحافة.
? الوقوف على ضوابط حُرِّيَّة التَّعبير في الإسلام.
أهمية البحث:
تؤدي حُرِّيَّة الصَّحافة وظيفة من وظائف التَّوازن الدّستوريّ بين حُرِّيَّة الشَّعب وطغيان السُّلطة، خاصّة أنَّ كبت الحُرِّيَّة له أثار سالبة على الشَّعب، ويحجب الرَّأْي الآخر. ولذا فإنَّ أهمية هذا الموضوع تزداد يوماً بعد يوم في عصر أصيبت فيه الحُرِّيَّة بأزمة حادة في أكثر الدُّول ديمقراطيّة، وصارت السُّلطة الحاكمة تسعى بشتى السُّبل إلى تحجيم الصَّحافة لكي لا تصبح رقيباً على تصرُّفاتها.
تساؤلات البحث:
[1] ما هي أشكال الرَّقابة التي تمارس على الصُّحف ؟
[2] هل هنالك رقابة ذاتيّة من قِبَل الصَّحافيّين لِمَا يقومون بنشره؟
[3] هل تلجأ السُّلطة التَّنفيذيّة إلى إصدار التَّوجيهات مع وجود القانون؟
[4] هل كان في مقدور الصَّحافة نقد السُّلطة التَّنفيذيّة ونقد الأجهزة الإداريّة والتَّشريعيّة؟
[5] ما المضايقات التي تعرَّضت لها الصَّحافة للحدّ من حُرِّيَّتها في تناول الأنباء؟
[6] هل تمارس الصَّحافة عملها وَفقاً للضَّوابط الإسلاميّة المكفولة لحُرِّيَّة التَّعبير؟
منهج البحث:
[1] المنهج التَّاريخيّ:
وفّرت عن طريقه الباحثة المادة العلميّة للبحث.
[2] المنهج الوصفيّ:
تمكّنت الباحثة من خلاله من تصنيف البيانات والحقائق التي تم تجميعها، وتسجيلها، وتحليلها تحليلاً شاملاً، واستخلاص الدَّلالات منها، وتقدير عدد مرات تكرار حدوث ظاهرة معينة ومدى ارتباطها بظاهرة أو مجموعة من الظَّواهر.
تقسيم البحث:
تم تقسيم البحث إلى ثلاثة مباحث، على النَّحو الآتي:
المبحث الأوّل: مفهوم حُرِّيَّة الصَّحافة
المطلب الأوّل: مفهوم الصَّحافة(1/4)
المطلب الثَّاني: مفهوم الحُرِّيَّة وحُرِّيَّة الصَّحافة في الأنظمة الوضعيّة
المبحث الثَّاني: مفهوم حُرِّيَّة التَّعبير في الإسلام وحدودها وضوابطها
المبحث الثَّالث: مقارنة ما بين حُرِّيَّة الصَّحافة في الإسلام والأنظمة الوضعيّة
المبحث الأوّل
مفهوم حُرِّيَّة الصَّحافة
المطلب الأوّل:تعريف الصَّحافة
يصعب على الباحث وضع تعريف مختصر ومستقلّ وواضح للصَّحافة؛ نظراً لِمَا هي عليه في عصرنا الحاضر من تشعُّب واتساع، واتخذ مفهوم الصَّحافة أبعاداً جديدة مع تطوُّر الممارسة، حتَّى أصبحت تطلق على كل وسائل الإعلام، وصارت ذات مفاهيم متعددة.
أولا: المفهوم اللُّغويّ:
الصَّحيفة: "قطعة من جلد أو قرطاس كُتِبَ فيه"، والصحيفة هي: "الكتاب، وجمعها صحائف"، وقال بذلك أيضاً الرَّازيّ في كتاب "مختار الصّحاح": "الصَّحيفة هي الكتاب، وجمعها صُحف وصحائف" (1) .
وذكر الزبيدي في "تاج العروس" أنَّ الصَّحيفة "قطعة من جلد أو قرطاس يُكتب فيه، والصَّحيفة التي يُكتب فيها، الجمع صحائف وصُحف" (2) .
ويقول ابن منظور: "الصَّحيفة التي يُكتب فيها، وسُمِّيَ المصحف مصحفاً؛ لأنَّه أصحف، أي جعل جامعاً للصُّحف بين دفتيه" (3) .
ونجد كلمة "صحافة" في قاموس أكسفورد جاءت كلمة (Press) بمعنى شيء مرتبط بالطَّبع والطِّباعة ونشر الأخبار والمعلومات، وكلمة (Journal) يُقصد بها الصَّحيفة، وأمَّا كلمة (Journalism) فيُقصد بها الصَّحافة، بينما كلمة (Journalist) يُقصد بها الصَّحفيّ.
ثانياً: الصَّحافة في القرآن الكريم:
__________
(1) الرّازيّ: مختار الصِّحاح، ترتيب السَّيد محمد خاطر، ط/9، ص 357.
(2) الزّبيديّ: تاج العروس، (بنغازي: دار ليبيا للنَّشر)، 6/161.
(3) ابن منظور: لسان العرب، ص 186.(1/5)
لقد وردت كلمة "صُحف" في القرآن الكريم في ثمانية مواضع، وجاء في "القاموس المفهرس لألفاظ القرآن الكريم" (1) : "إنَّ الصَّحيفة هي كلّ ما يُكتب فيه من ورق، وهي كذلك المكتوب نفسه، وجمع صحيفة صُحف، والمصحف هو مجموع من الصُّحف في مجلد واحد".
ولقد وردت كلمة "صحافة" بالجمع "صُحف" إمّا بمعنى السِّجل الذي تدوّن فيه أعمال البشر، أو بمعنى الكتب المنزلة على الأنبياء الأوّلين أو على الرَّسول - صلى الله عليه وسلم - .
والمواضع التي وردت فيها كلمة "صُحف" في القرآن الكريم، هي:
[1] قوله تعالى [طه: 133].
[2] وقوله تعالى [النَّجم: 36].
[3] وقوله تعالى [المدثر: 52].
[4] وقوله تعالى [عبس: 13].
[5] وقوله تعالى [التَّكوير: 10].
[6] وقوله تعالى [الأعلى: 18-19].
[7] وقوله تعالى [البينة: 2].
وكلمة "صُحف" التي وردت في القرآن الكريم لها ثلاثة معانٍ:
[أ] الصُّحف بمعنى القرآن، كما ورد في الآية (13) من سورة عبس، والآية (2) من سورة البينة.
