واقع لا نتجاهله
ص _008
واقع لا نتجاهله قصة الكفر والإيمان قديمة قدم الخليقة، وعندما ندرسها فنحن ندرس واقعآ لامهرب منه، فلا مجال للتبرم ولا مكان للمفاجأة (هو الذي خلقكم فمنكم كافر ومنكم مؤمن والله بما تعملون بصير). بل يبدو أن الاختيار الواسع لبنى آدم وضعت دعائمه ومعالمه على أساس هذه الفرقة وما يتبعها من شقاق بارد أو ساخن (ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة ولا يزالون مختلفين * إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم .... ) . ويغلب أن يتوارث الناس الكفر والإيمان كما يتوارثون اللغات والألوان، فإن البيئات تفرض نفسها على الأجيال الناشئة فرضا حاسما. بيد أن هناك اختلافا بين وراثة الدين ووراثة اللغة، فالمرء يتحدث باللغة التى ورثها بلا حرج ولا عائق! فهل كذلك الموقف مع الدين الموروث؟ هناك فروق شتى تكثر وتقل مع مقدار الذكاء الشخصى ومع مقدار الصحة فى العقيدة الموروثة. وما أظن بشرا يخلو من أحاديث نفسية حول قيمة مواريثه كلها، لا سيما عند فترة النضج، وعندما تسنح فرصة للمقارنة بين معتقد وآخر..!! وقد رأيت القرآن الكريم يعرض نفسه على البشر متسللا إلى أقصى الضمير، محاورا كل الهواجس المتحركة في أعماق الإنسان، يناجى برقّة حينا، ويخاطب بشدة حينا آخر، قد يعرض إعراضا سريعا ليعود على عجل، وهو فى حالى الإعراض والعودة يطلب من المرء أن يفكر ويتأمل وينصف ويستقيم.. أظننى أحصيت نحو 120 آية قرآنية تتحدث مع خصوم الإسلام. تعالج التقاليد ص _009(1/1)
المؤثرة فيهم ، وتساعد نوازع الخير التى تتمرد عليها، وتدعم العقل فى عراكه مع الهوى، وتقوّى فطرة التوحيد وهى تصارع الشرك، وتطفئ نيران العناد وتمزق حجب الغفلة، وتقود الناس قودآ رفيقآ إلى ربهم!. وقد عشت طويلا مع هذه الآيات الكثيرة، وأحسست أنها نسائم من رحمة الله بالمخالفين. وكم قدرت مشاعر الرفق والتلطف فى قول الله لنبيّه: (نحن أعلم بما يقولون وما أنت عليهم بجبار). إن أحزاب الكفر تفترى الكثير على الله، وتوغل فى ضلالها، ولكنك لست حاكما عسكريا تعالج بعصاك نواصى الخاطئين! إنك معلّم تحارب الجهل، ومذكر تطارد الغفلات، ومعك كتاب دارس لعلل القلوب، خبير بمهاربها عندما تفاجأ بما لم تألف: (فذكر بالقرآن من يخاف وعيد). المشكلة فى نظرى أن بعض الدعاة لا يدرى نفاسة ما عنده، بل ربما كانت قدرته على الإماتة أظهر من قدرته على الإحياء..! ص _011
أوهام سيئة ص _012(1/2)
أوهام سيئة نعم، من علماء الدين، وقراء الكتاب العزيز، من لم يتذوق أدب الحوار الطويل مع المخالفين، فتجاوز الآيات التى أربت على المائة، وزعم أن الإسلام قام من البداية باستعمال العصا الغليظة فى التعامل مع خصومه، وأنه إذا كان قد هادنهم يوماً فلضرورات موقوتة! ثم شرع يجتاحهم بعد ذلك دون هوادة.. قرأت لنفر منهم كلاماً طويلاً فى أن الإسلام دين هجومى يضع خططه للحرب لا للسلم، وشعرت بالغيظ لتحريف الكلم عن موضعه من ناحية ، ولتناول الوقائع دون أدنى وعى بملابساتها من ناحية أخرى.. خذ هذا المثال: الأسباب التى دفعت إلى معركة "مؤتة" معروفة، ولعل كتاب السيرة المحدثين، أقدر على تصوير هذه الأسباب من الكتاب القدامى، فقد أرسل النبى(صلى الله عليه وسلم) واحداً من رجاله بكتاب إلى أحد الأمراء الغساسنة يدعوه إلى الإسلام، وهؤلاء الأمراء كانوا موالين للروم، يدينون دينهم وينفذون سياستهم، وقد شعروا مع سادتهم بالقلق للدين الجديد وللنجاح الذى يلقاه، فماذا يصنعون؟ عمد الأمير الذى جاءه كتاب النبى (صلى الله عليه وسلم) الى الكتاب، فطوّح به، وإلى حامله فقتله!! واستعد مع الرومان لمواجهة تبعات هذا الموقف الآثم..! ماذا تفعله أى دولة تهان دعوتها ويقتل رجلها على هذا النحو؟ لابد أن تقاتل! و القتال الذى فرضته الظروف صعب، فإن الرومان شدّوا أزر الأمير القاتل بعشرات الألوف من جيشهم الكثيف. وواجه الرجال الذين قاتلوا فى "مؤتة" معركة قاسية، استشهد فيها القادة الثلاثة الذين التحموا مع الرومان وحلفائهم، واستطاع خالد بن الوليد أن ينسحب بالجيش، وأن يجنبه خسائر لا آخر لها.. ولست أؤرخ لهذه المعركة الآن، ولكنى أعلّق على ما قرأته فى كتاب ظهر حديثاً لأحد العلماء، يذكر قصة مؤتة ويقول: إن المؤرخين يحاولون ذكر أسباب للقتال الذى ص _013(1/3)
وقع، ولاضرورة لذكر هذه الأسباب! لماذا نعلل لكل حرب خاضها المسلمون؟ يكفى أن نعرف طبيعة الإسلام فى التوسع لنعرف سر القتال!! الكاتب غفر الله له؟ نسى الرسالة الموجهة إلى العميل الرومانى ونسى مصرع صاحبها، ونسى أن الرومان- وموطنهم الأصلى أوروبا- تدفقوا نحو مائة ألف إلى قلب الحجاز، ولم يجيئوا فى نزهة صحراوية، وإنما جاءوا فى مظاهرة عسكرية لضرب الدين الجديد ومنع الدعوة من التسلل شمالىّ الجزيرة العربية.. كل ذلك لم يلفت نظر المؤلف الأديب، إنما لفته إبراز الطبيعة التوسعية للإسلام! إن التوسع الإسلامى لايعتمد على القهر، وحروب العدوان، إن العملة المتداولة فى ميدان الدعوة الإسلامية هى الفكر الحر!!. ومقاتلة الإسلام للرومان كانت أشرف قتال عرفته الدنيا، لأن الإمبراطورية العجوز استهلكت شعوبآ كثيفة داخل سجونها قرونآ طويلة. وعندما نكتب سيرة نبينا بهذا الأسلوب فماذا يبقى للمبشرين والمستشرقين؟؟ عندما تعرض الحق على الناس فى بيئة جاهلة به فلن يقول لك المستمعون: أهلا وسهلا! سيكون هناك مستغربون، وسيكون هناك رافضون! وربما آمن البعض على عجل، وربما قاوم بعضهم بضراوة، ولن تتحدد المواقف إلا بعد آماد طوال يصبر فيها الدعاة، ويقابلون الهزء بالسكينة والاستفراز بالحلم.. كذلك كان الأنبياء على امتداد العصور وكذلك كانت سيرة خاتمهم محمد بن عبد الله عليه الصلاة والسلام.. مع ما تميزت به رسالاتهم من وضوح وتجرد وإشراق.. أما اليوم فالدعوة مثقلة بما يضيرها أو يزهد فيها.. هناك من يدعو إلى الشكل قبل الموضوع وإلى النافلة قبل الفريضة، وإلى الحكم الفرعى قبل القاعدة الكلية، وإلى مافيه خلاف قبل مالا خلاف فيه! ثم يدق طبول الحرب وهو صفر اليدين من سلاح يجدى، فإذا الغبار ينجلى عن هزيمة مضاعفة للحق، إنه انهزم مرتين، مرة فى ميدان الدليل ومرة فى ميدان القتال! وبهذا الفكر المعتل يكتب دعاة عن قيام الإسلام على السيف، واجتياحه للخصوم(1/4)
ورغبته فى الهجوم! ويرجعون إلى الكتاب الكريم والسنة المطهرة كى يحرفوا الكلم عن مواضعه، أو يقلبوا النصوص رأسآ على عقب. ص _014
خذ مثلا آخر: إن النبى عليه الصلاة والسلام أخرج من مكة هو ومن آمن به بعد ثلاث عشرة سنة حافلة بالآلام والأحزان. ولم تهدأ عداوة قريش ضد الإسلام بعد الهجرة، بل وثبت على كل من شرح بالإسلام صدرا من أهل مكة، فنكلت به، وكان دعاء المستضعفين والمفتونين: (ربنا أخرجنا من هذه القرية الظالم أهلها واجعل لنا من لدنك وليا واجعل لنا من لدنك نصيرا). فهل يوصف قتال المسلمين لقريش بأنه حرب هجومية بعد هذه الأحداث الواضحة؟ ومعروف أن الرومان انتشروا فى آسيا وإفريقية كالجراد الذى يأتى على الأخضر واليابس. والاستعمار الرومانى مقرون بالاستبداد والقسوة والكبرياء. وقد احتضن النصرانية فشوهها، ومال بها نحو الوثنية، وطارد الكنائس الموحدة حتى أبادها، وعندما ظهر الإسلام اعترض طريقه، وضنّ عليه بحرية الحركة، ونازله شمالىّ الجزيرة ليقضى عليه! فهل تصدى المسلمين للصلف الرومانى، وكسرهم الطوق الذى وضعه يوصف بأنه حرب هجومية ؟ نشأت عن رغبة الإسلام فى التوسع ؟ أى توسع؟ هل حق الدين الجديد فى عرض نفسه على الناس كلهم، وإباؤه تكميم الأفواه وفتنة الضعاف هو العيب الذى يوصف به ويلام عليه؟ ومع هذه المقررات البديهة فإن رئيس حزب إسلامى يكتب فى نشرة مطولة لأعضاء حزبه أن الإسلام يبدأ بالقتال ويرسم خطة الهجوم على مخالفيه. يقول الشيخ تقى الدين النبهانى رحمه الله: "إن قول الرسول عليه الصلاة والسلام وفعله يدل دلالة واضحة على أن الجهاد هو بدء الكفار بالقتال لإعلاء كلمة الله، ولنشر الإسلام" ويقول "إن خروج الرسول إلى بدر لأخذ قافلة قريش هو خروج للقتال، هو مبادأة بالقتال، فقريش كانت دولة ، ولم تكن بعد قد اعتدت على الرسول أو على المدينة حتى يدافع عنها، بل هو الذى بدأهم بالقتال " إن تصوّر الوقائع على هذا النحو أقرب(1/5)
إلى الهزل منه إلى الجد ولا أدرى كيف يستقيم فى عقل إنسان أن المطرودين من ديارهم، المصادرين فى عقائدهم لم يتعرض لهم أحد بعدوان؟ ص _015
ويمضى رئيس حزب التحرير الإسلامى فيقول: إن قيام النبى لإرسال الجيش إلى "مؤتة" لقتال الروم، وتوجّهه إلى تبوك مقترباً من حدود الروم، لمقاتلتهم ظاهر فيه كل الظهور أنه بدء بالمقاتلة...!! " وهذا الكلام من أغرب ما يقال، وعلى ضوء هذا المنطق المدهش يمكن وصف الحروب التى يقوم بها زنوج إفريقية الجنوبية الآن بأنها حروب هجومية، ووصف المناوشات التى يقوم بها عرب فلسطين ضد "دولة إسرائيل" ، بأنها قتال هجومى!! إن العقل الذى يلتقط صور الأحداث بهذا الإبتار والتقطيع والحكم العجول يجب الإعراض عنه. ومن المؤسف أن يكون لهذا التفكير وجود بين الإسلاميين.. لا يحتاج الإسلام إلا إلي جو خرّ كى ينتشر ويدخل الناس فيه أفواجا، مادام العرض سليما، والعائق منفيّا.. ونحن لا نكره أحدا على دين، ولا نقبل إيمان مكره، كما أننا نحتكم إلى العدل المطلق فيما ينشب بيننا وبين غيرنا من خلاف، ولا يميل بنا عن العدل حب ولا بغض.. ولو كانت دولتا الروم والفرس تقومان على مبادئ الحرية والعدالة وضمان الحقوق الإنسانية ما قامت بيننا وبينهما حروب.. الذى وقع داخل الدولتين وخارجهما أن الاستبداد السياسى حبس الجماهير وراء سياج حديدى بالغ القسوة، وأن جنون القوة أغرى الدولتين معا بتكسير المصابيح التى حملها الإسلام، فكان القتال لا لنشر الإسلام، ولا لإكراه أحد على اعتناقه، بل لكى تسود الأوضاع الطبيعية. بعدئذ فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر. ولا يطلب الإسلام فى الميدان العالمى أكثر من حريات مستقرة، وإذا عجز المسلمون فى ميدان تكافؤ الفرص، وحرية الأخذ والرد، عن نشر دينهم، فلا أقدرهم الله ولا بارك فيهم! إننى أعود إلى قومى فأسائلهم: لقد أمركم الله أن تكونوا أمة دعوة (ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف(1/6)
وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون) فماذا صنعتم لتلبية هذا التكليف الإلهى؟ أين الأجهزة التى تنهض بهذا العبء النبيل؟ إن فن الدعوة يحتاج إلى ألوف من الأذكياء الأتقياء يأخذون طريقهم إلى الأفئدة والعقول بلباقة ورفق، فإذا اعترض السيف هؤلاء برز من جانبنا سيف يناوشه ويعيده إلى غمده، ويترك الحكم للمنطق والأدب لا لغرائز السباع.. ص _016
إن هذا هو اتجاه الوحى النازل علينا، وهو المفهوم من عشرات النصوص التى نتلوها.. ومن ثم فإننى أنظر باحتقار شديد إلى أشخاص عجزة فى ميدان الدعوة، كسالى فى سباق الخير، لا صياح لهم إلا السيف السيف !! ولو قام السيف لكانوا أول ضحاياه! لقد أصاب الإسلام ضرر شديد من الانحصار العقلى الذى سيطر على أولئك المتحدثين ومن التحريف الذى فرضوه على الأحداث، فأمست قريش معتدىّ عليها فى معركة بدر! وأمست الإمبراطورية الرومانية الاستعمارية معتدى عليها فى مؤتة وتبوك! وانتقل هذا الاضطراب الفكرى إلى نصوص الكتاب والسنة، فإذا تيار من الفوضى يلغى باسم النسخ نحو 120 آية قرآنية، ويعوج بمفهوم آيات أخرى، ويخرج الإسلام للناس فى صورة دميمة! ونحن بتوفيق الله نتناول الموضوع كله بشىء من التفصيل، وأصارح بأنى أتبع خطى الراسخين فى العلم، وأطيل التأمل فيما ينقل إلينا من أقوال ومذاهب.. إن كتبنا القديمة تجمع فى القضية الواحدة ركاما من الآراء فيه الصحيح، وفيه الذى يحتمل الصحة، وفيه الباطل وفيه السقيم، ويجيء ذوو النظرات السطحية فيقرءون هذا وذاك، وربما لم يعلق بأذهانهم إلا ما لا خير فيه.. وهذا الخلط المتباين أساء إلى ثقافتنا الإسلامية، وربما منح الحياة مرويات كان يجب أن توءد يوم ولدت! وقد سمعت البعض يرحب بهذه الحرية! ولكنى عند التدبر والموازنة شعرت أن العملة المزيفة طردت العملة الصحيحة.. ولما كان الحكام المسلمون فى أغلب العصور أفرادا يغلب عليهم الجهل، فإن سلطاتهم الواسعة ساندت الأوهام والأخطاء،(1/7)
لاسيما فى ميدان الدعوة.. إن المسلمين حملة رسالة عالمية بيقين! ونقل هذه الرسالة إلى الناس وظيفة شريفة. وغياب الحكومات الإسلامية عن هذا النقل وضماناته وتبعاته أمر غير طبيعى، كما أن ربط هذا النقل بأهواء الحكام وأمجادهم الخاصة مرفوض.. وسأبدأ سردا للآيات التى تضمنت سياسة الدعوة وجهادها وردا للآراء التى وقفت تنفيذها باسم النسخ. ومن خلال السرد والرد معا سيعرف القارئ المسلم أسلوب النّفس الطويل الذى سلكه الإسلام فى هداية أهل الأرض واقتيادهم برفق إلى الصراط المستقيم.. وعندئذ نعلم متى يلجأ المحرج الى السيف و كيف تستخدمه . ص _017
تأويلات الجاهلين ص _018(1/8)
تأويلات الجاهلين... 1- من سورة البقرة: ( أ ) (ود كثير من أهل الكتاب لو يردونكم من بعد إيمانكم كفارا حسدا من عند أنفسهم من بعد ما تبين لهم الحق فاعفوا واصفحوا حتى يأتي الله بأمره إن الله على كل شيء قدير) (الآية 109). يقول ضعاف النظر: لا عفو ولا صفح، والآية منسوخة! أما الراسخون فى العلم فيرون الآية محكمة ويجعلون الحلم والأناة والتجاوز من ألزم الخلال للداعية. ربما فشل القول اللين فى إقناع فرعون بأنه بشر عادى وليس إلها كما يزعم، بيد أن هذا الفشل لا يقيم سياسة الدعوة على المخاشنة وإغلاظ القول، بل يجب أن تبقى هذه السياسة ملتزمة السماحة والترفع. وللكفاح بين الحق والباطل أجل محدد استأثر الله بعلمه، وقد ظهر من سنن الله فى الأمم السابقة أن القدر الأعلى يتدخل على نحو ما، فيحق الحق ويبطل الباطل، طال الزمان أو قصر. وعلى المؤمنين أن يبقوا حتى اللحظات الأخيرة متمسكين بفضائلهم وشرف أنفسهم، يؤثرون الإقناع على التحدى، والتعليم على العدوان.. (ب) (قل أتحاجوننا في الله وهو ربنا وربكم ولنا أعمالنا ولكم أعمالكم ونحن له مخلصون) (الآية 139). يقول ضعاف النظر: الآية منسوخة، ولا نعترف بأن لنا أعمالنا وللكافرين أعمالهم، بل يجب أن نقاومهم، ونعترض مسالكهم! وهذا رأى سقيم فنحن نوضح المنهج السليم وندعو إليه بلطف، ونقول لغيرنا: إن اله رب الكل، وسيجزى كل امرئ من جنس عمله إن قريبا وإن بعيدا. ص _019(1/9)
وقد يكون خصومنا أصحاب مسالك رديئة، زينها الشيطان لهم فأضحوا يستحسنونها ويكابرون بها، وعلينا أن نبصرهم بوخامة ما يفعلون، ووسامة ما نفعل، ضامين إلى ذلك ما نتميز به من إخلاص لله ورغبة فيما عنده. والراسخون فى العلم يرفضون القول بالنسخ، ويرون ما تضمنته الآية من إنصاف وتواضع وجدال حسن منهجآ باقيآ بقاء الدعوة الإسلامية، بل يرونه الرد الواجب للمكابرين والمتعنتين.. (ج)( وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين) (الآية 190) (واقتلوهم حيث ثقفتموهم وأخرجوهم من حيث أخرجوكم والفتنة أشد من القتل ولا تقاتلوهم عند المسجد الحرام حتى يقاتلوكم فيه فإن قاتلوكم فاقتلوهم كذلك جزاء الكافرين) (الآية 191) (فإن انتهوا فإن الله غفور رحيم ) (الآية 192) (وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين لله فإن انتهوا فلا عدوان إلا على الظالمين ) (ا لآية 193) يرى ضعاف النظر أن هذه الآيات كلها منسوخة، وهو رأى أفن، فحرب العدوان كانت ومازالت حراما من بدء الخلق إلى قيام الساعة! والسؤال الذى ينبغى أن نحسن الإجابة عليه: هل مقاتلة الرومان الذين خرجوا من أوروبا واحتلوا مصر والشام وانحدروا إلى الحجاز تعتبر حرب عدوان؟ هل استنفاذ زنوج جنوب إفريقية، ومطاردة البيض الحاكمين تعتبر حرب عدوان؟ هل رد أهل فلسطين إلى بيوتهم، وإعادة اليهود القادمين من أمريكا واستراليا من حيث جاءوا حرب عدوان؟ إن الزعم بأن حرب العدوان جائزة جريمة خلقية، والغاية لا تبرر الوسيلة، وما نقاتل نحن المسلمين إلا تأمينا للدعوة، أى توطيدا للحرية! ومنعا للفتنة أى حماية لإيمان المستضعفين وصدا لبطش الأقوياء بهم... ص _020(1/10)
(د) (يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه قل قتال فيه كبير وصد عن سبيل الله وكفر به والمسجد الحرام وإخراج أهله منه أكبر عند الله والفتنة أكبر من القتل ولا يزالون يقاتلونكم حتى يردوكم عن دينكم إن استطاعوا ومن يرتدد منكم عن دينه فيمت وهو كافر فأولئك حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة وأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون) (الآية 217) يقول بعض العلماء: إن القتال فى الأشهر الحرام كان ممنوعا ثم أبيح بآية السيف وهذا القول متهافت، مردود الحجة، والذي عليه الراسخون فى العلم أن حرمة الأشهر باقية إلى آخر الدهر، وليس هذا ما يعنينا الآن! الذي تبرزه الآيات هنا شيء مهم! هو أن الذين يستبيحون حقوق الله وحقوق الإنسان لا يجوز لهم أن يجأروا بالشكوى إذا وقع عليهم بعض التأديب لما اقترفوا..! إن أهل مكة استباحوا من قبل البلد الحرام والدم الحرام وهم سكارى بخمرة القوة! فكيف يعترضون اقتصاص الضعاف لأنفسهم إذا واتتهم الفرصة!؟ ما أشبه منطق الوثنيين قديمآ بمنطق الدول الاستعمارية الآن، تتحدث عن المواثيق العالمية إذا أضيرت مصالحها، وتلوذ بصمت القبور إذا انتهك غيرها... (هـ) (لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى لا انفصام لها والله سميع عليم) (الآية: 256) القول بجواز الإكراه فى الدين جريمة علمية وتاريخية، ولم يقع فقط فى السيرة النبوية ولا فى الخلافة الراشدة أن أحدا من الناس أكره على دخول الإسلام، بل جاء فى القرآن الكريم استفهام إنكاري موجه إلى النبي عليه الصلاة والسلام حتى لا يتحول إلحاحه في عرض الدعوة إلى لون من الإكراه (ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعا أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين) والقول بنسخ الآية جهل غليظ، وهو يشبه قول البعض أن الدعوة كانت فى صدر الإسلام، ثم نسخت بعد الغارة على بنى المصطلق! ص _021(1/11)
ومعلوم أن الدعوة وظيفة الأمة الإسلامية ما بقى الليل والنهار فكيف تنسخ؟ ولكن بعض البدو لا يزال يردد القول بنسخ آية "لا إكراه فى الدين" مع تألق ضوء الحرية في كل حرف منها، ويبدو أن بعض الناس لا يحسن العيش إلا قاطع طريق...! 2ـ من سورة آل عمران: (ا) (فإن حاجوك فقل أسلمت وجهي لله ومن اتبعن وقل للذين أوتوا الكتاب والأميين أأسلمتم فإن أسلموا فقد اهتدوا وإن تولوا فإنما عليك البلاغ والله بصير بالعباد) (الآية:20) يرى قصار النظر أن الآية منسوخة، وأن على المسلمين شيئا آخر غير البلاغ الذي أوضحته الآية، فلا ندع من تولى بكفره يرجع سالما إلى أهله!! والراسخون في العلم يرون الآية محكمة وأن المهمة الكبرى لنا هي البلاغ المبين، فمن لم يستجب له فوزره على أم رأسه، والله يتولى أمره.. ومادام لم يمنعنا من تبليغ، ولم يقف حجر عثرة في طريق مستجيب، فلا نتعرض له بسوء. وعلينا مداومة التعرض له بالحسنى، والتلطف معه بالقول والعمل ومصيرنا ومصيره إلى الله! (ب) (لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين ومن يفعل ذلك فليس من الله في شيء إلا أن تتقوا منهم تقاة ويحذركم الله نفسه وإلى الله المصير) (الآية 28) المداهنة في الحق رذيلة يقترفها أصحاب الأخلاق الضعيفة، وكثيرا ما يرجع انهزام العقائد والأمم إلى مسالك المداهنين و ممالأتهم لأعداء الله. ولذلك نحن نحكم بأن الذين يوالون أتباع الأديان الأخرى، وينصرون سياستهم، ويزكون آراءهم، ولا يكترثون بمصالح أمتهم ودينهم- نحكم بأنهم منسلخون عن الإسلام، ملتحقون بالعقائد المناوئة.. وتاريخ الخونة طويل في سعى الشعوب للتحرر والاستقلال، وقد لاحظنا أن صور الخيانة تكاثرت مع تعدد ميادين الغزو الثقافي والتشريعي والسياسي!ا في هذا العصر. ومصاب المسلمين من أولئك الخونة فادح.. ولابد من البت في أحوالهم حتى لا يطول انخداع الجمهور بهم.. وإذا كانت الموالاة على حساب الدين ممنوعة، فإن هناك(1/12)
ضروبا من العلاقات الأدبية والرياضية والتجارية قد تجمع بين المسلم وغير المسلم، وهذه لا ضير فيها ولا خوف منها.. ص _022
وعلى المسلم في تلك الحالات أن يكون صورة حسنة دقيقة لدينه، فإنه سيحمل وزر الصادّين عن سبيل الله يوم يكون خلقه منفّرا عن الإسلام، ملصقا به التهم. وقد يرشحه ذلك لخصومة رسول الله (صلى الله عليه وسلم)، لأن الرسول يدعو إلى الإسلام وهذا يصرف الناس عن الإسلام. ونحن نؤكد هنا أمورا مهمة: الأول: أن الله خلق الشعوب للتعارف لا للتناكر، وعلينا في المجامع المختلطة أن نبشر ولا ننفر، وأن نيسّر ولا نعسّر، وأن نقدم نماذج معجبة لديننا. الثاني: في قضايا الحق والباطل لا مجال للميوعة، فإن تجريد الحق مما يشوبه والتجرّد لنصرته أمر لا محيض عنه، ولا يقبل من أحد أن يداهن أو يهادن لغرض دنيوى. الثالث: في أحوال جزئية. وفى نطاق ضرورات قاهرة، ربما أذن في بعض التصرفات! لكن قانون الضرورة بطبيعته موقوت، ولا يعتمد عليه في إثارة الفوضى الاجتماعية. والفرق واضح بين الأدب والميوعة، وبين دماثة الخلق وضياع الحدود! (ج) (قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون ) (الآية: 64) ختم النبي (صلى الله عليه وسلم) بهذه الآية كتابه الذي أرسله إلى هرقل إمبراطور الروم، والآية محكمة إلى قيام الساعة، ومن البلاهة القول بنسخها. والذي وقع أن الإمبراطور لم ينتفع بها، فقد جاءته في السنة السابعة من الهجرة، ولم يمض عام حتى كان جيشه يقاتل المسلمين في مؤتة. وبعد عام آخر كان يهدد حدود الحجاز مما استخرج المسلمين إلى تبوك. وبعد عام ثالث كان يعاود استعراض قواه مما دعا إلى إرسال جيش أسامة! و ضري القتال بين الفريقين، والرومان من قبل ومن بعد هم مشعلو ناره، فنحن لم نحاربهم لنصرانيتهم وإنما حاربناهم لطغيانهم، ولو(1/13)
تركونا نبلغ رسالة الله ما كانت بيننا وبينهم حروب.. ص _023
3- من سورة النساء: (ا)( فكيف إذا أصابتهم مصيبة بما قدمت أيديهم ثم جاءوك يحلفون بالله إن أردنا إلا إحسانا وتوفيقا ) (الآية 62) (أولئك الذين يعلم الله ما في قلوبهم فأعرض عنهم وعظهم وقل لهم في أنفسهم قولا بليغا) (الآية 63) الإعراض هنا يعنى: لا يعجبك مسلكهم ولا تنخدع به فهو باطل، وامض على الصراط المستقيم الذي خطه الله لك، وأشعرهم بأنهم زائغون في بعدهم عنه، واسترسل في نصحك حتى تبلغ به أعماق قلوبهم.. ولا نسخ في الآية مادام شرهم لا يتجاوز هذا الحدّ! فإذا تجاوزه إلى العدوان تصدّينا له حتى نكسر شوكته. (ب)( من يطع الرسول فقد أطاع الله ومن تولى فما أرسلناك عليهم حفيظا ) (الآية80) (ويقولون طاعة فإذا برزوا من عندك بيت طائفة منهم غير الذي تقول والله يكتب ما يبيتون فأعرض عنهم وتوكل على الله وكفى بالله وكيلا ) (الآية 81) لا نسخ في الآيات، والنبي عليه الصلاة والسلام ليس مكلفا بتحويل العصاة إلى هداة، إنه يأمر وينهى وينصح ويرشد وذاك حسبه. وقد قيل له من قبل: "إنك لا تهدى من أحببت " فمن أهلك نفسه فمسئوليته تقع على أم رأسه. وعليه أن يقود المسلمين كما علمه الله، غير آبه لعصيان القوم ومكرهم وصدهم عن سبيل الله، فكيدهم مغلول، وتوكله على الله قائده إلى النصر وإن طال المدى! (ج) (فقاتل في سبيل الله لا تكلف إلا نفسك وحرض المؤمنين عسى الله أن يكف بأس الذين كفروا والله أشد بأسا وأشد تنكيلا ) (الآية 84) معنى الآية واضح، فالرسول يجاهد في سبيل ربه ويلقى أعداء الله غير مكلّف إلا نفسه، وليس له على سائر المسلمين إلا الحث والتحريض، وسوق الآية على هذا النحو إشعار لكل مؤمن بتبعته الخاصة أمام الله، حتى تنكسر شوكة الكفر. ولا نسخ هنالك! ص _024(1/14)
والذين توهموا النسخ ظنوا أن حكم الله هو أن يقاتل الرسول، وأن يشدّ غيره شدّا إلى ساحة الوغى ليقاتل معه! وهذا الذي توهموه نسخوا به المعنى الظاهر في النص، ولا مكان لهذا الوهم بداهة.. (د) (إلا الذين يصلون إلى قوم بينكم وبينهم ميثاق أو جاءوكم حصرت صدورهم أن يقاتلوكم أو يقاتلوا قومهم ولو شاء الله لسلطهم عليكم فلقاتلوكم فإن اعتزلوكم فلم يقاتلوكم وألقوا إليكم السلم فما جعل الله لكم عليهم سبيلا ) (الآية 90) الآية حاسمة في أن الذين لا يعتنقون الإسلام إذا آثروا السلام وابتعدوا عن أسباب الصدام فلا يجوز بتة أن نتحكك بهم أو نتعرض لهم بشرّ.. ولماذا أوذي رجلا تركني أدعو فلم يمنعني من دعوة؟ وترك من شاء يسلم فلم يضع في طريقه عقبة؟ إن الله حصّن هذا الرجل فلم يجعل سبيلا إلى إيذائه، بل ينبغي أن أبسط له ودي حتى ينضمّ إليّ يوما بمحض مشيئته، والزعم بأن الآية منسوخة لون من العبث والتجنّى، وجهل بساسة الدعوة. 4ـ من سورة المائدة: (ا)( يا أيها الذين آمنوا لا تحلوا شعائر الله ولا الشهر الحرام ولا الهدي ولا القلائد ولا آمين البيت الحرام يبتغون فضلا من ربهم ورضوانا وإذا حللتم فاصطادوا ولا يجرمنكم شنآن قوم أن صدوكم عن المسجد الحرام أن تعتدوا وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان واتقوا الله إن الله شديد العقاب ) (الآية 2) تم فتح مكة في السنة الثامنة، وأضحى الإسلام سيد الموقف في الجزيرة كلها، وهذه الآية تيسّر للمشركين أن يؤدوا مناسك الحج كما كانوا يفعلون قديما والقضية كلها أمست في ذمة التاريخ.. ص _025(1/15)
وقد لوحظ أن ضغائن الوثنيين لم تهدأ، وغدراتهم لم تؤمن فنزل تشريع خاص بهم في السنة التاسعة يكفّ أذاهم إلى الأبد، وسنشرح ذلك في حينه. وليس في الآية ما يعد منسوخا، بل سياقها قائم على تعظيم شعائر الله ، وإقامة سياج حول المناسك، يوفر لقاصديها الأمان والثقة.. (ب)( اعلموا أن الله شديد العقاب وأن الله غفور رحيم ) (الآية 98) (ما على الرسول إلا البلاغ والله يعلم ما تبدون وما تكتمون ) (الآية 99) علاقة المسلمين بأتباع الأديان الأخرى تدور على محور واحد، عرض مبادئ الإسلام بوضوح، وردّ الشبهات بأدب، وإعطاء فرص للتأمل والحكم المتأني فلا استعجال ولا استغلال. إنه البلاغ الخالي من الإكراه، الذي يخفى بين كل امرئ وضميره، فإن شاء أسلم وإن شاء بقى حيث هو وحسابه إلى الله.. هذه علاقتنا الخارجية بغيرنا، أما التنظيم الداخلي للمجتمع الإسلامي فتحكمه سلسلة من العقائد والأخلاق والأحكام تمنع استعلاء الرذائل و المناكر، وتغل أيدي المجرمين.. (ج) (يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم إلى الله مرجعكم جميعا فينبئكم بما كنتم تعملون ) (الآية 105) الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر من أصول الهداية الإسلامية ولا يوصف إنسان بالاهتداء، إذا كان بليد الحس بقبح الشر وجمال الخير، ينبغي أن يأمر وينهى! لكن، أهو مكلف ببلوغ الأمر والنهى درجة التنفيذ الفعلي؟ الناس ليسوا سواء في وظائفهم الاجتماعية، وفي السلطات المتاحة لهم. ونحن نجزم بأنه ليس من حق اللص أن يقول لرجال الشرطة: دعوني وشأني! لا يضركم من ضل إذا اهتديتم! فترك اللص يسرق، أو الخائن يرتشي، جرائم تهدد المجتمع كله، وتنقض قواعده. ومن هنا كان لتنظيم البيت الإسلامي الداخلي وضع يغاير الأوضاع المرسومة في معاملة أبناء الملل الأخرى حين ندعوهم إلى الإسلام. ص _026(1/16)
وقد لاحظت- في محنة العالم الإسلامي اليوم- وجود عصابة تعمل على شل الأجهزة الداخلية في الكيان الإسلامي، وتجميد نشاطها باسم الحرية الدينية أو باسم "لا إكراه في الدين ". اكذب أو اصدق! أعط أو ابخل! صلّ أو لا تصلّ! أنت حر لأنه لا إكراه في الدين... وقتل الإسلام بهذا الكلام منهج يعمل له بعض أساتذة الجامعات! وهذا المنهج يطبّق على الإسلام وحده بداهة، لأن القوى الكبرى تريد ذلك، أما بالنسبة إلى أديان أخرى فـ " مستر ريجان " رئيس الولايات المتحدة يدعو إلى تكليف طلاب المراحل الأولى بإقامة الصلوات الدينية في مدارسهم! وحاخام الجيش الإسرائيلي يعلن أن حرب الإبادة هي حكم الله في أعداء إسرائيل... إن المسلمين يعلمون أنه لا إكراه في الدين أي أنه لا يجوز إرغام امرئ قسرا على الدخول في دين الله (وقل الحق من ربكم فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر) فإذا دخلت جموع غفيرة في دين الله طائعين غير كارهين فكيف يبنون مجتمعهم؟ يبنونه بداهة وفق تعاليم الإسلام، فيفعلون ما أمر الله به ويتركون ما نهى عنه، ويلتزمون حدوده بوفاء وشرف حسب القاعدة المقررة (سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير). هل للمسلم بعدما اعتنق الإسلام ألا يلتزم وألا يتبع وألا يتقيد، وأن ينطلق بدوافع هواه مثيرا للفوضى، ومعتديا الحدود؟ يقول الله في هذا (وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم ومن يعص الله ورسوله فقد ضل ضلالا مبينا). أرجو أن نعرف الفروق بين أسلوب الدعوة وبين عمل الدولة ووظائف أجهزتها التنفيذية! فأسلوب الدعوة أساسه الإقناع والجدال الحسن والحوار الهاديْ ، أما الأجهزة التنفيذية للدولة فتقوم على الشرطة والقضاء والجيش، أي على صيانة الأمن ومنع الجرائم. ص _027(1/17)
