كلية الشريعة
جامعة الكويت
حديث تحليلي
تأليف
د . طارق محمد الطواري
الأستاذ بقسم التفسير والحديث
كليةالشريعة - جامعة الكويت
المقدمة
بسم الله الرحمن الرحيم
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له ، ومن يضلل فلا هادي له ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله .
( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ ( ( آل عمران 102) .
( يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا ( ( النساء 1 ) .
( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا 70 يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا ( ( الأحزاب 71 ) .
ثم أما بعد :
فإن هذه مادة الحديث التحليلي يسرنا أن ندرسها لطلبتنا هذا العام ، وقد تم اختيارها من صحيح البخاري رحمه الله تعالى ومن أبواب شتى غالبها وتم اختيارها على أسس أن تنوع المعرفة للطالب بحيث يكون عنده نوع من التنوع في المعرفة والفهم لهذه الأحاديث .
وفي سبيل ذلك فقد اهتمينا لثلاثة أمور :
أولها : معرفة المعاني اللغوية الواردة في الحديث وتحتاج لبيان .
ثانيا : معرفة ما يتعلق بالإسناد من معرفة رجاله وما فيه من لطائف إسناد مثل أن يكون مسلسلا أو رواية أبناء عن آباء ونحوها .
ثالثا : إذا كان هناك كلام في الحديث فنبينه ونبين ما فيه .(1/1)
رابعا : شرح الحديث ومعرفة ما فيه من أحكام فقهية ، وإذا كانت الأحكام الفقهية كثيرة فصلناها وبيناها وإن كانت قليلة أدخلناها في شرح الحديث مع بيان ما فيه من وهم التعارض سواء بين ألفاظ الحديث الواحد أو حديث الباب وحديث آخر ، وسواء كان في البخاري أو غيره .
ونسأل الله تعالى أن نكون قد وفقنا فيما قمنا به ، وأن يكون في ميزان حسناتنا ، ودعائنا لطلبتنا بالتوفيق والنجاح وسداد الفهم .
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين .
وكتبه :
الدكتور : طارق محمد الطواري .
الحديث الأول
قال البخاري رحمه الله تعالى في صحيحه (1 ) :
حدثنا الحميدي عبد الله بن الزبير قال : حدثنا سفيان قال : حدثنا يحيى بن سعيد الأنصاري قال : أخبرني محمد بن إبراهيم التيمي أنه سمع علقمة بن وقاص الليثي يقول سمعت عمر بن الخطاب رضي الله عنه على المنبر قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى فمن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو إلى امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه .
المعاني اللغوية
قوله : إنما الأعمال بالنيات : هذا التركيب يفيد الحصر أي أن الأعمال لا تنفع ولا تقبل عند الله تعالى إلا بالنية .
والنيات مفرد نية والنية : العزم على الشيء ونويت أي عزمت .
امريء : أي شخص .
الهجرة : الهَجْرُ ضد الوصل والهِجْرةُ والمُهَاجَرَةُ من أرض إلى أرض ترك الأولى للثانية ، والمقصود هنا الهجرة من مكة إلى المدينة .
ما يتعلق بالإسناد
1 - هو حديث فرد قد تفرد بروايته يحيى بن سعيد الأنصاري ، عن محمد بن إبراهيم التيمي ، عن علقمة بن وقاص الليثي ، عن عمر .(1/2)
2 - أنه قد تشعبت روايته عن يحيى بن سعيد حتى قيل إنه متواتر إلى يحيى بن سعيد ، وقد قيل إنه قد روى من طرق كثيرة لكن لا يصح من ذلك شيء عند الحفاظ ثم رواه عن الأنصاري الخلق الكثير والجم الغفير فقيل رواه عنه أكثر من مائتي راو وقيل رواه عنه سبعمائة راو ومن أعيانهم الإمام مالك والثوري والأوزاعي وابن المبارك والليث بن سعد وحماد بن زيد وشعبة وابن عيينة وغيرهم .
3 - أن البخاري رحمه الله تعالى لما رأى أن النبي صلى الله عليه وسلم قد أمر بتقديم قريش حيث قال قدموا قريشا ولا تقدموها جعل روايته لأول حديث في صحيحه عن شيخ قرشي وهو عبد الله بن الزبير الحميدي القرشي .
4 - أن عبد الله بن الزبير مكي أيضا والحديث في بدء الوحي وقد كان في مكة فرأى رحمه الله تعالى أن يقدم روايته وهو مكي لتناسب مكان بدء الوحي .
5 - أن الإسناد فيه ثلاثة تابعين على نسق فيحيى من صغار التابعين وشيخه محمد بن إبراهيم بن الحارث بن خالد التيمي من أوساط التابعين وشيخ محمد علقمة بن وقاص الليثي من كبارهم ففي الإسناد ثلاثة من التابعين في نسق .
6 - في المعرفة لابن منده ما ظاهره أن علقمة صحابي فلو ثبت لكان فيه تابعيان وصحابيان يكون قد اجتمع في هذا الإسناد أكثر الصيغ التي يستعملها المحدثون وهي التحديث والاخبار والسماع والعنعنة والله أعلم 1 .
شرح الحديث
يتناول الحديث حكم من الأحكام وهو أن كل عمل لا يقبل إلا بنية ، والنية إذا أطلقت فباعتبارين :
الأول : الإطلاق الفقهي : وهو تمييز العبادات بعضها عن بعض كتمييز صلاة الظهر من صلاة العصر مثلا وتمييز رمضان من صيام غيره أو تمييز العبادات من العادات كتمييز الغسل من الجنابة من غسل التبرد والتنظيف ونحو ذلك .(1/3)
الثاني : تمييز المقصود ومعناه وهل هو لله وحده لا شريك له أم لله وغيره وهذه هي النية التي يتكلم فيها العارفون في كتبهم في كلامهم على الإخلاص وتوابعه وهي التي توجد كثيرا في كلام السلف المتقدمين وقد صنف أبو بكر بن أبي الدنيا مصنفا سماه كتاب الإخلاص .
فمعنى الحديث أن العمل لا يقبل إلا بنيته وقصده فلا تبرء ذمة المكلف بصلاة أربع ركعات عند الزوال إلا إذا نوى أنها الظهر ولا عند صيرورة كل شيء مثليه إلا إذا نوى أنها العصر ولا تبرء ذمته بصيام رمضان إلا إذا نوى أن الصيام هو صيام رمضان وهكذا .
وأيضا لا يقبل هذا العمل إلا إذا كان خالصا لوجه الله تعالى لا شركة لأحد معه فيه ، قال تعالى ? فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا ? ( الكهف 110 ) .
وهذا الحديث يعد أصل من أصول الأحكام وقد عده الأئمة رحمه الله تعالى ربع الإسلام وبعضهم جعله ثلث الإسلام ، وذلك لمكانته ولدخوله في جميع أبواب الدين .
وهذا الحديث أحد الأحاديث التي يدور الدين عليها فروى عن الشافعي أنه قال :
هذا الحديث ثلث العلم ويدخل في سبعين بابا من الفقه .
وعن الإمام أحمد رضي الله عنه قال : أصول الإسلام على ثلاثة أحاديث : حديث عمر : إنما الأعمال بالنيات ، وحديث عائشة من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد ، وحديث النعمان بن بشير الحلال بين والحرام بين .
وعن إسحاق بن راهويه قال : أربعة أحاديث هي من أصول الدين حديث عمر إنما الأعمال بالنيات ، وحديث الحلال بين والحرام بين ، وحديث إن خلق أحدكم يجمع في بطن أمه أربعين يوما ، وحديث من صنع في أمرنا شيئا ما ليس منه فهو رد .
وقال أبو عبيد : جمع النبي صلى الله عليه وسلم جميع أمر الآخرة في كلمة واحدة من أحدث في أمرنا ما ليس منه فهو رد وجمع أمر الدنيا كله في كلمة واحدة ، إنما الأعمال بالنيات يدخلان في كل باب .(1/4)
وعن أبي داود قال : نظرت في الحديث المسند فإذا هو أربعة آلاف حديث ثم نظرت فإذا مدار أربعة آلاف الحديث على أربعة أحاديث : حديث النعمان بن بشير الحلال بين والحرام بين ، وحديث عمر إنما الأعمال بالنيات ، وحديث أبي هريرة إن الله طيب لا يقبل إلا طيبا وإن الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين الحديث ، وحديث من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه .
قال : فكل حديث من هذه الأربعة ربع العلم .
وعن أبي داود رضي الله عنه أيضا قال : كتبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم خمسمائة ألف حديث انتخبت منها ما تضمنه هذا الكتاب يعني كتاب السنن جمعت فيه أربعة آلاف وثمانمائة حديث ويكفي الإنسان لدينه من ذلك أربعة أحاديث :
أحدهما : قوله صلى الله عليه وسلم إنما الأعمال بالنيات ، والثاني قوله صلى الله عليه وسلم من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه ، والثالث قوله صلى الله عليه وسلم لا يكون المؤمن مؤمنا حتى لا يرضى لأخيه إلا ما يرضى لنفسه ، والرابع قوله صلى الله عليه وسلم الحلال بين والحرام بين .
وللحافظ أبي الحسن طاهر بن مفوز المعافري الأندلسي :
عمدة الدين عندنا كلمات ……أربع من كلام خير البرية
اتق الشبهات وازهد ودع ……ما ليس يعنيك واعملن بنية
وهو كذلك أحد القواعد الفقهية الخمس الكبرى التي يدور عليها الفقه والمسماة : الأمور بمقاصدها .
المباحث الفقهية
سبق أن قلنا أن هذا الحديث يعده بعض العلماء ربع الإسلام وبعضهم ثلثه ولذلك يدخل هذا الحديث في أبواب فقهية كثيرة .
الأول : أن العمل لا يقبل إلا بنية وقد تقدم بيان ذلك وهو ما يعبر عنه أهل القواعد الفقهية بقولهم : الأمور بمقاصدها .
الثاني : أنه لابد أن تتوفر في النية قصد الطاعة وإلا لكان هدرا ليس مبرءا لذمة المكلف .
الثالث : أن أعمال المكلف وتصرفاته القولية والفعلية إنما تختلف نتائجها وأحكامها الشرعية المترتبة عليها باختلاف قصد وغاية هذه الأعمال والتصرفات .(1/5)
فمثلا : من التقط لقطة يقصد أخذها لنفسه أثم ، وكان عليه الضمان لو تلفت في يده .
أما من التقطها يقصد تعريفها وردها لصاحبها متى عرفه فإنه يثاب ولا يصير عليه ضمان إذا تلفت في يده لأنه كالمؤتمن .
ومن قال لغيره : خذ هذا الثوب ويقصد أنها للتبرع كانت هدية ، وإلا صارت قرضا واجب الرد والسداد ، أو أمانة يجب إعادتها عند طلبها .
فصورة الفعل واحدة لكن اختلف القصد فاختلف الحكم المترتب عليه .
رابعا : شروط صحة النية :
قد علمت أن النية شرط في صحة العمل وقبوله فما هي شروط صحة النية ابتداءا ؟
فلها أربع شروط :
1. الإسلام : وهذا شرط أصلي لا غني عنه لقول الله تعالى لأن أشركت ليحبطن عملك .
2. التمييز : ومعناه أن لا يكون صبيا ولا مجنونا ولا سفيها ولا مغيبا كالسكران وقد اختلفوا في حكم تصرفاتهم ومتى تنعقد ويترتب عليها أحكامها ومتى لا تنعقد بناء على اعتبار هذا الشرط .
3. العلم بالعمل المنوي : ومعناه حكم الفعل نفسه ، أي لا بد أن يعلم المكلف أن الذي سيعمله فرضا أو نفلا أو مباحا فمن صلى الظهر وهو جاهل لفرضيتها لا تجزيء عنه ولم تبرأ ذمته بأدائها ، واستثنوا من ذلك صورتين :
أ - من لا يميز بين السنن والفرائض تصح عبادته بشرط أن لا يقصد التنفل بما هو فرض .
ب - الإحرام المبهم في الحج كأن يقول : أحرمت بما أحرم به فلان كما أحرم علي رضي الله عنه بما أحرم به النبي صلى الله عليه وسلم وهو لا يعلمه . رواه البخاري (32) باب الحج .
4. أن لا يأتي بمناف بين النية والمنوي :
أي لا يأتي بنية تبطل العمل وهي أنواع :
1 - نية قطع العمل : كمن نوى قطع الصلاة في وسطها فقد بطلت . ومن نوى الأكل أو الجماع في نهار الصوم بطل صومه . ومن نوى قطع الإيمان ارتد في الحال ووجب عليه معاودة إسلامه .
2 - نية النقل : كأن ينوي نقل النفل إلى فرض فإنه يبطل ، ومن نقل فرضا إلى فرض لا يصح ، كمن نقل الظهر إلى العصر بطلا كلاهما .(1/6)
3 - نية التردد : أي عدم الجزم بنوع النية في أول العمل كمن تردد في يوم الشك إن كان من رمضان صامه , وإن كان من شعبان لم يصمه بطلت نية الصوم لو أصبح رمضان إلا أن يفصل إن كان من شعبان صامه نفلا وإن كان من رمضان صامه فرضا فهنا يصح .
4 - ومن المنافي عدم القدرة على المنوي : كمن نوى بوضوئه أن يصلي صلاة وأن لا يصليها انتفى الفعل عقلا فبطلت النية ، ومن نوى بوضوئه الصلاة في مكان نجس بطلت لانتفاء الفعل شرعا ، ومن نوى بوضوءه صلاة العيد في أول السنة بطلت لانتفاء الفعل عادة .
خامسا : محل النية :
والنية محلها القلب ولا يصح التلفظ بها ، إلا في الحج فقط كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم وعند بعض الشافعية والمالكية والحنفية أن التلفظ بالنية جائز .
أما عند الحنابلة فبدعة كما حرر ابن القيم في الزاد .
الحديث الثاني
قال البخاري رحمه الله في صحيحه (2 ) :
حدثنا عبد الله بن يوسف قال : أخبرنا مالك عن هشام بن عروة ، عن أبيه ، عن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها أن الحارث بن هشام رضي الله عنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله كيف يأتيك الوحي ؟
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أحيانا يأتيني مثل صلصلة الجرس وهو أشده علي فيفصم عني وقد وعيت عنه ما قال وأحيانا يتمثل لي الملك رجلا فيكلمني فأعي ما يقول قالت عائشة رضي الله عنها ولقد رأيته ينزل عليه الوحي في اليوم الشديد البرد فيفصم عنه وإن جبينه ليتفصد عرقا .
المعاني اللغوية
الصَّلْصَلة : صَوتُ الحَدِيد إذا حُرِّك 0 يقال صَلَّ الحديدُ , وصَلْصَل 0 والصَّلْصَلة أشَدّ من الصَّليل ، ومنه حديث حُنين " أنهم سَمِعوا صَلْصَلَةً بين السماء والأرض " 2 .
فيفصم : أي يُقْلِع , يقال أَفْصَمَ المطَرُ , وأَفصى : إذا أقلع ومنه قيل : كل فحل يفْصِم إلا الإنسان ; أي يَنْقطِع عن الضِّراب 3 .
ما يتعلق بالإسناد
1 - عبد الله بن يوسف هو التنيسي .(1/7)
2 - مالك هو بن أنس إمام دار الهجرة وإمام المؤمنين في الحديث .
3 - أبو هشام هو عروة بن الزبير بن العوام من الفقهاء السبعة المشهورين .
شرح الحديث
هو بيان كيفية إتيان الوحي للنبي صلى الله عليه وسلم ، وكيف كان النبي صلى الله عليه وسلم يلقى من الشدة حين يأتيه الوحي حتى أنه كان في شدة البرد يتفصد عرقا من شدة الوحي عليه ، وفيه وصف كيفية التنزيل نفسه .
قال الخطابي :
يريد متدارك يسمعه ولا يثبته أول ما يسمعه حتى يفهمه بعد ولما كان الجرس لا تحصل صلصلته إلا متداركة وقع التشبيه به دون غيره من آلات حفيف أجنحة الملك والحكمة في تقدمه أن يقرع سمعه الوحي فلا يبقى فيه مكان لغيره وهو أشده علي لأن الفهم من كلام مثل الصلصلة أشد من الفهم من كلام الرجل بالتخاطب المعهود وفائدة هذه الشدة ما يترتب على المشقة من زيادة الزلفى والدرجات وأفهم أن الوحي كله شديد وهذا أشده لأن العادة جرت بالمناسبة بين القائل والسامع وهي هنا إما باتصاف السامع بوصف القائل فغلبت الروحانية وهو النوع الأول وإما باتصاف القائل بوصف السامع وهو البشرية وهو النوع الثاني والأول أشد بلا شك 4 .
المباحث الفقهية
1 - جواز أن يتمثل الملك بصورة البشر وذلك من قوله : وأحيانا يتمثل لي الملك رجلا ، والمراد به هنا جبريل ، وقد ورد في الحديث المتفق عليه أنه تمثل على صورة رجل قادم من سفر وذلك حينما سأله عن الإسلام والإيمان والإحسان .
وأن الملائكة أجسام نورانية قد خلقها الله تعالى أصنافا وأقساما وكلهم لعبادة ربه مسخر ، ورؤسائهم أربعة :
جبريل وهو الملك الموكل بالوحي والكتب السماوية ، وقد يسلطه الله تعالى على أقوام بالعذاب كما فعل في قوم لوط .
ميكائيل وهو الموكل بالقطر والمطر .
إسرافيل وهو الموكل النفخ في الصور .
ملك الموت وهو الموكل بقبض الأرواح .(1/8)
قال تعالى ? قُلْ مَن كَانَ عَدُوًّا لِّجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللّهِ مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ مَن كَانَ عَدُوًّا لِّلّهِ وَمَلآئِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ اللّهَ عَدُوٌّ لِّلْكَافِرِينَ ? . ( البقرة 97 - 98) .
وقال ? قُلْ يَتَوَفَّاكُم مَّلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ ? ( السجدة 11) .
وفي حديث عائشة أم المؤمنين وسئلت : بأي شيء كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يفتتح صلاته إذا قام من الليل ؟
قالت : كان إذا قام من الليل افتتح صلاته اللهم رب جبريل وميكائيل وإسرافيل فاطر السماوات والأرض عالم الغيب والشهادة أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون اهدني لما اختلف فيه من الحق فإنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم .
أخرجه ابن حبان (2600) .
2 - وأن سؤال أهل العلم ومن يحب عما أشكل من حالهم جائز ، وكذا سؤال طالب العلم لشيخه عما يشكل عليه ، وأن الشيخ والعالم لا يتبرما بسؤاله بل يجيباه وينشرح صدرهما لذلك .
3 - أن السؤال عن الكيفية لطلب الطمأنينة لا يقدح في اليقين 5 .
4 - وجواز السؤال عن أحوال الأنبياء من الوحي وغيره 6 .
5 - أن المسئول عنه إذا كان ذا أقسام يذكر المجيب في أول جوابه ما يقتضى التفصيل والله أعلم 7 .
الحديث الثالث
قال البخاري رحمه الله تعالى في صحيحه (3) :(1/9)
حدثنا يحيى بن بكير قال : حدثنا الليث ، عن عقيل عن ابن شهاب عن عروة بن الزبير ، عن عائشة أم المؤمنين أنها قالت أول ما بدىء به رسول الله صلى الله عليه وسلم من الوحي الرؤيا الصالحة في النوم فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح ثم حبب إليه الخلاء وكان يخلو بغار حراء فيتحنث فيه وهو التعبد الليالي ذوات العدد قبل أن ينزع إلى أهله ويتزود لذلك ثم يرجع إلى خديجة فيتزود لمثلها حتى جاءه الحق وهو في غار حراء ، فجاءه الملك فقال اقرأ قال ما أنا بقارئ قال فأخذني فغطني حتى بلغ مني الجهد ثم أرسلني فقال اقرأ قلت ما أنا بقارئ فأخذني فغطني الثانية حتى بلغ مني الجهد ثم أرسلني فقال اقرأ فقلت ما أنا بقارئ فأخذني فغطني الثالثة ثم أرسلني فقال اقرأ باسم ربك الذي خلق خلق الإنسان من علق اقرأ وربك الأكرم فرجع بها رسول الله صلى الله عليه وسلم يرجف فؤاده فدخل على خديجة بنت خويلد رضي الله عنها فقال زملوني زملوني فزملوه حتى ذهب عنه الروع فقال لخديجة وأخبرها الخبر لقد خشيت على نفسي فقالت خديجة كلا والله ما يخزيك الله أبدا إنك لتصل الرحم وتحمل الكل وتكسب المعدوم وتقري الضيف وتعين على نوائب الحق فانطلقت به خديجة حتى أتت به ورقة بن نوفل بن أسد بن عبد العزى بن عم خديجة وكان امرأ تنصر في الجاهلية وكان يكتب الكتاب العبراني فيكتب من الإنجيل بالعبرانية ما شاء الله أن يكتب وكان شيخا كبيرا قد عمي فقالت له خديجة يا ابن عم اسمع من ابن أخيك فقال له ورقة يا ابن أخي ماذا ترى فأخبره رسول الله صلى الله عليه وسلم خبر ما رأى فقال له ورقة هذا الناموس الذي نزل الله على موسى يا ليتني فيها جذع ليتني أكون حيا إذ يخرجك قومك فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أو مخرجي هم قال نعم لم يأت رجل قط بمثل ما جئت به إلا عودي وإن يدركني يومك أنصرك نصرا مؤزرا ثم لم ينشب ورقة أن توفي وفتر الوحي .(1/10)
قال ابن شهاب وأخبرني أبو سلمة بن عبد الرحمن أن جابر بن عبد الله الأنصاري قال وهو يحدث عن فترة الوحي فقال في حديثه ثم بينا أنا أمشي إذ سمعت صوتا من السماء فرفعت بصري فإذا الملك الذي جاءني بحراء جالس على كرسي بين السماء والأرض فرعبت منه فرجعت فقلت زملوني زملوني فأنزل الله تعالى يا أيها المدثر قم فأنذر إلى قوله والرجز فاهجر فحمي الوحي وتتابع تابعه عبد الله بن يوسف وأبو صالح وتابعه هلال بن رداد عن الزهري وقال يونس ومعمر بوادره .
المعاني اللغوية
قوله : ما أنا بقارىء ثلاثا ما نافية إذ لو كانت استفهامية لم يصلح دخول الباء ، والباء زائدة لتأكيد النفي أي ما أحسن القراءة فلما قال ذلك ثلاثا قيل له أقرأ بأسم ربك أي لا تقرؤه بقوتك ولا بمعرفتك لكن بحول ربك وإعانته فهو يعلمك كما خلقك وكما نزع عنك علق الدم وغمز الشيطان في الصغر وعلم أمتك حتى صارت تكتب بالقلم بعد أن كانت أمية ، قاله السهيلي .
قوله : فغطنى بغين معجمة وطاء مهملة كأنه أراد ضمنى وعصرني والغط حبس النفس ومنه غطة في الماء أو أراد عمني ومنه الخنق .
قوله : حتى بلغ من الجهد ، أي بلغ الغط مني غاية .
وقوله : أرسلني أي أطلقني .
قوله : فزملوه أي لفوه .
والروع : بالفتح الفزع .
وتكسب المعدوم : أي تكسب المعدوم من المال ، ومعناها تعطى الناس ما لا يجدونه عند غيرك .
وقولها : وتعين على نوائب الحق : أي تساعد وتعين على رفع الإبتلاءات على من وقعت عليه .
الناموس : هو جبريل عليه السلام .
قوله يا ليتني فيها جذع ، الجذع بفتح الجيم والذال المعجمة هو الصغير من البهائم كأنه تمنى أن يكون عند ظهور الدعاء إلى الإسلام شابا ليكون أمكن لنصره .
قوله : أومخرجي هم بفتح الواو وتشديد الياء وفتحها جمع مخرج فهم مبتدأ مؤخر ومخرجي خبر مقدم قاله بن مالك .(1/11)
قوله إن يدركني يومك إن شرطية والذي بعدها مجزوم زاد في رواية يونس في التفسير حيا ولابن إسحاق أن أدركت ذلك اليوم يعني يوم الإخراج قوله مؤزرا بهمزة أي قويا مأخوذ من الأزر وهو القوة وأنكر القزاز أن يكون في اللغة مؤزر من الازر وقال أبو شامة يحتمل أن يكون من الإزار أشار بذلك إلى تشميره في نصرته قال الأخطل :
قوم إذا حاربوا شدوا مآزرهم …دون النساء ولو باتت بأطهار
ما يتعلق بالإسناد
1 - الليث هو ابن سعد الفهمي المصري الإمام الثبت .
2 - عقيل هو ابن خالد الأيلي الشامي .
3 - الزهري هو محمد بن عبيد الله بن عبد الله بن مسلم بن شهاب الإمام العلم شيخ الإسلام .
شرح الحديث
1 - في هذه القصة استحباب تأنيس من نزل به أمر بذكر تيسيره عليه وتهوينه لديه .
2 - وأن من نزل به أمر استحب له أن يطلع عليه من يثق بنصيحته وصحة رأيه .
3 - وفيه أن صاحب الحاجة يقدم بين يديه من يعرف بقدره ممن يكون أقرب منه إلى المسئول وذلك مستفاد من قول خديجة لورقة أسمع من ابن أخيك أرادت بذلك أن يتأهب لسماع كلام النبي صلى الله عليه وسلم وذلك أبلغ في التعليم .
4 - وفيه دليل على جواز تمنى المستحيل إذا كان في فعل خير لأن ورقة تمنى أن يعود شابا وهو مستحيل عادة .
قال ابن حجر رحمه الله تعالى : يظهر لي أن التمنى ليس مقصودا على بابه بل المراد من هذا التنبيه على صحة ما أخبره به والتنويه بقوة تصديقه فيما يجيء به .
5 - وفيه دليل على أن المجيب يقيم الدليل على ما يجيب به إذا اقتضاه .(1/12)
6 - اختلف في مدة فتور الوحي فعن الشعبي أن مدة فترة الوحي كانت ثلاث سنين وبه جزم بن إسحاق وحكى البيهقي أن مدة الرؤيا كانت ستة أشهر وعلى هذا فابتداء النبوة بالرؤيا وقع من شهر مولده وهو ربيع الأول بعد إكماله أربعين سنة وابتداء وحي اليقظة وقع في رمضان وليس المراد بفترة الوحي المقدره بثلاث سنين وهي ما بين نزول أقرأ ويا أيها المدثر عدم مجيء جبريل إليه بل تأخر نزول القرآن فقط ثم راجعت المنقول عن الشعبي من تاريخ الإمام أحمد ولفظه من طريق داود بن أبي هند عن الشعبي أنزلت عليه النبوة وهو ابن أربعين سنة فقرن بنبوته إسرافيل ثلاث سنين فكان يعلمه الكلمة والشيء ولم ينزل عليه القرآن على لسانه فلما مضت ثلاث سنين قرن بنبوته جبريل فنزل عليه القرآن على لسانه عشرين سنة وأخرجه بن أبي خيثمة من وجه آخر مختصرا عن داود بلفظ بعث لأربعين ووكل به اسرافيل ثلاث سنين ثم وكل به جبريل فعلى هذا فيحسن بهذا والجواب أن ثبت الجمع بين القولين في قدر إقامته بمكة بعد البعثة فقد قيل ثلاث عشرة وقيل عشر وأنكر الواقدي هذه الرواية المرسلة وقال لم يقرن به من الملائكة الا جبريل انتهى ولا يخفى ما فيه فإن المثبت مقدم على النافي إلا أن صحب النافي دليل نفيه فيقدم والله أعلم وأخذ السهيلي هذه الرواية فجمع بها المختلف في مكثه صلى الله عليه وسلم بمكة فإنه قال جاء في بعض الروايات المسندة أن مدة الفتره سنتان ونصف وفي رواية أخرى أن مدة الرؤيا ستة أشهر فمن قال مكث عشر سنين حذف مدة الرؤيا والفترة ومن قال ثلاث عشرة أضافهما وهذا الذي اعتمده السهيلي من الاحتجاج بمرسل الشعبي لا يثبت وقد عارضه ما جاء عن ابن عباس أن مدة الفترة المذكورة كانت أياما وسيأتي مزيد لذلك في إن شاء الله تعالى 8 .
الحديث الرابع
قال البخاري رحمه الله تعالى في صحيحه (6) :(1/13)
حدثنا عبدان قال : أخبرنا عبد الله قال : أخبرنا يونس عن الزهري ح وحدثنا بشر بن محمد قال : أخبرنا عبد الله قال : أخبرنا يونس ومعمر عن الزهري نحوه قال : أخبرني عبيد الله بن عبد الله عن ابن عباس قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أجود الناس وكان أجود ما يكون في رمضان حين يلقاه جبريل وكان يلقاه في كل ليلة من رمضان فيدارسه القرآن فلرسول الله صلى الله عليه وسلم أجود بالخير من الريح المرسلة .
المعاني اللغوية
قوله وكان أجود ما يكون هو برفع أجود هكذا في أكثر الروايات وأجود أسم كان وخبره محذوف وهو نحو أخطب ما يكون الأمير في يوم الجمعة أو هو تزوجها على أنه مبتدأ مضاف وهو ما يكون وما مصدرية وخبره في رمضان والتقدير أجود اكوان رسول الله صلى الله عليه وسلم في رمضان وإلى هذا جنح البخاري في تبويبه في كتاب الصيام إذ قال باب أجود ما كان النبي صلى الله عليه وسلم يكون في رمضان وفي رواية الأصيلي أجود بالنصب على أنه خبر كان وتعقب بأنه يلزم منه أن يكون خبرها عدا وأجيب بجعل اسم كان ضمير النبي صلى الله عليه وسلم وأجود خبرها والتقدير كان رسول الله صلى الله عليه وسلم مدة كونه في رمضان أجود منه في غيره قال النووي الرفع أشهر والنصب جائز وذكر أنه سأل بن مالك عنه فخرج الرفع من ثلاثة أوجه والنصب من وجهين وذكر بن الحاجب في اماليه للرفع خمسة أوجه توارد مع ابن مالك منها في وجهين وزاد ثلاثة ولم يعرج على النصب .
قال ابن حجر : ويرجح الرفع وروده بدون كان عند المؤلف في الصوم قوله فيدارسه القرآن .
قوله فلرسول الله صلى الله عليه وسلم الفاء للسببيه واللام للابتداء وزيدت على المبتدأ تأكيدا أو هي جواب قسم مقدر .
قوله : المرسلة : أي المطلقة .
ما يتعلق بالإسناد
1 - عبدان هو عبد الله بن عثمان وعبدان لقب وسمي كذلك لأن اسمه واسم أبيه يبدأ بالعين .
2 - عبد هو ابن المبارك .
3 - يونس هو ابن يزيد الأيلي الثقة الشامي .(1/14)
شرح الحديث
1 - في الحديث فوائد منها : الحث على الجود في كل وقت .
2 - ومنها : الزيادة في رمضان وعند الاجتماع بأهل الصلاح .
3 - وفيه زيارة الصلحاء وأهل الخير وتكرار ذلك إذا كان المزور لا يكرهه .
4 - وفي الحديث أن مدارسة القرآن تجدد له العهد بمزيد غنى النفس والغنى سبب الجود والجود في الشرع إعطاء ما ينبغي لمن ينبغي وهو أعم من الصدقة وأيضا فرمضان موسم الخيرات لأن نعم الله على عباده فيه زائدة على غيره فكان النبي صلى الله عليه وسلم يؤثر متابعة سنة الله في عباده فبمجموع ما ذكر من الوقت والمنزول به والنازل والمذاكرة حصل المزيد في الجود والعلم عن الله تعالى .
المباحث الفقهية
1 - في هذا الحديث أن ابتداء نزول القرآن كان في شهر رمضان لأن نزوله إلى السماء الدنيا جملة واحدة كان في رمضان كما ثبت من حديث بن عباس فكان جبريل يتعاهده في كل سنة فيعارضه بما نزل عليه من رمضان إلى رمضان فلما كان العام الذي توفي فيه عارضه به مرتين كما ثبت في الصحيح عن فاطمة رضي الله عنها وبهذا يجاب من سأل عن مناسبة إيراد هذا الحديث في هذا الباب والله أعلم بالصواب .
