بسم الله الرحمن الرحيم مقدمة أحب أن ألفت الجاهلين بالإسلام والقاصرين فى فقهه إلى الخاصة الأولى فى هذا الدين، وهى أنه دين الفطرة. فتعاليمه المنوعة فى كل شأن من شئون الحياة هى نداء الطبائع السليمة والأفكار الصحيحة، وتوجيهاته المبثوثة فى أصوله متنفس طلق لما تنشده النفوس من كمال، وتستريح إليه من قرار. وقد شغفت من أمد بعيد ببيان المشابه بين تراث الإسلام المطمور، وبين ما تنتهى إلية جلة المفكرين الأحرار فى أغلب النواحى النفسية والاجتماعية والسياسية، وأحصيت من وجوه الاتفاق ما دل على صدق التطابق بين وحى التجربة ووحى السماء. أجل. فكما تتحد الإجابة السديدة على فم شخصين ألقى إليهما سؤالي واحد، اتحد منطق الطبيعة الإنسانية الصالحة ـ وهى تتحسس طريقها إلى الخير ـ مع منطق الأيات السماوية، وهى تهدى الناس جميعاً إلى صراط مستقيم. ولعل احترامى للإسلام وبقائى عليه يرجعان إلى ما لمسته بيدى من تجاوبه مع المطرة الراشدة، فلو لم يكن دينا من لدن عالم الغيب والشهادة ما وسعنى ولا وسع غيرى أن يخترع أفضل منه فى إقامة صلاته بالله وبالناس. ولك أن تشك فى هذا الزعم وتحسبه تطرف رجل جامد، لكن من حقى أن أضع بين يديك مقارنات شتى لتنظر فيها ثم تحكم بعدها كيف تشاء. وكلمة نظرة تتسع لدلالات متباينة، فقد تختلف طبيعتى وطبيعتك فى الحكم على شىء واحد، تذهب أنت إلى تحسينه، وأذهب إلى تقبيحه، وقد تجنح فيه إلى أقصى اليمين، وأجنح فيه إلى أقصى اليسار.
ص _004(1/1)
فهل هناك ضوابط تمنع هذا التناقض الخطير؟. الجواب أن كلمة فطرة إذا أطلقت لا يصح أن يراد بها إلا الفطرة السليمة، فإن كل خلل يلحق الطبيعة لأى سبب لا يجوزأن يحسب منها، ولا أن يحسب عليها. خذ مثلا الجنين.. المفروض أن ينزل من بطن أمه سوى الأعضاء والمشاعر. فلو حدث أن ولد أعمى لعلة فى أحد أبويه. فإن هذا العمى عَرَض غريب على الطبيعة التى يجب أن توجد كاملة. ومن ثم فإن هذا لا يغض من جعل البصر أصلا يقاس عليه ويطرح ما عداه. وما يقال فى عالم الحيوان كذلك فى عالم النبات، فالمفروض أن تجنى الثمار وهى نقية من كل عيب يجيئها من عدو الحشرات والديدان. وعلى الزارع أن يستجيدوا البذور، ويستكملوا الوسائل حتى يحصدوا غراسهم كما شاء الله لها نقاءً وجمالاً. وكل تشويه يعترض عظمة الفطرة وروعتها فهو شذوذ ينبغى أن يذاد ويباد، لا أن يعترف به ويسكت عليه. والمجتمع الإنسانى يجب أن يسير على هذا الغرار. فأصحاب الصحة النفسية والعقلية، وأصحاب الأمزجة المعتدلة، والطباع المكتملة هم وحدهم الذين يسمع منهم ويؤخذ عنهم. أما المعلولون والمنحرفون، وذوو الأفكار المنحلة والغرائز المنحلة، فهم كالثمار المعطوبة فى عالم النبات أو الأجنة الشائهة فى عالم الحيوان، ليسوا أمثلة لسلامة الفطرة، ولا يجوز أن يطمأن إلى أحكامهم ولا إلى آرائهم، ولو بلغت بهم الجراءة أن يزعموا نداء الطبيعة ومنطق الفطرة!!. إن نبى الإسلام لما قال للسائل عن البر: " استفت قلبك "، لم يقدم هذا الجواب هدية لمجرم يستبيح الدماء ويغتال الحقوق. وما أكثر الذين تتسع ضمائرهم للكبائر!!. ص _005(1/2)
إنه ساق هذا الجواب النبيل لرجل يتحرج من الإلمام بصغيرة، رجل سليم الفطرة شفاف الجوهر عاشق للخير، أراد النبى الكريم أن يريحه من عناء التساؤل والاستفتاء، فرده إلى فؤاده يستلهمه الرشد كلما تشابهت أمامه الأمور، ويستريح إلى إجابته وإن أكثر عليه المفتون.. هذا الرجل وأمثاله من أصحاب القلوب الكبيرة هم موازين العالم، ومناراته الهادية. وعندما تلمح مواريث الأجيال والحضارات المختلفة فى الشرق والغرب ترى أصحاب هذه الفطر الراقية يرسلون الحكمة الغالية والوصاة الثمينة، ويصرفون جهودهم لتقويم الأوضاع إذا اعوجت، وتقليل الأخطاء إذا شاعت. ولعمرى إن الحياة من غير هؤلاء باطل!! وكم كان جديرا بالعالم أن يؤرخ لهم بدل أن يؤرخ للساسة والقادة من سفاكى الدماء ومذلى الشعوب. *** إلى أصحاب هذه الفطر السليمة من كل جنس ولغة نلفت الأنظار لننتفع بهم. وإلى الدخلاء عليهم من الأدباء المأجورين، والصحافيين المنحرفين، وأصحاب الفنون القوادة إلى الخلاعة والعبث نلفت الأنظار كى نحذر على أنفسنا ومستقبلنا. فقد كثر فى الدنيا من يدعو إلى تعرية الأجسام والأرواح من لباس التقوى والفضيلة باسم أن ذلك عود إلى الطبيعة وتمشّ مع الفطرة!!. والحق أن دَوْر هؤلاء بين الناس هو دَوْر الجراثيم " الفطرية " فى إعطاب الثمار وإمراض الأبدان، أى أنهم خطر على الطبيعة الصحيحة والفطرة السليمة. *** وإذا شرحنا وظيفة الفطرة السليمة فى تعرف الحق وتعريفه فيجدر بنا أن ننبه إلى أمر آخر، هو أن كثرة البضاعة من نصوص السماء لا تغنى فتيلاً فى نفع صاحبها، أو فى نفع الناس بما عنده إذا كان مُلتاث الطبيعة مريض الفطرة. ما قيمة المنظار المقرب أو المكبِّر لدى امرئ فقد بصره؟!. ص _006(1/3)
إن فقدان البصيرة الواعية اللماحة حجاب طامس دون فهم الحق بله تفهيمه. وآفة الأديان جاءت من أن أكثر رجالها لا يصلحون ابتداءً لإدراك رسالتها، كما لا يصلح المصدور للكر والفر فى ميدان القتال. وقد رأيت رجالاً حظوظهم من تراث النبيين قليل، ومحفوظهم من توجيهات السماء لا يذكر، ومع ذلك فقد كان صفاء فطرتهم هادياً لا يضل فى معرفة الله، وما يجب له، وما يجب على الناس أن يصنعوه كى يحيوا على أرضه أبرارا أتقياء. وصحيح أن هؤلاء لم يؤدوا المراسيم الدينية بالدقة التى نزلت بها، وعذرهم أن فرص الأداء لم تتح لهم؟ لأن رسالات الله لم تعرض عليهم عرضا يغرى بقبولها والدخول فيها. ولعل هؤلاء أحسن حالاً وأرجى مآلاً من أناس مكنوا من هدايات الله تمكينا كاملاً؛ فبدلاً من أن ترتفع بهم هبطوا بها. إن التاريخ سجل هزائم كثيرة للطوائف التى تسمى رجال الدين. وقد أراد بعض الحمقى أن يحول هذه الهزائم إلى نكبة تحيق بالدين نفسه، وهذا ظلم شنيع، فإن انهزام هذه الأمثلة المصطنعة للتدين هو فى حقيقته انتصار للفطرة الإنسانية، للطبيعة المتمردة على الغباء والجمود والنفاق. إن هذا الانتصار يجب أن يكون تمهيداً لفهم الدين كما جاء من عند الله، لا لنبذه بعد ما لوثته أيدى الباعة التافهين. وللدين صورة منسقة تنتظم فيها الملامح والمشاعر والنسب والأضواء، ولهذه الصورة وضع واحد يبرز فيها " الرأس " وهو عال، وتبدو الحواس والأطراف كل فى مكانه العتيد لا يعدوه إلى غيره. وصاحب الفطرة السليمة وحده هو الذى تستقر فى ذهنه صورة الدين على هذا النحو المبين. أما مع اضطراب البصيرة وفساد الذوق فإنك ستجد من يعرض عليك الدين مشوشاً مشوهاً، يتجاور فيه الرأس والقدم، وتنخلع الأطراف والحواس من مكانها لتوضع العين فى اليد بدل مستقرها فى الوجه!!. ص _007(1/4)
إن هذه الفوضى فى فقه النصوص ليست إلا ضرباً من تحريف الكلم عن مواضعه، وهو المرض الذى أفسد الديانتين السابقتين اليهودية والنصرانية. وربما تعجزنا حماية الدين من أصحاب الفطر العليلة، فالحل الوحيد أن يتقدم أصحاب الفطر السليمة ليؤدوا واجبهم. وبهذا الحل تتحقق فائدتان جليلتان: أولاهما: أن ينتفع أولئك الأصفياء بما شرع الله لعباده، فإن العقل مهما سما لن يستغنى عن النقل، كما أن الذكاء لا يستغنى عن قواعد العلوم وفنون المعرفة. وأخراهما: أن تنتفع حقائق الدين بمن يحسن فهمها وعرضها غير مشوبة ولا مضطربة، فإن الفقه فى الدين حكمة لا يؤتاها كل إنسان، فليتعرض لها من لديهم استعداد خاص. والإسلام دين لا تحتكر الكلام فيه والإبانة عنه طائفة معينة، اللهم إلا من تؤهلهم دراساتهم المحترمة وسعتهم الروحية والفكرية لذلك، وقد رضى الأزهر أن يقوم على رياسة مجلته منذ أنشئت إلى اليوم رجال من هذا النوع الكريم، ولو لم يكونوا من علمائه الرسميين. وحسن التصور لحقائق الدين ـ كما وردت ـ لا بد أن تكون إلى جانبه ضميمة أخرى هى صدق العمل بها. فإن علاج مشكلات الناس وأدوائهم لا يقدر عليه إلأ رجل حل مشكلات نفسه، وداوى عللها بالحقائق الدينية التى يعرضها. وقد تمارى فى ضرورة ذلك وتقول: رب حامل فقه ليس بفقيه.. رب حامل فقه إلى من هو أفقه منه!! وأقول: إن حملة الأدوية التى ينفعون بها ولا ينتفعون منها موجودون فى الحياة فعلاً. وفى الحياة كذلك أثبت الطب أن هناك من يحمل جراثيم الأمراض ولا يعتل لظروف معقدة فى بدنه، تجعله ينقل العدوى إلى الآخرين، ويبقى هو معافى لا تصرعه العلة التى قد يصرع بها غيره!!. على أن الأحوال الشاذة التى توجد فيها قصة " حامل الميكروب " لا تسوغ وجود الجهال الذين يحملون العلم، والسفهاء الذين ينقلون الرشد. ص _008(1/5)
وقد ندد القرآن أشد التنديد بهذه الدواب الناقلة فقال: مثل الذين حملوا التوراة ثم لم يحملوها كمثل الحمار يحمل أسفارا بئس مثل القوم الذين كذبوا بآيات الله والله لا يهدي القوم الظالمين . والحق أن المثل العليا لا يضيرها شىء كأن يكون نقلتها أول الناس خروجاً عليها. إن هذا وحده مطعن يكفى للصد عنها واهدار الثقة بها. وفى أيامنا هذه تحولت وثيقة حقوق الإنسان التى وضعتها المحافل الدولية إلى خرافة تحوطها السخرية والزراية، لأن الدول التى صدقت عليها مزقتها شر ممزق!! لا، بل إنها لم تتناولها لتمزقها، لقد أنِفَتْ أن تمد اليد لتناولها فتركتها تسقط تحت الأقدام، لتلقى مصيرها فى الرغام. إن الإنسان بفطرته قد يعرف الحقيقة، فالحلال بين، والحرام بين. بيد أن هذه المعرفة لا قيمة لها إن لم نحل الحلال، ونحرم الحرام، وإن لم تقفنا الحدود الفاصلة بين الفضيلة والرذيلة والعدالة والعدوان. وحملة الفقه الذين لا فقه لهم قد يدلوننا علي الحقيقة، إلا أنهم لا يستطيعون الأخذ بأيدينا إليها، بل إن جملة الحقائق التى يدلوننا عليها محصورة فى نطاق ضيق جدا. فإن تفاصيل الخير وأساليب الانطباع به والمران عليه لا يحسن تصورها ولا تصويرها إلا رجال لهم فى تربية أنفسهم باع طويل أو قصير، وجهد فاشل أو ناجح. أما النقلة الذين يقومون بدور عربات البضاعة أو دواب الحمل فهم منفيون ابتداء من ميادين التهذيب والتأديب . * * * إن كتلاً كثيفة من البشر لا تزال بعيدة عن الإسلام، لأنها تجهل تعاليمه جهلاً مطبقاً، ومن ثم فهى لا تطلب إليه سبيلاً ولا تلتمس منه نورا. والإسلام هو الفطرة التى جاء محمد بن عبد الله -صلى الله عليه وسلم- يجلو صفحتها، ويظهر رواءها، ويعود بالبشر إليها بعد أن اجتالتهم الشياطين عنها. ص _009(1/6)
ومحمد بن عبد الله بهذا المنهج الزكى يؤيد موسى الذى كفر به اليهود، ويؤيد عيسى الذى ألحد فى تعاليمه النصارى. ويؤيد كل رجل هجر الخرافات والأوهام، وقرر أن يسير إلى الله على ضوء من الإيمان الواضح والعمل الصالح. وللفطرة فى بلاد الإسلام كتاب يتلى ودروس تلقى وشعوب هاجعة!!. ولها فى بلاد أخرى رجال ينقبون عن هداياتها كما ينقب المعدنون عن الذهب فى أعماق الصحارى، فإذا ظفروا بشىء منه أغلوا قدره واستفادوا منه. وصدق من قال: "الناس رجلان: رجل نام فى النور، ورجل استيقظ فى الظلام!! ". ونتاج الفطرة الإنسانية فى البلاد المحرومة من أشعة القرآن الكريم نتاج واسع الدائرة متفاوت القيمة. وليس يصعب على من له أثارة من علم بالإسلام الحنيف أن يرى المشابه بين الدلالة الصامتة هناك، والدلالة الناطقة هنا. أو بين العنوان المفصول عن موضوعه هنا، والموضوع الذى فقد عنوانه هناك!!. إن الانحطاط الفكرى فى البلاد المحسوبة على الإسلام يثير اللوعة. واليقظة العقلية فى الأقطار الأخرى تثير الدهشة. ولا يحملنا على العزاء إلا أن هذه اليقظة صدى الفطرة التى جاء الإسلام يعلى شأنها، أما تخلف المسلمين فسببه الأول تنكرهم لهذه الفطرة السليمة وتخاذلهم عن السير معها. وفى هذا الكتاب مقارنة بين تعاليم الإسلام كما وصلت إلينا، وبين أصدق وأنظف ما وصلت إليه حضارة الغرب فى أدب النفس والسلوك. وسيرى القارئ من روعة التقارب بل من صدق التطابق ما يبعثه على الإعجاب الشديد. لقد قرأت كتاب " دع القلق وابد أ الحياة " للعلامة "ديل كارنيجى" الذى عربه الأستاذ عبد المنعم الزيادى، فعزمت فور انتهائى منه أن أرد الكتاب إلى أصوله الإسلامية"!!. لا لأن الكاتب الذكى نقل شيئاً عن ديننا، بل لأن الخلاصات التى أثبتها بعد استقراء جيد لأقوال الفلاسفة والمربين وأحوال الخاصة والعامة تتفق من وجوه لا حصر لها مع الآيات الثابتة فى قرآننا والأحاديث المأثورة عن نبينا . ص _010(1/7)
إن المؤلف لا يعرف الإسلام ولو عرفه لنقل منه دلائل تشهد للحقائق التى قررها أضعاف ما نقل من أى مصدر آخر . إن الفطرة السليمة سجلت وصاياها فى هذا الكتاب بعد تجارب واختبارات، وما انتهت من تسجيله جاء صورة أخرى للحكم التى جرت على لسان النبى العربى الكريم محمد بن عبد الله منذ قرون. وبذلك اتفق وحى التجربة ووحى السماء. وسيرى القارئ مدى الصحة أو الوهم فى هذا القول الذى نقول. وخطتى فى هذا الكتاب أن أعرض الإسلام نفسه فى حشدين متمايزين: الأول من نصوصه نفسها، والآخر من النقول التى تظاهرها فى كتابات وتجارب وشواهد الأستاذ الأمريكى " ديل كارنيجى ". فكأن المقارنة العلمية تجىء عرضاً، أو فى المرتبة التالية. وذلك ما قصدته، وتعمدته. فأنا قبل كل شىء كاتب مسلم، آمنت بهذا الدين عن دراسة مجردة لأصوله، وأعرف أن حاجة العالم إليه غير متوقفة على شواهد تجيئه من هنا ومن هناك، طبيعة كانت أو متكلفة. ثم إن جهلى باللغات الأجنبية يجعلنى مقيداً بما ينقله المترجمون لى عن اللغات التى يتقنونها. ومن يدرى؟ لعل فى غيرها من آثار الفطرة السليمة ما يستحق التنويه والإشادة!! فلا مكان إذاً للمقارنة بين دين الله، وبين جهود فرد بعينه أو مدرسة بأسرها، إلا أن تساق هذه الجهود المشكورة على أنها أمثلة فحسب للقواعد التى سبق الإسلام إلى تمهيدها، وذكر أن وقائع الحياة ستؤكدها على حد قوله جل شأنه: سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق وأمر ثان أشير إليه: إن مشاعر التعصب لجنس من الأجناس ماتت فى دمى لأنى مسلم، غير أن التحمس للعروبة وأدبها غلبنى فى هذه الآونة، إذ أحسست كأن التضحية بالعرب ولغتهم بعض ما تكنه السياسة الدولية فى ضميرها الملوث؟ وبعض ما تسخر له أتباعها وأذنابها فى ربوع بلاد الإسلام. ص _011(1/8)
ودوافع هذا اللدد لا تخفى، ومن آثاره أن كتاباً معروفين ـ ومعروفة الجهات التى يعملون لها ـ يريدون قطعنا عن تراثنا الفكرى والعاطفى، بل عن الحروف التى نكتب بها لغتنا. وقد اصطنع هؤلاء لوناً من الأدب الصحفى التافه فقيراً كل الفقر من المعانى الحية . لذلك حرصت فى كتابى على إحياء الحكمة العربية الأولى، وإمتاع القراء بطرف منها فى سياق المعارف الدينية والعلمية التى يجدونها . وإذا كان " ديل كارنيجى " يحيا بقرائه فى جو أمريكى بحت، فمن واجبى أن أعيش مع قرائى فى جو عربى خالص، لا أتركه إلا للمقارنات الإنسانية الأخرى، وهى مقارنات لا صلة لها بجنس معين ... وأمر أخير: إن تبديد الغيوم الاجتماعية المخيمة فى كثير من أقطارنا العربية واجب لا محيص عن القيام به، ولا أستطيع التخلى عنه تقيداً ببحث محدود، فلا يستغربن أحد أن أخوض فى مشكلات شخصية وعلل خلقية، ولا أن أستطرد بذكر حوادث وشواهد مختلفة تمسنى من قرب أو بعد. إننى لا أكتب إشباعاً لترف علمى قدر ما أكتب إصلاحاً لأغلاط شائعة وأوضاع جائرة . وأعرف أن من أحزاب الميمنة وأحزاب الميسرة من يكره هذه الكتابات ويتمنى الشر لصحابها، وقد أردد وأنا ضاحك قول العقاد : وكذا العهد بمشبوب القلى عارم الفطنة جياش الفؤاد أبدا يهتف بالقول فلا يُعجب الغى ولا يرضى الرشاد لكننى أستدرك فأقول: إن ما لا يعجب الغى يجب أن يرتضيه الراشدون. وإذا استوحشت من صنوف الناس فإلى رب الناس المفزع: رب هب لي حكما وألحقني بالصالحين * واجعل لي لسان صدق في الآخرين * واجعلني من ورثة جنة النعيم ) محمد الغزالى ص _012(1/9)
جدد حياتك كثيرا ما يحب الإنسان أن يبدأ صفحة جديدة فى حياته، ولكنه يقرن هذه البداية المرغوبة بموعد مع الأقدار المجهولة، كتحسن فى حالته، أو تحول فى مكانته. وقد يقرنها بموسم معين، أو مناسبة خاصة كعيد ميلاد، أو غرة عام مثلا. وهو فى هذا التسويف يشعر بأن رافدا من روافد القوة المرموقة قد يجئ مع هذا الموعد، فينشطه بعد خمول ويُمَنِّية بعد إياس . وهذا وهم. فإن تجدد الحياة ينبع قبل كل شىء من داخل النفس. والرجل المقبل على الدنيا بعزيمة وبصر لا تخضعه الظروف المحيطة به مهما ساءت، ولا تصرفه وفق هواها. إنه هو الذى يستفيد منها، ويحتفظ بخصائصه أمامها، كبذور الأزهار التى تُطمر تحت أكوام السبخ ، ثم هى تشق الطريق إلى أعلى مستقبلة ضوء الشمس برائحتها المنعشة!!، لقد حولت الحمأ المسنون والماء الكدر إلى لون بهيج وعطر فواح... كذلك الإنسان إذا ملك نفسه وملك وقته، واحتفظ بحرية الحركة لقاء ما يواجه من شئون كريهة، إنه يقدر على فعل الكثير دون انتظار أمداد خارجية تساعده على ما يريد . إنه بقواه الكامنة، وملكاته المدفونة فيه، والفرص المحدودة، أو التافهة المتاحة له يستطيع أن يبنى حياته من جديد . لا مكان لتريث، إن الزمن قد يفد بعون يشد به أعصاب السائرين فى طريق الحق، أما أن يهب المقعد طاقة على الخطو أو الجرى فذاك مستحيل . لا تعلق بناء حياتك على أمنية يلدها الغيب، فإن هذا الإرجاء لن يعود عليك بخير. الحاضر القريب الماثل بين يديك، ونفسك هذه التى بين جنبيك، والظروف الباسمة أو الكالحة التى تلتف حواليك، هى وحدها الدعائم التى يتمخض عنها ص _013(1/10)
مستقبلك. فلا مكان لإبطاء أو انتظار، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إن الله يبسط يده بالليل ليتوب مسىء النهار، ويبسط يده بالنهار ليتوب مسىء الليل " . ثم إن كل تأخير لإنفاذ منهاج تجدد به حياتك، وتصلح به أعمالك لا يعنى إلا إطالة الفترة الكابية التى تبغى الخلاص منها، وبقاءك مهزوماً أمام نوازع الهوى والتفريط. بل قد يكون ذلك طريقاً إلى انحدار أشد، وهنا الطامة. وفى ذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " النادم ينتظر من الله الرحمة. والمعجب ينتظر المقت. واعلموا عباد الله أن كل عامل سيقدم على عمله، ولا يخرج من الدنيا حتى يرى حسن عمله وسوء عمله، وإنما الأعمال بخواتيمها. والليل والنهار مطيتان فأحسنوا السير عليهما إلى الآخرة. واحذروا التسويف فإن الموت يأتى بغتة. ولا يغترن أحد كم بحلم الله عز وجل، فإن الجنة والنار أقرب إلى أحدكم من شراك نعله. ثم قرأ: (فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره * ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره ) ما أجمل أن يعيد الإنسان تنظيم نفسه بين الحين والحين، وأن يرسل نظرات ناقدة فى جوانبها ليتعرف عيوبها وآفاتها، وأن يرسم السياسات القصيرة المدى والطويلة المدى ليتخلص من هذه الهنات التى تزرى به. فى كل بضعة أيام أنظر إلى أدراج مكتبى لأذهب الفوضى التى حلت به من قصاصات متناثرة، وسجلات مبعثرة، وأوراق أدت الغرض منها. يجب أن أرتب كل شىء فى وضعه الصحيح، وأن يستقر فى سلة المهملات ما لا معنى للاحتفاظ به. وفى البيت، إن غرفه وصالاته تصبح مشعثة مرتبكة عقب أعمال يوم كامل. فإذا الأيدى الدائبة تجول هنا وهناك لتنظف الأثاث المغبر، وتطرد القمامة الزائدة، وتعيد إلى كل شىء رواءه ونظامه. ص _014(1/11)
ألا تستحق حياة الإنسان مثل هذا الجهد؟. ألا تستحق نفسك أن تتعهد شئونها بين الحين والحين لترى ما عراها من اضطراب فتزيله، وما لحقها من إثم فتنفيه عنها مثلما تنقى القمامة عن الساحات الطهور؟!. ألا تستحق النفس بعد كل مرحلة تقطعها من الحياة أن نعيد النظر فيما أصابها من غنم أو غرم؟ وأن ترجع إليها توازنها واعتدالها كلما رجتها الأزمات، وهزها العراك الدائب على ظهر الأرض فى تلك الدنيا المائجة؟.. إن الإنسان أحوج الخلائق إلى التنقيب فى أرجاء نفسه وتعهد حياته الخاصة والعامة بما يصونها من العلل والتفكك. ذلك أن الكيان العاطفى والعقلى للإنسان قلما يبقى متماسك اللبنات مع حدة الاحتكاك بصنوف الشهوات وضروب المغريات... فإذا تُرك لعوامل الهدم تنال منه فهى آتية عليه لا محالة، وعندئذ تنفرط المشاعر العاطفية والعقلية كما تنفرط حبات العقد إذا انقطع سلكه... وهذا شأن (من أغفلنا قلبه عن ذكرنا و اتبع هواه و كان أمره فرطا ) كما يقول الله عز وجل. وكلمة " فُرُط " هذه ينبغى أن نتأمل فيها. فالعامة عندنا يسمون حبات العنب الساقطة من عنقودها أو حبات البلح الساقطة من عُرْجونها "فرطا" . وانتزاع حبات الأذرة من كيزانها المتراصة تمهيدا لطحنها تشتق تسميته من المادة نفسها. والنفس الإنسانية إذا تقطعت أواصرها، ولم يربطها نظام يُنسِّق شئونها ويركز قواها؛ أصبحت مشاعرها وأفكارها كهذه الحبات المنفرطة السائبة لا خير فيها ولا حركة لها. ومن ثم نرى ضرورة العمل الدائم لتنظيم النفس وإحكام الرقابة عليها. والله عز وجل يهيب بالبشر ـ قبيل كل صباح ـ أن يجددوا حياتهم مع كل نهار مقبل. فبعد أن يستريح الأنام من عناء الأمس الذاهب، وعندما يتحركون فى فرشهم ليواجهوا مع تحرك الفلك يومهم الجديد . ص _015(1/12)
فى هذه الآونة الفاصلة تستطيع أن تسأل: كم تعثر العالم فى سيره؟. كم مال مع الأثرة؟. كم اقترف من دنية؟. كم أضلته حيرته فبات محتاجا إلى المحبة والحنان؟. فى هذه اللحظة يستطيع كل امرئ أن يجدد حياته، وأن يعيد بناء نفسه على أشعة من الأمل والتوفيق واليقظة . إن صوت الحق يهتف فى كل مكان ليهتدى الحائرون ويتجدد البالون. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إذا مضى شطر الليل، أو ثلثاه، ينزل الله تبارك وتعالي إلى السماء الدنيا فيقول: هل من سائل فيعطى؟. هل من داع فيستجاب له؟. هل من مستغفر فيُغفر له؟.. حتى ينفجر الفجر" . وفى رواية: " أقرب ما يكون العبد من الرب فى جوف الليل " . فإن استطعت أن تكون ممن يذكر الله فى تلك الساعة فكن. إنها لحظة إدبار الليل وإقبال النهار، وعلى أطلال الماضى القريب أو البعيد يمكنك أن تنهض لتبنى مستقبلك. ولا تؤودنك كثرة الخطايا، فلو كانت ركاما أسود كزبد البحر ما بالى الله عز وجل بالتعفية عليها إن أنت اتجهت إليه قصدا وانطلقت إليه ركضا. إن الكنود القديم لا يجوز أن يكون عائقاً أمام أوبة صادقة، (قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعا إنه هو الغفور الرحيم * وأنيبوا إلى ربكم وأسلموا له) . وفى حديث قدسى عن الله عز وجل: (يا ابن آدم، إنك ما دعوتنى ورجوتنى غفرت لك على ما كان منك ولا أبالى. يا ابن آدم لو بلغت ذنوبك عنان السماء ثم استغفرتنى غفرت لك ولا أبالى. يا ابن آدم لو أتيتنى بقراب الأرض خطايا ثم لقيتنى لا تشرك بى شيئا لأتيتك بقرابها مغفرة ) . ص _016(1/13)
وهذا الحديث وأمثاله جرعة تحيى الأمل فى الإرادة المخدرة، وتنهض العزيمة الغافية وهى خجلى لتستأنف السير إلى الله، ولتجدد حياتها بعد ماض ملتو مستكين!. لا أدرى لماذا لا يطير العباد إلى ربهم على أجنحة من الشوق بدل أن يساقوا إليه بسياط من الرهبة؟ إن الجهل بالله وبدينه هو علة هذا الشعور البارد، أو هذا الشعور النافر – بالتعبير الصحيح ـ مع أن البشر لن يجدوا أبر بهم ولا أحنى عليهم من الله عز وجل . وبره وحنوه غير مشوبين بغرض ما، بل هما من آثار كماله الأعلى وذاته المنزهة. وقصة الإنسان تشير إلى أن الله خلقه ليكرمه لا ليهينه، وليسوده فى العالمين، لا ليؤخر منزلته أو يضع مقداره : (ولقد مكناكم في الأرض وجعلنا لكم فيها معايش قليلا ما تشكرون * ولقد خلقناكم ثم صورناكم ثم قلنا للملائكة اسجدوا لآدم ) . ووظيفة الدين بين الناس أن يضبط مسالكهم وعلائقهم على أسس من الحق والقسط حتى يحيوا فى هذه الدنيا حياة لا جور فيها ولا جهل.. فالدين للإنسان ـ كالغذاء لبدنه ـ ضرورة لوجوده ومتعة لحواسه. والله عز وجل ـ بشريعته ـ مع الوالد ضد عقوق الولد، ومع المظلوم ضد سطوة الظالم، ومع أى امرئ ضد أن يصاب فى عرضه أو ماله أو دمه. فهل هذه التعاليم قسوة على البشر ونكال بهم؟! أليست محض الرحمة والخير؟!. وإذا كلف الله أبناء آدم بعد ذلك ببعض العبادات اليسيرة، ليحمدوا فيها آلاءه ويذكروا له حقه، فهل هذه العبادات المفروضة هى التى يتألم الناس من أدائها، ويتبرمون من إيجابها؟!. الحق أن الله لم يرد للناس قاطبة إلا اليسر والسماحة والكرامة، ولكن الناس أتوا أن يستجيبوا لله وأن يسيروا وفق ما رسم لهم، فزاغت بهم الأهواء فى كل فج، وطفحت الأقطار بتظالمهم وتناكرهم . ومع هذا الضلال الذى خبطوا فيه فإن منادى الإيمان يهتف بهم أن عودوا إلى بارئكم. إن فرحته بعودتكم إليه فوق كل وصف. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " "لله أفرح بتوبة عبده المؤمن من(1/14)
رجل نزل فى أرض دوية مهلكة، معه راحلته، عليها طعامه ص _017
وشرابُه، فوضع رأسه فنام نومة، فاستيقظ وقد ذهبت راحلته!! فطلبها، حتى إذا اشتد عليه الحر والعطش، أو ما شاء الله ، قال: أرجع إلى مكانى الذى كنت فيه فأنام حتى أموت... فوضع رأسه على ساعده ليموت، فاستيقظ فإذا راحلته عنده عليها زاده وشرابه، فالله أشد فرحا بتوبة المؤمن من هذا براحلته " . ألا يبهرك هذا الترحاب الغامر. أترى سرورا يعدل هذه البهجة الخالصة؟. إن أنبل الناس عرقاُ وأطهرهم نفساً قلما يجد فؤاداً يتلهف على لقائه بمثل هذا الحنين. فكيف بخطاء أسرف على نفسه وأساء إلى غيره؟. إنه لو وجد استقبالا يستر عليه ما مضى لكان بحسبه ذلك الأمان المبذول! ليستريح ويشكر. أما أن يفاجأ بهذه الفرحة، وذلك الاستبشار، فذاك ما يثير الدهشة. لكن الله أبر بالناس وأسر بأوبة العائدين إليه مما يظن القاصرون!!. وطبيعى أن تكون هذه التوبة نقلة كاملة من حياة إلى حياة، وفاصلاً قائما بين عهدين متمايزين، كما يفصل الصبح بين الظلام والضياء. فليست هذه العودة زورة خاطفة يرتد المرء بعدها إلى ما ألف من فوضى وإسفاف. وليست محاولة فاشلة ينقصها صدق العزم وقوة التحمل وطول الجلد، كلا.. كلا. إن هذه العودة الظافرة التى يفرح الله بها هى انتصار الإنسان على أسباب الضعف والخمول، وسحقه لجراثيم الوضاعة والمعصية، وانطلاقه من قيود الهوى والجحود، ثم استقراره فى مرحلة أخرى من الإيمان والإحسان، والنضج والاهتداء. هذه هى العودة التى يقول الله فى صاحبها : (وإني لغفار لمن تاب و آمن و عمل صالحا ثم اهتدى) . إنها حياة تجددت بعد بلى، ونُقلة حاسمة غيرت معالم النفس، كما تتغير الأرض الموات بعد مقادير هائلة من المياه والمخصبات . إن تجديد الحياة لا يعنى إدخال بعض الأعمال الصالحة، أو النيات الحسنة وسط جملة ضخمة من العادات الذميمة والأخلاق السيئة، فهذا الخلط لا ينشئ به المرء مستقبلا حميدا، ولا(1/15)
مسلكا مجيدا. بل إنه لا يدل على كمال أو قبول، فإن القلوب المتحجرة قد ترشح بالخير، والأصابع الكزة قد تتحرك بالعطاء . ص _018
والله عز وجل يصف بعض المطرودين من ساحته فيقول : (أفرأيت الذي تولى * وأعطى قليلا و أكدى ) . ويقول فى المكذبين بكتابه : (وما هو بقول شاعر قليلا ما تؤمنون * ولا بقول كاهن قليلا ما تذكرون * تنزيل من رب العالمين ) . فالأشرار قد تمر بضمائرهم فترات صحو قليل ثم تعود بعد ذلك إلى سباتها . ولا يسمى ذلك اهتداء، إن الاهتداء هو الطور الأخير للتوبة النصوح . * * * إن البعد عن الله لن يثمر إلا علقما، ومواهب الذكاء والقوة والجمال والمعرفة تتحول كلها إلى نقم ومصائب عندما تعرى عن توفيق الله وتحرم من بركته . ولذلك يخوف الله الناس عقبى هذا الاستيحاش منه، والذهول عنه . قد تكون سائراً فى طريقك فتقبل عليك سيارة تنهب الأرض نهبا وتشعر كأنها موشكة على حطم بدنك وإتلاف حياتك، فلا ترى بداً من التماس النجاة وسرعة الهرب... إن الله يريد إشعار عباده تعرضهم لمثل هذه المعاطب والحتوف إذا هم صدفوا عنه، ويوصيهم أن يلتمسوا النجاة ـ على عجل ـ عنده وحده: (ففروا إلى الله إني لكم منه نذير مبين * ولا تجعلوا مع الله إلها آخر إني لكم منه نذير مبين). وهى عودة تتطلب ـ كما رأيت ـ أن يجدد الإنسان نفسه، وأن يعيد تنظيم حياته، وأن يستأنف مع ربه علاقة أفضل، وعملاً أكمل، وعهدا يجرى على فمه هذا الدعاء: "اللهم أنت ربى لا إله إلا أنت، خلقتنى وأنا عبدك، وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت، أعوذ بك من شر ما صنعت، أبوء لك بنعمتك على، وأبوء بذنبى، فاغفر لى، فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت " . ص _019(1/16)
عش فى حدود يومك من أخطاء الإنسان أن ينوء فى حاضره بأعباء مستقبله الطويل. والمرء حين يؤمل ينطلق تفكيره فى خط لا نهاية له، وما أسرع الوساوس والأوهام إلى اعتراض هذا التفكير المرسل، ثم إلى تحويله هموما جاثمة، وهواجس مقبضة. لماذا تخامرك الريبة ويخالجك القلق؟! عش فى حدود يومك فذاك أجدر بك، وأصلح لك. ولقد ساق " ديل كارنيجى " عددا من التجارب التى خاضها رجال ناجحون، رجال لم يتعلقوا بالغد المرتقب، بل انغمسوا إلى الأذقان فى حاضرهم وحده يواجهون مطالبه ويعالجون مشكلاته، فأمنوا بهذا المسلك الراشد يومهم وغدهم جميعا، ثم أهدوا لنا خلاصات تجاربهم فى هذه الكلمات: (ليس لنا أن نتطلع إلى هدف يلوح لنا باهتا من بعد، وإنما علينا أن ننجز ما بين أيدينا من عمل واضح بيِّن) . وهى نصيحة للأديب الإنجليزى " توماس كارليل " . ويزيد عليها دكتور " أوسلر " فيأمر طلبته فى جامعة " ييل " أن يبدأوا يومهم بالدعاء المأثور عن السيد المسيح: " خبزنا كفافنا أعطنا اليوم ". وذكرهم بأن هذا الدعاء كان من أجل خبز اليوم فحسب . إنه لم يحزن على الخبز الردىء الذى حصل عليه أمس، ولم يصح: يا إلهى لقد عم الجفاف، ونخشى ألا نجد القوت فى الخريف القادم!!. أو ترى كيف أطعم نفسى وأولادى لو فقدت وظيفتى؟!. إنه لم يرتبك مقدماً لهذه الدواهى المتوقعة، إنه يطلب خبز اليوم وحده، لأن خبز اليوم وحده هو الذى يمكنك أن تأكله فى ذلك اليوم.. والعيش فى حدود اليوم ـ وفق هذه الوصايا ـ يتسق مع قول الرسول صلى الله عليه وسلم : "من أصبح آمنا فى سربه، معافى فى بدنه، عنده قوت يومه، فكأنما حيزت له الدنيا ص _020(1/17)
بحذافيرها " . إنك تملك العالم كله يوم تجمع هذه العناصر كلها فى يديك فاحذر أن تحقرها . إن الأمان والعافية وكفاية يوم واحد قوى تتيح للعقل النير أن يفكر فى هدوء واستقامة تفكيرا قد يغير به مجرى التاريخ كله، بله حياة فرد واحد . إن هذه النعم الميسرة ضمان كبير لصاحبها كى يقطع من الزمن فترة كاملة الإنتاج، مطردة السير، مُراحة من العوائق والمثبطات.. والحق أن استعجال الضوائق التى لم يحن موعدها حمق كبير، وغالبا ما يكون ذلك تجسيدا لأوهام خلقها التشاؤم، ولو كان المرء مصيبا فيما يتوقع فإن إفساد الحاضر بشؤون المستقبل خطأ صرف، والواجب أن يستفتح الإنسان يومه وكأن اليوم عالم مستقل بما يحويه من زمان ومكان. كان الخليل إبراهيم عليه السلام إذا طلع عليه الصباح يدعو: " اللهم هذا خلق جديد فافتحه على بطاعتك، واختمه لى بمغفرتك ورضوانك، وارزقنى فيه حسنة تقبلها منى وزكها وضعِّفها لى، وما عملت من سيئة فاغفره لى، إنك غفور رحيم ودود كريم " . وكان يقول: " من دعا بهذا الدعاء إذا أصبح فقد أدى شكر يومه ". وسيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم تلفتنا إلى صحة هذه الطريقة فى تجزئة الحياة، واستقبال كل جزء منها بنفس محتشدة وعزم جديد . فهو إذا أصبح يقول: " أصبحنا وأصبح الملك لله والحمد لله، لا شريك له، لا إله إلا هو وإليه النشور " وإذا أمسى قال مثل ذلك، وقد يدعو: " اللهم إنى أصبحت منك فى نعمة وعافية وستر، فأتمم نعمتك على وعافيتك وسترك فى الدنيا والآخرة" . وإذا أمسى دعا بمثل ذلك . وبعض الناس يستهين بما أولاه الله من سلامة وطمأنينة فى نفسه وأهله، وقد يزدرى هذه الآلاء العظيمة، ويضخم آثار الحرمان من حظوظ الثروة والتمكين. وهذه ص _021(1/18)
الاستهانة غمط للواقع ومتلفة للدين والدنيا. روى أن رجلا سأل عبد الله بن عمرو ابن العاص : ألست من فقراء المهاجرين؟. فقال له عبد الله: ألك امرأة تأوى إليها؟. قال : نعم. قال: ألك مسكن تسكنه؟. قال: نعم. قال: فأنت من الأغنياء.. قال: فإن لى خادما. قال فأنت من الملوك .. إن الاكتفاء الذاتى، وحسن استغلال ما فى اليد، ونبذ الاتكال على المنى هى نواة العظمة النفسية وسر الانتصار على الظروف المعنتة. والذين لا يشكون الحرمان ـ لأنهم أوتوا الكثير ـ قلما ينتفعون بما أوتوا إذا هم فقدوا الطاقة النفسية على استغلال ما معهم والإفادة مما حولهم. هذه حقيقة يؤكدها النبى الكريم مطلع كل صباح فيقول : " ما طلعت شمس قط إلا بعث بجنبتيها ملكان يسمعان أهل الأرض إلا الثقلين: يا أيها الناس، هلموا إلى ربكم، فإن ما قل وكفى خير مما كثر وألهى. ولا غربت شمس قط، إلا وبعث بجنبيها ملكان يناديان: اللهم عجل لمنفق خلفاً وعجل لممسك تلفاً " . آخر هذا الحديث وعد للكرام بالعوض، ووعيد للبخلاء بالمقت . وأوله مقارنة قد تحسب تفضيلا للقلة على الكثرة. والحقيقة أنها تفضيل للقلة الكافية على الكثرة الملهية. أما الكثرة التى تغنى صاحبها ثم يبقى فيها فضل يسع الحاجات ويسد الحقوق فإنها بمنزلة أسنى من القلة المحصورة. ولم يتعرض لها الحديث هنا، كل ما عنى به هذا الأثر النبوى تحريض المؤمنين على الكرم، والجراءة فى البذل، دون خشية من إملاق، أو تبرم بكفاف. وهذا الفقه فى معالجة الحياة يورث المؤمنين شجاعة هائلة. واسمع قول " أبى حازم ": (إنما بينى وبين الملوك يوم واحد!!. أما أمس فلا يجدون لذته. وأنا وهم من غد على وجل. وإنما هو اليوم. فما عسى أن يكون اليوم؟!.) ص _022(1/19)
هذا الفقير الصالح يتحدى الملوك. إن لذائذ الماضى تفنى مع أمس الذاهب، ما يستطيع أحد إمساك بعضها. والغد فى ضمير الغيب يستوى السادة والصعاليك، فى ترقبه. فلم يبق إلا اليوم الذى يعيش العقلاء فى حدوده وحدها. وفى نطاق اليوم يتحول إلى ملك من يملك نفسه ويبصر قصده. فما وجه الهوان؟، وما مكان التفاوت؟!. * * * على أن العيش فى حدود اليوم لا يعنى تجاهل المستقبل، أو ترك الإعداد له، فإن اهتمام المرء بغده وتفكيره فيه حصافة وعقل . وهناك فارق بين الاهتمام بالمستقبل والاغتمام به، بين الاستعداد له والاستغراق فيه، بين التيقظ فى استغلال اليوم الحاضر وبين التوجس المربك المحير مما قد يفد به الغد . إن الدين فى حظره للإسراف وحبه للاقتصاد إنما يؤمن الإنسان على مستقبله، بالأخذ من صحته لمرضه، ومن شبابه لهرمه، ومن سلمه لحربه. كان سفيان الثورى من كبار التابعين، وكانت له ثروة حسنة، وكان يشير إليها ويقول لولده : لولا هذه لتمندل بنا هؤلاء ـ يقصد بنى أمية ـ . يعنى أن غناه حماه من حكام زمنه، فلم يحتج إلى مداهنتهم أو تملقهم . والواقع أن ذلك مسلك يعين على بلوغه إحسان العيش فى حدود اليوم، فإن الحاضر المكين أساس جيد لمستقبل ناجح، ومن ثم يجب نبذ القلق . قال الشاعر: سهرت أعين ونامت عيون فى شؤون تكون أو لا تكون إن ربا كفاك بالأمس ما كان سيكفيك فى غد ما يكون أتدرى كيف يسرق عمر المرء منه؟ يذهل عن يومه فى ارتقاب غده، ولا يزال كذلك حتى ينقضى أجله، ويده صفر من أى خير . ص _023(1/20)
كتب " ستيفن ليكوك " يقول: (ما أعجب الحياة!! يقول الطفل: عندما أشب فأصبح غلاما. ويقول الغلام: عندما أترعرع فأصبح شابا. ويقول الشاب: عندما أتزوج. فإذا تزوج قال: عندما أصبح رجلاً متفرغاً. فإذا جاءته الشيخوخة تطلع إلى المرحلة التى قطعها من عمره، فإذا هى تلوح وكأن ريحاً باردة اكتسحتها اكتساحا.. إننا نتعلم بعد فوات الأوان أن قيمة الحياة فى أن نحياها، نحيا كل يوم منها وكل ساعة). فى هؤلاء الذين ضيعوا أعمارهم سدى، وتركوا الأيام تفلت من أيديهم لقى، يقول الله تعالى: (وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ المجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ ) ويقول: (كأنهم يوم يرونها لم يلبثوا إلا عشية أو ضحاها) * * * ص _024(1/21)
الثبات والأناة والاحتيال إذا دهمتك شدة تخاف منها على كيانك كله، فما عساك تصنع؟. تدع الروع ينهب فؤادك، والعواصف الجائحة ترمى بك فى مكان سحيق؟! أم تقف مطمئنا، وتحاول أن تتلمس بين هذه الضوائق مأمنا يهديك إليه الفكر الصائب؟. يقول " ديل كارنيجى ": 1ـ سل نفسك: ما هو أسوأ ما يمكن أن يحدث لى؟. 2ـ ثم هيئ نفسك لقبول أسوأ الاحتمالات . 3ـ ثم اشرع فى إنقاذ ما يمكن إنقاذه . وهذه خطة يوصى العقل والدين معا باتباعها. وفى أدب العرب ذخائر لا تحصى من شجاعة الرجال فى استقبال المحن، ومن حرصهم على الخروج منها مخرجا لا يخدش المروءة ولا الشرف . ولا بأس أن نذكر هنا أبيات ثابت بن زهير الملقب " تأبط شرا " : إذا المرء لم يحتل وقد جد جده أضاع وقاسى أمره وهو مدبر ولكن أخو الحزم الذى ليس نازلا به الخطب إلا وهو للقصد مبصر فذاك قريعُ الدهر ما عاش حول إذا سُد منه منخر جاس منخر "وتأبط شرا " فى هذه النصائح يشرح ما قاله المهندس الأمريكى "ويليس كاريير": ( إن شر آثار القلق تبديده القدرة على التركيز الذهنى، فنحن عندما نقلق تتشتت أفكارنا، ونعجز عن حسم المشكلات واتخاذ قرار فيها، ولو أننا قسرنا أنفسنا على مواجهة أسوأ الاحتمالات، وأعددناها لتحمل أى النتائج لاستطعنا النفاذ إلى صميم الواقع، ولأحسنا الخلاص منه ) . ص _025(1/22)
ولا شك أن الرجل الذى يضبط أعصابه أمام الأزمات، ويملك إدارة البصر فيما حوله هو الذى يظفر فى النهاية بجميل العاقبة . وتأمل فى قول قطرى: أقول لها وقد طارت شعاعاً من الأبطال ويحك لن تراعى فإنك لو طلبت بقاء يوم على الأجل الذى لك لن تطاعى وقول الآخر: أقول لها وقد جشأت وجاشت مكانك تُحمدى أو تستريحى إن هذه الأبيات تصوير حسن لموقف الرجولة من النوازل العصيبة . ماذا يجديك أن تفقد رشدك إذا هددتك أو دهمتك أزمة؟. هذا الشاعر عندما أحس المنايا تقترب منه أعمل فكره بقوة: أيسلم سيقانه للريح طلبا للنجاة؟. كلا. إن الفرار لن يرجئ أجلاً حان، إنه لن يجلب إلا المعرة، فليبق إذن فى مكانه، فالبقاء- إن قتل- أروح للنفس، وإن عاش أدعى للحمد . وعندما يبقى الفكر يقظاً على هبوب الأخطار، وعندما يظل المرء رابط الجأش يقلب وجوه الرأى ابتغاء مخلص مما عراه، فإن النجاح لن يخطئه . ولذلك يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إنما الصبر عند الصدمة الأولى ". وقد يتوقع الإنسان بعض النوازل المخوفة، ويستبد به القلق فى انتشارها، وكأنما هى الموت أو أشد . وربما لم يهنأ له طعام ولا ارتسم على فمه ابتسام من تفكيره المشدود إلى ما يتوقع. والناس من خوف الفقر فى فقر، ومن خوف الذل فى ذل !!. وهذا خطأ بالغ. فالمؤمن الراشد يفترض أن أسوأ ما يقلقه قد وقع بالفعل، ثم ينتزع مما يتبقى له- بعد هذا الافتراض- عناصر حياة تكفى، أو معانى عزاء تشفى، على نحو ما قال الرسول صلى الله عليه وسلم : " لتعز المسلمين فى مصائبهم المصيبة فى، إنهم لن يصابوا بمثلى " . أجل فقد كانت حياته لهم بركة ما تُعوَّض، ثم حم القضاء وذهب، فكل مصاب بعده هين . ص _026(1/23)
إن الإنسان يتخوف فقدان ما ألف، أو وقوع ما يفدح حمله، وكلا الأمرين- بعد حدوثه- يستقبل دون عناء جسيم . أعرفُ رجلا قطعت قدمه فى جراحة أجريت له، فذهبت إليه لأواسيه، وكان عاقلا عالما، وعزمتُ أن أقول له: (إن الأمة لا تنتظر منك أن تكون عداء ماهرا، ولا مصارعا غالبا، إنما تنتظر منك الرأى السديد والفكر النير، وقد بقى هذا عندك ولله الحمد) . وعندما عدته قال لى: (الحمد لله. لقد صحبتنى رجلى هذه عشرات السنين صحبة حسنة، وفى سلامة الدين ما يُرضى الفؤاد) . وقد نقل لنا " ديل كارنيجى " هذه النصائح: (أعدوا أنفسكم لتقبل الحقيقة فإن التسليم بما حدث هو الخطوة الأولى فى التغلب على المصائب. وهذه الحكمة "لوليم جيمس" فسرها الفيلسوف الصينى " لين يوتانغ " بقوله: إن طمأنينة الذهن لا تتأتى إلا مع التسليم بأسوأ الفروض، ومرجع ذلك- من الناحية النفسية- أن التسليم يحرر النشاط من قيوده. قال: ومع ذلك فإن الألوف المؤلفة من الناس قد يحطمون حياتهم فى سورة غضب، لأنهم يرفضون التسليم بالواقع المر، ويرفضون إنقاذ ما يمكن إنقاذه، وبدلا من أن يحاولوا بناء آمالهم من جديد يخوضون معركة مريرة مع الماضى، وينساقون مع القلق الذى لا طائل تحته) . والتحسر على الماضى الفاشل، والبكاء المجهد على ما وقع فيه من آلام وهزائم هو- فى نظر الإسلام- بعض مظاهر الكفر بالله والسخط على قدره . ومنطق الإيمان يوجب نسيان هذه المصائب جملة، واستئناف حياة أدنى إلى الرجاء وأحفل بالعمل والإقدام . وفى هذا يقول الله عز وجل : ( يا أيها الذين آمنوا لا تكونوا كالذين كفروا وقالوا لإخوانهم إذا ضربوا في الأرض أو كانوا غزى لو كانوا عندنا ما ماتوا وما قتلوا ليجعل الله ذلك حسرة في قلوبهم والله يحيي ويميت والله بما تعملون بصير ) ص _027(1/24)