ولو اقتضى الأمر إعدام مجرمين وجب الاقتصاص منهم، أو حبس معتدين استغلوا حرياتهم في الإفساد، أو إطفاء فتن هاجها أصحاب شغب. ولا مساغ للخلط بين طرق الدعوة القائمة على الحكمة والموعظة الحسنة، وبين وسائل الحكومة في حرب الجريمة، وفى صيانة الدم والمال والعرض. والغريب أن أحد الأطباء قرأ كلاما لابن تيمية في السياسة الشرعية فحمله على غير وجهه وضل ضلالا بعيدا في فهمه. قال ابن تيمية: من عدل عن الكتاب يقوم بالحديد، ولهذا كان قوام الدين بالمصحف والسيف، فيجب أن نضرب بهذا يعنى السيف من عدل عن هذا- يعنى المصحف.. والرجل الفقية الواعي إنما يقصد اللصوص الدعاة وقطاع الطريق ومعتادي الإجرام الذين لا يصلح في توعيتهم إلا قهر الدولة... وقد ألف ابن تيمية رسالة أوضح فيها أن الإسلام لا يقوم على الإكراه، ولا ينتشر بالسيف، ولا يعدّ الكفر علة لإعلان الحروب، وقد حقق الرسالة ونشرها وشرحها الشيخ عبد الله آل محمود رئيس المحاكم الشرعية بدولة قطر.. ويحزننا أن ناسا من قراء الكتب الدينية يخلطون خلطا منكرا في فهم النصوص، ويحرفون الكلم عن مواضعه.. ولا يزال نفر من هؤلاء يعملون على هدم "الدولة" في الإسلام محصورين داخل آيات نشر الدعوة الإسلامية.. وعندي أن المرء الذي يعطي نفسه حق العفاف أو العهر. لأنه لا إكراه في الدين جدير بضرب عنقه، لأنه فوضوي خسيس!! 5- من سورة الأنعام: (ا) (وكذب به قومك وهو الحق قل لست عليكم بوكيل ) (الآية 66) (لكل نبإ مستقر وسوف تعلمون ) (الآية 67) (وإذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا فأعرض عنهم حتى يخوضوا في حديث غيره وإما ينسينك الشيطان فلا تقعد بعد الذكرى مع القوم الظالمين (الآية 68) ص _028(1/18)
(وما على الذين يتقون من حسابهم من شيء ولكن ذكرى لعلهم يتقون) (الآية 69) (وذر الذين اتخذوا دينهم لعبا ولهوا وغرتهم الحياة الدنيا وذكر به أن تبسل نفس بما كسبت ليس لها من دون الله ولي ولا شفيع وإن تعدل كل عدل لا يؤخذ منها أولئك الذين أبسلوا بما كسبوا لهم شراب من حميم وعذاب أليم بما كانوا يكفرون) (الآية 70) إن الأرض لم تخلق لنا وحدنا، ولا تصلح بنا وحدنا، إننا نبلغ مليارا من الأنفس أي أننا خمس سكان العالم، ومن الخير أن نألف هذا الواقع وأن نحسن التعامل معه، يجب على كل مسلم أن يتساءل بجد كيف يحكم تصرفاته مع أربعة آخرين على غير دينه! ونحن المسلمين نؤمن بالله، ونستعد للقائه ونرتبط بوحيه، وإيماننا لا يشوبه تجسيد ولا تعديد، وعملنا للآخرة لا يشوبه خيال ولا توهم، وارتباطنا بالوحي يتسم بالشمول والوفاء.. ونحن في هذا كله نخالف أهل الكتاب بل أكثر من ذلك نحن نخالف من لا كتاب لهم، ولا مولى لهم! وإذا كنا لا نرغم أحدا على اتباعنا وإذا كان أكثر الناس ليس على عقائدنا ومسالكنا فمعنى هذا أن تفيض المجالس والمحافل بما لا نهوى ولا نرضى! فماذا نعمل؟ لابد من احترام الحق الذي شرفنا الله به، وتبويئه مكانة رفيعة، ونحن بين أمرين: المصارحة المهذبة بما لدينا، وتأكيد استمساكنا به! أو الانسحاب من المجالس التي تمسّنا ورفض المشاركة فيها.. والآيات هنا تنهى عن البقاء في مجلس يهان فيه الوحي الأعلى إجلالا للحق، واستثارة لمعارضيه حتى يرعووا ويتأدبوا. ثم جاء أمر آخر بترك الذين اتخذوا دينهم لعبا ولهوا وهذا الترك فيه رفض لمجون العابثين، وفيه ثبات على الصراط المستقيم، وهذا يكفى! قد يرى البعض أن نقطع الألسنة الماجنة، وأن نتتبع بالسيف المجالس اللاغية الخائضة في آيات الله.. والذي نراه أن يتدخل اللسان والقلم في هذه المعارك وكفتنا هنا أرجح، أما الاحتكام إلى القوة فإننا نلجأ إليه إذا لحقتنا الدنية وآخر الدواء الكيّ، والآيات(1/19)
محكمة لا منسوخة، وقد نزلت في أحداث تكررت في كلا المجتمعين المكي والمدني... ص _029
(ب) (وما قدروا الله حق قدره إذ قالوا ما أنزل الله على بشر من شيء قل من أنزل الكتاب الذي جاء به موسى نورا وهدى للناس تجعلونه قراطيس تبدونها وتخفون كثيرا وعلمتم ما لم تعلموا أنتم ولا آباؤكم قل الله ثم ذرهم في خوضهم يلعبون ) (الآية 91) الأمر بترك الخائضين هنا نوع من الإعراض عن الجاهلين، على أمل أن تستيقظ ضمائرهم يوما، وهو ترك إيجابى لا سلبى. أى أنه وقع بعد إقامة الحجة عليهم وكشف ما هم فيه من أباطيل، والداعية القوي يقدر على دفع الباطل وكشف زيفه تاركآ أصحابه يستحيون من جهالتهم ولجاجتهم، ولعلهم بعد يهتدون، والآية محكمة. (ج) (قد جاءكم بصائر من ربكم فمن أبصر فلنفسه ومن عمي فعليها وما أنا عليكم بحفيظ ) (الآية 104) (وكذلك نصرف الآيات وليقولوا درست ولنبينه لقوم يعلمون ) (الآية 105) (اتبع ما أوحي إليك من ربك لا إله إلا هو وأعرض عن المشركين) (الآية 106) (ولو شاء الله ما أشركوا وما جعلناك عليهم حفيظا وما أنت عليهم بوكيل) (الآية 107) هذه الآيات من ألمع الأدلة على احترام الإسلام لحرية الإرادة وبنائه الإيمان على الاقتناع المجرد. والمهم أن تقدم الدعوة مقرونة ببراهينها التي تجعلها بصائر للناس، وأن تستثير العلم الفطرى المركوز فى الطبائع حتى يكون عونا لك. وأن تكون صورة متقنة لما تدعو إليه أو لما أوحى إليك. إن إعراضك عن المبطل بعد هذا يتركه فى وحشة نفسية مقلقة قد تكون باعثة بعدئذ على تصديقك. ولست مكلفا بحمل الناس على اليقين بالقوة ملكتها أو لم تملكها، فلا وزن لإيمان من هذا النوع. ص _0 ص(1/20)
(د) (قل يا قوم اعملوا على مكانتكم إني عامل فسوف تعلمون من تكون له عاقبة الدار إنه لا يفلح الظالمون ) (الآية 135) هذا الأمر ينطوي على إزعاج نفسي أو تهديد أدبي، وغايته أن يعود الحائر إلى نفسه يراجعها لترجع عن خطئها، وهو لون من التربية الصالحة ولا معنى للقول بالنسخ. (هـ) (هل ينظرون إلا أن تأتيهم الملائكة أو يأتي ربك أو يأتي بعض آيات ربك يوم يأتي بعض آيات ربك لا ينفع نفسا إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيرا قل انتظروا إنا منتظرون ) (الآية 158) الإيمان عند الغرق. أو عند الغرغرة أو عند مواجهة الخوارق التى تخضع لها الأعناق، لا قيمة له! إنه يشبه نجاح الطالب الذى عجز عن الإجابة حتى جاءه كتاب فغشّ منه، أو أستاذ فلقنه ما كتبه، لا يعد هذا نجاحا. والمطلوب من البشر أن يعرفوا ربهم في هذه الظروف العادية التى يعيشون فيها. وأدلة الإيمان لا حصر لها، فإن عموا عنها فلا خير فيهم، وإيمانهم عند مواجهة البلاء مرفوض! والأمر بالانتظار هو من قبيل التخويف الأدبى، والدفع إلى النجاة. (و) (إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا لست منهم في شيء إنما أمرهم إلى الله ثم ينبئهم بما كانوا يفعلون ) (الآية 159) لا نسخ فى الآية، وقول الله لنبيه: لست منهم فى شيء ليس إذنا بقتالهم، وإنما هو إشعار للمختلفين بأنهم حادوا عن الجادة، وانقطعوا عن متابعة الرسول، وغلبت عليهم أهواؤهم، وهم جديرون بالعقوبة المرصدة لهم يوم اللقاء.. وفى الآية وعيد شديد للمتدينين الذين يجعلون وجهات نظرهم مثار خصومة، وسبب فرقة بين الناس. والواقع أن هؤلاء المختلفين باسم الدين قد يكونون شرآ من السكارى واللصوص..! 6- من سورة الأعراف: (1) (ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها وذروا الذين يلحدون في أسمائه سيجزون ما كانوا يعملون ) (الآية 180) (وممن خلقنا أمة يهدون بالحق وبه يعدلون ) (الآية 181) ص _031(1/21)
(والذين كذبوا بآياتنا سنستدرجهم من حيث لا يعلمون) (الآية 182) (وأملي لهم إن كيدي متين) (الآية 183). عندما نحار ندعو الهادى، وفى ظلمات البر والبحر ندعو نور السموات والأرض، ومن نقصنا كله نستعيذ بمن له الكمال كله والمجد كله.. ومن الناس من يعمى عن الله، وينحصر داخل مشاعره وقواه، وقد يدعوا أوهامآ لا حقائق لها أو أسماء ليس لها مسمّيات! إننا أمرنا بترك هؤلاء، والابتعاد عن الطريق الذى سلكوا، والأمر باق لا نسخ له، ولن نقاتلهم ماداموا لا يعتدون.. على أن الملاحدة وإن صفا لهم الجو حينا، فأمامهم أيام كالحة يستدرجهم القدر إليها، وما هى إلا جولات طوال أو قصار حتى يحيط بهم ما لم يخطر لهم ببال، (ولا يزال الذين كفروا تصيبهم بما صنعوا قارعة أو تحل قريبا من دارهم حتى يأتي وعد الله). (ب) (خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين) ( الآية 199) هذه الآية من أوجز وأجمع ما أثر فى مكارم الأخلاق ومعاقد المروءة! والعفو ما جاء بلا كلفة، وكان أقرب إلى الطبع، والمعنى: اقبل أقوال الناس ولا تستقصي لتعرف الخبايا ولا تناقش الأعذار لتكشف المفتعل منها. وأمر بالعرف أى بما اتفق مع العقل والشرع، وانسجم مع نداء الفطرة السليمة، وأعرض عن الجاهلين، فإن الانشغال بأحوال الغوغاء متعبة للفكر ومضيعة للوقت. ولا نسخ فى الآية، وقد زعم بعضهم أن الجملة الأخيرة منسوخة بآية السيف! وهو زعم سخيف والآية كلها واجبة التطبيق إلى آخر الدهر.. 7- من سورة الأنفال: 1- (إن الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله والذين آووا ونصروا أولئك بعضهم أولياء بعض والذين آمنوا ولم يهاجروا ما لكم من ولايتهم من شيء حتى يهاجروا وإن استنصروكم في الدين فعليكم النصر إلا على قوم بينكم وبينهم ميثاق والله بما تعملون بصير ) (الآية : 72) ص _032(1/22)
ليس فى الآية نسخ، ونحن مكلفون بالوفاء فى كل عهد أمضيناه، ولم يقع أن النبي(صلى الله عليه وسلم) حارب قوما سبقت معاهدتهم من أجل طائفة من المسلمين لم تهاجر.. 8- من سورة التوبة: (ا) (وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله ثم أبلغه مأمنه ذلك بأنهم قوم لا يعلمون * كيف يكون للمشركين عهد عند الله وعند رسوله إلا الذين عاهدتم عند المسجد الحرام فما استقاموا لكم فاستقيموا لهم إن الله يحب المتقين) المشرك المستجير الذى لم يبسط يده إلينا بأذى، ولم ينقض لنا عهدا لا يجوز أذاه ولا ترويعه، وسياق آيات القتال فى براءة حاسم فى أن المراد بإعلان الحرب هم المشركون الظلمة الغدرة، والقول بأن تأمين المشرك المستجير قد ألغى باطل، ولا صلة لآية السيف بهذه القضية..! 9- من سورة يونس: (ا) (وإن كذبوك فقل لي عملي ولكم عملكم أنتم بريئون مما أعمل وأنا بريء مما تعملون ) (الآية 41) تكذيب الصادق رذيلة منكرة، ويتنامى نكرها عندما يكون التكذيب لصاحب الرسالة العظمى، والمبلغ الأول للوحي الأعلى! إن محمدا هو الإنسان الأوحد الذي التقت في رسالته حقائق الدين كله، فتكذيبه موت أدبي محيط. ويرجع التكذيب إما إلى اتهام ظالم، أو وراثة غبية، أو كليهما! وماذا يفعل الصادق الشريف بإزاء هذا الضلال، إنه يلقى خصومه بصدمة نفسية يزداد بها ثقة ويزداد بها بعدا "لي عملي ولكم عملكم " إن خلع أمة ما من باطلها ليس كخلع أمرئ لقميصه أو نعله، الأمر يحتاج إلى معاناة طويلة، يتم خلالها هز التقاليد ورد التهم، وهذا جهاد الدعوة. ص _033(1/23)
(ب) (ولا يحزنك قولهم إن العزة لله جميعا هو السميع العليم ) (الآية 65) حزن الوالد لرسوب ابنه فى الامتحانات أمر طبيعى، وقد كان النبى الكريم يتألم عندما يتحداه الجاهلون، ويتعرضون بهذا التحدى للمزيد من سخط الله فى الدنيا والآخرة. وقد نصحه ربه أن يخفف من تلك الآلام (ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى * إلا تذكرة لمن يخشى ) (1). والنهى عن الحزن هنا ليس لأن السيف سيجز النواصى الخاطئة الكاذبة، وإنما هو تبصرة بالطباع الجاهلة، وتهيئة لمعالجتها فى آماد طويلة، وقلة اكتراث بتعصبها مهما اشتد، فلو شاء الله لاستأصلها، ولكن ليبلو بعضكم ببعض. (ج) (قل انظروا ماذا في السماوات والأرض وما تغني الآيات والنذر عن قوم لا يؤمنون * فهل ينتظرون إلا مثل أيام الذين خلوا من قبلهم قل فانتظروا إني معكم من المنتظرين ) الذين يجنحون إلى النسخ فى هذه المواضع يجهلون وظيفة الرسالة ومنصب الدعوة، ويحسبون أن الله أمر رسوله ألا ينتظر ما يجئ به اختلاف الليل والنهار وأنه مادام قد ملك القوة فليحصد معترضيه! وهذا جهل شنيع، فالدعاة يغرسون وينتظرون الثمر على مر الأيام كما قال شعيب لقومه: (وإن كان طائفة منكم آمنوا بالذي أرسلت به وطائفة لم يؤمنوا فاصبروا حتى يحكم الله بيننا …). وكل من يتأمل فى سيرة النبى قبل الهجرة وبعدها يعلم أنه أسس الدين بالحكمة والتربية، ومنع بالقوة الحشرات المؤذية والأوبئة الضارة!! 10- من سورة النحل: (ا) (وقال الذين أشركوا لو شاء الله ما عبدنا من دونه من شيء نحن ولا آباؤنا ولا حرمنا من دونه من شيء كذلك فعل الذين من قبلهم فهل على الرسل إلا البلاغ المبين ) (الآية 35) ص _034(1/24)
نعم! وظيفة الرسل البلاغ المبين فمن عاقهم عن البيان أو خوَّف الضعاف من الاستماع إليهم عولج بالنصح المتكرر! فمن أبى إلا الجماح فآخر الدواء الكى. عمل الرسل الأول مخاطبة العقول لا ضرب الجلود فمن استمات فى الصد عن سبيل الله فله الموت الذى طلبه لنفسه ولم يطلبه الرسل له!! (ب) (والله جعل لكم مما خلق ظلالا وجعل لكم من الجبال أكنانا وجعل لكم سرابيل تقيكم الحر وسرابيل تقيكم بأسكم كذلك يتم نعمته عليكم لعلكم تسلمون ) (الآية 81). (فإن تولوا فإنما عليك البلاغ المبين ) (الآية 82) نحن لا نجر من تولى عن سماع الخير لنذيقه بأسنا، إننا نتلطف مع الجهال ليعرفوا نفاسة ما لدينا وجدواه عليهم فإن أبوا إلا الفرار فهم المحرمون... إننا لا نتبع الفارَّة عنا لنؤذيه، فليذهب إلى حيث شاء مادام يرفض الحق، ولكننا نثبت له، ونقرر مواجهته إذا ذهب ليجمع الجموع كى يخرس أصواتنا.. لماذا لا نتعرض لمن تركنا بعد أن قال الله لنا (فإن اعتزلوكم فلم يقاتلوكم وألقوا إليكم السلم فما جعل الله لكم عليهم سبيلا ) إن جهدنا كله فى ضمان الجو الذى يتيح حرية الكلمة وصون الحقوق، وهو وحده الجو الذى تزدهر فيه الحقيقة. (ب) (ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين ) (الآية 125) (وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به ولئن صبرتم لهو خير للصابرين) (الآية 126) (واصبر وما صبرك إلا بالله ولا تحزن عليهم ولا تك في ضيق مما يمكرون ) (الآية 127) ص _035(1/25)
القول بالنسخ مرض أصاب بعض المتكلمين فى القرآن الكريم وكان سبب بلاء شديد للأمة الإسلامية، بل إنه عكر رونق الدعوة ووضع فى مجراها الجنادل! أليس من المصائب أن تثبت أقوال هنا بأن هذه الآيات منسوخة؟ وماذا بعد إلغائها إلا إبطال رسالة الأمة كلها، وهى الدعوة الواضحة الموصولة حتى قيام الساعة؟ ماذا يكون عملنا بعد ذلك النسخ؟ قطع الطريق وقتل من لا يدرى؟ صحيح أن الراسخين فى العلم رفضوا هذه الأقوال! ولكن أفواجا من الشباب المغرور والشيوخ العجزة، انتشروا في هذه الأيام يؤثرون نسخ ألا إكراه فى الدين، ونسخ ألا محاسنة فى الدعوة، ويجب وضع حد لهذا البلاء. 11- من سورة الإسراء: (ا) (ربكم أعلم بكم إن يشأ يرحمكم أو إن يشأ يعذبكم وما أرسلناك عليهم وكيلا) (الآية 54) نعم! لم يرسل النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ليجعل البشر ملائكة (لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون) فهذا مستحيل، واجبه البلاغ المبين، وقطع دابر الفتانين ما استطاع. إنه ينصح ويعظ ويقضى بالحق. ويخرج الناس من الظلمات إلى النور، فمن أبى إلا البقاء فى الظلمة فقد أهلك نفسه، ولا يسأل الرسول عنه. (إنا أرسلناك بالحق بشيرا ونذيرا ولا تسأل عن أصحاب الجحيم). 12ـ من سورة مريم: (وأنذرهم يوم الحسرة إذ قضي الأمر وهم في غفلة وهم لا يؤمنون) (الآية 39) قد يكون الإنذار بيوم الحسرة قليل الجدوى فى إيقاظ الغافلين، وقمع الظالمين! لكن ذلك لا يعنى إلغاء التربية الدينية، وتجاوز العقائد فى بناء السلوك الإنسانى والاعتماد على السيف فى تسيير الأمور. ولا أدرى للقائل بالنسخ أى سناد يعتمد عليه، بل إن تجويز النسخ يفتح باب التهوين لسائر النصوص. ص _036(1/26)
(ب) (قل من كان في الضلالة فليمدد له الرحمن مدا حتى إذا رأوا ما يوعدون إما العذاب وإما الساعة فسيعلمون من هو شر مكانا وأضعف جندا ) (الآية 75) (ويزيد الله الذين اهتدوا هدى ) (الآية 76). الآيات هنا تشير إلى سنة اجتماعية ثابتة، هى طول الأخذ والرد بين الحق والباطل، ومضى سنين طويلة على الصراع بين الفريقين يعمل فيها المكر الإلهى عمله ويتحمل فيها المؤمنون المزيد من العنت ثم يطلع الفجر ويتحقق النصر آخر الأمر ولا نسخ هنا. (ج) (ألم تر أنا أرسلنا الشياطين على الكافرين تؤزهم أزا ) (الآية 83). (فلا تعجل عليهم إنما نعد لهم عدا ) (الآية 84). للضلال عمر مقدر يفنى عند بلوغه، وهذا جزء من سنن الاختبار الإلهي يجب أن يخضع له المؤمنون فإن استعجال الحصاد قبل أوانه لا ينضج زرعا ولا يقرب ثمرا... ولا نسخ فى الآيات فالدعوة باقية والجهاد موصول ولا عدوان إلا على الظالمين. 13- من سورة طه: (ا) (ولو أنا أهلكناهم بعذاب من قبله لقالوا ربنا لولا أرسلت إلينا رسولا فنتبع آياتك من قبل أن نذل ونخزى ) (الآية 134). (قل كل متربص فتربصوا فستعلمون من أصحاب الصراط السوي ومن اهتدى) (الآية 135). الآيات تفيد أن الله أنزل القرآن ليمحو الجهل ويقطع العذر وأن الأخذ به نجاة من الذل والخزي. وعلى أهل القرآن أن يمدوا أشعته لكل عين. وأن يصابروا الليالى وهم يشرحون ويكشفون إن الضالين يتربصون بالمؤمنين ريب المنون وتقلب الزمان، ألا فليتربصوا فسنبقى على حقنا نكافح دونه حتى يعلو، والكفاح مزيد من العرض والصبر. وتلك طبيعة الحياة.. وسيرة الدعاة. ولا نسخ هنا، بل انتظار أن تثبت الأحداث صدق ما لدينا واستقامة طريقنا. ص _037(1/27)
14- من سورة الحج : (1) (وإن جادلوك فقل الله أعلم بما تعملون ) (الآية 68). (الله يحكم بينكم يوم القيامة فيما كنتم فيه تختلفون ) (الآية 69). قبل هاتين الآيتين يقول الله سبحانه: (وادع إلى ربك إنك لعلى هدى مستقيم) (الآية 67). والدعوة باقية لا تبطل أبدا.. ومعارضو الدعوة لا ينقضى لهم جدل، ولا تنتهى مكابرة، فليجادلوا وليكابروا فلن نفقد أدبنا فى معاملتهم، وينبغى أن نشعرهم بيوم الحساب الجامع والمحاكمة العامة (إنك ميت وإنهم ميتون * ثم إنكم يوم القيامة عند ربكم تختصمون) من يدرى؟ لعل هذا الإشعار يغل خصومتهم ويحسم جدلهم! وأيا ما كان الأمر فنحن على الدعوة باقون. وسنقاتل يقينا من يمنعنا من البلاغ. 15- من سورة المؤمنون: (1) (فتقطعوا أمرهم بينهم زبرا كل حزب بما لديهم فرحون ) (الآية 53). (فذرهم في غمرتهم حتى حين ) (الآية 54). (أيحسبون أنما نمدهم به من مال وبنين ) (الآية 55). (نسارع لهم في الخيرات بل لا يشعرون ) (الآية 56). قديما وحديثا سنرى الكافرين بالله على حظوظ من المال والجاه، وربما كان متاعهم من الدنيا أربى! فلا يجوز أن ننخدع بهذا النعيم المعجل، ولا أن نحسبه دلالة رضا ولا دليل خير. فلنعلم أن الله يمد من عطائه الأشرار والأخيار، تلك سنة الله فى خلقه، وعلينا ألا نخطئ فى فهم هذه السنة المطردة. وهذا معنى قوله تعالى: (فذرهم في غمرتهم حتى حين ) وهذا التوجيه باق إلى آخر الدهر لا ينسخه شئ، وللحرب أسبابها المقررة من منع الفتنة، وتحرير الكلمة. ص _038(1/28)
(ب) (ادفع بالتي هي أحسن السيئة نحن أعلم بما يصفون) (الآية 96) القول بأن هذا الأدب العالى منسوخ بآية السيف باطل، بل هو شطر البلاغ الحسن والجدال بالتى هى أحسن، وأثر الرسوخ والأناة والثقة عند جمهور الدعاة.. وللحرب أسبابها التى شرطها القرآن الكريم، من تأمين للدعوة ورفض للفتنة.. وهى أسباب تتمشى مع أخلاق الدعاة المبنية على الصفح والترفع. 16- من سورة النور: (1) (وأقسموا بالله جهد أيمانهم لئن أمرتهم ليخرجن قل لا تقسموا طاعة معروفة إن الله خبير بما تعملون ) (الآية 53). (قل أطيعوا الله وأطيعوا الرسول فإن تولوا فإنما عليه ما حمل وعليكم ما حملتم وإن تطيعوه تهتدوا وما على الرسول إلا البلاغ المبين ) (الآية 54). الآية واضحة فى أن الدين لا يقوم على الإكراه، وأن الدعوة لا تعتمد على العنف، وأن عظمة الإسلام تعود إلى سلامة مبادئه ونفاسة حقائقه، ومشيئة الآخرين المطلقة فى اعتناقها أو تركها... على الرسول واجب، أن يبلغ ويعلم ويوقظ.. وعلى الناس واجب أن يفهموا ويتعلموا ويستيقظوا. والواقع أن أتباع الرسول يرثون واجبه، وينهضون بعده بالحمل الذى تحمله، فهل قدرنا الميراث الذى آل إلينا؟ إن تبعات البلاغ المبين ثقيلة ولا نستطيع الفرار منها بدعوى النسخ بل إن محاولة الفرار جريمة. 17- من سورة النمل: (وقل الحمد لله سيريكم آياته فتعرفونها وما ربك بغافل عما تعملون ) (الآية 93) أتت هذه الآية بعد قول الله تعالى ـ على لسان نبيه ـ (إنما أمرت أن أعبد رب هذه البلدة الذي حرمها وله كل شيء وأمرت أن أكون من المسلمين * وأن أتلو القرآن فمن اهتدى فإنما يهتدي لنفسه ومن ضل فقل إنما أنا من المنذرين). ص _039(1/29)
قال ضعاف الفقه والنظر، الآيات منسوخة وقال الراسخون فى العلم: بل هى باقية إلى آخر الدهر. فالرسول مكلف بقراءة وحيه على الناس! والناس بعد هذه القراءة بين واع لبيب ينشرح صدره بالحق، وآخر مغلق بليد يبقى على غيه. وستكشف الأيام فى كل ميدان للعلم والعمل أن محمدأ حق، وأن رسالته صدق، وأن تكذيبها خسران.. 18- من سورة القصص: (1) (وإذا سمعوا اللغو أعرضوا عنه وقالوا لنا أعمالنا ولكم أعمالكم سلام عليكم لا نبتغي الجاهلين ) (الآية 55) هذا جزء من رد علماء أهل الكتاب على الذين سبوهم من عبدة الأصنام، والرد كله ناضح بطبيعة الإيمان واحترام الحق وتقدير أهله ورفض الهبوط إلى مستوى الوثنيين فى المشاتمة والجهالة. كيف يقول مفسر: إن ذلك نسخ؟ إنه أدب باق لعباد الرحمن، وخلق لابد منه للدعاة إلى الله، والقول بالنسخ لا مساغ له. أخشى أن يكون تخفف الدعاة من فضائل الدعوة تغطية لكل معيب. وسببا لفشل المسلمين فى أداء رسالتهم العالمية. والغريب أن غيرهم يتظاهر بطول التحمل، وأدب القول..!! فما بالنا نحن؟ 19- من سورة العنكبوت: (1) (وإن تكذبوا فقد كذب أمم من قبلكم وما على الرسول إلا البلاغ المبين ) (الآية 18). هذه الآية بعض خطاب إبراهيم لقومه وهو يعظهم أن يتركوا أصنامهم، ويثوبوا إلى رشدهم! ترى ما علاقتها بآية السيف وقضية النسخ؟ ويشبه هذا التخبط ما قاله بعض المفسرين فى نسخ قوله تعالى (وقولوا للناس حسنا) وهو جزء من الميثاق الذى ص _040(1/30)
أخذه الله على بنى إسرائيل قديما! ما صلته بالنسخ؟ وإذا افترضنا أن له بالنسخ صلة فهل المطلوب أن نقول للناس قبحا؟ إن زعم النسخ يتحول إلى مرض عضال فى بعض الأذهان. (ب) (وقالوا لولا أنزل عليه آيات من ربه قل إنما الآيات عند الله وإنما أنا نذير مبين ) (الآية 50) فى هذه الآية ردٌّ على مقترحى الخوارق الذين لا يقتنعون إلا بالمعجزات المادية، وقد أعقبها قوله تعالى (أولم يكفهم أنا أنزلنا عليك الكتاب يتلى عليهم) ولا مجال للنسخ فى هذه القضية. ويظهر أن مدعى النسخ يعنون تذييل الآية "إنما أنا نذير مبين" وكأنه يرى أن الرسول منذر ومقاتل معا ! ونحن نعلم أن الرسول قاتل! بيد أنه لم يقاتل لإكراه امرئ على دينه، وتحويله بالسيف عن معتقده! إنه حمى الحق بقتاله وحسب. 20- من سورة الروم: 1- (فاصبر إن وعد الله حق ولا يستخفنك الذين لا يوقنون ) (الآية 60) الزاعمون للنسخ يرون أن السيف أغنى عن الصبر! وهذا جنون. فجهاد الدعوة القائم على الإقناع والاستدلال يحتاج إلى صبر ليس له آخر. والتزهيد فى الصبر تعطيل للرسالة، وإنما يجئ القتال لحماية الصابرين من طغيان ذوى النزق والغرور! وختام الآية مشعر بأن الصبر المطلوب هو سياج للثقة، والثبات على الحق فى وجه من يحاولون زلزلة المؤمنين.. وهو خلق لا ينفك عنه أصحاب الدعوات. 21 ـ من سورة لقمان: 1- (ومن كفر فلا يحزنك كفره إلينا مرجعهم فننبئهم بما عملوا إن الله عليم بذات الصدور ) (الآية 23) ص _041(1/31)
يرى ضعاف الفقه أن الآية منسوخة، ترى: أنسر لحال من كفر؟ إن العمى عن الحق شىء محزن، وعلى أية حال فإن أولئك العميان عائدون إلى الله، ومحاسبون على ما أسلفوا. قد نقاتلهم إذا خافوا علينا لنكف بأسهم، وقد نتركهم ما تركونا، وعلى الحالين فإلى الله المرجع، وسيلقى كل إنسان جزاءه. 22- من سورة السجدة: (1) (ويقولون متى هذا الفتح إن كنتم صادقين ) (الآية 28). (قل يوم الفتح لا ينفع الذين كفروا إيمانهم ولا هم ينظرون ) (الآية 29). (فأعرض عنهم وانتظر إنهم منتظرون ) (الآية ص ). الإعراض المأمور به هنا ليس ترك الدعوة، وإلغاء قاعدة الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر وإنما هو عدم متابعتهم على ضلالهم، وتركهم ينحدرون إلى مصيرهم الذى يستحقونه. إننا لا نملك إلا النصيحة، ومع بذلها نبتعد عن مسالك القوم! وقد يستهزئ القوم بما يتوجه إليهم من وعد ووعيد! ليكن! فإن الجزاء حق، وسيبغت منكريه غدا، أو بعد غد. 23- من سورة الأحزاب: (1) (وبشر المؤمنين بأن لهم من الله فضلا كبيرا ) (الآية 47). (ولا تطع الكافرين والمنافقين ودع أذاهم وتوكل على الله وكفى بالله وكيلا) (الآية 48). قال ضعاف الفقه: إن ترك أذاهم منسوخ بآية السيف، ولا نسخ هنالك! فالمعنى الواضح أن أهل الإيمان مكلفون بانتهاج منهج آخر غير الذى يسلكه الكافرون والمنافقون. فطريق الحق مخالف بطبيعته للطرق المعوجة؟ وإذا عمد الضالون إلى إيذائنا فنصبر على سفاهتهم ولنمض إلى غايتنا.. وإذا نما أذاهم وتحول إلى هجوم أو فتنة أو اغتصاب حق فلنقاومهم قدر ما نستطيع متوكلين على الله فى كسر شوكتهم. ص _042(1/32)
24- من سورة سبأ: 1- (قل لا تسألون عما أجرمنا ولا نسأل عما تعملون) (الآية 25). (قل يجمع بيننا ربنا ثم يفتح بيننا بالحق وهو الفتاح العليم) (الآية 26). الآية الأولى تقرر مبدأ دينيا ثابتا، هو (ولا تكسب كل نفس إلا عليها ولا تزر وازرة وزر أخرى) وهو مبدأ لا يقبل النسخ، وخبر صادق لا اعتراض عليه والآية الثانية تفيد أن الله سيحكم بين عباده جميعا وحكمه عدل... وكلتا الآيتين لا علاقة لها بالنسخ، ولا يجوز أن نعامل أعداءنا بغير هذا المنطق! وسياق الآيات يلفتنا إلى نوع سام من أدب الحوار! فإن عيسى لما نهى رجلا عن منكر يفعله قال الرجل: والله ما فعلت، فقال عيسى: آمنت بالله وكذبت عيناى. ونحن نقول لمن يكابرنا: أحدنا كاذب! وهو تعميم معروف الهدف. 25- من سورة فاطر: 1- (وما يستوي الأعمى والبصير) (الآية 19). (ولا الظلمات ولا النور) (الآية 20). (ولا الظل ولا الحرور) (الآية 21). (وما يستوي الأحياء ولا الأموات إن الله يسمع من يشاء وما أنت بمسمع من في القبور) (الآية 22) (إن أنت إلا نذير) (الآية 23). الآيات كلها محكمة، وقول الله لنبيه على أسلوب القصر: إن أنت إلا نذير إشعار للمخاطبين بمسئوليتهم الأدبية على ما يفعلون، وهو إشعار متصل فى عهود الحرب والسلام جميعا. والحرب عند قيام أسبابها المشروعة لا تلغى هذه المسئولية. ص _043(1/33)
26- من سورة يس: (1) (واتخذوا من دون الله آلهة لعلهم ينصرون ) (الآية 74). (لا يستطيعون نصرهم وهم لهم جند محضرون ) (الآية 75). (فلا يحزنك قولهم إنا نعلم ما يسرون وما يعلنون ) (الآية 76). من العناصر الأولى فى جهاد الدعوة تفنيد آراء المخالفين وكشف زيفها للعقل العادى، وهذا ما قامت به الآيات هنا: فهى تقول للمشركين: آلهتكم التى تنتصرون بها أعجز من أن تنصركم، بل سيلقى القبض عليها، وتقدم للمحاكمة، فما أعجزها! ثم يقال للرسول: لا تبتئس بهذه المواقف الكافرة وسنجازى أصحابها بما أسروا وأعلنوا..! ما الذى ينسخ من هذه المعانى؟ ولما يتصور البعض أن العقوبات تمنع الحزن على إسفاف البشر. 27- من سورة الزمر: (1) (ألا لله الدين الخالص والذين اتخذوا من دونه أولياء ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى إن الله يحكم بينهم في ما هم فيه يختلفون ) (الآية 3). جمهور المشركين يتصور أن هناك إلها كبيرا، وأن هناك آلهة صغرى هى مفاتيح له ووسط إليه، ومن حماقات البشر الحفاوة البالغة بهذه المفاتيح والوسائط، بل ربما كان التعلق بها أشد من التعلق بالإله الكبير! والعلاج الأول لهذا البله هو التنوير ورفع المستوى العقلى وإشعار الزائغين بأنهم عائدون إلى الله فمجازيهم على ما يقترفون. والترهيب بلقاء الله لا يلغيه الاحتكام إلى السيف يوم لا يكون بد من الاحتكام إليه. (ب) (قل الله أعبد مخلصا له ديني) (الآية 14). (فاعبدوا ما شئتم من دونه قل إن الخاسرين الذين خسروا أنفسهم وأهليهم يوم القيامة ألا ذلك هو الخسران المبين ) (الآية 15). الأداء البلاغى كثير الصور، ولا يتذوقه إلا أديب. ص _044(1/34)
من عشرات السنين سمعت شاعرآ يقول معتزا بمبادئه: فى موكب الحق لا فى موكب الزور وفى ركاب العلا لا مربط العير! اختر لنفسك ما يحلو فليس بنا من حاجة للمطايا والقوارير! إن الاختيار هنا صورى بعد هذه الموازنة المحرجة، والشأن كذلك فى قوله تعالى: (قل الله أعبد مخلصا له ديني * فاعبدوا ما شئتم من دونه). من الذين نعبدهم بعدما تبين أن ما عدا الله أصفار؟ وإلى أى وهم تتجه مشيئتنا؟ من أجل ذلك نستبعد كل نسخ يحكم به على الآية، ولنفرض أن الحرب اشتعلت بين الإيمان والكفر، فإن المعانى السابقة تظل قائمة لا يعرض لها إلغاء.. (ج) (قل يا قوم اعملوا على مكانتكم إني عامل فسوف تعلمون ) (الآية 39) (من يأتيه عذاب يخزيه ويحل عليه عذاب مقيم ) (الآية 40) (إنا أنزلنا عليك الكتاب للناس بالحق فمن اهتدى فلنفسه ومن ضل فإنما يضل عليها وما أنت عليهم بوكيل ) (الآية 41) السياق هنا متسق مع سياسة النفّس الطويل، والجدل الموصول، والإنسان أكثر شئ جدلا، ونحن نمضى مع الإنسان نتتبع أعذاره، ونستقصى علله، ولا نترك له مهربا يستقر فيه مبتعدا عن الحق! إننا نحاول استخراجه ومناقشته وترديده بين الوعد والوعيد حتى يثوب إلى رشده، ولا نحسم ذلك بالقتال، فماذا نكسبه من حرب تصيبنا أو تصيبه؟ إن القول بالنسخ لون من الفشل فى البلاغ المقنع والصبر الجميل. ص _045(1/35)
