جوانب دعوية من سير علماء الدعوة السلفية بنجد
د. عبد العزيز بن محمد آل عبد اللطيف
قسم العقيدة والمذاهب المعاصرة – كلية أصول الدين – جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية .
شبكة نور الإسلام
www.islamlight.net
مع كثرة المؤلفات والرسائل كتبت عن الدعوة السلفية وأئمتها في قلب الجزيرة العربية ، إلا أن جملة من الجوانب المهمة عن هذه الدعوة المباركة ما تزال بحاجة إلى تحرير وتحقيق ، كما أن منها ما يحتاج إلى مجرد جمع وإبراز ، ومن ذلك موضوع الجوانب الدعوية في سير علماء الدعوة السلفية ، فإن الناظر إلى تراث علماء نجد وتراجمهم يجد مادة علمية مهمة في ذلك ، فكم هي المواقف المشرقة والمشاهد الرائعة لأولئك الأعلام !
إن العلماء هم الدعاة ، والواجب على العلماء وطلاب العلم أن يعلموا بعلمهم ، وأن يدعوا إلى دين الله تعالى ، وأن يصبروا على ما أصابهم .
ولقد سار علماء نجد على هذا المسلك ، فعملوا بعلمهم ، وقاموا بواجب الدعوة إلى الله تعالى ، وحققوا البلاغ المبين ، ودعوا إلى دين الإسلام ابتغاء وجه الله تعالى ، لا يريدون من الناس جزاءً ولا شكوراً ، وسلكوا في هذه الدعوة سبيل السنة والاتباع ، امتثالاً لقول الله تعالى : ((قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَاْ وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللّهِ وَمَا أَنَاْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ )) ( يوسف : 108) .
وقد عمدت في هذا البحث إلى جمع واستخراج جملة من تلك المواقف والمشاهد ، مع شيء من التعليق اليسير في بعض المواطن ، وذلك على النحو الآتي :
فقه الشيخ محمد بن عبد الوهاب :(1/1)
كان الشيخ محمد بن عبد الوهاب – رحمه الله – فقيهاً بالدعوة وأساليبها ، وكان كثيراً ما يقرر في رسائله الشخصية أنه يدعو إلى الله تعالى وحده لا شريك له(1)يقول عن قوله تعالى : : ((قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ )) ( يوسف : 108) .
(( التنبيه على الإخلاص ؛ لأن كثيراً من الناس لو دعا إلى الحق فهو يدعو إلى نفسه ))(2).
ويظهر فقه الشيخ محمد بن عبد الوهاب لنفوس المخاطبين والمدعوين ، ويدرك ما قد يعتري النفس البشرية أحياناً من استعلاء واستكبار عن قبول حق جاء من شخص لا تميل إليه تلك النفس ، فيخاطب تلك النفوس ويوجهها إلى التضرع إلى الله وسؤاله الهداية فيما اختلف فيه من الحق ، ومرة يخاطبها بالرجوع إلى كتب أهل العلم دون الرجوع إليه ، ومرة ثالثة يرشدها إلى تدبر آيات القرآن الكريم(3).
وقد وفق الله الشيخ محمد بن عبد الوهاب لاستعمال الحكمة في دعوته ، مراعياً أحوال الناس ومنازلهم ، ومدى قربهم من الحق أو بعدهم ، ومن ثم يتنوع أسلوبه في الدعوة حسب حال المدعو ومكانته(4).
__________
(1) انظر مؤلفات الشيخ محمد بن عبد الوهاب ، تصنيف د. عبد العزيز الرومي وآخرون ، مطبوعات جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية ، 1400 هـ 5/252.
(2) كتاب التوحيد ، باب الدعاء إلى شهادة أن لا إله إلا الله .
(3) انظر الدرر السنية ، جمع عبد الرحمن بن قاسم ط 1، 1388هـ دار الإفتاء ، الرياض 1/36، 52-53، 59.
(4) انظر مؤلفات الشيخ محمد بن عبد الوهاب ، 5/134 ، 141، 233، 300، 315.(1/2)
وقد كان الشيخ محمد بن عبد الوهاب – رحمه الله – يباشر الدعوة بنفسه وعبر رسائله العدة ، وعن طريق تلاميذه وأتباعه ، ومن خلال اللقاءات والدروس والتعليم ، ومن المشاهد العملية في دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب ما حكاه تلميذه الشيخ عبد الرحمن بن حسن بن محمد بن عبد الوهاب(1). ، قائلاً : (( وكان شيخنا محمد بن عبد الوهاب رحمه الله تعالى في ابتداء دعوته إذا سمعهم يدعون زيد بن الخطاب رضي الله عنه قال : الله خير من زيد ، تمريناً لهم على نفي الشرك بلين الكلام ، نظراً إلى المصلحة وعدم النفرة ))(2).
رسالة الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن آل الشيخ لعبد الرحمن الألوسي :
__________
(1) ولد عام 1193هـ في الدرعية ، ودرس على جده الشيخ الإمام ، وتولى التدريس والقضاء ، ونقل إلى مصر ، فقرأ على علمائها ، ثم عاد إلى نجد ، وجلس للتدريس ، له تلاميذ ومؤلفات ،توفي في الرياض 1285هـ . مشاهير علماء نجد ، لعبد الرحمن بن عبد اللطيف آل الشيخ ، ط2 ، دار اليمامة للبحث ، الرياض ، 1394هـ ، ص 78، وعلماء نجد خلال ستة قرون ، لعبد الله البسام ، ط1 ، مكتبة النهضة الحديثة ، مكة ، 1398هـ 1/56.
(2) مجموعة التوحيد النجدية ، المطبعة السلفية ، القاهرة ، 1375هـ ص 339.(1/3)
كتب الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن آل الشيخ(1)رسالة إلى الشيخ عبد الرحمن الألوسي(2)يحثه فيها على الدعوة إلى دين الله تعالى، وأن يكون له جماعة يقومون مقامه ، فكان مما قاله الشيخ عبد اللطيف رحمه الله (( وكتابك الكريم وصل إلنا ، وحسن موقعه لدينا ، لما بلغنا عنك من إظهار الإسلام والسنة ، وعيب أهل الشرك والبدعة ، وطعنك على الدعاة إلى الضلال ، وعيبهم بما يبدونه من سوء العمل وشنيع المقال ، وإن الله قمعهم بك ، وقواك عليهم فأذلهم وأهانهم ، فأبشر بثواب ذلك ، واعتد به من أفضل أعمالك وحسناتك .
واحرص أن يكون لك في ذلك جماعة وتلامذة يقومون مقامك إن حدث بك حدث ، فيكونوا أئمة بعدك ، ويجري لك مثل أجورهم إلى يوم القيامة كما صح به الخبر ، فاعمل على بصيرة ، وسر إلى الله بصلاح القصد والسريرة .. ))(3)
رسالة دعوية للشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن آل الشيخ :
__________
(1) ولد الشيخ عبد اللطيف في الدرعية عام 1225هـ تلقى العلم في الدرعية ومصر ، وهو أحد الأعلام المحققين ، له مؤلفات ورسائل عدة ، كما كان يقرظ الشعر ، توفي في الرياض سنة 1293هـ . مشاهير علماء نجد ، ص 93. وعلماء نجد ، 1/63.
(2) لعله الشيخ عبد الرحمن الألوسي شقيق أبي الثناء السيد محمود شهاب الدين صاحب(( روح المعاني )) ، وكان الشيخ عبد الرحمن قد استغل بالوعظ والتدريس في بغداد ، وهو ذو خلق حسن ، وكلمة مسموعة ، توفي سنة 1284هـ . المسك الأذفر في نشر مزايا القرن الثاني عشر والثالث عشر ، لمحمود شكري الآلوسي ، ت : عبد الجبوري ، دار العلوم ، الرياض ، 1402هـ ص 85- 91 . وأعلام العراق ، لمحمد بهجة الأثري ، المطبعة السلفية ،القاهرة ، 1345هـ ص 12-14.