[ب] الصُّحف بمعنى الكتب المنزلة على الأنبياء والرُّسل، وهذا ما ورد في الآيتين (18-19) من سورة الأعلى، والآية (133) من سورة طه.
[ج] الصُّحف بمعنى السِّجل الذي تُدوَّن فيه أعمال العباد، وهذا ما ورد في الآية (10) من سورة التَّكوير، والآية (52) من سورة المدثر" (2) .
ثالثاً: المفهوم الاصطلاحيّ:
__________
(1) محمد فؤاد عبد الباقي: المعجم المفرس لألفاظ القرآن الكريم، (بيروت: دار إحياء التُّراث العربيّ، 1945م).
(2) د. توفيق العانيّ: الصَّحافة الإسلاميّة ودورها في الدَّعوة، مؤسسة الرِّسالة، ص 48.(1/6)
"الصَّحافة ـ بكسر الصَّاد ـ تعني مهنة مَنْ يجمع الأخبار والآراء وينشرها في صحيفة أو مجلة، والصحيفة اضمامة من الصفحات تصدر يوميّاً أو في مواعيد منتظمة بأخبار السِّياسة، والاجتماع، والاقتصاد، والثَّقافة، وما يتصل بذلك، وجمعها صُحف وصحائف" (1) .
وكلمة "جريدة" ـ الشَّائعة الاستعمال ـ هي كلمة صحيحة لا شكَّ في ذلك، وقد جاءت كلمة "جرائد" في حديث العرب، "والجريدة هي سعفة النَّخلة بلغة أهل الحجاز، وهم كانوا إذا يبست السّعفة قشروها من خوصها واستعملوها، إذ إنَّ الجريدة هي الصَّحيفة المكتوبة، وقد كانت قديماً الصَّحيفة من سعف النَّخل فأصبحت اليوم الصَّحيفة من مادة الورق" (2) .
"وأوّل من استخدم كلمة "جريدة" بمعنى الصَّحافة في الدُّول العربيّة هو الشَّيخ نجيب حداد منشئ صحيفة "لسان العرب" بالإسكندريّة (3) .
وعُرِّفت الصَّحافة كذلك بأنَّها "دورية تشتمل على الأخبار والمعارف، وتتضمَّن سير الحوادث والشَّواهد والانتقادات التي تعبِّر عن مشاعر الرَّأْي العام وتعرض على الجمهور عن طريق البيع الفرديّ أو الاشتراك السَّنويّ".
يقول المرحوم د. محمود عزمي: "إنَّ الصَّحافة وظيفة اجتماعيّة مهمتها توجيه الرَّأْي العام عن طريق نشر المعلومات والأفكار النَّيرة مفعمة ومنسابة للقُرَّاء من خلال صُحف دوريّة".
__________
(1) د. إبراهيم خميس "وآخرون": المعجم الوسيط، (القاهرة: دار المعارف،1972م)، ص 125.
(2) د.خليل صابات: الصَّحافة: رسالة، واستعداد، وفنّ، وعلم، (القاهرة: دار المعارف، 1959م)، ص 13.
(3) بشير العوف: الصَّحافة،(بيروت: المكتب الإسلامي، 1987م)، ص 32.(1/7)
ويقول ويكهام ستيد عميد الصَّحافة الإنجليزيّة: "ليست الصَّحافة حرفة كسائر الحِرَف؛ بل هي أكثر من مهنة، وهي ليست صناعة؛ بل طبيعة من طبائع الموهبة، وهي شيء بين الفنّ والعبادة، والصَّحافيّون خدم عموميون غير رسميين هدفهم الأوّل العمل على رقي المجتمع" (1) .
المطلب الثَّاني: مفهوم الحُرِّيَّة وحُرِّيَّة الصَّحافة في الأنظمة الوضعيّة
أولا: مفهوم الحُرِّيَّة:
على امتداد التَّاريخ البشريّ كان مفهوم الحُرِّيَّة قيمه عظمى في حياة الأفراد والجماعات على السَّواء، "فقد كان الإنسان ـ ولا يزال ـ ينظر إليها على أنَّها مطلب أساسيّ مثل: الطَّعام والمسكن، فالحُرِّيَّة مرتبطة ارتباطاً كبيراً بالنَّشاط الإنسانيّ، فالنُّظم الاجتماعيّة، والسِّياسيّة، والاقتصاديّة، لأي مجتمع من المجتمعات تكون نتيجة حتميّة للتَّفاعل بين العوامل المرتبطة بالبيئة والحضارة ماضياً وحاضراً. فالنِّضال من أجل الحُرِّيَّة نضال قديم قِدَم التَّاريخ تقوم به الجماعات والأفراد ضدّ أوضاعهم السِّياسيّة كما حدث للمجتمعات اليونانيّة القديمة" (2) .
__________
(1) أديب مروة: الصَّحافة العربيّة نشأتها وتطوُّرها، (بيروت: مكتبة الحياة، 1961م)، ص 17-18.
(2) د. سليمان جازع: الصَّحافة والقانون،(القاهرة: الدَّار الدَّوليَّة للنَّشر والتَّوزيع، 1993م)، ص 64.(1/8)
وقامت الثَّورات الشَّعبيّة منذ فجر التَّاريخ لمقاومة العبوديّة والتَّسلُّط وللبحث عن الحُرِّيَّة، "فكفاح الإنسانيّة على مدى العصور هو كفاح من أجل الحُرِّيَّة للإنسان، ومحاولة توفير حقوقه تجاه السُّلطة الحاكمة، وتجاه غيره من الأفراد المكونين للجماعات الإنسانيّة. ولقد تعرَّض المفكرون منذ فجر التَّاريخ للحُرِّيَّة تبعاً للنُّظم السِّياسيّة المختلفة، واختلاف العقائد والمذاهب التي يدين بها هؤلاء المفكرون" (1) .
"فقد ذكر أفلاطون في كتابه: "الجمهوريّة" أنَّ الحُرِّيَّة في أيّة ديمقراطيّة هي مفخرة الدَّولة، ومن ثَمَّ لا يستطيع أنْ يعيش في الدّيمقراطيّة إلاَّ أناس أحرار، بينما نجد أرسطو يذكر في كتابه: "السِّياسة": "إذا كانت الحُرِّيَّة والمساواة تتوفران في الدّيمقراطيّة على الأخص كما يعتقد البعض؛ فإنَّ خير السُّبل للوصول إليها هو أنْ يشترك النَّاس في الحكم إلى أقصى حد" (2) .
