جعلت قرة عيني في الصلاة..
للشيخ / عبد الهادي بن حسن وهبي
أمين وقف البخاري الخيري في عكار - شمال لبنان
أَسْرَارُ الفَاتِحَة ... أسرار الصلاة ... المقدمة
كَوْنُ السَّلاَم فِي خَاتِمَةِ الصَّلاَةِ ... الصَّلاةُ عَلَى النَّبِيِّ وَآَلِه ... التَشَهُّدُ
الحواشي ... الخاتمة ... من كنوز السنة
top
إنَّ الحمد لله نحمدهونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله منشرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهدهالله فلا مضلّ له، ومن يضلل فلا هاديله، وأشهد أن لا إله إلاّ الله، وحدهلا شريك له، وأشهد أنّ محمداً عبدهورسوله.
أما بعد : فإنّ الله تعالى قد عظَّمخطرَ الصلاةِ في القرآن ، وعظَّمأمرها وشرَّفها ، وشرَّف أهلها ،وخصَّها بالذِّكر من بين الطاعاتكلِّها في مواضع من القرآنِ كثيرة ،وأوصى بها خاصَّة .
والصَّلاة : آخر ما أوصى به النبي صلى الله عليهوسلم أمتهعند خروجه من الدنيا . وهي آخر ما يذهبمن الإسلام . وهي أول مايسأل عنهالعبد يوم القيامة من عمله .
إنّ الصَّلاةَ صلةٌ ولقاءٌ بين العبدوالرب . صلةٌ يستمد منها القلب قوةً ،وتحسُّ فيها الروح صلةً ، وتجد فيهاالنفس زاداً أنفس من أعراض الدنيا .فهي المعين الذي لا ينضب ، والزادالذي لا ينفد . المعين الذي يجددالطاقة ، والزاد الذي يزود القلب ،ومفتاح الكنز الذي يغني ويقني ويفيض، والروح والنّدى والظلال في الهاجرة.
ولقد " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم (إذا حزبه أمر فزعإلى الصلاة)" 1 وما يزال هذاالينبوعُ الدافقُ في متناولِ كلِّمؤمنٍ يريدُ زاداً للطّريقِ ، وريّاًفي الهجيرِ، ومدداً حين ينقطع المددُ، ورصيداً حين ينفد الرصيدُ .(1/1)
وإنَّ المقصودَ الأعْظمَ منالصَّلاة وروحها الخشوعُ ، وهو :حضورُ القلبِ فيها بين يدي اللهتعالى محبَّةً له وإجْلالاً وخوفاًمنْ عقابهِ ، ورغبةً في ثوابهِ ،مسْتحْضراً لقرْبهِ ، فيسكن لذلكقلبه ، وتطْمئنُ نفسهُ ، وتسْكنُحركاته ، متأدباً بين يديربّه،مستحْضراً جميعَ ما يقولهُويفْعَلُهُ في صلاتِهِ ، منْ أولهاإلى آخرها ، فتزولُ بذلك الوساوسوالأفْكار .
ولمَّا كنَّا في غفلةٍ عنْ هذاالأمْرِ العظيمِ ، جمعتُ هذه القطوفالدانية تذْكيراً بالخشوع وحثاً علىطلبه والقيام بحقّهِ ، راجياً منالله تعالى أنْ ينْفعني بها أولاً ،وأنْ ينفعَ بها منْ يقرأها منالمسْلمين.
أسأل الله الحيَّ القيُّومَ ذاالجلالِ والإكْرام أنْ يتقبلهابقبولٍ حسنٍ ، وأنْ يُنْبِتَهَانباتاً حسناً . إنّه سميعٌ مجيبٌ .
الراجي عفو ربه
عبد الهادي بن حسن وهبي
top
أسرار الصلاة
قال تعالى:(وَأَقِيمُواالصَّلاَةَ)[ البقرة : 43 ]وقال :(فَأَقِيمُواالصَّلاَةَ)[ النساء : 103 ] .(1/2)
أمرنا الله تعالى بإقامةِ الصَّلاةِ، وهو الإتيانُ بها قائمةً تامَّةَالقيامِ والرُّكوع والسُّجودوالأذكار ، وقدْ علّق الله سبحانهالفَلاحَ بخشوع المصَلِّي في صلاته ،فَمَنْ فاته خشوعُ الصَّلاةِ ، لميكنْ من أهل الفلاح ، ويستحيلُ حصولُالخُشوعِ مع العَجَلَةِ والنَّقرِقطعاً ؛ بلْ لا يَحصلُ الخشوعُ قطُّإلاَّ مع الطمأنينة ، وكلّما زادطمأنينةً ازداد خشوعاً ، وكلّما قلَّخشوعُهُ اشتدَّتْ عجلتُهُ حَتىتصيرَ حركةُ يَدَيْهِ بمنْزِلَةِالعَبَثِ الذي لا يصحبُهُ خشوعٌ ؛ولا إقبالٌ على العبودية ، ولامعرفةُ حقيقة العبودية ، واللهسبحانه قد قال : (وَالْمُقِيمِينَالصَّلاَةَ)[ النساء : 162 ] وقالإبراهيم عليه السلام : (رَبِّاجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاَةِ)[ إبراهيم:40 ]وقاللموسى:(فَاعْبُدْنِيوَأَقِمْ الصَّلاَةَ لِذِكْرِي)[ طه:14 ] فلنْتكادَ تجدُ ذكرَ الصَّلاةِ في موضعمن التنزيلِ إلا مقروناً بإقامتها .
فالمصلُّونَ في النَّاس قليلٌ ،ومقيم الصَّلاةِ منهم أقلُّ مِنَالقليل ، كما قال عمرُ :(الحجُّقليلٌ ، والرَّكْبُ كثيرٌ) .
وليس مَنْ كانَتِ الصَّلاةُ رَبيعاًلقَلْبِهِ ، وحياةً له وراحةً ،وقُرّةً لعَيْنِهِ ، ولذةً لنفسهِ ،وراحةً لجوارحه، وجلاءً لحُزْنِهِ ،وذَهاباً لهمِّه وغَمّه ، ومفْزَعاًإليه في نوائبه ونوازِلِهِ ؛ كمَنْهي سجنٌ لقلبه ، وقَيْدٌ لجوارحِهِ ،وتكليفٌ له ، وثقْلٌ عَليْهِ ؛ فهيكَبِيرَةٌ على هذا ، وقرَّةُ عينوراحَةٌ لذلك .(1/3)
قَالَ الله تعالى : ( وَاسْتَعِينُوابِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِوَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إلاَّ عَلَىالْخَاشِعِينَ * الَّذِينَيَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاَقُورَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِرَاجِعُونَ) [ البقرة : 45 ـ 46 ]فإنَّما كبرَتْ على غَيْرِ هؤلاء ،لخلوّ قلوبِهِم من محبَّةِ اللهِتعالى ، وتكبيرِهِ ، وتعْظيمِهِ ،والخشوع له ، وقلَّةِ رغبَتِهِم فيه .فإنّ حُضورَ العَبْدِ في الصّلاةِ ،وخشوعَهُ فيها ، وتكميلَهُ لها ،واستفراغَهُ وسْعه في إقامَتِهاوإتمامها ، على قَدْرِ رغْبتِهِ فيالله .
قال الإمام أحمد رحمه الله : (إنَّماحظُّهُمْ من الإسلامِ على قَدْرِحَظِّهم من الصلاة ، ورغبتُهم فيالإسلام على قدر رغبتِهِم فيالصَّلاة . فاعرف نفْسَكَ يا عبدَاللَّه ! واحْذَرْ أن تَلْقَى اللَّهولا قَدْر للإسلامِ عنْدَك . فإنَّقَدْرَ الإسلامِ في قَلْبِكَكقَدْرِ الصلاة في قلْبِكَ) 2.(1/4)
وليس حظُّ القلْبِالعامِرِ بمحبَّةِ الله ،وخشْيَتِهِ ، والرغبَةِ فيه ،وإجلالِهِ وتعظيمِهِ من الصَّلاة ،كحَظِّ القلبِ الخالي الخراب من ذلك، فإذَا وَقَفَ الإثنان بين يَدَيالله في الصَّلاة ؛ وقَفَ هذا بقَلبٍمُخْبِتٍ خاشِعٍ له ، قريبٍ منْهُ ،سليمٍ من معارضات السُّوء ، قدامتلأتْ أرجَاؤه بالهَيْبَةِ ،وسَطَعَ فيه نُورُ الإيمان ، وكَشَفَعنْهُ حجاب النفس ودُخان الشَّهوات ،فيَرْتَعُ في رياضِ معاني القرآن ،وخالَطَ قلْبُهُ بشَاشَةَ الإيمانِبحقائِق الأسْماء والصِّفات ،وعلوِّها وجمالِها ، وكمالِهاالأعْظم ، وتفرُّدِ الربِّ سبحانهبنعوتِ جلالِهِ ، وصفاتِ كمالِهِ ؛فاجْتَمَعَ همُّهُ على الله ،وقرَّتْ عينُهُ بِهِ ، وأحسَّبقُرْبِهِ منَ اللهِ قُرْباً لانظيرَ له ؛ فَفَرَّغَ قَلْبَهُ له ،وأَقْبَلَ عَلَيْهِ بكُلِّيَّتِهِوهذا الإقبالُ منه بين إقبالَيْن منرَبّهِ ، فإنَّهُ سُبْحَانَهُأقْبَلَ عليه أوَّلاً ، فانْجَذَبَقَلْبُهُ إليه بإقْبالِهِ ، فلمَّاأقْبَلَ على رَبِّهِ ، حظي منْهُبإقبالٍ آخَرَ أتمّ من الأَوَّل.
وهَهُنا عجيبةٌ من عَجَائِب الأسماءوالصِّفات تحصلُ لِمَنْ تفقَّهَقلبُهُ في معاني القرآنِ ، وخالَطَبشاشَةَ الإيمانِ بها قلبه ،بحيثُيرى لكلِّ اسمٍ وصِفَةٍ موضِعاً منصلاته ، ومحلاًّ منها .
فإنّه إذا انْتَصَبَ قائِماً بينيديّ الربِّ تبارك وتعالى ، شاهدَبقَلْبِه قيُّوميَّتَهُ . فيقومبقلبه الوقوفُ بين يدي عظيمٍ جليلٍكبيرٍ ، أكبرُ منْ كلِّ شيء ، وأجلّمن كلّ شيء ، وأعظمُ منْ كلِّ شيء ،تلاشتْ في كبريائه السماواتُ وماأظلّتْ ، والأرضُ وما أقلّت ،والعوالمُ كلُّها ؛ عَنَتْ لهالوجوهُ ، وخضعتْ له الرقابُ ،وذلّتْ له الجبابرةُ .(1/5)
وَهَذَا المَشهَدُ إنَّمَا يَنشَأُمِن كَمَالِ الإيمَانِ بِاللهِوَأَسمَائِهِ وَصِفَاتِهِ ، حَتَّىكَأَنَّهُ يَرَى الله سُبْحاَنَهُفَوقَ سَمَوَاتِهِ 3، مُستَوِيًا عَلَىعَرْشِهِ ، يَتَكَلَّمُ بِأَمْرِهِوَنَهيِهِ ، وَيُدَبِّرُ أَمْرَالخَلِيقَةِ ، فَيَنْزِلُ الأَمْرُمِنْ عِنْدِهِ وَيَصْعَدُ إلَيهِ ،وَتُعْرَضُ أَعْمَالُ العِبَادِوَأَرْوَاحُهُم عِنْدَالمُوَافَاةِ عَلَيهِ . فَيَشهَدُذَلِكَ كُلَّهُ بِقَلبِهِ ،وَيَشْهَدُ أَسمَاءَهُ وَصِفَاتِهِ، وَيَشهَدُ قَيُّومًا ، حَيًّا ،سَمِيعاً ، بَصِيراً ، عَزِيزاً ،حَكِيماً ، آمِراً ، نَاِهِيًا ،يُحِبُّ وَيُبغِضُ ، وَيَرضَىوَيَغضَبُ ، وَيَفعَلُ مَا يَشَاءُ ،وَيَحكُمُ مَا يُرِيدُ وَهُوَ فَوقَعَرشِهِ لا يَخفَى عَلَيهِ شَيءٌ مِنأَعمَالِ العِبَادِ ولا أَقوَالِهِموَلا بَوَاطِنِهِم ، بَلْ يَعلَمُخَائِنَةَ الأَعْيُنِ وَمَا تُخْفيالصُّدُورُ .
وَمَشهَدُ الإحسَانِ أَصلُ أَعمَالِالقُلُوبِ كُلِّهَا ، فَإنَّهُيُوجِبُ الحَيَاءَ ، وَالإجْلالَ ،وَالتَّعْظيِمَ ، وَالخَشْيَةَ ،وَالمَحَبَّةَ ، وَالإنَابَةَ ، وَالتَّوَكُّلَ ، وَالخُضُوعَ للهِسُبْحَانَهُ ، وَالذُّلَ لَهُ ؛وَيَقطَعُ الوَسَاوِسَ وَحَدِيثَالنَّفْسِ ، وَيَجمَعُ القَلبَوَالهَمَّ عَلَى اللهِ .
فَحَظُّ العَبدِ مِن القُربِ مِناللهِ عَلَى قَدرِ حَظِّهِ مِنمَقَامِ الإحسَانِ ، وَبِحَسَبِهِتَتَفَاوَتُ الصَّلاةُ ، حَتَّىيَكُونَ بَينَ صَلاةِ الرَّجُلَينِمِن الفَضْلِ كَمَا بَينَالسَّمَاءِ وَالأَرضِ ،وَقِيَامُهُمَا وَرُكُوعُهُمَاوسُجُودُهُمَا وَاحِدٌ .فسبحان منفاضل بين النفوس وفاوت بينها هذاالتفاوت العظيم .
