التمهيد
لدراسةالشريعةالإسلامية
[ المدخل لدراسة الشريعة ]
والمسمّى
جمع الجذاذ في جهدي التلميذ والأستاذ
الدكتور
محمد محروس المدرس الأعظمي
1422 هـ 2001م
الإهداء
إلى مشايخي الكرام ، والعلماء الأعلام ،
الذين تشرفت بالتلّقي والأخذ عنهم .. في :
العراق ، ومصر ، والحجاز ، والهند ، والشام .
وإلى … مؤسس المجد العلمي لأجدادنا
آل العلقبند
العلاَّمة الشيخ
مصطفى العلقبند الأعظمي الطائي
مفتي الحنفية ببغداد المحمية
ولأولاده ، وأحفاده ، من العلماء الأمجاد الأعلام
الذين تنوّر بهم الزمان في بغداد دار السلام ..
إليهم جميعا … أُهدي كتابي هذا .
المقدمة
الحمد لله الذي مهدَّ لنا درب الهداية ، وأبعدنا عن الغواية ، ودعانا إلى التعلم والتعليم ، وأمرنا بإتيان البيوت من أبوابها وهو الخبير العليم .
والصلاة والسلام على من خوطب بإقرأ في أول خطاب ، وهو خطابٌ لأولي الألباب ، والصلاة والسلام على الآل والأصحاب ، وسدنة العلوم في كلِّ فنٍّ وباب .
وبعد ~~
فقد يسرَّ الله تعالى – بفضله – تدريس [ المدخل لدراسة الشريعة الإسلامية ] لسنوات عديدةٍ في كليَّات الحقوق والقانون في العراق ، وكنت لا أتَّفق في كثيرٍ من الأحيان مع منهج الكتب المتعددة التي دَّرستها طوال عِقدٍ من السنين ، ولذلك أعددت مذكَّراتٍ كنت ألقيها على الطلاب فيدونون الملاحظات عنِّي ، وقد رأيت أن أجعل من تلك المذكرات - المعدَّة إعداداً سريعاً – كتاباً ، ليعمَّ نفعه ، بعد أن عاودت النظر فيه بالتنقيح والإضافة والحذف بما يتناسب وذلك التعميم .
وقد رأيت أن أُسمِّي الكتاب [ بالتمهيد لدراسة الشريعة ] لسببين :
أولهما - موضوعيٌّ ، وهو أن التمهيد لفظٌ أليق بهذا العلم – كما سنرى –ثانيهما – ليتميَّز الكتاب عن أمثاله ، فقد ألِّف في هذا العلم عددٌ غير قليل من الكتب الموسومة بذات الاسم ، وحين الإحالة من المقتبسين يختلط الأمر اختلاطاً غير مبرر .(1/1)
وقد وطأت للموضوع بأمورٍ رأيتها مهمةً ، وقد لا يتطرق إليها الكثير ممن كتب ، متَّخذاً من [ المنهجية الإسلامية ] نبراساً في هذا المجال .
وجرى التبويب بما رأيته أنفع للقارئ ، ولا أراني بحاجةٍ لإعادة الفهرست فهو في متناول اليد في آخر الكتاب .
ولما كان من جملة ما درست في دبلوم الشريعة الإسلامية في كليَّة الحقوق بجامعة القاهرة سنة 1967 م ، مذكَّراتٍ مطبوعةٍ على الآلة الكاتبة لشيخي واستاذي العلاَّمة المرحوم الشيخ محمد أحمد فرج السنهوري الحنفي وزير الأوقاف الأسبق في مصر .. في تأريخ الفقه ، فإن مباحثه برمتها تدخل في موضوع كتابنا ، ولا أراني سآتي بأحسن ممَّا جاء به في الموضوع ، فرأيت .. وفاءً مني لواحدٍ من أساتذتي ، وتعميماً لعلمٍ غزير لا ينبغي أن يبقى حبيساً ، رأيت أن أنقل ما يتعلق بهذا الجانب برمته ، وأحافظ على نسبته ، وأحفظه من سرقته.. ولذلك أسميت الكتاب :
[ التمهيد لدراسة الشريعة الإسلامية ، أو جمع الجذاذ في جهدي التلميذ والأستاذ ] ، وعسى أن يكون هذا سنةً للتالين ، في حفظ حقوق السابقين ، لا أن يكون ديدنهم دون الإشارة ، وكلُّ جهدهم هو بعض التحوير في العبارة !! .
وإني أدعو الناظر فيه إلى إصلاح الخلل والخطل .. فإن كان فهو مني ، وإن وجد صواباً فذلك توفيق الله عزَّ وجلَّ ورحمته ، { يختص برحمته من يشاء والله ذو الفضل العظيم }(1)، وهو القائل :{ .. وفوق كلِّ علمٍ عليم } .
وأسأل الله عزَّ وجلَّ أن يمهدَّ لي السبيل لإتمام ما بدأت ، وأن يجعل النفع فيما كتبت ، وأن يجعل جلَّ وعلا خالصاً لوجهه ما بذلت ، وأن يغفر لمشايخنا وأساتيذنا الفخام .. وهو المعين في البدء والختام ، وهو الكفيل بتوالي الإنعام .
والحمد لله ربِّ العالمين ~~ ِ…
الدكتور
محمد محروس المدرس الأعظمي
العراق / الأعظمية / محلة 314 - زقاق 88 – دار 41 .
هاتف المنزل / 4225253 و 4228669 .
__________
(1) آل عمران / 74 .(1/2)
هاتف المدرسة الوفائية الدينية / 8879723 .
توطئة
يؤكد الباحثون الإسلاميون ، وخاصَّةً علماء الميزان [ المنطق ] ، على أن يتضمنَّ الكلام في كلِّ علمٍ توطئةً تتضمن الكلام على ما أسموه [ بالرؤوس الثمانية ] ، وهي : تعريف العلم ، موضوعه ، واضعه ، استمداده ، غايته ، فائدته ، ثمرته ، الحاجة إليه . وقد يضيف آخرون رأسين آخرين هما : نسبته إلى العلوم ، حكمه .. فتكون عشرة .
أولاً - تعريف العلم / جرت العادة على تعريف المصطلحات قبل الدخول بالتفصيلات – وهذا منهجٌ إسلاميٌّ دقيق - ، وبيان المعنى اللغوي ، ثم المعنى الإصطلاحي الذي انتقل إليه المعنى ، ولأيِّ سببٍ كان ، فإن العرب قد وضعت للمعاني ألفاظاً تدل عليها ، ثم ينقل بطريق المجاز ذلك المعنى إلى معنىً جديداً ، قد يضيق وقد يتَّسع .. ونحن مع منهجهم ذاك .
لقد أسمينا هذا العلم [ بالتمهيد لدراسة الشريعة الإسلامية ] بل لفظ [ المدخل ] الذي اعتاد المؤلفون في هذا العلم استعماله .
والتمهيد لغةً / مصدر [ مَهَدَ ] .
ومَهَدَ الفراش مهْداً : بسطه ، ووطأه .
ومَهَد أمراً : هيَّأه .
ومَهَّد – بتضعيف الهاء - : فيه زيادة البسط والتهيأة ، فهي كالمعنى السابق مع الزيادة .
وتَمَهَّد الأمر : تسَّهل ، وتوطأ .
والمُمَهَّد : المهيَّأ المسوَّى .
والمِهاد : الفِراش ، والأرض المنخفضة المستوية .
والمهد : السرير المهيَّأ للصبيِّ الصبيِّ والموطأ للمنام .
والمهيد: الزبد الخالص .
فكافة اشتقاقات الكلمة اللغوية تدلُّ على : التيسير ، والتسوية ، وجعل الشئ صالحاً للإنتفاع به ، وما يترتب عليه .
وهذا المعنى هو عين ما نريده من هذا العلم ، فنريد تسوية ما استعسر من أمر دراسة الشريعة ، وجعل سلوك طريق علومها ميسوراً إن شاء الله تعالى .
ونستطيع أن نقول في :(1/3)
المعنى الإصطلاحي لهذا العلم .. بأنه / علمٌ يُمهِّد للدارس الطريق المؤدية لدراسة علوم الشريعة ، وتكوين الفكرة العامَّة عن نشوئها ، وتطور مدارسها المتنوعة ، ونشوء علومها ، وموقعها بين : الشرائع ، والتنظيمات ، والأديان .
وهذا المصطلح أدَّق في الدلالة على المقصود من مصطلح [ المدخل ] .
فالمَدْخَل : اسم مكان للدلالة على موضع الدخول ، وقد يطلق على ذات الدخول .
والدخول : هو صيرورة الداخل في المكان ليس إلاَّ .
ممَّا تقدَّم فضلنا مصطلح [ التمهيد ] على [ المدخل ] .
ثانياً - نشوء هذا العلم [ واضعه ] / لم يكن التربويون المسلمون الأقدمون بعيدين عن فكرة [ علم المدخل ] الذي أسميناه [ علم التمهيد لدراسة الشريعة الإسلامية ] ، فهو ليس علماً مبتكراً كما يظن البعض ، أو علماً مقتبساً كما يظن آخرون ، بل هو علم تراثيٌّ وإن اختلفت التسميات ، فإن [ العبرة بحقيقة المسمَّيات لا باختلاف الأسماء ] ، ونستعرض بعض ما كتب في هذا المجال .
1. لقد بوَّب أئمة الحديث - وعلى رأسهم الإمام البخاري – في كتبهم الحديثية كتاباً باسم [ كتاب العلم ] .
2. وكتب الشيخ ابن عبد البر الأندلسي المالكي – ت سنة 463 هـ – كتابه الشهير [ جامع بيان العلم وفضله وما ينبغي في حفظه وروايته ] ، واستعرض فيه كثيراً من الآداب في تدوين العلم وطلبه ، وأرَّخ للفقهاء الكبار المتبوعين . وهو مطبوع متداول .
3. وكتب الإمام الحجة أبو حامد محمد بن محمد بن محمد الغزَّالي – ت سنة 555 هـ – كتابه القيِّم [ إحياء علوم الدين ] ، وفي الجزء الأول منه أتى بالكثير ممَّا يعدُّ داخلاً في موضوع هذا العلم . وهو مطبوع متداول .(1/4)
4. وقد كتب الإمام ابن قيِّم الجوزية - ت سنة 751 هـ – كتابه الشهير [ أعلام الموقعين عن ربِّ العالمين ] ، وفيه استعرض أعلام فقهاء الصحابة ، وأبرز فتاواهم ، ومميزات فقههم ، وهكذا فعل مع فقهاء التابعين ، وأئمة المذاهب المعروفة ، وناقش الكثير ممَّا رواه عنهم . وهو مطبوع متداول .
5. وكتب الإمام المهدي لدين الله أحمد بن يحيى بن المرتضى الزيدي اليمني – ت سنة 840 هـ – موسوعته القيِّمة [ البحر الزَّخار الجامع لمذاهب علماء الأمصار ] ، وهو مطبوع متداول .
6. وكتب الشريف نور الدين علي بن عبد الله الحسيني السمهودي – ت سنة 911 هـ – كتابه [ جواهر العِقدين في فضل الشرفين شرف العلم الجليِّ والنسب العليِّ ] ، وقد اختصره الحسين بن أمير المؤمنين ( الزيدي ) المنصور بالله القاسم بن محمد بن عليِّ – ت سنة 1050 هـ – بكتابه [ آداب العلماء والمتعلمين ، والذي يقول فيه :
[ العاشر : أن يذكر للطلبة قواعد الفن التي لا تنخرم ، إما مطلقاً كتقديم المباشرة على السبب في الضمان ، أو غالباً كاليمين على المدعى عليه إذا لم تكن بيِّنة .. ونحو ذلك من القواعد . وكذلك كلُّ أصل وما ينبني عليه من كل ما يُحتاج إليه من علمي : التفسير ، والحديث ، وأبواب أصول الدين ، والفقه ، والنحو ، والتصريف ، واللغة .. ونحو ذلك ، إما بقراءةِ كتاب في الفن ، أو بتدريج .
وهذا كلُّه إذا كان الشيخ عارفاً بتلك الفنون ، وإلاَّ فلا يتعرض لها ، بل يقتصر على ما يُتقنه منها .
ومن ذلك ما لا يسع الفاضل جهله .. كأسماء المشهورين من : الصحابة ، والتابعين ، وأئمة المسلمين ، وعلماء أهل البيت المطهرين ، وأهل الزهد والصلاح من الفقهاء المحققين ، وما يستفاد من محاسن آدابهم ، ونوادر أحوالهم ، فيحصل له – مع الطَوْل – فوائد كثيرة ](1) .
__________
(1) آداب العلماء والمتعلمين – 54 [ الدار اليمنية للنشر والتوزيع / 1987 م ] .(1/5)
وكتب أقوامٌ في أسباب اختلاف الفقهاء ، وهو من أهم مواضيع هذا العلم الجليل ، وما كتب فيه كثيرٌ ، من ذلك :
أسباب اختلاف الفقهاء لأبي جعفر محمد بن سلامة بن عبد الملك بن سلمة الأزدي للطحاوي الحنفي – ت 321 هـ - .
رفع الملام عن الأئمة الأعلام للإمام أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام بن تيمية الحراني الدمشقي الحنبلي – ت سنة 728 هـ - .
رحمة الأمة في اختلاف الأئمة لأبي عبد الله محمد بن عبد الرحمن الدمشقي العثماني الشافعي – من علماء القرن الثامن الهجري - .
عِقد الجيد في الاجتهاد والتقليد لشاه وليِّ الله أحمد بن عبد الرحيم الفاروقي الدهلوي الحنفي – ت سنة 1176 هـ - .
القول المفيد في أدلة الاجتهاد والتقليد للإمام محمد بن عليِّ الشوكاني الزيدي اليمني – ت سنة 1250 هـ - .
وفي مطلع القرن العشرين الميلادي كتب الباحثون المصريون في مواضيع هذا العلم تحت عنوان [ تأريخ التشريع الإسلامي ] و [ المدخل لدراسة الشريعة الإسلامية ] ، وعنهم انتشرت التسمية وأخذ هذا العلم موقعاً مميَّزاً بين العازمين على الولوج لدراسة العلوم الشرعية ، وقد مهدَّ ذلك لهم الطريق الموصل لتلك العلوم ، مع خلق رؤيةٍ واضحةٍ لكثيرٍ من المصطلحات ، ونشوء المذاهب والمدارس الفقهية والأخلاقية والكلامية .
وأبرز من كتب فيه في العصور الأخيرة /
تأريخ التشريع الإسلامي – لمحمد الخضري بك ، وقد طبع طبعاتٍ عديدة ، وكتب له الإنتشار والذيوع والتدريس في المعاهد الدينية لفترةٍ طويلةٍ .
2. خلاصة تأأريخ التشريع الإسلامي للمرحوم عبد الوهاب خلاَّف .
3. المدخل لدراسة الشريعة – لأستاذنا المرحوم محمد سلام مدكور .
4. " " " _ لأستاذنا المرحوم علي الخفيف .
5. " " " _ لأستاذنا المرحوم محمد أبو زهرة .
6. مذكرات في أصول وتأريخ الفقه الإسلامي للمرحوم حسين علي الأعظمي الحنفي .
7. " " " _ لأستاذنا د. عبد الكريم زيدان .(1/6)
8. المدخل لدراسة الفقه الإسلامي – د. محمد يوسف موسى .
9. المدخل في التعريف بالفقه الإسلامي – الأستاذ محمد مصطفى شلبي .
وهناك عددٌ غير قليل لغيرهم ، بعضها يدرس في المعاهد والكليَّات المتنوعة ، وقد تكون بأسماء أخرى ، ولا ضير في ذلك ما دام الموضوع متَّحداً .. من ذلك :
كتب استاذنا المرحوم العلاَّمة الشيخ محمد أحمد فرج السنهوري وزير الأوقاف الأسبق في مصر ، والمحاضر بقسم الدراسات العليا في دبلوم الشريعة الإسلامية في كليَّة الحقوق / جامعة القاهرة .. ومنها :
مذكرات – بالآلة الطابعة – من مقررات الدبلوم المذكور ، باسم [ تأريخ الفقه الإسلامي ] . وهو جدير بالطبع والنشر ، لما فيه من تتبع تأريخ الفقه الإسلامي في العقود الأخيرة ، وفي القرنين الهجريين الماضيين ، مما لم يتطرق إلي المؤلفون المحدثون الذين سبق ذكرهم .
وقد يكون طبع هذا الكتاب القيِّم ولم يصلني ، بسبب ظروف
العراق المعروفة .
ما كتبه عن فقهاء الصحابة الكرام ، ممَّا كان يدَّرس في الدبلوم ،
فكان في كلِّ عام يكتب في فقيهٍ من فقهائهم ، ولا أدري بالضبط
عدَّة ما كتب ، والذي أعلمه يقيناً ، هو :
الفقيهة الأولى أم المؤمنين عائشة .
ب. ابن عباس ترجمان القرآن .
ثالثاً - مواضيع هذا العلم / يدرس في هذا العلم أمور :
نزول الوحي على الرسول عليه السلام .
ومواضيع الشريعة ، وأسسها ، ومميِّزاتها ، وقواعدها العامَّة .
نشوء المدارس الكلامية والفقهية والأخلاقية .
مميِّزات كلِّ مدرسة من تلك المدارس .
الكتابات المهمة في كلِّ مدرسة .
دراسة موضوع مهم من مواضيع الدراسات القانونية الوضعية من وجهة النظر الإسلامية ، مثل [ نظرية الحق ] أو [ نظرية الملكية ] .. الخ .
ثم الإشارة إلى موقع الشريعة بين النظم الحياتية المنظِّمة لشؤون البشر في زماننا .
وقد أضفت :
نشأة الخليقة ، وحاجة الإنسان للنبوات .
أجيال العرب ، ومن أيِّهم نسب رسول الله عليه الصلاة والسلام .(1/7)
تحديد حدود بلاد العرب .
تعريف : الدين ،الإسلام ، الشريعة ، الفقه ، تعريفاً لغويَّاً واصطلاحيَّاً ، وأنواع الأديان ، لما في النقطة الأخيرة من تأثير في الردِّ على كثيرٍ المدَّعيات والتهم للإسلام .
ميَّزت تمييزاً واضحاً بين : الأسس ، والقواعد ، والمميِّزات .. الخ ، من الألفاظ المتقاربة المعاني والمختلفة الحقائق .
توسعت في إيراد مميِّزات العهود الفقهية ، وجهود القائمين على شأن الشريعة في كلِّ عهدٍ ، وتقييم ما أصَّلوه ، أو بدَّلوه .. الخ .
وأمور أخرى سيجدها القارئ في موضعها إن شاء الله تعالى .
رابعاً – استمداده / تستمد مباحث هذا من عدَّة علومٍ أخرى ، أهمها :
السيرة النبوية الشريفة . 2. علوم القرآن ، وأهمها أسباب النزول.
3. علوم السنة النبوية الشريفة بأنواعها .
4. أصول الفقه . 5. الفقه .
6. كتب تراجم الرجال في المذاهب ، وفي علم الحديث .
7. كتب التأريخ العام . 8. والعلوم الأخرى بنسبٍ متفاوته .
خامساً - أهمية هذا العلم / لهذا العلم أهميةٌ قصوى للمبتدئين ، بل قد لا يستغني عنه الباحثون ، فهو يغني عن كثيرٍ من المتابعات والمراجعات ، ويعطي صورةً واضحةً لكثيرٍ من المصطلحات والألفاظ ، والفروق بين كثيرٍ من الأمور ، والموافقات بين غيرها ، وحقيقة هذا العلم إعادة تبويبٍ ، وسهولة عرضٍ للكثير ، وجعل إمكان الرجوع إلى العلوم الإسلامية بمقدور الجميع .
لقد أحسن المحدثون بابتداع هذا العلم ، فقد يسروا الكثير ، وأغنوا الكثير عن تضييع الوقت للوصول إلى ما جعلوه ميسوراً .
وهذا العلم يبرهن لنا أن العلوم لا تقف عند أحدٍ ، وقد ينشأ منها ما تقوم الحاجة إليه في كلِّ عصرٍ ومصر .
سادساً – فائدته / تيسير طلب علوم الشريعة لطالبيها ، وهي فائدة جليلة إذ تختصر الوقت للدارس ، وتوصله إلى المقصود بأقر طريق .(1/8)
سابعاً – ثمرته / عصمة الدارس عن كثيرٍ من الخلط ، وإزالة الغبش والتداخل في المصطلحات ، وتجعل التوغل في مطالب العلوم الإسلامية ميسوراً .
ثامناً – الحاجة إليه / تبتنى الحاجة إليه على ثمرته ، فما دامت له ثمرة نافعة ، فالحاجة إليه قائمة ، وهو ضروريٌّ في العصور المتأخرة ، نظراً لأسلوب الدراسات الشرعية الحديثة .
تاسعاً – نسبته بين العلوم / هو كالباب لمن يريد دخولها ، وهو كالطريق للسائر إليها ، ولا وصول إلاَّ بالطريق ، ولا ولوج إلاَّ من الباب ، ومن هذا تبرز ضرورته .
عاشراً – حكمه الشرعيِّ / حكمه الاستحباب لكلِّ مسلم ، ليقف على الكثير من أمور شريعته ، وتتضح له المسائل مع الدلائل .
وقد يأخذ حكم الوجوب لمن انصرف لدراسة الشريعة دراسة متخصصة ، تيسيراً لمهمته ، واختصاراً لوقته ، وعصمةً له عن تصور أسباب الخطأ .
الباب الأول
في
بدء الخليقة ، وبدء الرسالات ، ونشوء الشرائع
وفي
أجيال العرب ، ونسب الرسول ( عليه السلام ) ، وبلاد العرب
الفصل الأول
في
بدء الخليقة ، وبدء الرسالات
روي عن رسول الله عليه الصلاة والسلام قوله :
{ كان الله ولا شئ معه } ، وفي روايةٍ : { كان الله ولا شئ قبله }(1) ، ثم أبدع الله عزَّ وجلَّ السماوات والأرض .
يقول تعالى : { بديع السماوات والأرض وإذا قضى أمراً فإنَّما يقول له كن فيكون }(2) .