إذاً الاستخدام العام لكلمة حُرِّيَّة (Freedom) يشير إلى التَّحرُّر من القيود التي يفرضها شخص معيّن على شخص آخر، "وينطوي تاريخ هذا المصطلح على الكثير من التَّعريفات، بعضها يساير المعنى الشَّائع للحُرِّيَّة، أمَّا البعض الآخر فإنَّه يميل إلى القول بأنَّ الحُرِّيَّة في الواقع تتوقَّف على وجود الظُّروف أو الفرص الضَّروريّة التي تسمح بتطوُّر ونمو قدرات المرء، ويؤكِّد البعض من ناحية أخرى أنَّ الحُرِّيَّة تشير إلى أسلوب محدّد في الحياة، يتمثَّل في القيام بالأفعال التي تتطابق مع القانون الأخلاقيّ، أو المنطق، وقد ذهب كارليل (Karlil) في هذا الصَّدد إلى أنَّ الإنسان الحُرّ حقّاً هو الذي يستطيع أنْ يكشف الطَّريق الصَّحيح وأنْ يسير عليه.
__________
(1) سعيد سراج: الرَّأْي العام ومقوِّماته وأثره في النُّظم السِّياسيّة المعاصرة، (القاهرة: الهيئة المصريّة للكتاب، 1986م)، ص 255.
(2) المرجع السَّابق نفسه، ص 256.(1/9)
ويرتبط مفهوم الحُرِّيَّة بمجموعة مفاهيم أخرى مثل: المساواة، والعدالة، والأمن (1) .
تتعدَّد مفاهيم الحُرِّيَّة بتعدُّد مداخلها اللُّغويّة، والقانونيّة، والفلسفيّة، والسِّياسيّة، والاجتماعيّة، وإذا كان من الصَّعب الفصل التَّام بين المداخل المختلفة؛ فإنَّه من الصَّعب الوصول إلى مفهوم للحُرِّيَّة بمعزل عن السِّياق الثَّقافيّ، والسِّياسيّ، والاجتماعيّ.
والحُرِّيَّة في اللُّغة العربيّة تعني حالة الكائن الحيّ الذي لا يخضع لقهر أو غلبة، ويفعل طبقاً لإرادته وطبيعته.
ويرى البعض أنَّ مدلول الحُرِّيَّة في اللُّغة العربيّة مختلف عن كلمة (Liberia's) اللاتينيّة التي خرجت منها هذه الكلمة ومشتقاتها من اللُّغات الأوربيّة الحديثة، وأنَّها تُستعمل في اللُّغة العربيّة كمقابل للعبوديّة، وأنَّ الأدب العربيّ زاخر حقّاً باستخدام كلمة "الحُرّ" و"العبد"، وما يتصل بهما من مشتقات.
وللحُرِّيَّات تقسيمات مختلفة لعلَّ أبسطها تقسيمها إلى: حُرِّيَّات شخصيّة، وحُرِّيَّات عامّة، كما يقول الدّكتور/ جمال العطيفيّ: "فمثال الحُرِّيَّات الشَّخصيّة حُرِّيَّة العقيدة الدِّينيّة، وحُرِّيَّة الأمن والسَّلامة البدنيّة والذِّهنيّة....الخ.
أمَّا الحُرِّيَّات العامّة؛ فمنها: حُرِّيَّة الرَّأْي، وحُرِّيَّة الصَّحافة، وحُرِّيَّة الاجتماع، وحُرِّيَّة التَّنظيم ... الخ. أمَّا حُرِّيَّة الصَّحافة فهي امتداد لحُرِّيَّة الرَّأْي حينما تتجاوز هذه الحُرِّيَّة مرحلة الفكرة فالتَّعبير عنها هو الذي يعرف بحُرِّيَّة الرَّأْي (2) .
ثانياً: حُرِّيَّة الصَّحافة في الأنظمة الوضعيّة:
__________
(1) د. محمد عاطف غيث: قاموس علم الاجتماع، (القاهرة: الهيئة المصريّة للكتاب، 1979م).
(2) د. جيهان مكاويّ: حُرِّيَّة الفرد وحُرِّيَّة الصَّحافة، (القاهرة: الهيئة المصريّة للكتاب، 1981م)، ص 10.(1/10)
"إنَّ حُرِّيَّة الكلام تعني حُرِّيَّة التَّعبير بالكلمة المنطوقة أو المكتوبة، وحقّ النَّاس في التَّعبير عن أرائهم وأفكارهم. وحُرِّيَّة الصَّحافة هي عدم وجود إشراف حكوميّ أو رقابة من أي نوع، كما تعني حقّ النَّاس في إصدار الصُّحف دون قيد أو شرط. وحقّ تبادل المعلومات والحصول على الأنباء من أي مصدر، وحقّ النَّاس في إصدار الصُّحف والتَّعبير عن آرائهم دون فرض رقابة مسبقة" (1) .
"وحُرِّيَّة الصَّحافة ـ وَفق المفهوم الليبراليّ ـ هي نقل الأفكار والآراء والمعلومات بدون قيود حكوميّة، بهدف تشجيع نقل الأفكار التي تتيح سهولة ودقة اتخاذ القرارات المناسبة حول الشُّؤون العامّة ولصالح المجتمعات" (2) .
"لفتت قضية حُرِّيَّة الصَّحافة انتباه المختصين في مجال الاتصال، وكذلك أيضاً اهتمام الفلاسفة، ورجال القانون، والصَّحافيّين، وعامة النَّاس، وقد بيَّن هربرت مولر (Herbert Muller 1960م) في كتابه: "قضايا الحُرِّيَّة" أنَّ الحُرِّيَّة في المجتمع يمكن تصنيفها إلى قسمين: الأوَّل هو الحُرِّيَّة السَّالبة، وهي غياب أي قيود أو كوابح، والثَّانية هي الحُرِّيَّة التي تعزى إلى توفُّر الوسائل والإمكانات، للوصول إلى الهدف المحدَّد، ويوضح مولر (Muller) في المسمَّى الثَّاني أنَّه من الضَّروريّ أنْ يتم تزويد المجتمع بما يحتاج إليه لتحقيق الأهداف قبل تحقيق الحُرِّيَّة" (3) .