2 - هل الإكثار من القراءة في رمضان أفضل أو الأذكار والإكثار منها أفضل ؟
في هذا الحديث استحباب الإكثار من القراءة في رمضان وكونها أفضل من سائر الأذكار إذ لو كان الذكر أفضل أو مساويا لفعلا .
فإن قيل : المقصود تجويد الحفظ ؟
قلنا : الحفظ كان حاصلا والزيادة فيه تحصل ببعض المجالس .
3 - وأنه يجوز أن يقال رمضان بإضافة وبغير إضافة فيقال رمضان ، ويقال شهر رمضان .
الحديث الخامس
قال البخاري رحمه الله تعالى في صحيحه (5 ) :(1/15)
حدثنا موسى بن إسماعيل قال : حدثنا أبو عوانة قال : حدثنا موسى بن أبي عائشة قال : حدثنا سعيد بن جبير عن ابن عباس في قوله تعالى لا تحرك به لسانك لتعجل به قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعالج من التنزيل شدة وكان مما يحرك شفتيه فقال ابن عباس فأنا أحركهما لكم كما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحركهما ، وقال سعيد أنا أحركهما كما رأيت ابن عباس يحركهما فحرك شفتيه فأنزل الله تعالى لا تحرك به لسانك لتعجل به إن علينا جمعه وقرآنه قال جمعه في صدرك وتقرأه فإذا قرأناه فاتبع قرآنه قال فاستمع له وأنصت ثم إن علينا بيانه ثم إن علينا أن تقرأه فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد ذلك إذا أتاه جبريل استمع فإذا انطلق جبريل قرأه النبي صلى الله عليه وسلم كما قرأه .
ما يتعلق بالإسناد
1 - موسى بن إسماعيل هو أبو سلمة التبوذكي وكان من حفاظ المصريين .
2 - أبو عوانة هو الوضاح بن عبد الله اليشكري مولاهم البصري كان كتابه في غاية الإتقان .
3 - موسى بن أبي عائشة لا يعرف اسم أبيه ، وقد تابعه على بعضه عمرو بن دينار ، عن سعيد بن جبير .
شرح الحديث
قوله : كان مما يعالج المعالجة محاولة الشيء بمشقة أي كان العلاج ناشئا من تحريك الشفتين أي مبدأ العلاج منه .(1/16)
قوله : فقال بن عباس فأنا أحركهما جملة معترضة بالفاء وفائدة هذا زيادة البيان في الوصف على القول وعبر في الأول بقوله كان يحركهما وفي الثاني برأيت لأن ابن عباس لم ير النبي صلى الله عليه وسلم في تلك الحالة لأن سورة القيامة مكية باتفاق بل الظاهر أن نزول هذه الآيات كان في أول الأمر وإلى هذا جنح البخاري في إيراده هذا الحديث في بدء الوحي ولم يكن ابن عباس إذ ذاك ولد لأنه ولد قبل الهجرة بثلاث سنين لكن يجوز أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم أخبره بذلك بعد أو بعض الصحابة أخبره أنه شاهد النبي صلى الله عليه وسلم والأول هو الصواب فقد ثبت ذلك صريحا في مسند أبي داود الطيالسي قال : حدثنا أبو عوانة بسنده .
وأما سعيد بن جبير فرأى ذلك من ابن عباس بلا نزاع .
قوله : فحرك شفتيه وقوله فأنزل الله لا تحرك به لسانك لا تنافى بينهما لأن تحريك الشفتين بالكلام المشتمل على الحروف التي لا ينطق بها إلا اللسان يلزم منه تحريك اللسان أو اكتفى بالشفتين وحذف اللسان لوضوحه لأنه الأصل في النطق إذ الأصل حركة الفم وكل من الحركتين ناشىء عن ذلك .
وكان النبي صلى الله عليه وسلم في ابتداء الأمر إذا لقن القرآن نازع جبريل القراءة ولم يصبر حتى يتمها مسارعة إلى الحفظ لئلا ينفلت منه شيء قاله الحسن وغيره .
ولابن أبي حاتم يتلقى أوله ويحرك به شفتيه خشية أن ينسى أوله قبل أن يخلو من آخره .
وفي رواية الطبري عن الشعبي عجل يتكلم به من حبه إياه وكلا الأمرين مراد ولا تنافى بين محبته إياه والشدة التي تلحقه في ذلك فأمر بأن ينصت حتى يقضي إليه وحيه ووعد بأنه آمن من تفلته منه بالنسيان أو غيره ، ونحوه قوله تعالى ولا تعجل بالقرآن من قبل أن يقضي إليك وحيه أي بالقراءة .
والحديث يدل على حرص النبي صلى الله عليه وسلم على كلام الله تعالى وحفظ أوامره ونواهيه لتبليغها للناس على الوجه الأكمل الذي أمر الله تعالى به .
الحديث السادس(1/17)
قال البخاري رحمه الله تعالى في صحيحه (7 ) :
حدثنا أبو اليمان الحكم بن نافع قال : أخبرنا ، شعيب عن الزهري قال : أخبرني عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود أن عبد الله بن عباس أخبره أن أبا سفيان بن حرب أخبره أن هرقل أرسل إليه في ركب من قريش وكانوا تجارا بالشام في المدة التي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ماد فيها أبا سفيان وكفار قريش فأتوه وهم بإيلياء فدعاهم في مجلسه وحوله عظماء الروم ثم دعاهم ودعا بترجمانه فقال أيكم أقرب نسبا بهذا الرجل الذي يزعم أنه نبي فقال أبو سفيان فقلت أنا أقربهم نسبا فقال أدنوه مني وقربوا أصحابه فاجعلوهم عند ظهره ثم قال لترجمانه قل لهم إني سائل هذا عن هذا الرجل فإن كذبني فكذبوه فوالله لولا الحياء من أن يأثروا علي كذبا لكذبت عنه ثم كان أول ما سألني عنه أن قال كيف قلت هو فينا ذو نسب قال فهل قال هذا القول منكم أحد قط قبله قلت لا قال فهل كان من آبائه من ملك قلت لا قال فأشراف الناس يتبعونه أم ضعفاؤهم فقلت بل ضعفاؤهم قال أيزيدون أم ينقصون قلت بل يزيدون قال فهل يرتد أحد منهم سخطة لدينه بعد أن يدخل فيه قلت لا قال فهل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال قلت لا قال فهل يغدر قلت لا ونحن منه في مدة لا ندري ما هو فاعل فيها قال ولم تمكني كلمة أدخل فيها هذه الكلمة قال فهل قاتلتموه قلت نعم قال فكيف كان قتالكم إياه قلت الحرب بيننا وبينه سجال ينال منا وننال منه قال ماذا يأمركم قلت يقول اعبدوا الله وحده ولا تشركوا به شيئا واتركوا ما يقول آباؤكم ويأمرنا بالصلاة والصدق والعفاف والصلة فقال للترجمان قل له سألتك عن نسبه فذكرت ذو نسب فكذلك الرسل تبعث في نسب قومها وسألتك هل قال أحد منكم هذا القول فذكرت أن لا فقلت لو كان أحد قال هذا القول قبله لقلت رجل يأتسي بقول قيل قبله وسألتك هل كان من آبائه من ملك فذكرت أن لا قلت فلو كان من آبائه من ملك قلت رجل يطلب ملك أبيه وسألتك(1/18)
هل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال فذكرت أن لا فقد أعرف أنه لم يكن ليذر الكذب على الناس ويكذب على الله وسألتك أشراف الناس اتبعوه أم ضعفاؤهم فذكرت أن ضعفاءهم اتبعوه وهم أتباع الرسل وسألتك أيزيدون أم ينقصون فذكرت أنهم يزيدون وكذلك أمر الإيمان حتى يتم وسألتك أيرتد أحد سخطة لدينه بعد أن يدخل فيه فذكرت أن لا وكذلك الإيمان حين تخالط بشاشته القلوب وسألتك هل يغدر فذكرت أن لا وكذلك الرسل لا تغدر وسألتك بما يأمركم فذكرت أنه يأمركم أن تعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا وينهاكم عن عبادة الأوثان ويأمركم بالصلاة والصدق والعفاف فإن كان ما تقول حقا فسيملك موضع قدمي هاتين وقد كنت أعلم أنه خارج لم أكن أظن أنه منكم فلو أني أعلم أني أخلص إليه لتجشمت لقاءه ولو كنت عنده لغسلت عن قدمه ثم دعا بكتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي بعث به دحية إلى عظيم بصرى فدفعه إلى هرقل فقرأه فإذا فيه بسم الله الرحمن الرحيم من محمد عبد الله ورسوله إلى هرقل عظيم الروم سلام على من اتبع الهدى أما بعد فإني أدعوك بدعاية الإسلام أسلم تسلم يؤتك الله أجرك مرتين فإن توليت فإن عليك إثم الأريسيين و يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم أن لا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون قال أبو سفيان فلما قال ما قال وفرغ من قراءة الكتاب كثر عنده الصخب وارتفعت الأصوات وأخرجنا فقلت لأصحابي حين أخرجنا لقد أمر أمر بن أبي كبشة إنه يخافه ملك بني الأصفر فما زلت موقنا أنه سيظهر حتى أدخل الله علي الإسلام وكان بن الناظور صاحب إيلياء وهرقل أسقفا على نصارى الشام يحدث أن هرقل حين قدم إيلياء أصبح يوما خبيث النفس فقال بعض بطارقته قد استنكرنا هيئتك قال ابن الناظور وكان هرقل حزاء ينظر في النجوم فقال لهم حين سألوه إني رأيت الليلة حين نظرت في النجوم ملك الختان قد ظهر(1/19)
فمن يختتن من هذه الأمة قالوا ليس يختتن إلا اليهود فلا يهمنك شأنهم واكتب إلى مداين ملكك فيقتلوا من فيهم من اليهود فبينما هم على أمرهم أتي هرقل برجل أرسل به ملك غسان يخبر عن خبر رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما استخبره هرقل قال اذهبوا فانظروا أمختتن هو أم لا فنظروا إليه فحدثوه أنه مختتن وسأله عن العرب فقال هم يختتنون فقال هرقل هذا ملك هذه الأمة قد ظهر عند كتب هرقل إلى صاحب له برومية وكان نظيره في العلم وسار هرقل إلى حمص فلم يرم حمص حتى أتاه كتاب من صاحبه يوافق رأي هرقل على خروج النبي صلى الله عليه وسلم وأنه نبي فأذن هرقل لعظماء الروم في دسكرة له بحمص ثم أمر بأبوابها فغلقت ثم يتحقق فقال يا معشر الروم هل لكم في الفلاح والرشد وأن يثبت ملككم فتبايعوا هذا النبي فحاصوا حيصة حمر الوحش إلى الأبواب فوجدوها قد غلقت فلما رأى هرقل نفرتهم وأيس من الإيمان قال ردوهم علي وقال إني قلت مقالتي آنفا أختبر بها شدتكم على دينكم فقد رأيت فسجدوا له ورضوا عنه فكان ذلك آخر شأن هرقل .
رواه صالح بن كيسان ويونس ومعمر عن الزهري .
المعاني اللغوية
قوله : هرقل : هو ملك الروم وهرقل اسمه وهو بكسر الهاء وفتح الراء وسكون القاف ولقبه قيصر كما يلقب ملك الفرس كسرى ونحوه .
قوله : في ركب جمع راكب كصحب وصاحب وهم أولو الإبل العشرة فما فوقها .
قوله : في المدة يعني مدة الصلح بالحديبية .
قوله : بإيلياء بهمزة مكسورة بعدها ياء أخيرة ساكنة ثم لام مكسورة ثم ياء أخيرة ثم ألف مهموزة وحكى البكري فيها القصر ويقال لها أيضا إليا بحذف الياء الأولى وسكون اللام حكاه البكري وحكى النووي مثله لكن بتقديم الياء على اللام واستغربه قيل معناه بيت الله .(1/20)
قوله : الترجمان بفتح التاء الجيم ورجحه النووي في شرح مسلم ويجوز ضم التاء اتباعا ويجوز فتح الجيم مع فتح أوله حكاه الجوهري ولم يصرحوا بالرابعة وهي ضم أوله وفتح الجيم ، والترجمان المعبر عن لغة بلغة وهو معرب وقيل عربي .
قوله : سجال بكسر أوله أي نوب والسجل الدلو والحرب اسم جنس ولهذا جعل خبره اسم جمع .
قوله : ينال : أي يصيب فكأنه شبه المحاربين بالمستقيين يستقى هذا دلوا وهذا دلوا وأشار أبو سفيان بذلك إلى ما وقع بينهم في غزوة بدر وغزوة أحد .
قوله الاريسيين هو جمع اريسي وهو منسوب إلى أريس بوزن فعيل وقد تقلب همزته ياء كما جاءت به رواية أبي ذر والأصيلي وغيرهما هنا قال ابن سيده الايس الاكار أي الفلاح ثم ثعلب وعند كراع الاريس هو الأمير وقال الجوهري هي لغة شامية وأنكر بن فارس أن تكون عربية .
قوله : أَمِرَ هو بفتح الهمزة وكسر الميم أي عظم .
قوله : سقفا بضم السين والقاف : والسقف والاسقف لفظ أعجمى ومعناه رئيس دين النصارى وقيل عربي وهو الطويل في انحناء وقيل ذلك للرئيس لأنه يتخاشع .
قوله : خبيث النفس أي رديء طيبها أي مهموما وقد تستعمل في كسل النفس
قوله : البطارقة جمع بطريق بكسر أوله وهم خواص دولة الروم .
قوله : حزاء بالمهملة وتشديد الزاي آخره همزة منونة أي كاهنا يقال حزا بالتخفيف يحزو حزوا أي تكهن .
قوله : فحاصوا بمهملتين أي نفروا وشبههم بالوحوش لأن نفرتها أشد من نفرة البهائم الانسية وشبههم بالحمر دون غيرها من الوحوش لمناسبة الجهل وعدم الفطنة بل هم اضل .
الأحكام الفقهية
1 - فيه أن أول واجب على العبيد هو عبادة الله تعالى وإخلاصها له لأن النبي صلى الله عليه وسلم أول ما أمرهم به هو عبادة الله وحده لا شريك له ونبذ ما أشركوا به ما لم ينزل به سلطانا .(1/21)
2 - وفيه أن تارك التوحيد كافر وتارك الصلاة أو الصوم أو الصلاة ليس بكافر لأنه غاير بين الأمرين فقل ويأمرنا فدل ذلك على مغايرتهما وأن مرتبتهما ليست واحدة ، فمخالف الأول كافر والثاني عاص .
3 - وفيه دليل على زيادة الإيمان لقول هرقل وكذلك الإيمان أي أمر الإيمان لأنه يظهر نورا ثم لا يزال في زيادة حتى يتم بالأمور المعتبرة فيه من صلاة وزكاة وصيام وغيرها ولهذا نزلت في آخر سني النبي صلى الله عليه وسلم اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ومنه ويأبى الله الا أن يتم نوره وكذا جرى لاتباع النبي صلى الله عليه وسلم لم يزالوا في زيادة حتى كمل بهم ما أراد الله من إظهار دينه وتمام نعمته فله الحمد والمنة .
4 - وفيه أن من صفات الرسل عدم الغدر والوفاء بالعهد وهذا متفق عليه بين أهل السنة وذلك من قوله وكذلك الرسل لا تغدر ، لأنها لا تطلب حظ الدنيا الذي لا يبالي طالبه بالغدر بخلاف من طلب الآخرة .
5 - وفيها أن المستمع لابد أن يكون فهما عارفا لمن يحدثه عن آخر خصوصا إذا كان المتحدث عدوا للمتحدث عنه ولذلك لم يعرج هرقل على الدسيسة التي دسها أبو سفيان في قوله فما ندري ما هو فاعل فيها ، أي المدة .
6 - وفيه أن نبوة محمد صلى الله عليه وسلم حق والإسلام حق وهو خاتم الأنبياء بدليل شهادة هرقل له وتمنيه أن يذهب إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقوله وليبلغن ملكه ما تحت قدمي أي بيت المقدس وكنى بذلك لأنه موضع استقراره أو أراد الشام كله لأن دار مملكته كانت حمص .
7 - قوله : وفيه أن من يرسل رسولا لابد أن يختاره وسيطا وضيئا كبيرا كما بعث النبي صلى الله عليه وسلم دحية وهو بكسر الدال وحكى فتحها لغتان ويقال أنه الرئيس بلغة أهل اليمن وهو ابن صحابي جليل كان أحسن الناس وجها وأسلم قديما وبعثه النبي صلى الله عليه وسلم في آخر سنة ست بعد أن رجع من الحديبية بكتابه إلى هرقل وكان وصوله إلى هرقل في المحرم سنة سبع .(1/22)
8 - وفي أن من السنة أن يبدأ الكتاب باسم الراسل لقوله من محمد وهو قول الجمهور بل حكى ابن النحاس إجماع الصحابة والحق اثبات الخلاف .
9 - وفيه تأليف عدو الإسلام حتى يألف الإسلام ويقبل السماع لعل الهداية تكون فيه لقوله : عظيم الروم رغم أنه معزول بحكم الإسلام لكنه لم يخله من إكرام لمصلحة التآلف .
10 - أن كل من دان بدين أهل الكتاب كان في حكمهم في المناكحة والذبائح لأن هرقل هو وقومه ليسوا من بني إسرائيل وهم ممن دخل في النصرانية بعد التبديل وقد قال له ولقومه يا أهل الكتاب فدل على أن لهم حكم أهل الكتاب خلافا لمن خص ذلك الاسرائيلين أو بمن علم أن سلفه ممن دخل في اليهودية أو النصرانية قبل التبديل والله أعلم قاله البلقيني .
11 - فيه أن كل من كان مانعا من وصول الحق إلى أحد فإنه يأثم ويقع عليه إثم من تسبب في منع الحق عنه حتى أثم ، وذلك في قوله : فإن عليك إثم الأريسيين ، ولا يعارض بقوله تعالى ولا تزر وازرة وزر أخرى لأن وزر الإثم لا يتحمله غيره ولكن الفاعل المتسبب والمتلبس بالسيئات يتحمل من جهتين جهة فعله وجهة تسببه .
12 - استدل بهذا من يرى جواز قراءة الجنب للآية أو الآيتين وبإرسال بعض القرآن إلى أرض العدو وكذا بالسفر به وأغرب بن بطال فادعى أن ذلك نسخ بالنهى عن السفر بالقرآن إلى أرض العدو ويحتاج إلى إثبات التاريخ بذلك ويحتمل أن يقال أن المراد بالقرآن في حديث النهى عن السفر به أي المصحف .
وأما الجنب فيحتمل أن يقال إذا لم يقصد التلاوة جاز على أن في الاستدلال بذلك من هذه القصه نظرا فأنها واقعة عين لا عموم فيها فيقيد الجواز على ما إذا وقع احتياج إلى ذلك كالإبلاغ والانذار كما في هذه القصة وأما الجواز مطلقا حيث لاضرورة فلا يتجه .(1/23)
13 - أن الإشارات بالنبي صلى الله عليه وسلم جاءت من كل طريق وعلى لسان كل فريق من كاهن أو منجم محق أو مبطل أنسى أو جنى بدليل أن هرقل استدل على خروج النبي صلى الله عليه بالنظر في النجوم وكان منجما .
ما يتعلق بالإسناد
قوله رواه صالح بن كيسان ويونس ومعمر عن الزهري .
قال الكرماني يحتمل ذلك وجهين أن يروي البخاري عن الثلاثة بالإسناد المذكور كأنه قال : أخبرنا أبو اليمان أخبرنا هؤلاء الثلاثة عن الزهري وأن يروي عنهم بطريق آخر كما أن الزهري يحتمل أيضا في رواية الثلاثة أن يروي له عن عبيد الله عن ابن عباس وأن يروي لهم عن غيره هذا ما يحتمل اللفظ وإن كان الظاهر الاتحاد .(1/24)
قال ابن حجر رحمه الله تعالى 9 : هذا الظاهر كاف لمن شم أدنى رائحة من علم الإسناد والاحتمالات العقليه المجرده لا مدخل لها في هذا الفن وأما الاحتمال الأول فاشد بعدا لأن أبا اليمان لم يلحق صالح بن كيسان ولا سمع من يونس وهذا أمر يتعلق بالنقل المحض فلا يلتفت إلى ما عداه ولو كان من أهل النقل لاطلع على كيفية رواية الثلاثه لهذا الحديث بخصوصه فاستراح من هذا التردد وقد أوضحت ذلك في كتابي تغليق التعليق واشير هنا إليه إشارة مفهمه فرواية صالح وهو ابن كيسان أخرجها المؤلف في كتاب الجهاد بتمامها من طريق إبراهيم بن سعد عن صالح بن كيسان عن الزهري عن عبيد الله بن عبد الله عن ابن عباس وفيها من ملكا الزوائد ما أشرت إليه في اثناء الكلام على هذا الحديث من قبل ولكنه انتهى حديثه عند قول أبي سفيان حتى ادخل الله علي الإسلام زاد هنا وأنا كاره ولم يذكر قصة بن الناطور وكذا أخرجه مسلم بدونها من حديث إبراهيم المذكور ورواية يونس أيضا عن الزهري بهذا الإسناد أخرجها المؤلف في الجهاد مختصره من طريق الليث وفي الاستئذان مختصره أيضا من طريق بن المبارك كلاهما عن يونس عن الزهري بسنده بعينه ولم يسقه بتمامه وقد ساقه الطبراني من طريق عبد الله بن صالح عن الليث وذكر فيه قصة بن الناطور ورواية معمر عن الزهري كذلك ساقها المؤلف بتمامها في التفسير وقد اشرنا إلى بعض فوائد زائدة فيما مضى أيضا وذكر فيه من قصة بن الناطور قطعه مختصره عن الزهري مرسلة فقد ظهر لك أن أبا اليمان ما روى هذا الحديث عن واحد من الثلاثه وأن الزهري إنما رواه لأصحابه بسند واحد عن شيخ واحد وهو عبيد الله وأن أحاديث الثلاثه عند المصنف أبي اليمان ولو احتمل أن يرويه لهم أو لبعضهم عن شيخ آخر لكان ذلك اختلافا قد يفضى إلى الاضطراب الموجب للضعف فلاح فساد ذلك الاحتمال والله سبحانه وتعالى الموفق والهادي إلى الصواب لا إله الا هو .
الحديث السابع(1/25)
قال البخاري رحمه الله تعالى في صحيحه ( 8 ) :
حدثنا عبيد الله بن موسى قال : أخبرنا حنظلة بن أبي سفيان عن عكرمة بن خالد عن ابن عمر رضي الله عنهما قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم بني الإسلام على خمس شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة والحج وصوم رمضان .
ما يتعلق بالإسناد
وقع هنا تقديم الحج على الصوم وعليه بني البخاري ترتيبه لكن وقع في مسلم من رواية سعد بن عبيدة عن ابن عمر بتقديم الصوم على الحج قال فقال رجل والحج وصيام رمضان ف قال ابن عمر لا صيام رمضان والحج هكذا سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم انتهى ففي هذا اشعار بان رواية حنظلة التي في البخاري مروية بالمعنى أما لأنه لم يسمع رد بن عمر على الرجل لتعدد المجلس أو حضر ذلك ثم نسيه ويبعد ما جوزه بعضهم أن يكون بن عمر سمعه من النبي صلى الله عليه وسلم على الوجهين ونسي أحدهما ثم رده على الرجل ووجه بعده أن تطرق النسيان إلى الراوي عن الصحابي أولي من تطرقه إلى الصحابي وكيف وفي رواية مسلم من طريق حنظلة بتقديم الصوم على الحج ولأبي عوانة من وجه آخر عن حنظلة أنه جعل صوم رمضان قبل فتنويعه دال على أنه روى بالمعنى ويؤيده ما وقع ثم البخاري في التفسير بتقديم الصيام على الزكاة افيقال أن الصحابي سمعه على ثلاثة أوجه هذا مستبعد والله أعلم 10 .
المعاني اللغوية
قوله شهادة أن لا إله الا الله وما بعدها مخفوض على البدل من خمس ويجوز الرفع على حذف الخبر والتقدير منها شهادة أن لا إله الا الله أو على حذف المبتدأ والتقدير أحدها شهادة أن لا إله الا الله .
شرح الحديث
قوله على خمس أي دعائم ، والحديث فيه أمور :(1/26)
الأول : يبين ابن عمر رضي الله عنه في هذا الحديث أن دعائم الإسلام وأركانه هذه الخمسة ، ولم يذكر الجهاد لأنه فرض كفاية ولا يتعين الا في بعض الأحوال ولهذا جعله بن عمر جواب السائل إذ أن مناسبة الحديث أن رجلا سأل ابن عمر لما لا تجاهد ؟
فبين له أن الجهاد ليس من أركان الإسلام وفرائضه العينية حتى أعير بتركه .
وأغرب ابن بطال فزعم أن هذا الحديث كان أول الإسلام قبل فرض الجهاد وفيه نظر بل هو خطأ لأن فرض الجهاد كان قبل وقعة بدر وبدر كانت في رمضان في السنة الثانية وفيها فرض الصيام والزكاة بعد ذلك والحج بعد ذلك على الصحيح 11 .
ثانيا : لم يذكر الإيمان بالأنبياء والملائكة وغير ذلك مما تضمنه سؤال جبريل عليه السلام في حديث الإيمان الطويل ؟
وأجيب بأن المراد بالشهاده تصديق الرسول فيما جاء به فيستلزم جميع ما ذكر من المعتقدات .
وقال الإسماعيلي ما محصله : هو من باب تسمية الشيء ببعضه كما تقول قرأت الحمد وتريد جميع الفاتحه وكذا نقول مثلا شهدت برسالة محمد وتريد جميع ما ذكر والله أعلم 12 .
ثالثها : المراد بإقام الصلاة المداومة عليها أو مطلق الإتيان بها والمراد بإيتاء الزكاة إخراج جزء من المال على وجه مخصوص .
رابعها : هل يشترط في صحة الإسلام تقدم الإقرار بالتوحيد على الإقرار بنبوة النبي صلى الله عليه وسلم ورسالته ؟
اشترط الباقلاني في صحة الإسلام تقدم الإقرار بالتوحيد على الرسالة ولم يتابع على ذلك ، مع أن مقتضى الشهادتين ومن يشهدهما هو تقدم الإقرار لفظا ومعنى ، فليتأمل 13 .
الحديث الثامن
قال البخاري رحمه الله تعالى في صحيحه (9) :
حدثنا عبد الله بن محمد قال : حدثنا أبو عامر العقدي قال : حدثنا سليمان بن بلال عن عبد الله بن دينار عن أبي صالح ، عن أبي هريرة رضي الله عنه ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : الإيمان بضع وستون شعبة والحياء شعبة من الإيمان .
ما يتعلق بالإسناد(1/27)
1 - قوله : ، عن أبي هريرة هذا أول حديث وقع ذكره فيه ومجموع ما أخرجه له البخاري من المتون المستقله أربعمائة حديث وستة وأربعون حديثا على التحرير وقد اختلف في اسمه اختلافا كثيرا قال ابن عبد البر لم يختلف في اسم في الجاهلية والإسلام مثل ما اختلف في اسمه اختلف فيه على عشرين قولا .
وقال النووي تبلغ أكثر من ثلاثين قولا قلت وقد جمعتها في ترجمته في تهذيب التهذيب فلم تبلغ ذلك ولكن كلام الشيخ محمول على الاختلاف في اسمه وفي اسم أبيه معا 14 .
2 - قوله : وستون لم تختلف الطرق عن أبي عامر شيخ شيخ المؤلف في ذلك وتابعه يحيى الحماني بكسر المهملة وتشديد الميم عن سليمان بن بلال أخرجه أبو عوانة من طريق بشر بن عمرو .
وعن سليمان بن بلال فقال بضع وستون أو بضع وسبعون وكذا وقع التردد في رواية مسلم من طريق سهيل بن أبي صالح عن عبد الله بن دينار .
ورواه أصحاب السنن الثلاثة من طريقه فقالوا بضع وسبعون شك ولأبي عوانة في صحيحه من طريق ست وسبعون أو سبع وسبعون ورجح البيهقي رواية البخاري لأن سليمان لم يشك وفيه نظر لما ذكرنا من رواية بشر بن عمرو عنه فتردد أيضا لكن يرجح بأنه المتيقن وما عداه مشكوك فيه .
وأما رواية الترمذي بلفظ أربع وستون فمعلولة وعلى صحتها لا تخالف رواية البخاري وترجيح رواية بضع وسبعون لكونها زيادة ثقة كما ذكره الحليمي ثم عياض لا يستقيم إذ الذي زادها لم يستمر على الجزم بها لا سيما مع اتحاد المخرج وبهذا يتبين شفوف نظر البخاري وقد رجح بن الصلاح الأقل لكونه المتيقن 15 .
ثالثا : في الإسناد المذكور رواية الأقران وهي عبد الله بن دينار عن أبي صالح لأنهما تابعيان فإن وجدت رواية أبي صالح عنه صار من المدبج ورجاله من سليمان إلى منتهاه من أهل المدينة وقد دخلها الباقون .
المعاني اللغوية(1/28)
قوله :بضع بكسر أوله وحكى الفتح لغة وهو عدد مبهم مقيد بما بين الثلاث إلى التسع كما جزم به القزاز ، وقال ابن سيده إلى العشر وقيل من واحد إلى تسعة وقيل من اثنين إلى عشرة وقيل من أربعة إلى تسعة وعن الخليل البضع السبع ويرجح ما قاله القزاز ما اتفق عليه المفسرون في قوله تعالى فلبث في السجن بضع سنين وما رواه الترمذي بسند صحيح أن قريشا قالوا ذلك لأبي بكر وكذا رواه الطبري مرفوعا .
قوله : شعبة بالضم أي قطعة والمراد الخصلة أو الجزء .
قوله : والحياء هو بالمد وهو في اللغة تغير وانكسار يعترى الإنسان من خوف ما يعاب به وقد يطلق على مجرد ترك الشيء بسبب والترك إنما هو من لوازمه .
شرح الحديث
يبين الحديث أن الإيمان شعب وأجزاء ، وقد تكلف جماعة حصر هذه الشعب بطريق الاجتهاد وفي الحكم بكون ذلك هو المراد صعوبة ولا يقدح عدم معرفة حصر ذلك على التفصيل في الإيمان أه
ولم يتفق من عد الشعب على نمط واحد واقربها إلى الصواب طريقة ابن حبان لكن لم نقف على بيانها من كلامه وقد لخصت مما أوردوه ما أذكره وهو أن هذه الشعب تتفرع عن أعمال القلب واعمال اللسان واعمال البدن فاعمال القلب فيه المعتقدات والنيات وتشتمل على أربع وعشرين خصلة الإيمان بالله ويدخل فيه الإيمان بذاته وصفاته وتوحيده بأنه ليس كمثله شيء واعتقاد حدوث ما دونه والإيمان بملائكته وكتبه ورسله والقدر خيره وشره والإيمان باليوم الآخر ويدخل فيه المسألة في القبر والبعث والنشور والحساب والميزان والصراط والجنة والنار ومحبة الله والحب والبغض فيه ومحبة النبي صلى الله عليه وسلم واعتقاد تعظيمه ويدخل فيه الصلاة عليه واتباع سنته والإخلاص ويدخل فيه ترك الرياء والنفاق والتوبة والخوف والرجاء والشكر والوفاء والصبر والرضا بالقضاء والتوكل والرحمة والتواضع ويدخل فيه توقير الصغير وترك الكبر والعجب وترك الحسد وترك الحقد وترك الغضب .(1/29)
وأعمال اللسان وتشتمل على سبع خصال التلفظ بالتوحيد وتلاوة القرآن وتعلم العلم وتعليمه والدعاء والذكر ويدخل فيه الاستغفار واجتناب اللغو .
