(1)
الحمد لله ربِّ العالمين ، وصَلَّى الله وسَلَّم على نبينا محمد وعلى آله وصَحْبِهِ أجمعين .. أمَّا بَعد :
__________
(1) بلَغ السيل الزُّبى ) مثَلٌ يُقال للأمْر إذا زاد عن حدِّه ؛ و ( الزُّبية ) هي الرابية لا يعلوها الماء . أنظر : « لسان العرب » لابن منظور ( 14 / 353 ) ، وقال ابن الأثير في كتابه « النهاية » ( 3 / 115 ) عن هذا المثل " بلغ السيل الزبى " : ( هذا كناية عن المبالغة في تجاوز حَدِّ الشَّرِّ والأذى ) انتهى .(1/1)
فهذه مقتطفات من بعض كُتُب الكفر والزندقة المنشورة والمعروضة للبيع في ( معرض الكتاب ) الذي أدَّى عمَلَه في ( الرِّياضِ ) على أكمل وأحسن وجهٍ يرضى به إبليس ، وأعظم وأكبر أمرٍ يُغضب ويُسخط ملِك الملوك - جل جلاله - وتقدَّسَت أسماؤه (1) ، فلعنة الله وملائكته ورسله وجميع خلْقِه على مَن تجرَّأ على هذا الأمر الهائل الفظيع وعلى مَن رضِيَ بهذا الفِعل البالغ منتهى الإساءة في السَّبِّ والسخرية والتنقُّصِ لربِّ العالمين ومالِكِ يوم الدِّين ، ولا شَكَّ في كُفْرِ مَن روَّج هذه البضائع الرِّجْس ونَشَرَها فضْلاً عمَّن أملاها عليه « إبليس » وكتَبَها ، كَذلك مَن يَحميها وهو عالِمٌ بِمَا في حشْوِها ؛ قال الإمامُ ابن حَزْم ~ : ( وأمَّا سَبُّ اللهِ تعَالَى فَمَا عَلَى ظَهْرِ الأرضِ مُسْلِم يُخَالِفُ فِي أنه كُفْرٌ مُجَرَّدٌ ) انتهى (2) ، وقال شيخ الإسلام ابن تيمية ~ : ( وإنَّ مَنْ سَبَّ الله أو رَسُولَه كَفَرَ ظَاهِرًا وَبَاطِناً سَوَاء كان السَّابُّ يَعْتَقِدُ أنَّ ذلك مُحَرَّمٌ أوْ كَانَ مُسْتَحِلاًّ أوْ كَانَ ذَاهِلاً عَن اعتِقَادِهِ ؛ هَذا مَذْهَبُ الفُقَهَاءِ وَسَائِرِ أهْلِ السُّنَّةِ القَائِلِينَ بِأنَّ الإِيِمَانَ قَوْلٌ وَعَمَلٌ ) انتهى (3) ، وقال الشيخ سليمان بن عبد الله آل الشيخ ~ : ( فَمَنْ اسْتَهْزَأ بِاللهِ أوْ بِكِتَابِهِ أوْ بِرَسُولِهِ أو بِدِينِهِ كَفَرَ - وَلَوْ هَازِلاً لَمْ يَقْصِدْ حَقِيقَةَ الاسْتِهْزَاءِ - إِجْمَاعاً ) (4) ،
__________
(1) وقد أقيم في الفترة : ( 9 حتى 19 / صفَر / 1428هـ ) .
(2) « الْمُحلَّى بالآثار » ، ( 11 / 411 ) .
(3) « الصارم المسلول » ، ( 3 / 955 ) .
(4) « تيسير العزيز الْحَمِيد بشرح كتاب التوحيد » ، ص ( 553 ) ..(1/2)
قال الله تعالى : { وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ ? لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ } (1) .
وهذا الْمَعرض قد أعلن أهْلُهُ أنه سَوف يَعرض زَقُّومَه وصَدِيدَه في ( بريدة ) هذه الأيام (2) .
فإلى مَن في قلبه ولو بقيَّةٌ من إِيِمَانٍ وإجلالٍ وتعظيمٍ للرحمن ، وخوفٍ من شديدِ بطشه وأليم عِقابه .. إليك بعض ما يُعرض في هذا المعرض ، وانظُرْ لنفْسِك ما يَجِبُ لربِّك ودِينِك ، وسيلي ذلك - بمشيئة الله تعالى - رسالة مهمة جداً حول عظمة الله وقَصَصٍ مُخيفة عمَّن تمادوْا في غيهم وسبوا خالقهم وربهم سبحانه وبحمده .
وقد نَقَلْنا بعضَ ما يُعرض في هذا المعرض من رسالةٍ بعنوان : ( مَعْرَض الكتاب .. وموْجة الإلْحَاد ) لكاتِبَيْها ( ناصر بن يحيي الحنيني ، و عبد الله بن صالح البَرَّاك ) حيث تابعَا مَا تَمَّ عرضه في هذا المعرض من كتبٍ إلحادية وإفسادية ، وكان من أمثلة ذلك ما يلي :
?? الكتب الإلحادية التي تسب رب العالمين وخالق الخلائق وملِك الملوك - عز وجل - :
__________
(1) سورة التوبة ، الآيات : 65 - 66 .
(2) حيث أُعلِنَ أنه سيُقام في الفترة : ( 1 حتى 10 / ربيع الآخر / 1428هـ ) .(1/3)
? من سلسلة كتاب الناقد الصادرة من دار رياض الريس بعنوان ( العنف الأصولي - نواب الأرض والسماء ) سلسلة مقالات جاء فيها مقال بعنوان ( مفهوم الله ، لأحمد ظاهر ، ص : 73 - 94 ) ، ومِمَّا جاء فيه ص ( 73 ) : ( .. وقد أسرف المؤمنون بوجوده والْمُلْحِدون به في تأكيد وجوده وعدَمِه [ يعني الله - عز وجل - ] ، وهم بذلك لَمْ يُقَصِّروا في شَغْلِ أنفُسِهم وغيرهم في الإجابة على السؤال : ما الله ؟! ، ومَا هيئته ؟! ، وما قُدْرَة إرادته ؟! ، وما سِرُّ كينونته الأزلية ؟! .. ) انتهى ، وهذا إنكار صريح لوجودِ اللهِ وخَالِقُ الخلق ومدبِّر الكون - جل جلاله - وتعالى عمَّا يقول الظالِمُون علوًّا كبيراً .
ويقول في ص ( 74 ) : ( الإنسان العربي المسلم إنسان يعيش في الماضي ومع الأموات ، وهو أثناء ذلك يستعمل " الله " كأدَاةِ ضَغْطٍ تَشُده باستمرارٍ إلى الواحدية الصِّرفة ) ! انتهى ، وهذا إنكارٌ صريح لوجودِ رب العالمين - عز وجل - .
ويقول الْمُلْحِد في ص ( 86 - 87 ) : ( وسواء كان الله موجوداً أو غير ذلك فالأمْرُ لا يعنينا بقليلٍ أوْ كثيرٍ ! ) انتهى ، وسوف يَعْنِيه ذلك أعظم عناية عند مُعاينةِ ملَكِ الْمَوتِ وأعوانه ! .
ويقول في ص ( 93 ) : ( .. وأنَّ الْمَفْهُومَ الْمُتَعارف عليه في العالم العربي الإسلامي للهِ مفهوم يَجْعل مِنْ الإنسان شيئاً عَبَثِيًّا وَيُجَرِّده من إنسانيته ) انتهى ، وما قاله سبٌّ شنيعٌ للهِ وسُخرية به وبِدِينه ! .
? ومِمَّا نُشِر في هذا المعرض كتاب ( أصل الأنواع ) لـ « داروين » والذي قرر فيه نظرية النشوء والارتقاء والتي مؤداها نَفْي الإيمان بالله ووجوده - والذي يوزعه ( المركز الثقافي العربي ) ، وقد بِيعَ في هذا الْمَعْرَض بِدِعاياتٍ تُحسِّنه وتروِّجه - ، وفيه نفْي الإيمان باللهِ وَوُجُودِهِ ، وأنَّ أصلَ الإنسان من قِرْد ! .(1/4)
? ومِمَّا نُشِر أيضاً في هذا الْمَعْرَضِ كُتُب « أدونيس » الْمَلِيئَة بإنكار وجود الله والإلحادِ والزندقة ، مثل كتابه ( الثابت والْمُتَحَوِّل ) - والذي بيع في الْمَعرض في ( دار الساقي ) ونَفَذَت كمِّياته ! - .
وفيه يقول كما في ( 3 / 178 - 179 ) : ( كُل نَقْدٍ جذري للدِّينِ والفَلسفة و الأخلاق يتضمن العدمية ويؤدي إليها [ يعني عدم وجود الله ] ، وهذا ما عَبَّرَ عنه « نيتشه » بعبارة : « موت الله » ، وقد رأينا « جبران » [ يقصد جبران خليل جبران ] قَتَلَ الله هو كذلك - على طريقته - حين قتل النظرية الدينية التقليدية ، وحين دعا إلى ابتكار قيم تتجاوز الملاك والشيطان ، أو الخير والشر ! .. ) .
إلى أنْ قال - لَعَنَه الله - : ( الأخلاق التي يدعوا إليها « جبران » هي التي تعيش موت الله ، وتنبع ولادة إله جديد ، إذَنْ هو يَهْدم الأخلاقَ التي تضعف الإنسان وتستعبده [ يعني وجود الله والتديُّن بدِينه ] ، ويُبَشِّر بالأخلاقِ التي تُنَمِّيه وتحرره [ يعني الإنسان ، وهي أخلاق الإلحاد والزندقة ] ! ) ، وهؤلاء الزنادقة يُبارزن الله بالْمُحَارَبَة .
وقال أيضاً في ( 3 / 248 ) عن الإنسان أنه خالِق ! .
وقال - عليه لعنةُ اللهِ - في كتابه ( الصوفية والسوريالية ، ص : 55 ) : ( ففي النشْوَة ينعدم كل شيءٍ حتى الله ) ! .
? ومِمَّا نُشِرَ في هذا المعرض أيضاً قصائد « نِزَار قَبانِي » الْمَلِيئَة بالإلْحَاد والْمُجُونِ ، وقد بِيعَت في هذا المعرض ما تُسمَّى بـ ( الأعمال الكاملة ) لِهَذا الْملحد - عليه من الله ما يستحق - .(1/5)
وفيما تُسمى بـ ( الأعمال السياسية الكاملة ، 3 / 105 – 107 ) يُسْقِط اللَّهَ ويقول : ( حين تصير خوذة كالرب في السماء .. تصنع بالعباد ما تشاء .. تَمْعَسُهم ، تَهْرِسُهُم ، تُمِيتُهُم ، تبعثهم .. تصنع بالعباد ما تشاء ) انتهى زَقُّومُه ، وفيما قاله سخرية بالرَّب - عز وجل - وأنه ظَالِمٌ ! .. { سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوّاً كَبِيراً } (1) .
ويقول عدوُّ اللهِ في ( أعماله الكاملة ) - في رِضَى إبليس ! - ( 2 / 442 ) : ( لأنَّنِي أحِبُّك يَحْدُثُ شيءٌ غير عادي في تقاليدِ السَّمَاء .. يُصبح الملائكة أحراراً في مُمَارسة الْحُب ويتزوج الله حبيبته ! ) .. تعالى الله عمَّا يقول الزنادقة علوًّا كبيراً .
? ومِمَّا عُرِض أيضاً في هذا الْمَعرض : ( الأعمال الشعرية الكاملة ) للزنديق « معين بسيسو » ؛ وفي ص ( 1 – 2 ) من أعماله الشيطانية هذه يقول لعنه الله : ( باسْمِكَ تلك الْمُومِسُ ترقص بقناع الرَّبِّ ، باسمك يتدحرج رأسُ الرب ! ) انتهى ، وإنها سخرية بالْجَلِيلِ تُقِرُّ عين إبليس ! .
? وأيضاً مِمَّا نُشِر في هذا الْمَعرض رواية ( مسافة في عَقْل رَجُل ) للمُلحد « علاء حامد » قاتله الله ، وفي ص ( 125) : ( الإنسان ليس سوى نظريةٍ مادية بَحتة وُجِدَ بالصُّدْفَةِ وسيموت بالصدفة ! ، وَبِمَوته يُصبح مُجَرَّد ذكرى في أروقة الحياة ، فلا إله ، ولا ثواب ، ولا عقاب ، ولا جَنَّة ، ولا نار ، ولا جِن أزرق أو أحمر ، ولا ملائكة بيضاء أو خضراء تُهَفْهِف بأحنحتها ، والرُّسُل ليسو سوى مَجْمُوعَةٍ من الدَّجَّالين ، والأديان صِيَغ بشرية ذكية ، والإنسان ابن الطبيعة خالق نفْسِه ، هو الأوحد والأقوى والأفضل والجبار والمتكبر ، وبالتالي فقد وجد بالصدفةِ ! ) انتهى .
__________
(1) سورة الإسراء ، من الآية : 43 .(1/6)
ويا عجباً لِهُؤلاَءِ الزنادقة كأنهم يتنافسون بين يدي « إبليس » أيُّهُمْ أعظم كُفْراً وقُرْباً إليه بِمَا يقولونه من كلامٍ فظيعٍ { تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدّاً } (1) ! .
? ومِمَّا عُرِض أيضاً في هذا الْمَعرض رواية خبيثة لـ « عبد الرحمن المنيف » يُصَرِّح فيها بأنَّ الله ليس الخالِق وأن الطبيعة هي الْخَالِقَة ! ، فتعسًا لك يا مُلْحِد يا مُتَفَرْعِن ، فـ « أبو جَهْل » يُقِرُّ أنَّ الله تعالى هو الخالِق ، وأنتَ يا عبْدَ ( الطبيعة ) مُعَطِّل أنْجَس من الْمُشْرِك ! .
? ومِمَّا عرِض في هذا المعرض أيضاً ديوان الشيوعي الملحد « محمود درويش » ، وهو الذي يقول في ص ( 24 ) في ديوانه هذا الذي بيع في أكثر من دار نشْرٍ في هذا المعرض : ( نامي فَعَيْنُ اللهِ نَائِمَة عَنَّا وأسْرَاب الشَّحَارير ! ) انتهى ، والله - تعالى وتقدَّسَ - يقول عن نفْسِه الكَريِمَة : { اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ } (2) .
ويقول « محمود درويش » أيضاً - قاتله الله - في ص ( 554 ) من ديوانه - الذي شَحَنه بالكُفْريَّات والضَلاَلاَت - : ( يومك خارج الأيام والموتى وخارج ذكريات الله ! ) انتهى ، وقد قال تعالى : { وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيّاً } (3) ، وقال : { لاَ يَضِلُّ رَبِّي وَلاَ يَنْسَى } (4) ، وأما قوله سبحانه : { نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ } (5) فمعناه أنه - عز وجل - لاَ يذكُرُهم بِرَحَمْتِهِ وإحسَانِهِ ولُطْفِهِ .
__________
(1) سورة مريم ، آية : 90 .
(2) سورة البقرة ، من الآية : 255 .
(3) سورة مريم ، من الآية : 64 .
(4) سورة طه ، من الآية : 52 .
(5) سورة التوبة ، من الآية : 67 .(1/7)
? ومِمَّا عرِض في هذا المعرض رِوَايات الزنديق « نجيب مَحفوظ » ، ومنها روايته المشهورة بالإلحاد : ( أولاد حارتنا ) ، وفيها يُسمِّي الله - تبارك وتعالَى - بـ ( الْجَبلاوي ) و ( العجوز ) حيث يقول : ( يعكف بعدها العجوز [ يعني الله تعالى وتقدَّس ] في قصره الْمَستور الْمَجْهُول ، وحديقته الغنَّاء التي تُحِيط به ، رمز السماء والجنة ، دون أن يجرؤ أحد على الاقتراب منهما ! ) انتهى ؛ فانظُرْ كيف تكون السخرية بالله العظيم سبحانه وبحمده ! .
وإذا قيل له : إنَّ الله قادر على كلِّ شيء ، أجاب في ثقة : ( إنَّ السِّحر أيضًا قادر على كلِّ شيء ! ) .
وفي ص ( 503 ) من هذه الرواية الشيطانية ( أولاد حارتنا ) يقول هذا الهالك - لعنه الله - عن علوم الملاحدة بأنها كانت سبباً في موتِ ( الجبلاوي ) - يعني الرَّبَّ - عز وجل - ( ليحْيا بِمَوته إله العصر ويحل محله ويكُونَه ! ) أيْ تكون هذه العلوم بدَل الله { سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوّاً كَبِيراً } (1) ، وسبحان { الْحَيِّ الَّذِي لاَ يَمُوتُ } (2) .
في رسالتهما السابقة الذِّكْر يقول الكاتبان « الحنيني والبرَّاك » عن رواية ( أولاد حارتنا ) : ( لقد حاولت الرواية أنْ تُبَرِّر فناء الإله - تعالى الله - ، ليس فقط بضعفه وتعرضه للموت ، بل بوصفه بألوان الظلم والتقصير من الغفلة والقسوة والانشغال بالملذات ، فـ"الجبلاوي " قابع في القصر ، يُتابع ما يَجْرِي من ظُلْمٍ لأبنائه ، ويعيش كَمَن لاَ قَلْبَ له ) انتهى .
وفي روايته هذه يظهر ( نجيب محفوظ ) التعاطف مع « إبليس » ، حيث رمَزَ له بـ « إدريس » ! .
وفي روايته هذه ص ( 59 ) يقول عن الله سبحانه وتعالى : ( هذا الأبُ الْجَبَّار ، كيف السبيل إلى إِسْمَاعِهِ أنيني ؟! ، أيها القاسي : متى يذوب ثلج قسوتك ؟! ) .
__________
(1) سورة الإسراء ، من الآية : 43 .
(2) سورة الفرقان ، من الآية : 58 .(1/8)
ويقول عدوُّ اللهِ - كما في كتاب ( الطريق إلى نوبل ، ص : 71 ) - زاعماً أنَّ « قابيل » يقول لأخيه : ( أؤكِّد لك أنَّ جدَّنا [ يعني الرَّب سبحانه ] شخصٌ شاذٌّ ، لا يستحقُّ الاحترام ، ولو كانت به ذرَّة من خيرٍ ما جَفَا لَحْمَه هذا الْجَفَاء الغريب ، إني أراه كما يراه عمُّنا [ يقصد إبليس ] لعنة من لعنات الدهر .. لقد نال هذه الأرض هِبَةً بِلاَ عناء ، ثُمَّ طَغَى واستكبر ) انتهى ، فتأمَّل جرأته على ربه الحليم الذي يُمهل ولا يُهْمِل .. { سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوّاً كَبِيراً } (1) .
وروايات هذا الطاغوت مشحونة بإنكار وجود الله - عز وجل - ، ومن أمثلة ذلك قوله في رواية ( الْحُب تحت الْمَطَر ، ص : 38 ) : ( الْمُهِمُّ هل الله مَوجود ؟! ) ، ثم يقول في نفْس الرواية ص ( 39 ) : ( إذا حَكَمْنا بالفوضى الضَّاربة في كلِّ مَكَان ، فلاَ يَجُوز أنْ يُوجَد ! ) .
وفي روايته ( ميرامار ) ص ( 33 ) : ( اللَّعنة ، من ذا يزعم أنه عرف الإيمان ؟! قد تَجَلَّى الله للأنبياء ، ونحن أحوج منهم بذلك التَّجَلِّي ، وعندما نتحسَّس موضعنا في البيت الكبير الْمُسَمَّى بالعالَم فلن يُصِيبنا إلاَّ الدوَار ! ) .
ويقول في هذه الرواية ص ( 23 ) : ( الإيمان .. الشك .. إنهما مثل النهار والليل لا ينفصلان ! ) .
? ومِمَّا عرِض أيضاً في هذا المعرض كتاب ( مفهوم النص – دراسة في علوم القرآن ) لـ « نَصر حامد أبي زيْد » حيث يزعم في ص ( 131 ) سقوطَ أجزاء من ( القرآن الكريم ) ونسيانها من ذاكرة المسلمين ! .
? ومِمَّا عرِض كذلك في هذا المعرض كتاب ( المدخل إلى القرآن الكريم ) لكاتبه الضال « محمد عابد الجابري » حيث يزعم فيه كما في ص ( 232 ) حصول التغيير في القرآن الكريم .
ويقول في ص ( 257 ) بأنَّ قَصَص القرآن أمثلة لا حقيقة لَهَا ! .
?? الكُتُب السَّماوية الْمُحَرَّفة :
__________
(1) سورة الإسراء ، من الآية : 43 .(1/9)
وقد بِيِعت أيضاً في هذا المعرض : ( الأناجيل ) و ( التوراة ) و ( التلمُود ) ، وبِيعَت فيه كذلك كُتُب الشيوعية والْمَاركسية ! ، فإنا لله وإنا إليه راجعون .
?? الكتب والروايات الإباحية الإفسادية :
وأمَّا ما حصل في هذا المعرض من نشْرِ وبيعِ كُتُبِ الإباحية وإشاعة الفواحش فقد تسابقت الدُّور العربية في ذلك ، وأهم مراكز هذه الكتب والروايات في المعرض :
- دار الجمل / ألمانيا .
- دار الساقي / لبنان .
- مركز الدراسات والنَّشْر / لبنان .
- دار المدى / سوريا .
- دار ورْد سوريا .
