http://www.albayan-magazine.com/zwaya/trbwi/index.htm
تقديم :
مكثت العملية التربوية في كثير من ديار المسلمين دهراً تقوم على الرؤى والخبرات المتراكمة لدى المربين على اختلاف ثقافاتهم دون تحليل أو دراسة أو منهج.
ومع تقدم بعض البلاد الإسلامية في هذا المجال ومحاولاتها لتطويره؛ فلا تزال الحاجة ماسة على مستوى المؤسسات التعليمية والجماعات الدعوية ودور التحفيظ، حتى على المستوى الفردي، وتقريباً لما يدور في ساحة الفكر التربوي من دراسات وبحوث ومناقشات؛ قامت مجلة البيان بفتح زاوية (دراسات تربوية).
ونظراً لأهمية هذه الزواية؛ قام موقع المجلة بعرض الدراسات والبحوث والمقالات التي نشرت فيها؛ خدمة لزواره الكرام من الباحثين والدارسين والمثقفين وغيرهم.
* * *(1/1)
http://www.albayan-magazine.com/zwaya/trbwi/1.htm
المتابعة في العمل التربوي
سالم بن أحمد البطاطي
إن العمل التربوي عمل ضخم كبير وضرورة لا تستغني عنه الأمة الإسلامية، ويكفي في بيان علو منزلة التربية وصف الله ـ سبحانه وتعالى ـ لنبيه -صلى الله عليه وسلم- بأنه مزكٍّ للنفوس ومربٍّ لها، فقال: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ} [الجمعة: 2] وهذا العمل التربوي الكبير بحاجة دائماً إلى تقويم وتوجيه مستمر، حتى نتخلص ـ بإذن الله ـ من ضعف الإنتاجية في أعمالنا التربوية، وحتى نحصل بإذن الله على الثمار اليانعة من هذه الأعمال، وحتى لا تهدر الجهود والطاقات في غير طائل. ومن ينظر نظرة متعمقة في واقع العمل التربوي اليوم يجد أن ثمة ثغرات تتخلل هذا العمل الضخم الكبير، مما يتسبب في تأخيرٍ في دفع عجلة هذه الصحوة المباركة إلى الأمام، ومن هذه الثغرات عدم ترسُّخ مفهوم المتابعة وتطبيقه في الواقع لدى بعض العاملين في حقل الدعوة والتربية، فتسمع أن بعض الأعمال الدعوية والتربوية قد توقفت، ومن الأسباب ضعف المتابعة.. وتسمع عن تساقط بعض الشباب عن هذا الطريق، ومن الأسباب ضعف المتابعة، وتشعر بضعف إنتاجية وعمل بعض المحاضن التربوية، ومن الأسباب ضعف المتابعة.
ولعلنا في هذه الوريقات نلقي بعض الضوء حول هذا المفهوم التربوي المهم، وأنا مؤمن بأنها لن تفي هذا الموضوع الكبير حقه، ولكن هي إشارات عابرة وفتح باب للباحثين حول هذا المفهوم.
إن هناك مسوغات تدفعنا للحديث عن هذا الموضوع المهم، منها:
1 - أن التربية عملية مستمرة، لا يكفي فيها توجيه عابر من المربي مهما كان مخلصاً، ومهما كان صواباً في ذاته، إنما يحتاج إلى المتابعة والتوجيه المستمر(1).(1/2)
2 - أن المتلقي نفسٌ بشرية وليس آلة تضغط على أزرارها مرة، ثم تتركها وتنصرف إلى غيرها، فتظل على ما تركتها عليه، بل هي نفس بشرية دائمة التقلب، متعددة المطالب، متعددة الاتجاهات، وكل تقلب، وكل مطلب، وكل اتجاه، في حاجة إلى توجيه.
فالعجينة البشرية عجينة عصيه تحتاج إلى متابعة دائماً.. وليس يكفي أن تضعها في قالبها المضبوط مرة فتنضبط إلى الأبد وتستقر هناك، بل هناك عشرات من الدوافع الموارة في تلك النفس دائمة البروز هنا، ودائمة التخطي لحدود القالب المضبوط من هنا ومن هناك(1).
3 - أن من صفات المربي الناجح المتابعة، والشخص الذي لا يجد في نفسه الطاقة على المتابعة والتوجيه المستمر شخص لا يصلح للتربية ولو كان فيه كل جميل من الخصال(2).
4 - يواجه الشباب المسلم في هذا الزمان تياراً من الفتن والصوارف عن دين الله ـ عز وجل ـ: فتن الشبهات التي تشككه في دينه وعقيدته، وفتن الشهوات المحرمة التي تقوده إلى نارها ولأوائها(3). فالعملية طردية كلما كثرت الفتن وانتشرت المنكرات عظم دور المتابعة، وكان الاهتمام بها آكد .. قال -صلى الله عليه وسلم-: «بادروا بالأعمال فتناً كقطع الليل المظلم: يصبح الرجل مؤمناً، ويمسي كافراً، أو يمسي مؤمناً ويصبح كافراً، يبيع نفسه بعرض من الدنيا»(4).
5 - أننا مسؤولون عمن نربيهم يوم القيامة. قال -صلى الله عليه وسلم-: «كلكم راع، وكلكم مسؤول عن رعيته»(5)، وقال -صلى الله عليه وسلم-: «ما من رجل يلي أمر عشرة فما فوق ذلك إلا أتى الله يوم القيامة مغلولاً يده إلى عنقه، فكه بره، أو أوثقه إثمه، أولها ملامة، وأوسطها ندامة، وآخرها خزي يوم القيامة»(6). وقال -صلى الله عليه وسلم-: «ما من عبد يسترعيه الله رعية يموت يوم يموت وهو غاش لرعيته إلا حرم الله عليه الجنة»(7).(1/3)
6 - أن السلف الصالح ـ رضوان الله عليهم ـ اهتموا بهذه الصفة ـ صفة المتابعة ـ بل كانوا يحثون المربين عليها. يقول ابن جماعة ـ رحمه الله ـ: (إذا غاب بعض الطلبة أو ملازمي الحلقة زائداً عن العادة سأل عنه وعن أحواله وعمن يتعلق به، فإن لم يخبر عنه بشيء أرسل إليه، أو قصد منزله بنفسه، وهو أفضل؛ فإن كان مريضاً عاده، وإن كان في غم خفض عليه، وإن كان مسافراً تفقد أهله ومن تعلق به، وسأل عنهم وتعرض لحوائجهم وأوصله بما أمكن، وإن كان فيما يحتاج إليه فيه أعانه، وإن لم يكن شيء من ذلك تودد له ودعا له»(8). ويقول الإمام النووي وهو ينصح المربي ويضع له واجبات منها: «وينبغي أن يتفقدهم ـ أي الطلاب ـ ويسأل عمن غاب منهم»(9).
7 - أن صفة المتابعة من صفات الأنبياء ـ عليهم السلام ـ كما في قصة الهدهد وسليمان عليه السلام. قال ـ تعالى ـ: {لأُعَذِّبَنَّهُ عَذَابًا شَدِيدًا أَوْ لأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ} [النمل: 21] يقول السعدي ـ رحمه الله ـ: «دل هذا على كمال عزمه وحزمه، وحسن تنظيمه لجنوده، وتدبيره بنفسه للأمور الصغار والكبار حتى إن لم يهمل هذا الأمر وهو تفقد الطيور، والنظر هل هي موجودة كلها أم مفقود منها شيء». ويقول أيضاً ـ رحمه الله ـ: «وإنما تفقد الطير لينظر الحاضر منها والغائب، ولزومها للمراكز والمواضع التي عينها لها». وهي أيضاً من صفات نبينا محمد -صلى الله عليه وسلم- كما سيأتي.
8 - أن المتابعة من أسس الإدارة وقواعد التخطيط ومما يعين على تحسين الإنتاجية. يقول صاحب كتاب (الإيجابية في حياة الدعاة) في قصة الهدهد وسليمان: «وبالطبع فإن تفقد الأمير للأتباع، وأخذه بالحزم ثم المحاسبة، وتبين العذر: كل ذلك من أسس الإدارة وقواعد التخطيط ومناهج التربية»(10).
ü المتابعة منهج نبوي:
لقد كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حريصاً على متابعة أصحابه وتفقدهم ومما يدل على ذلك ما يلي:(1/4)
1 - متابعتهم في الأعمال الصالحة:
من حديث أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «من أصبح منكم اليوم صائماً؟ قال أبو بكر: أنا. قال: فمن تبع منكم اليوم جنازة؟ قال أبو بكر: أنا. قال: فمن أطعم منكم اليوم مسكيناً؟ قال أبو بكر: أنا. قال: فمن عاد منكم اليوم مريضاً؟ قال أبو بكر: أنا. فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ما اجتمعن في أمرئ إلا دخل الجنة»(11).
2 - متابعتهم في زمن الفتن والابتلاءات:
ومن ذلك مروره -صلى الله عليه وسلم- بآل ياسر وهم يعذبون وقوله لهم: «صبراً آل ياسر فإن موعدكم الجنة»(12).
3- متابعتهم في مشكلاتهم الصحية وأمراضهم:
أ - عن زيد بن أرقم ـ رضي الله عنه ـ قال: «أصابني رمد، فعادني النبي -صلى الله عليه وسلم-. قال: فلما برئت خرجت. قال: فقال لي رسول الله: «أرأيت لو كانت عيناك لما بهما ما كنت صانعاً؟» قلت: لو كانت عيناي بما بهما صبرت، واحتسبت .. قال: لو كانت عيناك بما بهما، ثم صبرت واحتسبت للقيت الله ـ عز وجل ـ ولا ذنب لك»(13)، وهذا يدل على أن المتربي يفرح بمتابعة المربي له وبالاهتمام به والسؤال عنه.
ب - أخرج البخاري من حديث جابر بن عبد الله ـ رضي الله عنهما ـ قال: «مرضت مرضاً فأتاني النبي -صلى الله عليه وسلم- يعودني وأبو بكر وهما ماشيان، فوجداني أغمي عليَّ، فتوضأ النبي -صلى الله عليه وسلم- ثم صب وضوءه عليَّ، فافقت؛ فإذا النبي -صلى الله عليه وسلم-»(14).(1/5)
ت - في يوم خيبر قال -صلى الله عليه وسلم-: «لأعطين الراية غداً رجلاً يحب الله ورسوله، ويحبه الله ورسوله، يفتح الله على يديه» .. فبات الناس يدوكون ليلتهم أيهم يعطاها؟ فلما أصبح الناس غدوا على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كلهم يرجو أن يُعطاها فقال: «أين علي بن أبي طالب؟ قيل: يشتكي عينيه. فأرسلوا إليه، فأتي به، فبصق رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في عينيه ودعا له، فبرئ كأن لم يكن به وجع»(1). وعن ابن أبي وقاص، فقال: «ادعوا إليَّ علياً، فأتي به أرمد»(2). وعن طريق إياس بن سلمة بن الأكوع عن أبيه قال: «فأرسلني إلى علي فجئت به أقوده أرمد»(3).
ث - عن سعد بن أبي وقاص ـ رضي الله عنه ـ قال: «كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يعودني عام حجة الوداع من وجع اشتد بي، فقلت: إني قد بلغ بي من الوجع ما ترى..»(4).
ج - عن عبد الله بن عمر ـ رضي الله عنهما ـ قال: «اشتكى سعد بن عبادة شكوى له، فأتاه النبي -صلى الله عليه وسلم- يعوده مع عبد الرحمن بن عوف وسعد بن أبي وقاص وعبد الله بن مسعود، فلما دخل عليه وجده في غاشية أهله، فقال: قد قضى؟ قالوا: لا، يا رسول الله! فبكى النبي -صلى الله عليه وسلم-. فلما رأى القوم بكاء النبي -صلى الله عليه وسلم- بكوا..» رواه البخاري في كتاب الجنائز.
4 - متابعتهم في مشكلاتهم الاجتماعية والأسرية، ومن ذلك:
أ - سعيه -صلى الله عليه وسلم- في أمر جليبيب حتى زوَّجه .. وذلك كما في مسند الإمام أحمد عندما قال -صلى الله عليه وسلم- لرجل من الأنصار: زوِّجني ابنتك! فقال: نَعَم! وكرامة يا رسول الله! ونِعْم عين! قال: إني لست أريدها لنفسي. قال: فلمن يا رسول الله؟ قال: لجليبيب».(1/6)
ب - قصة جابر بن عبد الله بن عمرو بن حرام رضي الله عنهما، وقصته مشهورة؛ قال: تزوجت امرأة في عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فلقيت النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: يا جابر! تزوجتَ؟ قلت: نعم! قال: بكر أم ثيِّب؟ قلت: ثيب، قال: فهلاَّ بكراً تلاعبها، قلت: يا رسول الله! وإن لي أخوات، فخشيت أن تدخل بيني وبينهن. قال: فذاك إذن! إن المرأة تنكح على دينها ومالها وجمالها؛ فعليك بذات الدين تَرِبَت يداك» (5).
ت - قصة عبد الله بن أبي حدرد، فقد حدث عن نفسه أنه تزوج امرأة فأتى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يستعينه في صداقها، فقال: كم أصدقت؟ قال: قلت: مائتي درهم! ثم أرسله -صلى الله عليه وسلم- في سرية فأصاب منها»(6).
ث - حديث سهل بن سعد قال: جاء رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بيت فاطمة فلم يجد علياً في البيت، فقال: أين ابن عمك؟ قالت كان بيني وبينه شيء فغاضبني فخرج فلم يَقِلْ عندي. فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لإنسان: انظر أين هو؟ فجاء فقال: يا رسول الله! هو في المسجد راقد. فجاءه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهو مضطجع قد سقط رداؤه عن شقه؛ وأصابه تراب، فجعل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يمسحه عنه، ويقول: قم أبا تراب! قم أبا تراب»(7).
ج - عن ابن عباس ـ رضي الله عنه ـ أن زوج بريرة كان عبداً يقال له مغيث، كأني أنظر إليه يطوف خلفها يبكي ودموعه تسيل على لحيته، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لعباس: يا عباس! ألا تعجب من حب مغيثٍ بريرةَ، ومن بغض بريرة مغيثاً؟! فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: لو راجعْتِهِ! قالت: يا رسول الله! أتأمرني؟ قال: إنما أنا أشفع. قالت: فلا حاجة لي فيه(8).
5 - متابعته في مشكلاتهم الاقتصادية:(1/7)
كما في قصة سلمان الفارسي ـ رضي الله عنه ـ عندما أتى للرسول -صلى الله عليه وسلم- بمثل بيضة الدجاجة من ذهب من بعض المغازي. فقال -صلى الله عليه وسلم-: «ما فعل الفارسي المكاتب؟» قال: فدعيت له، فقال: خذ هذه فأدِّ بها ما عليك يا سلمان»(9).
6 - متابعتهم في أفراحهم:
وذلك بإجابة دعوتهم في أفراحهم، ومن ذلك أن أبا أسيد الساعدي ـ رضي الله عنه ـ دعا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في عرسه فكانت امرأته خادمهم يومئذ وهي العروس».
7 - متابعتهم في أحزانهم ومواساتهم:
أخرج النسائي بإسناد حسن من طريق معاوية بن قرة عن أبيه؛ قال: كان النبي -صلى الله عليه وسلم- إذا جلس يجلس إليه نفر من أصحابه وفيهم رجل له ابن صغير يأتيه من خلف ظهره فيقعده بين يديه فهلك، فامتنع الرجل أن يحضر الحلقة لذكر ابنه فحزن عليه، ففقده النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: ما لي لا أرى فلاناً؟ قالوا: يا رسول الله! بُنيُّه الذي رأيته هلك، فلقيه -صلى الله عليه وسلم-، فسأله عن بُنيه فأخبره أنه هلك. فعزاه عليه، ثم قال: يا فلان! أيما كان أحب إليك: أن تُمتَّعَ به عمرك، أو لا تأتي غداً إلى باب من أبواب الجنة إلا وجدته قد سبقك إليه يفتحه لك؟ قال: يا نبي الله! بل يسبقني إلى الجنة فيفتحها لي لهو أحب إليَّ قال: فذلك لك»(1).
8 - متابعتهم في الجهاد في سبيل الله، ومن ذلك:
أ - فقده -صلى الله عليه وسلم- لجليبيب في أحد المعارك؛ حيث سأل أصحابه: هل تفقدون أحداً؟ قالوا: لا. قال: لكني أفقد جليبيباً. قال: فاطلبوه. فوجدوه إلى جنب سبعة قتلهم ثم قتلوه، فقالوا: يا رسول الله! ها هو ذا جنب سبعة قتلهم ثم قتلوه. فأتاه النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: قتل سبعة ثم قتلوه! هذا مني، وأنا منه ـ مرتين أو ثلاثة»(2).(1/8)
ب - قوله -صلى الله عليه وسلم- يوم مؤتة مخبراً بالوحي قبل أن يأتي إلى الناس الخبر من ساحة القتال: «أخذ الراية زيد فأصيب، ثم أخذ جعفر فأصيب، ثم أخذ ابن رواحة فأصيب وعيناه تذرفان حتى أخذ الراية سيف من سيوف الله حتى فتح الله عليهم»(3).
ت - قول كعب ـ رضي الله عنه ـ في قصته: «ولم يذكرني رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حتى بلغ تبوك، فقال وهو جالس في القوم بتبوك: «ما فعل كعب بن مالك؟ حتى قال كعب: بينما هو على ذلك رأى رجلاً مبيضاً يزول به السراب، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: كن أبا خيثمة. فإذا هو أبو خيثمة»(4).
ث - قال زيد بن ثابت: يعثني رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يوم أحد أطلب سعد بن الربيع، فقال لي: إن رأيته فاقرئه مني السلام، وقل له: يقول لك رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: كيف تجدك؟ قال: فجعلت أطوف بين القتلى فأتيته وهو بآخر رمق وفيه سبعون ضربة ما بين طعنة برمح وضربة بسيف ورمية بسهم، فقلت: يا سعد! إن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقرأ عليك السلام، ويقول لك: أخبرني كيف تجد؟ فقال: وعلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- السلام قل له: يا رسول الله! أجد ريح الجنة»(5).
ومما يدل على متابعته -صلى الله عليه وسلم- لأصحابه ما ورد عند الدارمي وأبي داود أنه -صلى الله عليه وسلم- كان يسأل عن أصحابه في صلاة الفجر فيقول: أين فلان، وأين فلان؟».
ومما ورد أيضاً عن محمد بن سعد: «أتى واثلة بن الأسقع رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فصلى معه الصبح، وكان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إذا صلى وانصرف تصفح أصحابه، فلما دنا من واثلة، قال: من أنت؟ فأخبره. فقال: ما جاء بك؟ قال: جئت أبايع. فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: فيما أحببتَ وكرهتَ؟ قال: نعم! فأسلم وبايعه(6).(1/9)
وما ورد أيضاً في صحيح البخاري في كتاب المنافق عن أنس بن مالك ـ رضي الله عنه ـ أن النبي -صلى الله عليه وسلم- افتقد ثابت بن قيس ـ رضي الله عنه ـ فقال رجل: يا رسول الله! أنا أعلم لك علمه. فأتاه فوجده جالساً في بيته منكساً رأسه، فقال: ما شأنك؟ فقال: شر. ـ كان يرفع صوته فوق صوت النبي -صلى الله عليه وسلم-؛ فقد حبط عمله، وهو من أهل النار ـ فأتى الرجل، فأخبره أنه قال كذا وكذا، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: اذهب إليه فقل له: إنك لست من أهل النار، ولكن من أهل الجنة(7).
وما ورد أيضاً في صحيح البخاري في كتاب الجنائز عن سمرة بن جندب ـ رضي الله عنه ـ قال: كان النبي -صلى الله عليه وسلم- إذا صلى الصبح أقبل علينا بوجهه، فقال: من رأى منكم الليلة رؤيا؟ فإن رأى أحد قصها، فيقول: ما شاء الله. فسألنا يوماً فقال: هل رأى منكم أحد رؤيا؟ فقلنا: لا ..»(8).(1/10)
من الاستقراء لما مضى يتضح لنا أنه -صلى الله عليه وسلم- كان يتابع أصحابه رضوان الله عليهم في شتى المجالات: يتابعهم في عمل الأعمال الصالحة، وفي زمن الفتن والابتلاءات، ويتابعهم في مشكلاتهم الاجتماعية والأسرية، ويتابعهم في مشكلاتهم الاقتصادية والصحية، ويتابعهم في الجهاد في سبيل الله، ويتابعهم في أفراحهم وأحزانهم، ويتفقدهم ويعُودُهم ويسأل عنهم، ويرسل إليهم؛ مع ما عنده -صلى الله عليه وسلم- من الأشغال والارتباطات والهموم الكثيرة، بل هذه الأشغال والارتباطات والهموم لم تمنعه -صلى الله عليه وسلم-، ولم تشغله عن متابعة الفقير المسكين الذي كان يقمُّ المسجد والسؤال عنه وتفقده؛ فعن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ أن أسود ـ رجلاً أو امرأة ـ كان يقمُّ المسجد، فمات ولم يعلم النبي -صلى الله عليه وسلم- بموته، فذكره ذات يوم، فقال: ما فعل ذلك الإنسان؟ قالوا: مات يا رسول الله! قال: أفلا آذنتموني؟! فقالوا: إنه كان كذا وكذا قصته، قال: فحقروا شأنه. قال: فدُّلوني على قبره. فأتى قبره فصلى عليه»(9).
