وقال عتبة بن أبي سفيان لمؤدب ولده: ليكن أول إصلاحك لولدي إصلاحك لنفسك؛ فإن عيونهم معقودة بك؛ فالحسن عندهم ما صنعتَ، والقبيح عندهم ما تركتَ، وعلِّمهم كتاب الله ولا تكرههم عليه فيملوه، ولا تتركهم منه فيهجروه، ثم روِّهم من الشعر أعفَّه، ومن الحديث أشرفه، ولا تُخرجهم من علم إلى غيره حتى يُحكِموه؛ فإن ازدحام الكلام في السمع مضلة للفهم...»(3).
ويحذر ابن مسكويه من ترك التربية للخدم خوفاً عليهم من أن يتأثروا بأخلاقهم وأفعالهم(4).
? الحرص على تعليمهم الخير:
وهذا من تمام القيام بالأمانة التي وليها الوالدان. جاء في الأثر: «ما نحل والد ولداً من نِحَل أفضل من أدب حسن». وجاء الأمر النبوي بتعليم الصغار بعض الآيات لأهميتها؛ فقد قال -صلى الله عليه وسلم-: «إن الله ختم سورة البقرة بآيتين أعطانيهما من كنزه الذي تحت العرش فتعلموهن وعلموهن نساءكم وأبناءكم؛ فإنها صلاة وقرآن ودعاء»(5). وروى ابن أبي شيبة أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان يعلم الغلام من بني عبد المطلب إذا أفصح قول الله ـ تعالى ـ: {وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُن لَّهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ} [الإسراء: 111]، سبع مرات. وكان علي بن الحسين يعلمهم: «قل آمنت بالله وكفرت بالطاغوت»، وكان بعض السلف يعلم الصبيان قول: لا إله إلا الله»(6).
كما أن السلف كانوا يقدمون الغالي والرخيص ليرغبوا الأطفال في العلم؛ فقد روى النضر بن شميل قال: سمعت إبراهيم بن أدهم يقول: قال لي أبي: يا بنيَّ! اطلب الحديث؛ فكلما سمعت حديثاً وحفظته فلك درهم. فطلبت الحديث على هذا(7).
ولما كان الاختلاط بالأعاجم مظنة لفساد اللسان العربي، حرص السلف على تقويم ألسنة الصغار من اللحن؛ فقد جاء عن نافع عن ابن عمر ـ رضي الله عنهما ـ «أنه كان يضرب بنيه على اللحن»(8).(2/201)
ولم يكن السلف غافلين عن العلوم الأخرى المفيدة كالأنساب والشعر؛ فقد أرسل معاوية ـ رضي الله عنه ـ إلى دغفل فسأله عن العربية وعن أنساب العرب، وسأله عن النجوم فإذا رجل عالم. قال: «يا دغفل! من أين حفظت هذا؟ قال: بلسان سؤول وقلب عقول وإنَّ آفة العلم النسيان. قال: انطلق بين يديَّ ـ يعني ابنه يزيد ـ فعلمه العربية وأنساب قريش والنجوم وأنساب الناس»(9).
ولما دفع عبد الملك وُلْده إلى الشعبي يؤدبهم قال: علمهم الشعر يمجدوا وينجدوا، وحسِّن شعورهم تشتد رقابهم، وجالس بهم عِلية الرجال يناقضوهم الكلام(10).
ولأن السلف أمة مجاهدة، كانوا يربون أبناءهم على حب هذه الشعيرة والتدرب عليها ليكونوا على استعداد تام عند الحاجة إليهم؛ فقد أوصى عمر بن عبد العزيز مؤدب ولده سهلاً قائلاً: «وليفتح كل غلام فيهم بجزء من القرآن يثبت في قراءته؛ فإذا فرغ تناول قوسه ونبله وخرج إلى الغرض حافياً فرمى سبعة ارشقة ثم انصرف إلى القائلة»(11).
قال ابن القيم ـ رحمه الله ـ: «إذا رأى الصبي وهو مستعد للفروسية وأسبابها من الركوب والرمي واللعب بالرمح وأنه لا نفاذ له من العلم ولم يخلق له، ومكنه من أسباب الفروسية والتمرن عليها فإنه أنفع له وللمسلمين»(12).
ومن الأساليب التي يحببون بها العلم إلى الصغار الاحتفال بهم. قال أبو خبيب الكرابيسي: كان معنا ابن لأيوب السختياني في الكُتَّاب، فحذق الصبي، فأتينا منزلهم فوُضِعَ له منبر فخطب عليه ونهبوا علينا الجوز وأيوب قائم على الباب يقول لنا: ادخلوا، وهو خاص لنا(13)، وقال يونس: حذق ابن لعبد الله بن الحسن فقال عبد الله: إن فلاناً قد حذق، فقال الحسن ـ رضي الله عنه ـ: كان الغلام إذا حذق قبل اليوم نحروا جزوراً وصنعوا طعاماً للناس(14).(2/202)
ومن ذلك أن الصبي إذا كان ذا موهبة خطابية فإن الأوْلى بمعلمه أن ينمي هذه الموهبة، وقد كان ابن الجوزي الواعظ من ثمار الشيخ أبي القاسم البلخي؛ فإنه علمه كلمات ثم أصعده المنبر فقالها وكان عمره ثلاث عشرة سنة، قال ابن الجوزي: وحزر الجمع يومئذ بخمسين ألفاً. وهو أول مجالسه رحمه الله(15).
ومن الأمور التي ينبغي أن يُعلَّمها الصبي: الجرأة على طرح أفكاره، ويكون هذا بمجالسة العقلاء الكبار ليكبر عقله وينضج تفكيره؛ فمن الخطأ أن يمنع الصغير من حضور مجالس أهل الخبرة والتجربة، وقد مر عمرو بن العاص ـ رضي الله عنه ـ على حلقة من قريش فقال: «ما لكم قد طرحتم هذه الأغيلمة؟ لا تفعلوا! أوسعوا لهم في المجلس، وأسمعوهم الحديث، وأفهموهم إياه؛ فإنهم صغار قوم أوشك أن يكونوا كبار قوم، وقد كنتم صغار قوم فأنتم اليوم كبار قوم»(16)، بل كان ابن شهاب الزهري ـ رحمه الله ـ يشجع الصغار ويقول: «لا تحتقروا أنفسكم لحداثة أسنانكم؛ فإن عمر بن الخطاب كان إذا نزل به الأمر المعضل دعا الفتيان فاستشارهم يتبع حدة عقولهم»(1).
وتعليم الصبي الاعتماد على النفس بتعلم صنعة أو تجارة أمر مهم من أهم واجبات الولي؛ فقد روى أبو داود أن النبي -صلى الله عليه وسلم- رأى غلاماً لا يحسن سلخ الشاة، فقال له: تنحَّ حتى أريك، فأدخل يده بين الجلد واللحم فدحس بها حتى توارت إلى الإبط، ثم مضى(2).
? الحفاظ على صحتهم:
من ذلك أنه حرص -صلى الله عليه وسلم- على ألا يتعرض ابناه (الحسن والحسين) للشمس؛ فقد روى الحاكم من حديث فاطمة ـ رضي الله عنها ـ «أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أتاها يوماً فقال: أين ابناي؟ فقالت: ذهب بهما علي. فتوجه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فوجدهما يلعبان في مشربة وبين أيديهما فضل من تمر. فقال: أيا علي ألا تقلب ابنيَّ قبل الحر؟(3).(2/203)
ومن ذلك تنظيف جروح الصغار حتى لا يحصل تلوث بالجرح؛ فعن عائشة ـ رضي الله عنها ـ قالت: «عثر أسامة بعتبة الباب فشج في وجهه، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: أميطي عنه الأذى، فتقذرته، فجعل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يمصه ويمجه، ثم قال: لو كان أسامة جارية لحلَّيناه وكسوناه حتى ننفقه(4)، وعنها أيضاً أن أسامة كان بين يدي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فذهب يمسح مخاطه، فقالت عائشة ـ رضي الله عنها ـ: دعني يا رسول الله دعني! أنا إليه، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: يا عائشة! أحبيه؛ فإني أحبه»(5).
كما أن للوقف دوره في هذا الجانب؛ فقد أيقن المجاهد صلاح الدين أن التغذية السليمة للطفل تجعله قوياً سليم الجسم، والأطفال رجال المستقبل؛ فلبُعد نظره أوقف صلاح الدين وقفاً لإمداد الأمهات بالحليب اللازم لأطفالهن، وقد جعل في أحد أبواب قلعة دمشق ميزاباً يسيل منه الحليب، وميزاباً يسيل منه الماء المذاب بالسكر، فتأتي الأمهات يومين في كل أسبوع فيأخذن لأطفالهن ما يحتاجون إليه من الحليب والسكر(6).
وليعلم أن الصغار كثيراً ما يتعرضون لأذى الشياطين لعدم تعويذهم للهدي النبوي الواقي للصغير من الشيطان والجان؛ فمما يشرع للصغير أن يعوَّذ من الشيطان؛ فقد قالت امرأة عمران: {وَإنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ} [آل عمران: 36].
وعن ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ قال: كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يُعوِّذ الحسن والحسين وقال: «كان أبوكم إبراهيم يعوذ إسماعيل وإسحاق: أعيذكما بكلمات الله التامة من كل شيطان وهامَّة، ومن كل عين لامَّة»(7).(2/204)
ويمنع الصبي من الخروج وقت انتشار الشياطين حتى لا يؤذوه؛ فقد روى البخاري أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: «اكفتوا صبيانكم عند العشاء؛ فإن للجن انتشاراً وخطفة»(8)، وفي حديث جابر مرفوعاً: «إذا كان جنح الليل أو أمسيتم فكفوا صبيانكم؛ فإن الشياطين تنتشر حينئذ؛ فإذا ذهب ساعة من الليل فحُلُّوهم...»(9)، وجنح الليل هو إقباله بعد غروب الشمس.
? التربية بالحب:
ولهذا النوع من التربية مظاهر منها:
? التقبيل للصغير واحتضانه وشمه:
ومن أعظم مظاهر الحب التقبيل للصغار وضمهم، وهذا من الرحمة التي يؤجر العبد عليها، وقد جاء في حديث أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قبَّل الحسن وعنده الأقرع بن حابس التميمي جالساً، فقال الأقرع: إن لي عشرة من الولد ما قبلت منهم أحداً، فنظر إليه النبي -صلى الله عليه وسلم- ثم قال: من لا يَرحم لا يُرحم»(10).
وروى مسلم عن أنس قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «ولد لي الليلة غلام فسميته باسم أبي إبراهيم، قال أنس: ثم دفعه إلى أم سيف امرأة قين، فانطلق ـ يعني رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ـ يأتيه واتبعته، فانتهينا إلى أبي سيف وهو ينفخ بكيره، وقد امتلأ البيت دخاناً، فأسرعت المشي بين يدي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقلت: يا أبا سيف أمسك! جاء رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فأمسك، فدعا النبي -صلى الله عليه وسلم- بالصبي فضمه إليه، وقال ما شاء الله أن يقول(11).
وقال بريدة: كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يخطبنا فجاء الحسن والحسين عليهما قميصان أحمران يمشيان ويعثران، فنزل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من المنبر فحملهما فوضعهما بين يديه وقال: صدق الله: {إنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ} [التغابن: 15]، نظرت إلى هذين الصبيين يمشيان ويعثران فلم أصبر حتى قطعت حديثي ورفعتهما(12).
? ومن ذلك الدعاء للصغير:(2/205)
وهذا هو هدي الأنبياء والصالحين؛ فعباد الرحمن يقولون: {رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ} [الفرقان: 74]، وزكريا يقول: {فَهَبْ لِي مِن لَّدُنكَ وَلِيًّا} [مريم: 5]، وإبراهيم يقول: {رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ} [الصافات: 100]، ويدعو لهم بصلاح العقيدة: {وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَن نَّعْبُدَ الأَصْنَامَ} [إبراهيم: 35]، ويدعو لهم بأن يكونوا مقيمين للصلاة: {رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاةِ وَمِن ذُرِّيَّتِي} [إبراهيم: 40].
عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ قال: خرج رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وخرجت معه حتى أتينا سوق بني قينقاع، ثم انصرف فأتى بيت عائشة ثم قال: أثَمَّ لُكَع ـ يعني حسيناً ـ وظننت أن أمه حبسته تغسله أو تلبسه سِخاباً، فلم يلبث أن جاء يشتد فعانق كل واحد منهما صاحبه، ثم قال: اللهم إني أحبه فأحبه وأحب من يحبه(1)، قال ابن مفلح: لُكَع هنا: الصغير، والسخاب بكسر السين: جمعه سخب، القلادة من القرنفل والمسك والعود ونحوها من أخلاط الطيب يُعمل على هيئة السبحة ويجعل قلادة للصبيان والجواري، وقيل: خيط يسمى سِخاباً لصوت خرزه عند حركته من السَّخب ويقال: الصَّخب وهو اختلاط الاصوات. وفيه جواز لباس الصبيان القلائد والسخب من الزينة(2).
وعن ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ قال: «ضمني رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وقال: «اللهم علمه الكتاب» وفي رواية: «اللهم علمه الحكمة» وفي أخرى: «اللهم فقهه في الدين»(3).
وعن أسامة بن زيد ـ رضي الله عنه ـ قال: إن كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ليأخذني ويُقعدني على فخذه ويُقعد الحسن على الأخرى، ثم يضمنا، ثم يقول: اللهم ارحمهما؛ فإني أرحمهما(4)، وفي رواية: «اللهم إني أحبهما فأحبهما»(5).(2/206)
أما الدعاء عليهم فقد ورد النهي عنه في حديث جابر ـ رضي الله عنه ـ أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: «لا تدعوا على أنفسكم، ولا تدعوا على أولادكم، ولا تدعوا على أموالكم؛ لا توافقوا من الله ساعة يُسأل فيها عطاء فيستجيب لكم»(6).
? ومن ذلك ممازحتهم وتفريحهم:
فقد كان -صلى الله عليه وسلم- يمازح الصغار؛ فقد قال لأحدهم: «يا ذا الأذنين»(7)، ومجَّ -صلى الله عليه وسلم- الماء في وجه محمود بن الربيع وهو ابن خمس سنين(8)، وقال لأحدهم: «يا أبا عمير ما فعل النغير»(9).
وعن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ قال: كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إذا أتى الثمر أُتي به فيقول: «اللهم بارك لنا في مدينتنا وفي مُدِّنا وفي صاعنا بركة مع بركة» ثم يعطيه أصغر من بحضرته من الولدان(10).
ومن ذلك إردافهم على الدابة؛ فقد قال عبد الله بن جعفر ـ رضي الله عنه ـ: كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إذا قدم من سفر تُلُقِّيَ بالصبيان من أهل بيته. قال: وإنه قدم مرة من سفره فسيق بي إليه فحملني بين يديه، ثم جيء بأحد ابني فاطمة إما حسن وإما حسين فأردفه خلفه. قال: فدخلنا المدينة ثلاثة على دابة»(11)، وقال ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ: لما قدم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مكة استقبله أغيلمة بني عبد المطلب فحمل واحداً بين يديه وآخر خلفه(12).
ومر ابن عمر ـ رضي الله عنهما ـ في طريق فرأى صبياناً يلعبون فأعطاهم درهمين(13).
وعن سعيد بن عمرو ـ في قصة قدوم خالد بن سعيد وعمرو ابن سعيد من الحبشة ـ وفي آخره قال: ومع خالد ابنة عليها قميص أصفر، فقال لها: اذهبي فسلمي على رسول الله -صلى الله عليه وسلم-. قال: فانكبت على رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فجعلت تريه قميصها، فقال لها رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: سنه سنه ـ قال: حسن بلغة الحبشة ـ أبلي وأخلقي ثم أبلي وأخلقي(14).
? السماح لهم باللعب فهو ربيع الصغار:(2/207)
عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ: «أنه صلى مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- العشاء فأخذ الحسن والحسين يركبان على ظهره؛ فلما جلس وضع واحداً على فخذه والآخر على فخذه الأخرى...»(15)، وفي حديث شداد بن الهاد ـ رضي الله عنه ـ أنه رأى الحسن أو الحسين على ظهر النبي -صلى الله عليه وسلم- وهو ساجد، فأطال السجود؛ فلما قضيت الصلاة قال الناس: يا رسول الله! إنك سجدت بين ظهراني صلاتك هذه سجدة قد أطلتها فظننا أنه قد حدث أمر أو أنه يوحى إليك، قال: «فكل ذلك لم يكن، ولكن ابني ارتحلني، فكرهت أن أعجله حتى يقضي حاجته»(16)، وعن ابن مسعود ـ رضي الله عنه ـ قال: كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يصلي والحسن والحسين يثبان على ظهره فيأخذهما الناس فقال: دعوهما بأبي هما وأمي، من أحبني فليحب هذين»(17).
وعن عبد الله بن الحارث ـ رضي الله عنه ـ قال: كان -صلى الله عليه وسلم- يصف عبد الله وعبيد الله ـ من بني العباس ـ ثم يقول: من سبق إلى كذا فله كذا وكذا، قال: فيستبقون إليه فيقعون على ظهره وصدره فيقبِّلهم(18).
وورد عنه -صلى الله عليه وسلم- أنه كان من أفكه الناس مع صبي(19).
ونقل ابن مفلح عن ابن عقيل أنه قال: «والعاقل إن خلا بأطفاله خرج بصورة طفل، ويهجر الجد في ذلك الوقت»(20).
وقد عزل عمر والياً؛ لأنه لا يلاعب أطفاله(21).
وعنما تزوج النبي -صلى الله عليه وسلم- عائشة ـ رضي الله عنها ـ كانت صغيرة؛ ولذلك كان -صلى الله عليه وسلم- يعطيها حقها من اللهو؛ فقد أذن لها برؤية الحبشة وهو يلعبون بالحراب في المسجد(22)، وسابقها مرة فسبقته، ثم سابقها بعد أن حملت اللحم فسبقها، فقال -صلى الله عليه وسلم-: «هذه بتلك»(1).
وعن عقبة بن الحارث قال: رأيت أبا بكر ـ رضي الله عنه ـ يحمل الحسن بن علي ويقول:
بأبي شبيه بالنبي
ليس شبيهاً بعلي
وعلي معه يتبسم(2)، قال الحافظ في الفتح: وكان عمر الحسن إذ ذاك سبع سنين(3).(2/208)
وعن عكرمة قال: ختن ابن عباس بنيه، فأرسلني فجئته بلعَّابين فلعبوا وأعطاهم أربعة دراهم(4).
وعن الحسن أنه دخل منزله وصبيان يلعبون فوق البيت ومعه عبد الله ابنه فنهاهم فقال الحسن: دعهم فإن اللعب ربيعهم(5).
وعن إبراهيم النخعي قال: كانوا يرخصون للصبيان في اللعب كله إلا بالكلاب(6).
وقد ذكر البيهقي باباً في ما ورد من لعب الصبيان بالتراب(7).
وورد عن عائشة ـ رضي الله عنها ـ أنها كانت تلعب بالأرجوحة مع صاحباتها قبل دخول النبي -صلى الله عليه وسلم- بها(8).
وفي حديث الجاريتين أنهما كانتا تغنيان وتضربان بالدف عند عائشة ـ رضي الله عنها ـ في العيد من أيام منى(9).
كما ورد عنها ـ رضي الله عنها ـ أنه كان لها فرس له جناحان(10)، وفي الصحيحين عنها ـ رضي الله عنها ـ قالت: «كنت ألعب بالبنات عند النبي -صلى الله عليه وسلم-، وكان لي صواحب يلعبن معي فكان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إذا دخل ينقمعن منه فيُسَرِّبُهن إليَّ فيلعبن معي»(11)، قال النووي: قال القاضي: فيه جواز اللعب بهن وهن مخصوصات من الصور المنهي عنها لهذا الحديث، ولما فيه من تدريب النساء في صغرهن لأمر أنفسهن وبيوتهن وأولادهن، وقد أجاز العلماء بيعهن وشراءهن... ثم قال: ومذهب جمهور العلماء جواز اللعب بهن. وقال ابن حجر نحو هذا الكلام وأضاف: جزم القاضي عياض بتخصيص لعب البنات من عموم النهي ونقله عن الجمهور(12).
قال الشيخ ابن عثيمين ـ رحمه الله ـ: «إن كانت لعب الأطفال المجسمة كخلق الإنسان فاجتنابها أوْلى، ولكن لا أقطع بالتحريم؛ لأن الصغار يرخص لهم ما لا يرخص للكبار في مثل هذه الأمور؛ فإن الصغير مجبول على اللعب والتسلي وليس مكلفاً بشيء من العبادات حتى نقول: إن وقته يضيع عليه لهواً وعبثاً..»(13).(2/209)
ويجوز لعب الأطفال ببعض الحيوانات والطيور إذا لم يكن فيه أذى لهم؛ ففي الصحيحين عن أنس ـ رضي الله عنه ـ أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال لأخ لأنس: «يا أبا عمير! ما فعل النغير؟»(14)، وقد ذكر العلماء في فوائده: جواز لعب الصغير بالطير، وجواز ترك الأبوين ولدهما الصغير يلعب بما أبيح له اللعب به، وجواز إنفاق المال فيما يتلهى به الصغير من المباحات، وجواز إمساك الطير في القفص ما دام يطعمه ويسقيه. وأشار بعض أهل العلم إلى جواز قص جناح الطير حتى لا يطير(15).
? التوسعة عليهم عند اليسار:
وهذا داخل في عمومات النصوص التي منها: «خيركم خيركم لأهله» وحديث: «إن الله يحب أن يرى أثر نعمته على عبده»، ومن أوْلى ما يدخل في ذلك التوسعة على الأولاد باللبس الحسن والطعام الحسن بل وتطييبهم بأنفس الطيب. قالت أم أبي محمد التمار: ربما حملنا أولاد أيوب فعبق لنا من ريحهم ريح المسك أو الطيب(16).
? حقوق الصغار:
من ذلك تشميت الصغير إذا عطس، قال ابن مفلح ـ رحمه الله ـ: روى عبد الله بن أحمد: عن الحسن أنه سئل عن الصبي الصغير يعطس؟ قال: يقال له: بورك فيك. وقال صاحب النظم: إن عطس صبي عُلِّم الحمد لله، ثم قيل له: يرحمك الله، أو بورك فيك ونحوه، ويعلم الرد. وإن كان طفلاً حمد الله وليه أو من حضره، وقيل له نحو ذلك. ومال ابن مفلح إلى أنه لا يقال عنه: الحمد لله؛ لأنه غير مكلف، ولأن العبادة البدنية المحضة لا تُفعل عن الحي، كما أنه لم يُنقل عن النبي -صلى الله عليه وسلم- ولا عن أصحابه استحباب ذلك مع توافر الهمم على نقله(17).
ومن حق الصغير أن يُسَلَّم عليه؛ فعن أنس ـ رضي الله عنه ـ قال: «كنت مع النبي -صلى الله عليه وسلم- فمر على صبيان فسلم عليهم»(18).
ومن ذلك أن يُستأذن عليه عند الدخول؛ فقد قال جابر ـ رضي الله عنه ـ: «يستأذن الرجل على ولده وأمه وإن كانت عجوزاً، وأخيه وأخته وأبيه»(19).(2/210)
ولا يقدَّم عليهم في حقهم إلا بإذنهم؛ فعن سهل بن سعد ـ رضي الله عنه ـ أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أُتي بشراب فشرب منه وعن يمينه غلام وعن يساره الأشياخ، فقال للغلام: «أتأذن لي أن أعطي هؤلاء؟ فقال الغلام: والله يا رسول الله! لا أؤثر بنصيبي منك أحداً، فتلَّه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في يده»(20).
ومن ذلك أنه لا يجوز أن يُكذَب عليهم؛ فعن عبد الله بن عامر ـ رضي الله عنه ـ قال: «أتانا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في بيتنا وأنا صبي، قال: فذهبت أخرج لألعب، فقالت أمي: يا عبد الله! تعالَ أُعطك، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: وما أردتِ أن تعطيه؟ قالت: تمراً، فقال: أما إنك لو لم تفعلي كُتِبَتْ عليك كذبة»(21)، وصح عنه -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: «إن الكذب لا يصلح منه جد ولا هزل، ولا أن يعد الرجل ابنه ثم لا ينجز له»(22).
? أخذ العلم عن الصغار إن كانوا أهلاً لذلك:
قال ابن عيينة: الغلام أستاذ إذا كان ثقة. وقال عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ: إن العلم ليس عن حداثة السن ولا قدمه، ولكن الله يضعه حيث يشاء. وفي البخاري عن ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ قال: كنت أُقرِئ رجالاً من المهاجرين منهم عبد الرحمن بن عوف(1)، قال ابن الجوزي في كشف المشكل: فيه تنبيه على أخذ العلم من أهله وإن صغرت أسنانهم أو قلَّت أقدارهم. وقد كان حكيم بن حزام يقرأ على معاذ بن جبل فقيل له: تقرأ على هذا الغلام الخزرجي؟ فقال: إنما أهلكنا التكبرُ(2).
قال ابن مفلح ـ رحمه الله ـ: والأوْلى أن لا يحدِّث حتى يتم له أربعون سنة إلا أن يُحتاج إليه؛ فقد حدَّث بُندار وله ثلاث عشرة سنة، وحدث البخاري وما في وجهه شعرة. وقد قال سمرة بن جندب: «لقد كنت على عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- غلاماً فكنت أحفظ عنه؛ فما يمنعني من القول إلا أنَّ هاهنا رجالاً هم أسن مني». متفق عليه(3).
? تقويم سلوك الصغار:(2/211)
قد يظن ظان أن أسرع طريقة للتقويم الضرب وهو مخالف للهدي النبوي؛ كما أن الدراسات الحديثة أثبتت أن استخدام الوسائل الأخرى أكثر تقويماً للسلوك. ولنتأمل في هذه القصة التي رواها أحمد أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- خرج إلى طعام كان قد دُعي إليه مع بعض أصحابه، فاستقبل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أمام القوم وحسين مع غلمان يلعب، فأراد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن يأخذه، فطفق الصبي ها هنا مرة، وها هنا مرة، فجعل النبي -صلى الله عليه وسلم- يضاحكه حتى أخذه(4)، فهذه وسيلة سهلة توصل إلى المقصود.
ومن الأساليب أيضاً العتاب الرقيق؛ فقد قال أنس بن مالك ـ رضي الله عنه ـ: كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من أحسن الناس خُلُقاً، فأرسلني يوماً لحاجة، فقلت: والله لا أذهب ـ وفي نفسي أن أذهب لما أمرني نبي الله -صلى الله عليه وسلم- ـ قال: فخرجت حتى أمرَّ على الصبيان وهم يلعبون في السوق، فإذا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قابض بقفاي من ورائي، فنظرت إليه وهو يضحك فقال: يا أنيس! اذهب حيث أمرتك، قلت: نعم! أنا أذهب يا رسول الله(5).
ولا يشك مؤمن ما للدعاء من أهمية في صلاح الصغار، وهو ما كان يوصي به المصلحون أولياء الصغار؛ فقد شكا أحدهم ابنه إلى طلحة بن مصرف فقال: استعن عليه بهذه الآية: {رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي} [الأحقاف: 15]»(6).
والضرب وسيلة تقويم وقبلها وسائل، وقد ورد الأمر بتعليق العصا في البيت(7).
وعن عائشة ـ رضي الله عنها ـ قالت في أدب اليتيم: إني لأضرب اليتيم حتى ينبسط(8)، أي يعتدل. وقال الإمام أحمد: اليتيم يؤدب ويضرب ضرباً خفيفاً(9).(2/212)
وكان عمر بن عبد العزيز ـ رحمه الله ـ يكتب للأمصار: لا يقرن المعلم فوق ثلاث؛ فإنها مخافة للغلام(10)، ـ يعني لا يجمع ثلاث ضربات. وسئل الإمام أحمد عن ضرب المعلم الصبيان، فقال: على قدر ذنوبهم، ويتوقى بجهده الضرب، وإن كان صغيراً لا يعقل فلا يضربه(11).
وليعلم أن الأمور لا تؤتى غلاباً كما قال الشاعر، وإنما التدرج مطلوب في التقويم؛ فقد نقل الحافظ عن سعيد بن جبير الحث على التدرج في أخذ الطفل بالجد(12)، وهذا يتمشى مع الحكمة التي جاءت بها الشريعة، وطبيعة النفس الإنسانية التي تستثقل أخذها بالعزيمة بلا تدرج.
? الإنكار عليهم:
جاءت النصوص بالأمر بالإنكار على الصغار إن ارتكبوا محرماً؛ فعن عمر بن أبي سلمة، قال: كنت في حِجْر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وكانت يدي تطيش في الصحفة، فقال لي: «يا غلام! سمِّ الله وكُلْ بيمينك وكل مما يليك»(13).
وقال سنان بن سلمة: كنت في غلمة بالمدينة نلتقط البلح، فأبصرنا عمر وسعى الغلمان وقمت، فقلت: يا أمير المؤمنين! إنما هو ما ألقت الريح. قال: أرني أنظر. فلما أريته قال: انطلق. قال: قلت: يا أمير المؤمنين! ولِّ هؤلاء الغلمان! إنك لو تواريت انتزعوا ما معي. قال: فمشى معي حتى بلغت مأمني(14).
ودخل أبو هريرة ـ رضي الله عنه ـ مرة المسجد يوم الجمعة، فوجد غلاماً، فقال له: يا غلام! اذهب العب! قال: إنما جئت إلى المسجد. قال له: يا غلام! اذهب العب! قال: إنما جئت إلى المسجد. قال: فتقعد حتى يخرج الإمام؟ قال: نعم(15)! وكأنه خشي أن يلعب في المسجد في أول الأمر فلما تأكد من أنه جاء لقصد العبادة تركه.
روى سعيد بن جبير أنه كان مع عبد الله بن عمر ـ رضي الله عنهما ـ في الطريق؛ فإذا صبيان يرمون دجاجة، فقال ابن عمر: من فعل هذا؟ فتفرقوا، فقال: إن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لعن من مثَّل بالحيوان(16).(2/213)
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: «فإن ما حرم الله على الرجل فعله حرم عليه أن يُمكِن منه الصغير، وقد رأى عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ ثوباً من حرير على صبي للزبير فمزقه، وقال: لا تُلبِسوهم الحرير»(17)، ومزق ابن مسعود ـ رضي الله عنه ـ قميصاً من حرير على أحد أولاده، وقال: قل لأمك تكسوك غير هذا(18).
وقال الموفق في المغني: ويتجنب الثياب التي عليها تصاوير أو صلبان(19).
? اختيار أصحابهم:
قال علي بن جعفر: مضى أبي إلى أبي عبد الله ـ يعني الإمام أحمد ـ وذهب بي معه، فقال له: يا أبا عبد الله! هذا ابني. فدعا لي، وقال لأبي: ألزمه السوق، وجنبه أقرانه(20).
--------------------------------------------------------------------------------
(1) كتاب العيال لابن أبي الدنيا، 1/ 495 ـ 496.
(2) رواه ابن أبي الدنيا في العيال، 1/ 469 والبيهقي في الكبرى، 3/84 وعبد الرزاق في المصنف (7299) وابن أبي شيبة، 1/ 348.
(3) رواه ابن أبي الدنيا في العيال، 1/470 وعبد الرزاق (7293).
(4) رواه البيهقي في الكبرى، 2/ 459.
(5) الطب الروحاني لابن الجوزي، 60 عن كتاب مسؤولية الأب المسلم في تربية الولد، ص 124.
(6) رواه البخاري رقم (1960) ومسلم (1136).
(7) رواه البخاري (1690) تعليقاً، وصله سعيد بن منصور كما في فتح الباري، 4/ 201.
(1) صيد الخاطر، ص 140.
(2) مسؤولية الأب المسلم في تربية الولد، ص 470.
(3) البيان والتبيين، ص 249.
(4) تهذيب الأخلاق، ص 63، عن كتاب حماية الطفولة في الشريعة لمحمد عبد الجواد، ص60.
(5) رواه الحاكم 1/562 بسند صحيح.
(6) رواه ابن أبي شيبة في المصنف، 1/ 348.
(7) اتحاف الخيرة المهرة في معرفة وسائل التربية المؤثرة لأم عبد الرحمن الجودر، نشر مكتبة التوبة، ص 68.
(8) رواه ابن أبي الدنيا في العيال 1/ 508 والبيهقي في الكبرى، 2/ 18.
(9) رواه ابن أبي الدنيا في العيال، 1/ 528.
((2/214)
10) رواه ابن أبي الدنيا في العيال 1/ 512.
(11) التربية البدنية والرياضية في التراث، ص 38. القائلة: وقت الظهيرة، ويعني بها القيلولة وهي النوم؛ منتصف النهار للاستراحة.
(12) المرجع السابق/ 77.
(13) رواه ابن أبي الدنيا في العيال، 1/ 485.
(14) رواه ابن أبي الدنيا في العيال، 1/489.
(15) المنتظم 17/236، والبداية والنهاية، طبعة دار هجر، 16/ 271.
(16) ثقافة الطفل المسلم/ 158 عن شرف أصحاب الحديث، ص 65.
(1) رواه ابن عبد البر في جامع بيان العلم وفضله، 1/ 85.
(2) رواه أبو داود (185).
(3) رواه الحاكم 3/165 وصححه ووافقه الذهبي.
(4) رواه ابن ماجه 1/635 وأحمد 6/ 222 وابن أبي شيبة في المصنف (12356) وقال العدوي في فقه تربية الأبناء/ 57: صحيح لغيره.
(5) أخرجه الترمذي كما في التحفة 10/223 وحسنه العدوي في المرجع السابق.
(6) من روائع حضارتنا، ص 127، حماية الطفولة في الشريعة، ص 73.
(7) أخرجه البخاري، 4/ 179.
(8) رواه البخاري، 4/ 157.
(9) رواه البخاري (5623) ومسلم (13/183 مع الشرح).
(10) رواه البخاري (5997) ومسلم (2318).
(11) رواه مسلم (2315).
(12) رواه أبو داود كما في العون 3/458، والترمذي كما في التحفة 10/278، وابن ماجه 2/1190 وحسنه الأرناؤوط في تحقيق جامع الأصول، 9/33.
(1) رواه البخاري 7/104 ومسلم 4/ 1882.
(2) الآداب الشرعية، 1/ 255.
(3) رواه البخاري في كتاب العلم 17، وكتاب المناقب 138، وكتاب الوضوء، ص 10.
(4) أخرجه البخاري 8/10.
(5) رواه البخاري، 1/ 29.
(6) رواه مسلم (3009).
(7) رواه أبو داود (5002).
(8) رواه البخاري، 1/ 29.
(9) رواه البخاري، 8/55.
(10) رواه مسلم 2/1000، والبخاري في الأدب المفرد (362).
(11) رواه مسلم (2428).
(12) رواه البخاري (1798).
(13) رواه البخاري في الأدب المفرد (1303).
((2/215)
14) أخرجه البخاري 4/90، 7/191، وأبو داود كما في العون 11/65 وقال ابن حجر في الفتح 10/280: والعرب تطلق ذلك وتريد الدعاء بطول البقاء للمخاطب بذلك، أي أنها تطول حياتها حتى يبلى الثوب ويخلق.
(15) أخرجه أحمد، 2/513.
(16) رواه أحمد 3/493 والنسائي، 2/229 والحاكم، 1/287 وقال: حديث صحيح على شرط مسلم ووافقه الذهبي.
(17) رواه ابن حبان كما في الموارد، 2233، والطبراني في الكبير، 3/40، والبيهقي في الكبرى مرسلاً، 2/263 ورواه أبو يعلى بمعناه، 8/434 وحسنه العدوي في فقه تربية الأطفال، ص 71.
(18) رواه أحمد، 1/214 وقال في المجمع، 5/263: رواه أحمد وفيه يزيد بن أبي زياد وفيه ضعف لين. وقال أبو داوود: لا أعلم أحداً ترك حديثه، وغيره أحب إلي منه، وروى له مسلم مقروناً، والبخاري تعليقاً، وبقية رجاله ثقات.
(19) رواه البخاري في الأدب المفرد باب قبلة الصبيان.
(20) الآداب الشرعية، 3/ 228.
(21) عبقرية عمر، ص 173.
(22) رواه البخاري (5190) ومسلم (892) عن عائشة رضي الله عنها.
(1) رواه أحمد، 6/264 والنسائي في الكبرى، 5/304 وصححه العدوي في فقه تربية الأولاد.
(2) رواه البخاري، 4/227، وأحمد 1/8 وابن أبي الدنيا في العيال، 1/ 431.
(3) الفتح، 14/ 49.
(4) رواه ابن أبي الدنيا في العيال، 2/ 788.
(5) ابن أبي الدنيا في العيال، 2/ 791.
(6) رواه البخاري في الأدب المفرد (1297) وابن أبي الدنيا في العيال، 2/ 798.
(7) 10/11 ـ 12.
(8) رواه البيهقي، 10/220.
(9) رواه مسلم، 2/ 608.
(10) رواه أبو داود (4932).
(11) رواه البخاري (مع الفتح 10/526) ومسلم (مع شرح النووي 5/295).
(12) المرجع السابق.
(13) مجموع فتاوى الشيخ ابن عثيمين، 2/277.
(14) رواه البخاري (6129) ومسلم (2150).
(15) فقه تربية الأولاد، ص 69.
(16) رواه ابن أبي الدنيا في العيال، 1/ 561.
(17) الآداب الشرعية، 2/ 327.
((2/216)
18) رواه الترمذي 4/1602 (2837) وقال الترمذي: حديث صحيح.
(19) رواه البخاري في الأدب المفرد (1066).
(20) رواه البخاري 5/2130 (5297) ومسلم 3/1604 (2030).
(21) رواه أحمد 3/447 وأبو داود 4/298 (4991).
(22) رواه الحاكم، 1/ 127.
(1) صحيح البخاري (7323).
(2) الآداب الشرعية، 1/ 111.
(3) الآداب الشرعية، 1/ 135.
(4) رواه أحمد، 4/ 172.
(5) رواه أبو داود (4473).
(6) عن محاضرة نشأة ناشئة السلف لعبد العزيز العبد اللطيف.
(7) رواه ابن أبي الدنيا في العيال 1/494 وحسنه الألباني في صحيح الجامع.
(8) رواه ابن أبي الدنيا في العيال، 2/832.
(9) الآداب الشرعية، 1/477.
(10) ابن أبي الدنيا في العيال، 1/ 531.
(11) الآداب الشرعية، 1/ 477.
(12) فتح الباري، 19/100.
(13) رواه مسلم 3/1599 (2022).
(14) رواه ابن أبي الدنيا في العيال، 1/ 418.
(15) أخرجه أحمد، 2/ 483.
(16) رواه الدارمي، 2/ 84.
(18) مجموع الفتاوى، 22/143.
(20) رواه الطبراني وقال الهيثمي: رجاله رجال الصحيح، مجمع الزوائد، 5/ 147، وينظر بعض النقول الأخرى في المصنف 8/232-233.
(19) المغني، 1/628.
(20) رواه الخلال في الحث على التجارة، ص 29.
--------------------------------------------------------------------------------
مجلة البيان، العدد (206)، 1415، 1995 .
* * *
http://www.albayan-magazine.com/zwaya/trbwi/54.htm
بناء النفس
خالد أبا الخيل
يقول الله ـ عز وجل ـ: {بَلِ الإنسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ * وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ} [القيامة: 14 - 15].
قال ابن كثير ـ رحمه الله ـ: «أي هو شهيدٌ على نفسه عالم بما فعله ولو اعتذر وأنكر»(1).(2/217)
وهذه الآية فيها دِلالة ـ أيضاً ـ على أنه لا أحد أعلم بخبايا النفس بعد الله ـ سبحانه وتعالى ـ إلا صاحبها. ولذا كان من المطالب الشرعية أن يسوس الإنسان نفسه، ويعاركها في الحياة معركة بعد أخرى حتى تنقاد ويسلس قيادها. وليس هذا بالأمر الهيِّن السهل حتى يستطيعه كل الناس، وإنما هو طريقٌ طويل محفوفٌ بالمكاره. ومصداق ذلك في كتاب الله ـ تعالى ـ: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا} [العنكبوت: 69]، فاشترط ـ سبحانه ـ لهداية السبيل أمرين اثنين:
أولهما: أن تجاهد نفسك وتروضها على طاعة الله تعالى.
وثانيهما: أن يكون ذلك كله في ذات الله تعالى؛ لا تبتغي به عرضاً من الدنيا أو فُتاتاً من حطامها.
والسر في ذلك ـ والله أعلم ـ أن هداية السبيل ولزوم المحجة أمرٌ عزيز لا يمنحه الله ـ عز وجل ـ إلا من يُحِب، وظهرت منه الدلائل على صدق المحبة.
وفي هذه الوقفات أحاول جاهداً أن أبحث في العوامل التي بها ـ بعد توفيق الله للعبد ـ يبني الإنسان نفسه بناءً إيمانياً تستقيم معه حياته الدنيوية والأخروية.
ولمَّا كان من المقرر عند أرباب الفقه والسلوك أن التخلية قبل التحلية رأيت أن أبدأ بجوانب التخلية. والتي منها:
1 ـ المطامَنة من كبرياء النفس، وإيقافها على عثراتها المستورة، والعلم بأن من لطف الله ـ سبحانه ـ بالعبد أنه سترَ هذه العيوب عن الناس. وتشتد الحاجة إلى هذا المطلب حين ترنو النفس إلى الزهو والعُجْب، وخاصة حينما يسمع المرء ثناء الناس عليه.
قال ابن القيم ـ رحمه الله ـ: «ولقد شاهدت من شيخ الإسلام ابن تيمية ـ قدس الله روحه ـ من ذلك أمراً لم أشاهده من غيره، وكان يقول كثيراً: ما لي شيء، ولا مني شيء، ولا فيّ شيء. وكان كثيراً ما يتمثل بهذا البيت:
أنا المُكدِّي وابنُ المكدي وهكذا كان أبي وجدي(2/218)
وكان إذا أُثني عليه في وجهه يقول: والله إني إلى الآن أجددُ إسلامي كل وقت، وما أسلمت بعدُ إسلاماً جيداً»(2).
وتصور أخي الكريم حجم شخصية شيخ الإسلام، وتاريخه الجهادي، وما حصل له من مناظرات ومشاهد كثيرة، وكلها ينتصر فيها على أعدائه وكائديه، وأضف إلى ذلك ثناء الناس عليه في عصره من علماء وعامة، واحتفاءهم به، ثم تأمل قدر نفسِه عنده من خلال كلامه السابق لترى ترويضاً للنفس ومطامنة لكبريائها وزهوها، وعندها ستكتشف السر في القوة العلمية والعملية لهذا الأنموذج اللامع، والشخصية العظيمة.
ولمَّا كان من المعلوم بداهة أنك ـ أيها المسلم ـ أعلم بنفسك من غيرك، وجب أن تعي أن الناس قد يمدحونك في يومٍ من الأيام، بل قد يُفرطون في رفعك على ملأ من الناس، وفي المقابل قد ينتقصونك يوماً أو أياماً، ويخفِضون من قدرك، ولكن أعلم أن كل هذا لا يُثقِّل ميزانك يوم القيامة. وما تعلمه من جنوح نفسك، وعثراتها المستورة، وخبايا السوء فيها هو الذي سيحاسبك الله عليه يوم القيامة. فإذن لا تقْدُر نفسك كما يقدرها الآخرون، ولا تحسن الظن بها وإن تكاثر وتتابع مدح الناس لك.
ومن جميل ما يذكر في هذا الباب قول ابن حزم ـ رحمه الله ـ حينما أراد أن يُعدد عيوبه، وكيف تغلّب عليها، قال: ومنها ـ أي عيوبه ـ عُجبٌ شديد، فناظر عقلي نفسي بما يعرفه من عيوبها حتى ذهب كله، ولم يبق له والحمد لله أثر، بل كلّفت نفسي احتقار قدرها جملة واستعمال التواضع(1).
وكان السلف ـ رحمهم الله ـ لغاية فقههم وتمام تدينهم ينفِرون من مجالس الشهرة ومشاهد الثناء، ويحذرون منها.
قال أيوب: ما صدقَ عبدٌ قط فأحب الشهرة(2).
وقال ابن المبارك: قال لي سفيان: إياك والشهرة؛ فما أتيتُ أحداً إلا وقد نهى عن الشهرة(3).
وقال بشر الحافي: ما اتقى الله من أحب الشهرة(4).(2/219)
ولهذا كان من المُهِم في حياة الداعية أن يعي خطر هذا المزلق، وأن يرقب القصد الصالح في دعوته؛ وذلك كل لحظة من عمره.
ومن أعظم الانحراف في القصد أن يبتغي الداعي في دعوته كسب الأتباع، وحصول المزايا لشخصه من الإجلال والتقدير، وهذا مدخلٌ عظيم من مداخل الشيطان.
2 ـ العزلة بالنفس عن فضول المخالطة، ودوام المجالسة.
قال ابن القيم ـ رحمه الله ـ: «قسوة القلب من أربعة أشياء ـ إذا جاوزت قدر الحاجة ـ: الأكل، والنوم، والكلام، والمخالطة»(5).
وصدق ـ رحمه الله ـ فليس أنفع للنفس، وأصفى للقلب من العزلة المعتدلة التي لا يُراد منها تنصلاً من تكليف، أو هروباً من ضغط الواقع وواجباته.
والعزلة ـ بالأوصاف السابقة ـ مهمة للداعية والمربي؛ فهي بالإضافة إلى كونها توقف الداعية على حقيقة نفسه، تهيئ له مناخاً صحياً لاختيار الرأي الصواب البعيد عن المؤثرات الخارجية من شغب الجماهير، ومحاكاة الأقران، وغير ذلك.
قال ـ تعالى ـ: {قُلْ إنَّمَا أَعِظُكُم بِوَاحِدَةٍ أَن تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِكُم مِّن جِنَّةٍ} [سبأ: 46].
وفي هذه الآية يأمر ـ سبحانه ـ كفار قريش ومن كابر عن الحق بأن ينفصل من مؤثرات الجماهير، ويخلو بنفسه أو مع صاحبه حتى يتبين له الحق؛ وذلك لأن من ألف المخالطة ـ في أيامه كلها ـ خمدت أدوات التفكير لديه، بل ويأسن عقله كما يأسن الماء، ويصبح ـ مع الزمن ـ خامل الفكر، تابعاً في رأيه، متردداً في اختيار قراراته، مراوغاً من تحمل تبعاتها.
فائدة: قال نعيم بن حماد: كان ابن المبارك يكثر الجلوس في بيته، فقيل له: ألا تستوحش؟ فقال: كيف أستوحش وأنا مع النبي -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه(6).(2/220)
وقال ابن القيم ـ رحمه الله ـ: حدثني بعض أقارب شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله ـ قال: كان في بداية أمره يخرج أحياناً إلى الصحراء يخلو عن الناس لقوة ما يرد عليه، فتبعته يوماً فلما أصحرَ تنفس الصعداء، ثم جعل يتمثل بقول الشاعر ـ وهو لمجنون ليلى ـ من قصيدته الطويلة:
وأخرجُ من بين البيوت لعلني أحدِّث عنك النفس بالسر خاليا»(7)
إنه مشهدٌ من البهاء كبير حينما يبلغ حب العبد لخالقه هذا المبلغ، فيخلو بربه، معترفاً بذنوبه بين يديه، آنساً بذكره، متبصراً في أدواء نفسه.
وإن هذه الخلوات بصفائها، ونقائها، وجمالها لتُخرجُ للأمة قادةً ربانيين، متجردين من حظوظ أنفسهم، وشهواتها، في سبيل النهوض بالأمة، والرفع من شأنها.
وهنا تتجلى لنا الحكمة في موقف المصطفى -صلى الله عليه وسلم-، حينما كان يخلو بربه في غار حراء استعداداً لتلقي القول الثقيل، وتحمل التضحيات لأجله.
ولابن القيم ـ رحمه الله ـ كلام جميل في تقسيم المخالطة. قال(8): الاجتماع بالإخوان، قسمان:
أحدهما: اجتماع على مؤانسة الطبع وشغل الوقت؛ فهذا مضرته أرجح من منفعته، وأقل ما فيه أنه يفسد القلب، ويضيع الوقت.
الثاني: الاجتماع بهم على التعاون على أسباب النجاة والتواصي بالحق والصبر؛ فهذا من أعظم الغنيمة وأنفعها، ولكن فيه ثلاث آفات: إحداها: تزيُّن بعضهم لبعض. الثانية: الكلام والخلطة أكثر من الحاجة. الثالثة: أن يصير ذلك شهوة وعادةً ينقطع بها عن المقصود.
+ جانب التحلية:
وهنا نذكر أربعة أمور تساهم بعدما سبق في بناء النفس بناء إيمانياً:
1 ـ الإكثار من عمل السر؛ وهذا من دلائل صدق المحبة لله تعالى، ومن أمارات الإخلاص التي يجب على المسلم أن يتلبس بهذه الصفة، ولا أشق على النفس من عمل السر؛ لأنها ليس لها حظٌّ منه، كما قال بعض السلف.
ولعمل السر ثمرات كثيرة، منها:(2/221)
أ - أن من كان هذا شأنه في جل أعماله الصالحة فإنه يكسب رصيداً كبيراً من الثبات يكون ذخيرة له أيام النوائب والمصائب، ومن هنا نفهم سر ذلك التحول الكبير الذي يلحق ببعض المنتسبين إلى الخير والصلاح حينما يصابون بأزمة أو ضائقة؛ وذلك أنه ليس عندهم من العمل الصالح ما يتكئون عليه ـ بعد رحمة الله وتوفيقه ـ.
ب ـ أن عمل السر يعتبر ميزاناً يزن به العبد صواب طريقه أثناء سيره إلى الله تعالى؛ فإذا رأى المسلم من نفسه قوةً ونشاطاً في عمل الجهر، ويقابله ضعفٌ وفتورٌ في عمل السر فليتهم نفسه، وليعلم ـ حينها ـ أنه لم يسلم من بُنيَّات الطريق.
ج ـ حياة شجرة الإخلاص في القلب؛ وذلك أنه لا شيء يعدل عمل السر في إنماء هذه الشجرة، وسقيها وتقويتها.
2 ـ تعويد النفس على صدق اللجوء إلى الله ـ تعالى ـ والانطراح بين يديه؛ وذلك في كل ما نحتاجه من أمور الدين والدنيا، وقد يكون هذا أمراً بدهياً؛ إلا أنه ـ بكل أسف ـ مما يغفل عنه عامة الناس وخاصتهم، فترى حال الكثير منا ـ حينما تنتابه النوائب ـ يطرق كل باب إلا باب الله تعالى، وإن لجأ إلى الله؛ فعن غير يقين بزوال المكروب، ولا يحتقر الإنسان نفسه لكثرة تفريطه في حق الله تعالى؛ فإن الله ـ عز وجل ـ لا يتعاظمه سؤال سائل؛ فإذا صدق العبد في المسألة، ووصل إلى درجة المضطر، وأيقن أنه لا كاشف للبلوى إلا هو ـ سبحانه ـ جاء الفرج ممن بيده كل شيء، وله كل شيء.
قال ابن القيم ـ رحمه الله ـ: لا تسأم من الوقوف على الباب ولو طُردت، ولا تقطع الاعتذار ولو رُددت؛ فإن فُتح الباب للمقبولين دونك فاهجم هجوم الكذابين، وادخل دخول الطفيلية»(1).
ومما يساعد في توثيق صلة العبد بخالقه ـ سبحانه ـ معرفة أسماء الله وصفاته، والتأمل في معانيها، وتقليب النظر في لوازمها وآثارها، وهذا له أثرٌ ظاهر في ربط القلب بالله، وقطع العلائق بالمخلوقين.(2/222)
فائدة: قال ابن القيم: «ومن تجريبات السالكين التي جربوها فألْفَوْها صحيحة: أن من أدمن: «يا حي يا قيوم لا إله إلا أنت» أورثه ذلك حياة القلب والعقل. وكان شيخ الإسلام ابن تيمية ـ قدس الله روحه ـ شديد اللهج بها جداً. وقال لي يوماً: لهذين الاسمين ـ وهما الحي القيوم ـ تأثيرٌ عظيم في حياة القلب»(2).
3 ـ استدامة الذكر في كل الأحوال حتى يكون للإنسان عادة يألفها ولا ينفك عنها. والذكر يجلب الطمأنينة إلى القلب، ويضخ فيه دم القوة والثبات، كما قال ـ تعالى ـ: {أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} [الرعد: 28]، بل هو من أعظم وسائل الثبات والتماسك في الأزمات والنكبات. قال ـ تعالى ـ: {إذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا} [الأنفال: 45].
قال ابن القيم ـ رحمه الله ـ: «السابعة عشرة [من فوائد الذكر]: أنه قوة القلب والروح، فإذا فقده العبد صار بمنزلة الجسم إذا حيل بينه وبين قوته. وحضرتُ شيخ الاسلام ابن تيمية مرةً صلى الفجر، ثم جلس يذكر الله ـ تعالى ـ إلى قريبٍ من انتصاف النهار، ثم التفت إليَّ، وقال: هذه غدوتي، ولو لم أتغدَّ الغداء سقطت قوتي. أو كلاماً قريباً من هذا. وقال لي مرة: لا أترك الذكر إلا بنية إجمام نفسي وإراحتها لأستعد بتلك الراحة لذكرٍ آخر، أو كلاماً هذا معناه»(3).
4 - تحديد الأهداف ورسمها على مدى العمر رسماً دقيقاً.
والقصد من هذا أن نتجنب السلبية والفوضوية لنتحول إلى الإيجابية والتنظيم، واستشعار قيمة الوقت.
ولنعلم أنه إذا اعتادت النفس على أن لا تتحرك في أي اتجاه إلا نحو هدفٍ مرسوم فإنها ـ والحالة هذه ـ ستبدأ باستشعار قيمة الوقت، وسترى منها تململاً حين ضياع الوقت الطويل من غير هدف، ونفرة من مجالس البطالة واللهو، وميلاً إلى مجالس الجد والخير. وهذه لذاتها منزلة رفيعة ينبغي أن نسعى إلى بلوغها.(2/223)
ولذا فغياب الهدف عن حياة الناس(4) يمثل أزمة حقيقية في الوعي يحسن بالمربين وأهل التربية أن يعتنوا بهذا الجانب، ولا نجاوز الحقيقة إذا قلنا إن من ضمن المحاور التربوية التي لم تأخذ حقها من الدراسة والإثارة: كيف نصنع الهدف في حياة الناس؟
وهذا لا يمنع وجود الكثير ممن يبحث عن تحقيق هدف ما، لكنه لم يحقق ما يريد، فانتهى الزمن ولم يحصل الهدف!! وشاهد ذلك ما نراه من شتات الجهود، ورجوع الكثير من منتصف الطريق في كثير من المشاريع العلمية أو الدعوية، ونسي أولئك عامل الزمن في الوصول إلى الهدف.
وليس القصد هنا بحث موضوع الهدف، وإنما الإشارة إلى أهميته، وافتقارنا إلى صناعته ونشره بين عامة الناس وخاصتهم.
وبعد: فقد يتساءل بعضهم: لماذا كل هذه التقاسيم لبناء النفس وهي لم توجد في أدبيات السلف، وإنما غاية أمرهم أن يسمعوا آية من كتاب الله ـ تعالى ـ فتتحول حياتهم رأساً على عقب؟
والجواب أن يقال:
أولاً: لا شك أن هذه موجودة في تطبيقات السلف وإن لم يوجد كلام نظري تفصيلي يُمثِّلها.
وثانياً: لا ينبغي أن يغيب عن أذهاننا أننا نعيش في عصرٍ يختلف عن عصر السلف؛ فنحن في زمانٍ صعب، صعبٍ بحياته الاجتماعية، صعب بنظمه وسلوكياته، صعب بتقلب معاييره، صعب بالانفتاح الذي يلف حياة الناس كلهم؛ ونتيجة لذلك كله أصبحنا نعاني من جفاف ماديٍ رهيب يحكم طوقه على مساحات واسعة من حياتنا.
ولذا لا بد من استعمال كل طريق مشروع في الوصول بهذه النفس إلى ما يرضي خالقها قبل أن تقدم عليه.
هذا؛ ونسأل الله ـ سبحانه تعالى ـ أن يأخذ بأيدينا إلى الخيرِ والسداد، وأن يثبتنا على قوله الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
--------------------------------------------------------------------------------
(*) معيد في كلية الشريعة وأصول الدين بالقصيم.
(1) تفسير ابن كثير، 4/ 449.
((2/224)
2) مدارج السالكين، 1/524.
(1) مداواة النفوس، 1/354، ضمن مجموع رسائل ابن حزم. وهذه الرسالة ماتعة في بابها، كتبها ابن حزم بعد أن عركته الأيام والسنون.
(2) السير، 6/20.
(3) السير، 7/ 260.
(4) السير، 10/476.
(5) الفوائد، ص 97.
(6) السير، 8/ 333.
(7) مدارج السالكين، 3/ 59.
(8) الفوائد، ص 51.
(1) الفوائد، ص 51.
(2) مدارج السالكين، 1/ 482.
(3) الوابل الصيب، 62.
(4) لا شك أن المسلم محكومٌ بهدف الوجود، وهو عبادة الله تعالى، والقصد من الهدف المشار إليه هو الأهداف الصغيرة التي توصل إلى هدف الوجود، والتي ترتقي بالنفس وتعمل على تطويرها وبنائها، كحفظ كتاب الله تعالى، أو حفظ سنته -صلى الله عليه وسلم-، أو نحو ذلك من الأهداف التى تسمو بالمسلم عن حياة البطالة والعبث.
--------------------------------------------------------------------------------
مجلة البيان، العدد (207)، ذو القعدة 1425،ديسمبر 2004 .
* * *
http://www.albayan-magazine.com/zwaya/trbwi/55.htm
لنتعلم .. كيف نتكلم ؟
أسامة علي متولي
الصمتَ الصمتَ ، فإنه من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليصمت ، وكلُّ لفظٍ يخرج من فمك ستجده في كتابك مسجّلاً عليك ] مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ [ ( ق : 18 ) . تعلّمْ قولَ : لا أعلم ؛ فلا تتكلمْ فيما لا علمَ لك به . يقول سبحانه : ] وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُوْلَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً [ ( الإسراء : 36 ) . ومن هنا يلزم فقه بعض القواعد المهمة في هذا المجال ومنها :(2/225)
* أولاً : قل خيرًا أو اصمت : ليس عيباً إذا سئلت عن شيء لا تعلمُه أن تقولَ لا أدري . يقول ابن جماعة : « واعلم أن قولَ المسؤولِ : لا أدري ، لا يضعُ من قدرِه كما يظنُّ بعضُ الجهلة بل يرفعُه ؛ لأنه دليلٌ على عظمِ محلِّه ، وقوة دينه ، وتقوى ربه ، وطهارة قلبه ، وكمال رفعتِه ، وحسن تثبتِه » .
* غلِّب الاستماعَ على القول ؛ فلك أذنان ولسانٌ واحد ، ومع ذلك لا تستهنْ بقدرِ الكلام ؛ فهو بداية العمل ، ومن أهم وسائلِ الدعوةِ .
* أحسِن الإنصاتَ للآخر ، أعطِه الفرصةَ لإبداء رأيه وإفراغِ ما في نفسه ، كما كان من حديث النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - مع عتبةَ بنِ ربيعة ، قال - صلى الله عليه وسلم - له : « قل يا أبا الوليد ، أسمَع » ولما انتهى عتبةُ من حديثه ، قال - صلى الله عليه وسلم - : « قد فرغت يا أبا الوليد ؟ » قال : نعم ! قال : « فاسمع مني ........ » .
* وإذا تكلمتَ فلا تتكلمْ إلا بالخير ، ادعُ إلى ربك بالحكمة والموعظة الحسنة ، اتلُ آياتِ القرآن ، سبِّح الربَّ الرحمن ، أكثرْ من الدعاء ] قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلا دُعَاؤُكُمْ [ ( الفرقان : 77 ) ، « لا يزال لسانك رطباً من ذكر الله عزّ وجلّ » [1] .
* اذكر الله في حديثك مع الناس ، ابدأ باسم الله ، ادعُ في ثنايا كلامك لمن يستمع لك : « بارك الله فيك .. جزاك الله خيراً .. حفظك الله .... » .
* لا تلغُ في كلامك ، لا تتحدث بلا فائدة ] وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ [ ( المؤمنون : 3 ) ، ] لاَ خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِّن نَّجْوَاهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ
أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ [ ( النساء : 114 ) ، يقول ابنُ مسعود : « والذي لا إله غيرُه ما على ظهر الأرض شيءٌ أحوجُ إلى طول سجنٍ من لسان » [2] .(2/226)
* اجعل لكلامِك معنًى عميقاً ، لا داعي للسطحيةِ غيرِ المجدية ، كما في قول أحدهم : الليلُ ليلٌ والنهارُ نهارُ والأرضُ فيها الماءُ والأشجارُ
* لا تشارك في المنتديات التافهة ، والحوارات الجوفاء ، والجدال العقيم ؛ فوقتُك الثمينُ لا يسمحُ لك بذلك ، ثم إن الجدالَ أحيانًا لا يأتي بخير . يقول ابن عباس : « ولا تمارِ حليماً ولا سفيهاً ؛ فإن الحليمَ يقليك ، وإن السفيهَ يُؤذيك » [3] ، إلا إذا كانت هناك حاجةٌ وفائدةٌ له . يقول سبحانه : ] وَلاَ تُجَادِلُوا أَهْلَ الكِتَابِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ [ ( العنكبوت : 46 ) .
* احرص على صحة كلامك :
- فلا تقل : مصادفة ، ولكن قل : قدر الله .
- لا تقل : لولا الله وفلان ، وقل : لولا الله ثم فلان .
- لا تقل : لا حول الله ، وقل : لا حول ولا قوة إلا بالله .
- وكن دقيقاً في كلامك ، ولتكن معلوماتُك صحيحةً واقعياً وتاريخياً .
- ولا تكن ممن يشارك في حواراتٍ عابثة مع ملحدين أو جاهلين أو فسقةٍ منحرفين . فتكون ممن :
- يغضب فيتلفظ بكلماتٍ لا ينظرُ عقباها .
جراحاتُ الطعان لها التئام ولا يلتام ما جرح اللسانُ
قال - صلى الله عليه وسلم- : « ليس المؤمن بالطعّان ولا اللعّان ولا الفاحش ولا البذيء » [4] .(2/227)
- وقد يتعصّب لرأيه ، فيتحدّث عن مُناظرِه متكبراً مغروراً بنفسه : « إنه جاهل .. سخيف .. متسرِّع .. فاسد النيّة .. عميل .. خبيث .. مبتدع .. فاسق .. ملعون .. مُلحِد .. كافر » . وربما يعمّمُ في أحكامه تلك ، لتكون المصيبةُ أعظم ، فيسبُّ أسرةً .. عائلةً .. قبيلةً .. جماعةً .. بلداً .. شعباً .. جنساً .. - يرتكبُ كبيرةً بغِيبةِ إنسان ، يأكلُ لحم أخيه ميتاً ، مع أن ربَّه نهاه ] وَلاَ يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضاً [ ( الحجرات : 12 ) ، ويتتبع عوراتِ المسلمين ليفضحَه ربه . يمشي بين الناسِِ بالنميمة .. فيوقع بينَهم ويُفرِّقُ بينَ قلوبِهم ، ليُعذَّبَ في قبرِه قبلَ عذابِ يومِ الدين ، ولتقفَ كلُّ تلك الجُموعِ الغفيرةِ التي سبَّها ، واغتابَها ، ومشى بينها بالنميمة لتأخذَ منه حقَّها من حسناتِه ، أو تضع عليه من سيئاتِها ، فما مصيرُ هذا التعيس ؟
- لا يكتفي بأفٍّ لوالديه ، بل إنه الزجر والنهر لهما ، ليخسر دنياه وآخرته ، مع أن الله سبحانه أمره ] فَلاَ تَقُل لَّهُمَا أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيماً [ ( الإسراء : 23 ) . بل نُهينا أن نكون مجرّد سببٍ في سبِّهما ، يقول - صلى الله عليه وسلم - : « إن من أكبر الكبائر أن يلعن الرجل والديه » قيل : يا رسول الله ! كيف يلعن الرجل والديه ؟ قال : « يسبُّ أبا الرجل فيسبّ أباه ، ويسبّ أمه فيسب أمه » [5] . يَكتب شعراً أو نثرا ، يتغزّل بألفاظٍ فاحشةٍ بذيئةٍ فاضحةٍ مخجلة ، مقتدياً بامرئ القيس حاملِ لواءِ أمثالِه من الشعراء في النار ، يدعو إلى الفحشاء ، يثيرُ الغرائزَ المُحرَّمة .
- يهجو مسلماً ، ويُقذِعُ في هجائه ، كما كان الحطيئة و ضابئ ابن الحارث ، لقد سجن عمرُ الحطيئةَ لهجائه الزِّبرقان بن بدر :
دع المكارم لا ترحل لبغيتها واقعد فإنك أنت الطاعم الكاسي(2/228)
يمدح فيبالغ كاذباً أو مشركاً : لقد نهَى النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - مادحيه : « لا تُطروني كما أطْرَتِ النصارى ابنَ مريم ؛ فإنما أنا عبدٌ ، فقولوا : عبد الله ورسولُه » [6] . و أمرنا - صلى الله عليه وسلم - أن نحثوَ في وجوه المدّاحين التراب [ في حديث لأبي هريرة في الترمذي ] . بل إن المبالغة في المدح تقلِبُه ذمّاً ، وقد فعل ذلك المتنبي عامداً في مدائحه لكافور الذي لم يحقق أحلامه ، يقول : عدوُّك مذمومٌ بكلِّ لسانِ ولو كان من أعدائك القمرانِ ويقول : وللهِ سرٌّ في علاك وإنما كلام العدا ضربٌ من الهذيانِ
* ثانياً : الوضوح وعدم التكَلّف :
* لا تتكلمْ بسرعةٍ ، تسردُ الحديث سرداً ؛ فما كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يسردُ الحديث سرداً ، وإنما يحدّثُ الحديثَ لو عدّه العادُّ لأحصاه . ولكنَّ أحدَنا يتحدّث بسرعةِ سبعين كلمةً في الدقيقة ، يستأثرُ بالحديث ، يدمنُ الكلامَ ويعشقُه ، يخرج من موضوع إلى آخر ، وأنت لا تدري : ماذا يقول ، ومتى سينتهي ؟
* تكلم بهدوءٍ وأريحيّة على سجيّتك ، لا تتكلّف ، لا تتشدق ؛ فلقد كره رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الثرثارين والمتشدقين والمتفيهقين . يتكلم بكيفيةٍ تقول للناس : « انظروا كم أنا بليغٌ فصيح ، أملك عنان الكلمة ، وأعلم ما لا تعلمون » . قال - صلى الله عليه وسلم - : « إن الله عز وجلّ يبغضُ البليغَ من الرجال الذي يتخلل بلسانه كما تتخلل البقرة بلسانها » [7] . وليكن كلامُك بلسانِ قومِك واضحاً مفهوماً ، كما كان رسلُ الله الكرام ] وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ [ ( إبراهيم : 4 ) . تقول عائشةُ - رضي الله عنها - : « كان كلامُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كلاماً فاصلاً يفهمه كلُّ من يسمعه » [8] .(2/229)
* اجعلْ كلامَك مبسَّطاً مألوفاً .. وابتعد عن الكلام الغريب المعقَّد ، الذي عفا عليه الزمان ومات ، تريد به أن تُظهر علمَك باللغة ، وتتفاخرَ بنفسِك .
* لا تكنْ كذلك الأعرابي يبحثُ عن فرسه ومهره : ( هل رأيتَ الخيفانةَ القبَّاء يتبعها الحاسنُ المسرهَف ؟ ) .
* ثالثاً : الكلام المناسب :
* اختر الكلام المناسب للمقام وللمخاطَب ، فأنت تكلم الأميرَ بغير ما تكلم به صديقك .
* فكيف ستكلّم ربّ العالمين ؟ تكلمه جلّ شأنه بكلِّ تذلُّلٍ وخضوع ، مُظهِراً بين يديه الضعفَ والفقرَ والحاجة . هذا نبيُّ الله أيوبُ - عليه السلام - : ] وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ [ ( الأنبياء : 83 ) . و موسى - عليه السلام - : ] رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ [ ( القصص : 24 ) . و زكريا - عليه السلام - : ] قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ العَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِياًّ [ ( مريم : 4 ) . و محمد - عليه الصلاة والسلام - : « اللهمَّ إني أشكو إليك ضعف قوتي وهواني على الناس ، يا أرحمَ الراحمين ، أنت رب المستضعفين ، وأنت ربي ..» . وشاعرنا يناجي ربه :
أنا العبدُ الذي أضحى حزيناً على زلاته قلقاً كئيبا
أنا العبدُ الغريقُ بلُجِّ بحرٍ أَصيحُ لربما ألقى مجيبا
أنا المضطرُّ أرجو منك عفواً ومن يرجو رضاك فلن يخيبا
وعندما تُكلِّمُ الخليفةَ أو الأميرَ أو القائد ، فأنت دقيقٌ في كلامك ، حريصٌ على انتقاء عباراتِك .
* أما عامة الناس فأنت تكلمهم على قدرهم ، لا تعطيهم من العلم إلا ما يناسبهم . قال - صلى الله عليه وسلم - : « كفى بالمرء إثماً أن يحدِّث بكل ما سمع »
[(2/230)
9] . وقال علي - رضي الله عنه - : « حدّثوا الناس بما يعرفون ؛ أتحبون أن يُكَذَّب اللهُ ورسولُه ؟ » [10] . وقال ابن مسعود - رضي الله عنه - : « ما أنت بمحدّثٍ قوماً حديثاً لا تبلغه عقولهم إلا كان لبعضهم فتنة » [11] . ومن الحِكَم : ( لا تعطوا الحكمة لغير أهلها فتظلموها ، ولا تمنعوها أهلها فتظلموهم ) .
* وانتقاء الكلمةِ المناسبةِ يُظهِر عقلَك وثقافتك ؛ فأنت تعلم أن الكلمة العربية لا تساوي مترادفاتِها ، ف « جلس » لا تؤدي معنى « قعد » .. تقول للنائم : اجلس ، وتقول للواقف : اقعد . وكذلك « قام » ليست ك « وقف » .
* سمع ابن هَرمة رجلاً ينشد قصيدةً له :
بالله ربِّك إن دخلت فقل لها هذا ابن هَرمةَ قائماً بالبابِ
فقال ابن هرمة : لم أقل « قائماً » وإنما قلتُ « واقفاً » .. فما الفرق ؟ إن القيام يقتضي الملازمة ، وكأنما هو حاجبٌ على باب بيتِها ، مقيم عليه ليلاً ونهاراً ينتظر الإذن بالدخول ، بما يوحي بالمذلة والضّعة والصّغار ، أما الوقوف فغير ذلك .
- انظر إلى قول النبيّ - صلى الله عليه وسلم - : « طلبُ العلم فريضةٌ على كلِّ مسلم » [12] ؛ فما رأيك لو وضعت كلمة « تحصيل » مكان كلمة « يطلب » ؟ لا شكّ أنه سيأثم الكثير ، فطلب العلم يستطيعه كل إنسان ، أما تحصيله واستيعابه فهذه نتيجة للطلب ، ولا يستطيعها كلُّ إنسان ، فما أرحمَ دينَنا !
- وهذا حوارُ رجلٍ مع هشام القرطبيّ : الرجل ( يسأل هشاماً عن عمره ) : كم تعدّ ؟ هشام : من واحدٍ إلى ألفِ ألفٍ وأكثر . لم أُرِدْ هذا ، كم تعدّ من السنّ ؟(2/231)
اثنين وثلاثين : ستة عشر سناً من أعلى ، وستةَ عشر من أسفل . لم أُرِد هذا ، كم لك من السنين ؟ والله ليس لي منها شيء ، والسنون كلها لله . يا هذا ، ما سِنُّك ؟ عَظْم . ابن كم أنت ؟ ابن اثنين : رجل وامرأة . كم أتى عليك ؟ لو أتى عليّ شيء لقتلني . فكيف أقول ؟ تقول : كم مضى من عمرِك ؟ - بل إن حروف الجرّ لا تؤدِّي معاني بعضِها بنفس الدقة . فهذا قوله سبحانه : ] إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الأَرْضِ [ ( القصص : 4 ) فحرف الجرّ المناسب للعلوّ هو « على » ، ولكن عندما تسمع كلمة « علا » يتطاولُ عنقُك إلى السماء ، تبحث عن هذا العالي ، وإذا بك تفاجأ بأنه مهما علا وعلا فهو في الأرض . وقوله سبحانه : ] وَلأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ [ ( طه : 71 ) أي : على جذوع النخل ، ولكن « في » تدلّ في حقيقتها على أنهم داخل جذوع النخل ، وكأنهم من شدة إيثاقهم وتعذيبهم أصبحوا داخل جذوع النخل . وتأمّل رحمةَ الله سبحانه بأمّةِ محمّد - صلى الله عليه وسلم - في قوله جلَّ شأنُه : ] فَوَيْلٌ لِّلْمُصَلِّينَ * الَّذِينَ هُمْ عَن صَلاتِهِمْ سَاهُونَ [ ( الماعون : 4-5 ) ولو قال : في ، بدل : عن ؛ لهلَكْنا ، لماذا ؟
* وينبغي مراعاةُ مناسبةِ حديثِكَ للزمن المتاحِ لك ؛ فلا تفتح مواضيعَ ربّما يطولُ لها الوقت .
* ولا مانعَ من إعداد النقاطِ الرئيسةِ لحديثِك ولو كان معَ فرد .
* ولو ارتجلتَ الحديثَ فكُن حاضرَ الذهن ، دقيقاً في كلامِك ، وبخاصّةٍ لو كنتَ رجلاً مسؤولاً ؛ إذ تُحسَبُ كلُّ كلمةٍ لكَ أو عليك .
* لاحظ تعبيراتِ مستمِعِك ؛ فإن لاحظتَ تجاوُبَه معكَ ، وفهمَهُ لحديثِك ، وإلا فأنْهِ حديثَكَ النهايةَ المناسبة .
* كما تراعي حالةَ المستمعِ نفسِه ؛ فإن كان مريضاً ؛ فهل يجوزُ أنْ تحكيَ له قصةَ مريضٍ بنفسِ مرضِه قد تُوُفِّي بسببِ هذا المرض ؟!(2/232)
* وإنْ أردت حديثاً قد يطولُ مع أحد أصدقائِك في الهاتف ، فاسألْه سؤالاً صريحاً : هل عندك الاستعداد للحديث الآن ؟ أم أنّ هناك وقتاً أنسبَ لك ؟ متى ؟ فأنتَ لا تراهُ ، ولا تعلمُ ما ظروفُهُ الآن .
* رابعاً : الترتيب :
* ابدأ كلامك بالأهمِّ ثم المهم ؛ فإذا أردت أن تدعو رجلاً لا يصلي ، ويلبس ثوباً طويلاً ، ويدخن ، فبأي شيء ستبدأ ؟ وإذا أرادت امرأةٌ أن تدعوَ كافرةً للحجاب ، فكيف ستدعوها ؟
* احرص على ترتيبِ كلماتك حتى في الجملة الواحدة .
* انظر إلى قوله تعالى : ] قَالَ أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ [ ( الصافات : 95 ) . هناك فرقٌ هائل بين ذلك وبين قولك : أأنتم تعبدون ما تنحتون ؟ في الآيةِ الكريمة إنكارٌ لعبادة الأصنام ، سواء أكانت من أولئك القوم أم من غيرهم . أما القول الآخر فهو إنكارٌ أن يكونوا هم عبدة الأصنام ، أما غيرهم فلا مانع . ما الفرقُ بين قولك لابنك منكراً : أتكذب ؟ وبين قولك له : أأنت تكذب ؟
* وإذا كان المجال فيه بشرى وسعادة ؛ فابدأ البشرى . فإذا أردت أن تخبر طالباً بنجاحه ؛ فكيف سترتب كلامك ؟ ( يا زيد ، لقد ذهبتُ إلى مدرستك ، وكنتُ أعرف أحد العاملين بها ، وسألته عن نتيجتك ، وبعد طول بحث وو ........ نجحت ) . أم تبدأ بتبشيره : ( نجحت يا زيد ...... ) ثم تقص القصة ؟
* تأمل قوله تعالى : ] قَدْ أَفْلَحَ المُؤْمِنُونَ [ ( المؤمنون : 1 ) .
يقول الشاعر :
سعدت بغرة وجهك الأيام وتزينت ببقائك الأعوام
وتقديم ما حقّه التأخير قد يفيدُ معاني جديدة ، كتقديم الجارّ والمجرور أو الظرف للاختصاص . مثل : ( الملك لله ) لا تدل على نفس معنى ( لله الملك ) . الجملة الثانية تدل على أن الملك لله وحده لا شريك له . ما الفرق بين قولك : ( هذه الهدية لخالد ) وقولك : ( لخالد هذه الهدية ) ؟
* كما يحسُن أحياناً أن تبدأ بما يُشوِّق لتجعل مستمعَك متلهّفاً حريصاً على تكملة الكلام والانتباه له .(2/233)
* يقول - صلى الله عليه وسلم - : « ثلاثُ دعواتٍ مستجابات لا شكَّ فيهنّ : دعوة المظلوم ، ودعوة المسافر ، ودعوة الوالد » [13] . تخيّل لو كان الترتيبُ طبيعيًّا هكذا : دعوة المظلوم ، ودعوة المسافر ، ودعوة الوالد .. ثلاث دعوات مستجابات . هل تجدُ فيها ذلك الجمالَ والرونق ، وتلك الجاذبيةَ والبهاء ؟
- تأمل : « منهومان لا يشبعان : طالب علم وطالب مال » .. « عينان لا تمسهما النار : عينٌ بكت من خشية الله ، وعينٌ باتت تحرس في سبيل الله » [14] .
- وأنت تعلن نتيجة إحدى المسابقات التي تقودُها ، أتقول : ( ثلاثة فازوا : زيد .. وخالد .. وعمرو ) أم تقول : ( زيد وخالد وعمرو : ثلاثة فازوا ) ؟
* خامساً : الذوق :
* باسطْ جلساءك عند الحديث ، تواضعْ لهم ، لا تكلمْهم من علٍ ، اسأل عن أحوالِ مَنْ تكلِّمُه ، فإن معظمَ الناس لا يهتمون بما لديك من معرفة إلى أن يعرفوا قدر ما لديك من اهتمام بهم .
* اجعل في ثنايا كلامك ، بعضَ ألفاظ الاحترام والتقدير لمحدثِك ، كبيراً كان أم صغيرا ، مثل : ( من فضلك .. لو سمحت .. عن إذنك .. يا أُخيّ .. يا عمي .. يا شيخي .. يا مولانا .. يا بُنيّ .... ) وهذا هو الذوق ، وتلك هي الكياسة .
* وأثناء حديثِك حافظْ على ابتسامتك اللطيفة المناسبة ، يقول أبو الدرداء - رضي الله عنه - : « ما رأيتُ أو سمعتُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يحدّث حديثاً إلا تبسّم » [15] . إنّ للابتسامةِ وتعبيراتِ الوجه أثرَها في المستمع ، فهي تدلُّ على كرمِ الأخلاق ، وحسنِ السجيّة ، وطيبِ الطويّة .
يقول زهير مادحاً :
تراهُ إذا ما جئته متهللاً كأنّك تعطيه الذي أنت سائلُهْ(2/234)
* راعِ نبرةَ صوتِك أثناء حديثِك ، ومدى مناسبتِها للموضوع وللمخاطَب ، فلها أثرٌ عظيمٌ في معنى الكلام . فإذا قلتَ : ما هذا ؟ .. أو نَعم .. أو من أنت ؟ ..بصوتٍ عالٍ .. أو بصوتٍ طبيعيٍّ .. أو بنبرةٍ ساخرة .. أو بلهجةٍ متكبرة .. ( جرّب الآن ، وانظر الفرق ) . ولكن ، قد نحتاج إلى الصوت العالي في بعض الأحوال ، ومنها : الإهلال بالحج والعمرة .. الأذان .. التلبية في الحج .. التأمين في الصلاة الجهرية .. الخطبة وموعظة الناس . عن جابر بن عبد الله - رضي الله عنهما - قال : « كان رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - إذا خطب احمرّت عيناه ، وعلا صوتُه ، واشتدّ غضبُه ، حتى كأنه منذرُ جيشٍ يقول صبّحكم ومسّاكم » [16] .
* وراعِ كذلك إشاراتِك ونظراتِك ، فالإشارة تدلّ على الاحترام أو الاحتقار ، وطريقة النظر تتكلم ، وحركة الحواجب تنطق ، وتقطيبة الجبين تقول ، أمَّا لوي
العنق وتصعير الخدّ فهو الكبْرُ عينه . يقول سبحانه : ] وَيْلٌ لِّكُلِّ هُمَزَةٍ لُّمَزَةٍ [ ( الهمزة : 1 ) ، والهمزة : هو الذي يعيب الناس ، ويطعن عليهم بالإشارة والفعل
* إياك والكلماتِ الفاضحةَ غيرَ المهذّبة ؛ فهذه فحشاءُ لا يحب المؤمن إشاعتَها ، وفي الكناياتِ مخرج ، يغلِّف الكلامَ بغلافِ الأدبِ والحشمةِ والجمال . انظر إلى تعبير قرآننا العظيمِ عن الجماع : ] أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَّهُنَّ [ ( البقرة : 187 ) . ] فَالآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ [ ( البقرة : 187 ) . ] نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ [ ( البقرة : 223 ) . ] فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ [ ( البقرة : 222 ) . ] وَإِن طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ [ ( البقرة : 237 ) .
- ومن كناياتِ العرب :(2/235)
لسانه طويل ( لبذيء اللسان ) . نشر غسيله ( لمن فضح نفسه ) . نؤوم الضحى ( للمُنعَّمَة المترَفة ) . أوانيه نظيفة ( للبخيل ) . قلبه في جناحي طائر ( للخائف ) . نقية الثوب ( للعفيفة ) . ذهبت إحداهن تشكو فقرها للخليفة ، فقالت : أشكو إليك قلّة الجرذان في بيتي .
* لا تكثر من قول : « أنا » .. « عندي » .. « في رأيي » حذرَ التكبُّر ، كما حدث من إبليس اللعين : ] قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِّنْهُ [ ( الأعراف : 12 ) ، و فرعونَ
الهالك : ] فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى [ ( النازعات : 24 ) . و قارونَ الخاسر : ] قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي [ ( القصص : 78 ) .
* إذا نصحتَ فلا توجِّه الاتهام لمن تنصحه مباشرةً ، ولكن هناك طرق عديدة لطيفة ، منها : ( ما بال أقوامٍ يفعلون كذا وكذا ؟ .. هناك مشكلة عند أحدهم أريد أن أستشيرك في حلّها .. قرأت هذا الكتاب الجميل ، وهو لك ، اقرأه وقل لي رأيك فيه .. استمع إلى هذا الشريط ، سيعجبك .. نريد أن نقوم ببحث في موضوع كذا ، فعليه جوائز قيمة ) . لا تحاصر من تستجوبه ، فإذا أخطأ أحدٌ ، وعرفتَ خطأه ، وأخذتَ تعاتبه ؛ فإنه سيحاول أن يبرّر لك فعلته ، وهو نادمٌ عازمٌ على عدم العودة لمثله ، فاتركْ له فرصةً للهرب ، واستجِب لتبريره ، واعفُ واصفحْ يغفرْ لك ربُّك .
* سادساً : تنويع الأساليب :
- تنقّل في حديثك بين مختلف الأساليب . فما بين أسلوبٍ خبريّ ، مثل : ] إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ [ ( العنكبوت : 45 ) . ومثل : « المسلمُ مَن سلِم المسلمون من لسانِه ويدِه » [17] . ومثل :
كلُّ الحوادثِ مبداها من النظرِ ومعظمُ النارِ من مُستصغَر الشررِ
وأسلوبٍ إنشائيّ ، مثل :(2/236)
- الاستفهام : ما رأيُك في كذا ؟ هل تصدِّق هذا ؟ قال سبحانه : ] قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُم بِالأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً [ ( الكهف : 103 ) . - والأمر : ] حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الوُسْطَى [ ( البقرة : 238 ) . ] فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ [ ( النصر : 3 ) .
- والنهي : ] وَلاَ تَقْرَبُوا الزِّنَى [ ( الإسراء : 32 ) . ] وَلاَ تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ [ ( البقرة : 195 ) .
- والنداء : ] يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ [ ( البقرة : 21 ) . ] يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ [ ( آل عمران : 102 ) . ] يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ [ ( التحريم : 1 ) . يقول - صلى الله عليه وسلم - مخاطِبًا الأنصار : « يا معشرَ الأنصار ! ما مقالةٌ بلغتني عنكم وموجِدةٌ وجدتموها في أنفسكم ؟ » [18] .
- والتمني : ] يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ [ ( الأنعام : 27 ) . ] يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ [ ( القصص : 79 ) . ] يَا لَيْتَنِي كُنتُ تُرَاباً [ ( النبأ : 40 ) .
* سابعاً : الإيجاز والإطناب :
* أوجز كلامك ، لا تُطِل إلا لضرورة .
- انظر إلى هذا الإيجاز الرائع في قوله تعالى : ] وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الأَنفُسُ وَتَلَذُّ الأَعْيُنُ [ ( الزخرف : 71 ) . إنها كلمات موجَزة معدودة ، تحمل أعظمَ المعاني ، ففي الجنة نعيمٌ لا مُنتهى لحسنه ، فكلُّ ما تشتهيه نفسُك من مطاعمَ ومشاربَ وملابسَ ومساكنَ ونساء و .... ستجده .
- وفي رسالة محمدٍ - صلى الله عليه وسلم - إلى كسرى : « أسلِم تسلَم » [19] . وقوله - صلى الله عليه وسلم - : « اعقلها وتوكّل » [20] . أما الإطناب والزيادة في الكلام ، فهو لفائدةٍ يقتضيها المقام .(2/237)
- كالتلذُّذ بالكلام مع من تحب ، كما في جواب موسى - عليه السلام - على رب العزة جلّ شأنه : ] وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى * قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا
وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى [ ( طه : 17-18 ) . ولم يكن الجواب على قدر السؤال : ( عصا ) . فهو - عليه السلام - لا يريد أن ينهيَ حديثه مع ربه سبحانه .
- أو للتهديد ، كما في قوله سبحانه : ] كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ * ثُمَّ كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ [ ( التكاثر : 3-4 ) .
- أو لبيان أهمية شيء خاص ، كما في قوله عز وجل : ] حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الوُسْطَى [ ( البقرة : 238 ) . مع أن الصلاة الوسطى من الصلوات . وفي قوله سبحانه : ] مَن كَانَ عَدُواًّ لِّلَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِّلْكَافِرِينَ [ ( البقرة : 98 ) .
- أو للتأكيد ، كما في قوله سبحانه : ] وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ العَزِيزُ العَلِيمُ [ ( الزخرف : 9 ) . وفي قوله عزّ وجلّ : ] وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَن يُحْيِي العِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ * قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ [ ( يس : 78- 79 ) . وكأن تشرح درساً أو تفصل موضوعاً أو توضح مبهماً ، كما كان النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - : « إذا تكلَّم الكلمة أعادها ثلاثاً حتى يفهمَ أصحابُه عنه » [21] . المهم ، لا تتكلمْ كلامًا زائدًا بلا فائدة .
* ثامناً : الصور البيانية : وما أجملَ أن تُزيّن كلامك بصورٍ بيانيّة جميلة ، تُبهج النفس ، وتُنعشُ القلب .(2/238)
* تأمل هذه التشبيهاتِ الرائعة : يقول سبحانه : ] وَحُورٌ عِينٌ * كَأَمْثَالِ اللُّؤْلُؤِ المَكْنُونِ [ ( الواقعة : 22- 23 ) . ويقول عز وجلّ : ] مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَاراً [ ( الجمعة : 5 ) . وقال سبحانه : ] وَاضْرِبْ لَهُم مَّثَلَ الحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيماً تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ [ ( الكهف : 45 ) . ويقول - عليه الصلاة والسلام - : « إيّاكم والحسد ؛ فإن الحسدَ يأكلُ الحسنات كما تأكل النار الحطب » [22] .
ويقول البوصيري :
والنفسُ كالطفل إن تهملْه شبَّ على حُبِّ الرضاعِ وإن تفطمْه ينفطمِ
ويقول البحتري مادحاً :
دنوتَ تواضُعاً وعلوتَ قدراً فشأناك ارتفاعٌ وانخفاضُ
كذاك الشمسُ تبعدُ أن تُسامَى ويدنو الضوءُ منها والشعاعُ
ويقول بشّار بن بُرد يصفُ معركة :
كأنّ مُثارَ النَّقعِ فوقَ رؤوسِنا وأسيافَنا ليلٌ تهاوى كواكبُه
* وانظر تلك الاستعارات الجميلة : يقول سبحانه : ] وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ [ ( التكوير : 18 ) . وقال تعالى : ] أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَت تِّجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ [ ( البقرة : 16 ) . وقال - صلى الله عليه وسلم - : « بُنِي الإسلامُ على خمس .... » [23] .
وفي الشعر : قال أبو ذؤيب الهذلي :
وإذا المنية أنشبت أظفارَها ألفيت كلَّ تميمةٍ لا تنفعُ
وقال التهامي يرثي ابنه :
يا كوكباً ما كان أقصرَ عمرِه وكذاك عمرُ كواكبِ الأسحارِ(2/239)
وهذا المجاز المرسل . يقول سبحانه : ] يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِم مِّنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ المَوْتِ [ ( البقرة : 19 ) . فهم يضعون أطراف أصابعهم فقط في آذانهم ، لكن من شدة الخوف كأنهم يحاولون وضع كامل أصابعهم فيها . ويقول عز وجلّ : ] فَلْيَدْعُ نَادِيَهُ * سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ [ ( العلق : 17-18 ) . فهو لن يدعو النادي ، وإنما سيدعو أصدقاءه من النادي ، ولكن فليدع جميع الأصدقاء ، وإن استطاع أن يأتي بالمبنى نفسِه فليأتِ به ، وسوف يرى .
* تاسعاً : البديع :(2/240)
* لا بأسَ في كلماتك بشيءٍ من البديع الجميل غيرِ المُتكلَّف ، تشرئبُّ له أعناقُ المستمعين ، ويترك للكلام وقعَه الأخّاذَ المبهرَ للنفوس ، فالبديعُ في الكلام كالملحِ في الطعام ، يعطيه طعماً لذيذاً . تأمّل هذه الفواصلَ البديعة في كتاب ربنا جل شأنه . يقول سبحانه : ] قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ * اللَّهُ الصَّمَدُ * لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُواً أَحَدٌ [ ( الإِخلاص : 1-4 ) . ويقول عز وجل : ] يَا أَيُّهَا المُدَّثِّرُ * قُمْ فَأَنذِرْ * وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ * وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ [ ( المدثر : 1-4 ) . وهذا السجع الجميل في قوله - صلى الله عليه وسلم - : « .... اللهمّ أعطِ منفقاً خلفاً ، .... اللهمّ أعطِ ممسكاً تلفاً » [24] . وهذا الجناس المبهِج في مثل قوله سبحانه : ] وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ المُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ [ ( الروم : 55 ) . وهذا الطباق الأخّاذ في قوله سبحانه : ] وَمَا يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ * وَلاَ الظُّلُمَاتُ وَلاَ النُّورُ * وَلاَ الظِّلُّ وَلاَ الحَرُورُ * وَمَا يَسْتَوِي الأَحْيَاءُ وَلاَ الأَمْوَاتُ [ ( فاطر : 19-22 ) . والتورية المشوّقة في قول أبي بكر عندما سأله رجل أثناء هجرته : من هذا ؟ يعني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - . فقال أبو بكر : هادٍ يهديني . فلكلمة « هاد » معنيان : معنى قريب غير مقصود يفهمه المستمع ، وهو « دليل » ومعنى بعيد مقصود ، وهو من الهداية والإرشاد ، وذلك لخوفه - رضي الله عنه - على حبيبه المصطفى - صلى الله عليه وسلم - .
* عاشراً : الصدق :
* امزجْ كلماتِك بعاطفتِك الجيّاشة ، وإحساسِك الصادق ، فأنت منتبهٌ لما تقول ، منفعلٌ به ، متفاعلٌ معه . تتحدّث عن الآخرة ، وأمام ناظريك الجنة والنار كأنّك تراهما رأي العين ، وعندما تصف معركةً ، فإنك تستحضرها ، وكأنك تخوض غمارها .(2/241)
* وليخرجَ الكلام من القلب فأنت تمارس وتطبق وتعمل ، لتتحدثَ عن قيام الليل تجعلُ لنفسك منه حظاً ، ولتتكلمَ في صيام النفل فإن لك منه نصيباً ، ولتلقي موعظةً في الموت فأنت من زوّار المقابر . ساعتئذ سترى أثر كلماتك ، وما خرج من القلب يصل إلى القلب . احذر : ] يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لاَ تَفْعَلُونَ * كَبُرَ مَقْتاً عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُوا مَا لاَ تَفْعَلُونَ [ ( الصف : 2-3 ) . ومن الكذِب حديثك في موضوعٍ تظهر فيه أنك عالمٌ به ، ملمٌّ بأطرافه ، وأنت لا تعلم عنه شيئاً . وأنت عندما تحاور أو تناظر أو تخاصم .. فإن هدفَك الأسمى هو الحقّ ، فإن ظهر لك الحقُّ قبلتَه ، وخضعتَ له . يقول الشافعيّ - رحمه الله - : « ما ناظرتُ أحداً قطّ إلا أحببتُ أن يُوفَّق ويُسدّد ويُعان ، ويكونَ عليه رعايةٌ من الله وحفظ ، وما ناظرتُ أحداً إلا ولم أبالِ : بيّن الله الحقَّ على لساني أو لسانِه »
* والمؤمن لا يكذب أبداً ، يقول - صلى الله عليه وسلم - : « يُطبَع المؤمن على الخلال كلها ، إلا الخيانة والكذب » [25] . الكذب على دين الله من أقبح المنكرات ، قال - صلى الله عليه وسلم - : « إن كذباً عليّ ليس ككذبٍ على أحد ، فمن كذب عليّ متعمّداً فليتبوّأ مقعده من النار » [26] . بل ولا يكذب في المزاح ، قال - صلى الله عليه وسلم - : « ويلٌ للذي يحدّث بالحديث ليضحك منه القوم فيكذب ، ويلٌ له ، ويلٌ له » [27] ، ويقول - صلى الله عليه وسلم - : « إن العبدَ لَيقولُ الكلمة ، لا يقولها إلا ليُضحكَ بها المجلس ، يهوي بها أبعد ما بين السماء والأرض ، وإن المرءَ ليزلُّ عن لسانه أشدّ مما يزلّ عن قدميه » [28] .
* لا تكثر من الأَيْمان في حديثك بغير داعٍ ، فأنت صادقٌ لا تحتاج إلى اليمين إلا إذا أردت تأكيداً أو تحذيراً .
* حادي عشر : التضمين :(2/242)
* ضمِّن كلامك آياتٍ كريمةً ، وأحاديثَ شريفةً ، وأشعاراً وحِكَماً وأمثالاً تزيّن الكلام وتجمّله وتدعّمُه ، وتكسِبه تأثيراً وإقناعاً . لا تكلم المتحدث فيما لا يعلمه : ] وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ [ ( الإسراء : 36 ) . تقول للخائف على رزقه : ] وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ [ ( الذاريات : 22 ) . تقول للمجاهر بفاحشته : « لو كان الحياء رجلاً لكان رجلاً صالحاً ، ولو كان الفحشُ رجلاً لكان رجلاً سوءاً » [29] .
تُحدّث طالباً يريد النجاح ولا يذاكر :
ترجو النجاةَ ولم تسلكْ مسالكَها إن السفينةَ لا تجري على اليبسِ
تنظر أحوال أمتنا المسلمة :
من يهُنْ يسهلِ الهوانُ عليه ما لجرحٍ بميِّتٍ إيلامُ
ترى ازدحاماً على باب كريمٍ أو عالمٍ :
يزدحمُ الناسُ على بابِه والموردُ العذبُ كثيرُ الزحامِ
تُكلّم من يريدُ أن يبلغ أعلى مكانة :
تهون علينا في المعالي نفوسُنا ومن يخطبِ الحسناء لم يُغلها المهرَ
وإذا رأيت شخصاً يتبسّم لآخر ، وأنت على يقينٍ أنه يُضمرُ له الشرّ :
إذا رأيت نيوبَ الليثِ بارزةً فلا تظنّنّ أنّ الليثَ يبتسمُ
ولو رأيت أحد الناجحين المجتهدين أخفق مرةً :
لكل جوادٍ كبوة ، ولكل سيفٍ نبوة .
ولو جمع أحدُهم بين خصلتين رديئتين :
أحشَفاً وسوءَ كَيْلة ؟
وإذا قصّر شخصٌ في أمرٍ طُلب منه ، ولم يتقنه :
ما هكذا تُورَدُ يا سعدُ الإبلُ .
ولو سمعت من يعيبُ شعراً جميلاً أو عالماً جليلاً :
ومن يكُ ذا فمٍ مرٍّ مريضٍ يجدْ مُرا به الماءَ الزُّلالا
أو :
قدْ تُنكرُ العينُ ضوءَ الشمسِ من رمدٍ وينكرُ الفمُ طعمَ الماء من سقمِ
* ثاني عشر : وأخيراً : هذه وصايا أخرى سريعة :
1 - كن واثقاً من نفسك عندما تتكلّم ، لا تتلعثم مهما كان محدثُك ، واحرص على عدم تكرار لفظ معيّن يدل على عدم تمكُّنك ، مثل : آ آ آ .. أم أم أم .(2/243)
2 - تدرّب على الكلام الصحيح ؛ فإنما العلمُ بالتعلُّم . قال أحد الحكماء : « اللسان عضوٌ ؛ فإن مرّنته مرن ، وإن تركته حرن » وقال آخر : « أخزى الله المساكتة ، ما أفسدها على اللسان ، وأجلبَها للعيّ » . تمرّن وتمرَّس لترفعَ جوْدتَك ؛ فإننا في حاجةٍ لتطوير أنفسِنا مدى الحياة . شاركْ في البرامجِ والحوارات ، والجرائدِ والمجلات فتنمو مهارتُك ، وينتشر علمُك .
3 - نظّفْ قلبَك ، فما في القلب يفضحُه اللسان ، فاحذر الغشّ والحسد والحقد والكبر .
4 - لا تتكلمْ وأنت غضبان ، فما يخرج عند الغضب لا تُحمد عقباه .
5 - أعطِ كلَّ موضوعٍ حقّه ، فلا تكثرِ الكلام في موضوعٍ لا يستحقُّ على حساب الأهمّ .
6 - لا تخرج من موضوعٍ إلى آخر بدون نظام ، فكثرةُ الكلام يُنسي بعضُه بعضاً .
7 - اجعل في كلامِك بعضَ الطُّرَف والمزح الجميلةِ الصادقة ، يقول الشاعر : والنفسُ تسأمُ إن تطاول جدُّها فاكشف سآمةَ جدِّها بمزاحِ
8 - لا تفقدْ خلقَك مع من لا خُلُقَ لهم ؛ فهذا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كما روت عائشة - رضي الله عنها - تقول : استأذن رجل على رسول الله
- صلى الله عليه وسلم - فقال : « بئس أخو العشيرة هو » فلما دخل انبسط إليه وألان له القول ؛ فلما خرج قلت : يا رسول الله ! حين سمعت الرجل قلت : كذا وكذا ، ثم تطلَّقت في وجهه وانبسطت إليه ، فقال : « يا عائشةُ ! متى عهدتِني فاحشاً ؟ إن من شر الناس عند الله تعالى منزلةً يوم القيامة من تركه الناس اتقاء فحشه » [30] .
9 - تعلّم قواعد لغتك ، وأكثِر من القراءة في كتابِ ربِّك سبحانه ، وحديثِ نبيِّك - صلى الله عليه وسلم - ، واقرأ في كتب الأدباء شعرِهم ونثرِهم .. يستقمْ لسانُك .
10 - خالط الفصحاءَ والبلغاء ، وعايشْهم ، واسمعْ منهم ، واحضرْ ندواتِهم ومحاضراتِهم ومحاوراتِهم .(2/244)
11 - ربِّ ابنَك ومنْ تقومُ على تربيتِه ، ربِّهم على مهارة الكلام ، بتفهيمهم أهميةَ الكلام للإنسان ، ثم بتدريبهم على القراءةِ أمامَ الآخرين ، والخطابةِ ، والمشاركةِ في إذاعةِ المدرسة ، ومتابعة حسن الإعداد . واحذر إذا أردتَ أن تعلّمه الجرأة أن تفرح له إذا سمعتَه صغيراً يسبُّ ويلعن ، متعلّماً من بيته ، أو أنّ تربيةَ الشوارع قد ملأت كيانه ، ولكن بادر بالعلاج بحزمٍ وحكمة .
12 - حدِّد الهدفَ دائماً من حديثِك : أهوَ للتحفيز ، أمْ للتسليةِ ، أمْ للدعوةِ ، أم لأخرى ؟ وبتحديدِ الهدف يتحدَّد مسارُ الحديثِ وكيفيَّتُه .
13 - حاسب نفسك بعد كلِّ حديثٍ أو حوار ، وانظر السلبيات لتتلافاها ، تعلَّمْ من نفسِك ومن الآخرين ، قلِّد الناجحين والمبدعين ، طبِّق ما تعلمتَه بعد تعديله بما يناسب .
أخي : أمسكْ عليك لسانَك ، اشغلْه بالخير ، مرِّنْه على الذوق .. تسلمْ ويسلمْ دينُك .
________________________
(1) رواه الترمذي و ابن ماجه ، وقال الألباني : صحيح .
(2) رواه الطبراني .
(3) رواه ابن أبي الدنيا ، يقليك : يبغضك .
(4) أخرجه البخاري في الأدب المفرد .
(5) متفق عليه .
(6) رواه البخاري .
(7) رواه أبو داود و الترمذي .
(8) رواه أبو داود .
(9) رواه مسلم .
(10) رواه البخاري .
(11) رواه مسلم .
(12) رواه ابن ماجه ، وصححه الألباني .
(13) رواه أبو داود .
(14) رواه ابن عدي في الكامل .
(15) رواه أحمد .
(16) رواه مسلم .
(17) متفق عليه .
(18) متفق عليه .
(19) رواه البخاري .
(20) رواه البخاري .
(21) رواه البخاري عن أنس .
(22) رواه أبو داود .
(23) متفق عليه .
(24) متفق عليه .
(25) رواه أحمد .
(26) رواه البخاري .
(27) رواه الترمذي .
(28) في البيهقي .
(29) رواه الطبراني .
(30) رواه البخاري .
--------------------------------------------------------------------------------(2/245)
مجلة البيان، العدد (88)، ذو الحجة 1415،مايو 1995 .
* * *
http://www.albayan-magazine.com/zwaya/trbwi/56.htm
أساليب نبوية في التربية والتعليم
إبراهيم بن صالح الدحيم
نهوض الأمة ورقيها معقود بصحة التعليم وجودة التربية، والمناهج الأرضية وطرائق البشر مهما أوتيت من قوة واجتمع لديها من خبرة فإنها تقف عاجزة عن تحقيق الكمالات، وعن التناغم مع الفطرة السوية، والسبب هو أن هذه المناهج لا تخلو من هوىً بشريٍ جهول، أو نظرةٍ ضيقةٍ محدودةٍ مع ضعفٍ في الشعور الداخلي الصادق ـ المراقبة ـ الذي هو بلا شك مؤثرٌ كبيرٌ على سير العمل التعليمي والتربوي، ولذا فإن من المهم ـ والمهم جداً ـ إدامة النظر والتأمل في الأساليب النبوية في التربية والتعليم وذلك لأمور:
أولاًً: أن الله بعث نبيه محمداً -صلى الله عليه وسلم- معلماً ومزكياً، ومبشراً ونذيراً {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ} [الجمعة: 2]؛ فعن جابر بن عبد الله ـ رضي الله عنه ـ أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «إن الله لم يبعثني معنِّتاً ولا متعنتاً، ولكن بعثني معلماً ميسراً»(1)؛ فالحكمة مِنْ بَعْث النبي -صلى الله عليه وسلم- أن يعلِّم الناس، ولذا كانت حياته -صلى الله عليه وسلم- كلها تربية وتعليم، مما يجعلها غنية جداً بالأساليب التربوية والتعليمية.(2/246)
ثانياً: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- أوتي الكمال البشري، وعُصم من الخطأ الذي يقدح في تبليغه للدعوة «فأي عاقل حريص على مرضاة ربه يخيَّر بين الاقتداء بالمعصوم، الذي يكفل له السير على صراط الله المستقيم، وبين الاقتداء بمن لا يُؤمَن عثاره، ولا تضمن استقامته على الحق ونجاته..»(2)، لقد أعطي النبي -صلى الله عليه وسلم- ـ مع أميته ـ علماً لا يدانيه فيه أحد من البشر -صلى الله عليه وسلم- {وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُن تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا} [النساء: 113].
ثالثاً: لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- مرّ بمختلف الظروف والأحوال التي يمكن أن يمر بها معلم أو مربٍّ في أي زمانٍ ومكان؛ فما من حالة يمر بها المربي أو المعلم إلا ويجدها نفسها أو مثلها أو شبهها أو قريباً منها في حياة النبي -صلى الله عليه وسلم-. لقد عاش النبي -صلى الله عليه وسلم- الفقر والغنى، والأمن والخوف، والقوة والضعف، والنصر والهزيمة، عاش اليتم والعزوبة والزوجية والأبوة.. فكان يتعامل مع كل مرحلة وكل حالة بما يناسبها.
لقد ساس النبي -صلى الله عليه وسلم- العرب، ودعاهم وعلَّمهم وأحسن تربيتهم؛ مع قسوة قلوبهم وخشونة أخلاقهم، وجفاء طباعهم وتنافر أمزجتهم، لقد كان حال العرب كما وصفهم جعفر بن أبي طالب ـ رضي الله عنه ـ بقوله: «كنا قوماً أهل جاهلية، نعبد الأصنام، ونأكل الميتة، ونأتي الفواحش، ونقطع الأرحام، ونسيء الجوار، ويأكل القويُّ منا الضعيف..»(1).
فاحتمل النبي -صلى الله عليه وسلم- ما هم فيه من جفاء، وصبر منهم على الأذى، حتى كانوا خير أمة بعد أن لم يكن لهم قيمة ولا وزن {وَإن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ} [الجمعة: 2].(2/247)
إن الذي ينظر إلى الجاهلية قبل الإسلام، وكيف أنها كانت تعيش انتكاسة في الفطرة والعقيدة والأخلاق، لَيرى كم هو الدور الكبير الذي قام به النبي -صلى الله عليه وسلم-؛ حيث أحدث نقلة ضخمة في زمن قياسي. يقول «كارليل» وهو يقارن بين حال العرب قبل البعثة وبعدها: «هم قوم يضربون في الصحراء، لا يؤبه لهم عدَّة قرون؛ فلما جاءهم النبي العربي، أصبحوا قبلة الأنظار في العلوم والعرفان، وكثروا بعد القلة، وعزوا بعد الذلة، ولم يمض قرن حتى استضاءت أطراف الأرض بعقولهم وعلومهم»(2).
رابعاً: وجود دعوات ضالة كانت ولا زالت تنادي بضرورة نقل أسلوب التعليم والتربية من الغرب العلماني أو الياباني الوثني دون نظرٍ إلى المبادئ والقيم والثوابت الشرعية. إننا قد نستفيد منهم في بعض الوسائل والطرائق ـ في توصيل المعلومة مثلاً والتي اعتمدوا فيها على تجارب ودراسات وجهود مضنية وافقوا فيها الصواب في أحيانٍ كثيرة - أما أن نأخذ ما نزاحم به ثوابتنا وقيمنا فلا يصح أن نختلف في رده والوقوف أمامه. إن من المحزن المبكي أنك تجد دول الغرب الكافر تحامي عن مبادئها، وتخشى على قيمها، بينا ترى أهل الإسلام أهل الملة الخالدة يبقون وكأن العبث بالثوابت لا يعنيهم، أوَ ليس هو شيئاً ذا بالٍ في نظرهم؟
تنبيه: حين نريد أن نقف على المنهج النبوي الصحيح في التربية والتعليم فلا بد أن نفرق بين السمات الثابتة في حياته -صلى الله عليه وسلم-، وبين السمات التي تستدعيها حالات معينة توجب نوعية معينة من التعامل، وإليك بعض الأمثلة توضح ذلك:
- (الرفق واللين والرحمة) سمات ثابتة في الهدي النبوي لا تكاد تفتقدها وأنت تطالع السيرة؛ كيف لا وقد أنزل الله قوله ـ تعالى ـ: {وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} [آل عمران: 159].(2/248)
بينما تجد - الشدة، الزجر - تكون أموراً عارضة لأحوال عارضة ناسب أن يتعامل معها النبي -صلى الله عليه وسلم- بمثل هذا الأسلوب.