(د) (قل اللهم فاطر السماوات والأرض عالم الغيب والشهادة أنت تحكم بين عبادك في ما كانوا فيه يختلفون ) (الآية 46) نعم، الله هو الحكم العدل بين عباده، وهو الذى يعلم أغوار نفوسهم ومقادير فهومهم والليّن والغليظ، والعنيد والغرّ، والمستكبر والمتواضع.. وعلى هدى هذا العلم المحيط يقول (فوربك لنحشرنهم والشياطين ثم لنحضرنهم حول جهنم جثيا * ثم لننزعن من كل شيعة أيهم أشد على الرحمن عتيا * ثم لنحن أعلم بالذين هم أولى بها صليا). علينا أن ندعو، وأن نبالغ فى الإقناع والتعليم، ولسنا مكلفين بجنى الثمر، وسواء نجحنا أم فشلنا فأمر العباد إلى ربهم، ولا ينبغى أن نسأم من طول الدعوة، فهذه وظيفتنا.. 28- من سورة غافر: (1) (فاصبر إن وعد الله حق واستغفر لذنبك وسبح بحمد ربك بالعشي والإبكار) (الآية 55). لماذا يقال بأن الصبر منسوخ؟ هل الضيق والاستعجال مطلوبان؟ ومطلوب ما بعدهما من مؤاخذة وإعلان حرب؟ إن تكاليف الدعوة ثقيلة، والتعامل مع عوج الطباع فريضة.. ونحن إن ولدنا فى بيئة مسعفة بالخير فمن شكر الله أن نطاول الذين حرموا فضل هذه البيئة وإلهاماتها الحسنة. وأن نظل معهم حتى يهتدوا (كذلك كنتم من قبل فمن الله عليكم). . (ب) (فاصبر إن وعد الله حق فإما نرينك بعض الذي نعدهم أو نتوفينك فإلينا يرجعون ) (الآية 77) والمسلم لا يرى مستقبله هنا، فى هذه الدار، بل مستقبله ومستقبل الذين يتخاصم معهم، أو يحاورهم، هناك عند الله، إليه يرجع الأمر كله. ص _046(1/36)
إن الموت لا يهيل التراب على قضايا الحق والباطل، لعله هو الذى يفتح الأبواب على الساحة التى يحسم فيها النزاع وتقال الكلمة الأخيرة.. فلنصبر على تكاليف الدعوة، ولنحسن الإعلام حتى الرمق الأخير ولا نسخ فى هذه الآية ولا فى التى سبقتها. 29- من سورة فصلت: 1- (ولا تستوي الحسنة ولا السيئة ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم) (الآية 34) روى عن ابن عباس: أمره بالصبر عند الغضب، والحلم عند الجهل، والعفو عند الإساءة! وكل مشتغل بالدعوة الإسلامية لابد أن يستجمع هذه الشمائل وإلا فهو فاشل، وأصحاب الأمزجة المهتاجة، والمسالك المتشنجة يجب أن يبحثوا لهم عن ميدان آخر يعملون فيه غير ميدان الدعوة إلى الله. ومن الطيش الزعم بأن هذه الآية منسوخة. ص - من سورة الشورى: 1- (والذين اتخذوا من دونه أولياء الله حفيظ عليهم وما أنت عليهم بوكيل) (الآية 6) الداعى إلى الله ليس مكلفا باقتياد الآثمين إلى منازل الأبرار، كما يقتاد الطفل القاصر إلى المدرسة أو المريض العاجز إلى المستشفى، كلا، الداعى يعرض ويغرى ويرجو الخير، فإن تم له ما أراد سر، وإلا فقد أدى واجبه، وأرضى ربه. ونفى الوكالة فى الآية نوع من العزاء على الجهد الضائع، وليس إيذانا باستعمال السيف، أو ترك الدعوة، ولا نسخ هنا. (ب) (فلذلك فادع واستقم كما أمرت ولا تتبع أهواءهم وقل آمنت بما أنزل الله من كتاب وأمرت لأعدل بينكم الله ربنا وربكم لنا أعمالنا ولكم أعمالكم لا حجة بيننا وبينكم الله يجمع بيننا وإليه المصير) (الآية 15) الأمر بالدعوة باق إلى آخر الدهر لا يبطله شىء، وكذلك النهى عن اتباع الزائفين، ونحن المسلمين نحمل حقائق الوحى كله مذ بعث الله المرسلين، ونعلم أن أهل الكتاب نسوا كثيرا، وتاهوا فى طرق لا حصر لها. ص _047(1/37)
ومهمتنا أن نذكرهم بما نسوا، ونريهم الصراط المستقيم، ووسيلتنا الترفع والتسامح وعدم الانسياق وراء الشحناء، والتذكير الدائم بأن المصير إلى الله. فإذا أوذينا بعد ذلك قاومنا وإذا بغى علينا حاربنا، أما إذا لم يقع من ذلك شىء فلا عدوان أبدآ، والآية المذكورة شعار دائم لنا. (استجيبوا لربكم من قبل أن يأتي يوم لا مرد له من الله ما لكم من ملجإ يومئذ وما لكم من نكير ) (فإن أعرضوا فما أرسلناك عليهم حفيظا إن عليك إلا البلاغ وإنا إذا أذقنا الإنسان منا رحمة فرح بها وإن تصبهم سيئة بما قدمت أيديهم فإن الإنسان كفور) هذه الآية كغيرها فى إفادة أننا نعلّم ونذكر، ولا نسخ فيها ولا فى سابقتها. والدعاة الراشدون يستغلون العسر واليسر والسراء والضراء فى ردّ الناس إلى ربهم وربطهم بخالقهم. ومعروف أن الغنى قد يبطر ويطغى، وأن الفقر يوئس وينسى، والدعاة الواعدون يرقبون الأمم فى حاليها، ويتلطفون فى تقريبها من الله وتبصيرها بالحقائق، مع هذا التغاير فى مشاعرها. 31- من سورة الزخرف: (سبحان رب السماوات والأرض رب العرش عما يصفون) (فذرهم يخوضوا ويلعبوا حتى يلاقوا يومهم الذي يوعدون) إن ترك الأمم تخوض وتلعب ليس رضا بالعبث، ولا استهانة بنتائجه، وإنما هو التمشى مع سنن الله التاريخية، وارتقاب أن يفيق النيام ويعود الوعى، أو يذوق الكسول عاقبة تفريطه. ولسنا مكلفين باستخدام العصا لإيقاظ الضمير إلا إذا طغى المجرمون وجنحوا إلى الشدة فى مقاومة الحق، هنالك لا نتركهم يعتدون. ص _048(1/38)
(ب) (وقيله يا رب إن هؤلاء قوم لا يؤمنون ) (الآية 88). (فاصفح عنهم وقل سلام فسوف يعلمون ) (الآية 89). لا ينفك الأنبياء وأتباعهم عن الصفح ومنح المجرمين فرصة بعد أخرى، ولا ينفكون عن المناداة بالسلام، وإطالة عهوده، ففى طمأنينتها يقدر العقل على الفكر وعلى إصدار الحكم الراشد.. فإذا زهد الكافرون فى السلام، واكتسحته شهواتهم تحركنا نحن لقمعهم، ونادينا بالسلام بعدما نخرس دعاة الحروب ونقلم أظفارهم.. (الشهر الحرام بالشهر الحرام والحرمات قصاص) نحن لا نجرم وإنما نقتص من المجرم إ! 32- من سورة الدخان: (ا) (بل هم في شك يلعبون ) (الآية 9) (إنا كاشفوا العذاب قليلا إنكم عائدون ) (15) اعتقادى أن الضلال ينطوي فى ذاته على عقوبته إن عاجلا وإن آجلا، وقد يطول الانتظار أو يقصر فالأمر ليس إلينا، إنه إلى رب العالمين الخبير بعباده. ولو أن أهل الإيمان قضوا العمر فى إرضاء الله وتزكية الأنفس وتقديم صور حسنة لمجتمعهم لكان ذلك أجدى على العقائد التى يحملونها. إننا ننتظر التوبة لغيرنا قبل أن نرتقب لهم البلاء، وتلك سيرة نبينا(صلى الله عليه وسلم). 33ـ من سورة الجاثية: (1) (قل للذين آمنوا يغفروا للذين لا يرجون أيام الله ليجزي قوما بما كانوا يكسبون * من عمل صالحا فلنفسه ومن أساء فعليها ثم إلى ربكم ترجعون ) (الآيتان 14 - 15). فى هذه الآيات تعليم للدعاة أن يرتفعوا فوق مستوى الضغائن الشخصية، وأن يكون حرصهم أشد على هداية الآخرين لا على عقوبتهم، ولنعلم أن الآخرة أطول ص _049(1/39)
وأرجح من الدنيا، إن خلع المبطلين من باطلهم ليس شيئآ هينآ، لأن جمهرتهم يفلسف باطله ويراه حقا! فلنصابر القوم، ولنعاونهم ولنعاملهم بالرشد، أما حسم القضية بالسيف فهو آخر الدواء، وبعد أن يعز العلاج، ويخفت صوت العقل. 34- من سورة الأحقاف: (1) (فاصبر كما صبر أولو العزم من الرسل ولا تستعجل لهم كأنهم يوم يرون ما يوعدون لم يلبثوا إلا ساعة من نهار بلاغ فهل يهلك إلا القوم الفاسقون ) (الآية 35). فى هذه الآية توكيد للمعانى التى شرحناها آنفا، إن المرسلين كلهم كانوا أصحاب منطق وخلق وأدب، وقد تحملوا العنت من كفر مستكبر معتد معاند. وعلى الذين يمشون تحت رايات الأنبياء أن يلتزموا شمائلهم، وأن يسلكوا مسالكهم.. إن الأنبياء لم يكونوا قط أصحاب شراسة وصلف ومبادأة بالتحدى. والذين يفعلون ذلك ليسوا رجال دعوات بل إنهم يظلمون الدعوات.. الدعوة صوت العقل لا سوط الإرهاب، وسعة الفكر لا ضيق العطن. 35- من سورة محمد عليه الصلاة والسلام: (1) (فإذا لقيتم الذين كفروا فضرب الرقاب حتى إذا أثخنتموهم فشدوا الوثاق فإما منا بعد وإما فداء حتى تضع الحرب أوزارها ) (الآية 4). إذا وقعت الحرب فما بد من خوضها وعسى الله أن يكف بأس الذين كفروا ويقطع دابر المعتدين! وعندما ينصرنا الله على عدونا ويمكننا من أعناقهم فأولو الأمر مكلفون بالتصرف وفق مصلحة الدعوة ولهم أن يختاروا فى معاملة المهزوم واحدا من أمرين: المن أو الفداء. وهو تخير ناطق بمدى السماحة والرحمة فى ديننا... والقول بأن الآية منسوخة، وأن المجرمين يستأصلون لا مكان له فى السياق، ولم ترد به سنة، ولعله تصرف بشري أملت به سياسات الثأر والغضب! ص _050(1/40)
36- من سورة ق: 1- (ولقد خلقنا السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام وما مسنا من لغوب) (الآية 38). (فاصبر على ما يقولون وسبح بحمد ربك قبل طلوع الشمس وقبل الغروب) (الآية 39). الأمر بالصبر باق لا منسوخ. وليس الصبر رضا بما يقال ولا ضعف إحساس بما فيه من نكر! ولكنه معرفة بالحجب التى رانت على القلوب، والوراثات التى ضللت الأفكار، ورسم للخطط التى تخرج الناس من الظلمات إلى النور. أخشى أن يكون عدم الصبر استقالة من وظيفة الدعوة وعجزا عن القيام بأعبائها. وبعض الناس يستطيل أيام التعليم ويستوعر مواجهة الجهال فيحتكم إلى السيف!! والغريب أن السيف الآن ليس مع أهل الإيمان!! ومع ذلك ما زال بعضهم يتحدث عنه!! إنهم لا يعرفون طبيعة الدعوة الإلهية ولا واقع الحياة الإنسانية!! إنهم بلاء على الإسلام وعلى أنفسهم.... (ب) (نحن أعلم بما يقولون وما أنت عليهم بجبار فذكر بالقرآن من يخاف وعيد) (الآية 45). ربنا- جل وعز- يعرف افتراءات الكافرين به والعالين عليه. وهو قادر على البطش بهم فى أية ساعة! لكنه يمهلهم علهم يرعوون، فعلينا نحن المؤمنين بالله أن نقف بأفواه الطرق منادين الحائرين أن يجيئوا، ومغرين لهم بالأمل الحلو والوعد الحسن... إن الدعاة ليسوا عساكر تملك السلطة والوعيد، إنهم معلمون ومذكرون! ونجاحهم الأكبر أن يعطفوا قلبا على الله، ويردوا شاردا إلى مولاه، هذا عملهم إلى قيام الساعة، ولا يحكم بإلغاء هذا العمل إلا بطال..! ص _051(1/41)
37- من سورة الذاريات: (1) (أتواصوا به بل هم قوم طاغون ) (الآية 53). (فتول عنهم فما أنت بملوم) (الآية 54). قد ترث الخلوف شرها عن سابقين جهلة، وقد تكون العلة المشتركة أساسا لنتائج متشابهة! والغريب فى تاريخ الأمم أن لاحقها لا يتعظ بسابقها، بل يقترف ذات الأخطاء ويلقى العقوبات نفسها. ونحن مكلفون بالشرح والبيان إلى آخر رمق، ومكلفون فى الوقت نفسه بالمسلك المضاد لحال أولئك الجائرين.. والتولى عنهم هو جهد عملى لتنفيرهم من شرهم ينضم إلى الجهد العلمى المبذول! ولا نسخ فى شىء مما سبق. 38- من سورة الطور: (1) (أم يقولون شاعر نتربص به ريب المنون ) (الآية ص ). (قل تربصوا فإني معكم من المتربصين ) (الآية 31). هناك مسابقة فى الصبر والتربص بيننا وبين خصوم الحق، وأنجح الفريقين أطولهما نفسا، وأكثرهما تحملا، وجهاد النفس قد يستغرق الحياة كلها، فالقوم ينتظرون أن نموت أو تتبدد قوانا، وعلينا ألا نسأم وألا نيأس. علينا نكرر الدروس وأن نقرع الأبواب عسى أن تنفتح لنا يوما فنشرح الصدور بالحق.. ورجال الدعوة لا تثنيهم عقبات، ولا يشعلون حربا وهناك أمل فى السلام ولا يتعرضون للشر وهو تاركهم. (ب) (وإن يروا كسفا من السماء ساقطا يقولوا سحاب مركوم ) (الآية 44) ( فذرهم حتى يلاقوا يومهم الذي فيه يصعقون ) (الآية 45). فى تجاربنا أن كثيرا من الضلاّل جهلة لا يلمع فى سرائرهم شعاع يهدى، ولكن هناك فراعنة يعرفون الحق ويصدهم عن قبوله هوى جامح وكيد مسيطر. " وهؤلاء يفسرون الوقائع كما يحلو لهم لا كما يجلو الغيوم فى حياتهم.. ص _052(1/42)
والأقدار العليا هى التى تبت فى مصاير هؤلاء! ولهم يوم يصعقون فيه! هل يعنى ذلك أن نحاكمهم إلى السيف؟ ذاك يجوز يوم يحملونه فى وجوهنا، أما قبل ذلك فأمامهم فرص للاقتناع وأمامنا كذلك فرص للإقناع! (ج) (واصبر لحكم ربك فإنك بأعيننا وسبح بحمد ربك حين تقوم ) (الآية 48). (ومن الليل فسبحه وإدبار النجوم ) (الآية 49) القائلون بالنسخ يرتكبون إثما كبيرا عندما يلغون الفضائل الكبيرة من أخلاق الدعاة أو يجعلون لها أجلا تنتهى عنده. إن الله أمر نبيه هنا بالصبر، وبالتسبيح، وكلا الأمرين باق إلى آخر الحياة. والزعم بأن الصبر ألغى وإن حرب الكافرين وضعت له حداً زعم سىء، وقد كان لشيوع هذا الوهم أثره فى رسم خطط الدعوة، والتقصير فى البلاغ. وعلينا أن ننقل خطانا فى ميادين شتى قد تكون موحشة، ومعنتة، وعندئذ نستعين عليها بالصبر والتسبيح معا. 39- من سورة النجم: 1- (وما لهم به من علم إن يتبعون إلا الظن وإن الظن لا يغني من الحق شيئا) (الآية 28). الإعراض عن الجاهلين أدب يشبه مداراة السفهاء، ومصاحبة الحمقى... وانتظار أن تخلو الحياة من هؤلاء وأولئك بعد حروب ساخنة أو باردة نوع من الغرور.. لن تخلو الدنيا من طائف تحتاج أبدا إلى التأديب والتهذيب والمداراة والمعاناة كما لن تخلو أبدا من المرضى.. والاستراحة من المرضى بقتلهم جنون، والمطلوب أن ننأى عن عللهم، وأن نعينهم على الخلاص منها. 40- من سورة القمر: 1- (فتول عنهم يوم يدع الداعي إلى شيء نكر ) (الآية 6). (خشعا أبصارهم يخرجون من الأجداث كأنهم جراد منتشر) (الآية 7) ص _053(1/43)
التولى هنا ليس السكون عن الوعظ، وإبطال التعليم، والاحتكام إلى السيف! هذا فهم باطل، الأمر بالتولى أسلوب آخر فى التخويف من المكابرة، والإذعان إلى الحق كما تقول للكسول: سأتركك حتى يميتك الحرمان.. والداعى- مع طول الزمن- ينطق ويصمت، ويقبل ويدبر، وهو على الحالين يؤدى رسالته، فليس سكوته عن إهمال ولا توليه عن استهانة.. 41ـ من سورة القلم: (فذرني ومن يكذب بهذا الحديث سنستدرجهم من حيث لا يعلمون ) (الآية 44). لله سبحانه أقدار لا ندرى أسرارها فى معاملة الأفراد والأمم، وهو يقلب الناس بين الخير والشر، والحلو والمر حتى يلجئهم إلى معرفة الحقيقة التى قد يتعامون عنها... وقد قال فى موضع آخر: (سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق). على أن شيئا من هذا التبين أو ذلك الاستدراج لا يعفى المسلمين من واجب البلاغ والتذكير، فتلك رسالتهم التى يعتبر التفريط فيها جرما... ولا نسخ فى الآية. (ب)( فاصبر لحكم ربك ولا تكن كصاحب الحوت إذ نادى وهو مكظوم ) (الآية 48). صاحب الحوت هو النبى يونس عليه السلام. وكان قد ضاق بقومه ولم يصبر على لأواء الدعوة فتركهم مغاضبا، وعوقب على ذلك بأن ألقى فى اليم وابتلعه الحوت فترة استغاث خلالها بالله فأنقذه من كربه، وعاد مرة أخرى يدعو إلى ربه. وقد أمر الله نبيه أن يصبر كما صبر أولو العزم من الرسل، وألا يكون كيونس فى تبرمه وضيقه.. والذين يقولون بالنسخ يرون أن يقطعوا حبل الصبر بإعلان الحرب! وهذا فهم منكور، فالصبر لازم للدعاة أبدا. ص _054(1/44)
42- من سورة المعارج: (ا)( تعرج الملائكة والروح إليه في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة) (الآية 4). (فاصبر صبرا جميلا ) (الآية 5). هذا أمر آخر بالصبر، والصبر الجميل هو المصحوب بالأناة والحلم وعدم الشكوى وعدم الضيق، وكل داعية مطالب بأن يخلص بالحق من بين الفتن المعقدة التى تمر به وفى سبيل ذلك يصبر مع المؤمنين! ويصبر مع الكافرين.. ولما كان الزمن جزءآ من العلاج فلابد من الانتظار الطويل حتى تلوح الثمار، ولا نسخ هنا. (ب) (فذرهم يخوضوا ويلعبوا حتى يلاقوا يومهم الذي يوعدون) (الآية 42). فطام العابثين عن عبثهم لا يتم بين عشية وضحاها، وإنما يوجه لهم النصح بين الحين والحين، كما ينبغى تخويفهم بضربات القدر التى تفجؤهم وهم يلعبون أو الموت الذى لا محيص عنه، أو بيوم القيامة الذى يستوفى فيه الجزاء. فإذا حاولوا العدوان، وتكميم أفواه الدعاة واستباحة الضعفاء كانت الحرب. 43- من سورة المزمل: (1) (واصبر على ما يقولون واهجرهم هجرا جميلا) (الآية 10) (وذرني والمكذبين أولي النعمة ومهلهم قليلا ) (الآية 11). هذه السورة من أوائل ما نزل، وهى ترسم طريق الدعوة لنحو ربع قرن، سنسمع التكذيب فلا نكترث له، وستمضى قافلة الشر فى تحديها وتعديها فلا يستخفنا هذا، ولا يستفزنا لمسلك غير لائق بنا.... وستفرض الأقدار علينا وعلى خصومنا مواقف شتى، فلنثبت على مقتضيات الإيمان، وسوف ينتصر الحق ويخزى الباطل آخر الأمر. ص _055(1/45)
44- من سورة المدثر: (فإذا نقر في الناقور). فذلك يومئذ يوم عسير على الكافرين غير يسير ذرني ومن خلقت وحيدا الإنسان مهما قوى واغتر فهو فى مصيدة الأقدار، فليتمتع اليوم بماله وجاهه، وليسخر ذلك كفره وعناده فهو إن ضحك اليوم فسيبكى فى الغد. ولا ينبغى لحملة الحق أن ينخدعوا أو ييأسوا لما يلقاه المبطلون من رواج ومكانة فذاك كله اختبارات الحياة المكتوبة على الناس أجمعين. هل يعنى ذلك شن الحروب لاختصار النزاع؟ كلا فلا عدوان إلا على الظالمين. 45- من سورة الإنسان: (إنا نحن نزلنا عليك القرآن تنزيلا) (فاصبر لحكم ربك ولا تطع) . . . لا نسخ فى الآية ولا فى سابقتها فالصبر على البلاغ مطلوب، وكذلك على تعليم الجهلة ومعالجة المعلولين. وهذا الصبر ليس له أمد يقف عنده لأنه جزء من حكمة الوجود.. وينضم إليه انفراد المؤمن بمسلكه الراشد. ولو بقى وحده على الطريق فلا يجوز أن ينقاد لآثم أو كافر ويستمد المؤمن طاقة المقاومة من إيمانه الصلب والقرآن الذى تنزل عليه حافلا بالهداية والنور. 46- من سورة الطارق: (فمهل الكافرين أمهلهم رويدا). المسافة بين الإيمان بالله والكفر به- أو بين التوحيد والشرك، أو بين التقوى والفجور مسافة طويلة، وربما تتقارب وجهات النظر فى بعض الأحكام، ولكن أنّى تتقارب بين ماديّ يؤمن بدنياه وحدها ومسلم يؤمن بالله واليوم الآخر؟ ص _056(1/46)
فما العمل؟ يكلفنا الله سبحانه ألا نعجل على خصومنا مادام كفرهم سلبيا، ولنلزم التعليم والإرشاد. من يدرى؟ إن خالد بن الوليد وعمرو بن العاص بقيا على كفرهما نحو عشرين سنة، ثم اهتديا أخيرآ، وقدما للدين الكثير!! 47- من سورة الغاشية: (1) (فذكر إنما أنت مذكر ). (لست عليهم بمسيطر). تاريخ الأنبياء لم يكن تاريخ حكام عسكريين، أو جبابرة مسلطين! إنما كان تاريخ رجال لهم قلوب واعية وألسنة هادية، وقد تحملوا الإذلال، والضرب، وقتل بعضهم وهو يؤدى رسالته.. ومن هنا يجب اعتماد الإقناع الهادئ والتعليم المخلص أساسا للدعوة إلى الله، كما يجب تأخير السيف- لو وجد- حتى يتحول الضلال إلى حيوان شرس، فيظهر السيف ليرد العدوان- ويكف بأسه. ثم ترجع الدعوة إلى أسلوبها الفذ- وهو تذكير الغافل- وإيقاظ الحذر، ولا نسخ فى الآيات كلها 48ـ سورة الكافرون: (1)( قل يا أيها الكافرون * لا أعبد ما تعبدون * ولا أنتم عابدون ما أعبد * ولا أنا عابد ما عبدتم * ولا أنتم عابدون ما أعبد * لكم دينكم ولي دين) قلنا: إن الحرية الدينية من خصائص الإسلام، وإن صيحة "لكم دينكم ولي دين" فاجأ الإسلام بها أتباع الأديان الأرضية والسماوية جميعا بل هى فى التاريخ السياسى - خلال القرون الطوال لمسيرة الإنسانية- تعتبر بدعة إسلامية!! قد تقول: فما الذى جعل بعض المسلمين يتحدث عن الحرب الهجومية ويسيغها؟ والجواب: التجارب المرة مع الحاخامات والكرادلة، وكراهيتهم المنكرة للإسلام، ورغبتهم المجنونة فى إخفاء اسم محمد وكتابه.. ص _057(1/47)
إن أغلب هؤلاء الرؤساء يودون لو عبد المسلمون الأصنام وانقطع ترددهم على مساجد ينبعث منها التكبير والتوحيد أناء الليل وأطراف النهار... ومع بدايات القرن الخامس عشر الهجري، ومع الهزائم التى منينا بها وأودت بخلافتنا، رأينا البغضاء تزداد سوادآ، والرغبة فى الإجهاز علينا تجمع أحزابآ ومذاهب! ولا يلام المسلمون إذا قابلوا هذا الطغيان بنية الكفاح إذا عجزوا عن مقابلته بحدّ السلام... والواقع أن كل ما نقوله سوف يتلاشى إذا لم يعد أهل الكتاب إلى صوابهم ويعترفوا للمسلمين بحق الحياة! إما إذا غلبتهم العداوات الموروثة، وأبوا إلا المضى فى إبادة الأمة الإسلامية، فإن الحرب ستظل متقدة. وضعفنا العارض لن يظل خالدآ. وسيثأر الأخلاف للأسلاف، وتتجدد حروب كان يمكن أن تضع أوزارها.. إننى أكتب هذه السطور، وأنا أسمع من إذاعة لندن كيف هجم الهندوس على مستشفى فى مدينة أحمد آباد ورموا بعض المرضى المسلمين من الطوابق العليا، ثم أشعلوا فيهم النار. وأقرأ فى الوقت نفسه كيف ضرب الإسرائيليون بعض الأسرى بالهراوات حتى أجهزوا عليهم! ومع غليان الغضب فى دمى وأنا أقرأ وأسمع فلن أفقد رشدى أو أظلم دينى أو أغلق الطريق أمام قلة من المنصفين ترفض التعصب الأعمى، وتنشد للعالم مستقبلا أرحم وأرحب..! ص _059
المعاملة بالمثل وراء
حروب جائرة متصلة
ص _060(1/48)
المعاملة بالمثل وراء حروب جائرة متصلة وقد نبهت فى بعض ما كتبت إلى أن مبدأ "المعاملة بالمثل " كان من وراء أحكام فقهية وصفت بأنها شرعية! والواقع أنها لم تقم اعتماداً على نص وإنما قامت على القصاص مما ينزل بالمسلمين.. ماذا يصنع المسلمون إذا اعتبر الإسلام خارجاً على القانون، واستبيح أتباعه، وشنّت عليهم حرب استئصال؟ لا يلامون إذا اعتبروا أرض الآخرين دار حرب! وردّوا على الشر بمثله! وإذا كان الأسر المصدر الأول للاسترقاق، وكان أعداؤهم يضربون الرق على من يسقط بأيديهم، ويستخدمونهم أو يبيعونهم فى الأسواق إذا استبقوهم أحياء فماذا يصنع المسلمون بمن يجيئهم من الأسرى؟ هل آية ((فإما منا بعد وإما فداء حتى تضع الحرب أوزارها)) تحل المشكلة..؟ لقد تأملت طويلا فيما روته التوراة من أن سليمان كانت لديه ألف امرأة! ثلاثمائة من الحرائر وسبعمائة من الإماء، وتساءلت من أين جاء الإماء؟ أسرى حروب بداهة! وتساءلت كذلك ماذا يصنع رجل واحد مع ألف امرأة؟ إنه لو كان ديكا بين ألف دجاجة لهرب من هذا الميدان!! وقد نقل الرواة- ولست أدرى من أى مصدر- أن بعض الخلفاء كان يملك هذا العدد من الحريم! لعل الراوى ألف ليلة وليلة! ومع ريبتى الشديدة فيما نقل عن سليمان، وفيما نسب إلى بعض الخلفاء فإن مبدأ الاسترقاق نفسه يبقى موضع الدراسة، وعندما نرفضه فإن الإلغاء لا تحققه دولة واحدة، وإنما يحققه ميثاق دولى، ونحن أول خلق الله ترحيبا بهذا الميثاق لأنه يتمشى مع ما لدينا من نصوص ويعفينا من مبدأ المعاملة بالمثل الذى ألجئنا إليه إلجاء.. ص _061(1/49)
والغريب أن جمهرة المبشرين والمستشرقين لديهم من الصفاقة ما يجعلهم يصفون الإسلام بأنه دين الاسترقاق! أما هم فأيديهم نظيفة، وتاريخهم نقى!! وقد جاء العصر الحديث وشعار الحرية يملأ الدنيا، والحديث عن حقوق الإنسان وكرامات الشعوب يزحم المدائن والقرى.. وانتظم المسلمون فى هيئة الأم المتحدة، ودخلوا فى مظلة مجلس الأمن فماذا جنوا؟ هل صينت حقوقهم؟ وحفظت كراماتهم؟ أم داسها الأقوياء دون حرج؟ لايزال انتماء فرد أو شعب إلى الإسلام سببآ فى فشل قضاياه وضياع مطالبه! لو تبادل الناس الحقوق الطبيعية- برغم ما بينهم من خلاف- لجفت دماء ما تزال تسفك، ولاختصرت مسافات لا تزال تباعد! لكن ما عسانا نفعل- نحن المسلمين- إذا اعتبرنا خارجين على القانون حتى نرتد عن ديننا؟ إن أهل الكتاب يتفاهمون مع الشيوعية ولا يتفاهمون معنا! ومن الوثنيين من يصونون حق الحياة عند القردة والفئران، ولا يرون حرجآ من استئصال حياتنا..! كان لابد- والحالة هذه- من دفاع دائم أو سلام مسلح، ولا غرابة أن يكون التعامل بالمثل دأب الفريقين، ولا يلومنا عاقل منصف.. ولعل ذلك سر قوله تعالى (ود الذين كفروا لو تغفلون عن أسلحتكم وأمتعتكم فيميلون عليكم ميلة واحدة) ولا بأس أن أذكر بعض خسائرنا عندما استسلمنا للغفلة، ولم نحتط لبطش الأعداء الشائنين، ولأعد إلى الحروب الصليبية فى العصر الوسيط، وهى الحروب التى تتجدد اليوم بصور مختلفة، وسألمح إلى سقوط الخلافة العباسية ودمار بغداد! سيسرع ناس إلى القول: هذا عمل التتار، ما شأن الصليبية به؟ وأجيب بأن الخطة وضعت فى أوروبا، ونفذت فى آسيا، والمؤرخون الأوروبيون يعرفون ذلك معرفة جيدة، ويضعون الأحداث الرهيبة تحت عنوان "الحملة الصليبية المغولية" وقد لخص ذلك الأستاذ محمد على الغتيت فى كتابه "الغرب والشرق " معتمدا على المراجع الفرنسية وحدها، ومتجاوزا تقصير مؤرخينا فى سرد الأحداث، وهو تقصير لا يزال يلاحقنا حتى هذه الساعة.(1/50)
ص _062
قال الباحث الكبير: دعا "لويس التاسع" بعض رجال أمير المغول إلى فرنسا حيث فاوضهم فى عقد اتفاق عسكرى ينص على قيام الطرفين بأعمال حربية واسعة ضد العرب والمسلمين.. ويكون دور المغول غزو العراق، وتدمير بغداد، والقضاء على الخلافة الإسلامية.. ويكون دور الصليبيين تعويق الجيش المصرى عن مساعدة إخوانه المسلمين، أى عزل الجيش المصرى عزلا تاما عن سائر البلاد العربية.. ومضى لويس فى سعيه لاستمالة المغول وتسخير قواهم المدمرة لضرب الإسلام. ففى 27/ 1/ 1249م أرسل إلى أمير المغول هدايا فاخرة حملها إليه وفد يرأسه الراهب الدومنيكى "أندريه دى لونجيمو" وكان بين هذه الهدايا قطعة من الصليب المقدس، وصور للعذراء ونماذج صغيرة لمجموعة من الكنائس ". والذى أطمع لويس التاسع فى نجاح محاولته لتكوين جبهة مشتركة مع المغول هو ما كان للنصارى النسطوريين من نفوذ وهيمنة فى إمبراطورية جنكيز خان، كانت سلطات الدولة فى قبضتهم، وأرفع المناصب فى أيديهم.. ويقول الأسقف دى مسنيل: اشتهر هولاكو بميله للمسيحيين النساطرة، وكانت حاشيته تضم عددآ كبيرآ منهم، كما كان قائده الأكبر "كيتبوكا" مسيحيآ نسطوريا، وكذلك كانت الأميرة "دوكس خاتون " زوجة هولاكو مسيحية. وقد أدت هذه الزوجة دورآ تفخر به الكنيسة فى تجنيب أوروبا المسيحية أهوال الغزو التتاري، وتحويله إلى بغداد والأمة الإسلامية. كما أنه صدرت الأوامر عند سقوط بغداد بتقتيل المسلمين وحدهم وعدم المساس بالمسيحيين أو التعرض لأموالهم " ويصف الأسقف "دى مسنيل " حملة التتار على بغداد فيقول: "كانت صليبية بالمعنى الكامل، هلل لها المسيحيون، وارتقبوا الخلاص على يد هولاكو، وقائده المسيحي "كيتبوكا" الذى تعلق أقل الصليبيين بجيشه كى يحقق القضاء على الإسلام والعرب هو الهدف الذى فشلت الجيوش الصليبية الغربية فى تحقيقه.. " قال التاريخ يصف سقوط بغداد: يئس الخليفة "المعتصم بالله "! من عمل أى شىء فسار(1/51)
بنفسه وأولاده وحواشيه إلى معسكر هولاكو وارتقب مصيره. ص _063
وكذلك فعل الأعيان والوجهاء حتى إذا تكامل عقدهم أعمل التتار فيهم السيف وفتكوا بهم جميعأ، ثم بدأ إفناء الجماهير، وعصف الردى بالشيب والشباب والرجال والنساء، وسالت الدماء فى الطرقات، شاقّة مجراها إلى الفرات الذى احمرت أمواجه من كثرة ما أزهق من أرواح.. قدر بعض المؤرخين عددها بمليون وستمائة ألف نفس.. وظلت ريح الدمار تلف البلد البائس ستة أسابيع "نهبت فيها القصور العامرة وخربت المساجد والمدارس والمكتبات، وكما احمرت مياه النهر عدة أميال لغلبة الدم عليها، اسودت بعد ذلك لفداحة ما أحرق من مخطوطات ومؤلفات هى حصاد العقل الإسلامى قرونأ عددا.. وهكذا انهار ما كان شامخا، وأتت الفوضى على حضارة أنارت المشارق والمغارب، هوى بها الهوى والمجون، ودمرت أيام اللذة ماشادته روح التضحية والفداء.. والحق أن مصاير المدن الإسلامية الأخرى لم تكن أفضل من دار السلام! إن 95% من مبانيها وسكانها تلاشى، وأمسى أثرأ بعد عين مما جعل السيوطى يعبر عن هذه المآسى بقوله "حديث يأكل الأحاديث، وخبر يطوى الأخبار، وتاريخ ينسى التواريخ، ونازلة تصغر كل مازلة، وفادحة تطبق الأرض وتملؤها بين الطول و العرض ". وكان المفروض أن تلقى القاهرة ودمشق النهاية نفسها التى لقيتها بغداد، وفق الخطة الصليبية المرسومة، بيد أن هزيمة التتار أمام الجيش المصرى فى معركة "عين جالوت " ومقتل القائد المسيحى (كيتبوكا) ووقوع نزاع دموى بين هولاكو الميال للمسيحية، وأخ آخر ميال إلى الإسلام ذلك كله وقف المصائب النازلة بالمسلمين.. الى حين.. لقد دفع المسلمون ثمنا فادحا لمعاصيهم السياسية والاجتماعية، ولإخلادهم إلى الأرض وحبهم للدنيا. كان القرنان الهجريان السادس والسابع مسرحا لزلازل وبراكين هدت كيان الأمة وأمكنت الصليبيين والوثنيين من إهلاك الحرث والنسل. ومن تخطاه الموت هام على وجهه لا يجد مأوى له.. وكان(1/52)
الشعور العام أن الإسلام يجب أن يزول وأن أمته يجب أن تختفى، ومع أن التتار فى الشرق كانوا الأيدى المنفذة إلا أن المسلمين أحسّوا من قبل ومن بعد أن أوروبا هى التى ترسم وتشير وتعمل وتساعد وبقى هذا البلاء موصولا أكثر من قرنين! ص _064
ولم يرتد أحد عن دينه برغم قسوة الهجوم. فلما ولّى القرن السابع، وجاء القرن الثامن. كان العنصر العربي يتراجع عن أماكن القيادة وكان الأتراك يأخذون الطريق إلى الأمام. على أن العناصر التى تتكون الأمة الإسلامية منها كانت كلها مثخنة بالجراح، لقد نجت من جريمة قتل عمد، وشاءت الأقدار أن تبقى كى تثأر للألوف المؤلفة التى بادت... لم يكن أشخاص الخلفاء موضع احترام لكن الخلافة نفسها شعار لا بد من رفعه، لأنه رمز إلى دين.. إن الخلفاء من بنى العباس بلغوا سبعة وثلاثين خليفة! ربما لم يستحق الرياسة منهم إلا عدد أصابع اليد، هم كما قال دعبل: خليفة مات لم يحزن له أحد وآخر، قام لم يفرح به أحد!! إلا أن سقوط الخلافة نفسها ذريعة إلى ضياع الإسلام كله. وتطلع المسلمين إلى خلافة جديدة تواجه البابوات والكرادلة والمؤامرات الخفية والجلية ضد الإسلام أمر مفهوم. ومن ثم رحب الجمهور بدولة العثمانيين، وتلقفهم لراية الخلافة الساقطة... وتبعوها وهى تقتص من دولة الروم الشرقية، وتستعد للزحف على أوروبا كلها.. قلنا: إن المعاملة بالمثل هى القانون الذى ساد بين المسلمين وخصومهم.. وما دام الصليبيون من وراء سقوط بغداد، فليتوجه المسلمون إلى القسطنطينية نفسها، والبادئ أظلم... وقد استولى الأتراك على المدينة بعد حصار واختراق لم يعرف لهما نظير فى تاريخ الحروب. والجدير بالتسجيل أن هذا الفتح كان من أعف الفتوح وأقلها غرمآ وأبعدها عن الفتك والفساد. إن المسلمين فى انتصاراتهم كلها كانوا أشرف الناس وأميلهم إلى العفو! فسقوط الخلافة في بغداد تم وسط مذابح هائلة كما وصفنا من قبل، أما سقوط القسطنطينية فلم يتجاوز(1/53)
