جامعة بغداد – كلية الاداب
قسم الفلسفة
جدلية العلاقة بين التربية والسياسة
عند محمد عبده
رسالة تقدمت بها منتهى عبد جاسم
إلى مجلس كلية الأدب / جامعة بغداد
وهي جزء من متطلبات درجة الماجستير في الفلسفة
بأشراف الدكتورة
فضيلة عباس مطلك
(2002-2003)
Baghdad University – Collage of Arts
Dep. of Philosophy
RELATION ARGUMENTATION
BETWEEN EDUCATION AND POLCY
WITH MUHMMED ABDA
A THESIS
Submitted To The Council Of The College Of Arts, University Of Baghdad In Partial Fulfillment Of The Master Of Arts In Philosophy
BY
MUNTAHA ABID JASSIM
SUPERVISION OF
Dr. FADHEELA ABBAS MUTLAQ
(2002 – 2003)(1/1)
الفصل الأول
نشأته والتأثيرات الفكرية والمنهجية
المبحث الأول/ محمد عبده نشأته وحياته
المبحث الثاني/ التأثيرات الفكرية على محمد عبده
المبحث الثالث/ المنهج التجديدي لفكر عبده
الفصل الثاني
الآراء التربوية للشيخ محمد عبده
المبحث الأول/ محمد عبده ونظريته التربوية
المبحث الثاني/ الطابع العملي لاراء محمد عبده
التربوية
المبحث الثالث/ الديمقراطية والطبقية في بعض
مفاهيم محمد عبده التربوية
الفصل الثالث
الفكر السياسي لمحمد عبده
تمهيد/ بداية تيارات الوعي القومي العربي
المبحث الأول/ العوامل المؤثرة في صياغة الفكر
السياسي لمحمد عبده
المبحث الثاني/ الفكر السياسي لمحمد عبده
المبحث الثالث/ جدلية العلاقة بين السياسة والتربية
في فكر محمد عبده
قائمة المصادر المراجع
المصادر العربية
الاطاريح والموسوعات
الصحف والمجلات
المصادر الاجنبية(1/1)
ملخص :
انطلق الشيخ محمد عبده في صياغة نظريته التربوية والسياسية من مشكلات عصره ،وقدم حلولا تتوافق مع تلك المشكلات ،فكان واحدا من ابرز المفكريين العصريين الذين ظهروا في النصف الثاني من القرن التاسع عشر وكانت لطروحاته دورها المؤثر في الفترة التي عاشها ،فترك لنا تراثا زاخرا بالأبعاد السياسية والاجتماعية والتربوية التي لا تزال اغلب مفاهيمها حية وصالحة لزماننا هذا، تألفت الرسالة من مقدمة وثلاثة فصول وخاتمة ، تناول الفصل الأول : حياته ونشأته والتأثيرات الفكرية في تكوينه هذا ما تضمنه المبحثين الأول والثاني، أما المبحث الثالث تضمن المنهج التجديدي للشيخ عبده ، فالتجديد عنده هو الارتفاع بطريقة التعامل مع التراث إلى مستوى ما يسمى بالمعاصرة .أما الفصل الثاني يتضمن دراسة نظريته التربوية التي من خلالها نعرف غاية عبده من التربية ، وماهية هذا الإنسان الذي يجب أن يكون ؟(1/1)
فغاية التربية عنده هو لاصلاح المجتمع من خلال إصلاح الأشخاص ولا شك ان أهم سبل الإصلاح هو الدين والتربية ، هذا ما خص مبحثيه الأول والثاني ، أما المبحث الثالث فانه تناول مفهوم الديمقراطية الطبقية في بعض المفاهيم التربوية ، إذ تظهر ديمقراطية عبده من خلال دعوته لاطلاق الحريات الإبداعية وتنمية المواهب الضرورية ، وتربية الأبناء على امتلاك المهارات النقدية ، ورفض الخضوع والطاعة العمياء والاستسلام . أما الفصل الثالث فبحث الفكر السياسي للشيخ عبده ، فجعل عبده التجديد الفكري شرطا للتجديد السياسي والتجديد يكون بالتربية والتعليم وبالتالي فعن طريقهما يمكن تحقيق الحرية والديمقراطية والتخلص من الاستبداد والعبودية ، وكذلك تم التطرق في المبحثين الأول والثاني لبعض المفاهيم السياسية عند الشيخ عبده كالـ(الوطنية والدستور والسلطة و الشورى ... ) .وتم في المبحث الثالث توضيح مشكلة العلاقة الجدلية بين التربية والسياسة وبيان الارتباط الوثيق والتأثر المتبادل بعضهم بالآخر من وجهة نظر الشيخ عبده، وكيف يمكن أن تقوى التربية على تغيير المجتمع ؟
ABSTRACT(1/2)
Shaikh Muhammad Abda started with molding his education and policy theory from his age problems. He presented solution, which harmonize with those problems. He was one of the most important modern thinkers who appeared in the second part of nineteenth century, his submissions had an affective role on the period he lived in and on the period succeeded it in including fields thoughts completely. He left a brimful inheritance with political, social, and educational dimensions which most of their concepts are still alive and valid as the form:-- Chapter One: Assigned it for the autobiography of Shaikh Abda regarding up growth, age, and factors which assisted in his personality creation, that is in the first and second researches, but the third research which distinguishes in a special importance due to that it encludes the renewing procedure of Shaikh Abda. - Chapter two: encludes the educational theory study through which we know the aim of Abda to education and the quality the human who must be.that was that relates to his first and second researches.The third research deal with classical democratic concept some educational concepts.- Chapter three: deals with political thinking of Shaikh Abda, it is well known that Abda was not a politician in the measure of a reformer. But there is no doubt that any religious, social, and reform must affect the political research in any way. The first and second researches dealt with some political concepts with Shaikh Abda as (nationalism, constitution, authority, and consultation).(1/3)
In the third research the problem of argumentative relation between education and policy was clarified, and firm connection and the reciprocal effect between them was clarified from Shaikh Abda Is point of view, and how education can change the society?(1/4)
المقدمة :-
انطلق الشيخ محمد عبده في صياغة نظريته التربوية والسياسية من مشكلات عصره ، وقدم حلولا تتوافق مع تلك المشكلات ، وربما تصح هذه الحلول لكل عصر لما تتضمنه من تجديد في معالجة المشكلات ولكن يبقى لكل عصر سماته الخاصة التي تؤدي إلى ولادة مشكلاته الخاصة واوضح مثال عصرنا الحالي ،إذ يتعرض العالم العربي والإسلامي ،مناخ عام يرتدي صفة العالمية وتنبثق عنه مشكلات وقضايا تطرح نفسها كتحديات حضارية تغييريه ، فإذا تأملنا نوع مشكلات التي كان يعاني منها عصر عبده ( عصر اقتحام الغرب وموجات التحديث ) وإذا ما قارنا تلك المشكلات مع مشكلات مجتمعنا المعاصر، تبدوا لنا آن الهوة كبيره بيننا ،وشروط نهضتها اليوم هي اصعب بكثير مما كانت عليه شروط النهوض في القرن التاسع عشر ، لاشك آن ما نشهده في عصرنا من مظاهر التقدم وإيجابياته وما رافقها من علل التقدم وسلبياته ، هو النتيجة المباشرة لظاهرة التغير السريع والجذري ، ووراء كل هذه التغيرات ظاهرة العولمة التي هي الحصيلة الأساسية لانتشار الثورة المعلوماتية والسيطرة على الاقتصاد والسوق ، فالإلية الحقيقية للعولمة هي الهيمنة والسيطرة الدولية ، إذ يتعرض العالم العربي الإسلامي إلى هجمات متعددة الأشكال والوسائل من الجهات المعادية للإسلام ، فعلى الصعيد الإعلامي تتمثل بإظهار العرب المسلمين إرهابيين متخلفين ومعادين لكل تمدن ، فظلا عن الأصعدة السياسية والاقتصادية ، أن هذه النظرة للإسلام ، بعده دين يدعو إلى العنف ومعادي لكل تمدن نجد جذورها التاريخية يرجع إلى (عصر عبده ) وما قبله وهي في حقيقتها تجني على الإسلام ، لان الإسلام الحقيقي هو دين سلام ومحبة واخاء ويدعو إلى العلم والمعرفة والتمدن ، وهذا ما بينه عبده في عصره ، أما قضية الإرهاب فهي لا ترجع في جذورها إلى دين معين ولا إلى جماعة معينة بل نجدها بمختلف المجتمعات وبمختلف الأديان والمذاهب ،فالسؤال ألان هو كيف السبيل(1/1)
أمام تعظم النفوذ الغربي في المنطقة ،وتشابك المصالح بين الأمم والشعوب،وثورة الاتصالات والعولمة على امتداد العالم كله ؟ فما هو السبيل لاعادة صياغة العلاقة بين العالمين ،ليكون هناك تعاون إيجابي قائم على احترام الآخر والاعتراف بحقه في الاستقلال والسيادة والتطور؟ فالعالم اليوم هو عالم للجميع ، ونحن لا مفر لنا من الانفتاح على الثقافة المعاصرة والتفاعل معها ، مع المحافظة على الاستقلالية الفكرية ،ليس بمعنى الانعزال عن العالم ،بل شق طريق مستقل يقوم على الوعي الذاتي المستقل القادر على تجديد إشكالياته الفكرية وانتقاء ما يناسبنا من أساليب ومناهج ، ونحن اليوم نفهم بسهولة شديدة لماذا حمل رجل مثل محمد عبده لواء الدعوة إلى الأصالة والحداثة مؤكداً على ضرورة القبول بمبدأ التغيير ، فكان لهذا الموقف مبرراته الأيدلوجية القوية في مجابهة الاستعمار الغربي ، انه موقف الدفاع عن الذات والوقوف بتبصر أمام الموجة الغربية التي حاولت اكتساح التراث ، واستهدفت تذويب الشخصية العربية الإسلامية ، ووقف ضد انحلال الجمود مؤكداً انه إذ لم تحدث إصلاحات في الفكر الديني فان هذا الفكر لن يستطع الصمود أمام التحدي الفكري الأجنبي .
كان الشيخ محمد عبده مفكراً شمولياً عقلياً شغلت طروحاته الفكرية الزمن الذي عاشه واستمرت فيما بعد نظراً لعمقها وامتدادها إلى مختلف ميادين الحياة السياسية والاجتماعية والاقتصادية والتربوية وغيرها .
فربط ربطاً جدلياً بين كل ميدان والميادين الأخرى ، ولم يعزل بينها لانه أدرك أنها عبارة عن حلقات مفتوحة تكمل إحداهما الأخرى ، ولايمكن عزلها عن بعضها ، أو إقامة حدود مانعة بينها ، فالسياسة تخدم التربية والأخيرة إحدى أدوات التغير السياسي ، وهكذا عبر جدلية علمية ما بين العمل السياسي والفعل التربوي .(1/2)
جاء اختياري لموضوع الرسالة لانه موضوع حيوي يتناول جانباً فكرياً مهماً لاحد ابرز المفكرين الإصلاحيين الإسلاميين آلا وهو الشيخ محمد عبده الذي ترك لنا تراثاً زاخراً بالأبعاد السياسية والاجتماعية والتربوية التي لا تزال اغلب مفاهيمها حية وصالحة لزماننا هذا .
تألفت الرسالة من مقدمة وثلاثة فصول وخاتمة ، تناول الفصل الأول : حياته ونشأته والتأثيرات الفكرية في تكوينه هذا ما تضمنه المبحثين الأول والثاني، أما المبحث الثالث الذي تميز بأهمية خاصة لكونه يتضمن المنهج التجديدي للشيخ عبده ، فالتجديد عنده هو الارتفاع بطريقة التعامل مع التراث إلى مستوى ما يسمى بالمعاصرة ، أي تحديث التراث ، وذلك بهدف تحريك التغيير من الداخل ، فهي تعني حداثة المنهج وحداثة الرؤية ( تحديث الذهنية والمعايير العقلية والوجدانية ) ، أي كيفية تحررنا من سلطة التراث وتحويلها إلى كيفية ممارسة سلطتنا نحن عليه ؟ أي رفض قراءة تراثية للعصر وتحويلها إلى قراءة عصرية للتراث ، والهدف هو تحرير تصورنا من الجمود والبدع والظلالات والتأكيد على أهمية النظر العقلي ، فمن دون المعقولية لا يمكن قيام معرفة موضوعية ، فاهم ما يميز منهجه هو سمة العقلانية ( القائمة على مبدأ تقديم العقل على النص والاجتهاد في تأويل النص واستخراج مقاصده ) والتوفيقية ( محاولة الربط بين الأصالة والحداثة بما يخدم التقدم والتطور ) ، جاعلاً التجديد الديني شرط للتجديد الفكري ، إذ أن القيم الفكرية والثقافية لا تخلو من رواسب غريبة عن أصول الدين ومنطلقاته وروحه ، فتشوه حقيقة الإسلام وجوهره ، ومن هذا المنطلق يمكن القول أن التخلف الاجتماعي الذي تعيشه الآمة هو في جوهره تخلف ثقافي ، من حيث لا تنفصل مشكلة التخلف في فهم الدين ، وان قراءته قراءة صحيحة هو الذي يبقيه حيا ويزيد في تأثيره ودوره ، ولهذا نجد أن الشيخ عبده وعى لهذا الهدف الاجتماعي عندما أشار إلى آن الإصلاح الديني هو(1/3)
المدخل الأسهل لاصلاح المجتمع ، ولإيجاد نموذجا جديدا للإنسان .
آما الفصل الثاني يتضمن دراسة نظريته التربوية التي من خلالها نعرف غاية عبده من التربية ، وماهية هذا الإنسان الذي يجب أن يكون ؟
فغاية التربية عنده هو لاصلاح المجتمع من خلال إصلاح الأشخاص ولا شك آن أهم سبل الإصلاح هو الدين والتربية ، بعد تخليص التربية من الطرق المتخلفة والتقليدية ، والذي تجلى في نظام التربية ومناهجها وطرق تدريسها ، وعلى الرغم من آن التربية عنده قائمة على مبادئ الدين ، لكن هذا لا يعني آن يفهم انه من دعاة التعليم الديني ، بل هو من دعاة التعليم المدني الذي يستجيب لظروف العصر ويقيم مع الدين الصلات الضرورية ، هذا ما خص مبحثيه الأول والثاني ، أما المبحث الثالث فانه تناول مفهوم الديمقراطية الطبقية في بعض المفاهيم التربوية ، إذ تظهر ديمقراطية عبده من خلال دعوته لاطلاق الحريات الإبداعية وتنمية المواهب الضرورية ، وتربية الأبناء على امتلاك المهارات النقدية ، ورفض الخضوع والطاعة العمياء والاستسلام ، وتأكيده على التكافل الاجتماعي والتعاون بين الأفراد والمساواة بين الرجل والمرأة ،إذ انهما (متماثلان في الحقوق والأعمال ، كما انهما متماثلان في الذات والشعور والعقل .. ) لكن على الرغم من هذه الديمقراطية فأننا نجد طبقيته تتجسد من خلال تقسيمه لابناء المجتمع إلى طبقات ثلاث في التعليم لكل طبقة تعليم معين ، وعن هذا الجانب يظهر نوع من التناقض بين قوله بالديمقراطية وهذه الطبقية .(1/4)
أما الفصل الثالث فبحث الفكر السياسي للشيخ عبده ، ومن المعروف أن عبده لم يكن سياسياً بقدر ما كان إصلاحيا ، لكن ما من شك أي إصلاح ديني واجتماعي وثقافي لابد إن يؤثر في المجرى السياسي بصورة أو بأخرى ، فجعل عبده التجديد الفكري شرطا للتجديد السياسي ، والتي ما هي في جوهرها إلا عملية إصلاح وتقويم وتجديد ، وهذا التقويم والتجديد يكون بالتربية والتعليم وبالتالي فعن طريقهما يمكن تحقيق الحرية والديمقراطية والتخلص من الاستبداد والعبودية ، وكذلك تم التطرق في المبحثين الأول والثاني لبعض المفاهيم السياسية عند الشيخ عبده كالـ(الوطنية والدستور والسلطة و الشورى ... ) .
تم في المبحث الثالث توضيح مشكلة العلاقة الجدلية بين التربية والسياسة وبيان الارتباط الوثيق والتأثر المتبادل بعضهم بالآخر من وجهة نظر الشيخ عبده، وكيف يمكن أن تقوى التربية على تغيير المجتمع ؟ لكون أن التربية قادرة على تغيير المجتمع نحو الأفضل ، فيما إذا كانت مستندة إلى مبادئ الإسلام الصحيح وتأخذ بعين الاعتبار التطور الحاصل في الحاضر ومن خلال هذا الربط بين الأصالة والحداثة يمكن أن تؤدي دوراً رائداً في التغير إذا ما انطلقت من الواقع الحي ، تدرسه وتوجهه ، وكلما كانت الإصلاحات اعمق كلما كان التغير في المجتمع أسرع واخطر ، كما يحدث في عصرنا ، فالعالم المعاصر ، يمضي للبحث عن توازنه فالحياة المعاصرة مختلفة من جميع جوانبها عن حياة السلف ، فالإصلاح اصبح يتطلب ليس فقط الرجوع إلى الأصول بل إعادة تأصيلها بفكر متفتح ، أي إن يرتفع به إلى مستوى متطلبات عصرنا ويستلزم ليس فقط استيفاء الشروط التي اشترطها الأقدمون ، بل استيفاء الشروط التي يشترطها عصرنا أذن السؤال هو كيف نتعامل مع عصرنا ؟(1/5)
وختاما فأنني أضع رسالتي بين يدي أساتذتي أعضاء لجنة المناقشة لكي يقومونها بالشكل الذي يضفي عليها رصانة علمية اكثر ، وحسبي أنني اجتهدت فان أصبت فلي حسنتان وان لم يكن كذلك فالكمال يظل لله وحده فهو نعم المولى ونعم النصير .
والله ولي التوفيق ...
الباحثة
المبحث الأول/ محمد عبدة نشأته وحياته
ولد الشيخ محمد عبده حسن خير الله في قرية محلة نصر بمركز شبراخيت من أعمال محافظة الجيزة عام 1849 من أسرة فلاحية (1) .
وتلقى تعليمه الأولي للقراءة والكتابة وحفظ القرآن في قريته وهو في السابعة من عمره ثم ذهب وهو في سن الثالثة عشرة من عمره إلى مدينة طنطا ليحضر هناك دروس تجويد القرآن في الجامع ألا حمدي . وبعد إن اكمل دراسته في تجويد القرآن التي استمرت لمدة عامين ، بدأ يتلقى أول دروسه الدينية معتقداً أن هذه الدروس ستمنحه معلومات غنية ، ومادة تعينه على فهم كثير من جوانب الحياة ومتطلباتها ، إلا آن أساليب التدريس العقيمة والتقليدية صدته عن تقبل الدروس فقرر هجران الدراسة بعد عام من شروعه فيها ، وقفل عائداً إلى قريته عام 1865م ، وقد تزوج في سن مبكرة وعزم على الانقطاع عن سلك التعليم ، والعمل في الزراعة مع أبيه واخوته ألا أن والده الذي كان راغباً في إن لا يسير ابنه على منهجه أعاده إلى مقاعد الدراسة في الجامع ألا حمدي في العام نفسه ولم يترك له حرية ترك هذه الدراسة (2) .
__________
(1) الأمام عبده ، محمد / الأعمال الكاملة ، حققها وقدم لها د. محمد عمارة ، الجزء الأول ، الكتابات السياسية ط1، بيروت 1972 ، ص19 .
(2) نفس المصدر ، ص19-20 .(1/6)
على الرغم من عدم تلبيتها لما كان يعتمل في نفسه من طموحات واسعة (1) . غير إن العامل المهم الذي ألقى بظلاله عليه هو اتصاله بالشيخ درويش خضر ، الذي تربطه به صلة قرابة ، فقد كان هذا الشيخ خال والده ، ومرتبطاً بالزاوية السنوسية ، فعلمه بعض الدروس في حكمة التصوف ، وفي تقبل السلوك الصوفي، فشجعه ذلك على الاستزادة من طلب العلم والاستفادة من الجانب العلمي في تعزيز ميوله الصوفية (2) .
ولم تكن عودته لمقاعد الدراسة في الجامع ألا حمدي غايته وانما صمم على الالتحاق بالدراسة في الجامع الأزهر في القاهرة الذي كان يمثل قمة الدراسة الدينية في مصر آنذاك ، وبالفعل ذهب إلى الأزهر ليصبح طالباً فيه عام 1866م (3) .
ويومئذٍ كان هناك اتجاهان في الأزهر ، اتجاه شرعي محافظ واتجاه صوفي اقل محافظة من الشرعيين ، فحضر محمد عبده دروس كل من الاتجاهين وتأثر بالآراء التي جاء بها كل من أساتذة هذين الاتجاهين ألا إن ميوله كانت تتجه نحو الجانب الصوفي لا بسبب تأثيرات خال ولده عليه فحسب بل آن عبده نفسه كان تواقا للجوانب الصوفية وكان يعتقد أنها الأقرب إلى تفكيره لانه وجد ما يمكن الاستفادة منه في حياته العملية واتجاهاته الفكرية المتنامية (4) .
__________
(1) انظر : مصطفى ، د. احمد عبد الرحيم / تطوير الفكر السياسي في مصر الحديثة ، القاهرة 1973 ، ص43 .
(2) الأمام عبده ، محمد / الأعمال الكاملة ، المصدر السابق ، ص20 .
(3) للتفصيل عن دوره في الأزهر في هذه المرحلة يراجع : الجبوري ، احمد عبد الله محمد / الفكر السياسي في مصر في النصف الثاني من القرن التاسع عشر حتى الحرب العالمية الأولى ، رسالة ماجستير غير منشورة ، معهد التاريخ العربي والتراث العلمي للدراسات العليا ، بغداد 2001 ، ص85-86 .
(4) انظر : الكيلاني ، شمس الدين / الأمام محمد عبده والثورة العرابية بين الإصلاح والثورة ، النهج (مجلة) دمشق العدد (57) لسنة 2000 ، ص162 .(1/7)
وكان الشيخ حسن رضوان صاحب كتاب ( روض القلوب المستطاب ) المثل الأعلى لمحمد عبده ، وكذلك الشيخان حسن الطويل ومحمود البسيوني من ابرز تلامذة الشيخ رضوان ، فتأثر عبده بما كان يطرحه الشيخ حسن الطويل من أراء صوفية شكلت الأساس الفكري لتكوينه أراءه فيما بعد (1) .
وجاء التحول الكبير في حياته عندما زار المفكر الإسلامي جمال الدين الأفغاني (2) مصر للمرة الثانية عام 1871 ، فاتصل به عبده وحضر دروسه التي بدأت تستهويه بدلا من حلقات الدروس الأزهرية التي لم تعد تجد لها في نفسه قبولا فاصبح محمد عبده تحت تأثير الأفغاني واعيا نشيطا لفكرة إصلاح حال المسلمين (3) .
من هنا كان تأثير الأفغاني كبيرا على عبده وتطورت أفكاره فبعد إن كانت أفكاره تأخذ طابع التصوف أخذت تتجه نحو التصوف الفلسفي ،فكتب الشيخ عبده مقدمة ( رسالة الواردات ) الفلسفية التي تبدوا فيها تأثيرات الأفغاني واضحة عام 1872 ، ومثلت هذه المقدمة أول الآثار الفكرية التي حفظت لنا التراث الفكري الفلسفي للأفغاني ، أما أول ما نشر باسمه من أفكار فكان في صحيفة الأهرام عام 1876 وتميز أسلوبه بالسجع ولم يتجاوز عمره آنذاك السابعة والعشرين عاما (4) .
__________
(1) الأمام عبده ، محمد / الأعمال الكاملة ، المصدر السابق ، ص20 .
(2) للتفصيل عنه يراجع : أمين ، احمد / زعماء الإصلاح في العصر الحديث ، القاهرة 1949 ، ص249-281 ؛ الجو راني ، عبد الزهرة مكطوف / الفكر السياسي في المشرق العربي ، بغداد 2001 ، ص139-144 .
(3) موفق بني المرجة / السلطان عبد الحميد الثاني ومشروع الجامعة الإسلامية ، رسالة ماجستير غير منشورة، جامعة عين شمس ، 1977 ، ص 342 .
(4) ينظر : رضا ، محمد رشيد / تاريخ الأستاذ محمد عبده ، القاهرة ، 1936 ، ص46 .(1/8)
دخل امتحان العالمية عام 1877 ، ونالها بنجاح من الدرجة الثانية لان بعض الأعضاء من الهيئة التدريسية المسؤولة عن الامتحانات كانوا مصممين على إفشاله في الامتحان بسبب آرائه التي لم تكن تتوافق مع آرائهم ، وصحبته للأفغاني إلا آن إصرار رئيس اللجنة الامتحانيه الشيخ محمد مهدي العباس شيخ الأزهر ، جعله يجتاز الامتحان بصعوبة بالغة (1) . وكان الشيخ عبده قبل تخرجه من الأزهر بوقت قصير يعيد على طلبة الأزهر إلقاء دروس الأفغاني في بيته ، ويعلق على بعض آراءه ويشرحها لهم فقرأ لهم ( ايساغوجي في المنطق ، وشرح العقائد النفسية ) لسعد التفتازاني مع حواشيه ، وعقد في بيته حلقة يشرح فيها لبعض الطلبة بعض المؤلفات الفكرية القديمة ، والحديثة مثل كتاب ( تهذيب الأخلاق ) لمسكويه ، و( تعريب الخواجه ) لنعمة الله خوري ، و( التحفة الأدبية في تاريخ تمدن المماليك الأوربية ) وغيرها من الكتب التي كان ينبغي من شرحها تعزيز الإمكانات المعرفية والادراكية لدى طلبة العلم الذين كانوا يأتون إلى داره للاستزادة من الدراسة والتحصيل الفكري (2) .
واصل الشيخ عبده بعد تخرجه من ( العالمية ) التدريس ، فدرس كتب المنطق والكلام في الجامع الأزهر ، وظل لمدة عام هناك ، حتى تم تعيينه مدرساً للتاريخ بمدرسة دار العلوم عام 1878 ، فدرس طلبته مقدمة ابن خلدون ، وألف لهم كتاباً ضاعت أصوله اسماه ( علم الاجتماع والعمران ) ثم عين مدرساً للعلوم العريقة في مدرستي الألسن والإدارة (3) .
__________
(1) الأمام عبده ، محمد / الأعمال الكاملة ، ص21 .
(2) ينظر : عبد اللطيف ، ابا عوض الفارابي / الحركات الفكرية والأدبية في العالم العربي الحديث ، المغرب، 1983 ، ص36 .
(3) ينظر : الشوابكة ، احمد فهد بركات / حركة الجامعة الإسلامية ، عمان ، 1984 ، ص135 .(1/9)
ولم يكتف الشيخ عبده بالتدريس فحسب وانما نشر عدداً من المقالات في الصحف لا سيما في صحيفة ( الأهرام ) ومن ابرز مقالاته ( تقريظ جريدة الأهرام ) و(الكتابة والقلم ) و ( العلوم الكلامية والدعوة إلى العلوم العصرية ) وتقديم تقريظ الأفغاني لكتاب ( التحفة الأدبية ) كما صاغ في هذه المرحلة العديد من أثار أستاذه الأفغاني ، مثل حاشية على شرح الدوائي للعقائد العضدية وفلسفة التربية ، وفلسفة الصناعة ، ورسالة الواردات ، وصاغ أيضا الرسائل التي ترجمها علي باشا مبارك ونشرها في صحيفة الأهرام تحت عنوان ( المدبر الإنساني والمدبر العقلي الروحاني ) (1) .
وتعرض الشيخ عبده للعزل من مناصبه التدريسية في مدرستي دار العلوم والألسن اثر نفي أستاذه جمال الدين الأفغاني من مصر عام 1879 (2) .
وحددت إقامته في قريته ، لكن رياض باشا ناظر النظار اصدر له عفواً من الخديوي توفيق ، فتم تعينه محرراً في صحيفة ( الوقائع المصرية ) فكتب فيها أولى مقالاته في التاسع عشر من تموز 1880 ، ولم يكد يعمل فيها اشهر عدة حتى اصبح رئيساً لتحريرها ، وتولى مسؤولية الرقابة على المطبوعات المصرية في العام نفسه ، ثم اصبح عضواً في المجلس الأعلى للمعارف العمومية في الثامن والعشرين من نيسان عام 1881 (3) .
__________
(1) الأهرام ( صحيفة ) القاهرة ، العدد (30158) 7 مايس 1869 .
(2) للتفصيل عن هذا الموضوع يراجع : رفعت ، محمد / التوجيه السياسي للفكرة العربية الحديثة ، القاهرة ، د.ت ، ص66-67 .
(3) انظر : العقاد ، عباس محمود / عبقري الإصلاح والتعليم الأستاذ الأمام محمد عبده ، القاهرة ، د.ت ، ص278.(1/10)
أما عن دوره في العمل السياسي فقد انظم إلى الحزب الوطني الحر وايد ثورة احمد عرابي التي انطلقت من ميدان عابدين في التاسع من أيلول عام 1881، وألقى بكل ثقله إلى جانب حصول بلاده على حقوقها من الإنكليز ، وقد سجن ثلاث اشهر عام 1882 ، ثم حكم عليه بالنفي ثلاث سنوات لاشتراكه في ثورة عرابي (1) . ثم ذهب إلى بيروت منفيا في الرابع والعشرين من تشرين الأول 1882 فأقام بها نحو عام ، حتى دعاه أستاذه الأفغاني للحاق به في باريس أواخر عام 1883 ، واخذ الشيخ عبده يعمل مع الأفغاني لاخراج صحيفة ( العروة الوثقى ) إلى حيز الوجود واصبح رئيساً لتحريرها (2) . فكانت هذه الصحيفة تمثل لسان حال جمعية سرية تحمل الاسم نفسه وأصبحت لها فروعا عدة في البلاد الإسلامية لا سيما في مصر والهند وصدر في الصحيفة ثمانية عشر عدداً ، أولها صدر في الثالث عشر من أيار 1884 وأخرها في السابع عشر من تشرين الثاني 1884 ، وركزت هذه الصحيفة في مقالاتها على قضية التحرر من السيطرة الاستعمارية ، ودور محمد علي باشا في تعزيز الشخصية الوطنية لمصر ، وضرورة يقظة الشرق وطبيعة العلاقة بين السودان ومصر ، ورأي الجرائد الفرنسية في الإنكليز ، والقوة للشرق ، والنضال التحرري لشعب مصر ، وغيرها من المقالات التي كانت تعكس أراء وأفكار الأفغاني والشيخ عبده وتوجهاتها الفلسفية الإصلاحية (3) .
__________
(1) المصدر نفسه ، ص146 .
(2) ينظر : صبرا ، نسيب / العروة الوثقى ، بيروت ، 1328هـ ، ص10 .
(3) للتفصيل عن هذا الموضوع يراجع : السيد جمال الدين الأفغاني والشيخ محمد عبده / العروة الوثقى والثورة التحريرية الكبرى وجمع ونشر دار العرب للبستاني ، القاهرة ، 1957 ، ص5-15 .(1/11)
ثم شغل الشيخ عبده منصب نائب رئيس تنظم ( العروة الوثقى ) السري الذي شغل فيه الأفغاني منصب الرئيس ، وتنقل بين بلدان أوربية وشرقية عديدة تحت هذه الصفة ودخل مصر سراً عام 1884 أثناء اشتداد الثورة المهدية في السودان ضد الاحتلال الإنكليزي (1) ، وباشر قيادة تنظيم الجمعية السرية ، وكتب بعض الرسائل التي تضمنت توجيهاته إلى بعض فروع التنظيم هناك ، وزار العاصمة الإنكليزية لندن ، والتقى هناك بوزير الحربية البريطاني وعدد من أعضاء البرلمان ورؤساء تحرير بعض الصحف هناك ، ودعا خلال لقاءاته معهم إلى وجوب جلاء البريطانيين من مصر (2) .
فأدرك الشيخ عبده بعد توقف صحيفة ( العروة الوثقى ) ان العمل السياسي المباشر لا يمكن إن يحقق للشرق أهدافه ، حسب اعتقاده ، فغادر باريس إلى تونس ومنها إلى بيروت عام 1885 ، على أمل العودة إلى مصر ثانياً (3) .
__________
(1) للتفصيل عنها يراجع : شبيكة ، مكي / تاريخ شعوب وادي النيل مصر والسودان في القرن التاسع عشر، بيروت، د.ت ، ص137-138 .
(2) ينظر : قلعجي ، قدوري / محمد عبده بطل الثورة الفكرية في الإسلام ، ط2 ، بيروت ، 1956 ، ص52.
(3) المصدر نفسه ، ص62-64 .(1/12)
ومع تنظيم ( العروة الوثقى ) كتب في بيروت عدداً من المقالات السياسية مثل ( رسالة السير صموئيل بيكر في السودان ومصر وإنكلترا ) و(مصر وجريدة الجنة) و ( مراسلات ) و ( مصر والمحاكم الأهلية ) وبعض الرسائل التي أرسلها لعدد من الساسة والوجهاء ، كما أرسل بعض أراء الأفغاني وتنظيم العروة الوثقى في السياسة الشرقية ، ونشرها في صحيفة الأهرام المصرية من دون توقيع وكان ملتزماً طوال هذه الفترة بالخط السياسي لتنظيم العروة الوثقى الذي تميز بعدائه الشديد للإنكليز ، وسعيه للتخلص من سيطرتهم البغيضة على السودان ومصر وبقية بلدان العالم الإسلامي التي تخضع لاحتلالهم (1) .
__________
(1) ينظر : اسماعيل ، عز الدين واخرون / جمال الدين الافغاني ، بيروت ، 1974 ، ص77 .(1/13)
وبرزت جهوده الثقافية والفكرية والتربوية في بيروت فكتب ( لائحة إصلاح التعليم العثماني ) و ( لائحة إصلاح القطر السوري ) وشرع في كتابه ( لائحة إصلاح التربية في مصر ) كما شرع في تحقيق كتب التراث العربي الإسلامي ، فحقق وشرح ( مقامات بديع الزمان الهمذاني ) و ( نهج البلاغة ) والتزم المنهج العلمي في التحقيق عندما قدم لمقامات بديع الزمان الهمذاني ، كما اتم في بيروت ترجمة كتاب ( رسالة الرد على الدهريين ) لجمال الدين الأفغاني عن الفارسية ، واشتغل بالتدريس في (المدرسة السلطانية ) بيروت عام 1866 ، فانتقل من مدرسة شبه ابتدائية إلى مدرسة شبه عالية ، ومن الكتب التي شرحها هناك كتاب ( نهج البلاغة ) و(ديوان الحماسة ) و ( إشارات ابن سينا ) وكتاب ( تهذيب الأخلاق ) و ( جملة الأحكام العدلية العثمانية ) كما ألقى في بيروت دروس التوحيد التي تحولت بعد عودته إلى مصر إلى( رسالة التوحيد (1) (2) .
__________
(1) * هي من ابرز المؤلفات الكلامية الحديثة ، وهي تمثل ابرز الجهود التي بذلها في حياته كنتاج فكري للشيخ عبده بعد دراسته الفلسفة الاسلامية وفلسفة المعتزلة وعلماء الكلام ومذاهب الفقهاء حيث يجد القارئ لها بعض الاثر لابن سينا والاشاعرة ووجدت الاثر الاكبر للمعتزلة بين بعض اقسام التوحيد الخالص ، وتظهر أهميتها في الوقت الحاضر حيث تعتبر من المؤلفات الاساسية للتدريس في الجامع الازهر وسائر المعاهد الدينية في البلدان الاسلامية .
(2) المصدر نفسه ، ص64-65 .(1/14)
وعند عودته إلى مصر شغل عدداً من المناصب الحكومية وسعى بوصفه رئيساً لمجلس إدارة الأزهر ، إلى إصلاح هذا الحصن الإسلامي بما يتماشى مع روح العصر ، والى إدخال برنامج لتعليم المناهج الحديثة كالرياضيات والجغرافية وفقه اللغة والأدب وما إلى ذلك ، وقدم إلى اللورد كر ومر مباشرة اللائحة التي كتبها لاصلاح التربية والتعليم بمصر ، وقد حاول الشيخ عبده ممارسة التدريس مرة أخرى ولا سيما في دار العلوم ، فرفض الخديوي توفيق طلبه لكي لا يحتك بالجيل الجديد ويوصل أليه أفكاره وارائه ولغرض أبعاده عن هذا الحقل المهم ، عينه الخديوي توفيق قاضياً بمحكمة ( بنها ) عام 1889 ، فقبل الشيخ عبده ذلك على مضض وبدأ ينتقل بين المحاكم مثل محكمة ( الزقازيق ) و ( محكمة عابدين ) حتى ارتقى إلى منصب مستشار في محكمة الاستئناف عام 1891 (1) .
بعد موت الخديوي توفيق وتولي الخديوي عباس حلمي الثاني السلطة بدأت فترة من الوفاق بين الشيخ عبده وبين البلاط لان الخديوي الجديد اقتنع بحركة الإصلاحات التي حاول الشيخ عبده إجراؤها في المؤسسات التعليمية والتربوية والاجتماعية التابعة للأزهر والأوقاف والمحاكم الشرعية (2) .
__________
(1) ينظر : الإمام عبده ، محمد / الأعمال الكاملة ، ج1 ، ص29 .
(2) المصدر نفسه ، ص29 .(1/15)
وفي عام 1895 تشكل مجلس إدارة الأزهر برئاسة الشيخ حسونة النوادي ودخل فيه الشيخ عبده والشيخ عبد الكريم سلمان ممثلين للحكومة ، وكان عبده حريصا على إن يسير هذا المجلس على وفق لائحته وقوانينه ، لا بمشيئة الخديوي وحاشيته (1) . وفي الثالث من حزيران 1899 عين الشيخ عبده عضوا في ( مجلس شورى القوانين ) وبعد سنة أسس عبده جمعية ( أحياء العلوم العربية) التي حققت ونشرت عددا من آثار التراث العربي الإسلامي الفكرية المهمة وشارك في استحضار المخطوطات واستكمال نسخها ، ومراسلة الملوك والسلاطين والقضاة لهذا الغرض ، ومقابلة النسخ المخطوطة والشرح والتعليق على هذه الآثار الفكرية (2) . وقد سافر الشيخ عبده عدة مرات إلى خارج مصر ، مثل سفراته إلى الشام والى أوربا اكثر من مرة ، والتقى في جنيف بلطفي السيد (3) ، وقاسم أمين (4) وكتب الأخير تحت تأثير الشيخ عبده كتابه عن ( تحرير المرأة ) ولازمة لطفي السيد في سويسرا كأحد أبنائه ، وكانا يحضران المحاضرات التي تعقد في جامعة جنيف إلى مصطفى كامل الزعيم المصري الوطني كتابا أكد فيه (( انهم لا ينبغي آن ينسوا أبدا انهم وطنيون مصريون يعملون في سبيل مصر أولا وقبل كل شيء ، ولذا كان من الصالح إلا يقترنوا كلية بالخديوي لان العرش إذا اعترض طريق الوطنين ، فيجب على الوطنيين إزالة العرش عن طريقهم )) (5)
__________
(1) ليفين ، ز.ك / الفكر الاجتماعي والسياسي الحديث في لبنان ، سوريا ، مصر ، ترجمة عن الروسية / بشير السباعي ، بيروت ، 1978، ص190-191 .
(2) ينظر : العقاد ، عباس محمود / المصدر السابق ، ص 278 .
(3) للتفصيل عنه ينظر : عوض ، لويس / تاريخ الفكر المصري الحديث من عصر اسماعيل إلى ثورة 1919 ج2، القاهرة ،1993 ، ص173-175 .
(4) التفصيل عنه ينظر : فهمي ، ماهر حسن / قاسم امين ، بيروت ، د.ت ؛ سكاكين ، داود / قاسم أمين ، بيروت 1959 .
(5) عوض ، لويس / المصدر السابق ، ص174-175 ..(1/16)
وفي أيار 1905 استقال الشيخ عبده من مجلس إدارة الأزهر احتجاجا على تدخلات الخديوي عباس التي حال بها دون الإصلاح
في هذه الجامعة الكبيرة ، وفي الساعة الخامسة من مساء يوم الحادي عشر من تموز 1905 توفي الشيخ محمد عبده في الإسكندرية عن عمر يناهز السابعة والخمسين عاما .
المبحث الثاني/ التأثيرات الفكرية على محمد عبده
من المعروف إن أي مفكر هو وليد ثقافة عصره ، ولاشك أن جملة من التأثيرات تلعب دورا رئيسيا في صقل فكره ، وهكذا كان الشيخ محمد عبده الذي أسهمت مجموعة من العوامل في تكوينه الفكري والثقافي ، يقف في مقدمتها التخلف في شتى جوانب الحياة وخصوصا في نظام التربية ومناهجها وطرائقها في عصره واضطراره إلى ترك الأساليب والتوجه إلى أساليب أخرى عمقت من وعيه الفكري وجعلته اكثر إدراكا لما كان يحيط به من أحداث مهمة .