- مثال آخر (الجدية، والعمل) سمة ثابتة في المنهج النبوي بينا ترى ـ المزاح، والترويح ـ وإن وُجدا في أمثلة متعددة في السنة والسيرة النبوية فإنها مع ذلك لا تزال محدودةً لا تستدعي تحويل المنهج التربوي إلى منهجٍ هزلي هزيل يعتمد على الفكاهة واللعب.
إن المتأمل في هدي النبي -صلى الله عليه وسلم- وسيرته يرى كثرة الوسائل والأساليب التي انتهجها -صلى الله عليه وسلم- في تعليمه للأمة وتربيته لها، وإن الإحاطة بكل ذلك قد لا يكون ممكناً ولا مناسباً في مثل هذه العجالة، ولكني أقف مع بعض هذه الأساليب النبوية التي أرى الحاجة ماسة إلى التنبيه عليها:
? أولاً: الحفاوة والترحيب وحسن الاستقبال:
أحياناً نتعامل مع المتعلم والمدعو والمتربي على أننا أصحاب منَّةٍ عليه وتفضل، ولذا نرى أنه لا حاجة إلى القيام بشيء من الترحيب والحفاوة وحسن الاستقبال، بل قد نعتبر مجرد قبولنا له كافياً في الإكرام، وربما يشعر الأب والمربي أياً كان أن الحق له؛ فهو يطالب المتربي به. والحقيقة أن للأب والمربي حقاً كبيراً، لكن هذا الحق لن يتحقق إلا حين يُعرف الولد والمتربي بذلك ويغرس في قلبه إكرام أهل الفضل من خلال أساليب تربوية مشوقة وخطوات يقوم بها الأب والمربي.
ولقد كان من يقابل النبي -صلى الله عليه وسلم- ولو لأول وهلة يجد عنده من الحفاوة والترحيب وحسن الاستقبال ما يجعل النفوس تنجذب إليه وتأنس بحديثه.(2/249)
جاء صفوان بن عسال ـ رضي الله عنه ـ إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: يا رسول الله! إني جئت أطلب العلم. فقال له النبي -صلى الله عليه وسلم-: «مرحباً بطالب العلم؛ إن طالب العلم تحفه الملائكة بأجنحتها، ثم يركب بعضهم على بعض حتى يبلغوا السماء الدنيا من محبتهم لما يطلب...»(1)، كيف سيكون أثر هذا الترحيب وتلك الحفاوة في نفس صفوان، هل تراه يزهد في طلب العلم بعد ذلك؟ في بعض الأحيان يأتي الطالب ليشارك في حلقة قرآن أو منشط خيري فيقابل بشيء من البرود (.. لا بأس، اجلس مع زملائك..) دون أن يسمع كلمة ترحيب، بل ربما استُقبل بعارضة من الشروط المشددة (شروط القبول) والتي ربما جعلته يعود أدراجه. إن مما يُذكر فيُشكر أن بعض دور التعليم والمناشط الخيرية ربما جعلت حفل استقبال وترحيب بالأعضاء الجدد ذا أثر كبير في بعث الرغبة في النفوس.
- وعن أبي رفاعة ـ رضي الله عنه ـ قال: «انتهيت إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- وهو يخطب، قال: فقلت: يا رسول الله! رجل غريب جاء يسأل عن دينه، لا يدري ما دينه، قال: فأقبل عليَّ رسول الله ( وترك خطبته حتى انتهى إليَّ، فأُتي بكرسيٍّ حسبت قوائمه حديداً. قال: فقعد عليه رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وجعل يعلمني مما علمه الله، ثم أتى خطبته فأتم آخرها»(2).
عجيب والله! يوقف الخطبة، ويجلس للمتعلم! أي تكريم فوق هذا وأي حفاوة، وكم سيصنع هذا الأسلوب من رغبة في نفس المتعلم والطالب!! هل نستطيع نحن المعلمين أو المربين أن نقوم عن وجبة الإفطار ـ في المدرسة مثلاً ـ لنجيب الطالب عن مسألته؟ وحين يقطع علينا المتربي لذة النوم باتصال هاتفي لحل مشكلة، أو إجابة عن سؤال هل سيجد الترحيب منا وطيب النفس؟(2/250)
- ولقد كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يستقبل الوفود ويحسن وفادتهم، ويتخذ لذلك لباساً خاصاً وخطيباً يخطب بين يديه إشعاراً منه بمزيد الاهتمام بهم؛ فلما أتى وفد عبد القيس رحب بهم -صلى الله عليه وسلم-، فقال: «مرحباً بالقوم غير خزايا ولا ندامى..»(3)، ولما قدم الأشعريون أهل اليمن قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: «أتاكم أهل اليمن هم أرقُّ أفئدة، وألين قلوباً، الإيمان يمان، والحكمة يمانية»(4)، وروي في وفادة وائل بن حجر ـ رضي الله عنه ـ على النبي -صلى الله عليه وسلم-: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- بشر به أصحابه قبل قدومه، فقال: يأتيكم بقية أبناء الملوك. فلما دخل رحب به، وأدناه من نفسه وقرب مجلسه وبسط له رداءه، وقال: اللهم بارك في وائل وولده وولد ولده»(5). وقدم وفد عبس على النبي -صلى الله عليه وسلم- وكانوا تسعة، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: أنا عاشركم. وعقد لهم لواءً وجعل شعارهم «يا عشرة»(6). إن القلم ليعجز عن التعبير عن جمال هذا الخُلُق وأثره في النفوس، ولو أردنا أن نقف مع كل موقف من هذه المواقف لنتأمل فيه ونقف على الأثر الذي يحدثه في النفوس لطال بنا ذلك، وفيما ذكرنا كفاية.
? ثانياً: الرفق والرحمة وحسن التأني:
{فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} [آل عمران: 159].
لقد جعل النبي -صلى الله عليه وسلم- الرفق سبباً من أسباب الكمال والنجاح؛ فعن عائشة ـ رضي الله عنها ـ قالت: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «يا عائشة! إن الله رفيق يحب الرفق، ويعطي على الرفق ما لا يعطي على العنف، وما لا يعطي على ما سواه»(7). وفي حديث جرير بن عبد الله عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: «من حُرِمَ الرفق حُرِمَ الخير»(8).(2/251)
على هذه القاعدة العظيمة في التعامل (الرفق والرحمة) كان تعامل النبي -صلى الله عليه وسلم- مع أصحابه؛ فعن أبي هريرة ـ رضي اله عنه ـ أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: «إنما أنا لكم بمنزلة الوالد أُعَلِّمُكُم؛ فإذا أتى أحدكم الغائط فلا يستقبل القبلة ولا يستدبرها...»(9)، فتأمل كيف ابتدأ النبي -صلى الله عليه وسلم- بهذا الأسلوب اللطيف في التعليم، وكم سيكون له من أثر في نفس السامع..!!
وعن مالك بن الحويرث ـ رضي الله عنه ـ قال: أتينا رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ونحن شببة متقاربون، فأقمنا عنده عشرين ليلة، وكان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- رحيماً رفيقاً؛ فلما ظن أنَّا قد اشتقنا أهلنا، سألنا عمن تركنا بعدنا فأخبرناه قال: ارجعوا إلى أهليكم فأقيموا فيهم، وعلِّموهم»(10) الحديث. إن هذه الرحمة من النبي -صلى الله عليه وسلم- بهؤلاء الشباب فيها التوجيه إلى ضرورة مراعاة طبائع النفوس، الشيء الذي قد يغفل عنه بعض المربين بحجة (الجدية والحزم) فربما كلفوا النفوس ما لا تطيق، وحَمَلوها على ما يسبب لها الانقطاع.
وتتأكد الحاجة إلى الرفق والرحمة عند وقوع الخطأ غير المتعمد؛ لأن النفوس أحياناً قد يستثيرها الخطأ فتنسى التعامل معه بالرحمة والرفق، وتميل بقوةٍ إلى الردع والتأديب؛ فعن معاوية بن الحكم السلمي ـ رضي الله عنه ـ قال: «بينا أنا أصلي مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم-؛ إذ عطس رجُلٌ من القوم، فقلت: رحمك الله. فرماني القوم بأبصارهم، فقلت: واثُكل أمِّيَاه! ما شأنكم تنظرون إليَّ؟ فجعلوا يضربون بأيديهم على أفخاذهم؛ فلما صلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: فبأبي هو وأمي ما رأيت معلماً قبله ولا بعده أحسن تعليماً منه؛ فوالله ما نهرني ولا ضربني، ولا شتمني، قال: إن هذه الصلاة لا يصلح فيها شيء من كلام الناس، إنما هو التسبيح والتكبير وتلاوة القرآن»(11).(2/252)
وعن أنس ـ رضي الله عنه ـ قال: جاء أعرابي، فبال في طائفة المسجد، فزجره الناس، فنهاهم النبي -صلى الله عليه وسلم-، فلما قضى بوله أمر النبي -صلى الله عليه وسلم- بذَنوب من ماء فأُهريق عليه»(1)، وفي رواية: فقال له رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «إن هذه المساجد لا تصلح لشيء من هذا البول ولا القذر؛ إنما هي لذكر الله ـ عزَّ وجل ـ والصلاة وقراءة القرآن»(2).
تأمل هذا الموقف لو وقع في مسجد حيِّك، لو أن ـ رضيعاً ـ بال في مصلى النساء فكم ستتابع على أمه كلمات التعنيف وربما السب، وسيكون ذلك حديث جماعة المسجد، وأهل الحي أياماً.
إن التعامل بالرفق والرحمة يورث النفس نوعاً من الطمأنينة والهدوء، ويجعل تَفَهُّم المشكلة والتعامل معها أكثر نجاحاً وتحقيقاً للأهداف بخلاف ما لو صَحِب ذلك نوعٌ من التوتر.
? ثالثاً: الثناء والتشجيع:
الثناء والتشجيع وتسليط الضوء على مكامن الكمال في النفس البشرية والإشادة بها منهج نبوي كريم، يراد منه بعث النفس على الزيادة، وإثارة النفوس الأخرى نحو الإبداع والمنافسة، وهو مشروط بأن يكون حقاً، وأن يُؤمَن جانب الممدوح، وأن يكون بالقدر الذي يحقق الهدف.
- عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ قال: يا رسول الله! مَنْ أسعد الناس يوم القيامة؟ قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «لقد ظننت يا أبا هريرة أن لا يسألني عن هذا الحديث أحدٌ أول منك، لِمَا رأيت من حرصك على الحديث....»(3).
- وعن حذيفة ـ رضي الله عنه ـ قال: جاء أهل نجران إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فقالوا: يا رسول الله! ابعث إلينا رجلاً أميناً، فقال: لأبعثن إليكم رجلاً أميناً حقَّ أمينٍ، حق أمين. قال: فاستشرف لها الناس، قال فبعث أبا عبيدة بن الجراح «وفي رواية» فأخذ بيد أبي عبيدة فقال: «هذا أمين هذه الأمة»(4).(2/253)
- وعن أُبي بن كعب ـ رضي الله عنه ـ قال -صلى الله عليه وسلم-: «أبا المنذر! أي آية معك من كتاب الله أعظم؟ قال: قلت: الله ورسوله أعلم. قال: أبا المنذر! أي آية معك من كتاب الله أعظم؟ قال: قلت {اللَّهُ لا إلَهَ إلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} [آل عمران: 2] قال: فضرب صدري، وقال: لِيَهْنَ لك يا أبا المنذر العلم»(5).
- وعن أبي أيوب ـ رضي الله عنه ـ أن أعرابياً عرض لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهو في سفر فأخذ بخطام ناقته أو بزمامها، ثم قال: يا رسول الله! أو يا محمد! أخبرني بما يقربني من الجنة وما يباعدني من النار. قال: فكفَّ النبي -صلى الله عليه وسلم-، ثم نظر في أصحابه، ثم قال: «لقد ـ وُفِّق أو لقد هُدي» ثم يُقبل عليه النبي -صلى الله عليه وسلم- ويقول: كيف قلتَ؟...الحديث»(6)، انظر كم في هذه الأحاديث من تشجيع واهتمام ومزيد رعاية وعناية.
كم يبعث التشجيع في نفس المتعلم من حب للعلم، وكم يساعد في تسارع خطوات التربية نحو الأمام، وذلك على عكس ما يأتي به كثرة التأنيب والعتاب واللوم، أو السكوت عن الثناء عند كل نجاح وتفوق.
والثناء والتشجيع قد يستفاد منه في تدعيم سلوك معين أو التوجيه إلى عمل مهم يحسن اكتسابه.
- عند الإمام مسلم(7) من حديث ابن عمر ـ رضي الله عنهما ـ في الرؤيا التي رآها فقصها على أخته حفصة ـ رضي الله عنها ـ فقصتها على النبي -صلى الله عليه وسلم-، فقال: «نِعْمَ الرجل عبد الله لو كان يقوم من الليل». فيا ترى ما أثر ثناء النبي -صلى الله عليه وسلم- على ابن عمر ـ رضي الله عنه؟ (قال سالم: فكان عبد الله، بعد ذلك، لا ينام من الليل إلا قليلاً).(2/254)
- وفي قصة سلمة بن الأكوع ـ رضي الله عنه ـ في (ذي القرد) لما رجعوا قافلين إلى المدينة بعد أن أبلى سلمة ـ رضي الله عنه ـ بلاءً حسناً، ثم ناموا في الطريق. قال سلمة ـ رضي الله عنه ـ: فلما أصبحنا قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: خير فرساننا اليوم أبو قتادة، وخير رجالتنا: سلمة. قال: ثم أعطاني رسول الله -صلى الله عليه وسلم- سهمين: سهم الفارس وسهم الراجل، فجمعهما لي جميعاً، ثم أردفني رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على العضباء راجعين إلى المدينة»(8)، تأمل هذه الحادثة، وكم فيها من الثناء والتشجيع وتقدير الكفاءات؛ ففي قوله: «وخير رجالتنا سلمة» إعلان للتكريم أمام مجمع من الصحابة. ثم إن في إعطائه سهمين مكافأة أيضاً وتقديراً لجهوده، ثم في إرداف النبي -صلى الله عليه وسلم- له على الدابة زيادة في التكريم والتقدير له، ولك أن تتصور مقدار التكريم حين يُركبك القائد معه في مركبته الخاصة تسير بصحبته أمام الناس ـ كم سيضاعف هذا الثناء والتقدير من نشاطٍ في نفس سلمة أو أبي قتادة رضي الله عنهما، بل كم سيحرك في نفوس الآخرين حين يكون المدح في محله!
إن كثيراً من القدرات، وكثيراً من أصحاب الكفاءات يصابون بالضمور، بل ربما يموتون وتموت مواهبهم وقدراتهم؛ لأنهم لا يجدون من يدفعهم بكلمة ثناء، أو يرفعهم بعبارة تشجيع.
إننا حين نثني على أصحاب القدرات لسنا نحفظ ونضمن جهد المجتهد منهم فحسب، بل إننا نحرك نفوساً ربما لا يحركها أسلوب آخر.......!!
? رابعاً: التدرج ومراعاة الحال:(2/255)
حين نرجع إلى المعنى اللغوي للتربية نجد أن من معانيها النمو والزيادة، ومنه أيضاً التدرج (فالتربية جهود تراكمية، يرفد بعضها، بعضاً والزمن واضح في قولهم: تربى، وتنشأ، وتثقف؛ فالتنشئة والتغذية والتثقيف لا تكون أبداً طفرة ومرة واحدة، وإنما تتم على مراحل متتالية...)(1)؛ وذلك لأن (للجوانب التي تتطلب التربية والإصلاح في النفس البشرية من الاتساع والتعدد والتنوع ما يجعلها في وقتٍ وجهدٍ أمراً عسيراً ومتعذراً)(2).
ثم إن المتربين والمتعلمين ليسوا على درجة واحدة من الفهم والإدراك، ولا على درجة واحدة في الحرص والرغبة.
وقد كان التشريع الذي نزل من عند الحكيم الخبير، يرعى التدرج وتمرين الناس على قبول الشرائع وترويضهم عليها؛ حيث خوطب الناس ابتداءً بالأهم فالأهم، فكان التأكيد أولاً على تحقيق التوحيد، حتى إذا استقرت نفوسهم أمروا بالفرائض ثم سائر الشرائع والأحكام. تقول عائشة ـ رضي الله عنها ـ: «إنما نزل أول ما نزل منه سورة من المفصَّل فيها ذكر الجنة والنار، حتى إذا ثاب الناس إلى الإسلام نزل الحلال والحرام، ولو نزل أول شيء: لا تشربوا الخمر؛ لقالوا: لا ندع الخمر أبداً، ولو نزل: لا تزنوا؛ لقالوا: لا ندع الزنا أبداً..» الحديث(3).
وكذا كان المنهج النبوي في التربية والتعليم يقوم على التدرج ومراعاة الحال.
- روى ابن ماجه عن جندب بن عبد الله ـ رضي الله عنه ـ قال: «كنا مع النبي -صلى الله عليه وسلم- ونحن فتيان حزاورة، فتعلمنا الإيمان قبل أن نتعلم القرآن، ثم تعلمنا القرآن، فازددنا به إيماناً»(4). كم نستعجل أحياناً في تعليم القرآن (حفظه) للأبناء والتلاميذ قبل تثبيت الإيمان في نفوسهم، كم رأينا ممن قارب إتمام القرآن حفظاً فانقطع وتغير سلوكه؛ لأن بناء الإيمان لم يتزامن مع الحفظ، إني بهذا الكلام أؤكد دور التربية والبناء الإيماني، ولا أقلل من أهمية الحفظ.(2/256)
- وفي حديث ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ في بعث النبي -صلى الله عليه وسلم- معاذاً إلى اليمن قال: إنك ستأتي قوماً من أهل الكتاب فادعهم إلى شهادة أن لا إله إلا الله وأني رسول الله؛ فإن هم أطاعوا ذلك فأعلمهم أن الله افترض..... الحديث»(5).
- وإن من التدرج ومراعاة الحال في التربية والتعليم عدم تقديم ما حقه التأخير، وأن يُخَصَّ بالعلم أناسٌ دون غيرهم مراعاةً للفهوم وتقديراً للمصالح. روى البخاري في صحيحه قال: (باب من خص بالعلم قوماً دون قوم كراهية أن لا يفهموا) وذكر تحته حديث أنس ـ رضي الله عنه ـ قال: ذُكِر لي أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال لمعاذ: «من لقي الله لا يشرك به شيئاً دخل الجنة» قال: ألا أبشر الناس؟ قال: لا؛ إني أخاف أن يتكلوا»(6).
قال العيني ـ رحمه الله ـ: (وفي الحديث بيان وجوب أن يُخَصَّ بالعلم الدقيق قومٌ فيهم الضبط وصحة الفهم، وأن لا يُبذل لمن لا يستأهله من الطلبة ومن يخاف عليه الترخص والاتكال لتقصير فهمه)(7).
وروى البخاري(8) في صحيحه عن علي بن أبي طالب معلقاً قال: حدِّثوا الناس بما يعرفون، أتحبون أن يكذب الله ورسوله -صلى الله عليه وسلم-. وروى مسلم(9)، عن عبد الله بن مسعود ـ رضي الله عنه ـ قال: «ما أنت محدث قوماً حديثاً لا تبلغه عقولهم إلا كان لبعضهم فتنة».
إن عملية التعليم والتربية ليست عملية استعراض يستعرض فيها المربي أو المعلم معلوماته، إنما هي صياغة متكاملة تحتاج في أولها إلى الأسس والمبادئ التي تصح بها النهايات وتكتمل، وكما قال شيخ الإسلام: (صحة البدايات تمام النهايات).
وهكذا كانت طريقة الربانيين الذين امتدحهم الله فقال: {وَلَكِن كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُونَ} [آل عمران: 79]. قال البخاري: قال ابن عباس ـ رضي الله عنه ـ: (الرباني هو الذي يربي الناس بصغار العلم قبل كباره).(2/257)
- ومما يدخل في مراعاة حال المتعلم أو المتربي إعطاء كل مرحلة ما يناسبها من العلم والتربية فـ (إن لكل مرحلة عمرية درجة من النضج، يصعب تجاوزها، كما أن لها مشكلات لا يمكن حلها إلا على نحو جزئي، ولذا فإن العجلة هي العدو الأول للتربية..هناك جوانب عديدة في شخصياتنا، لا ينضجها إلا الزمن..)(10) وكان ابن سيرين يقول:
إنك إن كلفتني ما لم أطق
ساءك ما سرك مني من خلق
إن بعض المربين قد يعمد في بعض المراحل العمرية إلى زيادة الجرعة وهذا أحياناً قد يحدث شيئاً من التشوه التربوي {قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا} [الطلاق: 3].
? خامساً: الاستفادة من الأحداث:
كل يوم تطلع فيه الشمس تتجدد أحداث وتمر حوادث، وعلى المعلم اللبيب والمربي الحكيم أن يفيد من هذه الحوادث والأحداث في توجيه التعليم وتأكيد التربية كما هو حال النبي الكريم -صلى الله عليه وسلم-:
- روى مسلم عن جابر ـ رضي الله عنه ـ: «أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مر بالسوق، داخلاً من بعض العالية(11)، والناس كَنَفتيه (أي جانبيه) فمرَّ بجَدْيٍ ميت أسك(12)، فتناوله فأخذ بأذنه، ثم قال: أيكم يحب أن هذا له بدرهم؟ قالوا: ما نحب أنه لنا بشيء، وما نصنع به؟ قال: أتحبون أنه لكم؟ قالوا: والله! لو كان حيّاً كان هذا أسك، فكيف وهو ميت؟! فقال: فوالله! للدنيا أهون على الله من هذا عليكم»(1). كم يتكرر علينا مثل هذا الحادث أو قريباً منه ثم لا نوليه أدنى اهتمام.
- وعن عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ قال: قدم على النبي -صلى الله عليه وسلم- سَبْيٌ؛ فإذا بامرأة من السبي تبتغي، إذا وجدت صبياً في السبي، أخذته فألصقته ببطنها وأرضعته، فقال لنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «أترون هذه المرأة طارحةً ولدها في النار؟ قلنا: لا، والله! وهي تقدر على أن لا تطرحه، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: لَلَّهُ أرحم بعباده من هذه بولدها»(2).(2/258)
كان يمكن أن يذهب هذا الحديث دون تعليق، لكن النبي الحكيم -صلى الله عليه وسلم- أفاد منه أي إفادة؛ وهكذا ينبغي لنا، وحين نطيل التأمل في مثل هذا الحادث فإننا سنجد فيه فرصة للإفادة في جوانب أخرى؛ فكما أشار النبي -صلى الله عليه وسلم- فيه إلى سعة رحمة الله؛ فإننا نجد فيه فرصة للتذكير بحق الوالدين، وتقلُّب الدنيا بأهلها؛ إلى غير ذلك.
وعن جرير بن عبد الله البجلي ـ رضي الله عنه ـ قال: «كنا جلوساً ليلة مع النبي -صلى الله عليه وسلم-، فنظر إلى القمر ليلة البدر، فقال: إنكم سترون ربكم يوم القيامة كما ترون هذا القمر، لا تضامون في رؤيته؛ فإن استطعتم أن لا تُغلبوا على صلاة قبل طلوع الشمس وقبل الغروب، فافعلوا»(3).
كم نرى القمر ليلة البدر؟ كم نراه ونحن مع أولادنا أو مع طلابنا، ثم لا نجد فرصةً أن نُذَكِّر برؤية المؤمنين لربهم في الجنة؟ وكم يمكن أن نفيد من رؤية القمر مثلاً بالتذكير بالصلاة وعظمتها، وأنها نور (والصلاة نور) والتذكير بقيمة الجمال ومحبة الناس له؟ ولن نعدم توجيهاً لو أعملنا أذهاننا.
وعن البراء بن عازب ـ رضي الله عنه ـ قال: «أُهديتْ لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- حُلَّةُ حرير، فجعل أصحابه يلمسونها ويعجبون من لينها، فقال -صلى الله عليه وسلم-: أتعجبون من لين هذه؟ لَمَناديل سعد بن معاذ في الجنة خير منها وألين»(4).
قد يقول قائل: إن هذا خبرُ غيبٍ جاء النبي -صلى الله عليه وسلم- بطريق الوحي وليس لنا إلى ذلك سبيل، فنقول: نعم! ولكن لنا سبل أخرى، فنستطيع أن نُذَكِّر عند جمال الدنيا وحسنها بنعيم الجنة، وبنار الدنيا وعذابها عذاب الآخرة: «ناركم هذه التي يوقِد ابن آدم، جزء من سبعين جزءاً من حر جهنم»(5).(2/259)
وقد كان هذا من طريقة بعض السلف رحمهم الله: كان حممة ـ رضي الله عنه ـ صاحب رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وهرم بن حيان ـ رحمه الله ـ يصطحبان أحياناً بالنهار، فيأتيان سوق الريحان، فيسألان الله الجنة ويدعوان، ثم يأتيان الحدادين فيتعوذان من النار، ثم يتفرقان إلى منازلهما»(6).
كثيراً ما نجلس ونحن نحيط بالنار نستدفئ أو نصنع طعاماً؛ فكم يمكن أن نستفيد من هذا الحادث؟ يمكن أن نقول للمتربين: أرأيتم النار كيف تلتهم الحطب؟ كذلك الحسد يأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب. ويمكن أن نقول ونحن نحس بالدفء إن هناك من المسلمين من يتقلب في العراء لا يجد له بيتاً يُكِِنُّه، ولا ناراً يستدفئ بها.
إن الحادث الواحد قد يكون فيه فرص للتوجيه في جوانب عدة. نعم! قد لا يكون من المناسب أحياناً استعراض جميع جوانب العبرة في الحادث، لكن علينا أن نأخذ منه أنفع وألصق شيء بالحال.
إن أي حادث يجري فإنه يمكن أن يفاد منه في التربية (والمربي البارع لا يترك الأحداث تذهب سُدى بغير عبرة وبغير توجيه. وإنما يستغلها لتربية النفوس وصقلها وتهذيبها. ومزية الأحداث على غيرها من وسائل التربية أنها تُحدِث في النفس حاله خاصة هي أقرب للانصهار. إن الحادثة تثير النفس بكاملها، وترسل منها قدراً من حرارة التفاعل والانفعال يكفي لصهرها أحياناََ، أو الوصول بها إلى قرب الانصهار... والمثل يقول: اضرب والحديد ساخن؛ لأن الضرب حينئذ يسهِّل الطرق والتشكيل)(7).(2/260)
وإن ما تمر به الأمة اليوم من حوادث وفتنٍ متتابعة ليعتبر من جهة أخرى فرصة لصياغة الشخصية المسلمة صياغة جادة ثابتة مثمرة، وأكبر شاهد على ذلك الجيل الفريد الذي رباه النبي -صلى الله عليه وسلم- في خضم الحوادث والمحن قبل الهجرة في مكة وكذا بعد الهجرة في الحوادث التي زاغت بها الأبصار؛ ففي مثل تلك الأوضاغ الشديدة (كانت الشخصية المسلمة تصاغ. ويوماً بعد يوم، وحدثاً بعد حدث، كانت هذه الشخصية تنضج وتنمو وتتضح سماتها...)(8).
وحين نطالب بالاستفادة من الأحداث فلسنا بذلك نريد التعنت والتكلف في توجيهها، بل نلفت النظر إلى أسلوب ناجع من أساليب التربية النبوية.
? سادساً: التبسط وإزالة الحواجز:
النفوس البشرية ضعيفة تحوي في داخلها مشاعر وعواطف، يجذبها المعروف، وتحب الأنس والتواضع، وتكره التعالي والتكلف، وتأنف الجفاء والعبوس وتقطيب الجبين. والتبسط وإزالة الحواجز بين المربي والمتربي كفيل بإيجاد بيئة مطمئنة تساعد في تسارع التعليم، وتطور التربية، واتساع مساحتها بشكل واضح، والناظر في هدي النبي -صلى الله عليه وسلم- يجد ذلك واضحاً، ويرى الأثر الكبير الذي يحدثه هذا الأسلوب في النفوس.
- كان الرجل يأتي إلى مجلس رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لا يحجبه عنه بوابون يقول جرير بن عبد الله البجلي ـ رضي الله عنه ـ: «ما حجبني رسول الله منذ أسلمت، ولا رآني إلا تبسم في وجهي»(1). وكان -صلى الله عليه وسلم- ربما أتاه الرجل لا يعرفه وقد أخذه الفزع يظن أنه يقدِم على الملوك، فيهون النبي -صلى الله عليه وسلم- عليه ذلك؛ فعن ابن مسعود ـ رضي الله عنه ـ قال: «أتى النبي -صلى الله عليه وسلم- رجل فكلَّمه فجعل ترتعد فرائصه فقال له -صلى الله عليه وسلم-: هوِّن عليك؛ فإني لست بملك، إنما أنا ابن امرأة تأكل القديد»(2).(2/261)
بل لقد كثر توارد الناس على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- «حتى كان آخر حياته يصلي جالساً لمَّا حطمه الناس»(3). إن الناس لو كانوا يجدون وحشةً من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لم يكونو يأتونه بهذه الجرأة ولا بهذه الكثرة. وحين يكون الوصول إلى المعلم أو المربي من الصعوبة بمكان فإن حلقات من التربية والتعليم في حياة المتعلم والمتربي ستكون مفقودة لصعوبة الاتصال.
إن الناظر في هدي النبي -صلى الله عليه وسلم- وسيرته يرى صوراً كثيرةً من تبسُّطه -صلى الله عليه وسلم- مع أصحابه مع كثرة أشغاله وجدية حياته، إنه مع ذلك يجد فرصة للمزاح معهم ومخالطتهم والدخول في أحاديثهم واستشارتهم وتسليتهم ومواساتهم. وإليك شيئاً من هديه -صلى الله عليه وسلم- في ذلك:
- عن عثمان بن عفان ـ رضي الله عنه ـ قال في خطبة له: «إنَّا والله قد صحبنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في السفر والحضر، وكان يعود مرضانا، ويتبع جنائزنا، ويغزو معنا، ويواسينا بالقليل والكثير»(4).
- وعن أنس ـ رضي الله عنه ـ قال: «إنْ كان النبي -صلى الله عليه وسلم- ليخالطنا حتى يقول لأخٍ لي صغير: «يا أبا عمير! ما فعل النغير؟»(5).(2/262)
- روى الإمام أحمد في مسنده عن عبد الرحمن بن غنم، عن معاذ بن جبل ـ رضي الله عنه ـ: «أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- خرج بالناس قبل غزوة تبوك؛ فلما أن أصبح صلى بالناس صلاة الصبح، ثم إن الناس ركبوا؛ فلما أن طلعت الشمس نعس الناس على أثر الدلجة، ولزم معاذ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يتلو أثره... ثم إن رسول الله كشف عنه قِناعه، فالتفت فإذا ليس من الجيش رجلٌ أدنى إليه من مُعاذ فناداه، فقال: يا معاذ! قال: لبيك يا نبي الله! قال: أُذْنُ، دُونَكَ! فدنا منه حتى لَصِقت راحلتاهما إحداهما بالأخرى. فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ما كنت أحسب الناس مِنَّا كمكانهم من البُعد، فقال معاذ: يا نبي الله! نعس الناس، فتفرقت بهم ركابهم ترتع وتسير، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: وأنا كنت ناعساً. فلما رأى معاذ بُشرى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وخلوته له قال: يا رسول الله! ائذن لي أسألك عن كلمة قد أمرضتني وأسقمتني وأحزنتني! فقال نبي الله -صلى الله عليه وسلم-: سلني عمّا شئت.... الحديث(6). بالتأكيد إن هذا السؤال عند معاذ كان حبيساً في نفسه منذ زمن، حتى إذا رأى انبساط النبي -صلى الله عليه وسلم- ورأى البِشْر في محياه استدعاه ذلك إلى سؤال النبي -صلى الله عليه وسلم-؛ فكم في نفوس أبنائنا وطلابنا من أسئلة وإشكالات ومشاكل لو وَجَدت نفساً بسيطة وقريبة لا يجد المتربي أو المتعلم أدنى كُلفة في التعامل معها، أو نفساً منبسطة تجذب الناس إليها، وحين لا يجد المتربون والمتعلمون هذه النفوس فلا شك أنهم سيبحثون عن نفوس أخرى!
- وعن سِماك بن حرب قال: قلت لجابر بن سمرة ـ رضي الله عنه ـ: كنت تجالس رسول الله -صلى الله عليه وسلم-؟ قال: نعم! كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إذا صلى الفجر جلس في مصلاّه حتى تطلع الشمس، فيتحدث أصحابه يذكرون الجاهلية، ينشدون الشعر ويضحكون، ويبتسم رسول الله -صلى الله عليه وسلم-(7).(2/263)
- عن أنس بن مالك ـ رضي الله عنه ـ قال: « كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من أفكه الناس»(8).
قال مرعي بن يوسف الكرمي ـ رحمه الله ـ في كلامه عن المزاح: (.. اعلم أيدك الله، أنه لا بأس بالمزاح الخالي عن سفساف الأمور وعن مخالطة السفلة ومزاحمتهم، بل بين الإخوان أهل الصفاء بما لا أذى فيه ولا ضرر، ولا غيبة ولا شَيْن في عرض أو دين، بل ربما لو قيل: يُندب، لم يبعُد، إذا كان قاصداً به حسن العُشرة والتواضع للإخوان، والانبساط معهم، ورفع الحشمة بينهم، من غير استهزاء أو إخلال بمروءةٍ أو استنقاص بأحد منهم)(9).
أفد طبعك المكدود بالجد راحةً
يجم وعلِّله بشيء من المزح
ولكن إذا أعطيته المزح فليكن
بمقدار ما تعطي الطعام من الملح
- وحين ندعو إلى الانبساط وإزالة الحواجز مع المتعلم أو المتربي فلسنا نقصد بذلك أن يذوب المربي في شخصية المتربي، أو يذوب المعلم في شخصية المتعلم. مع العلم أن الذوبان وذهاب المهابة لا يقع إلا حين يتخلى المعلم أو المربي عن شخصيته الحقيقية ودوره الحقيقي، وعندها يتحول هذا الأسلوب (الانبساط وإزالة الحواجز) عن كونه سبباً لتحقيق أهداف التربية والتعليم إلى كونه شهوةً ورغبةً وإيناساً للنفس وموافقة للطبع لا غير.
? سابعاً: الإقناع:
الأصل أن يربى الناس على التسليم للأوامر بالفعل وللنواهي بالترك، لكن بعض النفوس أحياناً قد تكون شاردة تعيش حالة من التصميم حتى ولو كانت على خطأ، ولا يوقظ هذه النفوس إلا شيء من الإقناع، بردِّها للجادة، وتأكيد معاني الخير فيها.(2/264)
- روى البخاري(1) عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ أن رجلاً أتى النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: يا رسول الله! وُلِدَ لي غلام أسود، فقال: هل لك من إبل؟ قال: نعم! قال: ما لونها؟ قال حمر. قال: هل فيها من أوْرق؟ قال: نعم! قال: فأنَّى ذلك؟ قال: نزعه عرق. قال: فلعل ابنك هذا نزعه عرق». والملاحظ هنا في الإقناع النبوي الاستفادة من البيئة المحيطة، وكذا الاستفادة من البدهيات التي يؤمن بها المحاوَر، وهذا في حد ذاته من مؤكدات الإقناع.
- أخرج الإمام أحمد عن أبي أمامة ـ رضي الله عنه ـ قال: إن شاباً أتى النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: يا رسول الله! ائذن لي بالزنا. فأقبل القوم عليه فزجروه، وقالوا: مَهْ مَهْ! فقال: ادنه! فدنا منه قريباً. قال: فجلس. قال: أتحبه لأمك؟ قال: لا، والله! جعلني الله فداك. قال: ولا الناس يحبونه لأمهاتهم. قال: أفتحبه لابنتك؟ قال: لا، والله! يا رسول الله، جعلني الله فداك. قال: ولا الناس يحبونه لبناتهم، قال: أفتحبه لأختك؟ قال: لا، والله! جعلني الله فداءك قال: ولا الناس يحبونه لأخواتهم. قال: أفتحبه لعمتك؟ قال: لا، والله! جعلني الله فداءك. قال: ولا الناس يحبونه لعماتهم. قال: أفتحبه لخالتك؟ قال: لا، والله! جعلني الله فداءك، قال: ولا الناس يحبونه لخالاتهم. قال: فوضع يده عليه، وقال: اللهم اغفر ذنبه، وطهِّر قلبه، وحصِّن فرجه؛ فلم يكن بعد ذلك الفتى يلتفت إلى شيء»(2).
إن النبي -صلى الله عليه وسلم- في هذا الحديث لم يكتفِ بدرجةٍ قليلة من الإقناع، بل مارس معه تأكيد الإقناع ـ إن صح التعبير ـ وكان يكفي قوله: أتحبه لأمك، لكنه عدد محارمه زيادة في الإقناع، ودلالة على أن ما قد يأتي من النساء لا تخلو أن تكون أماً لأحدٍ أو بنتاً أو عمة أو خالة.(2/265)
وفي المسند عن أبي حذيفة عن عدي بن حاتم سمعه يقول: دخلت على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: «يا عدي! أسلم تسلم» قلت: إني من أهل دين. قال: «أنا أعلم بدينك منك» فقلت: أنت اعلم بديني مني؟! قال: «نعم! ألست من الرَّكوسية، وأنت تأكل مرباع قومك؟» قلت: بلى! قال: «فإن ذلك لا يحل لك في دينك» قال: فلم يعْدُ أن قالها فتواضعت لها، قال: «أما إني أعلم ما الذي يمنعك عن الإسلام، تقول: إنما اتبعه ضعفة الناس ومن لا قوة له وقد رمتهم العرب؛ أتعرف الحِيرة؟ قلت: لم أرها وقد سمعت بها، قال: فوَ الذي نفسي بيده! ليُتِمَّنَ اللهُ هذا الأمرَ حتى تخرج الظعينة من الحيرة حتى تطوف بالبيت من غير جوار أحد، ولتُفتحَن كنوز كسرى بن هرمز» قلت: كسرى بن هرمز؟ قال: نعم! كسرى بن هرمز، وليُبذلن المال حتى لا يقبله أحد»(3) الحديث.
تأمل قوله -صلى الله عليه وسلم- «أنا أعلم بدينك منك» فهو يحمل إشارة إلى أن من يقوم بالإقناع ينبغي أن يكون واسع المعارف كبير الفهم. وتأمل قوله -صلى الله عليه وسلم-: «إني أعلم ما الذي يمنعك من الإسلام..» فيه إزالة الموانع وتفتيت الحواجز ودحض الشبهات التي تقف أحياناً كثيرة أمام رقي المتعلم والمتربي.
- وعند البخاري عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ قال: أخذ الحسين بن علي ـ رضي الله عنه ـ تمرة من تمر الصدقة، فجعلها في فيه فقال -صلى الله عليه وسلم-: «كِخْ، كِخْ» ليطرحها، ثم قال: «أما شعرتَ أنَّا لا نأكل الصدقة؟»(4).
يا ترى كم كان عمر الحسين بن علي ـ رضي الله عنه ـ وقتئذ؟ لقد مات النبي -صلى الله عليه وسلم- وعمر الحسين لم يجاوز الثامنة؛ ومع ذلك خاطبه -صلى الله عليه وسلم- خطاب الكبار، ومارس معه الإقناع؛ فكأنه يقول له: أنا لم أخرجها من فمك شُحّاً أو طمعاً أو أن فيها ضرراً عليك ـ لا.. إن السبب أنَّا لا نأكل الصدقة.(2/266)
حين تجد مع ابنك صورة محرمة أو تجد عليه لباساً بعيداً عن روح الإسلام؛ فإن جلسة إقناع تؤكد فيها شخصية المسلم وتميُّزه كافية في التغيير بإذن الله، وعلى أقل تقدير كافية في هز القناعات السابقة وزعزعتها، وهذا سيجعل فرصة التخلي عنها في المستقبل أكبر.
هذه بعض الأساليب النبوية في التربية والتعليم أحببت الإشارة إليها والوقوف معها لما لها من أثر في بناء النفس، وكلي أمل أن أكون أسهمت من خلال هذه الكتابة في تدعيم لبنات الإصلاح المنشود.
والله أعلم وهو يهدي السبيل
--------------------------------------------------------------------------------
(1) رواه مسلم (1478.
(2) ركائز دعوية من هدي النبي -صلى الله عليه وسلم- في العلاقات الاجتماعية، البيانوني، ص 48.
(1) مسند أحمد (21460). (2) الرسول المعلم، أبو غدة، ص 11.
(1) جامع بيان العلم وفضله (1/155) وصحح إسناده المحقق (أبو الأشبال). (2) رواه مسلم (876).
(3) رواه البخاري (4368). (4) رواه البخاري (4388).
(5) البداية والنهاية، 5/93. (6) البداية والنهاية، 5/103.
(7) رواه مسلم (2593). (8) رواه مسلم (2592).
(9) أبو داود (8)، وهو حديث حسن. (10) البخاري (6008).
(11) رواه مسلم (537).
(1) رواه البخاري (221). (2) رواه مسلم (285).
(3) رواه البخاري (99). (4) رواه مسلم (2418 ـ 2420).
(5) رواه أبو داود (1460). (6) رواه مسلم (13).
(7) رواه مسلم (24790). (8) رواه مسلم (1807).
(1) حول التربية والتعليم، عبد الكريم بكار، ص 10. (2) معالم في المنهج النبوي، للدويش (مجلة البيان 125، ص 36).
(3) رواه البخاري (4993). (4) رواه ابن ماجه (المقدمة ـ باب الإيمان حديث (61).
(5) رواه البخاري (4347). (6) رواه البخاري (129).
(7) الرسول المعلم، ص 82 نقلاً عن عمدة القاري. (8) البخاري (127).
((2/267)
9) المقدمة ـ باب النهي عن الحديث بكل ما سمع، ص 23. (10) حول التربية والتعليم، ص 50.
(11) قرى ظاهر المدينة. (12) أي صغير الأذنين.
(1) رواه مسلم (2958). (2) رواه مسلم (2754).
(3) رواه البخاري (554). (4) رواه مسلم (2468).
(5) رواه مسلم (2843). (6) منهج التابعين في تربية النفوس، عبد الحميد البلالي، ص 116.
(7) منهج التربية الإسلامية، محمد قطب، 1/ 207 ـ 208.
(8) منهج النبي -صلى الله عليه وسلم- في الدعوة من خلال السيرة الصحية، محمد أمحزون، ص 211 نقلاً عن الظلال، ولمعرفة خصائص التربية بالأحداث يمكنك النظر إلى ص 73، من هذا الكتاب (منهج النبي).
(1) رواه البخاري (3035). (2) ابن ماجه (3312)، وصححه الألباني.
(3) رواه مسلم (732). (4) رواه أحمد (504) وصحح إسناده أحمد شاكر.
(5) رواه مسلم (2150). (6) رواه أحمد (5/245).
(7) رواه النسائي، شرح السيوطي (3/ 80 ـ 81). (8) كنز العمال (18400).
(9) غذاء الأرواح بالمحادثة والمزاح، لمرعي الكرمي، ص 28.
(1) رواه البخاري (2633). (2) رواه أحمد (5/256).
(3) تفسير ابن كثير، سورة التوبة عند قوله: {يُرِيدُونَ أَن يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ} [التوبة: 32]. (4) رواه البخاري (1491).
--------------------------------------------------------------------------------
مجلة البيان، العدد (209)، محرم 1426،فبراير 2005 .
* * *(2/268)
http://www.albayan-magazine.com/zwaya/trbwi/57.htm
المسلم والآثار النفسية للإيمان
د. عز الدين المفلح
غني عن القول أن قضية الإيمان هي قضية مصيرية بالنسبة للإنسان، إنها سعادة الأبد أو شقاء الأبد. إنها الجنة أبداً أو النار أبداً. والإيمان ليس مجرد إعلان المرء أنه مؤمن، وليس مجرد قيام الإنسان بأعمال وشعائر اعتاد أن يقوم بها المؤمنون، وليس مجرد معرفة ذهنية بحقائق الإيمان.
وبكلمة مختصرة: ليس الإيمان مجرد عمل لساني، ولا عمل بدني، ولا عمل ذهني، بل هو عمل نفسي يبلغ أغوار النفس، ويحيط بجوانبها كلها:
من هنا فإنه لا بد من إدراك ذهني تتكشف به حقائق الوجود على ما هي عليه، وهذا الانكشاف لا يتم إلا عن طريق الوحي الإلهي المعصوم، ولا بد من أن يبلغ هذا الإدراك العقلي حد اليقين الذي لا يزلزله شك ولا ارتياب. ولا بد من أن يصحب هذه المعرفة الجازمة إذعان قلبي وانقياد إرادي، يتمثل في الخضوع والطاعة، ولا بد من أن يتبع تلك المعرفة حرارة وجدانية مسعدة. ومضمون هذا الإيمان هو وجود الله تعالى، ووحدانيته، وكماله، والإيمان بالنبوة والرسالة، وبوحدة الدين عند الله، والإيمان بمُثُل عليا إنسانية واقعية، وقدوات بشرية ممتازة، استطاعت أن تجعل من مكارم الأخلاق، وصوالح الأعمال، وفضائل النفوس، حقائق واقعة وشخوصاً مرئية للناس، لا مجرد أفكار في بعض الرؤوس، أو أمانٍ في بعض النفوس، أو نظريات في الكتب والقراطيس.(2/269)
ثم كيف يقبل العقل الحُرّ، أو ترضى الفطرة السليمة أن تنتهي الحياة، وقد طغى فيها من طغى، وبغى فيها من بغى، وقتل فيها من قتل، وتجبر فيها من تجبر، ولم يأخذ أحد من هؤلاء عقابه، بل تستر واختفى، وأفْلَت ونجا؟ وفي الجانب الآخر: كم استقام من استقام، وأحسن من أحسن، وضحّى من ضحّى، وجاهد من حاهد، وقدّم من قدّم، ولم ينل جزاء ما قدّم! ألا يحق للعقل أن يؤمن إيماناً جازماً أنه لا بد من وجود دار أخرى، تسوّى فيها الحسابات، يجزى فيها المحسن بإحسانه والمسيء بإساءته؟ قال ـ تعالى ـ: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً} [الإسراء: 70].
الإنسان مخلوق كريم عند الله، خلقه في أحسن تقويم، وكرمه أعظم تكريم، وصوَّره فأحسن صورته، خلقه بيده، ونفخ فيه من روحه، وأسجد له ملائكته، وميزه بالعلم والإرادة، وجعله خلفية في الأرض، وسخر له ما في السموات، وما في الأرض جميعاً منه، وأسبغ عليه نعمه ظاهرة وباطنة؛ فكل ما في الكون له ولخدمته، أما هو فجعله ـ تعالى ـ لنفسه. لذلك يشعر المؤمن بذاته، ويغالي بقيمة نفسه؛ لأنه يعتز بانتسابه إلى الله، وارتباطه بكل ما في الوجود؛ فيحيا عزيز النفس، عالي الرأس، أبياً للضيم، عصياً على الذل والهوان، بعيداً عن الشعور بالتفاهة والضياع، والصغار والفراغ.(2/270)
والإنسان في نظر الماديين لا يزيد ثمنه عن مئة من العملات الرخيصة؛ لأن فيه من الدهن ما يكفي لصنع سبع قطع من الصابون، وفيه من الفحم ما يكفي لصنع سبعة أقلام من الرصاص، وفيه من الفوسفور ما يكفي لصنع مئة وعشرين عود ثقاب، وفيه ملح المغنزيوم ما يصلح جرعة واحدة لأحد المسهلات، وفيه من الحديد ما يساوي مسماراً متوسط الحجم، وفيه من الكلس ما يكفي لطلاء بيت دجاج، وفيه من الكبريت ما يكفي لتطهير جلد كلب واحد، وفيه من الماء ما يزيد عن ثلاثين لتراً.
السلامة والسعادة، مطلبان ثابتان لكل إنسان، كائناً من كان، في كل زمان ومكان، من الفيلسوف في قمة تفكيره وتجريده، إلى العامي في قاع سذاجته وبساطته، ومن الملك في قصره المشيد، إلى الصعلوك في كوخه الحقير، ومن المترف في ملذاته، إلى الفقير في ويلاته. ولكن السؤال الذي يحير الإنسان عبر العصور والأجيال: أين السعادة؟ ولماذا الشقاء؟ والجواب: لقد طلبها الأكثرون في غير موضعها، ومظانها، فعادوا كما يعود طالب اللؤلؤ في الصحراء صفر اليدين، مجهود البدن، كسير النفس، خائب الرجاء.
لقد توهموا في ألوان المتع المادية، وفي أصناف الشهوات الحسية، فما وجدوها تحقق السعادة أبداً، وربما زادتهم مع كل جديد منها همّاً جديداً: «خذ من الدنيا ما شئت وخذ بقدرها همّاً، ومن أخذ من الدنيا فوق ما يكفيه أخذ من حتفه وهو لا يشعر». ولا بد من التفريق بين السعادة واللذة.(2/271)
اللذة طبيعتها حسية، مرتبطة بالجسد الفاني، تأتي من خارج الإنسان؛ فهو يلهث وراءها، ويتعب في تحصيلها، وهي متناقضة في تأثيرها، تتبعها كآبة مدمرة، وتنقطع بالموت؛ فإن كانت مبنية على الظلم والعدوان، استحق صاحبها جهنم إلى أبد الآبدين. بينما السعادة طبيعتها نفسية، مرتبطة بذات الإنسان الخالدة، تنبع من داخل الإنسان، سهلة في تحصيلها، متناسبة في تأثيرها، يشقى الإنسان بفقدها، ولو ملك كل شيء، ويسعد بها، ولو فقد كل شيء، تقفز إلى ملايين الأضعاف بعد الموت، يستحق صاحبها جنة، عرضها السماوات والأرض، فيها ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، وفيها نظر إلى وجه الله الكريم، ورضوان من الله أكبر.
واللذة تحتاج إلى عناصر ثلاث: وقت، وصحة، ومال. والإنسان يفتقد هذه العناصر في كل طور من أطوار حياته؛ ففي الطور الأول من حياته يتوافر الوقت والصحة، ويفتقد المال، وفي الطور الثاني من حياته يتوافر المال والصحة، ويفتقد الوقت، وفي الطور الثالث من حياته يتوافر الوقت والمال وتُفتقد الصحة. بينما السعادة تحتاج إلى عناصر ثلاث: إيمان بالله إيماناً حقيقياً، واستقامة على أمره، وعمل صالح تجاه خلقه. وهذه متوافرة في كل زمان ومكان، وفي طور من أطوار حياة هذا الإنسان.
غاضب زوجٌ زوجته، فقال لها: لأشقينك! فقالت الزوجة في هدوء: لا تستطيع أن تشقيني، كما لا تملك أن تسعدني. فقال الزوج في حَنَق: وكيف لا أستطيع؟ فقالت الزوجة في ثقة: لو كانت السعادة في مال وكنت تملكه لقطعته عني، ولو كانت السعادة في الحلي والحلل، لحرمتني منها، ولكنها في شيء لا تملكه أنت ولا الناس أجمعون، فقال الزوج في دهشة: وما هو؟ فقالت الزوجة في يقين: إني أجد سعادتي في إيماني، وإيماني في قلبي، وقلبي لا سلطان لأحد عليه غير ربي. هذه هي السعادة الحقة التي لا يملك بشر أن يعطيها، ولا يملك أحد أن ينتزعها ممن أوتيها.
{(2/272)
قَالُوا يَا مُوسَى إمَّا أَن تُلْقِيَ وَإمَّا أَن نَّكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ * قَالَ أَلْقُوا فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجَاءُوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ * وَأَوْحَيْنَا إلَى مُوسَى أَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَإذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ * فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ مَا كَانُوا يَعْمَلُون * فَغُلِبُوا هُنَالِكَ وَانقَلَبُوا صَاغِرِينَ * وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ * قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ * رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ * قَالَ فِرْعَوْنُ آمَنتُم بِهِ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إنَّ هَذَا لَمَكْرٌ مَّكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ لِتُخْرِجُوا مِنْهَا أَهْلَهَا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ * لأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُم مِّنْ خِلافٍ ثُمَّ لأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ * قَالُوا إنَّا إلَى رَبِّنَا مُنقَلِبُونَ* وَمَا تَنقِمُ مِنَّا إلاَّ أَنْ آمَنَّا بِآيَاتِ رَبِّنَا لَمَّا جَاءَتْنَا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ} [الأعراف: 115 - 126] . ما الذي لاح لهؤلاء السحرة، وما الذي شعر به هؤلاء حتى تحدوا فرعون وما أدراكم من فرعون؟ إنها السعادة التي غمرت قلوبهم فآثروها على دنياهم العريضة التي وعدهم فيها فرعون.(2/273)
ولكن لا ننكر أن للجانب المادي مكاناً محدوداً في تحقيق السعادة؛ فقد قال ـ عليه الصلاة والسلام ـ: «من سعادة ابن آدم: المرأة الصالحة، والمسكن الصالح، والمركب الصالح» (1) ، ولكن ليس لهذا الجانب المكان الأول ولا الأفسح، والمدار فيه على الكيف لا على الكم؛ فحسب الإنسان أن يسلم من المنغصات المادية التي يضيق بها الصدر: من مثل المرأة السوء، والمسكن السوء، والمركب السوء، وأن يمنح الأمن والعافية، وأن يتيسر له القوت من غير حرج ولا إعنات. وما أروع وأصدق الحدث النبوي: «من أصبح آمناً في سربه، معافى في بدنه، عنده قوت يومه فكأنما حيزت له الدنيا بحذافيرها» (2) . ويقول ـ عليه الصلاة والسلام ـ: «إن الله ـ تعالى ـ بقسطه جعل الفرح والروح في الرضا واليقين، وجعل الهمّ والحزن في السخط والشك» (3) . يكشف هذا الحديث الشريف عن حقيقة نفسية باهرة؛ فكما أن سنة الله قد ربطت الشبع والري بالطعام والشراب في عالم المادة؛ فإن سنته ـ تعالى ـ في عالم النفس قد ربطت الفرح والروح (أي السرور وراحة النفس) بالرضا واليقين؛ فبِرِضا الإنسان عن نفسه، وعن ربه، يطمئن إلى يومه وحاضره، وبيقينه بالله وبالجزاء في اليوم الآخر، يطمئن إلى غده ومستقبله، كما ربطت سنة الله الغم والحزن بالسخط والشك.
فالساخطون والشاكون لا يذوقون للسرور طعماً، إن حياتهم كلها سواد ممتد، وظلام متصل، وليل حالك لا يعقبه نهار. أما حزن المؤمن فلغيره أكثر من حزنه لنفسه، وإذا حزن لنفسه فلآخرته قبل دنياه، وإذا حزن لدنياه فهو حزن عارض موقوت كغمام الصيف، سرعان ما ينقشع إذا هبت عليه رياح الإيمان.(2/274)
قدم عليه -صلى الله عليه وسلم- وفد من اليمن، وهم ثلاثة عشر رجلاً قد ساقوا معهم صدقات أموالهم التي فرض الله عليهم، فسُرَّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بهم، وأكرم منزلهم، وقالوا: يا رسول الله! سقنا إليك حق الله في أموالنا، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «ردوها على فقرائكم». قالوا: يا رسول الله! ما قدمنا عليك إلا بما فضل عن فقرائنا، فقال أبو بكر: يا رسول الله! ما وفد العرب بمثل ما وفد به هذا الحي من اليمن، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «إن الهدى بيد الله عز وجل؛ فمن أراد به خيراً شرح صدره للإيمان». وسألوا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أشياء، فكتب لهم بها، وجعلوا يسألونه عن القرآن والسنن، فازداد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بهم رغبة، وأمر بلالاً بحسن ضيافتهم، فأقاموا أياماً، ولم يطيلوا المكث، فقيل لهم: ما يُعجِلكم؟. فقالوا: نرجع إلى مَنْ وراءَنا، فنخبرهم برؤيتنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وكلامِنا إياه، وما رد علينا. ثم جاؤوا إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يدعونه، فأرسل إليهم بلالاً، فأجازهم بأرفع ما كان يجيز له الوفود. قال: «هل بقي منكم أحد؟» قالوا: نعم! غلام خلَّفناه على رحالنا هو أحدثنا سناً. قال: «أرسلوه إلينا»، فلما رجعوا إلى رحالهم، قالوا للغلام: انطلق إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فاقضِ حاجتك منه، فإنَّا قد قضينا حوائجنا منه وودعناه، فأقبل الغلام حتى أتى رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فقال: يا رسول الله! إني امرؤ من بني أبذي ـ يقول من الرهط الذين أتوك آنفاً ـ فقضيت حوائجهم، فاقضِ حاجتي يا رسول الله! قال: «وما حاجتك؟»، قال: إن حاجتي ليست كحاجة أصحابي، وإن كانوا قدموا راغبين في الإسلام، وساقوا من صدقاتهم، وإني ـ واللهِ ـ ما أقدمني من بلادي إلا أن تسأل الله ـ عز وجل ـ أن يغفر لي ويرحمني، وأن يجعل غناي في قلبي.(2/275)
فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأقبل إلى الغلام: «اللهم اغفر له، وارحمه، وأجعل غناه في قلبه»، ثم أمر له بمثل ما أمر به لرجل من أصحابه، فانطلقوا راجعين إلى أهليهم، ثم وافوا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في الموسم بمنى سنة عشر. فقالوا: نحن بنو أبذي، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «ما فعل الغلام الذي أتاني معكم؟»، قالوا: يا رسول الله! ما رأيناه قط، ولا سمعنا بأقنع منه بما رزقه الله، لو أن الناس اقتسموا الدنيا ما نظر نحوها ولا التفت إليها؛ فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «الحمد لله؛ إني لأرجو أن يموت جميعاً». فقال رجل منهم: أوليس يموت الرجل جميعاً يا رسول الله؟ فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «تتشعب أهواؤه وهمومه في أودية الدنيا؛ فلعل أجله أن يدركه في بعض تلك الأودية، فلا يبالي الله ـ عز وجل ـ في أي أوديتها هلك». قالوا: فعاش ذلك الغلام فينا على أفضل حال، وأزهده في الدنيا، وأقنعه بما رزق، فلما توفي رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ورجع من رجع من أهل اليمن عن الإسلام، قام في قومه، فذكَّرهم بالله وبالإسلام، فلم يرجع منهم أحد، وجعل أبو بكر الصديق يذكِّره ويسأل عنه حتى بلغه حاله، وما قام به؛ فكتب إلى زياد بن لبيد يوصيه به خيراً (1) .(2/276)
فالناس يموتون على ما عاشوا عليه؛ فمن عاش جميعاً مات جميعاً، ومن عاش أوزاعاً شتى، وأجزاء متناثرة، مات عاش، وقليل من الناس، بل أقل من القليل ذلك الذي يعيش لغاية واحدة، ويجمع همومه في همّ واحد، يحيا له، ويموت له، ذلك هو المؤمن البصير الذي غايته الفرار إلى الله، وسبيله اتباع ما شرع الله، وكل شيء في حياته لله وبالله، حاله تنطق به هذه الآية: {قُلْ إنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الأنعام: 162] ، وقال ـ تعالى ـ: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إيمَانَهُم بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ} [الأنعام: 82] .
إن الناس يخافون من أشياء كثيرة، وأمور شتى، ولكن المؤمن سد أبواب الخوف كلها، فلا يخاف إلا من الله وحده، يخافه أن يكون فرَّط في حقه، أو اعتدى على خلقه، أما الناس فلا يخافهم؛ لأنهم لا يملكون له ضراً ولا نفعاً ولا موتاً ولا حياة ولا نشوراً. والمؤمن آمن على رزقه أن يفوته؛ فإن الأرزاق في ضمان الله الذي لا يُخلِفُ وعدَه، ولا يضيع عبده، وهو الذي يُطعم الطير في الوكنات، والسباع في الفلوات، والأسماك في البحار، والديدان في الصخور، وهو الذي يسمع دبيب النملة السمراء، على الصخرة الصماء في الليلة الظلماء. لقد كان المؤمن يذهب إلى ميدان الجهاد حاملاً رأسه على كفه متمنياً الموت في سبيل عقيدته، ومن خلفه ذرية ضعاف، وأفراخ زغب الحواصل لا ماء ولا شجر، ولكنه يوقن أنه يتركهم في رعاية رب كريم، هو أبر بهم، وأحنى عليهم منه، وتقول الزوجة عن زوجها وهو ذاهب في سبيل الله: إني عرفته أكَّالاً وما عرفته رزَّاقاً، ولئن ذهب الأكَّال، لقد بقي الرزاق. وهو آمن على أجله؛ فإن الله قدر له ميقاتاً مسمى، أياماً معدودة، وأنفاساً محدودة، لا تملك قوة في الأرض أن تنقص من هذا المقدار أو تزيد فيه.(2/277)
هدد الحجاجُ سعيدَ بن جبير التابعي الجليل بالقتل، فقال له سعيد: «لو علمتُ أن الموت والحياة في يدك، ما عبدت إلهاً غيرك». إن الإيمان والأمل متلازمان، فالمؤمن أوسع الناس أملاً، وأكثرهم تفاؤلاً واستبشاراً، وأبعدهم عن التشاؤم والتبرم والضجر؛ إذ الإيمان معناه الاعتقاد بقوة عليا تدبر هذا الكون، لا يخفى عليها شيء، ولا تعجز عن شيء، بيدها كل شيء.
المؤمن يعتصم بهذا الإله العظيم، البر الرحيم، العزيز الحكيم، الغفور الودود، ذي العرش المجيد، الفعَّال لما يريد، يجيب المضطر إذا دعاه، ويكشف السوء، ويقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات، أرحم بعباده من الأم بولدها، وأبر بخلقه من أنفسهم. فالمؤمن إذا حارب كان واثقاً بالنصر؛ لأنه مع الله فالله معه، ولأنه لله فالله له: {إنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنصُورُونَ* وَإنَّ جُندَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ} [الصافات: 172 - 173] . وهذا درس بليغ لنا في معركتنا مع أعدائنا. والمؤمن إذا مرض لم ينقطع أمله في العافية: {وَإذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ} [الشعراء: 80] والمؤمن إذا اقترف ذنباً لن ييأس من المغفرة: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ} [الزمر: 53] . وإذا أعسر لم يزل يؤمل باليسير: {فَإنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا} [الشرح: 5].
وإذا انتابته كارثة من الكوارث كان على رجاء من الله أن يأجره في مصيبته، وأن يخلفه خيراً منها. وإذا رأى الباطل يقوم في غفلة الحق، ويصول ويجول، أيقن أن الباطل إلى زوال، وأن الحق إلى ظهور وانتصار. وإذا أدركته الشيخوخة، واشتعل رأسه شيباً لا ينفكُّ يرجو حياة أخرى: شباباً بلا هرم، وحياة بلا موت، وسعادة بلا شقاء.(2/278)
المحبة هي قوت القلوب، وغذاء الأرواح، وهي الحياة التي من حُرِمَها فهو في جملة الأموات، وهي النور الذي من فقده فهو في بحار الظلمات، وهي الشفاء الذي من عدمه حلّت به الأسقام، وهي اللذة التي من لم يظفر بها؛ فعيشه كله هموم وآلام، لذلك قال -صلى الله عليه وسلم- فما رواه أنس بن مالك: «ثلاث من كنّ فيه وجد بهن حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحبّ إليه مما سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله، وأن يكره أن يعود في الكفر بعد إذ أنقذه الله منه، كما يكره أن يُلقى في النار» (1) . فالمؤمن من يعرف ربه، ويحبه، ويخطب وده، ويستقيم على أمره، ويعمل الصالحات ابتغاء وجهه، عندئد يجد حلاوة الإيمان، ويصبح شغله الشاغل التقرب إلى الله بالنوافل. وفي الحديث القدسي: «لا يزال عبدي يتقَّربُ إليَّ بالنوافل حتى أحبه؛ فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها ورجله التي يمشي بها، ولئن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه» (2) .(2/279)
كثيرون هم الذين يدَّعون محبة الله ورسوله، ولا تجد في أعمالهم ما يُثبت ذلك، إنهم خاضوا بحار الهوى دعوى وما ابتُلوا، ولو يعطى الناس بدعواهم لادعى الخليُّ حُرقة الشجي، لذلك طولب المدعون بإقامة الدليل على صحة دعواهم فقال ـ تعالى ـ: {قُلْ إن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} [آل عمران: 31] . المؤمنون هم أصبر الناس على البلاء وأثبتهم في الشدائد، وأرضاهم نفساً في الملمات، عرفوا أن هذه الدنيا دار التواء لا دار استواء، ومنزل ترح لا منزل فرح، وأن من عرفها لم يفرح لرخاء، ولم يحزن لشقاء، قد جعلها الله دار بلوى، وجعل الآخرة دار عقبى، فجعل بلاء الدنيا لعطاء الآخرة سبباً، وجعل عطاء الآخرة من بلوى الدنيا عوضاً، فيأخذ ليعطي، ويبتلي ليجزي، وعرفوا أن ما ينزل بهم من مصائب ليس ضربات عجماء، ولا خبط عشواء، ولكنه وفق قدر معلوم، وقضاء مرسوم، وحكمة إلهية، فآمنوا بأن ما أصابهم لم يكن ليخطئهم، وما أخطأهم لم يكن ليصيبهم، وعرفوا أن الله يقدر ويلطف، ويبتلي ويخفف، ومن ظن انفكاك لطفه عن قدره فذلك لقصور نظره، وعرفوا أن وراء كل شدة فرجاً، وأن وراء كل محنة منحة.(2/280)
وآيات الله في الآفاق والأنفس، تعد باباً واسعاً من أبواب الإيمان الحق، وطريقاً قصيراً إلى خشيته وطاعته: فالباحث في العلم يوقن، والمتأمل في الكون يشعر حينما يقرأ آيات القرآن المتعلقة بخلق الأكوان والإنسان، يوقن ويشعر بكل خلية في جسمه، وبكل قطرة من دمه، أن هذا القرآن كلام الله المنزل على نبيه محمد -صلى الله عليه وسلم-، وأنه مستحيل وألف ألف مستحيل أن يأتي به بشر فرادى أو مجتمعين. فمن خلال المؤتمرات العالمية التي عقدت في عواصم متعددة في أنحاء العالم، حوْل الإعجاز العلمي في الكتاب والسنة، يتضح أن أبحاثاً علمية جادة ورصينة قام بها علماء ليسوا مسلمين، ولا تعنيهم آيات القرآن الكريم، استغرقت عشرات السنوات، وكلفت ملايين الدولارات، تأتي نتائج بحوثهم مطابقة مطابقة عفوية وتامة، من دون تكلف ولا تعنت، ومن دون تأويل بعيد لآية، أو تعديل مفتعل لحقيقة، تأتي نتائج بحوثهم تلك مطابقة لآية، أو لكلمة في آية، بل لحرف واحد في آية، وهذا مصداق قوله ـ تعالى ـ: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَ لَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} [فصلت: 53] .
مجلة البيان ، العدد (210).
* * *
http://www.albayan-magazine.com/zwaya/trbwi/58.htm
أهداف الترويح والترفيه من منظور إسلامي
عبد العزيز الدغيثر
للترويح آثار إيجابية كثيرة منها: إشباع الحاجات الجسمية والاجتماعية والعلمية والعقلية؛ إضافة إلى دوره في اكتشاف الأخلاق، كما أنه يمكن أن يكون وسيلة استثمار عالية العوائد. كما أن الترويح يزيد الترابط بين المشاركين في النشاط الترويحي. ومما هو معلوم لدى كل إنسان أن الأنشطة الترويحية تجعل الإنسان يعود إلى عمله بنشاط أكثر ورغبة أقوى وإنتاجية أعلى(1).(2/281)
والنشاط الترويحي ضروري للبدن؛ لذا جاء في قصة حنظلة قال: لقيني أبو بكر الصديق ـ رضي الله عنه ـ فقال: كيف أنت يا حنظلة؟ قال: قلت: نافق حنظلة! قال: سبحان الله! ما تقول؟ قال: قلت: نكون عند رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يذكرنا بالنار والجنة، حتى وكأنا رأي العين، فإذا خرجنا من عند رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عافسنا الأزواج والأولاد والضيعات فنسينا كثيراً، قال أبو بكر: فوالله إنا لنلقى مثل هذا، فانطلقت أنا وأبو بكر الصديق، حتى دخلنا على رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، قلت: نافق حنظلة يا رسول الله! فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: وما ذاك؟ قلت: يا رسول الله! نكون عندك تذكرنا بالنار والجنة حتى كأنا رأي عين، فإذا خرجنا من عندك عافسنا الأزواج والأولاد والضيعات فنسينا كثيراً. فقال -صلى الله عليه وسلم-: «والذي نفسي بيده! أن لو تدومون على ما تكونون عندي وفي الذكر لصافحتكم الملائكة على فرشكم وفي طرقكم، ولكن يا حنظلة ساعة وساعة ـ ثلاث مرات»(2).
ولما رأى النبي -صلى الله عليه وسلم- من عبد الله بن عمرو ـ رضي الله عنهما ـ زيادة في التعبد على حساب حاجات أخرى أمره بالتوازن؛ فقال: «صم وأفطر، وقم ونم؛ فإن لجسدك عليك حقاً، وإن لعينك عليك حقاً، وإن لزوجك عليك حقاً»(1).
وقد جاءت الآثار عن الصحابة للتأكيد على هذا المفهوم؛ فقال علي ـ رضي الله عنه ـ: أَجِمُّوا هذه القلوبَ، والتمسوا لها طرائف الحكمة؛ فإنها تملّ كما تمل الأبدان». وقال ابن مسعود ـ رضي الله عنه ـ: أريحوا القلوب؛ فإن القلب إذا أُكره عمي(2).
إلا أن هذا لا يعني أن يغلب الترفيهُ الجِدَّ في حياة المسلم، بل الغالب على المسلم أن يكون جاداً منتجاً والترفيه طارئ. كما أن الترفيه له أهداف رئيسة وأهداف جانبية؛ فمن أهداف الترفيه:
? الهدف الأول: تجديد النشاط، وتقوية الإرادة:(2/282)
للترويح أثر ملاحظ على النفس بتجديد نشاطها، وفي هذا يقول أبو الدرداء ـ رضي الله عنه ـ: «إني لأستجم لقلبي بالشيء من اللهو ليكون أقوى لي على الحق».
ولذا يجد المتأمل في حكمة التشريع الإسلامي أن عيد الفطر يأتي بعد وقت جد وعبادة، بالصيام، والقيام، وغيرها من النوافل، وعيد الأضحى يأتي بعد يوم عرفة، وهو يوم عبادة، ودعاء، وتضرع، وصيام لغير الحاج. والعيد هو البهجة والسعادة التي تجدد للقلب حياته وحيويته، وحتى يكون الفرح عبادة يؤجر عليها العبد ارتبط العيد بشعيرتين إسلاميتين، هما: صوم رمضان، وأداء مناسك الحج والأضاحي. وسمي العيد عيداً؛ لأنه يعود كل سنة بفرح مجدد.
وليس للمسلم في السنة إلا عيدان؛ فعن أنس ـ رضي الله عنه ـ قال: قدم رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ولأهل المدينة يومان يلعبون فيهما في الجاهلية، فقال -صلى الله عليه وسلم-: «قدمت عليكم، ولكم يومان تلعبون فيهما في الجاهلية، وقد أبدلكم الله بهما خيراً منهما: يوم النحر، ويوم الفطر»(3). والعيدان المذكوران هما: يوم النيروز، ويوم المهرجان (عون المعبود 3/485). وفي حديث الجاريتين أنهما كانتا تغنيان، وتضربان بالدف عند عائشة ـ رضي الله عنها ـ في العيد من أيام منى(4).
وللترفيه أثر في إزالة ما يعتري النفس من تعب وجوع وعطش، وقد استخدم الصحابة الترفيه لتصبير أطفالهم على الصوم؛ فقد روى البخاري ومسلم عن الربيع بنت معوذ قالت: «أرسل النبي -صلى الله عليه وسلم- غداة عاشوراء إلى قرى الأنصار: من أصبح مفطراً فليتمّ بقية يومه، ومن أصبح صائماً فليصم، قالت: فكنا نصومه بعد ونصوم صبياننا، ونجعل لهم اللعبة من العهن؛ فإذا بكى أحدهم على الطعام أعطيناه ذلك، حتى يكون عند الإفطار»(5).
والتغيير بالسفر أمر لا بد منه، ولا يعارضه الشرع؛ لأن فيه مصلحة واضحة جلية، قال الشافعي:
ما في المقام لذي عقل وذي أدبِ
من راحة فدعِ الأوطان واغتربِ
سافر تجد عوضاً عمَّن تفارقه(2/283)
وانصب فإن لذيذ العيش في النصَبِ
إني رأيت وقوف الماء يفسده
إن سال طاب وإن لم يجر لم يطبِ
الأُسْدُ لولا فراق الغاب ما قنصت
والسهم لولا فراق القوس لم يُصبِ
والشمس لو وقفت في الفلك دائمة
لملها الناس من عجم ومن عربِ
والبدر لولا أفول منه ما نظرت
إليه في كل حين عين مرتقبِ
والتبر كالترب ملقى في أماكنه
والعود في أرضه نوع من الحطبِ
فإن تغرَّب هذا عز مطلبه
وإن أقام فلا يعلو على رتبِ
وقال:
الكحل نوع من الأحجار منطرحاً
في أرضه كالثرى يُذرى على الطرق
لما تغرَّب نال العز أجمعه
فصار يُحمل بين الجفن والحَدَقِ
ولكن العاقل من يتعظ بسفره، ويجعل سياحته تقربه لربه، وتزيد من إيمانه ومعرفته وثقافته. ولما أراد أعداء ابن تيمية طرده من بلاده، قال ـ يرحمه الله ـ: «ما ينقم مني أعدائي. أنا جنتي في صدري. قتلي شهادة، وتسفيري سياحة، وسجني خلوة».
? الهدف الثاني: إظهار سماحة الإسلام:
قد يظن ظان أن الترفيه يعارض الدين الإسلامي، وقد أعلنها رسول البشرية -صلى الله عليه وسلم- حين قال لبعض الغلاة: «لا رهبانية في الإسلام»؛ ولذا فإن إظهار الترفيه المباح لإعلام الآخرين بسماحة الدين وواقعيته أمر مطلوب ومشروع، ودليل ذلك ما ثبت في المسند من حديث عائشة أن النبي -صلى الله عليه وسلم- لما أذن لعائشة باللعب بالبنات مع صواحبها، قال: «لتعلم يهود أن في ديننا فسحة، إني بُعثت بحنيفية سمحة»(1). وقد فهم السلف من الصحابة ومن تبعهم هذا المقصد؛ فقد قال أحد السلف لأصحابه ليبين لهم هذه السماحة: «كان أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يتبادحون بالبطيخ؛ فإذا كانت الحقائق كانوا هُمُ الرجال»(2).
? الهدف الثالث: إسعاد الصغار:(2/284)
إسعاد الصغار أمر مطلوب حيث كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يتحراه ويقصده؛ لأن الصغار هُمْ بهجة الدنيا وإسعادهم يملأ الأجواء سعادة وفرحاً. ومما يدل على الحرص على هذا الأمر ما ثبت عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ قال كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إذا أتى الثمر أُتي به فيقول: (اللهم بارك لنا في مدينتنا، وفي مدنا، وفي صاعنا بركة مع بركة)، ثم يعطيه أصغر من بحضرته من الولدان(3). وهذه الهدية الصغيرة لها أثر عميق في نفس الصغير لا ينساه ما عاش.
ومن ذلك إردافهم على الدابة؛ فقد قال عبد الله بن جعفر ـ رضي الله عنه ـ: «كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إذا قدم من سفر تُلُقِّيَ بالصبيان من أهل بيته. قال: وإنه قدم مرة من سفره فسيق بي إليه فحملني بين يديه، ثم جيء بأحد ابنيْ فاطمة؛ إما حسن، وإما حسين فأردفه خلفه، قال: فدخلنا المدينة ثلاثة على دابة»(4). وقال ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ: لما قدم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مكة استقبله أغيلمة بني عبدالمطلب فحمل واحداً بين يديه، وآخر خلفه(5).
ومن إسعاد الصغار تفريحهم بالمال؛ فقد مَرّ ابن عمر ـ رضي الله عنهما ـ في طريق فرأى صبياناً يلعبون فأعطاهم درهمين(6).
ومما يفرح الصبي حمله والإنشاد له؛ فعن عقبة بن الحارث قال: رأيت أبا بكر ـ رضي الله عنه ـ يحمل الحسن بن علي، ويقول:
بأبي شبيه بالنبي
ليس شبيهاً بعلي
وعلي معه يتبسم(7). قال الحافظ في الفتح: وكان عمر الحسن إذ ذاك سبع سنين(8).
وعن عروة بن الزبير قال: كان أبي ينقزني ويقول:
أبيض من آل عتيقِ
مبارك من ولد الصديقِ
ألذه كما ألذ ريقي(9)
وكان العباس ـ رضي الله عنه ـ يرقص قثم، ويقول:
يا قثم يا قثم
يا ذا الأنف الأشم
يا شبه ذي الكرم(10)
وكانت أم الفضل بن عباس ترقصه وتقول:
ثكلت نفسي وثكلت بكري
إن لم يسد قهراً أو عين قهري
بالحسب العز وبذل الوفر(11)(2/285)
وقال الشعبي: كانت قريش تحب عثمان بن عفان ـ رضي الله عنه ـ حتى إن المرأة كانت ترقص ابنها وتقول:
أحبك والرحمن
حب قريش عثمان(12)
? الهدف الرابع: التنمية العضلية:
من أفضل الوسائل الترفيهية ما يفيد البدن وينشطه؛ لأنه ثبت في الحديث أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف وفي كل خير...»(1).
والصغير كثير الحركة واللهو، والمطلوب من الكبار أن يتنزلوا لهم ليسعدوا؛ ولأن في حركتهم تنمية لقواهم العضلية؛ فعن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ: «أنه صلى مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- العشاء؛ فأخذ الحسن والحسين يركبان على ظهره؛ فلما جلس وضع واحداً على فخذه، والآخر على فخذه الأخرى ...»(2)، وفي حديث شداد بن الهاد ـ رضي الله عنه ـ أنه رأى الحسن أو الحسين على ظهر النبي -صلى الله عليه وسلم- وهو ساجد فأطال السجود؛ فلما قضيت الصلاة قال الناس: يا رسول الله! إنك سجدت بين ظهراني صلاتك هذه سجدة قد أطلتها؛ فظننا أنه قد حدث أمر، أو أنه يوحى إليك، قال: «فكل ذلك لم يكن، ولكن ابني ارتحلني؛ فكرهت أن أعجله حتى يقضي حاجته»(3)، وعن ابن مسعود ـ رضي الله عنه ـ قال: «كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يصلي والحسن والحسين يثبان على ظهره، فيأخذهما الناس فقال: دعوهما بأبي هما وأمي! من أحبني فليحب هذين!»(4).
فهذه الوقائع تدل على أن الإنسان في حال تعامله الجادّ يختلف عن حاله وقت الترفيه؛ فليس التجهّم من الإسلام في شيء، وقد ورد عنه -صلى الله عليه وسلم- أنه كان من أفكه الناس مع صبي(5).
ونقل ابن مفلح عن ابن عقيل أنه قال: «والعاقل إن خلا بأطفاله خرج بصورة طفل، ويهجر الجد في ذلك الوقت»(6).
وقد عزل عمر والياً؛ لأنه لا يلاعب أطفاله(7).(2/286)
والصغار يحبون المنافسة كثيراً، وقد استخدم النبي -صلى الله عليه وسلم- الترفيه للصغار عن طريق إجراء السباق بينهم؛ فقد ثبت عن عبد الله بن الحارث ـ رضي الله عنه ـ قال: كان -صلى الله عليه وسلم- يصفُّ عبدَ الله وعبيدَ الله ـ من بني العباس ـ ثم يقول: من سبق إلى كذا فله كذا وكذا، قال: فيستبقون إليه فيقعون على ظهره وصدره فيقبلهم(8).
والزوجة تحتاج إلى أن تأخذ حظها من الترفيه؛ فقد سابق النبي -صلى الله عليه وسلم- عائشة مرة فسبقته، ثم سابقها بعد أن حملت اللحم فسبقها، فقال -صلى الله عليه وسلم-: «هذه بتلك»(9).
وورد عن عائشة ـ رضي الله عنها ـ أنها كانت تلعب بالأرجوحة مع صاحباتها قبل دخول النبي -صلى الله عليه وسلم- بها(10).
وقد وردت عدة وسائل في النصوص الشرعية؛ مما يحصل به الجمع بين الترفيه والتنمية العضلية والاستعداد العسكري للمجتمع المسلم؛ فمن ذلك:
? أولاً: السبق بالأقدام:
تعتبر المسابقة بالأقدام من أقدم أنواع المسابقات وأسهلها وأقلها كلفة، وقد وردت في قصة يوسف أن إخوته قالوا: {إنَّا ذَهَبْنَا نَسْتَبِقُ} [يوسف: 17]، قال ابن سعدي ـ رحمه الله ـ في تفسيره: نستبق إما على الأقدام، أو بالرمي والنضال.
كما أن النبي -صلى الله عليه وسلم- استخدم هذا الأسلوب الترفيهي كما في حديث عائشة ـ رضي الله عنها ـ أنها كانت مع النبي -صلى الله عليه وسلم- في سفر فسابقته على رجلها فسبقته، قالت: فلما حملت اللحم سابقته فسبقني، فقال: «هذه بتلك»(11).
وبعد غزوة (ذي قرد) سابق سلمة بن الأكوع رجلاً من الأنصار إلى المدينة بإذن النبي -صلى الله عليه وسلم- فسبقه سلمة(12).
وعندما قفل النبي -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه من غزوة تبوك قالت الأنصار: السباق، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: إن شئتم(1).(2/287)
وسابق ابن الزبير عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنهما ـ فسبق ابن الزبير؛ فقال: سبقتك ورب الكعبة، قال عبد الله: ثم سبقني فقال: وسبقتك ورب الكعبة(2).
? ثانياً: المصارعة:
وهذه رياضة نبيلة، لكنها تطلق الآن على رياضة عنيفة لا يقرها دين ولا عقل، وقد ورد في المصارعة أن سمرة بن جندب ورافع بن خديج ـ رضي الله عنهما ـ تصارعاً بين يدي النبي -صلى الله عليه وسلم- يوم أحد(3). ليتبين الأقوى فينال شرف الجهاد.
وحديث ركانة بن عبد يزيد قال: كنت أنا والنبي -صلى الله عليه وسلم- في غُنَيْمة لأبي طالب نرعاها في أول ما رأى؛ إذ قال لي ذات يوم: هل لك أن تصارعني؟ قلت له: أنت؟ قال: أنا، فقلت: على ماذا؟ قال: على شاة من الغنم، فصارعته فصرعني»(4). وقد أفادت هذه المصارعة إسلام ركانة؛ لأنه علم أن النبي -صلى الله عليه وسلم- مُعان من الله تعالى. وردَّ عليه النبي -صلى الله عليه وسلم- غُنيمته.
? ثالثاً: الغطس:
وهذه الوسيلة الترفيهية رياضة جماعية، وفيها فائدة تمرين الصدر والرئتين على الحصول على كمية أكبر من الهواء مع التكرار والصبر؛ ولذا نلاحظ أن الغواص المحترف يمكث تحت الماء مدة أطول من غيره لتمرّن رئتيه على ذلك، وقد ورد في هذا النوع من المسابقات أن عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ مَرّ بساحل البحر وهو محرم، فقال لابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ: تعالَ أباقيك في الماء أينا أطول نَفَساً؟ قال ابن عباس: ونحن محرمون. وجاء عن ابن عمر أن عاصم بن عمر وعبد الرحمن بن زيد وقعا في البحر يتمالقان (يتغاطسان) يغيِّب أحدهما رأس صاحبه وعمر ينظر إليهما، فلم ينكر ذلك عليهما(5).
? رابعاً: السباحة:(2/288)
وهي من أفضل وسائل الترفيه وأنفعها للبدن والنفس، وقد جاءت النصوص النبوية بمدح هذه الوسيلة، واستحباب تعلمها وتعليمها؛ لأنها قد تكون وسيلة لإنقاذ النفس، ومن طريف ما يُذكر أن نحوياً صعد سفينة فسمع ربانها يصيح بأعلى صوته: ارفعوا الشراعُ يا أيها البحارة! فقال النحوي للربان: ألا تعرف النحو؟ قال: لا، فقال النحوي: فاتك نصف عمرك! فهبَّت عاصفة هزت السفينة حتى ارتفعت الأمواج وتلاطمت؛ فقال الربان للنحوي: أتعرف السباحة؟ قال: لا؛ فقال الربان: فَاتَك عمرك كله!
ومما ورد في فضل السباحة ممارسة وتعلماً وتعليماً حديث جابر ـ رضي الله عنه ـ أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «كل شيء ليس من ذكر الله فهو لهو أو سهو غير أربع خصال: تأديب الرجل فرسه وملاعبته أهله ورميه بين الغرضين، وتعليم السباحة»(6).
وكتب عمر ـ رضي الله عنه ـ إلى أبي عبيدة ـ رضي الله عنه ـ «أن علموا غلمانكم العوم ومقاتلتكم الرمي»(7)، وليعلم أن معرفة السباحة غاية في الأهمية؛ ولذا أوصى الحجاج مؤدب بنيه بقوله: «علمهم السباحة قبل الكتابة؛ فإنهم يجدون من يكتب عنهم ولا يجدون من يسبح عنهم»(8).
? خامساً: الفروسية:(2/289)
وهي رياضة النبلاء والقادة؛ لأنها تدل على شجاعة وثبات ورباطة جأش وقوة عزيمة، ولقد حث الشرع على أن يكون الترفيه البدني معيناً على الاستعداد العسكري للجهاد، وأجاز بذل العوض فيه، والأصل في ذلك حديث أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «لا سَبْقَ إلا في خف أو حافر أو نصل»(9). وحديث ابن عمر ـ رضي الله عنهما ـ أن النبي -صلى الله عليه وسلم- «سبَّق بين الخيل وراهن» وفي لفظ: «سبق بين الخيل وأعطى السابق»(10). وأصل الحديث في مسلم بلفظ: «أن النبي -صلى الله عليه وسلم- سابق بالخيل...»(11). دون ذكر الرهن. وتعليم الفرس وتأديبها من وسائل ذلك لحديث جابر ـ رضي الله عنه ـ أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «كل شيء ليس من ذكر الله فهو لهو أو سهو غير أربع خصال: تأديب الرجل فرسه، وملاعبته أهله، ورميه بين الغرضين، وتعليم السباحة»(1).
? سادساً: السباق على الإبل:
من وسائل الترفيه عند العرب السباق على الإبل التي هي سفينتهم التي يعبرون بها الفيافي والقفار، وقد كان أغنياء العرب يتنافسون في اقتناء الإبل الأصيلة السريعة الصبورة، وإجراء المسابقات بين الإبل أمر شائع في العهد النبوي، ففي البخاري عن أنس ـ رضي الله عنه ـ قال: «كانت لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- ناقة تسمى العضباء لا تُسبق...»(2). وكان الصحابة يسابقون على الخيل والركاب وعلى أقدامهم(3).
? سابعاً: الرمي:(2/290)
من أجمل وأمتع وسائل الترفيه الرمي بالسلاح للتمرين على الإصابة والدقة؛ فقد ثبت في صحيح مسلم عن عقبة بن عامر ـ رضي الله عنه ـ أنه سمع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهو على المنبر يقول: {وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ} [الأنفال: 60] ألا إن القوة الرمي، ألا إن القوة الرمي، ألا إن القوة الرمي»(4). وخرج النبي -صلى الله عليه وسلم- على قوم مِن أسلم يتناضلون بالسوق فقال: «ارموا بني إسماعيل! فإن أباكم كان رامياً..»(5).
بل حذر النبي -صلى الله عليه وسلم- من نسيان الرمي؛ حيث قال: «من تعلم الرمي ثم نسيه فليس منا»(6).
ولذا حرصوا على هذا الأمر، حيث كانوا يتواصون به، فكتب عمر ـ رضي الله عنه ـ إلى أبي عبيدة ـ رضي الله عنه ـ «أن علموا غلمانكم العوم ومقاتِلَتَكم الرمي»(7).
وقال سعد بن أبي وقاص ـ رضي الله عنه ـ: «عليكم بالرمي؛ فإنه خير لَهْوِكُم»(8).
وفي مجمع الزوائد أن أنساً ـ رضي الله عنه ـ كان يجلس ويُطرح له فراش ويجلس عليه ويرمي ولده بين يديه، فخرج يوماً وهم يرمون فقال: يا بنيَّ! بئس ما ترمون، ثم أخذ القوس فرمى؛ فما أخطأ القرطاس»(9).
? ثامثاً: اللعب بالسلاح:
واللعب بالسلاح يشبه إلى حد كبير رقصة الحرب، ووقتها في العادة قبل المعارك وفي الأعياد ونحوها، ومشاهدة هذا اللعب وممارسته أمر مباح، ودليل ذلك حديث عائشة، في إذن النبي -صلى الله عليه وسلم- لها برؤية الحبشة وهم يلعبون بالحراب في المسجد(10).
? الهدف الخامس: التهيئة النفسية وإزالة التوتر:(2/291)
من حكمة الشارع أنه شرع للإنسان في حال توتره وخوفه بعض الوسائل الترفيهية لإزالة ذلك، ومن أصعب المواقف ليلة زفة العروس إلى زوجها؛ إذ كل طرف يصيبه توجس وقلق من الموقف، وقد يصيبه خوف من الإخفاق؛ فشرع الضرب بالدف، وذكر الأناشيد التي تؤدي الغرض. ومثل ذلك وقت الحرب والختان ونحوها. كما ورد في السنة النشيد وقت العمل الشاق، كمثل ما حدث في حفر الخندق، وفي السفر، ونحو ذلك.
? جواز الغناء واستعمال الدف في وليمة العرس:
ورد في السنة جواز ذلك:
أولاً: حديث عائشة ـ رضي الله عنها ـ أنها زفت امرأةً إلى رجل من الأنصار فقال نبي الله -صلى الله عليه وسلم-: يا عائشة! ما كان معكم لهو؟ فإن الأنصار يعجبهم اللهو»(11).
ثانياً: حديث عائشة ـ رضي الله عنها ـ أن يتيمة تزوجت رجلاً من الأنصار، وكانت عائشة فيمن أهداها إلى زوجها، قالت: فسلمنا ودعونا بالبركة، ثم انصرفنا، فقال -صلى الله عليه وسلم-: إن الأنصار قوم فيهم غزل، ألا قلتم يا عائشة: أتيناكم أتيناكم، فحيانا وحياكم»(12).
وفيه دليل على جواز الغزل غير الفاحش عند زفاف المرأة إلى زوجها. والحكمة في ذلك إعلان النكاح.
ثالثاً: حديث عامر البجلي قال: دخلت على قرظة بن كعب، وأبي مسعود ـ قال الراوي عنه: وذكر ثالثاً ذهب عليَّ ـ وجوارٍ يضربن بالدف ويغنين، فقلت: تقرون على هذا وأنتم أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم-؟ قالوا: إنه قد رخص لنا في العرسات، وفي البكاء على الميت من غير نياحة»(13).
? حكم الدف والغناء في العرس:
قال أحمد: يستحب أن يُظهر النكاح، ويُضرب عليه بالدف، حتى يشتهر ويُعرف. وقال أيضاً: لا بأس بالغزل في العرس كقول النبي -صلى الله عليه وسلم- للأنصار: «أتيناكم أتيناكم..»(1).
وأما الدف للرجال فقد قال المرداوي: ظاهر قوله ـ أي صاحب المقنع ـ والضرب عليه بالدف، أنه سواء كان الضارب رجلاً أو امرأة، قال في الفروع وظاهر نصوصه، وكلام الأصحاب التسوية(2).(2/292)
وقال صاحب الشرح: وإنما يستحب الضرب بالدف للنساء. ذكره شيخنا ـ رحمه الله ـ وأما الطبل فقال أحمد: وأكره الطبل، وهو المنكر، وهو: الكوبة التي نهى عنها النبي -صلى الله عليه وسلم-(3).
? الهدف السادس: التشجيع:
إقامة الحفلات الترفيهية المباحة سبيل إلى تشجيع المحسن، سواء أكان كبيراً أم صغيراً، وقد ورد مثل هذه الحفلات عن بعض من سلف؛ فمن الأساليب التي تحبب العلم إلى الصغار الاحتفال بهم، بوضع حفلة ترفيهية مفرحة. قال أبو خبيب الكرابيسي: كان معنا ابن لأيوب السختياني في الكُتَّاب فحذق الصبي، فأتينا منزلهم فوُضِع له منبر، فخطب عليه، ونهبوا علينا الجوز، وأيوب قائم على الباب، يقول لنا: ادخلوا، وهو خاص لنا(4).
? الهدف السابع: تنمية الروح الابتكارية والتخيلية:
من أهداف الترفيه: التعليم والابتكار، وقد توالت الدعوات في الدراسات التربوية الحديثة إلى توسيع أسلوب التعليم بالترفيه. وقد كان من العادات التي أقرها الشرع استعمال الدمى للصغيرات؛ فقد ورد عن عائشة ـ رضي الله عنها ـ أنه كان لها فرس، له جناحان(5). وفي الصحيحين عنها ـ رضي الله عنها ـ قالت: «كنت ألعب بالبنات عند النبي -صلى الله عليه وسلم-، وكان لي صواحب يلعبن معي، فكان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إذا دخل ينقمعن منه فيُسَرِّبُهن إليَّ فيلعبن معي»(6). قال النووي: قال القاضي: فيه جواز اللعب بهن، وهن مخصوصات من الصور المنهي عنها لهذا الحديث، ولما فيه من تدريب النساء في صغرهن لأمر أنفسهن وبيوتهن وأولادهن، وقد أجاز العلماء بيعهن وشراءهن... ثم قال: ومذهب جمهور العلماء جواز اللعب بهن. وقال ابن حجر نحو هذا الكلام وأضاف: جزم القاضي عياض بتخصيص لعب البنات من عموم النهي، ونقله عن الجمهور(7).(2/293)
وقال الشيخ ابن عثيمين ـ رحمه الله ـ: «إن كانت لعب الأطفال المجسمة كخلق الإنسان فاجتنابها أوْلى، ولكن لا أقطع بالتحريم؛ لأن الصغار يرخص لهم ما لا يرخص للكبار في مثل هذه الأمور؛ فإن الصغير مجبول على اللعب والتسلي وليس مكلفاً بشيء من العبادات حتى نقول: إن وقته يضيع عليه لهواً وعبثاً...»(8).
ومن الأساليب الترفيهية التي تنمي الروح الابتكارية لعب الصغار بالتراب النظيف، وذكر البيهقي باباً فيما ورد من لعب الصبيان بالتراب(9).
ومن الترفيه المحبب إلى نفوس الصغار اقتناء الحيوانات والطيور الأليفة وملاعبتها بما لا يؤذيها. فقد ذكر العلماء أنه يجوز لعب الأطفال ببعض الحيوانات والطيور؛ إذ لم يكن فيه أذى لها؛ ففي الصحيحين عن أنس ـ رضي الله عنه ـ أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال لأخ لأنس ـ رضي الله عنه ـ: «يا أبا عمير! ما فعل النغير؟»(10). وقد ذكر العلماء في فوائده: جواز لعب الصغير بالطير، وجواز ترك الأبوين ولدهما الصغير يلعب بما أبيح له اللعب به، وجواز إنفاق المال فيما يتلهى به الصغير من المباحات، وجواز إمساك الطير في القفص ما دام يطعمه ويسقيه، وأشار بعض أهل العلم إلى جواز قص جناح الطير حتى لا يطير(11). وقد جاء عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ أنه كني بهرة كان يحملها معه ويلاعبها.
ومما يقود إلى التعلم بأسلوب ترويحي وترفيهي استعمال المسابقات العلمية؛ وذلك بطرح المسألة على الحاضرين ليعرف الأحذق والأعلم فيجيب، والأصل في جوازه حديث ابن عمر أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «إن من الشجر شجرة لا يعضد شوكها ولا يتحات ورقها، وإنها مثل المؤمن فخاض الناس في شجر البوادي ووقع في نفسي أنها النخلة...»(12).
--------------------------------------------------------------------------------
(1) الترويح عن النفس /29 ـ 31. (2) رواه مسلم في كتاب التوبة، باب فضل دوام الذكر والفكر في أمور الآخرة.
((2/294)
1) رواه البخاري في باب حق الجسم في الصوم.
(2) بهجة المجالس لابن عبد البر /44.
(3) أخرجه أحمد وأبو داود والنسائي بإسناد صحيح.
(4) رواه مسلم 2/ 608.
(5) رواه البخاري رقم (1960) ومسلم (1136).
(1) رواه أحمد 6/116.
(2) رواه البخاري في الأدب المفرد باب المزاح. يتبادحون: يترامَوْن عَبَثاً.
(3) رواه مسلم 2/1000، والبخاري في الأدب المفرد (362).
(4) رواه مسلم (2428).
(5) رواه البخاري (1798).
(6) رواه البخاري في الأدب المفرد (1303).
(7) رواه الخاري 4/227، وأحمد 1/8 وابن أبي الدنيا في العيال 1/431.
(8) الفتح 14/49.
(9) رواه وابن أبي الدنيا في العيال 1/433.
(10) رواه وابن أبي الدنيا في العيال 1/436.
(11) رواه وابن أبي الدنيا في العيال 1/434.
(12) رواه وابن أبي الدنيا في العيال 1/435.
(1) أخرجه مسلم في كتاب القدر باب الإيمان للقدر والإذعان له.
(2) أخرجه أحمد 2/513.
(3) رواه أحمد 3/493، والنسائي 2/229، والحاكم 1/287، وقال: حديث صحيح على شرط مسلم ووافقه الذهبي.
(4) رواه ابن حبان كما في الموارد 2233، والطبراني في الكبير 3/40، والبيهقي في الكبرى مرسلاً 2/263 ورواه أبو يعلى بمعناه 8/434، وحسنه العدوي في فقه تربية الأطفال/71.
(5) رواه البخاري في الأدب المفرد باب قبلة الصبيان.
(6) الآداب الشرعية 3/228.
(7) عبقرية عمر/173.
(8) رواه أحمد 1/214، وقال في المجمع 5/263: رواه أحمد وفيه يزيد بن أبي زياد وفيه ضعف لين. وقال أبو داوود: لا أعلم أحداً ترك حديثه، وغيره أحب إلي منه، وروى له مسلم مقروناً، والبخاري تعليقاً، وبقية رجاله ثقات.
(9) رواه أحمد 6/264 والنسائي في الكبرى 5/304 وصححه العدوي في فقه تربية الأولاد.
(10) رواه مسلم في كتاب النكاح، باب جواز تزويج الأب البكر الصغيرة. ورواه أيضا البيهقي 10/220.
((2/295)
11) رواه أبو داود (2578) والنسائي في الكبرى 5/304 وأحمد 6/264 وابن ماجه ( 1979) وصححه الألباني في الإرواء 5/327 وصححه العدوي في فقه تربية الأولاد.
(12) رواه مسلم (4654).
(1) رواه ابن أبي شيبة 12/508.
(2) رواه البيهقي في الكبرى 10/29.
(3) رواه الطبراني في الكبير 7/177 ـ 178 والحاكم 2/60، وعنه البيهيقي في الكبرى 10/18 وصححه الذهبي في التلخيص.
(4) رواه البيهقي في الدلائل 6/250 وفي الكبرى 10/18 وفيه انقطاع، وله سند متصل كما في الإصابة 3/655، وأقل أحواله أنه حسن كما في الإرواء (1503) وقال ابن كثير في البداية والنهاية 3/102: إسناده جيد، وصحح أصل القصة شخ الإسلام ابن تيمية في مجموع الفاتاوى 30/216.
(5) ذكره الألباني في كتاب حجة النبي -صلى الله عليه وسلم- صفحة 26 ونسبه للبيهقي بسند صحيح.
(6) أخرجه النسائي في الكبرى (8938 ـ8940) والطبراني في الكبير (1785) وصححه الحافظ في التهذيب 2/239 وفي الإصابة 1/215 والمنذري في الترغيب والترهيب 2/17، وقال الهيثمي في المجمع 5/269: ورجال الطبراني رجال الصحيح خلا عبد الوهاب بن بخت وهو ثقة. عن قضايا اللهو /355.
(7) رواه ابن كثير في مسند الفاروق 2/378 وصححه محققه، وزاد نسبته لأحمد في المسند.
(8) عيون الأخبار 2/166.
(9) رواه أبو داود (2574) والترمذي (1700) وقال: هذا حديث حسن، والنسائي 6/226 وابن ماجه (2887) وصححه ابن حبان كما في الموارد (1638) وابن حجر كما في التلخيص 4/161 والألباني كما في الإرواء 5/333.
(10) رواهما أحمد 2/91 وقوَّى إسناده الحافظ وقال في المجمع: رواه أحمد بإسنادين رجال أحدهما ثقات، وصححه الألباني في الإرواء (1507).
(11) رواه مسلم، كتاب الإمارة، باب المسابقة بين الخيل وتضميرها.
((2/296)
1) أخرجه النسائي في الكبرى (8938 ـ8940) والطبراني في الكبير (1785) وصححه الحافظ في التهذيب 2/239 وفي الإصابة 1/215 والمنذري في الترغيب والترهيب 2/17 وقال الهيثمي في المجمع 5/269: ورجال الطبراني رجال الصحيح خلا عبد الوهاب بن بخت وهو ثقة. عن قضايا اللهو /355.
(2) رواه البخاري في كتاب الرقاق باب التواضع.
(3) رواه ابن أبي شيبة في المصنف 12/508.
(4) رواه مسلم، كتاب الإمارة، باب فضل الرمي والحث عليه.
(5) رواه البخاري في كتاب المناقب.
(6) رواه مسلم في كتاب الإمارة باب فضل الرمي والحث عليه.
(7) رواه ابن كثير في مسند الفاروق 2/378 وصححه محققه وزاد نسبته لأحمد في المسند.
(8) أورد المنذري في الترغيب والترهيب 2/278. (9) مجمع الزوائد 5/271.
(10) رواه البخاري (5190) ومسلم (892) عن عائشة ـ رضي الله عنها ـ. (11) رواه البخاري 9/ 184 ـ 185.
(12) رواه ابن ماجه 1/ 601. (13) رواه الحاكم والنسائي 2/93.
(1) المقنع مع شرحه 21/ 353.
(2) المقنع مع شرحه 21/ 354.
(3) المقنع مع شرحه 21/ 355.
(4) رواه ابن أبي الدنيا في العيال 1/ 485.
(5) رواه أبو داود (4932).
(6) رواه البخاري (مع الفتح 10/526) ومسلم (مع شرح النووي 5/295).
(7) المرجع السابق.
(8) مجموع فتاوى الشيخ ابن عثيمين 2/277.
(9) 10/11 ـ 12.
(10) رواه البخاري (6129) ومسلم (2150).
(11) فقه تربية الأولاد /69.
(12) رواه البخاري (62)، (131)، (6001) ومسلم (7047).
--------------------------------------------------------------------------------
مجلة البيان، العدد (88)، صفر 1426هـ ، مارس 2005م.
* * *
http://www.albayan-magazine.com/zwaya/trbwi/59.htm
وقفات تربوية مع حديث تقسيم الغنائم في حنين
طه بن حسين بافضل(2/297)
العلاقة بين القائد وأتباعه يشوبها بين الفينة والأخرى شيء من الوهن والضعف؛ فهي كالشجرة تحتاج إلى رعاية وعناية وحماية، أما إذا تُركت وأُهملت، وتعامل أهلها معها معاملة رتيبة، وساذجة، ومملة فإنها حينئذ يذهب عنها اخضرارها، ويظهر اصفرارها واسودادها، حتى تصبح هشيماً تذروه الرياح.
والقائد الفطن هو من يبذل كل ما في وسعه وطاقته؛ بغية حماية هذه الشجرة من الآفات والأمراض؛ فهو كالمزارع اليقظ الذي كرّس حياته لأجل زراعته؛ فضحّى بوقته وراحته، حتى يجني ثمارها، ويسوِّق بضاعته، «وعند الصباح يحمد القوم السُّرى»!
وكنت قبل فترة ليست بالقصيرة أتأمل ما حدث بعد قسمة غنائم هوازن يوم انتصر المسلمون في معركة حنين؛ فتعجبت من شدة حرص النبي -صلى الله عليه وسلم- على علاقته بأنصاره وأصحابه. وإليكم سياق القصة:(2/298)
عن أبي سعيد الخدري ـ رضي الله عنه ـ قال: لما أصاب رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- الغنائمَ يوم حنين، وقسّم للمتأَلفين من قريش وسائر العرب ما قسم، ولم يكن في الأنصار منها شيء قليل ولا كثير، وجد هذا الحي من الأنصار في أنفسهم، حتى قال قائلهم: لقي واللهِ رسول الله قومه. فمشى سعد بن عبادة إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: يا رسول الله! إن هذا الحي من الأنصار قد وجدوا عليك في أنفسهم. فقال: «فِيمَ؟» قال: فِيمَ كان من قسمك هذه الغنائم في قومك وفي سائر العرب، ولم يكن فيهم من ذلك شيء، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «فأين أنت من ذلك يا سعد؟» قال: ما أنا إلا أمرؤ من قومي، قال: فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «فاجمع لي قومك في هذه الحظيرة، فإذا اجتمعوا فأعلمني!»، فخرج سعد فصرخ فيهم، فجمعهم في تلك الحظيرة، فجاء رجل من المهاجرين فأذن له، فدخلوا وجاء آخرون فردهم حتى إذا لم يبق من الأنصار أحد إلا اجتمع له أتاه، فقال: يا رسول الله! قد اجتمع لك هذا الحي من الأنصار، حيث أمرتني أن أجمعهم؛ فخرج رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقام فيهم خطيباً: فحمد الله وأثنى عليه بما هو أهله، ثم قال: «يا معشر الأنصار! ألم آتكم ضُلاَّلاً فهداكم الله، وعالة فأغناكم الله، وأعداءً فألف الله بين قلوبكم؟»: قالوا: بلى! ثم قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «ألا تجيبون يا معشر الأنصار؟!» قالوا: وماذا نقول يا رسول الله، وبماذا نجيبك؟ المنّ لله ولرسوله.(2/299)
قال: «والله! لو شئتم لقلتم فصدقتم وصدّقتم: جئتنا طريداً فآويناك، وعائلاً فآسيناك، وخائفاً فأمَّنَّاك، ومخذولاً فنصرناك»، فقالوا: المنُّ لله ولرسوله، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «أوَجدتم في نفوسكم يا معشر الأنصار في لُعاعة من الدنيا تألَّفت بها قوماً أسلموا، ووكلتكم إلى ما قسم الله لكم من الإسلام، أفلا ترضون يا معشر الأنصار أن يذهب الناس إلى رحالهم بالشاء والبعير، وتذهبون برسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى رحالكم؟ فوالذي نفسي بيده لو أن الناس سلكوا شُعْباً، وسلكت الأنصار شعباً لسلكت شعب الأنصار! ولولا الهجرة لكنت امرأً من الأنصار، اللهم ارحم الأنصار، وأبناء الأنصار، وأبناء أبناء الأنصار!» قال: فبكى القوم حتى أخضلوا لحاهم، وقالوا: رضينا بالله رباً وبرسوله قَسَماً، ثم انصرف وتفرقوا(1).
? الوقفة الأولى: كرم بلا حدود:
إنه كرم النبي -صلى الله عليه وسلم- وجوده المنقطع النظير، بل السهل الممتنع، ذلك الكرم الذي يصل إلى حد أن يعطي الرسول -صلى الله عليه وسلم- الرحيم بأمته مئات من الإبل لأفراد لم يقاسوا بعدُ مشقات الطريق، ولم تُخْبَر بعدُ مواقفهم، بل إنّ منهم من سقط في أول اختبار له في حنين، ولكنها الحكمة النبوية الرائعة؛ فالمال عند القائد الرباني لا يعني شيئاً؛ لأنه ليس من أرباب الأموال الذين تتمايل نفوسهم وراء الدينار والدرهم، وترحل معها حيث رحلت؛ فهذا القائد يعطي متى ما كان معه شيء، ولو كان ثوبه الذي يلبسه؛ فعن سهل بن سعد ـ رضي الله عنه ـ قال: جاءت امرأة إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- ببردة، فقالت: يا رسول الله! أكسوك هذه؛ فأخذها النبي -صلى الله عليه وسلم-، فلبسها، فرآها عليه رجل من الصحابة فقال: يا رسول الله! ما أحسن هذه! فأكسُنيها، فقال: «نعم!»(1).(2/300)
ويَعِدُ -صلى الله عليه وسلم- ويبشر بالخير ولا يقنّط أحداً؛ فعن جبير بن مطعم ـ رضي الله عنه ـ قال: بينما أسير مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ومعه الناس مقفِلة من حُنين، فعلقت الناس يسألونه، حتى اضطروه إلى سَمُرة، فخطفت رداءه فوقف النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: «أعطوني ردائي! لو كان عدد هذه العضاة نعماً لقسمته بينكم، ثم لا تجدوني بخيلاً ولا كذوباً ولا جباناً»(2).