لقد كان -صلى الله عليه وسلم- نِعم المربي ـ بأبي هو وأمي ـ لقد حاز على جماع الأخلاق وجميل الصفات، وارتسمت فيه صفات القائد الناجح والمربي الناصح؛ فحري بالمربين والدعاة الاقتداء به. قال - تعالى-: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ}
[الأحزاب: 21] .
ü السلف الصالح والمتابعة:
لقد كان علماء الأمة حريصين على متابعة طلابهم وتفقدهم إذا غابوا، والسؤال عنهم، بل الذهاب إلى بيوتهم وزيارة مرضاهم وتشييع جنائزهم.(1/11)
1 - فهذا الإمام أحمد بن حنبل ـ رحمه الله تعالى ـ: فقدَ أحد طلابه في الحلقة وهو بقيُّ بن مخلد، وكان مريضاً؛ فما كان منه إلا أن سأل عنه، فأُعلم بأنه مريض، قال بقيٌّ: "فقام من فوره مقبلاً إليَّ عائداً لي بمن معه من طلاب العلم، فسمعت الفندق قد ارتج بأهله، وأنا أسمعهم يقولون: هو ذاك، أبصروه، هذا إمام المسلمين مقبلاً، فبدر إليَّ صاحب الفندق مسرعاً، فقال لي: يا أبا عبد الرحمن! هذا أبو عبد الله أحمد بن حنبل إمام المسلمين مقبلاً إليك عائداً لك.. فدخل فجلس عند رأسي، فما زادني على هذه الكلمات، فقال لي: يا أبا عبد الرحمن أبشر بثواب الله! أيام الصحة لا سقم فيها، وأيام السقم لا صحة فيها أعلاك الله إلى العافية، ومسح عنك بيمينه الشافية، فرأيت الأقلام تكتب لفظه(1).
2 - ذكر الذهبي ـ رحمه الله ـ: أن سعيد بن المسيب ـ رحمه الله ـ زوَّج ابنته لأحد طلابه، وهو كثير بن المطلب بن أبي وداعة رحمه الله؛ وذلك عندما فقده من حلقة العلم في المسجد وسأل عنه فأُخبر بأن زوجته توفيت، فقال له: ألا أخبرتنا فشهدناها؟ ثم قال: هل استحدثتَ امرأة؟ فقلت: يرحمك الله؛ ومن يزوجني وما أملك إلا درهمين أو ثلاثة؟ قال: أنا. فزوجه بدرهمين، وهي المرأة التي خطبها عبد الملك بن مروان لابنه الوليد فأبى عليه، وزوَّجها الطالبَ الملتحق بحلقة العلم.(1/12)
3 - وهذا أبو يوسف من أخص تلاميذ أبي حنيفة ـ رحمه الله ـ يقول: «كنت أطلب الحديث وأنا مقلُّ المال، فجاء إليَّ أبي وأنا عند الإمام، فقال لي: يا بني! لا تمدن رجلك معه؛ فإن خبزه مشوي وأنت محتاج. فقعدت عن كثير من الطلب، واخترت طاعة والدي؛ فسأل عني الإمام وتفقدني، وقال ـ حين رآني: ما خلَّفك عنا؟ قلت: طلب المعاش. فلما رجع الناس وأردت الانصراف دفع إليَّ صرة فيها مائة درهم، فقال: أنفق هذا! فإذا تم أعلمني، والزم الحلقة؛ فلما مضت مدة دفع إليَّ مائة أخرى، وكلما تنفد كان يعطيني بلا إعلام، كأنه يُخبَر عني بنفادها حتى بلغتُ حاجتي من العلم. أحسن الله مكافأته، وغفر له». لقد صار هذا التلميذ أعز من أبناء العالم، حيث حمل لواء العلم بعد الإمام ومقرر المذهب من بعده، ولم يحصل له أن يتعلم ويصل إلى ما وصل إليه في الفقه والعلم لو لم يجد الإكرام والبذل والمتابعة من أبي حنيفة رحمه الله(2).
ü مظاهر ضعف المتابعة:
لا شك أن مظاهر ضعف المتابعة قد تكون في أكثر من مجال، ولكن سأخص حديثي هنا في مظاهر ضعف متابعة المتربين في المحضن التربوي؛ وذلك لأهمية هذه المحاضن؛ إذ فيها يُصنع الرجال، وتُصقل النفوس، ويخرج الجادون من أحضانها. لذلك كان لزاماً علينا إلقاء الضوء على هذا المجال المهم، ومن هذه المظاهر ما يلي:
1 - الغياب المتكرر والتأخر الملحوظ من بعض المتربين دون معرفة السبب، وانقطاع بعض المتربين في المحضن عن حلقات التحفيظ والدروس العلمية بعد أن كانوا من المتميزين في الحضور دون أن يُشعَر بذلك المربي.
2 - الاضطراب في التنسيق والمواعيد.
3 - إصابة بعض أفراد المحضن بالفتور، ومن ثم استفحاله دون أن يشعر بذلك المربي.
4 - وجود مشكلات بين المتربين، واستفحال ذلك، ومن أمثلته:
أ - وجود ارتباطات عاطفية وتعلق بين المتربين دون أن يحس بذلك المربي.(1/13)
ب - وجود خلافات بين بعض المتربين في المحضن دون أن يشعر بذلك المربي، وهذه الخلافات لا شك أنها خطيرة، إذ قد تؤدي إلى سقوطهم أو سقوط بعضهم بسببها إذا لم يتم معالجتها واكتشافها من أول الأمر وغيرها من المشكلات.
5 - عدم متابعة البرنامج الذي وضع لهم سواء كان برنامج قراءة أو سماع أشرطة أو لقاء تربوياً.
6 - ضعف الاتصال بالمتربين ومزاورتهم، فتجد الأسبوع يمر دون أن يتصل أو يفكر بزيارة أحدهم.
7 - تغير سلوك بعض المتربين دون أن يشعر بذلك المربي، ولا شك أن لهذا التغير أسباباً.
8 - ضعف القاعدة الأخوية بين المربي والمتربي.
ü آثار ضعف المتابعة:
1 - ضعف العمل في بعض المحاضن التربوية بسبب ضعف المتابعة.
2 - تساقط بعض الشباب عن هذا الطريق وعدم الاستمرار فيه. ومن الأسباب وضعف المتابعة.
3 - إهدار كثير من الطاقات والأوقات في بعض الأعمال الدعوية والتربوية سواء في المحضن أو في غيره. ثم إصابة هذه الأعمال بالإهمال وضعف المتابعة.
4 - إخراج جيل هش بعيد عن الجدية لا يقف أمام الفتن والمغريات.
5 - إخراج جيل يحمل بعض أمراض القلوب بسبب ضعف المتابعة التي من فوائدها تخلية القلب من هذه الأمراض.
6 - أن المتربي لا يمكن أن ينشرح صدره للتلقي من شخص يحس أنه لا يهتم به، ومن الاهتمام المتابعة.
7 - ضعف الإنتاجية في المحاضن التربوية.
ü أسباب ضعف المتابعة:
1 - ضعف حضور الهمّ الدعوي لدى بعض المربين نتيجة عدم استشعار المسؤولية والأمانة، وأنه مسؤول عمن يربيهم، وأن الله ـ عز وجل ـ قد جعلهم أمانة في عنقه، وأنه سيُسأل يوم القيامة: أحَفِظَهم أم ضيعهم؟ أسعى في نصحهم، أم فرط في ذلك؟(1/14)
2 - الكسل والخمول؛ لأن المتابعة عملية صعبة تحتاج إلى صبر ومصابرة؛ لذلك كان المربي الأول محمد ـ عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم ـ يستعيذ من العجز والكسل؛ لأنهما من العوائق التي تعيق المربي في أداء مهمته. كما ثبت عنه في دعائه: "اللهم إني أعوذ بك من العجز والكسل»(1).
3 - الانشغال بالأعمال الثانوية التي بالاستطاعة تفويضها للغير كالانشغال بالبرامج الترفيهية لمن يربيهم مع أنه باستطاعة المربي أن يفوض هذه البرامج لغيره، ويكون هو متابعاً لذلك. فهذه من الأمور الثانوية التي يصلح فيها التفويض مع المتابعة والتوجيه.
4 - عدم إدارة الوقت إدارة جيدة، فتجده مع وقته في فوضى قد أهمل متابعة نفسه فضلاً عن غيره.
5 - الاتكال على غيره في قضية المتابعة، فلربما اتكل على أحد المتربين ممن يعتمد عليه. والمفترض أن لا يجعل المربي بينه وبين من يربيهم وساطة وخاصة في القضايا المهمة، بل يباشر هو بنفسه عملية التربية وعملية المتابعة؛ فمهما يكن فالمربي له هيبته وشخصيته المتميزة وتأثيره الملموس، وهي صفات قد لا تكون فيمن اتكل عليه في قضية المتابعة.
6 - الانشغال بالزوجة والأبناء. يقول الله ـ تعالى ـ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوًّا لَّكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ} [التغابن: 14]. ويقول ـ عز وجل ـ: {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِندَهُ حُسْنُ الْمَآبِ} [آل عمران: 14]. ومعنى هذه الآية أن حب هذه الأشياء، وفي مقدمتها النساء والبنون إذا كان مقدماً على طاعة الله ورسوله؛ فإنه مستقبح مذموم صاحبه ولا شك أن متابعة المربي لمن يربيهم طاعةٌ لله عز وجل(2).(1/15)
7 - الانشغال بالتجارات والعقارات والوظيفة (حتى دخل حبها في قلبه ولم يستطع إخراجها منه، فأصبحت التجارة والوظيفة أكبر همه؛ أصبحت غاية وليست وسيلة يبذل أمامها كل شيء حتى ولو كان شيئاً من دينه، فشغلته عن دعوته وعن متابعة من يربيهم)(3).
8 - ضعف الترتيب والتخطيط والتنظيم؛ فلا توجد لديه برامج مرتبة ومنظمة ومنسقة يستطيع من خلالها المتابعة، بل تجد أموره وبرامجه قد عمتها الفوضى والتيه، ولو كان مرتباً ومنظماً لاستطاع المتابعة.
9 - عدم معرفة فقه الأولويات، ومن ثم يضعف تطبيق مفهوم التوازن في الحياة، ويتضخم جانب على حساب جانب آخر، ومن ثم يتم الحلل في قضية المتابعة.
ü الآثار الإيجابية للمتابعة:
1 - الثبات والاستمرار على هذا الطريق وعدم النكوص عنه من قِبَل المتربين؛ فكم من شاب وُفِّق للثبات على هذا الطريق رغم العقبات والمصاعب التي واجهها، وكان ذلك بتوفيق الله أولاً، ثم لمتابعة المربي له في تلك العقبات والمصائب التي كان لها الأثر الطيب في ثباته، وكم من شاب قد انحرف عن الجادة وكان سبب ذلك الإهمال وضعف المتابعة فضلاً عن عدمها.
2 - استمرار خط الصعود والتطور للمتربي؛ لأن من فوائد المتابعة التقويم المستمر لمن نربيهم، وذلك بمعرفة نقاط الضعف ومعالجتها، ومعرفة نقاط القوة وتعزيزها، ومن ثم يتطور المتربي في كنف المتابعة.
3 - قوة العمل التربوي وحسن الإنتاجية: فكما أن من فوائد المتابعة تقويم الفرد وتطويره؛ فكذلك يكون في العمل التربوي فهي تقوِّمه وتعالج القصور الذي فيه، وتعزز نقاط القوة، وتسعى في تطويره وتكميله.
4 - تعميق روح الأخوة وتعزيز الثقة بين المربي والمتربي أن مربيه مهتم به متابع له؛ فإن ذلك سوف يعزز الثقة بينه وبين المربي، وسوف ينشرح صدره للتلقي منه، وستتعمق روح الأخوة بينهما.(1/16)
5 - قيام المتربي بذاته بعملية المتابعة بدلاً من المربي، ولكن لا يحدث أن يستغني الأمر عن المتابعة من المربي؛ لكنها تولد مبادرة ذاتية للمتربي بأن يتابع نفسه بنفسه.
6 - صقل شخصية المتربي؛ وذلك بمعالجة جوانب القصور كما حصل لابن عمر ـ رضي الله عنهما ـ حينما أثنى عليه الرسول -صلى الله عليه وسلم- وقال له: «نِعمَ الرجل عبد الله لو كان يقوم الليل»، فحِرْص الرسول -صلى الله عليه وسلم- على متابعته أصحابه جعله ينبه عبد الله لما حصل عنده من قصور، بل يستمر على متابعته لعبد الله ليعلم مدى حرصه على معالجة هذا النقص؛ فلما علم بمعالجة هذا الصحابي لما انتابه من نقص بهذا النفل أوصاه -صلى الله عليه وسلم- بألا يدع قيام الليل، فحفزه بذلك وقال: «يا عبد الله! لا تكن كفلان كان يقوم الليل فتركه». من أخبار المنتكسين بتصرف يسير.
7 - تبني الثقة في نفس المتربي، بحيث يشعر بأن له قيمة ومنزلة ومكانة؛ وبرهان ذلك متابعة المربي له.
ü من محاور المتابعة:
أ - متابعة المربي نفسه:
وذلك بأن يسعى في تطوير نفسه، ويسعى أيضاً في نقد ذاته والتخلص من العيوب الموجودة فيه، وكل ذلك لا يتسنى إلا بمتابعة نفسه والنظر فيها ومراجعتها بعد كل حين؛ فعملية التخلية والتحلية عملية مستمرة لا يستغني عنها المربي أبداً، وهذه العملية الضخمة لا تتم إلا بالمتابعة (فإذا تمت تخلية النفس من اتباع الهوى، وتحليتها بفعل الخيرات والفضائل وجب بعد ذلك أن ينصبَّ الاهتمام على متابعة النفس في فعل الواجبات والمستحبات، وترك المحرمات والمكروهات، والنية في المباحات؛ فإن النفس من طبعها الكسل والتراخي والفتور)(1).
ومن مساوئ عدم متابعة المربي نفسه وتفقُّدها ما يلي:(1/17)
1 - الوقوف عن الأخذ والتلقي والاكتفاء بالرصيد الموجود عنده؛ ولو كان متابعاً لنفسه لعلم بأنه محتاج إلى رفع هذا الرصيد والاستزادة من الأخذ والتلقي؛ فهو بمتابعته لنفسه يكون قد تفقدها، وعلم أن رصيده الموجود لا يكفيه في مواصلة الطريق، فيحمله ذلك على الاستزادة والأخذ والتلقي من أجل زيادة الرصيد.
2 - فقدان هذا الرصيد في يوم من الأيام حتى يصبح المربي ليس عنده ما يعطى المتربي؛ لأن فاقد الشيء لا يعطيه، ومن ثم فقد المربي صفة هي من أهم صفاته وهي صفة العطاء؛ وذلك لأن الإيمان إما في زيادة، وإما في نقصان وكذلك العلم، وكذلك التربية؛ فإذا لم يتابع المربي نفسه ويسعى في زيادة رصيده فإنه سوف يفقد هذا الرصيد يوماً من الأيام؛ لأن هذا الرصيد لن يبقى مجمداً كما هو؛ مصداقاً لقوله ـ تعالى ـ: {لِمَن شَاءَ مِنكُمْ أَن يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّر } [المدثر: 37]. يقول ابن القيم ـ رحمه الله ـ: «فإن لم يكن في تقدم فهو متأخر ولا بد؛ فالعبد سائر لا واقف: فإما إلى فوق وإما إلى أسفل، إما إلى الأمام وإما إلى وراء، وليس في الطبيعة ولا في الشريعة وقوف البتة، ما هو إلا مراحل تطوى أسرع طي إلى الجنة أو إلى النار، وإنما يتخالفون في جهة السير وفي السرعة والبطء كما قال ـ تعالى ـ: {إنَّهَا لإحْدَى الْكُبَرِ * نَذِيرًا لِّلْبَشَرِ * لِمَن شَاءَ مِنكُمْ أَن يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ} [المدثر: 35 - 37] ولم يذكر واقفاً؛ إذ لا منزل بين الجنة والنار ولا طريق لسالك إلى غير الدارين البتة؛ فمن لم يتقدم إلى هذه الأعمال الصالحة فهو متأخر إلى تلك بالأعمال السيئة»(2).(1/18)
3 - تجعل المتربي في يوم من الأيام أعلى من المربي؛ وذلك لأن الذي يأخذ ويتلقى ويستزيد من رصيده ليس كالذي يقف عن الأخذ والتلقي والاستزاده؛ فالأول تجده في ترقّ وتطور حتى يصل إلى ذلك الذي توقف عن الأخذ والتلقي، بل يزيد عليه ويتفوق؛ لأنه في تلقٍّ واستزادة، والآخر قد توقف مكانه، بل سوف ينقص رصيده بهذا الوقوف؛ وهذا يؤدي إلى شعور في المتربي بأنه بحاجة إلى مربٍّ آخر يفوقه ويستطيع أن يأخذ منه.
وهنا تنبيه مهم وهو: أنه لا ضرر ولا عيب إذا تفوَّق المتربي على المربي، بل هذا هو ما يسعى إليه المربي الصادق كما قال ذلك الراهب للغلام: «أي بني! أنت اليوم أفضل مني»(3). قال ـ تعالى ـ: {ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ } [الجمعة: 4]. ولكن هناك فرق بين أن يتفوق المتربي على المربي مع حرص المربي على متابعة نفسه في الاستزادة من رصيده والترقي، وبين أن يتفوق المتربي على المربي مع إهمال المربي متابعة نفسه وعدم تفقدها. ولا ضرر على المتربي في كلا الحالتين، ولكن الضرر على المربي في الحالة الثانية.
4 - إصابة المربي بداء الفتور وبعض الأمراض القلبية كحب الظهور والرئاسة والحسد (ومن هنا وجب تعاهد النفس لئلا تقع في فتور ينقلها من مرحلة إلى مرحلة، فيتعسر الداء وتصعب المعالجة؛ لأن أمراض النفس كالنبتة أسهل ما يكون قلعها إلى الرجال والفؤوس، وكذلك أمراض القلوب تبدأ في ظواهر يسيرة؛ فإذا أهمل صاحبها علاجها تمكنت منه حتى تكون هيئات راسخة وطباعاً ثابتة)(4).
ب - متابعة المحضن التربوي:
كتجديده وتحسينه، ومتابعة مستلزماته، وكيفية المحافظة عليها؛ وذلك لأنها الأدوات التي يقوم عليها الدعوي والتربوي.
ومن مساوئ عدم متابعة المحضن التربوي ما يلي:
1 - ضياع المستلزمات وفقدانها.
2 - قدم بعض المستلزمات وفقدان حيويتها.(1/19)
3 - إهدار كثير من الأموال؛ وذلك بتكرار شراء هذه المستلزمات بعد حين بسبب ضياعها الذي هو أثر من آثار عدم المتابعة.
4 - صرف الوقت في الحديث عن هذه المستلزمات في كل مناسبة.
ü مفاهيم خاطئة في المتابعة:
ثمة مفاهيم خاطئة تحتاج إلى تصحيح في مفهوم المتابعة قد يقع فيها بعض المربين الفضلاء بحسن نية، وبشعورهم بالأمانة والمسؤولية؛ فيجدر بنا أن نشير إلى بعض منها:
1 - ليس معنى المتابعة والتوجيه المستمر هو المحاسبة على كل هفوة؛ فذلك ينفِّر ولا يربي؛ فالمربي الحكيم يتغاضى أحياناً، أو كثيراً ما يتغاضى عن الهفوة وهو كاره لها؛ لأنه يدرك أن استمرار التنبيه إليها قد يحدث رد فعل مضاد في نفس المتلقي، ولكن إهمال التنبيه ضار كالإلحاح فيه، وحكمة المربي وخبرته هي التي تدله على الوقت الذي يحسن فيه التغاضي، والوقت الذي يحسن فيه التوجيه. ولكن ينبغي التنبه دائماً من جانب المربي إلى سلوك من يربيه سواء قرر تنبيهه في هذه المرة أو التغاضي عما يفعل؛ فالتغاضي شيء، والغفلة عن التنبيه شيء آخر.. أولهما قد يكون مطلوباً بين الحين والحين، أما الثاني فعيب في التربية خطير(5).
2 - ملاصقة المتربي الدائمة في الخروج والدخول، والذهاب والإياب، والسفر والحضر؛ مما يسبب الإملال للمتربي.