إن عبده الذي لم يجد المعرفة المقصودة لذاتها في الطريقة التقليدية التي اعتمدت على الحفظ وحشو الذهن بالمعلومات ، اندفع نحو مجالات أخرى ليسد بها شغفه العلمي والحصول على الزاد الفكري الذي بإمكانه آن يعالج القضايا الحياتية التي واجهته ، فبعد قضائه سنة ونصف في المسجد ألا حمدي ، لم يحصل سوى على معلومات رتيبة لرداءة طريقة التعليم ، فكان ذلك تحديا له لكي يبحث عن مكان آخر يلبي طموحاته الفكرية وخياله الخصب (1) .
ويسلط لنا الشيخ محمد عبده الضوء على هذا الموضوع ، وما تركته الأساليب التقليدية في استحصال المعارف في المسجد ألا حمدي قائلا :
__________
(1) ينظر : شحا ته ، عبد الله محمود / منهج الإمام محمد عبده في تفسير القرآن الكريم ، القاهرة 1962 ، ص7-8.(1/17)
(( فهذا أول أثر وجدته في نفسي من طريقة التعليم في طنطا ، وهي بعينها طريقته في الأزهر ، وهو الأثر الذي يجده خمسة وتسعون في المائة ممن لا يساعدهم القدر بصحبة من لا يلتزمون هذه السبل في التعليم )) ويستطرد الشيخ قائلا بان هذه الطريقة ((تزيد الجاهل جهالة ، ويضللون من توجد عنده داعية الاسترشاد ويؤذون بدعا ويهم من يكون على شيء من العلم ، ويحولون بينه وبين نفع الناس بعلمه)) (1) .
أدى عدم اقتناع الشيخ محمد عبده بهذا الأسلوب التعليمي إلى توجهه نحو التحصيل العلمي على يد أساتذة في حلقات الدراسة ممن تميز كل منهم باتجاهه الخاص وبطريقته في التوجيه الروحي والأدبي والفلسفي الشمولي الذي لا يكتفي عند حدود الاختصاص الخاص فحسب ، وانما يتجه نحو الاختصاص الشمولي العام ، وكان من ابرز أساتذته الشيخ درويش خضر في المجال التربوي والصوفي في حين كان أستاذه في الأدب الشيخ محمد البسيوني ، أما أستاذه في الفلسفة فكان الشيخ حسن الطويل (2) .
من كل ما تقدم نستطيع ان نلخص بعض الجوانب التي أثرت في الشيخ محمد عبده :-
1. الجانب التربوي والصوفي :-
كان الشيخ درويش خضر أحد الأساتذة الذين اثروا في محمد عبده تأثيرا عميقا ، فبحكم أسفاره المتعددة في بلاد المغرب العربي ، واخذه هناك الطريقة الشاذ ليه ، واهتمامه بالتربية قبل التعليم ، وغرس علومهم في نفوس الطلبة عن المشاهدة والقدوة الحسنة لا عن طريق التلقين والتحفيظ ، فضلا عن تأثيره عليهم بنفسه القوية الخبيرة بعلل النفوس وادوائها (3) .
__________
(1) رضا ، رشيد / المصدر السابق ، ص21 .
(2) ينظر : حمادة ، عبد المنعم / لأستاذ الإمام محمد عبده ، القاهرة ، د.ت ، ص 5-6 .
(3) يراجع : شحا ته ، عبد الله محمود / المصدر السابق ، ص9 .(1/18)
غرس الشيخ درويش خضر في نفس محمد عبده معارف طريقته الصوفية التي ركز فيها على آداب النفس وترويضها على مكارم الأخلاق وتطهيرها من دنس الرذائل وتزهدها في الباطل من مظاهر هذه الحياة الدنيا ، ويوضح عبده تأثير أستاذه عليه في هذه المرحلة بالقول :
(( لم أجد إماما يرشدني إلى ما وجهت أليه نفسي إلا ذلك الشيخ الذي أخرجني في بضعة أيام من سجن الجهل إلى فضاء المعرفة ، ومن قيود التقليد إلى إطلاق التوحيد ، وهذا هو الأثر الذي وجدته في نفسي من صحبة أحد أقاربي وهو الشيخ درويش خضر )) (1) .
لم يستمر محمد عبده طويلا مع أستاذه الشيخ درويش خضر ، وانما ذهب إلى الجامع الأزهر في عام 1866 ليجد إن طرق التعليم على نحو مشوش بالمعلومات النحوية المتشابكة والتدقيقات اللفظية التي تربك الفكر وتعوقه عن النمو والإبداع ، ولا تنمي أسلوب الملاحظة والاستنتاج فضاق بهذه الطريقة العقيمة ، لكن ظهور أستاذ أخر في الأزهر دفعه للتعليم على يديه وعشق الفلسفة في وقت كانت تعد فيه لونا من ألوان الإلحاد (2) .
2. الجانب الفلسفي :-
__________
(1) رضا ، رشيد / تاريخ الإمام ، ج1، ص23 .
(2) يراجع : شحا ته ، عبد الله محمود / المصدر السابق ، ص13 .(1/19)
تعرف محمد عبده عن طريق أستاذه الشيخ حسن الطويل على كتب ابن سينا ومنطق أر سطو ، وهي كتب لم تكن مألوفة في الأزهر،دراسته للمنطق ساعدت على تكوين شخصيته إذ أن المنطق يخدم دراسة الفلسفة ،ويرى عبده أن العلوم المنطقية وضعت لتقويم البراهين وتمييز الأفكار غثها من السمين وتبين كيف تتركب المقدمات لانتاج وأي مقدمة يصح أن يأخذ وأيها يجب أن تطرح ، كونه علم حقيق أن يأخذ سلما لجميع العلوم ، ومن هذا نجد تقارب أهمية المنطق عند ابن سينا والشيخ عبده فيجعل ابن سينا مهمة المنطق هو أن تكون عند الإنسان آلة قانونية تعصمه مراعاتها عن أن يظل في فكره، أذن للمنطق أهمية خاصة عند عبده لا يستهان بها وهي طلب الحق والوقوف عليه، فضم إلى تحصيل معرفته من كتب الأزهر التقليدية ما تعلمه من هذه الكتب الفلسفية كان الشيخ حسن الطويل يعلمه المنطق في الأزهر ، فتتلمذ على يده عبده عسى إن يلبي أستاذه بعض ما كانت تجهله نفسه التواقة للعلم ، لا سيما أن الشيخ حسن الطويل لم يكن يجزم بان معنى الفلسفة هو الحقيقة المطلقة ؟ بل كان يركز في دروسه على الاحتمالات أو شبهات الحذر فيما بينها لكي يجعل عقول طلابه تتجه نحو الاجتهاد وعدم الانغلاق وكان ديدانه في ذلك إبقاء حلقة التطور مفتوحة أمام المستجدات التي يمكن آن تعززها حركة الحياة (1) . وكان للشيخ عبده الاستقلالية بالفكر والنظر فهو يرى ((أن للفيلسوف رأى ومذاهب في العقليات والاجتماعيات يمكنه الاستدلال عليه والمدافعة عنه )) (2) .
3. الجانب الأدبي :-
__________
(1) ينظر : الجو راني ، عبد الزهرة مكطوف / المصدر السابق ، ص 14 .
(2) عبد الرحيم ،عبد الغفار / الإمام محمد عبده ومنهجه في التفسير ، دار الأنصاف، القاهرة ، د.ت.(1/20)
لم يكتف محمد عبده بما أخذه من أستاذه الشيخ حسن الطويل في مجال المعرفة الفلسفية الشمولية التي لا تتحدد عند قوالب معينة ، وانما تتلمذ أيضا على يد الشيخ محمد البسيوني ، الذي كان معنيا بالفصاحة والبيان العربي لا كما عني صاحب شروح التلخيص بذلك ، وانما على نحو آخر يؤكد على إن الأدب والبيان يقتضي التدريب والملكة والذوق والإحساس اكثر مما يستند إلى القواعد والمناهج (1) استفاد عبده من أستاذه في الأدب العربي الفصاحة والقدرة على صياغة الفكرة بأسلوب سلس لا تعقيد فيه ، وامكانية الاستفادة من الخزين الكبير بما تتميز به اللغة العربية من كثرة المفردات ، والتعابير اللفظية التي من شأنها ان تصل إلى مكامن النفس بوضوح وشفافية ، فلا توجد لغة اكثر رصانة وسموا بالنفس وتمتلك مفردات معبرة مثل اللغة العربية ، كما لا توجد لغة في العالم قادرة على الوصول إلى معانيها عبر مفردات وتراكيب عدة مثل لغتنا ومن هنا استطاع عبده إن يتتلمذ على يد أستاذ قدير في الأدب العربي ، فامتلك خاصية أخرى سخرها لخدمة قلمه ، وترويض عقله على استخدام مفرداتها للوصول إلى عقل الآخرين بلغة جميلة أخاذة (2) .
لقد توفرت لعبده اثر تتلمذه على يد أساتذة كبار من قبيل درويش خضر والشيخ حسن الطويل والشيخ ألبسيوني صفات عدة ، أسهمت في تكوين شخصيته وتنمية مواهبه واستعداده الفطري لان يصبح واحدا من أعلام العرب في القرن التاسع عشر .
4. تأثير جمال الدين الأفغاني :-
كان التحول الكبير في حياة عبده عندما وصل إلى مصر زعيم الجامعة الإسلامية وابرز المنادين بها جمال الدين الأفغاني (1839-1897) الذي اصبح محمد عبده من ابرز تلامذته (3) .
__________
(1) ينظر : شحا ته / المصدر السابق ، ص140 .
(2) ينظر : قدري ، احمد / محمد عبده المعلم الكبير ، القاهرة ، د .ت ، ص53 –54 .
(3) ينظر : Peter Mansfield, The Ottoman Empire and its Successor, London, 1973, PP.19-20 .(1/21)
كان وصول الأفغاني إلى مصر عام 1871 نقطة بارزة في تحول عبده من الاتجاه الصوفي إلى اتجاه جديد يقوم على أساس الأخذ بأسباب القوة في الغرب ، وفهم الجوانب التي أدت إلى تفوقه على العالم الإسلامي (1) .
لم يكن جمال الدين الأفغاني عالما عاديا من علماء المسلمين ، ولم تكن معرفته مقتصرة على ما كان مألوفاً في عهده من معالم الثقافة الإسلامية ، بل ضم إلى معارفه الشمولية تجاربه الشخصية التي كانت وليدة رحلاته ووقوفه على ما كان يعتمل في نفوس الشعوب الإسلامية من معاناة من جهة ، وعلى مدى التأثير الأجنبي على الحكام والمسلمين من جهة ثانية (2) .
كان الإسلام في نظر الأفغاني نظاما شاملا متكاملا للحياة تجد أحكامه حلا لكل الأسئلة والمشاكل الحياتية ، وتتضمن كل المعارف والأخلاق الحميدة ، ولذلك فان أي إصلاح ينشده المجتمع الإسلامي لا يتم إلا بالعودة إلى الإسلام بعد أحيائه على أساس عقلاني ، يستهدف إعادة النظر في الأفكار الدينية من الزاوية العقلية وروح العصر (3) .
__________
(1) ينظر : أمين ، عثمان / رائد الفكر المصري الإمام محمد عبده ، القاهرة ، 1955 ، ص23 .
(2) ينظر : شحا ته ، عبد الله محمود / المصدر السابق ، ص85 .
(3) ينظر : الأفغاني ، جمال الدين / العروة الوثقى والثورة التحررية الكبرى ، القاهرة ، 1957 ، ص32 ؛ أبو ريه، محمد / جمال الدين الأفغاني ، القاهرة ، 1906 ، ص49 ؛ فخري ، ماجد / دراسات في الفكر العربي ، ط2، بيروت ، 1977 ، ص 246 .(1/22)
تأثر الشيخ محمد عبده بأفكار الأفغاني ، لاسيما تأكيداته على العقل الإنساني وقدرته على فهم أسرار الوجود ، وما ترتب على ذلك من التأكيد على ضرورة الاجتهاد ، أي استخدام العقل في حل المشكلات التي تجابه الإنسان حلا يتفق من حيث الجوهر مع الدين واحكامه (1) .
استطاع جمال الدين الأفغاني إن ينزع عبده من التصوف وما يتبعه من دروشة وان يصرفه إلى اتجاه أخر يعطي للتصوف معنا جديدا هو لبُنى الإصلاح والتجرد الكامل للدفاع عن الإسلام ، والتسلح الفكري والفلسفي لرد هجمات المستشرقين والمغرضين الذين تذرعوا بآلاف الذرائع للقضاء على كل حركة من حركات النهضة والإصلاح في البلاد الإسلامية (2) .
__________
(1) ينظر : المخزومي ، محمد باشا / خاطرات جمال الدين الأفغاني الحسيني ، بيروت ، 1931 ، ص177-178 ؛ الأفغاني ، جمال الدين / المجموعة الكاملة ، تحقيق محمد عمارة ، القاهرة ، 1968 ، ص229-230 .
(2) ينظر : شحا ته ، عبد الله محمود / المصدر السابق ، ص 14-15 .(1/23)
استفاد عبده من الأفكار السياسية لجمال الدين الأفغاني الذي كان يؤكد دائما على انحطاط المدنية الإسلامية ووهن السلطة السياسية والإسلامية ليسا ناشئين عن الإسلام في ذاته ، بل عن تقاعس المسلمين وإغفالهم لتعاليم دينهم ، ولهذا فانه دعا إلى العودة إلى أحكام الإسلام ، مؤكدا على وحدة العالم الإسلامي ، وداعيا بلا كلل إلى العمل على إنجاز هذه الوحدة وترصينها (1) . وكان الأفغاني يعتقد إن هذه الوحدة هي الوسيلة الفعالة التي تؤدي إلى تحرير الشرق الإسلامي من سيطرة الاستعمار ونفوذه ، وركز على هذه الوحدة التي يعقدها هي الوحدة الروحية تحت لواء الإسلام وتضامن المسلمين في مختلف أقطارهم وتكاتفهم ضد الأخطار المشتركة التي تواجههم (2) .
لقد رأى الأفغاني أن مذهب الإسلام حر جوهراً وديمقراطي عنصراً لانه يمنح الأمة حق الاشتراك في إدارة الدولة ورقابة حكومتها ، ولهذا فانه أدان الاستبداد ورأى آن استبداد الحكام هو علة كثير من المصائب التي يعاني منها المجتمع الإسلامي ودعا إلى تغيير سلطة الحكام عن طريق إقامة نظام دستوري برلمانا للحكم ، غير آن الأفغاني كان يعتقد إن الحكام لا يمكن أن ينزعوا إلى تغير سلطتهم ، وان شكل الحكم البرلماني لا يمكن إدخاله بإرادة الحكام وانما يتحقق فقط بإرادة الشعب الناهض إلى النضال (3) .
__________
(1) ينظر : فخري ، ماجد / المصدر السابق ، ص276 ؛ الجو راني ، عبد الزهرة مكطوف / المصدر السابق، ص140-141 .
(2) ينظر : الأفغاني ، جمال الدين / العروة الوثقى ، ص78 ؛ المخزومي ، محمد باشا / المصدر السابق، ص256.
(3) ينظر : المحافظة ، علي / الاتجاهات الفكرية عند العرب في عصر النهضة ، 1798-1914 ، بيروت ، 1983 ، ص103 .(1/24)
كان الأفغاني يؤكد دائما على أن الشعب هو مصدر السلطات ، والامة هي مصدر القوة والحكم ، وان إرادة الشعب هو القانون المتبع للشعب ، ويجب ان يكون كل حاكم خادما للقانون وامينا على تطبيقه (1) ، وبما آن الأمر كذلك فان على الشعب أن يستخدم (( كل القوى التي يجوز عليها الصراع مع الاستبداد )). ... وهذا يستلزم تثقيف الجماهير الشعبية بجوهر الاستبداد ، وترتيبها سياسيا لكي تتوجه لنيل الحرية ، والاستقلال والمساواة ، ولكن بما إن هذه العملية عملية طويلة وليس هناك (( الوقت للقيام بعمل لا يثمر إلى هذا الحد )) فان من الواجب النهوض للنضال ، لان الانتفاضة ( دواء سريع المفعول ) وان (( الحرية تنزع ولا توهب )) (2) .
تأثر عبده بهذه الأفكار الإصلاحية النهضوية التي جاء بها الأفغاني لا سيما دعوته إلى تحديد المفاهيم الإسلامية تحت تأثير الحياة الحديثة وما فيها من نشؤ حضارة جديدة هي حضارة العالم الجديد وأوربا ، وطاقات واسعة لسيطرة الإنسان على مصاعب الحياة لم يألفها المسلمين من قبل وهو ما انعكس أيضا على زعماء تلك الحركات ( التحريرية ) والاختلاف بينها في سعة الحركة الإصلاحية أو ضيق نطاقها أو في قوة الدعوة أو تواضعها (3) .
__________
(1) ينظر : المخزومي ، محمد باشا / المصدر السابق ، ص46 ؛ الأفغاني / الأعمال الكاملة ، ص473 .
(2) ليفين ، ز.آ / المصدر السابق ، ص138 .
(3) ينظر : شحا ته ، عبد الله محمود / المصدر السابق ، ص19 .(1/25)
واخذ محمد عبده من الأفغاني توفيقه بين الدين والقومية ، وعدم وجود أي تناقض بين عالمية الدين وخصوصية القومية ، وذلك أن التضامن على أساس الإسلام وهو الشكل الارقى والأكثر فاعلية للتضامن لا يلغي بل يعزز إشكالية التضامن الأخرى ، وعلى رأسها الرابطة القومية للوحدة القومية ، ومن هذا المنطلق فان الشعب العربي هو جسد لروح الجامعة الإسلامية وكان ذلك يعني ضرورة الانتباه إلى الإسلام بوصفه أحد مقومات القومية العربية ووجود ترابط جدلي بينهما ، فامتدت نظرته هذه إلى محمد عبده وغيره من المفكرين ذوي الاتجاه الديني (1) .
لقد كان تأثير جمال الدين الأفغاني في مصر اوضح بكثير من تأثيره في غيرها ، فقد أقام في مصر ثمان سنين ، استطاع خلالها بخطبه الملتهبة إن ينفث في النفوس نزوعا إلى الحرية ورغبة في العدالة ، وتوضيحا لأساليب الاستعمار التي كانت تلقى وراء حجب وأغطية متنوعة متعددة (2) .
__________
(1) ينظر : الأفغاني / الأعمال الكاملة ، ص34-35 ؛ الجو راني ، عبد الزهرة مكطوف / المصدر السابق ، ص144 .
(2) ينظر : ستود أرد ، لوثر وب / حاضر العالم الإسلامي ، تعليق الأمير شكيب ارسلان ، المجلد الثاني ، القاهرة، 1933 ، ص289-290 .(1/26)
أدت صحبة الشيخ محمد عبده لجمال الدين الأفغاني وتأثيره به إلى إقباله على الاهتمام بالعلوم المختلفة مثل الفلسفة والرياضيات وعلم الكلام والأخلاق والسياسة والتربية وغيرها من العلوم التي أسهمت في تفتيح ذهنه على أفاق جديدة لم يكن له عهد أو علم بها ، فألف وكتب في رسالة الواردات عام 1873 أفكارا فلسفية لم تكن الأوساط العلمية آنذاك مستعدة لسماعها ، فهي لا تخلو من نفحة الأدب العتيق ، أدب السجع والتكلف ، الذي كان عالقا بالمؤلف لقرب عهده به ، ولكنها في تأليفها كانت ذات نظام واضح ، وطريقة في سوق البراهين معقولة ، وهي رسالة صغيرة في العقائد على منزع يغلب تصوفه ما فيه من فلسفة (1) .
وبتأثير جمال الدين الأفغاني ألف الشيخ عبده حاشيته على ( شرح الجلال الدوائي للعقائد العضدية ) عام 1875 وفيها تبرز أحاطته بمذاهب المتكلمين والفلاسفة والمتصوفة إحاطة فهم عميق بموضوعاتها ، ونجد في هذه الحاشية توضيح للمذاهب في الإلهيات والنبوات ومقارنة بينها ونقد متين لابرز ما جاءت به (2) .
__________
(1) ينظر : عبد الرزاق ، مصطفى / ترجمة الأستاذ الإمام محمد عبده ، مجلة ( الهلال ) العدد (96) ، القاهرة ، 1959 ، ص2 .
(2) ينظر : شحا ته ، عبد الله محمود / المصدر السابق ، ص22 .(1/27)
كان من اثر الأفغاني على عبده اتجاه الأخير نحو الإصلاح ، فشرع يكتب في صحيفة ( الأهرام ) فصولا متتابعة ، سامية المنزع مشتملة على أصول الدعوة الإصلاحية التي صرف حياته في سبيلها ، فاسترعت تلك الفصول نظر الناس إلى ذلك المصلح الشاب الذي كان يدعو إلى النهضة بخبرة الشيوخ الكبار من المصلحين ، وكان فيها عاقلا جريئا ، فوصل صدى تلك المقالات إلى إسماع الجامدين من الشيوخ ، والتقى فيها بحديث ملازمة كاتبها للسيد جمال الدين الأفغاني واشتغاله بالفلسفة وترجيحه لبعض مذاهب المعتزلة ، ونهيه عن التقليد ، ودعوته إلى اشتغاله بالعلوم الحديثة لأنها تتماشى مع روح العصر ومنطق التطور (1) .
ومع ذلك اختلف الشيخ محمد عبده مع أستاذه جمال الدين الأفغاني في كيفية إقامة الشكل الدستوري للحكم في البلاد الإسلامية ، فقد كان عبده يعتقد بعدم استعداد الشعب لحكم نفسه بنفسه ، ويدعوا إلى (( التوسيع التدريجي للطابع التمثيلي لأجهزة الحكم )) على اختلاف درجاتها مع تأسيس برلمان تمثيلي يتمتع بكل الصلاحيات بوصفه مرحلة ختامية للتطور الدستوري (2) .
كان عبده يرى انه (( من غير المعقول منح الرعية ما ليست مهيأة له )) كما انه من غير المعقول بدرجة اكثر السعي إلى إيجاد برلمان باللجوء إلى العنف، وقد كتب يقول (( إذا لم يكن الشعب مهيأ للمشاركة في حكم البلاد ، ومهيأ لتصريف شئونه ، فأن المطالبة بذلك ، عن طريق التهديد باستعمال القوة ، لامعنى له )) (3) .
__________
(1) ينظر : ليفين ، ز.ك / المصدر السابق ، ص190 .
(2) ( الوقائع المصرية ) صحيفة ، القاهرة ، أبريل 1881 ، مقتبس من المصدر نفسه ، ص192 .
(3) ( المنار ) مجلة ، القاهرة ، العدد (87) أغسطس 1958 ، ص37 .(1/28)
كان عبده شأنه في ذلك شأن أستاذه الأفغاني يريد السير بمصر إلى الاستقلال ، متخيلاً في ذلك الإمبراطورية العثمانية كسند سياسي والولاء للسلطان كسند روحي ، فدعا عبده إلى إحياء الخلافة الإسلامية على أن يتزعمها آل عثمان، وكان يتصور الخلافة على شكل اتحاد كونفدرالي إسلامي ، تضمن فيه الشعوب والطوائف الدينية حقوقها كافة ، وقال عبده (( أن صوت الإمبراطورية العثمانية هو المبدأ الثالث بعد الأيمان بالله ورسوله )) (1) .
دعا عبده شعوب المقاطعات الداخلة في الإمبراطورية العثمانية إلى السير بشكل مستقل نحو الرقي من دون تغذية العداوة لتركيا ، و من دون محاولة التنافس معها ، والى انتظار الفرصة لنيل الاستقلال (2) .
ليس هناك من مسلم يتمنى هزيمة الإمبراطورية العثمانية في الحرب ، لان هذا يوؤل إلى حرمان المسلمين من السند الذي يستندون أليه (3) .
تظهر عند عبده عناصر الوطنية المصرية في أطر النزعة الإسلامية العثمانية وحدها ، وإذا كان محمد عبده أكد في زمن نهوض الحركة القومية التحررية في عام 1881 ((أن المصري يجب إن يحب وطنه – مصر)) فقد أشار أيضا بعد ثلاث سنوات إلى آن (( التعصب العنصري ، الذي يسمى بالوطنية ، إنما يحركه الأوربيون ، الذين يحاولون بشتى الوسائل تجزئة الشعوب الإسلامية ، فيسهل عليهم تحقيق سياستهم الاستعمارية )) (4) .
__________
(1) ينظر : الرضا ، رشيد / تاريخ الأستاذ الإمام ، ج2 ، القاهرة ، 1936 ، ص909 ؛ سنتطرق إلى هذه الفكرة لاحقا في فصل الفكر السياسي لمحمد عبده .
(2) ينظر : حسين ، محمد / الاتجاهات الوطنية في الأدب المصري الحديث ، ج1 ، القاهرة 1954 ، ص48 .
(3) ليفين ، ز.ك / المصدر السابق ، ص192 .
(4) المصدر نفسه ، ص 192 .(1/29)
لم تنته علاقة الشيخ محمد عبده بجمال الدين الأفغاني (1) بعد نفي الأخير من مصر إلى الهند عام 1879 ، فقد اصدر بعد مغادرة الأفغاني إلى باريس صحيفة ( العروة الوثقى ) التي دعوا من خلالها المسلمين إلى الوحدة ، وتأسيس حكومة إسلامية على قاعدة الخلافة الإسلامية الراشدة ، وإنقاذ الإسلام وغيرهم من الشرقيين من الاستعمار ، ولاسيما إنقاذ مصر والسودان من الاحتلال البريطاني (2) .
__________
(1) * انظم السيد جمال الدين الأفغاني إلى الحركة الماسونية واصبح عضوا في محفل (كوكب الشرق) والذي كان مقره في شرق القاهرة عام 1871 ،وجاء انظما مه إلى الماسونية اعتقادا منه بان الماسونية حركة سياسية ذات أهداف تحريرية للوصول إلى أهداف الحرية والمساواة والإخاء،وغرضها السعي وراء دك صروح الظلم وتشييد معالم العدل المطلق، واحتقار الحياة في سبيل مقاومة الظلم، هذا هو هدف الماسونية الأول ألا أن انكشاف أمر الماسونية ، وتناقضها مع أهداف الأفغاني دفعه إلى التخلي عنها ،أي انه لم يلتحق بالماسونية ألا ظنا منه بأنها وسيلة لخدمة المسلمين والبلاد الإسلامية ،ولهذا قيل أن الشيخ عبدة وبتأثير أستاذه الأفغاني قد دخل معه إلى الماسونية ،لكن ليس هناك ما يثبت ادعائهم عن انظمام الشيخ عبده إلى الحركة الماسونية ،فليس من الضروري أن يتبع التلميذ أستاذه في كل شي ونجد أن الشيخ عبده يخالف أستاذه في أهم الجوانب مثل اختلافه طريقة المقاومة الاحتلال وطرد الأجنبي.
(2) صبرا ، نسيب / المصدر السابق ، ص 102 ؛ إسماعيل ، عز الدين / المصدر السابق ، ص77 .(1/30)
جاء تكليف جمال الدين الأفغاني لمحمد عبده بإصدار الصحيفة عندما كان عبده منفياً في بيروت اثر اشتراكه في الثورة العربية ، فأتفقا على ضرورة مخاطبة الشعوب الإسلامية بالشكل الذي يجعلها تعي أهمية الإصلاح وتسعى إلى ألا خذ به ، وإزالة كل ما يحول من دون تقدمها (1) .
ورأى عبده كما رأى أستاذه من خلال مقالاتهما في ( العروة الوثقى ) أن الطريق إلى نهضة العرب ، والمسلمين لايتم إلا بعد تحرير المجتمع من الداخل والخارج وان تحرير المجتمع الإسلامي من الداخل يتطلب أول ما يتطلب محاربة كل ضروب الاستبداد المخيمة على حياته ، والسعي من اجل حرية الإنسان ، كما يتطلب ذلك إعطاء وزن للشورى في حياة المجتمع لاسيما في الجانب السياسي ، فضلاً عن التأليف والتآخي والترابط بالاخوة الإسلامية التي إذا ما فهمت فهماً صحيحاً ، فأنها ولاشك لا تعمل على وحدته العقلية والروحية فقط ، وانما على وحدته الكلية أيضا (2) .
أكد الشيخ عبده على تحرير المجتمع من الداخل يجب إن يرتكز على تشريعات عادله تتصل اتصالاً وثيقاً بعادات وتقاليد واخلاق وعقيدة وحال الجماعة التي وضع من اجلها التشريعات والقوانين ، وتضمن منهاج عبده في تحرير المجتمع من الداخل إن يشمل جميع الجوانب السياسية والاجتماعية والتربوية والدينية (3) .
__________
(1) ينظر : الشوابكه ، احمد فهد بركات / حركة الجامعة الإسلامية ، عمان ، 1984 ، ص135 .
(2) ينظر : محمد ، د. فاضل زكي / الفكر السياسي العربي الإسلامي بين ماضيه وحاضرة ، بغداد ، 1970، ص 358-359 .
(3) ينظر : البهي ، د.محمد / الفكر الإسلامي الحديث وصلته بالاستعمار الغربي ، القاهرة ، د.ت ، ص114-115.(1/31)
أما بشأن تحرير المجتمع الإسلامي من الخارج ، فقد اتفق عبده في وسائله مع أستاذه الأفغاني الذي رأى أن النفوذ الأجنبي ينفذ إلى المجتمعات والشعوب لتحقيق مأربه ومصالحه ، وانه في سبيل تحقيق هذه المصالح ، يسعى جاهدا في توجيه حياة وتفكير المجتمعات التي ينفذ أليها ، التوجيه الذي ينسجم وتحقيق تلك المصالح ، ومن هنا يلتقي هدف تحرير المجتمع من الداخل مع هدف تحريره من الخارج ، ففي كل منهما تظهر الحاجة إلى تماسك المسلمين لكي يسترجعوا قوتهم، وفي كل منهما تظهر الحاجة إلى العمل من اجل القضاء على الضعف والتخلف ، ورأى عبده آن أسباب التخلف من الداخل تنحصر في الاستبداد والانقسامات والجهل ، أما أسباب الضعف الخارجي فتكمن ، حسب رأيه في النفوذ والاستعمار الأجنبي (1) .
__________
(1) ينظر : الجبوري ، احمد عبد الله محمد / المصدر السابق ، ص96 ؛ محمد ، فاضل زكي / المصدر السابق ، ص360 .(1/32)
لم يكن عبده منظراً ومفكراً إصلاحيا نظرياً ،وانما أثرت عليه التطورات السياسية التي كانت تمر بها بلاده اثر خضوعها للسيطرة الاستعمارية البريطانية ، فجسد أفكاره عملياً من خلال الاندماج بالحركة الوطنية المصرية التي جسدت كفاحها في الثورة العرابية عام 1881 ، كان يريد السير ببلاده نحو الاستقلال ، ولكن بشكل تدريجي عن الإنكليز (1) . وكان في بداية الأمر يعد احمد عرابي ناطقاً بأفكار عسكرية بحته في الوقت الذي كان عبده يفضل قيام نظاما للحكم مصحوبا بإصلاح داخلي ، الوسيلة الرئيسة في نظره هي نشر الثقافة وبث التربية الأخلاقية والسياسة الصحيحة التي تتناسب مع قيام دستور حر ، فكان يقول لعرابي في هذا الصدد (( أن الأمة لو كانت مستعدة أن تشارك الحكومة في إدارة شئونها لما كان لطلب ذلك بالقوة العسكرية معنى ، فما يطلبه رؤساء الجند غير مشروع ، لانه لو تحقق ونالت البلاد مجلس الشورى لما كان ذلك تصويراً لاستعداد الأمة ولا تحقيقاً لمطالبها ، فلا يلبث أن يتهدم ويزول ، واخشى أن يجر هذا على البلاد احتلالاً أجنبيا )) (2) .
وإزاء تطور الأحداث التي شهدتها مصر لم يستطع عبده إن يكون بعيداً عن الثورة العربية ، فشارك فيها وشد أزر العرابين حتى غدا أحد الروؤس المدبرة لهم ، على رغم من انه اختلف مع أنصار عرابي الذين كانوا يريدون تحويل الناس في مصر فوراً إلى ( مفكرين ) فأكد عبده ضرورة تعليم الناس ، حتى (( يتم التوصل إلى ما ننشده إلى حد ما عبر سنوات عديدة )) (3) .
__________
(1) ينظر : ليفين ، ز .ك / المصدر السابق ، ص223 .
(2) رضا ، رشيد / تاريخ الأستاذ الإمام ، ج1 ، ص147 .
(3) ( المنار ) مجلة ، المجلد التاسع ، القاهرة ، ص293-294 .(1/33)
وبعد إخفاق ثورة عرابي اتهم الشيخ محمد عبده بالتآمر مع رجال الثورة على الإنكليز ، أودع في السجن ثلاثة اشهر للتحقيق ، ثم حكم عليه بالنفي ثلاث سنوات ، وتطورت أفكاره اثر استفادته من المساعدات الأوربية في تنفيذ الإصلاحات المطلوبة ، حتى انه سئل مره عن جواز طلب المساعدة من الأجانب، فأجاب بقوله (( أن القرآن والسنة وأعمال أسلافنا تشهد على آن من الجائز طلب العون من الكفار وغير المؤمنين إذا كان ذلك خيراً للمسلمين ونفع لهم )) (1) .
ويرى بعد الباحثين ان حياة عبده تنقسم من حيث التأثيرات الفكرية عليها إلى مراحل عدة ، يقف على رأسها بل أهمها المدة التي عمل فيها تحت أشراف أستاذه جمال الدين الأفغاني الذي تأثر بأفكاره الإصلاحية واخذ عنه أبرزها ، آلا انه جردها بما تتسم به من عنف وشدة ، أما المرحلة الأخرى ، فهي التي تبدأ بعد عودته إلى مصر عام (1888) من منفاه ،إذ كرس حياته للإصلاح الاجتماعي الديني الذي ركز فيه على التربية الوطنية الحق ، ودعا إلى ضرورة تهيئة الشعب تربوياً واجتماعياً لكي يتقبل الإصلاح بشكل طوعي وواعي ، وبهذا الصدد ما نصه :
(( ارتفع صوتي بالدعوة إلى أمرين عظيمين : الأول تحرير الفكر من قيد التقليد وفهم الدين على طريقة سلفة الأمة قبل ظهور الخلاف ، والرجوع في كسب معارفها إلى ينابيعها الأولى .. أما الأمر الثاني فهو إصلاح اللغة العربية )) (2) .
__________
(1) أمين ، احمد / المصدر السابق ، ص223 .
(2) البهي ، د. محمد / المصدر السابق ، ص100 .(1/34)
استطاع عبده أن يؤثر في قطاع واسع من المثقفين المصرين وجمع كبير من تلامذة استوحوا تعليماتهم من أفكاره ، واقتفوا أثره في المسألة الأساسية المتعلقة بإصلاح حال المسلمين وتقبل أفكار الإسلام تقبلا تاما ، لاسيما في المجال التربوي والاجتماعي ،كان عبده يرى بان السبيل الأفضل للإصلاح يتم عن طريق التربية والتعليم والجانب الاجتماعي ، وبعبارة اوضح آن إصلاح الدولة يتم عن طريق إصلاح الأمة (1) .
... لقد ارتفع صوت محمد عبده في مصر الحديثة وهو ينادي بنشر مبادئ العدالة الاجتماعية كي يستتب السلام بين الطبقات ، واطل عبده على مجتمعه من زاوية الكتابة الصحفية من جهة ، ومن زاوية الدعوة لاصلاح الأخلاق وحسن التربية عن طريق الوعض الصحيح والإرشاد القويم والتأثير العميق (2) .
المبحث الثالث/ المنهج التجديدي لفكر عبده
تأتي أهمية المنهج (3)
__________
(1) ينظر : العدوى ، إبراهيم احمد / رشيد رضا الإمام المجاهد ، القاهرة ، د.ت ، ص106 .
(2) رضا ، رشيد / المصدر السابق ، ص138-139 .
(3) * المنهج : هو (( مجموعة من العمليات الذهنية تتيح تحليل الواقع وتفسيره )) وهناك دلالات عدة لمفهوم المنهج ، لاسيما في الاستخدام المعاصر ، إذ نجد انه يستخدم بدلالات متنوعة ، فتارة يكون مرادفا للنموذج المعرفي والرؤية الكلية للإنسان والكون والحياة ، فيقال المنهج الإسلامي ، وتارة أخرى يرادف موضوعاً علمياً ، فيقال المنهج الاقتصادي في الإسلام ، أو يكون مرادفاً لمذهبية فيقال منهج المعتزلة أو الأحناف .
ينظر : نصر محمد عارف ( المقدمة ) في د. احمد عروة واخرون ( قضايا منهجية في العلوم الإسلامية والاجتماعية ، ط1 ( المعهد العالمي للفكر الإسلامي ) القاهرة ، 1996 ، ص8 .(1/35)
وضرورته لكل إصلاح ولكل تجديد فكري ، لان كل خطأ في الحكم ينتج أساسا عن خطأ في المنهج ، كما آن كل كشف جديد يأتي أيضا عن كشف في المنهج ، وبما إن الأمر يتطلب معالجة هذه الأزمة الفكرية ، والمأزق الثقافي الذي يمر به المجتمع العربي الإسلامي إذ آن تأكيد التحدي العربي بجميع أشكاله وأبعاده كافة اتخذه عملية تأكيد الذات على المستوى الفردي أو المجتمعي شكل نكوص إلى مواقع خلفية للاحتماء بها والدفاع انطلاقا منها وهذا يتعلق بشكل خاص (( بالتيار السلفي )) في الفكر الحديث والمعاصر الذي انشغل بالتراث واحيائه واستثماره في إطار قراءة أيدلوجية جديدة ، وبدأ هذا التيار مع جمال الدين الأفغاني والشيخ محمد عبده على هيئة حركة دينية وسياسية إصلاحية متفتحة ، أي إعادة قراءة التراث وجعله حيا وهذا ما أطلق عليه مؤخرا بالأصالة والمعاصرة ، وهو موضوع القديم الجديد ، من هنا كانت الحاجة ملحة لاختيار منهج محدد يتلاءم مع قراءة جديدة للتراث ، أي فهمه وتفسيره وتوجيهه أي تحويل التراث إلى تراث حي وذلك بالأخذ من التراث ومن الحداثة كل ما هو تقدمي وصالح ، أي انهم لا يرفضون القديم لمجرد قدمه ولا يعشقون الحديث لمجرد حداثته بل يتمسكون بكل قديم نافع ، ويرحبون بكل حديث صالح ، أذن فأن عملية الجمع بين التراث والمعاصرة ليست عملية سهلة ذلك لان النهوض الذي يطلبه عبده لا يمكن آن يتحقق بالاختصار على رواية الماضي وتعظيمه ، كما لا يمكن أن يتحقق باستيراده من خارج أفكار الأمة وقيمها ، لان في كلتا الحالتين حالة اغتراب ، بشقيه الزماني والمكاني ، وهما بالتالي يقفان على ارض هي التقليد (1) .
__________
(1) الجابري ، محمد عابد / نحن التراث / قراءة معاصرة في تراثنا الفلسفي دار الطليعة للطباعة والنشر ، بيروت ، ط1 ، 1980 ، ص7-15 .(1/36)
وخشى عبده أن تتوطد العلمانية الطاغية في الفكر الأوربي على الأمة الإسلامية بإدراكه إن البنية الدينية في شكلها الجامد ، والتخلف التي كانت قد وصلت أليه لن يمكنها من الصمود في وجه هذا (( المد الجديد )) وان الحل السياسي الأيدلوجي يكمن في العودة بالإسلام إلى مرونته الأولى التي استطاعت أن تستوعب الثقافات السابقة عليه ، ويجب آن يتخلص الإسلام من البدع التي لحقت به ، وان يستنير الناس بالعلوم الحقيقية دينية ودنيوية ، فكان منهجه في هذا الصدد منهجا إحيائيا إصلاحيا يستهدف إزالة الجهل بزوال أسبابه ، والسعي إلى العودة إلى جوهر الدين لا إلى مظاهره السطحية (1) .
__________
(1) البازجي ، حليم / الأيدلوجية الإصلاحية ومظاهرها في الفكر العربي الحديث ، بيروت ، المجلد الثاني ، ج2 ، د.ت ، ص129 .(1/37)
فدعى إلى استلهام الماضي من اجل فهم الحاضر ، أي إن ينسكب الماضي في الحاضر انسكابا لا يعرقل سيرنا ، بل يجيء قوة محركة دافعة تزيد من عجلة السير وذلك لان من تراث الماضي ما يعرقل ومنه ما يحرك ويدفع ، فليس للحاضر الحي غنى عن ماضي يمده بغذاء الحياة كما تمد ألام جنينها ، أذن لابد من هدم حواجز الزمن بيننا وبين السلف وبهذا يتحقق الربط المنشود في ثقافتنا بين عصرية وتراث (1) ، ومن هذا المنطلق أكد عبده على وجوب إصلاح مصر على أسس واعية متفتحة ، على غرار سبل الإصلاح في أوربا ، منتقدا فيها المفاسد الاجتماعية والإدارية ، ونبه إلى ضرورة بناء نهضة متدرجة متطورة (2) مؤكدا على أهمية الإصلاح في حياة الأمم وضرورة التدرج فيه وسلوك طريقة التربية البطيء ، الذي هو في رأيه أجدى من طريقة الثورة السريع مشيرا بأنه لا بد من (( الثقافة والاستنارة لتكوين الرأي العام الذي يستحق الحياة السياسية ، والحقوق السياسية قبل المطالبة بالدستور ومجلس النواب والحكومة المقيدة به)) (3) وهنا نلمس السمة الأساسية في منهجه وهي التغيير في الواقع ، فاتجهت منطلقاته الفكرية نحو أمرين جوهريين هما انعتاق الوطن وازدهاره يعتمدان عليهما وهذين الأمرين يعتمدان على : التغيير والتقدم .
