جمل رفيعة
حول كمال الشريعة
لسَمَاحَةِ الشَّيْخِ العلاّمةِ
د. عَبْدِ اللَّهِ بنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بنِ جِبْرِيْنٍ
ـ سَلَّمَهُ اللَّهُ تَعَالَى ـ
« مُقدِّمة الشَّيخِ ِ عبدِ اللَّهِ بنِ عبدِ الرَّحمنِ بنِ جِبرينٍ » :
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
الحمد لله الذي خلق الإنسان من سلالة، وركب فيه مفاصله وأوصاله، وأتمّ عليه نعمته وأفضاله، أحمده وأشكره على ما أولاه من نعمه ونواله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له في ملكه وخلقه وأفعاله، فلا تصلح العبادة إلا له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، أفضل من خُص بالرسالة -صلى الله عليه وسلم- وعلى صحابته وأتباعه وآله.
أما بعد:(1/1)
فقد كتبت مقالة عن محاسن الدين الإسلامي، وكمال الشريعة وما تهدي إليه من آدابٍ وأخلاقٍ شريفة، وقد طُبعت تلك المقالة كمقدمة لكتاب (نضرة النعيم) الذي هو موسوعة كاملة في المسميات الشرعية والمصالح والأخلاق الدينية، والذي جمعه نخبة من أهل العلم، وبذلوا فيه جهدًا كبيرًا وسعيًا مشكورًا، وقد حصل به نفع كبير لمن أراد الاستفادة منه، ثم إن بعض الطلاب -بعد إطلاعه على تلك المقدمة- رغب إفرادها ونشرها وحدها ليعم الوصول إليها؛ فوافقت على ذلك رجاء الانتفاع بها، مع أن المقالة مختصرة جدًا، حيث أشير فيها إلى مجمل أهداف الشريعة ومحتويات الرسالة السماوية، وما ورد الأمر به والترغيب فيه من الصفات والسمات الرفيعة التي يشهد العقل بملاءمتها وتستحسنها الفطر والجبلات الإنسانية، وهكذا ما ورد النهي عنه وتحريمه وكراهة تقبيح فعله من الأقوال والأفعال التي تستهجنها النفوس الرفيعة وتستقبحها الفطر السليمة، وقد شرح علماء الإسلام تلك الأخلاق والآداب كما في كتاب (الآداب الشرعية) لابن مفلح، و(روضة العقلاء) لابن حبان و (أدب الدنيا والدين) للماوردي... وغيرها.
والله الموفق، وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم.
كتبه/ عبد اللَّه بن عبد الرَّحمن الجِبرين
« جمل رفيعة حول كمال الشريعة » :
الحمد لله الذي أكمل لنا الدين، وأتمّ علينا النعمة، ورضي لنا الإسلام، وأرسل الرسل إلى الخلق مبشرين ومنذرين؛ لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل، أحمده -سبحانه- وأشكره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له في إلهيته وأفعاله وأسمائه وصفاته، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله؛ الذي هدى الله به الأمة من الضلالة، وأرشدهم به من الغواية، وأخرجهم به من الظلمات إلى النور، صلى الله عليه وعلى آله وصحابته، ومن سار على نهجه، واتبع هداه وسلم تسليمًا كثيرًا.
فأما بعد:(1/2)
فإن ربنا -جل وعلا- لما أوجد هذا الكون بما فيه من عجائب المخلوقات؛ كان من بين من خلقه نوع الإنسان الذي ميزه بالعقل والإدراك، وفضله على كثير من خلقه، كما قال -تعالى- : { وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا }[ سورة الإسراء، الآية : 70 ] وكان من آثار هذا التكريم والتفضيل أن خصهم بالتكليف؛ فأمرهم بعبادته وطاعته، ونهاهم عن معصيته ومخالفته، وأرسل إليهم الرسل، وأنزل الكتب لبيان شرائعه؛ التي كلف بها عباده وشرح لهم دينه الذي فرض عليهم اعتناقه، وختم أولئك الرسل بنبينا محمد بن عبد الله الهاشمي النبي الأمي -صلى الله عليه وسلم- وجعل شريعته خاتمة الشرائع، وكان من لوازم ختم النبوة به أن عمم رسالته إلى الأحمر والأسود والعربي والعجمي، والجن والإنس، والقاصي والداني، ومن آثار ذلك أن جعل دينه صالحًا ومناسبًا في كل زمان ومكان.(1/3)
وقد ضمن الله -تعالى- لهذه الشريعة الظهور، ولأهلها التمكين والنصر والغلبة بجميع أنواعها، قال الله -تعالى- : { وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا }[ سورة النّور، الآية : 55 ] ولقد صدق الله وعده -وهو لا يخلف الميعاد- فأظهر المؤمنين الصادقين في صدر هذه الأمة، ونصرهم على أعدائهم ومكّن لهم في البلاد؛ حتى انتشر هذا الدين، وظهر وغلب على سائر الأديان، ونصر الله أهله وقواهم به، قال -تعالى- : { يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ }[ سورة المنافقون، الآية : 8 ] وقال -تعالى- : { وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ }[ سورة الصّافات، الآية : 173 ] فجند الله هم أهل شريعته ودينه، ولهم الغلبة بالسيف والسنان، وبالحجة واللسان، وذلك أن ربهم معهم يؤيدهم ويقويهم : { إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلَا غَالِبَ لَكُمْ }[ سورة آل عمران، الآية : 160 ].(1/4)
ثم إنه -تعالى- تضمّن لأهل هذه الشريعة الحياة السعيدة الطيبة، والراحة والطمأنينة، وسرور القلب ونعيمه في هذه الحياة الدنيا قبل الآخرة، فقال -تعالى- : { مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ }[ سورة النّحل، الآية : 90 ] وقال -تعالى- : { لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ }[ سورة النّحل، الآية : 41 ] والواقع أكبر دليل وشاهد على تحقق ذلك؛ فإن أهل الإسلام كلما سلمت عقائدهم، وصلحت أعمالهم وأحوالهم، وابتعدوا عن الكفر والشرك والمعاصي، وتبرءوا من الكفار وأعمالهم، وأخلصوا دينهم لله تعالى؛ فإنهم يحيون في هذه الدنيا في أعظم الراحة والسرور، ويغتبطون بدينهم، ويقتنعون بما رزقهم الله، وتطمئن قلوبهم بذكر الله، ويرضون ويسلمون لقضائه وقدره؛ ذلك أن هذه الشريعة الإسلامية فيها الهدى والرشاد، ودين الحق الذي تضمنته رسالة هذا النبي الكريم.(1/5)
قال الله -تعالى- : { هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ }[ سورة التّوبة، الآية : 33 ] والهُدَى: هو البيان والدلالة والإرشاد، بمعنى أن من اتبعه كان مهتديًا سائرًا على النهج القويم، والصراط المستقيم، الذي لا يزيغ من سلكه على حد قوله تعالى: { فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى }[ سورة طه، الآية : 123 ] وذلك يدل بوضوح أنه مشتمل على كل ما تمس إليه حاجة البشر؛ مما يتعلق بعباداتهم وقرباتهم، وبمعاملاتهم وشئون حياتهم، وذلك من وصف هذه الرسالة بالهدى ودين الحق؛ فإن الحق ضد الباطل، وهذا وصف مطابق للواقع؛ لأن كل ما جاء به هذا الرسول الكريم -عليه أفضل الصلاة والسلام- حق وصدق، بعيد كل البعد عن اللهو والباطل والفساد، بل مشتمل على كل قول يدحض أي باطل ويدمغه، كما في قول الله -تعالى- : { بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ }[ سورة الأنبياء، الآية : 18 ] وقال -تعالى- :
{ وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا }[ سورة الإسراء، الآية : 81 ] فلا بد أن هذا الدين الحق قد اشتمل على كل خير، ودل الأمة على ما هو الأصلح لهم في معاشهم ومعادهم، وأوضح لهم المنهاج القويم الذي يؤدي بمن سلكه إلى النجاة في الدنيا والآخرة.