3 - تخصيص المتابعة للمبتدئين.. فالبعض قد يجعل المتابعة خاصة بالمبتدئين، أما الذين لهم باع في الاستقامة والتربية فقد يقول: يكفي ما عندهم من الإيمان والتربية؛ وهذا غير صحيح، بل الأوْلى بالمتابعة الأولون؛ لأنهم رأس المال، ورأس المال يحتاج إلى محافظة وسعي في تطويره، مع عدم إهمال المبتدئين؛ فالمتابعة يحتاجها الجميع ليس لها مدة معينة، أو وقت محدد، أو أشخاص معينون.(1/20)
4 - ظن البعض أن المتابعة أو التربية تعني أن يُضرب حول المتربي بسور حتى لا يتعامل مع غيره ولا يستفيد من غيره، حتى إنه ليصبح شديد المحاسبة والغضب لمجرد رؤيته لبعض أقرانه يسلِّم على من يربيه أو يبتسم له، وحتى إنه يتطفل ويتدخل في أخص خصوصياته ويضعه في قفص حديدي وفي عنقه ويده الأغلال والحبال، حتى يصبح كابوساً جاثماً على صدره (دور المربي في الدعوة الفردية).
5 - الخلط بين معنى المتابعة والأخوة الخاصة؛ فالبعض تكون علاقته بالمدعو علاقة أخوة خاصة لكن ليس فيها معنى القيادة والتوجيه؛ وعلاقة الأخوة الخاصة هذه تليق وتصلح للأقران أكثر من التلاميذ. (دور المربي في الدعوة الفردية).(1/21)
6 - البحث والتنقيب عن أخطاء وزلات المتربي بحجة معالجتها ظناً منهم أن ذلك من المتابعة، ومن ذلك: (التجسس والاستماع لحديث غيره دون علمه، والاطلاع على ما يخصه دون إذنه) كل هذه الأمور محرمة شرعاً، وجرأة بعض المربين على تجاوزها داخل في عموم قوله ـ تعالى ـ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِّنَ الظَّنِّ إنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إثْمٌ وَلا تَجَسَّسُوا وَلا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَّحِيمٌ} [الحجرات: 12] . وقوله -صلى الله عليه وسلم-: «ومن استمع إلى حديث قوم وهم له كارهون أو يفرون منه صب في أذنه الآنك يوم القيام»(1)، والشعور بالأمانة والمسؤولية ليس عذراً للمرء أن يتطلع إلى ما لا يحل له التطلع إليه؛ فقد نهى النبي -صلى الله عليه وسلم- الرجل أن يطرق أهله ليلاً معللاً ذلك بقوله: «يتخونهم أو يلتمس عثراتهم»(2). وأظن أن مسؤولية المربي وخصوصية دوره تتجاوز مسؤولية الزوج عن أهله. ولا تدعو الشفقة والحرص والعناية المربي إلى التطلع ومحاولة معرض ما وراء الظاهر والدافع؛ لذلك كله لا يسوغ أن يكون على حساب الضوابط الشرعية.
والحقيقة أن ثمة فرقاً بين الدعوة والتربية، وبين التعامل وإجراء الأحكام؛ فالدعوة والتربية يجب أن تتجه إلى إصلاح القلوب وتنقية السرائر؛ فصلاح الباطن هو الأساس. أما التعامل وإجراء الأحكام فهو على أساس الظواهر، ولا يسوغ للإنسان السعي للتنقيب عن الباطل، وأولئك الذين يكلفون أنفسهم عناء البحث عن البواطن والتفتيش في الدواخل تبدو لهم مشكلات لا يطيقون حلها، فيعيشون حالة من القلق كان بإمكانهم تجاوزها لو اتبعوا المنهج الشرعي في الوقوف عند الظاهر(3).(1/22)
فخرج من هذا كله أن المتابعة يجب أن تكون وفق الضوابط الشرعية، ومن ذلك أن تكون في حدود الظاهر، وأن تكون مضبوطة بميزان الاتزان، وأن يلزم هذه المتابعة شعور الرحمة واللين والرفق وحب الإصلاح لمن تتابعهم.
هل للمتابعة بالمنهج النبوي الذي ذكر الكاتب شواهد عليها توازي المفهوم السائد اليوم؟
قد يشعر بعض من يقرأ هذه المقالة أن كاتبها قد بالغ في هذا الموضوع وأعطاه أكبر من حقه من الطرح والتبصير؛ والحقيقة أن من يعايش الواقع لا ينتابه هذا الشعور؛ لأن هدر الجهود والطاقات أمر ليس بالقليل؛ فالأمة بحاجة إلى كل جهد وكل طاقة من أجل دفع العجلة إلى الأمام. نعم! لو عملنا مقارنة سريعة بين المتابعة في فترة الوحي والمتابعة في هذا العصر لوجدنا أن هناك متغيرات في وسائلها، من حيث الكثرة والقلة، وأيضاً ثمة متغيرات من حيث الأهمية والاعتناء؛ إلا أن المضمون واحد لا يتغير. ففي فترة الوحي كان المجتمع قريباً والبيئة نظيفة، ووسائل التأثير والصوارف عن هذا الدين قليلة؛ إضافة إلى الوحي الذي كان ينزل صباح مساء. أما في هذا العصر الحالي فتعيش الأمة انفتاحاً عظيماً على ثقافات وماديات الغرب، وساعد على هذا الانفتاح وسائل الإعلام المختلفة، ويواجه شبابها تيار ساحق من الفتن سواء فتن الشبهات التي تشككه في دينه وعقيدته، أو فتن الشهوات التي تقوده إلى نارها ولأوائها وهذا الانفتاح وهذه الفتن وهذه الصوارف تجعلنا نهتم بقضية المتابعة أكثر من ذي قبل.
ü أيها المربي !
أيها المربي الفاضل! اعلم أن من وسائل نجاح التربية متابعة من تربيهم؛ وذلك بالأمور الآتية:
- متابعة مظهرهم الخارجي وسلوكهم وتعاملهم وألفاظهم.
- متابعة الغياب والتأخير وسبب ذلك.
- متابعة الموهوب والمتميز والسعي إلى تطويره.
- متابعة المقصر والسعي في إصلاحه وتقويمه.
- متابعة أصحاب الطاقات وتوجيهها.
- متابعة البرامج ومدى تأثيرها عليهم.. وغير ذلك.(1/23)
أيها المربي! سدد الله خطاك، وبارك الله في جهودك، ونفع الله بك الإسلام والمسلمين.. اثبت على هذا الطريق؛ فإنك على الحق وعلى الصراط المستقيم، لا تنظر إلى الوراء، بل انظر دائماً إلى الأمام وإلى السماء، انطلق نحو هدفك المنشود بهمة تعلو الجبال.. وعزيمة تفلُّ الحديد، وطموح يتعدى الزمن مستصغراً كل صعب.. مستعظماً كل خير.. مستشعراً معية الله لك في هذا الطريق.. {كَلاَّ إنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ} [الشعراء: 62].
رزقنا الله وإياك الإخلاص في القول والعمل.. وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه.
----------------------------
(1) (منهج التربية) (2/46-47) بتصرف يسير.
(1) (منهج التربية) (2/46-47) بتصرف يسير.
(2) (منهج التربية) (2/46-49) بتصرف يسير.
(3) (التربية الجادة ضرورة 36).
(4) رواه مسلم.
(5) البخاري، 844، ومسلم 3408.
(6، 7) صحيح الجامع.
(8) تذكرة السامع والمتكلم 61 ـ 63.
(9) (مبدأ الرفق صفحة 222).
(10) الإيجابية في حياة الدعاة، ص 8.
(11) رواه مسلم، حديث رقم (1028).
(12) الرحيق المختوم، ص 88.
(13) رواه احمد، 4/ 375.
(14) البخاري، 5219.
(1) البخاري، 3888، ومسلم 4423.
(2) رواه مسلم ، رقم (2404).
(3) رواه مسلم، رقم (1807).
(4) رواه البخاري، كتاب الجنائز.
(5) رواه البخاري ومسلم واللفظ له.
(6) رواه أحمد، 6/11/23939.
(7) رواه البخاري، كتاب الصلاة.
(8) رواه البخاري، رقم (1879)، مختصر الزبيدي.
(9) رواه أحمد بسند حسن، 5/ 441.
(1) أخرجه النسائي بإسناد حسن (4/599).
(2) مسند الإمام أحمد عن أبي برزة الأسلمي.
(3) صحيح البخاري باب غزوة مؤتة من أرض الشام (2/611).
(4) أخرجه البخاري في المغازي.
(5) زاد المعاد، 2/ 96، الرحيق المختوم 268.
(6) (اساليب الرسول -صلى الله عليه وسلم- في الدعوة والتعليم).
(7) (دليل الداعية، ناجي سلطان).
((1/24)
8) رواه البخاري، كتاب الجنائز.
(9) رواه البخاري في كتاب الجنائز.
(1) (الرفق في التعامل مع المتعلمين 220).
(2) (مبدأ الرفق مع المتعلمين 202، بتصرف يسير).
(1) رواه مسلم، 4/ 2088.
(2) ظاهرة ضعف الإيمان 25 بتصرف يسير.
(3) تراجع الهم الدعوي بتصرف يسير.
(1) البيان عدد 107 ، ص 24.
(2) مدارج السالكين، 1/ 267.
(3) رواه مسلم.
(4) مجلة البيان عدد 107، ص 25.
(5) منهج التربيه، 2/ 47، بتصرف يسير.
(1) رواه البخاري، رقم (7024).
(2) رواه مسلم، رقم (715).
(3) مقالات في التربية، 39 ـ 40.
---------------------------------------
مجلة البيان، العدد (195)،ذو القعدة 1424،يناير 2004 .
* * *(1/25)
http://www.albayan-magazine.com/zwaya/trbwi/2.htm
بين منابر اليأس وينابيع الأمل
سلمان بن عمر السنيدي
حين ننظر إلى حالنا ونقيم أوضاعنا نرى أن في الأمة أمراضاً وانحرافات ومنكرات تجب معالجتها والسعي في إزالتها، غير أن الإفراط في الحديث عن جوانب القصور والتفريط ربما يتحول إلى خطر إذا صاحبه الرضى بالضعف والقنوط من الإصلاح، ذلك أنه لا يزيد المجتمع إلا وهناً، ولا يجرعه إلا غصصاً، ولا يَعِده إلا يأساً، فلا يقدم له علاجاً ولا يمنحه دواء، وإنما يصرف همته إلى قبول المرض واقعاً لا بديل عنه، وأنه داء عمَّت به البلوى، وأنّ تلمس سبيل العافية مشقة لا تطاق، وأن المتعافي كلف نفسه حرجاً، وخالف للمجتمع عُرفاً، وخسر من دنياه ما هو في حل من أمره وسعة.
ولذا كان المغرقون في الحديث عن مظاهر الفساد على هذا النحو يشكِّلون أحد عناصر الفساد والهلاك؛ إذ هم معاول هدم للهمم، وزرّاعون لليأس.
قال صلى الله عليه وسلم : «إذا قال الرجل: هلك الناس. فهو أهلكهُم»(1).
فهو (أهلكَهم) بفعله حيث نشر اليأس بينهم، وهو (أهلكُهم) وأشدهم هلاكاً، حيث اقترف هذا الإثم، وزها بنفسه، واغتر بحاله.
ألا قاتل الله اليأس كيف يصنع بأهله وبالناس، إنه داء جديد يزرعه العاجزون عن الإصلاح بين أفراد الأمة، خدمة مجانية لأعدائها.
? منابر اليأس :
إن من المنابر الإعلامية ما يزرع اليأس؛ حين تلبس لباس الطبيب لتشخيص الداء، وتطرح تفاصيل صريحة تجذب المستمع والمشاهد؛ بانتقاء أمراض في الأمة، وتسلِّط الضوء على بعض الجروح بطريقة يخرج المتابع منها بجملة من الأدواء التي تزرع اليأس أو تمهد له، والتي منها:
الأول: تفريغ شحنة النقد والتوهم بمعالجة قضية واقعية؛ مما يعدّ عند كثير من الناس سبباً كافياً لعدم إثارتها مرة أخرى.
ثانياً: خلل واضح في انتقاء المشكلات وتشكيل أولوياتها في عقل المتابع، وتضليل فكره عن أصولها ومصادرها، وتشتيته عن مشكلاته الحقيقية.
ثالثاً: نشر ثقافة الوهن وحب الدنيا، والتصالح مع الضعف، واعتبار الحل الذكي هو القدرة على التعايش مع المصالح على حساب المبادئ استجابة للضغوط المادية؛ عند بروز حاجة أو طمع في متع الحياة وما تهوى النفوس.
وعند اختيار قضية ذات أهمية فإن العلاج لا يخلو من انتقائية وتضليل، وبُعد عن مسلَّمات وحقائق مهمة ليست ضمن قناعات تلك المنابر، وعليه فلا يمكن أن تتطرق أو تشير إليها؛ لأن فاقد الشيء لا يعطيه، فتاجر المخدرات لا يُتصور منه أن يطرح حلاً لقضية المخدرات، فإنه وإن شارك في الحديث عن علاجها إلا أنه سيمارس تضليلاً متقناً، ويكرس اليأس من حل القضية؛ باعتبارها مشكلة عجزت عنها حكومات ودول رغم مقاومتها بجهود ضخمة.
وعلى هذا المنوال تكرر هذه المنابر هذا العلاج اليائس في مناقشة قضايا مشابهة في الاقتصاد والإدارة والسلوك والفكر وحلِّها. إنّها تمارس علاج الداء بمبدأ اليأس من علاجه، وترويض الأمة بعقلانية التعايش معه.
? أسباب اليأس:
اليأس حالة مَرَضيَّة تتولد من جملة أسباب؛ لعل من أبرزها:
1 - قسوة القلب وضعف الصلة بالله:(1/26)
إن أصحاب القلوب القاسية يلهثون وقت الرخاء وراء الشهوات، ويتفاخرون بتحصيل اللذات، فإذا أصابتهم الشدة والبلاء والخوف؛ طغت على تفكيرهم الماديات، وأصابهم الفزع فلا ثقة عندهم بدين، ولا يعتمدون على إيمان بالغيب، بل تنطمس معالم النور، ولا يزيدهم النظر في حالهم إلا ضيقاً وبؤساً ويأساً يجعلهم لا يتوجهون إلى الله بالخضوع والتضرع، بل إن قلوبهم القاسية تأبى سلوك سبيل الطاعة والرجاء فيما عند الله، قال الله عنهم: {فَلَوْلا إذْ جَاءَهُم بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِن قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الأنعام: 43].
2 - حب الدنيا:
إن حب الدنيا وحياة الترف تثني همة المرء عن العمل المثمر الجاد؛ لأنه يكلفه التضحية بشيء من دنياه المحبوبة التي تربى عليها، وسيكلفه التنازل عن مستوى الرفاهية التي ينعم بها. إن تعلق الإنسان الشديد بدنياه يجعله يقيس الأحداث بقياسها ويزن الأمور بميزانها، ويتوقع الأحداث في المستقبل بما جرت عليه عوائدها المادية القريبة، فتنطمس بصيرته ويهلك بالظن الخاسر لمستقبل هذا الدين وأهله، فيخفي في نفسه اليأس من انتصاره، ويبحث عن أعذار تخفي ما في قلبه من تعظيم الدنيا وحب نعيمها وقوة الارتباط بها، قال الله ـ تعالى ـ: {سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الأَعْرَابِ شَغَلَتْنَا أَمْوَالُنَا وَأَهْلُونَا فَاسْتَغْفِرْ لَنَا يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِم مَّا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ قُلْ فَمَن يَمْلِكُ لَكُم مِّنَ اللَّهِ شَيْئاً إنْ أَرَادَ بِكُمْ ضَرَّا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ نَفْعاً بَلْ كَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً (11) بَلْ ظَنَنتُمْ أَن لَّن يَنقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إلَى أَهْلِيهِمْ أَبَداً وَزُيِّنَ ذَلِكَ فِي قُلُوبِكُمْ وَظَنَنتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ وَكُنتُمْ قَوْماً بُوراً} [الفتح: 11 - 12].
3 - اتباع الهوى:(1/27)
إن اتباع الهوى يسهل للمرء سلوك سبيل الهوان والذل واستمراء الواقع المر، والتخلي عن إصلاحه، واليأس من تغييره، بل يصل الأمر إلى ازدراء الجهود الإصلاحية. وكل ذلك يُسوّغ بمراء وجدل وتسويغات كاذبة، ففي حين يعقدون آمالاً عريضة على مشاريع دنيوية محتملة، ويعدون له العدة ويضحون من أجلها، ويشقَون في تحصيلها بالمال والجهد والوقت؛ تراهم يعتذرون عن مشاريع خيرية وأعمال فاضلة بأعذار واهية، قال الله عن شأنهم: {وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً} [التوبة: 46]، وقال: {وَسَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَوِ اسْتَطَعْنَا لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ يُهْلِكُونَ أَنفُسَهُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} [التوبة: 42]، وقال: {يَعْتَذِرُونَ إلَيْكُمْ إذَا رَجَعْتُمْ إلَيْهِمْ قُل لاَّ تَعْتَذِرُوا لَن نُّؤْمِنَ لَكُمْ قَدْ نَبَّأَنَا اللَّهُ مِنْ أَخْبَارِكُمْ} [التوبة: 94].
إنه كشف وبيان لطبيعة النفوس اليائسة الناكلة عن العمل الجاد التي جعلت من الذرائع حجة لستر عوارها وضعفها.
? ثمار اليأس:
لليأس ثمرات مُرَّة يتجرعها اليائسون، فلسان حالهم يقول: ليس من بديل لأحوالهم إلا ما هو أمرُّ وأنكى، وليس بالإمكان أفضل مما كان. إنهم يستطيبون باليأس ثمرات عفنة حين يألفونها ولا يرضون عنها بديلاً، ومن جملة تلك الثمرات المُرَّة:
1 - الزهد في الإصلاح:(1/28)
اليائسون بقدر ما يتحدثون عن حجم المصائب والنكبات، وعمق المشكلات، وألوان الضعف؛ يهربون من ميدان العمل والإصلاح؛ بحجة أن الإصلاح لا بد له من جهود ضخمة لا طاقة لهم بها، وأما الأعمال الإصلاحية الفردية اليسيرة ففي نظرهم لن تغير التيار الجارف، ولن تصلح ما مضى من فساد عبر سنين عديدة فلا جدوى منها! إنه عجز ويأس وفقدان للهمة، وقد يصل بهم الحال إلى تثبيط المصلحين الساعين في بيان الحق وتبرئة الذمة، قال الله: {وَإذْ قَالَتْ أُمَّةٌ مِّنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَاباً شَدِيداً قَالُوا مَعْذِرَةً إلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} [الأعراف: 164]. إن الناكلين عن العمل يحرصون على بث اليأس وتزهيد الناس في الأعمال الجادة، لأدنى قصور أو خسارة ظاهرية يشاهدونها، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقَالُوا لإخْوَانِهِمْ إذَا ضَرَبُوا فِي الأَرْضِ أَوْ كَانُوا غُزًّى لَّوْ كَانُوا عِندَنَا مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذَلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ} [آل عمران: 156].
2 - الإغراق في اللهو:
ماذا عساه أن يفعل مَنْ زهد في أعمال الخير، وحجب ناظريه تيارُ الانحراف، ولم ير مخرجاً للحياة سوى التعايش مع لوازمه ومتطلباته، والهروب بالنفس إلى ميدان اللهو، والتمادي في الاستجمام والإغراق في حياة العبث والتسلية؛ ليصبح العمل للدنيا هو الاستثناء الجاد في حياته، وإن كان هذا سبيلاً سار فيه أفراد نتاج فكرهم اليائس، فقد وقعت جماهير من الأمة في هذا الفخ المريح والمستنقع المسلِّي؛ جرَّاء سيرهم وراء اليائسين الكبار الذين يعبثون بعقولهم وأموالهم.
3 - الهروب إلى العدو:(1/29)
إنه مشهد محزن وغريب، ولكنه في الوقت نفسه متوقع من اليائسين حين يطلبون من عدوهم حل مشكلاتهم التي هو سببها، ويفسحون له المشاركة في ترتيب أولوياتهم التي تميزهم عنه، إنهم يحذرون منه، ويحققون ما يرضيه، ويتعايشون مع خططه وتصوراته! {فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَن تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ} [المائدة: 52]، إنه حل رخيص وجاهز لا يحتاج إلى مزيد من الجهد والعناء، بل إنهم يجعلونه الحل العقلاني الأمثل، والتخطيط الثاقب الذي يقي الأمة نزاعات مدمرة وصراعات جارفة، فما أرخص المبادئ عند اليائسين من الإصلاح! إن المحافظة على الوضع الراهن منتهى تفكير اليائسين، أما أن يفكروا في السعي إلى مستوى أعلى لحال الأمة؛ فهو عندهم ضرب من الجنون، ونوع من التطرف وفوضى فكرية يجب تقييدها.