__________
(1) محمود ، زكي نجيب / ثقافتنا في مواجهة العصر ، دار الشروق ، ط2 ، بيروت ، 1979 ، ص150-155 .
(2) جعيط ، هشام / الشيخ محمد عبده ، مجلة ( المستقبل العربي ) ، العدد (38) بيروت ، نيسان ، 1982 ، ص11-12 .
(3) الإمام عبده / الإعمال الكاملة ، ج1 ، ص44 .(1/38)
ويمكننا آن نعدهما الخطوة الأولى والمهمة لمنهج عبده ، فالتغيير في الواقع والتقدم نحو أنموذج افضل كان واضحا عند عبده الذي نكاد نلمس في فكره كل الميادين من دين إلى علم إلى سياسة إلى تربية واجتماع ، ولكن بدرجات وفي سياق قناعا ته وظروفه هو ، ليكون في كل الأحوال شاهدا مدركا لواقع عصره وملامحه (1) .
فحرص عبده على ضرورة الاعتراف بالحاجة إلى التغيير ، ومن أهم شروط هذا التغيير ربطه بمبادئ الإسلام ، واثبت في طروحاته الفكرية إن الإسلام يمكن به آن يشكل المبدأ الصالح للتغيير والرقابة السليمة عليه إذا ما فهم على حقيقته ولم يقصد عبده بذلك صلاحية الإسلام ليكون الأساس الخلقي لمجتمع حديث وتقدمي فحسب ، لان الإسلام يفضل كل ما كان يعمل باسم التقدم ، ولكن ركز اكثر من ذلك على إن الإسلام ، كما فهمه مبدأ ردع من شأنه آن يمكن المسلمين من التمييز بين الصالح والطالح في مختلف وجوه التغيير الحاصل ، لذلك كانت مهمة الشيخ عبده ذات شقين :
الأول – إعادة ماهية الإسلام الحقيقي .
الثاني- النظر في مقتضياته بالنسبة إلى المجتمع الحديث (2) .
أما فكرة التقدم في منهج عبده فنجدها تتحدد من خلال تمسكه بالتربية في مفهومها الأوسع ، بدءاً بتربية الذات وانتهاء بتربية كل فرد من أفراد المجتمع بوصف ذلك أحد أهم أسباب بناء الإنسان الذي كان يحلم به ، وعد عبده إن تغيير الإنسان لذاته كفيل بأن يتم تغيير المجتمع برمته مستنداً بذلك إلى قوله تعالى (( ان الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم )) (3) .
__________
(1) شبيكه ، متي / المصدر السابق ، ص614-615 .
(2) حوراني ، البرت / المصدر السابق ، ص173-174 .
(3) القرآن الكريم ، سوره الرعد ، الاية (11) .(1/39)
ومن هنا نجد عبده يربط بين التغيير والتقدم لكونهما حالة واحدة لا تنفصل الواحدة عن الأخرى ، ذلك لان أي بناء لا يمكن إن يتم إلا من خلال إصلاح الأفراد الذين إذ ما صلحوا فأن المجتمع سيكون صالحاً أيضا (1) ، هنا نستطيع أن نلمس سمة أخرى من سمات المنهج عند عبده وهو التجديد ، إذ تميز بالتجديد في رؤيته للواقع الاجتماعي والتراث الديني ، مدركاً بثاقب بصره إن التطورات الحديثة التي طرأت على المجتمع الإسلامي أفرزت حالتين أساسيتين لكل منهما سماته الخاصة ونظرته إلى الحياة ، فوجد في مصر أنموذجا لهاتين الحالتين الجامعين بين العلم وبين التعليم الحكومي الذي تبنى النمط الغربي ، وقد افرز ذلك عن جيلين من المتعلمين مختلفين من حيث النظرة الدينية التقليدية ، وجيل آخر اعتمد العلوم العصرية وتبنى فكرة تحديث المجتمع وآمن بالتغيير أسلوبا ومنهجاً في الميادين الفكرية والعملية (2) .
فاعتمدت دعوة عبده في التجديد الديني على أسس ثابتة هي:
1- تطهير الإسلام من البدع والظلالات التي علقت به والعودة به إلى أصوله الأولى .
2- الثورة على التقليد والمقلدين الذين سلبوا دور العقل واغفلوا طريق البحث والعلم (3) .
__________
(1) رضا ، محمد رشيد / المصدر السابق ، ص1036 .
(2) المحافظة ، علي / المصدر السابق ، ص81 .
(3) الإمام عبده / رسالة التوحيد ، ط1 ، القاهرة ، 1542 ، ص77 .(1/40)
ومن كل السمات السابقة لمنهج عبده نستطيع إن نضمها تحت مقولة أهم في صنع منهجه وهي ( العقل ) ، إذ يؤكد عبده أن الإسلام لم يدع إلى إهمال العقل كما اتهمه أعداؤه ، لذلك يجب الحث على العلوم العقلية وغيرها ، آن نبني المجتمع الصالح الذي يمتثل لأوامر الله ويفسرها تفسيراً عقلياً ، وعلى وفق الصالح العام (1) لكون الإنسان لم يخلق ليقاد بالزمام ولكن ليهتدي بالعلم والأعلام، ومن هذا المنطلق فقد دعا عبده المسلمين إلى إن يقوموا بما كان عليهم القيام به دوماً وهو إعادة تأويل شريعتهم بما يجعلها تتكيف مع متطلبات الحياة الحديثة ، فالله حسب وجهة نظره ، لم ينزل سوى مبادئ عامة تاركاً للعقل آمر تطبيقها على قضايا المجتمع الخاصة (2) . وفي منهجه الذي ربما نكون حذرين في تسميته وهو العقلاني نجده قد ركز على أهمية العلوم الكلامية ، والدعوة إلى تلقي العلوم العصرية ، كتب عبده رسالة التوحيد ومقالات عدة في (( الوقائع المصرية)) طرح من خلالها في إطار قناعاته ، ما رآه صالحاً لتدارك حالة الضعف التي انتابت الأمة ، وعلاج العلل التي أدت بهم إلى ماهم عليه من حالة الانحطاط (3)
__________
(1) المحافظة ، علي / المصدر السابق ، ص82 .
(2) الإمام عبده / المصدر السابق ، ص51 .
(3) قاسم ، محمود / ملاحظات على منهج الإمام في إصلاح التعليم ، مجلة (( دعوة الحق )) المغرب ، العدد التاسع، للسنة الثالثة عشر شباط ، 1970 ، ص110 ..(1/41)
بحيث انه من خلال الصراع الذي دار بين الفلاسفة والمتكلمين فقد انتقد إصرار الفلاسفة على اعتبار العقل سلطة مستقلة عن سلطة الوحي ، فيقول بهذا الصدد : (( أما مذاهب الفلاسفة فكانت تستمد آرائها من الفكر المحض ، ولم يكن من هم أهل النظر من الفلاسفة ، إلا تحصيل العلم والوفاء بما تندفع أليه رغبة العقل من كشف مجهول أو استكناه معقول )) أي انهم ادعوا أن العقل قادرعلى التمييز بين الحق والباطل بمعزل عن الوحي ، لكننا نجده متفق مع معظم المتكلمين الذين شددوا على تكامل العقل والوحي ، مؤكدين حاجة العقل إلى الوحي للوصول إلى معرفة الحق ويشتغلوا (( في أصول العقائد والأحكام بما هداهم أليه سير القرآن اشتغالا يحرص فيه النقل ولا يهمل فيه اعتبار العقل ولا يغض فيه من نظر الفكر )) (1) لكنه في مقابل هذا فهو قد انتقد جماعة من المتكلمين الذين كانوا يغالوا في التمسك بالنص وانكروا التأويل واعمال العقل فيما وراء النص ومن أصحاب هذا الجانب هم الظاهرية (2) والجهمية (3)
__________
(1) الإمام عبده / الإعمال الكاملة ، رسالة التوحيد ، ج3 ، ص363 .
(2) * الظاهرية : وهم تيار فكري يرفض تأويل ظاهر النصوص حتى لو تعارضت مع العقل إذ يقدمون النقل على العقل ومن أعلامهم ( ابن حزم الأندلسي (994-1064م) واحمد بن حنبل (855م) وابن تيمة (1263-1328م)) .
(3) ** الجهمية : سميت بهذا الاسم نسبة الى زعيم هذه الفرقة وهم ( جهم بن صفوان ) وهم الذين ذهبوا إلى ان الإنسان لا حول له ولا قوة فيما يصدر عنه من أفعال ، أي رفضوا آن يكون للإنسان أي قدرة على الفعل ، بل انهم شبهوه أحيانا بالريشة المعلقة في الهواء تميلها الريح حيث شاءت ، واحيانا أخرى بالحجر والجماد الذي ليس له من الأمر شيء فيما يفعل به للمزيد يراجع : القاسمي ، جمال الدين / تاريخ الجهمية والمعتزلة ، ط1 ، القاهرة ، 1331هـ ..(1/42)
الذين عدوا أن تعاليم الوحي هي المحدد الوحيد في كل الأزمان للمنهج الخلافي من دون أن يكون للعقل أي دور سوى التنزيل المباشر لظواهر النصوص في حياة الناس .
ونجده قريبا من المعتزلة (1) بقوله إن هنالك (( من انتدب نفسه للنظر في العلم والقيام بفريضة التعليم )) واقر عبده أن الشريعة جاءت لامرين من أهم أركان السعادة البشرية وهما :
1- أن العبد يكسب بإرادته وقدرته ما هو وسيلة لسعادته .
2- أن قدرة الله هي مرجع لجميع الكائنات ، وان لا شيء سوى الله يمكن ان يمد العبد بالمعونة فيما لم يبلغه كسبه (2) .
__________
(1) * المعتزلة : تيار فكري وتنظيم سياسي تبلور في أواخر القرن الأول الهجري ، وهي من اكثر مدارس الفكر العربي الإسلامي أصالة وتعبيرا ، بواسطة المنهج العقلي عن قضايا المجتمع الذي عاشوا فيه ، تبلورت على يد شيخها ( واصل بن عطاء 699-749م ) واهم القسمات الفكرية للمعتزلة أيمانهم بحرية الإنسان واختياره، ويعدونه صاحب الحق في إقامة السلطة السياسية في مجتمعه وعزلها ، ووجوب الثورة على السلطة الجائرة وهي طليعة الفرق الإسلامية التي أعلت من شأن العقل ووثقت في قدرته ويسمون أهل العدل والتوحيد ، للمزيد يراجع : القاسمي ، جمال الدين / تاريخ الجهمية والمعتزلة ، ط1 ، القاهرة ، 1331هـ .
(2) الأمام عبده / الإعمال الكاملة ، ج3 ، ص388 .(1/43)
فمن خلال العلاقة بين العقل والأيمان نجد آن عبده دعا إلى آن العقل يجب إن يحكم كما يحكم الدين ، فالدين عرف بالعقل ولا بد من اجتهاد يعتمد على الدين والعقل معاً (1) ، وبهذا فقد عد النظر العقلي من الأسس الأولية التي وضع عليها الإسلام ذلك لانه وسيلة الأيمان بالله ، فعن طريق العقل يؤول النقل ، وقد أجاز عبده تقديم العقل على ظاهر الشرع عند التعارض ، لان للعقل القدرة على التمييز بين الفضيلة والرذيلة ، وبالتالي فالإنسان يختار أفعاله بإرادته وقدرته ، وهنا يتضح لنا منهجه العقلي على الرغم من انه لا يفتح للعقل متسعا كبيرا ذلك لانه حدده بارتباطه بالدين على أساس أن ما يعرفه هو العوارض ، أما الجواهر فعلمها عند الله ذلك لان (( العقل وحده لا يستقل بالوصول إلى ما فيه سعادة الأمم بدون مرشد الهي )) وله حدود لا يمكن تجاوزها لعدم قدرته على ذلك ، ومن هذه الأشياء الممتنعة عن العقل هي البحث عن صفات واجب الوجود وماهيته وكيفية الاتصاف بها ، فالعقل لا يدرك إلا عوارض الأشياء أما الوصول إلى كنهها أو حقيقتها فأمر ممتنع عليه ، مبيناً انه إذا (( قدرنا عقل البشر قدره ، وجدنا غاية ما ينتهي أليه كماله إنما هو الوصول إلى معرفة عوارض بعض الكائنات التي تقع تحت الإدراك الإنساني حساً أو وجداناً أو تعقلاً ... أما الوصول إلى كنه حقيقية فما لا تبلغه قوته )) (2) ومن هنا قيل انه تبنى نظرية اللاأدرية (3)
__________
(1) أمين ، احمد / المصدر السابق ، ص369 .
(2) الإمام عبده / الإعمال الكاملة ، ج3 ، ص379 .
(3) * اللاأدرية : نظرية تنكر كلياً أو جزئياً إمكانية معرفة العلم ، وتؤكد أن العقل عاجز عن مجاوزة حدود الخبرة الذاتية عند صاحبه ، فمحال عليه إقامة البرهان على أي شيء يفترض وجوده في خارج تلك الحدود ينظر : الموسوعة الفلسفية / بأشراف.روزنتال.بودين، ترجمة/سمير كرم،ط3 ،بيروت،1981،ص2-4..(1/44)
لانه لم يكن بإمكانه الإجابة عن جميع الأسئلة التي أثيرت في زمانه أما تهرباً أو عدم قدرته على اكتشاف كنهها في أحيان أخرى (1) لكن الموقف الأساسي لعبده هو منهج العقلانية الدينية ، أي إن الإسلام دين عقلي ، لكن من ناحية أخرى هو يربط بين العقل والوجدان بقوله أن (( العقل والوجدان لا يختلفان في الحكم بصحة الاختبار، وشمول العلم الإلهي ، ونفوذ قدرة الله فيما لا اختيار لنا فيه ، وهي هبة قوة الاختيار نفسها )) (2) .
فالعقل ينظر في الغايات والأسباب والمسببات والبسائط والمركبات وعلى هذا الأساس فان وظيفة العقل تتركز في إصدار القوانين والقواعد ولهذا مجال لدخوله إلى شيء من العلمية ، أما الوجدان فيقع على مشاهدات الحس الباطن وعلى الحدوس الشعورية والوجودية المباشر ، مؤكداً على أن (( العقل يضمن صحة أصول العقيدة ، بينما يناط بالوجدان حمل الإنسان بوجوده الكلي على العمل الأخلاقي )) (3) . ومن هذا المنطلق يتبين آن الشيخ عبده يرى أن تقويم النفس وصلاحها هو من عمل ملكة الوجدان بعدها قوة ردع للإنسان ، إذ هي (( الطريق الأقرب في بيان مضار الإسراف في الرغب وفوائد القصد في الطلب.. وتجد اقصر الطرق وأقومها آن تأتي أليه من نافذة الوجدان المطلة على سر القهر المحيط به من كل جانب )) (4) .
ويمكن أن نستخلص مما تقدم أن المنهج التجديدي عند عبده يتحدد بأربعة محاور أساسية :
أولاً: الثابت ( النص فيكون منسجماً مع هذا التجدد ) .
__________
(1) زاهري ، احمد جاسم / محمد عبده في الإطار الفلسفي ، بيروت ، 1999 ، ص83-84 .
(2) الإمام عبده / الإعمال الكاملة ، ج3 ، ص485 .
(3) المصدر نفسه ، ص199 .
(4) المصدر نفسه ، ص424 .(1/45)
ثانياً: المتغير ( يرى عبده ضرورة القبول بواقع التغيير لان هنالك قضايا استجدت من خلال تطور بالواقع ، وهذا يمكن آن يجعل المسلمين في حرج أمام ضغط هذا الواقع ، أذن هو يهتم باستعادة واقع الإسلام على حقيقته ، واعتبار ما يتضمنه لمصلحة المجتمع الحديث فهو يطالب بالمجتمع المثالي الذي يخضع لأوامر الله ويحاول تأويلها بالرجوع إلى العقل في ضوء المصلحة العامة ) .
ثالثاً: العقل ( جعل عبده من شروط العقل ليكون مساهماً في التجديد هي الحرية الفكرية وان يكون متحرراً من قيود التقليد والتبعية والبدع والظلالات ) .
رابعاً: اللغة ( رأى في لغة العرب أداة مهمة على طريق التقدم والرقي ، وأدان ما جناه الجمود على اللغة ، واثر بها تأثيراً سلبياً ، فضلاً عن تأثيره على الأمة ونظمها الاجتماعية وشريعتها ، وطالب بضرورة التنوير في ظل الضوابط الإسلامية ) (1) .
__________
(1) الإمام عبده / الإسلام بين العلم والمدنية ( مجلة الهلال ) القاهرة ، العدد 385 ، حزيران 1983 ، ص7 .(1/46)
وبهذا نجد أن الشيخ عبده سعى في جميع كتاباته واعماله لاسيما في أواخر حياته ، تحقيق هدف مهم هو سد الثغرة القائمة في المجتمع الإسلامي ، بغية تقوية جذوره الفكرية ، قياسا إلى المجتمع الحديث الذي انقسم إلى فريقين بعد دخول أفكار عصر التنوير الفرنسي ، والتي أصبحت مألوفة لدى الشباب العربي ، فانتشرت بينهم اللغة الفرنسية ، وتفرنس بعضهم ، فحاول عبده من منطلق حرصه على وحدة المجتمع الإسلامي ، الاعتراض على المتنورين المتأثرين بالمفكرين الغربيين ، لانه رأى آن الانقسام في المجتمع الإسلامي ولم يعن انتفاء أساس مشترك بوحدة أبناءه ، وانما يشكل تهديداً لاسس المجتمع الخلقية بفعل روح العقل الفردي القلقة ، المتسائلة دوما والشاكة أبدا ، وادرك عبده سرعة عطب الثقافة الغربية لدى المصري المتفرنس الذي كان يكتفي بتقليد مظاهر الحياة الأوربية الخارجية ، وقال بهذا الصدد (( أن مظاهر القوة هي التي حملت الشرقيين على تقليد الأوربيين في ما لا يفيد من غير تدقيق في معرفة منابعها )) (1) وهذه التصورات الفكرية هي التي ميزت منهج الشيخ عبده وأعطته أصالته ، والذي يمكن تسميته بالمنهج التجديدي الذي تجسدت فيه سمات العقلانية والتوفيقية بصورة كبيرة ، كونه قد سلم من إفراط الأولين وتفريط الآخرين وامن بالآخذ من التراث ومن الحداثة كل ما هو تقدمي وصالح .
المبحث الأول/ محمد عبده ونظريته التربوية (2)
__________
(1) رشيد ، محمد رضا / المصدر السابق ، ص1036 .
(2) * كما ذكرنا سابقا أن الجانب الصوفي الفلسفي كان أولى الأمور التي تفتح وعي الشيخ عبده عليها وقد ساعده هذا الجانب في بناء نظريته التربوية والأخلاقية وهنا لابد أن نقدر الأثر الطيب الذي أحدثه اتجاه الشيخ عبده نحو الإصلاح الاجتماعي القائم على الكمال الخلقي الذي يخدم المجتمع الإنساني أرقى خدمة.(1/47)
للأديان دوراً كبيراً في صياغة أسس وقواعد التربية لكن على الرغم من أن التربية في حقيقتها هي مشكلة فلسفية ذلك لأنها تضم تحت جنبيها جميع النقائض (1) ، التي حاولت الفلسفة في جميع العصور التغلب عليها ، فنجد الكثير من الفلاسفة والمربين في شتى حقب التاريخ ومن مختلف المنازع (( يؤكدون أولوية التربية ، أي القدرة الذاتية على تجديد الهيئات والمؤسسات التي تكونها ، وقدرتها على أن تحدث عن قصد ونية انقطاعا عن مجتمع يعد فاسداً عليه أن يغير نفسه)) (2) .
أن معنى الذاتية هنا هي الفلسفة لان الفلسفة هي التي توصف بالذاتية والتربية وحدها هي التي تتيح قيام عصر جديد ومن المنادين بهذا الرأي في القرون القديمة افلاطون (3) ، ومربو عصر النهضة ورواد التربية الحديثة ، ومن المفكرين العرب في العصر الحديث الذين أكدوا على دور التربية في بناء المجتمع هو الشيخ محمد عبده .
__________
(1) ** كالتناقض بين الطبيعة وبين المثل الأعلى الذي يبتغيه الوعي الإنساني والتناقض بين المجتمع وبين المثل الأعلى نفسه . والتنقاض القائم في قلب الوعي نفسه ولمزيد من التوضيح يراجع : كتاب ( تاريخ التربية ) للدكتور عبدالله عبدالدائم ،ط2،بيروت ،1965 .
(2) عبدالدائم ، عبدالله / نحو فلسفة تربوية عربية ، الفلسفة التربوية ومستقبل الوطن العربي ، ( مركز دراسات الوحدة العربية ) ، بيروت ، ط2 ، 2000 ، ص23 .
(3) *** أفلاطون من أوائل الفلاسفة الذين رأوا في التربية التحقيق العملي لما ينبغي عليه الإنسان وهدفها عنده هي ان تنمي لدى الإنسان انتسابه إلى عالم الحقيقة المثالية والوصول لهذه الحقيقة تكون بالتربية الخاصة والذين يصلوا لهذه المرتبة هم فقط الفلاسفة ومن هؤلاء تكون الطبقة الحاكمة للمزيد عنه يراجع : كتاب (الجمهورية) لأفلاطون ، ترجمة حنا خباز ، مكتبة النهضة ، بغداد ، 1986 .(1/48)
... معتبراً أن أزمة المجتمع العربي الإسلامي ترتد إلى أزمة التربية التي تتمثل بالانحلال الداخلي ، والحاجة إلى التجديد في الإسلام ، والمجتمع الذي نشد إصلاحه هو المجتمع المصري تحديدا بل انه حدده بغالبية الشعب المصري لاسيما الفلاحين ، وهم الفئة الاجتماعية الواسعة التي خرج منها الشيخ عبده، وظل ملتزماً بمصلحتها الاجتماعية في كل نشاطاته ، ومنها مجاله الأوسع وهو الإصلاح الديني والتربوي لانه الأساس في إصلاح المجتمع ، ولعل هذا الالتزام هو الذي وضع الشيخ عبده في موقف الناقد لتجربة محمد علي باشا الوالي العثماني على مصر الذي اهتم بالدولة على حساب المواطن المصري عموماً ولا سيما الفلاح المصري (1) .
وعلى أساسها صاغ آرائه التربوية المتعددة وبالتالي سيكون التركيز على ما طرحه الشيخ عبده حول التربية ، كما عرفنا أن التربية هي مشكلة فلسفية فان اهتمام عبده بالدين جعله يربط في نظريته التربوية بين الدين والفلسفة ، فان التربية التي كان يراها الشيخ عبده هي التربية المستندة إلى الدين وتنبع من تعاليمه وللتأكيد على دور الدين في التربية يقول : (( أن مطلوبكم المحبوب هو العلم ... كل مفقود مفقود بفقد العلم ، وكل موجود موجود بوجود العلم )) (2) .
__________
(1) خولة ، محمد بشير / محمد عبده المصلح الديني في القرن التاسع عشر ، بيروت ، 1951 ، ص2-3 .
(2) الإمام عبده ، محمد / الأعمال الكاملة ، ج1 ، ص159 .(1/49)
فالعلم عند الشيخ عبده هو الأساس لكل موجود ، وهنا نستطيع آن نلمح أسس تكوين نظريته التربوية الخاصة ، والعلم الذي يطلبه عبده مرتكزا على الدين فيقول : (( العلم هو ما يبصر الإنسان في الغاية التي يطلبها ، ويهديه إلى الحق الذي هو معقد النجاة ... وهذا هو علم الحياة البشرية ... العلم المحيي للنفوس وهو علم آداب النفس ، وكل أدب لها هو في الدين )) (1) يبرز هنا دور الدين في تأديب النفس وأحيائها ، لان العلم وحده ليس له القدرة على إشاعة الفضائل الخلقية كالثبات والصدق والتقوى فالعلم يمكن الإنسان من معرفة ما يتوجب فعله ، لكن هذه المعرفة لابد لها من إرادة وتربية هذه الإرادة تعتمد على الدين ، لذا لابد ان تكون التربية قائمة عل مبادئ الدين (2) ،
__________
(1) الإمام عبده ، محمد / الأعمال الكاملة ، ج1 ، ص159 .
(2) * أن هذه التربية الدينية نجدها في التراث الفلسفي الإسلامي ، ولا سيما عند الغزالي ،فعلى صعيد البناء الديني للأخلاق نجده يؤكد على ضرورة ان تكون التربية منسجمة مع الشرع ، إذ قال (إذ القلم والعمل بلا اقتداء الشرع ضلالة وتياهه) للمزيد يراجع : الغزالي، ابو حامد / أيها الولد ،تحقيق ،د.احمد مطلوب، بغداد،1986.هكذا نجد ان الفلاسفة المسلمين أكدوا على التربية الدينية ودورها في المجتمع ، وهنا نجد ان اطلاع الشيخ عبده على التراث الفلسفي الإسلامي ، قد جعل منه مفكرا تربويا أراد بناء المجتمع من خلال بناء الفرد ..(1/50)
وركز في كتاباته وأرائه التربوية على تأثير التعليم في الدين والعقيدة وهذا ما نجده في تنبيه على مخاطر التعليم الديني وحذر الأباء من إرسال أبنائهم قبل كمال الرشد إلى الإرساليات المدرسية الأجنبية لأنها تتلاعب في العقول وتؤثر في العقائد وقال بهذا الصدد : (( حتى يأذن الله تعالى يمنع التعليم الديني في جميع مدارس العالم ، فتكون المدارس قاصرة على العلوم غير الدينية ، والصنائع ، ويكون للدين مواضع مخصوصة لتعليمه والتربية بمقتضاه )) (1) .
__________
(1) المصدر نفسه ، ج3 ، ص60 .(1/51)
يستنج من ذلك أن الشيخ عبده ليس من دعاة التعليم الديني الخالص بل هو من دعاة التعليم المدني الذي يستجيب لظروف العصر ويقيم مع المبادئ الدينية الصلات الضرورية لذلك فهو (( عد الدين أساس المدنية والإلحاد مفساد العمران )) (1) مبين آن الدين الإسلامي يفسح صدره للعلم والعلماء ، مؤكدا على تكامل الدين والعلم رافضاً الادعاء بتضادهما وحاثا الناس على طلب العلم وتوسيع العقل بالمعرفة العلمية ، لذا نجده أول من تصدى للنقاد الغربيين القائلين أن المسيحية هي المولدة الحقيقية للتمدن ، وان الإسلام مضاد له لا يتفق معه وهؤلاء من أمثال رينان وكرومر وهانوتو مؤكدا أن الإسلام هو دين التوحيد وقد خلص الإنسان من الشرك وإزالة الخرافات المضللة للعقول ونجاهم من فساد الأخلاق فهو دين مبني على أساس العدل والمساواة والأخلاق والتربية السياسية المثلى ، وان أصوله ومبادئه السامية هي أصول المدنية الصحيحة ، وان التمدن بدا بعد مجيء الرسالة المحمدية فهو (( شعاع سطع من آداب الإسلام ومعارف المحققين من أهله في تلك الأزمان )) (2) وان التمدن الغربي جاء نتيجة اختلاطهم بالمسلمين لان الدين الإسلامي دين يرافق العقل وان الطابع التمدني للإسلام هو في التوحيد وبهذا فان الدين مرادف للتمدن ، فالدين هو خير سبيل لتبديد الجهل وتحقيق الرقي وذلك بدعوته إلى تطهير النفس من ادناس الأوهام وتهذيبها وتصحيح اعتقادها (( ويتم للإنسان بمقتضى التوحيد وبمقتضى دينه آمران عظيمان هما : استقلال الإرادة واستقلال الرأي والفكر وبهما تكتمل إنسانيته وبهما يستعد لان يبلغ من السعادة ما هيأة الله بحكم الفطرة التي فطر عليها )) (3) .
__________
(1) ينظر : الرد على الدهرية ، ترجمة الشيخ محمد عبده ، مطبعة محمد مطر ، القاهرة ، د.ت ، ص77 .
(2) الإمام عبده / الأعمال الكاملة ، ج3 ، رسالة التوحيد ، ص444 .
(3) المصدر نفسه ، ص444 .(1/52)
وذلك يكون بالتربية والوعظ ، وان أزمة التربية ترتد إلى عجزها في تكوين الإنسان المنشود ، فشغل موضوع الإنسان بوصفه اثمن رأسمال في الوجود الإنساني وكونه المحور الأساس للعملية التربوية في فكر الشيخ عبده مثلما شغل بال غيره من المفكرين والفلاسفة على مر تاريخ البشرية الطويل وعنده ان ((الإنسان لا يكون آنسانا حقيقيا إلا بالتربية ، وليست هي إلا عبارة عن اتباع الأصول التي جاء بها الأنبياء والمرسلون من الاحكام والحكم والتعاليم ... تعلم الإنسان الصدق ، والأمانة ومحبة نفسه ، فإذا تربى الإنسان أحب نفسه لاجل آن يحب غيره ، واحب غيره لاجل أن يحب نفسه)) (1) .
مما تقدم يتبين لنا آن هناك قواعد مهمة :
1. اتباع أصول الدين .
2. التحلي بالصدق والأمانة .
3. محبة النفس التي هي موصلة لمحبة الآخرين .
4. التحلي بالشجاعة والحرية الفكرية .
وبما أن الشيخ عبده استند في آرائه الفكرية للعملية التربوية إلى الديانة الإسلامية ، وان هذه الديانة وضعت الرؤى الهادفة لتفسير كل الحياة بمحتواها العام ومكوناتها التفصيلية لذلك نجد آن الشيخ عبده يعطي للإنسان دوره في صياغة النسيج العام للتربية ولقضايا الحياة الأخرى المختلفة ويؤسس الثوابت ومطلقات ومسلمات تخص السلوك الإنساني العام ودور التربية في هذا المجال (2) .
فالتربية تصل بالإنسان إلى نيل كمال السعادة وذلك بتربية النفوس لإيجاد الملكات والصفات الفاضلة في النفس وترويضها عليها موضح ذلك بإشارته إلى : (( انه لا ينال العلم من أي نوع كان حقيقة إلا بعد تحلي النفس بالصفات الجميلة ، التي فيها بل أعظمها حب الكمال ، الذي هو الداعي الحقيقي إلى طلب العلم والبراعة فيه)) (3) .
__________
(1) المصدر نفسه ، ص156 .
(2) ينظر : عياد ، عبد العزيز / الإنسان في خطاب الفلاسفة التربويين ، جامعة بيزريت ، فلسطين ، 2000، ص2.
(3) الإمام عبده / الأعمال الكاملة ، ج3 ، ص27 .(1/53)
فالتربية هي التي تصل بالإنسان لجعل القوى الفكرية والثقافية قادرة على الإبداع والتغيير ، وبهذا السياق يشير إلى انه (( يوجد فينا القضاة .. والأطباء والمهندسون .. لكننا لا نجد .. ذلك المفكر ولا ذلك الفيلسوف .. ولا ذلك الإنسان الذي يمتاز ببعد الفكر والنظر )) (1) .
وهذا يعني أن الشخصية المبدعة في أي مجال من مجالات النشاط الإنساني لا بد ان توجد ضمن السياق الاجتماعي ،إذ تعيش وتبدع وبالتالي تؤثر لأنها مرتبطة ومتفاعلة مع الآخرين وبالتالي بالمناخ الثقافي والسياسي والاجتماعي القائم، والتربية هي أولا وقبل كل شيء تعني ببناء الإنسان وتحريره وتطوير لكفاءاته ، واطلاق لقدراته وبالتالي الوصول به إلى مرحلة الرفاه والترف ، فالتربية الواعية الصحيحة هي التي تساعد الإنسان على الوصول إلى هذا الكمال أو ما يقرب منه .
ومما تجدر ملاحظته أن الشيخ عبده جعل هناك أدوات مهمة لنظريته التربوية وهي :
1. التعليم :-
__________
(1) المصدر نفسه ، ص127 .(1/54)
عدّ الشيخ عبده أن الغرض الحقيقي من العناية بشأن التعليم هو ( تربية العقول والنفوس ) مبينا أن التعليم يعود على المجتمع بالتماسك والترابط ، ويحقق الروح الجماعية بين الأفراد ويرفع المستوى الثقافي والفكري للإنسان داعيا إلى ضرورة التوفيق بين الدين والعلم إذ انه (( لا يجوز آن يقام الدين حاجزا بين الأرواح وبين ما يميزها الله به من الاستعداد للعلم بحقائق الكائنات الممكنة بقدر الإمكان ، بل يجب آن يكون الدين باعثا لها على طلب العرفان مطالبا لهما باحترام البرهان ، فارضا عليها أن تبذل ما تستطيع من الجهد في معرفة ما بين يدها من العوالم ... ومن قال غير ذلك فقد جهل الدين وجنى عليه جناية لا يغفرها له رب العالمين )) (1) ودعا إلى التوازن بين العلم والإيمان ، والى استعمال العلوم الحديثة لتثقيف الأجيال الناشئة لانه لا يوجد تعارض بين العلم والايمان مؤكدا ((أننا نحن المسلمين لسنا في حاجة إلى النزاع فيما أثبته العلم وقرره الطب أو إضافة شيء أليه مما لا دليل في العلم عليه لاجل تصحيح بعض الروايات الأحادية ، فنحمد الله أن القرآن ارفع من أن يعارض العلم )) (2) أما بخصوص ضرورة التوافق بين العلم والايمان فيرى أن من واجب العلم (( أن يتواضع أمام الله وان يتوقف عند حدود الأيمان ، أما ضمن هذه الحدود فليس هناك أي حاجز يعترضه ويعرقل نشاطه ، أو أي شيء يحد من نظرياته التي يمكن أن تصدر وفقا لهذه الأفكار )) (3)
__________
(1) الإمام عبده ، محمد / رسالة التوحيد ، القاهرة ، 1361هـ ، ص141-142 .
(2) الإمام عبده ، محمد / تفسير القرآن الكريم ، القاهرة ، 1346هـ ، ج3 ، ص96 .
(3) هـ .آ .ر. جيب / الاتجاهات الحديثة في الإسلام ، تعريب جماعة من الأساتذة الجامعيين ، بيروت ، 1961 ، ص72 ..(1/55)
كما انه ربط بين العلم والعدالة ، وعدهما الأساس لبناء المجتمع القويم ، إذ هما (( متلازمان في عالم الوجود ، متى سبق أحدهما إلى بلاد تبعه الآخر على الأثر ، ومتى فارق واحد منهما جهة تعلق الثاني بغباره ، فلا يكاد يرفع قدمه أو يضعها إلا وصاحبه يرافقه ، بهذا ينبئنا التاريخ وتحدثنا مسير الدول التي ارتفع بها منار العدل أو بزغت فيها شموس العلم ... وإذا رسخت قدم العدالة في أمة تهدت لها طرق الراحة وعرف كل ماله وما عليه ... وإذا عمت التربية سائر إفرادهم ، فيقدمون بكليتيهم على الأخذ بالأسباب المؤدية لانتشار العلوم وتعميمها في سائر الأنحاء )) (1) . وان إصلاح التعليم الديني هو أحد أسس البناء التربوي في فكر الشيخ عبده فقد كتب مقالة في صحيفة (الأهرام) عام 1876 أشار فيها إلى انه لا يكفي دراسة المؤلفات العربية التقليدية في الشرع الإسلامي ، التي تدافع عن العقيدة ، بل يجب تلقي العلوم الحديثة وتاريخ الديانات في أوربا لتفهم أسباب التقدم الغربي ، وتكونت لديه فكرة واضحة عن ضرورة إصلاح التعليم الديني في مصر لاسيما انه شهد سوء التعليم في الجامع ألا حمدي وعاش تجربة مرة دامت اثنتا عشرة سنة في الجامع الأزهر ، لذلك فلا غرو أن يرى (( أن إصلاح الأزهر اعظم خدمة للإسلام ، فان إصلاحه إصلاح للمسلمين وفساده فساد لهم )) (2) .
__________
(1) الوقائع المصرية ، 28 شوال ، 1297 هـ .
(2) All Bert Houran : Arabic Thought in the Liberal Age Oxford University Press , London , 1967,
p-144.(1/56)
واعتقد أن إصلاح التعليم العالي سيؤدي إلى إصلاح بقية مراحل التعليم الديني ، لذلك نراه يركز على هذا النوع من التعليم ولا يهتم بالتعليم الابتدائي والثانوي في المدارس الدينية التابعة للأزهر )) (1) . واتيح للشيخ عبده أن يحقق بعض أفكاره في إصلاح التعليم في الأزهر على رغم من مقاومة شيوخه لإدخال العلوم الحديثة ، واصلاح طرق التدريس وإدخال مواد مثل الحساب والجبر وتاريخ الإسلام ومبادئ الهندسة وتقويم المناهج وغيرها من الإصلاحات التي سنعرضها في المبحث الثاني بمزيد من التفصيل .
2. أسس ومزايا المعلمين والمربين :-
لقد عد الشيخ عبده أن المعلم والمربي هو أساس التربية والتعليم (2) ، بل هو أحد أركان العملية التربوية التي لا يمكن من دونها أن تحقق هذه العملية سياقاتها أو آن تصل إلى أهدافها ، وانتقد ما كان يقوم به بعض معلمي دار العلوم وناظرها من تلقين الطلبة العلوم وحفظهم إياها فقط ، وممن لا يحسن أداء ما كلف به مشيرا إلى القول (( الكل لا عناية به بأمر التربية ولا يهمه فساد أخلاق التلامذة أو إصلاحها ، ولا استقامة عقولهم وإفهامهم أو اعوجاجها ، وتعليم الدين على ما هو المعروف في الأزهر لا يخيرون منه فاسدا ، ولا يزيدون عليه صالحا، وسائر المعلمين للفنون يؤدونها نقلا من الكتب لا يبينون للتلامذة الغاية من تعلمها )) (3) .
__________
(1) المحافظة ، على / المصدر السابق ، ص86 .
(2) * نجد أهمية هذا العنصر في العملية التربوية عند الفلاسفة المسلمين ومنهم الغزالي الذي يؤكد على ضرورة أن يختار الوالدين المربي الصحيح ليعلم الأبناء الأسس الصحيحة في التربية والتعليم باعتبار أن السلوك والتصرف مكتسبان للمزيد يراجع :الغزالي /ايها الولد ،مصدر سبق ذكره.
(3) الإمام عبده ، محمد / الأعمال الكاملة ، ج3 ، ص119 .(1/57)
وفي إطار دعوته التربوية فهو يرفض أن تكون التربية هي مجرد آن ينكب الإنسان على المعارف اللازمة للنجاح في الامتحان ، وانما ان ينكب عليها ليجني من ورائها تكوينا فكريا .
وعزى سبب ذلك إلى (( من لم يصنع أصلا لسيرهم في تعليمهم ولم يؤسس قاعدة ترجع أليها جميع الأعمال ، عارفا بالغاية التي توجه المدرسة أليها ، حكيما في تصرفه بأذهان التلامذة والأساتذة حتى يقيم للتربية بناء معنويا حقيقيا يأوى أليه كل معلم ومتعلم يأتي من بعده )) (1) وقد شن أقسى الحملات على الأساليب التقليدية في المؤسسات التربوية والتعليمية أي أن (( التقليد كما يكون في الحق يأتي في الباطل ، وكما يكون في النافع يحصل في الضار ، فهو مضلة يعذر فيها الحيوان ، ولا تجمل بحال الإنسان )) (2) فدعى إلى ضرورة اختيار معلمين صالحين للقيام بالعمل الموصل إلى الغاية المطلوبة للمدرسة ، وتغيير طريقة تدريس العلوم ، ولاسيما في مجال تفسير القرآن ، وتعلم الأحاديث النبوية ، وتعيين نظار المدارس ممن يتميز بالأساليب التربوية ، وعالما بالدين والفقه ، وموثوقا به عند العامة ، وان تكون المدارس تحت نظام شديد في التهذيب وملازمة العمل بما يعلمون فضلا عن ذلك ركز الشيخ عبده على ضرورة تهذيب التلاميذ وتربية نفوس وتقويم أخلاقهم وطباعهم ، وان يدرسوا على وفق أساليب جديدة ومناهج مختلفة عما يتلقونه من علوم ولوائح تنظم العمل وتسيره بشكل تربوي متميز (3) .