عن عمار بن ياسر قال : سمعت رسول الله صلى الله عليهوسلم يقول:( إنالرجل لينْصرفُ ، وما يكتَب له إلاعُشْرُ صلاته ، تُسْعُها ، ثُمُنُها، سُبُعُها ، سُدُسُها ، خمسها ،ربعها ، ثلثها ، نصفها)4.(1/6)
وإذا قالَ: الله أكبر ، شاهَدَكبرياءَهُ وعظمتهُ ، واستشعرَ بقلبه: أنَّ الله أكبرُ منْ كلِّ ما يخطرُبالبال . وقبيحٌ بالعبدِ أنْ يقولَبلسانهِ : ( اللهُ أكبرُ ) وقد امتلأَقلبُه بغير الله فهو قبلة قلبه فيالصلاة ، ولعله لا يحضر بين يدي ربّهفي شيء منها . فلو قضى حقَّ ( اللهُأكبرُ ) ، لدخل وانصرف بأنواعالتُّحَف والخيرات .
وإذا قالَ : " سبحانك اللهّمبِحَمْدِكَ ، وتبارَك اسْمُكَ ،وتعالى جدّك ، ولا إله غيرُك " 5. شاهد بقلبه رباًمنزَّهاً عنْ كلِّ عيبٍ ، سالماً منْكلِّ نقصٍ ، محموداً بكلِّ حمدٍ ،فحمْدُه يتضمّنُ وصفهُ بكلِّ كمالٍ ،وذلكَ يستلزمُ براءَته منْ كلِّ نقصٍ، تباركَ اسمه ؛ فلا يُذكرُ على قليلٍإلاّ كثَّره ، و على خيرٍ إلاّ أنماهوبارك فيه ، ولا على آفةٍ إلاّ أذهبها، ولا على شيطانٍ إلاّ ردّه خاسئاًداحراً . وكمالُ الاسمِ منْ كمالِمسمّاه ، فإذا كان هذا شأنُ اسمهِالذي لا يضر معه شيء في الأرض ولا فيالسماء ، فشأن المسمّى أعلى وأجلّ .
"وتعالى جدّه " أي : ارتفعت عظمته ،وجلّت فوق كلِّ عظمةٍ ، وعلا شأْنهعلى كلّ شأن ، وقهر سلطانُه على كلّسلطان ، فتعالى جدّه أن يكون معهشريكُ في ملكه وربوبيته ، أو فيإلهيته ، أو في أفعاله ، أو في صفاتهكما قال مؤمنو الجن :( وَأَنَّهُتَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا مَااتَّخَذَ صَاحِبَةً وَلاَ وَلَدًا ) [ الجن : 3 ] فكم فيهذه الكلمات مِنْ تجلٍّ لحقائقالأسماء والصفات على قلب العارف بها، غير المعطِّل لحقائقها .(1/7)
فإذا شرعَ في القراءةِ قدّم أمامَهاالاستعاذةَ بالله من الشيطانِ ،فإنَّهُ أحرصُ ما يكونُ على العبدِفي مثلِ هذا المقامِ الذي هو أشرفُمقاماته وأنفعها له في دنياه وآخرته، فهو أحرصُ شيء على صرفهِ عنهواقتطاعِهِ دونه بالبدن والقلب ، فإنعجز عن اقتطاعه وتعطيله عنه بالبدناقتطع قلبَه وعطله عن القيام بين يديالرَّبّ تعالى ، فأُمِرَ العبدُبالاستعاذةِ بالله منه ليسْلَمَ لهمقامه بين يدي ربّه ، وليحيى قلبُهويستنير بما يتدبره ويتفهمه من كلامسيده الذي هو سبب حياته ونعيمهوفلاحه ، فالشيطان أحرصُ على اقتطاعقلبِه عن مقصودِ التلاوة .
ولمّا علمَ سبحانه جِدَّ العدوِّوتفرُّغَه للعبد ، وعجْزَ العبدِ عنه، أمره بأن يستعيذَ به سبحانهويلتجىءَ إليه في صرفه عنه ، فيكفىبالاستعاذة مؤنةَ محاربته ومقاومته، فكأنه قيل له : لا طاقةَ لكَ بهذاالعدو فاستعذ بي واستجر بي أكْفِكَهُ، وأمنعك منه .
فإذا استعاذَ بالله منَ الشَّيْطانِبَعُدَ منهُ ، فأفضى القلب إلى معانيالقرآن ، ووقع في رياضه المونِقَةِ ،وشاهد عجائبه التي تُبْهِرُ العقول ،واستخرج من كنوزِهِ وذخائرِهِ مالاعين رأت ، ولا أذن سمعت .
top
أَسْرَارُالفَاتِحَة(1/8)
فإذاقال : (الْحَمْدُ لِلَّهِرَبِّ الْعَالَمِينَ) [ الفاتحة : 2 ] وقفهنيهة يسيرة ، ينتظر جواب ربّه لهبقوله : "حَمِدَنِي عبدي" فإذاقال : (الرَّحْمَنِالرَّحِيمِ) [ الفاتحة : 3 ] انتظرالجواب بقوله : " أثنى عليَّ عبدي" فإذاقال : (مَالِكِ يَوْمِالدِّينِ)[ الفاتحة : 4] انتظر جوابه : "مجدني عبدي " . فيا لذة قلبه ، وقرّةعينه ، وسرور نفسه بقول ربّه : "عبدي "ثلاث مرات! ثم يكون لقلبه مجال منشهود هذه الأسماء الثلاثة ، التي هيأصول الأسماء الحسنى ، وهي : الله ،والرب ، والرحمن . فشاهَدَ قلبُهُ منذكر اسم الله تبارك وتعالى إلهاًمعبوداً موجوداً مخوفاً ، لا يستحقالعبادةَ غيرُه ، ولا تنبغي إلاّ له ،قد عَنَت له الوجوه ، وخضعت لهالموجودات ، وخشعت له الأصوات (تُسَبِّحُلَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُوَالأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْمِنْ شَيْءٍ إلاَّيُسَبِّحُبِحَمْدِهِ ) [ الإسراء : 44 ] (وَلَهُمَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِكُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ ) [ الروم : 26 ].(1/9)
وشاهد من ذكر اسمه (رَبِّالْعَالَمِينَ) [ الفاتحة : 2 ] قيوماًقام بنفسه ، وقام به كلّ شيء ، فهوقائم على كلِّ نفس بخيرها وشرها ؛ قداستوى على عرشه ، وتفرد بتدبير ملكه ،فالتدبير كلّه بيديه ، ومصير الأموركلّها إليه ، فمراسيم التدبيراتنازلة من عنده على أيدي ملائكتهبالعَطاءِ والمَنْعِ ، والخَفْضِوالرَّفْعِ ، والإحياءِ والإماتَةِ، والتَّوبةِ والعَزْلِ ، والقَبْضِوالبسْطِ ، وكَشْفِ الكروب ،وإغاثَةِ الملْهُوفين ، وإجابَةِالمضْطَرِّين (يَسْأَلُهُ مَنْ فِيالسَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ كُلَّيَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ) [ الرحمن : 29 ] لامانِعَ لما أعطى ، ولا مُعْطِيَ لمامَنَعَ ، ولا مُعَقِّبَ لحكْمِهِ ،ولا رادّلأمرِهِ ، ولا مبدِّلَلكلماتِهِ ، تعْرُجُ الملائكةُوالروحُ إلَيْهِ ، وتعرضُ الأعمالُأوّلَ النهار وآخره عليه ، فيقدِّرُالمقادير ، ويوقِّت المواقيت ، ثميسوقُ المقادِير إلى مَواقيِتِها ،قائماً بتدبِير ذلك كلِّه وحفْظِهِومصالِحِهِ .
ثم يشهدُ عنْدَ ذِكْرِ اسم (الرَّحْمَنِ ) [ الفاتحة : 3 ] جلّجلاله رَبًّا محسِناً إلى خَلْقِهِبأنواعِ الإحسانِ ، متحبّباً إليهمْبصنوفِ النِّعَم ، وسِعَ كلَّ شيءٍرَحْمَةً وعلماً ، وأوْسَعَ كلَّمخْلوقٍ نِعمةً وفَضْلاً ، فوسعتْرحمتُهُ كلَّ شَيْءٍ ، ووسعَتْنعمتُهُ كلَّ حيٍّ .
فتأمَّل ما في أمْرِهِ ونهْيِهِووصاياه ومواعِظه من الرحمةالبالِغَة ، والنِّعمة السَّابغة ،وما في حشوِها من الرَّحمةوالنِّعمَةِ ؛ فالرحمةُ هيالسَّبَبُ المتَّصِلُ منه بعبادِهِ، كما أنَّ العبودِيَّة هي السببالمتَّصِل منهم به ، فمنْهُم إليهالعبودية ، ومنْهُ إليهم الرَّحمة .ومن أخصِّ مشاهِدِ هذا الاسم ، شهودُالمصلِّي نصيبَهُ من الرحمة الذيأقامَه بها بَيْنَ يدي ربِّهوأهَّلَهُ لعبودِيّتِهِ ومناجاتِهِ، وأعطاه ومنعَ غَيْرَهُ ، وأقبلَبقلْبِهِ وأعْرَضَ بقَلْبِ غيرهِ ،وذلك من رَحْمَتِهِ به .(1/10)
فإذا قال : (مَالِكِ يَوْمِالدِّينِ)[ الفاتحة : 4 ] فهنا شَهِدَ المجدَالذي لا يليقُ بسوى المَلِكِ الحقِّالمُبين ، فيشْهَدُ مَلِكاً قاهراً ،قد دانَتْ له الخليقة ، وعَنتْ لهالوجوهُ ، وذَلَّتْ لعظَمَتِهِالجبابرة ، وخَضَع لعزَّتِهِ كلُّعزيز ، فيشْهَدُ بقَلْبِهِ مَلِكَاًعلى عَرْشِ السَّماء مُهَيْمِناً ،لعزَّتِه تعنو الوجوه وتَسْجُدُ ،حيّاً ، قَيّوماً سَمِيعاً بصيراًمدبِّراً قادِراً مُتَكَلِّماًآمِراً ناهِياً ، مسْتَوِياً علىسَرِيرِ مَمْلَكَتِهِ ، يرسلُ إلىأقاصِي مَمْلكَتِهِ بأوامِرِهِ ،فيرضى على من يستحق لرِّضَا ،ويثيبُهُ ويكْرِمُهُ ويُدْنِيه ،ويغضبُ على مَنْ يستحقّ الغَضَبَ ،ويعاقِبُهُ ويُهِينُهُ ويقْصِيه ؛فيعذِّبُ من يشاءُ ، ويَرحَمُ منيشاءُ ، ويُعْطِي من يَشاءُ ،ويقرِّبُ من يشاء ، ويُقْصِي منيشاءُ ، لَهُ دارُ عَذاب ، وهيالناَّر ؛ وله دارُ سعادةٍ عظيمةٍ ،وهي الجنة ؛ فيشهدُ المصلِّي مجْدَالرَّبِّ تعالى في قولِهِ :(مَالِكِيَوْمِ الدِّينِ ) [ الفاتحة : 4 ] .
فإذاقَالَ : (إِيَّاكَ نَعْبُدُوَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) [ الفاتحة : 5 ] انتظرجواب ربه له " هذا بيني وبينعبدي ولعبدي ما سأل " ، وتأمَّل عبوديةهاتين الكلمتين : ففيها سِرُّالخَلْقِ والأمْر ، والدُّنياوالآخرة ، وهي متضمِّنةٌ لأجلِّالغاياتِ وأفْضَلِ الوسائل ؛فأجَلُّ الغاَياتِ عبوديتُهُ ،وأفْضَلُ الوسائِل إعانَتُهُ ، فلامعبودَ يستحقُّ العبادَة إلاّ هو ،ولا مُعينَ على عبادَتِهِ غيرُه ؛فعبادَتُه أعلى الغايات ، وإعانَتُهأجلُّ الوسائل وأفضل المواهب .(1/11)
وقد اشتملتْ هذه الكلمة على نوعيالتوحيد ، وهما توحيدُ الرُّبوبيّة ،وتوحيدُ الإلهية . وتضَمّنَتِالتعبُّد باسم الربّ واسمِ اللهِ ،فهو يُعبَدُ بألوهيته ، ويُسْتعانبربوبيته ، ويهدي إلى الصِّرَاطِالمستقيم برَحْمَتِهِ ، فكانَ أولالسورة ذِكْرَ اسْمِه : الله والربُّوالرحمن ، تطابُقاً لأجْلِ الطالِبمن عبادَتِهِ وإعانَتِهِ وهدايَتِهِ، وهو المنْفَرِدُ بإعطاءِ ذلك كلِّه، لا يعين على عبادَتِهِ سِوَاه ، ولايهدي سِوَاه .