وفى ضوء هذه الآية تدرك قول القائل : فإن تكن الأيام فينا تبدلت ببؤسي ونعمى والحوادث تفعل فما لينت منا قناة صليبة ولا ذللتنا للتى ليس تجمل ولكن رحلناها نفوساً كريمة تحمل ما لا يستطاع فتحمل وقينا بحسن الصبر منا نفوسنا فصحت لنا الأعراض والناس هزل إن الينبوع الذى تسيل منه مخايل الرجولة الناضجة هو الذى تسيل منه معانى اليقين الحى. وإذا وجدت الصبر يساوى البلادة فى بعض الناس فلا تخلطن بين تبلد الطباع المريضة وبين تسليم الأقوياء لما نزل بهم . وأول معالم الحرية الكاملة ألا يضرع الرجل لحاجة فقدها . وعندما يكون المرء عبد رغبة تنقصه فتلك ثغرة فى رجولته، وهى بالتالى ثُلمة فى إيمانه . والإيمان الحق يجعل الرجل صلب العود، لا يميل مع كل ريح، ولا ينحنى مع أى خلة. وإذا أحصينا الرجال الذين لا يأخذهم الدهش أمام المفاجآت عرفنا أن لهم من أنفسهم ما يهون عليهم أى مفقود وما يسليهم عن كل فائت، وبهذا الشعور يمكنهم أن يقتحموا كل حصار تضربه عليهم الليالى الكوالح . * * * إن الرجل العربيد الهجام على لذائذ الحياة ـ متعسفا أو متلطفا ـ فى اقتناصها ربما تصيبه النازلة من نوازل الدهر فيلقاها فى غير مبالاة، أو يقول قول امرئ القيس: (اليوم خمر وغدا أمر) . وفى الحياة أناس يلوذون بالاستخفاف والسخرية من كل شىء، فإذا صوبت الأحداث لهم سهما مس جوانبهم كما تمس القذيفة الطائشة أطراف رجل مشغول عنها بأمر نفسه . وحالات هؤلاء لا تجعل مثلا يحتذى فى تحمُّل الشدائد بجلد أو مرح . وكل ما تدل عليه أن الحساسية بالآلام تتفاوت تفاوتا واسعاً بين الناس، وإن الاستغراق فى حال ما ـ طيبة أو خبيثة ـ يخفف من حدة الشعور بالأذى . ص _028(1/25)
ومن ثم وجب على طلاب الكمال وأهل المروءة أن يتحصنوا بمثلهم العليا، وأن يلتمسوا السلوى فى ظلها . وأن يجدوا فى ذلك عزاء لا يجده الشطار والفجار فى الرضى بمآربهم الدنيا. ولقد قص علينا " ديل كارنيجى " قصة رجل أصابته قرحة فى أمعائه بلغ من خطورتها أن الأطباء حددوا له أوان وفاته، وأوعزوا إليه أن يجهز كفنه. قال: (وفجأة اتخذ " هانى "- اسم المريض- قرارا مدهشا. إنه فكر فى نفسه إذا لم يبق لى في هذه الحياة سوى أمد قصير، فلماذا لا أستمتع بهذا الأمد على أكمل وجه، لطالما تمنيت أن أطوف حول العالم قبل أن يدركنى الموت، فها هو ذا الوقت الذى أحقق فيه أمنيتى. وابتاع تذكرة السفر، فارتاع أطباؤه وقالوا له: إننا نحذرك، إنك إن أقدمت على هذه الرحلة فستدفن فى قاع البحر، لكنه أجاب: كلا، لن يحدث شىء من هذا، لقد وعدت أقاربى ألا يدفن جثمانى إلا. فى مقابر الأسرة.) وركب "هانى" السفينة، وهو يتمثل بقول الخيام : إنعم أقصى النعيم بما ملكت يداك قبل أن توسد اللحد فلا شىء هناك سوى تراب من تحتك وتراب من أعلاك فلا شراب ولا غناء ولا نهاية بعد ذاك وبدأ الرجل رحلة مشبعة باللهو والاستخفاف، وأرسل خطابا لزوجته يقول فيه: "لقد شربت النبيذ على ظهر السفينة. ودخنت السيجار، وأكلت ألوان الطعام كلها، حتى الدسم المحظور منها، وتمتعت فى هذه الفترة بما لم أتمتع به فى ماضى حياتى " ثم ماذا؟. ثم يزعم " ديل كارنيجى " أن الرجل صح من علته، وأن الأسلوب الذى سار عليه أسلوب ناجح فى قهر الأمراض ومغالبة الآلام ... لقد أيقن الرجل أن ساعته حانت فلم تفزعه رهبة الموت، وبنى مسلكه عقب تكشف مصيره له على انتهاز كل لحظة للعب من المتع الميسرة. فإذا هو بما عراه من سرور مذهل يتغلب على القرحة المعوية ويستعيد عافيته الأولى . ونحن لا ننكر آثار الانتعاش النفسى فى هزيمة الصعاب، ونعترف بما لارتفاع القوى المعنوية من استهانة بالتعب، واستطالة على العوائق، وانتصار فى(1/26)
أغلب معارك الحياة . ص _029
بيد أننا نلفت النظر إلى الغلط الشنيع فى فهم الموت على أنه عدم محض، وسوق أبيات الخيام السابقة لحفز الشهوات على التهام ما يمكنها من الحياة قبل أن تنتهى هذه الحياة ولا تعود.. هذه أكذب فرية يشيعها المبطلون فى أرجاء العالم . والحق الذى كان يجب على المنتسبين للأديان كافة أن يفقهوه وأن يقفوا عنده هو أن الموت مرحلة تتلوها حياة أضخم من حياتنا هذه، وأعمق إحساسا، وأرحب آفاقا. حياة تعد حياتنا هذه لهوا وعبثا إلى جانبها، ولذلك يعبر القرآن عنها بلفظ أكبر فى مبناه ليكون أوسع فى معناه فيقول : (وما هذه الحياة الدنيا إلا لهو ولعب وإن الدار الآخرة لهي الحيوان لو كانوا يعلمون) . إن الشعور بأن الموت بداية فناء مطلق وهم يشيع للأسف بين الكثيرين، وهو الذى يخامر المنتحرين عندما يقررون مغادرة الحياة . إنهم معذبون بالإحساس السارى فى أعصابهم بحملهم الغم والكرب، فما الذى يريحهم من هذا الإحساس؟. الموت الذى يتوهمونه ضياعا وانقطاعا وفراغا من كل شعور!!. فكيف إذا علموا بالحقيقة المرة، ووجدوا أنفسهم التى يريدون إزهاقها ما تزال باقية لم يتغير منها إلا الإهاب الذى احتواها حينا، ثم عريت عنه دون أن ينقص وعيها أو يقل حسها؟!. إن ما بعد الموت طور أخر من أطوار الوجود الإنسانى يتسم بزيادة الوعى وحدة الشعور. قيل: إن أبا حامد الغزالى لما أحس دنو أجله قال لبعض أصحابه: ائتنى بثوب جديد. فقال له: ما تريد به؟. قال أبو حامد: سألقى به الملك!!. فجاءوه بالثوب، فطلع به إلى بيته، وأبطأ على أصحابه، فلم يعد. فذهب إليه أصحابه يستطلعون نبأه، فإذا هو ميت، وإذا عند رأسه ورقة كتب فيها هذه الأبيات : ص _030(1/27)
قُل لإخوان رأونى ميتا فرثونى، وبكوا لى حزنا.. أتظنونى بأنى ميتكم ليس هذا الميت والله أنا.. أنا فى الصور وهذا جسدى كان بيتى وقميصى زمنا أنا عصفور وهذا قفصى طرت عنه وبقى مرتهنا أنا در قد حواه صدف لامتحانى فنفيت المحنا أحمد الله الذى خلصنى وبنى لى فى المعالى سكنا كنت قبل اليوم أناجى ملأ فحييت، وخلعت الكفنا وأنا اليوم أناجى ملأ وأرى الله جهارا علنا قد ترحلت وخلفتكمو لست أرضى داركم لى وطنا لا تظنوا الموت موتا إنه كحياة، وهو غايات المنى.. لا ترعكم هجمة الموت فما هى إلا نقلة من هاهنا.. وهذه الأبيات، سواء صحت نسبتها للغزالى أم لم تصح، فهى صورة صحيحة للفكر الدينى عما دار وراء الموت . ولقد قرأت لأحد الماديين أنه رأى صرصارا يموت- لعله من ضربة عابرة- فتمثل مستقبل البشرية كلها فى نهايته التافهة، إنها هكذا تنقضى، ويحتويها ظلام العدم والنسيان!!. أما أبيات الخيام التى تصور الميت جثة تحتها تراب وفوقها تراب، ثم لا شىء بعد، فهى ليست إلا تخليطا فى تخليط . وأى امرئ يبنى حياته على هذا الزعم فهو يبنيها على الخرافة . وقد يلتذ بعيشه على أوسع نطاق، وقد يكون غرامه فى ملاقاة الدنيا بخيرها وشرها مثار نجاح وتأمل، ولكنا لا يجوز أن نُخدع بهذه الصورة الباطلة . فالنهج الأقوم أن يكون مصدر طاقتنا المادية والمعنوية هو الحق وحده . وماذا على المريض المصاب بقرحة الأمعاء لو أنه حسب الموت نقلة من بلد إلى بلد، فلم ير فيه وحشة مروعة ولا ظلاما مهولا . ص _031(1/28)
وماذا عليه لو تحمل نبأ العلة التى أصابته بطمأنينة وتسليم لأنه يؤمن بالله، ولا يحزن من لقائه وإن اقترب موعده . وأقرب إلى الحقيقة من أبيات الخيام الآنفة أبيات الشاعر " محمد مصطفى حمام " التى يقول فيها : علمتنى الحياة أن (حياتى) إنما كانت امتحانا طويلا قد أرى بعده نعيماً مقيماً أو أرى بعده عذاباً وبيلا على خوفى يردنى عن أمور خبثت غاية وساءت سبيلا وعد الله من ينيب ويخشى بطشه رحمة وصفحا جميلا وبحسبى وعد من الله حق إنه كان وعده مفعولا الواقع أن الجزع والجبن والتحسر وشتى العواطف التى تنتاب الناس بإزاء الموت تعود إلى فهمه على أنه انتقال من وجود إلى عدم، ومن ضياء إلى ظلام، ومن إيناس إلى وحشة. فهل يدرى هؤلاء أن هذه الحياة الدنيا بما فيها ومن فيها ستكون ذكريات حافلة مثيرة، وأن يوما لا بد منه سوف يقدم ليتلاقى فيه الصالحون، فيقول بعضهم لبعض : قالوا إنا كنا قبل في أهلنا مشفقين * فمن الله علينا ووقانا عذاب السموم * إنا كنا من قبل ندعوه إنه هو البر الرحيم . أما حديثهم عن الملحدين والجحدة فإليك نبأه : فأقبل بعضهم على بعض يتساءلون * قال قائل منهم إني كان لي قرين * يقول أئنك لمن المصدقين * أئذا متنا وكنا ترابا وعظاما أئنا لمدينون * قال هل أنتم مطلعون * فاطلع فرآه في سواء الجحيم * قال تالله إن كدت لتردين . * * * ص _0 ص(1/29)
هموم وسموم الخبراء بحياة الغرب يشكون من مرارة الكفاح الدائر فى أرجائه للحصول على المال والمكاثرة به . فالأفراد والجماعات منطلقون فى سباق رهيب لإحراز أكبر حظ مستطاع من حُطام الدنيا . وقواهم البدنية والنفسية تدور كالآلة الدائبة وراء هذه الغاية، وقد احتشدت فيها جميع الخصائص الإنسانية الدنيا والعليا . إلا أن الآلات قد يقطر عليها من الزيت ما يرطب حدة الاحتكاك فى حركتها، ويمنع الشرر المتولد من إحراقها. أما أعصاب الناس فى عراك المادة الرهيب فكثيرا ما تفقد هذا العنصر الملطف، وتمضى مستثارة يستبد بها القلق والضيق حتى تشتعل فتأتى على الأخضر واليابس . وقد كتب " ديل كارنيجى " يصف مشاهد هذا السعار المادى وما خلفه فى النفوس والجسوم من بلاء فقال: (عشت فى نيويورك أكثر من سبع وثلاثين سنة، فلم يحدث أن طرق أحد بابى ليحذرنى من مرض يدعى " القلق "، هذا المرض الذى سبب فى الأعوام السبعة والثلاثين الماضية من الخسائر أكثر مما سببه الجدرى بعشرة آلاف ضعف، نعم لم يطرق أحد بابى ليحذرنى أن شخصا من كل عشرة أشخاص من سكان أمريكا معرض للإصابة بانهيار عصبى مرجعه فى أغلب الأحوال إلى القلق!!) . ويقرر الأطباء أن واحدا من كل عشرين أمريكياً سوف يقضى جانبا من حياته فى مصح للأمراض العقلية، ومن الحقائق المريرة أن واحدا من كل ستة شبان تقدموا للالتحاق بالخدمة العسكرية فى خلال الحرب العالمية الأخيرة رُد على أعقابه لأنه يعانى مرضا جسميا أو نقصا عقليا... قال: (وألقى الدكتور " هارولدسين هابين " ص _033(1/30)
الطبيب بمستشفى "مايو" رسالة فى الجمعية الأمريكية للأطباء والجراحين العاملين فى المؤسسات الصناعية قال فيه: " إنه درس حالات 176 رجلاً من رجال الأعمال أعمارهم متجانسة فى نحو الرابعة والأربعين، فاتضح له أن أكثر من ثلث هؤلاء يعانون واحدا من ثلاثة أمراض تنشأ كلها عن توتر الأعصاب، وهى: اضطراب القلب، وقرحة المعدة، وضغط الدم. ذلك ولما يبلغ أحدهم الخامسة والأربعين بعد". أهذا هو ثمن النجاح، هل يعد ناجحا ذاك الذى يشترى نجاحه بقرحة فى معدته ولغط فى قلبه، وماذا يفيده المرض إذا كسب العالم أجمع وخسر صحته؟! لو أن أحدا ملك الدنيا كلها ما استطاع أن ينام إلا على سرير واحد، وما وسعه أن يأكل أكثر من ثلاث وجبات فى اليوم، فما الفرق بينه وبين الفاعل الذى يحفر الأرض؟! لعل الفاعل أشد استغراقا فى النوم، وأوسع استمتاعا بطعامه من رجل الأعمال ذى الجاه والسطوة . ويقول الدكتور " و. س. الفاريز ": اتضح أن أربعة من كل خمسة مرضى ليس لعلتهم أساس عضوى البتة، بل مرضهم ناشىء عن الخوف، والقلق، والبغضاء، والأثرة المستحكمة، وعجز الشخص عن الملاءمة بين نفسه والحياة) * * * على ضوء هذه الصيحات المحزونة نحب أن نذكر بعض أحاديث النبى محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم فى ذم هذا التكالب والترهيب من عقباه، قال: "من جعل الهم هما واحدا كفاه الله هم دنياه. ومن تشعبته الهموم لم يبال الله فى أى أودية الدنيا هلك" . هذا اللون من التوجيه النبوى يقصد به بث السكينة فى الأفئدة، واستئصال جراثيم الطمع والتوجع التى تطيل لغوب الإنسان وراء الدنيا وتحسره على ما يفوته منها، وفي ذلك يقول: " من كانت الأخرة همه جعل الله غناه فى قلبه، وجمع له شمله، وأتته الدنيا وهى راغمة. ومن كانت الدنيا همه جعل الله فقره بين عينيه، وفرق عليه شمله، ولم يأته من الدنيا إلا ما قدر له " . وقال: " تفرغوا من هموم الدنيا ما استطعتم، فإنه من كانت الدنيا أكبر همه أفشى الله(1/31)
ضيعته، وجعل فقره ص _034
بين عينيه. ومن كانت الآخرة أكبر همه جمع الله له أموره، وجعل غناه فى قلبه. وما أقبل عبد بقلبه على الله عز وجل إلا جعل الله قلوب المؤمنين تفد إليه بالود والرحمة، وكان الله إليه بكل خير أسرع " . وفى مواريث النبوة أحاديث كثيرة من هذا النوع الرضى الهادئ، وهى حكم بالغة إذا سيقت فى مجالها ووضعت فى مواضيعها، وهى لا تعنى إلا كفكفة الجهود المجنونة فى معركة الخبز، وضبط عواطف البشر وراء مطالب الحياة، فلا يكون زحامهم وسباقهم ذريعة إلى غرس الأضغان، ونسيان الفضائل، وحرق الصداقات، ورد الإنسان المهذب الرقيق حيوانا محدود الظفر والناب يحول مناكب الأرض إلى مسبعة متهارشة . ولكن بعض الزهاد فهم الأحاديث الآنفة فهما مقلوبا، واستخدمها لإبطال أعمال الحياة بدلا من تهذيبها، فأساء بذلك إلى الدين والدنيا معا . إن من حق الدنيا علينا أن نعمل فيها، وأن ننال من ضروراتها ومرفهاتها ما يحفظ حياتها ويسعدها، وقد يكلفنا هذا العمل جهدا شاقا يتصبب معه العرق ويطول فيه العناء، ولكن هذا الحق المقرر، وهذا الجهد المبذول لبلوغه لا يجوز أن يميلا بنا عن الجادة، أو يزيغا بنا عن الرشاد . فالمال إذا طلبناه فلكى ننفقه لا لكى نختزنه، وإذا أحببناه وحصلناه فلنبذله فيما يحقق مصالحنا ويصون حياتنا . ومن الحماقة أن يتحول المال إلى هدف مقصود لذاته تذوب فى جمعه المهج، وترتخص العافية، وتتكاثر الهموم، وتجتذب الأمراض!!. * * * قال ابن الرومى : قرب الحرص مركباً لشقي إنما الحرص مركب الأشقياء مرحبا بالكفاف يأتى هنيئاً وعلى المتعبات ذيل العفاء ضلة لامرئ يُشمِّرُ فى الجمع لعيش مشمرٍ للفناء ص _035(1/32)
دائبا يكنز القناطير للوارث والعمر دائب فى انقضاء حبذا كثرة القناطير لو كانت لرب الكنوز كنز بقاء يحسب الحظ كله فى يديه وهو منه على مدى الجوزاء ليس فى آجل النعيم له حظ وما ذاق عاجل النعماء ذلك الخائب الشقى وإن كان يرى أنه من السعداء حسب ذى إربة ورأى جلى نظرت عينه بلا غلواء صحة الدين والجوارح والعرض وإحراز مسكة الحوباء تلك خير لعارف الخير مما يجمع الناس من فضول الثراء ولها من ذوى الأصالة عشاق وليس بتابعى الأهواء ليس للمكثر المنغص عيش إنما العيش عائش بالهناء وللإسلام تعاليم طيبة فى موقف الإنسان من دنياه، إنه يتجه ابتداء إلى القلب فيغرس فيه العفاف والترفع، ويكره إليه الجشع والشراهة والتطلع . إن لعشق المال ضراوة تفتك بالضمائر والأبدان، وتورث المذلة والهوان، وانظر ما يعقبه الحب الشديد للمال والقلق البالغ من فواته.. يقول " ديل كارنيجى ": (من الحقائق المعروفة أنه عندما تهبط قيمة الأسهم فى (البورصة) ترتفع نسبة السكر فى البول والدم بين المضاربين!!) . أى علاج لهذه الحال أكرم من قول محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن هذا المال خضر حلو، من أخذه بسخاوة نفس بُورك له فيه، ومن أخذه باستشراف نفس لم يُبارك له فيه، وكان كالذى يأكل ولا يشبع.... " . إن المال كالفاكهة الجميلة اللون، الشهية المذاق، وميل الطباع إلى اقتناء هذا الخضر الحلو معروف، بيد أن من الناس من يظل يطعم حتى تقتله التخمة. ومنهم من يختطف ما فى أيدى الآخرين إلى جانب نصيبه المعقول . ومنهم من يدخر ويجوع. ومنهم من يشغله القلق خشية الحرمان، ومن يشغله القلق طلب المزيد . ص _036(1/33)
وأفضل الناس من يأخذونه بسماحة وشرف، فإذا تحول عنهم لم يشيعوه بحسرة أو يرسلوا وراءه العبرات لأن بناءهم النفسى يقوم وحده بعيدا عن معايير المكاثرة، ورذائل النهم والتوسع . . قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " يا أيها الناس إن الغنى ليس عن كثرة العرض، ولكن الغنى غنى النفس. وان الله عز وجل يؤتى عبده ما كتب له من الرزق، فأجملوا فى الطلب، خذوا ما حل ودعوا ما حرم " . والإجمال فى الطلب- كما رأيت- لا يعنى القعود أبدا . إن الطلب الجميل تكسب الحلال فى سماحة ورفق، واطراح الحرام فى زهادة وأنفة، ثم تجىء بعد ذلك بقية تعاليم الإسلام القائمة على الإيمان بالله، والتصديق بلقائه، وإيثار ما عنده، ومعرفة قدر الدنيا بالنسبة إلى الأخرى . ثم معرفة قدر الله جل شأنه بالنسبة إلى ما عداه . إن هذه المعرفة تنفى الأحزان عن صاحبها، وتذر فى فؤاده ثقة تغمر يومه وغده بالراحة والرضا : (الذين آمنوا وتطمئن قلوبهم بذكر الله ألا بذكر الله تطمئن القلوب * الذين آمنوا وعملوا الصالحات طوبى لهم وحسن مآب ) . أجل. طوبى لهم، إنهم سعداء بيقينهم وإخلاصهم واستقامتهم على النهج الذى رسمه الإسلام لهم. " طوبى لمن طاب كسبه، وصلحت سريرته، وكرمت علانيته، وعزل عن الناس شره. طوبى لمن عمل بعلمه، وأنفق الفضل من ماله، وأمسك الفضل من قوله.. " . إن جماهير غفيرة من الرجال الذين تظلهم حضارة الغرب محرومون من هذه الوداعة . يقول " ديل كارنيجى ": (لقد أثبت الإحصاء أن القلق هو القاتل (رقم 1) فى أمريكا، ففى خلال سنين الحرب العالمية الأخيرة قتل من أبنائنا نحو ثلث مليون مقاتل. وفى خلال هذه الفترة نفسها قضى داء القلب على مليونى نسمة . ص _037(1/34)
ومن هؤلاء الأخيرين مليون نسمة كان مرضهم ناشئا عن القلق وتوتر الأعصاب.. نعم إن مرض القلب من الأسباب الرئيسية التى حدت بالدكتور "ألكسيس كاريل " إلى أن يقول: إن رجال الأعمال الذين لا يعرفون كيف يكافحون القلق يموتون مبكرين . وقلما يمرض الزنوج فى أمريكا أو الصينيون بأمراض القلب، فهؤلاء أقوام يأخذون الحياة مأخذا سهلا لينا. وإنك لترى أن عدد الأطباء الذين يموتون بالسكتة القلبية يزيد عشرين ضعفا على عدد الفلاحين الذين يموتون بالعلة نفسها، فإن الأطباء يحيون حياة متوترة عنيفة ويدفعون الثمن غاليا ) . أجل فإن القلق والهم يحطمان العمالقة، ويذبلان الوجوه الطافحة بالحياة، ولذلك يقول الشاعر: والهم يخترم الجسيم نحافة ويشيب ناصية الصبي ويهرم وقد كنت أعجب كيف أن فلانا امتلكه الحزن إثر كارثة عصيبة، فإذا بعض أضراسه قد سقط من فمه، ثم أدركت بعد كشوف الطب الحديث أن الأزمات النفسية العاتية شديدة الوطأة على الجسم، وأنها تحول العصارات الهاضمة إلى سموم، فلا تستفيد المعدة من أغنى الأطعمة بالغذاء، وأنها تفتت جير الأسنان، وتزلزلها من مستقرها العتيد . وقد قرأنا كيف أن بكاء يعقوب على ابنه أفقده بصره، وكيف أن الغم بلغ مداه بالسيدة عائشة ـ عندما تطاول عليها الأفاكون ـ فظلت تبكى حتى قالت: " ظننت أن الحزن فالق كبدى" . وقد أدرك الموجهون خطر الأحزان على كيان الأمم وإنتاجها، فتألفت فى (ألمانيا) منذ سنين جماعة جعلت شعارها: القوة فى السرور. وإنه لخير للأمم أن تستقبل الحياة ببشر وأمل كى تستفيد من وقتها ومالها، ومن حقها على قادتها أن يجنبوها القنوط والتشاؤم والاستكانة، فإن هذه المشاعر الباردة تطويها فى أكفان الموت قبل أن تموت : ليس من مات فاستراح بميت إنما الميت ميت الأحياء إنما الميت من يعيش كئيبا كاسفا باله قليل الرجاء ص _038(1/35)
وما أظن عاقلاً يزهد فى البشاشة أو مؤمنا يجنح إلى التشاؤم واليأس، وربما غلبت المرء أعراض قاهرة فسلبته طمأنينته ورضاه، وهنا يجب عليه أن يتشبث بالعناية العليا كى تنقذه مما حل به، فإن الاستسلام لتيار الكآبة بداية انهيار شامل فى الإرادة يطبع الأعمال كلها بالعجز والشلل . ولذلك كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلم أصحابه أن يستعينوا بالله فى النجاة من هذه الآفات. قال أبو سعيد الخدرى: دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم المسجد ذات يوم، فإذا هو برجل من الأنصار يقال له أبو أمامة، فقال: "يا أبا أمامة.. ما لى أراك جالسا فى المسجد فى غير وقت صلاة؟ قال: هموم لزمتنى وديون يا رسول الله. قال: أفلا أعلمك كلاما إذا قلته أذهب الله همك، وقضى عنك دينك؟ قلت: بلى يا رسول الله. قال: قل إذا أصبحت وإذا أمسيت: اللهم إنى أعوذ بك من الهم والحزن، وأعوذ بك من العجز والكسل، وأعوذ بك من الجبن والبخل، وأعوذ بك من غلبة الدين وقهر الرجال " . قال: ففعلت ذلك، فأذهب الله همى وقضى عنى دينى. وبديهى أن ترديد كلمات معينة ليس إلا مفتاحا لأحوال نفسية جديدة تتغير بها حياة الرجل، ثم تستقيم بعدها خطاه وتلاحقه عناية الله . وقد رأيت أن النبى صلى الله عليه وسلم استغرب قعود الرجل فى المسجد، فرده إلى الميدان مزوداً بدعاء يفتتح به نهاره، ويبتدى به أعماله بعيدا عن أغلال الضيق النفسى والشلل الفكرى. وبذلك يأمن "غلبة الدين، وقهر الرجال" . وعن شداد بن أوس قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلمنا أن نقول: " اللهم إنى أسألك الثبات فى الأمر ، وأسألك عزيمة الرشد، وأسألك شكر نعمتك وحسن عبادتك وأسألك لساناً صادقاً وقلبا سليماً وأعوذ بك من شر ما تعلم ، وأسألك من خير ما تعلم ، وأستغفرك مما تعلم ؛ إنك أنت علام الغيوب " . وعن ابن عمر رضى الله عنهما قال: "قلما كان رسول الله يقوم من مجلس حتى يدعو بهؤلاء الدعوات لأصحابه: "اللهم اقسم لنا من(1/36)
خشيتك ما يحول بيننا وبين معاصيك ، ومن طاعتك ما تبلغنا به جنتك ، ومن اليقين ما تهون به علينا مصيبات الدنيا . ومتعنا بأسماعنا وأبصارنا وقوتنا ما أحييتنا ، واجعله الوارث منا. واجعل ص _039
ثأرنا على من ظلمنا ، وانصرنا على من عادانا ، ولا تجعل مصيبتنا فى ديننا ولا تجعل الدنيا أكبر همنا ، ولا مبلغ علمنا ، ولا تسلط علينا من لا يرحمنا " . إن هذه الأدعية- كما أشرنا إلى ذلك فى بعض كتبنا- أشبه بالأناشيد الحماسية التى تثير عواطف الركب السائر، فهى ليست جؤار القاعدين ولا أمانى الهامدين، بل هى أمداد دافقة من الحق والضياء واليقين يتغلب بها البشر على مشكلات العيش ومضايق الأيام . ثم هى تحديد للمعانى التى يصح التمسك بها والتقلب فى جوها، وهى معان قوامها عقد العزم على العمل فى ظل الإيمان والعافية والعدالة، وفى ظل الكبرياء على مشاغل الدنيا ومحرجاتها الجمة . وبهذا المنهج يطيب المرء روحا وبدنا، ويكتمل دينا ودنيا. وبعض الناس يتصور أن الدعاء موقف سلبى من الحياة ، أليس عرض حاجات وانتظار إجابة ؟!. ويوم يكون الدعاء كذلك لا يعدو ترديد أمانى، وارتقاب فرج من الغد المجهول " فإن الدعاء يكون لغوا، ولا وزن له عند الله .. إن الدعاء أولا تحديد وجهة، ورسم مثل أعلى، فإبراهيم عندما قال: (رب اجعلني مقيم الصلاة ومن ذريتي ربنا وتقبل دعاء ) كان بهذا الدعاء يجعل إقامة الصلاة منهج حياة، ومشغلة إنسان. أين منه أولئك الذين يضيقون بالصلاة، ولا يأتونها إلا وهم كسالى؟. وعباد الرحمان عندما قالوا: (ربنا هب لنا من أزواجنا وذرياتنا قرة أعين واجعلنا للمتقين إماما ) كانوا بهذا النداء ينشدون فى المجتمع البشرى الأسرة المستقرة، والبيت السعيد، كما كانوا ينشدون لأنفسهم السبق فى مجال التقوى، والتقدم فى كل خير. وبديهى أن ينضم إلى ذلك ما يحقق المثل المرسوم من عمل يقرب، وخطوات موصلة . ص _040(1/37)
على أن من أهل الدين من ظلم حقيقة الإيمان بالله واليوم الآخر، فظن أن هذا الإيمان يعترض الحياة الصحيحة، كما يعترض ظل الأرض ضوء القمر ليلة الخسوف . إن وظيفة هذا الإيمان لديهم أن يجىء إلى الحياة البهجة فيرمى جوانبها بالقتام والوحشة، فما تصفو الدنيا لمؤمن، أو بتعبير أدق: إن مقتضى الإيمان اجتذاب البأساء والضراء والكبد والنكد إلى حياة الأفراد والجماعات . وهذا خطأ كبير وظلم للدين جسيم، فإن نبى الإسلام- وهو أزكى مَنْ عَبَدَ الله- لم يفهم الحياة هذا الفهم، ولم يحمِّل الإسلام هذا العبء.. كيف وهو القائل: "اللهم أصلح لى دينى الذى هو عصمة أمرى، وأصلح لى دنياى التى فيها معاشى، وأصلح لى آخرتى التى فيها معادى، واجعل الحياة زيادة لى فى كل خير، واجعل الموت راحة لى من كل شر " !! . ولماذا يحسب الألم والهوان والقلق من لوازم اليقين، أو تحسب وسائل لمرضاة الله، مع أن رسول الإسلام كان يكرهها كلها ويستجير بالله منها. فعن أبى هريرة رضى الله عنه: كان رسول الله يتعوذ من جهد البلاء، ودرك الشقاء، وسوء القضاء، وشماتة الأعداء!!. إن من الصحابة- رضوان الله عليهم- من وقع فى هذا الغلط، وحسب أن التعرض العمد للضر كفارة للخطايا، فأفهمهم النبى السمح أن الأمر أيسر من ذلك روى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم عاد رجلا من المسلمين قد خفت فصار مثل الفرخ- هزالا - فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : "هل كنت تدعو الله بشىء أو تسأله إياه؟ ". قال: نعم. كنت أقول: "اللهم ما كنت معاقبى به فى الآخرة فعجله لي فى الدنيا"، فقال رسول الله: " سبحان الله!! لا تطيقه، أفلا قلت: اللهم آتنا فى الدنيا حسنة وفى الآخرة حسنة، وقنا عذاب النار ". قال: فدعا الله له فشفاه. وسمع النبى رجلا يقول: (اللهم إنى أسألك الصبر). فقال: " سألت الله البلاء فسله العافية " . وقال مُطرِّف بن عبد الله: (لأن أعافى فأشكر أحب إلى من أن أبتلى فأصبر، لأن مقام(1/38)
العوافى أقرب إلى السلامة، فلذلك أختار الشكر على الصبر لأن الصبر حال أهل البلاء) . قال الدكتور زكى مبارك: (وصاحب هذا الكلام يرى العافية من أبواب السلامة، أى سلامة النفوس، لأن البلاء قد يعرض النفس للجزع والارتياب ، ص _041
وتعريض النفس للفتنة غير مأمون العواقب. أما العافية فتحفظ توازن النفس، وتجعل الرجل قادرا على صالح الأعمال . والحق أن الإنسان يكابر حين يرحب بالمصائب، لأنه أسير لنظام الأعصاب فى أغلب الأحيان. ومن الخير له أن يسأل الله العافية وأن يتجنب التعرض للامتحان، فقد يضعف عن مواجهة ما يشتهى من المصاعب، ويعرف بعد الانزلاق فى هوة المكاره أن العزيمة قد تفتر أو تخون .. وعند التأمل ترى النعم والعوافى تزيد فى الصلة الروحية بين الإنسان وبين ربه، والفرق بعيد بين الحالين: حال الطمأنينة، وحال الاحتساب، فالمطمئن ينظر إلى ربه نظرة المدين، وهى نظرة كلها ترفق وتخشع. أما الصابر المحتسب فيتعرض للزهو بالصبر على ما يعاني. والزهو من أشد آفات النفوس) . وهذا كلام حسن جيد.. ونحن نحب أن نكون عبيد إحسان لا عبيد امتحان . ولكن هل تجىء الأيام بما نحب ؟. ما أكثر العواصف التى تهب علينا، وتملأ آفاقنا بالغيوم المرعدة، وكم يواجه المرء بما يكره، ويحرم ما يشتهى!!. هنا يجىء دور الصبر الذى يطارد الجزع، والرضا الذى ينفى السخط . وفى هذا المقام يقول الدكتور زكى: (التسليم لله من أدب النفس، وهو يطرد نوازع شتى يخلقها التفكير فى النصيب الحاضر من حظوظ الحياة) . ومن الواضح أن هذا المقام يحتاج إلى رياضة شديدة، لأن الرضا لا يكون إلا بعد تطهير القلب من الوساوس النفسية، وهو بالتأكيد من أسباب الاطمئنان، والطمأنينة أكبر الغنائم فى الحياة الخلقية . وقد يقال إن الرضا المطلق يبعث على البلادة، ويغرى النفس بإيثار الركود. ونجيب بأنه لا تنافى بين الرضا بالواقع والرغبة فى تكميل النفس، وإمدادها بما تحتاج إليه من الأغذية(1/39)
الدنيوية والعقلية والروحية .. فإذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" ارض بما قسم الله لك تكن أغنى الناس" فلا تجعل الرضا ذريعة القصور والقعود . بل ارض بيومك. وأمل ما يسرك فى غدك . . ص _042
إن المجد والنجاح والإنتاج تظل أحلاما لذيذة فى نفوس أصحابها، وما تتحول حقائق مره حية إلا إذا نفخ فيها العاملون من روحهم، ووصلوها بما فى الدنيا من حسن وحركة . محمد الغزالى ص _043
كيف نزيل أسباب القلق؟ لا أعرف مظلوما تواطأ الناس على هضمه، وزهدوا فى إنصافه كالحقيقة !! ما أقل عارفيها، وما أقل ـ فى أولئك العارفين ـ من يقدرها ويغالى بها ويعيش لها!! إن الأوهام والظنون هى التى تمرح فى جنبات الأرض، وتغدو وتروح بين الألوف المؤلفة من الناس . ولو ذهبت تبحث عن الحق فى أغلب ما ترى وتسمع لأعياك طلابه . هناك ألوف الصحف والإذاعات تموج بها الدنيا صباحا ومساء، لو غلغلت النظر فيما ينطقها ما وجدت إلا حقا قليلا يكتنفه باطل كثيف، حقا يبرق فى خفوت كأنه نجمة توشك أن تنطفىء فى أعماء الليل . فى مجال العقيدة كم من دين قام على إشاعة كاذبة أو خرافة سمجة . وفى ميدان السياسة كم من هوى جعله الجور عدلا، وقوة أحالت الخير شراً . لهذا قال الله لنبيه ولكل معتصم بالصدق فى مجتمع طافح بالزيغ: (وإن تطع أكثر من في الأرض يضلوك عن سبيل الله إن يتبعون إلا الظن وإن هم إلا يخرصون) . وقال : (فإن شهدوا فلا تشهد معهم ولا تتبع أهواء الذين كذبوا بآياتنا والذين لا يؤمنون بالآخرة وهم بربهم يعدلون) . ص _044(1/40)
وقال: (وما يتبع أكثرهم إلا ظنا إن الظن لا يغني من الحق شيئا إن الله عليم بما يفعلون) وجدير بالإنسان فى عالم استوحش فيه الحق على هذا النحو أن يجتهد فى تحريه، وأن يلتزم الأخذ به، وأن يرجع إليه كلما بعدته التيارات عنه . ولعل هذا هو السر فى أن الله طلب إلى كل مؤمن أن يسأله الهدى، وكلفه ألا يسأم من تكرار هذا السؤال حينا بعد حين . ففى كل صلاة مفروضة أو نافلة يقف المرء بين يدى ربه يقول : (اهدنا الصراط المستقيم * صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين ) . ما هو هذا الصراط المستقيم؟ إنه ليس سكة مطروقة فى إحدى البلاد، ولا جسرا مضروبا هنا أو هناك. إنه المنهج الذى يشقه المرء لنفسه بين مشكلات الحياة، والخط الذى يلتمس فيه الصواب بين وجوه الرأى . وكلما استمسك المرء بعرى الاستقامة واستكشف الحق فيما يعرض له من مسائل اليوم والغد فإنه يكون أدنى إلى التوفيق ؛ إذ الخط المستقيم أقرب مسافة بين نقطتين، وصاحبه أبعد عن التخبط فى شتى المنحنيات والمنعرجات . على أن الاهتداء إلى الحق والثبات على صراطه يحتاج إلى جهد ودأب، ويحتاج كذلك إلى استلهام طويل من عناية الله.. وقد كان رسول الله إذا حزبه أمر جنح إلى الصلاة يضم إلى عزيمته وجلده حول الله وطوله . * * * وقد يخبط المرء فى الدنيا خبط عشواء، وقد يصحبه " خداع النظر" فى تقديره للحقائق المحيطة به . ص _045(1/41)
ومعنى التصور الغلط للأشياء أن ينتقل المرء من ضلال إلى ضلال، وألا يحسن السلوك بإزاء أى واجب يناط به أو أزمة يقف أمامها . والله عز وجل نهى الإنسان عن الشرود وراء الأوهام والتخمينات فقال : (ولا تقف ما ليس لك به علم إن السمع و البصر و الفؤاد كل أولئك كان عنه مسئولا) . فليستخدم الإنسان فكره وحواسه فى تعرف ما حوله، وليقرر خطة سيره بعيدا عن الظنون والتخرصات . قال "ديل كارنيجى": (بقى أن نتعلم الخطوات الثلاث التى يجب اتخاذها لتحليل مشكلة ما والقضاء عليها، وهذه الخطوات هى : 1- استخلص الحقائق . 2- حلل هذه الحقائق . 3- اتخذ قرارا حاسماً ثم اعمل بمقتضى هذا القرار) . وقال: (إنه لا مناص من اتخاذ هذه الخطوات إذا كان علينا أن نحل المشكلات التى تعيينا، والتى تحيل أيامنا وليالينا جحيماً لا يطاق) . أجل لا مناص من ذلك. والخطوة الأولى تفرض علينا التأمل الهادئ فيما حولنا لتجميع الحقائق الواضحة، وإرساء سلوكنا على قواعدها . ولم هذه الحقائق واجب، وإن كان صعباً على الإنسان . ولكن لماذا يكون ذلك صعبا على الإنسان؟، لأن حب الشىء يعمى ويصم، وكذلك كرهه، ومن ثم قيل: وعين الرضا عن كل عيب كليلة ولكن عين المقت تبدى المساويا ومثل المحبة والكراهية أغلب الانفعالات النفسية التى تسيطر على تفكير المرء، وتجعله يلون الحياة بإحساسه الخاص، فلا يستطيع أن يراها كما هى . وقد يضل المرء عن الحقيقة لانطوائه مع عرف سائد، أو لاسترساله مع نظرة سابقة لا أساس لها . ص _046(1/42)
وإذا خُدع المرء أبدا عن الحقيقة ؛ فكيف يوفق إلى حل صحيح لمشكلات الحياة التى تلاقيه ؟!. واندراج الناس فى مطاوى الغفلة وهم لا يشعرون هو حكمة ختم آيات كثيرة جدا فى القرآن الكريم بهذا التذييل: (كذلك يبين الله لكم الآيات لعلكم تتفكرون ) . (أفلا تذكرون ) ، ( كذلك يبين الله لكم آياته لعلكم تعقلون) . وكأن " ديل كارنيجى " يشرح هذه الآيات إذ يقول: (إننا قلما نعنى بالحقائق، وإذا حدث أن حاول أحدنا استخلاص الحقائق فإنه يتصيد منها ما يعضد الفكرة الراسخة فى ذهنه ولا يبالى بما ينقضها، أى أنه يسعى إلى الحقائق التى تسوغ عمله، وتتسق مع أمانيه، وتتفق مع الحلول السطحية التى يرتجلها . قال " أندريه موروا ": كل ما يتفق مع ميولنا ورغباتنا الخاصة يبدو معقولا فى أعينينا . أما ما يناقض رغباتنا فإنه يشعلنا غضبا. فهل من المستغرب والحالة هذه أن يصعب علينا الوصول إلى حل مشكلاتنا، أو لسنا نسخر من الذى يحل مسألة حسابية بسيطة مفترضا أن اثنين زائد اثنين يساوى خمسة ؟! ومع ذلك فإن كثيرا من الناس يجعلون حياتهم سعيرا بإصرارهم على أن مجموع اثنين واثنين هو خمسة، وربما خمسمائة ؟!. فما العلاج ؟. العلاج أن نفصل بين عاطفتنا وتفكيرنا، وأن نستخلص الحقائق المجردة بطريقة محايدة ) . * * * والخطوة التالية لجمع الحقائق استشعار السكينة التامة فى تلقيها، وضبط النفس أمام ما يظهر محيرا أو مروعا منها، فإن الفرق من الأحداث ينتهى حتما بالغرق فى لجتها . وحياة عدد كبير من القادة والأبطال تحفل بالمآزق التى لم ينج منها إلا تقييد الرهبة وإطلاق العقل . ص _047(1/43)
عندما أوشك القتال أن ينشب فى حرم مكة بين المسلمين والمشركين، والتفت عوامل الاستفزاز بالنبى وصحبه وهم بالحديبية يريدون العمرة ؛ كظم النبى على ما أحس به من حزن، وأمر أصحابه أن يطرحوا الريبة والهم، وأن يقبلوا معاهدة تصون الدماء وتنشر الأمان على ما بها من قيود تعنتهم . وفى ذلك نزل قول الله : (إذ جعل الذين كفروا في قلوبهم الحمية حمية الجاهلية فأنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين وألزمهم كلمة التقوى وكانوا أحق بها وأهلها وكان الله بكل شيء عليما) . وكلمة السكينة هذه تكررت فى مواضع كثيرة، وهى حيثما وجدت تشير إلى ما يبثه الإيمان فى النفوس من طمأنينة مرجعها الأنس بالله، والركون إلى قضائه، والاستظهار بعونه كلما راب أمر أو أظلم أفق . قد يجد المرء نفسه أمام سلسلة من الفروض المقترحة للخروج من أزمة طارئة، وقد يقلب النظر فيها فيجد أن أحلاها مر، وقد يكون كالمستجير من الرمضاء بالنار، وقد يدور حول نفسه لا يرى مخلصا، أو يرى المخلص فادح التضحية . ومثل هذه الأفكار القاتمة تتكاثر وتتراكم مع ضعف الثقة بالله وبالنفس . أما المؤمن فهو يختار أقرب الفروض إلى السكينة والرشد، ثم يقدم وهو لا يبالى ما يحدث بعد ذلك، وعلى لسانه هذه الآية : ( قل لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا هو مولانا و على الله فليتوكل المؤمنون ) . وما أكثر أن تتبخر خواطر السوء ووساوس الضعف، ويتكشف أن الإنسان يبتلى بالأوهام أكثر مما يبتلى بالحقائق، وينهزم من داخل نفسه قبل أن تهزمه وقائع الحياة : (الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيمانا وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل * فانقلبوا بنعمة من الله وفضل لم يمسسهم سوء واتبعوا رضوان الله والله ذو فضل عظيم) . ص _048(1/44)
والى هذا يشير المتنبى بقوله : وما الخوف إلا ما تخوفه الفتى وما الأمن إلا ما رآه الفتى أمنا * * * فإذا عرف الإنسان الحقائق المتصلة به، وسبر غورها جميعا دون دهشة أو روع، بقيت أمامه الخطوة الأخيرة ؛ وهى أن يتصرف بحزم وقوة، وأن ينفذ القرار الذى انتهى إليه بعزم صادق . أعرف كثيرا من الناس لا يعوزهم الرأى الصائب، فلهم من الفطنة ما يكشف أمامهم خوافى الأمور . بيد أنهم لا يستفيدون شيئا من هذه الفطنة لأنهم محرومون من قوة الإقدام، فيبقون فى مكانهم محسورين بين مشاعر الحيرة والارتباك . وقد كره العقلاء هذه الضرب من الخور والإحجام : إذا كنت ذا رأى فكن ذا عزيمة فإن فساد الرأي أن تترددا أجل.. فإن للبحث والتبصر أجلا يتضح بعده كل شىء، ولا يبقى مكان إلا للعمل السريع وفق ما هدت إليه الروية واستبانه الصواب، وقد قال الله عز وجل : (وشاورهم في الأمر فإذا عزمت فتوكل على الله إن الله يحب المتوكلين ) . إن مرحلة المشورة فى أمر ما لا يجوز أن تستمر أبدا، بل هى حلقة تسلم إلى ما بعدها من عمل واجب . فإذا تقرر العمل، فلنمضي فى إتمامه قدماً، ولنقهر علل القعود والخوف، ولنستعن بالله حتى نفرغ منه . قال " ديل كارنيجى ": (سألت " وايت فلبس " ـ أحد رجال الأعمال البارزين ـ : كيف كنت تنفذ قراراتك ؟ فأجاب: لقد وجدت أن التفكير المستمر فى مشكلة ما إلى أبعد من مدى معين يخلق القلق، ويولد الاضطراب، فإنه يأتى وقت ص _049(1/45)
تصبح فيه المداومة على التفكير ضررا يجب اجتنابه، فمتى اتخذت قرارا عمدت إلى تنفيذه دون أن أتطلع البتة إلى الوراء. وقال " وليم جيمس ": عندما تصل إلى قرار وتشرع فى تنفيذه ضع نصب عينيك الحصول على نتيجة، ولا تهتم لغير هذا. يقصد أنك لا تتردد ولا تحجم ولا تخلق لنفسك الشكوك والأوهام. ولا تعاود النظر إلى الوراء، بل أقدم على إنفاذ قرارك غير هياب ولا وجل). والحق أن الرجولات الضخمة لا تعرف إلا فى ميدان الجرأة. وأن المجد والنجاح والإنتاج تظل أحلاماً لذيذة فى نفوس أصحابها، وما تتحول حقائق حية إلا إذا نفخ فيها العاملون من روحهم، ووصلوها بما فى الدنيا من حس وحركة. وكما أن التردد خدش فى الرجولة فهو تهمة للإيمان، وقد كره النبى صلى الله عليه وسلم أن يرجع عن القتال بعدما ارتأت كثرة الصحابة المصير إليه. فقد كان من رأيه عندما بلغ المشركون جبل " أحد " أن يدعهم يدخلون المدينة ثم يقاتلهم فى دروبها، ورأى جمهور الشباب أن يخرجوا إليهم فيقاتلوهم دون الجبل، واستطاعوا بكثرتهم وحماستهم أن يوجهوا النفوس إلى هذا القرار، فنزل النبى عنده، واتخذ الأهبة لمناجزة العدو خارج المدينة. وأحس أولئك كأنهم استكرهوا النبى على غير ما يرى، فاقترحوا مرة أخرى أن يدور القتال فى المدينة نفسها، ولكن النبى رفض هذا التراجع، وأبى أن تصطبغ شئونه بطابع التردد، أو التأرجح بين إرادات شتى، فقال كلمة حاسمة: " ما كان لنبى أن يلبس لأمته ثم يرجع حتى يحكم الله بينه وبين عدوه،. * * * فلندرس مواقفنا فى الحياة بذكاء، ولنرسم منهاجنا للمستقبل على بصيرة، ثم لنرم بصدورنا إلى الأمام، لا تثنينا عقبة، ولا يلوينا توجس. ولنثق بأن الله يحب منا هذا المضاء، لأنه يكره الجبناء، ويكفل المتوكلين. * * * ص _050(1/46)
علم أثمره العمل فى دراساتنا القديمة تلقينا ـ فى تعريف العلم ـ أنه: إدراك، وقواعد، وملكة . يعنون بالإدراك: التصور المجرد للأشياء . وبالقواعد: جملة المبادئ والقوانين والمصطلحات التى وضعها أهل الفنون المختلفة. وبالملكة: الخبرة المكتسبة من رسوخ المرء فيما حصل عليه من معارف، وفيما وعاه من مناهج علم خاص أو علوم شتى . والملكة إنما تتكون من وفرة الإدراك واستحضار القواعد، فهى ثمرة ما قبلها بعد ما يبلغ تمامه . وأصحاب الملكات المتألقة فى شعب الثقافة الواسعة هم العلماء الأصلاء، وعليهم المعول فى صحة الفهم والحكم والتعليم والأداء . ولنترك مجال العلم النظرى إلى مجال الخلق والسلوك والإيمان والعمل. لنقول إن الدين قد يكون منهاجاً كاملا للرقى والتهذيب، ولكن الإفادة منه لا تصلح بإدارة معلوماته بين الألسنة والأسماع، ولا باستيعاب أحكامه فى الذاكرة الجيدة، ولا بالأداء الصورى لعباداته المقررة . فهذا التناول للدين قليل النفع، بل عديم الجدوى، وفى الأثر: العلم علمان: علم فى القلب، فذلك العلم النافع، وعلم على اللسان، فذلك حجة الله على ابن آدم . وقال " برنارد شو ": (إذا لقنت إنسانا شيئا فإنه لن يتعلم أبدا) . يقصد أن التلقين لا يخلق من المتعلم شيئاً طائلاً . ويعلل " ديل كارنيجى " هذا الحكم فيقول: (إن التعلم عمل إيجابى لا سلبى، ونحن نتعلم حين نعمل، فإذا أردت أن تستفيد من النصائح المبذولة فى تضاعيف هذا الكتاب ـ أو أى كتاب ـ فجربها، واعمل بها، وطبقها فى كل فرصة تسنح لك . ص _051(1/47)
فإنك ـ إن لم تفعل هذا ـ فسوف تنسى ما لقنته سريعا. إن المعرفة التى نستخدمها هى وحدها التى تعلق بأذهاننا). وهذا صحيح ؛ وقد جاء عن أحد التابعين: (كنا نستعين على حفظ أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم بالعمل بها) . إن العمل يحيى القلوب بالمعرفة اليقظة الدافعة . والعلم الذى ينشأ عن العمل هو الملكة التى يستنير بها المرء، ويعرف منها مواقع أقدامه فى دروب الحياة المتشابهة . وفى هذا يقول الله عز وجل: (يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وآمنوا برسوله يؤتكم كفلين من رحمته ويجعل لكم نورا تمشون به ويغفر لكم والله غفور رحيم ) . ومقتضى الإيمان بالرسول بعد تقوى الله هو اقتفاء أثره واتباع سننه، لأنه الترجمان العملى الحى لما فى الكتاب الكريم من توجيه وموعظة . والمؤمن المواظب على اتقاء الدنايا وفعل الواجبات يكتسب من هذا الإدمان حدة فى بصيرته، وحاسة دقيقة يميز بها الخبيث من الطيب . وقلما تختلط الأمور على فطنته، ولو لم يرد فيها نصر حاسم : (يا أيها الذين آمنوا إن تتقوا الله يجعل لكم فرقانا و يكفر عنكم سيئاتكم ) . (يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولا سديدا * يصلح لكم أعمالكم ) . * * * إن المعلومات النظرية التى لم ينقلها العمل من دائرة الذهن إلى واقع الحياة تشبه الطعام الذى لم يحوله الهضم الكامل إلى حركة وحرارة وشعور . وهذه المعلومات تبدأ مبتسرة مهوشة مهما أجيد تصويرها . ص _052(1/48)