__________
(1) المصدر نفسه ، ص119
(2) رضا ، محمد رشيد / تاريخ الأستاذ الإمام ، ج1 ، ص27 .
(3) الإمام عبده ، محمد / الأعمال الكاملة ، ح3 ، ص120 .(1/58)
وقد فرق بين نوعين من المعلمين فمنهم (( أشخاص فضلاء نجباء ، عارفون فنونهم قادرون على تأديتها بالوجه اللائق )) وبالمقابل (( يوجد بينهم آخرون ألفوا بعض الطرق العتيقة وتعودوا عليها ، فلا يستطيعون بعد طول الزمن التحول عنها ، وان كانوا علماء بفنونهم )) واشار إلى فريق أخر من المعلمين ((يهزأ به التلامذة ولا يوقرون أستاذيته)) (1) .
وبين ضرورة الانتباه إلى أوضاع المعلمين والمربين الذين يقومون بمهام التعليم ، بوصفها أهم مهمة من المهام التربوية ويتساءل بهذا الصدد : (( هل دققت نظارة المعارف في معرفة أخلاق النظار والأساتذة الذين وضع الأطفال في كفالتهم ، يدبرون أمورهم ويرشدونهم إلى كمالهم ، وفصلت بين صاحب الأخلاق الفاضلة ، والأفكار المستقيمة والعفة والنزاهة ، والغيرة على نفع من وكل أمرهم أليه ، واداء ما وجب في ذمته حتى يكون حاله وكماله درساً أخر يعطي للتلامذة في كل يوم ، فتنطبع هذه الكمالات في نفوسهم بأشد من انطباع صور المعلومات في عقولهم ، وهو المعنى المقصود في التربية )) (2) .
أما هدفه من التربية فهو السعي إلى (( إخراجها من حيز البساطة الصرفة، والخلو من المعلومات ، وابعادها من التصورات والاعتقادات الرديئة ، أي أن تتحلى بتصورات ومعلومات صحيحة ، تحدث لها ملكة التمييز بين الخير والشر والضار والنافع )) (3) .
__________
(1) المصدر نفسه ، ص37 .
(2) المصدر نفسه ، ص38 .
(3) ينظر : عياد ، عبد العزيز / بنية العقل المسلم وإشكالية المعاصرة ، جامعة بيزريت فلسطين ، 2000 ، ص10.(1/59)
محدداً واجب التربية بتنظيم المجتمع الإسلامي على أساس متين من هدى القرآن ، وتطوير أوامره بما يناسب الحياة الحديثة ، ويتفق مع المصلحة العامة ، (( فأذ دعى القرآن إلى أنفاق المال في سبيل الله ، فأن ذلك يعم إنشاء الجمعيات الخيرية ، والمؤسسات التعليمية والملاجئ والمستشفيات وكل ما من شأنه ان ينهض بالمجتمع ، لان إصلاح المجتمع لا يتم ألا بهذا التنظيم ، وما لايتم الواجب ألا به فهو واجب )) (1) .
ولم يكتف بضرورة تعليم المواطن والفلاح فحسب بل ضرورة ان يمتد ذلك إلى بذل الجهد اللازم لتربية الأيتام ومنعهم من الاتجاه نحو الفساد لانه في صلاح الأشخاص يكمن صلاح المجتمع الإسلامي وتنظيمه على أسس واقعية قوية (2) . فهو لم يبحث عن الخلاص الفردي للإنسان ودور التربية في تحقيق ذلك ، بل كان يسعى إلى إقامة المجتمع الصالح من خلال غرس أسس التربية القويمة ، وكانت تواجهه في هذا الصدد صورتان متباينتان للمجتمع الإسلامي :
صورة قديمة تعود إلى عهد الرسول محمد (صلى الله عليه وسلم) والخلفاء الراشدين (رضي الله عنهم أجمعين) وصورة أخرى مهزوزة للمجتمع المعاصر (3) . فكان يحاول التوفيق بين المجتمع الإسلامي الأفضل الذي كان يطمح أليه المجتمع الذي كان يعيش فيه ،وادرك بثاقب بصيرته آن تطورات عديدة قد طرأت على المجتمع الإسلامي الحديث بما ادخل من قوانين وأنظمة وضعية فأصبح في مصر نوعان من التعليم ونوعان من المعاهد :
المعاهد الدينية التابعة للأزهر ، والمدارس التي تدرس العلوم العصرية ، ونتيجة لذلك ظهرت في مصر فئتان من المثقفين :
__________
(1) شحا ته ، عبد الله محمود / المصدر السابق ، ص169 .
(2) المصدر نفسه ، ص171 .
(3) أمين ، عثمان / رائد الفكر المصري الإمام محمد عبده ، القاهرة ، د.ت ، ص34-35 .(1/60)
المثقفون ثقافة إسلامية تقليدية التي ترفض كل تجديد ، والمثقفون ثقافة غربية، ومعظمهم من الجيل الجديد لا ترفض التطور والتغيير بل ترحب بكل جديد في ميداني الفكر والعمل (1) . فالمجتمع المثالي الذي ينشده الشيخ عبده هو ((المجتمع الذي يسوده العقل لا القانون ، ذلك أن المسلم الحق ، هو الذي يعتمد على العقل في شؤون الدنيا والدين ، وما الكافر ألا ذلك الإنسان الذي يغمض عينيه فلا يرى نور الحقيقة ، ولا يقبل اعتماد البراهين العقلية )) (2) .
حينما نتحدث عن أي مذهب تربوي يفترض آن يكون مذهباً في الأخلاق، وهذا أما يسمى بالتربية الخلقية ،إذ يعد الشيخ عبده إن من أهم أهداف التربية هو غرس الفضائل في نفوس الناشئة والأجيال الصاعدة لان هذه الأجيال عرضة للنقص الذي يجب الترفع عنه عن طريق استيفاء ما يمكن استيفاءه من الفضائل ، وحدد عبده هذه الفضائل بالسخاء والعفة والحياء ونحوها (3) .
ودعى إلى ضرورة أن يغرس المعلمون والمربون في نفوس طلبتهم هذه الفضائل لكي يتربى الجيل الجديد على قيم التعقل والتروي وانطلاق الفكر من قيود الأوهام والتحلي بالتواضع والصبر والحلم والشجاعة والإيثار والنجدة والسماحة والصدق والوفاء والأمانة وسلامة الصدر من الحقد والحسد والعفو والرفق والمروءة والحمية وحب العدالة والشفقة (4) .
__________
(1) المحافظة ، علي ، الاتجاهات الفكرية عند العرب في عصر النهضة 1798-1914 ، بيروت ، 1983 ، ص81 .
(2) المصدر نفسه ، ص81 .
(3) العروة الوثقى والثورة التحريرية الكبرى ، المصدر السابق ، ص59 .
(4) المصدر نفسه ، ص 61 .(1/61)
ونبذ الشيخ عبده الرذائل التي عدها (( كيفيات خبيثة تعرض للأنفس ، من طبيعتها التحليل والتفريق بين النفوس المتكيفة بها )) وحددها (( بقلة الحياء ، والتطاول على الأعراض بما لا تقتضيه الحشمة والآداب من الكلام والسفه والبله والطيش والتهور والجبن والجزع والحقد والحسد والكبرياء والغدر والخيانة والنفاق وغيرها ، ونبه إلى إن مخاطر هذه الرذائل لا تكمن في خطورتها على من يحملها فحسب ، وانما تمتد آثارها إلى المجتمع نفسه ، وان هذه الرذائل إذا فشت في أمة نقضت بناءها ونثرت أعضاءها بددتها شذر مذر )) وان هذه الصفات إذ ما رسخت في (( نفوس قوم صار باسهم بينهم شديداً تحسبهم جميعاً وقلوبهم شتى ، تراهم أعزة بعضهم على بعض ، أذلة للأجنبي عنهم ، يدعون أعداءهم للسيادة عليهم ، ويفتخرون بالانتماء إليهم ... ويرون كل حسن من أبناء جنسهم قبيحاً ، وكل جليل منهم حقيراً )) (1) .
انتقادات الشيخ عبده وطروحاته حول بناء المجتمع العربي الإسلامي
نتيجة فهمه لواقع مجتمعه المعاصر ، فقد نبه الشيخ عبده بضرورة ان تتصدى التربية بوجه عام لخطر ذوبان الشخصية العربية الإسلامية أمام الموجة الغربية التي بدت وكأنها تكتسح التراث العربي الإسلامي داعياً إلى ضرورة تأكيد الذات القومية والتأكيد على اللغة العربية والأحياء العربي (2) .
__________
(1) المصدر نفسه ، ص63 .
(2) عبده ، محمد / الإسلام دين العلم والمدنية ، عرض وتحقيق طاهر الطناجي ، القاهرة ، د.ت ، ص95-96(1/62)
وكان مؤمناً بأن اللغة العربية لغة ضرورية لفهم القرآن ، فدافع عن اللغة الفصحى ضد الهجمات المحلية ، وضد توسيع اللغات الأجنبية على حسابها ، ودعى في الوقت نفسه إلى تجديد اللغة العربية وساهم في تحقيق ذلك (1) . واشار إلى خطورة الدور الذي تقوم به المدارس الأجنبية في البلدان العربية والإسلامية (( واما المدارس الأجنبية على تنوعها ، فاختلاف المذاهب بين المعلمين والمتعلمين في الأغلب يضعف اثر تلك المدارس في التربية العمومية ، فقليل من المصريين من يرغب في تعليم أولاده فيها ، ومن أرسل بولده أليها داوم نصيحته بعدم الالتفات إلى ما يقوله المعلمون فيها حفظاً لاعتقاده ثم أن ذلك يحدث من الاضطراب في طبيعة الفكر والتزلزل في الأخلاق ما يكون ضرره اكثر من نفعه )) (2) .
كذلك فهو انتقد الذين أشاروا إلى وجود تأثيرات إيجابية سياسية وتربوية وادبية للمدارس الأجنبية في مصر ، لان مساوئها اكثر من منافعها واشار إلى أنها (( أحدثت بعض النفرة في قلوب المسلمين من رؤساء تلك المدارس وأممهم )) (3) ودعا إلى ضرورة الاهتمام بالشخصية العربية الإسلامية وتقويتها لكي تستطيع الوقوف بوجه التيارات الغربية التي تستهدف التشكيك بثقافتها وبقيمها ، ومن هذا المنطلق فقد طالب بضرورة الوحدة الإسلامية كأسلوب مهم لمواجهة أساليب المستعمرين الغربيين ومحاولتهم نشر التفرقة بين صفوف المسلمين ، موضحاً واجب التربية في الوصول إلى هذا الهدف الذي عد التآلف والتوحد بين الأفراد وسيلة للوصول إلى الوحدة الإسلامية مشيراً إلى أننا :
__________
(1) عليوي ، د.هادي حسن / الاتجاهات الوحدوية في الفكر القومي العربي المشرقي 1918-1952 ، بيروت ، 2000م ، ص26
(2) الإمام عبده ، محمد / الأعمال الكاملة ، ح3 ، ص112 .
(3) المصدر نفسه ، ص122 .(1/63)
(( لو كنا متربين لانبث فينا إحساس واحد ، يؤلف بين شعورنا وحاجاتنا ، وحينئذ يحس كل فرد فينا بان عليه وظيفة يؤديها لنفسه وغيره من أفراد جامعته ، فهو أذن يعلم الإنسان من هو ؟ ومن معه ؟ فيتكون من ذلك شعور واحد ، وروابط واحدة هي ما يسمونه بالاتحاد ... الناس في كل الأمم أكفاء في التمثيل ولا نقص في الدنيا ألا من جهة العقول والأخلاق ، وهي لا تكتمل ألا بالتربية ، وما وراء ذلك من العلوم لا يبث فيها غير القلقة والهذيان )) (1) . ورأى أن السبب الأساس في تخلف البلدان العربية والإسلامية يكمن في أن القيم التربوية التي تعطيها للطلبة لم تركز على ما في بلادنا من منافع وإمكانات وضرورة أن تحافظ عليها مثلما نحافظ على ممتلكاتنا ، وشعور الإنسان العربي المسلم بأن الأضرار بوطنه هو الأضرار بذاته أيضا ، وضرورة أن يكون الإحساس بالعمل الجمعي هو أقوى من الإحساس بالمصلحة الذاتية (2) .
__________
(1) رضا ، محمد رشيد ، تاريخ الإمام ، ج2 ، ص469 .
(2) الباني ، محمد سعيد / تنوير البصائر ، دمشق ، 1960 ، ص24-25 .(1/64)
فطالما (( تشوقت النفوس لان تكون التربية في المدارس على هذا النمط المفيد الذي عولت عليه جميع الأمم المتمدنة في مبادئ تعاليمهم ، فأن من تتبع التعليم في المماليك الأوربية ، رآها بآسرها موجهة للابتداء بالتعاليم الدينية والاستمرار عليها إلى ما يزيد عن ست سنوات )) (1) . مركزا على ضرورة الدفاع عن الإسلام ضد التأثيرات الغربية لان من شأن ذلك أن يعزز الشخصية العربية الإسلامية ويجعلها قادرة على مواجهة حملات الغربيين ولا سيما المتعصبين منهم ، ذلك أن (( الشريعة الإسلامية شريعة عامة باقية إلى أخر الزمان ، ومن لوازم ذلك أنها تنطبق على مصالح الخلق في كل زمان ومكان ، مهما تغيرت أساليب العمران وشريعة هذا شأنها لا تنحصر جزيئات أحكامها ، لأنها تتعلق بأحوال البشر ما وجدوا ، ولا يحيط بذلك علما ألا عالم الغيب والشهادة ، وهو الذي جعل أساسها حفظ الدين والنفس والعقل والعرض والمال ، إذ ان مصالح البشر في كل أن مبنية على حفظ هذه الأشياء التي فيها السعادة في المعاش والمعاد )) (2) وبسبب خشيته على العقيدة من أن تنهار ، أمام طغيان الفكر الغربي الحديث طالب بأن تتضمن التربية كل ما من شأنه أن ينبذ التقليد ، وقال بهذا الصدد : (( التائت قلوب الجمهور من الخاصة بمرض التقليد ، فهم يعتقدون الأمر ثم يطلبون الدليل عليه ولا يريدونه ألا موافقا لما يعتقدون ، فان جاءهم بما يخالف ما اعتقدوا نبذوه، ولجوا في مقاومته ، وان أدى ذلك إلى مجد العقل برمته، فأكثرهم يعتقد فيستدل ، وقلما تجد بينهم من يستدل فيعتقد )) (3) .
__________
(1) رضا ، محمد رشيد / تاريخ الإمام ، ج2 ، ص81 .
(2) المحافظة ، علي ، المصدر السابق ، 84-85 .
(3) الإمام عبده ، محمد / رسالة التوحيد ، ص77 .(1/65)
وانتقد أولئك الذين درسوا في أوربا ونسوا قيم مجتمعهم أو حاولوا تقليد الغرب في تقاليده ومعتقداته ، وذابت شخصيتهم في الشخصية الغربية فاصبحوا مشغولين (( بالأماني الباطلة التي لا تدرك محتقرا لوالديه واهله والناس ، يقضي معظمهم أوقاته في الملاهي ومعاهد البطالة واللغو في الغالب )) (1) . لكنه على الرغم من انتقاده للانجرار وراء تقليد الغرب ألا انه لم يجد مانعا في الاستفادة مما حققه في بعض المجالات التي بالإمكان الاهتداء أليها لتطوير المجتمعات الشرقية ومنها الإصلاح اللغوي ، لانه رأى بان اللغة العربية في حاجة إلى هذا الإصلاح والذي يوازي إصلاح الفنون والآداب مثلما فعل الفرنسيون وغيرهم من الشعوب الأوربية عندما وضعوا المعاجم اللغوية والعلمية التي تبين تطور لغاتهم القومية ومميزاتها البيانية والتطورات التي دخلت عليها ، ويجد عبده (( أن هذا النوع من الإصلاح لا يرجى لنا بلوغ شاو الفرنسيين فيه ألا باشتغال جدي مدة خمسين سنة ... إذ أن التأليف والتصنيف قد بلغ الغاية من الارتقاء عندهم ، وأننا في اشد الحاجة إلى حذوهم فيه )) مشيرا إلى (( أن العالم المسلم لا يمكنه إن يخدم الإسلام من كل وجه يقتضيه حال هذا العصر ألا إذا كان متقنا للغة من لغات العلم الأوربية تمكنه من الاطلاع على ما كتب أهلها في الإسلام واهله من مدح وذم وغير ذلك من العلوم )) (2)
__________
(1) الإمام عبده ، محمد / الأعمال الكاملة ، ج3 ، ص157 .
(2) المصدر نفسه ، ص174 ..(1/66)
مع ذلك فقد نبه إلى حقيقة مهمة وهي أن الاستفادة من بعض المجالات التي اخذ بها الغرب لا تعني الانغماس في القيم الغربية كما وقع في ذلك بعض الطلبة الذين درسوا في المدارس الغربية ، فنسوا تقاليد دينهم الإسلامي وتربيته الرصينة ، وقال آن هؤلاء التلامذة أن كانوا في مدارس أجنبية لا اثر لتعليم الدين الإسلامي فيها ، بل ربما يعلم فيها دينا أخراً ، فقد يسري إلى عقائدهم شيء من الضعف ، وقد تذهب عقائدهم بالمرة ، وتحتل مكانها عقائد أخرى تناقضها ... إن هذه جناية من جنايات الجمود على أبناء المسلمين الذين يتعلمون في مدارس أجنبية ، يخرجهم من دينهم من حيث لا يشعرون ويا ليتهم يستبدلون بالدين رادعا أخر من الأدب والحكمة كما يرجوا بعض المغرورين الذين لا يعلمون طبائع هذه الأمم أو كما يروجه بعض من لا يريد الخير بها ولكنه ترك أفئدتهم هواء خالية من كل زاجرا ودافع ، اللهم ألا زاجرا عن خير أو دافعا عن شر )) (1) .
__________
(1) المصدر نفسه ، ص328 .(1/67)
كما أكد على أن التربية يجب آن تخلق في نفوس الأفراد الشجاعة الأدبية لقول الحق وتجنب الباطل لان العقل البشري اتجه نحو التفريق بين ما هو صالح للبشر وما هو طالح لهم ، ذلك أن المسلم الحق الذي يراه عبده هو الذي يعتمد ((العقل في تقويمه للأمور ، ويضع البراهين العقلية التي توصله إلى الحقائق )) (1) فهي تربية جديدة تعني بإطلاق سراح العقل وتحريره من قيوده بعد أن كان حبيس التقليد والجمود ، وان تنمي ملكة البرهان العقلي لكن اهتمامه بإطلاق سراح العقل وتحريره لا يعني انه لم يضع له قواعد وحدود لانه اعتنى كثيرا بصفاء اللغة لافتا الانتباه إلى أن العلماء في كل أمة اعتنوا بضبط اللسان وحفظه من الخطأ في الكلام ، ووضعوا لذلك علوما كثيرة ، مشيرا إلى انه (( ما كان للسان في هذا الشأن ألا لانه مجلى للفكر وترجمان له ، وآلة لإيصال معارفه من ذهن إلى أخر، فاجدر بهم أن تكون عنايتهم بضبط الفكر اعظم ، كما أن اللفظ مجلى الفكر هو غطاؤه أيضا أن الإنسان لا يقدر على إخفاء أفكاره ألا محجاب الكلام الكاذب ، حتى قال بعضهم أن اللفظ لم يوجد إلا ليخفي الفكر )) (2) فقد رأى الشيخ عبده على (( أن التربية هي تحرير الفكر من القيود التي تكبله ، وفي مقدمتها الخرافات والأوهام وتوجيه النفوس نحو العقائد الدينية بالأدلة والبراهين وتهذيب الأفراد وتأديبهم بآداب الإسلام الحنيف )) (3) ،
__________
(1) أمين ، عثمان / المصدر السابق ، ص49-50 .
(2) الإمام عبده ، محمد / الأعمال الكاملة ، ج3 ، ص534 .
(3) الصعيدي ، عبدا لمتعال / المجد دون في الإسلام ، القاهرة ، د.ت ، ص490-491 ..(1/68)
ونبه إلى انه ((لا ينبغي للإنسان أن يذل فكره لشيء سوى الحق ، والذليل للحق عزيز ، نعم يجب على كل طالب علم أن يسترشد بمن تقدمه سواء أكانوا أحياء أم أمواتا ، ولكن عليه أن يستعمل فكره فيما يؤثر عنهم ، فأن وجده صحيحا اخذ به ، وان وجده فاسدا تركه )) (1) .
وتساءل عما يعيق الأفكار من رقها ، وينزع عنها السلاسل والأغلال لتكون حرة مطلقة ، وعد آن الشجاعة هي التي تخلص الأفكار من الرق والعبودية ، لان الشجاع (( هو الذي لا يخاف في الحق لومة لائم ، فمتى لاح له يصرح به ويجاهر بنصرته ، وان خالف في ذلك الأولين والآخرين ، ومن الناس من يلوح له نور الحق فيبقى متمسكا بما عليه الناس ، ويجتهد في إطفاء نور الفطرة ، ولكن ضميره لا يستريح فهو يوبخه إذا خلا بنفسه ولو في فراشه ، لا يرجع عن الحق أو يكتم الحق لأجل الناس ، ألا الذي لم يأخذ ألا بما قال الناس ، ولا يمكن آن يأتي هذا من موقف يعرف الحق معرفة صحيحة ... آن الخوف من الظلال هو عين الظلال )) (2) .
المبحث الثاني/ الطابع العملي لآراء محمد عبده التربوية (3)
__________
(1) الإمام عبده / الأعمال الكاملة ، ج3 ، ص535 .
(2) المصدر نفسه ، ص536 .
(3) * من المؤكد أن الشيخ عبده تميز بآرائه الفكرية الرائدة ،لكنه لم يكن مفكرا نظريا فحسب وانما سعى جاهدا لتطبيق هذه الأفكار من خلال عملية الإصلاح التي قام بها في المؤسسات الإسلامية كالأزهر والأوقاف والمحاكم وغيرها (مما سنتطرق أليه في هذا الفصل بكثير من التفصيل ) لتتجسد بصورة عملية وهذا ما يميز ه لكونه قد جمع بين الجانب النظري والعملي .(1/69)
لم تكن طروحات الشيخ محمد عبده طروحات نظرية في المجال التربوي فحسب وانما سعى لتجسيدها عملياً ، وركز في هذا المجال على مصر التي عاش وترعرع فيها وعمل في مؤسساتها التربوية ، لاسيما في مؤسسة الأزهر التي عدها من المؤسسات المصرية التي يقتضي العمل على تطويرها وجعلها منسجمة مع متطلبات العصر وسنة الحياة التي ترفض الجمود والتقليد (1) .
1. إصلاح الأزهر :-
جاء سعي الشيخ محمد عبده لتحقيق الإصلاح التربوي المطلوب في مؤسسة الأزهر لكونه من دعاة الوطنية المصرية واحد الذين رفعوا شعار ( مصر للمصريين ) وكان يتمنى مع غيره من المفكرين المصريين أمثال عبد الله النديم وقاسم أمين آن تصبح مصر القاعدة الفكرية والمادية للقومية العربية ، وذلك لايتم ألا بتطوير مؤسساتها التعليمية والتربوية ، وفي مقدمتها الأزهر (2) .
ودعا إلى التوفيق بين الإسلام والمدنية وعد ذلك ممكناً إذا ما خلصنا المؤسسات الإسلامية من قيود التقليد ، ومنها مؤسسة الأزهر ، الذي يجب كما قال عبده ، أن يسترشد بما يهدي أليه (( العقل الصحيح بالاسناد إلى العلم الصحيح )) (3) .
وقف عبده ضد كلاسيكية الأزهر وأساليبه التقليدية منطلقاً من اعتبارات فلسفية مشوبة بالنزعة العملية ( البراجمانية ) التي تشير إلى انه (( مادام العقل الإنساني واحداً عبر الأزمان ، ومادام البشر جميعاً يتمتعون بنفس الإدراك السليم فأن من حق كل إنسان أن يكتشف الحقيقية )) (4) .
__________
(1) العقاد ، عباس محمود / المصدر السابق ، ص170 .
(2) عبد الله ، نبيه بيومي / تطور فكرة القومية العربية في مصر ، القاهرة ، 1975 ، ص56-65 .
(3) زيدان ، جرجي / تراجم مشاهير الشرق في القرن التاسع عشر ، بيروت ، د.ت ، ص291 .
(4) البهي ، د. محمد / المصدر السابق ، ص143 .(1/70)
إذ ليس مهمة التربية أن تكتفي بالجمود والتقليد بل لابد لها آن تبحث عن وسائل وطرق جديدة تعرض أمام العقل عرضاً مفيداً ، أي إن التربية ينبغي إن تنمي العقلية الذاتية بالبحث والتنقيب وليس بالتقليد والجمود .
ووجد انه لكي يتم فهم هذه الدعوة الموجهة إلى جمهور المؤمنين بعيداً عن سلطة الشيوخ والطوائف الدينية والتقليد المتمثل بالأزهر ، فأن على المسلمين ان يملكوا وسيلة لغوية واضحة ، خليقة بأن توصلهم إلى مرحلة من فهم القرآن وتفسيره ، لذلك فأن إصلاح أساليب كتابة اللغة العربية يمثل بالنسبة لعبده الهدف الثاني في الحياة فقدمت حركة أحياء وتجديد أمهات الكتب الكلاسيكية في اللغة العربية والأدب العربي في الأزهر الشريف ، تلك الحركة التي كان عبده رائدها في مصر إلى المثقفين المسلمين الوسيلة لتملك ناحية اللغة الكلاسيكية ، في حين أدى تبسيطه وإثراءه لأساليب (1) . الكتابة الصحفية أثناء الحركة التي بدأها عبده لاسيما خلال تحريره للطبعة العربية من ( الوقائع المصرية ) للمدة من 1880 حتى 1882 ، أدى إلى آن تساعد جمهور القراء على الرجوع إلى القرآن ومدى مطابقته للواقع المعاشي ، لقد تحدى مؤسسة الأزهر لانه أراد لها آن تخرج من إطارها الضيق إلى آفاق جديدة رحبة ، فأشار إلى أسبقية الدين على المستوى النظري والعملي وهنا تكمن رسالته الإيجابية ، فقد نادى باستخدام العقل والبصيرة لتخليص الدين من الادران التي علقت به وشوهته في صورة التقاليد والخرافات ، وكان ذلك نابعاً من دعوته لرد فاعليه الدين ، والسعي لجعله الرابطة الوحيدة التي توحد الأمة بعروة وثقى لا تنفصم ، والتي كانت بالنسبة أليه الرابطة الوحيدة المقبولة لأنها (( فلسفة وظيفية ومتفقة مع الأصول والمصادر )) (2) .
__________
(1) حمزة ، عبد اللطيف / أدب المقالة الصحفية في مصر ، ط2، ج2 ، القاهرة ، 1958 ، ص103 .
(2) عبد الملك ، د.انور / التطور الفكري العربي في عصر النهضة ، القاهرة ، د..ت ، ص429 .(1/71)
أتاحت النزعة العملية التي حمل لواءها الشيخ عبده لعلماء الدين المستنيرين آن يقدموا تفسيراً عصرياً للدين على عكس ما ذهب أليه رجال الأزهر ، مما أتاح للدولة آن تشرع القوانين وتتقدم في طريق الحياة العصرية ، وان تتخذ بعض الإجراءات في المجال التربوي بوحي من أرائه (1) .
فقد حاول إصلاح التعليم الديني في الأزهر ومعاهده عندما دعى إلى جعل الثقافة الدينية عوناً على إزالة التفرقة بين المسلمين ودفعهم إلى الاتحاد والائتلاف، ودفع الأمم الإسلامية إلى التقدم والرقي ومسايرة ركب الحضارة الحديثة ، ورأى أن إصلاح الأزهر (( خير إصلاح لحال المسلمين الدينية والمدنية ... ولو صلح حال التعليم في الأزهر لهب المسلمون إلى طلب العلوم الصحيحة ، كما هبوا في ذلك في أول نشأتهم )) (2) .
__________
(1) H. Laoust, Essal sure Lese doctrine Socials et polltiyus de Tahid – Din Ahmad b.taimiya,
lecoir, 1939, P.552.
(2) الطويل ، توفيق / الفكر الديني الإسلامي في العالم العربي ابان المائة العام الأخيرة ، من بحوث الندوة الفكرية التي عقدت في مركز دراسات الوحدة العربية ، بيروت ، 1980 ، ص308 .(1/72)
وعدّ أن (( الخدمة التي قام بها الأزهر للدين ولا يزال يؤديها ، هي حفظ الدين لاغير ، وما سوى ذلك من أمور الدنيا وعلوم العصر ، فلا علاقة للأزهر بها )) (1) لذلك ربط بين إصلاح الأزهر واصلاح حال المسلمين ، وفهم رسالة الإسلام على حقيقتها (2) واكد أن الأزهر يمثل قلب الأمة (( أن فسد فسدت الأمة ، وان اصلح أصلحت الأمة ، أن فسد فسينجرف رجال الدين عن غير فهم صحيح للإسلام ، فيطغي الانحراف في توجيه الأمة ، وتنشر المذاهب الانفرادية والإباحية، وتزيد الأمة ضعفاً بذلك على ضعف ، وبهذا يخف وزن الإسلام وتخف قيمته في نفوس الناس ، وبالتالي يقوى النفوذ الاستعماري ولا يستطيع المسلمون أن يواجهون في صف واحد ، وكتلة قوية ، بأيمانهم في الحياة وبسيادتهم ، على الأقل على أنفسهم فيها )) (3) .
وبسبب ذلك تطلع إلى إصلاح التعليم العالي بالأزهر حتى يساير ركب العصر الحديث ، فأقترح على شيخ الأزهر أن يأذن في تدريس مقدمة ابن خلدون فرفض مقترحه بحجة أن العادة لم تجر بذلك ، ثم وضع تقريراً ضمنه رأيه في إصلاح التعليم بمصر ، واقنع الخديوي عباس بضرورة إصلاح التعليم في الأزهر، فأصدر الخديوي قراراً بتشكيل مجلس لادارة الأزهر كان الشيخ من بين أعضائه ، فكان من دون الإصلاح الذي ابتغاه الشيخ عبده فأنسحب من المجلس بعد أجراء إصلاحات شكلية لم تكن تتناسب مع دعواته وخبرته التي اكتسبها من إصلاح التعليم في بيروت سابقاً ، فلما عين مفتياً للديار المصرية عاد ليواصل العمل على إصلاح الأزهر والنهوض بمدارس الجمعية الخيرية الإسلامية (4) .
__________
(1) أبو النصر ، عمر / زعماء التحرير في الإسلام ، بيروت ، 1968 ، ص145 .
(2) البهي ، محمد / المصدر السابق ، ص96 .
(3) المصدر نفسه ، ص154 .
(4) الطويل ، توفيق / المصدر السابق ، ص309 .(1/73)
وأمن بأن الإصلاح في الأزهر يمكن أن يتم بالتدريج وليس على دفعة واحدة وقال بهذا الصدد أن (( إصلاح مدرسة الأزهر لابد أن يكون بالتدريج في تغيير نظام الدروس ، وجعلها في الابتداء تحت قواعد ... قريبة من الحالة الحاضرة فيها ... ثم يجعل ما ينالونه من المنافع الطفيفة منوطاً بالفهم لا بالكتب ، وتغيير ( بر وغرام ) الدروس ويزاد عليه أصناف من الكتب بحيث يدخل فيه تدريس الآداب الدينية ... ثم يعدل نظام الامتحان النهائي وشروطه ..)) (1) .
واكد على ضرورة أن يرتبط الأزهر بالمصارف العمومية أو بإدارة الأوقاف (( على قواعد تفصل في اللائحة المختصة به )) (2) .
وانتقد عبده أولئك الذين أشاروا إلى أن إصلاح الأزهر لا يمكن أن يتحقق لانه سيؤدي إلى تغيرات لا يتقبلها المجتمع المصري ، وان مجرد الشروع فيه سيؤدي إلى (( تشويش أذهان العلماء والعامة على آثرهم )) ، واوضح أن بإمكانه القيام بذلك (( إذا فوض ذلك أليه ... لانه إذا أصلحت المدارس الأميرية فأن الناس لا يختارون الأزهر ألا لسؤ ظنهم بالمدارس أو لاعتقادهم أن الأزهر احفظ للدين منها ، فأذا حصل الإصلاح فيها وجدوها أدنى إلى المنفعة منه ، فعند ذلك تتفرد بكونها معاهد التعليم ويصبح الناس كلهم في طريق واحد )) (3) .
__________
(1) عبده ، محمد / الأعمال الكاملة ، ج3 ، ص113 .
(2) المصدر نفسه ، ص113 .
(3) المصدر نفسه ، ص113-114 .(1/74)
اصطدمت آرائه ودعواته لاصلاح الأزهر وإدخال مناهج تربوية جديدة فيه بالقوة الدينية التي كانت تحتكر هذه المؤسسة المهمة لان هذه الفئة كانت بعيدة عن الإبداع و(( مبتلية بداء التقليد والتبعية في كل فكر وعمل )) فكان من الطبيعي أن تقف موقفاً معارضاً لكل حركة قوامها التجديد وعدوا روادها زنادقة من (( أهل البدع والظلالة )) (1) . وشن عبده هجوماً عنيفاً على أولئك الذين عارضوا تطوير الأزهر ووصفه بأنهم (( اقرب للتأثير بالأوهام والانقياد إلى الوساوس من العامة ، واسرع إلى مشايعتها منهم ، وذلك بما ينشأون عليه من التعليم الرديء والتربية المختلفة التي لا ترجع إلى اصل صحيح ، فبقائهم فيما هم عليه اليوم مما يؤخر الرعية عن تقدير السلطة الصالحة قدرها )) (2) .
جاء تركيزه على الأزهر وضرورة إصلاح أساليبه التربوية والتعليمية لانه لم يكن في الشرق باستثناء بيروت حتى أواخر أيامه معاهد للتعليم العالي سوى الأزهر ودار العلوم في مصر ، فكان أيفاد الطلبة من المسلمين إلى مدارس الإرساليات الأجنبية يواجه صعوبات عدة ، لاسيما بعد ان ترددت بعض الأصوات الداعية لإلغاء المدارس الأجنبية وضرورة توسيع التعليم الثانوي توطئة لإنشاء جامعات تمنى البعض أن تكون على الطراز الغربي (3) .
__________
(1) إسماعيل ، د.محمد / بواكير التونير في الفكر الديني المصري ، بيروت ، 1980 ، ص118 .
(2) عبده ، محمد / الأعمال الكاملة ، ج3 ، ص113.
(3) الطويل ، توفيق / المصدر السابق ، ص308 .(1/75)
وحاول الاستفادة من موقعه مفتياً للديار المصرية لأحداث هزة فكرية داخل الأزهر ، فأصدر فتاوى عدة عارضها الرجعيون واعلنوا عليه حرباً شعواء ، فعلى سبيل المثال لا الحصر أن الشيخ محمد بيرم اشهر علماء جامع الزيتونة في تونس قد استفتى الشيخ الانبابي عام 1887 في مدى جواز تعليم المسلمين العلوم الرياضية والطبيعية لكي تجاري الأمة الإسلامية غيرها من الأمم الناهضة، فأفتى الشيخ الأكبر بجوازها مع تحفظات وقيود توخى ذكرها ، لكن الشيخ عبده مفتي الديار المصرية أجاز تعلمها بغير تحفظ ووضع فتواه موضع التنفيذ (1) . وافتى كذلك بإجازة ارتداء القبعة ورسم الصور واقامة التماثيل وقال بهذا الصدد : (( أن الرسم ضرب من الشعر الذي يرى ولا يسمع ، والشعر ضرب من الرسم الذي يسمع ولا يرى وان الشريعة الإسلامية ابعد من تحرم وسيلة من افضل وسائل العلم بعد التحقق من انه لا خطر فيها على الدين )) (2) واجاز استثمار النقود في صناديق الادخار ، وقيامه على تحرير الوقائع الرسمية بوصفها الصحيفة الرسمية للحكومة المصرية عام 1880 ، وتشجيعه الكتّاب على معالجة الموضوعات الأخلاقية والفلسفية والاجتماعية والتربوية بنشر مقالاتهم التي تتناول هذه الجوانب (3) (( وقضى عمره كله ساعياً لهذا الإصلاح ، رجاء جعلها مدرسة حقيقية تؤدي وظيفتها كما ينبغي لها ، فتخرج للبلاد قضاة عادلين ومعلمين ماهرين ... يأخذون بوطنهم إلى معارج العمران والرقي )) (4) .
2. الجمعية الخيرية الإسلامية :-
__________
(1) المصدر نفسه ، ص309-310 .
(2) عبده ، محمد / الأعمال الكاملة ، ج2 ، ص204-206 .
(3) رفعت ، محمد / التوجيه السياسي للفكرة العربية الحديثة ، القاهرة ، د.ت ، ص69 .
(4) قلعجي ، قدوري / محمد عبده بطل الثورة الفكرية في الإسلام ، أعلام الحرية ، ط2 ، دار العلم للملايين، بيروت ، 1956 ، ص97 .(1/76)
أنشأ عبده الجمعية الخيرية الإسلامية لتعليم أبناء الفقراء المسلمين بالمجان عام 1900 ، ويمكن عده في هذا المجال من النفعيين ،إذ أن الأساس في إنشاء هذه الجمعية هي تربية مهنية وقيميه وهذا هو المظهر الاجتماعي للجهد التربوي حين حدد الغرض من تأسيس الجمعية تربية (( هؤلاء الأطفال الفقراء ... وتهذيب نفوسهم ومساعدة كل واحد منهم على أحياء صناعة والده وترقيتها )) واستطرد قائلا (( لم تنشأ هذه الجمعية لمقصد أعلى من هذا في مدارسها ، كأخذ الشهادات والاستعداد للوظائف ، بل من أهم مقاصدها أن تنزع من النفوس اعتقاد أن التعليم لا فائدة فيه ألا الاستخدام في الحكومة ... والجمعية توطن نفوس التلامذة في مدارسها على أن يعمل الواحد منهم عمل أبيه بإتقان ، ويعيش مع الناس بالأمانة والاستقامة ، فولد النجار يكون نجاراً ، وولد الحداد يكون حداداً ... والتربية والتعليم يساعدان كلاً على إتقان عمله وصناعته ، فيكون اكثر كسباً لانه اكثر اتقانا للعمل مع الأمانة والاستقامة )) (1) فهو لا يريدهم أن يكونوا أدباء وعلماء بل أناسا عمليين مزودين بالسلاح الضروري الذي لا يمكن لأي شخص أن يستغني عنه لمواجهة الحياة في كل عصر وهذه هي المعارف التي يحتاجونها لتنظيم حياتهم العملية وما تفرضه عليهم مهنتهم بوصفهم أناسا مواطنين سواء كانوا تجاراً أو صناعاً . فوجهة نظره هي (( خلق جيل حرفي يجيد المهن التي تربى عليها الأباء ، ومحاولة كسب أبناء الفقراء لعيشهم عن طريق العمل الحر لان العمل يهذب النفس وهو جهاد في سبيل الله لانه يحقق للمجتمع الإسلامي ما يجعله يعيش عيشة هانئة يسودها الخير والرفاهية )) (2)
__________
(1) الإمام عبده ، محمد / الأعمال الكاملة ، ج3 ، ص160-161 .
(2) القرشي ، باقر وشريف / العمل وحقوق العامل في الإسلام ، ط2 ، النجف ، د.ت ، ص128-129 ..(1/77)
يريد بذلك محاربة الفساد الخلقي والفقر والى مداواة الكسل والتشرد لدى الأطفال فهو يريد أناسا معتدين وعمالا مجدين يحاول خلق جيلاً اجتماعياً جديداً ، وحدد مسؤولية الأمة الإسلامية عن تعليم أبناء الفقراء لكي لا ينحرفوا عن جادة الصواب .
كانت هذه الجمعية التي أنشأها تتألف من أبناء الفقراء الذين تعرضت بلدتهم ( ميت غمر ) إلى حريق كبير وصفه البعض بأنه ليس بالحادث البسيط (( فالمصابون خمسة آلاف وبضع مئتين ، منهم الأطفال الذين فقدوا عائليهم ، والتجار والصناع الذين هلكت آلاتهم ورؤوس أموالهم ، ويتعذر عليهم أن يبدءوا الحياة مرة أخرى ألا بمعونة من أخواتهم ، وألا اصبحوا متشردين متلصصين أو سائلين )) (1) . وبذل الشيخ جهوداً كبيرة في سبيل دعم الجمعية ، وألف لتعمير البلدة وإغاثة أهلها ... وطاف بنفسه على بيوت الأمراء والوجهاء واصحاب الثروة بجمع التبرعات لهذا العلم الإنساني ، ولم يتردد في حث الشعراء على نظم القصائد في حث الناس على الوقوف بجانب هؤلاء المستحقين (2) .
__________
(1) العقاد ، محمود عباس / المصدر السابق ، ص228-229 .