ثمّ يشهد الداعي بقوله : (اهْدِنَاالصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ) [ الفاتحة : 6 ] شدةفاقته وضرورتَهُ إلى هذه المسألة ،التي لَيْس هو إلى شيءٍ أشدّ فاقةًوحاجةً منه إليها أَلْبَتَّةَ ،فإنَّهُ محتاجٌ إليه في كل نَفَسٍوطرفَةِ عَيْنٍ ، وهذا المطلوبُ منهذا الدُّعاء ، لا يتمّ إلاّبالهداية إلى الطَّريقِ الموصلِإلَيْهِ سُبحانَهُ ، والهداية فيه ،وهي هداية التَّفْصيل ، وخلق القدرةعلى الفِعْل ، وإرادَتِه ، وتكوينِهِ، وتوفيقِهِ لإيقاعِهِ له علىالوجْهِ المرْضيّ المحبوبِ للرَّبِّسبحانه وتعالى ، وحِفْظِهِ عليه منمُفْسِداتِهِ حال فِعْلِهِ وبعدفِعْلِهِ .(1/12)
ولما كانَ العَبْدُ مفْتَقِراً فيكلِّ حالٍ إلى هذه الهِدَايَةِ ، فيجميع ما يأتيه ويذرُهُ من أمورٍ ، قدأتاها على غير الهدايةِ ، فهويَحتاجُ إلى التَّوبَةِ منها ؛ وأمورهُدِيَ إلى أصْلِها دون تفصيلها ، أوهُدِيَ إليها من وَجهٍ دون وَجْهٍ ،فهو يحتاجُ إلى إتمامِ الهدايةفِيهَا ليزْداد هُدى ؛ وأمور هويحتاجُ إلى أن يحصل لهُ من الهدايةفيها بالمُسْتَقْبل ، مثل ما حَصَلله في الماضي ؛ وأمور هو خالٍ عناعتقادٍ فيها ، فهو يحتاج إلىالهداية فيها ؛ وأمورلم يفْعلْها ،فهو يحتاج إلى فِعْلِهَا على وجْهِالهِداية ؛ وأمور قد هُدِيَ إلىالإعتقاد الحقّ والعَمَلِ الصوابفيها ، فهو محتاج إلى الثبات عليها ؛إلى غير ذلك من أنواع الهدايات ، فرضَالله سبحانه عليه أن يسألَهُ هذهالهداية في أفْضَلِ أحوالِهِمرَّاتٍ متعدِّدة في اليوم والليلة .
وهذا أجلُّ مطلوبٍ وأعظمُ مسؤولٍ،ولو عَرَفَ الداعي قَدْرَ هذاالسؤال لجعله هجِّيراه 6 ، وقَرنَهبأنفاسه ، فإنّه لم يَدَع شَيئاً منخير الدنيا والآخرة إلا تَضَمَّنَهُ.فنسأل الله أن يَهدِيَنَا الصراطَالمستقيمَ ، وأن يثَبِّتَ قلوبَنَاعلى دينه ...7
ثم بيَّن أن سبيل أهل هذه الهدايةمغايرٌ لسبيل أهل الغضب وأهل الضلال، فانقسم الخلق إذن ثلاثة أقسامبالنسبة إلى هذه الهداية :
مُنْعَمٌ عليه بحصولها واستمرارحظّه من النعم بحسب حظّه من تفاصيلهاوأقسامها .
وضالٌّ لم يعط هذه الهداية ولم يوفقلها .
ومغضوبٌ عليه ، عرفها ولم يوفَّقْللعمل بموجبها .
فالعالم بالحقِّ العامل به : هوالمنْعَمُ عليه . وهو الذي زكَّىنفسَهُ بالعلمِ النافع ، والعملِالصَّالحِ ، وهو المفلح : ( قَدْأَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا) [ الشمس : 9 ] .
والعالمُ به المتبع هواه : هو المغضوبعليه ، لضلاله عن العمل .
والجاهل بالحقّ : هو الضال ، لضلالهعن العلم الموجب للعمل .(1/13)
وكان السَّلَفُ يقولون : "منْفسد من علمائنا ففيه شبه من اليهود ،ومن فسد من عبادنا ففيه شبه منالنصَارى" .
فعلى المسلم أن يبعدَ من هذينالشِّبْهين غايةَ البعد ، ومنْتصوَّرَ الشِّبْهينِ والوصفينِ وعلمأحوال الخلقِ علمَ ضرورتَهُ وفاقتهإلى هذا الدعاء ، الذي ليس للعبددعاءٌ أنفعَ منه ولا أوجبَ منه عليه ،وأنّ حاجَتَهُ إليه أعظمُ من حاجتهإلى الحياة والنّفَس ، لأنّ غايةَ مايقدر بفوتهما موتُهُ ، وهذَا يحصل لهبفَوْته شقاوةُ الأبدِ . فنسألُاللهَ أنْ يهدِيَنا الصراطَالمستقيم ( صِرَاطَ الَّذِينَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِالْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلاَالضَّالِّينَ ).
فلما فَرَغ من هذا الثَّناء والدُعاءوالتَّوحيد ، شَرَعَ له أن يطبعَ علىذلك بطابِع من التَّأمِين ، يكونكالخاتَمِ له، وافَقَ فيه ملائِكَةَالسَّماء، تفاؤلاً بإجابته وحصوله،وهذا التأمين من زِينَةِ الصَّلاةِ .
ثمَّ يأخذُ بعدَ ذلكَ في تلاوةِربيعِ القلوبِ ، وشفاءِ الصدورِ ،ونورِ البصائرِ ، وحياةِ الأرواحِ ،ولذّةِ النفوسِ ، ورياضِ القلوبِ ،وحادي الأرواحِ إلى بلادِ الأفراحِ ،والمنادي بالمساء والصباحِ : يا أهلَالفلاحِ ، حيّ على الفلاحِ ، وهوكلامُ ربِّ العالمين ، فيحلّ به في ماشاء من روضاتٍ مونقاتٍ ، وحدائقَمعجباتٍ ، زاهية أزهارها ، مونقةثمارها ، قد ذللتْ قطوفها تذليلاً ،وسُهلت لمتناولها تسهيلاً ، فهويجتني من تلك الثمار خيراً يُؤمر به ،وشراً يُنهى عنه ، وحكمةً وموعظةً ،وتبصرةً وتذكرةً وعبرةً،وتقريراًلحق،ودحضاً لباطل ، وإزالةً لشبهةٍ ،وجواباً عن مسألةٍ ، وإيضاحاً لمشكلٍ، وترغيباً في أسباب فلاحٍ وسعادةٍ ،وتحذيراً من أسباب خسران وشقاوة ،ودعوةً إلى هدى ، فتنزل على القلوبنزولَ الغيثِ على الأرضِ التي لاحياة لها بدونه ، ويحل منها محلالأرواح من أبدانها .(1/14)
فأيّ نعيمٍ وقرة عينٍ ولذة قلبٍوابتهاج وسرور ، لا يحصل له في هذهالمناجاة ، والربّ تعالى مستمعلكلامه .
ثمّ يعود إلى تكبيرربّه عز وجل فيجدد عهد التذكرة ، كونهأكبر من كلّ شيء بحق عبوديته ، وماينبغي أن يعامل به . ثمّ شرع له رفعاليدينِ عند الركوع تعظيماً لأمرِالله وزينةً للصلاة وعبودِيَّةخاصَّةً لليدين ، كعبودية باقيالجوارح ، واتباعاً لسنة رسول الله )فهو حِلْيَةُ الصلاة ، وزينتها ،وتعظيمٌ لشعائرها . ثمّ شرع لهالتكبير الذي هو في انتقالات الصلاةمن رُكنٍ إلى ركن ، كالتلبية فيانتقالات الحاجِّ من مشعر إلى مشعر ،فهو شعار الصلاة ، كما أنَّ التلبيةشعار الحج ؛ ليعلم العبدُ أنَّ سرَّالصلاةِ هو تعظيمُ الرَّبِّ تعالىوتكبيره بعبادته وحده . الْرُّكُوُعُثم يركع حانياً له ظهره خضوعاًلعظمته ، وتذللاً لعزّته ، واستكانةًلجبروته ، مسبِّحاً له بذكر اسمهالعظيم ، فَنَزَّه عظمته عن حالالعبد وذلّه وخضوعه ، وقابل تلكالعظمة بهذا الذلّ والانحناءوالخضوع ، قد طأطأ رأسه ، وطوى ظهره ،وربّه فوقه يشاهده ، ويرى خضوعهوذلّه ، ويسمع كلامه ، فهو رُكنُتعظيمٍ وإجلالٍ كما قال :( أمّاالرّكوع فعظّموا فيه الربّ) . وتمامُ عبوديةالركوع أن يتصاغرَ العبدُ ويتضاءلبحيث يمحو تصاغُرُه كلَّ تعظيم منهلنفسه ، ويثْبت مكانه تعظيمه لربهوكلما استولى على قلبه تعظيمُ الربازدادَ تصاغُرُه هو عند نفسه ،فالركوع للقلب بالذاتِ والقصدِ ،وللجوارح بالتَّبَعِ والتَّكْمُلة .(1/15)
الرَّفْعُ مِنَ الرُّكُوعِ ثميرفَعُ رأسَهُ عائِداً إلى أَكْمَلحديثِهِ ، وجعلَ شِعارَ هذا الركْنِحمدَ الله والثَّناءَ عليهوتحميدَهُ ، فافتتحَ هذا الشِّعاربقولِ المُصَلِّي : "سَمِعَ اللهُلِمَنْ حَمِدَه " أي : سَمِعَ سَمْعَقَبولٍ وإجابَةٍ ، ثُمَّ شَفَعَبقَوْلِهِ : " رَبَّنَا وَلَكَالحَمْدُ ، مِلْءَ السَّمَواتِوَمِلْءَ الأَرضِ ، وَمِلْءَ مَابَيْنَهُما ، ومِلْءَ مَا شِئْتَمِنْ شَيْءٍ بعد" ثم أخْبَرَ عن شأْنِهذا الحَمْدِ وعظمَتِهِ قَدْراًوصِفَةً ، فقالَ :" ملْءَالسَّمَوَاتِ ، وَمِلْءَ الأَرْضِ ،وَمِلْءَ مَا بَيْنَهُمَا، وَمِلْءَمَا شِئْتَ مِنْ شَيْءٍ بعد" أي : قَدْرَمِلْءِ العالم العلويِّ والسفليِّ ،والفضاء الذي بَيْنَهما ؛ فهذاالحَمْدُ قَدْ مَلأَ الخَلْقَالموجود ، وهو يملأُ ما يخلقُهالربُّ تبارَكَ وتعالى بعد ذلك مايشاؤه ، فَحَمْدُهُ قد مَلأَ كلَّمَوْجودٍ ، وملأ ما سَيوُجَدُ ، فهذاأَحْسن التقديرَيْن . ثم أتْبَع ذلكبقَوْلِه : " أهْلَ الثَّنَاءِوَالمَجْدِ " . فعادَ الأمْرُ بعدالركْعَةِ إلى ما افْتَتَحَ بهالصَّلاة قَبْلَ الركْعَةِ ، منالحَمْدِ والثَّنَاءِ والمَجْدِ ،ثم أَتْبَعَ ذلك بقَوْلِهِ : "أحَقُّ مَا قَالَ الْعَبْدُ " تقريراًلحَمْدِهِ وتمجِيدِهِ والثناءِ عليه، وأنَّ ذَلِكَ أحقّ ما نَطَقَ بهالعَبْدُ ، ثم أتْبَعَ ذلك بالاعترافبالعُبودِيّة ، وأنَّ ذَلِكَ حكْمٌعامٌّ لجميع العَبِيد ، ثم عقَّبَذَلِكَ بقَوْلِهِ : " لاَ مَانِعَلِمَا أَعْطَيْتَ ، وَلاَ مُعْطِيَلِمَا مَنَعْتَ ، وَلاَ يَنْفَعُ ذَاالجَدّ ، مِنْكَ الْجَدّ " اعترافاًبتَوْحيدِهِ ، وأن النِّعَمَ كلَّهامنه ، وهذا يتضمَّنُ أموراً : أحدها :أنّه المنْفَرد بالعَطاءِ والمَنْعِ. الثاني: أنَّه إذا أعْطىلم يطقْأحدٌ مَنْعَ مَنْ أعْطاه ، وَإِذامَنَعَ لم يطقْ أحَدٌ إعطاء منمَنَعَهُ .(1/16)
الثالث : أنه لا يَنْفَعُعنْدَهُ ، ولا يخلصُ من عَذابِهِ ،ولا يُدْني من كَرامَتِه ، جدودُ بنيآدم وحظوظهم من المُلْكِوالرِّئاسَةِ والغِنى وطِيبِالعَيْش وغير ذلك ، إنَّما ينفعهمعنده التقرب إلَيْه بطاعَتِه ،وإيثار مَرضاتِهِ . السُّجُودُ ثميكبِّر وَيَخِرُّ للهِ ساجداًواضعاً يديه قبْلَ رُكْبَتيه 8، وشرع السجودعلى أكْمَلِ الهَيْئَةِ ، وأبلَغِهافي العُبودِيَّة ، وأعمّها لسائرالأعْضاء ، بحيث يأخُذُ كلُّ جزْءٍمن البَدَنِ بحظِّهِ منالعبودِيَّةِ. والسجودُ سِرُّالصَّلاةِ ، وركْنُها الأعْظم ،وخاتِمَةُ الرَّكْعَةِ ، وماقَبْلَهُ من الأركان كالمقدِّمات له. فهو شِبْهُ طَوافِ الزِّيَارَةِ فيالحجِّ ، فإنَّهُ مقصودُ الحجِّ ،ومحلُّ الدُّخول على اللهِوزيارَتِه ، وما قبله كالمقدِّماتِله . وأَفْضَلُ الأحْوالِ للعبد حالٌيكونُ فيها أقربَ إلى اللهِ ، ولهذاكانَ الدُّعاء في هذا المحل أقرب إلىالإجابةِ ، كما قال النبي صلى الله عليهوسلم:(أَقْرَبُ مَا يَكُونُ الْعَبْدُمِنْ رَبِّهِ وَهُوَ سَاجِدٌ) 9.(1/17)
