ثوابت الإيمان بعد رمضان
الدكتور صلاح سلطان
المستشار الشرعي للمجلس الأعلى للشئون الإسلامية
www.salahsoltan.com
تقديم
الحمد لله الذي أتم لنا رمضان وبلَّغنا شوال، ونسأله سبحانه أن يبلَّغنا منازل الصديقين في أعلى الجنان، والصلاة والسلام على سيد الأنام ، سيدنا محمد وآل بيته وأصحابه الأعلام، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم العرض والميزان،....
وبعد ،،،
فإن كل ذي قلب يفرح لإقبال أمته على الله، ويحزن لإعراضهم عنه، وها هو رمضان قد مضى بأفراحه، ونرجو أن تباشر القلوبَ محبةُ الله حتى تصير نفحات رمضان ثوابت الإيمان في حياة أبناء الإسلام .
وكما عودنا المستشار الدكتور صلاح الدين سلطان أن يقدم دراسة تجمع بين النص والفكر، الأصل والواقع، الألم والأمل، والعمل بهذه الثوابت التي يجب أن تلازم المسلم في كل زمان ومكان.
أدعو الله العليم الخبير، أن ينفع به وبهذا العمل أهل البحرين خاصة، وأبناء الإسلام عامة، وهو نعم المولى ونعم النصير.
عبدالله بن خالد آل خليفة
رئيس المجلس الأعلى للشئون الإسلامية
شوال 1428هـ
أكتوبر 2007م
تمهيد
الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات، والصلاة والسلام على سيد أهل الأرض والسموات، ومن تبعه بإحسان من آل بيته وأصحابه والتابعين له إلى يوم الميعاد .
وبعد ،،،،،،،،،،(1/1)
فإنني أسرُّ من القلب عندما أجد المسلمين في رمضان يملأون المساجد، ويمدون الموائد، ويكثرون البر، ثم آسف على قوم لم يتذوقوا حلاوة الإيمان، فتراجعوا بعد رمضان وتركوا ما كانوا فيه من إقبال على الرحمن، فاختلط الألم بالأمل، وعادتي أن أبحث عن العمل والحلّ، ووجدت أن أقدم من خلال المجلس الأعلى للشئون الإسلامية بمملكة البحرين، ولإخواني المسلمين في الأرض رؤية فيها رصد الواقع بآلامه وآماله في هذه الظاهرة، وقدمت تساؤلات من القلب ليست عتابا بل مراجعة وإنصافا من النفس، ثم عرضت مقارنة بين ثوابت الدنيا الفانية، والآخرة الباقية، ليشعر كل منا بالخجل أن ثوابت الدنيا في انتعاش، وثوابت الآخرة في انكماش، ولعل النظر إلى خصائص الدار الآخرة إضافة إلى الدنيا يجعل المسلم يراجع نفسه ويحدث التوازن بين مطالب الدنيا والاستعداد للآخرة، وقدمت بعدها أربعة ثوابت لا يحق لمسلم أن تكون واحدة منها بين اهتمام وإهمال، وفي الأخيرة قدمت رؤية عملية تساعد من أراد أن يرقى بنفسه وينجو من عذاب ربه، ويحسن إلى نفسه وأهله ومجتمعه أن يقاوم هذا الفتور بعد النشاط، وآمل في نهاية البحث أن نصل بحق إلى تحقيق صبغة الله في حياتنا؛ حتى لا تتحول العبادات والأخلاق والشعائر إلى مواسم متقطعة، وقد نلقى الله في أية لحظة فلنحرص على أن نستعد بثوابت الإيمان للقاء ربنا سبحانه وتعالى في أي مكان أو زمان، وهو سبحانه الرحمن يعلم ضعفنا ونسأله أن يقوي في الحق عزائمنا، حتى نلقاه غير خزايا ولا مبدلين ولا مضيعين.
د. صلاح سلطان
المستشار الشرعي
للمجلس الأعلى للشئون الإسلامية
شوال 1428هـ
أكتوبر 2007م
المطلب الأول: المسلمون أملٌ في رمضان وألمٌ بعده
أولا : المسلمون أمل في رمضان:
من يشاهد واقع المسلمين في رمضان لا يستطيع أن يخفي فرحته البالغة بهذا الإقبال على الله في المشاهد العديدة ومنها ما يلي :.(1/2)
إقبال عدد كبير على الصلوات في المساجد خاصة في صلاة الفجر، حتى إن بعض المساجد تكون مثل صلاة الجمعة، وفي التراويح يسارع الرجال والنساء إلى بيوت الله يلوذون بها في الليل أملا في مغفرة ذنوب الليل والنهار بل طوال العام.
إقبال على قيام الليل في العشر الأواخر حتى رأيت في بعض البلاد النساء يفترشن– فضلاً عن الرجال – الشوارع كي يصلوا ويتابعوا القيام والخواطر الإيمانية.
برامج دعوية في المساجد من الدروس والمحاضرات والخواطر والفتاوى، وحفظ وتجويد القرآن، وعكوف على قراءة الورد القرآني.
موائد الرحمن التي تملأ بيوت الله تعالى ، ويغدو إليها الأغنياء والفقراء في تقارب يكاد يزيل الفروق المصطنعة بينهما .
دعوات بين الأهل والأقارب والأرحام والأصدقاء للإفطار سوياً ، وتبادل أطراف الحديث، وتجديد علائق الود ، وتجسيد معابر الحب .
صدقات تجري كالريح المرسلة سواء كانت زكاة مال أو فطر أو كفارات، أو صدقات للقربات، وحقائب أطعمة للفقراء والمساكين.
مسابقات متنوعة بين تذكير بآيات وأحاديث، ومواقف رائعة للصحابة والتابعين والسلف الصالح.
لقاءات بين القيادات الإسلامية سواء في مكة أو المدينة أو العواصم الإسلامية لمناقشة هموم الأمة ، وآمال المستقبل وخطط العمل الواجب نحو هذه الهموم .
سفريات يقطعها مسئولو المؤسسات الإسلامية عبر البحار والمحيطات لزيارة ذوي الفضل يطلعونهم على إنجازاتهم، ويجددون العهد في دعمهم وتقوية ظهورهم في المساندة المالية، أو النصيحة المعنوية أو المشاركة في رسم الخطط المستقبلية.
شغف بالعمرة والزيارات إلى مسجد النبي - صلى الله عليه وسلم -، حيث يزور المسجد الحرام والنبوي في رمضان مالا يقل عن عشرة ملايين مسلم طوال الشهر يغسلون ذنوبهم بدموعهم ، ويشتد نحيبهم على ماضيهم ويتوسلون إلى ربهم أن يمن عليهم بالرحمة والمغفرة والعتق من النار .(1/3)
برامج تلفزيونية في القنوات الإسلامية وشبه الإسلامية لكبار العلماء والدعاة والقراء والمفتين ، في ثراء نادر ومتجدد ، ومتنوع بين جميع المنابع من تفسير للقرآن وتجويد ، أو شرح للأحاديث ، أو استخلاص العبر من السيرة، أو التذكير بالتاريخ الحضاري الكبير لأمة الإسلام ، أو الإنشاد الديني ، أو المسلسلات الهادفة ، أو المسابقات المتنوعة ، أو الحوار بين الدعاة ، أو تقييم وتحليل لأوضاع الأمة الإسلامية ، وطرح علاج لآلامها الموجعة وأوضاعها المفجعة .
لوحات تهنئة برمضان في الشوارع والطرقات وتذكير بأنواع البر فيه، ودعوى لأنشطة رمضانية نهارية وليلية، ومنشورات وكتب وشرائط كاسيت وممغنطة توزع مجاناً أو بأسعار زهيدة لتذكير المسلمين بالأوراد الإيمانية في رمضان وغيره.
فعاليات عديدة لإحياء القلوب وتذكير النفوس بالأقصى الأسير، وأهل فلسطين الذين نكبوا بالصهاينة وعملائهم، فاجتمعت عليهم كماشة "بعيد يهاجمني، وقريب ملكته أمري"، وأملاً متجدداً أن تعود الأرض ويُحمى العرض ويتحرر الأقصى، وتتنفس القدس الصعداء.
ثانيا : المسلمون ألمٌ بعد رمضان:
من خلال جولاتي في أرض الله تعالى في الدول العربية ، وولايات أمريكا الشمالية، والبلاد الأوربية، والقارة الهندية، والأراضي الصينية، والبلاد الإسلامية المتحررة من القبضة الروسية، .... أجد أن هناك ألماً كبيراً يعقب رمضان، كأن صلاة عيد الفطر بمثابة احتفال بنهاية العبادة للرحمن أو التخفف من الواجبات، والردة إلى العوائد، ومن ذلك ما يلي:-(1/4)
تعود المساجد الملأى خاوية تشكو إلى الله هجر المسلمين لها بعد رمضان، وتخلو الصفوف في الفجر والعشاء من هؤلاء الزوار في رمضان، وكأنها تناديهم أريدكم عماراً لا زواراً، أريد أن أكون سفينتكم إلى رضا ربكم والجنة، أريد أن أراكم وتضمكم أجنحتي وتظللكم مآذني وقبابي، أريد أن تعودوا إليّ فقد اشتقت إلى إقبالكم وركوعكم وسجودكم كي أشهد لكم في يوم يأتي بغتة في رمضان أو شوال أو شعبان أو ... أريد أن تعودوا إليّ عوداً كريماً دائماً لا يفّرقنا إلا سكرة الموت أحفكم بين أضلعي، وأودعكم بصلاة الجنازة ، فلن تبرح الأرض حتى تمر عليّ ، فكن دائما معي، حتى ألقاك يوم القيامة أحملكم إلى أرفع منازلكم في الفردوس الأعلى من الجنة .
يفتر كثير من المسلمين عن قيام الليل بعد شهر من صلاة التراويح، فيظلم الليل بالنوم العميق، ويقسو القلب بالغفلة عن هذا الخير الوثيق ، والبحر العميق من الحسنات المكنونة في طيات ليل المحبين لله رب العالمين .
تتحول موائد الرحمن إلى خُوَان، تخلو من طعمة للمساكين، وشربة للمحتاجين، يشكون بعد رمضان خلو معدتهم، وتراجع ما يسد خلتهم، ويشبع مخمصتهم، فتعود إليهم آلام الجوع، وحسرة الحرمان .
تتراجع الأسر والأرحام والأهل والأصحاب والإخوان عن الاجتماع حول الطعام، ويلعب الشيطان ليستدعي الفرقة والخصام، أو فتور علائق الحب والود والسلوان.
تتراجع البرامج الدينية سواء في المساجد أو القنوات التلفزيونية أو الجرائد والمجلات اليومية والأسبوعية، ويحدث جفاف في المادة العلمية التي تحيي النفوس الشاردة، والعقول الراكدة.
تبخل الأيدي عن العطاء، والنفوس عن السخاء، ويستشعر الفقراء برحيل رمضان أن إخوانهم الأغنياء، قد عادوا إلى عادة الإمساك عن البذل والعطاء، ويشكون أمرهم إلى رب الأرض والسماء.(1/5)
يعود المدخنون إلى عوائدهم في التدخين، وكأن الإجازة عن الحرام في النهار قد انتهت ليصل الليل بالنهار بعادة رديئة، تفسد العقل والجسم والحس والوجدان، وتحول الإنسان إلى أسير لهذا الدخان.
يشكو القرآن من شوال إلى شعبان طول الهجران، واستمرار النسيان، أن يشدو المسلمون ليلاً ونهاراً بالقرآن، ويجعلوه سميرهم في الأفراح والأحزان، ورفيق دربهم في البادية والعمران، حتى يرضى عنهم الرحمن، ويدخلهم به في أعلى الجنان.
المطلب الثاني : تساؤلات - بل الإنسان على نفسه بصيرة
إنني بكل حب أهمس في أذن كل أخ وأخت، أن نسأل أنفسنا قبل أن يسألنا ربنا يوم أن نلقاه كما قال سبحانه : "وَإِنَّهُ ? لَذِك?رٌ? لَّكَ وَلِقَو?مِكَ ? وَسَو?فَ تُسأَلُونَ" (الزخرف:?44?)، وكما قال سبحانه أيضا : "سَتُك?تَبُ شَهَادَتُهُُم? وَيُسأَلُونَ" (الزخرف من الآية: ?19?).
من مَّنا كان يركب حماراً أو جملاً أو فرساً ثم صار يركب السيارات الفارهة، ثم عاد بعد مدة يركب الحمار والجمل والفرس في كل تحركاته وأسفاره ؟؟
من مَّنا كان يجلس في صيف يوليو وأغسطس بدون مروحة ولا تكييف ثم اتخذ مروحة ثم مكيفات هوائية، ثم بسهولة يعود إلى الحياة بدون مكيفات أو حتى مراوح ؟؟
من مَّنا كان يلتقط الأخبار من الجرائد والمجلات، ثم فتحت العين على شاشات التلفزيونات والفضائيات، ثم فجأة استغنى بالجرائد والمجلات عن هذه المستحدثات ؟؟
من مِّنا كان يأكل القديد من الخبز، والجريش من الملح، والقليل من اللحم والثريد من الطعام، ثم تحول مطبخنا إلى موائد وفيرة وأطقم من الملاعق والأطباق كثيرة، وثلاجات وبوتاجازات وميكروفات وخزانات، وتنوعت المطاعم إلى مقبلات وسلطات ونشويات وبروتينات وحلويات ومشروبات، ثم عاد إلى طعامه الأول مزقة لبن، أو تمرات أو خبزاً وملحاً ولقيمات ؟؟(1/6)
من مَّنا كان يغسل أو تغسل الملابس والأواني باليدين، فتدب العافية في الأبدان، ثم صارت غسالات الأطباق والملابس بنوعيها "الغسيل والتجفيف الجزئي والكلي" ثم عاد أو عادت "ريمة إلى عادتها القديمة" يغسل أو تغسل بكلتا اليدين ؟؟!
من مَّنا يذكر يوم أن كانت الحمّامات ضيقة صغيرة، يحمل معه الماء للاستنجاء، وإذا جف الماء استنجى بالحجارة، ثم صارت الحمامات فيها مقاعد وفيرة، مكسوة بالمفارش ومحفوفة بالستائر ومدعومة بالبانيوهات والحنفيات والمنظفات، ثم عاد على عقبيه إلى الحمام الأول ؟؟!!
من مَّنا كان يركب ويضرب أكباد الإبل كي يطمئن على أخبار الأهل والإخوان والشعوب والبلدان ثم صارت الرسائل والتليفون الأرضي، ثم صار في جيب الرجال والنساء والشباب والفتيات المحمول والمنقول من أنواع بديعة من التليفونات أشبه بالتلفزيونات، وتستدعي الإنترنيت من أي مكان وتحفظ المعلومات والأرقام والرسائل وأنواع "الرنات"، ثم فجأة قال: لأطلقن هذه التلفونات الثابتة والمتحركة ثلاثا، وسوف أعود بنفسي إلى جمع الأخبار بين النجوع والجبال والسفوح والوديان؟؟!