ومن أمثلةِ ما جاء في روايات الفحش التي نشرتها هذه الدور وعُرضت للبيع في هذا المعرض ما يلي :
? ما نشرته كاتبة رافضية في وراية ساقطة تحكي من خلالها مغامراتها بممارسة ( السِّحَاق ) وَبِصُورَةٍ فَاحِشَةٍ مَاجِنَةٍ ، وتُصَوِّره بصورةٍ شيقة ومُمْتِعَة وبطريقةٍ مُثيرة للغرائزِ والشَّهَوَات .
ومن خُبْثِها أنْ جَعَلَتْ اسمَ عشيقها « عُمَر » تعريضاً بالخليفة الراشد « عمر بن الخطاب » - رضي الله عنه - ! ، كما في روايتها الماجنة ( الآخرون ) ص ( 78 ، 79 ) التي نُشِرَت في هذا المعرض ! .
? ومِمَّا عُرِض في هذا المعرض من إصدارات " دار الساقي " رواية ( ملاَمِح ) للكاتبة الماجنة « زينب حفني » حيث كتَبَت في رِوَايتها غاية الفُحشِ والتَّفَحُّش ، وذَكَرَت صِلاَتها مع شابٍّ قبل الزوج لتشيع الفاحشة وأنها متحَرِّرة وتمارس الفُحْشَ وتشْرَب الْخَمْر ! .
? ومِمَّا عُرِض أيضاً في هذا الْمَعْرض من إصدارات " دار الجمل " روايات مُخْزِيَة للكاتب اللُّوطِي الفاجر « محمد شُكري » الذي يُصَرِّح في كلِّ رِوَاياتِهِ أنه يفعل فاحشة ( اللِّواط ) وأنه يُفْعَل به ذلك ! .
وليهنأ أهلَ هذه الكتب مقارنة الشياطين لَهَا ولَهُم ! .(1/10)
ومِمَّا يُبَيِّن مقارنة الشياطين للكتب الْمُشْتَمِلَة على الإلْحَاد والدروس التي تحتوي على علومٍ تُفْسِد دينَ المسلم ، ومقارنتها أيضاً للكتب والدروس التي تحتوي على علوم الدين وهي مخلوطة بالصور وبالعلوم التي ليست من علوم الدين ؛ مِمَّا يبين ذلك أن رجلاً في ( الشِّقَّة ) - وهي قرية تقع شمال غرب ( بريدة ) - قَرَأ على بنتٍ مصروعة ، فتكلم الجني الذي فيها ، فسأله الراقي : مِنْ أينَ أنتَ ؟! ، فقال : ( أنَا من بلاد الشام ) ، فقال له : ما الذي جاء بك هنا ؟! ، فقال الجني : ( إننا قد أتينا برفقة فلان من أهل « بريدة » حيث أتى معه بكتب من الشام وجئنا برفقته ! ) ؛ فتابَعَ الراقي القراءةَ حتى طلَبَ الجني الخروجَ وعاهدهُ أنْ يخرج ولا يضرها ولا يعود إليها ، فخرج وذهب أهل البنت بابنتهم وقد شفاها الله - عز وجل - بِخُروج الجني .
ثم إنَّ الراقي رَكِبَ حِمَاره وأتى من وقته إلى الشيخ « عمر بن محمد بن سليم » ~ ببريده وأخبره بالذي حصل ، فبعَثَ الشيخ إلى الرجل - القادم من الشام - يطلب منه الكتب التي جاء بها من الشام ، فبعَث بها إلى الشيخ كما هي حيث كان هذا أوان وصوله من الشام ، ولَم ينظر ما فيها وقد يكون لا يعلم ما فيها ، فقرأ الشيخ منها ، وإذا هي إلحاد ومخرفة فأحْرَقَها .
هذه القصة جرَت منذ حوالي سبعين سنة حيث إنَّ الشيخ « عُمَر بن سليم » ~ توفي سنة ( 1362هـ ) (1) ، وشاهِدُ الحادثة مرافقة الْجِنِّي لهذه الكتب لأن الباطل بأنواعه وأجناسه مادَّة جذب للشياطين ، وبالعكس الملائكة - عليهم السلام - (2) .
__________
(1) أنظر : « علماء نجد خلال ثمانية قرون » لابن بسام ، ( 5 / 329 ) .
(2) أنظر كتابنا : « بيان الأدلة النقلية والعقلية في الفرق بين الرقية الشرعية والرقية التجارية » ، ص ( 52 - 53 ) .(1/11)
ومَا ذكرناه هنا مِمَّا عُرِضَ فِي هذا الْمَعرض قليل من كثير من الطَّوام التي أقل القليل منها مُوجب لسخط الملِك العلاَّم وحلول عقابه العاجل ، وقد قال سبحانه : { إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ } (1) ، وقال : { وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ } (2) ، وقال سبحانه : { إِنَّ لَدَيْنَا أَنْكَالاً وَجَحِيماً ? وَطَعَاماً ذَا غُصَّةٍ وَعَذَاباً أَلِيماً } (3) ، وقال تعالى : { وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ } (4) ، وقال سبحانه وبحمده : { تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } (5) .
فلينظُر المسلم ما يسعه عند الله - عز وجل - أمام هذه الكُفْريَّات الغليظة والإباحيات الشنيعة - قطَع الله دابَرَ مَن آواها ، وروَّجها ، وباعها ، ورضيَ بها ، وحَمَاها - .
__________
(1) سورة البروج ، آية : 12 .
(2) سورة هود ، آية : 102 .
(3) سورة المزمل ، الآيات : 12 - 13 .
(4) سورة الزمر ، آية : 67 .
(5) سورة الملك ، آية : 1 .(1/12)
وانظُرْ ما وَرَد في سَبَبِ نزول قوله تعالى : { وَيُرْسِلُ الصَّوَاعِقَ فَيُصِيبُ بِهَا مَنْ يَشَاءُ وَهُمْ يُجَادِلُونَ فِي اللَّهِ وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحَالِ } (1) ، فَعَن أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال : بعث النبي - صلى الله عليه وسلم - مَرَّةً رَجُلاً إلى رَجُلٍ مِنْ فراعنة العرب : ( أنْ ادْعُه لي ) ، فقال : يا رسول الله .. إنه أعتى من ذلك ! ، قال : ( اذْهَبْ إِلَيْهِ فَادْعُهُ ) ، قال : فأتاه فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يدعوك ! ، فقال : مَنْ رسول الله ؟! ، وما الله ؟! ، أمِنْ ذَهَبٍ هُوَ ، أمْ مِنْ فِضَّةٍ ، أمْ مِنْ نُحَاسٍ ؟! ، قال : فأتى الرجل النبي - صلى الله عليه وسلم - فأخبره ، فقال : ( ارْجِعْ إِلَيْهِ فَادْعُهُ ) قال : فأتاه فأعاد عليه وردَّ عليه مثل الجواب الأوَّل ؛ فأتى النبي - صلى الله عليه وسلم - فأخبره ، فقال : ( ارْجِعْ إِلَيْهِ فَادْعُهُ ) قال : فَرَجَعَ إليه ، فبينما هُمَا يَتَراجعان الكلام بينهما ، إذ ْبَعَثَ الله سَحَابَةً بِحِيَالِ رأسِهِ فرَعَدت ، فَوَقَعَتْ منها صاعقة فَذَهَبَتْ بقِحْفِ رأسِه ، فأنزل الله - عز وجل - : { وَيُرْسِلُ الصَّوَاعِقَ فَيُصِيبُ بِهَا مَنْ يَشَاءُ وَهُمْ يُجَادِلُونَ فِي اللَّهِ وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحَالِ } ) انتهى (2) .
__________
(1) سورة الرعد ، من الآية : 13 .
(2) أخرجه النسائي في « سننه الكبرى » برقم ( 11259 ) ، وابن جرير في « تفسيره » برقم ( 20270 ) ، والطبراني في « معجمه الأوسط » برقم ( 2608 ) ، وأبو يعلى البزار في « مسنده » برقم ( 3468 ) ؛ وقال الهيثمي في « مُجَمع الزوائد » ( 7 / 42 ) : ( رجال البزار رجال الصحيح غير " ديلم بن غزوان " وهو ثقة ) .(1/13)
وكم من مغرور بالإمهالِ واللَّهُ يُمْهِل ولا يُهمل ، قال تعالى : { إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْماً وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ } (1) ، وقال سبحانه : { وَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ } (2) ، وقال جل وعلا : { وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ } (3) ، وقال تعالى : { وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ } (4) .
وكيف يحصل هذا لاسيما في هذه الأوقات المخيفة من حلول العقوبات والنَّقمات من تسليط الأعداء وغير ذلك ، وإليكم هذا المثال الذي نَخْشى أنْ يكونَ مُطابقاً لِوَاقِعِنا ! : فقد ذكَرَتْ بعضُ كُتُبِ التاريخ أنه وقع في سنة ثلاث وعشرين وأربعمائة من الهجرة مُوتان عظيم ببلاد الهند ، وغزنة ، وخُرَاسَان ، وجرجان ، والرّيْ ، وأصبهان ، خرج منها في أدنى مدة أربعون ألف جنازة .
وقد رأى رَجُلٌ من أهل " أصبهان " في منامه منادياً ينادي بصوتٍ جَهُورِيٍّ :
" يا أهل أصبهان .. سَكَتْ ، نَطَقْ ، سَكَتْ ، نَطَقْ " .
فانتبه الرَّجُلُ مَذعوراً فلَم يَدْرِ أحَدٌ تأويلَها مَا هُوَ ! ، فَعَلِمَ بذلك رَجُلٌ فقال : احْذَرُوا يا أهْل أصْبَهَان ، فإِنِّي قرأتُ في شِعْرِ أَبِي « العَتَاهية » قَوْلَه :
سَكَتَ الدَّهْرُ زَمَاناً عَنْهُمُ ثُمَّ أَبْكَاهُمْ دَماً حِينَ نَطَقْ !
__________
(1) سورة آل عِمْران ، من الآية : 178 .
(2) سورة إبراهيم ، آية : 42 .
(3) سورة الشعراء ، من الآية : 227 .
(4) سورة آل عِمْران ، من الآية : 28 .(1/14)
فمَا كان إلاَّ قليل حتى جاءَ الْمَلِك « مسعود بن محمود » فَقَتَلَ مِنْهُمْ خَلْقاً كثيراً ، حتى قَتَلَ الناسَ فِي الْجَوَامِعِ ! (1) .
ولَمَّا عَظُمَتْ الأحداثُ في بَنِي إسْرَائيل وَرَكِبُوا الْمَعَاصِي أوْحَى الله إِلَى « أرميا » - عليه السلام - أنْ ذَكِّر قَوْمَك نِعَمِي وَعَرِّفْهُمْ أحْدَاثَهُمْ ، فَقَام « أرميا » - عليه السلام - فيهم فَأَلْهَمَهُ الله فِي ذَاتِ الوَقْتِ خُطْبَةً طَوِيلَة بَلِيغَة بَيَّن لَهُمْ فِيهَا ثوابَ الطاعَةِ وَعِقَابَ الْمَعصِيَة ، وقال فِي آخِرِهَا عَن اللهِ - عز وجل - : ( وإِنِّي أَحْلِفُ بِعِزَّتِي لَأُقَيِّضَنَّ لَهُمْ فِتْنَةً يَتَحَيَّرُ فِيهَا الْحَلِيمُ ، وَيَضِلُّ فِيهَا رَأْيُ ذِي الرَّأْيِ وَحِكْمَةِ الْحَكِيمِ ، ثُمَّ لَأُسَلِّطَنَّ عَلَيْهِمْ جَبَّاراً قَاسِياً عَاتِياً ، أُلْبِسُهُ الْهَيْبَةَ وَأَنْزَعُ مِنْ صَدْرِهِ الرَّأْفَةَ وَالرَّحْمَةَ وَاللِّيَانَ ، يَتْبَعهُ عَدَدٌ مِثْل سَوَادِ اللَّيْلِ الْمُظْلِمِ ! ) انتهى ؛ فسلَّط الله عليهم « بُخْتَنَصَّر » ، فدَخَل بيتَ الْمَقْدِس وقتل بني إسرائيل حتى أفناهم وخَرَّب بَيْتَ الْمَقْدِس ! (2) .
__________
(1) أنظر : « البداية والنهاية » ( 12/ 34 ) ، و « النجوم الزاهرة » لابن تغري ( 4/ 276 ) ، و « الأنساب » للسمعاني ( 1/ 259 ) .
(2) أنظر : « تفسير ابن جرير الطبري » ( 17 / 379 ) و « تاريخه » ( 1 / 391 ) ؛ وانظر : « تفسير البغوي » ( 1 / 318 ) .(1/15)
وعن عبد الله بن أبي الهذيل أنه قال : لَمَّا سُلِّطَ بُخْتَنَصَّر على " بَنِي إسرائيل " جِيءَ بِسَبْيٍ فَجَلَسُوا حِلَقاً حِلَقاً ، فَمَرَّ بِهِمْ نَبِيٌّ لَهُمْ ، فَلَمَّا رَأوْهُ بَكَوْا وَضَجُّوا إِليهِ وصَاحُوا ؛ فَسَمِعَ ذَلك فقال : مَالَهُمْ ؟! ، قالوا : مَرَّ بِهِمْ نَبِيٌّ لَهُمْ ، قال : ائْتُونِي بِهِ ، قال : مَا الَّذِي سَلَّطَنِي عَلَى قَوْمِكَ ؟! ، فقال : ( عُظْمُ خَطِيئَتِكَ ، وَظُلْمُ قَوْمِي أَنْفُسَهُمْ ! ) انتهى (1) .
وبِهَذِه الْمُنَاسَبة يَحسُن بنا إرفاق كتابنا : ( أيها الزنادقة .. مَهْلاً عن الْجَبَّارِ مَهْلاً ! ) لتعلُّقِ مَوضُوعِهِ بِمَا نَحْنُ فيهِ مِنْ هَوْلِ مسبَّةِ الزنادقةِ للهِ العظيمِ - جل جلاله - ، مع التنبيه إلى أننا زِدناه عن طبعته الأولى وأضَفْنا إليه هنا إضافاتٍ كثيرة مُهِمَّة ..
أيُّهَا الزنادقة .. مَهْلاً عن الْجَبَّارِ مَهْلاً ! (2)
__________
(1) « الزهد » لأبي داود رقم ( 18 ) ، و « العقوبات » لابن أبي الدنيا رقم ( 29 ) ، و « حلية الأولياء » لأبي نعيم ( 4 / 360 ) .
وانظر للفائدة كتابنا : « التفكر والاعتبار بآيات الكسوف والزلازل والإعصار » حيث ذَكَرنا فيه من مثل ذلك أكثر من ( 40 ) حادثة تاريخية كبرى من الماضي والحاضر وذِكْر ما فيها من العِظَة والعِبْرة .
(2) تم تأليف هذا الكتاب الْمُلحَق في شهر ربيع الأول من عام 1424 ، وقد طبعته في رسالة مستقلة " مطابع الجمعة " في حِينِه في ( 57 ) صفحة ، وقد تم إلحاقه بهذه الرسالة لِمناسبته المتعلقة بذلك ، وقد زدناه هنا تنقيحاً وتهذيباً وكثيراً من الفوائد المهمة .(1/16)
لقَدْ كَثُرَ في زماننا التَّلَفُّظُ بكَلِمَاتٍ عظيمَةٍ مُوبقةٍ مُحْرِقَةٍ لاَ يَتَجَرَّأ على التَّلَفُّظِ بِهَا إلاَّ الزنادقة لأنهم رِجْسٌ خَبِيثٌ لاَ يَعْرِفُون الله - عز وجل - إلاَّ بِاسْمِهِ ! ، ولذلك فإنهم لا يَخْشَوْنَ سَطْوَتَه وعذابه فيتكلَّمُونَ بِسَبِّهِ وسَبِّ رسُولِهِ وَدِينِهِ بِكُلِّ سُهُولَةٍ وَبِجُرأةٍ وَقِحَةٍ ! - قاتلهم الله وأخزاهم - .
وسأذكُرُ في هذه الرسالة بعض ما قيل في الْجَلِيلِ - سبحانه وتعالى - مِمَّا يوجب عظيم السخط والغضب ، ويستجلب عاجل العقوبات ، كذلك السُّخرية بدِينِه وعباده الصالِحِين ، مع أنَّ الذي لا نَعلم عنه ولَمْ يبلغنا أكثر وأكبر ! ، لأن زماننا مُتَمَيِّز بِخُبثه عن سائر الأزمان ! ، ولأنَّ الدَّجَّالَ قد أوشك خروجُه ، فهو بحاجةٍ إلى أتباعٍ وأعوانٍ من هؤلاء الْمُسوخ تقرُّ بِهِم عينه ويُمهِّدون له ! .
كذلك ذَكَرْتُ كلاماً مُخْتصراً عن الظُّلْمِ وأثَرَ الدعاء وَقِصَصاً حاصلة في زماننا وفي الماضي ليعلم المغرور ما تؤول إليه الأمور ! :
?? نَمَاذجٌ مِن أفعالِ وأقوال الزنادِقَةِ في زماننا :
لقد تعدَّى الأمر حدَّه وتجاوز الطغيانُ مداه في زماننا من أفعال وأقوال الزنادقة - قاتلهم الله - ، فهذا زنديق يقول قولاً واللهِ لوْ سَقَطَتْ السماء على الأرض لِقَوْلِهِ غَضَباً لفاطرها - سبحانه وبحمده - لَمَا كان ذلك عجباً ! ، ولولا أنَّ الله حكى عن « فرعون » مقالته ولولا أنني أريد أن أُعرِّض الخبيث لدعاء المسلمين عليه لَمَا ذكرتُ قوله - قاتله الله وقطع دابره - ، يقول الْخِنْزِير : ( أفْعَل به ! ) يعني الرب العظيم - جل جلاله - ، كَبُرَتْ كَلِمَةٌ تَخْرُجُ مِنْ فِيهِ النَّتِن ! ، لقد قال هذا القول الفاحش باللهجة الصريحة القبيحة التي هي أقبح وأشنع وأفظع مِمَّا أُثْبِتَ هنا ! ، فاللهم اجعله عبرة لِخَلْقِك .
وكأنَّ لِسَان حَاله يَقُول :(1/17)
وَكُنْتُ امْرءاً مِنْ جُنْدِ إِبْلِيسَ فَارْتَقَتْ فَلَوْ مَاتَ قَبْلِي كُنْتُ أُحْسِنُ بَعْدَهُ ... بِيَ الْحَالُ حَتَّى صَارَ إِبْلِيسُ مِنْ جُنْدِي طَرَائِق فِسْقٍ لَيْسَ يُحْسِنُهَا بَعْدِي ! .
.
إنَّ هذا الزنديق الْخَبِيث لَمْ يَعْرِف قدْرَ نفْسِه وأنَّ أوَّله نُطفة مَذِرة وآخره جِيفَة قَذِرَة ، وفِيمَا بين ذلك يَحْمِلُ العَذِرَة ! .
وقد قال الْحسَن البصري ~ : ( عَجَباً لابنِ آدَم يَغْسِل الْخُرْءَ بِيَدِهِ فِي اليومِ مَرَّتَيْن ، ثُمَّ يَتكَبَّرُ يُعَارِضُ جَبَّارَ السَّمَاواتِ والأرْضِ ! ) انتهى (1) .
وذلك الزنديق لَمْ يَعْرف مَلِكَ الْمُلُوك - سبحانه وبحمده - القاهر فوق عباده إلا باسْمِه ! ، قال الله - عز وجل - للنبي « أرميا » - عليه السلام - في كلامٍ أوحاه إليه : ( فَأنَا اللَّهُ الَّذِي لَيْسَ شَيْءٌ مِثْلِي ، قَامَتْ السَّمَوَاتُ وَالأرْضُ وَمَا فِيهِنَّ بِكَلِمَتِي ، وَأَنَّهُ لاَ يَخْلُصُ التَّوْحِيدُ وَلَمْ تَتِمُّ القُدْرَةُ إِلاَّ لِي ، وَلاَ يَعْلَمُ مَا عِنْدِي غَيْرِي ، وَأَنَا الَّذِي كَلَّمْتُ البِحَارَ فَفَهِمَتْ قَوْلِي ، وَأَمَرْتُهَا فَفَعَلَتْ أَمْرِي ، وَحَدَّدْتُ عَلَيْهَا حُدُوداً فَلاَ تَعْدو حَدِّي ، وَتَأْتِي بِأَمْوَاجٍ كَالْجِبَالِ فَإِذَا بَلَغَتْ حَدِّي أَلْبَسْتُهَا مَذَلَّةً لِطَاعَتِي ، وَخَوْفاً وَاعْتِرَافاً لِأَمْرِي ! ) انتهى (2) .
وزنديق آخر يقوم في غُرْفَةٍ ويَهُشُّ بِيَدَيْهِ مُتَّجِهاً إلى البابِ ويقول : ( أخَرْجْنَا الله ) ! - يعني كَمَا يُخْرَج ( الذُّبَابُ ) ! - أخْزَى اللَّهُ هذا الزنديق وأمثالَهُ ، ولَعَنَهُم جَمِيعاً - .
__________
(1) أنظر : « تفسير ابن كثير » ، ( 3 / 450 ) .
(2) أنظر : « تفسير ابن جرير » ( 17 / 379 ) ، و « العظمة » لأبي الشيخ ( 1 / 353 ) ، و « تاريخ دمشق » لابن عساكر ( 8 / 31 ) .(1/18)
وآخَر لَمَّا سَمِعَ شخصاً يقول : { وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً } (1) ، قال الخبيث : ( مَخْرَج رقم كَمْ ؟! ) سُخْرِيةً بالدِّين وبرَبِّ العالَمِين - أخزاه الله - .