ولذلك ترى الجنود وطلاب المعاهد العسكرية يتلقون الحصص المقررة، ثم يمرون بعدها فى مرحلة المناورات التى تمثل جانبا من الحياة العامة . ومع ذلك فخبرة هؤلاء، ولصوق الفن الحربى فى أنفسهم دون مستواه عند من خاضوا المعارك وذاقوا أهوال القتال . وكذلك تعلم الصلاة، إن الأمر يبدأ دروسا تقرع الآذان، ثم يحاول التلميذ أن يقيم الصلوات المكتوبة كما تعلمها، أما أن يتعلم هو من صلاته الخشوع والإخلاص والتسامى فذاك يجىء بعد إقبال المصلى على ربه، وإتقانه الطويل لشكل الصلاة ولموضوعها جميعا . إن العلم الناشئ عن العمل هو خلاصة المران والتجربة. فى مجال التربية والإصلاح لابد أن تتطور المعلومات إلى اكتمال نفسى واجتماعى، ولا يقبل من أحد أن يقف عند حدود القول مهما كان بليغا، ولا عند حدود الشرح مهما كان مستفيضا . إذا أمرت بالخير فافعله أولا، وإذا نهيت عن شر فاسبق إلى البعد عنه، ثم اجتهد أن يتحول أمرك ونهيك إلى حقائق حية فى المجتمع، بحيث يكون تغيير المنكر وإقرار المعروف غايات بينة يراد إيقاعها بكل وسيلة، وبأقصر وقت . إن تعشق الكمال قد ينتهى إلى حسن الحديث عنه، وقد يكتفى عشاقه بسرد تفاصيل دقيقة عن مسائله وقضاياه . ثم يطوى الأمر كله دون نتيجة فعالة . كما تموت الأمانى الحلوة فى نفوس الكسالى . وقد كره الله عز وجل هذا اللون من السلوك الناقص لأنه أقرب إلى الادعاء، ولأن أصحابه يقصرون وهم أبصر من غيرهم بمواطن الرشد : (يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون * كبر مقتا عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون ) إن الوقوف بالإصلاح المنشود عند حد الكلام المرسل والمقترحات المبتوتة يفتح أبواباً مخوفة للجدل الطويل، وللثرثرة القاتلة للوقت والجهد . ص _053(1/49)
ولو أن كل امرئ عنده حب للخير ارتقى بعاطفته تلك إلى مرحلة تنقل الخير من دائرة التصورات النظرية إلى " عمل " يبصر الضوء والحياة لاختصرنا ـ كما يقول "ديل كارنيجى" ـ نصف متاعبنا، وحللنا أعقد مشكلاتنا.. ولتسمع له يروى هذه القصة عن " ليون شميكن " من رجال الأعمال قال: (وضعت قاعدة تحتم على كل واحد من مساعدى يريد أن يعرض على مشكلة ما أن يقدم لى أولا مذكرة تشمل الإجابة عن هذه الأسئلة الأربعة : 1 ـ ما هى المشكلة؟. وقد تعودنا فيما مضى أن ننفق ساعة أو ساعتين فى مناقشة حامية دون أن ندرى ما هى المشكلة على وجه التحديد، كما اعتدنا أن نحيط المشكلة باللبس والغموض، دون أن يفكر أحدنا فى تدوين موضوع المشكلة بوضوح. 2 ـ ما هو منشأ المشكلة؟. وإذ أرجع بذاكرتى إلى الوراء يروعنى ما أنفقناه من ساعات دون أن نحاول الوقوف على الأسباب التى دفعت المشكلة إلى حيز الظهور. 3 ـ ما هى الحلول الممكنة لهذه المشكلة؟.. وفيما مضى كان كل منا يقترح حلا فيجادله زميل له، وكثيرا ما كانت تهتاج الخواطر فتنأى بنا عن الحل المقترح، وفى نهاية الاجتماع لم يكن يخطر لأحد منا أن يدون الحلول التى عرضنا لها أثناء المناقشة . 4 ـ ما هو أفضل الحلول؟.. وقد اعتدت فى قبل أن أدخل قاعة الاجتماع مع مساعدى الذين أمضهم القلق ساعات طوالا، وألجأهم إلى الدوران حول المشكلة فى حلقات مفرغة دون أن يستخلصوا حلا محدودا. وكان من نتيجة هذه الخطة أن قل التجاء مساعدى إلى لعرض مشكلاتهم على.. لماذا ؟ لأنهم لكى يجيبوا عن هذه الأسئلة الأربعة يجب أن يحصلوا على كافة الحقائق المحيطة بالمشكلة، فإذا توفرت لهم هذه الحقائق فغالبا ما يحل ثلاثة أرباع المشكلة من تلقاء ذاته، ولم يعد حل الباقى يحتاج إلى معاونتى ؛ وحتى إذا أوجبت الظروف مشاورتى، فإن المناقشة لا تستغرق أكثر من ثلث الوقت الذى كانت تستغرقه قبلاً، لأنها ـ أى المناقشة ـ تسير فى طريق مرسوم . ونحن الآن بفضل هذه(1/50)
الخطة نستهلك وقتا ضئيلا فى القلق ومناقشة الأخطاء، ووقتا طويلا " فى العمل " على تلافى هذه الأخطاء) . وثم أمر آخر نحب أن نشير إليه: إن الكلام مع رؤساء الأعمال وأصحاب الدعوات، وولاة المناصب الكبرى قد يكثر ويتسع من غير مسوغ واضح ؛ اللهم إلا أن الأتباع والأعوان يطيب لهم أن " يتكلموا " مع رئيسهم الكبير . ص _054
وقد يكون كلاًمهم هذا متصلاً بموضوع الرسالة التى يهتمون جميعا بها أو العمل الذى يتعاونون جميعا على إنجاحه. لكن هذا الكلام فى أغلب الأحيان يكون قليل الجدوى. ولو أن كل واحد منهم انصرف إلى نفسه يتعهدها، وإلى عمله الخاص يتقنه، وإلى واجبه المنوط به يجيده، ويبتكر الطرق للنبوغ به؟ لكان ذلك أربى للإنتاج، وأزكى عند الله !!. ولعل هذا سر الأمر الذى صدر للصحابة أن يخففوا من مناجاتهم للرسول الكريم، وأن يقدموا بين يدى نجواهم صدقة!!. إن الإًحسان للفقراء قربة ميسرة فى كل آن. فإذا أراد أحد أن ينال خطوة عند الله وعند رسوله فليتصدق، فهذا مجال رحب للثواب المطلوب. وهو أولى من الجلوس عند رسول الله رغبة فى الجلوس فحسب. (يا أيها الذين آمنوا إذا ناجيتم الرسول فقدموا بين يدي نجواكم صدقة ذلك خير لكم وأطهر فإن لم تجدوا فإن الله غفور رحيم ) . على أن هذا التوجيه لا يعنى فرض ضريبة على كل من يريد مخاطبة صاحب الرسالة، فإن الكلام معه مباح، بل قد يجب فى شؤون كثيرة، وإنما المقصود تنبيه المؤمنين إلى الطريق الصحيح لمثوبة الله، وتوفير الوقت لصاحب الرسالة حتى لاً يشغله ـ بلاً ضرورة ـ هواة الجلوس مع العظماء. لذلك قال عر وجل: (أأشفقتم أن تقدموا بين يدي نجواكم صدقات فإذ لم تفعلوا وتاب الله عليكم فأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة وأطيعوا الله ورسوله والله خبير بما تعملون) . إن مجالسة العظماء كما علمتنا التجارب وسيلة للزلفى، ومضيعة للوقت، وشغل عن واجبات كثيرة. فلا عجب إذا وضعت القيود عليها ونبه إلى ما هو أجدى منها. ص(1/51)
_055
آفات الفراغ فى أحضان البطالة تولد آلاف الرذائل، وتختمر جراثيم التلاشى والفناء . إذا كان العمل رسالة الأحياء فإن العاطلين موتى . وإذا كانت دنيانا هذه غراسا لحياة أكبر تعقبها، فإن الفارغين أحرى الناس أن يحشروا مفلسين لا حصاد لهم إلا البوار والخسران. وقد نبه النبى صلى الله عليه وسلم إلى غفلة الألوف عما وهبوا من نعمة العافية والوقت فقال: "نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس: الصحة، والفراغ ". أجل.. فكم من سليم الجسم ممدود الوقت يضطرب فى هذه الحياة بلا أمل يحدوه، ولا عمل يشغله، ولا رسالة يخلص لها ويصرف عمره لإنجاحها. ألهذا خلق الناس؟. كلا، فالله عز وجل يقول: (أفحسبتم أنما خلقناكم عبثا وأنكم إلينا لا ترجعون * فتعالى الله الملك الحق) . إن الحياة خلقت بالحق، الأرض والسماء وما بينهما. والإنسان فى هذا العالم يجب أن يتعرف هذا الحق وأن يعيش به !؟. أما أن يدخل فى قوقعة من شهواته الضيقة، ويحتجب فى حدودها مذهولا عن كل شىء فبئس المهاد ما اختار لحاضره ومستقبله!!. * * * ومن أصدق ما رواه "الشافعى" فى أسس التربية هذه الكلمة الرائعة : " إذا لم تشغل نفسك بالحق شغلتك بالباطل ". وهذا صحيح؟ فإن النفس لا تهدأ. إذا لم تدر فى حركة سريعة من مشروعات الخير والجهاد والإنتاج المنظم لم تلبث أن تنهبها الأفكار الطائشة، وأن تلفها فى دوامة من الترهات والمهازل . ص _056(1/52)
وأفضل ما تصون به حياة إنسان أن ترسم له منهاجاً يستغرق أوقاته، ولا تترك فرصة للشيطان أن يتطرق إليه بوسوسة أو إضلال. وتوزيع التكاليف الشرعية فى الإسلام منظور فيه إلى هذه الحقيقة، ألا يترك للنفس فراغ يمتلئ بالباطل، لأنه لم يمتلئ من قبل بالحق. ويشرح " ديل كارنيجى " هذا فيقول: (إننا لا نحس أثرا للقلق عندما نعكف على أعمالنا، ولكن ساعات الفراغ، التى تلى العمل هى أخطر الساعات طراً. فعندما يتاح لنا وقت فراغ لا تلبث شياطين القلق أن تهاجمنا، وهنا نتساءل: أترانا نحصل من الحياة على ما نشتهى؟. أترى كان الرئيس يعنى شيئا بملاحظته التى أبداها اليوم؟. أترانا مرضى؟. ذلك أن أذهاننا تشبه أن تكون خاوية عندما تفرغ من العمل، والطلاب فى دروس الطبيعة يعلمون أن الطبيعة تمقت الفراغ، تريد تجربة على ذلك؟. أحدث ثقباً فى مصباح كهربائى مفرغ من الهواء، وسترى أن الطبيعة تدفع بالهواء إلى داخل المصباح ليملأ ما فيه من خلاء، كذلك تسرع الطبيعة إلى ملء النفس الفارغة، بماذا؟ بالعواطف والإحساسات غالبا. لماذا؟ لأن مشاعر القلق والخوف والحقد والغيرة والحسد تندفع بقوة بدائية عنيفة متوارثة من عهد الغابة، وتلك المشاعر من القوة بحيث يمكنها أن تبدد السلام من نفوسنا والاستقرار من عقولنا) . * * * من حق المربين إذن أن يحذروا آفات الفراغ، وأن يحصنوا النفوس من شرورها. وأمثل الوسائل فى هذه الحالات وضع سياسات محكمة للإنشاء الدائم، والبناء المستمر. فإن شحن الأوقات بالواجبات، والانتقال من عمل إلى عمل آخر ـ ولو من عمل مرهق إلى عمل مرفه ـ هو وحده الذى يحمينا من علل التبطل ولوثات الفراغ. وأحسب أن المجتمع يستطيع الخلاص من مفاسد كثيرة لو أنه تحكم فى أوقات الفراغ، لا بالإفادة منها بعد أن توجد، بل بخلق الجهد الذى يستنفد كل طاقة، ويوجه هذا وذاك إلى ما ينفعه فى معاشه ومعاده. ص _057(1/53)
فلا يبقى مجال يشعر امرؤ بعده أنه لا عمل له. من قديم عرف المصلحون أن بطالة الغنى ذريعة إلى الفسوق. إن الشباب والفراغ والجدة مفسدة للمرء أى مفسدة ونضم إلى هذا أن بطالة الفقراء تضييع لقدرة بشرية هائلة، وبعثرة مخزية لما أودعه الله فى العضلات والأعصاب والأفئدة من طاقات لو فجرت لغيرت وجه العالم . وأحق الأنظمة بالقبول والتشجيع ما رعى هذه الحقيقة ورتب عليها تعاليمه. والإسلام يملك على الإنسان أقطار نفسه من هذه الناحية، فإن أغلب شرائعه يدور على جهاد النفس وجهاد الناس. وجهاد النفس فطامها عما تشتهى من أثام، أو تجنح إليه من مناكر. وجهاد الناس منع مظالمهم من إفساد الحياة وخلخلة الإيمان، والإصلاح فى جنباتها. وكلا الجهادين يستغرق العمر كله لحظة لحظة، ولا يستبقى فرصاً للعبث والذهول والغفلات. لقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسأل الله الاستمساك بدينه مع نبض قلبه بالحياة، فيدعو: " يا مقلب القلوب ثبت قلبى على دينك " . وكان يقول: " اللهم رحمتك أرجو، فلا تكلنى إلى نفسى طرفة عين، وأصلح لى شأنى كله، لا إله إلا أنت " . وهذا الاستمداد اليقظ الدائب هو أساس الاكتمال النفسى . أما شغل الوقت كله بالجهاد العام بعد ذلك فأمر معروف فى سيرته، فما استراح من مناهضة الكفر فى فج من فجاج الجزيرة إلا ليتحول إلى فج آخر يعمره بالإيمان والتقوى . ص _058(1/54)
وقد جاء صاحباه من بعده أبو بكر وعمر فلم يدعا للمسلمين مجالا لقعود، فرموا بجيوشهم على معاقل الطغيان فى الأرض، فما هى إلا سنوات معدودات حتى امتلأت بقاع العالم بأضواء الإيمان. فماذا حدث بعد أن ترك المسلمون هذه الواجبات المهيمنة على أوقاتهم كلها؟. فرغ بعضهم لبعض، وعاثت بينهم الفتن!!. ثم خلفت خلوف جعلت من تفسير المتشابه فى كتاب الله مضيعة للوقت الواسع الرخيص!!. فأساءت بذلك إلى آيات الكتاب كلها محكمها ومتشابهها. * * * إن الحق إذا استنفد ما لدى الإنسان من طاقة مختزنة لم يجد الباطل بقية يستمد منها. وإذا استولى على قلبه ولبه فلا مجال لوساوس اللهو وهواجس الريبة. ويتساءل " ديل كارنيجى ": (ما السبب فى أن أمرا هينا كالاستغراق فى العمل يطرد القلق؟. السبب فى ذلك هو أحد القوانين الأساسية التى اكتشفها علم النفس وهو: من المحال لأى ذهن بشرى مهما كان خارقا أن ينشغل بأكثر من أمر واحد فى وقت واحد). وهذا صحيح، وهو قريب من قول الله عز وجل: (ما جعل الله لرجل من قلبين في جوفه) . إنك كما تعجز عن تخيل شيئين فى وقت واحد، فكذلك تعجز عن الجمع بين إحساسين متناقضين. ليس فى استطاعتنا أن نتحمس لعمل مثير ونحس القلق فى الوقت نفسه، فإن واحدا من هذين الإحساسين يطرد الآخر. ص _059(1/55)
وهذا القانون البسيط هو الذى مكن الأطباء النفسيين الملحقين بالجيش أن يأتوا بالعجائب فى خلال الحرب، عندما كان يأتى إليهم الجنود الذين ضعضعت الحرب أعصابهم، كانوا يقولون: أشغلوهم بعمل ما . إن الفراغ فى الشرق يدمر ألوف الكفايات والمواهب، ويخفيها وراء رُكام هائل من الاستهانة والاستكانة، كما تختفى معادن الذهب والحديد فى المناجم المجهولة !!. ويستتبع هذا الإهدار الشنيع لقيمة العمل والوقت مصائب لا حصر لها فى الأحوال النفسية والاجتماعية والسياسية . يروى عن عمر بن الخطاب أنه قال: إنى لأرى الرجل فيعجبنى، فإذا سألت عنه فقيل: لا حرفة له، سقط من عينى . وفى الحديث: " إن الله يحب المؤمن المحترف " . فلا جرم أن شعوبا بأسرها تسقط من عين الله، وتسقط من أعين أهل الجد والإنتاج لأنها لا عمل لها، استهلكها الفراغ وأسلمها للفناء .. وعندى أن العلة الأولى لتخفف الأمة العربية والشعوب الإسلامية ما غلب على أحوالها النفسية والاجتماعية من قعود واستكانة وتقاعس. ويستحيل أن تحرز هذه الأجيال الغفيرة من البشر سهما من نجاح فى الدنيا أو فلاح فى الأخرى إلا إذا تغير أسلوبها فى الحياة، وامحت من ربوعها آثام البطالة والفراغ. * * * ص _060(1/56)
لا تدع التوافه تغلبك على أمرك تهيب الإنسان للكبائر يبعده عن مواقعتها وينجيه من غوائلها . بيد أن المرء الذى يخشى على حياته أن يتناول جرعة كبيرة من السم- لوضوح خطرها- قد يستهين بتناول أجزاء دقيقة منها تكون مطوية فى أطعمة مكشوفة، أو أطباق قذرة، أو أيد ملوثة، أو ما شابه ذلك . ومن ثم يصيب بدنه من العلل ما قد يُودى به، مثلما تُودى به رصاصة قاتلة، أو طعنة غادرة . وإرهاباً للمؤمنين من اقتراف الصغائر، وخوفا على كيانهم النفسى والاجتماعى من تجمعها، أهاب النبى بأمته أن تحذرها، وأن تتنزه عن فعلها، وأن تتطهر حينا بعد حين من آثارها. صحيح أن الهدف الأكبر من رسالته هو محاربة الشرك، وإزالة أوهامه عن الأفكار والضمائر. وقد استطاع فى حياته أن يسقط دولة الأصنام، وأن يقيم أمة تعبد الله وحده. ومع ذلك فقد حذر من أمور قد يستريح الشيطان من إقبال الناس عليها استراحته من سقوطهم فى حمأة نفسه، فقال: " إن الشيطان قد يئس أن تعبد الأصنام فى أرض العرب، ولكنه سيرضى منكم بدون ذلك بالمحقرات، وهى الموبقات يوم القيامة" . وفى حجة الوداع- وهو يرسى قواعد السلوك الكامل- قال: " أيها الناس، إن الشيطان قد يئس أن يعبد فى أرضكم هذه أبدا. ولكنه إن يطع فيما سوى ذلك فقد رضى به مما تحقرون من أعمالكم، فاحذروه على دينكم " . قال " ديل كارنيجى ": (إننا غالبا ما نواجه كوارث الحياة وأحداثها فى شجاعة نادرة وصبر جميل، ثم ندع التوافه بعد ذلك تغلبنا على أمرنا، ومن أمثلة ذلك ما قاله " صمويل بييز " فى مذكراته عن " سيرهارى فان " حين سيق لتنفيذ حكم ص _061(1/57)
الإعدام فيه بضرب عنقه، فإنه لم يلتمس العفو ولم يطلب الرحمة، وإنما رجا الجلاد ألا يضرب بسيفه موضعا فى عنقه كان يؤلمه. ومن أمثلة ذلك أيضا ما كتبه "أدميرال بيرد " فى مذكراته عن ليالى الظلام والزمهرير التى قضاها فى القطب الجنوبى، فقد ذكر أن رجاله كانوا منشغلين بتوافه الأمور عن الكوارث المحدقة بهم، وهم يعيشون فى تجو درجة حرارته ثمانون تحت الصفر. قال " بيرد ": كان رجالى يتخاصمون إذا اعتدى أحدهم على المساحة المخصصة لنوم زميل له واستقطع لنفسه منها بضع بوصات، ومن ثم رجل من رجالى كانت نفسه تعاف الطعام فى مواجهة زميل له اعتاد أن يمضغ اللقمة ثمانيا وعشرين مرة قبل أن يزدردها، ولست أعجب لهذا، فإن صغائر كهذه فى معسكر قطبى يسعها أن تسلب عقول أشد الناس دربة على الطاعة والنظام). ويقص علينا " كارنيجى " حكاية شجرة ضخمة نبتت منذ أربعمائة عام، وتعرضت فى حياتها الطويلة للصواعق أربع عشرة مرة، وهزتها العواصف العاتية طوال أربعة قرون متوالية، ومع ذلك ظلت هذه الشجرة جاثمة فى مكانها كأنها جبل عتيد، ثم حدث أخيرا أن زحفت جيوش الهوام والحشرات على هذه الشجرة الضخمة فما زالت بها تنخرها وتقرضها حتى سوتها بسطح الأرض، وجعلتها أثرا بعد عين. لقد انمحت ماردة الغابة التى لم تهزمها الصواعق ولم تنل منها الأنواء، اختفت من الوجود بفعل هوام هى من الضالة بحيث يستطيع الإنسان أن يسحق إحداها بين سبابته وإبهامه، ألا ترانا مثل هذه الشجرة ؟ أو لسنا ننجو من الأعاصير التى تعترض حياتنا ثم نستسلم بعد ذلك للتوافه التى تلتهم حياتنا التهاما . والأمثلة التى ذكرها المؤلف من واقع الحياة التى يعالج شئونها قد سبق النبى إلى ضرب أمثلة تشبهها مأخوذة من طبيعة البيئة التى عاش العرب فيها، فعن عبد الله بن مسعود، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إياكم ومحقرات الذنوب، فإنهن يجتمعن على الرجل حتى يُهلكنه، وإن رسول الله ضرب لهن مثلاً كمثل قوم(1/58)
نزلوا أرض فلاة، فحضر صنيع القوم، فجعل الرجل ينطلق فيجىء بالعود، والرجل يجىء بالعود حتى جمعوا سوادا، وأججوا نارا، وأنضجوا ما قذفوا فيها " . ص _062
وروى عن سعد بن جنادة قال: لما فرغ رسول الله من " حنين " نزلنا قفرا من الأرض ليس فيه شى ، فقال النبى صلى الله عليه وسلم : " اجمعوا.. من وجد شيئا فليأت به، ومن وجد عظماً أو سنا فليأت به ". قال فما كان إلا ساعة حتى جعلناه ركاما، فقال النبى صلى الله عليه وسلم : " أترون هذا، فكذلك تجتمع الذنوب على الرجل منكم كما جمعتم هذا، فليتق الله رجل فلا يذنب صغيرة ولا كبيرة فإنها محصاة عليه " . وقد علم أولو النهى من تجاربهم أن هناك أشياء تبدر من الإنسان وهو غير آبه ولا يقظ لها، يعدها الآخرون عليه، ويستنتجون منها أفكارا أو يرون وراءها نيات غريبة. وقد تترتب على ذلك نتائج فادحة، كما قيل : إن الأمور صغيرها مما يهيج له العظيم !! فيحسن بالكيس أن يتدبر ما يصدر عنه من أفعال، ربما لم يلتفت إليها لصغرها، ولكنها قد تعقب الكبير من الشرور . وكما أن تجمع الصغائر مخوف العقبى على حياة الإنسان، فإن تجسيم الصغائر بحيث تبدو إحداها وقد حجبت ما يجاورها من خير ليس من الإنصاف فى شىء. ومن المؤسف أن بعض الناس يقع على السيئة فى سلوك شخص ما فيقيم الدنيا ويقعدها من أجلها، ثم يعمى أو يتعامى عما تمتلئ به حياة هذا الشخص من أفعال حسان وشمائل كرام. والنظر الذى يثبت على الصغائر لا يعدوها ولا يعتذر عنها بما يجاورها من خير وكمال هو نظر جائر. وقلما يقود صاحبه إلى راحة. إن الله عز وجل يتجاوز عن التوافه ويغتفر اللمم لكل مؤمن ينشد الكمال ويصبغ به عمله على قدر استطاعته، قال عز وجل: (إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم وندخلكم مدخلا كريما) . ص _063(1/59)
وجميل فى أجزية الله للناس أن يترك لهم فلتات الطباع وزلات الأقدام. وجميل من الناس أن يعاشر بعضهم بعضا على هذه القاعدة من السماحة، وفى ذلك قال الشاعر: إذا كنت في كل الأمور معاتبا صديقك، لم تلق الذي لا تعاتبه فعش واحدا أو صل أخاك فإنه مقارف ذنب مرة ومجانبه إذا أنت لم تشرب مرارا على القذى ظمئت وأى الناس تصفو مشاربه ومن ذا الذى ترضى سجاياه كلها كفى المرء نبلاً أن تعد معايبه وهذه القاعدة إذا حسن تطبيقها فيما بين الأصحاب من أواصر، وما يعرض لعلاقاتهم من هزات، فهى بين الزوجين ألزم، وللسيطرة على حياتهم أحب وأحكم. فإن ضاق الزوج بغلطة من امرأته تذكر أن لها صوابا. وإن حزن لجانب من نفسها نظر إلى جانب آخر يسره منها. وإلى ذلك يشير رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله: " لا يفرك ـ لا يكره ـ مؤمن مؤمنة، إن كره منها خلقا رضى منها آخر " . على أنه من المؤسف أن كثيرا من التوافه تعصف برشد الألوف المؤلفة من الناس، وتقوض بيوتهم، وتهدم صداقاتهم، وتذرهم فى هذه الدنيا حيارى محسورين. ويشرح " ديل كارنيجى " عواقب الاندفاع مع وحى هذه التوافه، فيقول: (إن الصغائر فى الحياة الزوجية يسعها أن تسلب عقول الأزواج والزوجات، وتسبب نصف أوجاع القلب التى يعانيها العالم. أو ذاك على الأقل ما يؤكده الخبراء، فقد صرح القاضى " جوزيف ساباث " من قضاة شيكاغو بعد أن فصل فى أكثر من أربعين ألف طلاق بقوله: إنك لتجدن التوافه دائما وراء كل شقاء يصيب الزواج . ص _064(1/60)
وقال، "فرانك هوجان " النائب العام فى نيويورك: إن نصف القضايا التى تعرض على محاكم الجنايات تقوم على أسباب تفاهة، كجدال ينشأ بين أفراد أسرة، أو من إهانة عابرة، أو كلمة جارحة، أو إشارة نابية. هذه الصغائر اليسيرة هى التى تؤدى إلى القتل والجريمة. إن الأقلين منا قساة بطبائعهم، بيد أن توالى الضربات الموجهة إلى ذواتنا وكبريائنا وكرامتنا هو الذى يسبب نصف ما يعانيه العالم من مشكلات). هذا الكلام الذى يصف علل الجراثيم فى مدن أمريكا يمكن أن ننقله بنصه فى وصف علل الجرائم التى تقع فى مدننا وأريافنا. والواقع أن سوء التصور للأمور، وشدة الإحساس بالكرامة الخاصة، والمبادرة إلى تفسير أى تصرف بأنه احتقار لا يغسله إلا الدم، وغير ذلك من التخيلات التى تضخم التوافه هو السبب الأول لما تشهد وتقرأ من أحداث مروعة. والعلاج؟.. صقل مرآة الذهن بحيث تلتقط صورا حقيقية لما تحفل به الحياة. صورا لم تفسدها المبالغة، ولم يشوها الهوى. ثم الحكم على هذه الصور فى نطاق النظرة الرحبة. النظرة التى تضع النظائر والنقائص فى جوار واحد، فلا تنسى الخير إذا هاجها شر. وبذلك يتلاشى أغلب ما يحسه المرء من شقاء، وما يتورط فيه من أخطاء . * * * ص _065
لو أن أيدينا يمكنها أن تمتد إلى الماضى لتمسك حوادثه المدبرة فتغير منها ما تكره وتحورها على ما تحب لكانت العودة الى الماضى واجبة ، ولهرعنا جميعاً إليه نحو ما ندمنا على فعله ونضاعف ما قلت أنصبتنا منه . أما وذلك مستحيل فخير لنا أن نكرس الجهود لما نستأنف من أيام وليال ، ففيها وحدها العوض . محمد الغزالى ص _066(1/61)
قضاء وقدر إحساس المؤمن بأن زمام العالم لن يفلت من يد الله يقذف بمقادير كبيرة من الطمأنينة فى فؤاده. إذ مهما اضطربت الأحداث وتقلبت الأحوال فلن تبت فيها إلا المشيئة العليا: (والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون ) . وهذا يفسر ركون المسلم إلى ربه بعد أن يؤدى ما عليه من واجب. إنه يتوكل عليه ويستريح إلى ما يتمخض عنه المستقبل من نتائج بعد ما بذل جهده فيما وكل إليه من عمل وإعداد واحتياط. والحق أنه لا معنى لتوتر الأعصاب واشتداد القلق بإزاء أمور تخرج عن نطاق إرادتنا. قد يقرع الإنسان سن الندم على تفريطه، وقد يستوجب أقسى اللوم على تقصيره. أما أن يطلع القدر عليه بما لا دخل له فيه فهو ما لا مكان فيه لندم أو ملام، وبالتالى لا مكان فيه لقلق أو ريبة. ومن ثم ينبغى أن نستقبل الدنيا بيقين وشجاعة. ويعجبنى قول على: أى يومى من الموت أفر؟ يوم لا يقدر أو يوم قدر ؟ يوم لا يقدر لا أحذره ومن المقدور لا ينجو الحذر!! بهذا المنطق يواجه الرجل العطوب وهو جرىء. أما إذا فرغت نفسه من الله، ونظر إلى الأحداث كأنها موج يتدفع مدا وجزرا، يغرق فيها من يغرق، وينجو من ينجو، فإنه يحيا بفؤاد هواء، تلعب به الأحداث والظنون . ص _067(1/62)
إن الركون إلى القدر ـ وهو غير القول بالجبر ـ والبراءة من الحول والطول يورث جراءة على مواجهة اليوم والغد، ويضفى على الحوادث صبغة تحبب بغيضها، وتجعل المرء يقبل ـ وهو مبتسم ـ خسارة النفس والمال،. وذاك ما عنته الآيات الكريمة: (قل لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا هو مولانا و على الله فليتوكل المؤمنون * قل هل تربصون بنا إلا إحدى الحسنيين ) . يعنون كسب المعركة بالنصر، أو الموت فيها دون الظفر بها، وهو حسن كذلك، لأن ما عند الله من مثوبة محفوظ مضمون. أما الذين لا دين لهم فهم إن انتصروا أو انهزموا بين عذابين آجل أو عاجل!! ( و نحن نتربص بكم أن يصيبكم الله بعذاب من عنده أو بأيدينا فتربصوا إنا معكم متربصون ) . هذا موقف المؤمنين بالأقدار يتسم بالقوة والتحدى، ولا شائبة فيه لريبة أو استخذاء. غير أن كثيرا من الناس يجهلون هذه الحقيقة أو يجحدونها، ويباشرون أعمالهم وهم يحملون بين جوانبهم هموما مقيمة، ومشاعر عقيمة. وهم لا يجزعون من أحزان تصيبهم فحسب، بل يجزعون من أحزان يتوقعونها لا ويفترضون أن المستقبل قد يرميهم بها. وكم يجمح بهم الخيال فيملأ حياتهم بأشباح الموت والدمار، ويوهمهم أنهم بين الحين والحين معرضون لهجوم من هنا وغدر من هناك!! قال " ديل كارنيجى ": لكن كثيرا من الرجال الناضجين لا تقل مخاوفهم سخفا عن مخاوف الأطفال والصبيان، وفى استطاعتنا جميعا أن نتخلص من تسعة أعشار مخاوفنا تواً لو أننا كففنا عن اجترار خواطرنا، واستعنا بالحقائق المدعومة بالإحصاء، لنرى إن كان هناك حقاً ما يبرر تلك المخاوف. إن شركة " لويد " بلندن، وهى أشهر شركات التأمين فى العالم، قد ربحت ملايين الجنيهات من استغلالها ميل الإنسان إلى التوجس من أبعد الأمور احتمالا.. هذه الشركة تراهن الناس على أن الكوارث التى يخشون حدوثها، ويساورهم القلق من أجلها، لن تحدث أبدا . ص _068(1/63)
على أنها بداهة لا تسمى هذا العمل مراهنة، بل تسميه " تأمينا "، وقد ظلت هذه الشركة تواصل أعمالها بنجاح مائتى سنة. وما لم تتغير طباع الناس فستواصل هذه الشركة نجاحها خمسين قرنا أخرى، وستظل تقبل التأمين على الأحذية والسفن، وغير ذلك، لأن الكوارث التى يتوقعها الناس لا تقع بالكثرة التى يتصورونها) . الفزع من المستقبل المجهول، وتوقع الخسار الفادح، والشعور بالوهن عن حمل هذه المصائب المتوهمة هو سر قيام شركات التأمين وتغلغل فروعها فى أرجاء الحياة العامة. ومن هذا الفرق فى الحقيقة ـ بين ما يقع فعلا، وما يقع وهما ـ تستولى هذه الشركات على قناطير مقنطرة من الذهب والفضة، مستغلة خشية الخوافين على أعمارهم حينا، وعلى أموالهم حينا أخر!!. وقد حاول " ديل كارنيجى " أن يشفى صرعى الأوهام بسرد إحصاءات صادقة عن النوازل التى تقع بالبشر فى البر والبحر. وهو علاج فى نظرنا لا يحسم العلة التى تنتشر حتما حيث تفرغ القلوب من الإيمان. إن الحضارة الحديثة سيئة العلم بالله، وهى بالتالى مزعزعة الثقة فيه. ولذلك تعالج أدواءها بأدوية رديئة، من مراهنة تسمى تأمينا، ومن إحصاءات تبين "للمرعوبين أن نسبة الإصابات أخف مما يتصورون. ونحن ننادى بأخذ الحيطة للمستقبل، وإرصاد العوض لكل مصاب، ولكننا نستنكر المتاجرة بالذعر الناشئ عن خور اليقين كما تفعل شركات التأمين، ونستنكر الفرق الذى يستحوذ على الجبناء عندما يدفعهم الشك إلى ترقب الموت كامنا فى كل أفق.. واسمع إلى قصة تاجر اعتاد أن يعذب نفسه بهذه الأفكار يرويها " كارنيجى ": (ماذا لو تصادم القطار الذى ينقل البضاعة؟؟ ماذا لو انهار جسر فى اللحظة الذى يمر القطار فيها؟؟ نعم إن البضاعة مؤمن عليها، ولكنه يخشى إن لم تصل الفاكهة فى ص _069(1/64)
الوقت المحدد أن يفقد عملاءه. ولقد أجهد نفسه من فرط القلق حتى خيل إليه أنه أصيب بقرحة فى المعدة، فذهب إلى الطبيب. فأكد له الطبيب أنه سليم معافى إلا من توتر أعصابه. قال مستر " جرانت ": لقد أحسست عندما قال لى الطبيب هذا كأنما أخرجت من الظلمات إلى النور، وأخذت أسائل نفسى: كم عربة من عربات البضاعة استخدمت فى خلال العام المنصرم؟، وكان الجواب: نحو خمسة وعشرين ألف عربة، وعدت أسأل نفسى: كم من هذه العربات تحطم لسبب من الأسباب؟، وكان الجواب: خمس عربات... حينئذ قلت لنفسى: خمس عربات من خمسة وعشرين ألف عربة!! أتدرى ما معنى هذا؟. معناه أن معدل نسبة الخسارة هو عربة واحدة من كل خمسة آلاف عربة " فعلام القلق إذن؟! "). أقول: وبث الطمأنينة فى النفوس ـ بتبيان الحقائق على هذا النحو الحاسم ـ شىء حسن. ولكنه لا يحصن ذوى الأمزجة السود والهواجس الرجراجة . إن الشخص المتشائم ينكص أمام التخيلات التى تنعقد سحائبها من نفسه. وما دام ضعف الإيمان يسيطر عليه فهو سيفترض النحس مقبلا عليه مع أندر نسبة للشر يمكن أن تقع، ولن تقر نفوس هؤلاء إلا إذا خالطها محض الإيمان بالله والتسليم له، والرضا بما يقدره . ـ وتقبل أسوأ الفروض على أنها قضاء الله الذى لا مفر منه . وذاك ما يوصى به الإسلام. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لا يؤمن عبد حتى يؤمن بالقدر خيره وشره، وحتى يعلم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه، وما أخطأه لم يكن ليصيبه " . ومثل هذا الشعور يريح من عناء كثير، ويزيح هموما ثقيلة، ولذلك قال رسول الله: "من سعادة ابن آدم رضاه بما قضى الله له، ومن شقاوة ابن آدم تركه استخارة الله، ومن شقاوة ابن آدم سخطه بما قضى الله له " . ص _070(1/65)
ويجب أن نؤكد مرة أخرى أن دائرة الاستكانة والتسليم تبدأ بما يغلب الإرادة المعتادة، وبما يخرج عن نطاق الاختيار الحر. فلا احتجاج بقدر، ولا مكان للقول به حيث تستطيع أن تفعل وأن تترك. أما بعد أن تبلغ بإرادتك مداها فدع الأمور لمدبرها الأعلى ينتهى بها حيث يشاء دون نزق أو قلق. والغريب أن بعض المؤمنين يستحمق ويلوذ بالسكون والتجرد، أو بالقعود والتماوت باسم التعويل على الله، وإسلام القياد له. وهذا جنون وكفران لا عقل وإيمان. ويمثل هؤلاء قول الشاعر: والسعى للرزق ـ والأرزاق قد قُسمت ـ بغى ألا إن بغى المرء يصرعه هذا كلام فارغ !. وشأن الناس مع الله عجيب!! ذاك تاجر أمريكى يؤرقه السهود، لأنه من خوفه على رزقه يتوجس أن ينهار جسر تحت بضاعته فلا تصل إلى عملائه، وهذا شاعر عربى يريد أن يغط فى نوم عميق، وألا يتجشم مؤنة سعي، لأن الأرزاق مقسومة!!. والحقيقة فى التوسط بين الطرفين المتنافرين، فنؤذى العمل المطلوب، وننفى الريب عن أفئدتنا بعد أن أدينا ما علينا مستريحين لما يصنع الله بنا، وهولن يصنع إلا الخير. إن أحاديث القدر علاج للقلق والتشاؤم، وليست ذريعة كسل أو خمول . * * * ومراقبة الأقدار القاهرة ـ خارج نطاق إرادتنا الحرة ـ وملاحظة صنع الله فيما تفد به من حلو ومز وخير وشر، يضبط العواطف، ويجنبها الحدة والغلواء. ولذلك ترى أولى الألباب والتجارب معتدلين فى فرحهم وحزنهم، وسرورهم ونفورهم. وقد يصل هذا الاعتدال إلى حد البرود، وقلة الاكتراث، ومقابلة المباهج والمصائب بشعور محايد، وفى ذلك يقول أبو العلاء: ص _071(1/66)
غير مجد فى ملتى واعتقادى نوح باك ولا ترنم شادى وشبيه صوت النعى إذا قيس بصوت البشير فى كل ناد أبكت تلكم الحمامة أم غنت على فرع غصنها المياد ويقول المتنبى : ألا لا أرى الأقدار مدحا ولا ذماً فما بطشها جهلا ولا كفها حلما والهدف الذى يريد هؤلاء الوصول إليه وإن اختلف تصويرهم له، أو ندت عبارتهم عنه، هو الذى عنته الآية الكريمة: (ما أصاب من مصيبة في الأرض ولا في أنفسكم إلا في كتاب من قبل أن نبرأها إن ذلك على الله يسير * لكيلا تأسوا على ما فاتكم ولا تفرحوا بما آتاكم والله لا يحب كل مختال فخور ) . وليس القصد مصادرة الطبع الإنسانى فى إحساسه بالألم والسرور. وإنما القصد منع الاستغراق المذهل، فإن للفرحة الطاغية نشوة تخرج عن الصواب، وللحزن الجاثم وطأة تسحق الإرادة. والمؤمن الذى يبصر عمل الله فى كل ما يمسه لا يتخبط بين هذه الانفعالات، فيرفعه هذا إلى القمة، ويخفضه ذلك إلى الحضيض. إنه يلوذ بالاعتدال، ويسيطر على أعصابه، وتلك بعض ثمرات الإيمان بالقدر. إن الرجل الضعيف قد يفزعه المصاب ويشتت أفكاره، فبدلا من أن يختصر متاعبه بمجابهة الواقع والاستعداد لقبوله، يسترسل مع الأحزان التى تضاعف كآبته ولا تغير شيئا، وانظر إلى ابن الرومى لما فقد ابنه كيف يقول: وأولادنا مثل الجوارح أيها فقدناه كان الفاجع البين الفقد!! هل السمع بعد العين يغني مكانها؟ أو العين بعد السمع تهدى كما يهدى!! ثم يستبد الجزع بالرجل المكلوم، فتنهار أعصابه، ويرسل هذه الصرخة المجنونة: وما سرنى إن بعته بثوابه ولو أنه التخليد فى جنة الخلد!! ما قيمة هذه الإعوال والتمرد؟. وما أثره فى العاجل والآجل؟ لا شىء إلا الحسرة . ص _072(1/67)
أما موقف اليقين الناضج والتسليم الكريم، فتراه مثلا فى سيرة يعقوب لما جاءه بنوه هم يتباكون على فقد يوسف الذى أكله الذئب ـ كما يخبرون ـ لقد قال الرجل الذى غاب عنه ابنه: (فصبر جميل والله المستعان على ما تصفون ) . وانتظر الرجل أن يؤوب الغائب المتردد بين الموت والحياة، وطال الانتظار دون جدوى. ومرت السنون على الشيخ الآمل فى الغيب، وإذا هو بدل أن يعود ابنه المرتقب يفقد ابنه الآخر، وينكأ الجرح القديم جرح جديد!!. ماذا يصنع؟. أينفس عن جواه بالصراخ والجزع؟ لا، إنه يقول مرة أخرى : (فصبر جميل عسى الله أن يأتيني بهم جميعا إنه هو العليم الحكيم ) . إن القنوط لم يصدمه فينشج بقول الشاعر: وحملت زفرات الضحى فأطقتها وما لى بزفرات العشى يدان كلا. لقد تحمل المأساة الأخيرة بالعاطفة نفسها التى تحمل بها الأولى، وظل على تشبثه برحمة الله، يرمق الغد وفى فؤاده شعاع من رجاء لم تطفئه الأحداث، وقال لأبنائه: ( اذهبوا فتحسسوا من يوسف وأخيه ولا تيأسوا من روح الله إنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون ) . من هذا السلوك العالى نلتمس الأسوة الحسنة، ونتعلم الثبات فى وجه العواصف القاسية. وما عساك تفعل إذا أصابك ما تكره؟. إن كان تغيير المكروه فى مقدورك فالصبر عليه بلادة، والرضا به حمق. أما إذا كان ما عراك فوق ما تطيق، فهل هناك حيلة أفضل من الاتزان ورباطة الجأش؟!. ص _073(1/68)
وهل هناك مسلك أرشد من الاعتراف بالواقع، ونشدان تغييره من صاحب الإرادة العليا، وواهب الخير الجزيل؟. إن وخزات الأحداث قد تكون إيقاظا للإيمان الغافى، ورجعة بالإنسان إلى الله. وهذه النتيجة تحول الداء دواء، والمحنة منحة، وتلك لا ريب أشهى ثمرات اليقين، والرضا بما يصنعه رب العالمين. وهى ثمرة أحلى مما يذكره " ديل كارنيجى " عوضا عن الإيمان بالقضاء والقدر، إن الرجل يطلب من المصاب أن يتبلد أمام الأنواء، كما تتبلد قطعان الجاموس وجذوع الأشجار!! وهو معذور فيما يصف لأنه لم يقع على الدواء الذى بين أيدينا، ولنسمع له يقول: (رفضت ذات مرة أن أقبل أمرا محتما واجهنى، وكنت أحمق فاعترضت وثرت وغضبت وحولت ليالى إلى جحيم من الأرق، وبعد عام من التعذيب النفسانى امتثلت لهذا الأمر الحتم الذى كنت أعلم من البداية أنه لا سبيل إلى تغييره. وما كان أخلقنى أن أردد مع الشاعر " والت هويتمان " قوله: " ما أجمل أن أواجه الظلام والأنواء والجوع؟ ". " والمصائب والمآسى واللوم والتقريع؟ ". " كما يواجهها الحيوان، وتواجهها من الأشجار الجذوع! ". ولقد أمضيت اثنى عشر عاما من حياتى مع الماشية، فلم أر بقرة تبتئس لأن المرعى يحترق، أو لأنه جف لقلة الأمطار، أو لأن صديقها الثور راح يغازل بقرة أخرى. إن الحيوان يواجه الظلام والعواصف والمجاعات هادئا ساكنا، ولهذا قل ما يصاب بانهيار عصبى أو قرحة فى المعدة!!). ذلك هو العلاج الحيوانى الذى يقترحه لمكافحة الأزمات!!. وتلك هى الآثار المادية التى ينتظرها من ورائه!!. ونحن المسلمين لا نرى فى هذا التبلد المطلوب مثلا أعلى لشفاء الإنسان مما يصيبه من أحزان . إن التسليم لله أفضل من هذا التبلد المنقطع . ص _074(1/69)
وأين كلمات الشاعر " هويتمان " السابقة من قول الله عز وجل : (ولنبلونكم بشيء من الخوف والجوع ونقص من الأموال والأنفس والثمرات وبشر الصابرين * الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون * أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة وأولئك هم المهتدون) . * * * والمرونة فى مقابلة الشدائد بعض آثار الإيمان والرشد . وحرى بالرجل الذى يدع العاصفة تمر أن يحسن التغلب عليها بعد أن تكون حدتها قد انكسرت. وهذه المرونة دلالة تأدب مع الله وسكينة فى ملاقاة قدره. ثم هى فى معاملة الناس أنجع الوسائل لكبح جماحهم بل لامتلاك أنفسهم. وفى الأثر: جربت اللين والسيف، فوجدت اللين أقطع. والمؤمن المرن يدور مع الأحداث لا دوران ضعف ونفاق، ولكن كما يدور المصارع فى الحلبة حتى لا يكشف مقاتله لخصم متربص. وفى هذا يقول " ديل كارنيجى " كلاما حسنا: (إن أحدا منا لم يمنح القوة التى تجعله يقاوم ما ليس منه بد، ثم يتبقى له بعد هذه المقاومة جهد يمكنه من خلق حياة حافلة سعيدة. عليك أن تختار واحدا من شيئين: إما أن تنحنى حتى تمر العاصفة بسلام، وإما أن تتصدى لها متعرضا بذلك للهلاك. لقد شهدت تجربة من هذا النوع فى مزرعتى، إذ هبت ريح عاتية على المزرعة، ولكن الأشجار لم تنحني للعاصفة، بل تصدت لها منتصبة الأعواد، فلم تلبث أن تكسرت وصارت حطاما تذروه الرياح. إن أشجارى ليست لها حكمة الأشجار النامية فى مزارع كندا. لقد عهدتها دائمة الخضرة، تنحنى للعواصف، فتمر فى طريقها بسلام) . ص _075(1/70)
وهذا الكلام هو عندى أحسن تفسير لقول محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم : "مثل المؤمن كمثل الزرع لا تزال الريح تميله، ولا يزال المؤمن يصيبه البلاء. ومثل الكافر كمثل شجرة الأرز لا تهتز حتى تستحصد ". وفى رواية: "مثل المؤمن كمثل الخامة من الزرع تفيئها الريح مرة وتعدلها أخرى حتى تهيج ـ أى تقوى وتنضج ـ ومثل الكافر كمثل الأرزة المجدبة على أصلها ـ لا تميل مع ريح لصلابتها ـ حتى يكون انجعافها مرة واحدة " ـ أى انكسارها . * * * وهذه المرونة فى ملاقاة الواقع البغيض قد تكلفك الابتسام له، وحمل النفس على حسن استقباله، لا لأنك تود بقاءه، بل تخفيفاً من شدة الضيق به، على نحو ما قال الشاعر: ولما رأيت الشيب لاح بعارضى ومفرق رأسى قلت للشيب مرحبا ولو خفت أنى إن كففت تحيتى تنكب عنى رمت أن يتنكبا ولكن إذا ما حل كره فسامحت به النفس يوماً كان للكره أذهبا وهذه النصيحة عينها هى التى يزجيها لنا " كارنيجى " بقوله: (إن السرعة التى نتقبل بها الأمر الواقع ـ إذا لم يكن منه بد ـ مدهشة النتيجة، فإننا لا نلبث حتى نوطد أنفسنا على الرضا بهذا الواقع، ثم ننساه بعد كل النسيان. يقول " وليم جيمس": كن مستعدا لتقبل ما ليس منه بد، فإن هذا التقبل خطوة أولى نحو التغلب على ما يكتنف الأمر من صعاب). وهذا الرضا ضرب من التعزية الجميلة والمواساة الحسنة، ولا يسوغ أن يفهم منه عاقل أن مكاره الحياة أهداف مستحبة نسعى إليها فى اشتياق ورغبة. من الذى يحب العمى؟. إن الرسول الكريم كرهه لنفسه، ودعا الله أن يمتعه بحواسه كلها، وكل مؤمن بل كل إنسان يود أن يعيش إلى أن يوافيه أجله وهو سليم المشاعر. لكن بعض الناس قد يبتلى بفقد عينيه، فهل ندعه للألم يحز فى نفسه حتى يذوب حسرة ؟ كلا . ص _076(1/71)
هنا يجىء قول الرسول الكريم راويا عن ربه: " إذا سلبت من عبدى كريمتيه وهو بهما ضنين لم أرض له ثوابا دون الجنة، إذا هو حمدنى عليهما " . هذه تعزية كريمة، وسلوى يجد المحزون فى بشارتها ما يخفف جواه ويذهب بلواه، فهل يفهم من هذا الكلام المبين أن العمى غاية تطلب؟، وأن آلام الدنيا درجات رفيعة يتعرض لها طلاب الثواب وعشاق الجنة؟!. إن تفكير المتصوفة سقط فى هذه الهاوية، وجر معه عوام المسلمين، فضلل فى هذه الحياة مساعيهم، وبدد قواهم، وجعل مثلهم العليا تتخبط فى آفاق داكنة من البأساء والضراء!!. والسر هو الخلط بين دائرتين متميزتين كل التميز، منفصلتين أتم الانفصال. دائرة " ما منه بد " و " ما ليس منه بد". ثم التسوية بين المسالك والمشاعر التى تجيش تلقاء كل منهما. والحق أن كلتا الدائرتين لها مجالها وإيحاؤها. فالرجل إذا وقعت به مظلمة يملك ردها ويؤتى القدرة على كفها، فإن صبره عليها جريمة، ورضاه بها معصية. أما إذا حلت به مظلمة يعجز عن دفعها، أو نابته كارثة يعلم أن التخلص منها فوق قواه، فيجب عليه أن يتحمل وأن يتصبر. إن " الرضا بالقسمة " أصبح سبة فى التفكير الإسلامى، لأن الذين تلقوا الأمر وضعوه فى غير موضعه، فسوغوا به الفقر والكسل والخمول، بدل أن يهونوا به كبوات السعى الجاد، وهزائم العاملين المرهقين، ومتاعب المظلومين فى وظائفهم، وهم لا يستطيعون حيلة!!. إن قول رسول الله: " اتق المحارم تكن أعبد الناس، وارض بما قسم الله لك تكن أغنى الناس " هو ما شرحه " ديل كارنيجى " فى هذه الخلاصة: لقد قرأت خلال الأعوام الثمانية الماضية كل كتاب، وكل مجلة، وكل مقالة عالجت موضوع القلق؟ فهل تريد أن تعرف أحكم نصيحة خرجت بها من قراءاتى الطويلة؟. ها هى ذى ، ص _077(1/72)
أنصحك أن تدونها فى ورقة، وتثبتها فى صقال مرآتك حتى تطالعها كل يوم، وقد كتب هذه النصيحة، بل هذا الدعاء، دكتور " رينولد تايبر " الأستاذ بمعهد الاتحاد الدينى بنيويورك: هبنى اللهم الصبر والقدرة لأرضى بما ليس منه بد وهبنى اللهم الشجاعة والقوة لأغير ما تقوى على تغييره يد وهبنى اللهم السداد والحكمة لأميز بين هذا وذاك ثم قال: وإذن فلكى تحطم عادة القلق قبل أن تحطمك ارض بما ليس منه بد) أو كما يقول محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم : "إرض بما قسم الله لك تكن أغنى الناس ". * * * ويعجبنى أن يواجه الإنسان هذى الحياة وعلى شفتيه بسمة تترجم عن رحابة الصدر وسجاحة الخلق وسعة الاحتمال، بسمة ترى فى الله عوضا عن كل فائت، وفى لقائه المرتقب سلوى عن كل مفقود. ولنثبت هنا قصيدة الشاعر محمد مصطفى حمام، فهى حافلة بهذه العاطفة السهلة الرقيقة، عاطفة الرضاء والطمأنينة : علمتنى الحياة أن أتلقى كل ألوانها رضاً وقبولا ورأيت الرضا يخفف أثقالى ويلقى على المآسى سدولا والذى ألهم الرضا لا تراه أبد الدهر حاسداً أو عذولا أنا راض بكل ما كتب الله ومزج إليه حمداً جزيلاً أنا راض بكل صنف من الناس لئيما ألفيته أو نبيلا لست أخشى من اللئيم أذاه لا ، ولن أسأل النبيل فتيلا فسح الله فى فؤادى فلا أرضى من الحب والوداد بديلا فى فؤادى لكل ضيف مكان فكن الضيف مؤنساً أو ثقيلا ص _078(1/73)