وأعمال البدن وتشتمل على ثمان وثلاثين خصلة منها ما يختص بالأعيان وهي خمس عشرة خصلة التطهير حسا وحكما ويدخل فيه اجتناب النجاسات وستر العورة والصلاة فرضا ونفلا والزكاة كذلك وفك الرقاب والجود ويدخل فيه سنان الطعام واكرام الضيف والصيام فرضا ونفلا والحج والعمرة كذلك والطواف والاعتكاف والتماس ليلة القدر والفرار بالدين ويدخل فيه الهجرة من دار الشرك والوفاء بالنذر والتحرى في الإيمان وأداء الكفارات ومنها ما يتعلق بالاتباع وهي ست خصال التعفف بالنكاح والقيام بحقوق العيال وبر الوالدين وفيه اجتناب العقوق وتربية الأولاد وصلة الرحم وطاعة السادة أو الرفق بالعبيد ومنها ما يتعلق بالعامه وهي سبع عشرة خصلة القيام بالامرة مع العدل ومتابعة الجماعة وطاعة أولي الأمر والإصلاح بين الناس ويدخل فيه قتال الخوارج والبغاة والمعاونة على البر ويدخل فيه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وإقامة الحدود والجهاد ومنه المرابطة وأداء الأمانة ومنه أداء الخمس والقرض مع وفائه واكرام الجار وحسن المعاملة وفيه جمع المال من حله وانفاق المال في حقه ومنه ترك التبذير والاسراف ورد السلام وتشميت العاطس وكف الأذى عن الناس واجتناب اللهو واماطة الأذى عن الطريق فهذه تسع وستون خصلة .
ويمكن عدها تسعا وسبعين خصلة باعتبار افراد ما ضم بعضه إلى بعض مما ذكر والله أعلم 16 .
واعلم أن هذه الدرجات ليست على سنن واحد بل هي متفاوتة فقد أتى في رواية مسلم من الزيادة أعلاها لا إله الا الله وادناها إماطة الاذي عن الطريق وفي هذا إشارة إلى أن مراتبها متفاوتة .
وقد ضرب في الحديث مثالا لعمل من أعمال القلوب والجوارح معا وهو الحياء وهو خلق يبعث على اجتناب القبيح ويمنع من التقصير في حق ذي الحق .(1/30)
ولهذا جاء في الحديث الآخر الحياء خير كله .
فإن قيل الحياء من الغرائز فكيف جعل شعبة من الإيمان ؟
أجيب بأنه قد يكون غريزة وقد يكون تخلقا ولكن استعماله على وفق الشرع يحتاج إلى اكتساب وعلم ونية فهو من الإيمان لهذا ولكونه باعثا على فعل الطاعة وحاجزا عن فعل المعصية ولا يقال رب حياء يمنع عن قول الحق أو فعل الخير لأن ذاك ليس شرعيا .
فإن قيل لم أفرده بالذكر هنا أجيب بأنه كالداعي إلى باقي الشعب إذ الحي يخاف فضيحة الدنيا والآخرة فيأتمر وينزجر .
الحديث التاسع
قال البخاري رحمه الله تعالى في صحيحه (14) :
حدثنا أبو اليمان قال : أخبرنا شعيب قال : حدثنا أبو الزناد عن الأعرج ، عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : فوالذي نفسي بيده لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من والده وولده .
ما يتعلق بالإسناد
وقع في غرائب مالك للدار قطني إدخال رجل وهو أبو سلمة بن عبد الرحمن بين الأعرج وأبي هريرة في هذا الحديث وهي زيادة شاذة فقد رواه الإسماعيلي بدونها من حديث مالك ومن حديث إبراهيم بن طهمان وروى بن منده من طريق أبي حاتم الرازي عن أبي اليمان شيخ البخاري هذا الحديث مصرحا فيه بالتحديث في جميع الإسناد وكذا النسائي من طريق على بن عياش عن شعيب .
المباحث الفقهية
1 - فيه جواز الحلف على الأمر المهم توكيدا وإن لم يكن هناك مستحلف لقوله والذي نفسي بيده .
2 - قوله : لا يؤمن أي إيمانا كاملا .
3 - قوله : أحب هو أفعل بمعنى المفعول وهو مع كثرته على خلاف القياس وفصل بينه وبين معموله بقوله إليه لأن الممتنع الفصل باجنبي .
الحديث العاشر
قال البخاري رحمه الله في صحيحه (15 ) :(1/31)
حدثنا يعقوب بن إبراهيم قال : حدثنا ابن علية عن عبد العزيز بن صهيب ، عن أنس ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ح وحدثنا آدم قال : حدثنا شعبة ، عن قتادة ، عن أنس قال : قال النبي صلى الله عليه وسلم لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من والده وولده والناس أجمعين .
ما يتعلق بالإسناد
قوله : أخبرنا يعقوب بن إبراهيم هو الدورقي والتفريق بين حدثنا و أخبرنا لا يقول به المصنف كما يأتي في العلم وقد وقع رواية أبي ذر حدثنا يعقوب قوله وحدثنا ادم عطف الإسناد الثاني على الأول قبل أن يسوق المتن فاوهم استواءهما فإن لفظ قتادة مثل لفظ حديث أبي هريرة لكن زاد فيه والناس أجمعين ولفظ عبد العزيز مثله الا أنه قال كما رواه بن خزيمة في صحيحه عن يعقوب شيخ البخاري بهذا الإسناد من أهله وماله بدل من والده وولده وكذا لمسلم من طريق بن علية وكذا للإسماعيلي من طريق عبد الوارث بن سعيد عن عبد العزيز ولفظه لا يؤمن الرجل وهو اشمل من جهة واحدكم اشمل من جهة واشمل منها رواية الأصيلي لايؤمن أحد فإن قيل فسياق عبد العزيز مغاير لسياق قتادة وصنيع البخاري يوهم اتحادهما في المعنى وليس كذلك فالجواب أن البخاري يصنع مثل هذا نظرا إلى أصل الحديث لا إلى خصوص ألفاظه واقتصر على سياق قتادة لموافقته لسياق حديث أبي هريرة ورواية شعبة ، عن قتادة مأمون فيها من تدليس قتادة لأنه كان لا يسمع منه الا ما سمعه وقد وقع التصريح به في هذا الحديث في رواية النسائي .
شرح الحديث
1 - المراد بالمحبة هنا حب الاختيار لا حب الطبع قاله الخطابي .
وقال النووي فيه تلميح إلى قضية النفس الامارة والمطمئنه فإن من رجح جانب المطمئنة كان حبه للنبي صلى الله عليه وسلم راجحا ومن رجح جانب الامارة كان حكمة بالعكس .
2 - هل الأمر بالمحبة أمر لا يقوم الإيمان إلا به بحيث انه شرط له ففي كلام القاضي عياض أن ذلك شرط في صحة الإيمان لأنه حمل المحبة على معنى التعظيم والإجلال .(1/32)
وقال القرطبي في المفهم أن ذلك ليس مرادا هنا لأن اعتقاد الأعظمية ليس مستلزما للمحبة إذ قد يجد الإنسان اعظام شيء مع خلوه من محبته .
وهذا هو الصحيح أي أن الأمر بالمحبة هنا لكمال الإيمان لا لصحته .
قال فعلى هذا من لم يجد من نفسه ذلك الميل لم يكمل ايمانه وإلى هذا يوميء قول عمر الذي رواه البخاري في الإيمان والنذور من حديث عبد الله بن هشام أن عمر بن الخطاب قال للنبي صلى الله عليه وسلم لانت يا رسول الله أحب إلى من كل شيء الا من نفسي فقال لا والذي نفسي بيده حتى أكون أحب إليك من نفسك فقال له عمر فإنك الآن والله أحب إلى من نفسي فقال الآن يا عمر.
فهذه المحبة ليست باعتقاد الاعظميه فقط فإنها كانت حاصلة لعمر قبل ذلك قطعا ، ولا يقول قائل أن عمر قبل هذه الحادثة لم يكن مؤمنا .
3 - وللحب علامات وليس بادعاء وفقط ، وليس كل من ادعى المحبة صدق فيها وقد ادعى قوم محبة الله فابتلاهم الله تعالى بموجبها وهو الإتباع فقال ? قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ? فمن علامات الحب المذكور :
أ - أن يعرض على المرء أن لو خير بين فقد غرض من اغراضه أو فقد رؤية النبي صلى الله عليه وسلم أن لو كانت ممكنه فإن كان فقدها أن لو كانت ممكنة أشد عليه من فقد شيء من اغراضه فقد اتصف بالاحبية المذكورة ومن لا فلا .
ب - نصرة سنته والذب عن شريعته وقمع مخالفيها .
ج - الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر .(1/33)
4 - فضيلة التفكر فإن الأحبية المذكورة تعرف به وذلك أن محبوب الإنسان إما نفسه وإما غيرها ، أما نفسه فهو أن يريد دوام بقائها سالمة من الآفات وهذا هو حقيقة المطلوب وأما غيرها فإذا حقق الأمر فيه فإنما هو بسبب تحصيل نفع ما على وجوهه المختلفه حالا ومالا فإذا تأمل النفع الحاصل له من جهة الرسول صلى الله عليه وسلم الذي أخرجه من ظلمات الكفر إلى نور الإيمان إما بالمباشرة وإما بالسبب علم أنه سبب بقاء نفسه البقاء الأبدي في النعيم السرمدي وعلم أن نفعه بذلك أعظم من جميع وجوه الانتفاعات فاستحق لذلك أن يكون حظه من محبته اوفر من غيره لأن النفع الذي يثير المحبة حاصل منه أكثر من غيره ولكن الناس يتفاوتون في ذلك بحسب استحضار ذلك والغفلة عنه ولا شك أن حظ الصحابة رضي الله عنهم من هذا المعنى أتم لأن هذا ثمرة المعرفة وهم بها أعلم .
4 - أن محبة النبي صلى الله عليه وسلم تتفاوت عند المحبين .
قال القرطبي : كل من آمن بالنبي صلى الله عليه وسلم إيمانا صحيحا لا يخلو عن وجدان شيء من تلك المحبة إنهم متفاوتون فمنهم من أخذ من تلك المرتبة بالحظ الاوفى ، ومنهم من أخذ منها بالحظ الأدنى كمن كان مستغرقا في الشهوات محجوبا في الغفلات في أكثر الأوقات لكن الكثير منهم إذا ذكر النبي صلى الله عليه وسلم اشتاق إلى رؤيته بحيث يؤثرها على أهله وولده وماله ووالده ويبذل نفسه في الأمور الخطيرة ويجد مخبر ذلك من نفسه وجدانا لا تردد فيه .
الحديث الحادي عشر
قال البخاري رحمه الله تعالى في صحيحه (16 ) :
حدثنا محمد بن المثنى قال : حدثنا عبد الوهاب الثقفي قال : حدثنا أيوب عن أبي قلابة ، عن أنس ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله وأن يكره أن يعود في الكفر كما يكره أن يقذف في النار .
ما يتعلق بالإسناد(1/34)
1 - قوله حدثنا محمد بن المثنى هو أبو موسى العنزي بفتح النون بعدها زاي .
2 - عبد الوهاب هو ابن عبد المجيد .
3 - أيوب هو ابن أبي تميمه السختياني بفتح السين المهمله على الصحيح وحكى ضمها وكسرها .
4 - وأبو قلابة هو الجرمي عبد الله بن زيد البصري بكسر القاف وبباء موحدة .
المعاني اللغوية
قوله : ثلاث هو مبتدأ والجملة الخبر وجاز الابتداء بالنكرة لأن التنوين إليه فالتقدير ثلاث خصال ويحتمل في ذلك قوله كن أي حصلن فهي تامة .
قوله : حلاوة الإيمان استعارة تخييلية شبه رغبة المؤمن في الإيمان بشيء حلو وأثبت له لازم ذلك الشيء وأضافه إليه .
شرح الحديث
قال البيضاوي : المراد بالحب هنا الحب العقلي الذي هو إيثار ما يقتضي العقل السليم رجحانه وإن كان على خلاف هوى النفس كالمريض يعاف الدواء بطبعه فينفر عنه ويميل إليه بمقتضى عقله فيهوى تناوله فإذا تأمل المرء أن الشارع لا يأمر ولا ينهى الا بما فيه صلاح عاجل أو خلاص آجل والعقل يقتضي رجحان جانب ذلك تمرن على الائتمار بأمره بحيث يصير هواه تبعا له ويلتذ بذلك التذاذا عقليا إذ الالتذاذ العقلي إدراك ما هو كمال وخير من حيث هو كذلك وعبر الشارع عن هذه الحالة بالحلاوة لأنها أظهر اللذائذ المحسوسة .
قال : وإنما جعل هذه الأمور الثلاثة عنوانا لكمال الإيمان لأن المرء إذا تامل أن المنعم بالذات هو الله تعالى وأن لا مانح ولا مانع في الحقيقة سواه وأن ما عداه وسائط وأن الرسول هو الذي يبين له مراد ذلك أن يتوجه بكليته نحوه فلا يحب الا ما يحب ولا يحب من يحب الا من أجلة وأن يتقين أن جملة ما وعد وأوعد حق يقينا ويخيل إليه الموعود كالواقع فيحسب أن مجالس الذكر رياض الجنة وأن العود إلى الكفر إلقاء في النار .(1/35)
وقسم بعض العلماء محبة الله إلى قسمين : فرض وندب فالفرض المحبة التي تبعث على امتثال اوامره والانتهاء عن معاصيه والرضا بما يقدره فمن وقع في معصية من فعل محرم أو ترك واجب فلتقصيره في محبة الله حيث قدم هوى نفسه والتقصير تارة يكون مع الاسترسال في المباحات والاستكثار منها فيورث الغفلة المقتضية للتوسع في الرجاء فيقدم على المعصية أو تستمر الغفلة فيقع وهذا الثاني يسرع إلى الاقلاع مع الندم ، وإلى الثاني يشير حديث لا يزني الزاني وهو مؤمن .
والندب أن يواظب على النوافل ويتجنب الوقوع في الشبهات والمتصف عموما بذلك نادر .
قال : وكذلك محبة الرسول على قسمين كما تقدم ويزاد أن لا يتلقى شيئا من المأمورات والمنهيات الا من مشكاته ولا يسلك الا طريقته ويرضى بما شرعه حتى لا يجد في نفسه حرجا بما قضاه ويتخلق باخلاقه في الجود والايثار والحلم والتواضع وغيرها فمن جاهد نفسه على ذلك وجد حلاوة الإيمان وتتفاوت مراتب المؤمنين بحسب ذلك .
وقال النووي رحمه الله : هذا حديث عظيم أصل من أصول الدين ومعنى حلاوة الإيمان استلذاذ الطاعات وتحمل المشاق في الدين وايثار ذلك على أعراض الدنيا ومحبة العبد لله تحصل بفعل طاعته وترك مخالفته وكذلك الرسول وإنما قال مما سواهما ولم يقل ممن ليعم من يعقل ومن لا يعقل .
2 - وفي الحديث دليل على جواز التثنية في ذكر الله ورسوله معا ، وأما قوله للذي خطب فقال ومن يعصمهما بئس الخطيب أنت فليس من هذا لأن المراد في الخطب الإيضاح وأما هنا فالمراد الإيجاز في اللفظ ليحفظ .
3 - وفيه : أن الحب في الله تعالى من معاقد الإيمان .
قال يحيى بن معاذ حقيقة الحب في الله أن لا يزيد بالبر ولا ينقص بالجفاء .
4 - وفيه بغض الباطل والكفر وأهلهما لقوله وان يكره أن يعود في الكفر كما يكره أن يقذف في النار .
5 - وفيه فضل من أكره على الكفر فترك ذلك إلى أن قتل .
الحديث الثاني عشر
قال البخاري رحمه الله تعالى (18 ) :(1/36)
حدثنا أبو اليمان قال : أخبرنا ، شعيب عن الزهري قال : أخبرني أبو إدريس عائذ الله بن عبد الله أن عبادة بن الصامت رضي الله عنه وكان شهد بدرا وهو أحد النقباء ليلة العقبة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : وحوله عصابة من أصحابه بايعوني على أن لا تشركوا بالله شيئا ولا تسرقوا ولا تزنوا ولا تقتلوا أولادكم ولا تأتوا ببهتان تفترونه بين أيديكم وأرجلكم ولا تعصوا في معروف فمن وفي منكم فأجره على الله ومن أصاب من ذلك شيئا فعوقب في الدنيا فهو كفارة له ومن أصاب من ذلك شيئا ثم ستره الله فهو إلى الله إن شاء عفا عنه وإن شاء عاقبه فبايعناه على ذلك .
ما يتعلق بالإسناد
1 - عائذ الله هو اسم علم أي ذو عياذة الله وأبوه عبد الله بن عمرو الخولاني صحابي وهو من حيث الرواية تابعي كبير وقد ذكر في الصحابة لأن له رؤية وكان مولده عام حنين .
2 - الإسناد كله شاميون .
المعاني اللغوية
قوله : وحوله بفتح اللام على الظرفيه .
والعصابة : بكسر العين الجماعة من العشرة إلى الأربعين ولا واحد لها من لفظها وقد جمعت على عصائب وعصب .
قوله بايعوني : المبايعة عبارة عن المعاهدة سميت بذلك تشبيها بالمعاوضة المالية كما في قوله تعالى ان الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة .
قوله : ببهتان البهتان الكذب الذي يبهت سامعه .
شرح الحديث
1 - قال محمد بن إسماعيل التميمي وغيره : خص القتل بالاولاد لأنه قتل وقطيعة رحم فالعناية بالنهي عنه آكد ولأنه كان شائعا فيهم وهو وأد البنات وقتل البنين خشية الاملاق أو خصهم بالذكر لأنهم بصدد أن لا يدفعوا عن أنفسهم .(1/37)
2 - قوله : ولا تأتوا ببهتان البهتان الكذب الذي يبهت سامعه وخص الأيدي والارجل بالافتراء لأن معظم الأفعال تقع بهما إذ كانت هي العوامل والحوامل للمباشرة والسعي وكذا يسمون الصنائع الأيادي وقد يعاقب الرجل بجناية قولية فيقال هذا بما كسبت يداك ويحتمل أن يكون المراد لا تبهتوا الناس كفاحا وبعضكم يشاهد بعضا كما يقال قلت كذا بين يدي فلان قاله الخطابي وفيه نظر لذكر الأرجل وأجاب الكرماني بأن المراد الأيدي وذكر الأرجل تأكيدا ومحصله أن ذكر الأرجل أن لم يكن مقتضيا فليس بمانع ويحتمل أن يكون المراد بما بين الأيدي والارجل القلب لأنه هو الذي يترجم اللسان عنه فلذلك نسب إليه الافتراء كان المعنى لا ترموا أحدا بكذب تزورونه في أنفسكم ثم تبهتون صاحبه بألسنتكم .
3 - قوله : في معروف قال النووي : يحتمل أن يكون المعنى ولا تعصوني ولا أحد أولي الأمر عليكم في المعروف فيكون التقييد بالمعروف متعلقا بشيء بعده .
4 - اقتصر في الحديث على المنهيات ولم يذكر المامورات فقيل أنه أهملها والتحقيق أنه لم يهملها بل ذكرها على طريق الإجمال في قوله ولا تعصوا إذ العصيان مخالفة الأمر والحكمة في التنصيص على كثير من المنهيات دون المأمورات أن الكف أيسر من إنشاء الفعل لأن اجتناب المفاسد مقدم على اجتلاب المصالح والتخلي عن الرذائل قبل التحلى بالفضائل .
5 - قوله : ومن أصاب من ذلك شيئا فعوقب به فهو كفارة له .
قال النووي عموم هذا الحديث مخصوص بقوله تعالى إن الله لا يغفر أن يشرك به فالمرتد إذا قتل على ارتداده لا يكون القتل له كفارة .
6 - وفي الحديث أن الحدود كفارات لأهلها .(1/38)
قال القاضي عياض : ذهب أكثر العلماء أن الحدود كفارات واستدلوا بهذا الحديث ومنهم من وقف لحديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : لا أدري الحدود كفارة لأهلها أم لا لكن حديث عبادة أصح إسنادا ، ولم ينفرد عبادة بن الصامت برواية هذا المعنى بل روى ذلك على بن أبي طالب وهو في الترمذي وصححه الحاكم وفيه من أصاب ذنبا فعوقب به في الدنيا فالله أكرم من أن على عبده في الآخرة وهو عند الطبراني بإسناد حسن من حديث أبي تميمة الهجيمي .
7 - وفي الحديث رد على الخوارج الذين يكفرون بالذنوب ورد على المعتزله الذين يوجبون تعذيب الفاسق إذا مات بلا توبة لأن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر بأنه تحت المشيئة ولم يقل لا بد أن يعذبه .
8 - وفيه إشارة إلى الكف عن الشهادة بالنار على أحد أو بالجنة لأحد الا من ورد النص فيه بعينه .
الحديث الثالث عشر
قال البخاري رحمه الله تعالى في صحيحه (20 ) :
حدثنا محمد بن سلام قال : أخبرنا عبدة عن هشام ، عن أبيه ، عن عائشة قالت : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أمرهم أمرهم من الأعمال بما يطيقون قالوا إنا لسنا كهيئتك يا رسول الله إن الله قد غفر لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر فيغضب حتى يعرف الغضب في وجهه ثم يقول إن أتقاكم وأعلمكم بالله أنا .
ما يتعلق بالإسناد
1 - محمد بن سلام هو بتخفيف اللام على الصحيح وقال صاحب المطالع هو بتشديدها عند الأكثر وتعقب النووي بأن أكثر العلماء على أنه بالتخفيف وقد روى ذلك عنه نفسه وهو أخبر بأبيه فلعله أراد بالأكثر مشايخ بلده وقد صنف المنذري جزءا في ترجيح التشديد ولكن المعتمد خلافه .
2 - عبدة هو ابن سليمان الكوفي .
3 - هذا الحديث من افراد البخاري عن مسلم وهو من غرائب الصحيح لا يعرف الا من هذا الوجه كما قال ابن حجر 17 فهو مشهور عن هشام فرد مطلق من حديثه ، عن أبيه ، عن عائشة .
المعاني اللغوية
قوله كهيئتك أي ليس حالنا كحالك .
شرح الحديث(1/39)
1 - إذا أمرهم أمرهم كذا في معظم الروايات ووقع في بعضها أمرهم مرة واحدة وعليه شرح القاضي أبو بكر بن العربي وهو الذي وقع في طرق هذا الحديث التي وقفت عليها من طريق عبدة وكذا من طريق بن نمير وغيره عن هشام عند أحمد وكذا ذكره الإسماعيلي من رواية أبي أسامة عن هشام ولفظه كان إذا أمر الناس بالشيء قالوا والمعنى كان إذا أمرهم بما يسهل عليهم دون خشية أن يعجزوا عن الدوام عليه وعمل هو بنظير ما يأمرهم به من التخفيف طلبوا منه التكليف لاعتقادهم احتياجهم إلى المبالغة في العمل لرفع الدرجات دونه فيقولون لسنا كهيئتك فيغضب من جهة أن حصول الدرجات لا يوجب التقصير في العمل بل يوجب الازدياد شكرا للمنعم الوهاب كما قال في الحديث الآخر أفلا أكون عبدا شكورا وإنما أمرهم بما يسهل عليهم ليداوموا عليه كما قال في الحديث الآخر أحب العمل إلى الله أدومه وعلى مقتضى ما وقع في هذه الرواية من تكرير أمرهم يكون المعنى كان إذا أمرهم بعمل من الأعمال أمرهم بما يطيقون الدوام عليه فأمرهم الثانية جواب الشرط وقالوا جواب ثان .
2 - وفي هذا الحديث أن الأعمال الصالحة ترقى صاحبها إلى المراتب السنية من رفع الدرجات ومحو الخطيات لأنه صلى الله عليه وسلم لم ينكر عليهم استدلالهم ولا تعليلهم من هذه الجهه بل من الجهه الأخرى .
3 - أن العبد إذا بلغ الغاية في العبادة وثمراتها كان ذلك ادعى له إلى المواظبة عليها استبقاء للنعمة واستزادة لها بالشكر عليها .
4 - الوقوف عند ما حد الشارع من عزيمة ورخصة واعتقاد أن الأخذ بالارفق للشرع أولي من الاشق المخالف له .
5 - أن الأولى في العبادة القصد والملازمة لا المبالغة المفضية إلى الترك كما جاء في الحديث الآخر المنبت أي المجد في السير لا أرضا قطع ولا ظهرا أبقى .
6 - التنبيه على شدة رغبة الصحابة في العبادة وطلبهم الازدياد من الخير .(1/40)
7 - مشروعية الغضب عند مخالفة الأمر الشرعي والانكار على الحاذق المتأهل لفهم المعنى إذا قصر في الفهم تحريضا له على التيقظ .
8 - جواز تحدث المرء بما فيه من فضل بحسب الحاجة لذلك ثم الأمن من المباهاة والتعاظم .
9 - بيان أن لرسول الله صلى الله عليه وسلم رتبة الكمال الإنساني لأنه منحصر في الحكمتين العلمية والعملية وقد أشار إلى الأولى بقوله أعلمكم وإلى الثانية بقوله أتقاكم .
الحديث الرابع عشر :
قال البخاري رحمه الله تعالى في صحيحه ( 22 ) :
حدثنا إسماعيل قال : حدثني مالك ، عن عمرو بن يحيى المازني ، عن أبيه ، عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : يدخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار ثم يقول الله تعالى أخرجوا من كان في قلبه مثقال حبة من خردل من إيمان فيخرجون منها قد اسودوا فيلقون في نهر الحيا أو الحياة شك مالك فينبتون كما تنبت الحبة في جانب السيل ألم تر أنها تخرج صفراء ملتوية قال وهيب حدثنا عمرو الحياة وقال خردل من خير .
ما يتعلق بالإسناد
1 - إسماعيل هو ابن أبي أويس عبد الله بن عبد الله الأصبحي المدني بن أخت مالك .
وإسماعيل متكلم فيه لكن وافقه على رواية هذا الحديث عبد الله بن وهب ومعن ابن عيسى عن مالك .
2 - هذا الحديث ليس في موطأ مالك فقد قال الدارقطني : هو غريب صحيح ، يعني غريب عن مالك ولكنه صحيح .
3 - قوله قال وهيب أي ابن خالد حدثنا عمرو أي ابن يحيى المازني المذكور قوله الحياة بالخفض على الحكاية ومراده أن وهيبا وافق مالكا في روايته لهذا الحديث ، عن عمرو بن يحيى بسنده وجزم بقوله في نهر الحياة ولم يشك كما شك مالك .
شرح الحديث
1 - قوله مثقال حبة بفتح الحاء هو إشارة إلى ما لا أقل منه .
2 - والوزن يقع على الأعمال وما ثبت من أمور الآخرة بالشرع لا دخل للعقل فيه .(1/41)
3 - وفي الحديث دليل على مذهب أهل السنة والجماعة من أن الإيمان يزيد وينقص حتى لا يبقى منه شيء ، وأن حبة الخردل هنا هي بيان لمقدار الإيمان في قلب هذا الصنف من المسلمين .
أما الخوارج والمعتزلة فجعلت الطاعات كلها من الإيمان فإذا ذهب بعضها ذهب بعض الإيمان فذهب سائره فحكموا بأن صاحب الكبيرة ليس معه شيء من الإيمان وقالت المرجئة والجهمية ليس الإيمان إلا شيئا واحدا لا يتبعض إما مجرد تصديق القلب كقول الجهمية أو تصديق القلب واللسان كقول المرجئة .
الحديث الخامس عشر :
قال البخاري رحمه الله تعالى في صحيحه (25 ) :
حدثنا عبد الله بن محمد المسندي قال : حدثنا أبو روح الحرمي بن عمارة قال : حدثنا شعبة ، عن واقد بن محمد قال : سمعت أبي يحدث عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحق الإسلام وحسابهم على الله .
ما يتعلق بالإسناد
1 - قوله عن واقد بن محمد هو ابن زيد بن عبد الله بن عمر فهو من رواية الأبناء عن الآباء وهو كثير .
2 - هذا الحديث غريب الإسناد تفرد بروايته شعبة ، عن واقد قاله ابن حبان وهو عن شعبة عزيز تفرد بروايته عنه حرمي هذا وهو عزيز عن حرمي تفرد به عنه المسندي وإبراهيم بن محمد بن عرعرة ومن جهة إبراهيم أخرجه أبو عوانة وابن حبان والإسماعيلي وغيرهم وهو غريب عن عبد الملك تفرد به عنه أبو غسان مالك بن عبد الواحد شيخ مسلم فاتفق الشيخان على الحكم بصحته مع غرابته وليس هو في مسند أحمد على سعته 18 .(1/42)
3 - تكلم قوم في هذا الحديث واستبعدوا صحته بأن الحديث لو كان عند ابن عمر لما ترك أباه ينازع أبا بكر في قتال مانعي الزكاة ولو كانوا يعرفونه لما كان أبو بكر يقر عمر على الاستدلال بقوله عليه الصلاة والسلام أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله الا الله وينتقل عن الاستدلال بهذا النص إلى القياس إذ قال لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاه لأنها قرينتها في كتاب الله .
والجواب : أنه لا يلزم من كون الحديث المذكور عند بن عمر أن يكون استحضره في تلك الحاله ولو كان مستحضرا له فقد يحتمل أن لا يكون حضر المناظره المذكورة ولا يمتنع أن يكون ذكره لهما بعد ولم يستدل أبو بكر في قتال مانعي الزكاة بالقياس فقط بل أخذه أيضا من قوله عليه الصلاة والسلام في الحديث الذي رواه إلا بحق الإسلام قال أبو بكر والزكاه حق الإسلام .
ولم ينفرد بن عمر بالحديث المذكور بل رواه أبو هريرة أيضا بزيادة الصلاة والزكاة فيه في كتاب الزكاة - من صحيح البخاري - .
المعاني اللغوية
قوله عصموا : أصل العصمة من العصام وهو الخيط الذي يشد به فم القربه ليمنع سيلان الماء .
شرح الحديث
1 - في القصة دليل على أن السنة قد تخفي على بعض أكابر الصحابة ويطلع عليها آحادهم ولهذا لا يلتفت إلى الآراء ولو قويت مع وجود سنة تخالفها ولا يقال كيف خفي ذا على فلان .
2 - قوله أمرت أي أمرني الله لأنه لا آمر لرسول الله صلى الله عليه وسلم الا الله وقياسه في الصحابي إذا قال أمرت فالمعنى أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا يحتمل أن يريد أمرني صحابي آخر لأنهم من حيث إنهم مجتهدون لا يحتجون بأمر مجتهد آخر وإذا قاله التابعي احتمل والحاصل أن من اشتهر بطاعة رئيس إذا قال ذلك فهم منه أن الآمر له هو ذلك الرئيس .
3 - قوله حتى يشهدوا جعلت غاية المقاتلة وجود ما ذكر فمقتضاه أن من شهد وأقام وأتى وعصم دمه .(1/43)
ونص على الصلاة والزكاة لعظمهما والاهتمام بامرهما وهما نوعي العبادات المالية وبدنية .
قوله ويقيموا الصلاة أي يداوموا على الإتيان بها بشروطها من قامت السوق إذا نفقت 4 - وقامت الحرب إذا أشتد القتال أو المراد بالقيام الأداء تعبيرا عن الكل بالجزء إذ القيام بعض أركانها والمراد بالصلاة المفروض منها لا جنسها فلا تدخل سجدة التلاوه مثلا وأن صدق اسم الصلاة عليها .
وقال النووي : في هذا الحديث أن من ترك الصلاة عمدا يقتل ثم ذكر اختلاف العلماء في ذلك .
وقد أطنب بن دقيق العيد في شرح العمده في الإنكار على من استدل بهذا الحديث على قتل من ترك الصلاة أو الزكاة وقال لا يلزم من إباحة المقاتلة إباحة القتل لأن المقاتلة مفاعله تستلزم وقع القتال من الجانبين ولا كذلك القتل .
وحكى البيهقي عن الشافعي أنه قال ليس القتال من القتل بسبيل فقد يحل قتال الرجل ولا يحل قتله .
5 - قوله وحسابهم على الله أي في أمر سرائرهم ولفظة على مشعرة بالإيجاب فأما أن تكون بمعنى اللام أو على سبيل التشبيه أي هو كالواجب على الله في تحقق الوقوع وفيه دليل على قبول الظاهر والحكم بما يقتضيه والاكتفاء في قبول الإيمان بالاعتقاد الجازم خلافا لمن أوجب تعلم الأدله من المتكلمين .
6 - ويؤخذ منه ترك تكفير أهل البدع المقرين بالتوحيد الملتزمين للشرائع .
7 - استثني من عموم قتال من لم يسلم مؤدي الجزيه والمعاهد لأمور :
أحدها : دعوى النسخ بان يكون الإذن بأخذ الجزية والمعاهدة متأخرا عن هذه الأحاديث بدليل أنه متاخر عن قوله تعالى اقتلوا المشركين .