"وتخدم حُرِّيَّة الصَّحافة وَفق ـ المجتمع الحُرّ المفتوح ـ خمس قيم ومصالح:
__________
(1) عبد الرَّحيم صدقي: جرائم الرَّأْي العام والإعلام (القاهرة: مطبعة جامعة القاهرة، 1988م)، ص 166.
(2) د. محمد سعد إبراهيم: حُرِّيَّة الصَّحافة "دراسة في السِّياسة التَّشريعيّة وعلاقتها بالتَّطوُّر الدِّيمقراطيّ"، (القاهرة: دار الكتب للنَّشر والتَّوزيع)، ص 26.
(3) د. سليمان جازع: الصَّحافة والقانون، مرجع سابق، ص 66.(1/11)
أوّلها: حقّ الفرد في الانضمام إلى المعترك السِّياسيّ.
وثانيها: السَّعي إلى معرفة الحقيقة السِّياسيّة.
وثالثها: تسهيل الوصول إلى حكم الأغلبيّة.
ورابعها: كبح جماح الطُّغيان والعجز في الأداء.
وخامسها: الاستقرار.
والحُرِّيَّة المطلقة لا وجود لها، إذ إنَّها سواء في الدُّول المتقدّمة أو المتخلّفة مهددة بأخطار تختلف في نوعيتها ما بين ضغوط رجال المال أو السِّياسة أو الحكومة" (1) .
"إنَّ الحُرِّيَّة الصَّحفيّة هي الأساس الأوّل والأخير في هذه المهنة، فإذا لم تتوفَّر الحُرِّيَّة المطلوبة لأي صحفيّ أو لأيّة صحفيّة لا خير حينئذ في الصَّحافة والصَّحافيّين؛ بل إنَّ الحُرِّيَّة هي مبرر لوجود الصَّحافة" (2) .
"فكلّ الحكومات في جميع البلاد، خضعت لواعز أنَّ تفرض سيطرتها على الكلام، وعلى الضَّمير. والرَّقابة غريزة اجتماعيّة، وليس من السَّهل تحقيق الثَّقافة المفتوحة، ولا الحكومة المفتوحة الواضحة؛ لأنَّ الحكومة حتَّى في المجتمعات المفتوحة تحافظ على السِّرِّيَّة، وتفرض عقوبة على الكلام الذي تعتبره ضارّاً بالأمن القوميّ، أو النِّظام الاجتماعيّ، أو الآداب العامّة. وهناك أمثلة كثيرة وحديثة لحافز كبت الكلام في المجتمع الأمريكيّ، منها: فرض الرَّقابة العسكريّة قيوداً صارمة على التَّغطية الصَّحفيّة لحرب تحرير الكويت.
أمَّا المفهوم الاشتراكي لحُرِّيَّة الصَّحافة؛ فقد حدَّده "لينين" في تمكُّن جميع المواطنين بدون استثناء من التَّعبير عن آرائهم بحُرِّيَّة، من خلال وضع المطابع ومخازن الورق وغيرها من الوسائل المادية الضَّروريّة لممارسة حُرِّيَّة الصَّحافة تحت تصرُّف العُمَّال ومنظماتهم.
__________
(1) د. محمد سعد إبراهيم: حُرِّيَّة الصَّحافة، مرجع سابق، ص 26-27.
(2) بشير العوف: الصَّحافة، مرجع سابق، ص 22.(1/12)
ولكن الواقع أثبت زيف هذه الحُرِّيَّة، التي فرضت على الصَّحافة الالتزام بالرَّأْي الشُّيوعيّ، وانهارت النَّظريّة الشُّيوعيّة، وانهار معها وهم الحُرِّيَّة الاجتماعيّة التي كانت مجرَّد شعار خادع لترويض الجماهير، وإذا كان المفهوم الشُّيوعيّ لحُرِّيَّة الصَّحافة قد وقع في أسر الخداع والتَّضليل؛ فإنَّ المفهوم الفاشيّ، اتّسم بالصِّدق والإنكار لهذا الحقّ، حيث عبَّر عنه "هتلر" بقوله: "على الدَّولة ألاَّ تفقد جادة الصَّواب، بسبب الخزعبلات المسمَّاة "حُرِّيَّة الصَّحافة"، وعلى الدَّولة ألاَّ تنسى واجبها، وعليها أنْ تقبض بيد من حديد على أداة تكوين الشَّعب ـ الصَّحافة ـ وتضعها في خدمة الدَّولة والأُمَّة". وعلى الرّغم من أنَّ معظم دول العالم الثَّالث، يعتنقون هذه الفلسفة ويمارسونها؛ إلاَّ أنَّهم لا يكفون عن ترديد شعارات مناصرة حُرِّيَّة الصَّحافة، في الوقت الذي يطاردون الصَّحافيّين بأغلظ العقوبات والقيود" (1) .
ولا يختلف المفهوم العربيّ لحُرِّيَّة الصَّحافة عن مفهوم دول العالم الثَّالث، حيث لا تزال النَّظريّة السُّلطويّة تُطبق بحذافيرها في أغلب البلدان العربيّة، وهكذا تختلف مفاهيم حُرِّيَّة الصَّحافة، في النُّظم السِّياسيّة المختلفة باختلاف فلسفاتها والمصالح التي تخدمها. ففي المجتمعات الغربية تخص حُرِّيَّة الصَّحافة الفرد أولاً، ثم الجماعات الخاصّة "سياسيّة أو اقتصاديّة أو اجتماعيّة" ثانياً. وفي المجتمعات الاشتراكيّة، تُعَدُّ حُرِّيَّة الصَّحافة حقّاً جماعيّاً مفروضاً لحزب السُّلطة بافتراض أنَّه ممثل للشَّعب. أمَّا في دول العالم الثَّالث؛ فإنَّ حُرِّيَّة الصَّحافة امتياز حكوميّ يخص العديد من المصالح الرَّاسخة، سواء كانت سياسيّة، أم اقتصاديّة، أو عرقيّة، أو قبليّة أو مركز القوة "الجيش مثلاً".
