بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة
إن الحمد لله ، نحمده ونستعينه ، ونستغفره ، ونتوب إليه ، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا . من يهده الله فلا مضل له ، ومن يضلل فلا هادي له ، وأشهد ألا إله إلا الله وحد ه لاشريك له ، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله – تعالى – وسلم عليه، صلاةً وسلاماً دائمين إلى يوم الدين .
أما بعد :
فإن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر شعيرة عظيمة من شعائر الإسلام ، ودعامة راسخة من دعائم المجتمع الرباني ، دلت على ذلك النصوص ، وشهد به التاريخ ، ونطق به الواقع .
والأمة اليوم تحتاج إلى إحياء تلك الشعيرة ، وتقوية تلك الدعامة ، لتنفض عنها بذلك ما علق بها من الغبار الذي أثاره عليها الكيد الخارجي والداخلي ، الذي لم يكن ليفعل فعله لولا انحسار المفهومات الإسلامية لدى الأمة ، وبعدها عن دينها .
والمتصدي لبعث ما اندثر من تلك الشعيرة ، ولتقوية مابقي منها يحتاج – بلا ريب – إلى فقه فيها ليسير على هدى ونور، يجنبه الزلل والشطط ، ويبصره بالسبل المثلى لأداء تلك الرسالة الجليلة والمهمة الشريفة .
من هنا كانت كتابة تلك السطور ، إسهاماً في تجلية ذلك الفقه ، وإضاءةً للطريق ، وتنبيهاً إلى المحذورات ، وإزالة للمعوقات .
وذلك من خلال الوقفات التالية :
- المقياس الذي يعلم به المعروف والمنكر .
- ضرورة الأمر والنهي .
- أهمية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر .
- عقوبات تركه .
- حكمه .
- مراتب الانكار .
- قضية الانكار باليد .
- وسائل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر .
- من يقوم به .
- آدابه .
- قضية المصلحة والمفسدة .
- مهمة الشباب في ذلك المجال .
- المرأة ومقاومة المنكر .
- معوقات للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر .
- نماذج للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر .
المقياس الذي يعلم به المعروف والمنكر(1/1)
المعروف مأخوذ من ( المعرفة ) وهي في أصل اللغة العربية : اسم لما يعرفه القلب ويطمئن إليه وتسكن إليه النفس . ولذلك سمي المعروف معروفاً .
والمعروف شرعاً : اسم جامع لكل ما يحبه الله – تعالى – من طاعته ، والإحسان إلى عباده .
( والمنكر ) في اللغة : اسم لما تنكره النفوس ، وتنبو عنه ، وتشمئز منه ، ولا تعرفه . فهو ضد المعروف .
وهو في الشرع : اسم جامع لكل ما عرف بالشرع والعقل قبحه ؛ من معصية الله – تعالى – وظلم عباده .
وبناءً على هذه التعريفات يتبين لنا الأمران التاليان:
الأمر الأول: أن المقياس في معرفة المعروف والمنكر ليس هو عرف الناس ، وتقاليدهم وما شاع بينهم ، فإن عرف الناس متقلب ، إذ قد يعروفون اليوم شيئاً ويألفونه ويعتادونه ، ثم غداً ينكرونه ويضادونه . كما أنهم قد يفعلون نقيض ذلك ، فينكرون اليوم شيئاً ، ثم غداً يألفونه ويعملون به . وكم من معروف جرى في أعرف الناس إنكاره !!
أرأيت – مثلاً – إعفاء اللحى الذي أمر به النبي صلى الله عليه وسلم ، كما في حديث أبي هريرة وابن عمر وغيرهما في الصحيح (1) ؟! أرأيت كيف يصبح ذلك المعروف في بعض المجتمعات أمراً منكراً ، يشيع ضده ، ويغدو الإعفاء مستغرباً ، لم يعتده الناس ، ولم يألفوه ؟!!
أرأيت تقصير الثياب ورفعها إلى ما فوق الكعبين ، أو إلى منتصف الساق، أو إلى ما دون الركبة في حق الرجال ، ذلك الأمر الذي ثبت في الشرع ، بدلالة عدة نصوص ، منها قوله عليه الصلاة والسلام ، (( ماأسفل من الكعبين من الإزار ففي النار )) (2) ؟!!
أرأيت كيف يحدث هذا في تلك المجتمعات ؟! وكيف إذا رأوا رجلاً قد رفع ثوبه إلى نصف الساق أوحوله ، طفقوا ينظرون مليا باستغراب إلى ذلك الرجل ويتغامزون ، وقد يتضاحكون ؟!
أرأيت كيف صار هذا المعروف في الشرع منكراً في بعض الفئات ؟!(1/2)
أرأيت احتجاب المرأة ، الذي عرف بالشرع قرآناً وسنةً ؟! أرأيت كيف أن بعض المسلمين في بعض المجتمعات قد يجهلون ذلك المعروف ، فإذا رأوا امراة متحجبة متسترة ، ضحكوا منها ؟! وكيف أن بعضهم ربما قال ما شأن هذه المرأة كانها خيمة تمشي !! وكيف قال آخرون : إنها إنما تسترت لأنها دميمة فتريد أن تخفي قبحها !!.
وكم رأينا في بلاد تنتمي إلى الإسلام أن اللباس الرسمي في المدارس وغيرها للذكور هو (البنطلون ) الذي ينزل تحت الكعبين في حين أن لباس البنات الرسمي هو ثوب شحيح إلى الركبة أو فوقها بقليل ! فيا للعار !.
وعلى الضد من ذلك ، كم من منكر أصبح معروفاً مألوفاً في بعض المجتمعات :
فالغناء – مثلاً - منكر واضح ، ولكن حين يقوم امرؤ ببيان تحريمه ، ويذكر الأحاديث الصريحة في ذلك ، تجد كثيراً من الناس يفغرون أفواهم ، ويشخصون أبصارهم ، ويأخذ منهم الاستغراب مأخذاً عظيماً ولسان حالهم يقول : كيف يكون حراماً هذا الغناء الذي نسمعه في الإذاعات والتلفاز وأشرطة التسجيل ؟! وربما يسمعون من بعض المنتسبين إلى العلم من يبيحه , فكيف يكون حراماً ؟!.
هكذا يتعجبون ، ولا يقع في أذهانهم أنه منكر، لأنهم ألفوه وسكنت إليه نفوسهم ، فصار عندهم معروفاً ، وهو في الشرع منكر.
_______________________________________________
(1) البخاري (5553 ) ومسلم ( 259 ) (2) رواه البخاري ( 5450 )
والربا الذي شاع بين المسلمين ، في البنوك والمصارف والمؤسسات ، حتى لا يكاد يخلو منه إلا القليل ، وأصبح الأمر كما أخبر النبي عليه الصلاة والسلام ، في الحديث الذي رواه البخاري (( ليأتين على الناس زمان لا يبالي المرء بما أخذ المال ، أمن حلال أم من حرام )) (1)(1/3)
أرأيت حين يتحدث ناصح عن تحريم ذلك المنكر العظيم ، أو عن تحريم بعض صوره الشائعة عند الناس ؛ كيف تجد كثيراً منهم يفاجأ ويستغرب ؟! بل ربما رمى بعضهم ذلك الناصح بالعظائم لأنه يستنكر أمراً عرفوه وألفوه واطمأنت إليه قلوبهم ؛ فصاروا يرونه معروفاً . وشرع الله منكر قبيح !!
ومثل ذلك الصور – وخاصة الخليعة - من صور النساء الفاتنات التي انتشرت بين المسلمين اليوم عبر الشريط والكتاب والمجلة والجريدة وغيرها ، تلك الصور التي أصبحت تقابل الناس في البيت والسوق والطائرة والمكتبة ، وفي كل مكان .. حين يألف المرء رؤيتها ويعتادها ، تصبح في نظره عادية مستساغةً ، فإذا سمع من يقول : إن النظر إلى صور النساء في المجلات والكتب والأفلام وغيرها حرام ومنكر ؛ فإنه يستغرب ، ويقول : هذا مسكين , الناس اليوم يعانون من النظر الى الفواحش من المشاهد الجنسية الهابطة التي تقضي على الحياء ، وهذا المسكين مازال يتحدث عن تحريم النظر إلى الصور !!
هكذا تصبح بعض المنكرات معروفاً ؛ بسبب الذيوع والانتشار والإلف والاعتياد ، عند كثير من الناس .
لكن عرف الناس لا يغير الشرع ، وإنما العبرة في التحسين والتقبيح بالشرع ، وبالعقل الصحيح والفطرة السليمة ، وهما لا يمكن أن يعارضا الشرع في ذلك .
الأمر الثاني : أن الأصل في المجتمع المسلم أنه يعرف المعروف ويقره ويرضاه ويأمربه . وأنه ينكر المنكر ويأباه وينهى عنه .
فإذا أردت أن تقف على مدى سلامة مجتمع ما ، أوفساده ، فطبق عليه هذه القاعدة ، فإن جدته ينفر من المنكرات ويحاربها فهذا دليل على سلامته في الجملة .
وإن وجدته يتقبل المنكرات ويتشرب بها فاعلم أنه مجتمع منحل .
_________________________________________________
(1) رواه البخاري ( 1977 )(1/4)
ولذلك كان أسلم المجتمعات وأحسنها وأنقاها هو مجتمع الصحابة رضي الله عنهم ، إذ كانوا يعرفون المعروف وينكرون المنكر ، ولهذا قال عبدالله بن مسعود في الأثر الصحيح الذي رواه الحاكم وغيره : (( مارآه المسلمون حسناً فهو عند الله حسن ، ومارآه المسلمون قبيحاً فهو عند الله قبيح )) .
ثم ضرب لذلك مثلاً ؛ وهو أن الصحابة اتفقوا على اختيار أبي بكر – رضي الله عنه – للخلافة , فهذا الاتفاق على ذلك الاختيار يدل على أنه أمر يحبه الله ويرضاه ، ولذلك أصبح من جملة عقائد أهل السنة والجماعة تفضيل أبي بكر على من عداه من الصحابة ، والإقرار بأنه أول الخلفاء الراشدين ، ومن بعده عمر، ثم عثمان ثم علي رضي الله عنهم أجمعين .
ولهذا أجمع المسلمون على قبول إجماع الصحابة ، وعلى أنه حجة فإذا اتفق الصحابة – رضي الله عنهم – على أمرٍ ؛ أصبح المسلمون من بعدهم متعبدين بذلك الأمر .
وإجماع الصحابة – متى ثبت وصح وتحقق – من الأدلة الشرعية ، لم يخالف في ذلك أحد من المسلمين ، ولذلك كان الإمام مالك – رحمه الله – يأخذ بعمل أهل المدينة فما وجد عليه عملهم في القرن الأول عده من ضمن الأدلة الشرعية ، وهذا أصل خاص بالإمام مالك وكان رحمه الله يفسر ذلك بأن عمل أهل المدينة إنما هو على النبوة أما عمل الأمصار الأخرى فإنه على أوامر الملوك ، كما ذكر ابن عبد البر وغيره .
وإذا أردت أن تطبق القاعدة المذكورة آنفاً على المجتمعات الإسلامية اليوم ؛ وجدتها بلا شك تتفاوت تفاوتاً كبيراً ولكن يغلب على هذه المجتمعات هنا في الجملة أنها تتقبل المنكرات وتألفها وتنتشر بينها بسرعة .
فما أسرع ما تنتشر الأزياء الأجنبية في أوساط نساء المسلمين ، إذ بمجرد ما تظهر مغنية أو ممثلة أو عارضة أزيا بزي من الأزياء فسرعان ما تجدهن يتبارين ويتنافسن على تقليده .
وماأسرع ما تفشو تسريحه معينة للشعر بين المسلمات بمجرد ما يرين مغنية أوممثلة أو فاجرة تتزين بها .(1/5)
وماأسرع ما يشيع بين شباب المسلمين كثير من الظواهر المنحرفة ؛ تقليداً لشباب الغرب سواء في الملبس أو في الشعر أو في مظهر السيارة أوفي غير ذلك .
إن تلك الظواهر الغربية التي تشيع بين شباب المسلمين إنما رأوها عند غير المسلمين ، فأخذوها عنهم ، سواء حين يسافرون إلى تلك المجتمعات ، ويشاهدون تلك الظواهر عياناً أوحين يشاهدون الأفلام والمسلسلات التي تعرض الأوبئة الموجودة في بلاد غير المسلمين .
وإن في تلك القابلية والطواعية لتقليد الكافرين في منكراتهم لدليلاً واقعياً واضحاً على الفراغ الكبير في عقول وأرواح كثير من المسلمين .
ومع ذلك فإن هذه المجتمعات لا يمكن أن يقال : إنها مجتمعات جاهلية مطلقاً – كما يقول بعض العلماء والمفكرين من المسلمين – لأن الرسول صلى الله عليه وسلم أخبر أنه لا يزال في المسلمين من يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر ، ومع ذلك بيانه ، صلى الله عليه وسلم لمعنى قول الله تعالى :[ وممن خلقنا أمة يهدون بالحق وبه يعدلون ](سورة الأعراف 181) فقد بين عليه الصلاة والسلام تلك الآية في أحاديث كثيرة منها الحديث المتواتر الذي أخبر فيه أنه (( لا تزال في هذه الأمة طائفة منصورة لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم ))(1) وإنما سماها منصورة ؛ لأنها مجاهدة ، تجاهد على أمر الله ؛ تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر , والنصر من ثمرات الجهاد .
إذن لا يمكن القول بوجود جاهلية مطلقة في الأمة الإسلامية من اقصاها إلى أقصاها، في أي زمان إلا قبيل قيام الساعة ؛ حين يبعث الله تعالى الريح الطيبة فلا تدع أحداً في قلبه مثقال حبة من خردل من إيمان إلا قبضته ، وحينئذٍ لا يبقى إلا شرار الناس يتهارجون تهارج الحمر(2) وأفضل إنسان حينذاك من إذا رآهم يفعلون الفاحشة على قارعة الطريق قال: لو اعتزلتم الطريق (3) !! وهؤلاء تقوم عليهم الساعة .(1/6)
وهنا سر عظيم ، وهو أن الله – تعالى – أنزل القرآن وبعث الرسل وأوجد الكعبة وأبقى الطائفة المنصورة لتحقيق الحجة على الناس وإقامة الدين والشعائر ، فإذا تعطلت منافع هذه الأشياء أذن الله بزوالها .
وحينذٍ يبعث الله ذا السويقتين من الحبشة ، فيهدم الكعبة ويقلعها حجراً حجراً ويستخرج كنزها (4) ولا يعود هناك من يحج أو يعتمر أو يصلي إلى الكعبة ويرفع الله القرآن من المصاحف وصدور الرجال حتى لا يبقى في الأرض منه آية (5) ويبعث الله – عز وجل – ريحاً طيبة فتقبض أرواح المؤمنين الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر ؛ لأنه لم يعد هناك من يستجيب لهم , وبعد ذلك تقوم الساعة .
__________________________________________________
(1) رواه البخاري (3441 ) ( 3442 ) ومسلم ( 1921 )
(2) رواه مسلم ( 1937 ) (3) مستدرك الحاكم 3/473.
(4) البخاري ( 1514 ) ومسلم ( 2909 ) ومسند أحمد 2/291
(5) ابن ماجه ( 4049 ) والحاكم 4/473
أما قبل ذلك الحين فلا يزال في الأمة من يصيخ لصوت النذير ، ويرق لداعية الحق ويسلس قياده للخير ، قَلَّ هؤلاء أو كثروا، ولذا ذكر النبي صلى الله عليه وسلم " الغرياء " في الحديث الصحيح المعروف وذكر من صفتهم أنهم : (( أناس صالحون قليل في أهل سوءٍ كثير ، ومن يعصيهم أكثر ممن يطيعهم ))(1)
إذن ما دام هناك دعاة إلى الحق، آمرون بالمعروف ، ناهون عن المنكر فهناك من يذعن لهم ويطيعهم ويستجيب لداعيهم ، فما أعظم عدل الله، وما أوسع رحمته !
الأمر والنهي ضرورة بشرية
الأمر والنهي فطرة في نفس كل إنسانٍ حتى لو كان يعيش منفرداً معتزلاً الناس , فلا بد أن تأمره نفسه وتنهاه ، فإما أن تأمره بالمعروف وتنهاه عن المنكر ، أو على الضد من ذلك تأمره بالمنكر وتنهاه عن المعروف ، أوتأمره بخليط من هذا وذاك ، وتنهاه عن مثله . ولذلك قيل : نفسك إن لم تشغلها بالخير؛ شغلتك بالشر .(1/7)
وما دام الإنسان الواحد المنفرد يتعرض للأمر والنهي ، فأولى بالمجتمعين أن يكون بينهم أمر ونهي سواء كانوا اثنين ، أو أكثر من ذلك بقليل ، أو مجتمعاً كاملاً ، أو أمة . بيد أن هناك ثلاث حالاتٍ للمجتمعات في مجال الأمر والنهي :
الحالة الأولى : أن يتآمروا بالمعروف ، ويتناهوا عن المنكر ، وهذه هي الحالة التي وصف الله تعالى بها المؤمنين فقال (( تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر )) ( سورة آل عمران 110) , وقال سبحانه (( والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر )) (سورة التوبة 71 ) .
الحالة الثانية : أن يتآمروا بالمنكر ، ويتناهوا عن المعروف ، وهذه حال المنافقين (( والمنافقون والمنافقات بعضهم من بعض يأمرون بالمنكر وينهون عن المعروف )) ( سورة التوبة 67 ) .
وهنا وقفة مع سر بلاغي في الآيتين السابقتين ؛ حيث قال الله تعالى : (( المؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض )) وقال سبحانه : (( والمنافقون والمنافقات بعضهم من بعض )) وقد يتبادر إلى الذهن أن يكون التعبير (( والمؤمنون والمؤمنات بعضهم من بعض )) (( والمنافقون والمنافقات بعضهم أولياء بعض )) لأن علاقة المؤمنين بعضهم ببعض أمتن وأقوى ، فيعبر معها بـ (( بعضهم من بعض )) ويعبر مع علاقة المنافقين بعضهم ببعض بـ (( بعضهم أولياء بعض )) .