ضل من يحسب الرضا عن هوان أو يراه على النفاق دليلا فالرضا نعمة من الله لم يسعد بها في العباد إلا القليلا والرضا آية البراءة والإيمان بالله ناصراً ووكيلاً علمتنى الحياة أن لها طعمين، مرا، وسائغاً معسولاً فتعودت حالتيها قريرا وألفت التغيير والتبديلا أيها الناس كلنا شارب الكأسين إن علقما وإن سلسبيلا نحن كالروض نضرة وذبولا نحن كالنجم مطلعا وأفولا نحن كالريح ثورة وسكونا نحن كالمزن ممسكا وهطولا نحن كالظن صادقا وكذوبا نحن كالحظ منصفا وخذولا * * * قد تسرى الحياة عنى فتبدى سخريات الورى قبيلا قبيلا فأراها مواعظاً ودروسا ويراها سواى خطبا جليلا أمعن الناس فى مخادعة النفس وضلوا بصائرا وعقولا عبدوا الجاه والنضار وعينا من عيون المها وخدا أسيلا الأديب الضغيف جاها ومالا ليس إلا مثرثرا مخبولا والعتل القوى جاها ومالا هو أهدى هدى وأقوم قيلا وإذا غادة تجلت عليهم خشعوا أو تبتلوا تبتيلا وتلوا سورة الهيام وغنوها وعافوا القرآن والإنجيلا لا يريدون آجلا من ثواب الله إن الإنسان كان عجولا فتنة عمت المدينة والقرية لم تعف فتية أو كهولا وإذا ما انبريت للوعظ قالوا لست ربا ولا بعثت رسولا أرأيت الذى يكذب بالدين ولا يرهب الحساب الثقيلا * * * أكثر الناس يحكمون على الناس وهيهات أن يكونوا عدولا فلكم لقبوا البخيل كريما ولكم لقبوا الكريم بخيلا ولكم أعطوا الملح فأغنوا ولكم أهملوا العفيف الخجولا رب عذراء حرة وصموها وبغى قد صوروها بتولا وقطيع اليدين ظلما ولص أشبع الناس كفه تقبيلا وسجين صبوا عليه نكالا وسجين مدلل تدليلا جل من قلد الفرنجة منا قد أساء التقليد والتمثيلا ص _079(1/74)
فأخذنا الخبيث منهم ولم نقبس من الطيبات إلا قليلا يوم سن الفرنج كذبة إبريل غدا كل عمرنا إبريلا نشروا الرجس مجملا فنشرناه كتابا مفصلاً تفصيلا * * * علمتنى الحياة أن الهوى سيل فمن ذا الذي يرد السيولا ثم قالت: والخير في الكون باق بل أرى الخير فيه أصلا أصيلا إن تر الشر مستفيضا فهون لا يحب الله اليئوس الملولا ويطول الصراع بين النقيضين ويطوي الزمان جيلا فجيلا وتظل الأيام تعرض لونيها على الناس بكرة وأصيلا فذليل بالأمس صار عزيزا وعزيز بالأمس صار ذليلا ولقد ينهض العليل سليما ولقد يسقط السليم عليلا رب جوعان يشتهى فسحة العمر وشبعان يستحث الرحيلا وتظل الأرحام تدفع قابيلا لا فيردى ببغيه هابيلا ونشيد السلام يتلوه سفاحون سنوا الخراب والتقتيلا وحقوق الإنسان لوحة رسام أجاد التزوير والتضليلا صور ما سرحت بالعين فيها وبفكرى إلا خشيت الذهولا * * * قال صحبى: نراك تشكو جروحا أين لحن الرضا رخيما جميلا قلت أما جروح نفسى فقد عودتها بلسم الرضا لتزولا غير أن السكوت عن جرح قومى ليس إلا التقاعس المرذولا لست أرضى لأمة أنبتتنى خُلقاً شانها وقدرا ضئيلا لست أرضى تحاسدا أو شقاقا لست أرضى تخاذلا أو خمولا أنا أبغى لها الكرامة والمجد وسيفا على العدا مسلولا علمتنى الحياة أنى إن عشت لنفسى أعش حقيرا هزيلا علمتنى الحياة أنى مهما أتعلم فلا أزال جهولا * * * ص _080(1/75)
بالحق أنزلناه وبالحق نزل الإسلام أداة لتنظيم الأفكار على نحو معين، كما تنتظم المقدمات لتنتج الصواب وتقرر الحق. ذاك فى المجال العقلى، أما فى المجال النفسى والاجتماعى فهو أداة لتنظيم المشاعر والعواطف على نحو ينشئ الفضيلة، ويدعم الأخوة، أو على نحو ينفى الرذيلة، ويمحق الأثرة. فالإسلام ـ بما حوى من تعاليم ـ إنما يمهد للناس طريق الهداية التى تأخذ بنواصيهم وأفئدتهم إلى الحقيقة والكمال. لهذا نزل الوحى، وتتابعت نذره وبشائره: (يبين الله لكم أن تضلوا والله بكل شيء عليم) . (كذلك يبين الله لكم آياته لعلكم تهتدون) . وهذه الهداية فى مجالات النظر والتفكير، وفى مجالات الأدب والمعاملة هى النتيجة المنشودة من وراء العبادات المقررة. فليست الغاية من الطاعات مباشرة رسومها الظاهرة، واعتياد أشكالها، وتقمص صورها. كلا، بل الغاية منها أن تزيد حدة العقل فى إدراك الحق، وارتياد أقرب الطرق إليه، وإن تمكن الإنسان من ضبط أهوائه، وإحسان السير فى الحياة بعيدا عن الدنايا والمظالم . وتأمل قول الله عز وجل : (إنما يعمر مساجد الله من آمن بالله واليوم الآخر وأقام الصلاة وآتى الزكاة ولم يخش إلا الله فعسى أولئك أن يكونوا من المهتدين) ص _081(1/76)
إن الإيمان بالله واليوم الآخر، وفرائض الصلاة والزكاة أشعة تتجمع فى حياة الإنسان لتسدد خطوه وتلهمه رشده، وتجعله فى الوجود موصولا بالحق لا يتنكر له، ولا يزيغ عنه . والذين لا يستفيدون من صلتهم بالله هذا الضياء الكاشف، وهذه الهداية الكريمة فلا خير فى عباداتهم، ولا أثر لصلاتهم وزكاتهم . وهذا سر التعبير الذى ختمت الآية به: (...فعسى أولئك أن يكونوا من المهتدين !. كأن فعل هذه الصالحات لا يكفى ويشفى إلا بشرائط تتطلب الكثير من اليقظة والجهد . والرذائل التى نهى الله عنها إنما كرهها لعباده لأنها تكسف عقولهم، وتسقط ضمائرهم، وتشيع المظالم بينهم، وتتحول فى أفكارهم ومشاعرهم إلى عطل وظلمة أو إلى فوضى وحيرة . (فمن اتبع هداي فلا يضل و لا يشقى * ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا) . فالإنسان الذى يؤثر طريق الرياء على طريق الإخلاص يلقى من العنت ما يلقاه رجل يدور حول نفسه ليصل من القاهرة إلى الإسكندرية. سيظل يتحرك فى موضعه حتى ينقطع إعياء دون أن يبلغ هدفه. والإنسان الذى يؤثر الزنا على الإحصان يدركه من الشقاء ما يدرك الكلب الضال حين يتسكع لاختطاف طعامه، فيقع على جسمه من الضربات أكثر مما يدخل فمه من المضغ المنهوبة. وليست هذه المعاصى شؤما على أصحابها فقط، بل هى رجوم تملأ جنبات المجتمع بالمآسى والمخازى. وانتشار الجرائم له من تدمير معنويات الأمم ما لانتشار الأوبئة الخبيثة فى كيانها . ص _082(1/77)
مقتضى الإيمان أن يعرف المرء لنفسه حدودا يقف عندها، ومعالم ينتهى إليها. أما العيش من غير ضوابط، والتمشى وراء النزوات المهتاجة دون تحفظ ولا تصون، فليس ذلك سلوك المسلم، ولا ما يرتقب منه. إن الإيمان يعطى أحكاما صائبة، وتقديرات جيدة لكل ما يختلف علينا فى الحياة من خسارة وربح، وهزيمة ونصر، ونجاح وفشل، وصداقة وخصومة.. وهو يهدى المؤمن إلى ما ينبغى فعله فى هذه النواحى جميعاً. ومع أن تلك طبيعة الإيمان فإن الله عر وجل نصب للناس علامات أخرى يهتدون بها بين الحين والحين، حتى لا يشردوا عن الصراط المستقيم. وتلك هى جلة الأوامر والنواهى والوصايا التى حفل بها كتابه، وعلمنا إياها رسوله. إنها تعاليم تدفع بالسلوك فى مجرى معين. وتمنعه أن يسيح هنا وهناك، كما تمنع الشطآن القائمة لجج الماء أن تسيل كيف تشاء.. ولطبيعة الإنسان نزوات تطفو بها أحيانا وتطيش. والخوف فى هذه النزعات أن يسترسل المرء معها، فإن هذا الاسترسال يرمى به فى مطارح لا يعود منها سالماً، ولذلك قال " ابن المقفع ": (المؤمن بخير ما لم يعثر، فإذا عثر لج به العثار). هذه اللجاجة خور فى الإرادة ييسر الانهيار، ويمنع التماسك، ويجعل الرجل من القلق ريشة فى مهب الرياح.. ويرى " ديل كارنيجى " وجوب وضع حد أقصى للاضطراب الذى يعترى المرء عقب هذه العثرات المقلقة. إن الإنسان يخطئ حتما، فليست العصمة أملا له، ولا طبعا فيه. وهو يعانى نتيجة ما يتورط فيه من أخطاء انفعالات مضطرمة حمقاء. وأفضل ما يصنع أن ينفض يديه كلتيهما مما حدث، وألا يدع اللجاجة تنتقل به من سىء إلى أسوأ، ومن ظلال داكنة إلى ظلمات بعضها فوق بعض. اجتهد ألا تسلك طريق ضلالة، فإذا سلكته ـ تحت أى ضغط أو إغراء ـ فاجتهد ألا توغل فيه. وعد من حيث جئت فى أقرب فرصة، وفى أسرع وقت.. ص _083(1/78)
وقد تصاب بقارعة ـ كما تتخيل ـ أو فى نفس الأمر ـ فتهتز لوقعها.. ليكن... بيد أن من الرشد استعادة الثبات والهدوء، واختصار المتاعب التى تنشأ حتما من الإصرار على الضيق والسخط. إن بعض الناس قد يصاب بشلل فى مخه إثر خسارة تصيبه، أو غيظ يستفزه، فهل ذلك دلالة إيمان أو شارة إحسان؟. كلا، ولا هو آية رجولة كبيرة.. قال " ديل كارنيجى " (حدث فى أثناء الحرب الأهلية الأمريكية عندما كان أصدقاء "لنكولن " يحملون حملات شعواء على أعدائهم أن قال " لنكولن"- مهدئا - أتباعه: إن لديكم إحساسا بالغضب والثورة أكثر مما لدى، وقد أكون خلقت هكذا، ولكنى لا أرى الغضب يجدى . إن المرء لا ينبغى أن يضيع نصف حياته فى المشاحنات، ولو أن أحدا من أعدائى انقطع عن مهاجمتى ما فكرت لحظة واحدة فى عدائه القديم لى). والمجال يضيق هنا عن سرد النصوص الناهية عن الشحناء والغضب والآمرة بالسماحة والصفح، ابتغاء مثوبة الله، واحتفاظاً بصفاء الحياة. ماذا يجدى التمشى مع مشاعر الغيظ والتشفى؟ إن خسائرنا أضعاف أرباحنا من هذه الاحتياجات الطائشة. ولو استجبنا لهدى الإيمان لوفر علينا متاعب جمة نستريح من عبئها يقينا يوم نستهدف مرضاة الله وإنفاذ وصاياه. ولا بأس أن نذكر هنا قصة "تولستوى" الفيلسوف الروسى الكبير وخصامه مع زوجته. تقول دائرة المعارف البريطانية عن هذا الأديب الكبير: (إنه فى خلال العشرين سنة الأخيرة من حياته كان أخلق رجال العالم بالتقدير والاحترام، كان المعجبون به يحجون إلى بيته فى سيل لا ينتهى ليتملوا بطلعته، ويشنفوا آذانهم بصوته، بل ليمتعوا أصابعهم بملمس مسوحه. كانت كل كلمة تخرج من فمه تدون فى الصحائف، كما لو كانت نبوءة رسول. هكذا كانت حياته العامة. أما حياته الخاصة فإن تصرفاته وهو شيخ فى السبعين كانت أشد حمقا من تصرفات صبى فى السابعة!!. تزوج " تولستوى " من فتاة أحبها. وسعد الزوجان فى بداية أمرهما، إلا أن الزوجة كانت غيورا بطبعها، حتى(1/79)
إنها اعتادت التخفى فى زى الفلاحات والتجسس على زوجها. وتفاقمت على مر الأيام غيرتها، فإذا هى تغار على زوجها من بناتها!!، وأمسكت مرة بندقية وأحدثت بها ثقبا فى صورة ابنتها بدوافع الغيرة!!. ص _084
فما الذى فعله رجلها ردا على هذا؟ أنشأ يكتب مذكرات يلوم فيها زوجته ويحملها تبعة الشقاق الذى يغمر بيته. إنه أراد أن تنصفه الأجيال القادمة وتصب اللوم كله على زوجته، ولذلك عكف على الكتابة ضدها. فماذا ترى فعلت زوجته ردا على ذلك؟ مزقت جانبا كبيرا من هذه المذكرات وأحرقته، ثم أخذت تكتب مذكرات أخرى ترد على زوجها، وتكيل له الصاع صاعين، بل إنها كتبت فى ذلك قصة بعنوان: " غلطة من؟! "). قال " ديل كارنيجى ": (ما دوافع هذا كله؟ ولماذا أحال هذان الزوجان منزلهما إلى ما يشبه مستشفى المجانين؟ إن هناك سببا أصيلا لهذا البلاء؟ هو رغبة الزوجين كليهما فى التأثير علينا نحن الأجيال التالية. لقد أراد كل منهما أن ننصفه، وأن نسخط على صاحبه فهل تظن أحدا منا يهتم: أيهما كان المصيب، وأيهما كان المخطئ ؟ كلا، فأنا وأنت مشغولان بشئوننا الخاصة، ولسنا نملك أن نضيع دقيقة واحدة فى آل " تولستوى " الكرام . * * * فيا له من ثمن فادح دفعه هذان الزوجان. لقد قضيا خمسين عاما فى جحيم مقيم، دون أن يلهم أحدهما قولة "كفى"، ودون أن يفطن أحدهما إلى وجوب تقدير الأشياء بقيمتها الحقيقية فيقول لشريكه: دعنا نضع حداً لهذه الحال فى التو واللحظة، أننا نسمم حياتنا من أجل توافه لا قيمة لها). إن أولى هدايا الرياء إلى ذويه أنهم يُسلبون نعمة القرار، وراحة البال!! وأنهم يضحون مصالحهم الخاصة، وحاجاتهم الماسة فى سبيل استرضاء المتفرجين عليهم، والناظرين إليهم. وربما أخذ ممثلو المسارح أجورا كبيرة على الأدوار التى يقومون بها، والروايات الضاحكة أو الباكية التى يخرجونها!!. أما أولئك المراءون ـ وهم ممثلون فى غير مسرح ـ فإنهم يدفعون من أموالهم وسعادتهم ما(1/80)
يظنونه ثمنا لاسترضاء الناس ونيل إعجابهم. والناس قد يرمقون هذه الأعمال، وقد يعلقون عليها بكلمات من أطراف شفاههم، ولكنهم فى صميم أنفسهم مشغولون بمطالبهم ومآربهم . ص _085
وهى مطالب ومآرب تستغرق انتباههم، ولا تترك بقية يفرح بها أولئك المراءون المستغفلون . ولو أقبل المرء على ربه يستلهمه ويستعينه وحده لوفقه إلى ما يريح أعصابه ويزيح آلامه. ومما يضع حدا أقصى لكدر الإنسان أن يقارن بين ما لديه من خير، وما يحسه الألوف من حرمان، ولن تعدم ـ إذا فتحت عينيك بدقة ـ من تمتاز عليهم فى نفسك ومالك، ومن يرزحون تحت ضوائق هى أثقل مما ابتليت به. وفى هذا يقول رسول الله : " انظروا إلى من أسفل منكم، ولا تنظروا إلى من هو فوقكم، فهو أجدر ألا تزدروا نعمة الله عليكم ". * * * ولا بد من لفت الأنظار إلى شىء. هو أن الإنسان قلما يذكر نهاية لحياته، فهو إن سر أو حزن يبالغ فى استصحاب هذه المشاعر وتوسيع نطاقها، غير مفكر البتة فى أنه سيفارقها يوما إن لم تفارقه!!. وقد كنت أميل إلى اعتبار الموت باطلا لا يكترث به. وأميل إلى التعلق بحياة لا يخترمها فناء. ولكن ما الحيلة إذا كان الموت حقا، وإذا كان وقعه الصارخ يفض المجامع ويفرق الشمل وإن كرهنا.. ألا ينبغى ذكر هذه الحقيقة؟ إن ذكرها يضع حدودا حاسمة لشتى أحوال الحمق والغرور والاستطالة التى تطيش بالألباب. سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم : أى المؤمنين أكيس؟ قال: " أكثرهم للموت ذكرا، وأحسنهم لما بعده استعدادا " . وعن أنس رضى الله عنه أن رسول الله مر بمجلس وهم يضحكون فقال: " أكثروا من ذكر هاذم- قاطع- اللذات، أحسبه قال-: فإنه ما ذكره أحد فى ضيق من العيش إلا وسعة.. ولا فى سعة إلا ضيقها عليه". فليس ذكر الموت لإفساد الحياة إساءة العمل فيها، بل للتخفيف من غلوائها وكفكفة الاغترار بها. فإذا اعتدل التفكير فلن تتحول السعة إلى فوضى، ولن يتحول الضيق إلى سجن . * * * ص _086(1/81)
لا تبك على فائت يقولون: " لا جديد تحت الشمس "، وهذه كلمة تصدق على سير الحياة الإنسانية فى تاريخها الطويل، من ناحية الطباع والرغبات، والاختلاط والمنازعات، والجور والعدل، والسلم والحرب، وقيام الأمم وانهيارها، وازدهار الحضارات وانقراضها. ولهذا الشبه الدائم فى مواكب العمران المتواصل على ظهر الأرض، والخصائص المتوارثة بين الأخلاف والأسلاف أمر الله عباده أن يستعرضوا أحداث الماضى لينتفعوا بما فيها. فإن ما يعنى الأولين يعنى الآخرين، وما نواجهه- دهشين لجدته- قد سبق به عهد، وصدرت فيه أحكام. وخير لنا أن نستصحب ما كان، ونحن نعالج ما يكون. والله عز وجل يقول: (فاعتبروا يا أولي الأبصار ) . والبصر الذى ينفذ فى أعماق الماضى يستقرئ أنباءه، ويتعرف مواعظه، ويتزود من تجارب السابقين بذخر يجنبه الزلل، هو البصر المؤمن الحصيف. وفى هذا يقول الحق جل اسمه : (أفلم يسيروا في الأرض فتكون لهم قلوب يعقلون بها أو آذان يسمعون بها فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور) . وفى القرآن الكريم قصص كثيرة خلد الله فيه أحوال القرون الغابرة، ومصاير الأتقياء والفجار، وصراع الخير والشر، ووضع ذلك كله بين أيدينا لنتوسم ونتدبر: (لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب ما كان حديثا يفترى ولكن تصديق الذي بين يديه وتفصيل كل شيء وهدى ورحمة لقوم يؤمنون) . ص _087(1/82)
فى هذه الحدود المبينة يجب أن ندرس الماضى . وابتغاء العظة المجردة وحدها يصح أن نلتفت إلى الوراء . أما العودة إلى الأمس القريب أو البعيد لنجدد حزنا، أو ننكأ جرحا، أو ندور حول مأساة حزَّت فى نفوسنا لنقول: " ليت، ولو " فإن هذا ما يكرهه الإسلام وينفر من التردى فيه، بل إن هذا كان ديدن الحيارى والمترددين من المنافقين ومرضى القلوب: (يخفون في أنفسهم ما لا يبدون لك يقولون لو كان لنا من الأمر شيء ما قتلنا ها هنا قل لو كنتم في بيوتكم لبرز الذين كتب عليهم القتل إلى مضاجعهم) . (الذين قالوا لإخوانهم وقعدوا لو أطاعونا ما قتلوا قل فادرءوا عن أنفسكم الموت إن كنتم صادقين ) . وهذه التأوهات المنكسرة، والتحسرات المفجوعة سيطرت على ضعفاء الإيمان بعد غزوة (أحد)، فإن الخسائر التى أصابت أهل المدينة بعد هجوم المشركين عليها خلفت آثارا غائرة، وفتحت أمام الحاقدين على الإسلام ثغرات للتشفى واللمز. لكن الله عز وجل أنزل آيات مفصلة فى مداواة هذه الجراح ولم شمل المسلمين عقب النكبة التى أصابتهم، فكان من تأديبه لهم أن علق عيونهم بالمستقبل، وصرف أذهانهم عن الماضى، وزجرهم عن الوقوف بأطلال الأمس يبكون ويولولون. لا، ليست هذه شيمة الرجولة، ولا منطق الإيمان، يجب أن نتعرف سر الخطأ لنتقيه فى المستقبل، ولن ننظر فيما وقع إلا بمقدار ما نستخلص العبرة منه، وذاك ما تكفل به القرآن الكريم، فقد أشار إلى علة الهزيمة فى إيجاز : (حتى إذا فشلتم وتنازعتم في الأمر وعصيتم من بعد ما أراكم ما تحبون ) . (إن الذين تولوا منكم يوم التقى الجمعان إنما استزلهم الشيطان ببعض ما كسبوا ولقد عفا الله عنهم ) . ص _088(1/83)
ثم واساهم بما يهون وقع الألم عليهم، فإن الألم إذا قيد النفوس بسلاسله الغلاظ ربطها فى زمن يتحرك، فلم تحسن شيئا، ولم تكسب خيرا. ما قيمة لطم الخدود، وشق الجيوب على حظ فات أو غرم ناب؟. ما قيمة أن ينجذب المرء بأفكاره ومشاعره إلى حدث طواه الزمن ليزيد ألمه حرقة وقلبه لذعا؟! لو أن أيدينا يمكنها أن تمتد إلى الماضى لتمسك حوادثه المدبرة، فتغير منها ما تكره، وتحورها على ما تحب؟ لكانت العودة إلى الماضى واجبة، ولهرعنا جميعا إليه، نمحو ما ندمنا على فعله، ونضاعف ما قلت أنصبتنا منه . أما وذلك مستحيل فخير لنا أن نكرس الجهود لما نستأنف من أيام وليال، ففيها وحدها العوض . إن المرء ليس متهما فى حرصه على مصلحته، فإذا ضاعت هذه المصلحة لسبب ما، خصوصا تلك التى تتصل بالآجال والأرزاق، فلنجعل من إيماننا بالله وقدره ما يحجزنا عن التعلق بالأوهام والحماقات . وهذا ما نبه إليه القرآن الكريم بعد (أحد)؟ قال للباكين على القتلى، النادمين على الخروج للميدان: لو بقيتم فى بيوتكم ما طالت لكم حياة ولا امتد أجل: (لو كان لنا من الأمر شيء ما قتلنا ها هنا قل لو كنتم في بيوتكم لبرز الذين كتب عليهم القتل إلى مضاجعهم ) . فعلام هذا النعيب المسحوق؟! إن الطائرة تسقط من الجو بما فيها ومن فيها، فإذا القدر الرائع يتكشف عن جثث محترقة، وعن أطفال ورجال لم يمسسهم سوء!! فلماذا لا نعترف بالقدر الأعلى فيما يقع؟. ونرد عليه ما يغلبنا على أمورنا ليكون من ذلك سلوى ورضا!. إن " ديل كارنيجى " يلجأ إلى العقل ليصل بنا إلى هذه الغاية فيقول: (من الممكن أن تحاول تعديل النتائج التى ترتبت على أمر حدث منذ 180 ثانية، أما أن تحاول تغيير الزمن فهذا هو الذى لا يعقل. وليس ثمة إلا طريقة واحدة يمكن ص _089(1/84)
بوساطتها أن تصبح الأحداث الماضية إنشائية مجدية. تلك هى تحليل الأخطاء التى وقعت فى الماضى والاستفادة منها ثم نسيانها نسيانا تاما. أنا أؤمن بهذا، ولكن هل ترانى أملك الشجاعة دائما لأفعل ما أؤمن به؟! ثم قال: حدثنى " سوندرز " أن مستر " براندوين " مدرس الصحة بكلية " جورج واشنجتون " علمه درسا لن ينساه أبداً، ثم قص على قصة هذا الدرس فقال: لم أكن بعد قد بلغت العشرين من عمرى، ولكنى كنت شديد القلق حتى فى تلك الفترة المبكرة من حياتى، فقد اعتدت أن أجتر أخطائى، وأهتم لها هما بالغا. وكنت إذا فرغت من أداء امتحان وقدمت أوراق الإجابة، أعود إلى فراشى فأستلقى عليه، وأذهب أقرض أظافرى وأنا فى أشد حالات القلق خشية الرسوب، لقد كنت أعيش فى الماضى وفيما صنعته فيه، وأود لو أننى صنعت غير ما صنعت، وأفكر فيما قلته من زمن مضى، وأود لو أننى قلت غير ما قلت. ثم إنى فى ذات صباح ضمنى الفصل وزملائى الطلبة، وبعد قليل دلف المدرس (مستر براندوين) ومعه زجاجة مملوءة باللبن وضعها أمامه على المكتب. وتعلقت أبصارنا بهذه الزجاجة، وانطلقت خواطرنا تتساءل: ما صلة اللبن بدروس الصحة؟ وفجأة نهض المدرس ضاربا زجاجة اللبن بظهر يده فإذا هى تقع على الأرض ويراق ما فيها، وهنا صاح مستر (براندوين): لا يبكى أحدكم على اللبن المراق. ثم نادانا الأستاذ واحدا واحدا لنتأمل الحطام المتناثر والسائل المسكوب على الأرض، ثم جعل يقول لكل منا: انظر جيدا إننى أريد أن تذكر هذا الدرس مدى حياتك، لقد ذهب اللبن واستوعبته البالوعة، فمهما تشد شعرك، وتسمح للهم والنكد أن يمسكا بخناقك فلن تستعيد منه قطرة واحدة. لقد كان يمكن بشىء من الحيطة والحذر أن نتلافى هذه الخسارة.ولكن فات الوقت، وكل ما نستطيعه أن نمحو أثرها وننساها ثم نعود إلى العمل بهمة ونشاط). * * * ذلك حق، وإليه يشير الحديث الشريف: " استعن بالله. ولا تعجز، وان أصابك شىء فلا تقل: لو أنى فعلت كذا كان كذا(1/85)
وكذا. ولكن قل: قدر الله وما شاء فعل، فإن لو تفتح عمل الشيطان ". وبهذا نعفى على الماضى، ونستأنف المسير فى نشاط ورجاء. ص _090
حياتك من صنع أفكارك سعادة الإنسان أو شقاوته أو قلقه أو سكينته تنبع من نفسه وحدها. إنه هو الذى يعطى الحياة لونها البهيج، أو المقبض، كما يتلون السائل بلون الإناء الذى يحتويه: " فمن رضى فله الرضا، ومن سخط فله السخط " . عاد النبى صلى الله عليه وسلم أعرابيا مريضا يتلوى من شدة الحمى، فقال له مواسيا ومشجعا: "طهور"، فقال الأعرابى: بل هى حمى تفور، على شيخ كبير، لتورده القبور. قال: " فهى إذن " . يعنى أن الأمر يخضع للاعتبار الشخصى، فإن شئت جعلتها تطهيرا ورضيت، وإن شئت جعلتها هلاكا وسخطت. إن العمل الواحد بما يصاحبه من حال نفسى يتغير تقديره تغيرا كبيرا. وانظر إلى هاتين الآيتين وما تبرزانه من صفات الناس: (ومن الأعراب من يتخذ ما ينفق مغرما ويتربص بكم الدوائر عليهم دائرة السوء والله سميع عليم * ومن الأعراب من يؤمن بالله واليوم الآخر ويتخذ ما ينفق قربات عند الله وصلوات الرسول ألا إنها قربة لهم ) . هؤلاء وأولئك يدفعون المال المطلوب. هؤلاء يتخذونه غرامة مؤذية مكروهة، ويتمنون العنت لقابضيه. وأولئك يتخذونه زكاة محبوبة تطيب النفس بأدائها، وتطلب الدعاء الصالح بعد إيتائها. وشئون الحياة كلها لا تعدو هذا النطاق . ص _091(1/86)
قيمة العمل ، بل قيمة صاحب العمل ترتبط ارتباطا وثيقا بحقيقة الأفكار التى تدور فى الذهن، والمشاعر التى تعتمل فى النفس، قال " ديل كارنيجى " : (إن أفكارنا هى التى تصنعنا، واتجاهنا الذهنى هو العامل الأول في تقرير مصايرنا، ولذلك يتساءل "إيمسون ": نبئنى ما يدور فى ذهن الرجل أنبئك أى رجل هو. نعم، فكيف يكون الرجل شيئا آخر غير ما يدل عليه تفكيره؟ واعتقادى الجازم أن المشكلة التى تواجهنا هى: كيف نختار الأفكار الصائبة السديدة؟ فإذا انحلت هذه المشكلة انحلت بعدها سائر مشكلاتنا واحدة إثر أخرى. قال الإمبراطور الرومانى " ماركوس أورليوس " : إن حياتنا من صنع أفكارنا. فإذا نحن ساورتنا أفكار سعيدة كنا سعداء، وإذا تملكتنا أفكار شقية غدونا أشقياء، وإذا خامرتنا أفكار مزعجة تحولنا خائفين جبناء، وإذا تغلبت علينا هواجس السقم والمرض فالأغلب أن نبيت مرضى سقماء، وهكذا). * * * إن أحدا لا يستطيع إنكار ما للروح المعنوى من أثر باهر لدى الأفراد والجماعات. فالجيوش التى يحسن بلاؤها وتعظم بسالتها إنما تستمد طول مقاومتها من رسوخ العقيدة وقوة الصبر، أكثر مما تستمده من وفرة السلاح والعتاد. فذخيرة الخلق المتين والمسلك العالى أجدى على أصحابها وأكسب للنصر من أى شىء آخر. والرجل الذى تربو ثقته بنفسه لا يشل إقدامه على الحياة نقص فى بدنه، أو عنت فى ظروفه، بل قد يكون ذلك مثار نشاطه، وشدة شكيمته، كما قال الشاعر: إن لا يكن عظمى طويلا فإننى له بالخصال الصالحات وصول إذا كنت فى القوم الطوال علوتهم بعارفة حتى يقال: طويل والحق أن مركب النقص قد يكون خيرا وبركة إذا حفز إلى التكمُّل وحدا إلى المجد. وهو إنما يذم ويستكره إذا التوى بالإنسان وجعله يجنح إلى الرياء والتظاهر الكاذب، ومواراة عيوبه بالادعاء والخديعة. ص _092(1/87)
إن الأحوال النفسية الحية تجعل القليل كثيرا، والواحد أمة. وإلى هذه الأحوال ـ كما وكيفا ـ يرتد مستقبل الإنسان، وتأخذ حياته مجراها. والنفس وحدها هى مصدر السلوك والتوجيه حسب ما يغمرها من أفكار، ويصبغها من عواطف. إن الإنسان عندما يرتفع عن سطح الأرض تتغير الأشكال والأحجام فى عينه، وتكون نظرته إلى ما دونه أوسع مدى وأرحب أفقا. وهو هو لم يتغير. كذلك ارتفاع الإنسان فى مدارج الارتقاء الثقافى والكمال الخلقى. إنه يغير كثيرا من أفكاره وأحاسيسه. ويبدل أحكامه على كثير من الأشخاص والأشياء. والمرء فى طور الصبا غيره فى طور الرجولة، وهو فى طور الشباب غيره فى طور الكهولة. ونحن نستطيع أن نصنع من أنفسنا مثلاً رائعة إذا أردنا. وسبيلنا إلى ذلك تجديد أفكارنا ومشاعرنا، كما تتجدد الرقعة من الصحراء إذا انضاف إليها مقدار ضخم من المخصبات والمياه. إننا نتحول أشخاصا آخرين كما تتحول هذه الصحراء القاحلة روضة غناء. * * * وقد حكى لنا " ديل كارنيجى " قصة شاب نهكته العلة، فرحل عن وطنه يطلب الصحة فى السياحة وارتياد الأقطار البعيدة، وكان أبوه يعلم طبيعة مرضه، وأن سقامه جاء من توعك مزاجه وغلبة أوهامه، فكتب إليه فى غربته هذه الرسالة: (ولدى، إنك الآن على بعد ألف وخمسمائة ميل من بيتك، ومع ذلك لست تحس فارقا بين الحالين هنا وهناك، أليس كذلك؟ بلى، لأنك أخذت عبر هذه المسافة الشاسعة الشىء الوحيد الذى هو مصدر كل ما تعانيه، ذلك هو نفسك. لا آفة البتة بجسمك أو عقلك، ولا شىء من التجارب التى واجهتها قد تردى بك إلى هذه الهاوية السحيقة من الشقاء، وإنما الذى تردى بك هو العوج الذهنى الذى واجهت به ص _093(1/88)
تجاربك، وكما يفكر المرء يكون، فمتى أدركت ذلك يا بنى، فعد إلى بيتك وأهلك، لأنك يومئذ تكون قد شفيت !!). قال الشاب: (هاجنى هذا الخطاب، وبلغ بى الغضب حداً قررت معه ألا أعود إلى بيتى وأهلى، قال: وفى تلك الليلة وبينما كنت أذرع إحدى الشوارع، وجدت كنيسة فى طريقى تقام فيها الصلاة، ولما لم تكن لى وجهة معينة، فقد دلفت إليها لأستمع إلى الموعظة الدينية التى تلقى، كان عنوان العظة: " هذا الذى يقهر نفسه، أعظم من ذاك الذى يفتح مدينة ". وكأنما كان جلوسى فى معبد من معابد الله، وإنصاتى إلى الأفكار التى تضمنها خطاب أبى تقال بصيغة أخرى ممحاة مسحت الاضطراب الذى يطغى على عقلى، ووسعنى فى تلك اللحظة أن أفكر تفكيرا متزنا فى حياتى، وهالنى إذ ذاك أن أرى نفسى على حقيقتها، نعم؟ لقد رأيتنى أريد أن أغير الدنيا وما عليه، فى حين أن الشىء الوحيد الذى كان فى أشد الحاجة إلى التغيير هو تفكيرى واتجاه ذهنى. هو نفسى). * * * وما كتبه " كارنيجى " كتبنا مثله فى مؤلفنا " خلق المسلم " ونوهنا فيه بهذه الحقيقة، قلنا: (الإسلام ـ كسائر رسالات السماء ـ يعتمد فى إصلاحه العام على تهذيب النفس الإنسانية قبل كل شىء، فهو يصرف جهودا ضخمة للتغلغل فى أعماقها، وغرس تعاليمه فى جوهرها حتى يستحيل جزءا منها. وما خلدت رسالات النبيين وكونت حولها جماهير المؤمنين إلا لأن " النفس الإنسانية " كانت موضوع عملها، ومحور نشاطها، فلم تكن تعاليمهم قشورا ملصقة فتسقط فى مضطرب الحياة المتحركة، ولا ألوانا مفتعلة تبهت على مر الأيام. لا.. لقد خلطوا مبادئهم بطوايا النفس، فأصبحت هذه المبادئ قوة تهيمن على وساوس الطبيعة البشرية، وتتحكم فى اتجاهاتها. وربما تحدثت رسالات السماء عن المجتمع وأوضاعه، والحكم وأنواعه، وقدمت أدوية لما يعرو هذه النواحى من علل. ص _094(1/89)
ومع ذلك فالأديان لن تخرج عن طبيعتها فى اعتبار النفس الصالحة هى البرنامج المفصل لكل إصلاح، والخلق القوى هو الضمان الخالد لكل حضارة. وليس فى هذا تهوين ولا غض من عمل الساعين لبناء المجتمع والدولة. بل هو تنويه بقيمة الإصلاح النفسى فى صيانة الحياة وإسعاد الأحياء. فالنفس المختلة تثير الفوضى فى أحكم النظم، وتستطيع النفاذ منه إلى أغراضها الدنيئة. والنفس الكريمة ترقع الفتوق فى الأحوال المختلة، ويشرق نبلها من داخلها، فتحسن التصرف والمسير وسط الأنواء والأعاصير. إن القاضى النزيه يكمل بعدله نقص القانون الذى يحكم به، أما القاضى الجائر فهو يستطيع الميل بالنصوص المستقيمة. وكذلك نفس الإنسان حين تواجه ما فى الدنيا من تيارات وأفكار، ورغبات ومصالح. ومن هنا كان الإصلاح النفسى الدعامة الأولى لتغلب الخير فى هذه الحياة. فإذا لم تصلح النفس أظلمت الأفاق، وسادت الفتن حاضر الناس ومستقبلهم، ولذلك يقول الله تعالى: (إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم وإذا أراد الله بقوم سوءا فلا مرد له وما لهم من دونه من وال ) . ويقول معللا هلاك الأمم الفاسدة . (كدأب آل فرعون و الذين من قبلهم كفروا بآيات الله فأخذهم الله بذنوبهم إن الله قوي شديد العقاب * ذلك بأن الله لم يك مغيرا نعمة أنعمها على قوم حتى يغيروا ما بأنفسهم) . * * * ويريد الله عز وجل أن يبين لنا الصلة الوثيقة بين صفاء النفس وصفاء العيش وبين جمال الخلق وجمال الحياة، فأكد لنا أن بركته الشاملة تتنزل أمانا على المؤمنين، وبرا وفضلا على الأتقياء والمحسنين، فقال : ص _095(1/90)
(ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض ) . وذكر أنه أنزل الهزيمة والخزى بقوم من الغزاة : (خرجوا من ديارهم بطرا و رئاء الناس و يصدون عن سبيل الله ) . ثم بعد أن وقع عليهم العقاب فتح لهم منافذ الرجاء إلى مستقبل أكرم، ولكن كرامته رهن بتغير قلوبهم، وانتقالها عن خلال البطر والاستعلاء إلى خلال التواضع والمراحمة والعدالة، فقال : (يا أيها النبي قل لمن في أيديكم من الأسرى إن يعلم الله في قلوبكم خيرا يؤتكم خيرا مما أخذ منكم ويغفر لكم والله غفور رحيم ) . والتربية الإسلامية الأولى أوغلت إلى حد هائل فى دراسة النفوس وأحوالها، والقلوب وأطوارها، مستهدفة فى هذه الدراسة جعل السعادة العظمى تنبع من داخل الإنسان لا من خارجه، ومغرية المرء أن يرتقب فى آفاق نفسه وحدها كواكب اليمن والإقبال والرضوان. فإذا طلعت ـ بعد طول الرياضة والتجرد وصدق اليمن والإخلاص ـ فهيهات أن يدرك شعاعها أفول. وعندما يصل السالكون إلى هذا الشأو، يقولون: نحن فى لذة لو عرفها الملوك لقاتلونا عليها بالسيوف!!. بيد أن هذه الرياضات النفسية، وما يُنشَدُ منها، أصابها من التطرف والفوضى ما أزرى بنتائجها. إذ أن متصوفة المسلمين الأول انحصروا فى نطاق تصوراتهم، وغالوا بالنتائج الشخصية التى أحرزوها، وحاولوا أن ينظروا من خلالها إلى حقائق الكون والحياة الطبيعية فضلوا وأضلوا.. والفرق بين التصوف الإسلامى والتصوف الأمريكى يظهر من ذكر هذه الحكاية التى أثبتها " ديل كارنيجى " للسيدة "مارى بيكر إيدى " مؤسسة ما سماه "العلم المسيحى" . ص _096(1/91)
هذه السيدة لم تكن تعلم من شئون الحياة إلا الفقر والجوع والمرض، فقد مات زوجها بعد وقت قصير من قرانهما، وهجرها زوجها الثانى هاربا مع امرأة أخرى، ثم وجد بعد ميتا فى منزل حقير. وكان لها ولد واحد.. لكنها ألفت نفسها مدفوعة بالفاقة والمرض إلى التخلى عنه حين بلغ الرابعة من عمره. ثم فقدت كل أثر له بعد ذلك، فلم تره مدة واحد وثلاثين عاما. ولما كانت السيدة " إيدى " عليلة على الدوام فقد انساقت إلى الاهتمام بفكرة "العلاج بقوة العقل ". وقد وقعت نقطة التحول فى حياتها وهى ببلدة " لين "، فبينما كانت تجوب طرقات البلدة ذات يوم إذ زلت قدمها فسقطت على الإفريز المكسو بالجليد، ثم ذهبت فى إغماء طويل، وأصيبت من جراء سقطتها هذه إصابة بالغة فى عمودها الفقرى، وتوقع لها الأطباء إما الموت العاجل، وإما الشلل التام طول حياتها.. وبينما المرأة راقدة فى فراش المرض فتحت الكتاب المقدس، وألهمتها العناية الإلهية ـ كما عبرت هى ـ أن تقرأ هذه الكلمات من إنجيل متى: (وإذا مفلوج يقدمونه إليه ـ تعنى عيسى عليه السلام ـ مطروحا على فراش، حينئذ قال للمفلوج: قم احمل فراشك واذهب إلى بيتك، فنهض وغادر المكان). قالت " مارى بيكر ": إن هذه الكلمات أمدتها بقوة وإيمان وفورة داخلية، حتى أنها نهضت من الفراش وتمشت فى الغرفة!! ومهدت هذه التجربة الطريق للسيدة المشلولة كى تشفى نفسها وتسوق العافية للآخرين. قال " ديل كارنيجى " (تلك هى التجربة التى مكنت " مارى بيكر إيدى " من أن تصبح مبشرة بدين جديد، لعله الدين الوحيد الذى بشرت به امرأة!!). ونحن نميل إلى تصديق هذه الأقصوصة الطريفة، بل نميل إلى تصديق الخوارق التى تحكيها الصحف عن فقراء الهنود، فإن القوى النفسية الطامحة تصنع العجائب. ولمن شاء أن يهز كتفيه استخفافا، فليس يتعلق بتصديق هذه الروايات إيمان ولا كفران. غاية ما نلفت النظر إليه أن هذه الحوادث يجب أن تحصر فى النطاق الفردى المحض، فلا(1/92)
يحاول أحد أن يجعل منها قانونا ماديا عاما. ص _097
والأمريكان الذين وقعت بينهم تلك القصة لم يتجاوزوا تلك الحدود، ولم يحاولوا نقلها إلى معامل الذرة أو ساحات المصانع وميادين الإنتاج. أما الذى حدث فى بلادنا منذ قرون فعلى العكس من ذلك تماما. إذ تحولت هذه الخوارق النفسية إلى وباء اجتاح القرى والمدن. فما يكاد يمر يوم حتى تضيف " الروايات " خارقا لرجل ماجن أو ماجد، وكرامة لولى صالح أو داهية خبيث. واتسعت دائرة الأساطير، فإذا هى تنتقل إلى ميادين التجارة والصناعة والعلم والبحث. بل لقد انتقلت إلى ميادين الحرب والسياسة، فعندما حارب الخديوى إسماعيل الحبشة وأحس ما لاقته حملاته هناك من خيبة، أمر علماء الأزهر أن يجتمعوا فى صحنه ليقرأوا: " صحيح البخارى "!!. كأن تلاوة السنة كلها أو القرآن كله ترد الهزائم عن الفرق المدبرة لسوء خطتها أو ضعف عدتها!!. إن امرأة تتلو سطورا من إنجيل " متى " فتشفَى ـ كما يحكى الأمريكان ـ لا يجوز أن يتحول أمرها إلى لغط حول سنن الله فى كونه، كما حدث لأمثالها فى بلادنا، إذ تحولت هذه الخوارق النفسية الخاصة إلى هجوم شامل على حقائق الكون والحياة!!. ذلك أن الأنظار والأحكام يمكن أن تتفاوت تفاوتا واسعا فى المجالات الاعتبارية البحتة، ويمكن أن تزيد قواك أو تنقص تبعا لما فى نفسك من همة ونشاط وإقبال. أما قوانين المادة العتيدة فهى لا تماع وفق الأهواء والميول. وفى هذه الحدود نفهم قول " جمس آلن ". (دع إنسانا يغير اتجاه أفكاره، وسوف تتملكه الدهشة لسرعة التحول الذى يحدثه هذا التغير فى جوانب حياته المتعددة. إن القدرة الإلهية التى تكيف مصايرنا، مودعة فى أنفسنا، بل هى أنفسنا ذاتها!!. وكل ما يصنعه المرء هو نتيجة مباشرة لما يدور فى فكره، فكما أن المرء ينهض على قدميه وينشط وينتج بدافع من أفكاره، كذلك يمرض ويشقى بدافع من أفكاره أيضاً). ص _098(1/93)
من أمد بعيد وأنا اكتب للإسلام وأخطب وأجوب أرجاء الدنيا، والجماعة التى عشت فيها حقبة من الدهر تعلم ذلك عنى. ولم تكن خطابتى بسطة لسان يهدر بالقول، ولم تكن كتابتى سطوة قلم يصول ويجول، بل كان ذلك كله ذوب عاطفة تضطرم بالإخلاص وفكر يستكشف صميم الحق ويبادر إلى إعلانه . محمد الغزالى ص _099
الثمن الباهظ للقصاص إحساس المرء بعظمة نفسه، ورسوخ قدمه، وحصانة عرضه ضد المفتريات وإحساسه بتفاهة خصومه أو عجزهم عن النيل منه، أو قدرته على البطش بهم، كل ذلك يجعله بارد الأعصاب إذا أهين، بطىء الغضب إذا أسىء إليه. والغالب أن الإنسان يتغير، ثم يغتاظ، ثم تنفجر ثورته إذا اقتحمت نفسه، كما يقتحم العدو بلدا سقط فى قبضته وأعلن الاستسلام. أما إذا أيقن أن عدوه يحاول المستحيل باستفزازه، وأنه مهما بذل فلن يجرحه، فإن هذه الطمأنينة تجعله يتلقى الضربات بهدوء، أو بابتسام، أو بسخرية. ودعما لهذه الحقيقة نسوق شاهدين: أحدهما ذكره " ديل كارنيجى "، والآخر ذكرته فى كتابى " خلق المسلم " وكلا الشاهدين يصدق الآخر ويزكيه. قال " ديل كارنيجى" : (نصبنا مُخيَّما ذات ليلة تجاه حرش متكاثف الأشجار، وفجأة برز لنا وحش الغاب المخيف: الدب الأسود. وتسلل الدب إلى ظلال الضوء المنبعث من معسكرنا، وراح يلتهم بقايا طعام يبدو أن خدم أحد الفنادق المقامة فى أطراف الغابة ألقاها هناك... وفى ذلك الوقت كان " الماجور ما نتريل " ـ أحد رواد الغابات المغامرين ـ يمتطى صهوة جواده، ويقص علينا أعجب القصص عن الدببة، فكان مما قاله: إن الدب الأسود يسعه أن يقهر أى حيوان آخر يعيش فى العالم الغربى باستثناء الثور على وجه الاحتمال. غير أنى لاحظت فى تلك الليلة أن حيوانا ضئيلا ضعيفا استطاع أن يخرج من مكمنه فى الغابة وأن يواجه الدب غير هياب. ولا وجل. بل أن يشاركه الطعام أيضا، ذلك هو " النمس ". ولا ريب أن الدب يعلم أن ضربة واحدة من مخلبه القوى تمحو " النمس " من(1/94)
الوجود، فلماذا لم يفعل هذا. لأنه تعلَّم بالتجربة أن مغاضبة مثل هذا ص _100
الحيوان الضئيل عداوة لن تعود بالضرر إلا عليه هو، فأكرم له وأليق بكبريائه أن يغض الطرف عنه. ولقد تعلمت هذا أنا أيضا، فطالما ضيقت الخناق على آدميين من طراز هذا "النمس"، فعلمتنى التجربة المرة أن اجتلاب عداوة هؤلاء لا تجدى فتيلا). ذاك ما كتبه " ديل كارنيجى " فى كتابه: " دع القلق ". وقد وافقته فى هذا التفكير فيما كتبته- قبلا- بخلق المسلم قلت: (ومع أن للطباع الأصيلة فى النفس دخلا كبيرا فى أنصبة الناس من الحدة والهدوء، والعجلة والأناة، والكدر والنقاء؟ إلا أن هناك ارتباطا مؤكدا بين ثقة المرء بنفسه وبين أناته مع الآخرين وتجاوزه عن خطئهم. فالرجل العظيم حقا كلما حلق فى آفاق الكمال اتسع صدره، أو امتد حلمه، وعذر الناس من أنفسهم، والتمس المبررات لأغلاطهم. فإذا عدا عليه غر يريد تجريحه، نظر إليه من قمته كما ينظر الفيلسوف إلى صبيان يعبثون فى الطريق وقد يرمونه بالأحجار. وقد رأينا الغضب يشتط بأصحابه إلى حد الجنون عندما تقتحم عليهم نفوسهم. ويرون أنهم حقروا تحقيرا لا يعالجه إلا سفك الدم. أفلو كان الشخص يعيش وراء أسوار عالية من فضائله يحس بوخز الألم على هذا النحو الشديد؟ كلا. إن الإهانات تسقط على قاذفها قبل أن تصل إلى مرماها البعيد. وهذا المعنى يفسر لنا حلم " هود " وهو يستمع إلى إجابة قومه بعد ما دعاهم إلى توحيد ا لله قالوا: (إنا لنراك في سفاهة وإنا لنظنك من الكاذبين *قال يا قوم ليس بي سفاهة ولكني رسول من رب العالمين * أبلغكم رسالات ربي وأنا لكم ناصح أمين). إن شتائم هؤلاء الجهال لم يطش لها حلم " هود " لأن الشقة بعيدة بين رجل اصطفاه الله رسولا، فهو فى الذؤابة من الخير والبر، وبين قوم سفهوا أنفسهم ص _101(1/95)
وتهاووا على عبادة الأحجار يحسبونها ـ لغبائهم ـ تضر وتنفع!! كيف يضيق المعلم الكبير بهرف هذه القطعان؟!). * * * وإليك نماذج من الرجولات التى لا تهزها إساءة، ولا تستفزها جهالة، لأن لغو السفهاء يتلاشى فى رحابتها كما تتلاشى الأحجار فى أغوار البحر المحيط . ما يضير البحر أمسى زاخرا إن رمى فيه غلام بحجر؟! يروى أن رجلا سب الأحنف بن قيس ـ وهو يماشيه فى الطريق ـ فلما قرب من المنزل وقف الأحنف وقال: يا هذا، إن كان بقى معك شىء فقله ههنا، فإنى أخاف إن سمعك فتيان الحى أن يؤذوك. وقال رجل لأبى ذر: أنت الذى نفاك معاوية من الشام؟. لو كان فيك خير ما نفاك!! فقال: يا ابن أخى، إن ورائى عقبة كؤودا، إن نجوت منها لم يضرنى ما قلت، وإن لم أنج منها فأنا شر مما قلت!!. وقال رجل لأبى بكر: والله لأسبنك سبا يدخل القبر معك!! قال: معك يدخل لا معى!! وقال رجل لعمرو بن العاص: والله لأتفرغن لك. قال: هناك وقعت فى الشغل!! قال: كأنك تهددنى؟ والله لئن قلت لى كلمة لأقولن لك عشرا!! قال عمرو: وأنت والله لئن قلت لى عشرا لم أقل لك واحدة. وشتم رجل الشعبى فقال له: إن كنت صادقا فغفر الله لى، وان كنت كاذبا فغفر الله لك. وشتم رجل أبا ذر الغفارى فقال له أبو ذر: يا هذا لا تغرق فى شتمنا، ودع للصلح موضعا، فإنا لا نكافئ من عصى الله فينا بأكثر من أن نطيع الله فيه. ومر المسيح بقوم من اليهود فقالوا له شرا. فقال لهم خيرا، فقيل له: إنهم يقولون شرا وتقول لهم خيرا؟! فقال: كل واحد ينفق مما عنده. وقيل لقيس بن عاصم: ما الحلم؟ قال: أن تصل من قطعك، وتعطى من حرقك، وتعفو عمن ظلمك.. ص _102(1/96)
وقالوا: ما قرن شىء أزين من حلم إلى علم، ومن عفو إلى قدرة!!. وقال الحسن: المؤمن حليم لا يجهل وان جهل عليه. وتلا قوله تعالى : (وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما) . وقال يزيد بن حبيب: إنما كان غضبى فى نعلى... فإذا سمعت ما أكره أخذتها ومضيت. وقال على: من لانت كلمته وجبت محبته، وحلمك على السفيه يكثر أنصارك عليه. وأسمع رجل عمر بن عبد العزيز بعض ما يكره، فقال: لا عليك، إنما أردت أن يستفزنى الشيطان بعزة السلطان، فأنال منك اليوم ما تناله منى غدا، انصرف إذا شئت!!. * * * إن الغضب مس، يسرى فى النفس كما تسرى الكهرباء فى البدن. قد ينشىء رعدة شاملة واضطرابا مذهلا، وقد يشتد التيار فيصعق صاحبه ويقضى عليه. ولذلك يرى " ديل كارنيجى " أن التحلم مع الأعداء رحمة تلحق بالنفس قبل أن ينال الغير خيرها ويدركه بردها وبرها.. وهو ينقل لنا فقرة من منشور وزعته إدارة الشرطة بإحدى مدن أمريكا، وهى فقرة تستحق التنويه: (إذا سولت لقوم أنفسهم أن يسيئوا إليك، فامح من نفسك ذكراهم، ولا تحاول الاقتصاص منهم، إنك إذ تبيت نية الانتقام تؤذى نفسك أكثر مما تؤذيهم!!). ثم يتساءل: (كيف تؤذيك محاولة القصاص؟. إنها قد تُودى بصحتك، كما ذكرت مجلة " لايف ": أن أبرز ما يميز الذين يعانون ضغط الدم هو سرعة انفعالهم، واستجابتهم لدواعى الغيظ والحقد). قال: (وأصيبت إحدى معارفى بداء القلب، فكان كل ما نصحه بها الأطباء ألا تدع للغضب سبيلا إليها مهما بلغ الخطب، فإن المريض بقلبه قد تكفى لحفر قبره غضبة واحدة !!). ص _103(1/97)