القتلى فيه حدود ميدان القتال وحده.. ص _065
والحملات الصليبية كان هدفها محو دين وإبادة أتباعه جملة وتفصيلا! فماذا فعل الفاتح العثماني عندما أستولى على عاصمة الروم؟ يقول الشيخ محمود زيادة المؤرخ الأزهرى الدقيق: إنه مضى على سنة الإسلام فى معاملة أهل الذمة، والمحافظة على شعائرهم وشرائعهم! يقول: ويصف "فولتير" الفيلسوف الفرنسى الشهير موقف المسلم المنتصر من المسيحى المنهزم بقوله: "إن الأتراك لم يسيئوا معاملة المسيحيين كما نعتقد نحن! والذى تجب ملاحظته أن أمة من الأم المسيحية ما كانت لتسمح أن يكون للمسلمين مسجد فى بلدها! أما الأتراك فإنهم سمحوا لليونان المقهورين أن تكون لهم كنائسهم.. "ومما يدل على أن السلطان محمد الفاتح كان عاقلا حليما- أو كان مسلمأ صادقأ- تركه للنصارى المقهورين الحرية فى انتخاب بطريقهم! ولما انتخبوه ثبته السلطان وسلمه عصا البطارقة، وألبسه الخاتم، حتى صرح ذلك البطريق وهو يلقى معاملة ما كان يتوقعها: إننى خجل مما لاقيته من التبجيل والحفاوة، الأمر الذى لم يفعله ملوك النصارى مع أمثالى... ! أقول: مشكلة المشاكل عند اليهود والنصارى قديمأ وحديثآ، أنهم يروننا مبطلين غير جديرين بالحياة، وتطبق الأحقاد على قلوبهم وعيونهم، فيؤثرون عبدة الأصنام ومنكرى الألوهية بودهم ومحبتهم! أما نحن فالموت لنا.. وهم يغتاظون من كلمات الأذان، ويكرهون قيام المساجد، ويفضلون أن تبنى الحانات مكانها.. ولنعد إلى موضوعنا.. إن المعاملة بالمثل التى أملت بإسقاط القسطنطينية فى مقابلة إسقاط بغداد كفكفها الخلق الإسلامى الذى رفض حرب الإبادة الشاملة، وآثر العفو والسماحة.. بيّد أننا- ونحن نشرح الإسلام- نعلق بشىء من التساؤل على تحويل كنيسة "أيا صوفيا" إلى مسجد: هل هذا تقليد إسلامى!؟ إن عمر بن الخطاب استبقى الكنيسة لأصحابها. وعندما عرض عليه رئيسها أن يصلى بها وقد أدركه الوقت رفض! وقال: يجيئ المسلمين فيقولون: هنا(1/54)
صلّى عمر، ويتخذون الموضع مسجدا!! إنه رفض الصلاة محافظة على بقاء الكنيسة للنصارى!! ص _066
ولو سألنا محمد الفاتح لم لم يستن بسنة عمر؟ لأجابنا: ماذا لقى أحفاد عمر من الصليبيين عندما فتحوا بيت المقدس بعد بضعة قرون؟ لقد جرت دماؤهم أنهارأ، وتحولت القدس إلى مستعمرة لاتينية! وما أغنى عنهم نبل عمر شيئا!! وهل وقف ضغائن الفاتحين شئ عندما تحالفوا مع التتار فإذا العاصمة الغناء والمدائن العظام تنعق فوق خرائبها البوم والغربان.؟ والواقع أن الصليبيين لم تكن لديهم إثارة من شرف فى مسالكهم الأولى، وما أشبه الليلة بالبارحة! عندما أمشى على تراب الجزائر يخيل إلى أنه تحت كل ذراع من الأرض شهيد مظلوم! لقد قدمت الجزائر- وعددها تسعة ملايين- مليونا ونصف مليون من القتلى، وذلك كله بعد أن حكمت فرنسا ثورة تعلن شعار "الحرية والإخاء والمساواة"!! إن الشعار الجديد لم يخفف ذرّة من الأحقاد القديمة!. ولقد استبقى محمد الفاتح حرية الحياة، وحرية التدين لخصومه المهزومين، والسؤال الذى يقال الآن: هل قدر هذا الجميل؟ كان محمد الفاتح حين انتصر على الروم شابآ فى الثالثة والعشرين من عمره، عابدآ مجاهدآ، تاليا للقرآن محبا للإسلام، وقد أوصى أولاده عند وفاته أن يلتزموا بنهجه، وأن يبقوا أوفياء لله ورسوله! وليتهم فعلوا!! وندع هذا السرد التاريخى الذى اضطررنا إليه لكشف ما قد يكون من تفاوت بين النظرية والتطبيق، ونعود إلى ما لدينا من نصوص هادية لنؤكد أن الرسالة الإسلامية تقوم على الإقناع، وتمتد طولا وعرضا بالدعوة المسالمة، وأن البيئة الحرة هى وحدها أفضل البيئات لنشر الإسلام. فما الذى جعل البعض يتجاهل مائة نص، ويزعم غير ذلك؟! ص _067
ما يسمونه آيه السيف ص _068(1/55)
ما يسمونه آية السيف! نزلت سورة براءة بعد اثنتين وعشرين سنة من بدء الوحى، وبعد آماد طويلة من الحروب الباردة والساخنة، والمقاومات الجاهلة أو الخبيثة، قام بها عبدة الأصنام وأهل الكتاب على سواء..! وشاء الله أن ينصر جنده، ويظهر دينه، فتوارت عصبيات مستكبرة وكراهيات للحق عنيدة! تدبر هذه المواقف الغاشمة ضد الرسالة وصاحبها (وإذا رأوك إن يتخذونك إلا هزوا أهذا الذي بعث الله رسولا * إن كاد ليضلنا عن آلهتنا لولا أن صبرنا عليها …) وتدبر هذا الإنكار البالغ على الحق والضيق الشديد به (وإذا ذكر الله وحده اشمأزت قلوب الذين لا يؤمنون بالآخرة ….). لقد تلاشى ذلك كله، وتكسرت الأصنام ودخل الناس فى دين الله أفواجا، لكن بقيت طوائف من الضالين لم تعترف فى أعماقها بالهزيمة وتودّ لو عادت للأصنام دولتها، ورجعت إليها قداستها... فماذا صنعت دولة الإسلام مع هذه الطوائف؟ لقد محت أولا بعض المظاهر الخارجة على الآداب، والجارحة لكرامة البيت الحرام، وصدر أمر ألا يطوف بالكعبة عريان، فهل فى هذا ما يعاب؟ ما معنى أن يتعرى رجل أو امرأة ثم يطوف بالكعبة؟ إن هذا سقوط فكرى وخلقى لا يقبل له تعليل.. ولا يسوغ بقاؤه باسم الحرية الدينية.. وحاول نفر من عبيد الأوثان أن يتسللوا إلى أرجاء المجتمع كى يعبثوا بالأمن والإيمان معا، ويجمعوا الفلول التى صدعها التوحيد بعد رأى فقيل لهؤلاء: أمامكم مهلة أربعة ص _069(1/56)
شهور، فإما تبتم وهجرتم أصنامكم إلى الأبد.. وإما تركتم هذه البلاد التى سادها الإيمان الحق، وانطلقتم حيث شئتم فى أرض الله الواسعة.. وإلا واجهناكم بالسيف، وقابلنا كيدكم بالقصاص، فهل هذه السياسة عدوان على الحرية؟. وكان هناك عرب يظاهرون كل خارج على الدولة الجديدة، ويستكثرون على المسلمين ما حققوه من نجاح، ومع قيام معاهدات هدنة أو سلام- بينهم وبين المسلمين إلا أنهم ما وجدوا فرصة لإيذاء المسلمين إلا انتهزوها! فهل يترك هؤلاء الناقمون الأخسّاء يعبثون بالعهود كما يشاءون، وينالون من المسلمين ما ينالون؟ هل فى إلغاء عهود ازدراها الطرف الآخر عيب أو ملام؟ هل فى ذلك خروج على الحرية الدينية؟ ومع تفاوت المجتمع العربي أيام نزلت سورة براءة- أى قبل وفاة الرسول بعام- فقد كان هناك صنف من الناس يشبه أن يكون خالى الذهن، لعله يعيش مع القطعان السارحة لا يكترث طويلا لقضايا الإيمان والشرك!! ماذا نصنع بهذا الفريق التائه؟ يقول الله تعالى فى هذا الصنف من الناس (وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله ثم أبلغه مأمنه ذلك بأنهم قوم لا يعلمون) لا إكراه ولا عدوان ولا اهتبال الفرصة، نتركه- ونحن قادرون عليه- حتى يعود إلينا إذا شاء وهو آمن!! أرأيت احتراما للحرية الدينية أكثر من ذلك؟ إن الشدة كانت مع المستخفين بنا وبمعاهداتنا الحريصين على النيل منا ومن رسالتنا. ! لقد قلنا لهؤلاء: ابقوا معنا كراما أو ابتعدوا عنا، وأمامكم وقت طويل لاتخاذ القرار!! فكيف نعاب على ذلك؟ لكن ناسآ من المفسرين- عفا الله عنهم- لم يعيشوا فى جوّ السورة، ولم يدركوا مواقع النزول، ولم يربطوا الحكم بحكمته، وزعموا أن هذه السورة ألغت كل ما سبقها من آيات الدعوة والمسالمة، وأنها أحلت العنف مكان اللطف، والإكراه مكان الحرية! وبهذا القول الجزاف نسخت مائة آية نزلت من قبل فى أسلوب الدعوة! ص _070(1/57)
وسمعت من يحتج بالآية: (وقاتلوا المشركين كافة) فقلت له: ألا تكملها؟ أليس بعدها (كما يقاتلونكم كافة) فأنى فى الآية الدعوة إلى الهجوم، وإعمال السيف فى الناس؟ ويشيع بين المفسرين أن آية السيف نسخت ما جاء قبلها، وعند التحقيق لا يوجد ما يسمى آية السيف! هناك جملة من الآيات فى معاملة خصوم الإسلام، وفى مقاتلتهم أحيانآ لأسباب لا يختلف المشرعون قديمأ وحديثأ على وجاهتها، وعلى أنها لا تنافى الحرية الدينية فى أرقى المجتمعات! خذ أول آية من هذه السورة (براءة من الله ورسوله إلى الذين عاهدتم من المشركين) إنها تحسم معاهدات قائمة، ولأول وهلة يظن ذلك غذرآ!! فإذا قرأت أن هذا الحسم يعنى أناسآ معينين سبقوا بالحنث والاستهانة وإرخاص حقوق المسلمين علمت أن الأمر رد فعل، وأنه عقوبة على موقف سيئ!! ويبدو ذلك جليآ فى قوله تعالى (إلا الذين عاهدتم من المشركين ثم لم ينقصوكم شيئا ولم يظاهروا عليكم أحدا فأتموا إليهم عهدهم إلى مدتهم إن الله يحب المتقين). فأين العدوان هنا؟ وممن برئت ذمة الله ورسوله؟ من أى كافر؟ أم من كافر معتد أثيم لا شرف له؟ وقد تكرر شرح الموقف فى الصفحة نفسها التى تناولت هذه القضية، وقام الشرح على أساس أن الإسلام لم يحارب الكفر لأنه كفر، بل لأنه ضم إلى عوجه الفكري جملة من الآفات الأخلاقية والمسالك العدوانية لا يجوز قبولها، ولا يصبر حر عليها! الكفار هنا يسكتون عنا لأنهم عجزة، فإذا واتتهم القوة شنوا الغارات علينا.. ولن تحجزهم يمين ولا عهد، أقوالهم معسولة مع الضعف، وقلوبهم تغلى من الحقد. تأمل فى قوله تعالى يصف أولئك الذين ألغيت معاهداتهم ( فما استقاموا لكم فاستقيموا لهم إن الله يحب المتقين) ص _071(1/58)
ثم يقول (كيف وإن يظهروا عليكم لا يرقبوا فيكم إلا ولا ذمة يرضونكم بأفواههم وتأبى قلوبهم وأكثرهم فاسقون * اشتروا بآيات الله ثمنا قليلا فصدوا عن سبيله إنهم ساء ما كانوا يعملون * لا يرقبون في مؤمن إلا ولا ذمة وأولئك هم المعتدون). السباق كله يطرد لنفى العدوان عن المسلمين، وإثباته على الكافرين. فعدوانهم سبب إعلان الحرب عليهم وبراءة الذمة منهم. ويظهر أن أولئك المعتدين كانوا على درجة من القوة تبعث على القلق والتخوف! ولذلك مضى السياق يحرض ويهدد (ألا تقاتلون قوما نكثوا أيمانهم وهموا بإخراج الرسول وهم بدءوكم أول مرة أتخشونهم فالله أحق أن تخشوه إن كنتم مؤمنين). فى أى لفظ من هذه الألفاظ تشم رائحة الهجوم والتعدّي؟ إنها استثارة للدفاع وحسب! وعندما يأمر بالقتال يذكر بمآسيهم السابقة وما تركوه فى القلوب من جراحات.. قال تعالى (قاتلوهم يعذبهم الله بأيديكم ويخزهم وينصركم عليهم ويشف صدور قوم مؤمنين * ويذهب غيظ قلوبهم ويتوب الله على من يشاء والله عليم حكيم). مم يكون شفاء الصدور وذهاب الغيظ؟ لاشك أن هؤلاء الناس تركوا فى نفوس المؤمنين جراحات لا تندمل، غرّبوهم، وقتلوا أحبتهم، وضنوا عليهم بكل حق، وظلوا على هذه الحال ثنتين وعشرين سنة يتربصون الدوائر بالمسلمين، ويقلبون لهم الأمور.. أعطيناهم حق الحياة بكفرهم وأبوا أن نعيش بإيماننا! قلنا لهم: لكم دينكم ولنا ديننا فقالوا: ليس لكم إلا الموت. أولئك هم الذين برئت منهم ذمة الله ورسوله، وأولئك الذين نزل فيهم: (فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم . .). ص _072(1/59)
بأي عقل يأتى مفسر فيقول: المقصود بهذه الآية كل كافر على وجه الأرض! أساء أم أحسن! وفى أم غدر! ظلم أو أنصف! ثم يطلق على الآية المحدّدة: آية السيف! ويلغى بها مائة آية فى العرض الهادئ والجدال الحسن والوعظ البليغ!! ثم تظهر فى عصرنا الأسود طوائف من الشباب الأغرار تحمل العصى، وتزعم أن الإسلام دين هجوم وتريد أن تقاتل رواد الفضاء!! أكذلك يخدم دين قوامه العقل، وأساسه النظر الذكى، والمنطق الرزين الرتيب؟ وشىء آخر تضمنته سورة براءة ينبغى أن يعرف على وجهه الصحيح، إن منع المشركين من زيارة المسجد الحرام ليس مصادرة للحرية الدينية، لقد كان هؤلاء المشركون يطوفون بالكعبة وحولها مئات الأصنام التى يعبدونها من دون الله، وعلاقة المشركين بالله جائرة بائرة، إذ ما كان لشركائهم فلا يصل إلى الله، وما كان لله فهو يصل إلى شركائهم. وها قد تحطمت الأصنام صاحبة الكفة الراجحة! فما الذى سيزوره أولئك الوثنيون؟ لعلهم سيعبدون جدران الكعبة! وهذا شرك مرفوض بداهة! إذن لابد من منعهم (ما كان للمشركين أن يعمروا مساجد الله شاهدين على أنفسهم بالكفر …) وقد أوجس المسلمون خيفة من هذا المنع، فإن الوفود القادمة إلى مكة كانت تجعل منها سوقا اقتصادية رابحة. ومطاردة الوثنية على ذلك النحو الصارم ستحرم أم القرى سائحين كثيرين! ينعشون تجارتها ويغنون أهلها. لذلك نزل قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا إنما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا وإن خفتم عيلة فسوف يغنيكم الله من فضله إن شاء إن الله عليم حكيم). وقد انطلق المنادون بعد هذا البيان فى أرجاء الموسم الجامع يصيحون: لايحجّن بعد العام مشرك، ولا يطوفن بالبيت عريان ". كان لابد من طمس معالم الجاهلية كلها، والإتيان على شاراتها ومساخرها، حتى تتكون دولة التوحيد بعيدة عن كل إفك وخرافة... ص _073(1/60)
بعد تلك الآيات التى شرحت موقف الإسلام من كفار جزيرة العرب، انتقل النظم الكريم إلى تحديد الموقف من أهل الكتاب الضائقين بالإسلام الصّادّين عن سبيله.. وقبل أن نذكر الآيات النازلة أحب أن أثبت فكرة تمر كثيرآ بذهنى!. كنت أسمع إلى حديث عن الفضاء الكونى، فعرفت كما عرف غيرى أن ألوف الألوف من المجرات تسبح فى هذا الفضاء الواسع، وأن كل مجرة مشحونة بألوف مؤلفة من النجوم والكواكب، وأن هذه الأسراب الطائرة تفصل بينها مسافات تحسب بالسنين الضوئية، أعنى بألوف مؤلفة من هذه السنين! أهى النازعات غرقا، الناشطات نشطا، السابحات سبحا، السابقات سبقا؟ لعلها هى...! إن هذا الكون الراقص- كما يعبر أحد العلماء- لا تختل له حركة!، ولا يدرك لبحره شاطئ، ولا يوقف له على حدود، إنه كون كبير كبير.. وما كدت أصل إلى هذه النتيجة حتى دوى فى أرجاء نفسى صارخ يقول: لكن بانيه أكبر، قلت: أجل الله أكبر. وصوت المؤذن يقذف بهذه الحقيقة آناء الليل وأطراف النهار.. ولا ترك الكون الكبير ولا نظر فى نفسى أنا الكائن المحدود! سمعت عالما يقول إن الغدّة النخامية مع مجموعة أخرى من الغدد والأعضاء العامة فى الجهاز الجنسى تؤدى وظيفتها كما يؤدى قائد الفرقة الموسيقية وظيفته مع المغنين والزامرين! يسكت هذا ويحرك ذاك، يأمر هذا بالجهر وذاك بالإسرار، يرفق هذا العزف ويضخم ذاك الصوت.. الخ.. قلت: قطعة لحم فى حجم زرّ القميص تؤدى هذه الأعمال كلها؟ وتبدأ أول مراحل التخلق الإنسانى من نطفة إلى علقة إلى مضغة... الخ!؟ من ألهمها هذا المسلك؟ الجواب الفذ. (الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى) ألوف مؤلفة من الغدد والخلايا وضوابط الوراثة والبيئة تشرف على مسيرة الحياة هى فى حقيقتها أستار لقدرة القادر وعلم العالم وخبرة الخبير! (الرحمن على العرش استوى * له ما في السماوات وما في الأرض وما بينهما وما تحت الثرى). ص _074(1/61)
إننى أعرف الله أولا بعقلى! ثم أتساءل ما أقرب المواريث الدينية المختلفة إلى مقررات هذا العقل؟ فلا أجد إلا قرآن محمد(صلى الله عليه وسلم)! من تلاوته نزهت الله وسبحت بحمده وأدركت أن العظمة له والمجد له والكبرياء له، وأنه لا قوة إلا به ولا توكل إلا عليه (فلله الحمد رب السماوات ورب الأرض رب العالمين * وله الكبرياء في السماوات والأرض وهو العزيز الحكيم) قد تقول: ليس هذا التوجيه حكرأ على محمد! إن موسى وعيسى قدما للإنسانية من قبل هذه الحقائق! وأجيب: نعم صدقت، إن محمدا يؤكد الوحى الذى نزل على الرسولين الكبيرين اللذين سبقاه، ويدعو أتباعهما إلى التزامه.. مأساة أهل الكتاب أنهم لا يعرفون الله كما عرفه النبيون الأولون، إنهم يتوارثون أوهاما عن تجسيد وتعديد يرفضها العقل رفضا كما يسندون إلى الله أفعالا تنم عن طيش، وجهل ينقضها المنطق نقضا. وأهل الكتاب فى العصور الأولى هم أهل الكتاب فى العصور الأخيرة ونحن اليوم نراهم يجمعون اختلال المسالك إلى جانب اعتلال العقائد. من من الأنبياء أباح الربا؟ لكن أهل الكتاب يقيمون عليه قواعد الاقتصاد العالمى، ويقصمون ظهور الدول الفقيرة بالقروض المقرونة بالربا الفاحش أو اليسير... من من الأنبياء أباح الزنا؟ لكن أهل الكتاب يسّروا السطو على الأعراض، بل جعلوا ذلك حاجة بدن لا صلة لها بالأخلاق! إن صعلوكا فى أى شارع يستطيع إشباع نهمته كيف يشاء، ومن أي عدد.. والأنبياء قاطبة حدثوا أممهم عن اليوم الآخر وطالبوهم أن يستعدوا للقاء الله، وأهل الكتاب يتضاحكون من هذا اليوم، والحضارة التى أقاموها لا تحسب له حسابا.. إن الإسلام يطلب من أهل الكتاب السابقين أن يحترموا تعاليم رسلهم، وأن يوفوا بعقودهم مع الله (قل يا أهل الكتاب لستم على شيء حتى تقيموا التوراة والإنجيل وما أنزل إليكم من ربكم) والعبارة الأخيرة تعنى الوحى الأخير.. ص _075(1/62)
والمسلمون يقتربون من اليهود والنصارى ليشرحوا لهما معا حبنا لموسى وعيسى، وفكرتنا السليمة عن الله الواحد الجدير بكل كمال، المنزّه عن كل نقص ورغبتنا فى إقامة مجتمع إنسانى قد تختلف فيه العقائد ولكن يمكن فيه التلاقى والتفاهم والتعاون على البر والتقوى.. لكن القوم ركبوا رءوسهم، وتوارثوا تكذيب محمد عن بلادة حينا، وعن عناد حينا آخر! ليكن فلا إكراه فى الدين، وافعلوا ما شئتم، وكل ما نرجوه ألا تعتدوا علينا! وإن كان القرآن يتضمن غضبا مكفوفا على هذا المسلك (قل يا أهل الكتاب هل تنقمون منا إلا أن آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل من قبل وأن أكثركم فاسقون). والسبب فى هذا الغضب أن أهل الكتاب صادقوا عبدة الأصنام وخاصموا أتباع الإسلام! وكون الجميع جبهة مشتركة للقضاء على الدين الجديد، وتمزيق أمته.. والغريب أن القدامى والمحدثين كانوا سواء فى هذه الخطة، فالاستعمار العالمى ظاهر البوذية والهندوكية ضد الإسلام، وانضم الى كل نحلة بغية القضاء علينا. واليوم تتعاون الشيوعية والصهيونية والصليبية على خذلان قضايانا وعلى ضربنا فى كل ميدان! إنه الموقف نفسه الذى اتخذه اليهود قديما عندما قالوا لقريش: دينكم أفضل من دين محمد، وأنتم أولى بالحق منه.. ماذا يفعل الإسلام بإزاء هذا اللدد؟ لقد قرر تجريد خصومه من أسلحتهم الحربية، واستبقاهم معه ليعرفوا عمليا ما عليه المسلمون من سماح وإنصاف. وفى سبيل ذلك التزم بالدفاع عنهم عسكريا، وكل ما ألزمهم به ضريبة مالية تسد هذه النفقات.. وهذا ما يسمى الجزية. ويلاحظ أن هذه الجزية أخذت من قوم اعتدوا أو ظاهروا المعتدين، قام سلوكهم على عدم الإيمان بالله واليوم الآخر، وعلى استباحة المحرمات وعلى التنكر لمواريث النبيين، وعلى الكبر بالباطل.. ص _076(1/63)
ويستحيل أن يبذل المسلمون نفوسهم وأموالهم فى الدفاع عن هؤلاء دون أن يسهموا بشىء من العون اليسير! وهذا معنى قوله تعالى (قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون). ويوم ظهر نظام الجزية كان رحمة بالشعوب المتهالكة فى العداوات الدينية.. والتى كانت تخير الآخرين بين ترك الدين وفقدان الحياة.. وقد دخل فى الإسلام جمهور كثيف من النصارى، بعد أن عرف المسلمين على حقيقتهم، كما أن نصارى الشام عرضوا على أبى عبيدة فى حمص أن ينضموا إليه فى مقاتلة الروم- وهم على دينهم- لما رأوا عدل العرب ، وقد ذاقوا من قبل بأس الروم. ويحكى التاريخ فى ذلك أن أبا عبيدة ردّ إلى النصارى الجزية التى أخذها منهم لما أحس العجز عن الدفاع عنهم.. ومن الغرائب أن حاكما عربيا استبقى الجزية على من دخل فى الإسلام عندما رأى كثرة الداخلين وفراغ الخزينة! حتى نهر عمر بن عبد العزيز قائلا له: ويحك، ضع الجزية عمّن أسلم فإن محمد بعث هاديا ولم يبعث جابيا!! ربما قال قائل: نحن نكره أن يوضع المخالفون فى العقيدة تحت وصاية غيرهم مهما ذكرتم من مسوّغات..!! وأجيب: نحن نقبل كل اقتراح يوفر الحرية الدينية للبشر، وفى الوقت نفسه يحمى الحقيقة من التشويه والزوال.. إن الكهنوت الدينى حكم الناس دهرا فماذا صنع؟ قتل العلماء، وأذل الأحرار، وبغّض الله إلى الناس! وفتح الأبواب للإلحاد الأعمى، وشارك الملوك والأثرياء فى إهانة الفقراء وسرقة الكادحين. وقد حذر القرآن من السلطات الكهنوتية عندما قال: (يا أيها الذين آمنوا إن كثيرا من الأحبار والرهبان ليأكلون أموال الناس بالباطل ويصدون عن سبيل الله ….) ص _077(1/64)
والواقع أن انتشار الفساد العقائدي والاجتماعي ، وانتشار الإلحاد الشيوعي وغير الشيوعي راجع إلى أن الصليبية فرضت نفسها على أوربا ، وزعمت أنها وحدها التي تملك الكلام باسم الله . . ولما كان الكلام لا يتفق مع العقل أو العدل ، فقد أنصرف الناس عنها وعن الدين كله ! لماذا ؟ لأنه لم يكن للإسلام صوت يسمع ، ولا تجمع بشري يحسن عرضه وتطبيقه وتقديم نموذج حسن له !! إن القرآن وحده هو العاصم من الغرق ، وأمل العالم في حضارة رحيمة سمحة ، وليت المسلمون يعون هذه الحقيقة ويرتقون إلى مستواها . . . . وها قد جاء العصر الحديث بعد حملات ناجحة أو فاشلة سالت فيها دماء غزيرة ، فهل فترت الأحقاد ووضعت الحرب أوزارها ؟ كلا ، إن المشاعر الساخطة التي أوحت إلى الأوربيين أن يتعاونوا مع التتار على إسقاط الخلافة الإسلامية في بغداد ظلت مشتعلة ، ولا تزال الرغبات كامنة لإزالة الإسلام وإذلال أمته . . شيء جديد وقع في أساليب القتال ، أستغله الأوربيون على نطاق واسع ، فأجدى عليهم أكثر من أسراب الطائرات ، ومن فرق الدبابات ! هو لون من الغزو الثقافي البالغ الخبيث . . فقد أشاع الأوربيون أنهم تركوا الدين ، وأسقطوا لواءه ، ومشوا بعيداً عنه وعلى المسلمين إن أرادوا التقدم أن يفعلوا مثل ذلك ! وجند ساسة أوربا نفراً من الدكاترة والصحفيين ومن أطلقوا عليهم لقب (( مفكرين )) وعدد آخر من الساسة والكارهين لله ولرسوله ، ووضعت تحت أيدي الجميع وسائل مادية وأدبية فعالة . وتحقق للمستعمرين الجدد ما أرادوا ، فإذا عمامة مفتي فلسطين تختفي ويختفي الجهاد الإسلامي معها . . وإذا جماعات المناضلين تقاتل تحت لواء العلمانية وحدها ! من تقاتل ؟ جيشاً مفعم المشاعر باليهودية وهيكلها ولقبها الديني العتيد (( إسرائيل )) أي أن الملمين يقاتلون بغير عقيدة قوماً يتفانون لإحياء عقائدهم !! ويتكرر هذا المشهد المذهل في شئون الحياة كلها ، وفي أرجاء الميدان الاقتصادي(1/65)
والسياسي والعسكري . . . وتلاحقت خسائرنا هنا وهناك لا يفقها شيء ! وذلك ما قرت به عين الأستعمار العالمي ، واستبشرت بما بعده . . ص _078
هناك تنويم متعمد للغيرة الدينية عند المسلمين، وتجهيل مقصود لمطالب الإسلام الدفاعية، واختصار مرسوم للمساحات التى لا يزال للإسلام بها وجود. ذاك كله فى الوقت الذى تضفى فيه الشرعية على القوى المضاده..! فالمغيرون على أرض الإسلام رجال شرفاء، والمدافعون عن مدنهم وقراهم، بل عن بيوتهم وأهليهم إرهابيون منبوذون.. ويجوز أن يؤلف الألمان والإيطاليون وغيرهم أحزابا ديمقراطية مسيحية، أما أن يقع مثل ذلك فى بلاد إسلامية فلا.. وليت الأمر يقف عند لا.... "! إنه تأخر ورجعية وتعصب وجمود.. الخ.! ويوجد الآن من يستنكر الجهاد الأفغانى ضد الاحتلال الروسي، ومع ترحيبه الحار بالغارة الشيوعية يزعم أنه مسلم، وأن المجاهدون الشرفاء رجعيون.. ويوجد من ينظر إلى كفاح مسلمى "الفلبين " للظفر بالبقاء على أنه قضية لا تعنيه. ومن ينظر إلى محنة المسلمين فى بلغاريا، وألبانيا، وغيرهما، ثم يهزّ رأسه باستخفاف!. الواقع أن الحملة الصليبية علي أرض الإسلام فى هذه الأيام النّحسات استخدمت أسلحة جديدة، وحققت أهدافا رهيبة، واستغلت أسوأ استغلال الفوضى الثقافية والاجتماعية التى تسود عالمنا الإسلامى.... لقد اختبأت وراء الشعار القومى لتفتك بالإسلام وحب الناس لأوطانهم وأجناسهم معروف من قديم إلا أن أوروبا فى الأعصار الحديثة حولت هذا الحب الفطري إلى ولاء وانتماء وتعصب، وظهرت "القومية" مبدأ متميزا له حدوده وحقوقه، وعلى أساس هذا المبدأ قامت هيئة الأمم، وتضم الآن نحو 150 دولة. وربما كانت القومية علاجا مقبولا للحروب الدينية التى سادت أوروبا أزمنة طويلة. وربما انضمت إليها عناصر أخلاقية واقتصادية تجعل منها أساسا للتعاون والتصالح. لكن "القومية" لما صدّرت إلى الشرق وضع للدين فيها حجم معين لا يعدوه، أما فى أوروبا(1/66)
نفسها، فإن القومية لم ترأى حرج فى جعل كراهية الإسلام جزءا من كيانها. ففرنسا التى فجرت ثورة كبيرة لتقرير حقوق الإنسان. والتى كان جؤار الثوار فيها عاليا بالحرية والإخاء والمساواة لم تر أى حرج فى اجتياح الجزائر واغتصاب ترابها وتحويل مساجدها إلى كنائس، ورجالها إلى عبيد.. ص _079
إن النزعة القومية لم تحسّ إثما في إبادة الإسلام وأمته لأن مواريثها التاريخية تطوّع لها ذلك..! وعندما هاجمت إيطاليا طرابلس كانت النزعة الصليبية تمتزج بحب الوطن وتجعل قتل المسلمين نوعا من الدفاع عن الذات، بل لونا من التسامى وطلب الآخرة ا! اقرأ معى هذه الفقرات من النشيد الإيطالى لتحريض الشباب على مقاتلة "مسلمي ليبيا"! "إن من أعظم الآلام لشاب فى العشرين من عمره ألا يحارب فى سبيل وطنه مع اشتعال الحرب فى طرابلس! الراية المثلثة الألوان والموسيقى العسكرية تنبهان النفس المقدامة! ياأماه، أتمي صلاتك ولا تبكى، بل اضحكى وأمّلى، ألا تعلمين أن إيطاليا تدعوني؟ ها أنا ذاهب إلى طرابلس فرحا مسرورا لأبذل دمى فى سحق الأمة الملعونة! ولأحارب الديانة الإسلامية التى تجيز البنات الأبكار للسلطان! سأقاتل بكل قوتى لمحو القرآن! ليس بأهل للمجد من لم يمت إيطاليا حقا!! ظاهر أن النشيد الكذوب عبأ مبدأ القومية بمفتريات وأوزار لا حصر لها، وصالح بين الدفاع عن النفس وقتل المسلمين، تلك هى القومية عندهم! فما هى القومية التى انتشرت بيننا، وطولب المسلمون برعايتها؟ إن القوميات الحديثة عندما طرقت أبواب الشرق الإسلامى كانت تعنى دحرجة الدين عن مكانته، ورفض الانتماء إليه والولاء له. وقد اختبأ الاستعمار الثقافى وراءها ليصل إلى غاياته فى هدوء! ونشهد الآن فى جنوب السودان ما يستثير الدهشة، فإن قائد المتمردين فيه يطلب فى صفاقة منكرة إلغاء الشريعة الإسلامية حتى يصطلح مع الشمال! قال لى أحد القوميين: إن الرجل- وإن كان مسيحيا- لا يتعصب لشريعته! هو يريد دولة(1/67)
علمانية لا تعتمد فى شرائعها على مسيحية ولا إسلام.. قلت له: وما الذى تنازل عنه؟ إذا قيل للمسلمين والنصارى: تنازلوا عن شرائع الميراث، فقال النصارى: تنازلنا، فالمسلمون وحدهم هم الخاسرون لأنه ليست هناك شرائع ميراث عند القوم، وقل مثل ذلك فى سائر الأحكام المتصلة بالدماء والأموال والأعراض.. ص _080
ثم إن كبير المتمردين فى جنوب السودان يزعم أنه مسيحى يسارى، ويقاتل بالسلاح الروسى ومعلوم أن التبشير الأوروبى استطاع خلال أربعين سنة أن ينصّر عشر الزنوج! وبذلك أمست تركيبة السكان 80% من الوثنيين، .ا% من المسلمين و0ا% من المسيحيين، فما معنى المطالبة بإلغاء الشريعة الإسلامية والحالة هذه؟ الخطة المرسومة إيجاد طائفة قليلة أو كثيرة بين جمهور المسلمين، والتعلل بها لإبعاد الإسلام عن الحياة العامة، وتجريد التعليم والقانون والإدارة والتقاليد والأخلاق من الطابع الإسلامى ثم النفخ فى هذه القلة لتبدو كثرة، ولتقع مقاليد الحكم فى يدها وحدها، وعلى الإسلام العفاء. وقد نفذت هذه الخطة بدهاء، فى جملة من أقطار إفريقية وآسيا، وأفلحت فى تمويت الإسلام وإنزال رايته وإخماد شعلته، حتى إن إحدى الدول العربية وعدد المسلمين بها 94% من جملة السكان حظرت أى تشكيل سياسى إسلامى بها، لأنه يثير الطائفية!. هل نذكر تحذير القرآن الكريم لنا (يا أيها الذين آمنوا إن تطيعوا فريقا من الذين أوتوا الكتاب يردوكم بعد إيمانكم كافرين). إنه- باسم القومية- كلف المسلمون أن يرموا شريعتهم فى البحر، ويوشك أن تتبعها العقيدة، ويوجد الآن علماء سوء يقولون: إن المصلحة تعطل النصّ، وقد استمعنا إلى زعماء يسقطون رمضان لأن الصوم يعطل الإنتاج! أى إنتاج! إنتاج العجوة والبطيخ، أم إنتاج القنابل الذرية؟ "إذا لم تستح فاصنع ما شئت... " أمتنا الإسلامية فى هذا العصر مهدرة الرسالة مسروقة التاريخ منكورة الحقوق، والعجيب أنها تطلب الإنصاف من كل وجه إلا وجهه الصحيح!(1/68)
وكأنها لا تؤمن بقوله تعالى: (إن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم). تأمل معى فى هذه الطرفة، كان رجل يمشى فى طريقه مسترسلا لا يحذر خطرا، فإذا لص يخرج عليه مدججا بالسلاح، ويسلبه حافظة نقوده ثم يقول له: انس ما حدث، وامض فى طريقك! ص _081