___________________________________________________
(1) أنظر في تخريج الحديث ورواياته وشرحه كتاب (( الغرباء الأولون )) للمؤلف ص 37 .
والسر في هذا التعبير القرآني والله أعلم : أن علاقة المؤمنين بعضهم ببعض علاقة اتفاق على الدين الذي يدينون به ، ولذلك يتوالون فيه ، وليست علاقة تناصر على الباطل .
أما المنافقون فهم لا يتوالون من أجل دين أو عقيدة ، وإنما يتوالون ويتناصرون على الباطل فكلما ذهب بعضهم إلى شيء وافقهم الآخرون وناصروهم ، مهما كان ذلك الشيء .(1/8)
الحالة الثالثة : أن يتآمروا ببعض المعروف وببعض المنكر ، ويتناهوا عن بعض المعروف وعن بعض المنكر ، فيقع منهم حق وباطل ويلتبس هذا بذاك . وهذا هو حال المقصرين والعصاة والمسرفين على أنفسهم .
وبناءً على ما سبق نعلم أن المجتمع إما أن ينتشر فيه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، أو ينتشر فيه الأمر بالمنكر والنهي عن المعروف أو يكون خليطاً من ذلك .
وانحسار الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في مجتمع من الجتمعات ذو خطورة مضاعفة ، على خلاف ما قد يتبادر إلى بعض الأذهان فإن بعض الناس إذا رأوا غياب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أو ضعفه في مجتمعات المسلمين اليوم ظنوا أن المشكلة هي فقط أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر قد زال أو ضعف .
والواقع أن المشكلة أبعد من ذلك وأكبر ، فإنه إذا ضعف الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر قوي الأمر بالمنكر والنهي عن المعروف ، فالمصيبة مضاعفة .(1/9)
وهذا أمر يشهد له الواقع . وإذا أردنا أن نمثل لذلك فلنأخذ مثلاً وضع الفتاة المتحجبة المتسترة في بعض مجتمعات المسلمين التي يشيع فيها التبرج والسفور ؛ إننا نجد الفتاة تعاني معاناة شديدة من الكلام والنظرات ، سواء من الأبوين أو من الزميلات ، أو من القريبات ، أومن غيرهن وذلك لأنها تسبح ضد التيار , إذ المنكر له قوة في تلك المجتمعات لأن المعروف فيه ضعف فصار اتجاه المجتمع يضغط بشدة على كل من يخالف مألوفاته وعوائده مخالفة شرعية ، ومن العجيب أن ذلك المجتمع يتفهم ويتقبل من يخالفه إلى تقاليد الأمم الكافرة وعوائدها ويعد هذا ضرباً من " التقدم " و " والتحضر " و " والمعاصرة " ! وهكذا يصبح المعروف منكراً ويصبح المنكر معروفاً ! إذن فوضع المجتمعات لا يقف عند حد ، فإما أن يهيمن الخير والمعروف فيستخذي المنكر ، ويستسر ويستخفي لأن القوة الاجتماعية والسلطة السياسية تقاومه وتحاربه, وإما أن يسيطر وينتفش ويستعلي المنكر فينحسر المعروف , ولذلك شرع في الإسلام الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر .
لا يخلو مجتمع من منكر
وها هنا أمر لا بد من ملاحظته وهو أن وجود بعض المنكر في المجتمع الإسلامي على وجه الخفاء والقلة أمر طبيعي لابد من حدوثه ، ولم يسلم من ذلك حتى مجتمع الجيل الفريد ؛ صحابة الرسول عليه الصلاة والسلام فقد كان في ذلك المجتمع منافقون والمسلمون أنفسهم وقع من بعضهم شيء من المعاصي ، وفي الصحيحين عدة قصص من ذلك مثل قصة ماعز بن مالك الأسلمي – رضي الله عنه – الذي وقع في الزنا، فجاء النبي عليه الصلاة والسلام نادماً تائباً إلى الله فقال له : يارسول الله زنيت ، فطهرني ، فيعرض عنه الرسول صلى الله عليه وسلم وما يزال يردد النبي صلى الله عليه وسلم ، اعترافه بالزنا عدة مراتٍ ، حتى أقام عليه المصطفى ، عليه الصلاة والسلام ، حد الزنا(1).(1/10)
ومثل تلك القصة قصة الغامدية التي جاءت إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، تشهد على نفسها بالزنا ، وتطلب أن يقيم عليها الحد ، ولما رأت أنه يريد أن يردها قالت : لعلك تريد أن تردني كما رددت ماعزاً ، والله إني لحبلى من الزنا ، فيأمرها الرسول صلى الله عليه وسلم أن تذهب حتى تلد . وتذهب وتقضي مدة الحمل كلها وحرارة الندم تأكل قلبها ، وتأتي بعد الوضع إلى النبي عليه الصلاة والسلام ، ليقيم عليها الحد ، فيأمرها أن تذهب حتى تفطم ولدها . وتمضي مدة الرضاع كلها وقلبها لا يزال يقظاً حيا يتفطر حسرةً . ثم تأتي بعد فطام الصبي إلى الرسول صلى الله عليه وسلم ، ومعها الصبي وفي يده كسرة خبز ، لتؤكد للنبي عليه الصلاة والسلام أن ولدها أصبح غنيا عن رضاعها ، فيأمر النبي – عليه الصلاة والسلام – برجمها (2).
هكذا وقع في مجتمع الصحابة الأطهار شيء من المنكرات ، لكنها حالات فردية مستترة مستخفية وكانت ضمائر الذين يبتلون بشيء من هذه المنكرات حية يقظة ، فما أسرع ما يقودهم خوفهم من الله إلى التوبة النصوح الصادقة ، بدون أن يحتاجوا إلى رقابة أومتابعة خارجية ، ولذلك ذكر صلى الله عليه وسلم ، أن ماعزاً مثلاً تاب توبة لو قسمت بين سبعين من أهل المدينة لوسعتهم .
إذن فمجرد وجود معاص قليلةٍ مستحقة في المجتمع الإسلامي أمر لا مناص منه ، ولا يقدح في سلامة المجتمع .
_________________________________________________
(1) البخاري ( 5271 ) ومسلم ( 1691 ) و ( 1695 ) ورواه أيضاً أحمد في المسند 2/453.
(2) رواه مسلم (1695 ) و ( 1696) .(1/11)
وهذا شبيه – إن أردنا أن نشبه – بما يطلقه الأطباء والمراقبون الصحيون على مجتمع ما، حين يصفون مجتمعاً من المجتمعات بأنه سليم صحياً فهل يقصدون أن جميع أفراد هذا المجتمع أصحاء تماماً ؟! كلا .. إنما يقصدون أن الأمراض العامة ، والأوبئة الفتاكة والمعدية لا توجد في ذلك المجتمع ، أما وجود حالات مرضية فردية فأمر طبعي .
لكن الأمر الخطير القادح في سلامة المجتمع هو أن يعلن أصحاب المنكر منكرهم ، ولا يستحيوا من إظهاره ، إذ إن هذا يدل على هيمنة المنكر وأهله ، وضعف المعروف وأصحابه .
إن هذا يشبه ذلك المجتمع الذي تفشت فيه جرثومة الوباء فأصبح الناس يستنشقونها مع الهواء ويشربونها مع الماء ، ويتعاطونها مع الغذاء فلا يكاد يسلم منها إلا أقل القليل .
وهذا هو الشأن في المجتمعات التي تمكن للفساد ، وتحمي الرذيلة ، وتضع إمكانياتها المادية والمعنوية غطاءً قويا للمنكر ، تعاقب من ينكره – ولو بلسانه – بقوة وحزم ، وتحاصر الناس بالمنكر في أماكن تجمعهم ، وأسواقهم ، ومنتدياتهم ، بل وفي عقر بيوتهم ، حتى يتسلل المنكر إلى (( غرفة النوم)) أو إلى (( مهاجع الأطفال )) وما أخلق المؤمن بالصبر حينئذٍ .. إنه لصبر الجبال !.
أهمية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
تبرز أهمية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في الأمة المحمدية من عدة نواحٍ ، وبموجب أسباب مختلفة ، لعل أهمها :
1. أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هو سبب خيرية هذه الأمة ، وهو من خصائصها وميزاتها التي مَنَّ الله تعالى عليها بها من بين سائر الأمم ؛ قال عز وجل : (( كنتم خير أمةٍ أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله ))(سورة آل عمران 110 ) وقال جلا وعلا : (( والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعضٍ يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر )) (سورة التوبة 71)(1/12)
هذه هي صفة المجتمع المسلم وميزته التي جعلت هذه الأمة غرة في جبين الدهر ، وتاجاً يتألق على مفرق التاريخ .
أما المجتمعات الجاهلية الكافرة فديدنها الأمر بالمنكر والنهي عن المعروف عبر تاريخ البشرية الطويل ، وأبرز شاهد على ذلك المجتمعات المعاصرة التي ارتضت الكفر والضلال ، فإن تلك المجتمعات اليوم تحارب الفضيلة ، وتدعم الرذيلة، متذرعة بالحرية الفردية المزعومة .
إنك تجد في بلاد الغرب – مثلاً – إتاحة الحرية لأهل العري والعهر والفساد والرذيلة ، بل تجد ذلك الانحطاط مفروضاً على الفرد وضمن مناهجهم الدراسية ، تجد السباحة العارية والثقافة الجنسية , وفي المجتمعات الشرقية يدرس الإلحاد للصبيان الصغار .. فما أحلم الله !!
أما حين يرون بادرة للفضيلة والمعروف فإنهم يقفون في طريقها ، ويئدونها في مهدها ، ويحاربونها بضراوة . ومن أقرب الأمثلة لذلك ما حصل قبل فترة ليست بالبعيدة في فرنسا ؛ حين ذهبت ثلاث فتيات مسلمات إلى مدرستهن ، وقد لبسن الحجاب على رؤوسهن فمنعهن مدير المدرسة من الدخول حتى يخلعن الحجاب وتطورت القضية حتى درست على أعلى المستويات الرسمية وتدخلت فيها دول خارجية للوساطة عند والد هؤلاء الفتيات لتغيير قناعتهن بالحجاب . وطفقت الصحف الفرنسية تكتب عن هذه القضية ، وتحذر من هذه الظاهرة ، وتذكر خطورة الإسلام على فرنسا ، وتتبع تاريخ الحجاب ، وكيفية نزعه في مصر، وأقحموا في تلك القضية ثورة الخميني الإيرانية ، وهولوا ا لأمر تهويلاً عظيماً !!
سبحان الله !! أين الحرية الفردية التي يتغنون بها ؟! ما هذا الهلع والرعب من هذا التصرف اليسير الذي لا يعد شيئاً في خضم ذلك المجتمع المنحل ؟!
إن هذه الحملة الشعواء لتدل على زيف دعاوى العلمانية البراقة ، التي تتغنى بالحرية ، فإذا كان الإسلام هو الخصم صودرت الحريات وظهرت العداوة والشراسة جلية لا مواربة فيها ولا هدوء.(1/13)
إذن فهذا المجتمع باختصار يأمر بالمنكر وينهى عن المعروف .
ولقد رأيت في بعض البلاد التي هاجر إليها كثير من المسلمين وأقاموا فيها وتزوجوا من نسائها النصرانيات ؛ رأيت أن بنت الواحد من هؤلا تمارس حريتها الكاملة ، فتخرج متى شاءت وتدخل متى شاءت وتأتي بعشيقها إلى البيت ليجلس معها في غرفتها الخاصة ، والويل لأبيها إن تدخل في شأنها ، إذ ما عليها حينئذ إلا أن تدير قرص الهاتف لتتصل بالشرطة ؛ فتأتي الشرطة وتقبض على الأب ، وتأخده إلى المخفر ، وتجري معه تحقيقاً طويلاً ؛ لأنه تدخل في حرية البنت !!.
هكذا يأمرون بالمنكر وينهون عن المعروف والعياذ بالله .
أما المسلمون الذين اختصهم الله بالخيرية فهم يتآمرون بالمعروف ويتناهون عن المنكر ، ويتعاونون على البر والتقوى .
2 - أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر جزء من التكافل الذي جعله الله تعالى قائماً بين المؤمنين ، إذ المؤمنون متكافلون متكاملون فيما بينهم ، فمثلاً لا يجوز أن يكون هناك مسلم جائع والمسلمون حوله يأكلون ملء بطونهم ، ولو حدث ذلك لكان لذلك المسلم أن يأخذ ممن حوله من المسلمين بالقوة ما يسد رمقه ، ويقضي به حاجته ، ويكون المسلمون آثمين في تخليهم عن مساعدته وسد حاجته . وكذلك الحال في سائر الحاجات الضرورية .
ولو وجدت رجلاً يغرق لوجب عليك أن تنقده بقدر استطاعتك ، حتى لو ترتب على ذلك أن تنشغل عن عبادة مفروضةٍ قد شرعت فيها ، من صيام أو صلاةٍ أو غيرها .
ولو رأيت شخصاً يريد شراء بضاعة فاسدة لكان واجباً عليك أن تبين له أنها فاسدة ، من باب التناصح وإرادة الخير للمسلمين ، ومن هنا كانت مراقبة السلع والأسواق وحماية المستهلك جزءاً من نظام الحسبة الشرعية .(1/14)
هذا كله لأن المحافظة على ( الإنسان ) في الإسلام قضية مهمة جداً لكن ( الإنسان ) في الإسلام ليس جسداً فقط ، وإنما هو جسد وروح فكما أننا مطالبون بالمحافظة على عقيدتهم وأخلاقهم وتمسكهم بدينهم ، وذلك عن طريق الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، الذي يتم به تكميل ما يطرأ على دين بعض المسلمين من النقص والتقصير ، ويحصل به التكافل الواجب في هذا الجانب .
ياخادم الجسم كم تشقى لخدمته أتعبت نفسك فيما فيه خسران
أقبل على النفس فاستكمل فضائلها فأنت بالروح لا بالجسم إنسان
3 - أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ضمانة للبيئة من التلوث الفكري والأخلاقي ، وهذا النوع من التلوث لا يقل خطورة وفتكا عن التلوث الحسي الذي ينجم – مثلاً – عن الحرب الجرثومية التي تفزع الناس ، وتقض مضاجعهم . أو غيرها من وسائل التلويث .
فإتاحة الفرصة – مثلاً – لأهل الرذيلة ليمارسوا الإفساد من خلال الأغنية ، والمجلة والكتاب ، والأجهزة المرئية ، وبيوت الدعارة ، وغيرها ؛ هذا يلوث البيئة العامة ، وينشر الوباء الأخلاقي الفتاك في المجتمع ، مما يعسر مهمة المصلحين ، ويجعلهم يقفون أحياناً عاجزين عن مقاومة تيار الانحلال .
وقل مثل ذلك في نشر الشبهات الفكرية التي تشكك الناس في دينهم ؛ من خلال الكتاب والمجلة والجريدة والشريط والقصيدة ونحوها فإن في ذلك أيضاً تلويثاً للبيئة من الناحية الفكرية مما يجعل كثيراً من الناس يتخبط في بحرٍ من الشبهات التي تتجاذبه من هنا ومن هناك .(1/15)
إنه لا يجوز أن يقذف بالمجتمع في أحضان الشبهات والشهوات اعتماداً على ما يزعم له من حصانة ؛ فإن الإنسان ليس معصوماً ، وليس لديه حصانة من الضلال أو الانحلال حين يتعرض لسيول الفتنة ، قال الله تعالى : (( وخلق الإنسان ضعيفاً )) ( سورة النساء 28 ) وإنك لتجد الرجل التقي الطاهر قد يتعرض لشبهةٍ أو شهوة ؛ فيظل يعالج قلبه أياماً من جراء ذلك فالنفس أمارة بالسوء والشيطان مسلط على ابن آدم والإنسان مجبول على حب الشهوات .
والمجتمع الذي تظهر فيه المنكرات – فكريةً أو أخلاقيةً – يتعرض لهزات عظيمة ، لا يعلم مداها إلا الله ولهذا قيل : إن المنكر إذا خفي لم يضر إلا صاحبه ، وأما إذا أعلن ؛ فإنه يضر الخاصة والعامة .
ولذلك فإن صاحب المنكر إذا كان في بيئة غير ملوثة فإنه يخفي منكره ، ويبالغ في التواري والاستتار به لأنه يعلم أنه يعيش في بيئةٍ صالحةٍ وأنه يقوم بعمل ضد المجتمع، فشأنه تماماً كشأن الذي يريد أن يقوم بعمل تخريبي يخل بأمن المجتمع، فيخطط وينفذ في الظلام بعيداً عن الأنظار .
لكن صاحب المنكر إذا كان يعيش في بيئة ملوثة موبوءة فإنه يمارس منكره جهاراً على مرأىً ومسمع من الناس ، لأنه يحس أنه يقوم بعمل طبعي ، لا يخالفه المجتمع عليه ، وقد يؤول الأمر إلى استتار صاحب المعروف واستخفائه خشية العقوبة، أو خوفاً من أعين الناس وألسنتهم الحداد !.
وكم هو مخزن أن ينشأ بعض أطفال المسلمين في بيئات ملوثة بالسموم الفكرية أو الأخلاقية أو غيرها من سموم الفساد ، فيرضعون الرذيلة مع حليب الأم ، ويستنشقون الهواء الملوث بالجراثيم المعنوية الفتاكة فينشأ أحدهم ضحل الثقافة ، بعيداً عن الدين ، منحرف الفكر والسلوك .(1/16)
غاية عمله خليط من قمامات الأغاني ، والتصورات التائهة ، والاهتمامات التافهة . لا يكاد يقيم آيةً من القرآن الكريم . يستنكر المظاهر الإسلامية إذا رآها ؛ لأنه لم يعتدها ولم يألفها فيستوحش مثلاً من منظر المرأة المحجبة العفيفة ، ويستغرب صنيعها ؛ لأنه ترعرع في بيئة ملوثة بضروب الجراثيم السلوكية والفكرية .