ومحافظة على الإنسان من ثورات الغضب، ومن آثاره البدنية والنفسية، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " ثلاث من كن فيه آواه الله فى كنفه، وستر عليه برحمته، وأدخله فى محبته: من إذا أعطى شكر، وإذا قدر غفر، وإذا غضب فتر" . وروى أنه قال: " من دفع غضبه دفع الله عنه عذابه، ومن حفظ لسانه ستر الله عليه عورته " . وعن ابن عمر رضى الله عنه قال: قال رسول الله: " ما من جرعة أعظم أجرا عند الله من جرعة غيظ كظمها عبد ابتغاء وجه الله " . وظاهر أن المرء مع تفاقم الغضب يغيب عنه وعيه ويتسلم الشيطان زمامه، وكما تعصف الاضطرابات بمشاعره تطيش لبه، فلا يعى ما يوجه إليه من نصح ولو كان من كلام الله وحكمة الرسول . فقد جاء فى الصحيح: استب رجلان عند النبى صلى الله عليه وسلم ، فجعل أحدهما يغضب ويحمر وجهه وتنتفخ أوداجه، فنظر إليه النبى صلى الله عليه وسلم فقال: "إنى لأعلم كلمة لو قالها لذهب عنه هذا... أعوذ بالله من الشيطان الرجيم "، فقام إلى الرجل أحد ممن سمع النبى صلى الله عليه وسلم وقال له: هل تدرى ما قال رسول الله آنفا؟ قال: لا، قال: قال: " إنى لأعلم كلمة لو قالها لذهب عن هذا… أعوذ بالله من الشيطان الرجيم ". فقال له الرجل: (أمجنونا ترانى؟. . . وهكذا بلغ الغضب بالرجل يمهد النفس لقبول شتى الوساوس ويجعلها بحالة تستسهل فيها أشد الجرائم، حتى إذا صحا الغضوب من نزوته راح يندم على ما فرط منه، ولات ساعة مندم . * * * يقول " ديل كارنيجى ": (فأنت ترى المسيح عليه السلام حين قال: " أحبوا أعداءكم " لم يكن يبغى تقويم الأخلاق فحسب، وإنما كان يبغى تقويم الأبدان أيضا وفقا لمبادئ الطب الحديث. ص _104(1/98)
وحين نصح بأن يعفو المرء إلى سبعين مرة سبع مرات، فإنما كان يعلمنا كيف نتفادى لغط القلب وقرحة المعدة وغيرهما من الأدواء) . وقصة العفو عن الهفوات أكثر من سبعين مرة رويت فى إنجيل "متى". ورويت كذلك فى سنن النبى صلى الله عليه وسلم ، فعن عبد الله بن عمر رضى الله عنه : جاء رجل إلى النبى صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، كم أعفو عن الخادم؟ قال، كل يوم سبعين مرة" وفى رواية أن رجلا أتى رسول الله فقال له: إن خادمى يسىء ويظلم، أفأضربه؟ قال: "تعفو عنه كل يوم وليلة سبعين مرة " . أما محبة الأعداء فلعلها تعنى إيثار العفو عنهم، وتنقية القلب من الضغائن عليهم، وترك الانشغال بما أسلفوا من سيئات، ذلك الانشغال الذى لا ثمرة له إلا تواصل الأحزان وطول الشكايات، وندب ما تتورط فيه الطباع الغليظة من مظالم. أما أن تكون عواطف الإنسان سواء تجاه من يحسن إليه ومن يجور عليه فذاك مستحيل. إن المرء يشكر نعمى المحسنين، ويحمد عراقة الأمجاد ويود عشرتهم. وإنه ليفر من دناءة الأدنياء، ويعاف القرب من نفوسهم والتعرض لمساويهم فكيف يحبهم؟!. إن ابن آدم الصالح كان طبيعيا فى مشاعره، ومنطقياً مع نفسه ومع العدل عندما كره أخاه القاتل، وتربص به القصاص الواجب، وقال: (إني أريد أن تبوء بإثمي وإثمك فتكون من أصحاب النار وذلك جزاء الظالمين) . على أن المؤمن مع ذلك كبير القلب، والقلب الكبير ليس تربة لجذور الغل تتشبث فيه وتمتد، كلا. إن الحقد عنصر غريب عليه، ولذلك ما إن يمر به طيفه حتى يتقلص ويزول. ثم إن للمؤمن شغلا بمستقبله فى الأخرى والإعداد له فى هذه الدنيا. والتفرغ للخصومات ديدن من لا عمل لهم إلا اللجاجة وإيثار النزاع. كذلك كان العرب فى جاهليتهم حتى نزل القرآن يناديهم : ص _105(1/99)
(يا أيها الذين آمنوا ادخلوا في السلم كافة ولا تتبعوا خطوات الشيطان إنه لكم عدو مبين ) . فجمعهم على الحق وشغلهم به بدل أن يشتغل بعضهم بالبعض الآخر. وقد عادت هذه الجاهلية إلى الجماهير الفارغة من أمتنا، فهم بين مقاتلات وثارات لا تنتهى، لأنهم ليسوا أصحاب رسالة يحيون لها وينشغلون بحقوقها!!. إن الشبه قائم بين طباع العظماء وإن اختلفت ألسنتهم وألوانهم، ذلك لأن بذور السمو تنشأ بين شمائلهم وهم أطفال، ثم تقوى مع اشتداد أعوادهم، فهى خصائص يزود الله من يشاء من خلقه ليقوم فى الحياة بعمل كبير أو يؤدى رسالة رائعة. وأولو المواهب النفسية والعقلية الفارعة سناد ركين للأمم التى يقودونها، والأعباء التى يحملونها. ولذلك دعا رسول الله ـ فى إبان غربة الإسلام وقلته ـ أن يعزه بأحد العمرين: عمر بن الخطاب، أو عمرو بن هشام.. فكان الأول أسعد الرجلين وأحظاهما عند الله. وعندما وفدت قبيلة عبد القيس إلى المدينة، قال النبى صلى الله عليه وسلم للأشج رئيسها ـ : " إن فيك خصلتين يحبهما الله ورسوله: الحلم والأناة " . وروى أن الرجل قال للنبى: خصلتان جبلنى الله عليهما، أم جدتا فى؟ فقال له "بل جبلك الله عليهما" فسر الرجل على هذا العطاء الجزل. لقد كانت نفسه ـ فى ظلمات الجاهلية ـ تتألق بخلال يحبها الله جل شأنه. ولقد طالعت النبذ اليسيرة التى نقلها "ديل كارنيجى" عن حياة "إبراهام لنكولن " الزعيم الأمريكى الكبير، فتبينت فى تضاعيفها هذا السمو الذى يبرأ الله عليه بعض النفوس، لتكون فى بيئتها نوراً يومض بالنبل والفضل؟ ومع ذلك فإن هذا الرجل لم ينج من تألب الصغار عليه، بل إن "كارنيجى" يقول: (لعل أحداً ممن أنجبتهم أمريكا فى تاريخها كله، لم يلق من الإيذاء والمقت والخديعة ما لقيه "لنكولن ") . ص _106(1/100)
وبرغم ذلك فإنه كما يقول ـ مؤلف سيرته ـ لم يزن الناس قط بميزان حبه أو كراهيته لهم. فإذا أساء رجل إلى شخصه ـ وكان هذا الرجل أصلح الرجال لتقلد منصب من المناصب ـ أسرع "لنكولن " يقلده إياه كما لو كان يقلده صديقا له. ولا إخاله عزل رجلا عن عمله لأنه كان خصماً له، أو لأنه كان يكرهه. بل الواقع أن "لنكولن " أوذى وأسىء إليه من رجال قلدهم فيما بعد مناصب ذات وجاهة وسطوة، لأنه يرى ـ كما يقول كاتب سيرته "هندرون" ـ أنه لا ينبغى لرجل أن يمدح أو يذم على عمل يؤديه، لأننا جميعاً مسخرون فى أيدى الظروف والأقدار والبيئة والتعليم، والعادات المكتسبة، والوراثات التى تطبع الناس بطابع لا ينفك عنهم أبداً. ويحتمل أن يكون "لنكولن " مصيباً، فلو أننا ورثنا الخصائص الجثمانية والذهنية والعاطفية التى ورثها أعداؤنا لكنا على الأرجح قد أصبحنا على غرارهم، وما اختلفنا عنهم. وقد اعتاد "كلارنس وارد" أن يقول: بدلا من أن نمقت أعداءنا ينبغى أن نشفق عليهم، وأن نحمد الله عز وجل على أنه لم يخلقنا مثلهم. وبدلا من أن نصب الاتهامات وألوان النقمة على رؤوس أعدائنا يحسن أن نلتمس لهم الرحمة والمعونة والعفو). * * * هذه الكلمات التى نضجت بها قلوب كبيرة تذكرنا بموقف رجل من أئمة الفقه الإسلامى، حاولت الحكومة فى عهده أن تحمله على اعتناق رأى دينى لها فأبى الرجل أن يعتنق هذا الخطأ، ورأت الحكومة أن تستعين على إقناعه بالجلد والتنكيل والسجن الطويل، ومع ذلك فقد صبر الرجل على بلائه ورفض أن يبيع عقيدته فى أهواء المبتدعين، ورغبات الجبارين. فلما يئسوا منه وظنوا أن أجله قد اقترب لهول ما نزل به ردوه إلى بيته. ص _107(1/101)
قال ابن كثير: وجاء الأطباء إلى الإمام المعذب، فقطعوا لحما ميتا من جسده وجعلوا يداوونه حتى عاد إليه روحه الذى كاد يزهق، فلما شفاه الله بقى مدة وإبهاماه يؤذيهما البرد. أتدرى ما كان موقفه بعد؟. جعل كل من آذاه فى حل إلا أهل البدع، وكان يتلو قوله عز وجل: (وليعفوا وليصفحوا ألا تحبون أن يغفر الله لكم) . يقول: ماذا ينفعك أن يعذب أخوك المسلم بسببك، وقد قال الله : (فمن عفا وأصلح فأجره على الله) . وينادى المنادى يوم القيامة "ليقم من أجره على الله، فلا يقوم إلا من عفا" . وروى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إذا جمع الله الخلائق نادى مناد: أين أهل الفضل؟ قال فيقوم ناس- وهم يسير- فينطلقون سراعاً إلى الجنة فتتلقاهم الملائكة، فيقولون: وما فضلكم؟، فيقولون: كنا إذا ظلمنا صبرنا ، وإذا أسىء إلينا حملنا. فيقال لهم أدخلوا الجنة فنعم أجر العاملين ". تلك خلال السماحة والتجاوز كما يثبتها التاريخ لآلها الأكرمين فى المشارق والمغارب. وما أقلهم على كثرة الناس . * * * ص _108(1/102)
لا تنتظر الشكر من أحد مع أن نعم الله تلاحقنا فى كل نفس يملأ الصدر بالهواء، وكل خفقة تدفع الدماء فى العروق؟ فنحن قلما نحس فلك الفضل الغامر، أو نقدر صاحبه ذا الجلال والإكرام!!. إننا نخال كل شىء مهيأ من تلقاء نفسه لخدمتنا وأن على عناصر الوجود تلبية إشارتنا وإجابة رغبتنا لا لعلة واضحة سوى أننا نريد، وعلى الكون كله التنفيذ!!. بالضبط كما يعيش الأطفال المدللون!!. وقد نشعر ببعض الجميل لظروف مواتية، أو ببعض الجمال فى بيئة مريحة ممتعة، وعلى ما فى هذا الشعور من نقص ـ لانقطاعه عن الله وسوء إدراكنا لنعماه ـ فكم تظن من الناس يملكه هذا الشعور؟ قلة لا تذكر!!. أما جمهور البشر فذاهل عما يكتنفه من آلاء وإنه يتقلب فى خيرات الله غير واع لكثرتها، ولا شاكر لمرسلها. وقد أراد الله عر وجل أن ينبه الناس إلى ما خولهم من بره، وإلى ما يحيط بهم من آثار قدرته ورحمته فقال ـ كأنه يعرِّف نفسه لخلقه ـ: (الله الذي جعل لكم الليل لتسكنوا فيه والنهار مبصرا إن الله لذو فضل على الناس ولكن أكثر الناس لا يشكرون * ذلكم الله ربكم خالق كل شيء لا إله إلا هو فأنى تؤفكون * كذلك يؤفك الذين كانوا بآيات الله يجحدون * الله الذي جعل لكم الأرض قرارا والسماء بناء وصوركم فأحسن صوركم ورزقكم من الطيبات ذلكم الله ربكم فتبارك الله رب العالمين) ص _109(1/103)
فهل بعد هذا البيان والتنبيه أدينا حق الله؟!. يظهر أن شكر المنعم واجب ثقيل، وأننا على قدر ما نحتاج ونأخذ، على قدر ما نستخف وننسى. بل إن كثيراً من الناس يتناول أنعم الله وكأنه يسترد حقاً مسلوباً منه، أو ملكاً خاصاً به، ومن ثم فهو لا يرى لأحد فضلا عليه. وبهذا التفكير الكنود لا يثمرصنيع ولا يجىء شكر. وتلك هى العلة فى أنك قد تسلف أيادى بيضاء لبعض الناس وتبذل جهداً محموداً فى سوقها، حتى إذا استقرت فى أيديهم نظروا إليك جامدين، أو ودعوك بكلمات باردة، ثم ولوا عنك مدبرين!!. هل يغضبك هذا المسلك؟. هكذا صنعوا قبلا مع ربك وربهم فقال: (وقليل من عبادي الشكور ). ويضرب لنا "ديل كارنيجى" عدة أمثلة لشيوع الجحود بين الناس فيقول: لو أنك أنقذت حياة رجل أتراك تنتظر منه الشكر؟. قد تفعل. بيد أن "صمويل لايبيتز" ـ الذى اشتغل محامياً ثم قاضياً ـ أنقذ ثمانية وسبعين رجلا من الإعدام بالكرسى الكهربائى، فكم من هؤلاء تقدم له بالشكر؟. لا أحد ! ولقد شفى المسيح عليه السلام عشرة من المفلوجين فى يوم واحد، فكم من أولئك المعافين سعى إلى رسول الله ليشكره؟. واحد فقط!!. أما الآخرون فقد انصرفوا دون أن ينبسوا بكلمة. ويستطرد "كارنيجى" قائلا: (وحدثنى " تشارلس شواب " أنه أنقذ مرة صرافاً خسر فى مضاربات "البورصة" أموالا تخص "البنك "، فدفع له المال المفقود كله، وبذلك نجاه من السجن، ومن فقد شرفه وعمله، فهل شكره الصراف؟. نعم شكره يومئذ بكلمة، ثم ما لبث أن راح يحمل عليه ويكيل له السباب ألواناً!!). ثم يقول "كارنيجى" وكأنه يشرح قول الله سبحانه: (إن الإنسان لربه لكنود) ص _110(1/104)
(إن الجحود فطرة، إنه ينبت على وجه الأرض كالأعشاب الفطرية ـ التى تخرج دون أن يزرعها أحد ـ أما الشكر فهو كالزهرة التى لا ينبتها إلا الرى وحسن التعهد...). ويقول: (إن الطبيعة الإنسانية ما برحت هى الطبيعة الإنسانية والأرجح أنها لن تتغير أبد الآبدين!!). وإذن فلنقبلها على علاتها. لماذا نتحسر على ضياع المنن وتفشى الجحود؟ إنه لأمر طبيعى أن ينسى الناس واجب الشكر، فإذا نحن انتظرنا منهم أداء هذا الواجب فنحن خلقاء بأن نجر على أنفسنا متاعب هى فى غنى عنها. وهذا كلام يحتاج إلى تعقيب وإيضاح، فإن إقفار النفوس من نضارة الشكر، وانتشار الجفاف أو الأشواك بها فحسب منكر قبيح، وينبغى أن نزع الناس عنه، وأن نعلمهم الحفاوة بما يسدى إليهم من معروف، وتقدير ما فيه من بر ومرحمة وإحسان. والإسلام يوجه المعطى إلى ذكر النعمة التى سيقت له، وإلى الثناء على مرسلها وإلى مكافأته عليها بأية وسيلة. فإن لم يجد الجزاء المادى المعادل لما نال فليشكر بلسان الحال والمقال، وليدع الله أن يثيب من عنده الثواب الذى يشبع عواطف الشكر فى أفئدتنا، ويحقق ما قصرت عنه أيدينا. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "من اصطنع إليكم معروفاً فجازوه، فإن عجزتم عن مجازاته فادعوا له، حتى تعلموا أنكم قد شكرتم، فإن الله شاكر يحب الشاكرين " . وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "من أعطى عطاء فوجد فليجز به، فإن لم يجد فليثن. فإن من أثنى فقد شكر، ومن كتم فقد كفر" . وقال: " إن أشكر الناس لله تبارك وتعالى، أشكرهم للناس ". وفى رواية: "لا يشكر الله من لم يشكر الناس ". وقال : " من لم يشكر القليل لم يشكر الكثير، ومن لم يشكر الناس لم يشكر الله، والتحدث بنعمة الله شكر، وتركها كفر، والجماعة رحمة. والفرقة عذاب " . ص _111(1/105)
وذكر ما فى الجماعة من رحمة موصول بما قبله، فإن التقاطع يرجع غالباً إلى كنود النعم وجحد الإحسان، ولا يشد أواصر الجماعات كحفظ المعروف وإكرام أهله، ولا يفصم عرى الائتلاف ويعرض لعذاب الفرقة إلا غمط الحقوق وإهمال ذويها والتنكر لما أسدوه من جميل. إلا أن الإسلام مع توكيده لواجب الشكر وتحقيره لشأن الجاحدين يطلب من أولى الخير أن يجعلوا عملهم خالصاً لوجه الله وأن يبعدوا عن مقاصدهم كل ذخل، فإن غش النية يفسد العمل ويحبط الأجر، والمعروف الذى يقبل ويحتزم هو الذى يبذله صاحبه بدوافع الخير المحض لا يطلب عليه ثناء بشر ولا شكره، إنما يطيع به أمر الله ويطلب رضوانه ومغفرته. والإسلام بما يفرضه على العمل من إخلاص يريد أن يحرر القلوب من قيود الأغراض وأن يعلقها بالكمال المطلق، فهى تفعل الخير عن بواعث نقية، أى عن حب مكين له ورغبة قوية فى تحقيقه دون نظر إلى مدايح الناس أو تطلع إلى منزلة ما بينهم. وهذا السمو المنزه هو دعامة الإحسان الحق، وهو المثل الأعلى لكل خلق كريم، روى أن رجلا تطاول على عبد الله بن عباس، فقال له: "أتشتمنى وفى ثلاث: إنى لأسمع بالحاكم من حكام المسلمين يعدل فأحبه ولعلى لا أقاضى إليه أبداً!!. وأسمع بالغيث يصيب البلد من بلاد المسلمين فأفرح به وليس لى به سائبة ولا راعية!!. وآتى على الآية من كتاب الله فأؤد لو أن المسلمين كلهم يعلمون منها مثل ما أعلم ". ما هذا؟.. هذا رجل يحب شيوع الحق والخير والعلم، ويفرح من أعماق قلبه لو استمتع الناس بما فيها من بركات، ولو لم يمسه من ذلك حظ كبير أو صغير. إن هذا التعلق بالكمال المطلق والإحسان المبرأ أهم ما يطلبه الإسلام منك، حين تسدى إلى أحد معروفاً قدم جميلك عشقاً لصنائع المعروف وابتغاء ما لدى الله من مثوبة. ص _112(1/106)
ولا تعول على حمد أحد أو تقديره، كن كما وصف الله الأبرار من عباده: (ويطعمون الطعام على حبه مسكينا ويتيما وأسيرا * إنما نطعمكم لوجه الله لا نريد منكم جزاء ولا شكورا). وليس المقصود أنهم يقولون ذلك بألسنتهم، فذاك مستبعد لأنه قد يؤذى أصحاب الحاجات، وإنما ذلك ترجمة لما فى قلوبهم من نيات صافية، ومشاعر نظيفة. هل ابتغاء وجه الله عسير على الناس؟. المؤسف أن أغلب البشر تهيجهم للعمل بواعث مشوبة، ويطلبون به غايات شتى، وقليل جداً أولئك الذين يتحركون بدافع نقى، ويرتفعون بمقاصدهم عن مآرب هذه الأرض انظر إلى قول الشاعر: لما رأيت نساءنا يفحصن بالمعزاء شداً وبدت لميس كأنها بدر السماء إذا تبدى وبدت محاسنها التى تخفى وكان الأمر جدا نازلت كبشهم ولم أر من نزال الكبش بدا لمن هذا الإقدام ؟ لوجه لميس الحسناء! وما سر هذه الشجاعة؟ نيل إعجابها، وطلب المنزلة عندها وعند مثيلاتها.. وهذه طبيعة ألوف من الناس!!. ويذكر شاعر آخر أنه صنع معروفاً أنقذ به من الهلاك أحد الرجال الذين لا يحبهم، وأنه كان يستطيع تركه وحده ليلقى حتفه، لولا أنه خشى أحاديث الناس عنه فى مجالسهم. ذكرت تعلة الفتيان يوماً وإسناد الملامة للمليم والبعد عن الدنية اتقاء ذم الناس ليس خيراً محضاً، وتتكشف حقيقة هذا الخير المغشوش عند أمن الناس، ماذا يصنع هذا الإنسان عندما يخلو بنفسه، ويوقن أن الناس لن يطلعوا على ما يفعل أو يترك؟. ص _113(1/107)
إن عشاق الثناء وطلاب الطهور لا يبالون عندئذ أن يرتكبوا العظائم.. فلا جرم أن يشتد الإسلام فى تمحيص القلوب، وإخلاص السرائر، واشتراط وجه الله فى كل شأن يقوم الناس به، وتجريد الأعمال من كل ملابسة تخدش النية، وفى الحديث "إن الله تبارك وتعالى يقول: (أنا خير شريك، فمن أشرك معى شريكا فهو لشريكى) يا أيها الناس أخلصوا أعمالكم، فإن الله تبارك وتعالى لا يقبل من الأعمال إلا ما خلص له. ولا تقولوا هذه لله وللرحم، فإنها للرحم وليس لله منها شىء. ولا تقولوا هذه لله ولوجوهكم، فإنها لوجوهكم، وليس لله منها شىء" . وهذا صحيح؟ فأنت إذا قلت: (أفعل هذا لله ومن أجل خاطر فلان)، فالأغلب أنه من أجل هذا الخاطر العزيز، وأن الله ليس له جوار هذا الخاطر نصيب، ولو كان له نصيب ما فإنه يرده لأنه جل شأنه لا يقبل العمل إلا خالصاً له وحده. ومن ثم يجب علينا أن نتوجه بحركات قلوبنا وأيدينا لله رب العالمين، لا ننتظر ثناء ولا إعجاباً، ولا بروزاً ولا ظهوراً ولا شكوراً.. **** وإننى بعد ما بلوت الناس أجدنى مضطراً لأن أقول: محض عملك لله وأنشد ثوابه وحده، ولا تنتظر أن يشكرك أحد من الناس، بل توقع أن يضيق الناس بك!! وأن يحقدوا عليك!! وأن يبتغوا لك الريبة وينسوا الفضل!! وأن يكونوا، كما قال الشاعر: إن يسمعوا ريبة طاروا بها فرحاً عنى وما سمعوا من صالح دفنوا جهلا علينا، وجبناً عن عدوهم لبئست الخلتان: الجهل، والجبن وإنه ليخيل إلى أن العداوة أزلية بين الأمجاد والأوغاد. بين أصحاب المواهب والمحرومين منها. بين فاعلى الخير والعاطلين عنه . ص _114(1/108)
وأخيراً بين من نحسن إليهم، وبين من يستكثرون علينا أن نكون فى مكان يجيئهم منه إحساننا، ويدر عليهم خيرنا. والجريمة التى ارتكبناها والتى جعلت قلوب هؤلاء تنحرف عنا أننا أسعفناهم يوم احتاجوا، وأننا لما قدرنا على ذلك لم نبخل به. وكما كانت جريمة ابن آدم الصالح أن الله قبل عمله ولم يقبل عمل أخيه، كذلك كانت جريمة أبى بكر أنه أنفق على قريبه "مسطح " فكان جزاؤه أن "مسطحاً" ما إن سمع الإشاعات الكاذبة تدور حول "عائشة" حتى أسرع يعين على ولى نعمته ويروج مع الأفاكين قالة السوء، بدل أن يرد جميل قريبه بالدفاع عن عرضه!!. **** إن فى طباع نفر من الناس كنوداً يعز على الدواء، ولست أدرى أأكثر الناس معلولون بهذا الداء، أم تلك قلة عكرت صفو الحياة، كما يعكر عذوبة الماء القليل من الملح. أيا ما كان الأمر فإن الشكاة من هذا البلاء قديمة جديدة. كان مالك بن أنس يشكو على عهده قلة الإنصاف، وهو عهد التابعين. وفى هذا الطغرائى بعد مئات السنين يقول: غاض الوفاء، وفاض الغدر، واتسعت مسافة الخلف بين القول والعمل وإننى لأتلفت يمنة ويسرة وأتفرس فى الجزاء الذى لقيته من الناس، فأحس غصة. وأريد فى إيجاز أن أكشف بعض الجوانب التى يجب إعلانها فيما أصدر للناس من كتب، حتى يبدو أمرى على حقيقته. من ثمانى عشرة سنة وأنا أكتب للإسلام وأخطب، والجماعة التى عشت فيها حقبة من الدهر تعلم ذلك عنى. ولم تكن خطابتى بسطة لسان يهدر بالقول، ولم تكن كتابتى سطوة قلم يصول ويجول، بل كان ذلك كله ذوب عاطفة تضطرم بالإخلاص، وفكر يستكشف صميم الحق ويبادر إلى إعلانه. وقد انفردت بأسلوب فى شرح تعاليم الإسلام، ومهاجمة الفساد الاقتصادى والاجتماعى والسياسى ـ باسمه ـ لم يشركنى فيه أحد أمداً طويلا. ص _115(1/109)
ثم نشبت فتن عمياء انتهت بفصلى في الجماعة، وهو فصل أراه أنا نتيجة ضغائن شخصية، ويراه غيرى تصرفاً منطقياً لا شئ فيه، ليكن، إن المرء قد يند عن الصواب فى تصوره لشئونه الخاصة من يدرى؟. ربما كان خصومى معذورين فى الإساءة إلى، أعنى فى التخلص منى، فلأرض بهذا الذى حدث، ولأغمض الطرف عما أتوهمه فيه من غدر وجور. بيد أن هناك محاولة للنيل منى، بل للقضاء على يجب أن أردها بقوة، وأن أفضح ما يكتنفها من دناءة. وهى محاولة الإغارة على تراثى الأدبى، ووضع اليد الظالمة عليه فى صفاقة لا أعرف لها مثيلا فى تاريخ الآداب والدعوات. ليكرهنى من شاء. أما أن تختطف كتاباتى ويوضع عليها اسم غير اسمى، ثم يتواصى الحاقدون بالإرجاف على وإظهارى للملأ كأنى أنا الناقل عن غيرى؟ فهذه هى الجريمة التى تطلق عقيرتى بالصياح، ولا أقبل فيها هدنة!!. عجباً لا ينتهى من عجب وفتوناً ليس يبلى من فنون!! **** لكن لماذا مضت بى سورة الغضب على هذا النحو؟ إن هذا الموضوع ينبغى أن يطوى وأن ينسى. وقلت لنفسى: ألا تتعلمين الإخلاص لله من مسلك الإمام الشافعى الذى ملأ طباق الأرض علما ثم قال: وددت لو نشر هذا العلم دون أن يعرف صاحبه؟. فلأفترض أن سحب النسيان غطت على فلم يعرف أحد من الخلق أنى سبقت إلى كذا، أو برزت فى كذا، إن ذلك لا يضير أمراً يقصد وجه الله فيما يكتب، بل ربما كان ذلك أعون على تصحيح نيته وتنقية وجهته. وقالت لى نفسى: لكن هؤلاء بعد أن تعاونوا على طردك من مكانك، وأرادوا إظهارك فى ثوب الساطى على غيرك، فكيف يسمعون خطبك ويقرءون كتبك ثم ينتحلونها لأنفسهم، ويجعلونك فى أعين الناس الناقل المقلد؟!. وقلت لنفسى: ما تزالين تتعلقين بالخلق، وتذهلين عن الخالق. وأخيراً.. قررت أن أطوى هذه الصفحة، سائلا ربى أن يغفر لى، ولمن جار على، أو استهان بى. **** ص _116(1/110)
هل تستبدل مليون جنيه بما تملك؟ ما أكثر النعم التى بين أيدينا وإن غفلنا عنها!!. أقليل أن يخرج الإنسان من بيته وهو يهز يديه كلتيهما، ويمشى على الأرض بخطوات ثابتة، ويملأ صدره بالهواء فى أنفاس رتيبة عميقة، ويمد بصره إلى آفاق الكون، فتنفتح عيناه على الأشعة المناسبة، وتلتقط أذناه ما يموج به العالم من حراك الحياة والأحياء؟. إن هذه العافية التى تمرح فى سعتها وتستمتع بحريتها ليست شيئا قليلاً. وإذا كنت فى ذهول عما أوتيت من صحة فى بدنك، وسلامة فى أعضائك، واكتمال فى حواسك، فاصح على عجل.. وذق طعم الحياة الموفورة التى أتيحت لك، واحمد الله- ولى أمرك وولى نعمتك- على هذا الخير الكثير الذى حباك إياه.. ألا تعلم أن هناك خلقا ابتلوا بفقد هذه النعم، وليس يعلم إلا الله مدى ما يحسونه من ألم؟.. منهم من حبس فى جلده، فما يستطيع حركة بعد أن قيده المرض ومنهم من يستجدى الهواء الواسع نفسا يحيى به صدره العليل، فما يعطيه الهواء إلا زفرة وتخرج شاخبة بالدم!!. ومنهم من عاش منقوص الأطراف أو المشاعر!!. ومنهم من يتلوى من أكل لقمة لأن أجهزته الهاضمة معطوبة. ومنهم، ومنهم.. إذا كنت معافى من هذه الأسقام كلها فهل تظن القدر زودك بثروة تافهة؟ أو منحك ما لا تحاسب عليه؟ كلا، كلا. إن الله يكلفك بقدر ما يعطيك. ومن الخطأ أن تحسب رأس مالك هو ما اجتمع لديك من ذهب وفضة!!. إن رأس مالك الأصيل جملة المواهب التى سلحك القدر بها، من ذكاء، وقدرة، وحرية وفى طليعة المواهب التى تحصى عليك وتعتبر من العناصر الأصيلة فى ثروتك ما أنعم ص _117(1/111)
الله به عليك من صحة سابغة، وعافية تتألق بين رأسك وقدمك، وتتأنق بها فى الحياة كيف تشاء . والغريب أن أكثر الناس يزدرون هذه الثروة التى يمتلكونها، لا يشركهم أحد فيها، أو يزاحمهم عليها!!. وهذا الازدراء جحود يستحق التنديد والمؤاخذة، قال "ديل كارنيجى": (أتراك تبيع عينيك فى مقابل مليون دولار؟. كم من الثمن تظنه يكفيك فى مقابل ساقيك أو سمعك، أو أولادك؟ أو أسرتك؟. احسب ثروتك من هذه المواهب الغالية، ثم اجمع أجزاءها وسوف ترى أنها تقدر بالذهب الذى جمعه آل "روكفلر" وآل "فورد" بيد أن البشر لا يقدرون هذا كله! إننا كما قال فينا "شوبنهور": ما أقل تفكيرنا فيما لدينا وما أكثر تفكيرنا فيما ينقصنا). ويروى أن "الرشيد" قال لابن السماك : عظنى ـ وقد أتى بماء ليشربه ـ فقال: "يا أمير المؤمنين، لو حبست عنك هذه الشربة أكنت تفديها بملكك؟ قال: نعم؟ قال: فلو حبس عنك خروجها. أكنت تفديها بملكك؟. قال: نعم. قال: فما خير فى ملك لا يساوى شربة ولا بولة؟! ". وإذا كان هذا الواعظ يريد أن يهون ملك الخليفة فيجسم أمام عينيه نعمة مبذولة، ويريه أنها أرجح مما يعتز به من دولة وصولة، فنحن ننظر إلى هذه العظة من وجهها الآخر، لنرى جميعاً أنا وأنت أن ما يفتديه الملوك بتيجانهم نحصل عليه دون انتباه، ونناله من غير جهد!! . فهل نذكر هذا الفضل؟ وهل نقدر هذه النعمة؟ وهل نشكر عليها؟. أغلبنا يألف ما يجده من صحة، فلا يعرف روعته وجلاله إلا إذا تعكر عليه أو فقده.. وطول الإلف قد يتأدى بنا إلى الاستهانة، لكن الله لا يلغى حقيقة ما لأن عباده يغضون منها، إنه يحاسبهم بها على مقدارها كله . قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " والذى نفسى بيده، إن الرجل ليجىء يوم القيامة بعمل صالح لو وضع على جبل لأثقله، فتقوم النعمة من نعم الله، فتكاد تستنفد ذلك كله، لولا ما يتفضل الله من رحمته " ص _118(1/112)
ومعنى ذلك أن أصحاب النعم مطالبون بمزيد من الجهد والنشاط كقاء ما أوتوا من خير، ومنحوا من بر.
*****
والإسلام يرى الحياة نعمة، ويطلب إلينا أن نشكر الله على ما وهبنا من روح وإحساس، وسخر لنا من ليل ونهار، ومكن لنا بين الأرض والسماء. إن هذه الحياة الممتازة الراقية تكريم خاص ينبغى أن نعتزَّ به وأن نبصر حق الله فيه:
(كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتا فأحياكم ثم يميتكم ثم يحييكم ثم إليه ترجعون ).
والله قد منحنا الحواس المعروفة لنتجاوب مع الوجود، ونتعرف ما فيه، ونتذوق بملكاتنا المادية والأدبية جماله وقواه، حتى إذا غمرنا هذا البهاء المُفاض من كل ناحية اهتزت مشاعرنا شكراً للذى أحيانا وكرمنا:
(والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئا وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة لعلكم تشكرون )
إن المرء قد يغفل عن النطاق الواسع الذى يجتنى منه ما بين يديه من خيرات، ولو دقق النظر لرأى المائدة التي أمامه تحفل بألوان شتى من أقطار العالم، ربما كان يأكل قمحا من روسيا، ولحماً من إفريقيا، وفاكهة من أوروبا، ويشرب شاياً من آسيا، ويتناول بعض المواد الأخرى من أمريكا.
ولو رجع مرة أخرى لرأى الأرض والسماء كلتيهما قد اجتمعتا على خدمته، وتيسير حياته، فيفهم قول الله عز وجل:
(يا أيها الناس اعبدوا ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم لعلكم تتقون * الذي جعل لكم الأرض فراشا والسماء بناء وأنزل من السماء ماء فأخرج به من الثمرات رزقا لكم) ص _119(1/113)
والحق أن مافى الحياة من منغصات ومتاعب يجئ من فوضى الناس ونزق غرائزهم وطيش مسالكهم أكثر مما يجئ من طبيعة الحياة نفسها!!. هب رجلا ترك لأولاده الثلاثة دارا تسع ثلاثمائة لوفرة مرافقها ورحابة باحاتها، فاختصم الأولاد فى هذه الدار، وطرد بعضهم بعضاً، أو سجن بعضهم بعضاً، هل يكون ذلك عيبا فى الدار، أو تقصيرا من ربهما؟. أم هو عيب الإخوة المتشاركين والشركاء المتظالمين؟. كذلك الحياة الدنيا، والله ما أفسدها، وكسف ضياءها، وشاب نعماءها، إلا ركض البشر فى جوانبها ركضاً مجنوناً، لا يخضع لشرائع الله، ولا يستقيم مع نصحه وهداه. لعمرك ما ضاقت بلاد بأهلها ولكن أخلاق الرجال تضيق ولو استرشدنا بمنارات الله التى أنزل علينا، وأدركنا الخير الواسع الذى أتاح لنا، لكان لنا وللحياة شأن آخر. غير أن أكثرنا يحتقر ثروة الحياة والعافية التى يملكها، ويعجز تبعاً لذلك عن الانتفاع بها، ثم يبكى أمانى هينة لم يحصل عليها، ولو حصل عليها لكانت بعض الواقع الثمين الذى يقدره حق قدره!!. حكى "ديل كارنيجى" قصة رجل أرهقه الكدح الفاشل، ؟ واضطربت نفسه تحت وطأة الأزمات التى عاناها؟ إلا أنه وعى من صور الحياة درساً اخذ بيده إلى النهاية المشرقة، ولنسمع إليه يقول: (... كنت خلال العامين السابقين لهذا الحادث أدير محلا للبقالة فى مدينة "وب "، وقد باءت تجارتى بالكساد، وفقدت فيها كل ما ادخرته من مال، بل عمدت فوق ذلك إلى الاستدانة، حتى لقد استغرق سداد ديونى سبع سنين، وكنت أغلقت محل البقالة قبل ذلك الحادث بأسبوع، وفى يوم الحادث اتجهت إلى أحد المصارف لأقترض شيئاً من المال يعيننى على الذهاب إلى مدينة "كانساس " للبحث عن عمل فيها. وبينما أنا أسير فى الطريق ذاهلا شارد اللب، قد خامرنى اليأس وأوشك الإيمان يفارقنى، إذ رأيت رجلا مبتور الساقين يريد أن يعبر الطريق.. كان يجلس على عارضة خشبية مزودة بعجلات صغيرة، ويستعين على تسيير هذه العارضة بيديه(1/114)
اللتين أمسك بكلتيهما قطعتين من الخشب يستند بهما إلى أرض الشارع "ليدفع ص _120
عربته " هذه إلى الأمام.. وقد التقيت به بعد أن عبر الشارع ثم بعد أن أخذ يحاول رفع خشبته التى يجلس عليها ليعتلى " الطوار" فلما أصبح فوقه أدار "عربته " الصغيرة ليمضى فى سبيله، فالتقت عيناه بعينى وابتسم ابتسامة عريضة مشرقة. ثم قال: سعدت صباحاً يا سيدى، إنه يوم جميل، أليس كذلك؟. ووقفت مكانى أتطلع إلى هذا الرجل، وأدركت كم أنا واسع الغنى. إن لى ساقين، وأستطيع أن أمشى!!. وخجلتُ مما كنت أستشعره من الرثاء لنفسى، وقلت: إذا كان هذا الرجل يستطيع أن يكون سعيدا مرحا مع فقد ساقيه، فأولى بى أن أستجمع هذه الصفات ولى ساقان، وكنت قد عولت على أن أقترض من المصرف مائة دولار، ولكنى إذ ذاك واتتنى الشجاعة فطلبت مائتين، وكنت قد عولت على أن أقول للمصرف: إنى ذاهب إلى "كانساس " لأحاول الحصول على عمل، لكنى بعد هذا قلت للمصرف: إنى ذاهب للحصول على عمل، ولقد حصلت على القرض وحصلت على العمل). * * * * ما أغلى العافية التى تسرى فى أوصالنا. وما أثمن القُوى التى زودنا الله بها. وما أشهى الثمار التى نقطفها لو أحسنا استغلالها ولم نهدر قيمتها. إن الإسلام يريد أن يلفت أنظارنا بقوة إلى نفاسة النعم التى تكتنفنا، وإلى ضرورة الإفادة منها. وإليك هذه القصة التى أراد بها النبى صلى الله عليه وسلم تنبيهنا إلى جلال النعم التى يستمتع أغلبنا بها ولا يلتفت إليها: عن جابر رضى الله عنه قال: خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "خرح من عندى خليلى جبريل آنفاً فقال: يا محمد.. والذى بعثك بالحق إن لله عبدا من عباده، عبد الله خمسمائة سنة على رأس جبل فى البحر، عرضه وطوله ثلاثون ذراعا ص _121(1/115)
فى ثلاثين ذراعاً، والبحر محيط به أربعة آلاف فرسخ من كل ناحية. وأخرج له عيناً عذبة بعرض الإصبع تفيض بماء عذب، فيستنقع فى أسفل الجبل، وشجرة رُّمان تخرج له فى كل ليلة رمانة.. يتعبد يومه، فإذا أمسى نزل فأصاب من الوضوء وأخذ تلك الرمانة فأكلها، ثم قام لصلاته.. فسأل ربه عند وقت الأجل أن يقبضه ساجدا، وأن لا يجعل للأرض ولا لشىء- من الهوام عليه سبيلا حتى يبعثه الله وهو ساجد.. قال ففعل. فنحن نمر عليه إذا هبطنا وإذا عرجنا، فنجد له فى العلم أنه يبعث يوم القيامة، فيوقف بين يدى الله فيقول له الرب: أدخلوا عبدى الجنة برحمتى، فيقول: رب بل بعملى، فيقول: أدخلوا عبدى الجنة برحمتى: فيقول: رب بل بعملى، فيقولى الله: قايسوا عبدى بنعمتى عليه وبعمله، فتوجد نعمة البصر قد أحاطت بعبادة خمسمائة سنة، وبقيت نعم الجسد، فضلا عليه، فيقول: أدخلوا عبدى النار فيجر إلى النار.. فينادى: رب برحمتك أدخلنى الجنة، فيقول: ردوه، فيوقف بين يديه فيقول: يا عبدى من خلقك ولم تك شيئا فيقول: أنت يا رب، فيقول: من قواك لعبادة خمسمائة سنة؟ فيقول: أنت يا رب، فيقول من أنزلك فى جبل وسط اللجة، وأخرج لك الماء العذب من الماء المالح، وأخرج لك كل ليلة رمانة، وإنما تخرج مرة فى السنة، ومن سألته أن يقبضك ساجداً ففعل؟ فيقول: أنت يا رب. قال فذلك برحمتى، وبرحمتى أدخلك الجنة، أدخلوا عبدى الجنة، فنعم العبد كنت يا عبدى، فأدخله الله الجنة، قال جبريل: إنما الأشياء برحمة الله يا محمد" . * * * * فى هذا الحديث تنويه بقيمة النعم التى يحظى أغلب الناس بها، وليس فيها أى انتقاص لعنصر العدالة، أو خدش لموازين الجزاء فى الدار الآخرة. وبعض الحمقى يمطون كلمة: لا إنما الأشياء برحمة الله " ليجعلوا الحساب فوضى، وليوهموا أن العمل لا يرشح لجنة أو نار . ص _122(1/116)
إنما هى الرحمة العليا يظفر به فريق- ولو كان عاصيا- فيدخل الجنة ويُحرم منها آخر- ولو كان مطيعا- فيدخل النار. وقد شاعت هذه السخافات بين الأجيال المتأخرة من المسلمين، فضللت فكرهم، وأوهنت سعيهم، ولم تزدهم عن الله إلا بعداً وبدينه إلا جهلا. كيف يدخل الجنة من لم يرشحه لها جهده، والله يقول: (لهم دار السلام عند ربهم وهو وليهم بما كانوا يعملون ) ويقول: (تلك الجنة التي نورث من عبادنا من كان تقيا ). ويقول: (وتلك الجنة التي أورثتموها بما كنتم تعملون ). إن معصية الله لا تُنيل رحمته ورضاه، والعمل الصالح هو الذى يقرب من عطفه و مغفرته. وفى مقدمة الصالحات أن تدرك ضخامة النعم التى أسبغت عليك، وأن تغالى بحقيقتها وحقها، فإن الله لو ناقشك الحساب عليها وتقاضاك الوفاء بثمنها لعجزت. **** ص _123(1/117)
أنت نسيج وحدك كنت معجباً به، تسحرنى كلماته، وتزدهينى توجيهاته. وكان يسرنى أن أنجح مثله فى حسن البيان، وقوة التأثر. ولكننى لم أحاول التشبه به أو متابعته على طريقته، وأحسبنى لو حاولت لفشلت، لأن طبيعتى تغلبنى. إننى أسير وفق خصائصى النفسية كما يسير القطار على قضبانه، عندما أخرج عنها أتوقف لفورى. وقد عرفت جما من أصحابى يقلدون الرجل فيما دق أو جل من شأنه كله، ويحبون فى التقرب إليه أن يكونوا صوراً متشابهة من أعماله وأحواله. ولما كان أستاذنا قد اشتغل قرابة عشرين سنة مدرساً فى المرحلة الأولى من التعليم، فقد جرت على لسانه كلمة "صح " التى طالما قالها لتلامذته فى فصول المدرسة، كذلك شاع فى تصرفه الربت على الكتفين، مظهر العطف والحنو اللذين يبديهما نحو أطفال المرحلة الأولى، والغريب أن مقلديه من طلاب الزعامة تابعوه فى هذه الكلمات والحركات، كما تابعوه فى حفظ خطبه ومقالاته. وقد تشاءمت من هذا الذوبان السمج وتوقعت السوء منه على الرجل وعلى مقلديه جميعاً، لأن الصدق والإخلاص والإنتاج والمناصحة والحقيقة نفسها تضيع فى هذا الجو المفتعل من التمثيل الردىء أو المتقن. لماذا لا ينمو الرجال على فطرتهم التى خلقهم الله بها كما تنمو أنواع النبات فى مغارسها، لا النخيل تتحول أعناباً، ولا الثمار تحاكى غيرها فى طعم أو لون. إن أيسر شىء على الشخص المقلد أن يلغى شخصيته أمام من يفنى فيهم. فإذا أبدوا رأياً أيده، وإذا طلبوا مشورة تحرى الإدلاء بأقرب الأمور إلى هواهم..!! وقد قلت يوما لبعض هؤلاء المقلدين: ما هكذا كان يعامل أصحاب محمد محمداً وهو المثل الأعلى للخليقة!! فعندما استشار أصحابه فى أسرى "بدر" انطلق كل على سجيته يبدى ما عنده، كما يعتقده. ص _124(1/118)
"فأبو بكر" الحليم يؤثر الصفح، و "عمر" الصارم يرى العقوبة. وقد عقب رسول الله صلى الله عليه وسلم على مشورة صاحبيه بأن شبه هذا "بإبراهيم " الذى قال لقومه: (فمن تبعني فإنه مني ومن عصاني فإنك غفور رحيم ) وشبه ذاك "بنوح " الذى قال: (رب لا تذر على الأرض من الكافرين ديارا * إنك إن تذرهم يضلوا عبادك ولايلدوا إلا فاجرا كفارا) وظاهر أن كلا الصاحبين تحرى الحق كما يهديه إليه تفكيره المستقل، ومزاجه الخاص فى علاج الأمور. وهذا المسلك الحر المنزه عن الملق والميوعة هو الإسلام: (فطرة الله التي فطر الناس عليها). وبهذا الضرب من الشمائل النظيفة والسجايا الأبية النقية التف حول رسول الله أناس لا يرى أحدهم مانعا البتة من أن يطلب إليه تغيير منزله فى ميدان القتال لأن الأفضل كذا، ويرى رسول الله صلى الله عليه وسلم الصواب فى مشورة صاحبه فيأخذ بها. ألا ليت الزعماء والرؤساء عندنا يعرفون هذه الحقيقة. إنهم يؤثرون من يذيب نفسه فيهم ـ على ضعف الكفاية أو انعدامها ـ ويؤخرون أصحاب الطبائع الحرة، وإن وثبت بهم الرسالات والأعمال إلى الأمام. وهذه هى الطامة!! وبلغنى أن الزعيم الروسى "ستالين " فصل أحد كبار الموظفين من منصبه، لماذا؟ لأن "ستالين " ما استشار هذا الموظف فى أمر إلا أشار عليه بما يظنه أقرب إلى مرضاته. ومثل هذا الموظف لا يرجى منه نفع، ولا يؤمن على مصلحة. وقد تخلص منه الزعيم الروسى، ولو كان فى ربوع الشرق لبقى موضع الرعاية إلى الممات. ص _125(1/119)
والمحاكاة، وذوبان الشخصية، وتمثيل الأكابر، علل لا تذم فى مجال قدر ما تذم فى المجال الدينى، حيث لا يبلغ أحد درجة التقوى إلا إذا استقامت خلائقه وطابت سجاياه. وكل تظاهر- مع فقدان هذا الأساس- لا يزيد المرء إلا مسخاً. من بضع سنين سمعت غلاماً فى كلية الحقوق- اشتغل بعد فى الصحافة- يخطب جمعاً كبيرا من الناس، ويتناول موضوعا أشبه بوحدة الوجود، أو الفناء فى الله، أو لا أدرى بالضبط، من هذه الموضوعات التى تكلم فيها الصوفية بعد دراسات ومجاهدات مرة، ولم ينتهوا فيها إلى حدود يقرها الإسلام الحق. وسمعت الغلام الخطيب يتمثل بقول الشاعر الصوفى فى مناجاة الله: ولو خطرت لى فى سواك إرادة على خاطرى يوما حكمت بردتى!! وهذا حكم باطل. وقد نسمعه من أساتذته الكبار فى ميدان الدعوة والتعبد والمجاهدة المضنية، فلا نسيغه منهم إلا على تجوز وإغماض. فكيف نقبله من غلام بينه وبين هذه المجاهدات أمد بعيد؟!. وعادت بى الذاكرة إلى فصول المدرسة الأولى يوم كنا نحفظ قطعا من روائع الشعر والنثر، ونكلف بإلقائها. لقد حفظ زميل لى يجيد فن الإلقاء خطبة "طارق بن زياد" وهو يحرض رجاله على مهاجمة القوط. لقد تخيلنا أن السفن المحترقة وراءنا، وأن جيوش الإسبان تجاهنا، وأن ميدان المعركة قد انتقل إلى رحبة المدرسة!!. ماذا لو زعم التلميذ الماهر أنه "طارق بن زياد" نفسه؟!. إن المهزلة التى يضحكك افتراضها هى التى وقعت فى مجال التدين نفسه، فقد رأيت الغلمان الذى يحتاجون إلى مراحل هائلة من التهذيب والتنقية يقفزون إلى المرتبة الخرافية لبيت "ابن الفارض ": ولو خطرت لى فى سواك إرادة على خاطرى يوما حكمت بردتى ومن ثم تحول تمثيلهم لبعض الكبار.. إلى كبار فى نظر أنفسهم ونظر الجاهلين!!. **** ص _126(1/120)
إن خروج الإنسان على سجاياه، وانفصاله عن طباعه العقلية والنفسية التى لا عوج فيها أمر يفسد على الإنسان حياته ويثير الاضطراب فى سلوكه. وقد علمت قصة الغراب الذى راقه المشى على الأرض، فلا هو استطاع الخطو كما يبغى، ولا هو استطاع الطيران كما خلق. إنه عسير جدا على الإنسان مهما حاول أن يكون غيره. قال "ديل كارنيجى": (سألت مدير المستخدمين فى شركة "سوكونى فاكوم " عن الغلطة الكبرى التى يرتكبها طلاب العمل فى شركتهم فأجاب: إن أكبر غلطة يرتكبها طلاب الأعمال هى أنهم لا ينطلقون على سجاياهم، فبدلا من أن يصارحوك بحقيقة أفكارهم وآرائهم يحاولون أن يجيبوا على أسئلتك بما يظننوتة الجواب الذى تريده أنت، ولكن هذه الحيلة قلما تفلح، فالناس يعرفون الشخص الذى يدعى ما ليس فيه، كما يعرفون العملة الزائفة. وقال العالم النفسانى "وليم جيمس ": لو قسنا أنفسنا بما يجب أن نكون عليه لاتضح لنا أننا أنصاف أحياء، ذلك أننا لا نستخدم إلا جانبا يسيراً من مواردنا الجسمانية والذهنية، أو بمعنى آخر أن الواحد منا يعيش فى حدود ضيقة يصنعها داخل حدوده الحقيقية، فإئه يمتلك قوى كثيرة مختلفة، ولكنه لا يفطن إليها عادة، أو يخفق فى استغلالها كلها). قال "كارنيجى": (إنك شىء فريد فى هذا العالم. إنك نسيج وحدك، فلا الأرض منذ خلقت رأت شخصاً يشبهك تمام الشبه، ولا هى فى العصور المقبلة سوف ترى شخصاً يشبهك تمام الشبه. وينبئك علم الوراثة بأنك تخلقت جنيناً نتيجة لتلاقى أربعة وعشرين زوجاً من "الكروموزومات " أسهم فيها بالنصف كل من والديك؟ وقد تضافرت هذه الأزواج الأربعة والعشرون على توريثك الصفات التى تتميز بها. ويقول " امران شاينفلد" فى كتابه "أنت والوراثة ": إن كل " كروموزوم " يحمل جينات تعد بالمئات، وأن واحدا فحسب من هذه الجينات يستطيع فى بعض الأحيان أن يغير حياة المرء تغييراً شاملاً. ص _127(1/121)