ويقول تعالى : { بديع السماوات والأرض أنَّى يكون له ولدٌ ولم يكن له صاحبة خلق كلَّ شئٍ وهو بكلِّ خلقٍ عليم }(3)
ثم خلق الله عزَّ وجلَّ من السماوات والأرض: الملائكة ، والجن ، والإنسان ، والحيوان ، والنبات ، والجمادات .. بما فيها الأكوان ، وغير ذلك من مخلوقاته التي يعجز الإنسان عن إحصائها .
__________
(1) رواه : ابن حِبَّان ، والحاكم ، وابن أبي شيبة .. عن بُريدة . راجع : كشف الخفا ومزيل الإلباس للعجلوني – 2 / 130 ، وحجة الله البالغة للدهلوي – 1 / 12 .
(2) البقرة / 117 .
(3) الأنعام / 101 .(1/9)
يقول تعالى : { .. ويخلق ما لا تعلمون }(1).
والإبداع في اللغة : ما يكون على غير مثالٍ سابق .
والإباع هو : الخلق من لا شئ ، أي : من العدم التام .
والخلق في اللغة : التقدير .
والخلق هو : أيجاد شئٍ من شئ ، أي : من مادةٍ أخرى ، وهو العدم النسبي .
فالمخلوق : يوجد بعد إذ لم يكن ، ولكن من مادةٍ أخرى .
والمُبدَع : يوجد بعد إذ لم يكن أصلاً (2).
لقد كانت السماوات والأرض بعد إبداعهما متصلتان ، ففصلهما الله عزَّ وجلَّ ، ثم خلق الجبال الرواسي ، وجعل الماء سبباً للحياة ، ثم خلق باقي الأكوان .. يقول تعالى :
{ أوَلمْ يَرَ الذين كفروا أنَّ السموات والأرض كانتا رتْقاً ففتقناهما وجعلنا من الماء كلَّ شئٍ حيٍّ أفلا يؤمنون ( وجعلنا في الأرض رواسي أن تميد بهم وجعلنا فيها فيها فِجاجاً سُبلاً لعلهم يهتدون ( وجعلنا السماء سقفاً محفوظاً وهم عن آياتها مُعرضون ( وهو الذي خلق الليل والنهار والشمس والقمر كلٌّ في فلكٍ يسبحون }(3) .
وخلق الجانَّ من مارجٍ من نار ، وخلق الإنسان من الأرض ، ومن صلصالٍ كالفخار .. يقول تعالى :
{ خلق الإنسان من صلصالٍ كالفخَّار ( وخلق الجانَّ من مارجٍ من نار }(4) .
ويقول تعالى : { منها خلقناكم وفيها نُعيدُكم ومنها نُخرجُكم تارةً أخرى }(5).
__________
(1) النمل / 8 .
(2) القاموس المحيط للفيروز آبادي – 3 / 236 ، حجة الله البالغة للدهلوي – 1 / 11، المعجم الوسيط لمجمع اللغة العربية في القاهرة – 1 / 42 .
(3) الأنبياء / 30 إلى 33 .
(4) الرحمن / 14 إلى 15 .
(5) طه / 55 .(1/10)
ويقول تعالى : { ولقد خلقنا الإنسان من صلصال من حمأٍ مسنون ( والجانَّ خلقتُهُ من قبلُ من نار السَمُوم ( وإذ قال ربُّك للملائكة إنِّي خالقٌ بشراً من صلصالٍ من حمأٍ مسنون ( فإذا سوَّيتُهُ ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين ( فسجد الملائكة كُلُّهُم أجمعون ( إلاَّ إبليس أبى أن يكون من الساجدين ( قال يا أبليسُ ما لك ألا تكون من الساجدين ( قال لم أكن لأسجد لبشرٍ خلقته من صلصالٍ من حمأٍ مسنون ( قال فاخرج منها فإنَّك رجيم ( وإنَّ عليك اللعنة إلى يوم الدِّين ( قال ربِّ انظرني إلى يوم الوقت المعلوم ( قال ربِّ بما أغويتني لأزيِّننَّ لهم في الأرض ولأُغوينَّهم أجمعين ( إلاَّ عبادك منهم المُخْلَصين }(1) .
والحمأ : الطين الأسود المنتن(2) .
والمسنون : المتغيِّر الرائحة(3) .. وقيل : المُصَوَّر ، من سنَّ الشئ(4) .
والصلصال : الطين الحرُّ اليلبس إذا اختلط بالرمل(5) .
فهو يصلصل .. أي : يُظهر صوتاً إذا نُقر عليه ، فإذا طبخ كان فخارا(6)ً .
فأما الملائكة / فهي جمعٌ وواحدها .. المَلَك .
والملاك : هو المَلَك أيضاً .
والملائكة : هي التي تبلغ عن الله ، لأن .. الملاك ، والملاكة ، والأَلوكة ، والمألُك ، والأَلوك : هي الرسالة(7) .
__________
(1) الحجر / 26 إلى 40 .
(2) القاموس المحيط – 1 / 13 ، المعجم الوسيط – 1 / 195 .
(3) المصحف الميَّسر للشيخ عبد الجليل عيسى – 34 .
(4) صفوة البيان للشيخ محمد حسنين مخلوف – 336 .
(5) القاموس المحيط – 4 / 3 ، المعجم الوسيط – 1 / 520 .
(6) المصحف الميسر – المرجع السابق ، وراجع : الرحمن / 14 و 15 .
(7) القاموس المحيط – 3 / 331 ، المعجم الوسيط – 1 / 24 .(1/11)
[ وحال الملائكة في تجرِّدها لا يُزعجها حالةٌ ناشئةٌ من تفريط القوة البهيمية .. كالجوع ، والعطش ، والخوف ، والحزن ، أو إفراطها .. كالشبق ، والغضب ، والتيه ، ولا يهمها التغذية والتنمية ولواحقها ، وإنَّما تبقى فارغة لإنتظار ما يرد عليها من فوقها ، فإذا ترشَّح عليها أمرٌ من فوقها من إجماعٍ على إقامة نظامٍ مطلوب ، أو رضاً عن شئٍ ، أو بغض شئٍ ، امتلأت به وانقادت له ، وانبعثت إلى مقتضاه ، وهي في ذلك فانية عن مُراد نفسها ، باقية بمراد ما فوقها ](1) .
هذا حال الملائكة – في عقيدة المسلمين - ، وهي مأخوذة من القرآن الكريم فيما ورد فيه عنهم ..
يقول تعالى : { إنَّ الذين عند ربِّك لا يستكبرون عن عبادته ويُسبِّحُونَهُ وله يسجدون }(2) .
ويقول تعالى : { قل لو كان في الأرض ملائكة يمشون مطمئنين لنزَّلنا عليهم من السماء مَلَكاً رسولا }(3).
ويقول تعالى : { وله مَن في السماوات والأرض ومَنْ عنده لا يستكبرون عن عبادته ولا يَستحسرون ( يسبحون الليل والنهار لا يفتُرُون }(4) .
ويقول تعالى :{ يخافون ربَّهم من فوقهم ويفعلون ما يؤمرون }(5) .
ويقول تعالى :{ يا أيُّها الذين آمنوا قُوا أنفَسَكم وأهليكم ناراً وقودها الناس والحجارة عليها ملائكةٌ غلاظٌ شدادٌ لا يعصون ربَّهم ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون }(6) .
ويقول تعالى :{ فإن استكبروا فالذين عند ربِّك يسبحون له بالليل والنهار وهم لا يسأمون }(7) .
ويقول تعالى : { تكاد السماوات يتفطَّرن من فوقهنَّ والملائكة يُسبحون بحمد ربِّهم ويستغفرون لمن في الأرض ألا إنَّ الله هو الغفور الرحيم }(8) .
والملائكة بعد / أجسامٌ لطيفة ، نورانية ، تتشكل بأشكالٍ مختلفة(9) .
__________
(1) حجة الله البالغة للدهلوي – 1 / 20 .
(2) الأعراف / 206 .
(3) الإسراء / 95 .
(4) الأنبياء / 19 إلى 20 .
(5) النحل / 50 .
(6) التحريم / 6 .
(7) فصِّلت / 38 .
(8) الشورى / 5 .
(9) التعريفات للسيِّد الشريف – 205 .(1/12)
أمَّا الجنُّ / فهم في اللغة : اسمٌ من الفعل الماضي [ جنَّ ] .
وجنَّ جناً : استتر ، وكلُّ ما سُتر عنك فقد [ جنَّ ] .
وجنَّ الليل : أظلم .
وجنَّ الظلام : اشتدَّ .
وجنَّ عليه : ستره ، وفي القرآن الكريم : { فلمَّا جنَّ عليه الليل رأى كوكباً فلما أفل قال لا أُحب الآفلين }(1) .
وجَنَّة : هو الميِّت ، لأنه يستتر عن الناس .
والجنَّة : الحديقة ذات الأغصان والشجر ، وتحجب من فيها .
والجنين : ما تحمله المرأة في بطنها ، سُميَّ بذلك لاستتاره .
والجنين : القبر .
والمجنَّة : المقبرة ، لأنها تحجب من فيها .
والجِنَّة : الجنون ، وهو استتار العقل ، وفي التنزيل الحكيم : { أو لم يتفكروا ما بصاحبهم من جِنَّة إن هو إلاَّ نذيرٌ مبين }(2) .
والجُنَّة : كلُّ ما يُستتر به ، ومنه غطاء رأس المرأة .
والمجَن : الترس الذي يستتر به المقاتل .
والجَنان : من كلِّ شئٍ جوفُه ، لأنه مستور .
والجَنان : جماعة الناس التي تستر الداخل فيها .
والجانُّ : الجنُّ .
والجنُّ : من كلِّ شئٍ أوله ، وشدَّته ، ونشاطه ، فجنُّ الشباب : عنفوانه ، وجِنُّ النبات : زهره .
والجنُّ بعد / خلاف الإنس ، واحده [ جنيِّ ] ، وأنثاه [ جنيَّة ] ، وهم الملائكة المخلوقين من نار(3) .
والجنُّ : باعتبارهم مخلوقاتٍ مستترةٍ مخلوقةٍ من نار ، هم مكلفون كبني البشر ، وهم ليسوا كالملائكة الذين ليست عليهم تكاليف .
يقول تعالى : { ولو شاء ربُّك لجعل الناس أمَّةً واحدةً ولا يزالون مختلفين ( إلاَّ من رحم ربُّك ولذلك خلقهم وتمت كلمة ربِّك لأملأنَّ جهنم من الجِنَّة والناس أجمعين }(4) .
وعلى كونهم مكلَّفين فقد آمن بالرسول محمد عليه أفضل الصلاة والسلام بعضهم ، وكفر آخرون .
__________
(1) الأنعام / 76 .
(2) الأعراف / 184 .
(3) القاموس المحيط – 4 / 212 ، المعجم الوسيط – 1 / 140 إلى 141 .
(4) هود / 119 إلى 120 .(1/13)
يقول تعالى :{ وإذ صَرَفْنا إليك نفراً من الجنِّ يستمعون القرآن فلما حضروه قالوا أنصتوا فلما قُضيَ ولُّوا إلى قومهم منذرين ( قالوا يا قومنا إنَّا سمعنا كتاباً أُنزل من بعد موسى مُصدِّقاً لما بين يديه يهدي إلى الحقِّ وإلى طريقٍ مستقيم ( يا قومنا أجيبوا داعي الله وآمنوا به يغفر لكم من ذُنُوبكم ويَجِرْكُم من عذابٍ أليم }(1) .
ويقول تعالى : { قل أُوحي إليَّ أنَّه استمع إليَّ نفرٌ من الجنِّ فقالوا إنَّا سمعنا قرآناً عجباً ( يهدي إلى الرشد فآمنا به ولن نشرك بربنا أحدا ( وأنَّه تعالى جدُّ ربِّنا ما اتَّخذ صاحبةً ولا ولدا ( وأنَّه كان يقول سفيهُنا على الله شَطَطا ( وأنَّا ظننَّا أن لن تقول الإنس والجنُّ على الله كَذِبا ( وأنَّه كان رجالٌ من الإنس يعوذون برجالٍ من الجنِّ فزادوهم رَهَقا ( وأنَّهم ظنُّوا كما ظننتم أن لن يبعث الله أحدا ( وأنَّا لمسنا السماءَ فوجدناها مُلئت حرساً شديداً وشُهُبا ( وأنَّا كنَّا نقعد منها مقاعدَ للسمع فمن يستمع الآن يجد له شِهاباً رَصَدا ( وأنَّا لا ندري أ شرٌّ أُريد بمن في الأرض أم أراد بهم ربُّهم رشدا ( وأنَّا منَّا الصالحون ومنَّا دون ذلك كنَّا طرائق قِدَدا ( وأنَّا ظننَّا أن لن نُّعجِز الله في الأرض ولن نُعجزه هربا ( وأنَّا لمَّا سمعنا الهدى آمنَّا به فمن يؤمن بربه فلا يخاف بخساً ولا رَهَقا ( وأنَّا منَّا المسلمون ومنَّا القاسطون فمن أسلم فأولئك تحرَّوا رَشَدا ( وأمَّا القاسطون فكانوا لجهنَّم حطبا }(2) .
ويؤيد كون الجنِّ مخاطبون بالفروع والأصول ، وأنَّهم مطالبون بالإيمان بنبيِّنا محمد عليه الصلاة والسلام ، هو قوله تعالى :
{ وما أرسلناك إلاَّ رحمةً للعالمين }(3) ، والعالمون هم كافة المخلوقات العاقلة ، ومنهم الجن .
ويؤيد ذلك أيضاً .. قوله تعالى :
__________
(1) الأحقاف / 29 إلى 31 .
(2) سورة الجنِّ / 1 إلى 15 .
(3) الأنبياء / 107 .(1/14)
{ .. فسجدوا إلاَّ إبليس كان من الجنِّ ففسق عن أمر ربِّه .. }(1) .
ويرسل إلى الجنِّ رسلٌّ كما يُرسل إلى الإنس ، يقول تعالى :
{ يا معشر الجنِّ والإنس أ لم يأتكم رسلٌ يقصُّون عليكم آياتي وييُنذِرونكم لقاء يومكم هذا قالوا شهِدنا على أنفُسِنا وغرَّتهُمُ الحياةُ الدُّنيا وشهِدوا على أنفُسِهِم أنَّهم كانوا كافرين }(2) .
ولذلك يُعاقب الجنِّ ويُثابون ، لأن العقاب والثواب هو فرع التكليف ، يقول تعالى :
{ قال ادْخُلُوا في أُممٍ قد خَلَت من قبلكم من الجنِّ والإنس في النار كلَّما دخلت أُمَّةٌ لعنت أُختَها حتَّى إذا ادَّاركوا فيها جميعاً .. }(3) .
ويقول تعالى : { ولقد ذرأْنا لجهنَّمَ كثيراً من الجنِّ والإنس لهم قلوبٌ لا يفقَهُون بها ولهم أعينٌ لا يُبصِرُون بها ولهم آذانٌ لا يسمعون بها أولئك كالأنعام بل هم أضَلُّ أُولئك هم الغافلون }(4) .
ويلاحظ / أنَّنا نقلنا نصوصاً دينية للكلام عن هذه المغيَّبات ، فإن أيَّة جهةٍ أخرى لا تستطيع أن تروي عن غير المحسوسات ، وما لم تدركه مما مضى من عالم المحسوسات ، وما يقولونه هو ظنٌّ ، والظن لا يؤخذ به في مثل هذه الأمور – على ما سيأتيك إن شاء الله تعالى - .
أمَّا الإنسان / ففي معنى الكلمة لغةً أقوال :
الأول – هو اسمٌ جامد غير مشتق ، وهو اسم جنسس يقع على : المفرد والجمع ، والأنثى والذكر .
الثاني – هو مشتق .. واختلفوا في مصدر اشتقاقه – بعد اتِّفاقهم على زيادة النون الأخيرة - :
أ. قال البصريون : هو مشتق من [ الأنس ] ، أي .. ضد [ الاستيحاش ] ، والهمزة أصلية فيكون على وزن [ فعلان ] .
قال الشاعر :
وما سمِّي الإنسان إلاَّ لأُنسه ولا القلب إلاَّ أنَّه يتقلب
ب. وقال الكوفيون : هو مشتق من [ النسيان ] ، فالهمزة تكون زائدة ، ولما كان التصغير يُرجع الكلمة إلى أصلها ، فتصغير إنسان هو .. [ أنيسان ] .
__________
(1) الكهف / 50 .
(2) الأنعام / 130 .
(3) الأعراف / 38 .
(4) الأعراف / 179 .(1/15)
قال الشاعر :
وما سميِّيَ الإنسان إلاَّ لنسيه ولا القلب إلاَّ أنَّ يتقلب
والإنسان / كائن : حيٌّ ، ناطق ، عاقل ، حسَّاس ، نامٍ ، متحرك بالإرادة .
وفي بيان حقيقته / أقوال لا تكاد تنضبط في : كونه جسماً ، أم عَرَضاً جسمانياً ، أم عرضاً روحانياً . ولا يهمنا هذا في شئٍ من دراستنا .. فنعرض عنه .
وبالنسبة لكونه عَرَضاً ، أو فيه أعراض ، فقد قسموا تلك الأعراض .. إلى : بهيمية(1) ، وسبعية(2) ، وشيطانية ، وربوبية .
فيصدر عن البهيمية : الشهوة ، والشَرَه ، والفجور .
ويصدر عن السبعية : الغضب ، والحسد ، والعداوة ، والبغضاء .
ويصدر عن الشيطانية : المكر ، والحيلة ، والخداع .
ويصدر عن الربوبية: الكِبر ، والعزُّ ، وحبُّ المدح .
[ .. وأصول هذه الأخلاط الأربع قد عجنت في طينة الإنسان عجناً محكماً ، لا يكاد يتخلص منها ، وإنما ينجو من ظلماتها بنور الإيمان المستفاد من العقل والشرع .
فأول ما يُخلق في الآدمي [ البهيمية ] ، فيغلب عليه الشره والشهوة ، كما في الصبيِّ .
ثم يخلق فيه [ السبعية ] ، فيغلب عليه المعاداة والمنافسة .
ثم يخلق فيه [ الشيطانية ] ، فيغلب عليه المكر والخداع .
ثم تظهر فيه [ الربوبية ] ، فيظهر عليه الكِبر والاستعلاء .
ثم بعد ذلك يخلق العقل فيه ، ويظهر الإيمان وهو من حزب الله وجنود الملائكة ، وتلك الصفات من من جنود الشيطان .
وجنود العقل تكمل عند الأربعين ، ويبدأ أصله عند البلوغ .
__________
(1) نسبة إلى البهائم .
(2) نسبة إلى السباع ، وهي الضواري .(1/16)
وأما ساير جنود الشيطان تكون قد سبقت إلى القلب قبل البلوغ ، واستولت عليه ، وألفتها النفس واسترسلت في الشهوات متابعةً لها ، إلى أن يرد نور العقل ، فيقوم القتال والتطارد في معركة القلب ، فإن ضعف جند العقل ونور الإيمان لم يقوَ على إزعاج جنود الشيطان ، فتبقى جنود الشيطان مستقرة في القلب آخراً كما سبقت إلى النزول فيه أولاً ، وقد سلم للشيطان مملكة القلب ](1) .
وليس لنا على هذا الكلام اعتراضٌ إلاَّ من جهة جعل العقل هو الحاكم باطلاق ، فالعقل حاكم وموجب عند الإيمان بالله ، وما بعده هو حاكم غير موجب ، وهذا خلاف ما يُشمُّ من النص .. فلا تغفل .
والإنسان بعد هذا / هو نسخةٌ مختصرة من العالم الواسع – كما قيل - ، ففيه :
بسائطه ومركباته ، وماديَّاته ومجرداته .. بل هو العالم الأكبر .. يقول الشاعر :
دواؤك فيك وما تشعر وداؤك منك منك ولا تُبصر
وتحسب أنَّك جِرمٌ صغير وفيك انطوى العالم الأكبر
ثم الإنسان خلاف الجنِّ / فسميَّ إنساناً لظهوره ، والجن لاجتنانه .. أي : خفائه .
لقد أودع الله الإنسان [ بحكمته الباهرة قوتين :
قوة مَلَكية – تتشعب من فيض الروح المخصوصة بالإنسان ، وعلى الروح الطبيعية السارية في البدن ، وقبولها ذلك الفيض وانقهارها له .
وقوة بهيمية – تتشعب من النفس الحيوانية المشترك فيها كلُّ حيوان ، المتَّشجة بالقوى القائمة بالروح الطبيعية ، واستقلالها بنفسها ، واذعان الروح الإنسانية لها ، وقبولها الحكم منها .
__________
(1) مجمع البحرين ومطلع النيِّرين _ كتاب السين / باب ما أوله الألف .(1/17)
ثم تعلم أن بين القوتين تزاحماً وتجاذباً ، فهذه تجذب إلى العلو دون تلك .. ، وإذا برزت البهيمية وغلبت آثارها كمنت الملكية ، وكذلك العكس ، وأن للباري جلَّ شأنه عناية بكل نظام وجوداً بكل ما يسأله الاستعداد الأصلي والكسبي ، فإن كسبت هيئات بهيمية أمدَّ فيها ويسَّر لها ما يناسبها ، وإن كسبت هيئات ملكية أمدَّ فيها ويسَّر لها ما يناسبها ، كما في قوله تعالى : { فأما من أعطى واتَّقى ( وصدَّق بالحسنى ( فسنُيَسِّره لليُسرى ( وأما من بخل واستغنى ( وكذَّب بالحسنى ( فسَنُيَسِّرهُ للعُسرى ( وما يُغني عنه مالُهُ
إذا تردى }(1) ، وقال تعالى : { كلاً نُّمِدُّ هؤلاء وهؤلاء من عطاء ربِّك وما كان عطاءُ ربِّك محظورا }(2) .
وأن لكلِّ قوَّةٍ لذَّةً وألماً :
فاللذة – إدراك ما يناسبها .
والألم – إدراك ما يُخالفها .
.. فتبين أن التكليف من مقتضيات النوع الإنساني ، وأن الإنسان يسأل ربَّه بلسان استعداده أن يوجب عليه ما يناسب القوة الملكية ثم يثبت على ذلك ، وأن يُحرِّم عليه الإنهماك في البهيمية ويعاقب على ذلك .. وتجد مع ذلك فيه خواص يمتاز بها من سائر الحيوان ، منها :
النطق ، وفهم الخطاب ، وتوليد العلوم الكسبية من ترتيب المقدِّمات البديهية ، أو من التجربة ، والاستقراء ، والحدس .