وحاول الرجل الكلام والمقاومة فإذا اللص يقول له فى حزم: قلت لك: انس ما كان وامض فى طريقك بسلام! وإلاّ... وجاء كاهن خسيس يقول للرجل المقهور: إنه يدعوك للمرور بسلام! السلام أولى بك، ألم تسمع قوله تعالى: (وإن جنحوا للسلم فاجنح لها وتوكل على الله …) توكل على الله واقبل السلام! قال الرجل البائس: إننى مسروق، ويجب أن استرد مالى، وإذا لم يكن اليوم لى، فإلى الغد القريب أو البعيد.! وارتفعت أصوات من هنا ومن هناك تقول له: أتهدّد الأمن، وتعكر الجو؟ إنك إرهابى مزعج تثير الفتن وتمنع الاستقرار. وقال الرجل: كيف يوصف المعتدى عليه بأنه إرهابى؟ كيف يوصم المغلوب على أمره بأنه شر؟ أما يود عاقل أو عادل يقول: ردّوا للمظلوم ما أخذ منه.؟ المضحك أن جهودا مكثفة تبذل فى هذه الأيام لإقرار السلام، أو بتعبير صريح لإكراه المسروق على السكوت، وتهديده إذا استأنف الصياح بأنه إرهابى جدير بالقتل! إن قضية اغتصاب فلسطين وتشريد أهلها نموذج حى للسطو الصفيق والحق المضيم، ونموذج لأزمة الأخلاق والضمائر من عصور سحيقة. قال موسى لفرعون: "أرسل معى بنى إسرائيل "، وكان سهلا على الفرعون الطاغية أن يرسل اليهود مع نبيّهم خارج مصر التى ضاقت بهم. لكنه أبى، ورد بهذا القول: (قال أجئتنا لتخرجنا من أرضنا بسحرك) إن للقوة العمياء منطقا لا يعرف الحياء، وسيجئ يهود من روسيا وغيرها يطردون السكان الأصلاء من دورهم التى توارثوها من الأف السنين، ثم يقال للطريد الشارد: إنك إرهابي يجب أن تهيم على وجهك... إن عقائد وجماهير تعامل بهذه الدناءة ثم تتهم بأنها تثير العدوان، وتقترف المظالم! ص _083(1/69)
الإسلام هو الأساس الشرعي للحكم في أي بلد إسلامي ص _084
الإسلام هو الاساس الشرعي للحكم في أي بلد اسلامي خلال القرن الماضى كان العالم الإسلامى قد انتثر عقده، وركدت ريحه، واعتقد خصومه أنهم أمام تركة ليس لها صاحب، وما عليهم إلا أن يمدّوا أيديهم ليأخذوا ما شاءوا. والحق أن أمتنا كانت تعانى من أوضاع شائنة، بل إن أحوالها الثقافية والسياسية والحضارية بلغت الحضيض، وفاحت روائح العفن من أنظمة ولّت عنها الحياة، وتخلّت عنها عناية الله... أما فى الجانب الآخر من الأرض فقد تغيرت الدنيا تغيرا حاسما وأخذت الدول والشعوب طريقها صعدا إلى القمة، ووقع فى العالم "المسيحي" ما يستحق التسجيل... قديما أمر البابا بوقف الامبراطور أمام بابه ثلاثة أيام ذليلا صاغرا لم يأذن له بالدخول إلا بعد الاستسلام المطلق، ولكن اختلاف الليل والنهار قلب الصفحة عن صورة جديدة، فإذا الأنظمة المدنية تعلو وتزدهر! وتقلص سلطان الباباوات، وانتصر العلم على الدين- أعنى المسيحية- وقامت فلسفات أخرى لها طابعها المادى وتفوقها الصناعى، وجاء دور آباء الكنيسة ليقفوا أمام باب الامبراطور فى شارته الحديثة، وكان الامبراطور المنتصر واسع الذكاء، فلم يفكر فى الثأر مما وقع له قديما، بل قرر الاستعانة برجال الدين فى خدمة أغراضه، وتحقيق مآربه..! وإذا الكل يتكاتفون على مواجهة العالم الإسلامى، ويسارعون إلى وضع اليد على الكيان الذى أضناه الاعتلال والاختلال.! لم تحمل هذه الغارة الجديدة عنوانها القديم "الحروب الصليبية" وإن كانت استئنافا لها، واندفاعا فى طريقها، بل آثرت عناوين أخرى، وانتهجت أساليب أذكى. والسبب ظاهر، فإن السلطة فى أقطار الغرب كانت فى أيدى رجال العلم والصناعة والتقدم المدنى العام، أما الدين ورجاله فقد كانوا أدوات تعمل فى خدمة الاستعمار الحديث. ص _085(1/70)
إن الفريقين جمعهما هدف مشترك، لقد أمسى ما لله وما لقيصر شيئا واحدا، هو القضاء على الإسلام وأمته، والظروف التى تحيط بالمسلمين تساعد كلها على إدراك هذه الغاية. فرقة مزقت كل شىء، وشهوات أذهبت العقول!! وبعد الحرب العالمية الأولى سقطت الخلافة القائمة فى "استانبول" ومن قبل ذلك ومن بعد ذلك كانت الدويلات الإسلامية تقع فى يد الاستعمار العالمى بشقيّه الصليبى والشيوعى حتى جاء حين من الدهر لم يبق فى العالم الإسلامى كله شعب حرّ إلا ما زهد الاستعمار فى احتوائه لقلة غنائه... وتنفست الضغائن الأولى بعد هذا الغلب القاهر، وشرع الفاتحون يعملون بتؤدة وثبات كى يمحوا معالم الإسلام فى المدرسة والمحكمة والبيت والنادى والقرية والمدينة وميادين الجد وميادين اللهو حتى كاد الإسلام يمسى أثرا بعد عين... وتنوعت الوسائل بين الرغبة والرهبة فقد تفتح الكنوز لبعض الخونة، وقد يساق الموت سوقا إلى بعض الباقين على عقائدهم.. وكثيرا ما وقعت بين الشعوب مجابهات هائلة وراء أسوار من الصمت المطبق!! إن ضمّ جزيرة "زنجبار" إلى "تنجانيقا" لتكوين ما سمي بعد "تنزانيا" جرف فى طريقه نحو ثلاثين ألف جثة من المسلمين الذين لم يبكهم أحد.! ومما يستحق الدراسة أن "نيريرى" بطل هذه القصة استقبل بعد ذلك فى القاهرة استقبال الظافرين، واحتفى به جمال عبد الناصر احتفاء كبيرا.. وعاد "نيريرى" ليسقط حكم عيدي أمين فى أوغندا، ويقيم حكما يبيد فيه المسلمون دون رحمة، وذلك كله دون أن ينبس أحد بكلمة..! ومآسى الأمة المهزومة فى المشارق والمغارب لا تحصى! ومع فداحة المغارم فقد أبى ورثة الإسلام ورجال العقيدة أن يهنوا أو يستكينوا، واشتعلت نار المقاومة، وبقى الرجال الثابتون على الحق يتنادون فى كل مكان بالثبات حتى تكونت لهم جبهة صلبة، وأخذوا يستعيدون أجزاء من خسائرهم ويتحركون نحو غد أفضل... وبدأ التفكير الجاد فيما وقع، ولم وقع؟ ما سرّ تخلفنا؟ كيف تأخرنا وكنا(1/71)
متقدمين؟ لماذا سبق غيرنا وما سر صعوده؟؟ ما هي عللنا الداخلية بدقة ومصارحة؟ ص _086
وكان بعض المذهولين منا يتصور أن الاستعمار يتحرك بشهوات مجردة، وأن البغى من شيم النفوس! ثم كان قيام إسرائيل على الإيمان اليهودى، واحتضان الاستعمار لها بدوافع صليبية، كان ذلك كاشفا عن سرائر القوم، وممزقا الغشاوة عن عيون العميان، وتبيّن أن محو الإسلام هدف مقرر، وخطة مبيتة. وقد صارحت بعض الكنائس بذلك ووقتت له أجلا معلوما، وسكتت أخرى تاركة للوقائع أن تتكلم، إن لم يكن اليوم فغدا... والشعوب الإسلامية تتميز من الغيظ، ومواقف الحكومات تحتاج الى تبين ومساءلة! لكنا نريد قبل تحديد هذه المواقف أن نلخص الأهداف التى رسمها الاستعمار ضدنا.. من قرون وضع الاستعمار هذه الخطط لتقطيع أوصال الإسلام وأمته (ا) تقسيم المسلمين إلى شعوب شتى، ينتمى كل منها إلى أرضه وجنسه، ويكون ولاؤه لقوميته الجديدة وتنتهى الأخوة الإسلامية- الجامعة- ويحيا كل قبيل داخل الحدود السياسية التى رسمت له، ويشتغل بتاريخه ومصالحه عن تاريخ الإسلام ورسالاته العليا، ويحل نداء أيها المواطنون مكان النداء القديم أيها المسلمون... (ب) الدويلات التى أنشئت فى أرض الإسلام تمنع طوعا أو كرها من تطبيق شرائعه كلها، وينفذ ذلك فورا فى جميع المجالات وترجا إلى حين شرائع الأسرة حتى تلحق بمثيلاتها فى الوقت المناسب. (ج) توضع مناهج التربية والتعليم تحت رقابة دقيقة حتى يتم إنشاء أجيال لا تكترث للعبادات الفردية أو الاجتماعية، ولا لمعالم الحلال والحرام، وكما تؤثر تاريخها القومى على التاريخ الإسلامى تؤثر أى لغة أجنبية على لغة القرآن الكريم... (د) نقل الأخلاق والتقاليد والأفكار والفنون الأجنبية وغرسها فى التربة الإسلامية وتهيئة المناخ لها كى تنمو وتزدهر وتغلب مثيلاتها الإسلامية... (هـ) سحق الأقليات الإسلامية حيث كانت، وإهالة التراب عليها، وتدليل الأقليات الأخرى وتضخيمها(1/72)
ماديا، وأدبيا حتى تكون نزيفا دائما فى الكيان الاسلامي.... ولكي يتم تنفيذ هذه المخططات اتفق الأوروبيون والأميركيون، واصطلحت مذاهب كانت متباغضة، بل تعاونت ملل ونحل ما كان فى الحسبان أن تتعاون.... ص _087
وليست هذه هى المفاجأة، بل المفاجأة المذهلة أن ناسا من جلدتنا، يحيون بين ظهرانينا، ويتكلمون بألسنتنا، قالوا لرجال الاستعمار: استريحوا أنتم وسنحمل عنكم هذا العبء! سنتبنى هذه الأهداف، وندعوا إليها كلا أو جزءا، فإذا وقعت أزمة الحكم بين أصابعنا سخرنا كل شىء لبلوغها جميعا...!! وهكذا قامت فى دار الإسلام سلطات ناقمة عليه بعيدة عنه، حولها جماهير سائمة أو نائمة تقاد إلى مصارعها فى استسلام وخزى... وتمتاز هذه السلطات بأنها أجرأ على دين الله من الكافرين به، أعنى من الأجانب الذين توارثوا الانكار عليه من أجيال وأجيال.. ومع أن فتكات المستعمرين الأولين كانت ضارية الا أن فتكات سماسرتهم هؤلاء أضرى وأقسى.. ومع ذلك فهم منا، برغم أنوفنا.. إ! الحق أن الاستعمارين السياسي والثقافي صدعا بناء الإسلام، وأوقعا به زلزالا مدمرا. ولما كان الإسلام موضوع الأمة الإسلامية وشكلها طول تاريخها فإن الفراغ الناشئ من تقلصه لم يفلح فى سده شىء! ومن هنا لم تفقد الأمة رسالتها الدينية وحسب بل فقدت كذلك خصائص إنسانية رفيعة! وأصيبت الإدارة فى العالم الإسلامى بهذه العيوب: (ا) قلما يوجد فى منصب كبير رجل يناسبه، إن أوصافا مادية ونفسية معينة هى التى تجعل أقزاما يحركون الجماهير ويمثلونهم محليا وعالميا. ويغلب أن يظفر أصحاب الشهوات المنتصرة بهذه القيادات، أما المبدأ الإسلامى "نحن لا نولي أمرنا من يطلبه أو يحرص عليه " فقد تلاشى واختفى، وتولى من يشبع بها نهمته ويدعم بها سطوته. (ب) فشت الرشوة، وضروب الاستغلال الآثم، وأمسى التطلع إلى زيادات فوق الرواتب المقررة خلقا عاما! (ج) كثرت الوظائف، وصار لجهازها ضجيج هائل، وقل نتاجها حتى ضعفت(1/73)
الثقة بنا فى كل ميدان، وصار العمل الحكومى مضرب المثل فى الاسترخاء والفوضى. ص _088
(د) مع كثرة العوائق الموضوعة عمدا أمام تيار العقيدة الدينية تبخرت الفضائل، وولدت حركات الإصلاح ميتة، ولم ينجح انقلاب ثوري فى تحقيق خير بل يجزم أولو الألباب بأن أنظمة بالية تلتصق بالإسلام على نحو مّا، كانت أبرك على الشعوب من الأنظمة الحديثة المجافية للدين، المخاصمة لمثله.... على أن من الإنصاف القول بأن الحكومات والشعوب الإسلامية ليست سواء فى هذا البلاء وأن رجالا كثيرين لهم شرف نفس وفضل إيمان لم يخنهم شرفهم ولا إيمانهم فى أزمات محرجة. فهناك زعماء قوميون قبلوا "القومية" أمرا واقعا، إلا أنهم قرنوها بالإسلام، وأبوا أن تتحرك بعيدة عن الدين، واحترموا اللغة العربية، وجعلوها أساس التعليم والإعلام. وفى أماكن كثيرة وجد من يحرص على صلاته وصيامه، ويحامى عن شعائر فى دينه ويغضب لما يمسّها، ووجد كذلك من يحتقر الخمر والتهتك، ويأبى قبول السكارى والزناة ويرفض التعامل معهم. نعم، إن بقايا الإسلام فى نفوس شريفة محافظة ظلت متقدة فى هذا الظلام، وحرصت فى أماكنها أن تسدى للناس الخير. وأن تمهد للإسلام بين الأجيال المقبلة، بيد أن الإسلام ليس نزعة خاصة لدى فرد أو أفراد، ومؤمن آل فرعون لا يضفى صفة الإيمان على حكم الفراعنة. إن للحكم الاسلامي معالم لابد من توافرها، نذكر منها ما يلي: (ا) فلسفة هذا الحكم- فى مقابلة أسس الحكم الأخرى- الإيمان بالله ولقائه، وذكره بأسمائه الحسنى، وإعلاء كلمته فى كل ساحة. (ب) إقامة السلوكين الخاص والعام على الربانية والطاعة والتقوى والأمر بالمعروف والنهى عن المنكر وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة... الخ. (ج) سحق الجبروت السياسى واستقذار شهوة الاستعلاء والتحكم وبناء الدولة على الشورى وشتى الحريات. (د) احترام المال العام ومطاردة غاصبيه ومراقبة سيره فى أرجاء المجتمع ضمانا لعدل اجتماعي شامل.. (هـ) تنشئة(1/74)
الأجيال على الأخلاق والقيم الإسلامية، وربطها بالكتاب والسنة والتراث وباللغة العربية وآدابها، وبالتاريخ الإسلامى كله. ص _089
وتهيئة كل أسباب التمكين فى الأرض، ومواكبة المسلمين لغيرهم من الأمم، بل التفوق عليهم فى كل ما يصون رسالة الأمة، ويدعم مكانتها المادية والحضارية. إن المعالم التى تعرف لأمتنا ليست من نسج الخيال، فهى من الناحية النظرية مقررة فى أصول ديننا التى تأذّن الله بحفظها إلى آخر الدهر، وهى من الناحية العملية حصيلة تاريخ طويل، تميزت به دولة الإسلام خلال ألف عام... ولما كنا نؤرخ لبشر لا لملائكة فإنا نذكر- دون خجل- أن هذه المعالم تأرجحت نسبتها بين عصر وعصر، وأن هناك حكاما فرطوا، وآخرين صدقوا ما عاهدوا الله عليه. وتبع ذلك أن الأمة تعرضت للهزيمة والنصر والانهيار والازدهار! وإذا كان قدرنا نحن المسلمين المعاصرين أننا ولدنا فى أيام عجاف فإن ذلك يفرض علينا واجبات معينة ويحدد طريق الكفاح الذى كتب علينا... وحكام المسلمين فى هذه السنين فريقان: فريق وفي لدينه يعرف واجبه، ويجعل سياسته مراحل متصلة لتحقيق هذا الواجب! وعلينا أن نحترم هذا الفريق ونعاونه حتى يبلغ غايته.. وثم فريق آخر، نسى أو تناسى ماضينا وحاضرنا، وديننا وتاريخنا، أهمته نفسه ومآربه فهو لا يحس ما وراءهما وهو يبغى البقاء فى سلطانه على أى نحو، وهو لا يدرى ما الكتاب ولا الإيمان! كل ما يعرفه أن يلتحق بإحدى الجبهتين الحاكمتين للعالم، الشيوعية أو الصليبية! وهو يحسب أنه بذلك يعيش عصره! ويفر من التخلّف القديم... هذا الفريق صنفان، صنف جاهل بالإسلام وإن ولد على أرضه، وربما لو عرفه معرفة سليمة أخلص له وحكم به، والغريب أنه يعرف غيره ويواليه... وجهالته بالإسلام تباعده عنه، مصابا بالجنون الهادئ، وأذاه بعيد حتى يستثار..! ومن هؤلاء من هو نظيف اليد غيور على المصلحة العامة كما يتصورها، ويوجد فى العالم الإسلامى وطنيون مخلصون لبلادهم(1/75)
وأهليهم على هذا النحو الضيق... أما الصنف الآخر فهو جاحد للإسلام، ناقم على أصوله وفروعه، ضائق بالداعين إليه، كاره للصلاة والعفاف! (إن تحمل عليه يلهث أو تتركه يلهث). ص _090
وهذا الصنف المسعور امتداد داخلى للاستعمار الخارجى، وهو شاء أو لم يشأ منفذ بالغ السوء لأهداف الصهيونية أو الصليبية وإن زعم أنه يخدم العروبة، ويجدد حياتها.. الواقع أنه صانع أكفانها وهادم كيانها... إن العالم الإسلامي بين المحيطين مبتلى بهذه الصنوف كلها.. وعلى دعوة الإسلام وحماته ألا يروعهم ذلك، فقديما كان لدعوة التوحيد خصوم من هذا القبيل قال الله فى وصفهم (وإذا ذكر الله وحده اشمأزت قلوب الذين لا يؤمنون بالآخرة وإذا ذكر الذين من دونه إذا هم يستبشرون). وإذا كنا لا نستغرب وجود هؤلاء فى القديم والحديث، فإننا نستغرب إظهار هؤلاء للإسلام، ومكرهم بأمته، وانخداع الغافلين بهم، حتى أوقعوا الدواهي بيومه وغده!... إن تجريد القومية من الإسلام ارتداد عن دين الله، يستوي فى ذلك أن تكون القومية عربية أو غير عربية..! وتجريد محمد من النبوة كفر به، وبما نزل عليه سواء اعتبرت بعد ذلك من العباقرة أو من العامة! ومحو الصبغة الإسلامية عن التاريخ الإسلامى ليكون ثورة عربية بحتة هو أخبث وأحط تزوير عرف فى تاريخ العالم، وهو لا يعدو أن يكون تمهيدا لجاهلية حديثة أسوأ من الجاهلية الأولى. إننا بالإسلام وحده ولدنا عالميا، ومهما ابتغينا العزّ فى غيره أذلنا الله!! وصلني منذ مدة خطاب الدكتور "رفعت الأسد" فى المؤتمر القطري السابع لحزب البعث العربى الاشتراكى، وكنت وأنا أطالع صفحاته الأولى أفكر فى النجاح الثقافى والاجتماعى الذى حققه بنو إسرائيل على أرضنا، وكيف استطاعوا تذويب الأوطان والأجناس الأولى للوافدين، وصهروا ذلك كله فى بوتقة العقيدة اليهودية المرتكزة على العهد القديم والتلمود! لقد تعانق اليهود الروس، والأمريكان، وتعاون الشماليون والجنوبيون،(1/76)
وانضم الهمل من يهود الحبشة إلى زملائهم القادمين من لندن وباريس! وقرر الجميع تحت راية الدين العتيق أن يسيروا بعزم إلى مستقبل صنعه آيات التوراة، وأيدته الصليبية الحديثة.! ص _091
فى هذا الجو من الإيمان الديني المحموم رأيت الدكتور الأسد يتجاهل الإسلام تجاهلا صارخا، ويسلبه فضائله كلها ليضفيها على الجنس العربى والدم العربى فيقول: "إننا عندما جئنا من الجزيرة العربية كنا نحمل الهمة العالية والرأى السديد والتصور الواعى والقلب الشجاع، وكنا مع هذا وقبله نحمل معنا العصبية للعروبة! والحلم بالقومية! والدعوة للأصالة العربية! ". هذا ما يقول رفعت الأسد أما ما يقوله التاريخ فهو أن العرب خرجوا من جزيرتهم يحملون الإسلام دينا، ودولة، وعقيدة وشريعة! ولم يسمع أحد من خليفة راشد أو غير راشد شيئا عن القومية العربية. ولولا الإسلام لبقى العرب فى أرضهم قبائل وثنية هابطة لا تساوى فى دنيا الناس شيئا.. ويقول الدكتور عن دولة الرومان التى هزمها المسلمون باسم الله وحده "إنها كانت بالضرورة وبجدلية التاريخ تنتظر قدرها المحترم على يدى أمة شابة برجالها وبروحها"!! وأولو الألباب يعرفون أن العرب فى جاهليتهم كانوا أقل وأذل من أن يناوشوا عبيد الرومان، ولو قادهم ملاعب الأسنة وعنترة بن شداد!! أية جدلية تاريخية يتحدث عنها الخطيب التائه؟ ولماذا يراد إخفاء دور الإسلام فى هذا المجال وهو وحده صانع المعجزة؟ ثم يورد الدكتور حقائق عن إنجازات اليهود فى بلادنا. وكيف غيروا الأرض والمعالم والأسماء فيقول: "الخطر القادم يزحف مغيرّا المعالم والأسماء والصفات، وكل ما يغتصبه العدو يهضمه على عجل، ويلقى عليه طابعه، فغزة والضفة الغربية لنهر الأردن اسمهما يهوذا والسامرة! بئر السبع اسمها بئر شيفع، القدس اسمها أورشليم، حتى البقرة الشامية المعروفة تصور للعالم على أنها بقرة إسرائيلية.... " وهذا الذى يذكره الخطيب البعثى صحيح! لكن لماذا! ينسى(1/77)
أثر العقيدة اليهودية البارز وراء هذه الإنجازات؟ إن العقيدة الدينية الهاجية لا تردها إلا عقيدة دينية مدافعة. وطمس الإسلام فى هذه المعركة يعنى تجريد العرب من كل شىء، ما قيمة جسم فقد روحه؟ ما قيمة طائرة فقدت وقودها؟ لذلك لا نجد جوابا لأسئلته بعد ذلك وهو يخاطب العرب بعثيين أو قوميين " ماذا أعددتم لمملكة يهوذا الراكبة على ظهر "الامبريالية" العالمية؟ ماذا أعددتم محليا وعربيا وعالميا"؟ إننا نؤكد أن الحكومات العربية يوم تقرر أطراح الإسلام والارتداد عن مناهجه فلن تغلبها إسرائيل فقط، بل ستغلبها الهوامّ والحشرات..!! ص _092(1/78)
وفى غليان حماسى لترك الإسلام والجهاز عليه يقول الدكتور رفعت الأسد "إن لنا نظريتنا التى نعتصم بها ونتعصب لها وسننتصر بها! ليكن الولاء وأخيرا للحزب، للقومية العربية!! لتسقط الآن وإلى الأبد كل الولاءات الأخرى الهجينة والدخيلة والمتقوقعة! لقد انتصرت المانيا بتعصبها للعقل الألمانى والإنسان الألمانى والشعب الألمانى، برغم كل الويلات التى أصابتها من أعظم الشعوب الغربية حضارة! " ثم يقول: "ستالين أيها الرفاق أنهى عشرة ملايين إنسان فى سبيل الثورة الشيوعية، واضعا في حسابه أمرا واحدا هو التعصب للحزب ونظرية الحزب! ولو أن لينين كان فى موقع وزمان ستالين لفعل مثله! فالأمم التى تريد أن تعيش وتبقى تحتاج إلى رجل متعصب، وإلى حزب ونظرية متعصبة! "ماوتسي تونج" قاد الصين نحو الخلاص والخلود متمسكا بشعار واحد هو الحزب المتعصب، إنه لم يحرّك الصين كما يتوهم البعض، إنه "صيّن" الماركسية أو عبر بماركسية جديدة من صنع الصين، إلى الجانب الآخر ليلاقى بها العالم ويكسب من خلاله الاحترام والهيبة.. " والمفروض بداهة أن يحتذي البعث الاشتراكى العربى بهذه النماذج التى ساقها رفعت الأسد، لينقل العرب إلى عالم جديد مبتوت الصلة بالإسلام وتاريخه ووصاياه وتعاليمه، ولترتخص فى سبيل ذلك الألوف من القتلى والهلكى، فالثمن سهل مهما فدح إذا كان سيحقق الاشتراكية والإلحاد باسم العروبة!! إن للإسلام ماضيا طويلا مشحونا بالآلام. بيد أن ما يواجهه اليوم من بعض الحاكمين فى أمته لا نظير له، إنه انسلاخ وقاح عن عقائده، وكفر صراح بكل ما جاء به... وفى أماكن شتى من دار الإسلام نجد هذا التبجح فى الخروج عليه، والتنكر لأوامره، ولا أحسب أعداء الإسلام يطلبون غير هذا. إن ديننا يترنح فى هذا العصر وهو يحمل ضغن بعض الطوائف. وطمع بعض العوائل، وقصور بعض الفقهاء المتحدثين عنه وهم تائهون..! من حق المسلمين أن يختاروا من يمثلهم ومن يترجم عن نياتهم وأمانيهم ومن(1/79)
يدفع عن حقوقهم وحدودهم ومن يشاركهم أحزانهم وأفراحهم، أما أن يفرض عليهم حاكمون يرضى عنهم الشرق أو الغرب ولا يرضى عنهم الله أبدا، فهذا ما لا يمكن قبوله.. ص _093
ومن ثم فكل حكم يبعد الإسلام عن دستوره أو يذكر الإسلام ذرّا للرماد فى العيون ثم يمضى شاردا عن صراطه بعيدا عن هداه فهو حكم فقد شرعيته، لأنه فاقد لرضوان الله وتأييد الناس.. إن أضعف نقطة فى العالم الإسلامى هى حكوماته ولا يساويها فى الضعف إلا عجز الشعوب عن التغيير المطلوب. وأجدنى مضطرا إلى تكرار الحديث عن الإسلاميين الذين يطول هتافهم للإسلام ولا يقدرون على إسداء يد معقولة له!! إن نصف هزائم الإسلام ترجع إلى رداءة خططهم وضحالة فقههم وغرورهم بأنفسهم.. فى تنقلى بين أرجاء العالم الإسلامى سمعت نواح باكين على الإسلام، فلما استكشفت ما حولهم وجدت عوجا يتطلب التقويم! قلت لهم: لماذا لا تصلحون هذا..؟ فلم أتبيّن إجابة شافية! إنهم سلبيون يثرثرون بالنقد ولا يتحركون للبناء يحسنون مضغ قضايا بالية ولا يبصرون ما جدّ من أحداث... وتذكرت بيعة العقبة الأولى والإسلام سجين فى مكة، وجبابرتها يبعثرون الفتن بين المسلمين، إن صاحب الرسالة العظمى لم يطلب من المبايعين أكثر من صدق الإيمان وحسن العمل وسرعة الإنابة إلى الله إن وقعوا فى خطأ، حتى إن بعض كتّاب السيرة سماها خطأ بيعة النساء! كلا، إنها بيعة الرجال، ولكن الفارق ضخم بين العاملين لدين والعاملين فى حزب سياسى!! إن العاملين لله يبدءون الطريق من إصلاح أنفسهم وما حولهم، فإذا أصبح الإصلاح ملكة فيهم وسجية لا تنفصل مكن الله لهم فأصلحوا الأرض لأنهم لا يستطيعون إلا هذا الإصلاح الذى عاشوا به وعاشوا له أما غيرهم فدورانه حول نفسه ودنياه وإن زعم غير ذلك. فى هذه الأيام وقع حادثان غريبان لهما دلالة بعيدة ووقع موجع! فإن القائد الصليبى الثائر فى جنوب السودان طلب من الحكومة المركزية فى الخرطوم أن تلغى الشريعة(1/80)
الإسلامية فورا، وأن تبعد عن الحكم كل أثر للإسلام! ونكرر ما قلناه مرارا أن الصليبيين فى جنوب السودان هم عشر السكان فحسب! وأنهم فى شمال السودان قلة أندر...! ومع ذلك فإن الجراءة على الإسلام وشرائعه بلغت هذا الحد المزري... اليوم لا شريعة، وغدا لا عقيدة، وعفاء على الإسلام كله، وليهنأ الحاكمون باسم الإسلام أن الدولة لهم وأن مناصبهم بأيديهم..! ص _094
أما الحادث الثانى فإن "نيجيريا" تقدمت بطلب إلى المؤتمر الإسلامى كى تكون عضوا فيه، وتسعة أعشار نيجيريا مسلمون، والعشر الباقى قسمة عادلة بين النصرانية والوثنية، والطلب المعروض طبيعى لا غرابة فيه! غير أن الناس فوجئوا بصخب واعتراض من أتباع الكنيسة وتعالت الصيحات ألا تنضم نيجيريا إلى المؤتمر حفاظا على قوميتها! والموقف الآن مائع، ولا يدرى أينضم القطر المسلم إلى سائر الأقطار الإسلامية أم يقيده الخور فيبقى فى عزلته؟ قال لى صديق: إنك تعرف أن النماذج التى قدمت للحكم الإسلامى رديئة، وأنها أساءت لشريعة الله، وأنها كانت ستارا لأهواء فردية مقبوحة. قلت: ليكن الحاكم الذى نفذ بعض شرائع الإسلام فى خباثة الحاكم السابق للفلبين الذى خرج مطرودا من بلاده. بعدما استولى على "مليارات " من الدولارات. أذلك أعتبر ذريعة لأن تترك الفلبين دينها؟ وهل نادى أحد بذلك؟ إن الجرأة على الإسلام وحده هى التى أنطقت بعض الأقليات الدينية باعتراض الشريعة ورفض تطبيقها. ثم أليس مما يثير الضحك أن يكون الانتماء الإفريقى أحظى لدى البعض من الانتماء إلى الإسلام؟ ولم لا؟ إن القومية الإفريقية قدمت للعلم والفلسفة والحضارة أيادي بيضاء لم يقدم الإسلام مثلها، ومن هنا حقّ للمسلمين أن يخجلوا من دينهم، وأن يؤثروا الانتماء الإفريقى على الانتماء الإسلامى! ومن أجل ذلك غضب الصليبيون لاتجاه نيجيريا إلى المؤتمر الإسلامى تشترك فى عضويته مع أمثالها! وإذا لم تستح فاصنع ما شئت.. إن الحملات على الإسلام(1/81)
تنمو وتضرى ورجالها يحسبون الفرصة سانحة للقضاء على ديننا واجتثاث جذوره والدول الكبيرة التى كانت قديما تتظاهر بالحياد فى قضايا الأديان شرعت الآن تعلن تبرمها بالإسلام وصحوته وشريعته والانتساب إليه... وبلوغ العدوان على الإسلام هذه المرحلة يضاعف العبء على الحاكمين باسمه أو لعله يواجههم بواجباتهم التى لا مهرب منها. ونحن نصارح بأمور محددة: أن طاعة أبناء الأديان الأخرى فى إطراح الإسلام كلا أو بعضا هو ارتداد لا ريب فيه، كما أن ترجيح الولاء العربى أو الإفريقى على الانتماء الإسلامى. وإدارة ظهورنا لإخوان العقيدة كفر لا ريب فيه.... ص _095(1/82)
وإذا كان هناك من يرفع شعار الحكم بما أنزل الله قناعا لسرقة الشعوب أو قهرا فإن الإسلام برىء منه (يخادعون الله والذين آمنوا وما يخدعون إلا أنفسهم وما يشعرون). والإسلام قبل أن يكون حفنة من الحدود والعقوبات المقررة دين ينشىء الأمم على الإيمان والعدالة والحقوق المصونة والأمانات المرعية.. إننا عندما نفرد الله بالعبودية تغلق الطرق كلها أمام أى مستبد يريد أن يستعبد الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا. وأمام أى مصاب بجنون العظمة يريد إكراه الناس على قبوله رئيسا، وهم عنه راغبون! وظاهر أن الأمم الإسلامية تبتغى من أعماق القلوب أن تساس بشريعتها! وأن الذين يلوون زمامها كرها هم أعداء الشعوب. هم أعداء الجماهير! أى أنهم بالمنطق السياسى المعاصر لا يمثلون أممهم وهم قبل ذلك وبعده ليسوا من الله فى شىء. قرأت ندوة عن التطرف الدينى فى مصر! ومن طبعى أنى أخلص فى تعرف وجهات النظر الأخرى، وأبحث بتؤدة عما تستند إليه من أدلة، وقد التمس لانحرافها المعاذير! قلت فى نفسى: إن التطرف مكروه، ولعل مهاجميه يحبون الاعتدال، وأنا معهم في حب الاعتدال! وقلت: إن المتدينين على الإجمال متهمون بالرجعية والتعصب، فلأواجه هذه التهم دون اكتراث، ولأكتشف ما وراءها! وقرأت كلاما كثيرا لنفر من قادة "العلمانية" فى الشرق العربى، وقامت الملل الذى تسرب إلى نفسى من طول اللف والدوران، ووصلت بعد رأى إلى نهاية المطاف.. إن الهجوم العنيف لم يكن على التطرف الدينى، بل كان على الدين نفسه، إن الهجوم لم يكن على خطأ فكرى لبعض المسلمين، بل كان على الفكر الدينى كله، أصوله وفروعه، أو بتعبير عضو فى الندوة: "لابد من ضرب المرتكزات الأساسية التى تنطلق منها الاتجاهات الدينية وأهم هذه المرتكزات هو قولهم: إن هناك نصوصا ثابتة صالحة للتطبيق فى كل زمان ومكان "! ص _096(1/83)
الحرب المعلنة إذن هى على ركائز الدين ونصوصه، أى علي الوحى فى جميع توجيهاته، لم أشعر فى كلام عضو ما فى هذه الندوة، أن الله حقا، بل إن الكلام عن الألوهية دار على محور مضحك. يقول عضو آخر: "كان الإنسان المصرى يرى النيل أمامه يروى الأرض فتنبت البذور، وتأتى الشمس فتنضج المحاصيل، قضايا معيشية محسوسة ومفهومة وواضحة! لم يكن الإنسان المصرى يعيش فى بيئة غابات وجبال فيجد نفسه أمام ظواهر غامضة يلتمس لها تفسيرات غيبية، مثل افتراض وجود قوى معينة يرمز إليها برموز خاصة! ومن ثم عبد المصريون النيل لأنه يأتيهم بالفيضان والنماء!! " إن هذا الكلام الحقير عن الألوهية، وعن تسويغ الوثنية، هو التفسير المعتمد لمسالك الشعوب فى جاهليتها.. والذين يردّدونهم الذين يتهمون أهل الدين بالتأخر العقلى، والتعصب الفكرى!! وانتهيت من قراءة ثمانين صفحة يطفوا أصحابها ويغوصون، ويبدءون ويعيدون، وليس لهم من هدف إلا انتقاص الإسلام نفسه، وتضليل القراء عنه تحت عنوان العلمانية! إنهم لا يريدون المصارحة بكفرهم، بيد أن ما تخفيه صدورهم نضح على أقلامهم، فإذا هم من أشد الناس حقدا على الله ورسوله، وغيظان الكتاب والسنة. وذلك كله تحت عنوان "فكر" وفات هؤلاء الناس أن الإلحاد مرض نفسي، ولم يكن ولن يكون فكرا محترما. نفى العلمانيون تهمة الإلحاد عنهم، وقالوا: نحن مؤمنون! والإيمان لا يعدو أن يكون علاقة بين الإنسان وربه، تستقر فى الضمير، وتظهر فى الأخلاق.. أما أن تكون للإيمان ظلال فى ميدان القانون، أو الفنون، أو آفاق الحياة المتجددة فذاك ما ننكره. إن للدين مجاله الخاص الذى يعمل داخله، ولا ينبغي أن يتجاوزه. قلت: لو سلمنا جدلا بأن الدين لا يحتل إلا هذه الرقعة الضيقة فما أحسبكم مؤمنين بالله! وما أظن أحدكم تقرب إلى الله بصلاة، أو أناب إليه باستغفار أو ادخر ص _097(1/84)
حسنة تنفعه يوم الحساب.. إنكم تنقلون التديّن إلى زاوية لا تطلع عليها العيون كما يزعم من شاء ما شاء وهو آمن من المؤاخذة! ولكن من قال: إن الدين علاقة خاصة بين المرء وربّه؟ وأنه لا يتناول العلاقة بين الإنسان والإنسان، وبين الإنسان وشتى الأنظمة الاجتماعية والسياسية؟ إن الكفر بالله وضعت له علامات بارزة فى السلوك الاجتماعى مثلما وضعت له هذه العلامات فى السلوك الفردى، وأى نص أصرح من قول الله لنبيه: (فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم…) إن الكفر كما يكون رفضا للعقيدة يكون رفضا للشريعة، والذى يأبى قوله تعالى: (يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين) مثل الذي يأبى (قل هو الله أحد). وطي أعلام الإسلام فى ميدان التشريع تمهيدا حاسما لطيه فى ميدان الاعتقاد، ونحن نعرف خطة الاستعمار الثقافي فى ضرب الإسلام. إنه يضربه اليوم فى مجال القضاء ليستطيع إغلاق مساجده غدا. والزنجى الشيوعى الثائر فى جنوب السودان يطلب الآن إلغاء الشريعة الإسلامية! أتراه يكتفى بذلك تاركا فرصة البقاء لكلمة التوحيد؟ إنه يبيت لها الشر وينفذ خطته على مهل! ومع ذلك فنحن لا نقسم الوحى الإلهى قسمين. نعطى حق البقاء لقسم، ونحكم بالموت على آخر! ذاك يعنى حكما بالموت على الدين كله وحكما آخر بالموت على دنيانا كلها.. إن شعار العلمانية يرفع للنفاد إلى صميم الإسلام والإتيان عليه من القواعد، والمدهش أن ذلك يتم فى وقت تيقظت فيه ملل أخرى وسعت لأن تكون لها دولة. وهى التى لم تقم لها دولة خلال قرون طوال. ألا تكون العلمانية خيانة عظمى. ص _099
هم ما تغيروا ...