? ينابيع الأمل:
إن رصيد الأمة العقدي والفكري والتاريخي مليء بينابيع الأمل التي لا تنضب ولا تجف، وكلما ارتوى منها الناهلون فجَّرت فيهم الأمل والنور واليقين والثقة بالله، وإن من أعظم منابع الأمل التي ينهل منها العلماء المصلحون ورواد الأمة؛ المنابع التالية ـ حيث نستحضرها أشد ما تكون الحاجة إليها ـ:
أولاً: عقيدة القضاء والقدر:(1/30)
فالله ـ سبحانه ـ خلق الخلق وكتب المقادير، بيده الملك، يدبر الأمر، لا معقِّب لحكمه، ولا راد لقضائه، أحاط بكل شيء علماً، قال ـ سبحانه ـ: {وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إلاَّ هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إلاَّ يَعْلَمُهَا وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ} [الأنعام: 59]، وقال: {وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَداً} [الجن: 28]، وقال: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ} [البقرة: 253]، إن هذه العقيدة فجَّرت في نفوس الصحابة آمالاً فسعوا إلى تحقيقها، وجدُّوا في بلوغها، لم يثنهم عائقٌ، ولم يصدهم وهمٌ، ولم يرهبهم تهديدٌ، فغيَّروا الدنيا وسادوا بهذه العقيدة، وكانوا لمن بعدهم مصدر إلهام وعز يزرع الأمل، وينشر النور، ويبدد ركام اليأس.
ثانياً: حقيقة الحياة:
خلق الله الدنيا مرحلة بعدها مراحل، فليست نهاية المطاف، وليست محلاً لمقارنة المكاسب والخسائر، وليست الميدان الأخير، إنما هي اختبار وعمل، وكل ما فيها يؤول يوم القيامة إلى حساب؛ فجنة أو نار، قال ـ سبحانه ـ: {اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الأَمْوَالِ وَالأَوْلادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَاماً وَفِي الآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إلاَّ مَتَاعُ الْغُرُورِ} [الحديد: 20].(1/31)
إن حس المؤمن ليختلف في نظرته للحياة وتقييمه لأحداثها عن الكافر الذي لم يحسب للآخرة حساباً في أعماله، وإن المؤمن ليتسامى بنظرته وهو يرى هذا العالم يتخبط بجهله كالصبي الذي يفرح ويحزن من أجل حلوى يظفر بها! وصدق الله إذ يقول: {زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَن يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [البقرة: 212]، {اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَاءُ وَيَقْدِرُ وَفَرِحُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إلاَّ مَتَاعٌ} [الرعد: 26]، وحينما يشتد الكرب ويخير المؤمن بين دينه ودنياه؛ فإن الأمر عنده لا يقبل الجدل، فحياته رخيصة في سبيل الله، وهذا ما أعلنه السحرة يوم أن آمنوا بموسى فقابلوا تهديد فرعون بقوة الواثق وحسم الجازم، حيث قالوا: {فَاقْضِ مَا أَنتَ قَاضٍ إنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا} [طه: 72]، إن المؤمن عظيم الروح، كبير القلب، كبير العقل حين ينظر إلى رسالته في الدنيا فيجدها معلقة بالله موصولة بأمره، محددة المسار، واضحة الطريق، غاية المؤمن أن يرضي الله فيتوجه إليه، ويسأله الصبر، ويستمد منه العون. فكيف يتسرب إليه اليأس وهو على نور من الله، {قَالُوا إنَّا إلَى رَبِّنَا مُنقَلِبُونَ(125) وَمَا تَنقِمُ مِنَّا إلاَّ أَنْ آمَنَّا بِآيَاتِ رَبِّنَا لَمَّا جَاءَتْنَا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْراً وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ} [الأعراف: 125 - 126].
ثالثاً: انتصار المبدأ:(1/32)
للمؤمنين مفهوم خاص للنصر، فانتصارهم مرتبطٌ بدينهم، فالمؤمن لا يقاتل حمية ولا عصبية، ولا ليقال شجاع، ولا لأرض ولا لقبيلة ولا لحزب، إنما يقاتل لتكون كلمة الله العليا، إن انتصار المؤمن انتصار دينه، وانتصار دينه انتصاره، إنه لا معنى عند المؤمنين لنصر لا يعز الله فيه الدين، وإنه لمعنى جلي للنصر ذلك اليوم الذي يدخل الناس فيه في دين الله أفواجاً، فحين ذكر الله أصحاب الأخدود الذين أحرقوا كل المؤمنين قال الله عن نهاية الطائفة المؤمنة: {إنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ} [البروج: 11]، فسمى نهايتهم فوزاً ووصف هذا الفوز بأنه كبير. أي تميز للمؤمن بهذا المعنى العزيز المتفرد؟! إن البشرية لتقف صاغرةً أمام هذا المعنى الضخم الكبير، إنه معنى لا يزعزعه التهديد ولا الترغيب، إنه معنى يوجه المؤمن نحو إيمانه وعمله الصالح، وأن يكون ذلك محط نظره الأول، وأن تكون أولويات حياته منطلقة من هذا الهدف من أجل تحقيق الفوز الكبير، وهذا حرام بن ملحان ـ رضي الله عنه ـ غلب عليه هذا المعنى، فلم يجد ما يفوه به بعد أن طُعن إلا أن يقول: «فزت ورب الكعبة»(1).
وبهذا يتحرر المؤمن من ربقة الجاهلية التي تحاصره بماديتها الضخمة من أجل طعنه برمح اليأس ونزع الأمل من قلبه؛ عسى أن يكلّ عن العمل لدينه، أو يمل من الثبات على مبدئه.
رابعاً: بشائر الصبر:(1/33)
إن صبر المؤمنين ينبوع يحفظ لهم ثباتهم على الدين حتى ينجلي الكرب، وهم لم يتركوا من دينهم ما يلامون عليه، ومن أروع الأمثلة على ذلك حصار الشِّعب الذي دام ثلاث سنين والرسول صلى الله عليه وسلم يتحمل شدته ويشاركه في ذلك من معه من قومه، وينتهي الحصار ورسول الله صلى الله عليه وسلم صابرٌ ثابتٌ لم يترك شيئاً من دعوته، ولم يغير حرفاً من منهجه، ولم يحذف كلمة واحدة كانت تُغضب الكفار. إن الصبر بالثبات على المبدأ ثمرة عظيمة للصبر، ونصرٌ يسبق النصر.. {فَاصْبِرْ إنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لا يُوقِنُونَ} [الروم: 60].
ولذلك فإن المؤمن يسعد بصبره على مبدئه، وتطمئن نفسه بما جرى وبما يجري، حيث يستلهم فيضاً إلهياً يتنزل عليه بالسكينة والرحمة والبشرى، فما أعمقها من معاني تفجر في النفس ينابيع الأمل تحت مطارق المحن والبلوى، {الَّذِينَ إذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُوا إنَّا لِلَّهِ وَإنَّا إلَيْهِ رَاجِعُونَ (156)أُوْلَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ} [البقرة: 156 - 157].
خامساً: النصر القادم:(1/34)
إن ترقب النصر القادم الذي وعد الله عباده وعداً لا يخلفه في قوله: {وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ } [الروم: 47]؛ من أجلى ينابيع الأمل وأقواها، حيث تدفعه نحو العمل لدينه المنصور ومبدئه الظافر، وقوله: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [النور: 55]، لقد أعلنها صلى الله عليه وسلم في وقت الشدة لتشد أنظار المؤمنين إلى المستقبل المحتوم؛ مهما كان الواقع يفرض على الناس أقسى الظنون، فعن البراء ابن عازب ـ رضي الله عنه ـ أنه قال: «أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بحفر الخندق، وعرض لنا صخرة في مكان من الخندق لا تأخذ فيها المعاول، فشكوها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم هبط إلى الصخرة فأخذ المعول فقال: بسم الله. فضرب ضربةً فكسر ثلث الحجر، وقال: الله أكبر! أعطيت مفاتيح الشام، والله إني لأبصر قصورها الحمر من مكاني هذا. ثم قال: بسم الله. وضرب أخرى فكسرت ثلث الحجر، فقال: الله أكبر! أعطيت مفاتيح فارس، والله! إني لأبصر المدائن وأبصر قصرها الأبيض من مكاني هذا. ثم قال: بسم الله. وضرب أخرى فقلع بقية الحجر، فقال: الله أكبر! أعطيت مفاتيح اليمن، والله! إني لأبصر أبواب صنعاء من مكاني هذا»(1).
سادساً: حتمية الابتلاء:(1/35)
وفي حتمية البلاء الذي كتبه الله على عباده منبع للأمل، فلا يدهش المؤمن بنزول البلاء، ولا ينهار ولا يحبط حين يواجه الكروب، إن تقرير حتمية البلاء يجعل المؤمن مترقباً للشدائد مستعداً لها ومدركاً لحكمتها، ومدركاً أنّ مقدرها هو القادر على دفعها، قال ـ سبحانه ـ: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلِكُم مَّسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ} [البقرة: 214]، ولذلك كان الصحابة ـ رضوان الله عليهم ـ يدركون هذا الأمر إدراكاً جيداً، فهم يبادرون في تحليل الموقف وفق هذا الاعتبار، قال الله عنهم: {وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إلاَّ إيمَاناً وَتَسْلِيماً} [الأحزاب: 22]، فكان قولهم في تلك اللحظة الأولى التي وقعت أعينهم فيها على مشهد الأحزاب معبراً عن نفسية تستوعب الحدث؛ دون أن تصاب بصدمة تفقد التوازن أو تصيب بالهلع والجزع أو يتسرب إليها اليأس، بل بكل ثقة وعزم يتم ربط الحدث بالوعد المترقب، وكان لهذا أثر بالغ في رفع المعنوية وزيادة الإيمان المتناسق مع التسليم لله ولرسوله. ولذلك قال ابن القيم ـ رحمه الله ـ:
والحق منصورٌ وممتحنٌ فلا تعجب فهذي سنة الرحمن
وليس هذا الوعد بنزول البلاء مدخل لليأس والخنوع وترقب الإخفاق، وتوالي المحن، بل على العكس من ذلك، في الابتلاء حكم عظيمة وثمرات كبيرة اقتضت حكمة الله أن لا تحصل إلا به. ففي طياته منحٌ لا يعلمها إلا الله؛ فمنها تمييز الصف المؤمن، ورفعة درجات المؤمنين ومنازلهم في الجنة.
سابعاًًً: رصيد الفطرة:(1/36)
في الناس خير ينمو وينتشر في مجالات شتى برغم انتفاش الباطل وصولته، فلا تكاد ترى شريحة من الناس إلا فيها مَنْ توجه إلى الله، ولا تكاد ترى مجالاً في الحياة إلا وفيه مشروع خيري؛ لا فرق في ذلك بين الرجال والنساء والصغير والكبير والغني والفقير، إن شرع الله مهيأ أن يعرض على كل أحد مهما كان عصيانه وسلطانه، وكل إنسان مرشح للاستقامة على دين الله، حتى غير المسلمين فيهم إقبال على الدخول فيه، حيث يشعر الإنسان أن استقامته عليه عودة إلى فطرته.
إن دين الإسلام منذ أن انتشر في مكة لم يعرف الانحسار العددي، وهو الآن أسرع الأديان انتشاراً، إن رصيد الفطرة مصدر ضخم للأمل، يجدد للمسلم آماله وتطلعاته لمستقبل هذا الدين.
ثامناً: عمل المؤمن لا يضيع:
إن من أعظم منابع الأمل عند المؤمنين أن أعمالهم لدينهم لا تضيع مهما كانت، ومهما تنوعت، ومها خفيت؛ إن المؤمن بإخلاصه لله واتباعه لسنة نبيه صلى الله عليه وسلم يكون حقيقاً لنيل الأجر من ربه، قال الله ـ تعالى ـ: {مَا كَانَ لأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُم مِّنَ الأَعْرَابِ أَن يَتَخَلَّفُوا عَن رَّسُولِ اللَّهِ وَلا يَرْغَبُوا بِأَنفُسِهِمْ عَن نَّفْسِهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلا نَصَبٌ وَلا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَطَئُونَ مَوْطِئاً يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَّيْلاً إلاَّ كُتِبَ لَهُم بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (120) وَلا يُنفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً وَلا يَقْطَعُونَ وَادِياً إلاَّ كُتِبَ لَهُمْ لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}
[التوبة: 120 - 121].
تاسعاً: في التاريخ عبرة:(1/37)
في التاريخ ينابيع للأمل، وأمثلة وعبر، تشعل في النفس ثقةً عميقة بالنصر، من غير تهور عاجل، ولا يأس قاتل، فالتاريخ مليء بالمتغيرات، لكن عجلة التاريخ ربما تمر على جيل كامل أو أجيال فيدركون أول الأحداث ولا يدركون آخرها، وهذا ما يجعل عجلة الإنسان الفطرية تسارع في استبطاء النصر، واستعجال الظفر، لقد عاش نوح ينتظر الفرج تسعمائة وخمسين عاماً، وفتح رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة بعد إحدى وعشرين سنة مضت على البعثة، وهو نبي مؤيد بالوحي، بل إن كنوز فارس والروم واليمن لم تظفر بها أمته إلا بعد وفاته صلى الله عليه وسلم ، إنه درس التاريخ الأكبر، قال ـ تعالى ـ: {حَتَّى إذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَن نَّشَاءُ وَلا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ} [يوسف: 110]
وإن التاريخ لينادي اليائسين لينظروا في أحقابه.. كم دولة قويت بعد ضعف! وكم من أخرى ضعفت بعد قوة! قال ـ تعالى ـ: {الچـم« (1) غُلِبَتِ الرُّومُ (2)فِي أَدْنَى الأَرْضِ وَهُم مِّنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ (3) فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الأَمْرُ مِن قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ (4)بِنَصْرِ اللَّهِ يَنصُرُ مَن يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ } [الروم: 1 - 5]، إن عجلة التاريخ تسير وفق سنن ربانية لا تتخلف. وفي التاريخ أحداث مؤلمة ومصائب جمة مرَّت على أقوام مضوا، فكأن التاريخ ينادي كل مصاب ومنكوب: حنانيك! فبعض الشر أهون من بعض، إن مع العسر يسراً، وإن بعد الكرب فرجاً.(1/38)
إنه لا عجب بعد هذه الينابيع أن يحرّم الإسلام على أتباعه اليأس من روح الله، قال ـ تعالى ـ حكاية عن يعقوب ـ عليه السلام ـ: {وَلا تَيْأَسُوا مِن رَّوْحِ اللَّهِ إنَّهُ لا يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ اللَّهِ إلاَّ الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ } [يوسف: 87]، وقال ـ تعالى ـ حكاية عن إبراهيم ـ عليه السلام ـ: {وَمَن يَقْنَطُ مِن رَّحْمَةِ رَبِّهِ إلاَّ الضَّالُّونَ} [الحجر: 56].
? ميادين العمل:
وإن تلك المنابع الفياضة بالأمل في قلب المؤمن لتدفعه إلى ميادين خصبة للعمل؛ وتفجر فيه طاقاته الكامنة، وتسارع خطاه ليبلغ رسالة ربه بكل ما أوتي من قوة، وكلما كان الإيمان بتلك المنابع عميقاً كان الأثر الظاهر في سلوك الإنسان قوياً ومستمراً يتجدد معه في كل حال، وسر عمل المؤمن حياة روحه، وصورة أعماله عبادة يتقرب بها إلى الله، وخير ما يقضي المؤمن حياته به عمل يوفقه الله إليه يختم به حياته؛ وما يلي بيان لذلك وتفصيل.
? حياة الروح :
ليس أشد على الأمة من الفراغ الروحي الذي ينهك طاقاتها ويبدد قدرات شبابها، فالروح الميتة لا تنعشها الصدمات لو تغيرت الأحوال واشتدت الأزمات، ولا شيء يسد حاجة الروح ويحييها مثل العبادة لله وحدة.(1/39)
إن الحاجة للتعبد لله قائمة في كل وقت، وأشد ما تكون في الأزمات والمحن، حيث يصاب الناس بالقلق، والاضطراب والخوف من المستقبل، والفزع من المجهول، والتوجس من الأحداث، فلا يملأ أرواحهم سكينة وطمأنينة كالعبادة، ومع ذلك فإن العبادة الخاشعة الخالصة التي تتحقق فيها خصال العبودية تمنح المؤمن قلباً ثابتاً وعقلاً متزناً ورأياً ثاقباً يرى الأمور بعين البصيرة، فتمنحه التوازن المطلوب في مواجهة الأحداث، فيسير بخطى ثابتة، ويؤدي دوره في نصرة الحق بمنطلقات واثقة، يحتسب فيها خطواته، ويغتنم فيها أوقاته، قال الله ـ تعالى ـ: {وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَإلَيْهِ يُرْجَعُ الأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} [هود: 123]. ولذلك قال صلى الله عليه وسلم : «العبادة في الهَرْج كهجرة إليّ»(1). إنه تشبيه بليغ، حيث يناسب حال الغافل عن العبادة المصاب بالوهن، وضعف الهمة، وفقدان لذة العبادة حال من لم يهاجر إلى النبي صلى الله عليه وسلم . ويناسب حال المتعلق بالعبادة المتلذذ بها، المتمسك بهدي النبي صلى الله عليه وسلم ؛ حال المهاجر إليه الذي يعيش معه، ويقتدي به، ويأنس بالقرب منه.
? العبادة في الهَرْج والفتن:
ومن أجل استظهار أوجه العمل بالحديث السابق؛ فإن العبادة في الهَرْج تكون على ثلاث مراتب:(1/40)
الأولى: الثبات على الدين وحفظ الشرع والاستقامة على الجادة؛ مهما كثرت الصوارف، أو طغت المغريات، أو لاح تهديد، أو عرض ترغيب، أو زين منصب من أجل الصمت عن باطل والرضا بالمنكر، قال الله ـ تعالى ـ: {وَإن كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ وَإذاً لاَّتَّخَذُوكَ خَلِيلاً (73) وَلَوْلا أَن ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدتَّ تَرْكَنُ إلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً (74) إذاً لأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيراً} [الإسراء: 73 - 75] .
الثانية: أن يفعل المؤمن عبادة كان هاجراً لها فيتعبد الله بها زيادة في طلب الأجر، وتقرباً إليه؛ فإن لكل عبادة فضلاً ومزية وأثراً، فلعله أن ينال ذلك، خاصة في أوقات الهَرْج والفتن وغفلة الناس ورقَّة الدين، وضعف الاستقامة على الشرع، وتخلي الناس عن واجباته وسننه.
الثالثة: أن يزيد المؤمن من عبادته التي هو عليها، فيزيد من صلاته، ويزيد من صلته وبره، ويزيد من نفقته وصدقته، ويزيد من دعوته وتعليمه.
? ميادين رحبة:
والعبادة ليست قاصرة على معنى محدود أو مشاعر ظاهرة، بل هي بمعناها الشامل: كل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال الظاهرة والباطنة.
والعبادة تنقسم من حيث الأثر إلى قسمين:
الأول: عبادات قاصرة النفع على فاعلها؛ كالتسبيح والصلاة والاعتكاف والعمرة.
والثاني: عبادات يتعدى نفعها؛ كالصدقة والدعوة إلى الله والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
وتنقسم العبادة من حيث الاجتماع إلى نوعين:
الأول: ما يقوم به الفرد؛ كالإخلاص وأعمال القلوب.
والثاني: ما تقوم به الجماعة من الناس؛ من التعاون على البر والتقوى.
وتنقسم الأعمال من حيث الهم بالفعل إلى حالات(2):
الأولى: الهمّ بفعل الحسنة ثم فعلها؛ فأجرها مضاعف إلى سبعمائة ضعف.
والثانية: الهمّ بالحسنة دون فعلها؛ فأجرها حسنة كاملة.(1/41)
والثالثة: الهمّ بالسيئة ثم تركها خوفاً من الله؛ فأجرها حسنة كاملة.
ومن العبادات ما ينقطع أجرها بانقطاعها، ومنها ما يبقى نفعها فيستمر أجرها؛ كالعلم النافع، والصدقة الجارية، والولد الصالح يدعو لوالديه(3).
ومن العبادات ما تكون قليلة في ظاهرها، ولكنها عظيمة بالنية الصالحة، ومنها ما يكون كبيراً أمام الناس، ولكنها صغرت بالنية الفاسدة، ولذلك قال عبد الله بن المبارك ـ رحمه الله ـ: «ربَّ عمل صغير تعظمه النية، وربَّ عمل كبير تصغره النية»(1).
وتنقسم الأعمال من حيث النية إلى قسمين:
أولاً: أعمال يجب فيها الإخلاص؛ كالصلاة والزكاة وطلب العلم الشرعي.
ثانياً: أعمال تصبح عبادات بحسن النية والاحتساب؛ كالأكل، والنفقة على الأهل، والجماع، وطلب العلوم الطبيعية، والترويح. ولذلك قال الفضيل بن عياض ـ رحمه الله ـ: «عبادات الغافلين عادات، وعادات الذاكرين عبادات».
ومن العبادات ما يكون أوْلى بقوم دون قوم، وقد يكون مختصاً بهم كالجهاد على أهل الثغور، وكالاحتساب باليد على أهل القدرة، وكالفتوى وبيان الدين على العلماء، وكالدعوة والتعليم على الخطباء والمعلمين والمرشدين، وكحراسة العقيدة والشرع على المرصَدين على مناهج العلم والإعلام، وكحراسة أبواب الفضيلة على العاملين في مواطن الشبه، وموارد الاختلاط، وغياب الرقيب.