ومن : الاهتمام بأمور يستحسنها بعقله ولا يجدها بحسِّه ولا وهمه .. كتهذيب النفس ، وتسخير الأقاليم تحت حكمه .
ولذلك يتوارد على أصول هذه الأمور جميع الأمم حتى سكان شواهق الجبال ، وما ذلك إلاَّ لسرٍ ناشئٍ من جذر صورته النوعية ، وذلك السرُّ أن مزاج الإنسان يقتضي :
أن يكون عقله قاهراً على قلبه ، وقلبه قاهراً على نفسه .
__________
(1) الليل / 5 إلى 11 .
(2) الإسراء / 20 .(1/18)
ثم انظر إلى تدبير الحقِّ لكلِّ نوعٍ ، وتربيته إياه ، ولطفه به ، فلما كان انبات لا يحسُّ ولا يتحرك ، جعل له عروقاً تمتص المادة المجتمعة من الماء والهواء ولطيف التراب ، ثم يفرقها في الأغصان ، وغيرها ..
ولما كان الحيوان حساساً متحركاً بالإرادة ، لم يجعل له عروقاً تمتص المادة من الأرض ، بل ألهمه طلب الحبوب والحشيش والماء من مظَّانِّها ، وألهمه جميع ما يحتاج إليه من الارتفاقات ..
ولما كان الإنسان مع احساسه وتحرُّكه وقبوله للإلهامات الجبِلِّيَّة ، والعلوم الطبيعية ، ذا عقلٍ وتوليد للعلوم الكسبية ، ألهمه الزرع والغرس والتجارة والمعاملة ، وجعل منهم السيد بالطبع والإتِّفاق ، والعبد بالطبع والإتِّفاق ، وجعل منهم الملوك والرعية ، وجعل منهم الحكيم المتكلم بالحكمة الإلهية والطبيعية والرياضية والعملية ، وجعل منهم الغبيِّ الذي لا يهتدي لذلك إلاَّ بضرب تقليد ..
واعلم أن الإنسان ليس كسائر أنواع الحيوان ، بل له إدراك أشرف من إدراكاتهم …
ومن خوَّاصه أيضاً : أن يكون في نوع الإنسان مَن له خلوصٌ إلى منبع العلوم العقلية يتلقاها منه وحياً أو حدساً أو رؤيا ، وأن يكون آخرون قد تفرَّسوا من هذا الكامل آثار الرشد والبركة ، فانقادوا له فيما أمر ونهى .
وليس فردٌ من أفراد الإنسان إلاَّ له قوةُ للتخلص إلى الغيب برؤيا يراها ، أو برأيٍّ يُبصره ، أو هتيفٍ يسمعه ، أو حدسٍ يتفطَّن له ، إلاَّ أن منهم الكامل ومنهم الناقص ، والناقص يحتاج إلى الكامل ، وله صفاتٍ يجلُّ طورها عن طور صفات البهائم ، كالخشوع .. والنظافة .. والعدالة .. والسماحة .. ، وكظهور بوارق الجبروت والملكوت من استجابة الدعاء .. وسائر الكرامات .. والأحوال .. والمقامات .
والأمور التي يمتاز بها الإنسان من سائر الحيوان كثيرةٌ جداً ، لكن جماع الأمر وملاكه .. خصلتان :(1/19)
أحدهما / زيادة القوة العقلية ، ولها شعبتان .. شعبة غائصة في الإرتفاقات لمصلحة نظام البشر واستنباط دقائقها ، وشعبة مستعدة للعلوم الغيبية الفائضة بطريق الوهب .
وثانيهما / براعة القوة العملية ، ولها شعبتان .. شعبة هي ابتلاعها للأعمال من طريق اختيارها وإرادتها ، فالبهائم تفعل أفعالاً بالاختيار ولا تدخل أفعالها في جُدُر أنفسها .. ، وشعبة هي أحوال ومقامات سنيَّة كمحبة الله تعالى ، والتوكل عليه مما ليس في البهائم جنسها .. ](1)
فالمخلوقات - إذن - أنواع /
فالجماد – لا يعقل ، ولا يحسُّ ، ولا ينمو ، ولا يتحرك .
والنبات – لا يعقل ، ولا يحسُّ ، ولا يتحرك .. وينمو .
والحيوان – لا يعقل .. ويحسُّ ، وينمو ، ويتحرك .
والإنسان – يعقل ، ويحسُّ ، وينمو ، ويتحرك بالإرادة .
والجنُّ - مثل الإنسان في صفاته ، والفارق الاختفاء ! .
فلكون الإنسان /
يأنس بغيره – كما مرَ في معناه اللغوي - ، فهو كما قال فلاسفة الاجتماع بعدئذٍ : [ مدنيٌّ بطبعه ] ، وهذا أمرٌ عرفه العرب منذ القديم ، عند وضع اللفظ الدَّال على معناه .
وأنه ينسى – كما مرَّ في معناه الآخر - ، فهو محل العوارض المُذهبة للعلم – على الدوام أم على سبيل التأقيت – من : نسيان ، وسهو ، وغفلة ، وجنون ، وعته ، ونوم ، وغيبوبة ، وسكرٍ .
وأنَّه يحمل صفات : البهيمية ، والسبعية ، والشيطانية ، والربوبية.
وأنه : يُرى فيؤثر في الموجودات وليس ممن يختفي ، ويعقل ، وينمو ، ويحسُّ ، ويتحرك بالإرادة .
كلُّ ذلك / جعله موضع عناية الله عزَّ وجلَّ أكثر من غيره من المخلوقات ، فإذا كان الجنُّ يستوون مع الإنسان في الصفات العامة ، فاختفاؤهم – بأمر الله – يبعد تأثيرهم المباشر ، فافترقوا عن الانسان من هذه الجهة .
__________
(1) حجة الله البالغة للدهلوي – 1 / 20 إلى 23 .(1/20)
ولهذا / رفع الله عزَّ وجلَّ شأن الإنسان على سائر المخلوقات ، حيث جعل الله بعض الأنبياء من بني البشر أفضل من الملائكة ، لأن هؤلاء ليسوا عرضةً للإغواء ، فهم لا يُمتحنون بل عُصموا عن الصغائر والكبائر ، وجُردُّوا من الغرائز والحاجات العضوية .. فلا ريب أنَّهم ناجون بعناية الله بهم .
أما الإنسان فقد اجتمعت فيه الصفات ، وتزاحمت النوازع ، فمن تغلب عليها فقد بلغ مبلغاً لا يبلغه الملائكة المقربون ، وتغلبه يكون بالعناية الإلهية مع الهداية العقلية ، ولا ينفرد الأخير بالحاكمية والموجبية ، فهذا ضلال البعض الذين بعدوا في اعطاء الإنسان قدرةً نفسيَّة ، وهذا يخالف منطوق العقل نفسه ، إذ يجعل فعل الله بإرسال الرسل عبثاً !! ، تعالى الله عن ذلك علواً كبيرا ، ومن هذا يتَّضح لك ما فلناه عن النص الذي نقلناه آنفاً .
وكانت عناية الله بالإنسان وتكريمه من أوجهٍ :
خلقه إيَّاه بيده .
نفخه فيه من روحه .
تعليمه إيَّاه بنفسه .
إسجاد الملائكة له .
جعله أهلاً لخطابه ورسالاته .
استخلافه في أرضه .
تفضيله على باقي مخلوقاته بالعقل والإدراك .
تفضيله على باقي مخلوقاته بخلقه في أحسن تقويم بهيئةٍ حسنة .
تسخيره كلَّ ما في الكون له ، وجعل له القدرة على قهره .
إنزاله الرسالات للإنسان التي وفرت له سبل الهداية ، لكي لا يركن إلى خاصَّة نفسه ، ونوازعها الغالبة على صفاته الخيرية .
ووفرت الرسالات : العدالة في .. المساواة أمام الشرع ويوم القيامة ، والعدالة الدنيوية ، والعدالة في عدم الإكراه في الدين ، وفي حفظ مصاله الضرورية والحاجية والتحسينية .
ومهدَّ له سبيل التوبة ، وقبولها منه رحمةً منه واعتناءً بالإنسان .
وجعل له سبلاً للتقرب إلى الله عزَّ وجلَّ ، وشرَّع له العبادات المفروضة ، والنوافل والزيادات التي تقربه إليه .(1/21)
جعل الحسنة بعش أمثالها ، وتضاعف أضعافاً كثيرةً لا تُحصى في بعض الطاعات ، والسيِّئة بمثلها ، وجعل الحسنات يُذهبنَّ السيِّئات .
وجعل العوارض : كالمرض سبباً لغفران الذنوب ، وطلب العلم والسفر سبباً لاستجابة الدعاء .
وجعل البلوى لبني البشر حباً منه لهم ، وسبباً للغفران ، وبالصبر على البلوى تنال به الدرجات العلا .
واعتنى به بعد موته – ولو قتلاً - : فنهت عن القتل أصلاً ، وإن حدث – ظلماً أو بحق – فلا بدَّ من عدم التعذيب فيه ، والنهي عن المُثْلة بعده .
واعتنى به بعد موته فأوجبت : تغسيله ، وتجهيزه وتكفينه ، والصلاة عليه ، ودفنه ، ووصول ثواب الأعمال الصالحة إليه ، وبقاء ذمته بالقدر الذي تستحصل حقوقه ، وتدفع ديونه(1) .
ولو شئنا أن نحصي أنواع عناية الباري جلَّ وعلا ببني البشر ، لما أحصيناه ، فرحمته وسعت كلَّ شئٍ ، وعذابه يخصُّ به من يشاء .
فمن النصوص المؤيدة لما ذكر – وهناك غيرها - ، قوله تعالى :
{ وإذ قال ربُّك للملائكة إنِّي جاعلٌ في الأرض خليفة قالوا أ تجعل فيها مَن يُفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبِّح بحمدك ونقدِّس لك قال إنِّي أعلم ما لا تعلمون ( وعلَّم آدم الأسماء كلَّها ثم عرضهم على الملائكة فقال ـنبئوني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين ( قالوا سبحانك لا علم لنا إلاَّ ما علمتنا إنَّك أنت العليم الحكيم ( قال يا آدم أنبئْهم بأسمائهم فلمَّا أنبأهم بأسمائهم قال ألم أقل لكم إنِّي أعلم غيب السماوات والأرض وأعلم ما تُبدون وما كنتم تكتمون ( وإذ قلنا للملائكو اسجدوا لآدم فسجدوا إلاَّ إبليس واستكبر وكان من الكافرين ( وقلنا يا آدم اسكن أنت وزوجك الجنَّة وكلا منها رَغَداً حيث شئتما ولا تقربا هذه الشجرة فتكونا من الظالمين }(2) .
__________
(1) النصوص الدَّالة على كلِّ ذلك معروفة ، ولعل أغلبها سيأتي في ثنايا البحوث القادمة .
(2) البقرة / 30 إلى 35 .(1/22)
وقوله تعالى : { ولقد كرَّمنا بني آدم وحملناهم في البرِّ والبحر ورزقناهم من الطيِّبات وفضلناهم على كثيرٍ ممَّن خلقنا تفضيلا }(1) .
وقوله تعالى : { وهو الذي جعلكم خلائف الأرض ورفع بعضكم فوق بعضكم درجات .. }(2).
وقوله تعالى :{ .. هو الذي أنشأكم من الأرض واستعمركم فيها }(3) .
وللأوصاف المبسوطة فقد قبل الإنسان بالتكليف من الله عزَّ وجلَّ ، متحمَّلاً الأمانة .
وكان تكليف الله عزَّ وعلا للإنسان يدل على مزيد اهتمام والتفات من الله تعالى إلى عبيده من بني البشر ، فحين يلتفت إليه ربُّه بالعناية ويطلب منه ما يطلب ، فهو التفات منه لبعض مخلوقاته المستغني جلَّ وعلا عن كلِّ ما أعطاه إيّاه ، فلم يكن ذلك التكليف إلاَّ عناية من تعالى .
فالأمانة التي قبلها هي رضاه بالتكليف ، وأبته المخلوقات الأخرى .. يقول تعالى : { إنَّا عرضنا الأمانة على السموات والأرض والجبال فأبين أن يحمِلْنَها وأشفقن منها وحملها الإنسان إنَّه كان ظلوماً جهولا ( ليعذب الله المنافقين والمنافقات والمشركين والمشركات ويتوب الله على المؤمنين والمؤمنات وكان الله غفوراً رحيما }(4) .
إن الله لم يكل الإنسان إلى نفسه من أول لحظةًٍ خلقه بها ، بل كان يأمره وينهاه لئلا يقع فيما يُغضب الله جلَّ وعلا ، فلم يجعله مكتفياً بعقله ، مستغنيَّاً عن ربِّه ، وجعله محتاجاً إلى هداه تعالى وهو في الجنَّة ، وبعد إهباطه منها .
__________
(1) الإسراء / الأحزاب / 72 إلى 73 .
(2) الأنعام / 165 ، ونفس المعنى تكرر في مواضع من القرآن العظيم .
(3) 48 الإسراء / 70 .
(4) الأحزاب / 72 إلى 73 .(1/23)
يقول تعالى : { وقلنا يا آدم اسكن أنت وزوجك الجنَّة وكلا منها رغداً حيث شئتما ولا تقربا هذه الشجرة فتكونا من الظالمين ( فأزلهما الشيطان عنها فأخرجهما ممَّا كانا فيه وقلنا اهبطوا بعضكم لبعضٍ عدوٌّ ولكم في الأرض مستقرٌ ومتاعٌ إلى حين ( فتلقى آدم من ربِّه كلماتٍ فتاب عليه إنَّه هو التوَّاب الرحيم ( قلنا اهبطوا منها جميعاً فإمَّا يأتينكم منِّي هدىً فمن تبع هدايَ فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون ( والذين كفروا وكذَّبوا بآياتنا أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون }(1) .
والإنسان / - كما علمناه عنه بطريق الملاحظة – له جوانب ثلاث متلازمة ، لا تنفك عنه ابداً – إلا بطريق الاستثناء .. كالمجانين - ، وهذه الجوانب الثلاث هي :
جانب الفكر – وهذا تعالجه العقيدة ، وتدرس في علمٍ خاص يسمى : العقيدة ، أو الكلام ، أو المقولات ، أو الإلهيات .
وهذا العلم .. هو أشرف العلوم ، لتعلقه بإثبات وجود الله ، وصفاته
والإيمان به .. الخ . فإن شرف العلم من شرف المعلوم .
جانب النفس – وهذا يُعالجه علم الأخلاق ، أو علم التخلية والتحلية ، أو ما سميَّ – بعدئذٍ – بعلم التصوف .
وجانب الأعضاء – فما تقوم به من أفعال يُعالجه علم الفقه ، فهي الأمور العملية التي يقوم بها الإنسان في اليوم والليلة .
وهذا الجانب هو مقصود الشرائع ، والأمران الآخران هو مقصود الأديان – بمعناها الضيِّق - ، وتتضافر جميعها لكي تجعل من حياة الإنسان حياةً مقبولة معقولة توفر السعادة لصاحبها ، ولكي تؤدي إلى السعادة العظمى .. وهي السعادة الأخروية .
فالإنسان لا يستطيع العيش من غير نظام / لأنه عاقل ، ومن يعقل يحتاج إلى تنظيمات لتفسه ، وفي علاقته مع غيره ، والعقل يعقل صاحبه عمَّا لا يرتضى ، فعلى العقل أن يُميِّز بين ما يرتضى وما لا يُرتضى .
__________
(1) البقرة / 35 إلى 39 .(1/24)
فقد يُجهد الإنسان نفسه ليصل إلى ما يُرتضى ، ولكن أنَّى له أن يعرف المرضيِّ من غيره ؟! ، فيكون حَكَماً ومُحَكَّماً ، وهو المعيار وهو المَعير ، أي : العيار والوزن !! ، فهو لا ريب سيضع ضوابط توافق هواه ، وتحقق له اللذة – بالمعنى الذي بيَّناه - ، ثم يقوم هو بتقييمها ، وبيان صلاحها ، وموافقتها للغريزة الإنسانيَّة ، والجبِّلة البشريَّة .. وهذا من الغرابة بمكان !! .
لذلك قامت ضرورة الحاجة إلى معايير خارجة عن صنعه ، ولكن محلُّها و دون غيره .
إذن أ ليس الله تعالى هو خير من يضع تك الضوابط ؟ ؟ ، أ لم يكن خالقاً لهذا المخلوق وهو العارف بدخيلته ؟ ؟ { ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير }(1).
فقامت الحاجة إلى إرسال الرسل من الله عزَّ وجلَّ / فبعد حسم الإيمان بالله - وهذا موضعه غير هذا المقام ، فنحن يُثفترض فينا أننا نخاطب المؤمنين - علينا أن نؤمن بالرسالات التي أرسلها الله إلى بني البشر ، وخاتمتها رسالة محمد عليه الصلاة والسلام .
ولإيماننا بالله طريقٌ هو العقل .
ولإيماننا بالرسول طريق النظر في البراهين ، وهي نوعان :
الأولى / حسيَّة : كانشقاق القمر ، وحنين الجذع ، وشكوى الغزالة ، ونبع الماء من بيت أصابعه الشريفة ، وتطويعه العرب وهدايتهم وجمعهم على معتقد واحد مع أن المشهور عنهم خلاف ذلك .. الخ . وهذا طرقها الخبر الصادق بطريق النقل المتواتر عمَّن : شاهد ، وسمع ، وأحس .
الثانية / معنوية : وهي إخباراته عن بعض المغيَّبات التي تحققت ، ومعجزته الكبرى في القرآن العظيم ، ومعجزة هذه الأحكام التي وردت في الكتاب والسنة وما فيها من مقبولية العقل ، وتلبية حاجة المجتمع الإنساني .. وليس هذا موضع الكلام فيه .
فإذا ثبتت نبوة محمد عليه السلام ، فلابدَّ من دراسة أحكام شريعته البهيَّة ، والأحكام العليَّة ، ودراسة العلوم التي نشأت في الأمة على مرِّ العصور ، لكي نصل إلى مراد الله فنقوم بتطبيقه .
__________
(1) الملك / 14 .(1/25)
وهذا أمرٌ فيه نوع عسرٍ على المبتدئين / ولكي لا يذهب من أعمارهم ما يجب إنفاقه في الأهم ، فقد وضع هذا العلم لاختصار الطريق ، مع التسوية والتمهيد ..
هذا ولما كا رسول الله عليه السلام عربياً ، نشأ في بلاد هم ومات فيها ، فلابدَّ من معرفة : معنى كلمة العرب ، وأجيالهم ومن أيِّها كان رسول الله عليه السلام ، وبلادهم .. وهذا موضوع الفصل القادم إن شاء الله .(1/26)
الفصل الثاني
في
العرب ، وأجيالهم ، وبلادهم
العرب / في اللغة لفظ مأخوذٌ من : أعرب .. يُعرب .. إعراباً .
فـ أعربَ فلانٌ : كان فصيحاً في العربية ، وإن لم يكن من العرب .
و أعرب الكلام : بيَّنه .
و أعرب الكلام : أتى به على وفق قواعد النحو .
و أعرب الكلام : طبَّق عليه قواعد النحو .
و أعرب عن مراده : أبان عنه .
و أعرب عن حاجته : أبان عنها .
و الإعراب : إظهار حركات أواخر الكلِم بحسب تأثير العامل .. فيظهر : الرفع ، والنصب ، والجر ، والجزم .
و التعريب : صبغ الكلمة بصبغة عربية عند نقلها بلفظها الأجنبي إلى اللغة العربية .
و عرب الرجل عَرَباً : فصُح بعد لُكنة .
و عَرُبَ الرجل عُرُوباً ، وعُرُبةً ، وعرابةً ، وعروبيةً : فصُحَ .
و عرُبَ لسانه : فَصُح .. أيضاً .
و عرَّبَ عن لسانه : أبان ، وأفصح .
و عرَّب الكلام : أبانه .
و وعرَّبَ فلانٌ فلاناً : علَّمه العربية .
و عرَّبَ منطقه : هذَّبه من اللحن .
و تعرَّب فلان : تشبَّه بالعرب .
و تعرَّب : أقام بالبادية وصار أعرابيَّاً .
و تعرَّبت المرأة لزوجها : تحببت له .
و الأعراب من العرب : واحدها أعرابي ، هم .. سكان البادية
خَّاصَّة ، ممن يتتبعون مساقط الغيث ومنابت الكلأ .
و العِراب : خيلٌ صريحة النسب ، وهي خلاف [ البراذين ] .
و العِراب : إبل منشأها بلاد العرب ، وهي خلاف [ البُخاتي ] .
والعرب / أُمَّةٌ من الناس ساميَّةُ الأصل ، كان منشؤها جزيرة العرب .. جمعها : أعرُب ، والنسبة إليها : عربي .
فـ يقال : لسانٌ عربيٌّ ، ولغةٌ عربيَّة(1) .
و العُرب : العرب .
و العَرْباء : هي العرب الخالصة في العربية ، الصريحة فيها .
و العَرُوبة : هي المرأة العَرُوب ، أي .. المتحببة لزوجها .
و العَرُوبة : هو يومٌ في الجاهلية .. سمّأه الإسلام [ بيوم الجُمُعة ] .
__________
(1) في كلِّ ما تقدَّم .. راجع : المعجم الوسيط [ إصدار مجمع اللغة العربية ] – القاهرة - ج2 / 590 إلى 591 ..(1/1)
و العُرُبَة : اسم يُراد به خصائص الجنس العربي .
و العروبية : العُروبة .
و المتعَّرِّبة : هم الذين نطقوا بلسان العاربة من العرب ، وسكنوا ديارهم
والمستعربة : هم المتعرِّبة(1) .
فالعرب / [ اسمٌ لجيلٍ من الناس ، لم يزالوا موسومين بين الأمم بالبيان في الكلام ، والفصاحة في المنطق ، والذلاقة في اللسان .. ولذلك سُمُّوا بهذا الإسم .
فالإسم مشتقٌ من الإبانة ، فقولهم .. أعرب الرجل عمَّا في ضميره : إذا أبان عنه ، ومنه قول الرسول عليه الصلاة والسلام : { الثيِّب تُعرب عن نفسها } ، والبيان اسمهم بين الأمم ](2) .