« القرآن الكريم هدى وشفاء » :(1/6)
وقد وصف الله كتابه المنزل على هذا النبي الكريم بأنه هدى وشفاء قال الله -تعالى-: { وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ }[ سورة الإسراء، الآية : 82 ] وقال -تعالى- : { يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ}[ سورة يونس، الآية : 57 ] وهذه الأوصاف الشريفة الرفيعة تقتضي أنه مشتمل على كل خير، وأن الشريعة التي اشتمل على بيانها واضحة المنهاج، كاملة في أهدافها ومقاصدها وحاجاتها، كما تقتضي من كل المخاطبين اعتناقه وتقبل كل تعاليمه، والسير على نهجه، وشدة التمسك به، رغم ما قد يحصل من عوائق أو ضيق حال أو أذى أو تعذيب في سبيل هذه الشريعة الغراء، وذلك ما عمل به الرعيل الأول وصدر هذه الأمة؛ حتى ظفروا بالمطلوب وحصلوا على خيري الدنيا والآخرة.(1/7)
وهكذا وصف الله هذا الكتاب بما يقتضي بيانه لكل شيء، وشموله لجميع الأحكام، قال الله -تعالى- : { الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ }[ سورة يوسف، الآية : 1 ] وقال -تعالى- : { حم *وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ }[ سورة الزخرف، الآيتان : 1 ، 2 ] وقال -تعالى- : { يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ *يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ }[ سورة المائدة، الآيتان : 15 ، 16 ] في آيات كثيرة يصف الله هذا القرآن بأنه مبين؛ أي: بيِّن واضح، قد بيَّن الله فيه الهدى والرشاد، وشرح فيه المناهج والأحكام، والحلال والحرام، كما يصفه بأنه نور، أي: يضئ للسالكين أحكامه، في غاية الاستنارة والسطوع، وهذه الصفات ونحوها تفيد كماله وشمول أحكامه لكل ما تمس إليه الحاجة في العبادات والمعاملات، والعقود والعهود والعقائد والأعمال، في الحال والمآل وغير ذلك.(1/8)
وهكذا أخبر -عز وجل- عن هذا الكتاب العظيم بأنه بيان وبصائر، كما في قوله -تعالى- : { هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ }[ سورة آل عمران، الآية : 138 ] وقوله -تعالى- : { وَإِذَا لَمْ تَأْتِهِمْ بِآيَةٍ قَالُوا لَوْلَا اجْتَبَيْتَهَا قُلْ إِنَّمَا أَتَّبِعُ مَا يُوحَى إِلَيَّ مِنْ رَبِّي هَذَا بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ }[ سورة الأعراف، الآية : 203 ] وقوله: { هَذَا بَصَائِرُ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ }[ سورة الجاثية، الآية : 20 ] وكذا قوله -تعالى- : { قَدْ جَاءَكُمْ بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهَا وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ }[ سورة الأنعام، الآية : 104 ] ولا شك أن هذه الأوصاف الشريفة يفهم منها أنه بيان عام وإيضاح لحاجات الناس وأحكامهم، وبصائر تنور الطرق، وتوضح المناهج والسبل؛ ليكون الناس على بصيرة من أمرهم، وليعبدوا ربهم على نور وبرهان، وليتركوا ما كانوا فيه من الجهل العظيم والظلمات المدلهمة؛ رحمة من الله بالعباد وذكرى وموعظة لهم، وإرشادًا وتخويفًا وتحذيرًا عن التمادي في الغي، والاستمرار على ما هم فيه قبله من الضلال المبين.(1/9)
ولا شك أن هذه الأوصاف الشريفة تدل على عمومه لحاجات الأمة نصًّا أو إشارة، وتَضَمّنه لحلّ المشكلات وإيضاح المبهمات وبيان الحق للناس في أمور دينهم ودنياهم، ضد ما يقوله الأعداء والمنافقون من تقصيره وإخلاله بالأحكام، أو تخصيصه بزمان دون زمان، أو قصره على العبادات والقربات دون العقود والمعاملات، ونحو ذلك من الأقوال السخيفة الساقطة، والظنون والأباطيل الكاذبة، والتخرصات الباطلة التي يروجها الأعداء، ومن انخدع بهم للحط من قدر هذا الكتاب المبين، وللتحرر -كما زعموا- من التقيد بعلوم الشريعة، والتصرف في حياتهم حسب الميول والأهواء، وقد نسوا أو تناسوا أن هذا القرآن الذي يعترفون بأنه تنزيل من حكيم حميد، وآية معجزة من الله -تعالى- دال على صدق هذا النبي الكريم؛ قد بيّن الله -تعالى- فيه أصول الدين وأشار إلى مسائله، وقال في حقه: { وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ }[ سورة النحل، الآية : 89 ] فعموم قوله -تعالى- : { تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ } يصدق على أصول الأحكام وأسس العقائد وقواعد الدين.(1/10)