وكان يبشر أصحابه فيقول: «.. فأبشروا وأمِّلوا ما يسركم؛ فوالله لا الفقرَ أخشى عليكم! ولكن أخشى عليكم أن تُبسَط عليكم الدنيا، كما بُسِطَتْ على من كان قبلكم، فتنافسوها كما تنافسوها، وتهلككم كما أهلكتهم»(3).
القائد أياً كان وضعه عالماً، أو موجهاً، أو معلماً، أو قائداً عسكرياً لا يحبس شيئاً عن أتباعه، أو يبخل عنهم بشيء، كما أنّه يعطي رجالاً ويترك آخرين لحِكَم يراها مثل قوة إيمانهم، وإخلاصهم، ويقينهم، واستقامتهم، وثباتهم؛ فهو حكيم بنفوس الرجال، يقدّر قدرها، ويعرف كيف يمكن قيادها، وما هي الطريقة المثلى لعلاج ما اعوجَّ من سلوكها، فالقيادة والترؤس ليس تصدُّراً وظهوراً فحسب، فهذا يسير حتى على الأغمار وصغار الشباب، ولكن الأمر شيء آخر أبعد من ذلك.
لقد كان كرم النبي -صلى الله عليه وسلم- لا لأجل استمالة قلوبهم إلى الباطل، وتزيينه في قلوبهم، وليس لأجل كسب ودّهم وتعاطفهم مع شخصه -صلى الله عليه وسلم- بعيداً عن وظيفته التي كلفه الله بها، وهي الرسالة السماوية الخالدة، وإنما كان لهدف سامٍ ومقصد غاية في النبل والنقاء؛ وهو تأليفهم على الحق وتقريبهم له حتى يثبتوا وتخالط بشاشته قلوبهم.
? الوقفة الثانية: (المصلحة الشرعية ميزان العطاء والمنع):(2/301)
ينبغي للقائد في مسألة العطاء والمنع أن يقوم بأمر غاية في الأهمية، حتى لا يهتز مشوار تربيته لتلاميذه وأتباعه: وهو أن يعلمهم بميزان العطاء والمنع الذي يستند إليه، بل وفي كل مسائل تأليف النفوس من تقريب فلان على غيره، والاهتمام بمجموعة على أخرى وهكذا؛ لأن ذلك مدعاة إلى ترسيخ قواعد الثقة بينه وبين الأتباع، ودحض لكل الأقاويل والترهات التي تلوكها الألسن؛ بغية التفريق، وزعزعة الصف، وتوهين لُحمته وسَداه.
فهذه السياسة البعيدة الأفق للنبي -صلى الله عليه وسلم- لم تُفهم أول الأمر، بل أطلقت ألسنة شتى الاعتراض؛ فهناك مؤمنون ظنوا هذا الحرمان ضرباً من الإعراض عنهم، والإهمال لأسرهم.
روى البخاري عن عمرو بن تغلب قال: أعطى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قوماً ومنع آخرين؛ فكأنهم عتبوا عليه، فقال: «إني أعطي قوماً أخاف هلعهم وجزعهم، وأَكِلُ قوماً إلى ما جعل الله في قلوبهم من الخير والغنى، منهم عمرو بن تغلب» قال عمرو: فما أحب أن لي بكلمة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حمر النعم؛ فكانت هذه التزكية تطييباً لخاطر الرجل، أرجح لديه من أثمن الأموال»(4). فالرسول -صلى الله عليه وسلم- يستخدم هذه السياسة، ويثبت تلك القاعدة العتيدة في ميزان العطاء والمنع؛ «أعطي قوماً أخاف هلعهم وجزعهم، وأَكِلُ قوماً إلى ما جعل الله في قلوبهم من الخير والغنى»، بل يبين مقاصدها وأهدافها؛ فها هو يقول للأنصار: «أَوَجدتم في نفوسكم يا معشر الأنصار في لُعاعة من الدنيا تألفت بها قوماً أسلموا، ووكلتكم إلى ما قسم الله لكم من الإسلام؟ أفلا ترضون يا معشر الأنصار أن يذهب الناس إلى رحالهم بالشاة والبعير، وتذهبون برسول الله إلى رحالكم؟».(2/302)
إن الدعوة إلى تمثل هذا الميزان من قِبَل الموجهين، والمربين، والقادة في الحقل الدعوي ليس معناه أن يبقى القائد رهيناً لأهواء تلامذته، وانتقاداتهم، وأمزجتهم، بل إن المسألة لا تعدو أن تكون تربية بالمواقف؛ فهو يستغل كل موقف وحدث استغلالاً رائعاً حتى يجعله لبنة في بنيان النفوس، وحبلاً يشدّ ويمدّ إلى رب العالمين؛ فترتبط بخالقها وبارئها، فلا ترتبط بهذه الدنيا وحطامها وشهواتها؛ ولذا كان لزاماً على القائد أن يكون قريباً من رجاله وتلامذته، يتحسس أخبارهم ولا يتجسس، ويشعر بآلامهم، ويقيّم مواقفهم ببراءة نفس، وصفاء سريرة دون أي مقدمات مسبقة، أو تراكمات سابقة، بل المعيار عنده كتاب الله وسنة رسوله -صلى الله عليه وسلم-، ثم الخبرة الكبيرة التي اكتسبها من مشواره الطويل في خدمة هذا الدين وما أصابه وتعرض له من ابتلاءات ومشكلات.
? الوقفة الثالثة: المبادرة إلى حل الإشكالات:(2/303)
عدم تأخر النبي -صلى الله عليه وسلم- في حل الإشكال الحادث؛ فما أن سمع بالخبر حتى ذهب مسرعاً إلى القوم، بعد أن استدعاهم، وأنهى بحكمته وحنكته هذا الأمر الطارئ؛ فلو أنه تأخر أو استهان به وتركه، مع أنه سيكون حينئذ معذوراً؛ فهو النبي، وهو القائد الأعلى الذي على عاتقه من المهمات والأعمال الشيء الكثير ـ فلو أنه تأخر ـ لكان هذا الموقف من الأنصار ـ رضي الله عنهم ـ قنبلة موقوتة، ربما ستنفجر يوماً من الأيام، وتعلق في أفئدة الرجال استفهامات وتقديرات خاطئة، تساعدها مواقف أخرى، والشيطان لا يترك مثل هذه الفرص، بل يؤججها ويجعلها فتيلاً قابلاً للاشتعال فهو قد: «أيس أن يعبده المصلون في جزيرة العرب، ولكن في التحريش بينهم»(1)، «وتلك سنة حميدة يجب أن يتبعها القادة والزعماء مع أنصارهم ومحبيهم؛ فإن الأعداء متربصون لاستغلال كل حادثة أو قول يضعف تعلق المحبين بقادتهم، والشيطان خبيث الدسّ، سريع المكر؛ فلا يهملِ القادةُ استرضاءَ أنصارهم مهما وثقوا بهم»(2).(2/304)
تحدث المشاكل بين العاملين في الحقل الدعوي، وتصل قضاياهم إلى قيادة العمل، ولكن للأسف تجد خمولاً إزاءها ولا مبالاة، وكأن هذه القيادة ليس لها إلا التصدر والترؤس، واستصدار الأحكام والفتاوى، أما حل تلك المشكلات وتقريب النفوس وتهذيبها فهذا ليس من اهتماماتها؛ لأن بعضهم يزعم أنها ستشغلهم عن مهمات كبيرة جداً، ولا أدري: هل هذه المهمات أعظم من التفكك والانشقاقات والتصدعات، وهشاشة العمل وتأخر ثمرته؟ فهل هؤلاء القادة يحملون أثقالاً أكثر وأعظم مما حمله -صلى الله عليه وسلم-؟ ولكن المشكلة الحقيقية عند بعض قيادات العمل الدعوي: هي عدم تقدير المواقف بشكل صحيح، وعدم القدرة على استيعاب مواطن الخلاف بين العاملين أو التلامذة، ومن ثم عدم قدرة القائد تحمل أن يرى عماله أو تلامذته يختلفون أمامه، بل بعض القادة يتمنى أن لو كانت الأمور تسير دائماً على ما يرام لا يشوبها كدر ولا خلاف أو شقاق وهيهات. لقد نسي هؤلاء ـ وفقهم الله ـ أن الله ـ تعالى ـ قال: {مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِن رُّسُلِهِ مَن يَشَاءُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَإن تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ} [آل عمران: 179].
إن هذه الخلافات التي تبدو لأول وهلة صغيرة فإن فيها من مغذيات النمو ما هو كفيل بأن يجعلها مفاصَلات مع المربي نفسه، ودماراً وخراباً لكل ما بناه في سنيه التي خلت؛ فليس معه إلا أن يوجه أصابع الاتهام ليس إلى ذاته، وتفكيره، وعدم حنكته، وضعف بديهته، وإنما بالدرجة الأولى يوجهها إلى هذا الجيل المتأخر غير المتربي، والذي لا يحترم الكبير فضلاً عن القائد والمربي، ولعمري! إنها لمصيبة عظيمة أن نلقي التبعة على غيرنا، ونخرج نحن خارج الدائرة.
?(2/305)
الوقفة الرابعة: الحلم مع القدرة:
سعة صدر النبي -صلى الله عليه وسلم- وتحمّله للنقد الموجّه له؛ «يغفر الله لرسول الله -صلى الله عليه وسلم-؛ يعطي قريشاً ويدعنا، وسيوفنا تقطر من دمائهم؟»(3). فلم يرتفع صوته أو يحمرَّ وجهه ويَسوَدَّ، ولم يرتب أحكاماً ومواقف على هؤلاء المتكلمين؛ فيتعامل معهم معاملة جديدة وفق هذه المعطيات، فيهجرهم ويقاطع العمل معهم؛ بحجة أنهم لا يحترمون القيادة، ولا يوقرون الكبار، ولا يقدرون فضائل من ضَحّى من أجلهم. كلا، لم يفعل -صلى الله عليه وسلم- شيئاً من ذلك؛ بل ذهب إليهم، وطرح عليهم أسئلة حكيمة، ثم مدحهم، وأثنى عليهم ثناءً ومدحاً فوق مستوى الحدث، لم يكن أحد منهم يتوقع هذا المدح والثناء؛ فلم يستطيعوا أن يوقفوا تدفق الدموع على خدودهم.
إن بعض القادة والمربين يستطيع أن يستميل قلوب تلامذته ورجاله لو رآهم أخطؤوا بموعظة بليغة تَوْجَل منها القلوب، وتذرف منها الدموع، إلا أنه تغلبه الطبيعة التي تربى عليها منذ صغره؛ فيرى أن كبرياءه قد جرحت وخدشت، ولا يعيدها إلا اعتذار على مستوى رفيع، كأن يعتذر هؤلاء الذين تكلموا ليس في اجتماع مغلق: كالحظيرة أو القبة التي اجتمع فيها الأنصار بل اعتذار على الملأ، حتى يجرح كبرياءهم ويخدشه مثلما فعلوا.
إن الرفق بالمتلقي إذا أخطأ أمر مهم جداً؛ إذ إن القسوة عليه في غير محلها، وهو يحب مربيه ومعلمه يوغر في صدره أموراً، ويطرح أمام ناظريه عدة تساؤلات، لا يجيب عليها إلا واقع سيئ يعيشه هذا المتربي في تعامل قادته مع أتباعهم.
كما أن على القائد أن يضع في عين الاعتبار والاهتمام أن أتباعه ذوو عقول تزداد خبرةً وعلماً ومعرفةً يوماً بعد يوم، وفكراً ينضج ساعةً بعد ساعةٍ. فلو أُهملت هذه العقول وتلك الأفكار المتراكمة لكانت العاقبة وخيمة، ويسقط البنيان من القواعد.(2/306)
يجب ألاّ نتعامل مع المنتقد على أنه ذلك الشاب الصغير الذي كان يوماً من الأيام لا يستطيع أن يثبّت النظر في عيني شيخه ومعلمه، أو ذلك الطالب الذي كان يتلعثم في كلامه.
فعجلة الزمن لا تتوقف؛ فهي تدور ويتطور معها الكائن البشري، ويرتقي في سلم الكمال؛ فيصبح المتربي أو الجندي قائداً بين لحظة وأخرى، وربما نِدّاً لقائده ومعلمه ومربيه.
? الوقفة الخامسة: الصراحة، والوضوح:
لقد كان سعد بن عبادة ـ رضي الله عنه ـ: صريحاً وواضحاً في خطابه مع النبي -صلى الله عليه وسلم- قائده ومعلمه؛ فها هو يقول له: «يا رسول الله! إن هذا الحي من الأنصار قد وجدوا عليك في أنفسهم لما صنعت في هذا الفيء الذي أصبت؛ قسمت في قومك وأعطيت عطايا في قبائل العرب، ولم يك في هذا الحي من الأنصار منها شيء».
إن هذه الصفات والخصال الحميدة لا يجيدها إلا النادر من التلاميذ والأتباع، ولا يتقبلها إلا القليل من القادة أو الموجهين الذين لا يضعون على أنفسهم هالة من التبجيل، ولا تصيبهم غضاضة لو لم ينادَ بلقبه أو مركزه العلمي.(2/307)
الصراحة، والوضوح أسماء ومعانٍ قلّما تجد من يتمثلها فتصبح واقعاً وسلوكاً ومنهجاً في تعامله مع الآخرين صغاراً أم كباراً، ولذا فإنك ترى من يفعل ذلك قد أصبح لكلامه وقعٌ في النفوس، ولوعظه تأثيرٌ في القلوب، وأعماله منهجٌ يسير عليه ويقتدي به الآخرون، وما ذلك إلا لأن هؤلاء قد عظّموا الله ـ جل جلاله ـ تعظيماً فاق كل التصورات، واقتفوا أثر نبيهم، فكان نبراساً لهم في هذه الحياة. وما أجمل وضوح سعد بن عبادة ـ رضي الله عنه ـ وشفافية رده للنبي -صلى الله عليه وسلم- عندما سأله: «فأين أنت من ذلك يا سعد؟» فقال -صلى الله عليه وسلم-: «يا رسول الله! إنما أنا رجل من قومي»؛ أي: أن قولهم ورأيهم هو قولي ورأيي. لم يكن سعد ـ رضي الله عنه ـ متكلفاً أو مجاملاً أو متلوناً، وهذه صفات تكثر في الأتباع تجاه قادتهم؛ مما يورث الجماعة انقساماً، وتحزباً، ونجوى مفسدة وموهنة لحبل الاجتماع. وقد يقول قائل: إن سعداً كان إمَّعة في قوله ذاك، أو أنه خاطب النبي -صلى الله عليه وسلم- بالمنطق الجاهلي:
وما أنا إلا من غزية إن غوت غويت وإن ترشد غزية أرشدِ
كلاَّ! إنها مسألة بدهية أن يجد الإنسان في نفسه عندما يرى العطايا تقسم ولا يصل له منها شيء، مع أنه جزء من الجماعة؛ فما بالك إذا كان هو مرتكز التغيير والتحول، وصاحب السابقة، والتأييد، والإعزاز، والنصرة؛ فكيف سيكون الحال؟
إن المسألة مرتبطة ارتباطاً وثيقاً بفطرة الإنسان في محبته للمال والعطاء؛ فلا أحد يرضى أن يكون فقيراً أو معدوماً، والله قد أحل الغنائم لأمة محمد -صلى الله عليه وسلم-؛ فأي غضاضة أن يطلب الإنسان حظه منها؟!(2/308)
وهنا يأتي دور الإيمان واليقين والتسليم والاحتساب، يأتي دور المربي كي يبني بنيان الإسلام في قلب المتربي بكل ما يحمله من قِيَم ومبادئ ومعان سامية، حتى لا يبقي في قلبه سوى حب الله وحب الرسول -صلى الله عليه وسلم- وما أعده الله للصابرين الذين باعوا الدنيا وما فيها، واشتروا بها جنة عرضها السموات والأرض، وهذا الذي فعله -صلى الله عليه وسلم-؛ فقد أعلنها واضحة جلية: أن قضيتهم ليست مرتبطة بلُعاعة الدنيا وحقارتها، وإنما مرتبطة باتباع هديه، ونصرة دينه، وإعلاء كلمة الله؛ فليذهب الناس بالشاة والبعير، فليس هناك مشكلة؛ بل أعظم المصيبة والبلاء أن يذهب المرء ومعه حظوظ الدنيا، وهو خالي الوفاض من دينه، وتمسكه بما أمر ربه، والتزام ما نهى؛ فالتخليط ديدنه، والتلوُّن طريقته، والترخُّص هِجِّيراه وعادته.
? الوقفة السادسة: الموعظة وليس الغلظة والفظاظة:
المتأمل لردة فعل النبي -صلى الله عليه وسلم-، وبما خاطب الأنصار في الحظيرة يجد أنه استخدم بذكائه العظيم، وحسن سياسته للأمور، أسلوب الموعظة. لقد عرف -صلى الله عليه وسلم- من هم الأنصار، وما هي نفسياتهم، وفيمَ يفكرون، وكيف يتعاملون؟! عرفهم في البأساء والضراء، عرف فيهم دماثة الأخلاق، والكرم الجم، والحب الكبير له -صلى الله عليه وسلم-؛ فلماذا إذاً يعنِّفهم ويقسو عليهم؟ وهو القائل: «ما كان الرفق في شيء إلا زانه، وما نزع من شيء إلا شانه»(1)، وهو الذي قال عنه ـ المولى تبارك وتعالى ـ: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ} [آل عمران: 159].(2/309)
وما أحوج قادة العمل الدعوي إلى استخدام هذا الأسلوب الدعوي العظيم إذا اعوجَّ سلوك النخبة من تلامذتهم وأتباعهم! ماذا يضيرهم لو سلكوا هذا المنحى؟ قد يظن بعضهم أنه ربما ينقص من قدره ومكانته، بل العكس إنما هو رفعة له في قلوبهم، وازدياد معدل المحبة فيها.
لقد عاتب -صلى الله عليه وسلم- أنصار دعوته ومحبيه ليدلل على محبته لهم، واهتمامه بحالهم وأوضاعهم، يعيش آلامهم، ويحس بجراحهم لتبقى المودة على الدوام.
أعاتب ذا المودة من صديق إذا ما رابني منه اجتنابُ
إذا ذهب العتاب فليس ود ويبقى الود ما بقي العتابُ
«فما ثَمَّ شيء أحسن من معاتبة الأحباب، ولا ألذ من مخاطبة ذوي الألباب»(2) ومن هنا كان لزاماً على من تولى قيادة النفوس أن يتقن فن الوعظ وطرقه؛ لأنه سيحتاج إليه حتماً في مسيرته التربوية والدعوية؛ فالسآمة والملل وتكرار صور الحياة أمور يجب الخوف منها، ومدافعتها عن قلوب الأتباع؛ فها هو ابن مسعود يقول: «كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يتخولنا بالموعظة في الأيام كراهة السآمة علينا»(3).
ويحتج بعضهم أن القيادة مشغولة بمهام عدة، وربما ليس عندها وقت لتجلس مع أتباعها، وتُصلح ما فسد بينهم بسبب الشحناء والاختلاف. وهذا غير صحيح ومجانب لواقع النبي -صلى الله عليه وسلم-؛ ألم يكن بمقدور النبي أن يغض الطرف عن ما بدَر من الأنصار ويذهب لمهامه العظام؟ أليس شغل النبي -صلى الله عليه وسلم- في تلك الفترة أعظم من انشغالات قيادات اليوم؟ بلى! ولكن القضية هي لا مبالاة قاتلة بواقع الأتباع، يرتكبها القادة بقصد أو بغير قصد. والنتيجة سيئة للغاية ومعالمها بادية للعيان: وهَنٌ في واقع الأتباع، ضعف للهمم، ركون لمتع الدنيا الزائلة؛ ويأس وقنوط من تغيّر وعدم تغير الأوضاع.(2/310)
لقد كان -صلى الله عليه وسلم- يتخذ من الوعظ بشتى صوره وأساليبه سلاحاً نافعاً لتلك المعالم آنفة الذكر، حتى استطاع أن يخرج جيلاً يقوم بواجب تبليغ الرسالة للأمم حق القيام، وكذلك كان الخلفاء الراشدون والأئمة من بعده. أما اليوم فالأمر بخلاف ذلك، والله أعلم.
? الوقفة السابعة: التذكير بالفضائل لأجل المتابعة:
إن من الغُرم الكبير الذي يقع على القائد، والموجه، والمربي من تلامذته، وأتباعه نسيانهم لفضائله وأعماله ومناقبه؛ فكم بذل وضحى وقاسى! وكم سهر وتعب وآسى! وربما مرض لأجل تربيتهم والحفاظ عليهم من الأعداء والمتربصين بهم؛ فكم كان يخطط وينسق وينظم جداول الأعمال والآمال لأجل صنع مستقبل مشرق، وتاريخ مجيد لهم في خدمة أمة الإسلام، ورفع راية التوحيد!
تُنسى الفضائل والأعمال والمناقب، بمجرد أن يصبح الطويلب طالب علم، أو شيخاً، أو عَلَماً دعوياً.
وتُنسى عندما يصبح طالب حلقة التحفيظ حافظاً لكتاب الله وقارئاً للقرآن يحمل الإجازات والقراءات.
وتُنسى أيضاً عندما يخطئ القائد خطأً ما، ويفحش في خطأ ما؛ بأن يصر عليه، ويتعنت فيه لرؤية رآها، واجتهاد وصل إليه والتلامذة والأتباع يرون خلاف ذلك، وأن قائدهم قد جانب الصواب.
ولوازم هذا النسيان متنوعة؛ فإما أن يوصم القائد بالتشدد أو الحزبية أو ضعف الرؤية، ثم تأتي معاول الهدم لتضرب على جدار تاريخه: ماذا فعل؟ لقد أخر العمل، وميّع القضية، وركن إلى الدنيا وشهواتها الدنية، ثم ينقَّب في أخطائه وزلاته حتى تصبح في نظرهم كالجبال، والنتيجة على أحسن الأحوال مقاطعة لمحاضراته ودروسه، ويبقى السلام والزيارة في الأعياد والمناسبات. أما على أسوئها فهو مبتدع، ضال، منحرف، أشد على الإسلام من اليهود والنصارى، لو استطاعوا أن يقتلوه لقتلوه ورموه في عرض الطريق.(2/311)
لقد كبرت عقول الصغار حتى نسوا الماضي التليد، وانشغل الكبار حتى نسوا أنهم في عجلة الزمن التي لا تتوقف لمتباطئٍ، أو غافلٍ، أو بليد.
فمن حق القائد أن يوضح أعماله وفضائله ومناقبه، حتى يكون له الغُنْم وليس عليه الغرم، أو تعتدل كفة الميزان على الأقل.
ولعلنا نتذكر يوم دخلت الأحزاب على عثمان بن عفان ـ رضي الله عنه ـ وأرادوا قتل أمير المؤمنين، وثالث الخلفاء الراشدين المهديين.
قال لزعمائهم: «أنشدكم الله! أتعلمان أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لما قَدِم المدينة ضاق المسجد بأهله، فقال: «من يشتري هذه البقعة من خالص ماله فيكون فيها كالمسلمين، وله خيرٌ منها في الجنة؟» فاشتريتها من مالي، فجعلتها بين المسلمين، وأنتم تمنعوني أن أصلي فيه ركعتين، ثم قال: أنشدكم الله أتعلمون أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لما قدم المدينة لم يكن فيها بئر يستعذب منه إلا بئر رومة، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «من يشتريها من خالص ماله فيكون دلوه فيها كدلاء المسلمين وله خيرٌ منها في الجنة؟» فاشتريتها من خالص مالي وأنتم تمنعوني أن أشرب منها. ثم قال: هل تعلمون أني صاحب جيش العسرة؟ قالوا: اللهم نعم!(1).
لم يكن تصرف عثمان ـ رضي الله عنه ـ يخدش مقام الإخلاص في قلبه، وإنما كان مجرد وسيلة لاستمالة قلوب أولئك الأجلاف الأخلاط من الناس، لكنها لم تنفع؛ ولذا فإن استمالة القلوب تكون أحياناً لا فائدة فيها عندما تقابل قلوباً أقسى من الحجارة، ناكرة للجميل، ومتناسية للأيام الخوالي، والزمن الطويل، فلم تترب التربية الإيمانية، ولم تصفُ سريرتها وأعمالها فتصبح نقية روحانية؛ ولذا فقد نفعت مع الأنصار حينما خاطبهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بخطاب رائع وموجز، لكنه غني: «ألم أجدكم ضلالاً فهداكم الله بي؟ وكنتم متفرقين فألَّفكم الله بي؟ وعالة فأغناكم الله بي؟»(2).(2/312)
ولعلنا نتساءل: هل كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بحاجة إلى أن يوضح للأنصار ما عمل لهم؟ أو يخبرهم بحالهم، وكيف انتقلوا من حال الضعف إلى حال القوة بمجيئه -صلى الله عليه وسلم- إليهم؟ هل كان بحاجة إلى كل هذا؛ وقد قضى معهم ثماني سنوات، كانت كفيلة بأن ترسخ تلك الحقائق في أذهان الأنصار؟
يجاب عن هذه التساؤلات بأن الإنسان ما سُمّي إنساناً إلا لنسيه، كما روي عن ابن عباس ـ رضي الله عنه ـ(3) وقد قال القائل:
وما سمي الإنسان إلا لنسيهِ
وما القلبُ إلا أنه يتقلب
فالأنصار بشر يعرض لهم ما يعرض للبشر من النسيان، والسهو والغفلة، وهُمْ من المؤمنين الذين أمر الله نبيهم أن يذكرهم {وَذَكِّرْ فَإنَّ الذِّكْرَى تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ} [الذاريات: 55]؛ فلما ذكَّرهم نفعتهم الذكرى، واعترفوا بصدق ما قال؛ لأنهم يحملون قلوباً أرقّ من النسيم، ما أن تسمع الحق حتى وتباشره بالخشوع والبكاء؛ فليت لنا قلوباً مثل قلوبهم أو حتى نصفها.(2/313)
أما الجانب الآخر من الاعتراف بالفضل: فهو اعتراف القائد بفضل أهل السبق ومكانتهم، وهذه قضية غفل عنها كثيرٌ من قيادات العمل الدعوي اليوم، فترى أحدهم تمر عليه السنون ولم يظهر ثناؤه لرجاله الذين ساندوه، ووقفوا إلى جانبه في الملمات والمهمات، وفي المصائب والنكبات؛ ألم يكن النبي -صلى الله عليه وسلم- يقول عن أبي بكر: «لو كنت متخذاً خليلاً غير ربي لاتخذت أبا بكر»(4) وعن أبي عبيدة: «أمين هذه الأمة»(5)، والزبير: «إن لكل نبي حوارياً، وحواريِّي الزبير»(6)! وها هو يقول للأنصار: «والله! لو شئتم لقلتم ـ فصدقتم وصدقتم ـ: جئتنا طريداً فآويناك، وعائلاً فآسيناك، وخائفاً فأمَّناك ومخذولاً فنصرناك»، وقال عنهم في آخر عمره: «أوصيكم بالأنصار؛ فإنهم كرشي وعيبتي، وقد قضوا الذي عليهم، وبقي الذي لهم؛ فاقبلوا من محسنهم، وتجاوزوا عن مسيئهم»(7)؛ فهل قيادات العمل الدعوي ـ يا ترى ـ قلَّبت صفحات سيرة المصطفى -صلى الله عليه وسلم- وتأملت هذا الجانب؟
إن هذا التصرف من القائد له نتائج جميلة في نفوس النخبة الخُلَّص من الأتباع: فهو يبني بنيان الثقة في نفوسهم، ويكبر هو في عيونهم، ويرون أن كل ما قدموه لم يذهب هباءً منثوراً؛ فهو محفوظ في قلب قائدهم، ومرفوع ـ إن شاء الله ـ عند خالقهم وبارئهم. فلا يضرهم إن لم يحصّلوا ذهباً ولا فضة أو ديناراً أو درهماً؛ فكلمات القائد يخطّها الأتباع بماء الذهب؛ فتصبح أوسمة ونياشين تعلق في صدورهم، يتذكرونها في ذهابهم وإيابهم، وقبل منامهم، تشحذ فيهم همة الاستمرار على العمل، وتشعل في نفوسهم حماساً بالغاً لتحقيق الأمل.
فالإنسان مجبول على حب الثناء من الآخرين؛ وذلك لضعفه الفطري، حتى إذا تدرج في سلم الكمال، وارتقى في درجات القرب من الله الكبير المتعال، استوى عنده مدح الصديق المنوال، وذم العدو الحقود الغالِّ.
? الوقفة الثامنة: لا لإشاعة أخبار المشاكل:(2/314)
جاء في رواية أبي سعيد الخدري ـ رضي الله عنه ـ: «فخرج سعد، فصرخ فيهم، فجمعهم في تلك الحظيرة، فجاء رجل من المهاجرين فأذن له فدخلوا، وجاء آخرون فردهم، حتى لم يبق من الأنصار أحد إلا اجتمع له أتاه، فقال: يا رسول الله! قد اجتمع لك هذا الحي من الأنصار؛ حيث أمرتني أن أجمعهم، فخرج رسول الله فقام فيهم..».
هذا المقطع من الرواية يبين لنا دلالات مهمة، ينبغي التفطن والاهتمام بها:
منها: أنه إذا حدث إشكال معين في صفوف الأتباع؛ فمن الحكمة ضرورة محاصرة خبره؛ لكيلا يصل خبره بين الأتباع الآخرين الذين ليس لهم علاقة به، ولم يشاركوا فيه؛ إذ إن وصول الخبر إليهم مدعاة لتضييع الأوقات وهدر الأوقات؛ فيتفشى فيهم ما نهى عنه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من القيل والقال، وكثرة السؤال، وربما يعد عاملاً مساعداً في تفريق الجماعة، وبعث النعرات الخامدة في النفوس. ولقائل أن يسأل: ألم يدخل أحد من المهاجرين حظيرة الاجتماع؟ الجواب: نعم! ولكن قد بينت الرواية الأخرى عند الإمام أحمد من حديث أنس قال: «فجمعهم في قبة له، حتى فاضت فقال: فيكم أحد من غيركم؟ قالوا: لا، إلا ابن أختنا. قال: «ابن أخت القوم منهم»(1).
ومنها: على القائد أن لا يحمّل بقية الأتباع تبعة أخطاء مجموعة معينة من الأفراد؛ {وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [الأنعام: 164]، فما ذنب من لم يعلم، ولم يكن مشاركاً، أو مؤيداً أن يتحمل تبعات ونتائج أخطاء الآخرين؟ أليس الجهل بالأمر عذراً كافياً لاستثنائهم؟ بلى! ولذا فقد دلت الروايات أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قد جمع حياً واحداً من الأنصار، ولم يجمع الأنصار كلهم.(2/315)
ومنها: أن مشاركة الآخرين مدعاة أيضاً إلى أن تأخذ نفوس المخطئين العزة بالإثم والإصرار على الخطأ، ومحاولة تسويغ أخطائهم؛ بذكر مثالب القائد، سواء كان في نفسه وإدارته، أو حتى في أسرته؛ فيسمع الصغير والكبير بذلك، فتحدث له فتنة جديدة ستكون عوناً على انحرافه وخروجه من دائرة الطيبين.
ومنها: أن تصرف النبي -صلى الله عليه وسلم- كان غاية في الحكمة، وقمة في الذكاء والحنكة، فلم يجلس مع أبي بكر وعمر، أو المهاجرين ليحكي لهم ما بدَر من الأنصار، حتى يؤكد صحة مذهبه وطريقته؛ فيقوى بذلك جانبه، ويحقق مآربه، كلاَّ! فهو القائد والمعلم، وأولئك تلاميذ فحسب، والتلميذ مهما بلغ فهو تلميذ يجب أن يحترم قائده وموجهه، ويصبر على تعنيفه وإساءته؛ ففي معارضته حرمان نفسه لخيره وفضائله وصدق القائل:
اصبر على مر الجفا من معلم
فإن رسوب العلم في نفراته
لقد انفرد -صلى الله عليه وسلم- بهذا الحي من الأنصار لينصحهم ويربيهم على انفراد تام؛ ليؤكد لنا على أهمية النصح للمخصوص دون استماع غيره، سواء كان هذا المخصوص فرداً أو جماعة وصدق الشافعي حين قال:
تعهدْني بنصحك في انفرادٍ وجنبني النصيحة في الجماعهْ
فإن النصح بين الناس نوع من التوبيخ لا أرضى استماعهْ
فإن خالفتني وعصيت أمري فلا تغضب إذا لم تُعطَ طاعهْ
وقال مسعر بن كدام ـ رحمه الله ـ: «رحم الله من أهدى إليّ عيوبي في سر بيني وبينه؛ فإن النصيحة في الملأ تقريع»(2).
? الوقفة التاسعة: التعميم لا التعيين:
لقد استخدم -صلى الله عليه وسلم- لفظاً عاماً في مخاطبة الحضور، ولم يعين شخصاً بعينه، أو اثنين أو ثلاثة بأسمائهم مع أنه ـ والله أعلم ـ كان يعلم بالذين تكلموا؛ فالوحي لم يكن ليترك النبي -صلى الله عليه وسلم- دون أن يخبره بمثل ذلك.(2/316)
والمتأمل لسيرة النبي -صلى الله عليه وسلم- وخطابه عند حلول المشكلات، أو حدوث الأخطاء من الصحابة يرى استخدامه لكلمات عامة: «ما بال أقوام، وما بال رجال»، وإليك نماذج من ذلك:
«ما بال أقوام يتنزهون عن الشيء أصنعه؟ فوالله! إني أعلمهم بالله وأشدهم له خشية»(3).
«ما بال أقوام قالوا كذا وكذا، ولكني أصلي وأنام، وأصوم وأفطر، وأتزوج النساء؛ فمن رغب عن سنتي فليس مني»(4).
«ما بال رجال يؤذونني في أهلي، ويقولون عليهم غير الحق؟ والله! ما علمت عليهم إلا خيراً. ويقولون ذلك لرجل والله ما علمت منه إلا خيراً، ولا يدخل بيتاً من بيوتي إلا وهو معي»(5).
«يا معشر الأنصار!» خطاب له مدلولاته ومعانيه وقوة حضوره، وهو نداء يشعل في قلوب السامعين ذكرى اللحظات الحاسمة في بيعة العقبة الثانية، يوم بايعوه على أن يضحوا بكل شيء؛ لأجل حمايته والذود عن دعوته.
إن استخدام القائد لأسلوب التعميم عند حل المشكلات له فوائد مهمة، ونتائج طيبة:
منها: أن الخطاب سيكون عاماً وليس معيناً ومحدداً، وهذا سيؤدي إلى جعل الحضور كلهم في محل المسؤولية؛ فغير المذنب سيمقت هذا التصرف، ويعتقد أنه ربما يُقصد بذلك فيربأ بنفسه عنه، وأما المذنب فسيستهجن ما قاله وفعله، فيبدأ بإصلاح نفسه دون التعرض لأمور تجرح قائده وموجهه.
ومنها: أن أسلوب التعميم وعدم ذكر أسماء الأشخاص يحفظ للمذنب كرامته، ويصون عرضه وشخصيته، فلا تجرح، وأعظم الجرح عندما يذكر شخصه، أما إخوانه فيأتي الشيطان ليهمس في أذنه أن هذه إهانة لا يمكن السكوت عليها ولا غض الطرف عنها، وقد يؤدي به آخر المطاف إلى الخروج من دائرة الطيبين ليكون مع الأعداء والمتربصين.(2/317)
إن ما وقع من الأنصار بعد قسمة غنائم هوازن، وتصرف النبي -صلى الله عليه وسلم- تجاه ما قالوا يعدّ ـ في نظري ـ منهجاً ينبغي أن يتخذه القادة، والمربون، والموجهون، يسيرون وفق معطياته عندما تعترضهم المشاكل والخلافات في أوساط أتباعهم، وتلامذتهم. وفق الله الجميع لما يحبه ويرضاه.
--------------------------------------------------------------------------------
(1) رواه أحمد، واللفظ له ( 57، 3) وأصله عند البخاري، الفتح 7 (4330)، ومسلم (1059).
(1) البخاري، الفتح 10 (6036).
(2) البخاري، كتاب الجهاد، رقم (2609).
(3) البخاري، كتاب الجزية، رقم (2924)، ومسلم كتاب الزهد، رقم (5261).
(4) رواه مسلم (2812) من حديث جابر رضي الله عنه.
(1) مسلم (2812) من حديث جابر، رضي الله عنه.
(2) السيرة النبوية، دروس وعبر، لمصطفى السباعي، ص 92.
(3) هذا من رواية أنس كما عند البخاري (6/251) رقم (3147).
(1) رواه مسلم (1828) من حديث عائشة.
(2) المستطرف في كل فن مستظرف، 284.
(3) البخاري، الفتح 1/101 واللفظ له، ومسلم (2633).
(1) رواه الترمذي والنسائي، وقال الترمذي: حسن صحيح. وانظر البداية والنهاية لابن كثير، 7/191.
(2) البخاري، الفتح 7/ 4330، ومسلم (1061) من رواية عبد الله بن زيد بن عاصم رضي الله عنه.
(3) لسان العرب: مادة (أنس)، 1/232.
(4) البخاري، الفتح 7 (3654) من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه.
(5) البخاري، الفتح 13 (7255) ومسلم (2419) من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه.
(6) البخاري، الفتح 6 (2997) واللفظ له، مسلم (2415) من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنه.
(7) البخاري، الفتح 7 (3799)، مسلم (2510) واللفظ له.
(1) انظر البداية والنهاية لابن كثير، 7/ 191.
(2) الآداب الشرعية، لابن مفلح (1/290).
(3) البخاري، الفتح 13/7301 ومسلم (2356) من حديث عائشة.
(4) البخاري، الفتح 9/5063، ومسلم (1401) من حديث أنس.
((2/318)
5) هذه قطعة من حديث عائشة قال الألباني ـ رحمه الله ـ: «أخرجها ابن هشام في السيرة 2/ 220، 222، وهي عند البخاري (7/447 ـ 35)، ومسلم (8/ 113 ـ 117) بنحو ما هنا». عن فقه السيرة، للغزالي، ص 316.
--------------------------------------------------------------------------------
مجلة البيان، العدد (88)، ذو الحجة 1415،مايو 1995 .
* * *
http://www.albayan-magazine.com/zwaya/trbwi/60.htm
العلاقات الاجتماعية بناؤها وتوظيفها في الدعوة إلى الله
الربيع بن إبراهيم مليحي
تتولد بين الناس في خضم هذه الحياة علاقات مختلفة باختلاف الدوافع، والأغراض التي هي من ورائها؛ فهناك روابط يؤلف بينها النسب، وأخرى تجمع أطرافها المصاهرة، وثالثة يحكمها الجوار، وهكذا سائر العلاقات الأخرى التي تتكون نتيجة المصالح المشتركة، والمواقف المتبادلة، واللقاءات اليومية، والاجتماعات الدورية، كعلاقة زملاء العمل، وعلاقات التجار والشركاء، والأصدقاء، وغيرها؛ مما يجعل موضوع العلاقات، والإفادة منه في مجال الدعوة إلى الله محل اهتمام الباحثين، ومن هنا وُلدت هذه الدراسة الموجزة في هذا الموضوع المهم، فخرجت بتوفيق الله ـ تعالى ـ في سطور معدودة، رجاء أن يعقبها دراسات متميزة من المختصين في هذا المجال الحيوي الذي يأتي اليوم في مقدمة الأولويات. ورغم إيماني الكبير بأن الجميع يدرك خطورة هذا الموضوع، وحيويته إلا أننا
? أهمية العلاقات:
لا أظن أن أحداً من الناس يجادل في أهمية العلاقات الجيدة، ودورها الفعال في جميع مجالات الحياة على مستوى الشعوب والأفراد؛ ولذلك فالحديث عن أهمية العلاقات يعد من نافلة القول، إلا أنني أودّ أن أُذكّر القارئ الكريم ببعض الجوانب المهمة التي تبرز من خلالها أهمية العلاقات، وخاصة في مجالات الدعوة المختلفة، ومن أبرز هذه الجوانب ما يلي:(2/319)
أولاً: الحماية والنصرة؛ حيث تُشكّل العلاقات الجيدة حماية للداعية تمكّنه من نشر دعوته الإصلاحية، وتبليغ رسالته، ولو بشكل محدود. ولعلك أخي القارئ تلمح شيئاً من هذا المعنى المهم من خلال تأملك في قوله ـ تعالى ـ: {وَلَوْلا رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ وَمَا أَنتَ عَلَيْنَا بِعَزِيزٍ} [هود: 91].
قال العلاَّمة السعدي ـ رحمه الله ـ في معنى الآية: أي: ليس لك قَدْر في صدورنا ولا احترام في أنفسنا، وإنما احترمنا قبيلتك بتركنا إياك(1)، ومما يزيد هذا الجانب وضوحاً ذلك الدور الفعال الذي لعبته علاقة النسب بين النبي -صلى الله عليه وسلم - وبين عمه أبي طالب؛ حيث أحاطته -صلى الله عليه وسلم - بنوع من الطمأنينة والأمن استطاع من خلاله أن ينشر دعوته المباركة، وأن يبذر نواة الخير في مكة وما حولها، ولست بحاجة إلى أن أدلل على جودة تلك العلاقة؛ لأن السيرة قد شهدت بذلك لأبي طالب من خلال مواقفه الجيدة في التصدي لمحاولات صناديد قريش الآثمة التي كانت تستهدف النبي -صلى الله عليه وسلم -، ودعوته المباركة، بل وسُطِّرت له تلك الأبيات التي تدل على شدة محبته لرسول الله -صلى الله عليه وسلم -، وقوة دفاعه عنه، والتي منها قوله:
واللهِ لن يصلوا إليك بجمعهم حتى أُوُسَّدَ في التراب دفينا
فاصدعْ بأمرك ما عليك غضاضةٌ وابشر وقِرَّ بذاك منك عيونا(1)
فتأمل أخي القارئ! كيف تحوط العلاقات أصحابها ببعض الحماية التي تكون نافعة جداً، وبالذات في ظل الخلافات الشديدة التي قد تكون عائقاً كبيراً في طريق نشر الخير! وهنا أمر مهم جداً يحسن التنبيه إليه: وهو أن تلك العلاقة حظيت بنوع من التفاعل بين الطرفين. فالنبي -صلى الله عليه وسلم - يحرص على برّ عمه أبي طالب، ويتودد إليه بما لا يتعارض مع أمر الله، ويعرض عليه الدعوة إلى الخير، حتى في اللحظات الأخيرة من حياته، وكذا عمه أبو طالب يقابل ذلك المعروف بالحماية والعطف والحب والشفقة كما تقدم.(2/320)
ثانياً: زيادة الإنتاج الدعوي؛ وذلك من خلال استثمار الأموال والطاقات والأوقات التي لا تُمنح لأحد في الغالب إلا بحسب العلاقات أو المصالح المشتركة، ومن هنا تبرز أهمية العلاقات، ويتحتم على الدعاة إلى الله السعي في بنائها، واستثمارها في مجالات الدعوة المختلفة، ولست بحاجة إلى الإسهاب في هذا الجانب؛ لأن جهد الواحد ليس كجهد الاثنين، وجهد الأفراد ليس كجهد المؤسسات؛ ولأن ما يُنجز من الأعمال الدعوية في ساعة ليس كما ينجز من الأعمال في ساعتين؛ ولأن ما يبذل من المال للدعوة من شخص واحد ليس كما يبذل من المال من شخصين، وهكذا يدرك الجميع أهمية العلاقات، وأنها بلا شك من أعظم روافد العمل الدعوي، وبالذات في هذا الزمن الذي تحتل فيه العلاقات مكانة مرموقة على مستوى الشعوب والأفراد؛ فهل يحرص الدعاة المصلحون على بناء العلاقات، واستثمارها في الدعوة إلى الله، أم يبقون نكرات في مجتمعاتهم، وأحيائهم، يتعللون بالخوف من بريق الشهرة، ويشعرون أن بروزهم ينافي كمال الإخلاص، وقد يفقدهم بعض المصالح الراجحة: كحفظ الأوقات، وطلب العلم، ونحو ذلك؟ مع أن هذا الكلام وإن كان حقاً إلا أن التوازن أمر مطلوب في أمور الحياة، وسر عظيم من أسرار النجاح.
? كيف نبني العلاقات؟
إن اللبنة الأم في بناء العلاقات هي الحب الصادق الذي هو في الحقيقة قاعدة صلبة تقوم عليها أروقة العلاقات، ومن أجل ذلك حث الإسلام على مد الجسور الموصلة إلى تلك القاعدة العظيمة، ليسود الوئام والوفاق، ويتم التعايش السليم الذي يليق بالإنسان في هذه الحياة، ومن هذه الجسور ما يلي:
1 ـ التعارف:(2/321)
وهو أول مرحلة من مراحل بناء الحب؛ حيث يجدر بالحريص على بناء العلاقات أن يتعرف على من حوله، وأن يمد معهم جسوراً من العلاقة الجيدة التي تقود بإذن الله ـ تعالى ـ إلى احتواء أحبابه، واصطفائهم متعبداً بذلك الله تعالى، مستجيباً لندائه الكريم: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} [الحجرات: 13].
يقول العلامة السعدي ـ رحمه الله ـ في معنى الآية: أي يخبر الله ـ تعالى ـ أنه خلق آدم من أصل واحد وجنس واحد، وكلهم من ذكر وأنثى، ويرجعون جميعهم إلى آدم وحواء، ولكن الله ـ تعالى ـ بث منهما رجالاً كثيراً ونساء، وفرّقهم، وجعلهم شعوباً وقبائل صغاراً وكباراً؛ وذلك لأجل أن يتعارفوا؛ فإنهم لو استقل كل واحد منهم بنفسه لم يحصل بذلك التعارف الذي يترتب عليه التناصر والتعاون والتوارث، والقيام بحقوق الأقارب، ولكن الله جعلهم شعوباً وقبائل؛ لأجل أن تحصل هذه الأمور وغيرها؛ مما يتوقف على التعارف ولحوق الأنساب(2)، وبهذا تتضح أهمية التعارف البنّاء المثمر الذي يترتب عليه النفع في الدنيا والآخرة، ويجب أن يتسابق في مضماره الدعاة، جاعلين رسولهم إلى من يودون التعرف عليهم البسمة الصادقة، والاتصال الحار، ونحو ذلك من مفاتيح القلوب.
2 ـ الهدية:
وهي السحر الحلال الذي يفتح الباب المصمت، ويسل سخيمة القلب، ويذهب وَحَر الصدر، ويزرع الحُب الجمّ، وما أجمل قول الشاعر:
إن الهدية حلوة كالسحر تجتلب القلوبا
تدني البغيض من الهوى حتى تصيّره قريبا
وتعيد مضطغن العدا وة بعد نفرته حبيبا(3)(2/322)
وأجمل من ذلك وأعظم قول الرسول -صلى الله عليه وسلم - في رواية أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ: «تهادوا تحابوا»(1) ومما يزيد من أهمية الهدية أن أولي النُّهى يدركون الأثر العظيم الذي تحدثه الهدية، كما بيّن القرآن الكريم في قصة ملكة سبأ، كما قال ـ تعالى ـ على لسانها: {وَإنِّي مُرْسِلَةٌ إلَيْهِم بِهَدِيَّةٍ فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ} [النمل: 35]، قال قتادة: رحمها الله، ورضي عنها ما كان أعقلها في إسلامها، وفي شركها؛ علمت أن الهدية تقع موقعاً من الناس(2). إن هذا الأثر العظيم للهدية لا يزال في حيز التنظير في واقع كثير من الدعاة، ولما يخرج بعد إلى حيز الممارسة، والتطبيق بشكل مثمر؛ فليحرص الدعاة على هذا المنهل العذب، والمورد الزلال الذي يتسلل إلى القلوب، فيعمرها بالحب بإذن الله.
3 ـ الحقوق الشرعية المتبادلة:
وهي منظومة من الحقوق الواجبة للمسلم على المسلم، أو المندوبة بينهم، سردها -صلى الله عليه وسلم - في رواية أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم -: «حق المسلم على المسلم ست: إذا لقيته فسلّمْ عليه، وإذا دعاك فأجبه، وإذا استنصحك فانصح له، وإذا عطس فحمد الله فشمِّته، وإذا مرض فعُدْهُ، وإذا مات فاتبعه»(3). إن هذه الحقوق العظيمة، والآداب الرائعة التي تبدأ بالسلام من أول لقاء في هذه الحياة، وتنتهي بالوداع الذي لا لقاء بعده إلا في الآخرة لهي في الحقيقة جسور عظيمة، تزرع المحبة في القلوب، وتبني أروع العلاقات الأخوية المستمرة بإذن الله.(2/323)
ومن هنا فإن الدعاة هم أحوج الناس إلى إحياء هذه الآداب الرائعة، والتفاعل معها، وإخراجها من حيز المقابلة الميتة، والبسمة الباهتة، والنمطية المملة (الروتين) إلى حيز الأخوة الصادقة، والتواصل الحي الذي يدفعه الصدق، والإخلاص والحرص على نفع الآخرين وهدايتهم. يقول الدكتور النغميشي: «إن حسن التجاوب، وحرارة الاتصال بين طرفين، والتفاعل بينهما يعتمد اعتماداً كبيراً على مفهوم التبادل في العلاقات؛ فعلى قدر ما يبذل كل طرف من جهده، وماله ومشاعره نحو الطرف الآخر تقوم العلاقة، وتتصاعد إلى أعلى»(4).
4 ـ الخدمة وقضاء الحوائج:(2/324)
إذا كانت الجسور التي سبق الحديث عنها تشكّل أهمية لا بأس بها في بناء العلاقات المثمرة فإن خدمة الناس، وقضاء حوائجهم هو الجسر الأعظم الذي يلتقي مع تلك الجسور، ويشكل معها قوة هائلة في بناء العلاقات، وسر ذلك يعود إلى طبيعة النفس البشرية التي فُطرت على محبة من يحسن إليها ويقوم بشؤونها ومصالحها، ومن ثم فهي تنظر إليه نظر الإجلال والتعظيم والحب، وهذه النظرة الفطرية هي في الحقيقة ناتجة من ضعف الإنسان، وحاجته المستمرة التي لا تنتهي في هذه الحياة إلا بوفاته؛ ولذلك فليس غريباً أن يهتم الناس بمصالحهم الدنيوية، وتأمين الحياة الكريمة التي لا تصلح حياتهم إلا بها، ولا شك أن الإسلام يراعي هذه النظرة الفطرية ويهتم بها، ويوجه الإنسان إلى الاهتمام بهذا الجانب المهم من خلال المنهج القويم الذي سلكه رسول الله -صلى الله عليه وسلم -؛ حيث كان يدعو ربه بصلاح دنياه، كما في دعائه الثابت في صحيح مسلم: «اللهم أصلح لي ديني الذي هو عصمة أمري، وأصلح لي دنياي التي فيها معاشي، وأصلح لي آخرتي التي إليها معادي»(5). ومن تأمل سيرته -صلى الله عليه وسلم - رأى فيها سمة المبادرة إلى الاهتمام بشؤون الناس، وتلمّس حاجاتهم، كما قالت خديجة ـ رضي الله عنها ـ في وصفه -صلى الله عليه وسلم -: «إنك لتصل الرحم، وتحمل الكَلّ، وتكسب المعدوم، وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحق»(6).(2/325)
وهكذا نجده -صلى الله عليه وسلم - من خلال سيرته العطرة يشفع لمغيث عند زوجته بريرة من أجل أن يعود إليها؛ فتقول: يا رسول الله! أتأمرني بذلك؟ فيقول: «لا، إنما أنا شافع»(7)، وها هو -صلى الله عليه وسلم - يحث أصحابه ـ رضي الله عنهم ـ على البذل والصدقة، عندما رأى قوماً من مضر مجتابي النمار، وقد بدت معالم البؤس والفاقة على وجوههم(8)، ومن تتبع مواقفه -صلى الله عليه وسلم - في هذا الجانب المهم رأى عجباً، وأدرك سر الحب العظيم لشخصه الكريم -صلى الله عليه وسلم - من أصحابه رضي الله عنهم أجمعين.
وعلى هذا المنهج القويم تربى السلف الصالح من الصحابة والتابعين، رضي الله عنهم؛ فقد ذكر ابن قتيبة الدينوري ـ رحمه الله ـ جملة من أخبارهم في هذا الجانب؛ فهذا ابن عباس ـ رضي الله عنه ـ يبحر في عالم المروءات والقيم عندما يقول: «ثلاثة لا أكافئهم...» ثم ذكرهم، وقال: «أما الرابع فلا يكافئه عني إلا الله عز وجل؛ قيل: ومن هو؟ قال: رجل نزل به أمر، فبات ليلته يفكر بمن ينزله، ثم رآني أهلاً لحاجته، فأنزلها بي»(1). وقيل لابن المنكدر: أي الأعمال أفضل؟ قال: إدخال السرور على المؤمن، فقيل: أي الدنيا أحب إليك؟ قال: الإفضال على الإخوان(2)، وقال: الحسن ـ رضي الله عنه ـ: لأن أقضي حاجة لأخ أحبُّ إليَّ من أن أعتكف سنة(3). وهكذا يبرز الاهتمام بهذا الجانب المهم في حياة أولئك الأفذاذ جيلاً بعد جيل، حتى ظهر أثر ذلك في أدبهم العربي الرفيع، وأصبح المدح بخدمة الناس، ومواساتهم من أغراض الشعر البارزة، ولا أدل على ذلك من قول الشاعر:
بدا حين أثرى بإخوانه ففكك عنهم شباة العدم
وذكره الحزم غب الأمور فبادر قبل انتقال النعم
? أهمية نفع الناس:(2/326)
إن خدمة الناس، والسعي في قضاء حوائجهم جسر من المعروف محفوف بالمتاعب والتضحيات، ولكنه يوصل بإذن الله ـ تعالى ـ إلى أرقى العلاقات المثمرة المؤدية إلى السيادة؛ حيث لا شك أن خادم القوم سيدهم، وما أحسن قول الشاعر:
أحسن إلى الناس تستعبد قلوبهم فطالما استعبد الإنسانَ إحسانُ
ومن هنا فإن على الدعاة اليوم أن يتسابقوا إلى نفع الناس، ودفع المكروه عنهم، وخاصة في هذا الزمن الذي كثر فيه الكلام، وقلّ فيه العمل، وظهر فيه الشح والأثرة، وتعانق فيه الفقر والجهل؛ فما أحوج الناس إلى الكلمة الحانية والمواساة الكريمة، والخدمة الجيدة، والنفع المتعدي، وبالذات في هذا العصر الذي ملَّ فيه الناس من جعجعة بلا طحين وعلقت آمالاً كبيرة على الدعاة والمصلحين. وهذان بيتان من الشعر، هما في الحقيقة حكمة عظيمة، خرجت من أفواه الأولين لتقول لنا جميعاً:
وليس فتى الفتيان من راح واغتدى لشرب صبوح أو لشرب غبوقِ
ولكن فتى الفتيان من راح واغتدى لضر عدو أو لنفع صديقِ
? ثمار العلاقات الاجتماعية:
في ختام هذه المقالة يحسن التنبيه إلى بعض القضايا المهمة التي تساهم بمجموعها في إخراج ملخّص للثمرة المرجوة من هذه الدراسة:
القضية الأولى: يجب أن ندرك أهمية بناء العلاقات الاجتماعية. يقول الدكتور إبراهيم القعيد: (إن العلاقات الإنسانية في بيئة العمل هي المادة اللزجة التي تحرك آلة العمل والإنجاز، وكلما كانت هذه المادة عالية اللزوجة أدت إلى تحقيق نتائج باهرة، وأوصلت الإنسان إلى قمم من الأداء والرضى الوظيفي والراحة النفسية، والعكس صحيح تماماً)(4). وهذا الكلام النفيس ليس حكراً على الأعمال الوظيفية فقط، بل ينبغي أن يوظف في مجالات الدعوة المختلفة، ومنها الأعمال الوظيفية ولا شك.(2/327)
القضية الثانية: يجب أن نستثمر هذه العلاقات المختلفة في مجالات الدعوة المتعددة؛ حيث يمكننا أن نوظف علاقاتنا وعلاقات الآخرين أيضاً، وذلك من خلال توجيه الأموال والأوقات، والطاقات والأفكار، وغير ذلك، حتى إننا لنطمع من خلال العلاقات في حنجرة المغني أن تصدح بالأذان، وتتغنى بالقرآن، وفي قافية الشاعر أن تجسد معاناة المسلمين، وتصور مآسي المنكوبين، وتواسي جراحاتهم، كما نطمح بريشة الفنان أن ترسم لوحة من التفاؤل تبشّر بالنصر، وتفتح باب الأمل، وفي قلم الصحفي أن يسطر الحق في الزوايا والأعمدة التي طالما سُطِّر فيها الباطل، وفي سلطة رجل الأمن أن يأخذ بها على يد السفيه، ولست أبالغ إذا قلت: إننا نطمع من خلال العلاقات أن يتحول الضعف إلى قوة، والبغض إلى حب، والتشاؤم إلى تفاؤل، والهزيمة إلى نصر، والتفرق إلى وحدة، وهكذا ينبغي أن تستثمر العلاقات دون أن تقف بها عند حد معين، ما لم تصل إلى مداهنة مزرية، أو شفاعة محرمة، ونحو ذلك.
القضية الثالثة: يجب أن ندرك أننا قد ننجح في بناء العلاقات، ولكن لا ننجح في استثمارها بالشكل المطلوب، وهذا يعني هدر طاقات، وزيادة أعباء، واستهلاك أموال وأوقات دون مقابل يذكر؛ مما يجعل العلاقات تعمل بالحدّ السالب فقط، وهو الأمر الذي يؤدي إلى الفتور والضعف، ومن أجل ذلك ينبغي أن نعي جيداً أن سر النجاح في العلاقات يكمن في مدى استثمارها، والمحافظة على عطائها بالقوة نفسها؛ لأن من المسلّمات البدهية أن الوصول إلى القمة مهم، والبقاء هناك أهم، ومعرفة أسباب البقاء في القمة هو سر النجاح بإذن الله تعالى.
--------------------------------------------------------------------------------
(1) تيسير الكريم المنان للسعدي ص (388).
(1) مختصر سيرة الرسول -صلى الله عليه وسلم -، لشيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب ص 62 ط دار الآثار.
(2) تيسير الكريم المنان ص 802 ط مؤسسة الرسالة.
((2/328)
3) عيون الأخبار لابن قتيبة الدينوري (3/40) ط دار الكتاب العربي.
(1) صحيح الجامع الصغير للألباني (3/56) رقم 3001.
(2) تفسير ابن كثير ص 981 ط مؤسسة الرسالة.
(3) مختصر صحيح مسلم للمنذري ص 374 حديث رقم 1481 ط المكتب الإسلامي.
(4) علم النفس الدعوي، د. عبد العزيز النغيمشي ص 255، ط دار المسلم.
(5) مختصر صحيح مسلم ص 493 حديث رقم 1869، ط دار الكتب.
(6) صحيح البخاري (1/60) كتاب بدء الوحي، ط شركة دار الأرقم بن الأرقم.
(7) صحيح البخاري (7/85) باب شفاعة النبي -صلى الله عليه وسلم - في زوج بريرة، حديث رقم 28، ط عالم الكتب.
(8) مختصر صحيح مسلم للمنذري ص 145، ط المكتب الإسلامي.
(1) عيون الأخبار (3/177) ط دار الكتب.
(2) عيون الأخبار (3/176) ط دار الكتب.
(3) عيون الأخبار (3/176) ط دار الكتب.
(4) (النجاح في العلاقة الإنسانية) تأليف (الوود إن نشابما) ص 11 في مقدمة الناشر.
--------------------------------------------------------------------------------
مجلة البيان، العدد (212)
* * *
http://www.albayan-magazine.com/zwaya/trbwi/61.htm
مناهجنا التعليمية.. والمنهج النبوي
نقط الاختلاف
الحسين بودميع
المتأمل في ساحتنا التربوية يرى أنها تزخر بالأبحاث النظرية في مجال التربية والتعليم، والناظر في الإمكانات المتاحة والطرق والوسائل المعتمدة يلاحظ «تقدماً» كبيراً، مقارنة مع الإمكانات التي أتيحت للمسلمين قديماً، ومع ذلك نرى أن تعليمنا يتخبط في إخفاق ذريع على جميع المستويات، ولم يحقق شيئاً من أهدافه المنتظرة منه منذ الاستقلال؛ فلا التحصيل المعرفي حاصل، ولا التقدم العلمي مُتحقق، ولا التحلي بالقيم والأخلاق الإسلامية شامل.(2/329)
وعلى العكس من ذلك؛ فقد كان التعليم في العهد النبوي والعهود الإسلامية التي تلته ناجحاً ومثمراً، مع بساطة الوسائل، وضعف الإمكانات؛ مما يبعث على التساؤل: أين يفترق تعليمنا عن التعليم النبوي: في الأهداف المسطرة، أم في المحتويات المقررة، أم في القائمين عليه تشريعاً وتنفيذاً؟ أم في كل ذلك؟
في محاولة للإجابة عن هذا التساؤل جاء هذا المقال، لأقف من خلاله على ثلاثة جوانب، أرى أنه يختلف فيها تعليمنا عن التعليم النبوي وذلك على النحو التالي:
- اختلاف تعليمنا عن التعليم النبوي على مستوى الأهداف.
- اختلافهما على مستوى المحتوى الدراسي.
- اختلافهما على مستوى القائمين عليه والمباشرين له.
1 - اختلاف تعليمنا عن التعليم النبوي على مستوى الأهداف:
ذكر الله ـ تعالى ـ في كتابه أن الناس ينقسمون من حيثُ همهم الغالب عليهم إلى قسمين:
- قسم همُّه الآخرةُ، والاستعداد لها، وإن سعى لامتلاك الدنيا فلاتخاذها مطية وجسراً للآخرة.
- وقسم ـ وهو الأغلب ـ همُّه الدنيا وملذاتها، كل تحركاته وأعماله مسخرة للحصول عليها، فقال ـ تعالى ـ: {مِنكُم مَّن يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنكُم مَّن يُرِيدُ الآخِرَةَ} [آل عمران: 152]، ومما لا شك فيه أن النبي -صلى الله عليه وسلم - وأصحابه من الصنف الأول؛ حيث كان السؤال المطروح عندهم بحدة هو (سؤال الآخرة): أي كيف أنجو وأفوز عند الله في الدار الآخرة؟
وذلك ما نلمسه في مواقف كثيرة من السيرة النبوية؛ منها على سبيل المثال:(2/330)
1 - أن أول موقف يجهر فيه النبي -صلى الله عليه وسلم - بالدعوة أعلن فيه -صلى الله عليه وسلم - عن الهدف الذي يجب أن يجعله كل داخل في الإسلام بين عينيه؛ وهو إنقاذ نفسه من النار: روى أبو هريرة ـ رضي الله عنه ـ قال: لما نزلت هذه الآية: {وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ} [الشعراء: 214]، دعا رسول الله -صلى الله عليه وسلم - فَعَمَّ وخَصَّ فقال: «يا معشر قريش! أنقذوا أنفسكم من النار، يا معشر بني كعب! أنقذوا أنفسكم من النار، يا فاطمة بنت محمد! أنقذي نفسك من النار؛ فإني والله لا أملك لكم من الله شيئاً»(1).
2 - عن سهل بن سعد الساعدي قال: كنا مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم - في الخندق وهم يحفرون، ونحن ننقل التراب على أكتادنا فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم - : «اللهم لا عيش إلا عيش الآخرة، فاغفر للأنصار والمهاجرة»(2).
3 - إلحاح كثير من الصحابة في سؤال النبي -صلى الله عليه وسلم - عن موجبات دخول الجنة؛ كما جاء في حديث معاذ ـ رضي الله عنه ـ قال: قلت: يا رسول الله! أخبرني بعمل يدخلني الجنة، ويباعدني عن النار؟ قال: «لقد سألتَ عن عظيم..»(3).
وجاء في حديث جابر بن عبد الله ـ رضي الله عنه ـ أن رجلاً سأل رسول الله -صلى الله عليه وسلم - فقال: «أرأيتَ إذا صليت المكتوبات، وصمت رمضان، وأحللت الحلال، وحرمت الحرام، ولم أزد على ذلك شيئاً، أدخل الجنة؟ قال: نعم»(4).(2/331)
4 - سؤال كثير من الصحابة النبيَّ -صلى الله عليه وسلم - الدعاء لهم بدخول الجنة: كما ورد عن الحسن أنه قال: أتت عجوز فقالت: يا رسول الله! أدع الله أن يدخلني الجنة. فقال: «يا أم فلان! إن الجنة لا تدخلها عجوز!» [قال ذلك -صلى الله عليه وسلم - يمازحها] قال: فولت تبكي، قال: «أخبروها أنها لا تدخُلها وهي عجوز، إن الله ـ تعالى ـ يقول: {إنَّا أَنشَأْنَاهُنَّ إنشَاءً * فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَارًا * عُرُبًا أَتْرَابًا * لأَصْحَابِ الْيَمِينِ} [الواقعة: 35 - 38]»(5)، وكما جاء في حديث عكاشة حينما تحدث النبي -صلى الله عليه وسلم - عن السبعين ألفاً الذين يدخلون الجنة بغير حساب؛ فقال: ادع الله أن يجعلني منهم! وقال آخر: يا رسول الله! ادع الله أن يجعلني منهم! فقال: «سبقك بها عكاشة»(6).
هكذا يتبيّن إذاً أن هَمَّ الجيل الأول هو (همُّ الآخرة)، والسؤال المطروح عندهم بإلحاح: هو: «كيف النجاة من النار، والفوز بالجنة؟» فجاء التعليم والتعلم إجابة عن هذا السؤال؛ وذلك أن الله ـ تعالى ـ يقول ـ وهو يخاطب آدم وذريته بعد إنزاله من الجنة ـ: {فَإمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَن تَبِعَ هُدَايَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} [البقرة: 38].
فجعل الأمن من عذاب الله، والفوز في الآخرة معلقاً باتباع (هدى الله)، والهدى لا يوجد إلا في الوحي، ولا يمكن اتباع تعاليم الوحي إلا بعد فهمه، ولا سبيل لفهمه إلا بالتعليم؛ لذلك حث الإسلام على طلب العلم، وجعله من أفضل القربات، بل جعله فرضاً على كل مسلم مكلف. فتبيَّن من هذا أن الهدف من التعليم والتعلم في المنهج النبوي هو الفهم والعقل عن الله لاتباع هداه، من أجل نيل رضاه.
بينما التعليم عندنا طرح كإجابة عن (سؤال الدنيا) سؤال «التقدم»: كيف الخروج من وهدة «التخلف» واللحاق بالركب «الحضاري»؟(2/332)
وذلك أن الأمة الإسلامية لما أصابها الضعف (المادي والمعنوي) لأسباب ذاتية وخارجية «تداعت عليها الأمم كما تتداعى الأكلة على قصعتها» فنهبت ثرواتها، وأضعفت سلطتها، ومزقت وحدتها، ففشا في أبنائها الفقر، والجهل، والمرض، وما يتبع ذلك من مظاهر الضعف والتخلف؛ فلما رحل المستعمر (أو رُحّل) استفاقت الشعوب الإسلامية على هوة سحيقة، تفصل بينها وبين الأمم الأخرى، فطرح السؤال السابق نفسه بإلحاح: كيف نحرز التقدم؟ وكيف نحقق التنمية؟ فكان التعليم من أبرز الأجوبة، ومن أهم السبل لتحقيق المبتغى. وفي هذا السياق نفهم كيف رُبطَ التعليم بالتنمية، وكيف شُكّلت محتوياته تبعاً لمتطلباتها.
فكان الهدف الأول من التعليم: المساهمة في تحقيق التنمية، هذا إذا تحدثنا عن الهدف العام من التعليم، وإلا فإن لكل طرف من الأطراف المتدخلة فيه هدفه الخاص به: فلكل من النظام الحاكم، والقوى الخارجية المهيمنة والهيئات الاجتماعية والأحزاب السياسية، والأسرة، والمدرس، والتلميذ... لكل واحد من هذه الأطراف هدفه الذي يسعى لتحقيقه من التعليم.
فالقوى الخارجية تتخذه معبراً لتمرير ثقافاتها إلى الشعوب، والنظام الحاكم يتخذه (معملاً) لتخريج «المواطن الصالح»، كما يفهم هو الصلاح(1)، والأحزاب السياسية تعده ميداناً ملائماً لترويج أفكارها وأيديولوجياتها. والمدرس همُّه في غالب الأحوال الحصول على راتبه الشهري، والأسرة تعتبره سبيلاً لضمان مستقبل ابنها (المادي)، والطالب يعده وسيلة للظفر بمنصب شغل.
وخلاصة القول أن أهداف قومنا من التعليم تتراوح بين نوعين من الأهداف:
أ - أهداف سياسية: يبتغي تحقيقها الساسة، وكبار القوم.
ب - أهداف مادية شخصية: وهي للمباشرين المنفذين لبرامج التعليم والمتعلمين.
2 - اختلافهما على مستوى المحتوى التعليمي: من حيث طبيعته، والأطراف المتدخلة في تشكيله(2):(2/333)
كان المحتوى الدراسي في المنهج النبوي ـ إن صح هذا التعبير ـ يعكس توجه الأمة وهويتها، ومنسجماً يخدم بعضه بعضاً، ويصب كله في اتجاه واحد هو فهم ما جاء به النبي -صلى الله عليه وسلم - من الوحيين (القرآن والسنة)، ومعرفة كيفية تنزيله والعمل به، وتبليغه.
وهكذا فقد كان النبي -صلى الله عليه وسلم - يُدارس أصحابه القرآن الكريم، ويحض على الاهتمام به حفظاً وتلاوة ودراسة.
- ويلقي عليهم أحاديثه، ويحث على حفظها وتبليغها.
- ويُكثِر من حديثهم عن الآخرة، ويصف لهم أحوال القبر وأهوال القيامة، ونعيم الجنة وعذاب النار بما يمكن وسمُه بـ «علم الآخرة».
- ويقص عليهم من قصص التاريخ، وأخبار الماضين ما فيه عبرة لهم مستغلاً المواقف التاريخية تربية وتوجيهاً.
- ويأمر بتعلم الفرائض وتعليمها. وجاء في الحديث وصف زيد بن ثابت بأنه أفرض الصحابة.
- ويأمر بتعلم الأنساب لغاية نبيلة: هي معرفة الأقارب لصلتهم؛ فقد قال -صلى الله عليه وسلم - : «تعلموا من أنسابكم ما تصلون به أرحامكم»(3).
- وأمر بعض الصحابة بتعلم بعض اللغات للتواصل مع أهلها(4)، كما روى الحاكم بسنده عن زيد بن ثابت ـ رضي الله عنه ـ قال: قال لي رسول الله -صلى الله عليه وسلم - : «أتحسن السريانية»؟ فقلت: لا، قال: «فتعلَّمْها؛ فإنه يأتينا كتُبٌ» قال فتعلمتُها في سبعة عشر يوماً»(5).
وقال ابن عبد البر: «كانت ترد على رسول الله -صلى الله عليه وسلم - كتب بالسريانية، فأمر زيد بن ثابت فتعلمها في سبعة عشر يوماً»(6).
هذا وقد كانت علوم الآلة (علوم اللغة العربية والأصول) غائبة في البرنامج التعليمي النبوي لانعدام الداعي إليها؛ إذ كان الصحابة ـ رضي الله عنهم ـ يفهمون نصوص الوحي سليقة دونما حاجة إلى علوم مساعدة.(2/334)
أما المحتوى الدراسي عندنا فيشمل خليطاً من المواد المختلفة والمتناقضة أحياناً (التربية الإسلامية ـ «التربية» الموسيقية)، وتتلون هذه المواد بتلون واختلاف نوايا وأهداف الجهات المتدخلة في تشكيل البرامج الدارسية؛ حيث إن كل جهة تلتمس موضعاً في هذه البرامج لتمرير ثقافتها وقناعاتها عبره، ومن أمثلة ذلك:
- مطالبة التيار الأمازيغي في المغرب والجزائر بإدخال «الثقافة» الأمازيغية في المناهج الدراسية الحكومية.
- ضغط صندوق النقد الدولي على الحكومات لتدريس مادة (حقوق الإنسان)، وتوسيع نطاق تدريس (اللغة الإنجليزية).
- إصرار الدول المستعمرة على أن تحتل ثقافتها حصة الأسد في المناهج الدراسية للدول المستعمرة؛ كحال فرنسا مع مستعمراتها السابقة.
وهذا الاستغلال الأيديولوجي للتعليم تركه غير ذي وجهة، وساهم في تخريج أفواج من الأجيال فاقدي المبادئ، وفاقدي الهوية.
3 - اختلاف المنهجين على مستوى المعلم والمتعلم:
اختلاف مناهجنا عن المنهج النبوي على مستوى المعلم والمتعلم أوضح من أن يُبيّن؛ حيث إن شخصية المعلم عندنا غير شخصية المعلم الأول -صلى الله عليه وسلم - : فالرسول -صلى الله عليه وسلم - بحكم موقعه نبياً ورسولاً مؤيَّداً بالوحي ومهيأً خَلْقاً وخُلقاً للتغيير: كان في أخلاقه قرآناً يمشي، يكفي المتعلم أن يشاهد أفعاله، فيتعلم منها الإسلام كاملاً، فكيف وهو يعلمهم بأقواله إلى جانب أفعاله؟ وكان ـ عليه الصلاة والسلام ـ فوق أية سلطة بشرية يمكن أن تنازعه أهدافه في التربية والتعليم. ومعارفه -صلى الله عليه وسلم - التي يلقيها لمتعلميه حقائق قطعية لا تشوبها شائبة؛ بينما المعلم عندنا إنسان عادي تعتريه كثير من النقائص في خِلقته وأخلاقه، ومعارفه وإرادته، وليست له أهداف مستقلة؛ إذ هو موظف لدى الدولة خاضع لتوجهها، بينما الرسول -صلى الله عليه وسلم - هو نفسه «رئيس الدولة».(2/335)
هذا على مستوى المعلم. أما على مستوى المتعلم فلا وجه للمقارنة فيه بين المنهجين أيضاً: فالمتعلمون في المنهج النبوي (وهم الصحابة) أفضل الأمة بعد نبيّها اختارهم الله لصحبة نبيه، ولنقل علمه إلى الأجيال اللاحقة؛ كانوا متعلمين يستشعرون مكانة التعلم في الإسلام، كانوا ينظرون إليه على أنه دين لا يعذر أحد بتركه: إن التعلم من مستلزمات دينهم الذي تعهدوا باتباعه، والقيام بمقتضياته، فكانوا أقوياء الإرادة حريصين على طلب العلم، مُجلِّين لمعلمهم ومربيهم.
في حين أن المتعلمين عندنا جلهم في منأى عن مواصفات طالب العلم؛ فلا إرادة عندهم في الطلب، ولا هَمَّ لَهُم في التحصيل، ولا ينضبطون بأخلاق المتعلم وآدابه، جل همهم: النجاح في الامتحانات، لا يرون في التعلم سوى وسيلة للظفر بمآرب مادية.
والخلاصة أن نجاح التعليم في العهد النبوي والعهود الإسلامية التي تلته له أسباب، كما أن إخفاق مشاريعنا التعليمية له أسباب:
? أسباب نجاح التعليم عند المسلمين الأوائل:
سلك المسلمون الأوائل منهج رسول الله -صلى الله عليه وسلم - وصحابته في التعليم، فآتى التعليم أُكُلَه بحق، فبنى الأفراد، وشيد الحضارة، وصنع الأمة؛ وهذا النجاح راجع ـ حسب تقديري ـ إلى أسباب منها:
1 - وضوح الأهداف وسموها، ووحدة الوجهة لدى كل الأطراف.
2 - كون التعليم ذا هوية محددة هي خدمة الأمة في دينها ودنياها.
3 - إخلاص المعلم وتواضعه لمتعلميه، وتعبده ربه بالتعليم.
4 - تفاني المتعلمين في الطلب، وتبجيلهم لمعلمهم، وتعبدهم بالتعلم.
5 - انسجام المواد التعليمية مع هوية الأمة ودين المتعلمين، بل هي من صميم عقيدتهم.
6 - التوافق الثقافي بين الحاكم والمحكومين.
7 - استقلال الأمة الإسلامية التام عن الأمم الكافرة.
? أسباب إخفاق مشاريعنا التعليمية:
أسباب إخفاق التعليم عندنا كثيرة، ومتداخلة، منها:
1 - غياب الهدف، والوجهة لدى الواضعين للبرامج التعليمية.(2/336)
2 - الاستغلال السياسي للتعليم؛ مما يؤدي إلى مفاسد كثيرة منها:
- تشكيل البرامج بما يتماشى مع أيديولوجية الحاكم، والحاكم غالباً لا يتبنى قضايا الأمة، ولا يحمل همومها.
- الإصرار على تجهيل الشعوب، حتى لا تثور على الحاكم، والعمل من ثم على أن يبقى التعليم صورياً فقط.
- تهميش الدين الذي يُصلح الأفراد، ويُحرر العقول من أسر التبعية والاستسلام.
3 - تدخُّل الدول المستعمرة في تشكيل البرامج التعليمية في الدول المستعمرة.
4 - ربط التعليم بالوظيفة.
5 - سيادة النزعة المادية: أي تغليب المطالب المادية على المطالب الفكرية والروحية؛ مما أدى إلى تراجع قيمة طالب العلم الاجتماعية، بالمقارنة مع أصحاب المال.
ففي مجتمعاتنا: إذا كان الشخص ذا مال وثروة فلا ضير أن يكون أُميّاً جاهلاً. وفي المقابل لا قيمة للشخص، وإن خصل على أعلى الدرجات العلمية ما دام عاطلاً.
7 - التباين الثقافي بين الحاكمين والمحكومين في البلدان الإسلامية، وهذا العامل لا يعود بالضرر على التعليم فقط، بل على جميع مناحي الحياة الإسلامية، بل هو ـ إن لم يجانبني الصوابُ ـ أُمّ المشاكل عند المسلمين في هذا العصر.
8 - آفة الاختلاط بين الذكور والإناث؛ مما خلق في المدرسة ظروفاً أبعد ما تكون عن ظروف الطلب
--------------------------------------------------------------------------------
مجلة البيان، العدد (88)، ذو الحجة 1415،مايو 1995 .
* * *
http://www.albayan-magazine.com/zwaya/trbwi/62.htm
القصة فن تربية النشء
علي لطفي عبد الحكيم حسين
بين دوامات الحياة، وأمواجها المتلاطمة ينشغل الآباء والمربون، ويوماً بعد يوم يصبحون أسرى أمام متطلبات الحياة وواجباتهم الاجتماعية، ورويداً رويداً تزيد الفجوة، وتتسع بين الآباء والأبناء.(2/337)
إن ظروف العصر الذي نحياه فرضت على الأبناء الكثير من الاحتكاكات، فضلاً عن الحواسيب والإنترنت، وما به من متع وفنون، وأمام هذا السيل الجارف أصبح الآباء في مأزق حقيقي: كيف يربون أطفالهم، وكيف يستحوذون على عقولهم وقلوبهم، وكيف يضمنون أن تظل تلك الفطرة داخل الطفل سليمة نقية كما خلقها الله عز وجل؟ لذلك كان لزاماً على الآباء الأم أو الأب أن يقتطع من وقته فترة يجالس أولاده، ويناقشهم، ويقص عليهم، ويجيب عن تساؤلاتهم.
هل جربت يوماً أن تصادق أولادك، وأن تبني بينك وبينهم جسوراً من الثقة والتواصل، وأن تتابعهم بين الحين والآخر لتخرج منهم المتواري، وتكتشف طاقات النبوغ والعبقرية فتنميها، وأن تتلمس جوانب الضعف والسلبية فتقومها وتنقيها، وأن تتحسس مناطق التشوش داخل نفوسهم؛ فتعيد إليها توازنها واعتدالها، هل جربت؟
?ما السبيل إلى ذلك؟
تعتبر القصة جسراً للتواصل بين الآباء والأبناء، ينفذ الأب من خلالها إلى قلوب أولاده، وإلى عقولهم فيشكلها كيفما شاء.
والقصة لون من ألوان أدب الطفل، بل هي الأكثر شيوعاً وتأثيراً؛ نظراً لما لها من تأثير، وما تحدثه من نتائج وأهداف تنعكس على سلوك الطفل وتصرفاته.
ونظراً لأهمية القصص، وتأثيرها الفعّال في النفس البشرية نرى المولى ـ عز وجل ـ يفرد سورة كاملة في القرآن الكريم يسميها سورة «القصص». ليس هذا فحسب، بل في أكثر من موضع يسوق الخالق ألواناً شتى من القصص والحكايات؛ أملاً في الهداية والإصلاح. يقول المولى ـ عز وجل ـ: {لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لأُوْلِي الأَلْبَابِ} [يوسف: 111].(2/338)
وفي موضع آخر يقول الله ـ تعالى ـ: {فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} [الأعراف: 176]. وإذا كان هذا حال القصص مع القلوب الجامدة الغليظة المنكرة لعبادة الله وحده؛ فكيف يكون حال القصص مع الأطفال الأبرياء، وفطرتهم ما زالت سليمة، وقلوبهم وعقولهم ما زالت صفحة ناصعة بيضاء؟ لا شك أنها سوف تحدث أعظم الأثر، وتؤتي أجود الثمار.
? القصة جسر الآباء إلى الأبناء:
لا شك أن القصة من أنجح الوسائل للوصول إلى قلب الطفل، ولا يعادلها في ذلك أي رسالة إعلامية أخرى، ولا أي وسيلة من الوسائل؛ فقد يستحوذ الأب أو الأم على قلب الطفل من خلال هدية جميلة، أو مبلغ من النقود، ولكن سرعان ما يزول أثر تلك الهدية بمجرد اعتيادها، أو قدمها، أو بمجرد صرف النقود، أو .... ولكن أثر القصة يبقى في عقل الطفل ووجدانه، يحيا بين أبطالها، وينسج لنفسه خيالات واسعة بين أحداثها، وفي هذا الصدد يقول الدكتور (علي أحمد مدكور) عميد كلية التربية والعلوم الإسلامية: «إن الطفل يستمع بشغف إلى القصة الجميلة يسردها له أبوه، أو جدته، ويطرب أشد الطرب لذلك، وهذا يدل على أن الطفل يستجيب لألوان الأدب، خاصة القصة!»(1).
ولِمَ لا، ونحن نلحظ أن الأطفال يتهافتون على آبائهم وأمهاتهم ليحكوا لهم قصة أو حكاية، وقد يسرعون إلى إنجاز واجباتهم ودروسهم على أتم وجه؛ أملاً في أن يفوزوا بحكاية جميلة، أو قصة خلابة؟!
? طرق ومعايير عرض القصة:
القصة ليست مجرد أفكار يتم نقلها للطفل بأسلوب آلي، وإنما حكاية القصة لا بد أن تخضع لمعايير تربوية وفنية، حتى تحدث الأثر المطلوب في نفس الطفل.
? أولاً: المعايير الفنية لعرض القصة:
1 ـ التهيئة وحسن الاستهلال:(2/339)
تخضع القصة كأي رسالة إعلامية لعدة معايير ينبغي توافرها في طرفي عملية الاتصال «المرسل والمستقبل» فينبغي على الأب أن يكون متهيئاً لحكاية القصة، مرحاً بشوشاً متفرغاً؛ لذلك لا يلقيها على مضض وكره؛ وكأنه يقوم بعمل آلي؛ حيث إن هذا الشعور يتسرب إلى نفس الطفل؛ فتفقد العملية الاتصالية الهدف المرجو منها.
وما ينطبق على الآباء ينطبق على الأطفال؛ فلا بد أن يكون الطفل مهيأ لتلقي القصة لا مرغماً عليها، ولا منشغلاً بشيء غيرها، كما أنه لا بد أن يسبق حكاية القصة حسن استهلال من قبيل التسمية، وذكر الله، والصلاة على النبي -صلى الله عليه وسلم - ، وبعض عبارات المديح والإطراء لموضوع القصة، حتى تنفرج أسارير الطفل، ويستمع بشغف لما يلقيه عليه والده من قصص.
2 ـ الترتيب المنطقي للأحداث:
قد يعتقد الآباء أن الطفل بعقله الصغير من الممكن أن يُستدرَج، ومن ثم يسرح بعقله، ويسرد عليه أبوه أحداثاً بعيدة عن المنطق، وغير ممكنة الوقوع، أو يلقي عليه أحداثاً غير مرتبة ترتيباً منطقياً، كما يحدث في الواقع، وهنا قد يفقد الطفل الثقة في والده، ولا يعيره أي اهتمام، وإنما ينبغي على الأب أو الأم أن يرتب أحداث القصة ترتيباً منطقياً، وألا يشطح بخياله بعيداً عن الواقع، وأن يتدرج في التصاعد الدرامي للأحداث، حتى يصل إلى الذروة في نهاية القصة.
3 ـ تقديم أبطال القصة في صورة واضحة:
ولكي تؤدي القصة دورها في نفس الطفل، ويخرج منها بالنتيجة المرجوة فإنه يجب على الأب أن يقدم أبطال القصة في صورة واضحة المعالم والتفاصيل؛ بحيث يسهل على الطفل المتابعة، وحتى لا يتوه بين طيات الأحداث.
4 ـ وضع نهاية مناسبة للقصة:(2/340)
يراعى أثناء الحكاية ألا يلمّح الأب أو الأم بنهاية القصة؛ وذلك حتى لا تفتر همة الطفل في المتابعة، وحتى نترك للطفل أن يُعمل عقله وخياله، وفي نهاية القصة يلمح الأب بذكاء إلى أطفاله أن القصة أوشكت على النهاية، ويحاول أن يستنطقهم في النهاية المتوقعة. وهنا لا بد من وضع نهاية مناسبة للأحداث بدون مبالغة أو تحريف.
? ثانياً: المعايير التربوية لعرض القصة:
1 ـ الاهتمام والتأهب:
يلاحظ الآباء والأمهات أن الأطفال قبل حكاية القصة يكونون مشدودين ومتأهبين للاستماع أكثر من أي شيء آخر؛ ولذلك كان لزاماً على الأب أو الأم أن يكونا على المستوى نفسه من الاهتمام والتأهب أثناء حكاية القصة؛ وذلك حتى لا تحدث فجوة بين مستقبِل متأهب ومهتم، وبين مرسِل فاتر وغير مكترث، وحتى لا تفقد عملية الاتصال أهم خصائصها؛ وهي الحميمية والتفاعل والتجاوب المشترك، ولكن يجب أن يتم ذلك بغير افتعال، أو تكلف حتى لا تكون الأحداث في وادٍ، وطريقة العرض في وادٍ آخر.
2 ـ التعبير الجسدي أثناء القص:
ينبغي على الأب أو الأم أثناء حكاية القصة أن ينقلوا الأحداث بطبيعتها؛ فمثلاً عندما يحدث موقف إيجابي في القصة فعلى الأب أن يظهر علامات السرور والفرح على وجهه، وإذا حدث موقف سلبي؛ فعلى الأب أن يرسم علامات الحزن والرفض على تقاسيم وجهه، وأن ينهج المنهج نفسه في الأحداث التي تتطلب الانفعال، أو الدهشة، أو الاستنكار، ويراعي أن يتم ذلك بتلقائية شديدة بعيداً عن المبالغة والافتعال.
3 ـ التوافق مع المستوى الاجتماعي:(2/341)
الطفل يتكيف مع واقعه الذي يحيا فيه، ويتمنى في أبطال القصة أن يشاركوه ظروفه وأحواله، كما يتمنى أن يشاركهم ظروفهم وأحوالهم؛ لذلك يجب على الأب أن يراعي ذلك البُعد، وألا يحكي عن أبطال في أبراج عاجية، حتى لا يترك أولاده في صراع نفسي بين واقعهم وواقع أبطال القصة؛ فقد يكون الأب متوسط الحال من الناحية المادية؛ فينبغي ألا يحكي عن أبطال يتفوقون عن هذا المستوى، حتى لا يفاجَأ بأحد أطفاله يسأله: لماذا لا نكون مثلهم يا أبي؟ هل أنت مقصر معنا؟
4 ـ مراعاة المرحلة العمرية للطفل:
ينبغي أن يكون مضمون القصة وطريقة معالجتها مناسباً لسن الطفل؛ بحيث يفهم أبعادها، ويتجاوب مع مضمونها، وخاصة أن مرحلة الطفولة مرحلة مليئة بالصراعات، وفي هذا الصدد يقول الدكتور (السيد البهنسي) رئيس قسم الإعلام التربوي ـ جامعة عين شمس بالقاهرة: «الطفل يحتاج إلى مخاطبة خاصة بلغته الفريدة، خاصة في مرحلته العمرية التي تموج بالمتغيرات الحادة المتلاحقة، وتحتاج إلى جهد خاص لمعالجتها، حتى لا يحدث لدى الطفل أي تشويش أو خلط نفسي»(1).
5 ـ نهاية القصة في صالح الخير:
إذا كان من الواجب أن ينتصر الحق والخير في عالم الواقع؛ فالأوْلى أن ينتصر الحق ويعلو أكثر وأكثر في عالم الخيال؛ حيث يشارك الطفل أبطال القصة، ويتمنى أن يحذو حذوهم، ويؤكد هذا المعنى الدكتور (صابر عبد المنعم) مدرس المناهج وطرق التدريس جامعة القاهرة بقوله: «إن أحداث القصة تؤثر في نفس الطفل من خلال المشاركة الوجدانية، عندما يتابع حركة الأشخاص في القصة، ويتفاعل معهم؛ حيث يضع نفسه مكان أبطال القصة على طول الخط؛ فإن كانوا في مواقف السمو والإيجابية تمنى لو كان في موقفهم، وإن كانوا في مواطن التدني والكراهية حمد الله أنه ليس منهم»(2).
? ماذا نقصُّ لهم؟(2/342)
تموج المكتبات، ووسائل الإعلام، وشبكة الإنترنت بآلاف القصص، منها ما هو في الأصل عربي، ومنها ما هو مترجم من لغات أخرى إلى العربية، وأمام هذا السيل الجارف من القصص والجبال العالية من الحكايات يقف الآباء والمربون حيارى، كيف يختارون، وأي شيء سيقصون على أبنائهم؟
بداية نقول: إن القصص والحكايات تتنوع في شكلها، ومضمونها حسب السن المستهدفة، وحسب الهدف أو المغزى منها؛ فنرى أن الحكاية تأخذ شكل القصة البسيطة من نسج خيال الأب أو الأم أو الجدة؛ لينام عليها الأطفال، وتتدرج تلك الحكاية، حتى تصل إلى القصة مكتملة البناء والأركان.
? الأبناء مسؤولية في أعناق الآباء:
انطلاقاً من قول الرسول -صلى الله عليه وسلم - : «كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته»؛ فإن المسؤولية على الآباء تصبح جد عظيمة، وعلى الراعي أن يتوخى الحذر، وينأى بأطفاله عن مواطن الذئاب؛ فعوامل الهدم صارت كثيرة؛ فالشارع يهدم، والصحف والمجلات تهدم، والتلفزيون يهدم، وأُخطبوط الإنترنت أكثر هدماً.
وأمام هذه المعاول الهدامة لا بد أن يقيم الآباء والمربون سدوداً منيعة، وحوائط آمنة يُكتنَف بداخلها الأبناء، حتى يشقوا طريقهم على منهج الإسلام القويم. يقول المولى ـ عز وجل ـ: {إنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُوْلَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولاً} [الإسراء: 36] أمام هذه المسؤولية، وتلك الأمانة فلتنظر أيها الأب أي شيء ستُسمع أبناءك، وأي شيء ستريهم، وأي شيء ستلقيه في قلوبهم وتجعله يعلق بأفئدتهم؟
? المضمون والخطر الثقافي:(2/343)
عند انتقاء القصة أو الحكاية لا بد أن يطلع المربي عليها جيداً، وأن يعي مضمونها؛ فالأعمال الوافدة في معظمها تمثل ثقافات لمجتمعات تموج بالانحلال، وتنتهج ثقافات تدعو إلى العنف وازدراء الضعيف، فضلاً على أنها تدعو إلى فوضى الأخلاق؛ حيث ينعدم وازع الدين والضمير، وهذا لا ينطبق على الأعمال الوافدة فحسب، بل إن من بني جلدتنا من يشيع تلك الأعمال الهدامة، ويعرضها على أولادنا عن قصد أو بدون قصد، وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً.
إن مضمون القصة لا بد أن يكون نابعاً من إيمان راسخ بالله ـ عز وجل ـ وبرسوله الكريم -صلى الله عليه وسلم - ؛ ولا بد أن يحكم ذلك المضمون مجموعة من القيم الإسلامية التي تدعو إلى السمو، والرفعة، والتسامح، والرقي بسلوك الأفراد، وأن يتمتع أبطال القصة بالفضيلة والسلوك الحسن؛ حيث ينعكس ذلك الجو على سلوك الأفراد، وتوجهاتهم ومنهجهم في الحياة.
? لدينا أحسن القصص:
يخاطب المولى ـ عز وجل ـ الرسول -صلى الله عليه وسلم - بقوله: {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ وَإن كُنتَ مِن قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ} [يوسف: 3].
لقد وصف المولى ـ عز وجل ـ القصص القرآني، (خاصة قصة يوسف) أنها أحسن القصص، وهو كذلك حقاً من حيث جمال العرض، ودقة الحدث، وبلاغة اللفظ وصدق المضمون وسمو التوجه، وروعة الإخراج، وبهذا استحق أن يكون أحسن القصص:
من هذا المنطلق فإن كل قصص نقصه على أبنائنا لا بد أن يخضع لتلك المعايير، وأن يحذو هذا الحذو، وأن ينهج المنهج نفسه؛ فقصص الأطفال لا بد أن يتسم بالموضوعية، ويتحلى بالصدق، وأن ينمي لدى الطفل القيم النبيلة والأخلاق الحسنة، وأن يسمو بوجدان الطفل وجوارحه، حتى ينشأ محباً للحق والعدل والخير، وحتى يحيا على الإحسان والتسامح.
? فنون القصة:
1 ـ القصة إقرار بالعبودية وتوحيد الخالق:(2/344)
أعظم شيء نبثه في نفوس أولادنا توحيد الخالق، وإفراده بالألوهية، وهنا يتخير الأب القصة التي تسير على هذا النهج، أو ينسج من خياله ما يبرز هذا المعنى، ويوضحه في نفوس الأطفال.
2 ـ القصة موعظة حسنة:
من خلال القصة يستطيع الأب أن ينفذ إلى قلوب أطفاله، وأن ينثر عليهم أكاليل الوعظ، والإرشاد بأسلوب تلقائي غير مباشر، بعيداً عن الافتعال، فيأسر الأولاد، ويستحوذ على قلوبهم؛ فيلقي فيها ما يشاء من عظات حسنة، وقيم نبيلة: كالبر والإحسان، والصدق، والرحمة، والمحبة، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، والمروءة والنبل، والكرم، وغيرها من قيم الإسلام السمحة.
3 - القصة استنهاض للهمم:
من خلال القصة يستطيع الأب بكل ذكاء أن يستعيد ذكريات الماضي، وأمجاد الإسلام؛ فيستطيع أن يقص كل يوم قصة عن بطولة من بطولات الإسلام، وموقف من موقف الصحابة والتابعين الكرام، ويستطيع الوالد من خلال اطلاعه، ومعارفه في كتب السيرة النبوية، وتراجم الصحابة أن يلخص موقفاً معيناً، ويقصه على أبنائه، حتى ينشؤوا على حب التضحية والفداء، وكيف عانى المجاهدون الأولون في سبيل رفعة الدين، وإعلاء كلمة الله.
4 ـ القصة معلم لغوي:
إن من أعظم المسؤوليات التي تُلقى على عاتق الآباء هي مسؤولية تعليم اللغة العربية، وحفظها من الاعوجاج والإسفاف، ومن خلال القصة، ومن خلال طريقة العرض يستطيع الأب أن يلقي في نفوس أولاده جمال اللفظ، وروعة التعبير، وسحر الكلمة؛ فينشأ الأولاد محبين للغة معتزين بتعلمها.
5 ـ القصة فن الإجابة على الأسئلة المحرجة:(2/345)
كثيراً ما يتعرض الآباء لأسئلة محرجة من قِبَل الأبناء، وعندها نجد المربين في ارتباك، وقلق أمام أطفالهم، ولا يعلمون بما يجيبون عن أسئلتهم، إما جهلاً وإما حياءً. وفي فترة الطفولة تكثر الأسئلة، وتتوالى الاستفسارات، حتى إن خبراء التربية يسمون تلك الفترة بـ (فترة السؤال)، ومن خلال القصة المحايدة يستطيع الأب أن يجيب عن أسئلة كثيرة مسبقاً بكل ذكاء، وبكل موضوعية بعيداً عن الحرج.
إن أهداف القصص كثيرة وثمارها متنوعة تضيق المساحات عن الإلمام بها، ولكن هذا يتطلب من الآباء والمربين حسن الانتقاء، وجودة المضمون، وجمال الشكل والعرض، وإن لم يتيسر لهم ذلك؛ فبإمكانهم أن يجهدوا أنفسهم مدة يسيرة كل يوم، يطَّلعون فيها على أمهات الكتب الإسلامية، ويلخصون منها موقفاً معيناً، أو يلقون الضوء على موضوع ما، ثم يضعونه في شكل قصة، أو حكاية، ملتزمين بالمعايير الفنية والتربوية التي ذكرناها سالفاً، متوخين الحذر أشد الحذر في طريقة العرض، أو الإلقاء، ويوماً بعد يوم ستنشأ جسور الصداقة والألفة بين الآباء والأبناء، وسيُقبلون بشغف على التعلم والمعرفة، فيحيون في كنف العقيدة، وفي ذكريات الماضي، وبطولات الأبرار؛ فتقوى بذلك العزائم، وتُستنهَض الهمم، وتضاء العقول، وتصفو الأنفس، أملاً في بعث جيل جديد يعيد للإسلام أمجاده.
--------------------------------------------------------------------------------
(*) متخصص في إعلام الطفل.
(1) انظر: موسوعة سفير لتربية الأبناء، 1/23، دراسة بعنوان: «أدب الأطفال في التصور الإسلامي».
(1) انظر: موسوعة سفير لتربية الأبناء، 1/ 45، دراسة بعنوان: «التلفزيون الحاضن».
(2) انظر: موسوعة سفير لتربية الأبناء، 1/ 66، دراسة بعنوان: «القصة في التدريس».
--------------------------------------------------------------------------------
مجلة البيان، العدد (88)، ذو الحجة 1415،مايو 1995 .(2/346)
* * *
http://www.albayan-magazine.com/zwaya/trbwi/63.htm
دموع على أسوار قبرص
د. حمدي شعيب
«لما فُتِحَت قبرص، فُرِّقَ بين أهلها، فبكى بعضهم إلى بعض، فرأيتُ أبا الدرداء جالساً وحده يبكي.
فقلت: يا أبا الدرداء ما يُبكيك في يومٍ أعزَ اللهُ فيه الإسلام وأهله؟
فقال: ويحك يا جُبَيْر! ما أهونَ الخلق على اللهِ ـ عز وجل ـ إذا أضاعوا أمره، بينما هي أمةٌ قاهرة ظاهرة لهم الملك، تركوا أمرَ اللهِ فصاروا إلى ما ترى»(1).
حادثة غريبة رواها عبد الرحمن بن جبير بن نفير عن والده رضي الله عنهما، وهو يستغرب موقف أبي الدرداء ـ رضي الله عنه ـ الباكي الوحيد، ويستغرب تفاعل مشاعره المناقضة لمعظم مشاعر من حضروا فتح قبرص.
وهو الموقف الذي يذكرنا بموقف مؤمن آل فرعون، عندما وقف وحده، لينصح قومه المعرضين عن رسالة موسى ـ عليه السلام ـ إليهم، لعلهم يفيقون ولا يغترون وينخدعون بحاضر ينذر بمستقبلٍ مغاير: {يَا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظَاهِرِينَ فِي الأَرْضِ فَمَن يَنصُرُنَا مِنْ بَأْسِ اللَّهِ إن جَاءَنَا} [غافر: 29].
ثم كانت فراسته التي تدل على عمق دراسته للتاريخ البشري؛ إذا تأملنا تحذيره: {يَا قَوْمِ إنِّي أَخَافُ عَلَيْكُم مِّثْلَ يَوْمِ الأَحْزَابِ} [غافر: 30].
وهو نفس شعور وتخوُّف خبير الفتن حذيفة ـ رضي الله عنه ـ عندما خالف غيره؛ ووقف وحده، ولم يسأل عن الخير؛ بل سأل -صلى الله عليه وسلم - عن أسباب الشر والفتن مخافة تداول الأيام، فتدركه وتهدد أمته.
عن أَبي إِدْرِيس الْخَوْلَانِي أَنَّهُ سَمِعَ حُذَيْفَةَ بْنَ الْيَمَانِ يَقُولُ: «كَانَ النَّاسُ يَسْأَلُونَ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم - عَنِ الخَيْرِ وَكُنْتُ أَسْأَلُهُ عَنِ الشَّرِّ مَخَافَةَ أَنْ يُدْرِكَنِي.(2/347)
فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! إنَّا كُنَّا فِي جَاهِلِيَّةٍ وَشَرٍّ فَجَاءَنَا اللَّهُ بِهَذَا الْخَيْرِ فَهَلْ بَعْدَ هَذَا الخَيْرِ مِنْ شَرٍّ؟
قَال:َ نَعَمْ!
قُلْتُ: وَهَلْ بَعْدَ ذَلِكَ الشَّرِّ مِنْ خَيْرٍ؟
قَالَ: نَعَمْ! وَفِيهِ دَخَنٌ.
قُلْتُ: وَمَا دَخَنُهُ؟
قَالَ: قَوْمٌ يَهْدُونَ بِغَيْرِ هَدْيِي تَعْرِفُ مِنْهُمْ وَتُنْكِرُ.
قُلْتُ: فَهَلْ بَعْدَ ذَلِكَ الْخَيْرِ مِنْ شَرٍّ؟
قَالَ: نَعَمْ! دُعَاةٌ إلَى أَبْوَابِ جَهَنَّمَ مَنْ أَجَابَهُمْ إلَيْهَا قَذَفُوهُ فِيهَا.
قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! صِفْهُمْ لَنَا!
فَقَالَ: هُمْ مِنْ جِلْدَتِنَا وَيَتَكَلَّمُونَ بِأَلْسِنَتِنَا.
قُلْتُ: فَمَا تَأْمُرُنِي إنْ أَدْرَكَنِي ذَلِكَ؟
قَالَ: تَلْزَمُ جَمَاعَةَ الْمُسْلِمِينَ وَإمَامَهُمْ.
قُلْتُ: فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ جَمَاعَةٌ وَلَا إمَامٌ؟
قَالَ: فَاعْتَزِلْ تِلْكَ الْفِرَقَ كُلَّهَا وَلَوْ أَنْ تَعَضَّ بِأَصْلِ شَجَرَةٍ حَتَّى يُدْرِكَكَ الْمَوْتُ وَأَنْتَ عَلَى ذَلِكَ»(2).
ولا تستغرب رهبة حذيفة ـ رضوان الله عليه ـ وقلقه من خطر تداول الأيام! إذا تدبرت ذلك التحذير من خطر المداولة؛ والذي جاء في سياق خطاب معلمه -صلى الله عليه وسلم - ، وهو يحاور مندوب قريش؛ عتبة بن ربيعة، أثناء الجلسة التفاوضية، فأنذرهم: {فَإنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِّثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ} [فصلت: 13].(2/348)
وهي كذلك؛ رؤية الرجل المؤمن في حواره مع صاحبه الكافر؛ وتدبر أهم وأبرز مفردات خطابه الديني الهادئ الراقي: {وَلَوْلا إذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ اللَّهُ لا قُوَّةَ إلاَّ بِاللَّهِ إن تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنكَ مَالاً وَوَلَدًا * فَعَسَى رَبِّي أَن يُؤْتِيَنِي خَيْرًا مِّن جَنَّتِكَ وَيُرْسِلَ عَلَيْهَا حُسْبَانًا مِّنَ السَّمَاءِ فَتُصْبِحَ صَعِيدًا زَلَقًا * أَوْ يُصْبِحَ مَاؤُهَا غَوْرًا فَلَن تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَبًا * وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَى مَا أَنفَقَ فِيهَا وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَدًا}[الكهف: 39 - 42].
ولقد ارتكزت أهم نقطتين في هذا الخطاب الديني الرائد على قاعدة فقه الرجل المؤمن لسننه ـ سبحانه ـ الإلهية:
فالنقطة الأولى: تبين فقهه لسنة الله في بطر النعمة وتغييرها، أو قانون النعم وتغييرها، أو الرؤية الإسلامية للتعامل مع النعم:
لقد «أرشد الرجل المؤمن صاحبه الكافر، وهو يحاوره إلى التصرف اللائق الصحيح، الذي يشكر فيه ربه، ويعمل على دوام نعمة الله عليه. وطالبه بأن يلجأ إلى الله، وأن يعلِّق الأمر على مشيئته، ويجعله مرهوناً بقدرته، وأن يستمد قوته من قوة الله سبحانه»(1).
وهي رؤية خطاب التيار الإسلامي نفسها، في كل عصر؛ الذي يعبر عن رؤية أمة، اكتسبت خيريتها من الخروج إلى الناس، كل الناس، لتقودهم إلى خَيْرَي الدنيا والآخرة،؛ أمراً بالمعروف، ونهياً عن المنكر، منطلقة من قاعدتها الإيمانية، ولتكون شهيدة عليهم: {كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} [آل عمران: 110].(2/349)
النقطة الثانية: تبين فقهه للسنن الإلهية في الذنوب؛ والظلم، والطغاة، والابتلاء؛ وهي القوانين الربانية التي من ثمار فقهها ومعرفتها؛ الرؤية العميقة لقراءة مصير الأمم والجماعات والمؤسسات والأفراد.
وتدبر كيف ختم الرجل المؤمن حواره الهادئ، محذراً صاحبه من الخطر القادم من قِبَلِهِ سبحانه؛ ذلك الخطر الذي يأتي دوماً نتيجة لمقدمات معروفة، وحصاد لأسباب معلومة: {وَيُرْسِلَ عَلَيْهَا حُسْبَانًا مِّنَ السَّمَاءِ فَتُصْبِحَ صَعِيدًا زَلَقًا * أَوْ يُصْبِحَ مَاؤُهَا غَوْرًا فَلَن تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَبًا} [الكهف: 40 - 41].
هكذا ختم حواره، بنبره تحذير وإنذار، معلناً في ثقة: إن الله عز وجل المعز المذل، قادر على أن يوكلك إلى سبب عزتك وبطرك وغرورك، ولن ينفعك عندما يرسل ما لم تحسب له حساباً؛ إن الله قادر على أن يهلك جنتيك ويدمرهما. فتوقع يا صاحبي صاعقة مدمرة، تدمر جنتيك، وتزيل ما فيهما، فتصبح كل واحدة منهما تراباً أملس أجرد. أو توقع أن يذهب النهر الذي بين الجنتين، وأن يغور في باطن الأرض بأمره سبحانه، ولن تستطيع أن تعيده!
وهي نظرة مستقبلية استشرافية، لا يدَّعي فيها الرجل المؤمن علمه بالغيب، ولكنها مبنية على قراءة تاريخية ماضوية، واستقراءٍ لحاضر تشهد مسبباته بالمصير المستقبلي المتوقع.
فلمسنا كم كانت دراية ووعي الرجل المؤمن، بكل شهود التاريخ البشري، وبكل سنن الله ـ عز وجل ـ الإلهية في الأنفس أي في عالم الأحياء؛ وهي السنن الإلهية الاجتماعية، وفي الآفاق أي في عالم المادة؛ وهي السنن الإلهية الكونية.
وتوقع لصاحبه الكافر مصيراً، يفسره ويدركه كل من فقه السنن الإلهية المختلفة؛ والتي تعين على قراءة المستقبل من خلال استقراء الحاضر.
? فراسة يصنعها فقه حضاري:
ولو تدبرنا المواقف الراقية لهؤلاء الرواد العظام؛ لوجدنا الكثير من الملامح التربوية الطيبة:(2/350)
1 - قليلٌ هم أولئك الذين يفكرون عكس التيار؛ فيقرؤون المستقبل المغاير للحاضر، فيكون تفاعلهم مع الأحداث مختلفاً عن غيرهم.
2 - قليلٌ هم كذلك الذين يفقهون سننه سبحانه الإلهية؛ لأن هذا الفقه يهبه الله لمن يستجيب لندائه ـ سبحانه ـ: {أَوَ لَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ كَانُوا مِن قَبْلِهِمْ}
[غافر: 21].