وبعضُ المنافقين يقول بِسُخْرِيَةٍ : ( كمْ رقم تليفون الله ؟! ) - قاتله الله - .
وهذا زنديق آخر يشُدُّ لِحْيَةَ أحَدِهِمْ وينتفها وكان يُقْسِم للزِّنديق أنه لَمْ يفعل شيئاً مِمَّا يتهمه به فقال عدو الله : ( خلَّ الله على جَنْب ، لا تدخل الله في شغلنا ، هذا زمان الحقائق ، زمانُ اللهِ ولَّى وفات ) ! .
وزنديق آخر يقول لبعضِ السُّجَناء : ( لقَدْ وَضَعتُ الله بالدُّرْجِ ! ) .
وهكذا تكون الْجُرأة على الربِّ العظيم الْحَلِيم الذي يُمْهِل ولا يُهْمِل ! .
وقد قيل : ( أمهل الله العُصَاة حتى ظَنَّ المغرورون بالله أنَّ إِمْهَال اللهِ إهْمَال ) ! .
فليعلم الزنادقة أن إمهال الله ليس إهمال ، وقد قال تعالى : { وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ } (2) ، ويقول سبحانه : { إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْماً وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ } (3) .
أمَا يَقْرأ هؤلاء الزنادقة قولَه تعالى عن نفْسِه : { إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ } (4) .
وقوله تعالى : { وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحَالِ } (5) ، أيْ شديدُ الأخْذِ .. شديدُ القُوَّةِ .
وهذه الكُرَةُ الْحَادثة يقول أحدهم من أجْلِهَا كلام الكفر وهو لا يشعر ! ؛ فهذا لاَعِبُ كُرَة لَمَّا دَخَلَت كُرَةُ فريقه بين الخشبتين رَسَمَ الصَّليب على صدره بأصبعه كما تفعل النصارى ! ، وهذا مِنْ ثِمَار الكرة الزَّقُّومِيَّة ! .
__________
(1) سورة الطلاق ، من الآية : 2 .
(2) سورة الأعراف ، آية : 183 .
(3) سورة آل عِمْران ، من الآية : 178 .
(4) سورة البروج ، آية : 12 .
(5) سورة الرعد ، آية : 13 .(1/19)
وفي أحد ميادين الكرة مكتوب بخط عريض : { إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ } (1) ! ، وهذه جُرْأة على الله وَكَذِبٌ عليه حيث جُعِل مَعْنَى الآية أنَّ نَصْرَ اللهِ تعالى الذي هو جِهَادُ أعدائه الكَفَرَة ونصر دينه : " لَعِب الكُرَة " ، ومعنى نَصْرِه لكم - الذي هو ظَفَرُكُم بأعدائِهِ الكَفَرَةِ - : " إدْخَالكم الكُرَةِ بَين الْخَشَبَتَيْن " ! ، فهم يُسَمُّون ذلك فوزاً ونصْراً .. { بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلاً } (2) .
قال تعالى عن أهل الكتاب : { اتَّخَذُوا دِينَهُمْ هزواً ولعباً } (3) ، وأخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - أنَّ أمته تَجْرِي على سُنَنِهِمْ حَذْوَ القُذَّةِ بالقُذَّة وشبراً بِشِبْرٍ وَذِرَاعاً بِذِرَاعٍ (4) ! .
__________
(1) سورة محمد ، من الآية : 7 .
(2) سورة الكهف ، من الآية : 50 .
(3) سورتا الأنعام ، من الآية : 70 ؛ والأعراف ، من الآية : 51 .
(4) أخرج البخاري في « صحيحه » برقم ( 3269 ) ومسلم في « صحيحه » برقم ( 2669 ) عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : ( لتتبعن سَنن مَن قبلكم شِبْراً بشبر ، وذراعاً بذراع حتى لو سلكوا جُحر ضب لسلكتموه ! ، قلنا : يا رسول الله .. اليهود والنصارى ؟! ، قال : فَمَن ! ) ؛ وقد أخرج ابنُ أبي شيبة في « مصنفه » برقم ( 37378 ) بإسنادٍ حسَنٍ عن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - أنه قال : ( أنتم أشبه الناس سَمْتاً ورأياً ببني إسرائيل ، لتسلكن طريقهم حذوَ القذة بالقذة والنعل بالنعل ) انتهى ، و ( القُذَّة ): ( رِيشُ السَّهْم ) . أنظر : « القاموس المحيط » للفيروز آبادي ( 1 / 341 ).(1/20)
وهذا لاَعب كُرَة آخَر يُتَابع الْمُبَاراة الْمَعروضة بالطاغوت الناطق ( التلفزيون ) ولَمَّا ظَهَرَتْ صُورَة الكَعبة قَاطِعَةً استمرار الْمُبَاراة لأجْلِ الصَّلاة كما يزعمون قال : ( لَعَنَ الله الكَعْبَةَ ! ) ، والحقيقة أنه من إهانة شعائر الدين ظهورها في هذه المواضع ! .
وشائعٌ في البُلدان الْمُجَاوِرَة أنْ يقول بعضهم لبعض : ( يَلْعَن الذي خَلَقَك ) ، { كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ } (1) ! - قطَع الله دابِرَهم - .
وهذا مُغَنِّي مُجْرِم - أخزاه الله - يسخر بالتسبيح للجليل - سبحانه وبحمده - وذلك أنه سُئل عن مِسْبحة يحملها معه وهي الخرز المنظوم في خَيط ، قال عن مسبحته : ( إنَّ هذه الْمِسبحة خاصة بالْجُمْهُورِ حيث أُسَبِّح بها قائلاً : حُبُّ الجمهور ، حُبُّ الجمهور ، حُبُّ الجمهور ! ، كما يُسبِّح الْمُسلم قائلاً : سبحان الله ، سبحان الله ، سبحان الله ) ، ويُقال لهذا الفاجر : { بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلاً } (2) .
وقد سبَقَ وأنْ أُلْقِيَتْ قصيدةٌ في " تلفزيون الكويت " يقول فيها الزنديق : ( مَلَلْنا رَبَّنا فلْنجَرِّب ربًّا غيره ) ! ؛ هؤلاء الْمُسُوخُ لاَ يَعرفون الله إلا باسْمِه ، صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ - قَطَعَ الله دَابِرَهم - ! .
__________
(1) سورة الكهف ، من الآية : 5 .
(2) سورة الكهف ، من الآية : 50 .(1/21)
ولقد شَاعَ وذاع تصوير صورة بشرية كَرِيهَة يزعم صاحبها أنَّها صُورَة الله - قاتله الله - ، وَصُوَر أخرى للأنبياء - عليهم السلام - بِزَعْمِهِ ، وتكررت صورة « عيسى » المزعومة مع أمِّهِ مِرَاراً كثيرة ومنها صورة له بزعمهم وهو يُنْزَلُ من الصَّليب وصورة وهو يُدْفَنُ وقد قال تعالى : { بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ } (1) ، وهو حَيٌّ في السَّماء الثانية وهو نازل لا مَحَالَةَ وقد قَرُبَ نُزوله لِيُكَذِّب أعداءَ الله تعالى مِنْ اليَهُودِ والنَّصَارَى وأذنَابِهِمْ .
كذلك شاعَت السُّخْرِيَة بالإِله سبحانه وإطلاق ألفاظ خبيثة لاَ تَصْدُرُ إلاَّ مِنْ زنادقة فبعضهم يقول : ( الله والشيطان وجهان لِعَمْلَةٍ واحدة ! ) ، يعني لا فرق بين الله والشيطان ! - قاتله الله ، و { سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوّاً كَبِيراً } (2) .. وقد قال تعالى : { كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِباً } (3) .
وإنَّ مَن زعم أنَّ صورةَ بَشَرٍ قبيحة هي صورة الإله الحق فقد ارتكب إثْماً كبيراً وجُرْماً خطيراً وكُفْراً شنيعاً .. { وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ } (4) ، ولاشك أن هذا تقديم للدجال اللعين الذي يَدَّعي دعوى تلعنه من أجلها السموات والأرض ، والذي قد قرب أوان خروجه .
إنَّهَا جُرأة فريدة من نوعها يستحق فاعلها من الدجَّالِ الْمُنْتَظَرِ وَمِن الآمِرِ بِهَا الْمُنْظَر أرفع الْمَرَاتِبِ الدَّجَّالية الإبليسية فهنيئاً ! .
__________
(1) سورة النساء ، من الآية : 158 .
(2) سورة الإسراء ، من الآية : 43 .
(3) سورة الكهف ، من الآية : 5 .
(4) سورة الشعراء ، من الآية : 227 .(1/22)
قال تعالى : { وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ } (1) .
تأمَّل هذه الآية العظيمة وما وَرَدَ في تَفْسِيرها من الأحاديث والآثار ، وقَدْ ذَكَرْتُ بعضَ ذلك في كتابِ : ( مَعرفة الكبير الْمُتَعال بِالعَظَمَةِ والْجَلاَلِ وَالْجَمَال ) .
فالرَّبُّ سبحانه أكبر من كل شيء وليس يُمَاثله ويشابهه شيء ، وقد قال سبحانه عن نفْسِه الكريمة : { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ } (2) ، ومن معانِي اسْمِه ( الكَبِير ) أنه لا تسعه السموات والأرض ، ولذلك لا يُرى إلا من فوق وذلك في الآخرة ، ولا يُرى في الدنيا ، وهو سبحانه : { شَدِيدُ الْمِحَالِ } (3) ، أيْ شديد القُوَّةِ .. شَدِيدُ الأخْذِ .
وقد قال تبارك وتعالى : { وَقَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمُ الْمَثُلاتُ } (4) ، قال ابن كثير ~ : ( أيْ قَدْ أوْقَعْنَا نِقَمَنَا بِالأُمَمِ الْخَالِيَةِ وجَعَلْنَاهُمْ عِبْرَةً وَعِظَةً لِمَنْ اتَّعَظَ بِهِمْ ) انتهى (5) .
ولقد شاع في التلفزيون الإبليسي مَنظر بَذْرَةِ الفَاصُوليا التي تَخْرُج شجرةً ترتفع في السَّمَاء وفوق ذلك صُورَة ضَخْمَة فَظيعة ، ولَمَّا سُئِل كثير من الأطفال الذين يشاهدون هذا الْمَنْظِر الدَّجَّالي الإبليسي أجابوا : ( هذا هو الله ) ! .
ولقد قَرَّتْ عينُ إبليس بِهَذِهِ العظائم ، وهذا هو الْمُرَاد من هذه الْمَخْرقة - تعالى الله عن إفك الأفاكين علوًّا كبيراً - .
وهذه أبياتٌ نَظَمْتُهَا بَيَاناً لأقوالٍ وأفعال صَدَرَت مِمَّن طَغَى ونَسِيَ عَظَمَةَ الْمَوْلَى :
__________
(1) سورة الزمر ، آية : 67 .
(2) سورة الشورى ، من الآية : 11 .
(3) سورة الرعد ، من الآية : 13 .
(4) سورة الرعد ، من الآية : 6 .
(5) « تفسير ابن كثير » ( 2 / 502 ) .(1/23)
تَرَحَّلَ الْخَوفُ مِنْ قَلْبٍٍ بِهِ رَانُ ... فَحَلَّ فِيهِ مِنَ الطُّغْيَانِ أَلْوَانُ
تَرَحَّلَ الْخَوْفُ مِنْ قَلْبٍ بِهِ مَرَضٌ ... مِنْ الذُّنُوبِ وَرَانٌ فَوْقَهُ رَانُ
مَنْ كَانَ يَطْلُبُ زِنْدِيقاً لِيَعْرِفَهُ فَلَيْسَ يَعْرِفُ خَوْفَ اللهِ مُجْتَرءٌ نَسِيتَ رَبَّكَ يَا مَغْرُورُ مِنْ سَفَهٍ ... فَدُونَهُ سَاخِرٌ بِاللهِ خَسْرَانُ عَلَى العَظِيمِ وَكَمْ لِلشَّرِّ أرْكَانُ !
عَلاَمَةُ الزَّيْغِ مَا تَرْضَى بِهِ عِوَضاً ... وَضَاعَ مِنْكَ بِذَا النِّسْيَانِ إِيِمَانُ
أَمُؤْمِنٌ سَاخِرٌ بِاللهِ ؟! .. مَا اجْتَمَعَا مَنْ قَالَ فِي اللهِ أوْ فِي الدِّينِ سُخْرِيَةً هَذَا يَقُولُ : ( خَراً فِي اللهِ ) (1) لَعْنَتُنَا ... مِنْ الْجَلِيلِ وَقَدْ أَغْوَاكَ شَيْطَانُ
كَيْفَ اسْتَطَاعَ عَلَى قَوْلٍ وَأَخْرَجَهُ ... مَتَى تَصَاحَبَ إِيِمَانٌ وَكُفْرَانُ ؟!. فَإِنَّمَا هُوَ والشَّيْطَانُ إِخْوَانُ عَلَيْهِ لَيْسَ وَرَا مَا قَالَ طُغْيَانُ !
تُرَاهُ يَعْرِفُ جَبَّاراً لِهَيْبَتِهِ ... مِنْ فِيهِ وَهْوَ قَرِينُ الضَّعْفِ إِنْسَانُ
تُرَاهُ يَعْرِفُ رَبَّ العَرْشِِ خَالِقَهُ ... دُكّتْ جِبَالٌ وَلِلأَكْوَانِ إِذْعَانُ
حَتَّى كَلاَمِ إِلَهِ الْخَلْقِ يَجْعَلُهُ تَقَدَّسَ اللَّهُ إِنْ زِنْدِيقَ يَكْفُرُهُ تَقَدَّسَ اللَّهُ أَمْلاَكٌ تَئِطُّ لَهَا ... إِلاَّ بِإِسْمٍ وَهَذَا القَوْلُ بُرْهَانُ
الْجُعْلُ أَطْيَبُ مِمَّنْ سَبَّ خَالِقَنَا ... مِثْلَ الْخَرَاءِ (2) تَعَالَى اللَّهُ رَحْمَنُ فَإِنَّهُ الْمَلِكُ القُدُّوسُ دَيَّانُ سَبْعُ الطِّبَاقِ وَكَمْ في الأَرْضِ جُعْلانُ
عَلَيْهِ لَعْنَةُ رَبِّ العَرْشِ دَائِمَةٌ ... وَكُلُّ رَاضٍ بِهَذَا السَّبِّ مِعْوَانُ
__________
(1) زنديق يقول : ( إخرأ بربك ! ) .
(2) زنديق يقول : ( القرآن خرا ! ) .(1/24)
وَآخَرٌ يَقْرَأُ القُرْآنَ يَخْلِطُهُ (1) وَكَيْفَ يَجْمَعُ قَوْلَ اللهِ خَالِقِهُ (2) أَكْمِلْ غِنَائِيَ بِالآيَاتِ يَقْرَؤُهَا وَآخِرٌ مِنْهُمُ صَلَّى بِأُغْنِيَةٍ (3) ... فَإِنَّه الرِّجْسُ قَدْ أَرْدَاهُ طُغْيَانُ
. ... مَعَ الغِنَاءِ وَلِلشَّيْطَانِ أَقْرَانُ ! مَعَ الغِنَاءِ وَإِنَّ الفِسْقَ أَلْوَانُ !
مَا طَمَّ وَادٍ وَلَكِنْ طَمَّ وِدْيَانُ ! صَلَّى يُغَنِّي وَمَا فِي القَلْبِ إِيِمََانُ ! .
وَلاَعِبُ الكُرَةِ الآيَاتِ يَجْعَلُهَا (4) وَغَيْرُ ذَلِكَ لاَ يُحْصَى لَهُ عَدَدٌ إنَّ القِيَامَةَ مِيعَادٌ وَلَيْسَ لَهُ أَيْنَ القُرُونَ الَّتِي كَانَتْ مُعَمَّرَةً ... مِيِعَادَ لُعْبَتِهِ وَالعَقْلُ حَيْرَانُ ! وَإِنَّمَا مَوْعِدُ الطَّاغِينَ دَيَّانُ خُلْفٌ مِنَ اللهِ لَوْ غَرَّتْكَ أَزْمَانُ فِي الأَرْضِ يَعْمُرُهَا زَرْعٌ وَبُنْيَانُ
رُكُونُهُمْ كَانَ لِلدُّنْيَا وَزُخْرُفِهَا ... وَالْهُزْءُ مِنْهُمْ بِدِينِ اللهِ أَلْوَانُ
أَتَاهُمُ أَمْرُ جَبَّارٍ أَبَادَهُمُ ... كَأَنَّهُمْ فِي القُرَى بِالأَمْسِ مَا كَانُوا
وَسُنَّةُ اللهِ لاَ تَبْدِيلَ يَصْرِفُهَا ... عَنِ الطُّغَاةِ إِذَا مَا زَادَ طُغْيَانُ
. ... .
وهذه قصيدة أخرى كتبْتُها في الرَّدِّ على زِنْدِيقٍ يرسُم صورةً يزعم أنَّهَا لِلَّهِ - تعالَى وتقدَّس - ، وَيَرْسُمُ صُوَراً أُخْرَى يَزْعُمُ أنها لِبَعضِ الأنبياءِ - حَاشَاهُمْ عَلَيْهِم السَّلام - ! :
بِوَقَاحَةٍ يَتَجَرَّأُ الزِنْدِيقُ ... شُلَّتْ يَدَاهُ وَشَبَّ فِيهِ حَرِيقُ !
__________
(1) شاب زائغ يقرأ القرآن ويغني .
(2) شاب زائغ يغني ثم يسكت ويقول لصاحبه : أكمل الآية ! .
(3) شاب زائغ سُمع يغني وهو يصلي ! .
(4) لاعب كُرة تلاحى مع ضدّ له في الكرة كلاهما يدّعي أنه غالب فقال أحدهما تالياً الآية : { مَوْعِدُكُمْ يَوْمَ الزِّينَةِ } ! .(1/25)
أَتُصَوِّرُ الرَّحْمَنَ جَلَّ جَلاَلُهُ ... لاَ شَكَّ أَنْتَ مُدَجِّلٌ مِخْرِيقُ
لَوْ كُنْتَ تَعْرِفُ رَبَّنَا سُبْحَانَهُ ... لَعَلِمْتَ أَنَّكَ فِي الضَّلاَلِ غَرِيقُ
كَيْفَ اجْتَرَأْتَ عَلَى الْجَلِيلِ وَإِنَّمَا ... دَأْبُ العُتَاةِ عَنِ السَّبِيلِ مُرُوقُ
إنَّ القُلُوبَ إِذَا تَرَحَّلَ خَوْفُهَا ... لَمْ يَبْقَ فِيهَا لِلْهَلاَكِ مُعِيقُ
اللَّهُ أَكْبَرُ هَلْ عَرَفْتَ إِلَهَنَا ... أَمْ أَنَّ قَلْبَكَ فِي الضَّلاَلِ عَريقُ
فَوْقَ السَّمَاءِ مَلِيكُنَا سُبْحَانَهُ ... مَا لِلنَّقَائِصِ بِالعَظِيمِ لُحُوقُ
وَالْحُجْبُ تَحْجِبُ نُورَهُ عَنْ خَلْقِهِ ... أَبْصَارُهُمْ لِلنُّورِ لَيْسَ تُطِيقُ
نُورُ الْجَلاَلِ مَعَ الْجَمَالِ كِلاَهُمَا ... وَصْفُ الْجَلِيلِ عَلَى الْخَيَالِ يَفُوقُ
سُبْحَانَهُ وَبِحَمْدِهِ لاَ مِثْلَهُ ... شَيْءٌ يَكُونُ بِذَا الكَمَالِ حَقِيقُ
يَطْوِي السَّمَاءَ ، وَأَرْضُهُ مَقْبُوضَةٌ ... وَالكَوْنُ كَانَ بِأَمْرِهِ مَخْلُوقُ
سُبْحَانَ رَبِّي إِنَّ سُخْرِيةً بِهِ ... كُفْرٌ غَلِيظٌ دَرْبُهُ مَحْرُوقُ
مَا اجْتَازَهُ إِلاَّ وَرِيثُ زَنِادِقٍ ... حُمُرٌ تَوَارَثُ وَالتُّرَاثُ نَهِيقُ
لاَبُدَّ لِلدَّجَّالِ قَبْلَ خُرُوجِهِ ... مِنْ تَوْطِئَاتٍ سُبْلُهَا مَطْرُوقُ
لِيَهُونَ شَأْنُ اللهِ عِنْدَ مُنَافِقٍ ... وَالْمُؤْمِنُونَ يَنَالُهُمْ تَوْفِيقُ
سُخْرِيَّةٌ بِاللهِ تَقْدُمَةً لَه ُ ... وَهُوَ الكَذُوبُ وَأَمْرُهُ تَلْفِيقُ
بُشْرَاكَ دَجَّالٌ بِقَوْمٍ دَجَّلُوا ... سَخِرُوا بِرَبِّي كَيْ تَزُولَ فُرُوقُ
دَعْوَاكَ صَادِقَةٌ وَأَمْرُكَ نَافِذٌ ... وَالرَّبُّ يَظْهَرُ فِي الدُّنَى مَرْمُوقُ
وَالأَنْبِيَاءُ يُصَوَّرُونَ تَمَسْخُراً ... وَابْنُ البَتُولِ مَعَلَّقٌ مَشْنُوقُ !