(3) الدرر السنية ، 11/76.(1/4)
بعث الشيخ عبد اللطيف أيضاً رسالة إلى الشيخ حمد بن عبد العزيز(1)
يذكره بفضل الدعوة إلى الله تعالى ، ويؤكد عليه القيام بأعبائها : (( من عبد اللطيف بن عبد الرحمن إلى الأخ المحب حمد بن عبد العزيز سلمه الله تعالى وتولاه . سلام عليكم ورحمة الله وبركاته . وموجب الخط إبلاغ السلام والتحية ، والسؤال عن أخلاقك المحمية ، سلك الله بها منهج الطريقة المحمدية ، ولا يخفاك حال أهل الزمان ، وغربة الإسلام ، وندرة الإيمان بينهم ، وقد ابتلوا بما رأيت من الفتن والمحن ، والتقاطع والتدابر والبغضاء وصاروا أشتاتاً بعد أن كانوا مجتمعين ، وشيعاً بعد ما كانوا عليه من الإسلام متعصبين ، ونسي العلم والتوحيد وأقفرت الديار من الناصح الرشيد ، وهدم الإسلام ، وخلت الديار من ذوي العلم والأفهام ، ولا شيء أقرب إلى الله وسيلة ، وأرجى من الخيرات فضيلة من الدعوة إلى سبيله وإرشاد عبيده وردهم إلى الله ، وتعلم دينه وتوحيده .
وقد أهّلك الله – وله الحمد والمنة – لذلك ، ووضع لك القبول فيما هنالك ، وقد أجمع أهل الرأي والمشورة على إلزامك بالدعوة إلى الله والتذكير بدينه وتنبيه عبيده على أصل دينهم ، وما يجب فيه ، وعلى ما يضاده وينافيه من المكفرات والشركيات ، وتعطيل الشرائع والنبوات ، فاغتنم أخي ذلك المشهد ، وسارع إليه فإن الجزاء خطير والثواب كبير وشهير .
__________
(1) لعله الشيخ حمد بن عبد العزيز العوسجي ، ولد في ثادق بنجد عام 1245هـ وتتلمذ على يد كبار علماء نجد ، ومنهم الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن ، جلس للتدريس ، وتولى القضاء توفي في عام 1330هـ علماء نجد ، 1/227. والدرر السنية ، 12/82.(1/5)
وهذا خط الإمام عبد الرحمن(1)، واصلك فلا تجاوب بلا ولن ، فإنها داعية الهم والحزن ، ولو لا أني أخشى على ا لنفس من كثير من أهل نجد لتجشمت القيام بذلك(2)، ولوجدتني حول المياه وبين المسالك ، وإلى الله المشتكى من عدم المعين والنصير ، وغلبة الجهال ، نسأل الله العون على مرضاته وذكره وشكره ، وأن يجعلنا من الدعاة إلى سبيله ، قال بعضهم في تفسير قوله تعالى عن المسيح عليه السلام : ((وَجَعَلَنِي مُبَارَكاً أَيْنَ مَا كُنتُ )) ( مريم : 31) . أي مذكراً بالله داعياً إلى سبيله والسلام ))(3).
رسالة الشيخ ابن عتيق لصديق حسن خان :
حرر الشيخ حمد بن عتيق(4)- رحمه الله – رسالة طويلة وبعثها إلى السيد محمد صديق حسن خان رحمه الله(5)، ونظراً لطول الرسالة فسنقتصر على مقدمتها وخاتمتها ، ففي المقدمة :
((
__________
(1) يعني الإمام عبد الرحمن بن فيصل بن تركي آل سعود .
(2) ، يبدو أن هذه الرسالة كانت في أواخر حياة الشيخ عبد اللطيف ، فالشيخ قد توفي سنة 1293هـ بينما تولى الإمام عبد الرحمن الحكم سنة 1291هـ ، وكانت نجد تعيش – في تلك الحقبة – خلافاً بين أبناء فيصل بن تركي ، وكان للشيخ عبد اللطيف دور ظاهر في الإصلاح ودرء الفتنة وحفظ الدماء .
(3) الدرر السنية 11/84-85 .
(4) ولد الشيخ حمد بن علي بن عتيق في الزلفى سنة 1227هـ ، ودرس في الرياض ، وتولى القضاء والتدريس ، له مؤلفات وتلاميذ ، توفي في الأفلاج سنة 1306هـ . مشاهير علماء نجد ، ص 244 ، وعلماء نجد ، 1/228.
(5) هو السيد محمد صديق بن حسن الحسيني البهوبالي ، ولد سنة 1248هـ . في بلدة بريلي بلدة بريلي بالهند ، وتتلمذ على كبار علماء الهند ، وتزوج ملكة بهوبال ، له جهود إصلاحية ، ومؤلفات كثيرة ، توفي في بهوبال سنة 1307هـ انظر ترجمته لنفسه في آخر كتابه (( التاج المكلل )) لمحمد صديق حسن خان ، ت : عبد الكريم شرف الدين ، ط 2 ، دار اقرأ ، ومشاهير علماء نجد ، ص 415.(1/6)
من حمد بن عتيق إلى الإمام المعظم والشريف المقدم المسمى محمد الملقب صديق ، زاه الله من التحقيق ، وأجاره في مآله من عذاب الحريق ، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته ، وبعد : فالموجب للكتاب إبلاغ السلام والتحفي والإكرام ، قيّد الله بك قواعد الإسلام ، ونشر بك السنن والأحكام ، اعلم وفقك الله ، أنه كان يبلغني أخبار سارة بظهور أخ صادق ذي فهم وطريقة مستقيمة يقال له : صديق فنفرح ونسر لغربة الزمان وقلة الإخوان ، وكثرة أهل البدع والأغلال ، ثم وصل إلينا كتاب الحطة وتحرير الأحاديث(1)في تلك الفصول ، فازددنا فرحاً وحمدنا لربا العظيم لكون ذلك من فضل الله علينا وعلى الناس ، وكان لي ابن(2)يتشبث بالعلم ،ويحث الطلب ، فجعل يتوق إلى اللحوق بكم والتخرج عليكم والالتقاط من جواهركم .
فبينما نحن كذلك إذا وصل إلينا التفسير بكماله(3)، فرأينا أمراً عجيباً ما كنا نظن أن الزمان سمح بمثله وما قرب منه، لما في التفاسير التي تصل إلينا من التحريف والخروج عن طريق الاستقامة ، وحمل كلام الله غير مراد الله ، وركوب التفاسير في حمله على المذاهب الباطلة ، وجعلت السنة كذلك ، فما نظرنا في ذلك التفسير تبين لنا حسن قصد منشيه وسلامة عقيدته وتبعده عن تعمد مذهب غير ما عليه السلف الكرام ، فعلمنا أن ذلك من قبيل قوله : ((وَعَلَّمْنَاهُ مِن لَّدُنَّا عِلْماً )) ( الكهف : 65) .
فالحمد لله رب العالمين ، حمداً كثيراً طيباً كما يحب ربنا ويرضي ، وذلك من فضل الله يؤتيه من شاء الله ذو الفضل العظيم .
فزاد اشتياق التائق وتضاعفت رغبته .
__________
(1) من مؤلفات الشيخ محمد صديق حسن خان .
(2) هو الشيخ سعد بن حمد بن عتيق ، وقد سافر إلى الهند ، وقرأ على مجموعة من العلماء ومنهم الشيخ / محمد صديق . انظر : علماء نجد . 1/266.
(3) وهو كتاب فتح البيان في مقاصد القرآن .(1/7)
ولكن العوائق كثيرة والمثبطات مضاعفة ، والله على كل شيء قدير ، فما شاء الله كان ، وما لم يشأ لم يكن وإن شاءه الناس ، فمن العوائق تباعد الديار وطول المسافات ؛ فإن مقرنا في فلج اليمامة ، ومنها خطر الطريق وتسلط الحرامية في نهب الأموال واستباحة الدماء وإخافة السبيل ، ومنها ما في الطريق من أهل البدع والضلال بل وأهل الشرك .. ربنا آتنا من لدنك رحمة ، وهيئ لنا من أمرنا رشداً ، ومع ذلك فنحن نرجو من الله أن يبعث لهذا الدين من ينصره ، وأن يجعلنا من أهله ، وأن يسهل الطريق ، ويرفع الموانع ، ونسأله أن يمن بذلك فهو القادر عليه ))(1).
