سلسلة
إيقاظ أهل الإيمان
لمغفرة رمضان
(1)
حال المؤمنين
في شعبان
الشيخ
محمد الدَّبيسي
حفظه الله وعفا عنه
----------مقدمة---------
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين ...
وبعد
فهذه بعض خطب اخترناها من مجموعة خطب / "إيقاظ أهل الإيمان لمغفرة رمضان" في أهمية الاستعداد لموسم المغفرة في رمضان، وهي تبين حال المؤمنين في شعبان حتى يكونوا أهلا لمغفرة الله تعالى ورحمته، وحتى تكون هذه الأحوال سببا بعد فضل الله في عتقهم من النار في رمضان .
وقد آثرنا هذه المجموعة لكونها مختصرة تلائم همم الناس وأفكارهم اليوم، وإلا فهناك مجموعة من الخطب توسعت في عرض تلك المواضيع، وزادت عليها، نأمل أن نستفيد منها في تنقيح هذه الخطب وزيادتها والبسط لتك الموضوعات المهمة؛ لتكون زادا للمؤمنين المتقين لتحصيل أسباب نجاتهم ، والمسارعة والمنافسة في تحقيق رضوان الله وفضله .
ومن الأهمية بمكان أن نذكر بمسئولية المؤمنين الجسيمة في رفع البلاء النازل على أقطار الإسلام المختلفة ، وإن مما يخفف ذلك، ويرفعه أن يستغل المؤمنين هذه الأوقات الشريفة في العودة إلى الله والمجاهدة على أعمال الطاعة ، وإصلاح ذات البين ، مع الأشواق العالية لمحبة ربهم ولقائه حتى يكونوا أهلا لرحمة الله ونصره.
وإن التسويف والتأخير وطول الأمل للتوبة والأعمال الصالحة التي ترفع إلى الله ويضاعف أجرها في هذه الأيام الكريمة ، لمما يزيد الجفوة بين المؤمنين وبين ربهم ، ويزيد من غفلتهم، ويزيد من تسلط أعدائهم عليهم.
وإذا بهم يخرجون من رمضان كما دخلوا فيه ، وقد خاب وخسر من أتى عليه رمضان فلم يغفر له.(1/1)
وكعادتنا في استعجال تفريغ وطبع تلك الرسائل تلاحقنا أخطاء كثيرة نرجو من الله العون على تلافيها ، والعذر من القارئ لها مع النصح والدعاء بظهر الغيب ، فما كان فيه من خطأ فمنا ومن الشيطان والله ورسوله بريئان ، وما كان من صواب فمن الله وحده فله الحمد والثناء الحسن ، نسأل الله أن ينفع به قائله وكاتبه وناشره والناظر فيه .
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
إِنَّ الْحَمْدَ للهِ، نَحْمَدهُ ونَستعينُهُ ونستغفره، ونعوذ بالله مِنْ شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، مِنْ يَهدِه اللهُ فَلَا مُضل لَهُ، وَمَنْ يُضلل فلا هادي له.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله.
?يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَا وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ? [آل عمران: 102].
?يَا أَيُّهَا النَّاس اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُواْ اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا? [النساء: 1].
?يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا ( يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا? [الأحزاب: 70، 71].
أَمَّا بَعْدُ:
فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد صلى الله وآله وسلم، وشرَ الأمور مُحدثاتُها، وكل مُحدثةٍ بدعة، وكل بدعة ضلاله، وكل ضلاله في النار..
اللهم صلِ على سيدنا محمد النبي، وأزواجِه أُمهاتِ المؤمنين، وذريته وأهل بيته، كما صليت على آل إبراهيم إنك حميدٌ مجيد.
-------- مَنْ الذي أحسَّ بالمغفرة بعد رمضان؟ --------(1/2)
لقد أَزِفَ شعبان، وهو شهر له خصوصيته عند النبي (، وله تعظيمه الذي ينبغي على المؤمنين أن يُعَظِّموه مثلما عَظَّمه النبي (.
وذلك التعظيم من النبي ( كان له سببان
الأول: أن رمضان موسم المغفرة، وينبغي على كل أحد -يريد الله تعالى، والدار الآخرة- أن يهتم لهذه المغفرة، وأن يبذل لها وسعه.
وذلك لما هيأ الله تعالى فيه من أسباب الرحمة والمغفرة والرضوان والعتق من النار.
فقد قال صلى الله عليه وسلم : " من صام رمضان إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه ".
وقال : " من قام رمضان إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه " .
وقال : " إن فيه ليلة هي خير من ألف شهر من حرمها حرم الخير كله ".
وزاد: " من قام ليلة القدر إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه ".
وله في كل ليلة عتقاء حتى إذا كان في آخر الشهر أعتق بعدد ما أعتق في الشهر كله .
وللصائم دعوة مستجابة .
وقد أعان المؤمنين على تحقيق ذلك بقوله: إذا جاء رمضان فتحت أبواب الجنة، وغلقت أبواب النار، وصفدت الشياطين، ونادى مناد يا باغي الخير أقبل ، ويا باغي الشر أقصر.
ومن ثم لم يكن عذر حينئذ لأحد فقال : من أتى عليه رمضان فلم يغفر له أبعده الله أدخله النار قل آمين فقلت آمين .
والثاني : تعمير أوقات غفلة الناس بالطاعة والمجاهدة عليها فعلاوة على فوائدها المذكورة بعد فإن بالطائعين يدفع عن غيرهم ، وبهم يرفع البلاء في تلك الأوقات .
فكان "شعبان" هو المُقَدِّمَةَ لتلك المغفرة التي ينبغي أن يستعد المؤمنون لها الاستعداد الجيدَ -الذي طالما قصَّر فيه المؤمنون- وقالوا قولهم المعتاد الذي نسمعه كل عام بعدما خرجوا من رمضان كما دخلوا فيه
إن شاء الله! من العام المُقْبِل سوف نحاول، وسوف نبدأ، وسوف نُعِدُّ أنفسنا من أول يوم، وسوف لا يضيع علينا "رمضان" كما ضاع،(1/3)
وكذا، وكذا مما نسمع من هذه الأماني، وتلك العهود التي يُعَاهِدُ المؤمنون ربهم، أو أنفسهم أن يتحققوا بها، وأن يلتزموا بمقتضاها، وأن يُوَفُّوا بها لله تعالى.. ثم يعودوا سيرتهم الأولى السيئة المعلومة !
فكم من قائل إنه سيبدأ وسيحاول ، ثم تغلبه نفسه أو يغلبه شيطانه ، وينقضي رمضان كما انقضى في السنين الماضية
لذلك:
وكان أول ما ينتظره المؤمنون من هذا الشهر هو الإعداد لرمضان كموسم من مواسم المغفرة، فإنهم يعلمون إنهم إن لم يستعدوا لهذا الشهر كما كان حال النبي ( وأصحابه، فإنَّ رمضان سينقضي عليهم كما انقضى غيره من قبل ، ويخرجون منه بالحسرة، ويخرجون منه بالحزن والألم، ويخرجون منه على الحال التي لا يمكن أن تتحقق بها المغفرة كما قال ( فيها ((مَنْ صَامَ رَمَضَانَ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ))(1) .
فَمَنْ الذي أحسَّ بهذه المغفرة بعد رمضان؟
وأحسَّ بهذا العتق من النار بعد رمضان؟
وأحسَّ برحمة الله تعالى تنزل عليه فينتقل مما هو فيه إلى الحال الحسن، وإلى استقامة أشد على طريق الله تعالى؟.
----------------مسؤلية المؤمنين في شعبان------------
لذلك:
يَسْتَعِدُ المؤمنون من أول يوم في شعبان والمؤمنون كل أيامهم وفي تلك الأيام بالذات ينبغي أن يكونوا مُستعدين على كل حال، فتأتي أيام المغفرة ليَزْدادُوا فيها استعدادًا، وَلِيزْدادوا فيها عملًا، وليزدادوا بها قربًا من الله ، وليزدادوا بها اجتهادًا.
فينبغي:(1/4)
أن يكون حالنا كحال السلف، لأن مسئوليتهم أمام الله تعالى، ومسئوليتهم تجاه أمتهم، وحفظ دينهم مسئولية عظيمة، وهي في محل الخطر؛ لأن ما نزل بغيرهم من المؤمنين المقصرين في أقطار الإسلام الأخرى من هلاك أو استضعاف أو بلاءٍ أو شدة يوشِك أن ينزل بهم؛ لأن ما نزل بغيرهم إنما نزل لنفس الأسباب التي يقعون هم فيها في هذه الأيام، فيوشك أن يكون شأنهم نفس الشأن، ويوشك أن يكون مصيرهم نفس المصير، ولا حول ولا قوة إلا بالله، عياذًا بالله من ذلك.
لذلك: تأتي مواسم المغفرة ليزدادوا اجتهادًا، وعملًا وبذلًا، فمن كان مقصِّرًا أقلع، ومن كان مستقيمًا ازداد، ومن كان مُتَهَيِّئًا للرحمة إذا به يزداد من تلك الرحمة، ومن هذا التقرب إلى الله تعالى.
فُتِحَ "شعبان" ليتحمل المؤمنون مسئوليتهم فيه العمل الصالح الذي يرفع الله تعالى به البلاء عن بقية المؤمنين، فإذا لم يحاول المؤمنون اليوم المهتمون بتلك المسئولية الضخمة أن يقوموا بهذه الأعباء فَمَنْ يقوم بها؟!
وإذا لم يبلوا البلاء الحسن ؟ وإذا لم يدفعوا هم فمن يَدْفَعُ ومن يبلي؟!
مشكلة المؤمنون وعقدتهم هي الاجتهاد... فقد صارت نواياهم غير معقودة عليه، ولا مُهْتَمَّةٍ به، لذلك كان ذكر حديث النبي ( المكرر الذي دائمًا ما يقال في مثل هذه الأحوال ولكنهذه المرة نريد أن نربط المعاني ربطًا جديدًا يفهم منه المؤمنون قصة مشكلتهم وعقدة اجتهادهم. وحديث النبي ( المقصود هو أنه لما سُئِلَ عن صيام شهر شعبان يقول: ((ذَلِكَ شَهْرٌ يَغْفُلُ النَّاس عَنْهُ بَيْنَ رَجَبٍ وَرَمَضَانَ وَهُوَ شَهْرٌ تُرْفَعُ فِيهِ الْأَعْمَالُ إِلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ فَأُحِبُّ أَنْ يُرْفَعَ عَمَلِي وَأَنَا صَائِمٌ))(2) .
وروى البخاري أنَّ النبيَّ ( ((كَانَ يَصُومُ شَعْبَانَ كُلَّهُ))(3)، وفي رواية: ((إِلَّا قَلِيلًا))(4) .(1/5)
وهذا مدخلنا إلى الكلام على هذه القضايا التي أشرنا إليها، قضايا الاستعداد لـ"رمضان" ومواسم المغفرة، قضايا الدفع عن المؤمنين، قضايا تحمل المسئولية التي نيطت بهم ، قضايا تعويض واستدراك ما فات مما كانوا يُمَنُّونَ أنفسهم به.
--------الوفاء بعهد الله------------
كان المؤمنون عندما انقضى رمضان الماضي، والذي قبله، والذي قبله يقولون: من الذي حصَّل المغفرة؟ من الذي حصَّل العِتق من النَّار؟
يا ليت شعري من المقبول فنهنيه ومن المردود فنعزيه
ثم خرج المؤمن من رمضان وعاد فجأة إلى دنياه، وإلى كَسَلِهِ، وإلى غَفْلَتِهِ، وإلى بُعْدِهِ، ولم تَعُدْ حاله كما كانت على هذه الأحوال الحسنة في "رمضان" فإذا به يَتَحَسَّر على ذلك، ويَحْزُن لما صار إليه فجأة بعد أن كان في حالة عالية، وأحوال سَمِيَّة، وأعمال رَضِيَة..
إذا به ينتقل إلى العكس، وكأنه لم يكن في "رمضان" لا قيام، ولا صيام، ولا ذِكْر، ولا قرآن، ولا شيء وإن كان فهو قليل منقطع شملته الغفلة.
حديث النبي ( يفهم المؤمنون منه كيف يستعدون لمواسم المغفرة؟ كيف يستدركون ما فاتهم؟ كيف يَثْبُتُون على ما هم فيه، ويزدادون مما يجب أن يزدادوا منه من أعمال الإيمان؟ كيف يتحملون مسئوليتهم، ويدفعون عن أنفسهم وعن غيرهم؟. كيف يخرجون من رمضان وقد ظهرت عليهم حقًا آثار الرحمة والمغفرة والعتق من النار ؟
جاء هذا الموسم ليحقق لهم ذلك كله.
ها قد فتح الله تعالى في أعمارهم؛ كانوا يتمنون بعد "رمضان" ماضٍ ، لو يأتي عليهم رمضان، فإنَّ النبي ( قال: ((وَرَغِمَ أَنْفُ رَجُلٍ دَخَلَ عَلَيْهِ رَمَضَانُ ثُمَّ انْسَلَخَ قَبْلَ أَنْ يُغْفَرَ لَهُ ))(5).(1/6)
فهؤلاء قد أتاهم "رمضان" لِيُنَفِّذوا عهودهم، لِيُوَفُّوا بما عاهدوا الله تعالى عليه؛ ليُثبتوا أنهم مُتحمِّلون لتلك المسئوليات، وأنهم لن يقصِّروا فيما قصروا فيه من قبل، وإنما قد جاءتهم الفرصة ليُرُوا ربهم سبحانه وتعالى، أنهم حقًا يريدون مغفرته، وأنهم حقًا يريدون أن يعتقهم من النار، وأن يخرجهم من الحالة الراكدة التي هم فيها ليخرجهم من ذلك كله (؛ بعفوه، وفضله وَمَنِّهِ إلى حال أحسن، وإلى موسم أعظم، وإلى تلك المقامات السامية مع الله تعالى التي يرضى عن عباده فيها.
ها قد جاء وقتهم ليوفُّوا بعهودهم.. تراهم يوفون !!
هم بين أمرين: إما أن يكونوا كسابق عهدهم، وإما أن يُوَفُّوا مع الله تعالى لِعِلْمِهم أنَّه يمكن أن لا يعود عليهم ذلك مرة أخرى مَنْ الذي يضمن أن يعود عليه "رمضان" مرةً أخرى، أو أن يُفتحَ باب القبول حتى لو عاد عليه "رمضان" خاصة وأنه لم يُوَفِّ من قبل، وقد ضحك عليه الشَّيطان، ومنَّاه أنه سيكون في "رمضان" أحسن مما كان في ذي قبل؟! ولم يحدث ذلك
مَنْ الذي ضَمِنَ قلبه ؟ ومَنْ الذي ضمن أن يفتح الله تعالى له بابه؟!
وقد رآه متكاسلًا، رآه يَدْفَع نعمة الله تبارك وتعالى، ويُعْرِضُ عنها، ولا يأخذها بالقوة. هو قد أعْرضَ عن هذه الرحمة، وعن تلك المغفرة ولم يبالِ بها، وأخذها بهذا التكاسل، وهذا التواني، وهذا الضعف..
تُراه بعد ذلك يفتح الله تعالى له؟!
---------- كان ( يصوم شعبان كله ------
نعود إلى الحديث ننظر فيه ذلك كما قال النبي ( ((ذَلِكَ شَهْرٌ يَغْفُلُ النَّاس عَنْهُ بَيْنَ رَجَبٍ وَرَمَضَانَ))(6).
وكأنَّ "رَجباً" و"رمضان" مِن الشُّهور التي يُعظِّمها المؤمنون، ثم يَغْفُلون عن "شعبان"، وهذه هي الحال التي نحن فيها؛ فما أن يأتي "شعبان" حتى يترك الناس الاجتهاد والطاعات ويقصرون فيها -وهم مقصرون أصلا- يقول القائل:(1/7)
ها "رمضان" قد أوشك، وإن شاء الله! في "رمضان" تُعَوِّض ذلك كله، وإنْ شاء الله! في "رمضان" يكون اجتهادك زائدًا ...، ويظل يفتح لك الشيطان باب التمني والأمل حتى تقعد عن العمل في "شعبان"، وحتى تتكاسل عنه.
وذلك ما تميل إليه النفس؛ لأنه كلما اقتربت تلك المواسم ضَعُفَت النَّفس عن العمل ؛ لأنها بظنها وتسويفها سَتُعَوِّض ذلك في "رمضان"، فإذا جاء "رمضان" على هذه النفوس الضعيفة، على هذا الإقبال الضعيف على الله تعالى لن يجدي "رمضان" شيئًا؛ أتاهم وهم خائبون، فانصرف عنهم وهم كذلك، فعادوا إلى الخيبة والخسارة التي نراها كل عام، إلا من رحم الله تعالى..
فَلْيِشُدّ أهل الإيمان إذًا على عزمهم، ولْيُوَثِّقُوا عهودهم، وليأخذوا حِذْرَهم، وليتيقظوا لفوات عمرهم؛ فالعمر يمر بأسرع مما نتخيل كنا نتكلم عن قرب مجئ رمضان وجاء ورحل، كأنه بالأمس القريب، وإذا "برمضان" التالي يوشك أن يعود؛ عام كامل قد مرَّ، تراك حاسبت فيه نفسك أيها المؤمن! إذا لقد علمتَ كم كانت خسارتك فيه، وكم ضَيَّعتَ فيه من أنفاس وأيام وشهور، وكم ضيعت ذلك كله في عدم تحصيل شيء في معادك ، وتحقيق أسباب نجاتك، وقد علمت أنَّك موقوف، ومسئول؛ أنه لن تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن شبابه وعن عمره وعن ماله أين ضيع ذلك كله؟
وكأنَّ عمرك لا يُساوي شيئًا، وكأنَّك لن تُسأل عنه، وكأنه شيء لم يفتحه لك؛ لتزيد به من حسناتك، ولتأخذ به في تثقيل موازينك، ولتُقْبِلَ به على ربك؛ خشية أن يأتيك الموت، وأنت على هذا الحال!
وكأنَّك من كَثْرَةِ مَا أَمدَّ لك الشيطان في الأمل، وأنساك بغتة الأجل، وأنساك قُرْبَ الموت والرحيل، كأنك بِمَأْمَن أن تنتقل إلى الرب الجليل وأن ترحل إليه، وأن تُحاسب بين يديه سبحانه وتعالى!
لذلك كان يصومه ( كله.(1/8)
وهذه الوظيفة الأولى التي يتفكر فيها المؤمنون اتباعاً للنبي (، واهتداءً بهديه، أن يصوموا شعبان إلا قليلًا، إلا يومًا أو يومين، أو أن يصوموا "شعبان" كله لمن اعتاد صيام هذه الأيام واسمع أول العقبات التي تثنيك عن ذلك لتستعد لها.
سوف يأتيك الشيطان ليقول لك: أنت إذا صُمْتَ "شعبان" كله سَتَضْعُف عن صيام "رمضان" وأنت إذا صمتَ "شعبان" لم تتمكن من أن تقوم بمصالح ووظائف "رمضان"؛ ليعوقه عن أن يقوم بتلك الوظيفة، والاهتمام بها، حتى لا يعد نفسه، وقلبه، وروحه، وبدنه لصيام "رمضان".. للمغفرة ..للعتق من النار إذ ذاك أصعب شئ على الشيطان أن يراه مقبلاً طائعاً.
ماذا يصيب المرء مثلا إذا صام "شعبان" وصام "رمضان"؟؟
كأنه سيَحدُثَ لَهُ مَا لَم يَحدث من الآفات والأوجاع، أو من تضييع العمر، أو من ذهاب المال، أو من تعطيل المصالح.
كل ذلك تخويف الشَّيطان، وتسويله الذي ينبغي أن تَحْذَرَ له من أول الأمر، سيأتيك الشيطان بكل الموانع، وبكل العَقَبَات وبكل المعوقات التي تصُدُّك عن أن تقوم بهذه الوظيفة.
ولست أيها المسكين! وأنت شاب فارغ من مشاغِل الدُّنيا، ومن مشاغل الدِّين كذلك أن تتكاسل وتضعف عن القيام بهذه الوظيفة؛ النبي ( على عِظَمِ مشاغله من "الجهاد، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، والدعوة، والقيام بمصالح المؤمنين، والقيام على معايشهم، والقيام على تعليمهم وفِقْهِهِم سفَرهم وحَضَرِهم".
كل ذلك لم يمنعه، لماذا؟ لأنه متوكل على الله , قوي به, مدده منه سبحانه وتعالى, محب لعبادته لا يستثقلها ولا يملها, له أعظم الأشواق لله والآمال فيه.
ليتوكل المرء على الله إذا ؛ ويجعل له هدفًا يريد أن يصل إليه، وهو أن يغفر الله له في "رمضان"، ويعلم أنَّ المغفرة التي يود أن يُحَصِّلَها مهما بذل لها فذلك شيءٌ قليل، ولو صام عمره كله لم يكن شيئًا كثيرًا؛ لِيُحَصِّل به مغفرة الله تعالى..(1/9)
وليعلم أنه مهما أقبل على الله تعالى، وتوكل عليه في ذلك فإن الله حسبه، فإن الله يكفيه، يعني:
إن المشاغل التي سيعوقك بها الشَّيطان من الضعف، ومن المصالح، ومن السفر، ومن كذا، وكذا.. الله تعالى يكفيك إياها ? أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ ?[الزمر:36].
فإذا ما تَيَقَّنُ المرء أن الله تعالى يكفيه، وأن الله تعالى قادر، وقوي على أن يعينه في تحصيل هذه الوظائف، فكيف يُحَصِّلها؟!
لذلك يَدْخُلُ على أعمال الإيمان لا يهمه عواقبها؛ لأن عواقبها بيد الله وهي عواقب محمودة؛ ولأن الله -تبارك وتعالى- إذا فتح له باب طاعة هَيَأهُ لها، وإذا فتح له باب المغفرة هيأه لها، وقوَّاه عليها، وأمَدَّه بِمَدَدِهِ، فكيف تخشى إذًا أن يحدث كذا ..، وكذا..، والله تعالى معك، والله تعالى مؤيدك، وموفقك أيها المسكين؟! لما كان موسى عليه السلام في شغل الله نعالى وخشي العاقبة بقوله: ?إننا نخاف أن يفرط علينا أو أن يطغى? [طه:45] قال: ?لا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى ? [طه:46].
. فكان في شغلهما لما كانا في شغل الله تعالى.
لذلك: ينبغي أن يتعلم المرء هذه القضية في كل قضايا الإيمان، والعمل الصالح؛ ألا يلتفت إلى تخويف الشَّيطان ومعوقاته وأنه سيقع له كذا وكذا، لا؛ ? أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ ?[الزمر:36] يُذكر بها نفسه ويقوي بها قلبه.
((إِنْ تَقَرَّبَ إِلَيَّ بِشِبْرٍ تَقَرَّبْتُ إِلَيْهِ ذِرَاعًا، وَإِنْ تَقَرَّبَ إِلَيَّ ذِرَاعًا تَقَرَّبْتُ إِلَيْهِ بَاعًا ، وَإِنْ أَتَانِي يَمْشِي أَتَيْتُهُ هَرْوَلَةً ))(7) فهل تتقرب إليه بهذه الأنواع من أنواع القُرُبات، ثم يحجب عنك مدده، وقوته، وقدرته، وعونه، وتوفيقه، وتسديده، لا.. بل على العكس..(1/10)
إذا ما تقربت بتلك القربات فأنت في محل التوفيق، محل المدد من الله تعالى، محل العَوْن، محل الإصابة والسداد، محل أن تكون هذه العواقب الحسنة كلها قد هيأها الله تعالى لك، فلا تخشى حينئذٍ شيئًا..
النبي ( قد ورد عنه أنَّه كان يقوم الليل كله، يدعو، ويُنَاشِدُ ربه، ثم يصبح ليجاهد المشركين، وليواجههم، وليقاتلهم كما رأينا في غزوة بدر.
فهذا هو مقتضى التوكل الذي يدفعك إلى المعنى الثاني الذي قد فُتِحَ له "شعبان" وهو معنى : " المجاهدة " .
-------ها قد بدأت المعركة-----------
أنتَ مطلوب منك أن تُجاهِد نفسك أشد المجاهدة، وسيُقعدك الشَّيطان بضعف بدنك، وقلة وقتك، وكثرة مشاغلك، وأسفارك، وعملك، ومالك، وولدك" كل ذلك يضعفك به.