هُم ما تغيروا . .
ص _100(1/85)
هم ما تغيروا.. عتبت على رجالنا أنهم لم يدرسوا التاريخ كما يجب، ولم يوفروا له الجهد والوقت اللذين وفروهما لعلوم أقل قيمة، ومن ثم وقعت فى ماضينا أخطاء معيبة وأزراء رهيبة، ثم مرت كأنها زقم على الماء، لم تخلف بعدها عبرة، ولم تستفد منها عظة! وهذه طبيعة الأمم الغافلة، تستقبل أحداثا عانت من قبل مثلها ثم تتعامل معها وكأنها لا تعرف عنها شيئا! أليست هذه الأم هى المعنية بقوله تعالى: (أولم يهد للذين يرثون الأرض من بعد أهلها أن لو نشاء أصبناهم بذنوبهم). وبعد هذا الاستفهام والتوبيخ يجئ ختام الآية: (ونطبع على قلوبهم فهم لا يسمعون) . وآلامنا المعاصرة تجعلنى أدرس بتؤدة تاريخ رذيلة طالما حذرنا الإسلام منها، ونهانا عن مواقعتها. إن الإسلام رهبنا من طلب السلطة، أو بتعبير السنة الشريفة: من الحرص على الإمارة. والحق أن عشق الحكم، والسعى إليه بشتى الوسائل كان- ولا يزال- من أسوأ عللنا إنه فى سبيل الوصول إلى الحكم هلكت أخلاق وشرائع، وتقطعت أرحام وأوصال، وضاعت جماهير ورسالات. والغريب أن دورات هذا الداء تتكرر، وتتوارثها أجيال عن أخرى دون وعى (ألم نهلك الأولين * ثم نتبعهم الآخرين * كذلك نفعل بالمجرمين). العمل المقبول فى الإسلام ما كان لله وحده، وابتغى به وجهه، ولم يخالطه ظهور أو شهرة، يؤديه المرء على وجهه الكامل سواء أكان رئيسا أو مرءوسا، جنديا أو قائدا كما جاء فى الحديث الشريف: ص _101(1/86)
"طوبى لعبد آخذ بعنان فرسه فى سبيل الله، أشعث رأسه، مغبرة قدماه. إن كان فى الحراسة كان فى الحراسة،وأن كان فى الساقة كان فى الساقة، إن استأذن لم يؤذن له، وأن شفع لم يشفع " وذلك لأنه جندى مجهول ليس له جاه، ولا اسم لامع. والإسلام فى امتداده القديم وفتوحه الأولى اعتمد على أعداد لا حصر لها من المخلصين الذين جاءت فى هذا الحديث صفتهم، مرقوا من الدنيا إلى جنات النعيم بعدما أثمر جهادهم قياما للحق وازدهارا للإيمان، وإدبارا للباطل وانهداما للطواغيت... وشرف الأمة العربية الأولى أن سوادها كان من هذا الصنف النقى، وأن انتصارها لم يكن انتصار جنس، بل انتصارا للوحى، وخيرا للشعوب، وحياة رفيعة للعالم أجمع، ولو التزم العرب هذا المنهج لتغيرت الإنسانية كلها. لكن ما حدث دخلت فيه طبائع البشر وخصائص الأجناس، وليت العرب فهموا قول نبيهم عليه الصلاة والسلام: "رب مبلّغ أوعى من سامع " إن بعضهم حسب الإسلام نزل ليعيش به رغدا، ويحرز به لجنسه مجدا، وينظر به إلى العالمين من أعلى... ذهب الأسلاف المتجردون الذين عاشوا لله سبحانه وماتوا فى سبيله، ثم خلفت خلوف رأت أن تصادر الإسلام لحسابها الخاص، وأن تتولى وحدها مناصبه الإدارية العليا، وأن تحتكر لذراريها ا لإمارة والصدارة.. وسرعان ما استيقظت العصبيات القديمة، فزاحمت الأنساب والأحساب القدرات والمهارات، ومعالم الخلق والتقوى. بيد أن الاستبحار الإسلامى فى ميادين العلم والحضارة صمد لهذا الانحراف، ومضى بالمسلمين فى مجال الترقى والازدهار حتى بلغ بهم شأوا لم تعرف الدنيا نظيره: لكن إلى متى؟ وللإسلام أعداء متربصون، ولأمته الكبيرة من يرصد أخطاءها، ويعرف آثار الحكم الفردى بها، وفتك الشهوات بالمترفين، وفتك الغمط بأولى العلم والخبرة! إن المسلمين فى أواخر القرن الرابع أخذوا يترنحون تحت وطأة أمراضهم، ووجد الرومان وسائر الصليبيين الفرصة سانحة فانقضوا.. لقد قلت، ولا أزال أقول: إننا(1/87)
لم نحسن دراسة ما أصابنا من هزائم فادحة، وما أقمنا حواجز ضد تكرارها، ولا يزال ناس منا مشغولين بأنواع من المعرفة لا تضر عدوا ولا تنفع صديقا، وتيار الأحداث الزاخر يلطم الوجوه، ويطوى جماهير بعد أخرى، ونحن لا نربط النتائج بأسبابها، وما فكرنا فى تكوين دراسات ذكية جريئة لمعاصينا ص _102
السياسية والاقتصادية والاجتماعية، ولا أدرى لماذا الخشية أو لماذا الجمود؟ هل مستقبل أمة من مليار إنسان شىء هيّن؟ هل النكسات التى عرت رسالتها غير جديرة بالتأمل؟ لقد قرأت كلاما مهما للأستاذ محمد حسنين هيكل رأيت أن أعرضه: لأنه نتاج ذهن واسع النظرة، رمق قرونا طويلة من تاريخنا ثم أحسن وصف ما حدث، فلم يقفه وصف الجزئيات عن الإحاطة الواعية... ومع مخالفتنا له فى استنتاجاته إلا أننا نرى أن ينتفع الدعاة بقدرته فى تقديم صورة شاملة لجزء حساس من تاريخنا. كان فيه أبرع من غيره.. قال الأستاذ هيكل: "جاء الاستعمار الغربى أول الأمر فى الحروب الصليبية وكان هدفه اقتصاديا بالدرجة الأولى.. فتح طريق التجارة مع الشرق. وتصدت الدولة الأيوبية ثم تصدت دولة المماليك العظام فى مصر والشام وردت الموجات الصليبية على أعقابها. ولم يستطع الاستعمار أن ينفذ من القلب فاتجه إلى الأطراف والأجنحة. وسقطت الأندلس، وبدأت محاولات البحث عن الطريق البحرى الطويل إلى الشرق وكانت إسبانيا والبرتغال فى المقدمة لأن المحاولات الصليبية من شمالى ووسط القارة- فرنسا وانجلترا والمانيا- أرهقت واستنزفت نفسها فى محاولات النفاذ من القلب.. فلسطين. وأرسلت كل من إسبانيا والبرتغال بعثات استكشافية بحرية. خرج "كريستوفر كولومبس " إلى بحر الظلمات- المحيط الأطلسى- قاصدا الشرق: وإذا به يصل أمريكا. وخرج "فاسكو داجاما" إلى بحر الظلمات أيضا ووصل إلى الشرق فعلا. وسقطت دولة المغول المسلمة فى شبه القارة الهندية بالطريقة نفسها التى سقطت بها دولة العرب المسلمة الأندلسية فى شبه(1/88)
الجزيرة الأيبيرية. سقط الجناحان فى العالم الإسلامى وبدأت عملية الزحف نحو القلب. زحف من الشرق من الهند إلى الخليج العربى إلى عدن. وزحف آخر من الغرب خلع جذور الإسلام من إسبانيا. وبعد أن سقط الجناحان فى العالم الإسلامى. وبدأت عملية الضغط على القلب العربى. والمحزن أن أحدا فى هذا القلب لم ينتبه ولم يتحرك. فجرى التهام دولة الإسلام فى الأندلس قطعة بعد قطعة. ولم يتنبه أو يتحرك أحد لما يجرى فى الغرب. وجرى التهام دولة الإسلام المغولية فى الهند بالطريقة نفسها، ولم يتنبه أو يتحرك أحد لما جرى فى الشرق. ص _103(1/89)
وراح الغزاة الجدد الذين سيطروا على الجناحين يضغطون على القلب العربى. إسبانيا تعبر مضيق جبل طارق وتحصل فى المغرب العربى على نقط ارتكاز تكون قواعد لزحف جديد. والبرتغال تفعل الشىء نفسه فى المشرق وتتقدم حامياتها البحرية لتقيم المواقع والحصون ممتدة إلى شطآن الخليج العربى، ثم تبدأ فى التعرض للملاحة العربية فى البحر الأحمر. ويتنبه السلطان المملوكى الحاكم فى مصر: السلطان "الغورى" فيبعث أسطولا بقيادة "البكيركى".... تنبه السلطان متأخرا ووقعت الواقعة وضاع الأسطول المصرى. ولم يجد السلطان "الغورى" غير أن يستنجد بـ بابا- روما، أى أنه استجار من الرمضاء بالنار!! وكانت تلك فى الحقيقة هى اللحظة التى انهار فيها النظام المملوكى كله كما ينهار أى نظام يعجز عن حماية دياره. وبعض المؤرخين يتساءلون عن السبب الذى دفع العرب إلى الرضا بالعثمانيين وكيف بايعوهم بالخلافة فى قلب دار الإسلام وهم من غير العرب؟ ولعلى لا أتطاول على التاريخ إذا قلت: إن الرد على هذا السؤال لا يحتاج إلى عناء كبير: فالعناصر الواعية فى الأمة العربية تصورت أن هؤلاء العثمانين- وهم "جنس عسكرى"- يستطيعون حماية قلب دار الإسلام ضد قوى السيطرة التى راحت تحدق به من كل ناحية. وكان هذا التصور منطقيّا فى ذلك الحين بكل ما فيه من خير وشر. الخير فى أن "الجنس العسكرى" استطاع أن يرد لبعض الوقت ويصد. والشر فى أن الظاهرة العسكرية وحدها وبدون عمق حضارى هى لحظة موقوتة. وهكذا فإن الزحف الاستعمارى الغربى الذى توقف قليلا بعد قيام الخلافة العثمانية لم يلبث أن عاد يستأنف ضغطه من الجناحين إلى القلب. وكان الذى حدث أن إسبانيا والبرتغال عجزتا عن تكملة الطريق! فى الوقت الذى كان فيه شمالى ووسط أوروبا (بريطانيا وفرنسا بالذات) قد التقط أنفاسه بعد الحروب الصليبية وعوض خسائره فيها. أكملت بريطانيا ما بدأته البرتغال ووصلت حتى عدن، وأكملت فرنسا ما بدأته إسبانيا فى(1/90)
شمالى إفريقيا: بل وحاول "نابليون" أن يبدأ مباشرة من مصر. وكان "جواهر لال نهرو" قد سألني مرة من قبل- وكنا فى بلجراد- عن الأسباب التى أدت إلى سقوط دولة الإسلام فى الهند بهذه السهولة. ص _104
وقلت له أيامها: إنها فى ظنى الأسباب نفسها التى أدت إلى انهيار دولة الإسلام فى الأندلس. ثم تسرعت وقلت: "إنه تعدد الزوجات "، وأضفت إننى حاولت أن أتقصى الحالتين وأدرس ما جرى فيهما، وكان أكثر ما لفت نظري هو الحروب العائلية التى وضعت الأخ فى مواجهة أخيه، ولم أجد سببا ظاهرا غير تعدد الزوجات الذى جعل الأمراء فى أحضان أمهاتهم، وكل واحد منهم يرضع مع لبن أمه كراهية زوجة أبيه الأخرى وأبنائه منها. وسألنى " نهرو" فى بلجراد: "هل تظن أن ذلك وحده السبب؟ " ثم أضاف: "إنه درس الإسلام فى طفولته فى "أحمد أباد" وتعرف إليه قبل أن يتعرف على ديانة قومه من الهندوس، وهو يظن أنه لابد من وجود أسباب أخرى إلى جانب حكاية تعدد الزوجات ". ابتسمت عندما وصلت إلى هذا الموضع من كلام الأستاذ هيكل! وملكنى عجب ما أظن أنه سينتهى! كيف يكون "تعدد الزوجات " سبب انهيار الدولة الإسلامية هنا أو هناك؟ كيف يتطرق هذا الوهم إلى عقل كبير؟ إنه كالقول بأن هزيمة الدول العربية سنة 1967م أمام اليهود ترجع إلى انتشار "أكشاك بيع السجاير" فى شوارع القاهرة!! على أن الخطأ فى التعليل مهما بلغ دون خطأ الإسلاميين فى رواية تاريخهم دون تمحيص، واكتفائهم بالرد المجرد من غير بحث أسباب النصر أو الهزيمة، والازدهار أو الانهيار! ولقد رأيت أنماط من الداعين إلى الإسلام لا يرتبطون بشريعته العظيمة قدرما يرتبطون بالمجرى الذى خطه الواقع فى دنيا الناس، سواء أكان هذا المجرى معوجا أم مستقيما معتكرا أم صافيا... بل قد تكون الدعوة إلى أعراف مضت وتقاليد سلفت بدل أن تكون للوحى المعصوم وهذه هزيمة مضاعفة للدين نفسه. الآن يجتمع كرادلة النصرانية ليختاروا سيد الفاتيكان أو "البابا"(1/91)
الذى يقود قرابة مليار من البشر، إنهم يجتمعون ليبحثوا عن أكفأ رجل فيهم ليضعوا بين يديه الزمام، وقد اختاروا لقيادتهم شيخا من بولندا التى تدور فى الفلك الروسى ما اختاروا إيطاليا ولا فرنسيا كانوا يبحثون عن النشاط والقدرة، حتى إذا وجدوا ضالتهم وضعوا على رأسه التاج ومشوا وراءه يخدمون كنيستهم لا يخدمونه هو وهكذا يمضون فى طريقهم لا يلوون على شىء! ص _105
ذلك على حين يدرس فى كتبنا أن الشورى لا تلزم الخليفة الذى رشحه نسبه العريق! لقيادة أمة كبيرة.. والزعم بأن صاحب السلطة لا تحكمه الشورى شىء سخيف حقا وهو من تكبير الأقزام، وخلق وثنية سياسية تراغم الدين والدنيا.. وقد تعانق التعصب للنسب، والتعصب للرأى الخاص عند ذوى السلطان فهوت الأمة كلها من حالق. إننا لم نحسن دراسة ما أصابنا من هزائم فادحة، وما أقمنا حواجز ضد تكرارها، ولا يزال ناس منّا مشغولين بأنواع من المعرفة لا تضر عدوا ولا تنفع صديقا. وما فكرنا فى تكوين دراسات ذكيّة جريئة لمعاصينا السياسية والاقتصادية والاجتماعية. إن العرب حملوا الإسلام للعالمين، وهذا شرف لهم وتكريم إلهى هم له أهل. والذى أفهمه أن يدخل "عمرو بن العاص " رضى الله عنه مصر بالإسلام، وأن يحكمها حينا من الدهر باسمه، فإذا أسلمت مصر أو أسلمت أقطار أخرى بعد ما قرع الإسلام أبوابها وطرد الرومان منها، فمن حق هذه البلاد التى أسلمت أن تملك أمرها وأن يقودها واحد من أبنائها.. أما أن يقول الفاتح العربى: أنا وحدى أو أحد من سلالتى أو واحد من أقربائى هو الذى يحكم فهذا ليس المنطق الإسلامى المأنوس فى أصول الإسلام ولا هو منطق الإخلاص للعقيدة وروابطها الجديدة.. إن فرض خلافة عباسية بالمشرق أو خلافة أموية بإسبانيا إلى القرنين السابع والثامن الهجريين هو مسلك عربى لا مسلك إسلامى. واستغراب الأستاذ هيكل لخلافة تركية وتساؤله: لماذا رضى العرب بها؟ هو انسياق مع التعصب العربى وليس اطرادا مع الفكر(1/92)
الإسلامى. كل ما ننبه إليه أن الذى يقود الأمة الإسلامية يجب أن يكون مستعربا أى متحدثا بلغة العرب قادرا على فهم الكتاب والسنة. ليكن الجنس الحاكم هنديا أو زنجيا أو تركيا المهم أن يكون راسخ القدم فى الثقافة الإسلامية فالعربية لغة الوحى ولغة العبادة ولغة القيادة بداهة. ص _106
وفشل الترك لم يجئ من جنسهم إنما جاء من قصورهم العلمى وعجزهم عن خدمة الدعوة الإسلامية. وأنا رجل لا أعراف نسبا ينمينى إلى"عبس" أو "ذبيان" إن الرباط الوحيد الذى أتشبث به هو الإسلام وتعصبى للعربية مردّه إلى أنها لغة الوحى ولا أحقر عندى من أمرئ يجرد العروبة من الإسلام، ويريد الانطلاق بها فى الآفاق على أنها دم أزكى أو أرومة أشرف. وإذا كان العرب خلال القرون الماضية قد خلطوا تعاليم الإسلام بتقاليدهم الخاصة فمهمتى العلمية أن أميز هذه عن تلك فأقبل هدى الله سبحانه وأترك لغو الناس. وعلى أية حال فإن الشوائب الدخلية على الإسلام وأمته هى وحدها التى أودت بدولته، وعندى أن مصرع الخلافة الإسلامية يجب أن يسجل فى التاريخ على أنه جريمة انتحار لا جريمة قتل فالمسلمون هم صانعوا الهزيمة التى نزلت بهم سواء فى هذا القرن أو فى القرون الوسطى. ويرى الأستاذ هيكل أن الحروب الصليبية- الأولى- كانت انطلاقا نفعيا قبل أن تكون حماسا دينيا وهذا الحكم يخالف الواقع القديم والجديد. ولننظر إلى عالمنا المعاصر بعد ما أعلن انتماءه للإنسانية وزهادته فى العناوين الدينية ولنتساءل: هل ترك الصليبيون مشاعرهم الأولى ضد الإسلام؟ إن مليار مسلم بينهم (150) مليونا من العرب أرخص عند الأمريكيين والأوروبيين من ثلاثة ملايين يهودي احتلوا فلسطين. والعرب أودعوا ثرواتهم- وهى قناطير مقنطرة من الذهب والفضة- فى مصارف الغرب الصليبى ومع ذلك فإن الولايات المتحدة وحدها تمنح كل يهودى يستعمر فلسطينى ألف دولار سنويا معونة خالصة ذكرا كان أو أنثى طفلا كان أو شيخا كى تساعده على(1/93)
إقامة "إسرائيل " واغتصاب أرضها من المسلمين! والمليارات الثلاثة التى يتصدق بها الأتقياء الصالحون من سكان أمريكا شيء آخر غير المعونات المدنية والعسكرية التى تقرر رصدها ليكون بنو إسرائيل قادرين على أن يهزموا العرب جميعا إذا اتحدوا عليهم. وهذا الاتحاد مستبعد ما بقيت الصليبية العالمية تكيد كيدها، وترقب الإسلام بضغن وضيق وما بقيت بقدراتها الاقتصادية والأدبية تستلحق بعض المسلمين ليتبنوا قضاياها ويخدموا مآربها... ص _107(1/94)
لقد قرأت عن سفر مستر "كارتر" رئيس الولايات المتحدة السابق إلى السودان وعرفت أنه ذهب إلى القطر المرهق بأزماته ولاجئيه كى يوهن شوكة الإسلاميين الذين استطاعوا فرض جزء من الشريعة الإسلامية على الحكومة السابقة وكى يدعم جانب التمرد التنصيرى فى الجنوب المغصوب! ومع الرئيس السابق قوى عربية رافضة للإسلام، تعين عليه كل قادم من الشرق أو الغرب.. يحدث ذلك كله فى ظل "علمانية" معلنة وإنسانية لا تنتمى إلى دين!! فكيف بأيام "بطرس الناسك " والصرخات المسعورة لحرب المسلمين؟ إن كراهية محمد (صلى الله عليه وسلم) ودينه عند الأوروبيين حد الهوس وأفقدتهم رشدهم وقد تسابقت دول أوروبا كلها شرقا وغربا وشمالا وجنوبا على محاربة الإسلام وكشف الأستاذ هيكل فى إيجاز خطة القوم التى استغرق تنفيذها قرونا طويلة... كان قلب العالم الإسلامى هو الهدف الأول فتدافعت انجلترا وفرنسا وألمانيا إلي مصر والشام وأمكنتهم غفلة المسلمين من اقتحام بيت المقدس وكان المقتحمون ظماء إلى الدم ففجروه سيولا وسبحت فيه خيلهم وكتبوا إلى البابا يهنئونه بما فعلوا..! واستيقظ النيام ومطارق الوحوش تهوى على رءوسهم وشرعوا فى المقاومة التى بدأت واهنة ثم نمت على مدى قرنين أو أكثر! وتراجعت الغارة الهمجية بعدما أدركها الكلال وخامرها اليأس.. فالتقطت دول أوروبية أخرى اللواء واتجهت هذه المرة إلى أجنحة العالم الإسلامى، لا إلى قلبه.. فامحى الإسلام من الأندلس لم يبق له وسم ولا رسم! واستولت هولندا على إندونيسيا واستقرت فيها أعصارا واكتشف البرتغاليون طريق رأس الرجاء الصالح فاستداروا منه إلى جنوب آسيا وشرقيها وهناك صالت الصليبية وجالت دون وجل..! وظهر الأتراك العثمانيون فى هذه الظروف العصيبة وشغلوا أوروبا بنفسها قرابة أربعة قرون.. ولا ريب أنهم أخروا الاستعمار الحديث مدة طويلة. بيد أن دول أوروبا وحدت كلمتها، وتنادت من كل ناحية متجهة إلى العالم الإسلامى، زاحفة على(1/95)
قلبه وأجنحته كلها، واستطاعت أن تنزل به هزيمة لا نظير لها فى تاريخه الطويل، وسقطت حكومة الرجل المريض، وتبعتها- أو سبقتها- حكومات أخرى كانت تحيا إلى جواره.. ص _108
وقد قلنا فى مكان آخر: إن الدولة الإسلامية حين سقطت كانت فارغة من الخصائص الإسلامية! بل كانت أبعد شىء عن سياسة الإسلام فى الحكم والمال. كما أن الجماهير الكثيفة هبط عليها من الفساد ما جعلها تتصور الدين بعض الغيبيات. وفى خيمة الغيبيات مهرب واسع للتصورات الغامضة والخرافات التى ينكرها الدين نفسه. إن الاستعمار الحديث مع طبيعته الدنية الناقمة على الإسلام غلف وجهه بقشرة رقيقة من الإنسانية المتسامحة المستعلية على النعرة الجنسية أو الدينية. لكن لغط القوم يكشف خباياهم! وإذا كان الأستاذ هيكل يرى أن الحروب الصليبية اقتصادية أولا دينية ثانيا! فإنى أضع بين يدى كل قارئ هذه النصوص لمستشرقين ومؤرخين ومنصرين! ليرى حقيقة المشاعر النفسية عند القوم. واضطرامها بالضغينة والافتراء والغضب. وإذا كان التعبير اللغوى قد تغير فى العصر الحديث لأسباب شتى، فإن الخلفيات الدينية لم تزدها الأيام إلا حدة وضراما، وفى عراك الاشتباكات السياسية والحربية الأخيرة تتساقط الأستار المزورة وتبدو الحقائق الشائهة. يقول "المونيسنيور كولى" فى كتابه (البحث عن الدين الحق): برز فى الشرق عدوّ جديد هو الإسلام الذى أسس على القوة، وقام على أشد أنواع التعصب. ولقد وضع محمد السيف فى أيدى الذين تبعوه وتساهل فى أقدس قوانين الأخلاق، ثم سمح لأتباعه بالفجور والسلب. ووعد الذين يهلكون فى القتال بالاستمتاع الدائم بالملذات فى الجنة، وبعد قليل أصبحت آسيا الصغرى وإفريقيا وإسبانيا فريسة له. حتى إيطاليا هددها الخطر. وتناول الاجتياح نصف فرنسا. ولقد أصيبت المدنية.. ولكن انظر!! ها هى النصرانية تصنع بسيف "شارل مارتل " سدّا فى وجه سير الإسلام المنتصر عند "بواتييه (752 م) ثم تعمل الحروب(1/96)
الصليبية فى مدى قرنين تقريبا (1099- 1254 م) فى سبيل الدين، فتدجج أوروبا بالسلاح وتنجى النصرانية. وهكذا تقهقرت قوة الهلال أمام راية الصليب، وانتصر الإنجيل على القرآن وعلى ما فيه من قوانين الأخلاق الساذجة". ويقول "جوليان " فى كتابه (تاريخ فرنسا): "إن محمدا- مؤسس دين المسلمين- قد أمر أتباعه أن يخضعوا العالم. وأن يبدلوا جميع الأديان بدينه هو. ما أعظم الفرق بين هؤلاء الوثنيين والنصارى!!. ص _109
إن هؤلاء العرب قد فرضوا دينهم بالقوة، وقالوا للناس: أسلموا أو موتوا، بينما أتباع المسيح أراحوا النفوس ببرهم وإحسانهم، ماذا كانت حال العالم لو أن العرب انتصروا علينا؟ إذن لكنا مسلمين كالجزائريين والمراكشيين ". وجاء فى كتاب (تقدم التبشير العالمى) الذى ألفه الدكتور "غلوور" ونشره فى نيويورك سنة 1960م، فى نهاية الباب الرابع: "إن سيف محمد والقرآن أشد عدو. وأكبر معاند للحضارة والحرية والحق، ومن بين العوامل الهدامة التى أطلع عليها العالم إلى الآن ". وقال: "القرآن خليط عجيب من الحقائق والخرافات، ومن الشرائع والأساطير. كما هو مزيج غريب للأغلاط التاريخية والأوهام الفاسدة، وفوق ذلك هو غامض جدا لا يمكن أن يفهمه أحد إلا بتفسير خاص، والذى يعتقده المسلم أن المعبود هو الله الأحد الصمد الذى لم يلد ولم يولد، فالله ملك جبار متسلط، ليست له علاقة مع خلقه ورعاياه إلا الجبروت ". أوعيت أيها القارئ هذه النقول؟ وأبعادها النفسية والسياسية؟ إنها باطن الاستعمار القديم والحديث على سواء! إلا أن الاستعمار الحديث مع طبيعته الدنية الناقمة على الإسلام غلف وجهه بقشرة رقيقة من الإنسانية المتسامحة المستعلية على النعرات الجنسية والدينية. بيد أن هذه القشرة أخذت تتساقط يوما بعد يوم، ثم انكشفت كل الانكشاف فى قضية فلسطين، وفى تأليب بعض الأقليات الدينية لدعم العدوان الصهيونى ومساندة التنصير العالمى.. وللإنسانية المجردة أنصار(1/97)
نبلاء، أكن لهم فى نفسى احتراما جما، وأتابع نشاطهم فى خدمة السلام والعدالة، وقد حزنت لمقتل رئيس وزراء السويد، ومن قبله لمقتل "كونت برنادوت ". والغريب أن القتلة مجهولون، ولكن الأهداف الإنسانية التى كان يعمل لها أولئك الرجال لم تكن مجهولة.. وظاهر أن أصابع الصهيونية والعنصرية وراء هذه الاغتيالات الوضيعة، وظاهر كذلك أن قضايا الزنوج فى جنوبى إفريقيا وقضايا العرب فى فلسطين لن تجد لها حلا إنسانيا، لأن التعصب الأعمى لا يريد لها الحل. ص _110
وقد تأسست فى فرنسا جماعات تنتمى إلى "شارل مارتل " الذى هزم المسلمين فى جنوبى فرنسا ومنع امتدادهم داخل القارة. وهدف هذه الجماعات طرد العرب المعاصرين من فرنسا إذا عز تجنسهم أو تنصرهم! وجهود الأحزاب الفرنسية- يمينية كانت أو اشتراكية- لا تعدو هذه الغايات. والحال فى سائر الدول الأوروبية مشابة للأوضاع النفسية والفكرية فى فرنسا. ويوشك أن تختفى قشرة العلمانية أو الإنسانية ليحل محلها عداء مجنون للأمة الإسلامية المسترسلة، ولدينها المنكور. ولست ألوم غيرنا! إننا بعيدون قولا وعملا عن الإسلام، مع انتمائنا المعلن إليه من الناحية الشعبية، ومع ضيق "حكومات إسلامية" به من الناحية الرسمية. وأخشى أن يستمر هذا التذبذب فى مواقفنا إلى أن تفاجئنا الصهيونية والصليبية المتظاهرتان علينا بطلب محدد حاسم هو أن نترك الإسلام ظاهرا وباطنا. إن العالم يتدحرج إلى هاوية سحيقة من الضغائن الدينية القديمة، وإذا لم نتشبث بديننا ونحسن العمل له لم يتماسك لنا كيان، ولن يبقي علينا الصهاينة، ولا أتباع "شارب مارتل " الذين تتضاعف أعدادهم يوما بعد يوم. ص _111
لماذا حالف "البابا" الحالي أسلافه
وصادق اليهود؟
أهو اتفاق ضدنا؟
ص _112(1/98)
لماذا خالف"البابا"الحالي أسلافه وصادق اليهود؟ أهو اتفاق ضدنا..؟ عندما قرر اليهود اغتصاب فلسطين من العرب والمسلمين كانوا مطمئنين إلى ثلاثة أمور: (ا) أن الأمة التى شنوا غاراتهم عليها كانت مبعثرة الصف مفرقة الكلمة ذاهبة الريح! (ب) وأن الاستعمار الصليبى- بشقيه الثقافى والسياسى- أمسى راجح الكفة، بعيد النفوذ، فإذا لم تكن له جيوش تحتل الأرض فله جيوش تحتل الفكر والفؤاد والسلوك. (ج) وأن مواريثهم الدينية المتحدثة عن أرض الميعاد توشك أن تتحقق! ونبوءات العهد القديم التى طال عليها المدى قد جاء أوانها...! وعلى هذه الأسس هجموا... لا مهابة لأتباع محمد، فقد هتفوا يوم دخلوا القدس: محمد مات وترك بنات!! والتفاهم مع الاستعمار الصليبى سهل، بل يمكن التفاهم معه على مصالح مشتركة ومقدسات مشتركة، وعلى الكيد للإسلام خصم الفريقين...! ويحدثنا التاريخ أن "هرتزل " الزعيم الصهيونى الكبير طاف بملوك أوروبا وعظمائها كى يعاونوه على بلوغ هدفه، وكان آخر من قابلهم ليستمليهم إلى خطته البابا بيوس العاشر سنة 1903 م... ونحن ننقل ما دار بينه وبين الفاتيكان أول هذا القرن الميلادى الكالح.. ليتدبره المسلمون، وليوازنوا بين التصرفات الكاثوليكية أول هذا القرن وآخره... قال كريستوفر سايكو فى كتابه: "المقابلة لم تكن منسجمة، فبعد تبادل عبارات المجاملة المعتادة بدأ هرتزل الكلام واصفا مخططه الذي يرمى إلى أن تمنح الأماكن المقدسة وضعا خاصا فوق العادة ، هذا الوضع يؤلف جانبا من مخطط صهيونى أوسع وأشمل يراد به التخفيف من بلاء اليهود! ص _113(1/99)
قال هرتزل ما قال دون أن يعرّج بشراء على المصالح المسيحية، وقد استمع إليه البابا ببرود، ثم أجابه: هناك احتمالان اثنان، فإما أن اليهود يحتفظون بمعتقدهم القديم، ويظلون ينتظرون مجىء المسيح (المسيح الذى نعتقد نحن أنه قد جاء) وفى هذه الحال يكون اليهود منكرين للاهوت يسوع المسيح، فلا يكون بوسعنا أن نمذ إليهم يد المساعدة! وإما أنهم يريدون الذهاب إلى فلسطين ولا دين لهم على الإطلاق! وهذا أدعى أن نكون أقل عطفا عليهم !! إن اليهودية أساس ديننا، غير أن اليهودية قد حلت محلها المسيحية! ولهذا السبب لا يمكننا اليوم أن نساعد اليهود أكثر مما منحناهم من قبل! لقد كان المنتظر أن يكون اليهود أول المستجيبين لدعوة المسيح، بيد أنهم لم يفعلوا هذا حتى اليوم! " ذاك جزء من رد البابا بيوس العاشر على الزعيم الصهيونى من بضع وثمانين سنة نقف عنده لنقرأ ما يحدث اليوم من البابا يوحنا بول الثانى تاركين للدنيا كلها أن توازن وتتأمل... قالت الصحف الفرنسية وفى مقدمتها التحرير والصباح فى 14من إبريل 1986: "أمس ذهب البابا إلى كنيس روما الكبير فى أول تقارب تاريخى يضع حدا للعداء التقليدى بين اليهوديا والكثلكة! ومن الكلمات التى خاطب بها البابا حاخامات اليهود: "إن العلاقات التى تربطنا بكم لا تربطنا بأى دين آخر! أنتم إخوتنا المفضلون! أو بتعبير آخر نستطيع أن نقول: أنتم إخوتنا الكبار!! وعندما يتحدث عن المسيح يقول: يسوع الناصرى ابن شعبكم......!!! قالت الصحف: إنه بعد أن تمنى "إسرائيل ليبال " رئيس مكتب وزارة الشئون الدينية أن تضع الزيارة البابوية حدا للعلاقات المريرة بين اليهود والمسيحيين، استطاع البابا أن يجد للفور الكلمات اللازمة للرد، وشكر مستقبليه على حسن الضيافة باللغة العبرية بين تصفيقات المؤمنين الذين رحبوا بتسفيهه للكراهية والاضطهاد اللذين تعرض لهما اليهود. ثم تبادل الفريقان الهدايا: قدم البابا للحاخام الأكبر صورة لأوراق(1/100)
أثرية من الكتاب المقدس يوجد لها أصل محفوظ بمتحف الفاتيكان وأهدى الحاخام للبابا شمعدانا من تسع شعب مع مصنف لنصوص التوراة.. ص _114