(2) المصدر نفسه ، ص229 .(1/78)
وأشار إلى حقيقة مهمة في المجال التربوي ألا وهي حق الناس في التعليم وجعله مشاعاً للجميع مؤكداً على (( أن مدارس الجمعية وضعت لتعليم أولاد الفقراء ما لابد منه لكل إنسان ، وهو أن يحسن القراءة بلغة أمته ، ويعرف ما يجب عليه من أحكام دينه ، ويتربى عليه عملاً ، والحساب والتاريخ وتقويم البلدان ( علم الجغرافية ) وطرفاً من مبادئ التاريخ الطبيعي ، وحفظ الصحة ، واداب المعاشرة ، ولابد عندنا من تعليم هذه الأشياء على وجه مفهوم في مدة أربع سنين، وسن التلميذ لا يتجاوز الخمس عشرة سنة ، وليس عندنا لغة أجنبية ، لأننا لا نعد التلامذة للوظائف والشهادات وانما نعدهم للعمل بالحرف والصنائع ، وما ذكرنا من التعليم لا يستغني عنه صانع ولا زارع )) (1) . أن اهتمامه بهذه الجمعية دفعه لتوسيع مواردها وجعلها تعتمد ذاتياً على ما تكسبه مادياً ، فازدادت موارد الجمعية واعمالها ضعفين في سنوات رئاسته التي امتدت لخمس سنوات ، إذ كانت مدارسها أربع فأصبحت سبعاً ، وكان عدد تلاميذها (311) تلميذاً فاصبح (766) وازدادت تبعاً لذلك قدرتها على التعليم بالمجان وترتيب المعونة للمعوزين (2) .
لقد كان تأسيس هذه الجمعية فرصة عملية لتجسيد الطروحات التربوية للشيخ عبده ، فهدف الجمعية من التربية في مدارسها كان (( تنشئة المتعلمين على الفضائل كالصدق والأمانة اللتان ما نجحت أمة ألا بهما ، ولا هلكت ألا بفقدهما ، وقد حث الإسلام وجميع الأديان على هذين الخلقيين ، ونهى عن الكذب والخيانة أشد النهي ، وأننا مع ذلك نرى الكذب والخيانة فاشيين في الناس إلى حد سلبت معه ثقة الناس بعضهم ببعض ، وفقد الثقة مؤذن بالخراب والدمار )) (3) .
__________
(1) عبده ، محمد / الأعمال الكاملة ، ج3 ، ص164 .
(2) العقاد ، محمود عباس / المصدر السابق ، ص231 .
(3) الإمام عبده ، محمد / الأعمال الكاملة ، ج3 ، ص166 .(1/79)
وحدد سن الدخول لهذه المدرسة التي تخضع للجمعية الخيرية الإسلامية بسن الثامنة لان الطالب سيتخرج منها بعد أربع سنوات ، وعد عبده أن هذه السن مهيأة لتعلم أي صنعة يمكن أن يمارسها الطالب بعد التخرج ، أما إذا دخلها في سن متأخرة (( عاقه يبس عوده من أن يلين للأعمال الصناعية أو الزراعية ، وربما عجز أبوه عن إتمام تعليمه وهو عاجز عن الاشتغال بأعمال المعاش فيضيع بين عجزين )) (1) . كما منع ضرب التلاميذ في هذه المدرسة ومنع الإهانة والتعامل القاسي معهم و (( جعل التلميذ مقروناً بكرامة النفس ، وهي قوام التربية)) (2) .
__________
(1) المصدر نفسه ، ص168 .
(2) المنار ( مجلة ) القاهرة ، ج8 ، السنة السادسة ، 16 ربيع الثاني 1321 ، ص311-312 .(1/80)
ويعلق على ذلك في درس تربوي رائع عندما يشير إلى أن (( المعاقبة على الذنب بالإهانة والقسوة لا تؤدب النفس لأنها تخفي الأخلاق الذميمة ولكنها لا تمحوها ، بل تزيدها وتقويها ، فتكون كامنة ، حتى إذا تسنى لها الظهور تظهر في اقبح الصور ، واما الذي يمحوا الأخلاق الذميمة فهو الإقناع بقبيحها وضررها، وحسن المعاملة ، وتكريم النفس ، حتى تتكرم عن الشوائب وتأنف عن كل ما ينافي الشرف )) (1) . ولغرض الاهتمام بالصناعة لان مصر بحاجة أليها ، سعى إلى فتح قسم صناعي في مدرسة الجمعية الخيرية الإسلامية لان من شأن ذلك ان يطور البلاد ويجعلها تستند على قاعدة صناعية قوامها المتخرجون من المدارس وطلب من بعض الوجهاء والموسرين الاكتتاب في جميع أنحاء البلاد لجمع المال اللازم الذي يساعد على تنفيذ هذا المشروع المهم (2) . واشترك في مدرسة الجمعية الخيرية الإسلامية التلاميذ الموسرون الذين فرض عليهم اجر تعليمهم ، وكان يرغب في أن يحس التلميذ الموسر بان هذه المدرسة هي ملكه وخاطب الموسرين قائلاً : (( لو أنكم دفعتم في مدرسة هي لكم ضعف ما تدفعون في مدارس غيركم لكنتم الرابحين ، لان فرقاً بين من ينفق في بناء دار هي له ومن ينفق على دار مستأجرة )) (3) . فكان يحاول دفع الموسرين لاستثمار أموالهم في خدمة التعليم والعملية التربوية بدلاً من أنفاقها في هوة الضياع ، فوصى الموسرين بقوله : (( ولكن إلى حاكم الشهوات ألا أن يكلف هؤلاء الضعفاء ... بما يطيقون كأنهم يدهنون بأعمالهم هذه ، وتهورهم في الإسراف والأنفاق ، على انهم ليسوا أهلا للثروة ، ولا مستحقين للغنى ، ولا يتحملون ثقل الخير على أنفسهم )) (4)
__________
(1) المصدر نفسه ، ص312 .
(2) الإمام عبده ، محمد / الأعمال الكاملة ، ج3 ، ص166 .
(3) المصدر نفسه ، ص167 .
(4) البهي ، محمد / المصدر السابق ، ص126 ؛ رضا ، محمد رشيد / تاريخ الإمام ، ج2 ، ص 58 ..(1/81)
وحاول أن يوحد بين الجماعات الإسلامية عن طريق محاربة الحزبية المذهبية التقليدية ، فطلب من تلميذه الشيخ محمد رشيد رضا أن يضع كتابين في الفقه والعقائد يدرسان لتلاميذ مدارس الجمعية الخيرية الإسلامية وان يتم التركيز على ما يحقق وحدة المسلمين وعدم تفرقهم (1) .
وكان السبب في ذلك انه وجد أن انقسام المسلمين إلى فرق وأحزاب وصل إلى مرحلة ضعفت فيها وحدتهم ، وذلك بسبب طغيان التبعية المطلقة للمذاهب القائمة ، وتحكم هذه المذاهب وسيطرتها على التابعين ، اذ يهاب هؤلاء التابعون نقدها ، وإبداء الرأي في عدد من القضايا التي تخصها ، وعندئذ (( تكون الجماعة جماعات ، وشعوباً ، وطوائف ، بينها فواصل منيعة ، تحول دون تجاوبها لتوجيه واحدة ودون سيرها في اتجاه واحد )) (2) .
واكد على دور المدرسة بوصفها مؤسسة تربوية في توحيد الأمة الإسلامية وتوجيه الثقافة الإسلامية بما يعزز هذه الوحدة ودعا أصحاب المذاهب الإسلامية إلى الانفتاح على الآخرين وتفهم آرائهم ، فضلاً عن ذلك فقد طلب من أصحاب المذاهب عدم الادعاء الحق على الإطلاق أو انه يمثل الإسلام كصورة تامة له واكد بان الوحدة بين المسلمين (( ضرورة تقضي بها الطبيعة والعادة ويؤيدها العقل والنقل ، وتقرها شواهد التاريخ للجماعات البشرية )) (3) .
__________
(1) الإمام عبده ، محمد / الأعمال الكاملة ، ج3 ، ص173 .
(2) البهي ، د. محمد / المصدر السابق ، ص138 .
(3) وحيدة ، صبحي / في أصول المسألة المصرية ، ط2 ، القاهرة ، د.ت ، ص226 .(1/82)
وان هذه الوحدة تخدم الإسلام في الوقت الذي تؤدي فيه الصحوة الإسلامية إلى تعزيزها (1) . وقد لاحظ الشيخ عبده أن مصادر الثقافة والفكر في المؤسسات التعليمية المصرية متعددة ، بل ومتباينة ، ومن شأن ذلك أن يؤدي إلى اختلاف الأساليب التربوية ، وتفرق الناس إلى مذاهب مختلفة ، فتناوله في مقالات عدة ، قال في أحدها : (( لذلك نرى في جميع تلك المدارس كتب التمرين والإملاء والمطالعة مما يوافق مذهب رئيس المدرسة ومشربه الديني ... وهكذا فالتلامذة على اختلاف مذاهب عائلاتهم يقرؤون كتباً واحدة توافق مشرب مؤسس المدرسة ... فإذا طال بهم زمن التعليم في مدرسة منسوبة للبروتستانت مثلا فلا شك أن عقائدهم تتحول بالتدريج من المذهب القبطي أو الكاثوليكي أو الإسلامي إلى مثل عقائد البروتستانت )) (2) . ودعا إلى الأخذ بالتراث العربي الإسلامي ، وساهم في أحيائه بوصفه الأساس الذي يجب أن يقوم عليه كل إصلاح ، ويثنى عليه نهضة الشرق الإسلامي في مسايرته للحياة الواقعية ، ورغبّ طلابه في الانتفاع بهذا الكنز الثمين ، فشرح كتاب البصائر النصيرية في علم المنطق واخرج نهج البلاغة في الأدب وما إلى ذلك ، فأعطى بذلك نموذجاً للانتفاع بالتراث العربي الإسلامي الأصيل (3) .
3. إصلاح المدارس الأميرية :-
__________
(1) أبو المجد ، احمد كمال / بل الإسلام والعروبة معاً ، ع: (6) ، العربي ( مجلة ) ، الكويت ، ذي القعدة 1400 ، اكتو بر 1980 ، ص10-11 .
(2) Harris Murray, Egypt under the Egyptians. Champion in Hall., London, P. 155.
(3) البهي ، محمد / المصدر السابق ، ص152 .(1/83)
لم يكتف الشيخ محمد عبده بالدعوة إلى إصلاح الأزهر وإنشاء مدارس الجمعية الخيرية الإسلامية ، وانما سعى لاصلاح المدارس الأميرية (1) ، التي لم يكن فيها بحسب رأيه شيء من المعارف الحقيقية ولا التربية الصحيحة (( أما التربية على أخلاق سليمة فلم تخطر ... على بال من تولى إدارة هذه المدارس ... ولو كشفنا عن أذهان التلامذة لم نجد فيها غاية لتعلمهم سوى أن يعيشوا كما عاش غيرهم على أي صفات كانوا ، ولو استفرغنا أذهان المعلمين لم نجد فها من المقاصد سوى انهم يلقون ما يجدونه في الكتب المقررة للتلامذة ، ويطالبونهم بحفظه وفهم عبارته أن كان ، ليعيدوا يوم الامتحان تلاوة ما القي إليهم ، حتى تتم مدتهم في المدرسة )) (2) . فأنتقد هذه الطرق التربوية القديمة التقليدية لكونها طرقا سلبية واكد على تعليم العلوم والتربية الخلقية بقوله : (( فيرجع الولد إلى أبيه ، عارفاً ببعض مبادئ العلوم التي لا يجد لها موضعاً تستعمل فيه ، فلا يلبث أن ينساها ، فيضيع الزمان الذي شغله بالتحصيل بلا فائدة فيجد في نفسه نفرة وعجز عن العمل فيما كان يعمل والده ... فتزداد أخلاقه فساداً وأفكاره اختلالاً ... فيكون زيادة في أمراض البلاد بدل أن يكون عضوا نافعاً لها )) (3) وحذر من أن السير على هذه الطرق غير الصحيحة في التربية والتعليم (( فلا يؤول ذلك بالمصريين إلى أن يكونوا رعية صالحة لان تكون بدناً لرأس أو آلة لصانع )) (4) .
4. إصلاح الكتاتيب :-
__________
(1) نشأت هذه المدارس في زمن محمد علي باشا وارتبطت باسمه ، للتفصيل عنها يراجع : نوار ، د.عبد العزيز سليمان / تاريخ مصر الاجتماعي ، القاهرة ، د.ت ، ص331-332 .
(2) الإمام عبده ، محمد / الأعمال الكاملة ، ج3 ، ص110-111 .
(3) المصدر نفسه ، ص115 .
(4) المصدر نفسه ، ص111 .(1/84)
ونبه الشيخ عبده إلى أهمية الاهتمام بالكتاتيب الأهلية لأنها المصدر الأساس للمدارس الأميرية وللأزهر ، واكد على ضرورة العناية بالمعلمين الذين يدرسون فيها ، والذين يسمون أنفسهم بـ( الفقهاء ) وهم لا يعرفون شيئاً سوى حفظ القرآن لفظاً بغير معنى ، ودعا إلى إصلاح هذه الكتاتيب عن طريق إصلاح الذين يقومون بتعليم الطلبة وتطوير معارفهم ، ثم يلزم لذلك (( تقرير بعض المعلومات التي لا يستغني عنها مصري ، مما يزاد على تعليمه القرآن في تلك الكتاتيب ، حتى إذا خرج التلميذ من الكتاب كان شاعراً بأنه في أي جمعية محكومة بأي طريقة ، فإذا دخل المدرسة أو الأزهر كان نماء معلوماته على ذلك الأساس)) (1) .
5. إصلاح المدارس التجهيزية والمدارس العالية :-
لان (( التربية مفقودة في تلك المدارس ، لا يخطر ببال أحد ان يعتني بها عناية حقيقية ، وانما الموجود فيها صور ورسوم تغر الناظر فيها وهي بمعزل عن الحقيقة ، فالذي يجب لتأسيس التربية فيها تعليم العقائد الدينية على الأصل الصحيح )) ، وحدد عبده الأسس التربوية لهذه المدارس في النقاط الآتية (2) :-
1. تعليم الآداب الدينية على الطريق الصالحة .
2. إلزام التلاميذ في تصرفهم بموافقة ما تعلموا .
3. إجادة الكتابة في الاختصاص الذي يودون الوصول أليه .
4. تعليمهم أصول النظام العام .
5. التوسع في اختصاصهم ، فالقانونيون يجب أن يتوسعوا في أصول النظام المتعلق بالقضاء والإدارة ، والمهندسون في أصول النظام المتعلق بالري وتدبير النيل ، وعلى هذا القياس يسير الطلبة الآخرون .
__________
(1) الإمام عبده ، محمد / الأعمال الكاملة ، ج3 ، ص114-115 .
(2) الإمام عبده ، محمد / الأعمال الكاملة ، ج3 ، ص117 .(1/85)
6. يجب أن يودع المربي الذي يقوم بتعليم هؤلاء في أذهانهم ان القيام بهذه الأعمال مما يطالب به الدين ، وان فوائدها ليست قاصرة على خدمة الحكومة، بل هي من لوازم الحياة أيضا (1) .
كانت المؤسسات التعليمية التي وضع فيها الشيخ عبده عصارة أفكاره وارائه التربوية اثبت الجمعيات المصرية وأنفعها وأقدرها على أداء مقاصدها في محاربة الجهل والفاقة ، ولا تزال اكبر هذه الجمعيات في مصر جمعيتان تأسستا بمعاونته وهدايته وعاشتا منذ أن تم تأسيسهما تعملان وتتقدمان على هداه ، وهما الجمعية الخيرية الإسلامية وجمعية العروة الوثقى التي سميت باسم جمعية التي اشترك في تأليفها وادارتها على البعد في منفاه من باريس مع أستاذه جمال الدين الأفغاني (2) .
على الرغم من أن المرض داهم الشيخ عبده ألا أن أعماله الإصلاحية في المجال التربوي استمرت ، إذ قرر صديقه احمد المنشاوي باشا في التاسع عشر من تموز عام 1905 البحث في وسائل بناء جامعة مصرية وضمان الموارد التي ينفق منها عليها ، وخاطب وزارة المالية في بيع عشرة آلاف فدان من ملك الحكومة ويجعل وقفها لبناء الجامعة والصرف عليها مع ما يرتبط به ذلك من أرصدة مالية ، ألا أن الشيخ محمد عبده وافاه الأجل في الأسبوع نفسه الذي تعين فيه موعد توقيع عقد البيع (3) . فلم ير بعينه مشروع الجامعة المصرية التي سعى حثيثاً لتحويلها إلى واقع عملي لطلبة بلاده التي فقدته في وقت كانت أحوج ما تكون أليه (4) .
المبحث الثالث/ الديمقراطية والطبقية في بعض مفاهيم محمد
عبده التربوية
__________
(1) الإمام محمد ، عبدة / الأعمال الكاملة ، ج3 ، ص117 .
(2) العقاد ، محمود عباس / المصدر السابق ، ص230-231 .
(3) العقاد ، محمود عباس / المصدر السابق ، ص232-233 .
(4) يانج ، جورج / تاريخ مصر من عهد المماليك إلى نهاية حكم إسماعيل ، تعريب علي احمد شكري ، القاهرة ، د.ت ، 456 .(1/86)
سأختار بعضاً من ابرز هذه المفاهيم لدورها في بناء النظرية التربوية عنده عبده وهي :
1- المساواة بين الرجل والمرأة في التعليم ودورها في المجتمع .
2- ديمقراطية التعليم وطبقيته .
3- التكافل الاجتماعي .
أولاً- المساواة بين الرجل والمرأة في التعليم ودورها في المجتمع :-
كانت المرأة الشرقية في القرن التاسع عشر جاهلة ، محصورة في المنزل مما جعلها ضيقة الأفق ينحصر عملها في شؤون المنزل وتربية الأبناء ، وهي التي يعهد لها تربية الأجيال (1) .
وعندما ظهرت في العصر الحديث قضية المرأة ، كان هناك اتجاهين لهذه القضية ، اتجاه ينكر للمرأة حقوقها مستنداً في ذلك إلى تفسير بعض النصوص القرآنية ، فضلا عن أسانيد نقليه وعقلية ، ومن أمثلة النصوص النقليه التي يستند أليها هذا الاتجاه قوله تعالى (( وقرنّ في بيوتكن )) (2) وتعني في نظرهم ، انه لا يجوز للمرأة آن تدع بيتها ألا لضرورة أو لحاجة ، وهذه الحجج والأسانيد التي لجأ أليها هذا الفريق لم يسلم بها أصحاب الاتجاه الآخر وهو الاتجاه التجديدي المعاصر بل تصدى للرد على أصحابها من خلال فهم وتفسير أخر لتلك الآيات الكريمة والأحاديث النبوية الشريفة ، والمسلحة بالعقلانية المستنيرة ، عندما يبحث في أصول الفكر الإسلامي الجوهرية والنقية عن المرأة ومركزها في المجتمع (3) .
__________
(1) أمين ، احمد / زعماء ألا صلاح في العصر الحديث ، ص376 .
(2) القران الكريم ، سورة الأحزاب ، الآية 33 .
(3) عمارة ، محمد / الإسلام والمرأة في رأي الأمام محمد عبده ، المؤسسة العربية للدراسات والنشر ، بيروت، ط3، 1980 ، ص706 .(1/87)
ويعد محمد عبده من ابرز أصحاب هذا الاتجاه فقد لفت واقع المرأة الاجتماعي انتباهه فعالجه برؤية ثاقبة ، على الرغم من آن عصره رافضا لمثل هذه المعالجة ، وكان يعدها خروجا على المألوف في النظرة إلى المرأة ، ومع ذلك فقد استبان عبده بأحكام الدين وفسرها تفسيرا ذكيا وعقلانيا ، ولم يقف عند حدود ما جاء به من سبقه ، وإنما حرص على توظيف مفردات (( العقل السليم )) و(( العقل الصحيح )) في معالجته لقضية المرأة بكل روية وعلمية (1) . فحظيت المرأة بدور مهم في فكره التربوي ،وعد تربيتها للأفراد عاملا أساسيا من عوامل صلاح المجتمع ، وخرج عن الموقف التقليدي الموروث في التعامل معها ، فلم يلق تبعة التفسخ العائلي والتحلل في الروابط الأسرية على عاتقها ، ولم يحملها وحدها كما حملها الآخرون مسؤولية ذلك على أساس (( إنها تثير الفتنة وتبحث عن الشهوة )) بل حمل الرجل القسط الأكبر من مسؤولية الانحراف في الجري وراء الشهوات ، لان الرجال (( كانوا وما زالوا يطلبون النساء ويرغبون فيهن ، ثم يظلمونهن حتى بالتحكم في طبائعهن والحكم على شعورهن ، ويأخذ بعضهم ذلك من بعض بالتسليم والتقليد )) فكان عبده على مثل هذا الوصف مفكرا رائداً في تجاوز الإطار التقليدي والموقف السطحي من قضية المرأة بعدها واحدة من اعقد مشكلات المجتمعات الإسلامية (2) .
__________
(1) العروي ، عبد الله / مفهوم العقل ، بيروت ، 1996 ، ص64 .
(2) عمارة ، محمد / المصدر السابق ، ص64 .(1/88)
وتظهر مساواته بين الرجل والمرأة حين شدد على آن طلب العلم الذي هو السبيل الأساسي لرقي الهيئة الاجتماعية بأكملها رجالا ونساء واستنادا للحديث الشريف (( طلب العلم فريضة على كل مسلم ومسلمة )) فالرجل والمرأة سواء في الخطاب التكليفي وكان سواء في علم ما يجب عليهما من فرائض الإسلام وخصال الإيمان ، وفي طلب العلم بما يلزم لصلاح معا دهما ومعاشهما ، فقد ساوى بين الرجل والمرأة في الحقوق والواجبات مساواة حقيقية فيجب أن توضع هذه المساواة في التطبيق بمقتضى العرف الذي يتحدد بدرجة التطور التي وصلها المجتمع الإسلامي وهو يعزز هذه الآراء بالآيات القرآنية التي تحدث عنها ((ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف )) (1) . ويؤكد عبده على مبدأ المساواة بين الرجل والمرأة بقوله : (( لا يوجد فيه شيء من رقي المرأة والوصول بها إلى أعلى مرتبة تستحقها ، وما من عاقل يدرك الغرض الصحيح من تلك الحقوق العظيمة التي خولتها الشريعة الإسلامية إلى المرأة في جميع الأعمال المدنية)) (2) ، وانطلاقا من هذا المنطلق للمساواة بين الرجل والمرأة فالشيخ عبده يؤكد على ضرورة تعليم المرأة وعد أن هذا ليس حق للمرأة وإنما واجبا عليها ذلك لان الله سبحانه وتعالى قد خاطب النساء بالأيمان والمعرفة والأعمال الصالحة في العبادات والمعاملات كما خاطب الرجال وأمرهن بتعلم الكتاب والحكمة كما أمرهم . وبما أن للمرأة الدور الكبير في بناء المجتمع لذا لابد آن تكون عارفة لعقائد دينها وآدابه وعبادته ، وكذلك أمور الدنيا كأحكام المعاملات مؤكدا على انه قد (( خولت الشريعة أن للمرأة ما للرجل من حقوق ، ولقت عليها تبعة أعمالها المدنية والجنائية ، فللمرأة الحق في إدارة أموالها والتصرف فيها بنفسها )) (3) ،
__________
(1) القرآن الكريم ، سورة البقرة ، الآية (228) .
(2) الأمام عبده ، محمد / الأعمال الكاملة ، ج2 ، ص106 .
(3) المصدر نفسه ، ص109 ..(1/89)
وفي هذا الضوء يتبين آن عبده يعيد للمرأة مكانتها في المجتمع ، إذ أولى موضوع تعليم المرأة اهتماما استثنائيا وعد جهلها يعني جهل نصف المجتمع ، ورأى أن جهل المرأة أحد أهم العوامل الأساسية لتخلف المجتمع ، واقترح إصدار العديد من القوانين والأنظمة لغرض شمولها بالتعليم وآخذها لدورها في التربية ، وان جهلها يمنعها من معرفة وأداء فرائض دينها ، كما حدد بوعي الارتباط الموضوعي بين الجهل والخرافات والسحر والأوهام التي عاشتها المرأة في المجتمع المصري آنذاك وما بين تخلف المجتمع نفسه ، فالتقى بموقفه هذا مع أراء المفكر الاشتراكي المثالي شارل فورييه (1) . الذي كان مؤمنا بان (( درجة تحرر المرأة تصبح بكل بداهة ، مقياس التحرر العام )) (2) .
__________
(1) * فرانسو شارل فورييه ( Franco’s Charles Fourier ) ( 1772-1837 ) اشتراكي فرنسي طوباوي طالب باشتراك المواهب بغض النظر عن جنس أصحابها ودعا إلى إعطاء المرأة دورها في المجتمع للتفصيل عنه يراجع: موسوعة الهلال الاشتراكية / القاهرة ، د.ت ، ص369-371 .
(2) فورييه ، شارل / المرأة الاشتراكية ، بيروت ، 1979 ، ص201 .(1/90)
وقد ناقش عبده بكل موضوعية خصوم تعليم المرأة الذين كانوا يزعمون آن الجهل هو سبب العفة والحياء عند المرأة ، ذلك أن (( ما يحافظن عليه من العفة فإنما هو بحكم العادة وحارس الحياء ، أو قليل جدا من موروث الاعتقاد وبالحلال والحرام )) وكيف أدى هذا الوضع بالنساء إلى أن اصبح (( حشو أذهانهن الخرافات ، وملاك أحاديثهن الترهات ، اللهم آلا قليلا منهن لا يستغرق الدقيقة عدهن)) (1) . وحمل عبده المرأة المسؤولية الخاصة والأساسية في مضمار تربية النشء الجديد على درب إقامة المجتمع المثالي الذي كان يحلم به أكد على الكيفية التي يتم بها الحصول على حياة سعيدة دائمة ، في العمل لإصلاح شؤون الناشئين بالتربية المهذبة ، وإجهاد النفس في طريق استكمال الأخلاق الفاضلة (2) . وضرب لنا عبده مثلا معبرا عن دور المرأة في التربية وتعليم الأبناء عندما أشار إلى أن المرأة حينما تقول لأبنائها ، إذا أرادت أن تمنحه شيئا (( خذ هذا وأخفيه عن الأعين حتى لا يراك أخوك )) فأنها يجب أن تعلم كم نقيصة علمته بهذا القول ؟ علمته ثلاث خصال :
__________
(1) المنار ، ج1 ، المجلد (28 ) 3 آذار ، 1927 ، ص29-30 .
(2) الأمام عبده / الأعمال الكاملة ، ص159 .(1/91)
الأثرة ، والدناءة ، والسرقة ، وربما ترضيه بإنكار ما أعطته إذا سأله أخوه ، فتعلمه بذلك اقبح خصال السوء والفساد وهو الكذب ، وقد لا يتعلم الطفل عندما يراد تمرينه على النطق والكلام غير ألفاظ السب والشتائم القبيحة ، فيشب الطفل متعودا على تلفظ شفتاه كل كلام قبيح ، ولا يعبأ بما ينطق ولا يبالي بما يقول (1) وبهذا يؤكد عبده على آن صلاح المجتمع لا يتم ألا بصلاح المرأة لأنها هي التي تربى الطفل وتعلمه ، ولا بد أن تصحب التربية تهيئة ظروف محيطة جيدة ، وقال بهذا الصدد : (( التربية تربية الجسم وحده إلى سنتين ، وهي وظيفة ألام والحاضنة ، ثم ضاف أليها تربية النفس إلى السابعة ، وهي وظيفة الأبويين والعائلة معا ، ثم تضاف أليها تربية العقل إلى البلوغ ، وهي وضيفة المعلمين والمدرسين ، ثم تأتي تربية القدوة بالاقربين )) (2) .
ومن هنا فقد حمل عبده المرأة مسؤولية استقامة الطفل وصلاحه ، أو انحرافه ومساوئه ، فتربية الطفل من قبل ألام تربية صالحة هي التي تجعله سوياً أو منحرفاً ، فالطفل ، كما يقول عبده (( متى ما شب ، وقوى عوده استقر على ما نشأ عليه في السنوات الأولى ، بل أن سلوكه وعاداته تصاحبه حتى مماته )) (3) ، ومن هذا المنطق فقد طالب عبده بضرورة تربية المرأة على مبدأي التعليم والحرية (4) ، لأنها إذا ما تربت عليهما فأنها ستغذيهما لأطفالها ، وسينشئ الأطفال على الرغبة في التعليم والانعتاق من ظواهر الاستبداد والظلم الاجتماعي ويستخلصوا من الألم الإنساني الذي يسببه الجهل والتخلف لهم .
__________
(1) المنار ،ج1 ، المجلد (26) ، 14 أيار ، 1906 ، ص759 .
(2) المصدر نفسه ، ص760 .
(3) الأمام عبده ، محمد / الأعمال الكاملة ، ص157 .
(4) عدي ، حذام زهور / العقلانية عند محمد عبده ، المرأة نموذجاً / مجلة ( النهج السورية ) العدد (57) لسنة (16) 2000 ، ص121 .(1/92)
وأكد عبده على دور الأسرة في التربية عندما وجه الأبناء والبنات في الأمة الإسلامية على ضرورة إقامة علاقات أسرية متماسكة لكي لا يضيع الأبناء والبنات ويفرقون في مشاكل انفصال آبائهم عنهم وتخليهم عن تربيتهم ، لان النساء الجاهلات والرجال الجاهلين لا يمكن آن تكون بينهما روابط وعلائق طبيعية ، وشارك عبده الكواكبي في آرائه التي أكد فيها على آن صلاح المجتمع من صلاح الأسرة (1) . وعلى هذا الأساس نجد آن الشيخ عبده قد عالج موضوع المرأة بحرص شديد ، وطرح آراء جريئة بصدد مشكلاتها ، فان هذا الموقف المستنير من قضية المرأة ودورها في المجتمع وقضايا اجتماعية أخرى مثل قضايا العلاقة بين الرجل والمرأة وتعدد الزوجات وانعكاس ذلك على تربية الأبناء، حتى تأثر بآرائه اشهر دعاة حرية المرأة ، وفي مقدمتهم الكاتب قاسم أمين (1863-1908) (2) ، لاسيما في كتابه ((تحرير المرأة )) الذي دعا فيه إلى سفورها وتعليمها ومشاركتها الرجل في الحياة العامة ، وانعكاسات هذه الجوانب على التربية ، فآثار بذلك جدلاً عنيفاً ، لان عصره لم يكن يتحمل ما أشار أليه ، ألا انه في كل الأحوال عبر عما كان يجيش في صدر الشيخ محمد عبده ، وكان متأثراً به حتى في أسلوبه وصياغاته .
ثانياً- ديمقراطية التعليم وطبقيته :-
__________
(1) كتوره ، جورج /طبائع الكواكبي في طبائع الاستبداد / بيروت ، 1987 ، ص190 .
(2) * هو مفكر حديثي اهتم بقضية المرأة وتحريرها اذ نشر في هذا المجال كتابين هما (( تحرير المرأة )) و(( المرأة الجديدة )) ، ورأى أن الجهل ينشأ في العائلة من طبيعة العلاقة السائدة بين الرجل والمرأة ، ولفت الأنظار إلى التلازم الوثيق بين انحطاط المرأة وانحطاط الأمة ، للتفصيل عنه يراجع أمين ، قاسم / تحرير المرأة ، القاهرة ، 1899 ، ص14-6 ؛ وأمين ، قاسم المرأة الجديدة / القاهرة ، د.ت ، ص7-8 .(1/93)
أما في مجال ديمقراطية التعليم فان للشيخ عبده أراء خاصة وهي أن لكل طبقة اجتماعية مستوى تعليميا لا تتعداه ، فاصبح ، والحال هذه ، في صف المنادين بـ(( طبقة التعليم )) لا (( ديمقراطية )) التي تقوم على حق أبناء المجتمع جميعاً ، بصرف النظر عن الوضع الطبقي في بلوغ مراحل التعليم (1) ، وهو في تقسيمه للمجتمع إلى طبقات لا يخرج عن ما هو متعارف عليه في تلك المرحلة فهو متأثر بالواقع المعاش ،هذا كان في المرحلة الأولى من تفكيره أما في المراحل الأخرى فأننا سوف نرى التغيير الذي حصل له وهذا ما سوف أوضحه لاحقا .
أما عن تقسيمه إياها إلى ثلاث طبقات هي :
الطبقة الأولى :- العامة من أهل الصناعة والتجارة والزراعة ومن يتبعهم وهم أولاد المسلمين الذين يوقف بهم عند مبادئ الكتابة والقراءة وشيء من الحساب ، يعلمون ذلك على درجة محدودة ينتفعون بها في معاملاتهم ، ثم ينصرفون إلى أعمالهم الصناعية والتجارية والزراعية وغيرها .
الطبقة الثانية :- هي طبقة الساسة ممن يتعاطى العمل للدولة في تدبير أمر الرعية ، وحماتها من ضباط العسكرية ، وأعضاء المحاكم ورؤسائها ومن يتعلق بهم ، ومأموري الأداة وعلى اختلاف مراتبهم ، وهم أبناء المسلمين الذين ينتظمون في المدارس السلطانية والشرعية والملكية والعسكرية والطبية وما يتلوها والذي يهم الدولة منهم أن يكونوا أمناء لها ، حفاظاَ لما استحفظوا عليه من شؤونها .
__________
(1) الأمام عبده ، محمد / الأعمال الكاملة ، ج1 ، ص161 .(1/94)
الطبقة الثالثة :- وهم طبقة العلماء من أهل الإرشاد والتربية ، وهم أبناء المسلمين الذين عقلوا ما تقدم من كتب الطبقتين السابقتين ، وكشف الامتحان امتيازهم في فهمهما ، وتخلقوا بالصفات المقصودة بوضعها ، فانتخبوا لذلك على آن يرتقى بهم الدرجة العليا من العلم والعمل حتى يكونوا عر فاء الأمة، وهداة الملة (1) ، ومع ذلك فلم يغلق عبده باب ارتقاء الناس بالتعليم من الطبقات الدنيا إلى الطبقات العليا ، فقال بهذا الصدد (( لا نريد بهذا التقسيم منع الآحاد من كل طبقة أن يطلبوا الكمال الذي خص به من فوقهم ... )) (2) ألا أن هؤلاء الآحاد أو الشواذ هم قلة ولا يعتد بعددهم ، فاقترن موقف عبده هذا بجانب سلبي لديه تمثل بضعف أيمانه بالجماهير الفقيرة وقلة ثقته فيما يمكن أن تقوم به هذه الجماهير صاحبة المصلحة الحقيقة في أي تغيير يمكن أن يحققه المجتمع إلى أمام ، وفي مواجهة الطامعين في البلاد (3) ، فقال بهذا الصدد في المرحلة الأولى من حياته الفكرية : (( يوجد كثير من ذوي الثروة ، وهم المتمتعون بخير البلاد ، وهم الذين ينبغي أن يطلبوا لها رفعة الشأن ومنعة الجانب ، لان الأعين الغادرة محملقة إليهم ، طالبة انتزاع ما بأيديهم ، وان تسلط الدخلاء عليها ، وتلاعب الأيدي المتغلبة بأمورها ، يضرب أولئك وربما لا يصل الغدر إلى الفقراء الذين هم صنف العمال والصناع أصلا فان الأنظار لا ترمق ألا ذوي الاعتبار ، فهو منتهى الأطماع )) (4)
__________
(1) الأمام عبده ، محمد / الأعمال الكاملة ، ج3 ، ص77-82 .
(2) المصدر نفسه ، ص77 .
(3) احمد ، بكري / الطبقية والطبقات في فكر الشيخ محمد عبده / مجلة الطليعة ، القاهرة ، تموز 1965 ، ص151-152 .
(4) الأمام عبده / الأعمال الكاملة ، ج3 ، ص31-42 ..(1/95)
لكن هذا التفكير الطبقي عند عبده لم يستمر ففي المراحل اللاحقة من حياته الفكرية انتقد طريقة الإنكليز في التفريق بين الطبقات في التعليم بعد أدركه لمخططهم الرامي إلى منع أبناء الفقراء من إكمال دراستهم ، وإبقائهم عند حدودها الدنيا ، فقال بان الإنكليز مصممون على (( أن لا حق لأولاد الفقراء في نوع من التعليم الذي تقوم به الحكومة )) ، وهم يقيمون المدارس التي يستطيع خريجيها (( أن يمارس حرفة تقوم بمعيشته )) وعندما قلت النفقات الحكومية على التعليم ، وزادت مصروفاته على أولياء الأمور (( صارت تربية الأولاد عبئاً ثقيلاً على أوساط الناس )) ، وإذا (( استمر هذا التزايد أمسى التعليم زخرفاً لا يتسنى التحلي به ألا في بيوت الأغنياء )) (1) .
وعلى الرغم من انتقاده لتجربة محمد علي باشا في حكم مصر ، وعده حكماً غريباً جلب لمصر الطغيان والدمار (2) ، ألا انه عندما يقارن بين أساليب التعليم التي طبقها الإنكليز في مصر ، وبين ما كان عليه التعليم في عهد محمد علي فانه أشاد بها لان (( التعليم في المدارس المصرية ، في عهد محمد علي إلى سنة 1882 ، كان مجانياً في كل هذه المدة ، ولم يمنع هذا أن تنتج تلك المدارس عدداً من الرجال المتعلمين تعليماً حقيقيا ، ومعظمهم من الفقراء )) (3) الذين يمثلون الغالبية العظمى في المجتمع .
ثالثاً- التكافل الاجتماعي :-
__________
(1) الأمام عبده ، محمد / الأعمال الكاملة ، ج1 ، ص62 .
(2) ينظر : شكري ،محمد فؤاد / الحملة الفرنسية وظهور محمد علي ، القاهرة ، 1980 ،ص83-87 .
(3) الأمام عبده / المصدر السابق ، ص165(1/96)
دعا الشيخ عبده إلى التكافل الاجتماعي بين الطبقات ، وان تساعد الطبقات الغنية الطبقات الفقيرة ، فنظر عبده إلى المجتمع كجسداً واحداً مترابطاً فيما بينه ترابطا عضويا ، وان طلب النفع يجب أن لا يكون على حساب النفع العام ، ويتوجب أن يكون الكسب الخاص في خدمة الجماعة ، وان يمتد إلى عموم النوع الإنساني ، لا أن يحدث ضررا لأحد من البناء المجتمع (1) ، وبهذا الصدد يؤكد عبده بان المنافع الاقتصادية والاجتماعية التي يحققها الفرد إنما هي ثمرة الجهد الجماعي ، وليست نتيجة جهده الفردي فقط ، مشيرا على أن (( الأعمال على اختلافها متجهة نحو غاية واحدة هي (( النفع العمومي المنقسم على كل فرد من أفراد الرعية على التساوي ، كل بمقدار عمله )) (2) ، فالفرد يكسب المال من الناس بعمله معهم ، ولا يصبح غنيا ألا بهم ومنهم ، لذا فأن الكسب الذي يحققه في مختلف مجالات الحياة إنما هو ناجم عن استعانته بغيره ، ولن يعينه غيره ألا إذا وجد أن هناك مصلحة مشتركة بينهما (3) . فلم يكن إقرار عبده بهذا الواقع الاجتماعي المنقسم بين الأغنياء والفقراء يعني رضاءه عن هذا الواقع ، ولا يعني سعيه إلى بقائه من دون تغيير ، فقد اتخذ موقفا عدائيا واضحا من النظام الطبقي الوراثي الذي يقضي بان (( يكون الإنسان غنيا لأنه ورث الغنى ، أو فقيرا لأنه ورث الفقر )) ، وأكد عبده أن ((النسب وحده ليس بشيء يرفع ويخفض ، ولكن المعول عليه ، وما يصح أن يرجع الكرم أليه ، إنما هو ما يكون عليه المرء نفسه فان وافق ذلك نسباً عالياً وحسباً خالداً كان ابلغ من الشرف وأثمر في الكرم)) (4) .
__________
(1) الأفغاني وعبده / العروة الوثقى ، بيروت ، 1970 ، ص36 .
(2) الأمام عبده ، محمد / الأعمال الكاملة ، ج1 ، ص277 .
(3) المصدر نفسه ، ص162 .
(4) الأمام عبده / الأعمال الكاملة ، ج2 ، ص305 .(1/97)
أكد عبده أن نتيجة الإنسان تكمن في ذاته لا في انتمائه ، وعد الإنسان مقياسا لكل ما يخلفه الإنسان ، فهو الذي يعرف ما يفعل ، وكيف يستغل إمكاناته ومواهبه الكاملة من اجل أن يجني احسن الفوائد مما يتاح له من فرص ليشق طريقه في هذا العالم لا سيما وان بإمكانه أن يطرق كل الأبواب ، وان يجعل كل الطرق مفتوحة أمامه، وكتب بهذا الخصوص إلى الأديب والمفكر الروسي تولستوي (1) قائلا : (( انك قد شعرت بالشقاء الذي نزل بالناس لما انحرفوا عن سنة الفطرة ... وكما كان وجودك توبيخا من الله للأغنياء ، وكان مددا من عنايته للضعفاء والفقراء .. )) (2) وقد امتدت معارضة عبده إلى الظلم الاجتماعي الناشئ عن المظالم الاقتصادية والمالية التي يوقعها الإنسان بأخيه الإنسان ، معدا هذا الظلم من اشد أنواع الظلم الذي يتعرف له الإنسان ، لان الأخير في نظر عبده لا يمكنه أن يجمع في قلبه (( بين تعلقه بالله وتعلقه الشديد بالمال )) وذلك لان سلطان المال قد يبلغ من القوة إذ يهيمن على قلب الإنسان بدلا من الأيمان بالله (3) .