هكذا يعيش الإنسان في ميدان العبادة الرحب، لا يكاد ينقطع من عبادة إلا ويدخل في أخرى. ولئن تساءل المسلم كيف يحدد مساره بين تلك الميادين الرحبة، وكيف يمارس سبيله في نصرة دينه وعبادة ربه، أمام مشاريع متنوعة ومجالات عملية كثيرة، فعليه أن يحصر أعمال الخير وأبواب الطاعات والمجالات الخيرية، ثم يقوم بتحديد الأعمال التي يستطيع القيام بها، ثم يحدد أهم تلك الأعمال وأعظمها أجراً، ثم ليترك ما يشغله عنها وما يصرفه عن فعلها، وليغتنم أمره؛ فإن العمر قصير، والفرص لا تدوم، والموفق من وفَّقه الله.
?(1/42)
مزيداً من العبادة:
وكلما زاد العناء وعظمت التكاليف زادت الحاجة إلى العبادة، قال الله ـ تعالى ـ: {يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ (1) قُمِ اللَّيْلَ إلاَّ قَلِيلاً (2) نِّصْفَهُ أَوِ انقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً (3)أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً (4) إنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً} [المزمل: 1 - 5]، ويتكرر الأمر للنبي صلى الله عليه وسلم بأنواع من العبادة كلما تكرر ذكر كيد الأعداء ومكرهم، قال الله ـ تعالى ـ: {فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَن تَابَ مَعَكَ وَلا تَطْغَوْا إنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ } [هود: 112]، {وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إلَيْكَ وَاصْبِرْ حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ } [يونس: 109]، {وَاذْكُر رَّبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعاً وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ وَلا تَكُن مِّنَ الْغَافِلِينَ } [الأعراف: 205].
? من صور الخذلان:
وإن من الخذلان أن يحرم العبد من عبادات ميسرة له، بكسله أو عجزه أو ظنون وأوهام تصرفه عن العبادة؛ كانشغاله بالجدل والمراء، والحديث عن أهل العلم والعمل دون الانشغال بالأعمال النافعة، وربما عد النقد وتلمس المثالب عملاً ومسوغاً له؛ لإهمال أبواب من الخير بين يديه وتحت طائله، ومن الناس من اقتصرت أعماله الخيرية على المشاركة الوجدانية بالفرح بأعمال الصالحين والحزن على المصائب، ومن الناس من فيه همة وعزيمة وجلد، لكنها برفقة البطالين تحولت إلى بطولات في ميادين أحسن أحوالها الإباحة؛ في سفر وأنس وصيد ورحلات وسهرات، والله المستعان.(1/43)
ومن صور الخذلان تعلق المرء بعبادة لم تتيسر له، فيفكر بالتعبد بها مع هجر غيرها المتيسر، وذلك كحال من حيل بينه وبين الجهاد، وهو يتطلع إليه فيغفل عن طلب العمل والدعوة إلى الله والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ويزهّد الناس فيها تعلقاً بالجهاد الذي يُعذر بتركه، أو ينشغل بمباحات عن السنن والفرائض، أو يتشبث بأعمال قليلة النفع لا تصلح له ولا يصلح لها؛ تشتت قلبه وتشغل غيره بما لا يجدي في الآخرة إلا قليلاً.
? من صور التوفيق:
من صور التوفيق أن يستمر المؤمن على عمل خير وبر ويداوم عليه، فيثمر مع المداومة ثمرات عظيمة، ويبارك الله فيه على قلَّته، فعن عائشة ـ رضي الله عنها ـ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «أحب الأعمال إلى الله أدومها وإن قلّ»(2).
قال ابن رجب ـ رحمه الله ـ: «من مشى في طاعة الله على التسديد والمقاربة فليبشر، فإنه يصل ويسبق الدائب المجتهد في الأعمال، فليست الفضائل بكثرة الأعمال البدنية، لكن بكونها خالصة لله ـ عز وجل ـ صواباً على متابعة السنة، وبكثرة معارف القلوب وأعمالها. فمن كان بالله أعلم، وبدينه وأحكامه وشرائعه، وله أخوف وأحب وأرجى؛ فهو أفضل ممن ليس كذلك وإن كان أكثر منه عملاً بالجوارح»(3).
ومن أعظم التوفيق أن يكون المؤمن مباركاً أين ما حلّ وارتحل، يتقرب إلى الله بعبادة تناسب الوقت أو المكان أو الحال بقول أو فعل أو احتساب أو ترك أو دعوة أو أمر.(1/44)
وأعظم التوفيق أن يموت المؤمن وقد ختم حياته بخير أعماله مسلماً لله ظاهراً وباطناً، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «إن الله إذا أراد بعبده خيراً استعمله قبل موته. قالوا: يا رسول الله! وكيف يستعمله؟ قال: يوفقه لعمل صالح ثم يقبضه عليه»(4). ولهذا كان من دعاء يوسف ـ عليه السلام ـ: {تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ} [يوسف: 101]. وأرجى ما يكون ذلك إذا علق العبد قلبه بالله، واتخذ لنفسه مشروعاً إصلاحياً يتقرب به إلى الله وينفع به المسلمين، يعيش معه، فيغلب على اهتمامه، ويسيطر على تفكيره، ويسعى جاداً إلى نجاحه؛ صابراً على الطريق وإن طال، قال ـ تعالى ـ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [آل عمران: 200].
-------------------------------------
(1) رواه مسلم، رقم 2623، وأبو داود، رقم 4983، قال النووي: روينا (أهلكهم) بالوجهين، شرح النووي على مسلم، 16/175.
(1) القصة في صحيح البخاري، رقم 2647، ومسلم، ك 33، ب 147.
(1) رواه أحمد، 4/ 303، وقال ابن حجر: بإسناد حسن الفتح، 7/457.
(1) رواه مسلم، رقم 1948، والترمذي، رقم 2201، وابن ماجه، رقم 39785، عن معقل بن يسار رضي الله عنه.
(2) ويدل على ذلك الحديث الذي رواه البخاري، رقم 6126، رواه مسلم، رقم 230.
(3) ويدل على ذلك الحديث الذي رواه مسلم، رقم 1631.
(1) إحياء علوم الدين، 4/364، جامع العلوم والحكم، 1/13.
(2) رواه مسلم، ح/ 6464.
(3) المحجة في سير الدلجة، 52، 53.
(4) رواه أحمد، رقم 12214، وقال محقق المسند: صحيح على شرط الشيخين، 19/246، ورواه الترمذي، رقم 2142، وقال: حديث حسن صحيح.
--------------------------------------
مجلة البيان، العدد (190)، جمادي الآخرة 1424،أغسطس 2003 .
* * *(1/45)
http://www.albayan-magazine.com/zwaya/trbwi/3.htm
الافتقار إلى الله.. لب العبودية
أحمد الصويان
من أخص خصائص العبودية: الافتقار المطلق لله تعالى، فهو: «حقيقة العبودية ولبُّها»(1). قال الله ـ تعالى ـ: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنتُمُ الْفُقَرَاءُ إلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ} [فاطر: 15]، وقال ـ تعالى ـ في قصة موسى ـ عليه الصلاة والسلام ـ: {فَقَالَ رَبِّ إنِّي لِمَا أَنزَلْتَ إلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ}[القصص: 24].
عرَّفه الإمام ابن القيم ـ رحمه الله ـ بقوله: «حقيقة الفقر: أن لا تكون لنفسك، ولا يكون لها منك شيء؛ بحيث تكون كلك لله، وإذا كنت لنفسك فثمَّ ملك واستغناء مناف للفقر». ثم قال: «الفقر الحقيقي: دوام الافتقار إلى الله في كل حال، وأن يشهد العبد في كل ذرة من ذراته الظاهرة والباطنة فاقة تامة إلى الله ـ تعالى ـ من كل وجه»(2).
فالافتقار إلى الله ـ تعالى ـ أن يُجرِّد العبد قلبه من كل حظوظها وأهوائها، ويُقبل بكليته إلى ربه ـ عز وجل ـ متذللاً بين يديه، مستسلماً لأمره ونهيه، متعلقاً قلبه بمحبته وطاعته. قال الله ـ تعالى ـ: {قُلْ إنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} [الأنعام: 162 - 163].
قال يحيى بن معاذ: «النسك هو: العناية بالسرائر، وإخراج ما سوى الله ـ عز وجل ـ من القلب»(3).(1/46)
والمتأمل في جميع أنواع العبادة القلبية والعملية يرى أن الافتقار فيها إلى الله هي الصفة الجامعة لها، فبقدر افتقار العبد فيها إلى الله يكون أثرها في قلبه، ونفعها له في الدنيا والآخرة، وحسبك أن تتأمل في الصلاة أعظم الأركان العملية، فالعبد المؤمن يقف بين يدي ربه في سكينة، خاشعاً متذللاً، خافضاً رأسه، ينظر إلى موضع سجوده، يفتتحها بالتكبير، وفي ذلك دلالة جليَّة على تعظيم الله ـ تعالى ـ وحده، وترك ما سواه من الأحوال والديار والمناصب. وأرفع مقامات الذلة والافتقار أن يطأطئ العبد رأسه بالركوع، ويعفِّر جبهته بالتراب مستجيراً بالله منيباً إليه. ولهذا كان الركوع مكان تعظيم الله تعالى، وكان السجود مكان السؤال، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (فأما الركوع فعظّموا فيه الرب عز وجل، وأما السجود فاجتهدوا في الدعاء، فقَمِنٌ أن يستجاب لكم)(4).
ولهذا كان من دعاء النبي -صلى الله عليه وسلم- في ركوعه: «اللهم لك ركعت، وبك آمنت، ولك أسلمت. خشع لك سمعي، وبصري، ومخي، وعظمي، وعصبي»(5).
قال الحافظ ابن رجب: «إشارة إلى أن خشوعه في ركوعه قد حصل لجميع جوارحه، ومن أعظمها القلب الذي هو ملك الجوارح والأعضاء، فإذا خشع خشعت الجوارح والأعضاء كلها؛ تبعاً له ولخشوعه». ثم قال: «ومن تمام خشوع العبد لله ـ عز وجل ـ وتواضعه في ركوعه وسجوده؛ أنَّه إذا ذلَّ لربه بالركوع والسجود، وصف ربه حينئذ بصفات العز والكبرياء والعظمة والعلو، فكأنه يقول: الذل والتواضع وَصْفي، والعلو والعظمة والكبرياء وَصْفك»(1).
إنَّ هذه المنزلة الجليلة التي يصل إليها القلب هي سرُّ حياته وأساس إقباله على ربه سبحانه وتعالى؛ فالافتقار حادٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍ يحدو العبد إلى ملازمة التقوى ومداومة الطاعة.
ويتحقق ذلك بأمرين متلازمين؛ هما:
الأول: إدراك عظمة الخالق وجبروته:(1/47)
فكلما كان العبد أعلم بالله ـ تعالى ـ وصفاته وأسمائه كان أعظم افتقاراً إليه وتذللاً بين يديه، قال الفضيل بن عياض: «أعلم الناس بالله أخوفهم منه»(2)، وقال: «رهبة العبد من الله على قدر علمه باللّه»(3). ومَنْ تدبر الآيات البينات والأحاديث الشريفات التي جاء فيها ذكر صفاته العلى وأسمائه الحسنى انخلع قلبه إجلالاً لربه، وتعظيماً لمقامه، وهيبة لسطوته وجبروته سبحانه وتعالى.
قال ـ تعالى ـ: {اللَّهُ لا إلَهَ إلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ لَّهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِندَهُ إلاَّ بِإذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ إلاَّ بِمَا شَاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَلا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ} [البقرة: 255].
وقال ـ تعالى ـ: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ} [الزمر: 67].
وعن عبد الله بن عمر ـ رضي الله عنهما ـ قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (يطوي الله السموات يوم القيامة، ثم يأخذهنَّ بيده اليمنى، ثم يقول: أنا الملك، أين الجبارون؟ أين المتكبرون؟ ثم يطوي الأرض بشماله، ثم يقول: أنا الملك، أين الجبارون؟ أين المتكبرون)(4).(1/48)
قال الإمام ابن القيم: «القرآن كلام الله، وقد تجلى الله فيه لعباده بصفاته، فتارة يتجلى في جلباب الهيبة والعظمة والجلال، فتخضع الأعناق، وتنكسر النفوس، وتخشع الأصوات، ويذوب الكبر كما يذوب الملح في الماء. وتارة يتجلى في صفات الجمال والكمال، وهو كمال الأسماء وجمال الصفات وجمال الأفعال الدال على كمال الذات، فيستنفد حبه من قلب العبد قوة الحب كلها، بحسب ما عرفه من صفات جماله ونعوت كماله، فيصبح عبده فارغاً إلا من محبته، فإذا أراد منه الغير أن يعلق تلك المحبة به أبى قلبه وأحشاؤه ذلك كل الإباء ..». ثم قال: «.. وجماع ذلك: أنه ـ سبحانه ـ يتعرف إلى العبد بصفات إلهيته تارة، وبصفات ربوبيته تارة، فيوجب له شهود صفات الإلهية المحبة الخاصة والشوق إلى لقائه، والأنس والفرح به، والسرور بخدمته، والمنافسة في قربه، والتودد إليه بطاعته، واللهج بذكره، والفرار من الخلق إليه، ويصير هو وحده همه دون ما سواه. ويوجب له شهود صفات الربوبية التوكل عليه، والافتقار إليه، والاستعانة به، والذل والخضوع والانكسار له»(5).
وعرّف ابن القيم الخشوع بأنه: «خشوع القلب لله بالتعظيم والإجلال والوقار والمهابة والحياء، فينكسر القلب لله كسرة ملتئمة من الوجل والخجل والحب والحياء، وشهود نعم الله، وجناياته هو؛ فيخشع القلب لا محالة، فيتبعه خشوع الجوارح»(6).
الثاني: إدراك ضعف المخلوق وعجزه:(1/49)
فمن عرف قدر نفسه، وأنَّه مهما بلغ في الجاه والسلطان والمال؛ فهو عاجز ضعيف لا يملك لنفسه صرفاً ولا عدلاً؛ تصاغرت نفسه، وذهب كبرياؤه، وذلَّت جوارحه، وعظم افتقاره لمولاه، والتجاؤه إليه، وتضرعه بين يديه. قال ـ عز وجل ـ: {فَلْيَنظُرِ الإنسَانُ مِمَّ خُلِقَ * خُلِقَ مِن مَّاءٍ دَافِقٍ * يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ * إنَّهُ عَلَى رَجْعِهِ لَقَادِرٌ * يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ * فَمَا لَهُ مِن قُوَّةٍ وَلا نَاصِرٍ} [الطارق: 5 - 10].
وقد جمع الإمام ابن القيم بين هذين الأمرين بقوله: «مَنْ كملت عظمة الحق ـ تعالى ـ في قلبه؛ عظمت عنده مخالفته؛ لأن مخالفة العظيم ليست كمخالفة مَنْ هو دونه. ومَنْ عرف قدر نفسه وحقيقتها؛ وفقرها الذاتي إلى مولاها الحق في كل لحظة ونَفَس، وشدة حاجتها إليه؛ عظمت عنده جناية المخالفة لمن هو شديد الضرورة إليه في كل لحظة ونَفَس. وأيضاً فإذا عرف حقارتها ـ مع عظم قدر من خالفه ـ؛ عظمت الجناية عنده؛ فشمَّر في التخلص منها، وبحسب تصديقه بالوعيد ويقينه به يكون تشميره في التخلص منها، وبحسب تصديقه بالوعيد ويقينه به؛ يكون تشميره في التخلص من الجناية التي تلحق به»(7).
? ومن علامات الافتقار إلى الله ـ تعالى ـ:
أولاً: غاية الذل لله ـ تعالى ـ مع غاية الحب:
فالمؤمن يُسلم نفسه لربه ـ منكسراً بين يديه، متذللاً لعظمته، مقدماً حبَّه ـ سبحانه وتعالى ـ على كل حب. طمأنينة نفسه، وقرَّة عينه، وسكينة فؤاده، أن يعفِّر جبهته بالأرض، ويدعو ربه رغبة ورهبة، قال ابن جرير الطبري: «معنى العبادة: الخضوع لله بالطاعة، والتذلل له بالاستكانة»(8).(1/50)
ومَنْ كانت هذه هي حاله وجدته وقَّافاً عند حدود الله، مقبلاً على طاعته، ملتزماً بأمره ونهيه، فثمرة الذل: أن لا يتقدم بين يدي الله ورسوله -صلى الله عليه وسلم-، مهتدياً بقوله ـ سبحانه وتعالى ـ: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} [الأحزاب: 36]، وقوله ـ تعالى ـ: {وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإلَيْكَ الْمَصِيرُ} [البقرة: 285]. وقوله ـ تعالى ـ: {إنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إذَا دُعُوا إلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَن يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ} [النور: 51 - 52].
قال الحسن ـ رضي الله عنه ـ: «ما ضربتُ ببصري، ولا نطقتُ بلساني، ولا بطشتُ بيدي، ولا نهضتُ على قدمي، حتى أنظر أعلى طاعة أو على معصية؟ فإن كانت طاعة تقدمتُ، وإن كانت معصية تأخرتُ»(1).
وأمّا مَنْ طاشت به سبل الهوى، ولم يعرف الله ـ عز وجل ـ حق المعرفة؛ رأيته يستنكف الاستسلام لربه عز وجل، ويستكبر فلا يخضع له، قال الله ـ تعالى ـ: {لَن يَسْتَنكِفَ الْمَسِيحُ أَن يَكُونَ عَبْدًا لِّلَّهِ وَلا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ وَمَن يَسْتَنكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إلَيْهِ جَمِيعًا * فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدُهُم مِّن فَضْلِهِ وَأَمَّا الَّذِينَ اسْتَنكَفُوا وَاسْتَكْبَرُوا فَيُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَلا يَجِدُونَ لَهُم مِّن دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيرًا} [النساء: 172 - 173].(1/51)
ويقول الله ـ تعالى ـ في وصف المؤمنين: {إنَّمَا يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا الَّذِينَ إذَا ذُكِّرُوا بِهَا خَرُّوا سُجَّدًا وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ} [السجدة: 15].
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: «كلما ازداد القلب حبّاً لله ازداد له عبودية، وكلما ازداد له عبودية ازداد له حباً وحرية عما سواه، والقلب فقير بالذات إلى الله من وجهين: من جهة العبادة، وهي العلة الغائية، ومن جهة الاستعانة والتوكل، وهي العلة الفاعلية، فالقلب لا يصلح ولا يفلح ولا يلتذ ولا يُسر ولا يطيب ولا يسكن ولا يطمئن إلا بعبادة ربه، وحبه والإنابة إليه، ولو حصل له كل ما يلتذ به من المخلوقات لم يطمئن ولم يسكن؛ إذ فيه فقر ذاتي إلى ربه، ومن حيث هو معبوده ومحبوبه ومطلوبه»(2).
وقال ابن القيم: «إنَّ مقام العبودية هو بتكميل مقام الذل والانقياد، وأكمل الخلق عبودية أكملهم ذلاً للّه وانقياداً وطاعة، ذليل لمولاه الحق بكل وجه من وجوه الذل، فهو ذليل لقهره، ذليل لربوبيته فيه وتصرفه، وذليل لإحسانه إليه وإنعامه عليه»(3).
ثانياً: التعلّق باللّه ـ تعالى ـ وبمحبوباته:
فشعور العبد بفقره وحاجته إلى ربه ـ عز وجل ـ يدفعه إلى الاستكانة له والإنابة إليه، ويتعلق قلبه بذكره وحمده والثناء عليه، والتزام مرضاته، والامتثال لمحبوباته.
قال بعض الصالحين: «مفاوز الدنيا تُقطع بالأقدام، ومفاوز الآخرة تُقطع بالقلوب»(4).(1/52)
ولهذا ترى العبد الذي تعلق قلبه بربه ـ وإن اشتغل في بيعه وشرائه، أو مع أهله وولده، أو في شأنه الدنيوي كله ـ مقيماً على طاعته، مقدماً محبوباته على محبوبات نفسه وأهوائها، لا تلهيه زخارف الدنيا عن مرضاة ربه، قال الله ـ تعالى ـ: {لَيْسَ الْبِرَّ أَن تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ}
[البقرة: 177].(1/53)
وثبت في الصحيحين أنَّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: (سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظلّه..)، وذكر منهم: (رجل قلبه معلَّق في المساجد)(5). قال الحافظ ابن حجر: «إشارة إلى طول الملازمة بقلبه وإن كان جسده خارجاً عنه»(6). ولاحِظْ هذا التعبير البليغ: (قلبه معلّق)، وهذا يعني: أنه دائم الصلة بالله تعالى، دائم الاستحضار لأوامره، لا يشغله عن ذلك شاغل، ولا يصرفه عنه صارف، ولهذا قال الله ـ تعالى ـ: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ * رِجَالٌ لاَّ تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَإقَامِ الصَلاةِ وَإيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالأَبْصَارُ} [النور: 36 - 37]. وثبت في الحديث الصحيح عن عائشة ـ رضي الله عنها ـ: «أنّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كان يكون في مهنة أهله ـ تعني: خدمة أهله ـ فإذا حضرت الصلاة خرج إلى الصلاة»(7).