4 أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ضمانة من العقوبات الإلهية التي تحل بالمجتمعات إذا فشا فيها الفساد . وسيأتي تفصيل تلك العقوبات في المبحث التالي .
العقوبات والاثار المترتبة على ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
سنن الله – تعالى – في خلقه ثابتة لا تتغير ولا تحابي أحداً ، ولا تتخلف عند وجود أسبابها .
وإن من سنن الله الماضية أن يسلط عقوباته على المجتمعات التي تفرط في شعيرة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر (( لعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داود وعيسى ابن مريم ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون . كانوا لا يتناهون عن منكرٍ فعلوه لبئس ما كانوا يفعلون )) ( سورة المائدة 78 79 ) .
ولقد غطى الجهل وقلة الدين على قلوب بعض السطحيين ، فاغتروا بإمهال الله عز وجل فظنوا أن تحذير الغيورين من مغبة التمادي في المنكر ، ومن عقبى السكوت عن إنكاره ، ظنوا ذلك ضرباً من ضروب الإرهاب الفكري والتخويف المبالغ فيه ، وليس له حقيقة .
لكن الذين يستنيرون بنور الوحي ، ويتأملون نصوص الكتاب والسنة ، يدركون تمام الإدراك العقوبات العظيمة التي سنها الله في حق كل أمة تخلت عن التآمر بالمعروف والتناهي عن المنكر سواء كانت تلك النصوص حكايةً لمصائر الأمم التي فرطت في تلك الشعيرة ، أو وعيداً لمن سلك سبيلها وليس من الضروري أن تظهر هذه العقوبات بين يومٍ وليلةٍ ، فإن الذي يحدد زمانها ومكانها وصفتها هو الله – عز وجل – وليس استعجال البشر أو استبطاءهم .
وتلك العقوبات والآثار السيئة كثيرة ومتنوعة ، لكن من أظهرها :(1/17)
1. كثرة الخبث:
روى البخاري ومسلم عن زينب بنت جحش رضي الله عنها (( أن النبي صلى الله عليه وسلم استيقظ من نومه فزعاً وهو يقول : " لا إله إلا الله . ويل للعرب من شر قد اقترب فتح اليوم من ردم يأجوج ومأجوج مثل هذا – وحلق بين إصبعيه السبابة والإبهام – " . فقالت له زينب رضي الله عنها : يارسول الله ، أنهلك وفينا الصالحون ؟ قال : نعم إذا كثر الخبث ." (1)
إن المنكر إذا أعلن في مجتمع ولم يجد من يقف في وجهه ؛ فإن سوقه تقوم وعوده يشتد وسلطته تظهر ورواقه يمتد ويصبح دليلاً على تمكن أهل المنكر وقوتهم , وذريعةً لاقتداء الناس بهم وتقليدهم إياهم وما أحرص أهل المنكر على ذلك ولهذا توعدهم الله جل وعلا فقال (( إن الذين يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا لهم عذاب أليم في الدنيا والآخرة ))(سورة النور 19)
فإذا قلد بعض الناس أهل المنكر والزيغ في منكرهم ؛ أخذ الباطل في الظهور ، وهان خطبه شيئاً فشيئاً في النفوس ، وسكت الناس عنه وشغلوا بما هو أعظم منه ، وما تزال المنكرات تفشو، حتى يكثر الخبث ، ويصير أمراً عادياً مستساغاً ، تألفه النفوس ، وتتربى عليه .
وينحسر – بالمقابل – المعروف والخير ويصبح هو المستغرب , ولذلك قال الخليفة الملهم عمر بن عبدالعزيز – رحمه الله – في كتاب إلى أمير المدينة الذي يأمره فيه بأن يأمر العلماء بالجلوس لإفشاء العلم في المساجد: (( وليفشوا العلم ، فإن العلم لا يهلك حتى يكون سراً )).
إنها لعقوبة كبيرة أن يهيمن المنكر ، ويصبح المعروف غريباً لكن .. هل يقف الأمر عند هذا الحد ؟ إليك الإجابة :
2. إن كثرة الخبث تؤذن بالعذاب الإلهي العام والهلاك الشامل كما دل على ذلك حديث زينب المذكور آنفاً ، الذي نقل عن جماعةٍ من الصحابة ، مما يدل على اهتمام النبي صلى الله عليه وسلم بهذا الأمر .(1/18)
ولقد بوب الإمام مالك في الموطأ على هذا الحديث باباً سماه : ( باب ما جاء في عذاب العامة بعمل الخاصة ) وساق تحت هذا الباب أثراً عن عمر بن عبدالعزيز ، وهو قوله رحمه الله : كان يقال إن الله – تبارك وتعالى – لا يعذب العامة بذنب الخاصة ، ولكن إذا عمل المنكر جهاراً استحقوا العقوبة كلهم (1) .
وهذا الأثر يدعم ما سبق ذكره من خطورة الإعلان بالمعصية ومن وجوب التفريق بين المنكر المختفي والمنكر الظاهر .
وقد قص الله – عز وجل – علينا خبر بني إسرائيل حين نهاهم أن يعدوا في السبت ولنا في تلك القصة عبرة (( وإذ قالت أمة منهم لم تعظون قوماً الله مهلكهم أو معذبهم عذاباً شديداً قالوا معذرةً إلى ربكم ولعلهم يتقون . فلما نسوا ما ذكروا به أنجينا الذين ينهون عن السوء وأخذنا الذين ظلموا بعذاب بئيسٍ بما كانوا يفسقون . فلما عتوا عما نهوا عنه قلنا لهم كونوا قردةً خاسئين )) ( سورة الأعراف 164-166 ) .
إذن فقد أنجى الله تعالى الذين ينهون عن السوء فقط ، وأما البقية فقد عذبهم كلهم . هذه سنته – سبحانه – في كل أمة يحق عليها العذاب .
______________________________________________
(1) رواه البخاري (3168) و مسلم (2880) .
فإن لم يكن في الأمة من ينهى عن السوء والفساد فلا نجاة لأحد منها (( فلولا كان من القرون من قبلكم أولو بقية ينهون عن الفساد في الأرض إلا قليلاً ممن أنجينا منهم واتبع الذين ظلموا ما أترفو فيه )) ( سورة هود 116) .
وفي حديث جرير الذي رواه أبو داود : (( ما من رجل يكون في قومٍ يعمل فيهم المعاصي يقدرون على أن يغيروا عليه ، فلا يغيروا إلا أصابهم الله بعذاب من قبل أن يموتوا )) (2)(1/19)
إن وجود المصلحين في الأمة هو صمام الأمان لها ، وسبب نجاتها من الإهلاك العام ، فإن فقد هذا الصنف من الناس ؛ فإن الأمة – وإن كان فيها صالحون – يحل عليها عذاب الله كلها صالحها وفاسدها ؛ لأن الفئة الصالحة سكتت عن إنكار الخبث ، وعطلت شعيرة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، فاستحقت أن تشملها العقوبة .
وروى أبو داود والترمذي عن أبي بكر – رضي الله عنه – أنه قال : (( أيها الناس إنكم تقرءون هذه الآية )) : (( ياأيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لايضركم من ضل إذا اهتديتم )) (سورة المائدة 105 ) وإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : (( إن الناس إذا رأو الظالم فلم يأخذوا على يديه ؛ أوشك أن يعمهم بعقاب منه )) (3) وقد روي هذا الحديث
مرفوعاً كما روي موقوفاً ، والراجح أنه موقوف على أبي بكر ، لكن له حكم المرفوع ، لأنه مما لا يقال بالرأي . والظالم هنا هو المرتكب لأي نوع من أونواع الظلم الكثيرة ، فالمشرك ظالم (( إن الشرك لظلم عظيم )) ( سورة لقمان 13 ) والعاصي أياً كانت معصيته ظالم لنفسه ولغيره ، سواء كان سارقاً أو غاشا أو منتهكاً عرضاً أو غير ذلك .
وروى حذيفة – رضي الله عنه – أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (( والذي نفسي بيده لتأمرن بالمعروف ، ولتنهون عن المنكر ، أو ليوشكن الله أن يبعث عليكم عقاباً منه ، ثم تدعونه فلا يستجاب لكم )) (4) . يهز القلوب الحية ويدفع أصحابها إلى أن يكونوا من أولي البقية الذين ينهون عن الفساد في الأرض لتكون سفينة المجتمع محمية من الغرق الذي يهددها عندما يترك السفهاء يخرقون فيها ،
_________________________________________________
(1) الموطأ 1/ 991 (2) ابو داود ( 4339) (3) رواه الترمذي ( 2168 ) وأبو داود ( 4338 )
(4) رواو الترمذي ( 2169 ) وأحمد في المسند 5/ 388.(1/20)
كما روى النعمان بن بشير عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : (( مثل القائم على حدود الله والواقع فيها ، كمثل قومٍ استهموا على سفينة فأصاب بعضهم أعلاها وبعضهم أسفلها فكان الذين في أسفلها إذا استقوا من الماء مروا على من فوقهم ، فقالوا : لو أنا خرقنا في نصيبنا خرقاً ولم نؤذ من فوقنا , فإن يتركوهم وما أرادوا هلكوا جميعاً وإن أخذوا على أيديهم نجوا ونجوا جميعاً )) (1).
فالمجتمع تماماً كأصحاب السفينة هؤلاء، فإن الذين في أعلى السفينة إن تركوا الذين في أسفلها ليخرقوا في نصيبهم خرقاً وقالوا : هذه حرية شخصية لهم ، فليفعلوا ما شاءوا فإن النتيجة غرق السفينة وهلاك الجميع , وإن أخذ الذين في الأعلى على أيدي الذين في الأسفل وقالوا لهم : ليس الإضرار بالملك العام من الحرية الشخصية فالنتيجة نجاة الجميع , وهكذا حال المجتمع فإن أهل الفساد الواقعين في حدود الله يخرقون بمعاول انحرافهم في سفينة المجتمع, فإن
أخذ المصلحون على أيديهم ومنعوهم من الإضرار بالمجتمع ، نجا الجميع وإن تركوهم في غيهم وتخاذلوا عن الأنكار عليهم ؛ هلكوا قاطبةً .
وقبل أن أترك الحديث عن هذه العقوبة أود أن أنبه إلى أمر لا يكاد ينقضي العجب منه ، وهو أن بعض الناس يستغربون مثل هذا الكلام يستغربون من قول الناصحين : إن المصلحين حماة سفينة المجتمع من الغرق بل قد يستغربون من قول الناصحين : إن ما أصابنا وأصاب غيرنا من الأحداث الأخيرة المؤلمة إنما بسبب الذنوب والمعاصي يستغربون ذلك، ويعزو بعضهم ما حدث إلى الأسباب المادية ويقولون : كيف تكون المعاصي هي سبب ماحدث ؟ ، والكفار – مع كفرهم – يعيشون في نعيم وسعة عيش ، وتمكين في الأرض ؟!
هكذا يقولون ويظنون متناسين أو جاهلين سنن الله الثابتة ، والنصوص الصريحة الواضحة ، والوقائع التاريخية السالفة والخالفة .
_______________________________________________
(1) رواه البخاري ( 2361 ).(1/21)
وهذا منطق الذين لا تتعدى نظرتهم الحياة الدنيا ، ومنطق السطحيين الذين ينظرون إلى رقعةٍ محدودة من المكان، في حيز محدود من الزمان، ومنطق الماديين الذين يتنكرون لوحي الله عز وجل (( ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض ولكن كذبوا فأخذناهم بما كانوا يكسبون . أفأمن أهل القرى أن يأتيهم بأسنا بياتاً وهم نائمون . أو أمن أهل القرى أن يأتيهم بأسنا ضحى وهم يلعبون . أفأمنوا مكر الله فلا يأمن مكر الله إلا القوم الخاسرون . أو لم يهد للذين يرثون الأرض من بعد أهلها أن لو نشاء أصبناهم بذنوبهم ونطبع على قلوبهم فهم لا يسمعون )) ( سورة الأعراف 96-100 )
(( وأن لو استقاموا على الطريقة لأسقيناهم ماءً غدقاً لنفتنهم فيه ومن يعرض عن ذكر ربه يسلكه عذاباً صعداً )) ( سورة الجن 16-17 )
(( ولولا أن يكون الناس أمة واحدةً لجعلنا لمن يكفر بالرحمن لبيوتهم سقفاً من فضةٍ ومعارج عليها يظهرون . ولبيوتهم أبواباً وسرراً عليها يتكئون . وزخرفاً وإن كل ذلك لما متاع الحياة الدنيا والآخرة عند ربك للمتقين )) ( سورة الزخرف 33-35 ) .
3. الاختلاف والتناحر :
إن من أنكى العقوبات التي تنزل بالمجتمع المهمل للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أن يتحول ذلك المجتمع إلى فرقٍ وشيع تتنازعها الأهواء، فيقع الاختلاف والتناحر (( قل هو القادر على أن يبعث عليكم عذاباً من فوقكم أو من تحت أرجلكم أو يلبسكم شيعاً ويذيق بعضكم بأس بعض )) (سورة الانعام 65 ) وذلك التناحر يجعل المجتمع عرضة للانهيار والانهزام أمام العدو الخارجي المتربص .
ولا يحمي المجتمع من التفرق والاختلاف إلا شريعة الله ، لأنها تجمع الناس ، وتحكم الأهواء، أما إذا ابتعد الناس عن شريعة الله – تعالى – أصبح كل امرئ يتبع هواه , وأهواء الناس لا يضبطها ضابط .(1/22)
وإن ما يدل على ارتباط التفرق والتناحر بترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أن الله عز وجل قال : (( ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون يالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون )) ( سورة آل عمران 104) ثم قال بعد ذلك مباشرةً (( ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات )) ( سورة آل عمران 105 ) والمتأمل في حال عددٍ من البلاد الإسلامية يجد أن من أهم أسباب تفرق المجتمع فيها أنهم أهملوا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ؛ فترتب على ذلك شيوع الفساد وظهوره وسيطرته ، بشتى صوره وأنواعه ما بين عري ، وسكر ، وحفل غنائي ، وسهرة راقصةٍ ، وعرض مسرحي ، وغير ذلك .
وهذا الفساد يغيظ الصالحين ، فيغارون على حرمات الله فيحاولون تغيير المنكر ، فلا يجدون قناة شرعية تمكنهم من تغيير المنكر ، فيضطرون إلى أساليبت مندفعةٍ تجعل المجتمع أطرافاً متصارعةً متناحرةً .
ونماذج ذلك في المجتمعات الإسلامية غير قليلةٍ فمن ذلك ما نشرته بعض الصحف من أخبار منذ عدة سنوات عن إندونيسيا التي يشيع فيها كثير من المنكرات – شأن كثير من البلاد الإسلامية – تقول هذه الأخبار أن هناك مجموعة من الناس غير معروفة تتصيد المجرمين خفيةً وتقضي عليهم ، أي إذا وجدوا إنساناً يقوم – مثلاً – على بيت دعارة أو على أي منكر علني فإنهم يقتلونه ولا تعجب من مثل هذا في بلادٍ يسكنها نحو مائةٍ وخمسين مليوناً من المسلمين وتكون عطلتهم الرسمية يوم الأحد .
ومن ذلك ما يجري من بعض الغيورين في مصر – مثلاً – من إنكار بعض المنكرات بصورة حماسية ، فقد أعلن مثلاً في جامعة أسيوط عن حفلٍ غنائي مختلطٍ ، فقام عدد من الطلاب ضد هذا المنكر ، ودخلوا مكان الحفل بالقوة ، وحطموا الآت الفسق ، ومنعوا إقامة الحفل في تلك الليلة .
وغير أولئك المتحمسين المندفعين ينظر إلى ذلك التصرف على أنه شغب وإخلال بالأمن .(1/23)
ولو وجد أولئك الغيورون سبيلاً شرعياً للإنكار لم يلجا أحد منهم إلى مثل هذه الطرق ، ولكن سدت أمامهم المنافذ الصحيحة وأوصدت دونهم الأبواب ، فركبوا تلك المراكب الصعبة وهم يقولون :
إذا لم يكن إلا الأسنة مركباً فما حيلة المضطر إلا ركوبها
وقد كانوا – لا شك – عن ذلك في سعةٍ ولهم عنه مندوحة . ومن صور التفرق والتمزق التي تحدث في المجتمع بسبب ترك هذه الشريعة أن تتفشى بين الناس منكرات القلوب من الغل والحقد والحسد والبغضاء والتناحر وما يترتب على اختلاف القلوب من اختلاف التوجيهات والآراء والأعمال والأقوال بحيث إن المجتمع يهدم بعضه بعضاً ويدمر نفسه بيديه .
فهذه من أعظم المنكرات التي يجب إنكارها والتحذير منها ، وسكوت العالمين والمعلمين عنها سبب في انتشارها ورسوخها وصعوبة الخلاص منها .
ثم إن المنكر إنما صار منكراً ، ونهى الله – تعالى – عنه لما فيه من الخبث والضرر العاجل والآجل ، فالمعاصي وبال على الأفراد والمجتمعات وسبب لتمزقها وتشتتها .. ثم انهيارها وزوالها ، فالنهي عنها سياج حماية الأمة من آفات الضعف والتخلخل والضياع , والسكوت عليها دليل أكيد على غياب معايير النقد الصحيح والتوجيه البناء وهو تواطؤ آثم مع القوى الشريرة التي تريد بالأمة سوءً ا ، وتسعى لهدم قلاع الخير والفضيلة والصلاح .
فمعاصي البيع والشراء من النجش والغش وبيع المعدوم والمجهول وسائر أنواع البيوع المحرمة ، والمعاملات المنكرة لها من الأثر الكبير في تشتيت القلوب وتدابرها وتباغضها ما لا ينكره ذو عقل .
وما يقال فيها يقال في سائر أنواع المعاصي .
والسكوت على هذه المنكرات هو نوع من الرضا بها وإقرارها .