أي يقرؤون التاريخ فيتدبرون عوامل سقوط ونهوض الحضارات والأمم والمؤسسات بل الأفراد.
وعندما نقول إنهم فقهوا السنن الإلهية، فإننا نقصد أنهم عرفوا القوانين الربانية، والقواعد الإلهية الثابتة، وهي التي تؤدي إلى نتائج معينة، لوجود أسباب بشرية وزمانية ومكانية معينة، انطبقت عليها هذه القوانين الإلهية فكان الجزاء أو النتيجة من جنس السبب أو العمل.
وهذه السنن الإلهية تتميز بسمات ثلاث هي: العموم، والثبات، والاطراد أي التكرار إن وجدت الظروف البشرية والمكانية والزمانية.
ونذكر أن السنن الإلهية هي:
أولاً: سنن إلهية كونية تنظم عالم المادة في الآفاق.
ثانياً: سنن إلهية اجتماعية تنظم عالم الأحياء أو الأنفس خاصة البشر.
والقسم الثاني هو الذي يهمنا؛ وهو ما يعرف بالفقه الحضاري.
وهو الفقه الذي يستمد مادته من قراءة التاريخ، ومن التدبر في القصص القرآني.
فكل حدث تاريخي أو بشري فردي أم جماعي، إنما له أسباب أوجدته.
وهذه الأسباب أوجدت خللاً.
وهذا الخلل أوجب العقاب الإلهي، أو الجزاء.
وهذا العقاب أو الجزاء تحكمه قوانين؛ تُعرف بالسنن الإلهية الاجتماعية.
والمعادلة أو القانون أو سلسلة تتابع هذه السنة الإلهية هي كما يلي:
(أسباب تعود إلى العبد ، خلل تربوي ، عقاب إلهي على هيئة جزاء من جنس العمل).(2/351)
3 - ومن هذه السنن الإلهية الاجتماعية التي فقهها هؤلاء الرواد (سنة الله في الأسباب والمسببات؛ أو قانون السببية: {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى * وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى * وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى * وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى} [الليل: 5 - 10].
ومنها سنة الله في الفتنة، أو قانون الابتلاء: {إنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الأَرْضِ زِينَةً لَّهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً} [الكهف: 7].
ومنها سنة الله في الظلم والظالمين، أو قانون الظلم: {وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِن قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُوا} [يونس: 13].
ومنها سنة الله في الطغيان والطغاة، أو قانون الطغاة: {الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلادِ * فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ * فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ * إنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ} [الفجر: 11 - 14].
ومنها سنة الله في بطر النعمة وتغييرها؛ أو قانون النعم وتغييرها: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِّعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ} [الأنفال: 53].
ومنها سنة الله في الذنوب والسيئات؛ أو قانون الذنوب والسيئات: {فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ} [الأنفال: 52].
ومنها سنة الله في الاستدراج؛ أو قانون الاستدراج: {فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُم بَغْتَةً فَإذَا هُم مُّبْلِسُونَ * فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الأنعام: 44 - 45](1).(2/352)
ومنها أيضاً: سنة المدافعة أو قانون التدافع الحضاري: {وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ الأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ} [البقرة: 251].
وهو القانون الإلهي أو السنة الإلهية التي تفرز الأصوب والأبقى والأصلح في كل شيء؛ سواء كانت أفكاراً أو آراء أو أفراداً أو أمماً، فإذا توقفت تلك العملية التدافعية الحضارية المختلفة الصور لكان الفساد؛ وهذا من فضله ـ سبحانه ـ من أجل ديمومة واستمرارية العملية الاستخلافية الإعمارية في الأرض.
ومنها سنة المداولة أو قانون التداول الحضاري: {وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ} [آل عمران: 140].
وكذلك سنة أو قانون الاستبدال: {وَإن تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ} [محمد: 38].
4 - الفراسة الإيمانية إنما تستمد من واقع الخبرة، والدراسة العميقة للفقه الحضاري.
وهؤلاء الرواد كانت لهم خبرة ودراية بعوامل السقوط والنهوض والتداول؛ فلم يغرهم الحاضر، وقرؤوا الأسباب الحاضرة المؤدية للمستقبل المغاير؛ فأنذروا قومهم لعلهم يحذرون أو يرجعون.
وتدبر هذا البكاء المر والعجيب لأبي الدرداء رضي الله عنه!
وتذكر خوف ورهبة حذيفة رضوان الله عليه!
وتذكر، أيضاً، عرضه -صلى الله عليه وسلم - ، لصفحات معينة من ملفات عاد وثمود التاريخية!
وتأمل أيضاً فقرة الختام في حوار الرجل المؤمن، وهو يرسم صورة دقيقة لمصير الرجل الكافر، والتي صدَّقتها حوادث القصة بعدها، ولهذا تعتبر أخطر ركائز الخطاب الديني، في كل عصر، بل وتُعتبر حجر الزاوية.(2/353)
تلك الركيزة التي تفسر لنا أن من بعض أسرار وأسباب وصف المؤمن بالفراسة، وأنه يرى بنور الله سبحانه؛ ذلك لأنه يفقه سننه ـ سبحانه ـ الإلهية؛ ومن خلال هذا الفقه فإنه يستطيع أن يمتلك الرؤية المستقبلية الاستشرافية؛ وذلك باستقراء حوادث الماضي، ومن خلال فقه الواقع والأسباب الحاضرة.
5 - المؤمن، والمؤمن وحده؛ يحتكر (ظاهرة الأنس الكوني)؛ وهي سمة التناسق والتوافق والتعاون والأنس مع الوجود.
ويستشعر جنديته، وجندية جميع الخلائق، بل الوجود كله للخالق سبحانه.
ويشعر المؤمن أنه والوجود، والوجود كله عبارة عن ستار لقدر الله؛ يتم بهم على الأرض قدر الله وحركة السنن الإلهية، وأنه كأحد الخلائق التي يجري بهم الخالق سبحانه سننه وأقداره، وبحركتهم تتم العملية التغييرية.
وتدبر كيف أن الرجل المؤمن، قد أخبر صاحبه أن السماء وكذلك الأرض، ستشاركان في عملية التغيير والهدم لملكه!
وتأمل كلماته -صلى الله عليه وسلم - ، وهو يستقرئ المستقبل والمصير؛ عندما يتم قدر الله بقوم عاد ثمود المارقين عن لحن الوجود المؤمن، على يد الصواعق؛ وكأنها جند رباني تنفذِّ سننه سبحانه.
أما غيرُ المؤمن؛ فإنه يتعامى عن هذه الرؤية؛ لأنه ينتسب إلى تيارٍ، قد وصفه ـ سبحانه ـ بعدم الفقه؛ أي بعدم فقه سننه ـ سبحانه ـ في الكون والحياة: {بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَفْقَهُونَ} [الأنفال: 65].
? شهداء على عصرهم وأممهم:
ولو حاولنا ربط مواقف هؤلاء الرواد؛ لوجدنا سمات عامة تجمع خطابهم، سواء من الجانب التربوي أو الإداري؛ فمنها:
1 - الفراسة الإيمانية أو (الرؤية المستقبلية).
2 - الرؤية البصيرة المميزة للأشخاص والأشياء والأحداث (مهارة التحليل).
3 - القدرة على الحوار، وقوة الحجة والمنطق أو (مهارة التفاوض والاتصال).
4 - الثبات على المبدأ، أو (الشجاعة الأدبية).
5 - الدراية بالواقع وأخباره، أو (مهارة إدارة المعلومات).
6 - المبادرة، أو (الإيجابية).(2/354)
7 - حب الخير، أو (نظرية اربح وربِّح، أي التوازن في العلاقات والإنجاز).
8 - الدراية بالتاريخ وأحداثه، أو (الفقه الحضاري).
9 - الرجولة، وتحمل تبعات الموقف، أو (القيادية).
وهذه السمات كلها تندرج تحت معنى شامل لها؛ وهي صفة الرائد الذي لا يكذب أهله.
ونقصد بهذه السمات؛ أنها ركائز شخصية الشهيد؛ الذي يتحمل تبعات مقام الشهادة على الواقع وأحداثه وأشخاصه وأشيائه، كما تحدث عنها القرآن الكريم.
ولقد صدق كل منهم في شهادته، وصدَّقه الحق سبحانه.
لذا يمكننا اعتبار كل منهم شاهداً على عصره.
وتأمل كيف ذكرت صفة (الشهيد)، و (مقام الشهادة) في السياق القرآني؛ في موقف يوم القيامة عندما يبعث الحق ـ سبحانه ـ من كل أمة شهيداً عليها، وهو رسول كل أمة: {فَكَيْفَ إذَا جِئْنَا مِن كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيدًا}
[النساء: 41].
فإن المؤمن أيضاً من هذه الأمة القوّامة الراشدة، يستشعر أنه مُكرَّم من قِبَل الحق ـ سبحانه ـ بوضعه في المكانة الرائدة؛ بجعله من الشهداء على الناس: {وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ} [الحج: 78]. فالرسول -صلى الله عليه وسلم - يشهد على هذه الأمة، ويحدد نهجها واتجاهها، ويقرر صوابها وخطأها، وهي تشهد على الناس بمثل هذا، فهي القوّامة على البشرية بعد نبيها؛ وهي الوصية على الناس بموازين شريعتها، وتربيتها وفكرتها عن الكون والحياة. ولن تكون كذلك إلا وهي أمينة على منهجها العريق المتصل الوشائج، المختار من الله. ولقد ظلت هذه الأمة وصية على البشرية طالما استمسكت بذلك المنهج الإلهي وطبقته في حياتها الواقعية؛ حتى إذا انحرفت عنه، وتخلت عن تكاليفه، ردها الله عن مكان القيادة إلى مكان التابع في ذيل القافلة. وما تزال. ولن تزال حتى تعود إلى هذا الأمر الذي اجتباها له الله)(1).(2/355)
ولهذا فإن حملة التيار الديني، يجب أن يستشعروا دورهم القيادي الريادي، وتبعاته الشاقة؛ لأنهم يمثلون الأمة التي جعلها الله من الشهداء على الناس؛ وذلك بشرط الالتزام بالمنهج والجهاد في سبيله.
? المدمرات ... المغيّرات ... الساحقات ... الماحقات:
وسنختزل قضية فقه السنن الإلهية، أو قضية الفقه الحضاري، من خلال المنظور التربوي، إلى قضية هذه الدراسة المتواضعة؛ وهي فقه سنة الله في الذنوب والسيئات، أو قانون الذنوب والسيئات: {فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ} [الأنفال: 52].
حتى نتبين آثار الذنوب والسيئات على الفرد والمؤسسات والجماعات والأمم.
وقد تكون المحصلة النهائية واحدة، وهي التغيير والتدمير سواء على المستوى الفردي أو الجماعي.
وسنخلص إلى حقيقة ثابتة؛ هي: أن الذنوب مغيِّرات للنعم والخيرات، مدمرات للفرد والمجتمعات، ساحقات للحضارات، وماحقات للبركات، سوس الحضارات.
أما على المستوى الجماعي، أي على مستوى الجماعات والمؤسسات والأمم؛ فإن الذنوب ما هي إلا قوارض أو سوس ينخر في عظام الحضارات، حتى يسقطها.
ويؤيد ذلك الكثير من الشواهد القرآنية والنبوية والتاريخية والواقعية.
والشواهد القرآنية؛ تعلمنا الخطوات المنهجية لدراسة الفقه الحضاري:
1 - وتبدأ الخطوة الأولى: فيأمرنا ـ سبحانه ـ بقراءة التاريخ البشري، والتدبر العميق في ناموسية التغيير الحضاري:
{قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ} [آل عمران: 137].
{قُلْ سِيرُوا فِي الأَرْضِ ثُمَّ انظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ}
[الأنعام: 11].
2 - ويقرر ـ سبحانه ـ أن الذنوب والمعاصي هي سبب عملية التغيير الحضاري:
«{(2/356)
أَوَ لَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ كَانُوا مِن قَبْلِهِمْ كَانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَآثَارًا فِي الأَرْضِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَمَا كَانَ لَهُم مِّنَ اللَّهِ مِن وَاقٍ} [غافر: 21]، يقول - تعالى -: {أَوَ لَمْ يَسِيرُوا} هؤلاء المكذبون برسالتك يا محمد {فِي الأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ كَانُوا مِن قَبْلِهِمْ} أي من الأمم المكذبة بالأنبياء ـ عليهم الصلاة والسلام ـ ما حل بهم من العذاب والنكال مع أنهم كانوا أشد من هؤلاء قوة {وَآثَارًا فِي الأَرْضِ} أي أثروا في الأرض من البنايات والمعالم والديارات ما لا يقدر هؤلاء عليه كما قال ـ عز وجل ـ: {وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيمَا إن مَّكَّنَّاكُمْ فِيهِ} [الأحقاف: 26]، وقال ـ تعالى ـ: {وَأَثَارُوا الأَرْضَ وَعَمَرُوهَا أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا} [الروم: 9] أي مع هذه القوة العظيمة والبأس الشديد أخذهم الله بذنوبهم وهي كفرهم برسلهم {وَمَا كَانَ لَهُم مِّنَ اللَّهِ مِن وَاقٍ} أي وما دفع عنهم عذاب الله أحد ولا رده، عنهم راد ولا وقاهم واق، ثم ذكر علة أخذه إياهم وذنوبهم التي ارتكبوها واجترموها»(1).
3 - ويخبرنا ـ سبحانه ـ أن الكوارث والزلازل، إنما تأتي نتيجة لِمَا اقترفته أيدي البشر، لعلهم يدركون هذه السنة الإلهية الاجتماعية؛ وهي سنة الله في الذنوب والسيئات؛ أو قانون الذنوب والسيئات، فيرجعون ويتوبون: {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُم بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [الروم: 41].
4 - ثم يبين الحق ـ سبحانه ـ كيف تتم عملية التغيير والتبديل الحضاري، وكيف تعمل ناموسية التاريخ في الأمم؟!
وتدبر كيف تحدث عملية التسوس الحضاري، وكيف تهلك الذنوب أصحابها؟!(2/357)
وتأمل أيضاً؛ كيف تعمل السنن الإلهية الثابتة العامة والمتكررة؟!
{أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَبْلِهِم مِّن قَرْنٍ مَّكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ مَا لَمْ نُمَكِّن لَّكُمْ وَأَرْسَلْنَا السَّمَاءَ عَلَيْهِم مِّدْرَارًا وَجَعَلْنَا الأَنْهَارَ تَجْرِي مِن تَحْتِهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُم بِذُنُوبِهِمْ وَأَنشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْنًا آخَرِينَ} [الأنعام: 6].
{أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَبْلِهِم مِّن قَرْنٍ مَّكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ مَا لَمْ نُمَكِّن لَّكُمْ}، أي من الأموال والأولاد والأعمار والجاه العريض والسعة والجنود؛ ولهذا قال: {وَأَرْسَلْنَا السَّمَاءَ عَلَيْهِم مِّدْرَارًا} أي شيئاً بعد شيء {وَجَعَلْنَا الأَنْهَارَ تَجْرِي مِن تَحْتِهِمْ} أي كثَّرنا عليهم أمطار السماء وينابيع الأرض أي استدراجاً وإملاءً لهم {فَأَهْلَكْنَاهُم بِذُنُوبِهِمْ} أي بخطاياهم وسيئاتهم التي اجترموها {وَأَنشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْنًا آخَرِينَ} أي فذهب الأولون كأمسٍ الذاهب وجعلناهم أحاديث {وَأَنشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْنًا آخَرِينَ} أي جيلاً آخر لنختبرهم، فعملوا مثل أعمالهم فأُهلكوا كإهلاكهم؛ فاحذروا أيها المخاطَبون أن يصيبكم مثل ما أصابهم؛ فما أنتم بأعز على الله منهم»(2).
وهكذا تسير سلسلة التغيير:
قانون الابتلاء ، نعم ربانية ، بطر إنساني ، قانون السببية ، قانون النعم ، قانون الاستدراج ، قانون الذنوب والسيئات + قانون الظلم + قانون الطغاة + قانون الاستبدال + قانون التداول الحضاري ، قانون التدافع الحضاري.
? الأَكَلَة:
أما على المستوى الفردي؛ فإن الذنوب تسبب خللاً في توازن التركيبة الثلاثية للإنسان التي هي: البدن، والعقل، والروح.
وتبدأ الذنوب عملها في الجانب الروحي، فتؤدي إلى حدوث تصدعات روحية وشروخ نفسية.
وهذه التصدعات والشروخ قسمان:(2/358)
القسم الأول: التصدعات الظاهرة: وهي الآثار المعلومة، وهي كثيرة؛ فمنها:
1 - الذنوب سبب المصائب:
{أَوَ لَمَّا أَصَابَتْكُم مُّصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُم مِّثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنفُسِكُمْ إنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [آل عمران: 165].
{وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ}[الشورى: 30].
2 - الذنوب تضعف مقاومة الشيطان:
{إنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ إنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ}[آل عمران: 155].
3 - المحقرات ... المهلكات!
وصغار الذنوب لها آثارها التراكمية المهلكة: «إياكم ومحقرات الذنوب، فإنهن يجتمعن على الرجل حتى يهلكنه، وإن رسول الله -صلى الله عليه وسلم - ضرب لهن مثلاً وكمثل القوم نزلوا أرض فلاة، فحضر صنيع القوم، فجعل الرجل ينطلق فيجيء بالعود، والرجل يجيء بالبعرة، حتى جمعوا سواداً وأججوا النار، وأنضجوا ما قذفوا فيها»(3).
وتكون النتيجة سقوطاً في حبائل (سلسلة الذنوب) وحلقاتها المتتابعة التي تبدأ بذنب، يتبعه ذنب، ثم يتبعه آخر، حتى يؤدي إلى تغطية القلب بالران، والذي ينتج حجاباً مهلكاً، والعياذ بالله: {كَلاَّ بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِم مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ * كَلاَّ إنَّهُمْ عَن رَّبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّمَحْجُوبُونَ} [المطففين: 14 - 15].
4 - ثمانية العجز ... ورباعية الابتلاءات:
«فالذنب إما أن يميت القلب، أو يمرضه مرضاً مخوفاً، أو يضعف قوته ولا بد، حتى ينتهي ضعفه إلى الأشياء الثمانية التي استعاذ منها النبي -صلى الله عليه وسلم - ؛ وهي: «الهم والحزن، والعجز والكسل، والجبن والبخل، وضلع الدين وغلبة الرجال».
وكل أثنين منها قرينان:(2/359)
فالهم والحزن قرينان؛ فإن المكروه الوارد على القلب إن كان من أمر مستقبل يتوقعه أحدث الهم. وإن كان من أمر ماض قد وقع أحدث الحزن.
والعجز والكسل قرينان؛ فإن تخلف العبد عن أسباب الخير والفلاح، إن كان لعدم قدرته فهو العجز، وإن كان لعدم إرادته فهو الكسل.
والجبن والبخل قرينان؛ فإن عدم النفع منه إن كان ببدنه فهو الجبن، وإن كان بماله فهو البخل.
وضلع الدين وقهر الرجال قرينان؛ فإن استعلاء ـ أي استيلاء ـ الغير عليه إن كان بحق فهو من ضلع الدين، وإن كان بباطل فهو قهر الرجال.
والمقصود أن الذنوب من أقوى الأسباب الجالبة لهذه الثمانية، كما أنها من أقوى الأسباب الجالبة: «لجهد البلاء، ودرك الشقاء، وسوء القضاء، وشماتة الأعداء».
ومن أقوى الأسباب الجالبة لزوال نعم الله، وتحوَّل عافيته إلى نقمته، وتجلب جمع سخطه»(1).
5 - ناسفات الجبال:
وهناك من الذنوب ما لها القدرة على نسف جبال من الحسنات؛ وهي التي تتم بعيداً عن أعين الناس.
عَنْ ثَوْبَانَ عَنِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم - أَنَّهُ قَال:َ لَأَعْلَمَنَّ أَقْوَامًا مِنْ أُمَّتِي يَأْتُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِحَسَنَاتٍ أَمْثَالِ جِبَالِ تِهَامَةَ بِيضًا فَيَجْعَلُهَا اللَّهُ ـ عَزَّ وَجَلَّ ـ هَبَاءً مَنْثُورًا. قَالَ ثَوْبَانُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! صِفْهُمْ لَنَا جَلِّهِمْ لَنَا أَنْ لَا نَكُونَ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَا نَعْلَمُ! قَالَ: أَمَا إنَّهُمْ إخْوَانُكُمْ وَمِنْ جِلْدَتِكُمْ وَيَأْخُذُونَ مِنَ اللَّيْلِ كَمَا تَأْخُذُونَ وَلَكِنَّهُمْ أَقْوَامٌ إذَا خَلَوْا بِمَحَارِمِ اللَّهِ انْتَهَكُوهَا»(2).
وما تجرؤوا على هذا إلا أنهم {يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إذْ يُبَيِّتُونَ مَا لا يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطًا} [النساء: 108].(2/360)
و «هذا إنكار على المنافقين في كونهم يستخفون بقبائحهم من الناس لئلا ينكروا عليهم، ويجاهرون الله بها؛ لأنه مطلع على سرائرهم وعالم بما في ضمائرهم، ولهذا قال: {وَهُوَ مَعَهُمْ إذْ يُبَيِّتُونَ مَا لا يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطًا}. تهديد لهم ووعيد)(3).
القسم الثاني: التصدعات الباطنة:
وهي الآثار النفسية الخفية، والروحية الباطنة.
حيث تعمل الذنوب عملها في تركيبة الإنسان الثلاثية دون استشعار العبد لها، خاصة الجانب الروحي؛ فتؤدي إلى حدوث تآكلات روحية، وكأنها قوارض أو آكلة.
وينتج عن ذلك ظاهرة اعتلالية تربوية وروحية؛ تسمى (ظاهرة التآكل الروحي).
1 - فما معنى ظاهرة التآكل الروحي؟
وهي ظاهرة تنشأ من خلل في التوازن التربوي بين طاقات العبد الثلاثة، وهي: طاقة العقل، وطاقة البدن، وطاقة الروح. حيث يقل حظ الجانب الروحي في أعمال العبد، مثل التفريط في بعض الفرائض، وغيرها من أعمال اليوم والليلة من السنن، مثل الذكر والدعاء والاستغفار، وتلاوة القرآن.
وينشأ نوع من الخلل أو الانفصام المركب:
أولاً: داخلياً يستشعر العبد قسوةً وجفاء مع نفسه.
ثانياً: خارجياً يستشعر العبد قسوةً وجفاءً مع الوجود كله.
والنتيجة هي الشعور بأن النفس والوجود يتنكران له؛ فما هي بالنفس، وما هو بالوجود الذي يعرفهما.
وبمعنى آخر؛ هي الظاهرة التي تبحث في حالة صدأ القلب، أو حالة الجفاء الروحي، التي يستشعرها العبد المؤمن، عندما يقصر في طاعته سبحانه؛ فلا يستشعر للعبادة حلاوة، ولا للطاعة لذة، ويقاسي ألم البعد عنه عز وجل، ويتحول هذا إلى شعور بوحدة قاسية، ومسافات شاسعة، وحواجز نفسية تفصل بينه وبين الخلائق، خاصة الصالحين.(2/361)
ويسير في الأرض ـ والعياذ بالله ـ كالحيران الذي تتقاذفه عوامل الجذب في كل اتجاه، ويصبح كحلبة يلتقي عليها المتصارعون؛ أو يكون نقطة التقاء للصراع عليه بين استهواء وإغواء شياطين الإنس والجن، وبين رفقة الخير من الدعاة المصلحين: {كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الأَرْضِ حَيْرَانَ لَهُ أَصْحَابٌ يَدْعُونَهُ إلَى الْهُدَى ائْتِنَا قُلْ إنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [الأنعام: 71].
ويمتد هذا الشعور بغياب لذة الطاعة وألم البعد عنه ـ سبحانه ـ إلى حالة من غياب الرغبة في الحياة عموماً، وضياع اللذة في المعيشة في الدنيا، ثم فوق ذلك؛ استشعار خيبة الأمل في النجاة في الآخرة: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى} [طه: 124].
وهو تحذير إلهي، لكل من «خالف أمري وما أنزلته على رسولي، أعرض عنه وتناساه وأخذ من غيره هداه؛ فإن له معيشة ضنكاً؛ أي ضنك في الدنيا فلا طمأنينة له ولا انشراح لصدره، بل صدره ضيق حرج لضلاله؛ وإن تنعم ظاهره ولبس ما شاء وأكل ما شاء وسكن حيث شاء، فإن قلبه ما لم يخلص إلى اليقين والهدى؛ فهو في قلق وحيرة وشك؛ فلا يزال في ريبة يتردد؛ فهذا من ضنك المعيشة. عن أبي سعيد في قوله {مَعِيشَةً ضَنكًا} قال: يضيق عليه قبره حتى تختلف أضلاعه فيه. وقال عكرمة: عَمِيَ عليه كل شيء إلا جهنم، ويحتمل أن يكون المراد أنه يُبعث أو يحشر إلى النار أعمى البصر والبصيرة»(4).
وهذا الشعور ما هو إلا نتيجة لعقاب الله ـ عز وجل ـ للعاصي والمسرف المقصر في طاعته سبحانه.
2 - هل ظاهرة التآكل الروحي سنة إلهية؟(2/362)
وعندما نقول إنها سنة إلهية، فإننا نقصد أن هذه الظاهرة هي محصلة لفعل قوانين ربانية، وقواعد إلهية ثابتة، أو هي نتيجة لوجود أسباب بشرية وزمانية ومكانية انطبقت عليها القوانين الإلهية فكان الجزاء في صورة تلك الظاهرة.
إذن هذا الجفاء الروحي نتيجة لخلل ترتب على وجود أسباب بشرية من فعل العبد.
وعندما نقول إن ظاهرة التآكل الروحي سنة إلهية اجتماعية؛ فإننا نقصد أنها من القوانين الربانية والقواعد الإلهية المنظمة لعالم الأحياء، أو الأنفس، وخاصةً البشر.
أي أن لها أسباباً أوجدتها.
وهذه الأسباب أوجدت خللاً.
وهذا الخلل أوجب العقاب الإلهي؛ أو الجزاء.
وهذا العقاب تحكمه قوانين؛ تعرف بالسنن الإلهية الاجتماعية.
والأسباب أو الظروف البشرية هنا هي التقصير بكل درجاته.
والنتيجة المترتبة هي حالة القسوة القلبية والانفصال عن المنظومة الكونية العابدة.
والمعادلة أو القانون أو سلسلة تتابع هذه السنة الإلهية؛ هي كما يلي:
(أسباب تعود إلى العبد ، خلل تربوي ، عقاب إلهي على هيئة جزاء من جنس العمل).
وبمعنى أبسط: هذه الظاهرة، أو هذا الشعور ما هو إلا نتيجة لعقاب الله ـ عز وجل ـ للعاصي والمسرف المقصر في طاعته سبحانه.
أي إذا قصر العبد في طاعته ـ سبحانه ـ فإنه يترتب على ذلك خلل داخل العبد مع نفسه، وخارجه؛ أي مع المجتمع ومع الوجود العابد لربه، وهنا تأتي السنة الإلهية في هيئة عقاب من نفس نوع الأسباب التي عملها العبد؛ أي يزيده بعداً وجفاءً مع نفسه ومع الوجود من حوله.
وتدبر هذا الحوار بين العبد وربه؛ فلقد تساءل العبد ما جرمه وما سبب هذا العقاب، وكانت الإجابة منه ـ عز وجل ـ حيث يبين الحق سبحانه هذا القانون القرآني العام، أو السنة الإلهية الاجتماعية التي تنطبق على كل من أسرف في الذنوب، وقصر في الطاعة.
«(2/363)
ولهذا يقول: {رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيرًا } [طه: 125]؛ أي في الدنيا. {قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى} [طه: 126]؛ أي لما أعرضت عن آيات الله وعاملتها معاملة من لم يذكرها بعد بلاغها إليك تناسيتها وأعرضت عنها وأغفلتها؛ كذلك اليوم نعاملك معاملة من ينساك {فَالْيَوْمَ نَنسَاهُمْ كَمَا نَسُوا لِقَاءَ يَوْمِهِمْ هَذَا} [الأعراف: 51]؛ فإن الجزاء من جنس العمل»(1).
ثم يبين الحق ـ سبحانه ـ هذا القانون القرآني العام، أو السنة الإلهية الاجتماعية؛ والتي تنطبق على كل من أسرف في غيه وكذب بآياته سبحانه:
{وَكَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِآيَاتِ رَبِّهِ وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى} [طه: 127].
«يقول ـ تعالى ـ: وهكذا نجازي المسرفين المكذبين بآيات الله في الدنيا والآخرة. لهم عذاب في الحياة الدنيا {وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أَشَقُّ وَمَا لَهُم مِّنَ اللَّهِ مِن وَاقٍ} [الرعد: 34]، ولهذا قال: {وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى}؛ أي أشد ألماً من عذاب الدنيا وأدوم عليهم؛ فهم مخلدون فيه، ولهذا قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم - للمتلاعنين: «إن عذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة»(2).
وللمزيد من تحليل هذه الظاهرة؛ من حيث الأعراض العامة والخاصة، وكذلك سبل العلاج؛ والتي منها العام ومنها الخاص؛ فتراجع (ظاهرة التآكل الروحي) عند المسلمين عامة، وعند الدعاة خاصة(3).
? حذارِ ... من المثيرات ... والقوادح!
وأخيراً؛ إذا كانت السنن الإلهية ما هي إلا سلسلة أو متوالية من التفاعلات يحكمها قانون رباني ثابت وعام ومتكرر إن وجدت ظروفه البشرية والمكانية والزمانية، وكأنها معادلة كيمائية تحتاج إلى ظروف معينة وعامل مساعد؛ يحركها أو يقدح شرارة التفاعل.(2/364)
فعلى العبد دوماً أن يخشى أي عامل إثارة يقدح زناد معادلات القوانين الربانية؛ فتعمل عملها فيه كفرد وفي مؤسسته التي ينتمي إليها، ثم في أمته.
وهذه تسمى أيضاً مثيرات السنن الإلهية.
وتسمى أيضاً قوادح السنن الإلهية.
وإذا كانت الدموع المرة التي سكبها أبو الدرداء ـ رضي الله عنه ـ عند أسوار قبرص في يوم من أيام الله؛ وذلك لخشيته من خطر الذنوب على الفرد والأمم؛ كان برؤيته هذه ينبه إلى أخطر قادح أو مثير من مثيرات السنن؛ ألا وهي الذنوب.
فإن أفتك ما يتعرض له العبد والأمم أيضاً؛ من مثيرات للسنن الإلهية بعد الذنوب؛ هي سهام الليل التي يرسلها المظلومون.
لذا ينبغي للعبد ألا يعرض نفسه لهذه الأنات المكبوتة:
ألا أقولُ لشخصٍ قد تَقَوَّى على ضعفي ولم يخشَ رقيبَهْ
خبأتُ له سهاماً في الليالي وأرجو أن تكونَ له مصيبَهْ
--------------------------------------------------------------------------------
(*) عضو رابطة الأدب الإسلامي العالمية.
(1) رواه أحمد في المسند وانظر البداية والنهاية، 10/229. تحقيق د. عبد الله التركي.
(2) رواه البخاري، رقم 3338.
(1) مع قصص السابقين في القرآن، د. صلاح الخالدي، طبعة دار القلم، دمشق، 2/ 140.
(1) السنن الإلهية في الأمم والجماعات والأفراد في الشريعة الإسلامية، د. عبد الكريم زيدان، طبعة مؤسسة الرسالة، 21 - 235 بتصرف.
(1) في ظلال القرآن، سيد قطب، 17/2446.
(1) تفسير القرآن العظيم، ابن كثير، تفسير سورة غافر، الآية 21.
(2) تفسير القرآن العظيم، ابن كثير، تفسير سورة الأنعام، الآية 6.
(3) رواه البخاري، كتاب الرقائق باب 32، أحمد، 1/402، وابن ماجه، كتاب الزهد، باب 29، الدارمي، كتاب الرقائق، باب 17.
(1) الجواب الكافي لمن سأل عن الدواء الشافي، ابن القيم، المطبعة السلفية، الطبعة الثالثة، 1400هـ، 84 - 85.
(2) سنن ابن ماجه، كتاب الزهد، 4235.
((2/365)
3) تفسير القرآن العظيم، ابن كثير، تفسير آية النساء، 108.
(4) تفسير القرآن العظيم، ابن كثير، تفسير سورة طه الآية 124 بتصرف.
(1) تفسير القرآن العظيم، ابن كثير، تفسير آيتي سورة طه، 125 - 126.
(2) تفسير القرآن العظيم، ابن كثير، تفسير سورة طه الآية 127.
(3) فقه الظواهر الدعوية في ضوء السنن الإلهية، ظاهرة التآكل الروحي، الدكتور حمدي شعيب.
--------------------------------------------------------------------------------
مجلة البيان، العدد (88)، ذو الحجة 1415،مايو 1995 .
* * *
http://www.albayan-magazine.com/zwaya/trbwi/64.htm
العبودية لغير الله ،حقيقتها ـ صورها ـ أساليب دفعها
عبد المجيد بن عبد الرحمن باحص
عندما يكون هناك من يقيد حركة المرء بقيود الاستعباد، وعندما يضيق الحصار على الحرية يصبح للحياة آنذاك وجه آخر يعجز عن وصفه من أدرك وقائعها وعاش لحظاتها.. إنها العبودية الشنعاء(1) أي العبودية لغير الله ـ تعالى ـ التي تكبل بقيودها الإنسان لتجعله عبداً ذليلاً، فتحرمه الانطلاق الحر على وجه هذه البسيطه ليتفاعل مع مكنوناتها وينتج ما يخدم أمته ودينه.
وذل الاستعباد لم يعرف طعمه إلا من ذاق مرارته، ولم يشعر بشناعته إلا من رآه بأم عينيه؛ فهو داء يشل حركة المرء الروحية، ويقعد العامل عن العمل ـ إن استمر في ذلك ـ فلن يُزال الاستعباد حتى يتخلص منه المرء.
وعندما أتى ذاك القبطي إلى عمر الفاروق يشتكي الظلم أدرك عمر ـ رضي الله عنه ـ أن الاستعباد لن يصلح الدولة الإسلامية ولن يرفع شأنها وأمجادها، بل إن في حصول ذلك مضرة عظيمة على جميع أفراد الدولة الاسلامية ومصالحهم؛ فما كان منه إلا أن قام باستئصال ذلك فعلياً ليرسخ مبدأ أن ليس لأحد حق الاستعباد وإن ملك ما ملك، وأطلق كلمته العظيمة مخاطباً عمرو بن العاص: «متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً؟».
علمت أن وراء الضعف مقدرة(2/366)
وأن للحق لا للقوة الغلبا
ولأهمية الموضوع فقد وضعته في نقاط سائلاً المولى أن ينفع بها.
? أولاً: لمن الحق في العبودية؟
قال ـ تعالى ـ: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإنسَ إلاَّ لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56]، والعبودية من أعظم ما يُصرَف لله؛ إذ إنها لا تكون إلا لله وحده، فإنه ـ سبحانه ـ لم يخلق البشر والخلق أجمعين إلا لعبادته والإذعان بالعبودية له. قال ابن تيمية ـ رحمه الله ـ: «والعبد كلما كان أذل لله وأعظم افتقاراً إليه وخضوعاً له كان أقرب إليه وأعز له وأعظم لقدره؛ فأسعد الخلق أعظمهم عبودية لله»(2)؛ لأن في ذلك سعادتهم في الآخرة قبل الدنيا، فيتوجه المرء بحسه وإحساسه نحو خالقه ورازقه، فيدعوه ويتوسل إليه ويلجأ ويلتجئ إليه؛ لأنه لا ملجأ ولا منجا منه إلا إليه، لأن العبد يحتاج إلى معبوده في كل حين. يقول ابن القيم ـ رحمه الله ـ: «فاعلم أن حاجة العبد إلى أن يعبد الله وحده لا يشرك به شيئاً في محبته، ولا في خوفه، ولا في رجائه، ولا في التوكل عليه، ولا في العمل له ولا في الحلف به، ولا في النذر له، ولا في الخضوع له، ولا في التذلل والتعظيم والسجود والتقرب، أعظم من حاجة الجسد إلى روحه والعين إلى نورها، بل ليس لهذه الحاجة نظير تقاس به»(3).
والعبودية هي روح العبد الحقيقية، فلا تُصرف إلا لله؛ لأن في صرفها لغير الله حصول مضرة وفساد «.. ومن عبد غيره وأحبه ـ وإن حصل له نوع من اللذه والمودة، والسكون إليه، والفرح، والسرور بوجوده ـ ففساده به ومضرته وعطبه أعظم من فساد أكل الطعام المسموم اللذيذ، الشهي، الذي هو عذب في مبدئه عذاب في نهايته»(1)، ولن نبلغ الكمال المنشود حتى تكمل العبودية لدينا و «أكمل الخلق أكملهم عبودية».
? ثانياً: من صور الاستعباد:
للاستبعاد صور عديدة من أهمها:
أولاً: الاستعباد الباطني: من الناحية القلبية:(2/367)
القلب أعظم ما يمتلك المرء؛ إذ إنه ملك الجوارح وسيدها المطاع وهو موجه الأوامر؛ ولذا فإن من أخطر أنواع الاستعباد أن يُستعبد قلب المرء. قال شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله ـ: «إن أسر القلب أعظم من أسر البدن واستعباد القلب أعظم من استعباد البدن؛ فإن من استُعبد بدنه واستُرق لا يبالي إذا كان قلبه مستريحاً من ذلك مطمئناً، بل يمكنه الاحتيال في الخلاص. وأما إذا كان القلب الذي هو الملك رقيقاً مستعبداً متيماً لغير الله فهذا هو الذل والأسر المحض والعبودية لما استعبد القلب»(2)؛ فمن الأمور التي يستعبد بها قلب المرء:
1 - العشق والتعلق:
وهذا من أخطر الأمراض على العبد ومن أشدها عبودية؛ فهو عدو الصحة، وشلل الدعوة، وتوقف الحزم، وتبلد العقل، وطريق الشيطان؛ فالعاشق لا تجد لذكر الله محلاً بقلبه؛ إذ إنه أصبح متعلقاً بغيره، ولا تجد لبصيرة قلبه مسلكاً؛ لأن الهوى قد غلفها بظلامه، فهو يعيش ـ وإن رأيته حراً ـ أسير شهوته وقيد عشقه، فتراه عبداً ذليلاً لمعشوقه، لا يكاد يقاوم لهفة نفسه عند ذكره؛ فهو مستعبد داخلياً مُذلل خارجياً. قال ابن القيم ـ رحمه الله ـ: «المحب بمن أحب قتيل، وهو له عبد خاضع ذليل، إن دعاه لبَّاه، وإن قيل له: ما تتمنى؟ فهو غاية ما يتمناه، لا يأنس، ولا يسكن إلا سواه»(3). وما أشنع من منظر رأته عيناك من منظر ذاك العاشق الولهان الذي ضاع عمره القصير في تفاهة أمر كان بإمكانه التخلص منه. قال ابن تيمية ـ رحمه الله ـ: «قيل: العشق هو فساد الإدراك، والتخيل والمعرفة؛ فإن العاشق يخيل له المعشوق على خلاف ما هو به، حتى يصيبه ما يصيبه من داء العشق، ولو أدركه على الوجه الصحيح لم يبلغ إلى حد العشق وإن حصل له محبة وعلاقة»(4).(2/368)
والعشق يحصل به من الأمور ما لا يحصل في غيره، ولذا قال ابن تيمية ـ رحمه الله ـ: «عشاق الصور من أعظم الناس عذاباً، وأقلهم ثواباً؛ فإن العاشق لصورة إذا بقي قلبه متعلقاً بها مستعبَداً لها اجتمعت له من أنواع الشر والفساد ما لا يحصيه إلا رب العباد»(5)، وذكر ذلك ابن القيم ـ رحمه الله ـ فقال: «عشق الصور المحرمة نوع تعبُّد لها، بل هو من أعلى أنواع التعبد ولا سيما إذا استولى على القلب وتمكن منه صار تتيُّماً، والتتيُّم التعبد، فيصير العاشق عابداً لمعشوقه»(6).
قال ابن أبي حصينة:
والعشق يجتذب النفوس إلى الردى بالطبع، واحَسَدي لمن لم يعشقِ
وقال آخر:
العشق مشغلة عن كل صالحة وسكرة العشق تنفي لذة الوسنِ
ولو أخذنا جوانب العشق كاملة لطال المقام ولكثر الكلام(7). وقانا الله وإياكم شر العشق وشر كل سبيل موصل إليه.
2 - حب الدنيا والاغترار بها:(2/369)
لم يدخل حب الدنيا في قلب امرئ إلا سلبه لبه، وأفقده بذله للآخرة؛ فهي دار غرور وبلاء، وفتنة وشقاء، فيبدأ المرء بالتنازلات السريعة عن مبادئه وعن تقاليده حتى يبلغ ذلك دينه والعياذ بالله، «وأعظم الخلق غروراً من اغتر بالدنيا وعاجلها فآثرها على الآخرة ورضي بها من الآخرة»(8)، وكما قيل في بعض المأثورات: «الدنيا مال من لا مال له، ودار من لا دار له، ولها يجمع من لا عقل له»، ولا يمكن لعاقل لبيب أن ينخدع بدار زوال عما قليل فانية؛ فعقله الحكيم يبصِّره بعواقب الأمور، وضميره المتيقظ يوقظه من غفلة هذه الدنيا. ويبين لنا الرب ـ جل وعلا ـ مَثَل الحياة الدنيا فيقول ـ عزوجل ـ: {إنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالأَنْعَامُ حَتَّى إذَا أَخَذَتِ الأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلاً أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَن لَّمْ تَغْنَ بِالأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} [يونس: 24]، يقول الشيخ عبد الرحمن السعدي في تفسير هذه الآية: «وهذا المثل من أحسن الأمثلة، وهو مطابق لحالة الدنيا؛ فإن لذَّاتها وشهواتها وجاهها ونحو ذلك يزهو لصاحبه إن زها وقتاً قصيراً؛ فإذا استكمل وتم اضمحل، وزال عن صاحبه، فأصبح صفر اليدين منها، ممتلئ القلب من همها وحزنها وحسرتها»(9).(2/370)
ولأن هذه الدنيا دار غرور، ولأنها دار التنافس الدنيوي الدنيء ـ ذي النهاية المعروفة ـ فقد حذرنا منها نبينا -صلى الله عليه وسلم - ، بل كانت من الأمور التي يخاف منها على أمته؛ ففي الصحيحين عن عقبة بن عامر أن النبي -صلى الله عليه وسلم - خرج يوماً، فصلى على أهل أُحُد صلاته على الميت، ثم انصرف إلى المنبر، فقال: «إني فَرَطٌ لكم، وأنا شهيد عليكم، وإني والله لأنظر إلى حوضي الآن، وإني أُعطيت مفاتيح خزائن الأرض ـ أو مفاتيح الأرض ـ وإني والله ما أخاف عليكم أن تشركوا بعدي، ولكني أخاف عليكم أن تتنافسوا فيها».
ورحم الله الشافعي حين قال:
ومن يذق الدنيا فإني طعمتها وسيق إليَّ عذبها وعذابها
فما هي إلا جيفة مستحيلة عليها كلاب همهن اجتذابها
فإن تجتنبها كنت سلماً لأهلها وإن تجتذبها نازعتك كلابها
3 - حب المال والجاه:(2/371)
حب المال وحب الجاه من الأمور التي تستعبد قلب المرء؛ فهي كالغشاوة التي تحجب الرؤية المبصرة، فتراه لاهثاً خلفها، مجتهداً في الحصول عليها. إن اللاهث خلف المال والجاه يعمى بصره، فيقطع الأرحام من أجل المال والجاه، ويهتك الأرحام من أجل المال والجاه، ويتعامل بالمعاملات الربوية من أجل المال والجاه. يقول ابن تيمية ـ رحمه الله ـ: «لا ريب أن الحرص والرغبة في الحياة الدنيا وفي الدار الدنيا من المال والسلطان مضر؛ كما روى الترمذي عن كعب بن مالك قال: قال رسول الله: «ما ذئبان جائعان أرسلا في زريبة غنم بأفسد لها من حرص المرء على المال والشرف لدينه» قال الترمذي: حديث حسن صحيح. فذم النبي -صلى الله عليه وسلم - الحرص على المال والشرف، وهو الرياسة والسلطان، وأخبر أن ذلك يفسد الدين مثل أو فوق إفساد الذئبين الجائعين لزريبة الغنم، وهذا دليل على أن هذا الحرص إنما ذم؛ لأنه يفسد الدين الذي هو الإيمان والعمل والصالح؛ فكان ترك هذا الحرص لصالح العمل، وهذان هما المذكوران في قوله ـ تعالى ـ:{مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ * هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ} [الحاقة: 28 - 29]، وهما اللذان ذكرهما الله فى سورة القصص، حيث افتتحها بأمر فرعون وذكر علوه في الأرض، وهو الرياسة والشرف والسلطان، ثم ذكر في آخرها قارون وما أوتيه من الأموال، وذكر عاقبة سلطان هذا وعاقبة مال هذا، ثم قال: {تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الأَرْضِ وَلا فَسَادًا} [القصص: 83] كحال فرعون وقارون؛ فإن جمع الأموال من غير إنفاقها في مواضعها المأمور بها، وأخذها من غير وجهها هو من نوع الفساد»(1). وما من شك في أن حب المال عندما يطغى على قلب المرء يصبح أسيره؛ فلا يرى معروفاً ولا منكراً، فتصبح كل الأمور لديه واحدة، والأهم في نظره هو جمع المال فقط وتحصيله من أي مصدر سواء كان حلالاً أم حراماً.(2/372)
ويصور لنا الشاعر حال ذلك المرء الذي أنفق عمره في تحصيل المال فيقول:
ومن ينفق الأيام في جمع ماله مخافة فقر فالذي فعل الفقرُ
وقال الآخر:
ولا تحسبن الفقر فقر من الغنى ولكن فقر الدين من أعظم الفقرِ
من الناحية العقلية:
العقل نعمة من الله ـ عز وجل ـ أنعمها علينا؛ فبه يميز العاقل بين الخير والشر، والمعروف والمنكر، وبه تُستبصَر الأمور وتُدرك الحقائق؛ وذلك من خلال التعقل في الأمور والتمهل فيها، ولذا لما سئل الأحنف عن العقل قال: «العقل رأس الأشياء، فيه قوامها، وبه تمامها، وهو سراج ما بطن، وملاك ما علن، وسائس الجد، وزينة كل أحد، لا تستقيم الحياة إلا به، ولا تدور الأمور إلا عليه». ومتى استخدم هذا العقل في غير مكانه ـ الذي هو الخير ـ أصبح مجرد كتلة لا تصلح لأي عمل وحيي على الشر وعلى تحقيق رغباته وأهوائه ولا نصيب للتفكير السليم فيه، فأصبح بذلك فرداً لا همَّ له سوى عبادة ما يمليه عقله عليه، فكان كما قال ـ تعالى ـ: {إنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِندَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ} [الأنفال: 22].
? الأمور التي بها يُستعبد العقل:
1 - الانحراف الفكري:(2/373)
الفكر هو لب العقل وأساسه، وتقويمه واعتماده؛ فإن سلم صحت تلك الأفكار التي يحملها فتنتج بإذن ربها ثمارها اليانعة، وإن خبثت واستقت أفكاراً خبيثة وهدامة لم يُجنَ منها إلا العلقم، ولم يبلَ العقل بمثل بلوى الانحراف؛ فهو مسلك خطير من سلكه هلك ومن اتقاه نجا واستدرك. فالانحراف الفكري كالرمال المتحركة التي سرعان ما تلقي بصاحبها داخل جوفها، هل تراه يعيش بعدها؟ وصاحب الفكر المنحرف يتلقى أفكاره من مصادر خبيثة لتصادف هوى، فيصبح بأذيالها متمسكاً وبشأنها متعبداً؛ فهي نواة تبقى في ذهنه، وسرعان ما تنمو وتكبر مع مرور الزمن وتلقِّيه المستمر، وما ذلك إلا من الخلل الذي أحدثه في البداية وهو تلقي الأفكار من غير مصادرها الأساسية الأصلية، ثم ينعكس ذلك تماماً على عقيدته وواقعه «.. وإذا كانت حرية العقيدة والرؤية الأساسية الكلية هي قضية لها جوانبها المطلقة والكلية؛ فإن حرية الفكر هي في أساسها انعكاسات للرؤية العقيدية الكلية على واقع الحياة وقضاياها»(2). ولم يكن هناك شيء أخطر على الأمة من الانحراف الفكري؛ فبه تحدث المنازعات والخلافات العقدية والفكرية والشقاقات السياسية والاقتصادية ويصرفها عن النظر لواقعها وحالها، ومنه تخرج أجيال غاية علمهم التعصب لآرائهم والعداء لمن خالفهم، وتربية من خلفهم على ما تعلموه وما أتقنوه، وله تُدَس المؤامرات والدسائس والخطط والنقائص. قال ـ تعالى ـ: {الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ فَإن كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِّنَ اللَّهِ قَالُوا ألَمْ نَكُن مَّعَكُمْ وَإن كَانَ لِلْكَافِرِينَ نَصِيبٌ قَالُوا ألَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُم مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَن يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً} [النساء: 141].
2 - التبعية:(2/374)
لم يحدث استعباد العقول وانحرافها إلا عن طريق التبعية الخاطئة، ولذا عندما عطلوا عقولهم نفى ـ سبحانه ـ الاهتداء والتعقل عن هؤلاء الذين يتبعون الآخرين وإن كان أمرهم خاطئاً، فقال: {وَإذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَ لَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلا يَهْتَدُونَ} [البقرة: 170]، فالأمر يزداد خطورة عند عدم إدراك من نتبع وأي طريق يسلك، وما كان انحراف الأكثرية في السنين الماضية إلا عندما سلكوا مسلك التبعية الخاطئة، وانتهجوا نهجه، ولنا في قصة (رفاعة الطهطاوي) و (عبد الرحمن الكواكبي) عبرة؛ وذلك حينما كانا على تبعية حمقاء؛ فـ «أزمة الطهطاوي تتلخص في أنه ابتعد إيمانياً عن فرنسا واقترب حضارياً ـ إلى حد التبعية ـ لها، واستسلم لمزلق تفصيل الفكر الإسلامي بما يناسب الفكر الأوروبي الحديث»(1)، وأما الكواكبي «فقد أخطأ عندما تصور مجد الإسلام يعود بنظام سياسي على النمط الأوروبي، وأخطأ ثانية عندما أحسن الظن بالسياسيين الاستعماريين وبالقوى الصليبية»(2). ولنعلم أن التبعية التي لا أصل لها من الكتاب والسنة لا تولِّد لا حضارة ولا فكراً؛ وإن حدث ذلك فهو ناقص وسرعان ما يزول؛ إذ إن من شأن الأمور الوضعية أنها تزول وإن استمرت برهة من الزمان؛ وذلك لأنها لا توافق البشر كلهم وإن رغبها بعضهم، ولا يظن آخرون أنه عند استمرار حضارة ما أو فكر ما قد خالطه تبعية غربية أنه باق ما بقي الدهر، أو أن زواله مستحيل، كلا! بل على العكس تماماً، إن زواله قريب وانهياره سريع.
? ثانياً: استعباد خارجي (بدني):(2/375)
وهذا الاستعباد أهون من الاستعباد الباطني بكثير؛ إذ إن هذا ليس من اختيار العبد وغالباً على أمره، وربما كان ابتلاءً من الله لعبده المؤمن وتمحيصاً له، وفترته قد لا تستغرق وقتا طويلاً. نعم! ربما سلبت حريته البدنية، ربما سلبت كرامته، وربما سلب كل أمر ظاهري منه، ولكنه لم يُسلب قلبه، ولم يسلب عقله وتفكيره؛ فهو يعيش الحرية داخلياً، ويفقدها خارجياً «ومتى عجزت القوة المادية عن استذلال القلوب فقد ولَّدت الحرية الحقيقية في هذه القلوب»(3).
أنَا مُسْلمٌ وأقولُها مِلءَ الوَرَى وعقيدَتِي نورُ الحيَاةِ وَسُؤْدُدِي(2/376)
وما صبر الكثير على طريق الايمان إلا عندما أوذي وسجن وعُذِّب، وما يظن عاقل انه بإمكانه الاستمرار على هذا الطريق دون ابتلاءات وفتن. قال ـ تعالى ـ: {أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ} [العنكبوت: 2]، «إن الايمان ليس كلمة تقال إنما هو حقيقة ذات تكاليف، وأمانة ذات أعباء، وجهد يحتاج إلى صبر، وجهد يحتاج إلى احتمال؛ فلا يكفي أن يقول الناس: آمنا؛ وهم لا يُتركون لهذه الدعوى، حتى يتعرضوا للفتنة، فيثبتوا عليها ويخرجوا منها صافية عناصرهم خالصة قلوبهم كما تفتن النار الذهب لتفصل بينه وبين العناصر الرخيصة العالقة به، وكذلك تصنع الفتنة بالقلوب»(4)، وقال ـ تعالى ـ: {لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا وَإن تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ} [آل عمران: 186]، «إنها سُنَّة العقائد والدعوات: لا بد من بلاء، ولا بد من أذى في الأموال والأنفس، ولا بد من صبر ومقاومة واعتزام، إنه الطريق إلى الجنة. وقد حُفَّت الجنة بالمكاره. كما حفت النار بالشهوات»(5)، وعلى قدر إيمان المرء يكون ابتلاؤه، كما روى سعد بن أبي وقاص ـ رضي الله عنه ـ قال: «قلت: يا رسول الله! أي الناس أشد بلاء؟ قال: الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل، يبتلى العبد على حسب دينه؛ فإن كان في دينه صلباً اشتد بلاؤه، وإن كان في دينه رقة ابتلي على حسب دينه؛ فما يبرح البلاء بالعبد حتى يتركه يمشي على الأرض وما عليه من خطيئة»(6). فالقهر والظلم والسجن والضرب وغيرها كلها وسائل ظاهرية تتولى الاستعباد الظاهري ولا تستطيع أن تملك الداخل؛ إذ إن من شأنها التعذيب والسياط والجلد، وفرض الهيمنة والسيطرة الخارجية، وما ظن أولئك أن من كان مع الله كان الله معه.(2/377)
ولنا في السابقين عبرة؛ فهؤلاء الأنبياء ابتُلوا وغيرهم من الصالحين الذين حملوا همَّ هذا الدين؛ فقد سُجِن إمام أهل السنة أحمد بن حنبل وعذب وما زاده ذلك إلا ثباتاً ورسوخاً، وسجن شيخ الاسلام ابن تيمية فما كان منه إلا أن قال: «ما يفعل أعدائي بي؟ أنا سجني خلوة، ونفيي سياحة، وقتلي شهادة». وقُهِرَ أناس وظلم آخرون وهددوا فلم يردهم ذلك عن إيمانهم {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} [آل عمران: 173].
ولست أبالي حين أقتل مسلماً
على أي جنب كان في الله مصرعي
? ثالثاً: نماذج من الاستعباد:
مرت العصور السابقة بألوان من الاستعباد؛ والنماذج في هذا كثيرة، وأقتصر في هذا ـ على سبيل الاختصار ـ على نموذجين من ذلك:
1 - استعباد فرعون:(2/378)
لم تذق أمة من الأمم السابقة ذل العبودية والاستعباد مثل ما ذاقته أمة بني إسرائيل في عهد ذلك الطاغية فرعون؛ فقد فعل بهم الأفاعيل، وجعل منهم خدماً وعبيداً لا قيمة لهم. قال ـ تعالى ـ: {إنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِّنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ} [القصص: 4]، «وكل طاغوت يُخضِع العباد لشريعة من عنده، وينبذ شريعة الله، هو من المفسدين الذين يفسدون في الأرض ولا يصلحون»(1)، ولم يكتف ذلك الطاغية بهذا، بل بدأ يقتل الذكور فيهم ويبقي النساء للخدمة، وما كان قتله للذكور إلا لخوفه على ملكه عندما أعلمه أحد الكُهَّان أنه سيولد فتى سيفنَى ملكُه على يديه، ثم أتى موسى ـ عليه السلام ـ فقال له: {لَئِنِ اتَّخَذْتَ إلَهًا غَيْرِي لأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ} [الشعراء: 29]، ولم يكن موسى ليهاب ذلك الطاغية فأطلق قوله: {يَا فِرْعَوْنُ إنِّي رَسُولٌ مِّن رَّبِّ الْعَالَمِينَ} [الأعراف: 104]، فهاج ذلك الطاغية ليجمع بعد ذلك أتباعه من أجل أن لا تتهاوى مملكته أمام الحقيقة التي أعلنها له موسى ليكون في ذلك هلاكه وموته غريقاً تحت المياه.
وآثار الظلم والاستعباد باقية إلى اليوم شاهدة على أفظع الصور وأبشعها في إذلال العباد وإن سميت بغير اسمها ودُعيت بـ (الحضارة الفرعونية).
2 - الشيوعية:(2/379)
كان من الأنظمة التي لها النصيب الأعظم في الاستعباد الصريح نظام الشيوعية؛ فقد كان الشيوعي يعمل ويكدح وينصَب لأجل غيره، فلا يتملك ولا أحقية له في ذلك «ولقد زعمت الشيوعية أن الذل الوحيد في الأرض هو عمل الإنسان أجيراً لإنسان آخر، وزعمت أنها هي ستخلص الناس من الظلم وتمنع الاستغلال، حين تمنع تأجير جهد الإنسان لإنسان آخر. نعم! ولكن ما الفرق بين تأجير جهد الإنسان لإنسان آخر، وتأجيره للدولة التي هي شخص معنوي في الكلام فقط؟ ولكنها في الواقع مجموعة من البشر يحملون من السلطان ما يجبرون به الناس على أداء العمل الذي يطلبونه منهم، وما يعاقبونهم به إذا قصروا في أدائه؟ وصدق الله العظيم: {أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَم مَّنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [التوبة: 109].
? رابعاً: كيف ندفع الاستعباد؟
ندفع الاستعباد بأمور كثيرة من أهمها:
1 - خشية الله ـ عز وجل ـ والخوف منه:(2/380)
والخشية لله ـ تعالى ـ تزيد العبد اطمئنان القلب وتعلقاً بالله فلا يعبد سواه، ولا يخشى أحداً إلا اياه، فيتوجه إليه بالكلية، فلا تغره دنيا، ولا يهيبه ملك أو سلطان فقد مُلئ قلبه خشية وخوفاً من الله تعالى. وقد قرن ـ سبحانه وتعالى ـ خشيته بالفوز في الدنيا والآخرة فقال: {وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ} [النور: 52] «فالطاعة لله ورسوله تفتضي السير على النهج القويم الذي رسمه الله للبشرية من علم وحكمة، وهو بطبيعته يؤدي إلى الفوز في الدنيا والآخرة، وخشية الله وتقواه هي الحارس الذي يكفل الاستقامة على المنهج، وإغفال المغريات التي تهتف بهم على جانبيه، فلا ينحرفون ولا يلتفتون»(2). والخشية من المنجيات التي تنجي العبد من كل شيء.. من الدنيا وغرورها.. من الحياة وفتنها.. قال -صلى الله عليه وسلم - : «ثلاثٌ منجيات: خشية الله في السر والعلانية، والعدل في الرضا والغضب، والقصد في الفقر والغنى. وثلاثٌ مهلكات: هوى متبع، وشح مطاع، وإعجاب المرء بنفسه»(3). وبالخشية يستعين العبد على دينه.. فيحفظه من الضلال.. ويحفظه من الزيغ والانحراف. عن عبيد الله بن أبي جعفر قال: «كان يقال: ما استعان عبد على دينه بمثل الخشية من الله»(4).
2 - اتباع المنهج السليم:
ومن الوسائل في دفع الاستعباد المنهج السليم الذي هو الطريق القويم الذي يضمن لذوي العقول السير الصحيح والتبصر الحكيم، وأي أمة فقدت المنهج الصحيح السليم حارت في دروب التيه العقدي والإعصار الفكري {أَفَمَن يَمْشِي مُكِبًّا عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى أَمَّن يَمْشِي سَوِيًّا عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} [الملك: 22]، ولكي نضمن منهجاً سليماً خالياً من الشوائب لا بد من أمرين:(2/381)
أ - أخذ المنهج من مصدره الأساسي الذي هو المصدر الرباني المتمثل في الكتاب والسنه. قال -صلى الله عليه وسلم - : «تركت فيكم أمرين لن تضلوا ما تمسكتم بهما: كتاب الله، وسنة رسوله»(5).
ب - التلقي السليم الذي لا تتنازعه أهواء ولا تعصبات ولا منازعات، ولا يشوبها انحرافات فكرية، ولا يخالطها معتقدات فاسدة باطلة.
ولك أن تتصور حال المرء بلا منهج صحيح: كيف يكون حاله؟ إما إلى جهالة عمياء أو إلى ضلالة خرقاء. قال ـ تعالى ـ: {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ} [الحج: 11]، عندما ضعف تأصيله ومنهجه الذي يعتمد عليه عَبَدَ اللهَ على شك وعلى انحراف وخلل عقدي؛ فلم يصبر على مواجهة أمواج الفتن العاتية، فانقلب على وجهه مهزوماً مخذولاً قد خسر دنياه وآخرته، وعلى المرء أن يتحرى الطريق الصحيح الذي يبقي له المنهج صحيحاً سليماً و «الطريق الوحيد الصحيح الذي يجب على كل مسلم سلوكه هو طريق أهل السنة والجماعة طريق الطائفة المنصورة والفرقة الناجية، ذو العقيدة الصافية والمنهج السليم واتباع السنة والدليل»(6).
3 - الأخذ بزاد الصبر:(2/382)
قال ـ تعالى ـ مبيناً شأن أولئك الذين صبروا وما آل إليه صبرهم: {وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَنفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُوْلَئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ} [الرعد: 22]. والصبر أمر مطلوب؛ فقد حث الله ـ سبحانه ـ عباده المؤمنين على الصبر فقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [آل عمران: 200]. قال ابن القيم ـ رحمه الله ـ: «والإيمان نصفان: نصف صبر، ونصف شكر. قال غير واحد من السلف: الصبر نصف الإيمان. وقال عبد الله بن مسعود ـ رضي الله عنه ـ: الإيمان نصفان: نصف صبر، ونصف شكر. ولهذا جمع الله ـ سبحانه ـ بين الصبر والشكر في قوله: {إنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ} [إبراهيم: 5]»(1). والصبر سبب في كمال المرء. قال ابن القيم ـ رحمه الله ـ: «أكمل الخلق أصبرهم، ولم يتخلف عن أحد كماله الممكن إلا من ضعف صبره»(2). ولا تنال الإمامة في الدين إلا بشيئين ذكرهما ابن تيمية ـ رحمه الله ـ فقال: «إنما تُنال الإمامة في الدين بالصبر واليقين»(3)، ويذكر ابن القيم تشبيهاً للصبر فيقول: «النفس مطية العبد التي يسير عليها إلى الجنة أو النار، والصبر لها بمنزلة الخطام والزمام للمطية؛ فإن لم يكن للمطية خطام ولا زمام شردت في كل مذهب»(4). ولنا في السابقين أبلغ العظات والعبر؛ فقد صبر سيد المرسلين محمد بن عبد الله -صلى الله عليه وسلم - أشد الصبر وأبلغه حتى بلَّغ دين الله عز وجل، وصبر من بعده أتباعه كبلال وخباب، وصبر كذلك إمام السنة أحمد بن حنبل، ومن بعده ابن تيمية، والكثير من أئمة الدعوة صبر؛ فما أوهنه القيد ولا غيَّره السجن؛ فهو صامد كالطود.(2/383)
قال -صلى الله عليه وسلم - : «المؤمن الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم أفضل من المؤمن الذي لا يخالط الناس ولا يصبر على أذاهم»(5). والمؤمن الصابر أمره في خير بإذن الله كما أخبر بذلك النبي -صلى الله عليه وسلم - فقال: «عجباً لأمر المؤمن إن أمره كله له خير، وليس ذاك لأحد إلا للمؤمن: إن أصابته سراء شكر فكان خيراً له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيراً له»(6).
4 - تحرير الفكر:
ولكي يتحرر الفكر من قيود الاستعباد لا بد له من الاطلاع الواسع والقراءة المكثفة النافعة؛ فبها يرقى فكره ويعلو، فلا ينجرف فكرياً ولا ينقاد تبعياً، ويصبح ملمّاً بأمور الحياة مدركاً لفقه الواقع.
إن القراءة للعقل بمثابة الغذاء للجسد، ولذا كان خطاب الله ـ عز وجل ـ لنبيه محمد -صلى الله عليه وسلم - بداية {اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ} [العلق: 3]، ولا يمكن لأحد أن يكون ذا فكر جيد وخيال واسع دون القراءة.
5 - البعد عن الاعلام الهابط والهدام:(2/384)
الإعلام من أقوى الوسائل تأثيراً على البشر وعلى المجتمع؛ إذ إنه سلاح ذو حدين، ولا يُمنع أحد من عدم مشاهدته؛ لأنه في متناول الجميع، سواء كان مرئياً أم مقروءاً أم مسموعاً، ولذا كان من مراتب الجهاد جهاد الكلمة أو جهاد القلم، ولكن ما إن يتحول هذا الإعلام إلى وسيلة لإذلال العباد واستعبادهم حتى يصبح ذا خطورة عالية، فيهوِّل لهم الأمور حتى تصبح كالموبقات لديهم {وَإذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِّنَ الأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ} [النساء: 83]، فتجدهم لا يجرؤون على الكلام فيه أو الخوض في تفاصيله، فأصبح الجميع مستعبَداً لما يقوله الإعلام فيلعب بعقولهم كيف شاء؛ فتارة يُلهب عواطفهم ضد أمر ما، وتارة يحذرهم من أمر فيه خير، وقلما تجده يأمر بمعروف أو ينهى عن منكر، ولو أنهم رجعوا إلى عقولهم وبصيرتهم لوجدوا أن الحق خلاف ذلك، ولو أنهم تجنبوا ذلك الإعلام السيئ أو أخذوا الإعلام من مصدره الصحيح لما حدثت التغيرات الداخلية لديهم، ولما تقاعسوا وتراجعوا، ولأبصروا الحقيقة الحقة، {وَلَوْ رَدُّوهُ إلَى الرَّسُولِ وَإلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إلاَّ قَلِيلاً} [النساء: 83].
6 - الدعاء:(2/385)
الدعاء خير سلاح يتسلح به المؤمن، وبه يدفع البلاء والاستعباد؛ فهو عدته وعتاده، ولا يرد القضاء إلا الدعاء كما قال -صلى الله عليه وسلم - : «لا يرد القضاء إلا الدعاء، ولا يزيد في العمر إلا البر»(7). وحث ـ سبحانه ـ عباده على دعائه، فقال ـ تعالى ـ: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} [غافر: 60]، «هذا من لطفه بعباده ونعمته العظيمة؛ حيث دعاهم إلى ما فيه صلاح دينهم ودنياهم، وأمرهم بدعائه دعاء العبادة ودعاء المسألة»(8)، و «من أعظم ما يجلبه الدعاء إلى الداعي أنه سبب في تحقيق التوحيد الذي به نجاة العبد وفلاحه؛ لأن الداعي الذي صرف دعاءه وسؤاله لله دون غيره وأخلص له فيه، فقد حقق جانباً من جوانب التوحيد وهو أن الدعاء عبادة لله وحده لا تصرف إلا له»(9). والدعاء يحتاج من المرء إلى عزيمة وعزم. قال -صلى الله عليه وسلم - : «إذا دعوتم الله فاعزموا في الدعاء، ولا يقولن أحدكم: إن شئت فأعطني؛ فإن الله لا مستكره له»(10)، ولا عجز للمرء مثل عجزه عن الدعاء؛ فقد قال -صلى الله عليه وسلم - : «إن أبخل الناس من بخل بالسلام، وأعجز الناس من عجز عن الدعاء»(11). ويبين ابن القيم أهمية الدعاء وسبب تأخره، وأظنه جمع أهم الأسباب في تأخر إجابة الدعاء في كتابه (الجواب الكافي).
? ختاماً:(2/386)
عندما ابتعدت الدولة الإسلامية في عصر صدر الإسلام عن مظاهر الظلم والاستبداد والاستعباد ارتفع شأنها وبلغت رقعتها أقصى الأرض، وبلغ مجدها ذروته، فأصبحت رايتها خفاقة، وخيلها سباقة، وحق فيها قول الله ـ تعالى ـ: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [النور: 55]، وما أن يظهر الاستبداد والظلم والقهر بأرض حتى يحل بها فساد وانتشار فتن وزوال نِعَم لا يرفعه إلا رجعة صادقة إلى الله {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ} [الأعراف: 96].
والله يحفظنا هو مولانا وعليه التكلان.
--------------------------------------------------------------------------------
(1) لمزيد البيان لحقيقة العبودية لله ـ تعالى ـ اقرأ أن شئت كتاب (العبودية) لشيخ الإسلام ابن تيمية، تحقيق الشيخ عبد الرحمن الباني.
(2) مجموع الفتاوى ج: 1.
(3) طريق الهجرتين وباب السعادتين.
(1) المرجع السابق.
(2) مجموع الفتاوى، ج 10.
(3) إغاثة اللهفان، لابن القيم.
(4) جامع الرسائل، لابن تيمية.
(5) العبودية، لابن تيمية.
(6) إغاثة اللهفان، لابن القيم.
(7) يرجع إلى الكتب المتخصصه في ذلك كالجواب الكافي لابن القيم، وروضة المحبين لابن القيم، وإغاثة اللهفان لابن القيم، وذم الهوى لابن الجوزي، والعبودية لابن تيمية، وكتاب الشيخ محمد الحمد في العشق؛ فقد استفاد فيه من المراجع السابقة.
(8) الجواب الكافي، لابن القيم.
((2/387)
9) تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان، للشيخ السعدي.
(1) مجموع الفتاوى، ج 20.
(2) أزمة العقل المسلم، للدكتور عبد الحميد أبو سليمان.
(1) بتصرف من: جذور الانحراف في الفكر الاسلامي الحديث لجمال سلطان.
(2) المصدر السابق.
(3) في ظلال القرآن لسيد قطب.
(4) في ظلال القرآن، لسيد قطب
(5) في ظلال القرآن، لسيد قطب.
(6) رواه ابن ماجه.
(1) في ظلال القرآن، لسيد قطب.
(2) في ظلال القرآن.
(3) رواه أبو الشيخ والطبراني في الأوسط بسند حسن ينظر: صحيح الجامع الصغير (1/583).
(4) نزهة الفضلاء في تهذيب سير أعلام النبلاء لـ (محمد بن حسن موسى)، ص 513.
(5) حسنه محقق جامع الأصول، 1/ 277.
(6) مجلة البيان، العدد 14.
(1) عدة الصابرين وذخيرة الشاكرين، لابن القيم.
(2) طريق الهجرتين وباب السعادتين، لابن القيم.
(3) صلاح الأمة في علو الهمة.
(4) عدة الصابرين وذخيرة الشاكرين، لابن القيم.
(5) رواه أحمد والترمذي والبخاري وصححه الألباني.
(6) رواه مسلم 425 7 شرح النووي ح 18 ص 325.
(7) رواه الترمذي برقم ( 2139) وقال: حديث حسن غريب، وأورده الألباني في السلسلة الصحيحة برقم (154).
(8) تفسير الكريم الرحمن للشيخ السعدي.
(9) كتاب الآداب لفؤاد الشلهوب.
(10) رواه البخاري برقم (7464) ومسلم برقم (2678).
(11) حديث صحيح صححه الألباني في صحيح الجامع برقم (1519).
--------------------------------------------------------------------------------
* * *
http://www.albayan-magazine.com/zwaya/trbwi/65.htm
فقه التعامل مع الناس
* صالح بن فريح البهلال(2/388)
إن الله ـ جل في علاه ـ خلق الإنسان، مدنياً بالطبع، يُوْثِر الاجتماع على العزلة، فتراه يمر في أطوار حياته بين أبوين وإخوان، وأقاربَ وجيران، ومعارفَ وخِلان، وزوجٍ وولدان، وقد حتَّم عليه الشارع حضور بعض العبادات جماعةً؛ وكل هذا يلزم بها أن يتقن فقه التعامل مع الناس؛ حتى يسلمَ من نزَق الطبع، وطيش الحِلم؛ لأنه ـ غالباً ـ لا يسلم من أن يَجْهلَ، أو يُجْهَلَ عليه.
وإن مُنْعِم النظر في أحوال بعض الناس في هذا الزمان لَيجد أنهم يعانون من انشقاق العصا بينهم، ويلقوْن في ذلك نصَباً ناصباً؛ وذلك جرَّاءَ أمور مَهينة، انتهز الشيطان فيها فُرصة، واهتبل فيها غِرة، فصعَّد فيها وصوَّب، فانجلت عن شقاق، وسوء أخلاق.
وإليك أمثلةً ليست من نسج الخيال، وإنما هي من واقع الحال.
فهذا قد شاكس أباه على منعه حقاً له؛ لا يساوي معشار كد والده عليه.
وهذا قد قطَّع أخاه؛ لأجل اختلاف في قسمة ميراث.
وهذا قد فارق زوجه؛ إثر سوء تفاهم بينهما يَرِد مثله في الحياة الزوجية كثيراً.
وهذا قد ترك حلقته التي يتعلم فيها القرآن؛ لأن أستاذه فيها قسا عليه ـ مرة ـ.
وهذا قد سخط على فلان ـ من جماعة مسجدهم ـ لأنه ـ بزعمه ـ قد ابتلاهم بفتح أجهزة التكييف في المسجد.
وهذا قد هجر جاره؛ لأن ولد جاره خاصم ابنه مرة.
وهذا قد قطع صلة قريبه؛ لأنه تذرَّع به في شفاعة، فلم يشفع، ولم يرفع.
وهذا شكاكٌ مرتاب تكاد مرارته تنفطر من الغيظ، على فلان وفلان، لا لشيء؛ وإنما لأنه كلَّف نفسه ما لم تُكلَّف، فاشتغل بتفسير المقاصد، فهو ثائرٌ على فلان؛ لأنه قال كلمة في مجلس، يظن أنه لا يقصد غيره بها، وهو ساخطٌ على فلان؛ لأنه ـ بزعمه ـ متكبر، وافقه مرة فلم ينظر إليه إلا بطرْف فاتر، وهو منقبض عن فلان؛ لأنه فيما يظهر له ـ يتلظى صدره علىه من الحسد.
وتلك امرأة، تزوي ما بين عينيها ـ دوماً ـ على امرأة ابنها؛ لأنها لم تقم بحقها ـ زعمت ـ.(2/389)
وأخرى صرمت حبال الوصل مع شقيقتها؛ وذلك لأجل خصومة أولادهما المتكررة.
إلى غير تلك الأحوال التي تنقبض لها الصدور، وتشمئز منها النفوس، وتُحدِث فيها لوعة مؤلمة، ومسّاً موجعاً.
وهذا بعض الإشارات في فقه التعامل مع الناس، علَّها أن تنظم شملاً قد تمزق، وتجمع شتاتاً قد تفرق.
فإلى المقصود، والله المستعان، وعليه التكلان؛ فما أحرانا بضرورة مراجعة نفوسنا وحسن الظن بإخواننا والتزام ما يلي:
1 ـ توطين النفس على معاملة الناس بمحاسن الأخلاق، وجميل الخِلال، وهذا من مسلَّمات الدين، ولأجله بُعث سيد المرسلين -صلى الله عليه وسلم - ؛ إذ يقول: «إنما بُعثت لأتمم صالح الأخلاق»(1)، والآيات والأحاديث التي تحث على التحلي بمكارم الأخلاق، وتنهى عن سفسافها وافرة معلومة.
وهي من أعظم ما يجلب الودَّ، ويُحِلُّ الوفاق، وينفي الفُرقة، ويزيل الشقاق.
وإنك لترى الرجلَ الذي يذكر بِغلَظ الطباع، وفظاظة الأخلاق، ما إن تتطلقْ في وجهه، وتَهَشَّ له بكلام لين، إلا وتجد أثر ذلك فيه.
والكلام في الخُلُق الحسن، وأثره على صاحبه، وعلى الناس، يطول جداً، والخلاصة فيه: أنه لا يخيب صاحب أخلاق حسان أبداً، ولا يعنو كمداً؛ لأنه لا يحمل حسداً، ولا يؤذي أحداً.
وما الإشارات الآتية إلا وتتفيأ ظلال هذه الإشارة، وتمتد إليها بسبب متين، وتأوي فيها إلى ركن شديد؛ فهي خلاصتها، وعصارتها.
2 ـ معاملة الناس حسب طبائعهم التي أعطاهم الله إياها؛ فإن الله ـ سبحانه ـ كما قسم الأرزاق قسم الأخلاق؛ فمن الناس من هو حُرُّ الخلال، أَرْيَحِيُّ الطباع، يترقرق في وجهه ماء البِشْر.
ومنهم من هو فظ الأخلاق، صعب المراس، كأنما قُدَّ من صخر.(2/390)
ومنهم من هو مبتغٍ بين ذلك سبيلاً، وقد أبان الرسول -صلى الله عليه وسلم - ذلك، فقال: «إن الله ـ عز وجل ـ خلق آدم من قبضة قبضها من جميع الأرض، فجاء بنو آدم على قدر الأرض، فجاء منهم الأبيض والأحمر والأسود، وبين ذلك، والخبيث والطيب، والسهل والحزْن، وبين ذلك» أخرجه أحمد(1) وأبو داود(2) والترمذي(3).
وقد تمثل بعض الشعراء بهذا المعنى، فقال:
الناس كالأرض، ومنها هُمُ فمن خشن الطبع، ومن ليِّنِ
فجنْدلٌ تدْمى به أرجلٌ وإثْمِدٌ يوضع في الأعينِ
وبهذا يعلم أن معاملة الناس، ينبغي ألا تكون على وتيرة واحدة، بل يعامَل كلٌ منهم حسب طبعه، كما ـ تعالى ـ: {خُذِ الْعَفْوَ} [الأعراف: 199].
قال العلامة الشنقيطي: «... العفو معروف في كلام العرب، تقول لك: «خذ العفو مني» أي؛ خذ ما تسهَّل لك من أخلاق الناس، ووجدت منهم طِيباً بلا كلفة فخذ، وما جاءك من غير ذلك فاصفح عنه وتجاوزه...»(4).
وقال العلاَّمة السعدي: «الذي ينبغي أن يعامل به الناس، أن يأخذ العفو، أي ما سمحت به أنفسهم، وما سهل عليهم من الأعمال والأخلاق، فلا يكلفهم ما لا تسمح به طبائعهم»(5).
وقد حفظت لنا عائشة ـ رضي الله عنها ـ موقفاً من المواقف النبوية التي تدل على حِذْقه -صلى الله عليه وسلم - في التعامل مع الناس، تقول عائشة: «إن رجلاً استأذن على النبي -صلى الله عليه وسلم - فلما رآه قال: «بئس أخو العشيرة، وبئس ابن العشيرة، فلما جلس تطلَّق النبي -صلى الله عليه وسلم - في وجهه، وانبسط إليه. فلما انطلق الرجل، قالت عائشة: يا رسول الله! حين رأيتَ الرجلَ قلتَ له كذا وكذا، ثم تطلقت في وجهه، وانبسطت إليه؟ فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم - : «يا عائشة! متى عهدتِّني فحَّاشاً؟ إن شرَّ الناس عند الله منزلةً يوم القيامة من تركه الناس اتقاءَ فحشِه» أخرجه البخاري(6) ومسلم(7).(2/391)
قال القرطبي: «في الحديث جواز غيبة المعلن بالفسق أو الفحش ونحو ذلك، من الجور في الحكم، والدعاء إلى البدعة، مع جواز مداراتهم؛ اتقاء شرهم ما لم يؤدِّ ذلك إلى المداهنة في دين الله ـ تعالى ـ»(8).
كما يرى المسْوَر بن مَخْرَمة ـ رضي الله عنه ـ موقفاً في ذلك، فيقول: «قَدِمَتْ على النبي -صلى الله عليه وسلم - أقبيةٌ من ديباج، مزررة بالذهب، فقسمها في أناس من أصحابه، وعزل منها واحداً لمخْرَمة، فلما جاء مَخْرَمة، قال الرسول -صلى الله عليه وسلم - : «خبأت هذا لك» أخرجه البخاري(9) من طريق أيوب، عن عبد الله بن أبي مليكة، عن المسور. وقال أيوب بثوبه، وكان في خلقه شيء، قال الحافظ ابن حجر: «والمعنى أشار أيوب بثوبه ليُري الحاضرين كيفية ما فعل النبي -صلى الله عليه وسلم - عند كلامه مع مَخْرَمة، ولفظ القول يطلق ويراد به الفعل؛ وإنما قيل في مخرمة ما قيل؛ لِمَا كان في خُلُقه من الشدة، فكان لذلك في لسانه بذاءة»(10).
وبهذا يعلم أن سبب كثير من الشقاق، وسوء الوفاق، بين ابن وأبيه، أو زوج وامرأته، أو إمام وبعض جماعة مسجده، أو نحو ذلك؛ إنما هو بسبب الجهل بالطبائع ونوع الأنفس.
3 ـ معاملة الناس حسب منازلهم التي أنزلهم الله إياها؛ فالناس فيهم العالم والجاهل، والملك والسُّوقَة، والسائد والمسود، والغني والفقير، والكبير والصغير، والعاقل والمجنون، وغيرهم، فيعامل كلٌ حسب منزلته لا وكس ولا شطط.
قال السعدي: «فلا يتكبر على الصغير لصغره، ولا ناقص العقل لنقصه، ولا الفقير لفقره، بل يعامل الجميع باللطف والمقابلة بما تقتضيه الحال، وتنشرح له صدورهم»(11).
وفيما يروى عن النبي -صلى الله عليه وسلم - قولُه: «أنزِلوا الناس منازلهم» أخرجه أبو داود(1)، وهو وإن كان حديثاً ضعيفاً، إلا أن في السنة شواهد كثيرةً تدل على معناه، ومنها:(2/392)
ـ قوله -صلى الله عليه وسلم - : «يؤم القومَ أقرؤهم لكتاب الله، فإن كانوا في القراءة سواء، فأعلمهم بالسنة، فإن كانوا في السنة سواء، فأقدمهم هجرة، فإن كانوا في الهجرة سواء، فأقدمهم سناً...» أخرجه مسلم(2).
ـ وقوله -صلى الله عليه وسلم - : «أراني في المنام أتسوَّك بسواك، فجاءني رجلان أحدهما أكبر من الآخر، فناولت السواكَ الأصغرَ، فقيل لي: كبِّر، فدفعته إلى الأكبر منهما» أخرجه مسلم(3).
ـ وقوله -صلى الله عليه وسلم - : إن من إجلال الله ـ تعالى ـ إكرامَ ذي الشيبة المسلم، وحامل القرآن غير الغالي فيه، والجافي عنه، وإكرام ذي السلطان المقسط» إخرجه أبو داود(4).
ـ وقوله -صلى الله عليه وسلم - : «ليس منا من لم يرحم صغيرنا، ويعرف شرف كبيرنا» أخرجه أبو داود(5) والترمذي(6).
ـ بل انظر إلى مَلَكَة الحكمة التي أوتيها الرسول -صلى الله عليه وسلم - حين دخل مكة فاتحاً، فجاء أبو سفيان فأسلم، فأراد الرسول -صلى الله عليه وسلم - تثبيت إسلامه، فقال: «من دخل دار أبي سفيان فهو آمن»(7) فأبو سفيان من سادات قريش، ومثله يحب الفخر، فأشبع الرسول -صلى الله عليه وسلم - مشاعره بهذه الجملة.
وهكذا فعل الرسول -صلى الله عليه وسلم - مع أولئك الرجال السادة في أقوامهم، الذين كانوا حدثاء عهد بكفر؛ فكان يعطيهم ما لا يعطي غيرهم.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله ـ: «كان النبي -صلى الله عليه وسلم - يتألف قوماً، ويهجر آخرين، كما أن الثلاثة الذين خُلِّفوا كانوا خيراً من أكثر المؤلفة قلوبهم، لما كان أولئك كانوا سادة مطاعين في عشائرهم، فكانت المصلحة الدينية في تأليف قلوبهم، وهؤلاء كانوا مؤمنين، والمؤمنون سواهم كثير، فكان في هجرهم عز الدين، وتطهير من ذنوبهم...»(8).(2/393)
وقد قال النبي -صلى الله عليه وسلم - في كتابه الذي أرسله إلى هرقل: «بسم الله الرحمن الرحيم، من محمدٍ، عبد الله ورسوله إلى هرقل عظيم الروم..» أخرجه البخاري(9) ومسلم(10).
فتأمل قوله -صلى الله عليه وسلم - : «عظيم الروم».
إلى غير لك من الأحاديث الوافرة في هذا الجانب، التي تحتِّم أن يُعطَى كلُّ ذي منزلةٍ حقَّه اللائق بحاله؛ فللأمير حق، وللعالم حق، وللوجيه حق، وللوالد حق، وللولد حق، وللزوج حق، وللزوجة حق، وللكبير حق، وللصغير حق، وللتلميذ حق، ولإمام المسجد حق، ولناقص العقل حق، وكلّ له حق بحسبه، وليس المجالُ مجالَ بسط لهذه الحقوق؛ ولكن القصد هو الإشارة بأن إنزال الناس منازلهم سبب متين؛ لتقوية آصرة الألفة والمودة، ونبذ الشقاق وسوء الأخلاق.
4 ـ معاملة الناس حسب ظواهرهم، فلا يُشتغل بتفسير المقاصد؛ فمن الناس من تجده شكاكاً في الناس، مرتاباً في تعاملهم معه، تتجاذبه فيهم الظنون، وتتوارد عليه الرِّيب؛ فلسان حاله: فلان قد رابني أمره، ولست على يقين من فلان، وإني لفي مرية من فلان.
إذا ساء فعل المرء ساءت ظنونه وصدَّق ما يعتادُه من توهُّمِ
وعادى محبيه بقول عُداته وأصبح في ليل من الشك مظلم
فلا يزال هذا المسكين يعاني في هذا الأمر صعَداً، ويقاسي منه نَصَباً، حتى يخلد إلى الانزواء، فيتفرق شمله، وينتثر نظمه.
وإن في هذا الفعل مُجافاةً لقوله ـ تعالى ـ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِّنَ الظَّنِّ إنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إثْمٌ} [الحجرات: 12].
وقوله -صلى الله عليه وسلم - : «إياكم والظن؛ فإن الظن أكذب الحديث» أخرجه البخاري(11) ومسلم(12).
وقد ورد في السنة ما يدل على أن النبي -صلى الله عليه وسلم - كان يتعامل مع الناس حسب ظواهرهم، دون إيغال في النيات، أو تحسس في المقاصد، فمن ذلك:(2/394)
ما رواه أسامة بن زيد ـ رضي الله عنه ـ قال: «بعثنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم - فصبَّحنا الحُرُقات من جهينةَ، فأدركت رجلاً، فقال: لا إله إلا الله، فطعنته، فوقع في نفسي من ذلك، فذكرته للنبي -صلى الله عليه وسلم - فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم - : «أقال: لا إله إلا الله وقتلته؟» قال: قلت: يا رسول الله! إنما قال خوفاً من السلاح، قال: أفلا شققت عن قلبه، حتى تعلم أقالها أم لا؟! فما زال يكررها عليَّ حتى تمنيت أني أسلمت يومئذ» أخرجه البخاري(13) ومسلم(14).
وما رواه أبو سعيد الخدري ـ رضي الله عنه ـ في قصة الرجل الذي قال للرسول -صلى الله عليه وسلم - : اتق الله ـ لمَّا قسم الرسول -صلى الله عليه وسلم - تلك الذُّهَيْبة التي بعث بها علي بن أبي طالب ـ رضي الله عنه ـ من اليمن على المؤلفة قلوبهم ـ فقال خالد: وكم من مصلٍّ يقول بلسانه ما ليس في قلبه، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم - : «إني لم أُومَر أن أنقِّب عن قلوب الناس، ولا أشقَّ بطونهم» أخرجه البخاري(15) ومسلم(16).
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: «إن المنافقين الذي قالوا: {آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ} [البقرة: 8] هم في الظاهر مؤمنون يصلُّون مع الناس ويصومون ويحجون ويغزون، والمسلمون يناكحونهم ويوارثونهم، كما كان المنافقون على عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم - ولم يحكم النبي -صلى الله عليه وسلم - في المنافقين بحكم الكفار المظهرين للكفر، لا في مناكحتهم، ولا موارثتهم، ولا نحو ذلك، بل لما مات عبد الله بن أبي سلول ـ وهو من أشهر الناس بالنفاق ـ ورثه ابنه عبد الله، وهو من خيار المؤمنين، وكذلك سائر من كان يموت منهم يرثه ورثته المؤمنون، وإذا مات لأحدهم وارث ورثوه مع المسلمين»(1).(2/395)
وقد أخرج البخاري(2) عن الخليفة المحدَّث، عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ قوله: «إن أناساً كانوا يؤخذون بالوحي في عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم - ، وإن الوحي قد انقطع، وإنما نأخذكم الآن بما ظهر لنا من أعمالكم؛ فمن أظهر لنا خيراً أمنَّاه وقرَّبناه، وليس إلينا من سريرته شيء، الله يحاسبه في سريرته، ومن أظهر لنا سوءاً لم نأمنْه ولم نصدقْه، وإن قال إن سريرته حسنة».
فكل هذه الأدلة تبين بجلاء أنه يتحتم على المسلم أن يعامل أخاه بما يظهر منه، ويكل سريرته إلى الله؛ وبذلك تقوى صِلاته، وتطمئن نفسه، وتنجلي عنه مزعجات التفكير، ودوامات القلق.
5 ـ استحضار أن الخطأ من طبيعة الإنسان، وأنه لم يسلم منه إلا من عصمه الله من أنبيائه ورسله، وقد قرر النبي -صلى الله عليه وسلم - ذلك بقوله: «كل بني آدم خطاء، وخير الخطائين التوابون» أخرجه الترمذي(3)، وابن ماجه(4).
ومن لك بالمهذب بالندب الذي لا يجد العيب إليه مختطى
فمن الخطأ أن يتصور امرؤٌ مثاليةً في شخص، سواء كان امرأة سينكحها، أو عالماً سيتتلمذ عليه، أو رجلاً سيخالطه ويعاشره، أو غير ذلك، ثم يحاسبه بناء على ذلك، وربما انتبذ عنه مكاناً قصياً؛ بل عليه أن يعامله معاملةً واقعيةً، نابعةً عن معرفة بطبيعة البشر التي يعتريها الجهل والخطأ والنسيان.
وانظر إلى فعل حاطب بن أبي بلتعة ـ رضي الله عنه ـ وهو من البدريين الذين قال الله فيهم: «اعملوا ما شئتم؛ فقد غفرت لكم!» حيث أرسل إلى كفار قريش كتاباً يخبرهم فيه بعزم الرسول -صلى الله عليه وسلم - وأصحابه في التوجه لفتحها، فأنزل الله فيه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ} [الممتحنة: 1] الآية(5).(2/396)
قال الحافظ ابن حجر: «وفي هذا الحديث من الفوائد، أن المؤمن ولو بلغ بالصلاح أن يُقْطَع له بالجنة لا يُعصَم من الوقوع في الذنب؛ لأن حاطباً دخل فيمن أوجب الله لهم الجنة، ووقع منه ما وقع»(6).
وتأمل في جواب الإمام أحمد ـ رحمه الله ـ لما قال له راويته مهنَّا: كان غُنْدَر(7) يغلظ؟ قال: «أليس هو من الناس؟!»(8).
وأمعِن النظر في قول شيخ الإسلام ابن تيمية هذا:
يقول ـ رحمه الله ـ: «وليس من شرط أولياء الله المتقين ألا يكونوا مخطئين في بعض الأشياء خطأ مغفوراً لهم، بل ولا من شرطهم ترك الصغائر مطلقاً، بل ولا من شرطهم ترك الكبائر أو الكفر الذي تعقبه التوبة»(9).
6 ـ التغافل؛ فبناء على ما هو مقررٌ من لزوم الخطأ لبني الإنسان، فإنه يحسن بالنابه الفطن أن يتغافل عن الأخطاء التي لا يترتب عليها مفسدة.
وقد أخرج البخاري(10) ومسلم(11) عن عائشة ـ رضي الله عنها ـ قالت: «دخل رهط من اليهود على رسول الله -صلى الله عليه وسلم - ، فقالوا: السامُ عليك، ففهمتها، فقلت: عليكم السامُ واللعنة، فقال الرسول -صلى الله عليه وسلم - : «مهلاً يا عائشة! فإن الله يحب الرفق في الأمر كله» فقلت: يا رسول الله! أوَ لم تسمع ما قالوا؟ قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم - : «قد قلتُ: وعليكم».
قال العلاَّمة ابن مفلح: «استُنبط منه استحباب تغافل أهل الفضل عن سَفَه المبطلين، إذا لم يترتب عليه مفسدة»(12).
فإذا كان هذه التغافل في مثل هؤلاء الكفار، فإنه يتأكد على المسلم أن يتغافل عما يجري من أخيه المسلم من الأخطاء المعتادة؛ فالكمال عزيز، ولن تجد زوجةً، أو ولداً، أو أخاً، أو معلماً، أو صديقاً، أو إماماً لمسجد، أو نحوه إلا وفيه ما يصفو وما يتكدر، فلا ترجُ خالصاً نفعه؛ فانهل من صفو صاحبك، وتعامَ عن كدره، كأنك ما سمعتَ ولا دريتَ. ولقد أجاد أبو تمام حين قال:
ليس الغبيُّ بسيد في قومه لكنَّ سيدَ قومه المتغابي(2/397)
قال الإمام الشافعي: «الكيِّس العاقل هو الفطن المتغافل»(13).
وقال عثمان بن زائدة: «قلت للإمام أحمد: العافية عشرة أجزاء تسعة منها في التغافل، فقال: العافية عشرة أجزاء كلها في التغافل»(14).
فأَجْمِلْ بالأب في بيته، والمعلم في فصله، والمدير في دائرته، وإمام المسجد مع جماعته، وكل مسؤول مع من تحت يده، أَجْمِلْ بهؤلاء كلهم أن يتحلوا بالإغماض عن الهفوات التي لا تمس ديناً، ولا تورث شراً، وإنما هو حقوقٌ شخصية.
ويتأكد التغافل عن الخطأ في حق من اشتدت مودته، وطالت صحبته، كما قال أبو فراس الحمداني:
لم أواخذْك بالجفاء لأني واثق منك بالوداد الصريحِ
وجميل العدو غير جميل وقبيح الصديق غير قبيحِ
7 ـ قبول أعذار الناس؛ فبما أن الإنسان لا يزال في حيِّز البشرية، يَرِدُ عليه الخطأ في تعامله مع الناس؛ فإن كفارة ذلك الذنب هو اعتذار ممن أخطأ معه.
ويتأكد في حق من اعتذر منه أن يقبل عذره، ويكل سريرته إلى الله، تأسياً بالنبي -صلى الله عليه وسلم - ؛ فإنه لما جاءه المخلَّفون عام تبوك، وطفقوا يعتذرون إليه ويحلفون له، قَبِلَ علانيتهم، ووكل سرائرهم إلى الله، وهو مع ذلك لا يصدِّق أحداً منهم؛ بدليل أنه لما جاءه كعب بن مالك، وأخبره بحقيقة أمره، قال: «أما هذا فقد صدق» كما عند البخاري(1) ومسلم(2).
قال الإمام ابن القيم: «من أساء إليك ثم جاء يعتذر من إساءته؛ فإن التواضع يوجب عليك قبول معذرته، حقاً كانت أو باطلاً، وتكل سريرته إلى الله...».
ثم قال: «وعلامة الكرم والتواضع أنك إذا رأيتَ الخلل في عذره لا توقفْه عليه ولا تحاجَّه، وقل: يمكن أن يكون الأمر كما تقول، ولو قضي شيء لكان، والمقدور لا مدفع له، ونحو ذلك»(3).
قال الإمام الشافعي:
اقبلْ معاذير من يأتيك معتذراً إن برَّ عندك فيما قال أو فجرا
فقد أطاعك من يرضيك ظاهره وقد أجلَّك من يعصيك مستترا(2/398)
وقال المرُّوذي: قلت لأبي عبد الله: إن أبا موسى هارون بن عبد الله قد جاء إلى رجل شتمه لعله يعتذر إليه، فلم يخرج إليه، وشق الباب في وجهه، فعجب، وقال: سبحان الله! أما إنه قد بغى عليه، سيُنصر عليه، ثم قال: رجل نقل قدمه ويجيء إليه يعتذر لا يخرج؟!(4).
ومما يقوِّي المسلمَ في قبول عذر أخيه إذا اعتذر إليه، استشعارُه أنه ربما احتاج لمثل هذا الموقف الذي وقفه أخوه أمامه؛ فهل يسرُّه حينَها أن يُرَدَّ خاسئاً وهو حسير؟ فكما تدين تدان.
فما أجمل ذلك الأب الذي لما أتاه ابنه يلقي معاذيره، قبل عذره، وبرأه من الملام.
وأكرم بذاك الزوج الذي إذا اعتذرت إليه زوجه من التقصير، نفض عنها غبار اللوم، ووجد لها في ذلك عذراً بيناً.
ولله در ذاك الصديق الذي لما أتاه صاحبه معتذراً إليه من هفوة فرطت، أو سقطة بدت ـ هوَّن عليه، وقال: لا درَك عليك في ذلك ولا لَحق.
بل إنه ينبغي لمن أوتي شهامة في طباعه، وسخاوة في أخلاقه، أن يعذر أخاه إذا سمع عنه سوءاً، وهذا قد دعا إليه ربنا في كتابه، فقال: {لَوْلا إذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنفُسِهِمْ خَيْرًا وَقَالُوا هَذَا إفْكٌ مُّبِينٌ} [النور: 12].
قال أمير المؤمنين عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ: «لا تظنَّ بكلمة خرجت من أخيك المؤمن إلا خيراً، وأنت تجد لها في الخير محملاً»(5).
وقال أبو قلابة: «إذا بلغك عن أخيك شيءٌ تكرهه فالتمس له العذر جَهدك، فإن لم تجد له عذراً، فقل في نفسك: لعل لأخيك عذراً لا أعلمه»(6).
{وَمَا يُلَقَّاهَا إلاَّ الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إلاَّ ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ} [فصلت: 35].(2/399)
8 ـ الإعراض عن الجاهلين؛ كما قال ـ تعالى ـ: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} [الأعراف: 199] وقال: {وَإذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلامًا} [الفرقان: 63] وقال: {وَإذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ لا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ} [القصص: 55].
فمن الناس من تجد في طبعه نزَقاً، وفي لسانه رهقاً، يغمز فيه ويلمز دون جريرة في الملموز، وإنما هو طيش الحلم، وسفه العقل.
وإن شفاء مثل هذا الداء يسيرٌ على من يسره الله عليه، بأن يكون من أوذي رحب الصدر، وقور النفس، رصيناً، رزيناً، لا يستخفه سفه، ولا يستثيره غضب، طوداً لا تقلقله العواصف.
وما أجمل ما فعل الخليفة الراشد، عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ لما دخل عليه عيينة بن حصن، فقال: «هِي! يا ابن الخطاب! فوَ الله ما تعطينا الجزْل، ولا تحكم فينا بالعدل. فغضب عمر ـ رضي الله عنه ـ حتى هَمَّ أن يوقع به، فقال له الحر بن قيس: يا أمير المؤمنين! إن الله ـ تعالى ـ قال لنبيه -صلى الله عليه وسلم - : {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} [الأعراف: 199] وإن هذا من الجاهلين، والله ما جاوزها عمر حين تلاها، وكان وقَّافاً عند كتاب الله ـ تعالى ـ» أخرجه البخاري(7).
9 ـ العفو عن أخطاء الناس، ومقابلتها بالإحسان؛ امتثالاً لقوله تعالى: {وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ } [فصلت: 34].(2/400)
قال العلاَّمة السعدي: «أي؛ فإذا أساء إليك مسيء من الخلق، خصوصاً من له حق كبير عليك، كالأقارب والأصحاب ونحوهم، إساءة بالقول أو الفعل، فقابله بالإحسان إليه، فإن قطعك فصِلْهُ، وإن ظلمك فاعفُ عنه، وعامله بالقول اللين، وإن هجرك وترك خطابك، فطيِّب له الكلام، وابذل له السلام، فإذا قابلت الإساءة بالإحسان، حصل فائدة عظيمة»(1).
وقال العلاَّمة الشنقيطي: «فإن ذلك الإحسان وذلك الحلم والصفح يقضي على إساءته ويذهبها حتى يضطر إلى أن يصير في آخر الأمر من أصدق الأصدقاء»(2).
ثم قال ـ عز وجل ـ بعد تلك الآية: {وَمَا يُلَقَّاهَا إلاَّ الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إلاَّ ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ} [فصلت: 35].
قال السعدي: «أي: وما يوفق لهذه الخصلة الحميدة إلا الذين صبروا نفوسهم على ما تكره، وأجبروها على ما يحبه الله؛ فإن النفوس مجبولة على مقابلة المسيء بإساءته، وعدم العفو عنه؛ فكيف بالإحسان»(3).
نعم! فإن هذه لخلة شديدة على النفس، لا يسْطيعها إلا رجلٌ موفقٌ، قد تَسَنَّمَ ذِرْوَةَ المجد، وأمَّ معالي الأمور، فكرمت خليقته، ونبُلت نفسه، وجزُلت مروءته؛ فهمَّته قصيَّة المرمى، رفيعة المناط، قد تخطى هذه الأقذاء، وجاوز هاتيك الحفر، فلم تلن قناته لغامز.
وإن المتأمل لحال الرسول -صلى الله عليه وسلم - ليجد هذا الخُلُق الكريم قد أخذ فيه -صلى الله عليه وسلم - بحظ وافر، وإليك شيئاً من ذلك:
تقول عائشة ـ رضي الله عنها ـ: «ما انتقم رسول الله -صلى الله عليه وسلم - لنفسه في شيء قط إلا أن تُنتهك حرمة الله، فينتقم بها لله» أخرجه البخاري(4) ومسلم(5).(2/401)
ويقول أنس ـ رضي الله عنه ـ: «كنت أمشي مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم - وعليه رداءٌ نجرانيٌ غليظ الحاشية، فأدركه أعرابي فجبذه بردائه جبذةً شديدةً، نظرت إلى صفحة عنق رسول الله -صلى الله عليه وسلم - وقد أثرت بها حاشية الرداء، من شدة جبذته، ثم قال: يا محمد! مر لي من مال الله الذي عندك، فالتفت إليه رسول الله -صلى الله عليه وسلم - ، فضحك، ثم أمر له بعطاء» أخرجه البخاري(6) ومسلم(7).
وفي رواية عند مسلم: «ثم جبذه إليه جبذةً، رجع نبيُّ الله ِ-صلى الله عليه وسلم - في نحر الأعرابي».
وفي رواية أخرى عند مسلم: «فجاذبه، حتى انشق البُرْدُ، وحتى بقيت حاشيته في عنق رسول الله -صلى الله عليه وسلم - ».
سبحان الله! ما أعظم أخلاق هذا الرسول -صلى الله عليه وسلم - التي تملأ الصدور عظمة وإجلالاً، كيف قابل نزَقَ هذا الأعرابي وطيشَه، بهذه الأريحية، وهذا الندى؟! إنها رفعةٌ لا تُسامى، وعظمةٌ لا تُغالب.
وعلى هذا النهج النبوي سار شرفاء الناس وعظماؤهم، وسأذكر مثالاً واحداً فقط ـ والأمثلة كثيرة ـ على ذلك.
فهذا إمام أهل السنة، أحمد بن حنبل، الذي استبطن دخائل العلم، وخاض عُبابه، قد لاقى في فتنة القول بخلق القرآن الألاقي، من سَجْنٍ وأغلالٍ، وجَلْدٍ يصل إلى أن يفقد الإمام وعيه، وحَبْسٍ في بيته يُمنع فيه من الخروج للصلاة، ومع ذلك كان يقول: «كل من ذكرني ففي حِل إلا مبتدعاً، وقد جعلت أبا إسحاق ـ يعني: المعتصم ـ في حِل، ورأيت الله يقول: {وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلا تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ...} [النور: 22] أمر النبي -صلى الله عليه وسلم - أبا بكر بالعفو في قصة مسطح» ثم قال الإمام أحمد: «وما ينفعك أن يعذب الله أخاك المسلم في سببك؟»(8).
الله أكبر، إنه التوفيق الإلهي، وإذا أراد الله بعبد خيراً غرس فيه طباع الخير، فيبذلها بلا كلفة أسلس من الماء.
وفي الختام أقول:(2/402)
ينبغي على المسلم أن يحسِّن أخلاقه مع الناس، مراعياً طبائعهم ومنازلهم التي أعطاهم الله ـ سبحانه ـ غير مشتغل ببواطنهم، وما انطوت عليه صدورهم؛ فإن أصابه خطأ منهم، فليعلم أن الإنسان محل الخطأ والنسيان، فليتغافلْ، وإلا فليعذرْ، وإلا فليصفحْ ويتسامحْ، ويفوضْ أمره إلى الله، فبذلك يعيش سالماً، والقول فيه جميل.
وربما كان تطبيق بعض هذه الأخلاق عسراً شديداً على النفس، يحتاج إلى مجاهدة ومعالجة بالِغين، ولكنَّ الحِلْمَ بالتحلُّم، والنفسُ راغبة إذا رغَّبتها، وقد قال ـ سبحانه ـ: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} [العنكبوت: 69]، وقال الرسول -صلى الله عليه وسلم - : «ومن يتصبر يصبره الله...»(9).
وليسألْ كلٌ منا ربه من فضله، وليستوهبْهُ من جوده؛ فإنه ـ وحده ـ هو المانُّ المتفضل.
اللهم اهدنا لأحسن الأخلاق، لا يهدي لأحسنها إلا أنت، واصرف عنا سيئها، لا يصرف عنا سيئها إلا أنت.
اللهم آتِ نفوسنا تقواها، وزكِّها أنت خير من زكاها، أنت وليها ومولاها.
اللهم إنا نعوذ بك من منكرات الأخلاق والأعمال والأهواء والأدواء.
اللهم صلِّ على نبينا محمدٍٍ وعلى آله وصحبه وسلِّم.
--------------------------------------------------------------------------------
(*) محاضر في جامعة القصيم، قسم السنة وعلومها. (1) مسند أحمد 2/381.
(1) مسند أحمد 4/400 ـ 406. (2) سنن أبي داود (4693).
(3) سنن الترمذي (2955).
(4) العذب النمير من مجالس الشنقيطي في التفسير، اعتنى به الشيخ خالد السبت 4/1788 ـ 1789.
(5) تفسير السعدي، ص 313. (6) صحيح البخاري (6032).
(7) صحيح مسلم (2591). (8) المفهم 6/573.
(9) صحيح البخاري، رقم (6132). (10) فتح الباري 10/529.
(11) تفسير السعدي، ص 313.
--------------------------------------------------------------------------------(2/403)
* * *
http://www.albayan-magazine.com/zwaya/trbwi/66.htm
معينات التعبد دعوة للتنافس في القرب والطاعات
فيصل بن علي البعداني
خلق الله ـ تعالى ـ الثقلين لعبادته وحده لا شريك له، وأوجب عليهم تقواه والاشتغال بطاعته، كما قال ـ تعالى ـ: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإنسَ إلاَّ لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56]، وقال ـ سبحانه ـ: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُم لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة: 21]، وامتحاناً منه ـ عز وجل ـ لهم سلط عليهم من نفوسهم الأمارة بالسوء ومن شياطين الجن والإنس ما يزين لهم المخالفة ويدعوهم إليها، وحف ـ سبحانه ـ طاعته بالمكاره، ومخالفة أمره بالشهوات، ليرى ـ تعالى وتقدس ـ من يُقبل عليه بإرادة واختيار، ومن يلهو في بحار الشهوات ويسرح في أودية الملذات فينسى نفسه والغايه من خلقه.