__________
(1) د. محمد سعد إبراهيم: حُرِّيَّة الصَّحافة، مرجع سابق، ص 27.(1/13)
فحُرِّيَّة الصَّحافة مضمونة في إطار حقوق الإنسان للتَّعبير عن آرائه، الأمر الذي تنص عليه الدَّساتير الدّيمقراطيّة، ثُمَّ وثيقة حقوق الإنسان الصَّادرة عن هيئة الأمم المتحدة عام 1948م، وأكدت المادة (3) على أنَّ (لكلّ فرد حقّ في الحياة والحُرِّيَّة وفي الأمان على شخصه) (1) .
جاء الاعتراف بالمهام العامّة للصَّحافة في وقت متأخر، ومن هنا نشأت الحاجة إلى تحديد حقوق وواجبات الصَّحافة والصَّحافيّين، وذلك لضمان حُرِّيَّة الصَّحافة. وعناصر حُرِّيَّة الصَّحافة تشمل الآتي:
[1] حُرِّيَّة الصَّحافة تقتضي عدم خضوعها لأيّة رقابة سابقة على النَّشر.
[2] حُرِّيَّة الصَّحافة لا تحول أنْ تكون مسئولة عما تنشره إذا تضمَّن النَّشر جريمة، وجميع التَّشريعات تتفق على وجوب حماية سمعة الأفراد وكرامتهم.
[3] حُرِّيَّة الصَّحافة تقتضي أنْ تكون حُرَّة في استقاء الأنباء ونشرها.
[4] حُرِّيَّة إصدار الصُّحف دون توقُّف، ولا يكفي تقرير حُرِّيَّة الصَّحافة دستوريّاً، فلا بُدَّ من تهيئة وسيلة ممارستها.
[5] حقّ مراقبة السُّلطة وقطاعات المجتمع.
[6] التَّفاعل مع حُرِّيَّة الصَّحافة بالاستجابة والتَّصحيح والإصلاح.
[7] الالتزام بالقيم الدِّينيّة والأخلاقيّة كضوابط لممارسة هذه الحقوق.
[8] خدمة المصالح العامّة للمجتمع.
[9] خدمة قيم الاستقلاليّة، والوحدة، والتَّقدُّم" (2) .
ثالثاً: تاريخ حُرِّيَّة الصَّحافة:
__________
(1) الإعلان العالميّ لحقوق الإنسان: اعتمد ونشر بقرار الجمعية العامّة للأمم المتحدة 10 ديسمبر 1948م، ص 4.
(2) عبد العزيز الغنام: مدخل علم الصَّحافة، ط/2، (القاهرة: مكتبة الأنجلو المصريّة، 1977م)، 1/18.(1/14)
إنَّ تاريخ حُرِّيَّة الصَّحافة هو تاريخ الصِّراع بين الصُّحف الحُرّة والسُّلطات التي سعت إلى قمع الحُرِّيَّات حماية لمصالحها وتكريساً لنفوذها، ولن يتسع المجال هنا لسرد ما واجهته الصَّحافة من مصاعب، وما حقّقته من انتصارات ومكاسب.
"لقد تعرَّضت حُرِّيَّة الصَّحافة في أوربا لضروب شتى من الاستبداد ، وفي خلال أكثر من قرن ظلت الصَّحافة تحت رحمة الكنيسة والملوك، حتَّى إنَّ نشر أي مطبوع بغير ترخيص من السُّلطة كان يعاقب بالموت. وقد عبَّر عن ذلك المفكر الفرنسيّ فولتير (Voltaire) بقوله: "إنَّك لا يمكن أنْ تفكر إلاَّ برضاء الملك".
وظلَّ هذا الوضع قائماً، حتَّى قيام الثَّورة الفرنسيّة، حيث زاد عدد الصُّحف والمطبوعات الدَّوريّة من (41) عام 1779م إلى حوالي (1400) دوريّة عام 1789م، ولم يقلص العدد إلاَّ في عهد نابليون الأوّل الذي قال عام 1800م: "لو أنَّي تركت الصَّحافة تفعل ما تريده لخرجت من الحكم في غضون ثلاثة أشهر" (1) .
"وفي بريطانيا استمر العمل بسياسة تيودور (Tudor) الخاصّة بالسَّيطرة الصَّارمة على الصَّحافة طوال القرن السَّادس عشر، وذلك على هيئة امتيازات ملكيّة وأنظمة التَّرخيص، وأصبحت رسميّة عام 1589م. وظلت حُرِّيَّة الصَّحافة مسلوبة رغم إلغاء الرَّقابة عام 1695م، حيث استبدلت بسيطرة أكثر دهاء، تمثّلت في: الضَّرائب، والمنح، والمقاضاة الجنائيّة والبرلمانيّة. ولم يتقرّر للصَّحافة حُرِّيَّتها إلاَّ بعد صدور قانون لورد كامبل (Lord Campbell) عام 1843م الذي جعل إثبات صحة الواقعة دفاعاً مقبولاً في جريمة القذف. بعد أنْ كان توجيه النَّقد للحكومة يُعَدُّ جريمة قذف، ولو كانت الانتقادات صحيحة.
__________
(1) جمال الدِّين العطيفيّ: حُرِّيَّة الصَّحافة، ص 166.(1/15)
أمَّا في الولايات المتحدة الأمريكيّة، فقد وضع القضاء الأمريكيّ أوّل حجر في بناء حُرِّيَّة الصَّحافة عام 1734م بالحكم ببراءة صحفيّ يدعى جون بيتر زنجر (John Peter Zinger) من تهمة القذف الثَّوريّ في حقّ حاكم نيويورك، الأمر الذي عُدَّ نصراً كبيراً لحُرِّيَّة الصَّحافة في ذلك الوقت" (1) .
ورغم اتساع نطاق حُرِّيَّة الصَّحافة في الدُّول الغربيّة المتقدمة؛ إلاَّ أنَّ التَّشوه أصاب حقّ الإنسان في التَّعبير. ومرّت حُرِّيَّة الصَّحافة في المجتمعات الغربيّة بفترات انتكاس وفترات انتعاش. وبقدر ما مثّلت تهديداً لنظم الحكم القائمة؛ بقدر ما عانت من العسف والقيود، إلاَّ أنَّ الحقّ في حُرِّيَّة التَّعبير لم يستند فقط إلى ضمانات دستوريّة وقانونيّة، ولكنه استند في الأساس إلى القيم الدّيمقراطيّة وآليات المجتمع الدّيمقراطيّ.