وَكَأَنَّ إِخْوَانَ القُرُودِ تَمَكَّنُوا ... مِنْ صَلْبِهِ وَهَلاَكُهُ تَحْقِيقُ
وَاللَّهُ رَافِعُهُ إِلَيْهِ وَإِنَّمَا ... قَدْ حَانَ وَقْتُ نُزُولِهِ تَصْدِيقُ(1/26)
صُوَرٌ تَهُزُّ كِيَانَ عَبْدٍ مُؤْمِنٍ ... سُوقُ النِّفَاقِ لَهُنَّ فِيهِ نُفُوقُ
السَّاخِرُونَ بِرَبِّنَا وَبِدِينِهِ ... وَالأَنْبِيَاءِ .. بِدِينِهِمْ تَمْزِيقُ
اقْرَأْ بِسُورَةِ ( تَوْبَةٍ ) مُتَفَكِّرًا لاَ تَأَمَنَنَّ مِنَ النِّفَاقِ فَإِنَّهُ ... آيَات فَضْحٍ خَافَهَا الزِّنْدِيقُ
فَارُوقُنَا خَافَ النِّفَاقَ وَغَيْرُهُ ... دَاءٌ يَخَافُ بَلاَءَهُ الصِّدِّيقُ
سُبْحَانَ رَبِّي عَدَّ مَا فِي كَوْنِهِ ... مَا خَافَ مِنْهُ وَدِينُهُ مَخْرُوقُ
وَلَهُ الْمَحَامِدُ كُلَّهَا سُبْحَانَهُ ... مِمَّا يَكُونُ بِأَمْرِهِ مَخْلُوقُ
سُبْحَانَ ذِي الْمَلَكُوتِ جَلَّ جَلاَلُهُ ... حَمْدًا عَلَى حَمْدِ العِبَادِ يَفُوقُ
السَّاخِرُونَ بِرَبِّنَا نُوَّابُ مَنْ ... عَنْ كُلِّ وَصْفٍ لَيْسَ فِيهِ يَلِيقُ
وُكُلاَؤُهُ ، سُفَرَاؤُهُ ، أَحْبَابُهُ .. ... يَأْبَى السُّجُودَ وَبِئْسَ ذَاكَ رَفِيقُ
كَمْ مِنْ جَهُولٍ لَيْسَ يَعْرِفُ رَبَّهُ ... بُعْداً لَهُمْ بُعْداً مَدَاهُ سَحِيقُ
يَغْتَرُّ فِي عِلْمٍ يَزِيدُ بِجَهْلِهِ ... إِلاَّ بِإِسْمٍ دُونَمَا تَحْقِيقُ
وَالاكْتِفَاء بِهِ يَرَاهُ نَقِيصَةً ... عِلْم الرَّسُولِ تَرَاهُ فِيهِ يَضِيقُ وَالنَّقْصُ فِيهِ مُوَثَّقٌ تَوْثِيقُ
بَلْ كُلُّ عَيْبٍ فِيهِ بَادٍ ظِاهِرٌ ... وَحِجَابُ جَهْلِ الْجَاهِلِينَ صَفِيقُ
كَمْ قَائِلٍ قَوْلاً وَلَيْسَ بِبَالِهِ ... يَهْوِي بِنَارٍ دَأْبُهَا التَّحْرِيقُ
سُبْحَانَ رَبِّي لَيْسَ يُشْبِهُ خَلْقَهُ . ... وَبِذَا أَتَانَا الصَّادِقُ الْمَصْدُوقُ .
?? عظَمَةُ جلالِ الله وجمَاله :
قال عثمان بن سعيد الدارمي ~ في قول الله - تبارك وتعالى - : { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ } (1) ، قال : ( مَعناه هو أحسَنُ الأشياءِ وأجْمَلُهَا ) انتهى (2) .
__________
(1) سورة الشورى ، من الآية : 11
(2) « الصواعق المرسلة » ، ( 2 / 344 ) .(1/27)
وقال تعالى : { وَأَشْرَقَتِ الأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا } (1) ، وهذا نُورُ جَلاَلِهِ وَجَمَالِهِ وَعَظَمَتِهِ ، وذلك إذا جَاءَ - سبحانه وبحمده - يوم القيامة ، ولو كشَف الْحُجُبَ سبحانه وتجلَّى لِخَلْقِه في الدنيا لاحتَرَقَت المخلوقات من نور الجلال والجمال والعظَمَة .
وقد جاء في الحديثِ الصَّحِيحِ أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - قالَ عَنْ رَبِّه تَعَالَى : (حِجَابُهُ النُّورُ لَوْ كَشَفَهُ لَأَحْرَقَتْ سُبُحَاتُ وَجْهِهِ مَا انْتَهَى إِلَيْهِ بَصَرُهُ مِنْ خَلْقِهِ ) (2) ؛ والسُّبُحَاتُ بضمِّ السين والباء ورفع التاء في آخره وهي جمع سُبحة ، وقال جميع الشارحين للحديثِ من اللغويين والمحدثين : سُبُحَاتُ وجهه الكريم هي نوره وجلاله وجماله وبهاؤه (3) .
__________
(1) سورة الزمر ، آية : 69 .
(2) رواه مسلم برقم ( 197 ) من حديث أبي موسى الأشعري - رضي الله عنه - .
(3) أنظر : « شرح النووي على صحيح مسلم » ( 3 / 13 - 14 ) ، و « الديباج على مسلم » للسيوطي ( 5 / 225 ) ، وانظر : « فيض القدير » للمناوي ( 2 / 272 ) ، وانظر : « مشارق الأنوار » للسبتي ( 2 / 203 ) ، و « لسان العرب » لابن منظور ( 2 / 473 ) .(1/28)
قال ابن القيم ~ في هذه السُّبُحاتِ : ( فإذا كانت سُبُحَات وَجهه الأعلى لا يقومُ لَهَا شَيء مِنْ خَلْقه ، ولو كَشَف حِجَابَ النور عن تلك السُّبحَات لأحرق العالَمَ العُلْوِي والسُّفْلِي فمَا الظَّنُّ بِجَلال ذلك الوجْهِ الكَرِيم وعَظَمَتِهِ وَكِبْريائِهِ وكمَالِهِ وجَلاَلِهِ وجَمَالِهِ ! ) انتهى (1) ، فالرب سبحانه قد احتجب عن مخلوقاته بحجاب من نُورٍ مَخْلوق ، جَعَله سبحانه يَحْجِبُ نُورَ وجْهِهِ الكريم وجلاله وجَمَاله عن وُصوله إِلَى الْمَخلوقات حيث لا تَحْتمله ؛ ولذلك يُعطِي الله المؤمنين في الجنة قوةً شديدة في أبصارهم ليطيقوا رؤيته التي هي أعلى نعيمهم كما قال تعالى : { وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ ? إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ } (2) ، وحُقَّ لَهَا أن تُنَضَّر بِهَذا القُرْبِ والنَّظَر ؛ وقد جاء في الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال عن رؤية أهل الْجَنَّةِ لِرَبِّهِم تعالى : ( فَمَا أُعطُوا شَيئاً أحَبَّ إليهِمْ مِنَ النَّظَرِ إِلَى رَبِّهِمْ ! ) (3) ؛ (4) .
فتأمَّل هذا وما فيه من بيانِ عظَمَةِ اللهِ وجَلاَلِه وجَمَالِهِ تَعلم عُظْمَ شناعة ما تفوَّه به الزنادقة من سبِّهم له - جل جلاله - وقوْلِهِمْ عليه إِفْكاً مُبِيناً دونَ مُبالاَةٍ بِذَلِك - قاتلَهُم الله ولعَنَهُم- ! .
__________
(1) « الصواعق المرسلة على الجهمية والمعطلة » ، ( 1 / 234 ) .
(2) سورة القيامة ، الآيات : 22- 23 .
(3) رواه مسلم برقم ( 181 ) من حديث صهيب الرومي - رضي الله عنه - .
(4) أنظر للفائدة ما كتبناه في ذلك في كتبنا : « معرفة الكبير المتعال بالعظمة والجلال والجمال » و « منازل الحور العين في قلوب العارفين برب العالمين » و « إحسان سلوك العبد المملوك إلى ملِك الملوك » .(1/29)
وقد جَاءَ في الصَّحِيحَيْنِ من حديثِ أبي هريرة - رضي الله عنه - أنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قال : ( إِنَّ الْعَبْدَ لَيَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ مَا يَتَبَيَّنُ مَا فِيهَا يَهْوِي بِهَا فِي النَّارِ أَبْعَدَ مَا بَيْنَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ ) (1) .
فتأمل الآثار العظيمة والعواقب الكبيرة في الثواب والعقاب على كلام يقوله قائله لاَ يُلْقِي لَه بَالاً وَلاَ يظُنُّ أوْ يَخْطُر بِبَالِهِ أنْ يَبْلُغَ مَا بَلَغ ! ، فنعوذُ باللهِ مِنْ عَمَى القلوب .
وَلِي أبياتٌ في بيانِ شَناعة وبشَاعةِ سَبِّ اللهِ - جل جلاله - ، قلتُ فيها :
كُلُّ العَظَائِمِ لَوْ تَهُونُ فَرُبَّمَا سَبُّ الإِلَهِ وَدِينِهِ وَنَبِيِّهِ سَبُّ الإِلَهِ نِتَاجُ قَلْبٍ مُؤْمِنٍ كُفْرٌ وَلَيْسَ كَمِثْلِهِ فِي قُبْحِهِ لَكِنْ مُسُوخٌ هَانَ ذَلِكَ عِنْدَهُمْ وَالسَّاخِرُونَ بِرَبِّنَا مِيعَادُهُمْ يَوْمُ الفِرَاقِ وَحِينَ يَسْقُطُ كِبْرُهُمْ يَسْتَقْبِلُونَ مِنْ الشَّدَائِدِ شِدَّةٌ مِنْ هَوْلِ مُطَّلَعٍ وَقَبْرٍ عَيْشُهُ مِنْ بَعْدِ ذَا حَشْرٌ عَسِيرٌ كَرْبُهُ . ... إِلاَّ عَظِيمٌ فِي القُلُوبِ مُعَظَّمُ مَا فَوْقَ ذَلِكَ فِي الوُجُودِ مُحَرَّمُ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ عَاتٍ مُجْرِمُ يَدْرِي بِذِلَكِ كُلُّ مَن هَوُ مُسْلِمُ وَالْمَيْتُ لَيْسَ بِهِ جُرُوحٌ تُؤْلِمُ يَوْمٌ عَصِيبٌ لَيْسَ فِيهِ تَوَهُّمُ حِيَنَ الْمَنَايَا الْمُرْعِبَاتِ تُخَيِّمُ هِيَ وَالعَظِيمِ مِنَ الشَّدَائِدِ أَعْظَمُ ضَنْكٌ بِحَسْرَتِه يِعِيشُ الْمُجْرِمُ أَيْنَ الْمَفَرُّ إذَا الْجَحِيمُ تَضَرَّمُ .
?? التحذيرُ مِنَ العقوباتِ :
__________
(1) أخرجه البخاري في « صحيحه » برقم ( 6112 ) ، ومسلم في « صحيحه » برقم ( 2988 ) .(1/30)
فالْحَذَرُ مِنْ عُقُوبَاتٍ قَدْ تُعَجَّل ، ومَا حَادثة تَمْزِيق الْمصحف عنا ببعيد(1)، وقد قال تعالى : { وَمَا نُرْسِلُ بِالْآياتِ إِلاَّ تَخْوِيفاً } (2) ، ويقول سبحانه فِي وَصْفِ مَن غَلَبَتْ عَليه الشَّقْوة : { وَمَا تُغْنِي الآياتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ } (3) ؛ وليُعلم أنَّ من العقوبات ما يُعَجَّل لصاحبه في الدنيا وقد توعَّد الله الظَّلَمَة بوعيدٍ شديد ، قال تعالى : { وَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ ? مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُؤُوسِهِمْ لا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاءٌ } (4) ، وقال تعالَى : { وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ } (5) .
وفي الحديث الصحيحِ أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : ( إنَّ الله لَيُمْلِي لِلظَّالِمِ حَتَّى إذَا أخَذَهُ لَمْ يُفْلِتْهُ ) ، ثم قرأ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : { وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ } (6) ) (7) .
__________
(1) حدَث في ( تركيا ) قبل عِدَّة سنوات أنْ مُزّق المصحف تحت أقدام الراقصات فأُخِذَ بالعَذَابِ مَن فعَلوا ذلك وَهَلكوا .
(2) سورة الإسراء ، من الآية : 59 .
(3) سورة يونس ، من الآية : 101 .
(4) سورة إبراهيم ، الآيات : 42 - 43 .
(5) سورة الشعراء ، من الآية : 227 .
(6) سورة هود ، آية : 102 .
(7) أخرجه البخاري في « صحيحه » برقم ( 4409 ) ، ومسلم في « صحيحه » برقم ( 2583 ) من حديث أبي موسى الأشعري - رضي الله عنه - .(1/31)
وقد قال - صلى الله عليه وسلم - لِـ « مُعَاذ بن جبل » - رضي الله عنه - حين بعثه إلى اليَمَن : ( واتَّقِ دَعْوَةَ الْمَظْلُومِ فَإِنه لَيْسَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ اللهِ حِجَابٌ ) (1) .
وَقد قِيلَ في عَاقبةِ الظُّلْمِ :
لاَ تَظْلِمَنَّ إِذَا مَا كُنْتَ مُقْتَدِراً تَنَامُ عَيْنَاكَ وَالْمَظْلُومُ مُنْتَبِهٌ . ... فَالظُّلْمُ يَرْجِعُ عُقْبَاهُ إِلَى النَّدَمِ يَدْعُو عَلَيْكَ وَعَيْنُ اللَّهِ لَمْ تَنَمِ .
قال ابن الجوزي : ( سُبْحَان الْمَلِك العظيم الذي مَنْ عَرَفه خَافَه ، ومن أمِن مَكْرِهِ قَطُّ ما عرفه .. لقد تأملت أمراً عظيماً أنه - عز وجل - يُمهل حتى كأنه يُهمل فترى أيدي العصاة مطلقة كأنه لا مانع ، فإذا زاد الانبساط ولَمْ تَرْعَوِي العُقُولُ أَخَذَ أخْذ جَبار ) انتهى (2) .
?? أدعيةُ المظلوم مُصِيبَةٌ وإنْ تأخرَ الوقتُ :
__________
(1) أخرجه البخاري في « صحيحه » برقم ( 1425 ) ، ومسلم في « صحيحه » برقم ( 19 ) من حديث ابن عباس { .
(2) « صيد الخاطر » ، ص ( 46 - 47 ) .(1/32)
قال ابنُ القيم ~ في ذكْر الظَّلَمَة : ( أتُرَاهُم نَسُوا طَيَّ اللَّيَالِي لِمَن تَقَدَّمَهُم : { وَمَا بَلَغُوا مِعْشَارَ مَا آتَيْنَاهُمْ } (1) ، فما هذا الاغترار { وَقَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمُ الْمَثُلاتُ } (2) ، { فَهَلْ يَنْتَظِرُونَ إِلَّا مِثْلَ أَيَّامِ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِهِمْ } (3) مَن لَهُم إذَا طَلَبُوا العَوْدَة فَحِيلَ بينهم وبين ما يَشتهون .. لا تَحْتَقِر دعاءَ مَظلومٍ فشَرَرُ قَلْبه مَحمول بعجيج صوته إلى سقف بيتك ، ويْحَك نِبَال أدعيته مُصيبة وإنْ تأخَّرَ الوقت ، قَوْسه قلبه الْمَقْروح ووتره سواد الليل ، تَذَكَّر : « لأنْصُرَنَّكِ ولوْ بَعْدَِ حِين » (4) ، وقد رأيتَ ولكن لسْتَ تعتبر ، احذر عداوة مَن ينام وطَرْفُه بَاكٍ يُقَلِّب وَجْهَه في السَّمَاء يرمي سهاماً مَالَهَا غَرَضٌ سِوى الأحْشَاء منك ! ) انتهى (5) .
__________
(1) سورة سبأ ، من الآية : 45 .
(2) سورة الرعد ، من الآية : 6 .
(3) سورة يونس ، آية : 102 .
(4) أخرج ابن ماجه في « سننه » برقم ( 1752 ) وابن حبان في « صحيحه » برقم ( 7387 ) ، وابن خزيمة في « صحيحه » برقم ( 1901 ) ، وغيرهم من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : ( ثلاثة لا ترد دعوتهم : الإمام العَادِل ، والصائم حتى يُفطِر ، ودعوة المظلوم تُحْمَل على الغَمَام وتفتح لَهَا أبوابُ السَّمَاوات ويقول الربُّ - عزَّ وجل - : " وعزتي لأنصرنك ولو بَعْد حين " ) ، وقد حسَّنه الحافظ ابن حجَر في « الفتوحات الربانية » ( 4 / 338 ) .
(5) « بدائع الفوائد » ، ( 3 / 762 ) .(1/33)
وعن جابر - رضي الله عنه - قال : لَمَّا رَجَعَتْ مُهَاجِرَةُ الْحَبَشَةِ عام الفتح إلى رسُول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : ( ألاَ تُخْبِرُونِي بأعْجَب مَا رأيتم بأرض الْحَبَشَةِ ؟! ) ، فقال فِتْية كانوا منهم : بَلَى يا رَسُول الله .. بَيْنَمَا نَحْنُ يَوْماً جُلوس إذْ مرَّتْ بِنَا عَجُوزٌ من عجائزهم تَحْمِلُ عَلى رَأسِهَا قُلَّةً مِنْ مَاءٍ ، فَمَرَّتْ بِفَتَى مِنْهُم فَجعَل إحدَى يديه بين كَتِفَيْها ثُمَّ دَفَعَهَا فَخَرَّت الْمَرأةُ عَلَى رُكْبَتَيْهَا وانْكَسَرَتْ قُلَّتُهَا ، فَلمَّا قامَتْ التفتتْ إليه ثم قالت : " سَوْف تَعْلَمُ يَا غَادِر إذا وضَعَ الله الكُرْسِي وجَمَعَ الأوَّلين والآخِرِينَ وَتَكَلَّمَتْ الأيْدِي والأرْجُلُ بِمَا كَانوُا يَكْسِبُون ، سوف تَعْلَمْ مِنْ أمْري وأمْرِك عِنْدَه غَداً " ، قال : فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ( صَدَقَتْ ، كَيْفَ يُقَدِّسُ الله أُمَّةً لاَ يُؤْخَذُ لِضَعِيفِهِمْ مِنْ شَدِيدِهِمْ ! ) (1) .
?? قصصٌ عجيبة من الزمن الماضي :
وهذه قصص عجيبة للعِظة والاعتبار ، ويتبيَّن منها أن الله تعالى يُعاقِب في الدنيا مَن سخِر به وبدِينه ، وبعضها في بيانِ استجابةِ اللهِ لِمَن دَعَوْه واستغاثوا به حينما ظُلِمُوا مِمَّا يَدُلُّ على وُجُودِهِ - عز وجل - وقيامه بالقِسْطِ وعَاجِل عقوبَتِهِ - سُبحَانه وَبِحَمْده - ؛ ويلي هذه القصص - إن شاء الله تعالى - قصص أخرى مِنْ زَمَانِنَا هذا :
__________
(1) أخرجه ابن ماجه في « سننه » برقم ( 4010 ) ، وابن حبان في « صحيحه » برقم ( 5058 ) ، وقال الذهبي في كتابه « العلو للعليِّ الغفار » ص ( 85 ) : ( إسناده صالح ) .(1/34)
? لقد وَرَد في سَبَبِ نزول هذه الآية : { وَيُرْسِلُ الصَّوَاعِقَ فَيُصِيبُ بِهَا مَنْ يَشَاءُ وَهُمْ يُجَادِلُونَ فِي اللَّهِ وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحَالِ } ، فَعَن أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال : بعث النبي - صلى الله عليه وسلم - مَرَّةً رَجُلاً إلى رَجُلٍ مِنْ فراعنة العرب : ( أنْ ادْعُه لي ) ، فقال : يا رسول الله .. إنه أعتى من ذلك ! ، قال : ( اذْهَبْ إِلَيْهِ فَادْعُهُ ) ، قال : فأتاه فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يدعوك ! ، فقال : مَنْ رسول الله ؟! ، وما الله ؟! ، أمِنْ ذَهَبٍ هُوَ ، أمْ مِنْ فِضَّةٍ ، أمْ مِنْ نُحَاسٍ ؟! ، قال : فأتى الرجل النبي - صلى الله عليه وسلم - فأخبره ، فقال : ( ارْجِعْ إِلَيْهِ فَادْعُهُ ) قال : فأتاه فأعاد عليه وردَّ عليه مثل الجواب الأوَّل ؛ فأتى النبي - صلى الله عليه وسلم - فأخبره ، فقال : ( ارْجِعْ إِلَيْهِ فَادْعُهُ ) قال : فَرَجَعَ إليه ، فبينما هُمَا يَتَراجعان الكلام بينهما ، إذ ْبَعَثَ الله سَحَابَةً بِحِيَالِ رأسِهِ فرَعَدت ، فَوَقَعَتْ منها صاعقة فَذَهَبَتْ بقِحْفِ رأسِه ، فأنزل الله - عز وجل - : { وَيُرْسِلُ الصَّوَاعِقَ فَيُصِيبُ بِهَا مَنْ يَشَاءُ وَهُمْ يُجَادِلُونَ فِي اللَّهِ وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحَالِ } ) انتهى (1) .