من مَّنا يذكر عندما كان عنده من كل ملبس نوعان أو ثلاث، تكفي لكل المناسبات، ويعلقها على حبل مشدود بين مسمارين أو وتدين، ثم صارت ملابس لا تعد ولا تحصى، وأطقم ذات ألوان متناسقة وماركات متعددة، وموضات متغايرة، ودواليب طبقات بعضها فوق بعض، ومنها ما هو للمطويات وأخرى للمبسوطات، ثم عاد بعد هذا إلى ملبس واحد أو اثنين، واستغنى عن هذا الكم الهائل من الملبوسات ؟؟!!(1/7)
من مَّنا يذكر يوم كان يفترش الأرض ويلتحف السماء ، وإن أكرم نفسه نام على جلد بعير أو غنم أو ماعز ، ثم صارت في غرف النوم سرر مرفوعة ، وأكواب موضوعة ، ونمارق مصفوفة ، وزرابي مبثوثة ، وفرش مبسوطة، فالأرض الرملية أو الترابية واراها الأسمنت ثم البلاط والرخام ثم الموكيت وفوقه السجاد ، وتسريحة للشعر وأوعية للملابس ، ودفايات ومراوح ومكيفات ، و.. ثم عاد إلى النوم على الأرض أو أكرم نفسه بجلد بعير أو ماعز ؟!! .
من مَّنا كان يدون كل شيء في كراس أو كشكول ثم تطور إلى الآلة الكاتبة ، ثم الحاسب الآلي الذي صار عقلاً صناعياً يسابق وينشط ويخدم العقل الرباني، ثم فجأة أبعد الكمبيوتر ، وأزاح الآلة الكاتبة والفاكس والإسكانر ، والطابعة ، وقرر أن يعيش على الأقلام والقراطيس ؟!!
من منا كان يعيش في خيمة أو بيت صغير فيه البساطة والفطرة ، فيه النوافذ المشرفة على صفاء السماء ، وخضرة الأرض أو رمال الصحراء ، ثم انتقل إلى بيت صخري ، وبنيان قوي ، طبقات بعضها فوق بعض ، مع غرف عديدة ، ونوافذ قليلة ، وستائر كثيفة ، وفرش وسجاد وورق جدران ورخام ، وطاولات وإضاءات في الأرض والأسقف ، ومكيفات ومراوح ولمبات ، وطفايات وزهريات ونباتات مصنوعة، ومكتبات ولوحات ، ثم فجأة قرر أن يعيش على البساطة الأولى، والأيام الخوالي ؟!!
مع هذه الأسئلة نحتاج أن نعود بالذاكرة إلى حياة النبي - صلى الله عليه وسلم - قدوتنا .
كيف كان يعيش النبي - صلى الله عليه وسلم -:
عاش النبي - صلى الله عليه وسلم - في منزل لا يعرف الأثاث ولا الرياش .. فلم يكن فيه بساط قط.. ولا كان يستر حيطانه من الطين شيء من الأصباغ.. ولا تسويه بالملاط..(1/8)
ولما دخل على النبي - صلى الله عليه وسلم - عدي بن حاتم الطائي وهو ملك طيء وسيدهم وحبرهم..وقد علق صليبا من الذهب في صدره..واستضافه النبي - صلى الله عليه وسلم - في منزله .. لم يجد النبي - صلى الله عليه وسلم - ما يقدمه لضيفه ليجلس عليه إلا وسادة واحدة من ليف وضعها النبي - صلى الله عليه وسلم - لضيفه ليجلس عليها ..وجلس رسول الله على الأرض...!!
ولم يعرف بيت النبي - صلى الله عليه وسلم - مطبخا .. ولا كان فيه فرن .. وكان يمر شهران كاملان ولا يوقد في بيت الرسول - صلى الله عليه وسلم - نار قط.. وكان يعيش الشهر والشهرين على الماء والتمر فقط.. ومن الأدلة على ذلك ما يلي:
روى البخاري بسنده عن أم المؤمنين عائشة - رضي الله عنه -: "كنا نتراءى الهلال والهلال والهلال ثلاثة أهلة في شهرين .. ولا يوقد في بيت الرسول نار!! قيل: فما كان طعامكم ؟ قالت : الأسودان .." التمر" و "الماء"...!! ولم يكن يجد آل محمد - صلى الله عليه وسلم - التمر في كل أوقاتهم.. بل كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يمضي عليه اليوم واليومان وهو لا يجد من الدقل "التمر الرديء"ما يملأ به بطنه..
روى البخاري بسنده عن عائشة - رضي الله عنه - قالت: "ما شبع آلُ محمدٍ - صلى الله عليه وسلم - من خُبز بُرٍّ مأدومٍ ثلاثةَ أيام حتى لحقَ باللهِ". (صحيح البخاري - باب إذا حلف أن لا ياأتدم فأكل تمرا بخبز وماء - حديث رقم : 6539).(1/9)
روى المنذري عن سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ - رضي الله عنه - قالَ: "مَا رَأى رَسُولُ اللّهِ النَّقِيَّ مِنْ حِينِ ابْتَعَثَهُ اللّهُ تَعَالَى حَتَّى قَبَضَهُ اللّهُ، فَقِيلَ: هَلْ كَانَ لَكُمْ في عَهْدِ رَسُولِ اللّهِ مُنْخُلٌ؟ قالَ: مَا رَأى رَسُولُ اللّهِ مُنْخُلاً مِنْ حِينِ ابْتَعَثَهُ اللّهُ حَتَّى قَبَضَهُ اللّهُ، فَقِيلَ: فَكَيْفَ كُنْتُمْ تَأْكُلُونَ الشَّعِيرَ غَيْرَ مَنْخُولٍ؟ قالَ: كنَّا نَطْحَنُهُ وَنَنْفُخُهُ، فَيَطِيرُ مَا طَارَ، وَمَا بَقِيَ ثَرَّيْنَاهُ". (الترغيب والترهيب ، المنذري ، كتاب التوبة والزهد ج4 ، رقم الحديث 4955).
بعض هذه التساؤلات التي أرجو أن نصدق الله في الإجابة عليها يثور سؤال هل حرام أن نستمتع بهذه الطيبات والزينات من الأطعمة والألبسة والمراكب والأدوات والمخترعات ؟!
أقول قطعاً: ليس هذه حراماً ، قال تعالى:"قُل? مَن? حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِى? أَخرَجَ لِعِبَادِهِ? وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّز?قِ ? قُل? هي لِلَّذِينَ ءَامَنُواْ في ال?حياةِ الدُّن?يَا خَالِصَةً? يَو?مَ ال?قِيَامَةِ ? كَذَ?لِكَ نُفَصِّلُ ال?أَيَاتِ لِقَو?مٍ? يَع?لَمُونَ" (الأعراف: ?32?).
لكني أطرح السؤال من جانب آخر.
كيف توسعنا في ثوابت الدنيا (الحلال) وقلّلنا ثوابت الآخرة ؟! ، لا مانع أن يوازن الإنسان قطعاً بين ثوابت الدنيا والآخرة ، وفي هذه نصوص عديدة منها قوله تعالى:-
"وَمِنهُم مَّن يَقُولُ رَبَّنَا? ءَاتِنَا في الدُّنيا حَسَنَةً? وَفِى اللآَخِرَةِ حَسَنَةً? وَقِنَا عَذَابَ النَّار" (البقرة: ?201?).
"وَاب?تَغِ فِيمَا? ءَاتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ اللآخِرَةَ ? وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنيا ? وَأَح?سِن ?َمَا? أَحسَنَ اللَّهُ إِلَي?كَ ? وَلَا تَب?غِ ال?فَسَادَ في ال?أَر?ضِ ? إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ ال?مُف?سِدِينَ" (القصص: ?77?).(1/10)
"لَعَلَّ?ُم? تَتَفَكَّرُونَ (?219?) فِى الدُّن?يَا وَال?أَخِرَةِ ? ...." (البقرة: من الآيتين 219,220).
"وَلَا تُف?سِدُواْ فِى ال?أَر?ضِ بَع?دَ إِص?لَاحِهَا وَاد?عُوهُ خَو?فً?ا وَطَمَعًا ? إِنَّ رَح?مَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ? مِّنَ ال?مُح?سِنِينَ" (الأعراف: ?56?).
ما رواه مسلم بسنده عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يقول: "اللهم أصلح لي ديني الذي هو عصمة أمري . وأصلح لي دنياي التي فيها معاشي . وأصلح لي آخرتي التي فيها معادي . واجعل الحياة زيادة لي في كل خير . واجعل الموت راحة لي من كل شر" (المسند الصحيح - الرقم 2720).
ورد لفظا الدنيا والآخرة 111 مرة لكلٍ ، أي العدد نفسه هو هو ، مما يشير إلى ضرورة التوازن الدقيق بين ثوابت الدنيا والآخرة .
وفيما يلي أبين جزاً من صورة الدنيا والآخرة في القرآن الكريم والأحاديث الصحاح من السنة النبوية الشريفة .
المطلب الثالث : الدنيا والآخرة في القرآن الكريم والسنة النبوية
أولاً : الدنيا في القرآن الكريم والسنة النبوية :
... من اللازم عقيدة ، والواجب شريعة أن نعّدل صورة الدنيا في قلوبنا وعقولنا من العرف الجاري إلى الشرع الرباني، حتى نتعامل معها كما هي ، كما وصفها سبحانه وتعالى ، وكما تحدث عنها في (111) موضعاً ، وقد جاءت النصوص النبوية تؤكد كل ما جاء في القرآن الكريم من صور حقيقية للدنيا، وهذه بعض جوانب هذه الصور :-(1/11)
الدنيا متاع الغرور : توصف الدنيا بأنها متاع في أكثر من ثلاثين آية ، والمتاع كما قال ابن منظور المصري هو كل شيء ينتفع به ويتبلّغ به ، الفناء يأتي عليه، لذا سمي الذي يقطع إحرامه بين الحج والعمرة متمتعاً، ومن تزوج امرأة متعة ففارقها بعد وقت لأنه لايريد إدامتها لنفسه ، ومتعة الطلاق تكون مرة وتنقطع ، ونقل عن الأزهري قوله : (يا قوم إنما هذه الحياة الدنيا متاع) أي بُلغة تبلَّغ به لابقاء له ، وهي فوق ذلك دار الغرور كما وصفها الله تعالى مرتين للدنيا وثلاث مرات للشيطان كما جاء في قوله تعالى :.
- "اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ" (الحديد: 20).
- "يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُم بِاللَّهِ الْغَرُورُ" (فاطر: 5).
والغرور كما جاء في المعجم الوسيط هو كل ما غرَّ الإنسان من مالٍ أو جاه أو شهوة أو إنسان أو شيطان، وما يتغرغر به من الأدوية.
وفي لسان العرب لابن منظور الغرور من غرَّ يغرَّ غروراً وغيرة فهو مغرور وغرير أي خدعه وأطعمه بالباطل، والغرور عند الزجاج : الأباطيل، وهو الشيطان لأنه يغرُّ الناس بالوعد الكاذب .
يؤكد هذه المعاني أن الدنيا دار متاع زائل وغرور فان قوله تعالى :(1/12)
" زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاء وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللّهُ عِندَهُ حُسْنُ الْمَآبِ" (?آل عمران: 14?).
? ? قُلْ مَتَاعُ الدَّنْيَا قَلِيلٌ وَالآخِرَةُ خَيْرٌ لِّمَنِ اتَّقَى وَلاَ تُظْلَمُونَ فَتِيلاً " (?النساء: 77?).
وتؤكد الأحاديث النبوية هذا المعنى أن الدنيا متاع زائل ومن ذلك ما رواه مسلم بسنده عن عبد الله بن عمرو أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : (الدنيا متاع وخير متاع الدنيا المرأة الصالحة) (صحيح مسلم - كتاب الرضاع - باب خير متاع الدنيا المرأة الصالحة, حديث رقم: 1467) ، ومنه ما ربط فيه النبي - صلى الله عليه وسلم - بين حضارة الدنيا إضافة إلى نعيم الآخرة في الحديث الحسن الصحيح الذي رواه الترمذي بسنده عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول الله : (أعددت لعبادي الصالحين مالا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر واقرؤوا إن شئتم "فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين جزاء بما كانوا يعلمون", وفي الجنة شجرة يسير الراكب في ظلها مائة عام لا يقطعها ، واقرؤوا إن شئتم "وظل ممدود", وموضع سوطٍ في الجنة خيرٌ من الدنيا وما فيها ، واقرؤوا إن شئتم "فمن زحزح عن النار وأدخل الجنة فقد فاز وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور") (سنن الترمذي - كتاب تفسير القرآن عن رسول الله - باب ومن سورة الواقعة, حديث رقم: 3292).
الدنيا دار لعب ولهو وزينة :
ورد في القرآن الكريم أن الدنيا دار لعب ولهو وزينة ، ومن ذلك قوله تعالى:.
" وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَلَلدَّارُ الآخِرَةُ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ " (الأنعام: ?32?).(1/13)
" وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ"(العنكبوت:?64?).
وهذا يؤكد أنها ليست للاستقرار والحياة الدائمة ، فهي مجرد لعب ولهو ، وزينة خارجية لكن الفناء يلاحقها ، والموت يتابعها ، ولا يبقى منها شيء إلى الدار الآخرة إلا فنى لقوله تعالى : "كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ وَيَبقَى وَجهُ رَبِّكَ ذُو الجَلَاالِ وَالإِك?رَام"ِ (الرحمن: 26,?27?)، وهكذا يجب أن تكون الدنيا في يد المؤمن لأنها تتركه أو يتركها هو ، فإن كانت في يده خرجت بلا عناء ، وذهبت بلا حسرة ، أو مال عنها الإنسان إلى ربه مغتبطاً بما أعده الله له من منازل الصالحين لقوله تعالى: "وَلَدَارُ الآخِرَةِ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ اتَّقَواْ" (يوسف: من الآية109).
وفيما يلي نستعرض بعض صفات الآخرة في القرآن الكريم والسنة النبوية .