ويصف الإمام ابن القيم الافتقار إلى الله ـ تعالى ـ بقوله: «يتخلى بفقره أن يتألَّه غير مولاه الحق، وأن يُضيع أنفاسه في غير مرضاته، وأن يُفرق همومه في غير محابه، وأن يُؤْثر عليه في حال من الأحوال، فيوجب له هذا الخلق وهذه المعاملة صفاء العبودية، وعمارة السر بينه وبين الله، وخلوص الود، فيصبح ويمسي ولا هّم له غير ربه، فقد قطع همُّه بربه عنه جميع الهموم، وعطلت إرادته جميع الإرادات، ونسخت محبته له من قلبه كل محبة لسواه»(8).(1/54)
ومن تعلّق قلبه بربه وجد لذة في طاعته وامتثال أمره لا تدانيها لذة، «فأوامر المحبوب قرة العيون، وسرور القلوب، ونعيم الأرواح، ولذات النفوس، وبها كمال النعيم، فقرُّة عين المحب في الصلاة والحج، وفرح قلبه وسروره ونعيمه في ذلك، وفي الصيام والذكر والتلاوة، وأما الصدقة فعجب من العجب، وأما الجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والدعوة إلى الله والصبر على أعداء الله سبحانه؛ فاللذة بذلك أمر آخر لا يناله الوصف، ولا يدركه مَنْ ليس له نصيب منه، وكل من كان به أقوم كان نصيبه من الالتذاذ به أعظم»(1).
وأعظم الناس ضلالاً وخساراً مَنْ تعلّق قلبه بغير الله تعالى، ويزداد ضلاله وخساره بزيادة تعلُّقه بغير مولاه الحق، ولهذا كان ركون العبد إلى الدنيا أو إلى شيء من زخرفها آية من آيات العبودية لها، قال الله ـ تعالى ـ: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ } [الجاثية: 23]. وقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (تعس عبد الدينار وعبد الدرهم وعبد الخميصة، إن أعطي منها رضي، وإن لم يعط سخط، تعس وانتكس وإذا ِشيكَ فلا انتقش)(2).(1/55)
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: «كل من علَّق قلبه بالمخلوقات أن ينصروه، أو يرزقوه، أو أن يهدوه؛ خضع قلبه لهم، وصار فيه من العبودية لهم بقدر ذلك، وإن كان في الظاهر أميراً متصرفاً بهم، فالعاقل ينظر إلى الحقائق لا إلى الظواهر، فالرجل إذا تعلق قلبه بامرأة ولو كانت مباحة له؛ يبقى قلبه أسيراً لها تحكم فيه وتتصرف بما تريد، وهو في الظاهر سيدها؛ لأنه زوجها، وفي الحقيقة هو أسيرها ومملوكها، تحكم فيه بحكم السيد القاهر الظالم في عبده المقهور الذي لا يستطيع الخلاص منه. فإن أسر القلب أعظم من أسر البدن، واستعباد القلب أعظم من استعباد البدن، فإن من استُعبد بدنه واستُرق لا يبالي إذا كان قلبه مستريحاً من ذلك مطمئناً، وأما إذا كان القلب الذي هو الملك رقيقاً مستعبداً متيماً لغير الله؛ فهذا هو الذل والأسر المحض، والعبودية لما استعبد القلب»، ثم قال: «ومن أعظم هذا البلاء إعراض القلب عن الله، فإن القلب إذا ذاق طعم عبادة الله والإخلاص له؛ لم يكن عنده شيء قط أحلى من ذلك، ولا ألذ ولا أطيب»(3).
وقال الإمام ابن القيم: «أعظم الناس خذلاناً من تعلق بغير الله، فإنَّ ما فاته من مصالحه وسعادته وفلاحه؛ أعظم مما حصل له ممن تعلق به، وهو معرض للزوال والفوات. ومثل المتعلق بغير اللَّه كمثل المستظل من الحر والبرد ببيت العنكبوت أوهن البيوت»(4).
ثالثاً: مداومة الذكر والاستغفار:
فقلب العبد المؤمن عاكف على ذكر مولاه، والثناء عليه بأسمائه الحسنى وصفاته العلى في كل حال من أحواله، دائم التوبة والاستغفار عن الزلل أو التقصير، يجد لذته وأنسه بتلاوة القرآن، ويرى راحته وسكينته بمناجاة الرحمن. قال الله ـ تعالى ـ: {الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اللَّهِ أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ } [الرعد: 28] .(1/56)
وقد وصف الله ـ عز وجل ـ أهل الإيمان بقوله: {أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ} [الزمر: 9]. وقوله: {إنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لأُوْلِي الأَلْبَابِ * الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} [آل عمران: 190 - 191].
كما أمر الله ـ عز وجل ـ نبيه بمداومة الذكر والاستغفار، فقال ـ سبحانه ـ: {فَاصْبِرْ إنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَالإبْكَارِ} [غافر: 55].
ولهذا كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: (يا أيها الناس! توبوا إلى اللَّه؛ فإني أتوب إليه في اليوم مئة مرة)(5).
وقال ـ عليه الصلاة والسلام ـ: (والله! إني لأستغفر الله وأتوب في اليوم أكثر من سبعين مرة)(6). وقال: (إنه ليُغان على قلبي، وإني لأستغفر الله في اليوم مئة مرة)(7).
إنَّ مداومة الذكر والاستغفار آية من آيات الافتقار إلى الله تعالى، فالعبد يجتهد في إظهار فاقته وحاجته وعجزه، ويمتلىء قلبه مسكنة وإخباتاً، ويرفع يديه تذللاً وإنابة؛ فهو ذاكر لله ـ تعالى ـ في كل شأنه، في حضره وسفره، ودخوله وخروجه، وأكله وشربه، ويقظته ونومه، بل حتى عند إتيانه أهله، فهو دائم الافتقار لعون الله ـ تعالى ـ وفضله، لا يغفل ساعة ـ ولا أدنى من ذلك ـ عن الاستعانة به والالتجاء إليه.(1/57)
ومقتضى ذلك أنه لا يركن إلى نفسه، ولا يطمئن إلى حوله وقوته، ولا يثق بماله وجاهه وصحته، ولهذا كان من دعاء النبي -صلى الله عليه وسلم- لبعض أصحابه: (اللهم لا تكلهم إليَّ فأضعف، ولا تكلهم إلى أنفسهم فيعجزوا عنها، ولا تكلهم إلى الناس فيستأثروا عليهم)(8).
وعن أبي بكرة گ عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: (دعوات المكروب: اللهم رحمتك أرجو؛ فلا تكلني إلى نفسي طرفة عين، أصلح لي شأني كله، لا إله إلا أنت)(9).
وعن أنس بن مالك گ قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لفاطمة ـ رضي الله عنها ـ: (ما يمنعك أن تسعمي ما أوصيك به؟! أن تقولي إذا أصبحت وأذا أمسيت: يا حي يا قيوم برحمتك أستغيث، وأصلح لي شأني كله، ولا تكلني إلى نفسي طرفة عين أبداً)(1).
تأمل أذكار النبي -صلى الله عليه وسلم- وأدعيته تر عجباً في هذا الباب؛ ففي سيد الاستغفار تتجلى أعظم معاني العبودية، وتبرز أسمى معاني الانكسار والتذلل .. (اللهم أنت ربي لا إله إلا أنت، خلقتني وأنا عبدك، وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت، أعوذ بك من شر ما صنعت، أبوء لك بنعمتك علي، وأبوء لك بذنبي، اغفر لي، فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت)(2).
وتأمل دعاء النبي -صلى الله عليه وسلم- وتذلله إذا قام من الليل يتهجد ويناجي ربه، قال: (اللهم لك الحمد أنت قيَّم السموات والأرض ومن فيهنَّ، ولك الحمد لكَ مُلْك السموات والأرض ومن فيهن، ولك الحمد أنت نور السموات والأرض، ولك الحمد أنت ملك السموات والأرض، ولك الحمد أنت الحق، ووعدك الحق، ولقاؤك حق، وقولك حق، والجنة حق، والنار حق، والنبيون حق، ومحمد -صلى الله عليه وسلم- حق، والساعة حق، اللهم لك أسلمت، ولك آمنت، وعليك توكلت، وإليك أنبت، وبك خاصمت، وإليك حاكمت، فاغفر لي ما قدمت وما أخرت، وما أسررت وما أعلنت، أنت المقدم وأنت المؤخر، لا إله إلا أنت، أو لا إله غيرك)(3).(1/58)
إنَّ حمد الله ـ تعالى ـ وشكره، والثناء عليه بما هو أهله، مع الاعتراف بالذنب والعجز؛ يعمّر القلب بالنور، ويوجب له الطمأنينة والسعادة، وما أجمل كلام الإمام ابن القيم عندما قال: «إن في القلب خلة وفاقة لا يسدَّها شيء ألبتة إلا ذكر الله عز وجل، فإذا صار الذكر شعار القلب بحيث يكون هو الذاكر بطريق الأصالة، واللسان تبع له، فهذا هو الذكر الذي يسدّ الخلة ويغني الفاقة، فيكون صاحبه غنياً بلا مال، عزيزاً بلا عشيرة، مهيباً بلا سلطان. فإذا كان غافلاً عن ذكر الله عز وجل؛ فهو بضد ذلك، فقير مع كثرة جدته، ذليل مع سلطانه، حقير مع كثرة عشيرته»(4).
رابعاً ـ الوجل من عدم قبول العمل:
فمع شدة إقبال العبد على الطاعات، والتقرب إلى الله بأنواع القربات؛ إلا أنه مشفق على نفسه أشد الإشفاق، يخشى أن يُحرم من القبول، فعن عائشة ـ رضي الله عنها ـ قالت: سألت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن هذه الآية: {وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ} [المؤمنون: 60]: أهم الذين يشربون الخمر ويسرقون؟! قال: (لا يا ابنة الصديق! ولكنهم الذين يصومون ويصلّون ويتصدقون، وهم يخافون أن لا يقبل منهم، أولئك الذين يسارعون في الخيرات)(5).
فعلى الرغم من حرصهم على أداء هذه العبادات الجليلات فإنهم لا يركنون إلى جهدهم، ولا يدلون بها على ربهم، بل يزدرون أعمالهم، ويظهرون الافتقار التام لعفو الله ورحمته، وتمتلئ قلوبهم مهابة ووجلاً، يخشون أن ترد أعمالهم عليهم، والعياذ بالله، ويرفعون أكف الضراعة ملتجئين إلى الله يسألونه أن يتقبل منهم.
وتتأكد هذه الحقيقة عند أهل الإيمان بأربعة أمور:
الأول: أنَّ اللّه ـ عز وجل ـ غني عن طاعات العباد:(1/59)
فاللّه ـ جل وعلا ـ غني عن عباده، وليس في حاجة إلى عبادتهم وطاعاتهم، قال الله ـ عز وجل ـ: {وَمَن يَشْكُرْ فَإنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَن كَفَرَ فَإنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ} [لقمان: 12]، وقال ـ تعالى ـ: {إن تَكْفُرُوا فَإنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنكُمْ وَلا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ وَإن تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ} [الزمر: 7]، وقال ـ تعالى ـ: {وَمَن شَكَرَ فَإنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَن كَفَرَ فَإنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ} [النمل: 40]، وقال ـ تعالى ـ: {وَقَالَ مُوسَى إن تَكْفُرُوا أَنتُمْ وَمَن فِي الأَرْضِ جَمِيعًا فَإنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ} [إبراهيم: 8].
وفي الحديث القدسي قال الله ـ تعالى ـ: (يا عبادي، إنكم لن تبلغوا ضري فتضروني، ولن تبلغوا نفعي فتنفعوني. يا عبادي، لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أتقى قلب رجل واحد منكم ما زاد ذلك في ملكي شيئاً. يا عبادي، لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أفجر قلب رجل واحد ما نقص ذلك من ملكي شيئاً. يا عبادي، لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم قاموا في صعيد واحد فسألوني فأعطيت كل إنسان منهم مسألته؛ ما نقص ذلك مما عندي إلا كما ينقص المخيط إذا أدخل البحر)(6).
قال قتادة وغيره من السلف: «إنَّ الله ـ سبحانه ـ لم يأمر العباد بما أمرهم به لحاجته إليه، ولا نهاهم عنه بخلاً منه، بل أمرهم بما فيه صلاحهم، ونهاهم عما فيه فسادهم»(7).
الثاني: أنَّ قبول الأعمال إنما هو من فضل الله ورحمته.
ولهذا قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (والله! لا أدري وأنا رسول الله ما يفُعل بي ولا بكم)(8).
فإذا كان هذا هو حال سيد ولد آدم ـ عليه أفضل الصلاة والسلام ـ فكيف بغيره من الناس؟!(1/60)
ومَنْ قرأ قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: (لن ينجي أحداً منكم عملُه)، قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟! قال: (ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمته)(9)؛ أيقن بضعفه وعجزه، وازداد تضرعاً وافتقاراً لربه جل وعلا، ولم يتعاظم في نفسه، أو يُعجب بجهده وعمله. قال الإمام ابن القيم: «كلما شهدت حقيقة الربوبية وحقيقة العبودية، وعرفت الله، وعرفت النفس، وتبيَّن لك أنَّ ما معك من البضاعة لا يصلح للملك الحق، ولو جئت بعمل الثقلين؛ خشيت عاقبته، وإنما يقبله بكرمه وجوده وتفضله، ويثيبك عليه أيضاً بكرمه وجوده وتفضله»(1).
وكلما شعر العبد بهذه الحقيقة بانت له عظمة الخالق جل وعلا، وعرف مقدار نفسه، وهكذا ربَّى النبي -صلى الله عليه وسلم- أصحابه ـ رضي الله عنهم ـ، فها هو ذا أجلّهم وأعلاهم منزلة ـ أبو بكر الصديق ي ـ يقول للنبي -صلى الله عليه وسلم-: (علمني دعاء أدعو به في صلاتي)، والنبي -صلى الله عليه وسلم- أعرف الناس بصاحبه ومع ذلك قال له: (قل: اللهم إني ظلمت نفسي ظلماً كثيراً، ولا يغفر الذنوب إلا أنت، فاغفر لي مغفرة من عندك، وارحمني إنك أنت الغفور الرحيم)(2).
إنها تربية ربانية تحدُّ من استعلاء العبد، وتجعله دائم الافتقار لربه، دائم الانكسار بين يديه، وإذا كانت هذه هي وصية النبي -صلى الله عليه وسلم- لأبي بكر گ وهو مَنْ هو إمامة وجلالة وجهاداً ونصرة لدينه وذباً عن نبيه؛ فكيف يكون حالنا ونحن المذنبون المفرطون؟! نسأل الله السلامة.
وكنت أعجب من حال عمر بن الخطاب گ كيف يخشى النفاق على نفسه، وهو الفاروق الذي بشّره النبي -صلى الله عليه وسلم- بالجنة؟!(1/61)
ثم عرفت أن العبد كلما ازداد عبودية وافتقاراً إلى ربه ازداد ازدراء للنفس وخوفاً عليها، وتعلق قلبه بربه ـ سبحانه وتعالى ـ. قال ابن رجب الحنبلي: «كان الصحابة ومن بعدهم من السلف الصالح يخافون على أنفسهم النفاق، ويشتد قلقهم وجزعهم منه، فالمؤمن يخاف على نفسه النفاق الأصغر، ويخاف أن يغلب ذلك عليه عند الخاتمة فيخرجه إلى النفاق الأكبر، كما تقدم أن دسائس السوء الخفية توجب سوء الخاتمة)(3).
الثالث: أن المنة لله جميعاً:
فالمؤمن ينسب ما به من نعمة، وما عنده من طاعة؛ إلى ربه ومولاه ـ عز وجل ـ، فله الفضل والمنة، ولا يزعم أن ذلك من حوله وكده وجهده، قال الله ـ تعالى ـ: {فَمَن يُرِدِ اللَّهُ أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإسْلامِ وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ} [الأنعام: 125].
وقال تعالى ـ: {يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُل لاَّ تَمُنُّوا عَلَيَّ إسْلامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلإيمَانِ} [الحجرات: 17].
وفي الحديث القدسي قال الله ـ تعالى ـ: (يا عبادي، كلكم ضال إلا من هديته؛ فاستهدوني أهدكم)(4).
ومن عجائب آي الذكر الحكيم: ما ورد في مطلع سورة المدثر، فعندما أمر النبي -صلى الله عليه وسلم- بالنذارة بادئ الأمر، وُضِّح له طبيعة الطريق، فقال ـ عز وجل ـ: {وَلا تَمْنُن تَسْتَكْثِرُ} [المدثر: 6].
إنها وصية واضحة لا غموض فيها، تجرد العبد من استعلائه وإدلاله على ربه؛ تملأ القلب مهابة وإجلالاً لله ـ عز وجل ـ صاحب الفضل والمنَّة.(1/62)
ومن لطائف هذا الباب أنَّ عمر بن الخطاب گ حينما طُعن وجعل يألم، قال له عبد الله بن عباس مواسياً: «يا أمير المؤمنين، ولئن كان ذاك، لقد صحبت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فأحسنت صحبته، ثم فارقته وهو عنك راض، ثم صحبت أبا بكر فأحسنت صحبته، ثم فارقته وهو عنك راض، ثم صحبت صحبتهم فأحسنت صحبتهم، ولئن فارقتهم لتفارقنهم وهم عنك راضون».. وبعد هذا الثناء العظيم على أمير المؤمنين ي؛ تأمّل جوابه عندما قال لابن عباس: «أمّا ما ذكرت من صحبة رسول -صلى الله عليه وسلم- ورضاه: فإنما ذلك منٌّ من الله ـ تعالى ـ عليَّ، وأمّا ما ذكرت من صحبة أبي بكر ورضاه: فإنما ذاك منٌّ من الله ـ جل ذكره ـ منَّ به عليَّ، وأمّا ما ترى من جزعي: فهو من أجلك وأجل أصحابك، والله! لو أنَّ لي طلاع الأرض ذهباً لافتديت به من عذاب الله ـ عز وجل ـ قبل أن أراه»(5).
الرابع: أنَّ العبد لا يأمن على نفسه الفتنة:
فقد ثبت في الحديث الصحيح أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: (إنَّ قلوب بني آدم كلها بين أصبعين من أصابع الرحمن كقلب واحد يصرفه حيث يشاء)(6).
فالعبد ـ مهما بلغت منزلته ـ لا يأمن على نفسه الفتنة، ويخشى أن تجرفه رياح الأهواء والفتن، ولهذا كان من دعاء النبي -صلى الله عليه وسلم-: (اللهم مصرف القلوب صرِّف قلوبنا على طاعتك)(7).
فإمام المتقين يتضرع إلى الله ـ عز وجل ـ بهذا الدعاء افتقاراً إلى الله تعالى، فكيف بنا ونحن الفقراء المحاويج..؟!
ومن كان لا يأمن على نفسه رأيته أشد وجلاً على نفسه، وأشد انكساراً بين يدي مولاه العظيم ـ سبحانه وتعالى ـ.
ولهذا فإن من أدرك هذه الحقائق الأربعة؛ علم أنَّ إعجاب المرء بطاعته وإدلاله بها على ربه من أعظم الأدواء والآفات التي تُسقط العبد، وتجعله على شفا جرف من الضلال والانتكاس، والعياذ بالله.(1/63)
قال مطرف بن عبد الله الشخّير: «لأن أبيت نائماً وأصبح نادماً؛ أحبّ إليَّ من أن أبيت قائماً فأصبح معجباً»(8).
وقال الإمام ابن القيم: « إنك إن تبيت نائماً وتصبح نادماً؛ خير من أن تبيت قائماً وتصبح معجباً، فإن المعجب لا يصعد له عمل. وإنك إن تضحك وأنت معترف خير من أن تبكي وأنت مدل. وأنين المذنبين أحب إلى الله من زجل المسبّحين المدلين. ولعلَّ الله سقاه بهذا الذنب دواء استخرج به داءً قاتلاً هو فيك ولا تشعر»(1).
وقال في وصف مشهد الذل والافتقار: «يشهد في كل ذرة من ذراته الباطنة والظاهرة ضرورة تامة، وافتقاراً تاماً إلى ربه ووليه، ومَنْ بيده صلاحه وفلاحه، وهداه وسعادته. وهذه الحال التي تحصل لقلبه لا تنال العبارة حقيقتها، وإنما تُدرك بالحصول، فيحصل لقلبه كَسْرة خاصة لا يشبهها شيء؛ بحيث يرى نفسه كالإناء المرضوض تحت الأرجل الذي لا شيء فيه، ولا به ولا منه، ولا فيه منفعة، ولا يرغب في مثله.