__________
(1) أخرجه النسائي في « سننه الكبرى » برقم ( 11259 ) ، وابن جرير في « تفسيره » برقم ( 20270 ) ، والطبراني في « معجمه الأوسط » برقم ( 2608 ) ، وأبو يعلى البزار في « مسنده » برقم ( 3468 ) ؛ وقال الهيثمي في « مُجَمع الزوائد » ( 7 / 42 ) : ( رجال البزار رجال الصحيح غير " ديلم بن غزوان " وهو ثقة ) .(1/35)
? وقد ذَكَرَ وَهْبُ بنُ مُنَبِّهٍ ~ أنَّ ابنَ مَلِكٍ رَكِبَ في قومه وهو شَارِبٌ فَصُرِع عن فَرَسِهِ فَدَقَّ عُنقه ، فغضب أبوه الْمَلِك وحَلَف أنْ يَقتل أهل تلك القرية وطأً بالأفيال والْخَيل والرِّجَال ، فَتَوَجَّه إليهم وسَقى الأفيال والْخَيل والرِّجَال الْخَمْر فقال : طَؤُوهُم بالأفيال ، فَمَا أخْطَأت الأفيال فَلْتَطأه الْخيل ، وَمَا أخطأت الخيل فلْتطأه الرجال .
فلمَّا رأى ذلك أهلُ القرية خَرَجُوا بأجْمَعِهِمْ فَعَجُّوا إِلَى اللهِ يَدْعُونَه ، فَبينَمَا هُم كذلك إذْ نَزَل فَارِسٌ مِن السَّمَاء فَوَقَع بينهم فَنَفَرتْ الأفيال فَعَطَفَتْ على الْخَيل وعَطَفَت الْخَيل على الرِّجَال فَقُتِل هوَ ومَن مَعَه وَطْأً بالأفْيَالِ والْخَيل (1) .. { وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلاَّ بِأَهْلِهِ } (2) .
? كان سعد بن أبي وقاص - رضي الله عنه - مُجَاب الدعوة ، فَكَذَب عليه رَجُلٌ فَقَالَ : ( اللهم إن كان كاذباً فأعم بصره وأطل عمره وعرِّضه للفِتَن ) ، فأصاب الرَّجُلَ ذلك كُلُّه ، فكان يتعرَّض للجَوَاري في السكك ويقول : " شيخٌ كبير مَفْتُونٌ أصابتني دعوة « سعد » " (3) .
? ودَعَا - رضي الله عنه - عَلَى رَجُلٍ سَمِعَه يَشتم « عَلِيَّ بن أبي طَالِبٍ » - رضي الله عنه - ، فمَا بَرِحَ مِنْ مكانه حتى جاء بَعِيرٌ نَادٌّ فَخَبَطَه بِيَدَيه وَرِجْليه حَتَّى قَتَلَه (4) .
__________
(1) « حلية الأولياء » لأبي نعيم ، ( 4 / 66 ) .
(2) سورة فاطر ، من الآية : 43 .
(3) أخرجه عبد الرزاق في « مصنفه » برقم ( 3707 ) ، والطبراني في « معجمه الكبير » برقم ( 308 ) ، والبزار في « مسنده » برقم ( 1062 ) ، وغيرهم .
(4) « جامع العلوم والحِكم » لابن رجَب ، ( 1 / 367 ) .(1/36)
? ونازعت امرأةٌ « سَعيدَ بن زيد » - رضي الله عنه - في أرضٍ له فادَّعَت أنه أخَذَ منها أرْضَهَا ، فقال : ( اللهم إنْ كَانَتْ كَاذِبَة فأعْمِ بَصَرَها واقْتُلْهَا فِي أرْضِهَا ) ؛ فعَمِيَتْ ، فبينما هي ذات ليلة تَمْشِي في أرْضِهَا إذْ وَقَعَتْ فِي بِئْرٍ فِيهَا فَمَاتَتْ (1) .
? وعن الليثِ بن سَعْدٍ ~ أنه قال : بَلَغَنِي أنَّ « زيد بن حارثة » - رضي الله عنه - استأجَر من رَجُلٍ بَغْلاً مِنْ الطائف ، واشترط عليه الْمُكْرِي أن يُنْزِله حيث شاء ، فَمَال به إلى خَرِبَةٍ فإذَا بِهَا قَتْلَى كثيرة ، فَلَمَّا هَمَّ بِقَتْلِهِ ، قال له « زيد » : دعني حتى أصلى رَكعتين ، قال : صلِّ رَكعتين ، فَطَالَمَا صَلَّى هؤلاء فَلَمْ تنفعهم صلاتهم شيئاً ! .
قال : ثُمَّ جَاء ليقتلَنِي فقلت : ( يا أرحم الرَّاحِمِينَ ) فإذا صَارِخٌ يقول : " لا تقتله ! "، فَهَابَ وَذَهَب يَنْظُر فَلَمْ يَرَ شيئاً ، ثم جاء ليقتلني فقلت : ( يا أرحم الراحمين ) ، فَسَمِعَ - أيضاً - الصَّوْتَ يَقول : " لا تقتله ! " ، فذهَبَ لينظُر ، ثم جاء فقلت : ( يا أرحم الراحمين ) فإذا أنا بفارس على فَرَسٍ في يَدِهِ حَرْبَة في رأسها شُعْلَةٌ مِنْ نَارٍ فَطَعَنَهُ بِهَا حتى أنفَذَهُ فوقع مَيتاً ، ثم قال : لَمَا دَعَوْتَ الله في الْمَرَّة الأولى كنتُ في السماءِ السَّابعة ، ولَمَا دعوتَهُ في الْمَرَّة الثانية كنتُ في السماء الدنيا ، ولَمَا دعوتَه في الثالثَةِ أتيتُك ) انتهى (2) .
__________
(1) أخرجه البخاري في « التاريخ الأوسط » برقم ( 471 ) ، وأخرجه أيضاً عبد الرزاق في « مصنفه » برقم ( 19755 ) .
(2) « البداية والنهاية » ، ( 4 / 75 ) .(1/37)
? ودعا أبو مُسْلِم الْخَوْلاَنِي ~ عَلَى امرأةٍ أفْسَدَت عليه عِشْرَةَ امْرأةٍ له بِذَهَابِ بَصَرِهَا ، فَذَهَبَ بَصَرُهَا في الْحَال ! ، فجاءته فَجَعَلَتْ تُنَاشِده باللهِ وَتطْلبُ منه الدعاء لَهَا ، فَرَحِمَهَا ودَعَا الله تعالى ، فَرَدَّ عليها بصَرَها ، وَرَجَعَتْ امْرَأته إلى حَالِهَا مَعَه (1) .
? وكَذَبَ رَجُلٌ على مُطَرِّف بنِ عبدِ اللهِ بن الشِّخِّيرِ ~ فقال له : ( إنْ كنتَ كاذباً فعَجَّلَ الله حَتْفَك ) ، فَمَاتَ الرَّجُلُ مَكَانَه (2) .
? وعن وهْبِ بنِ مُنَبِّهٍ ~ أنه قال : بنَى جبار من الجبابرة قَصْراً وَشَيَّدَه فَجَاءت عَجُوزٌ فَقِيرَةٌ فَبنَت إلى جانبه كُوخاً تأوي إليه ، فَرَكِبَ الْجَبَّارُ يَوْماً وطَافَ حول القَصْر ، فرأى الكُوخَ فقال : " لِمَن هَذا ؟! " ، فقيل : لامْرَأةٍ فَقيرَةٍ تأوي إليه ؛ فَأمر به فهُدِمَ .
فجَاءَتْ العَجُوز فرأته مهدوماً ، فقالت : ( مَنْ هَدَمَه ؟! ) ، فقيل : الْمَلِك رآه فَهَدَمَهُ ، فَرَفعت العجوزُ رأسَهَا إِلَى السماء ، وقالت : ( يا ربِّ .. إذا لَمْ أكُنْ أنا حاضرة فأينَ كُنْتَ أنْتَ ! ) ، قال : فأمر الله جبريل أنْ يَقْلِبَ القَصْر على مَنْ فيه فَقَلَبَه ! (3) .
وقدْ قِيل :
إذَا مَا الظَّلُومُ اسْتَوْطأ الظُّلْمَ مَرْكَباً فَكِلْهُ إِلَى رَبِّ العِبَادِ وَعَدْلِهِ ... وَلَجَّ عُتوًّا فِي قَبِيحِ اكْتِسَابِهِ سَيَبْدُو لَهُ مَا لَمْ يَكُنْ فِي حِسَابِهِ
__________
(1) « كرامات الأولياء » للالكائي ، ص ( 184 ) ، و « سيَر أعلام النبلاء » للذهبي ( 4 / 11 ) .
(2) « تاريخ الإسلام » للذهبي ، ( 2 / 277 ) .
(3) « الزواجر عن اقتراف الكبائر » لابن حجَر الهيتمي المكي ، ( 3 / 33 ) .(1/38)
? وقيل : لَمَّا حُبس خالد بن برمك وولده قال ولده : يا أبتِ بَعْدَ العِزِّ صِرْنَا فِي القَيْدِ والْحَبْسِ ! ، فقال : ( يا بُنَي .. دعوةُ مَظْلومٍ سَرَتْ بِلَيلٍ غَفَلْنا عَنهَا وَلَمْ يَغْفُل الله عَنها ! ) (1) .
? وكان يزيد بن حكيم يقول : ( مَا هِبْتُ أحَداً قَطُّ هَيْبَتِي رَجُلاً ظَلمْته وأنا أعْلَمُ أنه لاَ نَاصِرَ له إلاَّ الله يقولُ لِي : " حَسْبِي الله ، الله بَيْنِي وَبَينك " ! ) (2) .
? وكان رَجُلٌ من الْخَوَارِج يَغشى مَجْلِسَ الْحَسَن البَصْرِي ~ فيؤذيهم ، فَلمَّا زَادَ أذاه قال الْحَسَن : ( اللَّهُمَّ قَدْ عَلِمْتَ أذاه لنا فَاكْفِنَاهُ بِمَا شِئْتَ ) فَخَرَّ الرَّجُلُ مِنْ قَامَتِهِ ، فمَا حُمل إِلَى أهْلِهِ إلاَّ مَيِّتاً عَلَى سَرِيرِهِ (3) .
? وكان رَجُلٌ يَعبث بِحَبيبٍ العَجْمِي ~ كثيراً فَدَعَا عَليه « حَبيبٌ » فبرص (4) .
? وكان « حَبيبٌ » ~ ذاتَ مَرَّةٍ عند « مالك بن دينار » ، فجاء رجُلٌ فأغْلَظَ لـ « مَالِكٍ » ~ من أجل دراهم قسَمَهَا « مَالِكٌ » ، فَلمَّا طال ذلك مِنْ أمره رَفَعَ « حَبيبٌ » يَدَه إِلَى السَّمَاءِ فقال : ( اللهُمَّ إِنَّ هَذا قَدْ شَغَلَنَا عَنْ ذِكْرِكَ فَأرِحْنَا مِنْهُ كَيفَ شِئْتَ ) ، فسَقط الرَّجُل عَلى وَجْهِهِ مَيِّتاً ! (5) .
__________
(1) أخرجه الخطيب البغدادي في « تاريخه » ( 14 / 131 ) .
(2) « الكبائر » للذهبي ، ص ( 107 ) .
(3) أخرجه اللالكائي في « كرامات الأولياء » برقم ( 166 ) .
(4) أخرجه ابن عساكر في « تاريخ دمشق » ، ( 12 / 52 ) .
(5) « جامع العلوم والْحِكَم » ، ( 1 / 368 ) .(1/39)
? وقال الذهبي ~ : قال بعضهم : ( رأيتُ رجُلاً مقطوع اليَدِ مِنْ الكَتف وهو يُنادي : مَن رَآنِي فلا يَظْلِمَنَّ أحَداً ؛ فتقدَّمْتُ إليه ، فقلتُ له : يا أخي ما قِصَّتُك ؟! ، قال : يا أخي قصة عجيبة ، وذلك أني كنت من أعوان الظلمة فرأيت يوماً صياداً وقد اصطاد سَمَكة كبيرة فأعجبتني ، فجئت إليه فقلت : أعطني هذه السمكة ، فقال : لاَ أعطيكها ، أنا آخذ بثمنها قُوتاً لِعِيَالِي ، فضربتُه وأخذتها منه قهراً ، ومضيت بها ؛ قال : فبينا أنا أمشي بها حاملها إذْ عضَّت على إبْهَامي عضة قوية ، فلمَّا جِئْتُ بِهَا إِلَى بيتي وألقَيْتُهَا من يدي ضَرَبتْ عليَّ إبهامي وآلَمَتْنِي ألَماً شديداً حتى لَمْ أنَمْ مِنْ شِدَّةِ الوَجَعِ والألَمِ وَوَرِمَتْ يَدِي ! ، فلمَّا أصبحتُ أتيتُ الطبيبَ وشكوتُ إليه الألَمَ ، فقال : هذه بِدْءُ الآكِلَةِ ، اقطعها وإلاَّ تُقْطَعُ يَدَك ، فَقَطَعْت إبهامي ، ثم ضَرَبَتْ عَلَيَّ يَدِي فَلَمْ أُطِقِ النومَ ولاَ القرارَ من شدة الألم ! ، فقيل لي : اقطع كفَّك فقطعته ، وانتشر الألَم إلى السَّاعد وآلَمَنِي ألَماً شديداً ولَمْ أُطِق القَرار ، وجَعَلْتُ استغيثُ مِنْ شِدَّةِ الألَمِ فَقِيلَ لِي : اقطعها إِلَى الْمِرْفَقِ فَقَطَعْتُهَا ، فانتشر الألَمُ إلى العَضُدِ وضَرَبَتْ عَلَيَّ عَضُدِي أشَدَّ مِن الألَمِ الأول ، فقيل : اقطع يَدَك من كَتِفِك وإلاَّ سَرَى إِلَى جَسِدِك كُلِّه ، فَقَطَعْتُهَا ! ؛ فقال لِي بعضُ الناس : ما سَبَبُ أَلَمِكَ ؟! ، فذَكَرْتُ قِصَّةَ السَّمَكة ، فقال لِي : لَوْ كُنْتَ رَجَعْتَ فِي أوَّلِ مَا أصابك الألَمُ إِلَى صاحب السَّمَكَةِ واسْتَحْلَلْتَ مِنه وأرْضَيتَهُ لَمَا قَطَعْتَ مِن أعضائك عُضْواً ، فاذهب الآن إليه واطْلُبْ رِضَاه قَبْل أنْ يَصِل الألَم إِلَى جميعِ بَدَنِك ، قال : فَلَمْ أزَل أطلبه في البَلَدِ حتى وجدته ، فَوَقَعْتُ على رِجْلَيه أُقَبِّلها(1/40)
وأبكي وقلت له : يا سيِّدِي سألتك باللهِ إلاَّ عَفَوْتَ عَنِّي ! ، فقال لي : ومَنْ أنتَ ؟! ، قلتُ : أنا الذي أخذتُ منكَ السَّمَكة غَصْباً، وذكرتُ ما جرى وأريْتُه يَدِي ، فَبَكَى حين رآها ثم قال : يا أخِي قَدْ أحْلَلْتُكَ مِنْهَا لِمَا قَدْ رأيتُه بِكَ مِنْ هذا البَلاَءِ .
فقلتُ : يا سيِّدِي باللهِ هَلْ كنتَ قد دعوْتَ عَليَّ لَمَّا أخَذْتُهَا ؟! ، قال : نعم . قلتُ : " اللَّهُمَّ إنَّ هَذَا تَقَوَّى عَلَيَّ بِقُوَّتِهِ عَلَى ضَعْفِي عَلَى مَا رَزَقتني ظُلْماً فَأَرِنِي قُدْرَتَك فِيهِ ! " .
فقلتُ : يا سيدي قد أراك الله قُدْرَتَهُ فِيَّ وأنا تَائِبٌ إِلَى اللهِ - عز وجل - عَمَّا كُنتُ عليه مِنْ خِدْمَةِ الظَّلَمَةِ ولاَ عُدتُّ أقِفُ لَهُمْ عَلى بابٍ وَلاَ أكونُ مِنْ أعْوَانِهِمْ ما دُمْتُ حَيًّا إِنْ شَاء الله ) انتهى (1) .
فتأمَّل هَذَا الأمر الْهَائِلَ الذي حلَّ بِهَذا الشَّخْصِ بِسَبَبِ سَمَكَةٍ ، فكيف تكونُ عُقُوبَة مَن سَبَّ الله - عز وجل - ، وَظَلَمَ الْمُسْلمين غاية الظُّلم بِسَبِّ مَعبودِهِمْ الحقِّ سُبْحَانه والسُّخريةِ به ؟! .
وقد قال بعضُ العارفين : رأيتُ في الْمَنَام رجُلاً مِمَّن يَخْدِمُ الظَّلَمَةَ والْمَكَّاسِين (2) بَعْدَ مَوْتِهِ بِمُدَّةٍ في حالةٍ قبيحةٍ فقلت له : ما حالك ؟! ، قال : شَرُّ حَالٍ ! ؛ قلتُ : إِلَى أينَ صِرْتَ ؟! ، فقال : إِلَى عذابِ الله ! ؛ قلت : فمَا حالُ الظَّلَمَةِ عنده ؟! ، فقال : شَرّ حَالٍ .. أمَا سَمِعْتَ قَولَ اللهِ - عز وجل - : { وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ } (3) ! (4) .
__________
(1) « الكبائر » ص ( 113 ) ، و « الزواجر » ص ( 3 / 40 ) .
(2) الْمَكْس ) هو ما يُسمى في وقتنا : ( الْجُمْرك ) .
(3) سورة الشعراء ، من الآية : 227 .
(4) « الكبائر » ، ص ( 113 ) .(1/41)
? وذُكِرَ أنَّ « عضُد الدولة بن بُوْيه الرافضي » نَظَمَ شِعرًا جاء فيه قولَه في صِفَةِ نفْسِهِ كَمَا يَزْعُم :
« عَضُد الدَّوْلَةِ » وَابْنُ رُكْنِهَا مَلِكُ الأمْلاَكِ غَلاَّبُ القَدَرْ !
ثُمَّ أُصِيبَ بعدَ ذلك بشيْءٍ من الْخَبَلِ والوَسْواسِ وفسَاد الْمِزَاج ، فكَان لا يَنطَلِق لِسَانُهُ إلاَّ بِقَوْلِهِ تعالَى : { مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ ? هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ } (1) ! ؛ (2) .
? وقال ابنُ الجوزي ~ : ( قال « عبدُ الْمَجِيدِ بن عبدِ العَزِيزِ » : كَانَ عِنْدَنا بِخُرَاسَان رَجُلٌ كَتَبَ مُصْحَفاً في ثلاثة أيام فَلِقَيَهُ رَجُلٌ فَقال : فِي كَمْ كَتَبْتَ هذا ؟! ، فأوْمأ بالسَّبابة والوسطى والإبْهَام وقال : في ثلاثٍ : { وَمَا مَسَّنا مِنْ لُغُوبٍ } (3) ، فَجَفَّتْ أصابِعُهُ الثَّلاَثِ ، فَلَمْ يَنتَفِعْ بِهَا فيمَا بَعْدُ ! .
وخَطَرَ لِبَعْضِ الفُصَحَاءِ أنْ يَقْدِر أنْ يقول مثل القرآن فصَعَد إلى غُرْفَةٍ فانفرد فيها وقال : أمْهِلُونِي ثلاثاً : فصعدوا إليه بعد ثلاث وَيَده قد يَبِسَت على القَلَم وهو مَيِّت ) انتهى (4) .
__________
(1) سورة الحاقة ، الآيات : 28 - 29 .
(2) أنظر : « سير أعلام النبلاء » ( 16 / 250 ) ، و « إتحاف الإلْف » ص ( 666 ) .
(3) سورة ق ، من الآية : 38 .
(4) « صيد الخاطر » ، ص ( 101 ) .(1/42)
? وقال الحافظ ابن كثير ~ : ( وحكى « ابنُ خلكان » فيما نقل من خطِّ الشيخ « قُطْبِ الدِّين اليونيني » قال : بَلَغَنَا أنَّ رَجُلاً يُدعى « أبا سَلاَمَة » من ناحية بصرى كان فيه مُجُونٌ واستهتار ، فذُكِر عنده السِّواك وما فيه من الفضيلة ، فقال : " واللهِ لا أسْتَاك إلاَّ في الْمَخْرَج " - يعني دُبُرَه - ، فأخذ سِوَاكاً فَوضعه في مَخْرَجَه ثم أخرجه ، فمَكَثَ بعده تسعة أشهر وهو يشْكُو مِنْ ألَمِ البَطن والْمَخْرج فوضع ولَداً على صِفَة الْجُرْذَان له أربعة قوائم ورأسه كرأسِ السَّمَكَة ، وله أربعة أنيابٍ بارزة وذنَب طويل مثل شبر وأربعة أصابع ، وله دُبُر كَدُبُرِ الأرْنَبِ ! ، ولَمَّا وَضَعه صَاح ذلك الْحَيَوان ثلاث صيْحَات فَقَامَت ابنةُ ذلك الرَّجُل فَرَضَخَتْ رأسه فَمَات ، وعاش ذلك الرجل بَعْدَ وضْعه لَهُ يومين ومات في الثالث ، وكان يقول : " هذا الْحَيَوان قتلني وقطَّع أمعائي " ! ؛ وقد شاهد ذلك جَمَاعة من أهل تلك الناحية وَخُطَباء ذلك الْمَكان ، ومنهم مَنْ رأى ذلك الحيوان حيًّا ، ومنهم مَن رآه بعد موته ! ) (1) .