أمامك هذا الطريق الذي يدفع الله تعالى به عنك، ويُخَفِّفُ عنك، ويُقَوِّيك فيه، وهو أن تُجاهِد نفسك على ذلك، وأن تَصُدَّ عنك هذا الكيد من كيد الشيطان؛ بتوكلك، وقوتك بالله، ومَدَدِكَ بالله، وعونك بالله، وتوفيقك بالله، وصِحَّتُكَ بالله، وكل ذلك بالله ( ، وإذا كان بالله فمن يكون عليه، لا يكون عليه أحد، ولا يتمكن منه أحد، ولا يُضْعِفَهُ شيء.
((مَا ظَنُّكَ بِاثْنَيْنِ اللَّهُ ثَالِثُهُمَا))(8) ? لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا? [التوبة: 40] .
فَفُتِحَ إذًا: باب "شعبان" لهذه المجاهدة التي قال الله تعالى فيها: ? وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ ? [العنكبوت:69].
قد قَوِيَ عَزْمُكَ ، وارتفعت همتك، وبدأت وأنت مؤمِّل أن تُجاهد نفسك، وشيطانك وهواك، وأن تعلم أنَّ النَّصر القريب فيها لأهل الإيمان، وأنَّ النصر القريب فيها للتوكل واليقين وأن تعلم أنها صبر ساعة وأنَّه مهما قمت بذلك فإن الله يحفظك كما قال: ((احفظ الله يحفظك)) ?إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ ?[محمد:7].(1/11)
فها قد بدأت في تلك المعركة ? إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ ? [فاطر:6].
((ذَلِكَ شَهْرٌ يَغْفُلُ النَّاس عَنْهُ بَيْنَ رَجَبٍ وَرَمَضَانَ وَهُوَ شَهْرٌ تُرْفَعُ فِيهِ الْأَعْمَالُ إِلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ فَأُحِبُّ أَنْ يُرْفَعَ عَمَلِي وَأَنَا صَائِمٌ))(9).
والجزئية الثانية التي ينبغي النظر فيها، وهي قوله ( بعد أن تعلمت أن وِرْدَكَ الأول هو الصيام : لا شك أن هذا الصيام له توابعه التي تدخل بها "رمضان" من قيام، ومن ذِكر، ومن قِراءة للقرآن، ومن تعويد النَّفس على الصدقة والإحسان والبذل، ومن تعويد النفس ترك المشاحنة، وترك المُعَارَكَة، والمقاطعة، والمدابرة .
كل ذلك يهيئ النفس لمدد الله تعالى، ويهيئها لمغفرة الله تعالى..
----كيف يغفل المؤمنون عن ربهم ؟!!----------
نعود إلى قوله ( ((يغفل عنه النَّاس)) معناه: أن المؤمنين مُطالبون بأن يُعَمِّروا أوقات الغفلة بأعمال الذكر، والقرب إلى الله تعالى وألا يكونوا مع الغافلين كما قال ?ولا تكن من الغافلين? [الأعراف: 205]
لمَّا غفل عنه النَّاس لم يكن للمؤمنين أن يغفلوا عنه؛ لأنَّ المؤمنين متيقظون، حَذِرُون من ناحية..
ومن ناحية أخرى: أنَّ المؤمنين مقبلون على ربهم دومًا ؛ لأنَّهم لا ينقطعون عنه، وإن انقطعوا عن ربهم، وغفلوا عن ذكرهم ماتوا ..ماتت قلوبهم، وضلت أفئدتهم وبَعَدُوا عن طريق ربهم.
لذلك يصعب على المؤمنين أشد الصعوبة أن يغفلوا عن ربهم، وأن يتكاسلوا عنه، أو يبتعدوا عن طريقه، فكأنما خرجوا إلى الموت، لقد خرج أحدهم إذا عن طريق ربه الذي يحفظه ويرزقه ويقويه، فلابد أن يُقدم عليه وأن يرجع إليه.(1/12)
وليس له عنه بُدُّ سبحانه وتعالى؛ فهو ربه، وهو حبيبه، وهو الذي يُرَبَّيه، ويراعي إيمانه، وهو الذي يَمُدُّه بأسباب النجاة، وهو الذي ينتظره في الآخرة؛ ليسكنه جنته مع النبيين والصديقين والشهداء، فكيف يبعد عنه المرء؟!
أو كيف يغفل عنه؟! أو كيف ينسى ربه سبحانه وتعالى؟!
إن خرج منه كأنما خرج السمك من الماء، يخرج إلى الموت، تلك هي الغفلة عن ربهم، والابتعاد عن طريقه سبحانه وتعالى.
والمؤمنون اليوم مع الأسف لا يُحِسُّون بهذا الموت، لا يُحِسُّون بضعف الحياة كما قال تعالى: ?أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاس كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا?[الأنعام:122].
وقد انصرفوا إلى حياتهم وأولادهم وأموالهم وشهواتهم وقدموا ذلك كله على ربهم فكان سبب لهوهم عنه وشقائهم وخسرانهم كذلك. قال: ? يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ ? [المنافقون: 9].
ويعلمون أنه هو الذي يُصْلِحُ أحوالهم، وهو الذي يُدَبِّر معايشهم، وهو يُوَسِّع أرزاقهم، وهو الذي يكفيهم كلَّ ما أَهَمَّهُم في أمور دينهم ودنياهم، فكيف يلجئون إلى عدوه؟! كيف يغفلون عنه؟! كيف ينامون عن طاعته ( ؟! كيف يتكاسلون عن طريقه؟! وطريقه هو حياتهم وطريق نجاتهم، وطريقه محبتهم وقربهم، وطريقه عُلُوهم وارتفاعهم، وطريقة كل أملهم في الدنيا والآخرة.
إذًا: لا أغبى، ولا أشد غباءً من أن يكون المرء على هذا الحال، أن يعرف أن طريق السعادة كذلك، فَيَتَنَكَّبَهُ، ويركب طريق الشقاء، والبُعد، والغفلة.
((ذَلِكَ شَهْرٌ يَغْفُلُ النَّاس عَنْهُ بَيْنَ رَجَبٍ وَرَمَضَانَ وَهُوَ شَهْرٌ تُرْفَعُ فِيهِ الْأَعْمَالُ إِلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ فَأُحِبُّ أَنْ يُرْفَعَ عَمَلِي وَأَنَا صَائِمٌ))(10).(1/13)
وكأن النبي ( يُبَيِّنُ للمؤمنين أنهم لا ينبغي أن يغفلوا حين يَغفُلُ النَّاس عن الله تعالى، بل لابد لهم أن يكونوا متيقظين لربهم سبحانه وتعالى، غير غافلين عنه جلَّ وعلا، مقبلين عليه حال إعراض النَّاس، ذاكرين له حال غفلة النَّاس، مهتدين بهديه حال ضلال النَّاس، وإنما هم لهم شأن، والنَّاس لهم شأن آخر.
شأنهم : القُرب من الله تعالى، والوقوف ببابه، والتضرع له. والدعاء، والذكر، والبكاء، والتذلل، والانكسار إلى ربهم في كل حين، لا يخرجون عن ذلك طرفة عين، وإذا خرجوا فذلك هو الخذلان المبين, فأشواقهم لمحبته ونعيمهم ولذتهم وشهواتهم في طاعته.
وعمارة أوقات الغفلة بأعمال الإيمان والطاعة لها فوائدها التي ينبغي أن يُحَصِّلها المؤمنون اليوم لذلك الشهر الكريم الذي يُعِدُّون أنفسهم فيه لرحمة الله .
فما هي فوائد تعمير أوقات الغفلة بالطاعة؟
--------ما ينتظرها أحد من أهل الأرض غيركم--
أوَّل هذه الأمور وإن كنا نريد أن نشير إلى معانٍ مهمة فيها فقط هي:
أنَّ الله تعالى عندما يغفل عنه النَّاس، ويقوم بعض النَّاس بذكره، والإقبال عليه فيكونون محل محبته سبحانه وتعالى.
يعني: إن أوَّل شيء يحصله هؤلاء المعمِّرون لأوقات الغفلة بالذكر، والعمل، والإقبال على الله تعالى أن ينالوا محبة الله (.
لذلك: رأينا النبي ( في أحاديث كثيرة يحض المؤمنين على تعمير أوقات الغفلة بالذكر ليحصلوا أعلى درجات الدين..محبة الله.
ومن ذلك: ما ذكره في نصف الليل الآخر
فقال إن استطعت أن تكون ممن يذكر الله تعالى فيه فَكُنْ..
يعني: وقت هدوء النَّاس، ونومهم، وشهواتهم إذا بالنبي ( يُوقِظ أهل الإيمان، وينبههم على أنهم ينبغي أن يَتَخَلَّوا عن تلك الشهوات من "النوم والدعة والراحة والأهل" ليقوموا إلى الشهوة العظمى والراحة القصوى، وهي محبة الله تعالى التي يُؤثِرُونها على الدنيا والآخرة، والمال، والأهل والولد..(1/14)
فإن استطعت أن تكون ممن يذكروا الله في هذه الساعة فكنْ، أي في جوف الليل الآخر، وهو الذي يغفل عنه النَّاس المؤمنون، و غيرهم بأن يذكروا الله تعالى فيه: هو موضع محبة الله تعالى.
وكذلك كان ( يؤخِّر العشاء الآخرة - صلاة العشاء - يعني: إلى ثلث الليل؛ يقول :كما روى في البخاري وغيره عنه (: ((مَا يَنْتَظِرُهَا - يَعْنِي: العشاء- أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الْأَرْضِ غَيْرُكُمْ ..)) .
وكأنه يقول :- صلوات الله وسلامه عليه- هذه الصلاة التي تصلون إنما أنتم الذين تصلونها في الدنيا كلها حال غفلة كل النَّاس عن الله تعالى، و هذه ميزة عظيمة للمؤمنين، أن يذكروا الله تعالى عند غفلة النَّاس عنه، وأن يُقْبِلوا عليه حال إعراض النَّاس عنه ( ..
ولك أن تتخيل أيها المؤمن! أنَّ ذلك محل رحمة الله تعالى، ومحل محبة الله تعالى يقول( : ((ثَلَاثَةٌ يُحِبُّهُمْ اللَّهُ ... وَقَوْمٌ سَارُوا لَيْلَتَهُمْ حَتَّى إِذَا كَانَ النَّوْمُ أَحَبَّ إِلَيْهِمْ مِمَّا يُعْدَلُ بِهِ نَزَلُوا فَوَضَعُوا رُءُوسَهُمْ فَقَامَ أَحَدُهُمْ يَتَمَلَّقُنِي وَيَتْلُو آيَاتِي ..))(11)
((حتى إذا كان النوم أحب إليهم مما يعدلوا به)) لا يعادله شيء هذا النوم فناموا.
((قام إليَّ أحدهم)): الذي يضحك له ربه سبحانه وتعالى، الذي هو في محل محبة الله له سبحانه وتعالى.(1/15)
((قام إليَّ)): قام إليَّ حال تعبه، وحال مشقته، وحال كون النوم أحب إليه مما سواه، قام إليه، لا يُحِسُّ بهذا التعب، ولا يحس بهذه المشقة، ولا يحس بأن النوم هو الأحب إليه، بل يحس بأنَّ قيامه إلى ربه، وتلاوته لآياته، وتَمَلُّقَه ودعائه، والطلب منه هو راحته وسروره ,فأنساه تعبه ومشقته؛ لأنه أحس في ذلك بنعيمه، أحس في ذلك بطمأنينته، وإقباله على ربه سبحانه وتعالى، فكانت أعلى وأجلَّ وأعظم من كل هذه السعادات التي يلقاها في غير ذلك، فكانت سعادته العظمى، وقُرَّةُ عينيه التي لا تنقضي، ونعيمه الذي لا يفنى أن يقبل على ربه، وأن يتلوا آياته، وأن يتملقه (، إلى آخر ذلك مما ذكر النبي ( من قوله:
((وَرَجُلٌ كَانَ فِي سَرِيَّةٍ فَلَقِيَ الْعَدُوَّ فَهُزِمُوا وَأَقْبَلَ بِصَدْرِهِ حَتَّى يُقْتَلَ أَوْ يُفْتَحَ لَهُ ))
يعني: فروا من أمام العدو ، فقابلهم رجل بصدره فقاتلهم حتى قُتِلَ.
فذلك يضحك الله له،فهذا يحبه ربه كأنه لما فرَّ النَّاس عن الله تعالى، وفروا عن دين الله تعالى، ونُصْرَتِهِ إذا به هو وحده في غفلتهم، وفرارهم، وبُعْدِهِم، وإدبارهم يُقْبِل بصدره؛ يَوَدُّ ما عند الله تعالى من الشهادة، ومن القرب، يود ما عند الله تعالى من الأجر في الدفع عن دينه، والذَّبِّ عن إيمانه، والقيام بِنُصْرَةِ هذا الدين.
والثالث: ((فَرَجُلٌ أَتَى قَوْمًا فَسَأَلَهُمْ بِاللَّهِ وَلَمْ يَسْأَلْهُمْ بِقَرَابَةٍ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمْ فَمَنَعُوهُ فَتَخَلَّفَ رَجُلٌ بِأَعْقَابِهِمْ فَأَعْطَاهُ سِرًّا لَا يَعْلَمُ بِعَطِيَّتِهِ إِلَّا اللَّهُ وَالَّذِي أَعْطَاهُ ))
. يعني: أعطاه بينه وبينه، أعطاه مما أعطاه الله تعالى، أعطاه مما رزقه الله تعالى، أنفق في السِّر من هذا الباب الذي يحبه الله تعالى، فكان ذلك الشَّخص ممن يضحك الله تعالى له، ممن يحبهم الله تبارك وتعالى.(1/16)
فرأيت هذا الحديث يُصَوِّر هذه المحبة، وهذا الضحك من الله تعالى لهؤلاء الذين تركوا رَغْد، عيشهم، ودَعَتَهُم، وسكونهم، وراحتهم، وزوجاتهم، وغِطائهم ونومهم، وأنفقوا مالهم ، وضحوا بأنفسهم فَقُتِلُوا، قاتلوا وقُتِلُوا في سبيل الله، وهكذا..
وحسبك بقوم يحبهم ويضحك لهم حسبك بهم في علو درجتهم وحسن منزلتهم وقل ما شئت فلا تبلغ العبارة وصف حالهم.
فلعلك قد أخذت هذا المعنى من تعمير أوقات الغفلة بذكر الله تعالى وطاعته ليكون رصيدك في "شعبان" أن تكون أنت المُقْبِل حال فرار النَّاس، والمُتَصَدِّق حال بُخْلِهِم وإحجامهم وحرصهم، أن تكون القائم حال نومهم وغفلتهم، والذَّاكِر لله تعالى، الداعي المُتَمَلِق له حال بُعْدِهِم وحال نومهم.
ذلك كله يكون سَبَبَ محبة الله تعالى لعبده، فإن الله تعالى يحب لهم ذلك.
ومثل آخر: كان المؤمنون في عهدهم الأول يقومون ما بين "المغرب" و"العشاء" صلاة لله تعالى؛ لقولهم: إن هذه ساعة يغفل النَّاس فيها عن الله تعالى.
فيقومون فيها لربهم سبحانه وتعالى، ساعة غفلة يغفل النَّاس عنها لا ينبغي للمؤمنين المتقين أن يغفلوا كما غفل غيرهم، وأن يناموا كما نام غيرهم، أو أن يَلْهُوا كما لهى غيرهم، أو يبتعدوا كما ابتعد غيرهم، أو يَفِرُّوا كما فرَّ غيرهم.
وعادة الناس اليوم هي الفِرَارُ من الطاعة والعمل الصالح والمَلَل منها، والضيق بها، يَوَدُّون شيئًا سريعًا، شيئًا خفيفًا، شيئًا لا يكون له أثره الجميل في قلوب المؤمنين، ولا في أعمالهم وأقوالهم، كأن أثقل شيء عليهم هو إقبالهم على ربهم، وهو محبتهم لربهم، وهو بذلهم لربهم، فضلا عن تضحيتهم لربهم، إن كان شيءٌ لغير الله تعالى وَجَدْتَهُم يسارعون ويعطون ويبذلون، ولا يُهِمُّهُم وقت، ولا يهمهم مال، ولا جُهْد، إن كان لله تعالى وجدتَ العِلَلَ والأعذار، والبعد عن الله تعالى.
وكان تعمير النبيِّ له ( في حال الغفلة لهذا السبب الأول وهو:(1/17)
المحبة من الله تعالى، وأن يضحك الله -تبارك وتعالى- لهم، وأن يُجازِيَهُم، وأن يكافئهم أحسن الجزاء، وأن يُعْظِّمَ مثوبتهم، وأنْ يجزلَ لهم الثوابَ سبحانه وتعالى.
-------- مسؤلية دفع البلاء الذي نزل -------
شيء آخر ينبغي النظر فيه وهو: مسئولية المؤمنين اليوم؛
فإن تعمير أوقات الغفلة مما يدفع الله تعالى به السوء عن النفس وعن الأمة، والذي يجب أن يكون في اهتمام المؤمنين اليوم، كيف يدفعون عن أنفسهم ؟ وكيف يدفعون عن إخوانهم في أقطار الإسلام ما نزل بهم؟ وما أحاط بهم، وما حَلَّ عليهم، أن يدفعوا ذلك كله، وقد فتح الله تعالى لهم هذا الشهر الكريم ليستشعروا تلك المسئولية؛ فإنَّ الله -تبارك وتعالى- يدفع بالمؤمنين القائمين، الراكعين، الساجدين، الذاكرين، الصائمين، المتصدقين، المتكافلين، المتعاونين يدفع الله -تبارك وتعالى- بهم عن أنفسهم، وعن غيرهم البلاء النَّازل، إذا ما نزل البلاء فوجد قومًا يُصَلون، وجد قومًا يصومون، وجد قومًا يتهجدون، وجد قومًا يذكرون رُفِعَ عنهم البلاء، دُفِعَ بهم البلاء عن غيرهم فهم حائط الصد الأول الآن, ترى الهزيمة تأتي من قِبَلهم؟
رويَ في الحديث القدسي:
((إن أحب عباد الله إليَّ المتحابون بجلالي، المَشَّاؤون بين النَّاس بالنصيحة، المشاؤون على أقدامهم إلى الجُمُعَات، المُعَلَّقَةُ قلوبهم بالمساجد، إذا أردتُ أن أُنزِل العذاب بأهل الأرض نظرتُ إليهم فرفعتُ العذاب)) .
لذلك يقول الله تعالى:? وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاس بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ ?[البقرة: 251]، يعني: لولا أن يدفع الله -تبارك وتعالى- بالمؤمنين عن غيرهم لنزل بهم البلاء، وقد علمتم أنَّ الله -تبارك وتعالى- يحفظ بالرجل الصالح أهله وولده والنَّاس مِن حوله.(1/18)
نزلت الملائكة لقرية ليخسفوا بها، فوجدوا فيها رجلًا قائمًا يصلي، فرفعوا عنهم البلاء وأصل هذا القَصَص في كلام الله تعالى، وكلام النبي ( حيث يُصَوِّر ذلك فيقول الله سبحانه في حفظ مال الغلامين ?وكان أبوهما صالحا?[الكهف: 82]، ويقول النبي (
((أَصْحَابِي أَمَنَةٌ لِأُمَّتِي فَإِذَا ذَهَبَ أَصْحَابِي أَتَى أُمَّتِي مَا يُوعَدُونَ))(12)
يعني: أصحاب النبي( الأمان للأمة، ومَن بَعدَهُم كذلك كلما كان فيهم صالحٌ من الصالحين إذا بالله تعالى يجعله أمنة لهم، وحفظًا لهم بما يُقدمُ لله تعالى من العمل الصالح، بما يَرفع إلى الله -تبارك وتعالى- من الدعاء، بما يُرفع له مِن الذِّكر والقيام، بما يرفع له من الصيام، وبما يُرفع له من النصيحة، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والعلم النافع والعمل الصالح، والسعي في مصالح المسلمين، والقيام عليها.. والدعوة إلى اله والجهاد في سبيله.
كل ذلك يرتفع إلى الله تعالى، فإذا به يدفع البلاء عن المؤمنين. ?ما يفعل الله بعذابكم إنم شكرتم وآمنتم?[النساء: 147]
فها قد فتح الله -تبارك وتعالى- شهر "شعبان" ليتحمل المؤمنون مسئولياتهم، وليعلموا حجم هذه المسئولية وضخامتها وأنهم يرون ما نزل بغيرهم من البلاء الذي قد تحققت أسبابه فينا، ولا حول ولا قوة إلا بالله، ولولا أنه ثمة إيمانٌ موجود ، أو لوجود بعض أهلِ الإيمان يرَحِمَ الله تعالى بهم البلاد والعباد لَنَزَلَ بهم ما ساءهم، وَلَنَزَلَ بهم ما نزل بغيرهم.(1/19)
فلعلَّ النَّاس يعتبرون اليوم، وينتهزون هذه الفرصة، وألا يكرروا سوء فعلهم، وغباء تصرفاتهم التي كانت من قبل بطول أملهم، وضَحِك الشَّيطان عليهم، وأن يُمنيَهم أنَّ العام القادم سيكونون أحسن من هذا العام، وها قد جاء العام، ونحن لا نُحِسُّ به، لا يحس المؤمنون بأيامِ الفرَج، ولا يحس المؤمنون بأيام المغفرة، ولا بأيام الرحمة، وكأنهم في أيام اللهو واللعب، قد زادت عليهم الغفلة، وشملهم البعد عن الله تبارك وتعالى، وكأنهم قد حدث لهم اختلال في توازنهم، أو في عقولهم، وكأنهم مختلون يمشون في أرض الله -تبارك وتعالى- لا وزن لهم، ما هذا الذي قد حدث؟!
عليهم أن يراجعوا ربهم، وأن يراجعوا أنفسهم، وأن ينظروا في أحوالهم، وأن يأخذوا أنفسهم بالحذر والشدة، وأن يقيموا أنفسهم على ما أمرهم الله -تبارك وتعالى- به، وأن ينتهزوا تلك الفرصة ؛ لعلها لا تعود عليهم من بعد، فكيف يكون حالهم، وقد ذُكِرَ أن الآجال تُنْسَخُ في "شعبان" فيَنْكِحُ الرجل، ويولد له، وقد كُتِبَ اسمه في الموتى، فماذا ينتظر المؤمنون إذًا؟!
لا بُدَّ أن يسارعوا إلى التحقق بتلك الأسباب، وأن ينتهزوا هذه الأيام التي لا مرد لها مرة أخرى، ولا رجوع ؛ ?وأنفقوا مما رزقناكم من قبل أن يأتي أحدكم الموت فيقول رب لولا أخرتني إلى أجل قريب فأصدق وأكن من الصالحين?[المنافقون: 10] يسأل الرجوع وقد حيل بينهم وبين ذلك.
فقد فتح الله لك بابًا من أبواب الطاعة فاسلكه لتتقرب إليه به ، واعلم أنه تكفل لك سبحانه وتعالى بالعاقبة، طالما فتح لك هذه القربات، ستأتي هذه العواقب كلها حميدة، ستأتي حميدة كلها؛ لأن الله -تبارك وتعالى- كما أشار: ? وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً ?[الطلاق:2].(1/20)
ذلك المخرج لابد أن يحدث للمتقين المؤمنين وهذا مما يخفف على المرء، ويُعَلِّمَه التوكل على الله تعالى، وأن يُسارِع إلى الطاعة والمغفرة، وأن يتسابق فيها، ولا يُهِمَّه ما يمكن أن يترتب على ذلك ؛ لأنه يعلم أنه لن يترتب إلا الخير، لن يترتب إلا العاقبة الحسنة له، لن يترتب على ذلك من الله -جل وعلا- الذي هيأه لذلك إلا كل توفيق وسداد، لا يخاف؛ لأن الأمور بيد الله، وأنه ?مَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ ?[الطلاق: 3].
--------طوبى للغرباء------------
((ذَلِكَ شَهْرٌ يَغْفُلُ النَّاس عَنْهُ بَيْنَ رَجَبٍ وَرَمَضَانَ، وَهُوَ شَهْرٌ تُرْفَعُ فِيهِ الْأَعْمَالُ إِلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ فَأُحِبُّ أَنْ يُرْفَعَ عَمَلِي وَأَنَا صَائِمٌ))(13)
ونشير إلى معنًى آخر من المعاني المهمة وهو:
أن غفلة النَّاس تجعل هذه الطاعات شاقة على النفس؛ لأنه إذا ما كثر الطائعون لله تعالى فإنَّ النَّاس تألف الطاعة في "رمضان" كلهم -أي: النَّاس- صائمون، وكلهم متعاونون على هذا الأمر من أوامر الله تعالى، وكلهم لوجود الطائعين يتأسَّون بهم، ويسيرون ورائهم، ولا يُحسِّون بمشقة الصيام، ولا بمشقة القيام، لكثرة الطائعين الصائمين القائمين، أما إذا جاءت أوقات الغفلة، وتفرَّد المرء بالطاعة كانت شاقة على نفسه، كانت صعبة عليه؛ لأنه لا يجد مَن يتأسى به.