وهذا هو السر في وصف الدين بالكمال، قال الله -تعالى- : { الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا }[ سورة المائدة، الآية : 3 ] وهذه الآية نزلت في حجة الوداع في آخر حياة النبي -صلى الله عليه وسلم- فقد تضمنت أن هذا الدين قد كمله الله وأتمه، وأكمل الشرائع والأدلة وسائر الأحكام؛ فقد بيّن الله في كتابه، وعلى لسان رسوله -صلى الله عليه وسلم- ما يلزم العباد من الطاعات والقربات؛ التي هي حقوق الله عليهم؛ فبيّن لهم أولا: أنه ربهم ومالكهم، ولفت أنظارهم إلى ما بين أيديهم وما خلفهم من الآيات وعجائب المخلوقات، التي فطر الله جميع الخلق على الاعتراف بأنها صنعه وإبداعه، كقوله -عز وجل- : { أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفَاتًا }[ سورة المرسلات، الآية : 25 ] الآيات، وقوله: { أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهَادًا *وَالْجِبَالَ أَوْتَادًا *وَخَلَقْنَاكُمْ أَزْوَاجًا } الآيات [ سورة النّبأ، الآيات : 6 ، 7 ، 8 ]، وقوله: { أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا } الآيات[ سورة النّازعات، الآية : 27 ]، وقوله: { فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ إِلَى طَعَامِهِ *أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبًّا* ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا } الآيات [ سورة عبس ،الآيات : 24 ، 25 ، 26 ] وقوله: { أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ }
[ سورة ق، الآية : 6 ] ونحو ذلك.(1/11)
ثم بين لهم بعد أن أقروا بأن ما في الكون كله لله، فهو الخالق المنفرد بإيجاد المخلوقات، أنه وحده المستحق لأن يفرد بالعبادة، فلا يجعل له شريك في الدعاء أو الرجاء أو التوكل أو الخضوع والركوع والسجود، أو غيرها من أنواع العبادة، بل على الخلق أن يخصوه بكل أنواع التذلل والإخبات، وأن ينيبوا إليه ويعظموه حق التعظيم؛ لأنه ربهم، وهم ملكه وعبيده، وهو المنعم عليهم المتفضل عليهم بجزيل الإنعام، فمتى صدوا عنه وأعرضوا عن عباداته فقد كفروا بربهم، وبدلوا نعمة الله كفرًا وصرفوا لغيره خالص حقه.
لذا دعا الله العباد إلى عبادته وحده لا شريك له، وكرر الأمر بذلك وأبدى وأعاد في ذلك، وضرب لهم الأمثلة، وبكَّت أولئك المشركين، وبيّن حال ما عبدوه من دون الله وأنها مخلوقة مثلهم، ولا تملك لأنفسها شيئًا فضلا عن عابديها، كما وصف نفسه -عز وجل- بصفات الكمال ونعوت الجلال التي تتضمن إحاطته بالمخلوقات، وعلمه بالأول والآخر، وسمعه وبصره المحيط بالقاصي والداني، وكل وصف يقتضي عظمته وكبرياءه وقربه من العباد، ووصف نفسه بالأولية والبقاء والدوام، والفضل والإنعام، ونحو ذلك مما يستلزم خضوع العباد له، وإنابتهم إليه، وإخلاص الدين له.
« تضمن شرع اللَّه ورسالة رسوله بيان العبادات المجملة » :(1/12)
ولما كانت العبادة مجملة لا دخل للعقل في معرفة مفرداتها وأمثلتها؛ تضمن شرع الله ورسالة رسوله بيانها وإيضاح أنواعها، فبين لهم العبادات البدنية، كالصلاة والصوم والحج والجهاد والاعتكاف في المساجد ونحوها، وشرح لهم جميع متعلقاتها، وأركانها وشروطها، وصفاتها التي تكون بها مجزئة تبرأ بها الذمة، وتسلم من العهدة، كما بين لهم النوافل منها، ورغبهم في الإكثار من القربات التي يترتب عليها جزيل الثواب، وهكذا حثهم على العبادات القولية؛ فأمرهم بذكره ودعائه تضرعًا وخفية، وبتلاوة كتابه، وبالدعوة إلى دينه، كما أمر بأداء العبادات المالية، فأخبرهم بما يجب عليهم في أموالهم من زكاة ونذر وصدقة ونفقة، وبما لهم من الثواب إذا تبرعوا له بشيء من أموالهم فأنفقوه في سبيله.
وهكذا أوضح لهم سائر القربات التي هي حقه على العباد وبها يتحقق وصفهم بالعبودية له وحده، ولم يقتصر على هذا القدر من البيان بل تطرق إلى أمورهم المالية الأخرى، وأوضح لهم وجوه المكاسب ومداخل الأموال، وما يحلّ منها وما لا يحل، وحرم علهم الكثير من المعاملات التي تحتوي على ضرر بالغير من سُكر ورِشوة وربا وغش وسرقة ونهب وغصب، إلخ.. وأباح لهم سائر المكاسب التي لا شبهة في حلها، وهكذا تطرق إلى بقية الأحكام المالية؛ فأوضح ما يحل منها وما لا يحل.
ولم يقف البيان الشرعي عند هذا الحد، بل بين الله في رسالة رسوله -صلى الله عليه وسلم- أحكام العقود التي لها صلة بالغير من المسلمين أو غيرهم، كعقد الذمة والأمان والصلح والمعاهدات، وعقد النكاح وملك اليمين، وما يتصل بذلك للحاجة الضرورية في هذه الحياة إلى أمثال ذلك.(1/13)
وهكذا أيضا شرع الحدود والعقوبات البدنية والمالية ؛ لما لها من الآثار الملموسة في استتباب الأمن واستقرار الحياة، وذلك أن من طبع الإنسان -إلا من عصم الله- الميل إلى الشهوات والملذات -ولو محرمة- أو إلى الأشَرِ والبطر، أو إلى الظلم والاعتداء، أو إلى السلب والنهب، والسرقة والاختلاس، ونحو ذلك، فلو تُرك هؤلاء وميولهم لاختل الأمن، وعُدمت الطمأنينة في الحياة، وانتشرت الفوضى، وأصبح الضعيف نهبة للقوي، وسيطر الظلمة الطغاة على البلاد والعباد، وأعلنوا كفرهم وبغيهم وفجورهم، بدون خوف أو مبالاة.
