سلسلة
إيقاظ أهل الإيمان
لمغفرة رمضان
(2)
حال المؤمنين في رمضان
لفضيلة الشيخ
محمد الدِّبيسي
حفظه الله وعفا عنه
بسم الله الرحمن الرحيم
بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة
هذه صفحات منتقاة من خطب ألقاها فضيلة الشيخ/ محمد الدبيسي في أشهر رمضان لسنين عدة، ونظرا لضيق الوقت كان انتقاؤها واختصارها وترتيبها على هذا النحو، مع احتفاظنا بخطب أخرى لم ننتخب منها شيئا، على أمل أن نتوسع بها في تلك الخطب بعد ذلك؛ إتماما للفائدة؛ وتوضيحا لما أغفل منها وسدا لخلل وقع فيها.
وهذه الخطب امتداد لخطب (حال المؤمنين في شعبان) التي طبعت والتي تبين كيفية استعداد المؤمنين لاستقبال رمضان؛ ترقبا للمغفرة والعتق من النار في ذلك الموسم العظيم من مواسم المغفرة.
ولما كانت قضية المغفرة هي أهم القضايا وأخطرها - خاصة في رمضان- حتى قال( : "خَابَ وَخَسِرَ مَنْ أَتَى عَلَيْهِ رَمَضَانُ فَلَمْ يُغْفَرْ لَهُ " كانت هذه الخطب التي توضح أهمية المغفرة، وطرق تحصيلها، وآداب هذا التحصيل، وكيف يخرج المرء من رمضان تقيا، قد حصل زاد التقوى، وأخذ شحنة عظيمة من الإيمان يتقوى بها إلى أن يصل إلى موسم آخر من مواسم الرحمة والعمل الصالح، وكل ذلك يبين فضل الله تعالى وعنايته بالمؤمنين، حتى يقبلوا عليه بالمحبة والخوف والرجاء، واليقين والرضا، ودوام الذكر مع امتثالهم لأوامره، واجتنابهم لنواهيه، واتباعهم لتعاليمه التي بينها رسول الله ( وكان الأسوة والقدوة فيها، وحتى يكون أنسهم وشوقهم إليه.
ومن ناحية أخرى يخرجون من رمضان مستعدين للقاء الله تعالى قد ظهرت عليهم بشريات المغفرة وآثار الرحمة، بالزهد في الدنيا والإقبال على الآخرة، والاستقامة على طريق الله تعالى متحملين لمسئولية هذا الدين باذلين في سبيله الرخيص والغالي، داعين إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة.
وبعد:(1/1)
فما كان من صواب فمن الله، وما كان من خطأ فمنا ومن الشيطان، والله ورسوله منه بريئان، ورحم الله امرأ أهدى إلينا عيوبنا.
نسأل الله تعالى أن ينفع به قائله وكاتبه وناشره والناظر فيه إنه سميع الدعاء.
……………مسجد
………… الهدي المحمدي
بسم الله الرحمن الرحيم
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله ( ((((((((((( ((((((((( (((((((((( ((((((((( (((( (((( (((((((((( (((( ((((((((( (((( (((((((( ((((((((((( ((((( ( [ آل عمران: 102]. ( ((((((((((( (((((((( ((((((((( (((((((( ((((((( ((((((((( (((( (((((( ((((((((( (((((((( ((((((( ((((((((( (((((( ((((((((( ((((((( (((((((( (((((((((( ( ((((((((((( (((( ((((((( ((((((((((((( ((((( ((((((((((((( ( (((( (((( ((((( (((((((((( (((((((( ((( ( [ النساء:1]. ( ((((((((((( ((((((((( (((((((((( ((((((((( (((( (((((((((( (((((( (((((((( (((( (((((((( (((((( ((((((((((((( (((((((((( (((((( ((((((((((( ( ((((( (((((( (((( (((((((((((( (((((( ((((( ((((((( (((((((( (((( ( [ الأحزاب: 70 - 71].
أما بعد...
فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار، اللهم صل على سيدنا محمد النبي وأزواجه أمهات المؤمنين وذريته وأهل بيته كما صليت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد.
هل ستقدم ما يكون سبب لفرح الله بك؟(1/2)
ها قد أتى رمضان، أتى موسم المغفرة الذي طالما فرط فيه المؤمنون، أتى موسم المغفرة الذي طالما انتظره المشتاقون إلى مغفرة الله تعالى ورحمته والعتق من النار، وقد علمنا تلك الحال التي كنا عليها من سنين مضت، وهي أن المرء عندما يخرج من رمضان إذا به يتحسر على ما مضى منه، وأنه لم يشعر أنه قد غفرت ذنوبه وخطاياه، وتخفف من أثقاله، وتخفف من سيئاته، لذلك كنت تراه يقول: في رمضان القادم سأكون أفضل، سأحاول أن أبدأ من أول يوم، سأستعد له، سأحسن الصيام والقيام، سأقضي ما مضى من الاعتكاف، سأهيئ نفسي - إن شاء الله تعالى - لهذه المغفرة ولذلك العتق من النار، أتى بعد ما أعد العدة في شعبان حيث علم حال المؤمنين في شعبان، وجاهد نفسه عليها، ووطن نفسه على تحقيق أسباب المغفرة في رمضان، وأخذ زاده الذي يحمله إلى رمضان.
وها قد جاء رمضان، جاء موعد الوفاء بالعهد الذي قد أخذته على نفسك لله تعالى أنك ستكون أفضل، وأنك ستبذل قصارى جهدك لتحصل هذه المغفرة، وستخرج من اللهو واللعب ومن التكاسل والتواني، ومن ضعف العزيمة وخمود الهمة التي نحن فيها لينقلب المرء إلى اجتهاد زائد، ولينقلب إلى مجاهدة النفس والهوى والشيطان حتى يكون أهلاً لمغفرة الله له، وأنه سيري الله تعالى من نفسه ما كان قد قصر فيه من قبل، وأنه سيوفي بذلك ولو على حساب نفسه وماله وبدنه ووقته وجهده وراحته؛ لأن المغفرة أعلى وأجل وأعظم، وأنه مهما بذل في تحصيلها فهو لا شك لم يبذل شيئًا يوازيها ولا يدانيها.
جاء موعد الوفاء إذن، والذي قد حدده الناس لأنفسهم موعدًا له، وأنهم سيبدون لله تعالى ما يكون سبب فرح الله بهم، وتوبة الله عليهم، وإنزال رحمته بهم سبحانه وتعالى، فهلا جهزت نفسك لهذا الوفاء، وهلا أعددت وقتك وجهدك لتحصل ذلك أم أن هذه البداية التي بدأت بها تُنذر بنفس النهاية التي قد كانت من قبل؟(1/3)
لعلك قد أخذت العبرة من ذلك، وأثرت فيك الموعظة، وعلمت كيف أن المؤمنين يأخذون حذرهم في هذه الحياة الدنيا لعلمهم أنهم يوشك أن يرحلوا إلى الله تعالى، وأنهم بين لحظة وأخرى يكونون عند ربهم، وهم لا يودون أن يلاقوا الله تعالى على مثل هذه الحال التي هم عليها ؛ لأنها حال لا تسر عدوًّا ولا صديقًا كما يقال لذلك دخلوا رمضان ذلك وهم مصممون أشد التصميم، وعازمون أشد العزم على ألا يفوتهم من أول يوم وألا يقصروا في لحظة من لحظاته، وأن يقضوا نهارهم وليلهم ينتظرون رحمة الله، ويعملون لمغفرة الله سبحانه وتعالى، فإذ قد أتاهم رمضان فقد أتاهم موعد حلول الدَين الذي في أعناقهم.
هم قد أخذوا على أنفسهم تلك المواثيق أنهم سيبدون لله تعالى أفضل أعمالهم من توبة وعمل صالح ومن قيام ومن صيام ومن ذكر ومن قرآن، وسيرفعون ما حدث بينهم وبين ربهم من الجفاء والبعد، وما نزل عليهم منه من الحرمان والفقر من عطائه وفضله وقربه وتقريبه سبحانه وتعالى، ها قد جاء رمضان وأول ما يتفكر فيه المرء يتفكر في أن الله تبارك وتعالى قد فتح في عمره هذه المدة وأوصله إلى ذلك الموسم وأنه كما قيل في المرات الماضية: "خَابَ وَخَسِرَ مَنْ أَتَى عَلَيْهِ رَمَضَانُ فَلَمْ يُغْفَرْ لَهُ "، وقال: " مَنْ أَتَى عَلَيْهِ رَمَضَانُ فَلَمْ يُغْفَرْ لَهُ فَدَخَلَ النَّارَ، فَأَبْعَدَهُ اللَّهُ قُلْ: آمِينَ، قُلْتُ: آمِينَ" (1).
هو اليوم حزين خائف وجل أن تمر أيامه كما مرت من قبل، وأيام العمر تمر كما مر رمضان لا يحس بها المرء، وإنما يحس بسرعتها وبسرعة انقضائها في رمضان لقصر أيامه وإن أيام المرء كلها على هذا الحال ولكنه لا يحس.
أَفلا أكُون عبدا شَكورا؟(1/4)
قد جاء موعد الوفاء فتح الله تعالى عليك رمضان جديداً، وأنت بهذا الفتح من الله تعالى أول ما تفكر فيه هو كيف تشكر هذه النعمة؛ فإنه كان يمكن لك وقد عاهدت الله تعالى في العام الماضي أن تكون في هذا العام أحسن، وأن تكون أقبل على الله تعالى، وأحب إلى الله تعالى، وأعظم بذلاً وجهدًا لله تعالى، فكان يمكن لهذه الوساوس الشيطانية التي قد قيدتك عن العمل الصالح والتي كانت هي طول الأمل من الشيطان أن يأخذك الله تعالى في عامك فلا تبلغ رمضان الذي أملت، فلا رمضان الماضي قد حصلت فيه المغفرة، ولا رمضان الذي نحن فيه قد وصلت إليه، فكان يمكن أن يكون ذلك، وكان يمكن -وهو الذي يخوف المرء اليوم - أن الله تعالى قد علم تقاعسه وتكاسله، وعلم أنه لا يأخذ الأمر بجد، ولا يهتم بمغفرة الله تعالى فيمنع هذه المغفرة، لا يهتم للمغفرة ولا يبذل لها ولا يضحي من أجلها شيئًا؛ فيحرمه إياها أنت لا تريدها، أنت متكاسل عنها أنت لا تبذل لها أنت لا تقدر قيمتها حرمت إياها.(1/5)
وإما أن يكون المرء قد عزم العزم الأكيد اليوم فها قد جاءه ذلك الموعد، فتح الله له هذا العام، فتح له أبواب المغفرة، ما زال يأمل في وجهه الكريم ألا يحرمه إياها، وألا يغلق بابه دونها لذلك دخل بهذا الأمل فصمم على أن يحقق هذا الرجاء في وجه الله تعالى، أول ما يفكر فيه كيف يشكر الله تعالى على أن أوصله إلى رمضان، إلى هذه الرحمة، وإن مما يثبت هذه النعم ويفتح بها رحمة الله تعالى أنك أول ما فكرت فكرت في أن تشكر هذه النعمة، أنه فتح في عمرك هذا الموسم، وإن المرء كما ذكر ليتمنى إذا مات أن يرجع إلى الدنيا يومًا واحدًا يتوب فيه إلى الله تعالى ويستغفره ويعمل صالحا ( (((((( ((((( (((((( (((((((((( (((((((((( ((((( ((((( ((((((((((( (((( ( [ المؤمنون: 99- 100] لذلك تفكر الآن في كيف تشكر الله تعالى الذي أوصلك إلى هذا الموسم سليمًا معافًى، ترجو رحمة الله تأمل في مغفرته تنتظر عفوه وتطلب رضوانه، وأن يعتق رقابنا من النار في هذا الشهر.(1/6)
لقد كان النبي ( هو العلم والقدوة على شكر الله تعالى، عندما قام الليل حتى تشققت قدماه من طول القيام ولما قيل له في ذلك قال: "أَفَلا أَكُونُ عَبْدًا شَكُورًا ". لمَّا قالت له السيدة عائشة قد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر، قال: " أَفَلا أَكُونُ عَبْدًا شَكُورًا " (2). فكان يشكر الله تعالى بطول القيام، يشكر الله تعالى بالإقبال عليه، وبمناجاته وتلاوة آياته والتدبر فيها بالخشوع له بالخضوع بإتعاب هذا الجسد الفاني لله تعالى سوف يفنى هذا الجسد الذي تخاف عليه اليوم، سيصير إلى التراب غدًا، ولا ينفعك عندما تصير إلى التراب إلا تلك الطاعات التي فعلتها وإلا تلك القربات التي قدمتها، يذهب معه ماله وعمله وولده ويرجع ماله وولده ويبقى له عمله، يدخل معه قبره لذلك كان شكر النبي ( في هذه الأحوال أن يقوم لله تعالى حتى تتشقق قدماه، حتى تتورم قدماه، حتى تنتفخ قدماه من طول القيام، وذلك شيء على الحقيقة كما ورد به الحديث (3).
ورمضان شهر هذا الشكر على هذا المعنى الذي يشير إليه، وكان السلف الصالحون كذلك إذا قام أحدهم ليلة وفقه الله تعالى لقيامها أصبح صائمًا شكرًا لله على توفيقه لقيام هذه الليلة والشكر سبب الزيادة من هذه النعم ( ((((( (((((((((( ((((((((((((( ( ((((((( (((((((((( (((( (((((((( ((((((((( ((( ( [ إبراهيم: 7] فهو سبَبٌ لمزيد الله لك وإقبال الله عليك، مدد الله سبحانه وتعالى لك.
درجة الشهيد.. ودرجة الصائم المصلي(1/7)
ويبين الحديث الذي رواه طلحة ( ذلك المعنى حينما رأى في منامه أن ثلاثة في جهادهم استشهد اثنان وفتحت لهم أبواب الجنة ورأيا الحور العين ثم الثالث كانت تنتظره زوجته من الحور العين فإذا به لم يقتل في سبيل الله فقالت: خيبك الله ماذا فعلت حتى لا ترتفع إلي هذه الدرجة؟ ثم رأى رؤيا بعد ذلك بِسَنَةٍ فإذا هذا الذي مات ولم يستشهد في سبيل الله أعلى درجة من هذين اللذين استشهدا في سبيل الله، فحكاها للنبي ( فقال له: ألم يصل لله ستة آلاف ركعة ألم يصم رمضان؟ قد أبقاه الله تعالى هذه السنة التي أخر فيها عن أخويه اللذين استشهدا فإذا به في هذه السنة كان له من الأعمال الصالحة حيث حضر رمضان أي ارتفعت درجته وعلت منزلته على هذين اللذين استشهدا في سبيل الله فانظر كيف يشكر المرء ربه؛ إذن على أن فتح له ذلك.
وشكر هذه النعم يكون من جنسها قد أتاك رمضان فشكر النعمة في طول القيام فيه، في إكثار التعبد مع تعظيم آداب الصيام والإقبال فيها، من كثرة الذكر وقراءة القرآن ( (((((( ((((((((( (((((((( ((((((( ((((( ((((((((((((( ((((( ((((((((( (((((((((((( ((((( (((((((((( ((((((((((((((( ( ( [ البقرة: 185].
لذلك كان الإكثار هو المطلوب في هذه الأيام صيامًا وقيامًا وذكرًا وتعبدًا وقراءة للقرآن وبذلاً للمال والصدقة وكذلك إقبالاً على النفس محاسبة لها وتوبة من ذنوبها وكذلك إقبالا على النفس تصحيحًا لنياتها وتصحيحًا لأعمالها وإقبالا عليها خروجًا من آفاتها من حقدها وغلها وحسدها وطول أملها في الدنيا وحرصها على الدنيا وركونها إلى الشهوات والغفلة ونسيان الآخرة والرحيل والزهد في الآخرة، ينبغي أن يطمئن قلبه بذكر الله تعالى، وأن تصلح جوارحه على السير إلى الله تعالى، وأن يخف بدنه لطاعة الله تعالى فلا يستثقل هذه الطاعة ولكن يتحقق بقوله ( " أَفَلا أَكُونُ عَبْدًا شَكُورًا" (4).(1/8)
وهذا الذي ينبغي أن يواكب الشكر اليوم، أي يصاحب شكرك لله تعالى أن فتحت لك هذه المنزلة العالية التي هي فوق منزلتك لو كنت قد استشهدت العام الماضي ـ ليست تلك المنزلة التي تنالها لو خرجت العام الماضي من رمضان بغير مغفرة.
انظر إلى تفاوت هذه الدرجات لو استشهدت العام الماضي لكانت هذه السنة أفضل وأعلى وأجل في مرتبتك عند الله تعالى من تلك المنزلة، فما بالك وقد خرجنا من رمضان الماضي ولا منزلة ولا استشهاد ولا شيء من ذلك، وإنما الخيبة التي حصلناها، وإنما الخسارة التي مني المرء بها في خروجه من رمضان لذلك ينظر المرء اليوم في هذه المعاني وحتى يكون شاكرا على الحقيقة لله تعالى فإن قيامه الذي يقوم لله به سبحانه وتعالى لابد أن يكون على أحسن الحال، يكون قيامًا طويلاً تتشقق فيه قدماه، وهو مسرور بذلك يدعو ربَّه ويتملقه ويتدبر آياته، يقبل عليه بالمحبة والركون إليه، هو يريد أن يحصل المغفرة، وأن يحصل الشكر، وأن يزيده ربه سبحانه وتعالى من قرباته وطاعاته، وأن ينعم عليه جل وعلا برحمته والعتق من النار، وهو متأذ من طول القيام له يود أن ينتهي القيام، إذن هذه علامات ينبغي أن يراها المرء في قيامه، أنه يقبل على هذا القيام الطويل محبةً له وعدم تململ منه، ولا يحدث نفسه بأنه شاق عليه، وأنه طويل عليه، إذا حدثته نفسه بذلك فحاول أن يأتي متأخرًا حتى ينقضي القيام ويصلي صلاة خفيفة لا توازي المغفرة ولا تحقق التوبة ولا يرجو بها العتق من النار.(1/9)
فليحذر هذه الوساوس فيقضي وقته في دورة المياه انتظارًا لركوع الإمام وانتهاء الصلاة حتى لا يصلي شيئًا، ولا يقبل على الله تعالى حيث يكون قضاؤه لوقته في سيره ومواصلاته وقضاؤه لوقته في الكلام والحديث أفضل عنده من أن يقوم متعبًا لنفسه لله تعالى،وليس ذلك تعبًا على الحقيقة بل هو التنعم بهذه الطاعة، والتلذذ بهذه القربى لله تعالى، والتلذذ بتلك المناجاة كما قال ( "وَجُعِلَتْ قُرَّةُ عَيْنِي فِي الصَّلاةِ " (5).
كم بَقي على أذان المغرب؟
فترى الذي يريد المغفرة يسارع إليها يسابق لها يقف لها في الصف الأول، يريد أن يحصلها من أولها لذلك قال النبي (: "وَاللَّهُ لا يَمَلُّ حَتَّى تَمَلُّوا" (6)، فإن الله لا يمل حتى تملوا، وأنت تدخل صلاتك بهذا الملل، وأنت داخل إلى صلاتك بهذه الروح التي تبين أنك مازلت بعيدًا عن هذه الدرجة، مازلت بعيدًا عن تحصيل المغفرة، مازلت بعيدًا عن تحصيل العتق من النار، وأنك لست على هذه الحالة من حالات التصميم على تحصيل المغفرة، العزم الأكيد عليها بنفسك وجهدك، وما لك لتتعب نفسك لله التعب الذي فيه راحتك لتقوم القيام الذي فيه رضوان الله تعالى وإقباله عليك ؛ لذلك لابد أن تراعي هذا الأمر في قيامك من أول ليلة، أن تأتي مبكرًا، لا تتأخر "لا يَزَالُ قَوْمٌ يَتَأَخَّرُونَ حَتَّى يُؤَخِّرَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى" (7)، هم متأخرون عن الله ونواياهم السيئة الله مُطَّلِع عليها، نوايا التكاسل والتخاذل نوايا ترك القيام له والإقبال عليه وأنهم يكتفون بأن يقفوا شيئًا قليلاً امتلأ بالوسوسة وامتلأ بالإقبال على الدنيا والشهوات، بتشريد القلب في هذه الأودية من أودية الدنيا.(1/10)
فهذا القيام الطويل على هذا النحو يخفف قيام خمسين ألف سنة ( (((((( ((((((( (((((((( ((((((( (((((((((((((( ((( ( [ المطففين: 6] فإذا علمت ذلك وقفت وأطلت القيام، وإذا علمت أن طول قيامك إنما هو إقبالك على ربك ومناجاتك له ومحبتك إياه وأنك مهما أقبلت عليه أقبل عليك ومهما أحببته أحبك ومهما تقربت إليه زادك قربًا سبحانه وتعالى فإذا أنت في نعيم لا ينفذ من محبة الله تعالى لك وإقباله عليك ونشر رحمته سبحانه وتعالى حواليك إذا بك في هذه الحال تكون أحب لهذا القيام لا تود أن تخرج منه وإن علامة الخروج أو محبة الخروج من القيام أو الصلاة أو الأعمال الصالحة أن يخرج المرء منها دليل على ملله إيَّاها، وأن الله قد مل كذلك منه على هذا الحال.
إنه إذا كان على الملل في إقباله على الله تعالى فالله لا يريده, إذا أقبلت عليه متكاسلاً متوانيًا تود أن تنتهي لتخرج إلى الدنيا فإلى أي شيء أفضل من بقائك بين يديه تريد أن تخرج إلى أي شيء أفضل تترك القيام، وتتخفف سريعًا منه لتخرج إليه من بين يدي الله تعالى خروجك للدنيا والولد والمال والشهوات والصور هو الذي تود أن تخرج إليه سريعا وهو الذي تفضله وتقدمه على قيامك لرب العالمين؟
وهذه المسألة التي نراها اليوم وكل يوم من سنين عديدة وهي مسألة التأخر والتململ وعدم القيام له سبحانه وتعالى وانتظار الخروج من بين يديه والإحساس بالتعب والمشقة بدل العكس، فهذا نعيم الدنيا الذي إذا لم يحصله المرء فيها لم يحصل نعيم الآخرة.
هذا الأمر كذلك في صيامه يصوم متململاً، ينتظر بعد العصر وبعد الظهر , أن ها قد أوشك اليوم أن ينتهي، بقي ساعتان..بقي ثلاث ساعات على المغرب...الحمد لله يوشك أن يضيع يومه وأن ينقضي متململاً من الطاعة متأففًا منها يود أن يخرج منها!(1/11)
وليس ذلك علامة أهل الإيمان، علامة المؤمنين محبتهم للطاعة وحزنهم على أن يخرجوا من بين يدي الله تعالى، وحزنهم على أنهم ما حصلوا أقصى وأعظم الحظ من ربهم جل وعلا ذلك حزنهم وضيقهم كانوا يقومون ليلهم كله كما ذكر عنهم: ( ((((((((((( ((((((((((( (((( ((((((((((((( ((((((((( (((((((( ((((((( ((((((((( ( [ السجدة: 16]، ويقول عنهم: ( ((((((((((((((((((((( ((((((((((((( (((( ( [ آل عمران: 17] مدوا صلاتهم إلى السحر ثم جلسوا يستغفرون الله تعالى بعد طول ليلهم في صلاتهم وتهجدهم وتجافي جنوبهم عن المضاجع يجلسون ليستغفروا كأنهم قد ارتكبوا الذنوب والمعاصي، وفي نفس الوقت يبين ذلك حزنهم أن انتهى ذلك اليوم أن انتهت تلك الليلة ما كان يحزنهم إلا طلوع الفجر؛ يودُّون طول هذا الليل ليكونوا بين يدي الله تعالى فيه لعلمهم بنعيمهم ومحبتهم ودعائهم...وتملقهم وأن الله تعالى يضحك إليهم ويحبهم ويقربهم سبحانه وتعالى.
هذا في الصيام وكذلك الصدقة وكذلك بقية الأعمال، أنت مهتم بها حزين أن تفوتك، أنت مهتم بها حزين أن تخرج منها، أنت مهتم بها تؤديها على أحسن حال ترجو بها الرحمة، ترجو بها المغفرة ترجو بها العتق من النار، ترجو أن تعوض ما فاتك، وأن تعلي منزلتك بما أعد الله لك في هذا الشهر الكريم الذي ما أن يبدأ حتى ينتهي فلذلك الحازم الذي قد أخذ العهد على نفسه وبدأ ليوفي به هذه الأيام يأخذ حذره من أول يوم إن انفرط أمره وعقده من اليوم الأول ضاع عليه رمضان.(1/12)
إن قضية الشكر وقضية الحزم وقضية الإصرار على تحقيق أقصى الطاعة ليحقق المغفرة ينبغي أن تكون في مهمات المؤمنين اليوم يبينها إقبالهم ومحبتهم وسرعتهم واستجابتهم لربهم سبحانه وتعالى، والعكس ينبغي أن ينتفي من قلوبهم التململ من العبادة والتململ من الصيام ومن القيام والبخل بالمال والوقت على الله تعالى ويقضيه في أي شيء آخر لا يحزن عليه ولا يتضايق منه إنما أن يقضيه بين يدي ربه بين يدي واهبه سبحانه وتعالى بين يدي محبه جل وعلا إذا هو من المتململين.
إذا فتح الله لك طاعة فلا تهتم بعاقبتها
علمت أيها المؤمن المنتظر لمغفرة الله أنها هذه المغفرة لا تؤخذ ولا تحصل بنومك وترددك وكسلك، لا تتحصل هذه المغفرة بأن تزهد فيها , كيف تزهد فيها وكيف تتعب من تحصيلها ثم تريد أن تحصلها !
لا تتحصل المغفرة إلا أن بأن تبذل لها ما يوازيها أو ما يكون سببًا لها، الله تعالى برحمته يقبل اليسير من العمل إذا كان هذا العمل على معنى المحبة والإقبال لله تعالى ويرد العمل الكثير، إذا كان على التململ والضيق، وعلى معنى إرادة أن يخرج من بين يدي الله تعالى يقال له إلى من التفت؟ التفت إلى خير منه سبحانه وتعالى خرجت إلى خير منه !
لذلك كانت هذه الموعظة التي يستمسك المرء بها اليوم ويقضي فيها وقته وجهده، وسيصادفه ما يلزمه أن يفكر فيه، سيصادفه أنه سيتعب من الصلاة سيتأخر عن العمل، سيحدث له كذا وكذا، وأنه يود أن يذهب سريعا وأن ينام مبكرا لسفره غدا، وأن يذهب إلى كذا وكذا وكذا وكذا، وكل ذلك يتعارض مع صيامه وقيامه وذكره، فيقدم ذلك كله على القيام والذكر والصيام، أو يتخفف من قيامه وذكره وقرآنه ليحصل ذلك.
…وهذه المسألة قد فتح الله تعالى للمؤمنين حلها، وهو أن يكون توكله على الله تعالى.(1/13)
احفظ هذا الكلام: إذا فتح الله تعالى لك طاعة فلا تهتم بعاقبتها، إذا فتح لك باب الطاعة فلا تخش أن يحدث لك شيء من عاقبتها، لا تخش أن يصيبك سوء من قيامك بها، فإذا فتح لك القيام فلا تخش أن تقوم في الصباح متعبًا ومجهدًا، ولن تستطيع أن تسافر، لا، لقد كان النبي ( في غزوة بدر يدعو الليل كله، صلى هويًا من الليل يدعو ليله كله، ثم قاموا ليهاجموا أعداء الله تعالى، وليقاتلوا في سبيل الله تعالى، ليس سفرا ولا عملاً، ولا شيئًا من ذلك بل الجهاد.(1/14)
فإذا فتحت لك العبادة فلا تهتم بما يمكن أن يحدث، لن يحدث إلا خير؛ لأن الله تعالى إذا هيأك لها واصطفاك لها لا يمكن أن تكون عاقبتها سيئة ولا يمكن أن يضيع عليك بسبب عبادتك له ومحبتك له أن يضيع عليك الدنيا الزائلة، الدنيا الزائلة يعطيها من أحب ومن لا يحب، يعطيها المؤمن والكافر ولكن الآخرة للمتقين لذلك هذه المسألة احفظها أن يطول قيامك وأن يطول صيامك وذكرك وعملك وبذلُك وجهدك ودفعك ماله كل ذلك لا تخش منه، ولا من عاقبته كما قال: "أَنْفِقْ وَلا تَخْشَ مِنْ ذِي العَرْشِ إِقْلالاً"(8)، "أَنْفِقْ أُنْفِقْ عَلَيْكَ" (9)، " مَا نَقَصَ مَالٌ مِنْ صَدَقَةٍ" (10)، وكل ذلك على هذا الحال ما نقص جهد من صدقة، ما نقص جهد من بذل ما نقص مال من بذل ما نقص صحة، ولا بدن من بذل، بل على العكس كما قال ( في قيام الليل الذي يبين هذه الحال: "عَلَيْكُمْ بِقِيَامِ اللَّيْلِ فَإِنَّهُ دَأْبُ الصَّالِحِينَ قَبْلَكُمْ إلى قوله ( وَمَطْرَدَةٌ لِلدَّاءِ مِنَ الْجَسَدِ" (11)، لا تخش شيئًا..خشيتك تدل على عدم توكلك وعلى عدم الثقة في الله تعالى وأن الله تعالى بيده كل شيء ومقاليد السماوات والأرض وأنت أيها المسكين ألا يستطيع ربك أن يعطيك شيئًا من الوقت ومن الجهد ومن المال خاصة، وقد أقبلت عليه بمالك ووقتك وجهدك هو أكرم من أن تبذل له مالك وجهدك ونفسك، ثم لا يكون ذلك سبب بقائها وسبب زيادتها وسبب إكرامها وسبب مددها؛ إذا أردت المدد والقوة إذن فعليك أن تقبل عليه يقبل عليك سبحانه وتعالى، إذا بذلت له مالاً زادك وأخلف عليك إذا بذلت له جهدًا ووقتًا وصحة زادك منه وقواك فيه سبحانه وتعالى فلا تخش أن يضيع عليك شيء مع الله ترى قد ضاع شيء مع الله تعالى؟
قد وضعته عند ربك فحفظته...(1/15)
قد وضعته عند ربك فكان في أأمن مكان قد وضعته، خاصة وأن ما قد وضعت هو وهبه سبحانه وتعالى، هو الذي وهبك المال والجهد والقوة والصحة أعطاك كل ذلك ثم أنت أول باخل به على الله، تبخل به على معطيك إياه بغير سابق سبب منك.