4. تسليط الأعداء :
فإن الله – جل وعلا – قد يبتلي المجتمع التارك للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بأن يسلط عليهم عدوا خارجياً ، فيوذيهم ، ويستبيح بيضتهم ، وقد يأخذ بعض ما في أيديهم وقد يتحكم في رقابهم وأموالهم .(1/24)
وقد مني المسلمون في تاريخهم بنماذج من ذلك ، لعل منها ما وقع للمسلمين في الأندلس ، حيث تحولت عزتهم وقوتهم ومنعتهم – لما شاعت بينهم المنكرات بلا نكير – إلى ذل وهوانٍ سامهم إياه النصارى حتى صار ملوكهم وسادتهم ينادى عليهم في أسواق الرقيق وهم يبكون وينوحون ، كما قال الشاعر:
فلو رأيت بكاهم عند بيعهم لهالك الوجد واستهوتك أحزان
تقول أم أحدهم – هو أبو عبدالله آخر ملوك الطوائف – تخاطب صاحب الملك المضاع :
ابك مثل النساء ملكاً مضاعاً لم تحافظ عليه مثل الرجال
وشبيه بذلك ما حدث في فلسطين من تسلط اليهود على المسلمين ، وتنكيلهم بهم ، وطردهم لهم حتى صارت فلسطين أخت الأندلس ، وحتى ذهبت كما قال الشاعر :
ياأخت أندلسٍ صبراً وتضحيةً وطول صبر على الأرزاء والنوب
ذهبت في لجة الأيام ضائعة ضياع أندلس من قبل في الحقب
وطوحت ببنيك الصيد نازلة بمثلها أمة الإسلام لم تصب
5. عدم إجابة الدعاء :
الإنسان يلجأ إلى الله وحده عندما يمسه الضر ، ويدعوه سبحانه أن يكشف عنه السوء حتى المشرك يفعل ذلك : (( ثم إذا مسكم الضر فإليه تجأرون )) ( سورة النحل 53 )
(( وإذا مسكم الضر في البر والبحر ضل من تدعون إلا إياه )) ( سورة الإسراء 67 )
[[ والمسلمون التاركون لشعيرة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر عندما ينزل بهم العقاب يتجهون إلى الله – عز وجل – يدعونه ولكنه لا يستجيب لهم كما جاء في حديث حذيفة الذي ذكره أن النبي صلى الله عليه وسلم قال (( والذي نفسي بيده، لتأمرون بالمعروف ولتنهون عن المنكر ، أو ليبعثن الله عليكم عقاباً منه ، ثم تدعونه ، فلا يستجاب لكم )) (1) .
يا الله .. أو حقاً يدعو الناس فلا يستجيب الله لهم ؟! الله الذي يقول (( وسعت رحمتي كل شيء )) (سورة الأعراف 156) الله الذي يقول (( وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان )) ؟! ( سورة البقرة 186 ) هل يمكن أن يحدث ذلك ؟!(1/25)
صدق الله وصدق رسوله ، وما يمكن أن يكون ذلك إلا حقاً وإنه لحق ترتجف له النفس فرقاً ويقشعر الوجدان رعباً وماذا يبقى للناس إذن ؟ ماذا يبقى لهم إذا أوصدت من دونهم رحمة الله ؟ولمن يلجأون في هذا الكون العريض كله وقد أوصد الباب الأكبر الذي توصد بعده جميع الأبواب .. ويبقى الإنسان في العراء ، العراء الكامل الذي لا يستره شيء ، ولا يحميه شيء من لفحة الهاجرة وقسوة الزمهرير .
ألا إنه للهول البشع الذي يتحامى الخيال ذاته أن يتخيله ..
لأنه أفظع من أن يطيقه الخيال .
فهل كتب الله ذلك الهول البشع على عباده – المسلمين – الذين يدعونه ويسألونه ويستنصرونه ؟.
نعم حين يكفون عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، ولو بأضعف الإيمان (2) ]] .
6. الأزمات الاقتصادية :
قد تحل الأزمات الاقتصادية بالمجتمع المفرط في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فتتلاطم به أمواج الفقر والضوائق ، ويذوق الويلات من الحرمان .
ولقد وصلت الأزمات ببعض المجتمعات الإسلامية إلى حالٍ من الفقر يرثى لها حتى أصبح الفرد يكدح في سبيل الحصول على لقمة العيش فلا يجدها مما قد يحوجه إلى ما في أيدي النصارى
_________________________________________________
(1) رواه الترمذي ( 2169 ) وأحمد في المسند 5/388.
(2) قبسات من الرسول ، محمد قطب ، ص 53 – 54 ، ط الثانية 1962 م .
المتربصين الذين يسخرون طاقاتهم لتنصير المسلمين ؛ فيؤدي ذلك إلى وقوع المسلم في التنصير والعياذ بالله خاصة أن انشغاله بلقمة العيش قد ينسيه كثيراً من أمور دينه ، مما يبعده عنه ويهونه عليه .
وهكذا المنكرات ، سلسلة يجر بعضها بعضاً إلى أن تهوي بصاحبها .(1/26)
وكما أن هناك من يفسر ما يحل بالمجتمعات من الحروب والأحداث المؤلمة تفسيراً مادياً بحتاً كذلك هناك من يفسر الأزمات الاقتصادية تفسيراً مادياً بحتاً ، والمؤمن الذي يعي سنن الله يدرك أن وراء السبب المادي سبباً شرعياً حدث في المجتمع ، فاستحق ما جرت به سنة الله من معاقبة المجتمع الذي يظهر فيه الخبث بلا نكير .
كما أن هناك من تسفك أعراضهم على مذبح الرذيلة وتداس كرامتهم جرياً وراء الدرهم والدينار .. إن كثيراً من الجرائم وأماكن البغاء تتفشى في تلك الأحياء الشعبية التي يشيع فيها الفقر وينتشر فيها العوز والفاقة .
ولعل من أجلى الصور وأوضحها في الدمار الاقتصادي الذي يلحق المجتمعات بسبب إهمال النهي عن المنكر : السكوت عن الربا وما يجره من تفاقم في المستويات المعيشية والاقتصادية فيزيد الفقير فقراً إلى فقره ، ويزيد الغني ثراًء فيصبح المال دولةً بين الأغنياء ، وتسير الأمة إلى هاوية الدمار البعيد .
وها هي ذي مراكز الدراسات الغربية تتحدث عن مصير أسود ينتظر الرأسمالية خلال عقدٍ أو عقدين من الزمان ، كذلك المصير الذي آلت إليه الشيوعية !
(( فهل ينتظرون إلا مثل أيام الذين خلوا من قبلهم قل فانتظروا إني معكم من المنتظرين )) ( سورة يونس 102 )
7. ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر :
يوجب الوقوع في الشهوات والإغراق فيها وهذا من شأنه أن يجعل الناس مرتبطين بالدنيا , أصحاب نفوس ضعيفة غير جادين .
فالشباب الذي ليس له هم إلا أغنية ماجنة ، أومجلة خليعة ، أو شريط مرئي هابط، أومكالمة هاتفية شهوانية ، أو سفر إلى بلاد الإباحية والتحلل ، هذا الشاب الذي أصبحت حياته كلها شهوة هل يستطيع أن ينعتق من إسار الدنيا ، ويجد في تحصيل العلم النافع ؟!
هل يستطيع أن يحمل السلاح ليدافع عن نفسه وعن أمته ؟!
لا ريب أنه لا يطيق ذلك ، لأنه تعود على الارتباط بالدنيا ، والركون إلى الشهوة ،ولم يألف الجدية والحزم .(1/27)
وإنك لتجد مصداق ذلك عندما تتأمل في واقع كثير من الشباب المبتعثين إلى البلاد الغربية مثلاً حيث ترى الشاب المتدين المستقيم منهم جادا في تحصيله العلمي لأنه يحمل هم أمته , لأنه لم يبعد الشهوة ، ولم يرسف في أغلال الدنيا الدنية .
أما الشاب الشهواني المنحرف فإنك تراه منغمساً في شهواته ورغباته ، غير جاد في تحصيله العلمي تافه الاهتمامات ؛ لانه لا يحمل إلا هم هواه فتخسره الأمة ويكون وبالاً عليها .
وهذه الحقيقة أدركها كل البشر حتى الوثنيون منهم فإن اليابان – مثلاً – لما بعثت أول بعثةً من أبنائها للتعليم في بلاد الغرب ورجع أولئك المبتعثون متحللين من مبادئهم ذائبين في الشخصية الغربية منغمسين في الشهوات الفردية لم يكن من اليابانيين إلا أن أحرقوهم جميعاً على مرأى من الناس ليكونوا عبرةً لغيرهم ثم ابتعثوا بعثة أخرى ، وأرسلوا معهم مراقباً كان يقدم عنهم تقارير متواصلة تبين جديتهم ومحافظتهم على تقاليدهم الوثنية وغيرها . هكذا أدركوا أن صرعى الشهوات لا يمكن أن يكونوا جادين في يوم من الأيام .
وفي مجتمعات المسلمين لا شك أن ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هو سبب غرق أبناء المجتمع في الملذات والأهواء التي تقعد بهم عن معالي الأمور .
8. الإهمال في أخذ العدة :
سواء كانت عدة معنوية بقوة القلوب وشجاعتها، أو عدة مادية محسوسة تجهز لمقاومة الأعداء فإن الاستعداد لا يتقنه ولا يلتفت إليه إلا أصحاب الهمم ، المعرضون عن السفاسف . أما صرعى الشهوات فليسوا أهلاً لذلك ، بل إن مجرد الكلام عن الحرب يرعبهم ، فضلاً عن خوض المعارك وركوب الأهوال .(1/28)
9. هناك عقوبة جداً خطيرة وهي أن الأمة بدأ مسارها في عدد من البلاد الإسلامية يتغير . ذلك أن المنافقين المفسدين لم يكتفوا بإشاعة المنكرات بل مضوا يخططون لسلخ الأمة عن دينها جملةً حتى تتحول إلى أمة علمانية لا دين لها وتقبل أن تحكم بأي شريعة وأن يشيع فيها أي انحراف فكري أو خلقي .
وهذا التحول أخطر من سيطرة الكافرين والمنافقين عسكرياً على البلاد الإسلامية والواقع يشهد لذلك ، فإنك لو تأملت لوجدت البلاد الإسلامية التي أخذت من المسلمين بالقوة العسكرية محدودة كالأندلس التي أخذها النصارى قديماً ، وفلسطين التي سيطر عليها اليهود قهراً . هكذا تبقى قليلة محدودة ثم إن تأثيرها على مسار الأمة إيجابي ؛ لأن فيها إيقاظاً لها وتحريكاً لغيرتها وبعثاً لحميتها الدينية .
لكن لوتأملت في واقع كثير من البلاد الإسلامية التي كان يحكمها الإسلام ويشيع في أهلها المعروف ؛ لوجدتها اليوم بلاداً علمانية تحكمها نظم غير شريعة الله ، نظم تحمي الرذيلة وتحارب الفضيلة ، فتجد مثلاً في جامعاتها الاختلاط نظاماً محتماً وتجد محاربة الحجاب ووصف أهله بالرجعية والتخلف إلى غير ذلك من فنون الإغواء .
هكذا وقعت الأمة في براثن المنافقين ، فسعوا جاهدين لسلخها عن دينها بسبب غياب المصلحين الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر عن الساحة ، أو ضعفهم في أداء رسالتهم .
والمجتمع ميدان لصراع الفئتين (( والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر )) ( سورة التوبة 71 ) (( والمنافقون والمنافقات بعضهم من بعض يأمرون بالمنكر وينهون عن المعروف))( سورة التوبة 67 ) فأي الفئتين غلبت، استطاعت أن تصبغ المجتمع بصبغتها .(1/29)
ولذلك كانت قضية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر قضية مصيرية يترتب عليها احتفاظ الأمة بمسارها الإسلامي، ولهذا السبب كان الأمر بالمعروف النهي عن المنكر في العهود المتقدمة يحظى بأشد العناية من المسلمين أجمعين فقد كان كل مسلم يشعر أنه مطالب بذلك في كل مجال وعلى سائر المستويات فيأمر بالمعروف وينهى عن المنكر في بيته ، وفي سوقه ، وفي مسجده ، وفي كل مكان ، لا يفرق في ذلك بين صغير وكبير ، ولا قريب أو بعيد ، ولا معروف أو مجهول ، ولا ذكر أو أنثى .
هكذا كانوا يشعرون أن ذلك الأمر دين يدينون الله به ، فلم يكلوه بأكمله إلى جهة معينة ويلقوا باللائمة عليها إذا رأو منكراً .
ومع ذلك كله عني المسلمون بنظام الحسبة الذي كان رجاله يقومون بمراقبة المجتمع عموماً في كل شيء ويسعون لإصلاح ومنع جميع أسباب أذاه , فيمنعون الباعة من الغش وينصفون الدائن من المدين وإذا رأوا مثلاً بيتاً آيلاً للسقوط عالجوا أمره بما يناسب وإذا وجدوا شارعاً ضيقاً قاموا على توسيعه وإذا رأوا نزاعاً فضوه إلى غير ذلك من المهمات .
إذن كانت مهمة رجال الحسبة مهمة شمولية , أصبحت اليوم موزعة على عدة جهاتٍ من أنظمة مرورية وبلدية وتجارية وغيرها إلى جانب مهمة السلوك والأخلاق وإيقاف الناس عند حدود الله .
وما كان هذا الاهتمام البالغ بنظام الحسبة الذي ظهر بوضوح في عهد عمر بن الخطاب إلا لإدراك الأمة تلك الشعيرة في مسارها .
حكم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
أجمع أهل العلم على فرضية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر , فرض عينٍ أو كفايةٍ .
فذهب ابن حزم رحمه الله إلى إنه فرض عين ، لحديث أبي سعيد مرفوعاً : (( من رأى منكم منكراً فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه ، وذلك أضعف الإيمان )) (1).(1/30)
وعند جماهير أهل العلم أنه فرض كفاية ، وهذا هو الصحيح ؛ لقوله تعالى : (( ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر )) ( سورة آل عمران 104 ) فإذا قامت الأمة المذكورة في الآية – وهي الطائفة – بالمهمة سقطت عن الباقين ولكن يشترط أن تكون هذه الطائفة ممن تحقق بهم الكفاية في إقامة هذه الشعيرة .
على أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يكون فرض عينٍ في بعض الحالات .
إضافةٍ إلى أن الإنكار القلبي وكراهية المنكر والقائمين به ، هو فرض عين على الجميع باتفاق العلماء ولا يعذر أحد بتركه لأنه ممكن لكل أحدٍ .
وهذه الحالات هي:
1 – إذا لم يعلم بالمنكر غير شخص معين ، فهو حينئذٍ مطالب بالإنكار وجوباً ، لأن الكفاية لاتقوم إلا به .
2 – إذا لم يستطع تغيير المنكر إلا شخص بعينه ، فمثلاً قد تشيع بعض المنكرات في وجهاء المجتمع وأعيانه وكبرائه ، فلا يستطيع كل أحدٍ من المسلمين أن ينكر عليهم ، فيتعين حينذٍ على من يستطيع الإنكار من ذوي المكانة العلمية والاجتماعية أن ينكر عليهم .
3 – يجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على من ولاه الله أمرا من أمور المسلمين ، بدءً ا بالسلاطين الذين ائتمنهم الله تعالى على الأمة , فإنما شرع الإسلام الولاية العظمى لتحقيق الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وكل مصلحة تحتاجها الأمة فهي من المعروف وكل مفسدة للأمة فهي من المنكر ، سواء كان ذلك في الأمور الدينية أو الدنيوية .
______________________________________________
(1) رواه مسلم ( 49 ) .
ثم كل مسلم حسب ولايته ومسؤوليته ، فالوزير مسؤول عن رعيته ومدير الدائرة الحكومية مسؤول عن رعيته ومدير المؤسسة مسؤول عن رعيته والمدرس مسؤول عن رعيته والأب مسؤول عن أسرته ورجل الحسبة المكلف من قبل ولاة الأمور مسؤول عن القيام بمهمته بقدر المستطاع .(1/31)
وهكذا نجد أن كل فردٍ في الأمة مطالب بأن يكون قيماً على من ولاه أمرهم ؛ من أدنى مسؤوليةٍ إلى أعلى مسؤولية .
وها هنا قضية خطيرة لا بد من إثارتها وهي أن كثيراً من الناس اعتادوا أن يلقوا بمسؤولية إنكار المنكر على غيرهم ، فيلومون – مثلاً – العلماء والأمراء لأنهم يستطيعون تغيير المنكر ، ويتنصلون هم من المسؤولية تماماً ولو اطلعت على بيت أحدهم فقد تجد فيه عشرات المنكرات لم يغيرها وكأنه ينتظر أن يأتي العلماء إلى بيته ليغيروها , وهذه العادة خطيرة وسيئة فإن كل فردٍ في المجتمع مسؤول عن إصلاح ما يستطيع إصلاحه لأنه جزء من المجتمع يجب عليه القيام بمهمته ، كما يجب على العلماء وغيرهم أداء مهمتهم ولو أن كل مسلم قام بما عليه من الأمر بالمعروف النهي عن المنكر لصلحت الأمة وأفلحت ، وظهر المعروف واختفى المنكر .
أما إذا ظلت تتدافع القيام بهذا الواجب ، فالعامة تلوم العلماء وتطالبهم بالإصلاح ، والعلماء يلومون العامة على خذلانهم لهم ، وكل فئةٍ في المجتمع تلقي بالمسؤولية على غيرها فيظل المنكر قائماً ممكناً إلى يوم يبعثون .
مراتب الانكار
بين الرسول صلى الله عليه وسلم مراتب الانكار بقوله (( من رأى منكم منكراً فليغيره بيده فإذا لم يستطع فبلسانه فإذا لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان )) (1) .
إذن فالمطلوب من المسلم حين يرى المنكر أن يغيره بحسب المستطاع متدرجاً في ذلك من أقوى صور الإنكار إلى ما هو دونها .
أما من حيث الواقع العملي فالذي يحدث أولاً هو تأثر القلب ونفوره وإنكاره للمنكر عندما يراه ثم يرسل القلب الأوامر إلى اللسان لينطق بإنكار ذلك المنكر على من واقعه واقترافه .
فإن امتثل وأقلع عن منكره فهذا هو المراد وإلا كان الانتقال إلى التغيير باليد .