فكان من حكمة الرب -جل وعلا- أن شرع من الزواجر والعقوبات ما يقمع أهل الشرور والمعاصي، فمن ارتد عن دينه وكفر بعد إسلامه؛ لم يقر على ذلك بل حده القتل بكل حال، إن لم يتب عن ردته، ومن تعاطى السحر أو الشعوذة أو عمل الكهانة ونحو ذلك شرع قتله قبل أن يستشري فساده في البلاد، مما ينافي حكمة الرب -تعالى- ومن بغى على إمام المسلمين وخرج عن طاعته وفارق جماعة المسلمين لزم قتاله بعد الدعوة والمراجعة وبيان أنه إن مات كذلك مات ميتة جاهلية.(1/14)
كما أمر -عز وجل- بالصلح بين الطائفتين المقتتلتين وقتال الباغية منهما حتى تفيء إلى أمر الله، وأخبر أنهم مع هذا التقاتل لم يخرجوا عن الأخوة الإيمانية، وهكذا كتب القصاص، كما في قوله -تعالى- : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى }[ سورة البقرة، الآية : 178 ] كما كتبه على أهل التوراة في النفس فما دونها، قال -تعالى- : { وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ }[ سورة المائدة، الآية : 45 ] وبين الحكمة والمصلحة في شرعية ذلك كما في قوله -تعالى- : { وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ }[ سورة البقرة، الآية : 179 ] فأخبر أن في شرعية القصاص حفظ النفوس؛ حيث إن القاتل متى تذكر أنه سيقتل أحجم وارتدع عن القتل؛ فتقل هذه الجريمة ويحصل الأمن على الحياة.(1/15)
وهذا هو السر -أيضًا- في شرعية الجزاء الرادع للمحاربين لله ورسوله الذين يسعون في الأرض فسادًا، وهم الذين يقطعون الطريق ويعترضون سابلة المسلمين في الأسفار؛ لأخذ الأموال، أو هتك الأعراض، ونيل الشهوات المحظورة شرعًا، قال الله -تعالى- : { إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ}[ سورة المائدة، الآية : 33 ] وكل ذلك للحفاظ على أرواح الأبرياء، والإبقاء على نفوسهم؛ ليهنئوا بالعيش، وتقر أعينهم في هذه الحياة، ويبعد عنهم كل ما يكدر صفو عيشهم وأمنهم واستقرارهم، فمن ثم يتفرغون للعلم والعمل والتفقه؛ فيما يلزمهم لربهم من الحقوق والعبادات، وليقوموا بالواجبات فيما بينهم.(1/16)
وهكذا أيضًا تضمنت الشريعة الإسلامية الزجر الشديد عن جرائم الذنوب وكبائر الفواحش، كالزنا وشرب الخمر وقذف الأبرياء المحصنين، وسرقة الأموال، ونحو ذلك؛ فإن جريمة الزنا فاحشة كبرى وفعلة شنعاء تستبشعها النفوس الأبية، وتنفر منها الطباع السليمة الرفيعة؛ لما فيها من انتهاك الحرمات، وإفساد الفرش، واختلاط الأنساب، وتفكك الأسر، ويسبب ميل الزوجة عن زوجها إلى الأخدان الخائنين في السر، والتقصير في حق الزوج وفي إصلاح بيتها وتربية أطفالها، ورعايتها لمن استرعاها الله من أهل بيتها، ونحو ذلك من الفساد، ومثل ذلك وأعظم، يقع في حق الزوج متى وقع في تعاطي هذه الفاحشة النكراء، فلا جرم أن كانت عقوبة الزنا في هذه الشريعة أعظم من غيرها؛ حيث شرع رجم الزاني أو الزانية مع الإحصان بالحجارة حتى الموت؛ ليتم الزجر والقمع لتلك النفوس المريضة بالشهوة البهيمية، وخص المحصن بالرجم حيث إنه قد كفر النعمة وعدل عن الحلال وتعاطى الحرام، برغم ما فيه من إفساد فرش الناس وتعرض زوجته للعهر، والميل إلى فعل هذه الفاحشة مع غيره، ونحو ذلك من المفاسد، بخلاف غير المحصن فإن عقوبته الجلد والتغريب، وهي دون الرجم بالحجارة؛ لخفة ذنبه بالنسبة للمحصن، لقوة الغلمة والشهوة التي قد تغلبه فيضعف إيمانه وتصديقه بالوعيد عن قمعها، فتعرض نفسه الأمارة بالسوء فيقع في هذه الجريمة.(1/17)
وهكذا أيضًا عاقب الذين يرمون المحصنات عقوبة شديدة في الدنيا والآخرة، فقال -عز وجل- : { وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ }[ سورة النور، الآية : 4 ] وهذه عقوبات عاجلة، وقال -تعالى- عن عقوبتهم الآجلة : { إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ } الآيات
[ سورة النور، الآية : 23 ]، ذلك أن مقترفي هذا الفعل والذنب الكبير يقدحون في الأنساب، وينتهكون الأعراض البريئة، وينشرون لأولئك الأبرياء سمعة سيئة؛ تقشعر منها الجلود، وتنكس منها الرؤوس حياء وخجلا، مع بعدهم عن تلك الجرائم المزعومة ونزاهتهم عن اقترافها؛ فكانت عقوبة من قذفهم بها الجلد ورد الشهادة، والحكم عليهم بالفسق الذي هو الخروج عن العدالة والطاعة مع استحقاقهم للعن وهو الطرد والإبعاد عن رحمة الله، وللعذاب العظيم في الدار الآخرة، ونحو ذلك مما يكون زاجرًا لهم عن الكذب والافتراء على المؤمنين والاستهتار، والهتك للأعراض؛ فيأمن الناس ويطمئنون في حياتهم، وتتم بينهم المودة والإخاء، وتزول العداوة والشحناء؛ مما يكون سببًا للتقاطع والتدابر والتهاجر الذي جاء الشرع بالنهي عنه وتحريمه؛ لما يترتب عليه من المفاسد العظيمة من اختلال الأمن، ووقوع الفتن، وتسلط الأعداء ونحو ذلك.(1/18)
وكما شرع -تعالى- عقوبةً وحدًّا مانعًا لمن تعاطى شرب المسكرات بعد أن أوضح تحريم الخمر وما فيها من المفاسد، فقرنها بالأنصاب وهي الأصنام، وأخبر بأنها رجس، أي: نجس وقذر حسي أو معنوي، وأنها من عمل الشيطان، فهو الذي يزينها ويدعو إلى الوقوع فيها، ويوقع بسببها بين المسلمين العداوة والبغضاء، ويصدهم بتعاطيها عن ذكر الله وعن الصلاة، رغم ما فيها من إزالة العقل الذي هو ميزة الإنسان وفضيلته، فبزواله يكون دون البهائم والسفهاء، ويتصرف تصرف المجانين والمعتوهين، فيهلك الحرث والنسل، ويضر بالأنفس والأموال، والأهل والأولاد، وما إلى ذلك من المفاسد الكبرى التي تنتج عن تعاطي المسكرات والمخدرات، ولا يقتصر ضررها على الجاني وحده؛ بل يلحق بالمجتمع أجمع إلا ما شاء الله، فلا جَرَم أن جُرْمه جاء في السنة جلد شارب الخمر بما يزجره، كأربعين جلدة، أو ثمانين إن لم ينزجر بالأربعين، بل ثبت في السنة الأمر بقتله إذا أدمن ذلك ولم ينزجر بتكرار الجلد.