لعله إن شكرته زادك، وإن بذلت له أعطاك سبحانه وتعالى وإن تقربت إليه من بعيد أتاك من قريب هذا الأمر الذي ينبغي أن تتفكر فيه وأن تحفظه طوال قيامك فذلك نعيمك.
إذا قيل لك..حاسب فغدا ستسافر..قل لا يهم ذلك , يكفي أن الله اصطفاه لذلك من بين الناس يكفي أن قام لله ويكفي أن الله تعالى سيكفيه ( (((((((( (((( ((((((( ((((((((( ( ( [ الزمر: 36].
وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ
وانظر إلى حال النبي ( في بذله وإحسانه وهو جود النبي ( كان النبي ( أجودَ الناس، كما قال أنس: "كَانَ رَسُولُ اللَّهِ ( أَحْسَنَ النَّاسِ، وأَشْجَعَ النَّاسِ، وأَجَوْدَ النَّاسِ" (12) وَكَانَ فِي رَمَضَانَ يَتَضَاعَفُ جُودَهُ اتِّباعًا لِتَضَاعف جُودِ الرب؛ لأن الرب - سبحانه وتعالى - يضاعَف جُودَه، وفَضْلَه، وكَرمَه، وإحسانَه في هذه الأزمنة المشرَّفة لِيُوَسِّعَ على عباده بأنواع المغفرة والرحمة والعتق من النار؛ فمن استَحَقَّ شيئًا من ذلك زاد عليه الإقبال، وزاد عليه العطاء، وتَنَوَّعَتْ له أنواعُ الأفضال من الله جل وعلا.
فكان النبي ( على هذا الحال المشرَّف؛ أجودَ الناس، وكان أجودَ ما يكون في رمضانَ حين يُدارِسُه جبريلُ القرآنَ (13).
وقضية الجُودِ - في رمضان وغير رمضان - من القضايا المهمة التي ينبغي أن يفهمها المؤمنون، وهذا الفَهْم يَنبني على مسألة واحدة، وهو أن هذا الدِّين لا تَصْلُح له، هذه النفوس الشحيحة، هذه النفوس البخيلة الحريصة غير صالحة في نفسها كما لا تصلح لإقامة الدين في غيرها، فهذه النفوس التي تَشِحُّ بالبذل، والوقت، والمال، والجهد على الله، إنما هي في الحقيقة تَشِحُّ على نفسها:(1/16)
( ((((( (((((((( ((((((((( (((((((( ((( ((((((((( ( (((((( (((((((((( ((((((((( (((((((((((((( ( ((((( (((((((((((( (((((((((((( ((((((( (((((((((( (((( (( ((((((((((( (((((((((((( (((( ( [محمد: 38].
وهذه هي النقطة المهمة التي يستوعبها المؤمنون؛ أنهم يجب أن يكونوا في البذل كما قال تعالى: ( ( (((( (((( (((((((((( (((( ((((((((((((((( ((((((((((( (((((((((((((( (((((( (((((( (((((((((( ( ( [التوبة:111].
حيثُ أعطاهم هذه النفوسَ، وتلك الأموال، وذلك الوقتَ، وذلك الجهدَ، وفَتَحَ عليهم جاهًا، وسلطانًا، ومَنْصِبًا، وولدًا، كلُّ ذلك أعطاهم، ثم طَلَب منهم أن يُنْفِقوا من ذلك الذي أعطاهم ليس من ملكهم ؛ فعندما يَبْخَلون إنما يبخلون بما أعطاهم وعلى أنفسهم؛ لأنه أمرهم ( أن يُنْفِقوا مما جَعلهم مُسْتَخْلَفِين فيه من المالِ الذي آتاهم، ليس من أموالهم على الحقيقة، هم فقراء كما قال: ( ( ((((((( (((((((((((((( ((((( (((( ( (((((( (((( (((((((((( ((((((((((( (((( ( [فاطر: 15].
لذلك كان النبي أجودَ الناس (؛ لأنه عندما يُنْفِق إنما يُنْفِق من مال الله الذي لا ينفد، وعندما يُنْفِق يَعْلَم أن الذي أعطاه سيعطيه عندما يُنْفِق، ويزيده من ذلك: ( ((((( (((((((((( ((((((((((((( ( ( [إبراهيم: 7].
فلو أَنْفَق مالًا - كَرَمُ اللهِ تَعالَى أفضلُ وأعلى - فسيُعْطِيه أكثر مما أَنْفَق، وسيُخْلِف عليه أكثرَ مما أنفق؛ الحسنة بسبعمائة ضعف، ويَزِيد (.
وكذا إذا أنفق وقتًا بارَك له فيه، أَنْفق من جاهَه وسُلطانه لِيُوَسِّعَ على عباد الله تعالى، أَنْفق نفسَه لله كما كان هؤلاء يَبْذلون أنفسَهم لله تعالى حَفِظَها عليهم، وكَرَّمَهُمْ بِها في الدنيا والآخرة (.(1/17)
إن الذين يمسكون ويحبِسون ويبخلون؛ يفعلون ذلك لِظَنِّهم أن ذلك سيُنْقِص مالَهم، ويُنْقِص وقتَهم، ويُنْقِص جهدَهم؟! كَلَّا: "مَا نَقَصَ مَالُ عَبْدٍ مِنْ صَدَقَةٍ " (14).
ما يَنْقُص أبدًا إنَّما هي النظرة المادِّية التي يَنْظر بها الناس، نعم ينقص المال، ولكن النبي ( يقول: لا يَنقص بل يَزيد؛ لأنَّ الحقَّ ( يقول في الحديث القدسي: "أَنْفِقْ يَا ابْنَ آدَمَ أُنْفِقْ عَلَيْكَ" (15).
هو الذي يُنْفِق عليكَ ما دُمْتَ تُنْفِق؛ ويُنْفق هو عليك الإنفاق الزائد؛ ذلك كله مُلْكُه، وذلك كلُّه رِزْقُه، ولا تَنْفُد خَزائِنُه، فلو اجْتَمَعوا في صعيدٍ واحدٍ؛ إِنْسُهم وجِنُّهم، ما كان، وما يكون إلى يوم القيامة، ثم سَأَلَ كلُّ واحدٍ مسألتَهُ؛ بل سأل كلُّ واحدٍ الدنيا من أولها إلى آخرها، ما نَقَصَ ذلك من مُلْكِه شيئًا، لذلك قال: "أَنْفِقْ أُنْفِقُ عَلَيْكَ" (16). ( ((((( (((((((( ((((((((( (((((((( ((( ((((((((( ( [محمد: من الآية38].
وهذه المسألة إنما تَرْتبط بأمرين وهما:
1- التَّوَكُّل على الله.
2 - حُسْنُ الظَّنِّ في الله.
فقضية التوكل وحُسْن الظن بالله تعالى هي التي كانت تَحْمِلُهم؛ فما أن يَحْرِص المرء، إلا وقد ساء ظنُّه بربه، وقَلَّ توكلُه عليه، وضَعُفَ يَقِينُه في الله تعالى، أن يُعَوِّضَه كما ذَكَر، وأن يُخْلِف عليه، وأن يُوَسِّع عليه كما وَعَدَهُ (.
لذلك كانت هذه اللَّفْتة، وهي أن هذه النفوس الشحيحة، هذه النفوس البخيلة، هذه النفوس الضعيفة، لا تَصْلُح لنفسها، ولا لغيرها؛ لأنها قد ساءت، وأسأت الظنَّ بالله تعالى، وكذلك ضَعُفَ توكلُها ويقينُها على الله، والله تعالى يقول: ( ((((( (((((((((( ((((( (((( (((((( (((((((((( ( (((( (((( ((((((( ((((((((( ( ( [الطلاق: 3]. ويقول أيضا ( ((((((( (((( (((((((((((((( ((((((((((((((( ((((( ( [آل عمران: 122].(1/18)
فقد أَمر بالتوكل، ووَصف به المؤمنين؛ لأنهم هم المتوكلون على الله تعالى.
لذلك كان النبي ( أجودَ الناس، لا يمكن أبدًا أن يَمنع شيئًا، أو أن يكون حريصًا على شيء لنفسه فما دونها ( ؛ بعُلُوِّ يَقِينِه بربِّه، وحُسْنِ توكُّلِه عليه (.
كان ( يُعْطِي عَطَاءَ مَنْ لَا يَخْشَى الْفَقْرَ
لذلك لَمَّا كَانَ النَّبي ( يَسِيرُ ومعه النَّاسُ مَقْفَلَهُ مِنْ حُنَيْنٍ فَعَلِقَهُ النَّاسُ يَسْأَلُونَهُ حَتَّى اضْطَرُّوهُ إِلَى سَمُرَةٍ فَخَطَفُوا رِدَاءَهُ فَوَقَفَ النَّبِيُّ ( فَقَالَ (: "أَعْطُونِي رِدَائِي!لَوْ كَانَ لِي عَدَدَ هَذِهِ الْعَضَاة - شجرة من شجر الصحراء كثير النَّبْت فيها - نَعَمًا لَقَسَمْتُهُ بَيْنَكُمْ ثُمَّ لَا تَجِدُونِي بَخِيلًا وَلَا كَذُوبًا وَلَا جَبَانًا" (17) صلى الله عليه وآله وسلم.
وهذا البُخْل عندما يَتَصدَّر قلبَ المرء ويتقدَّم فيه، تَجِدُه بَخِيلًا في عبادته، يَتَمَلْمَل من القيام، ويتململ من الصيام، ويتململ من النفقة، ويتململ من الصدقة، ويَشِحُّ بها، ويَشِحُّ بنفسه أن يَقِفَ بين يَدَيِ الله تعالى، أن يُتْعِب نفسَه لله - جل وعلا - شيئًا؛ فإذا أَحَسَّ بهذا، ووصل إلى هذه الحالة؛ أن يَتضايَق، وأن يتألم، وأن يَحِسَّ بالمشقة في أن يَبْذُل وقتًا لله يَقِف فيه - ليناجي ربه، وليأخذ حظَّه من جنة الدنيا المُعَجَّلة للمؤمنين - فمتى يَقِفُ بنفسه، ويَبْذِلُها لله تعالى؟ ومتى يَتَحَمَّل ذلك في جَنْبِ الله جل وعلا؟ وأي نفس هذه التي تتململ وتتأفف من الوقوف بين يدي الله؟
لذلك كان هذا الموضوع من أطول موضوعات القرآن التي أمر الله تعالى بها أن يَبْذُلُوا أنفسَهم وأموالَهم لله جل وعلا، وأن يكون بَذْلُهم على هذا الحال الحسن، لذلك كان من شأنُه المشَرَّف أَنَّه صلى الله عليه وعلى آله وسلم ما سُئِلَ على الإسلام شيئًا فقال:لا. لم يحدث ذلك أبدا.(1/19)
أعطى رجلًا واديًا من غَنَم - غنمًا بين جبلين - ما يعطيها أحدٌ؛ فرَجَع الرجل إلى قومه فقال: " أَسْلِمُوا فَإِنَّ مُحَمَّدًا يُنْفِقُ إِنْفَاقًا، أو: يُعْطِي عَطَاءَ مَنْ لَا يَخْشَى الْفَقْرَ ".
نعم، لا يَخْشى الفقرَ، لا يَخْشى أنْ يَبْذُل فيَفْتَقِرَ، لا يَخشى أن يَبْذُلَ جُهْدًا فيَضِيعَ، لا يَخشى أن يَبْذُل وقتًا ما مَشْيًا فيذهب سُدًى، ?( (((( (((((((((( (((((((( ((((((((( (((( ((((((((( (((( ((((((((((( (((((((( (((( (((((( (((((( (((((((((((((( (((( (((((((( ((( (((((((( ((((((((((( ((((( ( [التوبة: 121].
"مَا سُئِلَ النَّبِيُّ ( عَنْ شَيْءٍ قَطُّ فَقَالَ لَا" (18) (، لذلك يقول صفوان بن أمية وكان على الكفر: " لَقَدْ أَعْطَانِي رَسُولُ اللَّهِ ( مَا أَعْطَانِي وَإِنَّهُ لَأَبْغَضُ النَّاسِ إِلَيَّ فَمَا بَرِحَ يُعْطِينِي حَتَّى إِنَّهُ لَأَحَبُّ النَّاسِ إِلَي" (19) ( لقد أعطاه واديًا من أبلٍ ونَعَمٍ حتى قال: "أَشْهَدُ أَنَّهُ مَا تَطِيبُ بِذَلِكَ إِلَّا نَفْسُ نَبِيٍّ " (؛ ما تَطِيب نفسٌ أن تعطي هذا العطاء على كثرته، وتَسْتَيْقِن أنَّ بهذا العطاء لا يَنْفُذ المال إلا نفسُ نبي.
لذلك ذكروا عنه أَنَّه كان ينفق - صلوات الله وسلامه عليه - وهو لا يَمْلِكُ شيئًا ؛ أُهْدِيَتْ إِلَيْهِ شَمْلَةٌ ( فَقَالَ رَجُلٌ لَهُ: اكْسُنِيهَا يَا رَسُولَ اللَّهِ - أعطني هذه الشملة - فَلَامَهُ أَصْحَابُهُ، قالوا: تَعْلَمُ أَنَّهُ ( مَا يَرُدُّ سَائِلًا، وَهُوَ مُحْتَاجٌ إِلَيْهَا، وَتَسْأَلُهُ؟ قَالَ: أَرَدْتُ أَنْ تَكُونَ كَفَنِي؛ فَأَعْطَاهَا إِيَّاهُ النَّبِيُّ ( وَعَادَ إِلَى شَمْلَتِهِ القَدِيمَةِ (20)، صلوات الله وسلامه عليه.(1/20)
والخصيصة التالية يقول العلماء: علاوة على أَنَّه ( كان لا يَرُدُّ أحدًا، ولا يَرُدُّ سائلًا، وكان يعطي عطاءَ من لا يَخْشى الفقرَ، وكان يعطي على الإسلام ( لا يقول لا، وفي نفسه - صلوات الله وسلامه عليه - مع هذا العطاء الذي لا يستطيعه الملوك ككسرى وقيصر، كان يعيش في نفسه عيشة الفقراء، وكان يمر عليه الشهر والشهران لا يُوقَد في بيته نارٌ صلى الله عليه وعلى آله وسلم، فكان إنفاقه في وجه الله تعالى، وفي سبيله (؛ فيعطي المال لفقير، أو محتاج، أو مَنْ يَتأَلَّفه على الإسلام.
وكان ( يُؤْثِرُ على نفسه وأهله أيضا.
…جاءَهُ ( سَبْيٌ مرةً، وجاءته فاطمةُ ابنته رضي الله عنها تَشْكِي له عملَ بيتها؛ فقال لها النبي (: "أَلَا أُخْبِرُكِ مَا هُوَ خَيْرٌ لَكِ مِنْهُ تُسَبِّحِينَ اللَّهَ عِنْدَ مَنَامِكِ ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ وَتَحْمَدِينَ اللَّهَ ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ وَتُكَبِّرِينَ اللَّهَ أَرْبَعًا وَثَلَاثِينَ "، ولم يُعْطِها شيئًا، ويقول لها: "وَاللَّهِ لَا أُعْطِيك وَأَدَعُ أَهْلَ الصُّفَّةِ تَطْوَ بُطُونُهُمْ" (21)، أي: لا يعطيها خادمًا مع شدة احتياجِها لهذا الخادم، ويقول: "لَا أُعْطِيكِ"، وهو في نفسه يعيش عيشةَ الفقراء، ولا يُوقَد في بيته نارٌ.
يبكون إذا لم يجدوا ما ينفقون!(1/21)
وهذا الإنفاق على عكس ما نحن فيهاليوم؛ أصحابُ نظرية: ما يَحتاجُه البيتُ يَحْرُم على المسجد، ويُمْسِك مالَه سوءَ ظنٍّ بالله تعالى، وبالتالي يُمْسِك وقتَه وجهدَه؛ فلا تَجِد له عبادةً قد أَقْبَل عليها بالمحبة، وأَقْبَل عليها بالبَذْل، وأقبل على هذه العبادات من صيام، أو صدقة، أو حج، أو عمرة، أو بَذْلٍ، أو عطاء، إلا وهو مُتَمَلْمِل لا يحب وقوفًا بين يَدَيِ الله تعالى، وإن وَقَف بين يَدَيِ الله تعالى يَوَدُّ الخروجَ منه، ويقول متى يَرْفع الإمام؟ متى يَرْكع؟ متى يَنْتَقِل؟ وكلُّ ذلك يدل على شُحِّ النفس بهذا الفضل الذي يُريه المولَى إيَّاه، الله تعالى يَجْتَبِيكَ ويَصْطَفِيكَ لتكون أهلًا للفضل، وأنتَ تَتَفَلَّتُ منه، وأنتَ تَتَحَجَّج بالحِجَج لكي لا تقوم بهذه الطاعات، وتلك القرابات، لكي لا تكون أهلاً لهذا الشرف العظيم الذي يولِيك إياه؛ فإذا به يقول ( ((((( (((((((((((( (((((((((((( ((((((( (((((((((( (((( (( ((((((((((( (((((((((((( (((( ( [محمد: من الآية38].
وقد قيلتْ في أعقاب هذه الآية: ( ((((( (((((((( ((((((((( (((((((( ((( ((((((((( ( (((((( (((((((((( ((((((((( (((((((((((((( ( ((((( (((((((((((( ( [محمد: 38].
فعاقِبَةُ هذا التَّمَلْمُل من محابِّ الشرع، وعاقِبةُ هذا الضِّيق بأوامر الشرع - وعدم الانشراح، والإقبال عليه، ومحبته، وأن يَبْذُل فيه وقتَه، وجهدَه، ومالَه، وأن يَبْذُل كلَّ شيء له عاقبُته - أن يَسْتَبْدِل به غيرَه، وأن يَتْرُكَه كما مَلَّ هو من ربه، الله تعالى يَمَلُّ منه، وكما ضاق هو به؛ اللهُ تبارك وتعالى يُهْمِِلُه، ويتركه، ويأتي بغيره أفضلَ وأحبَّ إلى الله، وأكثرَ بذلًا وإنفاقًا وإقبالًا؛ ليكون محلاً لهذه الرحمات من الله تعالى، ليكون أهلًا لهذه البركاتِ من الله تعالى، والنعم من الله تعالى، والرِّزْقِ من الله تعالى، والفَتْحِ من الله تعالى.(1/22)
وانْظُرْ إلى هذه المعاني أيها المسكين لترى هذا المعنى الذي يَنْقُص المرءَ هذه الأيام ؛ فيحاول أن يجاهد نفسه على أن تَتَخَفِّف من هذه الأثقال، وتلك الحُجُب التي تَمْنَعها عن الإنفاق، والبذل، والإقبال على الله تبارك وتعالى، ليرى كيف كان النبي ( وأصحابه يسارعون في هذه الخيرات، بل كان حالُهم الحال الأعلى من هذه الدرجة إنهم كانوا إذا لم يجدوا ما ينفقون بَكَوْا، وفاضَتْ أعينُهم من الدَّمْع كما ذَكَر فيهم (: ( ?(((( ((((( ((((((((( (( ((((((((( ((( (((((((((( (((((( ((((( ((((((((( (( (((((((((((( ( ((( ((((( ((((((((((((((( ((( ((((((( ( (((((( ((((((( ((((((( ((((?(((( ((((( ((((((((( ((((( (((( (((((((( (((((((((((((( (((((( (( (((((( (((( (((((((((((( (((((((( ((((((((( (((((((((((((( ((((((( (((( ((((((((( ((((((( (((( ((((((((( ((( (((((((((( (((( ( [التوبة: 91- 92].
فكان تلكَ حالَهم؛ أنهم إذا لم يجدوا ما يُنْفقون، إذا بهم يَبْكُون وتَفِيض عيونُهم، ليس يَبْكُون فقط كما يبكي الباكون ثم تنتهي المسألة، ويعودون سيرتَهم إلى الغفلة والأكل والشرب، وإلى الشهوة، لا، وإنما تَفِيض أعينُهم، تفيض أعينهم من الدمع ( ?((((((( (((( ((((((((( ((( (((((((((( (((( (.
وهؤلاء يجدون ما يُنْفقون ولَكنَّهم يُمْسِكون ولا يُنْفِقون، وبِخسَّتِهم ينتظرون أن يستبدلهم ربُّهم بغيرهم، ولِتنتهي قضيتُهم بسبب بُخْلِهم، وحِرْصِهم، وشُحِّهِم، ولعدم استحقاقِهم في نهاية المطاف أن يكونوا من أهل الله تعالى، ومن خاصَّتِه، أن يكونوا ممن شَمِلَتُهم رِعايةُ الله تعالى وعنايتُه، فاصطفاهم واجتباهم لِأْنَ يكونوا أهلًا لهذا القُرْبِ، وتلك الطاعات، وتلك القربات لله تعالى.(1/23)
وكان بَذْلُه ( متنوعًا لا يَقِفُ على المال، بل كان يبذل نفسَه ووقتَه، وكان يَبْذُل العِلْمَ كذلك يُعَلِّم جاهِلَهم، ويُرْشِدَ ضَالَّهُم، ويعطي مُحتاجَهم ومِسْكِينَهم (.
فكل أنواع البذل الذي ورد ما كان يتخلف عنها - صلى الله عليه وآله وسلم - لحظةً، كان هو المسارع إليها؛ الأعلى على جميع البشر فيها.
لَمَّا نَزَلَتْ هذه الآية ( ((( (((((((((( (((((((( (((((( (((((((((( ((((( ((((((((( ( ( [آل عمران: 92].
إذا بالصحابة يسارعون إلى أحسن أموالِهم فيِنْفِقُونها، ليس إلى الرَّدِيء ولا إلى الذي صار لا يحتاجون إليه فينفقونها، ويرسلونها إلى المسجد، أو غير ذلك مما نراه اليوم. لا لماذا :?( ((( (((((((((( (((((((( (((((( (((((((((( ((((( ((((((((( ( ( [آل عمران: 92].(1/24)
"وكَانَ أَبُو طَلْحَةَ أَكْثَرَ الْأَنْصَارِ بِالْمَدِينَةِ مَالًا مِنْ نَخْلٍ، وَكَانَ أَحَبُّ أَمْوَالِهِ إِلَيْهِ بَيْرُحَاءَ، وَكَانَتْ مُسْتَقْبِلَةَ الْمَسْجِدِ، وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ ( يَدْخُلُهَا وَيَشْرَبُ مِنْ مَاءٍ فِيهَا طَيِّبٍ،.. فَلَمَّا أُنْزِلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ ( ((( (((((((((( (((((((( (((((( (((((((((( ((((( ((((((((( ( ( قَامَ أَبُو طَلْحَةَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ ( فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى يَقُولُ لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ وَإِنَّ أَحَبَّ أَمْوَالِي إِلَيَّ بَيْرُحَاءَ وَإِنَّهَا صَدَقَةٌ لِلَّهِ أَرْجُو بِرَّهَا وَذُخْرَهَا عِنْدَ اللَّه " (22). لَمَّا نزلت تلك الآيات، وهي المسارعة، والمنافسة في أعمال الخير عَلِم الصحابة أنهم هم المُخْتَصُّون بذلك، هم المخاطبون بذلك، هم المخاطبون بأن يسارعوا إلى الله، وأن يتنافسوا، وأن يتسابقوا إلى هذه المعالي؛ فسابق بعضُهم بعضًا، حتى أنهم - كما ذكرنا - من لم يستَطِع كان يجلس ليبكي على أنْ لا يستطيع الإنفاق، ثم أنه إذا لم يَسْتَطِع أن يُنْفِق في بابٍ، إذا به يحاول أن يُعَوِّض ذلك الباب؛ لَمَّا قام الأغنياء يُنْفِقون من أموالهم في الصدقة، والصِّلة، والجهاد، وغيرها. هل جلس الفقراء يبكون فقط؟ لا. انتقلوا إلى درجة أعلى من المنافسة، فأتوا النبي ( ليقولوا له: "ذَهَبَ أَهْلُ الدُّثُورِ بِالْأُجُورِ يُصَلُّونَ كَمَا نُصَلِّي وَيَصُومُونَ كَمَا نَصُومُ وَيَتَصَدَّقُونَ بِفُضُولِ أَمْوَالِهِمْ - إذا بالنبي ( يُوَجِّهُهم إلى عمل من الأعمال يُعَوِّض لهم هذا الإنفاق الذي لم يستطيعوا - قَالَ: أَوَلَيْسَ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ مَا تَصَّدَّقُونَ؟! إِنَّ بِكُلِّ تَسْبِيحَةٍ صَدَقَةً وَكُلِّ تَكْبِيرَةٍ صَدَقَةً وَكُلِّ تَحْمِيدَةٍ صَدَقَةً وَكُلِّ(1/25)
تَهْلِيلَةٍ صَدَقَةً، وَأَمْرٌ بِالْمَعْرُوفِ صَدَقَةٌ، وَنَهْيٌ عَنْ مُنْكَرٍ صَدَقَةٌ، وَفِي بُضْعِ أَحَدِكُمْ صَدَقَةٌ" (23).
كان أهل الإيمان إذا لم يتمكنوا من النَّفَقَةِ، إذا بهم يقولون: قد أَنْفَقَ فلانٌ، وأنفق فلانٌٍ، وأنفق فلانٌ؛ فيجلسون ليَحْسِبوا هذا الإنفاق ثم يُصَلُّون بدل كل دينار أَنْفَقَ، أو بدل كل درهم أَنْفَقَ؛ يصلي أحدهم ركعةً يُعَوِّضُ بها ذلك، لا يفوته أبدًا أن يسابقه أحدٌ إلى الله إلا وهو يبكي أن يكون أحدٌ أقربَ إليه ( منه، أو أن يكون أسبقَ إلى الله تعالى منه، أو أن يكون أسرعَ إلى الله - جل وعلا - منه، لو عَلِمَ بذلك فَتَقَطَّع قلبُه فمات لم يكن كثيرًا.
الجود على العباد .. سبب لجود الله بالمغفرة
وعلاقة ذلك برمضان أَنَّ الصدقة في رمضان يتضاعف أَجْرُها كما يتضاعف أجرِ بقيَّة الأعمال؛ فيحاول المرءُ أن يخرج من شُحِّ نفسه، وأن يَتعوَّد هذه السيرة الحسنة، وأن يكون في رمضان مُجاهداً على التَّحَقُّقِ بالأخلاق التي تكون عونًا له على المغفرة، وعونًا له على الرحمة، وعونًا له على العِتْق من النار؛ فإذا ما اجتَمَعَت الصدقة مع الصيام، كان ذلك من الأسباب التي يَغْفِر اللهُ تعالى بها الخطايا، ويُكَفِّر بها الذنوبُ، ويَرْفَع بها الدرجات، وكذلك من الأمور التي يَقْبل بها الصيامُ، ويَجْبُر بها الخلل (.(1/26)
لذلك كانوا حريصين أن تكون صدقاتُهم مع رمضان - يعني مع الصيام - ليكون ذلك سببًا لزيادة الأجر، ولمضاعفة الثواب خاصَّةً لِشَرَفِ الزمان الذي هُمْ فيه؛ فما كان يأتيهم زمانٌ ذو شرفٍ حتى يَبْذُلوا لهذا الزمان أكثر مما يَبْذُلون في غيره يَنْتَظِرون مضاعفةَ الأجر فيه، ينتظرون مضاعفة الثواب فيه، إذ كان كلُّ هَمِّهم في الدنيا كيف يُحَصِّلون رضا الله تعالى؟ كيف يحصلون الدرجات العالية عنده؟ كيف يحصلون النعيم المقيم؟ كيف يُسابِقون غيرَهم إلى الله؟ كيف يحزنون على أن يَسْبِقَهم أحدٌ إليه (؟
فلم يكن حالُهم الحالَ الذي نحن عليه الآن؛ كيف يَتسابَق في الدنيا، ويُحَصِّلُها، ويَحْزَن لِفَقْدِها، ويخاف أن تَنْقُص منه، ناسيًا آخِرَتَه، غافلًا عن لقاء ربه (؟ غافلًا عن أنه يمكن أن يرحل إلى الله في يومه أو في غَدِه، ويمكن أن ينتقل إلى الدار الآخرة، ولم يُحَصِّل من شهواته شيئًا، وكذلك لم يُحَصِّل من رضا ربه ما يكون سببًا في تبييض وجه: ( (((((( (((((((( ((((((( (((((((((( ((((((( ( ( [آل عمران: 106].
وكانت الفائدة الثانية في أن يقرن الصدقة بالصيام: أن الله - تبارك وتعالى - في رمضان يُوَسِّع على عباده بأنواع الرحمة، والمغفرة، والعتق من النار، فإذا وَسَّع العباد على بعضِهم كان ذلك سببًا أنْ يتفضل عليهم، يقول النبي (: "يَرْحَمُ اللهُ تَعَالَى مِنْ عِبَادِهِ الرُّحَمَاءَ" (24).
فإذا كان العباد رُحَماء ببعضهم البعض، وزادوا في صدقاتِهم، وإحسانِهم، يَرْجُون بذلك الرحمةَ، وجادوا على إخوانهم، يَجُود الله تعالى عليهم.