قالت الصحف: كان هذا العمل نفسه يتم فى روما خلال القرون الوسطى يقدم الحاخامات التوراة فيردها البابا باحتقار! أما اليوم فإن البابا يوحنا بول يقبل الهدية مبتسما ويرد التحية بأحسن منها.. ماذا حدث؟ هل تغير اليهود أم تغير النصارى؟ إن الجواب يتطلب شيئا من التفصيل فاليهود أقبلوا على فلسطين بعقائدهم الأولى ما حسنت ظنونهم ولا مقالاتهم فى عيسى بن مريم. والوطن الذى يريدون إقامته يرتكز على الهيكل الذى سيسكنه الرب ويحكم من خلاله العالم بوساطة شعبه المختار، ومسيحهم المنتظر هو المسيح الحق، أما المسيح الذى سبقه فزنيم أثيم.. وما وصفهم به البابا بيوس العاشر، وأسلافه من البابوات صحيح فى جملته.. أما قادة النصرانية فقد بذلوا سياستهم بإزاء اليهود لسبب أو لآخر، وأول من تحرك فى الاتجاه المضاد البابا بيوس الثانى عشر.. كان الرجل رئيس الكنيسة الكاثوليكية أيام النازى، ورأى المذابح الرهيبة التى أوقعها الألمان باليهود ولم ينبس بكلمة احتجاج! أكان ضميره الدينى نائما؟ ربما! أكان يرى ما نزل بهم عدلا؟ ربما! على أية حال لزم الرجل الصمت حتى انهزم هتلر، واضطر الكاهن الكبير أن يواجه عواقب صمته. بيد أن مفاجأة حدثت لا ندرى ما سرها!! فإن صلحا تم بينه وبين اليهود، وتولى بعده البابوية، وشرع يدعو إلى تبرئة اليهود من دم المسيح، ومحا من الصلوات الكنسية الأدعية التى تلعنهم، والتى كان النصارى يبتهلون بها خلال عشرين قرنا...!! على أن هذا فى رأينا ليس سر التحول المباغت، والواقع أن النصارى فى شتى الأقطار ومن أتباع كل الكنائس يكرهون اليهود، ولكن كراهيتهم للمسلمين أشد، وهم فى حملتهم الصليبية الأخيرة على أرض الإسلام يكبتون مشاعرهم ويرسمون بسمة مفتعلة على شفاههم، ويرقبون الصراع اليهودى العربى أو(1/101)
الإسلامى على ضوء مصالحهم السياسية والاقتصادية والدينية جميعا. وقد كانوا أول مراحل الصراع يرقبون المعارك بحذر، ويتعرفون مدى المقاومة التى يواجهها اليهود، ويجرى فى حسابهم أن العرب قد يردون اليهود على أعقابهم مهما كانت الأمداد الصليبية لهم فلما رأوا العرب سادرين فى غفلتهم، ورأوا كلمتهم مفرقة ص _115
وصفوفهم ممزقة وشهواتهم جامحة وفوضاهم طافحة عرفوا أن إسرائيل كسبت المعركة، ولو ضد هذا الجيل التائه عن أسباب النصر! ومن ثم عالن ساسة الغرب بمشاعرهم، وبارزوا العرب بالعدوان! وانطلق رؤساء الكنائس يكسبون عطف اليهود، ويخطبون ودهم بالكلمات والهدايا والمعونات الثرّة! وأسرع بعض العرب! للمشاركة فى هذه المظاهرة، والاعتراف بإسرائيل....! وشرحت الأيام قوله تعالى فى الصهاينة والصليبيين وحلفائهم (يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض ومن يتولهم منكم فإنه منهم إن الله لا يهدي القوم الظالمين * فترى الذين في قلوبهم مرض يسارعون فيهم يقولون نخشى أن تصيبنا دائرة) وقامت إسرائيل علي أنقاض فلسطين! وكان قيامها يمثل أمرين غريبين: الأول أن هذه الدولة قمة الحضارة الغربية فى تفوقها الصناعى، وعلماؤها يشاركون علماء الولايات المتحدة فى عسكرة الفضاء...! والثانى أنها تمثل التعصب الدينى المطلق، فهى تمحو دينا وتثبت آخر، وتمحو جنسا وتثبت آخر، والمفروض أن تكون اليهودية الصورة والحقيقة والشكل والموضوع، وأن تتسع حتى تبلغ الحدود التى رسمها العهد القديم، وقد يسمح بإقامة آخرين فيها لأداء واجب الخدمة وحسب! والحق أن مستقبل الإسلام كله فى مهب الرياح مع هذا البلاء الوافد. وجهد الاستعمار الثقافى والسياسى أن يمهد الأرض الإسلامية كلها لقبول هذا الواقع، فلا غرابة فى الميدان العالمى أن ينتسب أتباع محمد إلى محمد! وأن يحفظوا رسالته ويرفعوا رايته..!! الأول تقدم والثاني رجعية! الأول استقرار والثاني(1/102)
إرهاب.. إن أرض الإسلام وسعت اليهود قديما، وجدوا فيها المأمن والملاذ يوم نبا بهم المقام فى أوروبا، واستحر فيهم القتل! ومعلوم أن الأوروبيين شعبا تعودوا اضطهاد اليهود، والنيل منهم، وقد قيل: لولا الإسلام لفنى اليهود، بل إن الإذلال انتقل إلى أمريكا، فكانت هناك أندية تضع لافتات تمنع دخول اليهود والكلاب...!! ص _116
وقد كان اليهود يستطيعون- فرادى وطوائف- أن يفروا إلى دار الإسلام من بطش النازى ومذابحة، وكانوا يقينا سيجدون المأوى والطمأنينة، وكانوا سيقيمون شعائرهم الدينية كما أقامها أسلافهم السابقون وأخوانهم الموجودون. إن أرض الإسلام من قرون طوال لا تعرف التعصب الأعمى، بل لقد وجد فيها غير المسلمين شيئا من المحاباة أحيانا!! بيد أن اليهود فى هذا العصر جاءوا يلطمون العرب لأن الأوروبيين لطموهم! ومادام هتلر قد أوقد لهم الأفران فعلى العرب أن يدفعوا الثمن! يدفعونه من دورهم وتاريخهم ووجودهم المادي والأدبي. ظاهر أن مصاب العرب فادح، والظلم النازل بهم بيّن، ومع ذلك فالعرب! إرهابيون! والإسلام دين عدوان، وعلى البابا ورؤساء الكنائس الأخرى أن يوقفوه عند حده... إ! بقى أن نسأل اليهود: إنكم تشكون من ظلم الناس لكم قديما وحديثا، وتجعلون هذه الشكاة أساس مطالبتكم بدولة لكم، هلا بحثتم عن أسباب ضيق العالم بكم واضطهاده لكم؟ هلا فكرتم فى أن سلوككم أنتم هو مبعث هذا الاضطهاد الذى تضاعف على نحو منكر؟ تدبرت بعثة موسى عليه السلام، وخطابه إلى فرعون يناشده شيئا محددا: ترك بنى إسرائيل يغادرون مصر معه!! ففى سورة الأعراف (قد جئتكم ببينة من ربكم فأرسل معي بني إسرائيل) وفى سورة طه (فأتياه فقولا إنا رسولا ربك فأرسل معنا بني إسرائيل ولا تعذبهم) وفى سورة الدخان: (أن أدوا إلي عباد الله إني لكم رسول أمين) 000 الخ كان موسى يائسا من أن يعيش الشعبان المصرى والإسرائيلى فى وطن واحد، كانت الفجوة بينهما لا يمكن ردمها! لماذا؟ إن(1/103)
الشعب المصرى وحكامه استقبلوا يعقوب وأبناءه أحسن استقبال وقيل لهم: ( ادخلوا مصر إن شاء الله آمنين). ص _117
لكن اليهود تقوقعوا داخل أنفسهم، وشرعوا يعملون لجنسهم وحده، ويخدمون أطماعهم وتراثهم! حتى ضاقت الأمة المضيفة بهم. ونحن ما نعتذر عن فرعون، فلعنه الله على الطغاة أجمعين، وإنما نكشف عن جانب من مأساة تكررت فى أوروبا جيلا بعد جيل.. وكان هتلر آخر من عالجها بالحديد والنار! وإذا كان الظلمة جديرين بما نزل بهم من عقاب الله، فإن بنى إسرائيل يجب أن يحذروا المصير نفسه، إنه المصير الذى خوفهم موسى منه عندما قال لهم: (عسى ربكم أن يهلك عدوكم ويستخلفكم في الأرض فينظر كيف تعملون). إنهم الآن مع الصليبية الجديدة يتظاهرون علينا بالإثم والعدوان، ويتجاهرون بضرورة الإجهاز على الإسلام وأمته، ولكن هذا الحلف الآثم سيتلاشى، والضعف الذى ألم بنا سيزول، وليست هذه هى المرة الأولى التى نفقد فيها بيت المقدس، لقد استعدنا المسجد الأقصى بعد أن غلبنا عليه، وسقط قتلانا حوله ألوفا ألوفا، وسنستعيده مرة أخرى مهما غلت التضحيات، وسيكون مصير الفراعنة الجدد مصير هتلر ورمسيس!! ونعود إلى كلمات الباب بيوس العاشر، وهى كما رأينا أحكم وأرشد من كلمات البابا الحالى ونقف عند قوله لهرتزل: "لا يمكننا أن نعطى اليهود من المساعدة أكثر مما أعطيناهم من قبل.. " ونتساءل: ما هذه المساعدات التى سلفت؟ يجيب المؤلف كريستوفر سايكو على ذلك بقوله: "إن المساعدة المعنية هى التى كانت فى زمن "كليكتوس " الثاني و "غريغورى" التاسع و "اينوسنت " الرابع و "غريغورى" العاشر و "مارتن " الرابع و "بولس " الثالث، وتتعلق كلها بسرقة الدم، وجرائم الخطف والقتل لاستعمال دم الضحية فى الطقوس الدينية اليهودية!! " وقد قرأت كتابا عنوانه "صراخ البرئ " يشرح إحدى هذه الجرائم التى اقترفها بنو إسرائيل تقربا إلى الله!! ولا أدرى أتاب القوم أم لم يتوبوا عن أشباه هذه الجرائم؟(1/104)
لكن الذى أدريه كل الدراية أن فكرتهم عن عيسى ومحمد مظلمة. وأن نظرتهم إلى أنفسهم تعميهم عن كل شىء. ص _119
الجيش الذي لا يقهر أكذوبة لها تاريخ ..!! ص _120
الجيش الذي لا يقهر أكذوبة لها تاريخ... !! هناك جهود كبيرة تبذل سر وعلنا ليستقر فى الأذهان أن الجندي اليهودي مقاتل ذو بأس، وأن الجيش اليهودي- كما يزعم الخرافيون- قوة لا تقهر... وقد فحصت الشائعات التى تطلقها مؤسسات شتى، ورجعت البصر فيما تكتبه وتذيعه دور شرقية وغربية، واستمعت إلى تصريحات بعض الساسة وتعليقات بعض المراقبين، فوجدت هؤلاء وأولئك يتواصون بالكذب، ويريدون إقناع العرب والمسلمين أنهم يقاتلون فى معركة ميئوس منها! لماذا؟ لأن اليهود فى التاريخ قديمه ووسيطه وحديثه كانوا رجالا أولى فداء وبلاء وأن انتصاراتهم فى المعارك التى خاضوها فى الشرق والغرب طبقت الآفاق..!! مطلوب من العرب والمسلمين أن يصدقوا هذه الفرية الوقاح، وأن يقبلوا شيئا ما أنزل الله به من سلطان! مطلوب منهم أن يقبلوا الدولة اليهودية على ترابهم، وأن يؤمنوا بأن الشعب الذى غاضب الله فغضب عليه الله، وكتب عليه الذلة والمسكنة هو شعب شجاع لا يقهر، صلب لا يلين !!! ومن سبعة قرون ونيف انطلقت هذه الشائعة بين أيدى التتار الذين أغاروا على العالم الإسلامى. وأسقطوا الخلافة العباسية ودمروا المدائن والقرى ووقر فى نفوس الناس أن الجيش التتارى لا يهزم، وأن جحافله إذا انطلقت لا ترد! وللشائعات سلطان على الدهماء، وقد يكون لها فى ضعاف القلوب موقع، وقد ظهر ذلك عندما التقى التتار والمسلمون فى "عين جالوت "! كانت الرهبة من الجيش "الذى لا يقهر" تخامر النفوس، وهذه الرهبة وحدها سلاح قاتل كاد ينال من الجيش الإسلامى لولا الصيحة الهائلة التى قصفت كالرعد فوق رءوس الناس، صيحة القائد المظفر "قطز" يقول: وآ إسلاماه.. فإذا اليقين يعمر الأفئدة والحماس يلهب الأنفاس، وانطلق من بين المسلمين إعصار يطلب(1/105)
الآخرة ويدمر ما أمامه فما هى إلا جولة تتبعها أخرى حتى كان التتار بين مقتول وهارب وسقطت ص _121
في الوحل قصة الجيش الذى لا يقهر، وأخذ الوجود التتارى يتقلص مع الأيام حتى اختفى إلى الأبد... إن التاريخ يعيد نفسه اليوم، والمحاولات ماضية فى إلحاح لإشعارنا أن يهود اليوم هم تتار الأمس الذين سفكوا وأهلكوا ولم يقفهم أحد! والواقع أن اليهود أقل وأذل من أن ينهضوا بهذا الدور، وأن مؤامرات القوى الكبرى هى التى تريد توكيد هذه الخرافة، وهى تتدخل سافرة لترجيح كفتهم إذا انهاروا حتى يظلوا شبحا مرعبا فى المنطقة التى نكبت بهم، إنهم شبح يهول فى ظلمات الخداع، وغيوم الفوضى التى تزحم الأجواء!! أما العنصر الفذ الفعال فى نصرة المسلمين فهو موقفهم من دينهم لا موقف غيرهم منهم! وهو عنصر لا تنال منه شائعات موهومة ولا حقائق معلومة..! فقد المسلمون هذا العنصر أواخر الخلافة العباسية التى استهلكها الترف، وأخملتها المآرب الدنيا فكانت العقبى أن استمكن منهم الأعداء، ومزقوهم شر ممزق! كانت ريح الدعوة راكدة، وسوق التقوى كاسدة، وكانت الخلافات الداخلية توهى الكيان الكبير، وتنشر فى جنباته الفتوق! وكما تقوم شجيرات طفيلية إلى جوار الجذع الباسق فتعطل نموه. بل تسلبه الحياة، قامت ممالك كثيرة فرضت وصايتها على الخلافة العظمى وجعلتها شاخصا لا روح فيه، وأخذت تتصرف وحدها تصرفات آذت العالم الإسلامى كله! وقد سجل ابن كثير فى موسوعته التاريخية "البداية والنهاية" كيف أن أحد الملوك المسلمين فى ذلك العهد الغابر استفز جنكيز خان، وظلم بعض رعاياه! فكان سببا فى الدواهي العظام التى حفت بالإسلام وأمته لما تحرك التتار بقيادة جنكيز ليثأروا لما أصابهم.... وقد دخل التتار فى الإسلام بعد ذلك! وأحسب أنهم لو وجدوا من يعرض الإسلام عليهم قبل غارتهم الشعواء لدخلوا فيه وأخلصوا له، وأنى يجدون الدعاة الواعين الصادقين مع انشغال المسلمين بأنفسهم عن ربهم،(1/106)
وبدنياهم عن آخرتهم؟ وقد دفعنا الثمن قديما ويبدو أننا ندفعه الآن مرة أخرى، ترى هل نتدبر قوله تعالى: (أولم يهد للذين يرثون الأرض من بعد أهلها أن لو نشاء أصبناهم بذنوبهم ونطبع على قلوبهم فهم لا يسمعون). ص _122
إن اعتصامنا بالته وحرصنا على رضاه هو اللواء الوحيد الذى نقاتل تحته ليقودنا إلى النصر. والصراع بين العرب واليهود خضع قديما لهذه الآية (لن يضروكم إلا أذى وإن يقاتلوكم يولوكم الأدبار ثم لا ينصرون) وقد حرم الله عليهم النصر تحريما قاطعا فى كل حرب خاضوها مع سلفنا الأوائل، ثم شرح مستقبلهم آخر الزمان فبين أنهم لا يقومون وحدهم أبدا، فإما اصطلحوا مع الله وتركوا ما هم فيه، وإما حملهم بعض الناس ليستخدموهم فى الإفساد والإضرار (ضربت عليهم الذلة أين ما ثقفوا إلا بحبل من الله وحبل من الناس ..) فأما حبلهم مع الله فمقطوع، وبقى الحبل الآخر.. ولا أريد الحديث عنه! فالحديث ذو شجون! إننا نحن العرب نفعنا الناس كثيرا ولكننا مجحودون! اليهود يأخذون من الغرب الصليبى ونحن نعطى، واليهود يسبون عيسى وأمه ونحن نوقرهما! ومع ذلك فالغرب الصليبى هو الذى يقول: خلقت إسرائيل لتبقى، وهو الذى يقول: يجب أن ترجح قوتها قوة العرب كلهم، مهما كثرت دولهم! وهو الذى يسارع إلى إنهاضها إذا كبتت، ولم تغن عنها كل الضمانات، وهو الذى يؤكد الأكذوبة التى اختلقها هو إن الجيش اليهودى لا يقهر.! لم كل هذا؟ لأن بغضاءه لمحمد عليه الصلاة والسلام لا تزال تستعر فى ضميره ، لا تنطفئ جذوتها آخر الدهر.. وقد وضعت الدول العظمى خطتها على أساس محو أمة وإثبات أمة أخرى، محو تاريخ ورسالة وإثبات تاريخ آخر ورسالة أخرى! والتوسل بكل شىء لإدراك هذه الغاية. ونريد أن ننظر إلى ما وقع ويقع لنستبين أن هذه الدول العظمى كانت ولا زالت تصنع "دولة إسرائيل " وترسل الإشاعات الكاذبة حول عظمتها وشجاعتها. ولو قدرت على جعلها مؤسسة لهيئة الأمم! لفعلت، ولمنحتها حق(1/107)
"الاعتراض " المقرر للدول الخمس المؤسسة للهيئة "الموقرة"....!! كانت هناك خطة معقولة سهلة يقدر بها العرب على هزيمة اليهود، ومنع قيام دولة لهم، هى تشجيع المجاهدين الفلسطينيين، وإمدادهم بالسلاح، وإمدادهم بالآف ص _123
المتطوعين الراغبين فى الشهادة، وجعل فلسطين كلها جبهة أمامية، والعالم الإسلامى كله قاعدة خلفية للكر والفر..! وهذه الحظة هى التى تبعها الجزائريون فسحقوا فرنسا، وهى أعتى وأدهى من اليهود! وهى التى يتبعها اليوم الأفغانيون ويلحقون بها أفدح الخسائر بالشيوعيين! وكان القادة الفلسطينيون الأصلاء لا يرجون إلا دعم إخوانهم لهم بالسلاح والرجال، وقد استطاعوا وحدهم أن يهزموا اليهود أو يوقفوا تقدمهم عشرات السنين. بيد أن الاستعمار العالمى كان يريد شيئا آخر، كان يريد إلحاق هزيمة مزدوجة بالأمة الإسلامية لا بالعرب وحدهم، إحداهما عسكرية والأخرى نفسية، فدفع بدول الجامعة إلى حرب رسمية أعد مكانها وزمانها بمهارة، وارتقب نتائجها بثقة! ولم لا؟ وأهم هذه الدول لا تزال محتلة بجيوشه! وتعتبر مدنيا وعسكريا فى مجاله الحيوى، وقادتها دمى بين أصابعه؟ وعندما تسجل الهزيمة على الدول العربية- والحالة هذه- فسيكون ميلاد "إسرائيل" دوليا لا ريب فيه! ألم تنهزم أمامها حكومات العرب؟ فكيف ينكر وجودها؟ لكن هذه الخطة الماكرة اعترضها ما كاد يودي بها، فإن بقايا الإسلام فى دماء الجماهير، ورجولة البدو فى حماية الذمار، واستبسال الجماعات الإسلامية فى طلب الشهادة، والاحتقار التقليدى الذى يكنه العرب لليهود، كل أولئك شد سواعد المجاهدين وأعانهم على تشتيت شمل اليهود وفتح ثغرات واسعة فى صفوفهم. وفوجئت أوروبا بالعرب على بعد أميال من "تل أبيب " عاصمة الدولة المزعومة، وأن أياما قلائل ثم يتم الإجهاز عليها. وهنا تدخلت هيئة الأمم الموقرة لتفرض هدنة إجبارية على المقاتلين جميعا!! وخلال عشرة أيام من إعلان الهدنة كانت سيول من السلاح(1/108)
والرجال تجئ إلى العصابات اللاهثة! ثم صدرت أوامر إلى بعض الجيوش العربية بالانسحاب! ثم اصطنعت هزيمة للعرب كلهم أمام اليهود! ويومئذ ولدت خرافة أن الجيش اليهودى لا يقهر، وأوعز الاستعمار إلى سماسرته بتضخيم الأكذوبة ونشرها على نطاق واسع لكى تتم هزيمة العرب نفسيا. فلا يفكرون فى حرب أخرى... إ! ص _124
على أن الصهيونية والصليبية أحسّا أن خطر الإسلام على مطامعهما لا يزال كبيرا، وأن صيحة الله أكبر لو سمعها العاصى أفاق من سكرته، وانطلق إلى ميادين الفداء لا يلوى على شىء! فلابد إذن من إخراج الإسلام من المعركة الدائرة، واستبقاء اليهودية يتنادى بها الشعب المختار، وتسعفه فى إفناء العرب المرتدين.. ونجح الاستعمار فى إنشاء أنظمة عربية تتنكر لكتاب الله وسنة رسوله، وترفع شعارات أخرى! إما صريحة فى رفض الإسلام، وإما خرساء لا تذكره فى موطن، ولا تعتمد عليه فى تربية، ولا تستمد منه فى تشريع، ولا توثق به رباطا، ولا تبعث به على تضحية! وبدل صيحة الله أكبر قبل خوض الغمرات سمعت صيحات غليظة تمثل الوحش عندما يلقى فى الغاب عدوه! وقد استمعت أنا إلى هذا الجؤار النابي وأثره المحقور، وتساءلت: أهذا هو البديل المختار لكلمة التوحيد؟ هذا والله هو المسخ والضياع! والعرب عندما يطرحون الإسلام وراء ظهورهم يطرحون سعدهم ومجدهم ورفدهم!! ويفقدون الطاقة الروحية والمادية التى يتماسكون بها أمام عدوهم! إن العرب بعبارة مختصرة ينتحرون بترك الإسلام. وعندما يخرج الإسلام من الميدان، ويبقى فيه المنادون بالتوراة، وحدود التوراة، وآمال التوراة، فإن اليهود لا يقاتلون عربا ولا مسلمين، فقد اختفى هؤلاء وأولئك باختفاء الإسلام، وبقيت حثالات لها أسماء عربية ولا عروبة وأسماء إسلامية ولا إسلام! حثالات لا يباليها الله باله... ومن ثم فإن حربى سنة 1956، 1967 كانت إعلانا عن انتحار جماعى لمن ينتمون زورا إلى العروبة والإسلام، وكانت فرصة من ذهب لتوكيد(1/109)
خرافة الجيش الذى لا يقهر..! والحق أن القادة الذين أخرجوا الإسلام من المعركة أسدوا يدا طولى لبنى إسرائيل، واكسبوهم نصرا تجاوز الأحلام، وظاهر أن اليهود أحرزوا غنائم باردة، وانتصروا من غير قتال ومشوا فى أرض خلت جنباتها من الحراس. وأدركت جماهير المسلمين حقيقة ما حدث، فلم يكن، الإسلام الغائب بداهة، مسئولا عن هذا الخزي العظيم! المسئول عنه نفر معروفون من الناس، وأنظمة استكرهت الشعوب على الخضوع لها بالحديد والنار! ص _125(1/110)
ولعل أغرب ما يروى فى أعقاب هذه الهزائم أن المسئولين عنها قالوا فى تغاضب: ماذا حدث؟ إن خسارة الأرض والناس والسمعة والمكانة لا تعنى شيئا! لقد كان المطلوب الذهاب بنا نحن وبأنظمتنا التقدمية، وذلك ما لم يتم، لقد بقينا وهذا وحده نصر! الحق أن تاريخ الصفاقة لم يشهد مثل هذه الوجوه، ولن يشهد أبدا.! وقال كل من له لب: إن بنى إسرائيل يدفعون مليار دولار لكى تبقى هذه التقدمية تحكم العرب، وتعين عليهم، وتبعث على الضحك منهم.. وغاص المسلمون داخل أنفسهم يتميزون غيظآ، ويبكون أسفآ، وعلموا أنه لا عاصم لهم من الهلاك إلا الإسلام فجهروا بالحنين إليه وخاصموا التنكر له والخروج عليه، وقد كنت واحدا من عشرات الدعاة الذين انطلقوا فى ضفاف قناة السويس وأطراف الصحراء الشرقية يتحدثون عن الإسلام بحرقة، ويحدثون الجنود بصراحة. كانت الآلام النفسية والبدنية تعصر الرجال الذين اتهموا بما هم منه براء، وحملوا أوزارا اقترفها غيرهم، وكانت وجوههم ترمق السماء بأمل، وتنتظر لقاء لابد منه مع اليهود الذين أسكرهم نصر صنعه لهم الخونة.. وجاء العاشر من رمضان 393اهـ وكلف الرجال بعبور القناة وتدمير خط "بارليف " الذى صنعته العبقرية العسكرية "الصهيونية- الصليبية"، لقد صدر الأمر فى ظروف صالحة كل الصلاحية، فإن الإنسان المسلم ثابت إليه خصائصه الرفيعة من عمق فى الإيمان، وصدق فى التوكل، ورضا بالقدر، وترحيب بلقاء الله. كان الرجال الصائمون يستعدون ليكون إفطارهم فى الجنة، وغلبت صيحات التكبير دوي المدافع، وتملك المقاتلين شعور بأنهم أبناء الصحابة الذين أدبوا الجبابرة، وقمعوا الباطل، فإذا الجبهة الطويلة تسيطر عليها روح وصلت خواتيم القرن الرابع عشر بأوائل القرن الهجري، وما هى إلا أيام حتى كانت الحصون المستبدة تنهار تحت عزمات الرجال، وتصبح أثرآ بعد عين، وما هى إلا أيام أخرى حتى كانت العساكر المشاة تمزق فرق المدرعات اليهودية الرابضة خلف الحصون،(1/111)
وتبعثرها شذر مذر وجاءنى خبر استشهاد الأخ المهندس أحمد حمدى وهو يشرف على إقامة الجسور فوق القناة لتستطيع الأسلحة الثقيلة العبور! إننى عرفت أحمد حمدى فى مسجد الجمعية الشرعية بالمعادى، وكنا نصلى الجمعة معا، وما كنت أدرى أن سيكون طليعة الشهداء الذين تنفتح لهم أبواب الجنان فى هذه الأيام. ص _126
إن المقاتلين المسلمين فى هذه المعركة مضوا على طبيعتهم التاريخية، ونسوا كل شئ إلا أنهم مجاهدون فى سبيل الله، نعم نسوا أنهم استحلفوا يمينا على أن يكون قتالهم من أجل حماية المكاسب الاشتراكية! كما شاء ذلك من كلف بإبعاد الإسلام عن المعركة، لا، إنهم يقاتلون اليوم ابتغاء وجه الله، وانتظار رضوانه الأعلى، وإحقاقا للحق وإبطالا للباطل، ودفاعآ عن المستضعفين من الرجال والنساء والولدان.. وقد شرعوا بعد نجاحهم فى العبور ينطلقون شرقآ لا تثنيهم عقبة، فإن الجيش اليهودي الذى زعموه لا يقهر أبدا ظهر على حقيقة العارية جبانآ، طالب حياة، مستكينآ بعد ما فقد الجدار الذى يحارب وراءه.. لكن القيادة "العربية" كانت من الناحية الروحية دون الإيمان المنشود بمراحل كبيرة، ومن الناحية الفنية دون العمل بمشورة أهل الخبرة، والانصياع لآرائهم، فتوقفت جامدة فى مكانها لا تصنع شيئا... فماذا حدث؟ إن اليهود كانوا قد تلاشوا، فليس لهم أثر، ولكن "الحبل من الناس " الذى حزمهم من قبل تحرك على عجل كى يستبقى الخرافة التى صنعها، خرافة الجيش الذى لا يقهر. وقامت جسور جوية تحمل الدبابات العملاقة والقاذفات الثقيلة وتنقل أحدث ما أنتجته المصانع العالمية من ذخائر وأسلحة، وخرج اليهود من جحورهم فى حماية الأقمار الصناعية! وصاحت الفئران الهاربة تقول: نحن أسود..! قلت لصديقى وأن أنظر بعيدآ: لو بقى وحى العقيدة، وظهر إخلاص القادة، ما تغيرت نتيجة المعركة، فإن هذه النجدات المجلوبة انهزمت فى فيتنام، والرجال المسلمون أجرأ وأشجع من ثوار فيتنام، إن العقيدة(1/112)
الإسلامية التى يملكونها أقوى من القنبلة الذرية. يا صديقي إن إخراج الإسلام من المعركة بين العرب واليهود هو طريق العار والنار. ص _127
وقع أول الحشر... وسيقع آخره ص _128
وقع أول الحشر... وسيقع آخره... ليس لبنى النضير، ولا لبنى قريظة عرق قديم فى جزيرة العرب، بل إن القبائل العبرانية التى انتشرت شمالى الحجاز بدءاً من المدينة حتى خيبر كانت طارئة على البقاع التى نزلت بها. ويتجه جمهور المؤرخين إلى عدهم لاجئين بأنفسهم وأموالهم فراراً من سطوة الرومان، لاسيما بعد اعتناقهم النصرانية! فإن رأى اليهود فى المسيح بالغ الشناعة، وهيهات أن يقر لهم قرار مع القول به. ولا يعاب على اليهود هربهم بعقائدهم من وجه الاضطهاد النازل بهم، وإنما يعاب عليهم أنهم حيث نزلوا يحسبون أنفسهم شعب الله المختار، وسلالة أنبيائه الكرام! ولو صحت هذه الدعوى لكلفتهم أن يعيشوا ربانيين بررة يفعلون الخير ويأمرون به، ولكنهم جعلوا مزاعمهم وسيلة إلى الذهاب بأنفسهم والاستهانة بغيرهم، واقتناص المال من كل سبيل، وبناء كيانهم على أنقاض سائر الناس. إن العقل اليهودى مصوغ بطريقة لا تتسع إلا للأثرة والحقد! وبدا ذلك جليآ مع بعثة خاتم الرسل، فإن القوم ناصبوه العداء وساندوا الوثنية ضده، وتألموا لهزائم المشركين، ورثوا قتلاهم، وصادقوا المنافقين المختبئين داخل المدينة، وشدوا أزرهم. ومع أن النبى الكريم عقد معهم معاهدة حسن جوار إلا أنهم ما وجدوا فرصة لنقضها إلا فعلوا، وكان من أفحش مظاهر الغدر أن النبى (صلى الله عليه وسلم) ذهب إلى دورهم آمنا مسترسلا ليطلب إليهم تنفيذ بعض ما تنص عليه هذه المعاهدة، فإذا هم يستدرجونه ليحاولوا قتله! وأحس النبى اليقظ بمكرهم السئ فانسحب على عجل، وقرر إعلان الحرب عليهم ومحاصرتهم حتى الجلاء.. إنهم ما أحسنوا الجوار، ولا احترموا الذمة، فلا حق لهم فى بقاء وليذهبوا من حيث جاءوا... وفى سورة الحشر- وتسمى في بعض المصاحف(1/113)
سورة بنى النضير- شرح للأخلاق التى استجمعها اليهود فحق عليهم الطرد، والشمائل التى تحلى بها المسلمون فاستحقوا بها النصر. ص _129
والقرآن الكريم يؤرخ للأحوال النفسية التى تبت فى مصاير الأمم ويجب أن تتناقلها العصور لترعوى وتستقيم. بدأت السورة بتسبيح الله، والتسبيح حق الله فى كل وقت وكل وضع، فهو المنزّه عن كل نقص والمبرأ من كل عيب! لكن للتسبيح هنا ملابسة خاصة فإن الناس إذا أحاطت بهم الكوارث ولم يبد لليلها صبح اضطربت أفئدتهم وبدأت الظنون المزعجة تساورهم، وتدبر قوله تعالى فى غزوة الأحزاب (إذ جاءوكم من فوقكم ومن أسفل منكم وإذ زاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر وتظنون بالله الظنون). وقد علا شأن اليهود فى الجزيرة، فما علا بهم إيمان ولا خلق! وإنما انتشر الربا والخنا، وشاعت عبادة الهوى، والتصق الناس بأطماع الأرض! إن الجاهلية الأولى زادت ولم تنقص مع الوجود اليهودى، كأن أهل الكتاب رأوا فى ظلام الوثنية فرصة للصيد والكيد. ولما ظهر الإسلام حسب اليهود أنهم قادرون على إطفاء نوره واستمدوا من حصونهم جرأة على إيذاء أهله وهم آمنون! وخيل للناس أن هذا بلاء ليس منه شفاء، وأن الأقدار لن تتدخل لحسمه! حتى ضرب الإسلام ضربته فإذا القلاع الحصينة تدك، وإذا المتشبثون بها يستسلمون، وإذا الباطل العاتي يترنح. ونزل الوحى يبدد كل تهمة ويؤكد سنن الله فى إحقاق الحق وإبطال الباطل (سبح لله ما في السماوات وما في الأرض وهو العزيز الحكيم * هو الذي أخرج الذين كفروا من أهل الكتاب من ديارهم لأول الحشر ما ظننتم أن يخرجوا وظنوا أنهم مانعتهم حصونهم من الله فأتاهم الله من حيث لم يحتسبوا …). والضربة التى نزلت باليهود تناولتهم مع حلفائهم من منافقى المدينة، واليهود قلما يحاربون وحدهم، وإنما يعتمدون علي ظهير يشد أزرهم، فهل أجداهم ذلك شيئا؟ إن المسلمين الذين ظنّ بهم الضعف أملوا كلمتهم بقوة، وأكدوا أن أحدآ لن يستطيع حماية المجرمين!(1/114)
ص _1 ص