ثانيها أن يكون من العام الذي خص منه البعض لأن المقصود من الأمر حصول المطلوب فإذا تخلف البعض لدليل لم يقدح في العموم .
ثالثها أن يكون من العام الذي أريد به الخاص فيكون المراد بالناس في قوله أقاتل الناس أي المشركين أهل الكتاب ويدل عليه رواية النسائي بلفظ أمرت أن أقاتل المشركين .(1/44)
رابعها : أن يكون المراد بما ذكر من الشهادة عن اعلاء كلمة الله وإذعان المخالفين فيحصل في بعض بالقتل وفي بعض بالجزية وفي بعض بالمعاهده .
خامسها : أن يكون المراد بالقتال هو أو ما يقوم مقامه من جزية أو غيرها .
سادسها : أن يقال الغرض من ضرب الجزيه اضطرارهم إلى الإسلام وسبب السبب سبب فكأنه قال حتى يسلموا أو يلتزموا مما يؤديهم إلى الإسلام وهذا أحسن .
الحديث السادس عشر
قال البخاري رحمه الله تعالى في صحيحه (26 ) :
حدثنا أحمد بن يونس وموسى بن إسماعيل قالا : حدثنا إبراهيم بن سعد قال : حدثنا ابن شهاب ، عن سعيد بن المسيب ، عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل أي العمل أفضل فقال إيمان بالله ورسوله قيل ثم ماذا قال الجهاد في سبيل الله قيل ثم ماذا قال حج مبرور .
ما يتعلق بالإسناد
1 - أحمد بن يونس هو اليربوعي الحافظ .
2 - إبراهيم بن سعد هو بن عبد الرحمن الزهري القاضي .
3 - وسعيد بن المسيب هو ابن حزن الإمام أحد الفقهاء السبعة .
شرح الحديث
والحديث يدل على أن الاعتقاد والنطق من جملة الأعمال ، وأن أعمال الجوارح من الإيمان ، وفي هذا دليل لأهل السنة والجماعة في دخول الأعمال في حقيقة الإيمان .
والجهاد في سبيل الله منه فرض عين ومنه فرض كفاية :
أما فرض العين فهو إذا ما دهم العدو بلدا من بلدان المسلمين فيجب على أهل البلدة رجالا ونساءا وشيوخا وأطفالا محاربة العدو كل بحسب طاقته ، ولا يفتقر هذا إلى إذن الإمام لتعذره أو الوالدين لترجح مصلحة حفظ بيضة المسلمين ودينهم وأعراضهم على رضاء الوالدين في هذا الحال .
وإما فرض كفاية وهو جهاد الطلب الذي هو نشر دين الله تعالى في أرجاء الأرض ويكون ابتدائه من المسلمين .
الحديث السابع عشر :
قال البخاري رحمه الله تعالى في صحيحه (26 ) :(1/45)
27 حدثنا أبو اليمان قال : أخبرنا ، شعيب عن الزهري قال : أخبرني عامر بن سعد بن أبي وقاص عن سعد رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أعطى رهطا وسعد جالس فترك رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلا هو أعجبهم إلي فقلت يا رسول الله مالك عن فلان فوالله إني لأراه مؤمنا فقال أو مسلما فسكت قليلا ثم غلبني ما أعلم منه فعدت لمقالتي فقلت مالك عن فلان فوالله إني لأراه مؤمنا فقال أو مسلما ثم غلبني ما أعلم منه فعدت لمقالتي وعاد رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : يا سعد إني لأعطي الرجل وغيره أحب إلي منه خشية أن يكبه الله في النار ورواه يونس وصالح ومعمر وابن أخي الزهري عن الزهري .
ما يتعلق بالإسناد
1 - أبو اليمان هو الحكم بن نافع الشامي .
2 - شعيب هو ابن أبي حمزة .
شرح الحديث
قوله : سئل أبهم السائل وهو أبو ذر الغفاري .
قوله : قيل ثم ماذا قال الجهاد وقع في مسند الحارث بن أبي أسامة عن إبراهيم بن سعد ثم جهاد فواخى بين الثلاثة في التنكير بخلاف ما ثم المصنف وقال الكرماني الإيمان لا يتكرر كالحج والجهاد قد يتكرر فالتنوين للافراد الشخصي والتعريف للكمال إذ الجهاد لو أتى به مرة مع الاحتياج إلى التكرار لما كان أفضل وتعقب عليه بان التنكير من جملة وجوهه التعظيم وهو يعطي الكمال وبأن التعريف من جملة وجوهه العهد وهو يعطي الأفراد الشخصي فلا يسلم الفرق قلت وقد ظهر من رواية الحارث التي ذكرتها أن التنكير والتعريف فيه من تصرف الرواة لأن مخرجه واحد فالاطاله في طلب الفرق في مثل طائله والله الموفق .
قوله : حج مبرور : أي مقبول ، وقيل المبرور الذي لا يخالطه إثم ، وقيل الذي لا رياء فيه .
فائده : قال النووي : ذكر في هذا الحديث الجهاد بعد الإيمان ، وفي حديث أبي بكر لم يذكر الحج وذكر العتق ، وفي حديث ابن مسعود بدأ بالصلاة ثم البر ثم الجهاد ، وفي الحديث المتقدم - يعني حديث أبي هريرة - ذكر السلامة من اليد واللسان .(1/46)
قال العلماء : اختلاف الأجوبة في ذلك باختلاف الأحوال واحتياج المخاطبين وذكر ما لم يعلمه السائل والسامعون وترك ما علموه .
ويمكن أن يقال : أن لفظة " من " مرادة كما يقال فلان أعقل الناس والمراد من أعقلهم ، ومنه حديث " خيركم خيركم لأهله " ومن المعلوم أنه لا يصير بذلك خير الناس .
فإن قيل : لم قدم الجهاد وليس بركن على الحج وهو ركن ؟
فالجواب : أن نفع الحج قاصر غالبا ونفع الجهاد متعد غالبا أو كان ذلك حيث كان الجهاد فرض عين ووقوعه فرض عين إذ ذاك متكرر فكان أهم منه فقدم والله أعلم .
الحديث الثامن عشر
قال البخاري رحمه الله تعالى في صحيحه (12) :
حدثنا عمرو بن خالد قال : حدثنا الليث ، عن يزيد عن أبي الخير ، عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما أن رجلا سأل النبي صلى الله عليه وسلم أي الإسلام خير قال تطعم الطعام وتقرأ السلام على من عرفت ومن لم تعرف .
ما يتعلق بالإسناد
أولا : عمرو بن خالد هو الحراني وهو بفتح العين وصحف من ضمنها ، والليث هو ابن سعد فقيه أهل مصر ، ويزيد هو ابن أبي حبيب الفقيه المصري .
ثانيا : هذا الإسناد كله مصريون وهو من الطائف .
شرح الحديث
قوله : أن رجلا لم يعرف اسمه وقيل أنه أبو ذر وفي صحيح ابن حبان أنه هانئ بن يزيد والد شريح سأل عن معنى ذلك فأجيب بنحو ذلك .
قوله : أي الإسلام خير فيه ، وقد رويت أحاديث فيها هذا السؤال للنبي صلى الله عليه وسلم وكان في كل مرة يختلف الجواب من سائل لآخر واختلف الناس في ذلك :
فقيل بالحمل على اختلاف حال السائلين أو السامعين .
قوله : تطعم هو في أي أن تطعم ومثله تسمع بالمعيدي ، وذكر الإطعام ليدخل فيه الضيافه وغيرها .
قوله : وتقرأ بلفظ مضارع القراءة بمعنى تقول .
قال أبو حاتم السجستاني : نقول أقرأ عليه السلام ولا تقول أقرئه السلام فإذا كان مكتوبا قلت أقرئه السلام أي اجعله يقرأه .(1/47)
قوله : ومن لم تعرف أي لا تخص به أحدا تكبرا أو تصنعا بل تعظيما لشعار الإسلام ومراعاة لأخوة المسلم .
فإن قيل : اللفظ عام فيدخل الكافر والمنافق والفاسق ؟!
أجيب : بأنه خص بأدلة أخرى أو أن النهى متأخر وكان هذا عاما لمصلحة التاليف وأما من شك فيه فالاصل البقاء على العموم حتى يثبت الخصوص .
الحديث التاسع عشر
قال البخاري رحمه الله تعالى في صحيحه (29) :
حدثنا عبد الله بن مسلمة عن مالك عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار عن ابن عباس قال : قال النبي صلى الله عليه وسلم أريت النار فإذا أكثر أهلها النساء يكفرن قيل أيكفرن بالله قال يكفرن العشير ويكفرن الإحسان لو أحسنت إلى إحداهن الدهر ثم رأت منك شيئا قالت ما رأيت منك خيرا قط .
شرح الحديث
1 - هذا الحديث مما يستدل به على أن الطاعات كلها تسمى إيمانا ، وأنها داخلة في الإيمان وتكوينه وأنها لا تنفك عنه وأنها أصل من أصوله .
قال القاضي أبو بكر بن العربي : مراد المصنف - يعني البخاري - أن يبين أن الطاعات كما تسمى إيمانا كذلك المعاصي تسمى كفرا لكن حيث يطلق عليها الكفر لا يراد الكفر المخرج من الملة .
قال : وخص كفران العشير من بين أنواع الذنوب لدقيقة بديعة وهي قوله صلى الله عليه وسلم لو أمرت أحدا أن يسجد لأحد لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها فقرن حق الزوج على الزوجه بحق الله فإذا كفرت المرأه حق زوجها وقد بلغ من حقه عليها هذه الغايه كان ذلك دليلا على تهاونها بحق الله فلذلك يطلق عليها الكفر لكنه كفر لا يخرج عن المله ويؤخذ من كلامه مناسبة هذه الترجمة لامور الإيمان من جهة كون الكفر ضد الإيمان .
2 - وبهذا الحديث يستدل أهل السنة في تقسيمهم للكفر إلى كفر أكبر وهو الموجب للخلود في النار ، وكفر أصغر وهو المراد في هذا الحديث ويطلق عليه كفر النعمة .
وكذا الشرك يقسمونه إلى أكبر كالإشراك بالله تعالى وعبادة غيره ، وشرك أصغر كالرياء .(1/48)
وكذا الفسق فإنهم يقسمونه إلى فسق أكبر موجب للخلود في النار وفسق أصغر كشارب الخمر ونحوه من المعاصي التي لا تخرج صاحبها من الملة .
وفارقوا بذلك المعتزلة والخوارج لأنهما يشتركان مع أهل السنة في جعل العمل ركن من أركان الإيمان لكن أهل السنة لا يخرجون المسلم من الإيمان بتركه بعض شعائر الإيمان وإنما وقع الخلاف بينهم في تارك الأركان الأربعة فقط ، أما بقية الشعائر فلا يكفر من تركها قولا واحدا .
أما المعتزلة فيجعلون مرتكب الكبيرة بمنزلة بين المنزلتين فلا هو مؤمن ولا هو فاسق ، وأما الخوارج فيكفرون بالكبيرة .
فأهل السنة وسط بين طرفين وحق بين باطلين .
3 - ويؤخذ من الحديث الصبر على النساء وأخلاقهن ، وأن المرأة مهما كانت في الغاية العليا من الطاعة فإنها لا تنفك عن تلك الأخلاق لأنها من تركيبها ، والمعصوم من عصم الله تعالى .
ولذلك فقد وصى النبي صلى الله عليه وسلم بالنساء خيرا وقال استوصوا بالنساء خيرا .
الحديث العشرين
قال البخاري رحمه الله تعالى في صحيحه (30) :
حدثنا سليمان بن حرب قال : حدثنا شعبة ، عن واصل الأحدب عن المعرور قال لقيت أبا ذر بالربذة وعليه حلة وعلى غلامه حلة فينبغي عن ذلك فقال إني ساببت رجلا فعيرته بأمه فقال لي النبي صلى الله عليه وسلم يا أبا ذر أعيرته بأمه إنك امرؤ فيك جاهلية إخوانكم خولكم جعلهم الله تحت أيديكم فمن كان يتحقق تحت يده فليطعمه مما يأكل وليلبسه مما يلبس ولا تكلفوهم ما يغلبهم فإن كلفتموهم فأعينوهم .
شرح الحديث
الجاهليه : ما قبل الإسلام وقد يطلق في شخص معين أي في حال جاهليته .
ويؤخذ من الحديث ان من ترك واجب أو فعل محرم فهي من أخلاق الجاهلية ، فأراد البخاري أن يبين أن ما فعله أبو ذر كفر لا يخرج عن الملة خلافا للخوارج الذين يكفرون بالذنوب .
قال ابن بطال : غرض البخاري الرد على من يكفر بالذنوب كالخوارج ويقول أن من مات على ذلك يخلد في النار .(1/49)
واستدل البخاري بقوله صلى الله عليه وسلم لأبي ذر فيك جاهلية أي خصلة جاهلية مع أن منزلة أبي ذر من الإيمان في الذروة العالية وإنما وبخه بذلك على عظيم منزلته عنده تحذيرا له عن معاودة مثل ذلك لأنه وإن كان معذورا بوجه من وجوه العذر لكن وقوع ذلك من مثله يستعظم أكثر ممن هو دونه .
الحديث الواحد والعشرون
قال البخاري رحمه الله تعالى في صحيحه (32) :
حدثنا أبو الوليد قال : حدثنا شعبة ح قال وحدثني بشر قال : حدثنا محمد عن شعبة ، عن سليمان عن إبراهيم عن علقمة عن عبد الله قال لما نزلت الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم قال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أينا لم يظلم فأنزل الله إن الشرك لظلم عظيم .
ما يتعلق بالإسناد
1 - أبو الوليد هو الطيالسي .
قوله : وحدثني بشر هو ابن خالد العسكري .
وشيخه محمد هو ابن جعفر المعروف بغندر وهو أثبت الناس في شعبة .
2 - في هذا الإسناد رواية ثلاثة من التابعين بعضهم عن بعض وهم الأعمش عن شيخه إبراهيم بن يزيد النخعي عن خاله علقمة بن قيس النخعي والثلاثة كوفيون فقهاء وعبد الله الصحابي هو ابن مسعود .
3 - وهذه الترجمة أحد ما قيل فيه أنه أصح الأسانيد .
4 - الأعمش موصوف بالتدليس لكن البخاري أخرج الحديث من رواية حفص بن غياث عنه وحفص لا يروي إلا مسموع الأعمش .
شرح الحديث
1 - في الحديث بيان تقسيم الشرك كما سبق بيانه وأنه أكبر وأصغر .
قال الخطابي : كان الشرك ثم الصحابة أكبر من أن يلقب بالظلم فحملوا الظلم في الآية على ما عداه يعني من المعاصي فسألوا عن ذلك فنزلت هذه الآية .
قال ابن حجر : كذا قال وفيه نظر والذي يظهر لي إنهم حملوا الظلم على عمومه الشرك فما دونه وهو الذي يقتضيه صنيع المؤلف وإنما حملوه على العموم لأن قوله ظلم نكره في سياق النفي لكن عمومها هنا بحسب الظاهر .(1/50)
قال المحققون : إن دخل على النكرة في سياق النفي ما يؤكد العموم ويقويه نحو من في قوله ما جاءني من رجل أفاد تنصيص العموم وإلا فالعموم مستفاد بحسب الظاهر كما فهمه الصحابة من هذه الآية وبين لهم النبي صلى الله عليه وسلم أن ليس مراد بل هو من العام الذي أريد به الخاص فالمراد بالظلم أعلى انواعه وهو الشرك .
فإن قيل : لا يلزم من قوله إن الشرك لظلم عظيم أن الشرك لا يكون ظلما فالجواب أن التنوين في قوله لظلم عظيم وقد بين ذلك استدلال الشارع بالايه الثانية فالتقدير لم يلبسوا إيمانهم بظلم عظيم أي بشرك إذ لا ظلم أعظم منه وقد ورد ذلك صريحا عند المؤلف - يعني البخاري - في قصة إبراهيم الخليل عليه السلام من طريق حفص بن غياث عن الأعمش ولفظه قلنا يا رسول الله أينا لم يظلم نفسه قال ليس كما تقولون لم يلبسوا إيمانهم بظلم بشرك أو لم تسمعوا إلى قول لقمان فذكر الآية .
2 - استنبط المازري من الحديث جواز تأخير البيان عن وقت الحاجة ونازعه القاضي عياض فقال : ليس في هذه القصه تكليف عمل بل تكليف اعتقاد بتصديق الخبر واعتقاد التصديق لازم لأول وروده فما هي الحاجة .
ويمكن أن يقال المعتقدات أيضا تحتاج إلى البيان فلما أجمل الظلم حتى الراوي إطلاقه جميع المعاصي شق عليهم حتى ورد البيان فما انتفت الحاجة .
قال ابن حجر : الحق أن في القصه تأخير البيان عن وقت الخطاب لأنهم حيث احتاجوا إليه لم يتأخر قوله ولم يلبسوا أي لم يخلطوا تقول لبست الأمر بالتخفيف البسه بالفتح في الماضي والكسر في المستقبل أي خلطته وتقول لبست الثوب البسه بالكسر في الماضي والفتح في المستقبل .
3 - ويؤخذ من الحديث أيضا أن الحمل يكون على العموم حتى يرد دليل الخصوص .
4 - وأن النكرة في سياق النفي تعم .
5 - وأن الخاص يقضي على العام والمبين على المجمل .
6 - وأن اللفظ يحمل على خلاف ظاهره لمصلحة دفع التعارض .(1/51)
7 - ويؤخذ من الحديث أن درجات الظلم تتفاوت وأن المعاصي لا تسمى شركا وأن من لم يشرك بالله شيئا فله الأمن وهو مهتد .
فإن قيل فالعاصي قد يعذب فما هو الأمن والاهتداء الذي حصل له فالجواب أنه أمن من التخليد في النار مهتد إلى طريق الجنة والله أعلم .
الحديث الثاني والعشرون :
قال البخاري رحمه الله تعالى في صحيحه (36) :
حدثنا حرمي بن حفص قال : حدثنا عبد الواحد قال : حدثنا عمارة قال : حدثنا أبو زرعة بن عمرو بن جرير قال : سمعت أبا هريرة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : انتدب الله عز وجل لمن خرج في سبيله لا يخرجه إلا إيمان بي وتصديق برسلي أن أرجعه بما نال من أجر أو غنيمة أو أدخله الجنة ولولا أن أشق على أمتي ما قعدت خلف سرية ولوددت أني أقتل في سبيل الله ثم أحيا ثم أقتل ثم أحيا ثم أقتل .
ما يتعلق بالإسناد
عبد الواحد هو ابن زياد بصري ، وعمارة هو ابن القعقاع بن شبرمة الضبي .
شرح الحديث
قوله : انتدب الله هو بالنون أي سارع بثوابه وحسن جزائه .
قوله : لايخرجه الا إيمان بي كذا هو بالرفع على أنه فاعل يخرج والاستثناء مفرغ وفي رواية مسلم والإسماعيلي الا إيمانا بالنصب قال النووي هو مفعول له وتقديره لا يخرجه المخرج الا الإيمان والتصديق .
قوله : وتصديق برسلي ، فيه عدول من ضمير الغيبة إلى ضمير المتكلم فهو التفات .
وفي الحديث فضل الجهاد في سبيل الله تعالى ، وأنه لا يخرج له إلا من كان في قلبه إيمان راسخ ويقين تام بالله تعالى ورسله وبوعد الله تعالى له ، ولذلك فإن الله تعالى قد أعطاه إما شيئا من اثنين إما الأجر والغنيمة أو الجنة ، ولهذا الفضل فإن النبي صلى الله عليه وسلم تمنى أن لا يعقد خلف سرية وأن يقاتل فيقتل ثم يحيا ليقاتل فيقتل ثم يحيا ليقاتل فيقتل .
الحديث الثالث والعشرون
قال البخاري رحمه الله تعالى في صحيحه (39) :(1/52)
حدثنا عبد السلام بن مطهر قال : حدثنا عمر بن علي عن عبد الله بن محمد الغفاري ، عن سعيد بن أبي سعيد المقبري ، عن أبي هريرة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : إن الدين يسر ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه فسددوا وقاربوا وأبشروا واستعينوا بالغدوة والروحة وشيء من الدلجة .
المعاني اللغوية
قوله : واستعينوا بالغدوة بالفتح سير أول النهار .
قوله : والروحة بالفتح السير بعد الزوال .
قوله : والدلجة بضم أوله وفتحة وإسكان اللام سير آخر الليل .
ما يتعلق بالإسناد
1 - عبد السلام بن مطهر أي ابن حسام البصري وكنيته أبو ظفر ، وعمر هو ابن علي المقدمي بضم الميم وفتح القاف والدال المشدده وهو بصري ثقة لكنه مدلس شديد التدليس وصفه بذلك ابن سعد وغيره .
2 - هذا الحديث من أفراد البخاري عن مسلم وصححه وإن كان من رواية مدلس بالعنعنه لتصريحه فيه بالسماع من طريق أخرى فقد رواه بن حبان في صحيحه من طريق أحمد بن المقدام أحد شيوخ البخاري عن عمر بن على المذكور قال : سمعت ينعقد بن محمد فذكره .
3 - الحديث من افراد عبد الله بن محمد وهو مدني ثقة قليل الحديث لكن تابعه على شقه الثاني بن أبي ذئب ، عن سعيد أخرجه المصنف في كتاب ولفظه سددوا وقربوا وزاد في آخره والقصد القصد تبلغوا ولم يذكر شقه الأول والشق الأول له شواهد منها حديث عروة الفقيمي ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : إن دين الله يسر ، ومنها حديث بريدة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم عليكم هديا قاصدا فإنه من يشاد هذا الدين يغلبه رواهما أحمد وإسناد كل منهما حسن .
شرح الحديث
في الحديث بيان أن دين الإسلام يسر ويظهر يسر الإسلام في أمور كثيرة :
فمنها : أن الله تعالى شرع البدل في العبادات بحيث إذا تعذر شيء قام مقامه شيء آخر ولا يحصل التعنيت مثل التراب بدل عن الماء عند تعذره .(1/53)
ومنها أن الدين يسر بالنسبة إلى الأديان قبله لأن الله رفع عن هذه الأمة الإصر الذي كان على من قبلهم ومن أوضح الامثلة له أن توبتهم كانت بقتل أنفسهم وتوبة هذه الأمة بالإقلاع والعزم والندم .
ومنها الرخص التي فرضها الله تعالى ما سهله الله على عباده كقصر وفطر المسافر ومسح خف وفطر مريض وشيخ هرم وحامل ومرضع .
وفي هذا الحديث أن المسلم مطالب ببذل الجهد في طاعة الله تعالى وأن يكون حريصا على الطاعات مبتعدا عن المعاصي وما يغضب الله تعالى .
وفي هذا الحديث بيان الرفق في كل شيء حتى العبادات و يشاد بضم الياء وتشديد الدال للمبالغة من الشدة وأصله لا يقابل الدين أحد بالشدة ولا يجرى بين الدين وبينه معاملة بأن يشدد كل منهما على صاحبه الا غلبه الدين والمراد أنه لا يفرط أحد فيه ولا يخرج عن حد الاعتدال .
وفيه علم من أعلام النبوة ، قال ابن المنير : في هذا الحديث علم من أعلام النبوة فقد رأينا ورأى الناس قبلنا أن كل متنطع في الدين ينقطع وليس المراد منع طلب الاكمل في العبادة فإنه من الأمور المحمودة بل منع الافراط المؤدي إلى الملال أو المبالغة في التطوع المفضي إلى ترك الأفضل أو إخراج الفرض عن وقته كمن بات يصلي الليل كله ويغالب النوم إلى أن غلبته عيناه في آخر الليل فنام عن صلاة الصبح في الجماعة أو إلى أن خرج الوقت المختار أو إلى أن طلعت الشمس فخرج وقت الفريضة .
وفيه الإشارة إلى الأخذ بالرخصة الشرعيه فإن الأخذ بالعزيمة في موضع الرخصه تنطع كمن يترك التيمم عند العجز عن استعمال الماء فيفضي به استعماله إلى حصول الضرر .
وقوله : فسددوا : أي الزموا السداد وهو الصواب لا إفراط ولا تفريط .(1/54)
وقوله : وقاربوا أي ان لم تستطيعوا الأخذ بالأكمل فاعملوا بما يقرب منه وأبشروا أي بالثواب على العمل الدائم وان قل أو المراد تبشير من عجز عن العمل بالأكمل بأن العجز إذا لم يكن من صنعه لا يستلزم نقص الأمر وأبهم المبشر به تعظيما وتفخيما .
وقوله : واستعينوا بالغدوة ... الخ أي استعينوا على مداومة العبادة بإيقاعها في الأوقات المنشطة وفيه تشبيه للسفر الى الله تعالى بالسفر الحسي ومعلوم أن المسافر إذا استمر على السير انقطع وعجز وإذا أخذ الأوقات المنشطة نال المقصد بالمداومة .
الحديث الرابع والعشرون
قال البخاري رحمه الله تعالى في صحيحه (40) :
حدثنا عمرو بن خالد قال : حدثنا زهير قال : حدثنا أبو إسحاق عن البراء أن النبي صلى الله عليه وسلم كان أول ما قدم المدينة نزل على أجداده أو قال أخواله من الأنصار وأنه صلى قبل بيت المقدس ستة عشر شهرا أو سبعة عشر شهرا وكان يعجبه أن تكون قبلته قبل البيت وأنه صلى أول صلاة صلاها صلاة العصر وصلى معه قوم فخرج رجل ممن صلى معه فمر على أهل مسجد وهم راكعون فقال أشهد بالله لقد صليت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل مكة فداروا كما هم قبل البيت وكانت اليهود قد أعجبهم إذ كان يصلي قبل بيت المقدس وأهل الكتاب فلما ولى وجهه قبل البيت أنكروا ذلك .
قال زهير حدثنا أبو إسحاق عن البراء في حديثه هذا أنه مات على القبلة قبل أن تحول رجال وقتلوا فلم ندر ما نقول فيهم فأنزل الله تعالى وما كان الله ليضيع إيمانكم .
المعاني اللغوية
قوله : أول بالنصب أي في أول زمن قدومه وما مصدريه .
قوله : أو قال أخواله الشك من أبي إسحاق وفي إطلاق أجداده أو أخواله مجاز لأن الأنصار أقاربه من جهة الامومه لأن أم جده عبد المطلب بن هاشم منهم وهي سلمى بنت عمرو أحد بني عدي بن النجار وإنما نزل النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة على اخوتهم بني مالك بن النجار ففيه على هذا مجاز ثان .(1/55)
قوله : وانه صلى أول بالنصب لأنه مفعول صلى والعصر كذلك على البدليه واعربه بن مالك بالرفع وفي الكلام مقدر لم يذكر لوضوحه أي أول صلاة صلاها متوجها إلى الكعبة صلاة العصر .
قوله : اشهد بالله أي احلف قال الجوهري يقال أشهد بكذا أي احلف به .
قوله : قبل مكة أي قبل البيت الذي في مكة ولهذا قال فداروا كما هم قبل البيت وما موصولة والكاف للمبادرة وقال الكرماني للمقارنه وهم مبتدأ وخبره محذوف قوله قد اعجبهم أي النبي صلى الله عليه وسلم وأهل الكتاب هو بالرفع عطفا على اليهود من عطف العام على الخاص
ما يتعلق بالإسناد
عمرو بن خالد هو بفتح العين وسكون الميم وهو أبو الحسن الحراني نزيل مصر أحد الثقات الاثبات ، وزهير هو ابن معاوية أبو خيثمة الجعفي الكوفي نزيل الجزيره وبها سمع منه عمرو بن خالد ، وأبو إسحاق هو السبيعي وقد رمي بالإختلاط وسماع زهير منه فيما قال أحمد بعد أن بدا تغيره لكن تابعه عليه إسرائيل بن يونس حفيده وغيره ، وصرح بالتحديث في رواية البخاري في التفسير ، والبراء هو ابن عازب الأنصاري صحابي ابن صحابي .
قوله : قال زهير يعني بن معاوية بالإسناد المذكور بحذف أداة العطف كعادته ووهم من قال أنه معلق وقد ساقه المصنف في التفسير مع جملة الحديث عن أبي نعيم عن زهير سياقا واحدا .
شرح الحديث
1 - يدل الحديث على صحة مذهب أهل السنة والجماعة وهو أن أعمال الجوارح تسمى إيمانا ، وذلك أن الله تعالى سمى صلاة المسلمين إلى بيت المقدس إيمانا حيث قال وما كان الله ليضيع إيمانكم ، وأن الطاعات كلها دين ومن الدين ، ولهذا الغرض استدل البخاري رحمه الله تعالى ،
2 - ويدل الحديث على أن استقبال القبلة في الصلاة ليس ركنا وإنما هو واجبا لأنه لو كان ركنا لما جاز أن يتحولوا عنها في وسط الصلاة ولبطلت لأن الركن لا يستعاض عنه ولا يتجزأ .
الحديث الخامس والعشرون
قال البخاري رحمه الله تعالى في صحيحه (41) :(1/56)
قال مالك أخبرني زيد بن أسلم أن عطاء بن يسار أخبره أن أبا سعيد الخدري أخبره أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول إذا أسلم العبد فحسن إسلامه يكفر الله عنه كل سيئة كان زلفها وكان بعد ذلك القصاص الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف والسيئة بمثلها إلا أن يتجاوز الله عنها .
ما يتعلق بالإسناد
1 - قوله : قال مالك : هكذا ذكره معلقا ولم يوصله في موضع آخر من هذا الكتاب وقد وصله أبو ذر الهروي في روايته للصحيح فقال النضروي هو العباس بن الفضل قال : حدثنا الحسن بن إدريس قال : حدثنا هشام بن خالد حدثنا الوليد بن مسلم عن مالك به .
وكذا وصله النسائي من رواية الوليد بن مسلم حدثنا مالك فذكره أتم مما هنا ، وكذا وصله الحسن بن سفيان من طريق عبد الله بن نافع ، والبزار من طريق إسحاق الفروي ، والإسماعيلي من طريق عبد الله بن وهب والبيهقي في الشعب من طريق إسماعيل بن أبي أويس كلهم عن مالك .
2 - أخرجه الدارقطني من طرق أخرى عن مالك وذكر أن عبد الله بن عيسى رواه عن مالك فقال ، عن أبي هريرة بدل أبي سعيد وروايته شاذة ورواه سفيان بن عيينة عن زيد بن أسلم عن عطاء مرسلا ، وقد حفظ مالك الوصل فيه وهو أتقن لحديث أهل المدينة من غيره وقال الخطيب هو حديث ثابت وذكر البزار أن مالكا تفرد بوصله 19 .
شرح الحديث
قوله : إذا أسلم العبد هذا الحكم يشترك فيه الرجال والنساء وذكره بلفظ المذكر تغليبا .
قوله : فحسن إسلامه أي صار إسلامه حسنا باعتقاده وإخلاصه ودخوله فيه بالباطن والظاهر وأن يستحضر عند عمله قرب ربه منه واطلاعه عليه وهذا فيه دليل على زيادة الإيمان ونقصانه أن حسن الإسلام قدر زائد على مجرد الإسلام كما هو واضح ومعلوم .
قوله : يكفر الله هو بضم الراء لأن إذا وأن كانت من ادوات الشرط لكنها لا تجزم واستعمل الجواب مضارعا وأن كان الشرط بلفظ الماضي لكنه بمعنى المستقبل .(1/57)
قوله : كان أزلفها كذا لأبي ذر ولغيره زلفها وهي بتخفيف اللام كما ضبطه صاحب المشارق وقال النووي بالتشديد .
يعني أن الله تعالى إذا أسلم الكافر يكتب له ما قدمه من قرب في حال كفره كالصدقات ونصرة المظلوم ... الخ .
وقوله : كتب الله أي أمر أن يكتب وللدارقطني من طريق زيد بن ، شعيب عن مالك بلفظ يقول الله لملائكته اكتبوا .