نعم فالحق أننا مخلوقون بدقة تثير الرهبة وتستدعى الإعجاب، وحتى بعد التقاء أبويك أحدهما بالآخر وتزاوجهما فإن احتمال خروجك أنت بالذات إلى حيز الوجود كنسبة واحد إلي 300.000 بليون، أو بمعنى آخرلو أن لك 300.000 بليون أخ وأخت لكانوا جميعاً مختلفين عنك مناقضين لك. ثم يقول: أنت نسيج وحدك فى هذه الدنيا. فاغبط نفسك على هذا، واعمل على الاستزادة مما ركبته فيك الطبيعة من مواهب وصفات. قال: "ايمرسون ": سوف ينتهى كل امرئ إلى وقت يدرك فيه أن الحسد جهل، وأن التشبه انتحار، وأنه ينبغى للمرء أن يأخذ نفسه على علاتها، ويرضى بها كما قسمها الله له.. ويعلم أن الأرض على امتلائها بالخيرات لن تهبه حبة من شعير ما لم يبذل الجهد فى تعهد تلك الأرض التى تنبت له الشعير، كذلك القوة التى أودعها الله فيه إنها فريدة فى نوعها، فلا أحد غيره يعلم كنهها، ولا هو نفسه يحيط بمداها ما لم يضعها موضع التجربة). ***** على هذه الأسس العلمية التى نقلناها وشرحناها فسرت مجلة "منبر الإسلام " قوله عز وجل: (ولكل وجهة هو موليها فاستبقوا الخيرات أينما تكونوا يأت بكم الله جميعا إن الله على كل شيء قدير) ولا بأس أن ننقل هنا هذا التفسير للآية، إذ هي تلخيص حسن لكلام "ديل كارنيجى" واهتداء بالشواهد التى ساقها، ثم إنه لا تكلف فيه ولا جور. قال المحرر: وردت هذه الآية الكريمة فى سياق النظم الذى تضمن حديث القبلة وتحويلها من بيت المقدس إلى الكعبة المكرمة.. ومن ثم كان لابد للمفسرين أن يلحظوا الرابطة التى بينها وبين موضوع القبلة، وأن يبينوا حظها الذى تؤديه من معانى هذا الحديث، فقالوا 1- الوجهة هى القبلة، ومن معنى الآية على هذا: إن لكل أهل دين وملة قبلة يتجهون إليها، مشركين كانوا أم كتابيين. ص _128(1/122)
2- إنها خاصة بأهل الكتب السماوية وحدهم، وهم: اليهود، والنصارى، والمسلمون، فلكل منهم قبلة خاصة به. 3- إنها خاصة بالمسلمين وحدهم، والمراد أن لكل قوم من المسلمين جهة من الكعبة يصلون إليها، جنوبية، أو شمالية، أو شرقية، أو غربية. اختلاف خصائص النفوس على أن الآية الكريمة تتسع لمعنى آخر، إذ تنص على أن لكل إنسان مذهبا فى الحياة، او اتجاها خاصا يتجه إليه، بحسب ما يجد فى نفسه من ميل طبيعى، أو ملاءمة لخصائص ذاته. ولسنا نقصر المذهب هنا على أن يكون للإنسان فى الحياة مبدأ واضح متميز فى السياسة، أو الاقتصاد، أو الفلسفة، أو نحوها، بل نريد الدائرة الواسعة التى تشمل البشر جميعا أصحاب المذاهب المتميزة وغير المتميزة. فإن الناس ليسوا نسخة واحدة مكررة متماثلة فى ملامح النفس ومشابه البدن.. فهم من حيث القالب الحسى مختلفون طولا وقصرا، ونحافة وغلظا، وقوة وضعفا، وصحة ومرضا.. وفى صفة الأنف والعين والفم والجبهة وسائر ملامح الوجه.. أى أن أبدانهم ووجوههم ليست مصبوبة فى قوالب متماثلة، ولا مطبوعة على مثال واحد.. بل ان الاختلاف ليذهب فى تلك الناحية الحسية حتى يشمل الأمور الدقيقة التى لا يكاد يُلتفت إليها، كتغاير آثار البنان فى البصمات المختلفة لملايين البشر. هذا الاختلاف المعجز العجيب الذى يدل على قدرة الخالق سبحانه يقابله اختلاف أخر فى ملامح النفس، وتسوية الطبع، وتقدير الغرائز، وخصائص الفكر والعاطفة.. فكما يختلف الناس فى التقاسيم الحسية الظاهرة يختلفون فى الملامح النفسية الباطنة. فلكل إنسان قالبه البدنى الذى لا يماثله فيه أحد، وكيانه المعنوى الباطن الذى يتميز به عمن سواه. ص _129(1/123)
اختلاف وجهات القلوب: ومعروف أن القالب الحسى إن هو إلا وعاء أو ظرف لخصائص الكيان المعنوى، وأن العوامل الباطنة المختلفة هى التى تتحكم فى توجيه البدن إلى الوجهة التى تشاء، وتفرض عليه من ألوان التصرفات ما تريد، فللطبع أحكامه، وللغرائز مطالبها، وللعاطفة أشواقها وميولها، وللفكر منطقه ونقده، وتمييزه. وكل ذلك لا يستطيع أن يتخذ سبيله إلى ظاهر الحياة إلا عن طريق البدن. أى لا يستطيع أن يعبر عن نفسه، ويكشف حقيقة مستورة إلا بوساطة الأجهزة المختلفة والجوارح المتباينة التى يتألف منها البدن، فالمرء حين يتكلم، أو يكتب، أو يشير بيده، أو يمشى برجله، أو يبيع، أو يشترى، أو يتصل بالناس، أو يتقلب فى أنواع التصرف، إنما ينبعث بنداء بواعث كامنة، وإملاء عوامل باطنة، وما حركات البدن إلا التعبير الطبيعى عن مقاصد تلك البواعث والعوامل. فحقيقة الإنسان- إذا- ليس هى بدنه الذى يؤمر فيأتمر، ويساق فيتحرك، ويسخر فيلزم ما يلى عليه أو يرسم له، بل هى المزاج المعنوى الذى يجمع اتجاهات الطبع والغرائز والعاطفة والفكر فى نسق واحد، أو كيان نفسانى يطبع سلوك صاحبه بطابعه الخاص، ويرسم له فى أذهان الناس شخصية متميزة عما سواها. هذا المزاج المعنوى، أو هذا الكيان النفسى هو حقيقة المرء التى تهب له وجوده المستقل، وتميزه بخصائصها الذاتية فلا يماثله فيها أحد. وبما أن سلوك المرء إن هو إلا الخط الذى ترسمه له طباعه، وميوله وغرائزه وذهنه، فلا جرم أن يكون لكل امرئ خطه الذى لا يشاركه فيه أحد ووجهته التى يتميز بها دون الناس. وهذا كله هو من معانى قوله سبحانه: (ولكل وجهة هو موليها) أى لكل من الناس قبلة، أى وجهة، على ما ذكره الإمام القرطبى فى تفسيره . احترام الوجود الذاتى للإنسان والحق سبحانه لا يريد بهذا القول الكريم مجرد التقرير والخبر وإفادة المعنى، بل يريد النص على سنة باقية، وقانون أصيل من قوانين صلاح الفرد والمجتمع. ص _130(1/124)
ا- يريد النص على أن لكل إنسان شخصيته المستقلة، فإذا هو حافظ على هذا الاستقلال، ودعم أصوله، وزكى فروعه، وعاش فى نطاق ذاتيته الخاصة، فقد مضى على سنة الله إذ أراده أمة وحده، ودولة قائمة بذاتها.. وإذا هو لم يعرف لنفسه حقها، فنافق الرؤساء ومن إليهم، أو مضى يقلد بعض ذوى الشهرة فى حركاتهم وأصواتهم ومظاهرهم وطريقة أدائهم للأعمال، أو راح على غير سجيته يتكلف الأمور ويرائى الناس فى تصرفاته، فقد جانب سنة الله، وأهدر شخصيته، وغير خلق الله الذى آثره به وسواه عليه، وتغيير خلق الله ما فتئ ديدن الشيطان منذ أقسم بين يدى رب العزة جل شأنه:( ولآمرنهم فليغيرن خلق الله) 2- ويريد سبحانه أن يقرر لكل إنسان حقه فى اختيار الوجهة التى يريدها لخدمة نفسه وقومه، أى حقه فى أن يعيش حرا فى نطاق المجتمع الصالح المتكافل، إذ يجب أن يكون هذا الاتجاه من نبع فؤاده ووحى ضميره ووجدانه، والله سبحانه يقول: (وجهة هو موليها) أى لكل إنسان وجهة هو الذى يتولى نفسه التوجه إليها، أو هو الذى يولى وجهه ونفسه نحوها. فإذا حملناه على غير طبيعته، فقد حملناه على الرهق، وأدخلنا التشويش على عوامله النفسية المؤتلفة، وذلك أيضا من تغيير خلق الله. ويريد الله سبحانه أن يقرر حرية الرأى لكل إنسان. فلكل إنسان وجهة نظر إلى الحياة من زاويتها، ولا يدرى أحد فى أى زاوية يكون الحق والخير. ورب حكمة ينشدها كبار الناس فى آفاقهم العقلية من زواياهم الخاصة فلا يجدون لها أثرا، لأنها مختبئة عنهم فى زاوية رجل مغمور، إذا نظر إليها بينها فى بساطة ووضوح.. فالنظر إلى الحياة من زواياها المختلفة يكفل لنا الإحاطة بأوفر حظ من الصواب والخير، أو هو نوع من التعاون الذهنى على استثارة ما فى هذا الكون من منافع حسية ومعنوية لمصلحة الفرد والمجموع. ولذلك خلقنا الله سبحانه متفاوتين فى طبيعة التفكير، وجعل لكل منا زاويته الخاصة التى ينظر إلى الحياة من عندها.. وليس معنى حرية(1/125)
التفكير أن الإنسان حر فى تنشيط مواهبه العقلية وعدم تنشيطها، فإن شاء فكر وشحذ ذهنه، وإن شاء تجاهل كل ما حوله، وترك ذهنه ص _131
كاسدا معطلا.. لا.. فإن لكل موهبة وهبها لنا سبحانه حقا علينا، هو تنشيطها، واستعمالها فيما خلقت له، وذلك من صميم شكر الله.. أما تعطيلها وإهمالها فهو ضرب من الكنود والجحود لنعمته سبحانه. فوق أنه ضرب من الحرمان والشقوة.. وما قيمة المرء إذا عاش بذهن كاسد معطل؟!. وما قيمة الأمة إذا عاش ملايينها الكثيفة فى معزل عن تمحيص الأمور وإدراك وجوه الحق فيها؟!. إن لك أن تتصور مبلغ ما يفوتها من المنافع وينالها من الشلل والتأخر إذا كانت زوايا البحث عن الحق ومنابع الخير فيها معطلة، أو مهدرة على هذا النحو الأثيم. والقول الفصل فى حرية الرأى أنها حق طبيعى للمرء، ولكنه حق يتخذ صفة التكليف اللازم، والرسالة الواجبة الأداء.. ذلك، وحرية الرأى هى حارس العدالة فى الشعب، والسياج الذى يكف الحاكم أن يستبد بأمور الناس. ولا قيام لحكم الطاغية إلا على الأذهان الممسوخة والأفكار الراكدة البلهاء، والحجر على ذوى الرأى أن ينظروا إلى الأمور إلا من الزاوية التى يراها لهم الطاغية.. وقد أدرك "فرعون مصر" قديما تلك الحقيقة، فأعلن إلغاء حرية الرأى بقوله: (ما أريكم إلا ما أرى وما أهديكم إلا سبيل الرشاد ). أى أنه اعتزم تعطيل ملكة الرأى فيهم، فلا يسمح أن يكون لهم رأى فى الأمور غير ما يرى هو فيها. وذلك من مسخ المواهب، وتغيير خلق الله، وصميم أمر الشيطان. احتمال الفساد والفرقة ولكن ما عاقبة أن يصبح كل منا حراً فى تفكيره، وميوله، وشخصيته واتجاهه فى الحياة؟. ألا يجوز أن يفضى بنا ذلك إلى ضرب من البلبلة، والفرقة، والتدابر، ونُبتلى بالشح المطاع، والهوى المتبع، وإعجاب كل ذى رأى برأيه؟. ص _1 ص(1/126)
إن تلك المبادئ تكون مأمونة العاقبة لو أن طبيعة الإنسان مفطورة من الخير المحض الذى لا يشوبه الاستعداد للشر.. أما وهو يحمل فى طبيعته خصائص الحمأ المنتن إلى ما يحمل من سر الروح العلوى، فإن إطلاق تلك المبادئ بلا قيد هو إطلاق لقوى الشر تعيث فى الأرض فسادا، فيكثر فينا السخفاء والماجنون، ويقل التعاون، وتنتشر المنكرات، ويصعب جمع أفراد الأمة فى رأى عام، وخطة تكفل وحدتها ومصلحتها. ضمان الصلاح والوحدة لهذا نرى الآية الكريمة تقرر الشروط وتضع القيود التى تنفى عنا شر تلك المبادئ، وتكفل خيرها وبرها، وذلك إذ يقول سبحانه: (فاستبقوا الخيرات أينما تكونوا يأت بكم الله جميعا إن الله على كل شيء قدير ) فإذا كان لكل إنسان وجهته الخاصة، فيجب أن تكون لتلك الوجهة غاية معينة تنظم سيرها، وتحكم أمرها، ولا نستطيع أن نتصور اتجاها للمرء ليس له غاية مقصودة أو غرض منشود إلا أن يكون أبله أو مجنونا. ولا ينازع أحد فى أن الغاية التى يصلح بها اتجاه المرء ـ ولا يصلح له اتجاه سواها ـ هى الخير، فذلك مقرر فى كل فطرة، وكل فلسفة رشيدة، وكل دين، ولذا يأمرنا الله سبحانه بقوله: (فاستبقوا الخيرات ) أى فاجعلوا الخير غايتكم فى كل وجه تنبعثون إليه. فإذا تقرر الهدف كانت وحدة الأمة. وإذا كان الخير هو الغاية، كان الصلاح لا محالة. ***** ص _133
إحساس المرء بنفسه إذا زاد عن حدة يحجبه عن الآخرين ويحصره فى عالم خاص به . ولا يزال ماضيا فى تكبير شأنه وتهوين غيره ولا تزال نفسه تعجبه وتنسج حول فكره غلالة سميكة من الغرور والشراهة . ولا تزال "أنا " تنمو فيه ويتضاعف ورمها وتضخمها حتى يقول " أنا ربكم الأعلى". ان حب الذات والعيش فى إفرازاتها ـ ولو كانت حريرا كالذى تفرزه دودة القز منته حتماً بالاختناق وهو اختناق أدبي وان وصل صاحبه إلى قمة المجد والسلطان. محمد الغزالى ص _134(1/127)
اصنع من الليمونة الملحة شرابا حلوا الصبر ـ كما عرفه علماؤنا: حبس النفس على ما تكره. وهذا تفسير حسن إذا عنينا به مواجهة الشدائد البغيضة بثبات لا نكوص معه، وعقل لا يفقد توازنه واعتداله. غير أن حبس النفس على ما تكره إذا عنينا به دوام الشعور بمرارة الواقع، وطول الإحساس بما فيه من سوء وأذى، قد ينتهى بالإنسان إلى حال منكرة من الكآبة والتبلد وربما انهزم الصبر أمام المقارنات التى تعقدها النفس بين ما نابها وما كانت تحب وتشتهى، كما قال الشاعر: أقول لنفسى فى الخلاء، ألومها: لك الويل، ما هذا التجلد والصبر؟ وهذه نهاية الإحساس المحض بالألم، والخبط فى ظلماته دون التماس نور يهدى فى دياجيه، أو عزاء ينقذ من مآسيه!! والإسلام يعمل على تحويل الصبر إلى رضا فى المجال الذى يصح فيه هذا التحول، ولن يتم تذوق النفس لبرد الرضا بإصدار أمر جاف، أو فرض تكليف أجوف، كلا، فالأمر يحتاج إلى تلطف مع النفس، واستدراج لمشاعرها النافرة، وإلا فلا قيمة لأن تقول: أنا راض، ونفسك طافحة بالضيق والتقزز!! وأول ما يطلبه الإسلام منك أن تتهم مشاعرك حيال ما ينزل بك. فمن يدرى؟ رب ضارة نافعة صحت الأجسام بالعلل، رب محنة فى طيها منحة. من يدرى؟ ربما كانت هذه المتاعب التى تعانيها باباً إلى خير مجهول، ولئن أحسنا التصرف فيها لنحن حريون بالنفاذ منها إلى مستقبل أطيب. ص _135(1/128)
(وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم وعسى أن تحبوا شيئا وهو شر لكم والله يعلم وأنتم لا تعلمون ) . إن أكثرنا يتبرم بالظروف التى تحيط به، وقد يضاعف ما فيها من نقص وحرمان وتكد، مع أن المتاعب والآلام هى التربة التى تنبت فيها بذور الرجولة. وما تفتقت مواهب العظماء إلا وسط ركام من المشقات والجهود. وفى هذا يقول "ديل كارنيجى": (كلما ازددت إيغالاً فى دراسة الأعمال العظيمة التى أنجزها بعض النوابغ، ازددت إيمانا بأن هذه الأعمال كلها ما تمت إلا بدوافع من الشعور بالنقص؟ هذا الشعور هو الذى حفزهم إلى القيام بها واجتناء ثمراتها. نعم، فمن المحتمل أن الشاعر "ملتون " لم يكن يقرض شعره الرائع لو لم يكن أعمى، وأن "بيتهوفن " لم يكن ليؤلف موسيقاه الرفيعة لو لم يكن أصم..). إن هؤلاء المصابين لم يجسموا مصائبهم ثم يطوفوا حولها معولين منتحبين، ولم يدعوا ألسنتهم تلعق ما فى واقعهم المر من غضاضة، كلا. لقد قبلوا الواقع المفروض، ثم تركوا العنان لمواهبهم تحول محنته إلى منحة، وتحول ما فيه من كدر وطين إلى ورود ورياحين. وتلك هى دعائم العظمة، أو هذا هو تحويل الليمونة الحامضة إلى شراب سائغ، كما يقول "كارنيجى" أوكما نقل عن "إيمرسون " فى كتابه "القدرة على الإنجاز" حيث تساءل: (من أين أتتنا الفكرة القائلة إن الحياة الرغدة المستقرة الهادئة الخالية من الصعاب والعقبات تخلق سعداء الرجال أو عظماءهم؟ إن الأمر على العكس، فالذين اعتادوا الرثاء لأنفسهم سيواصلون الرثاء لأنفسهم ولو ناموا على الحرير، وتقلبوا فى الدمقس. والتاريخ يشهد بأن العظمة والسعادة أسلمتا قيادهما لرجال من مختلفى البيئات؟ بيئات فيها الطيب وفيها الخبيث، وفيها التى لا تميز بين طيب وخبيث. فى هذه البيئات نبت رجال حملوا المسؤوليات على أكتافهم، ولم يطرحوها وراء ظهورهم..). **** ص _136(1/129)
وليس كل امرئ يؤتى القدرة على تحويل قسمته المكروهة إلى حظ مستحب ذى جدوى، فإن عشاق السخط ومدمنى الشكوى أفشل الناس فى إشراب حياتهم معنى السعادة إذا جفت منها، أو بتعبير أصح إذا لم تجئ وفق ما يشتهون. أما أصحاب اليقين وأولو العزم فهم يلقون الحياة بما فى أنفسهم من رحابة قبل أن تلقاهم بما فيها من عنت. وكما يفرز الجسم عُصارة معينة لمقاومة الجراثيم الهاجمة يفرز هؤلاء معانى خاصة تمتزج بأحوال الحياة وأغيارها فتعطيها موضوعا وعنوانا جديدين. واسمع إلى ابن تيمية وهو يقول ـ مستهينا بتنكيل خصومه: إن سجنى خلوة، ونفيى سياحة، وقتلى شهادة..!! أليست هذه الفواجع أقصى ما يصنعه الطغاة؟ إنها عند الرجل الكبير قد تحولت إلى نعم يستقبلها بابتسام لا باكتئاب. وقريب من هذا المسلك القوى ما رواه " ديل كارنيجى " عن سيدة نقلت مع زوجها الضابط إلى صحراء موحشة، فضاقت ذرعاً بمعيشتها، وهمت بترك رجلها وحده والعودة إلى أهلها، قالت هذه السيدة: (ولكن خطاباً ورد إلى من أبى تضمن سطرين، سطرين اثنين سأذكرهما ما حييت لأنهما غيرا مجرى حياتى وهذان هما: من خلف قضبان السجن تطلع إلى الأفق اثنان من المسجونين، فاتجه أحدهما ببصره إلى وحل الطريق، أما الآخر فتطلع إلى نجوم السماء. قالت السيدة: وقد تلوت هذه الكلمات وأعدت تلاوتها مراراً، فخجلت من نفسى وعولت أن أتطلع إلى نجوم السماء. من قديم عرف تفاوت الهمم باختلاف الطاقات فى الإفادة من الشدائد، والكسب من الظروف الحرجة. أو كما قال "وليم بوليثو": ليس أهم شىء فى الحياة أن تستثمر مكاسبك، فإن أى أبله يسعه أن يفعل هذا، ولكن الشىء المهم حقاً فى الحياة هو أن تحيل خسائرك إلى مكاسب، فهذا أمر يتطلب ذكاء وحذقاً، وفيه يكمن الفارق بين رجل كيس ورجل تافه). ص _137(1/130)
وهذا حق، وانظر إلى هذه الأمثلة لتحويل الخسائر إلى مكاسب: عندما فقد عبد الله بن عباس عينيه، وعرف أنه سيقضى ما بقى من عمره مكفوف البصر، محبوسا وراء الظلمات عن رؤية الحياة والأحياء، لم ينطو على نفسه ليندب حظه العاثر. بل قبل القسمة المفروضة، ثم أخذ يضيف إليها ما يهون المصاب ويبعث على الرضا فقال: إن يأخذ الله من عينى نورهما ففى لساني وسمعى منهما نور قلبى ذكى، وعقلى غير ذى دخل وفى فمى صارم كالسيف مأثور وقال "بشار بن برد" يرد على خصومه الذين نددوا بعماه وعيرنى الأعداء، والعيب فيهمو فليس بعار أن يقال ضرير إذا أبصر المرء المروءة والتقى فإن عمى العينين ليس يضير رأيت العمى أجراً ، وذخرا وعصمة وإنى إلى تلك الثلاث فقير ولا شك أن تلقى المتاعب والنوازل بهذا الروح المتفاءل، وهذه الطاقة على استئناف العيش والتغلب على صعابه، أفضل وأجدى من مشاعر الانكسار والانسحاب التى تجتاح بعض الناس وتقضى عليهم. وانظر البون بين كلام "ابن عباس " و"بشار"، وبين ما قاله "صالح بن عبد القدوس " لما عمى: على الدنيا السلام، فما لشيخ ضرير العين فى الدنيا نصيب يموت المرء وهو يعد حيا ويخلف ظنه الأمل الكذوب يمنينى الطبيب شفاء عينى وما غير الإله لها طبيب إذا ما مات بعضك فابك بعضاً فإن البعض من بعض قريب ونحن نحس الرقة لهذا الفؤاد الجريح، غير أنه خير لصاحبه أن ينهض ويسير، ويضاعف الإنتاج فى الحياة من مواهبه الأخرى، كما فعل الرجلان قبله. ****** ص _138(1/131)
العمل بين الأثرة والإيثار غريزة حب النفس أصيلة فى بنى آدم، ولا معدى عن الاعتراف بها ثم مراقبة سيرها فى الحياة حتى لا يشرد عن سواء الصراط. وليست هذه الغريزة شرا محضا كما يبدو للنظر العاجل، فإن نشاط العمران على ظهر الأرض يعود قبل كل شىء إليها. والقانون النفسانى العتيد القائم على حب اللذة وكره الألم، القائم على طلب المنفعة الخاصة ورفض الضرر، هو سر الاتصال الدائم فى مواكب الحياة والاتساع المستمر فى دائرتها. بل لعله سر التقدم العلمى المطرد، والكشوف التى نقلت العالم من طور إلى طور. وحب النفس إن يك طبيعة الناس فى الدنيا فعليه التعويل كذلك فى إحراز الآخرة، والزحزحة عن النار ودخول الجنة. وليس ضعة بالمرء ـ كما يزعم الزاعمون أن يعبد الله ابتغاء جنته أو خشية ناره، إن ذلك كمال عظيم ومسلك كريم. ولا تخد عنك عن هذه الحقيقة شطحات الصوفية وخيالاتهم الحائرة. (قل إني أخاف إن عصيت ربي عذاب يوم عظيم ) وإنما تحذر هذه الغريزة وتتقى عواقبها عندما تمرض، وعندما تتورم وتتضخم، ويعانى صاحبها منها العنت، ويعانى منها الظلم والبطر. وإحساس المرء بنفسه إذا زاد عن حده يحجبه عن الآخرين، ويحصره فى عالم خاص به. ولا يزال ماضيا فى تكبير شأنه وتهوين غيره. ص _139(1/132)
ولا تزال نفسه تعجبه، وتنسج حول فكره غلالة سميكة من الغرور والشراهة. ولا تزال "أنا " تنمو فيه، ويتضاعف ورمها وتضخمها، حتى يقول: " أنا ربكم الأعلى ! ". إن حب الذات، والعيش فى إفرازاتها ـ ولو كانت حريرا كالذى تفرزه دودة القز ـ منته حتما بالاختناق. وهو اختناق أدبى وإن وصل صاحبه إلى قمة المجد والسلطان!! و" أنا " دائما ـ شارة القصور الأدبى، والتصرف البهيمى. والأنانيون فى كل مجتمع لعنة ما حقه، تحترق فى سعيرها الفضائل والمصالح، وتذوب فى مرضاتها الأفراد والجماعات. ولا بأس أن نستطرد قليلا هنا لنذكر أن قوله "أنا" قد تكون آية علي تحمل التبعات الضخمة. وقد تكون مقصودة لذكر حقيقة يجب أن تتقرر فى الأذهان. وهى فى هذه المجالات أقرب إلى الإيثار منها إلى الأثرة. بل لا صلة لها بالمعانى الضيقة التى تعرف بها، وذلك كما فى الآية الكريمة: (قل هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني ) وكما فى قول الرسول صلى الله عليه وسلم : "أنا النبى لا كذب، أنا ابن عبد المطلب". فأنا فى هذه المناسبات صيحة القوة لنصرة الحق، وفاتحة العمل لدعم الإيمان، والتعهد بأداء الواجب وان نهضت تكاليفه، والشعور الحاد بأن المرء قبل غيره مفروض عليه أن يقوم بما ندب إليه. وفى الحديث أيضا: " إن أخشاكم وأعلمكم بالله أنا " فأنا هنا ليست ترجمة غرور واستعلاء، ولا يمكن بتة أن تومىء إلى هذه المشاعر، وإنما هى تحديد للمصدر الذى يؤخذ منه الحق وتقتبس منه الأسوة الحسنة، وينظر إلى ما عداه على أنه تنكب والتواء. ص _140(1/133)
"أنا" التى يقولها امرؤ فى مجال الطمع غير "أنا" التى يهتف بها رجل فى مجال الفزع، وبين الاثنين بعد المشرقين. والواقع أن الأثرة يجب أن تعالج منذ الطفولة المبكرة، حتى تنبت الناشئة وهى تنظر إلى نفسها وإلى غيرها نظرة لا جنف فيها ولا قصور. وقد قلنا فى كتبنا الأخرى: إن الإسلام جعل "الأخوة" العامة نظاما عادلا تصان به الحقوق والواجبات، ويتم فيه تبادل العاطفة على نحو يرقى بالإنسان، ويجمع بين ما ينشده لنفسه وبين ما يجب عليه للآخرين. ولعل من خير ما قيل فى آداب الأخوة ما نقله صاحب " قوت القلوب ": " ليكن صاحبك من إذا خدمته صانك، وإن قعدت به مؤونة مانك، وإن مددت يدك بخير مدها، وإن رأى منك حسنة عدها، وإن رأى منك سيئة سدها، وإن سألته أعطاك، وإن سكت ابتداك، وإن نزلت بك نازلة واساك، وإن قلت صدق قولك، وان تنازعتما آثرك. إن صديقك هو من يسد خللك، ويستر زللك، ويقبل عللك، ومن حق الصديق عليك أن تتجاوز له عن ثلاث: عن ظلم الغضب، وظلم الهفوة، وظلم الدالة". وقد حكى "ديل كارنيجى" فى كتابه قصصا كثيرة يريد من سوقها انتزاع الأثرة من النفس، والزج بالإنسان فى دائرة المحبة الشاملة والأخوة العامة، وتدريب المرء على أن يكون فعالا للخير مقبلا على الناس بالبر والمرحمة والتكريم، ثم قال: (أخال الكثيرين ممن يقرأون هذا الفصل سيقولون لأنفسهم: هذا الحديث عن الاهتمام بالناس وإسعادهم إن هو إلا سخافة، إن هو إلا وعظ دينى متنكر، لا يا عم، يفتح الله، نفسى أولا وليذهب " الآخرون " إلى الجحيم. إن كان هذا رأيك فليكن.. ولكنك إن حسبت أنك مصيب فكأنما تزعم أن كل الأنبياء والفلاسفة الذين تعاقبوا على مر العصور كانوا مخطئين. وعلى أية حال إن كنت تنأى عن تعاليم الأنبياء والمصلحين الدينيين فتعال نسأل النصيحة اثنين من الملحدين، ودعنا نبدأ بالأستاذ "هوسمان " بجامعة كامبردج. لقد ألقى فى عام 1936 ص _141(1/134)
محاضرة فى جامعة كامبردج قال فيها: لعل أعظم الحقائق التى وردت على لسان إنسان هى التى انطوى عليها قول السيد المسيح ـ عن ربه طبعا ـ : من وجد حياته يضيعها، ومن أضاع حياته من أجلى وجدها. نعم، لقد سمعنا وعاظاً كثيرين يقولون مثل هذا القول، ولكن "هوسمان " ليس واعظا، وإنما هو ملحد، متشائم، فكر فى الانتحار أكثر من مرة، وبرغم ذلك كله فقد أحس أن الرجل الذى يقصر تفكيره على نفسه لا ينال من الحياة شيئا يذكر؟ بل أحرى به أن يكون شقيا تعسا، أما الرجل الذى ينسى نفسه فى معاونة غيره فيصيب متعة العيش. فإذا لم يكن لقول "هوسمان " تأثير عليك فلنسأل النصيحة أعظم ملحد أمريكى فى القرن العشرين، وأعنى به "تيودور دريزر"، لقد سخر "دريزر" من الأديان جميعها " ووصفها بأنها أساطير الأولين، وقصص من نسج الخيال، وقال عن الحياة: "إنها قصة يرويها أبله، لا مغزى لها، ولا معنى". ولكن "دريزر" برغم ذلك يقول: إذا شاء الرجل أن يستخلص من الحياة المتعة، فعليه أن يساهم فى اجتلاب المتعة للآخرين، فإن متعة الشخص تعتمد على متعة الآخرين، ومتعة الآخرين تعتمد على متعته). ***** من المحزن أن تصل سمعة الوعظ الدينى إلى هذا الدرك، حتى يضطر الموجهون ـ كى يقنعوا الآخرين بسداد نصائحهم ـ إلى الاستدلال عليها بكلام أكابر الملحدين!! ولماذا؟ ليعلم الناس أن الأمر ليس مصيدة لاقتناص ثواب الآخرة. وليس استدراجاً لإطاعة أوامر الله. لا... إن الأمر يقوم على حقيقة علمية يجب أن يستوى المؤمنون والكافرون فى احترامها. إذن فلنحب غيرنا، ولنجتهد فى إسعاده، فذلك أفضل طريق لراحة أنفسنا وضمان سعادتها، وليس فى ذلك استجابة لوعظ أو إرشاد. ونحن نعلم أن الأثرة نقمة على أصحابها وعلى الناس، وأن الله عز وجل شرع لنا من التعاليم ما يجنبنا نقائصها، وما يجعل من البشر جماعات متكافلة متعاونة على ص _142(1/135)
البر، متواصلة بالمرحمة. فلنسمع إلى هدايات الله فى هذا الشأن، عل ما بها من روعة وجلال يغنينا عن أقوال الملحدين الصغار أو الكبار. إن المسلم الكامل عضو نافع فى أمته، لا يصدر عنه إلا الخير، ولا يتوقع منه إلا الفضل والبر، فهو فى حركته وهدأته شعاع من نور الحق، ومدد من روافد البركة واليمن، وعون على تقريب البعيد وتذليل الصعب. يسعى فى هذه الحياة وقلبه مفعم بالمحبة، ولسانه رطب بالود والمسالمة، ويده مبسوطة بالنعمة بفيئها على من يلقاه، ويقدمها ـ من غير تكلف ـ إلى سواه. تلك هى طبيعة الإسلام ورسالة المسلم فى هذه الحياة. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم . "على كل مسلم صدقة". فقالوا يا نبى الله فمن لم يجد؟ قال: "يعمل بيده فينفع نفسه ويتصدق ". قالوا: فإن لم يجد؟ قال: "يعين ذا الحاجة الملهوف لما. قالوا: فإن لم يجد قال: "فليعمل بالمعروف وليمسك عن الشر، فإنها- أى هذه الخصلة- له صدقة" . وهذا الحديث الكريم يقسم الناس درجات حسب مواهبهم ومنازلهم. فالقوى الجلد زكاة قوته وجلده أن يزيد فى إنتاج الأمة، وأن يسهم فى نهضتها العامة، وأن يصل نشاطه بنشاط أنداده، فيتعاونون جميعا على البر والتقوى لا على الإثم والعدوان. وهو بهذا العمل ينفع نفسه، ويؤدى الضريبة التى تجب عليه للمجتمع الذى يحيا فيه، تلك الضريبة التى عبر عنها الحديث الشريف بقوله: "على كل مسلم صدقة" فمن عجز عن هذا العمل الإيجابى الواسع فلن يعجز أن يكون عونا للآخرين، ومؤيدا للعاملين. فإذا لم يرحم بنفسه أعان الراحمين. وإذا لم ينفع بقوته ساعد النافعين وشد أزر المكافحين. وذلك ما عبر عنه الرسول الكريم بقوله: "يعين ذا الحاجة الملهوف ". ص _143(1/136)
وقد يكون المسلم فى مرتبة دون هذه وتلك، ليس له من بواعث الكمال ووسائل الترقى ما يجعله قويا ينفع أو معيناً يشفع. فعليه عندئذ أن يلزم خاصة نفسه فيفعل الخير ويترك الشر، ويتمسك بالخصلة الباقية له من شعب الإيمان؟ فلعل هذا أن ينجو به، كما دل على ذلك ختام الحديث: " فليعمل بالمعروف وليمسك عن الشر فإنها له صدقة ". هذه هى معالم السلوك الطيب كما شرحها رسول الإسلام، تلمح فيها أن المؤمن خير كله، يتألق فى جبينه الشرف، وتلتمس فى سيرته المروءة، ويقبل عليه من يعرفونه ومن ينكرونه، وهم واثقون من نبل خصاله وكرم خلاله. إن شر الناس عند الله من لا يرجى خيره ولا يؤمن شره. والمؤمن لن يكون كذلك أبدا، فصلته بالله عز وجل تجعله مرجو الخير مأمون الشر، ورسالته فى الحياة لا تجعله عضواً أشل ولا عضوا فاسدا، بل عضوا يحقق الصالح العام، ويرتقب فى ظله الأمان ونجح المقصد. وقد ضرب رسول الله مثلا للمؤمن النخلة، كل شىء فيها ينفع، كأن المؤمن على اختلاف أحواله لن يكون إلا نافعاً، وإن تفاوتت مظاهر نفعه وتباينت آثارها، ولعل فى ذلك تفسيراً للآية الكريم: (ألم تر كيف ضرب الله مثلا كلمة طيبة كشجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء * تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها ) . فالآية تشرح طبيعة المؤمن ونتائج صدق اليقين فى سلوكه. إن فؤاده ينبوع جياش بالإحساس والإفضال، وحياته سلسلة موصولة الحلقات من فعل الخير ودعم المثل العليا وإبراز عناصر الفضيلة. والجماعة المؤمنة يجب أن تكون صورة لما وعته تعاليم الإسلام من إعظام لخلال الخير، وإنكار لخلال الشر، صورة تجعل أهل الأرض جميعا ينظرون إلى أمتنا فتعجبهم أحوالها وتزدهيهم أفعالها. فإن الناس لا تغريهم الأقوال المعسولة قدر ما تغريهم الأعمال الجليلة، والأخلاق الماجدة. ص _144(1/137)
روى أن صحابياً وقع فى أيدى المشركين فحبسوه ليقتلوه، فتسرب إليه صبى من أهل الحى وقعد فى حجره، وكانت بيد الأسير موسى يحلق بها زوائده، فتلفتت أم الصبى مذعورة؟ وقد رأت وليدها فى حجر الأسير، وطارت بلبها الظنون، فأقبلت عليه فزعة، فنظر إليها الأسير فى وداعة ورقة وقال لها: "أظننت أن يصيب ابنك شر، ما كنت لأفعل ذلك إن شاء الله ". ذاك هو المسلم الحق. وروى أن "أبا ذر" رضى الله عنه قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم حين قال: "على كل نفس فى كل يوم طلعت فيه الشمس صدقة". قلت: "يا رسول الله: من أين أتصدق وليس لنا أموال؟ ". قال: "من أبواب الصدقة: التكبير، وسبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، وأستغفر الله، وتأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر، وتعزل الشوك عن طريق الناس والعظم والحجر، وتهدى الأعمى، وتسمع الأصم والأبكم حتى يفقه، وتدل المستدل على حاجة له قد علمت مكانها، وتسعى بشدة ساقيك إلى اللهفان المستغيث، وترفع بشدة ذراعيك مع الضعيف، كل ذلك من أبواب الصدقة منك على نفسك " . فانظر سعة الدائرة التى يمتد إليها نشاط الفرد الواحد فى مساعدة الآخرين ومواساتهم. إن العافية إذا ملأت بدن امرئ فإن الله ينيط بها حقوقاً جمة، ويفرض على كل عظم وعصب مدداً ينشط عليه الضعاف، ويستريح به المصابون.. ولا غرو فالعافية رأس مال ضخم، ولكن أكثر الناس يسيئون استغلاله ويحقرون مناله. فإن كانت هذه وظيفة المسلم الواحد فى بيئته المحدودة فكيف تكون وظيفة الأمة الإسلامية بين أمم العالم أجمع؟ إن أداء حق الله فى هذا المضمار النافع أساس النجاح فى الدنيا وأساس الفوز فى الأخرى. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "صنائع المعروف تقى مصارع السوء، والصدقة تطفئ غضب الرب، وأهل المعروف فى الدنيا هم أهل المعروف فى الأخرة، وأهل المنكر فى الدنيا هم أهل المنكر فى الآخرة، وأول من يدخل الجنة هم أهل المعروف ". ****** ص _145(1/138)
للحياة فى الجسم علائم تدل عليها من إحساس ونبض وحرارة. وللإيمان فى القلب علائم تدل عليه، وتلفت إلى وجوده حيا يؤدى واجبه، ويستعد لما يكفف به. وقد نبه رسول الله إلى معلم خطير من معالم الإيمان حين قال : "إذا سرتك حسنتك وساءتك سيئتك فأنت مؤمن ". أجل، فإن انشراح الصدر لخير تفعله وانقباضه لسوء ترتكبه دليل على أن هناك معنى معينا يسيطر عليك، ومقياسا خاصا تضبط به ما تحب وما تكره من خُلُق أو سلوك. أما الرجل الذي يواقع الدنايا غير متأذ بما يصدر عنه فهو رجل ميت الضمير، والضمير الميت كالجسم الميت لا يتحرك لطعنة بله أن يهتز لوخزة !! والإسلام يفترض أن الخير فى نفس المؤمن بعيد الغور كطبقات التربة الخصبة، كلما ضربت الجذور فيها وجدت عناصر موفورة بأسباب الحياة والنماء. ومن ثم فالمؤمن فعال للخير عن عشق، ماض فيه على تثبيت ورسوخ. أما الآخرون من أدعياء المجتمع، ومتصنعى الخير لضرورات طارئة، فإن قلوبهم متحجرة قاسية، وقد يكسى هذا الحجر الجلمد بطبقة من الغبار والأتربة، بيد أن هذا الغبار المتراكم- مهما كثر- لا تنبت فيه بذور، ولا تصلح عليه زراعة!! هكذا ضرب الله لنا أمثلة الأدعياء والأصلاء فى فعل الخير. فقال: (لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى كالذي ينفق ماله رئاء الناس ولا يؤمن بالله واليوم الآخر فمثله كمثل صفوان عليه تراب فأصابه وابل فتركه صلدا لا يقدرون على شيء مما كسبوا والله لا يهدي القوم الكافرين * ومثل الذين ينفقون أموالهم ابتغاء مرضات الله وتثبيتا من أنفسهم كمثل جنة بربوة أصابها وابل فآتت أكلها ضعفين فإن لم يصبها وابل فطل والله بما تعملون بصير) ص _146(1/139)
كما ينزل المطر على الرخام فيغسل ما على سطحه، ويكشف عن طبيعته، يجئ الجزاء الأعلى فيكتسح ما على القلوب المتحجرة من تراب يشبهها بالأرض الخصبة، وبذلك تبدو على يبسها وجفافها وإقفارها من المعروف والفضل. أما القلوب الأخرى فإن أسرار البركة المودعة فيها، وآمال البر والإحسان المرتقبة منها تجعل الجزاء الأعلى يحل بها غيثاً غدقاً تمرع به وتزدان. فلنفعل الخير عن حب مكين، ولنطهره من علل المن والظهور، ولنتحرر من الأغراض الصغيرة التى تجعل الرجل لا يعطى إلا ليكتسب نصيرا، أو ليتخذ يداً. ***** والأمر يحتاج إلى مران طويل كيما يخلص العمل من الشوائب التى تشينه، فتشبث "الأنانية" بالنفس كبير، والتماس العوض العاجل على بذل المعروف شائع بين الناس، وإن اختلفت مشاربهم فى نوع هذا العوض ومقداره. ولن يخطئك ـ وأنت تلمح مسالك الناس ـ أن ترى طغيان الذات ـ لا حب الذات ـ كامنا وراء الكثير من الأعمال والأحوال، وان اجتهد أصحابها فى إلباسها صوراً بعيدة عن الريبة والجور. والاضطراب الاجتماعى الذى نعانيه إنما ينبع من هذه العين الحمئة، فإن فقدان التعاون، وقلة الاكتراث بشئون الجماعة، وتأخير الاهتمام بالبلد الذى نحيا فيه والأمة التى نرتبط بها والرسالة التى ننتسب إليها، كل ذلك أمارة على ضعف اليقين ونجوم النفاق. وقد وصف الله عز وجل المنسحبين من معركة أحد وصفاً يكشف عن داء الأنانية المتغلغل فى نفوسهم فقال: (وطائفة قد أهمتهم أنفسهم يظنون بالله غير الحق ظن الجاهلية يقولون هل لنا من الأمر من شيء قل إن الأمر كله لله) ص _147(1/140)
فهؤلاء قوم أعجبتهم أنفسهم وحدها وآراؤهم وحدها، فإذا لم يسمع لهم، وإذا لم ينزل الآخرون على رأيهم، فلن تراهم إلا ساخطين ناقدين. ومن هؤلاء من يربط رأيه بمدى المنفعة التى تعود عليه، فإن امتلأت يداه صاح حامداً، وإن نسى أو تنوسى انفتل يصخب ويحتج ويتلمس المطاعن. (ومنهم من يلمزك في الصدقات فإن أعطوا منها رضوا وإن لم يعطوا منها إذا هم يسخطون ). وجمهور كبير من الناس يعيشون فى حدود مطالبهم الخاصة، فإذا كانت لهم حاجة اشتد إحساسهم بها، وطال إلحاحهم فى قضائها. ولا يزالون يسعون وراء الذى لهم ـ أو بتعبير أدق ـ ما يرون أنه لهم حتى يدركوه عن آخره، بل يزيدون ويغالون. أما إذا كان عليهم شىء فهم يذهلون عنه، وقلما يذكرونه إلا إذا طولبوا به وأزعجوا إليه، فإذا أدوه بعد ذلك فهو أداء ناقص مبتسر. هذا لون من الأثرة الجشعة الجائرة ذكر القرآن بعض صوره فى قوله عز وجل: (ويل للمطففين * الذين إذا اكتالوا على الناس يستوفون * وإذا كالوهم أو وزنوهم يخسرون*ألا يظن أولئك أنهم مبعوثون * ليوم عظيم * يوم يقوم الناس لرب العالمين) . وهذه الأثرة التى تظهر فى ضعف الإيمان بالحق والجزاء، كما تظهر فى بخس مكيال أو ميزان، تظهر فيما هو أكبر وأجل. وقد ذكر القرآن صورة أخرى لها فى الرجل يقبل الحكم له لأنه مغنم، ويرفض الحكم عليه لأنه مغرم، غير ناظر لعدالة أو مصلحة عامة: (وإذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم إذا فريق منهم معرضون * وإن يكن لهم الحق يأتوا إليه مذعنين * أفي قلوبهم مرض أم ارتابوا…) ص _148(1/141)
إن هذا النوع من الخلق الردىء يسىء إلى المجتمع الإسلامى إساءة بالغة. فإن الشخص الذى لا تهيجه إلا منافعه الخاصة، ولا يكترث للمصلحة العامة شخص تشقى به البلاد والعباد. وكم تضار الدولة من موظف يستغرق انتباهه كله حديث المرتبات والزيادات، ولا يهتم أدنى اهتمام بحديث العمل الواجب. إنه لا يشعر إلا بما يحسبه حقاً له. أما ما ارتبط بذمته من تكاليف، واقترن بهمته من مطالب وأعمال فهو لا يدريه. وما على هذا تبنى أمة، أويقوم مجتمع. والمجتمع الزكى يقوم على رجال يعرفون حق الله، وحق الجماعة عليهم، ويقوم بانشغال هذا وذاك بأداء ما عليهما من واجب، فإن الثمرة الدانية فى هذا المجتمع أن يصل إلى كل امرئ حقه الطبيعى دون ضجر أوجدل. والأنانيون عندما يسلطون أفكارهم الضيقة على الدين يمسخون نصوصه، ويحرفون الكلم عن مواضعه، فهم يفهمونه ثوابا بلا عمل، وثمرة بلا غرس، أو عقابا يقع على الآخرين وحدهم، هيهات أن يمسهم منه لفح!! أجل فإن المحصورين فى حدود أنفسهم وأثرتهم ومنافعهم الذاتية تنعكس نصوص الدين مشوهة فى أفكارهم، فليسوا يفهمون منها إلا ما يشتهون. ساكنى بعضهم: أليس مصيرنا الجنة نحن المسلمين مصداق قول رسول الله : "من قال لا إله إلا الله دخل الجنة" . فنظرت إليه وقدرت المسافة بين عمله وأمله فوجدتها بعيدة بعيدة. ورأيت أنه لا يحفظ من الإسلام إلا ما يظنه عونا على كسله. كالمتسول الذى تغيب عن ذهنه آيات القرآن كلها، فلا يعى منها إلا آية واحدة: (من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها ) ص _149(1/142)
فهو يقرأ الآية ليستدر بها الأكف ويجمع الأموال. قلت: ألا تعرف من سنة رسول الله إلا هذا الحديث وحده؟ إن رسول الله إلى جانب ما رويت يقول : "لا يدخل الجنة قتات " . ويقول: "لا يدخل الجنة قاطع رحم " . ويقول: "لا يدخل الجنة من كان فى قلبة مثقال ذرة من كبر" . ويقول: "ليس منا من غشنا" . ويقول: "ليس منا من لطم الخدود، وشق الجيوب، ودعا بدعوى الجاهلية" . ويقول: "ليس منا من خبب- أى أفسد امرأة على زوجها". ويقول: "ليس منا من لم يوقر كبيرنا، ويرحم صغيرنا، ويعرف لعالمنا حقه " . أفنسيت هذه السنن كلها لأنها تدلك على ما ارتبط بعنقك من واجبات ولم تع إلا ما حسبته حقا لك وهو الجنة، فأنت تطلبه بلا ثمن؟! وهذا الصنف من الناس ضعيف الإحساس بأخطائه، فإذا أكره على الشعور بنقيصه اقترفها اعتقد أن فى استطاعته تكفير سيئاته كلها باعتذار تافه، أو حسنة خفيفة. إن أولى الألباب لما دعوا الله أن يغفر ذنوبهم، كان من إجابته لهم أن قال: (فالذين هاجروا وأخرجوا من ديارهم وأوذوا في سبيلي وقاتلوا وقتلوا لأكفرن عنهم سيئاتهم ولأدخلنهم جنات تجري من تحتها الأنهار ) . ص _150(1/143)
أما الحمقى فهم الذين يتوهمون أن خطيئاتهم الكبرى تذوب من تلقاء نفسها، دون أن تعالج بالدلك والتطهير والإنقاء، وما يستتبعه ذلك من جهد مضن وسهر طويل. أعرف من مطالعاتى الكثيرة أن هناك من الآثار ما يقرن المغفرة العامة بعمل قد يبدو فى ظاهره سهل الأداء، كتساقط الذنوب مع قطرات ماء الوضوء مثلاً، فلا يضطرب فهمك فى قيم الأعمال لهذه الظواهر. وتأكد أن الثواب الجزيل لا يسوقه الله عز وجل فى عمل كالوضوء، إلا إذا صاحبه من عمق الإيمان وصدق الإخلاص وجمال الاحتساب ما يجعل صاحبه أهلا لأن يبذل النفس والنفيس فى سبيل الله تبارك وتعالى. إن الدين حقوق وواجبات، وإن الدنيا حقوق وواجبات. وكل عقد ذى بال بين طرفين فهو ينطوى على حقوق وواجبات. فأد واجبك، واشعر بعبئه على كاهلك، ولا تلتمس منه المهارب. فإذا وفيت بما عليك، فانتظر حقك، أو اطلبه كاملاً فلن يعيبك أحد. أما أن ينطلق المرء فى الدنيا متطلعاً شعاره: " هل من مزيد " من غير كفاية ولا استحقاق، فهذه هى الكارثة. ومثل هذا المسلك لا تُضمن به دنيا، ولا يصح به دين. ****** ص _151(1/144)
نقاء السر والعلانية علاج الأمور بتغطية العيوب وتزويق المظاهر لا جدوى منه ولا خير فيه، وكل ما يُحرزه هذا العلاج الخادع من رواج بين الناس أو تقدير خاطئ لن يغير شيئاً من حقيقته الكريهة. ومن هنا لم يحمل الإسلام بالظواهر إذا كانت ستاراً لتشويه معيب، أو نقص شائن، فما قيمة المظهر الحلو إذا كمن وراءه مخبر مر؟! من قديم غالى العرب بجمال الحقيقة، ولم يسمحوا للعنوان ـ وإن لم يكن كفأها ـ أن يخدش من قدرها، فقال قائلهم : إذا المرء لم يدنس من اللؤم عرضه فكل رداء يرتديه جميل!! على حين حقروا جمال الملامح إذا كانت النفس خبيثة، والخلق وضيعاً، فقال الشاعر: علي وجه مى مسحة من ملاحة وتحت الثياب الخزى لو كان باديا ألم تر أن الماء يكدر طعمه وان كان لون الماء أبيض صافيا؟ من أجل ذلك لم يعتد الإسلام بتكمُّل الإنسان وتجمله إلا إذا قام هذا التسامى على نفس طيبة، وصحيفة نقية، وفؤاد زكى، وضمير أضىء من داخله، فله سناً يهدى صاحبه إلى الصراط المستقيم. الجمال عمل حقيقى فى جوهر النفس، يصقل معدنها، ويذهب كدرها، ويرفع خصائصها، ويعصمها من مزالق الشر، وينقذها من خواطر السوء، ثم يبعثها فى الحياة كما تنبعث النسمة اللطيفة فى وقدة الصيف، أو الشعاع الدافئ فى سبرة الشتاء.... وعندما تبلغ النفس هذا المستوى ترتد وساوس الشيطان عنها لأنها لا تجد مستقراً فيها، بل لا تجد مدخلا إليها. ص _152(1/145)
إن المرء يتجاوب مع معانى الخير والشر الطارئة عليه من الخارج، كما يتجاوب جهاز الاستقبال مع الموجات الطوال أو القصار التى ترسل إليه. فبحسب وضعه وانضباط آلاته على جهة معينة تكون طبيعة الإذاعة التى تصدر عنه. كذلك الإنسان إذا طابت نفسه أو خبث. إنه فى الحالة الأولى يحيا فى جو من الخير تنحسر دونه موجات الإثم والعصيان، وذلك ما أشار إليه القرآن الكريم فى قوله عن الشيطان: (إنه ليس له سلطان على الذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون * إنما سلطانه على الذين يتولونه والذين هم به مشركون) أما فى الحالة الأخرى فإن المرء يستجيب لدوافع الجريمة التى تلح عليه، وتسوقه إلى مصير كئيب، وذلك قول الله عز وجل: (ألم تر أنا أرسلنا الشياطين على الكافرين تؤزهم أزا * فلا تعجل عليهم إنما نعد لهم عدا). وقد طلب الله من عباده أن ينقوا سرائرهم من كل غش، وأن يحفظوا بواطنهم من كل كدر، وأن يتحصنوا من كيد الشيطان بمضاعفة اليقظة وإخلاص العمل، وصدق التوجه إليه جل شأنه. وأنزل سورة كاملة تدعو إلى الوقاية من الهواجس الوضيعة والخواطر المظلمة، وتحفظ على المرء إشراق روحه ونقاوة جوهره. وإليك السورة كاملة: (قل أعوذ برب الناس * ملك الناس * إله الناس * من شر الوسواس الخناس * الذي يوسوس في صدور الناس * من الجنة و الناس) هذه الاستعاذة تصور لجأ المؤمن إلى الله يحتمى بقوته ويستجير بعزته، أن يبقى عليه جمال نفسه غير مشوب بوسوسة شيطان، ولا معيب بنية غدر أو ختل أو شر لأحد من الناس ص _153(1/146)