وأمام ذلك فلا بد لمريد النجاة من وسائل معينة له تثبته على الطاعة وعمل ما فيه نجاته إذا وقف للحساب بين يدي ربه، وتقوِّيه في مواجهة أعدائه، وتجاوز العقبات التي تدفعه إلى الزلل وتحول بينه وبين عمل الآخرة، وسأكتفي بإيراد شيء من أبرز ما يعين المرء على التعبد من خلال النقاط التالية:
? أولاً: الاستعانة بالله:(2/404)
صلاح العبد في ركونه إلى الله ـ تعالى ـ واعتماده عليه وطلبه العون منه، ومضرته وهلاكه وفساد حاله في الاستعانة بما سواه ـ عز وجل ـ إذ المُلْك ملكه، والتدبير تدبيره، ولا حول للعبد ولا قوة في شيء من أمره إلا بعونه ـ سبحانه ـ وتوفيقه؛ فاستعانة العبد بمولاه سبيله لتحقيق مراده وتحصيل مقصوده، ومن أعانه الله ـ تعالى ـ فهو السعيد الموفق، ومن خذله ـ سبحانه ـ فهو الشقي المخذول. يقول ابن تيمية: (العبد محتاج في كل وقت إلى الاستعانة بالله على طاعته، وتثبيت قلبه، ولا حول ولا قوة إلا بالله)(1)، ويقول ابن رجب: (فالعبد محتاج إلى الاستعانة بالله في فعل المأمورات وترك المحظورات والصبر على المقدورات كلها، في الدنيا وعند الموت وبعده من أهوال البرزخ ويوم القيامة، ولا يقدر على الإعانة على ذلك إلا الله ـ عز وجل ـ فمن حقق الاستعانة عليه في ذلك كله أعانه... ومن ترك الاستعانة بالله واستعان بغيره وكله الله إلى من استعان به، فصار مخذولاً)(2).
ولمسيس حاجة العبد لعون الله ـ تعالى ـ جمع ـ سبحانه ـ بين العبادة والاستعانة في فاتحة الكتاب في قوله ـ تعالى ـ: {إيَّاكَ نَعْبُدُ وَإيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة: 5]، وكأن العبد ينكسر بين يدي مولاه في كل ركعة صلاة قائلاً: لك يا مولاي نسكي وخضوعي وحدك لا شريك لك، وأنا عبد ضعيف محتاج إلى العون، وأنت إلهي عضدي ونصيري وحدك دون سواك، فجُدْ عليَّ بعونك وتسديدك!
فيا من تريد التوفيق لعمل الآخرة، وتطلب تذليل الصعاب التي تحول بينك وبين الاستكثار من الخضوع لله ـ تعالى ـ والانقياد له، وترغب في نزع الشعور بالعجز من داخلك، انطرح بين يدي ربك الرحيم، واسأله معونته وتسديده، وأن لا يكلك إلى نفسك؛ فإن الدين نصفه استعانة(1)، وإذا لم يكن عون من الله ـ تعالى ـ للفتى أتته الرزايا من وجوه الفوائد، وكان أول ما يجني عليه اجتهاده.
? ثانياً: مجاهدة النفس:(2/405)
جُبِلت النفس البشرية على الميل إلى اللذَّات الحسية، والانجذاب إلى الجهة السفلية؛ فتنةً من الله ـ تعالى ـ واختباراً لها. يقول ابن الجوزي: (النفس مجبولة على حب الهوى... فافتقرت لذلك إلى المجاهدة والمخالفة، ومتى لم تزجر عن الهوى، هجم عليها الفكر في طلب ما شُغفت به، فاستأنست بالآراء الفاسدة والأطماع الكاذبة والأماني العجيبة، خصوصاً إن ساعد الشباب الذي هو شعبة من الجنون، وامتد ساعد القدرة إلى نيل المطلوب)(2). ولخطورة هذا الأمر خاف علينا النبي الرحيم -صلى الله عليه وسلم - من اتباعنا الهوى؛ فعن أبي برزة الأسلمي ـ رضي الله عنه ـ قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم - : «إن مما أخشى عليكم شهوات الغي في بطونكم وفروجكم ومضلات الهوى»(3)
فلا بد لمريد النجاة من صرف نفسه إلى ما يريده الله ـ تعالى ـ ورسوله -صلى الله عليه وسلم - ، وبذله الوسع في قهر الشهوة والهوى ومخالفة داعيهما الذي يحول بين النفس وبين أداء الطاعة على وجهها(4)؛ إذ (اتفق العلماء والحكماء على أن لا طريق إلى سعادة الآخرة إلا بنهي النفس عن الهوى ومخالفة الشهوات)(5).
وأصل مجاهدة النفس فطمها عن المألوفات وحملها على غير ما تهوى. وللنفس صفتان: انهماك في الشهوات وامتناع عن الطاعات، ومجاهدتها تقع بحسب ذلك(6). وأقوى مُعين (على جهاد النفس جهاد الشيطان بدفع ما يلقي إليه من الشبهة والشك، ثم تحسين ما نُهِي عنه من المحرمات، ثم ما يفضي الإكثار منه إلى الوقوع في الشبهات، وتمام المجاهدة أن يكون متيقظاً لنفسه في جميع أحواله؛ فإنه متى غفل عن ذلك استهواه شيطانه ونفسه إلى الوقوع في المنهيات، وبالله التوفيق)(7).(2/406)
والمجاهدة أمر رفيع القدر، عالي المنزلة يحتاج إلى صبر ورباطة جأش، ولذا قال -صلى الله عليه وسلم - : «المجاهد من جاهد نفسه لله عز وجل»(8). يقول ابن عبد البر: (مجاهدة النفس في صرفها عن هواها أشد محاولة وأصعب مراماً وأفضل من مجاهدة العدو)(9)، ويقول ابن بطال: (جهاد المرء نفسه هو الجهاد الأكمل، قال الله ـ تعالى ـ: {وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى....} [النازعات: 40] الآيات)(10).
وأخبار القوم في مداواة نفوسهم ومعالجة أدوائها أكثر من أن تروى. يقول الثوري: (ما عالجت شيئاًً أشد عليَّ من نفسي، مرة لي ومرة عليَّ)(11)، وقال: (ما عالجت شيئاً أشد عليَّ من نيتي؛ لأنها تتغلب عليَّ)(12). ويقول يونس بن عبيد: (ما عالجت شيئاً أشد عليَّ من الورع)(12)، ويقول ابن أبي زكريا: (عالجت الصمت عما لا يعنيني عشرين سنة قلَّ أن أقدر منه على ما أريد)(14)، ويقول أبو يزيد: (عالجت كل شيء فما عالجت أصعب من معالجة نفسي، وما شيء أهون عليَّ منها)(15)، ومرة قال: (عملت في المجاهدة ثلاثين سنة فما وجدت شيئاً أشد عليَّ من العلم ومتابعته)(16).
فالنفس عدو منازع يجب على المرء مجاهدتها، وحين يفلح المرء في ذلك فإن إتيان الطاعات يتحول إلى نعيم ولذة، وعندها لا يجد المرء في القيام بها كلفة ومشقة، كما قال ثابت البناني: (كابدت القرآن عشرين سنة، ثم تنعمت به عشرين سنة)(17)، وكما قال بعض العُبَّاد: (عالجت قيام الليل سنة وتنعمت به عشرين سنة)(18)، فالأُنس واللذة يحصلان من المداومة على المكابدة مدة طويلة.(2/407)
وليس المراد بمجاهدة النفس منعها مما يُقيمها، ومخالفتها على الإطلاق؛ فإن ذلك يُفسِد حالها فيعميها ويشتت عزمها ويؤذيها أكثر مما ينفعها، بل المراد تقوية العقل على الطبع حتى يسلم المرء ولا يهلك. يقول ابن الجوزي في بيان جميل: (أعجب الأشياء مجاهدة النفس؛ لأنها تحتاج إلى صناعة عجيبة؛ فإن أقواماً أطلقوها فيما تحب فأوقعتهم فيما كرهوا، وإن أقواماً بالغوا في خلافها حتى منعوها حقها وظلموها، وأثَّر ظلمهم لها في تعبداتهم؛ فمنهم من أساء غذاءها، فأثر ذلك في ضعف بدنها عن إقامة واجبها، ومنهم من أفردها في خلوة أثمرت الوحشة من الناس، وآلت إلى ترك فرض أو فضل من عيادة مريض أو بر والدة.
وإنما الحازم من تعلم منه نفسه الجد وحفظ الأصول؛ فإذا فسح لها في مباح لم تتجاسر أن تتعداه، فيكون معها كالملك إذا مازح بعض جنده؛ فإنه لا ينبسط إليه الغلام؛ فإن انبسط ذكر هيبة المملكة، فكذلك المحقق: يعطيها حظها، ويستوفي منها ما عليها)(1).
ومما يعين على مجاهدة النفس إفهامها عاقبة الانغماس في الشهوات. قال قتادة: (إن الرجل إذا كان كلما هوى شيئاً ركبه، وكلما اشتهى شيئاً أتاه، لا يحجزه عن ذلك ورع ولا تقوى؛ فقد اتخذ إلهه هواه)(2)، وقال بعض الحكماء: (من استولت عليه النفس صار أسيراً في حب شهواتها محصوراً، في سجن هواها مقهوراً مغلولاً، زمامه في يدها، تجره حيث شاءت، فتمنع قلبه من الفوائد)(3)، وقال يحيى بن معاذ: (من أرضى الجوارح في اللَّذَّات فقد غرس لنفسه شجر الندامات)(4)، وقال بشر الحافي: (من أحب الدنيا فليتهيأ للذل)(5).
فيا مجتهداً في تحصيل نعيم المولى! اجعل أعمال الآخرة في حياتك هي الأوْلى وجاهد نفسك وفق الشرع، وإياك أن تهمل قيادتها وتفلت لجامها فتسوقك - إن لم يَجُد المولى - إلى نار تلظى.
? ثالثاً: استحضار ثواب القربات:(2/408)
جبل الله نفوس عباده على حب الثواب والسعي لنيله، ومهابة العقاب والحذر منه؛ ولذا فإن استحضار الثواب والعقاب من آكد دواعي لزوم الطاعة والاجتهاد في عمل الآخرة، ومن أعظم الزواجر عن اقتراف المعصية، والانغماس في بحور اللذة.
والمتأمل في النصوص يرى أن الترغيب والترهيب، وذكر ما أعدَّ الله ـ تعالى ـ لأوليائه من نعيم، وما أعد لأعدائه من عذاب أليم أحد الموضوعات الرئيسة التي اشتملت عليها الآيات والأحاديث، وقد جاء عرضه فيها من خلال مسارين:
أ - مطلق غير مقيد بأعمال مخصوصة، بل هو ثواب للطاعة بإطلاق، وجزاء للمعصية بإطلاق، ومن ذلك قوله ـ تعالى ـ: {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ * وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُّهِينٌ} [النساء: 13 - 14]، وقوله ـ سبحانه ـ: {وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِن ثَمَرَةٍ رِّزْقًا قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِن قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [البقرة: 25]، وقوله ـ عز وجل ـ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدادٌ لاَّ يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [التحريم: 6] .(2/409)
ب - مقيد بأعمال مخصوصة، ومترتب على طاعات بعينها، ومعاصٍ بعينها، ومن ذلك قوله -صلى الله عليه وسلم - : «من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه لا ينقص ذلك من أجورهم شيئاً، ومن دعا إلى ضلالة كان عليه من الإثم مثل آثام من تبعه لا ينقص ذلك من آثامهم شيئاً»(6)، وقوله -صلى الله عليه وسلم - : «من قال حين يسمع النداء: اللهم رب هذه الدعوة التامة، والصلاة القائمة، آتِ محمداً الوسيلة والفضيلة، وابعثه مقاماً محموداً الذي وعدته، حلت له شفاعتي يوم القيامة»(7)، وقوله -صلى الله عليه وسلم - : «من آتاه الله مالاً فلم يؤدِّ زكاته مُثِّل له ماله شجاعاً أقرع له زبيبتان يطوِّقه يوم القيامة، يأخذ بلهزمتيه - يعني بشدقيه - يقول: أنا مالك، أنا كنزك»(8).
وكلاهما له أثره في تزهيد النفس بمُتَع الدنيا وملذاتها، وتحفيزها على الاستكثار من الخير، وبذل الجهد في عمل الآخرة؛ فإنها متى علمت بأن الله ـ تعالى ـ مثيبُها على الطاعات بجنة فيها «ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر»(1)، ومعاقبُها على معصيته والإعراض عن ذكره بنار وقودها الناس والحجارة، ولَّد ذلك داخلها رغبة صادقة في أن تظفر بذلك النعيم، وتنجو من ذلك الجحيم، وسعت لذلك سعياً حثيثاً؛ فالرجاء يحدو القلوب إلى الله ـ تعالى ـ ويطيب لها السير، والخوف يبعدها عن الدنيا، ويحرق مواضع الشهوات منها(2).(2/410)
وقد أمر الله ـ تعالى ـ عباده بأن يكونوا كذلك في قوله ـ تعالى ـ: {وَلا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ بَعْدَ إصْلاحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا إنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِّنَ الْمُحْسِنِينَ} [الأعراف: 56]، والمعنى: لا تشركوا بالله في الأرض، ولا تعصوه فيها، واعبدوه وحده خوفاً من وبيل عقابه، وطمعاً في جزيل ثوابه(3). يقول ابن القيم: (المصالح والخيرات واللذَّات والكمالات كلها لا تُنال إلا بحظ من المشقة، ولا يُعبَر إليها إلا على جسر من التعب، وقد أجمع عقلاء كل أمة على أن النعيم لا يُدرَك بالنعيم، وأن من آثر الراحة فاتته الراحة، وأنه بحسب ركوب الأهوال واحتمال المشاق تكون الفرحة واللذة، فلا فرحة لمن لا همَّ له، ولا لذة لمن لا صبر له، ولا نعيم لمن لا شقاء له، ولا راحة لمن لا تعب له، بل إذا تعب العبد قليلاً استراح طويلاً، وإذا تحمَّل مشقة الصبر ساعة قاده لحياة الأبد، وكل ما فيه أهل النعيم المقيم فهو صبر ساعة، والله المستعان، ولا قوة إلا بالله، وكلما كانت النفوس أشرف والهمة أعلى كان تعب البدن أوفر، وحظه من الراحة أقل)(4)، ومن شواهد كلامه النفيس هذا، قوله -صلى الله عليه وسلم - : «يؤتى بأنعم أهل الدنيا من أهل النار يوم القيامة فيُصبغ في النار صبغة، ثم يُقال: يا ابن آدم! هل رأيت خيراً قَطُّ؟ هل مر بك نعيم قط؟ فيقول: لا، والله يا رب! ويؤتى بأشد الناس بؤساً في الدنيا من أهل الجنة فيُصبغ صبغة في الجنة، فيقال له: يا ابن آدم! هل رأيت بؤساً قط؟ هل مر بك شدة قط؟ فيقول: لا، والله يا رب! ما مر بي بؤس قط، ولا رأيت شدة قط»(5).(2/411)
فمتى رغَّب العبد نفسه بثمار التعبد، ورهَّبها من عاقبة الانغماس في الشهوات طاوعته في الإعراض عن الدنيا، بل وتلذذت بمشاق العمل الصالح والإقبال على الله تعالى، فـ: (الرجاء والخوف جناحان بهما يطير المقربون إلى كل مقام محمود، ومطيتان بهما يقطع من طرق الآخرة كل عقبة كؤود، فلا يقود إلى قرب الرحمن وروح الجنان ـ مع كونه بعيد الأرجاء، ثقيل الأعباء، محفوفاً بمكاره القلوب ومشاق الجوارح والأعضاء - إلا أَزِمَّة الرجاء، ولا يصد عن نار الجحيم والعذاب الأليم - مع كونه محفوفاً بلطائف الشهوات، وعجائب اللذات - إلا سياط التخويف وسطوات التعنيف)(6).
فعلى العبد متى أراد إتيان طاعة أن يستحضر الثواب المترتب عليها والعقاب الذي يناله تاركها؛ ليكون ذلك معواناً له في مغالبته لنفسه وقهره لها.
? رابعاً: قصر الأمل:
ترقُّب الموت وتصوُّر أهواله والعلم بقرب الرحيل وسرعة انقضاء حياة المرء من أنفع الأمور للقلب وأعظم معينات التعبُّد؛ فهو يعلي الهمة، ويزهِّد في الدنيا، ويبعث على الجد في العمل، ويحث على اغتنام الوقت، وانتهاز الفرص.
ولذا جاءت النصوص حافلة به ومنبهة عليه، ومن ذلك قوله ـ تعالى ـ: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإلَيْنَا تُرْجَعُونَ} [الأنبياء: 35]، وقوله ـ سبحانه ـ: {قُلْ إنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإنَّهُ مُلاقِيكُمْ ثُمَّ تُرَدُّونَ إلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} [الجمعة: 8]، وعن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ عن النبي -صلى الله عليه وسلم - قال: «أكثِروا ذكر هاذم اللذات؛ فما ذكره عبد قط وهو في ضيق إلا وسعه عليه، ولا ذكره وهو في سعة إلا ضيقه عليه»(7). وعن بريدة ـ رضي الله عنه ـ قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم - : «إني كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها؛ فإنها تذكِّر الآخرة»(8).(2/412)
أما الآثار فقد امتلأت بالتذكير به والحث عليه؛ فعن مطرِّف ابن عبد الله قال: (القبر منزل بين الدنيا والآخرة؛ فمن نزله بزاد ارتحل به إلى الآخرة، إنْ خيراً فخير، وإن شراً فشر)(9)، وقال الأوزاعي: (من أكثر ذكر الموت كفاه اليسير)(10)، وقال مالك بن مِغْوَل: (من قصر أمله هان عليه عيشه)(11)، وقال الداراني: (ينبغي للعبد المعني بنفسه أن يميت العاجلة الزائلة المتعقبة بالآفات من قلبه بذكر الموت وما وراء الموت من الأهوال والحساب ووقوفه بين يدي الجبار)(12)، وقال النضر بن المنذر: (زوروا الآخرة بقلوبكم، وشاهدوا الموقف بتوهمكم، وتوسدوا القبور بقلوبكم، واعلموا أن ذلك كائن لا محالة، فاختار لنفسه ما أحب من المنافع والضرر)(13).
ولما كان الغالب على عامة الخلق طول الأمل ورجاء البقاء في هذه الدنيا، ونسيان أنها دار سفر وموطن امتحان، والغفلة عن الغاية العظمى من الخلق، وإهمال التوبة وعمل الآخرة، جاءت النصوص محذرة من هذا الوضع، ومنبهة إلى خطورة استمرار المرء في السير في طريق الهلكة، ومن ذلك قوله ـ تعالى ـ: {ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ} [الحجر: 3]، وحديث أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ قال: «سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم - يقول: لا يزال قلب الكبير شاباً في اثنتين: في حب الدنيا وطول الأمل»(1).(2/413)
ومن أقوال أهل العلم الواردة في هذا الباب قول أبي الحسن علي ـ رضي الله عنه ـ: (إن أخوف ما أتخوف عليكم اثنتين: طول الأمل واتباع الهوى؛ فأما طول الأمل فينسي الآخرة، وأما اتباع الهوى فيصد عن الحق)(2)، وعن الحسن قال: (ما أطال عبدٌ الأمل، إلا أساء العمل)(3)، وقال الفضيل: (إن من الشقاء طول الأمل، وإن من النعيم قصر الأمل)(4)، وقال بعض الحكماء: (الجاهل يعتمد على الأمل، والعاقل يعتمد على العمل)(5)، وقال ابن القيم: (مفتاح الاستعداد للآخرة قصر الأمل، ومفتاح كل خير الرغبة في الله والدار الآخرة، ومفتاح كل شر حب الدنيا وطول الأمل)(6).
فطول الأمل من تزيين الشيطان وسلطانه على قلوب الغافلين(7)؛ فلا آفة أعظم منه، بل لولاه ما وقع إهمال أصلاً، وإنما تفتر الهمم، ويسود العجز والكسل، ويقدم العبد على المعاصي، ويبادر إلى الشهوات، ويغفل عن الإنابة لطول أمله؛ فإنَّ الاستعداد نتيجة قرب الانتظار؛ فمن له أَخَوان غائبان وينتظر قدوم أحدهما في غد، وقدوم الآخر بعد عام فإنه لا يستعد للذي يقدم بعد عام وإنما للذي يأتي غداً؛ فمن انتظر مجيء الموت بعد سنة مثلاً، اشتغل قلبه بالمدة ونسي ما وراء المدة، وذلك يمنعه من مبادرة العمل؛ لأنه يرى نفسه في متسع من الزمن، فيؤخر العمل(8)، ولله در القائل: (إن الخيل إذا أرسلت فقاربت رأس مجراها أخرجت جميع ما عندها، والذي بقي من أجَلي أقل من ذلك)(9).
فيا ناصحاً لنفسه أَقْصِرِ الأملَ! واستعد للحساب قبل حلول الأجل؛ فإن (ما مضى من الدنيا أحلام، وما بقي منها أمانٍ، والوقت ضائع بينهما)(10)؛ فإن لم تستطع ذلك فاعمل عمل قصير الأمل؛ فإن سعادتك في ذلك، ودع عنك التسويف؛ فإنه من أعوان إبليس(11). يقول الحسن: (إياك والتسويف؛ فإنك بيومك ولست بغدك، فإن يكن غد لك فكن في غد كما كنت في اليوم، وإن لم يكن لك غد لم تندم على ما فرطت في اليوم)(12).
? خامساً: فقه نهج التقرب:(2/414)
غاية العبد من تعبده النجاة يوم القيامة وعلو المرتبة عند الله تعالى، وإن من أعظم السبل الموصلة لذلك فقه الكيفيات والتوجيهات التي رسمها الشارع في باب التعبد، والتي يتمكن بها العبد من مداومة العمل ومضاعفة الأجر، ولعل من أبرز ما ينبغي فقهه في هذا الجانب ما يلي:
1 ـ المسارعة إلى العمل:
حثت الشريعة على المبادرة إلى الطاعات وعدم الإبطاء في أدائها. قال ـ تعالى ـ: {فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ} [البقرة: 148]، وقال ـ سبحانه ـ: {وَسَارِعُوا إلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ} [آل عمران: 133]، وقال -صلى الله عليه وسلم - : «التؤدة في كل شيء إلا في عمل الآخرة»(13)، وقال -صلى الله عليه وسلم - : «اغتنم خمساً قبل خمس: شبابك قبل هرمك، وصحتك قبل سقمك، وغناك قبل فقرك، وفراغك قبل شغلك، وحياتك قبل موتك»(14)، وعن أحمد قال: (كل شيء من الخير يبادر به)(15)، وقال ابن بطال: (الخير ينبغي أن يبادَر به؛ فإن الآفات تعرض، والموانع تمنع، والموت لا يؤمَن، والتسويف غير محمود)(16).
فيا باغي الرفعة لا تسرح لنفسك في الطول؛ فما أنت إلا في مزرعة، من يجني منها أكثر يعلو عند الله قدره، وترتفع في الآخرة منزلته؛ فبادر إلى العمل قبل أن يبادر بك، فإنك عندها تغتبط بالمبادرة إلى الخير، وتندم على التفريط في أعمال البر.
2 ـ المداومة على فعل الخير:
المداومة على الطاعات هدي راشد، وجَّه إليه النبي -صلى الله عليه وسلم - ومارسه؛ فعن أم المؤمنين عائشة ـ رضي الله عنها ـ «أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم - سئل: أي العمل أحب إلى الله؟ قال: أدومه وإن قلَّ»(1)، وعنها ـ رضي الله عنها ـ أن عمله -صلى الله عليه وسلم - كان دِيمة(2)، وأنه -صلى الله عليه وسلم - كان إذا عمل عملاً أثبته(3).(2/415)
وحتى يتمكن العبد من الاستمرار في المداومة على الطاعات نجده -صلى الله عليه وسلم - يأمر بالاقتصاد في العبادة، وينهى عن التعمق والتشديد على النفس فيها؛ فعن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم - : «القصدَ القصدَ تبلغوا»(4)، وعن أنس ـ رضي الله عنه ـ قال: «دخل رسول الله -صلى الله عليه وسلم - المسجد وحبل ممدود بين ساريتين، فقال: ما هذا؟ قالوا: لزينب تصلي؛ فإذا كسلت أو فترت أمسكت به، فقال: حُلُّوه! ليصلِّ أحدكم نشاطه، فإذا كسل أو فتر قعد»(5)، وعن عائشة ـ رضي الله عنها ـ قالت: «دخل عليَّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم - وعندي امرأة، فقال: مَنْ هذه؟ فقلت: امرأة لا تنام تصلي، قال: خذوا من العمل ما تطيقون؛ فوالله لا يسأم الله حتى تسأموا»(6)، وعن عبد الله ابن عمرو ـ رضي الله عنهما ـ قال: «قال لي النبي -صلى الله عليه وسلم - : ألم أُخْبَر أنك تقوم الليل وتصوم النهار؟ قلت: إني أفعل ذلك، قال: فإنك إذا فعلت ذلك هجمت عينك، ونفهت نفسك، وإن لنفسك حقاً، ولأهلك حقاً، فصُم وأفطر، وقم ونم»(7).(2/416)
قال النووي: (وإنما كان القليل الدائم خيراً من الكثير المنقطع؛ لأن بدوام القليل تدوم الطاعة والذكر والمراقبة والنية والإخلاص والإقبال على الخالق ـ سبحانه وتعالى ـ ويثمر القليل الدائم؛ بحيث يزيد على الكثير المنقطع أضعافاً كثيرة)(8)، وليس المراد من الأمر بالقصد في العبادة منع طلب الأكمل فيها؛ فإن ذلك من الأمور المحمودة، بل المراد التدرج في مراقي الخير، والإيغال في الدين برفق، وقياد النفس خطوة خطوة حتى يصلب عودها في باب التعبد، وتعتاد الإكثار من القُرَب دون أن تكره العمل، حتى لا يكون المرء كالمنبتِّ الذي لا هو قطع أرضاً، ولا أبقى أرضاً، فلا بد من (منع الإفراط المؤدي إلى الملال، أو المبالغة في التطوع المفضي إلى ترك الأفضل، أو إخراج الفرض عن وقته، كمن بات يصلي الليل كله ويغالب النوم إلى أن غلبته عيناه في آخر الليل فنام عن صلاة الصبح في الجماعة، أو إلى أن خرج الوقت المختار، أو إلى أن طلعت الشمس، فخرج وقت الفريضة)(9).
وفَهْمُ طبيعة النفس من أعظم مُعينات العبد على مدوامة العمل الصالح؛ إذ لها إقبال وإدبار، وقد أوضحت ذلك النصوص والآثار؛ فعن عبد الله بن عمرو ـ رضي الله عنهما ـ أن النبي -صلى الله عليه وسلم - قال: «لكل عابد شِرَّة، ولكل شِرَّة فترة، فإمَّا إلى سُنَّة وإما إلى بدعة؛ فمن كانت فترته إلى سنة فقد اهتدى، ومن كانت فترته إلى غير ذلك فقد هلك»(10)، وقال عمر ـ رضي الله عنه ـ: «إن لهذه القلوب إقبالاً وإدباراً؛ فإذا أقبلت فخذوها بالنوافل، وإن أدبرت فألزموها الفرائض»(11)، وعن ابن مسعود ـ رضي الله عنه ـ قال: «إن لهذه القلوب شهوة وإقبالاً، وإن لها فترة وإدباراً، فخذوها عند شهوتها وإقبالها، ودعوها عند فترتها وإدبارها»(12).(2/417)
ومما يُكمِل مسألة مداومة العبد على العمل الصالح قضاؤه ما فاته منه، وقد جاءت النصوص دالة على مشروعية ذلك؛ فمنها حديث عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم - : «من نام عن حزبه أو عن شيء منه فقرأه فيما بين صلاة الفجر وصلاة الظهر كُتب له كأنما قرأه من الليل»(13).
وبالعموم؛ فكل الخير في اجتهاد باقتصاد مقرون بمتابعة النبي -صلى الله عليه وسلم - ، وما أجمل مقولة أُبَيِّ بن كعب ـ رضي الله عنه ـ: «وإن اقتصاداً في سبيل وسنة خير من اجتهاد في خلاف سبيل وسنة، فانظروا أن يكون عملكم - إن كان اجتهاداً أو اقتصاداً - أن يكون ذلك على منهاج الأنبياء وسنتهم»(14)، فاللهم مُنَّ علينا بلزوم السنة في كل أمورنا.
3 ـ تنويع العمل:
جمع القرب وتنويع الطاعات من أمتن السبل المعينة على التعبد، وأبلغ الطرق الموصلة إلى مرضاة الله ـ تعالى ـ وعلو المنزلة عنده سبحانه؛ يدل على ذلك حديث أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم - : «من أصبح منكم اليوم صائماً؟ قال أبو بكر ـ رضي الله عنه ـ: أنا، قال: فمن تبع منكم اليوم جنازة؟ قال أبو بكر ـ رضي الله عنه ـ: أنا، قال: فمن أطعم منكم اليوم مسكيناً؟ قال أبو بكر ـ رضي الله عنه ـ: أنا، قال: فمن عاد منكم اليوم مريضاً؟ قال أبو بكر ـ رضي الله عنه ـ: أنا، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم - : ما اجتمعن في امرئ إلا دخل الجنة»(15).(2/418)
وما ذلك إلا لأن في تنويع الطاعات تأسياً بالنبي -صلى الله عليه وسلم - ، واستكثاراً من الخير، وتحفيزاً للنفس على العمل، ومراعاة لطبيعتها؛ لأنها قد تصاب بنوع من الرتابة والاعتياد نتيجة لزوم أنواع محددة من القُرَب، وقد يُفتَح لها في أبواب من الخير أخرى يكون القلب فيها أحضر؛ فكلما نوَّع العبد من قُرَبه، وتقلَّب بين جنباتها كلما جدد إيمانه، وتعرف على الحال التي هي أنفع لقلبه، وأتقى لربه، وتمكن من استغراق وقت أطول في عمل ما يحبه ـ سبحانه ـ ومكَّنه ذلك من استثمار قلبه ولسانه وجوارحه في طاعة مولاه، وقضاء جميع أحواله وأوقاته في مرضاة الله تعالى.
4 ـ إدراك مراتب الأعمال:
فاضَلَ الله ـ تعالى ـ بين الأعمال الصالحة، كما قال ـ سبحانه ـ: {أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا يَسْتَوُونَ عِندَ اللَّهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [التوبة: 19]، وقال ـ سبحانه ـ: {وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ} [العنكبوت: 45]، وكما قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم - : «الإيمان بضع وستون شعبة، فأفضلها قول لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان»(1)، وكما جاء في حديث عبد الله بن مسعود ـ رضي الله عنه ـ قال: «قلت: يا رسول الله! أي العمل أفضل؟ قال: الصلاة على ميقاتها، قلت: ثم أي؟ قال: ثم بر الوالدين، قلت: ثم أي؟ قال: الجهاد في سبيل الله»(2).
وتفاضل الأعمال مرده تارة إلى جنس العبادة؛ فمثلاً جنس الصلاة أفضل من جنس القراءة، وجنس القراءة أفضل من جنس الذكر، وجنس الذكر أفضل من جنس الدعاء.(2/419)
وتارة إلى حال العبد فالتسبيح والذكر في حال الركوع أفضل من القراءة، والطواف للآفاقي(3) أفضل من الصلاة، بينما الصلاة للمقيم بمكة أفضل، وما يقدر عليه العبد من العبادات أفضل في حقه مما يعجز عنه، وإن كان جنس المعجوز عنه أفضل.
وتارة إلى وقت العمل؛ فالصدقة في رمضان خير منها في غيره، والقراءة والذكر والدعاء بعد صلاتي الفجر والعصر هي من الأعمال المشروعة دون الصلاة.
وتارة إلى مكان العمل؛ فالصلاة في المساجد الثلاثة أفضل من الصلاة في غيرها، والمشروع للحاج بعرفة ومزدلفة وعند الصفا والمروة هو الذكر والدعاء دون الصلاة.
وتارة إلى جنس العابد؛ فالجهاد للرجال أفضل من الحج، وأما النساء فجهادهن الحج(4).
فالذي يحسن أن يختار العبد من القُرَب أعلاها منزلة وأكثرها أجراً، هذا من حيث الإطلاق. أما من حيث التقييد؛ فمن الصعب القول بأن قُرْبة معينة هي الأفضل في حق شخص معين؛ إذ الأفضل في حق كل إنسان ما كان أنفع له وأجمع لقلبه وأشرح لصدره؛ فكل قُرْبة يأتي بها العبد على الوجه الكامل، ويكون فيها أتقى لله وأخشع، فهي أفضل في حقه من غيرها، وإن كانت هناك قُرْبة أفضل منها. يقول ابن تيمية مبيناً ذلك: (من الناس من لا يصلح له الأفضل، بل يكون فعله للمفضول أنفع، كمن ينتفع بالدعاء دون الذكر، أو بالذكر دون القراءة، أو بالقراءة دون صلاة التطوع. فالعبادة التي ينتفع بها فيحضر لها قلبه، ويرغب فيها ويحبها أفضل من عبادة يفعلها مع الغفلة وعدم الرغبة)(5)، وفي موضع آخر يقول: (فأكثر الخَلْق يكون المستحب لهم ما ليس هو الأفضل مطلقاً؛ إذ أكثرهم لا يقدرون على الأفضل، ولا يصبرون عليه إذا قدروا عليه، وقد لا ينتفعون به، بل قد يتضررون إذا طلبوه، مثل: من لا يمكنه فهم العلم الدقيق إذا طلب ذلك فإنه قد يفسد عقله ودينه)(6).(2/420)
ولهذا فقد تكون قُرْبةٌ في وقت أفضل للعبد، وفي وقت آخر لا تكون الأفضل له، بل يكون الأفضل له قربة أخرى بحسب جمعيته لقلبه عليها، فينبغي للعبد أن يجتهد في اختيار القربة التي هي أرضى لربه، وأعظم لأجره، وأن يستهدي الله ـ تعالى ـ ويستعينه على ذلك، فإنه ما صدق عبد ربه إلا صنع له سبحانه.
5 ـ توسيع دائرة التقرب:
مهما اجتهد المرء في العبادات المحضة وأعطاها من وقته فإنها تبقى معدودة؛ إذ له قدرة محدودة لا يمكنه تجاوزها، كما أن له متطلبات جسدية، واحتياجات فطرية، وعليه واجبات اجتماعية لا بد من مجيئه بها وإعطائها جزءاً كبيراً من وقته، ولذا فقد فتح الرب الرحيم للمسابقين في الخيرات الحريصين على عالي الدرجات أموراً يمكنهم من خلالها توسيع دائرة تقربهم، ولعل من أبرزها ما يلي:(2/421)
أ - احتساب الأجر في المباح، والتي لا يثاب المرء عليها إلا بنية رجاء الأجر على فعلها من الله تعالى، كما دل على ذلك قوله -صلى الله عليه وسلم - : «إذا أنفق المسلم نفقة على أهله وهو يحتسبها كانت له صدقة»(7)، وقوله -صلى الله عليه وسلم - لسعد بن أبي وقاص ـ رضي الله عنه ـ: «إنك لن تنفق نفقة تبتغي بها وجه الله إلا أُجرت عليها، حتى ما تجعل في فم امرأتك»(8)، فالمباح (إذا قصد به وجه الله ـ تعالى ـ صار طاعة ويثاب عليه، وقد نبه -صلى الله عليه وسلم - على هذا بقوله -صلى الله عليه وسلم - : «حتى اللقمة تجعلها في فِيِ امرأتك»(1)؛ لأن زوجة الإنسان هي من أخص حظوظه الدنيوية وشهواته وملاذه المباحة، وإذا وضع اللقمة في فيها؛ فإنما يكون ذلك في العادة عند الملاعبة والملاطفة والتلذذ بالمباح؛ فهذه الحالة أبعد الأشياء عن الطاعة وأمور الآخرة، ومع هذا فأخبر -صلى الله عليه وسلم - أنه إذا قصد بهذه اللقمة وجه الله ـ تعالى ـ حصل له الأجر بذلك؛ فغير هذه الحالة أوْلى بحصول الأجر إذا أراد وجه الله تعالى؛ ويتضمن ذلك أن الإنسان إذا فعل شيئاً أصله على الإباحة وقصد به وجه الله ـ تعالى ـ يثاب عليه، وذلك كالأكل بنية التقوي على طاعة الله تعالى، والنوم للاستراحة ليقوم إلى العبادة نشيطاً، والاستمتاع بزوجته وجاريته ليكفَّ نفسه وبصره ونحوهما عن الحرام وليقضي حقها وليحصل ولداً صالحاً، وهذا معنى قوله -صلى الله عليه وسلم - : «وفي بضع أحدكم صدقة»(2)، والله أعلم)(3).(2/422)
وقد وردت آثار عدة عن بعض السلف تحث على هذا الأمر؛ فعن معاذ بن جبل ـ رضي الله عنه ـ حين سئل: كيف تقرأ؟ فقال: «أنام أول الليل، فأقوم وقد قضيت جزئي من النوم، فأقرأ ما كتب الله لي، فأحتسب نومتي كما أحتسب قومتي»(4)، أي: أنه يرجو الأجر في ترويح نفسه بالنوم؛ ليكون أنشط عند القيام بالعبادة، وعن زيد الشامي قال: (إني لأحب أن تكون لي نية في كل شيء، حتى في الطعام والشراب)، وعنه قال: (انوِ في كل شيء تريد الخير، حتى خروجك إلى الكُناسة)(5).
فيا من تريد توسيع دائرة قُرُباتك، والإكثار من أجورك أرد إرضاء الله ـ تعالى ـ بما تأتي من الأمور المباحة والأعمال المعتادة؛ فإن المرء يؤجَر عليها متى جعلها وسيلة لطاعة واجبة أو مندوبة أو تكميلاً لشيء منهما(6).
ب - الهم بعمل الخير وإن لم يعمل؛ فإن نية الخير المجردة من الفعل يثاب المرء عليها، كما في حديث: «إن الله كتب الحسنات والسيئات ثم بيَّن ذلك؛ فمن همَّ بحسنة فلم يعملها كتبها الله له عنده حسنة كاملة، فإن هو همَّ بها وعملها كتبها الله له عنده عشر حسنات إلى سبعمائة ضعف إلى أضعاف كثيرة)(7).(2/423)
فإن نوى الخير، وكانت النية مستقرة في القلب فحال بينه وبين عمله عذر أو عجز كان له أجر عامل، كما يدل على ذلك حديث أنس ـ رضي الله عنه ـ: أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم - رجع من غزوة تبوك فدنا من المدينة،، فقال: «إن بالمدينة أقواماً ما سرتم مسيراً، ولا قطعتم وادياً إلا كانوا معكم، قالوا: يا رسول الله! وهم بالمدينة؟ قال: وهم بالمدينة، حبسهم العذر»(8)، وحديث أبي كبشة الأنباري ـ رضي الله عنه ـ قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم - : «مثل هذه الأمة كمثل أربعة نفر: رجل آتاه الله مالاً وعلماً فهو يعمل بعلمه في ماله ينفقه في حقه، ورجل آتاه الله علماً ولم يؤته مالاً، فهو يقول: لو كان لي مثل هذا عملت فيه مثل الذي يعمل، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم - : فهما في الأجر سواء، ....»(9)، وحديث أبي موسى الأشعري ـ رضي الله عنه ـ قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم - : «إذا مرض العبد أو سافر كُتب له مثل ما كان يعمل مقيماً صحيحاً»(10)، وحديث عائشة ـ رضي الله عنها ـ أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم - قال: «ما من امرئ تكون له صلاة بليل يغلبه عليها نوم إلا كُتب له أجر صلاته، وكان نومه عليه صدقة»(11)؛ فالنية أبلغ من العمل، والخير كله إنما يجمعه حُسن النية، وإن لم ينصَب العبد.
ت - إرادة أكثر من قُرْبة بالعمل الواحد؛ إذ يُشرَع في بعض الأعمال نية أداء أكثر من طاعة بعمل واحد؛ فالنية الصالحة تُكثِر العمل وتباركه وإن كان قليلاً، كمن يريد بمكثه في المسجد: الاعتكاف، وانتظار الصلاة، وينوي بتناول طعامه: حفظ النفس، والتقوِّي على أعمال البر، وينوي بطهارته: المكث في المسجد، والصلاة، وقراءة القرآن، والطواف، ... ونحو ذلك من الأعمال التي يثاب فيها المرء على تعدد قصده، ويكون جمع نيته فيها أفضل من كثير من الطاعات(12).(2/424)
فيا مسارعاً في الخيرات تفقه في كيفية الظفر بالأجور، ومرِّن نفسك على تطبيقها! فإن أمامك جبالاً من الأجور بإمكانك نيلها دون مشقة أو عناء.
كانت هذه بعض مُعِينات التعبُّد، والموضوع واسع، والمهديُّ من وفقه الله وأعانه. نسأل الله ـ تعالى ـ أن يلهمنا رشدنا، ويهدينا سواء السبيل بمنه وكرمه، إنه جواد تواب رحيم، وصلى الله وسلم على النبي المختار، وعلى آله وصحبه أجمعين.
--------------------------------------------------------------------------------
(1) مجموع الفتاوى، لابن تيمية: 1/171.
(2) جامع العلوم والحكم، لابن رجب: 192-193.
(1) يقول ابن القيم في مدارج السالكين: 2/113 (التوكل نصف الدين، والنصف الثاني: الإنابة؛ فإن الدين استعانة وعبادة، فالتوكل هو الاستعانة، والإنابة هي العبادة).
(2) ذم الهوى، لابن الجوزي: 36.
(3) أحمد (19787)، وصححه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب: (52).
(4) انظر: مفتاح دار السعادة، لابن القيم: 1/40.
(5) إحياء علوم الدين، للغزالي: 3/67.
(6) انظر نحواً من ذلك من كلام القشيري في فتح الباري، لابن حجر: 11/338.
(7) فتح الباري، لابن حجر: 11/338.
(8) أحمد (23997)، ابن حبان (4624)، واللفظ له، وقال الأرناؤوط: إسناده صحيح.
(9) الاستذكار، لابن عبد البر: 8/287.
(10) فتح الباري، لابن حجر: 11/338.
(11) حلية الأولياء، لأبي نعيم: 7/5.
(12) الجامع لآداب الراوي وأخلاق السامع، للخطيب البغدادي: 1/317، الإخلاص والنية، لابن أبي الدنيا: 73.
(13) حلية الأولياء، لأبي نعيم: 3/116.
(14) الصمت، لابن أبي الدنيا: 260.
(15) حلية الأولياء، لأبي نعيم: 10/36.
(16) حلية الأولياء، لأبي نعيم: 10/36.
(17) إحياء علوم الدين، للغزالي: 1/288.
(18) عدة الصابرين، لابن القيم: 39.
(1) صيد الخاطر، لابن الجوزي: 145.
(2) أضواء البيان، للشنقيطي: 6/330.
(3) إحياء علوم الدين، للغزالي: 3/66.
((2/425)
4) ذم الهوى، لابن الجوزي: 27.
(5) البداية والنهاية، لابن كثير: 10/298.
(6) مسلم (2060).
(7) البخاري (589).
(8) البخاري (4289). الشجاع: الحية الذكر.
(1) البخاري (3072).
(2) انظر: مدارج السالكين، لابن القيم: 2/36، بصائر ذوي التمييز، للفيروز آبادي: 2/577.
(3) جامع البيان، للطبري: 5/515، تفسير القرآن العظيم، لابن كثير: 2/296.
(4) مفتاح دار السعادة، لابن القيم: 2/15.
(5) مسلم (2807).
(6) إحياء علوم الدين، للغزالي: 4/142.
(7) صحيح ابن حبان (2993)، وقال الأرناؤوط: إسناده حسن.
(8) مسلم (977)، أحمد (23055)، واللفظ له.
(9) أهوال القبور، لابن رجب: 244.
(10) حلية الأولياء، لأبي نعيم: 6/143.
(11) قصر الأمل، لابن أبي الدنيا (37).
(12) الحلية، لأبي نعيم: 9/266.
(13) أهوال القبور، لابن رجب: 238.
(1) البخاري (6420).
(2) فضائل الصحابة، لأحمد (881).
(3) قصر الأمل، لابن أبي الدنيا (105)، وقد أورد القرطبي في تفسيره: 10/6 مقولة الحسن هذه، وقال عقبها: (وصدق ـ رضي الله عنه ـ! فالأمل يِكْسِلُ عن العمل، ويورث التراخي والتواني، ويعقب التشاغل والتقاعس، ويُخلِد إلى الأرض، ويُميل إلى الهوى؛ وهذا أمر قد شوهد بالعيان فلا يحتاج إلى بيان، ولا يطالب صاحبه ببرهان، كما أن قصر الأمل يبعث على العمل، ويحيل على المبادرة، ويحث على المسابقة).
(4) قصر الأمل، لابن أبي الدنيا (90).
(5) فيض القدير، للمناوي: 4/229.
(6) حادي الأرواح إلى بلاد الأفراح، لابن القيم: 48.
(7) انظر: قصر الأمل، لابن أبي الدنيا (103).
(8) انظر: إحياء علوم الدين، للغزالي: 4/459.
(9) شُعَب الإيمان، للبيهقي (10669).
(10) الفوائد، لابن القيم: 48.
(11) انظر: صيد الخاطر، لابن الجوزي: 193.
(12) الزهد، لهناد: 1/289، رقم: (502).
(13) سنن أبي داود (4810)، وصححه الألباني.
(14) المستدرك، للحاكم: 4/341، وصححه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب (3355).
((2/426)
15) الآداب الشرعية، لابن مفلح: 2/239.
(16) فتح الباري، لابن حجر: 3/299.
(1) مسلم (782).
(2) البخاري (6101)، ديمة: أي دائم شبهته بالمطر الدائم في سكون.
(3) مسلم (746).
(4) البخاري (6098).
(5) مسلم (784).
(6) مسلم (785).
(7) البخاري (1153).
(8) شرح النووي على مسلم: 6/71.
(9) فتح الباري، لابن حجر: 1/94.
(10) أحمد (6477)، وقال الأرناؤوط: إسناده صحيح على شرط الشيخين، والشرَّة: النشاط والحرص.
(11) مدارج السالكين، لابن القيم: 3/126.
(12) الزهد، لابن المبارك (1331).
(13) مسلم (747).
(14) اعتقاد أهل السنة، لللالكائي (10).
(15) مسلم (1028).
(1) مسلم (58).
(2) البخاري (2782).
(3) الآفاقي: الآتي من الآفاق، أي من غير المقيمين في مكة.
(4) انظر: مجموع الفتاوى، لابن تيمية: 10/427 - 429.
(5) مجموع الفتاوى، لابن تيمية: 22/347-348.
(6) مجموع الفتاوى، لابن تيمية: 19/119، وانظر: 17/131-132، 18/238، 22/308 - 309، 23/63، 24/198 - 200.
(7) البخاري (5351).
(8) البخاري (56).
(1) جزء من حديث سعد بن أبي وقاص ـ رضي الله عنه ـ، انظر: البخاري (3936).
(2) مسلم (1006).
(3) شرح النووي على مسلم: 11/77 - 78، وانظر: فتح الباري، لابن حجر: 5/368، عمدة القاري، للعيني: 8/91، فيض القدير، للمناوي: 5/32.
(4) البخاري (4342).
(5) انظر قولي زيد في: الإخلاص والنية، لابن أبي الدنيا: 72، جامع العلوم والحكم، لابن رجب: 13. الكُناسة: اسم موضع بالكوفة.
(6) انظر: مجموع الفتاوى، لابن تيمية: 10/460 - 461، فتح الباري، لابن حجر: 12/275، عون المعبود، للعظيم آبادي: 12/7.
(7) البخاري (6491).
(8) البخاري (4423).
(9) ابن ماجة (4228)، وصححه الألباني.
(10) البخاري (2996).
(11) سنن أبي داود (1314)، وصححه الألباني.
(12) انظر: تلبيس إبليس لابن الجوزي: 221.
* * *(2/427)
http://www.albayan-magazine.com/zwaya/trbwi/67.htm
فقه الظواهر الدعوية في ضوء الكتاب والسنة ظاهرة التآكل الروحي
حمدي شعيب
{وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَن لاَّ مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إلاَّ إلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} [التوبة: 118].
هكذا قصَّ القرآن الكريم تلك النتيجة التي انتهت إليها حالة هذا الثلاثي الجليل من جيل الخيرية؛ وهم كعب بن مالك ومرارة بن الربيع وهلال بن أمية، رضي الله عنهم؛ حيث تخلفوا عن ركب الجهاد، في غزوة العسرة ـ غزوة تبوك ـ وصدقوا مع الله ـ سبحانه ـ ثم معه -صلى الله عليه وسلم - ، فلم يفعلوا كما فعل المنافقون الذين اعتذروا، ولكنهم أعلنوا على لسان كعب ـ رضي الله عنه ـ: «والله ما كان لي من عذر»(1). أي ليس لهم حجة أو عذر للتخلف.
كانت تلك النتيجة شعوراً غريباً لم يألفه كعب ـ رضي الله عنه ـ منذ دخوله لهذا العالم وأُنْسه بهذا المنهج، وكان ألماً نفسياً ضاقت به نفسه ضيقاً شديداً حتى تنكر لها الوجود السابح الساجد لربه.
وتأمل هذه اللمحات الطيبة:
1 ـ التربية النبوية القرآنية كانت سريعة وشديدة؛ ليختبر صدقهم مع الله ـ عز وجل ـ ثم مع النفس، وحكى عنها كعب ـ رضي الله عنه ـ فقال: «ونهى رسول الله -صلى الله عليه وسلم - عن كلامنا أيها الثلاثة من بين من تخلف عنه»(2).
2 ـ وكأنما يشارك في هذه المقاطعة كل الخلائق، من البشر ومن الجماد بل والوجود كله، استجابة وجندية وطاعة لأمره سبحانه. وتدبَّر مشاركة الأرض: «فاجتنبنا الناس ـ أو قال: تغيروا لنا ـ حتى تنكرت لي في نفسي الأرض؛ فما هي بالأرض التي كنت أعرف»(3).(2/428)
3 ـ لقد كانت المحنة من الشدة بحيث أفرزت هذا الشعور؛ شعور أن الأرض والوجود كله يشارك في المقاطعة، والشعور أنه قد غدا شاذاً عن هذه المنظومة العابدة الساجدة الذاكرة لربها: «حتى تنكرت لي في نفسي الأرض».
4 ـ هذا الشعور لا تحسّه إلا نفس مؤمنة عاشت طويلاً متناسقة ومتوافقة، وكانت معروفة لهذه المنظومة: «فما هي بالأرض التي كنت أعرف».
لقد كانت هنالك علاقة حب وودّ، ليس فقط مع المجتمع؛ بل مع الأرض، ومع الوجود كله، ثم انقطعت بمجرد تقصير في طاعة الله عز وجل.
وكم من شواذ لا يستشعرون شذوذهم!
وما ذاك إلا لغياب الرابطة السابقة مع هذه المنظومة.
وعندما تغيب هذه الرابطة؛ يغيب الرصيد في بنك الخير والطاعة والعبودية.
وتأمل يونس بن متى ـ عليه السلام ـ وهو يبين فضل هذا الرصيد الذي نفعه في محنته:
{وَذَا النُّونِ إذ ذَّهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَن لَّن نَّقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَن لاَّ إلَهَ إلاَّ أَنتَ سُبْحَانَكَ إنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ} [الأنبياء: 87].
إنه الرصيد العظيم للأيام العظيمة؛ للمحن المركبة، والظلمة المركبة؛ (ظلمة حوت في بطن حوت آخر في ظلمة البحر. وأنه ذهب به الحوت في البحار يشقها حتى انتهى به إلى قرار البحر، فسمع يونس تسبيح الحصى في قراره، فعند ذلك وهنالك قال: {لاَّ إلَهَ إلاَّ أَنتَ سُبْحَانَكَ إنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ} [الأنبياء: 87].
5 ـ إنه لألم عظيم أن تستشعر الرفض والشذوذ ممن حولك، خاصة في المواقف الصعبة؛ وإنها لمصيبة كبرى أن تفتقد الرصيد، عند اللحظات الفاصلة، وهل هناك أصعب من المشاعر عند مشهد النهاية.
وتدبَّر مصيبة آل فرعون عند مشهد نهايتهم، ولحظات رحيلهم: {فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالأَرْضُ وَمَا كَانُوا مُنظَرِينَ} [الدخان: 29].(2/429)
فلم تك لهم أعمال صالحة تصعد في أبواب السماء فتبكي على فقدهم، ولا لهم في الأرض بقاع عبدوا الله ـ تعالى ـ فيها فقدتهم، فلهذا استحقوا أن لا يُنظَروا ولا يؤخَّروا لكفرهم وإجرامهم وعتوِّهم وعنادهم.
6 ـ ضرورة الفهم لأي قضية، حتى لا يساء الظن، ولا تُترك في النفوس أي أقاويل.
وتدبَّر كيف فسر كعب ـ رضي الله عنه ـ قضيته مصححاً معنى أنهم خُلِّفُوا، وكأنها أحد جوانب محنته العظيمة؛ وهي عدم فهم قضيته؛ عدم فهم خطئه: «كنا خُلِّفنا أيها الثلاثة عن أمر أولئك الذين قَبِلَ منهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم - حين حلفوا له، فبايعهم واستغفر لهم، وأرجأ رسول الله -صلى الله عليه وسلم - أمرنا حتى قضى الله فيه؛ فلذلك قال الله ـ تعالى ـ: {وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا} [التوبة: 118]، وليس الذي ذُكر مما خُلِّفنا، تخلُّفنا عن الغزو، وإنما هو تخليفه إيّانا وإرجاؤه أمرنا عمن حلف له واعتذر إليه فقبل منه)(1).
وإنه لشعور أليم أن يساء فهم موقفك؛ خاصة عند الابتلاء.
والشعور الأكثر إيلاماً أن لا تُترك لك الفرصة أن تصحح موقفك.
? ما معنى ظاهرة التآكل الروحي؟
هذه اللمحات الطيبة ما هي إلا بعض الإضاءات التي تركز على جانب واحد من الجوانب العديدة في قصة محنة كعب ـ رضي الله عنه ـ وهو الجانب المرتبط بسنة إلهية اجتماعية، تفسر لنا ظاهرة تربوية؛ وهي (ظاهرة التآكل الروحي).
وهي ظاهرة تنشأ من خلل في التوازن التربوي بين طاقات العبد الثلاث، وهي: طاقة العقل، وطاقة البدن، وطاقة الروح؛ حيث يقل حظ الجانب الروحي في أعمال العبد، مثل: التفريط في بعض الفرائض، وغيرها من أعمال اليوم والليلة من السنن، مثل: الذكر، والدعاء، والاستغفار، وتلاوة القرآن.
وينشأ نوع من الخلل أو الانفصام المركب:
أولاً: داخلياً يستشعر العبد قسوةً وجفاءً مع نفسه.
ثانياً: خارجياً، يستشعر العبد قسوةً وجفاءً مع الوجود كله.(2/430)
والنتيجة هي الشعور بأن النفس والوجود يتنكران له؛ فما هي بالنفس وما هو بالوجود الذي يعرفهما.
وبمعنى آخر: هي الظاهرة التي تبحث في حالة صدأ القلب، أو حالة الجفاء الروحي التي يستشعرها العبد المؤمن، عندما يقصر في طاعة الله ـ سبحانه ـ؛ فلا يستشعر للعبادة حلاوة، ولا للطاعة لذَّة، ويقاسي ألم البعد عنه عز وجل، ويتحول هذا إلى شعور بوحدة قاسية، ومسافات شاسعة، وحواجز نفسية تفصل بينه وبين الخلائق، خاصة الصالحين.
ويسير في الأرض ـ والعياذ بالله ـ كالحيران الذي تتقاذفه عوامل الجذب في كل اتجاه، ويصبح كحلبة يلتقي عليها المتصارعون، أو يكون نقطة التقاء للصراع عليه بين استهواء وإغواء شياطين الإنس والجن، وبين رفقة الخير من الدعاة المصلحين: {كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الأَرْضِ حَيْرَانَ لَهُ أَصْحَابٌ يَدْعُونَهُ إلَى الْهُدَى ائْتِنَا قُلْ إنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [الأنعام: 71].
ويمتد هذا الشعور بغياب لذة الطاعة وألم البعد عنه ـ سبحانه ـ إلى حالة من غياب الرغبة في الحياة عموماً، وضياع اللذة في المعيشة في الدنيا، ثم فوق ذلك استشعار خيبة الأمل في النجاة في الآخرة:
{وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى} [طه: 124].(2/431)
وهو تحذير منه ـ سبحانه ـ لكل مُعرِض «أي خالف أمري وما أنزلته على رسولي، أعرض عنه وتناساه وأخذ من غيره هداه؛ فإن له معيشة ضنكاً؛ أي ضنك في الدنيا فلا طمأنينة له ولا انشراح لصدره، بل صدره ضيق حرج لضلاله، وإن تنعم ظاهره ولبس ما شاء وأكل ما شاء وسكن حيث شاء؛ فإن قلبه ما لم يخلص إلى اليقين والهدى فهو في قلق وحيرة وشك فلا يزال في ريبة يتردد، فهذا من ضنك المعيشة. عن أبي سعيد في قوله (معيشة ضنكاً) قال: يضيق عليه قبره حتى تختلف أضلاعه فيه، وقال عكرمة: عمي عليه كل شيء إلا جهنم، ويحتمل أن يكون المراد أنه يُبعث أو يُحشر إلى النار أعمى البصر والبصيرة»(2).
? خطورة الظاهرة دعوياً:
فالخطورة تأتي من أن هذا التآكل يهدد الأساس الذي يُخرِج ناشئة الليل؛ وهم الربانيون ويعطّل حركة انبعاث أو عملية إيجاد هؤلاء الربانيين الذين سيحملون القول الثقيل؛ وهي الأمانة التي كان من قدر الإنسان أن يحملها؛ وهو المنهج الرباني، أو هو القرآن الكريم الذي أنزله ـ سبحانه ـ ليس إلى البشرية فقط؛ بل إلى الوجود كله، وتدبَّر مغزى هذه التوجيهات الكريمة المبكرة في عمر الدعوة والداعية: {يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ * قُمِ اللَّيْلَ إلاَّ قَلِيلاً * نِّصْفَهُ أَوِ انقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً * أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً * إنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً * إنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلاً} [المزمل: 1 ـ 6].
فكيف سيتخرج هذا الرباني المنشود دون قيام ليل، ودون ترتيل للقرآن الكريم وتدبُّر له؟!
وكيف سيحمل المنهج الرباني دون المرور على محطة السَّحَر التي هي أفضل الأوقات واللحظات؛ ليتوافق السمع مع البصر مع اللسان مع الفؤاد ـ أي كل كيانه ـ لفقه الرسالة وفهم المنهج؟!
وكيف يسير وحده على طريق مبارك يلزمه مشاركة الوجود معه دون التوافق مع سننه ـ سبحانه ـ الإلهية؟!(2/432)
وكيف سيتوافق مع هذه السنن الإلهية، ويستشعر مشاركة الوجود معه في عبادته من قيام واستغفار بالسحر وترتيل للقرآن الكريم؛ إلا في تلك اللحظات الخاصة؟!
وكما ورد عنه -صلى الله عليه وسلم - أن هذه اللحظات، يحتكرها فقط عباد الرحمن.
? هل ظاهرة التآكل الروحي سنة إلهية؟
وعندما نقول إنها سنة إلهية فإننا نقصد أن هذه الظاهرة هي محصلة لفعل قوانين ربانية، وقواعد إلهية ثابتة، أو هي نتيجة لوجود أسباب بشرية وزمانية ومكانية انطبقت عليها القوانين الإلهية فكان الجزاء في صورة تلك الظاهرة.
ونذكِّر أن السنن الإلهية؛ هي:
1 ـ سنن إلهية كونية تنظم عالم المادة في الآفاق.
2 ـ سنن إلهية اجتماعية تنظم عالم الأحياء أو الأنفس.
وهذه السنن الإلهية تتميز بسمات ثلاث هي: العموم، والثبات، والاطراد ـ أي التكرار ـ إن وجدت الظروف البشرية والمكانية والزمانية.
إذن هذا الجفاء الروحي نتيجة لخلل ترتب على وجود أسباب بشرية من فعل العبد.
وعندما نقول إن ظاهرة التآكل الروحي سنة إلهية اجتماعية نقصد أنها من القوانين الربانية والقواعد الإلهية المنظمة لعالم الأحياء، أو الأنفس، وخاصة البشر.
أي أن لها أسباباً أوجدتها، وهذه الأسباب أوجدت خللاً، وهذا الخلل أوجب العقاب الإلهي أو الجزاء، وهذا العقاب تحكمه قوانينُ تعرف بالسنن الإلهية الاجتماعية. والأسباب أو الظروف البشرية هنا هي التقصير بكل درجاته، والنتيجة المترتبة هي حالة القسوة القلبية والانفصال عن المنظومة الكونية العابدة، والمعادلة أو القانون أو سلسلة تتابع هذه السنة الإلهية هي كالتالي:
(أسباب تعود إلى العبد ـ خلل تربوي ـ عقاب إلهي على هيئة جزاء من جنس العمل).
وبمعنى أبسط: هذه الظاهرة، أو هذا الشعور ما هو إلا نتيجة لعقاب الله ـ عز وجل ـ للعاصي والمسرف المقصر في طاعته سبحانه.(2/433)
أي إذا قصر العبد في طاعته ـ سبحانه ـ فإنه يترتب على ذلك خلل داخل العبد مع نفسه، وخارجه؛ أي مع المجتمع ومع الوجود العابد لربه، وهنا تأتي السنَّة الإلهية في هيئة عقاب من نفس نوع الأسباب التي عملها العبد؛ أي يزيده بُعداً وجفاء مع نفسه ومع الوجود من حوله.
وتدبَّر هذا الحوار بين العبد وربه؛ فلقد تساءل العبد: ما جرمه؟ وما سبب هذا العقاب؟ وكانت الإجابة منه ـ عز وجل ـ؛ حيث يبين الحق ـ سبحانه ـ هذا القانون القرآني العام، أو السنة الإلهية الاجتماعية التي تنطبق على كل من أسرف في الذنوب، وقصَّر في الطاعة.
«ولهذا يقول: {قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيرًا} [طه: 125] ؛ أي في الدنيا. قال: {قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى} [طه: 126]؛ أي لما أعرضت عن آيات الله وعاملتها معاملة من لم يذكرها بعد بلاغها إليك تناسيتها وأعرضت عنها وأغفلتها كذلك اليوم نعاملك معاملة من ينساك {فَالْيَوْمَ نَنسَاهُمْ كَمَا نَسُوا لِقَاءَ يَوْمِهِمْ هَذَا} [الأعراف: 51] فإن الجزاء من جنس العمل»(1).
ثم يبين الحق ـ سبحانه ـ هذا القانون القرآني العام الآخر، أو السنة الإلهية الاجتماعية الأخرى؛ والتي تنطبق على كل من أسرف في غيه وكذب بآياته سبحانه:
{وَكَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِآيَاتِ رَبِّهِ وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى} [طه: 127].
(يقول ـ تعالى ـ وهكذا نجازي المسرفين المكذبين بآيات الله في الدنيا والأخرة لهم عذاب في الحياة الدنيا، «ولعذاب الآخرة أشق وما لهم من الله من واقٍ»، ولهذا قال: {وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى} أي أشد ألماً من عذاب الدنيا وأدوم عليهم، فهم مخلدون فيه، ولهذا قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم - للمتلاعنين: «إن عذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة...»(2).
? ما أعراض هذه الظاهرة؟(2/434)
لهذه الظاهرة الكثير من الأعراض العامة والخاصة.
أولاً: الأعراض العامة:
وهي الآثار العامة الكثيرة للذنوب؛ أي العقوبات التي نغفل عنها ولا ندري ما سببها، والتي منها: «حرمان العلم والفقه في الدين، ووحشة يجدها العاصي في قلبه بينه وبين الله ـ سبحانه ـ، والوحشة بينه وبين الناس، واستشعار الظلمة بالقلب، وضعف البصيرة، وحرمان الطاعة، ووهن القلب والبدن، وقصر العمر ومَحْقُ البركة، والوقوع في سلسلة الذنوب، وزيادة إرادة المعصية، وهوان العبد على الله عز وجل، واستصغار الذنوب، وذهاب الحياء، والحرمان من دعاء الرسول -صلى الله عليه وسلم - والملائكة واستغفارهم للمؤمنين والمؤمنات، وعدم توقير القلب لله سبحانه، ونسيان الله ـ سبحانه ـ لعبده، وزوال النِّعم وحلول النِّقم)(3).
ثانياً: الأعراض الخاصة:
وهي التي نقصد بها الأعراض التي تؤثر على الجانب الدعوي التربوي.
ويمكن تقسيمها إلى قسمين:
الأول: استشعار الغربة الداخلية مع النفس؛ مثل:
1 ـ عدم الشعور بحلاوة العبادة، مثل: الفرائض، وقراءة القرآن الكريم، والذِّكر.
2 ـ تسرُّب اليأس إلى النفس.
3 ـ فقدان الأمل بموعوده ـ سبحانه ـ وموعود نبيه -صلى الله عليه وسلم - .
4 ـ عدم الشعور بلذَّة البذل الدعوي، وكأنه عمل روتيني وظيفي.
5 ـ عدم الإقبال على حضور اللقاءات التربوية ومجالس العلم والذِّكر.
6 ـ التقصير في عمل اليوم والليلة؛ من صلاة وذكر وقراءة القرآن الكريم.
7 ـ عدم الشعور باللَّهفة للقاء أولياء الله من الدعاة والصالحين المتحابين في الله.
8 ـ الشعور بالكآبة والحزن والاكتئاب، واستفحال هموم الدنيا والرزق.
9 ـ الفتور العبادي.
الثاني: استشعار الغربة الخارجية؛ وهذا على أنواع ومراتب:
(أ) الشعور بالغربة مع المؤسسة التربوية؛ مثل:
1 ـ عدم الهمَّة في إنجاز التكاليف.
2 ـ التقصير في الواجبات.
3 ـ المطالبة بالحقوق.
4 ـ كثرة النقد.(2/435)
5 ـ استشعار الجفوة بينه وبين أعضاء المؤسسة، وضعف رابطة الأخوة والمحبة.
6 ـ الفتور الدعوي.
(ب) الشعور بالغربة مع المجتمع؛ مثل: ضعف الشعور بمفهوم الخروج إلى الناس، ومقتضياته؛ مثل:
1 ـ التقصير في الواجب الدعوي، والمهمة الرئيسة للمسلم مع مجتمعه من أمر بمعروف ونهي عن منكر.
2 ـ التقصير في فعل الخير.
3 ـ ضعف الشعور بحب الناس والقرب منهم.
4 ـ الفتور الانعزالي، وبغض مخالطة الناس.
(ج) الشعور بالغربة مع الوجود الكبير؛ مثل:
1 ـ الشعور بعدم الأُنس بالوجود الكبير؛ مثلما حدث مع كعب رضي الله عنه.
2 ـ عدم التفاعل مع الخلائق والاندماج في المنظومة العابدة، وغياب الشعور بلذَّة العبودية الجماعية الشاملة.
وتدبَّر هذا الأُنس المؤمن، والتفاعل بين الخالق ونعمه، ومع الخلائق وامتنانهم بنِعَم خالقهم، وتأمَّل هذا الربط الطيب بين ذكر الرحمن، وبين ذكر نعمة تعليم القرآن الكريم وتفهيمه، ونِعَمة خلق الإنسان، ونعمة تعليمه النطق والبيان، وبين حركة الشمس والقمر المقدرة بإتقان وحساب دقيق، وسجود النجم؛ وهو النبات الذي ليس له ساق، فيمتد على الأرض ساجداً عابداً لربه العظيم، وكذلك سجود الشجر؛ أي النبات الذي له ساق، فيرتفع سامياً شامخاً بعبوديته، ونعمة رفع السماء بلا عمد، ووضع الموازين والمقاييس السماوية الربانية للوجود، والسنن الإلهية، ثم الأمر بالطاعة لهذه الموازين والسنن بالقسط والعدل، ثم ربط هذا كله بنعمة عظيمة مغفول عنها؛ ألا وهي نعمة تمهيد الأرض للخلائق للعيش بسلام.
كل ذلك في منظومة عابدة ساجدة لا يشذُّ عنها إلا هالك، ولا يغفل عنها إلا جاحد، ولا ينكرها إلا ضالّ.
{(2/436)
الرَّحْمَنُ * عَلَّمَ الْقُرْآنَ * خَلَقَ الإنسَانَ * عَلَّمَهُ الْبَيَانَ * الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ * وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ * وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ * أَلاَّ تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ * وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ * وَالأَرْضَ وَضَعَهَا لِلأَنَامِ}
[الرحمن: 1 - 10].
? ما سُبُل علاجها؟
وسُبُل العلاج منها العام ومنها الخاص.
أولاً: السبل العامة:
وهي طرق العلاج العامة المشروعة لأسباب التقصير في طاعته ـ سبحانه ـ، الباعثة إلى الخلل في مسيرة العبد، مما يترتب عليه جزاء من جنس العمل ألا وهو حالة الجفاء القلبي؛ أو ما يُعرف بظاهرة التآكل الروحي.
ونقول إنها عامة، للحالات العامة؛ أي تفيد أي عبد قاسى من هذه الظاهرة.
ومن هذه السُّبل:
1 ـ الذِّكر.
2 ـ تلاوة القرآن الكريم.
3 ـ الصلاة.
4 ـ صحبة الصالحين.
5 ـ الاستغفار.
6 ـ الدعاء.
7 ـ قراءة التاريخ.
8 ـ التفكُّر في خلق السماوات والأرض.
9 ـ زيارة القبور.
ثانياً: السُّبل الخاصة:
وهي السُّبل الخاصة المشروعة، للحالات الخاصة؛ والمفيدة لأسباب خاصة من التقصير في طاعته ـ سبحانه ـ.
حيث يستشعر العبد أنه يمتلك قوة معينة تنطلق من أدائه لعبادة معينة.
فإذا فتَّش في ذاته وتلمَّس سبباً معيناً من أسباب التقصير، وجد على الفور قوة ربانية معينة، تنطلق من طاعة معينة؛ فتعينه على معالجة هذا السبب الخاص.
فيظل يعالج سبباً سبباً، حتى يبرأ من كل أسباب التقصير، فينمحي الخلل، فيجازيه الحق ـ سبحانه ـ جزاءً من جنس عمله.(2/437)
أي يبدأ في طاعة معينة تعالج سبباً معيناً اكتشفه في نفسه، ويجتهد فيها ويداوم عليها فترة، بينه وبين ربه الودود الكريم، فينمحي الخلل النفسي الداخلي، فيستشعر أنه بدأ المسير المبارك؛ فيجازيه الحق الحنان المنان الرحيم ـ سبحانه ـ بأن يهديه إلى طاعة أخرى وييسّرها له؛ فالطاعة عنده ـ سبحانه ـ تؤدي إلى طاعة، فيسمو روحياً، ويظل يترقى ما دام سائراً على طريقه: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} [العنكبوت: 69].
وتدبَّر هذا الحديث، وتأمَّله وكأنك تقرؤه لأول مرة:
عن الحبيب -صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «إن الله ـ سبحانه وتعالى ـ أمر يحيى بن زكريا ـ عليهما الصلاة والسلام ـ بخمس كلمات أن يعمل بها، ويأمرَ بني إسرائيل أن يعملوا بها، وأنه كاد أن يبطئ بها، فقال له عيسى ـ عليه السلام ـ: إن الله ـ تعالى ـ أمرك بخمس كلمات لتعمل بها؛ وتأمر بني إسرائيل أن يعملوا بها، فإما أن تأمرهم وإما أن آمرهم، فقال يحيى: أخشى إن سبقتني بها أن يُخسَف بي وأُعذَّب. فجمع يحيى الناس في بيت المقدس، فامتلأ المسجد، وقعد على الشرف، فقال: إن الله ـ تبارك وتعالى ـ أمرني بخمس كلمات أن أعملهن وآمركم أن تعملوا بهن: أولُهنّ أن تعبدوا الله ولا تشركوا به شيئاً، وإن من أشرك بالله كمثل رجلٍ اشترى عبداً من خالص ماله بذهبٍ ووَرِقٍ(*)، فقال: هذه داري وهذا عملي، فاعمل وأدِّ إليَّ؛ فكان يعمل ويؤدي إلى غير سيده؛ فأيُّكم يرضى أن يكون عبده كذلك؟(2/438)
وإن الله أمركم بالصلاة؛ فإذا صليتم فلا تلتفتوا؛ فإن الله ينصب وجهه لوجه عبده في صلاته ما لم يكن يلتفت، وأمركم بالصيام؛ فإن مثل ذلك كمثل رجلٍ في عصابة معه صرّة فيها مِسك، كلهم يعجب، أو يعجبه ريحه، وإن ريح الصائم أطيب عند الله تعالى من ريح المسك. وأمركم بالصدقة؛ فإن مثل ذلك مثل رجلٍ أسره العدو، فأوثقوا يديه إلى عنقه، وقدّموه ليضربوا عنقه، فقال: أنا أفتدي منكم بالقليل والكثير، ففدى نفسه منهم. وأمركم أن تذكروا الله ـ تعالى ـ فإن مثل ذلك كمثل رجلٍ خرج العدو في أثره سراعاً؛ حتى إذا أتى على حصنٍ حصينٍ، فأحرز ـ أي حمى ـ نفسه منهم؛ كذلك العبد لا يحرز نفسه من الشيطان إلا بذكر الله تعالى.
قال النبي -صلى الله عليه وسلم - : وأنا آمركم بخمسٍ، اللهُ أمرني بهن: السمع، والطاعة، والجهاد، والهجرة، والجماعة؛ فإنه من فارق الجماعة قيدَ شبر فقد خلع ربقة الإسلام ـ أي عروة من الحبل تُشدّ إليه ـ من عنقه إلا أن يراجع، ومن ادّعى دعوى الجاهلية؛ فإنه جُثى ـ بضم الجيم وكسرها ـ جهنم. فقال رجل: يا رسول الله! وإن صلى وإن صام؟ قال: وإن صلى وصام ـ في المسند أضاف: وزعم أنه مسلم ـ فادعوا بدعوى الله الذي سمَّاكم المسلمين المؤمنين عباد الله»(1).
قال ابن القيم ـ رحمه الله ـ: «في هذا الحديث العظيم الشأن ـ الذي ينبغي لكل مسلم حفظه وتعقُّله ـ ما يُنجي من الشيطان، وما يحصل للعبد به الفوز والنجاة في دنياه وأخراه. فالمقصود أن الله عز وجل، قد أمدَّ العبد بالجنود والعدد والأمداد، وبيّن له ما يحرز به نفسه من عدوه، وبماذا يفتكُّ نفسه إذا أُسِرَ»(2).
ونحن في هذا المقام سنحاول التركيز فقط على جانب الاهتمام بالدعاء والاستغفار؛ لما لهما من آثار وقوة تعين العبد في سيره المبارك، وكبابين عظيمين من أبواب التربية الروحية.(2/439)
القوة الدعائية: وهي من القوى المطلوبة لعلاج هذه الظاهرة؛ ونعني بها تنمية فن استمطار التوفيق الإلهي، وذلك بالدعاء الخاشع، والثقة فيما عنده ـ سبحانه ـ، وحسن الظن به ـ سبحانه ـ.
وإذا كان للدعاء أهمية كباب عظيم من أبواب التربية الروحية عند الفرد المسلم، فهو في حق الداعية أوجب وأهم.
وذلك لأن الداعية في طريقه يحتاج إلى ركائز ثلاث؛ هي:
1 ـ الفكرة الربانية: أي القاعدة التي توجه كل سكناته وحركته، فيكون سلوكه في الحياة ترجمة لها.
فما من فرد أو جماعة أو مؤسسة أو أمم؛ إلا وتحركهم فكرة معينة دفينة أو ظاهرة.
2 ـ العمل الدؤوب: أي سلوكه في خدمة هذه الفكرة، وهو الجهد البشري المطلوب لأي عمل {إيَّاكَ نَعْبُدُ}.
فما من فرد أو مؤسسة أو أمة أو أمم؛ إلا وسلوكهم، ما هو إلا ترجمة للفكرة التي يحملونها.
3 ـ والدعاء الخاشع: وهو طلب التوفيق الإلهي {وَإيَّاكَ نَسْتَعِينُ}.
فما من عمل موفق إلا ويقوم على دعامتين؛ جهد بشري، وتوفيق إلهي.
وللقوة الدعائية دورها التربوي الروحي، وأسرارها الطيبة البعيدة؛ والتي منها:
(أ) تدبُّر أمره ـ سبحانه ـ بالدعاء، ثم تحذيره للذين يستكبرون عن التوجه لله بأن يتوجهوا أذلاء صاغرين لجهنم: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} [غافر: 60].
فهي دعوة للتمسك بسلاح الدعاء كجانب عبادي، والعبادة من أهم وسائل التربية الروحية.
(ب) تدبُّر بعض ما ورد في فضل الدعاء وأسراره، وكيف أن بعض الدعوات المخلصة قد استحالت إلى قوى مادية حركت الصخرة التي عجز ثلاثة من الرجال أن يحركوها عن باب الغار! وذلك في قصة (الثلاثة والصخرة) التي رواها الحبيب -صلى الله عليه وسلم - (3).(2/440)
وهذه أسرار مباركة للدعاء، لا يشعر بها إلا من مرَّ بتجربة خاصة، يستشعر فيها كيف أن الحق ـ سبحانه ـ يمنُّ على عباده المتقربين إليه، المتذللين إليه بأنواع العبادة المختلفة، فيجدونها وقد استحالت من مجرد قوى معنوية، إلى قوى مادية ربانية ذات آثار ملموسة ومعلومة، وبذلك يُفتح للعبد أبواب متعددة من أبواب التربية الروحية.
«وهذه (القوة الدعائية) ـ التي كان لها الأثر المادي العظيم، كما ورد في قصة (الثلاثة والصخرة) ـ لا يدرك سرَّها إلا من عايش جوَّ هذه الآية: {أَمَّن يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ}، فالمضطر في لحظات الكربة والضيق لا يجد له ملجأ إلا الله يدعوه ليكشف عنه الضر والسوء؛ ذلك حين تضيق الحلقة، وتشتد الخنقة، وتتخاذل القوى، ويتهاوى الأسناد، وينظر الإنسان حواليه فيجد نفسه مجرداً من وسائل النصرة وأسباب الخلاص، لا قوته، ولا قوة في الأرض تنجده، في هذه اللحظة تستيقظ الفطرة فتلجأ إلى القوة الوحيدة التي تملك الغوث والنجدة، ويتجه الإنسان إلى الله ولو كان نسيه من قبل في ساعات الرخاء؛ فهو وحده دون سواه، الذي يجيب المضطر إذا دعاه، فيجيبه ويكشف عنه السوء، وينجيه من الضيقة الآخذة بالخناق»(1).
(ج) تدبُّر ما ورد في دعاء الخليل ـ عليه السلام ـ: {فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهْوِي إلَيْهِمْ} [إبراهيم: 37].
وكيف طلب منه ـ سبحانه ـ أن يربط بين مشروعه الحضاري العظيم ـ وهو مشروع الحج ـ وبين أفئدة البشر، كعلاقة وجدانية قلبية، وعامل خفي يخاطب القلوب ويجذبها، كما جذبت فكرة هذا العمل العظيم عقول البشر.
وهذا يبين الفرق بين المشروع الحضاري الذي يقوم على فكرة ربانية، والمشاريع الأخرى القائمة على أفكارٍ مغايرة.(2/441)
فالمشروع الحضاري الإسلامي يخاطب الفطرة البشرية، ويحىط الإنسان من كل جوانبه؛ على أساس التوازن بين الجانب العقلي والجانب البدني، والجانب الروحي، فهو يخاطب العقل بالفكر، ويخاطب الجسد بتحرِّي أكل الحلال، والاهتمام به كأمانة، ثم يخاطب الروح فترتبط القلوب والمشاعر بهذه العلاقة الوجدانية الروحية.
ولقد كانت وصايا الحبيب -صلى الله عليه وسلم - بالدعاء تفوق الحصر، منها: «الدعاء هو العبادة»(2).
وكذلك كانت وصايا مصابيح أمتنا، ومنها: هذا النكير الذي أرسله الإمام الشافعي ـ رحمه الله ـ على من يهزؤون بالدعاء:
أتهزأ بالدعاء وتزدريه وما تدري بما صنع الدعاءُ
سهام الليل لا تخطي ولكن لها أمد، وللأمد انقضاءُ
فيرسلها إذا ما شاء ربي ويمسكها إذا حُمَّ القضاءُ
وحتى تؤتي هذه (القوة الدعائية) أُكلها، كان على المسلم أن يلتزم بالآداب العشر لسلاح الدعاء:
(الأول: أن يترصد الأوقات الشريفة؛ كيوم عرفة من السنة، ورمضان من الأشهر، ويوم الجمعة من الأسبوع، ووقت السَّحَر.
الثاني: أن يغتنم الأحوال الشريفة؛ كحال الزحف في سبيل الله، وعند نزول الغيث، وحالة السجود.
الثالث: أن يدعو مستقبلَ القبلة، ويرفع يديه.
الرابع: أن يخفض الصوت بين المخافتة والجهر.
الخامس: أن لا يتكلف السجع في الدعاء، والأوْلى الاهتمام بالدعوات المأثورة.
السادس: أن يتضرع ويخشع رغبة ورهبة.
السابع: أن يجزم الدعاء ويوقن بالإجابة ويصدق رجاءه فيه.
الثامن: أن يلحَّ في الدعاء، ويكرره ثلاثاً، ولا يستبطئ الإجابة.
التاسع: أن يفتتح الدعاء بذكر الله، وأن يصلى على النبي -صلى الله عليه وسلم - ويختتم بها.
العاشر: وهو الأدب الباطن، وهو الأصل في الإجابة، أن يسبق الدعاءَ التوبةُ وردُّ المظالم)(3).(2/442)
القوة الاستغفارية: التي يستشعرها كل من استجاب لنداء التوبة، فأكثرَ من الاستغفار، فيجد أن لديه قوى خفية لم يعهدها من قبل، ويستشعر أن هنالك فيوضات وبركات تزيده يقيناً بموعوده ـ سبحانه ـ: {وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُم مِّدْرارًا وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إلَى قُوَّتِكُمْ وَلا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ} [هود: 52]، وننظر في هذا الوعد، وهو يتعلق بإدرار المطر ومضاعفة القوة، وهي أمور تجري فيها سنةَّ الله وفق قوانين ثابتة في نظام هذا الوجود، من صنع الله ومشيئته بطبيعة الحال؛ فما علاقة الاستغفار بها؟ وما علاقة التوبة؟ فأما زيادة القوة فالأمر فيها قريب ميسور، بل واقع مشهود، فإن نظافة القلب والعمل الصالح في الأرض يزيدان التائبين العاملين قوةً، يزيدانهم صحة في الجسم: بالاعتدال، والاقتصار على الطيبات من الرزق، وراحة الضمير، وهدوء الأعصاب، والاطمئنان إلى الله، والثقة برحمته في كل آنٍ، ويزيدانهم صحة في المجتمع؛ بسيادة شريعة الله الصالحة التي تطلق الناس أحراراً كراماً، كما تطلقان طاقات الناس ليعملوا وينتجوا ويؤدوا تكاليف الخلافة في الأرض)(4).
وهكذا...
ومن خلال تدبُّر القوى الخفية للعبادات والأسرار الدفينة للطاعات، يستطيع المسلم أن يتلمَّس باقي القوى العبادية الأخرى، والتي تناسب حالته الخاصة وظروفه الخاصة.
ثم...
ومن خلال هذه اللمحات التربوية، في هذه المحاولة المتواضعة، نرجو أن نكون قد وفقنا بعونه ـ تعالى ـ في تحليل هذه السنة الإلهية الاجتماعية، التي تفسر (ظاهرة التآكل الروحي) عند المسلمين عامة، وعند الدعاة خاصة.
--------------------------------------------------------------------------------
(*) عضو رابطة الأدب الإسلامي العالمية.
((2/443)
1) جزء من حديث كعب الطويل في ذكر تخلفه عن غزوة تبوك، أخرجه البخاري، كتاب المغازي، رقم 4066، ومسلم كتاب التوبة، رقم 4973.
(2، 3) المرجع السابق.
(1) متفق عليه.
(2) تفسير القرآن العظيم: ابن كثير ـ تفسير سورة طه آية 124، بتصرف.
(1) تفسير القرآن العظيم: ابن كثير ـ تفسير سورة طه الآيتان 125 ـ 126.
(2) تفسير القرآن العظيم: ابن كثير ـ تفسير سورة طه الآية 127.
(1) الجواب الكافي لمن سأل عن الدواء الشافي: الإمام ابن القيم رحمه الله، المكتبة السلفية، القاهرة، الطبعة الثالثة 1400هـ، 60 إلى 125، بتصرف شديد.
(*) الورِق: الفضة.
(1) أخرجه أحمد في مسنده 4/202، والترمذي من حديث الحارث الأشعري، وقال: هذا حديث حسن صحيح.
(2) الكافي لمن سأل عن الدواء الشافي: الإمام ابن القيم رحمه الله، المكتبة السلفية، القاهرة، الطبعة الثالثة، 1400هـ، 31 و 32، بتصرف. (3) متفق عليه.
(1) في ظلال القرآن: سيد قطب 20/2658.
(2) أخرجه أبو داود وحسنه الترمذي.
(3) تهذيب موعظة المؤمنين: القاسمي 70 ـ 72، بتصرف.
(4) في ظلال القرآن: سيد قطب 12/1897.
--------------------------------------------------------------------------------
* * *
http://www.albayan-magazine.com/zwaya/trbwi/68.htm
المناخ الأسري السليم وسِماته
حسين بن عجاب العوفي
من حكمة الله ـ عز وجل ـ أنه جبل الإنسان على حاجات نفسية تساعده على البقاء، وتحميه من الهلاك، ويتعدى دورها في أحيان كثيرة إلى الحماية من الانحراف والضياع.(2/444)
وهذه الحاجات قد تكون ظاهرة ومعلومة للجميع، مثل: الحاجة إلى الغذاء أو الحاجة إلى النوم ونحو ذلك؛ إلا أن الكثير من الحاجات النفسية المؤثرة في حياة الإنسان لا تكون معلومة إلا للمتخصص مما يعظم دوره في النفع العام وخدمة المجتمع، ويُعْظِم كذلك المسؤولية الواقعة على كاهل كل منا في تثقيف الذات ورفع مستواها في المجالات المؤثرة في مسيرتها في الحياة.
ومن رحمة الله بعباده أن جعل بعض السلوكيات والعادات الإنسانية خادمة لاحتياجات كثيرة ومتعددة في وقت واحد، بل من رحمته أن جعل هذه الحاجات متداخلة ويشبع بعضها بعضاً.
ومن الطباع البشرية المشبعة لاحتياجات نفسية متعددة: الأسرة؛ فهي مغذية لحاجة الأبوة والأمومة والحب والحنان والجنس بالنسبة للزوجين، والخبرة والتقدير والمسؤولية والسلطة الضابطة والانتماء والإنجاز؛ إلى آخر القائمة من الحاجات. وليس هدفنا من هذا المقال تفصيلها وبيان كيفية إشباعها، بل الهدف بيان السمات الأسرية المعينة والمحققة للدور الأسري الفعال.
ولعلنا نذكر تلك السمات على شكل نقاط فيكون أوضح للمراد وأخصر للمقال، ولا يعني ترتيب السمات تسلسل الأهمية، بل كل السمات مهمة، وتوافرها متكاملة يعطينا المناخ الأسري السليم، وبحسب النقص فيها يحصل الخلل في مناخ الأسرة:
? السمة الأولى: تتسم عملية التأديب والتربية في المناخ الأسري السليم بالإيجابية:
وجوانب الإيجابية هنا متعددة، ومن ذلك:
1 - الحب والقبول غير المشروط:
أخرج الشيخان عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ قال: قَبَّلَ النبي -صلى الله عليه وسلم - الحسن بن علي ـ رضي الله عنهما ـ فقال الأقرع بن حابس: إن لي عشرة من الولد ما قبَّلت منهم أحداً. فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم - : «من لا يرحم لا يُرحم»(1).(2/445)
التقبيل ما هو إلا مؤشر من مؤشرات الحب والرحمة من الوالد لولده، ودلائل هذه المحبة كثيرة ومتعددة، والأصل ظهورها من الوالد لولده ومعرفة الولد لها، والبعد عن وضع الشروط والمقاييس لمنح هذه المحبة للولد. والشرط الوحيد الذي من الممكن دخوله في هذا الأمر هو القرب والبعد عن الإسلام أو الطاعة كما في عقيدة الولاء والبراء؛ فهذا المقياس يدخل فيه جميع الخلق سواء كانوا من الأقارب أو الأباعد؛ ولذا قال الله ـ عز وجل ـ لنوح ـ عليه السلام ـ الأب الذي يرجو ربه أن ينقذ ابنه من الغرق: {وَنَادَى نُوحٌ رَّبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ * قَالَ يَا نُوحُ إنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إنِّي أَعِظُكَ أَن تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ * قَالَ رَبِّ إنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وإلاَّ تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُن مِّنَ الْخَاسِرِينَ} [هود: 45 - 47].
فمن القوة في التفريق والإبعاد نفي كونه من أهله، والسبب في ذلك الفرق الاعتقادي بين الوالد وولده.
أما في غير هذا الشرط فالأصل أن يُعطَى الولد مطلق المحبة، ولا نقيدها بنجاح أو إخفاق، ولا بموافقة أو مخالفة، ولا بحسن مظهر أو سوئه. يقول الدكتور عبد الكريم بكار: «يحبنا أطفالنا؛ لأننا نقدم لهم حباً غير مشروط، وهذا ما علينا أن نفعله؛ فالأولاد هدية من الله ـ تعالى ـ وعلينا أن نتقبل تلك الهدية مهما كان شأنها»(1).
ويقول الدكتور كمال دسوقي: «يحتاج الأطفال من الناحية الانفعالية أول ما يحتاجون إلى الشعور بالأمان العاطفي؛ بمعنى أنهم محبوبون كأفراد ومرغوب فيهم لذاتهم وأنهم موضع حب وإعزاز الآخرين»(2).(2/446)
وتقول الدكتورة هدى قناوي: «ولا شك أن تقبُّل الطفل غير المشروط على ما هو عليه يؤثر في فكرة الطفل عن نفسه، وتوجد علاقة وثيقة بين تقبل الذات وتقبل الآخرين، ومن ثم يمكن القول إن تقبل الطفل على ما هو عليه يعزز إيجابية مفهوم الفرد عن ذاته وتقبله لها وتكيفه مع الآخرين مما يؤثر في النهاية على سلامة صحة الطفل النفسية»)(3).
ولا يعني الحب غير المشروط التسليم بالأخطاء، بل السعي لعلاجها بالطرق التربوية الإيجابية مع توافر ذلك الحب.
2 - التركيز على الإيجابيات:(2/447)
يقول علماء الهندسة النفسية: «ما تركز عليه تحصله»، وهذا الأمر ينطبق على النظرة إلى الذات وكذلك النظرة إلى الآخرين، ومنهم أعضاء المجتمع الأسري. فتركيز النظرة على الجوانب الإيجابية في أعضاء الأسرة يزيل بالتدريج ـ ومن غير أن نشعر ـ الجوانب السلبية لديهم. عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم - : «لا يَفْرَكْ مؤمن مؤمنة إن كره منها خُلُقاً رضي منها آخر»(4)، فلا يخلو إنسان من إيجابيات تستحق التشجيع والثناء، وهذا التركيز هو نوع من أنواع التعزيز للصفة الإيجابية مما يوسع دائرة الإيجابيات على حساب دائرة السلبيات. يقول الدكتور عمر المفدى خلال كلامه عن تكوُّن مفهوم الذات لدى الأطفال: «أما كيف تنشأ هذه الأفكار التي تشكل مفهوم الذات؟ فإنها تنشأ من خلال ردود أفعال الآخرين تجاه الشخص أو تجاه سلوكه؛ فالطفل الذي يكرر عليه الآخرون أنه جيد وحلو وذكي وغيرها من الصفات الإيجابية من المتوقع أن يتجه مفهومه عن ذاته للإيجابية؛ بينما الطفل الذي يكرر على مسامعه بأنه طفل سيِّئ أو شرير أو غبي وغيرها من الصفات السلبية؛ فمن المتوقع أن يتجه في مفهومه لذاته نحو السلبية»(5). ومن مشاكل النظرة السلبية أنها لا تؤثر على المتربي أو الآخر فقط، بل تؤثر على نفس المربي فتجعله يغفل أو لا يستطيع أن يرى الإيجابيات، بسبب الغشاوة التي وضعها على عينيه لعدم عدله بالتركيز؛ ويوافق هذا الأمر قول الشاعر:
وعين الرضا عن كل عيب كليلة
ولكن عين السخط تبدي المساويا
3 - الحماية المسبقة من السلبيات:(2/448)
فالوقاية خير من العلاج، والعلاج في القضايا التربوية والنفسية قد لا يستطيع إزالة العلة أو المرض أو المشكلة التربوية تماماً، بل في أحيان كثيرة لا بد من بقاء نسبة ولو قليلة من آثار ومظاهر تلك المشكلة؛ وهنا تكمن الخطورة؛ ولذا أصبح البحث عن الدروع الواقية والمانعة من وجود السلبيات من أقوى طرق التربية. وعندما رأى النبي -صلى الله عليه وسلم - مع عمر صحيفة فيها شيء من التوراة غضب، وقال: «أمُتَهَوِّكون فيها يا ابن الخطاب؟ والذي نفسي بيده! لقد جئتكم بها بيضاء نقية، لا تسألوهم عن شيء فيخبروكم بحق فتكذبوا به، أو بباطل فتصدقوا به، والذي نفسي بيده! لو أن موسى ـ عليه السلام ـ كان حياً ما وسعه إلا أن يتبعني»(6)، وما كان النبي -صلى الله عليه وسلم - ليفعل ذلك مع مثل عمر إلا من أجل حماية ذلك الجيل ومن بعدهم من دخول سلبيات الأمم الأخرى عليهم أو وقوعهم في الخلل في مصدر التلقي، فكانت الشدة في أول الأمر مع ما يُتصور أنه سهل ويسير للحماية مما هو أشد وأعظم.
ومن جوانب الحماية المسبقة من السلبيات ما يلي:
أ - تنمية الانضباط الداخلي:
عن ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ قال: كنت خلف رسول الله يوماً، فقال: يا غلام! إني أعلمك كلمات: احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك، إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله، واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، ولو اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رُفِعَت الأقلام وجفَّت الصحف»(7). في هذا الحديث يُعلِّم النبي -صلى الله عليه وسلم - هذا الغلام الصغير قواعد أساسية في الانضباط الداخلي يحتاج إليها الكبير قبل الصغير.
فمن أقوى جوانب تنمية الانضباط الداخلي لدى الإنسان تقوية مراقبة الله في قلبه، ووسائل تنمية ذلك متعددة وكثيرة، وليس هذا موضع بسطها.(2/449)
ومن جوانب الانضباط الداخلي معرفة المعايير الاجتماعية ومعايير الأسرة وغرس الاهتمام بها وتقديرها لدى المتربي. وسيأتي الكلام عنها في السمة الثانية.
ب - اختيار البيئة الصالحة لأفراد الأسرة:
أمر النبي -صلى الله عليه وسلم - أصحابه بالهجرة إلى الحبشة لما اشتد بهم الأذى وفتنوا في دينهم، فكان اختياره للحبشة كبيئة جديدة للمهاجرين معللاً بأن فيها ملكاً عادلاً لا يُظلم عنده أحد، وبناءً على ذلك سيكون لديهم القدرة على أداء عباداتهم والتمسك بدينهم ومنع أي مؤثر خارجي على هذا الجانب. ولم يكتف النبي -صلى الله عليه وسلم - بتلك البيئة المناسبة لوجود بعض السلبيات فيها، بل ما زال -صلى الله عليه وسلم - يبحث عن بيئة أفضل من تلك البيئة، فعرض نفسه على قبائل العرب حتى تحققت له الفرصة وبايع الأنصار وهاجر إلى المدينة؛ ومن هناك تحققت الانطلاقة الكبرى للدين الجديد وبلغ الآفاق، وتربى أتباعه في بيئة إسلامية صافية وسالمة من كل سمات الجاهلية. وهذا الأسلوب ـ وهو أسلوب البحث عن البيئة الصالحة ـ من أهم أساليب التربية الاستباقية ـ إن صح التعبير ـ إذ فيها تربية جماعية، واختصار لجهد المربي وبعد عن الانشغال ببُنَيَّات الطريق. فعلى رب الأسرة لكي يحمي أسرته من السلبيات أن يختار لهم البيئة الصالحة. والمراد بالبيئة هنا الحي والمدرسة، بل ما يشاهد وما يسمع وما يقرأ، بل يتجاوز الأمر ذلك إلى اختيار أقارب الأسرة الذين يستطيع رب الأسرة قبولهم أو رفضهم وهم أخوال أبنائه؛ إذ عليه أن يختار لهم أماً من بيئة صالحة تساعد أبناءه على الاستقامة والنجاح؛ إلا أن هذا الاختيار محصور بما قبل الزواج ومجيء الأولاد؛ فإذا تم ذلك فقد انتهى الاختيار.
4 - الاتفاق بين الأبوين على طرق التربية وتبادل الأدوار:(2/450)
فوسائل التربية متعددة وما يناسب أسرة قد لا يناسب أخرى، والأدوار المطلوبة من كلا الوالدين مختلفة، وعلى الوالدين تحديدها وعقد الاجتماعات الخاصة بينهما من أجل مناقشة قضايا الأسرة، وحل المشاكل التي قد تطرأ بينهما بعيداً عن نظر بقية أفراد الأسرة. ومن الأخطاء التي تقع فيها كثير من الأمهات إخفاء الجوانب السلبية لدى الأولاد عن والدهم: إما خوفاً عليهم من سطوة والدهم، أو ظناً منها إمكانية الحل دون علمه، أو مخالفته بسلبية هذا الجانب. ومما يقع فيه الآباء ويسبب هذه المشكلة لدى الأمهات الشدة والغلظة الدائمة أو اللامبالاة والانشغال عن بيته بصحبه وجلسائه أو أعماله، وتتعدى دائرة الاتفاق الأبوين ويدخل فيها الإخوة الكبار والأقارب الذين لهم احتكاك دائم بأفراد الأسرة.
يقول الدكتور عبد الكريم بكار: «ولا ينبغي أن ننسى أهمية التنسيق بين باقي أفراد الأسرة؛ فالأجداد والجدات والعمات والخالات والإخوة الكبار يستطيعون إجهاض العديد من السياسات والجهود التربوية للأبوين»(1)، ويقول الدكتور مأمون مبيض: «إنه لأمر معين ونافع أن يكون لك أقرباء جيدون يسكنون بقربك؛ حيث يقدمون لك المساعدة العملية والمعنوية، ولا شك أن هذا الدعم المعنوي والنفسي أمر مفيد جداً؛ لأنك قد تتعرض لبعض القلق وانشغال البال وأنت تعمل على تنشئة ولدك»(2).
? السمة الثانية: تتضح فيه معايير المقبول والمرفوض:
عن وهب بن كيسان قال: أُتي رسول الله -صلى الله عليه وسلم - بطعام ومعه ربيبه عمر بن أبي سلمة فقال: «سَمِّ الله، وكُلْ بيمينك، وكُلْ مما يليك»(3).
وعن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ أن الحسن بن علي أخذ تمرة من تمر الصدقة، فجعلها في فيه، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم - بالفارسية: «كخ كخ! أما تعرف أنَّا لا نأكل الصدقة؟»(4).
في هذين الحديثين يبين النبي -صلى الله عليه وسلم - للصغيرين معايير عليهما الالتزام بها.(2/451)
ووضوح هذه المعايير لدى أفراد الأسرة له دور في الاستقرار النفسي كما أن له دوراً في المشاركة العملية والإنجاز داخل الأسرة وخارجها؛ لأن الفرد قد عرف ماله وما عليه؛ فتبين له المراد، وسهلت عليه المنافسة، واستطاع تحقيق حاجة أساسية من الحاجات النفسية وهي الحاجة إلى إرضاء الآخرين وإرضاء المجتمع.
يقول الدكتور حامد زهران: «ويحتاج الطفل إلى مساعدة في تعليم المعايير السلوكية نحو الأشخاص والأشياء. ويحدد كل مجتمع هذه المعايير السلوكية، وتقوم المؤسسات القائمة على عملية التنشئة الاجتماعية ـ مثل الأسرة والمدرسة ووسائل الإعلام وغيرها ـ بتعليم هذه المعايير السلوكية للطفل مما يساعد في توافقه الاجتماعي. إن الطفل يحتاج إلى المساعدة في تعلم حقوقه، وما له وما عليه، وما يفعله وما لا يفعله، ما يصح وهو في خلوة وما يصح وهو في جماعة، ما يصح وهو في حدود الأسرة وما يصح وهو خارج نطاقها... إلخ. ويحتاج إشباعُ هذه الحاجة من جانب الكبار إلى كثير من الخبرة والصبر والثبات والفهم»(5).
? السمة الثالثة: له مواعيد منضبطة وقواعد واضحة:
عن أبي برزة أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم - «كان يكره النوم قبل العشاء والحديث بعدها»(6).
وعن جابر ـ رضي الله عنه ـ عن النبي -صلى الله عليه وسلم - قال: «إذا استجنح الليل ـ أو قال: جنح الليل ـ فكفُّوا صبيانكم؛ فإن الشياطين تنتشر حينئذٍ؛ فإذا ذهب ساعة من العشاء فخلُّوهم، وأغلق بابك واذكر اسم الله، وأطفئ مصباحك، واذكر اسم الله وأَوْكِ سقاءك، واذكر اسم الله، وخمِّر إناءك، واذكراسم الله ولو تعرض عليه شيئاً»(7).
هذا جانب من تنظيم الإسلام للحياة الأسرية؛ وما اهتم الإسلام بهذا الجانب إلا لدوره وأثره النفسي والتربوي.(2/452)
يقول الدكتور عبد الكريم: «من مسؤوليات الأم إشاعة النظام في بيتها، فتجعل وقتاً محدداً لتناول وجبات الطعام، كما تجعل وقتاً لنوم الأطفال وأوقاتاً يُنهون فيها مذاكراتهم وواجباتهم؛ إن مثل هذه الترتيبات والتنظيمات ترسِّخ في حس الأبناء معنى الانضباط والاهتمام بالوقت»(8).
ويقول الدكتور إبراهيم الحارثي: «تَعَوَّدْ وضع قوانين لك ولأسرتك، وأشرك جميع أفراد أسرتك في صياغة القوانين العائلية. اعقد جلسات أسرية لمناقشة القانون الذي تضعه لحل مشكلة ما، ركِّز دائماً على الالتزام بالقوانين الأسرية التي تضعونها جميعاً»(1).
ومن القواعد التي لا بد من وضوحها لدى أفراد الأسرة عواقب السلوك وما يترتب عليه من ثواب أو عقاب؛ إذ في ذلك شعور بمسؤولية الفرد عن تصرفاته وتحمله ما يترتب عليها وتقبُّله لتلك العواقب عند وقوعها؛ إذ يشعر الكل أن ما تم هو نتيجة طبيعية ترتبت على سلوك معين؛ فلا يترتب على العقاب الشعور بالظلم والقهر والتسلط، ولا يترتب على الثواب الغيرة أو الشعور بتفضيل أحد أفراد الأسرة على حساب الآخر.
ولكي تحقق هذه القواعد والضوابط أهدافها لا بد من وجود سلطة ضابطة يشعر أعضاء الأسرة بوجودها، وهذه السلطة حاجة أساسية من الحاجات النفسية في الطفولة والمراهقة، والناس فيها بين إفراط وتفريط، وكلا طرفي قصد الأمور ذميم، والزيادة في السلطة والتشديد فيها يؤدي إلى وجود الصراع بين الكبار والصغار في الأسرة، بل ويؤدي إلى انفراط السيطرة في النهاية.
والإخلال في السلطة وعدم القيام بها يؤدي إلى الضياع والفوضى داخل المجتمع الأسري، والمطلوب سلطة ضابطة تجمع بين الحزم والحنان والرحمة، وتراعي مراحل النمو وتندرج نحو الاستقلال والحرية.
? السمة الرابعة: تتبادل فيه المسؤوليات والأدوار:(2/453)
عن عبد الله بن عمر ـ رضي الله عنهما ـ أنه سمع رسول الله -صلى الله عليه وسلم - يقول: «كلكم راع ومسؤول عن رعيته؛ فالإمام راع وهو مسؤول عن رعيته، والرجل في أهله راع وهو مسؤول عن رعيته، والمرأة في بيت زوجها راعية وهي مسؤولة عن رعيتها، والخادم في مال سيده راع وهو مسؤول عن رعيته. قال: فسمعت هؤلاء من رسول الله -صلى الله عليه وسلم - ، وأحسب النبي -صلى الله عليه وسلم - قال: والرجل في مال أبيه راع وهو مسؤول عن رعيته؛ فكلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته»(2).
ولو تتبعنا منهجية النبي -صلى الله عليه وسلم - في تربية أصحابه لوجدنا توزيع المهام والمسؤوليات واضحاً وجلياً؛ فمنهم من تولى جانباً عملياً، ومنهم من أُعد لجانب علمي، ومنهم من تولى شأناً من شؤون النبي -صلى الله عليه وسلم - وخدمته.
والأدوار التي من الممكن تبادلها داخل الأسرة كثيرة ومتعددة، ومن الممكن تجزئتها أو دمجها حسب عدد أفراد الأسرة، ويأتي على رأس القائمة الوالدان وتبادلهما للدور التربوي والقيادي في الأسرة واتفاقهما على ذلك كما ذكر في السمة الأولى.
وإنه لمن المحزن في هذا العصر أن تجد شباباً قد قاربوا سن الزواج ولَمَّا يستطيعوا إدارة شؤونهم وحوائجهم الخاصة، فلا توجد لديهم قدرة على بيع أو شراء، ولا إنجاز معاملة في دائرة أو جهة، بل ولا القدرة على اختيار ما يناسبهم من ملبس ونحوه.
والفتيات ليس لديهن القدرة على إدارة منزل من طبخ أو غسل أو تربية أو استقبال ضيوف.(2/454)
يقول الدكتور مصطفى فهمي: «يؤكد كثير من علماء النفس أهمية العمل في تكامل الشخصية؛ فهو وسيلة ومن وسائل التعبير عن الذات يحاول بها الفرد أن يحقق أهدافه وأن يشبع رغباته وحاجاته، وأن يحيل قيمه ومثله حقيقة واقعة، وأن يعبر عن دوافعه وصراعه وقلقه بصورة مقبولة منه ومن المجتمع في معظم الأحيان، وهو في أثناء التفاعل مع الوسط الذي يعمل فيه ينمو وتتكامل شخصيته وتتحقق ذاته ويشعر بقيمته وإنسانيته(3). وذكر الدكتور عبد العزيز النغيمشي عند كلامه عن التهيئة لتحمل المسؤولية أن من ضمن المجالات التي تعين على ذلك المشاركة الأسرية، وعلل ذلك بقوله: «إذ إن الأسرة كالمجتمع الصغير لها أعضاء وأنظمة وقيادة وميزانية وبرامج وعادات، ويمكن من خلالها ممارسة كثير من الأدوار والمسؤوليات. والأسرة هي المحضن الأول للفرد الذي فيه يترعرع وينشأ؛ ووفق كيفية النشأة والتربية في الأسرة تكون استقلاليته أو تبعيته وإقدامه أو إحجامه»(4).
إلا أن إعطاء هذه الأدوار والمسؤوليات لا بد أن يكون بتدرج وتدريب مسبق ومراقبة من المربي لئلا يؤدي ذلك إلى نتيجة عكسية.
? السمة الخامسة: يشجع المشاركة الاجتماعية:
عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم - : «كل سلامى من الناس عليه صدقة كل يوم تطلع فيه الشمس: يعدل بين الاثنين صدقة، ويعين الرجل على دابته فيحمل عليها أو يرفع عليها متاعه صدقة، والكلمة الطيبة صدقة، وكل خطوة يخطوها إلى الصلاة صدقة، ويميط الأذى عن الطريق صدقة»(5).
وقال -صلى الله عليه وسلم - : «المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يسلمه، من كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته، ومن فرَّج عن مسلم كربة فرج الله عنه بها كربة من كرب يوم القيامة، ومن ستر مسلماً ستره الله يوم القيامة»(6).(2/455)
إن تحميل الهم العام للأمة، وغرس حب خدمة الآخرين وتقوية الشعور بالانتماء للمجتمع الذي يعيش فيه الفرد كل ذلك يساعد الفرد في اكتشاف الذات، وتحقيق الإنجاز الذي هو حاجة من الحاجات النفسية التي يحتاج الإنسان إلى إشباعها، وهي في الوقت نفسه وسيلة من وسائل بناء وتطوير الذات وتوسع دائرة العلاقات لدى الفرد.
ومن المجالات المتاحة في المشاركة الاجتماعية النشاط المدرسي اللامنهجي من توعية إسلامية، ونشاط كشفي، وجماعات النشاط الطلابي المتنوعة؛ ففي هذا المجال غرس البذرة الأولى للمشاركة الاجتماعية لدى أفراد الأسرة ممن ينتمون إلى التعليم باختلاف مراحله، ومن المجالات المتاحة في المشاركة الاجتماعية المؤسسات والجمعيات الخيرية النفعية أو الدعوية أو العلمية.
وعلى الوالدين إعانة أولادهم على المكان الأنسب لهم من بين تلك المجالات وفتح المجال لهم للاختيار.