فكان هذا المعنى من أنهم يُكْثِرون من هذه الصدقات جُودًا على عباد الله تعالى، يَنْتَظِرون جُودَ الله تعالى بها؛ فمَهْمَا جادوا على عباده جادَ عليهم سبحانه وتعالى، ووَسَّع عليهم بمغفرته، وفضلِه، ورضوانه، وعَوَّضَهم، وأَخْلَف عليهم في صدقاتِهم.(1/27)
ومن فوائد الصدقة مع الصيام أيضا: أن الصدقة إذا اجتَمَعت مع الصيام كانت مُوجِبًا من موجِبات الجنة؛ يقول النبي (: "إِنَّ فِي الْجَنَّةِ غُرَفًا تُرَى ظُهُورُهَا مِنْ بُطُونِهَا وَبُطُونُهَا مِنْ ظُهُورِهَا فَقَامَ أَعْرَابِيٌّ فَقَالَ لِمَنْ هِيَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ - لمن هذه الغُرف؟ حتى يَتَسابقوا إليها، حتى يَتَنافَسوا فيها، كي يُحَصِّلوها - قَالَ لِمَنْ أَطَابَ الْكَلَامَ وَأَطْعَمَ الطَّعَامَ وَأَدَامَ الصِّيَامَ وَصَلَّى لِلَّهِ بِاللَّيْلِ وَالنَّاسُ نِيَامٌ" (25).
وهذه الأربعة تتحقق في رمضان: القيام، والصيام، والصدقة، وطيب الكلام؛ لأن النبي ( نَهى الصائم عن اللغو والرفث، نهاه عن ذلك حتى يكون سببًا لطيب كلامه، وحسن معاملته: ( (((((((((( (((((((( ((((((( ( [البقرة: من الآية83] كما قال تعالى.
ولذلك؛ النبي ( لم يكن يَمُرُّ عليه هذا الحال الحسن إلا وينبهه عليه، ويشير إلى أصحابه يقول: "مَنْ أَصْبَحَ مِنْكُمْ الْيَوْمَ صَائِمًا؟ قَالَ أَبُو بَكْرٍ: أَنَا.
قَالَ: فَمَنْ تَبِعَ مِنْكُمْ الْيَوْمَ جَنَازَةً؟ قَالَ أَبُو بَكْرٍ: أَنَا.
قَالَ: فَمَنْ أَطْعَمَ مِنْكُمْ الْيَوْمَ مِسْكِينًا؟ قَالَ أَبُو بَكْرٍ: أَنَا.
قَالَ: فَمَنْ عَادَ مِنْكُمْ الْيَوْمَ مَرِيضًا؟ قَالَ أَبُو بَكْرٍ: أَنَا !!.
فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ( مَا اجْتَمَعْنَ فِي امْرِئٍ إِلَّا دَخَلَ الْجَنَّةَ " (26).
فما تَجْتَمع الصدقةُ والصيامُ وتلك الأعمالُ من أعمال البر، إلا كانت مُوجِبةً من موجبات الجنة، وسببًا من أسباب تحصيل رضا الرب مع ( ((((((((((((( ((((((((((((((((( ((((((((((((((( ((((((((((((((( ( (((((((( (((((((((((( (((((((( (((( ( [النساء: من الآية69].
وذلك نَفْعُ المرء ومُبْتَغَاهُ؛ وإذا ما تَحَصَّل له في الدنيا فاز فوزًا عظيمًا، ماذا يريد هذا العاقل الذي يريد الله تعالى والدار الآخرة؟(1/28)
والذي يعلم أنه إن حَصَّلَ على مغفرة الله تعالى في رمضان؛ فإن ذلك هو الفوز العظيم، وأنه مهما بذل لهذه المغفرة فإنه لم يبذل شيئًا لأن المغفرة لا يدانيها بذل، فمهما بذل من ماله ووقته وجهده وحَصَّل المغفرةَ، لم يكن كثيراً: "يُؤْتَى بِأَنْعَمِ أَهْلِ الدُّنْيَا -المتنعمين فيها - مِنْ أَهْلِ النَّارِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَيُصْبَغُ فِي النَّارِ صَبْغَةً، ثُمَّ يُقَالُ: يَا ابْنَ آدَمَ هَلْ رَأَيْتَ خَيْرًا قَطُّ هَلْ مَرَّ بِكَ نَعِيمٌ قَطُّ فَيَقُولُ لَا، وَاللَّهِ يَا رَبِّ وَيُؤْتَى بِأَشَدِّ النَّاسِ بُؤْسًا فِي الدُّنْيَا مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ فَيُصْبَغُ صَبْغَةً فِي الْجَنَّةِ فَيُقَالُ لَهُ: يَا ابْنَ آدَمَ هَلْ رَأَيْتَ بُؤْسًا قَطُّ؟ هَلْ مَرَّ بِكَ شِدَّةٌ قَطُّ؟! فَيَقُولُ: لَا وَاللَّهِ يَا رَبِّ مَا مَرَّ بِي بُؤْسٌ قَطُّ وَلَا رَأَيْتُ شِدَّةً قَطُّ" (27).
فمهما بَئِسَ المرءُ في هذه الدنيا، وأصابه ما أصابه ثُمَّ حَصَّل الرحمة، أو حَصَّل المغفرة؛ فكأنه لم يَرَ شيئًا قط، ولم يَتْعَبْ قط، ولم يَشْقَ قط، ولم يَحْدُثْ له نَصَبٌ ولا وَصَبٌ قَطُّ.
وكذلك اجتماع الصدقة مع الصيام أَبْلَغُ في تكفير الخطايا والسيئات، إذا صام المرء فأضاف إلى الصيام الصدقةَ كان ذلك أبلغَ كما يقول النبي (: "وَالصَّدَقَةُ تُطْفِئُ الْخَطِيئَةَ كَمَا يُطْفِئُ الْمَاءُ النَّارَ" (28).
فإذا ما صام المرء، وأضاف إليه الصدقة كما قال وقيام الليل - يعني الصدقة وقيام الليل تطفئ الخطيئة كما يطفئ الماءُ النارَ - وكان ذلك سببًا لتكفير الخطايا، وأبلغَ في مَحْقِها - مَحْوِ السيئات التي اكتَسَبها المرء في دنياه - فلم يَبْخَل على تكفير خطاياه، وسيئاته بمثل ذلك.
فلْيُسارِع حينئذٍ المؤمنون، ويَثِقوا في ربِّهم، منتظرين الخَلَف، والعِوَض من الله جل وعلا في الأولى والآخرة.
الصدقة تجبُر خلل الصيام(1/29)
ثم إن الصيام الذي نصومه - كما تعلمون - قد امْتُلِئَ بالخَلَلِ، وامتلئ بالنَّقْص، امتلئ بالغفلة، وامتلئ بالشهوات والوسوسة، وامتلئ باللغو من الكلام وغيره من الأفعال القبيحة التي تَصْدُر من باطن المرء وظاهره، كلُّ ذلك يُنْقِص أَجْرَه، وكل ذلك يكون سببًا في ألا يَقَعَ به الرحمة والمغفرة؛ لأن النبي ( لَمَّا قال: "مَنْ صَامَ رَمَضَانَ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا" (29)والمراد صامه صومًا كاملًا، صومًا لا يَشُوبُه شيءٌ، حتى يكون سببًا لتكفير السيئات، وسببًا لغُفران الذنوب والخطايا، ليس صومًا يَلْعب فيه، ويَغْفل فيه، ويُكْثِر فيه من اللَّغْو والرَّفَث، والمكروهات أو الخطايا، وغير ذلك من الأحوال التي لا ينبغي أن يكون عليها الصائم من الذِّكر والإقبال، والوقار والسكينة، وكذلك من صفاء النفس والروح، من المسارعة إلى الطاعة، وعدم التَّعَلُّل بالصيام في أن يسوء خُلُقَه، وأن يَخْرُج منه الألفاظ التي لا ينبغي أن تخرج من الصائم، بل على العكس الصيامُ يُهَذِّب نفسَه، ويهذب جوارحَه، ويُقْمِع شَهَوَاتَه، ويُقَرِّبُه إلى ربه - سبحانه وتعالى - ليخرج بعد الصيام كما ذكر الله تعالى: ( ((((((((((( ((((((((( (((((((((( (((((( (((((((((( ((((((((((( ((((( (((((( ((((( ((((((((( ((( (((((((((( (((((((((( ((((((((( ((((( ( [البقرة: 183].
فيخرج تَقِيًّا، ظَهَرت عليه علامات التقوى، وعلامات المغفرة، وعلامات العتق من النار، يَخْرج أَقْبَلَ على الله تعالى، أَزْهَدَ في الدنيا، أَكْثَرَ استقامةً على أمر الله تبارك وتعالى، أَكْثَرَ محبةً وقربًا لربه، أَكْثَرَ محافظةً على أمره ونهيه جل وعلا، أَكْثَرَ رِقَّةً في قلبه، ودَمْعَةً في عينيه، وخشوعًا في بدنه، ظاهرِه وباطنِه، لِيدل بذلك أنه قد غُفِرَ له، أو رُحِمَ، أو قد أُعْتِقَ من النار، يخرج أفضل مما كان محبةً وذكراً وأُنْساً بالله وشوقاً إلى لقائه.(1/30)
التصميم... على تحقيق أسباب المغفرة
بعد أن سمع المرء ذلك، وعَلِمَ مدى رحمة الله تعالى، وكَرِم الله تعالى، وجُود الله تعالى، في هذا الموسم العظيم من مواسم المغفرة والعتق من النار؛ إِذَا بالمرء يَطْمَع طمعًا شديدًا في أن يَغفر الله له، وأن يرحمه، وأن يعتقه من النار بعد هذه الأيام والليالي الطويلة في البُعد والانتكاس والتَّقَهْقُر عن باب الله تعالى، بعد هذه الليالي الطويلة، والأيام الطويلة في الغفلة والشهوة، ونسيان الآخرة، بعد هذه الأيام الطويلة في تَرْكِ الاستعداد للرحيل إلى الله تبارك وتعالى، وتأخير التوبة وطول الأمل في هذه الحياة الدنيا الزائلة، وعدم الاعتبار بما كان، وأنه يمكن أن يكون من أهل الآخرة؛ فيَسْتَفْتِح يومًا لا يُكْمِلُه، أو يستفتح ليلةً لا يُتِمُّها؛ فيكون في غَدِهِ عند الله تعالى، لذلك قال تعالى: ( ((((((((( (((( ((((((((((( (((((( ((( (((((((( (((((( ( ( [الحشر: 18].
فمقصودنا اليوم أن يعاوِدَ المرءُ هذه القضية بهذا اللفظ مرةً أخرى: التصميم على تحقيق أسباب المغفرة، هذا العام لن يتهاون مع نفسه وشَيْطَانِه كَكُلِّ عام، بل سَيَتَوَكَّلُ عَلَى اللهِ ويَأخُذ الأَمْرَ بِقُوَّةٍ وَحَذَرٍ، مُسْتَعِيناً بِاللهِ قَويّاً به فَقِيراً إِليه.
ها قد هَلَّ رمضانُ هذا العام ـ نرجو الله تعالى أن يغفر لنا فيه ـ فلا بُدَّ أن يكون المؤمنون على أُهْبَةِ الاستعداد له، مُصَمِّمِين على تحقيق أسباب المغفرة مهما كان البذل.(1/31)
أن يجعل شعارَه هذه الأيام التصميمَ على تحقيق أسباب المغفرة مهما كانت ظروفُه، وأنه إذا سار إلى الله تعالى بالصِّدْق والإخلاص؛ فإن الله تعالى يَفْتح عليه، وإن الله تعالى يُقَوِّيه، ويُؤَيِّده، وإن الله - تبارك وتعالى كذلك - يَمُدُّه بمدَدِه؛ فلا يَتَمَلْمَل، ولا يَزِيغ، ولا يَتَّبِع الشهوات، ولا يَغْلِبُه شيطانه وهواه؛ لأن الله تعالى قَوَّاه وحَفِظه، وأن الله تعالى دَافَع عنه، وأَمَدَّه، حينئذٍ كان الله له، وإذا كان الله له فمن يكون عليه.
فإذا ما وَقَفَ المرءُ باب الله تعالى طالبًا مددَه، وطالبًا منه العَوْنَ والتيسير، وطالبًا منه الهداية والقُرْبَ، وطالبًا منه ( العَوْنَ على هذه الأعمال والطاعات، ويَتَضرَّع إليه بقلب مسكين، منكسِرًا، خاشعًا، يَعْلَمُ أنه لا حول له ولا قوة، وأنه لا قُدرةَ له ولا استطاعة على تحقيق ذلك إلا بربه (، يدعوه ويتمَلَّقُه - جل وعلا - بإخلاصٍ، وإقبالٍ، وصِدْقٍ مع الله تعالى أن يفتح الله - تبارك وتعالى - عليه.
وليعلم المرءُ إنَّ في رمضان جِهَادَيْنِ: جهادٌ بالليل وجهادٌ بالنهار؛ جهاد الصيام بالنهار: أن يَسْتَوْفي فيه صيامَه الذي به تَتَحَقَّق المغفرة والعتق من النار، فإذا لم يتحقق ذلك - يعني: أن الصيام يكون سببَ مَنْعِه من المحرمات والشهوات، وأن يكون سببَ إقبالِه على ربه ( بالأذكار والطاعات - فإن هذا الصيام الذي منعه محرمات فضول الكلام، والسماع، والبصر، والمكاسب المحرمة، ومَنَعَهُ محرماتِ الشهوات من الطعام والشراب والنكاح، إذا استكمل شروطه كان ذلك الصيام سببًا لهذه المغفرة، وإنْ تَحَقَّقَ صيامُه بهذه الشروط التي يُكَّفِرَ الله تعالى بها الخطايا كان سببًا لشفاعته يوم القيامة، وإلا ضُرِبَ به في وَجْهِهِ كما ذُكِر في الصلاة ويقول له ضيعك الله كما ضيعتني(30) هذه الأولى.(1/32)
والثانية: القرآن كما قال النبي (: "الصِّيَامُ وَالْقُرْآنُ يَشْفَعَانِ لِلْمَرْءِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، الصِّيَامُ يَقُولُ: مَنَعْتُهُ الطَّعَامَ وَالشَّرَابَ وَالشَّهْوَةَ؛ فَشَفِّعْنِي فِيهِ؛ فَيُشَفَّعُ فِيهِ" (31).
فهذا القرآن الذي قد أنزله تعالى لرحمة العباد، ولنور قلوبِهم، وأعمالِهم، وطَرَائِقِهم إلى الله - جل وعلا - وكذلك لبركتهم، ولشفائهم، وهدايتهم.
انْظُر إلى حديث النبي (: " اقْرَءُوا الْقُرْآنَ فَإِنَّهُ يَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ شَفِيعًا لِأَصْحَابِهِِ" (32) ليكون سببَ هذه الشفاعة والزاد فيه، حتى يكون سببًا لشفاعته، لذلك يأتي حديثُ النبي ( في هذا المعنى يقول، وهو حديث أصله في الصحيحين: "رَأَى فِي مَنَامِهِ ( رَجُلًا مُسْتَلْقٍ عَلَى قَفَاهُ، وَرَجُلًا وَاقِفًا عَلَيْهِ، وَفِي يَدَيْهِ فِهْرٌ أَوْ صَخْرَةٌ، فَيَخْدِشُ بِهَا رَأْسَهُ - يَكْسِرُ بِهَا دِمَاغَهُ - فيَتَدَهْدَهُ الحَجَرُ؛ فَيَأْتِي لِيَأْخُذَهُ؛ فيَعُودُ رَأْسَهُ كَمَا كَانَ فَيَخْدِشَهُ بِهِ، يَفْعَلُ بِهِ ذَلِكَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ؛ فَسَأَلَ النَّبِيُّ ( مَنْ هَذَا؟ قَالَ: هَذَا رَجُلٌ آتَاهُ اللَّهُ تَعَالَى الْقُرْآنَ؛ فَنَامَ عَنْهُ بِاللَّيْلِ، وَلَمْ يَعْمَلْ بِهِ فِي النَّهَارِ" (33) وهذا حديث صحيح.
لذلك ورد: إذا جاء مَلَكُ الموت إلى المرء قال له: شُمَّ رأسَه يقول: أَجِدُ فيه القرآنَ، شُمَّّ قَلْبَه يقول: أَجِدُ فيه الصيام، يقول: شُمَّّ رجليه. أَجِدُ فيه القيام، يقول: حَفِظَ اللهُ فحَفِظه اللهُ، حَفِظَ نفسَه؛ فحَفِظَهُ ربُّه.(1/33)
وإن القرآن - كما يقول النبي ( فيما صح عنه - يَلْقى صاحِبَه يوم القيامة حين يُشَقُّ عنه قبرُه كالرجل الشاحب يقول له: أَتَعْرِفُنِي؟ أَنَا الَّذِي أَظْمَأْتُ مِنْكَ الْهَوَاجِرَ، وَأَسْهَرْتُ لَيْلَكَ، أَنَا سَبَبُ صِيَامِكَ، وَسَبَبُ ظَمَأِكَ فِي الْهَوَاجِرِ - في الأيام الصعبة الصائفة الشديدة الحر- وَأَسْهَرْتُ لَيْلَكَ، وَإِنَّ كُلَّ رَجُلٍ مِنْ وَرَاءِ تِجَارَتِهِ؛ فيُعْطَى الْمُلْكَ بِيَمِينِهِ، والْخُلْدَ بِشِمَالِهِ، ويُوضَعُ عَلَى رَأْسِهِ تَاجُ الْوَقَارِ، ويُقَالُ لَهُ: اقْرَأْ، وَارْقَ فِي غُرُفَاتِ الْجَنَّةِ، فِي دَرَجِ الْجَنَّةِ وَغُرفَاتِهَا، ولا يزال يصعد، ما دام يقرأ هذا كان، أو ترتيلًا.
وانْظُرْ إلى ما رُوِيَ عن النبي ( في عكس هذا: يَأْتِي الْقُرْآنُ الْكَرِيمُ خَصْمًا لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ؛ فيُمْسِكُ بالرَّجُلِ الَّذِي قَدْ حَمَلَ الْقُرْآنَ، وَقَدْ خَالَفَ أَمْرَهُ؛ فيَتَمَثَّلُ خَصْمًا لَهُ؛ فيَقُولُ: أيْ رَبِّ حَمَّلْتَنِي إِيَّاهُ؛ فَبِئْسَ حَامِلٌ تَعَدَّ حُدُودِي، وضَيَّعَ فَرَائِضي، ورَكِبَ مَعْصِيَتِي، وَتَرَكَ طَاعَتِي؛ فَمَا يَزَالُ يُلْقِي عَلَيْهِ بِالْحُجَجِ حَتَّى يُقَالُ لَهُ: شَأْنَكَ بِهِ؛ فَيَأْخُذُهُ مِنْ يَدِهِ؛ فَمَا يَدَعُهُ حَتَّى يَكُبَّهُ عَلَى مِنْخَرِهِ فِي النَّارِ.(1/34)
وَيُؤْتَى بِالرَّجِلِ الصَّالِحِ قَدْ حَمَلَ الْقُرْآنَ، وَحَفِظَ أَمْرَهُ؛ فَيَتَمَثَّلُ خَصْمًا لَهُ؛ فَيَقُولُ: أَيْ رَبِّ حَمَّلْتَنِي إِيَّاهُ؛ فَنِعْمَ حَامِلٌ حَفِظَ حُدُودِي، وَقَامَ بِفَرَائِضِي، وَلَمْ يَرْتَكِبْ مَعْصِيَتِي، وَأَتَى بِطَاعَتِي، أَوِ اتَّبَعَ طَاعَتِي، فَمَا يَزَالُ يُقِيمُ لَهُ الْحُجَجَ حَتَّى يُقَالَ: شَأْنَكَ بِهِ؛ فَيَأْخُذَهُ حَتَّى يَدْخُلَ بِهِ الْجَنَّةَ، وَيُوضَعُ عَلَى رَأْسِهِ تَاجُ الْوَقَارِ.... إلى آخر الحديث(34). فها قد جاء موعد تحقيق ذلك.
ونختم بقول النبي (: "وَرَغِمَ أَنْفُ رَجُلٍ دَخَلَ عَلَيْهِ رَمَضَانُ ثُمَّ انْسَلَخَ قَبْلَ أَنْ يُغْفَرَ لَهُ " (35)، "رَغِمَ أَنْفِ امْرِئٍ أَتَى عَلَيْهِ رَمَضَانُ أَدْخَلَهُ اللَّهُ النَّارَ"، "رَغِمَ أَنْفِ امْرِئٍ أَتَى عَلَيْهِ رَمَضَانُ فَلَمْ يُغْفَرْ لَهُ، قُلْ: آمِينَ. فَقُلْتُ: آمِينَ"، "رَغِمَ أَنْفِ امْرِئٍ أَتَى عَلَيْهِ رَمَضَانُ؛ أَبْعَدَهُ اللَّهُ. قُلْ: آمِينَ. قُلْتُ: آمِينَ" (36).
لا تُفارِق بابَ الله حتى يَستجيب دعائك
وقد فتح الله تعالى ذلك الباب الذي ينبغي أن يهتم له المؤمنون اليوم وهو أن دعوة الصائم لا ترد، قد فتح الله هذا الشهر وفيه كما قال (: " دَعْوَةُ الصَّائِمِ مُسْتَجَابَةٌ" (37)، ليحاول المرء ويبكي ويدعو ويتضرع أن يكون رمضان خيرًا مما كان ويدعو ويتضرع أن يعينه ربه سبحانه وتعالى على الوفاء بذلك ويدعو ويبكي ويتضرع ويخاف أن يمر عليه رمضان كما مر من قبل.(1/35)
فأنت أيها المسكين قد دخلت ولم تتأهل له قد دخلت بذنوبك ومعاصيك وبكسلك وتوانيك ودخلت كذلك بضعف الهمة وضعف العزيمة ودخلت وقد محقت بركة الوقت والجهد، وإذا بك مسكين فقير قد دخلت على الله تعالى بذلك فتح لك الباب الذي يمدك منه فتح لك الباب الذي يعطيك منه فتح لك الباب الذي يفيض عليك سبحانه وتعالى فيه من رحمته، وهو باب إجابة الدعاء.
إذا يَئِس المرء من نفسه، بأن أراد أن يُصْلِحها من جهةٍ تشتت عليه من جهة، أو يَقوم بالذِّكْر من جهةٍ غَفَلَتْ من جهة، أو لِيترك تَكاسُلَه من جهةٍ نامَتْ من جهة، يُجاهدُ يومًا ويومًا فيَرجع يومًا ويومين وثلاثة، ويَقِف الحال به على حَدِّ العَجْز , فقد فُتِح له بابُ الدعاء؛ ليكون هذا الباب سببًا في رَفْع هذا البلاء النازل، وإصلاحِِ هذه الأحوال السيئة؛ حيث إن التَّضَرُّع لله تعالى، ورَفْعَ اليدين له، والانكسارَ بين يديه، والخروجَ عن الحَوْل والطَّوْل والقوة؛ كلُّ ذلك سببٌ في أن يَتقبَّل الله تعالى دعاءَ المرء، خاصة إذا رأى بكاءه، وخوفَه، وحُزْنَه وضِيقَه من حاله ومن نفسه، إذا رأى ذلك فإنَّه يَمُنَّ عليه ( فيُخَفِّفَ عليه القيامَ، ويُهَوِّنَ عليه الصيامَ، ويَرْزقه تلاوةَ كتابِه والاستشفاءَ به، ويَقْبل منه عملَه، ويُبارِك له وقتَه وجهدَه (، إذا صَحَّ الدعاء، نَفَعَ، بأن يخرج من قلبٍ سليم.
فالدعاءُ من أهم الأسباب في دَفْع المكروه الذي نحن فيه، كل هذه المصائب التي نحن فيها، الدعاءُ أهمُّ شيءٍ يَدْفَعُها، وأهم سببٍ لحصول المقصود، ولكن الدعاء يَتَخلَّف أَثَرُه، أي: تتخلف الإجابة عنه، يدعو الإنسان ويدعو، يدعو فإذا به لا يرى إجابة فيَسْتَحْسر، يعني: ييأس، يعني: يَسْأَم، يعني: يَمَلَّ؛ فيَتْرُك الدعاء.(1/36)
وهو الحال الذي نحن فيه اليوم؛ مَن الذي دَعَا، ودعا، ودعا، ودعا، واستَمَرَّ على الدعاء، واستمر على الوقوف بباب الله تعالى مُتَضَرِّعًا، كلَّما رأى عَيْبًا مَحَاهُ، وكلَّما رأى خَلَلًا سَدَّهُ، وكلَّما رأى ذَنْبًا تاب منه، وهو واقفٌ يَتضَرَّع ويدعو ويَتَمَلْمل ولا يُفارِق بابَ الله حتى يَستجيب له؛ لأنه ( قال: ( ((((((((((( (((((((((( (((((( ( ( [غافر: 60]. من الذي فعل ذلك؟!
من فعل ذلك فلا بُدَّ مِن تَحَقُّقِ الاستجابة له بفضل الله لإنَّ الله تعالى لا يَتَخَلَّفُ وَعْدُه - جل وعلا - للمؤمنين، ولكنه لا يرى إجابةً فيترك الدعاء.
ويَتَخَلَّفُ أَثَر الدعاء لعدة أسباب :
1- إما لضعف الدعاء؛ نتيجة للدعاء بهذه الأدعية الضعيفة التي فيها اعتداءٌ وعُدْوان.
2- وإما لِكَوْنِ المرء لم يَجْمع قلبَه بِكُلِّيَّته على مطلوبِهِ حالَ الدعاء، لم يُحْضِر قلبَه ويجتمع على دعائه.
3- وإما لِوجود الموانع التي تَمنع الإجابة من الله تعالى؛ كأَكْلِ الحرام، ورَيْنِ الذنوب على القلب، وغلبة الغفلة، والشهوة واللهو على القلب: "إنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَجِيبُ دُعَاءً مِنْ قَلْبٍ غَافِلٍ لَاهٍ" (38) أي: دعاء يدعوه به، فهو كالسَّهم، فالسَّهْمُ الضعيف يَخْرج من القَوْس الضعيف الرخوة، فلا يَصِلُ إلى مقصودِهِ، فإذا جاءته موانِعُ الإجابة أيضاً من أَكْلِ الحرام، وكثرةِ الذنوب والخطايا والسيئات، وغلبةِ الغفلة، واللهوِ، والشهوةِ على المرء؛ أنَّى يستجاب له؟!
مع أن النبي ( يقول: " ادْعُوا اللَّهَ وَأَنْتُمْ مُوقِنُونَ بِالْإِجَابَةِ" (39)، ادعوا الله وأنتم متيقنون أن الله تعالى سوف يستجيب ( لكم هذه الأدعية.(1/37)
والدعاءُ أنفع شيءٍ للبلاء، هو عدوُّ البلاء النازل على المرء في دينِه ونفسِه ومالِه وأهلِه وأُمَّةِ الإسلام، الدعاءُ عدوُّ هذا البلاء، يَدْفَعُه ويُعالِجُه ويَمْنع نزولَه من أصلِه، وإذا نَزَل يَرْفعه، وإذا نَزَل يُخَفِّفه على حسب قوة الدعاء.
فالدعاءُ له حالات مع البلاءِ؛ فقد يكون الدعاء أقوى من البلاء فيَرْفَع البلاءَ، أو أن يكون أقلَّ منه فيَرْفع من البلاء بقَدْرِه، أو أن يكون مِثْلَهُ فيَتَعالَجانِ إلى يوم القيامة (40).
لذلك يقول الرسول صلى الله عليه وآل وسلم: "لَنْ يَنْفَعَ حَذَرٌ مِنْ قَدَرٍ" (41)، وإن الدعاء ينفع مما نَزل ومما لم يَنزل، وإن البلاء لَيَنْزل فيَلْقاهُ الدعاءُ فيَتَعالَجانِ إلى يوم القيامة، ويقول (: "وَلَكِنَّ الدُّعَاءَ يَنْفَعُ مِمَّا نَزَلَ وَمِمَّا لَمْ يَنْزِلْ فَعَلَيْكُمْ بِالدُّعَاءِ عِبَادَ اللَّهِ" (42).
لذلك ينبغي على المؤمنين أن يكون هَمَّهُم هذه الأيام كيف يتحققون بإجابة الدعاء من الله تعالى؟ إِنَّ أنفسَهم قد مُلِئَتْ بالذنوب والمعاصي، وأعمالَهم قد مُحِقَتْ منها البركة، وإقبالَهم على الله تعالى ضعيفٌ لهذه الحالة، وكذلك استعدادُهم للقاء الله تعالى أشدّ ضعفاً، وأن المرء يحتاج إلى ربه في كل شيء، لا يستغنى عنه في كلِّ ذرة من ذراته، وفي أحوالِه في الدنيا وأحوالِه في الآخرة.