________________________________________________
(1) رواه مسلم (49) وأبو داود ( 1140) والترمذي (2173) والنسائي 8/111 وابن ماجه ( 4013 ) .(1/32)
إذن فأول ما يحدث هو التغيير بالقلب ثم التغيير باللسان ثم التغيير باليد من حيث الواقع .
لكن المراد من المسلم هو أن يغير بيده إن استطاع , فإن عجز لجأ إلى التغيير باللسان ، فإن عجز كفاه أن يغير بقلبه ، وذلك بأن يكره ذلك المنكر ويبغضه .
والإنكار بالقلب فرض عين على جميع المسلمين ، وفي جميع الأحوال لأن القلب لا سلطان لأحدٍ من الناس عليه حتى يستطيع منع صاحبه من مقت المنكر وكرهه .
ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم (( .. فإن لم يستطيع فبقلبه وذلك } أي التغيير بالقلب{ أضعف الإيمان )) وفي حديث ابن مسعود : (( وليس وراء ذلك من الإيمان حبة خرذل )) (1)
أي أن الذي يرى المنكر فلا يتحرك قلبه ببغض ذلك المنكر والامتعاض له ، ليس في قلبه إيمان البتة ، فضلاً عمن يرى المنكر فيسر به ويفرح له عياذاً بالله تعالى .
وها هنا أمر جدير بالوقوف عنده ، وهو ( التلميح والتصريح في الإنكار ) فإن الاسلام دعا إلى التدرج في هذا الأمر ، بحيث يكتفي المنكر بالتلميح إن كان التلميح مجدياً ، فإن لم يغن شيئاً انتقل المنكر إلى التصريح .(1/33)
فقد كان الرسول عليه الصلاة والسلام ، يقول عندما يرى منكراً (( ما بال أقوام يفعلون كذا وكذا؟ )) (2) لأن هذا التلميح العام كان يكفي في كثير من الأحيان لرد صاحب المنكر عن منكره لكنه صلى الله عليه وسلم كان إذا وجد أن الموقف يحتاج إلى التصريح فإنه يصرح ففي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالصدقة , فقيل : منع ابن جميل, فقال النبي صلى الله عليه وسلم (( ما ينقم ابن جميل إلا أنه كان فقيراً فأغناه الله ورسوله ))(3) هكذا صرح النبي صلى الله عليه وسلم ، بابن جميل ، لأنه أصر على منع الزكاة . وكان الرسول عليه الصلاة والسلام يصلي مرة بأصحابه ، فلما انصرف من صلاته قال (( يافلان ألا تحسن صلاتك ! ألا ينظر أحدكم كيف يصلي ! إني أراكم من وراء ظهري كما أراكم من أمامي ))(4) .
والشواهد على سلوكه صلى الله عليه وسلم ، مسلك التلميح إذا أغنى والتصريح إذا دعت إليه الحاجة ؛ كثيرة ومشهورة .
________________________________________________
(1) رواه مسلم (50) (2) البخاري ( 5750 ) و ( 717 ) (3) البخاري( 1399 ) ومسلم (983) (4) مسلم (423)
وعلى ذلك فإن الواجب على المسلم إذا وجد إنساناً مجاهراً بالفساد مثل الذي يكتب المقالات المضللة والمؤلفات الهدامة التي تحارب الإسلام وتطعن في أهل الاستقامة وتشوه تاريخ الأمة المجيد , أقول إن الواجب على المسلم أن يعلن الإنكار عليه وأن يفضحه بين الناس .
على أن هذا الترتيب في مراتب الإنكار ليس مطرداً دائماً ، فثمة حالات يتطلب الأمر فيها المبادرة بالإنكار باليد فوراً دون انتظار وليس من المعقول أن يقف المسلم على رجلين مشتبكين في قتال ومضاربةٍ ، ثم يقف ليلقى عليهما محاضرةً في حقوق المسلم على أخيه ، وحرمة دم المسلم وماله وعرضه ! بل بجب أن يتدخل فوراً لفك الخصومة بينهما متى كان ذلك ممكناً له .(1/34)
وهكذا لو وقف على فاحشةٍ أو منكرٍ يتطلب القيام بتغييره بصفةٍ عملية مع القول أو بدونه .
قضية الانكار باليد
الإنكار باليد هو المرتبة الأولى من مراتب الإنكار ، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم (( من
رأى منكم منكراً فليغيره بيده ... )) . ويكون التغيير باليد بإتلاف المنكر إما بإحراقه أو هدمه أوغير ذلك, والأصل أن الانكار باليد مهمة الجهة التي فوض إليها ذلك , لكن هذه الجهة لا توجد أصلاً في كثير من البلاد وقد توجد ولكنها لا تقوم بعملها ومسؤليتها وحينئذٍ يجوز الإنكار باليد للأفراد المصلحين في المجتمع كما صرح بذلك أهل العلم , ولكن بأربعة شروط :
أحدها: ما سبق ذكره : فقدان السلطة والجهة المسؤولة التي يفوض إليها القيام بالإنكار باليد.
ثانيها: ظهور المصلحة الراجحة على المفسدة ، أما إذا ظهر للمنكر أن الإنكار باليد قد يؤدي إلى مفسدة أكبر ، مثل التضييق على المصلحين الغيورين أو انتشار المنكر واتساع دائرته ففي هذه الحال يمنع الإنكار باليد .
ثالثها: أن يتعذر ذلك المنكر بغير اليد أي أن المنكِرَ حاول التغيير بلسانه فلم يستطع فله حينذاك أن يغير بيده .
رابعها: وهو شرط مهم مراجعة العلماء في ذلك ، فإن بعض الشباب – بما أعطاهم الله من الحيوية والغيرة والتوقد والقوة - إذا رأى منكراً فار الدم في عروقه ولجأ إلى التغيير بيده بدون أن يراجع أهل العلم العاملين الذين يعرف عنهم أنهم بلا ريب مع الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والدعوة والصلاح .
ومراجعة أولئك العلماء تنطوي على مصالح عديدة .
المصلحة الأولى : التيقن من أن نفع هذا الإنكار أكبر من ضرره . ذلك أن نظر الغيور المنفعل قد يكون قاصراً ، لكن العالم قد يكون أبعد نظراً .
المصلحة الثانية : أن الذي ينكر باليد قد يتعرض لأذى في نفسه أو أهله أو وظيفته ، أو نحو ذلك فيحتاج حينئذٍ إلى وقوف أهل العلم معه ، فإذا كان يصدر عنهم فهذا يضمن له مساندتهم له .(1/35)
المصلحة الثالثة : أن هذا يدعم أهل العلم ويقوي مكانتهم ويضاعف تأثيرهم في تغيير المنكرات فإن من أهم دعائم إنكار المنكرات وجود العالم الذي يلتف الناس حوله فيكسب بذلك منعة وقوة تمكنه من الإنكار وتجعل كلمته مسموعة وصوته موثراً .
فإذا توافرت هذه الشروط وحرص الأفراد على مراعاة هذا الفقه آتى الإنكار باليد ثماره ، مع السلامة من المحاذير والسلبيات .
أما التعجل والاستجابة لانفعالات النفس غير المنضبطة والاندفاع وراء العواطف المجردة لا يثمر إلا الفشل للمهمة العامة التي نذر المصلح نفسه لها إضافةً إلى الفشل الفردي للشخص ذاته بأن يؤول أمره غالباً إلى نوع من القنوط أو الإحباط أو الاستيئاس وترك العمل والله المستعان .
وسائل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
الوسائل كثيرة لا تنحصر في مجال أو نمط معين ومتى ما كان في قلب المرء اهتمام بأمر الدين وحرقة للإسلام وحرص على مستوى الأمة فإن هذا الشعور يدفعه إلى ابتكار وسائل مختلفة يستعين بها على إقامة هذه الشعيرة وقد قيل ( الحاجة أم الاختراع ).
لكن هذه الوسائل يجب أن يتحقق فيها شرطان :
1 – أن تكون مباحة ، فلا يجوز أن يستخدم المنكِرُ وسيلة محرمة ليزيل بها المنكر ، فإن النجاسة لا تغسل بالنجاسة .
2 – أن تؤدي المقصود ، بحيث يتم بها إزالة المنكر ، وتحقيق المعروف وعلى ذلك فإذا كانت الوسيلة غير مجدية فلا داعي لاستخدامها فإذا جزم بأنها تؤدي الغرض أو غلب على ظنه ذلك كان عليه أن يتوسل بها إلى تحقيق المقصود .
* ومن أبرز أمثلة الوسائل التي ينبغي استعمالها في مجال الأمر والنهي :
1. الكلمة الهادفة :
سواء كانت تلك الكلمة محاضرة أو درساً أو خطبةً أو موعظةً بعد الصلاة أو ما شابه ذلك فمجالات الكلمة واسعة جدا . وها هنا أمر جدير وهو أسلوب الكلمة , إذ لا بد أن يكون مناسباً فيراعي مثلاً ألا تكون الكلمة ضربةً في وجه صاحب المنكر تصفعه بها دون مقدمات ولا تمهيدات .(1/36)
خذ على سبيل المثال : المنكرات الظاهرة المنتشرة بين الناس كالتدخين وإسبال الثياب وحلق اللحى ... الخ .
إن هجوم الإنسان على مراده مباشرة قد يؤدي إلى نتيجة عكسية وقد يخرج الناس من جراء ذلك بانطباع لا يخدم قضية الأمر بالمعروف النهي عن المنكر .
لكن لو أنك بدأت حديثك بقضية أكبر من هذه ؛ بقضية التشبه بالمشركين ونهي الإسلام عن ذلك وعظم خطورته على دين المرء وذكرت الأدلة الشرعية والأمثلة الواقعية لذلك وسقت طرفاً من كلام المؤرخين ، ومن كلام الباحثين المعاصرين وتدرجت في عرض القضية حتى تصل إلى ضرب بعض الأمثلة للتشبه بالمشركين من الواقع وتأتي بقضية حلق اللحية مثالاً لذلك وتدعم كلامك عنها بما ورد من نصوص في الأمر بإعفاء اللحى كقوله صلى الله عليه وسلم (( وفروا اللحى )) (1) ومضيت في بسط القضية وعرضها على هذه الشاكلة فإنك إن وفقت في ذلك العرض اللبق فإن الحاضرين المستمعين إليك وإن كانوا حليقي اللحى فسوف يتقبلون النصيحة وتدخل قوبهم .
________________________________________________
(1) رواه البخاري ( 5553 ) ومسلم ( 259) .
وقد وقع لي مرة أن زرت مدرسة في إحدى مناطق هذه المملكة ، فرأيت في المدرسة كثيراً من المنكرات ، فآليت على نفسي أن أقول شيئاً عن ذلك ، وفعلاً تحدثت إليهم فبدأت بكلامٍ عام عن الشباب ومشكلاتهم ، وخطط الأعداء الغربين للقضاء على الشباب حتى ارتاح الحاضرون إلى هذا الكلام ، وأحسوا أنه كلام يحتاجون إلى مثله وربما لم يسمعوه قبلاً لأن المنطقة نائية .
بعد هذا تكلمت عن الاعتزاز بالإسلام وأن المسلم هو الأعلى في عقيدته وسلوكه ومنهجه وتاريخه ، وذكرت أن المسلم العزيز العالي لا يقلد الكافر النازل كما أن الكبير لا يقلد الصغير والمدرس لا يقلد الطالب وإنما الذي يحدث هو عكس ذلك ، فالصغير يقلد الكبير والطالب يقلد أستاذه والمغلوب يقلد المنتصر .(1/37)
ثم انتقلت إلى الحديث عن التشبه بالمشركين ، وما ورد فيه من نصوص ، ثم أدخلت كل المنكرات التي رأيتها في المدرسة في باب التشبه وتحدثت عنها .
فلما انتهيت خرج معي أحد المدرسين ، وحدثني قائلاً : جزاك الله خيراً, إنك أنكرت علينا ولم نجد في نفوسنا من هذا الإنكار شيئاً ، لكن فلاناً من الناس – ذكر شخصاً – على الرغم من صغر سنه وقلة خبرته يصعد المنبر ويتكلم بكلمات مبتذلةٍ عن بعض هذه المنكرات ، تكون سبباً في نفور الناس وعزوفهم عن المتحدث وخطبته ، وربما أدى إلى إصرارهم على ما هم عليه واستمرائهم لما يفعلون .
وقد يستفتح المتحدث كلمته بمقدمةٍ عن المقاصد العامة للشريعة وحفظها للدين وللنفس والعرض والمال والنسب والعقل ليسترسل بعد ذلك في أمثلةٍ معنيةٍ مقصودةٍ مما حرمه الإسلام ، رعاية لهذه الضرورات المحفوظة المصونة ليكون الكلام أجزل وأمتن وأوقع في النفس ، وأدعى للقبول .
هذا إلى أن الداعي ليس يسوغ له أن يجعل كل حديثه نقداً وتخطئةً لا يرى فيهم حسنةً تستحق الإشادة ، وقد قال الرسول صلى الله عليه وسلم ، للأشج ، أشج عبدالقيس : (( إن فيك خصلتين يحبهما الله : الحلم والأناة )) (1) .
________________________________________________
(1) رواه مسلم (18)
وأثنى عليه الصلاة والسلام على جماعات من أصحابه كخالد بن الوليد ، عبدالرحمن بن عوفٍ ، وطلحة وسواهم كثير فالثناء على الإنسان – فرداً أو جماعةً – بما هو فيه لغرض شرعي صحيح أمر لا غبار عليه .
فلا بأس أن يزين الداعية نصحه بثناءٍ جميلٍ مقتصدٍ على حسناتٍ لدى المنصوح – فرداً أوجماعة - يكون في ضمنها دعوة له إلى نشدان الكمال البشري الممكن له .
ولا بأس أن يتعاهدهم بالنصح بين حين وآخر ، لئلا يملوا ويسأموا ، ولا يحشد لهم كل ما ينتقده عليهم في قعدةٍ واحدةٍ !.
2. الكتاب والكتيب :(1/38)
وذلك بالكتابة والتأليف في إنكار شيءٍ من المنكرات ، أو بالإسهام في توزيع ما كتب في ذلك فكل بحسب طاقته : فإن كنت طالب علم تستطيع الكتابة في موضوع ما ، فاكتب وأنكر المنكر وبين للناس الخير من الشر، واسع في طباعة ما كتبت ونشره . وإن لم تستطع ذلك فأسهم في توزيع الكتاب عن طريق بذل المال . فإن لم يكن عندك مال ، فشارك في عملية الكتاب بجهدك البدني في المؤسسات والمدارس والمساجد والدوائر وغيرها .
وهكذا يقوم كل شخص بمسئوليته في هذا المجال بحسب قدراته وإمكاناته ، ولو كل مسلم غيور قام بواجبه – أو بعضه - لكان معنى ذلك أن الدعاة يملكون أعظم مؤسسات التوزيع في العالم , ولكانت الدعوة الإسلامية تملك من المراسلين جموعاً غفيرةً لا تملكها دعوة أخرى في الدنيا كلها .
3. النشرة الصغيرة :
وهي تسمى المطوية ، وتتكون من بضع صفحات تعالج موضوعاً معيناً ومن ميزاتها أن من السهل أن يقرأها المرء على عجالةٍ فحسن أن يستفيد الذي يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر من هذه الوسيلة ، ويشارك في توزيعها ونشرها لتوعية الناس .
4. الشريط :
سواء بإعداد شريطٍ يحتوي على معالجةٍ لبعض المنكرات أو بالإسهام في نشر هذا النوع من الأشرطة بقدر الإمكان ، خاصة أن أكثر البيوت اليوم – بل كلها – لا تخلو من أجهزة تسجيل كما أن بإمكان المصلح أن ينسخ من الشريط نسخاً عديدة ، ويوزعها ليستفيد الناس مما فيها من الخير ، وأقل ذلك أن يدفع الشريط بعد استماعه إلى آخر يسمعه ويستفيد منه ، إن طالب المدرسة الابتدائية يستطيع أن يوفر من قيمة الشاي يشتريه من المقصف المدرسي ما يشتري به كتيباً أو شريط في الشهر أو في الأسبوع .
5. الجريدة :(1/39)
الجريدة واسعة الانتشار ، فقد يطبع من بعضها مائة ألف نسخة ، أو مائتا ألفٍ ، في اليوم الواحد فينبغي الكتابة فيها لإنكار بعض المنكرات خاصة إذا كان المنكر قد انتشر في الجريدة نفسها ، فلا يكفي أن تذكر أن هذا منكر في مجلس يحتوي على فئةٍ قليلةٍ من الناس ، والجريدة قد قرأها مائة ألف أو يزيدون ، وإنما عليك أن تكتب مقالةً وتراعي فيها قواعد النشر ، وتبعث بها إلى الجريدة لكي تنشر ويستفيد منها أكبر عددٍ من الناس .
6. الهاتف :
فبالإمكان أن تتصل بصاحب المنكر وتأمره بالمعروف وتنهاه عن المنكر ، أو تتصل بمن يستطيع تغيير المنكر ؛ من علماء ومسؤولين ، ووجهاء .
أرأيت حين تعلن جهة عن عمل لا يرضي الله ، فتنهال عليها الاتصالات الهاتفية من أطراف شتى ألا يكون ذلك موثراً في دفع المنكر !
أذكر أنني اتصلت بمؤسسة أعلنت عن حفل مختلط في إحدى الدول المجاورة ، فعرفت المسؤول بنفسي ، ومكان اتصالي ، وكلمته عن الإعلان المذكور ، فاعتذر ، وقال إن هذا الإعلان نزل بطريق الخطأ ، وقد أعلنا في الجريدة في اليوم التالي نقداً لهذا الإعلان ربما لم يتسن لك الاطلاع عليه ، وإن الناس قد اتصلوا بنا من كل مكان ، حتى كبار العلماء والمشايخ اتصلوا واستنكروا الأمر، وقد بلغناهم بحقيقة الأمر ، ونحن نشكركم ... ألخ
والشاهد من ذلك أننا حين نتصل على صاحب منكرٍ ، فإننا بذلك نفهم الناس ماذا يريد المجتمع .