وقد أشكل هنا إشكالا فقال المازري : الكافر لا يصح منه التقرب فلا يثاب على العمل الصالح الصادر منه في شركه لأن من شرط المتقرب أن يكون عارفا لمن يتقرب إليه والكافر ليس كذلك وتابعه القاضي عياض على تقرير هذا الاشكال ، واستضعف ذلك النووي فقال الصواب الذي عليه المحققون بل نقل بعضهم فيه الإجماع أن الكافر إذا فعل افعالا جميلة كالصدقة وصلة الرحم ثم أسلم ومات على الإسلام أن ثواب ذلك يكتب له وأما دعوى أنه مخالف مسلم لأنه قد يعتد ببعض افعال الكافر في الدنيا ككفارة الظهار فإنه لايلزمه اعادتها إذا أسلم وتجزئه انتهى
قال ابن حجر : والحق أنه لا يلزم من كتابة الثواب للمسلم في حال إسلامه تفضلا من الله واحسانا أن يكون ذلك لكون عمله الصادر منه في الكفر مقبولا والحديث إنما تضمن كتابة الثواب ولم يتعرض للقبول ويحتمل أن يكون القبول يصير معلقا على إسلامه فيقبل ويثاب أن أسلم وإلا فلا وهذا قوي وقد جزم بما جزم به النووي : إبراهيم الحربي وابن بطال وغيرهما من القدماء والقرطبي و ابن المنير من المتأخرين .
قال ابن المنير المخالف للقواعد دعوى أن يكتب له ذلك في حال كفره وأما أن الله يضيف إلى حسناته في الإسلام ثواب ما كان صدر منه مما كان يظنه خيرا فلا مانع منه كما لو تفضل عليه ابتداء عمل وكما يتفضل على العاجز بثواب ما كان يعمل وهو قادر فإذا جاز أن يكتب له ثواب ما لم يعمل البتة جاز أن يكتب له ثواب ما لم يوفى الشروط .(1/58)
وقال ابن بطال : لله أن يتفضل على عباده بما شاء ولا اعتراض لأحد عليه واستدل غيره بأن من آمن من أهل الكتاب يؤتى أجره مرتين كما دل عليه القرآن والحديث الصحيح وهو لو مات على إيمانه الأول لم ينفعه شيء من عمله الصالح بل يكون هباء منثورا فدل على أن ثواب عمله الأول يكتب له مضافا إلى عمله الثاني ، وبقوله صلى الله عليه وسلم لما سألته عائشة عن ابن جدعان وما يصنعه من الخير هل ينفعه فقال أنه لم يقل يوما رب اغفر لي خطيئتي يوم الدين فدل على أنه لو قالها بعد أن أسلم نفعه ما عمله في الكفر .
وقوله : إلى سبعمائة ، اختلف فيها فقيل لا غاية لفضل الله تعالى وإنما هو لبيان جزيل الأجر ، وحكى الماوردي أن بعض العلماء أخذ بظاهر هذه الغاية فزعم أن التضعيف لا يتجاوز سبعمائة ورد عليه بقوله تعالى والله يضاعف لمن يشاء .
قال ابن حجر : والآية محتملة للأمرين فيحتمل أن يكون المراد أنه يضاعف تلك المضاعفة بأن يجعلها سبعمائة ويحتمل أنه يضاعف السبعمائة بأن يزيد عليها .
والحديث فيه دليل على الخوارج وغيرهم من المكفرين بالذنوب والموجبين لخلود المذنبين في النار فأول الحديث يرد على من أنكر الزيادة والنقص في الإيمان لأن الحسن تتفاوت درجاته وآخره يرد على الخوارج والمعتزلة .
الحديث السادس والعشرون
قال البخاري رحمه الله تعالى في صحيحه (43) :
حدثنا محمد بن المثنى حدثنا يحيى عن هشام قال : أخبرني أبي ، عن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل عليها وعندها امرأة قال من هذه قالت فلانة تذكر من صلاتها قال مه عليكم بما تطيقون فوالله لا يمل الله حتى تملوا وكان أحب الدين إليه ما داوم عليه صاحبه .
المعاني اللغوية
قوله : مه قال الجوهري هي كلمة مبنية على السكون وهي اسم سمي به الفعل والمعنى اكفف يقال مهمهته إذا زجرته فإن وصلت نونت فقلت مه وقال الداودي أصل هذه الكلمة ما هذا كالانكار فطرحوا بعض اللفظة فقالوا مه فصيروا الكلمتين كلمة .(1/59)
شرح الحديث
1 - الحديث فيه زجر لعائشة رضي الله عنه وقاد اختلف في هذا الزجر فقيل يحتمل أن يكون لنهيها عن مدح المرأة بما ذكرت ويحتمل أن يكون المراد النهي عن ذلك الفعل وقد أخذ بذلك جماعة من الأئمة فقالوا يكره صلاة جميع الليل كما سيأتي في مكانه .
2 - قوله : عليكم بما تطيقون أي اشتغلوا من الأعمال بما تستطيعون المداومة عليه فمنطوقه يقتضى الأمر بالاقتصار على ما يطاق من العبادة ومفهومه يقتضى النهي عن تكلف ما لا يطاق .
3 - ويؤخذ من الحديث جواز الحلف من غير استحلاف وهذا من قوله : فوالله بدون أن يستحلف ، وقد يستحب إذا كان في تفخيم أمر من أمور الدين أو حث عليه أو تنفير من محذور .
4 - قوله : لا يمل الله حتى تملوا هو بفتح الميم في الموضعين والملال استثقال الشيء ونفور النفس عنه بعد محبته وهو محال على الله تعالى باتفاق .
قال الإسماعيلي وجماعة من المحققين إنما أطلق هذا على جهة المقابلة اللفظية مجازا كما قال تعالى وجزاء سيئة سيئة مثلها وانظاره .
قال القرطبي وجه مجازه أنه تعالى لما كان يقطع ثوابه عمن يقطع العمل ملالا عبر عن ذلك بالملال من باب تسمية الشيء باسم سببه .
وقال الهروي : معناه لا يقطع عنكم فضله حتى تملوا سؤاله فتزهدوا في الرغبة إليه وقال غيره معناه لا يتناهى حقه عليكم في الطاعة حتى يتناهى جهدكم وهذا كله بناء على أن حتى على بابها في انتهاء الغاية وما يترتب عليها من المفهوم وجنح بعضهم إلى تأويلها فقيل معناه لا يمل الله إذا مللتم وهو مستعمل في كلام العرب يقولون لا أفعل كذا حتى يبيض الفار أو حتى يشيب الغراب ومنه قولهم في البليغ لا ينقطع حتى ينقطع خصومه لأنه لو انقطع حين ينقطعون لم يكن له عليهم مزية وهذا المثال أشبه من الذي قبله لأن شيب الغراب ليس ممكنا عادة بخلاف الملل من العابد .(1/60)
وقال المازري قيل إن حتى هنا بمعنى الواو فيكون التقدير لا يمل وتملون فنفى عنه الملل وأثبته لهم قال وقيل حتى بمعنى حين والأول أليق وأجرى على القواعد وأنه من باب المقابلة اللفظية .
الحديث السابع والعشرون
قال البخاري رحمه الله تعالى في صحيحه (45) :
حدثنا الحسن سمع جعفر بن عون حدثنا أبو العميس أخبرنا قيس بن مسلم عن طارق بن شهاب عن عمر بن الخطاب أن رجلا من اليهود قال له يا أمير المؤمنين آية في كتابكم تقرؤونها لو علينا معشر اليهود نزلت لاتخذنا ذلك اليوم عيدا قال أي آية قال اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا قال عمر قد عرفنا ذلك اليوم والمكان الذي نزلت فيه على النبي صلى الله عليه وسلم وهو قائم بعرفة يوم جمعة .
ما يتعلق بالإسناد
قوله حدثنا الحسن سمع جعفر بن عون مراده أنه سمع وجرت عادتهم بحذف أنه في مثل هذا خطا لا نطقا كقال .
قوله : أن رجلا من اليهود هذا الرجل هو كعب الأحبار بين ذلك مسدد في مسنده والطبري في تفسيره والطبراني في الأوسط كلهم من طريق رجاء بن أبي سلمة عن عبادة بن نسي بضم النون وفتح المهملة عن إسحاق بن خرشة عن قبيصة بن ذؤيب عن كعب .
شرح الحديث
والحديث يدل على مسألة زيادة الإيمان ونقصه لأن إيمان الصحابة كان يزيد بزيادة معرفة الدين وما يتنزل منه .
ا لحديث الثامن والعشرون
قال البخاري رحمه الله تعالى في صحيحه (46) :(1/61)
حدثنا إسماعيل قال : حدثني مالك بن أنس عن عمه أبي سهيل بن مالك ، عن أبيه أنه سمع طلحة بن عبيد الله يقول جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من أهل نجد ثائر الرأس يسمع دوي صوته ولا يفقه ما يقول حتى دنا فإذا هو يسأل عن الإسلام فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم خمس صلوات في اليوم والليلة فقال هل علي غيرها قال لا إلا أن تطوع قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وصيام رمضان قال هل علي غيره قال لا إلا أن تطوع قال وذكر له رسول الله صلى الله عليه وسلم الزكاة قال هل علي غيرها قال لا إلا أن تطوع قال فأدبر الرجل وهو يقول والله لا أزيد على هذا ولا أنقص قال رسول الله صلى الله عليه وسلم أفلح إن صدق .
ما يتعلق باللغة
1 - قوله : هل علي غيرها قال لا إلا أن تطوع تطوع بتشديد الطاء والواو وأصله تتطوع بتاءين فأدغمت إحداهما ويجوز تخفيف الطاء على حذف إحداهما .
ما يتعلق بالإسناد
1 - رجال إسناد هذا الحديث كلهم مدنيون .
2 - مالك والد أبي سهيل هو ابن أبي عامر الأصبحي حليف طلحة بن عبيد الله .
3 - إسماعيل هو ابن أبي أويس بن أخت الإمام مالك .
4 - الحديث مسلسل بالأقارب فهو من رواية إسماعيل عن خاله عن عمه ، عن أبيه عن حليفه فهو مسلسل بالاقارب كما هو مسلسل بالبلد .
شرح الحديث
1 - قوله : جاء رجل زاد أبو ذر من أهل نجد وكذا هو في الموطأ ومسلم .
2 - قوله : ثائر الرأس ، المراد أن شعره متفرق من ترك الرفاهية ففيه إشارة إلى قرب عهده بالوفادة وأوقع أسم الرأس على الشعر إما مبالغة أو لأن الشعر منه ينبت .
3 - قوله : دوى بفتح الدال وكسر الواو أي أنه نادى من بعيد ، .
جزم ابن بطال وآخرون بأنه ضمام بن ثعلبة وافد بني سعد بن بكر والحامل لهم على ذلك إيراد مسلم لقصته عقب حديث طلحة ولأن في كل منهما أنه بدوي وأن كلا منهما قال في آخر حديثه لا أزيد على هذا ولا انقص .
لكن أفاد القرطبي بأن سياقهما مختلف واسئلتهما متباينة فقال :(1/62)
ودعوى أنهما قصة واحدة دعوى فرط وتكلف شطط ضرورة والله أعلم .
4 - قوله : فإذا هو يسأل عن الإسلام أي عن شرائع الإسلام ويحتمل أنه سأل عن حقيقة الإسلام وإنما لم يذكر له الشهادة لأنه علم أنه يعلمها أو علم أنه إنما يسأل عن الشرائع الفعلية أو ذكرها ولم ينقلها الراوي لشهرتها وإنما لم يذكر الحج إما لأنه لم يكن فرض بعد أو الراوي اختصره ويؤيد هذا الثاني ما أخرجه المصنف في الصيام من طريق إسماعيل بن جعفر عن أبي سهيل في هذا الحديث قال فأخبره رسول الله صلى الله عليه وسلم بشرائع الإسلام فدخل فيه باقي المفروضات بل والمندوبات .
5 - قوله : يستفاد من الحديث أنه لا يجب شيء من الصلوات في كل يوم إلا الخمس خلافا لمن أوجب الوتر أو ركعتي الفجر أو صلاة الضحى أو صلاة العيد أو الركعتين بعد المغرب .
6 - استدل بهذا الحديث على أن الشروع في التطوع يوجب إتمامه تمسكا بأن الاستثناء فيه متصل .
قال القرطبي : لأنه نفى وجوب شيء آخر إلا ما تطوع به والاستثناء من النفي إثبات ولا قائل بوجوب التطوع فيتعين أن يكون المراد إلا أن تشرع في تطوع فيلزمك إتمامه .
وأجاب الطيبي بأن ما تمسك به مغالطة أن الاستثناء هنا الجنس لأن التطوع لا يقال فيه عليك ، فكأنه قال لا يجب عليك شيء إلا أن أردت أن تطوع فذلك لك وقد علم أن التطوع ليس بواجب فلا يجب شيء آخر أصلا .
وعقب ابن حجر قائلا : كذا قال وحرف المسألة دائر على الاستثناء فمن قال إنه متصل تمسك بالأصل ومن قال أنه منقطع احتاج إلى دليل والدليل عليه ما روى النسائي وغيره أن النبي صلى الله عليه وسلم كان أحيانا ينوي صوم التطوع ثم يفطر وفي البخاري أنه أمر جويرية بنت الحارث أن تفطر يوم الجمعة بعد أن شرعت فيه فدل على أن الشروع في العبادة لا يستلزم الإتمام إذا كانت نافلة بهذا النص في الصوم وبالقياس في الباقي .(1/63)
فإن قيل : يرد الحج قلنا لا لأنه امتاز عن غيره بلزوم المضى في فاسده فكيف في صحيحه ، وكذلك امتاز بلزوم الكفارة في نفله كفرضه والله أعلم .
7 - قوله : أفلح إن صدق وقع عند مسلم من رواية إسماعيل بن جعفر : أفلح وأبيه إن صدق أو دخل الجنة وأبيه إن صدق ، قيل ما الجامع بين هذا وبين النهى عن الحلف بالآباء أجيب بأن ذلك كان قبل النهي أو بأنها كلمة جارية على اللسان لا يقصد بها الحلف كما جرى على لسانهم عقرى حلقى وما أشبه ذلك أو فيه إضمار اسم الرب كأنه قال ورب أبيه وقيل هو خاص ويحتاج إلى دليل .
قال ابن حجر : وأقوى الأجوبة الأولان .
8 - وفي الحديث الرد على المرجئة في أن ترك جنس العمل كلية يكون صاحبه ناج مفلح .
قال ابن بطال : دل قوله أفلح إن صدق على أنه إن لم يصدق فيما التزم لا يفلح وهذا بخلاف قول المرجئة .
فإن قيل : كيف أثبت له الفلاح بمجرد ما ذكر مع أنه لم يذكر المنهيات ؟
أجيب بأن ذلك داخل في عموم قوله فأخبره بشرائع الإسلام .
الحديث التاسع والعشرون
قال البخاري رحمه الله تعالى في صحيحه (50) :(1/64)
حدثنا مسدد قال : حدثنا إسماعيل بن إبراهيم أخبرنا أبو حيان التيمي عن أبي زرعة ، عن أبي هريرة قال كان النبي صلى الله عليه وسلم بارزا يوما للناس فأتاه جبريل فقال ما الإيمان قال أن تؤمن بالله وملائكته وبلقائه ورسله وتؤمن بالبعث قال ما الإسلام قال الإسلام أن تعبد الله ولا تشرك به وتقيم الصلاة وتؤدي الزكاة المفروضة وتصوم رمضان قال ما الإحسان قال أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك قال متى الساعة قال ما المسؤول عنها بأعلم من السائل وسأخبرك عن أشراطها إذا ولدت الأمة ربها وإذا تطاول رعاة الإبل البهم في البنيان في خمس لا يعلمهن إلا الله ثم أصحهما النبي صلى الله عليه وسلم إن الله عنده علم الساعة الآية ثم أدبر فقال ردوه فلم يروا شيئا فقال هذا جبريل جاء يعلم الناس دينهم قال أبو عبد الله جعل ذلك كله من الإيمان .
ما يتعلق باللغة
1 - قوله : تطاول أي تفاخروا في تطويل البنيان وتكاثروا به .
2 - قوله : رعاة الإبل : هو بضم الراء جمع راع كقضاة وقاض .
3 - والبهم : بضم الموحدة على أنه صفة الرعاة ، ووصف الرعاة بالبهم إما لأنهم مجهولو الأنساب ومنه أبهم الأمر فهو مبهم إذا لم تعرف حقيقته .
ما يتعلق بالإسناد
1 - إسماعيل بن إبراهيم هو البصري المعروف بابن علية .
2 - أبو حيان هو يحيى بن سعيد بن حيان التيمي .
3 - أبو زرعة هو ابن عمرو بن جرير .
شرح الحديث
1 - في الحديث ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم من التواضع وهضم حظ النفس لقوله كان النبي صلى الله عليه وسلم بارزا يوما للناس أي ظاهرا لا محتجب عنهم ولا ملتبس بغيره والبروز الظهور .
2 - استنبط منه القرطبي استحباب جلوس العالم بمكان يختص به ويكون مرتفعا إذا أحتاج لذلك لضرورة تعليم ونحوه .(1/65)
3 - وفيه الهيئة التي ينبغي أن يكون الطالب عليها عند شيخه ومن يتعلم عليه وذلك لقوله ثم وضع يده على ركبتي النبي صلى الله عليه وسلم وكذا في حديث بن عباس وأبي عامر الأشعري ثم وضع يده على ركبتي النبي صلى الله عليه وسلم فأفادت هذه الرواية أن الضمير في قوله على فخذيه يعود على النبي صلى الله عليه وسلم .
وهذه هي هيئة المتعلم بين يدي من يتعلم منه .
4 - وفيه إشارة لما ينبغي للمسئول من التواضع والصفح عما يبدو من جفاء السائل والظاهر أنه - أي جبريل عليه السلام - أراد بذلك المبالغة في تعمية أمره ليقوى الظن بأنه من جفاة الأعراب ولهذا تخطى الناس حتى انتهى إلى النبي صلى الله عليه وسلم كما تقدم ولهذا استغرب الصحابة صنيعه ولأنه ليس من أهل البلد وجاء ماشيا ليس عليه أثر سفر ، وفي كل هذا صبر النبي صلى الله عليه وسلم عليه وعلى جفاءه .
5 - وقوله : ما الإيمان قيل قدم السؤال عن الإيمان لأنه الأصل وثنى بالإسلام لأنه يظهر مصداق الدعوى وثلث بالإحسان لأنه متعلق بهما .
وفي رواية عمارة بن القعقاع بدأ بالإسلام لأنه بالأمر الظاهر وثنى بالإيمان لأنه بالأمر الباطن ورجح هذا الطيبي لما فيه من الترقى ولا شك أن القصة واحدة اختلف الرواة في تأديتها وليس في السياق ترتيب ويدل عليه رواية مطر الوراق فإنه بدأ بالإسلام وثنى بالإحسان وثلث بالإيمان فالحق أن الواقع أمر واحد والتقديم والتأخير وقع من الرواة والله أعلم .
6 - قوله : قال الإيمان أن تؤمن بالله ... الخ دل الجواب أنه علم أنه سأله عن متعلقاته لا عن معنى لفظه وإلا لكان الجواب الإيمان التصديق .(1/66)
وقال الطيبي هذا يوهم التكرار وليس كذلك فإن قوله أن تؤمن بالله مضمن معنى أن وقال الكرماني : ليس هو تعريفا للشيء بنفسه بل المراد من المحدود الإيمان الشرعي ومن الحد الإيمان اللغوي قلت والذي يظهر أنه إنما أعاد لفظ الإيمان للاعتناء بشأنه تفخيما لأمره ومنه قوله تعالى قل يحييها الذي أنشأها أول مرة في جواب من يحيى العظام وهي رميم يعني أن قوله أن تؤمن ينحل منه الإيمان فكأنه قال الإيمان الشرعي تصديق مخصوص و إلا لكان الجواب الإيمان التصديق والإيمان بالله هو التصديق بوجوده وأنه متصف بصفات الكمال منزه عن صفات النقص .
7 - قوله : وملائكته الإيمان بالملائكة هو التصديق بوجودهم وأنهم كما وصفهم الله تعالى عباد مكرمون وقدم الملائكة على الكتب والرسل نظرا للترتيب الواقع لأنه سبحانه وتعالى أرسل الملك بالكتاب إلى الرسول .
8 - قوله : وكتبه أي الإيمان بكتب الله والتصديق بأنها كلام الله وأن ما تضمنته حق .
9 - قوله : وبلقائه ، والمراد باللقاء ما بعد البعث ، وقيل اللقاء يحصل بالانتقال من دار الدنيا والبعث بعد ذلك ، وقيل المراد باللقاء رؤية الله ذكره الخطابي بالإجماع النووي بأن أحدا لا يقطع لنفسه برؤية الله فأنه مختصة بمن مات مؤمنا والمرء لا يدري بم يختم له فكيف يكون ذلك من شروط الإيمان وأجيب بأن المراد الإيمان بأن ذلك حق في نفس الأمر
وهذا من الأدلة القوية لأهل السنة في إثبات رؤية الله تعالى في الآخرة إذ جعلت من قواعد الإيمان .
10 - قوله : ورسله ، والإيمان بالرسل التصديق بأنهم صادقون فيما أخبروا به عن الله ودل الإجمال في الملائكة والكتب والرسل على الاكتفاء بذلك في الإيمان بهم تفصيل الا من ثبت تسميته فيجب الإيمان به على التعيين .(1/67)
11 - قوله : وتؤمن بالبعث ، البعث هو القيام لرب العالمين بعد الموت لفصل الخطاب ، وقيل البعث وقع مرتين : الأولى : الإخراج من العدم إلى الوجود أو من بطون الأمهات بعد النطفة والعلقة إلى الحياة الدنيا .
والثانية : البعث من بطون القبور إلى محل الاستقرار .
وأما اليوم الآخر فقيل له ذلك لأنه آخر أيام الدنيا أو آخر الأزمنة المحدودة والمراد بالإيمان به والتصديق بما يقع فيه من الحساب والميزان والجنة والنار .
12 - قوله : والقدر : القدر مصدر تقول قدرت الشيء بتخفيف الدال وفتحها أقدره بالكسر والفتح قدرا وقدرا إذا احطت بمقداره والمراد أن الله تعالى علم مقادير الأشياء وازمانها قبل ايجادها ثم أوجد ما سبق في علمه أنه يوجد فكل محدث صادر عن علمه وقدرته وارادته هذا هو المعلوم من الدين بالبراهين القطعية وعليه كان السلف من الصحابة وخيار التابعين إلى أن حدثت بدعة القدر في أواخر زمن الصحابة ، وقد حكى المصنفون في المقالات عن طوائف من القدرية إنكار كون البارىء عالما بشيء من أعمال العباد قبل وقوعها منهم وإنما يعلمها بعد كونها .
وقال القرطبي وغيره قد انقرض هذا المذهب ولا نعرف أحدا ينسب إليه من المتأخرين قال والقدرية اليوم مطبقون على أن الله عالم بأفعال العباد قبل وقوعها وإنما خالفوا السلف في زعمهم بأن افعال العباد مقدورة لهم وواقعة منهم على جهة الاستقلال وهو مع كونه مذهبا باطلا أخف من المذهب الأول .
وأما المتأخرون منهم فأنكروا تعلق الإرادة بأفعال العباد فرارا من تعلق القديم بالمحدث وهم مخصومون بما قال الشافعي إن سلم القدري العلم خصم يعني يقال له ايجوز أن يقع في الوجود خلاف ما تضمنه العلم فإن منع وافق قول أهل السنة وإن أجاز لزمه نسبة الجهل تعالى الله عن ذلك .(1/68)
13 - قوله : أن تعبد الله : قال النووي يحتمل أن يكون المراد بالعبادة معرفة الله فيكون عطف الصلاة وغيرها عليها لادخالها في الإسلام ويحتمل أن يكون المراد بالعبادة الطاعة مطلقا فيدخل فيه جميع الوظائف فعلى هذا يكون عطف الصلاة وغيرها من عطف الخاص على العام .
وهذا القدر من الحديث أصل عظيم من أصول الدين وقاعدة مهمة من قواعد المسلمين وهو عمدة الصديقين وبغية السالكين وكنز العارفين ودأب الصالحين وهو من جوامع الكلم التي اوتيها صلى الله عليه وسلم وقد ندب أهل التحقيق إلى مجالسة الصالحين ليكون ذلك مانعا من التلبس بشيء من النقائص احتراما واستحياء منهم فكيف بمن لا يزال الله مطلعا عليه في سره وعلانيته .
14 - قوله : بأعلم الباء زائدة لتأكيد النفي وهذا وإن كان مشعرا بالتساوى في العلم لكن المراد التساوى في العلم بأن الله تعالى استأثر بعلمها .
وقال القرطبي : مقصود هذا السؤال كف السامعين عن السؤال عن وقت الساعة لأنهم قد أكثروا السؤال عنها كما ورد في كثير من الآيات والأحاديث فلما حصل الجواب بما ذكر هنا حصل اليأس من معرفتها بخلاف الأسئلة الماضية فإن المراد بها استخراج الأجوبة ليتعلمها السامعون ويعملوا بها ونبه بهذه الأسئلة على تفصيل ما يمكن معرفته مما لا يمكن .
15 - وفي الحديث أن الرجل لا يفتي بغير علم ولا يتكلف معرفة ما لا يعرفه ، قال النووي : يستنبط منه أن العالم إذا سئل عما لا يعلم يصرح بأنه لا يعلمه ولا يكون في ذلك نقص من مرتبته بل يكون ذلك دليلا على مزيد ورعه .
16 - قوله : إذا ولدت الأمة ربها ، المراد بالرب المالك أو السيد وقد اختلف العلماء قديما وحديثا في معنى ذلك ، قال ابن حجر رحه الله تعالى : قد لخصتها فإذا هي أربعة أقوال :(1/69)
الأول : قال الخطابي معناه اتساع الإسلام واستيلاء أهله على بلاد الشرك وسبى ذراريهم فإذا ملك الرجل الجارية واستولدها كان الولد منها بمنزلة ربها لأنه ولد سيدها ، قال النووي وغيره إنه قول الأكثرين .
الثاني : أن تبيع السادة العالمين أولادهم ويكثر ذلك فيتداول الملاك المستولدة حتى يشتريها ولدها ولا يشعر بذلك وعلى هذا فالذي يكون من الاشراط غلبة الجهل بتحريم بيع العالمين الأولاد أو الاستهانة بالأحكام الشرعية .
الثالث : وهو من نمط الذي قبله قال النووي لا يختص شراء الولد أمه بامهات الأولاد بل يتصور في غيرهن بأن تلد الأمة حرا سيدها بوطء شبهة أو رقيقا بنكاح أو زنا ثم تباع الأمة في الصورة بيعا صحيحا وتدور في الأيدي حتى يشتريها ابنها أو ابنتها .
الرابع : أن يكثر العقوق في الأولاد فيعامل الولد أمه معاملة السيد أمته من الاهانة بالسب والضرب والاستخدام فأطلق عليه ربها مجازا لذلك أو المراد بالرب المربي فيكون حقيقة .
قال ابن حجر : وهذا أوجه الأوجه عندي لعمومه ولأن المقام يدل على أن المراد حالة تكون مع كونها تدل على فساد الأحوال مستغربة ومحصلة الآشارة إلى أن الساعة يقرب قيامها عند انعكاس الأمور بحيث يصير المربي مربيا والسافل عاليا وهو مناسب لقوله في العلامة الأخرى أن تصير الحفاة ملوك الأرض .
17 - وفيه الإخبار عن تبدل الحال قبل قيام الساعة .
قال القرطبي : المقصود الإخبار عن تبدل الحال بأن يستولى أهل البادية على الأمر ويتملكوا البلاد بالقهر فتكثر أموالهم وتنصرف هممهم إلى تشييد البنيان والتفاخر به وقد شاهدنا ذلك في هذا الزمان .
18 - قوله : في خمس : أي علم وقت الساعة داخل في جملة خمس وحذف متعلق الجار سائغ كما في قوله تعالى في تسع آيات أي أذهب إلى فرعون بهذه الآية في جملة تسع آيات .(1/70)
قال القرطبي : لا مطمع لأحد في علم شيء من هذه الأمور الخمسة لهذا الحديث ، عن النبي صلى الله عليه وسلم وقول الله تعالى وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها الا هو بهذه الخمس وهو في الصحيح قال فمن ادعى علم شيء مسنده إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم كان كاذبا في دعواه .
قال : وأما ظن الغيب فقد يجوز من المنجم وغيره إذا كان عن أمر عادي وليس ذلك بعلم وقد نقل ابن عبد البر الإجماع على تحريم أخذ الأجرة والجعل واعطائها في ذلك ، وجاء عن ابن مسعود قال أوتي نبيكم صلى الله عليه وسلم علم كل شيء سوى هذه الخمس .
19 - قال القاضي عياض : اشتمل هذا الحديث على جميع وظائف العبادات الظاهرة والباطنة من عقود الإيمان ابتداء وحالا ومآلا ومن أعمال الجوارح ومن إخلاص السرائر والتحفظ من آفات الأعمال حتى أن علوم الشريعة كلها راجعة إليه ومتشعبة منه .
الحديث الثلاثون
قال البخاري رحمه الله تعالى في صحيحه (52) :
حدثنا أبو نعيم حدثنا زكريا عن عامر قال : سمعت النعمان بن بشير يقول سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول الحلال بين والحرام بين وبينهما مشبهات لا يعلمها كثير من الناس فمن اتقي المشبهات استبرأ لدينه وعرضه ومن وقع في الشبهات كراع يرعى حول الحمى يوشك أن يواقعه ألا وإن لكل ملك حمى ألا إن حمى الله في أرضه محارمه ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب .
ما يتعلق بالإسناد
1 - قوله : حدثنا زكريا هو ابن أبي زائدة واسم أبي زائدة خالد بن ميمون الوداعي .
2 - قوله : عن عامر هو الشعبي الفقيه المشهور .
3 - رجال الإسناد كله كوفيون .
4 - فيه دليل على صحة تحمل الصبي المميز لأن النبي صلى الله عليه وسلم مات وللنعمان ثمان سنين .
5 - زكرياء موصوف بالتدليس ، لكنه صرح في فوائد بن أبي الهيثم من طريق يزيد بن هارون عن زكريا حدثنا الشعبي فحصل الأمن من تدليسه 20 .(1/71)
6 - ادعى أبو عمرو الداني أن هذا الحديث لم يروه عن النبي النعمان بن بشير فإن أراد من وجه صحيح فمسلم وإلا فقد روي من طرق كثيرة جدا لكن في أسانيدها مقال 21 .
شرح الحديث
قوله : وبينهما مشبهات بوزن مفعلات بتشديد العين المفتوحة وهي في رواية مسلم أي شبهت بغيرها مما لم يتبين به حكمها على التعيين .
قوله : لا يعلمها كثير من الناس : أي لا يعلم حكمها ، ومفهوم قوله كثير أن معرفة حكمها ممكن لكن للقليل من الناس وهم المجتهدون فالشبهات على هذا في حق غيرهم وقد تقع له حيث لا يظهر له ترجيح أحد الدليلين .
قوله : فمن اتقى المشبهات أي حذر منها .
قوله : استبرأ بالهمز بوزن استفعل من البراءة أي برأ دينه من النقص وعرضه من الطعن فيه لأن من لم يعرف باجتناب الشبهات لم يسلم لقول من يطعن فيه .
وفيه دليل على أن من لم يتوق الشبهة في كسبه ومعاشه فقد عرض نفسه للطعن فيه وفي هذا إشارة إلى المحافظة على أمور الدين ومراعاة المروءة .
قوله : ومن وقع في الشبهات : اختلف في حكم الشبهات فقيل التحريم وهو مردود وقيل الكراهة وقيل الوقف وهو كالخلاف فيما قبل الشرع فينبغي به على منهج العلماء في معنى الشبهات أربعة أشياء :
أحدها : تعارض الأدلة .
ثانيها : اختلاف العلماء .
ثالثها : أن المراد بها مسمى المكروه لأنه يجتذبه جانبا الفعل والترك .
رابعها : أن المراد بها المباح ولا يمكن قائل هذا أن يحمله على متساوى الطرفين من كل وجه بل يمكن حمله على ما يكون من قسم خلاف الأولى بأن يكون متساوى الطرفين باعتبار ذاته راجح الفعل أو الترك باعتبار أمر خارج .