حُرِّيَّة الصَّحافة في المواثيق الدَّوليّة:
"في إطار النَّتائج التي ترتبّت على قيام الحرب العالميّة الثَّانية، من ظهور القطبيّة الثُّنائيّة (الولايات المتحدة الأمريكيّة والاتحاد السُّوفيتيّ)، واتساع نطاق حركات التَّحرُّر الوطنيّ في دول العالم الثَّالث، وبروز تيار دوليّ مناصر للحُرِّيَّات وحقوق الإنسان، وتعاظم دور وسائل الاتصال الجماهيريّ؛ جاء الإعلان العالميّ لحقوق الإنسان الصَّادر في 10 ديسمبر 1948م ليوفّر حماية قانونيّة دوليّة للحُرِّيَّات وحقوق الإنسان، وفي مقدمتها حُرِّيَّة الرَّأْي والتَّعبير.
أكَّدت المادة (19) من الإعلان العالميّ لحقوق الإنسان على حقّ كل شخص بحُرِّيَّة الرَّأْي والتَّعبير، ويشمل هذا الحقّ حُرِّيَّته في اعتناق الآراء دون مضايقة، وفي التماس الأنباء والأفكار وتلقيها ونقلها الى الآخرين بأيّه وسيلة ودونما اعتبار للحدود (2) .
__________
(1) د. محمد سعد إبراهيم: حُرِّيَّة الصَّحافة، مرجع سابق، ص 36-37.
(2) الإعلان العالميّ لحقوق الإنسان، مرجع سابق، ص 6.(1/16)
كما نصت المادة (19) من الاتفاقيّة الدَّوليّة للحقوق المدنيّة والسِّياسيّة 1966م على الحقّ في اعتناق الآراء، والحقّ في التَّعبير والمعلومات، حيث نصت الفقرة الأولى على حقّ الإنسان المطلق في اعتناق آراء بدون تدخُّل، وحدَّدت الفقرة الثانية معنى حقّ التَّعبير على أنَّه الحقّ في البحث والحصول على المعلومات والأفكار وإرسالها بغض النَّظر عن الحدود، سواء كان ذلك شفاهة
أو كتابة أو من خلال مطبوعات، أو في أي شكل، أو بأي وسيط من اختيار الإنسان نفسه (1) .
وهذه الحقوق والمعاني نفسها أكَّدت عليها العديد من المواثيق الدَّوليّة والإقليميّة ومنها الوثيقة الدَّوليّة للحقوق الاقتصاديّة، والاجتماعيّة، والثَّقافيّة، والاتفاقيّة الأوربيّة لحقوق الإنسان، والميثاق الإفريقيّ لحقوق الإنسان، وإعلان اليونسكو للإعلام 1978م، والمبادئ الخاصّة بالنِّظام العالميّ الجديد للإعلام والاتّصال 1980م.
وعلى الرّغم من جهود المنظمات الدَّوليّة في تطوير مفهوم مشترك لحُرِّيَّة الإعلام، يضع في الاعتبار الاختلافات الفكريّة والمصالح السِّياسيّة والاقتصاديّة المتباينة؛ إلاَّ أنَّ الحقوق الإعلاميّة المنصوص عليها في المواثيق الدَّوليّة، وفي إطار ما يشهده المجتمع الدَّوليّ من معايير مزدوجة داخل منظمة الأمم المتحدة، وانتهاك سافر للقرارات الدَّوليّة بمباركة أمريكيّة، يدلنا على ذلك ما جرى ويجري في فلسطين ولبنان، وما جرى في البوسنة والهرسك، لذلك لا ينبغي أنْ نعوّل كثيراً على الضَّمانات القانونيّة لحُرِّيَّة الصَّحافة.
"والدّساتير بصفة عامّة تقرّ مبدأ حُرِّيَّة الصَّحافة لينظّمها القانون، فإنَّ عامل الخوف من أي أذى يمكن أنْ يلحق الإنسان فيعطّل الفكر والتَّعبير هو خلاصة مفهوم هذه الحُرِّيَّة" ـ كما يقول د. جمال العطيفيّ ـ.
__________
(1) العهد الدَّوليّ الخاص للحقوق المدنيّة والسِّياسيّة، 16 ديسمبر 1966م، بدء النَّفاذ: مارس 1976م.(1/17)
وأهم عوامل قياس درجة حُرِّيَّة الصَّحافة التَّشريعات المفروضة على استقاء الأنباء، وإصدارات الصُّحف ونشرها دون رقابة لحماية السُّلطة والأشخاص العموميين من النَّقد، مع مراعاة تحمُّل الصَّحافة لمسئوليتها إذا تضمَّن النَّشر جريمة (1) .
المبحث الثَّاني
مفهوم حُرِّيَّة التَّعبير في الإسلام، وحدودها، وضوابطها
المطلب الأوَّل: الحُرِّيَّة في الإسلام
لقد أعطى الله سبحانه وتعالى الإنسان حُرِّيَّة كاملة في التَّعبير عن ما يجول في صدره، وما يدور في عقله، بحيث لا يضرّ الآخرين ولا يعتدي على حُرِّيَّتهم، ولا يستهزئ بهم وفي ذلك يقول تعالى [الحجرات: 11].
ولا يكشف سوءاتهم وعوراتهم ذلك، يقول تعالى [الحجرات: 12].
المطلب الثَّاني: حدود وضوابط حُرِّيَّة التَّعبير في الإسلام
بالرّغم من أنَّ الشَّريعة الإسلاميّة كفلت حُرِّيَّة التَّعبير بنصوص واضحة من الكتاب والسُّنَّة إلاَّ أنَّ هذه الحُرِّيَّة ليست مطلقة؛ بل هي مقيدة، حيث لا يجوز الخروج عن حدود المصلحة العامّة، أو تتعدى على حقوق الآخرين. وستتناول الباحثة حُرِّيَّة التَّعبير في الإسلام من ثلاث زوايا:
[1] حقوق الأفراد والجماعة.
[2] المصلحة العامّة.
[3] ضوابط حُرِّيَّة التَّعبير عن الرَّأْي.
أوّلاً: حقوق الأفراد والجماعات:
فيما يتعلّق بحقوق الأفراد والجماعات نجد أنَّ الإسلام قد عظَّم تلك الحقوق، ومن غير حصر نجد العديد من الآيات الدَّالة على ذلك، منها:
[1] قوله تعالى [البقرة: 178].
[2] وقوله تعالى [البقرة: 194].
[3] وقوله تعالى [المائدة: 2].