ففي هذه العقوبات والوعيد الشديد عليها ما يكفي في الكف عنها، وما يحفظ للعقول سلامتها، ويبقي -بذلك- على سلامة التفكير، مما يكفل للأمة أمنها ورخاءها، وسلامتها من الأضرار والشرور الوخيمة، والإبقاء على عقول البشر؛ لتصرف تفكيرها فيما يعود عليها وعلى غيرها بكامل الخير والمصلحة، وذلك أكبر مثال على كمال هذه الشريعة، وتضمنها لمصالح العباد.(1/19)
وهكذا أيضا شرع عقوبة السارق بقوله -تعالى- : { وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ }[ سورة المائدة، الآية : 38 ] ذلك أن السارق يهتك الأستار والحروز، ويكسر الأقفال ويتسلق الحيطان، ويصعب التحصن والتحرز من شره وضرره، فكانت عقوبته قطع يده، تلك اليد الآثمة المتعدية الظالمة، حيث إن جنايته تتوقف على العمل باليد غالبًا؛ فكان بقاء هذا العضو المعتدي مما ينشر الوباء ويخل بالأمن والاطمئنان على الأموال المحترمة التي لها وقع في النفوس، فأخذها عدوانا وظلما مما يوقع الخوف والقلق في القلوب، فشرع إزالة هذا العضو الذي ينشر الوباء والمرض العضال بين الناس.
وكما اشتمل الشرع على هذه العقوبات والزواجر التي يحصل بتطبيقها كمال الأمن ورخاء العيش؛ فقد شرع عقوبات أخرى غير مقدرة بعدد أو نوع، تسمى تعزيرا وتأديبا، يعاقب بها من اقترف ذنبا أو ارتكب كبيرة لا حد فيها، مما يتعلق بالأديان أو الأبدان أو الأموال، وتتفاوت تلك العقوبات بتفاوت الجرائم والمجرمين، وكل هذه العقوبات -مقدرة أو غير مقدرة- تتضح فيها حكمة الشرع الشريف، ويتضح لكل ذي قلب سليم أنه دين سماوي جاء بتحصيل المصالح وتكميلها، وإلغاء المفاسد وتقليلها.
« الحثّ على الاتصاف بالسّمات الشّريفة » :(1/20)
كما أنه أيضا تعرض لشرح الآداب والأخلاق الرفيعة وحث على الاتصاف بالسمات الشريفة التي فطرت القلوب على استحسانها، وحب من تخلق بها، والنفور من أضدادها ومقت أهلها وبغضهم والبعد عنهم، فإن الله -تعالى- فطر الخلق على استحسان السمات الطيبة التي وجدت أو بعضها قبل الإسلام، كأغلب خصال الفطرة التي ذكرها النبي -صلى الله عليه وسلم- بقوله: « عشر من الفطرة: قص الشارب، وإعفاء اللحية، والسواك، واستنشاق الماء، وقص الأظافر، وغسل البراجم (1) ونتف الإبط، وحلق العانة وانتقاص الماء » (2) إلخ وفي الباب أحاديث كثيرة بهذا المعنى، وهذه الخصال يستسيغها العقل السليم، ويشهد بملاءمتها له؛ لذلك يحافظ العقلاء على تطبيقها، وإنما يخالفها من انتكست فطرته فاستقبح الحسن واستلذ القبيح، فلا عبرة بهذا الضرب من الناس، ولو كثروا أو زعموا المعرفة والإدراك، فإنها لا تعمى الأبصار، ولكن تعمى القلوب التي في الصدور.
__________
(1) البراجم: جمع (بَرْجُمَة)، وهي مفاصل الأصابع أو العظام الصغار في اليد والرجل.
(2) أخرجه مسلم (3 - 143) في كتاب الطهارة، باب خصال الفطرة، قال حدثنا قتيبة بن سعيد وأبو بكر بن أبي شيبة وزهير بن حرب، قالوا: حدثنا وكيع، عن زكريا بن أبي زائدة، عن مصعب بن شيبة، عن عبد الله بن الزبير، عن عائشة، قالت: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: عشر من الفطرة: قص الشارب، وإعفاء اللحية، والسواك، واستنشاق الماء، وقص الأظافر، وغسل البراجم، ونتف الإبط، وحلق العانة، وانتقاص الماء.
قال زكريا: قال مصعب: ونسيت العاشرة، إلا أن تكون المضمضة.
زاد قتيبة: قال وكيع: انتقاص الماء يعني: الاستنجاء.
وأخرجه أبو داود (53) في كتاب: الطهارة باب السواك من الفطرة، والترمذي (2757) في كتاب الأدب، باب: ما جاء في تقليم الأظفار، والنسائي (5055 - 5056 - 5057) ي كتاب الزينة، باب: الفطرة، وأحمد (5051).(1/21)
وبالجملة فإن احتواء الشريعة الإسلامية على هذه الخصال يفيد كمالها وانتظامها لكل ما يستحسن عقلا وشرعا، ولكل ما تتوقف عليه الحياة الطيبة في هذه الدار.
« الشّريعة تعرضت لإيضاح الأمور العادية » :
كما أن الشريعة لم تتوقف على تبيين العبادات والقربات كما قد يظن ذلك الكثير من الناس؛ بل تعرضت لإيضاح الأمور العادية، وأوضحت الصفة الكاملة لاستعمالها، ففي باب الأكل تعرض الشرع لبيان الهيئة المحمودة في ذلك؛ فنهى عن الاتكاء حال الأكل كفعل من يريد الامتلاء من الطعام، وشرع الأكل باليمين تفاؤلا باليمن والبركة، وبالغ في النهي عن الأكل بالشمال تشبهًا بالشيطان وأعوانه، كما جاء بالأكل بثلاثة أصابع إلا لضرورة، فإن الأكل باليد كلها قد يوجب ترادف الطعام على مجراه، فربما أفسده وسبب الموت فجأة، وذلك من باب رعاية نعم الله وإحسان جوارها، وهكذا شرع أن يأكل كل فرد مما يليه، ونهى عن الأكل من وسط الصحفة، وعلل ذلك بأن البركة تنزل وسط الطعام، كما أمر بالاجتماع على الطعام، وذكر اسم الله عليه، وحمده بعد الشبع، ونحو ذلك مما فيه تذكير بعظيم منة الله في تيسيره لأسباب ذلك، ومما يسبب مع الصدق حلول البركة فيه حالا ومآلا.