ولذلك كان لا بُدَّ له أن يكون له طريقٌ إلى الله، وبابٌ إلى الله؛ لأنه إذا لم يُقَوِّهِ ربُّه لن يُقَوِّيه أحدٌ، وإذا لم يَغْفر له لن يَغْفر له أحدٌ، وإذا لم يَرْزقه لا يَرْزقه أحدٌ، وإذا لم يُخَفِّف عليه لا يُخَفِّف عليه أحدٌ. مَنِ الذي يُخَفِّفُ عليه؟ من الذي يَرْزقه؟ من الذي يَشْفيه؟ من الذي يُبارِك في وقتِه؟ من الذي يأخذُ بيده إليه؟ من الذي يَغْفر له؟ من الذي يَرْفَع عنه الكربَ والبلاءَ؟ من الذي يُصْلِح أخلاقَه وعادَاته؟ من الذي يتوب عليه؟
هو الله تبارك وتعالى لا أحدَ.(1/38)
فإذا لم يكنِ اللهُ له فكلُّ شيءٍ عليه، ويراها ضَنْكًا، ويراها ضِيقًا وتُسَدُّ في وجهِه، وكُلَّما سَلَكَ بابًا وَجَدَه مسدودًا، لا يَنْفع في ذلك حينئذٍ إلا الدعاءُ الذي ذكرنا، وإذا عَرَفَ المرءُ هذا الأمرَ فلا يَسْتَبْطِأ الدعاءَ؛ لأن من الأسباب التي تَمْنع استجابتَه أن يقول المرءُ: قد دَعَوْتُ فلم يَسْتَجِبْ لي، قد دَعَوْتُ فلم يَسْتَجِبْ لي. "لَا يَزَالُ يُسْتَجَابُ لِلْعَبْدِ مَا لَمْ يَدْعُ بِإِثْمٍ أَوْ قَطِيعَةِ رَحِمٍ مَا لَمْ يَسْتَعْجِلْ. قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا الِاسْتِعْجَالُ؟ قَالَ: يَقُولُ قَدْ دَعَوْتُ وَقَدْ دَعَوْتُ فَلَمْ أَرَ يَسْتَجِيبُ لِي" (43).
وهكذا يَعلم المرءُ كيف أَنَّ الإلحاحَ في الدعاء، والوقوفَ بباب الله تعالى - لا يَتحرَّك ولا يَتَزحْزح - سبَبٌ من أسباب استجابةِ الدعاء، وورَفْعِ البلاء، وسببُ ما يريدُ من ربِّه ( في كل أحوالِه في الدنيا والآخرة، في الظاهرِ والباطن، أَلَّا يَمَلَّ من ذلك، وألا يَسْتَحْسِر، لذلك قال في الرواية الأخرى: "يَقُولُ: قَدْ دَعَوْتُ وَقَدْ دَعَوْتُ فَلَمْ أَرَ يَسْتَجِيبُ لِي فَيَسْتَحْسِرُ عِنْدَ ذَلِكَ وَيَدَعُ الدُّعَاءَ" (44).
كما هو حالُنا؛ إذا دعا المرء مرةً ولم يُسْتَجَبْ له غَفَل عن الدعاء وتَناساه، وعَلِمَ أَنَّ مِثلَه لا يُسْتَجَابُ له فيَسْتَحْسِر عند ذلك، ويترك الدعاءَ، وذلك من أسباب عدمِ البلوغ عند الله تبارك وتعالى؛ أن يَرتَفِع الدعاءُ، وقد مَثَّلُوه بهذا الرجل الذي بَذَر البذر وتعاهدَهُ بالسَّقْيِ والحَرْث، وكذا وكذا، ثم طال عليه إدراكُه ونُمُوُّه، فأَهْمَلَهُ وتَركه.
مثل هذا الدعاء لا يكاد يُرَدُّ أبدًا
ويَجْمَعُ الإمام ابنُ القيم إجابةَ الدعاء في هذه الجملة من الكلام (45)، نَحْفظُها ونُشير إلى معانيها سريعًا؛ بحيث يَتَّضِح المقصودُ وهو كيف يستجاب له؟(1/39)
يقول: إِذَا جَمَع الْمَرءُ مع الدُّعَاء حَضُورَ القَلْب بِكُلِّيَّته وجَمْعِيَّتِه عَلَى الله تَعَالَى، وصَادَفَ وَقتًا مِنْ أوقَاتِ الْإِجَابَةِ السِّتة وَهِي:
1) الثُّلُث الْأَخِير مِنْ اللَّيل.
2) وَعِنْدَ الْآذَان.
3) وَبَيْنَ الْآذَانِ وَالإِقَامَةِ.
4) وَدُبُر الصَّلوَات الْمَكْتُوبَات.
5) وَيَوم الْجُمُعَة حَتَى يَنْزِلَ الْإِمَامُ مِنْ عَلَى الْمِنْبَرِ.
6) وَآخِر سَاعَة مِنْ سَاعَاتِ يَومِ الْجُمُعَة، يعني: مِن بعدِ العصر إلى غروب الشمس.
ثُمَّ بعد ذلك صادف خشوعًا في القلب، وانكسارًا بين يَدَيِ الربِّ، وذُلًّا له (، وتضرعًا، ورقةً، ثم استَقْبَل الداعي القبلةَ، وكان على طهارة، ورَفَع يديه إلى الله تبارك وتعالى، وبدأ بحمد الله والثناء عليه، ثم ثنى بالصلاة على النبي ( ثم قَدَّم بين يَدَيْ حَاجَتِه التوبةَ والاستغفارَ للرب جل وعلا، ثم دَخَل على ربِّه، فَأَلَحَّ عليه في المسألة وتَمَلَّقَه، ودعاه برغبةٍ ورهبةٍ، وتَوَسَّل إليه بأسمائه الحسنى وصفاته العليا وتوحيدِه، وقدَّم بين يَدَيْ دعائِه صدقةً، فإنَّ مثل هذا الدعاء، لا يكاد يُرَدُّ أبدًا، لا سيما إن صادَف دعاءً من الأدعية التي تتضمن اسمَ الله العظيم؛ اسمَه الأعظم ( الذي إذا دُعِيَ به أجاب، وإذا سُئِلَ به أعطى.
وانْظُرْ إلى هذه الكلمات التي قالها الإمامُ؛ لِتَرَى شيئًا من تفصيلها، وتحاول أن تَسِير على هذا النهج في هذه الأيام، لِيَتَّخِذَ المرءُ الدعاءَ منهجًا ودَيْدنًا، وأن لا يَسْتَحْسِر ويَدَعَ الدعاءَ، وأن يُقْبِل عليه بهذه الأَحوال الحَسَنة التي تُسبب استجابةَ الدعاء، والتي يُوشِك معها ألا يُرَدَّ دعاؤه أبدًا.
أولها: "إذا جَمَعَ مع الدعاء حُضورَ القلبِ بكُلِّيَّتِه وجَمْعِيَّتِه على الله تعالى ".(1/40)
أن يُحْضِر قلبَه على الدعاء، فإِنَّ الله لا يَقْبل دعاءً من قلبٍ غافلٍ أو لَاهٍ، وإنما إذا حَضَر القلبُ مع الدعاء كان هذا أَنْجَحَ في استجابة الدعاء، وكان أَرْجى لتحقيق المطلوب؛ حيث يَتواطأ القلب واللسان على دعائه لله تبارك وتعالى، وكلما خَرج الدعاء من قلبٍ قويٍّ مُجْتَمِعٍ على الله تبارك وتعالى، لا يَرى إلا الله هو الذي يَقْبل دعائَه، ولا يرى إلا الله هو الذي يَسْتَجِيب له ذلك، فإن هذا القلب الحاضر، هذا القلب الحي، هذا القلب المتعلِّق بالله تبارك وتعالى، هذا القلب الذي خَرَج عن الأسباب إلا لله (، والذي فَقَدَ الرجاءَ في كل شيء إلا في الله جل وعلا، فإِنَّه يوشِك أن يُستجاب له؛ لأنه عَلِمَ أَنَّ له ربًّا هو الذي يَقْبَل، هو الذي يَغْفِر، فَيُقبل عليه ويَتْرُك الأندادَ والأسبابَ، ويَتَضرَّع إليه ( بهذا الافتقار، وذلك الجَمْع على الله تعالى، يوشِك أن يَسْتَجِيب له، ويَنْظُر أن الله هو الذي يَستجيب، فيتعلَّق به قلبُه ويُقْبل عليه، ويَنْخَلِع من قُوَّتِه وحَوْلِه وطَوْلِه، ومن حَوْلِ الناس وطَوْلهِم وسلطانهم، فلا يَلْتَفِت قلبُه إِلَّا إلى ربه، يوشِك أن يَستجيب له.
ثانيًا: فإن صادف وقتًا من أوقات الإجابة كَالسَّحَر.(1/41)
فإنَّ الربُّ يَتَنَزَّل في الثلث الأخير من الليل ويقول: "هَلْ مِنْ مُسْتَغْفِرٍ فأَغْفِرَ لَهُ؟ هَلْ مِنْ سَائِلٍ فأُعْطِيَهُ؟ هَلْ مِنْ تَائِبٍ فَأَتُوبَ عَلَيْهِ؟ حتى يطلُع الفجرُ" (46)، وهذا وقت الإجابة؛ إذا ما كان المرء ساجدًا كان أقربَ وأشدَّ للاستجابة، فإِنَّ الله تعالى يَقْرَب من عبده في جوف الليل الآخر، أَقْرَبُ ما يكون الرب من العبد في جوف الليل الآخر، وأَقْرَبُ ما يكون العبد من الرب وهو ساجد، لذلك قال النبي (: "أَلَا وَإِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَقْرَأَ الْقُرْآنَ رَاكِعًا أَوْ سَاجِدًا فَأَمَّا الرُّكُوعُ فَعَظِّمُوا فِيهِ الرَّبَّ عَزَّ وَجَلَّ وَأَمَّا السُّجُودُ فَاجْتَهِدُوا فِي الدُّعَاءِ فَقَمِنٌ أَنْ يُسْتَجَابَ لَكُمْ" (47).
" قَمِنٌ " يعني: جَدِيرٌ أن يُستجابَ لكم، فإنْ تَحَقَّقَتْ هذه الثلاثة: قُرْبُ العبدِ من الربِّ، وقرب الرب من العبد، في ثلث الأخير من الليل الذي يَستجيب فيه الدعاء، يوشِك أن يستجيب اللهُ تعالى دعائَه.
ثالثا: عند الآذان، وبين الآذان والإقامة، لا تُرَدُّ الدعوةُ، وقد صَحَّ هذا الحديث بإسنادٍ جيد أنه بين الآذان والإقامة لا تُرَدُّ الدعوة، وكذلك - كما أشرنا - دُبُر الصلوات المكتوبات، وعند صُعود الإمام إلى المنبر حتى تنتهي الصلاة، وآخرُ ساعة يوم الجمعة.
وهذه الأيام وتلك الليالي وتلك الساعات إنما شَرُفَت لأسبابٍ وأسرارٍ لا يَعْلَمُها البشرُ عن الله تعالى، ولأسباب يَعْلَمُها البشر:
ففي نهاية الليل في الثلث الأخير: تَصْفُو النَّفْسُ، ويَزدادُ الإخلاص، ويزداد الإقبالُ على الله تبارك وتعالى,وفي الجمعة: تَجْتَمِع الهِمَمُ، والقلوبُ تتعاون على استِدْرارِ رحمةِ الله تعالى؛ فيكون ذلك أقربَ إلى استجابة الدعاء، وهكذا عندما يُصادِف بعد ذلك خشوعًا في القلب وانكسارًا بين يَدَيِ الرب، وذُلًّا له، وتَضَرُّعًا، ورِقةً، يعني: يصادف هذا الخشوع.(1/42)
لذلك عمر ( ما كان يُعَوِّلُ على الدعاء في الاستجابة قَدْرَ ما يُعَوِّلُ على فَتْحِ باب الدعاء له، يعني: يقول إذا فُتِحَ بابُ الدعاء فقد فُتِحَ بابُ الإجابة، إذا وُفِّقَ المرء للدعاء بهذا المعنى - يعني: بانكسار أن يكون القلب خاشعًا، ويكون المرء منكسِرًا بين يَدَيِ الرب ذليلًا بين يديه، يَتَمَلَّقه (، ويتضرَّع إليه ويَرِق قلبُه حال الدعاء وتَدْمَع عيناه - يَعْلم أن هذا الدعاء قد صادَف الإجابةَ.
فإذا ما استَقْبل القبلةَ، وكان على طهارة، ورَفَع يديه , كما كان حالُ النبي ( أنه يَرفع يديه في الدعاء حتى يَظْهر بَياضُ إبِطَيْهِ (48)، ويَستقبل القبلة، ويدعو على هذا الخشوع الذي ذكرنا، وقد رأيناه كيف يفعل ذلك في كل المواقف (، لذلك يقول في الحديث: كان إذا أَهَمَّهُ أمرٌ رَفَع رأسُه إلى السماء (، وإذا اجتَهد في الدعاء قال: "يا حيُّ يا قيوم" فيُقْبِل على الله تعالى حالئذ، ويدعو ويرفع يديه مع الخشوع الذي ذكرنا والتضرع والرقة وبكاء العين وحضور القلب في هذه الأوقات الفاضلة، يوشِك كما أشرنا أن يكون هذا الدعاء مقبولًا عند الله تعالى.
هذه القلوب الحاضرة والمنكسرة، وتلك الأعين الباكية، وتلك الرقة، وقد وقف في هذه الأوقات التي يُرجى فيها استجابةُ الدعاء مع رَفْعِ يديه، واستقبال القبلة، والدعاء على طهارة، وحمد الله وأثنى عليه، ثم صلى على رسول الله ( .
من دخل رمضان بالتوبة خرج منه بالمغفرة
رابعًا: أن يُقَدِّم بين يَدَيْ حَاجَتَه التوبةَ والاستغفارَ:(1/43)
فلا بُدَّ حينئذٍ أن يُحقِّق هذا المعنى الذي تكلَّمنا عليه في النصف من شعبان، والذي لا يُغفر للمرء به في رمضان إلا أن يَتحقَّق به أن يكون تائبًا بينه وبين ربِّه، وأن يكون قد خَرَج من المظالم بينه وبين الناس، فإن هذه الذنوب والسيئات تمنع وصولَ الدعاء إلى الله تعالى، وهذه المظالم بينه وبين الناس تَرُدُّ الدعاءُ؛ لذلك بَيَّنَ النبي ( في هذا الذي "يَرْفَع يَدَيْهِ إِلَى السَّمَاءِ ويُطِيلُ السَّفَرَ، أَشْعَثَ أَغْبَرَ، يَقُولُ: يَا رَبِّ يَا رَبِّ، ومَطْعَمُهُ حَرَامٌ وَمَشْرَبُهُ حَرَامٌ وَغُذِيَ بِالْحَرَامِ، فَأَنَّى يُسْتَجَابُ لِذَلِكَ " (49).
فبَيَّن ( شيئًا من أسباب الموانع التي تمنع الإجابة؛ أن مَطْعَمه ومَشْرَبه وغُذِيَ، وهذا دليلٌ على بقية المعاصي والذنوب، إذا كان مطعمه ومشربه وغُذِي بالحرام، يعني: إذا كان الحرام سببًا لاستبعاد أن يُستجاب الدعاء، فإن بقية المعاصي والذنوب كذلك تَمنع وصول الدعاء إلى ربه (.
فَلْيَتَأَمَّل المرءُ ويَنْظر إلى ما هو فيه من المعاصي والذنوب من ناحية، وإلى الغفلة واللهو، وإلى البُعْد عن استعداده للآخرة وزُهْدِه في الدنيا من ناحيةٍ أخرى، يرى نفسَه لاهيًا مغرورًا بالدنيا قد نَسِيَ الآخرة، زاهدًا في الآخرة، مُقْبِلًا على الدنيا، مُحِبًّا لشهواتها وملذاتها، قد غَلَبَتْ عليه الغفلة، فأنَّى يُستجاب لذلك؟!
وإذا وَقَع في الذنوب والمعاصي والسيئات، فأنَّى يَدْخل هذا القلب ليجتمع على الله تعالى ويكون اجتماعُه وحضورُه مع الرب سببًا في استجابة الدعاء؟!(1/44)
لذلك لا بُدَّ من التوبة، وهي القضية التي كانت أحدَ الأسباب التي بُنِي عليها كلامُ اليوم، وهو أنه لا بُدَّ أن تصادِف هذه الأيام مؤمنين قد تابوا إلى الله تعالى من ذنوبهم ومعاصيهم، ولِيَعْلَموا أن سببَ عدمِ المغفرة في رمضان، وسببَ عدمِ العتق من النار، وسببَ عدمِ رَفْعِ الدعاءِ، والقيام، والصيام، وأن سببَ خُرُوجِهم من رمضان كما دَخَلوا فيه - ورجوعهم سيرتَهم الأولى من الغفلة والبعد، وترك القيام والصيام، والصدقة والعمل الصالح، والذكر، وقراءة القرآن فجأة - بَعْد رمضانَ كلِّه من هذه الأسباب التي نَتَكَلَّم عليها اليوم، وأوَّلُهَا: أنهم يدخلون رمضان ولم يَتَطَهَّروا من الذنوب والمعاصي، ولم يتوبوا إلى الله تعالى التوبةَ الصادقة، فمَنْ لَمْ يَتُبْ كما قال الله تعالى: ( ((((( (((( (((((( (((((((((((((( (((( ((((((((((((( (((( ( [ الحجرات: 11] فكيف يَغْفر للظالمين في رمضان؟! وكيف يَرْحمهم؟!وكيف يَعْتِقهم من النار؟!وكيف يَتَقبَّل أعمالهم؟!والله لا يتقبل من هؤلاء: ( ((((((( (((((((((( (((( (((( ((((((((((((( (((( ( [المائدة: 27]، كما قال الله (.
لذلك كانت التوبة هذه الأيام أهمَّ ما يدخل به رمضان، فإنه إن دَخَل رمضان بالتوبة خَرَج من رمضان بالتوبة، إن دَخَل رمضان بالقرآن خَرَج بالقرآن، إن دَخَله بالصيام خَرَج بالصيام؛ كلُّ ذلك بعد التوبة.
فإن تَحَقَّقَت التوبة بينه وبين ربه، وخَرَج من المظالم بينه وبين الناس، وأَصْلح فيما بينه وبينهم - كما ذكرنا - فإنَّ فَسَادَ ذَاتِ البَيْنِ هِيَ الْحَالِقَةُ، لَا أَقُولُ تَحْلِقُ الشَّعْرَ وَإِنَّمَا تَحْلِقُ الدِّينَ (50) فكيف يَدْخل رمضانَ وهو قد حَلَق دِينَه؟ كيف يَدْخل يريدُ المغفرةَ، وهو ظالم لم يَتُبْ، وهو مُتَحَمِّلٌ بالذنوب والمعاصي والمظالم والآثام؟(1/45)
لو قام بهذه التوبة في هذه الأيام خَرج من رمضان بالتوبة، وقد حَصَّل المغفرة، فلو بدأ بالتوبة وحصَّل بعد ذلك القيام، وخَرج به من رمضان؛ إذا به يَخْرج وله قيام مع الله تعالى، يَخرج وله صيام مع الله تعالى، يَخرج وله ذِكْرٌ مع الله تعالى، ويَخرج وله قرآن مع الله تعالى، ويَخرج وله حالٌ حسنٌ مع الله تبارك وتعالى، له قُرَبٌ وله طاعةٌ، وله شوقٌ وحنينٌ إلى ربِّه وطاعتِه، أما إن دخل بالمعصية خَرج بالمعصية، وإن دَخل بالتقصير خَرج بالتقصير، وهي الحال التي ينبغي أن يَفْهمها المرءُ، فبسببها يحدث ما نحن من العَوْدِ بعد رمضان إلى السيرة السيئة السوداء قبل رمضان إلا أن تدركه رحمة الله تعالى بسبب آخر.
والتوبة هي: النَدَم والعَزْم على أن لا يعود، وأن يُقْلِع عما هو فيه، وأن يتحلَّل الناس من مظالمهم اليوم قبل ألا يكون دينارٌ ولا درهم، وإنما الحسنات والسيئات: "أَخَذَ هَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ، وَهَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ، حَتَّى إِذَا فَنِيَتْ حَسَناتُهُ أُخِذَ مِنْ سَيِّئَاتِهِمْ فوُضِعَ عَلَى سَيِّئَاتِهِ، ثُمَّ طُرِحَ فِي النَّارِ " (51)، فلا حول ولا قوة إلا بالله.
فليعلم المؤمنون إذن أن ماهم فيه من غلبة الشيطان والنفس والهوى إنما هو من قِبَل أنفسهم وأعمالهم، وأن الداء فيهم وفي شهواتهم وفي مَيْلِهم وهواهم، وليعَلموا أن الله لم يظلمهم شيئًا، وأنهم لا يَستحقُّون منه شيئًا (؛ ليعودوا على أنفسهم بذلك ولسان حالهم يقول: "وَرَغِمَ أَنْفُ رَجُلٍ دَخَلَ عَلَيْهِ رَمَضَانُ ثُمَّ انْسَلَخَ قَبْلَ أَنْ يُغْفَرَ لَهُ" (52). ثم ليجاهدوا أنفسهم في هذه الأيام التي فُتِحَ لهم فيها باب الدعاء لِيُحاولوا فيه لِيَرْتفع ذلك كلُّه بإذن الله تعالى.
إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ
عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ
خامسًا: ويُلِحُّ عليه في المسألة، ويَتَمَلَّق ربَّه.(1/46)
دَخَل المؤمن إذن على الله تعالى وألَحَّ عليه في المسألة، دَخَل على الله تعالى يدعو ويُلِحَّ في المسألة، ويُكرر كما كان النبي ( يكرر الدعاء ثلاثة صلوات الله وسلامه عليه.
والإلحاح في المسألة من العبد للرب، يوشِك الربُّ إذا رأى عبدَه مُتضرعاً، أسِيفًا حَزِينًا، يدعو بقلبٍ حاضر وبقلب حزين خاشع لله منكسِرًا له، باكي العين، يوشِك أن يقول: أَعْطُوهُ، كما قال سبحانه تعالى: هَلْ مِنْ سَائِلٍ فَأُعْطِيَهُ (53)، أعطوه ما أمر به (، أو ما دعا به العبد، كما هو الحديث.
يقول له: يا ربّ أنتَ كريم، وأنتَ غفور، وأنتَ بَرٌّ، وأنتَ رحيم، وأنتَ الوَهَّاب، وأنتَ الجَوَّاد، وأنتَ المحسن، وليس لنا إِلَّاكَ، لا ملجأ لنا ولا مَنْجى منك إلا إليك،
هذه نَواصِينا الخاطئة الكاذبة بين يديك...
نَدْعوكَ دعاءَ المسكين، ونَتَضَرَّع ونَبْتَهِل إليك ابتهالَ الخاضعِ الذليلِ...
ويَتملَّق ربَّه، أين نَذْهَب؟ لا ملجأ ولا مَفَّر، إلى مَنْ نَقِفُ؟ وإلى مَنْ نَتَضَرَّع؟ إلى مَنْ نَرْفَعُ أيديَنا وأَكُفَّنا؟ إلى مَنْ نَبْكي ونَخْشع ونسعى ونحفد؟ لِمَنْ؟
سادسًا: ويدعوه رغبةً ورهبةً كما قال: ( ((((((((( (((((((( ((((((((( (((((((((( ( ((((((( (( (((((( ((((((((((((((( (((( ( [ الأعراف: 55]. وكما قال:?( (((((((((((((( ((((((( ((((((((( ( (((((((((( ((((( (((((((((( (((( ( [ الأنبياء: من الآية90]، كما ذكر المولى فيه، وفي استجابة دعائهم كما ذكر(: ( ((((((((((( (((((( ((((((((((((((( (((( (((((((((((( (((( ((((((( ((((((( ((((( (( ((((((((( ((((((( ((((((( (((((( (((((((((((((( (((( ((((((((((((((( ((((( ((((((((((( ((((( (((((((( ((((((((((((( ((((( (((((((((( ( (((((((( (((((((( (((((((((((( ((( ((((((((((((( (((((((((((((( ((((((( ((((((((( ( (((((((((( ((((( (((((((((( (((( ( [الأنبياء: 88 - 90].(1/47)
سابعًا: ثم يتوسل إليه بأسمائه الحسنى وصفاته العليا: ( (((( (((((((((((( (((((((((((( ((((((((((( ((((( ( ( [الأعراف: 180] ادْعُهُ باسمه الكريم والبر والجَوَّاد والتواب والغفار والقوي والغني والقادر (، ادْعُهُ بهذه الأسماء، وتَمَلَّقُه بها، وارْفِعْ إليه يديكَ بهذه الأدعية، وأَقْبِلْ بِقَلْبِك وكلِّ جوارِحك عليه.
فإنَّ التَّوَسُّل بالأسماء الحسنى والصفات العليا من أسباب استجابة الدعاء عند الله تعالى، كالتوسل بالأعمال الصالحة، بل هي أفضل، فإن التوسل بالأعمال الصالحة يَفِكُّ الصخرة كما ذكرنا في حديث الصخرة (54)فكان الأَوْلَى أن يتوسل إلى ربه بأسمائه الحسنى وصفاته العليا وبتوحيده (، لِيستجيب له.
ثامنًا: ويقدِّم بين يَدَيْ دعائِه صدقةً:
والصدقة مع الدعاء مما يستجيب المولى بها ـ كما سبق وأشرنا ـ وقد كان ذلك مِن فِعْلِه ( إذا خرجوا للاستسقاء أو إلى غيره من الأمور التي يجتمعون فيها للدعاء، أن يتصدقوا وأن يَخْرجوا مُنْكَسِرين إلى الله تعالى، مُتَبَذِّلين له، خاشعين له، فإذا بالله تعالى يستجيب دعائَهم، فإن الصدقة في السر تُطْفِئ غضبَ الرب ( (55)، كما ذكر النبي صلى الله وآله وسلم، وإن الصدقة من الأعمال الصالحة التي يَرْتَفِع بها الدعاء إلى الله تعالى: ( (((((((((((( (((((((((( ((((((((((( ( [فاطر: 10].
فكلما أردتَ أن ترفع عملًا صالحًا إلى الله تعالى؛ دعاءً أو غيره من أذكارٍ لله تعالى، فارْفَعْهُ بالأعمال الصالحة، ومن الأعمال الصالحة التي يرتفع بها الدعاء إلى الله (، ويستجاب بها تلك الصدقات، سواءً في السر أو في العلن، فإن ذلك كله يرفع الدعاء، وقَمِنٌ أن يستجيب الله به (.(1/48)
فإذا صادف الدعاء بعد ذلك أدعيةً من الأدعية المأثورة عن النبي ( التي تشتمل على الاسم الأعظم لله تعالى - على اسمه العظيم - فإن المولى سبحانه وتعالى يستجيب الدعاء، سمع النبي ( رجلًا يقول: "اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ يَا أَللَّهُ بِأَنَّكَ الْوَاحِدُ الْأَحَدُ الصَّمَدُ الَّذِي لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ" (56) قال لقد دعا الله تعالى باسمه الأعظم الذي إذا دعي به أجاب وإذا سئل به أعطى (،ويقول أنس: كنت جالسًا مع النبي ( ورجلٌ يدعو فيقول: "اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ بِأَنَّ لَكَ الْحَمْدَ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ الْمَنَّانُ بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَا ذَا الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ يَا حَيُّ يَا قَيُّومُ" (57) قال النبي ( لقد دعا الله باسمه العظيم الذي إذا دُعِيَ به أجاب وإذا سُئِل به أَعْطى.
فإذا تَضَمَّن الدعاء هذه الأدعية من أدعية النبي ( التي تشتمل على اسمه العظيم ( - هذه أحاديث صحيحة - فإنه يوشِك أن يَتقبَّل اللهُ تعالى دعائَه، إذا سأل الله تعالى أعطاه، وإذا دعاه أجابه.(1/49)
ومن هذه الأدعية التي وَرَدَتْ عن النبي ( أنه يُستجابُ بها للمرءِ دعوةُ ذي النون، يقول النبي (: "دَعْوَةُ ذِي النُّونِ إِذْ دَعَا وَهُوَ فِي بَطْنِ الْحُوتِ: لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنْ الظَّالِمِينَ، فَإِنَّهُ لَمْ يَدْعُ بِهَا رَجُلٌ مُسْلِمٌ فِي شَيْءٍ قَطُّ إِلَّا اسْتَجَابَ اللَّهُ لَهُ" (58)، إذا دعا بها في شيء، يعني: في أي شيء يدعو بها المرء يَسْتجيب الله تعالى بها، ويقول في الرواية الأخرى: "أَلَا أُخبِرُكُم بِشَيءٍ إِذَا نَزَلَ رَجُل مِنْكُمْ كَرْبٌ أَوْ بَلَاءٌ مِنْ بَلَايَا الدُّنْيَا دَعَا بِهِ يُفَرِّجُ عَنَهُ فَقِيلَ لَهُ: بَلَى، فَقَالَ: دُعَاء ذِي النَّون" (59) فالنبي ( يُخْبِر بهذا الدعاء أنه إذا نَزَل أمرٌ مُهِمٌّ للرجل وأراد أن يُفَرِّجَه الله تعالى عنه يُخْبِرهم النبي ( بدعاء ذي النون إذا دَعَوْا به استجابَ الله لهم.
فها قد فَتَح لك هذا الباب من أبواب الاستجابة لِتُصْلِح به هذه الأحوال، قد سَمِعْتَ القرآن، وقد سمعتَ الدعاء والذِّكر، وسمعتَ القيام، والصيام، وسمعتَ كل هذه المعاني، ولم يَسْتَجِبِ القلبُ لها، ومَنَعَ الهوى وحَظُّ النَّفْسِ مِن أن يُسارِع المرء ويَتنافس في تحقيقها بنفسه، عَلَّهُ يفوز بمغفرة الله تعالى، فإذا كنتَ قد وصلتَ إلى هذه الحال ويَئِسْتَ أن تُصْلِح هذه النفس بما سَمِعتَ فوجدتَ شيئًا ثقيلًا على نفسك أن تقوم به، ووجدتَ الموانع تَمْنَعكَ من أن تقوم بهذه القربات والطاعات فقد وجدتَ طريقك إلى تحقيق ذلك.(1/50)
هذا الدعاء بهذه الآداب التي أشرنا إليها يوشِك أن يكون سببًا لفكِّ هذه الكُرَب، وتلك العقد التي نحن فيها، ورفع البلاء الذي نَزَل بنا، كما أشار النبي (، فعلى المرء أن يُسارِع إلى الله تعالى، ويحاول أن يتحقَّق بهذه الأمور التي أشرنا إليها، وأن يَبذُل لها وقتًا، وجُهدًا، وأن يكون على أحسنِ حالٍ يمكن أن يَقْبل الله تعالى منه دعاءه، فإذا ما قُبِل الدعاء صَلحَتْ هذه الأحوال التي نحن فيها، واستَجابَتِ النفسُ والقلب لهذه الأعمال والطاعات والقربات، وسارعتْ إليها، وانشرحَ الصَّدْرُ، وثَبَتَتِ الأقدامُ على هذا الطريق إلى الله تعالى، وأُضِيء لها طريقُها إلى ربها، وتَنزَّلَتِ الرحمةُ، وارتفعَ الشقاء الذي نحن فيه، وإذا بالمرء الذي قد استجيب له قد انفتح بابه أمامَه، تلك الأبواب من أبواب الشفاء والهداية، ومن أبواب الرحمة والاستجابة ( ((((((( (((((((( ((((((((((( (((((((((( (((((( ( (((( ((((((((( ((((((((((((((( (((( (((((((((( ((((((((((((( (((((((( (((((((((( (((( ( [غافر:60].