? وَمِنْ سَريعِ عقوباتِ اللهِ علَى الظَّلَمَةِ أنه اختصَمَ اثنانِ عند قاضٍ من القضاةِ وكان أحدهما ظالِماً لصاحبه ، وقد قضى القاضي للظَّالِمِ فَرَفَعَ الْمَظْلوُمُ رأسَه إلى السَّمَاءِ ودعا علَى خَصْمِهِ فمَا شَعُرَ إلاَّ والْخَصْمُ قَدْ ثَقُلَ عليه مِنْ جَانِبِهِ فظَنَّه يَتَّكِئُ عليه فأرادَ أنْ يُزِيحَه عنه وإذا هو مَيِّت ! .
?? قصصٌ عجيبة من الزمن الحاضر :
__________
(1) أنظر : « البداية والنهاية » ( 13 / 249 ) ، و « عقد الجمان في تاريخ أهل الزمان » للعيني ( 1 / 112 ) .(1/43)
? حدَّثني مَن أثِق به أنَّ امرأة من أقاربه من عائلة معروفة في بريدة تقول بأنها كانت ترعى الغَنَم حين كانت شابَّة وكان اثنان من الشباب في مكانٍ غير بعيدٍ عنها في رعي أغنامهم وكان الْحَرُّ شديداً ، تقول : وقد اشتد بنا العطش وبالغنم فاستغاث أحَدُ الشابين بالله تعالى أن يسقينا ، ولكن الآخر كان زنديقاً فاجِراً فظهر مكنونه قائلاً لصاحبه بسخريةٍ واستهزاء بالله ( لَوْ كَانَ عند رَبِّك مَاءً لَسَقَى بِهِ نَفْسَه ) - تعالى الله وتقَدَّس - .
تقول المرأة : وبعد قليل أنشأ الله سحابة أقْبَلَتْ من جِهَةِ المغرب حتى أظلَّتنا فأمْطَرَتْ علينا فَارْتَوْينا .
وأمَّا السَّاخِرُ بالله فتدلَّت عليه السَّحابة وأحاطت به تقصفه بصواعق أصابَنَا منها رعبٌ شديدٌ والبرق يسْطَع من خِلاَلِ تلك السَّحابة فكِدت أنا والشاب المستغيث أنْ يُغْمَى علينا من هَوْل الأمْرِ ، ثم انْجَلَتْ السَّحَابة عنه فإذا هي قد قطَّعته قِطَعاً ! .
فهذا جزاء عاجل لِساخرٍ بالْمَلِك الْجَبار قيوم السموات والأرضين شديد الْمِحَال .
وهذا حادِثٌ في زماننا منذ سنين ليسَت بالبعيدة .(1/44)
? وقد حَدَثَ مع الشيخ عبد الرحمن السعدي ~ قصة عجيبة فيها عِظَة وعِبْرَة ، حيث كان حاجًّا هو وجماعة معَه من ( عُنَيزَة ) وكانوا في أحدِ المشاعر ( مِنَى أو عَرَفَات ) وكانوا جالسين في خيمتهم وكان بِقُرْبِهِمْ رجُلٌ عنده آلة غِناء يُغَنِّي بِهَا - نسأل الله العَافية - ، فنصحوه ليمتنع عن الغِناء لاسيَّما وأنه في يومِ حجٍ ويومٍ مُعَظَّمٍ وَمُبَارَكٍ ولكنه أبَى ، فأخبروا الشيخ السعدي ~ ، فأرْسَلَ الشَّيخُ أحدَ مَن كانوا معَه وهو ( حمد بن عبد الله الْحَرْكَان ) لينصحَه ويعِظَه بالتي هي أحْسَن ولكنه مَعَ ذلك رفَضَ واستمر في عِصيانه - نعوذ بالله من حال السُّوءِ - ، فَرَجَعَ ( ابنُ حَرْكان ) وأخبر الشيخَ بذلك فقال الشيخ : ( حَسْبُنَا الله وَنِعْمَ الوَكِيل ) ، فمَا مَضَى من الوقتِ إلاَّ قليلٌ حتى هَبَّتْ رِيحٌ عَاصِفٌ شديدةٌ فانتزَعَتْ خيْمةَ هذا الْمُغنِّي مع عَمُودِهَا ورفَعَته عالياً ثم هوَى هذا العمُود فارْتَكَزَ في رأسِهِ وخَرَج مِن تحتِ ذَقْنِهِ فإذا هوَ ميِّتٌ - نسأل الله السلامة والعافية - ، فأخبروا الشيخ فَبَكَى خَوْفاً مِنْ عِقابِ اللهِ ورَجَاءَ رَحْمَتِهِ (1) .
? وَمَنْذُ ما يُقارب أربعين سَنة ناظَرَ أحدُ العُلمَاء ( الشناقطة ) مُلْحِداً ( سُودَانِياً ) مُنْكِراً لوجود الله ، وفي أثناء الْمُنَاظَرَةِ قال الْمُلْحِدُ : ( إنْ كانَ لِهَذَا الكَوْنِ خَالِقٌ فَلْيقْبِضْ رُوحِي الآن ) ، فمَا اسْتَتَمَّ كَلاَمُهُ حَتَّى سَقَطَ جُثةً هَامِدَة والعَالِمُ يَنظُر ! .
__________
(1) « المختار من القصص والتاريخ والآثار » لدغيثر بن عبد الله الدغيثر ، ص ( 24 ) .(1/45)
? ويقول ( عبد الله بن وائل التويجري ) (1) بأنه حينما كان في شبابه كان مع مجموعة من أصحابه في سفْرةٍ إلى بلاد الشَّام للتجارة ؛ يقول : وفي أثناء عودتهم عرَّجوا على صاحبٍ لَهُم في أحَدِ مُدُنِ الشَّام وقد أحْسَن ضيافَتَهُم إلاَّ أنَّ عِنْدَه رَاعٍ للغَنَمِ والإِبل قد آذاهم حيث إنه حينما يقومون للصلاة وبعد تكبيرة الإحرام يبدأ بالعزف والغناء مع ترديده لأبياتٍ شِعْرِية نبطية وكأنَّ الشيطان قد كلَّفه بهذه المهمة ليشغلهم عن صلاتهم حتى إنهم من شدة عزفه بالغناء لا يسمعون تكبير الإمام ولا قراءته ! .
يقول التويجري : فَقُلنا لِسَيِّدِه الذي نَحْنُ فِي ضِيَافته : ( قُمْ لعَامِلِك وانْهَهُ عن هذا الْمُنكَرِ ، فَهُوَ لا يُصَلِّي ولا يَتركنا نُصَلِّي ! ) ، ولكن سيِّده اعتذر عن مُنَاصَحَتِهِ خَشيةَ أنْ يتركه ويذهب لغيره حيثُ إنه - كما يقول - مطمئنٌّ له كونه جيِّدٌ في رعيه الغنم والإبل وقويٌّ في جِسْمِه لِحِفْظِهَا من اللُّصوص فلاَ يَقْرَب أحَدٌ الوادي الذي هو فيه فترعى غنمه وإبله لوحدها ! ، ولو ناصحه وأنكر عليه فقد يتركه ويذهب لغيره وقد لا يجد مثله ! .
ثم يقول التويجري : وكرَّرْنا معه الْمُطَالَبَةَ بِأنْ يُناصح راعي غَنَمِهِ بِأَنْ لاَ يُشغلنا عن صلاتنا بغِنَائِهِ ، ولكن مُضيفنا يكرِّر الإصرار بأنه لن يُناصحه وينهاه عن المنكر الذي عليه خشية أن يتركه ويذهب لغيره .
وفي أحد الأيام وفي صلاة الْمَغْرِبِ تَحديداً قال إمامُنا : إنْ عادَ الراعي لِفِعْلِ مُنْكَرِهِ فَسَوْفَ أَقْنُتْ عَليه ، فوافقناه فيما أراد ، فكبَّر الإمام للصلاة ، فحضَر الراعي وجلس حولنا كعادته وبدأ يُغَنِّي بالرَّبَابَة ، وزَادَ في إِيذاء الْمُصَلِّين ! .
__________
(1) وهو رجُلٌ كبير في السِّن ومن أهل ( بريدة ) ، ولا يزال حَيًّا حتى ساعةِ كتابةِ هذه الحادثة في شهر / ربيع الأول من عام 1428هـ - نسأل الله تعالى لنا وله حسن الختام - .(1/46)
ثم يقول التويجري : وبعدما أكملنا صلاتنا وبعد الرفع من الركعة الأخيرة رفَع الإمامُ يديه وبدأ يقنُت ونحنُ نؤمِّن من خلْفِهِ على هذا الرَّاعي ؛ وبعد الصلاة ، وبينما كنا جلوساً يتكلم بعضنا مع بعض إذْ قام الراعي من عندنا فجْأةً ودَخَل بيتَه الشَّعْري وصار يَسْتَفْرِغ ! ، فَالْتَفَّ حَولَه أهلُه " أمُّه وَزوجَتُه " وهُنَّ مَفزوعاتٍ مِمَّا أصابَه وحَلَّ به ! ، فذَهب إِلَى فراشه وأحضَرَتْ أمُّه بعضَ الأدوية ، ولكنَّ حالته صارت من سَيِّءٍ إِلَى أسْوَأ حتى أُغْمِيَ عليه ؛ وبينما كُنَّا نتحادث مع بعض إذْ بِمُضِيفِنَا يقوم ويجلس ذاهباً آيباً ينظر في حالة الراعي وما يَحْصُلُ له .
وما هي إلا سَاعَة حَتَّى صاحَت النساء ، فَعَرَفْنا أنَّ الله السميع العليم استجَابَ دُعَاءَنا وَأمَاتَ هذا الرَّاعي - نسأل الله السلامة والعافية ، وأن يختم لنا بالصالحات - .
? وقصة الفتاة التي في بعض أسواق ( الرياض ) مشهورة ، فقد رآها بعض الشباب فاتِحَة عباءَتَها وعليها لِباسٌ غير ساتر ، فقال لَهَا نَاصِحاً : " لو جَاءَكِ مَلَكُ الْمَوت ، ماذَا تَفْعَلِين ؟! " ، فقالت الزنديقة بِجُرْأة : ( اتَّصِلْ على جَوَّال رَبِّك يأتيني بِمَلَكِ الْمَوت ! ) ، يقول الشاب : فَخِفْتُ مِنْ شَنَاعة قَوْلِهَا وارتعدتُّ وَهَرَبْتُ مُسْرِعاً وإذا بِي أسْمَعُ صوتَ صُرَاخٍ وصياح فرجَعْتُ وإذَا بالفتاةِ قَدْ سَقَطَتْ على وَجْهِهَا وَمَاتَتْ ! .
? وقد كان يُنقل لنا قديماً ما يقوله زبانيةُ سُجُونِ ( مِصْرَ ) الزنادقة مثل قول بعضهم للسجين لَمَّا سَمِعَه يقول : ( يا ربّ يا ربّ ! ) ، قال الزنديق : ( لوْ نَزَل رَبُّك لسَجَنْته بالزنزانة ! ) .(1/47)
وقد بلغنا أن هذا الزنديق عوجل بعقوبة قبل الآخرة حيث سُلِّط عليه طاغيته « جمال عبد الناصر » ، فسَجنه وعذَّبه ، ولَمَّا انتهى سِجْنه خرج يوم عيدٍ فذهب بسيَّارته إلى قريته في مِصْر ، وفي الطريق التقى بِحَرَّاثة زراعية فاصْطدم بِهَا فَدَخَلَتْ أسنانُ الحرَّاثة في جِسْمِه ولَمْ يَقْدِرُوا أنْ يُخَلِّصوه إلاَّ بِقَطْعِ رَقبته وَفَصْل رَأسِهِ عَن بَدَنِهِ ! .
وكم وقَع للزَّنادقة والظَّلَمَة من وقائع فظيعةٍ من العقوبات الْمُعَجَّلة في الدنيا مِمَّا يَعرف الناس منه الكثير ! .
وإذا كان قد نَزَل قرآنٌ يُتلى إلى يوم القيامة في قومٍ غزاةٍ مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وصحابته الأطهار - رضي الله عنهم - لأجل كلمة قالَهَا هؤلاء الغزاة : ( ما نرى مِثْل قرائنا هؤلاء " يعنون الصحابة " أرغب بطوناً وأكذب ألْسناً وأجبن عند اللقاء ) فأنزل الله - عز وجل - : { لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ إِنْ نَعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طَائِفَةَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ } (1) ) انتهى (2) ، فكيف ما نحن فيه اليوم من السُّخرية بالله والاستهزاء به وبدينه ورسوله وعباده الصالحين ! - قطَع الله دَابِرَ المنافقين وعجَّل عُقُوبَتَهُم في الدنيا قبل الآخرة - .
وحينما ذَكَرَ « ابنُ رَجَب » بعضاً من مثل ما تقدَّم ذكره من القصص في كتابه ( جَامِعِ العُلُوم والْحِكَمِ ) قال ~ : ( وَمِثْلُ هَذَا كَثِير جِداً وَيَطُولُ اسْتِقْصَاؤها ! ) انتهى (3) .
__________
(1) سورة التوبة ، آية : 66 .
(2) أخرجه ابن جرير الطبري في « تفسيره » برقم ( 16911 ) ، وابن أبي حاتم في « تفسيره » برقم ( 10552 ) ، وغيرهم ، وكلهم من حديث زيد بن أسلم ، وقال الشيخ أحمد شاكر في تحقيقه « تفسير ابن جرير » ( 14 / 333 ) : ( إسناده صحيح ) .
(3) « جامع العلوم والحكم » ، ( 1 / 369 ) .(1/48)
وأنا إذْ أذكُرُ بعضَ ما ورَد من قصص في ذلك إنَّمَا أرَدتُّ أنْ يَعْتَبِرَ مَنْ { نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ } (1) .
والرَّبُّ سبحانه وَبِحَمْدِهِ قَدْ يُعَجِّل العقوبةَ للطُّغَاةِ والزنادقة والفُجَّار ، وقَد يؤخِّرها لِحِكَمٍ لاَ يُحِيط بِها العِبَاد ، فسُبحَانَ قاصِمِ الْجَبَابِرَةِ ومُذِلِّ الْمُسْتَكْبِرين ..
وَسُبْحَانَ مَنْ لاَ يَقْدِرُ الْخْلْقُ قَدْرَهُ مَلِيكٌ عَلَى عَرْشِ السَّمَاءِ مُهَيْمِنٌ . ... وَمَنْ هُوَ فَوْقَ العَرْشِ فَرْدٌ مُوَحَّدُ لِعِزَّتِهِ تَعْنُو الوُجُوهُ وَتَسْجُدُ (2) .
__________
(1) سورة التوبة ، من الآية : 67 .
(2) « اجتماع الجيوش الإسلامية » لابن القيم ، ص ( 80 ، 90 ) .(1/49)
واعْلَمْ أنَّ مَالِكَ الْمُلْكِ سُبحَانه وتَعَالَى لَمْ يَنْعَزِلْ عَن تَدْبِيرِ مُلْكِهِ وإنْ كَانَتْ السِّيَاسَاتُ الطَّاغُوتِيَّة قَدْ عَزَلَتْهُ كَمَا قَالَ ابنُ القَيِّمِ : ( وقَال أصْحَابُ السِّيَاسَةِ : « إذَا تَعَارَضَتْ السِّيَاسَةُ وَالشَّرْعُ قَدَّمْنَا السِّيَاسَةَ » ، فَجَعَلَتْ كُلُّ طَائِفَةٍ قُبَالَةَ دِينِ اللهِ وشَرْعِهِ طَاغُوتاً يَتَحَاكَمُونَ إِلَيهِ ) (1) ، فَهُوَ سُبْحَانَهُ الْمُتَصَرِّفُ فِي مُلْكِهِ حِينَ وجُودِ الْخَلْقِ وبَعْدَ فَنَائِهِمْ ، وَتَأمَّلْ عَظِيمَ قُدْرَتِهِ وبَالغِ حِكْمَتِهِ في إِحَالَةِ الأحْوَالِ فَقَدْ قال ابنُ القيمِ ~ : ( قَرَأ قَارِئٌ : { إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ ? وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ ? وَإِذَا الْجِبَالُ سُيِّرَتْ } (2) ، وَفي الْحَاضِرين « أبو الوَفَاء بن عَقِيل » فَقَال له قَائِلٌ : يا سَيِّدي هَبْ أنَّه أنْشَرَ الْمَوْتَى لِلبعْثِ والْحِسَاب وزَوَّجَ النفُوس بِقُرَنَائِهَا بالثَّوَابِ والعِقَابِ فَلِمَ هَدَمَ الأَبْنِيَةَ وَسَيَّر الْجِبَالَ وَدَكَّ الأرضَ وَفَطَرَ السَّماءَ وَنَثَرَ النُّجُومَ وَكَوَّرَ الشَّمْسَ ؟! .
__________
(1) « مدارج السالكين » ، ( 2 / 70 ) .
(2) سورة التكوير ، الآيات : 1 - 3 .(1/50)
فَقال ~ : إِنَّمَا بَنَى لَهُمْ الدَّارَ للسُّكْنَى والتَّمَتُّعِ وجَعَلَهَا وَجَعَلَ مَا فيها للاعْتِبَارِ والتَّفَكُّرِ والاسْتِدْلاَلِ عليهِ بِحُسْنِ التأمُّلِ وَالتَّذَكُّرِ ، فَلَمَّا انْقَضَتْ مُدَّةُ السُّكْنَى وَأجْلاَهُمْ من الدَّارِ خَرَّبَهَا لانْتِقَال السَّاكِنِ مِنْهَا فَأرَادَ أنْ يُعْلِمَهُمْ بِأنَّ الكَوْنَيْن كانتْ مَعْمُورَةً بِهِمْ ، وَفِي إِحَالَةِ الأحْوَالِ وإظهَارِ تلكَ الأهْوَالِ وبَيَانِ الْمَقْدِرَةِ بعدَ بَيانِ العِزَّةِ تكْذِيبٌ لأهْلِ الإِلْحَادِ وَزَنَادِقَةِ الْمُنَجِّمِينَ وَعُبَّادِ الكوَاكِبِ والشَّمْسِ وَالقَمَرِ والأوْثَانِ فَيَعْلَمُ الذينَ كَفَرُوا أنَّهُمْ كانوا كَاذِبِين ؛ فَإِذَا رَأوْا آلِهَتَهُمْ قَدْ انْهَدَمَتْ ، وأنَّ مَعْبُودَاتِهِمْ قَدْ انْتَثَرَتْ وانْفَطَرَتْ ، وَمَحَالُّهَا قَدْ تَشَقَّقَتْ .. ظَهَرَتْ فَضَائِحُهُمْ وتَبَيَّنَ كَذِبُهُمْ وَظَهَرَ أنَّ العَالَمَ مَرْبُوبٌ مُحْدَثٌ مُدَبَّرٌ لَهُ رَبٌّ يُصَرِّفُهُ كَيْفَ يَشَاءُ تَكْذِيباً لِمَلاَحِدَةِ الفَلاَسِفَةِ القَائِلِينَ بِالقِدَمِ ؛ فَكَمْ للهِ تعالَى مِنْ حِكْمَةٍ فِي هَدْمِ هَذِهِ الدَّارِ وَدلاَلَةٍ على عُظْمِ عِزَّتِهِ وَقُدْرَتِهِ وسُلْطَانِهِ وانْفِرَادِهِ بالرُّبُوبِيَّةِ وانْقِيَادِ الْمَخْلُوقَاتِ بِأسْرِهَا لِقَهْرِهِ وإذْعَانِهَا لِمَشِيئَتِهِ ! ، فَتَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ العَالَمِينَ ) انتهى (1) .
?? { كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ } :
إنَّ ما يُقَال في الله - سبحانه وبِحَمدِهِ - وفي القرآن والدِّين مِنْ السُّخريةِ والاستهزاءِ شَيْءٌ أخْطَر مِنْ أنْ يُعبِّر عنه مَقَال ، وأعظم مِنْ أن يَخْطُرَ علَى بَالٍ أو يَدُور فِي خَيَال ! .
__________
(1) « بدائع الفوائد » ، ( 3 / 700 ) .(1/51)
وإنَّمَا نَقُول كما قال رَبُّنَا - عز وجل - : { كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِباً } (1) .
ونقول كما قال - تبارك وتعالَى - : { وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ } (2) .
ونقول : { سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ } (3) .
وفي الصحيحين - واللفظ لِمُسْلم - من حديث عبد الله بن عمر { أنه قال : قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - : ( يَطْوِي اللَّهُ - عز وجل - السَّمَاوَاتِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ، ثُمَّ يَأْخُذُهُنَّ بِيَدِهِ الْيُمْنَى ، ثُمَّ يَقُولُ : " أَنَا الْمَلِكُ ، أَيْنَ الْجَبَّارُونَ ؟! ، أَيْنَ الْمُتَكَبِّرُونَ ؟! " ، ثُمَّ يَطْوِي الأَرَضِينَ بِشِمَالِهِ ثُمَّ يَقُولُ : " أَنَا الْمَلِكُ ، أَيْنَ الْجَبَّارُونَ ؟! ، أَيْنَ الْمُتَكَبِّرُونَ ؟! ) (4) .