فإذا أفصح المرء وأوضح ، وأبان وشرح ، فلم يُهذرم ، ولم يَدْمِج في كلامه أو يُطمطم ، أو يرطِن رطانة الأعاجم .. فهو [ عربيٌّ ] ، وهذا لا تجده إلاَّ عند هذا الجيل من الناس .
نعم .. لا تقف العرب على متحرِّك ، لكنها لا تُسكِّن من الكَلِم أواسطه إلاَّ ما كان حقُّه كذلك ، بل تُعطيه حقَّه من الحركات بحسب العوامل .
أمَّا غيرهم .. فإنَّه يُسكِّن دوماً ، ويجمع بين الساكنين ، حتى لتغيب الكلمة في فم أحدهم(3) .
فـ للعرب .. لغةٌ رشيقة ، وأنيقةً دقيقة ، لها أسرارٌ في الإضمار والإظهار ، مما لم يتسنَ لغيرهم في لغاتهم ما تيسر لهم في غتهم ، حتى نُسبوا إليها ، ووُسموا بها ، وعُرفوا بين الأقوام ببارز صفتها ، وظاهر سمتها ، فبقيَّة اللغات نسبت إلى الأقوام ، والعرب نُسبوا إلى لغتهم ! .
فإذا كانت بعض الأقوام تعني أسماؤها : المقتلين ، أو الأشدَّاء ، أو الرُحَّل ، أو غير ذلك .. فإنَّ العرب أيضاً : مقاتلون ، وأشدَّاء ، ورُحَّل .. ولكنهم أخذوا اسمهم من الفصاحة في اللسان ، ومن حُسن البيان ، لا بغير ذلك من الأوصاف – وإن كانت حسنةً في اتها - .
__________
(1) المعجم الوسيط – المرجع السابق .
(2) بلوغ الأرب في معرفة أحوال العرب لمحمود شكري الآلوسي _ 1 / 8 .
(3) تحقيق ما للهند من مقولة مقبولة في الذهن أو مرذولة للبيروني – 14 .(1/2)
فالعرب .. أعربنا عن معناهم ، أمَّا ..
الأعراب : فهم كلُّ بدويٍّ ، وإن لم يكن من العرب .
والأعجمي : اسمٌ يُقال لمن في لسانه لُكنة ، وإن كان من العرب .
والعجمي : من ينتسب إلى [ العجم ] خاصَّة ، وإن كان فصيحاً(1) .
وفي [ الأعرابي ] أقوال نقلها العلاَّمة محمود شكري الآلوسي في بلوغ الأرب ، والراجح منها يتفق مع ما قلناه .
يقول الآلوسي : .. لكلِّ أُمَّةٍ لها حاضرةٌ وبادية ، فبادية العرب .. الأعراب ، وقد يُقال أنَّ بادية الروم .. الأرمن ونحوهم ، وبادية الترك .. التتر ونحوهم … ](2) .
فإذا مان العربي من تكلَّم بلة العرب ، أو انتسب إليهم – وإن لم يكن ساكناً في بلادهم ، فليس في لفظ [ الأعراب ] تهويناً لشأن أحد ، بل هو بيانٌ لواقعه وطريقة عيشه .
وكلُّ ما قالوه هو من : دقة العرب في التمييز بين المتشابهات ، والفصل بين المتقاربات ، بل هو من سعة اللغة في استيعاب كلِّ الحالات .
أصل العرب .. وأجيالهم / إنَّ البشرية تبدأ [ بآدم ] – عليه وعلى نبيِّنا السلام - ، فحين أهبطه الله عزَّ وجلَّ من الجنة إلى الأرض – على أرجح الأقوال - ، فإن من المهم للمشتغلين بالأديان وعلوم الأجناس معرفة ما حدث له ، بغضِّ النظر عن سبب ذلك الهبوط(3) .
__________
(1) نقله في الطبقات السنيَّة في فقهاء الحنفيَّة لمحمد عبد الحيِّ اللكنوي – 87 [ طبعة حجرية ] .
(2) بلوغ الأرب [ المرجع السابق ] – 1 / 12 ، وراجع : الصحاح للجوهري ، وفيها كلُّ ما تقدَّم [ نقلاً عن نهاية الأرب في معرفة أنساب العرب للقلقشندي - 18 .
(3) دائرة المعارف الإسلامية – 1 / 26 ، المعارف لإبن قتيبة – 12 .(1/3)
فإذا أهملنا ما قيل عن كون هبوطه كان في : الهند .. أو جزيرة سرنديب – سيلان الحالية - ، وذلك لعدم وجود دليلٍ ، فإن [ حوَّاء ] زوجه أُهبطت في بلاد العرب بلا روايةٍ مخالفة ، والمتفق عليه التقاؤهما في صعيد [ عرفة ] ، وسميَّت كذلك لأن تعارفهما تمَّ على صعيدها ، وإن كانت في التسمية آراءٌ أخرى .
ولعل رواية نزول [ آدم ] في بلاد العرب تترجَّح لأسباب .. منها :
نزول [ حواء ] بلا خلاف فيها .
وما روي عن بنائه الكعبة المشرَّفة ، باعتبارها أول بيتٍ وضع للناس .. إمَّا مطلقاً ، إو باعتبارها أول بيتٍ للعبادة . وعلى الاحتمالين يكون يكون [ آدم ] أول من بناها لهذا الاعتبار ، يقول تعالى :
{ إنَّ أول بيتٍ وُضع للناس للَّذي ببكة مباركاً وهدىً للعالمين }(1) .
وموت [ آدم ] في بلاد العرب ، ودفنه في جبل [ أبو قبيس ] المطلِّ على الكعبة في كهف [ الكنز ] مع [ حوَّاء ] ، وحتى لو قلنا بدفن حواء في مدينة [ جدة ] التى لها فيها قبرٌٌ ظاهرٌ مدَّعى .. ومنها أخذت تلك المدينة اسمها لكونها مدفن جدَّتنا [ حوَّاء ] ، فلكونها لم تفترق عن آدم بعد هبوطهما إلى الأرض ، فإن وفاتهما كانت في جزيرة العرب قطعاً .
ولا يقدح فيما تقدم ما ذكر أن [ آدم ] ومن بعده ولده [ شيث ] دفنا في [ الحطيم ](2) ، فالمآل واحد في كونهما في جزيرة العرب(3) .
__________
(1) آل عمران / 96 .
(2) الحطيم – هو الجزء الذي بقي خارج الكعبة عند إعادة بنائها من قبل قريش قبل البعثة ، والواقع بين الركنين : العراقي .. والشامي ، وذلك لقصور النفقة عندهم . [ راجع : أخبار مكة للأزرقي ] .
(3) المعارف لإبن قتيبة ، وفيه فرار [ قابيل ] بعد قتل أخيه [ هابيل ] إلى شرقي عَدَنْ – 11 إلى 12 ، وراجع : مفتاح كنوز السنة – 42 .(1/4)
ومما يؤيد أن الكعبة من بناء آدم أو ولده شيث ، أنَّ أبي الأنبياء [ إبراهيم ] وولده [ اسماعيل ] – عليهما وعلى نبينا السلام – قاما برفع القواعد من البيت ، والرفع يقتضي وجود أُسٍّ لما قاما برفعه ، وذلك بعد خرابها بالطوفان الذي حدث في عهد النبيِّ نوح عليه وعلى نبيِّنا السلام .
يقول تعالى : { وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل ربَّنا تقبَّل منَّا إنَّك أنت السميع العليم }(1) .
ومما يؤيد ما تقدَّم ذكره عن [ عرفة ] ، وإن ورد عن وجه تسميتها أن سيَّدنا إبراهيم حينما انتهى جبرائيل عليه السلام من تعليمه مناسك الحج ، قال : عرفت .. عرفت(2) ، فقيل أنها سميَّت بذلك لهذا السبب .
ولعل من تعزيزات ما قيل : أن آدم كان يتحدث بالعربية ويكتب فيها ! ، وأنها هي لغته في الجنَّة .
وعلى الرأي الغالب ، فإن العرب من نسل : [ سام بن نوح ] ، وقد سكنوها بعد الطوفان(3) .
وعلى هذا .. فإن أصل البشرية في بلاد العرب ، وأصل الكتابة ، وأصل اللغات ، وأصل الحضارة لقيام آدم ببناء الكعبة ! .
ولقد وقع الاتِّفاق على أن هناك من ولد [ سام بن نوح ] جدٌّ ينتسب إليه أجيالٌ من الناس اسمه [ قحطان ] .
__________
(1) البقرة / 127 ، وراجع : مفتاح كموز السنَّة – 42 .
(2) راجع : دائرة المعارف الإسلامية – 1/ 26 إلى 27 ، والمراجع المحال عليها فيها ، مثل .. الطبري في التأريخ ، والطبري في التفسير ، والمسعودي ، واليعقوبي ، والثعلبي ، وابن العبري ، والسيرة الحلبية.
وراجع : جمهرة أنساب العرب لإبن حزم الأندلسي بطبعتيه العادية والمشجَّرة .. التي شجرها [ كامل سلمان الجبوري ] تحت اسم [ قلائد الذهب في أنساب العرب ] ، وسبائك الذهب لأبي الفوز محمد أمين العباسي السويدي البغدادي ، وهداية المهتدي في الفقه الحنفي – 1 / 81 [ طبعة لكنهو ] ، والمعارف لإبن قتيبة – 2/ 113 .
(3) راجع المراجع السابقة في الهامش السابق .(1/5)
فقيل : أنَّه ولدٌ لـ [ هود ] العربي الساميِّ ، فيكون قحطان من [ عاد ] وهي من العرب البائدة – كما سيأتي -(1) .
والقول السابق ساقطٌ ، لما ورد في القرآن الكريم :{ وأمَّا عادٌ فأُهلكوا بريحٍ صرصرٍ عاتية ( سخَّرها عليهم سبع ليلٍ وثمانية أيامٍ حسوما فترى القوم فيها صرعى كأنَّهم أعجاز نقلٍ خاوية ( فهل ترى لهم من باقية }(2).
على أن من يُصرُّ على بنوته لهود ، يستدل بقوله تعالى :{ ولما جاء أمرنا نجينا هوداً والذين آمنوا معه برحمةٍ منَّا ونجيناهم من عذابٍ غليظ }(3) .
فيكون المعنى / أن من لم يؤمن مع هود ما بقي لهم من باقية ، فهم من [ البائدة ] ، ومن نجا هو ممن آمن .. ولعل أحدهم هو [ قحطان ](4) .
والجمع بين الآيتين بهذه الصورة لا تأباه القواعد الأصولية – أصول الفقه – على مذهب الإمام الشافعي رضي الله عنه ، فالعمومات في الآية الأولى ليست قطعية بل ظنيَّة ، لأن عنده .. [ ما من عامٍ إلاَّ وجرى عليه التخصيص ] ، فتخصيصه ثانيةً بالآية الأخرى مقبولٌ بهذا الاعتبار ، بل حتى ولو كان التخصيص بها ابتداءً ، وعند الغير لا تُساعد أُصولهم على هذا الفهم(5) .
ولقد جعل البعض الآخر من علماء الأنساب من [ قحطان ] إبناً لـ [ عابر بن شالخ بن أرفخشذ بن سام بن نوح ] ، فما ساقوه بهذا الشكل قد يختلف عمَّا ذكرناه قبلاً .
__________
(1) الهداية والجمهرة والسبائك – المراجع السابقة ، ونفس المواضع .
(2) الحاقَّة / 6 إلى 8 .
(3) هود / 58 .
(4) ممن يصرُّ على ما تقدَّم : نشوان بن سعيد الحميري في منظومته المسماة : ملوك حمير وأقيال اليمن ، مطبوع مع شرحها : خلاصة السيرة الجامعة لعجائب أخبار الملوك التبابعة .
(5) الفقه الإسلامي أساس التشريع [ بحث الشيخ زكيِّ الدين شعبان / منهج القرآن في بيان الأحكام ] – 37 ، إصدار المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية – لجنة تجلية الشريعة الاسلامية .(1/6)
ولقد جعل هؤلاء من [ عابر ] جداً يلتقي فيه سيِّدنا إبراهيم مع النسب القحطاني ، فيكون اجتماع القحطانيين والعدنانيين في ذلك الجدُّ انتهاءً إلى الجدِّ الجامع بينهما [ سام بن نوح ] .
وأيَّاً ما كان الحال ، والله أعلم به ، فالعرب بأجيالها - الآتي ذكرها – كلها ساميَّة الأصل ، فهذا حدٌّ متَّفق عليه(1).
وكما وقع الإتفاق على وجود جدِّ اسمه [ قحطان ] ، فقد وقع الاتِّفاق على وجود جدٍّ لجيل من العرب اسمه [ عدنان ] .
وعدنان هو جدُّ العدنانية ، وهو من ولد سيِّدنا اسماعيل بن إبراهيم الذي ينتهي نسبه إلى [ عابر ] ، وهؤلاء قد نطقوا [ بالآرامية ] فترة ، ثم تحول اسماعيل إلى العربية وهي لغة قبيلة [ جرهم ] – وهي من العرب البائدة - ، وبعضهم يجعلها من العاربة – أي القحطانية - .
وأيَّاً ما كان الحال ، فالكل عربٌ ومن جزيرة العرب ، وكلُّهم ساميُّون .. لكن الخلاف في الجد الذي يلتقون فيه .
ولقد جعل بعضهم العرب يرجعون إلى : قحطان ، وعدنان ، وقضاعة ، بل جعل البعض [ قحطان ] من ولد اسماعيل ، وكذلك العكس(2) .. وكلُّ ذلك ليس بشئ .
وقد اختلفوا في [ قضاعة ] .. هل هي من عدنان أم قحطان ؟ ، ولكن الحد المتفق عليه بينهم .. أنهم من العرب ، وبلادهم أعالي الجزيرة مما يلي الفرات وأغلب بلاد الشام .
ولا أرى وجهاً لإفرادهم بالذكر ، فما زال الناس يقولون : أن العرب قحطانية ، وعدنانية .. وكفى .
ومهما قيل في نسب قحطان وعدنان إلى سام بن نوح ، فالمتفق عليه أن لقحطان ولدٌ اسمه [ يعرب ] ، هو الذي أعرب الكلام(3) .
__________
(1) سبائك الذهب للسويدي – 12 وما بعدها ، المعارف لإبن قتيبة – 16 .
(2) الجمهرة لابن حزم – مواضع عدة .. والصفحة 7 ، ونهاية الأرب للقلقشندي – 39 .
(3) المعارف لابن قتيبة – 38 وما بعدها ، 62 وما بعدها ، أقيال اليمن للحميري – 27 إلى 29 .(1/7)
وأنا أشك في جعل بدء النطق بالعربية يبدأ بيعرب ، بل هو أقدم من ذلك وقد يرقى إلى آدم ، وإلى سام .
ولعل تسمية قحطان اسمه بيعرب ، لأن قومه كانوا يُعربون الكلام ، فمن فعلهم اشتق له اسماً ، ثم اشتق اسم القوم كلَّهم ، ولا عكس(1) .. والله أعلم بالحال .
أجيال العرب / يقسم الكاتبون في تأريخ العرب ، يقسمون أجيالهم إلى تقسيمات عدَّة يتفاوتون والمآل واحد .
ولعل أحسن تقسيم تركن إليه النفس .. هو الآتي :
أولاً / الجيل الأول .. العرب البائدة – وهم الذين لم يبقَ من ينتسب إليهم – في الأقل - ، بل قول الأكثر هو عدم بقاء أحدٍ منهم .
ويمكن أن يُعدَّ من هؤلاءِ كلٍّ من : طسم ، وجديس ، وعاد ، وثمود ، وجُرهم ، ومَدْين ، وأُمَيْم ، وحضرموت ، وسبأ ، والأقيال ، والعماليق ..
وسبب هلاكهم وانقطاع نسلهم .. متفاوت :
فبعضهم .. بما قدَّره الله عليهم بسبب أفعالهم .. كعادٍ ، وثمود .
فعاد – أوردتُ قبلاً بعض ما جاء في القرآن الكريم بحقِّهم .
وثمود – ورد في القرآن بحقِّهم الكثير ، منه قوله تعالى : { وأنَّه
أهلك عاداً الأولى ( وثمود فما أبقى }(2) .
وبعضهم .. أهلكتهم الحروب ، ونستفيده من إشارة القرآن الكريم
في معرض امتنانه على أهل مكة ، حين جعل الله لهم [ حَرَماً آمناً ]
وأن الآخرين يُهلك بعضهم بعضاً .. يقول تعالى : { أ ولم نمكِّن لهم حَرَماً آمناً يُجبى إليه ثمرات كلِّ شئ }(3) .
و يقول تعالى : { أ ولم يروا أنَّا جعلنا حَرَماً آمناً ويُتخَطَف الناس
من حولهم }(4) .
وأهلك [ سيل العرِم ] الكثير ممن لم يرحل قبل تهدُّم سدِّ مأرب ..
يقول تعالى : { لقد كان لسبأ في مسكنهم آيةٌ جنَّتان عن يمينٍ
__________
(1) وممن يُصرُّ على أنَّ أول من نطق بالعربية .. هو يعرب : الحميري في منظومته ، التي يقول فيها :
أم ابن يعرب وهو أول معرب في الناس أبدى النطق بالافصاح
(2) النجم / 50 إلى 51 .
(3) القصص / 57 .
(4) العنكبوت / 67 .(1/8)
وشمالٍ كلوا من رزق ربّكم واشكروا له بلدةٌ طيِّبةٌ وربٌٌّ غفور(
فأعرضوا فأرسلنا عليهم سيل العرِم وبدَّلناهم بجنتيهم جنتين ذواتي
أُكُلٍ خمْطٍ وأثلٍ وشئٍ من سدرٍ قليل ( ذلك جزيناهم بما كفروا
وهل نُجازي إلاَّ الكفور }(1).
وأهلكت قبيلة قريش [ جُرهماً ] لمَّا بغوا في الحرم ، واستبدوا
بمكة بما حوت من مقدَّسات ، ولم يكن لهم حقٌ سابق ، بل هي
لولد اسماعيل عليه السلام ، فتجمَّع أولاد اسماعيل على : قُصيٍّ
بن كلاب ، فسمِّيَ [ مُجمِّعاً ] .
ثم تنادوا على ألاَّ يُبقوا جُرهميَّاً في مكة ، بالرغم من كونهم
أخوالهم ، فأعملوا فيهم القتل ، فأفنوهم عن بكرة أبيهم .. حتى أنَّ
المنادي نادى في بطن مكة : من قتل جُرهمياً كافئناه ، وما نجا
منهم إلاَّ واحدٌ ، أخذ ينظر من فوق جبل [ أبي قبيس ] ، ولما
سمع نداء المنادي ، انشأ متحسراً على قومه ومآلهم ، وما حصدوه
نتيجة ظلمهم ، وما آل إليه أمرهم من انقطاع ذكرهم ، وانحسار
ظلِّهم عن مكة .. بل من الحَرَم .. بل من الأرض ! ، والأرض
لله يورثها من يَشاء من عباده ، فأنشأ قصيدته المشهورة –
التي ذهبت أبياتها مذهب الأمثال – والتي يقول فيها(2) :
وقائلةٍ والدمع سكبٌ مبادر وقد شرَّقت بالدمع منها المحاجر
كأن لم يكن بين الحَجُون إلى الصفا أنيسٌ ولم يسمر بمكة سامر
بلى نحن كنَّا أهلها فأبادنا صروف الليالي والجدود العواثر
غير أنِّي لا أغفل قول من قال بصيرورة هؤلاء وبقاياهم إلى غيرهم من قبائل العرب ، فسمَّاهم هؤلاء [ بالعاربة ] ، وسمِّوا اللاحقين [ بالمستعربة ](3) ، ولكن ما اتبعناه أفضل ، وإن كان ما قاله هذا البعض من وجود بقيّةٍ مقبول ، لكن لم يبقَ لهم في الناس اسمٌ ولا رسمٌ !! ، فسبحان محوِّل الحال من حالٍ إلى حال ، فإنَّ: [ دوام الحال من المُحال ].
__________
(1) سبأ / 15 إلى 17 .
(2) بلوغ الأرب للآلوسي – 1 / 230 .
(3) بلوغ الأرب – 1 / 8 .(1/9)
ثانياً / الجيل الثاني .. العرب العاربة – على وزن اسم الفاعل ، فهم الراسخون في العروبية ، وذلك لعدم نطقهم بلغةٍ أخرى غير العربية ، وهم باقون لم تَبِدْ قبائلُهم – على خلاف من باد – ولذلك لم يدخلوا في البائدة لهذه الاعتبارات .
نعم .. البائدة هم من العاربة من جهة عدم نُطقهم بغير العربية قط ، لكن تمييزاً لأولئك عن باقي العاربة التي لم تبد ، فقد سموا [ بالبائدة ] تمييزاً عمن لم يبد منهم .
والعاربة .. هم القحطانية ، أو اليمانية ، فمن نزح منهم قبل سيل العرم عدَّ من العاربة أصلاً ، ومن أفناه الله بالسيل العرِم ، فقد عُدُّوا من البائدة ، وإن كانوا عاربةً أصلاً ، لأنهم أصلاء في العروبية .
وفي كلِّ الأحوال فإن المسألة اصطلاحية ، وكما قالوا : [ لا مشَّاحة في الاصطلاح ] .
فمن القحطانية .. القبائل اليمانية الموجودة الآن ، ومنها : كهلان ، ومذحج ، وخولان ، وهَمْدان ، وجيزان .
ومن هؤلاء : قبائل طئِّ .. وهم كثر منهم قبيلة شمَّر المعروفة وغيرها ، وزبيد وتفرعاتها ، والعزَّة ، والعبيد ، والجنابيين ، والدليم ، والأنصار من الأوس والخزرج .
ثالثاً / الجيل الثالث .. العرب المستعربة – أي : العرب المتحولة في لسانها ، وليس في أصولها .
إن وزن [ استفعل ] في العربية يأتي باستعمالات عدَّة ، منها :
طلب وقوع الفعل : تقول [ استقتل فلان ] أي : طلب القتل ، واستغفر : طلب الغفران ، واستهدى : طلب الهداية .. الخ .