وأنه لا يصلح للانتفاع إلا بجبر جديد من صانعه وقيّمه، فحينئذ يستكثر في هذا المشهد ما منّ ربه إليه من الخير، ويرى أنه لا يستحق قليلاً منه ولا كثيراً. فأي خير ناله من الله استكثره على نفسه، وعلم أن قدره دونه، وأن رحمة ربه هي التي اقتضت ذكره به، وسياقته إليه، واستقل ما من نفسه من الطاعات لربه، ورآها ـ ولو ساوت طاعات الثقلين ـ من أقل ما ينبغي لربه عليه، واستكثر قليل معاصيه وذنوبه. فإن الكَسْرة التي حصلت لقلبه أوجبت له هذا كله».
ثم قال ابن القيم: «فما أقرب الجبر من هذا القلب المكسور! وما أدنى النصر والرحمة والرزق منه! وما أنفع هذا المشهد وأجداه عليه! وذرة من هذا ونَفَس منه أحب إلى الله من طاعات أمثال الجبال من المدلين المعجبين بأعمالهم وعلومهم وأحوالهم. وأحب القلوب إلى الله ـ سبحانه ـ: قلب قد تمكنت منه هذه الكسرة، وملكته هذه الذلة، فهو ناكس الرأس بين يدي ربه، لا يرفع رأسه إليه حياء وخجلاً من الله»(2).(1/64)
خامساً: خشية اللّه في السرَّ والعلن:
الخوف من الله ـ تعالى ـ من أجلّ صفات أهل الإيمان، قال ـ عز وجل ـ: {إنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} [الأنفال: 2].
وقال ـ عز وجل ـ: {وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ * الَّذِينَ إذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ } [الحج: 34 - 35].
وخشيته ـ عز وجل ـ في السر والعلن من أعظم آيات الافتقار والفاقة إليه ـ سبحانه ـ، فمن عرف الله ـ تعالى ـ بأسمائه الحسنى وصفاته العلى، وأدرك عظمته وجبروته، وسلطانه الذي لا يقهر، وعينه التي لا تنام، وقدَّره حق قدره؛ خاف منه حق الخوف، ولهذا قال الله ـ عز وجل ـ: {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ} [الرحمن: 46]، وقال ـ تعالى ـ: {وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى * فَإنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى} [النازعات: 40 - 41]. وقال ـ تعالى ـ: { ذَلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ} [إبراهيم: 14].
ومن كانت هذه هي حاله رأيته متيقظ القلب، يرتجف خشية وإشفاقاً، دائم المناجاة لربه، يستجير به ويستغيث استغاثة المفتقر الذليل، قال الله ـ تعالى ـ: {أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ} [الزمر: 9]. وقال ـ سبحانه وتعالى ـ: {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا} [السجدة: 16]. وقال: {وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا} [الفرقان: 64]، قال الحسن البصري: «تجري دموعهم على خدودهم فَرَقاً من ربهم»(3).(1/65)
وتأمل معي قول الحق ـ جلَّ وعلا ـ: {قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لا تُؤْمِنُوا إنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِن قَبْلِهِ إذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ سُجَّدًا * وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إن كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولاً * وَيَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا} [الإسراء: 107 - 109] .
فهو الافتقار التام لله عز وجل، والانكسار بين يديه تذللاً وإنابة، قال الأستاذ سيد قطب: «إنهم لا يتمالكون أنفسهم، فهم لا يسجدون ولكن {يَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ سُجَّدًا}، ثم تنطلق ألسنتهم بما خالج مشاعرهم من إحساس بعظمة الله وصدق وعده: {سُبْحَانَ رَبِّنَا إن كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولاً}، ويغلبهم التأثر فلا تكفي الألفاظ في تصوير ما يجيش في صدورهم منه، فإذا الدموع تنطلق معبرة عن ذلك التأثر الغامر الذي لا تصوّره الألفاظ»(4).
وشرط الخشية الصادقة أن تكون بالغيب؛ لأن القلب لا يتعلق إلا بالله، ولا يلتفت إلى ما سواه، قال الله ـ تعالى ـ: {إنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُم بِالْغَيْبِ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ} [الملك: 12]. وقال ـ تعالى ـ: {الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُم بِالْغَيْبِ وَهُم مِّنَ السَّاعَةِ مُشْفِقُونَ} [الأنبياء: 49]. وقال ـ تعالى ـ: {وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ * هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ * مَّنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُّنِيبٍ} [ق: 31 - 33]. وفي الحديث الصحيح قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله..)، وذكر منهم: (ورجل ذكر اللّه خالياً ففاضت عيناه)(5). قال الحافظ ابن حجر: «خالياً: أي من الخلو؛ لأنه يكون حينئذ أبعد من الرياء، والمراد: خالياً من الالتفات إلى غير الله ولو كان في ملأ»(6).(1/66)
والخوف من الله ـ عز وجل ـ عبادة قلبية تدفع العبد إلى الحرص والجدية والإقبال على الطاعة، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (مَنْ خاف أدلج، ومَنْ أدلج بلغ المنزل)(7). ولهذا قال الحافظ عبيد الله بن جعفر: «ما استعان عبد على دينه بمثل الخشية من الله»(8). وتتجلى حقيقة هذه العبادة القلبية على الجوارح، ولهذا جاء فى حديث السبعة الذين يظلهم الله: (ورجل دعته امرأة ذات منصب وجمال، فقال: إني أخاف الله)(1). فالمعصية تعرضت له بأكمل زينتها، وأبهى فتنتها، وهو بشر كالبشر، لكن ما حبسه عنها إلا الخوف من الله عز وجل، ونظير هذا ما جاء في حديث الثلاثة الذين أطبق عليهم الغار، فقال أحدهم: (اللهم! إن كنت تعلم أني كنت أحب امرأة من بنات عمي كأشد ما يحب الرجال النساء، فقالت: لا تنال ذلك منها حتى تعطيها مائة دينار، فسعيت فيها فجمعتها، فلما قعدتُ بين رجليها قالت: اتق الله ولا تفضَّ الخاتم إلا بحقه! فقمت وتركتها، فإن كنت تعلم أني فعلت ذلك ابتغاء وجهك فافرج عنا فرجة..)(2)، وفي لفظ: (فإن كنت تعلم أني فعلت ذلك من خشيتك ففرِّج عنا)(3).
فالمرأة الضعيفة استسلمت له، ولم تملك إلا تخويفه بالله عز وجل، فاستيقظ قلبه، وامتلأ خشية من الله، فحال ذلك بينه وبين المعصية، ومن أجمل ما وقفت عليه في تعريف الخشية قول سعيد بن جبير: «إن الخشية أن تخشى الله حتى تحول خشيتك بينك وبين معصيتك، فتلك الخشية»(4).
سادساً ـ تعظيم الأمر والنهي:
فغاية العبودية: التسليم والانقياد محبَّة وتذللاً، فتعظيم الأمر والنهي من تعظيم الله جلَّ وعلا، قال الله ـ عز وجل ـ: {ذَلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ عِندَ رَبِّهِ} [الحج: 30] ، وقال الله ـ تعالى ـ: {ذَلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ} [الحج: 32].(1/67)
وما انتشرت المعاصي، وكثرت المنكرات والأهواء في ديار المسلمين؛ إلا بسبب ضعف الإيمان، والتهاون في تعظيم أمر الله ـ عز وجل ـ ونهيه.
وتعظيم الأمر والنهي يعني: الوقوف عند حدود النصوص الشرعية، والالتزام الصادق بمقتضاياتها ودلائلها، والعض عليها بالنواجذ، فأَمْر الله ـ عز وجل ـ وأَمْر رسوله -صلى الله عليه وسلم- حقه الإجلال والامتثال، قال الله ـ تعالى ـ: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} [الأحزاب: 36] .
قال الإمام ابن القيم: «استقامة القلب بشئيين: أحدهما: أن تكون محبة الله ـ تعالى ـ تتقدم عنده على جميع المحاب... الأمر الثاني: تعظيم الأمر والنهي، وهو ناشئ عن تعظيم الآمر الناهي، فإن الله ـ تعالى ـ ذمَّ من لا يُعظّمه ولا يعظّم أمره ونهيه، قال الله ـ سبحانه وتعالى ـ: {مَا لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا} [نوح: 13]، قالوا في تفسيرها: ما لكم لا ترجون لله ـ تعالى ـ عظمة». ثم قال: «.. فعلامة التعظيم للأوامر: رعاية أوقاتها وحدودها، والتفتيش على أركانها وواجباتها وكمالها، والحرص على تحسينها وفعلها في أوقاتها، والمسارعة إليها عند وجوبها، والحزن والكآبة والأسف عند فوت حق من حقوقها..». ثم ذكر عدداً من علامات تعظيم المناهي، وهي على وجه الاختصار:
1 - الحرص على التباعد عن مظانها وأسبابها وما يدعو إليها، ومجانبة كل وسيلة تقرب إليها.
2 - أن يغضب لله ـ عز وجل ـ إذا انتُهكت محارمه، وأن يجد في قلبه حزناً وكَسْرة إذا عُصي الله ـ تعالى ـ في أرضه، ولم يُطع بإقامة حدوده وأوامره، ولم يستطع هو أن يغير ذلك.
3 - أن لا يسترسل مع الرخصة إلى حد يكون فيه جافياً غير مستقيم على المنهج الوسط.(1/68)
4 - أن لا يحمل الأمر على علة تُضعف الانقياد والتسليم لأمر الله عز وجل، بل يسلم لأمر الله ـ تعالى ـ وحكمه، متمثلاً ما أمر به، سواء ظهرت له حكمة الشرع في أمره ونهيه أو لم تظهر ..»(5).
ومن المسائل الجديرة بالعناية في هذا الباب: أنَّ على العلماء وطلبة العلم والباحثين والمثقفين.. ونحوهم، العناية بالاستدلال، والاعتماد على النصوص الشرعية في العلم والعمل، «وقلَّ أن تُعْوِزَ النصوص مَنْ يكون خبيراً بها، وبدلالتها على الأحكام»(6). ويجب أن يكون نظرهم في النصوص نظر المفتقر إليها، المتتبع لهداياتها، الملتزم بدلالتها. وما أجمل قول الإمام الثوري: «إن استطعت أن لا تحك رأسك إلا بأثر فافعل»(7).
ومَنْ نظر في النصوص الثابتة، ثم تقدم بين يديها، أو أغار عليها بالتأويل المتعسف، أو التحريف المتكلف، وراح يفسرها مجاراة لأهواء الناس، أو مداهنة لأهل العلمنة والتغريب؛ لم يكن في الحقيقة مفتقراً لها، معظماً لحدودها، قال ابن تيمية: «من الأصول المتفق عليها بين الصحابة والتابعين لهم بإحسان: أن لا يقبل من أحد قط أن يعارض القرآن برأيه، ولا ذوقه، ولا معقوله، ولا قياسه، ولاَ وجْده، فإنهم ثبت عنهم بالبراهين القطعيات والآيات البينات أن الرسول جاء بالهدى ودين الحق، وأن القرآن يهدي للتي هي أقوم»(8).
وأحسب أن الدعاة وأبناء الصحوة الإسلامية لو فقهوا هذه المسألة حق الفقه، والتزموها في مناهج التربية والحركة والإصلاح؛ لأثمر ذلك انضباطاً كبيراً في خططهم الدعوية والإصلاحية، ولساروا على جادة الصراط المستقيم، ولكن ـ مع الأسف الشديد ـ قلَّ عند بعضهم تعظيم النصوص الشرعية، وأصبحت القوالب الحزبية والمصالح المتوهمة هي المعيار الذي توزن به شؤون الدعوة، نسأل الله السلامة!!
--------------------------------------------------------------------------------
(1) مدارج السالكين، (439/2).
(2) المرجع السابق، (440/2).
((1/69)
3) ذم الهوى، لابن الجوزي، (ص 69).
(4) أخرجه: مسلم في كتاب الصلاة، (1/ 843)، رقم (974).
(5) أخرجه: مسلم في كتاب صلاة المسافرين وقصرها، (1/ 535)، رقم (177).
(6) الخشوع في الصلاة، لابن رجب الحنبلي، ص (14 ـ 34).
(7) سير أعلام النبلاء، (8/ 724).
(8) المرجع السابق، (426/8).
(9) أخرجه: مسلم في كتاب صفة القيامة والجنة والنار، (2148/4)، رقم (2788)، واللفظ له، وأخرجه البخاري مختصراً في كتاب التوحيد، (393/13)، رقم (7412). وأخرجه أبو داود في كتاب السنة، (234/4)، رقم (4732) بلفظ: (ثم يطوي الأرضين ثم يأخذهن بيده الأخرى).
(10) الفوائد، (ص 28 - 81).
(11) الروح، (ص 232).
(12) مدارج السالكين، (/1 541 ـ 144).
(13) تفسير ابن جرير، (155/1).
(14) جامع العلوم والحكم، (155/1).
(15) مجموع الفتاوى، (01/ 391 ـ 491).
(16) مفتاح دار السعادة، (500/1).
(17) شذرات الذهب، (326/2).
(18) أخرجه: البخاري في كتاب الأذان، (143/2)، رقم (660)، ومسلم في كتاب الزكاة، (2/ 517 ـ 617)، رقم (1031).
(19) فتح الباري، (145/2).
(20) أخرجه: البخاري في كتاب الأذان، (162/2)، رقم (676).
(21) طريق الهجرتين، (ص 18).
(22) طريق الهجرتين، (ص 70).
(23) أخرجه: البخاري في كتاب الجهاد، (6/ 18)، رقم (2887).
(24) مجموع الفتاوى، (01/ 581 ـ 781).
(25) مدارج السالكين، (1/ 854).
(26) أخرجه: مسلم في كتاب الذكر، (4/ 5702 ـ 6702)، رقم (2702).
(27) أخرجه: البخاري في كتاب الدعوات، (11 / 101)، رقم (6307).
(28) أخرجه: مسلم في كتاب الذكر، (4 / 2075)، رقم (2702).
(29) أخرجه: أحمد، (73/151)، رقم (2487)، وأبو داود في كتاب الجهاد، (3/ 79)، رقم (2535)، وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود، (482/2)، لكن ضعفه الأرناؤوط، في تحقيقه للمسند.
((1/70)
30) أخرجه: أحمد، (75/34)، رقم (20429)، وأبو داود في كتاب الأدب، (324/4)، رقم (5090)، وحسنه الألباني في صحيح سنن أبي داود، رقم (4246)، والأرناؤوط في تحقيقه للمسند.
(31) أخرجه: ابن السنّي في عمل اليوم والليلة، رقم (46)، وحسنه الألباني في السلسلة الصحيحة، رقم (227).
(32) أخرجه البخاري في كتاب الدعوات، (11/ 89)، رقم (6036).
(33) أخرجه: البخاري في كتاب التهجد (3/3)، رقم (1120)، ومسلم في كتاب صلاة المسافرين (532/1)، رقم (769).
(34) الوابل الصيب، (ص 139).
(35) أخرجه أحمد، (24/651، 654)، رقم (25263 و 25705)، والترمذي في تفسير القرآن، (327/5)، رقم (3175)، وابن ماجه في الزهد، (2/ 4041)، رقم (4198)، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة، رقم (261).
(36) أخرجه مسلم في كتاب البر والصلة، (4/ 5591)، رقم (7752).
(37) قاعدة في المحبة (ص 255).
(38) أخرجه: البخاري في كتاب الجنائز، (114/3)، رقم (1243)، وفي كتاب التعبير، (410/12)، رقم (7018).
(39) أخرجه: البخاري في كتاب الرقاق (294/11)، رقم (6463)، ومسلم في كتاب صفات المنافقين، (2169/4)، رقم (2816).
(40) مدارج السالكين، (176/1).
(41) أخرجه: البخاري في كتاب الأذان، (317/2)، رقم (834)، ومسلم في كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار، (2 / 2078)، رقم (2075).
(42) جامع العلوم والحكم، (117/1).
(43) أخرجه مسلم في كتاب البر والصلة، (4/ 5591)، رقم (7752).
(44) أخرجه: البخاري في كتاب فضائل الصحابة، (43/7)، رقم (3692).
(45) أخرجه: مسلم، (في كتاب القدر)، (2045/40)، رقم (2654).
(46) أخرجه: مسلم، (في كتاب القدر)، (2045/4)، رقم (2654).
(47) الزهد، لعبد الله بن المبارك، (ص 151).
(48) مدارج السالكين، (177/1).
(49) مدارج السالكين، (1/ 824 ـ 924) . وانظر: الوابل الصيب (ص 20 - 23).
(50) الخشوع في الصلاة، لابن رجب، ( ص 13).
(51) في ظلال القرآن، (5/4522).
((1/71)
52) تقدم تخريجه.
(53) فتح الباري، (2 / 147).
(54) أخرجه: الترمذي في كتاب صفة القيامة، (/4 633) رقم (2450)، والحاكم في كتاب الرقاق، (4/ 703 ـ 803)، وقال: صحيح الإسناد، ووافقه الذهبي، وصححه الألباني في صحيح الجامع، رقم (6098). والدلجة: السير في آخر الليل، أو سير الليل كله، انظر: لسان العرب، مادة (دلج)، (/4 385).
(55) سير أعلام النبلاء، (6 / 9).
(1) تقدم تخريجه.
(56) أخرجه: البخاري في عدة مواضع منها: كتاب البيوع، (/4 409)، رقم (2215)، ومسلم في كتاب بالذكر والدعاء والتوبة، (4/ 9902 ـ 1012)، رقم (2743).
(57) أخرجه: البخاري في كتاب أحاديث الأنبياء، (/6 506)، رقم (3465).
(58) حلية الأولياء، (/4 276)، وسير أعلام النبلاء، (/4 326).
(59) الوابل الصيب، (ص 42 ـ 93) باختصار.
(60) الحسبة في الإسلام، (ص 56).
(61) الجامع لأخلاق الراوي، (1/241)، وذم الكلام وأهله، (1/181).
(62) مجموع الفتاوى، (31/82).
--------------------------------------------------------------------------------
مجلة البيان، العدد (196)* ذو الحجة 1424هـ * يناير - فبراير 2004م
* * *
http://www.albayan-magazine.com/zwaya/trbwi/4.htm
قطوف تربوية حول قصة أصحاب القرية
دعامتا التغيير الحضاري
د. حمدي شعيب
(1)
وهي القصة التي وردت في سورة يس من الآية (13) إلى الآية (32).
وهي تحكي قصة رسولين أرسلهما الحق ـ سبحانه ـ إلى إحدى القرى، فكذبهما أهل تلك القرية، فعززهما الله ـ سبحانه ـ برسول ثالث لتقويتهما؛ فما كان من أصحاب القرية إلا أن استمروا في رفض الرسالة، بل وهددوا الرسل الثلاثة بالرجم والتعذيب.(1/72)
ثم كان هذا الموقف العظيم للرجل المؤمن الذي جاء من أقصى المدينة، أي من مكان ليس بالقريب، وكذلك كان يسعى، أي يسرع في مشيته، وهو ما يبين مدى الجهد الذي بذله للوصول إلى مسرح الأحداث، وهو المكان الذي كان يُبتلى فيه الرسل، وذلك في مبادرة منه لم يحدها مكان ولا زمان ولا وقت، بل سعى ووصل في الوقت والمكان المناسبين، وعرض رأيه في القضية، وانتصر لهؤلاء الرسل ضد رغبة قومه.
واستمر أهل القرية في رفض الرسالة، وكذبوا الرجل المؤمن، ثم أقدموا على قتله، فلقي الله ـ سبحانه ـ شهيداً، وبشره الحق ـ سبحانه ـ بالجنة، فتمنى لو أن قومه يعلمون بمصيره وحسن عاقبته.
وبعد ذلك جاءت التعقيبات القرآنية الخاصة، والتي تبين مصير أهل القرية المكذبين؛ حيث أصابتهم صيحة الدمار، فأهلكتهم، فأصبحوا ميتين خامدين، كما تخمد النار. وهي سنة الله ـ عز وجل ـ الإلهية مع المكذبين.
ثم كانت التعقيبات القرآنية العامة، والتي تعلن الحسرة على كل من لا يقرأ التاريخ، ويشاهد سننه ـ سبحانه ـ الإلهية مع أعداء الدعوة، ومكذبي الرسالة، على مر تاريخ المسيرة الدعوية، ولا يعتبر بها، ولا يعي معنى الرجوع إليه ـ سبحانه ـ للمحاسبة والجزاء.
? أهمية الرؤية المنهجية:
وعندما ننظر إلى هذه القصة القرآنية العظيمة، برؤية منهجية شاملة واعية، نجد أن لها بُعدين:
البعد الأول الظاهر القريب: هو أن هذه القصة تتكون من جولات ثلاث:
الجولة الأولى: هي جولة المواجهة بين الرسل ـ عليهم الصلاة والسلام ـ وبين أصحاب القرية.
الجولة الثانية: هي جولة المواجهة بين الرجل المؤمن وقومه.