لذلك قال النبي ( في هؤلاء المتعبدين في أيام المحنة، أو في أيام الفتنة، أو في أيام عدم وجود الطاعة، والعبادة من النَّاس لله تعالى قال:
(( لِلْعَامِلِ فِيهِنَّ مِثْلُ أَجْرِ خَمْسِينَ رَجُلًا يَعْمَلُونَ مِثْلَ عَمَلِكُمْ !! قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَجْرُ خَمْسِينَ مِنَّا أَوْ مِنْهُمْ ؟!قَال:َ بَلْ أَجْرُ خَمْسِينَ مِنْكُمْ )) .(1/21)
فأجر هؤلاء الذين يتفردون بطاعة الله تعالى في هذه الأيام التي تكثر فيها الغفلة، وتزداد فيها الفتنة أجرهم يزداد على حسب مشقة هذه الأعمال على نفوسهم، وعلى حسب ثِقَل هذه الطاعات على قلوبهم وأبدانهم، وعلى حسب ما يتحملون من تلك المشقة، ومن هذه الصعوبة، ويبذلون حتى يحققوا أقصى عبادة يمكن أن يحققوها (( أَجْرُ خَمْسِينَ مِنْكُمْ )).
يعني: الذين يعمل العمل الصغير في مثل هذه الأيام -من أيام الغفلة- التي لا يساعده فيها أحد يُحَصِّل أجر خمسين من أعمال الصحابة..
ليس ذلك معناه أنَّ أحدًا سيعمل كأعمال الصحابة، لا، وإنما العمل الواحد يوازن ذلك، أما أن يُحَصِّل مجموع عمل الصحابي.. فلا يحصل أحد بعدهم لصحبتهم للنبي (.
لذلك كان يقول النبي (: ((لأنهم لا يجدون على الخير أعوانا، أنتم تجدون على الخير أعوانا وهم لا يجدون على الخير أعوانا)) .
لذلك قال: ((فَطُوبَى لِلْغُرَبَاءِ قِيلَ يَا رَسُولَ اللَّهِ وَمَنْ الْغُرَبَاءُ قَالَ الَّذِينَ يُصْلِحُونَ إِذَا فَسَدَ النَّاس))(14) .
فإذا كثر الفساد، وَعَمَّ البلاء، هؤلاء الغرباء طوبى لهم الذين يحسنون، والذين يصلحون إذا ما كثر الفساد، وعَمَّ البلاء والفتنة.
فتفطن المؤمنون إلى أنه كلما تعبدوا لربهم في أوقات الغفلة، وازدادت عبادتهم ، وازداد تمسكهم بسنة النبي (، ووجدوا في ذلك مشقة على نفوسهم، وصعوبة على أبدانهم، وكذلك وجدوا هذا الكلال الذي يمكن أن يتحملوه في سبيل قربهم مِن ربهم، وعبادتهم لله تعالى، فإنَّ أجورهم تزداد عند الله تعالى، وإن درجتهم ترتفع عند الله تعالى، وإن الله -جل وعلا- بكرمه وَمَنِّهِ يُجْزِلُ لهم المثوبة سبحانه وتعالى، ويَزيد لهم في الأجر الذي يفرحون به عندما يلقون الله تعالى،هذا المعنى يُخَفِّف على المرء الطاعات الْمُستَثقَلة هذه الأيام، وهذه القُرُبات الشَّاقة على النفس في مثل تلك الأحوال.(1/22)
لذلك قال النبي ( : (( الْعِبَادَةُ فِي الْهَرْجِ كَهِجْرَةٍ إِلَيَّ))(15) .
فإذا كان أصحاب النبي ( قد فازوا بهجرتهم إلى النبي صلوات الله وسلامه عليه؛ إيمانًا بالله تعالى وتسليمًا له، وتركًا للأهل والمال والوطن، وتركًا للولد والنساء، وتركًا للديار فإنَّ الله تعالى قد فتح للمؤمنين كذلك في أيام الفتنة هذا الباب الذي يشابهون به أصحاب النبي ( في الهجرة إليه.
فالعبادة في الفتنة كالهجرة للنبي (، فإن النَّاس في هذه العهود قد عادت إلى أهوائها، وعادت إلى اتباع شهواتها، ونزواتها كعادة أهل الجاهلية، فمن خرج منهم إلى عبادة الله تعالى، والاستقامة على أمره، والثبات على دعوته ( كان حاله كحال من هاجر إلى النبي ( وترك الجاهلية وأهلها.
وهذا يحمل المؤمنين على أن يستمسكوا بالله تعالى، إلى أن يعتصموا بالله تعالى، وبِسُنَّة النبي (، وأن يَزيدوا بذلهم، فكلما زاد ذلك في مثل هذه الأيام كان الأجر الحسن هو الذي ينتظرهم عند الله تعالى وهو أجر الهجرة إلى النبي (، وكفى بذلك شرفًا وفخرًا أن يُحَصِّل المرء ذلك، كأنَّه في أيام الفتنة.
---------شعبان شهر المجاهدة---------
مجاهدة النفس والاستضاءة بأنوارها للمرء الذي قد كثرت غفلته، واستراح إلى النوم والدعة والسكون، وإعطاء النفس حظها من الراحة، فإذا تتعارضت الصلاة مع النوم فَيُقَدِّمَ النوم، أو أن يتعارض الصيام مع شهواته وأكله وشُرْبِِهِ، ومَيْل نفسه إلى حطام الدنيا، فيُقدِّم شهواته، ونزواته، وحظ نفسه على ذلك أو أنسه بالله وذكره له مع أنسه بالخلق ةالغفلة قدم ذلك ما جاءته أيام البركة فليستعن بالله وليبدأ تائبا راجعا بقلبه إلى الله سالكا طريق المجاهدة واضعا نصب عينيه
قوله تعالى: ? وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ ?[العنكبوت: 69] ليحصل ذلك الفوز وتلك الهدايه وهذه المعية.(1/23)
وبذلك تنحل قسوة قلبه وضعف بدنه ودناءة همته فيرى طريقه منيرا إلى الله تعالى موفقا بعد ذلك في رمضان وهذا حديث المجاهدة.
((وَمَا تَقَرَّبَ إِلَيَّ عَبْدِي بِشَيْءٍ أَحَبَّ إِلَيَّ مِمَّا افْتَرَضْتُ عَلَيْه،ِ وَمَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إِلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ ، فَإِذَا أَحْبَبْتُهُ كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِه،ِ وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِه،ِ وَيَدَهُ الَّتِي يَبْطِشُ بِهَا وَرِجْلَهُ الَّتِي يَمْشِي بِهَا، وَإِنْ سَأَلَنِي لَأُعْطِيَنَّهُ وَلَئِنْ اسْتَعَاذَنِي لَأُعِيذَنَّهُ))(16) .
ونعيد هذا الحديث لأنه يُبَيِّن الواقع الذي نحن فيها؛ لأنَّ المرء يسمع هذا الكلام، ولم يتحقق بشيء منه، مَنْ الذي صار ربه له ( يده ورجله وسمعه وبصره، على طريقة السلف وصار إلى الحالة التي إذا دعاه استجاب له، وإذا استعاذه أعاذه سبحانه وتعالى؟
وهذا المقام لا يتأتى إلا بعد أن يُتْقِن فرائضه، ثم بعد ذلك يجاهد نفسه على التزود من تلك النوافل؛ فلا يبقى في وقته، ولا جُهده ولا ماله، ولا صدقته..
كل ذلك لا يبقى فيه مجال إلا وقد جاهد فيه نفسه، وتقدَّم فيه إلى الله تعالى بكل ما يستطيع كما قال المولى سبحانه وتعالى: ((إِنْ تَقَرَّبَ إِلَيَّ بِشِبْرٍ تَقَرَّبْتُ إِلَيْهِ ذِرَاعًا، وَإِنْ تَقَرَّبَ إِلَيَّ ذِرَاعًا تَقَرَّبْتُ إِلَيْهِ بَاعًا ))(17).(1/24)
وهذا الحديث يشير إلى تقدم السير إليه سبحانه "الشِّبر والذِّراع" والباع، لا يتكلم الحديث عن الواقع المؤلم الذي نحن فيه وهو: التأخر، والتردد، والتشكك، والنوم، والدعة، والكسل والسكون إلى ما هو فيه من الحالة السيئة، وإنما هو في تَرَقٍ مستمر إلى الله تعالى؛ ينتظر هذا الجزاء ((وَإِنْ سَأَلَنِي لَأُعْطِيَنَّهُ وَلَئِنْ اسْتَعَاذَنِي لَأُعِيذَنَّهُ))(18)، ((كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِه،ِ وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِه،ِ وَيَدَهُ الَّتِي يَبْطِشُ بِهَا وَرِجْلَهُ الَّتِي يَمْشِي بِهَا)) (19).
لذلك قال: ((إِنْ تَقَرَّبَ إِلَيَّ بِشِبْرٍ تَقَرَّبْتُ إِلَيْهِ ذِرَاعًا، وَإِنْ تَقَرَّبَ إِلَيَّ ذِرَاعًا تَقَرَّبْتُ إِلَيْهِ بَاعًا))(20).
فهذا إذًا شهر المجاهدة التي نسمع عنها، والتي نذكرها، ونكررها، والحال كما هو، لا يستقيم على العبادة.
هذا الذي يُبَين أنك ما مشيت الشِّبر ذلك إلى الله، بل إنك لم تقم إليه أصلًا كما قال في الرواية الأخرى: ((ابن آدم أو عبدي قم إلي أمشي إليك)).
وكأنها الحال التي نحن فيها وهي: حال ((قم إليَّ أمشي إليك)) إذا بك لم تقم فعلًا، مَنْ الذي قام فمشى إليه؟ لو مشى سبحانه إليه لتَغيَّر حاله: ((قم إلي أمشي إليك))..
وانظُر إذا هو قد أقبل عليك (، إلى ما تكون فيه من الحفظ، وما تكون فيه من الاستقامة، وما تكون فيه من التوفيق، وما تكون فيه من السَّداد، وما تكون فيه من حُبٍّ للآخرة، وزهدٍ في الدنيا، وإقبال على الله تعالى؛ لأنه قد أقبل عليك، فإذا أقبل عليك ماذا تريد بعد ذلك؟!(1/25)
ومن هنا علمتَ أنَّه لم يُقْبِل عليك الإقبال الذي تثبت به، والإقبال الذي تترقى به، والإقبال الذي يحبه (، فتكون محبته أحب إليك من كل شيء، ويكون تقربك إليه أولى عندك من كل شيء، بل أنت لم تُقدِّمه هذا التقدم الذي لو قدمته ( وجدت عاقبة ذلك، وجدت نتيجة ذلك في حالك المتدهور، وفي أحوالك السيئة التي تُعاني منها، والتي تشتكي منها، والتي لم تحاول أن تجاهد نفسك على تغييرها ((قم إليَّ أمشي إليك)).
لذلك أمرك أن تقوم فكأنه يخبر في هذا الحديث أن المرء لم يقم بعد، ما زال مُخْلِدًا إلى الأرض، ما زال مربوطاً بشهواته ونزواته، مُقيَّدًا بمعاصيه وذنوبه، كلما أراد أن يقوم قيَّدته معاصيه، قيدته شهواته، جذبه كل ذلك إلى الأرض.
ويبين ( طريق المجاهدة في حديث آخر عندما قال ربيعة بن كعب للنبي ( لمَّا قال له: ((سَلْ . فَقُلْتُ: أَسْأَلُكَ مُرَافَقَتَكَ فِي الْجَنَّةِ. قَالَ: أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ قُلْتُ هُوَ ذَاكَ قَالَ فَأَعِنِّي عَلَى نَفْسِكَ بِكَثْرَةِ السُّجُودِ))(21) .
فبكثرة السجود يصل المرء إلي هذه الأشواق العالية من مصاحبة النبي ( في الجنة لا تتأتى من هذه الأماني التي نحن فيها، ولا من هذا التسويف الذي يقوله المرء "غدًا إن شاء الله! عندما يأتي رمضان، عندما يأتي شوال، عندما يأتي العشر، عندما انتهي من هذا الشغل، عندما أخْلُص من الجيش، عندما أنتهي من الدراسة، عندما انتهي من مشكلة الزواج، عندما أرجع من السفر"..
وكأنه يملك قلبه،وكأنه يملك عمره، من الذي يملك قلبه أو عُمْره؟
------ ماذا تريد أن يُرفع إلى الله منك ؟--------
نعود إلى قول النبي (: ((ذَلِكَ شَهْرٌ يَغْفُلُ النَّاس عَنْهُ بَيْنَ رَجَبٍ وَرَمَضَانَ وَهُوَ شَهْرٌ تُرْفَعُ فِيهِ الْأَعْمَالُ إِلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ فَأُحِبُّ أَنْ يُرْفَعَ عَمَلِي وَأَنَا صَائِمٌ))(22).(1/26)
تَعَلَّم المرء حينئذ من النبي ( أنه حال الغفلة لابد وأن يكون هو الذاكر لله تعالى، وتَعَلَّم أن مشقة العبادة على النفس درجتها عالية، وأنها كلما شَقَّت عليه زاد ثوابها، وكلما شقت عليه العبادة احتاج إلى هذه المجاهدة، وهذه المجاهدة التي نفتقدها اليوم.
لذلك يبدو أننا في هذه الأحوال لم نتحرك شبرًا ولا ذراعًا ولا شيئًا، بل لم نقم من مكاننا الذي نحن فيه إلى الله تعالى، ومَنْ حاول أن يقوم رجع مرة أخرى فجلس واستكان واطمأن إلى ما هو فيه من الحالة السيئة التي يقاومه فيها نفسه وشيطانه وهواه، ويصعب عليه بعد ذلك أن يقوم لله تعالى.
والله -جلَّ وعلا- إذا فتح لك بابًا مِن أبواب الطاعة، فرددته ولم تعبأ به أنى يفتح ذلك مرة أخرى؟!
وهو سبب الحرمان الذي نحن فيه كذلك، أنه لا يجاهد نفسه، وتراه يجاهد نفسه على الدنيا، ويحملها ويسافر بها، ويُتْعِبُها، ويشقى بها، ويسهر بها، ويتعارك لها، ويتطاحن فيها؛ ليحصل زائلًا، وربما لم يُحَصِّله، وإذا جاءت الآخرة أخذها بهذا الضعف وهذه الاستكانة، وهذا النوم وهذا الكسل، وكأنه لن يرحل إلى الله، وكأنه لن يقف لرب العالمين، وكأنه لا يُسأل ولن يُحاسب، وكأنَّه لن يتعرض لأحوال كلها مِحن وكروب لا يستطيعها أحد، فوق ما يتحمله طاقة النَّاس ?يَوْمَ يَقُومُ النَّاس لِرَبِّ الْعَالَمِينَ? [المطففين:6].
وهنا معنى جديد في قوله: ((تُرفع فيه الأعمال إلى رب العالمين)).
ورفع الأعمال إلى رب العالمين:على ثلاثة أنواع يُرفع إليه عمل الليل قبل عمل النَّهار،ويُرفع إليه العمل يوم "الاثنين" و"الخميس" ويرفع إليه هذا العمل في شهر "شعبان" خاصةً.(1/27)
فذكر النبي ( أن الأعمال تُرفع إلى الله تعالى رفعًا عامًا كل يوم ((يَتَعَاقَبُونَ فِيكُمْ مَلَائِكَةٌ بِاللَّيْلِ وَمَلَائِكَةٌ بِالنَّهَارِ، وَيَجْتَمِعُونَ فِي صَلَاةِ الْفَجْرِ وَصَلَاةِ الْعَصْرِ، ثُمَّ يَعْرُجُ الَّذِينَ بَاتُوا فِيكُمْ فَيَسْأَلُهُمْ - وَهُوَ أَعْلَمُ بِهِمْ- كَيْفَ تَرَكْتُمْ عِبَادِي؟ فَيَقُولُونَ: تَرَكْنَاهُمْ وَهُمْ يُصَلُّونَ وَأَتَيْنَاهُمْ وَهُمْ يُصَلُّونَ))(23) .
ويوم "الاثنين" و"الخميس" تُرفع كذلك الأعمال إلى الله، وهذا الرفع في "شعبان" بالذات رفع مخصوص للمؤمنين، وهو الرفع الثالث الذي تُرفع فيه الأعمال، وتُعرض على الله تعالى، وانظر إلى قول النبي المهم في هذه الحالة، وهو قوله (:
فالأعمال ترفع كلها إلى الله في هذا الشهر، أتريد أن تُرفع لك أعمال أو لا؟ أو هل ترفع لك أحسن الأعمال أو لا؟
هذان الأمران المهمان: أن الأعمال كلها تُرفع، فيحب أن ترفع وهو صائم، ويحب أن تُرفع الأعمال على أحسن أحوالها.
المعنى إذًا هنا:
ماذا تريد أيها المسكين أن يرفع لك إلى الله؟
أن ترفع الملائكة صحائف النَّاس إلى الله ، فلا توجد في صحيفتك أعمال، هذه الأولى، أن ترفع الملائكة الصحائف إلى الله تعالى وفيها أعمالك، ولكنها أعمال خسيسة وقليلة، لا تساوي شيئًا..
تُرفع فيها كلُّ الأعمال، فأحب أن يُرفع ليَ عمل فيه؟
بل يُرفع لي كل عمل ، ليس كذلك فقط، ولكنه يحب أن ترفع فيه الأعمال إلى الله وهي في نهاية القبول. لا يمكن أبداً أن يكون قول النبي (: أن ترفع بعض الأعمال، وأن يترك بقية الأعمال إلى الغَفِلَة؛ هذا يتعارض مع قوله: ((يغفل عنه النَّاس)).(1/28)
لذلك: يريد أن تُرفع فيه أحسن الأعمال وأكثر الأعمال -وأعماله كلها حسنة وأوقاته كلها عامرة-؛ لأنه لا يمكن أن يرضى بأن تُرفع فيه بعض الأعمال، ولا أن تُرفع فيه الأعمال التي لا تساوي أن تُرفع إلى الله، وإنما يريد أن يقول: تُرفع فيه ما يتمكن المرء فيه من عمل لا يقصر فيه، فيُرفع فيه له الأعمال كافة التي يمكن أن يعملها، في نفس الوقت يُرفع فيه أعمال تُبَيِّض وجهه عند الله.
((تُرْفَعُ فِيهِ الْأَعْمَالُ إِلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ فَأُحِبُّ أَنْ يُرْفَعَ عَمَلِي وَأَنَا صَائِمٌ))(24).
يعني: لمَّا رُفِعَت الأعمال، وعُرِضَت على الله تعالى، فماذا تختار لنفسك أن يُعْرَضَ عليه؟ ما يُبَيِّضُ وجهك أو يُسَوِّدُ وجهك؟! ما يُقْبَل أو ما يرد؟! ما يكون سببًا لجزيل الثواب أو لقلة الثواب؟..
لا شك أنَّ النَّبِي ( يختار الدرجة العالية، الدرجة الرفيعة التي يؤدي بها، التي تكون سببًا، يُعلِّم بها، ويُنبِّه بها المؤمنين على أن يكونوا على هذا الحال الذي يحبه النبي (.
وَرَفْعُ الأعمال إلى الله تعالى مع كونه صائمًا أدعى إلى القبول عند الله تعالى، وأحب إلى الله جل وعلا، وأن يتقبل صالح عمله كله سبحانه وتعالى، وأن يثيبه عليه أعظم الإثابة، وأن يكافئه عليه أعظم مكافئة، وهو ما يسعى إليه المؤمنون تأسيًا واقتداءً بالنبي (.
ولهذا المعنى كان "شعبان" تقدمة لـ"رمضان"..
إذا كان الحال كذلك في "شعبان" وهو شهر يصوم فيه استحبابًا فما بالك عندما يجيء صوم الواجب الذي به تُغفر الذنوب، ويُرحم النَّاس، وتُعتق رقابهم من النار؟!
فإذا جاء "رمضان" كما يقول (: (( إِذَا جَاءَ رَمَضَانُ فُتِّحَتْ أَبْوَابُ الْجَنَّةِ وَغُلِّقَتْ أَبْوَابُ النَّارِ وَصُفِّدَتْ الشَّيَاطِينُ))(25) .
تُرى ماذا تكون حاله في رمضان؟(1/29)
وكأنَّ إذا رُفع له في "شعبان" أعظم الأعمال وهو صائم، وأحسنها وهو صائم، وأقربها إلى القبول وهو صائم من كل ما يمكن من عمل؛لأنه يقول:
((ترفع فيه الأعمال إلى رب العالمين)).
تُراه يرفع فقط الصوم، تراه فقط يرفع القرآن، تراه فقط يرفع الذكر، تراه فقط يرفع القيام، تراه فقط يرفع العلم النافع، أو تراه فقط يرفع الدعوة، والأمر بالمعروف، أو الصدقة أو الزكاة، أو السعي على مصالح المسلمين، أو القيام بحوائجهم، أو الإصلاح بينهم؟ أو الأخلاق العالية الحسن.
كل ذلك يرفع له فإذا جاء "رمضان" إذًا: كان على هذا الحال الحسن، قد رُفعت الأعمال وقُبلت ، وتزكت ، وزُكيت النفوس، والقلوب، وصار أهلًا لهذه العبادة وأهلًا لهذه الرحمة، وأهلًا للعتق من النار، دخل المرء على "رمضان" وقد وجد حلاوة الإيمان، ووجد حلاوة الصيام، ووجد حلاوة القيام، ووجد حلاوة الذكر، ووجد حلاوة الطاعة، وأخرج زكاته، وأخرج صدقته، وأخذ حظه من أنوار المجاهدة التي بها تُرفع الأعمال إلى رب العالمين كان جديرا برحمة الله وفضله أن يخرج على أحسن حال ولكن تُرىَ هذه القلوب المريضة، والهِمَم الضعيفة يرتفع منها عمل إلى الله؟!
هناك معنى آخر في قوله ( : ((ترفع فيه الأعمال إلى رب العالمين)).
أي الأعمال هذه التي تُرفع؟ الأعمال التي أخلص العبد فيها لربه.
إن عمل المرء إذا رُفع إلى الله على هذه الحالة السيئة أُلْقِيَ به في وجهه، وإذا كان هذا العمل ضعيفًا كيف يُرفع إلى الله تعالى؟
وإنما يرفع باجتماع الهمة وقوة القلب، وعلى قدر قوة القلب وقوة العزيمة، وارتفاع الهمة وعلوها ترتفع الأعمال إلى الله تعالى. على قدر ما في القلوب من الإخلاص والمحبة وتوابعها.
فينبغي التنبه إلى أن أيام الغفلة، أيام الإخلاص ليس للنفس فيها نصيب.
إن أيام الغفلة التي تُرفع فيها الأعمال إلى الله، لا تُرفع إلا بالإخلاص لأنه أشق شئ أن تعمل والناس لا يعملون ثم لا يداخلك العجب وإظهار العمل.(1/30)
والله تعالى يقول :? وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ ?[البينة:5].
يعني: ألا يريد بعمله ذلك إلا الله؛ لأنه تُرفع الأعمال إلى الله تعالى، فإذا بالله تعالى يلقي بهذه الأعمال ويَرُدَّها، وتسأله الملائكة فيخبرهم أنَّ هذه الأعمال لم يريدوا بها وجه الله تعالى.
تُراك أيها المسلم المؤمن! وأنت تعمل العمل على غير الإخلاص لله تعالى، تُراه يرتفع إلى الله؟!
-------- أيام تربية النفس على الإخلاص -----------
لا يرتفع إلى الله تعالى إلا ما كان خالصًا يُبْتَغَى به وجه سبحانه وتعالى، وكذلك في الآخرة أنَّ الله -تبارك وتعالى- يقول للذين كانوا يراءون في الدنيا اذهبوا إلى الذين كنتم تراءونهم، هل يجدون عندهم من شيء؟ لا يجدون عندهم شيئًا.