وهكذا جاء بآداب الشُّرب المتضمنة لجمِّ فوائده والمستحسنة عقلا وشرعا، فنهى عن التنفس في الشراب والنفخ في الطعام، كراهة أن يصحبه شيء من الريق فيقذره على غيره، وأمر بالتنفس ثلاثا خارج الإناء، وبمص الشرب دون الْعَبِّ (1) بقوة؛ وعلل ذلك بأنه أهنأ وأبرأ.
وتعرض للأواني التي لا يباح استعمالها في الأكل والشرب، كآنية الذهب والفضة وتوعد متعاطيها أشد الوعيد؛ لما فيها من الفخر والخيلاء والإسراف، وكسر قلوب الفقراء.
__________
(1) العبُّ: عَبَّ الماء إذا شربه أو كرعه بلا تنفس.(1/22)
وهكذا شرع للأمة آداب التخلي (1) وإن كانت مما يحتشم من ذكره، ومن الأشياء التي تلزم الإنسان بحكم العادة، ولكن لها آداب وأحكام تدخل بها في عموم الشريعة الإسلامية.
وكذا آداب اللبس والخلع، فجاء باستحباب لبس البياض من الثياب، وأباح غيرها إلا ما استثنى، وأحب لباس القُمُص، ولبس غيره من الأُزُر والأردية والسراويلات ونحوها، ونهى عن الخيلاء والإسبال في الثياب وبالغ في الوعيد على أهل الخيلاء والترفع على الناس، وأحب أن يرى الله آثار نعمته على عبده في اللباس ونحوه، ونهى عن المشي في نعل واحدة، وحث على التيامن في لباس الثوب والنعل ونحو ذلك، وحرم أنواعا من اللباس على الرجال كالحرير والذهب؛ لما فيها من الإسراف والتبذير، وتعجل الطيبات في الدنيا.
وكذلك تدخل الشرع في آداب النوم والجلوس والمشي والسفر، وفصل أحكام ذلك، وأدخل الجميع في جملة الشريعة الإسلامية.
« الحثّ والتّرغيب في الأخلاق الشّريفة » :
هذا وإن مما يدل على كمال هذه الشريعة؛ اشتمالها على الحث والترغيب في الأخلاق الشريفة والآداب الرفيعة، والتنفير عن أضدادها، فقد رَغَّب في الصدق مع الله ومع عباده؛ فهو السمة العالية التي يحبها كل عاقل من مسلم وكافر، ويثق الجمهور بأهل الصدق، ويحسنون معاملتهم ومعاشرتهم، كما جاء بالزجر عن الكذب، وجعله من سمات أهل النفاق الذين يقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم.
وكذا أمر بالصبر على أداء العبادات -وإن ثقلت على بعض النفوس- وأفاد أن الأجر على قدر النَّصَب، ونهى عن إعطاء النفس ما تميل إليه -بمجرد طبعها- من الإخلاد إلى الراحة والكسل، وحثَّ على قمع النفوس عن تعاطي المحرمات شرعا، وبيَّن أن صبر النفس عن ميلها إليها فيه ثواب كبير لمن جاهد نفسه، وصبر عن تناول ما حرم ربه عليه.
__________
(1) أي الآداب المتعلقة بقضاء الحاجة من التبول ونحوه.(1/23)
كما أن ربنا -تعالى- جعلنا في هذه الدار عُرضة للأخطار والمصائب ابتلاء منه واختبارا؛ ليظهر من يرضى ويُسَلِّم ويصبر على أقدار الله ممن يجزع وتضعف نفسه عن تحمل الصبر والاحتساب، فوعد الصابرين بالأجر الكبير والثواب العظيم، بخلاف من جزع ودعا بالويل والثبور فإنه -مع فوات أجر المصيبة- لا يفيده جزعه ولا يرد فائتا.
وكذا جاء الإسلام أيضا بإباحة مُتع الدنيا مع الاقتصاد في ذلك، مما يدل على كماله، وتدخله في شئون الناس ومعاملاتهم لبيان الهيئة الرفيعة من أنواع اكتساب المال وإنفاقه فحث على الحِرَف والصناعات واكتساب المال من وجوهه المباحة؛ للتعفف عن سؤال الناس، وإظهار الفاقة أمامهم مما يضعف النفس ويسقط الهيبة.
كما حث على القناعة بما رزق الله العبدَ من ضيق أو سعة، وأخبر بأن الغِنَى غِنَى النفس، وأن من أخذ المال بسخاوة نفس بورك له فيه، ومن أخذ بإشراف نفس لم يبارك له فيه، وكان كالذي يأكل ولا يشبع، وأوضح أن اليد العليا خير من اليد السفلى، ونحو ذلك من الشيم الرفيعة، التي تبعث في النفوس الرضى عن الله بما وهبه للعبد من سعة أو ضيق، ويكون بما في يد الله أوثق مما في يده، فلا يستكثر ما قدمه لأخيه وأعطاه لفقير أو محتاج، أو وهبه لابن سبيل، أو في سبيل الله؛ حيث أيقن بأن ربه يحب منه ذلك، وأنه يخلفه له بخير منه عاجلا أو آجلا، فهان عليه ما بذله لله من صدقة، وصلة رحم، وقَرى ضيف، ووقفٍ على جهة بر، ونحو ذلك من صفات أهل الكرم والسخاء، والجود بما في اليد؛ ثقة بالله وطواعية له، بل إنه قد يواسي بما في يده، أو يؤثر على نفسه، كما وصف الله -تعالى- حال الذين:
{ وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ }[ سورة الحشر، الآية : 9 ].(1/24)
ولكنه جاء مع ذلك بالحث على الاقتصاد، وشدد في ذم المسرفين وأهل التبذير، وإفساد المال وإنفاقه في الباطل، أو فيما لا فائدة فيه، وأخبر بأن المبذرين إخوان الشياطين، والمراد البذل في الحرام، أو ما هو ضار قادح في الدين، أو التعدي في الإنفاق في الشهوات والملذات فوق الحاجة مما يتضمن الإتلاف للأموال في غير طريقها.
« حسن المعاملة مع الأفراد والجماعات » :
وهكذا جاء الشرع الشريف مرغِّبا في حسن المعاملة مع الأفراد والجماعات ؛ فحث على اختيار الرفقاء الصالحين ونفّر من قرناء السوء، ورغّب في زيارة الإخوان والأنس بهم، وأخبر بأن المؤمن الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم أفضل من صاحب العزلة؛ فإن الأول ينفع الناس ويرشدهم، ويتحمل ما ناله في ذات الله من إساءة وضرر، كما أن القصد الأعلى من هذا الاختلاط نصحهم عموما، وهدايتهم إلى سبل السلام، ودلالتهم على كل ما يعود عليهم بمصلحة في دينهم ودنياهم، وإعانتهم على البر والتقوى، وأمرهم بكل معروف ونهيهم عن المنكرات شرعًا وعرفًا.