والهاتف – من خلال التجربة – وسيلة فعالة جداً ، وموثرة في هذا المجال على أنها لا تكلف جهداً أوعناءً فكل ما في الأمر مبلغ من المال مقابل هذه المكالمة يكون في سبيل الله ولا يضيع ، وبمجرد رفع السماعة وإدارة قرص الهاتف تجد أنك إنسان إيجابي ومؤثر .
7. الرسالة الشخصية :
وما أبلغ أثر الرسالة الشخصية على قارئها متى كتبت بأسلوبٍ لبقٍ مهذب يخاطب مكامن العاطفة في النفس البشرية .(1/40)
إنها حديث مباشر هادىء ، يعطي الآخر فرصة التفكير والمراجعة والتصحيح ، وهو بعيد عن الكلمات التي قد يزل بها اللسان من دون قصدٍ ، إذا إن الكتابة تمنح الداعي فرصة التفكير فيما يكتب ويسطر .
وحتى لو خاطبت قطاعاً عريضاً من الناس ، طباعة الأغاني ، أو متعاطي الربا ، أو مروجي الأفلام الهابطة ، أو أصحاب المحلات التجارية ، أو أي طبقة من طبقات المجتمع .
ولو خاطبتهم برسالة مطبوعة على جهاز (( الكمبيوتر )) تسجل على كل نسخة اسم المحل الدي توجه إليه لكان لها وقع خاص موثر، أعظم من وقع الكتاب والشريط الذي لا يخاطب المعني مباشرة .
8 - مقاطعة صاحب المنكر :
بحيث يتم الامتناع عن معاملة المكان أو المؤسسة التي يوجد فيها المنكر .
فبيوت الربا التي تجاهر بحرب الله تعالى وحرب رسوله صلى الله عليه وسلم (( يا أيها الذين آمنو اتقو الله وذروا ما بقي من الربا إن كنتم مؤمنين فإن لم تفعلوا فأذنوا بحربٍ من الله ورسوله )) ( سورة البقرة 278 – 279 ) هذه البيوت من أين شبت وترعرعت وقويت ؟! اليس من أموال المسلمين !!
والمجلة الماجنة ، ما الذي ضمن لها الاستمرار والرواج والثراء ، حتى أصبحت لا تخرج إلا في ورق صقيل وطباعة فاخرة ؟! أليس أموال المسلمين !!
وكل مؤسسات الفساد والانحراف والرذيلة إنما كفل لها الذيوع والبقاء إقبال الناس عليها وعلى ما تبثه من سموم ودعمهم لها بأموالهم ، من حيث يشعرون أو لا يشعرون .
ولو أن المسلمين قاطعوها , لانتهت تلقائياً ولوئدت في مهدها . لكن الواقع المر أن أحد المسلمين أجَّرَها مقرا ، والآخر توظف فيها ، والثالث تعامل معها والرابع دعا إليها .. وهكذا حتى صار المجتمع – من حيث يشعر أو لا يشعر – ينفخ روح الحيوية والقوة في مثل هذه المؤسسات، ثم يعود الناس يمتعضون منها ويستاؤون ، ولا نقول لهم إلا ( يداك أوكتا وفوك نفخ ) .(1/41)
على سبيل المثال لو أن أحدنا دخل على صاحب تموينات يبيع الدخان والمجلات الفاسدة فقال له : يا أخي لماذا تبيع هذه المحرمات ؟ فسيقول لو لم أبعها لما عاملني الزبائن . فليرد عليه قائلاً : وهل أنا إلا من الزبائن ، إني سأقاطع تمويناتكم إلا أن تطهروها من هذه المحرمات . ثم يأتي ثانٍ وثالث ورابع .. ويكون لهم الموقف نفسه ، وبعد ذلك ستجد أن الرجل أخلى محله من تلك المنكرات ، فإذا جاءه شخص يبحث عن شيءٍ منها ، قال له : إن الزبائن رفضوا أن يشتروا مني وعندي هذه الأشياء .
وهكذا تؤدي هذه الوسيلة مفعولها إذا تعاون أهل الخير ، وأثبتوا وجودهم خاصة أن الناس لا يزال فيهم خير كثير ؛ مما يجعل إمكان استجابتهم كبيراً بإذن الله تعالى .
9. التشهير :
إذا لزم الأمر ودعا الموقف إلى اللجوء إلى التشهير بالمنكر وصاحبه فلا بأس ، كما تقدم معنا ذكر تصريح الرسول صلى الله عليه وسلم باسم ابن جميل وما فعل من منكر .
والتشهير يأخذ صوراً شتى ، فليس بالضرورة أن يكون التشهير إعلاناً على المنبر ، بل له أساليب مختلفة ، ولنضرب لذلك مثلين ، أحدهما من القديم والآخر من الحديث .
المثال الأول :
كان لأحد المترفين في بغداد بيت تعلو منه أصوات الغناء والطرب والمزامير واللهو ، فطرق عليه بعض الصالحين الباب ، فلم يستجب ، وحاولوا ثانية وثالثة ، فلم يستجيب لهم . وكان في بغداد قاريء بكاء مؤثر حسن الصوت ، فجاء في أحد الأيام – وكان الناس مزدحمين في الشوارع - فجلس على عتبة هذا البيت الذي تعلو منه أصوات المنكرات ، وأخذ بصوته العذب الجهوري يرتل القرآن ، فاجتمع الناس إليه ، وامتلأ الشارع بهم ، وعلت أصواتهم بالبكاء والنشيج ،حتى سمعهم الذين بداخل الدار ، فخرج صاحبها وأخرج معه الطبول وسائر آلات اللهو ، وسلمها للشيخ ليكسرها بيديه .
وعلى هذه الشاكلة استطاع هذا القارىء أن يغير المنكر عن طريق التشهير ، بدون أن يتكلف وبدون أن يجافي الحكمة .(1/42)
المثال الثاني :
ما فعله بعض الدعاة المعاصرين ، حين علم عن إقامة حفل غنائي فيه لهو وطرب ومنكرات، وعجز عن إيقاف ذلك المنكر ، فما كان منه إلا أن أخبر الصالحين ، بأنه سوف يقيم محاضرةً في مكان مجاور لمكان المنكر ، وفعلاً أقام المحاضرة وأخذ يتكلم بكلام مؤثر جيد ، فانسحب الناس من مكان الحفل إلى المحاضرة ، وأوقف الحفل الغنائي .
وهكذا أوصد الباب في وجه المنكر وأهله بطريقةٍ هادئةٍ لا مأخذ فيها على المصلح .
إن هذه الوسائل ليست سوى أمثلة أو نماذج لوسائل أخرى كثيرة يمكن أن يبتكرها الغيورون لإزالة المنكرات وتغييرها وحماية المجتمع منها ، وسيجد المصلح أمامه مجالاً رحباً للتفكير في تجديد الوسائل وتنويعها متى كان جاداً منفعلاً لقضية الإسلام ، متحلياً بالعلم الصحيح الذي يفتح أمامه آفاق المجهول .
من الذي يقوم بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ؟
لا شك أن جمهور الأمة إذا رأوا المنكرات غضبوا وغاروا وفار الدم في عروقهم ، فإن وجدوا المجال الطبيعي للإنكار ؛ اكتفوا به ولم يزيدوا عليه . والمجال الطبيعي في نظري أحد قناتين .
القناة الأولى : الجهات الرسمية المسئولة عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر .
القناة الثانية : أن يسير الناس – إذا لم يجدوا القناة الأولى – خلف العلماء الذين يتحملون مهمة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر .
فإذا لم يجد الناس إحدى هاتين القناتين فإنهم حينئدٍ يعتمدون على اجتهادهم ، والاجتهاد قد يصيب وقد يخطىء ، وهم معذورون في ذلك ، لأن كف اليد والسكوت عن المنكر بالكلية أمر ينافي طبيعة هذه الأمة المجاهدة ، ويصادم المبادىء التي تنطلق منها في حياتها ، وضرره قد يكون أحياناً أعظم من الضرر الناجم عن الإنكار غير المتأني الذي يحدث من عامة الناس حين لا يجدون القناة السليمة الملائمة للإنكار والتغيير .
وأكثر الناس يشعرون بمفسدة الإنكار المتعجل وضرره ، ولكنهم لا يشعرون بمفسدة السكوت على المنكرات .(1/43)
وكم رأينا من رافعٍ عقيرته بثلب إنكار يرى فيه نوعاً من التسرع وعدم الانضباط ، لكنه لا يتحدث بالحماس نفسه ، بل ربما لا يتحدث مطلقاً عن أولئك القاعدين الذين استمرؤوا المنكر ورضوا به ، وسكتوا عليه ، مع أن خطأهم أعظم وأطم ، بل ربما يكون تسرع الآخرين ناتجاً أصلاً عن خطإ السكوت والإغماض .
ومتى وُجِدَ المنكرون بعلمٍ وحكمةٍ وصدقٍ, قَلَّت احتمالات حدوث إنكارٍ متسرع غير متزن .
ومتى فقد الإنكار الشرعي الصحيح فعلى المجتمع – بعامته وعلمائه ودعاته – أن يكون مستعداً لاحتمالات حدوث إنكارٍ غير شرعي ، والسنة جارية لا تحابي أحدًا ولا تجامله .
آداب الأمر بالمعروف النهي عن المنكر
إن الذي يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر يتعامل مع نفوس بشرية ، فلذلك لا بد أن يتحلى بصفات معينة ، تيسر له المضي في الطريق وتحميه من الشطط بإذن الله .
وأهم تلك الصفات :
1 – العلم : إذ لا بد أن يعلم أن هذا منكر ؛ لينكره ، وأن ذاك معروف ؛ ليأمر به ، وأن يعرف وجه كون هذا منكراً وهذا معروفاً ، وأن يعلم الطريقة المثلى للأمر والنهي .(1/44)
وأما الذي ينكر عن جهل فقد يفسد أكثر مما يصلح وإنك لترى كثيراً من الجهال ينكرون مالم يألفوه ، وإن كان معروفاً في الحقيقة ، ومن أمثلة ذلك أني صليت الفجر يوماً من الأيام إلى جوار أحد العوام ، فبعد أن تنفلت راتبة الفجر ، وتناولت المصحف لأقرأ شيئاً من القرآن ؛ قال لي : لا ما يصلح هذا ، لا بد إذا انتهيت من النافلة أن تسلم على من هو على يمينك ، ثم تسلم على الذي يسارك ثم ترفع يديك وتدعو بما تريد ، ثم تقرأ القرآن . فقلت له : سبحان الله هل تعلم دليلاً على مشروعية سلام الإنسان بعد النافلة على من هو على يمينه وعلى شماله ؟ فقال : لا والله . قلت : هل تعلم دليلاً على مشروعية واستحباب رفع اليدين بعد النافلة ؟ قال : لا ما أعلم , فقلت : لماذا تنكر إذن ؟ فقال : علمني جزاك الله خيراً فأخبرته أن هذه الأمور ليست سنة ينكر على تاركها ، بل هي في هذا الموضع بالذات – بعد الصلاة فريضة أو نافلةً – غير مشروعة ومن أهل العلم من حكم ببدعيتها ، وأما أصل السلام فمشروع ، وأصل رفع اليدين بالدعاء مشروع ولكن التزامه بعد الصلوات النوافل هو محل النظر .
إذن فلا بد أن يكون المنكِر عالماً على الأقل بما ينكر وبما يأمر به .
2 – الرفق والحلم : لا بد للآمر الناهي أن يروض نفسه على الرفق والحلم ، فإن التشنج والانفعال قد يسبب إخفاقاً في إنكار المنكر بل قد يؤدي إلى مضاعفته واتساع دائرته . ولا ريب أن كثيراً من المنكرات إذا رآها الغيور فإنه يغضب ويشتد ، مهما كان فيه من الانضباط فليحرص على إلجام نفسه بلجام الرفق والحلم ، ومراعاة المصالح .
كما أن المنكِر قد يجد من المنكَر عليه فظاظة أو ردا جارحاً فلا بد أن يقابلها بصدرٍ رحب ، وبدون انفعالٍ ، وأن يرد عليه بابتسامة لطيفة ، أو بطرفةٍ تمتص الغضب ، وتفوت الفرصة على صاحب المنكَر أن يستفز المنكِر .(1/45)
3 – العدل : أي أن يكون المنكِرُ عادلاً ، فلا يجور على صاحب المنكَر ؛ فينسى فضائله ويضخم سيئاته وإنما يشهد له بحسناته وفضائله ويذكرها له فيأتي مثلاً إليه ويقول له : يا أخي أنت رجل فيك خيركثير ، أشهد أنك تحافظ على صلاة الجماعة ، ولديك من الفضائل كيت وكيت ،ولكن:
ولم أرَ في عيوب الناس عيباً
كنقص القادرين على التمام
فليتك يا أخي تترك المنكر الفلاني ؛ حتى تزداد خيراً وفضلاً ، وبعداً عن السيئات .
وبهذا الأسلوب العادل تكون فرصة القبول والاستجابة أعظم ، أما إذا تجاهل المنكِر حسنات المنكَر عليه ، وأهدرها ، فإن هذا يكون مدعاة للنفور وعدم القبول .
والعدل كذلك مطلوب في قول الحق ولو على المنكِر نفسه فيما لو طالت القضية ، ووصلت إلى المحكمة ، ورفعت إلى القضاء ، فلينتبه لذلك .
4 – الحكمة : وقضية الحكمة في باب الأمر بالمعروف النهي عن المنكر تشكل على كثيرٍ من الناس سواء من المنكرين أو المنكَر عليهم . فبعض الناس يظن أن الحكمة تعني ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، فلو قلت له : ياأخي بارك الله فيك قم صل ؛ لقال لك : سأقوم ، ولكن تكلم معي بحكمة . هكذا يقول ، مع أنك لم تزد على أن وجهت إليه نداءً أخوياً ، وحثثته على أداء فريضة . وفي مقابل ذلك قد لا يتحرى بعض المسلمين الحكمة تحرياً كافياً ؛ فيكون موقفهم من المنكَر غير سليم ، إن سلباً وإن إيجاباً .
والحق أن الحكمة في كل شيء بحسبه ، كما قال الشاعر :
ووضع الندى في موضع السيف بالعلا
مضر كوضع السيف في موضع الندى
فمن الحكمة أن تستخذم اللين في موضعه ، كما أن من الحكمة أن تستخدم الشدة في موضعها.(1/46)
وللتمثيل لهذه القضية أذكر القصة التي في الصحيح ، قصة الغلام الذي من بني إسرائيل ، وهي طويلة لكن الشاهد منها ما جاء في آخرها من أن الغلام قال للملك بعد أن عجز الملك عن قتله : هل تريد أن تعرف كيف تقتلني ؟ قال : نعم . قال: اصلبني إلى جذع شجرةٍ ، ثم اجمع الناس كلهم ثم خذ سهماً وقل : بسم الله رب الغلام وأرسل السهم فسيقتلني . ففعل الملك ذلك ، فقال الناس كلهم بصوت واحد : آمنا برب الغلام . آمنا برب الغلام (1) .
هكذا ضحى الغلام بحياته ؛ لأن الحكمة – بلا ريب - تكمن في هذا التصرف ، فإن موت ذلك الفرد ترتب عليه حياة ألوفٍ مؤلفة من الناس ، فبعد أن كانوا أمواتاً صرعى للكفر أصبحوا أحياء بالإيمان بالله تعالى .
وقد لايستطيع المرء أن يقدر موطن الحكمة في معالجة بعض القضايا ، فينبغي له حينئذٍ أن يستشير غيره وأن يستنير برأيه ليكمل النقص الذي قصر به عن إدراك موضع الحكمة والموقف السليم , وقد قيل: الناس ثلاثة : رجل كامل – أي الكمال النسبي – وهو الذي له عقل ويستشير , ونصف رجل وهو الذي له عقل لكنه لا يستشير , والثالث لا شيء لا عقل له ، ولا يستشير .
فاعمل على أن تكون الأول، فإن لم تبلغ ذلك فكن الثاني على الأقل وإياك أن تكون الثالث .
5 – الصبر : فإن الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر معرض للأذى ، فلا يليق أن ينزعج ويجزع ويترك مهمته أو يتبرم بها , ولذلك قال لقمان لابنه وهو يعظه (( يابني أقم الصلاة وأمر بالمعروف وانه عن المنكر واصبر على ما أصابك إن ذلك من عزمِ الأمور )) ( سورة لقمان 17 ).
ذلك أن طريق الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ليس مفروشاً بالورود والرياحين ، بل هو ملي بالأشواك والصخور والمصاعب الجمة فمن لم يتذرع بالصبر خليق به أن يستطيل الطريق ويستثقل العمل فيتخلى عن المهمة الربانية الكريمة التي انتدب نفسه لها .(1/47)
عجيب أمر بعضنا ! يقول : عندي أخ أو زميل أو قريب لا يصلي أو يشرب الخمر أو ... . فإذا قيل له : انصحه واجتهد في نصحه ، قال : عجزت عنه ، أو قال : ما فيه فائدة ! سبحان الله !! أين ذهبت (( فلبث فيهم ألف سنةٍ إلاخمسين عاماً )) ( سورة العنكبوت 14 ) عن عقلك ؟ أين الصبر الجميل ؟ أين طول النفس ؟ أين دأب الدعاة وإصرارهم ؟
أمِن مرةٍ أو مرتين أو عشر مرات .. تقول عجزت .. أو لا فائدة ؟
________________________________________________
( 1) رواه مسلم 3005
ربما أن الكلمة التي جعل الله نجاة هذا العاصي بسببها لم تصل إلى أذنه بعد .. وربما تبذر أنت البذرة ويأتي غيرك فيسقيها فتنبت وتثمر ، لكن إياك أن تكون كالكسعى الذي يضرب به المثل في الندامة ، حين رمى بسهامه ليلاً فظن أنها لم تصب فكسر القوس ، فلما أصبح وجدها كلها قد أصابت الغرض فاغتم لكسر القوس غماً لا يوصف .. فاحذر أن تكونه ! إن للقلوب إقبالاً وإدباراً ، وللنفوس قتامةً وإشراقاً ومن المصلحة أن تتعاهد المدعو وقت إقباله وارتياحه بالكلمات الطيبات ، وتهاديه وتلاطفه ، وتحتال للوصول إلى قلبه بكل حيلة لا تذم (( ولأن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك من حمر النعم )) (1).