وهذا الأمر هو أهم الأمور التي نفتقدها اليوم؛ لأنَّ بركة الإخلاص هي قبول العمل ونماؤه ورفعه إلى الله مع عود ذلك على القلب بالنور والقوة والحياة والترقي. أن يعمل المرء لله تعالى، أن يُصاحب لله تعالى، أن يُقاطِع لله تعالى، لا ينتظر جزاءً ولا شكورًا، وهذا المعنى المهم سواء في معاملته لله، أو في معاملته للنَّاس.
إنَّ معاملات المؤمنين اليوم قد خرجت عن حدِّ الإخلاص لله تعالى؛ حتى وهم يعبدون الله -تبارك وتعالى- يحبون أن يُمدحوا على هذه العبادة، حتى الذي يُوَفِّقَه الله تعالى مثلًا لِأَنْ يقوم ليلة، وهو يصلي بالليل يَوَدُّ أن يطلع عليه النَّاس ليروه وهو يصلي، وهو يقوم، وهو يفعل.
وهذا الصائم يود أن يعلم النَّاس بصيامه، وأنه صائم، لا يريد أن يخفي صيامه، ولا أن يخفي عبادته، وإنما يريد أن يطلع النَّاس عليها ليمدحوه عليها، أو يريد من النَّاس ترك المذمة، أو يريد من النَّاس العِوَض على ذلك، حتى في معاملاته هذا المسكين مع النَّاس إذا أحسنوا إليه أحسن إليهم، أو أحسن إلى النَّاس إذا به لو أساءوا إليه، يقول:(1/31)
قد فعلت لهم كذا وكذا، وعملت لهم كذا وكذا، ثم يعاملونني بكذا وكذا، وهذا آخرته وهذا رد الجميل، وهذا..
فيتضح بذلك أنه لم يكن مخلصًا في عمله، ولم يكن مخلصًا في صحابته وصداقته،ولم يكن مخلصًا في مقاطعته، إنما غضبه لنفسه،وصداقته لنفسه، وانتظاره لأجر النَّاس له، ورد المكافئة ورد الجميل، وكفُّ الشر، وكف الأذى، إلى آخر هذه النوايا السيئة التي لا يفهمها المرء من نفسه، فإذا ما ظهرت الحقائق، وجاء الامتحان، وجدتَّ أنَّ كلَّ ذلك لم يكن لله تعالى، وإنما كان لأنفسهم، وكان لتحصيل مصالحهم النفسية والمالية وهي بعيدة كل البعد عن الله تعالى، بعيدة عن إرادة وجهه سبحانه وتعالى.
لا يريدون جزاءً ولا شكورًا مِن أحد، وإنما قدموا ما قدموا ينتظرون ما عند الله، فإذا لم يعطهم المولى ( لن يعطيهم أحد، وإذا ما عملوا هذه الأعمال على انتظار هذا الرياء، أو على انتظار السُّمعة، أو على انتظار الشُّهرة بين النَّاس، والمدح لهم، أو مكافئتهم، أو القيام بحقوقهم، أو الحزن عند التقصير على القيام بواجباتهم، و السؤال عنهم، سألت عنه فلم يسأل عني، وأعطيته واحتجت فلم يعطني، وفعلت.. وفعلت.. كل ذلك ليس من الإخلاص لله تعالى.(1/32)
ذكر النبي في الحديث ( في أوَّل من تُسِعَّر بهم النار يوم القيامة، هذا الذي قد تصدَّق لله تعالى، وهذا الذي قُتِلَ في سبيل الله، وهذا الذي تعلَّم العلم، كل هؤلاء أول من تُسَعَّر بهم النار. هذا الذي استُشْهِدَ وقتل في سبيل الله، يُعَرِفَه نعمه فيعرفها، فيقول: ماذا فعلت فيها؟ يقول: قاتلت فيك حتى استشهدت، يُقال له: كذبت، مع أنه قاتل وأتعب نفسه، كل هذا التعب، ولكنه يُقال في النهاية: كذبت، لم تفعل ذلك لله تعالى، نعم! قد قتلت، نعم! قد حدث لك، وحدث، ولكنك في نهاية الأمر كنت كذابًا، كذب لم ترد به وجه الله إنما ليقال شجاع.. اذهبوا به إلى النار. والرجل قد تصدَّق، وأعطى وأنفق، ولم يترك شيئًا إلا قد أنفق فيه، وأعطى لهذا وفعل لذلك, وقام بخدمة هذا، وسَوَّى لهذا، يُعَرِّفه نِعَمَهُ فيعرفها، فيقول: ماذا فعلت فيها؟ يقول: ما تركت بابًا لك إلا أنفقت فيه، فيُقال له: كذبت!
هو أنفق وقام وسعى وأعطى وتصدق، ولكن يقال، كذبت أيها الكذاب!
إنما تصدقت ليُقال: جواد وقد قيل، أنت تريد أن يُقال: كذا وكذا؛
قد أخذت حظك أيها المسكين! حظك هذا الحقير الزائل، اذهبوا به إلى النار، فيُذهب به إلى النار.
التركيز اليوم على أن شهر "شعبان" هو شهر الإخلاص، أن ينظر المرء في أقواله وأفعاله، وعباداته، ما يريد به وجه الله تعالى، وما لا يريد، أن يدخل "رمضان" عليه وهو على هذه الحالة السيئة، لا ينتظر مغفرة ولا رحمة، وهو سبب من الأسباب العظيمة التي يخرج بها المرء من "رمضان" ليس مغفوراً له، لا يخرج من "رمضان" وقد أحسَّ بعتقه من النار، يخرج من رمضان وما أحسَّ بإقباله ومحبته واستقامته وزهده،لم يحس بتوكله وقربه إلى الله تعالى.(1/33)
وقصة الإخلاص هي أعظم القصص، وأيام الغفلة هي أيام تربية النفس عليه بأن يكون المرء في ظاهره وباطنه لا يريد إلا الله ( في قوله وفعله وسره وعلانيته وظاهره وباطنه يريد وجه الله تبارك تعالى، لا يريد وجه الزائلين الذين لن يغنوا عنه من الله شيئًا.
وقد روى الحسن ( قصةَ الإخلاص التي تُبَيِّن هذه البركة؛ لأن بركة الإخلاص تظهر في الأعمال، وتزكيها وترفعها إلى الله، وربما كان العمل قليلًا، ولكنه مُخْلِصُّ فيه إذا به يُرفع إلى الله تعالى والعمل الكثير يُلقى في وجهه هباء منثورًا، كما ذكرت الآية ، لأنه لا يريد به وجه الله تعالى.
يذكر الحسن هذه القصة يقول: كانت شجرة تُعبد من دون الله تعالى، فخرج إليها عابد قال: لأقطعن هذه الشجرة التي تُعبد من دون الله، فاعترضه الشيطان قال: إلى أين؟
قال: إلى أن أقطع هذه الشجرة التي تُعبد من دون الله، قال: ليس لك إليها سبيل، قال: لا، بلى، فتعاركا، فغلب الشيطان، ثم قال له:
هل أقول لك ما أفضل من ذلك؟ قال نعم..
قال: دعها ولك بذلك كل يوم دينارين، قال: من يضمن لي ذلك، قال: أنا، تحت وسادتك، فرجع الرجل فوجد الدينارين تحت وسادته في اليوم الأول، وفي اليوم التالي لم يجد الدينارين، فقام ليقطع الشجرة، فاعترضه الشيطان قال: ليس لك إليها سبيل، فتعاركا فخنقه الشيطان.
اُنظُر إلى بركة الإخلاص في المرة الأولى:
يقول له الشيطان ذلك، قال له الشيطان، وأنك قد خرجت لله في المرة الأولى، فلم يكن لي عليك سبيل، لم يتمكن منك الشيطان، فلما خرجت في المرة الثانية خرجت للدينارين، خرجت لحظ نفسك، لمصلحتها، لمدحها، لحظوظ الدنيا، لشهواتها، خرجت لأنك تُعَظِّم ما في نفسك من شهوة إلى المال، إلى الجاه، إلى المدح، إلى السلطان، إلى أن يقال عنك كذا وكذا, فلم يكن لك عليَّ سبيل.. فتمكن منه الشيطان.(1/34)
وهي أعمال اليوم التي تُبَيِّن هذه القصة، وهو أن بركة الإخلاص لا يتمكن الشيطان من العبد، فإذا ما عمل الأعمال على غير الإخلاص لا يعبأ به الشيطان، يتلاعب به الشيطان؛ لأنه لم يكن لله تعالى في عمله، لا يريد به وجه الله فإذا به لا بركة له، ولا قوة في قلبه له، ولا قوة في بدنه عليه من هذه الأعمال الصالحة، فإذا بالشيطان يَصْرَعُه، فإذا قام يصرعه، فإذا قام يصرعه وهكذا، كلما أراد بعمل غير الله تعالى إذا بالشيطان يتمكن منه، وإذا به لا يستطيع أن يتقدم إلى الله تعالى، وكل أعمالنا إلا من رحم الله تبارك وتعالى يشوبها ذلك، إلا الإخلاص والمخلصون كما قالوا: على خطر عظيم
وهذا الشهر إذًا شهر الغفلة هو الذي يُظهر الإخلاص، لذلك كان كثير مِن السَّلف: كعبد الله بن مسعود يقول: إذا أصبحتم صائمين فَأَصْبِحُوا مُدَّهِنين.
حتى تذهب غُبْرَةُ الصيام، حتى لا يظن بك أحد أنك صائم، وأنك تُظْهِرُ الصوم، وأنك عصبي لأنك صائم، وأنك مصفر الوجه لأنك صائم، وكذا، وكذا مما يظهره المرء، ويحاول أن يداريها، وهو يحب أن يظهر، وتصرفات المؤمنين يعلمها الله تعالى منهم قبل أن يتميزها البشر.
لذلك قال: يصبحوا مُدَّهِنين حتى تذهب عنهم غُبْرَة الصوم.
فيظهرون للناس أنهم لا صوم، ولا شيء، وإنما يستخفون بذلك بينهم وبين الله تعالى؛ يكفيهم أن الله تعالى يعرفهم لأن النبي قال ( فيما روى عن ربه: ((إِلَّا الصَّوْمَ فَإِنَّهُ لِي)).
فهو سر بينه وبين الله تعالى، ((كُلُّ عَمَلِ ابْنِ آدَمَ لَهُ إِلَّا الصَّوْمَ فَإِنَّهُ لِي وَأَنَا أَجْزِي بِهِ))(26).
فيتعلم المرء من الصوم الإخلاص في بقية أعماله، وشهر "شعبان" شهر المجاهدة على هذا الإخلاص التي يتهيأ بها ل"رمضان".
------ الحل في كلام الله تعالى ----------(1/35)
فكانت الخصيصة العظمى التي تميز بها "رمضان" عن غيره هو القرآن الكريم كما قال ? شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ ?[البقرة:185].
فيجب أن يكون هذا القرآن في مَحِلَّ اهتمام المؤمنين ؛ لأنه إذا كان المرء يستعد لـ"رمضان" بالقرآن فاستعداده به لابد أن يكون سابقًا له؛ حتى إذا أتاه "رمضان" وجَدَ حلاوة القرآن ؛ لأنه قد تدرَّب عليها، وانشرح صدره بها، ودام لسانه عليه، وأقبل على التفكُّر فيه، والتدبُّر لآياته، والتذكُّر بها، ثم أنزل القرآن الكريم الذي هو الشفاء والرحمة على أمراضه وعلله التي يخشى منها سوء العاقبة، وألا خرج من رمضان لم يُحَصِّل شيئًا.
فهذا القرآن قد واجهنا هذه الأيام، ونحن في هذه الحال السيئة من ضعف العزيمة، وضعف الهمة، والركون إلى الدنيا، وكذلك حالة الغفلة التي نحن فيها، وكذلك حالة عدم الاستعداد للقاء الله تعالى، وإنَّ مما يشفي الصدور، ويُقَوِّي العزائم، ويرفع الهِمَمَ، ويكون سببًا للرحمة، والبركة التي يريد المرء أنْ يُحَصِّلَها أن يعود مُنْكَبًّا على كتاب الله تعالى.
فقد كان السَّلف الصالح إذا أتى "شعبان" أغلقوا حوانيتهم، وانْكَبُّوا على كتاب الله تعالى؛ يريدون أن يُحَصُّلوا منه ما ذكرنا من ذلك الشِّفاء الذي ذكر الله، ومن تلك الهداية التي نَبَّه الله تعالى عليها، ومن تلك البركة التي وصف بها كتابه.
أما الهداية والشفاء والبركة التي نشير إليها في القرآن الكريم، فهي مما يحتاجه النَّاس اليوم.
إنَّ سَير المؤمنين - بصفة خاصة -في طريق الله تعالى سَيْرٌ متذبذب، متردد ليس مستقيمًا ، فضلًا عن أن يكون مترقيًا به إلى الله تعالى .
أَيْ: لا يكون في كل يوم في ازدياد ، في سيرٍ إلى الله تعالى، وإنما يسير يومًا أو يومين ، ثُمَّ يرجع عن الصلاة وعن الذِّكر، وعن القرآن، وتجد بينه وبين القرآن هذه الوَحشة.
حَلُّ ذلك: في كلام الله تعالى.(1/36)
ثم إن المرء إذا أقبل على الشَّهوات، والصُّور والمناظِر والدنيا وشهواتها وغير ذلك وانطبع كل ذلك في قلبه حتى أخرجه إلى الغفلة، وأخرجه إلى المكروه، وأخرجه إلى المعاصي، وأخرجه إلى الوساوس، والخطرات السيئة التي تملأ قلبه لا يصفو له قلبه ويستقيم على طريق الله.
و حَلُّ ذلك أيضا: في كلام الله تعالى.
والمرء في هذه الأيام البركة قد محقت أوكادت من كل شئ ، وهي مصيبة حَلَّت علينا بسبب قلة الطاعة والعبادة، وبسبب قلة الأُلفة، والتكافل والتراحم بين أهل الإيمان، وبسبب الإقبال على الدنيا والانشغال بها، والزهد في الآخرة والغفلة عنها، بسبب كثرة المعاصي والذنوب التي أحاطت بنا, بسبب قلة الإخلاص والمحبة والمعرفة لله تعالى.
ارتفعت بركة الله تعالى، ارتفعت هذه البركة في الوقت والجهد ، والمال ، والولد ، والخُلُق، فلم يَبْقَ وقت لأحد ليعمل فيه شيئًا، ولم يبق جهد ليقوم فيه بشيء، ولم يبق خُلُقٌ يستطيع أن يستوعب به شيئًا، وهكذا ارتفعت هذه البركات من بركات الله تعالى بسبب ما نحن فيه من سوء وعدم رفع الأعمال الصالحة المنجية إلى الله تعالى.
وقد ذكر الله تعالى هذه المشكلة في كلامه (؛ إذ القرآن سبب نزول البركة، وسبب انتشارها في الوقت، والجهد، والمال، والولد، والصحة حتى يستطيع المرء -كما كان أصحاب النبي ( أن يأتي بالأعمال التي لا يتخيل أنه يستطيعها.(1/37)
تُراهم في هذا الوقت القصير الذي قضوه في الدنيا -رضوان الله تعالى عليهم- كانوا يستطيعون أن يفعلوا ذلك كله، أن يفتحوا الدنيا، وأن يجاهدوا، وأن يُصَلُّوا، وأن يقوموا، وأن يذكروا، وأن يسافروا، وكان ولم يكن متيسرًا لهم، لا هذه الركوبات التي يركبها النَّاس اليوم، ولا هذه الأمور التي تُخَفِّف عنهم مشاق الحياة، بل كانوا يتحملون كل هذه المشاق، وكل هذا التعب، ومع ذلك بُورِك لهم في وقتهم وبورك لهم في جهدهم، وبورك لهم في سعيهم، وبورك لهم في خطواتهم، وبورك لهم في مالهم وأولادهم، وبورك لهم في صحتهم؛ كان الضعيف منهم يقاتل على هذا النَّحو الذي سَمِعنا، ويُجْرَحُ ويقاتل، ويجرح ويقاتل ويعود، ولم يكن هناك ما يمكن ما يضمد به جراحه، أو القيام عليه بما تعود به صحته؟!
وسبب هذه البركات التي نزلت عليهم، وهذه الرحمات التي حَلَّت بهم، وانظر إلى ما رُفِعَ عنَّا منها، وإذا رُفِعَ شيء من ذلك فإنما النَّاس هم السبب ? وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ ?[الشورى:30].
--------- هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ ---------
نعود إلى أوصاف القرآن الكريم وأولها:
الموعظة:
فإِنَّ الله تبارك وتعالى يَمْتَنُّ على المؤمنين بكل هذه المنن والنعم كما يقول ابن كثير وغيره من المفسرين في قوله: ? يَا أَيُّهَا النَّاس قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ ( قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ ? [يونس: 58:57].
ونستفتح بهذا المعنى الذي قد فُقِدَ في حياة المؤمنين..
? يَا أَيُّهَا النَّاس قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ ? هذه الموعظة هي ذلك الزَّاجِر الذي يحمل النَّاس على الطاعة، ويمنعهم عن الفحشاء والفسوق، هذه معنى الموعظة.(1/38)
? قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ? يعني : تَحْمِلُكُم على الاستقامة، والبُعد عن المعصية، والسير في الطاعة، هذه الموعظة تأخذ بقلوبكم، وتأخذ بعقولكم إلى الله تبارك وتعالى، وهذه الموعظة مِنَّةٌ من الله تعالى لكم، حتى لا يترككم سبحانه وتعالى بغير موعظة، تثبت أقدامكم وتحفظكم في طريقه فلا تروغوا عنه ، وإنما كان من رحمته عليكم، ومِنَّتِه بكم سبحانه وتعالى أن أرسل إليكم هذه المواعظ كما ذكر المولى -سبحانه وتعالى- في هذا القرآن في قوله تعالى: ? وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً وصرفنا فيه من الوعيد لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْراً ?.[طه:113]. لعلهم يتقون به المولى سبحانه وتعالى، أو يُحْدِث لهم هذا القرآن الذكرى والعِظة، والاعتبار التي تحملهم على السير إلى الله تعالى.
وقوله ? قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ ? ففي إضافة الرب لهم ?رَبِّكُمْ? دليل العناية بهم, والشفقة عليهم إذ هو مولاهم ومربيهم بنعمه.
والمعنى التالي هو.. الشفاء
أُصِيب المؤمنون اليوم بأمراض كثيرة في قلوبهم وأبدانهم، وأمراض القلوب هي الأساس في ضعف الإيمان، وقلة الطاعة، والركون إلى الدنيا، والميل إلى الشهوات، ونسيان الآخرة، والغفلة عن الرحيل إلى الله تعالى، والاستعداد لذلك، وأخذ الحذر لملاقاة الله تعالى .
وهذا القرآن قد جاء ليستشفيَ المرء من جميع العلل: من عِلل الشبهات والشهوات، وكلام الله تعالى صادق، ونحن المقصرون الخطاءون المتلوثون الذين بسبب عدم ما ذكر الله تعالى من تلقي هذا القرآن الكريم لم ينتفعوا بهذه الموعظة، ولم ينتفعوا بهذا الشفاء.(1/39)
لَمَّا قال: ? وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ ? لَا بُدَّ وأن يكون كذلك، فإنَّ كلام الله تعالى لا خُلْفَ له، وانظر إلينا وإلى صدورنا، وما امتلأت به من الشَّهوات والشُّبهات، وما امتلأت به من الضعف والوَهْن، وما امتلأت به من الآفات والرذائل التي كانت سببًا لضعف البدن عن السير إلى الله تعالى، والتي كانت سببًا في غفلة المرء عن تذكر آخرته والإقبال عليها، ترى لو كان صدره هذا قد شُفِيَ مما هو وتَعافى، وقويَ على الطاعة، وصار هذا القلب مستنيرًا بنور الإيمان، مزهرا بِسِرَاجِه، قد انقمعت منه الشهوات، وانقطعت فيه الشبهات، سار بعد ذلك إلى الله تعالى؛ لأنه صار عَفِيًّا، قويًّا حيًّا كما يقول المولى في الآيات التالية.
? وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ ?.
والمؤمنون على هذه الحالة التي نحن فيها اليوم هدايتهم ناقصة لا شك، بدليل التي كررنا وصفها من قبل. ثم يعود السؤال:
مَنْ الذي قد استقام على سيره، وازداد في درجاته، وقام إلى الله تعالى كما ذكرنا في قوله: ((قم إليَّ أمشي إليك)) الذي أشرنا إليه في الحديث في المرة الماضية؟
وَمَنْ الذي استكثر وازداد من العمل الصالح، الذي أمره الله به؟
ومَنْ الذي كان على حَذَرٍ من الموت وخوف منه، إذا أصبح لا ينتظر المساء، وإذا أمسى لا ينتظر الصباح، وأخذ من دُنْيَاهُ لِآخرته، ومن حياته لموته، ومن صحته لمرضه ، وسار هذا السَّير الذي يُنبئ على أنَّه قد خاف ربه وخشاه، وأنَّه قد أقبل عليه لا يتردد في إقباله (، وتَعلَّق به تَعَلُّق الذي لا يَدُلُّ إلا على أنه لا نجاة له إلا به، ولا فلاح له إلا في التعلُّق به، ولا خروج له مما هو فيه إلا بأن يكون مُتَعَلِّقًا بالله تعالى.
? وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ ? فهذه قد أكدَّها المولى -سبحانه وتعالى- في آية أخرى: ? قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدىً وَشِفَاءٌ ?[فصلت:44].(1/40)
وَخَصَّ الله تعالى المؤمنين بالهداية والشفاء فيه؛ ولأهمية الهداية, فإن المؤمن يطلبها بالدعاء من الله في كل ركعة يصليها ? اهدنا الصراط المستقيم?[الفاتحة:6] لاحتياجه الشديد لها, وللازدياد منها, وليهديه طرقها وأسبابها ومايكملها. لأنَّ الظالمين لا يزيدهم القرآن إلا خسارًا كما قال تعالى: ? وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَاراً ?[الإسراء:82] فلا ينتفع بهذه الهداية والرحمة ةالشفاء إلا المؤونون, وذلك على قدر إيمانهم,فالكُمَّل هدايتهم ورحمتهم وشفائهم تام, وغيرهم على حسب إيمانهم.
فهوكما قال المولى: ? قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدىً وَشِفَاءٌ ?، والمرء قد سمع الآيات هذه مرات كثيرة، ومع ذلك لم يستهدِ بهداية القرآن الكريم، بل حال المؤمنين اليوم الإعراض عن هذا الكلام، والهجر له، والذي يدخل في قوله تعالى: ?يَا رَبِّ? في عتاب النبي ( : ?إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُوراً ?[الفرقان:30].
قد هجروه علمًا وتَعَلُّمًا، وتلاوةً، وحفظًا، وعملًا، ودعوةً، وشفاءً، وتحكيمًا وتحاكما. هذه الأنواع من أنواع الهدي قد تُرِكَت حتى لم يكن القرآن على قلوبهم بهذا الشفاء، تراهم لو كانوا مُصَدِّقين بأنَّه شفاء وأنَّه هدى، وأنَّه رحمة تراهم قد قصَّروا فيه؟!
مَن الذي حصل من ذلك شيئًا؟ من الذي حَزُنَ على أنه لم يحصل شيئًا؟ ومَن الذي حاول أن يجاهد على تحصيل شيء منها؟ ومَن الذي آلمه وأحزنه أن يبعد عن القرآن، وأن يكون بينه وبين هذه الوحشة، وأن يكون في الصَّفِّ الأخير الذي لم يحصل من كلام الله تعالى لا شفاء ولا هدى ولا رحمة؟
قد جاءكم الحل من ربكم، كما قال تعالى: ? يَا أَيُّهَا النَّاس قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ ? الآية التي ذكرناها، وفي آية النساء كذلك:(1/41)
? قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُوراً مُبِيناً ( فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ ?[النساء:174-175].
فضل الله
وهي الآية التي قال فيها المولى:
? قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا ? وكذلك قوله تعالى:
? وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُوراً مُبِيناً ( فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ? وكذلك قوله (: ? قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا? فأخبرنا أن المعتصمين به سيدخلهم في رحمة منه وفضل, وأمرهم بالفرح بفضل الله لا بغيره.