وجاء في خاتمة الرسالة ما يأتي :
((
__________
(1) مجموعة كتب ورسائل الشيخ حمد بن عتيق ، ت : إسماعيل بن عتيق ، دار القرآن الكريم بيروت 1400هـ ص 41-42 .(1/8)
وقد اجترأت عليك بمثل هذا الكلام نصحاً لله ورسوله رجاءً من الله أن ينفع بك في هذا الزمان الذي ذهب فيه العلم النافع ، ولم يبق إلا رسومه ، وأنا انتظر منك الجواب ورد ما صدر مني من الخطاب . ثم إني لما رأيت الترجمة ، وقد سمي فيها بعض مصنفاتك وكنت في بلاد(1)قليلة فيها الكتب ، وقد ابتليت بالدخول في أمور الناس لأجل ضرورتهم كما قيل : خلا لك الجو فبيضي واصفري ، وألتمس من جنابك تفضل علينا ببلوغ السول من أقضية الرسول ، والروضة الندية شرح الدرر البهية ، ونيل المرام شرح آيات الأحكام ، فنحن في ضرورة عظيمة إلى هذه كلها فاجعل من صالح أعمالك معونة إخوانك ومحبيك ، وابعث بها إلينا مأجوراً – إن شاء الله تعالى – وليكن ذلك على يد الأخ أحمد بن عيسى(2)الساكن في مكة المكرمة المشرفة ، واكتب لنا تعريفاً بأحوالكم ، ولعل أحداً منكم يتلقى هذا العلم ويحفظه عنك ، واحرص على ذلك طمعاً أن يجمع لك شرف الدنيا والآخرة ، ونسأل الله أن يهب لك ذلك .
ثم اعلم أني قد بلغت السبعين وأنا في معترك الأعمار ، لا آمن هجوم المنية ولي أولاد ثمانية ، منهم ثلاثة يطلبون العلم ، كبيرهم سعد المذكور أولاً ، ويأتيه عبد العزيز وتحته عبد اللطيف(3)، ونرجو أنهم أهل للكتب وممن يعتز بها ويحفظها وبقيتهم صغار، منهم من هو في المكتب ، ومن دعائنا ((رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَاماً )) ( الفرقان : 74) .
((رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِن ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَّكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ )) ( البقرة : 128) .
__________
(1) هي بلدة العمارة من بلدان الأفلاج بنجد .
(2) هو الشيخ العلامة أحمد بن إبراهيم بن عيسى . وانظر ترجمته في الحاشية رقم (34) .
(3) صار كل هؤلاء الثلاثة – فيما بعد – من علماء نجد .(1/9)
لا تنسانا من صالح دعائك كما هو لك مبذول ، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته وصلى الله على محمد وآله وصبحه(1).
وقفات مع رسالة الشيخ ابن عتيق لصديق حسن خان :
تضمنت هذه الرسالة القيمة جملة من الوقفات ، فمن ذلك :
- ما كان عليه علماء نجد من التواصل بالعلماء الآخرين(2)،
__________
(1) مجموعة كتب ورسائل الشيخ حمد بن عتيق ، 52-53 .
(2) كان التواصل فيما بين علماء نجد وغيرهم قائماً ووثيقاً سواء كان عن طريق الرحلات أو اللقاءات والاجتماعات أو المراسلات ، والناظر إلى الدرر السنية أو مجموعة الرسائل والمسائل النجدية يرى هذه المراسلات المتكررة فيما بينهم ، وما تحويه هذه الرسائل من تناصح وتذكير ، ومحبة ومودة ، وتدارس لمسائل في العلم ، كما تحكي هذه الرسائل جزءاً من تاريخ تلك السنين . ومن الأمثلة على هذا التواصل ما كتبه الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن لتلميذه زيد بن محمد السليمان قائلاً : ومن مدة ما جاءنا منك مراسلة وعادة الإخوان يتفقد بعضهم بعضاً لا سيما أوقات الفتن التي تمو ، وعند الحوادث التي على الأكثر تروج )) الدرر السنية ، 7/195 ..(1/10)
وتوثيق العلاقات العلمية بهم ، وإن كانوا من خارج مناطقهم ، كما سبق في رسالة الشيخ عبد اللطيف للألوسي العراقي ، وكما في هذه الرسالة التي كتبها الشيخ حمد بن عتيق لمحمد صديق حسن ، ورسالة العلامة السعدي إلى الشيخ محمد رشيد رضا(1)كما ستأتي إن شاء الله .
وكم يحتاج العلماء وطلابهم إلى مثل هذا التواصل والتعاون مع العلماء وطلاب العلم – من أهل السنة – في سائر الأقطار والبلدان .
وإن في إقامة هذه الصلات خيراً كثيراً . فمن ذلك إزالة الفجوات أو تخفيفها بين علماء أهل السنة ، مما ينتج عنه اجتماع واتفاق يفرح له أهل الإيمان ، ويغيظ أهل الزيغ والطغيان ، كما يورث هذا التواصل سعةً في الأفق وبعداً في النظر وتحرراً من ضيق النزعات العرقية والمحلية .
- يحظى السيد محمد صديق حسن بمنزلة عظيمة عند علماء نجد ، كما هو ظاهر في هذه الرسالة ، حيث تضمنت أنواعاً من عبارات التبجيل والإكرام والتقدير ، ولعظم مكانته ، وسعة اطلاعه ، وسلامة منهجه ، نجد أن الشيخ ابن عتيق يقترح عليه شرح نونية ابن القيم ، كما جاء في ثنايا الرسالة .
__________
(1) ومن الطريف أن هذا التواصل وتلك المراسلات بين أولئك العلماء دون سابقة لقاء أو مشاهدة ، ولذا يقول محمد صديق حسن في وصف الشيخ راشد بن جريس : (( عالم ناقد متبع ماجد ، مقتد بالسلف الصلاح في كل أمر ، لم أره ولم يرني ، ولم أعرفه ولم يعرفني ، بيد أنه راسلني منذ شهر صفر سنة 1298هـ (( التاج المكلل )) ص 517، وفي مطلع رسالة كتبها محمد رشيد رضا إلى الشيخ صالح بن عثمان القاضي ما يأتي : (( من محمد رشيد رضا إلى الأخ الذي أحببناه في الله تعالى بالغيب الشيخ صالح القاضي .. رشيد رضا ودعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب لمحمد السلمان ، مطبوعات النادي الأدبي ص 294.(1/11)
وفي رسائل عدة بين الشيخ راشد بن علي بن جريس(1)- رحمه الله – والسيد محمد صديق حسن خان ، نلمس في تلك الرسائل(2)أيضاً غاية الاحترام والاحتفاء والتبجيل بالسيد محمد صديق ومؤلفاته ، كما أن الشيخ راشد – وهو في اسطنبول – قد طلب من محمد صديق حسن أن يشرح نونية ابن القيم قائلاً : (( وإن أحببتم أن تفرضوا فرصة من وقتكم السعيد ، ولو زاحمتكم أشغال الليالي والأيام إلى شرح (( نونة ابن القيم )) ، فالداعي لكم يرى هذا من حسناتكم ، وامتنانكم على كافة (( أهل السنة والجماعة )) فاغنتموا دعواتهم الخيرية ما دام في الأرض من يحب السنة والجماعة ))(3)
كما كان بين الشيخ أحمد بن عيسى والسيد محمد صديق حسن مراسلات ومكاتبات ، وأرسل إليه محمد صديق تفسيره (( فتح البيان )) ليطالعه ويبدي ما عنده من ملحوظاته عليه(4).
ويتضح بذلك ما كان عليه الشيخ حمد بن عتيق من الأدب الجم والخلق الرفيع ولين الجانب وحسن التواضع تجاه السيد محمد صديق ، فمع ما وقع فيه الشيخ محمد صديق من أخطاء وهنات في تفسيره ، ومع ما اشتهر عن ابن عتيق من الغيرة الإيمانية والقوة في دين الله تعالى ، إلا أننا نجد أن الشيخ ابن عتيق يلتمس لمحمد صديق المعاذير ، ويحسن الظن به ، لما كان عليه السيد محمد صديق من عموم الاتباع لمذهب السلف الصالح .