وهكذا جاءت الشريعة بالشفقة على الخلق ورحمتهم؛ وأنهم كالجسد الواحد إذا اشتكى عينه اشتكى كله، وإذا اشتكى رأسه اشتكى كله، وشُبِّهُوا بالبنيان يشد بعضه بعضا، وكان من آثار ذلك قضاء حوائجهم، وتفريج كرباتهم، وكل ما فيه جلب الراحة والطمأنينة لهم، مع الحرص على إزالة الوهن، والتقاطع الذي يحصل بينهم؛ لتصفو القلوب وتحصل لهم راحة النفس في هذه الحياة.
وكذا على بِرّ مَن له زيادة حق لقرابة أو جوار، فأمر ببر الوالدين، وصلة الأرحام، وحسن الجوار، وصدق المؤاخاة، والشفقة على الأولاد، وما يتبع هذا البر والإحسان من نفقة ومواساة، وإيثار وطاعة وخدمة بقدر المستطاع.
كما حذر أشد التحذير من الإساءة إلى الوالدين وعصيانهما، وقطيعة الرحم، بل أخبر بأن من وصل الرحم وصله الله، ومن قطعها قطعه الله.(1/25)
كما أمر الإنسان بالصبر على ما يناله من جفوة أقاربه وإساءتهم، وأخبر بأن حق الأبوين لا يسقط ببقائهما على الكفر، فأمر بصحبتهما بالمعروف، ولكنه نهى عن التنزل على رغبتهما في الرجوع إلى الشرك؛ فإنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق، وجعل العقوق في المرتبة التي تلي الشرك بالله، وألحق به من يتسبب إلى جلب الشتم والمسبة لأبويه، وأخبر بأن الرحمة لا تنزل على قوم فيهم قاطع رحم، وحذر من التهاجر بين المسلمين لأجل الحظوظ الدنيوية؛ لما ينتج عنه من تفرق الكلمة واختلال الأمن وفقدان الثقة بين المسلمين.
ولما كان هناك -غالبا- أفراد في المجتمع يستحقون زيادة عطف وإحسان لأسباب خاصة، فقد جاءت الشريعة الإسلامية بالحث على برهم ورحمتهم والشفقة عليهم، وحثِّهم أنفُسَهم على الرضا والاستسلام بما قدره الله لهم، وما أصابهم من نقص وعاهة، كما ورد في الحديث: « إن أهل الجنة كل ضعيف متضعف » (1)
__________
(1) أخرجه البخاري (4537) في كتاب: تفسير القرآن، قال: حدثنا أبو نعيم، حدثنا سفيان، عن معبد بن خالد، قال: سمعت حارثة بن وهب الخزاعي، قال: سمعت النبي -صلى الله عليه وسلم- يقول: ألا أخبركم بأهل الجنة، كل ضعيف متضعف لو أقسم على الله لأبره، ألا أخبركم بأهل النار كل عتل جوَّاظٍ مستكبر.
وأخرجه مسلم (5092 - 5093) كتاب: الجنة وصفة نعيمها وأهلها، والترمذي (2530) كتاب صفة جهنم عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وابن ماجه (4106) كتاب: الزهد، وأحمد (17980) أول مسند الكوفيين.(1/26)
وأن عامة من دخل الجنة هم المساكين (1) ، وقال -صلى الله عليه وسلم- : « رُبَّ أشعث أغبر ذي طمرين، مدفوع بالأبواب، لو أقسم على الله لأبره » (2) .
وحث على كفالة اليتيم ورعايته والرفق به، وعلى مراعاة المساكين والمستضعفين، والتفطن لأحوالهم والصدقة عليهم، وتخفيف ما يجدونه من ضيق وشدة وهم وحزن، وجعل الجزاء من جنس العمل في ذلك، ففي الحديث: « من كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته، ومن فرج عن مسلم كربة من كرب الدنيا فرج الله عنه كربة من كرب يوم القيامة، ومن ستر مسلما ستره الله يوم القيامة » (3)
__________
(1) كما رواه مسلم في صفة الجنة باب النار يدخلها الجبارون عن أبي سعيد، ورواه البخاري ومسلم في الرقاق عن أسامة بن زيد.
(2) أخرجه مسلم (5094)، و(4754)، كتاب: البر والصلة، باب: من استعان بالضعفاء، قال: حدثني سويد بن سعيد، حدثني حفص بن ميسرة، عن العلاء بن عبد الرحمن، عن أبيه، عن أبي هريرة -رضي الله عنه- عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: رب أشعث مدفوع بالأبواب لو أقسم على الله لأبره.
وأخرجه البخاري (2631) كتاب: الجهاد والسير، باب: من استعان بالضعفاء والصالحين في الحرب، وأبو داود (2227) كتاب: الجهاد، والنسائي (127) كتاب: الجهاد، وأحمد في مسند العشرة المبشرين بالجنة، برقم (1411)، ومدح الأنصار برقم (203738).
(3) أخرجه البخاري (2262) كتاب: المظالم والغصب، قال: حدثنا يحيى بن بكير، حدثنا الليث عن عُقيل، عن ابن شهاب، أن سالما أخبره، أن عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال:....... وذكر الحديث.
وأخرجه مسلم (4677) كتاب: البر والصلة والآداب، والترمذي (1346) كتاب: الحدود عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأبو داود (4248) كتاب: الأدب.(1/27)
ونهى الله نبيه -صلى الله عليه وسلم- عن طرد المستضعفين من مجلسه، وأمره بالصبر معهم في قوله: { وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ }[ سورة الكهف، الآية : 28 ] ولما رأى بعض الصحابة -رضوان الله عليهم- أن له فضلا على من دونه قال له النبي -صلى الله عليه وسلم- : « هل تنصرون وترزقون إلا بضعفائكم » (1) وكل هذه الخصال من شعائر الإسلام.
« الحثّ على الشّيم والأخلاق النّبيلة » :
__________
(1) أخرجه البخاري (2681) كتاب: الجهاد والسير، باب من استعان بالضعفاء والصالحين في الحرب. قال: حدثنا سليمان بن حرب، حدثنا محمد بن طلحة، عن مصعب بن سعد، قال: رأى سعد -رضي الله عنه- أن له فضلا على من دونه، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: هل تنصرون وترزقون إلا بضعفائكم .