تُرَاهُم قد فَرِحوا بشيء من ذلك، تُراهم حصَّلوا شيئًا يفرحون به، ويُسَرَّون به فيكون سبب إقبالهم على ربهم، ومحبتهم له، فتتنزل عليهم رحمته، وتحيط بهم هدايته، ويستضيء لهم نورهم إن الذي يحصلون به ذلك هو اعتصامهم بالله, واعتصامهم بالقرآن الكريم
? وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُوراً مُبِيناً ( فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ? ولأن معنى اعتصموا به أي: اعتصموا بالقرآن النور المبين الذي أنزلناه، أو اعتصموا بالله،وكلا التفسيرين صحيح ? وَاعْتَصَمُوا بِهِ? يعني: بهذا النور المبين الذي أنزلنا، لقوله: ?وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً ?[آل عمران:103]. أو اعتصموا به أي بالله.
الاعتصام بهذا القرآن، إذ هو عِصْمَتُهُم التي ينبغي أن تكون هدفهم هذه الأيام، ومقصودهم هذه الأيام؛ ليزيلوا تلك الوحشة ، وليزيلوا ذلك الجفاء ، وليرفعوا تلك البلايات التي نزلت عليهم ، والمصائب التي حَلَّت بهم أفرادًا وجماعات عليهم وعلى غيرهم، وليكونوا هم الأقرب إلى الله ? قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا ?.
الفرح بفضل الله وبرحمته(1/42)
هو سبحانه الذي يعطيهم الفضل والرحمة الذي تكون سبب الفرح، وهو خير مما يجمعون ، وكأنهم لما أنزل عليهم الكتاب شفاءً لِما في صدورهم ورحمةً بهم ، وهدايةً لهم، إذا بهم يتركونه ويحاولون أن يجمعوا حُطام الدُّنيا الزائل، فذكَّرهم بأن غفلتهم عن كتاب الله تعالى مع جمعهم الدنيا كلها لا تساوي فرحهم بفضل الله ورحمته ، لا تساوي جمعهم الذي جمعوا ? قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا ?.
فبذلك فَلْيُسَرُّوا، فبذلك فَلْتَنْشَرِحُ قلوبهم، فبذلك فليتنعموا ? هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ ?.
لا شك أن فضل الله تعالى، ورحمته هو الخير الذي يحرص عليه المرء.
المعنى الثاني: أن هذا الخير الذي تحرص عليه، وذلك الفضل الذي تستمسك به، وتحاول أن تحصله من ربك لن يُضيع عليك الدنيا التي تخاف عليها ، بل يكون سببًا في أن تَحْصُل لك الدُّنيا التي تُضَيِّعُ بها الشِّفاء والرَّحمة والهداية والبركة بسبب الجمع، لو حصَّلت هذه لهداية والرحمة أتاك فضل الله ? قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ ?[يونس:58].
وتُراهم إذا جمعوا هل يجمعون شيئًا لم يُكتب لهم؟
كلا، وإنما يجمعونه وقد فضَّلوه على رحمة الله ، وفضَّلوه على هداية الله، وفضَّلوه على فضل الله.
تُراهم خائبين خاسرين، أم تُراهم مسرورين فرحين بأمر الله تعالى مُنَعَّمين بهذا النعيم الذي أتاهم، مستأنسين به، مُقْبِلين عليه ، أم هم غافلون عنه.
رأينا من أعظم الأعمال التي ينبغي أن يستعد بها لـ"رمضان" ما افتقدناه في "رمضان" وفي غير "رمضان" وكان سببًا من الأسباب المباشرة في ضعف القلب، ومحق البركة، ونقص الهداية.
وكذلك: في منع فضل الله تعالى عن المؤمنين، وهو الاهتمام بكلامه سبحانه وتعالى، لذلك نَذْكُر المعنى الثالث هو:
البركة(1/43)
وهو معنى البركة التي قد انمحقت، أو كادت من أوقات المؤمنين وجهدهم، والتي لم يبقَ لهم شيء إلا أنهم تَمُرُّ أيامهم وتدور هكذا دواليك، سُرعان ما أن يصلوا بذلك إلى نهايتهم ، وأن ينزلوا في محطاتهم قريبًا إلى الله تعالى.
وهذه البركة التي ذكر الله تعالى في كتابه قال فيها: ? كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ ?[صّ:29].
فإذا قال الله تعالى: ? كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ? فإن تلاوته وتَدَبُّره، وتَفَهُّمَه، وحِفظه وتَعَلُّمه، وتعليمه، والتحاكم إليه، والاستشفاء به من عِلل القلب والبدن، كل ذلك إذا حصَّله المرء فإنه يحصِّل به تلك البركة التي ذكر الله تعالى، وكلما ازداد المرء من ذلك ازداد بركة ?وَهَذَا ذِكْرٌ مُبَارَكٌ أَنْزَلْنَاهُ أَفَأَنْتُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ? [الأنبياء:50]، والآية الأخرى: ?كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ?[صّ:29].
?وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ? [الأنعام:155].
فهذه الآيات الكريمات التي تبين بركة القرآن في تدبر الآيات والتذكر فهو سمة أولى الألباب ثم ينبني عليه الاتباع والتقوى فتلك طرق قد بينتها الآيات الكريمات لنزول البركة.
-----كيف يذهب عنا نكد الدنيا وضيقها؟-------
وهذه مسألة مهمة، وهي فرح المؤمنين وحزنهم مرة أخرى(1/44)
إن حزن المؤمنين اليوم إنما ذهابه أن يفرحوا بالله تعالى، أن يفرحوا به في طاعتهم إياه ، وفي رضاهم بقضائه وقدره، أن يفرحوا به ( فيما يعطيهم من القوة، والمدد، وفيما يعطيهم ( من النور والهداية، وفيما يقوم في قلوبهم من حلاوة الإيمان والطاعة، ومشاهد الآخرة فيما يكون به قوتهم على السير إلى الله تعالى ، وأن يأخذ بأيديهم إليه، ذلك يُذْهِب عنهم نَكَدَ الدنيا وضيقها ، ويُذْهِب عنهم شقاءها وعَنَتَها ، ويُذْهِب عنهم كذلك كل آلامهم، وأوجاعهم، فإذا بهم في عامة أحوالهم فرحين بالله تعالى؛ لأنه قد وَفَّقَهم لِما لا يمكن لأحد أن يُوَفِّقَهم إليه ، وأعانهم بما لا يستطيع أحد أن يعينهم عليه، من طاعتهم له ، ومن اجتبائهم له، ومن اصطفائهم له، ومن إقبالهم عليه، وشرح صدورهم بشوقهم إلى ربهم، وكثرة ذكرهم له، وسكينتهم به، وطمأنينتهم إليه سبحانه وتعالى، ماذا يريد المرء؟
لو حَصَّل ذلك في الدنيا أو شيئًا منه حصل نعيم الآخرة ؛ لأن ذلك نعيم الدنيا، وهو علامة وأمارة على تحصيل نعيم الآخرة، مَن لم يُحَصِّله في الدنيا لا يُحَصِّله في الآخرة.
ولذلك قال في الحديث: ((مَنْ أَحَبَّ لِقَاءَ اللَّهِ أَحَبَّ اللَّهُ لِقَاءَهُ))(27) .
مَن الذي يحب لقاء الله ويحرص عليه ، ويسارع له، ويعمل كل العمل والجهد ليُحَصِّل ذلك الشوق، وليأتنس بذلك الأنس؟
ما الذي يمنع المؤمنين من تحصيلها؟
----- لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ -------
اسمع هذه الأية أولا: يقول المولى سبحانه وتعالى:
? إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ ?[قّ:37].
قد يكون هذا الكلام بعيد عن هذا الموضوع, ولكنه في قلب هذا الموضوع(1/45)
? إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى ? وهو أن الاستفادة بما سبق من الموعظة التي وعظ الله تعالى بها المؤمنين: ? لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ?.
يذكر الإمام "ابن القيم" في هذا المعنى:
أن القلب حتى يتأثر بهذه الموعظة، فلابد وأن يكون هناك المؤثر الذي يؤثر، وهناك المحل القابل الذي يَقْبَل هذا التأثير، ولابد وأن يُشْتَرَط شرط لحصول هذا التأثير ، وأن تنتفي موانع التأثير (28) .
و معنى هذا الكلام:
أن يكون هناك القرآن الكريم وهو المؤثر الذي يتأثر به النَّاس، وأن يكون هناك المحل القابل لذلك، وهو القلب، ويُشترط لذلك؛ أن يؤثر المؤثر في المحل؛ يعني: أن يؤثر القرآن في القلب؛ أن يلقى السمع والإنصات إليه ، وهو الشرط.
والرابع: أن تنتفي موانع السمع من اللهو عنه، والغفلة عنه، وعدم الإنصات له الإنصات الكافي ، وعدم الاستماع له كما قال:
? وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ ? [لأعراف:204].ف
فشرط تحصيل هذه الرحمات كما قال هو الإنصات والسمع من ناحية.
ومن ناحية ثانية: هو التلاوة والتدبر والفهم كما قال في الآية التي أشرنا إليها:
? كتاب أنزلناه مبارك ليدبروا آياته ?.
فبَيَّن أن تحصيل الهداية، وتحصيل البركة، وتحصيل الرحمة، وتحصيل الفضل لابد أن تتحقق له السَّمع والإنصات لتلاوته، وأن يتحقق له بعد ذلك التَّدبر والفَهْم، ثم الاتباع والعمل والتقوى ?فاتبعوه واتقوا لعلكم ترحمون?.(1/46)
وكأنَّ البركة التي في هذا القرآن مُتَعَلِّقة بالتدبُّر، فوجدنا البركة والرحمة والهداية متعلقة بالتلاوة والتدبر والإنصات والفهم والعمل كما قال: ?الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ ?[البقرة:121?، ? إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرّاً وَعَلانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ ? [فاطر:29].
فوجدت هذه البداية إذًا لِيَتَحَقق هذا المعنى ، وقد يسأل السائل كما يقول الإمام ابن القيم:
إذا كان ذلك في قوله: ? إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ ?[قّ:37] لماذا قال "أو"؟
قال: لأن النَّاس المحصلون لذلك فريقان وغيرهم لا يحصل شيئا:
الأول قلوبهم حيَّة: فهي تتأثر بالقرآن مباشرة؛ تجول في معانيه، وتتدبر في آياته، وتستفيد ذلك إيمانًا ، وتستفيد ذلك يقينًا كما سنذكر الآيات التي تتدل على شيء من ذلك.
وهذا القلب الحي الذي قال فيه الله تعالى فيه: ? أَوَمَنْ كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاس ?[الأنعام:122].
فهذه الحياة هي حياة القلب، وهو القلب الذي كما ذكرنا ليس بينه وبين القرآن حواجز، وليس بينه وبين القرآن شهوات، ولا آفات، ولا مرديات، ولا مهلكات، ولا موانع، وإنما يتنزل عليه القرآن فإذا به متدبرٌ له ، سامعٌ له، منصتٌ له، عاملٌ به، يَضَعُه على أمراضه وعِلله فيستشفي بها، وهذا الذي كان كما قالت عائشة: (( كَانَ خُلُقُهُ الْقُرْآنَ ))(29) .
(، انطبع هذا القرآن في القلب، فظهر على تلك الجوارح.
والثاني:
? أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ ?[قّ:37].(1/47)
قلبه ليس بهذه الدرجة من الحياة، فهذا يحتاج لأن يتدبر هذه الآيات، وحتى تقع هذه الآيات على قلبه موقع الشفاء، وحتى يتنزل هذا القرآن على قلبه تَنَزُّل الرحمة، وحتى يصيب منه البركة، وحتى يصيب منه هذا النور، وهذه الحياة لابد وأن يُلقِيَ السمع، وأن يَحْضُر معه القلب، أن يجاهد أن يكون منصتًا كما قال: ? وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا ?[لأعراف:204].
وأن يكون في نفس الوقت حاضر القلب مقبلًا عليه ، قد قطع كل الشواغل عنه، حتى يكون سببًا لهدايته، ودخول النور إليه، فأنت بين أمرين:
بين قلب حي لا يحتاج لشيء غير القرآن، نازلٌ عليه، متفهمٌ له، متدبرٌ له، يعمل به، يَحْزُن لوعيده، ويفرح لرحمته ويقوم بأمره، وينتهي عن نهيه، ويتعظ بقصصه ومواعظه، ويسير به السير الذي كان عليه حال النبي ( ، أو أنت لم تصل بعد إلى هذه الدرجة فتحتاج إلى الإنصات، وشهود القلب حتى تتنزل عليك هذه الرحمات.
ونحن كما ترون حالتنا لا على الإنصات وحضور القلب، متوجهان حال قراءة القرآن، ولا أن القلوب هذه حيَّة من أصلها تقوم بذلك.
? إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ? أي: قلب حي ?أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ ?[قّ:37] إذا لم يكن على هذه الدرجة من الحياة، وهو حاضر، شاهد، يشهد قلبه هذه المعاني.
وهذا يبين لنا الأحوال التي ينبغي أن يكون عليها المؤمنون، واسمع إلى قول الله تعالى في هذه الآيات:
? الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ?[الزمر:18] هذه الأولى، ? أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ ? بعد إلقاء السمع قال: ? الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ?.
وقرآن الله تعالى وكلامه كله حسن.
أما "الأحسن" هذه: فهي متعلِّقة بالمُكَلَّف، المكلف نفسه يرى هذه الأمور التي تُقَرِّبه إلى الله تعالى، فتكون في حقه هي الأحسن الأكثر تأثيرا من غيرها وبسببها يكون أكثر حياة وإقبالا وعملا.(1/48)
نرجع إلى السؤال كيف يحصِّل المرء هذه الأحوال؟
------ أحوال المؤمنين مع القرآن الكريم-----------
الله تعالى قد ذكر أحوال المؤمنين مع القرآن فقال:
?لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعاً مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ?[الحشر:21].
ومعنى الآية: أنه لو أنزل هذا القرآن على جبل رأيته خاشعًا، متواضعًا، ذليلًا.
"متصدعًا" يعني: قد تشقق من نزول القرآن عليه؛ من خوفه وتأثره به.
? وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا? لأولئك الذين لم يصلوا بعد إلى حالة الجبال الصُّم، وإلى هذه الصخور الصلدة بحيث لم يتأثروا بالقرآن، ولم يخشعوا عنده، ولم يتصدعوا لوعده ووعيده، ولم يكن سبب موعظتهم، وسبب خشوعهم، وسبب تَذَلُّلِهم وانكسارهم، وبالتالي سبب إقبالهم على ربهم، وحزنهم لما فاتهم من حظهم من الله تعالى.
وكأنَّه يعيب عليهم أنَّ الجبال لو نَزَلَ عليها القرآن ما كان حالها كحالهم ؛ فالجبال الرواسي، هذه الجلاميد الصماء حالها أفضل حالًا من هذه القلوب القاسية التي ينزل عليها القرآن فلا تتأثر، ولا تخشع، ولا تتذلل، ولا تتواضع هذه حالهم.
والحالة الثانية وهي البكاء: ذكرها القرآن الكريم كذلك ليبدأ المرء ليتمرن عليها في هذه الأيام بعد الاستماع كما أشرنا، والتدبر والإنصات وحضور القلب؛ ليكون سببًا في أن يأتي "رمضان" وقد امتلأ قلبه من كلام الله تعالى، فيكون سببًا لنزول الرحمة والعتق من النار، وأن يخرج من "رمضان" لا كما دخل فيه كما قال النبي: ((وَرَغِمَ أَنْفُ رَجُلٍ دَخَلَ عَلَيْهِ رَمَضَانُ ثُمَّ انْسَلَخَ قَبْلَ أَنْ يُغْفَرَ لَهُ ))(30).
هذه المواعظ التي تهيؤه لِأَلَّا يُحَصِّل الخسارة والخيبة مرة أخرى.(1/49)
لذلك قال الله تبارك وتعالى: ? إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ سُجَّداً (وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولاً( وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعاً ? [الإسراء:107- 109].
ينبغي أن يكون المؤمنون إذا تُلِيَ عليهم هذا القرآن خروا له سُجَّدًا وبُكيًّا كما في الآية التي ذكر الله تعالى في سورة مريم، وفي قوله جل وعلا: ?مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْرائيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّداً وَبُكِيّاً?[مريم:58].
وهذا معناه أنهم إذا سمعوا هذه الآيات أصابتهم بهذا البكاء الذي يَدُلُّ على تأثرهم كما قال: ? أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ ?[قّ:37].
تأثرهم وتذكرهم واعتبارهم وعظتهم ? قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ ?[يونس:57].و
كما قال:? شِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُور ?[يونس:57] بأن تَشْفَى هذه الصدور بهذه المعاني، إذا بالبكاء هو أسرع شيء إليها؛ لأنها قد رأت الوعد والوعيد، وشاهدت مشاهد الآخرة، واقتراب رحيل الدنيا، وشاهدت القبر وعذابه ، والبعث وما فيه من أهوال وكُرَب، وشهادة موقفها بين يدي الله تعالى الذي يَبْعَثُ على البكاء ليلهم ونهارهم، وقد كان النبي ( وهو يقرأ القرآن يبكي، ولصدره أزيز من البكاء كأزيز المِرْجَل، وهو القِدْر الذي يغلي الماء فيه وكما صورهم فأجلى صورتهم وحسَّنها.
?إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ سُجَّداً ( وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولاً ( وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعاً ? .
هذان الأمران: البُّكاء، وزِيَادَة الْخُشُوع.(1/50)
لذلك: كان "ابن عباس" إذا تُليت الآية يقول: انتظر! هذا هو السجود فأين البُّكاء؟
لذلك كان عبد الله بن عمرو ( يقول: ((ابْكُوا فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا بَكَاء فَتَبَاكُوا))(31).
وإذا لم يستطع المرء أن يبكي، أو أن يتباكى فليبكِ على موت قلبه، فليبكِ على حاله التي لم تصل إلى هذا التأثر، فهذا الموضوع إذًا:
من أهم موضوعات الدين ، أنَّ لا ترى نفسك خاشعًا متصدعًا باكيًا عند قراءة القرآن.
الحالة الثالثة قشعريرة الجسد:وقد بيَّنت هذه الآيات معنًى آخر من المعاني التي تكون عليها حالة المؤمنين كما ذكر الله -تبارك وتعالى- في قوله:
? مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ?[الزمر:23].
إذا كانت أعينهم تبكي عند سماعه فهذا القرآن كذلك عند سماعه تقشعر جلودهم له؛ خوفًا وخشية من وعيد الله تعالى فيه ، ومما ذكر، ثم يصيبهم الرجاء والرحمة، فتلين هذه القلوب مرة أخرى لله تعالى.
فالخوف والرجاء، بإِلَانِة هذه القلوب يستطيع المرء أن يسير إلى الله تعالى.
فهذه القشعريرة التي تصيب أجسامهم، وهذا البكاء الذي يصيب كذلك أعينهم، إنما هو دليل حياة القلب، ودليل الإقبال على الرَّب، ودليل الاتعاظ بالموعظة والتَّذكر بهذه الذكرى التي أشرنا الله -تبارك وتعالى- بها إلى المؤمنين.
-------------------- أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَاناً ؟--------------
والمرء لا يحتاج إلى أن نقول له انظر إلى حالك أيها المسكين !! أين بكاؤك وخشوعك الذي تذكر ؟!، ونبين حالة المؤمنين الأولى في قوله سبحانه وتعالى: ? وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَاناً فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَاناً ?[التوبة:124].(1/51)
فإذا كان الخشوع والبكاء الذي ذكرنا، وقشعريرة الجسم، والتأثر، والتصدع الذي ذَكر الله تعالى دليله على أنَّ هذا الكلام صادق، وليس كَمَن يسمع القرآن، فيبكي، ثم ينصرف إلى لَهْوِهِ مرة أخرى، وإلى دُنْيَاه، وكأن شيئًا لم يكن، أو يقشعر جلده شيئًا ،ثم يعود مرة أخرى إلى ما كان فيه من اللهو واللعب والغفلة، لا، وإنما قال المولى:? فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَاناً ? وهذه فيها معنيان :
المعنى الأول: هو تواصيهم سمع القرآن؟ نعم ، ماذا أفادك القرآن؟ ازددت به إيمانًا أو لا؟ ارتفعت به درجة الإيمان أو نزلت؟ ازددت به قُربًا ومحبة لله تعالى؟
ازددت به طاعة واقترابًا من الله سبحانه وتعالى؟ ازددت به زهدًا في الدنيا وإقبالًا على الآخرة؟ ازددت به رفعة ودرجة عند الله كما هو حال القرآن في أنَّه في الآخرة يُقال له اقرأ ورَتِّل كما كنت تقرأه، أو كما كنت ترتله في الدنيا، فدرجتك عند آخر آية تقرئها، ? أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَاناً ? ؟
فهل من سائل يسأل عن ذلك ، دعك من السائل، فليس ثَمَّ سائل يسأل ? أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَاناً ?؟
لم نسمع أن أحدًا قد سأل أحدًا عن ذلك.
والمهم: زادتهم إيمانًا أو لا؟
? فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ ?[التوبة:124].
"يستبشرون" قال: يستبشرون بكل شيء، لقد حُذِفَ مفعول الفعل هنا؛ ليؤكد عموم الاستبشار، يعني: يستبشرون بماذا؟ بكل ما يمون سببا لبشراهم في الولى والآخرة من فضل الله تعالى.
قال : يستبشرون بزيادة الإيمان، يستبشرون برحمة الله، بفضل الله،برفع درجاتهم، يستبشرون بأن الله تعالى قد أحبهم، أن -الله تبارك- وتعالى أعدَّ لهم الثواب الجزيل، وأن الله تعالى قد قبلهم، وأن الله تعالى قد رفع درجتهم بكل ما يمكن أن يكون من بشارة يستبشر بها المرء في الأولى، تريد بها الدار الآخرة، ويريد بها ما عند الله تعالى.(1/52)
? أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَاناً فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ( وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ ?[التوبة:125].
نعوذ بالله تعالى من ذلك، ونحن في حالةبين الحالين فانظر إلى اصلاحها..
فانظر إلى ما ينبغي أن يكون القرآن على قلبك..
------ليلة النصف: لماذا مشرك أومشاحن ؟-------
ِنُذَكِّر الآن بليلة النصف من "شعبان"؛ لأنها مما يدخل معنا في الاستعداد لـ"رمضان" وهو قول النبي (:
((إِنَّ اللَّهَ لَيَطَّلِعُ فِي لَيْلَةِ النِّصْفِ مِنْ شَعْبَانَ فَيَغْفِرُ لِجَمِيعِ خَلْقِهِ إِلَّا لِمُشْرِكٍ أَوْ مُشَاحِنٍ)) (32).
وقضية الدخول إلى "رمضان" والخروج منه خروج الرحمة والمغفرة لا بُدَّ وأن يتحقق فيها هذا المعنى أيضا.
تُرى هؤلاء الذين قد دخلوا "رمضان" على القطيعة، وعلى الشِّجار، وعلى البغضاء، وعلى التنافر، وعلى الغِلِّ والحسد، وسوء الأخلاق فيما بينهم، مُتَقَاطِعون، مُتَدَابِرُون، تُراهم إذا دخلوا "رمضان" يُحَصِّلون المغفرة؟!
هم لم يُحَصِّلوها في "شعبان" في الليلة التي يغفر الله فيها لكل أحد إلا المشاحن, فخرجوا من "شعبان" متشاحنين فلا يغفر لهم . تُراهم يُحَصِّلونها في "رمضان"؟! ..كلا.
لذلك كان من الاستعداد المهم لـ"رمضان" أن يأتي النصف من "شعبان" فلا يكن بين المؤمنين مُتَشَاحِنٌ، ولا مُتَبَاغِض، ولا مُتَقَاطِع، ولا مُتَدَابِر يعني: قد انتفت الشَّحناء من بينهم، وانتفت البغضاء، والتقاطع والتَّدابر، كل أحد يُهِمُّه أن يُغفر له، يطَّلع الله تعالى عليهم فيقول: ((أَنْظِرُوا هَذَيْنِ حَتَّى يَصْطَلِحَا))(33) . فيطلع عليهم فيغفر لكل أحد إلا مُشْرِك أو مُشَاحِن.