__________
(1) ولد في بلدة نعام بالحريق ، وتتلمذ على علماء نجد ، وأقام في اسطنبول ، وهو من الدعاة العاملين ، له مؤلفات ونظم رائق ، توفي في مطلع القرن الرابع عشر الهجري . انظر : المكلل ، لمحمد صديق حسن . ص 518 ، وعلماء نجد 1/257 .
(2) أورد الشيح محمد صديق حسن في التاج المكلل ست رسائل كتبها له الشيخ ابن جريس ، انظر التاج المكلل ، ص 518-535 .
(3) التاج المكلل ص 519-520 .
(4) انظر تذكرة أولى النهى والعرفان بأيام الله الواحد الديات ، لإبراهيم بن عبيد ، ط 1 ، مؤسسة النور ، الرياض ، 2/304.(1/12)
فأنت ترى في هذه الرسالة ما كان عليه الشيخ حمد بن عتيق من تمام الإشفاق وعظيم الرحمة وكمال العدل والإنصاف تجاه السيد محمد صديق ، ومع هذا كله فإن الشيخ ابن عتيق بيَّن الصواب بالدليل والبرهان ، ورد كلام أهل التعطيل والتفويض ، وهكذا يكون الرد على المخالف ، فإن لم يقصد بالرد بيان الحق وهدي الخلق ورحمتهم والإشفاق عليهم لم يكن عملاً صالحاً(1).
وتتجلى في هذه الرسالة الشيخ ابن عتيق في الدعوة ، ومراعاة أحوال النفس البشرية ، كما يلحظ – في ثنايا الرسالة – ما قام بالشيخ ابن عتيق من سلامة القصد وصحة المنهج في دعوته إلى الله تعالى .
ففي مطلع الرسالة ثناء على حسن على السيد محمد صديق ومؤلفاته ، وإظهار الاشتياق إلى اللقياء به ، ثم انتقل إلى ملحوظاته على الكتب ، وابتدأها بالتماس العذر لمحمد صديق لعدم حصول إمعان النظر في الكتاب (( ولعل الأصحاب عاجلوك بتلقيه قبل ذلك )) أو إحسان الظن ببعض المتكلمين ، ومع ذلك يذكر الشيخ حمد أن تلك المآخذ والمداخل إنما هي عن حسن قصد من محمد صديق ، واعتماد الحق وتحري الصدق .
ثم يبدي الشيخ حمد الاعتذار عن تلك البادرة ، فيقول تلك العبارة الجميلة : (( وأنا اجترأت عليك ، وإن كان مثلي لا ينبغي له ذلك ؛ لأنه غلب على ظني إصغاؤك إلى التنبيه ، ولأن من أخلاق أئمة الدين قبول التنبيه والمذاكرة وعدم التكبر وإن كان القائل غير أهل ... )) ثم يعود الشيخ حمد فيلتمس عذراً آخر للشيخ محمد صديق – في إيراده أقوال المتكلمين في تفسيره – فيقول : (( وقد يكون لكم من القصد نظير ما بلغني عن الشوكاني – رحمه الله – لما قيل له : لأي شيء تذكر كلام الزيدية في هذا الشرح ؟ قال ما معناه : لآمن الإعراض عن الكتاب ، ورجوت أن ذكر ذلك أدعى إلى قبوله وتلقيه )) .
__________
(1) انظر منهاج السنة النبوية لابن تيمية ، ت : محمد رشاد سالم ، جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية ، الرياض ، 1406 هـ 5/239 .(1/13)
وبعد براعة الاستهلال ، ولين الخطاب ، وحسن الحفاوة والإجلال ، والتماس المعاذير ، شرح الشيخ حمد في إيراد تلك المآخذ ونقدها ، وبين الواجب تجاه الألفاظ المجملة ، ورد على شبهة الأشاعرة بعلم وبرهان وعدل وإنصاف .
دعوة الشيخ البسام للشيخ باصبرين :
قام الشيخ صالح بن عبد الله البسام(1)بدعوة شيخه على باصبيرن(2)إلى العقيدة السلفية – التي جددها الشيخ محمد بن عبد الوهاب – حتى هداه الله تعالى(3).
دعوة الشيخ ابن عيسى للتلمساني :
__________
(1) ولد الشيخ صالح البسام في عنيزة سنة 1270هـ وطلب العلم ، واستغل بالتجارة ، توفي سنة 1307 هـ علماء نجد ، 2/495.
(2) فقيه شافعي ، وأصله من حضرموت ، له عناية بكتب الحديث ، توفي سنة 1304هـ الأعلام ، لخير الدين الزركلي ، ط6 ، دار العلم للملايين بيروت ، 1984م ، 4/260 .
(3) علماء نجد للبسام ، 2/496.(1/14)
من المشاهد الدعوية في سير علماء نجد ما قام به العلامة أحمد بن عيسى(1). من جهود دعوية مباركة ، ومن ذلك ما أخبر به الشيخ محمد حسين نصيف(2)- رحمه الله – قائلاً : (( كان الشيخ أحمد بن عيسى يشتري الأقمشة من جدة من الشيخ عبد القادر بن مصطفى التلمساني أحد تجار جدة بمبلغ ألف جنيه ذهباً ، فيدفع له منها أربعمائة ويقسط عليه الباقي، وآخر قسط يحل ويستلمه التلمساني إذا جاء إلى مكة للحج من كل عام ، ثم يبتدئون من أول العام بعقد جديد ، ودام التعامل بينهما زمناً طويلاً ، وكان الشيخ أحمد بن عيسى يأتي بالأقساط في موعدها المحدد لا يتخلف عنه ، ولا يماطل في أداء حقه ، فقال له التلمساني : إني عاملت النسا أكثر من أربعين عاماً فما وجدت أحسن من التعامل معك يا وهابي فيظهر أن ما شاع عنكم يا أهل نجد مبالغ فيه من خصومكم السياسيين ، فسأله الشيخ أن يبين له هذه الشائعات ، فقال: إنهم يقولون : إنكم لا تصلون على النبي صلى الله عليه وسلم ، ولا تحبونه ، فأجابه الشيخ أحمد بقوله : سبحانك هذا بهتان عظيم !
إن عقيدتنا ومذهبنا أن من لم يصل على النبي في التشهد الأخير فصلاته باطلة ، ومن لا يحبه فهو كافر ، وإنما الذي ننكره نحن أهل نجد هو الغلو الذي نهى صلى الله عليه وسلم عنه ، كما ننكر الاستعانة والاستغاثة بالأموات ، ونصرف ذلك لله وحده .
__________
(1) ولد الشيخ أحمد بن عيسى في شقراء عام 1253هـ ، وطلب العلم على مشايخ الرياض ، له مؤلفات وتلاميذ ، واشتغل بالتجارة ، وولي القضاء وجلس للفتيا ، توفي في المجمعة سنة 1329هـ علماء نجد 1/155 . ومشاهير علماء نجد ، ص 226.
(2) ولد الشيخ الوجيه محمد بن نصيف في جدة سنة 1302هـ صاحب اطلاع واسع ، وخلق حسن ، ونشر كتب السلف ، وكتب في الردود ، وله مكتبة عظيمة ، توفي في الطائف عام 1391هـ الأعلام ، للزركلي 6/107 .(1/15)
يقول الشيخ محمد نصيف عن الشيخ عبد القادر التلمساني : فاستمر النقاش بيني وبينه في توحيد العبادة ثلاثة أيام ، حتى شرح صدري للعقيدة السلفية ، وأما توحيد الأسماء والصفات الذي قرته في الجامع الأزهر فهو عقيدة الأشاعرة وكتب الكلام ، مثل : السنوسية وأم البراهين وشرح الجواهر وغيرها ، فلهذا دام النقاش فيه بيني وبين الشيخ ابن عيسى خمسة عشر يوماً ، بعد اعتنقت مذهب السلف ، فعلمت أن مذهب السلف أسم وأعلم وأحكم بفضل الله تعالى ، ثم بحكمة وعلم الشيخ أحمد بن عيسى ، ثم إن الشيخ التلمساني أخذ يطبع كتب السلف كنونية ابن القيم ، والصارم المنكي لابن عبد الهادي ونحوهما ، وصار التلمساني من دعاة عقيدة السلف ، قال الشيخ محمد نصيف : فهداني الله إلى عقيدة السلف بواسطة الشيخ عبد القادر التلمساني ، فالحمد لله على توفيقه(1).