ولما خلقَ اللهُسبحانَه العبدَ من الأرْض ، كانَجَدِيراً بأن لا يخرج عن أصْلِه ، بليرجعُ إلَيْهِ إذا تقاضَاهُالطَّبْعُ والنفس بالخُروج عَنْه ،فإنَّ العَبْدَ لو تُرِكَ لطَبْعِهِ، ودواعي نفسِهِ ، لَتكَبَّرَ وأَشرَوخرجَ عن أصْلِهِ الذي خُلِقِ منْهُ، ولوثبَ على حَقِّ رَبِّهِ منالكبرياء والعظمة ، فنازَعَهُإيّاهُما ، وأُمِرَ بالسُّجودِخضوعاً لعظمَةِ رَبِّهِ وفاطِرِهِ،وخشوعاً لَه وتذلّلاً بين يَدَيْهِ، وانْكِساراً له ؛ فيكونُ هذاالخشوعُ والخضوعُ والتذلّل رداً لهإلى حكْمِ العبوديّة ، ويتدارَكُ ماحَصلَ له من الهَفْوَةِ والغَفْلَةِوالإعراضِ الذي خرج به عن أصْلِهِ ،فتمثَّل له حقيقة التراب الذي خُلِقَمنْهُ ، وهو يضعُ أشرفَ شيءٍ منْهُوأعلاهُ وهو الوجْه ، وقد صارَ أعلاهأسفله خُضوعاً بين يَديّ ربِّهِالأعلى ، وخشوعاً له وتذلّلاًلعَظَمَتِهِ واستكانَةًلِعِزَّتِهِ ، وهذا غَايَةُ خشوعِالظَّاهر . فإنَّ الله سُبْحَانَهُخَلَقَهُ من الأرْضِ التي هي مذلّلةللوَطْء بالأقْدام ، واستعملَهُفيها ، وردّه إلَيها ، ووعدهبالإخْراجِ مِنْها ، فهي أمُّهُوأبوه وأصْلُه وفَصلُه ، فضمَّتْهُحَيّاً على ظَهْرِها ، ومَيْتاً فيبَطْنِها ، وجُعِلَتْ له طُهْراًومَسْجداً ، فأُمرَ بالسجودِ ، إذْهو غايَةُ خُشوعِ الظَّاهِرِ ،وأَجمعُ العبودية لسائر الأعضاء ،فيُعَفِّرُ وجهَهُ في التراب ،استكانَةً وتواضُعاً وخُضُوعاًوإلقاءً باليَدَيْن .(1/18)
وقال مسروق لسَعيدِ بنجُبَيْر: ما بقيَ شَيْءٌ يرغبُفيه إلاّ أنْ نُعفِّرَ وجوهنا فيالتُّرابِ لَهُ . وكانَ النبي صلى الله عليهوسلم ( لا يَتَّقِي الأرضبوجْهِهِ قَصْداً ، بل إذا اتَّفَقَله ذلك فَعَلهُ ، ولذلك سَجَدَ فيالماء والطِّين) 10 . ولهذا كانَ من كمالِالسجود الواجِبِ ، أنَّهُ يُسجدُ علىالأعْضَاءِ السَّبْعَةِ : الوجْهِواليَدَيْن والرُّكْبَتَيْنوأطرافِ القَدَمَيْن . فهذا فرْضٌأمَرَ اللهُ به رسولَهُ ، وبلَّغَهُالرسولُ لأُمَّتِهِ . ومن كمالِهِالواجب أو المستحبّ : مباشرة مصلاهبأديمِ وجْهِهِ ، واعتماده علىالأرْضِ ، بحيث ينالُها ثقَلُ رأسِهِ، وارتفاعُ أسافِلِهِ على أعالِيهِ ،فهذا من تمام السجود . ومن كمالِهِ أنيكونَ على هَيْئَةٍ يأخذُ فيها كلُّعضو من البَدَنِ بحظِّهِ من الخُضوعِ، فيُقِلُّ بطْنَه عَن فَخِذَيْه ،وفَخِذَيْه عن ساقَيْهِ ، ويجافيعَضُدَيْه عن جَنْبَيْه ، ولايفرشهما على الأرض ، ليستقل كُلُّعُضْوٍ منه بالعبودية تكميلاً ،للخضوع والتذلل لمن له العزّ كلّهوالعظمة كلّها ، وهذا لأيسرُ اليسيرِمن حقّه على عبده ، فلو دام كذلك منحين خلق إلى أن يموت لما أدى حقّ ربه ،ولذلك (إذا رأى الشيطانُابْنَ آدم ساجداً للهِ ، اعتزلَناحِيةً يَبْكِي ، ويقولُ : يَاوَيْلَهُ أُمِرَ ابْنُ آدَمَبالسُجُّودِ فسَجَدَ ، فَلَهُالْجَنَّةُ ، وَأُمِرتُ بالسُّجودِفَعَصَيتُ ، فَلي النَّارُ) 11. ولِذَلِك أثنىاللهُ سبحانَهُ على الذَّينيخرُّونَ سُجَّداً عند سماعِكلامِهِ ، وذمّ من لا يَقَعُ ساجِداًعنْده .(1/19)
ولذلك كان قولُ مَنْأَوْجَبَهُ قَوِيّاً في الدّلِيل12 ، ولما علمتِالسّحرةُ صدْقَ مُوسى وكذبَ فِرْعون، خَرّوا سُجَّداً لِرَبِّهِم ،فكانَتْ تلك السَّجدة أول سعادتهم ،وغفران ما أَفْنوا فيه أعمارهم منالسِّحر ، ولذلِكَ أَخْبَرَ سبحانهعن سُجود جميع المخلوقاتِ لَهُ ،فقالَ تعالى : (وَلِلَّهِ يَسْجُدُمَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِيالأَرْضِ مِنْ دَابَّةٍوَالْملاَئِكَةُ وَهُمْلاَيَسْتَكْبِرُونَ يَخَافُونَرَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْوَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ) [ النحل : 49 ـ 50 ]فأخْبَرَ عن إيمانِهِم بعلُوِّهوفوقِيَّتِهِ ، وخضوعِهِمْ لهبالسُّجودِ تعظيماً وإجلالاً ، وقالتعالى : ( أَلَمْ تَرَ أَنَّاللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِيالسَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِوَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُوَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُوَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّوَكَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ وَكَثِيرٌحَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ وَمَنْيُهِنْ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْمُكْرِمٍ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُمَا يَشَاءُ) [ الحج : 18 ] فالذيحَقَّ عليه العذابُ هو الَّذي لايسجُدُ له سبحانَهُ ، وهو الذيأهانَهُ بتَرْكِ السُّجودِ له ،وأخْبَرَ أنَّهُ لا مكرم لَه ، وقدهاَن على رَبِّه حيثُ لم يسجُد له .وقال تعالى : ( وَلِلَّهِ يَسْجُدُمَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِطَوْعًا وَكَرْهًا وَظِلاَلُهُمْبِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ) [ الرعد : 15 ] .(1/20)
ولماكانَتِ العبوديَّةُ غايةَ كمالِالإنسان ، وقُرْبُهُ مِنَ اللهِ بحسبنصيبه من عبودِيَّتِهِ ، وكانَتِالصلاةُ جامعةً لمتفَرِّقِالعبوديَّة ، متضمِّنةً لأقسامِها ،كانتْ أفضَلَ أعمال العبْد ،ومَنزِلَتُها من الإسْلامِبِمَنْزِلَةِ عمودِ الفسطاطِ منه ،وكانَ السُّجودُ أفْضَلَ أركانهاالفِعْليَّة ، وسِرَّها الذيشُرِعَتْ لأجْلِهِ ، وكان تكرُّره فيالصَّلاةِ أكثر من تكرُّر سائرالأرْكان ، وجَعَلَهُ خاتِمَةالركْعَةِ وغايتها ، وَشُرِعَفعلُهُ بعد الرُّكوعِ ، فإنَّالرُّكوعَ تَوْطِئَةٌ له ومقدِّمَةٌبين يَدَيْهِ ، وشرعَ فيه منالثَّناء على اللهِ ما يناسِبُه ،وهو قولُ العبد : " سُبْحانَرَبِّيَ الأَعْلَى " . فَهَذَا أفْضَل مايُقَالُ فِيهِ ، ومن تَرَكَهُعَمْداً ، فصلاتُهُ باطِلَةٌ عنْدَكثيرٍ من العُلَماء ، منْهم الإمامأحمد وغيرُهُ ، لأنَّهُ لم يفْعَل ماأُمِرَ به ؛ وكانَ وصفُ الرَّبِّبالعُلُوِّ في هذه الحال في غايَةِالمُناسَبَةِ لحاِل السَّاجِدِ ،الذي قد انحطَّ إلى السّفْل علىوجْهِهِ ، فذكر علوَّ رَبِّهِ فيحالِ سفوله هو ، ونزهه عن مثل هذهالحال ، وأنّ مَنْ هو فوق كلّ شيء ،وعالٍ على كلّ شيء ، ينزّه عن السفولبكل معنى ، بل هو الأعلى بكل معنى منمعاني العلو . وهو كما ذكر عظمته فيحالِ خضوعِهِ في ركوعِهِ ، ونزَّهَربَّهُ عما لا يليقُ به ، مما يضادعظمتَه وعلوّه . ثمّ شرع له أن يرفعرأسه ويعتدل جالساً ، ولما كان هذاالاعتدال محفوفاً بسجودين ، سجودقبله وسجود بعده ، فينتقل من السجودإليه ثمّ منه إلى السجود الآخركان لهشأن ، فكان رسول الله (يطيله بقدرالسجود يتضرع فيه إلى ربه ، ويستغفرهويسأله رحمته وهدايته ورزقه وعافيته) 13وله ذوق خاص ، وحالللقلب غير ذوق السجود وحاله ، فالعبدفي هذا القعود قد تمثَّلَ جاثياً بينيدي ربّه ملقياً نفسه بين يديه ،معتذراً إليه مما جناه ، راغباً إليهأن يغفر له ويرحمه .(1/21)
وكان النبي صلى الله عليهوسلم ( يكرر الاستغفار) 14 في هذهالقعدة ، ويكثر رغبته إلى الله فيها .
وشرع له أن يعودساجداً كما كان ، ولا يُكْتَفى منهبسجدة واحدة في الركعة كما اكْتَفَىمنه بركوع واحد ، لفضل السجود وشرفهوموقعه من الله ، ولهذا جُعِلَ خاتمةالركعة ، وما قبله كالمقدمة بين يديه، فمحِلُّه من الصلاة محل طوافِالزيارة ، وما قبله من التعريف* وتوابعه مقدماتبين يديه ، وكما أنَّه أقرب ما يكونهالعبد من ربه وهو ساجد فكذلك ، أقربما يكون منه في المناسك وهو طائفٌ ،ولهذا قال بعض الصحابة لمن كلَّمَهُفي طوافه بأمر من الدنيا : "أتقول هذا ونحن نتراءى لله في طوافنا" ؟! 15 ولهذا والله أعلمجُعِلَ الركوع قبل السجود تدريجاًوانتقالاً من الشيء إلى ما هو أعلىمنه .
ثم شرع له تكرار هذه الركعة مرة بعدمرة ، كما شرع تكرار الأذكاروالدعوات مرة بعد مرة ، ليستعدبالأول لتكميل ما بعده ، ويجبر بمابعده ما قبله ، وليشبع القلب من هذاالغذاء ، وليأخذ زاده ونصيبه وافراًمن الدواء ليقاومه ، فإنَّ منزلةالصلاة من القلب منزلة الغذاءوالدواء ، فإذا تناول الجائع الشديدالجوع من الغذاء لقمة و لقمتين ،كانغناؤها عنه وسدّها من جوعه يسيراًجداً ، وكذلك المرض الذي يحتاج إلىقدرٍ معينٍ من الدواءِ ، إذا أخذَ منهالمريضُ قيراطاً من ذلك لم يزل مرضهبالكلية ، وأزال بحسبه . فما حصلالغذاء أو الشفاء للقلب بمثل الصلاة، وهي لصحته ودوائه بمنزلة غذاءالبدن ودوائه .
top
التَشَهُّدُ(1/22)
ثمَّ لمَّا أكْمَلَالمصلي هذه العبودية ، وانتهتْحركاته ، خُتِمَتْ بالجلوسِ بين يديالرَّبِّ تعالى جلوسَ تذلُلٍوانكسارٍ وخضوعٍ لعظمته ، كمايجْلِسُ العبدُ الذليلُ بينَ يديسيِّدهِ ، وكانَ جلوسُ الصلاةِ أخشعَما يكونُ من الجلوسِ وأعظَمَهُخضوعاً وتذللاً ، فأذنَ للعبدِ فيهذه الحالِ بالثناءِ على الله تباركوتعالى بأبلغ أنواع الثناءِ وهو :التحياتُ لله والصلواتُ والطيباتُ ،وعادتهمْ إذا دخلوا على ملوكهمْ أنْيحيّوهم بما يليقُ بهمْ ، وتلكَالتحية تعظيمٌ لهمْ وثناءٌ عليهم ،فبعضهمْ يقولُ : أنعمْ صباحاً ،وبعضُهم يقول : لك البقاءُ والنعمةُ ،وبعضهم يقول : أطالَ اللهُ بقاءكَ ،وبعضهم يقولُ : تعيشُ ألفَ عامٍ ،وبعضُهم يسجدُ للملوكِ ، وبعضُهميسلِّم ، فتحياتُهم بينهم تتضمنُ مايحبّه المحيَّى من الأقوالِوالأفعالِ ، والمشركون يحيَّونأصنامهم .
قال الحسن : كان أهلُ الجاهليةيتمسحون بأصنامهم ، ويقولون : لكِالحياةُ الدائمةُ ، فلمّا جاءَالإسلامُ ، أمروا أن يجعلوا تلكالتحيات وأزكاها وأفضلها لله .
فالتحية هي : تحية مِن العبدِ للحيِّالذي لا يموت ، والله أحقُّ بالتعظيموالثناء من كلِّ أحدٍ من خلقه ، وهوسبحانه أولى بتلك التحياتِ من كلِّما سواه ، فإنّها تتضمنُ الحياةَوالبقاءَ والدوامَ ، ولا يستحقُ أحدٌهذه التحيات إلا الحيّ الباقي ، الذيلا يموتُ ولا يزولُ ملكُه .