وفي الصحيحين أيضاً من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : ( إِنَّ الْعَبْدَ لَيَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ مَا يَتَبَيَّنُ مَا فِيهَا يَهْوِي بِهَا فِي النَّارِ أَبْعَدَ مَا بَيْنَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ ) (5) .
__________
(1) سورة الكهف ، من الآية : 5 .
(2) سورة الزمر ، آية : 67 .
(3) سورة النور ، من الآية : 16 .
(4) أخرجه البخاري في « صحيحه » برقم ( 4533 ) ، ومسلم في « صحيحه » برقم ( 2788 ) واللفظ له .
(5) أخرجه البخاري في « صحيحه » برقم ( 6112 ) ، ومسلم في « صحيحه » برقم ( 2988 ) .(1/52)
وحينمَا سَألَ مُعاذ بنُ جبل - رضي الله عنه - النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قائلاً : يَا نَبِيَّ اللهِ .. وَإِنَّا لَمُؤَاخَذُونَ بِمَا نَتَكَلمُ بِهِ ؟! ، أجابه النبي - صلى الله عليه وسلم - بقَوله : ( ثَكِلَتْكَ أُمُّكَ يَا « مُعَاذُ » ! ، وَهَلْ يَكُبُّ النَّاسَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ أَوْ عَلَى مَنَاخِرِهِمْ إِلاَّ حَصَائِدُ أَلْسِنَتِهِمْ ! ) (1) .
?? هل من حرية الرأي والتعبير كتابة وقول الكفر والفسوق والإلحاد ؟! :
وَمِنْ الْمُهِم ذِكْرُهُ هنا مَا يَحْتَجُّ بهِ مَن كَتَبَ الكُفْرَ والإلْحَادَ والفُسُوقَ ومَن يقوله بُدعوى ( حُرِّيَّةِ التعبيرِ والرَّأيِ ) مُحْتَالِين بِذَلِكَ للتَّسَتُّرِ على كُفْرِهِمْ ! .
وإنَّها عظائم قد ظَهرَت في عصْرنا لَم يُعهَد لَها مَثيلٌ ! ، ومنها مَا يُردِّده بعض الأفَّاكيِن مِن قوْلِهِم : ( حُرِّية التعبير ) و ( حرية الرأي ) ، ومَن اعتقد ذلك فهو كافر لأنَّ معناه أنَّ لكل أحدٍ أن يعتقد ما يشاء ويقول ما يشاء بلاَ ضابط شرعي والله سبحانه يقول : { وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ } (2) ، وقال سبحانه : { مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ } (3) .
__________
(1) أخرجه ابن ماجه في « سننه » برقم ( 3963 ) ، أخرجه النسائي في « سننه الكبرى » برقم ( 11394 ) وأحمد في « مسنده » برقم ( 21008 ) ، وأخرجه الترمذي برقم ( 2541 ) وقال : ( هذا حديث حسَن صحيح ) ، وصحَّحه الإمام ابن القيم في « أعلام الموقعين » ( 4 / 259 ) .
(2) سورة التوبة ، من الآية : 74 .
(3) سورة ق ، آية : 18 .(1/53)
والْمُسلم يَكْفُرُ بِكَلِمَةٍ يقولها ، وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم - في الحديث الصَّحِيحِ : ( إِنَّ الْعَبْدَ لَيَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ مِنْ رِضْوَانِ اللَّهِ لاَ يُلْقِي لَهَا بَالاً يَرْفَعُهُ اللَّهُ بِهَا دَرَجَاتٍ ، وَإِنَّ الْعَبْدَ لَيَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ مِنْ سَخَطِ اللَّهِ لاَ يُلْقِي لَهَا بَالاً يَهْوِي بِهَا فِي جَهَنَّمَ ) (1) ، وقال - صلى الله عليه وسلم - : ( إِنَّ الْعَبْدَ لَيَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ مَا يَتَبَيَّنُ مَا فِيهَا يَهْوِي بِهَا فِي النَّارِ أَبْعَدَ مَا بَيْنَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ ) (2) ، فهَذِه الكَلمةُ أوْرَدَتْ قائلَها النارَ فانظر حصائدَ الألْسُنِ كيف كانت عواقبها ؟! .
__________
(1) أخرجه البخاري في « صحيحه » برقم ( 6113 ) من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - .
(2) أخرجه البخاري في « صحيحه » برقم ( 6112 ) ، ومسلم برقم ( 2988 ) من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - .(1/54)
وقد قال شيخ الإسلام ابن تيمية ~ : ( وَأَمَّا قَوْلُ الْقَائِلِ : « كَلٌّ يَعْمَلُ فِي دِينِهِ الَّذِي يَشْتَهِي » فَهِيَ كَلِمَةٌ عَظِيمَةٌ يَجِبُ أَنْ يُسْتَتَابَ مِنْهَا وَإِلاَّ عُوقِبَ ؛ بَلْ الإصْرَارُ عَلَى مِثْلِ هَذِهِ الْكَلِمَةِ يُوجِبُ الْقَتْلَ ؛ فَلَيْسَ لِأَحَدِ أَنْ يَعْمَلَ فِي الدِّينِ إلاَّ مَا شَرَعَهُ الله وَرَسُولُهُ دُونَ مَا يَشْتَهِيهِ وَيَهْوَاهُ ، قَالَ الله تَعَالَى : { وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنَ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ } (1) ، وَقَالَ تَعَالَى : { وَإِنَّ كَثِيرًا لَيُضِلُّونَ بِأَهْوَائِهِمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ } (2) ، وقال { وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ } (3) ، وَقَال : { وَلاَ تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ } (4) ) .
وذَكَر ~ آيات أخرى كثيرة بِهَذا الشَّأنِ ، ثم قالَ : ( فَتَبَيَّنَ أَنَّ عَلَى الْعَبْدِ أَنْ يَتَّبِعَ الْحَقَّ الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ بِهِ رَسُولَهُ وَلاَ يَجْعَلَ دِينَهُ تَبَعًا لِهَوَاهُ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ ) انتهى (5) .
__________
(1) سورة القَصَص ، من الآية : 50 .
(2) سورة الأنعام ، من الآية : 119 .
(3) سورة ص ، من الآية : 26 .
(4) سورة المائدة ، من الآية : 77 .
(5) « مجموع الفتاوى » ، ( 22 / 240 - 241 ) .(1/55)
فتأمَّل ذلك تعلَمْ أنَّ مُرادَ القومِ من ( حرية الرأيِ والتعبير ) هو الفِرَارُ من الْحِسَاب الشَّرْعِي واتباع الْهَوى ! ، وذلك في حقيقته دعوة إلى الكفر بحيث مَن أراد أن يتكلم بالكفر فله ذلك باعتبار أنَّ دين إبليس هو ( حُرِّية الرأيِ والتعبير ) حتى لو قال شَخْصٌ : ( الله والشيطانُ وجهانِ لِعُمْلَةٍ واحدة ! ) - قطع الله لسانه وبَطَشَ به - فلَه حرية التعبير ! ، أيْ ينوب عن إبليس ! ؛ وهؤلاء هُم أهلُ هذا البيتِ الذي قاله ابن القيِّم ~ :
هَرَبُوا مِنَ الرِّقِّ الَّذِي خُلِقُوا لَهُ فَبُلُوا بِرِقِّ النَّفْسِ وَالشَّيْطَانِ ! (1)
وهؤلاء إنَّما نادَوْا بِمَا يُسمونه ( حرية الرأيِ والتعبير ) بعد أنْ نَبَذوا القرآنَ وَرَاء ظهُورِهمْ لِفِتنتهم بالغَرْب الكافِرِ وخوارقه الشَّيطَانية ؛ قال شيخ الإسلام ~ : ( فَعَدَلَ كَثِيرٌ مِنْ الْمُنْتَسِبِينَ إلَى الإِسْلاَمِ إلَى أَنْ نَبَذَ الْقُرْآنَ وَرَاءَ ظَهْرِهِ وَاتَّبَعَ مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ ، فَلاَ يُعَظِّمُ أَمْرَ الْقُرْآنِ وَنَهْيَهُ وَلاَ يُوَالِي مَنْ أَمَرَ الْقُرْآنُ بِمُوَالاَتِهِ وَلاَ يُعَادِي مَنْ أَمَرَ الْقُرْآنُ بِمُعَادَاتِهِ ؛ بَلْ يُعَظِّمُ مَنْ يَأْتِي بِبَعْضِ الْخَوَارِقِ ؛ ثُمَّ مِنْهُمْ مَنْ يَعْرِفُ أَنَّهُ مِنْ الشَّيَاطِينِ ؛ لَكِنْ يُعَظِّمُهُ لِهَوَاهُ وَيُفَضِّلُهُ عَلَى طَرِيقَةِ الْقُرْآنِ ؛ وَهَؤُلاَءِ كُفَّارٌ قَالَ اللَّهُ تَعَالى فِيهِمْ : { أَلَمْ تَرَ إلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ .. } (2) ) انتهى (3) .
__________
(1) « الكافية الشافية بشرح ابن عيسى " توضيح المقاصد " » ، ( 2 / 466 ) .
(2) سورة النساء ، الآية : 50 .
(3) « مجموع الفتاوى » ( 14 / 227 ) ؛ وأورد ذلك الإمام محمد بن عبد الوهاب في « 135 فائدة من فتاوى شيخ الإسلام » ص ( 27 ) .(1/56)
ويُوضِّح مقاصدَ مَن أحدثوا ما سَمَّوْه ( حريةَ التعبيرِ ) أنه لا مُقَابل له إلاَّ التقيُّد بالشريعة ، وهم يقصدون التفَلُّت منها بألاَّ تكون ميزان أقوالهم وأفعالهم ، وتأمَّل : ( أَمُؤَاخَذُونَ بِمَا نَتَكَلَّمُ بِهِ ) وجوابه - صلى الله عليه وسلم - على ذلك حيث جاء في حديث معاذ بن جَبل ، وفي آخره قال مُعاذ - رضي الله عنه - : فأخَذَ رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - بِلِسَانِهِ فقال ( كُفَّ عَلَيْكَ هَذَا ) ، فقلتُ : يا نبي الله : وإنا لَمُؤَاخَذُونَ بِمَا نتكَلَّمَ بِهِ ؟! ؛ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ( ثَكِلَتْكَ أُمُّكَ يَا مُعَاذُ ! ، وَهَلْ يَكُبُّ النَّاسَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ أَوْ عَلَى مَنَاخِرِهِمْ إِلاَّ حَصَائِدُ أَلْسِنَتِهِمْ ! ) (1) .
وآخِرُ ما بَلَغني عَمَّن يَحتج بِحُرية التعبير أنَّ ضَالاًّ يُترْجِم ( روايةً ) تتضمَّن ترويج نظريةَ القِرْد « داروين » الكُفرية الْمَسْخِيَّة (2) بدعوى حرية التعبير ! .
__________
(1) أخرجه ابن ماجه في « سننه » برقم ( 3963 ) ، أخرجه النسائي في « سننه الكبرى » برقم ( 11394 ) وأحمد في « مسنده » برقم ( 21008 ) ، وأخرجه الترمذي برقم ( 2541 ) وقال : ( هذا حديث حسَن صحيح ) ، وصحَّحه الإمام ابن القيم في « أعلام الموقعين » ( 4 / 259 ) .
(2) والقائمة على أنَّ أصل الإنسان من قرد ! ، وقد فندَنا - بحمد الله تعالى - مزاعمه بالأدلة النقلية والعقلية في كتابنا « وِحْدة الوجود العصرية » .(1/57)
ومِن هذا البابِ ما زعَمَهُ بعضُ الضُّلاَّلِ وأهلِ النِّفَاق أنَّ مَن كتَب قِصَّةً خَيَالية يُسمُّونَهَا ( رِوَايةً ) وجعْل بعض شَخصِيَّاتها يَتكَلَّم بكلامِ كُفْرٍ ولَوْ كان سَب الإله سُبحانه أنه لاَ يَكْفُر لأنَّ الشَّخْصِيَّةَ هي التي تَتَحَدَّث مَع أنه ليس هناك شَخْصية بل الرَّاوي هُو الذي تَحَدَّثَ ! ، فكَانَ كَمَن جَمَع حَشَفاً وسُوءَ كَيْلَةٍ حيثُ اقترف الكَذِب فِي ذِكرِهِ شَخصياتٍ وَهْمِيَّةٍ لاَ حقيقة لَهَا وحَسْبك أنَّ من آياتِ الْمُنافق أنه إذا حدَّثَ كذَبَ ! (1) ،
__________
(1) وقد قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ( آيَة المنافق ثلاث : إذا حَدَّث كَذَب ، وإذا وَعَد أخلَف ، وإذا اؤتمن خَانَ ) أخرجه البخاري في « صحيحه » برقم ( 33 ) ومسلم برقم ( 59 ) من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - ؛ وقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : ( عليكم بالصِّدق فإنَّ الصدق يهدي إلى البِرِّ ، وإن البر يهدي إلى الجنة ، وإن الرجل ليصدق ويتحرى الصدق حتى يُكتب عند الله صِدِّيقاً ؛ وإياكم والكَذِب فإنَّ الكَذِب يَهدي إلى الفجُور ، وإن الفجورَ يهدي إلى النار ، وإن الرَّجُل لَيكْذِب ويتحرَّى الكَذِب حتى يُكتب عند الله كَذاباً ) أخرجه مسلم في « صحيحه » برقم ( 2607 ) ، وغيره ، من حديث عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - ..(1/58)
وجَمَع مَع كَذِبِهِ سبَّه لله { سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوّاً كَبِيراً } ! ، ومع ذلك يأتِي بعضُ الْمُنافقين ويزعم بأنه لا بأسَ بذلك طَالَمَا أنَّ كاتِبَه لاَ يَنسب ذلك لنفْسِه ! ؛ ولاَ عَجَبَ فَزَمَاننا زمن العجائبِ والغَرائب ! ؛ وجوابُ هذا أنَّ الكاتب إذا ساقَ ذلك الكلام الكُفْري عن شخصية حقيقيةٍ مُنْكِراً على مَن قاله بحيث يَذكره على سبيل الإنكار فهذا صحيحٌ ومُثابٌ عليه إنْ شاء الله ، وأمَّا إنْ أورده على غير سبيل الإنكار ولَم يُنْكِرْه فهو كافرٌ لاسِيَّمَا إذا كَانَ صَادراً عنه ومِنْ نَسيج خيَالِهِ حيثُ طَرحَه كأيِّ كلامٍ لا بأس به ! .
ويوضِّحُ ذلك أنه لو كَتَبَ إنسَانٌ قِصَّةً خَيالية كَالَّتِي يُسمُّونَها بـ ( الرَّاوية ) بِحيثُ يكْتُبُ بأنَّ اثنين اختصَمَا في ( محمد ) - صلى الله عليه وسلم - فقال أحَدُهُمَا : ( هو رسُولُ اللهِ وأكمَل الناسِ عَقْلاً وأهدَاهُم سَبِيلاً ) ، فقال الآخر : ( بل هو مجنون ولا فرق بينه وبين المجانين ) ، وأنهى الكاتب القصة أوْ أتى بكلامٍ بعده ولكن لَمْ يَرُدَّ كلام الآخر ويبين أنه كفر فهو بمنزلة الذي وصف النبي - صلى الله عليه وسلم - بالجنون لأنه منتحل لِهَذا الكلام قاصِداً تَروِيِجَه ، وهذا بِخَلافِ مَا لوْ أوْرد قصة كافرٍ معلوم كُفره مثل أبي جَهْلٍ وأضرابه وذِكر ما يتكلم به من الكفر ، فهذا شيءٌ وذلك شيءٌ آخَر .
وَمِثَالٌ آخَر : فلو أنَّ اثنين قال أحدهما : ( الله حيٌّ موجود ) ، وقال آخر : ( لا وجود لله ) ، وروى إنسانٌ ذلك كقصة هكذا دون إنكار لقول الثاني فهو إمَّا أنه يُقرِّر هذا الكفر ويروِّجه أو أنه شاكٌّ في هذا الكفر ، والشَّكُّ في هذا كُفْرٌ ؛ فما عُذْرُ مَن انتحل قصة صاغها في مُخيَّلته وأنطق بعض شخصياتها الوهمية بالكفر دون بيان أنَّ هذا كُفْر ثُمَّ يقوم بِبَثِّهَا وَنَشْرها ؟! ، وهذه حيَلٌ خبيثة ! .(1/59)
وهل يرضى مَن يُدافِع عن مِثل هذا أن يَكتُب إنسانٌ ( رِوايةً ) ويَجعله هو أحَد شَخصِيَّاتِهَا ويذكر عنه أنه يتكلم بكلامٍ قبيح أو يعمل عملاً قبيحاً ؛ فهل يشفع لهذا الكاتب وينفعه إذا قال : ( هذه رواية وشخصياتها هي التي تتحدث ) ؟! ، فإنْ قال : ( لا أرضى ، وهذه جناية لأنه ذكرني باسمي ) فحينئذٍ يُقالُ له : هلْ أنتَ وحتى الْخَلْق كلهم أعزُّ من الله ورسوله ؟! .. وكيف إذَنْ تُجَادِل عن أولئك الرُّوَاة الكَذَبة السَّاخرين بالله وَدِينِه ، وقد قال تعالى : { هَا أَنْتُمْ هَؤُلاءِ جَادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَمَنْ يُجَادِلُ اللَّهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَمْ مَنْ يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلاً } (1) ؟! .
__________
(1) سورة النساء ، آية : 109 .(1/60)
فيا أرباب ما يُسمَّى بـ ( حرية الرأي والتعبير ) و الـ ( رواية ) : أنتمْ واللهِ فِي ضَلاَلَةٍ وعِمَاية ، وحِيَلُكُمْ لنْ تنفَعكُم يوم تُبلَى السَّرَائر ، وتَظْهَر مُخَبَّئَاتُ الضَّمَائِر ؛ قال الإمامُ ابن القَيِّمِ ~ : ( فحقيقٌ بِمَن اتقى الله وخَافَ نَكَالَه أنْ يَحْذَر استحلالَ مَحَارِمِ اللهِ بأنواعِ الْمَكْرِ والاحْتِيَالِ وأنْ يَعلم أنه لا يُخَلِّصه من الله ما أظْهَرَه مَكْراً وخديعة من الأقوالِ والأفعالِ ، وأنْ يعلَمَ أنَّ لِلَّهِ يوماً تكِعُّ فيه الرجالُ ، وتُنْسَفُ فيه الْجِبَالُ ، وتترادفُ فيه الأهوالُ ، وتشهد فيه الجوارحُ والأوصالُ ، وتُبْلَى فيه السَّرَائرُ ، وتظهَرُ فيه الضَّمَائر ، ويصير الباطلُ فيه ظاهراً ، والسِّرُّ علانيةً ، والمستورُ مكشوفاً ، والْمَجْهُولُ معروفاً ، ويحصل ويبدو مَا فِي الصدور كما يُبَعْثَر ويخرج ما في القبور ، وتجري أحكامُ الرَّبِّ تعالى هنالك على القُصُودِ والنِّيَّاتِ كما جَرَتْ أحكامُهُ في هذه الدَّارِ على ظواهر الأقوال والْحَرَكَات يوم تَبْيَضُّ وُجُوهٌ بِمَا في قلوبِ أصحَابِهَا مِنْ النصيحةِ للهِ ورسُولِهِ وَكِتَابِهِ وما فيها من البِرِّ والصِّدقِ والإخلاصِ للكبيرِ الْمُتَعَالِ ، وتسْوَدُّ وجوهٌ بِمَا في قلوبِ أصحَابِهَا من الْخَدِيعَةِ والغِشِّ والكَذِبِ والْمَكْرِ والاحتيالِ ؛ هنالك يعلَمُ الْمُخَادِعُونَ أنَّهُمْ لأنفُسِهِمْ كانوا يَخْدعُونَ ، وَبِدِينِهِمْ كانُوا يَلْعَبُونَ .. { وَمَا يَمْكُرُونَ إِلَّا بِأَنْفُسِهِمْ وَمَا يَشْعُرُونَ } (1) ) انتهى (2) ، وقال تعالى : { يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ } (3) ،
__________
(1) سورة الأنعام ، من الآية : 123 .
(2) « أعلام الموقعين عن رَبِّ العالمين » ، ( 3 / 163 - 164 ) .
(3) سورة البقرة ، آية : 9 ..(1/61)
وقال سبحانه : { وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ } (1) .
وقد جَاءَ عنْ رسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : ( لاَ تَرْتَكِبُوا مَا ارْتَكَبَتِ اليَهُودُ فَتَسْتَحِلُّوا مَحَارِمَ اللَّهِ بِأَدْنَى الْحِيَلِ ) (2) .
__________
(1) سورة الأنفال ، من الآية : 30 .