دعوة الشيخ ابن عيسى للشريف :
ولم يقصر الشيخ أحمد بن عيسى نشاطه على دعوة الأفراد ، بل تجاوز ذلك فاتصل بأمير مكة الشريف عون الرفيق ، وكلَّمه بخصوص القباب والأبنية التي على القبور ، وبيَّن له أن هذا مخالف للإسلام ، وأنه غلو في الأموات ،ويؤول إلى الشرك وعبادة الأموات ، فما كان من الشريف عون إلا أن أمر بهدم القباب التي على القبور ، عدا قبر خديجة – رضي الله عنها – والقبر المنسوب إلى حواء في جدة ، فأبقاهما مراعاة للقاعدة الشرعية : درء المفاسد مقدم على جلب المصالح(2).
__________
(1) علماء نجد 1/156-158 . ومشاهير علماء نجد ، ص 260-262.
(2) علماء نجد 1/158. ومشاهير علماء نجد . ص 264.(1/16)
وكان ا لشيخ أحمد بن عيسى ذات يوم جالساً عند الشريف عون الرفق ، فمر ذكر أصحاب الطرق الصوفية وما يفعلونه من الأذكار المبتدعة ، فبيَّن الشيخ قبح أفعالهم ، وأن أفعالهم مبتدعة ، كقولهم : الله الله .. أو هو هو ، فعجب الشريف من كلامه ثم قال له : أفأضرب لك مثلاً ، لو أن خدامك وحاشيتك وقفوا ببابك ، وجعلوا ينادون بصوت عال : عون عون أيسرك ؟ قال : لا ، قال : فماذا تصنع بهم ؟ قال : آمر بتأديبهم على فعلهم ، قال : أفتأمر بتأديبهم على استهانتهم باسمك ، ولا تؤدبهم على استهانتهم بذكر الله وأسمائه ؟! فمن ذلك الوقت قام الشريف بإبطال اجتماعهم البدعية وفرق شملهم(1).
رسالة الشيخ عبد الرحمن السعدي للشيخ محمد رشيد رضا :
من الجهود الدعوية لعلماء نجد ما كتبه الشيخ العلامة عبد الرحمن بن ناصر السعدي(2). للشيخ محمد رشيد رضا(3)رحمهما الله : (( من عنيزة إلى قاهرة مصر في رجب 1346هـ .
بسم الله الرحمن الرحيم
أبعث جزيل التحيات ، ووافر السلام والتشكرات ، لحضرة الشيخ الفاضل السيد محمد رشيد رضا المحترم ، حرسه الله تعالى من جميع الشرور ، ووفقه وسدده في كل أحواله ، آمين .
__________
(1) تذكرة أولي النهى والعرفان 2/304 .
(2) ولد السعدي بعنيزة سنة 1307هـ وهو من كبار علماء نجد ، له مؤلفات كثيرة وفي فنون عدة ، وله تلاميذ ، واشتغل بالتدريس والفتيا ، توفي بعنيزة عام 1376هـ . علماء نجد ، 2/422. ومشاهير علماء نجد ، ص 392 .
(3) ولد محمد رشيد رضا في الشام سنة 1282هـ ، وتعلم بها ، ثم سافر إلى مصر عام 1315هـ واستقر بها ، مارس الصحافة وعمل في السياسة ، وزار بلداناً عدة صاحب مسلك إصلاحي تجديدي ، له مؤلفات عدة توفي بالقاهرة عام 1354هـ الأعلام ، 6/126.(1/17)
أما بعد : السلام عليكم ورحمة وبركاته، فالداعي لذلك ما اقتضاه الحب ودفعه الود المبني على ما لكم من المآثر الطيبة التي تستحقون بها الشكر من جميع المسلمين التي من أعظمها تصديكم في مناركم الأغر لنصرة الإسلام والمسلمين ، ودفع باطل الجاهلين والمعاندين ، رفع الله قدركم وأعلى مقامكم ، وزادكم من العلم والإيمان ما تستوجبون خير الدنيا والآخرة ، وأنعم عليكم بنعمه الظاهرة والباطنة ، ثم إننا نقترح على جنابكم أن تجعلوا في مناركم المنير بحثاً واسعاً لأمر نراه أهم البحوث التي عليها تعولون ، وأنفعها لشدة الحاجة ، بل دعاء الضرورة إليه ، ألا وهو ما وقع فيه كثير من فضلاء المصريين ، وراج عليهم من أصول الملاحدة والزنادقة من أهل وحدة الوجود والفلاسفة ، بسبب روجان كثير من الكتب المتضمنة لهذه الأمور ممن يحسنون بهم الظن ، كتب ابن سينا وابن رشد وابن عربي ورسائل إخوان الصفا ، بل وبعض الكتب التي تنسب للغزالي وما أشبهها من الكتب المشتملة على الكفر برب العالمين ، والكفر برسله وكتبه واليوم الآخر ، وإنكار ما علم بالضرورة من دين الإسلام ، فبعض هذه الأصول انتشرت في كثير من الصحف المصرية ، بل رأيت تفسيراً طبع أخيراً منسوباً لطنطاوي جوهري قد ذكر في مواقع كثيرة في تفسير سورة البقرة شيئاً من ذلك ، ككلامه على استخلاف آدم وعلى قصة البقرة والطيور ونحوها بكلام ذكر فيه من أصول وحدة الوجود وأصول الفلسفة المبنية على أن الشرائع إنما هي تخييلات وضرب أمثال لا حقيقة لها ، وأنه يمكن لآحاد الخلق ما يحصل للأنبياء ما يجزم المؤمن البصير بأنه مناقض لدين الإسلام وتكذيب لله ورسوله وذهاب إلى معان يعلم بالضرورة أن الله ما أرادها وأن الله بريء منها ورسوله ، ثم مع ذلك يحث الناس والمسلمين على تعلمها وفهمها ، ويلومهم على إهمالها ، وينسب ما حصل للمسلمين من الوهن والضعف بسبب إهمال علمها وعملها .(1/18)
ويح من قال ذلك ! لقد علم كل من عرف الحقائق أن هذه العلوم هي التي أوهنت قوى المسلمين ، وسلطت عليهم الأعداء وأضعفتهم لزنادقة الفرنج وملاحدة الفلاسفة ، وكذلك يبحث كثير منهم في الملائكة والجن والشياطين ، ويتأولون ما في الكتاب والسنة من ذلك بتأويلات تشبه تأويلات القرامطة الذين يتأولون العقائد والشرائع ، فيزعمون أن الملائكة هي القوى الخيرية التي في الإنسان ، فعبر عنها الشرع بالملائكة ، كما أن الشيطان هي القوى الشريرة التي في الإنسان ، فعبر عنها الشرع بذلك ، ولا يخفى أن هذا تكذيب لله ولرسوله أجمعين ، ويتأولون قصة آدم وإبراهيم بتأويل حاصله أن ما ذكر الله في كتابه عن آدم وإبراهيم ونحوهما لا حقيقة له ، وإنما قصد به ضرب الأمثال .
وقد ذكر لي بعض أصحابي أن مناركم فيه شيء من ذلك ، وإلى الآن ما تيسر لي مطالعته ، ولكن الظن بكم أنكم ما تبحثون عن مثل هذه الأمور إلا على وجه الرد لها والإبطال كما هي عادتكم في رد ما هو دونها بكثير .