واندماج أفراد الأسرة في البرامج الاجتماعية المتنوعة يساعد الأسرة في صقل شخصيات أفرادها وقوة الارتباط الأسري، والبعد عن سفاسف الأمور والانشغال بالترهات الملهية مما يرفع قوة الطرح في الجلسات الأسرية، ويفتح المجال لتبني مشاريع أسرية مشتركة، بل يؤثر تأثيراً ظاهراً في الأجيال المتتابعة من الأسرة الواحدة.
يقول الدكتور أمين أبو لآوي مبيناً مكانة المشاركة الاجتماعية في التربية الإسلامية: «تتجه التربية الإسلامية إلى زرع بذور التعاضد والتماسك والتضامن في نفوس الناشئين من أجل تحقيق اتجاه العمل الجماعي والشعور بالمسؤولية عن الجماعة؛ وذلك عن طريق إبراز أهمية العمل المنظم والهادف إلى رصِّ الصف وتنسيق الجهود الفردية لخدمة الأهداف العليا في المجتمع الإسلامي»(1).
? السمة السادسة: يشجع النجاح والتميز:
قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم - : «نِعْمَ الرجل عبد الله لو كان يصلي من الليل. فكان عبد الله بعدُ لا ينام من الليل إلا قليلاً»(2).(2/456)
وعن عبد الرحمن بن سمرة ـ رضي الله عنه ـ قال: «جاء عثمان إلى النبي -صلى الله عليه وسلم - بألف دينار حين جهز جيش العسرة فينثرها في حجره. قال عبد الرحمن: فرأيت النبي -صلى الله عليه وسلم - يقلبها في حجره ويقول: «ما ضر عثمان ما عمل بعد اليوم»(3).
وعن ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم - للأشج، أشج عبد القيس: «إن فيك خصلتين يحبهما الله: الحلم والأناة»(4).
ولو تتبعنا سيرة النبي -صلى الله عليه وسلم - لوجدنا فيها مواقف متعددة لاستنفار الطاقات وتشجيع المواهب.
وهذا الجانب يعطي الشعور بالثقة وتقدير الآخرين للمتربي، ويقوي فاعليته وانتماءه للجهة التي منحته الفرصة لإظهار ما لديه من قدرات، ويساعد في تكرار النجاح والحرص عليه.
يقول الدكتور مأمون مبيض: «من الأهمية بمكان أن يبذل الآباء بعض الجهد في تعلم أساليب التشجيع فهو من أهم الأمور التي يمكنهم استعمالها في التربية وهو من الأمور المؤثرة في الأنواع الأخرى من السلوك»(5).
وتشجيع النجاح والتميز في الأسرة لا يكون عن طريق التمييز في الحقوق بين أعضائها أو الاهتمام ببعضهم وإهمال الآخرين، بل يكون بغرس المفاهيم الصحيحة للنجاح، وفتح المجال للإنتاج والإبداع، وتوفير الوسائل المساعدة على ذلك والتحفيز المدروس والصادق الواقعي لمظاهر النجاح لدى أفراد الأسرة.
? السمة السابعة: لديه أوقات للمرح والفكاهة والاستجمام:
عن عائشة ـ رضي الله عنها ـ «أنها كانت مع النبي -صلى الله عليه وسلم - في سفر قالت: فسابقته فسبقته على رجلي، فلما حملت اللحم سابقته فسبقني، فقال: هذه بتلك السبقة»(6).
وعنها ـ رضي الله عنها ـ قالت: «رأيت النبي -صلى الله عليه وسلم - يسترني بردائه وأنا أنظر إلى الحبشة يلعبون في المسجد حتى أكون أنا التي أسأم، فاقدروا قدر الجارية الحديثة السن الحريصة على اللهو»(7).(2/457)
وعن عبد الله بن شداد عن أبيه قال: خرج علينا رسول الله -صلى الله عليه وسلم - في إحدى صلاتَيِ العشاء وهو حامل حَسناً أو حُسيناً، فتقدم رسول الله -صلى الله عليه وسلم - فوضعه، ثم كبَّر للصلاة، فصلى، فسجد بين ظهراني صلاته سجدة أطالها. قال أبي: فرفعت رأسي وإذا الصبي على ظهر رسول الله -صلى الله عليه وسلم - وهو ساجد، فرجعت إلى سجودي، فلما قضى رسول الله -صلى الله عليه وسلم - الصلاة قال الناس: يا رسول الله! إنك سجدت بين ظهراني صلاتك سجدة أطلتها حتى ظننا أنه قد حدث أمر أو أنه يوحى إليك. قال: «كل ذلك لم يكن ولكن ابني ارتحلني فكرهت أن أُعَجِّله حتى يقضي حاجته»(8).
وعن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ قال: قالوا يا رسول الله إنك تداعبنا، قال: «إني لا أقول إلا حقاً»(9).
إن إغناء أفراد الأسرة عن الالتفات إلى خارج الأسرة أو البحث عمن يشبع حاجة من حوائجهم أمر مهم، وعلى قائد الأسرة الاهتمام به. والمرح والفكاهة والاستجمام من الأشياء المهمة المهملة من الكثير من الآباء لعدم الاقتناع، أو لكثرة مشاغله، وقد اعتبر الكثير من التربويين اللعب والمرح وسيلة من وسائل التربية، بل أُلِّف في ذلك كتب متعددة ورسائل متخصصة.
يقول خالد العودة: «للترويج دور مهم في التربية الخلقية والروحية إضافة إلى دوره في الجوانب الأخرى، والأسرة محتاجة إلى اللعب والترويح حاجة أساسية كحاجتها للطعام والشراب أحياناً»(10).
ووسائل الترويح في الأسرة المسلمة متعددة، ومن ذلك المداعبة والمزاح والنزهة والرحلة الأسرية، وتوفير لعب الأطفال الهادفة، والتجمعات العائلية، وزيارة المتاحف والمعارض المفيدة، وتوفير الكتب والأشرطة السمعية والمرئية وبرامج الحاسب الآلي التعليمية والترفيهية ووسائل الإعلام؛ إلى آخر القائمة من الوسائل التي بإمكان الأب توفيرها لأسرته وفق الضوابط الشرعية.(2/458)
يقول خالد العودة: «وإدارة الترويح المنزلي تتميز بكونها شأن أسري خاص يصعب التحكم فيه من خارجها، ولذا تزداد مسؤولية الوالدين في اختيار الأنماط والتطبيقات المناسبة»(1).
? السمة الثامنة: يتسم بالمرونة ومراعاة الظروف:
الأسرة محضن تربوي يستمد مكانته من النصوص الشرعية التي هي بدورها منضبطة بقواعد من ضمنها: «لا ضرر ولا ضرار» و «المشقة تجلب التيسير» وعدم المؤاخذة عند الجهل أو النسيان أو الإكراه.
ولا يخلو عضو من أعضاء الأسرة من ظروف تمر به وتمنعه من تحقيق الأهداف العامة للأسرة من مرض ومشاغل وتعكُّرِ مزاجٍ وقلة ذات اليد، ونحو ذلك.
فلا يعني وجود خطط أو أهداف أو اتفاقيات محددة داخل الأسرة أن نكون صارمين في تحقيقها؛ فقد تضطر الأسرة لتأجيل بعض برامجها أو إلغائها، أو قد تضطر للتعامل بطريقة معينة مع أحد أفرادها؛ لأنه يمر بمرحلة نمو معينة، أو قد تتنازل الأسرة عن بعض مطالبها لصعوبات مالية تمر بها.
ولو تتبعنا سنة النبي -صلى الله عليه وسلم - في ذلك لوجدنا اليسر والسهولة والبساطة.
عن أنس ـ رضي الله عنه ـ قال: «كان النبي -صلى الله عليه وسلم - عند بعض نسائه، فأرسلت إحدى أمهات المؤمنين بصحفة فيها طعام فضربت التي النبي -صلى الله عليه وسلم - في بيتها يد الخادم فسقطت الصحفة، فانفلقت، فجمع النبي -صلى الله عليه وسلم - فلق الصحفة، ثم جعل يجمع فيها الطعام الذي كان في الصحفة، ويقول: غارت أمكم. ثم حبس الخادم حتى أتى بصحفة من عند التي هو في بيتها، فدفع الصحفة الصحيحة إلى التي كُسِرت صحفتها، وأمسك المكسورة في بيت التي كَسَرَت»(2).(2/459)
قال أنس ـ رضي الله عنه ـ: «كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم - من أحسن الناس خُلُقاً، فأرسلني يوماً لحاجة فقلت: والله! لا أذهب، وفي نفسي أن أذهب لما أمرني به نبي الله -صلى الله عليه وسلم - قال: فخرجت حتى أمرَّ على صبيان وهم يلعبون في السوق؛ فإذا رسول الله -صلى الله عليه وسلم - قابض بقفاي من ورائي، فنظرت إليه هو يضحك، فقال: يا أُنَيْسُ! اذهب حيث أمرتك! قلت: نعم أنا اذهب يا رسول الله! قال أنس: واللهِ لقد خدمته سبع سنين أو تسع سنين ما علمت قال لشيء صنعتُ: لِمَ فعلتَ كذا وكذا، ولا لشيء تركتُ: هلاَّ فعلتَ كذا وكذا!»(3).
ولا يعني ذلك اللين أو المداهنة في المحرمات، بل على رب الأسرة حمايتها من كل ما يخالف الشرع، والإنكار على من وقع في منكر منهم مع اعتبار الآداب الشرعية في ذلك.
عن عائشة ـ رضي الله عنها ـ أن قريشاً أهمهم شأن المرأة المخزومية التي سرقت، فقالوا: ومن يكلم فيها رسول الله -صلى الله عليه وسلم - ؟ فقالوا: ومن يجترئ عليه إلا أسامة بن زيد حب رسول الله -صلى الله عليه وسلم - ؟ فكلمه أسامة فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم - : «أتشفع في حد من حدود الله؟ ثم قام فاختطب، ثم قال: إنما أهلكَ الذين قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد، وايم الله! لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها»(4).
ومن المرونة في الحياة الأسرية النظرة الإيجابية للمشكلات؛ فلا يخلو تجمع بشري منها. والإيجابية هنا في تقبُّل وجود المشكلة، وأنها أمر طبيعي لا يعني انتهاء العلاقة الأسرية أو فسادها. ومن الإيجابية في النظرة إلى المشكلات الأسرية السعي لعدم ترسبها في الأسرة واستغلالها كحدث تربوي.
? السمة التاسعة: يسود فيه الأدب والاحترام المتبادل:(2/460)
عن ابن عباس ـ رضي الله عنه ـ قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم - : «ليس منا من لم يرحم صغيرنا ويوقر كبيرنا ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر»(5).
يتصور الكثير من الناس أن الأدب والاحترام عندما يُطلق يراد به احترام الأصغر لمن هم أكبر منه سواء كان ذلك في العمر أو في غيره؛ مع أن الاحترام قضية تبادلية لا يمكن أن توجد من الإنسان تجاه من لا يحترمه، ولكي يكون الاحترام سمة من سمات أسرنا علينا أن نسعى لتوفير سمات المناخ الأسري السليم في أسرنا؛ إذ بتوفيرها يشعر عضو الأسرة بالانتماء إليها والحرص على مصالحها ومحبته لأعضائها، وعلينا كذلك أن نحرص على توفير أمرين مهمين لهما أثرهما في الاحترام المتبادل.
أ - العدل بين أفراد الأسرة:
في الحقوق والواجبات وعدم إشعار أحد منهم أن غيره مقدم عليه أو أفضل منه.
يقول الدكتور عادل رشاد: «إن عطاءنا لأبنائنا يجب أن يكون متوازناً بشكل عام؛ فلا ينبغي أن يشعر الأبناء بأنك تفضل بعض أطفالك على بعضهم الآخر، وأي اختلال لهذه القاعدة كفيل ببعث الغيرة والكراهية ومن ثَم تهيئة أسباب النزاع بين الإخوة»(6). ويقول مجاهد ديرانية: «إن التفضيل في المحبة بين الأولاد خطأ فادح؛ أما إظهار ذلك والتصريح به فهو خطيئة، بل هو جريمة لا تغتفر ولا تعود أضرار ذلك على المفضولين فقط بأن ينشؤوا ساخطين أو معقَّدين، بل إن الضرر يكون أوسع من ذلك؛ بحيث يسود بين الإخوة أنفسهم روح الحسد والضغينة ومشاعر الكره المتبادل»(7).(2/461)
وهذا العدل لا يكون في العطاء أو العاطفة فقط، بل حتى بالتكليف والمطالبة بالمشاركة في أعمال الأسرة؛ فبعض الآباء يركز على أحد أبنائه لسرعة استجابته أو لإتقانه العمل، ويظهر ذلك في تركيز الوالدين على الابن الأول أو البنت الأولى، فتجد هذين يقومان بالكثير من أدوار الوالدين في الأسرة، وهذا الأمر يؤدي إلى سلبيات تربوية متعددة من أقلها الحقد والكره بين الإخوة؛ فالمكلف بالعمل يرى أنه قد أثقل عليه بالعمل وفتح المجال للآخرين للهو وإنجاز ما يريدون من أعمال، والآخرون يرون أن والديْهم لا يثقان بهم كما يثقان بالمكلف بالعمل.
ب - فتح باب الحوار داخل الأسرة:
إن تنفيذك للأمر وأنت مقتنع فيه لا شك أنه سيكون أفضل وأتقن مما لو فعلته بالإكراه وقوة السلطة. ومن المحال أن يتقبل الإنسان فكرة من الأفكار عن طريق الإكراه والسلطة التعسفية حتى لو أظهر خلاف ذلك تجنباً للضرر الذي قد يلحق به عند المخالفة، ولا يقف الأمر عند هذا الحد، بل يؤدي إلى التفكك ونشوء النجوى والثللية داخل الكيان الواحد، ولذا فمن الخير للأسرة ولكي تسود فيها الشفافية والجماعية في اتخاذ القرار أن يفتح فيها باب الحوار لنقاش المشكلات.
يقول سلمان خلف الله: «للحوار قيمة حضارية وإنسانية، وعلينا أن نعمل ونأخذ به في حياتنا وممارساتنا التربوية والأسرية، ويجب أن تؤمن به كل أمة. والحوار يخلق التفاعل الدائم بين الطفل من ناحية وبين المنهج والمعلم من ناحية أخرى؛ فلا بد أن يوصل الحوار إلى كشف الحقيقة وخاصة إذا كانت غائبة؛ فهو الوسيلة المهمة في بناء شخصية الطفل كفرد وكشخصية اجتماعية، وهو يخلق أيضاً روح المنافسة بين الأطفال، فيحملهم على الدخول في ميادين المناقشة العلمية. وكذلك يثبت فيهم روح الجماعة والتعاون، ويبعد عنهم الأنانية وحب الذات المفرط، ويبث فيهم روح الألفة والمحبة، ويعودهم على النظام والتعاون، ويساعد على الابتكار واحترام الطفل لذاته»(1).(2/462)
ومن صور الحوار التي أدت إلى المحبة والألفة والاقتناع، ومنعت من التمادي في الخلل ما رواه أبو أُمامة قال: «إن فتى شاباً أتى النبي -صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله! ائذن لي بالزنا! فأقبل القوم عليه فزجروه قالوا: مَهْ مَهْ! فقال: ادْنُهْ! فدنا منه قريباً قال: فجلس. قال: أتحبه لأمك؟ قال: لا، والله! جعلني فداءك. قال: ولا الناس يحبونه لأمهاتهم. قال: أفتحبه لابنتك؟ قال: لا، والله! يا رسول الله! جعلني الله فداءك. قال: ولا الناس يحبونه لبناتهم. قال: أفتحبه لأختك؟ قال: لا، والله! جعلني فداءك. قال: ولا الناس يحبونه لأخواتهم. قال: أفتحبه لعمتك؟ قال: لا، والله! جعلني فداءك. قال: ولا الناس يحبونه لعماتهم. قال: أفتحبه لخالتك؟ قال: لا، والله! جعلني فداءك. قال: ولا الناس يحبونه لخالاتهم. قال: فوضع يده عليه وقال: اللهم اغفر ذنبه، وطهر قلبه، وحصِّن فرجه! فلم يكن بعد ذلك الفتى يلتفت إلى شيء»(2).
فلو تعسف النبي -صلى الله عليه وسلم - ـ وحاشاه ذلك ـ لما حصلت هذه النتيجة الجميلة.
ومشكلة الكثير من المربين مع الحوار هو عدم معرفة آدابه وأساليبه، بل إن الكثير من صور الحوار لدينا تنقلب إلى موعظة أو تحقيق أو مناظرة، ومع ذلك نظن أننا نؤدي الكم والكيف المطلوب من الحوار مع من نربي، وأن الخلل أتى من قِبَلهم وليس من قِبَلنا. يقول الدكتور عبد الكريم بكار: «لم تترسخ بعدُ تقاليد الحوار الصحيح في حياتنا الاجتماعية والأسرية، ولهذا فإن من الملاحظ أننا كثيراً ما نبدأ حديثنا مع من نربيهم من أبناء وطلاب على أنه محاورة تتجلى فيه النِّدِّية، ثم ينتهي إلى أن يكون مناظرة خشنة يملى فيه الرأي إملاءً مباشراً؛ فهل نتخذ من العثور على طريقة جديدة في التفاهم هدفاً نسعى إليه؟»(3).
? السمة العاشرة: يشعر كل فرد فيه بالانتماء والاندماج والتحمس لتحقيق أهداف الآخرين والتعاون معهم:(2/463)
هذه السمة هي نتيجة لتوفر السمات السابقة ومن الغريب أن يطالب بعض المربين مَنْ تحت يده بهذا الأمر وهو قد فرط بالأمور السابقة. وجزء من هذه السمة هو حاجة نفسية أساسية لا بد من إشباعها وإلا أدى ذلك إلى العزلة والشعور بالوحشة والاغتراب. يقول الدكتور أحمد راجح: «يزداد شعور الفرد بالأمن والتقدير الاجتماعي كما يزداد اعتداده بنفسه واعتزازه بها حين ينتمي إلى جماعة قوية يتقمص شخصيتها، ويوحد نفسه بها كالأسرة القوية، أو النادي، أو النقابة، أو الشركة ذات المركز الممتاز، وتنبت هذه الحاجة في أحضان الأسرة من علاقة الطفل بأمه وأفراد أسرته، ثم تعززها أو تحبطها بعد ذلك التجارب التي يمر بها الفرد، ومتى أرضيت هذه الحاجة وشعر الفرد بالانتماء إلى جماعة معينة زاد ولاؤه لها وشعوره بأنه جزء منها يصيبه ما يصيبها على أن إرضاءها يتوقف على تقبُّل الجماعة للفرد؛ لأنه يعمل من أجلها، وعلى تقبُّل الفرد للجماعة؛ لأنها تُرضي حاجاته ومطالبه»(4). وتقول الدكتورة هدى قناوي: «المرء في حاجة إلى أن يشعر بأنه فرد من مجموعة تربطه بهم مصالح مشتركة تدفعه إلى أن يأخذ ويعطي، وإلى أن يلتمس منهم الحماية والمساعدة؛ كما أنه في حاجة إلى أن يشعر بأنه يستطيع أن يمد غيره بهذه الأشياء في بعض الأحيان»(5).
وعندما يتحقق الشعور بالانتماء للأسرة لدى أعضائها سيترتب على ذلك الاندماج بين أفرادها والتعاون والسعي لتحقيق أهداف الجميع لشعورهم بأهمية وأثر ذلك على حياتهم الخاصة، وعندما يستطيع المربي تقوية الجوانب الإيمانية وغرس أهمية الجانب الأخوي وتقديم ما عند الله على ما عند الناس لدى المتربين ـ عند ذلك تزول النظرة للمصلحة المادية الدنيوية في هذا الجانب أو تعظيمها.(2/464)
وأخيراً: فإن الوصول لإصلاح الأمة على المستوى العام يحتاج إلى إصلاحات كثيرة على المستويات الفردية والمؤسسية، ومن المؤسسات الأولى المؤثرة في هذه الجانب كيان الأسرة، وما ذكر في هذا المقال هو جزء من الإصلاح الأسري الذي نسعى إليه، وأرجو من الله ـ عز وجل ـ أن أكون قد وفقت للصواب فيه.
--------------------------------------------------------------------------------
(1) البخاري ومسلم.
(1) دليل التربية الأسرية، ص 12. (2) الطفل تنشئته وحاجاته، هدى قناوي، ص172.
(3) المرجع السابق، ص 352. (4) أخرجه مسلم. يفرك: يبغض.
(5) علم نفس المراحل العمرية، عمر المفدى، ص 292. (6) مسند الإمام أحمد، رقم (14623)، وحسنه الألباني في تحقيق مشكاة المصابيح.
(7) أخرجه الترمذي كتاب صفة القيامة.
(1) دليل التربية الأسرية، ص 158. (2) أولادنا من الطفولة إلى الشباب، مأمون مبيض، ص 45.
(3) أخرجه البخاري ومسلم. (4) أخرجه البخاري ومسلم.
(5) علم نفس النمو، حامد زهران، ص 297. (6) أخرجه البخاري ومسلم.
(7) أخرجه البخاري ومسلم. أوكى: شَدَّ. خمَّر: غَطَّى. (8) دليل التربية الأسرية، ص 91.
(1) كيف تنمي الانضباط الداخلي لدى طفلك، إبراهيم الحارثي، ومحمد دباس، ص73. (2) أخرجه البخاري ومسلم.
(3) سيكولوجية الطفولة والمراهقة، مصطفى فهمي، ص300. (4) المراهقون، عبد العزيز النغيمشي، ص 113.
(5) أخرجه البخاري ومسلم. (6) أخرجه البخاري ومسلم.
(1) أصول التربية الإسلامية، محمد أبو لآوي، ص 61. (2) أخرجه البخاري ومسلم.
(3) أخرجه الترمذي في كتاب المناقب، وحسنه الألباني. (4) أخرجه مسلم.
(5) أولادنا، ص 225. (6) أخرجه أبو داود في كتاب الجهاد وصححه الألباني.
(7) أخرجه البخاري ومسلم. (8) أخرجه النسائي في كتاب التطبيق وصححه الألباني.
(9) أخرجه الترمذي في كتاب البر والصلة، وقال: حديث حسن صحيح.
(10) الترويح رؤية إسلامية، خالد العودة، ص 153.
((2/465)
1) المرجع السابق، ص 153. (2) أخرجه البخاري.
(3) أخرجه أبو داود في كتاب الأدب. (4) أخرجه البخاري ومسلم.
(5) أخرجه الترمذي في كتاب البر والصلة وصححه الألباني. (6) خمس خطوات لتعديل سلوك طفلك، عادل رشاد غنيم، ص 121.
(7) نصائح لتربية طفل صالح، مجاهد ديرانية، ص 28.
(1) الحوار وبناء شخصية الطفل، سلمان خلف الله، ص 51. (2) أخرجه أحمد، رقم (2118)، وصححه الألباني.
(3) 175 بصيرة في التربية، عبد الكريم بكار، ص 56. (4) أصول علم النفس، أحمد عزت راجح، ص 95.
(5) الطفل تنشئته وحاجاته، ص 189.
--------------------------------------------------------------------------------
* * *
http://www.albayan-magazine.com/zwaya/trbwi/69.htm
الإزراء على الناس منهجية العاجزين
صالح العبد الله الهذلول
يعمد بعضٌ لتسويغ تقصيرهم في التربية أو الدعوة والإصلاح إلى رمي التهم على المجتمع، أو على بعض دوائره الرسمية أو الأهلية، أو القائمين عليها، والتقليل من شأن الفرص التي تلوح بين فينة وأخرى؛ فيسارع إليها أرباب الدعوات ويسعون جاهدين إلى استثمارها وتوظيفها لخدمة دعوتهم سواء كانت دعوتهم إلى خير وفضيلة أو إلى ضدها، فـ «كلٌّ يعمل على شاكلته». يفعل ذلك هروباً من تبعة المساءلة الأدبية أو الضميرية؛ ليوهم نفسه ـ بل يغشها ـ أنه إنما أحجم عن الإقدام؛ لأنه لا فائدة تعود من وراء ذلك.
يبدأ بتجهيز أو تصنيع التهم استعداداً لتوزيعها بدون غلاف على المصلحين والمربين وكافة العاملين بمصالح المجتمع، كلٌّ بالمقاس الذي يناسبه من التهم والشكوك وزرع الإحباط.(2/466)
وهذه الإضاءة لا تتناول نقد ولومَ من في قلوبهم مرض، ولا يدخل في معناها أعداء الدين والمنافقون، وإنما أعني بها أناساً سيماهم الصلاح، واختاروا التدين عنواناً لهويتهم، لكنه العجز والكسل، وربما الهوى أحياناً يلقي بظله الثقيل عليهم، ليظهروا في الغالب سلبيين في ميدان الدعوة والإصلاح، وعوناً لأعداء الدين والمجتمع في التخذيل. غفلوا عن معنى حديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم - : «إذا قال الرجل: هلك الناس؛ فهو أهلكهم». قال أبو إسحاق ـ أحد رجال السند ـ لا أدري أهلَكَهم أو أهلَكُهُم»(1)، فرُوي بلفظ: أهلَكَهم: أي جعلهم هالكين، لا أنهم هلكوا في الحقيقة، ورُوي بلفظ: أهلَكُهم: أي أشدهم هلاكاً.
قال النووي ـ رحمه الله ـ: «اتفق العلماء على أن هذا الذم إنما هو فيمن قاله على سبيل الإزراء على الناس واحتقارهم، وتفضيل نفسه عليهم، وتقبيح أحوالهم؛ لأنه لا يعلم سر الله في خلقه، وقال الخطابي: معناه: لا يزال الرجل يعيب الناس ويذكر مساويهم، ويقول: فسد الناس وهلكوا، ونحو ذلك؛ فإذا فعل ذلك، فهو أهلكهم؛ أي أسوأ حالاً منهم بما يلحقه من الإثم في عيبهم، والوقيعة فيهم، وربما أدَّاه ذلك إلى العُجب بنفسه، ورؤيته أنه خير منهم»(2).
فمثلاً:
1 - الذين يرون التفجير في المجتمعات الإسلامية أسلوباً أمثل للإصلاح، إنما هو تعبير عن العجز عن طلب العلم والتربية والدعوة، والصبر على ما يلاقي في سبيلها.
2 - ومن يختارون الفرار إلى الاستراحات «البريئة»، وإمضاء الوقت في النقد والتجريح، والقيل والقال، إنما هو فرارٌ من الصبر على تربية الزوجة والأولاد، ومعايشة همومهم، وتعليمهم، وحمايتهم من الانزلاق في وديان الشبهات، أو مستنقعات الشهوات.
3 - الذين يقللون من شأن العلم والتعلُّم، وأنه لا يسمن ولا يغني من جوع في عصر غلبت فيه المادة، وقيمة الإنسان تصعد وتهبط بما يملك من مال، نسوا أن العلم نور، والجهل ضلال وظلام.(2/467)
4 - إذا علم أن مسؤولاً تولى ولاية معينة، أجهد نفسه في البحث عن معايبه، وغلّب جانب التشاؤم في تعيينه، وربما ضرب أمثلة على أخطاء وقعت من ذلك المسؤول أيام صباه ليستدل بها على عدم كفاءته بعد أربعين أو خمسين سنة من التعلم والتجارب، أو استشهد بموقف حدث بينه وبين ذلك المتولي قبل سنين لم يوافقه هذا الناقد عليه، وغفل عن ملابسات يلزم استيعابها وفهمها لمن أراد إصدار حكم أو تقييم شخص.
5 - يُفتح للناس فرصة من فرص الإصلاح، فلا تعجب ذلك العاجز؛ جرياً على عادته في التشاؤم من كل ما يطرح، ومن ذلكم مثلاً:
أ - الانتخابات البلدية: نظرته إليها: أن المجالس البلدية لا تقدم ولا تؤخر؛ فمن العبث المشاركة فيها، هكذا يظن.
ب - التدابير الأمنية في بعض المواقع، أو على الطرق، أو في ظرف من الظروف، ونحو ذلك، يتسخَّط منها، واصفاً إياها بالتعقيد، وتعطيل مصالح الناس. وجَهِل ما يترتب على إهمال الأمن أو ضعفه، غير مقدر ولا متفهم ما تتطلبه العملية الأمنية من إجراءات وتدابير في مثل هذا العصر المتلاطم بالفتن والمكائد والمؤامرات.
إن الأوْلى إذاً بمن يسلك هذا المسلك، أو يعتمد هذا المنهج المغلِّب لإبراز السلبيات؛ تبريراً لقعوده عن الإصلاح، أن يعيد النظر في هذه المنهجية، وليتذكر أن ليس ثمة خيرٌ محضٌ، ولا شرٌّ محض، كما لا يوجد معصوم سوى الأنبياء.
أوَ ليس كل إنسان فيه نوازع متعددة، وله ميول وشهواتٌ وهذه كافية أن تضعفه عن الاحتفاظ بالتوازن السليم دائماً، فكيف تجهل هذا؟! أو: لماذا تتجاهله؟!
وقديماً قيل:
ومن ذا الذي ترضى سجاياه كلها كفى المرءَ نبلاً أن تُعَدَّ معايبه
--------------------------------------------------------------------------------
(1) أخرجه مسلم في كتاب البر والصلة، رقم 2623.
(2) صحيح مسلم، بشرح النووي، 16/175.
--------------------------------------------------------------------------------(2/468)
* * *
http://www.albayan-magazine.com/zwaya/trbwi/70.htm
إذا سألت فاسأل الله
محمد بن عبد الله المقدي
وقف ( عماد ) يتأمل المناظر الطبيعية الخلابة التي تظهر له وهو على ظهر السفينة التي تقلّه مدعواً لرحلة ترفيهية مع صديقه المقرب ( كريم ) ، وبينما هو مستند إلى حاجز السفينة وقد بهرته روعة تلك المشاهد الخلابة التي تنطق بعظمة الخالق المبدع سبحانه وتعالى أغراه جمال المنظر أن يميل بجسده أكثر إلى الأمام ليتمكن من رؤية السفينة وهي تمخر عباب البحر وقد كانت سفينة صغيرة جميلة الشكل وفجأة جاءت موجة عنيفة اهتزت معها السفينة اهتزازاً شديداً فاختلَّ توازن ( عماد ) وحدثت المصيبة . سقط ( عماد ) في قلب المحيط ، وتعاظمت المصيبة ، فـ ( عماد ) لا يحسن السباحة ، صرخ طالباً النجدة حتى بحّ صوته ، وظل يصارع الموج دون جدوى ، وبدأ ينادي بصوت يشبه هزيم الرعد : يا جيلاني ! يا شاذلي ! يا دسوقي ! يا محضار ! علّهم يستطيعون إنقاذه .
وبينما هو يصارع تلك الأمواج العاتية وينادي بأعلى صوته ؛ إذ رآه ( محب ) وهو رجل كهلٌ تعلوه المهابة ، في الخمسين من عمره ، كان مسافراً معه على ظهر تلك السفينة ، وعلى الفور أطلق جهاز الإنذار ثم رمى نفسه في الماء لإنقاذ عماد .(2/469)
وبسرعة دبَّ النشاط والحركة في جميع أركان السفينة ، وهرول المسؤولون وتجمّع المسافرون على ظهر السفينة يرقبون المشهد ويبادرون بالعون والمساعدة ، فألقوا قوارب النجاة إلى المياه ، وتعاونت فرقة الإنقاذ مع الرجل الشهم على الصعود بـ ( عماد ) إلى ظهر السفينة ، وتمت عملية الإنقاذ بعون الله تعالى ، ونجا ( عماد ) بقدر من الله من موت محقق ، وتلقّفه صديقه ( كريم ) معتنقاً إياه ، ثم انطلق يبحث حوله عن ذلك الرجل الشجاع الذي جعله الله تعالى سبباً في إنقاذ حياته ، فوجده واقفاً في ركن من أركان السفينة يجفف نفسه ، فأسرع إليه ( عماد ) واعتنقه وقال : لا أدري كيف يمكنني أن أشكرك على جميلك معي ؟ لقد أنقذت حياتي . فابتسم الرجل ابتسامة هادئة ونظر في الأفق [1] متأملاً ، ثم التفت إلى ( عماد ) وخاطبه قائلاً :
( يا بني ! حمداً لله على سلامتك ولكن أرجو أن تساوي حياتُك ثمنَ بقائها ) .
تعجّب ( عماد ) من هذه الكلمات ، ونظر إلى الرجل مستوضحاً معنى كلامه .
استمر الرجل في كلامه قائلاً : ( لقد سمعتك وأنت تصارع الأمواج العاتية تنادي الجيلاني والدسوقي وغيرهما كي ينقذوك ، فعلمت أنك بحاجة إلى الإنقاذ ! ) .
عماد : وما المشكلة في الاستغاثة بهم ؛ أليسوا هم أولياء الله الذين يغيثون من أصابه الكرب والضيق والغرق وقد استجابوا لندائي وأرسلوك لإنقاذي ؟ تبسم ( عماد ) عند هذه الكلمة .
بدا على ( عماد ) التحمس الشديد لمواصلة النقاش مع ما أصابه في هذا اليوم الصعب من متاعب ، بادَرَه ( محب ) بقوله : لماذا لا تؤجل هذا الحديث إلى وقت لاحق كي تأخذ قسطاً من الراحة ، ثم نواصل حديثنا إن شئت فالوقت أمامنا طويل ؟ وافق ( عماد ) وهو يتحسس أعضاءه التي أصيبت بمواجع وآلام رهيبة .(2/470)
في عصر اليوم نفسه التقى ( عماد ) و ( محب ) على ظهر السفينة ، وبدا ( عماد ) بحال جيدة . بادره ( محب ) بقوله : لعلك أخذت قسطاً من الراحة ؟ هزَّ عماد رأسه موافقاً مردداً : الحمد لله .. الحمد لله .
بادر عماد ( محباً ) بقوله : لقد تذكرت حديثاً يتصل بما تكلمنا عنه سابقاً .
محب : ما هو ؟
عماد : قوله صلى الله عليه وسلم : « إذا تحيَّرتم في الأمور ؛ فاستعينوا بأصحاب القبور » ، أتردّ هذا الحديث ؟
محب : لا يجوز لأحد من المسلمين أن يردَّ حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم طالما أن الحديث صحيح . ولكن إذا تأملت في هذا الحديث فإنه موضوعٌ بإجماع المحدثين ؛ كما أنه مخالفٌ للقرآن الكريم لأن الاستعانة طلب العون ، وفي سورة الفاتحة يعلمنا الله تعالى بقوله : ] وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ [ ( الفاتحة : 5 ) فهذا أسلوب يفيد الحصر ؛ فإن الاستعانة لا تكون إلا بالله وحده ، أي : فلا يُلتمَس عونٌ من أي شيءٍ إلا من الله سبحانه ، وعليه ؛ أفلا يكون هذا القول السابق معارضاً للقرآن الكريم ؟ ألسنا نقرأ الفاتحة في كل صلاة ونستحضر هذا المعنى لسبب ما ؟ يا صديقي عماد ! إن هذا القول لم يسمعه أحد من الصحابة منه صلى الله عليه وسلم ، ولم يوجد من قال بمثله في زمان الصحابة ولا التابعين ، ولم ينقله أحد من المصنِّفين في الحديث الصحيح .
عماد : لكنه موجود في كتاب ( كَشف الخَفاء ) للعَجْلوني ، وهو صاحب مكانة كبيرة في الحديث .
محب : قولك صحيح ، لكن « كَشف الخَفاء » صَنَّفه العَجلوني ليميز الحديث الصحيح من الضعيف ومن الموضوع ؛ مما اشتهر على ألسنة الناس من الأحاديث ، لهذا كثُرات فيه الأحاديث الموضوعة ، وما على الذين وضعوه إلا أن يتوبوا إلى الله تعالى .(2/471)
عماد : إذن الحديث موضوع ! قال عماد هذه الكلمة وبدا كأنه مستغرق في شيء ما ؛ وفجأة بادر محباً بقوله : ولكن ما قولك في قوله تعالى : ] فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِن شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ [ ( القصص : 15 ) ؟ ففي هذه الآية الكريمة دليل ظاهر على جواز الاستغاثة بالأموات والغائبين حينما تصيب الإنسان الأضرار والشرور .
محب : أفهم منك أخي أنك لا تميز بين الاستغاثة الجائزة والاستغاثة الممنوعة .
عماد : وهل ثمَّة فرق بينهما ؟ محب : التفريق بينهما ظاهر وجلي وقد ذكره جملة من العلماء ؛ فالاستغاثة الجائزة هي الاستغاثة بالحي الحاضر فيما يقدر عليه من الأمور الحسية في قتال أو دفع ضرر ، أما الاستغاثة الممنوعة فهي محصورة بالاستغاثة بالغائب من الشدائد كالمرض وخوف الغرق وهي الحالة التي كنت بها قبل قليل .
وهنا تحرك محب وعماد إلى ركن قصي من السفينة وجلسا على مقعدين متقابلين .
عماد : لكن ألسنا نستعين بالإنسان الحي ؟ وهكذا روح الولي الميت ، هي كالسيف المسلول من غِمده ، فهو أكثرُ قدرةً على الإعانة ، وهؤلاء الأولياء ذوو قدرة كبيرة على التصرف .
المحب : أخبرني من الذي أنبأك أن روح الولي كالسيف المسلول ؟ ما سند هذا القول من كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم ؟ رسول الله صلى الله عليه وسلم المتوفَّى نصلي ونسلم عليه كلما ذكرناه أو زرنا قبرَه ، أما أن ندعُوه فهو مخالفةٌ صريحة للشرع ؛ إذ ما الفرق بيننا وبين النصارى الذين يدعون نبيَّ الله عيسى بن مريم عليه الصلاة والسلام من أجل نصرهم ؟ ليس لهذا معنىً سوى اتِّباع سبيل هؤلاء .(2/472)
أما ما ذكرته بأن الولي إذا مات صار أكثرَ قدرةً على التصرف والإعانة فليس عليه دليل ؛ لأن الله عالم الغيب والشهادة قد بيّن لنا في كتابه الكريم بطلان ذلك ، فقال : ] اللَّهُ يَتَوَفَّى الأَنفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَتِي قَضَى عَلَيْهَا المَوْتَ وَيُرْسِلُ الأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُّسْمًّى [ ( الزمر : 42 ) فهذه الآية تدل على أن الله يُمسك الأرواح في مكان ما في البرزخ . أما عن الموتى ، فقال تعالى : ] وَمَا يَسْتَوِي الأَحْيَاءُ وَلاَ الأَمْوَاتُ إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَن يَشَاءُ وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَّن فِي القُبُورِ [ ( فاطر : 22 ) . وهذا عيسى بن مريم عليه الصلاة والسلام يقول في الآخرة كما قال الله عنه : ] وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً مَّا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ [ ( المائدة : 117 ) . فإذا كان رسولُ الله المسيحُ عيسى بنُ مريم عليه السلام نفسُه لا علمَ له بما أَحدَثَت أمتُه من بعده ، فكيف يُقبل أن تكون روح الولي كالسيف المسلول من غِمده ] وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّن يَدْعُو مِن دُونِ اللَّهِ مَن لاَّ يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ القِيَامَةِ وَهُمْ عَن دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ [ ( الأحقاف : 5 ) .
بدا الإنصات الكامل على عماد ؛ فها هو يسمع كلاماً شافياً من القرآن العظيم ، أنصت طويلاً وسكن سكوناً تاماً وهو يتأمل هذه الآيات الكريمات ، وكيف لم تستوقفه أثناء تلاوته القرآن التي هو حريص عليها كل الحرص .
عاد ( محب ) بمقعده إلى الوراء قليلاً وقال ملاطفاً ( عماداً ) ومحترماً سكونه : دعني أطلب لك شاياً تجدد به نشاطك .(2/473)
ذهب ( محب ) ، وعينا ( عماد ) ترمقه وهو يقول في نفسه : أحق ما يقول ، أم هو الباطل عينه ؟ إنه يذكر آيات محكمات .. ولكن . اصطرعت في ذهنه أفكار شتى ، وأحسَّ أن الأرض بدأت تدور به ، أفاقَ
ومحب واقف بجانبه وعلى وجهه ابتسامة عريضة وفي يديه كوبان من الشاي . رشف عماد من كوبه رشفة وبدا كأنه يريد أن يلقي بشيء إلى محب فقال له : عمتي تزوجت منذ زمن بعيد ولم تنجب أطفالاً ، وقد زارت كل مصحة سمعت بها من غير فائدة تذكر ، وحينما ذهبت إلى قبر الجيلاني رُزقت بولد جميل ؛ ألا يدل هذا على قوة تصرف الأموات ؟ أجاب محب بكل هدوء : ألم يُخبِرنا النبي صلى الله عليه وسلم عن عمل الإنسان بعد موته قائلاً : « إذا مات الإنسان انقطع عنه عملُه إلا من ثلاثةٍ : إلا من صدقةٍ جارية ، أو علمٍ يُنتفع به ، أو ولدٍ صالحٍ يدعو له » [2] ؟ فالجيلاني رحمه الله انقطع عمله بنص كلام النبي صلى الله عليه وسلم ، ورزق ربك لعمتك الولد هو فضل ينبغي عليك أن ترده إليه سبحانه لا إلى قبر الجيلاني ، فكل هذه الأعمال يستمر ثوابُها حتى بعد الموت ، وإلا فلم يبقَ له أيُّ عمل بعد وفاته .
ولو تأملت قليلاً : هل يقدر الأموات على ما لم يقدر عليه الأحياء ؟ والله تعالى يقول : ] وَمَا يَسْتَوِي الأَحْيَاءُ وَلاَ الأَمْوَاتُ إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَن يَشَاءُ وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَّن فِي القُبُورِ [ ( فاطر : 22 ) .
وما أسوأَ أن يَقُصّ الإنسان على الناس الأعمال التي لا أصل لها من حيث تحقُّقها سوى أنْ رآها فاعلوها حسنةً في أعينهم فأكبروها لتعظيم من زيّنها لهم من البشر .
إن من ذهب به إلى القبر فشفي ، فلعله شُفي حقاً ، أما أن يكون الميتُ وسيلةً يُستشفى به فهذا ما لا يمكن قبولُه أبداً .(2/474)
وها نحن نرى أتباع الطريقة القادرية يَغرِزون السكاكين في أبدانهم ويَحسَبُه بعض الناس كراماتٍٍ خُصَّ بها القومُ ، وكذا الهنود ، فهم مَعروفون بإنفاذ السيوف في أجسادهم ، ويَغرِزون في خُدودهم قَصَباتٍ سُمكها كخشب المَطارق حتى تَنفذ من الشِقِّ الآخَر ، فلو كان صنيعُ القادِريّةِ كراماتٍ لوَجب أن يُنسب هؤلاء الهنودُ إلى فِعل المُعجِزات .
والحقيقة أنه لا علاقة لأفعال أحد من الفريقين بالدين ، بل يجب تنزيه الدين عن مثل هذه الأفعال .
عماد : ولكن الشيخَ عبدَ القادر الجِيلانيَّ في بعض شعره يقول : مريدي إذا ما كان شرقاً ومَغرباً أُغِيثه إذا ما صار في أي بلدةِ وقد شهدت بعض الحالات التي استغاث المريد فيها بشيخه فتمثل له وأنقذه مما
هو فيه من كرب وضيق .(2/475)
محب : إن كلامك هذا تنقضه الآيات القرآنية ؛ حيث قال تعالى : ] أَمَّن يُجِيبُ المُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الأَرْضِ أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ [ ( النمل : 62 ) ، فإذا ما ظهرت للمرء حاجةٌ فسأل قضاءَها من غير الله سبحانه وتعالى فكيف له أن يشعر بوجوب التجائه إلى الله سبحانه وتعالى ؟ ومن ناحية ثانية فإن أكثر ما يُذكَر عن هؤلاء الشيوخ غيرُ صحيح ، والشعر المذكور آنفاً نعُدُّه من هذا القسم ، فإذا كان قد اختُلق الكذبُ بالآلاف من الأحاديث على رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ فكيف لا يُكذَبُ على عبد القادر الجيلاني أو الجنيد أو الإمام الرباني ؟ ولو فرضنا أن عبد القادر الجيلاني جاءنا وذَكر لنا هذا الشعر لم نُسلِّم له به معتذرين عنه بقلّة علمنا إلى جانب علمه ، بل نردّه عليه غيرَ متردِّدين ؛ لأننا سنُحاسب يوم القيامة عن القرآن وليس عن عبد القادر الجيلاني . عماد : ألا يستعين الناس بعضُهم ببعض ؟ فكيف لا يُستعان بغير الله إذن ؟ المحب : توجد العديد من الآيات والأحاديث التي تَحثُّ على التعاون والتناصر لكن الكلَّ يعلم أن طلبَ المعونة من الأموات تختلف عما نحن فيه ؛ فبعض الناس يستعينون بهم في المواضع التي يجدون أنفسهم عاجزين عنها ، فيدعونهم لدفع ضر أو جلب مصلحة متخذين وسائل خارقة للعادة .(2/476)
وأضرب مثلاً : واجه بعضُ الناس سيلاً جارفاً وهم ركوب في سياراتِهم ، فدعا أحدُهم الرفاعي قائلاً : « يا سيدنا يا رفاعي ! يستعين به ، ولو أن هذا الداعيَ سأل الله العليمَ البصيرَ الخبير الذي لا يخفى عليه شيء لكان قد أحسن الصنع ، ولكنه يسأل السيدَ الرفاعي الذي يرقد في قبره ؛ فهذا يعني أنه يؤمن بأن الرفاعي قادر على سماع دعائه والمجيء إلى ذلك المكان وإعانته فوراً ، فهذا الداعي يتخيل في الرفاعي بعض الصفات التي هي فوق صفات البشر ، منها : الحياة والعلم والسمع والبصر والإرادة والرحمة والقدرة ، والحياةُ خلاف الموت ، فلو لم يكن يَعُدُّ الرفاعي حياً لما دعاه أو سأله المعونة ، ولو كان هذا الفعل صواباً لفعله صحابة محمد صلى الله عليه وسلم مع وقوعهم في المضائق والكربات ، ومع هذا لم يذكر عن أحد منهم أنه استغاث بالنبي صلى الله عليه وسلم . تقطب جبين عماد حين سماعه لهذه الكلمات وقال معارضاً : من المعلوم أن النبي صلى الله عليه وسلم يغيث أمته ويلتقي بالصالحين منهم . المحب : أخي ! من الذي جعل هذا معلوماً ؟ رسولنا صلى الله عليه وسلم بلَّغ الرسالة ، وأدى الأمانة ، ونصح الأمة ، وهو يقول فيما ذكره الله على لسانه : ] قُل لاَّ أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلاَ ضَراًّ [ ( الأعراف : 188 ) وجسده الشريف في قبره لا يخرج منه إلى يوم القيامة .(2/477)
عماد : ما الدليل على هذا ؟ بل النبي صلى الله عليه وسلم يخرج من قبره ليغيث أمته . محب : الدليل قول الله تعالى : ] ثُمَّ إِنَّكُم بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ * ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ القِيَامَةِ تُبْعَثُونَ [ ( المؤمنون : 15-16 ) وثم للتعقيب أي أننا نموت وبعدها نبعث من غير فصل ، والخطاب عام فيشمل المرسلين وغيرهم . وفي الحديث عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أنه كان يقول : لقيني رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال لي : « ما لي أراك منكسراً ؟ فقلت : يا رسول الله ! استشهد أبي وترك عيالاً وديْناً ، قال : أفلا أبشرك بما لقي الله به أباك ؟ قلت : بلى يا رسول الله ! قال : ما كلم الله أحداً قط إلا من وراء حجاب ، وأحيا أباك كفاحاً ، فقال : يا عبدي تمنَّ عليَّ أعطِك ، فقال : يا رب ! تحييني فأُقتل فيك ثانية ، فقال الرب : إنه سبق مني : أنهم إليها لا يرجعون » [3] .
وعن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « إذا مات أحدكم عُرِض عليه مقعده بالغداة والعشي ، إن كان من أهل الجنة فمن أهل الجنة ، وإن كان من أهل النار فمن أهل النار ، فيقال : هذا مقعدك حتى يبعثك الله يوم القيامة » [4] . وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « إن من أفضل أيامكم يوم الجمعة ، فيه خُلق آدم ، وفيه قُبِضَ ، وفيه النفخة ، وفيه الصعقة ، فأكثروا عليَّ من الصلاة فيه ؛ فإن صلاتكم معروضة عليَّ ، قالوا : يا رسول الله ! وكيف تُعرض صلاتنا عليك ، وقد أَرِمْتَ ؟ يقولون : بليت ، قال : إن الله حرم على الأرض أن تأكل أجساد الأنبياء » [5] فهذا الحديث يدل على أن أجساد الأنبياء عليهم السلام لا تفارق قبورهم .(2/478)
والقول بأنه يخرج من قبره ليغيث الأمة فيه مخالفة صريحة لكلام الله جل وعلا ، ألم يقل الله تعالى : ] قَالُوا رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ فَاعْتَرَفْنَا بِذُنُوبِنَا فَهَلْ إِلَى خُرُوجٍ مِّن سَبِيلٍ [ ( غافر : 11 ) .
فخروج النبي صلى الله عليه وسلم من قبره مخالفة لهذه الآية الكريمة . عماد : وكيف هذا ؟ محب : من المعلوم أن الله خلقنا من العدم ، وهذه هي الموتة الأولى ، ثم بعد ذلك نموت في الدنيا واحدة ، وبعد الموت حياة أخرى ؛ فالقول برجوع النبي صلى الله عليه وسلم أو الرجل الصالح من قبره فيه مخالفة ظاهرة لهذه الآية ، فتكون ثلاث موتات وليست موتتين . عماد : كلامك جيد ! ولكن لعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يغيث بروحه وليس بجسده ؛ وكذلك الأولياء يغيثون بأرواحهم . محب : أخي عماد ! أنا لا أدري حقيقةً من أين تأتي بهذه الأفكار ! المسألة سهلة يسيرة : الله خلقنا وعلينا إفراده بالعبادة ؛ فما الحاجة للاستغاثة بغيره وهو موجود سبحانه وتعالى ، ومع هذا تأمّل هذا الحديث الشريف : عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم سألوه عن هذه الآية : ] وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ [ ( آل عمران : 169 ) فقال صلى الله عليه وسلم : أرواحهم في جوف طير خضر لها قناديل معلقة بالعرش تسرح من الجنة حيث شاءت ، ثم تأوي إلى تلك القناديل ، فاطلع إليهم ربهم اطِّلاعة ، فقال : هل تشتهون شيئاً ؟ قالوا : أي شيء نشتهي ونحن نسرح من الجنة حيث شئنا ؟ ففعل ذلك بهم ثلاث مرات ، فلما رأوا أنهم لن يتركوا من أن يسألوا ، قالوا : يا رب ! نريد أن ترد أرواحنا في أجسادنا حتى نُقتل في سبيلك مرة أخرى ، فلما رأى أن ليس لهم حاجة تُرِكوا » [6] .(2/479)
ويستفاد من هذا الحديث : 1 - أنهم سألوا ربهم أن تُرَدَّ أرواحهم في أجسادهم ، وهذا صريح في أنها قد فارقتها بالموت . 2 - أنهم تمنّوا الرجوع إلى الدنيا ليقاتلوا في سبيل الله لما رأوا من عظيم ثواب الشهادة ، فمُنعوا من ذلك ، فقد انقطع التكليف وانقطع العمل وما بقي إلا الجزاء ؛ فإذا لم يملكوا هم لأنفسهم نفعاً ولا حياة ولا تصرفاً ، مع كرامتهم عند ربهم ووجاهتهم عنده ؛ فكيف يملكون لغيرهم من الخلق جلب منفعة أو دفع مضرة ؟ ! عماد : لكن الشهداءَ لا يموتون .
محب : الشهداء أحياء عند ربهم . قال الله تعالى : ] وَلاَ تَقُولُوا لِمْن يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِن لاَّ تَشْعُرُونَ [ ( البقرة : 154 ) . فهذه الحياة برزخية ليست مما نشعر بها ، ولو كنا نستطيع الشعورَ بها لما تأَسَّف رسول الله صلى الله عليه وسلم على عمِّه حمزةَ الذي مات شهيداً ، ولو كان حمزةُ يُجيب المناديَ لجاءه أحياناً ولسأله قضاءَ بعض الحاجات . وقال تعالى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم : ] وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِّن قَبْلِكَ الخُلْدَ أَفَإِن مِّتَّ فَهُمُ الخَالِدُونَ [ ( الأنبياء : 34 ) ، وقال : ] إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُم مَّيِّتُونَ [ ( الزمر : 30 ) .
فما معنى الموت ها هنا ؟ وما الذي يدل عليه إذا كان لا يزال يخرج من قبره ويغيث الناس ؟ والله تعالى يقول : ] وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ * وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ لاَ يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ * أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ [ ( النحل : 19-21 ) .(2/480)
وما أكثر الذين يستعملون كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم لأغراضهم السيئة ! فهؤلاء يفترون على الله الكذب لتدومَ لهم السيطرةُ على الناس ، وهم يُضلونهم بزعمهم أن رسول الله حيٌّ وأن لهم معه لقاءاتٍ رغم الكثير من الآيات التي يُخفونها ، حتى إن منهم من يدّعِي في رسول الله أنه نقيب المفتشين ، يراقب مَن حولَ الشيخ .
عماد : لو شاء الله أما يمنح المحضار أو الدسوقي أو الجيلاني أن يجيب المستغيث به ؟
محب : الله على كل شيء قدير ، ولكن لا يصلح أن يُستدَل بقدرة الله على جواز مثل هذا ؛ فمن ذا الذي يستطيع أن يدَّعِيَ في أحد هؤلاء قدرةً خاصة وكلُّ هذه الآيات بين أيدينا ؟ ونحن كلُّنا ورسلُ الله معنا عبادٌ لله تعالى ، والله تعالى ربُّنا ومليكنا ، ولا يملك العبد أمام سيده شيئاً ، وكذلك كل الناس بين يدي الله وإن كانوا رسلاً .
محب : أخي عماد !
عماد : نعم !
محب : بقي أمور لا بد لك من التنبّه لها في مسألة دعاء غير الله وهي أمور لا ينفك عنها من دعا غير الله .
عماد : مثل ماذا ؟
محب : أولاً : أن من يدعو غير الله من الأموات أو الأحياء لا ينفك من اعتقاد علمهم بالغيب ، ولا شك أن الله جل وعلا ] عَالِمُ الغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ [ ( الأنعام : 73 ) .
ثانياً : أن من يدعو غير الله من الأموات أو الأحياء الغائبين لا ينفك من اعتقاد أنهم متصرّفون في الكون .
عماد : هذان والله أمران عظيمان ، وإني أبرأ إلى الله من دعاء غيره ! بدا البشر والسرور على وجه محب ، وقال : بارك الله فيك أخي عماد ! فهذا هو دأب باغي الحق العودة والأوْبة إلى صراط الله .
في هذه الأثناء اهتزت السفينة هزة خفيفة ابتسم محب ، وابتسم عماد . واستأنف محب حديثه بقوله : وزيادة على ما ذكرته فسأبيّن لك هدي محمد صلى الله عليه وسلم والأنبياء من قبله في الدعاء إن مسّهم الضر :(2/481)
1 - أيوب عليه السلام : قال الله تعالى : ] وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ * فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِن ضُرٍّ وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُم مَّعَهُمْ رَحْمَةً مِّنْ عِندِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ [ ( الأنبياء : 83-84 ) .
2 - ذو النون يونس بن متى عليه السلام : قال الله تعالى : ] وَذَا النُّونِ إِذ ذَّهَبَ مُغَاضِباً فَظَنَّ أَن لَّن نَّقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَن لاَّ إِلَهَ إِلاَّ أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ * فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنجِي المُؤْمِنِينَ [ ( الأنبياء : 87-88 ) .
3 - يوسف بن يعقوب عليهما السلام : قال الله تعالى : ] قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلاَّ تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُن مِّنَ الجَاهِلِينَ * فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ العَلِيمُ [ ( يوسف : 33-34 ) .(2/482)
4 - زكريا بن عمران عليه السلام : قال الله تعالى : ] هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِن لَّدُنكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ * فَنَادَتْهُ المَلائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي المِحْرَابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى مُصَدِّقاً بِكَلِمَةٍ مِّنَ اللَّهِ وَسَيِّداً وَحَصُوراً وَنَبِياًّ مِّنَ الصَّالِحِينَ [ ( آل عمران : 38-39 ) . وقوله تعالى : ] وَزَكَرِيَّا إِذْ نَادَى رَبَّهُ رَبِّ لاَ تَذَرْنِي فَرْداً وَأَنْتَ خَيْرُ الوَارِثِينَ * فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونُ فِي الخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَباً وَرَهَباً وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ [ ( الأنبياء : 89-90 ) .
5 - موسى بن عمران عليه السلام : قال الله تعالى : ] وَقَالَ مُوسَى رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلأَهُ زِينَةً وَأَمْوَالاً فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّوا عَن سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلاَ يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا العَذَابَ الأَلِيمَ * قَالَ قَدْ أُجِيبَت دَّعْوَتُكُمَا فَاسْتَقِيمَا وَلاَ تَتَّبِعَانِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ [ ( يونس : 88-89 ) . هذا دعاء الأنبياء الذين اصطفاهم واختارهم ، فهم خير البشرية ولبابها ، ترى الواحد منهم إن مسه البأساء أو الضراء رفع يديه لرب الأرض والسماء يدعوه ويسأله أن يكشف ما به من ضر ، فلِمَ لا نقتدي بهم ؟ أخبرني يا عماد ؟ عماد : عن أي شيء أخبرك ؟(2/483)
محب : ماذا يقول من يدعو غير الله ؟ أليس يقول : يا حسين أغثني ! يا دسوقي اشفني ! يا بدوي انصرني ! يا شاذلي ارزقني مالاً أو ولداً ! ، والله تعالى يقول : ] وَلاَ تَدْعُ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لاَ يَنفَعُكَ وَلاَ يَضُرُّكَ فَإِن فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذاً مِّنَ الظَّالِمِينَ [ ( يونس : 106 ) . ] فَلاَ تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ فَتَكُونَ مِنَ المُعَذَّبِينَ [ ( الشعراء : 213 ) . ] وَلاَ تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ لَهُ الحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ [ ( القصص : 88 ) .
عماد : سبحان الله ! ولكن أخبرني ما هو هدي نبينا محمد صلى الله عليه وسلم في الدعاء ؟
محب : دعنا نناقش هذا في مجلس قادم بارك الله فيك .
عاد محب إلى حجرته في السفينة وذهنه مليء بأفكار مصطرعة ما بين تعجّب وإشفاق وفرح لصديقه . قام إلى منضدته واستلّ قلمه ، وكتب الرسالة التالية إلى عماد :
رسالة إلى عماد .. إذا سألت فاسأل الله . رسالة صادقة أبعثها إليك . ( إذا سألت فاسأل الله ) .
أخي الحبيب : إنّ نصح نبينا محمد عليه الصلاة والسلام لأمته فوق كل شبهة وإشفاقه عليها ليس مجالاً لأدنى شك ، كيف لا وهو الذي بذل الغالي والنفيس في سبيل دعوته ؛ فإذا أمرني وإياك بأمر ، وجب تقديم أمره على كل مقدم ، وقد قال هو بأبي وأمي : « إذا سألت فاسأل الله » [7] .
إن قلبك ليدمى حرقة ولوعة وأسى حين تسمع السؤال ؛ ولكن لغير الله ، والدعاء ؛ ولكن لأصحاب القبور ، والالتجاء ؛ ولكن لشخص من البشر . أخي الحبيب : ألا ترى تلك الجموع وقد حطت رحالها بباب البدوي أو المحضار أو الجيلاني أو الحسين سيد شباب أهل الجنة ، ألا تراهم يتفيّؤون نسائم الرحمات ، ويتلقون برد الرحمة والرضا ، أتراهم على جادة أم عن الجادة نكصوا ، وقد قال جدّ الحسين صلى الله عليه وسلم : « إذا سألت فاسأل الله » .(2/484)
أتراهم سألوا الله أم سألوا غيره ؟ أيها الحبيب : استمع معي إلى قول الله تعالى : ] وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ [ ( البقرة : 186 ) ، هل تأملت لماذا هو قريب ؟ ولماذا هو يجيب دعوة الداعي ؟ أَلأجلِ أن يُدعى غيره ؟ أم لأجل أن يُلتجأ إليه ويوحد في الدعاء ؟ حكِّم عقلك . استمع إلى قوله تعالى : ] لَهُ دَعْوَةُ الحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِهِ لاَ يَسْتَجِيبُونَ لَهُم بِشَيْءٍ إِلاَّ كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى المَاءِ لِيَبْلُغَ فَاهُ وَمَا هُوَ بِبَالِغِهِ وَمَا دُعَاءُ الكَافِرِينَ إِلاَّ فِي ضَلالٍ [ ( الرعد : 14 ) .
أتظن أن الماء سيبلغ فاه ؟ لا ، والله ! أتحب أن يكون وصفك كما هو في آخر الآية ؟ إني والله عليك مشفق . استمع أيها الحبيب إلى هذه الآية : ] وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَن فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وَظِلالُهُم بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ [ ( الرعد : 15 ) . أترى أنه بعد هذه الآية يجوز السجود لغير الله ؟ استمع للآية التي تليها : ] قُلْ مَن رَّبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ قُلِ اللَّهُ قُلْ أَفَاتَّخَذْتُم مِّن دُونِهِ أَوْلِيَاءَ لاَ يَمْلِكُونَ لأَنفُسِهِمْ نَفْعاً وَلاَ ضَراًّ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُمَاتُ وَالنُّورُ أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ الخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلِ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الوَاحِدُ القَهَّارُ [ ( الرعد : 16 ) .
لا والله لا يستوي الأعمى والبصير . أخي الكريم ! أسمعت هذه الآيات ؟ ألا تراها واضحة في صرامة صارمة في وضوح ؟ هل تحتاج بعد هذه الآيات إلى برهان ودليل ؟ ومع هذا ها أنت تسمع من طرف قصي :(2/485)
نادِ علياً مظهر العجائب تجده عوناً لك في النوائب وآخر تراه وقد التزم القضبان الحديدية لقبر نبينا محمد صلى الله عليه وسلم ، أو قبر السيدة زينب أو قبر البدوي وهو يبكي بكاءً مرّاً وينشج نشيجاً متقطعاً يرجو ويخشى . لمثل هذا يذوب القلب من كمد إن كان في القلب إسلام وإيمان فبالله على نفسك فلتبكِ ، وعلى بؤسك فلتحزن ، أيُدعى غير الله في أرض الله استمع إلى كلام الإمام الصادق عليه رحمة الله وهو إمام من أئمة آل البيت : ( فواللهِ ما نحن إلا عبيد للذي خلقنا واصطفانا ، ما نقدر على ضر ولا نفع ، إن رحمنا فبرحمته ، وان عذبنا فبذنوبنا ، والله ما لنا عليه من حجة ، ولا معنا من الله براءة ، وإنا لميتون ومقبورون ومنشورون ومبعوثون وموقوفون ومسؤولون ... ) إلى آخر كلامه رحمه الله .
ألم تر أن الحق تلقاه أبلجا وأنك تلقى باطل القول لجلجا فأين ذهب عقلك وأنت تدعو غير الله ؟ أين ذهبت بصيرتك ؟ أين ذهب بصرك ؟أرأيت الآيات المحكمات ؟ أرأيت الكلمات النيرات ؟ ومع هذا إنك لتأسى وأنت تسمع بعض المضلين يستدل بما هو متشابه محرضاً به على الشرك بالله من مثل قوله تعالى : ] يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الوَسِيلَةَ [ ( المائدة : 35 ) .
ويقولون : إن الوسيلة هي ما يتوسل به إلى الله ، وهذا صحيح ، ولكن هل مما يتوسل به ذوات بني آدم وقبورهم ؟ ن الوسيلة هي السبب الذي يقربكم إليه سبحانه من فعل الخيرات والأعمال الصالحة .(2/486)
إذن فليس مما يُتوسَّل به ذوات الصالحين وقبورهم ، وإنما المراد بالتوسل في الآية التوسل بالعمل الصالح من إيمان وتوحيد ودعاء ، ونحو ذلك . استمع إلى هذه الآيات من سورة النمل ، ثم تأمل تلك التعقيبات العجيبة آخر كل آية : ] أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَأَنزَلَ لَكُم مِّنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَّا كَانَ لَكُمْ أَن تُنْبِتُوا شَجَرَهَا أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ [ ( النمل : 60 ) .
] أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ [ ( النمل : 60 ) .
] أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ [ ( النمل : 61 ) .
] أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ [ ( النمل : 62 ) .
] أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ [ ( النمل : 63 ) .
] أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ [ ( النمل : 64 ) .
] فَلاَ تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ فَتَكُونَ مِنَ المُعَذَّبِينَ [ ( الشعراء : 213 ) .
] الَّذِي جَعَلَ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ فَأَلْقِيَاهُ فِي العَذَابِ الشَّدِيدِ [ ( ق : 26 ) .(2/487)
أرأيت صولة الحق ؟ ألا تنظر إلى وضوح الحجة وقوتها ؟ هذا هو دين رسول الله صلى الله عليه وسلم ، هذا هو دين أوليائه ، هذا هو نهجهم ، هذه هي عقيدتهم ، فأين نحن منهم ؟ أين نحن من تطبيق منهجهم ؟ لقد آن للسماء أن تفتح أبواباً ، وللجبال أن تسير سراباً ، حين تسمع داعياً يقول : يا جيلاني ، يا رفاعي ، يا محضار ! واهاً لكم يا أولياء الله ! فكم كُذِبَ على الدين باسمكم ، وكم افتُري على الشريعة برفع شعار حبكم . أيها الكريم : تأمل معي قول الله تعالى : ] إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ فَادْعُوَهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ [ ( الأعراف : 194 ) ماذا تفهم من هذه الآية ؟ ما الذي تعقله منها ؟ أتفهم منها دعاء الدسوقي عند المصائب ؟ أم دعاء الحسين عند الكربات ؟ أم اللجوء إلى المحضار عند المضائق ؟ أين عقلك ؟ أين بصرك ؟(2/488)
أين بصيرتك ؟ إن هذا كلام ربنا خالقنا الذي له ملك السماوات والأرض وهو على كل شيء قدير ، أتدري من هو الله ؟ ! استمع إليه وهو يقول : ] قُلْ مَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ أَمَّن يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَمَن يُخْرِجُ الحَيَّ مِنَ المَيِّتِ وَيُخْرِجُ المَيِّتَ مِنَ الحَيِّ وَمَن يُدَبِّرُ الأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلاَ تَتَّقُونَ [ ( يونس : 31 ) . ويقول تعالى : ] قُل لِّمَنِ الأَرْضُ وَمَن فِيهَا إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ * سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ * قُلْ مَن رَّبُّ السَّمَوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ العَرْشِ العَظِيمِ * سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلاَ تَتَّقُونَ * قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلاَ يُجَارُ عَلَيْهِ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ * سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ [ ( المؤمنون : 84-89 ) . فتأمل تعقيبه : ] فَأَنَّى تُسْحَرُونَ [ ( المؤمنون : 89 ) . فكأن القوم باتوا مسحورين . قد يمرُّ بخاطرك أثناء قراءتك للقرآن وصلاتك وصدقتك وبكائك على أولياء الله ومحبتك لهم ، وزيارتك لهم سؤال : أيكون كل هذا غير نافع لي عند الله ؟ وأقول : بلى والله ! هو نافع لك وذخر لك عند الله ولكن تأمل معي هذه الآية : يقول الله تعالى : ] وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُم بِاللَّهِ إِلاَّ وَهُم مُّشْرِكُونَ [ ( يوسف : 106 ) .(2/489)
أتدري ما معنى هذه الآية ؟ معناها : أن كثيراً ممن يؤمن بالله وأنه خالقه ورازقه هو مع هذا مشرك وإن صلى وصام ؛ لأنه جعل لله شريكاً في عبادته ودعائه . وقد يمر بخاطرك قضية أخرى وهي قول بعضهم : إننا لا نعبد هذه القبور ولا نستغيث بالحسين ولا نتوجه إلى البدوي ولا نستعين بالرفاعي إلا لأنهم عباد صالحون ، قد عبدوا الله حق العبادة ، ووحدوه حق التوحيد ، فهم مخلصون في يقينهم وإيمانهم ، وهم قريبون من ربهم ، فنتلمّس قربهم من الله كي يقربونا منه ، وهذا والله دخيلة شيطانية . تأمل معي هذه الآية : ] أَلاَ لِلَّهِ الدِّينُ الخَالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ [ ( الزمر : 3 ) .
كرِّر النظر في الآية : أترى أن ثمّة تطابقاً بين حالين عافاني الله وإياك ؟ أتدري ماذا يريد هؤلاء ؟ إنهم يريدون القرب من الله ولكنهم ضلّوا الطريق ، وكم من مريد للخير لم يصبه ، وتأمل نهاية الآية جيداً .
أخي الحبيب : أقرأت كتاب الله ؟ هل حفظت شيئاً منه ؟ هل تدبّرته ؟ هل تفكرت في آياته ؟ هل أنت معرض عنه ؟ إلى متى تستمر هذه الغفلة ؟ هل أعددت للآخرة زاداً ؟ كيف تحاجّ عن نفسك عند الله ؟ كيف تدفع عنها العذاب وقد سمعت هذه الآيات الباهرات التي تدلك على توحيده ؟ هل تأملت الأمم وهي جاثية كل أمة تدعى إلى كتابها ؟ هل تأملت الحشر والنشور ؟ هل تأملت الحساب والجزاء ؟ أرأيت أنك وحيد لا رفيق لك ولا صديق ، لا أنيس معك ولا جليس إلا عملك الصالح : ] يَوْمَ يَفِرُّ المَرْءُ مِنْ أَخِيهِ * وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ * لِكُلِّ امْرِئٍ مِّنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ [ ( عبس : 34-37 ) .(2/490)
وأخيراً أيها الكريم : إنني أبعثها إليك رسالة واضحة صريحة أرجو منك أن تتلقاها بعقل وبصيرة واعية . إن الأئمة من آل البيت ، وإن أولياء الله الصالحين أئمة لنا وهم متخلِّقون بكل خلق ودين وورع ، ولكنهم عباد من عباد الله مخاطَبون بمثل قوله تعالى : ] وَمَا خَلَقْتُ الجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ [ ( الذاريات : 56 ) ليسو أرباباً ، ولا يجوز دعاؤهم من دون الله .
أسأل الله أن يهديني وإياك سبل السلام ، وصلى الله وسلم على محمد وآله .
________________________
(1) الفكرة مقتبسة من كتاب صناعة الهدف ، هشام عبد العزيز ، و صويان الهاجري ، من إصدارات موقع مفكرة الإسلام (بتصرف يسير) .
(2) أخرجه مسلم كتاب الوصية رقم 3084 .
(3) أخرجه الترمذي ، كتاب تفسير القرآن رقم 2936 ، وقال : حديث حسن غريب ، و ابن ماجه ، كتاب الجهاد رقم 2709 .
(4) أخرجه البخاري ومسلم .
(5) أخرجه أبو داود ، كتاب الصلاة رقم 883 ، وابن ماجه ، كتاب ما جاء في الجنائز رقم 1626 .
(6) أخرجه مسلم .
(7) أخرجه الترمذي كتاب صفة القيامة رقم 2440 وقال حديث حسن صحيح ، وأحمد رقم 2537 .
--------------------------------------------------------------------------------
* * *
http://www.albayan-magazine.com/zwaya/trbwi/71.htm
الطريق إلى العزة
إبراهيم بن صالح الدحيم(2/491)
تشتد الهزيمة ويعظم الخطب حين تُهزم الأمة من داخلها، حين تهتز ثقة الأمة بدينها وعقيدتها ومقدراتها (إن الأزمة الحقيقية لأمتنا الإسلامية هي انعدام الوعي بذواتنا، أزمة فقدان الثقة بقدراتنا على الفعل، وأسوأ ما يمكن أن يصيب أمة هو فقدان الثقة بنفسها وبإمكانياتها وبقدرتها على الفعل والمشاركة الإيجابية في صنع الأحداث وتجاوز المحن والأزمات. وقد تساءل «غوستاف لوبون» في كتابه «حضارة الهند»: كيف استطاع البريطانيون ببضعة آلاف من الجنود أن يستعمروا الهند ذات الملايين العديدة؟! وأجاب: عند تشريح جمجمة الهندي لا نراها مختلفة عن جمجمة الإنجليزي، ولكن الفرق هو الإرادة: الثبات والعزم في قوم، والضعف والاستكانة في آخرين) (1).
إن أمة تُشعِر نفسها بالضعف فهي ضعيفة، وستظل ضعيفة ما دام هذا الشعور لا يفارقها. لقد بُلي كثير من المسلمين اليوم بالهزيمة النفسية، التي كان من ثمارها الحنظلية العيش مع المجتمعات الأخرى بنفسية المغلوب لا بنفسية الغالب، فحملها ذلك أن انقادت وراء هذه المجتمعات وسلمت لها خطامها وأقرت لها بالتبعية والولاء.
من يهنْ يسهل الهوانُ عليه ما لجرحٍ بميِّتٍ إيلامُ
لقد نكبت الأمة وذلت، وزلت، وضلت، يوم وجهت وجهها نحو الغرب الكافر، فأصبحت تقتات من فتاته، وتتمسح بأعتابه، وتسير في ركابه. زيَّن لها ذلك أصحاب الفكر المغلوب، والعقل القلوب، الذين ما فتئوا يصيحون بالأمة أن تسلم قيادها للغرب، وأن تأخذ كل ما عنده من عادات وثقافات (خيرها وشرِّها، حلوها ومرِّها، ما يُحمد منها وما يُعاب)(2)، زد عليه ذاك الجهد الكُبَّار من الكفار في تغريب المجتمعات الإسلامية، ومسخ هويتها وعزلها عن منبع عزِّها ومكمن فخرها، حتى خرج جيل بعيد كل البعد عن روح الإسلام، بعيد في ثقافته، وشخصيته، وسلوكه، ونمط حياته.(2/492)
وإن الذي ينظر في أحوال المسلمين اليوم يرى عجباً من نتاج التغريب المستمر، يرى ذلك الجهل الظاهر لمهمات الدين في الشعوب المسلمة، بينا تجد جموعاً منها لا تجهل ملابسات (وفاة الكلب سولي أو الكلبة لولي!!)(3) لقد كان من نتاج هذا التغريب أيضاً: الجهل بالتاريخ الإسلامي وأمجاده وأبطاله، وكان من نتاجه أيضاً: السعي المحموم خلف (الموضات) والتقليعات الغربية، حتى أصبح ما يُفصَّل هناك في الصباح يُلبس هنا في المساء، وتسربت إلى البلاد الإسلامية عادات ليست منها بباب. ذكرت بعض الإحصائيات أن عدد الكلاب في إحدى الدول العربية أكثر من مليون كلب(4)!! إنها ليست كلاب حرث أو حراسة أو صيد، إنها كلاب مدللة أحدثها التقليد: «حتى لو دخلوا جحر ضبٍّ لدخلتموه»(1).
إن الأمة التي تعيش على فُتات الغير، وتقتات من موائده، لا يمكن أن تصنع نصراً، أو تبني مِصْراً، بل ستظل أمة ضعيفة هزيلة تابعة لا متبوعة.
ولا يقيم على ضيم يراد به إلا الأذلان: عير الحي، والوتدُ
هذا على الخسف مربوط برمّته وذا يُشَجُّ فلا يرثي له أحدُ
لما ذلت أمتنا غابت العزيمة من خطابها، ولم يعد في قاموسها غير الرخصة! نسيت {خُذُوا مَا آتَيْنَاكُم بِقُوَّةٍ} [الأعراف: 171] وبقيت تردد«يسِّروا ولا تعسروا»، قرأت {أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إلَيْهِمْ} [الممتحنة: 8] وتركت {ومَن يَتَوَلَّهُمْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [الممتحنة: 9] والشرع يُعرف من مجموع أدلته. لقد أصبحت قراءتنا للنصوص قراءة تناسب ضغط الواقع! لا مقاصد الشريعة.
وحين نريد لأمتنا أن ترقى، ولمكانتها أن تبقى، فلا بد من بعث روح العزة والقوة فيها، وأن يربّى أفرادها على ذلك، ولعل مما يبعث على العزة أمور أذكر منها ما يلي:
1 ـ تحقيق التوحيد وتنقية الاعتقاد:(2/493)
لقد جعل الله العزة ملازمة للإيمان: {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ} [المنافقون: 8]، فمتى استقر الإيمان ورسخ، فالعزة معه مستقرة راسخة؛ حتى في أحرج اللحظات. دخل الإيمان قلوب السحرة فصرخوا في وجه فرعون باستعلاء: {لَن نُّؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنتَ قَاضٍ إنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * إنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى} [طه: 72 - 73] ألا ما أروع الخطاب يوم يخرج بلغة الإيمان! إنه (الإيمان الذي جعل من بلال الحبشي قوة يتحدى «سيده» أمية بن خلف ويحارب أبا جهل بن هشام.. الإيمان الذي جعل القلة تنتصر على الكثرة، والأميين يغلبون المتحضرين، ودفع العرب البداة، ويقينهم في قلوبهم، ومصاحفهم في يد، وسيوفهم في أخرى، ومساكنهم على ظهور خيولهم يقولون لملوك فارس وأباطرة الروم: نحن قوم بعثنا الله لنخرج العباد من عبادة العباد إلى عبادة الله وحده)(2).
وحين انحرف الناس في فهم التوحيد وضلّوا في الاعتقاد، وأطفؤوا بتخليط الشرك نور الوحدانية، كان عاقبة أمرهم خسراً، واستبدلوا برفيع منازلهم أودية وقفاراً، فبارك عدوهم ما هم فيه، وأغمد سيفه مطمئناً لجانبهم، بل ربما أصاب بسهامهم ما لم يصبه هو بسهمه.(2/494)
ماذا جرَّت الصوفية ـ مثلاً ـ على بلاد المسلمين لما ضلت في الاعتقاد، وصنعت لأتباعها إيماناً مشوهاً مشوشاً لا يصنع العز في النفوس، بل يرسِّخ فيها الذل والهوان كما يصف صنيعهم محمد الغزالي رحمه الله بقوله: (تمارين على الذل)، ومما قاله أيضاً: (إن الدجالين من رجال الطرق الصوفية كانوا يربون أتباعهم على التواضع بشتى الطرق المهينة؛ فإذا رأوا أنفة من مسلك أحدهم، أو دلائل عزة وترفع، جعلوا عليه مهمة حمل أحذية الجماعة، والمحافظة عليها، حتى تنكسر نفسه، وينخفض رأسه، وبذلك يكون مرشحاً لعبادة الله كما يحب! ولم يَدْرِ المغفلون أنهم يرشحونه أيضاً ليكون عبداً للناس جميعاً، وأن مثل هذا الكائن الممسوخ هو أمل المستعمرين الذين يقيمون وجودهم على إذلال الأمم وقتل الشعور بالكرامة في نفوس بنيها)(3).
وصدق (توينبي) وهو كذوب حيث يقول: «لقد ظللنا نُخرج المسلم التركي حتى يتخلى عن إسلامه ويقلدنا؛ فلما فعل ذلك احتقرناه؛ لأنه لم يعد عنده ما يعطيه» اهـ.
أما حين يرجع المؤمن إلى دينه ويتمسك بثوابته فإنه سيجد في كتاب ربه ما يغنيه، وفي سنة نبيه -صلى الله عليه وسلم- ما يرويه، وفي عقيدته ما يكفيه، ولن يكون بحاجة إلى مخلفات الحضارة الغربية. ورحم الله محمد إقبال حين قال: إن بريق المدنية الغربية لم يُغْشِ بصري؛ لأني اكتحلت بإثمد المدينة النبوية.
2 ـ تحقيق تقوى الله ـ تعالى ـ بلزوم الطاعة واجتناب المعصية:(2/495)
قال ابن القيم وهو يعدد آثار الذنوب والمعاصي: (إن المعصية تورث الذل ولا بد؛ فإن العز كل العز في طاعة الله. قال ـ تعالى ـ: {مَن كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا} [فاطر: 10] أي فليطلبها بطاعة الله؛ فإنه لا يجدها إلا في طاعته. وكان من دعاء بعض السلف: اللهم أعزّني بطاعتك ولا تذلني بمعصيتك)(4)، ويعلِّق ابن القيم على قوله ـ تعالى ـ: {قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا} [الشمس: 9 - 10] فيقول: (والمعنى: قد أفلح من كبّرها وأعلاها بطاعة الله وأظهرها، وقد خسر من أخفاها وحقّرها وصغّرها بمعصية الله. فما صغّر النفوس مثل معصية الله، وما كبّرها وشرّفها ورفعها مثل طاعة الله)(5). وعن جبير بن نفير قال: (لما فُتحت قبرص فُرِّق بين أهلها، فبكى بعضهم إلى بعض، ورأيت أبا الدرداء جالساً وحده يبكي، فقلت: يا أبا الدرداء! ما يبكيك في يوم أعز الله فيه الإسلام وأهله؟ قال: ويحك! ما أهون الخلق على الله إذا هم تركوا أمره، بينما هم أمة قاهرة ظاهرة لهم الملك تركوا أمر الله فصاروا إلى ما ترى)(6). إن المعصية ذل وعار وسواد في الوجه، وظلمة في القلب، وبغضة في قلوب الخلق. قال -صلى الله عليه وسلم-: «إذا تبايعتم بالعِينة، وأخذتم أذناب البقر، ورضيتم بالزرع، وتركتم الجهاد، سلط الله عليكم ذلاً لا ينزعه عنكم حتى ترجعوا إلى دينكم»(1)، وفي بعض الآثار الإلهية يقول الله ـ تبارك وتعالى ـ: «أنا العزيز؛ فمن أراد العز فليطع العزيز». وكان عامة دعاء إبراهيم بن أدهم: اللهم انقلني من ذل المعصية إلى عز الطاعة.
ألا إنما التقوى هي العز والكرم وحبك للدنيا هو الذل والسقم
وليس على عبد تقي نقيصة إذا حقق التقوى وإن حاك أو حجم
3 ـ التعالي على مطامع الدنيا وشهواتها ولذائذها:(2/496)
إن النفس حين ترتفع عن المطامع الدنيوية، والشهوات الدنية، فإنها يوماً ما لن تكون أسيرة لها أو ذليلة لوطأتها، بل سترتفع إلى مكان أرقى وجوٍّ أنقى.
إني جواد عصي لا يطوعه بوح العناقيد أو عطر الهنيهات
أتيت أركض والصحراء تتبعني وأحرُف الرمل تجري بين خطواتي
أتيت أنتعل الآفاق.. أمنحها جرحي وأبحث فيها عن بداياتي
إن المسلم حين يتعامل مع الدنيا على حذر، ويأخذها على أنها متاع زائل وبُلْغة مسافر؛ فإنه لن يقع عبداً لها، ولن يبيع عزته ومكانته فداءً لها ، بل سيتخلى عن دنياه أسهل ما يكون حين تتعارض مع مبادئه وقيمه وثوابته، وحين يساوم على شيء من دينه. وقع عبد الله بن حذافة السهمي ـ رضي الله عنه ـ أسيراً في يد الروم، فلجؤوا معه إلى الإغراء فلم يستجب، عرض عليه ملك الروم إن هو ترك دينه أن يعطيه نصف ملكه، فقال: لو أعطيتني جميع ما تملك، وجميع ملك العرب ما رجعت عن دين محمد -صلى الله عليه وسلم- طرفة عين، وفي بعض الروايات: ثم جعلوا له في بيتٍ معه الخمرَ ولحم الخنزير ثلاثاً لا يأكل، فاطلعوا عليه، فقالوا للملك: قد انثنى عنقه، فإن أخرجته وإلا مات، فأخرجه، وقال: ما منعك أن تأكل و تشرب؟ فقال: أما إن الضرورة قد أحلتها لي، ولكن كرهت أن أشمِّتك بالإسلام(2).
أيُّ ثبات هذا الثبات؟! وأيُّ عزة تلك التي امتلأت بها نفس ابن حذافة؟! إنها النفوس حين تتعالى عن مطامع الدنيا، وترتفع عن شهواتها.
4 ـ النظر إلى الكافر نظرة احتقار مشوبة برحمة:(2/497)
هكذا ينبغي أن يكون نظرنا للكافر، لا أن ننظر له نظرة اعتزاز وإكبار، حتى ولو بلغ من الحضارة كل مبلغ، فقد صغَّر الله شأنهم، وحقَّر أمرهم، فلا يصح أن نرفع منهم، قال ـ تعالى ـ: {إنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِندَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ} [الأنفال: 22] وفي الحديث الصحيح عنه -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: «لا تبدؤوا اليهود والنصارى بالسلام، وإذا لقيتم أحدهم في الطريق فاضطروهم إلى أضيقه»(3)، وإن ذل المعصية لا يفارق جباههم، أبى الله إلا أن يذل من عصاه، كما يقول الحسن البصري رحمه الله: (إنهم وإن هملجت بهم البراذين، وطقطقت بهم البغال إلا أن ذل المعصية لا يفارق قلوبهم، أبى الله إلا أن يذل من عصاه)(4).
إن الذي يعلم حقيقة ما عليه الغرب الكافر اليوم، يرى أنه ليس حقيقاً بالإكبار، بل يرى أنه مجتمع متساقط متهالك، ليس لديه من مقومات البقاء شيء. يقول الرئيس الأمريكي السابق (جون كنيدي): إن الشباب الأمريكي مائع منحل، غارق في الشهوات، وإنه من بين سبعة شبان يتقدمون للتجنيد يوجد ستة غير صالحين ـ كل ذلك بسبب انهماكهم في الشهوات ـ. وتقول الإحصائيات: إنه في لندن وخلال (24) ساعة يحدث 332 اعتداء، و314 حادث سطو منزلي، و 530 حادث مرور، وتتم سرقة 116 سيارة و 273 حادث سرقه و 34 اعتداءً جنسياً، وعلى هذا يكون معدل الجرائم في اليوم الواحد في لندن 1599 جريمة!! {فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالأَمْنِ إن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} [الأنعام: 81].
كيف نرجو من السجين معيناً وهو في القيد ينشد الإفراجا
سبل الغرب كلها جحر ضبٍّ وسبيل الإسلام كانت فجاجا
5 ـ التعلق بالآخرة وطلب ثوابها:
إن الذي يتعلق بالآخرة تهون الدنيا في عينه، وتهون عليه نفسه فيقدمها رخيصة لله.
تقول ابنة السعدي وهي تلومني أما لك عن دار الهوان رحيل
فان عناء المستقيم على الأذى بحيث يذل الأكرمون طويل(2/498)
وعندك محبوك السراة مُطَهَّم وفي الكف مطرور الشباة صقيل
نادى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في أصحابه: «قوموا إلى جنة عرضها السموات والأرض» ففعلت هذه الكلمات في نفوس أهل الآخرة فعلها، فقام عمير بن الحُمَام «وقال: يا رسول الله! جنة عرضها السموات والأرض؟ قال: نعم! قال: بَخٍ بَخٍ! فأخرج تمراتٍ من قَرنِهِ فجعل يأكل منهن، ثم قال: لئن أنا حييت حتى آكل تمراتي هذه إنها لحياة طويلة. قال: فرمى بما كان معه من التمر ثم قاتلهم حتى قُتل»(5). لقد رأى أن هذه التمرات ـ والتي كان يتقوّى بها على الجهاد ـ قد تعيقه وتؤخر وصوله إلى الجنة فألقى بها وهو يقول: «إنها لحياة طويلة إن أنا بقيت حتى آكل هذه التمرات». وهذا جابر بن عبد الله ـ رضي الله عنهما ـ لما سمع رجلاً يقول للنبي -صلى الله عليه وسلم- يوم أحد: «أرأيت إن قتلت؛ فأين أنا؟ قال: «في الجنة». ألقى تمرات في يده، ثم قاتل حتى قتل»(1).
6 ـ التربية على الاعتزاز بالدين وغرس ذلك في النفوس:
لا بد من التربية على الاعتزاز بالدين وغرس ذلك في نفوس الأطفال من صغرهم، وأن يحدَّثوا بأمجادهم وتاريخ أسلافهم، قُلْ له: أنت ابن الإسلام، أنت حفيد أبي بكر، ووارث عمر، وصاحب عثمان، وخليفة علي، حدِّثْه عن نور الدين وصلاحه، أعدْ عليه ذكرى بدر، وأخبار القادسية واليرموك وأحداث حطين ونهاوند وبلاط الشهداء.
من أنت؟ فانتفضت حروفي وانتشت في كبرياء
وتطامنت حولي الرؤوس وهب يعليني الإباء
حتى علوت على السُّهى وشربت من ماء السماء
وتساءلت حولي النجوم فضج فيَّ الانتماء
من أنت؟ أي رسالة جعلتك ملتهب الدماء
الشمس تشرق في يديك البيض ما هذا السناء؟
والناس في درب الدجى هلكى وأنت مع الضياء
من أنت؟ أسئلة تراودني الصباحَ مع المساء
تعبت من الأسفار أرجلهم فناموا في العراء
ومضوا يعبُّون السراب ويرشفون الكبرياء
لا تسأليني من أنا؟ «أنا واحد من هؤلاء»
جسدي (بأرضي) ها هنا لكن روحي في السماء(2/499)
0 عوِّدْ من تقوم على تربيته أن لا يستجدي الناس شيئاً، وأن يستغني بما عنده عما في أيدي الناس، وقد قيل: استغن عمن شئت تكن نظيره، وأفضل على من شئت تكن أميره، واحتج إلى من شئت تكن أسيره.
0 عوِّدْه ردَّ الضيم وعدم قبول الذل؛ فإن ذلك ليس من سجية المؤمن ولا من خلقه، بل هو عزيز أبيٌّ. يقول ابن القيم ـ رحمه الله ـ: (إذا أردت أن تعرف الديك من الدجاجة وقت خروجه من البيضة فعلِّقه بمنقاره فإن تحرك فديك، وإلا فدجاجة)(2).
0 عوِّده أن يرفع رأسه دائماً إلى السماء، وأن لا يطأطئ إلى الأرض. روى العسكري: (أن رجلاً مرّ على عمر ـ رضي الله عنه ـ «وقد تخشع وتذلل وبالغ في الخضوع، فقال عمر: ألستَ مسلماً؟ قال: بلى! قال: فارفع رأسك، وامدد عنقك؛ فإن الإسلام عزيز منيع»(3) ورأت الشفاء بنت عبد الله بعض الفتيان يمشون متماوتين فقالت: مَنْ هؤلاء؟ فقيل: هؤلاء النسّاك. فقالت: لقد كان عمر إذا مشى أسرع، وإذا تكلم أسمع، وإذ ضرب أوجع؛ وكان هو الناسك حقاً(4).
((2/500)
إن اعتزاز المسلم بنفسه ودينه وربه هو كبرياء إيمانه، وكبرياء الإيمان غير كبرياء الطغيان، إنها أنفة المؤمن أن يصغر لسلطان، أو يتَّضع في مكان، أو يكون ذَنَباً لإنسان. هي كبرياء فيها من التمرد بقدر ما فيها من الاستكانة، وفيها من التعالي بقدر ما فيها من التطامن(5) فيها الترفع على مغريات الأرض ومزاعم الناس وأباطيل الحياة، وفيها من الانخفاض إلى خدمة المسلمين والتبسط معهم، واحترام الحق الذي يجمعه بهم، فيها إتيان البيوت من أبوابها، وطِلاب العظمة من أصدق سبلها... والعز والإباء والكرامة من أبرز الخلال التي نادى الإسلام بها، وغرسها في أنحاء المجتمع وتعهد نماءها بما شرع من عقائد وسنَّ من تعاليم. وإليها يشير عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ بقوله: أحِبُّ الرجل إذا سِيمَ خطةَ خسفٍ أن يقول بملء فيه: لا. .. «جاء رجل إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فقال: يا رسول الله، أرأيت إن جاء رجل يريد أخذ مالي؟ قال: لا تعطه مالك! قال: أرأيت إن قاتلني؟ قال: قاتله! قال: أرأيت إن قتلني؟ قال: فأنت شهيد! قال: أرأيت إن قتلته؟ قال: هو في النار»(6)، نعم! فمن عزة المؤمن أن لا يكون مستباحاً لكل طامع، أو غرضاً لكل هاجم. بل عليه أنت يستميت دون نفسه وعرضه، وماله وأهله، وإن أريقت في ذلك دماء؛ فإن هذا رخيص لصيانة الشرف الرفيع... أمَّا تهيُّب الموت وتحمّل العار طلباً للبقاء في الدنيا على أية صورة فذلك حمق؛ فإن الفرار لا يطيل أجَلاً، والإقدام لا ينقص عمراً. كيف؟ {وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ} [الأعراف: 34] إن القضاء يصيب العزيز وله أجره، ويصيب الذليل وعليه وزره؛ فكن عزيزاً ما دام لن يفلت من محتوم القضاء إنسان)(7).
وإذا لم يكن من الموت بدٌّ فمن العار أن تموت جبانا
اللهم أعزنا بالإسلام قائمين وقاعدين، ولا تشمت بنا الأعداء(3/1)
--------------------------------------------------------------------------------
(1) العولمة والعالم الإسلامي أرقام وحقائق، ص 236.
(2) طه حسين حياته وفكره في ميزان الإسلام، أنور الجندي، ص 31.
(3) صلاح الأمة، للعفاني: 7/267.
(5) صلاح الأمة، للعفاني: 7/267.
(1) البخاري (7320)، مسلم (2669).
(2) الإيمان والحياة، القرضاوي، ص 240.
(3) تأملات في الدين والحياة، الغزالي، ص 173.
(4) الجواب الكافي، ص 63 ط، مكتبة المؤيد.
(5) الجواب الكافي، ص 85 ط، مكتبة المؤيد.
(6) حلية الأولياء: 1/216.
(1) أخرجه أبو داود (3462).
(2) سير أعلام النبلاء، رقم الترجمة (3192).
(3) الترمذي (2700).
(4) الجواب الكافي، ص 63.
(5) مسلم (1901)، وأحمد (3/136ـ137).
(1) البخاري (4046)، ومسلم (1899).
(2) بدائع الفوائد: 3/ 1201، ط عالم الفوائد.
(3) فيض القدير: 7/3885، ط. الباز.
(4) الإيمان والحياة، القرضاوي، ص 241.
(5) قد وصفهم الله ـ تعالى ـ بقوله: {أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ} [الفتح: 29].
(6) مسلم (140).
(7) خلق المسلم، الغزالي، ص (215ـ 223)، ط دار الكتب الحديثة 1394هـ.
--------------------------------------------------------------------------------
مجلة البيان، العدد (221)
* * *
http://www.albayan-magazine.com/zwaya/trbwi/72.htm
التغيير ابدأ بنفسك
د. محمد بن عبد العزيز الشريم(3/2)
يستسلم كثير من الناس عندما تواجههم مشكلات أو ظروف صعبة يعجزون عن التغلب عليها، فيقفون مكتوفي الأيدي حيالها. الأمر الأخطر من ذلك الموقف السلبي أن يظن الشخص أن هذا الاستسلام يعني تسليمه لقضاء الله وقدره، مع أن بين الأمرين اختلافاً كبيراً جداً؛ إذ إن الاستسلام يعني التوقف عن العمل وترك الأخذ بالأسباب الكونية التي جعلها الله ـ تعالى ـ علاجاً لمواجهة مثل هذه المشكلات. وأحياناً يعني الاستسلام عندهم عدم البحث عن تلك الأسباب. أما التسليم فيعني الرضا بما كتبه الله ـ تعالى ـ بعد استنفاد الوسع وبذل الجهد في البحث عن أسباب المشكلة وطرق علاجها، ومن ثم العمل بها على الوجه الصحيح.
يقول الله ـ تعالى ـ في كتابه العزيز: {إنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ} [الرعد: 11]. وهذه الآية الكريمة مليئة بالفوائد التي لا غنى عنها في صناعة التغيير. ومن أهم تلك الفوائد أن يراجع الإنسان نفسه وعلاقته مع خالقه، ويبتعد عن أسباب محق البركة. إلا أن هناك فائدة يمكن استنباطها من تلك الآية، ألا وهي أن أحوالنا اليومية لن تتغير أو تتحسن حتى نبادر نحن بتغيير أنفسنا. ومن أهم نقاط التغيير المثمر أن يغيّر الإنسان نظرته السلبية إلى واقعه حتى يمكنه التعامل معه بإيجابية تمكنه من مواجهة مشكلاته والتغلب عليها.(3/3)
لقد نظمت الخنساء ـ رضي الله عنها ـ قصائد من أجمل ما قيل في الرثاء بعد مقتل أخيها صخر في الجاهلية، ولكنها بعد أن أسلمت لم تقل بيتاً واحداً في رثاء أحد من أبنائها الأربعة عندما أتاها نبأ مقتلهم جميعاً، بل احتسبت شهادتهم عند الله. ومعلوم أن الولد أعز من الأخ، خاصة بعدما كبرت الخنساء في السن وضعفت وازدادت حاجتها لمساندة أبنائها. فما الذي تغير؟! لقد علّم الإسلام الخنساء معنى آخر للموت والحياة، ومعنى آخر للفقد والكسب؛ ولذلك فإن نظرتها الجديدة لموت المقربين لها ساعدتها على التعامل مع الموقف نفسه بإيجابية عالية، بدلاً من السلبية التي أظهرتها زمن الجاهلية في رثاء صخر بلا فائدة.
< النظرة الإيجابية:
في كثير من الأحيان تواجهنا مشكلات عويصة بالفعل أو أوضاع صعبة جداً، ولكننا يجب علينا ألا نجعل من تلك المشكلات التي لا نستطيع حلها عوائق (نفسية أو مادية) تمنعنا من النظر بإيجابية لواقعنا. فأحياناً يكون حل المشكلة أمام أعيننا ولكننا بحاجة للالتفات يمنة أو يسرة حتى نضع أبصارنا عليه ونراه حلاً للمشكلة التي تشغل أذهاننا.
تلقَّى أحد الفنادق العريقة شكاوى متعددة من النزلاء بأن المصاعد تستغرق وقتاً طويلاً جداً حتى تصل إلى النزيل بعد طلبها. أحال المسؤولون في الفندق هذه المشكلة إلى شركة هندسية متخصصة لإعداد تقييم لأداء المصاعد وتقديم مقترح لعلاج مشكلة بطء وصولها. جاء في تقرير مهندسي الشركة أن المصاعد قديمة ولم تعد مناسبة للعمل بشكل يتوافق مع معايير الأداء في مثل هذا المبنى، ولذلك يجب تغييرها لتجاوز مشكلة الشكاوى المتكررة من النزلاء. بلغ تقدير التكلفة الأولى لإزالة المصاعد القديمة وتركيب أخرى حديثة مئات الألوف من الدولارات، ولذلك ترددت إدارة الفندق في اعتماد التغيير.(3/4)
عُرِض الأمر على أحد المتخصصين في حل المشكلات الإدارية واتخاذ القرارات الاستراتيجية، فقدم مقترحاً لحل المشكلة لم تتجاوز كلفته بضع مئات من الدولارات. لم ينظر الخبير إلى المشكلة من الزاوية نفسها التي نقلها إليه المسؤولون في الفندق، وهي بطء وصول المصاعد إلى النزلاء عندما يطلبونها، ولكنه نظر إليها من زاوية مختلفة، ألا وهي تقدير الوقت في أذهان النزلاء؛ ولذلك فكر في حيلة يقضي بها على شعورهم بطول وقت الانتظار. ولذلك كان الحل الذي اقترحه الخبير في غاية البساطة، ألا وهو تركيب مرآة بطول الإنسان أمام بهو المصاعد في كل دور. قامت إدارة الفندق فعلاً بتركيب تلك المرايا وتناقصت الشكاوى بشكل ملحوظ بعد ذلك؛ لأن النزلاء كانوا يمضون وقت الانتظار بين طلب المصعد ووصوله إليهم في الاعتناء بمظهرهم وتعديل هندامهم، فلا يشعرون بطول الوقت حتى يكون المصعد قد وصل إليهم.
وكان (إيرل ديكسن) يعمل في شركة جونسون آند جونسون (أكبر مُصنِّع للأشرطة الطبية اللاصقة في أمريكا)، وكانت زوجته كثيراً ما تجرح يدها أثناء عملها في المطبخ، وكان يباشر علاجها بنفسه، وذلك بوضع قطعة من الشاش على مكان الجرح ويمسكها حتى يتمكن من تثبيتها باللاصق الطبي فوقها. فكر ديكسن في طريقة يمكن لزوجته أن تضع الضمادة على الجرح بنفسها في غيابه. أخذ قطعة من الشاش ووضعها في وسط اللاصق، ولكنه خشي إن تركها أن تجف ولا يمكن لصقها. بحث (ديكسن) حتى وجد قماشاً أملس يمكن لصق الضمادة الجديدة عليه؛ بحيث يسهل على زوجته نزعها عند الحاجة ووضعها على الجرح بمفردها. عرض (ديكسن) فكرته على شركته فأعجب المسؤولون بها وتبنوا تصنيعها على نطاق تجاري كما نرى اليوم؛ حيث لا يكاد يخلو منزل في العالم من تلك اللواصق.
< لماذا لا نغير نظرتنا للمشكلة؟(3/5)
كثيراً ما يفيد النظر إلى المشكلة من زاوية مختلفة في تقديم حلول مبتكرة وسهلة واقتصادية، لكن العقل البشري يميل إلى مقاومة البحث عن أسباب أخرى يفسر بها المشكلة التي تواجهه؛ وذلك بسبب الانغماس في المشكلة وعدم القدرة على النظر إليها من زوايا متعددة يحتمل أن يكون الحل في إحداها. بل إن بعض المشكلات ـ في ظاهرها ـ ليست مشكلات في الحقيقة لو نظرنا إليها من زاوية مختلفة. وأحياناً قد ينظر أحدنا إلى أمر ما على أنه فشل، ولكنه في حقيقته يحمل بذور النجاح، ولكن بشكل مختلف. ولعل هذا يتوافق مع قوله ـ تعالى ـ: {فَعَسَى أَن تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا}. [النساء: 19]
يعاني كثير من الناس من أزمة الاستغراق في المشكلات التي تواجههم. بعضهم لا يجيد سوى التذمر والشكوى، وآخرون يواجهون مشكلاتهم بإلقاء اللوم على الآخرين. هذان الأسلوبان، وغيرهما كثير، يبدوان للنفس مخارج هروب بدلاً من مواجهة المشكلة، ولذلك قد يشعر الشخص أحياناً بشيء من الارتياح عندما يتصرف بإحدى الطريقتين. السبب في ذلك أن الشخص عند لجوئه لهذه المخارج الانهزامية يبرر لنفسه تقاعسها عن مواجهة المشكلة. هذا الارتياح الجزئي يعمل مثل المخدر الذي يعوق الدافعية نحو حل المشكلة.(3/6)
في كثير من الأحيان تكون المشكلة وحلها معتمدين على النظرة التي يحملها الشخص تجاه تلك المشكلة؛ فإذا نجح في تكوين صورة متكاملة وواضحة عن المشكلة أمكنه بعون الله حلها. ومن ذلك ما تقدم به أحد العاملين في شركة تصنيع مواد لاصقة (مثل الغراء والصمغ)، فعندما جرب أحد منتجاتها على الورق كان لا يلتصق بدرجة كافية؛ لأنه لا يجف، بل كان سهل النزع، وعندما يعاد الضغط عليه يلتصق ولكنه يسهل نزعه مرة أخرى. كانت المشكلة ـ وفق النظرة الأولى ـ أن هذا اللاصق الجديد منتج فاشل؛ حيث إن المتوقع من أي مادة لاصقة أنها تثبت ولا يمكن نزعها بسهولة بعد جفافها. وبدلاً من أن يرى هذا الشخص أن ضعف الالتصاق فشل، نظر إليه من زاوية مختلفة، وقدم لذلك المنتج الفاشل استخداماً لم يكن يخطر في بال أحد من الذين يعملون في المصنع حينئذ، ألا وهو المذكرات التي تلصق بالأوراق دون الحاجة إلى تثبيتها بدبابيس أو مشابك ورق، إضافة إلى أنها لا تترك أثراً على الأوراق الأصلية، ويمكن نزعها بسهولة. وهذه هي الأوراق الصفراء المعروفة في السوق باسمPost-it) ) التي لا يستغنى عنها أثناء القيام بالأعمال المكتبية.
< كيف نغير نظرتنا للمشكلة؟
تغيير النظرة للمشكلة بنجاح يتضمن ثلاثة أمور: أولها: فهم حقيقة المشكلة نفسها، والثاني: القدرة على التخلص من القيود التي تمنع العقل من النظر من زوايا مختلفة. والثالث: اقتناص حل لمشكلة لم تكن حاضرة في الذهن.(3/7)
في كثير من الأحيان يكون فهمنا للمشكلة سطحياً أو ناقصاً؛ ولذلك ينبغي على الشخص الذي يريد حل مشكلة ما أن يستكمل فهم جوانبها المختلفة، ولا يستصغر منها شيئاً؛ لأنه قد يكون مفتاحاً للحل. فبعض المشكلات يكون فهم الشخص لها محدوداً بإطار سائد. في مثال مصاعد الفندق تغير تعريف المشكلة من: كيف نزيد سرعة المصاعد إلى كيف نقلل شعور النزلاء بطول وقت الانتظار؟ وبذلك نجحت إدارة الفندق في تقليل التكلفة بشكل ملحوظ دون تقليل درجة رضا المستخدمين.
ومن ذلك أيضاً جهاز تسجيل الحضور والانصراف الآلي؛ فقد كانت فكرة الجهاز تنطلق من أنه ليس من الضرورة أن يتولى شخص مسؤولية متابعة الموظفين لتسجيل حضورهم وانصرافهم بتوقيت دقيق، ولذلك جاءت فكرة جهاز البطاقات التي يختمها الموظف عند حضوره وانصرافه. ولكن المشكلة أن أحد الموظفين يستطيع تسجيل حضور زميله إن لم يكن هناك مراقب. ولذلك فكر المخترعون في طريقة للتغلب على هذه النقطة. كان الحل يكمن في جعل الموظف يسجل بنفسه مستخدماً بصمته؛ فلا يمكن لموظف آخر أن يتلاعب في تسجيل حضوره أو انصرافه.(3/8)
أحياناً يصعب على الشخص الذي تواجهه مشكلة ما أن يتخلص من القيود التي تمنع عقله من النظر إلى المشكلة من زوايا مختلفة. في مثال اللواصق الطبية نجح (ديكسن) في تحرير ذهنه من الاعتقاد السائد أنه لا بد من وجود شخص آخر يضع الشاش أولاً ثم اللاصق على الجرح. نظرته للمشكلة من زاوية أخرى، بأن وضْع الجزأين معاً ممكن، ساهم في حل المشكلة بشكل أيسر بعد أن تخلص من تلك القيود التي كثيراً ما تمنع القدرات العقلية من الانطلاق نحو حلول مبتكرة. وكذلك الحال بالنسبة للتعامل مع السيارات المخالفة بالوقوف في مكان خاطئ؛ ففي السابق كان لا بد من سحب تلك السيارة برافعة خاصة مما يعني تكلفة عالية وتعريض السيارة المسحوبة للضرر. أما الآن فيمكن وضع قيد معدني على أحد الإطارات فلا يستطيع صاحبها التحرك إلا بعد أن يراجع هو بنفسه الجهة المسؤولة ويدفع قيمة المخالفة؛ فبدلاً من أن يقع العبء على الجهة المنظمة وتسحب السيارة لحجزها، جعلوا صاحب السيارة هو الذي يطلبهم لفك أداة صغيرة الحجم ورخيصة الثمن وتؤدي الغرض نفسه، ما لم تكن السيارة واقفة في مكان يعيق حركة السيارات الأخرى.(3/9)
ومن الأشياء التي يمكن أن تساهم في حل المشكلات التي نمر بها أن يكون الذهن متفتحاً وفاحصاً لما يمر أمامه من ملحوظات أو تعقيبات أو حتى استخدامات قد لا تخطر للبال. ومن ذلك ما فعله توماس ساليفان (أحد موردي الشاي والقهوة في نيويورك) الذي كان يرسل عينات من أنواع مختلفة من الشاي إلى زبائنه ليجربوها ويختاروا ما يروق لهم منها. كانت أسعار العلب المعدنية التي يرسل فيها تلك العينات تتزايد، ولذلك فكر في طريقة يعبئ فيها الشاي بكميات أصغر وبسعر أرخص دون أن يظهر للزبائن أنه بخيل. قرر أن يستخدم أكياساً من الحرير الصيني مغلقة بخياطة يدوية. أرسل العينات إلى زبائنه ولكنه فوجئ بهم يطلبون كميات من الشاي في تلك الأكياس؛ لأنهم ظنوا أن هذه طريقة جديدة للحفاظ على نكهة الشاي. وهكذا نجح ساليفان في اختراع أكياس الشاي دون قصد منه. واستمر في عمله ذلك مستفيداً من اقتناصه لتلك الفرصة التي واتته دون أن يخطط لها. ولذلك نجد كثيراً من الشركات تقوم بعمليات تقويم لمنتجاتها معتمدة على آراء زبائنها لتطوير هذه المنتجات.