وكذلك قوله :(والصّلوات) فإنّه لا يستحقُأحدٌ الصّلاة إلا الله ، والصلاةلغيره من أعظم الكفرِ والشركِ به .(1/23)
وكذلك قوله :(والطّيبات) أي : الطّيبات منالكلماتِ والأفعالِ والصّفاتِوالأسماءِ لله وحده . فهو طيّب ،وأفعاله طيّبة ، وصفاته أطْيب شيء ،وأسماؤه أطْيب الأسماء ، واسْمهالطيب ، ولا يصدر عنه إلا طيِّب ، ولايصْعد إليه إلا طيّبْ ، ولا يقرب منهإلا طَيّب ، وإليه يصْعدُ الكلمُالطيِّب ، وفعله طيِّب ، والعملالطيِّب يعرج إليه ، فالطّيِّباتكلّها له ، ومضافة إليه ، وصادرة عنهُ، ومنتهيةٌ إليه ، ولا يجاورُهُ منعبادهِ إلا الطَّيِّبون كما يقاللأهل الجنة : ( سَلاَمٌ عَلَيْكُمْطِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ)[ الزمر : 73] .وقال النبي صلى الله عليه وسلم:(إنّ الله طيّبٌ *لا يقبلُ إلا طيّباً) 16 .
فإذا كان هو سبحانه الطيّب علىالإطلاق ، فالكلماتُ الطيباتُ ،والأفعالُ الطيّباتُ ، والصّفاتُالطيّبات ، والأسماءُ الطيباتُ ،كلُّها له سبحانه ، لا يستحقُّهاأحدٌ سواه ، بل ما طابَ شيء قطّ إلابطيبته سبحانه ، فطيبُ كلّ ما سواه منآثار طيبته .
وأيضاً فمعاني الكلماتِ الطَّيباتلله وحدَه ؛ فإنّ الكلماتِالطَّيباتِ تتضمَّنُ تسبيحَهُوتحميدَهُ وتكبيرَهُ وتمجيدَهُوالثناءَ عليه بآلائه وأوصافِهِ ،فهذهِ الكلماتُ الطيباتُ التييُثْنَى عليه بها ومعانيها لهُوحدَهُ لا يَشْرَكُهُ فيها غيره ، كـ "سبحانَالله والحمدُ لله ولا إله إلا اللهوالله أكبر" .
فتأمّل هذه الكلمات التي هي أطيبالكلمات بعد القرآن كيف لا تنبغي إلالله ، فإنّ " سبحان الله " تتضمّنُ تنزيهَهعن كلّ نقصٍ ، وعيبٍ ،وسوءٍ ، وعنخصائصِ المخلوقين وشَبَهِهِمْ ،(1/24)
و " الحمد لله " تتضمَّن إثباتكلّ كمال له قولاً وفعلاً ووصفاًعلَى أتم الوجوه وأكملها أزلاًوأبداً ، و " لا إله إلا الله" تتضمنانفراده بالإلهية ، وأن كلّ معبودسواه فباطل ، وأنه وحده الإله الحقوأنه من تأله غيرَهُ فهو بمنزلة مناتَّخذ بيتاً من بيوت العنكبوت يأويإليه ويسكنه من الحرّ والبرد ، فهليغني عنه ذلك شيئاً ؟ " والله أكبر" تتضمنأنه أكبر من كلّ شيء وأجلّ وأعظموأعزُّ وأقوى وأقدر وأعلم وأحكم ،فهذه الكلمات الطيبات لا تصلح هيومعانيها إلا لله وحده .
ولمّا كانت الصلاةُمشتملةً على عملٍ صالحٍ ، وكلمٍ طيبٍ، والكلمُ الطيّبُ إليه يصعد ،والعملُ الصالحُ يرفعه ، ناسب ذكرُهذا عند انتهاءِ الصلاةِ وقت رفعهاإلى الله تعالى .
فلمّا أتى بهذا الثناء على الرَّبِّتعالى ، التفتَ إلى شانِ الرسولِالذي حصلَ هذا الخير على يديه ، فسلّمعليه أتمّ سلام معرّفٍ باللام التيللاستغراقِ مقروناً بالرحمةِوالبركة . ثمَّ انتقلَ إلى السّلامعلى نفسهِ وعلى سائرِ عبادِ اللهِالصالحين ، وبَدأ بنفسهِ لأنّه أهمُّوالإنسانُ يبدأ بنفسه ثمّ بمنْ يعول، ثم ختم هذا المقام بعقد الإسلام وهوالتشهد بشهادة الحقِّ التي هي أولُالأمر وآخره ، وعندها كلّ الثناءوالتشهد .
top
الصَّلاةُعَلَى النَّبِيِّ وَآَلِه(1/25)
والتحيَّاتِ في آخِرالصّلاة جعِلَتْ، بمنزِلَةِخُطْبَةِ الحاجَةِ أمامها ، فإنَّالمصلِّي إذا فرغَ من صلاتِهِ ،جَلَس جِلْسةَ الرَّاغِب الرَّاهِب، يسْتَعْطي من رَبِّه ما لا غِنَى بهعَنْه ، فشُرِعَ له أمامَاسْتِعطائِهِ كلمات التحيّات ،مقدّمة بين يدي سؤالِهِ ، ثميُتْبِعُها بالصلاة على من نالَتأمَّتُهُ هذه النعمة على يَدهِوسعادَتِه ـ وهي من أجلّ أدعية العبدوأنفعها له في دنياه وآخرته ـ فكأنَّالمُصَلّي توسَّلَ إلى اللهِسُبْحانَهُ بعبوديّتهِ ، ثمبالثناءِ عليه ، والشهادَة لهبالوحدانِية ، ولرَسوله بالرِّسالة، ثم الصلاة على رسوله ، ثم قيل لَه :تخيَّر من الدُّعاء أحبّه إليك ،فذاك الحقّ الذي عَلَيْكَ ، وهذاالحق الذي لَكَ .
وشُرِعَتِ الصَّلاة على آله معالصَّلاةِ عليه ، تكميلاً لِقُرَّةِعَيْنِه بإكرام آله والصَّلاةِعَلَيْهِم ، وأن يُصَلَّى عليه وعلىآله ، كما صُلِّي على أبِيهِ إبراهيموآلِهِ ، والأنبياءُ كلُّهم بعدإبراهيم من آلِهِ ، ولذلك كانالمطلوبُ لِرَسول الله صلى الله عليه وسلم صلاةً مثل الصلاةعلى إبراهيمَ ، وعلى جميع الأنبياءبعدَهُ وآلِهِ المؤمنين ، فَلِهذاكانتْ هذه الصلاة أكْمل ما يُصَلّىعلى رسولِ اللهِ بها وأفْضَلَ .
فإذا أتى بها المصلِّي ، أُمِرَ أنيَسْتَعِيذَ باللهِ من مجامِعالشَّرِّ كلِّه ، فإنَّ الشَّرَّإمَّا عذابُ الآخِرَةِ ، وإماسَببُهُ،فليس الشَّرُّ إلا العذابوأسبابه .والعذابُ نَوْعان : عذابٌ فيالبَرْزَخِ ، وعذابٌ في الآخِرَة .وأسبابُهُ الفِتْنَةُ ، وهو نَوْعان: كُبرى ، وصُغْرى .فالكبرى : فتنةالدجال وفتنة الممات ؛ والصُّغرى :فتنة الحياة التي يُمْكِنُ تداركُهابالتَّوبَة ، بخلافِ فِتْنَةِالمَمَاتِ وفِتْنَةِ الدَّجَالِ ،فإنَّ المفْتُونَ فيهِما لايتداركُها .(1/26)
ثُمَّ شَرعَ له منالدُّعاءِ ما يختارُهُ من مصالحِدُنياه وآخِرَتِه ، والدُّعاءُ فيهذا المحلِّ قَبْلَ السَّلامِأفْضَلُ من الدُّعاء بعد السَّلامِوأنْفَعُ للدَّاعي ، وذَلِكَ أنَّالمُصَلِّي قِبْلَ سَلامِهِ فيمحلِّ المُناجاة والقُرْبَة بينيَدَيّ رَبِّهِ ، فسؤالُهُ في هذاالحالِ أقربُ إلى الإجابَةِ منسؤالِهِ بعد انصرافِهِ من بَيْنَيَدَيْهِ .
top
كَوْنُالسَّلاَم فِي خَاتِمَةِ الصَّلاَةِ
وأمّاالسلام من الصلاة : فإنّما هو علمٌعلى التحليلِ منها والانْفصالِعنْها ، وقدْ أخبرَ رسول الله عن ذلكفقال:(تحريمها التكبيروتحليلها التسليم).
والسلام اسم من أسْماء الله تباركوتعالى 17 ، وهذا دليلٌ على شرفِالصلاة وجليلِ شأنها ورفيع مكانها ؛لأنَّ المصلي افتتحها باسمه تباركوتعالى ، وختمها باسمه ، فيكونذاكراً لاسم ربّه أول الصلاة وآخرها، فأولها باسمه وآخرها باسمه ، فدخلَفيها باسمه ، وخرج منها باسمه ، مع مافي اسم السلام من الخاصية والحكمةالمناسبة لانصراف المُصَلّي من بينيدي الله تعالى ، فإن المصلِّي ما دامفي صلاته بين يدي ربه فهو في حماهالذي لا يستطيعُ أحدٌ أن يخفِرَهُ ،بل هو في حِمىً من جميع الآفاتوالشرور ، فإذا انصرف من بين يديهتبارك وتعالى ابتدرتْهُ الآفاتوالبلايا والمحن ، وتعرضَت له من كلجانب ، وجاءه الشيطان بمصائده وجنده، فهو متعرِّضٌ لأنواع البلاياوالمحن ، فإذا انصرف من بين يدي اللهمصحوباً بالسَّلام ،لم يزل عليهحافظٌ من الله إلى وقت الصلاة الأخرى. وكان من تمام النعمة عليه أن يكونانصرافُهُ من بين يدي ربِّه بسلاميستصحُبُه ، ويدومُ له ، ويبقى معه .
فَتَدَّبر هذا السِّرَّ الذي لو لميكن في هذا التعليق غيره لكان كافياً.
فكيف وفيه من الأسرار والفوائد ما لايوجدُ عندَ أبناء الزمان .
top
الإقْبالُ علىالله في الصَّلاة(1/27)
الصَّلاةُ قرَّةُعيونِ المحبين ، ولذَّةُ أرواحالموَحِّدين ،وبستان العابدين ،وثمرة الخاشعين ، وَمِحَكُّ أحوالِالصادقين ، وميزانُ أحوالِالسّالكين . وهي من أعظمِ نعم اللهعليهم ، وأفضل هداياه التي ساقهاإليهم ، فهيَ بستَانُ قلوبهم ،ولذَّةُ نفوسهم ، ورياضُ جوارحهم .فيها يتقلبون في النعيم ، وتوجب لهمالقرب والمنزلة من الله .
وسرُّ الصلاة وروحها ولبُّها هوإقبالُ العبد فيها على الله وحضورهبكُلِّيَّتِهِ بين يديه 18، فكما أنّه لاينبغي له أنْ يصرفَ وجهه عن قِبْلَةِالله يميناً وشمالاً ، فكذلك لاينبغي له أن يصرفَ قلبه عن ربّه إلىغيره .
فالكعبةُ التي هي بيتُ الله قِبْلَةُوجهه وبدنه ، وربُّ البيت تباركوتعالى هو قِبْلَةُ قلبه وروحه ،وعلى حسب إقبالِ العبد على الله فيصلاته يكون إقبال الله عليه ، وإذاأعْرَضَ أعْرَضَ الله عنه ؛ وكماتَدينُ تُدانُ .
وللإقبال في الصلاة ثلاثُ منازل :
إقبالعلى قلبه فيحفظه من الشهوات والوساوسوالخطرات المبطِلَةِ لثواب صلاته ،أو المنقصة له .
وإقبال على الله بمراقبته حتى كأنّهيراه .
وإقبال على معاني كلامه وتفاصيلعبودية الصلاة ليعطيها حقّها منالخشوع والطمأنينة وغير ذلك .
فباستكمال هذه المراتب الثلاث تكونإقامة الصلاة حقاً ، ويكون إقبالالله على عبده بحسب ذلك .
ومثل من يلتفت في صلاته ببصره أوبقلبه مثل رجل قد استدعاه السلطان ،فأوقفه بين يديه ، وأقبل يناديهويخاطبه ، وهو في خلال ذلك يلتفت عنالسلطان يميناً وشمالاً ، وقد انصرفقلبه عن السلطان ، فلا يفهم ما يخاطبهبه ؛ لأن قلبه ليس حاضراً معه ، فماظنّ هذا الرجل أن يفعل به السلطان ،أفليس أقلُّ المراتب في حقّه أنينصرف من بين يديه ممقوتاً مبعداً قدسقط من عينيه ؟ ! فما الظنّ بالملكالحق المبين الذي هو ربّ العالمينوقيوم السموات والأرض .(1/28)
فهذا المصلي لا يستوي والحاضرَ القلب، المقبلَ على الله تعالى في صلاته ،الذي قد أشعر قلبه عظمة من هو واقفبين يديه ، فامتلأ قلبه من هيبته ،وذلت عنقه له ، واستحيى من ربه تعالىأن يقبل على غيره ، أويلتفت عنه ،وبين صلاتيهما في الفضل ؛ كما بينالسماء والأرض .
وذلك : أن أحدهما مقبل بقلبه على الله، قرير العين به ، والآخر ساهٍ غافل ،فإذا أقبل العبد على مخلوق مثله ،وبينه وبينه حجاب ؛ لم يكن إقبالاًولا تقريباً ، فما الظن بالخالق ؟!
وإذا أقبل على الخالق ، وبينه وبينهحجاب الشهوات والوساوس ، والنفسمشغوفة بها ، ملأى منها ، فكيف يكونذلك إقبالاً وقد ألهته الوساوسوالأفكار ، وذهبت به كل مذهب ؟!