ثانياً : الآخرة في القرآن الكريم والسنة النبوية :
ورد لفظ الآخرة في القرآن الكريم بنفس العدد الذي وردت به لفظ الدنيا (111) مرة ، لكن للآخرة صفات كثيرة أهمها:
أولا : الآخرة أطول زماناً من الدنيا :-
مما لاشك فيه من نصوص القرآن والسنة أن الآخرة هي الأطول زماناً لقوله تعالى:
"وَمَا هَاذِهِ ال?حياةُ الدُّن?يَا? إِلَّا لَه?وٌ? وَلَعِبٌ? ? وَإِنَّ الدَّارَ ال?أَخِرَةَ لَهِىَ ال?حَيَوَانُ ? لَو? ?َانُواْ يَع?لَمُونَ" (العنكبوت: ?64?).
"وَيَو?مَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُق?سِمُ ال?مُج?رِمُونَ مَا لَبِثُواْ غَي?رَ سَاعَةٍ? ? كَذَ?لِكَ كَانُواْ يُؤ?فَكُونَ" (الروم: ?55?).
قال - صلى الله عليه وسلم -: "والله ما الدنيا في الآخرة إلا مثل ما يجعل أحدكم إصبعه هذه وأشار بالسبابة في اليم فلينظر بم يرجع"(صحيح مسلم - كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها - باب فناء الدنيا وبيان الحشر يوم القيامة - حديث رقم: 2858).(1/14)
... هذه النصوص تؤكد الحقيقة التي يجب أن ترسخ في عقل ووجدان كل منا أن الآخرة هي دار القرار ، وهي الحياة السرمدية ، ولا تساوي الدنيا ساعة من نهار الآخرة ، ولا تزيد أيضا عن حجم الماء الذي يحمله الأصبع الذي يغمس في البحر، هذه هي الآخرة تمتد أبد الدهر، ومن ساعاتها الأولى تتجاوز كل أيام الدنيا.
ثانيا: الدار الآخرة خيرٌ لأصحاب الإيمان :-
هناك نصوص تؤكد أن الآخرة خير للذين اتقوا، وأصحاب الإيمان والصدق مع الله تعالى منها قوله تعالى:-
" وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَلَلدَّارُ الآخِرَةُ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ " (الأنعام?32?).
" وَالَّذِينَ هَاجَرُواْ فِي اللّهِ مِن بَعْدِ مَا ظُلِمُواْ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَلَأَجْرُ الآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ " (النحل: ?41?).(1/15)
وتؤكد الأحاديث النبوية هذا المعنى في تصوير مدهش كما رواه ابن ماجه بسنده عن أنس بن مالك: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (يؤتى يوم القيامة بأنعم أهل الدنيا من الكفار فيقال اغمسوه في النار غمسة فيغمس فيها ثم يقال له أي فلان هل أصابك نعيم قط ؟ فيقول لا ما أصابني نعيم قط ويؤتى بأشد المؤمنين ضرا وبلاء فيقال اغمسوه غمسة في الجنة فيغمس فيها غمسة فيقال له أي فلان هل أصابك ضر قط أو بلاء ؟ فيقول ما أصابني قط ضر ولا بلاء) (سنن ابن ماجه - كتاب الزهد - باب صفة النار - حديث رقم: 4321) ، وكذا الحديث الذي رواه مسلم بسنده عن عبد الله بن مسعود قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "إني لأعلم آخر أهل النار خروجا منها وآخر أهل الجنة دخولا الجنة رجل يخرج من النار حبواً ، فيقول الله تبارك وتعالى له اذهب فادخل الجنة ، فيأتيها فيخيل إليه أنها ملأى ، فيرجع فيقول: يا رب وجدتها ملأى ، فيقول الله تبارك وتعالى له اذهب فادخل الجنة ، قال فيأتيها فيخيل إليه أنها ملأى فيرجع ، فيقول يا رب وجدتها ملأى فيقول الله له اذهب فادخل الجنة فإن لك مثل الدنيا وعشرة أمثالها أو إن لك عشرة أمثال الدنيا قال فيقول أتسخر بي أو أتضحك بي وأنت الملك قال لقد رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -ضحك حتى بدت نواجذه قال فكان يقال ذاك أدنى أهل الجنة منزلة". (صحيح مسلم - كتاب الإيمان - باب آخر أهل النار خروجا - حديث رقم:186).(1/16)
هذه النصوص الكثيرة تؤكد أننا بحاجة لمراجعة أنفسنا في هذه الزيادة المضطردة في متاع الدنيا وزينتها، والتراجع في ثوابت الآخرة حتى صارت العبادات موسمية، وأداء الواجبات مزاجية، والصبر على الطاعات مسألة وهمية، والنَّهم على الملذات مسألة حتمية، هذه تعد من جهد البلاء الذي أصاب الكثير من الرجال والنساء، فاجتهدوا في العبادة شهراً واسترخوا أشهراً ونسوا أن الحديث الذي يهزّ النفس من أعماقها، ويزيح عنها داء التسويف والتأجيل، والاسترخاء الطويل وهو ما رواه أحمد بسنده عن سهل بن سعد قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ، وإنما الأعمال بالخواتيم" (مسند أحمد - حديث أبي مالك سهل بن سعد الساعدي - رضي الله عنه - - حديث رقم: 22328)
المطلب الرابع : ثوابت الإيمان في حياة المسلم والمسلمة
... إذا غمرتنا الفرحة بالطاعات الكثيرة في رمضان ، وأصابنا الحزن لتراجع هذه الشعائر التعبدية والروح الإيمانية بعده ، وعُدنا أمام أنفسنا نذكرها بحقيقة الدنيا كمتاع الغرور المؤقت ، ودار لهو ولعب وزينة ، وأن الآخرة هي دار القرار وهي الحياة الدائمة ، وهي خير للمؤمن من الدنيا ، وأن حظه مع الإحسان في الدنيا أوفر وأكبر في الدار الآخرة حيث لا تعب ولا كبد ، ولا غلَّ ولا حسد ، ولا شحناء ولا بغضاء ، ولا حرّ ولا قرّ ، فإن المسلم لا يسعه في هذه الصراحة مع النفس إلا أن يسعى إلى تثبيت عباداته في يومه وليله ؛ حتى تكون جزءاً من كيانه ، وعلامة على صدق إيمانه .
لذا أرجو أن نسأل أنفسنا مرة أخرى :
هل تذوقنا في رمضان حلاوة الصلاة في المسجد أم كانت عادة اجتماعية ، وفورة نفسية ؟
هل تذوقنا في رمضان حلاوة الصيام في خفة الجسد وشفافية القلب ، ورقي الخلق ، وصفاء العقل ؟ أم ظل الجسد كثيفاً والعقل كسولاً والقلب سقيماً ؟(1/17)
هل لامسَت شغافَ قلوبنا حلاوةُ البذل في رمضان ، وكفاية المساكين وإدخال البسمة على الأيتام والمحتاجين ؟ أم غفلنا عن هذه البسمة الرقيقة على وجوه الفقراء المدقعين ؟
هل أحببنا القرآن تلاوة ونداوة ، تفكراً وتدبراً ، تفسيراً وتأثيراً ، تعليماً وتغييراً ، فصار القرآن مانعاً لنا من النوم حتى تملأ نياط القلب وحبات العقل بلآليء القرآن ن ونفائس كلمات الرحمن ؟ أم نامت العيون والعقول والقلوب عن الذكر الحكيم ؟
هل كان ذكرنا لربنا تعبيراً عن حب عميق ، ورباط وثيق ، وفكر دقيق ، وشعور بالعجز عن إدراك النعم ، وشكر المنعم ، فيكون الذكر نوعاً من الشكر ، أم نحمل قلوبنا قاسية ، وألسنة جافة عن ذكر ربنا وشكره على نعمه وآلائه التي لا تحصى .
إذا صدقنا ربنا في الإجابة على هذه الأسئلة فسوف نختار تلقائياً أن نضاعف ثوابت الآخرة بعد رمضان لأن من ذاق عرف، ومن حرم انحرف .
من استروح في المسجد لا يحب بقعة على الأرض مثله ، ومن كان القرآن ربيع قلبه لن يعصف بثماره رياح الصيف أو سيول الشتاء ، ومن تنسم عبير الذكر لن ينسى في ليل ولا نهار معايشة الأذكار بقلب مدرار في حب الغفار سبحانه وتعالى ، ومن استلت ركعات الليل وسجدات السحر همومه وأحزانه ، وأبدلته أفراح الإيمان، يصحو كل ليلة يذوق من نسمات الليل في صفوف القانتين المخبتين .
هذا ما نرجو أن نعاهد الله عليه ، لا رقيب ولا حسيب إلا هو ، ونحن مجرد أدلاء عليه سبحانه نأخذ بيد عباد الله (الذين نحبهم) إلى رب العباد الذي يذوب القلب شوقاً إلى لقائه أبراراً غير خزايا ولا مضيعين لأمانة ، ولا مبدِّلين لرسالة، وسوف استعرض بعضاً من الثوابت الإيمانية التي أنصح نفسي وإخواني وأخواتي بتثبيتها في حياتنا حتى تكون صبغة لنا لقوله تعالى: "صبغَةَ اللّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَابِدونَ"(البقرة: 138).(1/18)
ولا ننسى قبل ذلك أن أذكر بما ذكرته في الكتاب السابق " الصيام لجام الشهوات الأربع " من برامج عملية عشرة هي:.
الإخلاص.
الاقتصاد في الطعام والشراب.
قراءة القرآن.
القيام.
الأذكار.
الدعاء.
الاعتكاف.
الجود والكرم.
الحلم والصفح.
إصلاح ذات البين.
وهنا نؤكد بعضها بوجه آخر ، ونزيد من ثوابتنا بعد أن ذقنا معاً حلاوة الإيمان في شهر رمضان ، ونريد ألا نفقد هذه النداوة في القلوب حتى نلقى الله تعالى بقوله سبحانه: "وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ" (الحجر: 99).
ثوابت الإيمان لدى أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -:
إذا تفحصنا حياة أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - رضي الله عنهم أجمعين فسنجد أن هناك إطاراً عاماً يشترك فيه الجميع ، وخصائص فريدة أو زائدة لدى بعضهم مما يمثل تميز كلٍ بميزة تجعله علماً عليها ، مع اشتراك الجميع في ثوابت للكل، ومن هذه الثوابت المميزة لبعضهم عن بعض مما يلي :.
تميز سيدنا أبو بكر - رضي الله عنه - بسرعة التصديق وحسن الصحبة ، وبذل ماله كلِّه ابتغاء وجه الله ، ومع هذا كان رجلاً أسيفاً إذا صلى بكى حتى لا يكاد أحد يسمع صوته من كثرة شجنه وبكائه وخشوعه .
عرف سيدنا عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - بثوابت لازمته وهي الشدة والقوة في الحق من أول إسلامه حتى وفاته ، وكان يحب مكابدة الساعات في القيام بالسحر، وصيام الهواجر ، ومخالطة أقوام ينتقون أطايب الكلام كما ينتقي الآكل أطايب الثمر .
عرف سيدنا عثمان - رضي الله عنه - بحيائه الشديد حتى تستحي منه الملائكة وكان سخياً حتى قال عنه - صلى الله عليه وسلم - ما ضرَّ ابن عفان ما عمل بعد اليوم .
سيدنا علي - رضي الله عنه - اشتهر بالشجاعة الفائقة والفصاحة البالغة ، والسخاء النادر ، والقيام بالليل والبكاء في السحر، ويحب إكرام الضيف ، وضربة بالسيف وصيام الصيف.
كان سيدنا سعد بن أبي وقاص مسدد الرمية مستجاب الدعوة .(1/19)
كان سيدنا عبد الله بن عمرو بن العاص قواماً صواماً حتى احتاج إلى تدخل النبي - صلى الله عليه وسلم - ليلزمه ألا يقوم أكثر من نصف الليل ، ولا يصوم أكثر من يوم بعد يوم .
قال سيدنا معاذ بن جبل عند موته: اللهم إني كنت أخافك ، وإني اليوم أرجوك، اللهم إنك تعلم أني ما طلبت الدنيا لجري الأنهار، ولا لغرس الأشجار، ولا لبناء الدور، ولا لعمارة القصور، ولكن لظمأ الهواجر، وطلب العلم وتعليم الناس والجهاد في سبيلك مرحباً بالموت ، حبيب جاء على فاقة .
اشتهر سيدنا الحمزة أسد الله بالشجاعة النادرة، والضربة الصائبة، والهمة العالية، والخبرة العريقة في فنون الحرب والقتال .
اشتهر سيدنا خالد بن الوليد بالقدرة العسكرية الهادرة التي تستبق الأعداء، وشديد المراس بالحرب والقتال، والكرّ والفرّ، ومع هذا كان تجرده في تسليم القيادة لأبي عبيدة مثالاً يحتذى في الإخلاص والتجرد لله في أي موقع .
كانت السيدة خديجة أم المؤمنين مثلاً للزوجة الحنون والأم الرؤوم، والمروءة العالية وحسن التعامل مع جميع المواقف الصعبة ، فوق حنكتها وحكمتها وحسن تعاهدها لمالها .
عرفت السيدة أم سليم الخميصاء بنت ملحان، بأنها كان مهرها الإسلام من زوجها أبي طلحة، وأحسنت في تعريفه بوفاة ولده بعد أن مكنته من كل حقوقه الزوجية وكانت تحمل خنجراً لتتعامل مع الخونة من اليهود أثناء غزوة الخندق .
والآن نبدأ في ثوابت الإيمان .....
أولاً : من زيارة المساجد إلى عمارتها :(1/20)
هناك من المسلمين من يقاطعون المسجد ، وهناك من المسلمون زوار له ، وهناك صنف رباني لا يستطيع العيش بدون أن يعمر بيت الله ، ويغرف من نور ربه سبحانه ، لأن أول ومضات النور الرباني في المسجد كما ورد في قوله تعالى:" نُّورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَن يَشَاءُ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ (?36?) رِجَالٌ لَّا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاء الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ (?37?)" (النور:35-37).
والأمر الذي يجب أن يستقر في وجدان كل مسلم أن هناك ربطاً وثيقاً بين الإيمان وعمارة المساجد وليس زيارتها للأدلة التالية :-
قوله تعالى: "إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللّهِ مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلاَةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلاَّ اللّهَ فَعَسَى أُوْلَئِكَ أَن يَكُونُواْ مِنَ الْمُهْتَدِينَ "(التوبة: ?18?).