وقد قَرَنَ الله تعالى الْمُشْرِك والْمُشَاحِن بعدم المغفرة، تراه إذغ لم يُغفر له في "شعبان" يُغفر له في "رمضان" كيف؟(1/53)
قد فتح الله سبحانه هذه الليلة إذًا ليكون حال المؤمن مع الله تعالى حالًا حسنًا يستحق المغفرة في "رمضان"، وأن تكون حال المؤمنين فيما بينهم كذلك تستحق المغفرة، فلا يأتي إذًا هذا اليوم، أو تلك الليلة عليهم إلا وقد صَفُّوا ما بينهم، إلا وقد تسامحوا فيما بينهم، يرجون مسامحة الله، إلا وقد تجاوزوا فيما بينهم؛ يرجون أن يتجاوز الله تعالى عنهم، إلا وقد استسمح كل أحدٍ غيره، أو أخاه فيما أتى في حقه، إن كان في عِرْضِهِ، في ماله، في أي شيء أن يستسمحه إياه، وكما قال النبي: ((مَنْ كَانَتْ عِنْدَهُ مَظْلِمَةٌ لِأَخِيهِ فَلْيَتَحَلَّلْهُ مِنْهَا فَإِنَّهُ لَيْسَ ثَمَّ دِينَارٌ وَلَا دِرْهَمٌ))(34) .
فليتحلله اليوم ..اليوم! لا ينتظر لغدٍ كما قال: ? اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ?[الحشر: 18] .
ولهذا المعنى، وهو مغفرة الله تعالى للمؤمنين في "شعبان" في ليلة النصف، لهذا المعنى استحب كثير من السلف أن تُقام هذه الليلة بعضهم استحب أن يقومها جماعةً في المسجد، وبعضهم قال: لا، لا يقومونها جماعة، وإنما يقومها كل أحد بمفرده؛ يرجو رحمة الله تعالى، ?وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا?[البقرة: 148] لسنا في باب بحث الأدلة في المسألة، وإنما قد صار قوم إلى ذلك، وصار قوم إلى منعه، والمقتصدون -في النصف - قالوا: لكل أحد أن يقومها في ليلته تلك لئلا يطلع الله على الناس فيجدهم مجتهدين وهونائم..بمَ يحصل المغفرة ؟
فإذا غفر له في "شعبان" ظهرت آثار المغفرة في بقية أيام "شعبان" فأتى عليه "رمضان" على أحسن حال من أحوال المغفرة، فازداد مغفرة وازداد رحمة، وكذلك كان أهلًا لأن يأتي عليه "رمضان" فينتهي ليعتق من النار.
------ التأدب مع كلام الله.. سبيل الإقبال عليه---------(1/54)
كيف يستعد المؤمنون بكلام الله تعالى، وكيف يَسْعَدون به، ويتنعمون بالإقبال عليه وتلاوته..
ذكرنا ما يتعلق بشئ من القرآن الكريم فمن قَصَّر فيه قَصَّر في شفاء أمراض نفسه في الظاهر والباطن ومن قَصَّر فيه قَصَّر في تحصيل البركة ومن قَصَّر فيه قَصَّر في هداية نفسه. ومن قَصَّر فيه قَصَّر في نزول الرحمة التي ينتظرها ?شفاء ورحمة للمؤمنين?
فهؤلاء الْمُتَخَبِّطُون الْمُتَحَيرون قد بَيَّن لهم طريقهم كذلك في سلوك هذا الكتاب الكريم، وأحيا قلوبهم حتى تستطيع أن تُقْبِل على كلام الله تعالى بقوله: ?وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنَا ?[الشورى:52].
سمَّاه المولى ( روحًا؛ لتوقف الحياة الحقيقة عليه؛ لأن المرء بغيره يكون ضعيفًا، أو ميتًا كما قال تعالى: ? أَوَمَنْ كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاس كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا ?[الأنعام:122].
لذلك كان مهمًا على المؤمنين مرة أخرى أن ينظروا في ذلك، وأن يعاودوا، وقد ذكر الله تعالى أحوالهم التي أشرنا إليها، وكان آخر ما ذكرنا في أحوالهم التي بَيَّنها الله -تبارك وتعالى- هي في قوله: ? وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إيمانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إيمانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ ?[التوبة:124].(1/55)
وهذا حالهم مع القرآن كما أشرنا هو التَّصَدُّع والخشوع والتواضع، وتشقق البَّدن والقلب عند سماع هذه المواعظ، وتلك الزَّوَاجِر، وتلك الآيات من الوعد والوعيد، وأوامر الله تعالى ونواهيه، وقصص الأنبياء وحكاية المكذبين معهم، وكذلك البُّكاء عند تلاوة هذه الآيات، ومن ثَمَّ كان المؤمن الحافظ لكلام الله تعالى، الحامل لكتابه جل وعلا لابد وأن يكون متميزًا عن المؤمنين الذين لا يتميزون بذلك، متميزًا عن بقية النَّاس ؛ فيُعْرَفُ بليله إذا النَّاس نائمون، وبنهاره إذا النَّاس مُفْطِرون، وبِبُكائه إذا النَّاس يضحون، وبصمته إذا النَّاس يخوضون، وبخشوعه إذا النَّاس يختالون، فهو حامل لواء الإسلام كما ذكروا، فلا يلهو مع من يلهو، ولا يلغو مع من يلغو، ولا يسهو مع من يسهو، وإنما له حالٌ أخرى مع الله تعالى أَمْلَتْها هذه المعاني التي لابد من توضيح شيءٍ منها اليوم، حتى تُبَيِّن كيف ينتفع المرء بهذا الكلام الذي أنزله الله تبارك وتعالى؛ لأنَّ عدم انتفاعه به دليل نهاية السُّوء التي يصل إليها القلب.
فإنَّ أول ما ينبغي لتالي القرآن الكريم أن يجاهد نفسه عليه، وأن يتأدب به تلك الأيام؛ ليعاود كلام الله، وليكون كلام الله تعالى السبب في صلاح قلبه وحاله، والسبب في رِفعة شأنه ومنزلته عند الله تعالى كما ذكرنا، فإن تالي القرآن الكريم يوم القيامة يُقال له:
اقرأ ورتل كما كنت ترتل في الدنيا، وارق، يترقَّى إلى الله تعالى بذلك، فإن درجتك عند آخر آية تقرأها.
أول ما يتميز به تالي القرآن هو أن يكون متأدبًا مع كلام الله تعالى، لا على هذه الحالة التي نراها في أنفسنا اليوم، بل يكون متوضئًا، مُسْتَقْبِل القبلة، مُتَخَشِّعًا، مُطْرِق الرأس، جالسًا كأنه يجلس بين يدي أستاذه الذي يعلمه كلام الله تبارك وتعالى، مُقبلًا على كلام الله جل وعلا.(1/56)
فإذا ما تحقق له ذلك فإنه يوشك أن يُقْبِل على كلام الله تعالى ، أما تلك الحالة التي ذكرها العلماء أن لا يكون مُتَرَبِّعًا، أو مُتَّكِئ، أو مائلًا، أو مُتكبرًا، أو على حالة من الحالات التي تبين عدم اهتمامه وتعظيمه لكلام الله تعالى، وأنه يتلوه كما يتلو كلامًا آخر، أو يقرأه ويُقْبِل عليه كما يُقْبل على شيء مِن الدُّنيا، يتساوى عنده كلام الرَّب وكلام العبد، لا!.
لذلك كان المؤمِن على تلك الهيئة من هيئات الأدب والخشوع والإقرار والإقبال الحسنة ينتظر ذلك الفضل من الله تعالى، وإن كان على أي حال يأخذ فضله، ويأخذ أجره، ولكنه كما قال تبارك وتعالى: ?الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِهِمْ?[آل عمران:191].
فبَيَّن أحسن أحوالهم أن يقرؤوا قائمين، أو أن يذكروا قائمين، ثم قاعدين، ثم مضطجعين، فمدح الكل، ولكنه قدَّم هؤلاء القائمين..
لذلك استنبط أهل العلم منها:
أن أحسن حالة، وأتم هيئة يقرأ فيها كلام الله تعالى أن يكون قائمًا في الصلاة في المسجد؛ فهي تلك الحالة التي ينبغي أن يَتَحَلَّى بها المرء كما قال: ? يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ ( قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلاً ?[المزمل:1،2].
فهذه الحالة التي ينبغي أن لا ينساها أهل الإيمان، وأن يُلازمها:
حالة الترتيل، وحالة البكاء.
وهما الحالتان اللتان يُقصِّر فيهما المرء في قراءته لكلام ربه، وبالتالي تقل عظمة الكلام في قلبه، ويَقِلُّ أجره وثوابه، ويقل انتفاعه بهذه الآيات الانتفاع التي ينتفع بها القلب ويحيا، والتي ينتفع بها المرء فَيُقْبِل على الله تبارك وتعالى، ويجد حلاوة الإيمان، وحلاوة الطَّاعة، وتَخِفُّ عليه أسباب النكد والضيق، أسباب المعصية وشؤمها، يخف عليه ذلك كله فإذا به إنسان جديد مُقْبِل على ربه يتدبر آياته ويتلوها.(1/57)
والترتيل يبين هذا المعنى-ليست هذه الْهَذْرَمة التي يقرؤها النَّاس اليوم- وليس هذه القراءة التي لا يتدبرون فيها كلام الله تعالى، وإنْ كان مِن فضله وكرمه وجوده( أن يُعْطِى لكلِّ تالٍ لكلامه من الأجر ما يناسبه لا يَحْرِمُ أحدًا، إلا أن يخرج عن حد التدبر، والتفهم، وحضور القلب، فأنى يكون ذلك مقبلًا على ربه إذ لا يقبل الله تعالى من القلب اللاهي الغافل عن الله جل وعلا؟
أما البكاء:وهي الحالة المفقودة تلك الأيام كذلك في هؤلاء المؤمنين، هي أن يبكوا عند كلام الله تعالى، لذلك قال النبي (: ((اتلوا القرآن وأبكوا فإن لم تبكوا فتباكوا)) .
يعني: إذا لم يبكِ المرء، …اتلوا وابكوا، فإذا لم تبكوا فتباكوا، وهي حالة تُظهِرَ مدى ما تأثر القلب به من خشوع، فيظهر هذا الخشوع على الجوارح بقشعريرة الجلد كما ذكرنا: ? تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ?[الزمر:23].
------ هل تُحَدِّثُك نفسك بشيء وأنت تتلو كلام الله ؟!!!---
حضور القلب والتدبر هي الحالة التالية التي ينبغي أن يكون عليها تالي القرآن الكريم؛ ليكون له عبرة وغذاء وشِفاء ونورًا وهداية ورحمة، يستمطر كما يمكن أن يكون في "رمضان" يستعد بها لـ"رمضان" وبعد "رمضان"، وأن يكون ذلك دأبه وحاله الذي يكون مع الله تعالى، هذه الحالة وهي حضور القلب والتدبر.
وحضور القلب: ذكر العلماء في قوله ( :?يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ ?[مريم:12].
أنه معناه: أن يكون إقباله على كلام الله تعالى، مُنْصَرَف الهمة إليه، لا إلى غيره، يعني: أن يأخذ الكتاب بِجِدٍّ.
قيل لبعضهم: هل تُحَدِّثُك نفسك بشيء -انظر إلى الحالة التي وصلنا إليها- إذا كنت تتلو كلام الله؟
قال: وأي شيء أحب إليَّ من كلام الله تعالى حتى تحدثني نفسي به؟
أي شيء أحب إليك من كلام الله، ليكون هذا الكلام توسوس لك به نفسه؟
وانظر إلينا المتلوثين الخطاءين، إلى آخر العبارات.
وانظر إلينا !!(1/58)
كيف يُقبل على كلام الله تعالى، فينتفي عنه الخشوع والتَّدبر والإقبال، وإذا به في سوقه ومشاكله ، وولده ، وماله ، وعِرَاكه وشِجاره وما كان، وما يمكن أن يكون حتى يخرج عن كلام الله تعالى، في صلاة أو في غير الصلاة، وإن كان عنده بقية من إيمان يقول: إنْ شاء الله! في الصلاة التالية أكون أحسن! هذه الحالة لا خشوع فيها ولا تدبر ولا إقبال.
ومن ثم ينبغي أن يُقْبِل بقلبه على الله تعالى، أي شيء أحب إليك من الإقبال على الله؟
أي شيء أحب عندك، وأرفع عندك وأعلى درجة عندك من النَّظر في كلامه، وصرف الهمة إليه، وحضور القلب عنده، إذا لم يحضر قلبك عند ذلك فعند أي شيء يحضر القلب؟
وفي أي شيء يتدبر القلب؟
لقد كان من عادة السلف الصالحِ، وقبلهم كان الرسول ( نفسه يتلو كلام الله تعالى على الحال التي أشرنا، ثم كان يقف عند الآيات، ذكروا أنَّه قام بآية واحدة يرددها طوال لَيْلِهِ (، ?إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ? [المائدة:118].
طوال ليله ( يقرأها، وقف عندها لا يتعداها، لِما ورد على قلبه ( من المعاني، ولما ورد على قلبه من التدبر والتفهم، يقف عندها هذه الآية وكان ذلك حال كثير من سلف الأمة الصالحين، وعباد الله المتقين.
--- سل نفسك: ما يريد الله تعالى أن يصل إليك من هذه الآية ؟---
والتدبر له معان أُخر، وهو: التفهم, التخصيص، وبعد ذلك التأثر، ونفهم هذه المعاني:
المعنى الأول للتدبر:
أن يتفهم المرء من كل آية ما يليق بها، فالقرآن الكريم قد احتوى على أسماء الله تعالى وصفاته، وعلى أفعاله، وعلى ذِكْر الأنبياء وما حدث لهم، وعلى ذِكر المكذبين ، وكيف أهلكهم (، وعلى ذِكر الجنة، وعلى ذكر النار في آياته.(1/59)
فهذه الآيات التي وردت في القرآن الكريم حَظُّك من تدبرها، وحظك من تفهمها أنك إذا تَلَوْتَ كلام الله أن تمر عليك الآية فتعلم منها ما أشار الله تعالى لك به، أو شيئًا مما يريد الله تعالى أن يصل إليك، أو أن يَعْقِلُُهُ ذهنك وقلبك، أو أن يتدبره قلبك في هذه المعاني.
تُراه نزلت هذه الآيات حتى لو لم تكن هذه الآيات إلا في القَصَص والوعظ والوعد والوعيد، تُراها نزلت للسمر؟ تُراها نزلت للتسلية؟ أو أن ذلك كله كما قال:
?كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ ? [صّ:29].
أين إذًا أنت من هذا المعنى المهم حال قراءتك؟
ولا يتمكن المرء إِلَّا أن يُقدِّم حالة من الأحوال المهمة العظيمة التي ينبغي أن يتحلَّى بها قلب المؤمن حال قراءة القرآن الكريم، وهي التي يسمِّيها العلماء "تعظيم المتكلم".
يعني: عندما تتلو كلام الله تعالى فإنما ينبغي عليك أن تستحضر عَظَمَة من يكلمك جل وعلا، أو شيئًا من تلك العظمة، وأن تعلم أن الكلام الذي تتلوه ليس من كلام البشر، وإنما هو كلام الرب -جل وعلا- الذي يجب عليك أن تُعَظِّمَهُ التعظيم الذي قال: ? مَا لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَاراً ?[نوح:13].
أن يُعَظِّمَهُ كما يعظمه أولوا الألباب؛ لعلهم يتفكرون كما قال المولى سبحانه وتعالى ذلك.(1/60)
وتعظيمه: رأينا سلف هذه الأمة، والنبي ( كيف كانوا يُعَظِّمون هذا الكلام الذي هو كلام الله تعالى، وتعظيم كلام الله تعالى يأتي من تَفَكُّرَكَ في عظمة الخالق سبحانه وتعالى، فإذا ما نظرت إلى خلقه، إلى العرش والكرسي والسماوات والأرض والجبال والنَّاس، وما في الظاهر والباطن والبحار والخلق، وغير ذلك عَلِمْتَ تلك العظمة، أو شيئًا من عظمة الله تعالى، كل ذلك بيده ، وكل ذلك تحت قدرته، وكل ذلك نافذ فيه أمره ( ، لا تخرج ذرة من تلك الذرات من تحت حكمه ( ، كل دابة آخذ بناصيتها، لا يُرَتِّب في الخلق إلا هو (، ولا يحييهم ، ولا يميتهم ، ولا يزيدهم ، ولا ينقصهم ولا يجمعهم إلا الله تبارك وتعالى.
وانظر إلى معنًى مهم من معاني عظمته جل وعلا أن يقول: ((هَؤُلَاءِ فِي الْجَنَّةِ وَلَا أُبَالِي وَهَؤُلَاءِ فِي النَّارِ وَلَا أُبَالِي))(35).
يستشعر قلبك حينئذ تلك العظمة، أو شيئًا منها، فَتُعَظِّم كلامه سبحانه وتعالى، ويرتفع في قلبك هذا التعظيم، وهذا التوقير، وهذا الإجلال لله تعالى، فيكون ذلك مُساعِدًا لك على معاني التفهم التي أشرنا إليها.
أن تتفهم من كل آية فيها أسماؤه وصفاته، وفيه حكمه وأفعاله، وفيه أحوال الأنبياء، وفيه أحوال المكذبين، وفيه أحوال الجنة والنَّار والبَعْثِ والنُّشُور..
كل ذلك موجود في كلام الله تعالى، أين نصيبك وحظك من التفهم عنه ( ؟
أين حظك من تدبره والإقبال عليه الذي أمرك به ( ؟!
أَأُنْزِلَ كما ذكرنا للتسلية؟!!(1/61)
فيه أسمائه وصفاته، وهي البحر العميق الذي به عَلَّمَكَ الله تعالى الإقبال عليه، أن تعرف منه أنه الملك، أن له مملكة فيها تصرفًا وتدبيرًا، وأمرًا، ونهيًا، وإعطاءً، ومنعًا، وأنت تنظر في أنه الملك القدوس السلام المؤمن، وأن تعرف آثار هذه الأسماء، وتلك الصفات في خلقه، وأن الخلق كله إنما هو أثر من آثار تلك الأسماء، أو من بعض هذه الأسماء والصفات التي ذكرها الله تبارك وتعالى، فهو الخالق، فالخلق أثر من آثار هذه الصفة، وهو الرازق فالرزق أثر من آثار هذه الصفة، وهو الملك فتلك المملكة أثر من آثار صفته الملك، وهو السلام، وهو المؤمن، وهو القوي، وهو الغني سبحانه وتعالى، وهو الغفار، وهو الوهاب، وهو البر، وهو الرحيم، كل تلك آثار من آثار أسمائه وصفاته التي ينبغي أن تُوَحِّدَهُ بها، وأن تدعوه بها، وأن تُثْنِيَ عليه بها، وأن تتعلق به سبحانه وتعالى فيها؛ ليكون لك حظٌ منها، ليكون ك إقبال عليه بها، فتنقلب حالك إلى تلك الحال، حال المتعلقين بربهم، الفاهمين عن ربهم، المُوَحِّدين لربهم، المحبين لربهم، المتقربين لربهم الذين يرفع درجتهم ويُعْلي منزلتهم، ويأخذ بأيديهم، ويحفظهم، ويُوَفِّقهم ويسددهم، أهل القرآن أهل الله تعالى وخاصته.
وكذلك: أن تتفهم من خلقه وفعله ما يليق بكل آية منها، ذكر أهل العلم في هذا السياق بالذات قوله سبحانه وتعالى:
? أَفَرَأَيْتُمْ مَا تُمْنُونَ( أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخَالِقُونَ ?[الواقعة:58، 59]، ? أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ ?[الواقعة:63]، ? أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ ?[الواقعة:68]، ? أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ? [الواقعة:71](1/62)
هذه آيات قليلة من بقية هذه الآيات في كلام الله تعالى، ولها -أي: لهذه الآيات- تلك المعاني التي ينبغي أن تتفهمها ? أَفَرَأَيْتُمْ مَا تُمْنُونَ ? تُراه يقصد ?أَفَرَأَيْتُمْ مَا تُمْنُونَ?: هذا المني الذي يكون سبب الولد وانتهت هذه المسألة عند هذا المعنى؟
هذا يشترك فيها المؤمن والكافر..
أما المؤمن الذي يتفهم عن الله تعالى، فإنما يبلغه شئ يكون سببًا لفهم عظمة الله تعالى، وقدرته وقوته، سببًا ليقربه إلى الله تعالى، دليلًا على قوة الله تعالى وقدرته سبحانه وتعالى؛ ليكون قائدًا لك إلى معرفته، إلى محبته، إلى توحيده، إلى معرفة شيء من عظمته سبحانه وتعالى، فهذا السائل الذي ذكر الله -تبارك وتعالى- هذا الماء المهين الذي أشار إليه، انظر إليه، وقد خرج إلى أعصاب، وإلى عظام، إلى كذا وكذا، ثم خرج بعد ذلك إلى السمع والبصر والفؤاد، ثم خرج إلى هذا الإنسان السَّوي، ثم تركبت فيه الصفات الشريفة والصفات الرديئة من الحقد والغلِّ، والحسد، وحب الدنيا، والشهوات كل ذلك في هذه الآية ? أَفَرَأَيْتُمْ مَا تُمْنُونَ (أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ ?.(1/63)
هذا الخلق الذي تراه بعد هذا الأمر هو الذي خلقه الله تعالى ليُنَبِئك، وليرشدك، وليأخذ بيدك إلى معنى الخلق، والقدرة، والإبداع، وإلى عظمة الخالق سبحانه؛ حتى تقول سبحان الله، وبقية الأمور كذلك ، وأما أحوال الأنبياء، وما ينبغي أن تتفهم منه، فقد رأيت أحوال الأنبياء ، ودعوتهم وصبرهم ، ومواصلتهم ومثابرتهم، وكيف كذبهم النَّاس، فلك في ذلك أن تتفهم كيف أنَّ الله تعالى في بداية الأمر مُستغنٍ عن الرَّسُول والْمُرسَل إليه، مُستغنٍ عن الخلق جميعًا سبحانه وتعالى، وما أرسَل الرُّسُل ليُعَذَّبوا، وليُؤذوا، وليقع لهم ما حدث، وإنما أرسلهم ليعتبر المعتبرون بعدهم ؛ بصبرهم وثباتهم على دعوتهم، على طول دعوتهم إلى الله تبارك وتعالى، وكذلك بعد هذا كله ، منهم ينتظرون نصر الله سبحانه وتعالى، وأن الله تعالى أيَّدَهم ونصرهم في نهاية المطاف، مع ما بين سبحانه وتعالى من قوة تحملهم، وسعة صدرهم وطول دعوتهم، وأمدهم، آمن بهم النَّاس، أم لم يؤمنوا كما ذكر الله تبارك وتعالى، وكيف كانت دعوتهم إلى توحيده، وإلى نبذ عبادة غيره سبحانه وتعالى، وأنهم لم تَلِن لهم قناة، ولم تضعف لهم عزيمة، ولم يَهِن لهم قلب حتى لاقوا سبحانه وتعالى.
لك في ذلك التفهم الذي ينبغي أن يكون الدافع لك، والقوة المُحَرِّكة لقلبك، والصبر الذي يحيط بدعوتك وعملك، والثبات والقوة، وقوة الإرادة، وقوة العزيمة، ومواصلة السير إلى الله تعالى، وفي نفس الوقت انتظار نصر الله جل وعلا.
وهذه أحوال المكذبين: تتفهم منها كذلك ما بَيَّن الله تعالى:(1/64)
أنَّ المكذبين عاقبتهم كما حدث لقوم نوح، وقوم عاد، وقوم ثمود، ولقوم فرعون كل أولئك لم يأخذوا مع الله تعالى شيئًا، وأنهم مهما عَلَوْ واستكبروا وطال أمدهم، وزادت قوتهم، وارتفعت دولتهم، إذا ما كذَّبوا ربهم، وإذا ما خالفوا رُسُلهم، وإذا ما بغوا وطغوا وظلموا فإن نهايتهم النهاية التي ذكر الله تعالى: ? فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِباً وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا ?[العنكبوت:40].
والآية: ? وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ ?[العنكبوت:40] إنما بَيَّن ذلك؛ ليكون صبرًا للمؤمنين، وشفاءً لقلوبهم، وانتظارًا لفرج ربهم بعد ثباتهم على دعوتهم، وانتظارهم لنصر ربهم، وعدم يأسهم وقنوطهم مهما طال ظلام أيامهم وسواد ليلهم أن يَنْشَقَّ ذلك الفجر من نصرة الله تعالى لهم، وأن يزيل دولة الكفر -سبحانه وتعالى- التي جثمت على دنيا المؤمنين اليوم ، وذِكْرُ الجنة والنار، والصراط، والبعث، والقبر، والهول، والنشر .