للتحول والصيرورة : تقول [ استعرب فلان ] أي : تحوَّل عربياً .(1/10)
فالعدنانية هم من ولد اسماعيل ، وأبوه كان يتكلم [ الآرامية ] ويسكن جنوبيِّ العراق ، ثم انتقل إلى [ حرَّان ] عن طريق [ عانات ] ، ثم إلى فلسطين ، ثم إلى مصر ، ثم عاد ومعه [ هاجر ] التي أهداها فرعون له ، وهي من أبناء الملوك في جنوبيِّ مصر ، ولم يكن قد مسَّها أحد ، فزوجته منها زوجته سارة زواجاً شرعيَّاً ولم تكن سريَّةً له – كما تزعم التوراة - فولدت له اسماعيل ، فوجدت عليها في نفسها زوجته الأولى وابنة عمه [ سارة ] التي لم تكن قد حملت بعد ، مما حدا بإبراهيم لإبعاد أم ولده اسماعيل ، فأنزلها – بأمر ربِّه – في وادي مكة من جبال [ فاران ] – الحجاز - .
وأورد القرآن الكريم هذه الأحداث ، في قوله تعالى :
{ ربَّنا إنِّي أسكنت من ذريتي بوادٍ غير ذي زرعٍ عند بيتك المحرَّم ربَّنا ليُقيموا الصلاة فاجعل أفئدةً من الناس تهوي إليهم وارزقهم من الثمرات لعلَّهم يشكرون }(1) .
فإبراهيم أسكن بعض ذريته وليس كلَّهم ، بدليل [ مِنْ ] التبعيضية ، وكان يعرف – بتعريف الله له – مكان البيت والحرم ..
يقول تعالى : { وإذْ بوَّأنا لإبراهيم مكان البيت أن لا تُشرك بي شيئاً وطهِّر بيتي للطائفين والقائمين والركَّع السُجُود }(2) .
لقد ذهب إبراهيم بزوجته وولده إلى بلاد العرب .. وإلى الحجاز .. وإلى مكة بالذات من دون بلاد الله ، لحكمةٍ اقتضتها الإرادة الربانية ، والحكمة الإلهية ، لكي يكون هناك جيلٌ جديدٌ من العرب ، تكون فيه :
النبوة ، والسيادة ، والملك ، والظهور على الدنيا برمتها .. وإلاَّ ففي فلسطين وعموم بلاد الشام مع طيب هوائها ، وتوفر مائها ، واعتدال أجسام أهلها ، ما كان له فيه مندوحة عن بلاد فاران وجبال الحجاز ، وما هي إلاَّ { حكمةٍ بالغة }(3) ، { ولتعلمنَّ نبأه بعد حين }(4) .
__________
(1) ابراهيم / 37 .
(2) الحج / 26 .
(3) القمر / 5 .
(4) ص / 88 .(1/11)
ثم حملت [ سارة [ .. [ بإسحق ] ، فهو أصغر من اسماعيل ، والأخير هو [ الذبيح ] ، واليهود – لعنهم الله - يدَّعون غير ذلك ، وبسبب هذا وبسبب مجئ النبوة في آخر الزمان في ولد اسماعيل – وقد اعتادوها فيهم - ، فقد أعلنوا بالعداوة لمحمدٍ عليه السلام وقومه والمؤمنين به إلى يوم الدين ، فالنزاع معهم دينيٌّ وليس غير ذلك ، وفي إشارة إلى تسلسل أولاد إبراهيم ، يقول القرآ الكريم :
{ الحمد لله الذي وهبني على الكِبَر اسماعيل واسحق إنَّ ربِّي لسميع الدعاء }(1). فتقديم اسماعيل بالذكر على اسحق دلالة على أسبقيتة ولادته.
ثم يتحدث القرآن عن قصَّة الذبح والفداء ، ثم بعد ذكر الحادثة ترد البشارة بإسحق ! .. فكيف يكون هو الذبيح ؟ ؟ ! .
يقول تعالى : { ربِّ هب لي من الصالحين ( فبشرناه بغلامٍ عليم ( فلَمَّا بلغ معه السعي قال يا بُنَيَّ إنِّي أرى في المنام أنِّي أذبحك فانظر ماذا ترى قال يا أبتِ افعل ما تؤمر ستجدني إن شاء الله من الصابرين ( فلما أسلما وتلَّه للجبين ( وناديناه أن يا إبراهيمُ ( قد صدَّقت الرؤيا إنَّا كذلك نَجزي المحسنين ( إنْ هذا لهو البلاء المبين ( وفديناه بذِبحٍ عظيم ( وتركنا عليه في الآخرين ( سلامٌ على إبراهيم ( كذلك نَجْزي المحسنين ( إنَّه من عبادنا المؤمنين ( وبشرناه بإسحق نبيَّاً من الصالحين }(2) .
ولأن بناء البيت من إبراهيم كان بمشاركة اسماعيل ، كان العهد له دون اسحق جدِّ اليهود ، فلأجل ذلك كلِّه – ولكثيرٍ غيره – حاربوا محمداً عليه السلام ، وأعلنوا له ولدينه بالعداوة ، وسيبقون هكذا إلى يوم القيامة ، ولن يُنتزع حقدُهم قط .
__________
(1) 33 إبراهيم / 39 .
(2) الصَّافات / 100 إلى 112 .(1/12)
ويقول تعالى : { وإذ ابتلى إبراهيمَ ربُّهُ بكلماتٍ فأتمَّهنَّ قال إني جاعلك للناس إماماً قال ومن ذريتي قال لا ينال عهدي الظالمين ( وإذ جعلنا البيت مثابةً للناس وأمناً واتَّخذوا من مقام إبراهيم مصلَّى وعهدنا إلى إبراهيم وإسماعيل أن طهِّرا بيتيَ للطائفين والعاكفين والرُكَّع السُجُود ( وإذ قال إبراهيم ربِّ اجعل هذا البلد آمناً وارزق أهله من الثمرات مَنْ آمَنَ بالله واليوم الآخِر قال ومَنْ كَفَرَ فأُمَتِّعُهُ قليلاً ثم أضْطَرُّهُ إلى عذابِ النار وبئس المصير ( وإذ يرفع إبراهيمُ القواعد من البيت وإسماعيل ربَّنا تقبَّل منَّا إنَّك أنت السميع العليم ( ربَّنا واجعلنا مُسلمين لك ومن ذريَّتنا أُمَّةً مسلمةً لك وأرِنا مناسكنا وتُبْ علينا إنَّك أنت التوَّاب الرحيم ( ربَّنا وابعث فيهم رسولاً منهم يتلوا عليهم آياتك ويعلمهم الكتاب والحكمة إنَّك أنت العزيز الحكيم }(1) .
هذا ولما كانت .. هاجر أم إسماعيل مصرية ، وأبوه لم يتكلم من قبل بالعربية ، فتحوَّل لسانه هو إليها ، أي : استعرب .. فسميَّ نسله [ بالمستعربة ] ، وهم : العدنانية .
ولو أخذنا بالرأي الذي يجعل كل من : قحطان وعدنان ، يلتقيان بجدٍّ واحد في [ عابر ] من ولد سام بن نوح ، فالتحول كان مؤقتاً عن أصل العربية ، وإليها عاد لسان العدنانية ، بعد نطقهم [ بالآرامية ] بسبب المساكنة ، ولفترة محدودةٍ من الزمان .
ولا يُعجبني قول من يقول .. أن بقايا العرب البائدة هم المستعربة لا غيرهم ، فهم اندمجوا في العاربة ، فلم يحصل لهم تحوُّلٌ باللسان ، ولا بالإسكان ، بل ذابت قبائلُهم في العاربة ليس إلاَّ ! ، فأين التحوُّل ليجعلوهم [ مستعربة ] ؟ ! .
__________
(1) البقرة / 124 إلى 129 .(1/13)
ثم كبر إسماعيل وأصهر إلى قبيلة [ جُرهُم ] اليمانية القحطانية ، والتي سكنت الحَرَم بجوار وادي مكة بعد مفارقتها لليمن بسبب [ سيل العرم ] ، ولم تكن تنزل فيه لأنه { غير ذي زرعٍ } .. لأنه لا ماء فيه .
وسبب سكناها في بطن مكة – بعدئذٍ – هو : أنَّهم رأوا الطير يحوم حول الوادي ، وهذا دليل وجود الماء في الصحاري ، وهو دليل وجود الأرض في البحار ، فأرسلوا من جاء بعدئذٍ ليخبرهم أن امرأة وطفلها في الوادي ، والماء ينبع من تحت رجل الوليد وهي تريد المحافظة على الماء بكفِّ التراب حوله ، وتقول له : زِم .. زِم !! ، ويقول عليه السلام :
{ رحِم الله أمَّ اسماعيل لو تركت زمزم .. أو قال : لو لم تغرف من زمزم ، لكان عيناً معيناً }(1) .
وحدث ذلك بعد عطش وليدها عطشاً شديداً بعطشها هي ، ونضوب حليبها ، فذهبت إلى رابية [ الصفا ] لتتفحص الماء ، فأوهمها السراب فنزلت مهرولة إلى رابية [ المروة ] .. وهكذا سبعة أشواطٍ ، لتعود فتجد الماء بينرجلي الوليد ! .
لم تنزل جرهم إلاَّ بإذن من هاجر ، لأنها صاحبة الماء ، فتربى اسماعيل معهم ، ونطق لغتهم ، وتزوج منهم ، ثم بنى وأبوه البيت الذي كان موضعه معلوماً على شكل رابيةٍ في وسط الوادي تأخذ السيول من أطرافها .. وأُسُّه باق(2) .
وقد توارث وأبناؤه خدمة البيت ، الذي اغتصبت منهم جرهم ذلك ، ثم أعاده قصيُّ ، وتنادت قريش لإبادة جرهم – كما ذكرنا من قبل - ، فعادت : رئاسة مكة ، وسدانة الكعبة ، وسيادة الحرم إلى أبناء اسماعيل .
فالعدنانيون هم : حملة الرسالة ، وبُناة البيت وحُماته ، وهم حفظة اللغة حين نزل القرآن بلهجتهم .. ومن العدنانية اليوم في العراق :
__________
(1) قصص الأنبياء لإبن كثير – 155 .
(2) المرجع السابق .(1/14)
السادة الأشراف الحسنيون والحسينيون ، والعقيليون أبناء عقيل بن أبي طالب ، والعباسيون ، والبكريون من نسل سيِّدنا أبي بكر الصدِّيق ، والعمريون من نسل عمر بن الخطاب ، والعثمانيون من نسل عتمان بن عفَّان .. وعامَّة الأمويين .
كذلك من القبائل العدنانية : تميم ، وأسد ، وعنزة ، والموالي .. وغيرهم .
رابعاً / الجيل الرابع .. العرب المتجمعة – وهم العرب الذين وحدهم الإسلام تحت رايته ، فلم يكن لهم همٌّ إلاَّ نصرة الدين ، وتركوا العصبية التي نهى عنها رسول الله عليه الصلاة والسلام .
فهم العرب الذين جمَّعهم الإسلام تحت رايته ، وأزال عنهم عنعناتهم ، ووَّحد كلمتهم بالإسلام ، فلا منافرة ولا مفاخرة ، فلم يعد للعدنانية والقحطانية مكان ، بل الكل هم أبناء الإسلام .
وهذا الجيل لم يقل به أحدٌ من أصحاب الأنساب ، وأنا أول قائل به – ولا فخر - .
خامساً / الجيل الخامس .. العرب المستعجمة – والعُجمة .. هي : اللُكنة في اللسان ، والخلط باللغة ، واللحن بها ، فينطقون لغتهم وكأنهم [ أعاجم ] – أي من غير العرب - ! .
وهؤلاء بدأوا بانتشار العرب في الأمصار ، وتنائيهم في الديار ، وانقطاعهم عن بلادهم في الأقطار .
وكذلك .. كان بدء هذا الجيل : بسكنى العرب في المدن ، واختلاطهم بالأعاجم : فرساً ، وتركاً ، وروماً ، وهنداً .
فالمستعجمة صنفان :
صنفٌ استعجموا في غير بلادهم ! .
وصنفٌ استعجم لسانهم وهم في بلادهم ! .
وإنك لتجد في كلِّ بلاد الإسلام .. عرباً استعجموا ، وهم يملأون الدنيا في بلاد : الهند ، وما وراء النهر ، وخراسان ، والروم ، والجبال .. الخ .
بلاد العرب
وقد تسمى بجزيرة العرب ، وفي الحقيقة هي شبه جزيرة لإحاطة المياه من جوانب ثلاثة .
ففي بلاد العرب .. ولد محمد عليه الصلاة والسلام ، وفيها بُعث ، وفيها نزل القرآن ، وفيها شرِّعت الأحكام ، وفيها مات ملتحقاً بالرفيق الأعلى .. ولهذا وجب علينا معرفة حدودها .(1/15)
وقد جعل الإسلام لهذه البلاد أحكاماً خاصَّةً بها :
ففيها : الحَرَم ، والكعبة ، وزمزم ، والحطيم ، ومقام إبراهيم .
ولا يجوز اجتماع دينين فيها ، لقول المصطفى : { لا يجتمع دينان فيجزيرة العرب } .
عدم جواز إحداث معابد للملل الأخرى غير المسلمين فيها .
ولكون ساكنيها هم العرب ، وهؤلاء لم يُقبل منهم غير : الإسلام ، أو السيف .
لكلِّ ما تقدم ، ولما يظهر من أمورٍ غيرها .. وجب علينا معرفة حدود بلاد العرب .
تبدأ بلاد العرب من نقطة اللتقاء شط العرب بالخليج ، لتكون [ عبَّادان ] ضمن بلاد العرب ، ولهذا قالوا : [ ليس بعد بيان الله بيان ، ولا قرية بعد عبَّادان ] ! .. أي : لبلاد العرب ، ثم يسير الحدُّ مع الفرات إلى التقائه بالخابور .. مروراً : بالحيرة ، والكوفة ، والأنبار ، وهيت ، وحديثة الفرات ، وعانات ، والرقة .
ثم ينحرف الحدُّ غرباً إلى [ بالس ] ، ثم إلى [ السويداء ] ثم إلى [ العقبة .. أو أيْلة ] ، ثم يسير مع ساحل بحر [ القلزم ] مستديراً حول بلاد : اليمن ، وحضرموت ، وهَجَر ، ثم إلى شط العرب .
أمَّا البلاد العربية .. أي : التي سكنها العرب ، فهي غير جزيرة العرب ، وبعضها سكنوها قبل الإسلام ، مثل : الشام ، والعراق .
ثم غلب العرب .. ولغتهم على كثيرٍ من البلاد ، حتى استقر أمر البلاد العربية – وهي غير الجزيرة – على ما هو عليه الآن ، فيجب عدم الخلط بين الأمرين بحالٍ من الأحوال .
والعرب / كُلِّفوا بالإسلام أو المقاتلة بالسيف ، ولم يقبل الإسلم منهم أن يكونوا [ ذميين ] ، أي : محتفظين بأديانهم السابقة مع البقاء في بلاد العرب ، وذلك لأن الإسلم كرَّمهم بأُمور .. منها :
اختيار نبيِّ آخر الزمان ، وخاتم الرسل .. منهم .
اختيار لغتهم لساناً لخطابه لعبيده في هذا الدين .
اختيار بلادهم موطناً لنزول القرآن ، وتشريع الأحكام .
اختيار بلادهم موطناً لولادة النبيِّ الخاتم ، وموطناً لمدفنه .(1/16)
ولما كان كلُّ تكريمٍ ونعمة ، لا بدَّ أن يقابلها تكليف وواجب ، فالإنسان حين يكون صحيح البدن .. فإنَّه يُكلف بالصلاة ، وحين يكون ذا مالٍ .. فإنَّه يُكلَّف بالزكاة ، وحين تجتمع نعمة المال مع صحة البدن .. فإنَّه يُكلف بالحج ، وإن كان ذا علمٍ .. فإنَّ زكاته إنفاقه كلَّه ، ومن كان ذا جاهٍ .. فإنه يبذله في قضاء مصالح الناس .
فلمّا منَّ الله جلَّ وعلا على العرب بتلك المنن التي ذكرناها ، فإنَّه كلَّفهم بتلك التكاليف الزائدة عن بقية المسلمين ، فلم يختارهم الله لأفضليتهم قبل اسلامهم ، بل لسعة لغتهم ، واستعدادهم الفطري لحمل الرسالة إلى الناس كافَّة .. فتنبه لهذا ولا تغفله .(1/17)
الباب الثاني
في
تعاريف المصطلحات المتداولة الأساسية
[الجاهلية ، الدين ، الإسلام ، الشريعة ، الفقه ]
شرحها ، وتقسيماتها ، وتنظيمات الجاهلية
الدارسون للشريعة الغرَّاء ، ترد على ألسنتهم الكثير من المصطلحات ، وقد يستعملها البعض استعمالاً خاطئاً ، أو يستغل عدم الوضوح أقوامٌ من غير المسلمين فيُلبِّسوا على المسلمين ما يلبِّسون .
ولما كانت المنهجية الإسلامية تُلزم بتحديد مفاهيم المصطلحات قبل الدخول في تفصيلاتها(1) .. فلأجل هذا وذاك ، نكون ملزمين ببيان المعاني اللغوية والاصطلاحية للألفاظ التي ترد في ثنايا البحوث التي نحن بصددها ، وكذلك المعاني المختلفة للمصطلح الواحد وبحسب استعمالاته المختلفة ، أو في الأزمان المتتالية .. وبحسب الترتيب الآتي :
أولاً / الجاهلية(2) .. من :
جَهِل فلانُ على غيره .. جهلاً ، وجهالةً : جفا وتَسافَهَ ، وفي التنزيل العزيز : { وإذ قال موسى لقومه إنّ الله يأمركم أن تذبحوا بقرة قالوا أتتَّخذنا هُزُوَا قال أعوذ بالله أن أكون من الجاهلين }(3) .
والجَهْل .. قد يأتي : عكس العلم .. وفي التنزيل العزيز : { يا أيُّها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأِ فتَبَيَنوا أن تُصيبوا قوماً بجهالةٍ فتُصبحوا على ما فعلتم نادمين }(4) .
وجَهِل الحق : أضاعه ، فهو جاهل ، وجمعها .. جُهَّال ، وجهلاء ، وجُهَّل .
والجهول : اسمٌ من الجهل بمعنى المضيِّع .
__________
(1) راجع : بحثنا [ المرة والتكرار في أوامر النصوص الشرعية ] - مستل من المجلد الثامن والعشرين من مجلة المجمع العلمي العراقي / 1977 – الصفحة 257 .
(2) راجع : المعجم الوسيط لمجمع اللغة العربية في القاهرة / ج1 ، مادة [ جهل ] .
(3) البقرة / 67 .
(4) الحجرات / 6 .(1/1)
والجاهلية – في الاصطلاح - : ما كان عليه العرب قبل الاسلام من الجهالة والسفاهة .. وفي التنزيل العزيز : { يا نساء النبيِّ لستنَّ كأحدٍ من النساء إن اتَّقيتنَّ فلا تخضعنَ بالقول فيطمع الذي في قلبه مرضٌ وقلنَ قولاً معروفاً ( وقَرْنَ في بُيُوتِكُنَّ ولا تَبَرَّجنَ تبرج الجاهلية الأولى وأقِمن الصلاة وآتين الزكاة وأطِعن الله ورسولَه إنَّما يُريد اللهُ ليُذهب عنكم الرجسَ أهل البيت ويُطهركم تطهيرا }(1) .
ويقول الشاعر :
ألا لا يجهلَنْ أحدٌ علينا فنجهل فوق جهل الجاهلينا
فالجاهلية : هي الفترة السابقة للبعثة المحمديَّة ، وقد تكون في الفترة التي بين نبيين حين يبتعدون عن تعاليم النبيِّ السابق ، إلى أن يأتي النبيُّ اللاحق فيصحح لهم .
[ وفي حديثٍ أخرجه : الشيخان ، وأبو داود ، والترمذي ، أنه صلى الله عليه وسلم قال لأبي ذر وكان قد عيَّر رجلاً أُمِّه أعجمية ، فشكاه إلى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم .. : { يا أبا ذر إنَّك امرؤٌ فيك جاهلية }(2) ، وفسَّرها ابن الأثير بالحالة التي عليها العرب قبل الإسلام ، من .. الجهل بالله تعالى ، ورسوله عليه السلام ، وشرائع الدين ، والمفاخرة بالأنساب ، والكِبر ، والتجبر ، وغير ذلك .. والله تعالى أعلم ](3).
والجهل في اصطلاح علماء الكلام : اعتقاد الشئ على خلاف ما هو عليه .
والجهل البسيط – كما قرره علماء المنطق - : عدم العلم بما من شأنه أن يُعلم .
__________
(1) الأحزاب / 33 ، ويظهر أنَّ [ أهل البيت ] هم نساء النبيِّ كما يدل عليه سياق النص ، ولهذا مؤيدات من القرآن الكريم ، راجع : هود / 73 ، والقصص / 12 ، وآل عمران / 121 ، يوسف / 25 .
(2) البخاري – الإيمان / 29 ، ومسلم – الإيمان / 3139 و 3140 ، وأبو داود – الأدب / 4490 ، وأحمد – مسند الأنصار / 20461 .
(3) راجع : روح المعاني في تفسير القرآن والسبع المثاني لأبي الثناء محمود شهاب الدين الآلوسي – 21 / 8 وما بعدها .(1/2)
والجهل المركب – عندهم - : اعتقادٌ جازم غير مطابق للواقع .
ففي البسيط يعرف الجاهل أنَّه لا يعلم ، وفي المركب لا يعرف ذلك فيجزم بما يعتقده مع مخالفته للواقع !! .
فأهل الجاهلية .. كانوا في جهلٍ مركب ، لأنهم أصروا على اعتقاد ما هم عليه ، رغم مخالفته للفطرة ومقتضى العقل السليم ، فسفهوا وتسافهوا إذ تجاوزوا المعقول في : العبادة ، والأفعال ، وترك الحِلْم .. وهو مقتضى العقل .. وفي التنزيل العزيز : { أم تأْمُرُهُم أحلامُهُم بهذا أم هم قومٌ طاغون }(1) .. أي : عقولهم ، وهم في جهالة إذ يغضبون لأسبابٍ تافهةٍ ويُريقون لأجل ذلك الدماء !! .
فأضحت الجاهلية مصطلحاً .. وطابق الإسم المسمى ، وناهيك بتسمية الله تسميةً ! .
ووردت لفظ الجاهلية في القرآن الكريم [ 4 ] أربع مرات فقط ، مرَّت واحدة ، وهناك ثلاث غيرها(2) .