مارواه الدرامي عن أبي سعيد الخدري عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : "إذا رأيتم الرجل يعتاد المساجد فاشهدوا له بالإيمان فإن الله يقول : إنما يعمر مساجد الله من آمن بالله". (سنن الدارمي - كتاب الصلاة - باب : المحافظة على الصلوات - حديث رقم: 1203).(1/21)
ومما يبين أن الصلاة بلغت في المجتمع مبلغاً عظيماً حديث ابن مسعود في صحيح مسلم: "من سره أن يلقى الله غدا مسلماً فليحافظ على هذه حيث ينادى بهن ، فإن الله شرع لنبيكم سنن الهدي ، وإنهن أي الصلاة في جماعة من سنن الهدي ، ولو أنكم صليتم في بيوتكم كما يصلي هذا المتخلف في بيته لتركتم سنة نبيكم ، ولو تركتم سنة نبيكم لضللتم ، وما من رجل يتطهر فيحسن الطهور ، ثم يعمد إلى مسجد من المساجد إلا كتب الله له بكل خطوة حسنة ويرفعه بها درجة ، ويحط عنه بها سيئة ، ولقد رأيتنا وما يتخلف عنها إلا منافق معلوم النفاق ، ولقد كان الرجل يؤتى به يهادي بين الرجلين حتى يقام في الصف ". (صحيح مسلم – كتاب المساجد – باب صلاة الجمعة من سنن الهدي).
إن ابن مسعود يبين أن الصلاة في المسجد من سنن الهدي ، وليست مجرد اجتماع تعبدي ، يوضح أن أحداً من الصحابة لم يكن يتأخر عن الصلاة مع مرضه حتى إنه ليأتي إلى المسجد يساعده الرجلان حتى يصل إلى الصف ، وهم لا يفعلون ذلك على أنه فريضة لازمة ، بل حباً في صلاة الجماعة ، ورؤية المسلمين والالتقاء بهم ، والدخول في رحمة الله تعالى ، ويخشون أن يستحوذ عليهم الشيطان إذا انفرد أحدهم بالصلاة والعبادة ، ويخافون بغض النبي - صلى الله عليه وسلم - لهم لما رواه ابن ماجه بسنده عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "لقد هممت أن آمر بالصلاة فتقام، ثم آمر رجلاً فيصلي بالناس ، ثم أنطلق برجال معهم حزم من حطب إلى قوم لا يشهدون الصلاة ، فأحرق عليهم بيوتهم بالنار" (سنن ابن ماجه – كتاب المساجد والجماعات – باب التغليظ في التخلف عن الجماعة - حديث رقم 791 ).
فكل مسلم في المجتمع الإسلامي يذهب إلى المسجد رغبة في هذا الثواب الكثير ورهبة من سخط الله عليه وبغض النبي - صلى الله عليه وسلم - حتى إنه همّ أن يحرَّق عليهم بيوتهم مع كونه رحمة للعالمين .(1/22)
والعمارة للمساجد التي هي ثابت من ثوابت الإيمان تعني بوضوح أمرين:.
جانب عددي يعني استمرار التردد على المساجد في الصلوات الخمس.
جانب نوعي في توسيع دور المسجد كما كان في عهد النبوة والخلافة الراشدة وحضارة الأمة الرائدة ، ويبدو ذلك فيما يلي :.
( أ ) أنها تجمع المسلمين تجمعاً إيمانياً في اليوم والليلة خمس مرات ، دون عناء ولا مشقة إلا أن الجميع يسعي إلى إرضاء الله تعالى ومن هنا عظم فضل صلاة الجماعة وفي هذا يروي الإمام البخاري بسنده عن أبي هريرة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " صلاة الجميع تزيد عن صلاته في بيته ، وصلاته في سوقه خمساً وعشرين درجة ، فإن أحدكم إذا توضأ فأحسن، وأتي المسجد لا يريد إلا الصلاة لم يخط خطوة إلا رفعه الله بها درجة ، وحط عنه خطيئة ، حتى يدخل المسجد، وإذا دخل المسجد كان في صلاة ما كانت تحبسه ، وتصلي عليه يعني الملائكة ما دام في مجلسه الذي يصلي فيه : اللهم اغفر له ، اللهم ارحمه ما لم يؤذ أو يحدث فيه " . (صحيح البخاري – كتاب الصلاة وباب الصلاة في مسجد السوق – رقم ( 477 )
هذا الفضل الكبير لا يناله المسلم ولو صلى الفريضة في منزله خمساً أو سبعاً وعشرين مرة، لكنه يناله في المسجد ، ولا يزال يحافظ على الصلاة في المسجد حتى يستجلب رحمة الله وهدايته .(1/23)
( ب ) في المساجد تعقد حلق العلم ومجالس الفقه ، ويجتمع المسلمون فيها رجالاً ونساء ، ويسارعون إليها وقد روى البخاري ما يدفع المسلمين إلى إحياء مجالس العلم بالمسجد ، ومنه حديث أبي واقد الليثي أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم - بينما هو جالس في المسجد والناس معه إذ أقبل ثلاثة نفر ، فأقبل اثنان إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وذهب واحد ، قال : "فوقفا على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فأما أحدهما فرأى فرجة في الحلقة فجلس فيها ، وأما الآخر فجلس خلفهم ، وأما الثالث فأدبر ذاهباً ، فلما فرغ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : ألا أخبركم عن النفر الثلاثة أما أحدهم فأوى إلى الله فأواه ، وأما الأخر فاستحيا فاستحيا الله منه ، وأما الآخر فأعرض ، فأعرض الله عنه " ( صحيح البخاري – كتاب العلم – باب من قعد حيث ينتهي به المجلس- حديث رقم 66 ) .
ولقد كانت مساجد المسلمين عبر تاريخهم عامرة بحلق العلم في علوم الشريعة والطبيعة والطب والفلك والكيمياء وغيرها
( جـ ) وللمسجد رسالة صحية لتخفيف الآلام عن المرضى وبخاصة الفقراء الذين لا يجدون كفافاً من العيش ، وقد تكون لعموم المسلمين مثلما يحدث في كثير من المساجد حيث يلحق بها مستشفى أو مستوصف إسلامي يقوم على رعاية المرضى وإعانتهم ، وهذا ليس من الابتداع في الدين بل هو من الاقتداء بسنة النبي - صلى الله عليه وسلم - لما رواه البخاري أنه لما أصيب سعد يوم الخندق ، عولج بخيمة في المسجد .(1/24)
( د ) أما عن دور المسجد في كفاية المحتاجين وسدُ خلَّتهم ، والقيام على شئونهم فهو أمر من أوضح الأدوار الاجتماعية التي لا تكاد تجد طريقة في أي نظام أفضل من المسجد وقد كان أهل الصفة يقيمون في المسجد ، وكان أهل الأنصار كلما جنوا من أرضهم شيئاً جاءوا يعلقون منه في المسجد أو يضعون منه بين يدي الفقراء من المسلمين وإذا وفد قوم فقراء فإن المسجد كان هو وعاء القيام على حاجتهم وقد روى مسلم بسنده عن المنذر بن جرير عن أبيه قال : "كنا عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فجاء قوم عراة ، مجتابي النمار- أي ثيابهم مخرقة- فتمت كفايتهم من المسجد . (صحيح مسلم– كتاب الزكاة – باب الحث على الصدقة وأنواعها وأنها حجاب من النار).
( هـ ) ولعل من هذه الأدوار الاجتماعية الهامة للمسجد هو بدء عقد الزواج للأسرة المسلمة في المسجد ، وهذا له دور اجتماعي ليس على الأسرة وحدها لكن على المجتمع كله ، حيث تجعله مرتبطاً بالمسجد في كل أموره .
( و ) ولعلنا لا نجاوز القصد إذا قلنا إن المسجد له دور في إشاعة البهجة والسرور في نفوس المسلمين ، وذلك بالترويح عنهم ، بألوان من اللعب أو الأناشيد في المسجد ، وليس هذا أيضاً ابتداعاً في الدين بل روى البخاري عن عائشة - رضي الله عنه - قالت: "رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوماً على باب حجرتي والحبشة يلعبون في المسجد ، ورسول - صلى الله عليه وسلم - يسترني بردائه أنظر إلى لعبهم" (صحيح البخاري – كتاب الصلاة – باب أصحاب الحراب في المسجد حديث رقم 454 ) .
وقد أورد ابن حجر العسقلاني في شرح الحديث الخلاف الوارد في هذا ورجح أنه جائز لصحة الحديث وأن المسجد موضوع لأمر جماعة المسلمين ، فما كان من الأعمال يجمع منفعة الدين وأهله جاز فيه ، وفي الحديث جواز النظر إلى اللهو المباح (فتح الباري ( 1/ 654 ) ).(1/25)
وهذا إن كان جائزاً لكن لا يصح فيه الخروج عن الآداب العامة في المسجد من الوقار، وعدم التصفيق والصفير ، وما إلى ذلك مما يُخرج المسلم عن توقير بيت الله عز وجل .
( ز ) من المسجد يتعلم المسلم أبجديات السلام الاجتماعي فهو يسارع إلى المسجد يقف فيه الغني بجوار الفقير ، والوزير بجوار الخفير ، والنساء وراء الرجال ، من سبق إلى الصف الأول فهو أولى به بصرف النظر عن مكانته في المجتمع ، وإذا صلى كان من فرائض الصلاة أن يلقي السلام على من بجواره يمنة ويسرة ، ثم يتعارف على من بجواره في جو يخلو من المصلحة والأنانية والأثرة . بل تشيع فيه أسمى معاني الحب في الله ، والتغافر والتسامح والتوادد ، وإذا حدث شجار أو تنازع سارع المصلون إلى الصلح بينهم عملاً بقوله تعالى : "إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ" (الحجرات: 10).(1/26)
... والكل يخاف ألا ترتفع صلاته فوق رأسه شبراً واحداً إذا كان هناك خصام بين المسلم وأخيه ، فيسارع كل إلى أخيه وخيرهما الذي يبدأ بالسلام ، ولعل هذا هو السبب الرئيسي في بقاء النسيج الإسلامي في المجتمع متماسكاً ، ويوم أن ترك المسلمون مساجدهم تنازعوا وتحاربوا ، وتقاتلوا ، وطمع فيهم الأعداء وصاروا نهباً لقوى الشرق والغرب ، وإذا أردنا أن نعيد السلام الاجتماعي إلى الأمة فلا بد أن نبدأ بإحياء دور المسجد مرة أخرى ، عادة روح الحب في الله، ووقف هذا التناحر بين المسلمين، خاصة إذا علم المسلم أنه لا يصح لمسلم أن يمر في المسجد ومعه سهام إلا ويمسك بزمامها خشية أن يجرح مسلماً ولو بغير قصد وفي ذلك يروي البخاري بسنده عن أبي بردة عن أبيه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "من مر في شيء من مساجدنا أو أسواقنا بنبل فليأخذ على نصالها -النصل هو حديدة السهم والرمح والسيف ما لم يكن له مقبض- لا يعقر بكفه مسلماً" (صحيح البخاري كتاب الصلاة باب المرور في المسجد – حديث رقم 452).
فإذا كان المسلم منهياً عن إيذاء المسلم بغير قصد بسلاحه أو أطراف سلاحه فهل يجوز أن يتحارب المسلمون، وأن يشيع بينهم الثأر ، وينتشر بينهم القتل ؟ ، وقد حرم الله الدماء . وعظم حرمة المسلم ، ووضع من الوسائل العديدة ما يجعل السلام الاجتماعي سمتاً عاماً ، وصفة بارزة في الأمة الإسلامية .(1/27)
( ح ) المسجد ذو أثر فعال في توضيح الفهم الإسلامي الصحيح عن المرأة فهي في عرف الإسلام مثل الرجل كرامة وتحملاً للمسئولية ، والاختلاف ليس إلا في توظيف طاقة كل في الجانب الأفضل وفقاً لإمكاناته وملكاته ، ففي المسجد يتجلى معنى الولاية العامة بين المؤمنين والمؤمنات كما يقول الله تعالى : " وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللّهُ إِنَّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ" (التوبة: ?71?).
هذه الولاية العامة – لا العلاقة الخاصة بين غير المحارم – تقوم على واجبات واضحة هي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وطاعة الله ورسوله ، ومن هنا نجد المسجد في أول عهده ، ويجب أن يبقي في كل عهد يصلي فيه الرجال والنساء وقد روى البخاري ومسلم بسندهما عن عبد الله بن عمرو أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : "لا تمنعوا إماء الله مساجد الله "، بل ورد في صحيح البخاري ومسلم عن ابن عمر أيضاً أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : "إئذنوا للنساء بالليل إلى المساجد" (صحيح البخاري – كتاب الجمعة – حديث رقم ( 899 ) ومسلم – كتاب الصلاة باب خروج النساء إلى المساجد).
هذه صور من عمارة المسجد وفوائدها في الوقت نفسه .
ثانياً : تعاهد القرآن تلاوة وفهماً وعملاً ودعوة بطريقة منظمة منتظمة:
نحن لابد أن نكون شجعاناً في الاعتراف بأننا نقرأ أو نسمع القرآن ونحن مرضى القلوب والعقول ، أو قراءة مريضة، لأن القرآن هو الذي أصلح الكثير من الناس لم يتغير، بل نفوسنا تغيرت ، فصارت مثل أرض سبخة تلقي فيها أفضل البذور، فلا تنتج إلا القشور، ومثل المرأة الحسناء في المنبت السوء.
من هنا نحتاج إلى تغيير تعاملنا مع القرآن على النحو التالي :.(1/28)
تعلم أحكام التجويد، والانتظام في درس جاد يمكن أن ينقل القارئ من التعتعة إلى أن يكون ماهراً بالقرآن، وفى هذا رفعة له إلى مصاف ملائكة الله تعالى لما رواه البخاري ومسلم بسندهما عن عائشة قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "الماهر بالقرآن مع السفرة الكرام البررة والذي يقرأ القرآن ويتتعتع فيه وهو عليه شاق له أجران" (صحيح مسلم - كتاب صلاة المسافرين وقصرها - باب فضل الماهر بالقرآن والذي يتتعتع فيه - حديث رقم: 798).
الانتظام الدقيق في قراءة الورد القرآني، ويمكن أن يبدأ المسلم أو المسلمة بتعاهد القرآن بنصف جزء يومياً، ويتحسن ويتدرج حتى لا يقل عن جزء يومياً، والجزء لا يستغرق مع التجويد أكثر من 35 دقيقة لكنه آنئذ يكون قد طبق الأبجديات الإسلامية لقوله تعالى: "إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هَذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَهَا وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ" (النمل: 91).
معايشة الآيات والتدرب على التفكر والتدبر بالعقل والقلب، واستخراج الدروس والعبر، وهناك تجربة حقيقية لو قمنا بها فسنغير منهجية تعاملنا مع القرآن تقوم على :.
البدء في الورد القرآني في وقت البكور والبركة أي بعد صلاة الفجر .
استحضار العقل والقلب معاً أثناء القراءة قدر الوسع .
التقاط آية من الآيات شعرت أن لها صدى في صدرك ، وقوة في عقلك وأثراً في نفسك، فعش معها، واكتبها ورددها، ستجد أن هناك فتوحات لا حد لها من رب العزة سبحانه .