فليحاول المرء ولا ييأس، ولْيُلِحَّ، ولْيَدْخُل على الله تعالى كما ذكرنا بهذه الآداب، فإنها المُعِينة له في تلك الأيام على تحصيل ما لم يحصل، وعلى الثبات فيما حَصَّله، وعلى التَّوَسُّع من رحمة الله تعالى: ( ((((( (((((((((( ((((((((((((( ( ( [إبراهيم: 7] كما ذكر جل وعلا.
ماذا تريد من ربك سبحانه وتعالى؟
فإذا ما كان الأمر على هذا الحال، وأن نهار الصائم يستجاب له، لا يرد دعاءه، وأن ليل الصائم له فيه كذلك دعوة مستجابة، فبماذا يدعوا المرء ربه؟(1/51)
أنت تريد من ربك سبحانه وتعالى أن يقوي همتك وأن يرفع عزيمتك، تريد من الله تبارك وتعالى أن يعينك على ذكره وشكره وحسن عبادته، تريد من الله جل وعلا أن يشرح صدرك بالقرآن، وبالإقبال عليه، تريد من ربك جل وعلا أن يقبل عليك بمحبته، وأن يقوم لك سبحانه وتعالى بشغلك، وأن يدفع عنك جل وعلا، وأن يحفظك من الشيطان والنفس والهوى، تريد من ربك سبحانه وتعالى أمورا كثيرة، في مالك وولدك ونفسك وعملك وخلقك، وبينك وبين الله، وبينك وبين الناس، تريد من ربك أن يرفع البلاء عنك وعن المسلمين، كل هذه الدعوات قد فتحها دعوة دعوة، لا ترد ليلها ونهارها.(1/52)
أنت إذن أيها المسكين محتاج من الله تعالى إلى أن يخلص قلبك من آفاته من الكبر والعجب ورؤية النفس، وأن يخلص قلبك من طول الأمد، ومن الاستكانة إلى الدنيا، ومن التعلق بالمخلوقين، وأن يخلص كذلك أخلاقك من هذه الأخلاق السيئة التي تراها من الحسد، ومن عدم الأمانة، ومن الغش ومن الخيانة التي يراها المرء في أعماله، سواء مع الرب أو مع غيره، تريد من الله تبارك وتعالى أن يُطَهِّرَ لسانك وقلبك، وأن يحفظ سمعك وبصرك، وأن يحفظ عليك جوارحك أن يبارك لك في وقتك وجهدك، الذي لا تستطيع أن تملك منه شيئا اليوم، أن يبارك لك في عقلك في علمك، أن يبارك لك في نفسك وولدك، أن يشفيك من أمراضك وعللك، في ظاهرك وباطنك أن يقبل عليك سبحانه وتعالى برحمته ومغفرته، أن يعطيك من ثواب الدنيا والآخرة، أنت محتاج إليه أن تدعوه أن يرفع البلاء عن المسلمين، أن ينزل رحمته ونصره على المؤمنين، أن يهزم الكافرين، وأن يزلزل بهم، وأن يمزقهم شر ممزق، أنت محتاج إلى أن يؤلف بينك وبين إخوانك، وأن يخرج من قلبك أضغانك وأحقادك، أن يخرج من قلبك آفاتك وأخلاقك السيئة، وأن يهديك لأحسن الأخلاق، لا يهدي لأحسنها إلا هو، وأن يصرف عنك السيئ لا يصرف السيئ إلا هو، أنت تريد منه أن يؤلف بينك وبين المؤمنين، وأن يجعل بينك وبينهم المودة، تريد منه أن ينزل عليك رحمته، وتريد منه أن ينير لك طريقك إليه، تريد منه أن يزهدك في الدنيا، ويقبل بك على الآخرة، تريد منه أن ينزع شهواتك ونزواتك التي فيك التي تعطلك عن الله تبارك وتعالى، تريد منه أن يشغل لسانك بذكره، وقلبك بالإقبال عليه، تريد منه أن يقبل دعاءك، تريد من المغفرة والعتق من النار، تريد منه ذلك كله، قد فتح لك الباب سبحانه وتعالى، وبين لك طريق الإجابة، الذي ينبغي أن تسلكه.(1/53)
فكان اليوم هو الفارق إذن في دعوتك في وقت الإجابة التي قد وردت فيه وأوقات الإجابة التي وردت للصائم في ليله كله ـ الذي هو ليل الإجابة ـ كذلك في الثلث الأخير من الليل، كل ذلك قد انتظرته وتحققت بهذه المعاني من معاني استجابة الدعاء عند الله تبارك وتعالى، ووقفت ليلك ونهارك على بابه تدعوه، خاشعًا متضرعًا مقبلاً تنفق صدقات يرتفع بها العمل الصالح والدعاء إلى الله تعالى، كما ذكر المولى سبحانه وتعالى، وكذلك توالي كل ذلك بالتوبة والاستغفار التي تمحو الذنوب والسيئات، تريد بها أن يرتفع أعمالك، وأن يقبل دعاءك، وأن يقبل شفاعتك سبحانه وتعالى التي تشفع فيها.
قد علمت إذن هذا الطريق، والمقصر المحروم هو الذي علم الطريق، ثم منع منه، ثم قفل في وجهه هذا الطريق وأغلق عليه، وإذا بك قد حرمت الخير كله، وهكذا قد علمت احتياجك وضرورتك إلى الله تعالى، وعلمت في نهاية المطاف أن لا ملجأ منه إلا إليه، وعلمت أنه يقبل توبة التائبين، ودعاء الداعين، ورجوع الراجعين إليه سبحانه وتعالى، وأنهم ما أن يتقربوا إليه شبرًا حتى يتقرب إليهم ذراعًا، وأنه ينتظر فيئهم ورجوعهم سبحانه وتعالى، إذا لم تسارع إلى ذلك، ولم تر قلبك وقد رق، ودمعت عينك وخوفك قد ازداد وخشوعك قد ظهر على لسانك وقلبك وجوارحك، فاعلم أن باب الإجابة ما زال مغلقًا، وما زلت أيها المسكين لا تستحق شيئًا من ذلك، فليزدد حينئذ بكاؤك على نفسك أن قد وصلت لهذه الدرجة من الحرمان والإبعاد والطرد، وأنت لا تحس بها، وأنت لا تتألم لها، كيف تعمل لآخرتك، وأنت على هذه الحال.
ليس هذا عملاً من أعمال الآخرة، بل ذلك استدراج من استدراج الشيطان، وذلك إبعاد من إبعاد الله له، بسبب ما هو فيه مما يضحك به على نفسه، ولا يكون سببًا من الأسباب على الحقيقة التي تكون من الأمور التي تقربه إلى الله جل وعلا، وتأخذ بيده إلى الله، وتفتح له باب الله تبارك وتعالى.(1/54)
قد علمت إذن ذلك فقد استفدت وقتك يومك كله، لعلك تصادف فيه إجابة الدعاء، قد استفدت ليلك كله تصادف فيه تلك الليلة، يقول لك ك في كل ليلة ساعة يرجى فيها الإجابة، وأنت تنام كل هذه الساعات، إذا كان ينام كل هذه الساعات لا يهمه ساعة يرجو فيها الله، ويدعو فيها الله سبحانه وتعالى، ويرفع له يده ويتململ بين يديه ليفرج عنه، تراك قد أحسست بالآخرة أو بالحزن عليها، تراك قد دعوته دعاء المؤمنين في قوله: ( ((((((( (((((((( ((((( ((((((( (((((((( ( (((( (((((((((( ((((( (((((((( (((( ( [ الفرقان: 65]، وكذلك دعاؤهم أن يخفف لهم سبحانه وتعالى مدخلهم إلى قبورهم وخروجهم إلى حشرهم ونشرهم، ومرورهم على صراطهم، ووقوفهم ينتظرون صحائفهم بأيديهم بأيمانهم وشمائلهم.
أين أنت من هذه الأهوال والكرب، أين أنت من هذه المحن والمصائب في الدنيا والآخرة؟ باب الله تعالى قد فتح لك دعوة لا ترد ليلاً ونهارًا، دعوة مقبولة لا يردها المولى سبحانه وتعالى، فهلا قمت ليلة كاملة تدعو لا تبخل فيها على نفسك أن يجيبك بهذا الدعاء، وأن تحضر فيها الأدعية التي تريد أن يفرج عنك بها، والتي تريد من ربك سبحانه وتعالى، فيقوم ويستجيب لك سبحانه وتعالى فيها، هلا قضيت صيامك يومك في الدعاء والذكر ترجو بذلك أن تكون الدعوة المقبولة قد رفعت إليه وقد تلقاها سبحانه وتعالى بالرضا، وأثابك عنه سبحانه وتعالى بالعطاء، أم لا زلت باخلاً على نفسك، باخلاً على آخرتك، باخلاً على دنياك، باخلاً على ولدك، باخلاً على رحمتك، باخلاً على عتقك من النار.
كل ذلك لا يساوي شيئًا أن يقف يومه وليله ثلاثين يومًا وثلاثين ليلة أن يفرج عنه ويستجيب له سبحانه وتعالى، فقد فاز فوزًا عظيمًا.
بعد أسبوع:
هل تنتظر شيئًا من المغفرة التي وعد الله ؟(1/55)
ومضى عليك من رمضان أسبوع وبدأ الأسبوع الثاني والمؤمنون المتقون الذين توجه خطاب الله لهم وكلام الله إياهم بالصيام والقيام والعمل الصالح، لابد أن يحاسبوا أنفسهم قبل أن تنفلت أيامهم، وقبل أن ينقضي هذا الشهر، كما ذكرنا من قبل، "خَابَ وَخَسِرَ مَنْ أَتَى عَلَيْهِ رَمَضَانُ فَلَمْ يُغْفَرْ لَهُ، أَدْخَلَهُ اللَّه ُالنَّارَ، أَبْعَدَهُ اللَّهُ قُلْ: آمِينَ، قُلْتُ: آمِينَ " (60).
وقد وجدتَ سرعة انقضاء العمر في هذه الأيام إذ يوشك رمضان أن ينتهي بهذه السرعة، وأنت لابد أن تُسَائل نفسك: هل ما زلت مصممًا على تحقيق أسباب المغفرة والرحمة والعتق من النار؟ أو أنه قد انفرط عقدك وبأن لك كما يقال وبان لك الجواب من عنوانه، وأنك لم تستشعر المعاني التي يستشعرها المرء عندما يعلم أن الله تعالى قد فتح عليه، وأن الله يوشك أن يغفر له، وأن الله يوشك أن يقبله سبحانه وتعالى، فأنت قد انقضى هذا الأسبوع، وينبغي عليك أن تقول: هل ألفت القيام؟ هل ألفته؟ الذي قال فيه: "مَنْ قَامَ رَمَضَانَ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ" (61) ألفت القيام، وتعودت عليه، وأحببت طوله، وكان سببًا لمحبتك لربك وإقبالك عليه، وطول مناجاتك له، وأنك لا تود أن تخرج من بين يديه سبحانه وتعالى؟ أم أنك مازلت تأتي متأخرًا، ولا تخشى قول النبي (: "وَلا يَزَالُ قَوْمٌ يَتَأَخَّرُونَ حَتَّى يُؤَخِّرَهُمُ اللَّهُ" (62) ومازلت مستثقلاً للقيام وطوله بين يدي الله تعالى تود أن تخرج منه، وتود أن تنتهي منه سريعًا، وتود لو أنك صليت في ثماني ركعات بأقصى سرعة ممكنة، ثم ترجع إلى دنياك إلى أهلك وولدك، وإلى نومك وراحتك، وإلى قضاء شهواتك؟(1/56)
هل ألفت القيام وأحببته فوجدت حلاوة الطاعة، وحلاوة الإقبال على الله، وحلاوة المناجاة فحرصت عليه أشد الحرص وأكملت له الآداب، ووقفت له الوقوف الطويل الذي ترجو به تخفيف الوقوف يوم القيامة، وترجو به نور الله تعالى في ظلمات القبر وظلمات الصراط؟
هل بادرت إليه فانقضى فحزنت على انقضاء ليلتك وأنك لم تقض منها وطرك من محبة الله تعالى، والإقبال عليه؟ أم أن قلبك كما هو لا يستشعر حلاوة الطاعة ولا الإقبال ولا المحبة، وأن ذلك لدليل الخروج من رمضان كما خرجت من غيره، ودليل أن القبول قد بعُد، وأن درجاته قد قلَّتْ، وأن فرصته التي نحن فيها الآن قد تضاءلت، وأصبح المرء يقول أمرنا إلى الله، لا حول ولا قوة إلا بالله، أوشك رمضان أن ينتهي ولم يمتلئ القلب إيمانًا ومحبة وقربًا وخوفًا ورجاء ومهابة وذكرًا وطمأنينة وإقبالاً على الله تعالى، وأنه مهما كان فإنه لا يوازي أن يحصل ذلك؟
هل مازلت أيها المسكين المفرط في المغفرة، المفرط في الرحمة، المفرط في العتق من النار -مازلت تبخل على ذلك بالوقت والجهد، وبترك بعض الراحة وبترك الأهل والولد؟ وأن الراحة وعدم بذل الوقت والجهد، وأن السكينة والدعة والإخلاد إلى الأرض والدنيا ذلك هو المقدم عندك؟
يعني هل بذلت لهذه المغفرة بذلها، وضحيت لها تضحيتها المطلوبة أو شيئًا قريبًا منها، أو أنك مازلت زاهدًا في هذه المغفرة، وأنها لا تساوي عندك أن تواصل الليل بالنهار، لا توازي عندك أن تقوم لها، وأن تصوم لها، وألا تضيع وقتًا من أوقاتك ولا نفسًا من أنفاسك إلا في تحصيل أسبابها؟
هل مازال الصيام ثقيلاً على قلبك تود أن تنتهي منه وتعد الساعات لتخرج من يومك، حتى إذا انتهى يومك أقبلت مرة أخرى على تلك الشهوات التي قد حرمت منها لتتحقق لك بها المغفرة؟
قد حرمت منها لتتحقق بها لك التقوى؟
في النهاية..هل أحببت الله تعالى وأقبلت عليه من كل قلبك أو لا؟(1/57)
ظني أن هذه الأحوال السيئة مازالت هي المسيطرة على المرء، وأن التأخر عن القيام وعدم التأدب بآداب الصيام، وأن طول الفكر والذكر لله تعالى، والاستعداد للقائه والتهيؤ ليوم المغفرة ويوم الجائزة، بالأعمال الصالحة الأخرى، والاستعداد له ليس على ما ينبغي إن المرء في تحصيل الدنيا، إذاً فوجئ بالامتحانات أو بعمل شديد مشغول فيه إذا به ينسى نفسه وجهده ووقته، ويواصل ليله بنهاره، ويستخف التعب، ويستخف البذل والتضحية ليحصل شيئًا حقيرًا في الدنيا الزائلة.
جاءه موسم المغفرة فإذا به على هذا الحال السيئ من التكاسل، وكما ذكرنا في بداية القول قد بان الجواب من عنوانه، وأنه لم يستشعر إلا أن رمضان سينقضي كما انقضى غيره، وسيعود سيرته الأولى إلى أن يأتي يوم العيد فيرجع إلى أيامه من قبل، لا قرآن ولا قيام ولا فيها ما ينبغي أن يكون قد حصَّله من ذلك الشهر الكريم، أو أن الله تعالى قد وهبه فيه مغفرة ورحمة، فإن لأهل المغفرة وأهل الرحمة صفتهم التي تظهر عليهم.
يعجب المرء أشد العجب من أولئك المؤمنين الذين أتاهم هذا الموسم العظيم فلم يزدادوا به شيئًا لا إقبالاً ولا طاعة ولا محبة، بل ظهرت أحوالهم على حقيقتها من عدم الإقبال والمحبة، ومن عدم البذل والتضحية، ومن عدم الحمل على النفس والمجاهدة وبذل هذه المشقة التي يود بها المغفرة.
تراك بما قدمت في أسبوعك هذا تنتظر شيئًا من المغفرة التي وعد الله تعالى عباده؟ تراك لو مت على هذا الحال تراك تنتظر بياض صحيفتك وبياض وجهك، وثقل موازينك وأن تأتي ربك وأن تلاقيه بالشوق إليه، أو تلك الملاقاة التي يخاف أن يفضح بها أمام الله تعالى؟(1/58)
يحزن المرء عندما يرى هذه الأحوال، ويود لنفسه وللمؤمنين أن تتغير أحوالهم، وأن يأخذوا أمر ربهم بجد وحزم، وأن يعلموا أنه لا وقت للهزل واللعب، وأن ذلك لا ينفع عند الله، وأن الله تعالى لا يقبل من عباده هذا التكاسل والتواني، وهو يقول: هلموا، يا باغي الخير أقبل، هلمُّوا إلى جنة عرضها السماوات والأرض، هلموا إلى مغفرة ربكم، هلموا إلى محبته، وإذا بهم زاهدون، وإذا بهم مقصرون، يقول: هلموا، فلا يهتمون ولا يأتون، هلموا فإذا بهم يجرون ويفضلون عليه سبحانه وتعالى هذه الزوائل التي سرعان ما تنقضي في هذه الحياة الدنيا.
التقوى: شعارك في رمضان وبعد رمضان
وأصل القصة قوله جل وعلا: ( ((((((((((( ((((((((( (((((((((( (((((( (((((((((( ((((((((((( ((((( (((((( ((((( ((((((((( ((( (((((((((( (((((((((( ((((((((( ((((( (((((((( (((((((((((( ( ( [ البقرة: 183 - 184 ]، فشرع الله تعالى الصيام للتقوى، شرع لهم الصيام لتقوى الله تعالى، وقد يتسائل المرء عن معنى التقوى؟ فالمقصود ذكر آثار التقوى، ومنها أن التقوى هي سبب النجاة في الأولى والآخرة، وسبب قبول الأعمال، وسبب هداية الله تعالى، يعني في الدنيا الله تعالى ينجي المتقين إذا وقع البأس، ( (((((((((((( ((((((((( (((((((((( (((((((((( ((((((((( (((( ( [ النمل: 53]. أما الآخرة فكلها لهم كما قال: ( (((((((((((( ((((( ((((((( ((((((((((((( (((( ( [ الزخرف: 35]، ( (((((( (((((((((( ((((((( ((((((( (((( (((((((((( ((( ((((( ((((((( (((( ( [ مريم: 63].(1/59)
والتقوى أيضا هي سبب نجاتهم من النار كما قال المولى سبحانه وتعالى: ( ((((( (((((((( (((( (((((((((( ( ((((( (((((( ((((((( ((((((( ((((((((( ((((?(((( (((((((( ((((((((( ((((((((( ( [ مريم: 71 - 72 ]، ثم ولاية الله تعالى إنما هي لأهل التقوى، ( (((((( (((((( ((((((((((((( (((( ( [الجاثية: 19] ( (((( (((( (((((((((((( (((( (( (((((( (((((((((( (((( (((( ((((((((((( (((( ((((((((( (((((((((( (((((((((( ((((((((( ((((?( [ يونس: 62-63].
ومعنى ذلك أن الصيام شرع لهذا المعنى الذي ختمه الله تعالى بقوله: ( ((((((( (((((((((( (((( (((( ((((((((((((( (((( ( [ المائدة: 27]، لا يتقبل من غيرهم، والنجاة في الأولى والآخرة لهم، وولاية الله تحوطهم هم أولياؤه.لذلك لم يكن ليتركهم سبحانه وتعالى حتى يبين لهم سبيل التقوى، ومن هذه السبل سبيل الصيام، الذي شرعه لهم ؛
لذلك وجدنا النبي ( ما تحب أن تراه صائمًا إلا رأيته، كان يصوم حتى نقول ما يفطر، وكان يصوم الاثنين والخميس، وكان يصوم ثلاثة أيام من كل شهر، وكان يقول: "خَيْرُ الصِّيَامِ صِيَامُ دَاوُدَ يَصُومُ يَوْمًا وَيُفْطِرُ يَوْمًا" (63) ، وكان إذا دخل على أهله فلم يجد طعامًا نوى الصيام صلى الله عليه وآله وسلم، وكان يصوم من صدر الشهر، وكان يصوم شعبان إلا يومًا أو يومين صلوات الله وسلامه عليه، وكان يصوم ستاً من شوال فكأنه يصوم الدهر كله صلوات الله وسلامه عليه، وما ذلك إلا لتحقيق هذه المعاني والآثار من آثار التقوى، وهي التي أشرنا إليها سريعًا عنواناً لهذا الكلام، لذلك كان شهر رمضان أخص في هذا الأمر، يعني إذا كانت التقوى لها هذه الآثار التي أشار الله إليها سبحانه وتعالى والتي طبقها النبي ( في الصيام؛ فإن الله تعالى قد جمع هذه المعاني من معاني التقوى في شهر رمضان، وزادها وسائل أخر، حتى تزداد بها أحوال المتقين.(1/60)
فكأنه أمرهم بالصيام الذي أشرنا إليه في مختلف أوقاتهم، ثم بعد ذلك جاءهم هذا الشهر ليكون التركيز الشديد في أعمال التقوى ؛ ليخرجوا منه على هذه الحال التي يحبها الله لهم في الأولى والآخرة، وليحققوا هذه الآثار التي ذكرها المولى سبحانه وتعالى، ليخرجوا مقبولين، ليخرجوا متقين، ليخرجوا أولياء الله الصالحين.
واعلم هذا الأمر: أنه لن يفتح لك الصيام في رمضان ولا في غيره، ويمنع عنك الشهوات من الطعام والشراب والمنكح كي تعود إليها إذاً بعد كما كنت، لم تحقق بها شيئًا، يعني منعك الطعام والشراب والشهوة في رمضان حتى تكون تقيًّا، تراه يفتح لك هذا الباب مرة أخرى لتعود عن التقوى وترجع فيها؟ قد فتح لك هذا الباب من أبواب التقوى حتى تكون التقوى شعارك بعد رمضان، أو أنه يريدك أن تكون تقيًّا في رمضان ثم بعد رمضان تعود إلى لهوك وإلى غفلتك وإلى بعدك وإلى إقبالك على الدنيا والوقوع في الشهوات؟
لا شك إذن أن هذا الشهر بما ذكر فيه من معاني وأعمال الإيمان إنما كان ليكون تدريبًا للمؤمنين على أعمال التقوى في هذا الشهر، وأن تصفو به قلوبهم ونفوسهم، وأن تتحقق فيهم هذه الشرائط في شهر رمضان وبعد رمضان، فهو سبحانه وتعالى يريدهم متقين في كل وقت، ولو لم يكن ذلك كذلك ما المعنى أن يشرع يومًا تكون فيه تقيًّا من بقية أيامك لا تقوى فيها ولا إقبال معها ولا محبة ولا قيام ولا ذكر ولا صيام.
وهذا الذي يغفل عنه المؤمنون اليوم أنه إنما شرع الصيام لتقوى الله، ثم ركز ذلك كله في رمضان ليكون الشحنة التي إذا أخذها المؤمنون وتحققوا بها كانت العافية لهم بقية عامهم، حتى يأتي موسم آخر يزدادون فيه من أعمال التقوى، وهكذا في الترقي إلى الله، وهكذا في رمضان، ليمر منه المرء بنجاح؛ فإذا به يرى أسباب وآثار هذا النجاح بعد رمضان في إقباله وعوده إلى الله تعالى عودًا حميدًا، وفي ذكره وطمأنينته وسكينته لله تعالى؟(1/61)
فهلا حقق المرء ذلك في صيام؟ أو هلا حقق ذلك في رمضان؟
هل منعك القرآن النوم؟
والمشكلة التي يعانيها المرء اليوم، أنه ينتظر لينتهي رمضان ليعود كل شيء إلى ما كان بعدًا وجفاء وزهدًا في الآخرة وإقبالاً على الدنيا ووقوعًا في الشهوات إلى غير ذلك مما نراه ما أن ينتهي رمضان حتى ينزل المؤمنون إلى أسوأ ما كانوا فيه قبل رمضان، وقد ركز الله لتكفير السيئات، انظر إلى هذا المعنى الذي يشير إليه النبي ( يقول: "الصِّيَامُ وَالقِيَامُ يَشْفَعَانِ فِي الْمَرْءِ يَوْمَ القِيَامَةِ، يَقُولُ الصِّيَامُ: مَنَعْتُهُ الشَّرَابَ والطَّعَامَ وَالشَّهْوَةَ، وَيَقُولُ القُرْآنُ: مَنَعْتُهُ النَّوْمَ فَشَفِّعْنِي فِيهِ فَيَشْفَعَانِ" (64) .
وهو معنى يغيب عن ذهن المرء وهو أن الصيام في رمضان اجتمع له جهادان: جهاده في يومه، وجهاده في ليله، جهاده في يومه: أن يشفع له الصيام يوم القيامة أن يقول: منعته كذا وكذا وكذا فشفعني فيه فيشفع فيه، تراه منعه كذا وكذا وكذا ثم عاد إليه على حالة أسوأ أو أنه منعه ذلك فكان سببًا لترقيه إلى الله تعالى، وسببًا لخلوص قلبه ونقاء نفسه، سببًا لإقباله على ربه سبحانه وتعالى واستقامته على أمره، سببًا لطول مغفرته عند الله تعالى، فكان الصيام سببًا لصلاح النفس وصلاح القلب والإقبال على الرب والخروج به من العتقاء من النار، والخروج من رمضان بهذه المغفرة والرحمة، أو أنه يخرج على الحال التي نحن فيها فكيف يشفع له الصيام.(1/62)
والقيام يقول: قد منعته النوم فشفعني فيه. وانظر لما جمع الله تعالى هذه المعاني في شهر رمضان كان لها قيمتها التي يجب أن ينظر إليها المرء، هذه القيمة معناها أن المرء يخرج عن أحواله التي هو فيها، يعني يخرج عن عوائده ومألوفاته في نومه وشربه وأكله، وفي كلامه وفي عمله وفي جوارحه وفي إقباله وإدباره، يعني هذا الشهر تنعكس فيه وتتغير فيه أحوال المرء الذي يريد المغفرة، ويريد العتق من النار، تراه لو كانت أحواله هي هي كما كان قبل رمضان تراه غير من هذه المألوفات، يعني غير طريقة نومه، قلل هذا النوم، وقلل الأكل والشرب والنكاح والشهوة وقلل الكلام، وقلل الإقبال على الخلق، والائتناس بهم، وزاد في أعمال الطاعة والذكر والإقبال ووسع على المحتاجين، وبذل الصدقة، وبذل الإحسان، وبذل من وقته وجهده ليحصل المغفرة، فإذا به قد انقلبت أحواله، وخرجت هذه الأحوال عن المألوف؛ لأنه شهر غير مألوف في أعمال المؤمنين، فلابد أن يتحمل فيه المرء هذه المجاهدة.
يقول القرآن: منعته النوم بالليل فشفعني فيه، فيشفع فيه، وهذا معنى المجاهدة، أن يأتي رمضان لا ليأخذ حظه من النوم ومن الراحة ومن الكسل ومن الدعة، فإذا منع نفسه الطعام والشراب أتى في إفطاره ليعوض ما كان، ثم جاء إلى سحوره ليزداد تخمة، ويصبح ممتلئًا كأنه في يوم فطره، لا يكون يوم فطره ويوم صيامه سواء، لا في أكله ولا في شربه ولا في نومه ولا في شهواته ولا في غفلته، عكس ذلك كله، فلم يكن لنومه قيمه إنما كانت القيمة لقيامه: ( (((((((((( ((((((((((( ((((((( (((((((((( (((( ( [ الفرقان: 64] لم تكن القيمة للطعام والشراب.(1/63)
فكان النبي ( إذا أتى أهله فلم يجد طعامًا وشرابًا لم يتغير قال: إني صائم، وليس مثلنا نتعارك ونتشاجر وكل منا ينتظر الأصناف المعدودة ليأكلها ويمتلئ بها حتى إذا جاء القيام جاء متأخرًا، حتى إذا دخل القيام فإنما هي ألعاب رياضية ليهضم بها ما أكله في فطره..لا، وإنما كان ( على عكس ذلك كله إذا لم يجد الطعام والشراب يقول: إني صائم، فمقصود الصوم أن يخرج عن عبودية الطعام والشراب والجسد الفاني، وعن الراحه. تراه لماذا يفعل ذلك؟.. لأنه يريد لذلك الجسد راحة الآخرة، أتعبه في الدنيا ولم يرحه يريد راحته في الآخرة، يريد سكونه في الآخرة ودعته في الآخرة، لم ينعمه في الدنيا بالمأكل والمشرب والشهوة والنوم والراحة؛ لأنه يريد نعيم الآخرة، لأنه يدخر ذلك له في الآخرة، ويبذل ماله ووقته لأنه يريد أن يرى ذخر ذلك في الآخرة.(1/64)
فغَّير المرء من أحواله تلك حتى تتغير حاله السيئة إلى حال أحسن، وحتى تتغير أحواله التي قد اشتملت عليها الغفلة والبعد، واشتملت على محبة الدنيا والميل إليها ونسيان الآخرة والرحيل إلى الله تعالى، إلى محبة الله، والإقبال عليه والزهد في الدنيا، والإقبال على الآخرة، والاستعداد للقاء الله تعالى، فظهر ذلك في شوقه إلى العبادة، ومحبته لها وحنينه إليها، وأنه لا يقطعه عنها شيء، وإن قطعه شيء عنها إذا به حزين ومتألم يرى ربه منه سبحانه وتعالى ذلك الحزن، ويرى أنه قد فقد حظه من ربه أو قَلَّ حظه من ربه سبحانه وتعالى الذي لا يعادله شيء في هذه الحياة الدنيا، لذلك كان هذا المعنى من معاني الصيام ينبغي أن يكون حاضرًا في عقول المؤمنين وأذهانهم، كيف تتحقق صفات التقوى، وكيف يكون الصيام هو العون على تحقيق ذلك، وكيف يكون رمضان بالأخص هو الذي يغير تلك الأحوال، ترى القيام الذي يصليه المرء اليوم في رمضان ينبغي أن يكون قيامًا قبل رمضان، فإذا جاء رمضان ازداد هذا القيام ؛ لأنه بإتيان رمضان تغير الحال وازدادت المجاهدة، وازدادت العبادة وازداد التقرب إلى الله تعالى، ولم يقف عند الحد الذي كان فيه لا، قد تغير الحال ليكون سببا لتغير أحواله عند الله تعالى.