[4] وقوله تعالى [البقرة: 190].
[5] وقوله تعالى [المائدة: 87].
[6] وقوله تعالى [النِّساء: 30].
[7] وقوله تعالى [البقرة: 193].
[8] وقوله تعالى [الأعراف: 33].
[9] وقوله تعالى [النَّحل: 90].
__________
(1) د. جيهان مكاويّ: حُرِّيَّة الفرد وحُرِّيَّة الصَّحافة، مرجع سابق، ص 16-17.(1/18)
وبالنَّظر إلى هذه الآيات والتَّدبُّر في معانيها الكريمة نجد أنَّ الله سبحانه وتعالى قد حرَّم العدوان في شتَّى صوره، سواء كان على الأفراد أو الجماعات.
ثانياً: المصلحة العامّة:
عظَّم الإسلام شأن المصلحة العامّة واتخذها الفقهاء مصدراً لاجتهادهم، وأصلاً في قواعدهم الاجتهاديّة. وتناولها الإسلام تحت مسميات مختلفة فتارة تحت عموم لفظ (الخير العام)، أو (العمل الصَّالح)، أو (المنفعة العامّة)، ومن ذلك نتوصّل إلى أنَّ المصلحة العامّة لا تخرج من أنْ تكون أمراً بالمعروف ونهياً عن المنكر، وهو ما أوجبه الإسلام على المسلمين، ومن ذلك:
[1] قوله تعالى [الكهف: 88].
[2] وقوله تعالى [آل عمران: 104].
[3] وقوله تعالى [الأنبياء: 94].
ثالثا: ضوابط حُرِّيَّة التَّعبير عن الرَّأْي:
حدَّد الإسلام العديد من الضَّوابط التي تجب مراعاتها عند التَّعبير عن الرَّأْي، وتشمل الآتي:
[1] ثبوت صحة الواقعة التي أثارت التَّعليق:
كلَّف الله سبحانه وتعالى المسلمين بالتَّثبُّت والتَّحقُّق من صدق الوقائع، قال تعالى [الحجرات: 6]، فالله سبحانه وتعالى يكلّفنا بالتَّثبُّت والتَّحري عن صدق الوقائع تكليفاً قبل أنْ نصدر أحكامنا أو أنْ نبدي نقدنا لها.
وفي ذلك ورد حديث أبي ذر - رضي الله عنه - أنَّه سمع النَّبيّ - صلى الله عليه وسلم - يقول: (لا يرمي رجلٌ رجلاً بالفسوق، ولا يرميه بالكفر؛ إلاَّ ارتدّ عليه إنْ لم يكن صاحبه كذلك) (1) .
وفي هذا الحديث توجيه بليغ إلى ضرورة التَّحريّ والتَّثبُّت قبل التَّعليق الذي قد يشتمل على عبارات تمس سمعة الآخرين.
[2] اعتقاد النَّاقد في صحة رأيه:
__________
(1) صحيح البخاريّ، باب ما ينهى من السِّباب، برقم 5585، 18/476.(1/19)
يدعو الإسلام المسلمين إلى قول الحقّ، وإذا قالوا غير ما يعتقدون يكونون بذلك إمَّا منافقين أو ممن يقولون زوراً وبهتاناً، وفي ذلك يقول تعالى [الحج: 30]، ويقول تعالى [النِّساء: 142]، ويقول تعالى [النِّساء: 145].
[3] تناسب الرَّأْي مع النَّقد كماً وكيفاً:
يجب أنْ يتناسب النَّقد كماً مع الموضوع الذي يتناوله النَّاقد، وعليه ألاَّ يغض الطَّرف عن تناول الموضوعات التي تمس الصَّالح العام وتعمل على تصديع أركان المجتمع أنْ يتناولها بصورة متكررة حتَّى يتم إصلاح المعوج، كما يجب عليه أنْ يهتم بتناسب النَّقد كيفاً مع الواقعة موضوع النَّقد أي بالأسلوب المناسب ويتدرج من اللِّين إلى الشَّدة حسب الحاجة.
المطلب الثَّالث: قواعد وآداب التَّدرُّج في النَّقد أمام الرَّأي العام
[أ] النُّصح والموعظة الحسنة:
يجب أنْ نبدأ بمرحلة النُّصح والموعظة الحسنة، على أنْ يكون ذلك بعبارات رقيقة غير جارحة، ولقد وجّهنا الله تعالى إلى ذلك في قوله لموسى وهارون
ـ عليهما السَّلام ـ حينما بعثهما إلى فرعون [طه: 44]، وقوله [النَّحل: 125].(1/20)
وفي الرِّفق واللِّين يقول الرَّسول - صلى الله عليه وسلم - : (إنَّ الله يحب الرِّفق، ويعطي عليه ما لا يعطي على العنف) (1) ، ويقول - صلى الله عليه وسلم - : (ما كان الرِّفق في شيء إلاَّ زانه، ولا نُزِعَ من شيء إلاَّ شانه) (2) . وعن عائشة ـ رضي الله عنها ـ أنَّ يهوداً أتوا النَّبيّ - صلى الله عليه وسلم - فقالوا: السَّلام عليكم، فقالت عائشة: لعنكم الله وغضب عليكم، قال: (مهلاً يا عائشة، عليك بالرِّفق، وإيّاك والعنف) (3) .
ونتوصَّل مما تقدّم إلى أنَّ الإسلام قد أمرنا بأنْ تكون دعوتنا لغيرنا بالحكمة والموعظة الحسنة، وأنْ تكون مجادلتنا لغيرنا بالتي هي أحسن، منعاً للفتنة، والاضطراب، وإشاعة الفوضى.
[ب] التَّعريض:
وهو التَّلميح دون التَّصريح بالمخاطبة، وقد ورد ذلك في القران في قوله تعالى [البقرة: 235]، ومعنى ذلك أنَّ بعض المواقف يمكن استخدام أسلوب التَّعريض فيها.
[ج] الإبهام:
وهو السَّتر على المخاطب حتَّى لا تخدش كرامته، وهذا الأسلوب يكون مقبولاً لدى المخاطب، وحتَّى لا تأخذه العزة بالإثم.
[د] مرحلة الشِّدة في القول:
يلجأ إليها الكاتب عندما لا يستجيب الشَّخص الذي يوجّه إليه النَّقد، إلى ذلك، ينطبق عليهم قول سيدنا صالح - عليه السلام - في قوله تعالى [الأعراف: 79]، ويتم اللّجوء إلى هذا الأسلوب حفاظاً للحقّ، وتحقيقاً للمصلحة العامّة.