ولا يغرَّنك قول من أراد إنكار التسمية بإشارته لما كان عليه العرب في الجاهلية ، من بعض جوانب التقدم الحضاري المادي المدني في أطراف الجزيرة ، مثل : اليمن ، والحيرة ، وبُصرى ، والبتراء .. الخ فهذا سيكون جاهلياً أيضاً ، لاستناده إلى فكر حضاري جاهلي فالمراد بالمصطلح جهلٌ مخصوص ، وهو الجهل بربهم ، وما تقتضيه العقول السليمة من الاعتقاد ، وترك الصفات المرذولة .
أ رأيت ما عليه أوربا وأمريكا من التقدم العلمي اليوم ؟! .
وأ رأيت ما كانت عليه : الفراعنة ، والهند ، والصين ، ووادي الرافدين .؟! .
ومع ذلك فالكلُّ في .. جاهليةٍ جهلاء ، وضلالةٍ عمياء ، فاحذر ما يُلقيه الجاهلون الذين جانبوا [ العلمية ] التي يدَّعونها ، حينما لم يوَّضحوا المصطلحات !! ، ولم يُحرروا المقام ، كما يقول العلماء المسلمون !! .. فأَيُّنا أقرب إلى العلمية ، والدقة البحثية .
__________
(1) الطور / 32 .
(2) هي في آل عمران / 154 ، والمائدة / 50 ، والفتح / 26 .(1/3)
نعم .. إذا كانت الجوانب المادِّية لا تعلق لها بفكرٍ اعتقادي ، كان تقدَّماً مادِّياً بحتاً ومفيداً ، وقد لا يسري وصف الجاهلية إليها ، بل تكون حسنةً بذاتها .. كسدِّ مأرب ، وصهاريج عدن .. الخ .
فالحضارة .. هي : التفكير الإنساني .. والجوانب المادية ، وهذه غالباً ما تستند إلى نظرة كليَّة عن .. الكون ، والإنسان ، والحياة ، وعلاقة ما قبل وبعد الحياة بها ، وهي التي تسمَّى [ العقيدة ] ، فهي الجانب الفكري من التقدم الإنساني المسمى [ بالحضارة ] .
فإذا كانت للحضارة جوانب مادِّية .. فهي [ المدنية ] ، والتي تستند إلى الجانب الحضاري الفكري .
وسمِّيت [ المدنية ] .. مدنيَّةً ، لأنها تتحول إلى الإستيطان والسكن ، وتأسيس المدن بما فيها من مرافق ضرورية لمعيشة أهلها .
فالمدنية التي تستند إلى فكر حضاري جاهلي ، تكون مدنية جاهلية ! .
والجاهلية .. جاهليتان :
الأولى / وكانوا أشدُّ إيغالاً في ارتكاب ما لا يُرضى من أمر النساء ، من : مخالطتهنَّ ، وجلوسهنَّ مجالس الرجال ، بل وتولي المُلك(1) !! .
والأخيرة / التي كثر فيها احتقار النساء ، بل ووأدهنَّ ، وامتُهنَّ باتِّخاذهنَّ بغيَّات – على ما سيأتيك - ، وجعلهنَّ وسائل لهوٍ لا غير ! .
وكلا الحالين أنكرهما الإسلام كما سيتبين لك لاحقاً إن شاء الله تعالى .
ما كانت عليه العرب في الجاهلية .. من :
أديان ، وعادات ، وتنظيمات (2)
__________
(1) روح المعاني – 21 / 8 وما بعدها ..
(2) راجع في هذا المبحث إلى آخره : بلوغ الأرب للآلوسي الجزءان الثاني والثالث ، المعارف لإبن قتيبة الدَيْنوري ، مقدِّمة ابن خلدون ، ونهاية الأرب في معرفة أنساب العرب للقلقشندي ، وجمهرة أنساب العرب لإبن حزم الأندلسي ، ملوك اليمن وأقيال حمير لنشوان الحميري ، قصص الأنبياء لإبن كثير ، تحقيق ما للهند من مقولة مرذولة في الذهن أو مقبولة للبيروني ،(1/4)
لقد كانت للعرب في الجاهلية : أديان ، وأعراف ، وتنظيمات .. قد ألغى الإسلام بعضها لسوئه ، وعدَّل بعضها لما داخله من التحريف ، وأبقى بعضها لأنه لا يُصادم أحكام الإسلام … ونتكلم عنها تباعاً :
الموضوع الأول / أديان العرب في الجاهلية - كانت العرب تدين بأديانٍ عديدة .. هي :
أولاً / اليهودية – ومنهم : السموأل بن عادياء الشاعر المشهور ، وهم قلَّة قليلة من عرب اليمن من حمير التي هوَّدها [ ذو نؤاس ] ، وقيل كان انتقالهم أيام تبَّع (1).
وكانت اليهودية أيضاً في : بني كنانة ، وكندة ، وبني الحرث بن كعب ، ولعلها سرت إليهم من مجاوريهم يهود خيبر ويثرب .
ثانياً / النصرانية – ومنهم : غساسنة الشام ، وبعض قبيلة طئِّ ، وبنو تغلب ، وبعض قضاعة ، وبعض عرب نجران .. وهم بقايا الموحدين الذين على دين إبراهيم ، الذين بعدما طال عليهم الأمد : [ افترقوا .. فمنهم : من بقي على أصل التوحيد وما استفاض نت إفراد الله تعالى في عبادته ، التي تضافرت على الإرسال به جميع الرسل ، ومنهم : من اتَّبع من بقيت شريعته ، ولم تُنسخ ملَّته كعيسى ابن مريم عليه السلام ، وهذا الصنف نزرٌ يسير لم يكونوا إلاَّ عدداً معدوداً في كلِّ عصر إلى زمن البعثة المحمدية ](2).
وقصة وفادة نصارى نجران على رسول الله صلى الله عليه وسلم في المدينة معروف ، وبعد مجادلتهم للرسول عليه السلام وإصرارهم على ما هم عليه ، نزلت آية المباهلة .. يقول تعالى : { فمن حاجَّك فيه من بعد ما جآءك من العلم فقل تعالوا ندعُ أبناءَنا وأبناءكم ونساءَنا ونساءَكم وأنفسنا وأنفسَكم ثم نبتهل فنجعلْ لَّعنةَ الله على الكاذبين }(3) .
__________
(1) بلوغ الأرب لمحمود شكري الآلوسي – 2 / 201 إلى 202 .
(2) بلوغ الأرب في معرفة أحوال العرب امحمود شكري الالوسي البغدادي – 2 / 196 .
(3) آل عمران / 61 .(1/5)
ولم يُباهل هؤلاء لتيقنهم بنبوة محمد عليه السلام ، وخوف نزول العذاب بهم ، فصالحوا رسول الله على أموالٍ ونقود يدفعونها ، وكتب لهم عهداً ، وأقرَّ أساقفتهم وكهنتم ورهبانهم على ما بأيديهم من السلطة الدينية ، وولى عليهم والياً من قبله ، وأعفى : كهنتهم من أن يُعشَّروا أو يُحشروا في عمل .
ثالثاً / المجوسيَّة – ومنهم : بعض عرب اليمن وحضرموت ، وبعض عرب بلاد نجد وهجر منهم بنو تميم .. وهم الذين يعبدون النار ، ويتزوجون بناتهم ! ، وقد تزوج بناتهم أقوامٌ من العرب !! .
رابعاً / الوثنية - ومنهم : غالبية قريش ، وثقيف في الطائف ، والأوس والخزرج في يثرب ، بل هم غالب العرب في : اليمن ، وبلاد الشام ، وأطراف الجزيرة .. [ وهم أفرادٌ أقرُّوا بالخالق ، وابتداء الخلق ، ونوع من الإعادة ، وأنكروا الرسل ، وعبدوا الأصنام ، وحجوا إليها ، ونحروا لها الهدايا ، وقرَّبوا القرابين ، وتقربوا إليها بالمناسك والمشاعر ، وأحلُّوا وحرَّموا .
وهم دهماء العرب ، وإقرارهم بالخالق هو الذي يُسمى توحيد الربوبية ، وهو الذي أقرَّت به به الكفار جميعهم ، ولم يُخالف أحدٌ منهم(1/6)
في هذا الأصل .. إلاَّ الثنوية ، وبعض المجوس ، وأما غيرهما من سائر فرق الكفر والشرك فقد اتفقوا على أن : خالق العالم ، ورازقهم ، ومدبر أمرهم ، ونافعهم ، وضارُّهم ، ومجيرهم .. واحد ، لا ربَّ ، ولا خالق ، ولا رازق ، ولا مدبِّر ، ولا نافع ، ولا نافع ، ولا ضار ، ولا مجير .. غيره ، كما قال سبحانه وتعالى : { ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولُنَّ الله قل الحمد لله بل أكثرهم لا يعلمون }(1) ، { قل لمن الأرض ومن فيها إن كنتم تعلمون ( سيقولون لله قل أ فلا تَذَكَّرون }(2) ، { قل من يَرْزُقُكُم من السماء والأرض أمَّن يملك السمع والأبصار ومن يُخرج الحيَّ من الميِّت ويُخرج الميِّت من الحيِّ ومن يُدبِّر الأُمر فسيقولون الله فقل أ فلا تتَّقون }(3) .
وكانوا يعتقدون بعبادتهم الأصنام عبادة الله تعالى والتقرب إليه .. لكن بطرقٍ مختلفة ..
فرقةٌ قالت : ليس لنا أهلية لعبادة الله بلا واسطة .. لعظمته ، فعبدناها لتقربنا إليه تعالى ، كما قال حكايةً عنهم : { ألا لله الدِّين الخالص والذِّن اتَّخذوا من دونه أولياء ما نعبدهم إلاَّ ليقربونا إلى الله زلفى … }(4).
وفرقة قالت : الملائكة ذوو جاهٍ ومنزلةٍ عند الله ، فاتَّخذنا أصناماً على هيأة الملائكة ليقربونا إلى الله .
وفرقةٌ قالت : جعلنا الأصنام قبلةً لنا في عبادة الله تعالى ، كما أنَّ الكعبة قبلةً في عبادته .
__________
(1) لقمان / 10 ، وفي الزمر / 38 : { ولئن سألتهم مَنْ خلق السماواتِ والأرض ليَقُولنَّ الله قل أ فرأيتم ما تدعون من دون الله .. } ، وفي العنكبوت / 61 : { ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض وسخر الشمس والقمر ليقولنَّ الله فأنَّى يُؤفكون } .
(2) المؤمنون / 84 .
(3) يونس / 31 .
(4) الزمر / 3 .(1/7)
وفرقة اعتقدت : أنَّ على كلِّ صنمٍ شيطاناً موكلاً بأمر الله ، فمن عبد الصنم حقَّ عبادته قضى الشيطان جوائجه بأمر الله ، وإلاَّ أصابه الشيطان بنكبةٍ بأمر الله ، وهذا الصنف هم الذين أخبر عنهم التنزيل في قوله سبحانه { وقالوا ما لِهذا الرسول يأكل الطعام ويمشي في الأسواق لولا أُنزل إليه ملكٌ فيكون معه نذيرا ( أو يُلقى إليه كنزٌ أو تكون له جنَّةٌ يأكل منها وقال الظالمون إن تتَّبعون إلاَّ رجلاً مسحورا }(1) ، فردَّ عليهم سبحانه بقوله { وما أرسلنا قبلك من المرسلين إلاَّ إنَّهم ليأكلون الطعام ويمشون في الأسواق وجعلنا بعضكم لبعضٍ فتنةً أ تَصْبِرون وكان ربُّك بصيراً }(2) .. وشبهات العرب كانت مقصورة على إنكار البعث ، وجحد الرسل .. ](3) .
وفي سبب اتِّخاذهم الأصنام بعد عهد إبراهيم عليه السلام ، عليك ببلوغ الأرب للآلوسي(4) .
خامساً / الدهرية – وهؤلاء يعبدون الدهر ، ويقولون هو : يحيينا ويميتنا ويهلكنا ، يقول تعالى : { وقالوا ما هيَ إلاَّ حياتُنا الدنيا نموتُ ونحيا وما يُهلِكُنا إلاَّ الدهر وما لهُم بذلك من علمٍ إنْ هم إلاَّ يَظنون }(5).
وهم فرقتان :
اولاهما : قالت .. [ إن الخالق سبحانه خلق الأفلاك متحركةً أعظم حركة ، فدارت عليه فأحرقته ، ولم يقدر على ضبطها وإمساك حركتها ] .
ثانيهما : قالت .. [ إن الأشياء ليس لها أول البتة ، وإنَّما تخرج من القوَّة إلى الفعل ، فإذا خرج ما كان بالقوة إلى تكونت الأشياء .. مركباتها وبسائطها من ذاتها لا من شئِ آخر .
وقالوا : إن العالم لم يزل ولا يزال ، ولا يتغير ، ولا يضمحل ،
ولا يجوز أن يكون المبدع يفعل فعلاً يبطل ويضمحل ، إلاَّ وهو
يبطل ويضمحل مع فعله ، وهذا العالم هو المُمسك لهذه الأجزاء التي
__________
(1) الفرقان / 7 .
(2) الفرقان / 20 .
(3) المرجع السابق - 2 / 197 إلى 198 .
(4) " " - 2 / 200 وما بعدها ، و212 وما بعدها ، و216 وما بعدها .
(5) الجاثية / 24 .(1/8)
فيه ](1) .
وهذا الذي قيل ما زال يُكرر على لسان من أسموا أنفسهم
[ بالعلميين ] ، ونسبوا إلى الطبيعة أموراً وأفعالاً لا تُعقل قط .
سادساً / عبدة الكواكب – فمنهم : في صنعاء بنوا على اسم كوكب الزُهرة بيوتاً ثلاثة ، وبعض تميم عبدوا [ الدَبِران ] ، وبعض قبائل لخم وخزاعة وقريش عبدوا [ الشَعرى العَبور ] وهي المعنية بقوله تعالى :
{ وأنَّه هو ربُّ الشُعرى }(2) .. وهناك كواكب أخرى لا حاجة للإسترسال بذكرها .
ومنهم : من عبد الشمس .. ومنهم عرب حمير قبل أن يتهودوا ، ومنهم قوم بلقيس صاحبة القصة المشهورة مع نبيِّ الله سليمان .
ومنهم : من اتَّخذ القمر صنماً (3).
فهؤلاء : [ .. صنف يصبوا منهم إلى الصابئة ، وهم من يعتقد في الأنواء(4)، ويقول مُطرنا نوء كذا .
والصابئة : أمَّةٌ كبيرة .. اختلف الناس فيها اختلافاً كثيراً بحسب ما وصل إليهم من معرفة دينهم .
__________
(1) المرجع السابق – 2 / 220 ، وللمزيد راجع : الملل والنحل للشهرستاني ، والفِصل في الملل والنحل لإبن حزم الأندلسي ، ومفتاح دار السعادة لإبن القيِّم .
(2) النجم / 49 .
(3) المرجع السابق – 2 / 215 إلى 216 .
(4) النوء : النجم الذي مال إلى الغروب ، أو : هو سقوط النجم في مغربه مع الفجر وطلوع آخر يقابله من ساعته في المشرق .(1/9)
وهم ينقسمون إلى : مؤمن ، وكافر .. قال تعالى : { إنَّ الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى والصابئين مَنْ آمن بالله واليومِ الآخِر وعَمِل صالحاً فلهُم أجرُهُم عند ربِّهم ولا خوفٌ عليهم ولا هم يحزنون }(1) . فذكرهم في الأمم الأربع الذين تنقسم كلُّ أُمَّةٍ منهم إلى .. ناجٍ ، وهالك ، وذكرهم أيضاً في الأمم الست التي انقسمت جملتهم إلى ناجٍ وهالك ، كما في قوله تعالى { إنَّ الذين آمنوا والذين هادوا والصَّابئين والنصارى والمجُوسَ والذين أشركوا إن الله يفصِلُ بينَهُم يومَ القيامة .. }(2)، فذكر الأمتين اللتين لا كتاب لهم ولا ينقسمون إلى : شقيٍّ ، وسعيد ، وهم .. المجوس المشركون في آية الفصل ولم يذكرهم في آية الوعد بالجنة ، وذكر الصابئين فيهما ، فعلم أن فيهم الشقيّ والسعيد .
وهؤلاء هم قوم إبراهيم الخليل عليه السلام ، وهم أهل دعوته وكانوا بحرَّان .. فهي دار الصابئة ، وكانوا قسمين : صابئة حنفاء ، وصابئة مشركون ، والمشركون يعظمون الكواكب … ](3) .
سابعاً / الزنادقة – وهم [ الثنوية ] القائلون بالنور والظلمة ، وكانت الزندقة في قريش أخذوها من الحيرة .
والزِنديق : - بالكسر – من يؤمن بإلهين ، أحدهما للنور ، والآخر للظلمة ، أي : للخير والشر ، أو : من لا يؤمن بالآخرة وبالربوبية ، أو : من يُبطن الكفر ويُظهر الإيمان .
وقيل هو : معرَّب ، وأصله فارسيٌّ مركب من .. [ زن ] وهي المرأة ، ودين ، فالمعنى : دين المرأة . والإسم .. الزندقة ، ذكره صاحب القاموس .
والأصح هو : - كما نقل ابن كمال باشا في بعض رسائله – منسوب إلى [ زند ] ، وهو كتاب أظهره [ مُزدُك ] رئيس الفرقة المزدكية من الفرق الثنوية ، أظهره زمن كسرى بن أنو شروان ، وهو غير [ المانوية ] أصحاب [ ماني ] الحكيم الذي ظهر في زمن [ سابور ] بعد بعثة سيِّدنا عيسى عليه السلام .
__________
(1) البقرة / 62 .
(2) الحج / 17 .
(3) المرجع السابق – 2 / 223 وما بعدها .(1/10)
ومن الثنوية : المجوس .. وهم عبدة النار ، وقد انتحل ديانتهم بعض العرب(1) .
ثامناً / عبدة الجن ، وعبدة الملائكة(2) –
أما عبدة الجن .. فشرذمة قليلة من أهل البوادي ، ذكر القرآن ذلك عنهم بقوله تعالى : { وأنَّه كان رجالٌ من الإنس يعُوذُون برجالٍ من الجنِّ فزادُوهم رَهَقا }(3).
أي : كِبْراً ، وعُتُواً ، أو غِيَّاً .. بأن أضلوهم حتى استعاذوا بهم ، فكان يقول القائل – إذا أمسى بأرضٍ قفرٍ : أعوذ بسيِّد هذا الوادي من شرِّ سفهاء قومه .
ويقول تعالى : { .. بل كانوا يعبُدُون الجنَّ أكثرُهُم بهم مؤمنون }(4) .
ويقول تعالى : { أ لم أعهد إليكم يا بني آدمَ أن لا تعبُدُوا الشيطانَ إنَّه لكم عدوٌّ مبين ( وأن اعْبُدُوني هذا صراطٌ مستقيمٌ }(5) .
ويقول تعالى : { ويوم يحْشُرُهُم جميعاً يا معشر الجنِّ قد استكثرتُم من الإنس وقال أولياؤهُم من الإنس ربَّنا استَمْتَعَ بعضُنا ببعضٍ وبلغنا أجَلَنا الذي أجَّلت لنا قال النار مثواكم خالدين فيها إلاَّ ما شاء الله إنَّ ربَّك حكيمٌ عليم }(6) .
وكان بعض الإنس يعبدون نفراً من الجن ، فأسلم النفر من الجن ، واستمر الأناسيُّ يعبدونهم وما يشعرون ! .. قال تعالى : { أولئك الذين يَدْعُون يبتغون إلى ربِّهِم الوسيلة أيُّهُم أقرب ويرجُون رحمتَه ويخافون عذابَه إنَ عذاب ربِّك كان محذُورا }(7) .
وأما عبدة الملائكة .. فهم أفرادٌ من العرب ، يقول تعالى :
{ ويومَ نحشُرُهُم جميعاً ثم نقول للملائكة أ هؤلاء إيَّاكم كانوا يعبدون ( قالوا سُبحانَك أنت وليُّنا من دُونِهِم بل كانوا يعبدون الجنَّ أكثرُهُم بهم مؤمنون }(8) .
__________
(1) المرجع السابق – 2 / 228 وما بعدها ، والمعارف لإبن قتيبة ، والقاموس المحيط للفيروز آبادي.
(2) المراجع السابقة .
(3) الجن / 6 .
(4) سبأ / 41 .
(5) يس / 60 .
(6) الأنعام / 128 .
(7) 37 الإسراء / 57 .
(8) سبأ / 40 إلى 41 .(1/11)
ويقول تعالى : { ويوم يَحشُرُهُم وما يعبُدُون من دون الله فيقولُ أ أنتم أضْلَلْتُم عبادي هؤلاء أم هم ضلُّوا السبيلَ ( قالوا سبحانك ما كان ينبغي لنا أن نتَّخذ من دونك من أوليآءَ ولكن مَّتَّعتهُم وآبآءهم حتى نَسُوا الذِّكر وكانوا قوماً بوراً ( فقد كذَّبُوكُم بما تقولُون فما تستطيعون صَرْفاً ولا نصراً ومن يظْلِم منكم نُذِقه عذاباً كبيراً }(1) .
تاسعاً / الحنيفية – وهي دين خليل الله إبراهيم ، تلقوها عن ابنه إسماعيل ، وهي نفس ما جاء به نبينا محمد عليه السلام ، من : التوحيد ، وإثبات صفات الكمال له ، ومغايرته للحوادث .. ، ولهم عبادات هي عين ما جاء به الاسلام من عقيدة ، وعبادة ، وأخلاق ، وشريعة ، ويحجون ، ويصومون ، ويصلون .. .
[ .. فلما طال عليهم الأمد وبعدوا عن زمن النبوة ، كثر فيهم الجهل ، وقلت معرفتهم بما جاءت به شريعتهم من الهدى والدين المبين ، وجروا على شهوات أنفسهم ، واتَّبعوا كل ناعقٍ ، ةراجت عليهم الآراء الفاسدة ، والمذاهب الخبيثة الكاسدة ، حتى افترقت كلمتهم كل الافتراق ، سيَّما بعد أن ظهر فيهم الخزاعي ، وشرع لهم من الدين ما لم يأذن بقه الله .. ، فهناك انقسمت الرب في التعبد إلى أقسام ، وافترقوا أصناف حسبما أدَّت إلىه الوساوس والأوهام . [ فـ ] الموحدون من العرب ، وهم من استبصر ببصيرته فاعترف بوجود الله وتوحيده ، ولم يُدرك دعوة محمد صلى الله عليه وسلم ، بل بقي على فطرته ، ونظر بعين بصيرته ، فلم يُغيِّر ولم يُبدل ، وهم البقايا ممن كان على عهد إبراهيم
وإسماعيل عليهما السلام ، ملتزمين ممَّا كانوا عليه من : تعظيم البيت ، والطواف به ، والحج والعمرة ، والوقوف على عرفة .. ](2) .