أما أن يكون في رمضان على الحال التي ينبغي أن يكون فيها قبل رمضان أن يصلي مثلاً بجزء قرآن هذا أقل ما ينبغي أن يكون عليه المرء قبل رمضان، فإذا جئت لرمضان لتصلي به فماذا فعلت؟ هذا حالك الذي ينبغي أن تكون عليه قبل رمضان، أما في رمضان فلا يشفع لك القرآن حتى يمنعك النوم، حتى تقوم سهرًا لله تعالى، حتى تَصُفّ قدميك كما كان الصحابة يصفون أقدامهم حتى يتكئون على العصي من طول القيام، يقرءون بالمئين من الآيات، لماذا كل ذلك وهم الأقربون، وهم المقربون، وهم السابقون الأولون؟ لأنهم جمعوا إحساناً وخوفاً، وجمعنا عصياناً وأمناً.(1/65)
كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ
أما بقية المعاني التي ينبغي النظر فيها في الصيام والخروج عن المألوفات هي أن الصيام سببٌ لتنزيه هذه النفس وصفائها لأنه يضيق مجاري الشيطان؛ فالشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم؛ يعني يوسوس له ويحمله على الغفلة، وعلى البعد وعلى التكاسل عن الطاعة وعلى البخل بماله ونفسه، ويزين له الوقوع في المعصية والوقوع في المكروه ويأخذه كذلك على التفريط في أعمال الطاعة ودرجات المؤمنين لا يفتر عنه ولا يمل من إغوائه ملازم له، والصيام يسد عليه تلك المنافذ التي يدخل منها الشيطان، ويجري فيها من ابن آدم فإذا خرج المرء إلى فطره فعادت مجاري الشيطان مرة أخرى إلى قلبه فماذا فعل؟ ثم إذا خرج من رمضان كله وقد اتسعت مجاري الشيطان مرة أخرى فماذا فعل؟(1/66)
لذلك كان من أول ما يهتم له المرء أنه في رمضان يضيق تلك المجاري حتى إذا خرج من رمضان ضاقت مجاري الشيطان في جسمه وفي قلبه وفي بدنه وكان أقل اتباعًا للشيطان وكان أقل اتباعًا لوسوسته وخطره؛ فإن قل ذلك في نفسه زادت معاني الطاعة والإيمان والإقبال على الله وخفت في قلبه المعاني السيئة التي يعانيها لذلك كان رمضان سببًا مباشرًا في أن تضيق مجاري الشيطان في يومك التي أنت فيه لينتهي هذا اليوم بتقليل طعامك وشرابك في إفطارك وسحورك وجدنا النبي ( لا يعبأ بذلك ويخرج عن هذه المعاني من معاني عبودية المال والأكل والشرب , فكان يواصل ( اليوم واليومين لا يأكل ولا يشرب (، وكان أصحابه يريدون ذلك رضوان الله عليهم فنهاهم؛ لأنهم ليسوا مثله فمن شاء أن يواصل واصل إلى السحر لم يحرمهم كذلك من هذه الحالة ألا يأكلوا وألا يشربوا لعلمهم أن ترك الطعام والشراب يضيق مجاري الشيطان وأن ترك الطعام والشراب سبب عظيم من أسباب التفرغ للطاعة والذكر؛ وسبب لخلو هذه المعدة، لأن المعدة كما تعلمون إذا امتلأت نامت الفكرة وقعدت الأعضاء عن العبادة، انظر إليك وقد امتلأت معدتك أول شيء تفكر فيه أن تقوم إلى النوم والكسل وأن تترك الطاعة والعبادة وأن تقوم لامرأتك.
كل ذلك بسبب امتلاء هذه المعدة، يأتي الصيام في رمضان في كل يوم تحاول ذلك؛ فإذا خرجت من رمضان إذا بك قد فرغت هذا الوقت للذكر والعبادات والطاعة وخرجت من مألوفات الأكل والشرب الذي تعده ليوم يبعثون كما قال تعالى: ( ((((((( ((((((((((((( ((((((((( (((((( (((((((((((( ((( ((((((((( ((((((((((((( (((( ( [ الحاقة: 24] لما لم يأكلوا في الدنيا ويطول أكلهم حتى تعظم شهواتهم وغفلتهم وتخمتهم وقعودهم عن العبادة والطاعة قيل لهم: ( ((((((( ((((((((((((( ((((((((( (((((( (((((((((((( ((( ((((((((( ((((((((((((( (((( ( [ الحاقة: 24] بما صُمْتُم، بما جُعْتُم بما عطشتم لله تعالى.(1/67)
وكذلك ترك الطعام والشراب يخلي القلب للذكر والفكر، وهي المسألة التي يفتقدها المؤمنون اليوم في رمضان وبعد رمضان وهي أعظم مسائل الدين من الإقبال على الله تعالى ومحبته أن يكون المرء دائم الفكر دائم الذكر.
دائم الفكر: متفكر في أحواله متفكر في معاده وما هو مقبل عليه من رحيله إلى الله، متفكر في أخلاقه وآفاته يريد أن يتخلص منها متفكر في عباداته التي قصر فيها والتي امتلأت بالوساوس والخطرات وامتلأت بالبعد عن الإقبال على الله وحسن مناجاته وحسن الوقوف بين يديه، متفكر فيما يصلح نفسه ومعاده وفيما يكون سببًا لمعرفته بربه ومحبته متفكر في أسمائه وصفاته متفكر كذلك في قيامه لربه يوم يقوم الناس لرب العالمين؛ فإذا ما تفكر في أسمائه وصفاته وتفكر في معاشه ومعاده وتفكر في رحيله وموته وقبره، وتفكر في بعثه ونشوره ووقوفه بين يدي الله تعالى وتفكر في آفات نفسه وقلة عمله وقلة زاده كان ذلك التفكر سببًا لزيادة الإيمان سببًا للبعد عن العصيان سببًا للتخفيف والمجاهدة لهذه الآفات التي هو فيها سببًا لتذكر الموت والقبر والحساب سببًا لتذكر الأهوال والوقوف بين يدي الله تعالى كل ذلك يكون دافعًا له إلى المسارعة إلى الله تعالى يكون دافعًا له إلى البعد عن المعصية والخوف من الله يكون سببًا له إلى إحسان الطاعة والبذل فيها يكون سببًا لدوام فكره فيما يعود عليه بخير معاشه ومعاده.(1/68)
أما الذكر -فلا تسأل عنه - إذا فرغ المرء قلبه للذكر فإنه حينئذ كما قال: ( ((((((((((((((( (((((((((((( ((((((((((((( ((( (((( ((((((((((( (((((?( [ البقرة: 152] فكان من فوائد أن يترك المرء طعامه وشرابه أن يحقق ذلك، تراه يحقق ذلك يومه، ثم بعد الإفطار يعود مرة أخرى إلى ترك الفكر والذكر إلى ترك تلك الدرجات العالية التي هي الأصل في معرفة الله تعالى ومحبته؛ فإنه ما إن يتفكر في أسمائه وصفاته حتى يوحِّد ربه، حتى يحب ربه حتى يخافه حتى يرجوه حتى يدعوه حتى يتقرب إليه حتى يكون حظه من الله تعالى الأهم له في الأولى والآخرة.
أنت محتاج إذن لهذا المعنى اليوم وبعد رمضان وإلا فماذا قد فعلت؟ إذا فات يومك فعادت حالك كما كانت وانتهى رمضان فلم تحصل ذلك.
المعنى التالي هو التوسعة على الفقراء والمساكين أن يكون من حظك الذي ينبغي أن تحرص عليه أن تبذل مالك لله تعالى ببذله للفقراء والمحتاجين، وأن يكون الجوع والعطش تذكرة له بمن طال جوعهم وعطشهم، وأن تواسي منه إخوانك وعباد الله الصالحين وأن تكرمهم وأن تدخل عليهم السرور، كل ذلك من أفضل الأعمال التي ذكرها النبي ( وهذا كان حاله ( في رمضان "كَانَ أَجْوَدَ النَّاسِ وَكَانَ أَجْوَدَ مَا يَكُونُ فِي رَمَضَانَ حِينَ يُدَارِسُهُ جِبْرِيلُ القُرْآنَ" (65)
أما ما ينبغي أن نختم به هذا الفوائد فهو أن الصيام والقيام والذكر في رمضان وترك الطعام والشراب والشهوة مما يكسر حدة النفس وشره النفس وبطر النفس وأشر النفس.(1/69)
فهذه النفس تميل إلى الأشر وإلى البطر تميل إلى الكبر والعلو وإلى الكسل وإلى البطالة وإلى النوم، وأن ذلك كله أحب إليها، لذلك كان الصيام سببًا عظيمًا من أسباب كسر هذه النفس لله تعالى فتصير نفسًا خاشعة مطمئنة متواضعة مخبتة تسارع إلى الطاعة وتسارع إلى المغفرة وتتواضع للرب سبحانه وتعالى وتخشع له وتستكين القلب والجوارح لمحبته وطاعته وتبتعد بذلك عن معصيته فما أقرب هذا العبد من الله تعالى هذا العبد المتواضع الخاشع المنكسر الذليل لله تعالى أقرب العبيد إلى الله تعالى؛ لأنه هو المسمى بهذا الاسم؛ بالعبودية لله تعالى، والصيام أعظم ما يكون سببًا في كسر النفس وإبعاد بطرها وأشرها ورجوعها إلى سكونها وخشوعها وتواضعها وذلتها لله تعالى إذا سار على تلك الآداب التي أشرنا إلى شيء منها ؛ فإذا ما كانت كذلك كانت أسرع نفس إلى الله تعالى، وأحب نفس إلى الله تبارك وتعالى فخرجت عن كبرها وعن عجبها وخرجت كذلك عن رؤيتها لنفسها وعن قوتها وعن مالها وعن كذا وكذا خرجت من كل ذلك إلى حول الله وقوته سبحانه وتعالى إلى مدد الله تعالى ورحمته.
المجاهدة: ليرين الله ما أفعل!(1/70)
ليس بمجرد أن يسمع المرء هذه المواعظ، وتلك المعاني أن يصير من أهلها، السالكين على طريقها- ما تعب أحدُ إذن- ولكن لكي يحقق المرء ما سبق وأن يحسن القيام به لا بد من المجاهدة، وهو الذي ينبغي أن يستغله المرء اليوم، قبل ألا يستطيع مجاهدة أو غيرها، أن الله تعالى يطلع على المتكاسلين المتباعدين المفرطين، بعد أن فتح لهم كل هذه المواسم من مواسم المغفرة، فإذا بهم يرفضونها ويتجهون إلى خير منها إلى الدنيا الزائلة، فيوشك ألا يأتي عليهم رمضان، أو يوشك إذا جاء رمضان أن يغلق الباب، وأن تبقى القلوب على قسوتها وعلى بعدها وعلى تفريطها، وأن يكون قد كفاهم ذلك، قد فتح عليهم أسباب التوبة فلم يتوبوا بعد، اتركهم، كما يقول كثير من السلف في هذا المعنى، ولا يحس المرء بهذا الأمر، ولا يخاف له أنه يتعامل مع الله تعالى كذلك ثم يوشك أن يغلق الباب في وجهه فلا يتمكن من التوبة والعمل الصالح، كما قال تعالى: ( (((((((((((( ((( ((( (((((((((((( (((( (((((( ((( (((((((( (((((((((( (((((((((( ((((((((( ((((( (((((( (((((((((((( (((((( (((((( ((((((( (((((((((( ((((((( ((((( ((((((((((((( (((( ( [ المنافقون: 010]، يقال له: قد انتهت الأيام والساعات، يقال له: ( (((((( ((((( (((((( (((((((((( (((((((((( ((((( ((((( ((((((((((( ((((?((((((((( (((((((( (((((((( (((((( (((((((( ( (((( ( ((((((( (((((((( (((( ((((((((((( ( ( [ المؤمنون: 99 - 100 ] التي نقولها اليوم.(1/71)
فالطريق إذن أن يستمسك المرء بأهداف المجاهدة، بأن يجاهد نفسه. كيف يجاهد نفسه؟ يرتب على نفسه الوظائف القيام والصيام والذكر وأعمال الإيمان، وأن يحاول أن يوفي لله تعالى بها، وأن يجاهدها على تحقيق ذلك والقيام به، ثم يحاسبها على الوفاء بما عاهدت، وأن يراقبها على عدم الروغان منه، وكلما زاغت منه نفسه يمينا أو شمالاً، وكلما مالت إلى الكسل أو الضعف، عاقبها على ذلك وحملها على الطاعة مرة أخرى، لأنه عندما يقول: غدا إن شاء الله، إذن قد انتصرت عليه نفسه وهواه وشيطانه، ويأتي الغد ولم يفعل شيئا، ويأتي الغد ثم الغد، ثم تنفرط أحواله، وهكذا، فإذا لم يحسم أمره مع نفسه من أول يوم، كيف سيصلي لا بد أن يصلي مهما كانت العوائق ؛ لأنه عندما يأتي إلى الصلاة يقول: إن شاء الله، سأبدأ الصلاة من هذه الليلة من أولها، إذا بالشيطان والنفس والهوى تقول له: نَم ساعة حتى تستطيع أن تقوم إلى الصلاة، نَم ساعة إن شاء الله تُؤخَّر الصلاة إلى الساعة كذا، وإن شاء الله نَم ساعة حتى تتمكن من الصيام..حتى تضيع الليلة،
فينام نصف الليل...ينام الليل كله...ويضيع القيام.
فإذا ما حزم أمره وقيل له: نَم، يقول: لا، قد عاهدنا الله على الصلاة،
يُقال له: اقض هذه الحاجة، وهذه المصلحة، فالشيطان لا يتركه ليعمل الخير ...
يقول: لا، قد عاهدنا الله على الصلاة،
فهل سيأتي له الشيطان يقول له: أنت رجل طيب قد عاهدت الله تعالى على الصلاة وعلى الذكر وعلى القيام، أنت رجل طيب، اذهب يا أخي، اذهب فصَلِّ، وسأساعدك في الصلاة، هيا إلى الصلاة، هيا إلى الذكر؟(1/72)
أو أنه كما قال الله تعالى: ( ((((( (((((((( ((((((((((((( (((((((((( (((((( ((((((((( ((((((((((((((( (((( ( [ الأعراف: 016] يعني سيقف له في طريق الله تعالى يمنعه، ولا يمر أحد إلى الله تعالى، ( ((((( (((((((( ((((((((((((( (((((((((( (((((( ((((((((( ((((((((((((((( (((( (((( ((((((((((( ((((( (((((( ((((((((((( (((((( (((((((((( (((((( ((((((((((((( ((((( (((((((((((((( ( (((( (((((( (((((((((((( (((((((((( (((( ( [ الأعراف: 16 -17 ].
وقد جاء في مسألة المجاهدة حديث النبي (، رغم أن الصحابة كانوا على هذا الحال الحسن: " جَاءَ أَنَسُ بْنُ النَّضْرِ فِي غَزْوَةِ أُحُدٍ ( وَلَمْ يَكُنْ قَدْ حَضَرَ بَدْرًا فَأَقْسَمَ بِاللَّهِ، قَالَ: أَوَّلُ الْمَشَاهِدِ مَعَ النَّبِيِّ ( لَمْ أَحْضُرْهُ، لَئِنْ حَضَرْتُ مَشْهَدًا آخَرَ لَيَرَيَنَّ اللَّهُ مَا أَفْعَلُ" وهذا القسم " لَيَرَيَنَّ اللهُ مَا أَفْعَلُ" ، قابله سعد بن معاذ، وهو يقول له: إني أجد ريح الجنة من قبل أحد، قال: فصنع ما لم يستطع المرء أن يصنعه، حتى قتل ( وكنا نقول: قد نزلت فيه وفي أمثاله: ( ((((( ((((((((((((((( ((((((( ((((((((( ((( (((((((((( (((( (((((((( ( ((((((((( ((( (((((( ((((((((( ((((((((( ((( ((((((((( ( ((((( ((((((((( ((((((((( (((( ( [ الأحزاب: 23]، (66)
فلا بد أن يكون شعارك اليوم " لَيَرَيَنَّ اللهُ مَا أَفْعَلُ" سأفعل ما يكون سببًا لأن يرضى الله تبارك وتعالى عنه، وأن يكون له القيمة عند الله تعالى والزلفى..(1/73)
ترى ماذا فعل ( ..بذل نفسه لله تعالى، وعند موته ( وجدوا فيه أكثر من ثمانين ضربة بالسيف وطعنة بالرمح ورمية بالسهم، ولم يعرفه أحدٌ إلا أخته التي عرفته ببنانه (، " لَيَرَيَنَّ اللهُ مَا أَفْعَلُ" وهو ما ينبغي أن يكون شعار المؤمنين عندما يقال لهم: ماذا ستفعلون؟ ! لا بد أن يقول: " لَيَرَيَنَّ اللهُ مَا أَفْعَلُ" سآتي على نفسي وعلى هواي وعلى شهواتي وعلى أكلي وعلى شربي وعلى مالي وعلى صحتي ( ( (((( (((( (((((((((( (((( ((((((((((((((( ((((((((((( (((((((((((((( (((((( (((((( (((((((((( ( ( [ التوبة: 111].
لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا
ومثل آخر لقضية المجاهدة في حديث ربيعة بن كعب - وكان من أهل الصفة - يقول للنبي ( بعد أن سأله النبي ( سلني "يَقُولُ لَهُ النَّبِيُّ: سَلْنِي، فَقَالَ لَهُ: مُرَافَقَتَكَ فِي الْجَنَّةِ، قَالَ لَهُ: سَلْنِي، اطْلُبْ مِنِّي أَيَّ شَيْءٍ أُعْطِيكَ إِيَّاهُ، قَالَ: مُرَافَقَتَكَ فِي الْجَنَّةش، قَالَ: أَوَغَيْرَ ذَلِكَ؟ قَالَ: لا، هُوَ ذَلِكَ، قَالَ: فَأَعِنِّي عَلَى نَفْسِكَ بِكَثْرَةِ السُّجُودِ " (67) والمقصود في هذا الحديث أمران:(1/74)
الأمر الأول: وهو النظر إلى هذه الهمة العالية التي كان عليه أصحاب النبي ( قال: سلني ) لم يسأله شيئًا في الدنيا ولا في الزائل الذي نحن فيه، وإنما قال: مرافقتك في الجنة، ولم يسأله شيئا في الآخرة كذلك قليلا، وإنما سأله ذلك القرب من النبي (، ليس مرافقته أن يكون قريبا منه، فليس أحد في درجته (، وإنما يصل إلى مرتبة القرب منه ومن رؤيته، أو من التنعم بالنظر إليه (، قال: مرافقتك في الجنة، قال: أو غير ذلك، قال: لا، هو ذلك، ما أن قال له: سلني، إلا وكأنه متجهز لهذه الحالة الحسنة التي يودها لهذه الدرجة العالية التي يريدها، ألا يفارقه النبي في الدنيا ولا في الآخرة (، وأن يكون معه مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين. فدل ذلك على هذه الهمة العالية، وعلى هذه العزيمة التي يمتازون بها، والتي كانت سبب قربهم إلى هذه الدرجات العالية التي بينها الحديث.(1/75)
والأمر الثاني: وهو ما بينه النبي ( طريقا للمجاهدة، قال: أعني على نفسك بكثرة السجود، يعني بكثرة الصلاة، أن يكثر من الصلاة حتى يكون رفيقه في الجنة، يعني أن يأتي على نفسه وأن يجاهدها، تراه لما قال له النبي ( : إن الطريق الذي ترافق به النبي ( هو كثرة السجود، تراه قصَّر في السجود، أو تراه يوما ما كان هناك عنده وقت يصلي فيه فتركه، فيقال له: ها قد صليت، أو أنه لما قال له عليك بكثرة، أعني على نفسك بكثرة السجود، ما ترك وقتا يستطيع أن يصلي أو أن يسجد فيه لله، إلا وسجده، وما ترك وقتًا يمكن أن يترك فيه كل عوائقه وكل شواغله، حتى يحصل في هذه المرتبة إلا تركه إذا به في كل حاله يفعل ما يكون سبب مرافقة النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ولا يقصر عنه، ولا يجد نفسه يوما ما متململا منه، أو يجد نفسه يوما ما يمكن أن يحصل هذا السبب فيؤخره إلى الغد أو بعد الغد، إن شاء الله عندما أستريح قليلا أو عندما كذا، وإنما كانت راحته حينئذ في أن يجاهد نفسه كل المجاهدة، وأن يبذل وقته كله لتحصيل هذا السبب الذي يكون فيه مرافقة النبي صلى الله عليه وآله وسلم في الجنة.(1/76)
فطريق المجاهدة إذن هو الطريق الذي يري فيه ربه سبحانه وتعالى الوفاء بالعهد، ويري فيه ربه سبحانه وتعالى بذله ماله ووقته وجهده لربه تعالى، ويري به ربه سبحانه وتعالى أنه يعظم المغفرة، ويعظم الرب، ويقبل عليه، ويحبه، ويؤثر ما عند الله تعالى على الفاني على عكس: ( (((( ((((((((((( (((((((((((( (((((((((( ((((?( (((((((((((( (((((( (((((((((( (((( ( [ الأعلى: 16 -17 ] هم على عكس ذلك يؤثرون الآخرة، ويؤثرون ما عند الله، يؤثرون رضا الله تبارك وتعالى، ومحبته، والتعلق به، والإقبال عليه، وطاعته، ويعلمون في نفس الوقت أنهم مهما آثروا ذلك من الله تعالى فإن الله تعالى يوفقهم، ويؤثرهم على غيرهم في أمور دنياهم التي يخافون عليها، ويعطيهم منها سبحانه وتعالى بغير حساب، كما ذكر جل وعلا في قوله: ( (((((((( (((((((( ((( (((((((((( (((((((( ((((( (((((((((( (((((((( ((((((( ((((((( (((((((( ((((( ( [ البقرة: 201] يعطيهم حسنة الدنيا وحسنة الآخرة، وتظهر عليهم أنوار المجاهدة والهداية ( ((((((((((( (((((((((( (((((( (((((((((((((((( ((((((((( ( ( [العنكبوت:69].
والمجاهدة إذن التي تبدأ اليوم تبدأ بكيف يحصن المرء نفسه بذكر الله تعالى لا يفتر عنه، وبالإقبال على القرآن يستهدي به، وينير طريقه، ويشفي قلبه، ويبارك وقته وجهده، ويبذل له، ويكون عنوانه في كل ذلك المعاملة بالكرم مع الله تعالى ؛ وقتا، وجهدا، ومالا، ونفسا، وولدا، وصحة، ونوما، في كل أحواله، أن يبذل على الكرم الذي يريد من الله تعالى بأن يكرمه بأحسن منه، ويزيده منه، كما ذكر الله تعالى: ( ((((((((((((( ((((((((( (((((((((( ((((((((((( ((((((((((((( (((((((((((( (((( ((((((((( ( ( [ الشورى: 26 ] جل وعلا.(1/77)
إذن باب المجاهدة هو باب طويل، شرحنا فيه ما ينبغي أن يتعلمه المرء في مجاهدة نفسه والسير بها إلى الله تعالى والحزم معها، وأن يحملها، وأن يكبتها، وأن يكبح جماحها، وأن يحدث له انقياد إلى الله تعالى، كان ذلك موضوع اليوم، وإنما أشرنا إليه في هذه العجالة ؛ حتى يعلم المرء في نهايته أن الجنة كما ذكر النبي ( : "حُجِبَتِ الْجَنَّةُ بِالْمَكَارِهِ أَوْ حُفَّتِ الْجَنَّةُ بِالْمَكَارِهِ، وَحُجِبَتْ أَوْ حُفَّتِ النَّارُ بِالشَّهَوَاتِ" (68)، ولا تنقطع هذه الشهوات وهذه المكاره إلا بالمجاهدة على تحمل المكاره ليصل إلى الجنة، وبالمجاهدة على منع الشهوات حتى يحتجب عن النار، كما ذكر النبي (.
العشر الأواخر: وجاءت أيام الجِّد
دخلت أيام العشر من رمضان، وجاءت أعظم أيام المجاهدة؛ حيث ينتظر المتقون جائزة الرب، وجاء الاعتكاف، فاجتمع للمجاهدة فضل الوقت، وفضل العمل معاً.
وكان ما سبق تقدمة لما ينبغي أن نشير إليه من أن الشعار الذي قد رفعناه - وهو التصميم على تحقيق أسباب المغفرة - وقوله: ليرن الله ما أفعل مازال قائماً، وأن يبذل المرء فيه ما يرى الله تبارك وتعالى منه حسن الأداء وحسن الإقبال، ويرى الله تبارك وتعالى فيه الصدق والعمل والإخلاص، ويرى الله تبارك وتعالى التي كأنه حزين على ترك هذا الإقبال على ربه، وحزين على ترك هذا البذل، أو حزين على ضعف هذه الهمة، وفصم هذه العزيمة، والإرادة في الإقبال على الله تعالى، وأنه يود أن تتوجه هممه كلها، وأعماله كلها، وأقواله كلها في ظاهره وباطنه إلى رضا ربه ومحبته والتعلق به إلى أن يكون مستعدًّا لآخرته، مقبلا على ربه يحسن جهاده، زاهدًا في الدنيا، راكنًا إلى الآخرة قد، تجافى عن دار الغرور، وظهرت عليه تلك المحاب والرضا لله جل وعلا.(1/78)
إن هذه الأيام العشر، وهذه الليالي العشر هي بداية المجاهدة مرة أخرى، بداية العودة مرة أخرى إلى أن يتململ المرء بين يدي ربه، وأن يبذل له، وأن يري ربه منه ما يكون سبب رضا الله عنه، وسبب فتح الله عليه، وسبب جود الله تعالى عليه، وسبب محبة الله له، وسبب إقبال الله عليه، وسبب انتشال الله جل وعلا له مما هو فيه، سبب حفظ الله له، وسبب دفاع الله عنه، وسبب مدد الله جل وعلا له.
هذه الأيام هي أيام ذلك، فإذا كانت قد فاتتك كل ما سبق من الأيام، ولم تشعر فيها بما ينبغي مما أشرنا إليه، فإن الله تبارك وتعالى بكرمه وجوده ومنه وفضله ما زال يفتح لهؤلاء المؤمنين، هذه الليالي وتلك الأيام، ليستعيدوا فيها قوتهم ويجددوا فيها نشاطهم ويقبلوا فيها على ربهم وينتظروا فيها جائزة الرب سبحانه وتعالى، فكلما دنت الأيام على الانتهاء، وكلما قرب ظهور النتيجة ازداد اجتهاد المرء وازداد قربه، يود أن تظهر نتيجته تبيض وجهه، يود أن تكون نتيجته حسنة وعاقبته الحسنى في هذه الأيام وألا يخيب ، " رَغِمَ أَنْفُ امْرِئٍ أَتَى عَلَيْهِ رَمَضَانُ فَلَمْ يُغْفَرْ لَهُ، رَغِمَ أَنْفُ امْرِئٍ أَتَى عَلَيْهِ رَمَضَانُ فَلَمْ يُغْفَرْ لَهُ، رَغِمَ أَنْفُ امْرِئٍ أَتَى عَلَيْهِ رَمَضَانُ، أَبْعَدَهُ اللَّهُ، أَدْخَلَهُ اللَّهُ النَّارَ، قُلْ: آمِينَ، قُلْتُ: آمِينَ " (69).
ونفصل شيئا في مجاهدة المرء في هذه الأيام من الإقبال فيها على ربه وإحسان السير له ومحاولة البذل مما أعطاه الله تعالى من مال وجهد ووقت وصحة وفراغ وجاه وسلطان ؛ ليكون ذلك كله في عمله لله فيزداد منه في الأولى والآخرة: ( (((((( (((((((( (((((((( ((((( (((((((((( ((((((((((((( ( ((((((( (((((((((( (((( (((((((( ((((((((( ((( ( [ إبراهيم: 7].(1/79)
كلما قربت هذه الأيام كلما ازداد العاملون جهدا واجتهادا، وازداد السعاة إلى الله تبارك وتعالى بذلاً وإتقانًا، كلما أوشكت أو قربت النتيجة أن تظهر أصابهم الخوف والاضطراب والقلق، واصلوا ليلهم بنهارهم لتحقيق الفوز وهو الفوز العظيم الذي ذكر الله تبارك وتعالى: ( ((((((((((( (((((((( (((((((((((((( ( ((((((( ((((((( ((((( (((( ((((((( (((((((( ((( ( [ الفتح: 5] وقد ورد عن النبي ( في هذه الأيام أنه: "كَانَ إِذَا دَخَلَ العَشْرُ أَحْيَا اللَّيْلَ وَجَدَّ وَشَدَّ الْمِئْزَرَ وَأَيْقَظَ أَهْلَهُ ( " (70) هذه مهماته ووظائفه في العشر (، كان إذا دخل العشر جد ( وشد المئزر وأحيا الليل وأيقظ أهله، كل ذلك كان يحققه ( بالاعتكاف إلى الله جل وعلا...