احتساب المسافة بيننا وبين القرآن والسعي إلى الارتقاء بالنفس لتصل إلى هذا المثال الرباني .
إذا كان الفلاح في الدنيا والآخرة مشروطاً بالخشوع في الصلاة فلابد من تعاهد القلب واللسان بالأذكار خارج الصلاة، وتعاهدهما بالفكر داخل الصلاة مع حضور القلب ، حتى يتحقق الخشوع والخضوع ونذرف الدمع سخياً نغسل بها أدران نفوسنا .(1/29)
إذا كان العالم ينحو نحو الأنانية والفردية ، والقرآن يدعو إلى التعاون على البر والتقوى ، لا يكون أمام المسلم إلا أن يخرج للناس ويتعاون معهم على الخير .
إذا كان المجتمع يميل نحو التحلل تقليداً للغرب في التعامل مع المرأة، واتجاه آخر ينحو نحو التحجر حفاظاً على النفس مع ردة فعل عنيفة ، فإن الأصل أن يبقى المسلم محتفظاً بالوسطية في كل شيء لقوله تعالى: "وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ" (البقرة: 143).
إذا كان من طبع الإنسان سرعة الغضب، والتنفس بطريقة غير لائقة يفقد بها أهله وأصدقاءه وجيرانه، فإن الواجب مجاهدة النفس لتصل إلى بطء الغضب وسرعة الفيء والإحسان لمن أساء لقوله تعالى: "وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ" (آل عمران من الآية: 134), فيبادر المسلم والمسلمة إلى إنهاء الخصومات مع أي مسلم .
إذا كان الناس منشغلين بمعاشهم عن فلسطين والمسجد الأقصى ، والعراق وأفغانستان والصومال ودارفور والشيشان وكشمير و...... فإن الموصول بالله تعالى لا يسعه إلا أن يكون في بؤرة الأحداث ويقدم أقصى ما يستطيع لخدمة قضايا أمته العادلة .(1/30)
وهذا يحتاج إلى مدارسة، وليس فقط قراءة بأن تكون هناك حلقات مدراسة في البيوت والمساجد والمراكز، وبين الأقارب والجيران والأصدقاء، وذلك عملاً بالحديث الصحيح الذي رواه البخاري ومسلم بسندهما عن أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "من سلك طريقا يلتمس فيه علما سهل الله له به طريقا إلى الجنة وما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة وغشيتهم الرحمة وحفتهم الملائكة وذكرهم الله فيمن عنده ومن بطأ به عمله لم يسرع به نسبه" (صحيح مسلم - كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار - باب فضل الاجتماع على تلاوة القرآن وعلى الذكر حديث رقم: 2699).
وخلاصة الأمر أن الإنسان لا يمكن أن ينشط بشكل منتظم مع القرآن إلا إذا :
تعلم أحكام التجويد بمهارة فائقة .
تعود القراءة اليومية (جزء) من أول المصحف والاستمرار حتى آخره .
التقاط آية من الورد والمعايشة فيها وتدبرها بعمق .
الانتظام في حلقة قرآنية أسبوعية على الأقل في المسجد القريب أو مؤسسة خيرية أو المنزل مع الأهل والأقارب والأصدقاء .
وضع معنى عملي كل أسبوع يحتاج إلى تطبيق على النفس مثل: ضبط شهوة النظر إلى الحرام، الخشوع في الصلاة، صدقة السر، زيادة بر الوالدين، الإحسان إلى الزوج أو الزوجة، عدم التدخل فيما لا يعني، العدل في الرضا والغضب، الاقتصاد في الإنفاق حتى مع الغنى، الكلمة الطيبة، إفشاء السلام، إطعام الفقراء، .......، سيكون خلفنا القرآن فعلاً بعد حين ، كما كان نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - مع بقاء زلات وغفلات لنا لأنا لسنا معصومين مثله - صلى الله عليه وسلم -.(1/31)
تعليم الآخرين ما تعلمته من تجويد وتفسير، وما جادت به الرحمات الربانية من أفكار حول الآيات من التدبر، وهذا سيجعلك دائماً ربانياً لقوله تعالى:"وَلَكِن كُونُواْ رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُونَ" (آل عمران: 79).
لا مانع شرعاً من جعل جزء من ختمة القرآن قياماً بالليل، بإمساك المصحف في اليد أو وضعه أمامنا ثم نقرأ منه، وقد حقق هذه القضية فضيلة الشيخ نظام يعقوبي وأورد الأدلة الشرعية والمذاهب الفقهية التي تجيز النظر أو إمساك مصحف في النوافل .
ثالثا: الانتظام في ورد دائم من الصيام بعد رمضان:(1/32)
إذا أحب المسلم أو المسلمة الله تعالى داوم على الصيام فهو ينتظر شهر رمضان ليغسل نفسه غسلاً كاملاًَ من الذنوب والآثام ، ويطهر نفسه من المعاصي وهذا يزيل الران على القلب وذلك لما رواه البخاري بسنده عن أبي هريرة - رضي الله عنه -أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : "من قام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه ، ومن صام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه" (صحيح البخاري – كتاب الصوم – باب من صام إيماناً واحتساباً – حديث رقم 1901) . فإذا ما انتهى رمضان صار الصوم له إلفاً ومصدر سعادة قلبية لانشراحه برحمة الله وفضله ، فهو يصوم الست البيض من شوال ويصوم العشر الأوائل من ذي الحجة ، ويحرص على صيام عرفة ولا يفوته صيام التاسع والعاشر من المحرم (عاشوراء) ، ويكثر من الصيام في شعبان ، ويحرص طوال العام على صيام الاثنين والخميس . أو يصوم يوما ويفطر يوما إن قدر عليه ، ولا يقل عن صيام ثلاثة أيام كل شهر ، وبهذا يظل المسلم والمسلمة في طهارة من الذنوب دائمة ، ولعل هذا ما جعل الإمام مسلم يترجم في كتاب الصيام بابا بعنوان : صيام النبي - صلى الله عليه وسلم - واستحباب ألا يخلي شهراً عن صوم . ويكفي المؤمن شرفا أن يصوم وهو يستحضر حديث النبي - صلى الله عليه وسلم - فيما يرويه عن ربه : "الصوم لي وأنا أجزي به ، يدع شهوته وطعامه من أجلي ، للصائم فرحتان ، فرحه عند فطره ، وفرحه عند لقاء ربه" (صحيح البخاري - كتاب التوحيد - باب قول الله يريدون أن يبدلوا كلام الله - حديث رقم: 7054) فهو صيام يختص به الله تعالى ، ويعود فضله على العبد فرحة في الدنيا برحمة الله ، وفرحة في الآخرة بنعيم الله تعالى ، والنجاة من النار لما رواه مسلم بسنده عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : "من صام يوما في سبيل الله باعد الله بينه وبين النار سبعين خريفا" (صحيح البخاري -(1/33)
كتاب الجهاد والسير - باب فضل الصوم في سبيل الله - حديث رقم: 2685).
وإذا كان الشائع أن الصيام في رمضان فإن الشرع الحنيف جعل للصيام وجودا في حياة المسلم طوال العام ، وسوف أورد ما ذكره علماؤنا مما يفيد أن الصيام شعيرة المسلم طوال العام سواء كان واجبا أو مندوبا.
أولاً : الصيام الواجب:
الصيام الواجب هو الذي يؤجر المسلم بفعله ويؤزر بتركه وهو ثلاثة أنواع :
1- صيام شهر رمضان أداء أو قضاء : وذلك للأدلة القطعية في وجوب صيام شهر رمضان لمن ليس لديه عذرمن الأعذار المبيحة للفطر .
2- صيام النذر فمن نذر لله تعالى صيام يوم أو أكثر لزمه الوفاء بالنذر لما رواه البخاري ومالك بسندهما عن عائشة - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : "من نذر أن يطيع الله فليطعه ومن نذر أن يعصيه فلا يعصه"(صحيح البخاري - كتاب الأيمان والنذور - باب النذر في الطاعة ـ ـ - حديث رقم: 6318).
والفرق في الوجوب بين صيام شهر رمضان وصيام النذر أن الأول فرضه الله تعالى على كل مكلف قادر عليه وأما صيام النذر فإن المكلف يوجبه على نفسه ولا يملك شرعاً التراجع عنه فقد صار دينا في عنقه ، ومن مات ولم يؤده قام به وليه أو غيره لما رواه البخاري ومسلم بسندهما عن ابن عباس أن امرأة قالت للنبي - صلى الله عليه وسلم -: إن أمي ماتت وعليها صوم نذر ، أفأقضيه عنها ؟ قال : "أرأيت لو كان على أمك دين فقضيتيه عنها ، أكان يؤدى ذلك عنها ؟ قالت نعم : قال فصومي عن أمك" (صحيح البخاري – كتاب الصوم صوم - حديث رقم 1952).
3- صيام الكفارات: لما كان الصيام طهرة للصائم من الذنوب والمعاصي ، فقد شرعه الله تعالى كفارة للمسلم مثل كفارة اليمين أو الظهار أو الوقاع في نهار رمضان أو القتل الخطأ لعدم بذل عناية الرجل المعتاد في حفظ النفوس.
ثانياً : الصيام المندوب :(1/34)
المندوب هو ما يثاب فاعله ولا يأثم تاركه ، والصيام المندوب رغَّب فيه - صلى الله عليه وسلم - ليظل المسلم موصولاً بهذه العبادة السامية وأهم أنواعه:
1- صيام يوم وإفطار يوم : وذلك لما رواه أصحاب السنن بسندهم عن عبد الله بن عمرو بن العاص - رضي الله عنه - قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "إنك لتصوم الدهر وتقوم الليل ؟ فقلت نعم ، قال : إنك إذا فعلت ذلك هجمت - غارت - له العين أو نفهت - أي تعبت وكلت - له النفس . لا صام من صام الدهر ، صوم ثلاثة أيام صوم الدهر كله ، قلت : فإني أطيق أكثر من ذلك قال : فصم صوم داود عليه السلام ، كان يصوم يوماً ويفطر يوماً ، ولا يفر إذا لاقى" (صحيح البخاري – كتاب الصوم – باب صوم داود عليه السلام - حديث رقم 1979 . وروي في صحيح مسلم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لعبد الله بن عمرو : "إنك لا تدري لعلك يطول بك عمر ، قال فصرت إلى الذي قال لي النبي - صلى الله عليه وسلم - فلما كبرت وددت لو كنت قبلتُ رخصة – النبي
2- صيام ثلاثة أيام من كل شهر : وذلك لما رواه البخاري ومسلم والترمذي عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: "أوصاني خليلي - صلى الله عليه وسلم - بثلاثة : صيام ثلاثة أيام من كل شهر ، وركعتي الضحى ، وأن أوتر قبل أن أنام" (صحيح البخاري – كتاب الصوم – باب صيام البيض - حديث رقم 1981 )، وقد أورد الترمذي بسنده أن أبا ذر قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - :"يا أبا ذر، إذا صمت من الشهر ثلاثة أيام فصم ثلاثة عشر وأربع عشرة وخمس عشرة" (سنن الترمذي – كتاب الصوم – باب ما جاء في صوم ثلاثة أيام من كل شهر- حديث رقم 758) فإذا لم يستطع المتطوع بالصيام أن يصوم هذه الثلاثة البيض صام ثلاثاً من الشهر متفرقات أو متتابعات فالمتطوع أمير نفسه .(1/35)
3- صيام يومي الاثنين والخميس : وذلك لما رواه ابن ماجه بسنده عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يصوم الاثنين والخميس ، فقيل يا رسول الله إنك تصوم الاثنين والخميس ؟ فقال: "إن يوم الاثنين والخميس يغفر الله فيهما لكل مسلم إلا متهاجرين يقول : دعهما حتى يصطلحا" (سنن ابن ماجه – كتاب الصيام – باب يوم الاثنين والخميس – حديث رقم 1740) .
وفي حديث آخر أجاب النبي - صلى الله عليه وسلم - عن صيامه يومي الاثنين والخميس بأن "الأعمال تعرض فيهما على الله تعالى وأحب أن يرفع عملي وأنا صائم" (الترغيب والترهيب للمنذر ( 2/85 )).
4- صيام ستة أيام من شوال : وذلك لما أورده مسلم بسنده عن أبي أيوب الأنصاري أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : "من صام رمضان ثم أتبعه ستاً من شوال كان كصيام الدهر" (صحيح مسلم – كتاب الصيام – باب استحباب صيام ستة من شوال (1/475) وقال الشوكاني رواه الجماعة إلا البخاري والنسائي ، ورواه أحمد عن جابر بنيل الأوطار (4/237)). وقد فصل حديث ابن ماجه كون هذا الصيام كصيام الدهر فيما رواه بسنده عن ثوبان مولى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : "من صام ستة أيام بعد الفطر كان تمام السنة ، من جاء بالحسنة له عشر أمثالها" (سنن ابن ماجه – كتاب الصيام – باب صيام ستة أيام من شوال برقم 1715 .
ولا يلزم في هذا الصيام أن يكون متتالياً ولا أن يعقب يوم عيد الفطر مباشرة فيمكن صيامها بعده متتابعات أو متفرقات على مدار شهر شوال ، ولكن الأفضل أن تصام متتالية كما قال النووي (المجموع للنووي (3/573)).(1/36)
5- صوم عشرة ذي الحجة وتأكيد يوم عرفة لغير الحاج : لما رواه الإمام أحمد في مسنده عن حفصة زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - أنها قالت: "أربع لم يكن يدعهن النبي - صلى الله عليه وسلم -: صيام عاشوراء ، والعشر، وثلاثة أيام من كل شهر والركعتين قبل الغداة" (المسند (6/287) ، ونيل الأوطار للشوكاني (4/238) باب صوم عشر ذي الحجة) ، ورد الشوكاني على من يكره صيام هذه العشر بحديث عائشة رضي الله عنها: "ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم صائماً قط في العشر بأنه ربما لم يصمها لعارض سفر أو مرض أو غيرهما" وعدم رؤيتها له لا يستلزم العدم ، وقد ثبت من قوله ما يدل على مشروعيته.
أما صيام يوم عرفة فقد وردت أحاديث كثيرة في فضل صومه لغير الحاج مثلها ما رواه مسلم وابن ماجه بسندهما عن أبي قتادة الأنصاري أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : "صيام يوم عرفة إني أحتسب على الله أن يكفر السنة التي قبله والتي بعده وصيام يوم عاشوراء أحتسب على الله أن يكفر السنة قبله" (رواه مسلم – كتاب الصوم – باب استحباب صوم ثلاث أيام من كل شهر وصوم يوم عرفة وصوم عاشوراء والاثنين والخميس (1/473)
لكن من كان حاجاً فلا يصوم يوم عرفة بعرفة لما رواه داود بسنده عن أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "نهى عن صوم عرفة بعرفة" (سنن أبي داود – كتاب الصوم – باب صيام يوم عرفة بعرفة رقم (3330).