ونقل بن المنير في مناقب شيخه القبارى عنه أنه كان يقول المكروه عقبة بين العبد والحرام فمن استكثر من المكروه تطرق إلى الحرام والمباح عقبة بينه وبين المكروه فمن استكثر منه تطرق إلى المكروه وهو منزع حسن .(1/72)
والمعنى أن الحلال حيث يخشى أن يؤل فعله مطلقا إلى مكروه أو محرم ينبغي اجتنابه كالاكثار مثلا من الطيبات فأنه يحوج إلى كثرة الاكتساب الموقع في أخذ ما لا يستحق أو يفضى إلى بطر النفس وأقل ما فيه الاشتغال عن مواقف العبودية وهذا معلوم بالعادة مشاهد بالعيان .
قال ابن حجر والذي يظهر لي رجحان الوجه الأول ، ولا يبعد أن يكون كل من الأوجه مرادا ويختلف ذلك باختلاف الناس فالعالم الفطن لا يخفى عليه تمييز الحكم فلا يقع له ذلك الا في الاستكثار من المباح أن المكروه كما تقرر قبل ودونه تقع له الشبهة في جميع ما ذكر بحسب اختلاف الأحوال ولا يخفى أن المستكثر من المكروه تصير فيه جرأة على ارتكاب المنهي في الجملة أو يحمله اعتياده ارتكاب المحرم على ارتكاب المنهي المحرم إذا كان من جنسه أو يكون ذلك لشبهة فيه وهو أن من تعاطى ما نهى عنه يصير مظلم القلب لفقدان نور الورع فيقع في الحرام ولو لم يختر الوقوع فيه .
وقد مثل لهم النبي صلى الله عليه وسلم بما هو مشهور عندهم فالخائف المراقب لرضا الملك يبعد عن ذلك الحمى خشية أن تقع مواشيه في شيء منه فبعده أسلم له ولو أشتد حذره وغير الخائف المراقب يقرب منه ويرعى من جوانبه فلا يأمن أن تنفرد الفاذة فتقع فيه بغير اختياره أو يمحل المكان الذي هو فيه ويقع الخصب في الحمى فلا يملك نفسه أن يقع فيه فالله سبحانه وتعالى هو الملك حقا وحماه محارمه .
وقد عظم العلماء أمر هذا الحديث فعدوه رابع أربعة تدور عليها الأحكام كما نقل عن أبي داود وفيه البيتان المشهوران :
وهما عمدة الدين عندنا كلمات
مسندات من قول خير البرية
أترك المشبهات وازهد ودع
ما ليس يعينك واعملن بنيه
وأشار ابن العربي إلى أنه يمكن أن ينتزع منه وحده جميع الأحكام .
قال القرطبي : لأنه أشتمل على التفصيل بين الحلال وغيره وعلى تعلق جميع الأعمال بالقلب فمن هنا يمكن أن ترد جميع الأحكام إليه والله المستعان .
الحديث الواحد والثلاثون(1/73)
قال البخاري رحمه الله تعالى في صحيحه (53) :
حدثنا علي بن الجعد قال : أخبرنا شعبة ، عن أبي جمرة قال كنت أقعد مع ابن عباس يجلسني على سريره فقال أقم عندي حتى أجعل لك سهما من مالي فأقمت معه شهرين ثم قال إن وفد عبد قيس لما أتوا النبي صلى الله عليه وسلم قال : من القوم أو من الوفد قالوا ربيعة قال مرحبا بالقوم أو خزايا ولا ندامى فقالوا يا رسول الله إنا لا نستطيع أن نأتيك إلا في شهر الحرام وبيننا وبينك هذا الحي من كفار مضر فمرنا بأمر فصل نخبر به من وراءنا وندخل به الجنة وسألوه عن الأشربة فأمرهم بأربع ونهاهم عن أربع أمرهم بالإيمان بالله وحده قال أتدرون ما الإيمان بالله وحده قالوا الله ورسوله أعلم قال شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وصيام رمضان وأن تعطوا من المغنم الخمس ونهاهم عن أربع عن الحنتم والدباء والنقير والمزفت وربما قال المقير وقال احفظوهن وأخبروا بهن من وراءكم .
ما يتعلق بالإسناد
1 - أبو جمرة هو بالجيم والراء واسمه نصر بن عمران بن نوح بن مخلد الضبعي بضم الضاد المعجمة وفتح الموحدة .
شرح الحديث
استنبط العلماء رحمهم الله تعالى من الحديث أمور :
1 - إبداء العذر عند العجز عن توفية الحق واجبا أو مندوبا .
2 - أنه يبدأ بالسؤال عن الأهم .
3 - وعلى أن الأعمال الصالحة تدخل الجنة إذا قبلت وقبولها يقع برحمة الله .(1/74)
4 - قوله : فأمرهم بأربع أي خصال أو جمل ، قال القرطبي : قيل إن أول الأربع المأمور بها أقام الصلاة وإنما ذكر الشهادتين تبركا بهما كما قيل في قوله تعالى واعلموا إنما غنمتم من شيء فإن لله خمسه وإلى هذا نحا الطيبي فقال : عادة البلغاء أن الكلام إذا كان منصوبا لغرض جعلوا سياقه له وطرحوا ما عداه وهنا لم يكن الغرض في الإيراد ذكر الشهادتين لأن القوم كانوا مؤمنين مقرين بكلمتي الشهادة ولكن ربما كانوا يظنون أن الإيمان مقصور عليهما كما كان الأمر في صدر الإسلام قال فلهذا لم يعد الشهادتين في الأوامر .
5 - قوله : ونهاهم عن أربع عن الحنتم ... الخ في جواب قوله وسألوه عن الأشربة هو من إطلاق المحل وإرادة الحال أي ما في الحنتم ونحوه .
والحنتم : بفتح المهملة وسكون النون وفتح الشاة من فوق هي الجرة كذا فسرها بن عمر في صحيح مسلم وله ، عن أبي هريرة الحنتم الجرار الخضر .
وعن عطاء أنها جرار كانت تعمل من طين وشعر ودم .
والدباء : بضم المهملة وتشديد الموحدة والمد هو القرع ، قال النووي والمراد اليابس منه .
والنقير : بفتح النون وكسر القاف أصل النخلة ينقر فيتخذ منه وعاء .
والمزفت : بالزاى والفاء ما طلى بالزفت .
والمقير بالقاف والياء الأخير ما طلى بالقار ويقال له القير وهو نبت يحرق إذا يبس تطلى به السفن وغيرها كما تطلى بالزفت قاله ابن سيده .
ومعنى النهي عن الانتباذ في هذه الأوعية بخصوصها لأنه يسرع فيها الإسكار فربما شرب منها من لا يشعر بذلك ثم ثبتت الرخصة في الانتباذ في كل وعاء مع النهى عن شرب كل مسكر .
6 - قوله : وأخبروا بهن من وراءكم بفتح من وهي موصولة ووراءكم يشمل من جاءوا من عندهم وهذا باعتبار المكان ويشمل من يحدث لهم من الأولاد وغيرهم وهذا باعتبار الزمان فيحتمل إعمالها في المعنيين معا حقيقة ومجازا .
وفي هذا دليل على فرضية أداء العلم وخصوصا المتعلق بأفعال المكلفين الدينية .(1/75)
7 - واستدل بهذا الحديث على شرعية الاعتماد على أخبار الاحاد لأنه أمرهم أن يبلغوا وكل واحد منهم سيبلغ من يراه ويجب على من سمعه أن يجيب .
الحديث الثاني والثلاثون
قال البخاري رحمه الله تعالى في صحيحه (62) :
حدثنا خالد بن مخلد حدثنا سليمان حدثنا عبد الله بن دينار عن ابن عمر ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : إن من الشجر شجرة لا يسقط ورقها وإنها مثل المسلم حدثوني ما هي قال فوقع الناس في شجر البوادي قال عبد الله فوقع في نفسي أنها النخلة ثم قالوا حدثنا ما هي يا رسول الله قال هي النخلة .
المعاني اللغوية
شرح الحديث
قوله : إن من الشجر شجرة .. وإنها مثل المسلم : شبه النخلة بالمؤمن ، ووجه الشبه بين النخلة والمسلم من جهة عدم سقوط الورق ما رواه الحارث بن أبي أسامة في هذا الحديث من وجه آخر عن ابن عمر ولفظه قال كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم فقال إن مثل المؤمن كمثل شجرة لاتسقط لها انملة أتدرون ما هي قالوا لا قال هي النخلة لاتسقط لها انملة ولا تسقط لمؤمن دعوة .
وعند البخاري من حديث مجاهد عن ابن عمر قال بينا نحن عند النبي صلى الله عليه وسلم إذ أتى بحمار فقال إن من الشجر لما بركته كبركة المسلم وهذا أعم من الذي قبله وبركة النخلة في جميع اجزائها مستمرة في جميع احوالها فمن حين تطلع إلى أن تيبس تؤكل انواعا ثم بعد ذلك ينتفع بجميع اجزائها حتى النوى في علف الدواب والليف في الحبال وغير ذلك مما لا يخفى وكذلك بركة المسلم عامة في جميع الأحوال ونفعه مستمر له ولغيره حتى بعد موته .
وقوله : تؤتى ابتداء كلام على سبيل التفسير لما تقدم .
قوله : فوقع الناس أي ذهبت أفكارهم في اشجار البادية فجعل كل منهم يفسرها بنوع من الأنواع وذهلوا عن النخلة يقال وقع الطائر على الشجرة إذا نزل عليها .(1/76)
قوله : قال فظننت أنها النخلة ، فيه إشارة إلى أن الملغز له ينبغي أن يتفطن لقرائن الأحوال الواقعة عند السؤال وأن الملغز ينبغي له أن لا يبالغ في التعمية بحيث لا يجعل للملغز بابا يدخل منه بل كلما قربه كان أوقع في نفس سامعه .
قوله : فاستحييت ، وفي رواية مالك عن عبد الله بن دينار عند البخاري في باب الحياء في العلم قال عبد الله فحدثت أبي بما وقع في نفسي فقال لأن تكون قلتها أحب إلى من أن يكون لي كذا وكذا .
ويستدل على أمور :
1 - بهذا بجواز امتحان العالم أذهان الطلبة بما يخفى مع بيانه لهم إن لم يفهموه .
وأما ما رواه أبو داود من حديث معاوية ، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه نهى عن الاغلوطات قال الأوزاعي أحد رواته هي صعاب المسائل فإن ذلك محمول على ما لا نفع فيه أو ما خرج على سبيل تعنت المسئول أو تعجيزه .
2 - وفيه التحريض على الفهم في العلم ، وقد بوب عليه البخاري : باب الفهم في العلم .
3 - وفيه استحباب الحياء ما لم يؤد إلى تفويت مصلحة ولهذا تمنى عمر أن يكون ابنه لم يسكت وقد بوب عليها البخاري في العلم وفي الأدب .
4 - وفيه دليل على بركة النخلة وما تثمره .
5 - وفيه دليل على أن بيع الجمار جائز لأن كل ما جاز أكله جاز بيعه .
6 - وفيه دليل على جواز تجمير النخل وقد بوب عليه في الأطعمة لئلا يظن أن ذلك من باب إضاعة المال .
7 - وفيه جواز تشبيه المسلم بما ليس من بني آدم كالجمادات إذا تحقق وجه الشبه وتيقنت المصلحة من هذا التشبيه .(1/77)
قال القرطبي : وقع التشبيه بينهما - يعني النخلة والمرأة - من جهة أن أصل دين المسلم ثابت وأن ما يصدر عنه من العلوم والخير قوت للأرواح مستطاب وأنه لا يزال مستورا بدينه وأنه ينتفع بكل ما يصدر عنه حيا وميتا انتهى وقال غيره والمراد بكون فرع المؤمن في السماء رفع عمله وقبوله وروى البزار أيضا من طريق سفيان بن حسين عن أبي بشر عن مجاهد عن ابن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم مثل المؤمن مثل النخلة ما أتاك منها نفعك هكذا أورده مختصرا وإسناده صحيح وقد أفصح بالمقصود بأوجز عبارة وأما من زعم أن موقع التشبيه بين المسلم والنخلة من جهة كون النخلة إذا قطع رأسها ماتت أو لأنها لا تحمل حتى تلقح أو لأنها تموت إذا غرقت أو لأن لطلعها رائحة من الأدمي أو لأنها تعشق أو لأنها تشرب من أعلاها فكلها أوجه كمال لأن جميع ذلك من المشابهات مشترك في الآدميين لا يختص بالمسلم وأضعف من ذلك قول من زعم أن ذلك لكونها خلقت من فضله طين آدم فإن الحديث في ذلك لم يثبت والله أعلم .
8 - وفيه ضرب الأمثال والاشياء لزيادة الإفهام وتصوير المعاني لترسخ في الذهن ولتحديد الفكر في النظر في حكم الحادثة .
9 - وفيه إشارة إلى أن تشبيه الشيء بالشيء لا يلزم أن يكون نظيره من جميع وجوهه فإن المؤمن لا يماثله شيء من الجمادات ولا يعادله .
10 - وفيه توقير الكبير وتقديم الصغير إياه في القول وأنه لا يبادره بما فهمه وإن ظن أنه الصواب .
11 - وفيه أن العالم الكبير قد يخفى عليه بعض ما يدركه من هو دونه لأن العلم مواهب والله يؤتى فضله من يشاء .(1/78)
12 - وفيه أن الخواطر التي تقع في القلب من محبة الثناء على أعمال الخير لا يقدح فيها وإذا كان أصلها لله وذلك مستفاد من تمنى عمر المذكور ووجه تمنى عمر رضي الله عنه ما طبع الإنسان عليه من محبة الخير لنفسه ولولده ولتظهر فضيل الولد في الفهم من صغره وليزداد من النبي صلى الله عليه وسلم حظوة ولعله كان يرجو أن يدعو له إذ ذاك بالزيادة في الفهم .
13 - وفيه الإشارة إلى حقارة الدنيا في عين عمر لأنه قابل فهم ابنه لمسألة واحدة بحمر النعم مع عظم مقدارها وغلاء ثمنها .
الحديث الثالث والثلاثون
قال البخاري رحمه الله تعالى في صحيحه (63) :
حدثنا عبد الله بن يوسف قال : حدثنا الليث ، عن سعيد هو المقبري عن شريك بن عبد الله بن أبي نمر أنه سمع أنس بن مالك يقول ثم بينما نحن جلوس مع النبي صلى الله عليه وسلم في المسجد دخل رجل على جمل فأناخه في المسجد ثم عقله ثم قال لهم أيكم محمد والنبي صلى الله عليه وسلم متكئ بين ظهرانيهم فقلنا هذا الرجل الأبيض المتكئ فقال له الرجل بن عبد المطلب فقال له النبي صلى الله عليه وسلم قد أجبتك فقال الرجل للنبي صلى الله عليه وسلم إني سائلك فمشدد عليك في المسألة فلا تجد علي في نفسك فقال سل عما بدا لك فقال أسألك بربك ورب من قبلك آلله أرسلك إلى الناس كلهم فقال اللهم نعم قال أنشدك بالله آلله التابعين أن نصلي الصلوات الخمس في اليوم والليلة قال اللهم نعم قال أنشدك بالله آلله التابعين أن نصوم هذا الشهر من السنة قال اللهم نعم قال أنشدك بالله آلله التابعين أن تأخذ هذه الصدقة من أغنيائنا فتقسمها على فقرائنا فقال النبي صلى الله عليه وسلم اللهم نعم فقال الرجل آمنت بما جئت به وأنا رسول من ورائي من قومي وأنا ضمام بن ثعلبة أخو بني سعد بن بكر .
رواه موسى وعلي بن عبد الحميد عن سليمان عن ثابت ، عن أنس ، عن النبي صلى الله عليه وسلم بهذا .
ما يتعلق بالإسناد(1/79)
1 - قوله : الليث ، عن سعيد في رواية الإسماعيلي من طريق يونس بن محمد عن الليث حدثني سعيد وكذا لابن منده من طريق بن وهب عن الليث وفي هذا دليل على أن رواية النسائي من طريق يعقوب بن إبراهيم بن سعد عن الليث قال : حدثني محمد بن عجلان وغيره ، عن سعيد موهومة معدودة من المزيد في متصل الأسانيد أو يحمل على أن الليث سمعه ، عن سعيد بواسطة ثم لقيه فحدثه به .
2 - وفيه اختلاف آخر أخرجه النسائي والبغوى من طريق الحارث بن عمير عن عبيد الله بن عمر وذكره بن منده من طريق الضحاك بن عثمان كلاهما ، عن سعيد ، عن أبي هريرة ولم يقدح هذا الاختلاف فيه عند البخاري لأن الليث أثبتهم في سعيد المقبري مع احتمال أن يكون لسعيد فيه شيخان لكن تترجح رواية الليث بأن المقبري ، عن أبي هريرة جادة مألوفة فلا يعدل عنها إلى غيرها الا من كان ضابطا متثبتا ومن ثم قال ابن أبي حاتم ، عن أبيه روايةالضحاك وهم وقال الدارقطني في العلل رواه عبيد الله بن عمر وأخوه عبد الله والضحاك بن عثمان عن المقبري ، عن أبي هريرة ووهموا فيه والقول قول الليث أما مسلم فلم يخرجه من هذا الوجه بل أخرجه من طريق سليمان بن المغيرة عن ثابت ، عن أنس وقد أشار إليها المصنف عقب هذه الطريق وما فر منه مسلم وقع في نظيره فإن حماد بن سلمة أثبت الناس في ثابت وقد روى هذا الحديث عن ثابت فأرسله ورجح الدارقطني رواية حماد .
قوله : بن أبي نمر هو بفتح النون وكسر الميم لا يعرف اسمه ذكره بن سعد في الصحابة وأخرج له بن الموطأ حديثا وأغفله بن الأثير تبعا لاصوله 22 .
3 - وفيه رواية الأقران لأن سعيدا وشريكا تابعيان من درجة واحدة وهما مدنيان .(1/80)
4 - قوله : رواه موسى هو ابن إسماعيل أبو سلمة التبوذكي شيخ البخاري وحديثه موصول عند أبي عوانة في صحيحه وعند ابن منده في الإيمان وإنما علقه البخاري لأنه لم يحتج بشيخه سليمان بن المغيرة ، وقد خولف في وصله فرواه حماد بن سلمة عن ثابت مرسلا ورجحها الدارقطني وزعم بعضهم أنها علة تمنع من تصحيح الحديث ، وليس كذلك بل هي دالة على أن لحديث شريك أصلا .
5 - قوله : وعلي بن عبد الحميد هو المعني بفتح الميم وكذا أخرجه الدارمي عن علي بن عبد الحميد وليس له في البخاري سوى هذا الموضع المعلق 23 .
شرح الحديث
1 - في الحديث جواز اتكاء الإمام بين أتباعه وإخوانه لقوله ورسول الله صلى الله عليه وسلم متكئ .
2 - وفيه ما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم عليه من ترك التكبر لقوله بين ظهرانيهم وهي بفتح النون أي بينهم وزيد لفظ الظهر ليدل على أن ظهرا منهم قدامه وظهرا وراءه فهو محفوف بهم من جانبيه والالف والنون فيه للتأكيد .
3 - قوله : ثم عقله في المسجد فيه طهارة أبوال الإبل وأرواثها إذ لا يؤمن ذلك منه مدة كونه في المسجد ولم ينكره النبي صلى الله عليه وسلم ، استدل بذلك ابن بطال وغيره .
ورد ذلك بأنه مجرد احتمال ويدفعه رواية أبي نعيم أقبل على بعير له حتى أتى المسجد فأناخه ثم عقله فدخل المسجد فهذا السياق يدل على أنه ما دخل به المسجد وأصرح منه رواية ابن عباس عند أحمد والحاكم ولفظها فأناخ بعيره على باب المسجد فعقله ثم دخل فعلى هذا في رواية أنس مجاز الحذف والتقدير فأناخه في ساحة المسجد أو نحو ذلك .
4 - قوله : ترد على فقرائنا استدل به ابن بطال على أن المتصدق لا يتولى تفريق صدقته بنفسه وفيه نظر لأن قوله ترد على فقرائنا خرج مخرج العالب .
5 - قوله : آمنت بما جئت به يحتمل أن يكون اخبارا وهو اختيار البخاري ورجحه القاضي عياض وأنه حضر بعد إسلامه مستثبتا من الرسول صلى الله عليه وسلم ما أخبره به رسوله إليهم .(1/81)
ويحتمل أن يكون قوله آمنت إنشاء ورجحه القرطبي لقوله زعم قال والزعم القول الذي لا يوثق به قاله ابن السكيت وغيره .
قال ابن حجر : وفيه نظر لأن الزعم يطلق على القول المحقق أيضا كما نقله أبو عمر الصاحب في شرح فصيح شيخه ثعلب وأكثر سيبويه من قوله زعم الخليل في مقام الاحتجاج ... ومما يؤيد أن قوله آمنت أخبار أنه لم يسأل عن دليل التوحيد بل عن عموم الرسالة وعن شرائع الإسلام ولو كان إنشاء لكان طلب معجزة توجب له التصديق قاله الكرماني .
وعكسه القرطبي فاستدل به على صحة إيمان المقلد للرسول ولو لم تظهر له معجزة وكذا أشار إليه بن الصلاح والله أعلم .
6 - وفي هذا الحديث جواز العمل بخبر الواحد ولا يقدح فيه مجيء ضمام مستثبتا لأنه قصد اللقاء والمشافهة ، وقد رجع ضمام إلى قومه وحده فصدقوه وآمنوا .
7 - وفيه جواز نسبة الشخص إلى جده إذا كان أشهر من أبيه لقوله للنبي صلى الله عليه وسلم ك ابن عبد المطلب ، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم يوم حنين أنا بن عبد المطلب .
8 - وفيه الاستحلاف على الأمر المحقق لزيادة التأكيد لقوله : آنشدك بالله ، مع أنه النبي صلى الله عليه وسلم الذي لا يَكذب ولا يُكذب .
الحديث الرابع والثلاثون
قال البخاري رحمه الله تعالى في صحيحه (67) :
حدثنا مسدد قال : حدثنا بشر قال : حدثنا ابن عون عن ابن سيرين عن عبد الرحمن بن أبي بكرة ، عن أبيه ثم ذكر النبي صلى الله عليه وسلم قعد على بعيره وأمسك إنسان بخطامه أو بزمامه قال أي يوم هذا فسكتنا حتى ظننا أنه سيسميه سوى اسمه قال أليس يوم النحر قلنا بلى قال فأي شهر هذا فسكتنا حتى ظننا أنه سيسميه بغير اسمه فقال أليس بذي الحجة قلنا بلى قال فإن دماءكم وأموالكم وأعراضكم بينكم حرام كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا ليبلغ الشاهد الغائب فإن الشاهد عسى أن يبلغ من هو أوعى له منه .
ما يتعلق بالإسناد
1 - بشر هو ابن المفضل .
2 - ورجال الإسناد كلهم بصريون .(1/82)
المعاني اللغوية
قوله : ذكر النبي صلى الله عليه وسلم بنصب النبي على المفعولية وفي ذكر ضمير يعود على الراوي يعني أن أبا بكرة كان يحدثهم فذكر النبي صلى الله عليه وسلم فقال قعد على بعيره وفي رواية النسائي ما يشعر بذلك ولفظه عن أبي بكرة قال وذكر النبي صلى الله عليه وسلم فالواو أما حالية وأما عاطفة والمعطوف عليه محذوف وقد وقع في رواية ابن عساكر عن أبي بكرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قعد ولا اشكال فيه .
قوله : وأمسك إنسان بخطامه أو بزمامه الشك من الراوي والزمام والخطام بمعنى وهو الخيط الذي تشد فيه الحلقة التي تسمى بالبرة بضم الموحدة وتخفيف الراء المفتوحة في أنف البعير .
قوله : أي يوم هذا ... فيه أن المحاضر ينبغي له استحضار فهوم المستمعين للتأكد من حضور إذهانهم .
قال القرطبي : سؤاله صلى الله عليه وسلم عن الثلاثة وسكوته بعد كل سؤال منها كان لاستحضار فهومهم وليقبلوا عليه بكليتهم وليستشعروا عظمة ما يخبرهم عنه ولذلك قال بعد هذا فإن دماءكم ... الخ مبالغة في بيان تحريم هذه الأشياء انتهى ومناط التشبيه في .
قوله : وفيه ما ينبغي على المستمع من الأدب عند سؤال المعلم أو المحاضر أو الشيخ وذلك مستفاد من قول الصحابة للنبي صلى الله عليه وسلم : الله ورسوله أعلم وذلك من حسن أدبهم .
وفيه ما ينبغي على المتعلم أن يعلم قدر أستاذه وأنه في كل حال أعلم وأكبر منه وأن لا يتهجم بالإجابة ولا بمعرفة العلم أمامه ويستفاد هذا من فعل الصحابة لأنهم علموا أنه لا يخفى عليه ما يعرفونه من الجواب وأنه ليس مراده مطلق الأخبار بما يعرفونه ولهذا قال في رواية الباب حتى ظننا أنه سيسميه سوى اسمه .
وفيه : وجوب التفويض التام والكلي للمشرع وذلك ظاهر من رد الصحابة عليه صلى الله عليه وسلم وقولهم حتى ظننا أنه سيسميه بغير اسمه .(1/83)
وفيه : حرمة دماء المسلمين وأعراضهم بعضهم على بعض ، وذلك من قوله فإن دماءكم .. الخ ، والعرض بكسر العين موضع المدح والذم من الإنسان سواء كان في نفسه أو سلفه .
وفيه : وجوب تبليغ العلم وحرمة كتمانه وذلك من قوله صلى الله عليه وسلم : ليبلغ الشاهد أي الحاضر في المجلس الغائب أي الغائب عنه والمراد إما تبليغ القول المذكور أو تبليغ جميع الأحكام .
وفيه : جواز التحمل قبل كمال الأهلية وأن الفهم ليس شرطا في الأداء وأنه قد يأتي في الآخر من يكون أفهم ممن تقدمه لكن بقلة .
وفيه : جواز القعود على ظهر الدواب وهي واقفة إذا احتيج إلى ذلك وحمل النهي الوارد في ذلك على ما إذا كان لغير ضرورة .
وفيه : الخطبة على موضع عال ليكون أبلغ في إسماعه للناس ورؤيتهم إياه .
الحديث الخامس والثلاثون
قال البخاري رحمه الله تعالى في صحيحه (73) :
حدثنا الحميدي قال : حدثنا سفيان قال : حدثني إسماعيل بن أبي خالد ما حدثناه الزهري قال : سمعت قيس بن أبي حازم قال : سمعت عبد الله بن مسعود قال : قال النبي صلى الله عليه وسلم لا حسد إلا في اثنتين رجل آتاه الله مالا فسلط على هلكته في الحق ورجل آتاه الله الحكمة فهو يقضي بها ويعلمها .
شرح الحديث
قوله : لا حسد الحسد تمنى زوال النعمة عن المنعم عليه وخصه بعضهم بأن يتمنى ذلك لنفسه والحق أنه أعم وسببه أن الطباع مجبولة على حب الترفع على الجنس فإذا رأى لغيره ما ليس له أحب أن يزول ذلك عنه ليرتفع عليه أو مطلقا ليساويه وصاحبه مذموم إذا عمل بمقتضى ذلك من تصميم أو قول أو فعل وينبغي لمن خطر له ذلك أن يكرهه كما يكره ما وضع في طبعه من حب المنهيات واستثنوا من ذلك ما إذا كانت النعمة لكافر أو محمود يستعين بها على معاصي الله تعالى فهذا حكم الحسد بحسب حقيقته .(1/84)
وأما الحسد المذكور في الحديث فهو الغبطة وأطلق الحسد عليها مجازا وهي أن يتمنى أن يكون له مثل ما لغيره أن يزول عنه والحرص على هذا يسمى منافسة فإن كان في الطاعة فهو محمود ومنه فليتنافس المتنافسون وإن كان في المعصية فهو مذموم ومنه ولا تنافسوا وإن كان في الجائزات فهو مباح فكأنه قال في الحديث لا غبطة أعظم أو أفضل من الغبطة في هذين الامرين .
ووجه الحصر أن الطاعات إما بدنية أو مالية أو كائنة عنهما وقد أشار إلى البدنية بإتيان الحكمة والقضاء بها وتعليمها .
قوله : الحكمة اللام للعهد لأن المراد بها القرآن ، وقيل المراد بالحكمة كل ما منع من الجهل وزجر عن القبيح .
والحديث جملة يدل على جواز بل استحباب التنافس في الطاعات والقرب وأنه إن سمي حسدا فإنما هو ليس من الحسد المذموم .
الحديث السادس والثلاثون
قال البخاري رحمه الله تعالى في صحيحه (74) :
حدثني محمد بن غرير الزهري قال : حدثنا يعقوب بن إبراهيم قال : حدثني أبي عن صالح عن ابن شهاب حدث أن عبيد الله بن عبد الله أخبره عن ابن عباس أنه تمارى هو والحر بن قيس بن حصن الفزاري في صاحب موسى قال ابن عباس هو خضر فمر بهما أبي بن كعب فدعاه بن عباس فقال إني تماريت أنا وصاحبي هذا في صاحب موسى الذي سأل موسى السبيل إلى لقيه هل سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يذكر شأنه قال نعم سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول بينما موسى في ملأ من بني إسرائيل جاءه رجل فقال هل تعلم أحدا أعلم منك قال موسى لا فأوحى الله إلى موسى بلى عبدنا خضر فسأل موسى السبيل إليه فجعل الله له الحوت آية وقيل له إذا فقدت الحوت فارجع فإنك ستلقاه وكان يتبع أثر الحوت في البحر فقال لموسى فتاه أرأيت إذ أوينا إلى الصخرة فإني نسيت الحوت وما أنسانيه إلا الشيطان أن أذكره قال ذلك ما كنا نبغي فارتدا على آثارهما قصصا فوجدا خضرا فكان من شأنهما الذي قص الله عز وجل في كتابه .
رجال الإسناد(1/85)
قوله : غرير بالغين المعجمة مصغرا ومحمد وشيخه وأبوه إبراهيم بن سعد زهريون وكذا بن شهاب شيخ صالح وهو ابن كيسان .
شرح الحديث
قوله : تمارى أي تجادل .
قوله : والحر هو بضم الحاء وتشديد الراء المهملتين صحابي مشهور ، وكان من النفر الذين يدنيهم عمر يعني لفضلهم .
قوله : خضر ، خضر بفتح أوله وكسر ثانيه أو بكسر أوله وإسكان ثانيه .
وهذا التمارى الذي وقع بين سعيد بن جبير ونوف البكالي في صاحب موسى هل هو الخضر أو غيره وفي موسى هل هو موسى بن عمران الذي أنزلت عليه التوراة أو موسى بن ميشا بكسر الميم وسكون التحتانية بعدها معجمة .
ويقال إن اسم الخضر بليا بموحدة ولام ساكنة ثم تحتانية .
قوله : فدعاه أي ناداه وذكر ابن التين أن فيه حذفا والتقدير فقام إليه فسأله لأن المعروف عن ابن عباس التأدب مع من يأخذ عنه واخباره في ذلك شهيرة .
قوله : بلى عبدنا أي هو أعلم ، والتقدير فأوحى الله إليه لا تطلق النفي بل قل خضر وإنما قال عبدنا وإن كان السياق يقتضى أن يقول عبد الله لكونه أورده على طريق الحكاية عن الله سبحانه وتعالى والإضافة فيه للتعظيم .
قوله : ما كنا نبغى ، أي نطلب لأن فقد الحوت جعل آية أي علامة على الموضع الذي فيه الخضر .
وفي الحديث جواز التجادل في العلم إذا كان بغير تعنت .
وفيه أيضا : وجوب الرجوع إلى أهل العلم عند التنازع .
وفيه : العمل بخبر الواحد الصدوق .
وفيه : ركوب البحر في طلب العلم بل في طلب الاستكثار منه .
وفيه : مشروعية حمل الزاد في السفر ولزوم التواضع في كل حال ولهذا حرص موسى على الالتقاء بالخضر عليهما السلام وطلب التعلم منه تعليما لقومه أن يتأدبوا بأدبه وتنبيها لمن زكى نفسه أن يسلك مسلك التواضع .