وهذه الأمور يكفي في ردها في حق المسلم المصدق للقرآن والرسول مجرد تصورها ، فإنه إذا تصورها كما هي يجزم ببطلانها ومناقضتها للشرع ، وأنه لا يجتمع التصديق بالقرآن وتصديقها أبداً ، وإن كان غير مصدق للقرآن ولا للرسول صار الكلام معه كالكلام مع سائر الكفار في أصل الرسالة وحقيقة القرآن .(1/19)
وقد ثبت عندنا أن زنادقة الفلاسفة والملحدين يتأولون جميع الدين الإسلامي التوحيد والرسالة والمعاد والأمر والنهي بتأويل يرجع إلى أن القرآن والسنة كلها تخييلات وتمويهات لا حقيقة لها بالكلية ، ويلبسون على الناس بذلك ، ويتسترون بالإسلام وهو أبعد الناس عنه ، كما ثبت أيضاً عندنا أنه يوجد ممن كان يؤمن بالله ورسوله واليوم الآخر، ويعظم الرسول وينقاد لشرعه ، وينكر على هؤلاء الفلاسفة ويكفرهم في أقوالهم أنه يدخل عليه شيء من هذه التأويلات من غير قصد ولا شعور ، لعدم علمه بما تؤول إليه ، ولرسوخ كثير من أصول الفلسفة في قلبه ولتقليد من يعظمه وخضوعاً أيضاً ، ومراعاة لزنادقة علماء الفرنج الذين يتهكمون بمن لم يوافقهم على كثير من أصولهم ويخافون من نسبتهم للبلادة وإنكار ما علم محسوساً بزعمهم ؛ فبسبب هذه الأشياء وغيرها دخل عليهم ما دخل ، فالأمل قد تعلق بأمثالكم لتحقيق هذه الأمور وإبطالها ، فإنها فشت وانتشرت ، وعمت المصيبة بها الفضلاء فضلاً عمن دونهم ، ولكن لن تخلو الأرض من قائم لله بحجة يهتدي به الضالون ، وتقوم به الحجة على المعاندين .
وقد ذكرت لحضرتكم هذه الأشياء على وجه التنبيه والإشارة ، لأن مثلكم يتنبه بأدنى تنبيه ، ولعلكم تجعلونه أهم المهمات عندكم ؛ لأن فيه الخطر العظيم على المسلمين ، وإذا لم يرى الناس لكم فيه كلاماً كثيراً وتحقيقاً تاماً ، فمن الذي يعلق به الأمل من علماء الأمصار ؟ والرجاء بالله أن يوفقنا وإياكم لما يحبه ويرضاه ويجعلنا وإياكم من الهادين المهتدين إنه جواد كريم .
وصلى الله على محمد وسلم .
محبكم الداعي عبد الرحمن بن ناصر السعدي ))(1).
وقفات دعوية مع رسالة السعدي :
تسترعي القارئ لهذه الرسالة جملة أمور ، منها :
__________
(1) مجلة المنار ، مجلد 29، ج 2، ص 143-145.(1/20)
- سعة اطلاع الشيخ عبد الرحمن السعدي – رحمه الله – وبعد أفقه ، حيث طالع مجلة المنار، وأثنى عليها خيراً ، وأبدى شيئاً من مآثره في نصرة الإسلام والمسلمين ، مع أن المجلة تكاد تكون معدومة الانتشار في نجد آنذاك ، بدليل أن الشيخ محمد رشيد رضا - في جوابه على رسالة السعدي – يقول ِ: (( كنت منذ سنين كثيرة أتمنى لو يطلع علماء نجد على المنار ، ويفتح بيني وبينهم البحث والمناظرة العلمية الدينية فيما يرونه منتقداً ، لينجلي وجه الصواب فيها ، وقد كنت كتبت إلى إمامهم(1)بذلك ، وإنني سأرسل إليه عشرة نسخ من كل جزء ليوزعها على أشهرهم ، وفعلت ذلك عدة سنين ، ولكن لم يأتني منه جواب ، ثم ترجح عندي ، أن تلك النسخ كانت تختزل من البريد البريطاني في سني الحرب وما بعدها ))(2)بل إن الشيخ السعدي قد طالع تفسير (( الجواهر في تفسير القرآن )) لطنطاوي جوهري ، مع أن البلاد السعودية قد منعت هذا الكتاب ، ولم تسمح بدخوله إلى بلادها(3)؛ لما تضمنه من مزالق وانحرافات(4).
- وتكشف هذه الرسالة فقه الشيخ السعدي لواقعه ، وإحاطته بتحديات عصره ، حيث أكد الشيخ أهمية الرد على الإلحاد والملاحدة ، وذلك في وقت قد ظهر فيه الإلحاد وراج على كثير من المسلمين ، فلا غرابة أن يسطر العلامة السعدي أكثر من كتاب في الرد على الملحدين .
__________
(1) يقصد الملك عبد العزيز بن عبد الرحمن آل سعود .
(2) مجلة المنار ، مجلد 39 ، ج 2 ، ص 147.
(3) التفسير والمفسرون ، للذهبي دار الكتب الحديثة ، مصر . ط2 ، 1396هـ 2/508. واتجاهات التفسير في القرن الرابع عشر الهجري ، لفهد الرومي ، ط 1 ، 1407هـ 2/673.
(4) تجد تعريفاً شاملاً بتفسير الجواهر ومزالقه في كل من : التفسير والمفسرون للذهبي ، 2/505-517 . واتجاهات التفسير في القرن الرابع عشر الهجري ، لفهد الرومي ، 2/638-678 .(1/21)
- ويتبين من هذه الرسالة ما عرف عن الشيخ السعدي من خلق حسن ، وأدب رفيع ، وحكمة في الدعوة ، فقد كان رفيقاً متأنياً في النقد والتقويم فقال(1)رحمه الله : (( وقد ذكر لي بعض أصحابي أن مناركم فيه شيء من ذلك ، وإلى الآن ما تيسر لي مطالعته ، ولكن الظن بكم أنكم ما تبحثون عن مثل هذه الأمور إلى على وجه الرد لها والإبطال كما هي عادتكم في رد ما هو دونها بكثير)) .
دعوة البكري لأحد علماء الهند :
__________
(1) لم يكن السعدي وحده – من علماء نجد – الذي انتقد المنار وصاحبها ، بل إن الشيخ محمد بن عبد العزيز بن مانع – في رسالة بعثها إلى الشيخ سليمان بن سحمان سنة 1340هـ - قد انتقد المدرسة الإصلاحية وما تحويه من مزالق وانحرافات ، كما عاب الشيخ سليمان بن سحمان – في الرسالة السالفة – على محمد رشيد رضا عدم نشره لمقال كتبه في الرد على جريدة القبلة والتي كانت لسان الحسين بن علي بمكة المكرمة آنذاك ، غفر الله للجميع وتغمدهم بواسع رحمته .انظر : هذه الرسالة في دارة الملك عبد العزيز ، قسم الوثائق ، رقم 263 . ومجلة المنار ، مجلة 21، ج9 ، ص 496.
كما استدرك الشيخ سليمان بن سحمان سنة 1332هـ على جواب كتبه محمد رشيد رضا – في المنار – في الرد على بعض الملاحدة الطاعنين في شعيرة الحج وحكمها ، فكان مما قاله ابن سحمان : ولما تأملت جواب صاحب المنار رأيته قد أجاد وأفاد ، ولكنه تساهل في الجواب مع هؤلاء الزنادقة ، لظنه أنهم يطلبون الحق ويسترشدون ، وهم بخلاف بذلك ، فلأجل ذلك سألني بعض الإخوان أن أكتب في ذلك ما يبين ضلالهم (( من كتاب إقامة الحجة والدليل ص 9 )) . وانتقد الشيخ عبد الله بن علي بن يابس كتاب (( الوحي المحمدي )) لمحمد رشيد رضا فكتب مقالة في أربع صفحات ، وقد نشرها محمد رشيد رضا في ( (المنار )) ، ثم أعقبها بالجواب والبيان . انظر : مجلة المنار ، مجلد 34، ج 2 ، ص 140 -146 ، ج 3 ، ص 216-226.(1/22)
من الجهود الدعوية لعلماء الدعوة ، ما قام به الشيخ عبد الرحمن البكري رحمه الله(1)، كما حكى ذلك العلامة محمد بن إبراهيم رحمه الله في أحد تقريراته ، فقال : (( كان الشيخ عبد الرحمن البكري من طلاب العلم على العم الشيخ عبد الله(2)وغيره ، ثم بد له أن يفتح مدرسة في عمان يعلم فيها التوحيد من كسبه الخاص ، فإذا فرغ ما في يده ، أخذ بضاعة من أحد ، وسافر إلى الهند ، وربما أخذ نصف سنة في الهند(3)،
__________
(1) لم أعثر له على ترجمة .