__________
(1) * ليوتولستوي ( 1828-1910 ) كاتب وفيلسوف ديني روسي ، من أعماله القصصية موت ايفان التيش عام 1884 وكتب مسرحية قوة الظلام 1886 ، وتناولت أعماله مواضع الدين وعلم الأخلاق والجمال ، ينظر: الموسوعة الثقافية / القاهرة ، 1972 ، ص382 .
(2) الأمام عبده / الأعمال الكاملة ، ج1 ، ص135 .
(3) الأمام عبده / الأعمال الكاملة ، ج1 ، ص136-137 .(1/98)
وربط عبده الموضوع برمته بالعلم والتعليم ، فأشار إلى أن بوسع الأغنياء من دون غيرهم ، أن ينئوا بأعبائهما ، وان التخلف عن الركب هو السلاح الذي يحاربنا به الأعداء فعلى الأغنياء أن يدعموا العلم والتعليم في البلاد لكي يواجهوا الطامعين في خيراتها من الذين يريدون التخلف يظل قائما وجاثما على صدور أبنائها ، وان عبده عد انقسام المجتمع ما بين قلة غنية وأغلبية فقيرة انحرافا عن (( سنة الفطرة )) مما يجب محاربته ويتحتم تقويمه (1) ، كما أكد أن للمال قيمته مثل الوقت الوقت والعلم والقوة والدين والجاه ، وان التلاعب بالمال من اجل استغلال الآخرين تلاعبا بالقيم ، وبالتالي تلاعبا بالإنسان الذي هو ضمانة لما له بوصفه الوسيلة الأولى لاكتساب عمله (2) . وعلى الرغم من أن عبده لم يستطع أن يغير الانقسام الطبقي الذي كان يئن منه المجتمع المصري ، لأنه لم يكن صاحب القرار السياسي أو يمتلك سلطة التغيير ، ألا أن أفكاره التي أكدت على (( أن الأغنياء الذين يحبون أموالهم إلى الحد الذي يبخلون بها على المصالح العامة هم كافرون بالله على سبيل الحقيقة ، لا على سبيل المجاز )) (3) وجدت صداها في الجيل الذي أعقبه من المفكرين والمصلحين وهكذا قدم لنا الشيخ عبده أفكارا وأراءا تربوية واجتماعية متقدمة جدا على مفكري ومصلحي عصره مستنبطة من الإسلام وجذوره الأولى ، واثبت انه واحد من ابرز من تميز بفكره الشمولي الذي لم يتوقف عند ظاهرة معينة ، وإنما امتد افقه ليشمل كل المجالات السياسية والاجتماعية والتربوية والاقتصادية .
تمهيد/ بداية تيارات الوعي القومي العربي
__________
(1) المصدر نفسه ، ص135 .
(2) كتوره ، جورج / المصدر السابق ، ص78-79 .
(3) الأمام عبده ، محمد / الأعمال الكاملة ، ج1 ، ص136-137 .(1/99)
شهد الوطن العربي منذ النصف الثاني من القرن الثامن عشر وبداية القرن التاسع عشر ظهور تيارات فكرية وسياسية ، عدها المؤرخون والمفكرون ردود أفعال على سيطرة العثمانيين ، واحتجاجاً على عجزهم وفسادهم واستغلالهم من جهة ، وضد التغلغل الاستعماري الأوربي في البلدان العربية من جهة أخرى (1) . الأمر الذي أدى إلى إعادة النظر والتأمل في الأفكار والقيم والتقاليد والمنطلقات السياسية ، فبدأت تظهر على الساحة العربية أفكار جديدة بفعل عوامل متعددة كان من بينها تطور التعليم والتعرف على العديد من الحركات السياسية وأنظمة الحكم في أوربا ، والمبادئ التي نادت بها هذه الأنظمة والأسس التي قامت عليها ، وانعكس ذلك كله على التيارات الفكرية السياسية التي ظهرت في الوطن العربي (2) . فبرز لدى المفكرين الذين سبقوا الشيخ محمد عبده في الطروحات السياسية نزعة التوفيق بين التطورات الحديثة وما أفرزته من أفكار وقيم ، وبين مفاهيم الإسلام واحكامه ، كما انعكست التطورات التي جرت في مركز الدولة العثمانية بدورها على الواقع السيئ الذي كانت تعيشه البلدان العربية في المشرق.
__________
(1) احمد ، إبراهيم خليل / تاريخ الوطن العربي المعاصر ، الموصل ، 1987 ، ص70 .
(2) انطونيوس ، جورج / يقظة العرب : تاريخ حركة العرب القومية ، ترجمة ، ناصر الدين الأسد واحسان عباس، ط2 ، بيروت ، 1966 ، ص150-151 .(1/100)
وبدأت اثر تلك الدعوات تتعالى بضرورة منح البلدان العربية استقلالا ذاتياً، وقد حاولت الدولة العثمانية إرضاء دعاة الإصلاح العرب في ولايات الدولة المختلفة بإعلان الدستور عام 1876 يشكل ذلك نصراً للمفكرين ودعاة الإصلاح في البلدان العربية ، الذين اعتقدوا انهم مقبلون على عصر جديد تتحقق فيه المبادئ التي كانوا ينادون بها ، والإصلاحات التي دعوا أليها (1) . لكن لم يتسن للمفكرين السياسيين العرب أن ينالوا حصتهم من الدستور ومن الحكم الليبرالي لان السلطان عبد الحميد الثاني سرعان ما أوقف العمل بالدستور بعد عام من صدوره ، وأقام حكماً استبداديا صارماً تميز بالاضطهاد والقسوة والشدة (2) .
فازدادت لدى المثقفين العرب في هذه المرحلة النزعة المعادية للسلطة العثمانية ، وقادهم ذلك إلى زيادة الاهتمام بسلطة الدولة والحرية وشكل نظام الحكم والحياة الدستورية والنيابية وغير ذلك من المفاهيم السياسية ، فضلا عن التوسع الأوربي في البلدان العربية ، الأمر الذي عمق وعيهم القومي وجعله يتجه نحو تيارات متعددة يمكن أجمالها بما يأتي (3) :
1. الاتجاه العلماني :-
__________
(1) برو ، توفيق علي / العرب والترك في العهد الدستوري العثماني (1908-1940) القاهرة ، 1960 ، ص102.
(2) فيجري ( الرحالة المجري ) / السلطان عبد الحميد خان ، من مجلة ( المقتطف ) ، القاهرة ، المجلد (35) الجزء(11) ، لسنة 14 آب 1909 ، ص721-728 .
(3) رافق ، عبد الكريم / العرب والعثمانيون 1516-1916 ، دمشق ، 1947 ، ص381 .(1/101)
ويمثله شبلي شميل (1850-1907) (1) وفرح انطوان (1874-1922) (2) اللذين دعا إلى معالجة المسائل الاجتماعية إلى جانب القضايا السياسية والتأكيد على ضرورة أن تكون الدولة العثمانية دولة علمانية، وان يكون مجلس العثماني أعلى سلطة في الدولة لكي لا يحكم أي حاكم على وفق رغباته ، وضرورة فصل السلطات ، وأدانا الاستبداد وأسهما في ذكر مساوئه وشروره وما تفتقر أليه نظرية الحاكم المستبد من عدل وعلم وحرية (3) .
2. الاتجاه القومي :-
__________
(1) للتفصيل عنه يراجع : شميل ، شلبي / مجموعة الدكتور شبلي شميل ، ج2 ، القاهرة ، 1908 ؛ مظهر إسماعيل/ ملتقى السبل في مذهب النشوء والارتقاء دائرة في الانقلاب الفكري الحديث ، مصر ، 1924 ، ص31-35 .
(2) للتفصيل عنه يراجع : فرح انطوان / ابن رشد وفلسفته ، الإسكندرية ، 1903 ، ص6-7 ؛ شرابي ، هشام / المثقفون العرب والغرب ( عصر النهضة 1875-1914) ، ط2 ، بيروت ، 1978 ، ص146 .
(3) حور أني ، البرت / الفكر العربي في عصر النهضة (1798-1939) ، ط3 ، بيروت ، 1977 ، ص297 .(1/102)
الذي أخذت أبعاده تتسع في هذه المرحلة والتي تزامنت مع بروز الشيخ محمد عبده وتكون أفكاره وارائه السياسية ، فتمثل هذا الاتجاه في أفكار بطرس البستاني (1819-1882) (1) وإبراهيم اليازجي (1847-1906) (2) اللذين عبرا في فلسفتهما السياسية من تحسس أولي بالكيان القومي للعرب متجاوزين في كتاباتهم وأنشطتهم المختلفة العصبية الدينية والأفكار الطائفية والقومية العثمانية التي نادى بها العثمانيون الجدد ، فتبلور الشعور القومي وتعمق التحسس العربي على أياديهما وبرز على شكل تيارين هما :
أ. ... فهم القومية العربية من خلال الدين – أن المفكرين الذين انضموا تحت هذا التيار أبوا أن يطالبوا بفصل الأراضي العربية عن الإمبراطورية العثمانية وبعدم فصل الدين عن الدولة ومثل هذا التيار عبد الرحمن الكواكبي (1848-1920) (3) ، في تأكيده على تلازم العروبة والإسلام وتعبيره عن أهمية ربط الاتجاه القومي بالإطار الديني من خلال تصريحاته بنقل الخلافة إلى العرب
__________
(1) للتفصيل عنه يراجع : المحافظة علي / المصدر السابق ، ص25-29 .
(2) للتفصيل عنه يراجع : صويا ميخائيل / إبراهيم اليازجي ، بيروت ، 1960 ؛ ألفا خوري حنا / تاريخ الأدب العربي ، بيروت ، د.ت ، ص1058 ، 1079 ؛ عليوي ، حمادي / اليقظة العربية في المشرق العربي خلال القرن التاسع عشر ، المجلة ( الثقافية ) الجامعة الأردنية العدد (56) تموز 2002 ، ص178 .
(3) للتفصيل عنه يراجع : الكيالي ، سامي / محاضرات عن الحركة الأدبية في حلب 1800-1950 ، القاهرة 1957 ، ص93-94 ؛ الكواكبي ، عبد الرحمن / المجموعة الكاملة ، تحقيق وعرض ، محمد عمارة، بيروت ، ط1 ، 1975 .(1/103)
وضرورة تبني المصالح العربية ، الأمر الذي دفع بعض الباحثين لان يعدوه البداية الحقيقية للأفكار القومية العربية (1) .
ب. ... أما التيار الثاني فقد تخلص من الإطار الديني وبرز بشكل نزعة قومية واضحة تدعوا لتحقيق مصالح الأمة العربية بوصفها قائمة بذاتها لها مصالحها وأهدافها القومية التي يجب أن تتحقق من دون الالتفات إلى الاختلافات الدينية والمذهبية التي يجب أن تذوب في وحدة قومية واحدة تضم الجميع (2) ، ومثّل هذا التيار القومي نجيب غار ودي (3) ، الذي دعا إلى تكوين دولة مستقلة دستوريا ومنفصلة عن الدولة العثمانية تضم جميع البلدان العربية في أسيا ، وكان يتصور إمكانية تحول الحجاز إلى إمبراطورية مستقلة لها حاكمها الخاص ، الذي هو في الوقت نفسه خليفة المسلمين والتي ينبغي أن تضمن المساواة بين رعاياها المسلمين وغير المسلمين على السواء (4) . أن أفكاره السياسية تلخصت بتكوين أمة عربية وإنهاء الحكم العثماني وان يكون للعرب دورهم الرائد في البناء الإنساني (5) .
وفي هذه المرحلة برز تيار سياسي أخر هو :
3. تيار الوطنية الإقليمية :-
__________
(1) موسى ، سليمان / الحركة العربية ، سيرة المرحلة الأولى للنهضة العربية الحديثة 1908-1924 ، ط2 ، بيروت ، 1977 ، ص23 ؛ الحصري ، ساطع / محاضرات في نشوء الفكرة القومية ، القاهرة ، 1951 ، ص170-171 .
(2) الجو راني ، عبد الزهرة / المصدر السابق ، ص144-145 .
(3) للتفصيل عنه يراجع : غار ودي ، نجيب / يقظة الأمة العربية ، تعريب وتقديم احمد بوملحم بيروت ، 1978 ، ص220-221 .
(4) المصدر نفسه ، ص119 .
(5) ديلد ، ستيفان / نجيب غار ودي وكتابه ( يقظة الأمة العربية ) بيروت ، 1983 ، ص113 .(1/104)
وتركز بالدرجة الأساس في مصر ومثّله الشيخ رفاعة الطهطاوي (1801-1873) (1) ، وتعني الوطنية في فكره السياسي التخلص من التعصب الديني ، وضرورة تحقيق التسامح بين أبناء الشعب المصري من مسلمين وأقباط (2) .
وتطورت الفكرة الوطنية المصرية في النصف الثاني من القرن التاسع عشر ووصلت أوج اندفاعها في مدة بروز الشيخ عبده ، فأخذت اتجاهين متعادلين:
__________
(1) للتفصيل عنه يراجع : الطهطاوي ، رفاعة / مناهج الألباب المصرية في مناهج الآداب العصرية ، ط2 ، القاهرة، 1912 .
(2) المحافظة ، علي / المصدر السابق ، ص123 .(1/105)
الأول لم ير اختلافا أو تناقضا بين الرابطة الوطنية والرابطة الدينية ، في حين رأى الثاني في الرابطة الدينية تفرقة بين أبناء الجنس الواحد والوطن الواحد (1) . وقد كانت الظروف السائدة في البلدان العربية دافعاً لبعض رجال الدين لكي يطرحوا أفكارهم السياسية بقوة ومن بين أصحاب الاتجاه الإسلامي أبو الهدى الصيادي (1849-1909 ) (2) الذي مثل الجانب الرجعي الديني ، فقد كان صوفياً فاستخدم الصوفية لتخدير المسلمين ودفعهم لقبول الخلافة العثمانية والخضوع لسلطانها (3) ، والى جانب هذا الاتجاه ظهر اتجاه إسلامي أخر يدعو إلى بقاء الرابطة العثمانية وتعزيزها ولكن على أساس الإصلاح الذي ينبغي أن يطول نواحي الحياة العثمانية المختلفة بما في ذلك النظام السياسي ومن أبرزهم رفيق العظم (1867-1925) (4) وعبد القادر المغربي (1867-1956) (5) ، وركز أصحاب هذا الاتجاه على أن الناس هم مصدر الحكم ، ودعا إلى الحكم الذاتي واللامركزي في ظل الدولة العثمانية ، وأكدا على الإصلاح الاجتماعي ومحاربة المفاسد ، وعلى وحدة الشعوب الإسلامية في ظل الدولة العثمانية (6) .
__________
(1) المصدر نفسه ، ص125 .
(2) للتفصيل عنه يراجع : الرفاعي ، محمد أبو الهدى الصيادي / الطريقة الرفاعية ، بغداد ، 1969 ، ص4-5 .
(3) الجو راني ، عبد الزهرة / المصدر السابق ، ص134 .
(4) للتفصيل عنه يراجع : داغر ، يوسف اسعد / مصادر الدراسة الأدبية ، ج2 بيروت ، 1955 ، ص605-607؛ العظم ، رفيق / الجامعة الإسلامية وأوربا ، بلا ، 1325هـ ، ص47-52 .
(5) للتفصيل عنه يراجع : المغربي ، عبد القادر / البيان في الدين والاجتماع والأدب والتاريخ ، تقديم شكيب ارسلان ، مرسين ، 1925 ، ص7-8 .
(6) الجو راني ، عبد الزهرة / المصدر السابق ، ص139 .(1/106)
بعد أن تأخذ هذه الدولة بمبادئ الإصلاح الحديثة المستندة إلى جوهر مفاهيم الدين واحكامه وضمن هذا الاتجاه الإسلامي الإصلاحي برز أستاذ الشيخ عبده ونعني به جمال الدين الأفغاني (1839-1897) الذي دعا إلى وحدة الأقطار الإسلامية وضرورة التجديد في مختلف جوانب المجتمع الإسلامي ، ونادى بالجامعة الإسلامية وغيرها من الأفكار التي تطرقنا لها في الفصل الأول ، فكان من الطبيعي أن يتأثر الشيخ محمد عبده بأفكاره وارائه السياسية لكنه اختلف عنه في وسائل العمل لا سيما بعد نكوص الثورة العرابية ، والتي سنتطرق لها في المبحث اللاحق .
المبحث الأول/ العوامل المؤثرة في صياغة الفكر السياسي
لمحمد عبده
... على الرغم من أن الشيخ محمد عبده لم يكن راغباً في دخول المعترك السياسي ، ألا انه وجد نفسه ، من حيث يرغب أو لا يرغب سياسياً فرضت عليه السياسة فرضاً ، لانه كأي من أفراد جيله تأثر بما كان يدور حوله من أحداث لم تمنحه الفرصة ، أن يكون بعيداً عنها أو على هامشها ، إذ وافق الشيخ ما جاء به أستاذه الأفغاني على ضرورة تغيير الواقع ، وجعله اكثر تعبيراً عن تطلعات الإنسان ، فتوجه عبده أولا إلى (( الوعي ، لتحرير العقول ، والوصول بالإنسان إلى مستوى معرفي يؤهله للإسهام الجاد في تحقيق الإصلاح السياسي والاجتماعي المنشود )) (1) . وكان دوره السياسي قد توضح من خلال الآتي :
أولاً- محمد عبده والثورة العرابية :-
__________
(1) الجابري ، علي حسين / فلسفة التاريخ في الفكر المعاصر ( جدلية الأصالة والمعاصرة ) ، القسم الاول ، بغداد، 1993 ، ص294 .(1/107)
شهدت مصر ثمانينات القرن التاسع عشر نمو الأفكار السياسية الوطنية بين الضباط الداعين إلى الوقوف بوجه الخطر المتفاقم في البلاد ، والذي أنذر باحتلال أجنبي لمصر ، وبرز ما بين هؤلاء الضباط احمد عرابي (1) ، الذي دفعته التطورات السياسية السريعة وضباط الجيش الآخرين إلى الواجهة الأمامية للسلطة ذلك أن عجز الخديوي إسماعيل القيام بواجباته كما يجب ، وتغييره للوزارات بما يخدم مصالحه ، مع حفظ القوى الخارجية لاسيما الإنكليز عليه ، أدى ذلك كله إلى أن تشهد مصر في هذه المرحلة مناخاً ثورياً عارماً ، على حد ما صور أحد شهود العيان الذين عاصروا الأحداث قائلاً :
(( كان كل إنسان يتصور نفسه أعرابيا ... وقد ذابت الطبقات بعضها في البعض الأخر لقد تحولت مصر إلى منبر للخطباء ، واخذ الناس يخطبون في كل مكان ... حتى في الأفراح )) (2) .
وفي ظل هذه التطورات بدأت ثورة عرابي في المظاهرة التي قامت في ميدان عابدين في التاسع من أيلول 1881 . فكان هدف العرابين هو إقرار الدستور وتغير الحكومة المصرية المرفوضة من قبل المصريين (3) ، إذ قال عرابي (( ليس لدينا غير هدف واحد هو تحرير البلاد من العبودية ومن انعدام العدالة ومن نير الجهل ، وتمكين شعبنا من الحالة التي تسمح له بتلافي أية إمكانية لعودة الاستبداد )) (4) .
__________
(1) للتفصيل عنه يراجع : المصري ، احمد عرابي الحسيني / كشف الستار عن الاسرار في النهضة المصرية المشهورة بالثورة العرابية ، ج1 ، القاهرة ، د.ت ، ص10-13 .
(2) شفيق ، احمد / مذكراتي في نصف قرن ، ج1 ، القاهرة ، 1934 ، ص147 .
(3) الجبوري ، احمد عبد الله محمد / المصدر السابق ، ص113 .
(4) مصطفى ، احمد عبد الرحيم / مصر والمسألة المصرية من (1876-1882) ، القاهرة ، 1965 ، ص193.(1/108)
معتبراً أن هذا هو ما يطلبه الشعب : (( أنني امثل الجيش ... ولكن الجيش يمثل الشعب )) (1) ، وفي ضوء هذه الأوضاع والتطورات السياسية اندمج الشيخ عبده في المرحلة الوطنية ، وكان يحث الخطى بمصر إلى الاستقلال مؤكداً (( أن المصري يحب وطنه مصر )) داعياً إلى نبذ التعصب العنصري ، والكفاح ضد الإنكليز (2) .
وأضحى عبده المعبر الفكري عن أيديولوجية الثورة في إطارها المعتدل في حثه للمصريين على حب الوطن والدفاع عنه ، على الرغم من اختلاف طريقته مع العرابين في العلاج لكن الغاية كانت واحدة ، فأضحت ثورة عرابي حداً فاصلاً في طريقة تفكيره السياسي ، لاسيما أن عرابي أرسل عددا من المبعوثين إلى سوريا حاملين مبادئ الحزب الوطني الذي كان عبده منتميا أليه واحد أعضائه البارزين ، ذلك أن التزام عبده بقضية وطنه أدى إلى انخراطه في العمل السياسي الذي تتوج عمليا بثورة عرابي على الرغم من أدانته للسياسة من قبل (3) فلم يقتصر دوره على الجانب النظري وتنبيه الجماهير المصرية إلى المخاطر المحيطة به من خلال كتاباته الصحفية ، وانما اشترك عمليا فبلغ مبلغ ثقة الثوار بأن كلفوه بوضع صيغة اليمين الذي حلف به كبار الضباط .
وقد أدت أحداث الثورة العرابية إلى تحولات فكرية وأفاق سياسية جديدة ومفاهيم لم يكن الشيخ عبده مؤمنا بها من قبل مثل :
__________
(1) W. Blunt, Secret history of the English occupation of Egypt, London, 1907, p.180.
(2) الكيلاني ، شمس الدين / المصدر السابق ، ص162 .
(3) زيادة ، معن / معالم على طريق تحديث الفكر العربي ، الكويت ، د.ت ، ص231 .(1/109)
1- تقبله للديمقراطية ، التي وجدها لا تعارض الدين ولا تعارض مبدأ الشورى (1) . في حين انه كان قبل الثورة يميل إلى رأي مغاير للديمقراطية مشددا على انه (( ليس من الحكمة أن تعطى الرعية ما لم تستعد له )) وكان من أسباب هذه التحولات هو اكتشاف عبده لحقيقة الخديوي من خلال المحاورة التي دارت بينه وبين عرابي إذ قال الخديوي (( أنا ورثت ملك هذه البلاد عن آبائي وأجدادي، وما انتم ألا عبيد إحساناتنا )) فحقيقة الخديوي المستبد والظالم ومعاملته للشعب المصري كعبيد احساناته ، لم ترضِ الشيخ عبده أن ينتظر حتى يظهر الحاكم المستبد العادل الذي يتولى تربية الشعب المصري التربية الصحيحة التي كان ينادي بها (2) . لذلك لم يكن من المستغرب أن يطالب عبده إزاء استبداد الحاكم بالديمقراطية وعلى (( النسق الأوربي )) لأنها إرادة المجموع والشعب التي لا سبيل إلى تجاهلها (3) . وأعلن عبده رأيه بالمطاليب التي طلبها احمد عرابي من الخديوي توفيق ، لاسيما فيما يخص تشكيل مجلس للشورى النواب فكتب قائلا : (( لقد رأى خديوينا ... مثل ما رأى سيدنا عمر مما قضى بالتشاور ... ولنا فيما عليه السلف من طريقة التشاور ما يغني عن سلوك الطريقة الحالية )) (4) .
__________
(1) الأهرام ( صحيفة ) القاهرة ، العدد ( 64800 ) ، 24 ديسمبر 1881 .
(2) غانم ، فتحي / الديمقراطية التي نختلف عليها ، مجلة ( روز اليوسف ) القاهرة ، العدد (2783 ) ، السنة السابعة والخمسون ، 12 أكتوبر 1981 ، ص18 .
(3) المصدر نفسه ، ص18 .
(4) الأهرام ( صحيفة ) العدد ( 64800 ) ، 24 ديسمبر 1881 .(1/110)
2- رأيه حول الجيش المصري وانخراطه في العمل السياسي ، اجتذب موقف الجماهير المصرية ومساندتهم للضباط في ميدان عابدين الشيخ عبده مما جعله يغير موقفه منهم ، فلم يعودا كماً مهملاً (( لا يفيدون تقدما ولا يزيلون تأخيرا )) وانما اصبحوا ، حسب وجهة نظره الجديدة ، صناعاً للتاريخ (1) . ودافع عن مشاركة الضباط في العمل الوطني والسياسي قائلا : (( لقد فوض الأهالي إلى أمراء الجهادية ، وطلبوا منهم أن يصمموا على طلبهم ، لعلمهم أن رجال العسكر هم القوة الوحيدة في البلاد ، وهم يدافعون عن حريتهم )) (2) . لكنه اشترط في حالة حصول الشعب على حقوقه فان مهمة الجيش تصبح بحكم المنتهية في هذا المجال ، لان دوره إذ ما استمر رجاله في الحكم فان المؤسسات المدنية في هذا المجال ستتراجع لحسابه ، لذلك نراه يوضح هذه المسألة بقوله (( أن أمراء الجهادية عازمون على ترك التدخل في السياسة بعد أن فتح المجلس النيابي أبوابه، وشرع بطرح مطالب الشعب المصري المتمثلة بحرية المطبوعات وبتعميم التعليم ونمو المعارف بين أفراد الشعب وغيرها من المطالب)) (3) . ومع تطور الأحداث العرابية تطورت مواقف عبده فصار يتخلى شيئا فشيئا عن ((إصلاحيته)) لصالح (( الثورة الجديدة )) فنراه يقف ضد التحدي البريطاني – الفرنسي وعزمهما على حماية عرش الخديوي توفيق ، فانخرط في الحركة الوطنية بكل اندفاع (4) ، وبرز دوره عندما اعتدى الإنكليز على الإسكندرية وضربوها في الحادي عشر من تموز عام 1882 .
__________
(1) الوقائع المصرية ( صحيفة ) العدد (12886 ) ، 18 ديسمبر 1881 .
(2) ينظر : اليازجي ، حليم / الأيديولوجيا الإصلاحية ومظاهرها في الفكر العربي الحديث ، المجلد الثاني ، ج2 ، بيروت ، د.ت ، ص129 .
(3) الإمام عبده ، محمد / الأعمال الكاملة ، ج1 ، ص53 .
(4) بلنت ، الفريد سكاون / التاريخ السري لاحتلال الإنكليز مصر ، تعريب وتمهيد ، عبد القادر حمزة ، القاهرة ، د.ت ، ص6 .(1/111)
وقف مع الثوار مدافعا عن بلاده ، وحث على التطوع بصفوف الجيش وامداد الثورة بالإعانات والتبرعات (1) . وتميز له موقفان كانا يسيران في خطين متوازيين هما : مواقفه – وأداءه .
التي دللت على انه اقترب من مواقع الثورة العرابية وساهم في صنع أحداثها في تلك المدة ، ألا انه ظل يمثل الاتجاه الأقرب إلى الإصلاح في صفوف الثوار ، أو بعبارة أدق ظل يمثل الجناح المعتدل في صفوف الثورة العرابية (2) . ويتضح موقفه الاعتدالي عند مناقشة مجلس شورى النواب لمواد الدستور الجديد في السادس والعشرين من أيلول 1881 ،إذ قال (( لقد لبثنا قرون عدة في انتظار حريتنا ، فلا يشق علينا أن ننتظر الآن بضعة شهور )) ، وعندما أصر الاتجاه الثوري في الحركة الوطنية على حق مجلس النواب في مناقشة ميزانية الدولة واقرارها ،عارضت ذلك الدول الأوربية صاحبة الديون على مصر، والمراقبون الماليون الذين يمثلونها في مصر ، وقف عبده والتيار المعتدل إلى جانب استثناء الميزانية من المناقشة في المجلس ، ونجح في جمع عدد من أعضاء المجلس في منزله بتاريخ السابع عشر من شباط 1882 وأقنعهم بضرورة تعديل عدد من المواد كانت محل معارضة المراقبين الماليين الأجانب (3) .
__________
(1) W.S. Blunt , Secret History Of The English Occupation Of Egypt 2 Edition , London , P.123.
(2) الإمام عبده ، محمد / الأعمال الكاملة ، ج1 ، ص55 .
(3) الإمام عبده ، محمد / الأعمال الكاملة ، ج1 ، ص55 .(1/112)
وانطلاقا من ايمان عبده بالتدرج وعدم القفز على المراحل التاريخية أو حرقها ، نراه يعد ما حصلت عليه مصر بعد الثورة العرابية مرحلة ابتدائية لا ينبغي التوقف عندها، بل يجب تجاوزها إلى المرحلة الاتية عن طريق المرور بسائر الدرجات فكتب في ( الوقائع المصرية ) : (( أنت أيها الوطني في أول درجة من مرفاة السياسة ، وفي أول مرحلة من طريق الحرية ، فلن تبلغ الدرجة العليا ألا إذا صعدت سائر الدرج ، ولن تدرك الغاية القصوى ما لم تقطع سائر المراحل ، فأن حاولت غير ذلك لم تأمن الهبوط من الدرجة التي بلغت والرجوع من المرحلة التي وصلت ، بل ربما صرت على مسافة أعوام مما كنت ترجوا إدراكه بأيام )) (1) .
__________
(1) الوقائع المصرية ( صحيفة ) القاهرة ، العدد (1252 ) ، 10 نوفمبر 1881 .(1/113)
وعندما طرح التيار الثوري في الثورة العرابية فكرة إعلان الجمهورية كرد فعل لانحياز الخديوي توفيق للأجانب عارضها عبده ، وعد أن البلاد غير مهيأة لتقبل هذه الفكرة ، وأنها سابقة لأوانها ، وخطوة غير محسوبة النتائج وقد تؤدي إلى غير الغاية التي ينشدها المصريون ، فوقف عبده ضد تطبيقها (( لان الجهل لم يمكن البلاد يومئذ من الرقي إلى النظام الجمهوري )) ولكنه يعود فيستدرك قائلا: (( ومع ذلك سنجتهد في جعل مصر جمهورية قبل أن نموت )) (1) وعلى الرغم من أن عبده كان معتدلا في ميوله ، ألا أن ما أحدثته الثورة العرابية من متغيرات دفعت بكل الاتجاهات الفكرية (( بينبوعها الواحد )) الذي (( هو استقلال مصر وتقدمها الحضاري )) (2) ، جعلت عبده في خضم تحمل أعباء الثورة ، فقدا واحدا من قادتها ، وتمكن من أداء دوراً ملموساً في الدفاع عنها والمساهمة في صنع أحداثها منذ قيامها . غير أن فشل الثورة العرابية في عام 1882 والتي انتهت أحداثها بدخول عبده السجن لكونه من قادتها ثم نفيه خارج البلاد ، وان واحدا من ابرز الدروس التي استنتجها عبده من مشاركته في الثورة العرابية تكمن في فهمه لمناورات الدول الكبرى وكان شاهد عيان لما قامت به بريطانيا في بلاده من أعمال وحشية من اجل قمع الثورة العرابية التي طالبت بأهداف واقعية من الدستور والحرية والإصلاح ، كما استفاد عبده من مشاركته في الثورة في فهم الجوهر الحقيقي للمشاركة الجماهيرية ، فلم تعد الجماهير ، كما كان سابقا يقيمها ، مجرد كم لا دور لهم ، وانما اصبحوا في ظل تطورات الثورة، قادرين على تثبيت حقوقهم ورفض الظلم الواقع عليهم ، مما ألف نقطة تحول مهمة في تفكير الشيخ عبده ، لاسيما في المرحلة اللاحقة من حياته السياسية (3) .
__________
(1) بلنت / المصدر السابق ، ص453 .
(2) شكري ، غالي / النهضة والسقوط في الفكر المصري الحديث ، ط2 ، بيروت ، 1980 ، ص202 .
(3) امين ، احمد / المصدر السابق ، ص305 ..(1/114)
ثانياً- دوره في العروة الوثقى :-
بدأت مع العروة الوثقى صفحة سياسية جديدة للشيخ عبده مع أستاذه الأفغاني ، على الرغم من ميله للموقف الإصلاحي ، لكن الظروف التي كانت تمر بها الأمة الإسلامية ولاسيما مصر هي التي جعلت عبده يبدأ هذه الصفحة من حياته ، فجمعية العروة الوثقى هي تنظيم سري سياسي ، شغل فيها عبده منصب نائب الرئيس بعد أستاذه الأفغاني الذي كان رئيسا لها ، وكان الهدف من تأسيس هذه الجمعية السياسية هو مناهضة الاحتلال الأجنبي بجميع أشكاله ، ورفع نيره عن العالم الإسلامي ، عن طريق بث روح العزة القومية عن طريق العقيدة الدينية الصحيحة ، فهي تنظر إلى العالم الإسلامي كله على انه وحدة ، بتوثيق الصلات بين الشعوب الإسلامية لتعاونه على دفع آذى الأجنبي عنها ، ولكي تمكن الدول الإسلامية للوصول إلى الحياة الاجتماعية والدينية والسياسية القائمة على أسس أصول الإسلام الأولى (1) فكان دوره في العروة الوثقى يقوم على ما يتعلق بتربية الأعضاء وتطوير إمكانياتهم الفكرية والتنظيمية ورفع درجة أيمانهم ، وهذا يتضح من خلال مراسلاته مع أعضاء الجمعية موعظا إياهم (( داوم على قراءة القرآن ، وتفهم أوامره ونواهيه ، ومواعظه وعبره ... واعلم انك محاسب على الدقيقة من أوقاتك ... أن صرفتها لإعزاز دينك كانت لك )) (2) وهذه المراسلات هي حلقة الوصل بين القادة والأعضاء في البلدان الأخرى وفي إطار دعوته بانضمام العديد من الأعضاء الجدد إلى العروة الوثقى مما ساعد باتساع نطاقها وفي خطاب بينه وبين أحد الأعضاء يدعوه بقوله (( فاستكثر من الأخوان ، ونقهم من الخوان ، واثبت بهم على أصول الشريعة ... وليكن القول تأسيسيا لا تدريسيا ، ولا تكونن كلمة ألا وغايتها عقد يبرم ورباط يحكم )) (3) ،
__________
(1) أمين ، احمد / المصدر السابق ، ص328 .
(2) الإمام عبده ، محمد / الأعمال الكاملة ، ج1 ، ص590 .
(3) الإمام عبده ، محمد / الأعمال الكاملة ، ج1 ، ص607 ..(1/115)
ومما يلاحظ على مراسلاته مع الأعضاء انه اتبع الأسلوب السري ( الشفرة ) تأكيدا على سريتها وسرية اعضائها، ومن هذا المنطلق فقد سلك عبده مسلكا سياسيا جديدا يتناسب مع دوره في ميدان العمل السياسي الخارجي من وراء الحدود ، فركز بصورة خاصة على كيفية مواجهة الاحتلال البريطاني لمصر ، فقام لهذا الغرض بزيارات قصيرة إلى لندن عام 1884 (1) بصفته مندوبا عن العروة الوثقى ، إذ التقى ببعض المسؤولين البريطانيين ومنهم وزير الحربية اللورد هر تنكتون ( Lord Hartington ) الذي عد مقاومة المصريين للوجود البريطاني جهلا منهم فما كان من عبده ألا أن يرد عليه ردا صريحا بقوله : (( أن المصريين قوم عرب ، وكلهم مسلمون ألا قليلا وفيهم من محبي أوطانهم ... وان النفرة من ولاية الأجنبي ، ونبذ الطبع لسلطته ، مما أودع في فطرة البشر ، وغير محتاج للدرس والمطالعة ، وانما هو شعور آنساني ظهرت قوته في اشد الأمم توحشا ... )) (2) . ولم يتردد في عرض قضية شعبه على الرأي العام البريطاني (3)
__________
(1) Charles C. Adams / Islam and Modernism in Egypt , London , 1933 , P. 58
(2) عبده / الأعمال الكاملة ، ص 629 .
(3) * اجرى مراسل صحيفة (( يوبيل جازيت )) اللندنية لقاء موسعا مع الشيخ عبده حول القضية المصرية وتطوراتها ، ونشرت نص اللقاء المحلية ( الثقافية المصرية ) في عددها الصادر يوم السادس في آب 1884..(1/116)
والكشف عن نوايا بريطانيا الاستعمارية تجاه مصر وعدم وجود مصداقية لها ، فقال بهذا الصدد : (( أننا معشر المصريين من أرباب حزب الحرية ، كنا نظن أن الإنكليز يناصرون قضية الحرية ، لكننا نرى أن انتصاركم للحرية هو انتصار لما فيه مصلحتكم ، وان عطفكم علينا كعطف الذئب على الحمل ... )) واستطرد موضحا كذب رغبة بريطانيا في رقي مصر ووجودهم لمصلحتها فقال (( لقد قضيتم على عناصر الخير فينا ، لكي يكون لكم صحة البقاء في بلادنا ، رغبتنا في رحيلكم عن بلادنا، وأردنا أن نحطم استبداد حكامنا ... ورغبتنا لبلادنا إصلاحا سياسيا وتقدما يشبه تقدم أوربا على طريق الحرية )) (1) وعلى هذا الأساس فقد ارجع عبده ظاهرة عدم الاستقرار السياسي في مصر إلى التدخل الأجنبي لا سيما بريطانيا في شؤون البلاد وفي ميدان الحكم والاقتصاد وممارستها لسياسة ( فرق تسد ) مما أدى إلى تفاقم المشكلات الداخلية وازياد التناقضات الاجتماعية (2) . لكن محاولاته هذه لم تثمر فعاد إلى باريس وبعد عودته عمل الإنكليز على إيقاف صدور مجلة ( العروة الوثقى ) وحجب نشاطها ، فعاد الشيخ عبده إلى بيروت واثر عودة الشيخ عبده إلى مصر بعد إنهائه لمدة نفيه حاولت السلطات البريطانية في مصر تحجيم دوره السياسي عن طريق اللورد كرومر (3)
__________
(1) الإمام عبده ، محمد / الأعمال الكاملة ، ج1 ، ص628 .
(2) المصدر نفسه ، ص643 – 644 .
(3) * افلن بيرج كر ومر (1841-1917 ) أدارى ودبلوماسي بريطاني خدم في مناطق عدة ، ومنها الهند لكن اسمه ارتبط بمصر اكثر من مكان أخر ، اختارته الحكومة البريطانية عقب الاحتلال البريطاني لمصر ليكون الوكيل البريطاني والقنصل العام هناك بدرجة وزير مفوضي السلك الدبلوماسي واضطر إلى الاستقالة من منصبه في نيسان 1907 بسبب فشلة في معالجة قضية دنشواي عام 1906 ، ينظر : الموسوعة العربية الميسرة ، ج2 ، ص1456-1457 ..(1/117)
الوكيل البريطاني في مصر ، ومحاولته استيعابه ، فقال أحد تلاميذه معلقا على هذا الموضوع (( كان كر ومر يجله ويقدره ، ويستشيره في بعض المسائل الحكومية المهمة ، ويتحاشى أن يهيج وجدانه ووجدان حزبه على الإنكليز ، وكان الأستاذ يداريهم لعلمه انه لا يستطيع البقاء في مصر من دون ذلك (1) وحاول أحد المؤلفين ان يلصق التهمة لمحمد عبده بموالاة كر ومر بدعوى أن الأخير استغل علاقته بعبده ليكتب مقالات ضد محمد علي بمناسبة مرور مئة عام على توليته حكم مصر (2) ، لكن عبده لم يكن كذلك لانه يكفي أن نذكر انه شاهد مرة فلاحا مصريا يمتص قصب السكر فعلق قائلا : ((هكذا يمتص الإنكليز خيرات بلادنا ويتركها عندما ينتهي من حصوله على فوائدها )) (3) ، ودافع أنصار الشيخ عبده عنه في هذا الشأن قائلين انه كان يتصل بالإنكليز ليستعين بهم على القيام بمشاريعه الإصلاحية (4) .
وقد سأل عبده ذات مرة في موضوع الاستعانة بالأجانب فجاء جوابه (( قد قامت الأدلة من الكتاب والسنة وعمل السلف على جواز الاستعانة بغير المؤمنين وغير الصالحين على ما فيه خير ومنفعة للمسلمين ... فعلى دعاة الخير أن يجدوا في دعوتهم ، وان يمضوا على طريقتهم ، ولا يحزنهم شتم الشاتمين ، ولا يغيظهم لوم اللائمين، فالله كفيل لهم بالنصر إذا اعتصموا بالحق والصبر )) (5) .
المبحث الثاني/ الفكر السياسي لمحمد عبده
__________
(1) الإمام عبده ، محمد / الأعمال الكاملة ، ج1 ، ص87 .