وأخرجه النسائي (3127) كتاب: الجهاد، وأحمد (1411) مسند العشرة المبشرين بالجنة.(1/28)
ومما يدل على كمال الإسلام، واشتماله على كل مصلحة وخير ونفع للأفراد والجماعات؛ أن الشرع الشريف حث على الشيم والأخلاق النبيلة التي تعترف العقول بمعرفتها، وتشهد بحسنها وحسن آثارها، وما لها من الأثر الفعال في النفوس، مما يوافق مقصد الشريعة، كما أمر بالتواضع ولين الجانب، سيّما مع الضعفاء والخاملين والمساكين، ونهى عن ضد ذلك من التكبر والتجبر، واحتقار المسلمين وازدراءهم، ومن الإعجاب بالنفس والترفع على الخلق، وفسّر الكبر بأنه بطر الحق وغمط الناس، فإن الناس سواسية كأسنان المشط، لا فضل لعربي على عجمي إلا بالتقوى، كما في قوله -تعالى- : { إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ } [ سورة الحجرات، الآية : 13 ] وكما في الحديث: « إن الله أوحى إليَّ أن تواضعوا حتى لا يفخر أحد على أحد ولا يبغي أحد على أحد » (1)
__________
(1) أخرجه مسلم (5109) كتاب: الجنة وصفة نعيمها وأهلها، باب: الصفات التي يعرف بها أهل الجنة وأهل النار، قال: حدثني أبو عمار حسين بن حريث، حدثنا الفضل بن موسى، عن الحسين، عن مطر، حدثنا قتادة، عن مطرف بن عبد الله الشخير، عن عياض بن حمار -أخي بني مجاشح- قال: قام فينا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ذات يوم خطيبا فقال: إن الله أ مرني......
وأخرجه أبو داود (4250) كتاب: الأدب، وابن ماجه (4169) كتاب: الزهد، وأحمد مسند الشاميين برقم (168317)، وأول مسند الكوفيين برقم (17616).(1/29)
بل أخبر بأن التواضع لعباد الله سبب للرفعة وعلو الرتبة عند الله وعند الناس، وقال: « حق على الله أن لا يرتفع شيء من الدنيا إلا وضعه » (1) فهذه إشارة إلى كمال الشريعة، وإلى ما اشتملت عليه من الخصال الحميدة، والأخلاق والآداب الرفيعة، التي تسمو بمن تخلَّق بها إلى أرفع المنازل، وما حذرت منه هذه الشريعة من الأخلاق الدنيئة الذميمة، التي تدنس الأعراض، وتوقع في العار والشنار، ولقد أكثر العلماء قديما وحديثا من الكتابة حول خصال الإيمان والدين التي تجب أو تستحب، وسموها آدابًا شرعية، وخصالا دينية، وأدخلوا في ذلك العادات القديمة التي أقرها الإسلام، أو أثنى على فعلها، كالجود والكرم، والصدق والوفاء، والبر والصلة، والسلام والتحية، والتراحم والتعاطف، والتزاور ونحوها، وقد توسع في ذلك ابن عقيل الحنبلي في كتابه المسمى بالفنون، حيث جمع فيه ما أدركه من فنون العلم بجميع أنواعه، ولكنه لم يوجد كاملا، وقد ألف الكثير من الأئمة في الأخلاق والآداب، وشعب الإيمان، وهكذا كتبوا في الخصال المذمومة وكبائر الذنوب وأنواع المعاصي والمحرمات، وكل من ألف في ذلك فإنما كتب ما يناسبه، ولكل مجتهد نصيب.
__________
(1) أخرجه البخاري (2660) كتاب: الجهاد والسير، قال: حدثنا مالك بن إسماعيل، حدثنا زهير، عن حميد، عن أنس -رضي الله عنه- قال: كان للنبي -صلى الله عليه وسلم- ناقة تسمى العضباء لا تسبق، قال: حميد: أو لا تكاد تسبق، فجاء أعرابي على قعود فسبقها، فشق ذلك على المسلمين حتى عرفه فقال: حق على الله أن لا يرتفع شيء من الدنيا إلا وضعه.
وأخرجه أبو داود (4169) كتاب: الأدب، والنسائي (3532) كتاب: الخيل.(1/30)
ولا شك أن شريعة الإسلام قد تضمنت كل ما تمس إليه الحاجة البشرية، وأن جميع الخصال التي تهدف إليها يعرف عند التأمل ملاءمتها ومناسبتها؛ ولذلك يحتاج إلى الاستقصاء في جمع أنواع العبادة، وما ورد الأمر به من القربات، وما نهى عنه مما يخالف أهداف تلك الخصال، وذكر أدلتها من الكتاب والسنة وأقوال سلف الأمة، مع ذكر معانيها ونتائجها، مما يفيد المسلم وطالب الحق علمًا وسعة إطلاع.
« الخاتمة » :
وبعد أن ذكرنا ما تقدم من تعريف إجمالي فإننا نتواصى مع كل مسلم مؤمن أن يطبق تعاليم الشريعة فيما بينه وبين ربه -تعالى- بإخلاص العبادة لله وحده، وبطاعته واتباع ما جاء في القرآن وما ثبت عن النبي -صلى الله عليه وسلم- من العبادات، فيتمثل الأوامر ويبتعد عن الزواجر، وهكذا فيما بينه وبين عباد الله -تعالى- من قريب وبعيد، وذلك بالبر والصلة، والنصح والصدق، والوفاء والإخاء، والمودة والإخلاص وصفاء النفس، والأمر بالخير والترغيب فيه، والزجر عن الشر والتحذير منه، ونحو ذلك مما جاءت به الشريعة السمحاء، وهكذا يُكب على تعلم العلم الصحيح من مصادره التي هي القرآن الكريم والسنة النبوية وكلام السلف الصالح الذين هم ينابيع العلم، فهم أعلام الهدى ومصابيح الدجى، وقد نفع الله -تعالى- بعلومهم ورزقهم الفهم في الشريعة والعلم بأهدافها، وقد وفق الله -تعالى- علماء الأمة وأئمتها للاحتفاظ بمصادر العلم وتدوينها حتى ورثها من بعدهم، فأصبحت مرجعا للأمة بعدهم، فنوصي بالانكباب على تلك المصادر، والاهتمام بها حفظا وتعقلا وعملا وتطبيقا، فبذلك ينفع الله -تعالى- من أراد به خيرا.
والله الموفق والهادي إلى سواء السبيل، وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم.
كتبه/ عبد اللَّه بن عبد الرَّحمن الجِبرين(1/31)