والعبدُ إذا قام في الصلاة ؛ غارَالشيطان منه ، فإنه قام في أعز مقام ،وأقربه ، وأغيظه للشيطان ، وأشدهعليه ، فهو يحرص ويجتهد كل الاجتهادأن يخطر بينه وبين نفسه ، ويحول بينهوبين قلبه ، فيذكِّره في الصلاة ما لميكن يذكر قبل دخوله فيها ، حتى ربماكان قد نسي الشيء والحاجة ، وأيس منها، فيذكره إياها في الصلاة 19؛ ليشغل قلبه بها، ويأخذه عن الله ، فيقوم فيها بلاقلب ، فلا ينال من إقبال الله تعالىوكرامته وقربه ما يناله المقبل علىربه عز وجل ، الحاضر بقلبه في صلاته ،فينصرف من صلاته مثل ما دخل فيهابخطاياه وذنوبه ، وأثقاله لم تخفَّعنه بالصلاة ، فإن الصلاة إنماتكفِّر سيئات من أدى حقها ، وأكملخشوعها ، ووقف بين يدي الله تعالىبقلبه وقالبه .(1/29)
فهذا إذا انصرف منها ؛ وجد خفة مننفسه ، وأحس بأثقال قد وضعت عنه ،فوجد نشاطاً وراحة وروحاً ، حتىيتمنى أنه لم يكن خرج منها ؛ لأنهاقرَّةُ عينه ، ونعيم روحه ، وجنة قلبه، ومستراحه في الدنيا ، فلا يزال كأنهفي سجن ضيق حتى يدخل فيها ، فيستريحبها ، لا منها ، فالمحبُّون يقولون :نصلي فنستريح بصلاتنا ؛ كما قالإمامهم وقدوتهم ونبيهم :(يابلالُأقم الصلاة، أرحنا بها) 20 أي: أقمها لنستريح بهامن مقاساة الشواغل ، كما يستريحالتعبان إذا وصل إلى منزله وقرّ فيهوسكن ، ولم يقل : أرحنا منها ؛ كمايقول المبطلون الغافلون .
وقال النبي: (حُبِّبَ إليّ :النِّسَاءُ ، والطِّيبُ ، وجعلتْقرَّةُ عيني في الصَّلاة) 21 .(1/30)
فقرَّةُ العينِ فوقالمحبَّة ، فجعلَ النساءَ والطّيبَمّما يحبّه ، وأخبر أنَّ قرّة العينِالتي يطمئن القلب بالوصول إليها ومحضلذته وفرحه وسروره وبهجته : إنّما هوفي الصّلاة التي هي صلةٌ بالله ،وحضورٌ بين يديه ، ومناجاةٌ له ،واقترابٌ منه . فكيف لا تكون قرةالعين ، وكيف تقر عين المحب بسواها ؟!وكيف يطيق الصبر عنها ؟! فَالمُحِبُّرَاحَتُهُ وَقُرَّةُ عَينِهِ فِيالصَّلاةِ ، وَالغَافِلُ المُعرِضُلَيسَ لَهُ نَصِيبٌ مِن ذَلِكَ ، بَلالصَّلاةُ كَبِيِرَةٌ شَاقَّةٌعَلَيهِ ، إذَا قَامَ فِيهَاكَأَنَّهُ عَلَى الجَمرِ حِتَّىيَتَخَلَّصَ مِنهَا ، وَأَحَبُّالصَّلاةِ إلَيهِ أَعجَلُهَاوَأَسرَعُهَا ، فَإنَّهُ لَيسَ لَهُقُرَّةُ عَينٍ فِيهَا ، وَلالِقَلبِهِ رَاحَةٌ بِهَا ،وَالعَبدُ إذَا قَرَّتْ عَينُهُبِشَيءٍ وَاستَرَاحَ قَلبُهُ بِهِفَأَشَقُّ مَاعَلَيهِمُفاَرَقَتُهُ ، وَالمُتَكَلِّفُالفَارغُ القَلبِ مِن اللهِوَالدَّارِ الآخِرَةِ المُبتَلَىبِمَحَبَّةِ الدُّنيَا أَشَقُّ مَاعَلَيهِ الصَّلاةُ ، وَأَكرَهُ مَاإلَيهِ طُولُهَا ، مَعَ تَفَرُّغِهِوَصِحَّتِهِ وَعَدَمِ اشتِغَالِهِ !وإنما يقوى العبد على حضوره فيالصلاة واشتغاله فيها بربه إذا قهرشهوته وهواه ، وإلا فقلب قد قهرتهالشهوة ، وأسره الهوى ، ووجد الشيطانفيه مقعداً تمكن فيه ؛ كيف يَخْلُصُمن الوساوس والأفكار ؟! والقلوبثلاثة : القلب الأول : قلب خالٍ منالإيمان وجميع الخير ، فذلك قلب مظلم، قد استراح الشيطان من إلقاءالوساوس إليه ؛ لأنه قد اتخذه بيتاًووطناً ، وتحكَّم فيه بما يريد ،وتمكَّن منه غاية التمكن . القلبالثاني :قلب قد استنار بنور الإيمان ، وأوقدفيه مصباحه ، لكن عليه ظلمة الشهواتوعواصف الأهوية ، فللشيطان هنالكإقبال وإدبار ، ومجالات ومطامع ،فالحرب دول وسجال .(1/31)
وتختلف أحوال هذاالصنف بالقلة والكثرة ، فمنهم مَنأوقات غلبته لعدوه أكثر ، ومنهم منأوقات غلبة عدوه له أكثر، ومنهم من هوتارة وتارة . القلب الثالث : قلب محشوبالإيمان ، قد استنار بنور الإيمان ،وانقشعت عنه حجب الشهوات ، وأقلعتعنه تلك الظلمات ، فلنوره في صدرهإشراق ، ولذلك الإشراق إيقاد ، لو دنامنه الوسواس ؛ احترق به ، فهو كالسماءالتي حُرِست بالنجوم فلو دنا منهاالشيطان يتخطاها ؛ رُجِم فاحترق ،وليست السماء بأعظم حرمة من المؤمن ؛وحراسة الله تعالى له أتمّ من حراسةالسماء ، والسماء متعبِّد الملائكة ،ومستقرُّ الوحي ، وفيها أنوارالطاعات ، وقلب المؤمن مستقر التوحيد، والمحبة ، والمعرفة ، والإيمان ،وفيه أنوارها ، فهو حقيق أن يُحْرَسويحفظ من كيد العدو ، فلا ينال منهشيئاً إلا خطفة . وقد مثَّل ذلك بمثالحسن ، وهو ثلاثة بيوت : بيت للملك : فيهكنوزه ، وذخائره ، وجواهره . وبيتللعبد : فيه كنوز العبد ، وذخائره،وجواهره ،وليس جواهر الملك وذخائره .وبيت خال صفر : لا شيء فيه . فجاء اللصيسرق من أحد البيوت ، فمن أيِّها يسرق؟ فإن قلت : من البيت الخالي ؛ كانمحالاً ؛ لأن البيت الخالي ليس فيهشيء يُسْرق ، ولهذا قيل لابنعباس رضي الله عنهما : إن اليهود تزعمأنها لا تُوَسْوس22 في صلاتها . فقال: وما يصنع الشيطان بالقلب الخراب ؟! وإن قلت : يسرق منبيت الملك ؛ كان ذلكَ كالمستحيلِالممتنع ، فإنَّ عليه من الحرسِواليَزك 23ما لايستطيعُ اللصُّالدنوَّ منهُ ، كيف وحارسه الملكبنفسه ؟! وكيف يستطيع اللص الدنوَّمنه وحوله من الحرس والجند ما حوله ؟!فلم يبق للصِّ إلا البيت الثالث ، فهوالذي يشنُّ عليهِ الغاراتِ .فليتأمَّل اللبيبُ هذا المثال حقَّالتأمُّلِ ، ولينزله على القلوبِ ؛فإنَّها على منواله .(1/32)
فقلب خلا منالخير كلّه ، وهو قلب الكافروالمنافق ، فذلك بيت الشيطان ؛ قدأحرزه لنفسه ، واستوطنه ، واتخذهسكناً ومستقراً ، فأيُّ شيء يسرق منهوفيه خزائنه ، وذخائره ، وشكوكه ،وخيالاته ووساوسه ؟! وقلب قد امتلأ منجلال الله عز وجل، وعظمته ، ومحبته ،ومراقبته ، والحياء منه ، فأيُّشيطان يجترىء على هذا القلب ؟! وإنأراد سرقة شيء منه ؛ فماذا يسرق ؟!وغايتهأن يظفر في الأحايين منه بخطفة ونهب ،يحصل له على غِرَّة من العبد وغفلة لابدّ له منها ، إذ هو بشر ، وأحكامالبشرية جارية عليه ؛ من الغفلة ،والسهو ، والذهول ، وغلبة الطبع .وقلب فيه توحيد الله تعالى ، ومعرفته، ومحبته ، والإيمان به ، والتصديقبوعده ، وفيه شهوات النفس وأخلاقها ،ودواعي الهوى والطبع . فمرة يميلبقلبه داعي الإيمان ، والمعرفة ،والمحبة لله تعالى ، وإرادته وحده ،ومرة يميل بقلبه داعي الشيطان ،والهوى ، والطباع . فهذا القلبللشيطان فيه مطمع ، وله منه منازلاتووقائع ، ويعطي الله النصر من يشاء . ( وَمَاالنَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِنْدِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ) [ آل عمران : 126 ] .
وهذا لا يتمكنُالشيطانُ منهُ إلا بما عندهُ منسلاحه ، فيدخل إليه الشيطان ، فيجدسلاحه عنده ، فيأخذه ويقاتله به ،فإنّ أسلحته هي الشهوات ، والشبهات ،والخيالات ، والأماني الكاذبة ، وهيفي القلب ، فيدخل الشيطان ، فيجدهاعتيدة ، فيأخذها ، ويصول بها علىالقلب ، فإنْ كان عند العبد عدة عتيدةمن الإيمان تقاوم تلك العدة ، وتزيدعليها ؛ انتصف من الشيطان ، وإلافالدولة لعدوه عليه ، ولا حول ولا قوةإلا بالله . فإذا أذن العبد لعدوه ،وفتح له باب بيته ، وأدخله عليه ،ومكنه من السلاح يقاتله ؛ فهو الملوم.
ومُتْ كَمَداً فَلَيْسَ لكَ اعْتِذارُ ... فنَفْسَكَ لُمْ ولا تَلُمِ المَطايا
top
من كنوز السنة(1/33)
1 ـ عن عَمْرُو بنعَبَسَةَ قَالَ : قالَ رسول الله صلى الله عليه وسلم:«مَامِنْكُمْ رَجُلٌ يَقُرِّبُ وُضوءَهُفَيَتَمَضْمَضُ وَيَسْتَنْشِقُفَيَنْتَثِرُ إِلاَّ خَرَّتْخَطَايَا وَجْهِهِ وَفِيهِوَخَيَاشِيمِهِ. ثُمَّ إِذَا غَسَلَوَجْهَهُ كَمَا أَمَرَهُ اللهإِلاَّ خَرَّتْ خَطَايَا وَجْهِهِمِنْ أَطْرَافِ لِحْيَتِهِ مَعَالْمَاءِ. ثُمَّ يَغْسِلُ يَدَيْهِإِلَى الْمِرْفَقَيْنِ إِلاَّخَرَّتْ خَطَايَا يَدَيْهِ مِنْأَنَامِلِهِ مَعَ الْمَاءِ. ثُمَّيَمْسَحُ رَأْسَهُ إِلاَّ خَرَّتْخَطَايَا رَأْسِهِ مِنْ أَطْرَافِشَعْرِهِ مَعَ الْمَاءِ. ثُمَّيَغْسِلُ قَدَمَيْهِ إِلَىالْكَعْبَيْنِ إِلاَّ خَرَّتْخَطَايَا رِجْلَيْهِ مِنْأَنَامِلِهِ مَعَ الْمَاءِ. فَإِنْهُوَ قَامَ فَصَلَّى، فَحَمِدَ اللهوَأَثْنَى عَلَيْهِ، وَمَجَّدَهُبِالَّذِي هُوَ لَهُ أَهْلٌ،وَفَرَّغَ قَلْبَهُ لله، إِلاَّانْصَرَفَ مِنْ خَطِيئَتِهِكَهَيْئَتِهِ يَوْمَ وَلَدَتْهُأُمُّهُ »24.
2 ـ ِ عَنْ عُثمَانَقَالَ: قَالَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليهوسلم : «مَنْتَوَضَّأْ نَحْوَ وُضُوئِي هذَا.ثُمَّ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ، لاَيُحَدِّثُ فِيهِمَا نَفْسَهُ،غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْذَنْبِهِ»25.
3 ـ عن عُثْمَانَ قالَ :قالَ رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مَامِنِ امْرِىءٍ مُسْلِمٍ تَحْضُرُهُصَلاَةٌ مَكْتُوبَةٌ ، فَيُحْسِنُوُضُوءَها وَخُشَوعَهَاوَرُكُوعَهَا، إِلاَّ كَانَتْكَفَّارَةً لِمَا قَبْلَهَا مِنَالذُّنُوبِ ، مَا لَمْ يؤتِكَبِيرَةً ، وَذلِكَ الدَّهْرَكُلَّهُ» 26. قال الحافظ ابن حجررحمه الله في معنى هذا الحديث:
مطمئناً في جميع الركعات ... أحسن التطهير واخشع قانتاً
من صغير الذنب والسيئات ... فهو كفّارة ما قدّمته27(1/34)
4 ـ عن عَبْدِ الله بنِالصُّنَابِحيِّ قال: سَمِعْتُ رسولَالله صلىالله عليه وسلم يقول : « خَمْسُصَلَوَاتٍ افْتَرَضَهُنَّ الله ،مَنْ أَحْسَنَ وُضُوءهُنَّوَصَلاَّهُنَّ لِوَقْتِهِنَّوَأَتَمَّ رُكُوعَهُنَّوَخُشُوعَهُنَّ، كَانَ لَهُ عَلَىالله عَهْدُ أَنْ يَغْفِرَ لَهُ،وَمَنْ لَمْ يَفْعَلْ فَلَيْسَ لَهُعَلَى الله عَهْدٌ، إِنْ شَاءَغَفَرَ لَهُ، وَإِنْ شَاءَعَذَّبَهُ»28.