والاستعاذة لا بد معها من عمل. فإذا قال الفلاح: أعوذ بالله من القحط، فما يقبل منه ذلك إلا إذا كان يقوله وهو يحرث أرضه، ويسقى زرعه، ويتعهد جهوده حتى تبلغ نهايتها. وإذا قال التلميذ: أعوذ بالله من السقوط، فما يغنيه هذا إلا إذا أقبل على دروسه يستذكرها، وعلومه يحصلها، ومعارفه المشتتة يصل قاصيها بدانيها. وإذا قال المسلم: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، فما يجديه هذا إلا أن يكون مقاوما لإغراء الشر، مدافعا للسيئات التى تعرض له، دائم التحليق مع معانى العبادة المفروضة عليه. أما أن يقول: أعوذ بالله وهو مخلد إلى الأرض يتبع هواه، فذلك ضرب من التناقض، لا ينطلى على عالم الغيب والشهادة. الإسلام فى عالم النفس جمال ينفى القبح، ونظام يطارد الفوضى. والعظمة الحقيقة أن يستقر المرء فى دخيلة نفسه على حال من السكينة واليقين ييأس معها الشيطان أن يقذف فى روعه بنكر. انظر إلى الريح العاصف، إنه يهب على الصحراء فيثير فيها الغبار. ويهب على الماء فيغضن وجهه، ويحرك لججه. ولكنه يناوش الجبال الشم فلا ينال منها منالا. والإنسان إذا كان أمره فرطا، فإن وساوس الشيطان تثير داخل نفسه زوابع لا ينتهى لها دوار ولا عكار. أما يوم يحزم أمره، وينتظم الإيمان شئونه كلها، فهيهات أن يهتز لهجمات الأبالسة. وإصلاح النفس لا يتم بتجاهل عيوبها أو بإلقاء ستار عليها. وتجميلها لا يكون بإقامة إهاب نضر تكمن وراءه شهوات غلاظ وطباع فجة. الحسن المحبوب أن يستوى الظاهر والباطن فى نصاعة الصحيفة واستقامة السيرة. (وذروا ظاهر الإثم وباطنه إن الذين يكسبون الإثم سيجزون بما كانوا يقترفون) ص _154(1/147)
ويجب أن نعلم بأن اكتمال الخصائص الإنسانية الفاضلة لا يتم طفرة، ولا ينشأ اتفاقا. بل هو نتيجة سلسلة من الجهود المتلاحقة، والبرامج المدروسة، والإشراف الدقيق. إن الملكات العظيمة تكمن فى النفس كمون الجمال والعذوبة والحلوى فى البذور والبراعم. وكما تتضافر الحرارة والمياه وضروب العناية على استخراج أطايب الثمر من هذه الأصول المطوية الضامرة، تتضافر عناصر البيئة الصالحة والتربية الراشدة على تفتيق المواهب العليا فى الإنسان، وإنضاج ما يولد فجاً فى أيام الطفولة وعهود الحداثة الأولى، حتى يبلغ مداه، ويصل إلى مستواه. وكثيراً ما تعطب الثمار ويقل المحصول لفساد الجو الذى أحاط بالزروع. وكثيراً ما تفسد الأجيال وتلتهم نضارتها الآفات لقصور المربين والمعلمين عن تهيئة الجو الذى تنبت فيه الناشئة نقية الفطرة مصونة النماء. ****** على أن الله عز وجل لا يهب المعرفة والحكمة إلا إنساناً تعود الإحسان فى شئونه كلها. وتمكن من ضبط نفسه وإحكام أمره وتسديد خطاه. ومشى على الصراط المستقيم لا تهزمه وساوس الشر، ولا ترده عن غايته غمزات الشياطين. يقول الله فى عبده الصالح يوسف: (ولما بلغ أشده آتيناه حكما وعلما وكذلك نجزي المحسنين) . أى مثل ما آتى من أفضاله جزاء اكتمال رجولته وصدق نيته وشرف سيرته، يؤتى من يقتدون به فى إحسان العمل وإجمال السلوك. والمربون الأوائل من علماء الإسلام لهم جهاد هائل فى قيادة النفوس إلى الحق، وتخليصها من غرائز السوء التى تثقل بها إلى الحضيض. ص _155(1/148)
وحسهم فى هذه المجالات الراقية بلغ من الدقة شأواً لا نعرف له نظيراً. وهم يهيبون بالإنسان أن يرتفع، ويناشدونه فى حرارة وإخلاص أن يقاوم ذرائع السقوط. ويذكرونه بأنه يملك ـ من فطرته الأصيلة ـ ما يستطيع به الاستعلاء. ومن الآداب التى ذكروها نلمح أنهم لا يعرفون التدين إلا يقظة فى العقل، ونبلا فى العاطفة، وسيادة لا تلحقها ضعة، وتحليقا لا يدنيه إسفاف. لقد وضعوا طرائق للرياضة النفسية تعد من أبدع الدساتير فى عالم الأخلاق، وهم يوصون مدمنى الشهوات بملاحظة الأمور الآتية، وهى كفيلة بتخليص أسير الهوى من براثن الشيطان عندما يغريه بمواقعة المعصية: الأول: عزيمة حر يغار لنفسه وعليها. الثانى: جرعة صبر يحمل نفسه على مرارتها ساعة الإغراء. الثالث: قوة نفس تشجعه على شرب تلك الجرعة. والشجاعة كلها صبر ساعة، وخير العيش ما أدركه العبد بصبره. الرابع: ملاحظة حسن موقع العاقبة، والشفاء بتلك الجرعة. الخامس: ملاحظته أن ما ينشأ عن الهوى من ألم أشد مما يحسه المرء من لذة. السادس: إبقاؤه على منزلته عند الله تعالى. وفى قلوب عباده، وهو خير وأنفع له من لذة مرافقة الهوى. السابع: إيثار لذة العفة وعزتها وحلاوتها على لذة المعصية. الثامن: فرحه بغلبة عدوه؟ وقهره له، ورده خائباً بغيظه وغمه وهمه؟ حيث لم ينل أمنيته. التاسع: التفكير فى أنه لم يخلق للهوى، وإنما هيئ لأمر عظيم لا يناله إلا بمعصية الهوى. ص _156(1/149)
العاشر: أن يكره لنفسه أن يكون الحيوان البهيم أحسن حالا منه؟ فإن الحيوان يميز بطبعه بين مواقع ما يضره وما ينفعه فيؤثر النافع على الضار، والإنسان أعطى العقل لهذا المعنى. الحادى عشر: أن يسير بفكره فى عواقب الهوى، فيتأمل كم أفاتت عليه معصيته من فضيلة، وكم أوقعته فى رذيلة، وكم أكلة منعت أكلات، وكم من لذة فوتت لذات، وكم من شهوة كسرت جاهاً، ونكست رأساً، وقبحت ذكراً وأورثت ذماً، وألزمت عاراً لا يغسله الماء، غير أن عين الهوى عمياء. الثانى عشر: أن يتصور العاقل انقضاء غرضه ممن يهواه، ثم يتصور حاله بعد قضاء الوطر، وما فاته وما حصل له. الثالث عشر: أن يتصور ذلك فى حق غيره حق التصور، ثم ينزل نفسه تلك المنزلة، فحكم الشىء حكم نظيره. الرابع عشر: أن يتفكر فيما تطالبه به نفسه من ذلك، ويسأل عنه عقله ودينه يخبرانه بأنه ليس بشىء. الخامس عشر: أن يأنف لنفسه من ذل طاعة الهوى، فإنه ما أطاع أحد هواه إلا وجد فى نفسه ذلا، ولا يغتر بصولة أتباع الهوى وكبرهم، فهم أذل الناس بواطن، قد جمعوا بين الكبر والذل. السادس عشر: أن يوازن بين سلامة الدين والعرض والمال والجاه، وبين نيل اللذة المطلوبة، فإنه لا يجد بينهما نسبة البتة، فليعلم أنه من أسفه الناس ببيعه هذا بهذا. السابع عشر: أن يأنف لنفسه أن يكون تحت قهر عدوه، فإن الشيطان إذا رأى من العبد ضعف عزيمة، وسقوط همة، وميلا إلى هواه، طمع فيه وصرعه وألجمه بلجام الهوى وساقه حيث أراد. ومتى أحس منه بقوة عزم وشرف نفس، وعلو همة، لم يطمع فيه إلا اختلاساً وسرقة. ص _157(1/150)
الثامن عشر: أن يعلم أن الهوى ما خالط شيئا إلا أفسده، فإن وقع فى العلم أخرجه إلى البدعة والضلالة، وصار صاحبه من جملة أهل الأهواء. وإن وقع فى الزهد أخرج صاحبه إلى الرياء ومخالفة السنة. وإن وقع فى الحكم أخرج صاحبه إلى الظلم وصده عن الحق. وإن وقع فى القسمة خرجت عن قسمة العدل إلى قسمة الجور. وإن وقع فى الولاية والعزل أخرج صاحبه إلى خيانة الله والمسلمين حيث يولى بهواه ويعزل بهواه. وإن وقع فى العبادة خرجت عن أن تكون طاعة وقربة، فما قارن الهوى شيئاً إلا أفسده. التاسع عشر: أن يعلم أن الشيطان ليس له مدخل على ابن آدم إلا من باب هواه، فإنه يطيف به ليعرف أين يدخل عليه حتى يفسد قلبه وأعماله، فلا يجد مدخلا إلا من باب الهوى، فيسرى منه سريان السم فى الأعضاء. العشرون: أن يتذكر أن مخالفة الهوى تورث العبد قوة فى بدنه، وقوة فى لسانه، وأن أغزر الناس مروءة أشدهم مخالفة لهواه، وأنه ما من يوم إلا والهوى والعقل يعتلجان، فأيهما قوى على صاحبه طرده وتحكم، وكان الحكم له. وأن الله سبحانه جعل الخطأ واتباع الهوى قرينين، وجعل الصواب ومخالفة الهوى قرينين. الحادى والعشرون: أن يعرف أن الهوى تخليط ومخالفته حمية، وأنه يخاف على من أفرط فى التخليط وجَانَب الحمية أن يصرعه داؤه. وأن الهوى رق فى القلب، وغل فى العنق، وقيد فى الرجل، ومتابعة أسير، فمن خالفه عتق من رقه وصار حراً، وخلع الغل من عنقه، والقيد من رجله، واستطاع مسايرة الصالحين. ***** ص _158(1/151)
بين الإيمان والإلحاد لقيت نفرا من الشبان الملحدين ـ وهم للأسف منتشرون فى هذه الأيام انتشار الحلفاء والحشائش الضارة فى أرض لا صاحب لها ـ وحاورت بعضهم أبغى استكشاف ما فى نفسه، فوجدت فكرتهم عن الله أشبه بفكرة اللقيط عن أبيه لا يعرفه ولا ينصفه!! ـ ووجدت جمهرتهم تفكر بهذا الإله عن تقليد أعمى غرور بليد.!! فهم يحسبون أن العلم والإيمان ضدان. وإن الارتقاء الثقافى يصحبه حتما إقصاء الدين من الطريق!! ثم هم يرون أنفسهم ـ وإن لم يدرسوا شيئا طائلا عن علوم المادة ـ قد أصبحت لهم مكانة العلماء الذين فجروا الذرة. فهم يصطنعون نظرتهم نفسها عن الحياة وخالقها كما تحكى لهم لا كما هى على حقيقتها، ومن ثم فهم يتبعون الأخس الأخس من قصور فى العلم وسوء فى التقليد!! أعرف واحداً من هؤلاء ما نظر يوماً فى مرصد للأفلاك، ولا دخل يوماً معملا للكيمياء، ولا غمس يده فى تجربة خطيرة من التجارب الكونية، ومع هذه الجهالة فهو ملحد، لأنه من العلماء، والعلماء لا إيمان لهم إلا بالمادة. ويمكنك أن تضم إلى هؤلاء الأغرار طائفة أنصاف المتعلمين. وهى طائفة عرفت بعض الحق وجهلت بعضه الآخر. ولم تتريث لتستكمل معرفتها، بل أصدرت حكمها الحاسم على ضوء ما عرفت فقط. وتصور كيف تكون فوضى التقاضى لو أن القضاة أصدروا أحكامهم بعد الاستماع لنصف روايات الخصوم ونصف دفاع المحامين؟! كذلك فعل أولئك الملحدون!! فقد أعلنوا كفرهم بعد أنصبة محدودة من الدراسة التى نقلت إليهم بعض خصائص الأشياء، وكشفت لهم بعض آفاق الوجود، وحكت لهم بعض فصول القصة. ص _159(1/152)
وهذا النوع من الكفر أعقد من صاحبه الأول لأنه أوغل فى باب الغرور والتقليد. قال "فرانسيس بيكون " : (إن قليلا من الفلسفة يجنح بالعقل إلى الإلحاد، ولكن التعمق فى الفلسفة خليق أن يعود بالمرء إلى الدين). وقال: "ديل كارنيجى": (إنى لأذكر الأيام التى لم يكن للناس حديث فيها سوى التنافر بين العلم والدين، ولكن هذا الجدال انتهى إلى غير رجعة). ***** وأرانى مضطرا إلى تقرير حقيقة قد تغرب عن بال كثيرين، هى أن هناك فارقا بين الإيمان بالله كما وقر فى نفوس لفيف ضخم من المفكرين والعظماء، وبين الانتساب إلى دين من الأديان المعروفة ت خصوصا فى الغرب. فإن العلم المجرد هدى ألوف العلماء إلى الله، ووقفهم أمام قدرته الرائعة مبهورين. وكذلك فعل التفكير السليم عند كثير من الساسة والقادة. بيد أن أولئك الذين خالجهم إحساس قوى بأن للعالم ربا جليلا، استراحوا إلى هذه المرحلة من مراحل الإيمان، وكرهوا استكمال زادهم الروحى مما يعرفون من أديان. وهم معذرون فى هذا التوقف إلى حد ما، ففى أى طريق يسيرون لطلب المزيد من معرفة الله؟! إنهم إن كانوا هودا أو نصارى لن يجدوا فى كنائسهم ولا فى صحائفهم ما يغرى بتزيد من علوم الدين. إن ومضات عقولهم أبانت لهم جانباً من جلال الألوهية المبدعة للوجود، فلم يزجون بأنفسهم فى مشكلة لا تسيغها عقولهم أبدأ؟ وهى أن هذه الألوهية مكونة مثلا من ثلاثة أقانيم: أقنوم الآب، وأقنوم الابن، وأقنوم الروح القدس؟! إذن فليقفوا عندما عرفوا. ولينشئوا سلوكهم فى الحياة على ما يطمئنون إلى صحته من تجارب وأفكار، بعيدا عما يقوله أولئك الكهان والرهبان. وأذكر أن الكاهن كلف بزيارة "الماريشال جورنج " فى أيامه الأخيرة، بعد ما سجنه الحلفاء تمهيدا لشنقه، أخذ يؤدى واجبه الدينى فى تعزية القائد الألمانى المقهور. ص _160(1/153)
وما عساه يقوله راهب نصرانى يؤمن بصلب عيسى فداء عن البشر وخطاياهم؟! على أية حال لقد شرع يتكلم، حتى قاطعه "جورنج " بقوله: يا أبتاه، أنا مؤمن بالله، وأعتقد أن المسيح رجل نبيل. تلك عقيدة الرجل، إنه هو وألوف من الساسة والقادة والعلماء والعظماء يؤمنون بالله، وهذا حق، ويؤمنون بأن المسيح إنسان نبيل وهذا حق. أما ما عدا ذلك فلديهم صدود عن قبوله كما يصد المرء عن طعام يعافه. فليبتعد عنه فى صمت، إذ لا ضرورة فى النعى عليه ما دام ليس هناك إكراه على ازدراده. وجمهرة العلماء والمفكرين فى العالم الصليبى على هذا الغرار. أما العلماء اليهود فمعرفتهم بالله يصحبها شعور غامر بجنسهم المضطهد. ولديهم بقايا من توحيد الله لم يشبها التثليث الذى اعتنقه النصارى. وهؤلاء العلماء يعتقدون فى قرارة أنفسهم أن كنائس النصارى تقوم على عبادة رجل ولد لغير رشدة، جاءت به أمه عن اتصال حرام!! وأغلبهم يحمل من الإفك والضغينة ما يجعله شراً مستطيراً على الناس. وأقلهم من هذبه العلم، وكفكف ما فى طبعه من قسوة وحقد. والمهم أن الإيمان بالله بديع السموات والأرض لم يزل ـ كما كان ـ قائماً بالأنفس، ولم يزل صوت الفطرة العالى، وإن أخفته أحياناً ما يحيط به من إضافات ضالة. وهذا الإيمان طرف الحقيقة التى بلغت تمامها فى الإسلام. والرجال الذين تجيش مشاعرهم به، هم فى تلك اللحظات المتألقة أقرب إلى الإسلام منهم إلى أى دين آخر. وقد أخذ الله على هؤلاء أنهم يحسنون معرفته فى لحظات شدتهم.. ثم ينسونه عندما تدركهم العافية : (هو الذي يسيركم في البر والبحر حتى إذا كنتم في الفلك وجرين بهم بريح طيبة وفرحوا بها جاءتها ريح عاصف وجاءهم الموج من كل مكان وظنوا أنهم أحيط بهم دعوا الله مخلصين له الدين لئن أنجيتنا من هذه لنكونن من الشاكرين * فلما أنجاهم إذا هم يبغون في الأرض بغير الحق) ص _161(1/154)
والواقع أنى استقصيت حالات كثيرة جدا لعلماء الغرب ومفكريه، فاستيقنت أن فى نفوسهم إيماناً حسناً، وأن معرفتهم بالله تجرى فى نسق أبعد من ضيق اليهودية وتعقيد النصرانية وأدنى إلى سماحة الإسلام وبساطته. ولكن هؤلاء يكرهون الإسلام والمسلمين مع ذلك.!! وهم معذورون فى هذه الكراهية إلى حد ما، فأهل الإسلام حجاب غليظ دون تعاليمه. وتقهقرهم البالغ فى كل ميدان يصد عامة الناس عن إحسان الظن به. ورسالة محمد نفسها ـ من الناحية العلمية البحت ـ لم تعرض عرضا يرى الناس جوهرها كما جاء من عند الله.!! ولو أنها عرضت كذلك لوجدت تجاوبا هائلا مع الخاصة الذين يبنون إيمانهم على منطق العقل، ويحررونه من مواريث الخرافة، ولوجدت تجاوبا كذلك مع العامة الظماء إلى ينابيع ثرة بضروب التوجيهات والوصايا. وذاك كله ما احتشد احتشادا فى القرآن الكريم وسنة محمد صلى الله عليه وسلم!. ***** إن الألوف التى وهت صلتها بالدين فى أقطار الغرب، وتجهمت للبيع والكنائس ليست كافرة بالله، ولا خارجة على سنن الفطرة ما دامت تتجه إليه وفق فهمها، لبسيط. إنها تؤد من أعماقها لو توثقت صلاتها بالله عن طريق صحيح تشعر فيه بالراحة والقرار. إن المفتاح الذى أدير فيها لم تركب أسنانه بطريقة تتواءم مع طبيعة القفل المغلق، فبقى الباب مقفلا لأن المفتاح المجلوب لم يصنع شيئا. ص _162(1/155)
ولو أن هذه القلوب العطاش إلى اليقين والسكينة وجدت مفتاحها الأصيل لانفرج الباب الموصد، ولنهلت هذه الأفئدة المحرومة من نطاف الإيمان الصافى ما يروى غليلها. على أن أصحاب النفوس الكبيرة لم يقفوا مكتوفى الأيدى أمام أزمة "الحق" التى تجتاح بلادهم. فبحثوا عن الله وحده، ومدوا حبالهم إليه وحده، ولم يروا فى غيره إلا بشرا مثلهم ولو كان عيسى نفسه. وبذلك تأسس إيمان صحيح ـ وإن يك محدودا ـ بعيدا عن الكهانات وطقوسها وتعاويذها وتماثيلها. وهذا الإيمان لا يسمى إلحادا وإن لم يدن بالتوراة والإنجيل والقرآن، لأنه يجهل الأخير، أو يعرفه على غير وجهه، ولأن الأولين لا ينسجمان مع طاقته العقلية والنفسية الواسعة. ***** وعلى هذا الأساس الذى مهدناه نتمشى مع "ديل كارنيجيى" وهو يقول: القيت "هنرى فورد" قبل وفاته، فتوقعت أن أرى عليه سيماء رجل منهك القوى منهك فرط الجهد الذى بذله فى إنشاء مؤسسة تجارية من أضخم المؤسسات فى العالم، غير أنى فوجئت حين وجدته على درجة كبيرة من الرزانة والهدوء، وكأنه آية فى الاتزان والطمأنينة. برغم بلوغه الثامنة والسبعين من عمره. فلما سألته: هل عانى من القلق شيئا؟ أجاب: كلا، فإنى أعتقد أن الله ـ سبحانه ـ قدير على تصريف الأمور، وأنه ـ تعالى ـ فى غير حاجة إلى نصيحة منى، ولهذا فأنا أترك له تصريف أمورى بحكمته جل شأنه، فعلام إذن يتولانى القلق؟!). هل كان "فورد" زميلا لابن عطاء الله السكندرى فى هذا المنطق الممتلئ بالتسليم والثقة فيما تجئ به الأقدار؟! إن كان المستر "فورد" لم يعرف ابن عطاء الله ولم يأخذ عنه، فإليك خلاصة لكلام هذا العالم المسلم تلمح فيه قوة الشبه بين المنطقين، على تباعد الديار والأعصار!! ص _163(1/156)
قال ابن عطاء الله يحض على التسليم لله، ويحصى آداب التجرد : الأول: علمك بسابق تدبير الله فيك، وذلك أن تعلم أن الله كان لك قبل أن تكون لنفسك. فكما كان لك مدبراً قبل أن تكون ولا شئ من تدبيرك معه، كذلك هو سبحانه مدبر لك بعد وجودك. فكن كما كنت له، تكن لك كما كان لك. الثانى: أن تعلم أن التدبير منك لنفسك جهل منك بحسن النظر لها. الثالث: علمك بأن القدر لا يجرى على حسب تدبيرك، بل أكثر ما يكون هو ما لا تدبر، وأقل ما يكون ما أنت له مدبر. الرابع: علمك بأن الله تعالى هو المتولى لتدبير مملكته، علوها وسفلها، وغيبها وشهادتها، وكما سلمت له تدبيره فى عرشه وكرسيه وسماواته وأرضه، فسلم له تدبيره فى وجودك بين هذه العوالم. وسيثب إلى الذهن حتما بعد الاستماع إلى هذه النصائح أن الإنسان لكى يتم يقينه يجب أن يتجرد من حوله وطوله وأن ينخلع من قواه وأن يهمل الأسباب وأن ينتظر من تدبير الله بعدئذ أن يقضى له ما يشتهى. وهذا خطأ محض ، وما إليه قصد ابن عطاء الله، ولا به عمل " مستر فورد ". فإن شعور الإنسان بحوله ضرورة. ونهوضه للأسباب المعتادة حق. ولذلك يستدرك ابن عطاء الله بعد كلامه السابق فيقول: (إن التسبب لا ينافى التوكل). ص _164(1/157)
انظر إلى قوله صلى الله عليه وسلم : "لو توكلتم على الله حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير، تغدو خماصا وتروح بطانا" ، تراه يدل الأمر بالتوكل، لا على نفى الأسباب، بل إنه يدل على إتيانها بقوله: تغدو، وتروح ! فقد أثبت لها غدوا ورواحا. وهذا سببها الذى تحيا به وتعيش عليه. ونقول نحن: إن الإسلام يرفض كل تشكيك فى حرية الإرادة. ويرد بعنف كل توهين للطاقة العظيمة التى منحها الإنسان كيما يكدح فى هذه الدنيا، ويرتقب نتائج كدحه. غير أننا عندما ننظر إلى شؤوننا على ضوء الواقع لن يفوتنا أن نلحظ ضيق الدائرة التى نعمل فيها بقدرنا وارادتنا بالقياس إلى الدائرة الواسعة التى تعمل فيها القدرة العليا، والإرادة العليا. والأسباب التى نتعلق بها محكومة بمجالات رحبة لا سلطان لنا عليها فى أغلب الأحيان. ومن ثم فلنكفكف غرورنا بما نملك، ولا نحاول بنفخ الفم أن نغالب عصف الرياح. ذلك ما ينشده دعاة التجريد، أن تستمسك بالأسباب، وأن تستريح إلى ما يصنع الله بعد. * * * * على أننا مضطرون إلى أن نلقى هذه النصائح بقليل أو كثير من الحذر. فإن كلمة "خفف السير" قد تقال لسائق عجل يندفع إلى الأمام بسرعة ربما تودى به. أما إذا وجهت الكلمة لقاعد يلعب، أو ماشي متمهل فهى لغو قبيح. والأمريكان المسعورون وراء حطام الدنيا يقنطهم الفشل، ويبطرهم الظفر، محتاجون إلى كلام "فورد" و"ابن عطاء الله " وغيرهم. أما الوانون المتراخون من أهل الشرق فلهم كلام آخر أحسن سياقا، وأفعل أثرا. وأقطار الشرق الإسلامى الآن مزيج من الصنفين المتناقضين. ص _165(1/158)
يوجد فيهم من يقال له: اعمل لتحيا، ومن يقال له اهدأ لتحيا. وإلى البكائين على ما فات، المتحيَّرين وراء تحقيق المعجزات، الدائرين حول محور من أنفسهم يصارعون المنى وتصارعهم دون الانتهاء إلى قرار. إلى هؤلاء نوجه كلمة "وليم جيمس ": "إن بيننا وبين الله رابطة لا تنفصم، فإذا نحن أخضعنا أنفسنا لإشرافه ـ سبحانه وتعالى ـ تحققت أمنياتنا وآمالنا كلها ". أما القاعدون فى ظلام الركون إلى الأقدار فإنهم يضربون ـ باسم الله ـ كى ينهضوا إلى ميدان العمل. **** ومن الناس من يحترم الإيمان، ويسعى لإشاعته فى المجتمعات، لا لأن الإيمان حق، بل لأن آثاره فى النفوس والجماعات مستحبة. ولذلك يقول: لو لم يكن هناك إله لوجب أن نجعل للناس إلها يطلبون رضاه، ويخافون عذابه. فالإيمان عند هؤلاء ضرورة اجتماعية لحفظ الأمن وترويض العوام. وهم لذلك لا يكترثون لكنه هذا الإيمان، ولا لمتعلقاته. ليكن ما يكون ما دام يؤدى نتائجه القريبة. وهذا تفكير سخيف، وإزراء بحقيقة الدين وقيمته، بل استهانة بالحقيقة نفسها وبأقدار عارفيها. فإن الاعتراف بوجود الله يجب أن يكون خضوع العقل والفؤاد للأدلة التى استبانت صحتها، ولا محيص عن المصير إليها والتسليم بها. أما إذا تظاهرت الدلائل على أنه لا إله هنالك، فإن ربط العامة أو الخاصة بوهم كبير يعد خدعة سمجة. ونحن نجل الحياة والأحياء عن هذا اللون من الخداع، ونرى أن يفتح البشر أعينهم على الحق وحده. فالإيمان بالله الواحد ليس لعبة سياسية، أو تشريعا استثنائيا. ص _166(1/159)
كلا، إنه الحقيقة التى ضل عنها الغافلون، أوالمستغلون. والنور الذى أغلقت دونه أجفان العميان. أما الرجال الذين رزقوا صفاء الفطرة، ونقاء الفكر، فلن يتيهوا عن الله أبدا. إن هذا الإيمان الوثيق معدن قلما تخلو منه نفس عظيمة. وهو على اختلاف مراتبه وألوانه السناد الروحى الأمين الذى يهرع إليه فى الشدائد ويعتمد عليه فى حمل الأعباء وملاقاة النوب. وربما سبق إلى الوهم أن أغلب ذوى الأسماء اللامعة- أعنى فى ميادين الجد- قليلو الذخر من هذا العنصر النفيس. وقد يروج لهذه الفرية بعض الصحافيين الذين لا دين لهم. وذلك باطل. فكثير جداً من كبار الرجال لهم فى الله عقيدة صلبة، وإن شاب صلابتها تصور ساذج أو خطأ مشهور على ما بينا آنفا. قال "ديل كارنيجى": (أعرف رجالا ينظرون إلى الدين نظرتهم إلى شىء مقصور على النساء والأطفال والوعاظ، ويتباهون بأنهم "رجال " يسعهم أن يخوضوا المعارك بلا سند ولا معين. فما أشد الدهشة التى تتولاهم حين يعلمون أن معظم "الرجال "- أعنى الأ بطال المشهورين- يضرعون إلى الله كل يوم أن يؤازرهم ويعاونهم. خذ مثلا البطل "جاك دمبسى". لقد أخبرنى بأنه لا يأوى إلى مضجعه قبل أن يتلو صلواته، ولا يتناول طعاما حتى يحمد الله الذى وهبه إياه، وأنه لا يفتأ يردد الصلوات والدعوات فى أثناء تدربه على الملاكمة، وقبل كل مباراة يخوضها. وحدثنى "أدوارد استيتنيوس " المدير الأعلى لشركة جنرال موتورز و"وزير خارجية أمريكا الأسبق " أنه كان يصلى ويبتهل إلى الله أن يهبه الحكمة والسداد ليلا ونهاراً. وعندما كان البطل "أيزنهاور" فى طريقه إلى (أوروبا) طائراً ليتولى قيادة جيوش الحلفاء فى الحرب الأخيرة، كان الشىء الوحيد الذى اصطحبه معه هو الكتاب المقدس!! وقال لى البطل الجنرال "مارك لارك ". إنه كان يقرأ الكتاب المقدس خلال سنى الحرب كل يوم، ثم يركع على ركبتيه ويدعو الله!! ص _167(1/160)
لقد أدرك هؤلاء الأبطال أنهم ليسوا وحدهم فى الحياة، وأنهم فقراء إلى هذا الإله القادر الرحيم كى يصحبهم فى دنياهم بتوفيقه ورعايته، كما تفضل عليهمـ وهم فى عالم الغيبـ بنعمة الإيجاد والخلق). * * * وحقيق بالناس أن يفزعوا إلى الله كلما حزبتهم شدة، أو رابتهم أزمة، فمن غيرهـ جل شأنهـ يستطيع سد خلتهم، وإشباع نهمتهم، ورد طمأنينتهم: كلهم سائل، وأنت مجيب تلك نعماك، ما لها من نفاد بيد أنه من الحق كذلك ألا نجهل هذا الذى نسأله، وألا نتقرب إليه بأسلوب يمقته، وألا ننسب إليه عن خطأ أو عمد ما هو برئ منه. كان المشركون قديماً يعبِّرون عن عاطفتهم نحو الله بهذه الكلمات: لبيك اللهم لبيك. لبيك لا شريك لك لبيك، إلا شريكا هو لك، تملكه وما ملك!! فجاء الإسلام ليصحح هذا التعبير، ويغير الفهم الذى أوحى به. مع استبقاء العاطفة الأصيلة التى تربط البشر بخالقهم الأعلى، وتسوقهم إلى ساحته راغبين راهبين، فغير العبارة على النحو الآتى: لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك. إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك!! إن تصحيح الاعتقاد والعبادة هو الهدف الأول للإسلام. فقد كانت الأمم الأولى تعرف الله معرفة يشوبها القصور والخطأ: (وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون ) . فلم يكن بد من إزاحة هذا الجهل، ودحض تلك الشبهات. والمؤسف أن النصارى يتجهون إلى الله كما رأيت، ولكنهم يجعلون معه إلهآ آخر، أو إلهين آخرين!! ومن ثم تضطرب وجهتهم وتجور أدعيتهم. ويسألون الله وهم يقصدون عيسى، أو يسألون عيسى وهم يقصدون الله . ص _168(1/161)
مع أن عيسى ومحمدا وغيرهم من المرسلين ليسوا إلا بشرا ضعافا يفتقرون إلى فضل الله، ويقفون ببابه وهم راجون ثوابه وخاشون عقابه. إننا نكره الإلحاد الذى جعل من الأجيال الحاضرة قطعانا تحيا فى العالمين، وهى متنكرة لرب العالمين. وكل ما نبغى أن يحل مكان هذا الإلحاد المعتم إيمان ينهض على الصواب، ويتألق فيه نور الحق. والتوحيد الذى يلح الإسلام فى تقريره، ويحض البشر على فهمه والأخذ به ليس بدعة جاء بها النبى محمد كلا، إنه توكيد الدعوة الأولى التى هتف بها الأنبياء أجمعون، وإبراز الأصل الذى قامت عليه دياناتهم كلها. والكتب والرسائل التى ما تزال بين أيدى النصارى إلى يوم الناس هذا تشير إلى هذه الحقيقة إشارة تنطبق مع آيات القرآن العزيز أتم الانطباق. ففى سفر "التثنية" إصحاح 5 عدد 36: "لتعلم أن الرب هو الإله ليس آخر سواه " وذلك كقول الله فى كتابه: (فاعلم أنه لا إله إلا الله ) . وجاء فى هذا السفر: "ردد فى قلبك أن الرب هو الإله فى السماء من فوق وفى الأرض من أسفل "، وهذا كقول الله فى كتابه : (وهو الذي في السماء إله وفي الأرض إله وهو الحكيم العليم * وتبارك الذي له ملك السماوات والأرض وما بينهما) . وجاء فى هذا السفر أيضا: "اسمع يا إسرائيل، الرب إلهنا رب واحد". وإسرائيل هو يعقوب الذى جمع أولاده وهو يحتضر ليستوثق من بقائهم على التوحيد: (أم كنتم شهداء إذ حضر يعقوب الموت إذ قال لبنيه ما تعبدون من بعدي قالوا نعبد إلهك وإله آبائك إبراهيم وإسماعيل وإسحاق إلها واحدا ) . ص _169(1/162)
وجاء فى سفر أشعياء، إصحاح 5: 45 "أنا الرب وليس آخر، لا إله سواى"، وجاء فيه أيضا: "أنا الأول، وأنا الآخر، ولا إله غيرى"، وهذا كقول الله : (سبح لله ما في السماوات والأرض وهو العزيز الحكيم * له ملك السماوات والأرض يحيي ويميت وهو على كل شيء قدير *هو الأول والآخر والظاهر والباطن) . وجاء فيه أيضا: "لأنى أنا الله وليس لى شبيه "، وذلك كقول الله فى كتابه: (ليس كمثله شيء) . ولم يخل العهد الجديد من بقايا حق يعلق العباد بباريهم الأعلى، وتقفهم فى مجال العبودية المحضة على اختلاف ألسنتهم وألوانهم . لا يفضل أحد الآخر إلا بمدى ما يكنه من إخلاص، ويتزلف به من قرب إلى الله الواحد القهار . * * * ولقلة التنزيه وفشو الجهل بالله كانت المشاعر العامرة بالتوحيد المطهرة من أدران الشرك أحب شئ إلى الله. وكلما ظهرت فى الدعاء آثار لإجلال الله والاعتراف بعظمته المفردة وكماله المطلق، كان ذلك أقرب إلى القبول وأدنى إلى الاستجابة. رُوى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سمع رجلاً يقول: "اللهم إنى أسألك بأنى أشهد أنك أنت الله لا إله إلا أنت الأحد الصمد، الذى لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد". فقال النبى للرجل: "لقد دعوت الله بالاسم الأعظم الذى إذا سئل به أعطى، وإذا دعى به أجاب " . ص _170(1/163)
أجل، ألا ترى الرجل قد اضطرمت فى نفسه عقيدة ضلت عنها ألوف مؤلفة من الناس؟ أين من التنزيه الذى يملأ فؤاده شرك جماهير تحسب أن لله ابنا وتحسب أن له صاحبة؟! وكذلك شجع رسول الله كل دعوة ينضح فيها ما يجب لله من تمجيد، وما يستحقه تبارك وتعالى من ثناء وحمد، وما يُشعِر بفقر العالم كله إليه وقيامه به، مثل: "يا بديع السموات والأرض، يا ذا الجلال والإكرام. يا أرحم الراحمين لا إله إلا أنت سبحانك إنى كنت من الظالمين، يا حى يا قيوم ". ومن الأدعية التى يترقرق فيها رواء الإعزاز والإخلاص ما روى: "اللهم إنى أسألك بمعاقد العز من عرشك، ومنتهى الرحمة من كتابك، واسمك الأعظم، وجدك الأعلى، وكلماتك التامة ". وما روى أيضاً: "اللهم إئى أسألك باسمك الطاهر الطيب المبارك الأحب إليك، الذى إذا دعي به أجبت، وإذا سئلت به أعطيت، وإذا استرحمت به رحمت، وإذا استفرجت به فرجت.. ". وهذه الأدعية باب واسع، يرجع إليه فى مظانه من شاء الاستزادة. **** هل ندع نفوس الناس تنساب فى فجاج الحياة وحدها، وتتوغل فى متاهاتها، دون مولى يرعاها، ودون نصير يعضدها؟ إن الإنسان مهما ادعى القوة ضعيف. ومهما انفرد بنفسه فسوف تكتنفه الوحشة والحيرة. وما أكثر المسارب والمتشعبات التى يصل المرء إليها ثم لا يدرى: أيها يأخذ؟ وأيها يترك؟ وهو إن ضل الطريق يوما فى معضلة واجهته فقد يظل يتعسف السير أياما أو أعواما من غير أن يبلغ غاية يستقر عندها. لأنه يضرب ابتداء على غير هدى؟! ص _171(1/164)
ما أفقرنا إلى من يلهمنا الصواب، ويهدينا إلى الحق كلما اشتبهت علينا الأمور. والإنسان معرض للآلام من كل ناحية فيه، إنه كمدينة مفتوحة يمكن أن تدك فى أى وقت، ومن أية جهة. والمرء إذا نظر إلى بدنه وجد أن كل ذرة فيه يمكن أن تكون منفذاً لمرض عضال يبعثه على الأنين العالى. وإذا نظر إلى شأنه كله وجد أن أمر من أموره يمكن أن ينقلب عليه ليجر وراءه الشقاء الطويل. ما أفقرنا إلى استدامة النعمة، واتقاء النقمة، والاسترواح فى الحياة إلى ما يجعل الله فى الحياة من يسر وبركة وسكينة!! إن هذا كله هو ما تكفله الصلاة للمؤمن. إن الإسلام نظم وقفات كريمة يناجى الإنسان فيها ربه عدة مرات فى اليوم الواحد. فى هذه الوقفات يكلم الإنسان ربه، فيعترف أولا بحمده ومجده، ثم يسأله بعد ذلك هداية تحف النعمة ويجانبها السخط. فى هذه الوقفات يقف الإنسان أمام ربه يستعينه ويسترضيه. يقف أمام ذى العلم الشامل ليكمل له قصور معرفته. وأمام ذى القدرة الهائلة ليكمل له ما يعجز عنه حتما لضعف قواه. يقول الله تعالى- فى حديث قدسى-: " قسمت الصلاة بينى وبين عبدى نصفين. فإذا قال: الحمد لله رب العالمين، قال: حمدنى عبدى. واذا قال: الرحمن الرحيم، قال: أثنى على عبدى، واذا قال: مالك يوم الدين، قال: مجدنى عبدي، وإذا قال: إياك نعبد واياك نستعين، قال الله: هذا عهد بينى وبين عبدى، ولعبدى ما سأل، فإذا قال: اهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم، قال الله: لعبدى ما سأل ". ص _172(1/165)
إن الركض فى ميادين الحياة بقدر ما يجلل البدن بالغبار والعرق يجلل الروح بالغيوم والأكدار. والمرء ـ إثر كل شوط طويل ـ يحتاج إلى ساعة يلم فيها شعثه، ويعيد النظافة والنظام إلى ما تعكر وانتكث من شأنه كله. وليست الصلاة إلا لحظات لاسترجاع هذا الكمال المفقود أو المنشود. عن أبى سعيد أنه سمع النبى صلى الله عليه وسلم يقول: "الصلوات الخمس كفارة لما بينها. أرأيت لو أن رجلا كان يعمل، وكان بين منزله وبين معمله خمسة أنهار، فإذا أتى معمله عمل فيه ما شاء الله فأصابه الوسخ أو العرق، فكلما مر بنهر اغتسل، ما كان ذلك يبقى من درنه؟ فكذلك الصلاة، كلما عمل خطيئة فدعا واستغفر غفر له ما كان قبلها ". وآه من سعار المادة الذى يلفح الوجه فى معركة الخبز!. إن البشر يقتحمون هذه الساحة المائجة وغرائز الأثرة أيقظ ما تكون فى دمائهم!. إن حوائجهم وحوائج أسرهم وأرحامهم هى التى يرون فى أثناء هذا السباق الطويل. أما التراحم والإيثار والبر فقلمها تبدو صورها النبيلة لأعينهم. وترك الناس تصرعهم هذه المشبوبة قتل لكل ما فى الإنسانية من فضائل. فلا عجب إذا شرع الله الصلاة للناس كيما تنجيهم من هذا السعير بين الحين والحين. عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "إن لله ملكا ينادى عند كل صلاة: يا بنى آدم، قوموا إلى نيرانكم التى أوقد تموها فأطفئوها". وفى رواية : "تحترقون تحترقون، فإذا صليتم الصبح غسلتها، ثم تحترقون تحترقون، فإذا صليتم الظهر غسلتها، ثم تحترقون تحترقون، فإذا صليتم العصر غسلتها، ثم تحترقون تحترقون، فإذا صليتم المغرب غسلتها، ثم تحترقون تحترقون، فإذا صليتم العشاء غسلتها، ثم تنامون فلا يكتب عليكم حتى تستيقظوا". ص _173(1/166)
وفى الحديث تصوير لما يواقعه العامة من صغائر وذنوب فى معايشهم المضطرمة المتشابكة، وما تلطفه الصلوات وترطبه من هذه الجباه والجنوب. الصلاة تسام يرفع المرء إلى السماء كلما أخلد إلى الأرض، ويصله بالله كلما قطعته عنه أسباب الغفلة والذهول. ولننقل هنا ما رواه "ديل كارنيجى" عن الدكتور "ألكسيس كاريل " مؤلف كتاب "الإنسان ذلك المجهول " وأحد الحائزين على جائزة "نوبل " قال: (لعل الصلاة هى أعظم طاقة مولدة للنشاط عرفت إلى يومنا هذا.!! وقد رأيت ـ بوصفى طبيباً ـ كثيراً من المرضى فشلت العقاقير فى علاجهم، فلما رفع الطحث يديه عجزا وتسليماً تدخلت الصلاة فأبرأتهم من عللهم. إن الصلاة كمعدن "الراديوم " مصدر للإشعاع، ومولد ذاتى للنشاط. وبالصلاة يسعى الناس إلى استزادة نشاطهم المحدود حين يخاطبون "القوة" التى لا يفنى نشاطها. إننا نربط أنفسنا ـ حين نصلى ـ بالقوة العظمى التى تهيمن على الكون، ونسألها ضارعين أن تمنحنا قبسا منها نستعين به علي معاناة الحياة، بل إن الضراعة وحدها كفيلة بأن تزيد قوتنا ونشاطنا، ولن تجد أحداً ضرع إلى الله مرة إلا عادت عليه هذه الضراعة بأحسن النتائج). وهذا الكلام هو عندى خير تفسير لقول الله عز وجل: (وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان فليستجيبوا لي وليؤمنوا بي لعلهم يرشدون) . أى خير يكسبه الإنسان إذا استيقظ من منامه فكان أول تفكيره الاتصال بربه، والاستعانة به، والاستمداد منه؟! إنه ينال ضماناً من السماء أن يقضى سحابة نهاره وهو فى حرز منيع!! أجل؟ لقد أصبح فأرضى ربه ولاذ به، وطلب حمايته. والله عز وجل أحق من يعطى الأمان من استأمنه، وأن يمنح جواره من استجار به. ص _174(1/167)
وفى الحديث : "من صلى الصبح فهو فى ذمة الله، فلا يطلبكم الله من ذمته بشىء، فإنه من يطلبه من ذمته بشىء يدركه ثم يكبه على وجهه فى نارجهنم ". هذا إعلان من الله للناس أن يكرموا رجلا بدا يومه بالصلاة، ثم غدا إلى عمل، فغدت معه كلاءة الله ورعايته. وفى رواية عن ابن عمر أن النبى صلى الله عليه وسلم قال : "من صلى الصبح فهو فى ذمة الله تبارك وتعالى، فلا تخفروا الله تبارك وتعالى فى ذمته، فإنه من أخفر ذمته طلبه الله حتى يكبه على وجهه ". وقيل: إن الحجاج أمر سالم بن عبد الله بقتل رجل، فقال سالم للرجل: أصليت الصبح؟ فقال الرجل: نعم؟ قال: فانطلق، فقال له الحجاج: ما منعك من قتله؟ فقال له سالم: حدثنى أبى أنه سمع رسول الله يقول: "من صلى الصبح كان فى جوار الله يومه ". فكرهت أن أقتل رجلا قد أجاره الله والناظر فى بعض العبارات التى تصور صلة الله عز وجل بعباده المخصلين له، يجد أن الله لم يدخلهم فى جواره، بل إنه نزلهم منزلة نفسه، وجعل إيذاءهم عدوانا عليه ـ تقدست ذاته ـ . ومن ثم يقول فى حديثه القدسى : "من عادى لى ولياً فقد آذنته بحرب ". وموالاة الله تعنى مزيداً من التعلق به واللجأ إليه بالصلاة، وبغيرها من الفرائض والنوافل. وقد يبلغ هذا التكريم الإلهى لمن يرتبطون بالله فى حياتهم وشؤونهم كلها أن الله يلحقهم به، وينسبهم إليه، ويجعل معاملتهم كأنها معاملة له هو. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "إن الله عز وجل يقول يوم القيامة: يا ابن آدم مرضت فلم لم تعدنى!! قال: يارب كيف أعودك وأنت رب العالمين؟! قال: ما علمت أن عبدى فلاناً مرض فلم تعده؟ أو ما علمت أنك لو عدته لوجدتنى عنده.. يا ابن آدم ص _175(1/168)
استطعمتك فلم تطعمنى؟ قال: يارب كيف أطعمك وأنت رب العالمين؟! قال: أما علمت أنه استطعمت عبدى فلان فلم تطعمه؟! أما علمت أنك لو أطعمته لوجدت ذلك عندى.. ابن آدم استسقيتك فلم تسقنى؟! قال يا رب كيف أسقيك وأنت رب العالمين؟! قال: استسقاك عبدى فلان فلم تسقه، أما إنك لو سقيته وجدت ذلك عندى" . وهذا الحوار العجيب بين الدلالة فى مدى إعزاز الله لقوم من الناس لا تزال صلاتهم بالله تستوثق وتتوكد حتى يعد الله كرامتهم من كرامته ومكانتهم من مكانته. على أن أى إنسان مهما ارتقت عند الله درجته فهو ليس بمنجاة من متاعب الجهاد وأكدار الحياة الحافلة بأفانين من الغشم والجحود. أترى عمر بن الخطاب أعدل حاكم عرفته الدنيا كيف قتل فمتهما بظلم؟ إن كان الرجل الكبير قد أصابه ما أصاب، فإن عيادته فى جراحته القاتلة كأنها عيادة لله نفسه. وكذلك ما أصاب المسلمين الأولين من أزمات الحصار الخانق الذى ضربه المشركون عليهم، وعرضوهم فيه لألوان الجوع والعطش، وألجأوهم أن يأكلوا ورق الشجر حتى تقرحت أشداقهم. إنه ليس جوع تسول كما يفهم الحمقى، ولكن جوع كفاح وتضحية. قد تقول: فما فائدة حسن الصلة بالله وسعة الرعاية التى يبسطها على عباده المحبين وأوليائه المقربين إذا كانوا لم ينجوا من براثن الظلم، ولم يفلتوا من حبائل الغدر؟! وأين سياج العناية العليا حول عمر وعثمان وعلى الذين قتلوا شر قتلة؟ وهذا التساؤل لا يقدح فيما قررنا آنفا. وكل ما يوجبه أن نصحح مفاهيم الحياة الكبيرة فى أذهان الناس حتى لا يضلوا فى فهم ظواهرها. ما رأى أولئك المتسائلين إذا عرفوا أن عمر كان يدعو قبل وفاته بأيام أن يرزقه الله الاستشهاد؟ وأن تكون شهادته لا فى الجبهة الشرقية التى يدور القتال فيها مع فارس، ولا فى غيرها من جبهات القتال الأخرى مع الرومان؟ لا.. بل فى دار الهجرة، أى فى المدينة نفسها.. لكأن الرجل كان يحدد الطريقة التى يؤثر أن تجىء بها منيته!! ص _176(1/169)
إن عمر وأمثاله من كبار الرجال يعرفون طبيعة هذه الحياة الدنيا، ويعرفون الوظيفة المضنية التى يقوم بها أولو العزم فى غرس الإيمان والخلق والعدالة، وفى خلع الحشائش السامة والعوسج الشائك الذى ينتشر فى تربة هذه الأرض البائسة ويملؤها بالمظالم والظلمات. إن هؤلاء الرجال يعرفون وظائفهم وينهضون بأثقالها فى طمأنينة وسرور. وما يلقونه فى حياتهم من حرمان لا يؤودهم. وما يختم حياتهم من مصارع لا يفزعهم. بل قد يكون أمنيتهم على نحو ما دعا عمر بن الخطاب، ومثل ما روى عن سقراط بعد الحكم عليه بالقتل مسموماً: سقراط أعطى الكأس ـ وهى منية ـ شفتى محب يشتهى التقبيلا يجب أن نوضح أطراف هذا القدر الذى يبدو فاجعا ثقيلا، فنؤكد أنه لا يدل على أية شارة من شارات السخط أو القسوة، وأن الله إذ سمح به ـ تمشياً مع السنن الكونية التى أنشأ الحياة عليها ـ ينفذه جل شأنه وهو أرضى ما يكون على عبده وأرغب ما يكون فى الإحسان إليه. وتأمل قوله عز وجل فى حديثه القدسى : "من أهان لى وليا فقد بارزنى بالمحاربة وما ترددت فى شىء أنا فاعله ترددى فى قبض نفس عبدى المؤمن، يكره الموت، وأكره مساءته، ولابد له منه " . يا عجباً!! ما هذا الحنو البالغ، وهذا العطف السابغ؟! الموت حق ما منه بد، والله يريد إنفاذ قضائه الحتم. لكن العبد يكره الموت. والله لا يحب أن يشعر عبده بأن إساءة جاءته من عند ربه. فانظر إلى هذا التصوير فى إيقاع القضاء، وما تنضح به عبارة: "ما ترددت فى شىء أنا فاعله ترددى فى فعل هكذا.. ". إن كل ما يدل على قسوة أو سخط منتف بتة من جانب الله فيما تتعرض له حياة الأبطال والأمجاد من كبوات وآلام اقتضتها طبيعة النسق العالى الذى يحيون فيه. ص _177(1/170)
وهؤلاء الأمجاد ـ من الناحية الأخرى ـ يستقبلون أقضية الله بتسليم وبشاشة. ويكفى أن يلحظوا مجيئها من الله لتتبدل وعورتها سهولة، ومرارتها عذوبة. فهى أمام الأنظار المعتادة كأنها أرزاء لا تحتمل. وأما هى بالنسبة إلى من سيقت إليهم فأعراض خفاف أو لطاف. لو أن أهل الإقدام ينظرون إلى الحتوف نظرة الجبناء إليها ما ثبت منهم أحد، لكنهم يحتقرون ما أعظمه هؤلاء، فيقبلون بينما هؤلاء يولون الأدبار. كذلك أهل الإيمان ينظرون إلى الأحداث الضخمة على ضوء علاقتهم بالله، فمايملكهم فزع أو يضطرب لهم فكر. وإذا توجسوا من خطر فوق طاقتهم فزعوا إلى الله كما يفزع الطفل إلى أحضان أبيه، يتقى به المكروه وينشد لديه الحماية. وفى الحديث : "كان النبى إذا حزبه أمر فزع إلى الصلاة ". ويقول "ديل كارنيجى": (ترى لماذا يجلب الإيمان بالله والاعتماد عليه ـ سبحانه وتعالى ـ الأمان والسلام والاطمئنان؟ سأدع "وليم جيمس " يجيب عن هذا السؤال: إن أمواج المحيط المصطخبة المتقلبة لا تعكر قط هدوء القاع العميق، ولا تقلق أمنه، وكذلك المرء الذى عمق إيمانه بالله خليق ألا تعكر طمأنينته التقلبات السطحية المؤقتة. فالرجل المتدين حقا عصى على القلق، محتفظ أبدا باتزانه، مستعد دائماً لمواجهة ما عسى أن تأتى به الأيام من صروف. فلماذا لا نتجه إلى الله إذا استشعرنا القلق؟.. ولماذا لا نربط أنفسنا بالقوة العظمى المهيمنة على هذا الكون؟ لا يقعدن بك عن الصلاة والضراعة والابتهال أنك لست متدينا..) ***** ص _178(1/171)