--------------------------------------------------------------------------------
(*) رئيس تحرير مجلة الأسرة.
--------------------------------------------------------------------------------
مجلة البيان، العدد (223)
* * *
http://www.albayan-magazine.com/zwaya/trbwi/73.htm
الطفل والقراءة الإبداعية
أ. د. بركات محمد مراد(3/10)
نقطة الانطلاق إلى تنمية روح الإبداع عند الطفل تكون بالقراءة الإبداعية؛ فإذا كانت القراءة هي الوسيلة التي لا غنى عنها للإنسان، فهي تثري خبراته وتوسّع أفقه، وتربطه بماضي أمته، وتجعله قادراً على فهم حاضره، والتخطيط لمستقبله، فإننا في حاجة ملحة إلى ربط القراءة بقدرات التفكير الإبداعي، وبذلك تنتقل القراءة إلى مفهوم جديد، نحن في حاجة إلى القراءة الإبداعية لا لنجعل القارئ مستوعباً لما يقرأ أو نقَّاداً، بل إنها تتعدى ذلك كله إلى التعمُّق في النص المقروء، والتوصل إلى علاقات جديدة، وتوليد فكر جديد للمشكلات، وتطبيق لهذه الحلول، والمقروء يجب أن يكون مصدراً للتفكير، والتغلب على ضغوط الحياة، والقراءة هنا لتركيب المعلومات والوصول إلى استنتاجات حقيقية عن الواقع.(3/11)
نحن في حاجة إلى تدريب الأطفال ـ خاصة الموهوبين ـ على طرح الأسئلة حول المعلومات التي لم تذكر في النص، وإضافة فكر جديد، وكتابة عناوين مختلفة لما يقرأ، وكتابة عدة نهايات لقصة غير مكتملة، وكتابة حلول متنوعة لإحدى المشكلات، وتوقع ما يمكن أن يحدث لإحدى شخصيات القصة، وذكر الأسباب المختلفة لوقوع حدث من الأحداث، وذكر أكبر عدد ممكن من الاستخدامات للأشياء، والتنبؤ من خلال المعلومات المقدمة إليه، وتوقع الاحتمالات، وإنتاج عدد كبير من الأفكار المرتبطة بالمقروء، والانتقال بالتفكير من مجال إلى آخر، وإنتاج فكر غير تقليدي. إن القراءة الإبداعية تنمية للفرد، وتوسيع لقدرته العقلية وتفكيره؛ فالأفكار الجديدة التي يحصل عليها القارئ تساعده على توليد أفكار مبدعة؛ فهو ليس مستقبِلاً للمعلومات بقدر ما هو باحث مجرّب ومركّب، لديه القدرة على نقد ما يقرأ وتقويمه، إنه قارئ مفكر يكتشف التناقض في المعلومات والأسباب الكامنة خلف التناقض، ويصل إلى استنتاجات صحيحة، ويختار المناسب منها وينتقي ما يطبقه في حياته اليومية، فيصبح سلوكه في حالة من التطور الدائم المفيد، إنه قادر على التوقيع والحدس، قادر على تشكيل المادة المقروءة.
والقراءة الإبداعية تجعل المتعلم يتعمق المشكلات الدراسية، ويكشف الأسباب، ويربط بين المؤتلف، ويصنف المختلف، ويحوّر ويعدّل ويبدّل في المادة الدراسية مما يقوده إلى أصالة التفكير وامتلاك التعدد في وجهات النظر، فتصبح لديه الطلاقة والمرونة وأصالة التفكير، فيحل مشكلاته وكذا مشكلات المجتمع الذي يعيش فيه.
ويمكن تنمية القراءة الإبداعية بكثير من الوسائل والاستراتيجيات كالعصف الذهني، وطرح الأسئلة، والتنبؤ القرائي، وتنويع الحل، وتنمية التخيل، وحل المشكلات، والتعمق والانطلاق، وغيرها من الاستراتيجيات.(3/12)
ولا ننسى أهمية «الدهشة»؛ لأنها بوابة الدخول إلى عالم الإبداع؛ فيكف يكون الإبداع بغير دهشة، يترجمها التساؤل عن كيف وماذا ولو، عن السبب وعن العلة والمعلول، وما هو كامن وراء الأشياء، وكيفية إعادة تنظيم الأشياء. وعلى هذا فإن الجدة محور الإبداع ومركز كل موهبة؛ فكيف تكون موهبة بغير جديد تقدمه في مجال الموهبة التي تتمتع بها؟ ثم إن القدرة على تقديم الجديد من شأنها أن تثير الدهشة. ولنا أن نعلم أن الدهشة هي التي صنعت حضارة الإنسان، وأن التساؤل هو الذي يسهم في التطور، والطفل في حاجة إلى أن يتعلم كيف يندهش على نحو فعال، ولا يتحقق ذلك إلا من خلال إتاحة المجالات المتنوعة علمياً وتكنولوجياً وفكرياً وفنياً وتصورياً أمام التلاميذ.
وتنوّع هذه المجالات أمام الطفل يثير لديه التساؤل المحفوف بالبحث عن المعرفة، وعن محاولات الإجابة عن تساؤلات يطرحها ثراء هذه المجالات العلمية المتنوعة.
ولا ننسى دور الخَيَال في كل ذلك، وها هو «إنشتين» يعلمنا كيف يكون الخَيَال الينبوع الرئيس لكل علم ولكل معرفة، مؤكداً أن الأفكار لم تكن تأتيه في أية صياغة لفظية؛ فالفكر كان يأتي أولاً ثم يحاول التعبير عنه بالألفاظ والكلمات. أما الإبداع في رأيه ففي إثارة المشكلة، وإن المشكلة أهم من الوصول إلى حلٍّ لها؛ حيث إن إثارة أسئلة جديدة غير مألوفة يتطلب خيالاً إبداعياً.
إننا يجب أن نعامل أطفالنا كلهم، كما لو أنهم جميعاً لديهم شرارة النبوغ. إن الآباء يستطيعون أن يلهبوا هذه الشرارة من النبوغ. أو يضعفوها أو يخمدوها. والواجب علينا تنمية هذه الميزة الرئيسية في أطفالنا بالقراءة، حتى يصبح لدينا جيل كامل من المبدعين والعباقرة. وكل طفل هو كائن موهوب إذا لم نقهر (الدهشة) التي ترتسم على وجهه، وإذا لم نمنعه عندما ينقد سلوكيات عالم الكبار.
--------------------------------------------------------------------------------
((3/13)
*) أستاذ الفلسفة الإسلامية ورئيس قسم الفلسفة والاجتماع، كلية التربية، جامعة عين شمس.
--------------------------------------------------------------------------------
مجلة البيان، العدد (223)
* * *
http://www.albayan-magazine.com/zwaya/trbwi/74.htm
التفريط وآثاره على الفرد المسلم
د. أحمد العمراني
فالتفريط يعني: التقصير والتضييع. نقول: فرَّط في الأمر: قصَّر فيه وضيَّعه(1).
فماذا ضيع الإنسان؟
لقد خلق الله الإنسان وخلق له الكون كله؛ حيث يقول ـ سبحانه ـ: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُم مَّا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ اسْتَوَى إلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَوَاتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ * وَإذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً} [البقرة: 29 - 30]. ولم يخلقه عبثاً ـ بتقرير القرآن ـ حيث يقول ـ تعالى ـ: {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ} [المؤمنون: 115]. ويمكن أن نلخص رسالة الإنسان على هذه البسيطة في أمور ثلاثة: العبادة، والعمارة، والخلافة.
ـ فالإنسان مستخلَف ومسؤول بقوله ـ تعالى ـ: {إنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً} [البقرة: 29 - 30].
وببيان المصطفى -صلى الله عليه وسلم- القائل: «إن الدنيا حلوة خَضِرة، وإن الله مستخلفكم فيها، فينظر كيف تعملون»(2). وفي رواية: «إن هذا المال حلوة خَضِرة؛ فمن أخذه بسخاوة بورك له فيه، ومن أخذه بإشراف نفس لم يبارك له فيه»(3).
ـ وهو مكلف بعمارة الأرض بقوله ـ تعالى ـ: {هُوَ أَنشَأَكُم مِّنَ الأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا} [هود: 61].
وببيانه -صلى الله عليه وسلم-: «إن قامت الساعة وبيد أحدكم فسيلة فإن استطاع أن يغرسها فليغرسْها»(4).(3/14)
وهنا يسائل المرء نفسه: لمن سيغرسها إن كان قيام الساعة واضحاً بيِّناً؟ هذه هي الحكمة الربانية، المهم أن تغرس، أن تعمر الأرض وأن تنتج، لا أن تخرب أو تدمر أو تنام وتتقاعس.
ـ ومكلف بتحقيق العبودية لله بقوله ـ تعالى ـ: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإنسَ إلاَّ لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56].
فماذا فعلنا لعمارة الأرض؟ وماذا فعلنا لنكون خلفاء كما ينبغي؟ وماذا فعلنا لنعبد الله حق العبادة؟
< أسباب التفريط:
للتفريط في جنب الله أسباب كثيرة، قد نصل إلى إدراك بعضها، وقد تغيب عنا أسباب أخرى منها.
فمن الأسباب الواضحة المؤدية إلى التفريط ما يلي:
1 ـ الانشغال التام بالدنيا:
حيث إن كثيراً من الناس لا يجدون وقتاً لراحتهم وليس لتدينهم فحسب، نظراً لكثرة الانشغالات الدنيوية والارتباطات العملية التي تثمر كثرة الأعباء والتكاليف التي تجعل الإنسان ينغمس فيها طلباً للمال، مما يسبب الأكل الكثير، فالشرب الكثير، فالنوم الكثير، فالالتهاء الكثير، فالنسيان الكثير.
وهذا يضطرهم للتوسع الشديد في المباحات والاستكثار منها. وبالطبع كلما زادت رغبة الفرد في ملذات الدنيا أوقعته في حبائلها وأوصلته إلى الوقوع في مكروهاتها ومحرماتها.
فإذا حصل هذا تُنُوسيت الدار الآخرة، وتنوسيت أهوالها وما ينتظر الفرد منها من سؤال وجزاء ومحاسبة، وهذا بسبب الغفلة التي حصلت بالالتهاء بشهوات الدنيا وزخارفها، فيصعب على الإنسان أن يبتعد عن حياة النعيم التي حصَّلها، فإذا حصَل له بعض النقص، فقد يندفع إلى ارتكاب الموبقات للوصول إلى أغراضه، فيتجرأ على المعصية، وتتلوها معاصٍ، فيحاط قلبه بالران: {كَلاَّ بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِم مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [المطففين: 14]، ويتعثر في الرجوع إلى نفسه ونهيها عن غيها، ويصعب عليه الإقلاع والابتعاد عما أوقع نفسه فيه، فينتقل الأمر من الغفلة إلى التفريط التام.(3/15)
فالتفريط في كل ما ذكر هو مشكلة الأمة اليوم، وهو باختصار: تفريط في جنب الله، وهو نسيان الدار الآخرة والجزاء والحساب والموقف.
فقد أصبح كثير من المسلمين لا يفكرون إلا في الدنيا وشهواتها: تزينت لهم وأغوتهم بغوايتها حتى نسوا الذكر ونسوا الهدف من وجودهم، مع أن الرسول -صلى الله عليه وسلم- قد حذر منها في قوله: «واللهِ ما الفقر أخشى عليكم، ولكني أخشى أن تُبسَط الدنيا عليكم كما بُسطت على من كان قبلكم، فتنافسوها كما تنافسوها، فتهلككم كما أهلكتهم»(1).
وروى في بيانها أبو أمامة الباهلي قال: لما بُعِثَ النبي -صلى الله عليه وسلم- أتت إبليسَ جنودُه فقالوا: قد بُعث نبي وأُخرجت أمة، قال: يحبون الدنيا؟ قالوا: نعم! قال: لئن كانوا يحبون الدنيا ما أبالي ألا يعبدوا الأوثان، وإنما أغدو عليهم وأروح بثلاث: أخذ المال من غير حقه، وإنفاقه في غير حقه، وإمساكه عن حقه، والشر كله من هذا نبع»(2).
وروي عن عيسى ـ عليه السلام ـ أنه رأى الدنيا في صورة عجوز هتماء، عليها من كل زينة، فقال لها: كم تزوجتِ؟ قالت: لا أحفظهم، قال: فكلهم مات عنك أو كلهم طلقوك؟ قالت: بل كلهم قتلتُ، فقال عيسى ـ عليه السلام ـ: بؤساً لأزواجك الباقين! كيف لا يعتبرون بأزواجك الماضين؟ كيف تهلكينهم واحداً بعد واحد ولا يكونون على حذر؟»(3).
لهذا قيل في شأنها: «الدنيا إذا حلت أوحلت، وإذا كست أوكست، وإذا جلت أوجلت، وإذا دنت أودنت»(4) وصدق الله العظيم حين قال: {اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الأَمْوَالِ وَالأَوْلادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا} [الحديد: 20].
وصدق رسوله المصطفى -صلى الله عليه وسلم- حين قال: «ما الدنيا في الآخرة إلا مثل ما يجعل أحدكم أصبعه في اليم فلينظرْ بِمَ يرجع؟»(5).(3/16)
وهذا لا يعني أن الإنسان يجب أن يزهد في الدنيا، ويتفرغ للرهبانية التي حذر منها الشرع الحنيف، بل عليه أن يعرف أن الدنيا خُلقت له وليس هو من خُلق لها، وبين الأمرين فرق كبير وبون شاسع.
فما الفرق بيننا وبين باقي الكائنات إن لم نعبد الله؟
نتشابه كلية مع باقي الكائنات فيما يفعلون؛ حيث نأكل ونشرب وننام وننكح، وكذلك يفعلون.
ولكننا نتميز عنهم بعبادة الله كما شرع، وسنحاسَب كما أخبر، مع العلم أن الكون والخلائق كلها تسبِّح الله وتطيعه كما قال ـ تعالى ـ: {وَلَكِن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ} [الإسراء: 44].
والفرق الذي بيننا وبينها أنها غير مكلفة بشريعة وغير محاسَبة عليها؛ إذ لم يُبْعَثْ لها أنبياء ورسل، بل هذا مما تميز به الإنسان؛ فكيف لا نتميز؟ بل كيف نرضى لأنفسنا أن نتشابه مع باقي مخلوقاته، والله أمرنا أن نتميز حتى لا نكون مثلهم: {أُوْلَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أضَلُّ} [الأعراف: 179]؟
فالتفريط في هذه المقاصد والغفلة عنها هو الذي أوقع الأمة في براثن وحبائل التفريط في جنب الله.
وكثرة غفلة الغافلين هي التي دفعت العديد من الأفراد إلى الإفراط في جنب الله، فوقع المسلمون بين غلو المتشددين، وتقصير الغافلين، وهذا حال الأمة؛ مع أن القرآن الكريم علمنا كيف نستجيب للدنيا وكيف نستجيب للآخرة ونعيمها، وكيف نستجيب لله، ولكل نداؤه الخاص؛ حيث وردت في عباراته ثلاثة نداءات متفاوتة فيما بينها وفي طريقة الاستجابة لها والتعامل معها وهي كلها تخدم فوز ونجاح الإنسان في الدنيا والآخرة.
ـ النداء الأول: من أجل الدنيا قال ـ تعالى ـ: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ ذَلُولاً فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِن رِّزْقِهِ وَإلَيْهِ النُّشُورُ} [الملك: 15](3/17)
والمؤمن الكيِّس الفَطِن مطالَب بالانتباه إلى لغة القرآن؛ ففي طلب الدنيا لا يتجاوز المشي «فامشوا» أي بتؤدة وببطء وتمهل وتعقل، وهو أمر فُسِّر في القرآن تفسيراً وبُيِّن تبييناً؛ حيث يقول الله ـ تعالى ـ في كتابه الكريم في وصية لقمان لابنه: {وَلا تَمْشِ فِي الأَرْضِ مَرَحًا إنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ * وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ} [لقمان: 18 - 19]. ووصية الله للإنسان في قوله: {وَلا تَمْشِ فِي الأَرْضِ مَرَحًا إنَّكَ لَن تَخْرِقَ الأَرْضَ وَلَن تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولاً } [الإسراء: 37]. وحدد صفة مشي عباد الرحمن: {وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ هَوْنًا} [الفرقان: 63].
فالناظر في آيات القرآن يتبين له كيف أعطى المولى ـ عز وجل ـ للمشي اعتباراً فريداً؛ لأنه ـ بكل اختصار ـ يعبر عن شخصية الإنسان؛ فالمسلم النبيه هو من يمشي ليِّناً هيِّناً بسكينة ووقار دون تجبر ولا استكبار ودون استعلاء على أحد أو انتفاخ، أي: يمشي مشية من يعلم أنه خُلق من الأرض وسيعود فيها {مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى} [طه: 55].
فمشية المسلم في الدنيا وفي طلبها هي مشيه في الحلال طلباً وأخذاً وعطاءً وسلوكاً، لا يظلم أحداً، ولا يتكبر على أحد، متواضعاً، كما قال الشاعر:
ولا تمش فوق الأرض إلا تواضعاً فكم تحتها قوم همو منك أرفعُ
وإن كنت في عز وجاه ومنعة فكم مات من قوم همو منك أمنعُ(1)(3/18)
ـ النداء الثاني: من أجل الجنة والمغفرة، وفي ذلك يقول ـ تعالى ـ: {وَسَارِعُوا إلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُنفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ * وَالَّذِينَ إذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إلاَّ اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ * أُوْلَئِكَ جَزَاؤُهُم مَّغْفِرَةٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ} [آل عمران: 133 - 136].
ويكفي تمجيد الله لهذا العمل قوله: {وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ} [آل عمران: 133 - 136] فالمسلم في طلبه للجنة عليه أن يسرع المشي والخطى ويتعجل السير ولا يترك الفرصة لتجاوزه، وهو ما أكده القرآن الكريم بقوله في آية أخرى: {سَابِقُوا إلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ} [الحديد: 21]
والسباق يعني المبادرة إلى ما يوجب المغفرة؛ وما يوجب المغفرة هو العمل بالطاعات، وهو ما يعنيه قوله ـ تعالى ـ: {فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ} [البقرة: 148].
وقد حث الرسول -صلى الله عليه وسلم- على المبادرة والإسراع فيما ينفع المؤمن قبل الوقوع في أسر الفتن فقال: «بادروا بالأعمال الصالحة، فستكون فتن كقطع الليل المظلم يصبح الرجل مؤمناً ويمسي كافراً، ويمسي كافراً ويصبح مؤمناً، يبيع دينه بعَرَض من الدنيا»(2).
وفي حديث النبي -صلى الله عليه وسلم-: «التؤدة في كل شيء خير إلا في عمل الآخرة»(3).(3/19)
وليس كما هو حاصل اليوم في زمننا، الكل يسرع ويلهث ويجري وراء الدنيا وزخارفها وليته يصل إلى مراده، بل الكل ينام وفي ذهنه أنه لَمَّا يتم عمله، وينام تعباً وهو يخطط لعمل الغد وكيفية إنهائه.
فمتى يميز المسلم بين ما يجب الإسراع فيه وما يجب فيه التأني؟
ـ النداء الثالث: نداء الفرار إلى الله؛ حيث يقول ـ سبحانه ـ: {فَفِرُّوا إلَى اللَّهِ إنِّي لَكُم مِّنْهُ نَذِيرٌ مُّبِينٌ} [الذاريات: 50].
«ففروا» طلباً لله، وفي ذلك فليتنافس المتنافسون، فالفرار إلى الله فرار من معصيته، فرار من غضبه، فرار من الإشراك به. وهو هنا شجاعة؛ لأن الفار يفر من أعداء يبعدونه عن الله وعن رضوانه، ونجاة من الجحيم وطلباً للنعيم المقيم.
وقد بوَّب البخاري ـ رحمه الله ـ أحد أبواب صحيحه في كتاب الإيمان، فقال: «باب: من الدين الفرار من الفتن»(4).
وما أكثر الفتن في زمننا؛ حيث المؤمن فيه يقبض على دينه ويصبر على فتنه «كالقابض على الجمر»(5).
مفتون أينما حل وارتحل، ولعل من أخطر الفتن التي تُحدِق بالمسلم فتنة الأموال وفتنة الأولاد وهو ما أكده القرآن بقوله: {إنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ} [التغابن: 15].
بل إن الرسول الحبيب -صلى الله عليه وسلم- قد أخبر أن الأمة ستعيش فتناً يشيب لها الولدان؛ حيث قال: «ستكون فتنٌ القاعدُ فيها خير من القائم، والقائم فيها خير من الماشي، والماشي فيها خير من الساعي، من تشرَّف لها تتشرفه، ومن وجد فيها ملجأ فليَعُذْ به»(1).
ولكن الواقع يشهد أن الأمة أصبحت تعيش تناقضاً مع لغة القرآن ومع فهم مفرداته، فأصبح السير إلى الدنيا سريعاً، وإلى الآخرة وئيداً، والفرار من الله بدل الفرار إليه.
فهل إلى رجوع من سبيل! وهل إلى توبة لتصحيح المسار وتصحيح الخطوات إن شئنا النجاة وتحقيق الفوز والدرجات في الدنيا والدين!
2 ـ عدم الفقه السديد في الدين، وهو أصل كل بلية:(3/20)
في اعتقاد بعض الناس أنهم إذا أدوا بعض أشكال التدين فقد نجوا وسَلِموا؛ وهذا فهم تجزيئي للإسلام؛ حيث يقتصر بعض الناس في تدينهم على بعض الأمور ويترك الأمور الأخرى، وهذا يؤدي أيضاً إلى التفريط والغفلة؛ فالدين شامل كامل لقول الله ـ تعالى ـ: {مَّا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِن شَيْءٍ ثُمَّ إلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ} [الأنعام: 38].
فليس الدين في العبادات فقط، أو في المعاملات، أو في السلوك والأخلاق، أو في الأعمال الاجتماعية، أو السياسية أو الاقتصادية، بل يشمل كل هذا.
ومع الأسف أن هذا ما حصل للكثير من الناس، حيث جزَّؤوا الدين، وأخذ كل واحد منهم ما يعتقد أنه الصواب والصالح له؛ فمنهم من فهم حديثاً لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- فهماً سيئاً وبنى عليه حياته ومصيره، كفهمهم لحديث السائل عن الإسلام، والذي يقول فيه الرسول -صلى الله عليه وسلم- مجيباً لرجل من أهل نجد جاء ثائر الرأس يُسمَع دوي صوته ولا يُفقَه ما يقول: «خمس صلوات في اليوم والليلة، فقال: وهل عليَّ غيرها؟ قال: لا؛ إلا أن تطوَّع، قال رسول الله: وصيام رمضان، فقال: وهل عليَّ غيرها؟ قال: لا؛ إلا أن تطَّوَّع، قال: وإخراج الزكاة، قال: وهل عليَّ غيرها؟ قال: لا؛ إلا أن تطوع، قال: فأدبر الرجل وهو يقول: واللهِ لا أزيد على هذا ولا أنقص، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «أفلح إن صدق»(2).
فأخذ كثير من الناس بعض ألفاظ الحديث، مثل: واللهِ لا أزيد ولا أنقص، ومثل: أفلح إن صدق، ونسوا مقاصد وروح ما ذكر في الحديث؛ فالصلاة تؤدى؟ نعم! ولكن إن لم تؤدَّ على حقيقتها لم تؤثر في الإنسان ولم يحصل له الفلاح، والزكاة تؤدى؟ نعم! ولكن من أي المال؟ والصوم يؤدى؟ نعم! ولكن كيف يؤدى؟(3/21)
فكثير من الناس ليس لهم من صلاتهم إلا وقوفهم وجلوسهم، وليس لهم من صيامهم إلا الجوع والعطش، كما قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: «رب صائم حظه من صيامه الجوع والعطش، ورب قائم حظه من قيامه السهر...»(3).
لهذا وجب عدم التغافل عن مقاصد العبادات وروحها حتى تؤدى كما يجب وتؤدي ثمارها كما ينبغي، كما لا يجب التغافل عن إتيانها والقيام بها بل والاجتهاد فيها؛ لأنها تدفع الغفلة والتغافل؛ حيث أخبر -صلى الله عليه وسلم-: بأن «من قام بعشر آيات لم يُكتَب من الغافلين»(4).
بل إن التشبت بالفريضة والحرص عليها يطرد الغفلة ويشجع على الحرص على السنة كما قال -صلى الله عليه وسلم-: «إن لكل عمل شِرَّة، ولكل شرة فترة، فإذا كانت الفترة إلى الغفلة فهي الهلكة، وإذا كانت الغفلة إلى الفريضة لا يضر صاحبها شيئاً»(5). وقد سأل عليٌّ ـ رضي الله عنه ـ ابنه الحسن يوماً عن الغفلة فقال له: «الغفلة تركك المسجد، وطاعتك المفسد»(6).
ومن الناس من يقول لك: أنا لا أغتاب الناس ولا أكذب عليهم، ولا أغشهم ولا أفعل ولا أفعل، ويوجه سهمه للآخرين فيقول: انظروا إلى ذاك المصلي الكذاب الغشاش؛ فكيف أصلي؟
ويقول أيضاًً: أنا لا أصلي ولكن لا أقوم بمثل أعمال أولئك الحجاج والمصلين الذين ينافقون الناس بتقدمهم إلى الصفوف الأمامية، ويخادعون الناس في معاملاتهم، بل في سلوكهم.
وهذه دعوى باطلة ولو كان الناس يعتقدون في الإسلام وفي قواعده وضوابطه بما يشاهدونه من أفعال المسلمين لما أسلم إلا القلة، وخصوصاً إذا كان المنظور إليهم من أهل القدوة والصلاح؛ حيث يتخذونهم قدوة لهم في التراجع عن الخير فيقعون في سوء الفهم والتأويل والتغافل، ونسوا أو تغافلوا أن الله يقول: {وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [الأنعام: 164]. ويقول ـ سبحانه ـ: {وَكُلَّ إنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ} [الإسراء: 13].(3/22)
ومن الناس من يأخذ من الدين العملَ الاجتماعي، فتجده يشارك في الأعمال الخيرية وكفالة اليتيم وإعانة الفقراء والمساكين، ولكن مقابل ذلك لا يصلي ولا يصوم ولا يراقب ربه في باقي أشكال التدين؛ حيث يغفل عن ذلك معتقداً أنه قد حصَّل المراد، وأنه بفعله ذاك قد نال المبتغى، وهذا تلبيس من إبليس الذي يزين للناس ما هم فيه، ويبعدهم عن حقيقة العمل المطلوب، ويبني على ذلك نمط إسلامه الذي يختزله في المعاملات مع الناس، وينسى باقي أركان الإسلام وضوابطه وقواعده، وأن ما هو فيه من الدين ولكن ليس كل الدين. ويكفي أن نقول إن الرسول -صلى الله عليه وسلم- يقول: «أول ما يحاسَب به العبد المسلم يوم القيامة الصلاة؛ فإن أتمها؛ وإلا قيل: انظروا هل له من تطوُّع؟ فإن كان له تطوع أُكملت الفريضة من تطوعه، ثم يُفعَل بسائر الأعمال المفروضة مثل ذلك»(1).
ومن الناس من يلجأ إلى العمل السياسي، ويعطيه كل وقته وجهده وعاطفته وماله، معتقداً أنه يقدم للناس في ذلك خدمات جلى، وأنه يسير في المسار الصحيح لا ينقصه شيء، ولا يعوزه عمل آخر، وهذا من التفريط وسوء الفهم مع الأسف الشديد.
إن الواقع الأليم لينبئ عن كل هذه الأفهام والسلوكات، مما سهَّل على إبليس عملَه، وأسقط الناس تباعاً في حبائله وغواياته، ونسوا جميعاً أن الشرع الحنيف حذر من تجزيء الدين والتفريط في بعض أسسه، حيث قال ـ سبحانه ـ: {أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ} [البقرة: 85].
3 ـ عدم إدراك قيمة النعم وقدر المنعم:
وكل هذا سببه نسيان المنعم الحقيقي الذي يجب له حق الشكر والحمد على ما أعطى ووهب؛ فكل النعم من الله؛ فهو المعطي المانع، الواهب الصانع؛ فكيف يعطي ويُشكَر غيره، وكيف يهب ويُقصَد غيره؟
فالشكر يديم النعم ويزيدها ويقويها، وعدم الشكر يزيلها ويضيعها، وربنا يقول: {لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ} [إبراهيم: 7].(3/23)
ولقد آتى الله ـ عز وجل ـ نبيه سليمان ـ عليه السلام ـ ما لم يؤت أحداً من العالمين، حيث قال: {فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاءً حَيْثُ أَصَابَ * وَالشَّيَاطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ * وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الأَصْفَادِ * هَذَا عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ}. [ص: 36 - 39]
فلم يعتبر سليمان ـ عليه السلام ـ ذلك نعمة يركن إليها، بل خاف أن يكون ما وهبه الله له من النعم استدراجاً من حيث لا يعلم، فقال ـ سبحانه ـ مخبراً عنه: {هَذَا مِن فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَن شَكَرَ فَإنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَن كَفَرَ فَإنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ} [النمل: 40].
إن إدراك حقيقة المنعم وقدره وعظمته مما يشجع الناس على الانتباه والتيقظ، ويدفعهم إلى استغلال أوقاتهم وأفعالهم فيما يرضي الذي {لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ} [البقرة: 255] والذي وصف نفسه بـ: {السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [البقرة: 127].
ولنعطِ بعض الأمثلة ليستيقن المسلم بقدر المنعم، ويسلم أمره كله إليه حتى يقلل من المجازفة بدينه وبنفسه فلا يفطن لموقعه إلا بعد فوات الأوان، ولات حين مندم.
فلو أن الإنسان المسلم اعتقد الاعتقاد التام في سمع الله وفي بصره وفي عطائه وعلمه أكان يعصيه؟
لنبين ذلك ثم نسائل أنفسنا أولاً عن ذلك.(3/24)
فمما ورد في السنة وفي أقوال المفسرين أن خولة بنت ثعلبة لما اشتكت زوجها الذي ظاهر منها إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، كانت عائشة تسمع الشكوى في حُجرتها، ولم تسمع كل كلامها؛ فلما نزل قول الله ـ تعالى ـ: {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا} [المجادلة: 1]، قالت: «الحمد لله الذي وسع سمعه الأصوات»(2). فلو آمن الإنسان بهذا أكان يعصيه طرفة عين؟ أكان يقع في التفريط؟ الله يسمع منك كل شيء، ولا يغيب عن سمعه أي شيء.
ثم لننظرْ إلى علم الله المطلق، والذي يغيب عنا، مع العلم أننا نعتقد في علم البشر ونعترف لهم بقوة علمهم وخبرتهم وبأستاذيتهم، ولكننا ننسى علم الله المطلق، وعلمه بالغيب والشهادة، بل إن علم البشرية كلها هو من علم الله.
فهذا موسى الكليم ـ عليه السلام ـ خطب يوماً في قومه، فسئل: هل يوجد من هو أعلم منه؟ فنفى وجود ذلك، فبعثه الله ليتعلم من عبده الخضر ـ عليه السلام ـ وليعلمه أن هناك من هو أعلم منه؛ والحديث كما في صحيح البخاري يحدثنا عن رحلة نبي الله موسى ـ عليه السلام ـ مع الخضر وماذا تعلم منه، ثم إنهما ركبا السفينة، فجاء عصفور ونقر من البحر نقرة، فقال الخضر: «يا موسى! ما علمي وعلمك من علم الله إلا كنقرة هذا العصفور في البحر»(3).
وهذا يعني أن علم موسى الرسالي لا يفقهه الخضر، وعلم الخضر الرباني لا يفقهه موسى، وعلمهما معاً أمام علم الله لا يساوي نقطة من بحر علم الله. فإذا علمنا هذا واعتقدناه فهل يقع منا التقصير والغفلة والتفريط؟
ثم لننظر إلى رزق الله الواسع، ألم يقل ربنا في كتابه: {مَا عِندَكُمْ يَنفَدُ وَمَا عِندَ اللَّهِ بَاقٍ} [النحل: 96].(3/25)
ألم يحدثنا الرسول -صلى الله عليه وسلم- في الحديث القدسي أن الله ـ تعالى ـ يقول: «... يا عبادي! لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم قاموا في صعيد واحد فسألوني وأعطيت كل إنسان مسألته ما نقص ذلك مما عندي إلا كما ينقص المخيط إذا أُدخل البحر»(1).
هل من آمن بهذه الركائز العقدية يغفل عن الله، أو يفرط في جنبه، أو يعصيه طرفة عين؟ بالتأكيد سيكون الجواب: لا، لن يقع في المحظور كما أنه لن يقع في الغفلة والتفريط.
وطبعاً لا يجب أن ننسى أن من سنن الله في خلقه وكونه أنه خلقنا بشراً نخطئ ونصيب، ننسى ونتذكر، نذنب ونتوب؛ فالله لم يخلقنا ملائكة، بل خلقنا بشراً ناكل الطعام ونمشي في الأسواق؛ وهذا يقتضي أن الإنسان قد يخطئ وقد ينسى، ولكنه في كلتا الحالتين يستعين بالدعاء: {رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} [البقرة: 286]. ويرجع حين تذكُّره، ويصحح خطأه حين تنبُّهه: «كل بني آدم خطاء وخير الخطائين التوابون»(2). وقال أيضاً -صلى الله عليه وسلم-: «إذا رقد أحدكم عن الصلاة أو غفل عنها فليصلها إذا ذكرها»(3). وقال: «ذاكر الله في الغافلين بمنزلة الصابر في الفارِّين»(4).
< سبب التسويف:
وهو مرض خطير، ومن تلبيسات إبليس بالناس أجمعين؛ حيث يسوِّف عليهم في كل شيء ويجعلهم يؤجلون كل أعمال الخير إلى أجل غير مسمى حتى يفاجَؤوا بنهاية الأجل ووقوع المحظور.
وقد حذر السلف الصالح من مغبة التسويف وحاربوه؛ حيث روي عن عمر قوله: «القوة في ألا تؤخر عمل اليوم إلى الغد». وقال سهل بن عبد الله: «الجاهل ميت، والناسي نائم، والعاصي سكران، والمصرُّ هالك، والإصرار هو التسويف، والتسويف أن يقال: أتوب غداً، وهذا كيف يتوب غداً؛ وغداً لا يملكه»(5).(3/26)
وفي الحديث: «بادروا بالأعمال سبعاً: هل تنتظرون إلا فقراً منسياً، أو غنى مطغياً، أو مرضاً مفسداً، أو هرماً مفنداً، أو موتاً مجهزاً، أو الدجال فشر غائب ينتظر، أو الساعة والساعة أدهى وأمر»(6).
هكذا حذرت النصوص من التسويف الذي يعد بحق من الأسلحة الفتاكة التي يستعملها إبليس لإغواء النفس البشرية؛ فما همَّ بعمل خير إلا وضع (سوف) أمامه ليؤجله أو ليلغيه، وفي كِلا الأمرين يتحقق مكسب للشيطان؛ إذ الموت مباغت، والأجل غير معلوم؛ فكلما سوَّف الإنسان أوقع نفسه في المجهول.
قال سيبويه: «سوف: كلمة تنفيس فيما لم يكن بعدُ، ألا ترى أنك تقول: سوَّفته، إذا قلت له: سوف أفعل، ويقال: فلان يقتات السوف، أي يعيش بالأماني»(7).
ولسوف هاته أشكال وألوان؛ فمن الناس من يمنِّيه إبليس بالتوبة والرجوع حالما ينتهي من عمل ما، أو إتمام مشروع ما، ولكن مع الأسف الشديد عندما ينتهي منه يوجد له الشيطان مشروعاً آخر وهكذا حتى تأتي النهاية المحتومة، ويتحدث مع الطالب بلغة الحصول على الشهادة أو العمل، ومع الأعزب حتى يتزوج، ومع الغني حتى يكتمل مشروعه، ومع الفلاح حتى ينتهي موسم الحصاد، وهكذا يكسب من الناس تأخيراً في التوبة وتعثراً في الرجوع إلى الله، فيظل المسلم غافلاً مسوفاً حتى يلقى الله وتضيع فرص العودة والرجوع والأوْبة والإنابة.
ـ الحرمان من التوفيق الرباني: فمن عاش بين مجزِّئ للدين ومسوِّف وعاصٍ وناكر للنعم وجاحد لحق المنعم، فلن يبتعد حاله مطلقاً عن حال الضالين.
فالمفرط في التدين يقطع صلته بربه، فيحرم بسبب ذلك من عونه وتوفيقه، كما قال ـ تعالى ـ: {وَمَن يَعْشُ عَن ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ * وَإنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُم مُّهْتَدُونَ} [الزخرف: 36 - 37].(3/27)
فإذا كثر الغافلون وكثر التقصير في الدين وإهماله، وربما تشويهه، انقلب هذا السلوك في نفوس بعض الأفراد إلى تفكير خاص، يعتقدون أنه الحل الوحيد لمعالجة هذه الأمراض المنتشرة بينهم، فيلجؤون إلى الإفراط في فهم الدين بدل التفريط فيه كما فعل الأكثرون.
يقول ـ تعالى ـ: {وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنزِلَ إلَيْكُم مِّن رَّبِّكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ بَغْتَةً وَأَنتُمْ لا تَشْعُرُونَ * أَن تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَى عَلَى مَا فَرَّطتُ فِي جَنبِ اللَّهِ وَإن كُنتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ}
[الزمر: 55 - 56]
آية من آيات الله تُحدّثُنا عن التفريط، وتحذر منه. ولحسن الفهم والاستيعاب للموضوع وجب تحديد مفهومه وبيان أسبابه.
--------------------------------------------------------------------------------
(*) أستاذ الفقه والتفسير بكلية الآداب، مدينة الجديدة، المغرب. وعضو المجلس العلمي بها.
(1) لسان العرب مادة، (فرط).
(2) أخرجه الترمذي رقم: 2196، وابن حبان: 3219.
(3) أخرجه مسلم في صحيحه كتاب الرقاق، باب 26، رقم: 7124.
(4) مسند أحمد، رقم: 13048.
(1) أخرجه البخاري في كتاب الجزية، رقم: 3158، باب 1، وكتاب المغازي باب: 12، رقم: 4015، وكتاب الرقاق، باب 7، رقم: 6425.
(2) إحياء علوم الدين، ج: (3/229).
(3) إحياء علوم الدين: (3/229).
(4) أوْدَنَتْ: قصَّرت وصَغَّرت.
(5) صحيح مسلم: كتاب الجنة وصفة نعيمها باب: 14 رقم الحديث: 7376.
(1) انظر فتح القدير: (3/228).
(2) صحيح مسلم، كتاب الإيمان، باب 51، رقم الحديث: 328.
(3) المستدرك للحاكم: (1/132 ـ 213 ـ 213).
(4) صحيح البخاري كتاب الإيمان، باب 12، رقم الحديث: 12.
(5) سنن أبي داود، رقم: 4341، وسنن ابن ماجه: رقم: 4016، ومسند أحمد: رقم: 9102، والمعجم الكبير للطبراني: (22/220).
((3/28)
1) صحيح البخاري كتاب المناقب، رقم: 3601، وصحيح مسلم، كتاب الفتن، باب 3، رقم: 7429.
(2) أخرجه البخاري في كتاب الشهادات، رقم: 2678.
(3) صحيح ابن خزيمة: 3/242، ومسند أحمد: رقم: 8885، والمعجم للطبراني: (12/382).
(4) صحيح ابن حبان: ج: 6/310، رقم: 2571.
(5) المعجم الكبير للطبراني: ج: (8/222).
(6) المعجم الكبير للطبراني: (3/69).
(1) سنن أبي داود: رقم: 864، وابن ماجه: 1427.
(2) صحيح البخاري كتاب التوحيد باب 9، رقم: 7385.
(3) انظر صحيح البخاري: باب كتاب العلم باب 44، رقم: 122، ومسلم في كتاب الفضائل، رقم: 6313.
(1) صحيح مسلم، كتاب البر والصلة، رقم: 6737.
(2) سنن ابن ماجه، رقم الحديث: 4253، والترمذي: رقم: 2504، والدارمي: ج: (2/395)، وأحمد: 13116.
(3) مسند أحمد رقم الحديث: 12976، وصحيح مسلم: كتاب المساجد، رقم الحديث: 1601.
(4) المعجم الكبير للطبراني: (10/16).
(5) الجامع للقرطبي: (4/211).
(6) سنن الترمذي، رقم الحديث: (3/2312)، باب ماجاء في المبادرة بالعمل، وقال فيه حسن غريب.
(7) انظر لسان العرب، مادة سوف.
--------------------------------------------------------------------------------
مجلة البيان، العدد (225)
* * *
http://www.albayan-magazine.com/zwaya/trbwi/75.htm
لا تغضب
د. نايف بن أحمد الحمد (*)
«الغضب عدو العقل، وهو له كالذئب للشاة قلَّما يتمكن منه إلا اغتاله»(1)، والغضب من الصفات التي ندر أن يسلم منه أحد، بل تركه بالكلية صفة نقص لا كمال ـ كما سيأتي بيانه ـ «والغضب ينسي الحرمات، ويدفن الحسنات، ويخلق للبريء جنايات»(2) وقد قيل:
وعين الرضا عن كل عيب كليلة ولكن عين السخط تبدي المساويا(3)
كما قيل:
وعين البغض تبرز كل عيب وعين الحب لا تجد العيوبا(4)
* تعريف الغضب:(3/29)
عَرَّف الغضبَ جمعٌ من علماء اللغة وغيرهم، واختلفت العبارات، واتفقت الثمرة؛ فكلمة (الغضب) يدرك معناها الصغير والكبير بلا تكلف أو تعب؛ فتوضيح الواضحات ـ كما يقال ـ من الفاضحات، وقد يزيد غموضاً وإشكالاً. قال المناوي ـ رحمه الله تعالى ـ: «الغضب كيفية نفسانية وهو بديهي التصور» ا. هـ (5). ومع ذلك لا بد من ذكر شيء من ذلك:
قال القرطبي ـ رحمه الله تعالى ـ: «الغضب في اللغة: الشدة، ورجل غضوب أي شديد الخُلُق، والغضوب الحية الخبيثة؛ لشدتها، والغضبة: الدرقة من جلد البعير يطوى بعضها على بعض سميت بذلك لشدتها» ا. هـ(6).
وقيل في معناه: تغيُّر يحصل عند فوران دم القلب ليحصل عنه التشفي في الصدر(7).
وقيل: الغضب إرادة الإضرار بالمغضوب عليه.
* أسباب الغضب:
بواعث الغضب، وأسبابه كثيرة جداً، والناس متفاوتون فيها؛ فمنهم مَن يَغضب لأمر تافه لا يُغضِب غيره؛ وهكذا؛ فمِن أسباب الغضب:
أولاً: العُجْب: فالعُجْب بالرأي والمكانة والنسب والمال سبب للعداوة؛ فالعجب قرين الكِبْر وملازم له. والكِبْر من كبائر الذنوب؛ فقد قال النبي ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ: «لا يدخل الجنة مَن في قلبه مثقال ذرة من كِبر»(8).
وجاء أن يحيى بن زكريا لقي عيسى بن مريم - عليه الصلاة والسلام - فقال: أخبرني بما يُقرِّب من رضا الله، وما يُبعد من سخط الله! فقال: «لا تغضب!». قال: الغضب ما يبدؤه وما يعيده؟ قال: «التعزز والحميَّة والكبرياء والعظمة»(9).
ثانياً: المِراء: قال عبد الله بن الحسين: (المراء رائد الغضب، فأخزى الله عقلاً يأتيك بالغضب) ا. هـ(10). وللمِراء آفات كثيرة منها: الغضب؛ ولهذا فقد نهى الشارع عنه. قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «أنا زعيم ببيت في ربض الجنة لمن ترك المراء وإن كان محقاً»(1).
ثالثاً: المزاح:
إن المزاح بدؤه حلاوة
لكنما آخره عداوة
يحتد منه الرجل الشريف
ويجتري بسخفه السخيف(2)(3/30)
فتجد بعض المكثرين من المزاح يتجاوز الحد المشروع منه: إما بكلام لا فائدة منه، أو بفعل مؤذ قد ينتج عنه ضرر بالغ، ثم يزعم بعد ذلك أنه كان يمزح؛ لذا قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «لا يأخذن أحدكم متاع صاحبه جاداً ولا لاعباً»(3).
وقال أبو هقان :
مازح صديقك ما أحب مزاحا
وتوقَّ منه في المزاح مزاحا
فلربما مزح الصديق بمزحة
كانت لباب عداوة مفتاحا
ذكر خالد بن صفوان المزاح فقال: يَصُكُّ أحدكم صاحبه بأشد من الجندل، ويُنشقه أحرق من الخردل، ويُفرغ عليه أحرَّ من المرجل، ثم يقول: إنما كنت أمازحك!
وقال عمر بن عبد العزيز ـ رحمه الله تعالى ـ: «إياك والمزاح؛ فإنه يجر القبيح، ويورث الضغينة»(4).
واحذر ممازحة تعود عداوة
إن المزاح على مقدمة الغضب
وقال ميمون بن مهران ـ رحمه الله تعالى ـ: «إذا كان المزاح أمام الكلام كان آخره اللطم والشتام».
رابعاً: بذاءة اللسان وفحشه:
بشتم أو سب أو تعيير مما يوغل الصدور، ويثير الغضب، وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «إن الله يبغض الفاحش البذيء»(5).
* أنواع الغضب:
الأول: الغضب المحمود: وهو ما كان لله ـ تعالى ـ عندما تنتهك محارمه، وهذا النوع ثمرة من ثمرات الإيمان؛ إذ إن الذي لا يغضب في هذا المحل ضعيف الإيمان.
قال ـ تعالى ـ عن موسى ـ عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام ـ بعد علمه باتخاذ قومه العجل: {وَلَمَّا رَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفاً قَالَ بِئْسَمَا خَلَفْتُمُونِي مِنْ بَعْدِي أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ وَأَلْقَى الْأَلْوَاحَ وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ قَالَ ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكَادُوا يَقْتُلُونَنِي فَلا تُشْمِتْ بِيَ الْأَعْدَاءَ وَلا تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ}.
[الأعراف: 150](3/31)
أما غضب النبي ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ فلا يُعرف إلا أن تنتهك محارم الله ـ تعالى ـ فعن عائشة ـ رضي الله عنها ـ قالت: ما ضرب رسول الله ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ شيئاً قط بيده، ولا امرأة، ولا خادماً إلا أن يجاهد في سبيل الله، وما نيل منه شيء قط فينتقم من صاحبه إلا أن يُنتهَك شيء من محارم الله فينتقم لله عز وجل(6).
ومن ذلك ما رواه عبد الله بن عمرو ـ رضي الله عنهما ـ قال: «خرج رسول الله ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ على أصحابه وهم يختصمون في القدر؛ فكأنما يُفقأ في وجهه حب الرمان من الغضب، فقال: «بهذا أمرتم؟ أو لهذا خلقتم؟ تضربون القرآن بعضه ببعض؛ بهذا هلكت الأمم قبلكم» فقال عبد الله بن عمرو: ما غبطت نفسي بمجلس تخلفت فيه عن رسول الله ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ ما غبطت نفسي بذلك المجلس وتخلفي عنه»(7). وما أكثر ما تنتهك محارم الله ـ تعالى ـ في هذا الزمان علناً وسراً؛ فكثير من وسائل الإعلام المرئية والمسموعة والمقروءة لا همَّ لها سوى نشر الرذيلة، ومحاربة الفضيلة، وإشاعة الفاحشة، وبث الشبهات، وتزيين المنكر، وإنكار المعروف، والاستهزاء بالدين وشعائره؛ فهذا كله مما يوجب الغضب لله ـ تعالى ـ وهو من الغضب المحمود، وعلامة على قوة الإيمان، وهو ثمرة لحفظ الأوطان، وسلامة الأبدان، وتظهر ثمرة الغضب هنا بالأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، والرد على الشبهات. أما السكوت المطبق مع القدرة على التغيير فسبب للهلاك؛ فعن زينب بنت جحش ـ رضي الله عنها ـ أن النبي ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ استيقظ من نومه وهو يقول: «لا إله إلا الله؛ ويل للعرب من شر قد اقترب! فُتح اليوم من ردم يأجوج ومأجوج مثل هذه» ـ وحلَّق بأصبعه وبالتي تليها ـ قلت: يا رسول الله! أنهلك وفينا الصالحون؟ قال: «نعم! إذا كثر الخبث»(8).(3/32)
وكذلك من الغضب المحمود: الغضب لما يحدث للمسلمين من سفك للدماء، وانتهاك للأعراض، واستباحة للأموال، وتدمير للبلدان بلا حق.
الثاني: الغضب المذموم:
وهو ما كان في سبيل الباطل والشيطان كالحميَّة الجاهلية، والغضب بسبب تطبيق الأحكام الشرعية وانتشار حِلَق تحفيظ القرآن الكريم، ومعاداة الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر بسبب محاربتهم للرذيلة، وكذا الدفاع عن المنكرات كالتبرج والسفور، وسفر المرأة بلا محرم، ويظهر ذلك جلياً في كتابة بعض كُتَّاب الصحف، فتجد أحدهم يغضب بسبب ذلك، ولا همَّ له سوى مسايرة العصر، سواء وافق الشرع المطهر أو خالفه؛ فالحق عندهم ما وافق هواهم، والباطل ما حدَّ من مبتغاهم. قال ـ تعالى ـ: {لَقَدْ أَنزَلْنَا آيَاتٍ مُّبَيِّنَاتٍ وَاللَّهُ يَهْدِي مَن يَشَاءُ إلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ * وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِّنْهُم مِّنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُوْلَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ * وَإذَا دُعُوا إلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إذَا فَرِيقٌ مِّنْهُم مُّعْرِضُونَ * وَإن يَكُن لَّهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إلَيْهِ مُذْعِنِينَ * أَفِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَن يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ * إنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إذَا دُعُوا إلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَن يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ} [النور: 46 - 52].
الثالث: الغضب المباح:(3/33)
وهو الغضب في غير معصية الله ـ تعالى ـ دون أن يتجاوز حدَّه كأن يجهل عليه أحد، وكظمه هنا خير وأبقى. قال ـ تعالى ـ: {وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [آل عمران: 134]. ومما يُذكر هنا أن جارية لعلي بن الحسين جعلت تسكب عليه الماء، فتهيأ للصلاة، فسقط الإبريق من يد الجارية على وجهه فشجه، فرفع علي بن الحسين رأسه إليها، فقالت الجارية: إن الله ـ عز وجل ـ يقول: {وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ} فقال لها: قد كظمت غيظي. قالت: {وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ} فقال لها: قد عفا الله عنك. قالت: {وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} قال: اذهبي فأنت حرة(1).
وقال نوح بن حبيب: كنت عند ابن المبارك فألحوا عليه، فقال: هاتوا كتبكم حتى أقرأ. فجعلوا يرمون إليه الكتب من قريب ومن بعيد، وكان رجل من أهل الري يسمع كتاب الاستئذان، فرمى بكتابه فأصاب صلعةَ ابن المبارك حرفُ كتابه فانشق، وسال الدم، فجعل ابن المبارك يعالج الدم حتى سكن، ثم قال: سبحان الله! كاد أن يكون قتال، ثم بدأ بكتاب الرجل فقرأه(2).
* علاج الغضب:
«ما أنزل الله داء إلا وأنزل له شفاء»(3). ومن الأدوية لعلاج داء الغضب:
أولا: الاستعاذة بالله من الشيطان:
قال ـ تعالى ـ: {وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [فصلت: 36].(3/34)
عن سليمان بن صرد ـ رضي الله عنه ـ قال: كنت جالساً مع النبي ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ ورجلان يستبان؛ فأحدهما احمرَّ وجهه، وانتفخت أوداجه، فقال النبي ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ: «إني لأعلم كلمة لو قالها ذهب عنه ما يجد؛ لو قال: أعوذ بالله من الشيطان؛ ذهب عنه ما يجد» فقالوا له: إن النبي ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ قال: «تعوَّذْ بالله من الشيطان» فقال: وهل بي جنون؟(4). قال ابن القيم ـ رحمه الله تعالى ـ: «وأما الغضب فهو غول العقل يغتاله كما يغتال الذئب الشاة، وأعظم ما يفترسه الشيطان عند غضبه وشهوته» ا. هـ(5).
ثانياً: تغيير الحال:
عن أبي ذر ـ رضي الله عنه ـ أن رسول الله ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ قال: «إذا غضب أحدكم وهو قائم فليجلس؛ فإن ذهب عنه الغضب وإلا فليضطجع»(6).
ثالثاً: ترك المخاصمة والسكوت:
قال الشيخ عبد الرحمن السعدي ـ رحمه الله تعالى ـ: «ومن الأمور النافعة أن تعلم أن أذية الناس لك وخصوصاً في الأقوال السيئة لا تضرك بل تضرهم؛ إلا إن أشغلت نفسك في الاهتمام بها، وسوغت لها أن تملك مشاعرك؛ فعند ذلك تضرك كما ضرتهم؛ فإن أنت لم تصنع لها بالاً، لم تضرك شيئاً»(7).
يخاطبني السفيه بكل قبح
فأكره أن أكون له مجيبا
يزيد سفاهة وأزيد حلماً
كعود زاده الإحراق طيبا
عن ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ عن النبي ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ أنه قال: «علِّموا وبشِّروا ولا تعسروا، وإذا غضب أحدكم فليسكت»(1). قال ابن رجب ـ رحمه الله تعالى ـ: «وهذا أيضاً دواء عظيم للغضب؛ لأن الغضبان يصدر منه في حال غضبه من القول ما يندم عليه في حال زوال غضبه كثيراً، من السباب وغيره مما يعظم ضرره، فإذا سكت زال هذا الشر كله عنده، وما أحسن قول مورق العجلي ـ رحمه الله ـ: ما امتلأتُ غضباً قط ولا تكلمتُ في غضب قط بما أندم عليه إذا رضيت» ا. هـ(2).
قال سالم بن ميمون الخواص:
إذا نطق السفيه فلا تجبه(3/35)
فخيرٌ من إجابته السكوتُ
سكتُّ عن السفيه فظن أني
عييتُ عن الجواب وما عييتُ
شرار الناس لو كانوا جميعاً
قذى في جوف عيني ما قذيتُ
فلستُ مجاوباً أبداً سفيهاً
خزيتُ لمن يجافيه خزيتُ(3)
رابعاً: الوضوء:
عن عطية السعدي ـ رضي الله عنه ـ قال: قال رسول الله ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ: «إن الغضب من الشيطان؛ وإن الشيطان خُلِقَ من النار، وإنما تُطْفَأ النار بالماء؛ فإذا غضب أحدكم فليتوضأ»(4).
وفي حديث أبي سعيد الخدري ـ رضي الله عنه ـ مرفوعاً: «ألا وإن الغضب جمرة في قلب ابن آدم؛ أما رأيتم إلى حمرة عينيه، وانتفاخ أوداجه؟ فمن أحس بشيء من ذلك فليلصق بالأرض»(5).
خامساً: استحضار الأجر العظيم لكظم الغيظ:
فمن استحضر الثواب الكبير الذي أعده الله ـ تعالى ـ لمن كتم غيظه وغضبه كان سبباً في ترك الغضب والانتقام للذات. وبتتبع بعض الأدلة من الكتاب والسنة نجد جملة من الفضائل لمن ترك الغضب منها:
1 ـ الظفر بمحبة الله ـ تعالى ـ والفوز بما عنده: قال ـ تعالى ـ: {الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [ آل عمران: 134] ومرتبة الإحسان هي أعلى مراتب الدين.
وقال ـ تعالى ـ: {فَمَا أُوتِيتُم مِّن شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا عِندَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى لِلَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ * وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإثْمِ وَالْفَوَاحِشَ وَإذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ}.
[الشورى: 36 - 37]
2 ـ ترك الغضب سبب لدخول الجنة:
عن أبي الدرداء ـ رضي الله عنه ـ قال: قلت: يا رسول الله! دلني على عمل يدخلني الجنة. قال: «لا تغضب! ولك الجنة»(6).
3 ـ المباهاة به على رؤوس الخلائق:(3/36)
عن أنس ـ رضي الله عنه ـ أن النبي ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ قال: «مَن كظم غيظاً وهو يقدر على أن ينفذه دعاه الله على رؤوس الخلائق يوم القيامة حتى يخيِّره في أي الحور شاء»(7).
4 ـ النجاة من غضب الله تعالى:
عن عبد الله بن عمرو ـ رضي الله عنهما ـ قال: قلت: يا رسول الله! ما يمنعني من غضب الله؟ قال «لا تغضب»(8). فالجزاء من جنس العمل، ومن ترك شيئاً لله عوضه الله ـ تعالى ـ خيراً منه.
وقال أبو مسعود البدري ـ رضي الله عنه -: كنت أضرب غلاماً لي بالسوط فسمعت صوتاً من خلفي: «اعلم أبا مسعود!» فلم أفهم الصوت من الغضب. قال: فلما دنا مني إذا هو رسول الله ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ فإذا هو يقول: «اعلم أبا مسعود! اعلم أبا مسعود!» قال: فألقيت السوط من يدي. فقال: «اعلم أبا مسعود! أن الله أقدر عليك منك على هذا الغلام» قال: فقلت: لا أضرب مملوكاً بعده أبداً(9).
5 ـ زيادة الإيمان:
قال النبي ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ: «وما من جرعة أحب إليَّ من جرعة غيظ يكظمها عبد، ما كظمها عبد لله إلا ملأ الله جوفه إيماناً»(10).
عن ابن عمر ـ رضي الله عنهما - قال: قال رسول الله ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ: «ما من جرعة أعظم أجراً عند الله من جرعة غيظ كظمها عبد ابتغاء وجه الله»(1).
قال ابن تيمية ـ رحمه الله تعالى-: «ما تجرع عبد جرعة أعظم من جرعة حِلْم عند الغضب، وجرعة صبر عند المصيبة؛ وذلك لأن أصل ذلك هو الصبر على المؤلم، وهذا هو الشجاع الشديد الذي يصبر على المؤلم، والمؤلم إن كان مما يمكن دفعه أثار الغضب، وإن كان مما لا يمكن دفعه أثار الحزن، ولهذا يحمرُّ الوجه عند الغضب لثوران الدم عند استشعار القدرة، ويصفرُّ عند الحزن لغور الدم عند استشعار العجز» ا. هـ(2).
سادساً: الإكثار من ذكر الله تعالى:(3/37)
قال ـ تعالى ـ: {الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} [الرعد: 28] فمن اطمأن قلبه بذكر الله ـ تعالى ـ كان أبعد ما يكون عن الغضب. قال عكرمة ـ رحمه الله تعالى ـ في قوله ـ تعالى ـ: {وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ} [الكهف: 24]: «إذا غضبت»(3).
سابعاً: العمل بوصية رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:
عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ أن رجلاً قال للنبي ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ: أوصني! قال: «لا تغضب!» فردد مراراً قال «لا تغضب!»(4). وهنيئاً لمن امتثل هذه الوصية وعمل بها، ولا شك أنها وصية جامعة مانعة لجميع المسلمين. قال الشيخ عبد الرحمن السعدي ـ رحمه الله تعالى ـ: «هذا الرجل ظن أنها وصية بأمر جزئي، وهو يريد أن يوصيه النبي ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ بكلام كلي، ولهذا ردد. فلما أعاد عليه النبي ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ عرف أن هذا كلام جامع، وهو كذلك؛ فإن قوله: «لا تغضب» يتضمن أمرين عظيمين: أحدهما: الأمر بفعل الأسباب والتمرن على حسن الخلق والحلم والصبر، وتوطين النفس على ما يصيب الإنسان من الخلق، من الأذى القولي والفعلي؛ فإذا وفق لها العبد، وورد عليه وارد الغضب، احتمله بحسن خلقه، وتلقَّاه بحلمه وصبره، ومعرفته بحسن عواقبه؛ فإن الأمر بالشيء أمر به، وبما لا يتم إلا به، والنهي عن الشيء أمر بضده، وأمر بفعل الأسباب التي تعين العبد على اجتناب المنهي عنه، وهذا منه. الثاني: الأمر ـ بعد الغضب ـ أن لا ينفذ غضبه: فإن الغضب غالباً لا يتمكن الإنسان من دفعه ورده، ولكنه يتمكن من عدم تنفيذه. فعليه إذا غضب أن يمنع نفسه من الأقوال والأفعال المحرمة التي يقتضيها الغضب. فمتى منع نفسه من فعل آثار الغضب الضارة، فكأنه في الحقيقة لم يغضب. وبهذا يكون العبد كامل القوة العقلية، والقوة القلبية» ا. هـ(5).(3/38)
قال ميمون بن مهران: جاء رجل إلى سلمان ـ رضي الله عنه ـ فقال: يا أبا عبد الله! أوصني! قال: «لا تغضب!». قال: أمرتني أن لا أغضب، وإنه ليغشاني ما لا أملك. قال: فإن غضبت فاملك لسانك ويدك(6).
ثامناً: النظر في نتائج الغضب:
فكثير الغضب تجده مصاباً بأمراض كثيرة كالسكري والضغط والقولون العصبي وغيرها مما يعرفها أهل الاختصاص، كما أنه بسببه تصدر من الغاضب تصرفات قولية أو فعلية يندم عليها بعد ذهاب الغضب. روي عن علي ـ رضي الله عنه ـ أنه قال: «لذة العفو يلحقها حمد العاقبة، ولذة التشفي يلحقها ذم الندم»(7). وقيل: من أطاع الغضب أضاع الأرب.
وقال الكريزي :
ولم أرَ في الأعداء حين اختبرتهم
عدواً لعقل المرء أعدى من الغضب(8)
وكثيراً ما نسمع أن والداً قتل ولده، أو ولداً قتل والده فضلاً عن غيرهم بسبب الغضب، وكم ضاع من خير وأجر وفضل بسبب الغضب، وكم حلت من مصيبة ودمار وهلاك بسبب الغضب، وبسبب ساعة غضب قطعت الأرحام، ووقع الطلاق، وتهاجر الجيران، وتعادى الإخوان. عن وائل ـ رضي الله عنه ـ قال: «إني لقاعد مع النبي ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ إذ جاء رجل يقود آخر بنسعة فقال: يا رسول الله! هذا قتل أخي. فقال رسول الله ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ: «أقتلته»؟ فقال: إنه لو لم يعترف أقمت عليه البينة. قال: نعم قتلته! قال: «كيف قتلته»؟ قال: كنت أنا وهو نحتطب من شجرة فسبني فأغضبني فضربته بالفأس على قرنه فقتلته»(9).
قال مروان بن الحكم في وصيته لابنه عبد العزيز: «إن كان بك غضب على أحد من رعيتك فلا تؤاخذه به عند سورة الغضب، واحبس عنه عقوبتك حتى يسكن غضبك، ثم يكون منك ما يكون وأنت ساكن الغضب منطفئ الجمرة؛ فإن أول من جعل السجن كان حليماً ذا أناة» ا. هـ(1).
قال ابن القيم ـ رحمه الله تعالى ـ: «إذا اقتدحت نار الانتقام من نار الغضب ابتدأت بإحراق القادح، أَوْثِقْ غضبك بسلسلة الحلم؛ فإنه كلب إن أفلت أتلف» ا. هـ(2).(3/39)
تاسعاً: أن تعلم أن القوة في كظم الغيظ ورده:
عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ أن رسول الله ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ قال: «ليس الشديد بالصُّرَعة؛ إنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب»(3)، قال ابن القيم ـ رحمه الله تعالى ـ: «أي مالك نفسه أوْلى أن يسمى شديداً من الذي يصرع الرجال» ا. هـ(4).
وقال ابن تيمية ـ رحمه الله تعالى ـ: «ولهذا كان القوي الشديد هو الذي يملك نفسه عند الغضب حتى يفعل ما يصلح دون ما لا يصلح؛ فأما المغلوب حين غضبه فليس هو بشجاع ولا شديد» ا. هـ(5).
ليست الأحلام في حال الرضا
إنما الأحلام في حال الغضب
وعن أنس ـ رضي الله عنه ـ أن النبي ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ مر بقوم يصطرعون فقال: «ما هذا»؟ فقالوا: يا رسول الله! فلان ما يصارع أحداً إلا صرعه. فقال رسول الله ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ: «أفلا أدلكم على مَن هو أشد منه: رجل ظلمه رجل فكظم غيظه فغلبه وغلب شيطانه وغلب شيطان صاحبه»(6).
ألا إن حلم المرء أكرم نسبة
تسامى بها عند الفخار حليم
فيا ربِّ هب لي منك حلماً فإنني
أرى الحلم لم يندم عليه كريم
قال المسترشد بالله في وصيته لقاضيه علي بن الحسين الزينبي «أن يجعل التواضع والوقار شيمته، والحلم دأبه وخليقته، فيكظم غيظه عند احتدام أُواره واضطرام ناره مجتنباً عزة الغضب الصائرة إلى ذلة الاعتذار» ا. هـ(7).
عاشراً: قبول النصيحة والعمل بها:(3/40)
فعلى من شاهد غاضباً أن ينصحه، ويذكِّره فضل الحلم، وكتم الغيظ، وعلى المنصوح قبولُ ذلك. قال ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ: استأذن الحر بن قيس لعيينة فأذن له عمر؛ فلما دخل عليه قال: هِي! يا ابن الخطاب! فوالله ما تعطينا الجزْل (أي العطاء الكثير) ولا تحكم بيننا بالعدل. فغضب عمر حتى همَّ به. فقال له الحر: يا أمير المؤمنين! إن الله ـ تعالى ـ قال لنبيه ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} [الأعراف: 199] وإن هذا من الجاهلين؛ واللهِ ما جاوزها عمر حين تلاها عليه، وكان وقَّافاً عند كتاب الله(8).
قال ابن القيم ـ رحمه الله تعالى ـ: «وهكذا الغضبان فإنه إذا اشتد به الغضب يألم بحمله فيقول ما يقول، ويفعل ما يفعل؛ ليدفع عن نفسه حرارة الغضب فيستريح بذلك، وكذلك يلطم وجهه، ويصيح صياحاً قوياً، ويشق ثيابه، ويلقي ما في يده؛ دفعاً لألم الغضب، وإلقاء لحمه منه، وكذلك يدعو على نفسه وأحب الناس إليه؛ فهو يتكلم بصيغة الطلب والاستدعاء والدعاء، وهو غير طالب لذلك في الحقيقة؛ فكذلك يتكلم بصيغة الإنشاء وهو غير قاصد لمعناها، ولهذا يأمر الملوك وغيرهم عند الغضب بأمور يعلم خواصهم أنهم تكلموا بها دفعاً لحرارة الغضب وأنهم لا يريدون مقتضاها فلا يمتثله خواصهم، بل يؤخرونه فيحمدونهم على ذلك إذا سكن غضبهم، وكذلك الرجل وقت شدة الغضب يقوم ليبطش بولده أو صديقه، فيحول غيره بينه وبين ذلك فيحمدهم بعد ذلك كما يحمد السكران والمحموم ونحوهما من يحول بينه وبين ما يهم بفعله في تلك الحالة» ا. هـ(9).
والحلم آفته الجهل المضرُّ به
والعقل آفته الإعجاب والغضبُ
الحادي عشر: أخذ الدروس من الغضب السابق:(3/41)
فلو استحضر كل واحد منا قبل أن يُنفذ غضبه الحاضر ثمرةَ غضبٍ سابقٍ ندم عليه بعد إنفاذه لما أقدم على ما تمليه عليه نفسه الأمارة بالسوء مرة ثانية، فمنع الغضب أسهل من إصلاح ما يفسده. قال ابن حبان ـ رحمه الله تعالى ـ: «سرعة الغضب من شيم الحمقى كما أن مجانبته من زي العقلاء، والغضب بذر الندم؛ فالمرء على تركه قبل أن يغضب أقدر على إصلاح ما أفسد به بعد الغضب» ا. هـ(1).
الثاني عشر: اجتناب وإزالة أسباب الغضب: وقد ذكرت جملة منها:
قال الشيخ السعدي ـ رحمه الله تعالى ـ: «ومن الأسباب الموجبة للسرور وزوال الهم والغم: السعي في إزالة الأسباب الجالبة للهموم، وفي تحصيل الأسباب الجالبة للسرور، وذلك بنسيان ما مضى من المكاره التي لا يمكنه ردُّها، ومعرفته أن اشتغال فكره فيها من باب العبث والمحال، وأن ذلك حمق وجنون» ا. هـ(2).
الثالث عشر: معرفة أن المعاصي كلها تتولد من الغضب والشهوة؛ فتركه إغلاق لباب من أبواب العصيان:
قال ابن القيم ـ رحمه الله تعالى ـ: «ولما كانت المعاصي كلها تتولد من الغضب والشهوة، وكان نهاية قوة الغضب القتل، ونهاية قوة الشهوة الزنى جمع الله ـ تعالى ـ بين القتل والزنى، وجعلهما قرينين في سورة الأنعام، وسورة الإسراء، وسورة الفرقان، وسورة الممتحنة، والمقصود أنه ـ سبحانه ـ أرشد عباده إلى ما يدفعون به شر قوتي الغضب والشهوة من الصلاة والاستعاذة» ا. هـ(3).(3/42)
الرابع عشر: قال ابن حبان ـ رحمه الله تعالى ـ: «لو لم يكن في الغضب خصلة تذم إلا إجماع الحكماء قاطبة على أن الغضبان لا رأي له لكان الواجب عليه الاحتيال لمفارقته بكل سبب» ا. هـ(4)؛ لذا فقد قال النبي ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ: «لا يحكم أحد بين اثنين وهو غضبان»(5). قال ابن القيم ـ رحمه الله تعالى ـ: «إن الفقهاء اختلفوا في صحة حكم الحاكم في الغضب على ثلاثة أقوال وهي ثلاثة أوجه في مذهب أحمد: أحدها: لا يصح ولا ينفذ؛ لأن النهي يقتضي الفساد. والثاني: ينفذ. والثالث: إن عرض له الغضب بعد فهم الحكم نفذ حكمه، وإن عرض له قبل ذلك لم ينفذ» ا. هـ(6) وقال معللاً المنع: «إنما كان ذلك؛ لأن الغضب يشوش عليه قلبه وذهنه، ويمنعه من كمال الفهم، ويحول بينه وبين استيفاء النظر، ويعمي عليه طريق العلم والقصد» ا. هـ(7). لهذا كان من وصية أمير المؤمنين عمر لأبي موسى الأشعري ـ رضي الله عنهما ـ في القضاء: «وإياك والغضب والقلق والضجر»(8).
* صور من هدي السلف عند الغضب:
سب رجلٌ ابنَ عباس ـ رضي الله عنهما ـ فلما فرغ قال: يا عكرمُ! هل للرجل حاجة فنقضيها؟ فنكس الرجل رأسه واستحى(9).
وقال أبو ذر ـ رضي الله عنه ـ لغلامه: لِمَ أرسلتَ الشاةَ على علف الفرس؟ قال: أردت أن أغيظك. قال: لأجمعن مع الغيظ أجراً: أنت حر لوجه الله تعالى(10).
وأسمعَ رجلٌ أبا الدرداء ـ رضي الله عنه ـ كلاماً، فقال: يا هذا! لا تغرقن في سبنا ودع للصلح موضعاً؛ فإنَّا لا نكافئ من عصى الله فينا بأكثر من أن نطيع الله فيه.
قال الأحنف بن قيس ـ رحمه الله تعالى ـ لابنه: يا بنيَّ! إذا أردت أن تواخي رجلاً فأغضبه؛ فإن أنصفك وإلا فاحذره(11).(3/43)
وأختم بما رواه عطاء بن السائب عن أبيه قال: صلى بنا عمار بن ياسر ـ رضي الله عنه ـ صلاة فأوجز فيها، فقال له بعض القوم: لقد خففت أو أوجزت الصلاة، فقال: أما على ذلك؛ فقد دعوت فيها بدعوات سمعتهن من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. فلما قام تبعه رجل من القوم هو أُبَيٌّ غيرَ أنه كنى عن نفسه، فسأله عن الدعاء، ثم جاء فأخبر به القوم: «اللهم بعلمك الغيب، وقدرتك على الخلق أحيني ما علمتَ الحياة خيراً لي، وتوفني إذا علمتَ الوفاة خيراً لي، اللهم وأسألك خشيتك في الغيب والشهادة، وأسألك كلمة الحق في الرضا والغضب، وأسألك القصد في الفقر والغنى، وأسألك نعيماً لا ينفد، وأسألك قرة عين لا تنقطع، وأسألك الرضاء بعد القضاء، وأسألك برد العيش بعد الموت، وأسألك لذة النظر إلى وجهك والشوق إلى لقائك في غير ضراء مضرة ولا فتنة مضلة، اللهم زينا بزينة الإيمان، واجعلنا هداة مهتدين»(12).
والله ـ تعالى ـ أعلم، وصلى الله وسلم وزاد وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
--------------------------------------------------------------------------------
(*) قاضي بالمحكمة العامة بمحافظة رماح.
(1) إغاثة اللهفان في طلاق الغضبان 49.
(2) قرى الضيف 4/224 يتيمة الدهر 4/224.
(3) صبح الأعشى 9/196 جمهرة الأمثال 1/356 الأغاني 12/250 ونسبه لعبد الله بن معاوية الجعفري.
(4) ثمار القلوب في المضاف والمنسوب 1/327 المستطرف في كل فن مستظرف 455.
(5) فيض القدير 6/81.
(6) تفسير القرطبي 1/150.
(7) التعريفات 168.
(8) رواه مسلم (91) من حديث ابن مسعود ـ رضي الله عنه ـ.
(9) الزهد (44).
(10) البيان والتبيين 1/208.
(1) رواه أبو داود (4800) من حديث أبي أمامة ـ رضي الله عنه ـ.
(2) أدب الدنيا والدين 309.
(3) رواه أحمد 4/221 وأبو داود (5003) والترمذي (2160) من حديث يزيد بن سعيد ـ رضي الله عنه ـ وقال الترمذي: «حسن غريب».
((3/44)
4) رواه ابن أبي شيبة 7/243.
(5) رواه الترمذي (2003) وابن حبان (5693) من حديث أبي الدرداء ـ رضي الله عنه ـ وقال الترمذي: «حسن صحيح».
(6) رواه مسلم (2328).
(7) رواه أحمد 2/178 وابن ماجه (85) واللفظ له. قال البوصيري ـ رحمه الله تعالى ـ: «هذا إسناد صحيح رجاله ثقات» ا. هـ مصباح الزجاجة 1/14.
(8) رواه البخاري (3402) ومسلم (2880).
(1) رواه البيهقي في الشعب (8317).
(2) رواه البيهقي في الشعب (8320).
(3) البخاري (5354).
(4) رواه البخاري (3108).
(5) التبيان في أقسام القرآن 265.
(6) رواه أحمد 5/152 وأبو داود (4782) وصححه ابن حبان (5688).
(7) الوسائل المفيدة للحياة السعيدة 25.
(1) رواه أحمد 3/239 والطيالسي (2608) والبخاري في الأدب (245).
(2) جامع العلوم والحكم 1/146 وأنظر قول مورق في الزهد 305.
(3) روضة العقلاء 140.
(4) رواه أحمد 4/226 وأبو داود (4784).
(5) رواه أحمد 3/61 والترمذي (2191) والحاكم 4/551 وقال الترمذي: «حديث حسن صحيح».
(6) رواه الطبراني في الأوسط (2353) وفي مسند الشاميين (21) قال المنذري: «رواه الطبراني بإسنادين أحدهما صحيح» ا. هـ الترغيب والترهيب 3/300 وروى نحوه ابن حبان في روضة العقلاء 138.
(7) رواه أحمد 3/440 وأبو داود (4777) والترمذي (2493) وقال: هذا حديث حسن غريب.
(8) رواه ابن حبان (296).
(9) رواه مسلم (1659) .
(10) رواه أحمد 1/327 من حديث ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ.
(1) رواه أحمد 2/128 والبخاري في الأدب (1318) وابن ماجه (4189) واللفظ له. قال البوصيري ـ رحمه الله تعالى ـ: «هذا إسناد صحيح رجاله ثقات» ا. هـ المصباح (1496).
(2) الاستقامة 2/272.
(3) رواه ابن جرير 15/226 والبيهقي في الشعب (8296).
(4) رواه البخاري (5765).
(5) بهجة قلوب الأبرار 136.
(6) خرجه ابن أبي الدنيا في الصمت (610) وانظر: جامع العلوم والحكم 1/147.
(7) المستطرف 406.
((3/45)
8) روضة العقلاء 222.
(9) رواه مسلم (1680).
(1) جمهرة خطب العرب 2/191.
(2) الفوائد 50.
(3) رواه البخاري (5763) ومسلم (2609).
(4) حاشية ابن القيم على مختصر سنن أبي داود 13/271.
(5) الاستقامة 2/271 .
(6) رواه البزار قال الحافظ ابن حجر ـ رحمه الله تعالى ـ: «البزار بإسناد جيد» ا. هـ فتح الباري 10/519.
(7) صبح الأعشى 10/275.
(8) رواه البخاري (4366).
(9) إغاثة اللهفان في طلاق الغضبان 47.
(1) روضة العقلاء 138.
(2) الوسائل المفيدة 16.
(3) زاد المعاد 2/463.
(4) روضة العقلاء 140.
(5) رواه البخاري (6739) ومسلم (1717) من حديث أبي بكرة ـ رضي الله عنه ـ.
(6) إغاثة اللهفان في طلاق الغضبان 65.
(7) إعلام الموقعين 1/217.
(8) رواه الدارقطني 4/206 ووكيع في أخبار القضاة 1/70 و283 وابن عساكر في تاريخ دمشق 32/70.
(9) المستطرف 201.
(10) البيان والتبيين 1/456 المستطرف /201.
(11) المستطرف 203 وروي ذلك عن لقمان ـ عليه السلام ـ كما في روضة العقلاء 91.
(12) رواه ابن أبي شيبة 6/44 وأحمد 4/264 والنسائي (1305) واللفظ له وصححه ابن حبان (1971).
--------------------------------------------------------------------------------
مجلة البيان، العدد (226) .
* * *
http://www.albayan-magazine.com/zwaya/trbwi/76.htm
التكامل والتوازن في التربية
أحمد المنصب
إن الحديث عن أهمية إنقاذ الأمة، وعن ضرورة رسم المنهج ذي المعالم الواضحة في إحياء الأمة، وإنقاذها حديثٌ أحسب أننا قد تجاوزناه، وأصبح من البدهيات لدى كل مسلم يشعر بواقع الأمة، ويدرك دوره في إنقاذها.
إنما مدار النقاش والحديث حول المناهج ووسائل التغيير، وأحسب أن الأغلب من قطاع الصحوة يوافق على أن التربية ضرورة ملحّة؛ لغرس المعاني والتوجيهات في صفوف الناشئة وعلى صعيد الأمة أجمع، وضرورة ملحّة لغسل أوضار الماضي وآثاره السيئة.(3/46)
وهي حينما تسعى للقيام بهذا الدَّور وأداء هذا الواجب فلا بد أن تكون مؤهّلة لهذه المنزلة، ولا أظن أننا نملك بديلاً غير التربية، لذا فهي تستحقّ منا الحديث الكثير عن ضرورتها، والمطالبة بها والسعي في نشر آثارها، وهناك جوانب كثيرة؛ منها:
أولاً: ينبغي أن نعتني به جميعاً لا على مستوى رجال الصحوة فحسب، بل على كافة الطبقات والمستويات التي تعتني بهذا الجانب، ونحن حين نتحدَّث حول هذا الموضوع الشموليّ، عن جوانب كثيرة سواء أكانت جوانب فردية أم جوانب على مستوى الأمة، وسواء أكانت جوانب تخص الفرد بحد ذاته، أم كانت تخصّ الأسرة ودور الأب والأم، أم كانت تتعلَّق بالمؤسسات التربوية، إننا حين نتحدَّث هذا الحديث فإننا لا نعدو أن نذكر خواطر مجرَّدة؛ فالحديث عن هذه القضية مجال واسع.
ثانياً: حين نتحدث عن القضايا التربوية، علينا أن نطرح منهجاً نظريّاً، وربما يكون قابلاً للصواب وللخطأ؛ لكن هذا شيء، وتطبيقه على آحاد الأفراد شيء آخر؛ فنحن نتحدّث عن أسلوب ومنهج، أو عن برنامج، وهذا لا يعني أن محمداً من الناس أو زيداً من الناس ينطبق عليه هذا الكلام أو ذاك؛ ذلك أن كثيراً من الإخوة الأساتذة والمربِّين يطبق ما يسمع حرفاً بحرف، وما يقول قد يكون حالة من الحالات يعيشها المربي مع من يربِّيه، مع تلميذه، أو مع ابنه، وقد تكون حالة فريدة؛ وهذا راجع إلى إلقاء أسلوب المربي في التعامل مع تلاميذه وأبنائه.(3/47)
ثالثاً: التربية ليست مسؤولة عن مشكلات لم تكن هي السبب في إحداثها ووقوعها. إنك مثلاً، قد تجد البعض من الآباء يعرض مشكلة ابن من أبنائه، أو بنت من بناته قد بلغ سن التكليف، واستعصى على التوجيه وشب عوده؛ فلم يعد قادراً على تربيته؛ فهنا يعجز الأب عن حل هذه المشكلة، فيعرض عليك مشكلته ويطلب منك حلاًّ لها، قد تجد حلاًّ وقد تنجح، لكن ينبغي أن نعلم أن هذه المشكلة من أسبابها سوء التربية ابتداءً. فنحن حين نتحدث عن التربية نرى أنها كفيلة - بإذن الله - بحل كثير من المشكلات والعقبات، وهي ليست مسؤولةً عن حل مشكلاتٍ لم تكن هي السبب في حدوثها.
إن المفترض أن تبدأ تربية الشاب من صغره وطفولته، بل أن يتربى وهو حمل في بطن أمه؛ فضلاً عن طفولته ومراهقته وشبابه، وحين يسار به وفق المنهج الشرعي والتربوي السليم، فالأغلب حينئذ - بإذن الله - أن يستقيم وفق المنهج القويم، وحين يفلت فلان أو فلان فالقلوب بيد الله عز وجل.
رابعاً: حين نتكلم عن هذه القضايا التربوية التي تخص فئة، وقطاعاً عاماً من الناس فهي تعني المعلم، وتعني الأب، وتعني الأم، تعني الكثير من الناس. حينئذ فنحن لسنا نتحدث حديثاً أكاديمياً، ولسنا نتحدث للمختصين؛ فلا بد حينئذ أن يكون حديثاً عامّاً يأخذ طابع العمومية، وحينئذ أرجو ألَّا يؤاخذني أهل الاختصاص والاصطلاح حين أسطو على مصطلح من مصطلحاتهم، فأستخدمه أوسع أو أضيق مما يريدون هم، أو يستخدمونه هم في قضية من قضاياهم.
ü مسوغات المطالبة بالتربية المتكاملة المتوازنة:
إننا نطالب أن تكون التربية متكاملة، وأن تكون متوازنة في الوقت نفسه، سواء على مستوى الأفراد أو على المجتمع ككل. وحين نطالب بذلك فإن الذي يدعونا إلى هذا الأمر مسوغات عدة:
| طبيعة الإنسان:(3/48)
فالله ـ سبحانه وتعالى ـ خلق الإنسان بجوانب كثيرة متنوعة (جسم، وعقل، ومشاعر...) وحينئذ فالمنهج التربوي الذي يريد أن يرقى بهذا الإنسان ينبغي أن يكون متوافقاً مع فطرة هذا المرء، ولهذا صار أي تشريع للبشر من غير المصدر الشرعي محكوماً عليه بالفشل والبوار؛ لأنه تشريع صادر من البشر، والله - سبحانه وتعالى - هو الذي خلقهم: {أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [الملك: 14] وغالباً ما ترى تشريعات البشر وآراءهم تأخذ جانباً على حساب جانب آخر، وغالباً ما تخل بهذا التكامل أو هذا التوازن في شخصية المرء، إذن! فالتكامل والتوازن هو الذي يتوافق أصلاً مع خلق الإنسان ومع فطرته التي فطره الله عليها.
ولأضرب على ذلك مثلاً: إننا حين نربي الناس على الخضوع وعلى التسليم لكل الآراء التي تُطرح عليهم أياً كان مصدرها، ونطلب من الناس أن يعطلوا عقولهم، وألاّ يفكروا مطلقاً فيما يُقال لهم؛ إننا حينئذ نعطل هذا العقل الذي خلقه الله - عز وجل - له، وما خلقه الله - سبحانه وتعالى - إلا لحكمة، ولو كانت أمور الناس تستقيم على التقليد والتبعية لخلق الله - عز وجل - لنخبة من الناس عقولاً دون عقول سائر الناس؛ حتى يخضع بعضهم لبعض ويكونوا تابعين لغيرهم.
أما وقد خلق الله العقول للناس جميعاً فهذا يعني أن تُربى العقول، وهذا يعني أن يُربى الناس على أن يستخدموا عقولهم ويحكّموها داخل الدائرة الشرعية التي لا تخرجهم عن حدودها. وحين نأخذ منهجاً تربويّاً يتعامل مع جانب العقل والمعرفة وحدها، ويغفل عن جانب الوجدان في نفس الإنسان، يعيش في تناقض يحكم عليه بالفشل والبوار، كما هو الحال في المجتمعات الغربية المعاصرة، وقُلْ مثل ذلك في أي منهج يتعامل مع جانب واحد من جوانب الإنسان.
| التوازن والتكامل سُنة الله في الحياة:(3/49)
فالجنون مثلاً نتيجة لعدم توازن القدرات العقلية والحسية؛ ولهذا يقال عن المجنون: «إنسان غير متوازن»، «والصرع العضوي من أسباب زيادة الكهرباء في دماغ الإنسان»، «وفقر الدم أو ضعفه يحصل عن عدم توازن كريات الدم الحمراء والبيضاء في الدم»، «ثم إن زيادة سائل الأذن قد يتسبب في حالة إغماء لدى الإنسان»، «كما يتسبب ضغط العين أو القلب على انعكاسات صعبة خطيرة». هذه بعض النتائج التي يخلّفها عدم التوازن في الكائن البشري، وهناك عشرات الأمثلة الأخرى على ذلك.
أما حدوث عدم التوازن في الكون والحياة فهي أكثر من أن تحصى... «إن تغير نسبة الأكسجين في الهواء تجعله ملوثاً، وقد تجعله سمّاً قاتلاً»، «وتغير المعادلة المتوازنة في دوران الأرض والشمس والأفلاك ينتج عنه كثيرٌ من الأمور أقلها اختلال نظام الليل والنهار، وتعاقب الفصول، وما يؤدي ذلك من أضرار على الإنسان والحيوان والنبات وعلى الحياة بكاملها».
وما يصنعه بنو الإنسان من آلات وما ينشئونه من بنايات، فجميعه محكومٌ بقاعدة التوازن، وأي خلل في المقادير والمعايير يتسبب بنتائج خطيرة ومأساوية.
وجوانب الشخص نفسها حين لا تكون متوازنة ولا متناسقة فإنها تُخرج إنساناً غير متناسق؛ فجمال الوجه - مثلاً - فيه توازن نسبي بين حجم الأنف والعينين والفم والرأس؛ بحيث لو اضطربت هذه النسب لكانت صورة مشوهة هزيلة أو ناقصة. وقيمة الطعام تكمن في مختلف عناصره الرئيسة؛ بحيث تتحقق النسبة المتوازنة لسلامة الجسم من مختلف الدهون والسكريات والفيتامينات والأملاح والمعادن... إلى غير ذلك.
والإخلال بالتوازن حتى في المظهر الجمالي أمر يدعو الناس إلى النفور؛ فحين يسعى الإنسان لتجميل منزله فيبالغ فيه أو يجعله بصورة غير متوازنة يصبح أمراً مرفوضاً.(3/50)
وتقرأ في كتاب الله - عز وجل - الحديث عن هذا الكون وأنه محكوم بهذه السنة. قال ـ تعالى ـ: {وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا} [الفرقان: 2]، ويقول: {إنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} [القمر: 49]، {وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ أَن تَقَعَ عَلَى الأَرْضِ إلاَّ بِإذْنِهِ} [الحج: 65]، {لا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَن تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} [يس: 40]، {الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَوَاتٍ طِبَاقًا مَّا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِن تَفَاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِن فُطُورٍ * ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنقَلِبْ إلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئًا وَهُوَ حَسِيرٌ} [الملك: 3 - 4].
| الشرع قائم على الوسطية والتكامل:
إن شرْع الله - عز وجل - قائم على الوسطية في كل الأمور: الوسط في الاعتقاد، الوسط في العبادة، الوسط في السلوك، فشرْع الله - عز وجل - قائم على هذه القاعدة.
وهو كذلك تبدو فيه ظاهرة التكامل مَعْلماً بارزاً؛ فما من مجال من مجالات الحياة إلا وللشرع فيه حُكم؛ فإنك ترى للشرع حُكماً في معتقد الإنسان، وترى للشرع حُكماً في تعامل الإنسان مع غيره، وترى للشرع حُكماً في عبادة الإنسان، ترى له حُكماً في سلوكه، وترى له حُكماً في أخلاقه، وفي الاقتصاد والسياسة وحياة الناس الاجتماعية وعلاقاتهم... إنك لا تجد باباً من أبواب الحياة إلاّ وفيه حُكم واضح للشرع، وهذا يعني أننا أمام شرع متكامل.(3/51)
إذاً! حينما نريد أن نربي الناس على هذا الشرع ينبغي أن نربيهم تربية متكاملة ومتوازنة؛ ولهذا أنكر الله على بني إسرائيل الذين يؤمنون ببعض الكتاب ويكفرون ببعض: {أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَن يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنكُمْ إلاَّ خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [البقرة: 85]، {إنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَن يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَن يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاً * أُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا} [النساء: 150 - 151].
ومن إعجاز القرآن أن الله - سبحانه وتعالى - حذَّر نبيه من صورة نراها في واقعنا؛ فحين أمر الله نبيه أن يحكم بشرع الله قال بعد ذلك: {وَاحْذَرْهُمْ أَن يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنزَلَ اللَّهُ إلَيْكَ} [المائدة: 49] وكأن هذه الآية تنطق بواقع القرون المتأخرة، وأن هناك من يساوم على بعض شرع الله، فيأخذ بعض شرع الله ويرفض بعضه، فينادي بالاحتكام إلى شرع الله - عز وجل - في باب من أبواب الحياة، ويرفض بعد ذلك سائر الأبواب.
إن هذا دليل على أن هذا الشرع جاء للحياة كلها، وهذا يعني أن أي منهج تربوي يريد تربية الناس على خلاف هذا المنهج فهو منهج غير متكامل وغير متوازن، ومعارض لهذه القاعدة الشرعية التي لا تنخرم وتراها في كل حكم شرعي في سائر أبواب الحياة.
| كثرة التحديات التي تواجه الأمة:
الأمة الإسلامية تواجه تحدياً تربويّاً من أبواب شتى؛ فالشباب يعانون من تخطيط ماكر وغزو مدبر، وكذلك الرجال والنساء، والصغير والكبير، بل حتى الطفل المسلم تُعد له أفلامٌ وتُكتب له قصصٌ ومجلاّت يُقصَد منها تربيته تربية تحرفه عن المنهج الشرعي.(3/52)
وحياة الناس في عقيدتهم، وحياتهم الاقتصادية والاجتماعية والسياسية فيها تحديات، فنحن نواجه تحدياً شاملاً، تحدياً متكاملاً في جوانب الحياة كلها لخلع الأمة عن دينها، ثم تربيتها على غير شرع الله عز وجل. فالتربية التي تهدف إلى إنقاذ جيل الأمة، والوقوف في وجه هذا التيار الوافد ما لم تكن آخذةً بالتكامل والتوازن فإنها حينئذٍ لن تكون مؤهلة للمواجهة، ولن تكون مؤهلة لصدّ هذا السيل الجارف من الغزو الذي تواجَه به الأمة.
--------------------------------------------------------------------------------
(*) طالب في كلية العلوم ـ جامعة حضرموت.
--------------------------------------------------------------------------------
مجلة البيان، العدد (226) .
* * *
http://www.albayan-magazine.com/zwaya/trbwi/77.htm
التربية الذاتية ومسؤولية هم الأمّة
عبد العزيز بن عبد الله الحسيني(3/53)
واقع أمتنا مرير، وأمرها عظيم، وخطبها جسيم، ومسؤوليتنا إزاء ذلك ضخمة، وأعباء إخراجها من وهدتها التي اركتست فيها جسيمة، و يخطئ كثيراً من يظن أن تلك مسؤولية الحكام، أو العلماء، أو الدعاة، أو المجامع العلمية، أو الهيئات الشرعية...، ونحو ذلك فحسب. والحقيقة التي يجب أن نقف عندها طويلاً: أن كل مسلم مسؤول ـ أيضاً ـ أمام الله ـ تعالى ـ، وهذا هو قَدَرُه، وليس له خيار في قبول ذلك أو رفضه، قال ـ تعالى ـ: {كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ} [المدثر: 38]. وقال: {أَلاَّ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى * وَأَن لَّيْسَ لِلإنسَانِ إلاَّ مَا سَعَى * وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى * ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاءَ الأَوْفَى * وَأَنَّ إلَى رَبِّكَ الْمُنتَهَى} [النجم: 38 - 42]، فكل إنسان وُلد فرداً، وكُلف فرداً، وسيُقبر فرداً، ثم يبعث فرداً، وسيقف بين يدي الله ـ تعالى ـ فرداً ليس بينه وبين الله ترجمان، وسيُسأل كل فرد: ماذا عمل، وماذا قدم؟ قال ـ تعالى ـ: {إن كُلُّ مَن فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ إلاَّ آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا * لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا * وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا} [مريم: 93 - 95].
هذه المسؤولية تفرض على كل فرد أن يبادر إلى الدعوة والعمل ـ كلٌ في مجاله ـ دون الالتفات إلى الآخرين، هل عملوا أم لم يعملوا؟ هل أدّوا واجبهم أم تراخوا؟ هل قاموا بالأمانة أم تكاسلوا؟
فكل هذا لا يضير الداعية ما دام أنه مسؤول عن ماذا قدم فقط؟ وماذا عمل فحسب؟ ومن رحمة الله أنه ـ سبحانه ـ لم يُكلف الداعية بالثمرات والنتائج، وإنمّا بالاحتساب والعمل على قدر الوسع والاستطاعة، قال ـ تعالى ـ: {فَإنْ أَعْرَضُوا فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا إنْ عَلَيْكَ إلاَّ الْبَلاغُ} [الشورى: 48]، وقال: {لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَاءُ} [البقرة: 272].(3/54)
وحينما نتحدث عن واجب الفرد في تجاوز الهزيمة والنهوض بالأمة؛ فإننا لا نقصد أن يعمل فوق طاقته وإمكاناته؛ وإنما المقصود: الإسهام حسب الوسع والاستطاعة؛ فما لا يُدرَك كلُّه لا يُترَكُ جُلُّه، وإذا كان ذلك يحتاج إلى جهود جبارة، وهمم عالية؛ فإنه يحتاج قبل ذلك إلى إعداد النفس وتهيئتها لهذه المهمة العظيمة.
ü الإعداد الذاتي:
التربية الذاتية (الفردية) ليست هينة ولا هي سهلة، فهي تحتاج إلى الصبر على شوائب الطريق وفقد الرفيق، والمثابرة على إعداد النفس، والسير على ذلك بخطىً ثابتة متدرجة متكاملة، حتى يصبح للشخص في مستقبله شأن أي شأن، ويكون له في هداية غيره نصيب أي نصيب.
ولا منهج في تربية النفس وإعدادها مثل منهج المصطفى -صلى الله عليه وسلم-؛ فسيرته أصل من أصول التربية الذاتية التي ينبغي الرجوع إليها، واستلهام الدروس والعبر منها لإعداد النفس وتربيتها تربية ذاتية جادّة، مبنية على أسس شرعية متوازنة، بعيداً عن الاجتهاد الممزوج بالعواطف والحماس في الإعداد والتكوين.
وإن المتأمل للسيرة النبوية، يجد أن الله ـ تعالى ـ قد أعدّ رسوله وهيأه منذ بزوغ فجر الدعوة وبداياتها الأولى، لتكون الأساس والمنطلق له، ولمن آمن معه، ولمن بعده إلى قيام الساعة.
ü أسس التربية الذاتية:(3/55)
وليتبين لك أهمية دراسة السيرة واستلهام المنهج التربوي الذاتي منها؛ تأمل سيرته -صلى الله عليه وسلم- وكيف أعد الله ـ تعالى ـ رسوله لحمل راية هذا الدين، من خلال الآيات الأولى التي أُنزلت عليه في صدر سُوَرِ (اقرأ ـ المزمل ـ المدثر)؛ لتقف على أهمية هذه الآيات في الإعداد والتهيئة والتكوين، وأنها بمثابة الأساس المتين الذي يقوم عليه البناء الفردي لكل مسلم يريد تكوين نفسه وإعدادها لحمل راية هذا الدين، والعمل على رفع ثقة الأمة بنفسها وبدينها، لرفع آثار الهزيمة النفسية التي أحبطت معنوياتها، وجعلتها تعيش على هامش العالم وفي ذيل القائمة، وإن من أهم هذه الأسس في إعداد النفس وتكوينها ما يأتي:
الأساس الأول: الإعداد العلمي:
يذكر البخاري ـ رحمه الله ـ أن الرسول -صلى الله عليه وسلم- حينما كان يخلوا بغار حراء «جاءه جبريل، فقال: اقرأ. فقال: ما أنا بقارئ. قال: فأخذني، فغطّني حتى بلغ مني الجهد، ثم أرسلني فقال: اقرأ. فقلت: ما أنا بقارئ. فغطني الثالثة، ثم أرسلني فقال: {اقْرأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الإنسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ} [العلق: 1 - 3](1).
وتأمل أول كلمة أُنزلت على الرسول -صلى الله عليه وسلم- تجد أنها كلمة «اقرأ»! ثم انظر كيف تكررت تلك الكلمة، وتساءل: لماذا كانت كلمة (اقرأ) أول كلمة أُنزلت من القرآن الكريم؟ ولماذا التربية على العلم أولاً؟ ولماذا هي المحطة الأولى في إعداده وتكونيه -صلى الله عليه وسلم-؟
وفي هذا مغزى كبير ودلالة واضحة على أهمية العلم وأثره، وأنه الأساس الذي يُبنى عليه كل إصلاح: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إلَهَ إلاَّ اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ} [محمد: 19] ، فالعلم أولاً ثم يأتي العمل بعد ذلك. ولهذا فقد وضع الإمام البخاري عنواناً لباب العلم فقال: «باب العلم قبل القول والعمل»(2)، وهذا من تمام فقهه رحمه الله.(3/56)
وعليه؛ فإن كل عمل وكل دعوة لا تقوم على العلم دعوة ناقصة فيها من الخلل والقصور الشيء الكثير، وقد تُفِسدُ أكثر ممّا تُصلِح، وقد تجلب على الدعوة عواقب وخيمة وآثار موجعة. ولهذا فقد أكَّد -صلى الله عليه وسلم- على أهمية العلم وأثره في صحة العمل فقال: «من يرد الله به خيراً يفقّهه في الدين»(3).
والفقه في الدين يتطلب نفساً جادة طموحة، تتحمل مشاق تعلمه، ومعاناة طلبه، وتعب تحصيله. وهو مطلب ضروري ومُلِحٌّ للبناء الذاتي للشاب المسلم.
والتحصيل العلمي مطلب لا غنى عنه لأي داعية يُعِدُّ نفسه ويُهيئها لنفع أمته؛ ليكون بصيراً في دعوته، عالماً بما يدعو إليه، قوياً في حجته، مثمراً في عمله، ناجحاً في أسلوبه، ثابتاً في مسيرته...، ولهذا يقول عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ: «تفقهوا قبل أن تسودوا»(4).
وإذ كان ثمة قدر من العلم الشرعي لا غنى عنه لمن يتصدى لأمر الدعوة، فإن كل علم بعد ذلك يمكن أن ينفع هذه الأمة ويعلي شأنها هي بأشد الحاجة إليه، وإذا كانت أمتنا بحاجة إلى العلم الشرعي، فإنها بحاجة ـ أيضاً ـ إلى العالِم في الطب والهندسة والكيمياء والفيزياء والفلك والذرّة وغيرها...، وتلك العلوم وأمثالها ضرورة لا غنى عنها لنهضة الأمة وتقدمها، والكل على ثغر من ثغور الإسلام بحسب مكانه وأثره.
الأساس الثاني: الاستعانة على عقبات الطريق بالعبادة:
الاستقامة على هذا الدين بلا تردد ولا انحراف، والصبر على عقباته وتكاليفه يحتاج إلى زاد ووقود يشحن الطاقات ويغذي القلوب للاستمرار والثبات، ولا وقود كقيام الليل وترتيل القرآن بالأسحار.(3/57)
ولهذا فقد هيأ الله ـ تعالى ـ رسوله -صلى الله عليه وسلم- لذلك، وأوجب عليه ومن آمن معه قيام الليل وقراءة القرآن بالأسحار، فقال ـ سبحانه ـ: {يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ * قُمِ اللَّيْلَ إلاَّ قَلِيلاً * نِّصْفَهُ أَوِ انقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً * أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً * إنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً} [المزمل: 1 - 5].
وتأمل! الرسول -صلى الله عليه وسلم- في بداية دعوته، ويأتيه الأمر السماوي: {قُمِ اللَّيْلَ إلاَّ قَلِيلاً} أي: «قم للأمر العظيم الذي ينتظرك، والعبء الثقيل المهيأ لك... قم للجهد والنصب والكد والتعب... قم فقد مضى وقت النوم والراحة... قم فتهيأ لهذا الأمر... قم للاستعانة على ما سيواجهك من أعباء الدعوة ومشكلاتها بالعبادة المتواصلة.
وإنها لكلمة عظيمة رهيبة تنتزعه -صلى الله عليه وسلم- من دفء الفراش، في البيت الهادئ والحضن الدافئ لتدفع به في الخِضَمِّ بين الزعازع والأنواء، بين الشد والجذب في ضمائر الناس وفي واقع الحياة سواء.
إن الذي يعيش لنفسه قد يعيش مستريحاً؛ ولكنه يعيش صغيراً ويموت صغيراً، فأما الكبير الذي يحمل هذا العبء الكبير... فماله والنوم؟ وما له والراحة؟ وما له والفراش الدافئ، والعيش الهادئ، والمتاع المريح؟! ولقد عرف رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حقيقة الأمر، وقدّره حق قدره؛ فقال لخديجة ـ رضي الله عنها ـ وهي تدعوه أن يطمئن وينام: «مضى عهد النوم يا خديجة». أجل مضى عهد النوم، وما عاد منذ اليوم إلا السهر والتعب والجهاد الطويل الشاق»(1).(3/58)
ومنذ أن أتاه التكليف بـ: {قُمِ اللَّيْلَ إلاَّ قَلِيلاً} ظلَّ قائماً هو وأصحابه الكرام حولاً كاملاً، كل فرد منهم كان يقوم حتى تتورم قدماه، ويحدودب ظهره، وكان واجباً عليهم في البداية، حتى خُفف عنهم إلى التطوع ـ كما في نهاية السورة ـ ومع ذلك استمر قيامهم، ولم نسمع أو نقرأ أن أياً منهم قد توقف عن هذا الإعداد والزاد، لعلمهم ويقينهم بأثره وقيمته في مواصلة الطريق، وفي تحمل المصاعب والمشاق بكل ثبات وعزيمة.
ولماذا قيام معظم الليل بالصلاة والتهجد؟ ولماذا كان واجباً على كل فرد بعينه في البداية؟ ولماذا الإكثار من ترتيل القرآن؟ ولماذا الذكر الخاشع؟ ولأي شيء يُعدّهم له؟ ولأي شيء يُربيهم عليه؟ كل هذا تهيئة وتربية وإعداد للقول الثقيل: {إنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً} [المزمل: 5]، وسيترتب عليه من الدعوة إليه من العقبات والمشكلات والكيد والتنكيل والإيذاء ما يحتاج إلى هذا الإعداد وهذه التربية وهذا الزاد: {وَتَزَوَّدُوا فَإنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى} [البقرة: 197].
الأساس الثالث: المثابرة في الدعوة:
هذا الإعداد بالعبادة المتواصلة من (الذكر وقراءة القرآن وقيام الليل) كان بمثابة الزاد والوقود المُعين للاستمرار على الطريق، وتَحَمُّل الكيد والإيذاء الذي ينتظر الرسول -صلى الله عليه وسلم- ومن آمن معه. ولهذا فقد كُلف -صلى الله عليه وسلم- أثناء هذا الإعداد بالنبوة. يقول -صلى الله عليه وسلم-: «بينا أنا أمشي، إذ سمعت صوتاً من السماء، فرفعت بصري فإذا الملك الذي جاءني بحراء جالس على كرسي بين السماء والأرض، فرعبت منه، فرجعت فقلت: زملوني. فأنزل الله: {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ * قُمْ فَأَنذِرْ} إلى قوله: {وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ} [المدثر: 1 - 10](2).(3/59)
ولما رأت زوجه خديجة ـ رضي الله عنها ـ فزع الرسول -صلى الله عليه وسلم- أخذته إلى ابن عمِّها (ورقة بن نوفل) الذي قال له: «هذا الناموس الذي نزّل الله على موسى، يا ليتني أكون حياً إذ يخرجك قومك». فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «أَوَ مخرجيَّ هم؟!» قال: «نعم، لم يأتِ رجل قط بمثل ما جئت به إلا عودي...»(3). وهذا من سنن الله الجارية في تمحيص الدعوة والدعاة، فكل من سيدعو إلى الله ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر سيتعرض لشيء من الإيذاء والتضييق، ولهذا فقد أوصى لقمان ابنه؛ فقال له: {يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ} [لقمان: 17]، ولن يثبت على ذلك إلا من كان لديه زاد يعينه على تحمل عقبات الطريق ومشاقّه.
وقد شاء الله ـ تعالى ـ أن يكون هذا هو طبيعة الطريق، فهو طويل وشاق، مملوء بالأشواك والصعاب «تعِب فيه آدم، وناح لأجله نوح، ورُمي في النار الخليل، وأُضجع للذبح إسماعيل، وبِيع يوسف بثمن بخس ولبث في السجن بضع سنين، ونُشر بالمنشار زكريا، وذُبح السيد الحصور يحيى، وقاسى الضر أيوب، وزاد على المقدار بكاء داود، وسار مع الوحش عيسى، وعالج الفقر وأنواع الأذى محمد -صلى الله عليه وسلم-، وتزها أنت باللهو واللعب!»(4). فهذا الطريق لا تتحمله إلا نفوس الرجال، ولا تقوم به إلا همم الصادقين الأبطال.(3/60)
وتأمل مطلع سورة المدثر، تلك الآيات التي تضمنت النداء العلوي بانتداب النبي -صلى الله عليه وسلم- لهذا الأمر الجلل، وانتزاعه من النوم والتدثر والدفء إلى الدعوة والجهاد والكفاح والمشقة. ومنذ أن قال الله ـ تعالى ـ لرسوله -صلى الله عليه وسلم-: {قُمْ فَأَنذِرْ} قام بالأمر خير قيام، فبلّغ ودعا وأدّى الأمانة التي أشفقتْ منها وأبت أن تحملها السماوات والأرض، وحملها الرسول -صلى الله عليه وسلم- وظل قائماً بعد ذلك لأكثر من عشرين عاماً... لم يسترح، ولم يسكن، ولم يعش لنفسه ولا لأهله... قام وظل قائماً على دعوة الله، يحمل على عاتقه العبء الثقيل الباهظ ولا ينوء به... عبء الأمانة الكبرى في هذه الأرض... عبء البشرية كلها... عبء الكفاح والجهاد في ميادين شتى...، وعَلِمَ عِلْمَ يقين أنه لم يعد هناك راحة أو نوم، وأن هناك تكليفاً ثقيلاً وجهاداً طويلاً(5)، فدعا إلى الله ليلاً ونهاراً، سراً وجهاراً، سلماً وحرباً، وكان يقطع المفاوز والقفار، ويتسلق الجبال، وينزل الوديان طمعاً في إسلام رجل أو بضعة رجال، وواجه في سبيل ذلك أنواع الإيذاء والصدود، والعناد والرفض، والإيذاء والضرب؛ بل والعذاب وقتل الأصحاب... فصبر واحتسب، ولم يفتر أو يلين، أو يضعف أو يستكين.
ü صفاء الابتداء:
تلك الأصول المهمة في التربية والإعداد الفردي تدل دلالة أكيدة على أهمية البدايات الأولى في الإعداد والتنشئة. ومن القواعدة المسلّم بها: أن المقدمات إذا صحت؛ أعقبها نتائج مثمرة باهرة.