ويؤكده حديث البخاري بسنده عن ميمونة - رضي الله عنه -: "أن الناس شكوا في صيام النبي - صلى الله عليه وسلم - يوم عرفة ، فأرسلت إليه بحلاب وهو واقف في الموقف فشرب منه والناس ينظرون" (صحيح البخاري – كتاب الصوم – باب صيام يوم عرفة بعرفة – حديث رقم 1989) .(1/37)
6- صيام عاشوراء وصوم المحرم : سبق أن أوردت حديث مسلم الذي يدل على أن صيام عاشوراء يكفر ذنوب سنة ماضية ، وقد روى البخاري بسنده عن ابن عباس - رضي الله عنه - قال : قدم النبي - صلى الله عليه وسلم - فرأى اليهود تصوم يوم عاشوراء فقال: "ما هذا؟ قالوا ، هذا يوم صالح ، هذا يوم نجى الله بني إسرائيل من عدوهم فصامه موسى . قال : فأنا أحق بموسى منكم، فصامه وأمر بصومه" (صحيح البخاري كتاب الصوم- باب صيام يوم عاشوراء – حديث رقم 2004). والأفضل صيام يوم التاسع مع العاشر مخالفة لليهود لما رواه الترمذي بسنده عن ابن عباس قال : صوموا التاسع والعاشر وخالفوا اليهود .
ولفضل هذا اليوم كان عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - يرسل إلى الولاة أن يصوموا , وفي هذا روى الإمام مالك بسنده أن عمر بن الخطاب أرسل إلى الحارس بن هشام أن غداً يوم عاشوراء فصم وأمر أهلك أن يصوموا (الموطأ - كتاب الصيام – كتاب صيام يوم عاشوراء (1/299).
أما صيام أكثرشهر المحرم أو بعضه فقد ورد في فضله حديث مسلم بسنده عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : "أفضل الصيام شهر الله المحرم، وأفضل صلاة بعد الفريضة صلاة الليل" (صحيح مسلم – كتاب الصيام – باب فضل صوم المحرم (1/474) وجامع الترمذي – كتاب الصيام – باب ما جاء في صوم المحرم رقم (737).
7- صوم شعبان : كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يكثر من الصيام في شهر شعبان وفي ذلك روت السيدة عائشة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يصوم حتى نقول لا يفطر ، ويفطر حتى نقول لا يصوم وما رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - استكمل شهراً قط إلا رمضان ، وما رأيته في شهر أكثر صياماً منه في شعبان" (الترغيب والترهيب للمنذري (2/80) ورواه ابن ماجه كتاب الصيام – باب ما جاء في صيام النبي - صلى الله عليه وسلم -- حديث رقم 1710).(1/38)
ويعد صيام شعبان تهيئة للنفس حتى تتقن وتحسن صيام شهر رمضان مثل صلاة النوافل قبل الفرائض.
8- الصوم لكسر الشهوة : كثير من الشباب والفتيات يتوق للزواج ولا يجد له مخرجاً لأسباب كثيرة أهمها قلة ذات اليد، والارتباط بالانتهاء من الدراسة حتى لا يشغل الشباب والفتيات بتكاليف الزواج ومطالبه عن الدراسة وقد كان هذا هو حال بعض أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - وفي هذا يروي البخاري ومسلم بسندهما عن ابن عبد الله بن مسعود قال : كنا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - شباباً لا نجد شيئاً فقال لنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج ، ومن لم يستطع فعليه بالصوم ، فإنه له وجاء" (صحيح البخاري – كتاب النكاح – باب من لم يستطع الباءة فليصم رقم (5066) ، صحيح مسلم – كتاب النكاح –أول الكتاب ص (1/583) واللفظ للبخاري والباءة هي نفقة الزواج والقدرة على واجبات الزوجة ... ).
رابعاً : المشاركة الفعالة في أعمال البر والنفع العام :
شهر رمضان شهر البر، شهر الخير، شهر العطاء، ولا يمكن للمسلم الذي ذاق قلبه حلاوة البر، وإدخال البسمة على كل بيت أن يقتصر بره على زمن دون زمن، أو قوم دون آخرين، بل هو كما قال سبحانه: "وَسَارِعُواْ إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ الَّذِينَ يُنفِقُونَ فِي السَّرَّاء وَالضَّرَّاء" (آل عمران: 133ومن الآية 134).
والملاحظ على آيات الإنفاق ما يلي :.
أنها كثيرة مما يدل على أهميتها كصبغة عامة فقد وردت في القرآن الكريم{133}مرة منها {33}مرة فقط تتعلق بالزكاة ، ومائة مرة إنفاق آخر غير الزكاة .(1/39)
أن نوع ما ينفقه الإنسان غير محدد في كثير من الآيات، مثل قوله تعالى: "فَأَمَّا مَن أَعْطَى وَاتَّقَى" (الليل: 5) , وقوله تعالى: "وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ" (البقرة: 3) , بما يعني أن الإنسان قد ينفق مالاً أو علماً أو جهداً، أو نصيحة، أو مساعدة وتسمى إنفاقاً فإذا أخرج المسلم زكاة ماله وفطره في رمضان فإن الصدقات الواردة بهذا الكم الكبير في القرآن والحاجة التي زادت في الأمة الآن تحتاج إلى جميع أنواع الصدقات من بذل الوقت والجهد والمال والعلم والمساندة لكل أعمال البر والخير، وفي الحديث أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "لن يشبع المؤمن من خير يسمعه حتى يكون منتهاه الجنة" (سنن الترمذي - كتاب العلم عن رسول الله - باب ما جاء في فضل الفقه على العبادة- حديث رقم: 2686).
ولذا أرجو من كل أخ وأخت أن يخرج من أمرين :.
الأمر الأول : رتابة الحياة والاستيقاظ إلى العمل، ثم العودة والطعام والعشاء مع زيارة أو استقبال الأقارب والأصدقاء، ثم مشاهدة التلفاز والنوم ، وهي حياة رتيبة تفرز إنساناً تافهاً لا قيمة له، وقد أنف شاعر الجاهلية من هذه الحياة فقال:
إذا أنت لم تنفع فضرّ فإنما يراد الفتى كيما يضر وينفع
أي افعل شيئاً ليحس الناس بك لكنا نفعل الخير فقط ليرضى عنا ربنا سبحانه وتعالى .
الأمر الثاني : الفراغ الذي يشعر به كثير من الرجال والنساء والشباب والفتيات وهذا الفراغ هو أكبر مدخل للشيطان كي يملأه بالسيئات والكبائر وفي هذا يروي البخاري بسنده عن ابن عباس أن النبي - صلى الله عليه وسلم - : (نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس الصحة والفراغ). (صحيح البخاري - كتاب الرقاق - باب ما جاء في الصحة والفراغ ـ حديث رقم: 6049).
ويقول الشاعر :
إن الشباب والفراغ والجدة مفسدة للمرء أيما مفسدة(1/40)
فإذا أراد المسلم يخرج من رتابة الحياة الرخيصة، والفراغ الممل فلابد أن يكون لأعمال البر في رمضان أثر في اندماج وانخراط المسلم والمسلمة في مؤسسات البر والنفع العام سواء كانت مؤسسات تعليمية أو اجتماعية أو كفالة الأيتام أو إصلاح ذات البين، أو مساندة قضايا الأمة العادلة مثل فلسطين والعراق وأفغانستان والسودان والصومال و..... أو مؤسسات العمل السياسي الهادف إلى مصلحة الوطن والأمة والعالم، أو مؤسسات محاربة الثلاثي الرهيب الجهل والفقر والمرض في أي مكان في العالم ، أو مساعدة منكوبي الزلازل والبراكين والعواصف أو الحروب ، أو مؤسسات إحياء الفن الإسلامي، والأنشطة الرياضية، وجمعيات الحفاظ على البيئة أو رعاية الموهوبين أو المعوقين ، أو تقوية الطلاب أو بناء المساجد والمدارس والوقف الإسلامي ، أو طباعة كتب وشرائط ونشرات إسلامية وتوزيعها أو المشاركة في النظافة العامة للحي أو المنطقة أو البلد .
والمهم هنا أن يكتشف الإنسان نفسه قبل أن يتقدم لمؤسسات البر والنفع العام ليحدد أمرين :.
نقاط القوة فيه، بمعنى ما هي الأنشطة الخيرية التي تتوافق مع قدراتك وملكاتك؟ فهناك شخص يصلح للتخطيط ولا يقدر على تنفيذ خطوة واحدة عملية مثل مهندس التصميم للمبنى ويترك التنفيذ للمهندس الإنشائي، وهناك من يجيد العلاقات العامة ، وثان يجيد فقط توصيل المعلومات للآخرين وآخر يجيد ترتيب الأماكن والطعام و........، وهناك من يجيد كتابة الشعر والقصة والرواية ولا يجيد حتى قراءة شعره أمام الجمهور، وبالتالي هذه الملكات إذا وظفت في مواضعها الصحيحة أثمرت وأنتجت، وإلا كانت ضررا على الشخص والمجتمع .(1/41)
نقاط الضعف في الإنسان ، فإذا كان يدرك أن تولي المسئولية الإدارية في مؤسسات النفع العام لا يتناسب مع ضعفه الإداري، أو سيؤثر على دوره العلمي والتربوي فليعتذر، وهذا من هدي النبي- صلى الله عليه وسلم - حيث اختار أشجع الصحابة علي بن أبي طالب لينام في فراشه ليلة الهجرة، بينما أخذ معه في الصحبة أبا بكر الصديق لصبره وجلده ، ووظف طاقة عبدالله بن عباس في العلم والتعليم ، وجعفر بن أبي طالب ، ومصعب بن عمير في السفارة بالإسلام خارج مكة، وحذر أبا ذر أن يولي نفسه أميراً على اثنين، وهكذا .
نحن إذن نريد أن يكون لنا حضور وذكاء اجتماعي ، فأما الحضور فهو الاهتمام بالمجتمع الذي أعيش فيه إصلاحاً وتحسيناً وتغييراً، وأما الذكاء فيكون هذا بنضج روحي وعقلي وخلقي ، ويجعل الجهد القليل مثمراً ، والعطاء القليل مؤثراً ، والعمل القليل مغيراً .
هذا والله حلٌ لأزمات في بيوت كثيرة من آثار الفراغ الروحي والاجتماعي ، حيث يتحول العاطل عن الأداء الاجتماعي إلى إنسان محبط عنده ملل وكلل ، فيؤثر سلبياً على علاقاته ، أما إن وجد بابه مطروقاً ، وجدوله مزحوماً، ونهاره متحركاً ، وليله قانتاً وعطاؤه متواصلاً لمجتمعه ، فتلك سعادة الدارين ، وذلك لما رواه مسلم بسنده عن أبي هريرة : "من نفس عن مؤمن كربة من كرب الدنيا نفس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة ومن يسر على معسر يسر الله عليه في الدنيا والآخرة ومن ستر مسلما ستره الله في الدنيا والآخرة والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه" (صحيح مسلم - كتاب الذكر والدعاء - باب فضل الاجتماع على تلاوة القرآن- حديث رقم: 2699).(1/42)
لو أخذنا هذا الحديث مأخذ الجد والعمل والتطبيق وتقدمنا لفعل الخير ونفع الغير ، فسيكون لنا إن شاء الله تعالى هذه النفس السوية والروح النقية ، والحياة الراقية ، والهمة العالية التي لا تنزل إلى السفاسف ، ولا تهبط إلى المكاره ، وتظل ترقى في المعالي حتى تلقى الله تعالى .
هذه بعض الثوابت الإيمانية وسوف نتابع في سلسلتنا ـ إن شاء الله ـ مزيدا منها .
المطلب الخامس: الخطوات العملية لزيادة ثوابت الإيمان
... بعد إيراد بعض هذه الثوابت التي قد لا يشبع منها الربانيون السالكون إلى الله تعالى طريقهم ، فهم ينهلون من أبواب الخير لنفع أنفسهم والغير لعل لحظة الموت تدركهم وهم يجدّون السير إلى رب العزة سبحانه وتعالى ، وهذه نصائح عملية لزيادة ثوابت الإيمان في حياة الإنسان الذي وهب حياته للرحمن ، يرجو رضاه وسكنى الجنان ، مع النبي - صلى الله عليه وسلم - العدنان ، وصحبه وآل بيته وأهل الإيمان .
الخطوة الأولى : العلم :-
... مما لاشك فيه أن طلب العلم يرفع الإنسان إلى أعلى الدرجات لقوله تعالى: "يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ" (المجادلة: 11).
ويلحق بالملائكة الشهود على الوحدانية لقوله تعالى:"شَهِدَ اللّهُ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلاَئِكَةُ وَأُوْلُواْ الْعِلْمِ قَآئِمَاً بِالْقِسْطِ" (آل عمران: 18) ، وهو أول باب لمعرفة الرحمن ، وفهم رسالة الإسلام ، ومعرفة مداخل الشيطان ، ولذا قال النبي - صلى الله عليه وسلم - "فقيه أشد على الشيطان من ألف عابد" (سنن الترمذي - كتاب العلم عن رسول الله - باب ما جاء في فضل الفقه على العبادة - حديث رقم: 2681), وأقترح لذلك مايلي :.
الانتظام في حلقات تجويد وتفسير وحفظ القرآن الكريم كله أو جزء منه .(1/43)
قراءة الأربعين نووية وحفظها وهي من أصح الأحاديث النبوية ، ثم قراءة في كتاب رياض الصالحين باباً كل أسبوع مع بعض إخوانك أو أخواتك في الله ، وتجعلون الأهم هو التواصي بتطبيق ما جاء فيه .
دراسة السيرة النبوية من كتاب الرحيق المختوم للمباركافوري، أو كتاب آخر موثق .
دراسة الأخلاق الإسلامية ، ولعل من أفضلها ما كتبه الشيخ الغزالي في كتابه "خلق المسلم".
دراسة مدخل إلى العقيدة الإسلامية في العقيدة الطحاوية والعقيدة الإسلامية لسيد سابق .
دراسة كتاب في علوم الحديث مثل كتاب مصطلح الحديث للشيخ محمود الطحان .
دراسة كتاب في أصول الفقه وأيسره الآن كتاب"تيسير أصول الفقه" للدكتور عبد الله الجديع ، وإضاءات على متن الورقات د. عبد السلام بن إبراهيم الحصين .