قضية المصلحة والمفسدة
المقصود بالأمر بالمعروف النهي عن المنكر إنما هو تحصيل المصالح ودرء المفاسد بل إنما بعث الرسل الكرام – عليهم الصلاة والسلام – من أجل المصالح وتكليمها ، وتقليل المفاسد وتعطيلها .
ولهذا إذا علم المسلم أن أمره بالمعروف ونهيه عن المنكر سيترتب عليه مفسدة في موقفٍ من المواقف فإنه يمنع من الأمر والنهي في ذلك الموضع .(1/48)
ومما يروى في هذا الباب أن شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله خرج مع بعض تلاميذه من دمشق وفي طريقهم مروا ببعض التتر وهم يشربون الخمر ، فهم بعض التلاميذ بالإنكار عليهم ، فقال شيخ الإسلام : دعوهم وما هم فيه . فقالوا : نتركهم – رحمك الله – على هذا المنكر ؟! قال: نعم إن هؤلاء القوم لو أفاقوا من سكرهم لدخلوا دمشق ، فهتكوا الأعراض ، ونهبوا
الأموال وقتلوا الرجال . ولا يكاد يوجد في الدنيا مصالح محضة ، ولا مفاسد محضة ، فالقضية قضية موازنة ، فإن كانت المصلحة أرجح حُصِّلَت ، وإذا كانت المفسدة أكبر دفعت .
وابدا بالمنكر الكبير قبل الصغير ودع الإنكار إذا ترتب على إنكارك منكر أعظم منه . وهذا هو ما يوافق مقتضى الشرع والعقل ، فإن مقتضاهما هو تحصيل خير الخيرين ، ودفع شر الشرين .
_________________________________________________
(1) رواه البخاري ( 3973 )
الاسرار والاعلان بالانكار :
ومما يتعلق بالمصلحة والمفسدة مسألة الإسرار والإعلان بالإنكار ، فإن سلوك أحد السبيلين مرتبط بقضية المصلحة والمفسدة فقد تكون المصلحة في إعلان الإنكار ، وقد تكون في الإسرار به ، فإذا كان صاحب المنكَر معلناً مجاهراً فالمصلحة في الجهر بالإنكار عليه ، وإذا كان المنكَر شخصياً أو خشي أن تأخذ صاحب المنكر العزة بالإثم ، أو خيف أن يترتب على الإعلان بالإنكار منكر أشد فالمصلحة في الإسرار بالإنكار .
وقد ورد عن السلف – رضوان الله عنهم – قصص عديدة أنكروا فيها علانية ؛ لأنهم رأوا المصلحة في الإعلان :(1/49)
فمن ذلك ما جاء في الصحيحين من أن أبا سعيد الخدري خرج مع مروان بن الحكم إلى المصلى في يوم العيد ، قال أبو سعيد : فلما أتينا المصلى ، إذا منبر بناه كثير بن الصلت ، فإذا مروان يريد أن يرتقيه قبل أن يصلي ، فجبذت بثوبه ، فجبذني ، فارتفع فخطب قبل الصلاة ، فقلت له غيرتم والله . فقال أبا سعيدٍ ، قد ذهب ما تعلم ، فقلت : ما أعلم والله خير مما لا أعلم (1) .
ومرةً أخرى خرج مروان إلى المصلى ، وقام ليخطب قبل الصلاة فقام إليه رجل وقال : الصلاة قبل الخطبة . فقال : ترك ما هنالك (2) . وهكذا أنكر عليه علانيةً ؛ لأنه معلن بالمنكر ، ولأن الرجل كما ذكر النووي (3) كان معتزا بظهر قبيلته ، ولأن مروان سبق أن أنكر عليه أبو سعيد قبل ذلك – والله أعلم – فأصر .
وكم أنكر على أمير المؤمنين عمر بن الخطاب ، ولعل من أصح القصص في ذلك ما رواه الشيخان أنه لما حدثت خصومة بين عمر بن الخطاب وأحد الصحابة مرةً من المرات ؛ قال أبي بن كعب لعمر : يابن الخطاب ، لا تكونن عذاباً على أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم .
_______________________________________________
(1) رواه البخاري ( 913 ) ومسلم ( 889 )
(2) رواه البخاري ( 913) ومسلم ( 889 ) (3) رواه مسلم (49)
ولما نهى عثمان بن عفان رضي الله عنه عن المتعة في الحج ( أي جمع العمرة والحج ) قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: لبيك اللهم لبيك عمرةً متمتعاً بها إلى الحج, فلما قيل له في ذلك؛ قال أردت أن أبين للناس أن ما يأمرنا به عثمان مخالف لسنة النبي صلىالله عليه وسلم (1)(1/50)
وكان معاوية رضي الله عنه يستلم الأركان كلها في البيت ولا يكتفي باستلام الركن اليماني أو الحجر الأسود ، فأنكر عليه ابن عباس – مع أن معاوية كان أميراً – فقال معاوية : ليس شيء من البيت مهجوراً, فقال ابن عباس (( لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة ))( سورة الأحزاب 21 ) وكان الرسول عليه الصلاة والسلام لا يستلم إلا الركنين : اليماني ، والحجر الأسود (2) .
ودخل عائد بن عمرو يوماً على عبيدالله بن زياد – وكان أميراً في العراق – فقال له : أي بني ، إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (( إن شر الرعاء الحطمة )) (3) فإياك تكون منهم فقال له : اجلس فإنما أنت من نخالة أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم ، فقال : وهل كان لهم نخالة ؟ إنما كانت النخالة بعدهم ، وفي غيرهم (4) . ( يعني في أمثالك ! ).
هكذا كان الأسلاف يجهرون بالإنكار ولا يسرون ، عندما يرون أن المقام مقام إعلان ، وأن المصلحة في ذلك .
_________________________________________________
(1) انظر شرح مسلم 2/22
(2) البخاري ( 1563) (3) رواه البخاري (1608) ومسلم (1269) والترمذي (858) وأحمد 1/332،372 .
(4) الحطمة : العنيف في رعيته .
من أخطاء الناس في قضية المصلحة والمفسدة
إن جهل كثير من الناس بقاعدة الموازنة : الترجيح بين المصلحة والمفسدة أوقعهم في أخطاء كبيرةٍ وربما لاموا غيرهم على فعل الأحسن والأكمل على فعل الأقل , لضعف نظرهم أو لإيثارهم ما يظنونه السلامة والورع لضعف فقههم ، وإلا فالورع ليس في ترك المشتبه بالمحرم أو المكروه فحسب بل من الورع فعل المشتبه بالمستحب أو بالواجب أيضاً .
ومن الأخطاء التي يقع فيها بعض المتدينة والمتفقهة في زماننا ما يلي :(1/51)
1 – أن يدعوهم إيثار السلامة – في أنفسهم – والخوف من الفتنة إلى اعتزال مواطن المنكراتِ والبعد عنها ، مع قدرتهم على غشيانها والإنكار على أصحابها ؛ وذلك خوفاً على أنفسهم من هذه المنكراتِ أن يصل إليهم شيء من رذاذها وغبارها ، أو يصل إلى قلوبهم شيء من ظلمتها وسوادها .
حقا إن أصلح الناسِ إذا اشتغل بالدعوة إلى الله في أوساط المشركين أو المبتدعة أو الفساق لا يشعر بالسعادة القلبية ولذاذة الإيمان التي يشعر بها غيره من المقيمين بين أهل الخير والفقه والعبادة ومع ذلك فقد يكون ما يقوم به من العمل والدعوة أفضل بمراحل مما يقومون به ، وقد يكون له من الفضل والخير ما ليس لهؤلاء .
وإن تَحَمُّلَ الضرر اليسير من أجل تحصيل مصلحة أعظم أمر مطلوب شرعاً وعقلاً، وما يفقده المشتغل بالنهي عن المنكر من راحة القلب لكثرة رؤيته للمنكرات ثم تأثر القلب بذلك وضعف إشراقه يعد أمراً يسيراً بالقياس إلى ما يقابله من المصلحة العظيمة التي هي هداية الناس وإقامة الحجة عليهم وأمرهم بالمعروف ونهيهم المنكِر وتحمل فروض الكفاية عن الآخرين , بل قد تكون هذه الأمور من فروض الأعيان عليه على حسب التفضيل السابق في حكم الأمر بالمعروف النهي عن المنكر .
وكذلك ما يخافه على نفسه من منازعتها له إلى المنكرات ، ودعوته إليها ، مع ما يقابل ذلك من الإيمان والخوف من الله أما من يرى في نفسه ميلاً صريحاً إلى هذه المنكرات ، ويجد من نفسه الهم بذلك ؛ فهذا حري به البعد عنها ؛ طلباً لنجاة نفسه منها .
وهذا الباب يتفاوت فيه الناس تفاوتاً كبيراً ، وكثير ممن يغلب عليهم الصلاح والورع يؤثرون سلامة أنفسهم ، وينسون أن السلامة تكون أيضاً بالقيام على أهل المنكرات ومضايقتهم وردعهم .(1/52)
2 - ومن الأخطاء أيضاً ما يوجد في جماهير طلاب العلم والدعاة في هذا العصر من العزوف عن تولي الأعمال التي فيها مصلحة عامة ، والإعراض عن التصدر للتدريس أو التوجيه أو القيادة زهدًا في السمعة والجاه ، وكراهية للشهرة .
فيقول بعضهم : لست أهلاً لهذا . هذا يقوم به غيري ممن آتاهم الله القدرة . ومن الظلم للناس أن أقوم بهذا الأمر .. إلى غير ذلك من التعليلات العليلة ، والأعذار التي لو حاسب المتذرع بها نفسه حساباً حقيقاً لأدرك أنها لا تستقيم ولا تصح ، ولكان هو أول الناقدين لها .
والواقع أن أكثر الناس زهدًا في هذه الأمور هم أكثر الناس كفاءة وصلاحية لها – في الجملة - على ما فيهم من نقصٍ وقصورٍ .
وإن تخلي المخلصين الزاهدين في الشهرة والجاه عن هذه الميادين جعلها مرتعاً خصباً لكل من لا يصلح لها : من حملة المذاهب الأرضية ، ومن المتظاهرين بالخير ، وهم على نقيضه ، ومن طلاب الشهرة الحريصين على كسب احترام الناس ومديحهم وثنائهم .
وكثيراً ما تلتبس المثبطات الشيطانية المغرية بالراحة والقعود بالرغبة في معالجة الأعمال المريحة الهادئة كالقراءة والبحث والعبادة ونحوها، وتلتبس هذه وتلك باحتقار النفس وازدرائها ، حتى لتبدو هذه الأمور جميعها لصاحبها نوعاً من الزهد السلفي الصحيح وما هي منه في شيء .
بل المتبع الحريص على خير نفسه وخير المسلمين ، هو من يبذل ما عنده من العلم والفهم والفقه ولو قل , دون أن يدعي ما ليس له ، وهو من يزاحم أهل الضلالة والبدعة في قيادة المجتمعات الإسلامية وتوجيهها ، ويستفيد من الفرص المواتية في ذلك ، مع حرصه الشديد على سلامة نفسه من التعلق بالدنيا والجاه والمكانة عند الناس ، وجهادها في ذلك .
مهمة الشباب في ذلك المجال(1/53)
يتساءل كثير من الشباب عن مهمتهم المطلوبة منهم في مجال الأمر بالمعروف النهي عن المنكر . وهذا التساؤل يدل على بداية حسنة ، ويوحي بأن الشباب وضعوا أرجلهم في الطريق بعزم ويحتاجون فقط إلى من يبصرهم بواجبهم .
والحق أن الكلام عن هذه القضية يطول ، ولكن سأجعل الحديث عن أهم الواجبات الملقاة على عواتق الشباب في الآتي :
1 – أن يضطلع الشاب بمهمة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من منطق شمولي ، فيقوم بما قد يقوم به غيره ويزيد عليه , بحيث يؤدي مهمته في المنزل وفي المدرسة وفي العمل وفي الحي وفي السوق وفي غيره ، مستخدماً مختلف الوسائل ؛ من كلمةٍ وكتاب وشريط ومقاطعة للأماكن التي فيها فساد وغير ذلك .
أي أن يجعل الشاب الأمر بالمعروف النهي عن المنكر همه ووظيفته في كل أحيانه ، كلما أمكنه ذلك . ولئن استطاع الشباب أن يؤدوا ذلك على الوجه المطلوب ، لتختفين – بلا ريب - ولا تردد كثير من المنكرات ولتظهرن كثير من السنن المهجورات ، بعون الله تعالى .
2 – أن يواصل الشباب العلماء : فإن للعالم تأثيراً كبيراً في إزالة المنكرات ، وبخاصة المنكرات الراسخة المتأصلة الضاربة بجذورها في المجتمع ، التي يصعب اقتلاعها على غير العلماء ، الذين لهم مكانتهم ، وكلمتهم المسموعة وركنهم الشديد .
فعلى الشباب أن يلتفوا حول العلماء العاملين ، المتبعين للسنة وأن يبلغوهم بما يقع من منكرات فالعالم قد يكون مشغولاً بدروسه وارتباطاته الكثيرة ، عن الوقوف على تفاصيل ما يقع في المجتمع من المنكرات . فإذا جعل الشباب من نفسه واسطةً لإيصال تلك المعلومات إلى العالم – هذا على الأقل – فإن العالم يكون بذلك مطلع على ما يجري ، ويستطيع بالتالي أن يتخذ الموقف المناسب .
ولكن على الشباب حين يبلغ العالم عن منكرٍ أن يقدم له الإثباتات والوثائق ، حتى كأنه يراه بعينه أو يسمعه بأذنه وألا يقتصر على مجرد الظن لأن الأمر قد يكون على خلاف ما ظهر له .(1/54)
ووسائل تزويد العلماء والدعاة وطلبة العلم بمعلوماتٍ عن المنكَر وسائل عديدة ، منها - على سبيل المثال لا الحصر – أن يقدم الشاب لهم ما ينشر من مقالات ، أو قصائد أو كتب تخالف الإسلام أو تطعن فيه ، أو تدعو إلى الرذيلة , إلى غير ذلك . ومتى وجد لدى الشاب الاهتمام والإحساس بالمسئولية والاحتراق لهذا الدين ، فستأتي الوسائل تباعاً ، بطواعيةٍ وانقيادٍ ، وأقل ما يجب في هذا أن يكون ثمة شهود عدول على حدوث المنكر وأنهم رأوه أو سمعوه بأنفسهم لقطع دابر الأقاويل والإشاعات والظنون .
3 – المشاركة في المجالات الرسمية للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وهذه قضية مهمة ، فإن كثيراً من الناس يلقون بالمسئولية على غيرهم ، ويتنصلون منها ، فيتكلمون مثلاً عن جهاز الأمر بالمعروف النهي عن المنكر ، فيقولون : إنه لم يقم بواجبه ، وقد يقول بتعضهم ، إن كثيراً من الموظفين فيه كبار السن .. إلخ .
ولكن السؤال الذي يجب طرحه هو : لماذا أخي الشاب لم تقم بهذه المهمة , بدلاً من أن ننحي بالملائمة على غيرنا ؟! إن هذا الجهاز لو كان مدعوماً بعدد من الشباب الملتزمين الواعين المدركين لكان أقوى من أن يقف في وجهه أحد، مهما حورب أو وضعت في طريقه العقبات .
لكن لما تخلى أبناء الأمة عن مسئوليتهم ، وعزف كثير من الشباب الصالحين الجامعيين عن التوظيف في هذا الجهاز ؛ حصلت بعض السلبيات ، فعلينا أن ندرك أننا مسئولون عن هذا التقصير وأن نتداركه بقد المستطاع .
4 – أن نكون عوناً للآمرين بالمعروف الناهين عن المنكر تحقيقاً لقوله تعالى (( وتعاونوا على البر والتقوى )) ( سورة المائدة 2 ) وصور التعاون ها هنا متعددة .
? فقد يعمل الفرد مع الآمرين بالمعروف بصفته متعاوناً معهم في هذا السبيل .
? وقد يقوم بالتبليغ عن أي منكر تقع عليه عينه ، أو تسمعه أذنه ، أو يعلم بوجوده بأي وسيلة .(1/55)
? وقد يدعو للقائمين بهذا العمل حيث إنهم يتولون القيام بهذه المهمة المقدسة بالنيابة عنا جميعاً .
? وقد يذب عن أعراضهم من ألسنة الطاعنين الذين يتناولونهم بغير حق – في الغالب – وبحق في القليل النادر ، مع أنهم يتجاهلون أخطاء الآخرين من الفئات الأخرى كافة .. وكأن من شروط رجل الحسبة أن يكون معصوماً !
? وقد يواصلهم بالزيارة في مواقع عملهم فيحدثهم ويستمع إليهم ويبثهم ما في نفسه من آراءٍ أو ملحوظات ، ويقيم روابط الود والمحبة معهم ، ليشعر هؤلاء الجنود المجهولين أن المجتمع يثمن جهدهم ويقدر سهرهم وعناءهم !
? فإن تعذر عليك هذا كله أخي , فلا أقل من الالتزام بوصية رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي ذر كما في البخاري ((تكف شرك عن الناس، فإنها صدقة منك على نفسك)) (1) ولانرضى لك بحالٍ أن تنحاز إلى فئة المستهزئين الساخرين الذين توعدهم الله تعالى فقال (( إنا كفيناك المستهزئين )) ( سورة الحجر 95 ) .
وقال (( ولئن سألتهم ليقولن إنما كنا نخوض ونلعب ، قل أبالله وآياتهِ ورسولهِ كنتم تستهزئون . لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم )) . ( سورة التوبة 65 – 66 ) .
المرأة ومقاومة المنكر
كما أن المسلم مطالب بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فكذلك المرأة المسلمة مطالبة بالقيام بمهمتها في ذلك الباب .