المبحث الثَّالث
مقارنة ما بين الحُرِّيَّة في الإسلام والأنظمة الوضعيّة
__________
(1) صحيح البخاريّ، باب الرِّفق في الأمر، 18/447. وصحيح مسلم، باب النَّهيّ، 11/132، سنن التّرمذيّ، 9/328.
(2) السُّنن الكبرى للبيهقيّ، 10/193، السُّنن الكبرى للنَّسائيّ، 6/13. مسند الإمام أحمد، 51/447.
(3) صحيح البخاريّ، قول النَّبيّ - صلى الله عليه وسلم - ، برقم 5570، 20/13، صحيح مسلم، فضل الرِّفق، 12/487.(1/21)
ومن العرض السَّابق نتوصَّل إلى أنَّ حُرِّيَّة التَّعبير في الإسلام تدور حول الأمر بالمعروف والنَّهي عن المنكر، وحول النُّصح والإرشاد بين الأُمة والحاكمين في كافّة مجالات الحياة، وبالأسلوب الذي يحدّده الإسلام في كثير من الآيات، ويوضح ذلك:
[1] قوله تعالى [البقرة: 42].
[2] وقوله تعالى [النِّساء: 135].
[3] وقوله تعالى [النِّساء: 148].
[4] وقوله تعالى [آل عمران: 104].
[5] وقوله تعالى [الحجرات: 6].
[6] وقوله تعالى [النُّور: 19].
كما نتوصَّل إلى أنَّ حُرِّيَّة التَّعبيرترتبط بمسؤولية الفرد أمام الله وأمام مجتمعه. وبذلك تصبح الحُرِّيَّة من النَّاحية النَّظريّة غير خاضعة لأهواء الحُكَّام.
ويكفل الإسلام حُرِّيَّة الفكر وحُرِّيَّة المعرفة؛ بل إنَّه يحثّ على النَّظر في الكون، وفي المجتمع الإنسانيّ، وفي التَّاريخ، وفي النَّفس البشريّة، ويشجّع على الاجتهاد، كما يؤكِّد حُرِّيَّة التَّعبير وحُرِّيَّة النَّقد، "وكثيراً ما كان الأفراد العاديون يوجهون اللَّوم إلى الخلفاء الرَّاشدين علناً. وقصة سيدنا عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - مع المرأة التي عارضته في أمر تحديد المهور معروفة، وقال - رضي الله عنه - في إحدى خطبه: "أيُّها النَّاس مَنْ رأى فيّ اعوجاجاً، فليقوّمه،" فقام رجل وقال: لو رأينا فيك عوجاً لقوّمناه بسيوفنا.
وقال أبو بكر الصِّدِّيق - رضي الله عنه - في خطبة له عندما تولّى الخلافة: "إنّي قد وليت عليكم وليست بخيركم، فإنْ رأيتموني على حقّ فأعينوني، وإن رأيتموني على باطل فردوني، أطيعوني ما أطعت الله ورسوله، فإنْ عصيت الله؛ فلا طاعة لي عليكم" (1) .
__________
(1) د. إبراهيم إمام: أصول الإعلام الإسلاميّ، (القاهرة: دار الفكر العربيّ)، ص 21-22.(1/22)
"وإذا كانت الأمم المتحدة تباهي بما يُسمَّى حق التَّعبير على نحو ما عبَّر عنه جان دارس (Jan Dars) سنة 1969م، ثُمَّ تبعه كثيرون؛ فإنَّ هذا الحقّ كفله الإسلام منذ خمسة عشر قرناً من الزَّمان، سواء بالنِّسبة لحُرِّيَّة التَّعبير أو حُرِّيَّة الحصول على المعلومات والبحث عن الحقائق توطئة لنشرها وتحليلها وتفسيرها" (1) .
الصَّحافة عموما يجب أنْ تتسم بالاستقلال والحُرِّيَّة، وأنْ تبتعد عن المداهنة والتَّحيُّز، ولا يمكن أنْ تكون أداة في يد الحُكَّام للتَّحكُّم في النَّاس وتسخيرهم لخدمة أغراضها، على نحو ما يحدث من دعايات في النُّظم السِّياسيّة التي تجعل من الإعلام أداة للضَّغط والقسر والإلزام، وهو ما يُسمَّى بـ (الإعلام الاستماليّ أو التَّطويعيّ) لتسخير وتنفيذ سياسات معيّنة.
خاتمة:
يتّضح من العرض السَّابق الفرق الواضح بين الحُرِّيَّة في الإسلام والأنظمة الوضعيّة الأخرى، إذ إنَّ مفهوم الحُرِّيَّة في الإسلام يتضمَّن الرَّفض التَّام لفلسفة اللِّيبراليّة والفرديّة الخالصة التي تتلخّص في الاهتمام بشؤون الفرد فقط كمعنى للحياة أو كهدف للمجتمع، إنَّ هدف الحياة التَّفرُّد الإنسانيّ، إنَّ الحُرِّيَّة تعني التَّضامن مع المجتمع والمشاركة مع النَّاس في التَّكوين الثَّقافيّ للفرديّة، وهذا التَّوجيه الاجتماعيّ الذي يتسم بالشُّموليّة، والواقعيّة، والايجابيّة، يتعارض مع الصِّفات اللِّيبراليّة التي ترى الفرديّة عنصراً أصيلاً للثَّقافة.
__________
(1) المصدر نفسه، ص 41-42.(1/23)
إنَّ حُرِّيَّة التَّعبير والإعلام لا يمكن فصلها عن الحُرِّيَّات الإنسانيّة الأخرى، سواء أكانت هذه الحُرِّيَّات دينيّة أو فكريّة أو أيّة حُرِّيَّات أخرى، وكلّ إنسان له الحقّ في التَّعبير عن آرائه واعتقاداته طالما كان ذلك ضمن حدود القانون. وتفيد تعاليم الدِّين الإسلاميّ بأنَّه لا يسمح لجميع النَّاس من أنْ يشيعوا الباطل وينشروا أخباراً تؤدي إلى نشر الرَّذيلة في المجتمع، أو يتعرَّضوا بالقذف
أو الإساءة لسمعة الآخرين أو إلغاء الجرائم عليهم.(1/24)