5 ـ عن عقبة بن عامر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « مَامِنْ مُسْلِمٍ يَتَوَضَّأُفَيُحْسِنُ وُضُوءَهُ. ثُمَّيَقُومُ فَيُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ.مُقْبِلٌ عَلَيْهِمَا بِقَلْبهوَوَجْهِهِ. إلاَّ وَجَبَتْ لَهُالْجَنَّةُ « 29 .
6 ـ عن أبي هريرة قال :صلَّى بنا رسولُ الله صلى الله عليه وسلم فلما سلّم نادىرجلاً كان في آخر الصُّفوفِ فقال : » يافلان ، ألا تتقي اللهَ ، ألا تَنظركيف تصلِّي ؟ إنَّ أحدكم إذا قاميُصلِّي إنما يقوم يناجي ربَّهفلينظر كيف يناجيه « 30. وَقوله صلى الله عليه وسلم : » إنمايناجِي ربَّه « إشارةٌ إلى أنَّهينبغي له أن يستحيي من نظرِ اللهِإليه واطّلاعِهِ عليه وقربه منه وهوقائمٌ بين يديه يناجيه ، فلو استشعرَهذا لأحسنَ صلاتَه غايةَ الإحسانِوأتقنها غايةَ الإتقانِ كما قال صلى الله عليهوسلم : » اعبدِالله كأنَّك تراه « وفي القرآنِ الإشارةُإلى هذا بقولِه (وَمَا تكُونُ فِيشَأْنٍ وَمَا تَتْلُوا مِنْهُ مِنْقُرْآنٍ وَلاَ تَعْمَلُونَ مِنْعَمَلٍ إِلاَّ كُنَّا عَلَيْكُمْشُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ )[ يونس : 61 ] 31 .(1/35)
7 ـ عَنِالْبَيَاضِيِّ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليهوسلم خَرَجَ عَلَىالنَّاسِ وَهُمْ يُصَلُّونَ ،وَقَدْ علتْ أَصْوَاتُهُمبِالْقِرَاءَة ، فَقَالَ : » إنَّالمُصَلِّيَ يُنَاجِي رَبَّهُفلينظر بِمَا يُنَاجِيهِ «رواه مالك بسندصحيح . قال الحافظ عبد الحق الإشبيليرحمه الله : "اعلم أنَّ المناجيلا يكونُ مناجياً حتى يعلم من يناجي ،ويحضر قلبه عند المناجاة ، وقد علمتكيف يكون العبد منَّا إذا ناجى سيدّهمن أهل الدنيا ، أو الحرُّ إذا ناجىعظيم قريته أو أمير بلدته ، كيف يكونإصغاؤهُ إليهِ ، وتذلله بين يديه ،وخشوعُ بدنهِ ، وسكونُ جوارِحِه ،وحضورُ قلبهِ لسماعِ كلامِهِ وتلقيحديثهِ ، بل الصاحبُ مع من يُوقِّر منأصحابه ، ويعظِّمُ منْ إخوانِهِ .فأقلّدرجتِكَ يا هذا ، وأحطّ مرْتبتك أنتكون كذلكَ مع ربّكَ تبارك وتعالى ،وكما يجب ألا تصرف وجهك عن قبلتك فيصلاتك ، فكذلك لا تصرف قلبك عن ربّك".(1/36)
8 ـ عَنْ عَبْدِ اللّهِبْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما ، أَنَّرَسُولَ اللّهِ صلى الله عليه وسلم رَأَىبُصَاقاً فِي جِدَارِ الْقِبْلَةِفَحَكَّهُ ، ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَىالنَّاسِ فَقَالَ: « إِذَا كَانَأَحَدُكُمْ يُصَلِّي فَلاَ يَبْصُقْقِبَلَ وَجْهِه . فَإِنَّ اللهقِبَلَ وَجْهِهِ إِذَا صَلَّى » 32. وقولُهُ صلى الله عليه وسلم : » فإنَّالله قِبَلَ وجهه « يدلُّ على قربِ اللهِتعالى من المصلِّي في حالِ صلاتِه ،وقد تكاثرتِ النّصوصُ بذلكَ ، قالتعالى: (وَاسْجُدْوَاقْتَرِبْ) [ العلق : 19 ] ، وعن أبيهريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قالَ : » أقربُما يكونُ العبدُ من ربِّه وهو ساجدٌفأكثروا من الدُّعاء « 33 . وكان مقصودُ النبيِّصلى اللهعليه وسلمبذكر هذا أن يستشعرَ المصلِّي فيصلاتِه قربَ اللهِ منه ، وأنَّهبمرأى منه ومسمعٍ وأنه مناجٍ له ،وأنَّه يسمعُ كلامَه ويردُّ عليهجوابَ مناجاتِه له . عن أبي هريرة عنالنبيِّ صلىالله عليه وسلمقال: » إنَّالعبدَ إذا قالَ : الحمدُ للهِ ربِّالعالمين قالَ اللهُ : حمدني عبدي « ...
فمن استشعرَ هذا فيصلاتِه أوجبَ له ذلك حضورَ قلبِهبينَ يدي ربِّه وخشوعَه له وتأدُّبَهفي وقوفِه بينَ يديهِ ، فلا يلتفتُإلى غيرهِ بقلبِهِ ولا ببدنِهِ ولايعبثُ وهو واقفٌ بينَ يديه ولا يبصقُأمامَه فيصير في عبادتِه في مقامِالإحسانِ يعبدُ اللهَ كأنَّه يراهكما فسَّر النبيُّ الإحسان بذلك . وقدأخبرَ اللهُ تعالى بقربِهِ مَمَّندعاه وإجابته له تعالى فقالَ : (وَإِذَاسَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّيقَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِإِذَا دَعَانِ)[ البقرة : 186 ] ...(1/37)
وهذا كلُّه يدلُّ علىأنَّ قربَ اللهِ من خلقِه شاملٌ لهم ،وقربَه من أهلِ طاعتِه فيه مزيدُخصوصيةٍ كما أنَّ معيتَه مع عبادِهعامة حتَّى ممَّنْ عصاه ، قال تعالى : (يَسْتَخْفُونَ مِنْ النَّاسِ وَلاَيَسْتَخْفُونَ مِنْ اللَّهِ وَهُوَمَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لاَيَرْضَى مِنْ الْقَوْلِ) [ النساء : 108] ومعيتُهمع أهلِ طاعتِه خاصةٌ لهم فهوسبحَانه مع الذين اتَّقوا ومعَ الذينهُمْ محسنونَ ، وقال لموسى وهارونَ : (إِنَّنِيمَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى) [طه : 46 ] وقال موسى: (إِنَّ مَعِي رَبِّي سَيَهْدِينِ) [ الشعراء : 62 ]وقَالَ في حقِّ محمدٍ وصاحبِه : ( إِذْيَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْإِنَّ اللَّهَ مَعَنَا) [ التوبة : 40 ] ولهذاقال النبيُّ صلى الله عليه وسلم لأبي بكرٍ فيالغارِ : » ما ظنُّك باثنينِاللهُ ثالثُهما «؟ 34. فهذه معيةٌ خاصةٌ غيرقولِهِ : ( مَا يَكُونُ مِنْنَجْوَى ثَلاَثَةٍ إِلاَّ هُوَرَابِعُهُمْ ) [ المجادلة : 7 ] .فالمعيةُ العامةُ تقتضي التَّحذيرَمن علمِهِ ، واطَّلاعِهِ ، وقدرتِهِ، وبطشِهِ ، وانتقامِهِ . والمعيةُالخاصةُ تقتضي حسنَ الظنِّبإجابتِهِ ، ورضاه ، وحفظِه ،وصيانتِه ، فكذلك القربُ ، وليس هذاالقربُ كقربِ الخلقِ المعهودِ منهم ،كما ظنَّه من ظنَّه من أهلِالضَّلالِ ؛ وإنَّما هو قربٌ ليسَيشبهُ قربَ المخلوقينَ،كما أنَّالموصوفَ به ( لَيْسَ كَمِثْلِهِشَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ) [ الشورى: 11 ] .
9 ـ عَنْ أَبِي أَيُّوبرضي اللهعنه قَالَ : جَاءَرَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليهوسلم فَقَالَ: يَارَسُولَ اللَّهِ ! عَلِّمْنِيوَأَوْجِزْ قَالَ: « إِذَا قُمْتَفِي صَلاَتِكَ ، فَصَلِّ صَلاَةَمُوَدِّعٍ »35(1/38)
يعني : يستشعر أنّهيصلي صلاةً لا يصلّي بعدها صلاة أخرىفيحمله ذلك على إتقانها وتكميلهاوإحسانها 36 إنها صلاة الوداع ،ووداع الصلاة ، وهو بذلك يودّع الأهلوالوالدين والإخوة والأحبابوالأقارب ، بل الدنيا كلّها . مودّعلنفسه ، مودّع لهواه ، مودّع لعمرهسائر إلى مولاه .
10 ـ عن أنس رضي الله عنه قال : قال رسولالله صلىالله عليه وسلم: » اذْكُر الموتَ فيصلاتك ، فإنّ الرجلَ إذا ذكرَ الموتَفي صلاته ،لحَرِيٌّ أنْ يُحسنَصلاتَه، وصلِّ صلاة رجلٍ لا يظنُّأنّه يصلّي صلاةً غيرها ... « صحيح الجامع (849) .
انظروا ـ يرحمني اللهوإيّاكم ـ إلى صلاتنا ، أهي حسنة أملا ؟ ليس من العجبِ ألاَّ ترى الحُسنَوالإتقانَ فيها ؛ ذلك لأنَّ ذِكْرَالموت فيها ميِّت أو شبه ميِّت !لاينبغي لنا أبداً أن ننسى قوله صلى الله عليهوسلم: » فإنّالرّجل إذا ذكر الموت في صلاته ،لحريٌّ أنْ يُحْسِنَ صلاتَه « .ألاّ نفهم منذلك أنّ الرجلَ إذا لم يذكر الموتَ فيصلاتِه لجديرٌ ألاَّ يحسنها ؟! . لقدأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم المسلمَ أنْيذكرَ الموتَ في صلاته ؛ ذلكَ لأنّهسببٌ في تحسينِ الصّلاة ، فإنّللموتِ رهبةً في النّفوس ، وبهخواتيمُ الأعمالِ ، وما بعدَهُ أشدُّرهبةً وأكثرُ تخويفاً ، فأينَالمفرُّ من ضغطةِ القبر ؟ وماذاسيكون جوابنا حينَ نسألُ في القبرِ ؟ثم إنّنا لا نعرفُ أين مصيرنا ، أإلىجنّةٍ عرضها السمواتُ والأرضُ ، أمإلى نارٍ وقودها النّاسُ والحجارة ؟وهكذا يستعرض الإنسان صُوَراًوصُوَراً في الموت وما بعده ، فيصلّيصلاةَ رجلٍ لا يظنّ أنّه يصلي صلاةًغيرها ، فيُحْسِنُ الصلاة ، ويصْدُقُالتوبةَ ، ويعد نفسَهُ بينَ الأمواتِ، يجهّز الكفنَ ، ويكتبُ الوصية ،ويعيدُ الحقوق لأصحابها ، فإذا أصبحَلم ينتظر المساء ، وإذا أمسى لم ينتظرالصباح . وهكذا يأتي ليؤدي الصلاةخاشعاً باكياً ، بين خوفٍ ورجاءٍيستقبل الآخرة ، ويودّع الدنيا .(1/39)
12 ـ عن الحارثالأشعريّ رضيالله عنهقال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: » ... وإنّ اللهأمركم بالصَّلاةِ فإذا صليتُمْ فلاتلتفتوا ؛ فإنّ الله ينصب وجهه لوجهعبده في صلاته مالم يلتفتْ «37 .
قال ابن القيم رحمهالله : (الالتفات المنهي عنهفي الصلاة قسمان : أحدهما : التفاتالقلب عن الله -عز وجل- إلى غير اللهتعالى . والثاني : التفات البصر .وكلاهما منهي عنه . ولا يزال اللهمقبلاً على عبده ما دام العبد مقبلاًعلى صلاته ، فإذا التفت بقلبه أو بصره؛ أعرض الله تعالى عنه) .
13 ـ عن عائشة رضي اللهعنها قالت : سألت رسول الله صلى الله عليهوسلم عن التفات الرجلفي صلاته ، فقال : » اخْتلاسٌيَخْتَلِسُهُ الشيطانُ مِن صَلاةِالعَبْدِ « 38 .