والصلاة فى الإسلام تعنى شيئين، أحدهما خاص، والآخر عام: أحدهما هذه الوجبات الروحية الموزعة على آناء الليل وأطراف النهار متضمنة أفعالا شتى من قراءة، وتسابيح، وخشوع، وتنزيه، وركوع، وسجود، وقيام، وقعود، وفق ما رسم لها الشارع من صوروهيئات. وهذه الصلاة ركن فى الإسلام لا يعفى مؤمن من أدائها، وهى لقلبه ويقينه كالغذاء لجسمه. فمن حافظ عليها صح دينه، وربا إيمانه، وترشح لغفران الله ورضوانه. ومن تهاون بها مع علمه بحقها وثمرتها تعرض للضياع والهلكة. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "خمس صلوات افترضهن الله، من أحسن وضوءهن وصلاهن لوقتهن، وأتم ركوعهن وسجودهن وخشوعهن كان له على الله عهد أن يغفر له. ومن لم يفعل فليس له على الله عهد، إن شاء غفر له وإن شاء عذبه " . أما من أهملها عن جحد واستهانة فهو أقل من أن ينسب إلى إيمان أو يحترم له دين. وقد تعنى الصلاة الدعاء المطلق. كلما ساورت الإنسان حاجة، أو أقلقه هم، أو هدده مرض، أو أزعجته أزمة هرع إلى الله يستنجد به ويسأله الرحمة والعافية. والإسلام مشحون بمئات الأدعية التى أحصت تقريباً كل ما يعرض للإنسان من رغبة، أو يرهب من محذور، أو يستزيد من نعمة. وقد وضعت هذه الأدعية المفصلة كلها بين يدى الإنسان، ليجأر بها إلى الله كلما جاش بفؤاده شعور. والجميل أن الله يحب من عبده أن يطلب منه ما يبتغى، وأن يسأله من فضله كيف شاء. بل إن الله يحذر الإنسان من الاكتفاء بقواه الخاصة. ص _179(1/172)
فإن هذا القصور يحرم صاحبه بركات العناية العليا، ويسجنه طول حياته فى حدود ضعفه وجهله. وفى الحديث القدسى: "يا عبادى كلكم ضال الا من هديته، فاستهدونى أهدكم. يا عبادى كلكم جائع الا من أطعمته، فاستطعمونى أطعمكم. يا عبادى كلكم عار الا من كسوته، فاستكسونى أكسكم.يا عبادى إنكم تخطئون بالليل والنهار وأنا أغفر الذ نوب جميعا، فاستغفرونى أغفر لكم ". أرأيت هذا الإلحاح فى رد الإنسان التائه إلى ربه ليتزود منه، ويستقوى به، ويعتمد عليه.. إنه ما يحرم من هذا الخير المبذول إلا شقى مسكين. ولذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لا تعجزوا فى الدعاء، فإنه لا يهلك مع الدعاء أحد" . وقال: "الدعاء سلاح المؤمن، وعماد الدين، ونور السماوات والأرض " . وقال: "إن الله حيى كريم، يستحى- إذا رفع الرجل إليه يديه- أن يردهما صفرا خائبتين " . وقال: "سلوا الله من فضله، فإن الله يحب أن يسأل، وأفضل العبادة انتظار الفرج". ******* ص _180
كم من عبقريات مرغتها فى الوحل خصومات خسيسة إن وقائع الحياة أعتى ما نتمنى ودسائس الحاقدين ومكايدهم ومؤامرتهم لا تنتهى حتى تبدأ ان الحال فى كل زمان تحتاج إلى إمداد سريعة من المساندة او العزاء لتعيد إلى الموهوبين ثقتهم بأنفسهم وتشجعهم على المضى فى طريقم دون يأس أو إعياء.. انهم فى حاجة لان يقال لهم : لا تأسوا فإن ما تتوجسون من نقد أو تجاهل هو كفاء ما أوتيتم من طاقة ورسوخ محمد الغزالى ص _181(1/173)
روحانية الرسول للنفوس المعتادة لحظات تصفو فيها من كدر، وترق من غلظة، وترقى إلى مستوى يحلق بأفكارها ومشاعرها إلى جو نقى طهور. لكنها لا تلبث طويلا حتى تهبط إلى أفقها الدانى، لتعيش فيه أكثر وقتها، ولترمق سويعات الكمال التى تعتريها، وكأنها ألق عارض، أو معنى نضح من عالم بعيد. وللنفوس العظيمة مجال أرحب مدى، وأطول امتدادا، تشرف فيه على الحياة ولها فكر أوعى، وشعور أقوى. وتستقيم على نهج من السلوك الرفيع قلما تزل عنه. فهى كالطير الذى ألف الذرا لا ينحط دونها إلا لماما. وإذا هبط فما يبقى إلا ريثما يرفرف بجناحيه صعداً إلى حيث يعيش. كذلك خلق الله الناس، وكذلك درجوا منذ الأزل. فهم بين عامة مغلولين فى قيد مقص فطالبهم المحدودة، وربما انفكوا عنه حينا. وبين خاصة أمكنهم الخلاص من أغلب هذه القيود، وربما تشبث أحدها بأقدامهم فأرهقهم حيناً. وإذا كان شأن العامة أنزل رتبة من شأن الخاصة، فإن هؤلاء الممتازين أنفسهم، يقع بينهم من التفاوت فى الخير والفضل ما يشبه التفاوت بين أبعاد الكواكب. بعضها يفكر الناس فى الوصول إليه، لأنه ـ وإن بعد ـ قريب. وبعضها تنقطع الأوهام دونه، لأن الشقة إليه لا يقطعها إلا الخيال الشرود. والفروق بين عظماء الناس لا يدركها حصر. وقد اقتضت حكمة الله أن يختار حملة الوحى الأعلى من الصفوة المنتقاة بين هؤلاء الخاصة، وهى صفوة مبرزة فى كل شئ. ص _182(1/174)
فلو أقيم سباق عام بين أولى المواهب الناضجة، والقرائح القوية، والمعادن الصافية، والأ بدان النقية، لكان أنبياء الله ـ وحدهم ـ أصحاب السبق فيه. إن الأنبياء رجال لا يدانون فى ذكائهم، وصلابة عزائمهم، وبعد هممهم، وسعة فطنتهم، وإدراكهم الشامل لحقائق النفوس وطبائع الجماعات. ومن الخطأ الجسيم أن تحسب أولئك المرسلين على قدر ما من "الطيبة" والسذاجة، رشحهم لقيادة بعض الناس فى عصور التخلف والبساطة. كلا، كلا، فإن زعامة الأمم فى القديم والحديث لا تنعقد صدقا إلا لرجال أوتوا من المقدرة النفسية ما يوطئ لهم الأكناف، ويجمع حولهم الآلاف. وقد أومأ القرآن الكريم إلى هذه الحقيقة فى قوله: (واذكر عبادنا إبراهيم وإسحاق ويعقوب أولي الأيدي والأبصار * إنا أخلصناهم بخالصة ذكرى الدار * وإنهم عندنا لمن المصطفين الأخيار). فهل فقهت أسرار العظمة فى أطواء هذا الوصف الموجز؟ أولى الأيدى والأبصار!! أصحاب القوى الفارهة، والأبصار النيرة. أصحاب الإقدام الذى لا يشوبه عجز، والنظر الذى لا يشينه جهل. إنهم مستخلصون من أجيال الدنيا، كما تستخلص أطايب البستان النضر فى هدية مستحبة، قد يترك فيها الجميل إلى ما هو أجمل منه. ذاك هو معنى الاصطفاء. **** فى ماضى الحياة، وحاضرها، ومستقبلها، كان الوحى الإلهى ـ ولا يزال ـ العاصم الذى يمسك الأرض أن تزول، والحضارات أن يلتبس فيها الرشد بالغى. ولن يخطئك ـ وأنت ترمق سدنة هذا الوحى المبارك ـ أن تستجلى هامة شماء توجها الجلال والأدب، وزانها اليقين والصدق، برزت بين هداة السماء بروزا كاد يحجب ما حوله. ص _183(1/175)
من هؤلاء الدعاة الكرام؟. ومن ذلك العلم الباسق؟. هؤلاء النبيون الذين وكل إليهم أن يهدوا الناس ردحاً من الزمن فى العصور الأولى. أما هذا النبى المتفرد، فقد كلف أن يهدى الناس الدهر كله، وأرسل بكتاب يبقى بينهم، ما بقى الليل والنهار!!. وسط أولئك الصالحين المصلحين تلمح- فى خشوع وتوقير- محمد بن عبد الله صاحب الرسالة الخاتمة، وملتقى العقائد والفضائل التى ناط القدر بها صلاح الأولين والآخرين إنه المثل العليا كلها فى إطار من اللحم والدم، تستطيع أن تعرفه فى يسر من الكتاب الذى جاء به، ومن الحكمة التى يتفجر بها منطقه. بيد أنك لن تستطيع الاتصال به إلا إذا نشدت لنفسك المثل الرفيعة التى تحيا فى سيرته. أما الواقفون مع أنفسهم فى بداية الشوط، فهيهات أن يرتبطوا به. العصاة الذين يبغون التوبة، والجهال الذين يطلبون العلم، والحائرون الذين يبحثون عن قرار، والقاصرون الذين يسعون وراء الكمال، أولئك جميعاً فى جهادهم لبلوغ أهدافهم سوف يعرفون الكثير عن "محمد" لأنهم سيهتدون بآيِهِ، وينتفعون بنصحه. ولن يعرف "محمدا" أبدا من سفه نفسه، وحقر عقله وقلبه. إن من خصائص القيادات الروحية الكبرى أنها تقدح زناد النشاط الإنسانى فيمن اقترب منها، وتطلق قواه الكامنة ليخدم الحقيقة الكبرى فى حدود ما أوتى. وإذا كان الزعماء القوميون يتيحون فرصاً واسعة لخدمة الوطن مثلا عندما يهبون للنهوض به وإعلاء شأنه، فالقادة الروحيون يهيئون لأتباعهم وحوارييهم فرضاً أوسع لإحراز الكمال، ثم لغرسه فى دنيا الناس، لتحلو به هذه الدنيا وتعلو. ومن ثم قلنا: لا يعرف محمداً صلى الله عليه وسلم من احتبس فى سجن الدنايا، أو قعد عن نصرة الحق والخير. ص _184(1/176)
وينابيع الحياة العاطفية والفكرية فى نفس الرسول الكريم " محمد بن عبد الله " تجئ من معرفته الساطعة بالله، وذكره الدائم له، وأخذه بنصيبه الضخم من معانى الكمال فى أسمائه الحسنى. ذلك أن الله خلق آدم على صورته، واستخلفه فى هذه الأرض ليكون نائباً عنه، ومكنه منها، بل كلفه أن ينشط فى استغلال خيرها وامتلاك أمرها، ووصاه أن يحترم أصله الإلهى العريق، فلا يتدلى عنه إلى نزعات الطين، ووساوس الشياطين. يجب أن يكون عالماً ماجداً، قادراً كريماً، رحيماً منعماً وهاباً، إلى آخر ما ترمز إليه أسماء الله الحسنى من صفات الكمال وشارات العظمة والجمال. والعالم- من أزله إلى أبده- لا يعرف إنسانا استغرق فى التأمل العالى، ومشى على الأرض وقلبه فى السماء كما يعرف فى سيرة محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم إنه خير من حقق فى نفسه وفى- الذين حوله- حياة الإنسان الكامل. الإنسان الربانى المستخلف فى ملكوت الله لينقل إليه أطرافاً من حقيقة هذه الخلافة الكبيرة. وفى المواريث العقلية والعاطفية التى تركها هذا النبى الكريم ترى كل العناصر التى يستطيع بها أى إنسان أن يقوم بوظيفته الصحيحة فى هذه الحياة انظر إلى قوة العاطفة ودفقها فى هذه المناجاة الحارة: روى الإمام أحمد وأبو داود والنسائى عن زيد بن أرقم أن النبى صلى الله عليه وسلم كان يقول دبر صلاته: "اللهم ربنا ورب كل شىء. أنا شهيد أنك الرب وحدك لا شريك لك. اللهم ربنا ورب كل شىء، أنا شهيد أن محمداً عبدك ورسولك. اللهم ربنا ورب كل شىء، أنا شهيد أن العباد كلهم أخوة. اللهم ربنا ورب كل شىء، اجعلنى مخلصا لك وأهلى فى كل ساعة من الدنيا والأخرة. ياذا الجلال والإكرام، اسمع واستجب. ص _185(1/177)
الله الأكبر الأكبر، نور السموات والأرض. الله الأكبر الأكبر، حسبى الله ونعم الوكيل. الله الأكبر الأكبر". إن ألفاظ اللغة حين تعجز عن ملاحقة هذا الجيشان المنساب فى كل دعوة، تجعل الرسول المنيب المتعبد يلجأ إلى التكرار فى العبارة الواحدة لينفس عما استكن فى صدره من روعة ومحبة وإجلال. إنه فى ظاهره ترداد للفظ واحد، وهو فى باطنه تعبير عن معان متجددة من الولاء والهيام ويستوقفك فى هذا الدعاء أن تتوسط شهادة النبى لشخصه بالرسالة بين توحيد الله والإقرار بأن العباد كلهم إخوة. ما معنى أن يقول محمد لربه: "أشهد أن محمدا عبدك ورسولك "؟ ذلك ضرب من الإصرار على تحمل الأمانة وإبلاغ الرسالة للناس كافة، مهما كذبوا بها وتنكروا لصاحبها، إن الرجل الذى يحس بأن العالم أجمع يستغرب بعثته، وأن قوى الشر فيه تحاول زحزحته، وأنها قد تفلح أحياناً فى الكيد له وإشعاره بالعزلة والضعف، إن هذا الرجل يرى من الطبيعى أن يشهد لنفسه بالحق لتكون هذه الشهادة المتكررة ردا بليغاً على المرجفين والمكذبين. وهى تجىء بعد أن يقذف الروح الأمين فى قلبه شهادة أخرى من الله ومن الملأ الأعلى ، تؤكد هذه الحقيقة. (لكن الله يشهد بما أنزل إليك أنزله بعلمه والملائكة يشهدون وكفى بالله شهيدا) وإنك لتسمع دوى الوحى وهو يرسل هذه الشهادة مرة أخرى، فتحس فى نبراتها زمجرة صاحب الحق وهو يجبه المفترين ويخجلهم من باطلهم، ويمضى فى ذكر ما عنده من صدق بين، وأدلة دامغة: ص _186(1/178)
(قل أي شيء أكبر شهادة قل الله شهيد بيني وبينكم وأوحي إلي هذا القرآن لأنذركم به ومن بلغ أئنكم لتشهدون أن مع الله آلهة أخرى قل لا أشهد قل إنما هو إله واحد وإنني بريء مما تشركون) . * * * والمُشاهد فى سيرة رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ أن حدة الانتباه الذهنى تسودها كلها. فأمثالنا قد يثور انتباهه لبواعث مفاجئة، تم تركد مشاعره لزوالها. أما هذا النبى الكريم فهو فى نهاره مستجمع الفكر مركزه، لا يكاد يمسه فتور أو ذهول عن شىء، دق أو جل . فإذا نام نضحت هذه الحساسية الشديدة على حالته النفسية، فهو فى رقاده يقظان القلب. ونبهة النهار ويقظة الليل تقوم على هذا الاتجاه المستمر إلى الله، والتشبث العجيب بذكره. إذا أوى إلى فراشه قال: "اللهم أسلمت نفسى إليك، وفوضت أمرى إليك، وألجأت ظهرى إليك ، رغبة ورهبة إليك لا ملجأ ولا منجى منك إلا إليك . أمنت بكتابك الذى أنزلت ، وبنبيك الذى أرسلت " . انظر إلى هذا التفانى فى مرضاة الله، ثم إلى هذا الختام الذى يعلن فيه الرسول إيمانه بنفسه وكتابه. إنه ـ كما أبنا ـ عزيمة وإصرار . وهو كذلك إقرار من الداعية أنه أول من يصدع بواجبات دعوته، وأول من يلبى مطالب رسالته، وأول من يطيع أمر الله، وينفذ حكمه، ويقيم حده ويعلى شعائره. روى ابن عباس رضى الله عنهما قال: كان النبى صلى الله عليه وسلم إذا قام من الليل يتهجد قال : ص _187(1/179)
اللهم لك الحمد ، أنت قيم السموات والأرض ومن فيهن ولك الحمد ، لك ملك السموات والأرض ومن فيهن ولك الحمد أنت نور السموات والأرض ومن فيهن ولك الحمد انت الحق ووعدك الحق ، ولقاؤك حق وقولك حق والجنة حق والنار حق والنبيون حق ومحمد حق والساعة حق" . " اللهم لك أسلمت وبك أمنت وعليك توكلت واليك انبت وبك خاصمت واليك حاكمت فاغفر لى ما قدمت وما أخرت وما أسررت وما أعلنت أنت المقدم وأنت المؤخر لا اله إلا أنت ولا حول ولا قوة إلا بالله " . ونحن فيما نألف من تجاربنا نرى أن حياة التأمل المحض والمناجاة الحلوة، لا تخلص لصاحبها إلا بعيداً عن الناس، وفى نجوة من لغوهم العريض، وشئونهم التافهة. ومن ثم فهى لا تعرف إلا لأصحاب الأبراج العاجية، والصوامع القصية من الأدباء المترفعين، أو العباد المنقطعين. والحق أن للجماهير ظلالا كثيفة، ومطالب وأهواء لا تنتهى. وقلما يبصر نفسه من يلقى بنفسه فى غمارهم الموار. إلا أن الدارسين لحياة النبى العظيم "محمد" صلى الله عليه وسلم يرون فى مسلكه ما يخالف هذه العادة المأثورة عن بعض الممتازين من الناس. فهو قد عالج من قضايا المجتمع ومشكلات الأفراد، وأحوال الأصدقاء والخصوم، ودقائق الحرب والسلم، وبلا من أطوار النفوس، وتقلب المشاعر، واختلاف الأفهام ما لم يتح مثله لبشر آخر. ومع ذلك فإن صفاءه النفسى، وتوقده العقلى لم تشبهما شائبة. كان يترك أثره العميق فى الآخرين، ولا يتأثر هو بما فى نفوسهم من ضيق وانحصار. إنه موجة يدفع ولا يندفع . ص _188(1/180)
ورقى معنوياته جزء من صميم ذاته، لا يمكن أن يتخفف عنه، أو تتفاوت قيمته بين ارتجال وإعداد. أما كثير من العظماء فارتقاؤهم الأدبى عرض! اكتسبوه بوسائل معينة، وضوابط خاصة. وهم على حق إذ يتوجسون من ضياعة، أو نقص حرارته، مع مخالطة الجهال والدهماء. لكنك ترى هذا النبى الجليل بين أفواج الأعراب، وصخب الجماعات المختلفة يرسل كلمه الرتيب فلا تدرى بأيهما تعجب؟. برقة الروح الذى يصحب عباراته، أم بروعة التنسيق الذى يؤلف بين ألفاظه؟!. وكلا الأمرين لا يقترب منه إلا صاحب قلم ينشد الصفاء لنفسه، والهدوء لفكره، ثم بعد ذلك يكتب فى روية وأناة ومهل. ولا ريب فى أن مصدر هذا العلو الدائم، والقوة المصاحبة هو ما أشرنا إليه آنفاً من اتصال قلبه برب الأرض والسماء، وجريان فكره فى نسق لا تدركه الخاصة بلة الدهماء. * * * * وطبيعى أن يعيش صاحب هذه الرسالة طيلة عمره مُبَرَّأً من كل عيب منزهاً عن أية ملامة. لا يؤثر عنه فى سره وعلنه ورضاه وسخطه إلا ما تهوى العلا. ما من كبير إلا وله سقطة، حتى لقد تواضع الناس أن يغتفر بعضهم لبعض هنات أو سيئات لا بد أن يواقعوها. لكن هناك صنفا من الناس ليس فى شرابهم قذى قط. هم المصطفون الأخيار من عباد الله. وفى الطليعة الوضاءة من هذا النفر النقى إمام فذ، ورحمة مُهداة، ونبى معصوم. هو محمد بن عبد الله. صلوات الله عليه فى الأولين والآخرين . * * * * ص _189(1/181)
بقدر قيمتك يكون النقد الموجه لك رذيلة الحسد قديمة على الأرض قدم الإنسان نفسه. ما إن تكتمل خصائص العظمة فى نفس، أو تتكاثر مواهب الله لدى إنسان حتى ترى كل محدود أو منقوص يضيق بما رأى، ويطوى جوانحه على غضب مكتوم، ويعيش منغَّصاً لا يريحه إلا زوال النعمة، وانطفاء العظمة، وتحقق الإخفاق. وقد كنت أظن أن مسالك العظماء، وأنماط الحياة المترفعة التى تميز تفكيرهم ومشاعرهم هى السبب فى كراهية الساقطين لهم وتبرمهم بهم. ثم تبينت خطأ هذا الظن، فكم من موهوب لا تزيده مَجَادته إلا تقربا إلى الناس وعطفا عليهم. ومع ذلك فإن التعليقات المرة تتبعه، وكذلك التشويه المتعمد لآثاره الطيبة،والتضخيم الجائر لأخطائه التافهة ! فما السر إذن ؟ السر أن الدميم يرى فى الجمال تحدياً له، والغبى يرى فى الذكاء عدوانا عليه، والفاشل يرى فى النجاح إزراء به، وهكذا..!! فماذا يفعل النوابغ والمبرزون ليريحوا هذه الطبائع المنكوسة؟. إذا محاسني اللاتي أدل بها كانت ذنوباً، فقل لى: كيف أعتذر؟ وقد رأى أحد العلماء أن يضع حداً نفسياً لهذا العراك بين أولى الفضل والمحرومين منه، فقال: إن يحسدوني فإني غير لائمهم قبلي من الناس أهل الفضل قد حُسدوا فدام لى ولهم ما بي وما بهموا ومات أكثرنا غيظا بما يجد وليت الأمر ينتهى باستجابة هذا الدعاء. ص _190(1/182)
إن وقائع الحياة أعتى مما نتمنى؟ ودسائس الحاقدين ومكايدهم ومؤامراتهم لا تنتهى حتى تبدأ. وهم يصلون فى أحيان كثيرة إلى ما يشتهون من سوء. وكم من عبقريات مرغتها فى الوحل خصومات خسيسة!!. إن الحال فى كل زمان تحتاج إلى أمداد سريعة من المساندة أوالعزاء لتعيد إلى الموهوبين ثقتهم بأنفسهم، وتشجعهم على المضى فى طريقهم دون يأس أو إعياء. وذلك لكثرة ما يصيبهم من تعويق المثبطين وإيذاء الناقمين والشامتين. أجل، إنهم فى حاجة لأن يقال لهم: لاتأسوا، فإن ما تتوجسون من نقد أوتجاهل هو كفاء ما أوتيتم من طاقة ورسوخ. قال "ديل كارنيجى": (كثير من الناس يجدون تشفياً فى اتهام شخص يفوقهم ثقافة أومكانة أونجاحاً، مثل ذلك أننى تسلمت رسالة من سيدة تصب فيها جام نقمتها على "جنرال وليم بوث " مؤسس "جيش الخلاص ". وكنت قبل ذلك قد أذعت حديثا فى الراديو أمتدح فيه الرجل وأثنى على جهوده. وقد كتبت إلى هذه السيدة تقول: " إن الجنرال بوث اختلس ثمانية ملايين دولار من المساعدات التى جمعها للفقراء والمساكين.. " والحق أن التهمة سخيفة، وهذه المرأة ما كانت تستهدف الواقع، وإنما كانت تبغى النيل من رجل عظيم، رجل أرفع منها بمراحل. وقد ألقيت برسالتها فى سلة المهملات، وحمدت الله على انى لست زوجا لهذه المرأة.! فإن الرسالة لم تزدنى علماً بالجنرال "بوث " كما تبغى كاتبتها، وانما زادتنى علما بالكاتبة نفسها، فكما قال "شوبنهاور": ذوو النفوس الدنيئة يجدون المتعة فى البحث عن أخطاء رجل عظيم. قال: وقلما يصدق المرء أن رئيسا لجامعة كبرى يمكن أن يسلك فى عداد ذوى النفوس الدنيئة. ص _191(1/183)
ولكن المدير السابق لجامعة "ييل " وهو "تيمونى داويت " وجد متعة كبيرة فى سوق الاتهامات المغرضة المكذوبة ضد الرئيس "توماس جيفرسون " العظيم، محرر وثيقة الاستقلال!) . * * * * إن "مدير جامعة" منصب علمى جليل، وجدير بمن يلونه أن يكونوا آيات فى النبل والسمو، لا قادة لحملات التضليل والافتراء ولكن الروابط مفكوكة بين كبر الوظائف وكبر النفوس. وكم بين كبار الموظفين من رجال تصرفهم الأثرة وحدها، ويُضريهم الاستعلاء وتنازع السلطان واجتياز المنافع واسترضاء الأتباع!. أما الصور الكالحة للحسد، الطامسة للحق، المرهقة للضمائر، فهى بين أولئك الكبراء فى مناصبهم، المرموقين بالتجلة والاحترام فى أغلب الأحيان. ومنذ أربعة عشر قرنا ظهر "محمد بن عبد الله " فى العرب. وكان أصحاب الرياسات الدينية المبجلة من الأحبار والرهبان قد أحسوا نبأه، والتفوا به ليستوثقوا من صدق دعوته وصحة رسالته. ولم يحتج الأمر إلى طول تمحيص، فسرعان ما أيقن القوم أنهم أمام رسول من رب العالمين، يجب أن يؤمنوا به، وأن ينضموا إليه. بيد أنهم طووا أنفسهم على هذه الحقيقة، وكرهوا- عن تجاهل لا عن جهل- أن يذكروها بلة أن ينشروها!! (الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبناءهم وإن فريقا منهم ليكتمون الحق وهم يعلمون) . ولم ذلك الكتمان؟ حفيظة ذوى النفوس الدنيئة عندما تلمح دلائل العظمة والمجد قد ساقتها الأقدار إلى إنسان!!. هو الحسد..! ولست أعرف منظرا أشوة ولا أقبح من كاهن أو واعظ يتحدث عن الله بلسانه، ومن وراء أرديته الفضفاضة ووظيفته الدينية نفس ترتع فيها جراثيم الأنانية الصغيرة والتطلع الخسيس . ص _192(1/184)
(ود كثير من أهل الكتاب لو يردونكم من بعد إيمانكم كفارا حسدا من عند أنفسهم من بعد ما تبين لهم الحق ) . (أم يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله فقد آتينا آل إبراهيم الكتاب والحكمة وآتيناهم ملكا عظيما ) . (بئسما اشتروا به أنفسهم أن يكفروا بما أنزل الله بغيا أن ينزل الله من فضله على من يشاء من عباده) . والغريب أن الأحبار والرهبان مضوا فى معركة الحقد- لا الحق- إلى نهاية الشوط. فألبوا أتباعهم الأغرار ضد الدين الجديد ونبيه، وأشاعوا حوله قالة السوء، وأثاروا بموقفهم حروبا طاحنة ما كان أغنى الدنيا عنها لو تطهرت النفوس من هذه الغيرة الشخصية السيئة. وأظن أن الله اختار نبيه الأخير من الأميين اختصارا للمتاعب التى تنشأ لو أنه اختير من آباء الكنيسة. وهذا كلام أقوله بعدما بلوت العمل فى البيئات الدينية بضع عشرة سنة. فلو كان "محمد" واحداً من أولئك المحترفين، ثم اصطفته العناية من بينهم ليؤدى رسالة الصلاح والإصلاح، لقال كاردينال عجوز: أنا أسن منه !. ولقال ثان: أنا أسبق منه فى الخدمة. ولقال ثالث: إن كان عالما فليس إدارياً، وإن كان إدارياً فليس بعالم مثلى!!. ولقال رابع: إنه يخطئ فى إقامة الطقوس!!. ولا تهمه خامس بكذا، وسادس بكيت!!. ص _193(1/185)
ثم يجتمع عليه المتنافرون، ليشلوا دعوته، ويحبطوا رسالته!!. وقد كان الله قادراً على أن يجعل عيسى واحداً من علماء اليهود، ولكنه ترك بيئتهم تغلى بأحقادها وبتنازعها على الرياسات والمطامع، ثم جعل كلامه على لسان طفل، ينطقه الوحى وهو فى المهد، لعل الكهان الشيوخ يتعظون!!. و"ديل كارنيجى" يفضح بعض خبايا هذه الغيرة الشخصية بقوله: (فى سنة 1862 كسب الجنرال "جرانت " لجيوش الشمال ـ فى الحرب الأهلية الأمريكية ـ معركة حاسمة، وبهذا غدا معبود الجماهير فى يوم وليلة وتجاوبت أصداء هذا النصر فى أوروبا نفسها. ولم تكد تمضى ستة أسابيع على هذا الفوز حتى فبض على "جرانت " وانتزع جيشه منه. وبكى القائد المقهور من فرط الإذلال واليأس كما يبكى الطفل، لكن لماذا قبض عليه؟ لأنه أثار حسد رؤسائه، وأهاج غيرتهم …) . ****** إن النجاة من ظلمات الحياة ومظالم الناس وأحقادهم ليس بالأمر السهل. لابد لها من أضواء يبعثها رب الفلق الذى يستطيع وحده أن يمحو آية الليل بآية النهار !. وقد أمرنا الله أن نستعيذ به من شرور الحاسدين، كما نستعيذ به من شر الليل الغاسق، ومن صنوف الأذى كلها، سواء حملتها هامة أو دابة أو إنسان. (قل أعوذ برب الناس* ملك الناس * إله الناس * من شر الوسواس الخناس * الذي يوسوس في صدور الناس * من الجنة و الناس ) . ص _194(1/186)
هذه الاستعاذة ضرورة، فالذين رزقوا من النعم المادية أو الأدبية ما يغرى الآخرين بتنقصهم، وسد منافذ الحياة والارتقاء أمامهم، أحوج الناس إلى تأييد الله لهم، كي يؤذوا رسالتهم ويبرزوا مواهبهم . ومع أن أنبياء الله أكبر من أن يفقدوا ثقتهم بأنفسهم أمام سيل التكذيب والاتهام الذى يرميهم به الحاسدون والكافرون، فإنهم احتاجوا فى كل لحظة إلى معونة الله وتثبيته، حتى لا يؤثر فيهم استخفاف أو تحقير: (فاصبر إن وعد الله حق ولا يستخفنك الذين لا يوقنون ) . (وكلما مر عليه ملأ من قومه سخروا منه قال إن تسخروا منا فإنا نسخر منكم كما تسخرون * فسوف تعلمون من يأتيه عذاب يخزيه ويحل عليه عذاب مقيم) * * * ص _195(1/187)
كن عصيا على النقد.. قلت فى كتابى " خلق المسلم " بعد كلام عن فضيلة القوة: تلك طبيعة الإيمان إذا تغلغل واستمكن، إنه يُضفى على صاحبه قوة تنطبع فى سلوكه كله، فإذا تكلم كان واثقا من قوله، وإذا اشتغل كان راسخا فى عمله. وإذا اتجه كان واضحا فى هدفه. وما دام مطمئنا إلى الفكرة التى تملا عقله، وإلى العاطفة التى تعمر قلبه، فقلما يعرف التردد سبيلاً إلى نفسه، وقلما تزحزحه العواصف العاتية عن موقفه. بل لا عليه أن يقول لمن حوله: (اعملوا على مكانتكم إني عامل فسوف تعلمون * من يأتيه عذاب يخزيه ويحل عليه عذاب مقيم) . هذه اللهجة المقرونة بالتحدى. وهذه الروح المستقلة فى العمل، وتلك الثقة فيما يرى أنه الحق، ذلك كله يجعله فى الحياة رجل مبدأ متميز، فهو يعاشر الناس على بصيرة من أمره، إن رآهم على الصواب تعاون معهم، وان وجدهم مخطئين نأى بنفسه واستوحى ضميره وحده. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لا يكن أحدكم إمعة، يقول: أنا مع الناس ؛ إن أحسن الناس أحسنت، وان أساءوا أسأت!! ولكن وطنوا أنفسكم إن أحسن الناس أن تحسنوا، وإن أساءوا أن تجتنبوا إساءتهم " . والحق أن الرجل القوى يجب أن يدع أمر الناس جانبا، وأن يندفع بقواه الخاصة شاقا طريقه إلى غايته، واضعا فى حسابه أن الناس عليه لا له، وأنهم أعباء لا أعوان، وأنه إذا ناله جرح أو مسه إعياء فليكتم ألمه عنهم، ولا ينتظر خيرا من بثهم أحزانه . ولا تشك إلى خلق فتشمته شكوى الجريح إلى الغربان والرخم ص _196(1/188)
وبعض الأقوياء تتحول عنده قلة الاكتراث بالناس، وإساءة الظن بما يبدون من آراء، أو يكنون من مشاعر إلى عاطفة تفيض بالزراية وتمتلئ بالقسوة، على نحو ما قال "المتنبى": ومن يعرف الأيام معرفتي بها وبالناس روي رمحه غير راحم ونحن لا نقر هذا الانحراف فى إهدار القيم. وكل ما نوصى به ألا تعطى العامة فوق ما لها من حقوق عقلية أو خلقية، فإن مستويات الجماهير لا تتحكم فى تقرير الحق، أو تحديد الفضيلة. بل تؤخذ الحقائق والفضائل من ينابيعها الأصيلة دون مبالاة بالجاهلين لها أو الخارجين عليها، وإن كانوا ألوفا مؤلفة. وعلى الرجال الكبار أن يبنوا سلوكهم فوق هذه الأسس، فلا يتبرموا بالنقد المثار، أو يقلقوا لكثرة الهجامين والشتامين. قال " ديل كارنيجى ": (قابلت ذات يوم " جنرال سميدلى بتلر " الملقب بشيطان الجحيم، والمعروف بأنه من أحزم القواد الذين تعاقبوا على بحرية الولايات المتحدة، فأخبرنى أنه كان فى صباه طموحاً إلى الشهرة الواسعة، والجاه العريض، وقوة الشخصية. ولهذا كان يضيق بأقل ما يوجه إليه من نقد، ويهيج لأتفه ما يمس الكرامة والكبرياء. غير أن الأعوام الثلاثين التى قضاها فى البحرية غيرت طباعه، وجعلته أمنع من أن ينال منه النقد. قال لى: لطالما ذقت صنوفاً من الإهانة والإذلال، وطالما رميت بأنى كلب عقور، وحية رقطاء، وثعلب مراوغ 0 ولطالما لعننى خبراء فى فن الشتم فلم يدعوا مقذعاً من ألوان السباب إلا رمونى به!!. فهل ترانى ألقيت بالا إلى ذلك كله؟ كلا . ص _197(1/189)
ولو أننى سمعت اليوم واحدا يسبنى لما حولت نظرى إليه لأعرف من عساه يكون). والجملة الأخيرة تشبه قول الشاعر العربى فى تجاهل السفهاء: لو أن كل كلب عوى ألقمته حجرا لأصبح الصخر مثقالا بدينار إن أصحاب الحساسية الشديدة بما يقول الناس، الذين يطيرون فرحا بمدحهم، ويختفون جزعا من قدحهم؟ هم بحاجة إلى أن يتحرروا من هذا الوهم، وأن يسكبوا فى أعصابهم مقادير ضخمة من البرود وعدم المبالاة، وألا يغتروا بكلمة ثناء أو هجاء، لو عرفت دوافعها ووزنت حقيقتها ما ساوت شيئاً. وقتها تساوى شيئا ما، فلماذا يرتفع امرؤ أو ينخفض تبعاً لهذه التعليقات العابرة من أفواه المتسلين بشئون الآخرين؟!. إن أحسن ما قيل فى إدراك الجماهير للصواب هو ما جاء فى الآية الكريمة: (وإن تطع أكثر من في الأرض يضلوك عن سبيل الله إن يتبعون إلا الظن وإن هم إلا يخرصون) . وقد وجد الكاتب الأمريكى نفسه مضطرا إلى الانصياع لهذه الحقيقة فقال: (لقد اكتشفت من سنوات أننى وإن عجزت عن اعتقال ألسنة الناس حتى لا يطلقوها فى ظلماً وعدوانا، إلا أنه وسعنى أن أفعل ما هو خير من هذا. أن أتجاهل لوم الناس ونقدهم..). ويقول: (إننى أعلم علم اليقين أن الناس لا يشغلهم التفكير فى زيد أو عمرو أكثر من لحظات، فهم مشغولون بالتفكير فى أنفسهم منذ يفتحون أعينهم على اليوم الجديد حتى يأوون إلى مضاجعهم، وأن صداعاً خفيفاً يلم بهم لهو كفيل أن يلهيهم عن خبر موتى أو موتك..). أجل، هذه حقيقة الناس الذين نهتم بأحكامهم علينا ونحسب لرضاهم وسخطهم ألف حساب. ص _198(1/190)
وحرى بنا ـ ونحن نزن آراء الناس ـ أن ننبه إلى الملابسات التى تجعل كثيرا منهم يوافق مثلا، أو يرفض، بل يؤمن أو يكفر. فإن عبد الله بن أبى ـ كبير المنافقين فى الصدر الأول ـ ظل ينظر إلى الإسلام نظرة تجهم وقلق، حتى إذا انتصر المسلمون فى معركة " بدر " أسرع الرجل وشيعته إلى الدخول فيه بحجة أن " هذا أمر قد توجه " يعنى ثبت واستقر بعدما نال من نصر. والذين يبنون احترامهم لأمر ما على أساس ما يقارن هذا الأمر من عناصر الغلب والظهور كثير جدا فى الناس. أما الذين يعتنقون الحق المجرد ولو أثخنته الهزائم، ويغالون بنفاسته ولو مرغ فى التراب، فهؤلاء غرباء فى العالم. العامة للأسف مع صاحب الدنيا ولو كان زنيما. والألسنة فى إعلاء شأنه قلما تفتر رغبة أو رهبة. ولذلك قيل: إذا أقبلت الدنيا على أحد أعارته محاسن غيره، وإذا أدبرت عنه سلبته محاسن نفسه: والناس من يلق خيرا قائلون له ما يشتهي، ولأم المخطئ الهبل وقد كره النبى صلى الله عليه وسلم ألا يتحرك الناس إلا تحت ضغط هذه الدوافع الدنيئة، فقال: " بئس العبد عبد رغب يذله، بئس العبد عبد رهب يضله ". بيد أن مشاعر الرغبة والرهبة والمنفعة والحرمان ما تزال السر الدفين وراء كثير من النقد والرضاء والنقمة والتأييد. وقد كان " إبراهام لنكولن " حريصاً على أن ينتصر فى المعارك التى خاضها، لماذا؟ لأن النصر سيقطع جميع الألسنة التى تناوشه. أما إذا انهزم فلو نزلت الملائكة تعتذر له ما قبلت الجماهير عذره، ولكانت أسرع إلى تصديق خصومه وقبول الاتهامات التى وجهت له بالحق أو بالباطل. ص _199(1/191)
ولذلك يقول " لنكولن ": لو أننى حاولت أن أقرأ فقط لأرد على ما وجه إلى من نقد، لشغل هذا وقتى كله، ولعطلنى عن أعمالى!!. لكننى أبذل جهدى فى أداء واجبى، فإذا أثمرت جهودى فلا شىء من النقد الذى وجه إلى يهمنى بعد ذلك، إنه سيختفى من تلقاء نفسه. أما إذا خاب مسعاى فلو أقسمت الملائكة على حسن نيتى ما أجدانى هذا فتيلا، حسبى فيما يتصل بآراء الناس أنى أديت واجبى وأرضيت ضميرى). وبديهى أن المرء يلوذ بهذا الاستعلاء والاستغناء إذا دهمه سيل من هزات الحاسدين واتهامات الحاقدين، وكان الحق معه. أما الانتقاد الصحيح لما وقع فيه من أخطاء، أو الاستدراك على ما فاته من كمال؟ فيجب أن نقبله على العين والرأس. ولو كان النقاد مدخولى النية، سيئى القصد. فسوء نيتهم عليهم وحدهم، وخير لنا أن ننتفع بما أجراه القدر على ألسنتهم من تصويب. ومن يدرى؟ لعل ذلك الانتفاع يكون أغيظ لنفوسهم المريضة. والعاقل يتسمع ما يقوله أعداؤه عنه. فإن كان باطلا أهمله فورا ولم يأس له. وإن كان غير ذلك تروى فى طريق الإفادة منه. فإن أعداء الإنسان يفتشون بدقة فى مسالكه، وقد يقفون على ما نغفل نحن عنه من أمس شؤوننا. وقديماً قيل: رحم الله امرءا أهدى إلى عيوبى، فمن أهدى إلينا عيوبنا قبلنا هديته فى الحال، ثم سارعنا إلى إصلاح ما بطن وما ظهر من نفوسنا، حتى لا يبقى مجال لشانئ ، أو فرصة لناهز. * * * * ص _200(1/192)
حاسب نفسك ما من عمل هام إلا وله حساب يضبط دخله وخرجه، وربحه وخسارته. إلا حياة الإنسان، فهى وحدها التى تسير على نحو مبهم لا يدرى فيه ارتفاع أو انخفاض. هل يفكر أكثرنا أو أقلنا، فى إمساك دفتر يسجل فيه ما يفعل وما يترك من حسن أو سوء؟ ويعرف منه بين الحين والحين رصيده من الخير والشر؟ وحظوظه من الربح والخسارة؟!. لو أننا نخبط فى الدنيا خبط عشواء، ونتصرف على ما يحلو لنا دون معقب أو حسيب لجاز على تفريط وحمق أن نبعثر حياتنا كما يبعثر السفيه ماله، وأن نذهل عن الماضى وما ضم من تجارب، وأن نقتحم المستقبل غير متهيبين خطأ أو خطيئة!!. فكيف ولله حفظة يدونون مثقال الذرة، ويعدون لنا قوائم بحساب طويل: (ووضع الكتاب فترى المجرمين مشفقين مما فيه و يقولون يا ويلتنا مال هذا الكتاب لا يغادر صغيرة و لا كبيرة إلا أحصاها و وجدوا ما عملوا حاضرا و لا يظلم ربك أحدا ) . أما يجب أن نستكشف نحن هذا الإحصاء الذى يخصنا وحدنا؟!. أما ينبغى أن نكون على بصيرة بمقدار ما نفعل من خطأ وصواب؟!. الحق أن هذا الانطلاق فى أعماء الحياة دون اكتراث بما كان ويكون، أو الاكتفاء بنظرة خاطفة لبعض الأعمال البارزة أو الأعراض المخوفة، الحق أن ذلك نذيرُ شؤم. وقد عده القرآن الكريم من الأوصاف البهيمية التى يعرف بها المنافقون الذين لا كياسة لديهم ولا يقين. ص _201(1/193)
(أولا يرون أنهم يفتنون في كل عام مرة أو مرتين ثم لا يتوبون ولا هم يذكرون). وعلماء التربية فى الإسلام متفقون على ضرورة محاسبة المرء لنفسه تمشياً مع طبيعة الإسلام، وإنقاذا لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم : "حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا، وزنوا أعمالكم قبل أن توزن عليكم " . وقوله: "الكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت، والعاجز من أتبع نفسه هواها وتمنى على الله " . وقد كتب هؤلاء العلماء فصولاً مطولة فى المراقبة والحاسبة يمكن الرجوع إليها. ويرى "ابن المقفع " أن يسجل الإنسان ما يصدر عنه جاعلا الصفحة اليمنى للحسنات واليسرى للسيئات. وإن كان "ديل كارنيجى" يذهب إلي تدوين السيئات فحسب، على أساس أن المرء يعنيه تلافى أخطائه، والنجاة مستقبلا مما وقع فيه آنفاً. قال: (فى أحد أدراج مكتبى ملف خاص مكتوب عليه : "حماقات ارتكبتها"!!. وأنا أعد هذا الملف سجلا وافيا للأخطاء التى وقعت فيها،، وبعض هذه الأخطاء أمليته، والبعض الآخر خجلت من إملائه فكتبته بنفسى. ولو أننى كنت أمينا مع نفسى لكان الأرجح أن يمتلئ مكتبى بأمثال هذه الملفات المليئة بالأخطاء والحماقات!!. وعندما استخرج سجل أخطائى، وأعيد قراءة الانتقادات التى وجهتها لنفسى، أحس أننى قادر على مواجهة أقسى وأعصى المشكلات مستعينا بعبر الماضى الذى دونته.،؟ لقد اعتدت أن ألقى على الناس تبعة ما أواجه من مشكلات. لكن بعد أن تقدمت بى السن وازدادت حكمتى ـ فيما أخال ـ أدركت أننى وحدى المسؤول عما أصابنى من سوء. وفى ظنى أن كثيرا من الناس يصلون إلى هذه النتيجة نفسها عندما يدرسون أنفسهم. ص _202(1/194)
ولقد قال "نابليون " فى منفاه بجزيرة القديسة "هيلانة": لا أحد سواي مسؤول عن هزيمتى. لقد كنت أنا أعظم عدو لنفسى ). * * * * فى صدر شبابى الأول كنت دقيقاً فى محاسبة نفسى، وكنت أرسم برامج قصيرة الأجل للتطهر مما أحقره من خلال وأعمال، وأذكر أننى استعنت بإحدى المفكرات السنوية لإثبات الأطوار التى أتنقل بينها من الناحيتين الذهنية والنفسية، وإن كنت فشلت آخر مرة فى استدامة هذا الأسلوب. ويرجع فشلى إلى أننى أطلب النتائج المستحبة بسرعة، على حين أكون محاصرا بظروف لا تسمح بذلك أبدا. وقد مزقت هذه المفكرة فى ساعة يأس لأنى نظرت فى صفحاتها ـ وكنت أدون حالتى بأمانة ـ فوجدتها لا تشير إلى أى تقدم، كانت أشبه بملف مريض لا تتغير حالته مع عظم وعناء السهر وأحس الآن، أنى أخطأت فى الاستجابة لهذا اليأس، لأنى نظرت للأمر في ناحية ضيقة، ناحية الحصول على نتائج معينة فى أيام محدودة، جاهلا أو متجاهلا ما يكتنف النفس من وعورة طباعها الرديئة، ومن عوائق البيئة التى لا حصر لها. كنت كالسباح الذى يعارك أنواء عاتية. حسبه ـ إن وقف فى مكانه ـ أنه لم يتأخر، وأنه لم يغرق. وهذا ضرب من النجاح، يتبعه مع الصبر الجميل إحراز النجاح الكامل. وقد فاتنى هذا الدرس وأنا شاب أتطلع إلى الفضيلة والكمال، وأتعشق المثل العليا، ذلك لأن فى بلادنا أزمة طاحنة فى المربين الأخيار. وحدث وأنا غلام فى مرحلة التعليم الثانوى أن اجتاح قريتنا حديث عن الأشباح التى تظهر بالليل، وشعرت بوجل يملكنى وأنا استمع إلى أنباء هذه الكائنات الخفية، ثم أنكرت من نفسى هذا الفزع الذى لا ينبغى أن يخامر مؤمنا، فإن المؤمن يخشى الله وحده. وإذن فلأؤدب هذه النفس الهلوع، وبم؟ بإكراهها على مواجهة ما تخاف. وبعد العشاء اخترقت وحدى أعماء الليل المخيم على البلد والحقول. ص _203(1/195)
ودلفت إلى المقابر الموحشة الواقعة بعيدا عن العمران!!. وأخذت أنقل خطوى بين دروبها الضيقة، وعيناى تستشفان كل شىء حولى، وقلبى لا يفتأ يدق. وكانت رحلة شعرت من أعماقى بكرهى لها، ولكن ما منها فى نظرى بد. لقد قررت أن أدخل هذه المقابر من طريق، وأخرج من طريق آخر، وأن أكرر هذه الجولة فى ليال عدة لأغالب فى نفسى هذا الخوف الذى لا يليق بى. لقد كنت فى ميدان الرياضة النفسية أتعسف الطريق أحيانا كثيرة لقلة المرشدين الذين يرعون الناشئة، وندرة الثقافات التى تأخذ بناصيتهم إلى الصراط المستقيم ومع ما خلفته فى أعصابى هذه المحاولات المضنية، فلست آسفا على ما بذلت من جهد، أخطأت فيه أو أصبت، فلأن أشتط فى حساب نفسى أفضل من أن أدعها تنطلق من غير حساب. * * * * وكان يمكن أن تكون مواريث التصوف فى ثقافتنا الإسلامية هاديا حسنا لوضع رقابة حصيفة على النفس، تخلصها من أفاتها، وتبلغ بها ما تطيق من آفاق السمو، لولا أن كتب التصوف بحاجة إلى غربلة شاملة تفصل ما فيها من جوهر عما فيها من حصى. فما أيسر أن يوصف الداء فى هذه الكتب على أنه دواء!!. ومن ثم يختلط الدواء القاتل بالشفاء الصحيح. وتختلط أقوال المجانين والسفهاء بحكم العارفين والفلاسفة. وقد كان "ديل كارنيجى" شبيهاً بحكماء المتصوفة عندما نوه بضرورة محاسبة النفس فيما حكاه عن "هـ . ب هاول " من رجال المال الأمريكيين، فقد كان يخصص مساء السبت من كل أسبوع لمراجعة ما كسب واكتسب، والتأمل فى كل مقابلة تمت، وكل مناقشة دارت، وكل عمل أنجز. ثم يسأل نفسه: أى خطأ ارتكبه، أى توفيق صادفه؟ وهكذا. ص _204(1/196)
قال: (ولعل "هاول " قد استعار هذه الطريقة فى "مراجعة النفس " من "بنيامين فرانكلين "، إلا أن الفارق الوحيد بينهما أن هذا لم يكن ينتظر حتى تحل نهاية الأسبوع، بل كان ينصب لنفسه هذه المحاكمة العسيرة كل مساء، وقد اكتشف أن هناك ثلاثة عشر خطاً خطيراً يقترفها على الدوام. وهذه أهم ثلاثة، منها: تضييع الوقت سدى ، الانشغال بالتوافه، والجدال مع الناس على غير طائل. ورسخ فى ذهن "فرانكلين " أنه ما لم يتخلص من هذه الأخطاء فلن يتقدم فى الحياة شيئاً يذكر. ومن ثم عمد إلى تخصيص أسبوع لمحاربة كل نقيصة من نقائصه على التوالى، وأفرد سجلا يدون فيه يوماً بيوم أنباء انتصاره على نقائصه أو هزيمته أمامها. وقد لبث الرجل فى حرب ضد أخطائه أكثر من عامين، فلا عجب أن غدا واحدا من أعظم رجالات أمريكا). * * * * والحق أن ترويض النفس على الكمال والخير، وفطامها عن الضلال والشر يحتاج إلى طول رقابة وطول حساب. إن عمارة دار جديدة على أنقاض دار خربة لا يتم طفرة، ولا يتم عن ارتجال وإهمال. فكيف ببناء نفس، وإنشاء مستقبل؟!. أترى ذلك يتم وليد غفلة وذهول؟!. كلا، لا بد من حساب دقيق يعتمد على الكتابة، والمقارنة، والإحصاء، واليقظة. فإذا شئت الإفادة من ماضيك، بل من حياتك كلها، فاضبط أحوالك وأنت تتعهد نفسك. اضبطها فى سجل أمين يحصى الحسنات والسيئات، ويغالب طبيعة النسيان فى ذهن الإنسان. ص _205
كلمة إلى علماء المسلمين إن قصر باعهم فى علوم الحياة هو أبشع جريمة يمكن أن ترتكب ضد الإسلام . هذا التصور إن أمسوا به فى هذه الدنيا متخلفين، فهم عند الله ورسوله أشد تخلفاً وأسوأ عقبى . إن أنفسنا وبلادنا وحياتنا وآخرتنا فى ظلمأ هائل إلى مزيد من المعرفة والضياء . محمد الغزالى ص _206(1/197)
خاتمة لكى تصون الحقيقة وتضبط حدودها، يجب أن تعرف هذه الحقيقة وأن تعرف غيرها معها. قد تقول: "وما شأن هذا الغير؟! ". ولماذا يخدش الجهل به حسن التصور للحق المجرد؟. والجواب أن الصورة الكاملة لا بد لها من حدود تنتهى إليها، وعند النهاية المرسومة لهذه الحدود تبدأ حقائق مغايرة. ولن تتميز معرفة الشىء إلا إذا عُرفت الأغيار المجاورة له أو المشتبهة به، ولذلك قال الأقدمون: "بضدها تتميز الأشياء". والناس فى معاملاتهم المالية إذا باعوا عقارا لم يكتفوا بذكره، بل شرحوا حدوده الأربع، وجعلوا من ذكر القطع المجاورة وبيان أصحابها سياجا لضبط الحقيقة التى تعنيهم وحدها، ولا يعنيهم غيرها إلا تبعا لها. وقد كان "عمر" حريصا على تعريف الجاهلية للناس، لا لأن تعريف الجاهلية دين، بل لأن معالم الإسلام ومواقع إصلاحه لا تستبين إلا إذا عُرفت الظلمات والمظالم التى جاء هذا الدين لتبديدها ومحو شاراتها. قال "عمر": "إنما ينحل الإسلام عروة عروة إذا نشأ فى الإسلام من لا يعرف الجاهلية "!!. من هنا كان لزاما على كل مشتغل بعلوم الإسلام أن يدرس الحياة كلها، وأن يتعرف وجوه النشاط البشرى- ومراميه القريبة والبعيدة. إن ضيق العطن، وسوء البصر بما يقع فى الدنيا وما تتوقع، والانحصار فى حدود الفكرة الخاصة، والاقتناع بجانب من المعرفة دون جانب، كل ذلك حجاب دون ص _207(1/198)
معرفة الإسلام والإفادة من تراثه الضخم فى ميادين الثقافة والتربية، والفقه والتشريع، وسياسة الأفراد والجماعات. والدراسات المقارنة هى فى نظرى أجدى الوسائل للبحث عن الحقيقة، والظفر بها. وأنى أهيب بالعلماء المنصفين أن يجيلوا أبصارهم فيما بلغته الآداب والفلسفات من نتائج، وأن يضمُّوا إلى هذه المعرفة دراسة الإسلام نفسه، وهم بأيسر مقارنة منتهون إلى ضرورة نفع العالم بهداياته، ومنع العوائق التى تصد الناس عنه. وكلمة أخيرة إلى علماء المسلمين: إن قصر باعهم فى علوم الحياة هو أبشع جريمة يمكن أن ترتكب ضد الإسلام. هذا القصور إن أمسوا به فى هذه الدنيا متخلفين، فهم عند الله ورسوله أشد تخلفاً وأسوأ عقبى. إن أنفسنا وبلادنا وحياتنا وآخرتنا فى ظمأ هائل إلى مزيد من المعرفة والضياء. * * * *(1/199)