ماذا يصنع المنافقون لهم؟ (لئن أخرجوا لا يخرجون معهم ولئن قوتلوا لا ينصرونهم ولئن نصروهم ليولن الأدبار ثم لا ينصرون) إن القدر قد يطاول العصاة بيد أنه لا يهملهم.. ويلفت نظرنا هذا التعبير الدقيق "لأول الحشر..." ماذا يعنى؟ ونرى أنه إيماءه إلى حشر آخر، سوف يتعرض له القوم فى تاريخهم المديد المتقلب! حشر يخرجهم مرة أخرى من قرى بنوها وحصون شادوها!! وهنا ينتقل بنا الحديث إلى لبّ المعركة. إن إخراج اليهود من مستعمراتهم فى صدر الإسلام لم يتم إثر نزاع طويل أو قصير بين القومية العربية والقومية العبرية! إن العراك كان بين أمتين إحداهما أسلمت لله وجهها وأخلصت نيتها، والأخرى عتت عن أمر ربها ورسله، فكان حسابها شديدآ وعذابها نكرا. المعركة كانت بين أخلاق وأخلاق، وأجدر الفريقين بالبقاء من كانت صلته بالله أشرف، ونفعه للناس أقرب.. والذين يتخذون الدين نسبا يفخرون به وحسب، ثم يمضون فى الحياة وفق مآربهم وغرائزهم الدنيا، ناسين أو متناسين حق الله عليهم، هؤلاء لن يدركوا نصرا! لذلك قال الله فى طرد يهود بنى النضير من مستعمرتهم (ولولا أن كتب الله عليهم الجلاء لعذبهم في الدنيا ولهم في الآخرة عذاب النار * ذلك بأنهم شاقوا الله ورسوله ومن يشاق الله فإن الله شديد العقاب) واطرد السياق القرآنى يشرح هذه المشاقة التى أغضبت الله سبحانه، إن المؤمنين حقا يوجلون من الله ويسارعون فى مرضاته، ويخشونه ولا يخشون أحدا غيره، ولا يخافون فى الله لومة لائم! أفكان اليهود كذلك؟ كلا لقد جاء فى وصفهم (لأنتم أشد رهبة في صدورهم من الله ذلك بأنهم قوم لا يفقهون) إنهم يخافون كل شىء إلا الله! ص _131(1/115)
وجاء فى وصفهم أنهم حراص على الحياة تفرقهم مطالبها وتتوزعهم مطامعها قال تعالى (لا يقاتلونكم جميعا إلا في قرى محصنة أو من وراء جدر بأسهم بينهم شديد تحسبهم جميعا وقلوبهم شتى ذلك بأنهم قوم لا يعقلون). هذه أخلاق الهزيمة، أما أخلاق المسلمين يومئذ فقد عرفوا بأنهم رهبان بالليل فرسان بالنهار، يطلبون الآخرة كما يطلب غيرهم الدنيا، يقاتلون فى سبيل الله كأنهم صف مرصوص. ترى عند تبادل المواقف، وتبادل الأخلاق والمسالك أتتغير النتائج؟ كلا كلا!! إن الذين يستجمعون أخلاق النصر سوف ينتصرون، والذين يستجمعون أخلاق الهزيمة سوف ينهزمون، ومن ظن أن الله يحابى أمة ما، فيرفعها وهى تسف فسوف يدفع ضريبة هذا الخطأ من دمه ومكانته، ووحى الله، وتاريخ الناس شهود على ذلك.. قديمآ وحديثا ظهرت نزعات عنصرية تجحد الدين فى سريرتها وتستخدمه فى علانيتها! وما ينطلي ذلك على الله. ظهرت الفاشية تريد جعل البحر المتوسط بحيرة رومانية وإعادة مجد روما القديم، وسيرت كتائبها تذبح مسلمى ليبيا، وتتأهب لاقتحام وادى النيل.. وظهرت النازية بصليبها المعقوف تنادى بسيطرة الجنس الآرى وتحتقر السامية! وظهرت الصهيونية تحت علم التوراة تبغى حكم العالم بعد بناء هيكل الرب على أنقاض المسجد الأقصى.. إن العروبة التى تعد محمدا بطلا قوميآ وتستبعده رسولا عالميا! وتقدم العلمانية على شريعته المنزّلة، هذه العروبة لا تعدو أن تكون نزعة عنصرية كالنازية والفاشية والصهيونية، ولو وصفنا محمدا بكل أمجاد الأرض، وجحدنا رسالته التى اختاره الله لها فما نقص كفرنا ذرّة. إ! وما نؤمن بمحمد إلا يوم تكون تعاليمه أساس الفرد والمجتمع والدولة! والذين طاردوا بنى إسرائيل قديما وانتصروا عليهم انتصارا مبينا كانوا- كما وصفت سورة الحشر- صنفين من الناس، مهاجرين زهدوا فى المقام بأرضهم إعلاء لعقيدتهم، ص _132(1/116)
وأنصارا فتحوا قلوبهم وبيوتهم لإخوان العقيدة! وقد اشترك هؤلاء وأولئك فى بناء دولة تستمد وجودها من الوحى الأعلى، وترفض ضروب العصبيات التى تشد أصحابها بعيدا عن هدايات الله، ووجهه الأعلى قال تبارك اسمه (للفقراء المهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم يبتغون فضلا من الله ورضوانا وينصرون الله ورسوله) وقال (والذين تبوءوا الدار والإيمان من قبلهم يحبون من هاجر إليهم ولا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا …). وكل من اعتنق الإسلام بعد هؤلاء إلى قيام الساعة فهو فى آثارهم يسير، وبأخلاقهم يقتدي، وصوته ينضم إلى أصواتهم فى استهداء الله واستغفاره، وجعل الحياة له والموت فى سبيله (والذين جاءوا من بعدهم يقولون ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان…). أين مكان الاعتزاز بالجنس والإهمال للوحي بين هؤلاء الأسلاف الكرام؟ عندما يترك الناس ربهم ويأبون إرشاده فسيكلهم فى الدنيا إلى خصائصهم المادية والأدبية، وسيتهارشون تهارش الوحوش فى الغاب، وقد يقتل النمر الذئب أو يقتله الذئب، وقد يقتل الثعلب الكلب أو يقتله الكلب ثم.. إلى الله المصير! وفى هذه السورة نداء فريد، لا نداء غيره (يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله ولتنظر نفس ما قدمت لغد …) والأمر بالتقوى والإعداد ليوم الحساب شائع فى القرآن الكريم، فلم نقف عنده هنا؟ الواقع أن هذا الأمر تذكير بما أعرض عنه اليهود، وتناسوّه عامدين! فالمطالع لأسفار موسى الخمسة فى أول العهد القديم- وهى التوراة عند القوم- لا يجد فيها أى حديث عن الآخرة، ولا يجد فيها ترغيبآ فى جنة ولا ترهيبآ من نار!! وعجيب أن يخلو كتاب دين عن ذكر الروح وخلودها، والدنيا وفنائها، والحياة الآخرة وضرورة لا تعلق بها!! ص _133(1/117)
أى دين يكون هذا الدين؟ ما أشبهه بفلسفة ماركس وسارتر وغيرهما من عبيد الأرض، وجاحدى الألوهية.. من أجل ذلك جاء هذا النداء بتقوى الله والتأهب للقائه فى الغد المحتوم، وإن غدا لناظره قريب! ثم جاء بعد ذلك نهى عن الغفلة الشائنة التى أذهلت اليهود عن الحق، فهم المعنيون بقوله سبحانه: (ولا تكونوا كالذين نسوا الله فأنساهم أنفسهم أولئك هم الفاسقون). ويبدو أن كاتب هذه الأسفار الخمسة شغله التاريخ لجنسه عما عداه، فلم يورد لفظ "جنة" إلا عند الحديث عن مهد آدم! وكيف أخرج منه! وهذا الحديث المبتور جعل اليهود يتصورون جنتهم ونارهم على ظهر هذه الأرض، وجعلهم أحرص الناس على حياة (يود أحدهم لو يعمر ألف سنة وما هو بمزحزحه من العذاب أن يعمر). على أن اليهود جاءهم بعد ذلك أنبياء ذكروهم بالدار الآخرة، وخوفوهم من عذاب النار، غير أنك عندما تطالع العهد القديم على طوله لا ترى قضية البعث والجزاء لافتة للأنظار، وما تستغرق إذا ذكرت إلا سطورا قلائل، وما تورث قارئها رغبة أو رهبة! ولعل ذلك ما جعل بنى إسرائيل مشدودين إلى هذه الدنيا وحدها، فإذا خوفهم ناصح بعذاب الله قالوا: لن تمسنا النار إلا أياما معدودة! أما المسلمون فهم مؤمنون باليوم والغد، بيوم التكليف ويوم الحساب ولذلك قال الله موضحا حال الفريقين: (لا يستوي أصحاب النار وأصحاب الجنة أصحاب الجنة هم الفائزون)... والتصور اليهودى للدين أفسد الفكر والخلق والسلوك، فماركس بموارثه التاريخية فى عقله الظاهر والباطن أبعد الناس عن الله، وأنكر وجوده ولقاءه على سواء! وفرويد جعل السلوك الفردي والجماعي مقيدا بالشهوة الجنسية! وفلسفته من وراء السعار الحيواني الذى يملأ القارات. ص _134(1/118)
ولما كان العهد القديم ركيزة للعهد الجديد وكان النصارى ملزمين به على الإجمال، فإن تجسّد الإله أمسى شيئا مألوفا وإسفاف الأنبياء أمسى خلقا شائعا، ومن ثم مضت الحضارة الحديثة دون حاد أمين، تستهين بالملونين وتسرق حقوقهم وترزى بمكانتهم.. ومن أجل ذلك وعظ الله المسلمين أن يبتعدوا عن سيرة من سبقهم من أهل الكتاب وأن يقيموا حضارة ربانية تنزه الله وترتبط به وتأتمر بأمره وتنتهى بنهيه.. القرآن رسالة عالمية، وليس هناك شعب مختار، ومحمد عبد الله ورسوله، ومبلغوا الوحي الإلهي معلمون وحسب، رب مبلغ أوعى من سامع، ورب حامل فقه إلى من هو أفقه منه. وميدان السابق ممهود للبشر كلهم، يتقدم فيه الأتقى لا الأوجه أو الآصل، والولاء كله، والهتاف كله، لله وحده (هو الله الذي لا إله إلا هو عالم الغيب والشهادة هو الرحمن الرحيم * هو الله الذي لا إله إلا هو الملك القدوس السلام المؤمن المهيمن العزيز الجبار المتكبر ... ). هذه معالم الحضارة الربانية التى رسمها الوحي الأعلى بعد انتصار المسلمين على عدوهم، وطردهم من ديارهم، فى أول حشر لبنى إسرائيل! قد تقول: ومتى يقع الحشر الآخر؟ وأكتفى فى الإجابة على هذا السؤال بذكر القصة الآتية سمعتها عندما كنت فى الأرض المحتلة من فلسطين الجريح! قال الراوى: طلب موسى ديان من أحد أعيان العرب أن يتناول الغذاء فى بيته، فذهب العربى إلى أسرته يخبرها الخبر، ويستعد للغداء المفروض عليه، وكان للرجل ابن متحمس عميق الإيمان، خاصم أباه، وأعلن سخطه على مجئ ديان إلى بيتهم.. ولكن الأب أعلن ألا مفر، ولابد من قبول الأمر الواقع، وقال لابنه: اترك البيت حتى يتم الغداء.. وخرج الولد مقهورا، ولكنه مكث قليلا بعيدا عن بيته ثم عاد ليقول لموسى ديان: جنرال. لا يغرنك النصر الذى أحرزته! إنه نصر موقوت! وقد عرّفنا نبينا أننا سنقاتلكم وننتصر عليكم حتى يقول الحجر: يا مسلم ورائى يهودى تعال فاقتله..! ص _135(1/119)
فضحك ديان: وقال للشاب المتحمس: يستحيل أن يقع هذا ما دمنا نحن، نحن وأنتم أنتم... إ! أقول- والعهدة على الراوى- إن موسى ديان ينطبق عليه القول المأثور: صدقك وهو كذوب! إننا لم نستكمل بعد أسباب النصر- فإن طائفة من أخلاق الهزيمة التى خذلت اليهود قديما، تسللت إلى صفوفنا واستنزفت قوانا.. ولو صدقنا الله لصدقنا الله. إننا ابتعدنا عن أصالتنا السماوية وأخلدنا إلى الأرض فكان ما كان. (إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم.....) تساءلت وأنا أقرأ قول الله لنبيه: (إنا نحن نزلنا عليك القرآن تنزيلا * فاصبر لحكم ربك .... ) قلت إن طلب الصبر ما يكون إلا عند التكليف الشاق والواجب آلثقيل، فهل استقبال الوحى الأعلى يقترن بهذه المعاناة؟ كان الجواب السريع أن الرسول (صلى الله عليه وسلم) كان يعالج شدة عند نزول الوحى، كان يجيئه فى الغداة الباردة ثم ينصرف عنه وقد تصبب جبينه عرقا. وقد ظل الوحى يتنزل ثلاثا وعشرين سنة!. استبعدت هذه الإجابة العاجلة لأنها تتصل بالشكل أكثر مما تصل بالموضوع، والواقع أن متاعب النبوة وأعباءها الأولى أساسها: كيف يرتفع الناس إلى مستوى الوحي؟ كيف يعاد تشكيل الأمم وفق التوجيه الإلهى؟ كيف تباد تقاليد وأفكار وتحل محلها تقاليد أفضل وأفكار أرشد؟. إن الغاية من نزول الوحي محددة فى هذه الآية: ( كتاب أنزلناه إليك لتخرج الناس من الظلمات إلى النور …) ما هذه الظلمات؟ إنها ظلمات الرذيلة والبلادة والتخلف المادي والأدبي وسيادة الأهواء والأوهام وعيش البشر مع طباخ السوء والقسوة. ليست المشكلة استقبال الوحى، إنما المشكلة الكبرى أخذ الناس به وإنزالهم على حكمه! ولذلك جاء ختام الآية (فاصبر لحكم ربك ولا تطع منهم آثما أو كفورا). ص _136(1/120)
وقد كان العرب- كأى مجتمع يحيا غياب الوحى- يعرفون يومهم وينسون غدهم! يعرفون أنفسهم وينسون ربهم، وقد امتازوا عن الناس بألوان من المفاخرة والمنافرة والتحدي والتعدّي جعلت تفرقهم حتما وتجمعهم صعبا (لو أنفقت ما في الأرض جميعا ما ألفت بين قلوبهم). ومطلوب من صاحب الرسالة الخاتمة أن يهئ هذه الأمة لقيادة العالم كله..! إن الشعب الفوضوي لا يقود غيره من الشعوب، بم يقودها؟ والشعب البعيد عن الحضارة المحروم من الثقافة لا يملك الطاقة على ترشيد نفسه بله غيره! والعرب قبل الإسلام، بل العرب بلا إسلام لا يفوقون غيرهم، بل قد يفوقهم غيرهم، وكتابنا يؤكد هذه الحقيقة! فإن أمما شتى كذبت رسلها من قبل، ورفضت الانقياد لأمر ربها فعوقبت عقابا شديدا وذاقت وبال أمرها! وقد قيل للعرب على عهد الرسول العظيم: إنكم لم تحرزوا عشر ما أحرزت هذه الأمم! الأولى من تقدم حضاري وثقافي، ولن تفلتوا مما حل بهم إذا عصيتم رسولكم! (وكذب الذين من قبلهم وما بلغوا معشار ما آتيناهم فكذبوا رسلي فكيف كان نكير) مطلوب من محمد (صلى الله عليه وسلم) أن يصوغ من العرب- وهم أشبه بشعوب العالم الثالث الآن- أمة قائدة رائدة تملك من سيناء الفكر وزكاة الضمير والقدرة على الحياة وإيتاء الأسوة الحسنة ما يجعلها خير أمة أخرجت للناس، وعليها تطويع ما بين الأرض والسماء لبلوغ هذا الهدف.. إن السابق على صعيد الأرض، والنجاح فى امتلاك الزمام العالمى لا يقوم على الدعوى والغرور! إنه فكر أذكى من فكر وخلق أرضى من خلق وإدارة أرشد من إدارة وإنتاج أغزر من إنتاج وحكم أعدل من حكم وأسرة أطهر من أسرة وتربية أجدى من تربية. إن عمل الدين داخل النفس والمجتمع بعيد الغور واسع النتائج، والجهاد الهائل الذى قام به أمير الأنبياء هو صنع أمة راجحة الكفة فى كل ميدان! إن الله أنزل عليه الوحى، وشرفه بهذا القرآن، ثم كلفه أن يفتح بهذا القرآن أقفالا، وأن ينير به آفاقآ.. وقد أفسدتها شياطين(1/121)
الإنس والجن. ص _137
وعن طريق المسجد ربط الناس بالله، ورصّ صفوفهم لتتماسك بعد فى ميادين الحرب والسلام معلية كلمات الله، وكلمات الله لا يعليها رجال صغار! إنما يعليها رجال كبار... إ! إن رفع الناس إلى مستوى الوحي، أعنى مستوى الفهم والتنفيذ جهد هائل لا يقدر عليه إلا الأقلّون، وأجدنى محزونا لأن قدرات المسلمين المادية والأدبية دون مستوى كتابهم بمراحل، ولكى يتضح ما أريد أنقل هذه الجمل لأبى حامد الغزالى، يقول: "إن العقل لا يهتدي إلا بالشرع، والشرع لا يتبين إلا بالعقل، فالعقل كالأساس والشرع كالبناء، ولن يغني أساس ما لم يكن بناء، ولن يثبت بناء ما لم يكن أساس..! العقل كالبصر والشرع كالشعاع، ولن يغنى بصر ما لم يكن شعاع من خارج ولن يغنى الشعاع ما لم يكن البصر. العقل كالسراج والشرع كالزيت الذى يمده، فما لم يكن زيت لم يحصل السراج، وما لم يكن سراج لم يضئ الزيت..! ويقول: "الشرع عقل من الخارج. والعقل شرع من الداخل، وهما متعاضدان بل متحدان، ويكون الشرع عقلا من الخارج. سلب الله تعالى اسم العقل عن الكافر فى غير موضع من القرآن الكريم، كقوله سبحانه (صم بكم عمي فهم لا يعقلون) ويكون العقل شرعآ من الداخل. قال تعالى فى وصفه: (فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم) فسمي العقل دينا، ولكونهما متحدين قال سبحانه: ( نور على نور) يعنى نور العقل ونور الشرع...! وهذا الذى يقوله أبو حامد ليس مذهبا خاصا به، فإن ابن تيمية كبير علماء السلف ألف كتابآ ضخمآ فى درء تعارض العقل والنقل، وأنه يستحيل أن يصطدم عقل صريح بنقل صحيح... من أجل ذلك شعرت بالإنكار وبالانكسار والهزيمة عندما رمقت الصحوة الإسلامية المعاصرة، ورأيت انفصالا بين القدرات العلمية الذكية، والأنشطة الدينية الدءوب! قلت: لو أن القرآن غمر الآفاق بالصحوة الكبرى فما يجدى هذا مع الأجفان المغلقة؟ ص _138(1/122)
ورددت قول أبى الطيب: وما انتفاع أخى الدنيا بناظره إذا استوت عنده الأنوار والظلم؟ إن ناساً يدعون الجهاد، والاجتهاد، وعقولهم كليلة لا تكاد ترى شيئا من آيات الله فى الأنفس والآفاق، ولا تحركها همة عالية لإدراك ما بلغته الإنسانية من ارتقاء.. وإذا كان السباق العسكرى بين العمالقة يثير النزاع حول "مشروعية" حرب الكواكب، فإن هؤلاء الناس يسمعون تلك الأنباء وكأنما ينادون من مكان بعيد، ولا تزال عقولهم منكرة لأوّليات علم الجغرافيا، ولبديهيات شتى فى الفيزياء والكيمياء.. الشىء الذى يتحدثون فيه بجراءة هو الإسلام المظلوم من خلال أفهام لا يساندها وعى أو ذكاء أو تجربة. ألا فليفهم هؤلاء أنه إذا مات العقل مات الدين، وإذا اضمحلت المعرفة الإنسانية لم يغن عنها توسع فى مرويات معطوبة وأفكار مقلوبة، لقد تمت كلمات ربنا صدقآ وعدلآ، والحاجة ماسة إلى أصحاب قرائح يفهمون تلك الكلمات، وتتلاقى بصائرهم مع أشعة الوحى فيفهمون الأمور على وجهها الصحيح، وينقلون الأمة الإسلامية من المنحدر الذى هوت إليه إلى القمة التى أنزلت عنها طوعآ أو كرهآ... زرت فرنسا وانجلترا ووازنت بين الأقلية الإسلامية فى البلدين وأقليات أخرى، وشعرت بحسرة.. اليهود وهم سبع المسلمين هنا وهناك لهم ممثلون كبار فى المجالس التشريعية، وليس يمثل المسلمين أحد.. لليهود وجود فى عالم المال والأعمال وجمهرة المسلمين تعمل فى الحرف الدنيئة والوظائف الدنيا. إن عدد اليهود فى العالم ستة عشر مليون من الأنفس، ونحن تجاوزنا المليار. ومع ذلك فقد أحسنوا نصر دولتهم وإعلاء شعائرهم، ومازلنا فى مواضعنا يجار علينا ولا نجير! ص _139(1/123)
ومالنا أكثر من مالهم، ولكننا لا نحسن تثميرة وتقليبه فى الأسواق وأرضنا أوسع من أرضهم ولكننا لا نحسن إثارتها وتركها تهتز زرعا.. وهم الآن يذهبون إلى معابدهم بزهو، وأعداد من المسلمين تزهد فى مساجدها، وتتدحرج من النور إلى الظلمات.. وجدت أقطارا فيها عدد كثيف من الأطباء العرب وغير العرب تشرف عليهم. وتستغل جهودهم مؤسسات صهيونية! لماذا؟ الأن القوم يعملون فى صمت ويدرسون خططهم فى هدوء، ونحن فقدنا ملكة التجمع المثمر، وتفرقنا فرادى يسيّرنا الأخرون.. إن الاستعماريين ربما وضعوا أيديهم على أموالنا، ثم أخذوا ما تيسر منها وذهبوا به إلى ضحايا الجفاف يتآلفون قلوبهم ويعمرونها بعقائدهم! ونحن لا ندرى..! إن العمل الأول للدين هو تزويد القلب بالنور الذى يكشف الطريق، وبالطاقة التى لا تنضب، أما ميادين العمل فليس لها حصر، وذاك معنى الآية (أومن كان ميتا فأحييناه وجعلنا له نورا يمشي به في الناس كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها ) وليس الدين الاحتباس فى قوقعة الجزئيات المتفاوتة والخلافات الصغيرة مهما صاحب ذلك من حماس وتشنج!! وأخشى أن يغلبنا أتباع كل ملّة إذا اهتممنا بغطاء الرأس، ولم نهتم بداخل الرأس.. قال أحد الناس بعد أن طال معه الأخذ والرد: ألست تحب السلف؟ قلت: بلى وربى! لكنى أسألك أنت: ماذا تعرف عن سياسة الحكم عند السلّف؟ وسياسة المال؟ وسياسة الدعوة؟ وسياسة المجتمع؟ وسياسة الحرب والسلام؟ هذه القضايا الخمس كانت واضحة الدلالة فى نفوس أسلافنا، كانوا يعرفون بها فى أرجاء الدنيا! الحكم قوامه العدل، وآيته قول الرسول الكريم: "لا تقدس أمة لا يؤخذ لضعيفها من قويها"! ص _140(1/124)
والمال ليس متعة خاصة! إنه عافية لصاحبه وغوث للمحتاجين وأداة للجهاد فى سبيل الله! والدعوة تطواف فى الآفاق أخرج العرب من جزيرتهم للبلاغ، فما استقروا إلا حيث تزدهر تعاليم الإسلام، فماذا فعل الخلوف الذين جاءوا من بعد؟ تقوقعوا فى دورهم حتى اكتشف الصليبيون الأمريكتين واستراليا، وملأوا ثلاث قارات بالنصرانية واللغات الأخرى، ونحن قابعون فى أماكننا حتى غزينا فى عقر دارنا..! والمجتمع الإسلامى؟ كانت قاعدة الأمر والنهى روحه وشرفه وسياج حق الله والناس فى أرجائه، فماذا بعد أن خفت الصوت؟ صدق قول الرسول الكريم: "إذا رأيتم أمتى تهاب أن تقول للظالم يا ظالم فقد تودع منها" وهى الآن تحيا فى أكفانها. وسياسة الحرب والسلام؟ إنكم من طول حديثكم عن الحرب والضرب أشعرتم الناس كأننا مولعون بسفك الدماء، والإسلام إنما يخاصم الفتانين وقطاع الطرق وأعداء الشعوب! فى عصرنا هذا توجد سبعون طريقة لخدمة الإسلام، وإنعاش أمته المغمى عليها، وتثبيت أقدامها على الطريق الذي مرت به مواكب السلف. ولا تصح طريقة من هذه الطرق إلا بعد رفع أمتنا إلى مستوى الوحى، وتصحيح إنسانيتها، وفتح عينها المغلقة كى تمشى على سناه! أما إدارة رحى الحرب من أجل تقصير الثياب، وتحريم الرسم، وإطالة اللحى، فأمر لا صلة له بالسلف ولا بالخلف.. انتهى بعون الله
ص _003(1/125)
بسم الله الرحمن الرحيم مقدمة عندما كان المسلمون العالم الأول- بلغة عصرنا- كانت شمائلهم الروحية والاجتماعية تبوئهم هذه المكانة دون افتعال أو ادعاء، وكان سائر الخلق يرمقهم بمهابة وإعزاز، لأنهم كانوا الأذكى والأرشد والأقوى! من الذى منحهم هذه الخصائص وهى سجايا لم تكن فيهم معروفة؟ إنه الإسلام وحده، لقد أقبلوا عليه وأسلموا زمامهم له فجعلهم أئمة فى الأرض.. كانوا ينتمون إليه وحده، ويستمدون منه وحده، ويغالون به مغالاة مطلقة! قد يجتهدون فيخطئون! وقد ينطلقون فيتيهون! وتلك طبيعة البشر، ولكنهم تعلموا من نبيهم هذه الحكم (سددوا وقاربوا) (استقيموا ولن تحصوا) فكانت حصيلتهم الإنسانية بعد الخطأ والصواب والشرود والاستقامة أربى من غيرهم وأثقل فى موازينهم.. وليس الإسلام طلقة فارغة تحدث دويآ ولا تصيب هدفا، إنه نور فى الفكر وكمال فى النفس ونظافة فى الجسم وصلاح فى العمل ونظام يرفض الفوضى ونشاط يحارب الكسل وحياة موارة فى كل ميدان. تدبر قوله تعالى: (أومن كان ميتا فأحييناه وجعلنا له نورا يمشي به في الناس كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها). كان مسلمو الأمس- عكس مسلمى اليوم- يبعثرون فى طريقهم الأزهار والآمال، وتلتحق بهم الشعوب الأخرى لتتعلم وتستفيد.. كانت أمتنا عنوانا ضخما على حقيقة كبيرة، حقيقة اجتماعية وسياسية تعنى الحضارة الأجدى والثقافة الأوسع.. وكان جهادها يعنى أن العالم يأخذ بيد الجاهل، وأن المتقدم يأخذ بيد المتخفف..
ص _004(1/126)
ومن روح القرآن ومن الشرر المنقدح مع احتكاكه بالعقول، ومن رونق الفطرة السارى فى تعاليمه، قام العالم الإسلامى الكبيرالذى وصفناه بأنه العالم الأول، وظل يقود الإنسانية دهرا.. ثم تراكمت الأخطاء والأهواء، وشرعت القافلة المندفعة تخلد إلى الراحة والعجز، وآل المسلمون إلى ما نعلم!! وكان من الممكن أن تداوى العلل العارضة، ويستأنف المتوقفون سيرهم الراشد، لكن ذلك يستحيل أن يتم فى غيبة أولى النهى.. العودة الطبيعية أساسها أن يتذكر الناس وأن ينتظم الفوضوى وأن يقتدر العاجز وأن يهتدى الحائر.. والجهاد المنشود بذل الوسع فى إنعاش إمة وقعت فى غيبوبة طويلة.. وفاتها الكثير فى ميادين السلام والقتال على سواء.. إنه بذل قد يتطلب من الصمت أكثر مما يتطلب من الضجيج... بيد أننا نسمع صيحات جهاد آخر، جهاد أعمى لا يعرف علل أمتنا فى القديم والحديث، جهاد يفرق ولا يجمع، جهاد يسرع بالجماهير إلى الفتن، وأسرع الناس إلى الفتنة، أقلهم حياء من الفرار.. **** أعجبنى وصف سلفنا الأول بأنهم مزرعة خصبة مثمرة، والزرع يبدأ خامات رخوة متناثرة! ثم ينمو ويتكاثر ويتضام بعضه إلى بعض! ثم تشتد أعواده ويستوى على سوقه! (كزرع أخرج شطأه فآزره فاستغلظ فاستوى على سوقه يعجب الزراع). والمهم عندى فى هذا التشبيه أن الزرع يحتاج إلى عناية وسقاية وحراسة! وأنه لا ينضج ولا يؤتى أكله إلا بعد يقظة وجهد! كذلك الأمم لا تنمو مواهبها وتكتمل قواها وتقدر على أداء رسالتها إلا بعد تربية بصيرة وتدريب ذكى وصبر على المشوار الشاق. لقد تلقى نبينا الوحى. وهو تكريم إلهى صادف مكانه (الله أعلم حيث يجعل رسالته). ص _005(1/127)
لكن هذا التلقى صحبه عمل آخر له وزنه الضخم، كيف يغير بهذا الوحى أمة كبيرة ويخرجها من الظلمات إلى النور؟ كيف يجعل هذا الوحى وقودآ لانطلاقة كبيرة تقفز بها الأمة إلى الأمام؟ كيف ينفى بهذا الوحى رذائل ويثبت فضائل؟ كيف يغير طباع أمة مردت على المفاخرات والمنافرات والمشاجرات، ويجعل منها أمة متآخية تخشع فى المحاريب وتتراص فى ميادين الجهاد؟ كيف؟ كيف؟ إن هذه الأمة ستزاحم غيرها على صعيد الأرض، وهى لن تغلب وتسبق دون مؤهلات! والأمم لا تتقدم بالأمانى الجوفاء.. أسباب الغلب كثيرة، فكر دون فكر، خلق دون خلق، إنتاج دون إنتاج، شعب أنشط من شعب، بلد أنظف من بلد.. الخ.. وظيفة محمد (صلى الله عليه و سلم ) الضخمة أو معجزته الجديرة بالدرس كيف صب العرب فى قالبهم الجديد؟ كيف أمكنهم من هذه الحضارة الباذخة ؟ كيف قهر بهم "امبراطوريات " رسخت على الثرى دهرا، وامتد الباطل بها طولا وعرضا.. ما كان أحد ليغيظ الكفار، ويذل الاستعمار على هذا النحو الذى فعله صاحب الرسالة العظمى. لكنه الوحى الأعلى استضاء به إنسان، ثم أضاء به من حوله ومن بلغه! عيب المسلمين الآن أنهم لم يعرفوا القرآن ثقافة تفيق الألباب، وخبرة بالأنفس والآفاق، إنه ترديد ألفاظ وأنغام وحسب. هل ينشأ الحصاد الوفير من زرع شيطانى خرج من تلقاء نفسه، ولم يلق حظا من اهتمام وتعهد؟ إننى أتقلب بين شعوب إسلامية كثيرة، فأجد طفولة فكرية وخلقية مستغربة! طفولة لم تجد من يربّى ويقيّم العوج ويصفح الخطى. قلت وأنا أنظر للجماهير الهائمة: ترى أتغيظون الكفار؟ أم سوف يضحك منكم الكفار؟ إنكم فقراء إلى من يقدم لكم الرغيف، فكيف تستطيعون ملء القلوب بالهدى؟ **** استوقفنى شاب ساخط يقول: سمعنا رأيك فى الجهاد الإسلامى، وأنه ما يكون إلا قمعا للفتنة، وتقليما لأظافر الطغاة، وحماية للحقوق المستباحة! وما اقتنعنا بهذا الرأى، فقد سمعنا غيرك، ولعله أفضل منك، يؤكد أن الإسلام بطبيعته السليمة(1/128)
يشتبك مع الطواغيت، ويقاتل الجاهليات، فإذا أجهز على بعضها فى ميدان انتقل إلى ميدان آخر ليصطدم بها، وهكذا إلى قيام الساعة..! ص _006
ورأيت أن أحاور الفتى: فقلت له: لعل صاحب هذا الرأى يقصد الحروب الوقائية ؟ أى أننا رأينا من يستعد للهجوم علينا فبدأناه بضربة سريعة أجهضت هجومه، أو بتعبير بعض الساسة: تغدّينا به قبل أن يتعشى بنا! والحرب خدعة، وربما لا يكون فى هذا حرج! قال الفتى: دعنى من تفسيراتك، لا حرب وقائية ولا حرب دفاعية ولا شىء من هذه التعلاّت! الإسلام لا يحيا مع الطاغوت أو الجاهلية.. قلت له: ليتكم تعرفون حقيقة الإسلام وواقع الحياة، إنكم تجهلون الأمرين معا، وتتحدثون من خيال سقيم! فى هذه الأيام لا نعرف شعوبا برّح بها الظلم كما وقع للشعوب الإسلامية، وإجماع العلماء منعقد على أن الجهاد هنا حق لأنه دفاع عن الأرض والعرض والحاضر والمستقبل والتاريخ والشخصية والدين والدنيا، فلم الجدل البارد حول ما تزعمون من طبيعة عسكرية للإسلام، وأنه دين هجوم؟ وهناك أمر آخر أهمّ، أما تعرفون ميادين أخرى أخطر من ميادين الحرب الساخنة، يمكنكم فيها أن تنصروا الله ورسوله...؟ فى ميدان الإعلام- أو بلسان الشرع ميدان الدعوة- توجد مليارات من الناس سيئة العلم بالإسلام، تفترسها شبهات وخرافات حول ديننا البرىء، فهلا أسهمتم فى تبديدها؟ فى ميدان المال والأعمال تكاد الأديان الأخرى، تنفرد بزمام الحياة، وتؤثر فى تياراتها سلبا وإيجابا، فهلا تحركتم لتمتلئ الأيدى بالشغل، ولتختفى من بينكم البطالة، وليكون لكم صوت مسموع؟ فى ميدان العلم مدنيا كان أو عسكريا، لا يعرف لنا وجود، فهلا نافستم واستفدتم وأفدتم؟ فى ميدان السياحة والكشوف، نقل المتحركون عقائدهم حيث ذهبوا، فماذا حبسكم فى أماكنكم؟ فى ميدان المساعدات والخدمات الاجتماعية، اجتهد كثيرون فى تخفيف الآلام وتجفيف الدموع، وكسبوا قلوبا تحفظ الجميل، فأين أنتم؟ يؤسفنى أن أقواما مولعين(1/129)
بالثرثرة وضعوا ملصقات سيئة على عقول الشباب بعد تجميدها بطريقة مّا، ووجّهوهم للحماس الأجوف والاشتباكات القاتلة، بدل أن يشغلوهم بالعمل الصالح، الذى يفيد دينهم وأمتهم. محمد الغزالى(1/130)