(2) أخرجه ابن بطة في « إبطال الْحِيَل » برقم ( 56 ) من حديثِ أبي هريرة - رضي الله عنه - ؛ وحسَّن إسنادَه شيخُ الإسلامِ في « مجموع الفتاوى » ( 29 / 29 ) .(1/62)
قال ابنُ القيِّمِ بَعْدَ أنْ ذكَرَ الغِناءَ والْمَعازِفَ ، قال ~ : ( قالَ بَعْضُ أَهْلِ العِلْمِ : إذا اتَّصَفَ القلْبُ بِالْمَكْرِ والخدِيعَةِ والفِسْقِ وانْصَبَغَ بِذلكَ صِبْغاً تَامًّا صَارَ صاحِبُه على خُلُقِ الْحَيَوانِ الْمَوصُوفِ بذلك مِنْ القِرَدَةِ والخنَازِيرِ وغَيْرِهِمَا ثُمَّ لا يزال يتزايدُ ذلك الوَصْفُ فيه حتى يَبْدُو على صَفَحَاتِ وَجْهِهِ بُدُوًّا خَفِيًّا ، ثُمَّ يقْوَى ويتَزَايد حتى يصير ظَاهِرًا على الوَجْهِ ، ثُمَّ يَقْوَى حتى يَقلِبَ الصُّورَةَ الظاهرة كَمَا قَلَبَ الْهَيْئَةَ الباطِنَة ، ومَن له فِرَاسَة تامَّة يَرَى على صُوَرِ الناسِ مَسْخاً مِنْ صُوَرِ الحيَوَاناتِ التي تَخَلَّقُوا بأخلاَقِهَا في الباطِنِ ، فَقَلَّ أنْ تَرَى مُحْتالاً مَكَّارًا مُخَادِعًا خَتَّارًا إِلاَّ وعلى وجْهِهِ مَسْخَة قِرْد ، وقَلَّ أنْ ترَى رَافِضِيًّا إلاَّ وعلى وَجْهِهِ مَسْخَة خِنْزِيرٍ ، وَقَلَّ أنْ تَرى شَرِهًا نَهِمًا نَفْسه نَفْسٌ كَلْبِيَّة إلاَّ وعلى وَجْهِهِ مَسْخَة كَلْبٍ ، فالظَّاهِرُ مُرْتَبِطٌ بالباطنِ أتَمَّ ارْتِبَاطٍ ، فإذا اسْتَحْكَمَتْ الصِّفَاتُ الْمَذمُومَة في النفْسِ قَوِيَتْ على قَلْبِ الصُّورَةِ الظَّاهِرَة ، ولِهَذَا خَوَّفَ النبي - صلى الله عليه وسلم - مَنْ سَابَقَ الإِمَامَ فِي الصَّلاَةِ بِأنْ يَجْعَلْ الله صُورَتَهُ صُورَةَ حِمَارٍ (1)
__________
(1) أخرجه البخاري في « صحيحه » برقم ( 659 ) ، ومسلم في « صحيحه » برقم ( 427 ) من حديثِ أبي هريرة - رضي الله عنه - ..(1/63)
لِمُشَابَهَتِهِ للحِمَارِ في البَاطِنِ فإِنَّه لَمْ يَسْتَفِدْ بِمُسابَقَةِ الإِمامِ إلاَّ فَسَاد صَلاَتِهِ وبُطْلاَن أجْرِهِ ، فإنَّه لاَ يُسَلِّمُ قَبْلَهُ فهُوَ شَبِيهٌ بِالْحِمَارِ فِي البَلاَدَةِ وعَدَم الفِطْنَةِ ؛ إذَا عُرِفَ هذا فَأحَقُّ الناسِ بالْمَسْخِ هؤلاء الذين ذُكِرُوا في هذه الأحَادِيثِ ) انتهى (1) .
يُرِيد ~ أحاديثَ الْمَعَازِفِ والقَيْنَاتِ والْخَمْرِ ، ونَحْو ذلك ، حيثُ ذَكَرَهَا قبلَ هذا الكلامِ ، والشَّاهِدُ هنا أن نقول : الوَيْلُ لِمَن سَبَّ الله ورسُولَه ودِينَه وعِبَادَه الصَّالِحِين فإنَّ عقوبتَه أشَدُّ .
ثم قال ~ بعدَ ذلك : ( فَهُمْ أسْرَعُ الناس مَسْخًا قِرَدَةً وخَنَازِير لِمُشابَهَتِهِمْ لَهُمْ في البَاطِنِ وعقُوبَاتُ الرَّبِّ تعالَى - نَعُوذُ بِاللهِ مِنْهَا - جَارِيَةٌ عَلَى وَفْقِ حِكْمَتِهِ وَعَدْلِهِ ) انتهى (2) .
والكلام على تلك الكلمة الكُفْرِيَّة السَّاقطة ( حُرِّية الرأي والتعبير ) يَحْتَاجُ إلى مُؤلَّفٍ مُستقِلٍّ لأنَّ أدِلَّةَ بُطلاَنِهَا وضلالِ قائلِهَا أكثر مِنْ أنْ تُحصَر ! ، ولكنَّ الْمُراد هنا أنه كيف يَتَّفِق حُبٌّ في الله وبغضٌ فيه وموالاةٌ ومعاداةٌ مع هذه الكلمة الإبليسية ؟! ، وكيف يَتَّفِق معَها إسْلاَمٌ ؟! .
__________
(1) « إغاثة اللهفان من مصائد الشيطان » ، ( 1 / 267 ) .
(2) المصدر السابق .(1/64)
ولكَ أنْ تتصوَّر مَجْلِساًَ حَضَرَه النبي - صلى الله عليه وسلم - وجماعة من الصحابة - رضي الله عنهم - وغيرهم ثم قال أحدُ الحاضرين : " لاَ بأس بِعِبَادَةِ اللاَّتِ والعُزَّى " ، وقال الآخر : " دِينُ اليهودِ حَقٌّ ، وَدِينُ النصارى حَقٌّ " ، وقال ثالثٌ : " قَطْعُ يَدِ السارق وحْشِيَّة فلوْ سُجِن أوْ غُرِّم غَرَامة " ونحو ذلك مِنْ مُعارضةِ التشريع السَّماوي الْمُحَمَّدي ، فهَل سيَسْكتُ النبي - صلى الله عليه وسلم - عن هؤلاء أمْ أنه سيغضب ويُنكر عليهم ويُعاقبهم ؟! ؛ والْجَوَاب : أنه لاَ يقول مُسْلِمٌ : " إنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - لا يَغضب ولا يُنكر عليهم كلهم ويُعاملهم بِمَا يستحقون " ؛ فهذا ظاهر ، لكن هُمْ سَوف يقولون : " لنا حرية الرأي والتعبير " ، فهل تَجِد في شريعتِهِ الْمُطهَّرة أنه - صلى الله عليه وسلم - يُقِرِّهم على هذه الْحُجَّةِ الشيطانية الْهادِمَةِ للمِلِّةِ الإبراهيمية الْمُحمَّدِية أوْ أنه يفعل - صلى الله عليه وسلم - ما يُرضي رَبَّه بِهِم ؟! .
وعلى هذا فَقِسْ لِتَعْلَم الْمُراد بِهَذه الكلمة ! ، وَمَعلُومٌ أنَّ هؤلاء المتشدقين بِكَلِمَةِ ( حُرِّية الرأي والتعبير ) ينقضون أصلَهم لوْ نِيل منهم أوْ سُبُّوا ولاَ يَقبلون عُذْرَ مَن يَحتج بِحُرية التعبير لأنَّ المرادَ منها فقط الهجومُ على الدِّينِ وانتهاكِ حُرُمَاتِهِ .. { وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ } (1) ، ومَن شاء فلْيَشْتُم أحدَهم أوْ ينْتَقِصه ! ، فإذا ثَارَت ثائرتُه وَغَضِب فليقل له : ( هذه حرية تعبير ) فهلْ يَقبلْ ويُسَلِّم ؟! ، فهُنا تعلم أنهم يُريدون بِهَذه الكَلِمَة إلغاءَ الأحكام الشرعية ! ، ولذلك فإنهم يحتجون بهذه العبارات إذا أُنكِرَ عليهم ما خالف الشريعة ! .
__________
(1) سورة الشعراء ، من الآية : 227 .(1/65)
ثُمَّ إنَّهُم يُوهِمون الْجُهَّالَ بِهَذِهِ العِبَاراتِ بأنَّ الدِّينَ كَبْتٌ للحُرِّياتِ وتكميمٌ للأفواهِ وحَجْرٌ على العقول ، وهذا كلُّه يُمْلِيهِ عليهم إبليسُ لِيُزَيِّن لَهُم سُوءَ أعمالِهِم ، ولِيُنَفِّرُوا الناسَ عن دِين خَالِقِهِمْ - عز وجل - ويوُحشونَهم مِنْ أحكامِهِ وكأنه ليس في الدين أن يُعَبِّر الإنسانُ عمَّا فِي نَفْسِه ليهتدي إلى الحقِّ وكأنه يُؤَاخَذ ويُعاقَب دون سَمَاعِ قَوْلِهِ والنظرِ في أمْرِه ! ، وغير ذلك مِن التشنيع على الدِّين ، والله المستعان .
وإنَّ أدنَى نَظَرٍ في أحكام الشريعةِ والقضاءِ والقُضَاةِ لَيَدْحَض زيغَ هؤلاء الزائغين ويكشف زَيْفَهَم - وللهِ الحمدُ والْمِنَّةُ - .
?? إمهال الله للزنادقة والعصاة يُظهر معنى اسمه ( الحليم ) :
لَقَدْ قَرَنَ الله - تبارك وتعالى - في عِدَّةِ آياتٍ من كتابه الكريم اسْمَه ( الغفور ) بـ ( الحليم ) (1) ، ويظْهر معنى اسمه ( الحليم ) واقعاً بِمَا نَراهُ من إمهالِهِ - عز وجل - لكثيرٍ من الزنادقة والظَّلَمَةِ والعُصَاةِ دونَ أنْ يَأخُذهُم بعذابٍ عاجِلٍ ، ومنهم مَن يُمْهِله تعالى مُدَّةً ثم يأخذه أخْذَ عزيزٍ مُقتَدِرٍ ويجعله عِبْرَةً لِخَلْقِهِ .
__________
(1) أنظر : سورة البقرة ، آية : 225 ، 235 ؛ وسورة آل عِمْران ، آية : 155 ؛ وسورة المائدة ، آية 101 .(1/66)
قال ابنُ الجوزي ~ : ( مَا زِلْتُ أسْمَعُ عن جَمَاعَةٍ من الأكَابِرِ وأرباب الْمَنَاصِبِ أنَّهُم يَشْربُون الْخُمور ويفسُقُون ويظْلِمُون ويفعلون أشياءً توجب الْحُدُود ، فبقيتُ أتفَكَّرُ أقول : متَى يثبتُ عَلَى مِثْلِ هَؤلاَءِ مَا يوجب حَدًّا ؟! ، ولو ثَبَتَ فَمَن يُقيمه ؟! ، وأستبعد هذا في العَادة لأنهم في مَقَامِ احَترامٍ لأجْلِ مَناصِبِهِمْ ، فبقيتُ أتفَكَّرُ في تعطيل الْحَد الواجبِ عليهم حتى رأيناهم قَدْ نُكِبُوا وأُخِذُوا مَرَّاتٍ ، ومرَّت عليهم العَجَائِبِ ، فقُوبل ظُلْمُهُمْ بأخْذِ أموالهِم ، وأُخِذَتْ منهم الحدود مضاعفةً بعد الْحَبْسِ الطويلِ والقَيْدِ الثقيل والذُّلِّ العظيم ، وفيهم مَنْ قُتل بَعْدَ مُلاَقاة كلِّ شِدَّة ، فعَلِمْتُ أنه - عز وجل - ما يُهْمِلُ شَيْئًا ، فالْحَذَرُ الْحَذَرُ فإنَّ العقوبةَ بالْمِرصاد ! ) انتهى (1) .
وإذا كان هذا في شأنِ ظُلْمِ النَّاس وكيف يعجل الله عقوبته لِمَن يَظلمهم فما بالُك بِمَن ظَلَمُوا أنفُسَهم أعْظَم الظُّلْمِ بسبِّهم لله تعالى وجرأتهم عليه ! ، فإنْ لَم يُعجِّل لهم الله - عز وجل - العقوبةَ في الدنيا لحكمته البالغة وحِلْمِه العظيمِ فهل سيكونون بِمَأمَنٍ من عذابه يوم يُبعَثُون .. وهو سبحانه وبحمده يقول : { وَلاَ تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ } (2) .
__________
(1) « صيد الخاطر » ، ص ( 48 ) .
(2) سورة إبراهيم ، آية : 42 .(1/67)
ومِمَّا يُبيِّن إمهالَ الله للعَبْدِ فإذا تَمَادَى أخَذَهُ أخْذَ عزيزٍ مُقتَدِر ما تقدَّم ذِكْرُه من قول النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - : ( إنَّ الله لَيُمْلِي لِلظَّالِمِ حَتَّى إذَا أخَذَهُ لَمْ يُفْلِتْهُ ) ، ثم قرأ قوله تعالى : { وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ } (1) ) (2) .
وقال تعالى : { وَكَأَيِّنْ مَنْ قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ ثُمَّ أَخَذْتُهَا وَإِلَيَّ الْمَصِيرُ } (3) .
وقدْ ذكَرْنَا في هذه الرِّسَالةِ مِمَّا يَدُلُّ على ذلك بعضَ قَصَص أخْذِ الله للزنادِقَةِ والظَّلَمَةِ في الزَّمَنِ الْمَاضِي والحاضِر .
__________
(1) سورة هود ، آية : 102 .
(2) أخرجه البخاري في « صحيحه » برقم ( 4409 ) ، ومسلم في « صحيحه » برقم ( 2583 ) من حديث أبي موسى الأشعري - رضي الله عنه - .
(3) سورة الحج ، الآية : 48 .(1/68)
وقد جَاءَ عن مُعَاذ بن جبل - رضي الله عنه - أنه قال : ( كان في بني إسرائيل رجُلٌ عقيم لاَ وَلَدَ لَه ، وكان يَخْرُجُ فإذَا رأى غُلاَماً من غِلْمَان بني إسرائيل عليه حُلِي يَخْدَعه حتى يَدْخُل بَيْتَه فَيقتله وَيُلْقِيه في مَطْمُورَةٍ له ، فبينما هو كذلك إذْ لقي غُلاَمَيْن أخَوَيْن عليهما حُلِيٌّ فَأدخلهما بيته وَقَتلهما وطَرَحَهُمَا فِي مَطْمُورَتِه ، وكانَتْ لَهُ امرأة مُسْلِمَة تنهاهُ عن ذلك وتقول له : " إِنِّي أحَذِّرُكَ عَن النِّقْمَةِ من الله - عز وجل - " ، فيقول : " لَوْ أنَّ الله يأخذنِي على شيء لأخَذَنِي يومَ فَعَلْتُ كَذَا وكَذَا " ، فتقول له الْمَرْأةُ : " إنَّ صَاعَك لَمْ يَمْتَلِئْ ، وَلَوْ امتلأ صَاعُكَ لأُخِذْتَ ! " ، فلمَّا قَتَلَ الغُلاَمَيْن خَرَجَ أبوهُمَا فِي طَلَبِهِمَا فَلَمْ يَجِدْ أحَداً يُخْبِره عنهما ، فَأَتَى نَبِيًّا من أنبياءِ بَنِي إسْرَائيل وذَكَر ذلك له ، فقال له ذلك النبيُّ : " هَلْ كَانَ مَعَهُمَا لُعْبَةً يَلْعَبَان بِهَا ؟! " ، فقال أبوهما : " نَعَمْ ، كَانَ لَهُمَا جِرْوٌ " ، قَالَ : " فَأْتِنِي به " ، فأتَاهُ به ، فَوَضَعَ النَّبِيُّ خَاتَمَه بين عَيْنَيْهِ ، ثُمَّ خَلَّى سَبِيلَه ، ثم قال : " أوَّلُ دَارٍ يَدْخُلُهَا مِنْ دُورِ بَنِي إسرائيل فيها بَيانُ ذلك " ، فأقبل الْجِرْو يَتَخَلَّل الدُّورَ حتى دَخَلَ دَاراً من دُورِ بني إسرائيل ، فَدَخَلُوا خَلْفَهُ ، فوجَدُوا الغُلاَمَيْن مَقْتُولَيْن مَعَ غِلْمَان كَثِيرَةٍ قَدْ قَتَلَهُمْ وَطَرَحَهُم في الْمَطْمُورَةِ ، فانطَلَقُوا به إلى ذلك النَّبِيِّ - عليه السلام - ، فأمَرَ به أنْ يُصْلَب ، فَلَمَّا رُفِعَ إِلَى الْخَشَبَةِ أتَتْهُ امْرَأتُهُ وقالت : قَدْ كُنْتُ أُحَذِّرُكَ هَذا اليَوم ، وأُخْبِرُكَ أنَّ اللهَ غير تارِكِكَ وأنتَ تَقُول : " لَوْ أنَّ الله يأخُذنِي على شَيْءٍ لأخَذَنِي يومَ(1/69)
فَعَلْتُ كَذَا وكَذَا " ، فأُخْبِرك أنَّ صَاعَكَ لَمْ يَمْتَلِئ بَعْدُ ، أَلاَ وَإِنَّ صَاعَكَ قَدْ امْتَلأ ! ) أخرجه البيهقي (1) .
وفي هذه القصةِ وما تقدَّم ذِكْرُه من القصصِ عِظَةٌ واعْتِبَارٌ فِي أخْذِ الله مَن يأخذُ بالعِقَاب ، وإمهاله مَن يُمْهِل ! ؛ فَألاَ يَخَافُ أحَدُنا أنَّ صَاعَهُ قَد امْتلأ أوْ قَارَب ؟! .
ولاَ تظُنَّنَّ أنَّ مَن لاَ يَزَالون يُحَاربون الله - سبحانه وبحمده - ويسبُّونه ، ويُصِرُّون على ارتكابِ الكُفْرِ والفُجُور ، فأمْهلهُم الله بِحِكْمَتِهِ وَحِلْمِه ولَم يُدركهم بِعَذابه في الدنيا أنَّهُمْ قد أفلتوا من العِقَابِ والعذاب إن لَم يتداركهم الله برحْمَتِهِ .. { بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ } (2) ! .
وقد قال تعالى : { وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ مَا تَرَكَ عَلَيْهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ } (3) .
__________
(1) في « شُعَبِ الإيِمَانِ » برقم ( 7294 ) .
(2) سورة القمر ، آية : 46 .
(3) سورة النحل ، آية : 61 .(1/70)
وقال سبحانه : { وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْماً وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ } (1) ، قال ابن جَرِيرٍ الطَّبَرِي ~ : ( يَعْنِي بِذَلك تَعَالَى ذِكْرُهُ : ولاَ يَظُنَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا باللهِ وَرَسُولِهِ وَمَا جَاء بِهِ مِنْ عِنْدِ اللهِ أنَّ إِمْلاَءَنا لَهُمْ خَيرٌ لأنفُسِهِمْ ، وَيَعْنِي بـ" الإِمْلاَءِ " : الإِطَالة فِي العُمُرِ ، والإِنْسَاء فِي الأجَل ، ومنه قوله - جَلَّ ثَنَاؤُهُ - : { وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا } (2) أي : حِينًا طَوِيلاً ، وقوله : { إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْماً } : إِنَّمَا نُؤَخِّر آجَالَهُمْ فَنُطِيلهَا لِيزدَادُوا إِثْمًا ، يقول : يَكْتَسِبُوا الْمَعَاصِي فَتَزْدَاد آثَامُهُمْ وَتَكْثُر ؛ { وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ } يقول : وَلِهَؤُلاَءِ الذين كَفَرُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ في الآخِرَةِ عُقُوبَة لَهُم مُهِينَة مُذِلَّة .قال « عبد الله بن مَسعود » - رضي الله عنه - : [ مَا مِنْ نَفْسٍ بَرَّةٍ وَلاَ فَاجِرَةٍ إِلاَّ وَالْمَوْتُ خَيْرٌ لَهَا ، وقَرَأ : { وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْماً .. } ، وَقَرَأ : { نُزُلاً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ لِلأبْرَارِ } (3) ] ) انتهى (4) .
__________
(1) سورة آل عِمْران ، آية : 178 .
(2) سورة مريم ، من الآية : 46 .
(3) سورة آل عِمْران ، من الآية : 198 .
(4) باختصار من « تفسير ابن جرير » ، ( 7 / 421 - 423 ) .(1/71)
وهَا نَحْنُ نُشَاهد كُلَّ يومٍ كيف يُسَاقُ الناسُ إلى الْمَقابر رِجَالاً ونسَاءً ، وِشِيباً وشُبَّاناً .. فَهَل مِنْ مُعْتَبِرٍ أيها الزنادقة وَيَا مَن تُبَارِزُونَ الله بالكُفْرِ والْمَعاصي والفُجُور ؟! ؛ فيا هؤلاء : { اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْماً لا يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَنْ وَالِدِهِ شَيْئاً إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ } (1) ، { وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلاقُوهُ } (2) ، { وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ } (3) ؛ (4) ، فاللَّهُمَّ هَلْ بَلَّغْتُ .. اللَّهُمَّ فَاشْهَدْ .
واللَّهُ الْمُسْتَعَانُ ، وَعَلَيْهِ التُّكْلاَنُ .
وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ العَالَمِينَ ، وَصَلَّى اللَّهُ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ .
بُرَيْدَةُ - شَهْرُ رَبِيعٍ الأَوَّلِ / 1428
__________
(1) سورة لقمان ، من الآية : 33 .
(2) سورة البقرة ، من الآية : 223 .
(3) سورة آل عِمْران ، من الآية : 28 .
(4) أنظر للفائدة كتابنا : « التفكر والاعتبار بآيات الكسوف والزلازل والإعصار » ص ( 112 – 120 ) .(1/72)