(2) ينظر : العقيد يوسف / قراءة في حياة عبد الرحمن بدوي ، مجلة ( وجهات نظر ) القاهرة ، عدد (14) ، آذار 2000 ، ص53 .
(3) قلعجي ، قدري / المصدر السابق ، ص76 .
(4) الوردي ، د. علي / لمحات اجتماعية من تاريخ العراق الحديث ،ج3 ، بغداد ، 1972 ، ص326 .
(5) أمين ، احمد / المصدر السابق ، ص 64- 65 .(1/118)
كانت نقطة الانطلاق في التفكير السياسي للشيخ محمد عبده أن الطريق إلى نهضة العرب والمسلمين لا يتم آلا بعد تحرير المجتمع من الداخل والخارج (1) ، إذ رأى عبده أن تحرير المجتمع ألا سلامي من الداخل يتطلب أول ما يتطلب محاربة كل ضروب الاستبداد المخيمة على حياته والسعي من اجل حرية الإنسان، مؤكداً أن تحرير المجتمع يجب أن يرتكز على وضع تشريعات عادلة تتصل اتصالا وثيقاً بعادات وتقاليد وأخلاق وعقيدة وحال الجماعة التي وضعت من اجلها التشريعات والقوانين (2) ، فركز عبده كما أكد أستاذه الأفغاني على ضرورة أن يحكم أهل مصر البلاد بواسطة (( الاشتراك الأصلي بالحكم الدستوري الصحيح )) ، ألا انه كان قليل الثقة بالجماهير وقيمتها بوصفها غاية أي تغيير إصلاحي ، وإنما كان يعلق الآمال على الطبقة المثقفة المستنيرة ، وراهن على الطبقة الوسطى بوصفها الطبقة الطموحة التي أرادت كسب مواقع الأجنبي في البلاد لحسابها والتسلح بالعلم لخدمة التقدم وتطوير المجتمع ، وان سبب اعتماده على هذه الطبقة ، لأنه يرى أن الطبقة الأولى وهم الخواص والأغنياء ورجال الحكومة لديهم امتيازاتهم لاسيما التي تجعلهم في غنى عن السعي لأي إصلاح أو تغيير في المجتمع (3) ، لذا فانه اعتمد على الطبقة الوسطى بتربيتهم وتعليمهم لان الاستنارة الفكرية هي السبيل لتحقيق نهضة الشرق وتجديد حياته .
__________
(1) محمد ، فاضل زكي / المصدر السابق ، ص361-362 .
(2) المصدر نفسه ، ص362 .
(3) الأمام عبده ، الأعمال الكاملة ، ج1 ، ص317 .(1/119)
وان منهاج عبده لتحرير المجتمع من الداخل لا يقتصر على جانب واحد ، وإنما يمتد ليشمل كل الجوانب من سياسية واجتماعية وتربوية ودينية ، وان الإصلاح لا يتم من جانب معين وتترك الجوانب الأخرى لأنها كل مترابط ، وان حركة الإصلاح يجب إن تكون شمولية وليست أحادية ، لكنه بجانب هذه النظرة الشاملة للتحرير يحاول أن يكشف عن علة الضعف الحقيقية ، فرأى أنها تكمن في تحرير المجتمع من سيطرة الأنانية وانحلال روح الجماعة في نفوس الأفراد التي مردها أما إلى (( الجهل المطلق )) أو (( سبب سوء فهم الإسلام والحياة )) (1) ، محدداً الإصلاح بأنه استعادة لروح الجماعة ، وان أولى مراحل تكوين روح الجماعة تتم بتنشئة الجيل على التعاليم الإسلامية الحقة ، فالفرد يتخلص من أنانيته عندما يضع نفسه في حذوة المجتمع ، فهو يرفض القيم السلبية الفاسدة السارية في المجتمع ويسعى إلى التحرر منها إلى قيم إيجابية صحيحة وبالتالي ترتد إلى إصلاح الأشخاص وإصلاح الأنظمة واهم سبيل لإصلاح الأشخاص هو الدين والتربية . وربط الشيخ عبده بين تحرير المجتمع داخليا مع تحريره خارجياً ، فقد اتفق مع الأفغاني على أن النفوذ الأجنبي يتغلغل في المجتمعات والى الشعوب لتحقيق مأربه ومصالحه ، وان الوسيلة لتحقيق ذلك تتم عن طريق توجيه حياة وتفكير المجتمعات التي ينفذ أليها لكي ينسجم ذلك مع أهدافه ومصالحه (2) ،
__________
(1) الأمام عبده ، الأعمال الكاملة ، ج1 ، ص362 .
(2) محمد ، فاضل زكي / المصدر السابق ، ص362-363 ..(1/120)
وعبر علاقة جدلية حددها عبده في أن هدف تحرير المجتمع من الداخل يلتقي مع هدف تحريره من الخارج ، ففي كل منهما تظهر الحاجة إلى تماسك المسلمين لكي يسترجعوا قوتهم ، وفي كل منهما تظهر الحاجة إلى العمل من اجل القضاء على الضعف والتخلف ، وعد الشيخ عبده أسباب الضعف الخارجي هو تسرب عناصر غير عربية إلى الإدارة ألا سلامية لا سيما الفرس والجنود الأجانب الأتراك (1) ، معدا هؤلاء ((مؤمنين شفاها لا قلبا)) وهم في نظر عبده العامل الرئيس في انحلال الدولة العربية ألا سلامية (2) ، ومجد العرب وأظهر دورهم الحضاري آلا انه على الرغم من ذلك ، حذرهم من الاستقلال أو الانفصال عن الدولة العثمانية التي أكد على استبدا ديتها وجمودها وتخلفها ، لأنه كان يعتقد آن انفصال العرب عن الدولة العثمانية سيجر إلى تدخل أوربي يؤدي في النتيجة إلى إخضاع العرب والأتراك معا للغرب (3) . ومن هذا المنطلق فان عبده يجد آن الحكم العثماني ، على الرغم من كل نواقصه ومساوئه ، لا يزال يمثل التجسيد الأخير للاستقلال السياسي للامة (4) ، وان رأيه هذا مبني على أساس تجسيدهم للدين ألا سلامي فأنها ((وحدها المحافظة لسلطان الدين الكافلة ببقاء حوزته ، وليس للدين سلطان في سواها)) (5)
__________
(1) عليوي ، هادي حسن / اليقظة العربية في المشرق العربي خلال القرن التاسع عشر ، المجلة الثقافية ، الجامعة الأردنية ، العدد (56 ) تموز 2002 ، ص 77 .
(2) رضا ، محمد رشيد / تاريخ محمد عبده وخلاصة سيرة جمال الدين الأفغاني، بيروت، 1949، ص511- 512.
(3) عليوي ، هادي حسن / المصدر السابق ، ص27 .
(4) رضا ، محمد رشيد / المصدر السابق ، ص913 .
(5) الأمام عبده / الأعمال الكاملة ، ج3 ، ص 72 ..(1/121)
لكون الدولة العثمانية هي الوجه السياسي للإسلام الذي يراد تحديثه وتقويته في مواجهة الغرب (1) ، فحرصه على السلطة العثمانية ليس حرصا على نظام سياسي بل كان حرصا منه على الوحدة ألا سلامية لكونها هي السبيل الوحيد لحفظ هذه الوحدة ، لكن هذا لا يمنع أن عبده قد انتقد الدولة العثمانية وطالب بإصلاح أوضاع الخلافة رافضا الاستبداد ، وضمن هذا الإطار فان عبده دعا إلى بقاء الرابطة العثمانية التي تجمع بين الشعوب الخاضعة للحكم العثماني وتعزيزها، ولكن على أساس ألا صلاح الذي ينبغي أن يطول نواحي الحياة الثقافية والاقتصادية والسياسية والعسكرية (2) ومن الوسائل التي برز بها رأي عبده هذا هو اهتمامه بالجامعة الإسلامية لأنه رأى فيها الوسيلة التي تمكن الأمة الإسلامية من الصمود في وجه الدول الأوربية التي كانت ماضية في التوسع بالبلدان العربية وعدها أساس الكفاح من اجل القضاء على الاستعمار والنفوذ الأجنبي (3) وعلى هذا الأساس كافح الشيخ عبده في سبيل الأمة العربية قبل كل شيء وكره النفوذ الأجنبي حتى وصل به الحال أن وصفهم بالشياطين (4) مطالبا بتكوين وإقامة حكومة إسلامية عامة .
أراء الشيخ عبده في بعض المفاهيم والمصطلحات السياسية :-
1. الوطنية :-
__________
(1) برا ونه ، فالتر / الفكرة القومية عند العرب ، ترجمة عن الألمانية ، رضوان السيد ، مجلة (قضايا عربية)، العدد الرابع ، السنة الخامسة ، سبتمبر 1978 .
(2) الجوراني ، عبد الزهرة مكطوف / المصدر السابق ، ص143 .
(3) محمد زكي / المصدر السابق ، ص 363 .
(4) وحيدة ، صبحي / في أصول المسألة المصرية ، القاهرة ، د .ت ، ص226 .(1/122)
عدها عبده هي (( أن تخلص المحبة للوطن إخلاصا ينبعث عنه السعي بكامل الجهد في التماس ما يعود عليه بالتقدم والنجاح )) (1) لا ((الألفاظ)) المحفوظة ذات المعاني المبتذلة المطروحة ، ولا التأسف وهز الرؤوس والإكثار من التنهدات التي ليست منبعثة عن واعية في القلب ولازمة في الفؤاد تستوجب النهوض لإزالة الضرر والسعي من رفع الملمات (2) ، وشدد على آن (( الإنسان لا ينال الشرف الإنساني والسعادة الحقيقية ... آلا إذا اصلح حال وطنه فتقدمت أبناؤه وتحلت نفوسهم بالمعارف وصفات الكمال ... فاخذ كل واحد حقه ، وأدى الواجب عليه ... وان بدت منفعة لأي منهم تظافر الكل على جلبها ، وان ألمت به ملمة اتحدت قوى الجميع على أبعادها )) (3) ، هنا يدعو عبده الفرد إلى التضحية لتحقيق المجتمع المثالي فبتعاون الأفراد جميعهم على بنائه وإصلاحه ، ولا شك آن كل وطني يسره أن يرى بلاده ترتقي إلى المعالي، وهذا يكون (( بتثقيف العقول وتربية الإفهام وحفظ الأبدان ... وربط الجنس برباط المحبة والوداد )) (4) . وبدعوته إلى آن تنهض بعبء ألا صلاح المنشود الطبقة الوسطى رأى آن ((مركز النظر في ذلك نبهاء البلاد ، وذوا الشأن فيها ، فعليهم آن كانوا صادقين في الوطنية آن يبذلوا الجهد في طلب ذلك، والقيام بما يلزم)) (5) ، نرى من ذلك وبوضوح نظريته الطبقية ،واعتماده الكلي على الطبقة المكافحة الطموحة وهي الطبقة الوسطى التي عن طريقها يمكن آن يتحقق التقدم والرقي وهذا يكون بالتربية والتعليم لتكوين جيل لديه الاستعداد الكامل والمؤهل للتصرف المفيد للبلاد.
__________
(1) الأمام عبده / الأعمال الكاملة ، ج1 ، ص292 .
(2) المصدر نفسه ، ص293 .
(3) المصدر نفسه ، ص289 .
(4) المصدر نفسه ، ص290 .
(5) المصدر نفسه ، ص308 .(1/123)
أذن لا بد من استنارة الشعب وفهمه لحقوقه وواجباته فالشعب الجاهل يساعد الأعداء على نفسه ، ولهذا يجب الاهتمام بتعليم الشعب وتثقيفه ، لذا فان عبده قرن حب الوطن بمعرفة الحقوق وأداء الواجبات فقال بهذا الصدد : (( لقد كان بعض الناس يحاولون خلع الشعار الوطني عن ذوي الحقوق والواجبات في مصر ولباسهم جميعا لباس الجهالة والذل ، ولكن آبت الحوادث آلا آن تثبت لنا وجودا وطنيا ، ولوكره المبطلون )) (1) وربط بصورة جدلية بين الواجب والحق والحرية وعد الحرية بأنها (( حق القيام بالواجب المعلوم ، فان لم توجد فلا وطن لعدم الحقوق والواجبات السياسية ، وان وجدت فلا بد معها من الواجب والحق )) مؤكدا على ضرورة تلازمهم في وحدة متفاعلة (2) .
2. الدستور :-
كان عبده من دعاة العمل بدستور مكتوب لأنه وجد في هذا الدستور تقيدا لسلطة الاحتلال البريطاني وسلطة خديوي مصر ، وضرورة أن يكون إعلان الدستور (( ضمانا من السلطتين باحترامه ومنع المساس بحكومته .. وان يكون للمجلس النيابي حق الأشراف على السلطة التنفيذية أو سلطة الوزارة ، فإذا اختلف مجلس النواب ومجلس الوزراء وعرض الخلاف على هيئة مشتركة من النواب وقضاة محكمة الاستئناف ، وتلتزم الوزارة بحكم هذه الهيئة ، فلا يكون أولى الأمر من سلطان على هذا الحكم إلا ما يتقبله الوزراء ويتحملون تبعته في حدود الدستور والقانون )) (3) .
__________
(1) حوراني ، البرت / المصدر السابق ، ص 196-170 .
(2) عيسى ، صلاح / الثورة العرابية ، بيروت ، 1972 ، ص200 .
(3) العقاد ، عباس محمود / المصدر السابق ، ص166 .(1/124)
أن أي تحليل لمضمون هذا النص يدلل على أن عبده كان يعتقد بان الحكم المقيد بدستور مكتوب هو الذي يضمن للشعب حقوقه في الوقت الذي يعرف الشعب بموجبه واجباته ، وضرورة آن يكون للمجلس النيابي المنتخب من قبل الشعب حق الأشراف على أعمال الوزارات المختلفة لكي تؤدي هذه الوزارات أعمالها بدقة وتشعر أن هناك رقيب شعبي عليها ، وان لا يتدخل المسؤول الأعلى من خديوي أو سلطة بريطانية في شؤون الوزارات ألا بما يخدم المصلحة العامة ويتناسب مع الدستور المكتوب ونصوص القانون ، فيصبح المجتمع على وفق ذلك مجتمعا سليما . بذلك يكون عبده مؤمنا بنظرية العقد السياسي (1) الذي يعد من وجهة نظر الفكر العربي ألا سلامي (( أسلوب واقعي في تنظيم حياة المجتمع السياسي ، وهذا الأسلوب يهدف إلى عدم ترك المجتمع سائبا ... ومن هنا وجد العقد السياسي لإقامة دولة وحكومة على وفق نظام معين ... فهو لا ينظم العلاقة بين الأفراد والمجتمع ، وإنما ينظم علاقة بعضهم ببعض أيضا )) (2) ، وتأتي أهمية العقد السياسي أيضا في كونه يمنع قيام التسلط واحتكار السلطة أو التصرف بمقدرات الأمة من قبل فرد أو أفراد قليلين ، فرفض ذلك عبده ودعا إلى توسيع المشاركة الجماهيرية الشعبية عن طريق المجالس التمثيلية التي لها حق الأشراف على عمل الحكومة كما آن من شأن العقد السياسي أن يخلق نظاما وحكومة دستورية مقيدة فتصبح الدولة على وفق ذلك دولة دستورية أو دولة تقوم على قانون أعلى (3) ، وعد عبده (( احترام قوانين الحكومة وأمرها من سعادة الأمة )) (4)
__________
(1) للتفصيل عنه يراجع : الريس ، محمد ضياء الدين / النظريات السياسية ألا سلامية ، القاهرة ، 1960 ، ص166-168 .
(2) محمد ، فاضل زكي / المصدر السابق ، ص166-167 .
(3) المصدر نفسه ، ص152 .
(4) الأمام عبده / الأعمال الكاملة ، ج1 ، ص277 ..(1/125)
يربط عبده بين احترام القانون وتحقيق سعادة الأفراد ، ومن هذا المنطلق فهو يدعو الأفراد إلى حفظ القانون ظاهرا وباطنا وان يتمسك به حتى يكون ركنا مهما من أركان حياته لأنه ملاك سعده وأساس مجده ، ومن دون هذا القانون يكون مضغة تحت أضراس الظلم ، فالقانون هو الذي يحقق للأفراد العدل والسعادة ، والله عز شأنه قد أقام الكون بنظام الحكمة ورتب لكل شيء حدودا ، فان خرج عنه انحدر إلى مهاوي العدم والفناء (1) فقال بهذا الصدد (( إنما تسعد البلاد ، ويستقيم حالها ، إذا ارتفع فيها شأن القانون ، وعلا قدره ، واحترمه ألحا كمون قبل المحكومين واستعملوا غاية الدقة في فهم فصوله وحدوده ... وسهروا لتطبيق أعمالهم جزئية وكلية على منطو قه الحقيقي ومفهومه ... علما آن اسعد البلاد ما نفذ فيها حكم القانون خصوصا أن كان ذلك القانون عادلا يوافق مصلحة البلاد )) (2) .
3. السلطة :-
__________
(1) المصدر نفسه ، ص284.
(2) المصدر نفسه ، ص278 .(1/126)
من أهم سمات السلطة التي دعا لها عبده هو عدم ذوبانها في الدين فقد ركز على أن تكون السلطة مدنية ، فانه رفض رفضا قاطعا أن يكون الدين ألا سلامي نصيرا لقيام سلطة دينية في المجتمع بأي وجه من الوجوه ، وبأي شكل من الأشكال ، إذ يقول (( ليس في الإسلام سلطة دينية ، سوى الموعظة الحسنة والدعوة إلى الخير والتنفير عن الشر ، وهي سلطة خولها الله لأدنى المسلمين يقرع بها انف أعلاهم ، كما خولها لأعلاهم ينال بها من أدناهم )) (1) ، وعلى هذا يؤكد عبده آن النظام في الإسلام مدني ، وما يبدو من سلطة دينية لا يعدو كونه جزءا من الأخلاق والأمر بالمعروف وهذا ليس حكرا على أحد بل يشمل سائر المسلمين لأنه من صميم التكليف والواجب الشرعي ، ومن هذا المنطلق فان عبده يرى آن الحاكم في هذا المجتمع هو (( حاكم مدني من جميع الوجوه )) وان اختياره وعزله إنما هما آمران خاضعان لرأي البشر لاحق الهي يتمتع به هذا الحاكم بحكم الأيمان وبذلك رفض عبده نظرية (( الحق الإلهي )) (2) التي جاء بها الحكام الأوربيون الذين ادعوا انهم يحكمون شعوبهم بتفويض من الله ، أو انهم يمثلون الله في الأرض ، وان الله لولا الميزات التي لديهم لما اختارهم حكاما على الناس ، فبرروا بذلك استبدادهم ودكتاتوريتهم بهذا المنطق ورأى عبده آن تقرير (( مدنية )) السلطة السياسية في المجتمع لا تتنافى ، بأي حال من الأحوال .
__________
(1) الأمام عبده / الأعمال الكاملة ، ج1 ، ص104 .
(2) عمارة ، محمد / الأفغاني ومحمد عبده ، مجلة ( الطليعة ) أبريل 1969 ، القاهرة ، ص55 .(1/127)
مع وجود (( الشرع )) إلى جانب الدين في الإسلام فيقول بهذا الصدد ومع أن الإسلام (( دين وشرع ، فقد وضع حدودا ورسم حقوقا ، وليس كل معتقد في ظاهر أمره بحكم يجري عليه في عمله ، فقد يغلب الهوى ، وتتحكم الشهوة ، فيغمط الحق ، ويتعدى المعتدي الحد، فلا تكمل الحكمة من تشريع الأحكام ألا إذا وجدت قوة الإقامة الحدود وبتنفيذ حكم القاضي بالحق ، وصون نظام الجماعة ، وتلك القوة لا يجوز أن تكون فوضى في عدد كثير ،فلا بد أن تكون في واحد ، وهو السلطان أو الخليفة ... فالأمة أو نائب الأمة ، هو الذي ينصبه والأمة هي صاحبة الحق في السيطرة عليه ، وهي التي تخلعه متى رأت ذلك من مصلحتها ، فهو حاكم مدني من جميع الوجوه )) (1) .
نتوصل من ذلك إلى وجود قاعدتين أساسيتين للسلطة المدنية عند عبده وهما:
1- أن أحكام الشريعة الإسلامية هي المصدر الرئيس للتشريع ، وان شرعية أي سلطات إنما تنجم عن حسن وفائه لهذه القاعدة .
2- أن الأمة تمثل مصدر السلطة فأليها يؤول حق تولية الحاكم ، والاحتساب عليه ، وعزله عند الاقتضاء ، لان السلطة حق مدني يعود أليها بما هو وسيلة لتنظيم أمورها ، وتحقيق مصالحها ، وصون حقوقها (2) .
__________
(1) الأمام عبده / الأعمال الكاملة ، ج1، ص105 .
(2) بلقزيز ، عبد الاله / الدولة في الفكر الإسلامي المعاصر (مركز دراسات الوحدة العربية ) ، بيروت ، ديسمبر 2002 ، ص51 .(1/128)
ورفضه لوجود سلطة دينية في الإسلام قاده إلى الأيمان بمدينة السلطة في المجتمع ، ومدينة مؤسسات هذا المجتمع ، ومن ثم إلى اتخاذ الطابع القومي المدني، الذي لا يفرق بين المواطنين بسبب الاعتقاد الديني ، أساسا ومنطلقا لصيغة نظام الحكم ، ولعل ما صاغ عبده في المادة الخامسة من برنامج الحزب الوطني المصري في أيلول 1881 ما يدلل على ذلك ، فقد ورد فيها أن (( الحزب الوطني حزب سياسي ، لا ديني ، فانه مؤلف من رجال مختلفي العقيدة والمذاهب وجميع النصارى واليهود ، وكل من يحرث ارض مصر ويتكلم لغتها منظم أليه ، لأنه لا ينظر لاختلافات المعتقدات ، ويعلم أن الجميع أخوان ، وان حقوقهم في السياسة والشرائع متساوية )) (1) . وهكذا انطلق عبده من منطلق قومي في نظرته إلى أبناء الشعب المصري ، وحدد نطاق العقائد الدينية ،وإذ لا تؤثر تأثيرا سلبيا على الروابط القومية التي تجعل من المصري كل من يحرث ارض مصر ، ويضرب بجذوره الحضارية في أعماق هذا البلد الذي يعيش فيه ، فساوى بين أبناء البلد الواحد فتجانس مع النظرية السياسية الإسلامية التي تؤكد على أن لا تمييز بين الأفراد على أساس اللون أو العنصر أو الجاه أو الغنى (2) ، وبتعبير أدق انه ليس هناك فرق بين الإنسان وأخيه الإنسان في الحياة السياسية والاجتماعية ألا بما يمتازون على غيرهم من كفاءة وخدمة للمجتمع .
4. مبدأ الشورى :-
أن الشيخ عبده كان مؤمنا بمبدأ الشورى (( الذي يعني أدبيا تبادل الرأي ، أما سياسيا فمعناه التفكير الجمعي في معالجة وحل المشاكل السياسية )) (3) .
__________
(1) الريس ، محمد ضياء الدين / المصدر السابق ، ص283-284 .
(2) المصدر نفسه ، ص283-284 .
(3) محمد ، فاضل زكي / المصدر السابق ، ص169 .(1/129)
ويمثل مبدأ الشورى صيغة من صيغ القيادة الجماعية ، فهو يمنع الاستئثار بالسلطة من قبل أي فرد من ناحية ، ويعمل على الوصول إلى رأي افضل من ناحية أخرى ، وهو يمثل لنا الحكم الذي يقوم على التوافق والرضا بين الحاكم والمحكوم ، إذ أن رأي الجماعة خير من رأي الفرد ، وقاعدة رأي الجماعة لا يقتصر مداها على حياة الأمة السياسية ، وإنما يمتد إلى جميع جوانب الحياة (1) . فدافع عبده عن نظام الشورى لا لكونه يستطيع معالجة تخلف الحكم المصري واستبداده فحسب ، بل عده (( واجبا محتوما )) لان الناس والحكومة ترغب فيه ، وعده نصيرا للقانون ، وناضل بنفسه من اجل الحكم (( الشوري )) الدستوري ، والحكومة المقيدة بالمؤسسات الدستورية والنيابية وبما آن عبده عد الشورى واجبه (( فان طريقها مناط بما يكون اقرب إلى غايات الصواب ، وأدنى إلى فطان المنافع ومجالبها ... وان نزوع بعض الناس إلى طلب الشورى ونفورهم من الاستبداد ، ليس واردا عليهم من طريق التقليد للأجانب ، ولا أتيا لهم من ذم بعض الجرائد فيها .. بل ذلك نزوع إلى ما هو واجب بالشرع ، ونفور كما منعه الدين وقيمة العلماء ... )) (2) ، فهو أذن يوضح أهمية الشرع في تقرير الواجب ويركز على دعوته التي سايرت فكره في النفور من الاستبداد ومن الآثار الإيجابية لمبدأ الشورى التي حددها عبده هي :
أ- تبادل الرأي وسماع الرأي الآخر .
ب- تفضيل المصلحة العامة على المصلحة الخاصة .
ج- تعيين القانون على التطبيق .
د- توحد الناس ونجعلهم يشعرون بالمسؤولية الجماعية (( لكي يسلكوا الطريق الأقوام ، طريق الشورى والتعاضد في الرأي )) (3) .
__________
(1) زيدان ، عبد الكريم / الفرد والدولة في الشريعة ، بغداد ، 1965 ، ص23 .
(2) الوقائع المصرية ( صحيفة ) ، العدد (1279) ، ديسمبر 1881 ،
(3) المصدر نفسه .(1/130)
هـ-أن مبدأ الشورى آمر ملزم لتحقيق العدالة الاجتماعية التي من شأنها بناء مجتمع عربي إسلامي قوته من قيم الإسلام وتطبيقاته في الأرض (1) .
المبحث الثالث/ جدلية العلاقة بين السياسة والتربية في فكر محمد عبده
تعد السياسة في جوهرها (( تساؤل العقل عن الحياة الفضلى ، والمدنية الفاضلة ، والقانون العادل ، والنظام الحق ، والحاكم الصالح ، والإنسان الحر السعيد )) (2) . فكان من الطبيعي أن تستحوذ اتجاهاتها وأبعادها وشؤونها على فكر الشيخ عبده ، شأنه في ذلك شان العديد من المفكرين الإصلاحيين الذين كانوا يرنون بأبصارهم من اجل إصلاح حال الأمة الإسلامية عن طريق طروحاتهم التي عبروا عنها طوال حياتهم التي عاشوها (3) . وغدا موضوع احترام حقوق الشعوب وتخليصها من طغيان الحكام أحد المرتكزات الأساسية لدعوة عبده الإصلاحية ، واحتل موضوع (( إصلاح الشرق والشرقيين )) مما أصابه من انحطاط وتأخر قياساً بما كان عليه من تقدم ومدنية في العهود الماضية حيزاً واضحاً في الفكر السياسي لعبده ، ولم يلبث عبده بأنه وجد بان المعضلة الأساسية تكمن في طبيعة السلطة السياسية القائمة في اغلب أقطار الشرق وقيامها على التعسف والظلم وإبقاء الرعية متخلفين عن الركب الحضاري (4) .
__________
(1) محمد ، فاضل زكي / المصدر السابق ، ص170 .
(2) صعب ، حسن / علم السياسة ، بيروت ، 1966 ، ص7 .
(3) المحافظة ، علي / المصدر السابق ، ص106 .
(4) المصدر نفسه ، ص106-107 .(1/131)
وطرح الشيخ عبده برنامجاً تربويا رسمه بنفسه لكي ينهض الحاكم ((المستبد العادل)) (1) بأدائه ، وموقف أتاح من خلاله فتح نافذة كبيرة على المجتمع الذي يراد به أحداث التغيير السياسي والإصلاحي المنشود فيه ، فعبر عن ذلك بقوله في عملية أعداد المجتمع والفرد : (( ليكفي لإبلاغهم غاية لا يسقطون بعدها خمس عشرة سنة ، وهي من مولود لم يبلغ الحلم ، يولد فيها الفكر الصالح وينمو تحت رعاية الولي الصالح ، ويشتد حتى يصرع من يصارعه خمس عشرة سنة يثني فيها أعناق الكبار إلى ما هو خير لهم ولأعقابهم ، ويعالج ما اعتل من طباعهم بالجنح إلى أنواع العلاج ، ومنها البتر والكي إذا اقتضت الحال ، وينشئ فيها نفوس الصغار على ما وجه العزيمة نحوه ، ويسدد بناتهم بالتثقيف ، يتعهدها كما يتعهد الغارس شجرة بضم أعواد مستقيمة إلى سوقها لتنمو على الاستقامة )) (2) .
__________
(1) * معنى الاستبداد الذي قصده عبده هو ليس الدكتاتورية والطغيان وإنما هو فرض سيادة الدولة على جميع أطرافها والقائم على أساس تحقق العدل المطلق ، والحقيقة آن وجود مثل هذا الحاكم أمر شبه مستحيل ذلك لان أمر تحقيق هذا العدل مفقود حتماً .
(2) الأمام عبده ، محمد / الأعمال الكاملة ، ج1 ، ص717 .(1/132)
... وأوضح عبده طروحاته الفكرية القائمة على العلاقة الجدلية بين السياسة والتربية ، عندما أكد أن الحاكم (( المستبد العادل )) يجب أن يساعده عددا من الأعوان له لأداء المهمة الإصلاحية المطلوبة في المجتمع، فيؤدي ((المستبد العادل )) الدور الرئيس في التوجيه والحكم من دون أن تشاركه الأمة في مهامه حتى يحدث فيها الوعي المطلوب ، إذ من دون الوعي التربوي لا مجال للتغيير السياسي ، ولان كل تغيير يكون نتيجة وعي بالظروف والأهداف والغاية ، وبهذا الصدد يقول : (( حتى إذا عرفت الأفكار مجاريها بالتعريف ، وانصرفت إلى ما أعدت له بالتصريف ، وصح الشعور بالتعليل ، واستقامت الأهواء بالتعديل ، أباح لهم من غذاء الحرية ما يستطيع ضعيف السن قضمه ، والناقة من المرض هضمه )) (1) .
__________
(1) المصدر نفسه ، ص717 .(1/133)
يوضح هذا النص على أن عبده يشدد على ضرورة أعداد الجماهير بالتربية والتعليم والوصول بها للاستنارة الفكرية وبذلك يمكن إعطائها الحرية المطلوبة ، مركزاً على أهميتها الاستثنائية في تحقيق الأهداف السياسية التي ينشدها المجتمع، إذ كان يرى فيها افضل وسيلة تدفع بني قومه للتخلص من عاداتهم وأفكارهم البالية إلى ما هو أرقى وأعلى (( على أساس تحول هادى وتدريجي يوصل إلى الهدف المنشود من حيث لا يشعرون )) لان من يريد (( خير البلاد فلا يسعى ألا في إتقان التربية ، وبعد ذلك يأتي له جميع ما يطلبه أن كان طالباً حقاً ، بدون أتعاب فكر ، ولا إجهاد نفسي )) (1) كما كان يؤكد ذلك مراراً ، وعبر صياغاته الفكرية المتعددة والمختلفة ، دعا صراحة إلى ترك الحكم والسلطة السياسية إلى النخبة المتنورة ، أو الصفوة المتعلمة من الخواص (2) إلى أن يتكون رأي عام داخل المجتمع من أبناء الطبقات الأخرى عندما ينتشر بين صفوفهم ((التعليم الصحيح)) و (( التربية النافعة )) و (( الرأي الذي يصعب مواجهته من قبل الآخرين من الذين لا يمتلكون تربية رصينة ولا تعليماً متميزاً )) (3) .
__________
(1) H. Masse, Islam, Moscow, 1961, pp. 199-200.
(2) * هذا يذكرنا بجمهورية أفلاطون (( وقوله أن الحكم يكون للخواص وهم الفلاسفة )) وقوله بالطبقية وخاصة في(( أسطورة أبناء الأرض )) للمزيد يراجع : جمهورية أفلاطون ، الباب الثالث والسابع / المصدر السابق .
(3) H. Masse, Islam, Moscow, 1961, pp. 199-200. .(1/134)
ووصل هذا الربط إلى حد جعل التربية مرادفة للسياسة إلى الحد الذي ربط فيه جلاء القوات البريطانية عن مصر بصورة مباشرة ، لان الجلاء في نظره لا يمكن أن يتم (( ألا عن طريق استنارة الشعب وفهمه لحقوقه وواجباته ، وغضبه على الاعتداء على حقوقه وهمته في أداء واجباته ، ومصر لم تبلغ هذا المبلغ ، ووسيلة إصلاحها التربية والتعليم )) (1) .
فالتربية أذن ركناً أساسيا من أركان إصلاح المجتمع وربط عبده بين التربية والسعادة ، فالتربية هي الأساس لتكوين الإنسان وتحقيق سعادته ويكون ذلك بتحليه بالأخلاق الحميدة كالصدق والأمانة ومحبة النفس ومحبة الآخرين وبهذه الطريقة يتم صلاح الفرد والمجتمع .
ومن الروابط التي توضح العلاقة بين التربية والسياسة قوله في إحدى خطاباته التي ألقاها في الجمعية الخيرية الإسلامية المصرية (( أن سنة الله في خلقه أن توجد الروابط في العائلات ، ومنها الفروع ... ومنها الأصول القومية ، ومنها إلى مجموع الأمة التي هو منها ، أذن فلابد من الوقوف على كنه هذه الروابط ومعانيها ، وإذا تمكن العلم الحقيقي من نفس الإنسان لتعلم كل شيء ، وبحث في طريق النجاح في كل شيء )) (2) .
__________
(1) الأمام عبده ، محمد / الأعمال الكاملة ، ج1 ، ص718 .
(2) (( مجلة المنار )) ، الجزء الأول ، بمجلد (26) ، 14 أيار ، 1906 ، ص759 .(1/135)
أن ما جاء به الشيخ عبده ودعا أليه من دور للأسرة في التربية كان متقدماً على عصره في طرحه ، مركزاً على أن صلاحها وأقامتها على أسس سليمة ((هو الضمان لتكوين المجتمع والأمة على النحو الذي نريد من جهودنا في الإصلاح)) (1) فان صلحت الأسرة صلح المجتمع ، وهكذا أكد على التلازم الجلي بين الأسرة والمجتمع وضرورة أن تخدم الأولى حركة الثانية لان المجتمع هو مجموع الأسر ، التي عليها أن تقوم بتربية الأبناء والبنات التربية الرصينة القادرة على خلق المجتمع المثالي المتماسك ، فربط عبده بين صلاح الأسرة وتربيتها لأبنائها تربية رصينة من شأنه أن يجعلها نموذجاً للأسر الأخرى ، وبإمكان هذه الأسرة أن تؤثر على الأسر التي ترتبط معها بعلاقات قرابة ، فقال بهذا الصدد أن (( صلاح البيت الصغير يحدث له قوة ، فإذا عاون أهله البيوت الأخرى التي تنسب إلى هذا البيت بالقرابة وعاونته هي أيضا ، يكون لكل البيوت المتعاونة قوة كبرى يمكنه أن يحسن بها إلى المحتاجين الذين ليست لهم بيوت ، تكفيهم مؤونة الحاجة إلى الناس الذين لا يجمعهم بهم نسب ... )) (2) .
ومن هذا المنطلق قوم عبده دور الأسرة في التربية وحياة المجتمع وعملها مسؤولية الإصلاح والنهوض بالمجتمع ، لان الأسرة هي اللبنة الأولى في البناء التربوي .
وكما أشرنا سابقاً إلى أهمية أن يكون العلم الحقيقي من قواعد التربية بمفهومها الأوسع والاشمل والتي تدفع الإنسان إلى أن يعلم العلاقة الموجودة بينه وبين غيره من أفراد جلدته ، فالعلم والتربية صنوان يعلمان الإنسان ومن معه ما يخدم المجتمع ، فيتكون بسبب ذلك شعور واحد وروابط واحدة هي ما يسمونه بالاتحاد (3) .
__________
(1) الأمام عبده ، محمد / الأعمال الكاملة ، ج1 ، ص157 .
(2) المصدر نفسه ، ص170 .
(3) الأمام عبده ، محمد / الأعمال الكاملة ، ج1 ، ص157 .(1/136)
وفي ضوء ذلك يكون هدف التربية الأسمى تحقيق وحدة المجتمع ، وتعزيز الروابط بين أبناءه ، فأدرك الشيخ عبده بنظرة ثاقبة هذه العلاقة الجدلية بين التربية والسياسة ، لذلك أدرك أن التربية ضرورية لبناء الإنسان وتوجيه فكره السياسي ، وتطوير المجتمع وتقويمه ، فالحاجة إلى التربية في المجتمع مثل الحاجة إلى الاتحاد ، ويتساءل عبده (( كيف يوجد اتحاد بين أمة فسدت أخلاقها ، وقد انعكست آية الوجدان ، فإذا الإنسان اجفى ما لديه الأقرب فالقريب فالبعيد فالأبعد )) (1) ، وقد مثل عبده الاتحاد بين الناس وعدم السماح لأهواء السياسة بتفريقهم بثمرة الشجرة ذات فروع وأوراق وجذوع وجذر هي الأخلاق الفاضلة بمراتبها ، فعلى المسلمين إذا أرادوا الاتحاد ، أن يربو تربية إسلامية حقيقية ليجنوا تلك الثمرة ، وبغير ذلك كل ((أمل باطل وكل الأماني أحلام أو أوهام، وكل احتجاج بغير سعي عجز )) (2) أكد الشيخ عبده على ضرورة اهتمام السلطة السياسية بالتربية لأنه عد ذلك من أولى مهامها ، فهي اللبنة الأساسية في بنيان الأمة ، وإذا ما أر دنا إقامة مجتمعا سليما وبنيانا قومياً ينهض برسالته ويتحدى الأفراد فيها ما يحدق بمجتمعهم من مخاطر وتحديات فعلينا أن نركز على التربية القويمة (3) .
__________
(1) (( مجلة المنار )) ج1 ، المجلد (26) ، 14 أيار 1906 ، ص756-757 .
(2) المصدر نفسه ، ص757 .
(3) عمارة ، محمد / الإسلام والمرأة في رأي الأمام محمد عبده ، القاهرة ، 1975 ، ص11 .(1/137)
وتوضح العلاقة بينهما أيضا من خلال الربط بين صلاح الأفراد بتربيتهم السليمة وصلاح المجتمع الذي يكون فيه الحاكم السياسي مسؤولاً عنه فقال بهذا الصدد : (( ومن لا خير فيه للناس لا يصلح أن يكون جزءاً من بنية أمة ، لأنه لم تنفع فيه اللحمة النسبية التي هي أقوى لحمة طبيعية تصل بين الناس ، فأي لحمة بعدها تصله بغير الأهل فتجعله جزءاً منهم ، يسره ما يسرهم ، ويؤلمه ما يؤلمهم، ويرى منفعتهم عين منفعته ، ومضر تهم عين مضر ته ، وهو ما يجب أن يقوم به كل شخص لامته )) (1) .
وقد أثرت المرحلة التي اشترك فيها عبده في الثورة العرابية وما بعدها على طروحاته في مجال العلاقة بين التربية والسياسة ، فقد اتجه عبده إلى التربية وعدها وسيلة وسبيلا مهماً للتغير ، ورأى فيها (( العصا السحرية لحل مشكلات التأخر للمجتمع الإسلامي )) (2) . فدعا إلى تعليم الفقراء وتربيتهم لأنه وجد أن هناك علاقة بين تخلفهم وبين قبولهم بالظلم الاجتماعي والاستبداد السياسي للحكام فقال بهذا الصدد : (( أن الأمة ذات البساطة في الأفكار والمهارة في المعارف هي الأقوى سلطاناً والاقوم سياسة ، وهي الغالبية على سواها من الأمم ... أفلا يفهمون انهم أن لم يكونوا نصراء لجيش العلم اصبحوا على شفا الخطر )) (3) .
__________
(1) الأمام عبده ، محمد / الأعمال الكاملة ، ص225-226 .
(2) أمين ، قاسم / الأعمال الكاملة ، تحقيق محمد عمارة ، ج1 ، بيروت ، 1976 ، ص247 .