كل ذلك لك أن تتفهم منه ما يكون سببًا لعبرتك، وسببًا لخوفك، وسببًا لإقبالك على الله تعالى، وسببًا لتوبتك، ومحاسبة نفسك، وأخذ نفسك في اللحظات، والأنفاس لِتَعُدَّ عليها ما يكون سببًا لنجاتك من النار، لدخولك الجنة، لفوزك بِقُرْب الرب سبحانه وتعالى، ورضوانه جل وعلا، وهذه مليئة كما ذكر القرآن الكريم من تلك المعاني التي يَمُرُّ عليها المؤمنون كما قال تعالى:
? وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ ?[يوسف:105].
وذلك ما ينبغي أن يكون من حال المؤمنين اليوم، أو حُزْنًا على ترك هذه الحال، أو تَفَكُّرًا، ومجاهدة على إصلاح ذلك الحال..
------أنت المخصوص بكلام الله.. فماذا تنتظر؟-------(1/65)
ما الذي ينتظره النَّاس وقد مضت أعمارهم وفني شبابهم، وأوشكوا أن يرتحلوا، وإذا لم يرتحلوا اليوم، فَهُم راحلون غصبًا عنهم غدًا، أو بعد غد، وإن غدا لناظره قريب؟!
ماذا ينتظرون وكل يوم يقول غدًا سأفعل، بعد غدٍ سأفعل؟
مَن الذي ضمن له الغد أو بعد غدٍ؟
والله تعالى يقول: ? اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ ?[الحشر:18].
ما الذي ضمن له ذلك؟
ما أوتي القلب وضعف القلب وزادت غفلته إلا بسبب أن يقول: بعد أن أنتهي من كذا سأفعل، وبعد أن أرتب كذا سأفعل، وبعد أن ينقضي سفر الفلاني سأفعل، والشغل الفلاني سأفعل، والزواج الفلاني سأفعل، والعام..
كل ذلك من طول الأمل، ووسوسة الشيطان، وإضعاف القلب، وما فعل أحد شيئًا عندما يقول هذه الحال، وعندما تتلبس به تلك الحالة السيئة، وهي حالة المؤمنين اليوم.
وإنما المؤمن يأخذ حِذره ويبادر أجله، ويسارع إلى تنفيذ مرضاة ربه سبحانه وتعالى؛ لأنه يعلم أنه يوشك أن يؤخذ اليوم أو غدًا، وأنه يومه يمكن أن يكون آخر الأيام، أو ليلته تكون آخر الليالي، وأنه يُرْحَلُ به وإن لم يرحل.
وها يموت الشاب.. ويموت الطفل.. ويموت غيره، وهو ينظر ولا يتأثر ولا يتحرك له ساكن.
وإن مما يفيدك بعد ذلك في كلام الله تعالى:
هو أن تعلم أن كلام الله -جل وعلا- أنت المخصوص به، إنه يخاطبك أنت بهذا الكلام، أن الله -تبارك وتعالى- يُخَصِّصُكَ بالكلام والحديث، فمثلا يقول:
? وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ ?[آل عمران:133] فأنت مُطالَب بها ..وهي لك.
? وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً ?[الإسراء:23]، أنت مُطالَب بها.. وهي لك.(1/66)
? وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذَا كِلْتُمْ ?[الإسراء:35]، ? وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ ?[البقرة:43]، أنت مطالب بذلك كله، ?خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ ?[الأعراف:199]، كل تلك الآيات أنت مُخَصَّص بها.
علم الصحابة أنهم هم المخصوصون بهذه الآيات، فتنافسوا فيها لما قال:
?وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ?[آل عمران:133]
علموا أنهم هم المخصوصون بذلك، المطالبون به، فسارعوا إلى هذه الأوامر ونفذوها.
واعلم:
أن كلام الله تعالى إنما يحتوي على تلك الأوامر، وتلك النواهي، وذلك القَصَص، حتى هذا القصص أنت مأمور بالاعتبار به، وأنه مُتَوَجِّه إليك بالعظة والتذكر..
كل ذلك أنت مُطالَب به، وأنت غافل عنه، وأنت مُقصِّر فيه، مع أنه مادة حياتك، ومادة رحمتك، ومادة هدايتك، وفي نفس الوقت أنت مسئول عنها عند الله تعالى، أنت تتلو كلام الله جل وعلا، ولا تنفذه..
كهذا العبد السيئ الذي أتاه كتاب ملكه أن يفعل كذا وكذا، وكذا، وأن يهيئ كذا وكذا، وكذا، وأن يُرَتِّب كذا وكذا، وكذا، فأخذ كتاب الملك، وأخذ يقرأه ويتلوه ويُغْلِقَه، يقرأه ويتلوه ويغلقه، ولم يفعل من ذلك شيئًا..
تُراه أحق بالمَقَتِ، وتراه أحق بالغضب، وتراه أحق بالتنكيل والتعذيب، أو لا؟
ينبغي أن يعلم المؤمنون أنهم هم المخصوصون، هم المطالبون فما من آية فيها أمر، ونهي، وزجر، وتوحيد، ووعد، ووعيد وكل ذلك إلا وهي مُتَوَجِّهة إليك بالخطاب، إلا وهي تُخَصِّصُك بالقول، إلا والله تعالى يقول لك فيها ذلك، وينبئك بما فيها سبحانه وتعالى..
حتى ذلك القصص الذي ذكر الله -جل وعلا- قال:
? مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءَكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ ?[هود:120]، يَقُصُ هذا القصص على النبي؛ ليثبت به فؤاده..(1/67)
أنت مخصوص بذلك كذلك، بأن يكون ذلك القصص مثبتًا لفؤادك، رابطًا على قلبك، تنتظر به نصر ربك سبحانه وتعالى، ولك حظ فيه كما هو الخطاب إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وخذ هذه الأوامر والنواهي والزواجر والوعد والوعيد في تلك الآيات التي تقرأها، وأنت عنها غافل، والتي يُكَلِّمك فيها الله جل وعلا، وأنت لا تنظر في أمره ونهيه، والتي يُحَدِّثك فيها، وأنت ملتفت عنه، والتي يأمرك بها، وأنت تتلوها وتغلقها، والتي ينهاك عنها، وأنت تتلوها وتغلقها كذلك..
تراك تنتظر ماذا إذا كان تخصيص ربك بكلامه لك، وأنت لا تُخَصِّص نفسك به، ولا تستدعي بذلك شيئًا من نفسك ؟
----موانع الوصول إلى أنوار وبركات وشفاء القرآن ------
ومما ينبغي أن يكون عليه تالي القرآن الكريم وهو يقرأ كلام الله تعالى ليكون سبب سعادته وتدبره، وسبب فهمه، وسبب بركته، وشفائه أن يتخلَّى عن موانع الفهم، يعني:
أن يتخلَّى المرء عن الموانع التي تمنعه من أن يصل كلام الله تعالى إليه، سواء كانت هذه الموانع في الإصرار على المعصية، أو الابتلاء بالكِبر، أو بالعجب، أو بالهوى المُطاع ، فكل هذه الآفات من آفات النفس، -وأَخَصُّها هذه التي ذكرنا - تمنع القلب من أن يعي عن الله تعالى، وأن يفهم عنه، وتمنع القلب كذلك التدبر والتفهم والحضور والخشوع، وكذلك تمنع القلب أن يُخَصِّص نفسه بهذه المعاني التي ذكر الله تعالى، التي أمرهم بها، ونهاهم عنها، وذكَّرهم، ووعدهم، وأوعدهم بها، وتمنعه عن أن تصل إليه بركات القرآن، وأن يصل إليه شفاؤه وهدايته، وأن تصل إليه رحمته، وأن يصل إليه نوره كما ذكر الله تعالى:
? وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ نورًا مُبِيناً ?[النساء:174]..(1/68)
فهذا النور الذي إن أخذ المرء بحظه منه ظهر هذا النور في كلامه وسمعه وبصره وقلبه ويده كما دعا النبي ( : ((اللَّهُمَّ اجْعَلْ فِي قَلْبِي نُورًا وَفِي بَصَرِي نُورًا وَفِي سَمْعِي نُورًا وَعَنْ يَمِينِي نُورًا وَعَنْ يَسَارِي نُورًا وَفَوْقِي نُورًا وَتَحْتِي نُورًا وَأَمَامِي نُورًا وَخَلْفِي نُورًا وَاجْعَلْ لِي نُورًا ))(36) .
كل هذا النور إنما هو من كلام الله تعالى كما قال: ? وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ نورًا مُبِيناً ?[النساء:174].
هذا النور الذي افتقده النَّاس اليوم إنما افتقدوه لهذا المعنى، أو لتلك المعاني التي ذكرنا أنهم لم يُحَصِّلوا هذه الآداب.
ينبغي أن يتحسَّر المرء هذه الأيام وعلى مرورهذه الأيام بدون فائدة، فيمر الأسبوع في اثر الأسبوع، ولا يأخذ المرء نَفَسُه -كما يقال- حتى يمر أسبوعه، وإذا حاسب المرء نفسه فيه لم يجد نفسه قد حَصَّل شيئًا، لا من كلام الله تعالى قد ختمه كما يختم الصالحون كلام الله، ولا في الإقبال عليه، ولا في التدبر، ولا أن يترقَّى به إلى الله تعالى، ولا أن تتحسَّن به أخلاقه ومعاملاته، ولا أن تزيد به طاعاته وقرباته، ولا أن تتخفف به أثقاله وأوزاره، ولا أن يَسْتَشْفِيَ به من علله وأمراضه وأوجاعه، نراه على هذه الحالة.
لذلك: كان تقصير المؤمنين في هذا المعنى من أسوء التقصير، أن يصف الله تعالى لهم الدواء، وأن يُبَيِّن لهم طريق الشفاء، وأن يُنَزِّل عليهم نوره ورحمته، فإذا بهم يبتعدون عنها، وإذا بهم يزهدون فيها، وإذا بهم يتقللون منها، وإذا بهم لا يأخذونها بالقوة التي أمر الله تعالى أن يأخذوا بها كتابه سبحانه وتعالى، يرون أسباب نجاتهم ورحمتهم وشفائهم وائتلافهم، وأسباب قُربهم من ربهم جل وعلا، وإذا بهم عنها معرضون، وإذا بهم معرضين عنها، غير مقبلين عليها، زاهدين فيها ولا حول ولا قوة إلا بالله.
------- الله تعالى يخاطبك وأنت تقرأ القرآن ------(1/69)
ومما يجب أن يَتَّصف به المرء حال قراءة القرآن أن يكون متأثرًا بكل آية بما يليق بها من حال ، سواءً كانت في الرجاء أو في الخوف أو في الحزن، فإن غالب القرآن الكريم إنما هي الخشية، فتالي القرآن لابد وأن تغلب عليه خشية الله تعالى؛ لأن آيات القرآن لابد وأن يُنَزِّلُها المرء في كل حال قلبه، فآيات التخويف والوعيد والآخرة والقيامة والأهوال لابد وأن تعتري القلب حالة من حالات الخوف بتلاوتها، وإذا كانت هذه الآيات تتكلم في الرجاء، وفي الجنة، وفي العمل الصالح، وفي رضا الله تعالى وفي مسامحته وتجاوزه يَغْلِبُ على قلبه الرجاء،.
وإذا كانت الآيات تُبَيِّنُ مقامات الصالحين، وأعمال أولئك المتقين، رأى المرء نفسه بعين التقصير والتفريط، فيغلب حال الحزن على قلبه.
وهكذا لابد وأن تكون تلك الأحوال ملازمة للقلب، وإذا استمرت هذه الأحوال غلبت الخشية على قلب المرء؛ لمعرفته عن ربه، ولفهمه عنه كما قال:
? إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ ?[فاطر:28].
حتى تكون الخشية هي الملازمة لقلب المؤمن؛ لأن آيات التخويف كثيرة، وحتى آيات الرجاء أيضًا تراها إذا أمعنت النظر فيها وجدتها آيات مخيفة.
انظر إلى تلك الآيات التي ظاهرها الرجاء ،وباطنها التخويف الشديد: ? وَإِنِّي لَغَفَّارٌ ?[طه:82]، وإذا به يقول: ? لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً ثُمَّ اهْتَدَى ?، فإذا استبشرتَ بأنه غفار وجدت أن الطريق إلى المغفرة، والأسباب التي عَلَّق الله تعالى عليها المغفرة من الصعوبة بمكان، فيغلب على قلبك الحزن خوفا من ألا أن تتصف بها، أو لا تقوم بتحقيقها، فيكون الخوف كذلك حتى في آيات الرجاء غالبًا على قلب المرء؛ حتى ينشرح بعد ذلك برحمة الله، تَلِين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله -سبحانه وتعالى- كما هو حال المؤمنين الذي أشرنا إليه.(1/70)
وهذا التأثر ينبغي أن نراه على أحوال المؤمنين، أما أن يتأثروا قليلًا بالموعظة، وهي الحالة التي نحن فيها، ثم يخرج لتنتهي تلك الحال، ويعود إلى ضحكه ولهوه، وإلى كلامه، وإلى غفلته، وإلى معافسته أهله وولده، وإلى انشغاله بدنياه، وشغله، وماله ليس ذلك خوفًا محمودًا، وإنما الخوف المحمود هو الخوف الملازم للقلب الذي يمنع المرء من الوقوع في المعصية، والذي يحمل المرء على الطاعة، ويسارع به إلى رضا الله تعالى، وألا يراه حيث نهاه، وألا يفتقده حيث أمره، وأن يكون متوجسًا ليومه وغده، مُتَرَقِّبًا لرحيله، وسرعة الانتقال إلى الله تعالى.
هذا الحال الذي ينبغي أن يكون حال المؤمنين اليوم، فإذا ما قرأ تلك الآيات التي ظاهرها الرجاء، وباطنها التخويف خاف حتى كاد أن يَنْمَحِقَ من الخوف، وإذا قرأ آيات الجنة استبشر، وطار بها فرحًا، وإذا قرأ الآيات المتعلقة بربه وأسمائه وصفاته سبحانه وتعالى إذا به يحني لله تعالى جبهته خشوعًا، وإجلالًا، وتعظيمًا، وإقبالًا، وتعلُّقًا، ورجاءً في الله تعالى، وثقةً، وتوكلًا، فكلما مرَّت عليه آية تغير حاله بما يناسبها.
أما حال الغفلة التي نحن فيها فلا يُرجى من وراءها شيء، لذلك قيل في هذه المعاني:
لابد وأن يتحقق بها أو ينوي ذلك وإلا كان حاكيًا، يعني: لابد أن يُشْرَبُها قلبه، وأن تظهر على حاله، وتصرفاته، وأخلاقه وإلا لم يكن قارئًا للقرآن الكريم، وإنما يحكي هذه الأقوال التي يسمعها، فإذا قرأ قوله سبحانه وتعالى في مثل هذه الحال ? رَبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ ?[الممتحنة:4].
لابد أن يغلب على قلبه حال "التوكل والإنابة والفهم" عن الله تعالى، وإذا قرأ ? إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ ?[الأنعام:15].(1/71)
وهو يقرأها ويتلوها لابد أن يغلب على قلبه الحال المتعلق بهذه الآية الكريمة من خوف العصيان وعظم العذاب, وسرعة الإقلاع والندم وعدم الخوف أو أن ينوي ذلك.
وإلا كان حاكيًا مرددًا بلا فهم، وبلا تدبر، وخارجًا عن تدبر الآيات التي أمر الله تعالى.
?لَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَاباً فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلا تَعْقِلُونَ? [الانبياء:10].
وكذلك إذا ما قرأ قوله تعالى: ? وَلَنَصْبِرَنَّ عَلَى مَا آذَيْتُمُونَا ?[إبراهيم:12].
فلابد أن يتصف بهذا المعنى، أو أنه ينوي أن يتصف به، أما أن يقول:
? إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ ? ويخرج إلى المعصية والغفلة، ويخرج إلى البعد عن الله تبارك وتعالى، تراه قارئًا للقرآن متأثرًا به، فاهمًا عن الله تعالى، قد تَوَجَّه الخطاب إليه، أم أن هذا الخطاب مُتَوَجِّها إلى غيره؟
الله تعالى يخاطبك وأنت تقرأ القرآن... فهل يخاطب به غيرك، أم أنت تتلوه لتعلم ما فيه؟
وهذه حال العبيد العصاة الذين ذُكِرَ: أنه قد جاءهم كتاب الملك فأخذوا الكتاب، وفيه أن يفعلوا كذا وكذا، وأن يتصفوا بكذا وكذا، وأن يحققوا كذا وكذا، وأن يقوموا بكذا وكذا، وهم يقرؤون الكتاب ويغلقونه ويصبحون، أو ينامون ثم يصبحون فيقرؤون الكتاب، ويغلقونه مرة أخرى.
لذلك: لا يكون تاليًا، بل يكون مرددًا، حاكيًا، بعيدًا عن حاله، بعيدًا عن قلبه، بعيدًا عما يطلبه منه ربه، بعيدًا عن تدبره ?كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ? [صّ:29].
فلا ينزل على قلبهم موعظة ولا شفاء ، وهذه الحالة السيئة لابد أن يعالجها المرء هذه الأيام، لتكون طريقه ليحقق في شهر "رمضان" في شهر القرآن هذه المغفرة التي فتحها الله تعالى له، وكذلك هذه الرحمة التي يُنَزِّلها على عباده الصالحين.(1/72)
فلابد حينئذ أن تتغير تلك الأحوال التي نحن فيها؛ حتى يُغَيِّر الله تعالى ما نحن فيه من أحوال البعد والجفاء والحرمان الذي قد حُرِمناه ببعدنا عن القرآن، وبعدم التدبر له والإقبال عليه، وأن يعطيه المرء قلبه، ويعطيه ذهنه وعقله وحضوره؛ ليكون سببًا لرحمته.
انظر كم فرطنا في هذه المعاني، ونحن اليوم وغدًا إذا شاء الله تعالى، وغدًا وبعد غدٍ لابد وأن يكون ذلك هَمَّ المرء الذي به تصلح أحواله، وُيْقْبِلُ به على ربه، ويشفى من أمراضه وعلله ليكون بذلك أهلًا لقربه من الله تعالى.
وقد كان السلف الصالحون كما أمرهم النبي ( يُقْبِلون على هذا الكتاب، فقد أمر النبي ( عبد الله بن عمرو بن العاص أن يختم القرآن في سبع، وهي الحال الوسط التي ينبغي ألا ينزل عنها المرء إلا لحالات أخرى تعتريه.
ما الذي يجعلك ويَحْمِلُكَ على أن تُفَرِّط في القرآن؟
لو استفدت من وقتك الضائع الذي تُضَيِّعَهُ في الأكل والشرب والكلام، وتضيعه في دورات المياه، وتضيعه في الوقوف والاستئناس بخلق الله تعالى، وغير ذلك, لو استغللت هذا الوقت، أو لو اهتممت بأن يكون هذا الوقت لكلام الله تعالى لتغير تلك الحال، ولنزلت تلك البركة في وقتك الذي تشكو من ضعفه، ومن قلته، وأنك لا تجد وقتًا للقراءة، ولا للذكر، ولا للصلاة، وأنك لا تجد وقتًا لتحقق به أعمال معاشِك، ولا جلوسك مع أهلك، ولا غير ذلك..، كل هذه الأحوال إنما صلاحها في ذلك.
..ابدأ، وجَرِّبْ مع الله تعالى-ولا تجربة مع الله- إذ كلامه صادق لا خُلْفَ له،(1/73)
وانْكَبَّ على كلام الله تعالى، وأقبل عليه، وتأدب بأدبه، وانظر البركة التي سَتَحُلُّ عليك، وعلى بيتك وأهلك وولدك، وتَحُلُّ على صحتك ومالك ونفسك، وعلى أخلاقك وعملك وعبادتك، وكيف يَصْلُح قلبك، ويزداد خشوعك وتتحسن أحوالك، وإذا بك متأثرًا خاشعًا، إذا بك مقبلًا متوكلًا حسن الهيئة، قد نوَّر الله تعالى وجهك بما نوَّر به قلبك،ازدادت أشواقك, إلى آخر المعاني التي قد سمعنا عنها في السلف الصالحين، والتي لا زال طريقها مفتوحًا للمؤمنين اليوم.
أَمَرَهُ أن يختم القرآن في كل سبع، فكان الصحابة يُحَزِّبون كتاب الله تعالى على الأسبوع؛ ليختموا هذه الختمات، فمنهم من يزيد إلى ختمتين في الأسبوع، ومنهم من يَقِلُّ عن ذلك لِأسباب من نشر العلم، أو التدبر في آيات الله؛ لاستخراج تلك المعاني والأحكام، أو الإقبال عليها، أو لِطول التدبر فيها؛ فمنهم من كان يقرأ الآية الواحدة ليله كله يرددها ?أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ ?[الجاثية:21]، إلى آخر ما ورد عن النبي (، وعن كثير من أصحابه، والسلف الصالحين أنه كان يقفون عند الآية الواحدة طُوَال ليلهم.
وهكذا لا ينبغي لك أن تكون من الزاهدين في كلامه، الزاهدين في كتابه.
------ اقرأ وارق في دَرَجِ الجنة كما كنت تقرأ في الدنيا ---
? إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ ( آخِذِينَ مَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ ( كَانُوا قَلِيلاً مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ ?[الذريات16: 18].
يعني: كانوا قليلًا من الليل ما ينامون.
الهجوع: النوم، والتهجد: هو قيام الليل.
"لئن هجع" يعني: نام.
ووصف ليلهم بقلة الهجوع، كما وصف ليلهم بالتجافي عن المضاجع، كما وصف ليلهم سبحانه وتعالى بالبيات رُكَّعًا، وسُجَّدًا لله تعالى وقيامًا.(1/74)
فتلك أحوالٌ غريبة، وتلك أمور تكاد أن تكون صعبة، ولكنها تَخِفُّ كما أشرنا عندما يعلم المرء أن ذلك سبب محبة الله تعالى والشوق إليه والتنعم بالوقوف بين يديه, وقرة العين بالإقبال عليه، وكذلك تَخِفُّ عليه لسبب آخر، وهو قول النبي (: ((إِنَّ أَقْرَبَ مَا يَكُونُ الرَّبُّ عَزَّ وَجَلَّ مِنْ الْعَبْدِ جَوْفَ اللَّيْلِ الْآخِرَ فَإِنْ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَكُونَ مِمَّنْ يَذْكُرُ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ فِي تِلْكَ السَّاعَةِ فَكُنْ))(37) . فإذا علم المرء المحب المقبل على الله تعالى أن ربه أقرب ما يكون إليه في جوف الليل، لا شك أنه انتظر تلك الساعة، وقام إليها لِقُرْب ربه منه.
لذلك: يأتي القرآن الكريم عندما يخرج المرء من قبره يوم القيامة، يخرج إليه في شكل الرجل الشاحب، الشاحب اللون، يقول له: أما تعرفني؟ فيقول مَنْ أنت؟
يقول: أنا القرآن الذي كنت تقرأني، وإن كل أحد اليوم من وراء تجارته، وأنا من وراء كل تجارة لك.
يأتيه القرآن ليقول له ذلك، فيؤتى المُلْكَ بيمينه، والخُلد بشماله، هذا حديث صحيح، فيؤتى المُلْكَ بيمينه، والخُلد بشماله، ويلبس تاج الوقار، ويُحَلَّى أبواه حُلَّتَين لا تقوم لهما الدنيا فيقال لِمَ كسوتني ذلك؟ قال: بأخذ ولدك القرآن.
ثم يُقال له: اقرأ وارق في دَرَجِ الجنة كما كنت تقرأ في الدنيا.
هذا القرآن الذي أظمأته يقول له هذا القرآن: أنا الذي أظمأتُ هواجرك، وأسهرت ليلك، وإن كل تاجر اليوم من وراء تجارته، وأنا من وراء كل تجارة، هذا القرآن الكريم يأتيه: أنا صاحبك، أنا القرآن الذي كنتُ قد أسهرتَ ليلك، يتلوه ويدعو به ربه، ويَتَمَلَّقه به، وإن كل تاجر من وراء تجارته، ويُكْسى ويرقى وكذلك والداه يُكسيان هذه الحُلَّة التي ذكر النبي ( لأخذ ولدهما القرآن.(1/75)
وقد ذكرنا أن أفضل قراءة القرآن أن يقرأه قائمًا يصلي في المسجد، كما ذكر الله تعالى: ?الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ ?[آل عمران:191].