فالتربية الذاتية الناجحة متعلقة في بداياتها، وإذا صحت تلك البدايات وروعيت أولوياتها؛ أعقبتها نتائج مشرقة. وكما قيل: من كانت بدايته متعبة كانت نهايتة مشرقة.
أما الإعداد الفوضوي الذي لا يلتزم بسلم الأولويات ولا يقوم على أسس ثابتة منهجية، فهو إعداد عاطفي هش، لا يحقق غاية ولا ينتج ثمراً، وسرعان ما يمل ويفتر صاحبه. ولهذا قيل: الفتور بعد المجاهدة من فساد الابتداء.(3/61)
--------------------------------------------------------------------------------
مجلة البيان، العدد (227) .
* * *
http://www.albayan-magazine.com/zwaya/trbwi/78.htm
دور المعلم وآليات عمله
أ. د. مصطفى رجب
قال ـ تعالى ـ: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إبْرَاهِيمَ إنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَّبِيًّا * إذْ قَالَ لأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنكَ شَيْئًا * يَا أَبَتِ إنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا * يَا أَبَتِ لا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا * يَا أَبَتِ إنِّي أَخَافُ أَن يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِّنَ الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا} [مريم: 41 - 45].
إنها خمس آيات تضمّنت إحدى وخمسين كلمة، تخشع أمامها قلوب المؤمنين، وتقشعرُّ لسماعها جلود المخبتين، والآيات الخمس تضمُّ فنوناً من التربية متنوعة، وأساليب للدعوة بديعة باهرة.
إنه الإعجاز التربوي للقرآن الكريم في صورة من صوره: صورة الحوار بين مربٍّ وجهول، وعالم وعنيد، ونبي وكافر. إعجاز يقوم على أسس من الإقناع والتبصير ومحاولة تعديل السلوك الخاطئ، مستعيناً في سبيل ذلك بكل ما آتاه الله ـ تعالى ـ من حكمة وحسن تقدير.
وفيما يلي تحليل لبعض جوانب هذا الإعجاز التربوي الفذّ في مجال من أهمِّ مجالات التربية، وهو ذلك المجال المتصل بأدوار المعلم:
ü أولاً: استثارة الدافعية:(3/62)
من المسلَّم به عند التربويين أنه (لا تعلُّم بدون دافعية) فالمعلم مهما بلغ من النبوغ والبراعة، لا يمكنه دفع طلابه إلى التعلُّم إذا ما كانوا عنه معرضين، وفي العلم زاهدين، أما إذا توفر لديهم دافع داخلي يحفزهم فإنهم يُقبِلون على التعليم بعقول متفتِّحة، وقلوب واعية؛ لأن الدافعية تبعث في النفوس طاقة انفعالية، وتتحول هذه الطاقة إلى نشاط محسوس. ويرتهن نجاح المعلِّم في عمله بقدرته على استغلال دوافع تلاميذه من أجل تحريك نشاطهم وتعديل سلوكهم من أجل تحقيق أهداف يحدِّدها لهم.
وقد بدأ أبو الأنبياء إبراهيم ـ عليه السلام ـ حواره مع أبيه بأن وضع له هدفاً يمسُّ حياته مسّاً مباشراً، وهو النفع أو المصلحة المبتغاة من عبادة الآلهة. فإذا كان الإله الذي يعبده المرء لا يسمع ولا يبصر؛ فكيف يمكنه أن يساعد من يعبدونه؟! أو يحقق لهم نفعاً؟! أو يدفع عنهم ضرراً؟!
بدأ إبراهيم حواره بإثارة النشاط العقلي عند أبيه؛ لكي يحرِّك عنده طاقة انفعالية تجعله يفكر بالصورة الصحيحة في تلك الأصنام التي لا تسمع ولا تبصر.
ü ثانياً: استعمال الحوافز:
ينجح المعلِّم بقدر تمكُّنه من استعمال الحوافز مع طلابه، فإذا آنسَ فيهم شروداً، أو عناداً، أو خروجاً على المألوف، أو صُدوفاً عن التعليم، احتال لذلك بما يتوفر لديهم ولديه من حوافز مادية أو معنوية، كأن يعدُهم بمكافأة أو نزهة أو حفل أو ما شابه ذلك مما تتوق إليه النفوس، وتنشط له الأبدان.(3/63)
وسيدنا إبراهيم ـ عليه السلام ـ بعد أن سعى إلى تنشيط عقل أبيه بالتفكير في جدوى عبادة الأصنام، أدرك أن هذا التفكير عملية عقلية معقدة بالنسبة لإنسان جامد الفكر، فأراد أن يقدِّم له حافزاً يشجِّعه به على المضيّ في عملية التفكير، فأخبره بأن ما منَّ الله به عليه من العلم سوف يجعله في خدمة أبيه، وأن أباه لو أطاعه، وأعمل عقله فيما يعبد، لوصل إلى الحقيقة التي يتهرب منها، وهي أن هذه الأصنام التي ورث عبادتها عن آبائه وجدوده لا تنفع ولا تضرُّ، ولا بد أن لهذا الوجود خالقاً يجلُّ عن التجسيم. وهذا الخالق ـ جل وعلا ـ هو الذي رزق إبراهيم العلم.
فسيدنا إبراهيم ـ عليه السلام ـ في هذا النداء الثاني: {يَا أَبَتِ إنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا} [مريم: 43] يحفز أباه على الدخول معه في دنيا الإيمان الصافي بالخالق القادر.
ü ثالثاً: بسط الحقائق والتبصير بها:(3/64)
ومن مهمات المعلِّم أن يبسط أمام طلابه حقائق الموقف التعليمي، ويبصِّرهم بما لتلك الحقائق من أبعاد مختلفة تتصل بهم، وبحياتهم، واهتماماتهم، ومصالحهم، حتى يحقق لهم بذلك البسط والتبصير القانون الذي يسميه التربويون (قانون التعرُّف)؛ بمعنى أن المتعلِّم إذا كان ذا معرفة بعناصر الموقف المراد تعلُّمه، فإن هذا يسهل عليه استيعاب هذا الموقف الجديد والتكيّف معه. وهذا ما فعله سيدنا إبراهيم ـ عليه السلام ـ حين ربط لأبيه بين عبادة الأصنام، وعبادة الشيطان. وهذا أمر قد يغيب عن ذهن ذلك الأب الذي أعماه التقليد عن إدراك حقائق الموقف الجامد الذي يقفه من دعوة ابنه. فهو لا يدرك أن عبادته للأصنام ما هي إلا عبادة للشيطان في الحقيقة؛ لأن الأصنام حجارة لا قدرة لها على التأثير في نفسها ولا في غيرها. أما الشيطان فله سلطان على النفوس الضعيفة، فهو الذي يسوِّل لها، ويزيِّن لها، ويوسوس لها، وقد عصى ربه ـ سبحانه وتعالى ـ فمن أطاعه فقد أطاع عاصياً لله، فهو عاصٍ بالتبعية.
ü رابعاً: التهديد بالعقاب:
ومن شأن المعلِّم إذا أخفق أسلوب التنشيط العقلي، واستعمال الحوافز، وبسط الحقائق، أن يلجاً إلى ما ترتدع به النفوس الشاردة، وترعوي به القلوب الجاحدة، وهو أسلوب العقاب، أو التهديد باستخدام العقاب.
وهذا ما فعله سيدنا إبراهيم ـ عليه السلام ـ في نهاية حواره، حين لم يلمح في وجه أبيه اطمئناناً إلى حديثه، ولا ثقةً بحججه، ولا رغبةً في اتِّباعه، فبادرَ بتخويفه من عذاب الله ـ تعالى ـ ومن موالاة الشيطان الذي هو عدو لله وعدو للمؤمنين.(3/65)
وقد أوضحت الآيات التالية من الحوار، ما ردَّ به الأب الجهول على ابنه النبي العالم الصالح القانت الراغب في إنقاذ أبيه، من براثن الجهل، ووهاد الضلال، ودركات التّبعية العمياء: {قَالَ أَرَاغِبٌ أَنتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إبْرَاهِيمُ لَئِن لَّمْ تَنتَهِ لأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا} [مريم: 46]، وهكذا.. كانت عماية الجهل، وغواية الانقياد الأعمى للموروث الثقافي المتهافت، غشاوةً على عقل الرجل، فلم يستجب لنداء الحق والإيمان، وختم الله على سمعه وبصره وبصيرته فلم يتبين أنوار الهداية التي تذرعت بكل أساليب الإقناع:
ـ بالدعوة إلى إعمال العقل.
ـ وبالتحفيز على اتّباع العلم.
ـ وبشرح أسباب الغواية.
ـ وبالتخويف من العقاب.
وبالرغم من هذا الجفاء، وتلك الغلظة، لم يفقد سيدنا إبراهيم ـ عليه السلام ـ حلمه، ولا أساء الأدب في حواره مع أبيه، ولكنه استسلم لمشيئة هذا التحجر الجاثم على بصيرة الرجل، وقال له في محاولة أخيرة لاستدرار عاطفته وإنذار عقله: {قَالَ سَلامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي} [مريم: 47]!!
أين هذا المستوى الرفيع من الخُلُق النبيل؟! إننا نرى في المجتمعات المعاصرة شباباً يتنكرون لآبائهم وأمهاتهم، وفيما تنشره الصحف وتذيعه الإذاعات من قضايا الأسرة ما يشيب لهوله الوِلْدان؛ فهذا شاب أُوتي قسطاً من التعليم يستكبر على أبيه؛ لأن أباه رجل بسيط فقير الحال، فكأنه يتنكر لأصله. وهذا شاب أبوه غني ولكن الأجل يمتدُّ به، والابن يتعجّل الميراث فإذا به يقاضي أباه أمام المحاكم ويطلب الحجر عليه!! والأكثر بشاعة حين تمتد أيدي الشباب الفاسد إلى الوالدين بالضرب والإهانة.
إن أبا إبراهيم هنا يهدّده بالرجم والطّرد من المنزل.. والابن يرد في حلم العالم وعلم الحليم: {قَالَ سَلامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي} [مريم: 47]!!
ü آليات عمل المعلّم التربوية كما تظهر من الحوار:(3/66)
إن الآيات الخمس على وجازتها تتضمن معالم تربوية يحسن إبرازها في صورة نقاط تتعلق بمهام المعلِّم وأدواره وآليات عمله كما تظهر في حوار سيدنا إبراهيم ـ عليه السلام ـ مع أبيه. ومنها:
1 ـ استدرار عاطفة المتعلم:
إن تكرار كلمة (يا أبتِ) أربع مرات في الآيات الأربع التي توجه فيها سيدنا إبراهيم ـ عليه السلام ـ بالخطاب إلى أبيه يدل على أهمية أن يكون تركيز المعلِّم في أسلوبه التربوي على ما يثير عواطف المتعلِّمين ويحرّك مشاعرهم الانفعالية الإيجابية نحو الموقف التعليمي. فهو بهذا النداء المتكرر، يستدر عاطفة الأبوة، ويمدُّ جسراً من الثقة بينه ـ وهو النبي العالم ـ وبين أبيه وهو الجاهل الكافر العنيد، وكأن علاقة الأبوّة والبنوّة ـ في تقديره ـ ستسهم في تحريك مشاعر الرجل ومن ثم تحريك عقله.
2 ـ أسلوب الاستفهام منشط للفكر:
{إذْ قَالَ لأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ} [مريم: 42]؟ هكذا بدأ سيدنا إبراهيم ـ عليه السلام ـ حواره مع أبيه؛ إدراكاً منه أن ما يسميه التربويون بـ «الإثارة» أو «التمهيد» للدرس عنصر جوهري من عناصر العملية التعليمية، إنه بدأ الحوار الهادئ بسؤالٍ لا هدوء فيه على الإطلاق، سؤال يتصادم مع معتقدات موروثة تشبه بُحيرة آسنة ساكنة، رانَ عليها السكون قروناً وآماداً طوالاً، فهو يلقي فيها بحجر من الحجم الثقيل ليحرِّك سكونها. وهكذا.. من واجب المعلِّم أن يكون بدء تدريسه قوياً مثيراً فعَّالاً بأسئلة تهزُّ الوجدان وتزلزل العقول وتدفع المتعلِّم دفعاً إلى التفكير المستقلّ الحرّ.
3 ـ ثقة المعلِّم بنفسه ضرورية:(3/67)
إن قوة شخصية المعلِّم تقوم بالدرجة الأولى على مدى ثقته بنفسه، وبمادته العلمية، ورسالته الإنسانية، فإذا ما توفرت له ثقة بنفسه، وأحسن إعداد مادته العلمية، وآمن بنقل رسالته وصدقه مع نفسه في أدائها، كان ذلك أدعى إلى تحقيق أهدافه، وإنجاح عمله التربوي. ونحن نلمس هذا واضحاً في حوار سيدنا إبراهيم ـ عليه السلام ـ مع أبيه من خلال:
أ ـ التصريح بأن ما عنده من العلم يفوق ما عند أبيه.
ب ـ استعمال أسلوب التوكيد الذي يعكس ثقته بنفسه من جهة، ويسعى إلى كسب ثقة الطرف الآخر بما يقوله من جهة أخرى: {يَا أَبَتِ إنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا} [مريم: 43].
ج ـ تنويع أساليب الخطاب من سؤال، إلى تحفيز، إلى تهديد بالعقاب.
4 ـ الحلم وسعة الصدر:
لا ينجح المعلِّم في أداء مهمته إذا كان عجولاً، يؤوساً، مقهوراً. وإنما ينجح بقدر ما يتحلّى به من صبر ومصابرة، وقدرةٍ على التحمّل؛ فإن المتعلِّمين قد يصدر منهم سوء أدب، أو فظاظة في الحوار، أو غلظة في الردّ، أو تعدٍّ على المعلِّم باليد أو اللسان، وعلى المعلم أن يكون قادراً على امتصاص ذلك كله وإحسان التعامل معه.(3/68)
وتدلنا الآيات على أن سيدنا إبراهيم ـ عليه السلام ـ بعد أن استنفد كل وسائل الإقناع والتأثير، لم يجد من أبيه أذناً صاغية ولا قلباً مفتوحاً، بل وجد إصراراً على الكفر، وسوءَ ردٍّ، وغلظةً في الحديث؛ فهو يقول أربع مرات: (يا أبت)، وهو أسلوب نداء ترغيبي؛ لأن ياء المتكلم في قوله (يا أبي) أُبدلت تاءً. والمقام بينهما لا يحتاج إلى نداء؛ لأن الحوار مباشر وهما متقابلان وجهاً لوجه، لكن تكرار النداء بالأبوة فيه تحنين للقلب الجامد، ومحاولة متكررة لاستحضار ملكات السمع والذهن الشاردة. ومع ذلك فإن الأب الجهول يستكثر أن ينادي ابنه بقوله (يا بنيَّ) مسايرة لخطابه إياه بقوله (يا أبت)، بل إنه يقول له: يا إبراهيم؛ ليؤكد أن بينهما أمداًَ بعيداً من الانفصال العقلي والوجداني.
5 ـ التنويع في أساليب التعليم:
على المعلِّم لكي ينجح في عمله أن ينوِّع أساليبه التدريسية حتى يصل إلى أهدافه. وسيدنا إبراهيم ـ عليه السلام ـ في هذا الحوار، سعى إلى استمالة والده وكسب ثقته بالسؤال، والتحفيز، والبسط والشرح، والتهديد بالعقاب. ونستفيد من هذه الأساليب وتقديرها أنها هي الأسلوب الأمثل لما يجب أن يكون عليه المعلِّم من سعة أُفق، وقدرةٍ على التكيّف، ومرونةٍ في الأداء. والله أعلم، وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم.
--------------------------------------------------------------------------------
مجلة البيان، العدد (228) .
* * *
http://www.albayan-magazine.com/zwaya/trbwi/79.htm
المعايشة التربوية
سالم أحمد البطاطي(3/69)
إن التربية المنتجة عملية صعبة ومستمرة تحتاج إلى معايشة مع المتربين، والتربية التي تعتمد على لقاء عابر أو جلسة أسبوعية أو مناسبة عامة ـ فقط ـ تربية فيها نقص وخلل، ومن ثَمَّ لا يكون البناء متكاملاً، فلا نستغرب بعد ذلك من تلك المخرجات المتذبذبة والمتهلهلة التي من أبرز سماتها الالتزام الأجوف. والناظر في سيرة المصطفى - صلى الله عليه وسلم - يجد أن قضية المعايشة قضية بارزة في حياته - صلى الله عليه وسلم - . يؤكد هذا المعنى عبد الله بن شقيق ـ رضي الله عنه ـ عندما سأل عائشة ـ رضي الله عنها ـ: هل كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يصلي وهو قاعد؟ قالت: «نعم! بعدما حطمه الناس»(1). فقد كان - صلى الله عليه وسلم - يتصدى للناس، ويعايشهم، ويخالطهم، يستقبلهم ويودعهم، ويتحمل أخطاءهم؛ لذلك حطمه الناس، وأثَّروا في بدنه - صلى الله عليه وسلم - حتى أصبح يصلي جالساً، وأسرع إليه الشيب ـ بأبي هو وأمي ـ - صلى الله عليه وسلم - . ويؤكد هذا المعنى أيضاً حديث أنس ـ رضي الله عنه ـ حيث قال: «إن كان رسول الله ليخالطنا حتى يقول لأخ لي صغير: يا أبا عمير! ما فعل النغير؟»(2). ويؤيد هذا المعنى أيضاً حديث سماك بن حرب؛ حيث قال: قلت لجابر بن سمرة: كنت تجالس رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ؟ قال: نعم! كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا صلى الفجر جلس في مصلاَّه حتى تطلع الشمس، فيتحدث أصحابه يذكرون حديث الجاهلية، ينشدون الشعر، ويضحكون، ويبتسم - صلى الله عليه وسلم - »(3).
وحسبنا في هذه الورقات أن نلقي الضوء على هذا المفهوم التربوي المهم، وأنا مؤمن بأنها لن تشبع هذا الموضوع حقه، ولكن هي إشارات عابرة، وفتح باب للباحثين حول هذا المفهوم.
1 ـ مفهوم المعايشة:(3/70)
إن مفهوم المعايشة هو: أن يُظهِر المربي استعداده لمعايشة المتربين واستقبالهم والجلوس معهم، وأن يُشعِرَهم بتوفر الوقت والمكان لديه لمعالجة قضاياهم وحل مشكلاتهم، وتتمثل أيضاً في إظهار أوقات الاستقبال وتحديدها؛ كالساعات المكتبية، والساعات المنزلية، والأيام، والأوقات المتوفرة للخروج مع المتربين في نشاطاتهم ورحلاتهم، وزياراتهم، وتيسير سبل الاتصال به؛ كالاتصال الشخصي، والكتابي، والهاتفي، ومدى الاستعداد لتذليل وسيلة النقل؛ كالسيارة ونحوها عند الحاجة. والخلاصة: أن كل ما يُظهِرُه المربي من استعداد ليكون قريباً من تلاميذه؛ لتربيتهم، والعناية بحاجاتهم، وحل مشكلاتهم فهو من خاصية المعايشة.
2 ـ لماذا المعايشة في العمل التربوي؟(3/71)
إن من أعظم المسوِّغات والدوافع التي تدفعنا لتحقيق هذا المبدأ في واقعنا التربوي وتطبيقه ثقلَ الأمانة المنوطة بعاتق المربين. إن عظيم الموقع الذي تبوأه المربي، وثقلَ الأمانة التي تحملها تجعله يجتهد غاية الاجتهاد في نصح من يربيهم، وتوجيههم، والارتقاء بهم، كيف لا؟ وهو المعنيُّ بتلك النصوص العظيمة التي يقول فيها - صلى الله عليه وسلم - : «ما من رجل يلي أمر عشرة فما فوق ذلك إلا أتى الله مغلولاً يده إلى عنقه، فكه بِرُّه، أو أوثقه إثمه، أولها ملامة، وأوسطها ندامة، وآخرها خزي يوم القيامة»(4). ويقول - صلى الله عليه وسلم - أيضاً: «ما من عبد يسترعيه الله رعية يموت يوم يموت وهو غاشٌّ لرعيته؛ إلا حرم الله عليه الجنة»(5)، ويقول - صلى الله عليه وسلم - أيضاً: «كلكم راع، وكلكم مسؤول عن رعيته...»(6) ويقول - صلى الله عليه وسلم - أيضاً: «ما من أمير عشرة إلا وهو يؤتى به يوم القيامة مغلولاً حتى يفكه العدل، أو يوبقه الجور»(7). إن هذه النصوص لتدفع كل مربِّ صادق إلى الاجتهاد فيمن يربيهم، والنصح لهم، والسعي الجاد في برهم والإحسان إليهم، وإن تطبيق هذا المفهوم التربوي في الواقع لهو سبيل لتحقيق تلك الأمور المنشودة.
3 ـ المربي الأول - صلى الله عليه وسلم - والمعايشة:
يقول - صلى الله عليه وسلم - : «المؤمن الذي يخالط الناس، ويصبر على أذاهم أفضل من المؤمن الذي لا يخالط الناس، ولا يصبر على أذاهم»(1).(3/72)
لقد كان للنبي - صلى الله عليه وسلم - أوفر الحظ والنصيب من هذا الحديث، وكان الرائد في هذا المجال؛ فقد بُعِثَ معلماً، يتوفر لطلابه في معظم أحيانه، فهم يجدونه في المسجد، فإن لم يكن ففي السوق أو الطريق، فإن لم يكن ذهبوا إلى بيته، وكان - صلى الله عليه وسلم - يستقبلهم ويعلمهم ويجيب عن أسئلتهم، ولم يكن من عادته حجب الناس عنه أو ردهم بل كان يستقبلهم، ويبتسم لهم دائماً. عن جرير بن عبدالله البجلي ـ رضي الله عنه ـ قال: «ما حجبني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - منذ أسلمت، ولا رآني إلا ابتسم في وجهي»(2).
وكان - صلى الله عليه وسلم - يعتمد اعتماداً كبيراً على هذه الخاصية (المعايشة) في الاتصال بالمدعوين والمتربين، والتعرف عليهم والتقرب إليهم، والتأثير فيهم. فهو يعرف أسماءهم، وبعض خصائصهم، وأسماء قبائلهم، وتاريخ تلك القبائل، وأسماء بلدانهم، وخصائص تلك البلدان، ويعرف مستوياتهم الاقتصادية والاجتماعية والثقافية. هذا فيما يتعلق بالأبعدين والمستجدين، أما أصحابه ممن حوله، والمقربون منه، فيعرف كل شيء عنهم تقريباً، حاجتَهم واستكفاءَهم، مرضهم وصحتهم، سفرهم وإقامتهم، ويعرف مستوياتهم الإيمانية والعقلية والنفسية، ويعرف قدراتهم وحظوظهم في المجالات التربوية والقيادية والمالية والحكمية والدعوية، ويتحدث مع كلٍ بما يناسبه، ويكلف كلاً منهم وفق خصائصه وقدراته. عن أنس ابن مالك ـ رضي الله عنه ـ أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «أرحم أمتي بأمتي أبو بكر، وأشدهم في دين الله عمر، وأصدقهم حياء عثمان، وأقضاهم علي بن أبي طالب، وأقرؤهم لكتاب الله أُبَيُّ بن كعب، وأعلمهم بالحلال والحرام معاذ بن جبل، وأفرضهم زيد بن ثابت، ألا وإن لكل أمة أميناً وأمين هذه الأمة أبو عبيدة ابن الجراح»(3).
4 ـ فوائد المعايشة:(3/73)
للمعايشة فوائد كثيرة يجنيها المربي متى ما طبق هذا المفهوم على أرض الواقع، ولعلنا نشير إلى أهم هذه الفوائد والثمار.
أ ـ الحصول على الأجر والثواب من عند الله ـ عز وجل ـ:
قال - صلى الله عليه وسلم - : «المؤمن الذي يخالط الناس، ويصبر على أذاهم أفضل من المؤمن الذي لا يخالط الناس، ولا يصبر على أذاهم»(4).
فمتى ما استشعر المربي هذا الحديث، واستشرف لهذا الأجر العظيم كان ذلك دافعاً له لتحقيق هذا المفهوم مع من يربيهم، فتجده لا يألو جهداً في معايشة ومخالطة المتربين، والصبر عليهم في تربيتهم، والصبر على ما يجده من أذى منهم مقابل ذلك الفضل العظيم.
ب ـ تهذيب أخلاق المربي:
فالمعايشة تهيئ المربي أن يكون قدوة حسنة يقتدى به، ويؤخذ هذا من قوله - صلى الله عليه وسلم - : «ويصبر على أذاهم» ففي المعايشة نوع من تحسين المربي لذاته، وتهذيب لخُلُقه وسلوكه خاصةً أنه في مصاف القدوة. إنه لا يكفي أن يكون عند المربي ما يعطيه؛ بل لا بد أن يكون حَسَنَ العطاء حتى يترك عطاؤه أثراً في نفس المتربي.
ج ـ معرفة طاقات المتربين وقدراتهم:
يستطيع المربي من خلال معايشته ومخالطته لمن يربيهم اكتشاف طاقاتهم وقدراتهم ومؤهلاتهم؛ ومن ثَم يستطيع توجيه هذه الطاقات فيما يناسبها، ويوجه هذه القدرات في مظانها، ويضع الشخص المناسب في المكان المناسب من خلال تلك المؤهلات، ولهذا شاهد من السيرة؛ كما في حديث أنس بن مالك ـ رضي الله عنه ـ الذي مر قبل قليل: «أرحم أمتي بأمتي أبو بكر...»(5). وقال - صلى الله عليه وسلم - : «خذوا القرآن عن أربعة: عن ابن مسعود، وأُبيِّ بن كعب، ومعاذ بن جبل، وسالم مولى أبي حذيفة»(6).
د ـ معرفة جوانب الضعف في المتربين ومن ثَمَّ معالجتها:(3/74)
يجتهد المربي ويسعى في تطوير المتربي والارتقاء به. ومن محاور التطوير والارتقاء معرفة ضعفه؛ وذلك من أجل تزويده بالعلاجات المناسبة فيتجاوز هذا الضعف ويرتقي. ومخالطة المتربين ومعايشتهم توفر للمربي ذلك كله. ولقد استطاع - صلى الله عليه وسلم - بمعايشته لأصحابه معرفة نقاط القوة لديهم ونقاط الضعف أيضاً، فأثنى على نقاط القوة خيراً ـ كما مر معنا ـ وحذر ونصح وحث في نقاط الضعف من أجل تجاوزها، وإليك هذا الشاهد:
عن ابن عمر ـ رضي الله عنهما ـ قال: كان الرجل في حياة النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا رأى رؤيا قصها على النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فتمنيت أن أرى رؤيا أقصها على النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وكنت غلاماً أعزب، وكنت أنام في المسجد على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فرأيت في المنام مَلَكين أخذاني فذهبا بي إلى النار، فإذا هي مطوية كطي البئر، وإذا فيها ناس قد عرفتهم، فجعلت أقول: أعوذ بالله من النار، أعوذ بالله من النار. فلقيهما ملك آخر، فقال لي: لم تراعَ. فقصصتها على حفصة، فقصتها حفصة على النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فقال: نِعْمَ الرجل عبد الله لو كان يصلي بالليل. قال سالم: فكان عبدالله لا ينام من الليل إلا قليلاً(7).
هـ ـ التقويم الصحيح للمتربين:(3/75)
يحتاج المربي في مسيرته التربوية إلى وقفات تقويمية لمن يربيهم؛ من أجل الارتقاء بهم وإصلاحهم، ولا يستطيع شخص غير المربي أن يصيب التقييم الصحيح في المتربين؛ إذ هو أقرب الناس للمتربين من غيره؛ وذلك بمعايشته لهم، ومخالطته إياهم، والقرب منهم. ولهذا شاهِدٌ من السيرة النبوية؛ فعن زيد بن أسلم عن أبيه عن عمر بن الخطاب: أن رجلاً على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - كان اسمه عبد الله، وكان يلقب حماراً، وكان يُضحِكُ النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - قد جلده في الشراب، فأُتيَ به يوماً، فأَمَرَ به، فجُلد، فقال رجل من القوم: اللهم العنه، ما أكثر ما يؤتى به! فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : لا تلعنوه! فوالله ما علمت: إنه يحب الله ورسوله»(1). لقد زجر النبي - صلى الله عليه وسلم - الذي سب ولعن حماراً ـ رضي الله عنه ـ مع أن حماراً كان يشرب الخمر، إلا أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان أقرب الناس إليه بمعايشته له، وكان أعلم بأعمال حمار من غيره؛ لذا قال - صلى الله عليه وسلم - : «لا تلعنوه! فوالله ما علمت إنه يحب الله ورسوله» وهذا يعني أن لحمارٍ محاسنَ وحسنات في الإسلام قد لا يعلمها البعيد عنه، لا يعلمها إلا من كان معايشاً ومخالطاً له، وقريباً منه، وهذا كان متمثلاً في النبي - صلى الله عليه وسلم - .
و ـ معرفة الخصائص النفسية للمتربين:(3/76)
النفوس تختلف وتتباين، ولكل نفس خصائصها المجبولة عليها، والمربي الفطن هو الذي يتعرف على خصائص النفوس المتربية، فيبني عليها ماهية التعامل والأسلوب المناسب لكل نفسية، ولا يكون ذلك إلا بالمعايشة والمخالطة مع المتربين؛ إذ يستطيع المربي معرفة تلك الخصائص، ومن ثَمَّ معرفة الأسلوب المناسب في التعامل مع تلك النفسيات، ولهذا شاهد من السيرة النبوية؛ فعن عمرو بن تغلب ـ رضي الله عنه ـ أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أُتِيَ بمال أو سبي، فقسمه، فأعطى رجالاً، وترك رجالاً، فبلغه أن الذين ترك عتبوا، فحمد الله، ثم أثنى عليه، ثم قال: «أما بعد: فوالله! إني لأعطي الرجل وأدَعُ الرجل، والذي أدع أحب إليَّ من الذي أعطي، ولكني إنما أعطي أقواماً لما أرى في قلوبهم من الجزع والهلع، وأَكِلُ أقواماً إلى ما جعل الله في قلوبهم من الغنى والخير، منهم عمرو بن تغلب». قال عمرو بن تغلب: «فوالله ما أحب أن لي بكلمة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حمر النعم»(2).
فتأمل نفاذ نظر الرسول - صلى الله عليه وسلم - في معرفة خصائص أتباعه، وتربية كل منهم بما يناسب فطرته وميوله ودوافعه الخاصة به. وعلى ذلك فالمربي ملزم بمعرفة أتباعه وخصائصهم النفسية عن قرب؛ حتى يستطيع التعامل معهم والقيام بتربيتهم على أكمل وجه، ولا يكون ذلك إلا بمعايشتهم ومخالطتهم.
ز ـ حل مشاكل المتربين الخاصة والأسرية:(3/77)
يسعى المربي الناصح في برنامجه التربوي أن يوفر للمتربي الاستقرار النفسي الذي يساعده على الاستجابة، ومن ثم العطاء والإنتاجية، ولكن تبقى المشاكل الخاصة أو الأسرية في المتربين عائقاً لهذا الاستقرار. وبإمكان المربي من خلال معايشته، ومخالطته لمن يربيهم، وبقربه منهم، واهتمامه بهم حل تلك المشكلات وتذليلها، وتجاوز تلك العقبات. ولقد كان - صلى الله عليه وسلم - كذلك معايشاً لأصحابه قريباً منهم مهتماً بهم وبحل مشاكلهم، يسأل عن أحوالهم، وعما يكدر خواطرهم، ويظهر ذلك مما يلي:
عن أبي سعيد الخدري ـ رضي الله عنه ـ قال: «دخل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذات يوم المسجد، فإذا هو برجل من الأنصار يقال له: أبو أمامة، فقال: يا أبا أمامة! ما لي أراكَ جالساً في المسجد في غير وقت صلاة؟ قال: هموم لزمتني وديون يا رسول الله! قال: أفلا أعلمك كلاماً إذا قلته أذهب الله همك، وقضى عنك دينك؟ قلت: بلى يا رسول الله! قال: «قل إذا أصبحت وإذا أمسيت: اللهم إني أعوذ بك من الهم والحزن، وأعوذ بك من العجز والكسل، وأعوذ بك من الجبن والبخل، وأعوذ بك من غلبة الدين وقهر الرجال». قال: ففعلت ذلك، فأذهب الله همي وغمي، وقضى عني ديني»(3).
5 ـ أثر المعايشة في الاستجابة:
معايشة المتربين ومخالطتهم له الأثر الفاعل في استجابتهم، فبقدر ما يعطي المربي من اهتمام لهذا المفهوم في واقعه التربوي بقدر ما تكون استجابة المسترشدين له، والإقبال عليه.(3/78)
ففي قصة أصحاب الأخدود تروي لنا الأحاديث أن: الغلام كان يبرئ الأكمه والأبرص، ويداوي الناس من سائر الأدواء، حتى ذاع صيته، وانتشر خبره؛ فأقبل الناس عليه أفواجاً، واستطاع بمعايشته الناس، والقرب منهم أن يكوِّن رصيداً مباركاً من حب الناس له والإقبال عليه، لقد قدم لهم وقته، وجهده، وما أعطاه الله من موهبة وطاقة، وقدموا المهج من أجل الدين الذي أتى به اعتقاداً واستمساكاً. فينبغي للمربي أن يوجه ويذلل طاقاته، وقدراته التي يمتلكها في سبيل الله، وأن تكون مفتاحاً لمعايشة الناس، ودعوتهم بعد ذلك.
ولقد كان لهذه الخاصية (المعايشة) أثر بارز في تفاعل الناس مع الرسول - صلى الله عليه وسلم - ، وإقبالهم عليه، وتقبلهم منه، ورغبتهم في العلم والعمل الذي يوجههم إليه عن قناعة ومحبة، وكان التلاميذ مندمجين بشخصيته - صلى الله عليه وسلم - أيما اندماج، دونما تبذُّل أو تكلُّف، مما جعل الناتج التربوي أصيلاً وعميقاً من جهة، وواسعاً ومنتشراً من جهة أخرى.
«(3/79)
وقد تناول الباحثون في مجال علم النفس وفي مجال العلاقات الاجتماعية هذه الخاصية بالدراسة، وافترضوا أن لها علاقةً ما بمدى إقبال المتعلم أو المتلقي على الأستاذ؛ ليأخذ منه، أو يسأله، أو يقيم علاقة شخصية معه تتجاوز الاستفادة الوظيفية في المجال الأكاديمي إلى الاستشارة الشخصية والاجتماعية. وكان من بين الافتراضات التي توقعها بعض الباحثين، وكانت صحيحة أن: المعايشة، وقرب المربي، وإظهاره لهذا القرب بتوفير الساعات المكتبية يمكن أن يكون متغيراً مهماً يقع بين عزيمة المسترشد على الذهاب للمربي واستشارته، وبين حدوث الاسترشاد فعلاً، ومن ثَمَّ يكون ظهور المربي قريباً منهم مكاناً ووقتاً وشخصاً عاملاً مهماً في التفاعل والتأثير والإقبال، وهذا أيضاً ما أيدته بعض الأبحاث الأخرى، فقد وجد «ولسن وودز» أن هناك علاقة مؤثرة بين توفر الأستاذ أو المربي في ساعات معينة، وظهوره بمظهر المستعد لاستقبال المتعلمين، وقضاء وقت معهم، وبين إقبال هؤلاء المتعلمين عليه واستعانتهم به، وعرض مشكلاتهم عليه؛ وعلى هذا الأساس كانت الأبحاث النفسية التربوية توصي كثيراً بتوفير الوقت وتنظيمه وتحديده للمسترشدين، وأن يواكب هذا استعداد شخصي ونفسي من المربي والمرشد؛ لاستقبالهم والتعامل معهم، مهما صعبت الظروف وتنوعت»(1).
6 ـ مساوئ كثرة المعايشة:
هل لكثرة المعايشة سلبيات ومساوئ؟
نعم! إن الشيء إذا زاد عن حده انقلب إلى ضده، والمعايشة ما لم تخضع لما يضبطها فإنها تصبح نقمة بعد ذلك.
وإليكم بعض هذه المساوئ:
1 ـ إلْفُ المتربين للمربي، وإسقاط الكلفة بينهم وبينه؛ قد تؤدي إلى استنفاد المتربين لما عند المربي من طاقة روحية وذخيرة تربوية، خاصة إذا وافق ذلك تفريط من المربي في تربية نفسه.
2 ـ ربما يتحولون من مرحلة التأثر إلى مرحلة النقد.
3 ـ سقوط قضية التوجيه والتربية من يد المربي، فلا تكن بعد ذلك استجابة من قِبَل المتربين.
7 ـ ضوابط المعايشة:(3/80)
يجتهد المربي الناصح في تحقيق هذا المبدأ في واقعه التربوي ويسعى جاهداً في ذلك، ولكن ثمة ضوابط تضبط تطبيق هذا المفهوم على أرض الواقع يجدر بنا الوقوف معها وتوضيحها إزاء تطبيق هذا المبدأ التربوي، حتى يكون المربي على بصيرة من أمره، وحتى لا يقع في إفراط أو تفريط، وحتى نحفظ للمربي دوره المنشود في ظل هذه الضوابط:
أ ـ ألا تؤدي إلى التعلق المذموم بالمربي:
الأصل في العملية التربوية أن الفرد الذي يُدعى يجب أن تتركز الجهود التربوية في تربيته بتوثيق صلته برب العالمين، وأن تكون صلته القوية بالله ـ تعالى ـ وبمنهجه القويم وألاَّ يتعلق بالبشر، ولكن كثرة المعايشة والمخالطة غير المنضبطة بالمتربين والقرب منهم قد يسبب ذلك التعلق، لا سيما إن لم تكن لتلك المعايشة أهداف تربوية يسعى المربي لتحقيقها، واستحضارها في معايشته لمن يربيهم. فيجب على المربي التفطن لهذا الأمر، وأن تكون معايشته منضبطة بحيث لا يُكثِر منها، وأن تكون بحدود المعقول، وأن تكون مرسومة الأهداف، مستحضراً لها في معايشته، ومتى ما وجد المربي ظهور هذه الظاهرة في أحد المتربين، فيجب عليه تذكيره بالله، وتحذيره من خطورة هذا التعلق، وربطه بالله، وبالقدوة المعصوم - صلى الله عليه وسلم - ، وطرق بعض المفاهيم العلاجية كمفهوم الفرق بين الحب في الله والحب مع الله، وغيرها من المفاهيم التربوية(2).
ب ـ ألا يتغلب جانب التربية الجماعية على التربية الفردية:(3/81)
التربية تقوم على عنصرين مهمين: الجماعية والفردية، ومتى اتكأت التربية على أحد العنصرين فهي تسعى لتبني قصراً في الرمال. ومعايشة المتربين ومخالطتهم والإكثار من ذلك قد يسبب الاتكاء على جانب الجماعية فقط، فيتربى المتربي على هذا العنصر الجماعي فقط، والذي يعيش الجانب الجماعي وحده سيبقى سمكة في ماء ما تلبث حين تفارقه أو تخرج منه أن تلفظ أنفاسها، وحين يعيش الشاب على التربية الجماعية وحدها، فهو مع ما يحمل من ثغرات كبيرة في شخصيته ما يلبث أن يفقد المتربي إخوانه يوماً، فيرى نفسه أمام عَالَمٍ لم يعتد عليه. فلم يعتد أن يبقى فارغاً، ولم يتربَّ على اغتنام وقته والاستفادة منه.
فيجب على المربي التفطُّن لهذا الأمر خلال معايشته المتربين بحيث يكون هناك توازن في تطبيق المعايشة، وألاّ يكثر منها كثرةً تغلِّب الجماعية على الفردية، وينبغي عليه أن ينمي في المتربين الشعور بالمسؤولية الفردية، وأهمية التربية الفردية وأنها لا تقل أهمية عن الجماعية، متى ما شعر أن هناك تفريطاً في هذا الجانب.
ج ـ ألا تطول بالقدر الذي يؤدي إلى جرأة الشاب على من يربيه، وزوال الكلفة بينهم، بحيث تذوب شخصية المربي بين المتربين:
لأنَّ من فوائد المعايشة ومخالطة المتربين، كسر الحاجز الوهمي بين المربي والمتربين، ومن ثَمَّ تكون الشفافية والأريحية في التعامل فيما بينهم. ولكن هذا لا يسوِّغ أن تكون المعايشة سبيلاً إلى سقوط الهيبة بين المربي والمتربين؛ بحيث تصبح القضية أُخُوَّةً خاصةً مجردةً من معاني القيادة والتوجيه والتربية، فينبغي للمربي التفطن لهذا الأمر، وأن يكون هناك قدر من التقدير والاحترام والهيبة التي تكون بوابة لمعنى القيادة والتوجيه مع المتربين، وألاَّ تذوب شخصيته بكثرة المعايشة؛ بحيث تسقط من يده قضية التوجيه والتربية، فلا تكون بعد ذلك الاستجابة.
د ـ ألا تؤدي إلى إهمال المربي نفسه في الارتقاء:(3/82)
في خضم معايشة المربي لمن يربيهم، ومخالطته إياهم، والسعي الجاد في تقديم النصح والتوجيه الذي يساهم في الارتقاء بهم، قد ينسى المربي نفسه وأن لها حقاً من الاهتمام والارتقاء بها، فمتى ما أهمل المربي نفسه في جانب الارتقاء بالنفس فلربما قاده ذلك إلى فقدان رصيده في يوم من الأيام، حتى يصبح المربي ليس عنده ما يعطي المتربي؛ لأن فاقد الشيء لا يعطيه، ومن ثَمَّ يفقد المربي صفة هي من أهم الصفات؛ وهي صفة العطاء؛ فنحن لا نريد أن يكون المربي كالشمعة تضيء للناس وتحرق نفسها، إنما نريده أن يكون كالشمس تضيء للآخرين مع حفاظها على خاصية التوهج في نفسها. فينبغي للمربي التوازن بين معايشة المتربين والارتقاء بهم، وبين الارتقاء بنفسه، والتزود بما فيه صلاحها وتزكيتها، وقربها من الله.
لذلك هناك نوع من العزلة الجزئية، يُقْصَد من ورائه العزلة للتربية، حيث يخلو المرء بنفسه ـ أحياناً ـ بقصد التعبد، أو التزود من العلم، أو محاسبة النفس، أو نحو ذلك من الأغراض والمقاصد التربوية. وقد كان من صنع الله لنبيه - صلى الله عليه وسلم - أن وفقه قبل نزول الوحي عليه لهذا النوع من العزلة، وحبب إليه الخلاء، فكان يخلو في غار حراء، فيتحنث فيه الليالي ذوات العدد، قبل أن ينزع إلى أهله، ويتزود لذلك، ثم يرجع إلى خديجة، فيتزود بمثلها حتى جاءه الحق، وهو في غار حراء(1).
هـ ـ البعد عن الدخول في الخصوصيات:
كل الكائنات الحية تحتفظ لنفسها بمجال حيوي تعد اقتحامه نوعاً من العدوان عليها، ويأتي الإنسان على رأس القائمة. قال ـ تعالى ـ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إن تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ} [المائدة: 101]، ذهب بعض المفسرين إلى أن المراد من هذه الآية: هو السؤال عمَّا لا يعني من أحوال الناس؛ بحيث يؤدي ذلك إلى كشف عوراتهم، والاطلاع على مساوئهم(2).(3/83)
ولعل مع المعايشة قد يغفل المربي عن هذا الضابط، فيُسَوِّغُ لنفسه السؤال عما لا يعني، والاطلاع على ما يخص من يربيهم دون إذنهم، وكل هذه الأمور محرمة شرعاً، وجرأة بعض المربين على تجاوزها داخل في عموم قوله ـ تعالى ـ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِّنَ الظَّنِّ إنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إثْمٌ وَلا تَجَسَّسُوا وَلا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَّحِيمٌ} [الحجرات: 12].
و ـ ألا يهمل الوَرَعَ الشرعي الواجب:
ومن ذلك ما يتعلق بصحبة ومعايشة الأمرد؛ فقد يخلُّ المربي بالوَرَع الشرعي في ذلك فيخلو به، أو يسافر معه وحده، أو يبيت معه، أو غير ذلك بمسوغ المعايشة، وهي أمور قد ينشأ عنها نتائج غير محمودة؛ لذا شدد السلف الصالح ـ رضوان الله عليهم ـ في صحبة الأمرد، والآثار في ذلك كثيرة ومنها:
1 ـ ما رواه البيهقي في الشُّعَب عن بعض التابعين قال: «كانوا يكرهون أن يحد الرجل النظر إلى الغلام الجميل»(3).
2 ـ روى أيضاً عن بعض التابعين: «ما أنا بأخوف على الشاب الناسك من سبع ضارٍ من الغلام الأمرد يقعد إليه»(4).
3 ـ روي عن الحسن بن ذكوان أنه قال: «لا تجالسوا أولاد الأغنياء؛ فإن لهم صوراً كصور النساء، وهم أشد فتنة من العذارى»(5).
«(3/84)
قد غدت اليوم صحبة المربين لهؤلاء الأحداث ضرورة ملحَّة، ولا يسوغ أن يُهمَلوا، أو ينهى المربون عن صحبتهم بحجة الورع؛ ذلك أن واقع السلف كان يختلف عن واقعنا، فلم يكن البديل عندهم هو الشارع غير المنضبط أو التجمعات الساقطة مما نشهده اليوم، بل كانت البيوت ومؤسسات المجتمع التربوية تتكفل بتربية هؤلاء والعناية بهم، أما الآن فالبديل لصحبة المربين لهؤلاء هو أن يصحبهم شياطين الإنس المفسدين، والواقع شاهد بأن كثيراً من هؤلاء حين ابتعدوا عن الميادين الصالحة انزلقوا في طرق الفساد.
ومع القول بالحاجة لصحبة المربين للأحداث تبقى هذه النصوص عن السلف لها قيمتها واحترامها، فعلى المربي أن يراعي ضوابط مهمة في ذلك منها: عدم الخلوة، أو السفر مع الأمرد لوحده، ومراعاة المبيت وما يتعلق به»(6).
و ـ ألا تؤدي إلى إشغال المتربي معظم وقته، فلا بد من ترك قدر من وقت الفراغ يُعَوِّدُه فيه على استغلال الوقت في تربية ذاته، ويتيح له فرصة الاعتناء بدراسته، وارتباطاته الاجتماعية.
ز ـ التقليل من اللقاءات الفردية في غير البرامج العامة؛ بحجة معايشة المتربي والقرب منه أكثر؛ فكثير منها يتحول إلى علاقة شخصية بحتة تفقد أثرها التربوي.
ح ـ الاقتصاد في المزاح والهزل، وعدم الخروج فيه عن حد الوقار والهيبة.
8 ـ المربي بين المعايشة والعزلة القلبية:
يقول الدكتور سلمان العودة ـ حفظه الله ـ: «هناك العزلة القلبية التي يقصد بها أن المؤمن الملتزم بالمنهج الصحيح، وإن خالط الناس وعاشرهم ببدنه؛ فإنه مزايل لهم بعلمه وقلبه، مفارق ما هم عليه من التعلق بالبدع، أو الولع بالدنيا، أو اتباع الهوى، سا?
&&&&&
المعايشة التربوية سالم أحمد البطاطي(3/85)
إن التربية المنتجة عملية صعبة ومستمرة تحتاج إلى معايشة مع المتربين، والتربية التي تعتمد على لقاء عابر أو جلسة أسبوعية أو مناسبة عامة ـ فقط ـ تربية فيها نقص وخلل، ومن ثَمَّ لا يكون البناء متكاملاً، فلا نستغرب بعد ذلك من تلك المخرجات المتذبذبة والمتهلهلة التي من أبرز سماتها الالتزام الأجوف. والناظر في سيرة المصطفى - صلى الله عليه وسلم - يجد أن قضية المعايشة قضية بارزة في حياته - صلى الله عليه وسلم -. يؤكد هذا المعنى عبد الله بن شقيق - رضي الله عنه - عندما سأل عائشة - رضي الله عنها - : هل كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يصلي وهو قاعد؟ قالت: «نعم! بعدما حطمه الناس»(1). فقد كان - صلى الله عليه وسلم - يتصدى للناس، ويعايشهم، ويخالطهم، يستقبلهم ويودعهم، ويتحمل أخطاءهم؛ لذلك حطمه الناس، وأثَّروا في بدنه - صلى الله عليه وسلم - حتى أصبح يصلي جالساً، وأسرع إليه الشيب ـ بأبي هو وأمي - صلى الله عليه وسلم -. ويؤكد هذا المعنى أيضاً حديث أنس - رضي الله عنه - حيث قال: «إن كان رسول الله ليخالطنا حتى يقول لأخ لي صغير: يا أبا عمير! ما فعل النغير؟ »(2). ويؤيد هذا المعنى أيضاً حديث سماك بن حرب؛ حيث قال: قلت لجابر بن سمرة: كنت تجالس رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ؟ قال: نعم! كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا صلى الفجر جلس في مصلاَّه حتى تطلع الشمس، فيتحدث أصحابه يذكرون حديث الجاهلية، ينشدون الشعر، ويضحكون، ويبتسم - صلى الله عليه وسلم -»(3).
وحسبنا في هذه الورقات أن نلقي الضوء على هذا المفهوم التربوي المهم، وأنا مؤمن بأنها لن تشبع هذا الموضوع حقه، ولكن هي إشارات عابرة، وفتح باب للباحثين حول هذا المفهوم.
1 ـ مفهوم المعايشة:(3/86)
إن مفهوم المعايشة هو: أن يُظهِر المربي استعداده لمعايشة المتربين واستقبالهم والجلوس معهم، وأن يُشعِرَهم بتوفر الوقت والمكان لديه لمعالجة قضاياهم وحل مشكلاتهم، وتتمثل أيضاً في إظهار أوقات الاستقبال وتحديدها؛ كالساعات المكتبية، والساعات المنزلية، والأيام، والأوقات المتوفرة للخروج مع المتربين في نشاطاتهم ورحلاتهم، وزياراتهم، وتيسير سبل الاتصال به؛ كالاتصال الشخصي، والكتابي، والهاتفي، ومدى الاستعداد لتذليل وسيلة النقل؛ كالسيارة ونحوها عند الحاجة. والخلاصة: أن كل ما يُظهِرُه المربي من استعداد ليكون قريباً من تلاميذه؛ لتربيتهم، والعناية بحاجاتهم، وحل مشكلاتهم فهو من خاصية المعايشة.
2 ـ لماذا المعايشة في العمل التربوي؟(3/87)
إن من أعظم المسوِّغات والدوافع التي تدفعنا لتحقيق هذا المبدأ في واقعنا التربوي وتطبيقه ثقلَ الأمانة المنوطة بعاتق المربين. إن عظيم الموقع الذي تبوأه المربي، وثقلَ الأمانة التي تحملها تجعله يجتهد غاية الاجتهاد في نصح من يربيهم، وتوجيههم، والارتقاء بهم، كيف لا؟ وهو المعنيُّ بتلك النصوص العظيمة التي يقول فيها - صلى الله عليه وسلم -: «ما من رجل يلي أمر عشرة فما فوق ذلك إلا أتى الله مغلولاً يده إلى عنقه، فكه بِرُّه، أو أوثقه إثمه، أولها ملامة، وأوسطها ندامة، وآخرها خزي يوم القيامة»(4). ويقول - صلى الله عليه وسلم - أيضاً: «ما من عبد يسترعيه الله رعية يموت يوم يموت وهو غاشٌّ لرعيته؛ إلا حرم الله عليه الجنة»(5)، ويقول - صلى الله عليه وسلم - أيضاً: «كلكم راع، وكلكم مسؤول عن رعيته...»(6) ويقول - صلى الله عليه وسلم - أيضاً: «ما من أمير عشرة إلا وهو يؤتى به يوم القيامة مغلولاً حتى يفكه العدل، أو يوبقه الجور»(7).إن هذه النصوص لتدفع كل مربِّ صادق إلى الاجتهاد فيمن يربيهم، والنصح لهم، والسعي الجاد في برهم والإحسان إليهم، وإن تطبيق هذا المفهوم التربوي في الواقع لهو سبيل لتحقيق تلك الأمور المنشودة.
3 ـ المربي الأول - صلى الله عليه وسلم - والمعايشة:
يقول - صلى الله عليه وسلم -: «المؤمن الذي يخالط الناس، ويصبر على أذاهم أفضل من المؤمن الذي لا يخالط الناس، ولا يصبر على أذاهم»(1).(3/88)
لقد كان للنبي - صلى الله عليه وسلم - أوفر الحظ والنصيب من هذا الحديث، وكان الرائد في هذا المجال؛ فقد بُعِثَ معلماً، يتوفر لطلابه في معظم أحيانه، فهم يجدونه في المسجد، فإن لم يكن ففي السوق أو الطريق، فإن لم يكن ذهبوا إلى بيته، وكان - صلى الله عليه وسلم - يستقبلهم ويعلمهم ويجيب عن أسئلتهم، ولم يكن من عادته حجب الناس عنه أو ردهم بل كان يستقبلهم، ويبتسم لهم دائماً. عن جرير بن عبدالله البجلي - رضي الله عنه - قال: «ما حجبني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - منذ أسلمت، ولا رآني إلا ابتسم في وجهي»(2).
وكان - صلى الله عليه وسلم - يعتمد اعتماداً كبيراً على هذه الخاصية (المعايشة) في الاتصال بالمدعوين والمتربين، والتعرف عليهم والتقرب إليهم، والتأثير فيهم. فهو يعرف أسماءهم، وبعض خصائصهم، وأسماء قبائلهم، وتاريخ تلك القبائل، وأسماء بلدانهم، وخصائص تلك البلدان، ويعرف مستوياتهم الاقتصادية والاجتماعية والثقافية. هذا فيما يتعلق بالأبعدين والمستجدين، أما أصحابه ممن حوله، والمقربون منه، فيعرف كل شيء عنهم تقريباً، حاجتَهم واستكفاءَهم، مرضهم وصحتهم، سفرهم وإقامتهم، ويعرف مستوياتهم الإيمانية والعقلية والنفسية، ويعرف قدراتهم وحظوظهم في المجالات التربوية والقيادية والمالية والحكمية والدعوية، ويتحدث مع كلٍ بما يناسبه، ويكلف كلاً منهم وفق خصائصه وقدراته. عن أنس ابن مالك - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «أرحم أمتي بأمتي أبو بكر، وأشدهم في دين الله عمر، وأصدقهم حياء عثمان، وأقضاهم علي بن أبي طالب، وأقرؤهم لكتاب الله أُبَيُّ بن كعب، وأعلمهم بالحلال والحرام معاذ بن جبل، وأفرضهم زيد بن ثابت، ألا وإن لكل أمة أميناً وأمين هذه الأمة أبو عبيدة ابن الجراح»(3).
4 ـ فوائد المعايشة:(3/89)
للمعايشة فوائد كثيرة يجنيها المربي متى ما طبق هذا المفهوم على أرض الواقع، ولعلنا نشير إلى أهم هذه الفوائد والثمار.
أ ـ الحصول على الأجر والثواب من عند الله - عز وجل -:
قال - صلى الله عليه وسلم -: «المؤمن الذي يخالط الناس، ويصبر على أذاهم أفضل من المؤمن الذي لا يخالط الناس، ولا يصبر على أذاهم»(4).
فمتى ما استشعر المربي هذا الحديث، واستشرف لهذا الأجر العظيم كان ذلك دافعاً له لتحقيق هذا المفهوم مع من يربيهم، فتجده لا يألو جهداً في معايشة ومخالطة المتربين، والصبر عليهم في تربيتهم، والصبر على ما يجده من أذى منهم مقابل ذلك الفضل العظيم.
ب ـ تهذيب أخلاق المربي:
فالمعايشة تهيئ المربي أن يكون قدوة حسنة يقتدى به، ويؤخذ هذا من قوله - صلى الله عليه وسلم -: «ويصبر على أذاهم» ففي المعايشة نوع من تحسين المربي لذاته، وتهذيب لخُلُقه وسلوكه خاصةً أنه في مصاف القدوة. إنه لا يكفي أن يكون عند المربي ما يعطيه؛ بل لا بد أن يكون حَسَنَ العطاء حتى يترك عطاؤه أثراً في نفس المتربي.
ج ـ معرفة طاقات المتربين وقدراتهم:
يستطيع المربي من خلال معايشته ومخالطته لمن يربيهم اكتشاف طاقاتهم وقدراتهم ومؤهلاتهم؛ ومن ثَم يستطيع توجيه هذه الطاقات فيما يناسبها، ويوجه هذه القدرات في مظانها، ويضع الشخص المناسب في المكان المناسب من خلال تلك المؤهلات، ولهذا شاهد من السيرة؛ كما في حديث أنس بن مالك - رضي الله عنه - الذي مر قبل قليل: «أرحم أمتي بأمتي أبو بكر... »(5). وقال - صلى الله عليه وسلم -: «خذوا القرآن عن أربعة: عن ابن مسعود، وأُبيِّ بن كعب، ومعاذ بن جبل، وسالم مولى أبي حذيفة»(6).
د ـ معرفة جوانب الضعف في المتربين ومن ثَمَّ معالجتها:(3/90)
يجتهد المربي ويسعى في تطوير المتربي والارتقاء به. ومن محاور التطوير والارتقاء معرفة ضعفه؛ وذلك من أجل تزويده بالعلاجات المناسبة فيتجاوز هذا الضعف ويرتقي. ومخالطة المتربين ومعايشتهم توفر للمربي ذلك كله. ولقد استطاع - صلى الله عليه وسلم - بمعايشته لأصحابه معرفة نقاط القوة لديهم ونقاط الضعف أيضاً، فأثنى على نقاط القوة خيراً ـ كما مر معنا ـ وحذر ونصح وحث في نقاط الضعف من أجل تجاوزها، وإليك هذا الشاهد:
عن ابن عمر - رضي الله عنهما - قال: كان الرجل في حياة النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا رأى رؤيا قصها على النبي - صلى الله عليه وسلم -، فتمنيت أن أرى رؤيا أقصها على النبي - صلى الله عليه وسلم -، وكنت غلاماً أعزب، وكنت أنام في المسجد على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم -، فرأيت في المنام مَلَكين أخذاني فذهبا بي إلى النار، فإذا هي مطوية كطي البئر، وإذا فيها ناس قد عرفتهم، فجعلت أقول: أعوذ بالله من النار، أعوذ بالله من النار. فلقيهما ملك آخر، فقال لي: لم تراعَ. فقصصتها على حفصة، فقصتها حفصة على النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال: نِعْمَ الرجل عبد الله لو كان يصلي بالليل. قال سالم: فكان عبدالله لا ينام من الليل إلا قليلاً(7).
هـ ـ التقويم الصحيح للمتربين:(3/91)
يحتاج المربي في مسيرته التربوية إلى وقفات تقويمية لمن يربيهم؛ من أجل الارتقاء بهم وإصلاحهم، ولا يستطيع شخص غير المربي أن يصيب التقييم الصحيح في المتربين؛ إذ هو أقرب الناس للمتربين من غيره؛ وذلك بمعايشته لهم، ومخالطته إياهم، والقرب منهم. ولهذا شاهِدٌ من السيرة النبوية؛ فعن زيد بن أسلم عن أبيه عن عمر بن الخطاب: أن رجلاً على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - كان اسمه عبد الله، وكان يلقب حماراً، وكان يُضحِكُ النبي - صلى الله عليه وسلم -، وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - قد جلده في الشراب، فأُتيَ به يوماً، فأَمَرَ به، فجُلد، فقال رجل من القوم: اللهم العنه، ما أكثر ما يؤتى به! فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: لا تلعنوه! فوالله ما علمت: إنه يحب الله ورسوله»(1). لقد زجر النبي - صلى الله عليه وسلم - الذي سب ولعن حماراً - رضي الله عنه - مع أن حماراً كان يشرب الخمر، إلا أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان أقرب الناس إليه بمعايشته له، وكان أعلم بأعمال حمار من غيره؛ لذا قال - صلى الله عليه وسلم -: «لا تلعنوه! فوالله ما علمت إنه يحب الله ورسوله» وهذا يعني أن لحمارٍ محاسنَ وحسنات في الإسلام قد لا يعلمها البعيد عنه، لا يعلمها إلا من كان معايشاً ومخالطاً له، وقريباً منه، وهذا كان متمثلاً في النبي - صلى الله عليه وسلم -.
و ـ معرفة الخصائص النفسية للمتربين:(3/92)
النفوس تختلف وتتباين، ولكل نفس خصائصها المجبولة عليها، والمربي الفطن هو الذي يتعرف على خصائص النفوس المتربية، فيبني عليها ماهية التعامل والأسلوب المناسب لكل نفسية، ولا يكون ذلك إلا بالمعايشة والمخالطة مع المتربين؛ إذ يستطيع المربي معرفة تلك الخصائص، ومن ثَمَّ معرفة الأسلوب المناسب في التعامل مع تلك النفسيات، ولهذا شاهد من السيرة النبوية؛ فعن عمرو بن تغلب - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أُتِيَ بمال أو سبي، فقسمه، فأعطى رجالاً، وترك رجالاً، فبلغه أن الذين ترك عتبوا، فحمد الله، ثم أثنى عليه، ثم قال: «أما بعد: فوالله! إني لأعطي الرجل وأدَعُ الرجل، والذي أدع أحب إليَّ من الذي أعطي، ولكني إنما أعطي أقواماً لما أرى في قلوبهم من الجزع والهلع، وأَكِلُ أقواماً إلى ما جعل الله في قلوبهم من الغنى والخير، منهم عمرو بن تغلب». قال عمرو بن تغلب: «فوالله ما أحب أن لي بكلمة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حمر النعم»(2).
فتأمل نفاذ نظر الرسول - صلى الله عليه وسلم - في معرفة خصائص أتباعه، وتربية كل منهم بما يناسب فطرته وميوله ودوافعه الخاصة به. وعلى ذلك فالمربي ملزم بمعرفة أتباعه وخصائصهم النفسية عن قرب؛ حتى يستطيع التعامل معهم والقيام بتربيتهم على أكمل وجه، ولا يكون ذلك إلا بمعايشتهم ومخالطتهم.
ز ـ حل مشاكل المتربين الخاصة والأسرية:(3/93)
يسعى المربي الناصح في برنامجه التربوي أن يوفر للمتربي الاستقرار النفسي الذي يساعده على الاستجابة، ومن ثم العطاء والإنتاجية، ولكن تبقى المشاكل الخاصة أو الأسرية في المتربين عائقاً لهذا الاستقرار. وبإمكان المربي من خلال معايشته، ومخالطته لمن يربيهم، وبقربه منهم، واهتمامه بهم حل تلك المشكلات وتذليلها، وتجاوز تلك العقبات. ولقد كان - صلى الله عليه وسلم - كذلك معايشاً لأصحابه قريباً منهم مهتماً بهم وبحل مشاكلهم، يسأل عن أحوالهم، وعما يكدر خواطرهم، ويظهر ذلك مما يلي:
عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - قال: «دخل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذات يوم المسجد، فإذا هو برجل من الأنصار يقال له: أبو أمامة، فقال: يا أبا أمامة! ما لي أراكَ جالساً في المسجد في غير وقت صلاة؟ قال: هموم لزمتني وديون يا رسول الله! قال: أفلا أعلمك كلاماً إذا قلته أذهب الله همك، وقضى عنك دينك؟ قلت: بلى يا رسول الله! قال: «قل إذا أصبحت وإذا أمسيت: اللهم إني أعوذ بك من الهم والحزن، وأعوذ بك من العجز والكسل، وأعوذ بك من الجبن والبخل، وأعوذ بك من غلبة الدين وقهر الرجال». قال: ففعلت ذلك، فأذهب الله همي وغمي، وقضى عني ديني»(3).
5 ـ أثر المعايشة في الاستجابة:
معايشة المتربين ومخالطتهم له الأثر الفاعل في استجابتهم، فبقدر ما يعطي المربي من اهتمام لهذا المفهوم في واقعه التربوي بقدر ما تكون استجابة المسترشدين له، والإقبال عليه.(3/94)
ففي قصة أصحاب الأخدود تروي لنا الأحاديث أن: الغلام كان يبرئ الأكمه والأبرص، ويداوي الناس من سائر الأدواء، حتى ذاع صيته، وانتشر خبره؛ فأقبل الناس عليه أفواجاً، واستطاع بمعايشته الناس، والقرب منهم أن يكوِّن رصيداً مباركاً من حب الناس له والإقبال عليه، لقد قدم لهم وقته، وجهده، وما أعطاه الله من موهبة وطاقة، وقدموا المهج من أجل الدين الذي أتى به اعتقاداً واستمساكاً. فينبغي للمربي أن يوجه ويذلل طاقاته، وقدراته التي يمتلكها في سبيل الله، وأن تكون مفتاحاً لمعايشة الناس، ودعوتهم بعد ذلك.
ولقد كان لهذه الخاصية (المعايشة) أثر بارز في تفاعل الناس مع الرسول - صلى الله عليه وسلم -، وإقبالهم عليه، وتقبلهم منه، ورغبتهم في العلم والعمل الذي يوجههم إليه عن قناعة ومحبة، وكان التلاميذ مندمجين بشخصيته - صلى الله عليه وسلم - أيما اندماج، دونما تبذُّل أو تكلُّف، مما جعل الناتج التربوي أصيلاً وعميقاً من جهة، وواسعاً ومنتشراً من جهة أخرى.
«(3/95)
وقد تناول الباحثون في مجال علم النفس وفي مجال العلاقات الاجتماعية هذه الخاصية بالدراسة، وافترضوا أن لها علاقةً ما بمدى إقبال المتعلم أو المتلقي على الأستاذ؛ ليأخذ منه، أو يسأله، أو يقيم علاقة شخصية معه تتجاوز الاستفادة الوظيفية في المجال الأكاديمي إلى الاستشارة الشخصية والاجتماعية. وكان من بين الافتراضات التي توقعها بعض الباحثين، وكانت صحيحة أن: المعايشة، وقرب المربي، وإظهاره لهذا القرب بتوفير الساعات المكتبية يمكن أن يكون متغيراً مهماً يقع بين عزيمة المسترشد على الذهاب للمربي واستشارته، وبين حدوث الاسترشاد فعلاً، ومن ثَمَّ يكون ظهور المربي قريباً منهم مكاناً ووقتاً وشخصاً عاملاً مهماً في التفاعل والتأثير والإقبال، وهذا أيضاً ما أيدته بعض الأبحاث الأخرى، فقد وجد «ولسن وودز» أن هناك علاقة مؤثرة بين توفر الأستاذ أو المربي في ساعات معينة، وظهوره بمظهر المستعد لاستقبال المتعلمين، وقضاء وقت معهم، وبين إقبال هؤلاء المتعلمين عليه واستعانتهم به، وعرض مشكلاتهم عليه؛ وعلى هذا الأساس كانت الأبحاث النفسية التربوية توصي كثيراً بتوفير الوقت وتنظيمه وتحديده للمسترشدين، وأن يواكب هذا استعداد شخصي ونفسي من المربي والمرشد؛ لاستقبالهم والتعامل معهم، مهما صعبت الظروف وتنوعت»(1).
6 ـ مساوئ كثرة المعايشة:
هل لكثرة المعايشة سلبيات ومساوئ؟
نعم! إن الشيء إذا زاد عن حده انقلب إلى ضده، والمعايشة ما لم تخضع لما يضبطها فإنها تصبح نقمة بعد ذلك.
وإليكم بعض هذه المساوئ:
1 ـ إلْفُ المتربين للمربي، وإسقاط الكلفة بينهم وبينه؛ قد تؤدي إلى استنفاد المتربين لما عند المربي من طاقة روحية وذخيرة تربوية، خاصة إذا وافق ذلك تفريط من المربي في تربية نفسه.
2 ـ ربما يتحولون من مرحلة التأثر إلى مرحلة النقد.
3 ـ سقوط قضية التوجيه والتربية من يد المربي، فلا تكن بعد ذلك استجابة من قِبَل المتربين.
7 ـ ضوابط المعايشة:(3/96)
يجتهد المربي الناصح في تحقيق هذا المبدأ في واقعه التربوي ويسعى جاهداً في ذلك، ولكن ثمة ضوابط تضبط تطبيق هذا المفهوم على أرض الواقع يجدر بنا الوقوف معها وتوضيحها إزاء تطبيق هذا المبدأ التربوي، حتى يكون المربي على بصيرة من أمره، وحتى لا يقع في إفراط أو تفريط، وحتى نحفظ للمربي دوره المنشود في ظل هذه الضوابط:
أ ـ ألا تؤدي إلى التعلق المذموم بالمربي:
الأصل في العملية التربوية أن الفرد الذي يُدعى يجب أن تتركز الجهود التربوية في تربيته بتوثيق صلته برب العالمين، وأن تكون صلته القوية بالله - تعالى - وبمنهجه القويم وألاَّ يتعلق بالبشر، ولكن كثرة المعايشة والمخالطة غير المنضبطة بالمتربين والقرب منهم قد يسبب ذلك التعلق، لا سيما إن لم تكن لتلك المعايشة أهداف تربوية يسعى المربي لتحقيقها، واستحضارها في معايشته لمن يربيهم. فيجب على المربي التفطن لهذا الأمر، وأن تكون معايشته منضبطة بحيث لا يُكثِر منها، وأن تكون بحدود المعقول، وأن تكون مرسومة الأهداف، مستحضراً لها في معايشته، ومتى ما وجد المربي ظهور هذه الظاهرة في أحد المتربين، فيجب عليه تذكيره بالله، وتحذيره من خطورة هذا التعلق، وربطه بالله، وبالقدوة المعصوم - صلى الله عليه وسلم -، وطرق بعض المفاهيم العلاجية كمفهوم الفرق بين الحب في الله والحب مع الله، وغيرها من المفاهيم التربوية(2).
ب ـ ألا يتغلب جانب التربية الجماعية على التربية الفردية:(3/97)
التربية تقوم على عنصرين مهمين: الجماعية والفردية، ومتى اتكأت التربية على أحد العنصرين فهي تسعى لتبني قصراً في الرمال. ومعايشة المتربين ومخالطتهم والإكثار من ذلك قد يسبب الاتكاء على جانب الجماعية فقط، فيتربى المتربي على هذا العنصر الجماعي فقط، والذي يعيش الجانب الجماعي وحده سيبقى سمكة في ماء ما تلبث حين تفارقه أو تخرج منه أن تلفظ أنفاسها، وحين يعيش الشاب على التربية الجماعية وحدها، فهو مع ما يحمل من ثغرات كبيرة في شخصيته ما يلبث أن يفقد المتربي إخوانه يوماً، فيرى نفسه أمام عَالَمٍ لم يعتد عليه. فلم يعتد أن يبقى فارغاً، ولم يتربَّ على اغتنام وقته والاستفادة منه.
فيجب على المربي التفطُّن لهذا الأمر خلال معايشته المتربين بحيث يكون هناك توازن في تطبيق المعايشة، وألاّ يكثر منها كثرةً تغلِّب الجماعية على الفردية، وينبغي عليه أن ينمي في المتربين الشعور بالمسؤولية الفردية، وأهمية التربية الفردية وأنها لا تقل أهمية عن الجماعية، متى ما شعر أن هناك تفريطاً في هذا الجانب.
ج ـ ألا تطول بالقدر الذي يؤدي إلى جرأة الشاب على من يربيه، وزوال الكلفة بينهم، بحيث تذوب شخصية المربي بين المتربين:
لأنَّ من فوائد المعايشة ومخالطة المتربين، كسر الحاجز الوهمي بين المربي والمتربين، ومن ثَمَّ تكون الشفافية والأريحية في التعامل فيما بينهم. ولكن هذا لا يسوِّغ أن تكون المعايشة سبيلاً إلى سقوط الهيبة بين المربي والمتربين؛ بحيث تصبح القضية أُخُوَّةً خاصةً مجردةً من معاني القيادة والتوجيه والتربية، فينبغي للمربي التفطن لهذا الأمر، وأن يكون هناك قدر من التقدير والاحترام والهيبة التي تكون بوابة لمعنى القيادة والتوجيه مع المتربين، وألاَّ تذوب شخصيته بكثرة المعايشة؛ بحيث تسقط من يده قضية التوجيه والتربية، فلا تكون بعد ذلك الاستجابة.
د ـ ألا تؤدي إلى إهمال المربي نفسه في الارتقاء:(3/98)
في خضم معايشة المربي لمن يربيهم، ومخالطته إياهم، والسعي الجاد في تقديم النصح والتوجيه الذي يساهم في الارتقاء بهم، قد ينسى المربي نفسه وأن لها حقاً من الاهتمام والارتقاء بها، فمتى ما أهمل المربي نفسه في جانب الارتقاء بالنفس فلربما قاده ذلك إلى فقدان رصيده في يوم من الأيام، حتى يصبح المربي ليس عنده ما يعطي المتربي؛ لأن فاقد الشيء لا يعطيه، ومن ثَمَّ يفقد المربي صفة هي من أهم الصفات؛ وهي صفة العطاء؛ فنحن لا نريد أن يكون المربي كالشمعة تضيء للناس وتحرق نفسها، إنما نريده أن يكون كالشمس تضيء للآخرين مع حفاظها على خاصية التوهج في نفسها. فينبغي للمربي التوازن بين معايشة المتربين والارتقاء بهم، وبين الارتقاء بنفسه، والتزود بما فيه صلاحها وتزكيتها، وقربها من الله.
لذلك هناك نوع من العزلة الجزئية، يُقْصَد من ورائه العزلة للتربية، حيث يخلو المرء بنفسه ـ أحياناً ـ بقصد التعبد، أو التزود من العلم، أو محاسبة النفس، أو نحو ذلك من الأغراض والمقاصد التربوية. وقد كان من صنع الله لنبيه - صلى الله عليه وسلم - أن وفقه قبل نزول الوحي عليه لهذا النوع من العزلة، وحبب إليه الخلاء، فكان يخلو في غار حراء، فيتحنث فيه الليالي ذوات العدد، قبل أن ينزع إلى أهله، ويتزود لذلك، ثم يرجع إلى خديجة، فيتزود بمثلها حتى جاءه الحق، وهو في غار حراء(1).
هـ ـ البعد عن الدخول في الخصوصيات:
كل الكائنات الحية تحتفظ لنفسها بمجال حيوي تعد اقتحامه نوعاً من العدوان عليها، ويأتي الإنسان على رأس القائمة. قال - تعالى -: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إن تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ} [المائدة: 101]، ذهب بعض المفسرين إلى أن المراد من هذه الآية: هو السؤال عمَّا لا يعني من أحوال الناس؛ بحيث يؤدي ذلك إلى كشف عوراتهم، والاطلاع على مساوئهم(2).(3/99)
ولعل مع المعايشة قد يغفل المربي عن هذا الضابط، فيُسَوِّغُ لنفسه السؤال عما لا يعني، والاطلاع على ما يخص من يربيهم دون إذنهم، وكل هذه الأمور محرمة شرعاً، وجرأة بعض المربين على تجاوزها داخل في عموم قوله - تعالى -: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِّنَ الظَّنِّ إنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إثْمٌ وَلا تَجَسَّسُوا وَلا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَّحِيمٌ} [الحجرات: 12].
و ـ ألا يهمل الوَرَعَ الشرعي الواجب:
ومن ذلك ما يتعلق بصحبة ومعايشة الأمرد؛ فقد يخلُّ المربي بالوَرَع الشرعي في ذلك فيخلو به، أو يسافر معه وحده، أو يبيت معه، أو غير ذلك بمسوغ المعايشة، وهي أمور قد ينشأ عنها نتائج غير محمودة؛ لذا شدد السلف الصالح ـ رضوان الله عليهم ـ في صحبة الأمرد، والآثار في ذلك كثيرة ومنها:
1 ـ ما رواه البيهقي في الشُّعَب عن بعض التابعين قال: «كانوا يكرهون أن يحد الرجل النظر إلى الغلام الجميل»(3).
2 ـ روى أيضاً عن بعض التابعين: «ما أنا بأخوف على الشاب الناسك من سبع ضارٍ من الغلام الأمرد يقعد إليه»(4).
3 ـ روي عن الحسن بن ذكوان أنه قال: «لا تجالسوا أولاد الأغنياء؛ فإن لهم صوراً كصور النساء، وهم أشد فتنة من العذارى»(5).
«(3/100)
قد غدت اليوم صحبة المربين لهؤلاء الأحداث ضرورة ملحَّة، ولا يسوغ أن يُهمَلوا، أو ينهى المربون عن صحبتهم بحجة الورع؛ ذلك أن واقع السلف كان يختلف عن واقعنا، فلم يكن البديل عندهم هو الشارع غير المنضبط أو التجمعات الساقطة مما نشهده اليوم، بل كانت البيوت ومؤسسات المجتمع التربوية تتكفل بتربية هؤلاء والعناية بهم، أما الآن فالبديل لصحبة المربين لهؤلاء هو أن يصحبهم شياطين الإنس المفسدين، والواقع شاهد بأن كثيراً من هؤلاء حين ابتعدوا عن الميادين الصالحة انزلقوا في طرق الفساد.
ومع القول بالحاجة لصحبة المربين للأحداث تبقى هذه النصوص عن السلف لها قيمتها واحترامها، فعلى المربي أن يراعي ضوابط مهمة في ذلك منها: عدم الخلوة، أو السفر مع الأمرد لوحده، ومراعاة المبيت وما يتعلق به»(6).
و ـ ألا تؤدي إلى إشغال المتربي معظم وقته، فلا بد من ترك قدر من وقت الفراغ يُعَوِّدُه فيه على استغلال الوقت في تربية ذاته، ويتيح له فرصة الاعتناء بدراسته، وارتباطاته الاجتماعية.
ز ـ التقليل من اللقاءات الفردية في غير البرامج العامة؛ بحجة معايشة المتربي والقرب منه أكثر؛ فكثير منها يتحول إلى علاقة شخصية بحتة تفقد أثرها التربوي.
ح ـ الاقتصاد في المزاح والهزل، وعدم الخروج فيه عن حد الوقار والهيبة.
8 ـ المربي بين المعايشة والعزلة القلبية:(3/101)
يقول الدكتور سلمان العودة - حفظه الله - : «هناك العزلة القلبية التي يقصد بها أن المؤمن الملتزم بالمنهج الصحيح، وإن خالط الناس وعاشرهم ببدنه؛ فإنه مزايل لهم بعلمه وقلبه، مفارق ما هم عليه من التعلق بالبدع، أو الولع بالدنيا، أو اتباع الهوى، ساع لنقلهم عما هم فيه إلى حيث السلامة والأمان. فهو يخالط الناس لغاية واضحة، هي العمل على انتشالهم من الضلال إلى الهدى، ومن البدعة إلى السنَّة، وأمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر، ولا يستطيع أن يؤدي ذلك بصورة صحيحة مؤثرة إلا من دَاخَلَ الناس وعاشرهم، وعرف أحوالهم، وأحسن إليهم بلسانه ويده ـ ما استطاع سبيلاً ـ.
وهذه المخالطة المقصودة تجعل في قلب المخالط شعوراً متميزاً يحميه من التأثر بأعمال الناس وأهوائهم وانحرافاتهم إلى حد بعيد، وبذلك يتمكن من اكتساب الخصائص الخيرة الجميلة التي قد تنقصه، ومن الانتفاع بالتجارب التي تزكي العقل الغريزي وتنميه، ومن الاطلاع على أحوال الزمان وأهله، ومعرفة حقيقة الانحرافات وأبعادها، ليقوم ـ بعدُ ـ بمدافعتها، وعلاجها بالأسلوب الأمثل، دون أن يؤدي به ذلك إلى الذوبان في المجتمع المحيط به، أو التخلي عن علمه، ونيته ودعوته.
وبذلك يجمع بين الخلطة والعزلة، الخلطة بجسده ومدخله ومخرجه، والعزلة بقلبه وعمله ومشاعره، ولذلك يقول عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - : «خالطوا الناس، وزايلوهم، وصافحوهم، ودينكم لا تَكْلَمُوه»(1).
9 ـ برامج عملية وخطوات إجرائية للمعايشة:(3/102)
لعل البعض يطالب بتحويل هذا الكلام النظري إلى برامج عملية وخطوات إجرائية يمكن قياسها وتقويمها، ولا شك في أهمية هذا المطلب، خاصةً أن البعض قد يجيد التنظير والتقعيد الكلامي ويعجز عن ترجمته (كلامياً) في أرض الواقع؛ لذا كان لزاماً علينا أن نضع بعض البرامج العملية والخطوات الإجرائية في معايشة المربي لمن يربيهم، وننبه إلى أهمية استثمار تلك المحاور والخطوات في التوجيه والتربية، وهي كالتالي:
1 ـ مرافقته في بعض الشعائر التعبدية؛ كالصلاة معه، وأخذه لذلك، ومرافقته في العمرة والحج، واتباع الجنائز، وغير ذلك، واستثمار الرفقة في التوجيه والتربية.
2 ـ توثيق الصلة معه بالإقبال والسلام عليه، والتبسم في وجهه، والسؤال عنه وعن أهله، والاتصال به هاتفياً من أجل ذلك، وزيارته في بيته، والسؤال عنه إذا غاب أو تأخر، والقرب منه عند وحدته، وإهدائه، وإجلاسه بجوارك عند مقابلته، والأخذ بيده، وتبادل أطراف الحديث معه في حال اللقاء به، ومناداته بأحب الأسماء إليه، وتكنيته، ومرافقته معك في السفر، ومراسلته، ومعرفة اهتماماته ومحبوباته، وغير ذلك.
3 ـ مشاركته وجدانياً وذلك بالفرح لفرحه؛ كزواجه، أو زواج قريب له، أو نجاحه، أو حصول نعمة له، أو تجددها، أو غير ذلك، وكذلك مشاركته وجدانياً بالحزن لحزنه؛ كموت قريب له، أو مرضه، أو فقدان عزيز عليه، أو غير ذلك، والوقوف معه لمواساته.
4 ـ إشعاره بأن له قيمة ومكانة؛ وذلك بعيادته إذا مرض وتصبيره، والوقوف معه، والتنزه معه، وإجابة دعوته، وإكرامه، والاستماع إلى همومه ومشكلاته، والسعي في حلها، والسعي في قضاء دَيْنِه وحاجاته، وإشعاره أنك تحترم رأيه، وغير ذلك.
5 ـ مرافقته في بعض وسائل الارتقاء والتعلم؛ كحضور الدروس العلمية معه، والمحاضرات، والدورات الشرعية، وزيارة المخيمات الدعوية، والمكتبات الإسلامية، والتسجيلات، ومعارض الكتاب، وغير ذلك.(3/103)
الخاتمة: وبعدُ: فهذه أخي المربي كلمات وخواطر سطرها أخ لك في الله، لا تعدو أن تكون أراءً شخصية، إن أصاب فيها فمن الله، وإن أخطأ فمن نفسه والشيطان، والله ورسوله بريئان مما يقول.
أيها المربي! شمِّر عن ساعديك، واعزم على العمل، وابحث عن المُعِين، وتوكل على الله، وليكن هدفك سامياً، وهمتك عالية؛ لكي تستطيع أن تنتج بأقصى طاقة، ولا ترضَ بالقليل من العمل، واصدق الله يصدقك.
أيها المربي! إنه لا يكفي للقيام بواجب التربية والتوجيه الكلمات العاجلة، أو البرامج المرتجلة؛ فمن حق الشباب علينا وهم فلذات أكبادنا أن نُعنَى بتربيتهم، فهلاَّ نبادر في خطوات جادة للوصول إلى أسلوب أمثل في التوجيه والتربية! نأمل ذلك ونسأله - سبحانه - الإعانة...
وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وآله وصحبه أجمعين.
----------------------------------------
(1) رواه مسلم، صلاة المسافرين وقصرها (1209). حطمه الناس، أثقلوه وأضعفوه.
(2) رواه البخاري، كتاب الأدب (5664).
(3) رواه النسائي، شرح السيوطي (3/80 ـ 81).
(4) صحيح الجامع (5718)، السلسلة الصحيحة (349).
(5) مختصر صحيح مسلم (1211)، صحيح الجامع (5740).
(6) رواه مسلم، كتاب الإمارة (3408).
(7) السلسلة الصحيحة (349)، المشكاة (3697)، صحيح الجامع (5695).
(1) صحيح الجامع (6651).
(2) رواه البخاري فتح الباري (7/164)، (3822).
(3) صحيح ابن ماجه بتحقيق الألباني (1/3)، حديث رقم (125).
(4) صحيح الجامع (6651).
(5) صحيح ابن ماجه، بتحقيق الألباني (1/31)، رقم (25).
(6) صحيح سنن الترمذي (3/230).
(7) رواه البخاري (3738 ـ 3739).
(1) رواه البخاري، كتاب الحدود (6282).
(2) رواه البخاري، كتاب الجمعة (871).
((3/104)
3) أخرجه أبو داود في الصلاة، في باب الاستعاذة (2/94 ـ 95/ح 1555). وفيه: غسان بن عوف المازني البصري: وهو لين الحديث ـ التقريب. ويشهد له حديث أنس وقد أخرجه البخاري في الجهاد والسير، باب من غزا بصبي للخدمة (6/10 ح 2893) بلفظ نحوه، وأحمد في مسنده (3/159)، وأبو داود (ح 1541، 1546)، والترمذي (34844، 3503)، والبيهقي (6/304) (9/125)، والحاكم (1/533)، والنسائي (4/467، ح7973 ـ الكبرى).
(1) «علم النفس الدعوي»، د. عبدالعزيز النغيمشي، 309 ـ 310، بتصرف يسير.
(2) لمقيده مقال في مجلة البيان بعنوان: «التعلق بالأشخاص لا بالمنهج»، ينصح بالرجوع إليه في العدد 157، رمضان 1421هـ.
(1) الحديث عن عائشة - رضي الله عنها - رواه البخاري في بدء الوحي، باب: كيف كان بدء الوحي إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (1/3).
(2) تفسير القرطبي (6/332).
(3) شعب الإيمان [(5395) 4/358].
(4) شعب الإيمان [(5396) 4/358].
(5) شعب الإيمان [(5397) 4/358].
(6) مقالات في التربية، محمد الدويش، المجموعة الأولى، ص (42).
(1) العزلة والخلطة ـ د. سلمان العودة ـ ص (50 ـ 51).
* * *
http://www.albayan-magazine.com/zwaya/trbwi/80.htm
الدرس الوحيد.. وفقه الانتصار
خالد الخليوي
هل تذكرونَ ـ أيُّها الأحبابُ ـ تلك القصّةَ العظيمةَ التي حَكاها الله ـ سبحانهُ وتعالى ـ في كتابه العزيز عن أصحابِ الأخدود، وقامَ النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- بذِكرِها مفصّلةً للصحابة ـ رضيَ الله عنهم ـ ولأمّته من بعده؟(1).
إنَّها خبرُ حقّ، وآياتُ صِدق.
دعاةٌ يواجهونَ الطُّغاة، ومؤمنون تبيّن لهم الحقُّ فاتّبعوه، ورأوا صِدقَ داعيه فأحبّوه.
في أوّلِ يومهم في رحابِ الإيمان، وفي آخره في أخاديد النيران.
وفي الجانبِ الآخر ظالمون ومُشركون، أُسلوبُ حوارِهم القتلُ والإجرام، ومُنتهى آمالهم استعبادُ الأنام.(3/105)
قصّةٌ مليئةٌ بالعِبَرِ والدروس، ومشاهِدُ تحكي قِدَم تلك الحربِ الضروس. ومع ذلك فإنّي سأكتفي منها بدرسٍ وحيدٍ، ومعنىً ليسَ على الكثير بالجديد، لكنّي أحسبُ أنَّهُ من الأهمّية بمكانٍ أن نستحضرهُ في هذه الأيّام.
تذكّروا معي؛ ما الذي حصلَ للغُلامِ المؤمن وللنّاسِ بعد إيمانهم بربِّ ذاكَ الغُلام؟
إنَّهُ التعذيبُ المُوجع، ومن ثمَّ القتلُ لهم أجمع.
أمّا الغُلام فقد صُلِبَ على جِذعٍ ثمَّ رُمِيَ بالسِّهام حتّى قضى نحبَه، وأتمَّ عهدَه.
وأمَّا المؤمنون فقد شُقّت لهمُ الأخاديد، ثمَّ أُشعلت فيها النيران، ثمَّ قُذِفوا فيها جميعاً.
ليسَ الرجالُ فحسب، بل معهم النّساء.
وليس الكبارُ فحسب، بل معهم الأطفال.
وهنا يأتي سؤالُنا المباشر ليقول:
ألم يكُن الغلامُ ومن معه على الحقّ؟!
ألم يُضحّوا بأنفُسهم ويلتزموا طريقَ العدلِ والصّدق؟
ألم يُعلنوا إيمانَهم، ويصدعوا بتوحيدِهم جِدارَ الشركِ والكُفر؟!
ألم يُقرّروا قرارهم الشُّجاع، ويثبتوا على دينهم رَغم مُحاولاتِ الرّدِّ والقَهر؟!
والجوابُ: بلى؛ قد كانوا كذلك.
إذاً؛ فلماذا لم ينصرهم الله تعالى؟!
لماذا لم يُنْزلِ الله ـ عزَّ وجلَّ ـ مطراً يُطفئ تلك النّارَ كرامةً لأوليائه؟!
لماذا لم يقل للنّارِ كما قالَ لنارِ إبراهيمَ ـ عليهِ السّلام ـ: {يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلامًا عَلَى إبْرَاهِيمَ } [الأنبياء: 69]؟! أو يُرسلَ جُنداً من جنوده؛ ليُهلِكوا الظّالمين، ويجعلوهم عبرةً للمعتبرين؟!
وللإجابة عن هذه الأسئلة يُقالُ ما يلي:
أولاً: إنَّ الله ـ سبحانه وتعالى ـ لا يُسالُ عمَّا يَفْعَلُ، والخلقُ يُسألون.
ثانياً: إنَّ المؤمن ليعتقد في قلبه أنَّ ربّهُ ـ عزَّ وجلَّ ـ حكيمٌ حكمةً مطلقةً، والخيرُ كلُّ الخير في يديه، والشّرُّ كلُّ الشرِّ ليس إليه.
وكم هيَ المظاهرُ التي كُنَّا نحسبها شرّاً فبعثَ الله فيها من الخيرِ ما لم يكُن في الحُسبان، وما لم يخطُر في خَلَدِ الإنسان.(3/106)
ثالثاً: إنَّهُ ليجب علينا أن نستحضرَ حديثَ النبيِّ -صلى الله عليه وسلم- وهو يقول: «عجباً لأمر المؤمن، إنَّ أمره كله خير، وليس ذاك لأحد إلا للمؤمن، إن أصابته سرّاء شكر، فكان خيراً له، وإن أصابته ضرّاء صبر، فكان خيراً له». أخرجه مسلم.
فاختيارُ الله ـ عزَّ وجلَّ ـ أرحمُ وأسعدُ للعبدِ المؤمن، {وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ} [القصص: 68].
رابعاً: ينبغي لنا أن نُحرّر مفهوم النّصر بمعناه الشّاملِ، ودلالتِه في الميزانِ الرَّباني، لا في ميزانِ البشر.
فلم يكن معنى النّصر في الشرع قطّ هو الغلبةُ على الأعداءِ في كلِّ معركة تدورُ بينهم، بل الحربُ سِجالٌ، والعاقبةُ للمتقين.
ولم يكُن معنى النّصر كذلك هو السّلامة من كلّ أذىً وألمٍ ومُصيبة.
وما زالَ في ذاكرتنا حديثُ النبيِّ -صلى الله عليه وسلم- حينما سُئل: أَيُّ النَّاسِ أَشَدُّ بَلاَءً؟ فقال: «الأنْبِيَاءُ ثُمَّ الأمْثَلُ فالأمْثَلُ»، أخرجه أحمد والترمذي، وقال: حديثٌ حسنٌ صحيح.
وليسَ معنى النّصرِ دائماً هو أن تقرّ عينُ المرءِ وهو يرى النّاس يدخلونَ في دينِ الله أفواجاً.
وينظرُ إلى التّائبينَ وهم يسألونَ الدُّعاةَ توجيهاً وعِلاجاً.
وقد حدّثنا رسولنا -صلى الله عليه وسلم- فيما أخرجه البخاري ومسلم عن بعضِ الأنبياء، أنَّهُ يأتي يوم القيامة ولم يُؤمن به أحد(1).
ولم يكُن ـ أيضاً ـ معنى النّصر هو البقاءُ طويلاً في الحياةِ حتّى يرى الإنسان ثمرات بذله وعطائه ودعوته. وكم هي المُبشّراتُ والفتوحاتُ التي أشارَ إليها النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- ولم تقع إلاّ بعد وفاته -صلى الله عليه وسلم-. هذا كلّه مع مَنْ بذلَ أسبابَ النّصرِ والتمكين، وكانَ على الجادّة التي رسمها الله له.
إنَّ نصرَ الله ـ تعالى ـ لأوليائه ليسَ صورةً واحدةً أو مثالاً فريداً، بل هو أوسعُ وأشملُ ممّا نتصوّرهُ في كثيرٍ من الأحايين.(3/107)
فحين يتبيّنُ المرءُ الحقَّ، ويتمسّكُ به، ويثبتُ عليه، ويموتُ من أجلهِ، وفي سبيله، فإنَّ هذا من أعظمِ صورِ النّصرِ الربَّاني لعبادهِ المؤمنين.
وفي قصّة أصحابِ الأُخدودِ هذه نقول:
ما كانَ لأولئك المؤمنين الضُّعفاء أن يختاروا القتلَ والإحراق، من أجلِ رضاءِ ربّهمُ الخلاّق، وهم يرونَ الابتلاءَ ماثلاً أمامهم جِدّاً وليس بالهزل، ما كانَ لهم ذلك لولا إعانةُ الله، واصطفاؤهُ لهم.
ثمَّ من أدرانا أنَّهم لمّا قُذِفوا في النّار شَعُرُوا بحرِّها وأليمِ عذابها.
بل هل ندري عن الذي لَقُوهُ من ربّهمُ الكريم بمجرّدِ إلقائهم في النّار، خاصّةً أن الله ـ تعالى ـ ذيّل قصّتهم في سورة البروج بقوله: {إنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ} [البروج: 11]. ولم يَصِف الله ـ تعالى ـ الفوزَ بـ (الكبير) إلاّ في هذا الموضع في القرآن كلّه، فأيُّ فوزٍ هذا الفوز، ونهايتهم هي إحراقهم في النّار؟!
نعم؛ والله إنَّهُ لفوزٌ كبير، وفلاحٌ عظيم.
فوزٌ حينَ آمنوا بربّهم في ظلِّ دولةٍ كافرةٍ تقومُ على الشّركِ والسّحرِ والخُرافات.
فوزٌ حينَ ثبتوا على الحقِّ وضحّوا من أجلِهِ بأهليهم وأنفُسهم ـ وهي أغلى ما يملكون ـ، ولسانُ حال الواحدِ منهم يقول:
أجودُ بالنفسِ إنْ ظنَّ البخيلُ بها
والجودُ بالنفسِ أعلى غاية الجودِ
فوزٌ حينَ ذَكَرهم الله ـ عزَّ وجل ـ في كتابه الكريم يُتلى إلى قيامِ السّاعة في سياقِ المدحِ والثّناء، وقد عَلِمَ ـ سبحانه ـ ما في قلوبهم.
فوزٌ حينَ يقابلونَ ربّهم وهو راضٍ عنهم فيكسوهم حُللَ الذهبِ والفضّة، ويُسعدهم بأجلِّ نعيم وأعظمِ عطاء، وهو النَّظرُ إلى وجههِ الكريم.
فوزٌ بصُوَرٍ متعدّدةٍ تحصلُ لهم في عالمِ الغيب، لا تُدركهُ أبصارُنا ولا تحتويهِ عقولُنا.(3/108)
وها نحنُ الآن نُصبِحُ على أخبارٍ مُزعجة، ومآسٍ موجعة، ونمسي على مثلها عن إخواننا المسلمين في كُلِّ مكان.
جُرحٌ في فلسطين، وفي العراقِ آلام.
كارِثةٌ في الشيشان، وفي كشمير إجرام.
تسلّطٌ رهيبٌ على المنطقة من قِبَلِ يهود.
واستكبارٌ وغطرسَةٌ من قِبَلِ أمريكا بلا حُدود.
والضحيّةُ في الغالب هم المسلمون. وإن شئتَ فقُل: إنَّ الأكثر في هذه الضحيّة من أهلِ السُنّة مع اختلافِ أطيافهم وطوائفهم.
قتلٌ للأبرياء، وتصفيةٌ للدُّعاةِ والصُّلحاء.
نهبٌ للأموالِ والخيرات، وإفسادٌ لئيمٌ لأخلاقِ الشبابِ والفتيات.
وعُملاءُ من الدّاخلِ يقومونَ بأبشعِ الخيانات.
وإذا قطعتَ الرأسَ من حيّاته
لا تنسَ أذناباً بكلِّ بلادي
هدمٌ من الدّاخلِ على يدِ كثيرٍ من مُلاّكِ القنواتِ وصانعي الإعلام.
وحربٌ من الخارجِ تسيرُ على خُطىً مدروسة كَتَبَتْهَا أيدي اللِّئام.
في بعضِ الدُّول العربيّة لا تملك المرأة المُسلمة أن تخرُج إلى السّوقِ بحجابها.
ولا يملك الشّابُّ أن يُكرّر حضوره للمسجد ليكونَ من أهلِ الجنّةِ وطُلاّبها.
فيأتي السؤالُ المباشر نفسُه:
أينَ نصرُ الله لنا، وفينا صادقونَ وباذلونَ، ومعنا دُعاةٌ وناصحون؟!
نعم أيُّها الأحباب؛ إنَّ الله ـ عزَّ وجلَّ ـ مُطّلعٌ على كُلِّ ما في الكونِ، ولا يخفى عليهِ شيءٌ في الأرضِ ولا في السّماء، وإنَّ نصرَ الله لا يتخلّف أبداً، إلاّ إذا تخلّفت أسبابُه، وتأمّل إذا شئتَ تلك الجُملة الشرطيّة في قوله ـ تعالى ـ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} [محمد: 7].
إنَّ أعظمَ النّصر هو أن تسيرَ على منهجِ الله ـ عزَّ وجلَّ ـ ما استطعت، وأن تعملَ في واقعكَ بما تقتضيهِ سيرةُ نبيّكَ -صلى الله عليه وسلم- وسنّتُه.(3/109)
ليسَ الخوفُ من أن يهزمنا الأعداء ونحنُ سائرونَ على الدّرب، وباذلونَ للجُهد، فسيبقى ما فعلوهُ مجرّد هزيمةٍ لنا، لا استسلاماً منّا، وفرقٌ بين الهزيمة والاستسلام. وإنّما الخوف من أن نُخفق في التمسُّك بديننا حتّى وإن انتصرنا في ساحة الحرب على أعدائنا.
ورضيَ الله عن البطل «حرامُ بن ملحان» ذاكَ الصحابي الجليل الذي قالَ بعدما طُعن غدراً ورأى الدمَ يسيلُ من جوفه: «فُزتُ وربِّ الكعبة». نعم؛ واللهِ العظيمِ لقد فاز، فازَ حينَ عاشَ على الطريقِ القويم، وماتَ عليه.
إنَّ هذا البطل ليُعطينا درساً في فقهِ النّصرِ وحقيقة الفوز.
وفي غزوةِ مُؤتة، تلكَ الغزوة التي قابلَ فيها المسلمون ـ وهم ثلاثةُ آلاف ـ جيشاً عظيماً من النّصارى وكفّارِ العربِ وهم مئتا ألف، وبعدَ أن قُتِلَ الأُمراءُ الثّلاثة: زيدٌ، فجعفرُ، فابنُ رواحة، أُمِّرَ عليهم خالد بن الوليد رضيَ الله عنهم أجمعين، فانحازَ بالجيشِ بطريقةٍ ذكيّة، وأُسلوبٍ رائع، فاعتبرَ النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- ذلك فتحاً ونصراً للمؤمنين، معَ أنَّ الجيشَ الإسلامي فَقَدَ أُمراءهُ الثلاثة.
وفي صُلحِ الحُدَيْبية كَرِهَ بعضُ الصّحابة بعضَ بنودِ الصُّلح، وحاوروا النبيَّ -صلى الله عليه وسلم- وأبا بكرٍ ـ رضيَ الله عنه ـ في ذلك، ورأوا أنَّ هذا الصُّلح بهذهِ الشُّروط يُعتبرُ دنيّة لدينِ الإسلامِ وأهله.
ومعَ ذلك يُنزلُ الله على نبيّهِ -صلى الله عليه وسلم- بعد هذا الصُّلح «سورة الفتح»: {إنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُّبِينًا} [الفتح: 1]. فيسألُ عمر بن الخطّاب ـ رضيَ الله عنهُ ـ رسولَ الله -صلى الله عليه وسلم-: أَفتْحٌ هو يا رسولَ الله؟ فيقول: «نعم؛ والذي نفسي بيده إنَّهُ لفتح». وكان البراء بن عازب ـ رضيَ الله عنه ـ يقول: (إنّكم لتعدُّونَ الفتحَ فتحَ مكّة، أمّا نحن فكُنّا نعدُّ الفتحَ صُلحَ الحُديبية).(3/110)
وأمّا موسى ـ عليهِ السّلام ـ فقد كانَ من إعانةِ الله له أن خلّصهُ ونجّاهُ من القومِ الظّالمين، واعتُبِرَ هذا التخليص نصراً من الله له. واقرأ ـ إن شئتَ ـ قوله ـ تعالى ـ: {وَنَصَرْنَاهُ مِنَ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا إنَّهُمْ كَانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ} [الأنبياء: 77]. ألا فلنَفْقَه حقيقةَ النّصر الربَّاني، وشمولَه، وأسبابه الحقيقيّة، وإيّانا والتخاذُل عن البذلِ والعطاء، وأن يكونَ قُصارى ما نملكه هو التنادي بالصبرِ فقط، وأن نقعد منتظرينَ ذاكَ القائد الربَّانيَّ الذي يبعثهُ الله في نهاية الزمن، فيملأ الأرضَ عدلاً كما مُلئت جَوراً وظُلماً، أو نُقلّب وجوهنا في السّماء نترقّب نزول النبيِّ المُبارك عيسى ـ عليهِ السّلام ـ ليقتُلَ اليهود ويضعَ الجزية ويقضي على الخنزير ويكسر الصليب.
إنَّ تحقيقَ النّصرِ مشروعُ أمّة، وإنَّه مُفتقِرٌ إلى جدٍّ وصدقٍ وهمّة.
ولنَعِ أنَّ أساسَ الداء فينا، وبدايةَ العِلاج منّا، وتلكَ قاعدةٌ قرّرها الله ـ تعالى ـ في سورة الرّعد وسورة الأنفال، فقالَ في الأولى: {إنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ} [الرعد: 11]. وقالَ في الثّانية: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِّعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ} [الأنفال: 53].
فإلى المُراجَعةِ والتصحيحِ الشّامل، وإلى التوبةِ النّصوح، والعملِ المُتكامل.
وليعلمِ الجميع أنَّ على كُلّ فردٍ قدراً من المسؤوليّة، وأنَّ لهُ دوراً ينبغي أن يبحثَ عنه ويقومَ به. ولنُدرك كذلك أنَّ السّاحةَ تَسَعُ كلَّ صادقٍ يُريدُ العمل، وتتضمّن كلّ مُشمِّرٍ طَرَدَ عن نفسهِ الخمولَ والكسل.
فليَعُدِ الشّارِدُ إلى ربّه، وليرجعِ العاقُّ إلى برِّه.
وليُطهّر الحسودُ قلبَه، وليُنمِّ المُحبُّ الصادِقُ حبّه.(3/111)
إذا الحِمْلُ الثقيلُ توازعته
أكفُّ القومِ خفَّ على الرِّقابِ
توحيدٌ لله يجبُ أن يُعظَّمَ وأن يُصان، وشركٌ مع الخالِقِ يجبُ أن يُفضحَ وأن يُهان.
على الرّاعي أن يعدِلَ وأن يرحم، وعليهِ ـ أيضاً ـ أن يُقَرِّبَ وزراءَ الخير، وللعلماءِ فليُكرم، وعليهِ ـ أيضاً ـ أن يَبذُلَ أسبابَ النّهضةِ الشّاملة، وعلى الخيرِ فليعزم.
ولينطلق بالأمّة ـ مُستحضراً واقِعَها ـ إلى برِّ الأمان.
وليمشِ مع وزرائِهِ وأعوانِهِ على خُطىً تستشرِفُ قادمَ الأزمان.
وليعلم أنَّ نجاحهُ في تجربته الرئاسيّة لا تفتقرُ بالضرورةِ إلى زمنٍ طويل، وتجديدٍ مُتتابعٍ لرئاسته. فها هو العجيب عمرُ بن عبد العزيز ـ رضيَ الله عنه ـ حَكَمَ المُسلمين لمدّة سنتين وخمسةَ أشهرٍ وأيّاماً فقط، إنّها مُدّةٌ لعلّها لا تَصِلُ إلى عُشْرِ مدّة حُكمِ كثيرٍ من الحُكّامِ الآن، ومعَ ذلك فقد أرغمَ التّاريخ إرغاماً أن يكتُبَ سيرته بمدادٍ من ذهب، وعباراتٍ من قَصب، حتّى أصبحَ العدلُ لا يُذكرُ إلاّ ويُذكرُ معهُ عمرُ بن عبد العزيز، ألا فحيّا الله هذه السيرة العطرة، وتِلكَ السّحابة المُمطرة، وأسكنَ صاحِبها جِناناً نَضِرة.
وأمّا الرعيّة فليتوبوا إلى ربّهم وخالقهم، وليُحسنوا الظنَّ ببارئهم ورازقهم.
ولا يَحسُنُ إحسَانُ الظنِّ إلا مع العملِ وبذلِ المُستطاع، ولا يصدقُ عزمٌ إلاّ بتغييرِ كثيرٍ من الصّفات والطّباع، فإنّا إن تقرّبنا إلى ربِّنا بشبرٍ تقرّبَ إلينا بذراعٍ ثمَّ باع.
ولنترُك تلكَ الفلسفة التي يعتمِدُ عليها البعضُ فيقول:
(أنا واحِدٌ في هذه الأمّة، أيُمكنُ أن يؤثّرَ تقصيري وذنبي في استجلابِ عقابِ الله ـ تعالى ـ وتسلُّطِ الأعداء؟!). فنقولُ: نعم؛ فإنَّ لك مُشابهاً ثانياً يقولُ نفسَ مقالتك، وسيأتي الثالِثُ كذلك لينهجَ نفسَ المنهج، فتجتمِعُ تلك المعاصي وذلك التقصير ليكون سبباً في هواننا على الله ـ تعالى ـ، ومن ثمَّ هواننا على الأعداء.(3/112)
وكذلك تماماً. لنترك تلكَ الذريعة التي يعتمدُ عليها البعضُ في إعذارِ نفسه وإسقاطِ مسؤوليّاته، فيقول أحدهم: (أنا واحِدٌ في هذه الأمّة الجريحة، أيُمكن أن أُقدّم شيئاً أمامَ هذه الإخفاقاتِ العظيمة في كثيرٍ من مجالاتِ الحياة؟!). فنقولُ له أيضاً: نعم؛ يمكن أن تقدّم شيئاً، وإنَّ من أوّل ما عليك أن تقدّمه هو أن تنسلِخَ من هذه النفسيّة المُحطّمة، وتلكَ الرّوحِ اليائِسة، فإنَّ من صَدَقَ مع الله صَدَقَ الله معه، ولن يتخلّف وعدُ الله ـ تعالى ـ الذي حكاهُ في آخرِ سورة العنكبوت فقال: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} [العنكبوت: 69].
فإلى البذلِ والبِناء أيُّها المسلمون!
لِيَعمل الأفرادُ والجماعات، ولتبذُل المُؤسّساتُ والهيئات.
وليذهب كلٌّ إلى ما يُتقنُهُ ويُبْدِعُ فيه.
وليكُن القاسِمُ المُشترك بيننا هو خِدمةُ هذا الدين، ومحبّةُ النفعِ للعالمين.
ولنتعاون فيما بيننا ما دُمنا منطلقينَ من أُصولٍ واحدة. وصادرينَ عن مرجعيّةٍ شرعيّةٍ ثابتة، ومتفقينَ على خُطوطٍ واضِحةٍ لا لبسَ فيها ولا غُموض.
ومن لا يملكُ مدَّ يدِ العون فليكُفّ يدَ الهدم.
ومن لا يُتقِنُ التشجيعَ والتَّصويب فليَقْصُر عن بغيضِ التشويهِ والتثريب.
--------------------------------------------------------------------------------
(1) أخرج تلك القصة الإمام مُسلم في صحيحه: كتاب الزُّهد، رقم (7436).
(1) أخرجه البخاري في صحيحه: كتاب الطّب، رقم (5705). وأخرجه مُسلم في صحيحه: كتاب الإيمان، رقم (526).
--------------------------------------------------------------------------------
مجلة البيان، العدد (226) .
* * *
أعد المقالات للشاملة
أبو عبد الرحمن الشهاوي
magshahawey@gmail.com(3/113)