قال ابن القيم رحمهالله : (فإذا كان هذا التفاتطرفه أو لحظه . فكيف التفات قلبه إلىما سوى الله ؟ هذا أعظم نصيب الشيطانمن العبودية) .
top(1/40)
الحمد لله الذي هدانالهذا وما كنا لنهتدي لولا أنْ هداناالله ، والصلاة والسلام على خاتمالأنبياء والمرسلين . رحمَ اللهُ منأقبلَ على صلاتِهِ خاشعاً خاضعاً ،ذليلاً لله عز وجل خائفاً داعياًراغباً ، وَجِلاً مُشْفِقاً راجياً .وجعلَ أكبَر همِّه في صلاته لربِّهتعالى ، ومناجاته إيّاه ، وانتصابهقائماً وقاعداً ، وراكعاً وساجداً ،وفرَّغ لذلك قلبَهُ وثمرةَ فؤادِه .واجتَهَد في أداءِ فرائضهِ . فإنّه لايدري : هلْ يصلّي صلاةً بعد التي هوفيها ، أو يعاجل قبلَ ذلك ؟ فقامَ بينيدي ربَّه عز وجل محزوناً مشفقاً ،يرجو قبولها ، ويخاف ردَّها .فإنقبلها سَعِدَ وإنْ ردَّها شقِيَ . فماأعظم خطرك يا أخي في هذه الصلاَّة ،وفي غيرها من عملك ، وما أولاك بالهمّوالحزن ، والخوفِ والوَجَلِ فيها ،وفيما سواها مّما افترض اللهُ عليكَ .إنّكَ لا تدْري : هَلْ يقبل منك صلاةقطّ ، أم لا ؟ ولا تدري : هل يقبل منكحسنة قط ، أم لا ؟ وهل غفر لك سيئة قط ،أم لا ؟ ثم أنت ـ مع هذا ـ تضحك وتغفُل، وقد جاءك اليقين : أنك وارد النار،ولم يأتك اليقين أنك صادرٌ عنها.فمنأحقُّ بطولِ البكاءِ وطولِ الحزنِمنكَ ، حتى يتقبلُ اللهُ منك ؟ ثمَّ ـمع هذا ـ لا تدري لعلَّكَ لاَ تصبحُإذا أمسيتَ ، ولا تمسي إذا أصبحت ،فمبشَّرٌ بالجنَّة ، أو مبشَّرٌبالنَّار .
يسَّرنا اللهوإيَّاكمْ لليسْرى ، وجعلنا ممَّنْذكِّر فانْتَفعَ بالذِّكْرى.
وآخر دعْوانا أن الحمدلله ربِّ العالمين .
top
الحواشي
1رواه أبو داود وصححهالألباني لقاه الله رضوانه وأسكنهفسيح جنانه في " صحيح الجامع " (4703) .
2طبقات الحنابلة (1/354) .(1/41)
3 أخي المسلم : قدّرْأنَّ رجلاً صالحاً من وجوه أهلِبيتِكَ ينظرُ إليكَ ليعلم كيفَ صلاتك، فعندَ ذلكَ يحضر قلبك وتسكنُجوارحكَ خيفة أنْ ينسبك ذلك العاجزُالمسكينُ إلى قلّة الخشوع ، ثم ارجعْإلى نفسِكَ وقلْ لها : يا نفسي ألاتستحين من خالقك ومولاك ، إذ قدرتاطلاعَ عبدٍ ذليلٍ من عباده عليك ،وليسَ بيده ضرّك ولا نفعُك ، خشعتجوارحك وحسَّنْت صلاتك ، ثم إنَّكتعلمين أنّه مطّلعٌ عليك ، ولاتخشعين لعظمته ، أهو تعالى عندك أقلّمن عباده ؟! فما أشدّ طغيانك وجهلك !وما أعظم عدوانك لنفسك ! وقد قال رسولالله صلىالله عليه وسلم:( أوصيك أن تستحي منالله كما تستحي من الرجل الصالح منقومك).
عالجْقلبكَ بهذا فعسى أن يحضر معكَ فيصلاتك ؛ فإنّه ليسَ لكَ منْ صلاتك إلاما عقلت منها ، وأماّ ما أتيت معالغفلةِ والسّهو فهو إلى الإستغفاروالتكفير أحوج.
4 صحيح سنن أبي داود (714 ).
5 عن ابن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:( أحب الكلام إلىالله أن يقول العبد : سبحانك اللهموبحمدك ، وتبارك اسمك ، وتعالى جدك ،ولا إله غيرك) . أخرجه النسائي في" عمل اليوم والليلة " (849) بسندصحيح .
6 أي : دأبَه وشأنه.
7 بدائع الفوائد (2/54 ـ 55) .
8 لقوله: ( إذاسجد أحدكم ؛ فلا يبرك كما يبرك البعير، وليضع يديه قبل ركبتيه) رواه أبو داود (840)بسند صحيح . واعلم أن وجه مخالفةالبعير بوضع اليدين قبل الركبتين ؛هو أن البعير يضع أول ما يضع ركبتيه ،وهما في يديه ؛ كما في " لسان العرب" .
9 رواه مسلم (482) .
10 رواه البخاري (813 )ومسلم (1167).
11 رواه مسلم (81) .(1/42)
12 قال شيخ الإسلام في" المجموع"(23/15) تعليقاً على حديثأَبِي هُرَيْرَةَ مرفوعاً: ( إِذَاقَرَأَ ابْنُ آدَمَ السَّجْدَةَفَسَجَدَ، اعْتَزَلَ الشَّيْطَانُيَبْكِي، يَقُولُ: يَا وَيْلِيأُمِرَ ابْنُ آدَمَ بِالسُّجُودِفَسَجَدَ فَلَهُ الْجَنَّةُ،وَأُمِرْتُ بِالسُّجُودِ فَعصَيْتُفَلِيَ النَّارُ ) والنبي صلى الله عليه وسلم ذكر هذا ترغيباًفِي هذا السجود، فدلّ عَلَى أنّ هذاالسجود مأمور به، كَمَا كان السجودلآدم، لأن كلاهما أمر، وقد سن السجودعقبه، فمن سجد كان متشبّهاًبالملائكة، ومن أبى تشبّه بإبليس، بلهذا سجود لله، فهو أعظم من السجودلآدم. وهذا الحديث كاف فِي الدلالةعَلَى الوجوب.
13 إشارة إلى حديث ابنعباس : أنّ النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول بينالسجدتين :( اللهم اغفر ليوارحمني وعافني واهدني وارزقني) صحيح سنن أبيداود (756) .
14 إشارة إلى حديث حذيفة:أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول بينالسجدتين :( رب اغفر لي رب اغفر لي) صحيح سنن ابنماجه (731).
* التعريف : الوقوفبعرفة في الحج .
15 قائل هذا القول عبدالله بن عمر . الطبقات الكبرى لابنسعد (4/167) .
* قال ابنرجب رحمه الله : والمعنى : أنّه تعالىمقدَّسٌ منزَّهٌ عن النقائص والعيوبكلّها ، وهذا كما في قوله :(وَالطَّيِّبَاتُلِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَلِلطَّيِّبَاتِ أُوْلَئِكَمُبَرَّءُونَ مِمَّا يَقُولُونَ) [ النور : 26 ] ،والمراد : المنزهون من أدناس الفواحشوأوضارها . لايقبل من الأعمال إلا ماكان طيباً طاهراً من المفسدات كلّهاكالرياء والعجب ، ولا من الأموال إلاما كان طيباً حلالا ، فإنّ الطيبّتوصفُ به الأعمال والأحوالوالاعتقادات ، فكلّ هذه تنقسم إلىطيب وخبيث .
16 رواه مسلم (1015)
17قال ابن القيّم :
من كل نقص وتمثيل ... وهو السلام على الحقيقة سالم(1/43)
واستواؤه وعلوّه علىعرشه سلام من أن يكون محتاجاً إلى مايحمله أو يستوي عليه، بل العرش محتاجإليه، وحملته محتاجون إليه. فهوالغنيّ عن العرش وعن حملته وعن كلّ ماسواه.فهو استواء وعلوّ لا يشوبه حصرولا حاجة إلى عرش ولا غيره، ولا إحاطةشيء به سبحانه وتعالى ، بل كان سبحانهولا عرش، ولم يكن به حاجة إليه، وهوالغني الحميد، بل استواؤه على عرشهواستيلاؤه على خلقه من موجبات ملكهوقهره من غير حاجة إلى عرش ولا غيرهبوجه ما. ونزوله كلّ ليلة إلى السماءالدنيا سلام مما يضاد علوّه، وسلاممما يضاد غناه وكماله، سلام من كلّ مايتوهم معطّل أو مشبّه،وسلام من أنيصير تحت شيء أو محصوراً في شيء .تعالىالله ربنا عن كلّ ما يضادّ كماله.
18 اعلم أنّ حضور القلبسببه الهمّة ، فإنّه متى أهمّكَ أمرٌحضر قلبك ضرورةً ، فلا علاجَ لإحضارهإلا صرف الهمّة إلى الصلاة ، وانصرافالهمّة يقوى ويضعف بسب قوة الإيمان ،فمتى رأيت قلبك لا يحضر في الصلاة ،فاعلم أنّ سببه ضعف الإيمان فاجتهدالآن في تقويته . والأسباب المقويةللإيمان كثيرة . انظرها في كتاب "التوضيح والبيان لشجرة الإيمان "للعلامة السعدي رحمه الله .
19 كما في قوله: ( إِذانُودِيَ للصَّلاةِ أدبرَ الشيطانُوله ضُراطٌ حتى لا يَسمعَالتَّأْذينَ، فإذا قُضِيَ النِّداءُأقبلَ، حتّى إِذا ثُوِّبَ بالصلاةِأدبرَ، حتّى إذا قُضِي التثويبِأَقبلَ حتى يَخْطُرَ بينَ المرءِونفسهِ يقول: اذكُرْ كذا، اذكر كذا ـلما لم يَكنْ يَذكرُ ـ حتّى يَظلَّالرجلُ لا يَدرِي كم صلَّى) رواه البخاريومسلم .
20 صحيح سنن أبيداود (4171) .
21 صحيح سننالنسائي (3681).(1/44)
22قال شيخ الإسلام رحمهالله في " المجموع " ( 22/ 608 ) : والوسواسيعرض لكلِّ من توجه إلى الله تعالىبذكر أو غيره ، لا بدّ لهُ من ذلكَ ،فينبغي للعبدِ أنْ يثبتَ ويصبرَ ،ويلازمَ ما هو فيه من الذكر والصلاة ،ولا يضجر ، فإنّه بملازمة ذلك ينصرفُعنه كيدُ الشيطان ( إِنَّ كَيْدَالشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا) [ النساء : 76 ] . وكلماأراد العبد توجهاً إلى الله تعالىبقلبه جاء من الوسواس أمور أخرى ،فإنّ الشيطان بمنزلة قاطع الطريق،كلما أراد العبد أن يسيرَ إلى اللهتعالى أراد قطعَ الطريق عليه .
23كلمة فارسية معناها :طليعة الجيش .
24رواه مسلم ( 2 / 209 ) .
25 رواه البخاري ( 159 )ومسلم ( 226 ) .
26 رواه مسلم ( 228 ) .
27 الإمتاع (79 ـ 80) .
28 صحيح سنن أبي داود ( 1410) .
29 أخرجه مسلم ( 2 / 30 ) .
30 أخرجه ابن خزيمة (474)بسند حسن .
31 فتح الباري (3/149) لابنرجب الحنبلي .
32 رواه مسلم (1175) .(1/45)
فائدة : الحديث حقّ علىظاهره، وهو سبحانه فوق العرش وهوقِبَلَ وجه المصلّي، بل هذا الوصفيثبت للمخلوقات.فإنّ الإنسان لو أنّهيناجي السّماء أو يناجي الشمس والقمرلكانت السّماء والشمس والقمر فوقه،وكانت أيضاً قبل وجهه ؛ مع أن الشمسقد تشرق وقد تغرب ، فتنحرف عن سمتالرأس ، فكيف بمن هو فوق كلّ شيءدائماً لا يأفل ولا يغيب ( !!. وقد ضربالنبي ( المثل بذلك -ولله المثلالأعلى، ولكن المقصود بالتمثيل بيانجواز هذا وإمكانه، لا تشبيه الخالقبالمخلوق- فقال النبي : ( مامنكم من أحد إلا سيرى ربه مخلياً به) فقال له أبو رزينالعقيلي: كيف يا رسول الله وهو واحدونحن جميع؟ فقال النبي : ( سأنبئكبمثل ذلك في آلاء الله، هذا القمركلكم يراه مخلياً به، وهو آية من آياتالله، فالله أكبر ،وقال: ( إِنَّكُمْسَتَرَوْنَ رَبَّكُمْ كَمَاتَرَوْنَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ ) فشبّه الرؤيةبالرؤية، وإن لم يكنْ المرئي مشابهاًللمرئي؛ فالمؤمنون إذا رأوا ربهم يومالقيامة وناجوه كل يراه فوقه قبلوجهه، كما يرى الشمس والقمر، ولامنافاة أصلاً. ومن كان له نصيب منالمعرفة بالله، والرسوخ في العلمبالله: يكون إقراره للكتاب والسنّةعلى ما هما عليه أوكد .
33 رواه مسلم (482) .
34 أخرجه البخاري (3653)ومسلم (2381) .
35 صحيح سنن ابن ماجه (3363).
36شرح حديث : " شدّادبن أوس " (ص 36 ـ 37) لابن رجب الحنبلي .
37 صحيح سنن الترمذي (2298).
38 أخرجه البخاري (2/234و6/338)، وغيره .
فائدة : الاختلاس:الاختطاف بسرعة على غفلة . قالالعلامة الطيبي طيب الله ثراه : سمياختلاساً تصويراً لقبيح تلك الفعلةبالمختلس ؛ لأن المصلي يقبل عليهالرب سبحانه وتعالى والشيطان مترصدله ينتظر فوات ذلك عليه ، فإذا التفتاغتنم الشيطان الفرصة فسلبه تلكالحالة . والله أعلم .
page_end.gif(1/46)
الصفحة الرئيسية | السراج المنير | المكتبة الإسلامية | صوتيات السراج | روابط السراج | دعوتنا | تزكيات | ساهم معنا | اتصل بنا
جميع الحقوق محفوظة لكل مسلم - جمعية السراج المنير الإسلامية - بيروت - لبنان ( asseraj@asseraj.net )(1/47)