دراسة مدخل إلى الفقه الإسلامي للدكتور مصطفى شلبي .
تعميق الصلة باللغة العربية، وقراءة الشعر والأدب العربي بشكل منتظم ، وتكوين ملكة لغوية تؤدي إلى أن تكون العربية لغة انتماء ، وغيرها لغات استعمال .
قراءة في الفقه الإسلامي للحديث"من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين" رواه البخاري، ويحسن في هذا البدء بكتاب فقه السنة ، ثم من أراد التوسع ففي كتاب الفقه الإسلامي وأدلته للدكتور وهبه الزحيلي ، ثم قراءة في كتاب بداية المجتهد ونهاية المقتصد لابن رشد .
قراءة كتاب "شمس الله تشرق على الغرب" للدكتورة نجريد هونكا وهو أفضل ما كتب عن روائع الحضارة الإسلامية.
قراءة متأنية في كتب العلماء والدعاة الموثوق منهم خاصة الذين يجمعون بين الحجة الشرعية والخشية القلبية ، ويلتزمون منهج الإسلام في الوسطية .(1/44)
متابعة نشرات الأخبار في الفضائيات ، والجرائد والمجلات الموثوق بها حتى يعلم المسلم ماذا يجري في العالم حوله عامة ، ولأمته الإسلامية خاصة حيث روى الحاكم بسنده عن حذيفة وعن عبد الله بن مسعود عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : "من أصبح وهمه غير الله فليس من الله في شيء و من لم يهتم للمسلمين فليس منهم" (مستدرك الحاكم - كتاب الرقاق - حديث رقم: 7902).
... هذه الخطوة ضرورية لأنها تربط الإنسان حقاً بحقائق الوجود وأصله وهو الله تعالى ، ثم رسالته في القرآن والسنة، وتاريخ الأمة وإنجازاتها الفقهية والأخلاقية والحضارية ، وهي تحفظ للعقل نضارته ومرونته واتساعه، وتحفظ للقلب قوته ، وصفاءه ونضارته ، وتحفظ للمسلم وقته أن يكون رخيصاً مصروفاً فيما لا يغني . لأن هذه تعطي الإنسان تواصلاً دائما مع هموم أمته وعالمه ، وتشعره بالمسئولية عن الإصلاح والتغيير الذي يجب أن يبدأ من النفس أولاً .
الخطوة الثانية : مجاهدة النفس :-
إذا كان العلم يزيل الشبهات ، فإن المجاهدة للنفس هي التي تعالج الشهوات، ومجاهدة النفس لكبح جماحها وامتلاك زمامها، وحملها علي ما يرضي ربها، وتصفية كدرها، وتنقية فطرتها، ولذا كان الأمر الرباني لنبيه صلي الله عليه وسلم وللمؤمنين معه بالقيام بالليل والذكر الدائم بالنهار، وهو أمر يحتاج إلي رياضة نفسية وعزيمة إيمانية، وهمة أخلاقية، وإرادة قوية.قال تعالى: " وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ " (العنكبوت: ?69?).(1/45)
والمجاهدة بغير علم كمن يقود شاحنة كبيرة إلي جبل وعر توشك ان تهوي في مكان سحيق ، أو من بذل النفس والمال حميةً جاهلية أو عصبية قبلية، أو من أجهد نفسه ليجمع مالاً لأولاده دون تربية إيمانية، فيلقي منهم عقوقاً وإنكاراً للجميل، وإهمالاً له في ذات كبره. قال تعالى: " فَلاَ تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلاَ أَوْلاَدُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللّهُ لِيُعَذِّبَهُم بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ " (التوبة: ?55?).
ويمكن بيان مجاهدة النفس من جوانب عدة أهمها مايلي:
تعريف مجاهدة النفس :
قال ابن منظور المصري في لسان العرب في تعريف المجاهدة بأنها مصدر جاهد يجاهد جهاداً ومجاهدة وهو مأخوذ من مادة "ج هـ د" التي تدل علي المشقة. ويقال المجهود هو اللبن الذي أخرج زبده لأنه لا يخرج إلا بتعب ومشقة. ولذا لا يقال اجتهد فلان في حمل حّبة، بل اجتهد في حمل صخرة، لما في الصخرة من المشقة والعناء، وسمي قيام الليل تهجداً لما فيه من تعب ومعاناة في حمل النفس على ترك النوم في الفراش الوثير ليقوم بين يدي الله رب العالمين.
أما المجاهدة للنفس اصطلاحاً فقد عرفها الجرجاني في كتاب التعريفات ( 204 ) بأنها محاربة النفس الأمارة بالسوء بتحميلها ما يشق عليها بما هو مطلوب في الشرع، وقال المناوي هي حمل النفس علي المشاق البدنية ومخالفة الهوى، وقيل هي بذل المستطاع في أمر المطاع وهو الله عز وجل.
ويبدو لي أن أعرف مجاهدة النفس بأنها حمل النفس على أداء الواجبات، والتزامات المكارم والمروءات، وترك المحرمات، والترفع عن السفاسف والمكروهات.
أهمية مجاهدة النفس :
نجد في الواقع بعضا ًمن الأطباء يدخنون أو يشربون الخمور وهم أعلم الناس بضررهما لكن شهوتهم تغلبهم ولا يعقل أن يكون إصلاحهم عن طريق شرح آثار التدخين والخمر لأنهم أعلم من غيرهم في هذا، لكن لابد من تدريبهم على مجاهدة النفس حتى يمنع نفسه من إدمانها.(1/46)
لو جلس أي إنسان في قاعات التدريس في أحسن الجامعات أو المعاهد التدريبية فتعلم فنون الخطابة، وقواعد السباحة، وآداب القيادة للسيارات فلن يجدي هذا العلم شيئاً حتى يجاهد الإنسان نفسه في مواجهة الجمهور خطيباً، أو ينزل إلى عباب البحار أو حمامات السباحة، أو يتحرك بالسيارة في الطرقات، وهى تحتاج إلى مواجهة الخوف والهلع الذي يعترى كل من يبدأ شيئاً جديداً مثل ذلك.
إن مواجهة ضغط شهوة الرجال إلى النساء أو النساء إلى الرجال والوصول إلى غض البصر وحفظ الفرج لا يحدث فقط باستحضار نصوص العفة، وعقوبة مقترف الزنا أو مقدماته، بل يلزم أن يواجه هذا الطوفان من سعار الشهوة بالصيام الذي هو وجاء لهذه الشهوة في وسط المثيرات حولنا، وبالقيام الذي يعظم الخشية لله، وبمواجهة النفس في نزواتها أن يخوض مع الخائضين سواء عن طريق الانترنت أو التليفزيون أو الأفلام الهابطة والمجلات الفاسدة، ويلزم مع هذا إشغال النفس بالحلال الطيب من التريض، وأن يكون يومه وليله مليئاً بالواجبات الشريفة، والأعمال الكثيفة فإن الشباب والفراغ والجدة مفسدة للمرء أيما مفسدة كما قال الشاعر.
مهما توسع الأخ أو الأخت في حفظ النصوص الشرعية والآثار التربوية عن فضل القيام والصلاة مع الخشوع والخضوع، وسكب الدموع خشية رب الأرض والسماوات، فلن يحصل على انتظامه في القيام والصلاة على وقتها والخشوع في أركانها حتى يجاهد نفسه ويعصر قلبه، ويظل ذاكراً لذنبه، متذكراً موقفه بين يدي ربه، وعندئذ سيذوق حلاوة مجاهدته ولذا قال أحد الصالحين: جاهدت نفسي في قيام الليل عاما فذقت حلاوته عشرين عاماً، وهو معنى قوله تعالى: "تَتَجَافَى جُنُوبُهُم? عَنِ ال?مَضَاجِعِ يَد?عُونَ رَبَّہُم? خَو?فً?ا وَطَمَعً?ا وَمِمَّا رَزَق?نَاهُم? يُنفِقُونَ" (السجدة: ?16?).(1/47)
يقول سفيان الثوري: ما عالجت شيئاً أشد عليّ من نفسي، مرة لي ومرة عليّ. ويقول الحسن البصري: ما الدابة الجموح بأحوج إلى اللجام الشديد من نفسك. راجع إحياء علوم الدين للغزالى ص (3/71).
ذكر ابن رجب في جامع العلوم والحكم ص (172) أن أبا بكر الصديق كتب لعمر بن الخطاب عندما استخلفه: إن أول ما أحذرك منه نفسك التي بين جنبيك. فإذا كان سيدنا أبو بكر يرى أن أول الخطر من نفس عمر ، ويري سفيان الثوري أن علاج أهواء النفس من أشق الأعمال، ويرى الحسن البصري أن جهاد النفس أشد من اللجام للدابة الجموح، فإننا يجب أن نهتم في هذه الفتن المتراكبة والأهواء المتعاقبة، والأجواء الهابطة بأعلى درجات المجاهدة للنفس حتى يسلس قيادها، ولذا قال الله تعالى: "فَأَمَّا مَن طَغَى (?37?) وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (?38?) فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى (?39?) وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى (?40?)" (النازعات: 37-40) ومن الآيات يبدو جلياً أن مدار الصلاح والنجاح والفوز بالجنة على جهاد النفس ومعالجة الأهواء، وأن الإخفاق فى ذلك يورد الإنسان المهالك ويعرضه لغضبة ربه وشدة نقمته والاكتواء بناره.
صور من المجاهدة للنفس:(1/48)
1- قصة طالوت : اجتاز قوم طالوت اختبارين ورسبوا في اختبار هوى النفس حتى مع المباح، حيث ادعى عشرات الآلاف أنهم يعزمون على الجهاد فلما كتب عليهم القتال تولوا إلا قليلاً منهم، وهؤلاء القليل كانت عندهم شبهات علمية في الفهم لصفات القائد، وخرج بعضهم وعالج العلم بعضاً آخر عندما ذكر لهم نبيهم أن الله اصطفاه عليهم وزاده بسطة في العلم والجسم، ومع نجاحهم في الاختبارين، لكن يحكي القرآن بأسى شديد أن كثيراً منهم لم يوفقوا في مواجهة أهوائهم، كما قال سبحانه: "فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِال?جُنُودِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ مُب?تَلِي?ُم بِنَهَرٍ? فَمَن شَرِبَ مِن?هُ فَلَي?سَ مِنِّى وَمَن لَّم? يَط?عَم?هُ فَإِنَّهُ ? مِنِّى? إِلَّا مَنِ اغ?تَرَفَ غُر?فَةَ? بِيَدِهِ? ? فَشَرِبُواْ مِن?هُ إِلَّا قَلِيلاً? مِّن?هُم? ? فَلَمَّا جَاوَزَهُ ? هُوَ وَالَّذِينَ ءَامَنُواْ مَعَهُ ? قَالُواْ لَا طَاقَةَ لَنَا ال?يَو?مَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ? ? قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلَاقُواْ اللَّهِ ?َم مِّن فِئَةٍ? قَلِيلَةٍ غَلَبَت? فِئَةً? ?َثِيرَةَ? بِإِذ?نِ اللَّهِ ? وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ" (البقرة: ?249?).
2- عرب الجاهلية لما أسلموا: لم يكن الأمر سهلاً أن يتحول عرب الجاهلية من مجالس السكر في الليل، والظلم بالنهار إلى عبّادٍ قائمين فى الليل، وصوامٍ خاشعين في النهار، حتى نزل القرآن فى آخر سورة المزمل يطلب التخفيف على أنفسهم، بل مرّ هذا- قطعا - عبر مجاهدة كبيرة للنفس .(1/49)
3- روى البخاري ومسلم بسندهما عن أنس بن مالك أن أنس بن النضر قال- بعد أن فاتته غزوة بدر – لئن أشهدني الله قتال المشركين ليرين الله ما أصنع. فلما كان يوم أحد وانكشف المسلمون دخل يضرب في صفوف الكافرين حتى ُوجد به بضع وثمانون ضربة بالسيف، وطعنة بالرمح ورمية بسهم، وقد قتل ومثل به المشركون فما عرفه أحد إلا أخته ببنانه. ونزل فيه قوله تعالى:"مِّنَ ال?مُؤ?مِنِينَ رِجَالٌ? صَدَقُواْ مَا عَاهَدُواْ اللَّهَ عَلَي?هِ ? فَمِن?هُم مَّن قَضَى نَح?بَهُ ? وَمِن?ہُم مَّن يَنتَظِرُ ? ...?" (الأحزاب: من الآية ?23?) وهذا قطعا ًمرّ عبر مجاهدة كبيرة للنفس حتى ينال هذا الرضا الرباني.
4- هاجر كثيرٌ من هؤلاء المخلصين لدينهم وأمتهم إلى أوربا وأمريكا والصين واستراليا واليابان وكانت الأهواء حولهم تدعوهم إلى تلبية غرائز النفس والانغماس في شهوات المجتمع لكنهم كانوا أوفياء لدينهم وجاهدوا أنفسهم وأحيوا ليلهم بالقيام والذكر والدعاء والقنوت، وأحيوا نهارهم بالحركة والدعوة وبناء المراكز الإسلامية والمدارس والمؤسسات التي صارت واجهات للدعوة الإسلامية تقدم للناس النور والخير والهدى والرشاد، وهؤلاء أرجو أن يصدق فيهم حديث الإمام مسلم عن معقل بن يسار أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "العبادة في الهرج كهجرة إلىّ " والهرج هو الفتن واختلاط الأمور وقلة من يعين على الطاعة لأن العبادة هنا تحتاج إلى مجاهدة شديدة.
: كيف نجاهد أنفسنا؟
هناك قواعد عامة وأساليب خاصة تعين على مجاهدة أنفسنا ولا تغني إحداهما عن الأخرى.
أ- القواعد العامة في مجاهدة النفس:
1- إحياء حب الله تعالى فى القلب حتى يكون حبه سبحانه أرقى من حب النفس والأهل والولد والمال وذلك بالإكثار من النظر في الكون المنظور والكتاب المسطور، ودوام الذكر، والتلذذ بالأوراد الإيمانية من صلاة في الليل وصيام في النهار.(1/50)
2- إحياء الخوف من الله تعالى بمطالعة مصارع الظالمين، ومهالك الفاسقين ومآلات المفسدين، ويقارن الإنسان حاله بحالهم، ويتهم نفسه، ويعظم عنده الخوف على نفسه لكثرة النعم الإلهية، وقلة الأعمال الخيرية، وكثرة الذنوب اليومية، ويتذكر الموت وسكراته والقبر وظلماته، والحشر وأنّاته، والصراط وسقطاته، والنار ولهيبها، وجهنَّم وسعيرها، والزقوم والحميم والمقامع الحديدية، والصرخات التي تخرج من العصاة وهم فى النار يعذَّبون، وفي هذا يروي ابن أبى الدنيا في كتابه محاسبة النفس ص (34) أن إبراهيم التيمي قال : مثلت نفسي في الجنة آكل من ثمارها، وأشرب من أنهارها، وأعانق أبكارها، ثم مثلت نفسي في النار آكل من زقومها، وأشرب من صديدها، وأعالج سلاسلها وأغلالها، فقلت لنفسي: أىْ نفس، أي شيء تريدين؟ قالت: أريد أن أُردَّ إلى الدنيا فأعمل صالحاً، قال: قلت: فأنت فى الأمنية فاعملي.