__________
(1) 39 الفرقان / 17 إلى 19.
(2) المرجع السابق – 2 / 195 .(1/12)
وأجمل الآلوسي في البلوغ ما عليه العرب نمن دين .. بقوله : [ إعلم أن العرب قبل ظهور الإسلام لم يكونوا مكلَّفين بشريعةٍ من الشرائع .. لا شريعة إبراهيم ولا غيرها من شرائع الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين ، لقوله سبحانه : { لتُنذِر قوماً ما اُنْذِر آباؤهم فهم غافلون }(1)، ويقول تعالى : { وما كنت بجانب الطُّور إذ نادينا ولكن رحمةً من ربِّك لتُنذِر قوماً مآ أتاهم من نَّذيرٍ من قبلك لعلَّهم يتَذَكرُون }(2).
وقد ذكر المفسرون في هذا المقام أنه لم يأتهم نذير قبل محمد صلى الله عليه وسلم ، بل كانوا في فترةٍ ، وهي الزمن بين الرسولين ، والمراد بالقوم هنا العرب لوجودهم في فترة بين إسماعيل ومحمد عليها السلام ، وهي ما يزيد على ثلاثة آلاف سنة ، بناءً على أن دعوة موسى وعيسى عليهما السلام كانت مختصَّةً ببني إسرائيل ، لما في الصحيحين : { أُعطيت خمساً لم يُعطهنَّ أحدٌ من الأنبياء قبلي : نُصؤت بالرعب مسيرة شهرٍ ، وجُعلت لي الأرض مسجداً وطَهوراً .. فأيَّما رجلٍ من أمتي أدركته الصلاة فليصلِّ ، وأُحلَّت لي الغنائم ولم تحل لأحدٍ قبلي ، وأعطيت الشفاعة ، وكان النبيُّ يُبعث إلى قومه وبُعثت إلى الناس عامة }(3) .
ولا يُنافي كون اسماعيل عليه السلام مرسلاً إليهم .. القول بعدم تكليفهم ، فإن التكليف إنَّما يبقى إذا لم تندرس شريعة الرسول ، وههنا اندرست كما سبق …. فلما خلت أمة العرب في تلك المدَّة المديدة من النذير اختلت أفعالهم ، وتشوشت أحوالهم ، ومع ذلك بقيت فيهم بقايا من سنن إبراهيم وشرائعه ، وكان لهم بعض عبادات وأعمال من ذلك العهد ، وإن عرض لبعضها تغيير بزيادة أو نقصان ، وقد أسلفنا شيئاً منها .. ] .
الموضوع الثاني / عادات العرب في الجاهلية
__________
(1) يس / 6 .
(2) القصص / 46 .
(3) البخاري – باب التيمم / الحديث رقم 323 ، ومسلم – المساجد / 810 ، وباختلافٍ يسير .(1/13)
وعاداتهم الموروثة كثيرة ، وهي من بقايا الفطرة ، وبقايا النبوة التي كانت لإسماعيل فيهم ، كما استحدثوا كثيراً مما لا يُرضى .. فعاداتهم نوعان .. نتكلم عنهما تباعاً :
النوع الأول / العادات الحسنة منها ، والتي أقرَّها الاسلام :
حجهم إلى البيت واعتمارهم به ، وطوافهم به سبعاً ، وإحرامهم قبل دخول الحرم ، ويقفون المواقف كلَّها في : عرفة ، والمزدلفة ، ومنى .
وكانوا يلتزمون بأيام التشريق ، ويقضونها في [ منىً ] .
وكانوا يعرفون حرمة [ الحرم ] وحدوده ، ويعظمون أحكامه .
وكانوا : يهدون الهدي للبيت ، ويرمون الجمار ، ويُقلِّدون القلائد عند السعي للحج ، ولا يتعرضون لأحدٍ في الحرم .
وكانوا : لا يغير بعضهم على بعضٍ في الأشهر الحُرُم .
وقد ورثوا ذلك من بقية دين ابراهيم واسماعيل عليهما السلام ، الذي بقي بينهم من دون إهمالٍ أو تحريف .
وتطهُّرهم طهارة الفطرة من : غسل للجنابة ، والمضمضة ، والاستنشاق ، وقص الشارب والسواك ، وفرق الشعر ، والاستنجاء ، وتقليم الأظافر ، ونتف الإبط ، وحلق العانة .
وكانوا يكفنون الموتى ، ويصلِّون عليهم ، ويذكر وليُّه محاسنه بخُطبةٍ ، ثم يدفنونهم .
وكانوا يصومون يوم عاشوراء .. ولعلَّهم تلقوه ممن قبلهم .
وكان [ كعب بن لؤي بن غالب ] أحد أجداد النبي عليه السلام يخطب كلَّ يوم [ عَرُوبة ] .. الذي أسماه الإسلام الجُمُعة .
وكانوا يقطعون يد السارق اليمنى ، وبعض ملوك الحيرة كانوا يصلبون بقطع الطريق .
وكانوا يأخذون : بالديات ، والمعاقل ، والأرش ، وحكومة العدل
وكانوا يأخذون بالقسامة .
وكانوا يتعاملون : بالبيوع بأنواعها .. المقايضة ، والصرف ، والبيع والشراء بثمن .
وكانوا يتعاملون : بالرهن ، والكفالة ، والوكالة ، والعارية ، والوديعة ، والإجارة ، والسَلَم ، والاستصناع ، والمزارعة ، والمساقاة ، والشِركة ، وقسمة المال الشائع ، والقضاء ، وآدابه ، ووضع السنن والعوائد التي يتحاكمون بمقتضاها .(1/14)
وكانوا لا يتقاتلون في الأشهر الحُرُم .
وكانت لهم التنظيمات الباهرة في مجتمع مكة .. وسنأتي إلى ذكرها إن شاء الله تعالى .
وكانت عندهم : الأحلاف ، والموالاة ، وإجارة المستجير .
وكان فيهم : حفظ العهد ، والوفاء بالوعد ، ، والكرم ، والنُصرة ، والشجاعة ، وحفظ الأنساب ، وحفظ الشرف ، والغَيرة ، والصبر ، والحِلم ، والتوسط في الأمور كلِّها ، ومطالبتهم بحقوقهم ، وحبهم للعدالة ، وميلهم للمشاورة ، وحبِّهم للحرية .
وكانوا : يتهادون بينهم ، ويتصدقون ، ويصلون ذوي قرباهم ، ويُضيِّفون الضيف ولا يسألونه عن حاجته إلاَّ بعد ثلاث ، ويعفون عن المسئ .
وكانت لهم علوم يعرفونها ، منها : علم الحساب ، وعلم المعايش ، وعلم تربية الخيول ومعرفة أمراضها وعيوبها الخِلقيَّة والحادثة ، وعلم تربية الإبل ، وعلوم .. القيافة .. والعيافة .. والريافة .. والفراسة .. والاهتداء في البراري ، وعلم آلات الحرب ، وعلوم .. الأنواء .. والسُحُب .. والرعد .. والبرق .. والبرق .. والرياح ، وعلوم الكتابة ، وعلوم .. التشييد .. والبناء ، وعلوم عوائد المُلك وتدبير السياسة ، وعلوم النجارة والحدادة ، وعلوم الحياكة والنسيج والخياطة ، وعلوم الزراعة وآلاتها ، وعلوم هندسة البناء ، وعلوم الطب ، وعلوم المواقيت السنوية واليومية .
اتِّخاذهم الأسواق وسيلة : للتعارف ، وللتجارة ، ولتبادل المعارف والمعلومات – وهي كثيرة - .
وقد جاء الإسلام فأقرَّ ذلك كلَّه .(1/15)
النوع الثاني / العادات السيئة - وهي التي ألغاها الإسلام ، وأغلبها دخلهم من الأمم الأخرى ، وبسبب بُعد الشقَّة بينهم وبين آخر نبيٍّ قبل محمد عليه الصلاة والسلام .. وهذه بعضها :
في العقيدة والدين – كانت فيهم : اليهودية ، والنصرانية ، والصابئية ، والمجوسيَّة ، والثنوية ، وعبادة الأوثان ، وعبادة الكواكب ، وعبادة القوى الطبيعية .. الخ ، وقد مرَّ ذلك في [ أديانهم ] ، وجعلوا الملائكة إناثاً وجعلوهنَّ بنات الله تعالى عن ذلك علواً كبيرا ، وركنوا إلى قول الكهَّان في الأفعال .
في العبادات – غيَّروا كثيراً مما كان عليه الحج في زمن سيِّدينا إبراهيم وإسماعيل ، فأوجدوا :
أولاً - النسئ : وهو في اللغة من – نسأت الشئ إذا أخرته ، فيقال .. نسَأت البيع ونسَأ الدين ، ونسَأ الله في أجله .. هو دعاء لإطالة العمر.
ونسَّأ : لفظ المبالغة في كلِّ ما تقدم .
والنَّساء : التأخير ، ويرد في باب [ ربا النَّساء أو النسيئة ] وهو الربا المرتبط بالمدة ، مقابل [ ربا الفضل ] الذي هو الزيادة الحاصلة بين شيئين عند تبادلهما مع اتِّحاد الجنس .
وفي الاصطلاح : هو تغيير الشهور عن مواضعها ، حتى يكون وقت الحج مواطئاً لمصالحم ، وقد حرَّمه الاسلام تحريماً قاطعاً ، في قوله تعالى : { إنَّ عدَّة الشهور عند الله إثنا عشر شهراً في كتاب الله يوم خلق الله السماوات والأرض منها أربعةٌ حُرُم ذلك الدين القيِّم فلا تظلموا فيهنَّ أنفسكم .. ( إنَّما النسئ زيادةٌ في الكفر يُضَلُّ به الذين كفروا يُحلُّونه عاماً ويُحرِّمونه عاماً ليُوطئوا عدَّة ما حرَّم الله فيُحلُّوا ما حرَّم الله زيُّن لهم سوء عملهم والله لا يهدي القوم الكافرين }(1).
__________
(1) التوبة / 36 إلى 37 .(1/1)
فكانوا يتَّفقون فيما بينهم على أربعة أشهرٍ حُرُمٍ ، هي ليست بالضرورة : رجب الفرد ، وذو القعدة ، وذو الحجة ، والمحرَّم .. بل يجعلون أيَّ شهرٍ يناسبهم مكان ذي الحجة ، فتتغير مواقع الأشهر الحرم – ومنها أشهر الحج – تبعاً لذلك .
وحينما حجَّ رسول الله عليه الصلاة والسلام في حجة الوداع في السنة العاشرة من الهجرة الشريفة ، قال في خطبة الوداع : { .. أيُّها الناس إنَّ النسئ زيادةٌ في الكفر يُحلُّنه عاماً ويُحرِّمونه عاماً ليواطئوا عدَّة ما حرَّم الله ، فيحلُّوا ما حرَّم الله .. ويُحرِّموا ما أحلَّ الله .
وإن الزمن قد استدار لي كهيأته يوم خَلَق الله السماوات والأرض ، السنة إثنا عشر شهراً منها أربعةٌ حُرُم : ثلاثةٌ متواليات .. ذو القعدة ، وذو الحجة ، والمحرَّم . ورجب مضر الذي بين جمادى وشعبان }(1) .
[ فكان عملهم – كما روي عن مجاهد – أنَّهم يجعلون حجَّهم كلَّ عامين في شهرٍ معيَّن في السنة ، فيحجون في ذي الحجة عامين ، ثم يحجون في المحرَّم عامين .. وهكذا ، فلما حجَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ ذاك استدار الزمن كهيأته يوم خلق الله السماوات والأرض ، أي : فلا تتلاعبوا بالأشهر تقديماً وتأخيراً ، ولا حجَّ بعد اليوم إلاَّ في هذا الزمن الذي استقرَّ اسمه .. ذا الحجة . وذكر بعضهم أن المشركين كانوا يحسبون السنة اثني عشر شهراً وخمسة عشر يوماً ، فكان الحج في : رمضان ، وفي شوال ، وفي كلِّ شهرٍ من السنة ، وذلك بحكم استدارة الشهر بسبب زيادة الخمسة عشر يوماً .
__________
(1) صحيح مسلم – 4 / 37 .(1/2)
ولقد حجَّ أبو بكر الصدِّيق رضي الله عنه في السنة التاسعة من الهجرة في شهر ذي القعدة بسبب ذلك ، فلما كان العام المقبل – في عام حجة الوداع – وافق حجَّه عليه السلام ذا الحجة وفي العشر منه ، وطابق الأهلَّة وأعلن حينئذٍ عليه السلام نسخ الحساب القديم ، فلا تداخل بعد ](1).
ثانياً - وتحمَّسوا في دينهم ، وكان [ الحُمس ] قومٌ من قريش أوجبوا على أنفسهم أموراً لم يأمر بها الله ، إذ قالوا : نحن أهل الحّرّم ، وسدنة البيت و.. و .. ، فلا نكون في عبادتنا مثل باقي الناس ، فكانوا :
لا يدخلون من الأبواب بعد الحج ، فنهاهم الباري عزَّ وجلَّ عن ذلك فقال عزَّ وجل : { يسألونك عن الأهلة قل هي مواقيت للناس والحج وليس البرُّ بأن تأتوا البيوت من ظُهُورها ولكن البرَّ من اتَّقى وأْتوا البيوت من أبوابها واتَّقوا الله لعلَّكم تُفلحون }(2) .
وكان الحُمس يطوفون عرايا إن لم يجدوا ثوباً من ثياب الحُمْس ، فمن طاف بثيابه فعليه أن يُلقيها ولا ينتفع بها أحدٌ لا هو ولا غيره ، ومن لم يجد ثوباً طاهراً طاف عُرياناً ، فقالت إحدى النساء :
اليوم يبدو بعضُه أو كلُه وما بدا منه فلا أُحلُّه
__________
(1) فقه السيرة للدكتور محمد سعيد رمضان البوطي – 490 ، ونقل عن الجامع لأحكام القرآن للقرطبي – 8 / 137 إلى 138 قوله : [ وهذا القول أشبه بقول النبيِّ عليه السلام .. إن الزمان قد استدار ، أي أن زمان الحج عاد إلى وقته الأصلي الذي عيَّنه الله يوم خلق السماوات والأرض بأصل المشروعية التي سبق بها علمه ] .
(2) البقرة / 189 .(1/3)
وقد نهى الرسول عليه السلام عن طواف العُريانين .. وعن حجِّ المشركين في حجَّة الوداع ، ونهى أن يحصل أيٌّ من الأمرين بعد ذلك العام(1) .. ويقول تعالى : { إنَّما المشركون نجسٌ فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا }(2)
ولا يقف الحثمس بعرفة بل يقفون في وادي [ عُرَنَة ] ، ونهى رسول الله عن ذلك فقال في حجة الوداع : { .. وعرفة كلُّها موقف وارفعوا عن بطن عُرَنَة .. ] .
ولا يفيضون من طريق إفاضة الحجيج ، ويقفون في المزدلفة إلى ما بعد شروق الشمس .. في حين أفاض رسول الله من المزدلفة قبل الشروق بعد أن صلّى الفجر بغلس ، ونهاهم القرآن بقوله : { الحج أشهرٌ معلوماتٌ فمن فرض فيهنَّ الحج فلا رفث ولا فُسُوق ولا جدال في الحج وما تفعلوا من خيرٍ يعلمه الله وتزودوا فإنَّ خير الزاد التقوى واتَّقونِ يا أولي الألباب ( ليس عليكم جُناحٌ أن تبتغوا فضلاً من ربِّكم فإذا أفضتم من عرفاتٍ فاذكروا الله عند المشعر الحرام واذكروهُ كما هداكم وإن كنتم من قبله لمن الضالِّين ( ثم أفيضوا من حيثُ أفاض الناس واستغفروا الله إنَّ الله غفورٌ رحيم }(3) .
وكان الحُمس لا يأتقطون أقِطاً ، ولا يسلون سمناً .. والأقِط : هو حليب الناقة المجفف ، فإذا أرادوا شربه أو الثرد به .. جعلوه في الماء حتى إذا ذاب فعلوا ما أرادوا .
وفي البيوع – كان لهم :
أولاً - بيع المنابذة :
ثانياً – وبيع الملامسة :
ثالثاً – وبيع الحصاة : هو أن يقول البائع للمشتري .. إرمِ الحصاة فعلى أيِّ ثوبٍ وقعت فهو لك بدرهم .
أو : أن يقول بائع الأرض .. بعتك من هذه الأرض مقدار ما تبلغ الحصاة إذا رميتها ، وسعرها بكذا .
__________
(1) البخاري / الصلاة – 356 ، و البخاري / الحج – 1517 ، ومسلم / الحج – 2401 ، وسنن النسائي / مناسك الحج – 2908 و 2909 ، وراجع : التجريد الصريح لأحاديث الجامع الصحيح – 1 / 110 ، والمعجم المفهرس – 4 / 202 .
(2) التوبة / 28 .
(3) البقرة / 197 إلى 199 .(1/4)
أو : أن يقول البائع بعتك هذا بكذا ، على أنِّي متى رميت هذه الحصاة وجب البيع(1) .
رابعاً - وبيع ما لم يضمن
خامساً - والبيع مع الشرط :
سادساً - وبيع النَجَش : هو الزيادة في ثمن السلعة مع عدم الرغبة في شرائها(2) .
سابعاً - والاحتكار : حبس الطعام للغلاء(3) .
ثامناً - والشراء بتلقي الركبان : وهو المسمى [ بتلقي الجلَب ] ، فإذا قرب المجلوب من البلد تعلَّق به حقُّ العامَّة ، فيكره استقبال البعض له وشرائه من صاحبه ، والحيلولة دون دخول صاحبه به إلى البلد لما في ذلك من ضرر على أهل البلد(4) .
تاسعاً - وبيع الحاضر للباد : هو أن يقول الجالس في السوق من أهل البلد – فهو من أهل الحاضرة .. أي حاضر – للبدوي الجالب لسلعةٍ : دعها عندي أبيعها لك بسعرٍ أحسن بعد مدَّةٍ . فالنهي عنه أنَّه سيحجبه عن السوق ، ولو عرضه في حينه لربما انخفضت الأسعار ، فيصل إلى أيدي الكافَّة بسعرٍ مناسب .
عاشراً - وبيع الاستغلال : والاستغلال هو الانتفاع بغير الحقِّ ، وبيع الاستغلال .. هو البيع استغلالاً على أن يستأجره البائع(5) .
وفي القروض – كان لهم تعاملٌ واسع بـ : ربا الفضل ، وربا النسيئة .
وفي الأنكحة والمواريث – كان لهم : نكاح البدل ، ونكاح الإستبضاع ، ونكاح البغايا ، ونكاح المتعة ، ونكاح الشغار ، ونكاح الأخدان ، ونكاح المقت ، ونكاح المحارم ، ولا يُوَرِّثون المرأة .
__________
(1) القاموس الفقهي لسعدي أبو جيب – 92 .
(2) التعريفات للسيِّد الشريف – 214 .
(3) التعريفات للسيِّد الشريف – 97 .
(4) دستور العلماء للأحمد نكري – 1 / 348 .
(5) مجلة الأحكام العدلية – المادة 119 ، فبيع الوفاء هو : البيع بشرط أن البائع متى ردَّ الثمن يرُدُّ المشتري إليه المبيع [ م 118 ] ، فإذا استأجر البائع المشتري فإنه تترتب للمشتري على البائع مبالغ عن أجرته ، فهي بمثابة – الربا – على ثمن البيع ، مضافاً له انتفاع المشتري بالمبيع .(1/5)
وفي العادات العامَّة – كانوا : يقتلون بالواحد جمعاً – وهذا للمقتدر - ، ولا يَدُون المرأة ، ويغير بعضهم على البعض الآخر ، ويسبون النساء ، وقد يقتل بعضهم غيلةً ، وقد يحمي القويُّ أرضاً فيحرِّم الانتفاع بها على الناس ، وقد ينتصر بعضهم لبعضٍ عصبيَّةً وليس للحق .
وفيهم : أكل أموال الناس بالباطل – كالربا ، والرِشا ، وما يأخذه سدنة الأصنام ، وحلوان الكاهن ، وما يكسب بالغش ، والاحتكار ، والاكراه ، والنجش ، والتدليس .
وفيهم : شرب الخمرة ، والقمار.. وهو الميسر ، والاستقسام بالأزلام .
وكان من عاداتهم السيئة : أنَّهم إذا أجدبت السماء وأمسكت ماءها عنهم ، عمدوا إلى بقرةٍ فأثقلوها بالسلع والعُشَر ، فحزموهما وعقدوهما بأذناب البقر ثم أضرموا فيها النيران ، وأصعدوها في جبلٍ وعرٍ ، واتبعوها يدعون الله تعالى ويستسقونه .
وإنما يضرمون النيران في أذناب البقر تفاؤلاً للبرق بالنار ، وكانوا
يسوقونها نحو المغرب من دون الجهات .
وقد أخذوا هذا من الهند .. لأنها تزعم : أن البقر ملائكة سخط
الله عليها فجعلها في الأرض ، وهي عنده ذات حرمةٍ ، ويلطخون
الوجوه والأبدان بأخثائها ، ويغسلون الوجوه ببولها ، ويجعلونها
مهوراً لنسائهم ، ويتبركون بها في كلِّ أحوالهم .
ولهم في البقر خيالٌ آخر : فإذا أوردوها فلم ترد ، ضربوا الثور
ليقتحم الماء فتقتحم البقر بعده ، ويقولون أن الجنَّ تصدُّ البقر ،
والشيطان يركب قرني الثور .