وهذا العمل الجديد الذي ينبغي أن يقوم به المرء في "شعبان" تَحَسُّبًا لـ"رمضان"، واستعدادًا لقوله ( ((مَنْ قَامَ رَمَضَانَ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ))(38).
--------بياتهم وراحتهم: السجود والقيام !!!------
كل تاجر من وراء تجارته ، وتجارة القرآن التجارة التي لا تبور ? إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرّاً وَعَلانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ( لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ ?[فاطر:30:29].
وهذه التجارة من القرآن الكريم تظهر في قوله: ((مَنْ قَامَ رَمَضَانَ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا ..))(39).
يعني: من قام بهذا القرآن الذي هو من وراء تجارة كل تاجر، من قام به إيمانًا واحتسابًا غُفِرَ له ما تقدَّم من ذنبه، وإذا لم يُعوِّد المرء نفسه في هذه الأيام على هذا القيام الطويل الذي يرجو به المغفرة، ويرجو به الرحمة، ويرجو به العتق من النار، فإن "رمضان" يأتي عليه، ويمر حتى إذا تعوَّد وجد "رمضان" قد انتهى، حتى إذا تَعَوَّد على طول القيام لله تعالى، ولماذا طول القيام؟ لأن النبي ( قال: ((أَفْضَلُ الصَّلَاةِ طُولُ الْقُنُوتِ))(40) .(1/76)
لهؤلاء المتكاسلين عن القيام لربهم، والتلذذ بالإقبال عليه سبحانه وتعالى، وبالمحبة لكلامه والتدبر فيه، وتَنَعُّمِ القلب والبدن بهذه الصلاة، وبذلك الإقبال على الله تعالى، ويودون إذا أُقيمت الصلاة أن يقضوا وقتهم في دورات المياه؛ حتى يتأخروا عن أن يلحقوا بالإمام في ركعته الأولى الطويلة التي يظنون، ويُفَضِّلون لهوهم وغفلتهم وتلكئهم في دورات المياه وهنا وهنا؛ حتى تنتهي الركعة الطويلة، حتى ينتهي نعيمهم، ووقوفهم أمام ربهم، وإقبالهم ومحبتهم، حتى ينتهي درجاتهم، وحتى تنتهي كذلك سعادتهم.
((وَجُعِلَ قُرَّةُ عَيْنِي فِي الصَّلَاةِ))(41) .
فانظر إلى هذه الخَيْبَة التي لا زالت تُخَيِّمُ على المؤمنين، والتي تأخذ بقلوبهم إلى البُعد عن ربهم، وإلى البُعد عن كتابه وتلاوته، إلى البُعد عن شفائهم ورحمتهم، إلى البعد كذلك عن بركتهم وهدايتهم ونورهم الذي يرجون به يوم القيامة أن يكون لهم نورًا.
وهذا الحديث من أحاديث النبي ( نُبَيِّن به بعض المعاني التي ينبغي أن يحرص عليها المؤمن؛ لتكون عونه على القيام لله رب العالمين، كما ذُكِرَ عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وأصحابه المكرمين:
((قَالَ عَلَيْكُمْ بِقِيَامِ اللَّيْلِ فَإِنَّهُ دَأَبُ الصَّالِحِينَ قَبْلَكُمْ وَهُوَ قُرْبَةٌ إِلَى رَبِّكُمْ وَمَكْفَرَةٌ لِلسَّيِّئَاتِ [وَمَطْرَدَةٌ لِلدَّاءِ عَنْ الْجَسَدِ]))(42) .
وَلِنَنْظُر في هذه المعاني، ومعانٍ أُخَر ذكرها النبي (، وجاءت في الآيات الكريمات..
انظر إلى حال المؤمنين أولًا:
في ليلهم؛ لتنظر في حال نفسك، ولتتعظ بقول ربك -سبحانه وتعالى- في قوله:
? تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ ?[السجدة:16].
فهذه حال المؤمنين الذين بَشَّرَهُم ربهم بالجنة ? إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ ?[الذريات16].(1/77)
هذه نذكرها بعد، أما هذه الآية تقول:
? تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً?.
فتوضح أول صفات المؤمنين قبل "رمضان" وتزداد هذه الصفة في "رمضان" كحال النبي ( المُشَرَّف: "أن تتجافى جنوبهم عن المضاجع" يعني: أن تتباعد هذه الجُنُوب عن مكانها التي تضجع فيه لتستريح، تَبْعُد هذه الجُنُوب مواضع الراحة إذ الراحة الحقة في قيامها لله ؛ لا تألف هذه المضاجع من مضاجع النوم. ? تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ ?:
ليس نومهم طويلًا، وليس نومهم ثقيلًا، وليس النوم أحب إليهم، بل على العكس.
فهذه الحالة الأولى من حالاتهم، والتي تبين محبتهم لربهم، بل محبة ربهم لهم.
وقد ذكرنا في الثلاثة الذين يضحك الله لهم، أو يحبهم الله تعالى ذلك الرجل الذين كان معهم في سفرهم حتى إذا كان النوم أحب إليهم مما يَعْدِلُ به، كان النوم أحب شيء إليهم لا يساويه شيء قام إليَّ أحدهم يدعوني ويتلو آياتي ويتملقني.
هؤلاء يحبهم الرب جل وعلا، وكفى بذلك شرفًا تلك الحالة، وتلك المنزلة وهذه المرتبة العالية التي تبين قربهم من ربهم، وتبين اصطفاء الله لهم واجتبائه سبحانه وتعالى إياهم.
لذلك قال: ? تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً ?.
ولا شك أن حال المؤمنين اليوم على العكس؛ كلما وجد وقتًا فارغًا بَدَلًا أن يصلي، وأن يقوم، وأن يدعوَ، وأن يأخذ حظه من الله تعالى.. إذا به ينام هذا الوقت، ويَحْزُن أن ضاع حظه من نومه، ويَحْزُن أن قَلَّت ساعات نومه، ولا يحزن أن قلت ساعات إقباله على الله وتَمَلُّقه له، ودعائه له، وإقباله عليه، وأن يأخذ من ربه -جل وعلا- النصيب الأوفى من المحبة والإقبال عليه، والنظر له واصطفائه واجتبائه.
انظر إلى الخِسَّة التي يميل المرء إليها، وإلى الدَّنِيَّة التي يُقبل عليها.
? تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ ?:(1/78)
بل إن الله -تبارك وتعالى- قد بَيَّن أن ليلهم ليس النوم -كما هو الحال في الطبيعة المرء- بل وصفهم ربهم في وصف عباد الرحمن بقوله:
? وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّداً وَقِيَاماً ?[الفرقان:64].
وانظر إلى هذا التركيب القرآني البديع؛ يبيتون سجدًا ، الأصل في أن يقول: "يبيت الرجل يبيت نائمًا". فكأنه رفع "نائمًا" هذه ووضع بدلها "سُجَّدًا وقيامًا".
فبدلًا أن يقول: بِتُّ الليلة، يعني: نِمْتُ هذه الليلة، يقول: نام قائمًا راكعًا، ساجدًا كأن نومه هو السجود والركوع، كأن نومه هو الإقبال، هو الطاعة، كأن راحته التي يرتاح بها المرء إذا نام هي الإقبال على الله، هي ركوعه وسجوده، لا يكون مطمئنًا مستريحًا، لا يكون هادئ البال قد أخذ قِسْطَهُ من الراحة التي يرجو، والاستجمام الذي يسعى إليه إلا راكعًا وساجدًا.
? وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّداً وَقِيَاماً ? ينامون لربهم قال: ? سُجَّداً وَقِيَاماً ?.
? وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّداً وَقِيَاماً ?.
? تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً ?.
وقال تعالى? وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحَارِ ?[آل عمران:17]، جلَّ وعلا.
ليبين كذلك تلك الحال التي قال فيها للنبي (: ? يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّل( قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلاً (نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً (أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً (إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً?[المزمل: 5:1]
? إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطَائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ ?[المزمل:20].(1/79)
فكان ذلك حالهم الذي ينبغي التفكر فيه؛ بمقارنة أحوالنا على كلام القرآن؛ ليضع المرء الدواء على موطن الداء، وليقوم لله تلك القَوْمة التي أمره بها ? قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلاً ?. قيام الليل: شعار الصالحين قبلكم، دأب الصالحين قبلكم، والصالحون قبلكم لابد وأن تشاركوهم فيه وأن تنافسوهم عليه، ولا يكون الصالحون قبلكم أولى بالله تعالى منكم، وأولى بمجاورته سبحانه وتعالى في جنته مع "النبيين والصديقين والشهداء "من أولئك الصالحين.
بل هؤلاء الصالحون اليوم ينبغي أن يشاركوا في ذلك، وأن يتنافسوا فيه، وأن يُحْزِنَهم أن يسبقهم أحد إلى الله تعالى.
أما اليوم فلا يُحْزِنُه شيء؛ يَسْبِقُ إلى الله، ينام، يقوم، يغفل ويطيع، يفسق، يقعد، يعصي.. كل ذلك كأنه متساوٍ عنده ، وتلك الحال السيئة التي قد أتت الأيام الجميلة، وأتت مواسم الرحمة لِيَنْفُضَ المرء عنه ثوب الغفلة، وثوب النوم، وثوب البعد، والجفاء عن الله تعالى؛ لتكون راحته ولذته ونعيمه وسروره وشوقه في الإقبال على الله تعالى، كما ذكر المولى سبحانه وتعالى في
الآية السابقة. هذا السبب الثاني الذي يحملك على أن تقوم لله تعالى، أن تَهُبَّ من نومك له.
------------- قاموا إلى ربهم، فألبسهم من نوره سبحانه --------------
وقد كان حال من أحوال النبي ( في قيامه بالليل هذا الحال، وهو:
أنه ( ما تُريد أن تراه قائمًا إلا رأيته، وما تريد أن تراه نائمًا إلا رأيته.
ومعني ذلك: أنه ( -كما يقول العلماء-كان يُكابِد
وصفة مكابدة الليل: أن يقوم فيتوضأ، فيصلي، فتغلبه عينه، فينام قليلًا، فيفزع مرة أخرى، فيقوم، فيتوضأ، فيصلي فتغلبه عينه، فينام قليلًا، فيقوم فيتوضأ فيصلي، وهي شدة المكابدة، وهي حال من أحواله ( التي تُبَيِّن هذا التجافي، والتي تبين أن يبيت لربه راكعًا وساجدًا وقائمًا؛ يرجو رحمة ربه كما ذكر المولى سبحانه وتعالى.
لذلك:(1/80)
كان عِلْمُ المرء بقرب الرب في جوف الليل منه عونًا له على القيام لله تعالى؛ إذا به يَهُبُّ من نومه لقرب ربه منه، ولإقباله على ربه، فيقوم حالئذ، وقد ترك نومه وراحته وزوجته، وترك وطاءه؛ ليقوم لله تعالى في تلك الليلة التي أقامه الله تعالى فيها.
فقد رُوِيَ أن الله تعالى يقول لجبريل:
((أقم فلانًا، وأنم فلانًا)).
يقيم فلانًا ليذكر الله تعالى، وأنم فلانًا؛ لأنه لا يريد منه ذكر الله تعالى؛ لِمَا صدر منه، والمعنى الثالث: أن المرء قد يرى نفسه مُتعبًا، وقد يرى أن صحته لا تأتي بهذا القيام إذا بحديث النبي ( الذي افتتحنا هذا الكلام يقول صلوات ربي وسلامه عليه:
وَمَطْرَدَةٌ لِلدَّاءِ عَنْ الْجَسَدِ))(43)يعني: إن أولئك المتخوفين بسب مرضهم وتعبهم وبسبب شقائهم، وبسبب كذا وكذا مما يكون عائقًا عن القيام، إذا بالقيام على العكس؛ يكون سببًا لطرد الداء عن البدن، سببًا لشفاء هذا البدن، فإذا ما قام لله تعالى كان سببًا لشفائه، ورفع تعبه، وعدم شعوره بهذه المشقة التي حَصَّلها، أو التي أصابته في يومه؛ لأنه أقبل على ربه فنسي به الشقاء، حتى إذا كان النوم أحب إليه مما يعدل به قام إليه.
وهذا القيام لا يُشْعِرُ المرء بهذا التعب؛ لأن قرة عينه فيه؛ لأن لذته ونعيمه لا تكون إلا بذلك، تَعِسَ أن يكون نعيمه وسعادته في الدنيا الزائلة، في امرأته وولده وماله وشُغله وصَحَابته، وأُنْسِه بغير الله تعالى.
وأمر آخر وهو أن طول القيام يخفف قيام يوم طوله خمسون الف سنة فيتذكر المرء ذلك فتهون عليه المشقة كما يعلم أن هذه الجوارح الزائلة ستشهد له عند الله تعالى يوم القيامة من ناحية وتكون منيرة له بنور القرآن والقيام من ناحية أخرى.
يقول أبو ذر (: "صوموا يومًا شديدًا حره لِحَرِّ يوم النشور، وقوموا ركعتين، أو وصَلُّوا ركعتين في ظلمة الليل لظلمة القبور.(1/81)
فإن مما ينير قبر المرء، ويزيد نوره عند مروره على الصراط القيام الذي يزهد فيه اليوم، الذي يتكاسل عنه، وُيفَضِّل النوم وراحة جسده عليه، مع أن راحة جسده وشفاء بدنه إنما هو في ذلك القيام الذي عكس فيه الآية، والذي انقلب عليه الميزان فيه، فلم يفهم عن الله تعالى ما يكون سبب شِفائه ونوره.
تشهد لهم هذه الجوارح الضعيفة اليوم بِطُول قيامهم، وتُنِير لهم قبرهم، تنير لهم طريقهم على صراطهم إذ المرور على الصراط على حسب النور ? يوم تر ى المؤمنين والمؤمنات يسعى نورهم بين أيديهم وبأيمانهم ?
هذه الصلوات وطولها وتعبها ومشقتها التي يظن أن لها تعبًا ومشقة إذا بها هي الراحة، وإذا بها هي نورهم ? وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ?[التحريم:8].
لذلك: لمَّا كان الأمر على هذا الحال، وهذه المعاني كثيرة في هذه القضية، إذا بالنبي ( يُحَذِّر: ((لَا تَكُنْ مِثْلَ فُلَانٍ كَانَ يَقُومُ اللَّيْلَ فَتَرَكَ قِيَامَ اللَّيْلِ))(44) .
ويقول: ((إِنَّ عَبْدَ اللَّهِ رَجُلٌ صَالِحٌ لَوْ كَانَ يُصَلِّي مِنْ اللَّيْلِ))(45) .
يقول ابن عمر: فما ترك قيام الليل بعد.
وإن مما يُقَوِّي المرء على يومه، ويَحْفَظُه عليه وتتنزل عليه بركته هو ذلك القيام.
انظر لهؤلاء الصالحين كيف قضوا ليلهم يستنصرون ربهم، ويدعون ربهم، ويناشدون ربهم، ثم يصبحون ليقاتلوا عدوهم، فما كانوا يستنصرون ويَتَقَوَّوْنَ، ويستمدون المدد والعون من الله تعالى إلا بذلك القيام.(1/82)
لذلك: لما وصفوهم قالوا: لهم دَوِيٌ بالقرآن كدوي النحل في ليلهم، كانوا فرسانًا بالنهار، رهبانًا بالليل، وذلك في أشد المواطن فزعًا، وفي أشدها كذلك خطرًا، وفي أشدها مخافةً، وهي أنهم عند مواجهة عدوهم -ليس عندما يَسْعَون إلى رزقهم أو معاشهم أو دراستهم- يقومون ليلهم، بل في أشد من ذلك؛ إذا لاقوا عدوهم كانوا يقومون ليلهم، مع أنهم كانوا ينبغي أن يناموا؛ ليقاتلوا، أو أن يناموا ليذاكروا، أو أن يناموا ليسافروا، أو أن يناموا ليذهبوا إلى أعمالهم وأشغالهم ، إنما قاموا؛ ليكون مددهم، وعَوْنُهُم على ذلك كله هو ذلك القيام.
وذلك وصفهم الذي أشار إليه المولى سبحانه وتعالى: ? تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ ?.
ومن ثَمَّ: شدَّد النبي ( كما أشرنا: ((لَا تَكُنْ مِثْلَ فُلَانٍ كَانَ يَقُومُ اللَّيْلَ فَتَرَكَ قِيَامَ اللَّيْلِ))(46)
وما يترك قيام الليل إلا بحرمان من الله تعالى؛ بسبب المعصية، كان يقول: أذنبتُ ذنبًا فَحُرِمْتُ قيام الليل خمسة أشهر.
أذنبت ذنبًا فَحُرِمْتُ قيام الليل سنة.
وانظُرْ إلى نفسك !! تَراك يومًا أو يومين أو ثلاثة تقوم الليل، ثم بعد ذلك تنقلب أحوالك، وتقع في المعصية، أو الغفلة فإذا بك تُحْرَمُ أيامًا كثيرة من قيام الليل.
وإنه إذا نام أحدكم عَقَدَ الشيطان على قافية أحدكم إذا هو نام ثلاث عُقَد.
يقول: عليك ليلٌ طويل فارقد، فإذا قام فذكر الله حُلَّت عُقدة، فإذا توضأ حُلَّت الثانية، فإذا صلَّى حُلَّت عُقَدُهُ كلها، فأصبح طَيِّبَ النفس، نشيطًا، وإلا أصبح خبيث النفس كسلان، لم يُصِبْ خيرًا، وهذا هو الحال لذلك يقول (:
في الذي نام الليل كله: ((رَجُلٌ بَالَ الشَّيْطَانُ فِي أُذُنَيْهِ))(47) .(1/83)
وإن بَوْلَه ثقيل تراه في أحوال النَّاس اليوم ينبغي أن يَنْفُرَ منها المؤمن، وأن يُسارِع فيها إلى رضا الله تعالى، وأن يكون قِيامُهُ هذه الأيام استعدادًا للمغفرة؛ حتى يكون ذلك دأبه كما هو دأب الصالحين قبلكم، وإنه كذلك كما أشرنا ((قُرْبَةٌ إِلَى رَبِّكُمْ وَمَكْفَرَةٌ لِلسَّيِّئَاتِ))(48) .
يعني: سبب تكفير السيئات والذنوب والمعاصي قيام الليل كما ذكر الله تبارك وتعالى، وكما ذكر النبي (، وإنهم كانوا يُصلُّون ليلهم حتى إذا أسحروا يعني:
إذا دخلوا في السَّحَرِ قاموا فاستغفروا الله تعالى كما ذكر: ? وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحَارِ ?[آل عمران:17].
قاموا صلوا ليلهم، حتى إذا أسحروا أخذوا يستغفرون الله تعالى، وهو معنًى دقيق أنهم بعد صلاتهم بليلهم إذا بهم لا يَرَون أنهم قد عملوا شيئًا لله تعالى، وإنما يستغفرون؛ كأنهم قد باتوا يَعْصون الله تعالى.
وانظر إلى الحال التي قد عُكِسَت علينا، والتي أصابت أحوالنا اليوم ? وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحَارِ ? كما ذكر الله تعالى عنهم.
سُئِل الحسن ( عن المتهجدين: ما بالهم أحسن النَّاس وجوهًا؟
قال: قاموا إلى ربهم، فألبسهم من نوره سبحانه وتعالى .
هذه الأمور تَحْمِلُكَ على القيام، وتأخذك إلى الله تعالى،
وما رأينا القوة والمدد والنور في أولئك إلا بسبب ذلك إذا دخل الليل وَجَنَّهُم صَفُّوا أقدامهم لربهم، فمنهم باكٍ، ومنهم صارخ، ومنهم داعٍ، ومنهم راكع، ومنهم ساجد.
يقول الرب: (( إنهم بعيني ما يتحملون من أجلي)).
(1) أخرجه البخاري (38) ، ومسلم (760) من حديث أبي هريرة ( .
(2) [حسن] أخرجه النسائي (2357) ، وأحمد في المسند ( 5 / 201) من حديث أسامة بن زيد رضي الله عنه.
(3) أخرجه البخاري (1970) ، ومسلم (1156) من حديث عائشة رضي الله عنها.
(4) أخرجه مسلم (1156) من حديث عائشة رضي الله عنه.
(5)أخرجه الترمذي (3545 ) من حديث أبي هريرة ( .(1/84)
(6) [حسن] تقدم من حديث أسامة بن زيد ( .
(7)أخرجه البخاري (7536) ، ومسلم (2675) من حديث أنس ( .
(8) أخرجه البخاري (4663) ، ومسلم (2381) من حديث أبي بكر ( .
(9) [حسن] تقدم من حديث أسامة بن زيد ( .
(10) [حسن] تقدم من حديث أسامة بن زيد ( .
(11)أخرجه الترمذي (2568) ، والنسائي (1615) ، وأحمد في المسند (5 / 153) من حديث أبي ذر ( .
(12)أخرجه مسلم (2531) من حديث أبي موسى الأشعري ( .
(13) تقدم من حديث أسامة بن زيد ( .
(14)أخرجه أحمد (4 / 73).
(15) أخرجه مسلم (2948) من حديث معقل بن يسار ( .
(16)أخرجه البخاري (6502) من حديث أبي هريرة ( .
(17)أخرجه البخاري (7536) ، ومسلم (2675) من حديث أنس ( .
(18) أخرجه البخاري (6502) من حديث أبي هريرة ( .
(19)أخرجه البخاري (6502) من حديث أبي هريرة ( .
(20)أخرجه البخاري (7536) ، ومسلم (2675) من حديث أنس ( .
(21)أخرجه مسلم (489) من حديث ربيعة بن كعب الأسلمي .
(22)سبق تخريجه.
(23)أخرجه البخاري (555) ، ومسلم (632) من حديث أبي هريرة ( .
(24) سبق تخريجه.
(25)أخرجه البخاري (1899) ، ومسلم (1079) وهذا لفظه وعند البخاري "سُلْسِلَت " بدلًا من "صُفِّدَت" .
(26)أخرجه البخاري (5927) ، ومسلم (1151) من حديث أبي هريرة ( .
(27)أخرجه البخاري (6507) ، ومسلم (2683) من حديث عبادة بن الصامت ( .
(28) الفوائد ص3 .
(29)أخرجه أحمد (6 / 91) من حديث سعد بن هشام . وقال الشيخ شعيب : حديث صحيح .
(30)أخرجه الترمذي (3545 ) من حديث أبي هريرة ( .
(31)أخرجه الحاكم في المستدرك عن عبد الله بن عمرو موقوفا عليه (4/ 622) وصححه ، ووافقه الذهبي بقوله : على شرط البخاري ومسلم .
(32)أخرجه ابن ماجه (1390) من حديث أبي موسى الأشعري ( ، وحسنه الشيخ الألباني كما في صحيح الجامع (1819).
(33)أخرجه مسلم (2565) من حديث أبي هريرة ( .
(34)أخرجه البخاري (6534) من حديث أبي هريرة ( .(1/85)
(35)أخرجه أحمد في المسند (4 / 168)، وابن حبان في صحيحه (2 / 50)، والحاكم في المستدرك (1 / 85) وصححه ووافقه الذهبي .
(36)أخرجه البخاري (6316) ، ومسلم (673) من حديث ابن عباس ( .
(37) أخرجه النسائي (572) ، والترمذي (3579) من حديث عمرو بن عبسة (.
(38)[ متفق عليه ] أخرجه البخاري (37)، ومسلم (760) من حديث أبي هريرة (.
(39)[ متفق عليه ] أخرجه البخاري (37)، ومسلم (760) من حديث أبي هريرة (.
(40) أخرجه مسلم (756) من حديث جابر ( .
(41)أخرجه النسائي (3939) من حديث أنس بن مالك (.
(42) أخرجه الترمذي (3549) من حديث أبي أمامة ( . وما بين المعكوفتين من حديث بلال ( .
(43)أخرجه الترمذي (3549) من حديث أبي أمامة (.
(44) أخرجه البخاري (1152) ، ومسلم (1159) من حديث عبد الله بن عمرو ( .
(45)أخرجه البخاري (7029) ، ومسلم (2479) من حديث ابن عمر ( .
(46)أخرجه البخاري (1152) ، ومسلم (1159) من حديث عبد الله بن عمرو ( .
(47) أخرجه البخاري (3270) ، ومسلم (774) من حديث عبد الله بن مسعود ( .
(48)تقدم من حديث أبي أمامة ( .
??
??
??
??
حال المؤمنين في شعبان فضيلة الشيخ محمد الدبيسي(1/86)