الحديث السابع والثلاثون
قال البخاري رحمه الله تعالى في صحيحه (79) :(1/86)
حدثنا محمد بن العلاء قال : حدثنا حماد بن أسامة عن بريد بن عبد الله عن أبي بردة عن أبي موسى ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : مثل ما بعثني الله به من الهدى والعلم كمثل الغيث الكثير أصاب أرضا فكان منها نقية قبلت الماء فأنبتت الكلأ والعشب الكثير وكانت منها أجادب أمسكت الماء فنفع الله بها الناس فشربوا وسقوا وزرعوا وأصابت منها طائفة أخرى إنما هي قيعان لا تمسك ماء ولا تنبت كلأ فذلك مثل من فقه في دين الله ونفعه ما بعثني الله به فعلم وعلم ومثل من لم يرفع بذلك رأسا ولم يقبل هدى الله الذي أرسلت به .
قال أبو عبد الله قال إسحاق وكان منها طائفة قيلت الماء قاع يعلوه الماء والصفصف المستوي من الأرض .
ما يتعلق بالإسناد
1 - محمد بن العلاء هو أبو كريب مشهور بكنيته أكثر من اسمه ، وشيخه أبو أسامة ، وبريد بضم الموحدة ، وأبو بردة جده وهو ابن أبي موسى الأشعري .
2 - قال في السياق عن أبي موسى ولم يقل ، عن أبيه تفننا .
3 - الإسناد كله كوفيون .
إسناد الحديث
قوله : الهدى أي الدلالة الموصلة إلى المطلوب ، والعلم المراد به معرفة الأدلة الشرعية .
قوله : نقية بفتح النون وكسر القاف وتشديد الياء التحتانية وهو مثل .
قوله : قبلت بفتح القاف وكسر الموحدة من القبول كذا في معظم الروايات ووقع ثم الأصيلي قيلت بالتحتانية المشددة وهو تصحيف كما سنذكره بعد .
قوله : الكلا بالهمزة بلا مد .
قوله : والعشب هو من ذكر الخاص بعد العام لأن الكلأ يطلق على النبت الرطب واليابس معا والعشب للرطب فقط .
قوله : اجادب بالجيم والدال المهملة بعدها موحدة جمع جدب بفتح الدال المهملة وهي الأرض الصلبة التي لا ينضب منها الماء .
قوله : أنبتت المراد أنها قابلة للإنبات .
قوله : قيعان بكسر القاف جمع قاع وهو الأرض المستوية الملساء التي لا تنبت .
قوله : فقه بضم القاف أي صار فقيها .(1/87)
قال القرطبي وغيره : ضرب النبي صلى الله عليه وسلم لما جاء به من الدين مثلا بالغيث العام الذي يأتي الناس في حال حاجتهم إليه وكذا كان حال الناس قبل أن الغيث يحيى البلد الميت فكذا علوم الدين تحي القلب الميت ثم شبة السامعين له وضوء المختلف التي ينزل بها الغيث فمنهم العالم العامل المعلم فهو بمنزلة الأرض الطيبة شربت فانتفعت في نفسها وانبتت فنفعت غيرها ومنهم الجامع للعلم المستغرق لزمانه أنه لم يعمل بنوافله أو لم يتفقه فيما جمع لكنه أداه لغيره فهو بمنزلة الأرض التي يستقر فيها الماء فينتفع الناس به بقوله نضر الله امرأ سمع مقالتي فأداها كما سمعها ومنهم من يسمع العلم فلا يحفظه ولا يعمل به ولا ينقله لغيره فهو بمنزلة الأرض السبخة أو الملساء التي لا تقبل الماء أو تفسده على غيرها وإنما جمع في المثل بين الطائفتين الأوليين المحمودتين لاشتراكهما في الانتفاع بهما وأفرد الطائفة الثالثة المذمومة لعدم النفع بها والله أعلم .
ثم ظهر لي أن في كل مثل طائفتين فالأول قد اوضحناه والثاني الأولى منه من دخل في الدين ولم يسمع العلم أو سمعه فلم يعمل به ولم يعلمه ومثالها من الأرض السباخ وأشير إليها بقوله صلى الله عليه وسلم من لم يرفع بذلك رأسا أي اعرض عنه فلم ينتفع به ولا نفع والثانية منه من لم يدخل في الدين أصلا بل بلغه فكفر به ومثالها من الأرض الصماء الملساء المستوية التي يمر عليها الماء فلا ينتفع به وأشير إليها بقوله صلى الله عليه وسلم ولم يقبل هدى الله الذي جئت به .
وقال الطيبي : بقي من أقسام الناس قسمان :
أحدهما : الذي انتفع بالعلم في نفسه ولم يعلمه غيره .
والثاني : من لم ينتفع به في نفسه وعلمه غيره .
قوله : قال إسحاق وكان منها طائفة قيلت أي بتشديد الياء التحتانية أي أن إسحاق وهو ابن راهويه حيث روى هذا الحديث عن أبي أسامة خالف في هذا الحرف .
قال الأصيلي 24 : هو تصحيف من إسحاق .(1/88)
وقال غيره : بل هو صواب ومعناه شربت والقيل شرب نصف النهار يقال قيلت الإبل أي شربت في القائلة وتعقبه القرطبي بأن المقصود لا يختص بشرب القائلة .
وأجيب بان كون هذا أصله لا يمنع استعماله على الإطلاق تجوزا .
وقال ابن دريد : قيل الماء في المكان المنخفض إذا اجتمع فيه وتعقبه القرطبي أيضا بأنه يفسد التمثيل لأن اجتماع الماء إنما هو مثال الطائفة الثانية والكلام هنا إنما هو في الأولى التي شربت وأنبتت قال : والأظهر أنه تصحيف .
قوله : قاع بعلوه الماء والصفصف المستوى من الأرض ، أراد به أن قيعان المذكورة في الحديث جمع قاع وأنها الأرض التي يعلوها الماء ولا يستقر فيها وإنما ذكر الصفصف معه جريا على عادته في الاعتناء بتفسير ما يقع في الحديث من الألفاظ الواقعة في القرآن وقد يستطرد .
الحديث الثامن والثلاثون
قال البخاري رحمه الله تعالى في صحيحه (99) :
حدثنا عبد العزيز بن عبد الله قال : حدثني سليمان ، عن عمرو بن أبي عمرو بن أبي سعيد المقبري ، عن أبي هريرة أنه قال قيل يا رسول الله من أسعد الناس بشفاعتك يوم القيامة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لقد ظننت يا أبا هريرة أن لا يسألني عن هذا الحديث أحد أول منك لما رأيت من حرصك على الحديث أسعد الناس بشفاعتي يوم القيامة من قال لا إله إلا الله خالصا من قلبه أو نفسه .
ما يتعلق بالإسناد
1 - عبد العزيز هو أبو القاسم الأويسي ، وسليمان هو ابن بلال ، وعمرو بن أبي عمرو هو مولى المطلب بن عبد الله بن حنطب واسم أبي عمرو ميسرة .
2 - الإسناد كله مدنيون .
شرح الحديث
قوله : أول منك وقع في روايتنا برفع اللام ونصبها فالرفع على الصفة لأحد أو البدل منه والنصب على أنه مفعول ثان لظننت قاله القاضي عياض .
وقال أبو البقاء : على الحال ولا يضر كونه نكرة لأنها في سياق النفي كقولهم ما كان أحد مثلك و ما في .(1/89)
قوله : لما موصولة و من بيانية أو تبعيضية وفيه فضل أبي هريرة وفضل الحرص على تحصيل العلم .
قوله : من قال لا إله إلا الله احتراز من المشرك والمراد مع قوله : محمد رسول الله لكن قد يكتفى بالجزء الأول من كلمتى الشهادة لأنه صار شعارا لمجموعها .
قوله : خالصا احتراز من المنافق ومعنى أفعل في قوله : أسعد الفعل لا أنها أفعل التفضيل أي سعيد الناس كقوله تعالى : وأحسن مقيلا ويحتمل أن يكون أفعل التفضيل على بابها وأن كل أحد يحصل له سعد بشفاعته لكن المؤمن المخلص أكثر سعادة بها فإنه صلى الله عليه وسلم يشفع في الخلق لإراحتهم من هول الموقف ويشفع في بعض الكفار بتخفيف العذاب كما صح في حق أبي طالب ويشفع في بعض المؤمنين بالخروج من النار بعد أن دخلوها وفي بعضهم بعدم دخولها بعد أن استوجبوا دخولها وفي بعضهم بدخول الجنة بغير حساب وفي بعضهم برفع الدرجات فيها فظهر الاشتراك في السعادة بالشفاعة وأن أسعدهم بها المؤمن المخلص .
والحديث يدل على فضيلة الحرص على العلم وطلبه .
الحديث التاسع والثلاثون
قال البخاري رحمه الله تعالى في صحيحه (100) :
حدثنا إسماعيل بن أبي أويس قال : حدثني مالك عن هشام بن عروة ، عن أبيه ، عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول إن الله لا يقبض العلم انتزاعا ينتزعه من العباد ولكن يقبض العلم بقبض العلماء حتى إذا لم يبق عالما اتخذ الناس رؤوسا جهالا فسئلوا فأفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا قال الفربري حدثنا عباس قال : حدثنا قتيبة حدثنا جرير عن هشام نحوه .
ما يتعلق بالإسناد
1 - حدثني مالك قال الدارقطني : لم يروه في الموطأ الا عبد الله بن عيسى ، وأفاد ابن عبد البر أن سليمان بن يزيد رواه أيضا في الموطأ والله أعلم .
2 - اشتهر هذا الحديث من رواية هشام بن عروة من رواية أكثر من سبعين نفسا من أهل الحرمين والعراقين والشام وخراسان ومصر 25 .(1/90)
قوله : لا يقبض العلم انتزاعا أي محوا من الصدور وكان تحديث النبي صلى الله عليه وسلم بذلك في حجة الوداع كما رواه أحمد والطبراني من حديث أبي أمامة قال لما كان في حجة الوداع قال النبي صلى الله عليه وسلم خذوا العلم قبل أن يقبض أو يرفع فقال أعرابي كيف يرفع فقال الا أن ذهاب العلم ذهاب حملته ثلاث مرات .
قوله : حتى إذا لم يبق عالم هو بفتح الياء والقاف ، أي لم يبق الله عالما ، وفي رواية مسلم حتى إذا لم يترك عالما .
قوله : رؤوسا قال النووي ضبطناه بضم الهمزة والتنوين جمع رأس .
قوله : نحوه أي بمعنى حديث مالك ولفظ رواية قتيبة هذه أخرجها مسلم عنه وفي هذا الحديث الحث على حفظ العلم والتحذير من ترئيس الجهلة وفيه أن الفتوى هي الرياسة الحقيقية وذم من يقدم عليها بغير علم واستدل به الجمهور على القول يخلو الزمان عن مجتهد ولله الأمر يفعل ما يشاء .
والحديث فيه كيف ذهاب العلم وكيف يقبض ، وفيه فضيلة الأخذ عن الشيوخ وأن الأخذ منهم هو الأصل .
الحديث الأربعون
قال البخاري رحمه الله تعالى في صحيحه (111) :
حدثنا محمد بن سلام قال : أخبرنا وكيع عن سفيان عن مطرف عن الشعبي عن أبي جحيفة قال قلت لعلي هل عندكم كتاب قال لا إلا كتاب الله أو فهم أعطيه رجل مسلم أو ما في هذه الصحيفة قال قلت فما في هذه الصحيفة قال العقل وفكاك الأسير ولا يقتل مسلم بكافر .
ما يتعلق بالإسناد
1 - ابن سلام اسمه محمد .
2 - عن سفيان هو الثوري لأن وكيعا مشهور بالرواية عنه .
وقال أبو مسعود الدمشقي في الأطراف : يقال أنه ابن عيينة .
قال ابن حجر : لو كان ابن عيينة لنسبه لأن القاعدة في كل من روى عن متفقي الاسم أن يحمل من أهمل نسبته على من يكون له به خصوصية من إكثار ونحوه ، ووكيع قليل الرواية عن ابن عيينة بخلاف الثوري .
3 - مطرف هو بفتح الطاء المهمله وكسر الراء بن طريف بطاء مهمله أيضا .
4 - أبو جحيفة هو وهب السوائي .(1/91)
5 - الإسناد كله كوفيون إلا شيخ البخاري وقد دخل الكوفة .
6 - وهو من رواية صحابي عن صحابي .
شرح الحديث
قوله : هل عندكم : الخطاب لعلي بن أبي طالب والجمع إما لارادته مع بقية أهل البيت أو للتعظيم .
قوله : كتاب : أي مكتوب اخذتموه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم مما أوحى إليه .
قوله : إلا كتاب الله هو بالرفع .
وقال ابن المنير : فيه دليل على أنه كان عنده أشياء مكتوبة من الفقه المستنبط من كتاب الله وهي المراد بقوله : أو فهم أعطيه رجل لأنه ذكره بالرفع فلو كان الاستثناء الجنس لكان منصوبا .
قال ابن حجر : الظاهر أن الاستثناء فيه منقطع والمراد بذكر الفهم إثبات إمكان الزيادة على ما في الكتاب .
قوله : الصحيفة أي الورقة المكتوبة .
قوله : العقل أي الدية وإنما سميت به لأنهم كانوا يعطون فيها الإبل ويربطونها بفناء دار المفتول بالعقال وهو الحبل .
قوله : وفكاك بكسر الفاء وفتحها وقال الفراء الفتح أفصح والمعنى أن فيها حكم تخليص الأسير من يد العدو والترغيب في ذلك .
قوله : ولا يقتل بضم اللام يعني مسلم بكافر .
وفي ذلك عدم جواز قتل المسلم بالكافر وأنه يدفع له الدية .
الحديث الواحد والأربعون
قال البخاري رحمه الله تعالى في صحيحه (112) :(1/92)
حدثنا أبو نعيم الفضل بن دكين قال : حدثنا شيبان عن يحيى عن أبي سلمة ، عن أبي هريرة أن خزاعة قتلوا رجلا من بني ليث عام فتح مكة بقتيل منهم قتلوه فأخبر بذلك النبي صلى الله عليه وسلم فركب راحلته فخطب فقال إن الله حبس عن مكة القتل أو الفيل شك أبو عبد الله وسلط عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين ألا وإنها لم تحل لأحد قبلي ولم تحل لأحد بعدي ألا وإنها حلت لي ساعة من نهار ألا وإنها ساعتي هذه حرام لا يختلى شوكها ولا يعضد شجرها ولا تلتقط ساقطتها إلا لمنشد فمن قتل فهو بخير النظرين إما أن يعقل وإما أن يقاد أهل القتيل فجاء رجل من أهل اليمن فقال اكتب لي يا رسول الله فقال اكتبوا لأبي فلان فقال رجل من قريش إلا الإذخر يا رسول الله فإنا نجعله في بيوتنا وقبورنا فقال النبي صلى الله عليه وسلم إلا الإذخر إلا الإذخر قال أبو عبد الله يقال يقاد بالقاف فقيل لأبي عبد الله أي شيء كتب له قال كتب له هذه الخطبة .
ما يتعلق بالإسناد
قوله : شيبان هو ابن عبد الرحمن أبا معاوية وهو بفتح الشين المعجمة بعدها تحتانية ثم موحدة ، ويحيى هو ابن أبي كثير ، وأبو سلمة هو ابن عبد الرحمن .
شرح الحديث
قوله : أن خزاعة أي القبيلة المشهورة والمراد أحد منهم فأطلق عليه اسم القبيلة مجازا واسم هذا القاتل خراش بن أمية الخزاعي والمقتول في الجاهلية منهم اسمه أحمر والمقتول في الإسلام من بني ليث لم يسم .
قوله : حبس أي منع عن مكة القتل أو الفيل .
والمراد بحبس الفيل أهل الفيل وأشار بذلك إلى القصة المشهورة للحبشة في غزوهم مكة ومعهم الفيل فمنعها الله منهم وسلط عليهم الطير الأبابيل مع كون أهل مكة إذ ذاك كانوا كفارا فحرمة أهلها بعد الإسلام آكد لكن غزو النبي صلى الله عليه وسلم إياها مخصوص به على ظاهر هذا الحديث .
قوله : لا يختلي بالخاء المعجمة أي لا يحصد يقال اختليته إذا قطعته وذكر الشوك دال على منع قطع غيره من باب أولي .(1/93)
قوله : إلا لمنشد أي معرف ..
قوله : وإما أن يقاد هو بالقاف أي يقتص ووقع في رواية لمسلم أما أنه يفادى بالفاء وزيادة ياء بعد الدال والصواب أن الرواية على وجهين من قالها بالقاف قال فيما قبلها أما أن يعقل من العقل وهو الدية ومن قالها بالفاء قال فيما قبلها أما أن يقتل بالقاف والمثناة والحاصل تفسير النظرين بالقصاص أو الدية .
قوله : فجاء رجل من أهل اليمن هو أبو شاه بهاء منونه .
قوله : اكتبوا لي قال هذه الخطبة التي سمعها من رسول الله صلى الله عليه وسلم .
قوله : إلا الإذخر كذا هو في روايتنا بالنصب ويجوز رفعه على البدل مما قبله .
وفي الحديث إباحة كتابة العلم بل الحث عليه ، وقد كان في اول الإسلام مكروها خشية أن يختلط بالقرآن ثم لما استقر الأمر أباحه الأئمة بل رغبوا فيه ، والحديث نص في الإباحة .
قال العلماء : كره جماعة من الصحابة والتابعين كتابة الحديث واستحبوا أن يؤخذ عنهم حفظا لكن لما قصرت الهمم وخشي الأئمة ضياع العلم دونوه وأول من دون الحديث بن شهاب الزهري على رأس المائه بأمر عمر بن عبد العزيز ثم كثر التدوين ثم التصنيف وحصل بذلك خير كثير فلله الحمد .
الحديث الثاني والأربعون
قال البخاري رحمه الله تعالى في صحيحه (113) :
حدثنا علي بن عبد الله قال : حدثنا سفيان قال : حدثنا عمرو قال : أخبرني وهب بن منبه عن أخيه قال : سمعت أبا هريرة يقول ما من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أحد أكثر حديثا عنه مني إلا ما كان من عبد الله بن عمرو فإنه كان يكتب ولا أكتب تابعه معمر عن همام ، عن أبي هريرة .
ما يتعلق بالإسناد
1 - عمرو هو ابن دينار المكي ، عن أخيه هو همام بن منبه بتشديد الموحدة المكسورة وكان أكبر منه سنا لكن تأخرت وفاته ، عن وهب .
2 - في الإسناد ثلاثة من التابعين من طبقة متقاربة أولهم عمرو ، ثم وهب ثم همام .
شرح الحديث(1/94)
قوله : فإنه كان يكتب ولا اكتب هذا استدلال من أبي هريرة على ما ذكره من أكثرية ما عند عبد الله بن عمرو أي ابن العاص على ما عنده ويستفاد من ذلك أن أبا هريرة كان جازما بأنه ليس في الصحابة أكثر حديثا ، عن النبي صلى الله عليه وسلم منه إلا عبد الله مع أن الموجود المروي ، عن عبد الله بن عمرو أقل من الموجود المروي ، عن أبي هريرة بأضعاف مضاعفة .
فإن قلنا الاستثناء منقطع فلا إشكال إذ التقدير لكن الذي كان من عبد الله وهو الكتابة لم يكن مني سواء لزم منه كونه أكثر حديثا لما تقتضيه العادة أم لا .
وإن قلنا الاستثناء متصل فالسبب فيه من جهات أحدها :
أن عبد الله كان مشتغلا بالعبادة أكثر من اشتغاله بالتعليم فقلت الرواية عنه .
ثانيها أنه كان أكثر مقامه بعد فتوح الأمصار بمصر أو بالطائف ولم تكن الرحلة إليهما ممن يطلب العلم كالرحلة إلى المدينة وكان أبو هريرة متصديا فيها للفتوى والتحديث إلى أن مات ويظهر هذا من كثرة من حمل ، عن أبي هريرة فقد ذكر البخاري أنه روى عنه ثمانمائة نفس من التابعين ولم يقع هذا لغيره .
ثالثها ما اختص به أبو هريرة من دعوة النبي صلى الله عليه وسلم له بان لا ينسى ما يحدثه به .
رابعها أن عبد الله كان قد ظفر في الشام بحمل جمل من كتب أهل الكتاب فكان ينظر فيها ويحدث منها فتجنب الأخذ عنه لذلك كثير من أئمة التابعين .
قوله : ولا أكتب قد يعارضه ما أخرجه ابن وهب من طريق الحسن بن عمرو بن أمية قال : تحدث عند أبي هريرة بحديث فأخذ بيدي إلى بيته فأرانا كتبا من حديث النبي صلى الله عليه وسلم وقال هذا هو مكتوب عندي قال ابن عبد البر حديث همام أصح ويمكن الجمع بأنه لم يكن يكتب في العهد النبوي ثم كتب بعده .
قلت : وأقوى من ذلك أنه لا يلزم من وجود الحديث مكتوبا عنده أن يكون بخطه وقد ثبت أنه لم يكن يكتب فتعين أن المكتوب عنده بغير خطه .(1/95)
قوله : تابعه معمر أي ابن راشد يعني تابع وهب بن منبه في روايته لهذا الحديث عن همام والمتابعة المذكورة أخرجها عبد الرزاق عن معمر وأخرجها أبو بكر بن علي المروزي في كتاب العلم له عن حجاج بن الشاعر عنه وروى أحمد والبهيقي في المدخل من طريق عمرو بن ، شعيب عن مجاهد والمغيرة بن حكيم قالا سمعنا أبا هريرة يقول ما كان أحد أعلم بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم مني الا ما كان من عبد الله بن عمرو فإنه كان يكتب بيده ويعي بقلبه وكنت اعي ولا اكتب استأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الكتاب عنه فأذن له إسناده حسن وله طريق أخرى أخرجها إذنه في ترجمة عبد الرحمن بن سلمان عن عقيل عن المغيرة بن حكيم سمع أبا هريرة قال ما كان أحد أعلم بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم مني الا عبد الله بن عمرو فإنه كان يكتب استأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يكتب بيده ما سمع منه فأذن له الحديث وعند أحمد وأبي داود من طريق يوسف بن ماهك ، عن عبد الله بن عمرو كنت اكتب كل شيء سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم فنهتني قريش الحديث وفيه اكتب فو الذي نفسي بيده ما يخرج منه الا الحق ولهذا طرق أخرى ، عن عبد الله بن عمرو يقوي بعضها بعضا 26 .
ويستفاد من هذا الحديث ومن قصة أبي شاه أن النبي صلى الله عليه وسلم إذن في كتابة الحديث عنه وهو يعارض حديث أبي سعيد الخدري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : لا تكتبوا عني القرآن رواه مسلم .
قال ابن حجر : والجمع بينهما أن النهي خاص بوقت نزول القرآن خشية التباسه بغيره والأذن ذلك .
أو أن النهي خاص القرآن مع القرآن في شيء واحد والأذن في تفريقهما .
أو النهي متقدم والأذن ناسخ له عند الأمن من الالتباس وهو أقربها مع أنه لا ينافيها .
وقيل النهي خاص بمن خشي منه الاتكال على الكتابة دون الحفظ والأذن لمن أمن منه ذلك .(1/96)
ومنهم من أعل حديث أبي سعيد وقال الصواب وقفه على أبي سعيد قاله البخاري وغيره .
الحديث الثالث والأربعون
قال البخاري رحمه الله تعالى في صحيحه (114) :
حدثنا يحيى بن سليمان قال : حدثني بن وهب قال : أخبرني يونس عن ابن شهاب عن عبيد الله بن عبد الله عن ابن عباس قال لما اشتد بالنبي صلى الله عليه وسلم وجعه قال ائتوني بكتاب أكتب لكم كتابا لا تضلوا بعده قال عمر إن النبي صلى الله عليه وسلم غلبه الوجع وعندنا كتاب الله حسبنا فاختلفوا وكثر اللغط قال قوموا عني ولا ينبغي عندي التنازع فخرج بن عباس يقول إن الرزية كل الرزية ما حال بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين كتابه .
ما يتعلق بالإسناد
يونس هو ابن يزيد ، وعبيد الله بن عبد الله أي ابن عتبة بن مسعود .
شرح الحديث
قوله : لما اشتد أي قوي .
قوله : وجعه أي في مرض موته وكان ذلك يوم الخميس وهو قبل موته صلى الله عليه وسلم بأربعة أيام .
قوله : بكتاب أي بأدوات الكتاب ففيه مجاز الحذف وقد صرح بذلك في رواية لمسلم قال : ائتوني بالكتف والدواة والمراد بالكتف عظم الكتف لأنهم كانوا يكتبون فيها .
قوله : اكتب هو بإسكان الباء جواب الأمر ويجوز الرفع على الاستئناف وفيه مجاز أيضا أي أمر بالكتابة ويحتمل أن يكون على ظاهره ، وفي مسند أحمد من حديث على أنه المامور بذلك ولفظه أمرني النبي صلى الله عليه وسلم أن اتيه بطبق أي كتف يكتب ما لا تضل أمته من بعده .
قوله : كتابا بعد بكتاب فيه الجناس التام بين الكلمتين وإن كانت إحداهما بالحقيقة والأخرى بالمجاز .
قوله : غلبه الوجع أي فيشق عليه إملاء الكتاب أو مباشرة الكتابة وكان عمر رضي الله عنه فهم من ذلك أنه يقتضي التطويل .(1/97)
قال القرطبي وغيره : ائتوني أمر وكان حق المامور أن يبادر للامتثال ولكن ظهر لعمر رضي الله عنه وطائفة أنه ليس على الوجوب وأنه من باب الإرشاد إلى الأصلح فكرهوا أن يكلفوه من ذلك عليه في تلك الحالة مع استحضارهم قوله تعالى ما فرطنا في الكتاب من شيء وقوله تعالى : تبيانا لكل شيء ، ولهذا قال عمر : حسبنا كتاب الله .
وظهر لطائفة أخرى أن الأولى أن يكتب لما فيه من امتثال أمره وما يتضمنه من زيادة الإيضاح ودل أمره لهم بالقيام على أن أمره الأول كان على الاختيار ولهذا عاش صلى الله عليه وسلم بعد ذلك أياما ولم يعاود أمرهم بذلك ولو كان واجبا لم يتركه لاختلافهم لأنه لم يترك التبليغ لمخالفة من خالف وقد كان الصحابة يراجعونه في بعض الأمور ما لم يجزم بالأمر فإذا عزم امتثلوا ، وقد عد هذا من موافقة عمر رضي الله عنه .
واختلف في المراد بالكتاب فقيل : كان أراد أن يكتب كتابا ينص فيه على الأحكام ليرتفع الاختلاف .
وقيل بل أراد أن ينص على أسامي الخلفاء بعده حتى لا يقع بينهم الاختلاف قاله سفيان بن عيينة ويؤيده أن صلى الله عليه وسلم قال : في أوائل مرضه وهو عند عائشة ادعى لي أباك وأخاك حتى اكتب كتابا فإني أخاف أن يتمنى متمن ويقول قائل ويأبى الله والمؤمنون الا أبا بكر أخرجه مسلم .
ومع ذلك فلم يكتب والأول أظهر لقول عمر كتاب الله حسبنا أي كافينا مع أنه يشمل الوجه الثاني لأنه بعض افراده والله أعلم .
قال الخطابي إنما ذهب عمر إلى أنه لو نص بما يزيل الخلاف لبطلت فضيلة العلماء وعدم الاجتهاد واجاب ابن الجوزي بأنه لو نص على شيء أو أشياء لم يبطل الاجتهاد لأن الحوادث لا يمكن حصرها قال : وإنما خاف عمر أن يكون ما يكتبه في حالة غلبة المرض فيجد بذلك المنافقون سبيلا إلى الطعن في ذلك المكتوب .(1/98)
قوله : ولا ينبغي عندي التنازع فيه اشعار بان الأولى كان المبادرة إلى امتثال الأمر وإن كان ما اختاره عمر صوابا إذ لم يتدارك ذلك النبي صلى الله عليه وسلم بعد كما قدمناه قال القرطبي واختلافهم في ذلك كاختلافهم في قوله لهم : لا يصلين أحد العصر إلا في بني قريظة فتخوف ناس فوت الوقت فصلوا وتمسك آخرون بظاهر الأمر فلم يصلوا فما عنف أحدا منهم من أجل الاجتهاد المسوغ والمقصد الصالح والله أعلم .
قوله : الرزيئة هي بفتح الراء وكسر الزاي بعدها ياء ثم همزة وقد تسهل الهمزة وتشدد الياء ومعناها المصيبة وزاد في رواية معمر لاختلافهم ولغطهم أي أن الاختلاف كان سببا لترك كتابة الكتاب .
وفي الحديث دليل على جواز كتابة العلم .
وعلى أن الاختلاف قد يكون سببا في حرمان الخير كما وقع في قصة الرجلين اللذين تخاصما فرفع تعيين ليلة القدر بسبب ذلك .
وفيه وقوع الاجتهاد بحضرة النبي صلى الله عليه وسلم فيما ينزل عليه فيه .
تنبيه : قدم حديث على أنه كتب ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ويطرقه احتمال أن يكون إنما كتب ذلك بعد النبي صلى الله عليه وسلم ولم يبلغه النهي وثني بحديث أبي هريرة وفيه الأمر بالكتابة وهو بعد النهي فيمون ناسخا وثلث بحديث عبد الله بن عمرو وقد بينت أن في بعض الإشارة إذن النبي صلى الله عليه وسلم له في ذلك فهو أقوى في الاستدلال للجواز من الأمر أن يكتبوا لأبي شاه لاحتمال اختصاص ذلك بمن يكون أميا أو أعمى وختم بحديث بن عباس الدال على أنه صلى الله عليه وسلم هم أن يكتب لأمته كتابا يحصل معه الأمن من الاختلاف وهو لايهم الا بحق .
قوله : باب العلم أي تعليم العلم بالليل والعظة تقدم أنها الوعظ وأراد المصنف التنبيه على أن النهي عن الحديث بعد العشاء مخصوص بما لا يكون في الخير .
الحديث الرابع والأربعون
قال البخاري رحمه الله تعالى في صحيحه (118) :(1/99)
حدثنا عبد العزيز بن عبد الله قال : حدثني مالك عن ابن شهاب عن الأعرج ، عن أبي هريرة قال إن الناس يقولون أكثر أبو هريرة ولولا آيتان في كتاب الله ما حدثت حديثا ثم يتلو إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات إلى قوله الرحيم ، إن إخواننا من المهاجرين كان يشغلهم الصفق بالأسواق وإن إخواننا من الأنصار كان يشغلهم العمل في أموالهم وإن أبا هريرة كان يلزم رسول الله صلى الله عليه وسلم بشبع بطنه ويحضر ما لا يحضرون ويحفظ ما لا يحفظون .
ما يتعلق بالإسناد
1 - عبد العزيز هو الأويسي المدني .
2 - الإسناد كله مدنيون .
شرح الحديث
قوله : أكثر أبو هريرة أي من الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم .
قوله : ولولا آيتان مقول قال لا مقول يقولون و.
قوله : أن إخواننا وأراد بصيغة الجمع نفسه وأمثاله والمراد بالأخوة إخوة الإسلام .
قوله : يشغلهم بفتح أوله من الثلاثي .
قوله : الصفق بإسكان الفاء هو ضرب اليد على اليد وجرت به عادتهم عند عقد البيع .
قوله : في أموالهم أي القيام على مصالح زرعهم وفي صحيح كان يشغلهم عمل أرضيهم ولابن سعد في طبقاته كان يشغلهم القيام على أرضيهم .
قوله : ويحضر أي من الأحوال ويحفظ أي من الأقوال وهما معطوفان على قوله يلزم وقد روى البخاري في التاريخ والحاكم في المستدرك من حديث طلحة بن عبيد الله شاهدا لحديث أبي هريرة هذا ولفظه لا أشك أنه سمع من رسول الله صلى الله عليه وسلم ما لا نسمع وذلك أنه كان مسكينا لا شيء له ضيفا لرسول الله صلى الله عليه وسلم .
وفي الحديث ما كان عليه أبو هريرة رضي الله عنه من الحرص على العلم .
وأنه ينبغي لمن طلب العلم أن يصبر على قلة المال ويعرض عن الدنيا وزخارفها .