بأن يعتكف قلب المرء وقالبه وجسده على ربه سبحانه وتعالى...
وأن يمتنع من مخالطة الناس، وألا يقترب من أنفاس الخلق ليخلو بالله جل وعلا، وليتأس به المؤمنون وتكون هذه الخلوة بالله تعالى سببا في إصلاح معاشهم ومعادهم وسببا في تهيئة قلوبهم وجوارحهم لتحقيق أسباب المغفرة، وسببا لتوفير الوقت والجهد والصحة، كل ذلك في هذه الأيام يواصل فيها ليكون سببا في أن يغفر الله له، وقد غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، وهو ليس له ذنب أصلا ( ، وإنما هو في درجة الشكر: " أَفَلا أَكُونُ عَبْدًا شَكُورًا " (71) كما قال ( .
الاعتكاف والوصال وليلة القدر .. وتحقيق جائزة الرب(1/80)
نشير إلى هذه المسائل على شيء من التفصيل، كان إذا دخل العشر اعتكف ( ، كان يعتكف العشر حتى إذا كان العام الذي قبض فيه اعتكف عشرين يومًا، وكان على كثرة أشغاله ( من الجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وتعليم العلم والقيام على مصالح المسلمين، لا يمنعه شيء من ذلك البتة أن يعتكف هذه العشر لله تعالى ؛ لتكون أولا سنده ومئونته في بقية عامه، لتكون قوته ومدده، والثانية، لتكون سببًا في مواصلة الليل بالنهار لتحقيق جائزة الرب، والثالثة ليلتمس فيها ليلة القدر، " مَنْ قَامَ لَيْلَةَ القَدْرِ إِيمانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ " (72)
فكانت هذه الأشغال والوظائف التي ينبغي أن تسيطر على أعمال الناس في هذه العشر، النبي لم يكن محتاجًا ( إلى ذلك، كله قلبه موصول بربه، وذكره لا يفتر، وعمله لا يكل، ولا يمل من المحبة والإقبال والسعي للرب جل وعلا، هو أعلى الناس في الدنيا والآخرة لهذه الدرجة ( ، لا درجة أعلى من درجته في ذلك، وهي الوسيلة التي لا تنبغي إلا لعبد واحد هو النبي ( ، لذلك كان المؤمنون لا بد أن يسيروا على هذا الحال الذي كان عليه في درجته، إذا أرادوا أن يحققوا هذه الأسباب من التماس ليلة القدر، من الإقبال على الله تعالى، من الاستعداد لتحقيق جائزة الرب والفوز بها، وألا تكون أشغال الدنيا ومعوقاتها سببا في أن تمنعك عن ذلك لأنك أيها المسكين لست أعلى درجة منه ( ، ولست في حاجة إلى المغفرة، لا.(1/81)
فإذا ما جاءك الشيطان ليقول لك: لا تستطيع الاعتكاف هذا العام، إن شاء الله العام القادم سوف تعتكف مائة يوم، وسوف تعتكف العام كله، وسوف تخرج في سبيل الله بقية عمرك، كل هذا من تسويل الشيطان ليضيع عليك هذه الأيام التي ينبغي أن تواصل فيها ليلك بنهارك، فالنبي ( في درجته العالية كان يواصل هذه الأيام، فقد ورد الحديث بقوله: "إنك تواصل "، بعض الصحابة يقولون إنك تواصل ,والحديث يبين أنه ( كان يواصل أيامه الأخيرة بالذات يعني كان يواصل ليله بنهاره لا يُفْطِر ( ، توفيرًا للوقت والجهد، للإقبال، وتفريغا للقلب والبال والهم، لِأَن يقبل على ربه سبحانه وتعالى، وما كان يأتيه من ربه من الفتوحات الإلهية والسعادات الربانية التي تنزل عليه بمعرفة ربه ومحبته والإقبال عليه والطمأنينة لذكره، كانت هذه غذاءه كما ذكر من ذكر في ذلك، لذلك كان يقول: "لَسْتُ كَهَيْئَتِكُمْ أَبِيتُ يُطْعِمُنِي رَبِّي وَيَسْقِينِي" (73) لا يطعمه طعامًا وشرابًا وإلا لم يكن مواصلاً ولا صائمًا (، وإنما كان ما يهل عليه من فتوحات الرب سبحانه وتعالى ومن ذكره ومن الإنس به والإقبال عليه، وتلك النفحات العظيمة نفحات الله جل وعلا.
لذلك كان يواصل، وواصل أصحابه رضي الله عنهم، كما كان هو يواصل ( ليقتدوا به في ذلك، وليتفرغوا لعبادة الله تعالى، ويشغلوا همهم وبالهم بالإقبال على ربهم ينتظرون جائزته، ويلتمسون تلك الليلة ليلة القدر صادفوها، نهاهم عن الوصال ( وقال: "مَنْ كَانَ مُوَاصِلًا فَلْيُوَاصِلْ إِلَى السَّحَرِ " (74) وجعلوا فيها أكلة واحدة في السحر إفطارًا وسحورًا، ويفرغون الوقت كله لله تعالى للأنس به لاستغفاره للبحث في أعمالهم وأقوالهم لتحسين معاملاتهم مع ربهم لمحاسبتهم لأنفسهم إلى غير ذلك مما يكون سببًا للتأهل للفوز بجائزة الرب، ويكون كذلك سببًا لتحصيل ليلة القدر.(1/82)
انظر إلى تصميمهم على المواصلة حتى واصل بهم ( يومًا ويومًا حتى ظهر الهلال فدل ذلك على أنه كان يواصل عندما تدخل هذه الأيام الأخيرة قرب تعرض المرء للرحمة والعتق من النار، يواصل ليله ونهاره لا يأكل ولا يشرب حتى إذا خرج إلى صلاة العيد أفطر على هذه التمرات التي رأيناها من سنته (.
فدل ذلك على أن الحال التي ينبغي أن تعتري المتقين في نهاية أعمالهم أو في قرب نهايتها هو الاجتهاد الزائد حتى يكون ذلك سببًا لتحصيل جائزة الله حتى يكون سببًا لـ أن يختم لهم بالخاتمة الحسنة في هذه الأعمال،
والنقطة الثانية هي؛ أن يكون خاتمة الأعمال لهم هو الاجتهاد ليس الملل ليس الفتور ليس التردد ليس انفراط الحال؛ لأنه إذا ختم له بالاجتهاد يوشك أن يكون بعد رمضان أحسن حالاً وأقرب إلى الله تعالى وأثبت على طريقه سبحانه وتعالى، أما أن تصل في نهاية العمل إلى الفتور وإلى الملل وإلى قلة الأعمال وأن تعود نفسك إلى ما كانت عليه من الكسل ومن التواني والدعة يوشك أن يزداد عليك ذلك بعد رمضان؛ فما أن ينتهي رمضان حتى تعود مرة أخرى إلى ترك القيام والصيام والذكر وقرءة القرآن وهي الحالة السوداء التي تصيب المؤمنين بعد نهاية رمضان كأنهم لم يقوموا ولم يصوموا كأنهم لم يقبلوا على ربهم كأنهم لم يقرأوا قرآنه؛ فهذه الحالة تستوجب إذن من المؤمنين اليوم أن يواصلوا يومهم ونهارهم وليلهم على الاجتهاد الزائد صلاة وذكرًا وقرآنًا.
فهذا كان اعتكافهم وهوعلى خلاف ما نحن فيه من رؤية هؤلاء المعتكفين الذين كل همهم الاستئناس بالناس والكلام وتضيع الوقت والتأخر عن الصلاة، ويأكل ويشرب شيئًا، كذا وكذا، حتى تفوته الركعة الطويلة التي يقولون عليها، ثم ينام بعد ذلك كأنه قد جاهد وقتل نفسه وفعل ما لم يفعله الأولون والآخرون.
أيقظ أهله: ليأخذوا نصيبهم من رحمة الله(1/83)
كان كثير من الأئمة كالإمام أحمد وغيره رضي الله عنهم يمتنعون عن الكلام في الاعتكاف مع أحد، حتى ولو بالعلم والدراسة ليعتكف على ربه، وأن ينظر في هذه الشحنة التي ينبغي أن يحصلها، وفي أسباب المغفرة التي يجب أن يجاهد نفسه عليها، في أن يواصل ليله بنهاره؛ ليكون أدعى إلى أن يراه الله تبارك وتعالى على هذه الحالة، فيغفر له، أن يراه مواصلا ليله بنهاره لا يأكل إلا في السحر، يفرغ وقته وجهده للصلاة والعبادة والقيام.
تراه يأتي العشر ( ؛ ليقول: نريد أن ننام قليلا، نريد أن نستريح قليلا ! إنما كانت راحته وسعادته في أن يكون قائما لربه، كما ذكر تعالى: ( ((((((((((( (((((((((( ((((((((((( ((((((( (((((((((( (((( ( [ الفرقان: 64]، وكما قال هو ( : "وَجُعِلَتْ قُرَّة
عَيْنِي فِي الصَّلاةِ " (75) لا يكون قرير العين ولا يكون سعيدا، ولا يكون أبدا مسرورا إلا في هذه الصلاة التي يتكاسل عنها الناس، والتي يودون أن يتخففوا منها بألا يقوموا فيها.
لذلك قالت السيدة عائشة وأنس رضي الله عنهما: " إِذَا دَخَلَ العَشْرُ ( قَامَ اللَّيْلَ " (76) كان يقوم ليله ( لا يفتر فيه، ينتظر أن يصادف ليلة القدر في أي وقت من ليالي العشر الآكد فيها في الوتر، وكان يوقظ أهله في هذه الأيام يوقظ أهله في تلك العشر، كل من أطاق الصلاة أقامه للصلاة ليشهد هذا الخير، وليشهد تلك الرحمة، وليشهد تلك النفحات من نفحات الله جل وعلا، وليكون كل أحد يأخذ نصيبه من رحمة الله تعالى، وأن تصيبه بركات الرب جل وعلا، وأن يتنزل عليه ما يتنزل من جود الله تعالى وكرمه وإحسانه في تلك الليالي، وجد، وشد المئزر، شد المئزر: كناية عن اعتزال النساء في هذه العشر، وجد: يعني اجتهد فيها ما لا يجتهد في غيرها يعني إن كان يصيب نومًا في العشرين الأولى من رمضان في هذه الأيام ما كان يصيب نومًا ولا غمطا، طوى فراشه ( واعتزل النساء وقام لله تعالى.(1/84)
وهذا الجد وهذا الاجتهاد مما ينبغي أن يكون شعار المتقين الذين يريدون ألا يمر عليهم رمضان إلا وقد أخذوا جائزتهم، ألا يمر عليهم رمضان مرغومو الأنف ينتظرون رمضان الآخر بهذه الوسيلة السيئة من وسائل الشيطان، وإنما تطول مواصلتهم على هذا الحال ؛ ليحققوا جائزة ربهم سبحانه وتعالى، وليفوزوا بمغفرته فإذا ما عيدوا كان حقا لهم أن يعيدوا ساعتها، وإذا أفطر فرح كما ذكر النبي ( : " لِلصَّائِمِ فَرْحَتَانِ؛ إِذَا أَفْطَرَ فَرِحَ، وَإِذَا لَقِيَ اللَّهَ تَعَالَى فَرِحَ بِصَوْمِهِ" (77) وجد هذا الصوم الذي كانت عاقبته المغفرة والعتق من النار وجده يشفع له يوم القيامة، كما ذكر النبي ( يدخل الصائمون من باب الريان حتى لا يدخله غيرهم.
ولذلك لما كان النبي ( ينتظر هذه الليالي من ليالي القدر، ويقبل عل شأنه، ويرتب أحواله، وينظر فيما عند الله، ويأتنس بالله تعالى، ويأخذ قسطه من تفريغ القلب والبال لله جل وعلا، وتفريغ الوقت والجهد والصحة للعبادة والنظر في سيره إلى الله تعالى، وإقباله عليه، كان كذلك كما ذكر السلف، كانوا يتزينون في هذه الليالي، يعني بعد أنهم يقومون ليلهم ويوقظون أهلهم ويجدون، ويشدون المئزر، ويتفرغون وقوفا وقياما ليلهم ونهارهم لله تعالى، ينتظرون هذه الجائزة، يرفعون أيديهم إلى الله تعالى ألا يخيبهم، وأن يعطيهم، وأن يحسن إليهم، مع ذلك كله كانوا يتزينون لهذه الليالي التي يرجى فيها ليلة القدر يتزينون في ظاهرهم والزينة الباطنة هي الأهم، كان من أصحاب النبي ( من يكون له حلة جديدة، كان تميم ( له حلة جديدة يلبسها ليلة القدر، ثم يطويها إلى العام القادم، يتهيأ فيها لملاقاة الله تعالى والدخول على الرب جل وعلا، ويتزين به لينظر هذه الجائزة من الله جل وعلا.(1/85)
وهذه الزينة الظاهرة مما ينبغي أن يحرص عليه الناس من أن يغتسلوا ليالي الوتر التي تتأكد فيها ليلة القدر، وأن يتزينوا فيها، وأن يزينوا مساجدهم، ينتظرون بهذه الزينة الظاهرة دخولهم على ربهم سبحانه، مع علمهم أنه لا تنفع هذه الزينة الظاهرة إلا بأن تتم بالزينة الباطنة، يعني بإصلاح القلب والتوبة إلى الله تعالى، والخروج من المظالم والآثام والمعاصي، والعزم على ألا يعود لذنب أبدا، ويستغفر الله تعالى على ما كان، ويصلح بينه وبين ربه، وبينه وبين الناس، يرجو بهذه الزينة الباطنة أن يدخل على الله، إذ ما قيمة أن يكون شكله في الخارج مزينا هذه الزينة وباطنه على هذا السوء من هذه الأخلاق السيئة، والتكاسل عن الله تعالى وطول الأمد، ومن الحقد والحسد والغل، ومن القطيعة والبغضاء والشحناء، ومن الغفلة عن الله جل وعلا وعدم الاستعداد للقائه، فأنى يحصل جائزة الرب: " مَنْ لَمْ يَدَعْ قَوْلَ الزُّورِ وَالْعَمَلَ بِهِ فَلَيْسَ لِلَّهِ حَاجَةٌ فِي أَنْ يَدَعَ طَعَامَهُ وَشَرَابَهُ" (78) لم يكن الله تعالى ليمنعه طعامه وشرابه المباح ليثيبه عليه، ثم يلابس هو الحرام.(1/86)
لذلك كانت هذه الأيام مما ينبغي أن تبدأ بالتوبة والاستغفار وإصلاح الباطن، وأن يستمر ذلك في العشر، يهيئ فيه نفسه وقلبه لجائزة الله تبارك وتعالى، وأن يصلح ما فاته من هذه الأيام التي تكاسل فيها، وتباطأ فيها، والتي انشغل فيها عن الله جل وعلا والتي شملت الغفلة فيها أحواله وأفعاله، والتي لم يحصل فيها من قرآنه وذكره ما يملأ قلبه نورا وإيمانا، وما يربطه على هذا القلب ويثبته، ويجد نفسه مقبلا على الآخرة لا تؤثر فيه الشهوات، ولا تؤثر فيه الشبهات، يجد نفسه ثابتًا قويًّا راسخًا في أقدامه في السير إلى الله تبارك وتعالى، لا يجد نفسه مطية للشيطان والهوى، وما زال مترددًا، و منفرط العقد والشمل، لا، وإنما ينبغي أن يرى نفسه على هذا الحال الذي يحبه ربه جل وعلا، لذلك كانت هذه العشر هي الفرصة الأخيرة التي ينبغي أن يتفكر الناس في أن الله تعالى فتحها لهم، ويوشك أن تنتهي كما انتهى رمضان من قبل.
الفرصة الأخيرة
وها قد رأيت أيها المسكين كيف تفلتت أيام رمضان، ولم ير القلب ما يمتلأ به، لم يحس القلب بهذه الأحوال الجميلة وتلك السمات المرضية عند الله تبارك وتعالى، لم يحس أنه قد امتلأ قلبه من محبة الله تبارك وتعالى، ومن نور الله تبارك وتعالى، لم يحس أن قلبه قد امتلأ أنسا وشوقا وإقبالا على الله جل وعلا، وآثر الركون إلى ربه، والركون إلى دار الخلود، والتجافي عن دار الغرور، والثبات في السير، ودوام الذكر، وقراءة القرآن، وكراهة المعاصي والذنوب والسيئات، والحزن على الغفلات التي هو فيها والاستعداد للقيام بمسئوليات الدين.
لم يستشعر قلبه بعدُ بذلك، وأضاع تلك الأيام في ألا يحصل هذه السعادات من ربه جل وعلا، فها قد فتحت الفرصة الأخيرة...(1/87)
قد فتحها الله تبارك وتعالى للمؤمنين حتى يستدركوا ذلك كله، وحتى يتشبثوا بباب الله سبحانه وتعالى، ويديموا الوقوف له، والتضرع أن يفتح عليهم، وأن يتوب عليهم، وأن يغفر لهم وأن يسامحهم، وأن يمدهم بمدده سبحانه وتعالى، وأن يؤنسهم بأنسه جل وعلا، وأن يطهر قلوبهم وجوارحهم، وأن يديم عليهم ذكره سبحانه وتعالى، فإذا ما تحقق شيء من ذلك رأيت نفسك وقد صرت شخصا جديدا مع الله تبارك وتعالى.
الحذر الحذر أن تضيع تلك الأيام كما ضاع غيرها، الحذر الحذر أن تفرط في نفسك وفي سعادتك، الحذر الحذر في أن تكون سبب شقاء نفسك وبعدك، والحذر الحذر أن يكون سبب طردك وإبعادك بسوء عملك وقلة أدبك مع الله تبارك وتعالى بتهاونك وتكاسلك وتقديم الدنيا الفانية والراحة الزائلة على الراحة الباقية وعلى الحياة الدائمة، مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، وحسن أولئك رفيقًا.(1/88)
أوشك رمضان أن ينتهي ,لم يبق فيه إلا يوم أو يومان، وينبغي أن يقال: فاز فيه من فاز، وخسر فيه من خسر أو ينبغي أن يقال: إن المؤمنين المتقين نظروا إلى هذا الموسم من مواسم المغفرة، وهو ينتهي ويتلاشى وتنقضي أيامه نظروا إليه بعين التحسر إلى فعلهم، وما كان من سوء استقبالهم لهذا الشهر الكريم، ونظروا بعين الحزن على أنهم ما قاموا فيه بالواجب له بحق الضيافة التي تستوجب المغفرة وتستوجب العتق من النار وتتنزل بها رحمة الله تعالى فهم حزانى على هذا الحال الذي يُقال فيه من الذي ينتظر جائزة الرب تبارك وتعالى غدًا أو بعد غد من الذي قد هيأ نفسه فهو ينتظر هذه الجائزة، ومن الذي قام بحقها ومن الذى بذل البذل المطلوب حتى يكون أهلاً لها، لذلك يقضون آخر أيامهم في محاسبة النفس على ما مضى، وعلى ما فرطوا فيما يجب أن يهتموا به، يحاولون أن يستدركوا ما فات لعل الله تعالى في يومهم هذا أو في غدهم أو في ليلتهم يرى منهم بعد محاسبتهم لأنفسهم، الحزن الشديد والضيق والألم والبكاء على أنهم ما فعلوا ما يستحقون به جائزة الله تعالى؛ فلعله أن يرحمهم، وأن يتوب عليهم.
زيادة الاجتهاد..دليل القبول
وكان عادة السلف الصالحين والنبي ( أنهم في أواخر أعمالهم تظهر عليهم بعض الأحوال التى ينبغي أن تكون في محل نظر المؤمنين من هذه اللحظة.
وأول هذه الأحوال أنهم ما كانوا يهتمون بشدة البذل في العمل والاجتهاد فيه قدر ما كانوا يهتمون بقبول هذه الأعمال، يعنى أنهم في أعمالهم كانوا يبذلون وقتهم وجهدهم ومالهم وأنفسهم، ثم يأتون في نهاية العمل يترقبون هل تقبل منهم أو لا، فالمرء اليوم بعد أن يبذل وقته في صيامه وقيامه وماله ونفسه وأن يجتهد الاجتهاد الزائد في كل الطاعات،
يقف منتظرًا هل قُبل بعد ذلك أو لا؟(1/89)
فهذا بعد اجتهادهم الشديد -ليس بعد تفريطهم وتقصيرهم ونومهم وكسلهم- وإنما كان المعهود من أحوالهم المسارعة كما بين الله تعالى حالتهم أنهم يسارعون إلى الله تعالى في بذل المال والنفس وإذا لم يجدوا ما يبذلونه لله تعالى بكوا وفاضت أعينهم من الدمع حزنًا ألا يجدوا ما ينفقون، ثم وصف الله تعالى حالتهم في نهاية أعمالهم أول ما يسيطر عليهم ويقلقهم ويقض مضجعهم هل قبلت أعمالهم أو لا لذلك رأينا الله تعالى يذكر هذه الآية ( ((((((((((( ((((((((( (((( (((((((( ((((((((((((( (((((((( (((((((( (((((( ((((((((( (((((((((( (((( ( [ المؤمنون: 60] وتقول السيدة عائشة الذين يصومون ويصلون قال لا، يصومون ويصلون ويتصدقون وكذا وكذا من الأعمال الصالحة يعني ثم يخافون ألا يتقبل منهم (79) وهو تفسير قول الله تعالى: ( ((((((( (((((((((( (((( (((( ((((((((((((( (((( ( [ المائدة: 27]... وقد فتح رمضان لتقوى الله تعالى...
من الذي حصل هذه التقوى ليأتي في نهاية العمل ليقول قد تقبلت أعماله وانتظر جائزة الله تعالى؟ ( ((((((( (((((((((( (((( (((( ((((((((((((( (((( ( [ المائدة: 27] لذلك كان ابن عمر يقول: لو علمت أن الله تعالى تقبل مني مثقال ذرة من عمل أو درهمًا واحدًا صدقة ما كان غائب أحب إلي من الموت (80) فإن الله يقول: ( ((((((( (((((((((( (((( (((( ((((((((((((( (((( ( [ المائدة: 27] فإن قيل لم يبق له في الدنيا شيء، هو كان يعمل على سبيل المغفرة، وعلى سبيل العتق من النار، وعلى سبيل رحمة الله تعالى على سبيل أن يتقبل الله تعالى عمله ذلك، أن يتوب عليه فيخلصه من النار ( ((((( (((((((( (((( (((((((( (((((((((( (((((((((( (((((( ((((( ((((( ( [ آل عمران: 185] وها قد فاز فما البقاء في الدنيا؟
هو يعمل كل ذلك في الدنيا لهذه اللحظة ( ((((((( (((((((((( (((( (((( ((((((((((((( (((( ( [ المائدة: 27]...(1/90)
فلذلك كانوا أشد اهتمامًا بقبول العمل بعد شدة العمل والاجتهاد فيه وهذا الحال ينبغي أن يعتري المؤمنين اليوم أن ينظروا ماذا قدموا ليكون هذا العمل لائقا بالمغفرة ثم ينظرون في هذا العمل اللائق بالمغفرة هل قبل أو لا؟ كما ذكر النبي ( : "خَابَ وَخَسِرَ مَنْ أَتَى عَلَيْهِ رَمَضَانُ فَلَمْ يُغْفَرْ لَهُ" (81) لم يقبل عمله، ورد هذا العمل ولم يكن سبب المغفرة.
والحال الثانية أنهم كانوا في نهاية أعمالهم يزداد اجتهادهم ويزداد سعيهم ويواصلون ليلهم ونهارهم؛ لقرب ظهور النتيجة، ها قد أوشكت النتيجة أن تظهر، ومن الذي يقال له نعم هذا من الناجحين إن شاء الله تعالى، أو هذا من أصحاب الدرجات العالية، أو أنه قد انتهى رمضان ولم يستشعر شيئًا من ذلك وأن النتيجة إنما هي الخيبة التي ينتظرها، فلا ينتظر درجة عالية، ولا ينتظر قبولاً فضلاً أن ينتظر الجائزة الكبرى من الله تعالى؛ لذلك كان يسيطر عليهم في نهاية الأيام عند قرب ظهور النتيجة الاجتهاد الزائد على عكس المؤمنين اليوم ما أن تقترب نهاية أعمال الطاعات حتى يصيبهم الكسل والفتور والإحباط ويميلون إلى الرجوع إلى سيرتهم الأولى.
بين الاستغفار.. وانتظار العودة للتقصير(1/91)
وكانت الحالة الثالثة التي ينبغي أن تسيطر على حال المؤمنين هي الاستغفار عقيب أعمالهم فيكونون أشد استغفاًرا في نهاية العمل ويكون الاستغفار هو الطابع الذي يطبعون به أعمالهم لترتفع إلى الله تعالى؛ لما نزل قوله تعالى ( ((((( (((((( (((((( (((( (((((((((((( (((?(((((((((( (((((((( ((((((((((( ((( ((((( (((( (((((((((( (((?((((((((( (((((((( ((((((( (((((((((((((((( ( ((((((( ((((( (((((((( ((( ( [ النصر: 1 - 3 ] كان إشارة إلى قرب نهاية عمره الشريف ( فأمر أن يختمه بالاستغفار فلم يكن يترك ( الاستغفار بعد ذلك إلى أن لقي ربه مع شدة الاجتهاد الذي رأيناه منه ( فكان يقول: "سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ رَبَّنَا وَبِحَمْدِكَ اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي" (82) سبحانك اللهم ربنا وبحمدك اللهم اغفر لي لا يفتر عنها منذ نزلت عليه هذه الآية حتى لقي الله تعالى.(1/92)
فيكون حال المؤمنين اليوم بعد هذه الأحوال التي أشرنا إليها هو أن يطبعوا عملهم بطابع الاستغفار الذي يجبر الخلل في هذه الأعمال، والذي يبين حال التقصير الذي يتنصلون منه إلى الله تبارك وتعالى، والذي يبين في نفس الوقت أنهم ما أدوا عملهم على ما ينبغي وأنهم يرفعون إلى الله تبارك وتعالى أكف الندم على ما كان منهم وأكف الإقرار بالتقصير التي تستوجب أن يستغفروا الله تعالى، وهذه الحالة وهي حالة الاستغفار وجدنا المؤمنين عقب الطاعات أشد استغفارًا، والله تبارك وتعالى يبين هذه الحال منها حال الإفاضة من عرفات، يفيض الناس من عرفات مغفورًا لهم ومع ذلك أمرهم المولى سبحانه وتعالى بأن يستغفروا الله تعالى ها قد غفر لهم أفيضوا عبادي مغفورًا لكم ولمن شفعتم فيه أو الروايات الواردة في هذا المعنى وإذا به يقول سبحانه وتعالى: ( (((((((( ((((((((( ((((( ((((((((( ((((((((((((( (((( ((((( (((((((((((( ((((((((((( ( ((((((((((((( ((((( ((((((((( ((((( (((((( (((( ((((((((( (((((( ((((((((((((( (((((?(((( (((((((((( (((( (((((( ((((((( (((((((( ((((((((((((((((( (((( ( ( [ البقرة: 198 - 199 ] يعني بعد أشد الاجتهاد في العبادة وانتظار المغفرة وانتظار رحمة الله تعالى وأن يتوب عليهم حينئذ يستغفرون الله تبارك وتعالى؛ لأنهم لا شك كانوا مقصرين في أعمالهم، وأن أعمالهم قد وقع فيها من الخلل ما يستوجب هذا الاستغفار، وأن الاستعغار ينبغي أن يكون الطابع على هذه الأعمال التي تطلع إلى الله تعالى، لا يكون غير الاستغفار هو الذي يطبع هذه الأعمال لأنه يعني إذا نظر المرء إلى عمله واستحسنه لا يطلع إلى الله تعالى، لا يصعد هذا العمل إلى الله جل وعلا، وإنما يصعد إلى الله ذلك العمل الذي قد طبع بالاستغفار ونظر إليه المرء نظرة التقصير وأنه لا يليق بالله تعالى وأنه ما أدى حقه جل وعلا، وأنه في نهاية المطاف يرفعه وهو يتذلل إليه أن يقبل(1/93)
شيئًا منه سبحانه وتعالى.