3 - قوة الإرادة والعزيمة على مواجهة النفس بقوة الجناجين السابقين "الخوف والرجاء" "الرهبة والرغبة" واليقين أن العبد مهما كان ضعفه إذا لجأ إلى ربه واستعان به أعانه، وقد دعا سيدنا يوسف فى الفتنة التي تعرض لها فقال :
"رَبِّ السِّج?نُ أَحَبُّ إِلَىَّ مِمَّا يَد?عُونَنِى? إِلَي?هِ ? وَإِلَّا تَص?رِف? عَنِّى كَي?دَهُنَّ أَص?بُ إِلَي?ہِنَّ وَأَكُن مِّنَ ال?جَاهِلِينَ" (يوسف: من الآية ?33?) فصرف الله عنه كيدهن واحتمل بهمة عالية السجن مظلوماً بسبب عِفَّته، وانشغل في سجنه بنشر دعوته حتى كتب الله له الخروج إلى التمكين بتقواه وحسن صبره، ولعل مما يعين فى هذا حديث البخاري: إذا سألتم الله فاسألوه الفردوس الأعلى من الجنة.
ونذكر قول الشاعر:
لأستسهلن الصعب أو أدرك المنى فما انقادت الآمال إلا لصابر
وقول الشاعر :
أبارك فى الناس أهل الطموح ومن يستلذ ركوب الخطر
ومن لا يحب صعود الجبال يعش أبد الدهر بين الحفر
ومن لم يعانقه شوك الحياة تبخر في جوها واندثر(1/51)
وقول الشاعر:
لا تحسبن المجد تمراً أنت آكله لن تبلغ المجد حتى تلعق الصبرا
ب- الأساليب الخاصة في مجاهدة النفس :
هذه الأساليب الخاصة تعتمد على صدق العبد مع ربه ومعرفته بمواضع ضعفه وقوته فلا يضع نفسه فى موضع يعلم أن نفسه تميل مع الهوى وتخالف الرشاد والهدى.
وبناء عليه أحب أن أسوق هذه الأمثلة الخاصة في مجاهدة النفس :
1- من اعتاد على شراب متكرر من الشاي أو القهوة أو غيرهما يلزم أن يجاهد نفسه حتى لا يكون أسيراً لعادة، ولذلك يقال أفضل عادة ألا تكون لك عادة.
2- أن تترك بين فترة وأخرى على المائدة نوعاً من الطعام وهو أحب الأنواع إليك فإنك بهذا تهذب في النفس سطوتها فى التلذذ بالمطاعم الخاصة.
3- إن كان من طبع الأخ أو الأخت الإسراف والتبذير حتى فى أبواب الخير، فيجب أن يجاهد نفسه أو أن تجاهد نفسها فى الادخار والتوفير ولو بالقليل، وإن كان عكس ذلك شحيحاً بخيلاً فيجب أن يجاهد نفسه فى البذل والإنفاق والتوسعة على الأهل والأقارب والمؤسسات الخيرية.
4- إن كان من طبع الأخ أنه سريع الغضب بطئ الفيء فيجب أن يلاحظ نفسه ويتذكر أن الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب ، فإن انفلتت نفسه فى غضبة لغير الله تعالى عالجها بالصيام والقيام وعاقبها بالحرمان مما تحب ومن عقوبته لنفسه سرعة الفيء، والمبادرة إلى خصمه" وخيرهما الذي يبدأ بالسلام".
5- إن كان الأخ أو الأخت يميل إلى الصمت الطويل حتى إنه ليوغر صدر زوجته التى تنتظر منه كلمة طيبة أو لفتة كريمة بعد طعام، أو حسن لبس، أو جمال هيئة، فيجب أن يجاهد نفسه في الالتفات إلى أن الكلمة الطيبة صدقة وأن من أدخل السرور على أهل بيت من بيوت المسلمين لم يرض الله له جزاءاً إلا الجنة.(1/52)
أما كثير الكلام بطبعه فيجب أن تأتي عليه فترات يجاهد نفسه بحسن الاستماع وقلة الكلام، وضبط اللسان ويتذكر حديث الترمذي بسند حسن صحيح عن معاذ ابن جبل: "ثكلتك أمك يا معاذ، وهل يكب الناس في النار على وجهوهم أو على مناخرهم إلا حصائد ألسنتهم، ولعله يعالج نفسه بطول الخلوة وقلة الجولة مع الآخرين، فإن الخلوة تعين على الصمت إلا من ذكر الله أو تفكر فى آلائه".
6- هناك إخوة وأخوات لا يحبون القراءة ويملون من قراءة فصل فى كتاب وهؤلاء يجب أن يجاهدوا أنفسهم بالبدء فى قراءة منهجية بدلاً من القراءات العشوائية لوريقات مبعثرة، فيتمون بعض الكتب الصغيرة، ثم يتجهون إلى الكتب الكبيرة ويتذكرون أن خير جليس فى الأنام كتاب، وأن أصحاب العلم هم شركاء الملائكة الكرام فى الشهادة لله بالوحدانية لقوله تعالى: " شَهِدَ اللّهُ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلاَئِكَةُ وَأُوْلُواْ الْعِلْمِ قَآئِمَاً بِالْقِسْطِ " (آل عمران: من الآية?18?). وأن الدنيا رجلان عالم ومتعلم ولا خير فيما سواهما كما أخبرنا الحبيب محمد - صلى الله عليه وسلم -.
7- إذا اعتاد الأخ أن يقود سيارته بسرعة زائدة فليجاهد نفسه بأن يقول هذا الأسبوع لن أتجاوز ولا مرة في السرعة، فإن حدث عاقب نفسه بمشيٍ طويل أو حرمان من شراب سلسبيل ، أو طعام شهي، أو يتصدق بشيء كأنه أخذ نصف مخالفة، لكنه يقدمها صدقة لباب من أبواب الخير، حتى يعود ضابطاً لنفسه فى القيادة مجاهدا لنفسه فى جوانب أخرى.
8- من اعتاد أن يتوضأ لكل صلاة فقط فلينظر فى قوله تعالى: " إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ " (البقرة: من الآية?222?). وليعاهد ربه أن يلزم نفسه بالوضوء فى كل وقت وحين، فكلما انتقض الوضوء توضأ سواء للصلاة أو الطعام أو القراءة أو الخروج حتى يكون دائماً حاملاً لسلاح الإيمان وقادراً على مواجهة وساوس الشيطان، ومستعداً للقاء الرحمن .(1/53)
9- من تشبع قلبه واقتنع عقله بفضل عبادة فليتخذ قراره بأن تكون ثابتاً من ثوابت حياته، مثل صلاة السنن، وصلاة الضحى ، وصيام ثلاثة أيام من كل شهر ، وصدقة السر، وأذكار دائمة، "فخير الأعمال أقلها وأدومها" كما روى البخاري بسنده عن عائشة فى الحديث عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .
10- من استهوته شهوة النساء وغلبت عليه فتنة الجمال، وأهواء الإعلانات والأفلام ، فليفزع إلى الصوم فهو الوجاء، وليهرع إلى ملاطفة أهله، وأن يشبع من الحلال أو يبادر إلى الزواج إن لم يكن متزوجاً، ويشغل ليله ونهاره بأعمال تستغرق طاقاته وهمومه، ولا يدع الفراغ والفكر ليفسد عليه عفته ومروءته.
أخيراً لا يُعرف نظام أو قانون عادل في أية دولة أو شركة أو مؤسسة إلا وفيها نظام الإحسان لمن أحسن وعقاب من يخالف، ونحتاج بحق أن نتعامل مع أنفسنا بهذا المنطق .
لو حاولنا أن نربط بين زيادة ثوابت الدنيا، ومحاولات الشيطان أن نتراجع في ثوابت الآخرة، فقد يكون من المناسب لمن أدرك أن الدنيا مليئة بالخداع والزينة، وهي دار الغرور والآخرة هي دار القرار فأقترح لمن قصر في ثابت من ثوابت الآخرة أن يمنع نفسه من شيء يحبه من ثوابت الآخرة ، ليس تحريما بل تعليما، ليس قسوة بل قوة في مواجهة انفلات النفس من الواجبات، وانجرار الهوى وراء الشيطان والنزوات، والمدرب في الملاعب أو للقوات، والقوات المحاربة لا يمكن أن يصنع لاعبا أو محاربا إلا إذا عوده على عادات جديدة ومنع عنه أشياء مباحة حتى يقدر أن يقاوم هواه . ومن هنا اقترح بعضا من العقوبات التي لها صلة بثوابت الدنيا والآخرة منها ما يلي :-
إذا فاتتك صلاة الفجر في المسجد، فاحرم نفسك من نوعٍ من الطعام تحبه أو شراب تعودت عليه طوال اليوم ، أو امنع نفسك من النوم على سرير ليلة واحدة.(1/54)
من فاته في يوم قراءة القرآن الكريم ضاعف القراءة في اليوم التالي، وامنع نفسك من مشاهدة التلفزيون ساعة من ليل أو نهار وخصصها لقراءة القرآن .
من فاتته الأذكار في الصباح والمساء يمكنه أن يغلق التلفون النقال ساعة فقط من يومه يفرغ فيها في خلوة مع الله ،ليعوض ما فاته، ويحمل نفسه على أنوار الذكر.
بهذا فقط تسلس النفس وتنقاد ، يقول الشاعر :
والنفس كالطفل أن تتركه شب على حب الرضاع وإن تفطمه ينفطم
صلاح أمرك للأخلاق مرجعه فقوّم النفس بالأخلاق تستقيم
الخاتمة
إقبال المسلمين على ربهم في رمضان ظاهرة صحية تبث الأمل، حتى لو حدث ألم التراجع ، لكنا نرجو أن نمسك بخيوط البر في رمضان لننسج لباس التقوى يكسونا طوال العام .
هناك زيادة كبيرة في ثوابت الدنيا ، توجب لدى أصحاب القلوب وأولي الألباب أن يزيدوا في ثوابت الآخرة ، ذكراً وشكراً لنعم الرازق عز وجل .
من الضروري لكل ذي قلب أن يراجع نصوص القرآن والسنة حول صفات وخصائص الدنيا والآخرة، كي يعيد التوازن إلى حياته ، ويزيد من ثوابت الإيمان استعداداً للقاء الرحمن ، وينال من رضاه وجنته ما يجعله سعيداً في معاشه ومعاده .
كان لأصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثوابت عامة إيمانية ، وثوابت خاصة لكل منهم في جانب نبغ فيه من جوانب الخير ، ونحتاج أن نكتشف أنفسنا لتكون لنا الصبغة العامة والثوابت الخاصة .
من ثوابت الإيمان بعد رمضان الانتقال إلى عمارة المساجد عدداً ونوعاً في توسيع رسالة المسجد الروحية والعلمية والصحية والاجتماعية والفنية .
من ثوابت الإيمان بعد رمضان تجويد القرآن والانتظام في ختمه قراءة ومعايشة لآياته تدبراً بالعقل وتأثراً بالقلب، وتغيراً بالنفس، وإنشاء حِلَق للقرآن في المساجد والمدارس والبيوت .(1/55)
من ثوابت الإيمان بعد رمضان الاحتفاظ بقدر من الصيام طوال العام سواء الست البيض أم عرفه وتاسوعاء وعاشوراء وشعبان والاثنين والخميس ولكسر الشهوة أو الصيام الواجب نذراً أو كفارة .
من ثوابت الإيمان بعد رمضان الاندماج في أعمال البر ومؤسسات النفع العام قتلاً للرتابه وملأ للفراغ بما ينفع الناس ، ويجعل لحياة الإنسان قيمة عليا في الدنيا والآخرة .
من الجوانب العملية المفيدة في الالتزام بثوابت الإيمان بعد رمضان العلم المنهجي الذي يزيل الشبهات، ويزكي الطاقات والقدرات ، ثم مجاهدة النفس التي تعالج نزغات الهوى وضغط الشهوات، ومعاقبة النفس إن تخلت عن ثابت من ثوابت الآخرة ، بترك ثابت من ثوابت الدنيا .
والله الموفق
الفهرس
المقدمة
تمهيد
المطلب الأول: المسلمون أمل في رمضان وألم بعده.:
أولاً:- المسلمون . أمل في رمضان .
ثانياً :- المسلمون ـ ألم بعد رمضان.
المطلب الثاني : تساؤلات ـ بل الإنسان على نفسه بصيرة :
المطلب الثالث : الدنيا والآخرة في القرآن الكريم والسنة النبوية :
أولاً:- الدنيا في القرآن الكريم والسنة النبوية.
ثانياً :- الآخرة في القرآن الكريم والسنة النبوية.
المطلب الرابع : ثوابت الإيمان للمسلم والمسلمة:
أولا: - من زيارة المساجد إلى عمارتها .
ثانيا: -تعاهد القرآن تلاوة وفهما وعملاً ودعوة بطريقة منظمة ومنتظمة .
ثالثا: -الانتظام في ورد دائم من الصيام بعد رمضان .
رابعا: - المشاركة الفعالة في أعمال البر والنفع العام .
المطلب الخامس : الخطوات العملية لزيادة ثوابت الإيمان:
الخطوة الأولى : العلم :
الخطوة الثانية : مجاهدة النفس :
تعريف مجاهدة النفس .
أهمية مجاهدة النفس .
صور من المجاهدة للنفس .
كيف نجاهد أنفسنا.
الخاتمة
بسم الله الرحمن الرحيم(1/56)
هذا الكتاب يعالج ظاهرة التراجع في العبادة بعد رمضان بأسئلة للنفس : كيف زادت ثوابت الدنيا وهي دار غرور والى زوال وفناء ونقصت ثوابت الآخرة وهي إلى نماء وبقاء ؟ ! !
ويقدم بعض الثوابت التي يجب أن تكون جزءاً من حياة المسلم والمسلمة ، ولم يدع القارئ دون وضع أساليب تربوية علمية وعملية لمجاهدة النفس ، وحملها على المكارم والثوابت الإيمانية .
عيدكم مبارك
وكل يوم لا نعصى الله فيه فهو عيد(1/57)