الحديث الخامس والأربعون
قال البخاري رحمه الله تعالى في صحيحه (119) :(1/100)
حدثنا أحمد بن أبي بكر أبو مصعب قال : حدثنا محمد بن إبراهيم بن دينار عن ابن أبي ذئب ، عن سعيد المقبري ، عن أبي هريرة قال قلت يا رسول الله إني أسمع منك حديثا كثيرا أنساه قال ابسط رداءك فبسطته قال فغرف بيديه ثم قال ضمه فضممته فما نسيت شيئا بعده .
حدثنا إبراهيم بن المنذر قال : حدثنا ابن أبي فديك بهذا أو قال غرف بيده فيه .
ما يتعلق بالإسناد
1 - أحمد بن أبي بكر هو الزهري المدني صاحب مالك .
2 - الإسناد كله مدنيون .
قوله : فما نسيت شيئا بعد هو مقطوع الإضافه مبنى على الضم وتنكير شيئا بعد النفي ظاهر العموم في عدم النسيان منه لكل شيء من الحديث وغيره .
وأما ما أخرجه ابن وهب من طريق الحسن بن عمرو بن أمية قال تحدثت عند أبي هريرة بحديث فأنكره فقلت إني سمعت منك فقال إن كنت سمعته مني فهو مكتوب عندي فقد يتمسك به في تخصيص عد النسيان بتلك المقالة لكن سند هذا ضعيف .
وعلى تقدير ثبوته فهو نادر .
ويلتحق به حديث أبي سلمة عنه لا عدوي فإنه قال فيه أن أبا هريرة أنكره قال فما رايته نسي شيئا غيره .
وفي هذا الحديثين فضيلة ظاهرة لأبي هريرة ومعجزة واضحة من علامات النبوة لأن النسيان من لوازم الإنسان وقد اعترف أبو هريرة بأنه كان يكثر منه ثم تخلف عنه ببركة النبي صلى الله عليه وسلم .
وفيه الحث على حفظ العلم .
وفيه أن التقلل من الدنيا أمكن لحفظه .
وفيه فضيلة التكسب لمن له عيال .
وفيه جواز أخبار المرء بما فيه من فضيلة إذا اضطر إلى ذلك وأمن من الإعجاب .
الحديث السادس والأربعون
قال البخاري رحمه الله تعالى في صحيحه (128) :(1/101)
حدثنا إسحاق بن إبراهيم قال : حدثنا معاذ بن هشام قال : حدثني أبي عن قتادة قال : حدثنا أنس بن مالك أن النبي صلى الله عليه وسلم ومعاذ رديفه على الرحل قال يا معاذ بن جبل قال لبيك يا رسول الله وسعديك قال يا معاذ قال لبيك يا رسول الله وسعديك ثلاثا قال ما من أحد يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله صدقا من قلبه إلا حرمه الله على النار قال يا رسول الله أفلا أخبر به الناس فيستبشروا قال إذا يتكلوا وأخبر بها معاذ ثم موته تأثما .
ما يتعلق بالإسناد
1 - قوله حدثني أبي هو هشام بن أبي عبد الله الدستوائي .
2 - قتادة هو ابن دعامة السدوسي .
شرح الحديث
قوله : رديفه أي راكب خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم ، والرحل بإسكان الحاء المهملة وأكثر ما يستعمل للبعير لكن معاذ كان في تلك الحالة رديفه صلى الله عليه وسلم على حمار .
قوله : قال يا معاذ بن جبل هو خبر وابن جبل بفتح النون وأما معاذ فبالضم لأنه منادى مفرد علم .
قوله : معاذ زائد فالتقدير يا ابن جبل وهو يرجع إلى الكلام بن الحاجب بتأويل .
قوله : قال لبيك يا رسول الله وسعديك اللب بفتح اللام معناه هنا الإجابة والسعد المساعدة وكأنه قال لبا لك وإسعادا لك ولكنهما ثنيا على معنى التأكيد والتكثير أي إجابة بعد إجابة وإسعادا بعد إسعاد وقيل في أصل لبيك ذلك وسنوضحه في كتاب الحج إن شاء الله تعالى .
قوله : صدقا فيه احتراز عن شهادة المنافق وقوله من قلبه يمكن أن يتعلق بصدق أي يشهد بلفظه ويصدق بقلبه ويمكن أن يتعلق بيشهد أي يشهد بقلبه والأول أولى .
وقال الطيبي : قوله : صدقا أقيم هنا مقام الاستقامة لأن الصدق يعبر به قولا عن مطابقة القول المخبر عنه ويعبر به فعلا تحري الأخلاق المرضية كقوله تعالى والذي جاء بالصدق وصدق به أي حقق ما أورده قولا بما تحراه فعلا انتهى .(1/102)
قال ابن حجر : وأراد بهذا التقرير رفع الاشكال عن ظاهر الخبر لأنه يقتضي عدم دخول جميع من شهد الشهادتين النار لما فيه من التعميم والتأكيد لكن دلت الأدلة القطعيه عند أهل السنة على أن طائفة من عصاة المؤمنين يعذبون ثم يخرجون من النار بالشفاعة فعلم أن مراد فكأنه قال أن ذلك مقيد بمن عمل الأعمال الصالحة .
قال : ولأجل خفاء ذلك لم يؤذن لمعاذ في التبشير به .
وقد أجاب العلماء عن الاشكال أيضا بأجوبة أخرى :
منها : أن مطلقة مقيد بمن قالها تائبا ثم مات على ذلك .
ومنها : أن ذلك كان قبل نزول الفرائض وفيه نظر لأن مثل هذا الحديث وقع لأبي هريرة كما رواه مسلم وصحبته متأخرة عن نزول أكثر الفرائض .
ومنها : أنه خرج مخرج الغالب إذ الغالب أن الموحد يعمل الطاعة ويجتنب المعصية .
ومنها : أن المراد بتحريمه على النار تحريم خلوده فيها لا أصل دخولها .
ومنها : أن المراد النار التي أعدت للكافرين لا الطبقة التي أفردت لعصاة الموحدين .
ومنها : أن المراد بتحريمه على النار حرمة جملته لأن النار لا تأكل مواضع السجود من المسلم كما ثبت في حديث الشفاعة أن ذلك محرم عليها وكذا لسانه الناطق بالتوحيد .
والحديث يدل على أن للعبد اختيارا وفعلا ومشيئة لكن ذلك إنما يقع بعد مشيئة الله كما قال تعالى لمن شاء منكم أن يستقيم وما تشاءون إلا أن يشاء الله رب العالمين .
ويدل على جواز الإجتهاد بحضرة النبي صلى الله عليه وسلم لاجتهاد معاذ في الإخبار .
قوله : تأثما هو بفتح الهمزة وتشديد المثلثة المضمومة أي خشية الوقوع في الإثم .
الحديث السابع والأربعون
قال البخاري رحمه الله تعالى في صحيحه (2633) :(1/103)
حدثنا إسحاق بن منصور ، أخبرنا عفان ، حدثنا همام ، حدثنا محمد بن جحادة قال : أخبرني أبو حصين أن ذكوان حدثه أن أبا هريرة رضي الله عنه حدثه قال جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال دلني على عمل يعدل الجهاد قال لا أجده قال هل تستطيع إذا خرج المجاهد أن تدخل مسجدك فتقوم ولا تفتر وتصوم ولا تفطر قال ومن يستطيع ذلك .
قال أبو هريرة إن فرس المجاهد ليستن في طوله فيكتب له حسنات .
ما يتعلق بالإسناد
1 - إسحاق بن منصور هو الكوسج الإمام الثقة .
2 - عفان هو ابن مسلم الصفار .
3 - همام هو ابن يحيى العوذي .
شرح الحديث
قوله : قال أبو هريرة إن فرس المجاهد ليستن أي يمرح بنشاط وقال الجوهري هو أن يرفع يديه ويطرحهما معا وقال غيره أن يلج في عدوه مقبلا أو مدبرا وفي المثل استنت الفصال حتى القرعى يضرب لمن يتشبه بمن هو فوقه .
قوله : في طوله بكسر المهملة وفتح الواو وهو الحبل الذي يشد به الدابة ويمسك طرفه ويرسل في المرعى .
قال القاضي عياض : اشتمل حديث الباب على تعظيم أمر الجهاد لأن الصيام وغيره مما ذكر من فضائل الأعمال قد عدلها كلها الجهاد حتى صارت جميع حالات المجاهد وتصرفاته المباحة معادلة لأجر المواظب على الصلاة وغيرها ولهذا قال صلى الله عليه وسلم لا تستطيع ذلك .
وفيه أن الفضائل لاتدرك بالقياس وإنما هي إحسان من الله تعالى لمن شاء .
واستدل به على أن الجهاد أفضل الأعمال مطلقا لما تقدم تقريره .
وقال ابن دقيق العيد : القياس يقتضي أن يكون الجهاد أفضل الأعمال التي هي وسائل لأن الجهاد وسيلة إلى إعلان الدين ونشره وإخماد الكفر ودحضه ففضيلته بحسب فضيلة ذلك والله أعلم .
الحديث الثامن والأربعون
قال البخاري رحمه الله تعالى في صحيحه (2635) :(1/104)
حدثنا أبو اليمان أخبرنا ، شعيب عن الزهري قال : أخبرني سعيد بن المسيب أن أبا هريرة قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول مثل المجاهد في سبيل الله والله أعلم بمن يجاهد في سبيله كمثل القائم الصائم وتوكل الله للمجاهد في سبيله بأن يتوفاه أن يدخله الجنة أو يرجعه سالما مع أجر أو غنيمة .
شرح الحديث
شبه النبي صلى الله عليه وسلم حال بحال المجاهد في سبيل الله في نيل الثواب في كل حركة وسكون لأن المراد من من لا يفتر ساعة عن العبادة فأجره مستمر وكذلك المجاهد لا تضيع ساعة من ساعاته بغير ثواب لما تقدم من حديث إن المجاهد لتستن فرسه فيكتب له حسنات وأصرح منه قوله تعالى ذلك بأنهم لا يصيبهم ظمأ ولا نصب .
قوله : وتوكل الله ، تضمن الله وتكفل الله وانتدب الله بمعنى واحد ومحصله تحقيق الوعد المذكور في قوله تعالى إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة وذلك التحقيق على وجه الفضل منه سبحانه وتعالى وقد عبر صلى الله عليه وسلم عن الله سبحانه وتعالى بتفضله بالثواب بلفظ الضمان ونحوه مما جرت به عادة المخاطبين فيما تطمئن به نفوسهم .
قوله : أن يدخله الجنة أي بغير حساب ولا عذاب أو المراد أن يدخله الجنة ساعة موته كما ورد أن أرواح الشهداء تسرح في الجنة وبهذا التقرير يندفع إيراد من قال ظاهر الحديث التسوية بين الشهيد والراجع سالما لأن حصول الأجر يستلزم دخول الجنة ومحصل الجواب أن المراد بدخول الجنة دخول خاص .(1/105)
قوله : مع أجر أو غنيمة أي مع أجر خالص إن لم يغنم شيئا أو مع غنيمة خالصة معها الجر وكأنه سكت عن الأجر الثاني الذي مع الغنيمة لنقصه بالنسبة إلى الأجر الذي بلا غنيمة والحامل على هذا التأويل أن ظاهر الحديث أنه إذا غنم لا يحصل له أجر وليس ذلك مرادا بل المراد أو غنيمة معها أجر انقص من أجر من لم يغنم لأن القواعد تقتضي أنه عند عدم الغنيمة أفضل منه وأتم أجرا عند وجودها فالحديث صريح في نفي الحرمان وليس صريحا في نفي الجمع .
والحديث يدل على فضيلة الجهاد في سبيل الله تعالى وأن من جاهد فهو في الحالين مأجور محمود .
الحديث التاسع والأربعون
قال البخاري رحمه الله تعالى في صحيحه (2640) :
حدثنا إبراهيم بن المنذر حدثنا محمد بن فليح قال : حدثني أبي عن هلال بن علي عن عبد الرحمن بن أبي عمرة ، عن أبي هريرة رضي الله عنه ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : لقاب قوس في الجنة خير مما تطلع عليه الشمس وتغرب وقال لغدوة أو روحة في سبيل الله خير مما تطلع عليه الشمس وتغرب .
ما يتعلق بالإسناد
1 - إبراهيم بن المنذر هو الحزامي .
2 - محمد بن فليح هو ابن سليمان .
3 - عبد الرحمن بن أبي عمرة هو الأنصاري .
4 - الإسناد كله مدنيون .
شرح الحديث
قوله : لقاب قوس في الجنة ، القاب المسافة بين الوتر والقوس .
والحديث فيه الترغيب في الجهاد وأن الغدوة أو الروحة في سبيل الله تعالى خير من الدنيا وما فيها .
وفيه حقارة الدنيا وأنها لا تسوى عند الله شيئا .
الحديث الخمسون
قال البخاري رحمه الله تعالى في صحيحه (2642) :
حدثنا عبد الله بن محمد حدثنا معاوية بن عمرو حدثنا أبو إسحاق عن حميد قال : سمعت أنس بن مالك رضي الله عنه ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ما من عبد يموت له عند الله خير يسره أن يرجع إلى الدنيا وأن له الدنيا وما فيها إلا الشهيد لما يرى من فضل الشهادة فإنه يسره أن يرجع إلى الدنيا فيقتل مرة أخرى .
ما يتعلق بالإسناد(1/106)
1 - عبد الله بن محمد هو الجعفي ، ومعاوية بن عمرو هو الأزدي وهو من شيوخ البخاري يروى عنه تارة بواسطة كما هنا وتارة بلا وساطة كما في كتاب الجمعة ، وأبو إسحاق هو الفزاري إبراهيم بن محمد .
شرح الحديث
الحديث فيه فضل الجهاد والشهادة في سبيل الله تعالى ، وأن كل عبد يموت يرى ما له عند الله من الخير إلا وهو في سعادة وبغض للدنيا وما كانت عليه ، إلا الشهيد فإنه يريد أن يعود حيا ثم يقتل لما يراه من فضل الشهادة في سبيل الله تعالى .
الحديث الواحد والخمسون
قال البخاري رحمه الله تعالى في صحيحه (2647) :
حدثنا حفص بن عمر الحوضي حدثنا همام عن إسحاق ، عن أنس رضي الله عنه قال بعث النبي صلى الله عليه وسلم أقواما من بني سليم إلى بني عامر في سبعين فلما قدموا قال لهم خالي أتقدمكم فإن أمنوني حتى أبلغهم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وإلا كنتم مني قريبا فتقدم فأمنوه فبينما يحدثهم ، عن النبي صلى الله عليه وسلم إذ أومئوا إلى رجل منهم فطعنه فأنقذه فقال الله أكبر فزت ورب الكعبة ثم مالوا على بقية أصحابه فقتلوهم إلا رجلا أعرج صعد الجبل قال همام فأراه آخر معه فأخبر جبريل عليه السلام النبي صلى الله عليه وسلم أنهم قد لقوا ربهم فرضي عنهم وأرضاهم فكنا نقرأ أن بلغو قومنا أن قد لقينا ربنا وأرضانا ثم نسخ بعد فدعا عليهم أربعين صباحا على رعل وذكوان وبني لحيان وبني عصية الذين عصوا الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم .
ما يتعلق بالإسناد
1 - إسحاق هو ابن عبد الله بن أبي طلحة .
شرح الحديث
قوله : بعث النبي صلى الله عليه وسلم أقواما من بني سليم إلى بني عامر قال الدمياطي هو وهم فإن بني سليم مبعوث إليهم والمبعوث هم القراء وهم من الأنصار .(1/107)
قال ابن حجر : التحقيق أن المبعوث إليهم بنو عامر وأما بنو سليم فغدروا بالقراء المذكورين والوهم في هذا السياق من حفص بن عمر شيخ البخاري فقد أخرجه هو في المغازي عن موسى بن إسماعيل عن همام فقال بعث أخا لأم سليم في سبعين راكبا وكان رئيس المشركين عامر بن الطفيل ... الحديث ، فلعله بعث أقواما معهم أخو أم سليم إلى بني عامر فصارت من بني سليم .
وقد تكلف لتأويله بعض الشراح فقال : يحمل على أنه بعث إلى أقوام من بني سليم منضمين إلى بني عامر وحذف مفعول بعث اكتفاء بصفة المفعول عنه أو في زائدة ويكون سبعين مفعول بعث .
ويحتمل أن تكون من ليست بيانية بل ابتدائية أي بعث أقواما ولم يصفهم من بني سليم أو من جهة بني سليم انتهى وهذا أقرب من التوجيه الأول ولا يخفى ما فيهما من التكلف .
قوله : في آخر الحديث على رعل بكسر الراء وسكون المهملة بعدها لام هم بطن من بني سليم .
وفي الحديث فضل من قتل أو نكب في سبيل الله تعالى وهو ما بوب عليه البخاري حيث قال : من ينكب أو يقتل في سبيل الله ، وأن الفوز الحقيقي هو الفور برضاء الله تعالى وجنته ورضوانه لا غير .
الحديث الثاني والخمسون
قال البخاري رحمه الله تعالى في صحيحه (2651) :
حدثنا محمد بن سعيد الخزاعي حدثنا عبد الأعلى عن حميد قال سألت أنسا .(1/108)
حدثنا عمرو بن زرارة حدثنا زياد قال : حدثني حميد الطويل ، عن أنس رضي الله عنه قال غاب عمي أنس بن النضر عن قتال بدر فقال يا رسول الله غبت عن أول قتال قاتلت المشركين لئن الله أشهدني قتال المشركين ليرين الله ما أصنع فلما كان يوم أحد وانكشف المسلمون قال اللهم إني أعتذر إليك مما صنع هؤلاء يعني أصحابه وأبرأ إليك مما صنع هؤلاء يعني المشركين ثم تقدم فاستقبله سعد بن معاذ فقال يا سعد بن معاذ الجنة ورب النضر إني أجد ريحها من دون أحد قال سعد فما استطعت يا رسول الله ما صنع قال أنس فوجدنا به بضعا وثمانين ضربة بالسيف أو طعنه برمح أو رمية بسهم ووجدناه قد قتل وقد مثل به المشركون فما عرفة أحد إلا أخته ببنانه قال أنس كنا نرى أو نظن أن هذه الآية نزلت فيه وفي أشباهه من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه إلى آخر الآية وقال إن أخته وهي تسمى الربيع كسرت ثنية امرأة فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالقصاص فقال أنس يا رسول الله والذي بعثك بالحق لا تكسر ثنيتها فرضوا بالأرش وتركوا القصاص فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن من عباد الله من لو أقسم على الله لأبره .
ما يتعلق بالإسناد
1 - محمد بن سعيد الخزاعي هو بصري يلقب بمردويه .
2 - عبد الأعلى هو ابن عبد الأعلى السامي بالمهملة .
3 - قوله : سألت أنسا كذا أورده وعطف عليه الطريق الأخرى فأشعر بأن السياق له وأفادت رواية عبد الأعلى لبعض حميد له بالسماع من أنس فأمن تدليسه وقد أخرجه مسلم والترمذي والنسائي من رواية ثابت ، عن أنس .
4 - قوله : حدثنا زياد لم ينسب في شيء من الروايات في الصحيح وزعم الكلاباذي ومن تبعه أنه ابن عبد الله البكائي بفتح الموحدة وتشديد الكاف وهو صاحب ابن إسحاق وراوي المغازي عنه وليس له ذكر في البخاري سوى هذا الموضع 27 .
شرح الحديث
قوله : غاب عمي أنس بن النضر زاد ثابت ، عن أنس الذي سميت به .(1/109)
قوله : أول قتال أي لأن بدرا أول غزوة خرج فيها النبي صلى الله عليه وسلم بنفسه مقاتلا وقد تقدمها غيرها لكن ما خرج فيها صلى الله عليه وسلم بنفسه مقاتلا .
قوله : لئن الله أشهدني أي أحضرني .
قوله : ليرين الله ما أصنع بتشديد النون للتأكيد واللام جواب القسم المقدر ووقع في رواية ثابت ثم مسلم ليراني الله بتخفيف النون بعدها تحتانية .
قوله : وانكشف المسلمون أي انهزموا .
قوله : أعتذر أي من فرار المسلمين وأبرأ أي من فعل المشركين .
قوله : فقال يا سعد بن معاذ الجنة ورب النضر كأنه يريد والده ويحتمل أن يريد ابنه فإنه كان له ابن يسمى النضر وكان إذ ذاك صغيرا .
قوله : الجنة بالنصب على تقدير عامل نصب أي أريد الجنة أو نحوه ويجوز الرفع أي هي مطلوبي .
قوله : إني أجد ريحها أي ريح الجنة من دون أحد وفي رواية ثابت واها لريح الجنة أجدها دون أحد .
قال ابن بطال وغيره : يحتمل أن يكون على الحقيقة وأنه وجد ريح الجنة حقيقة أو وجد ريحا طيبة ذكره طيبها بطيب ريح الجنة ويجوز أن يكون أراد أنه استحضر الجنة التي أعدت للشهيد فتصور أنها في ذلك الموضع الذي يقاتل فيه فيكون المعنى إني لأعلم أن الجنة تكتسب في هذا الموضع فأشتاق لها .
قوله : واها قاله إما تعجبا وإما تشوقا إليها فكأنه لما ارتاح لها واشتاق إليها صارت له قوة من استنشقها حقيقة .
قوله : قال سعد : فما استطعت يا رسول الله ما صنع أنس .
قال ابن حجر : ظاهره أنه نفى استطاعة إقدامه الذي صدر منه حتى وقع له ما وقع من الصبر على تلك الأهوال بحيث وجد في جسده ما يزيد على الثمانين من طعنة وضربة ورمية فاعترف سعد بأنه لم يستطع أن يقدم إقدامه ولا يصنع صنيعه .
قوله : ضربة بالسيف أو طعنة برمح أو رمية بسهم أو هنا للتقسيم ويحتمل أن تكون بمعنى الواو وتفصيل مقدار كل واحدة من معين .(1/110)
قوله : وقد مثل به بضم الميم وكسر المثلثة وتخفيفها وقد تشدد وهو من المثلة بضم الميم وسكون المثلثة وهو قطع الأعضاء من أنف وأذن ونحوها .
وفي قصة أنس بن النضر من العبر الشيء الكثير :
1 - جواز بذل النفس في الجهاد .
2 - فضل الوفاء بالعهد ولو شق على النفس حتى يصل إلى اهلاكها .
3 - وأن طلب الشهادة في الجهاد لا يتناوله النهي عن الإلقاء إلى التهلكة .
4 - وفيه فضيلة ظاهرة لأنس بن النضر وما كان عليه من صحة الإيمان وكثرة التوقي والتورع وقوة اليقين .
الحديث الثالث والخمسون
قال البخاري رحمه الله تعالى في صحيحه (2655) :
حدثنا سليمان بن حرب حدثنا شعبة ، عن عمرو عن أبي وائل عن أبي موسى رضي الله عنه قال جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال الرجل يقاتل للمغنم والرجل يقاتل للذكر والرجل يقاتل ليرى مكانه فمن في سبيل الله قال من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله .
ما يتعلق بالإسناد
1 - عمرو هو ابن مرة .
2 - أبو وائل هو شقيق بن سلمة .
شرح الحديث
قوله : والرجل يقاتل للذكر أي ليذكر بين الناس ويشتهر بالشجاعة .
قوله : والرجل يقاتل ليرى مكانه ، ورد في روايات أخرى في البخاري وغيره ويقاتل رياء فمرجع الذي قبله إلى السمعة ومرجع هذا إلى الرياء وكلاهما مذموم .
وفي رواية ويقاتل حمية أي لمن يقاتل لأجله من أهل أو عشيرة أو صاحب .
وفي رواية ويقاتل غضبا أي لأجل حظ نفسه ويحتمل أن يفسر القتال للحمية بدفع المضرة والقتال غضبا يجلب المنفعة .
والحاصل من رواياتهم أن القتال يقع بسبب خمسة أشياء :
1 - طلب المغنم .
2 - وإظهار الشجاعة .
3 - والرياء .
4 - والحمية .
5 - والغضب .
وكل منها يتناوله المدح والذم فلهذا لم يحصل الجواب بالاثبات ولا بالنفي .(1/111)
قوله : من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله : المراد بكلمة الله دعوة الله إلى الإسلام ويحتمل أن يكون المراد أنه لا يكون في سبيل الله إلا من كان سبب قتاله طلب إعلاء كلمة الله فقط بمعنى أنه لو أضاف إلى ذلك سببا من الأسباب المذكورة أخل بذلك .
ويحتمل أن لا يخل إذا حصل ضمنا لا أصلا ومقصودا وبذلك صرح الطبري فقال :
إذا كان أصل الباعث هو الأول ما عرض له بعد ذلك وبذلك قال الجمهور لكن روى أبو داود والنسائي من حديث أبي أمامة بإسناد جيد قال : جاء رجل فقال يا رسول الله أرأيت رجلا غزا يلتمس الأجر والذكر ماله قال لا شيء له فأعادها ثلاثا كل ذلك يقول لا شيء له ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن الله لا يقبل من العمل إلا ما كان له خالصا وابتغى به وجهه .
ويمكن أن يحمل هذا على من قصد الأمرين معا على حد واحد فلا يخالف المرجح أولا فتصير المراتب خمسا : أن يقصد الشيئين معا ، أو يقصد أحدهما صرفا ، أو يقصد أحدهما ويحصل الآخر ضمنا .
والمطلوب أن يقصد الإعلاء صرفا .
الحديث الرابع والخمسون
قال البخاري رحمه الله تعالى في صحيحه (2665) :
حدثنا أحمد بن عبد الملك بن واقد حدثنا حماد بن زيد عن ثابت ، عن أنس رضي الله عنه قال كان النبي صلى الله عليه وسلم أحسن الناس وأشجع الناس وأجود الناس ولقد فزع أهل المدينة فكان النبي صلى الله عليه وسلم سبقهم على فرس وقال وجدناه بحرا .
ما يتعلق بالإسناد
1 - ثابت هو ابن أسلم البناني .
شرح الحديث
في هذا الحديث أن المؤمن لابد أن يكون كذلك حتى يكون أهلا لرفع كلمة الله تعالى وقتال أعداؤه وإرغامهم .
في هذا الحديث ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم من الشجاعة في القتال والحرب والجهاد من شدة عجلته في الخروج إلى العدو قبل الناس كلهم بحيث كشف الحال ورجع قبل وصول الناس .(1/112)
وفيه بيان عظيم بركته ومعجزته في انقلاب الفرس سريعا بعد أن كان يبطأ وهو معنى قوله صلى الله عليه وسلم وجدناه بحرا أي واسع الجري .
وفيه جواز سبق الانسان وحده في كشف أخبار العدو مالم يتحقق الهلاك .
وفيه استحباب تبشير الناس بعدم الخوف إذا ذهب .
فهرس الموضوعات
الحديث
طرفه
الصفحة
الحديث الأول
إنما الأعمال بالنيات
1
الحديث الثاني
أحيانا يأتيني مثل صلصلة
7
الحديث الثالث
أول ما بدىء به رسول الله صلى الله عليه وسلم من الوحي
10
الحديث الرابع
كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أجود الناس
14
الحديث الخامس
في قوله تعالى لا تحرك به لسانك لتعجل به
18
الحديث السادس
حديث هرقل وأبي سفيان بن حرب
16
الحديث السابع
بني الإسلام على خمس
24
الحديث الثامن
الإيمان بضع وستون شعبة
27
الحديث التاسع
فوالذي نفسي بيده لا يؤمن أحدكم
31
الحديث العاشر
لا يؤمن أحدكم حتى أكون
32
الحديث الحادي عشر
ثلاث من كن فيه
35
الحديث الثاني عشر
بايعوني على أن لا تشركوا بالله شيئا
38
الحديث الثالث عشر
كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أمرهم
41
الحديث الرابع عشر
يدخل أهل الجنة الجنة
44
الحديث الخامس عشر
أمرت أن أقاتل الناس
46
الحديث السادس عشر
أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل أي العمل أفضل
50
الحديث السابع عشر
أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أعطى رهطا
51
الحديث الثامن عشر
تطعم الطعام وتقرأ السلام
53
الحديث التاسع عشر
أريت النار فإذا أكثر أهلها النساء
55
الحديث العشرون
يا أبا ذر أعيرته بأمه
57
الحديث الواحد والعشرين
لما نزلت الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم
58
الحديث الثاني والعشرين
انتدب الله عز وجل لمن خرج في سبيله
61
الحديث الثالث والعشرين
إن الدين يسر
62
الحديث الرابع والعشرين
أن النبي صلى الله عليه وسلم كان أول ما قدم المدينة
65
الحديث الخامس والعشرين
إذا أسلم العبد فحسن إسلامه
67
الحديث السادس والعشرين(1/113)
مه عليكم بما تطيقون
70
الحديث السابع والعشرين
أن رجلا من اليهود قال
72
الحديث الثامن والعشرين
خمس صلوات في اليوم والليلة
73
الحديث التاسع والعشرين
كان النبي صلى الله عليه وسلم بارزا يوما للناس
76
الحديث الثلاثون
الحلال بين والحرام بين
83
الحديث الحادي والثلاثين
كنت أقعد مع ابن عباس يجلسني على سريره
86
الحديث الثاني والثلاثين
إن من الشجر شجرة
88
الحديث الثالث والثلاثين
بينما نحن جلوس مع النبي صلى الله عليه وسلم
91
الحديث الرابع والثلاثين
أي يوم هذا
95
الحديث الخامس والثلاثين
لا حسد إلا في اثنتين
97
الحديث السادس والثلاثين
أنه تمارى هو والحر بن قيس
99
الحديث السابع والثلاثين
مثل ما بعثني الله به من الهدى
101
الحديث الثامن والثلاثين
لقد ظننت يا أبا هريرة أن لا يسألني عن هذا الحديث أحد
104
الحديث التاسع والثلاثين
إن الله لا يقبض العلم انتزاعا
106
الحديث الأربعون
قلت لعلي هل عندكم كتاب
108
الحديث الحادي والأربعين
أن خزاعة قتلوا رجلا من بني ليث
110
الحديث الثاني والأربعين
ما من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أحد
112
الحديث الثالث والأربعين
لما اشتد بالنبي صلى الله عليه وسلم وجعه
115
الحديث الرابع والأربعين
إن الناس يقولون أكثر أبو هريرة
118
الحديث الخامس والأربعين
ابسط رداءك
120
الحديث السادس والأربعين
يا معاذ بن جبل
122
الحديث السابع والأربعين
جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال دلني
124
الحديث الثامن والأربعين
مثل المجاهد في سبيل الله
125
الحديث التاسع والأربعين
لقاب قوس في الجنة
127
الحديث الخمسون
ما من عبد يموت
128
الحديث الحادي والخمسين
بعث النبي صلى الله عليه وسلم أقواما من بني سليم
129
الحديث الثاني والخمسين
غبت عن أول قتال قاتلت المشركين
131
الحديث الثالث والخمسين
جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال الرجل يقاتل للمغنم
134
الحديث الرابع والخمسين(1/114)
كان النبي صلى الله عليه وسلم أحسن الناس
136
تم بحمد الله تعالى
( 1 ) الفتح (1/21) .
( 2 ) النهاية في غريب ا لحديث (3/46) .
( 3 ) الفائق (3/122) .
( 4 ) شرح الزرقاني على موطأ مالك (2/18) .
( 5 ) فتح الباري (1/22) .
( 6 ) فتح الباري (1/22) .
( 7 ) فتح الباري (1/22) .
( 8 ) فتح الباري (1/27) .
( 9 ) فتح الباري (1/45) .
( 10 ) فتح الباري (1/51) .
( 11 ) فتح الباري (1/50) .
( 12 ) فتح الباري (1/50) .
( 13 ) فتح الباري (1/51) .
( 14 ) فتح الباري (1/51) .
( 15 ) فتح الباري (1/52) .
( 16 ) فتح الباري (1/51) .
( 17 ) فتح الباري (1/70) .
( 18 ) فتح الباري (1/75) .
( 19 ) فتح الباري (1/80) .
( 20 ) فتح الباري (1/126) .
( 21 ) فتح الباري (1/126) .
( 22 ) فتح الباري (1/154) .
( 23 ) فتح الباري (1/156) .
( 24 ) أحد رواة الصحيح .
( 25 ) فتح الباري (1/194) .
( 26 ) فتح الباري (1/208) .
( 27 ) فتح الباري (6/22) .
??
??
??
??
16
16(1/115)