وملازمة الاستغفار في نهاية الأعمال كذلك بمعنى أن يتوب المؤمنون التوبة العامة التي ينتظرون بها أن يكون من قام رمضان غفر له، ومن صام رمضان غفر له، ومن قام ليلة القدر غفر له فإن من قام ليلة القدر غفر له في ليلته لا ينتظر نهاية الشهر حتى يغفر له وإنما المغفرة المتعلقة بالصيام والقيام هي التي ينتظر فيها نهاية الشهر وإذا جاءت نهاية الشهر من استحق بصيامه المغفرة غفر له من استحق بقيامه المغفرة غفر له بفضل الله تعالى، وهذا ما ينبغي أن يشير إليه المرء بتوبته إلى الله تعالى فإنهم كما هو رأي جمهور العلماء إن من صام رمضان إيمانًا واحتسابًا غفر له لابد وأن يكون قد تحقق بالتوبة من الكبائر، وكذلك من قام رمضان غفر له لابد وأن يصاحب ذلك التوبة حتى تمحو سيئاته كلها، ولا يبق له ذنب أما أن ينتظر ذلك بغير صوم يستوجب المغفرة أو قيام يستوجب المغفرة فإن ذلك محض الخيال محض الآمال التي نحن فيها اليوم.(1/94)
لذلك كانت التوبة أهم الأعمال التي يختم بها المرء عباداته وطاعاته أن يتوب فيما بينه وبين الله تعالى وأن يعزم على ألا يعود إلى الذنب؛ لأنه لو كان في مثل هذه الأيام من أيام الطاعة ينتظر أن تنتهي هذه الأيام ليعود إلى ما كان عليه من التفريط والتقصير أو من السيئات والذنوب أو أنه كان يعمل من الذنوب والسيئات شيئًا ما ينتظر مرور رمضان حتى تعاوده نفسه إلى أن يقع مرة أخرى فيها فعمله غير مقبول وعمله مردود، وباب التوبة وباب القبول في وجهه مغلق، باب القبول مغلق إلا أن يقدم التوبة والعزم على ألا يعود إلى ذنب أبدًا لا أن ينتهي رمضان فيرجع إلى ما كان فيه فلا ينتظر القبول؛ لأن دليل القبول التوفيق للحسنة بعد الحسنة ودليل الرد هو عمل السيئة بعد الحسنة، فإذا عاد إلى السيئات والتفريط في العمل الصالح دل على أن عمله لم يقبل وأنه إذا عاد إلى الحسنات وإلى العمل الصالح بعد العمل الصالح دل على قبول هذه الأعمال؛ لأن من جزاء العمل الصالح وجزاء قبوله أن يوفق لغيره من الأعمال، أما أن يعود إلى المعصية والتفريط بعد العمل الصالح فدل على أنه لم يكن صالحا، وإنما كان مردودًا على صاحبه ليس مقبولاً، وهذه التوبة بينه وبين ربه أن يعزم وأن يتوب وأن يتنصل من الذنوب والمعاصي اليوم قبل أن يتعرض لمغفرة الرب تراه إذا أتى ينتظر مغفرة الرب وهو مصر على الذنوب والمعاصي والتفريط والتقصير ويأخذ هذه الجائزة؟ من الذي قال ذلك؟(1/95)
وكذلك لابد أن يتنصل من الذنوب والمعاصي فيما بينه وبين الناس أن يكون التسامح والتصافي والتجاوز بين المؤمنين هو شعارهم حتى يتجاوز الله تعالى عنهم وحتى يختم أعمالهم بالتوبة فتكون في محل القبول عند الله تعالى؛ لأنه إذا كان لا يغفر سبحانه وتعالى في النصف من شعبان لمتشاحنين أو مشرك فمن باب أولى إذا قال في رمضان من قام ومن صام ومن قام ليلة القدر غفر له لابد من هذا الشرط ألا يكون متشاحنا يؤتى بعمله ليرفع إلى الله فيقول: "أَنْظِرَا هَذَيْنِ حَتَّى يَصْطَلِحَا" (83) لا يغفر لهما حتى يصطلحا حتى يعودا إلى التصافي إلى التجاوز إلى التسامح الذي ينبغي أن يكون خاتمة الأعمال في هذا اليوم.
يُوفقه لعمل صالح.. ثم يقبضُه عليه
رأيت رمضان قد مر، وقد رأيته قد مر سريعًا ولم يمكث ولم يلبث ومحل العبرة في هذه المسألة أن يعلم المرء أن عمره يمر على هذه الحال التي لا يشعر بها؛ لأن عمره يمر بهذه السرعة فيومه يهدم أسبوعه وأسبوعه يهدم شهره وشهره يهدم سنته وسنته تهدم عمره يمر يومه ويمر أسبوعه وشهره ووهكذا انتهى عامه وانتهى العام والعام يوشك أن يلاقي الله تعالى.(1/96)
هذه الموعظة تبين للمؤمنين سرعة انقضاء الدنيا وسرعة إقبال الآخرة وأنهم ينبغي أن يكونوا من أبناء الآخرة فيستعدوا الاستعداد الكافي أن رب رمضان هو رب شوال ورب شعبان ورب بقية الأشهر، وأن هذه الأشهر تمر بهذه السرعة التي يمر بها رمضان وأن الحازم الحذر الذي يخاف أن يؤخذ بغتة فيوطن نفسه على الاجتهاد وعلى الحذر من أن ينقضي عمره على الغفلة أو المعصية، وهذه الحال الأولى التي يتعظها المرء من هذه الموعظة أن يعلم سرعة انقضاء عمره وأنه إذا علم ذلك لم يسوف عمل اليوم إلى الغد، ولم ينتظر ليقول إن شاء الله في العام القادم سوف أعتكف، وسوف أبدأ وسوف كذا وكذا لأنه لا يضمن عمره وأنه يوشك أن ينتهي، وأن يرحل إلى الله تعالى، وهذا يوضح ما يكون المؤمنون عليه في كل أحوالهم من العمل الصالح وهو قول النبي ( : "إِذَا أَرَادَ اللَّهُ تَعَالَى بِعَبْدٍ خَيْرًا اسْتَعْمَلَهُ قَالَ وَمَا اسْتَعْمَلَهُ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ: يُوَفِّقُهُ لِعَمَلٍ صَالِحٍ ثُمَّ يَقْبِضُهُ عَلَيْهِ" (84) .
ومعنى ذلك أنه لابد وأن يكون في كلِّ أحواله على أعمال صالحة؛ لأن هذه الدنيا توشك أن تنتهي على هذا الحال الذي انتهى عليه رمضان ويفرط كما فرط في رمضان خاب وخسر من أتى عليه رمضان خاب وخسر كذلك من أتى عليه عمره فمر على هذا الحال وهو يقول غدا، وهو في الغفلة وهو في البعد وهو في التقصير، وهو في الذنوب وهو في المعاصي حتى يفاجئه الموت, أما المؤمنون المتقون كما قال النبي ( هم الذين في محل محبة الله تعالى كا قال: "إِذَا أَرَادَ اللَّهُ تَعَالَى بِعَبْدٍ خَيْرًا اسْتَعْمَلَهُ قَالَ وَمَا اسْتَعْمَلَهُ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ: يُوَفِّقُهُ لِعَمَلٍ صَالِحٍ ثُمَّ يَقْبِضُهُ عَلَيْهِ" (85) .(1/97)
والمؤمن لا يدري متى يختم له متى يرحل متى ينتقل إلى الله تعالى لذلك كان حذرًا فيكون في أعمال صالحة في كل أحواله حتى إذا انتقل؛ انتقل إلى الله تعالى على عمل صالح حتى إذا انتقل دل على أن الله تعالى يحبه وأنه في موضع رحمة الله تعالى به وإرادة الخير له.
اطَّلع على بكائهم.. فغفر لمحسنهم وتجاوز عن مسيئهم
والموعظة الثانية التي يراها المرء في رمضان وهو أنه لا يلبث رمضان حتى ينتهي ولا يبقى إلا قليلاً، وهذا يدل على عمر المرء في هذه الحياة الدنيا كما ذكر الله تبارك وتعالى لما سئلوا في الآخرة ( ((((( (((( (((((((((( ((( (((((((( (((((( ((((((( ((((( (((((((( ((((((((( ((((((( (((( (((((( (((((( (((((((( (((((((((((((( ((((( ( [ المؤمنون: 112 - 113 ]، ( (((((((((((((( (((((((((( ((( (((((((((( (((( ((((((( ((((( ( [ طه: 103] ) حتى يقول المولى: ( (((( ((((((( (((((((((((( ((((((((( ((( (((((((((( (((( ((((((( ((((( ( [ طه: 104] فعندما يأتي القيامة يأتي هكذا كرمضان لم يلبث شيئًا وانتهى...وكذلك العمر لم يلبث شيئًا وانتهى , إذا أتوا إلى الله تعالى كان هذا الحال الذي هم فيه, كم لبثتم عشية أو ضحاها ؟ كما يقول المولى سبحانه وتعالى: ( ((((( ((( (((((((((( (((( ((((((( ( (((( (((((((( ((((((( ((((((((((( ((((( ( [ المؤمنون: 114].
( ((((( (((( (((((((((( ((( (((((((( (((((( ((((((( ((((( (((((((( ((((((((( ((((((( (((( (((((( ((((((? ( [ المؤمنون: 112 - 113 ].(1/98)
وهذا اليوم الذي نحن فيه الذي قال الله تعالى: ( ((((((((((( ((((((((( (((((((((( ((((((((( (((( ((((((((((( (((((( ((( (((((((( (((((( ( ( [ الحشر: 018] هو يوم واحد والغد هو عند الله تبارك وتعالى لذلك قال النبي ( في أحاديث كثيرة أنه لم يبق من الدنيا شيء كقوله ( : "لَمْ يَبْقَ مِنَ الدُّنْيَا فِيمَا مَضَى مِنْهَا إِلَّا كَمَا بَقَى مِنْ يَوْمِكُمْ هَذَا فِيمَا مَضَى مِنْهُ، وَكَانَتِ الشَّمْسُ عَلَى رُءُوسِ الْجِبَالِ، أَوْشَكَتِ الشَّمْسُ أَنْ تَغْرُبَ" (86) قال النبي ( : لم يبق من الدنيا شيء، لم يبق منها إلا هذه الفترة، وهذه الفترة من الدنيا كلها فانظر إلى فترتك أنت المحدودة التي لا تساوي يومًا أو بعض يوم عشية أو ضحاها عند الله تعالى في الآخرة، عندما ينظر المرء إلى هذا يدل له ذلك على قلة مكثه في الدنيا، وقلة بقائه فيها، وأن العاقل يستغل هذه القلة القليلة ليحصل فيها سعادة الأبد عند الله تعالى وليتحمل فيها مشقة الطاعة حتى يستريح الأبد عند الله تعالى لذلك يقال: يوشك هؤلاء المتعبون الذين أتعبوا أنفسهم في البذل والجهاد والدعوة والصلاة والصيام والقيام يوشك أن يرفعه عنهم, أن يأخذهم إلى رحمته.
يوم قليل..هو الدنيا، فهلا تحمله المرء وهلا تحمله في بذله وعبادته وطاعته حتى يكون سبب سعادته النبي ( قال: "لَمْ يَبْقَ مِنَ الدُّنْيَا ِإلَّا كَصَبَابَةٍ" (87)، الصبابة بقية الماء في نهاية الإناء في أو الكوب , لم يبق إلا كصبابة يتصابها صاحبها أي يدلقها صاحبها، لم يبق إلا صبابة كصبابة الماء، ومر ( على قوم يصلحون خصًّا لهم قد وهي، أي يصلحون حجرة ينامون فيها من الخوص، قال النبي ( لهم: "الْأَمْرُ أَعْجَلُ مِنْ ذَلِكَ" (88)، أعجل من أن يصلحوا خصًّا ليناموا فيه!(1/99)
فالعاقل علم سرعة انقضاء هذه الفترة القليلة وعلم أن لبثه في الدنيا قليل وأنه يسرع به لينتهي قال: "كم مضت عليك؟ قال: ستون عاما قال: توشك أن تصل إلى الله قال: إنا لله وإنا إليه راجعون قال: أتدري معناه؟ قال: من علم أنه لله عبدٌ علم أنه إليه راجع إذا كنت تعلم أنك عبدٌ لله فأنت عبد عنده فلابد أن يرجع العبد إلى سيده، ومن علم أنه راجع علم أنه موقوف أين كنت وماذا فعلت وماذا قدمت؟ وماذا فعلت فيما أمرتك ونهيتك؟ وهل أديت ما أمرتك به أو لا علم أنه مسئول ومن علم أنه مسئول فليعد للسؤال جوابًا، قال: وما الحيلة قال أن تحسن فيما بقي يغفر لك ما بقي وما مضى وإلا أخذت بما بقي وما مضى ".
هذه المدة القصيرة التي يحياها المؤمنون في هذه الحياة الدنيا هي مدة طاعتهم التي ينبغي أن يقضوها فيها مدة انشغالهم بربهم مدة سعيهم لله تعالى التي ينتظرون بها ما أعد الله تعالى للمتقين من قبول عملهم ومن رفع درجاتهم ومن أن يكونوا عند الله تبارك وتعالى، مع النبيين والصديقين فانظر إلى سرعة الرحيل التي أنت فيها ولا تشعر وإلى قلة المكث واللبث في هذه الدنيا ورأينا المتقدمين ورأينا الأنبياء والصالحين رأينا كل أولئك أين أقرباؤك وشبابك وأحبابك ذهب بهم الموت وتنتظر ذلك وأنت لا تقدم شيئا بين يديك إلى الله تبارك وتعالى يكون سبب هذه النجاة.
فليختم المؤمنون أيامهم إذن بهذه الموعظة، عل الله تعالى أن ينظر إليهم نظرة تكون سبب رحمتهم سبحانه وتعالى وأن تكون سبب المغفرة لهم عندما يراهم على حال قد يئسوا من أعمالهم، ويئسوا من أنفسهم، ويئسوا من كل شيء يمكن أن يقدموه لتعاستهم ولكسلهم ولتوانيهم ولتقصيرهم ولتسويفهم ولطول أملهم بكوا عند ذلك فرأى الله تبارك وتعالى بكاءهم وحزنهم فغفر لهم اطلع عليهم فغفر لمحسنهم وتجاوز عن مسيئهم سبحانه، وتعالى فانظر أي الأحوال تود أن تكون عند تسليم الجائزة.
فهرس الموضوعات
مقدمة…6(1/100)
هل ستقدم ما يكون سبب لفرح الله بك؟…11
أَفلا أكُون عبدا شَكورا؟…15
درجة الشهيد.. ودرجة الصائم المصلي…19
كم بَقي على أذان المغرب؟…23
إذا فتح الله لك طاعة فلا تهتم بعاقبتها…28
وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ…33
كان ( يُعْطِي عَطَاءَ مَنْ لَا يَخْشَى الْفَقْرَ…39
يبكون إذا لم يجدوا ما ينفقون!…44
الجود على العباد .. سبب لجود الله بالمغفرة…50
الصدقة تجبُر خلل الصيام…57
التصميم... على تحقيق أسباب المغفرة…59
لا تُفارِق بابَ الله حتى يَستجيب دعائك…66
مثل هذا الدعاء لا يكاد يُرَدُّ أبدًا…74
من دخل رمضان بالتوبة خرج منه بالمغفرة…81
إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ…86
ماذا تريد من ربك سبحانه وتعالى؟…94
بعد أسبوع: هل تنتظر شيئًا من المغفرة التي وعد الله ؟…100
التقوى: شعارك في رمضان وبعد رمضان…107
هل منعك القرآن النوم؟…112
كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ…118
المجاهدة: ليرين الله ما أفعل!…125
لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا…130
العشر الأواخر: وجاءت أيام الجِّد…135
الاعتكاف والوصال وليلة القدر .. وتحقيق جائزة الرب…140
أيقظ أهله: ليأخذوا نصيبهم من رحمة الله…146
الفرصة الأخيرة…153
زيادة الاجتهاد..دليل القبول…156
بين الاستغفار.. وانتظار العودة للتقصير…160
يُوفقه لعمل صالح.. ثم يقبضُه عليه…166
اطَّلع على بكائهم.. فغفر لمحسنهم وتجاوز عن مسيئهم…169
فهرس الموضوعات…174
(1) رواه الطبراني في الكبير (1990) وأبو يعلى في مسنده (5789) وصححه ابن حبان في صحيحه (410).
(2) رواه البخاري (4837) كتاب تفسير القرآن، باب ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر.
(3) انظر السابق.
(4) رواه البخاري (4837) كتاب تفسير القرآن، باب ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر.(1/101)
(5) رواه الإمام أحمد في مسنده (13623) والنسائي (3940) وحسنه ابن حجر في فتح الباري (11/353) وصححه ابن القيم في زاد المعاد (1/45).
(6) رواه البخاري (43) كتاب الإيمان، باب أحب الدين إلى الله عز وجل أدومه، ومسلم (785) كتاب صلاة المسافرين، باب أمر من نعس في صلاته أو استعجم عليه القرآن أن يرقد.
(7) رواه الإمام مسلم في صحيحه (701) من حديث أبي سعيد الخدري ( مرفوعًا.
(8) أخرجه السخاوي في المقاصد الحسنة (131) وحسنه، وحسن إسناده أيضًا الحافظ ابن حجر في الأمالي المطلقة (158).
(9) رواه البخاري (5352) كتاب النفقات، باب فضل النفقة على الأهل، ومسلم (993) كتاب الزكاة، باب الحث على النفقة وتبشير المنفق بالخلف.
(10) رواه الترمذي (2325) كتاب الزهد، باب ما جاء مثل الدنيا مثل أربعة نفر، وقال: حديث حسن صحيح، وابن ماجه (4228) كتاب الزهد.
(11) الحديث حسنه العراقي في تخريج الإحياء (1/466) وكذا حسنه البغوي في شرح السنة (2/458).
(12) أخرجه البخاري (1902)، ومسلم (2308) من حديث ابن عباس (.
(13) أخرجه الترمذي (2325) من حديث أبي كبشة الأنماري (.
(14) أخرجه البخاري (5352)، ومسلم (993) من حديث أبي هريرة (.
(15) أخرجه البخاري (4684)، ومسلم (993) من حديث أبي هريرة (.
(16) أخرجه البخاري (2821) من حديث جبير بن مطعم (.
(17) أخرجه البخاري (6034)، مسلم (2311) من حديث جابر بن عبد الله (.
(18) أخرجه مسلم (2313) من حديث صفوان بن أمية (.
(19) أخرجه البخاري (1277) من حديث سهل بن سعد (.
(20) أخرجه أحمد في المسند (1/ 79) من حديث على (. وقال الشيخ شعيب: إسناده قوي.
(21) أخرجه أحمد في المسند (1/ 79) من حديث على (. وقال الشيخ شعيب: إسناده قوي.
(22) أخرجه البخاري ( 1461)، ومسلم (998) من حديث أنس بن مالك (.
(23) أخرجه مسلم (1006) من حديث أبي ذر (.
(24) أخرجه البخاري (1284)، ومسلم (923) من حديث أسامة بن زيد (.(1/102)
(25) أخرجه الترمذي ( 1984) من حديث على (.
(26) أخرجه مسلم (1028) من حديث أبي هريرة (.
(27) أخرجه مسلم (2807) من حديث أنس (.
(28) [صحيح] أخرجه الترمذي (614) من حديث كعبن عجرة (.
(29) [صحيح] أخرجه البخاري (38)، ومسلم (760) من حديث أبي هريرة (.
(30) أخرجه أبو داود الطيالسي (1 / 80)، والطبراني في الأوسط (3/ 263)، والبيهقي في الشعب (3 / 143).
(31) أخرجه أحمد في المسند (2 / 174)، والحاكم في المستدرك (1 /740) من حديث عبد الله بن عمرو (، وطريق أحمد فيه ابن لهيعة، وعند الحاكم بدلًا منه عبد الله بن وهب وهو أضعف منه، فيكون هذا الإسناد ضعيفًا.
(32) أخرجه مسلم (804) من حديث أبي أمامة الباهلي (.
(33) أخرجه الإمام البخاري في صحيحه (1320) من حديث طويل رواه سمرة بن جندب (.
(34) [حسن] أخرجه أحمد في المسند (5 / 348) من حديث بريدة بن الحصيب (.
(35) [حسن] أخرجه الترمذي (3545 ) من حديث أبي هريرة (.
(36) [حسن] أخرجه ابن خزيمة في صحيحه (3 / 192)، وقال الأعظمي: إسناده جيد.
(37) رواه الإمام أحمد في مسنده (13/188) وصحح إسناده الشيخ أحمد شاكر رحمه الله تعالى.
(38) أخرجه الترمذي (3479) من حديث أبي هريرة (.
(39) تقدم، وهو جزء من الحديث المتقدم عند الترمذي (3479) من حديث أبي هريرة (.
(40) أخرجه الحاكم (1 / 996) من حديث عائشة رضي الله عنها، وانظره في التخريج الذي بعده.
(41) أخرجه أحمد في مسنده من حديث معاذ ( (7151)، والحديث حسنه الشيخ ناصر في صحيح الجامع (7739) صحيح الجامع (3409).
(42) تقدم قبله.
(43) تقدم عند مسلم (2735) من حديث أبي هريرة (.
(44) تقدم عند مسلم (2735) من حديث أبي هريرة (.
(45) انظر الجواب الكافي ص5.
(46) أخرجه البخاري (6321)، ومسلم (758) من حديث أبي هريرة (.
(47) أخرجه مسلم (479) من حديث ابن عباس (.(1/103)
(48) وحديث " ظهور إبطيه " في الصحيحين، ولكن قال العلماء أن المبالغة في الرفع بهذا الشكل لا تكون إلا في دعاء الاستسقاء. انظر الفتح (2 / 518).
(49) أخرجه مسلم (1015) من حديث أبي هريرة (.
(50) أخرجه الترمذي (2508) من حديث أبي هريرة (.
(51) أخرجه مسلم (2581) من حديث أبي هريرة (.
(52) تقدم من حديث أبي هريرة (.
(53) أخرجه البخاري (6321)، ومسلم (758) من حديث أبي هريرة (.
(54)وهو حديث الثلاثة الذين انغلق عليهم الغار بصخرة من الجبل، وهو عند البخاري (5974)، ومسلم (2743) من حديث ابن عمر (.
(55) صحيح الجامع (3759)، (3760).
(56) أخرجه النسائي (1301) من حديث محجن بن الأدرع (.
(57) أخرجه النسائي (1300) من حديث أنس (.
(58) أخرجه الترمذي (3505) من حديث سعد بن أبي وقاص (.
(59) أخرجه الحاكم في المستدرك (1 / 685)، والنسائي في السنن الكبرى (10491)، والبيهقي في الدعوت الكبرى (157)، الشيخ ناصر في السلسلة الصحيحة (1744).
(60) رواه الطبراني في الكبير (1990) وأبو يعلى في مسنده (5789) وصححه ابن حبان في صحيحه (410).
(61) رواه البخاري (37) كتاب الإيمان، باب تطوع قيام رمضان من الإيمان، ومسلم (759) كتاب صلاة المسافرين، باب الترغيب في قيام رمضان وهو التراويح.
(62) رواه الإمام مسلم في صحيحه (701) من حديث أبي سعيد الخدري ( مرفوعًا.
(63) رواه الإمام البخاري في صحيحه (1977) كتاب الصوم ، ومسلم في صحيحه (1159).
(64) رواه الإمام أحمد في المسند (6466) ، والطبراني في الكبير (13563)، وصححه الحاكم في المستدرك (1994) .
(65) رواه الإمام البخاري في صحيحه (1902) كتاب الصوم ، ومسلم في صحيحه (2308).
(66) رواه البخاري (2806) كتاب الجهاد والسير، باب قول الله تعالى: (من المؤمنين رجال صدقوا)، ومسلم (1903) كتاب الإمارة.
(67) رواه مسلم (489) كتاب الصلاة، باب فضل السجود والحث عليه.(1/104)
(68) رواه البخاري (6487) كتاب الرقاق، باب حجبت النار بالشهوات، ومسلم (2823) كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها.
(69) رواه الطبراني في الكبير (1990) وأبو يعلى في مسنده (5789) وصححه ابن حبان في صحيحه (410) .
(70) رواه البخاري (2024) كتاب صلاة التراويح، باب العمل في العشر الأواخر من رمضان، ومسلم (1174) كتاب الاعتكاف، باب الاجتهاد في العشر الأواخر من شهر رمضان.
(71) رواه البخاري (4837) كتاب تفسير القرآن، باب ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر.
(72) رواه البخاري (1901) كتاب الصوم ، باب من صام رمضان إيمانا واحتسابا ، ومسلم (760) كتاب صلاة المسافرين ، باب الترغيب في قيام رمضان وهو التراويح .
(73) رواه البخاري (1964) كتاب الصوم، باب الوصال ومن قال ليس في الليل صيام، ومسلم (1105) كتاب الصيام، باب النهي عن الوصال في الصوم.
(74) رواه البخاري (1963) كتاب الصوم، باب الوصال ومن قال ليس في الليل صيام.
(75) رواه الإمام أحمد في مسنده (13623) والنسائي (3940) وحسنه ابن حجر في فتح الباري (11/353) وصححه ابن القيم في زاد المعاد (1/45).
(76) رواه البخاري (2024) كتاب صلاة التراويح، باب العمل في العشر الأواخر من رمضان، ومسلم (1174) كتاب الاعتكاف، باب الاجتهاد في العشر الأواخر من شهر رمضان.
(77) رواه البخاري (1904) كتاب الصوم ، باب هل يقول إني صائم إذا شتم ، ومسلم (1151) كتاب الصيام ، باب فضل الصيام .
(78) رواه البخاري (1903) كتاب الصوم ، باب من لم يدع قول الزور والعمل به في الصوم .
(79) رواه الإمام الترمذي في سننه (3175) في كتاب التفسير ، وابن ماجه في سننه (4198) في كتاب الزهد ، وصححه الإمام ابن العربي في عارضة الأحوذي (6/258) وصححه الشيخ الألباني في صحيح الترمذي (3175).
(80) أورد هذا الأثر عن ابن عمر الحافظ في فتح الباري وأقره .(1/105)
(81) رواه الطبراني في الكبير (1990) وأبو يعلى في مسنده (5789) وصححه ابن حبان في صحيحه (410) .
(82) رواه الإمامان البخاري (817) ومسلم (484) في صحيحيهما .
(83) رواه الإمام مسلم في صحيحه (2565) .
(84) رواه الإمام أحمد في مسنده (11625) والترمذي في سننه (2142) وقال : هذا حديث حسن صحيح .
(85) رواه الإمام أحمد في مسنده (11625) والترمذي في سننه (2142) وقال : هذا حديث حسن صحيح .
(86) رواه الإمام أحمد في مسنده (6138) وصححه الشيخ أحمد شاكر (9/27) .
(87) رواه الإمام مسلم في صحيحه (2967) .
(88) رواه الإمام أحمد في مسنده (6466) وصححه الشيخ أحمد شاكر (10/4) .
??
??
??
??
10
مقدمة
9
مقدمة
14
هل ستقدم مايكون سبب لفرح الله بك؟
13
هل ستقدم ما يكون سبب لفرح الله بك؟
18
أفلا أكون عبدا شكورا؟
17
أفلا أكون عبدا شكورا؟
22
درجة الشهيد .. ودرجة الصائم المصلي
23
درجة الشهيد .. ودرجة الصائم المصلي
28
…كم بقي على أذان المغرب؟
29
كم بقي على أذان المغرب؟
34
…إذا فتح الله لك طاعة فلا تهتم بعاقبتها
33
إذا فتح الله لك طاعة فلا تهتم بعاقبتها
40
…ومن يبخل فإنما يبخل عن نفسه
39
ومن يبخل فإنما يبخل عن نفسه
44
…كان ( يعطي عطاء من لا يخشى الفقر
45
كان ( يعطي عطاء من لا يخشى الفقر
50
…يبكون إذا لم يجدوا ما ينفقون
51
يبكون إذا لم يجدوا ما ينفقون
58
…الجود على العباد سبب لجود الله بالمغفرة
57
الجود على العباد سبب لجود الله بالمغفرة
60
…الصدقة تجبر خلل الصيام
59
الصدقة تجبر خلل الصيام
66
…التصميم على تحقيق أسباب المغفرة
67
التصميم.. على تحقيق أسباب المغفرة
76
…لا تفارق باب الله حتى يستجيب دعائك
75
لا تُفارق باب الله حتى يستجيب دعائك
82
…مثل هذا الدعاء لا يكاد يرد أبدا
83
مثل هذا الدعاء لا يكاد يرد أبدا
88
…من دخل رمضان بالتوبة خرج منه بالمغفرة
87
من دخل رمضان بالتوبة خرج منه بالمغفرة
96(1/106)
…إن الذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنم داخرين
95
إن الذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنم داخرين
102
…ماذا تريد من ربك سبحانه وتعالى؟
103
ماذا تريد من ربك سبحانه وتعالى؟
108
…بعد أسبوع: هل تنتظر شيئا من المغفرة التي وعد الله؟
107
بعد أسبوع: هل تنتظر شيئا من المغفرة التي وعد الله؟
114
…التقوى: شعارك في رمضان وبعد رمضان
115
التقوى: شعارك في رمضان وبعد رمضان
120
…هل منعك القرآن النوم؟
121
هل منعك القرآن النوم؟
128
…كلوا واشربوا هنيئا بما أسلفتم في الأيام الخالية
127
كلوا واشربوا هنيئا بما أسلفتم في الأيام الخالية
132
…المجاهدة: ليرين الله ما أفعل
133
المجاهدة: ليرين الله ما أفعل
138
…لنهدينهم سبلنا
137
لنهدينهم سبلنا
142
…العشر الأواخر: وجاءت أيام الجد
143
العشر الأواخر: وجاءت أيام الجد
150
…الاعتكاف والوصال وليلة القدر .. وتحقيق جائزة الرب
149
الاعتكاف والوصال وليلة القدر .. وتحقيق جائزة الرب
157
الاعتكاف والوصال وليلة القدر .. وتحقيق جائزة الرب
154
…أيقظ أهله: ليأخذوا نصيبهم من رحمة الله
155
أيقظ أهله: ليأخذوا نصيبهم من رحمة الله
154
…الفرصة الأخيرة
155
الفرصة الأخيرة
158
…زيادة الاجتهاد دليل القبول
159
زيادة الاجتهاد دليل القبول
164
…بين الاستغفار وانتظار العودة للتقصير
165
بين الاستغفار.. وانتظار العودة للتقصير
168
…يوفقه لعمل صالح ثم يقبضه عليه
167
يوفقه لعمل صالح.. ثم يقبضه عليه
172
…اطلع على بكائهم فغفر لمحسنهم وتجاوز عن مسيئهم
173
اطلع على بكائهم فغفر لمحسنهم وتجاوز عن مسيئهم
175
فهرس الموضوعات(1/107)