(3) الأمام عبده ، محمد / الأعمال الكاملة ، ص31-42 .(1/138)
وعندما عاد عبده إلى مصر بعد قضائه مدة نفيه في الخارج تفرغ للتربية أكد في طروحاته عليها وعدها بديلاً للعمل السياسي ، وكان أبلغ درس تعلمه من تجربته السابقة في العمل السياسي انه وقف بصورة افضل على حقيقة ألاعيب السياسة الدولية ، ولاسيما سياسة البريطانيين ، مما ترك في نفسه ألما عميقاً عبر عنه بكرهه للسياسة ، وأساليب السياسيين ، التي تقتضي المناورة والمساومة وترك الجوانب التربوية خدمة للمصالح وتحقيقاً لها ، فتحدث بمرارة عن ذلك في رسالة بعثها إلى أحد أصدقاءه ورد فيها : (( أعوذ بالله من السياسة ، ومن لفظ السياسة ، ومن معنى السياسة ، ومن كل حرف يلفظ كلمة السياسة ... ومن ساس ويسوس ، وسائس وسوس )) (1) ومع ذلك كان لدى عبده تصورا واضحا لأبعاد المرحلة التي واجهها بعد عودته إلى مصر واكتسابه خبرة في مجال التعامل السياسي مع القوى التي كانت تتحكم بالسياسة المصرية سواء أكانت السلطات البريطانية أو سلطة الخديوي الضعيفة (2) . فوجد أن التكيف مع الأوضاع الجديدة، وطبيعة الاهتمام بتنشئة الجيل الجديد وتربيته تربية رصينة ، وتأسيس المعرفة على الحقائق العلمية والعقلية تفوق الاعتبارات الأخرى التي جعلت منه ، في مرحلة سابقة ، في أعداد المصلحين السياسيين ، ومن هذا المنطلق اتخذ موقفاً مغايراً تماماً من السلطات البريطانية الممثلة بسلطة اللورد كر ومر ، فاصبح يرى أن أي خطوة باتجاه التصادم مع تلك السلطة يمكن أن تزيد من ضعف وتفكيك ما تبقى من قوة التيار الإصلاحي الذي وضع لبناته الأولى وأدان فيها لأستاذه الأفغاني (3) ،
__________
(1) قلعجي ، قدري / المصدر السابق ، ص71 ، أمين احمد ، المصدر السابق ، ص313 .
(2) المصدر نفسه ، ص313 .
(3) H. Masse, op. Cit., p.219..(1/139)
ومن هنا اثر عبده نوعاً من التفاهم ، واقامة نوع من جسور التفاهم مع السلطات البريطانية بدلاً من التصادم معها ، مما غدا يعد السياسة إضاعة للوقت ، وفضل عليها الاهتمام بالجوانب التربوية ، معبراً عن ذلك بقوله (( من سوء حظ المسلمين أن كل من كان فيه استعداد لشيء يشتغل بغيره )) (1) وان كان عبده يظهر كرهه للسياسة ، إنما فعل ذلك لأنه كان يرى أن التمسك بالإصلاح ، لاسيما في المجال التربوي بعيداً عن السياسة وميادينها يمكن أن يعد رفضاً لنفوذ السلطة المحتلة ، ورفضاً للخضوع لها مفضلاً الإفادة من مهادنة المحتلين بدلا من أن يكون ضحية لهم ، وفي هذا المجال يقول محمد رشيد رضا أحد تلاميذه : (( أن غرض الأمام من ذم السياسة ، ومن نهي العاملين بها من المسلمين لأحياء العلم والدين عنها ، وإرشادهم أن يكونوا في عملهم بمعزل عن تأييدها أو مقاومتها ، هو أن السياسة في جميع بلاد المسلمين استبدادية جائرة ، سواء أكان حكامها وساستها من أهلها آم من الأجانب ، فالإصلاح الديني والعلمي هو المطلوب لأنه خير لبلادهم ورعاياهم ... ألا أن ذلك لا يمنع هؤلاء عن الاشتغال بعمل أخر نافع للامة )) ألا وهو التربية (2) .
__________
(1) قلعجي ، قدري / المصدر السابق ، ص313 .
(2) (( مجلة المنار )) الجزء الحادي عشر ، المجلد العاشر ، أيلول 1907 ، ص847-849 .(1/140)
وهكذا يتضح لنا أن عبده عندما اعتزل العمل السياسي في أواخر أيامه كان مرغماً ، فرجع إلى ميله الغريزي في الإصلاح والتجديد عن طريق التربية والتعليم ، لأنها اثبت وأدوم لتحرير العقل والأمة والدولة ، وفي كل الأحوال فان ما قدمه الشيخ عبده يدل على انه كان علماً بارزاً من أعلام النهضة ، وزعيماً من زعماء الإصلاح ، ولم يترك مجالاً من مجالات الحياة ألا وعالجه فكرياً ، ولو لم يكن كذلك لما احتل هذه المكانة المرموقة بين تلامذته ومن عاصروه حتى بقي في ذاكرة التاريخ ، واحد المفكرين المتميزين وجاءت طروحاته في معالجة ما أصاب الأمة الإسلامية لتأكيد صحة تشخيصه لأسباب الانحطاط ، فلم تكن آراؤه حرقة في المطلق ، بل كانت محاولة صادقة للتخلص من وطأة ما كان يعاني شخصياً وما يعاني محيطه منه .
الخاتمة:-
دللت المعلومات الواردة في الرسالة أن الشيخ محمد عبده واحداً من ابرز المفكرين العصريين الذين ظهروا في النصف الثاني من القرن التاسع عشر ، وكانت لطروحاته الفكرية دورها المؤثر في المدة التي عاشها ، والمرحلة التي أعقبتها بشمول فكرة المجالات برمتها ، اذ كان هذا الشمول النتيجة المباشرة للثقافة الفلسفية والدينية والادبية ، تميزت طروحاته الفكرية بالربط الجدلي بين الأسباب والنتائج (1) ، وبين مجال وأخر ، لانه عد عملية الإصلاح عملية شمولية واسعة .
وكنتائج يمكننا أن نصف إسهامات عبده إلى أصناف عدة :-
1. دينية 2. منهجية 3. حداثوية 4. تربوية 5. سياسية
__________
(1) * أن هذا الربط الذي تميز به أسلوب الشيخ عبده نتيجة مباشرة لاطلاعه على الكتب الفلسفية ولا سيما العلوم المنطقية منها ، والتي أشرنا أليها سابقا .(1/141)
1- أعاد عبده تحديد ماهية الإسلام الحقيقي ، وكان أمام تساءل معين هو هل بإمكان المسلم المؤمن بالإسلام كل الأيمان أن يعيش في المجتمع الحديث ؟ ولذلك لم يتوجه بكتاباته إلى الفئة المتسائلة فيما إذا كان بإمكان قبول المدنية الحديثة بقدر ما توجه بها إلى الأخذ بالثقافة الحديثة ، الشاكين بصلاح الإسلام أو صلاح أي دين لهداية الناس في هذه الحياة . أن هذه الفئة كانت تشكل بنظر الشيخ عبده الخطر الأكبر على الأمة فيما لو جرفها تيار العلمانية، غير انه ظل يعتقد مع ذلك من الممكن خروج زعماء الأمة المتجددة من هذه الفئة قبل غيرها .
2- فسر في عملية جدلية سبب جمود وضعف الدعوة الإسلامية وانحلال حضارتها وعد عبده أن الإسلام كان مزدهراً وقويا في المراحل الأولى في الدعوة الإسلامية لانه ارتكز على التفكير العقلاني العلمي لكنه أصيب بالضعف والتدهور بعد تخليه عن هاتين الميزتين وتحوله نحو التقليد .
3- أكد على التآخي بين العلم والدين ، وفسر بعض الآيات تفسيراً علميا وقد رد على أولئك الذين زعموا أن الإسلام اضطهد العلم وحملوه أثم انحطاط أهله ، ولا ننسى أن له دوراً بارزاً في التحقيق معتمدا على المنهج العلمي .
4- قال بقلب السلطة الدينية من أسسها ومحو كل عبودية لغير الله .
5- يتلخص منهجه في فهم الدلالة اللغوية لان اللغة هي المادة الأساسية للتعامل مع النص المعرفي لتكوين منهج الاجتهاد ولقراءة النصوص واستخدام العقل والاستفادة من التقدم العلمي وطرح البدع وصور العقيدة الإسلامية تصوريا سليما معداً أن العلم مرجعة العقل والدين مرجعة الشعور ( الوجدان ) .
6- الحداثة عنده لا تعني رفض التراث ولا القطيعة مع الماضي بل تعني الارتفاع بطريقة التعامل مع التراث إلى مستوى ما يسمى بالمعاصرة لذا فالشيخ عبده ليس سلفي بل عصري ينتمي إلى التراث الإسلامي .(1/142)
7- خلاصة الدرس الذي نستخلصه من التجربة العربية في التجديد والحداثة هو ان التوجه نحو تجديد البعد السياسي والمؤسسي لابد أن يسبق بتجديد على الصعيد الفكري والفلسفي وهذا ما أكد عليه عبده .
8- طالب بالثورة القيمية ( الأخلاقية ) التي ترفض القيم السلبية الفاسدة السارية في المجتمع ، ويسعى إلى التحرر منها إلى قيم إيجابية صحيحة وبالتالي ترتد إلى إصلاح الأشخاص واصلاح الأنظمة واهم سبل الإصلاح هو الدين والتربية ، فجاء طروحاته في المجال التربوي تؤكد وجود نظرية تربوية له ترتكز على أهمية التربية في بناء الإنسان وتهيئته للإسهام في عملية خلق المجتمع السليم .
9- ركز على دور المرأة في تربية الأبناء والبنات فضلا عن الدور الذي تمارسه الأسرة بوصفها اصغر وحدة اجتماعية يتكون فيها المجتمع وعدها الأساس الذي ينطلق منه الفرد إلى المجتمع الأكبر ، فشدد على ضرورة بناء علاقات أسرية صحيحة بعيدا عن التشنج والانسجام .
10- دعا إلى ضرورة بناء مؤسسات تعليمية قادرة على تهيئة جيل قادر على مواجهة التحديات الداخلية والخارجية التي تحيط بالأمة الإسلامية .
11- أراد عبده من تأكيده على تربية قائمة على أساس ديني لا أن تكون غاية التربية أن تجد الإنسان المؤمن بها فقط بل غايتها هو الإنسان نفسه لكون الدين بعداً من أبعاد الشخصية الإنسانية فأراد أن يبدأ بإصلاح مسارات التربية وتغيير آليات عملها القديمة وجعل الحرية محل الجبر والتنظيم محل التلقين والفهم محل الحفظ ، بما يتوافق مع روح العصر ومتطلباته .
12- لم يترك الشيخ عبده عملية التربية سائبه وانما ربطها جدليا بالعمل السياسي وطبيعة المؤسسات السياسية القائمة في عصره فركز على ضرورة أن تأخذ الدولة ببناء هذه المؤسسات التعليمية التي من شأنها أن تخرج طلبتها من أطر التقليد والجمود باتجاه التغير والتقدم .(1/143)
13- انخرط الشيخ عبده بالعمل السياسي على الرغم من كرهه له ألا انه وجد نفسه ملزما غير مختار للمساهمة في الثورة العرابية بعد انطلاقها ضد الاحتلال البريطاني فاصبح من قادتها وتحمل بسببها السجن والنفي سنوات عدة بعيدا عن بلده .
14- كانت له طروحات فكرية في المجال السياسي فقد دعا إلى الحكم النيابي والى السلطة المقيدة بالدستور والى ضرورة أن يمارس الشعب دوره في البناء السياسي ووقف ضد الاحتلال الأجنبي وركز على نظريته السياسية وعلى الجامعة الإسلامية وعد الحكم العثماني على الرغم من نواقصه يمثل التجسيد الأخير للاستقلال .
15- يتبين مما تقدم أن ما جاء به الشيخ عبده من نتاج فكري وعلمي لم يأتي من فراغ بل كان وليد ثقافة فلسفية ساهمت في تكوين شخصيته العلمية والعملية ، سوءا كانت ثقافة فلسفية بصورة عامة أو ثقافة فلسفية إسلامية بصورة خاصة ،إذ قام بشرح كتب لكبار الفلاسفة الإسلاميين مثل (تهذيب الأخلاق) لمسكويه و(الإشارات) لابن سينا إضافة إلى العلوم الكلامية والمذاهب الفقهية .
16- استطاع الشيخ عبده أن يشغل بأفكاره طروحاته في المجالات المختلفة جيلا بأكمله ، وعندما وافاه الأجل ترك أرثا فكريا مهما لاسيما في المجال السياسي والتربوي وجاء من بعده طلبته وعلى رأسهم محمد رشيد رضا ليجسدوا أفكاره في الواقع العلمي وليضعوا منهجه التجديدي في إطار اكثر فاعلية بحسب تقبل المجتمع له .
حقاً لقد كان الشيخ عبده واحدا من ابرز المفكرين في عصره ، ودفع طروحاته الفكرية العديد من الباحثين لان يعدونه زعيماً ومفكرا وفيلسوفا تكمن في أفكاره ما يمكن أن تستنبط منه تحليلات عديدة في مجال الحياة برمتها .
المصادر العربية :-
1. القرآن الكريم .
2. أبو ريه ، محمد / جمال الدين الأفغاني ، القاهرة ، 1906 .
3. أبو النصر ، عمر / زعماء التحرير في الإسلام ، بيروت ، 1986 .
4. احمد ، إبراهيم خليل / تاريخ الوطن العربي المعاصر ، الموصل ، 1987.(1/144)
5. إسماعيل ، محمد / بواكير التنوير في الفكر الديني المصري ، بيروت ، 1980 .
6. أفلاطون / الجمهورية / ترجمة ، حنا خباز ، مكتبة النهضة بغداد ، 1986.
7. أمين ، احمد / زعماء الإصلاح في العصر الحديث ، القاهرة ، 1949 .
8. أمين ، قاسم / تحرير المرأة ، القاهرة ، 1899 .
9. أمين ، قاسم / المرأة الجديدة ، القاهرة ، د.ت .
10. أمين ، قاسم / الأعمال الكاملة ، تحقيق وجمع د. محمد عمارة ، ج1 ، بيروت ، 1976 .
11. أمين ، عثمان / رائد الفكر المصري الإمام محمد عبده ، القاهرة ، 1955.
12. أند رسون ، ماثيو / تاريخ القرن الثامن عشر في أوربا ، تعريب د. أنور الدين حاطوم ، دمشق ، 1977 .
13. أنيس ، محمد / تطور الفكرة العربية في مصر (1805-1936) بيروت ، 1972 .
14. اسماعيل ، عز الدين /جمال الدين الأفغاني ، بيروت،1974.
15. انطونيوس ، جورج / يقظة العرب ( تاريخ حركة العرب القومية ) ترجمة، ناصر الدين الأسد واحسان عباس ، ط2 ، بيروت ، 1966 .
16. انطوان ، فرح / ابن رشد وفلسفته ، الإسكندرية ، 1903 .
17. الباني ، محمد سعيد / تنوير البصائر ، دمشق ، 1960 .
18. برو ، توفيق علي / العرب والترك في العهد الدستوري العثماني (1908-1914) القاهرة ، 1960 .
19. بلقزيز ، عبدالاله / الدولة في الفكر الإسلامي المعاصر ( مركز دراسات الوحدة العربية ) ط1 ، بيروت ، ديسمبر 2002 .
20. بلنت ، الفريد سكاون / التاريخ السري لاحتلال إنجلترا مصر ، تعريب وتمهيد عبد القادر حمزة ، القاهرة ، د.ت .
21. البهي ، محمد / الفكر الإسلامي الحديث وصلته بالاستعمار الغربي ، القاهرة ، د.ت .
22. الجابري ، علي حسين / فلسفة التاريخ في الفكر العربي المعاصر ( جدلية الأصالة والمعاصرة ) القسم الأول ، بغداد ، 1993 .
23. الجابري ، محمد عابد / نحن والتراث (قراءات معاصرة في تراثنا الفلسفي) دار الطباعة والنشر ، بيروت ، ط1 ، 1980 .(1/145)
24. الجوراني ، عبد الزهرة مكطوف / الفكر السياسي في المشرق العربي ، بغداد ، 2001 .
25. حبيب ، هـ.أ / الاتجاهات الحديثة في الإسلام ، تعريب جماعة من الأساتذة الجامعيين ، بيروت ، 1961 .
26. حجازي ، أنور / عمالقة ورواد ، القاهرة ، د.ت .
27. حسين ، محمد / الاتجاهات الوطنية في الأدب المصري الحديث ، ج1 ، القاهرة ، 1954 .
28. حماده ، عبد المنعم / الأستاذ الإمام محمد عبده ، القاهرة ، د.ت .
29. حمزة ، عبد اللطيف / أدب المقالة الصحفية في مصر ، ط2 ، ج2 ، القاهرة ، 1958 .
30. الحصري ، ساطع / محاضرات في نشوء الفكر القومية ، القاهرة ، 1951
31. حوراني ، البرت / الفكر العربي في عصر النهضة (1798-1939) ط3، بيروت ، 1977 .
32. خولة ، محمد بشير / محمد عبده المصلح الديني في القرن التاسع عشر ، بيروت ، 1951 .
33. داغر ، يوسف اسعد / مصادر الدارسة الأدبية ، ج2 ، بيروت ، 1955 .
34. ديلد ، ستيفان / نجيب غار ودي وكتابه ( يقظة الأمة العربية ) بيروت ، 1983 .
35. رافق ، عبد الكريم / العرب والعثمانيون (1516-1916) دمشق ، 1947.
36. رضا ، محمد رشيد / تاريخ محمد عبده وخلاصة سيرة جمال الدين الأفغاني ، ج1 ، بيروت ، 1949 .
37. رضا ، محمد رشيد / تاريخ الأستاذ محمد عبده ، القاهرة ، 1936 .
38. رفعت ، محمد / التوجيه السياسي للفكرة العربية الحديثة ، القاهرة ، د.ت .
39. الرفاعي ، محمد ابو الهدى الصيادي / الطريقة الرفاعية ، بغداد ، 1969.
40. الريس ، محمد ضياء الدين / النظريات السياسية الإسلامية ، القاهرة ، 1960 .
41. زاهري ، احمد جاسم / محمد عبده في الإطار الفلسفي ، بيروت ، 1999.
42. زيادة ، معن / معالم على طريق تحديث الفكر العربي ، الكويت ، د.ت .
43. زيدان ، جرجي / تراجم مشاهير الشرق في القرن التاسع عشر ، بيروت ، 1975 .
44. زيدان ، عبد الكريم / الفرد والدولة في الشريعة الإسلامية ، بغداد ، 1965.(1/146)
45. ستودارد ، لوثروب / حاضر العالم الإسلامي ، تعليق الامير شكيب ارسلان، المجلد الثاني ، القاهرة ، 1933 .
46. سكاكين ، داود / قاسم امين ، بيروت ، 1959 .
47. شبيكة ، مكي / تاريخ شعوب وادي النيل ومصر والسودان في القرن التاسع عشر ، بيروت ، د.ت .
48. شحاته ، عبد الله محمود / منهج الإمام عبده في تفسير القرآن الكريم ، القاهرة ، 1962 .
49. شفيق ، احمد / مذكراتي في نصف قرن ، ج1 ، القاهرة ، 1934 .
50. شكري ، غالي / النهضة والسقوط في الفكر المصري الحديث ، ط2 ، بيروت ، 1980 .
51. شرابي ، هشام / المثقفون العرب والغرب (عصر النهضة 1875-1914) ط2 ، بيروت ، 1978 .
52. شميل ، شبلي / مجموعة الدكتور شبلي شميل ، ج2 ، مطبعة المعارف ، القاهرة ، 1908 .
53. الشوابكه ، احمد فهد بركات / حركة الجامعة الاسلامية ، عمان ، 1984 .
54. شكري ، محمد فؤاد / الحملة الفرنسية وظهور محمد علي ، القاهرة ، 1980 .
55. صبرا ، نسيب / العروة الوثقى ، بيروت ، 1328هـ .
56. صبري ، محمد / تاريخ مصر الحديثة من محمد علي الى اليوم ، القاهرة ، 1926 .
57. صعب ، حسن / علم السياسة ، بيروت ، 1966 .
58. الصعيدي ، عبدا لمتعال / المجدوون في الإسلام ، القاهرة ، د.ت .
59. صويا ، ميخائيل / إبراهيم اليازجي ، بيروت ، 1960 .
60. الطهطاوي ، رفاعة / مناهج الأسباب المصرية في مناهج الآداب العصرية، ط2 ، القاهرة ، 1912 .
61. الطويل ، توفيق / الفكر الديني الإسلامي في العالم العربي ابان المائة العام الأخيرة ( مركز دراسات الوحدة العربية ) بيروت ، 1980 .
62. الفاخوري ، حنا / تاريخ الأدب العربي ، بيروت ، د.ت .
63. الغزالي ، أبو حامد / أيها الولد ، تحقيق د.احمد مطلوب ، بغداد، 1986 .
64. فخري ، ماجد / دراسات في الفكر العربي ، ط2 ، بيروت ، 1977 .
65. الأفغاني ، جمال الدين / الرد على الدهرية ، ترجمة الشيخ محمد عبده ، مطبعة محمد مطر ، القاهرة ، 1968 .(1/147)
66. الأفغاني ، جمال الدين / الأعمال الكاملة ، تحقيق محمد عمارة ، القاهرة ، 1968 .
67. الأفغاني ومحمد عبده / العروة الوثقى والثورة التحريرية الكبرى ، جمع ونشر العرب للبستاني ، القاهرة ، 1957 .
68. فهمي ، ماهر حسن / قاسم أمين ، بيروت ، د.ت .
69. فورييه ، شارل / المرأة الاشتراكية ، بيروت ، 1979 .
70. القريشي ، باقر شريف / العمل وحقوق العامل في الإسلام ، ط2 ، النجف، د.ت .
71. قدري ، احمد / محمد عبده المعلم الكبير ، القاهرة ، د.ت .
72. قلعجي ، قدري / محمد عبده بطل الثورة الفكرية في الإسلام ، ط2 ، دار العلم للملايين ، بيروت ، 1956 .
73. عبده ، محمد / الأعمال الكاملة حققها ، وقدم لها الدكتور محمد عمارة ، ط1 آب ، 1972 .
74. عبده ، محمد / رسالة التوحيد ، القاهرة ، 1361هـ .
75. عبده ، محمد / تفسير القرآن الكريم ، ج3 ، القاهرة ، 1346هـ .
76. عبده ، محمد / الإسلام دين العلم والمدنية ، تحقيق طاهر الطناجي ، القاهرة، د.ت .
77. عبد الرحيم ،عبد الغفار/ الإمام محمد عبده ومنهجه في التفسير ، دار الأنصاف ، القاهرة ، د.ت.
78. عبد اللطيف ، أبا عوض الفارابي / الحركات الفكرية والأدبية في العالم العربي الحديث ، المغرب ، 1983 .
79. عبد الدائم ، عبد الله / تاريخ التربية ،ط2،بيروت،1965 .
80. عبد الدائم ، عبد الله / نحو فلسفة تربوية عربية / الفلسفة التربوية ومستقبل الوطن العربي ( مركز دراسات الوحدة العربية ) بيروت ، ط2 ، 2000 .
81. عبد الله ، نبيه بيومي / تطور فكرة القومية العربية في مصر ، القاهرة ، 1975 .
82. عبد الملك ، أنور / التطور الفكري العربي في عصر النهضة ، القاهرة ، د.ت .
83. العظمة ، عزيز / العلمانية من منظور مختلف ، ط2 ، بيروت ، 1998 .
84. العظم ، رفيق / الجامعة الإسلامية وروبا ، 1325هـ .
85. العقاد ، عباس محمود / عبقري الإصلاح والتعليم الأستاذ محمد عبده ، القاهرة ، د.ت .(1/148)
86. عوض ، لويس / تاريخ الفكر المصري الحديث من عصر إسماعيل إلى ثورة 1919 ، ج2 ، القاهرة ، 1993 .
87. العدوي ، إبراهيم احمد / رشيد رضا الإمام المهاجر ، القاهرة ، د.ت .
88. العدوي ، عبد الله / مفهوم العقل ، بيروت ، 1996 .
89. عمارة ، محمد / الإسلام والمرأة في رأي الإمام محمد عبده ، المؤسسة العربية للدراسات والنشر ، ط3 ، 1980 .
90. عليوي ، هادي حسن / الاتجاهات الوحدوية في الفكر القومي العربي المشرقي (1918-1952) بيروت ، 2000 .
91. عياد ، عبد العزيز / الإنسان في خطاب الفلاسفة التربويين ، جامعة بيزريت ، فلسطين ، 2000 .
92. عياد ، عبد العزيز / بنية العقل المسلم وإشكالية المعاصرة ، جامعة بيزريت، فلسطين ، 2000 .
93. عيسى ، صلاح / الثورة العرابية ، بيروت ، 1972 .
94. غار ودي ، نجيب / يقظة الأمة العربية ، تعريف وتقديم احمد بوملحم ، بيروت ، 1978 .
95. كتوره ، جورج / طبائع الكواكبي في طبائع الاستبداد ، بيروت ، 1987 .
96. الكواكبي ، عبد الرحمن / المجموعة الكاملة ، تحيق محمد عمارة ، ط1 ، بيروت ، 1975 .
97. الكيالي ، سامي / محاضرات عن الحركة الأدبية في حلب (1800-1950) القاهرة ، 1975 .
98. ليفين ، ز.ك / الفكر الاجتماعي والسياسي الحديث في لبنان ، سوريا ، مصر ترجمة عن الروسية بشير السباعي ، بيروت ، 1978 .
99. المحافظة ، علي / الاتجاهات الفكرية عند العرب في عصر النهضة (1798-1914) بيروت ، 1983 .
100. محمد ، فاضل زكي / الفكر السياسي العربي الإسلامي بين ماضيه وحاضرة ، بغداد ، 1970 .
101. محمد عارف،نصر /(المقدمة) في د.احمد عروة واخرون(قضايا منهجية في العلوم الإسلامية والاجتماعية) ط1، المعهد العالي للفكر الإسلامي،القاهرة،1996.
102. المخزومي ، محمد باشا / خاطرات جمال الدين الأفغاني الحسيني ، بيروت، 1931 .
103. مصطفى ، احمد عبد الرحيم / مصر والمسألة المصرية من (1876-1882) القاهرة ، 1965 .(1/149)
104. مصطفى ، احمد عبد الرحيم / تطوير الفكر السياسي في مصر الحديثة ، القاهرة ، 1973 .
105. المصري ، احمد عرابي الحسيني / كشف الستار عن سر الأسرار في النهضة المصرية المشهورة بالثورة العرابية ، ج1 ، القاهرة ، د.ت .
106. المغربي ، عبد القادر / البيان في الدين والاجتماع والأدب والتاريخ ، تقديم شكيب ارسلان ، مرسين ، 1992 .
107. مظهر ، إسماعيل / ملتقى السبيل في مذاهب النشوء والارتقاء دائرة في الانقلاب الفكري الحديث ، مصر ، 1924 .
108. موسى ، سليمان / الحركة العربية وسيرة المرحلة الاولى للنهضة العربية الحديثة (1908-1924) ط2 ، بيروت ، 1977 .
109. محمود ، زكي نجيب / ثقافتنا في مواجهة العصر ، دار الشرق ، ط2 ، بيروت ، 1979 .
110. نوار ، عبد العزيز سليمان / تاريخ مصر الاجتماعي ، القاهرة ، د.ت .
111. وحيدة ، صبحي / في أصول المسألة المصرية ، ط2 ، القاهرة ، د.ت .
112. الوردي ، علي / لمحات اجتماعية من تاريخ العراق الحديث ، ج3 ، بغداد، 1972 .
113. اليازجي ، حليم / الأيدلوجيا الإصلاحات ومظاهرها في الفكر العربي الحديث ، ج2 ، بيروت ، د.ت .
114. يانج ، جورج / تاريخ مصر من عهد المماليك إلى نهاية حكم إسماعيل ، تعريب علي احمد شكري ، القاهرة ، د.ت .
الاطاريح والموسوعات :-
1. الجبوري ، احمد عبدا لله محمد / الفكر السياسي في مصر في النصف الثاني من القرن التاسع عشر حتى الحرب العالمية الأولى ، رسالة ماجستير غير منشورة معهد التاريخ العربي والتراث العلمي للدراسات العليا ، بغداد ، 2001 .
2. حسن ، وليد احمد / صراع التيارات الفكرية في الوطن العربي (1798-1999) رسالة ماجستير غير منشورة ، معهد القائد المؤسس ، الجامعة المستنصرية ، بغداد ، 2002 .
3. الشريف ، علي أمين / عبد الرحمن الكواكبي – دراسة سياسية فكرية ، أطروحة دكتوراه غير منشورة ، كلية الآداب ، جامعة بغداد ، 1996 .(1/150)
4. موقف بين المرجة / السلطان عبد الحميد الثاني ومشروع الجامعة الإسلامية، رسالة ماجستير غير منشورة ، جامعة عين شمس ، 1977 .
5. الموسوعة الفلسفية ، بأشراف م. روزنتال وب . بودين ، ترجمة سمير كرم، ط3 ، بيروت ، 1981 .
6. الموسوعة الثقافية ، القاهرة ، 1972 .
7. الموسوعة العربية الميسرة ، ج2 ، لبنان ، 1980 .
8. موسوعة الهلال الاشتراكية ، القاهرة ، د.ت .
الصحف والمجلات :-
1. الوقائع المصرية ( صحيفة ) العدد (1279) القاهرة ، ديسمبر 1881 .
2. الوقائع المصرية ( صحيفة ) العدد (1079) القاهرة ، أبريل 1881 .
3. الوقائع المصرية ( صحيفة ) العدد (12886) القاهرة ، 18 ديسمبر 1881.
4. الوقائع المصرية ( صحيفة ) العدد (1252) القاهرة ، 11 نوفمبر 1881.
5. المنار ( مجلة ) القاهرة ، المجلد التاسع ، العدد الحادي عشر ، لسنة 1907.
6. المنار ( مجلة ) القاهرة ، المجلد الثامن ، السادسة 16 ربيع الثاني 1321هـ .
7. المنار ( مجلة ) القاهرة ، المجلد الثامن والعشرين ، ج1 ، 13 آذار 1927.
8. المنار ( مجلة ) القاهرة ، المجلد السادس والعشرين ، ج1 ، 14 أيار 1906 .
9. أبو المجد ، احمد كمال / بل الإسلام والعروبة معاً ، مجلة ( العربي ) العدد (6) الكويت ، ذي القعدة 1400 ، أكتوبر 1980 .
10. احمد ، بكري / الطبقية والطبقات في فكر الشيخ محمد عبده ، مجلة (الطليعة ) العدد (78) القاهرة ، تموز 1965 .
11. جعيط ، هشام / الشيخ محمد عبده ، مجلة ( المستقبل العربي ) العدد (38) بيروت ، نيسان 1982 .
12. براونه ، فالتر / تطور الفكرة القومية عند العرب ، ترجمة عن الألمانية رضوان السيد مجلة ( قضايا عربية ) العدد (4) السنة الخامسة ، ديسمبر 1978 .
13. فيجري ( الرحالة المجري ) / السلطان عبد الحميد ، مجلة ( المقتطف ) القاهرة ، المجلد (35) الجزء (11) لسنة 14 أب 1909 .(1/151)
14. قاسم ، محمود / ملاحظات على منهج الإمام في إصلاح التعليم ، مجلة (دعوة الحق ) المغرب ، العدد التاسع ، السنة الثالثة عشر ، شباط 1970.
15. غانم ، فتحي / الديمقراطية التي نختلف عليها ، مجلة ( روز اليوسف ) العدد (2783) السنة السابعة والخمسون ، 12 أكتوبر 1981 .
16. عبد الرزاق ، مصطفى / ترجمة الأستاذ الإمام محمد عبده ، مجلة (الهلال) العدد (96) ، 1959 .
17. عدي ، حذام زهور / العقلانية عند محمد عبده ، المرأة نموذجاً ، مجلة (النهج) العدد (57) ، السنة السادسة عشر ، 2000 .
18. العقيد ، يوسف / قراءة في سيرة حياة عبد الرحمن بدوي ، مجلة (وجهات نظر) العدد (14) ، القاهرة ، آذار 2000 .
19. عمارة ، محمد / الأفغاني ومحمد عبده ، مجلة ( الطليعة ) العدد (33) القاهرة ، أبريل 1969 .
20. الكيلاني ، شمس الدين / الإمام محمد عبده والثورة العرابية بين الإصلاح والثورة ، مجلة ( النهج ) ، العدد (57) ، دمشق ، لسنة 2000 .
المصادر الأجنبية :-
1- Albert Houran, Arabic Thought in the liberal Age Oxford University press, London 1967.
2- Peter Mansfield, The Ottoman Empire and Its Succoth, London, 1973.
3- H. Laoust, Essal Sur lese doctrine Socials it Polltiyues de Tahid – Din Ahmed b. Taimiya, lecoire, 1939.
4- Harris Murray, Egypt under the Egyptians Champion in Hall, London.
5- W. S. Blunt, secret history of the English occupation of Egypt, London, 1907.
6- Charles C. Adams, Islam and Modernism in Egypt, London, 1933.
7- H. Masse, Islam, Moscow, 1961.(1/152)
والجو والنسيم ، ربيعه وخريفه ومشتاه ومصيفه على قدر من الاعتدال ) . ( المقري ، 1968، م1 ص 129 ، 130 ) .
... بهذا نجد ان المناخ الجاف والمعتدل بوجه عام في الاندلس والتربة التحتية لها الغنية بالمعادن والاملاح الطبيعية فقد اثر كثيراً في العوامل الاقتصادية التي بدورها اثرت في الفكر التربوي للمفكرين لان اقتصاديات أي بلد يعتمد على مناخها وتربتها وطبيعة بيئتها وخيراتها ومصادر الثروة فيها ، لذا تتأثر الجوانب التربوية بالعوامل الثقافية ، ولكون الاندلس شبه جزيرة داخلة في البحر لا يفصلها عن افريقيا الا مضيق جبل طارق فقد سهَّل اجتياز المسلمين لها والاتصال المباشر مع الثقافات الأخرى .(1/1)
الإهداء
*** إلى روح والدي العزيز ( رحمه الله ) ***
*** إلى والدتي الحنونة ***
*** إلى اخوتي ( عباس – ليلى – نجلاء – مريم ) ***
*** إلى اعز صديقة د. أفراح ***
*** إلى كل من مد يد العون لي والمساعدة
في هذه المرحلة ***
الفهرست
المقدمة ... 1-6
الفصل الأول / ... نشأته والتأثيرات الفكرية والمنهجية ... 7-43
المبحث الأول/ ... محمد عبده نشأته وحياته ... 8-17
المبحث الثاني/ ... التأثيرات الفكرية على محمد عبده ... 18-33
1- الجانب التربوي والصوفي ... 19-20
2- الجانب الفلسفي ... 20-21
3- الجانب الادبي ... 21-22
4- تأثير جمال الدين الافغاني ... 22-33
المبحث الثالث/ ... المنهج التجديدي لفكر عبده ... 34-43
الفصل الثاني/ ... الاراء التربوية ... 44-92
المبحث الأول/ ... محمد عبده ونظريته التربوية ... 45-63
- ادوات النظرية التربوية ... 50-57
1- التعليم ... 50-52
2- اسس ومزايا المعلمين والمربين ... 53-57
- انتقادات الشيخ عبده وطروحاته حول بناء المجتمع الاسلامي ... 58-63
المبحث الثاني/ ... الطابع العملي لاراء محمد عبده التربوية ... 64-80
1- اصلاح الازهر ... 64-70
2- الجمعية الخيرية الاسلامية ... 71-76
3- اصلاح المدارس الاميرية ... 77
4- اصلاح الكتاتيب ... 78
5- اصلاح المدارس التجهيزية والمدارس العالية ... 78-80
المبحث الثالث/ ... الديمقراطية والطبقية في بعض مفاهيم محمد عبده التربوية ... 81-92
1- المساواة بين الرجل والمرأة في التعليم ودورها في المجتمع . ... 81-87
2- ديمقراطية التعليم وطبقيته .
3- التكافل الاجتماعي . ... 87-89
90-92
الفصل الثالث / ... الفكر السياسي لمحمد عبده ... 93-131
تمهيد / ... بداية تيارات الوعي القومي العربي ... 94-99
المبحث الأول/ ... العوامل المؤثرة في صياغة الفكر السياسي لمحمد عبده ... 100-110
1- محمد عبده والثورة العربية . ... 100-106
أ . تقبله للديمقراطية . ... 102-103
ب . رأيه حول الجيش المصري وانخراطه في العمل السياسي . ... 103-106
2- دوره في العروة الوثقى . ... 107-110
المبحث الثاني/ ... الفكر السياسي لمحمد عبده ... 111-122(1/1)
- آراء الشيخ عبده في بعض المفاهيم والمصطلحات السياسية. ... 115-122
1- الوطنية ... 115-116
2- الدستور ... 116-118
3- السلطة ... 118-121
4- مبدأ الشورى ... 121-122
المبحث الثالث/ ... جدلية العلاقة بين السياسة والتربية في فكر محمد عبده ... 123-131
الخاتمة ... 132-136
قائمة المصادر والمراجع ... 137-150
ABSTRACT
Shaikh Muhammad Abda started with molding his education and policy theory from his age problems. He presented solution, which harmonize with those problems. He was one of the most important modern thinkers who appeared in the second part of nineteenth century, his submissions had an affective role on the period he lived in and on the period succeeded it in including fields thoughts completely. He left a brimful inheritance with political, social, and educational dimensions which most of their concepts are still alive and valid for our time. I prepared and entitled my thesis (Relation Argumentation between education and policy with Muhammad Abda) as the form:-
- The Abstract: I reviewed a general thought about the research and the incentive cause to choose the subject.(1/2)
- Chapter One: Assigned it for the autobiography of Shaikh Abda regarding up growth, age, and factors which assisted in his personality creation, that is in the first and second researches, but the third research which distinguishes in a special importance due to that it encludes the renewing procedure of Shaikh Abda. The renewing with him is to raise with dealing method with inheritance to the level which is called, contemporary, which means modernizing the inheritance, that is to provoke the change from inside, it means modern procedure and modern viewing (modernizing the mentality and the mental and emotional measures), that means how we liberate ourselves from the power of inheritance and transfer it to how we practice our it? That means the rejection of inheritance reading for the age and transfers it to modern of inheritance.(1/3)
The aim is to liberate of imagination from rigidity, heresies, and strays, and emphasizing on the importance of menal view, because without reasonability no objective knowledge can be created. The most important thing distinguishes his procedure is the reasonability feature (which stands on the principle of preceding the mental on the context and endeavoring in context interpretation and extractoring its aims) and conformation (trying to join between originality and modernity in what serves progress and development). He made the religious renewing as a term for mental renewing) Where the mental and educational values are not devoid of uncommon sediments from religion principles and its starlings and spirit. They deform Islam and its essence. From this start we can say that the social backwardness that the nation lives with is in its essence an educational backwardness, because the backwar-dness does separate from religion understanding, and reading it correctly keeps it survives and increases its effect and role. Therefore we find that Shaikh Abda heeded to this social aim when he refers to religious reformation as the easiest entrance to reform the society, and to create a new sample for human.
- Chapter two: encludes the educational theory study through which we know the aim of Abda to education and the quality the human who must be.(1/4)
The aim of education to him is reform society through person’s reform, and there is no doubt that the most important reform methods are religion and education after releasing education from backward and traditional methods which is obvious in education system and its curriculums and its teaching methods of education to him depends, upon religion principles . But that does not mean that we don’t understand that he is not one of religious education propagandist, but he is a civilian education propagandist which responds to age circumstances and establishing necessary relations with religion, that was that relates to his first and second researches.
The third research deal with classical democratic concept some educational concepts, where Abda is democracy a pears through his call to release creative liberties and developing necessary talents, and educating the sons to gain critical skillfulness and to reject submission and blind obedience and surrender. He emphasizes on sonically mutuality and cooperation among individuals and equality between man and woman (since they are equal in rights and works, and also the are equal in self, sensation, and mental). But in spite of this democracy we find his classicism through his classifying society individuals in education into three classes, to each class a certain education, from this a kind of contrariety appears between his speech in democracy and this classicism.(1/5)
- Chapter three: deals with political thinking of Shaikh Abda, it is well known that Abda was not a politician in the measure of a reformer. But there is no doubt that any religious, social, and reform must affect the political research in any way. Abda made the mental renewing as a term to political renewing, which in its essence is no more than a process of reformation, correction, and renewing. Those correction and renewing are in education and later on, through them, we can achieve liberty and democracy and we can get rid of arbitrary and slavery. The first and second researches dealt with some political concepts with Shaikh Abda as (nationalism, constitution, authority, and consultation). In the third research the problem of argumentative relation between education and policy was clarified, and firm connection and the reciprocal effect between them was clarified from Shaikh Abda Is point of view, and how education can change the society? With the respect to education can chane the society toward the best, if it depends upon correct Islam principles and to consider the development that occurred at present, and through this connection between originality and modernity it can play a pioneer role in the Chang, if it started form the living fact. It standees and orients it.
The more the reformations were deeper, the more the change in the society was faster and more dangerous, as it happens at present. The modern world goes to look for its balance, because the modern life differs, from all its fields, from the life of predecessors.(1/6)
The reformation needs not only to return to origins, but to reoriginalize with opened mental, that means to raise it to the level of our age requirements, and it should not only fulfill the terms which done by ancient people, but fulfill the terms imposed by our age, then the question is how we deal with our age?
- Finally: I put my thesis in my prophesiers hands the members of discussion committee to evaluate it in the form which spreads more scientific sedateness on it ,It is enough I worked hard ,and if I am right then I would have two charities, and if not, the perfection stills to God only, God is the best lord and best Helper .
The Investigator
MUNTAHA ABID JASSIM(1/7)