(2) ابن عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن بن محمد بن عبد الوهاب .
(3) تأمل إلى عظم بذل الشيخ البكري في سبيل الدعوة ، وجسامة تضحيته في سبيل نصرة هذا الدين فهو – رحمه الله – يعلم دين الله تعالى في هذه المدرسة التي أنشأها في عمان ، فإذا نفدت ميزانية المدرسة سافر إلى الهند صابراً على مشقة السفر وهموم الغربة ومفارقة الأوطان ، وكل ذلك من أجل تحصيل مال لدعم هذه المؤسسة الدعوية ، فالله المستعان ..(1/23)
قال الشيخ البكري : كنت بجوار مسجد في الهند ، وكان فيه مدرس إذا فرغ من تدريسه لعنوا الشيخ محمد بن عبد الوهاب ، وإذا خرج من المسجد مر بي ، وقال : أنا أجيد العربية ، لكن أحب أن أسمعها من أهلها ، ويشرب من عندي ماء بارداً ، فأهمني ما يفعل في درسه ، قال : فاحتلت بأن دعوته وأخذت كتاب التوحيد للشيخ محمد بن عبد الوهاب ، ونزعت ديباجته ، ووضعته على رفٍّ في منزلي قبل مجيئه ، فلما حضر قلت : أتأذن لي أن آتي ببطيخة ، فذهبت ، فلما رجعت إذا هو يقرأ ويهز رأسه ، فقال : لمن هذا الكتاب ؟ هذا التراجم – أي : العناوين – شبه تراجم البخاري ، هذا والله نفس البخاري ! فقلت : لا أدري ، ثم قلت : ألا نذهب للشيخ الغزوي لنسأله – وكان صاحب مكتبة – فدخلنا عليه ، فقلت : للغزوي : كان عندي أوراق سألني هذا الشيخ : من هي له ؟ فلم ِأعرف ، ففهم الغزوي المراد ، فنادى من يأتي بكتاب (( مجموعة التوحيد )) ، فأتى بها ، فقابل بينهما ، فقال : هذا لمحمد بن عبد الوهاب ، فقال العالم الهندي مغضباً وبصوت عالٍ : الكافر ، فسكتنا وسكت قليلاً ، ثم هدأ غضبه فاسترجع ، ثم قال : إن كان هذا الكتاب له فقد ظلمناه ، ثم إنه صار كل يوم يدعو له ويدعو معه تلاميذه ، وتفرق تلاميذه في الهند ، وإذا فرغوا من القراءة دعوا جميعاً للشيخ ابن عبد الوهاب(1).
إصدار الشيخ عبد اللطيف بن إبراهيم مجلة راية الإسلام :
أدرك علماء نجد أهمية الصحافة ودورها الكبير في الدعوة إلى الله تعالى ، فعمدوا إلى إيجاد منابر إعلامية تخدم قضايا الإسلام والمسلمين .
__________
(1) فتاوى الشيخ محمد بن إبراهيم ، جمع محمد بن قاسم ط 1 ، مطبعة الحكومة مكه 1399هـ 1/75- 76 .(1/24)
ففي ذي الحجة سنة 1379هـ أصدر الشيخ عبد اللطيف بن إبراهيم بن عبد اللطيف آل الشيخ(1)مجلة شهرية بعنوان راية الإسلام(2).
وفي عام 1385هـ أسس الشيخ العلامة مفتي المملكة محمد بن إبراهيم آل الشيخ(3)مؤسسة الدعوة الإسلامية ، والتي يصدر عنها مجلة الدعوة وما تزال .
وقد كتب سماحته خطاباً سنة 1384هـ إلى ولي العهد –آنذاك – جاء فيه : (( عطفاً على حديثي مع مقام سموكم حول عزمنا على إنشاء مؤسسة صحفية تقوم بالدعوة إلى الله وتوجيه الناس إلى الخير بأسلوب حكيم وطرق مناسبة ، ويصدر عنها صحيفة تحمل اسم ( منار الإسلام ) ، ويحتمل أن يصدر عنها مجلة أو مجلات أو نشرات حسب مقتضيات الحاجة ، وستكون مساهمة ، ويوضع لها نظام داخلي يحدد سيره العلماء ، وطريقة الإخراج ، ويتولى إدارتها أناس أكفاء موثوقون ))(4).
__________
(1) ولد الشيخ عبد اللطيف بن إبراهيم بالرياض سنة 1315هـ وتتلمذ على كبار علماء الرياض ، وبرع في الفرائض ، وصار مديراً للمعاهد العلمية والكليات ( جامعة الإمام حالياً ) ، وكان يقرض الشعر ، توفي في الرياض عام 1386هـ . مشاهير علماء نجد ، ص 164 . وعلماء نجد 2/494.
(2) صدر العدد الأول من هذه المجلة في شهر ذي الحجة سنة 1379هـ وتوقفت بعد العدد الخامس من السنة الثانية 1381هـ ورأس تحريرها الشيخ صالح بن محمد اللحيدان .
(3) ولد سماحة الشيخ العلامة محمد بن إبراهيم عام 1311هـ في الرياض ودرس العلم على كبار مشايخ الرياض ، وجلس للتدريس في فنون كثيرة ما يزيد عن أربعين سنة تولى رئاسة القضاء والإفتاء والتعليم الشرعي ، توفي في الرياض سنة 1389هـ . مشاهير علماء نجد . ص 169، وعلماء نجد ، 1/88.
(4) فتاوى الشيخ محمد بن إبراهيم 13/163.(1/25)
ويقول في موضع آخر : (( نظراً لحالة المسلمين الحاضرة ، وحاجة الأمة إلى الدعوة الإسلامية ، فقد قمنا بتأسيس مؤسسة للدعوة إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة ، لتأخذ بأيدي الشباب المسلم عن الوقوع في شراك المبادئ الهدامة والأفكار الضالة المسمومة ، ولتبين للناس محاسن الإسلام ، وصلاحيته لمعالجة جميع المشاكل البشرية في كل زمان ومكان ولما كانت الصحافة لها أثرها الكبير في عصرنا الحاضر ، فقد تقرر بأن يصدر عن هذه المؤسسة صحيفة يومية تصدر أسبوعياً مؤقتاً ، ومجلة شهرية ، علاوة على ما نؤمله في المستقبل القريب إن شاء الله من قيام هذه المؤسسة بإرسال الدعاة إلى الله في أنحاء العالم(1)
جوانب الدعوة عند الشيخ القرعاوي :
من الجهود الدعوية الناجحة ما قام به فضيلة الداعية الشيخ عبد الله بن محمد القرعاوي(2)، حيث اتجه إلى منطقة تهامة في جنوب غرب الجزيرة ، وبذل جهوداً عظيمةً في الدعوة إلى الله تعالى ، وأقام الكثير من المدارس وحلقات التعليم في مدن وقرى تلك المنطقة . وكانت بداية دعوته في (( صامطة )) حيث اتخذ دكاناً للتجارة ، فكان يعلم تلاميذه في الدكان ، ويلقي الدرس والمواعظ في المساجد لتوعية عامة المسلمين ، واستطاع الشيخ أن يقضي على كثير من المنكرات السائدة آنذاك ، فعارضه خصوم ووشوا به ، فانتقل إلى جزيرة ( فرسان ) . لما تعرف على طباع أهلها ، فتح لهم مدرسة ، شرع في وعظهم وإرشادهم ، ثم عاد الشيخ إلى ( صامطة ) بناء على مطالبة تلاميذه برجوعه ، ومر على بلدة ( مزهرة ) فأصلح بناء مسجدها ، وفتح فيها مدرسة ، وجلس للوعظ والتذكير .