ومن عاداتهم السيئة : تعليقهم الحليِّ والجلاجل على اللديغ ويرون أنَّه يفيق ، ويرون أنه إذا نام سرى السمُّ فيه فيشغلوه بالحليِّ والجلاجل عن النوم ، وقالو إذا علَّقوا الرصاص أو حليِّه فإنه يموت
ومن عاداتهم تلك : أنَّه إذا أصيبت الإبل ، فإنهم يكوون الصحيح ليبرأ السقيم .. وقيل : يكوون الصحيح في موضع الداء المخصوص ، حتى لا يتعلق به المرض فيسقم .(1/6)
ومن مذاهبهم .. [ البلية ] وهي : ناقةٌ تعقل عند القبر حتى تموت ، فإذا مات فيهم كريم [ بلوا ] ناقته أو بعيره ، فعكسوا عنقها وأداروا رأسها إلى مؤخرها ، وتركوها في حفيرةٍ لا تُطعم ولا تسقى حتى تموت ، وربما أحرقت بعد موتها ، وربما سلخت وملئ جلدها ثُماماً .. وربما عقروا الإبل على قبره .
ويزعمون أن من مات ولم [ يبل ] عليه حُشر ماشياً ، ومن كانت
له [ بليَّة ] حشر راكباً .
ومن مذاهبهم [ الهامة ] : فيقولون ما من ميِّت يموت ولا قتيل يقتل ، إلاَّ وتخرج من رأسه هامة ، فإن قتل ولم يؤخذ بثأره نادت الهامة على قبره .. اسقوني فإنِّي صديَّة .. وعن هذا قال المصطفى : { لا عدوى ، ولا هامة ، ولا صَفر ، ولا غول } .
ومن مذاهبهم القول : بالصَفْر ، فيقولون أن في البطن حيَّة إذا جاع الإنسان عضَّت على كبده وشُرسوفه .. وقيل هو : الجوع بعينه ، وفيه تفسيرات أخرى لا تقوى أمام ما ذكر .
والشُرسوف : الضلع من الإنسان .
ومن ذلك : زجر الطير – فإذا أرادوا سفراً ووجدوا في طريقهم طيراً نفَّروه ، فإذا ذهب إلى اليمين فهو [ السانح ] ويتفاءلون به ، وإذا ذهب إلى اليسار فهو [ البارح ] ويتشاءمون به .. وقد يتركون ما عزموا على فعله .
وما زال الكثير – وفئة خاصَّة من المنتسبين للإسلام – يتشاءم من بعض الحيوانات التي تعترضه في السفر ، وقد يتفاءل بأخرى .
ومن تلك العادات : أن الرجل إذا أراد دخول قريةٍ فخاف وباءَها أو جنِّها ، وقف على بابها قبل أن يدخل فنهق نهيق الحمار ، ثم علَّق عليه كعب أرنب كأنَّه عوذة له ورقية من الوباء والجنِّ ، ويسمون ذلك النهيق .. [ التعشير ] . ولهم في كعب الأرنب حاجاتٍ غير ذلك .
ومن مذاهبهم : الرتم .. فإذا سافر أحدهم عمد إلى شجرةٍ فعقد في أحد أغصانها خيطاً ، فإذا عاد ورأى الخيط بحاله علم أن زوجته لم تخنه ، وإن وجده خلاف ذلك أو لم يجده أصلاً .. قال : خانتني .(1/7)
ومن ذلك : إذا ضلَّ الرجل في الصحراء .. فإنه يقلب ثيابه وينادي بأعلى صوته ، فكأنما ينادي شخصاً ، ويتفاءل بقلب الثياب على قلب الحال .. وأقر الإسلام قلب الثياب في الاستسقاء .
ومن ذلك : تشاؤمهم بالعُطاس ، وجعله الإسلام بشرى .. وأمرهم بالدعاء عنده . وما زال أُناسٌ ينتسبون إلى المسلمين يتشاءمون منه – والعياذ بالله – ويتعاملون بذلك بإفراطٍ مدهش .
ومن ذلك : تشاؤمهم بالغراب ونحوه من الطيور وسائر الحيوان ، ولعل أصله ما ورد في التوراة من أن نوحاً عليه السلام لاستطلاع انتهاء الطوفان ، فعاد بعكسه .. فتشاءموا منه .
وسمَّوا الغراب .. غراب البين ، لأنه يحل ديارهم إذا رحلوا عنها وبانوا منها ، واشتقوا من اسمه : الغربة ، والغريب ، والاغتراب .. وما زال الكثير – والعياذ بالله – يتشاءم منه .. وقد يتفاءلون منه إن .. [ نعق ] ، ويتيطرون من إذا .. [ نعب ] .
ومن ذلك : ربطهم للحوادث ببعض الأسماء ، فإذا تفاءلوا بالعُقاب يقولون .. عقبى خير ، وإن تشاءموا قالوا .. عقبى شرٍّ ، وقد يجعلون الحمام حِماماً أو يقولون .. حمَّ اللقاء ، ويجعلون الهدهد .. هدىً وهدايةً ، والحَبارى .. حبور وحَبِرة ، والبان .. بيان يلوح ، وريح الصبا دلالة على .. الصبابة ، وريح الجَنوب .. اجتناب .
ومن ذلك : تطيُّرهم من بعض الأسماء .. فيعدلون عنها إلى غيرها .
ومن ذلك : أن الرجل إذا خرج من بلده إلى بلدٍ آخر فلا ينبغي له أن يلتفت ، فإن فعل عاد ولم يُتِّم سفره ، فلا يلتفت إلاَّ العاشق .
ومن ذلك : أن المرأة [ المِقلاة ] .. أي : التي لا يعيش لها ولد ، إذا وطأت القتيل الشريف عاش ولدها .
ومن ذلك : أن الغلام إذا سقط له سنٌّ استقبل به الشمس وهو ما بين السبابة والإبهام ، فإذا طلعت رمى به في وجهها ، ويقول : يا شمس أبدليني بها خيراً منها .. وقد أدركنا هذا عند العوام إلى عهدٍ قريب .
ومن ذلك : اعتقادهم أنَّ دم الرئيس يشفي من عضَّة الكلب .(1/8)
ومن ذلك : أنَّهم إذا خافوا على الرجل الجنون وتعرُّض الأرواح الخبيثة له .. نجَّسوه بتعليق الأقذار عليه كخؤقة الحيض وعظام الموتى .. وما زال الناس يقولون : نجس يطرد نجس .
ومن ذلك : أن من خدرت رجله ، ذكر من يُحب او يدعوه .. فيذهب خدَرُه .
ومن ذلك : أن الرجل إذا اختلجت عينه قال .. أرى من أُحبه ، فإذا كان غائباً توقَّع قدومه ، أو بعيداً توقع قربه . وما زال الناس على هذا المذهب ، لكنهم يتشائمون بخلجة عين ، ويتفاءلون بخلجة أخرى .
ومن ذلك : أن الرجل إذا عشق ولم يَسْلِ وأفرط عليه العشق ، حمله أحدهم على ظهره كما يُحمل الصبيِّ ، وقام آخر فأحمى حديدة وكوى بها بين إليتيه .. فيذهب عسقه – كما يزعمون - .
ومن ذلك : أنهم كانوا يزعمون أن الرجل إذا أحبَّ إمرأةً وأحبته فشقَّ بُرقُعَها وشقت رداءه .. صلح حبهما ودام ، فإن لم يفعلا ذلك فسد حبُّهما .
ومن ذلك : اعتقادهم أن صاحب الفرس [ المهقوع ] إذا ركبه فعرق تحته .. اغتلمت امرأته ، وطمحت إلى غيره .
والهقعة : دائرة تكون في الفرس ، وفي الأكثر أنَّها تكون على الكتف ، وهي مستقبحة عندهم .
ومن ذلك : اعتقادهم أنهم إن أوقدوا النار للمسافر الذي لا يُحبون رجوعه خلفه ، وقالوا في دعائهم : أبعده الله وأسحقه وأوقد ناراً أثره . وكانوا يوقدون ناراً بينهم وبين البلد الذي يقصدون حتى لا يقيموا فيه ، ولا يوقدونها بينهم وبين بلدهم الذي خرجوا منه .
اعتقادهم أن من ذلك : إذا بثرت شفة الصبيِّ .. حمل على رأسه منخلاً ، ونادى بين بيوت الحيِّ : الحلأ .. الحلأ .. الطعام .. الطعام ، فتلقي له النساء كِسر الخبز ، وأقطاع التمر واللحم في المنخل ، ثم يُلقي ذلك للكلاب فتأكله فيبرأ من مرضه ، فإن أكل صبيٌّ مما أُلقي بثرت شفته .(1/9)
ومن ذلك : اعتقادهم أن المرأة إذا عسر عليها الخاطب ، نشرت جانباً من شعرها ، وكحلت إحدى عينيها مخالفةً للشعر المنثور ، وحجلت على إحدى رجليها ، ويكون ذلك ليلاً .. وتقول : يا لنكاح .. أبغي النكاح قبل الصباح . فيسهل أمرها وتتزوج عن قربٍ .
ومن ذلك : تطيَّرهم من ذكر الأمراض والعاهات ، فتسمِّيها بغير أسمائها أو بخلافها ، فأسموا .. البَرَص بـ [ الوَضَح ] وكنَّوا عن الأبرص بـ [ الأبرش ] ، وتركوا اسم الفلاة .. وكنَّوا عنها بـ [ المفازة ] وكان حقُّها أن تسمى .. مهلكة ، وتجنبوا ذكر الأعور .. وكنَّوا عنه بـ [ الممتَّع ] .. ومثل هذا كثير .
ومن ذلك : أن النساء منهم كنَّ إذا غاب عنهنَّ من يُحبِبنه .. أخذن تراباً من موضع قدمه ، وكانوا يزعمون أنَّ ذلك أسرع لرجوعه .
ومن ذلك : زعمهم أنَّهم يرون الجن ويخاطبونهم ، ويشاهدون الغول والسعالي .. ويدَّعون مجامعتها والزواج منها وولادتها الأولاد منهم .. وقد أدركنا من كان يدَّعي ذلك ل نفسه ولغيره .
ومن ذلك : زعمهم أنه إذا طالت علَّة الواحد منهم ، وظنُّوا أنَّ به مساً من الجن ، عملوا جمالاً من طين وجعلوا عليها الجُوالق ، وملأوها حنطةً وشعيراً وتمراً ، وجعلوا تلك الجمال في باب جُحرٍ إلى جهة الغرب في وقت الغروب .. وباتوا ليلتهم ، فإذا رأوها في الصباح على حالها قالوا .. لم تُقبل الدية فزادوا فيها ، وإن رأوها قد تساقطت وتبدد ما عليها من الميرة .. قالوا : قبلت الدية ، واستدلوا بذلك على شفاء المريض ، وفرحوا وضربوا بالدُّف .
ومن ذلك : اعتقاداتهم العجيبة في الحيوانات .. من : الديك ، والغراب ، والقنفذ ، والظبي ، واليربوع .. الخ . فمنهم من يعتقد أنَّ للجن بهم تعلُّقاً ، أو هي نوع من الجنِّ ، أو أن بعضها هي مراكب الجن .
ومن ذلك : اعتقادهم أنَّ لكلِّ شاعرٍ شيطاناً يُلقي إليه الشعر .(1/10)
ومن ذلك : أنهم إذا لم يعرفوا أمر الغائب وخبره .. أتوا بئراً مظلمة القعر وبعيدته ، أو إلى حفرة قديمةٍ ، ثم نادوا فيه : يا فلان ابن فلان – ثلاث مرات – ويزعمون أنه إن كان ميتاً لم يسمعوا صوتاً ، وإن كان حيَّاً سمعوا صوتاً ربما توهَّموه وهماً أو سمعوه من الصدى ، فيبنون على عقيدتهم تلك ما يريدون فعله .
ومن ذلك : أنَّهم يخرجون إلى الحرب معهم النساء فيبِلْن بين الصفين .. فيرون أن ذلك يُطفئ نار الحرب ويقودهم إلى السلم .
ومن ذلك : اعتقادهم .. بالخَرَزات ، والأحجار ، والرقى ، والعزائم ، وأعطوا لبعض الخرزات أسماءً تناسب ما يعتقدونه فيها.
وما زال الكثير في أزماننا يعتقد مثل ذلك .. وخاصَّةً الشيعة .
ويأخذون بالنشر والتمائم يستشفون بهما من مسِّ الجن – كما
يزعمون - ، وسميت النُشرة نُشرةً .. لأنها يُنشر بها عنه ، أي : يُحلُّ عنه ما خامره من الداء .
والتميمة .. خرزة تُعلَّق يرونها تدفع الآفات ، وما زال من يتعاطاها في أزماننا .
ومن عاداتهم : الوشم ، والنياحة والندب على الميِّت ، وفي الميِّت ذي القَدْر عندهم .. يركب راكبٌ فرساً وسار في الناس ويقول : نعاءِ فلاناً ، أي انعه وأظهر خبر وفاته ، وكانوا يقولون للميِّت .. لا تبعد .
ومن ذلك : أنَّهم إذا أنعموا على الرجل الشريف بعد أسره وأطلقوه .. جزُّوا ناصيته ، فتبقى عند من جزَّها يفخر بها ، وإذا أسروا شاعراً ربطوا لسانه بسيرٍ منسوج .(1/11)
ومن ذلك : أنَّهم يخضبون الفرس السابق في الصيد بدمِ ما يمسكونه من الصيد علامةً على كونه لا يُدرك في الغارات .. ويقول محمود شكري الآلوسي في بلوغه : [ .. وقد بطلت بعد ظهور الإسلام هذه العادة ، ولم يعرفها سكان البوادي من العرب اليوم .. غير أنَّ لأعراب الحجاز عادةً قريبة من ذلك .. وهي : إذا نزل بهم ضيفٌ يُعتنى بشأنه ذبحوا له أو نحروا ، فإذا سافر منهم وترحَّل عنهم ، لطخوا طرفي سنام بعيره بدم ما ذبحوا على شكل المثلث إيذاناً بأنه من الرجال المعتنى بشأنهم بين قبائل العرب ، ومن الأماجد الأعزَّة الحريِّ بأن يُعزَّ ](1) .
ومن ذلك : تفرد العزيز منهم بالحمى .. بأن يحمي أرضاً لأنعامه لا تطؤها أنعام الغير ويكون ريفها له دون غيره .
وكانوا يحملون الملوك على الأعناق إذا مرضوا ، وكان لهم في دية الملوك غير ما للآخرين ، وكان الآباء يخلعون أبناءهم الخبثاء فلا يتحمَّلون عنهم مغارمهم .
ومن ذلك : المعاقرة ، وهي .. أن يتبارى رجلان يحاول كلٌّ منهما أن يعقر من إبله أكثر ممَّا يعقله خصمه إذا تفاخرا ، والمُكثر هو الغالب .
ومن ذلك : التعقية ، والبحيرة ، والسائبة ، والوصيلة ، والحامي ، والفَرَع ، والعتيرة .
فالتعقية .. سهم الاعتذار ، فمن قتل رجلاً من قبيلته وطُلب القاتل به اجتمع الرؤساء إلى أولياء المقتول بديةٍ كاملة ويسألونهم العفو ، فإن كان أولياؤه ذوي قوَّةٍ أبو ذلك ، أو أن يقولوا .. بيننا وبين خالقنا علامةٌ للأمر والنهي ، فيقول الآحرون .. ما علامتكم ؟ ، فيقولون أن نأخذ سهماً فنرمي به نحو السماء ، فإن رجع إلينا مضرَّجاً بالدم فقد نهينا عن أخذ الدية ، وإن رجع كما صعد فقد أُمرنا بأخذها ، فيمسحون لحاهم وصالحوا على الدية ، ومسح اللحى علامة الصلح .
__________
(1) بلوغ الأرب للآلوسي – 3 / 18 .(1/12)
والبحيرة .. وزن فعيلة بمعنى مفعولة فهي المبحورة ، من البحر .. وهو الشقُّ ، فإذا نتجت الناقة خمسة أبطن آخرها ذكر بحروا أذنها وشقُّوها وامتنعوا من نحرها وركوبها ، ولا تُطرد عن ماءٍ ، ولا تُمنع من مرعى .. وفيها أقوالٌ غير ما تقدم .
والسائبة .. وهي : الناقة التي تبطن عشرة أبطن من الإناث ، فتهمل ولا تُركب ، ولا يُجزُّ وبرُها ، ولا يَشرب لبنها إلاَّ ضيفٌ .
وقيل هو : البعير الذي يبلغ نتاج نتاجه .
وقيل هي : المنذورة من صاحبها إن عاد من سفرٍ بعيد ، أو شفي من مرضٍ .
وقيل هي : ما ترك ليحج عليه .
أما الوصيلة .. فهي : الشاة تنتج سبعة أبطن بشكل معيَّن .. وقيل غير ذلك كبقية هذه المصطلحات التي تكثر فيها التأويلات .
والحامي .. فقد : اختلفوا في معناه ، ومهما كان معناه فهم يقولون حمى ظهره ، فلا يحمل عليه ، ولا يركب ، ولا يمنع من ماءٍ ولا مرعى .
وأما الفَرَع .. فهو : أول نتاج الإبل والغنم ، وكانوا يذبحونه لأصنامهم ثم يأكلونه ، ويُلقى جلده على الشجر ، وهناك أقوال غير ذلك .. وأقول : لهذا في أفعال الناس بقيَّة ، فيسمي الأعراب أول نتاج [ عطوة علي ] ويذبحونه ويأكلونه بهذا الإسم ، وهذا من أساليب الشيعة في الترويج لمذاهبهم ، وإن كان من فعل الجاهلية .. لكن ينسب لعليِّ فقط.
والعَتِيرة .. هي : ذبيحة كانوا يذبحونها في الجاهلية في رجب يتقربون بها لأصنامهم ، وهي .. [ الرجبية ] ، ويذبحونها لأسباب معينة أو بنذرٍ معين .
ومن ذلك : وأد البنات ، وهي : التي تدفن من البنات حيَّةً ، إمَّا : لغيرةٍ عليهن من أن يرتكبن ما لا يرتضى في قابل الأيام ، أو خشية الإملاق .. أي الفقر ، أو لصفاتٍ فيهنَّ حين يولدن فيتشاءموا منهنَّ .
ومن ذلك : الكهانة .. فكان بعضهم يقول كلاماً مسجَّعاً ينبئ فيه عن غيبٍ ، أو يحكم في أمرٍ .. الخ ، وكانوا يعتقدون بصحة ما يقوله الكهَّان ، ويفعلون ما يشيرون به عليهم .(1/13)
الموضوع الثالث - تنظيمات العرب في الجاهلية /
( كانت للعرب في الجاهلية دولٌ ، ولها تنظيمات الدول الأخرى سواء بسواء ..
فمن دول اليمن : السبأية ، والمعينية ، والحميرية ، ودولة العماليق ، والأقيال .
وفي الشام .. دول : تدمر ، والغساسنة ، ولخم .
وفي العراق : دولة الحضر ، والمناذرة في الحيرة .
وكان لملوكهم ألقاب ، منها : الأذواء ، والأقيال ، والتبابعة .
( وكانت لهم السفارات إلى الدول المجاورة ، والعلاقات مع الأقوام الأخرى ، والعلاقات فيما بين القبائل كمجتمعاتٍ منظمة .
وكان ملوكهم يتَّخذون الوزراء ، ويُسمونهم [ الأرداف ] .
( وكانوا يسمَّون :
القائمين بأمر الجيش .. [ قوَّاد ] .
والقائم بأمر الفيلة .. [ العريف [ .
والقائم بإرشادهم إلى الماء والكلأ .. [ الرائد ] .
وشيخ القبيلة .. [ السيِّد ] .
( وكانت لمكة تنظيمات انفردت بها ، ففي حلف [ المطيَّبين ]
وزعوا المهام بين بطون قريش في مكة .. كالآتي :
[ الحجابة ] .. وهي لبني عبد الدار – ومقدَّمهم عثمان بن مضعون - ، وهي تعني : أن يكون بيدهم مفتاح البيت – الكعبة - يمنعون منه من شاؤا ، ويُدخلون من شاؤا .
[ سدانة البيت ] .. وهي لبني عبد الدار أيضاً ، فهم ينفردون : بتطييبه ، وتنظيفه ، والعناية به .
[ اللواء ] .. وهو لبني عبد الدار أيضاً ، وهو : ما تحمله قريش في حربها ، يُنافحون عنه ، ويموتون دونه ، وهو لهم عنوان عزَّتهم ، ولواء قريش اسمه [ العُقاب ] .
[ المشورة ] .. وهي لبني أسد بن عبد العُزى – ومقدَّمهم يزيد بن زَمْعة بن الأسود - : فلا تقطع قريش أمراً حتى تُراجع من له المشورة منهم ، فإن وافقهم ولاَّهم عليه ، وإلاَّ تخيَّر ، وله أعوانٌ يُعينونه .
[ الرِفادة ] .. وهي لبني نوفل – ومقدَّمهم الحارث بن عامر - وهي : إخراج ما تيسر من أموالٍ لإطعام منقطع الحجيج في الموسم ، وعدم تركهم جياعاً ، كمن سُرقت نقُوده في الطريق ، أو فقد نفقته .(1/14)
[ الأشناق ] .. وهي لبني تيم بن مرَّة – ومقدَّمهم أبو بكر الصدِّيق - ، وهي : إخراج الديات والمغارم عمن احتملها وتعسر عليه السداد .
[ القُبَّة والأعنَّة ] .. وهي لبني مخزوم – ومقدَّمهم خالد بن الوليد - ، فالقبة : تضرب عند إرادتهم الخروج للحرب لجمع ما يُجهزون به جيوشهم .
والأعنة : إشارة للخيل ، وله قيادتها في الحروب .
[ السفارة ] .. وهي لبني عَدِيِّ – ومقدَّمهم عمر بن الخطاب - ، فإذا : وقعت مشاجرة أو حربٌ ، فالسفير يتولى إنهائها ، وإن نافروه وفاخروه ، نافرهم وفاخرهم .
وهو : سفيرهم أيضاً إلى الملوك المجاورين لهم .
[ الأيسار أو الأزلام ] .. وهي لبني جُمح – ومقدَّمهم صفوان بن أميَّة - ، فقريش لا تسير إلى أمرٍ هام حتى تستشير ، فإذا انتهت من المشورة استقسمت بالأزلام عند صفوان .
[ الحكومة والأموال المُحجَّرة ] .. وهي لني سهم – ومقدَّمهم الحارث بن قيس - ، وهي : الأموال المخصَّصة لآلهتهم .(1/15)