ومن هنا فإن على الأخت المسلمة الملتزمة بالدين الداعية الواعية أن تدخل في المجالات المباحة وأن تؤدي مهمتها وتقوم بمسئوليتها في هذه المجالات .
فينبغي أن تدخل في مجال التعليم ، عن طريق الدراسة والتعلم ، والتعليم والتوجيه والإدارة وتحضير الدراسات العليا وغير ذلك .
ومجال الجمعيات الخيرية : مشاركة وقيادة وتوجيهاً ومحاضرةً وغير ذلك .
وفي مجال المناسبات العامة : نصحاً وإرشاداً ، وتوعيةً ودعوة إلى الله بمختلف الطرق الشرعية .(1/56)
وفي مجال المباح لها من الإعلام : بالكتابة في الصحف ، والمجلات ، سواء كانت تلك الكتابة دعوة إلى الله ، أو احتساباً على الكتابات المضللة ورداً عليها ، أو نحو ذلك .
وفي مجال التأليف : بإصدار كتبٍ موجهة إلى المرأة المسلمة ، تعالج قضايا المرأة وتزيدها وعياً بدينها وتنبهها إلى ما يحاك ضدها من المؤامرات .
كل هذه المجالات التي أصبح الأعداء يحاربون من خلالها الإسلام ، ينبغي للمستقيمات الغيورات أن يدخلن فيها ويحاولن التغيير في المجتمع من خلالها ، لأن هذه المجالات حيادية ، فإذا تولاها أهل الفساد كان دورها تخريبياً وإذا تولاها أهل الصلاح كان دورها إصلاحياً .
________________________________________________
(1) رواه البخاري ( 2382 )
إن اكتفاء الغيورات المؤمنات بالشكوى والتوجع من المنكرات التي تحدث ليس حلاً لمشكلات الأمة وإنما الحل أن يكون هناك خطوات عملية جادة للتأثير في الواقع ، وأن يكون بين الصالحات شخصيات معروفة لها نشاط إسلامي قوي مجاهدة داعية آمرة بالمعروف ناهية عن المنكر ، تكتب وتحاضر وتدرس وتوجه وتقوم بواجبها في مجالها المناسب .
والتفريط كل التفريط والرزية كل الرزية أن ينطوي الصالحات على أنفسهن ويخرجن من الساحة ويدعن الضالات المنحرفات يدرن الدفة ويسرن بالمجتمع إلى الهاوية .
إن ثمة نساء موتورات منهزمات يحملن فكراً تغريبياً تخريبياً ونساء بليدات مقصرات لا يعنيهن أمر الأمة ونساء يوجههن أزواجهن المنافقون إلى ترويج الفساد الفكري والخلقي بين الفتيات .
فأحذر الأخوات الداعيات إلى الله من أن يتركن الميدان لهؤلاء فتتلوث البيئة بجراثيم الانحراف والضلال ؛ فيعضضن بنان الندم إذ لات حين مندم ، فإن أخشى ما يخشاه المصلحون اليوم هو أن يأتينا الشر من قبل المرأة لأن أعداء الإسلام يركزون على محاولة إفساد المرأة ؛ إذ بفسادها يكون فساد المجتمع قاطبةً كما هو مشاهد عياناً في كثير من المجتمعات .(1/57)
فهل تعي المؤمنة حجم المسئولية الملقاة على عاتقها وتنفر لمقاومة المنكر ونشر المعروف ؟!
معوقات الأمر بالمعروف النهي عن المنكر
كثير من الناس – ولا سيما الشباب – يحجمون عن الأمر بالمعروف النهي عن المنكر لأسباب ما كان ينبغي أن تقف عائقاً في طريقهم ولا أن تصدهم عن غايتهم أو تقعد بهم عن أداء واجبهم فهي أسباب وهمية أو ضعيفة أو ناتجةٍ عن جهلٍ . فلنستعرض أبرزها مع بيان شيء من علاجها :
1 – الخجل : فإن كثيرين – لعدم تعودهم – يعانون من الخوف والخجل والهيبة من الناس وهذا الشعور لا يزول إلا بالممارسة العملية ، فعلى المسلم أن يكسر هذا الحاجز ، وأن يبدأ الطريق وسوف يزول الخجل تدريجياً بصورة تلقائية .
2 – يقول بعض الشباب : أنا عاص فكيف أغير المنكر وأنا كذلك ؟!
فنقول له : غير المنكر وإن كنت عاصياً فقد قال الله تعالى عن بني إسرائيل (( كانوا لا يتناهون عن منكرٍ فعلوه )) ( سورة المائدة 79 ) مما يدل على أن فاعل المنكر مطالب بالإنكار وهذا مذهب عامة العلماء ، بل حكى بعضهم الإجماع عليه ولكن أكثر الناس لا يعلمون :
ولو لم يعظ في الناس من هو مذنب
فمن يعظ العاصين بعد محمد
ووقوعك في معصيةٍ لا يسوغ لك الوقوع في معصية أخرى , أعني معصية السكوت عليها وعدم إنكارها .
3 – وقد يقول قائل : أنا لست عاصياً ، ولكن لي أخاً عاصياً فكيف أنكر على الناس وهم يرون أخي واقعاً فيما يقترفون من الذنوب ؟!
ويقال له : هذا ليس بعذر ؛ لأنك لست سلطاناً على قلب أخيك فقد أمرته ونهيته فلم يمتثل ومضيت تأمر غيره وتنهاه فامض في ذلك ولا تكترث للذين يعيرونك بأخيك فإنهم إنما يريدون أن يؤذوك ويثنوك عن واجبك ؛ لتتركهم في عصيانهم ، مع علمهم بأنك حاولت في هداية أخيك ولكن (( إنك لا تهدي من أحببت )) ( سورة القصص 56 ) . فلا تثريب عليك وإن كان أخاك (( ولا تزر وازرة وزر أخرى )) ( سورة الأنعام 164 ، الإسراء 15 ، فاطر 18 ، الزمر 7 ) .(1/58)
4 – وربما قال آخر : كيف آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر ولن يسمع مني ، ولن يزول المنكر بمحاولتي التغيير فما الداعي أن أكلف نفسي بدون نتيجة ؟!
وكأن هذا الأخ يريد أن تزول المنكرات بمجرد كلمة يقولها وهذا – بدون شك – تصور غير سليم ونظرة غير سديدة ، فإن هذا التغيير الكامل التلقائي بمجرد كلمة أو جرة قلم لا يملكه حتى الحاكم وإنما الذي تقتضيه طبيعة الأمور أن كل شيء لا بد فيه من مراعاة التدرج ، حتى يتم الوصول إلى النتيجة . والمهم هو أن يكون لدينا النية الصادقة والعزم الأكيد لإزالة المنكرات والبداية الصحيحة في هذا السبيل .
أما أن نطمع في أن تطهر الساحة من المنكرات في لحظة فهذا غير ممكن !! فإن للمنكر مؤيدين من المنافقين والفاسقين ، وانتشاراً واسعاً في الأمة ، وتأصلاً في نفوسهم .
وأنت أيها الأخ المصلح حين تنكر المنكر فلا تظن – مهما كانت النتيجة ضعيفة – أنك لم تؤثر , بل قد حققت عدة مكاسب :
أولها : أنك قاومت المنكر في نفسك ؛ لأنك مهدد بأن يصل المنكر إليك - أي أن تقع فيه - فإذا أنكرته سلمت من مقارفته بإذن الله تعالى .
ثانيها : نوال الأجر من الله – تعالى – على القيام بهذه الفريضة ، وإحياء تلك الشعيرة .
ثالثها : أنك قد تقلل من المنكر .
رابعها : أنك قد تزيله .
خامسها : أنك – على أقل تقدير – قد تمنع حدوث غيره من المنكرات ؛ لأن الذي يراك أنكرت منكراً واقعاً ؛ لا يستطيع أن يفرض عليك منكراً جديداً .(1/59)
كما أن الإنكار يكون سبباً في عدم استقرار المنكرات في المجتمع ، حتى تصبح كالمعروف ، ذلك أن المنكر إذا نشأ عليه الصغير ، وهرم عليه الكبير ، ولم يوجد من ينكره فإنه يصبح حقاً ومعروفاً عند الناس يستغربون تركه ويتحاضون على فعله . أما إذا وجد في المجتمع أولوا بقيةٍ ينهون عن الفسادِ ويهتفون في الناس بأن ذلك منكر وشر ، فهذا يكفي لحماية الموازين – وإن لم يستطع أولئك المصلحون تغيير المنكر – وقد يأتي من يغيره ويزيله بعدهم .
5 – وبعض الناس يخافون من الأذى ، والأذى لا بد منه في هذا الطريق (( لتبلون في أموالكم وأنفسكم ولتسمعن من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم ومن الذين أشركوا أذى كثيراً )) ( سورة آل عمران 186 ) ولهذا أمر لقمان ابنه بالصبر في ذلك فقال : (( يا بني أقم الصلاة وأمر بالمعروف وانه عن المنكر واصبر على ما أصابك )) ( سورة لقمان 17 ) .
والرسول صلى الله عليه وسلم يقول (( المؤمن الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم خير من الذي لا يخالطهم ولا يصبر على أذاهم )) (1) فالأذى دليل على أن المرء – إن شاء الله – مؤمن وأنه يتحلى بصفات المؤمنين ؛ لأن المؤمن يبتلى على قدر إيمانه .
6 – وهناك من يحجم عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بحجة أنه يخشى أن تحدث فتنة ونقول لهذا : إن الفتنة هي ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، ولقد عاب الله – تعالى – على المنافقين أنهم تركوا الخروج مع النبي صلى الله عليه وسلم للغزو بحجة خوف الفتنة (( ومنهم من يقول ائذن لي ولا تفتني ألا في الفتنة سقطوا )) ( سورة التوبة 49 ) .
فيا من ترك الإنكار خوفاً من الفتنة – بزعمه – إن أمامك فتنة قائمة واقعة ، وهي المنكر ، فكيف تترك إزالتها خشيةً من فتنةٍ متوقعة محتملة قد تقع وقد لاتقع ؟! وقد يكون خوف الفتنة من سوء التقدير أو الجبن فإن الجبان يخاف من كل شيء ، حتى من ظله ولذلك لاينكر شيئاً ، قال الشاعر:
يرى الجبناء أن العجز عقل(1/60)
وتلك سجية الطبع اللئيم
_________________________________________________
رواه أحمد 2/43 والترمذي ( 2507) وابن ماجة ( 4032) .
نماذج للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
تضمن ما سبق من الحديث عدة نماذج حية للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وهذه نماذج أخرى لعلنا نعي موطن القدوة والعبرة منها :
الأول : شيخ الإسلام ابن تيمية الذي استطاع أن يكسب قلوب الناس بصدقه ونصحه وبذله الجهد حتى في مصالح الناس الدنيوية . فقد كان - كما ذكر الذهبي – يتعب في مصالح الناس ليلاً ونهاراً ، سراً وجهراً ، بلسانه وقلمه ، وذلك ببذل جاهه في دفع الظلم ونفع الناس وتحصيل مصالحهم ، وما شابه ذلك من وجوه الخدمة والنصح للمسلمين ، بقدر ما يستطيع .
ومكانته الكبيرة في نفوس الناس جعلت له كلمة مسموعة ولذلك كان يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر على المستوى الرفيع . ومما يذكر في ذلك أنه ذهب إلى السلطان المملوكي في مصر لما جاء التتر إلى بلاد المسلمين ، وقد رأى أن سلطان مصر أبطأ في المجيء إلى الشام ، فقال له : إن كنتم أعرضتم عن الشام وتركتموه ، فإننا نجعل له من يحوطه ويحميه في زمن الخوف ، ويستغله في زمن الأمن ، ثم تلا قول الله تعالى (( وإن تتولوا يستبدل قوماً غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم )) ( سورة محمد 38 ) وكان مما قاله له أيضاً : إنه لو قدر أنكم لستم حكام الشام ولا ملوكه ، واستنصركم أهله ، لوجب عليكم النصر ، فكيف وأنتم حكامه وملوكه ، لا يسعكم إلا الخروج !! فخرج السلطان إلى الشام ، وخرج معه الناس .
وكان شيخ الإسلام يخرج مع الناس في المعارك يثبت قلوبهم بالوعظ والتذكير ، حتى إنه كان يقول لهم : إنكم منصورون . فيقولون له قل : إن شاء الله , فيقول : إن شاء الله تحقيقاً ، لا تعليقاً . وهكذا كان ، فقد انتصر المسلمون بعون الله على التتر .(1/61)
وعلى هذا النحو كان – رحمه الله – يعيش هموم الأمة على مستوى الأفراد وعلى المستوى الجماعي ؛ فيؤثر في مسيرة الأمة ويشاركها في جهادها وأفراحها وأتراحها .
الثاني : العز بن عبدالسلام ، المعروف بسلطان العلماء ، وله عدة مواقف جليلة في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، ومن ذلك موقفه مع سلطان الديار المصرية ، فقد خرج ذلك السلطان في يوم العيد في موكب عظيم ، والشرطة مصطفون على جوانب الطريق ، وحاشيته يحيطون به ، والأمراء بين يديه ، والعز – رحمه الله – يرى ذلك فنادى السلطان قائلاً : ياأيوب ! ما حجتك عند الله إذا قال لك : ألم أبوىء لك ملك مصر تبيح الخمور؟ فقال : أو يحدث هذا ؟ فقال : نعم في مكان كذا وكذا - حانه يباع فيها الخمر - , فقال السلطان : يا سيدي هذا أنا ما عملته هذا من عهد أبي . فهز العز بن عبدالسلام رأسه وقال : أنت من الذين يقولون : (( إنا وجدنا آباءنا على أمة )) ؟! فأصدر السلطان أمراً بإبطال الحانة ، ومنع بيع الخمور . وانتشر الخبر بين الناس ورجع العز إلى مجلس درسه ، فجاءه أحد تلاميذه - يقال له ( الباجي ) - فسأله قائلاً : ياسيدي كيف الحال ؟ فقال : يا بني رأيته في تلك العظمة ، فأردت أن أهينه لئلا تكبر نفسه فتؤذيه . فقال : ياسيدي ! أماخفته ؟ فقال : والله يا بني لقد استحضرت عظمة الله – تعالى - فصار السلطان أمامي كالقط .
الثالث : المنذر بن سعيد البوطي (سلطان الأندلس) وله مواقف عجيبة ، منها الموقف التالي :(1/62)
كان الخليفة عبدالرحمن الناصر كلفاً بالعمارة ، وإقامة المعالم ، وتشيد الدور ، ومن ذلك أنه بنى مدينة الزهراء ، واستفرغ جهده في تنميقها وإتقان قصورها ، وزخرفة مصانعها ، حتى لقد ترتب على اهتمامه بذلك الأمر وإشرافه عليه بنفسه أن تأخر عن صلاة الجمعة ثلاثةٍ اسابيع متوالية فلم يصلها مع المنذر بن سعيد – وكان يتولى الخطابة والقضاء – فأراد المنذر أن يعظ الخليفة ويكسر من غروره ، ويحاسبه على إنفاقه الأموال الطائلة في التشييد والعمارة ، وعلى انشغاله بذلك عن الإقبال على الله .
فلما كان يوم الجمعة ، وحضر الخليفة ، صعد المنذر المنبر ، فبدأ الخطبة بقول الله تعالى (( أتبنون بكل ريعٍ آية تعبثون . وتتخذون مصانع لعلكم تخلدون . وإذا بطشتم بطشتم جبارين . فاتقوا الله وأطيعون . واتقوا الذي أمدكم بما تعلمون . أمدكم بأنعامٍ وبنين . وجناتٍ وعيون . إني أخاف عليكم يومٍ عظيمٍ )) ( سورة الشعراء 128 – 135 ) . واسترسل يقول : ولا تقولوا (( سواء علينا أوعظت أم لم تكن من الواعظين . إن هذا إلا خلق الأولين . وما نحن بمعذبين ] (سورة الشعراء 136 – 138 ) (( قل متاع الدنيا قليل والآخرة خير لمن اتقى ولا تظلمون فتيلاً )) ( سورة النساء 77 ) ومضى يذم الإسراف في تشييد البناء ، والعناية بالزخرف ، بلهجة شديدة ثم تلا قول الله عز وجل : (( أفمن أسس بنيانه على تقوى من الله ورضوانٍ خير أم من أسس بنيانه على شفا جرفٍ هارٍ فانهار به في نار جهنم والله لا يهدي القوم الظالمين . لا يزال بنيانهم الذي بنوا ريبةً في قلوبهم إلا أن تقطع قلوبهم )) ( سورة التوبة 109 – 110 ) .(1/63)
وأتى بما يشاكل هذا المعنى ؛ من التخويف بالموت وفجاءته ، والتزهيد في الدنيا ، والترغيب في الآخرة ، وأسهب في ذلك وأضاف إليه ما حضره من الآيات القرآنية ، والأحاديث ، وآثار السلف ، وأقول الحكماء والشعراء وغير ذلك ، حتى بلغ التأثر بالناس مبلغه ، وضجوا بالبكاء وكان للخليفة من ذلك نصيب كبير . إلا أنه وجد في نفسه على المنذر ، وشكا إلى ولده " الحكم " ما لقيه من الشيخ ، وقال : والله لقد تعمدني بالكلام ، وقد أسرف علي وبالغ في تقريعي . وأقسم ألا يصلي وراءه مرة أخرى ، وصار يصلي وراء أحمد بن مطرف خطيب جامع قرطبة .
هذه هي أقصى عقوبة كان بإمكانه أن ينزلها بالمنذر بن سعيد، لأنه يعرف له مكانته وقدره .
فرحم الله أولئك العلماء العاملين ، الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر غير خائفين في الله لومة لائمٍ ، أو جبروت حاكم .
إنهم قوم شعروا بثقل الأمانة الملقاة على عواتقهم ؛ فشمروا لحملها . وأيقنوا بحفظ الله لهم وتأييده إياهم ، فبذلوا في سبيل إظهار دينه كل ما يملكون ، ونصحوا للأمة حق النصح ، فلا عدمت أمثالهم الأمة ، إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها .
***********(1/64)