__________
(1) المرجع السابق 13/163-164 .
(2) ولد الشيخ القرعاوي في عنيزة عام 1315هـ وطلب العلم على علماء القصيم والرياض والهند ، كانت له جهود مباركة في سبيل الدعوة والتعليم في جنوب الجزيرة العربية ، توفي في الرياض سنة 1389هـ علماء نجد 2/630 . ومشاهير علماء نجد ، ص 420.(1/26)
واستمر الشيخ في جولات وتنقلات بين المدن والقرى يقيم عشرات المدارس لتربية الناشئة ، ، ويلقي المواعظ لتزكية العامة ، فتوافد عليه الطلاب من المناطق البعيدة ، فاهتم الشيخ بهم وهيأ لهم المسكن والغذاء واللباس .
واستوصى الشيخ بالنساء خيراً ، ففتح مدراس نسائية ، وكان يشجع النساء – طالبات ومعلمات – بمكافآت مادية ، فتفقهن في الدين وتمسكن بالحجاب والفضيلة ، وقد بلغ عدد المدارس التي أنشأها – في أوج توسعها – ألفين وثلاثمائة وعشر مدارس (2310)(1).
جهود الشيخ عبد الرحمن الدوسري في الدعوة :
__________
(1) انظر تفصيل دعوة الشيخ عبد الله القرعاوي في كتاب : الشيخ عبد الله القرعاوي ودعوته في جنوب المملكة العربية السعودية ، لموسى بن حاسر السهلي ط1 ، 1413هـ . ص 22-76 .(1/27)
أما الشيخ عبد الرحمن بن محمد الدوسري(1)- رحمه الله – فقد حفلت حياته بمناشط دعوية عدة ؛ فكان يجوب البلاد وينتقل بين الأحياء واعظاً ناصحاً آمراً بالمعروف وناهياً عن المنكر، وحاضر في كثير من المدارس والجامعات – رحمه الله – لا يتقاضى أجراً على أنشطته ودروسه ، وكان حريصاً على نشر وتشجيع الكتب والصحف الإسلامية ، فأحياناً يشتري عدداً كبيراً من الكتب الإسلامية ويوزعها على نفقته الخاصة ، ويشترك سنوياً في عدد كبير من المجلات الإسلامية ويوزعها ، ثم ينصح أهل الخير ليسهموا في هذه الأعمال النافعة ، حتى إنه اشترك شهرياً في إحدى المجلات الإسلامية بما يصل إلى مائتي عدد(2).
وأوصى – رحمه الله - بأن يكون ثلث ماله للجمعيات والمراكز الإسلامية القائمة بأمر الدعوة إلى الله ، ولطبع الكتب والمنشورات الإسلامية(3)وكان – رحمه الله – يحاضر الساعات الطوال ، ويجيب عن أسئلة الحاضرين بكل صراحة ووضوح ، وإذا ضاق الوقت وعدهم بالرجوع إليهم حسب رغبتهم ، يقول في محاضرة واجب الشباب المسلم تجاه التيارات المعاصرة : (( إني مستعد للحضور للإجابة على أسئلتكم متى شئتم وبدون موعد مسبق فأنا أنقاد لفعل الخير بكل حب وسرور ، والله يتولى الصالحين ))(4).
__________
(1) ولد الشيخ عبد الرحمن الدوسري في البحرين 1322هـ وانتقل مع والده إلى الكويت ، فتعلم في المدرسة المباركية ، ودرس على بعض العلماء ، له مؤلفات كثرة توفي في الرياض 1399هـ . انظر حياة الداعية عبد الرحمن الدوسري ، إعداد سليمان الطيار ، رسالة ماجستير في كلية الدعوة والإعلام ، جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية ، 1403هـ غير منشورة ص 73- 87 . ومقدمة تفسيره صفوة الآثار والمفاهيم ، دار الأرقم ، الكويت ط1 ، 1401 هـ 1/9-21
(2) حياة الداعية عبد الرحمن الدوسري ، للطيار ص306.
(3) المرجع السابق ص 319، وصفوة الآثار والمفاهيم ، 1/10-11.
(4) المرجع السابق ص 157(1/28)
ومن حرصه على الدعوة كان يبادر إلى تجمع الشباب في الأماكن العامة ، فيرشدهم ويجيب عن استفسارهم بكل صراحة ورحابة صدر ، ومن ذلك أنه في شهر شوال عام 1385هـ صلى المغرب في حديقة البلدية بالبطحاء في الرياض ، وبعد السنة الراتبة قام الشيخ الدوسري فتكلم على قوله تعالى : ((إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ )) (الكوثر : 3) .
وقد كان مما قرأه الإمام في هذه الصلاة – إلى حانت صلاة العشاء ، وبعد أداء الصلاة أكمل الحديث ، ثم بدأت مناقشة بينه وبين الحاضرين إلى قبيل منتصف الليل ، وكان حديثاً مستفيضاً مفيداً أكثر فيه من ضرب الأمثلة التي تنطبق عليها هذه الآية(1).
وما يزال لعلمائنا المعاصرين أمثال العلامة عبد الله ابن حميد والعلامة عبد العزيز بن باز والعلامة محمد بن عثيمين – رحمهم الله – ونحوهم من الجهود الدعوية الباهرة ما هو مسطور ومشهور .
الخاتمة :
ونخلص في خاتمة هذا البحث إلى ما عليه علماء الدعوة من اهتمام ظاهر بالجانب الدعوي ، فمع انشغالهم بالتدريس والفتيا والقضاء والجهاد ، إلا أنهم أعطوا الدعوة حقها من العناية والاهتمام ، فكان الترفق والتلطف مع المخالف ، كما في أسلوب الشيخ محمد بن عبد الوهاب –رحمه الله – مع الذين يستغيثون بزيد بن الخطاب رضي الله عنه .
كما نلحظ الأدب الرفيع والاحتفاء الكبير مع أهل العلم الذين قد يخالفون علماء الدعوة في بعض المسائل ، كما في رسالة الشيخ حمد بن عتيق للشيخ محمد صديق حسن .
كما أن في هذه الرسائل تأكيداً على العمل الجماعي الدعوي كما في رسالة الشيخ عبد اللطيف بن عبد الله بن حسن للشيخ عبد الرحمن الألوسي ، حيث أكد ضرورة أن يكون له جماعة وتلاميذ يقومون بواجب الدعوة بعده .
__________
(1) المرجع السابق ، ص 155.(1/29)
كما يظهر التواصل الدعوي من علماء هذه الدعوة تجاه علماء خارج الجزيرة العربية ، سواءً عبر المراسلات، أو عبر اللقاءات والحوارات ، كما يتجلى أثر القدوة الحسنة في نشر هذه الدعوة كما في قصة الشيخ أحمد بن عيسى مع التلمساني ، حيث إن ما عليه الشيخ أحمد بن عيسى من حسن الخلق وجميل التعامل مع التلمساني كان سبباً في فتح الحوار بينهما ثم القبول لهذه الدعوة .
وفي هذه الجوانب ما يجلي فقه علماء الدعوة لقضايا عصرهم ، ووعيهم لما يستجد من النوازل والأحداث ، كما في رسالة العلامة السعدي للشيخ محمد رشيد رضا ، حيث اقترح على صاحب المنار أن يعني بالرد عل أهل الإلحاد وأصحاب النزعة العقلية الجامحة .
وفي تلك الجوانب ما يبين أن إجلال العالم والانتفاع بعلمه لا يمنع من دعوته وتوجيهه كما في موقف الشيخ حمد بن عتيق مع الشيخ محمد صديق حسن ، وما حصل من هداية للشيخ علي باصبرين على يد تلميذه الشيخ صالح البسام ، كما أن في تلك الجوانب ما يبرز التضحية والبذل في سبيل نصرة دين الله تعالى وتبليغه عند علماء الدعوة ، كما في جهود الشيخ عبد الله القرعاوي والشيخ عبد الرحمن الدوسري ونحوهم .(1/30)