الجولة الثالثة: هي جولة التعقيبات القرآنية الخاصة والعامة.(1/73)
أما البُعد الآخر البعيد: فهو البعد التربوي العظيم الذي نستشعر من خلاله أن هذه القصة قد أوردت تلك التجربة الدعوية من ملفات تاريخ مسيرة الحركة الدعوية كمثال ثابت، وترجمة تطبيقية لسنَّتين اجتماعيتين عظيمتين من سننه ـ سبحانه ـ الإلهية.
والسنن الإلهية منها السنن الإلهية الكونية في الآفاق، أي في مجال عالم المادة.
ومنها كذلك السنن الإلهية الاجتماعية في الأنفس، أي في عالم البشر والأحياء عموماً.
وهذه السنن هي آياته ـ سبحانه ـ الدالة على صدق الرسالة، من حيث البرهان على إعجاز الله ـ جل وعلا ـ في الخلق، وعلى تفسير التحولات الاجتماعية والتغييرات الكونية والحضارية: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَ لَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} [فصلت: 53].
وهذه السنن الإلهية لها سمات ثلاث:
أ - الثبات: أي لا تتبدل ولا تتغير: {سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلُ وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً} [الأحزاب: 62].
ب - العموم: أي أنها تشمل كل البشر والخلائق، دون تفريق، ودون استثناء، وبلا محاباة: {لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَن يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ} [النساء: 123].
ج - الاطِّراد: أي التكرار أينما وجدت الظروف المناسبة مكاناً وزماناً وأشخاصاً وأفكاراً: {قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ} [آل عمران: 137].
وهي عبارة عن قوانين وقواعد أشبه ما تكون بالمعادلات الرياضية، قد خلقها الحق ـ سبحانه ـ لتنظم وتحكم حركة الكون والحياة والأحياء، وتحكم حركة التاريخ، وتنظم ناموسية التغيير، وتتحكم بالدورات الحضارية، موضحة عوامل السقوط وعوامل النهوض الحضاري.(1/74)
والسنن الإلهية الاجتماعية هي المرتكز الذي على أساسه يقوم مجال واسع في المنهج، وهو الفقه الاجتماعي والحضاري، وهذا الفقه يقوم على دراسة عوامل قيام وسقوط الحضارات.
وقد جاءت التأكيدات القرآنية المستمرة والمتعددة، على ضرورة دراسة هذا الفقه، ووضحت أن مدخله هو السير في الأرض، وفتح ملفات الأمم السابقة، لاستجلاء سننه ـ سبحانه ـ لفقهها، ولمعرفة حسن تسخيرها: {قُلْ سِيرُوا فِي الأَرْضِ ثُمَّ انظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ} [الأنعام: 11]. والقصص القرآني ما هو إلا برهان ثابت، وتطبيق عملي موثوق حول فاعلية تلك السنن.
أما عن السنَّتين الاجتماعيتين:
أولاً: السنة الإلهية الاجتماعية الأولى: فقد وضحت تجربة أصحاب القرية ـ كغيرها من التجارب الدعوية التي وردت في القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة ـ أن عملية التغيير الحضاري، وبعث أي أمة جديدة، إنما تقوم على دعامتين أساسيتين، أو قاعدتين رئيسيتين، هما:
الدعامة الأولى: هي وجود القاعدة الصلبة التي تقود التغيير، وتكون بمثابة الطليعة الفاعلة، والأداة المحركة، والقوة المنفذة، والتي تمثلت في وجود هؤلاء الرسل الكرام، وحركتهم بالرسالة داخل تلك القرية.
الدعامة الثانية: هي وجود القاعدة الجماهيرية، أو الرأي العام الذي يناصر الرسالة، ويحب دعاتها ويكره أعداءها، ويحرص على انتصارها؛ والتي تمثلت في حركة الرجل المؤمن الذي جاء يناصر الرسالة، ويدافع عن الدعوة، ويؤيد الدعاة.
ثانياً: لقد بينت القصة سُنَّة إلهية اجتماعية أخرى؛ حيث أوردت صورة من صور سُنَّة التدافع الحضاري، أو قانون المدافعة القرآني.(1/75)
وهي السنَّة الإلهية الاجتماعية التي تبين إرادة الحق ـ سبحانه ـ في أن يستمر الصراع والتنافس والتدافع، سواء كان فردياً أو جماعياً، بين الحق والباطل، بين الخير والشر، بين الإيمان وأهله والكفر وأهله، ما دامت السماوات والأرض؛ وذلك حتى تتم عملية انتقائية لتفرز الأصوب والأبقى والأصلح في كل شيء، سواء كانت أفكاراً أو آراء أو أفراداً أو أمماً، فإذا توقفت تلك العملية التدافعية الحضارية المختلفة الصور كان الفساد في الأرض، وهذا من فضله ـ سبحانه ـ من أجل ديمومة واستمرارية العملية الاستخلافية الإعمارية في الأرض: {وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ الأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ} [البقرة: 251]؛ حيث نجد أن هذه التجربة ـ وكذلك كل التجارب الدعوية التي عرضها القرآن الكريم، والسيرة النبوية الشريفة ـ قد عرضت أمرين مهمين بارزين:
الأمر الأول: مدى حرص الرسل والدعاة على توصيل عقيدتهم ودعوتهم إلى جماهير الشارع بكل الوسائل.
الأمر الثاني: مدى حرص أعداء الدعوة على كل عمل مضاد، يواجه هذه العدوى الدعوية، ويؤدي إلى عملية عزل الدعوة عن الناس، وتحجيم الدعاة، وإن أدى الأمر إلى سجنهم أو نفيهم أو قتلهم.
? مخزون الأمة المعرفي:
تبدأ القصة بهذا التوجيه إلى الرسول -صلى الله عليه وسلم-: {وَاضْرِبْ لَهُم مَّثَلاً} [يس: 13].
وهو توجيه يدعوه أن يذكر مثلاً توضيحياً يقرب المعنى للأفهام حول القضية التي كانت موضوع الساعة آنئذ، وهي بيان إحدى صور حركة الداعية بالفكرة أو بالدعوة داخل المجتمع البشري، وبيان طبيعة البشر أمام الرسالة، وانقسامهم إلى فصيلين، أو إلى فريقين، وبيان مصير كل منهم، والذي يكون بناء على موقفهم من الرسالة قبولاً أو رفضاً؛ وذلك في أسلوب قصصي يوضح الأسلوب التقريري الذي ورد في آيات مطلع السورة حول:(1/76)
الفصيل الأول: فريق أصحاب القلوب المغلقة على دعوة الرسل، المكذبين للرسالة، الرافضين للهداية، وهم أصحاب القرية، فكانت رسالة تهديد واضحة لقريش، ولأعداء الدعوة، في كل عصر.
الفصيل الثاني: فريق الذي يتبع الذكر ويخشى الرحمن بالغيب، أصحاب الفطر السليمة لدعوة الحق المستقيمة، فيقبل الرسالة، ويتبع الرسل، كما يمثله الرجل المؤمن.
وكانت رسالة تثبيت وتبشير للجماعة المسلمة من أصحاب الرسول -صلى الله عليه وسلم-، ولكل المؤمنين في كل عصر. و {لَهُم} تشمل كل من يحضره المثل، سواء في ذلك أعداء الدعوة من الكافرين ـ وهم مشركو مكة في ذلك الحين ـ أو المؤمنون؛ وذلك لأن المنهج القرآني كان يرسخ قواعد ثابتة لقضية عامة، وسنة إلهية اجتماعية، يلزم أن يفقهها الجميع.
ويرى «المحققون المنصفون من العلماء على أن قصص القرآن واقعي وليس رمزياً، وحقيقي وليس تمثيلياً»(1).
ولأن الفائدة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب؛ فإننا نستشعر من هذا التوجيه الإلهي أنه توجيه لكل داعية أن يستخدم الأمثلة التوضيحية لبيان عقيدته، ولتوضيح قضيته.
وهي أيضاً دعوة صريحة لقراءة التاريخ، وفتح ملفات الأفراد والأمم السابقة، بغرض التذكير والموعظة، واستجلاء الدروس.
لذا فإننا نضع أيدينا على مرتكزات ثلاثة تكوّن الثلاثية المعرفية المطلوبة من أجل إعادة صياغة وتشكيل العقلية المسلمة:
أ ـ فهم جيد للرسالة.
ب ـ فقه بصير بالواقع يتم من خلاله تقريب العقيدة والقضية بأمثلة توضيحية، من خلال البيئة المحيطة والمألوفة للسامعين.
ج - قراءة عميقة للتاريخ يتعرف بها على السنن الإلهية الكونية والاجتماعية الثابتة والمطردة أي المتكررة، والعامة التي تنطبق على أي واقع بشري مشابه، وعلى ضوئها يمكن تفسير مغزى المقولة: التاريخ يعيد نفسه، أو ما أشبه الليلة بالبارحة.(1/77)
وانطلاقاً من هذه الثلاثية المعرفية يتم إعادة صياغة العقلية المسلمة، حتى تصل إلى حالة الوعي المنشودة، وهي الحالة التي يمكن من خلالها استقراء الواقع وأحوال الحاضر على ضوء تجارب ورصيد الماضي، مما يعين على النظرة المستقبلية الاستشرافية.
وإذا ارتقت العقلية المسلمة إلى حالة الوعي المنشودة تلك، فيمكننا أن نقول إننا قد نجحنا في عملية تصحيح وتنقية للمخزون المعرفي داخل عقل الأمة.
ومصادر هذه الثلاثية المعرفية التي هي مرتكز تشكيل العقلية المسلمة:
1 - القرآن الكريم.
2 - السنة النبوية المطهرة.
3 - فقه الواقع.
4 - قراءة التاريخ.
وهذه المصادر هي المرتكزات الأربعة التي تكوِّن المخزون المعرفي لأمة الدعوة والرسالة، أمة الوسطية، والمناط بها دور الخلافة الراشدة والشهادة على البشر.
وعن طريق هذا المخزون المعرفي العظيم يمكن إعادة صياغة للعقلية المسلمة، فتتكون حالة معرفية أو إدراكية راقية لعقل الأمة، وحصول أو تكوين ما يسمى بـ (منظومة الوعي البشري) عند أفراد الأمة.
وهذه المنظومة المنشودة للوعي البشري هي عبارة عن حالة معرفية راشدة يمتزج فيها الوعي بالماضي والحاضر والمستقبل، فتؤدي إلى الدراية والوعي، بكل شهود التاريخ البشري وبكل سنن الله ـ عز وجل ـ الإلهية في الأنفس؛ أي في عالم الأحياء، وهي السنن الإلهية الاجتماعية، وفي الآفاق؛ أي في عالم المادة، وهي السنن الإلهية الكونية.
وخلاصة ذلك أن يبلغ عقل الأمة مرحلة الرشد المعرفي والإدراكي، مما يساعده على تحمل عبء المواجهة الحضارية. فالقضية هي قبول العقل المسلم للتحدي الحضاري ليقتحم حلبة الصراع الحضاري.
ومنظومة الوعي البشري هي الحصانة ضد أخطار التحدي الحضاري الداخلي والخارجي.
? الدعامة الأولى للتغيير الحضاري:(1/78)
وهي وجود القاعدة المؤمنة الصلبة؛ وهي الطليعة الفاعلة التي تقود التغيير، وتتحمل عبء المواجهة، وتكون بمثابة الأداة المحركة، أو القوة المنفذة. وقد ورد الحديث عنها في آيات الجولة الأولى من القصة، وهي جولة المواجهة بين الرسل وبين أصحاب القرية. {وَاضْرِبْ لَهُم مَّثَلاً أَصْحَابَ الْقَرْيَةِ إذْ جَاءَهَا الْمُرْسَلُونَ (13) إذْ أَرْسَلْنَا إلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُمَا فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ فَقَالُوا إنَّا إلَيْكُم مُّرْسَلُونَ (14) قَالُوا مَا أَنتُمْ إلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُنَا وَمَا أَنزَلَ الرَّحْمَنُ مِن شَيْءٍ إنْ أَنتُمْ إلاَّ تَكْذِبُونَ (15) قَالُوا رَبُّنَا يَعْلَمُ إنَّا إلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ (16) وَمَا عَلَيْنَا إلاَّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ (17) قَالُوا إنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ لَئِن لَّمْ تَنتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ وَلَيَمَسَّنَّكُم مِّنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ (18) قَالُوا طَائِرُكُم مَّعَكُمْ أَئِن ذُكِّرْتُم بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ مُّسْرِفُونَ} [يس: 13 - 19].
ومن خلال تدبر الآيات يمكننا أن نبحث حول بعض صفات هذه القاعدة.
ونقول بعض الصفات أو السمات؛ لأننا سنلتزم بما ورد عنها في آيات الجولة الأولى من القصة.
وكذلك سنرتب السمات على حسب ورودها في سياق الآيات، وليس على حسب أولويتها، أو أهميتها.
? السمة الأولى: الإيجابية:
يقول الحق ـ سبحانه ـ إن الرسل ـ عليهم الصلاة والسلام ـ قد جاؤوا إلى القرية، وتحركوا إليها ولم يقعدوا في مكانهم؛ وذلك كما نستشعر مغزى الوصف القرآني: {إذْ جَاءَهَا}؛ أي إنهم قد تحركوا منطلقين بعقيدتهم، وبدؤوا تجربتهم الدعوية التغييرية بالوصول إلى تلك القرية.
ولم يحدد السياق القرآني أي قرية تلك، وإن كان بعض المفسرين قد حدد أنها (أنطاكية)، فالعبرة ليست بالاسم، والبحث عنه لن يفيد تربوياً.
ولم يقعد هؤلاء الرسل في مكانهم ليأتيهم الناس، بل حضروا إليهم.(1/79)
ولأن من هذه الظواهر المميزة لهذا الوجود الكبير ظاهرة الحركة المستمرة، أو الحيوية المتجددة التي لا تأسن، أو (الظاهرة الارتحالية) التي تشمل الكون والحياة وكذلك الإنسان.
وهذه الظاهرة الحيوية، يستشعرها المرء في كل شيء، في هذا الوجود الكبير.
والله ـ عز وجل ـ يصور هذه الحركة الكونية المستمرة في أكبر جرم كوني نراه، وهو الشمس؛ فهي في حركة دائبة سرمدية لا تهدأ، أو هي تجري فعلاً، لمستقر ونهاية لا يعلمها إلا الله ـ عز وجل ـ: {وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَّهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ} [يس: 38].
وهذه الحركة الدائبة ليست عشوائية، بل تحكمها قوانين ثابتة، وهي سنن إلهية لا تتبدل ولا تتغير إلا بإذنه ـ تعالى ـ تحافظ على سيرها في توافق عجيب ينتظم فيه كل شيء، بما فيه ظاهرتا الليل والنهار: {لا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَن تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} [يس: 40].
وكذلك لو تأملت أصغر جرم كوني وهو الذرة؛ لوجدت أن العلماء قد أثبتوا أن الحركة المستمرة الدائبة لمكوناتها هي إحدى سماتها ومميزاتها الثابتة.
لذا فإن المسلم يدرك أنه جزء من هذا الوجود الكبير الساجد المسبح لربه سبحانه، ويعلم أن الله ـ عز وجل ـ لا يهب نعمه العظيمة إلا لمن يسعى في أسباب الحصول عليها؛ أي يتعامل بطبيعة إيجابية مع النعم والمقدرات التي وهبها له الحق سبحانه.
وذلك كما ورد عن الرجل الصالح ذي القرنين: {إنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الأَرْضِ وَآتَيْنَاهُ مِن كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا (84) فَأَتْبَعَ سَبَبًا} [الكهف: 84 - 85].
وتدبر سنة الله ـ عز وجل ـ في مجال نعمة الرزق: {وَهُزِّي إلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا} [مريم: 25].(1/80)
إن «الرزق وإن كان محتوماً؛ فإن الله ـ تعالى ـ قد وكَّل ابن آدم إلى سعي ما فيه؛ لأنه أمر مريم بهز النخلة لترى آية، والأمر بتكليف كسب الرزق سنة الله ـ تعالى ـ في عباده. وإن ذلك لا يقدح في التوكل»(2).
أما في مجال التربية؛ فإن الأساس هو الحركة والانطلاق والاختلاط في دنيا الناس؛ لأن الله ـ عز وجل ـ قد ربط بين خيرية هذه الأمة، وبين خروجها للناس لكل الناس، لتتحمل واجبات القوامة والشهادة، وذلك لتأمرهم بالمعروف وتنهاهم عن المنكر، حاملة عقيدتها الربانية الخالدة السامية، ألا وهي الإيمان بالله ـ تبارك وتعالى ـ: {كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} [آل عمران: 110].
وبناء هذه الأمة لا يكون إلا من خلال الواقع، والحركة بالمنهج خلال هذا الواقع.
وشواهد القرآن الكريم كثيرة، وكلها تدل على أن من يحمل رسالة عليه أن يقوم بها، ويتحرك بها، ويدرك تبعاتها.
لذا فقد كانت الخطوة الأولى للحبيب -صلى الله عليه وسلم- هي القيام بالأمر العظيم، وهو الدعوة، وتطليق الراحة والدعة، وذلك استجابة للأمر الإلهي: {يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ (1) قُمِ اللَّيْلَ إلاَّ قَلِيلاً} [المزمل: 1 - 2].
وعندما حكى القرآن الكريم عن ذلك الصحب المؤمن، وتجربتهم الدعوية التغييرية، وضّح أنهم قد تحركوا بعقيدتهم إلى عالم الواقع: {إذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ لَن نَّدْعُوَ مِن دُونِهِ إلَهًا لَّقَدْ قُلْنَا إذًا شَطَطًا} [الكهف: 14].(1/81)
وكذلك عندما بدأ العبد الصالح تجربته التعليمية التربوية مع موسى ـ عليه السلام ـ انطلق به ومعه وتحركا عملياً: {فَانطَلَقَا حَتَّى إذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا فَأَبَوْا أَن يُضَيِّفُوهُمَا فَوَجَدَا فِيهَا جِداَرًا يُرِيدُ أَن يَنقَضَّ فَأَقَامَهُ قَالَ لَوْ شِئْتَ لاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا} [الكهف: 77].
والداعية عندما يعلم أنه جزء من كل، فهو أحد أعضاء ذلك الركب العظيم، (ركب المرتحلين) الذي يشمل هذا الوجود الكبير.
لذا كان عليه أن يفهم معنى ومدى أهمية التوافق والتناغم مع حركة الوجود المطيع والمسبح لربه، ويدرك خطر النشاز.
فالمطلوب منه ليتوافق ولا يشذ شرطان:
أولاً: عليه أن يتوافق عقدياً بأن يتطور ويستزيد ويتحرك، ولا يقف أسيراً لمرحلة فكرية معينة؛ وذلك من خلال فقه جيد وواع، ليوازن بين ثوابت لا يحيد عنها، ومتغيرات تعطيه حقه من المرونة والحركة والإبداع.
ثانياً: عليه أن يتوافق عملياً ويتناسق جسدياً ومادياً، بالحركة والقيام والانطلاق والاختلاط والخروج للناس لنشر رسالته. فلا يكون مثل بعض الناس الذين يُؤْثِرون التصومع والتقوقع والتحوصل بل والتشرنق، سواء في ذلك الفكري العقلي أو المادي الجسدي. وهذا لا ينطبق فقط على الأفراد، بل على الدعوات والجماعات.
فالحياة حركة حيوية تتميز بالظاهرة الارتحالية.
والوجود ما فيه إلا معبود يُعبد؛ ولا يتغير سبحانه، ... وعابد يَعبد؛ يتميز بأنه متغير وارتحالي.
? السمة الثانية: الجماعية:
وقد أخبر القرآن الكريم عن إرسال رسولين اثنين إلى أهل القرية، ثم عززهما برسول ثالث.
ولقد ورد أنهم أكثر من رسول في أكثر من موضع في السياق، في قوله ـ تعالى ـ:
1 - {وَاضْرِبْ لَهُم مَّثَلاً أَصْحَابَ الْقَرْيَةِ إذْ جَاءَهَا الْمُرْسَلُونَ} [يس: 13].
2 - {فَقَالُوا إنَّا إلَيْكُم مُّرْسَلُونَ} [يس: 14].(1/82)
3 - {قَالُوا رَبُّنَا يَعْلَمُ إنَّا إلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ} [يس: 16].
4 - {قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ} [يس: 20].
ومع علمنا بأن قاعدة التغييرات الحضارية، والتحولات الاجتماعية تبين أنها تبدأ من عقيدة عظيمة في قلب رجل عظيم، ثم يتحرك بعقيدته منتقلاً بها من مرحلة النظرية إلى مرحلة العمل والتطبيق. ويبدأ في عملية التجميع المنظم، فيحرك المجموع حوله، حتى ينتقل بالعمل من الحركة الفردية إلى الحركة السياسية المنظمة.
وهذه الجماعة المنظمة، أو هذا التحرك يقوم على دعامتين:
الدعامة الأولى: الطليعة المؤمنة بالرسالة.
الدعامة الثانية: الرأي العام المناصر.
ثم يبدأ الصراع، أو التدافع الحضاري، بين أصحاب وحملة الرسالة، وبين أعدائها.
ويتحدد مصير الرسالة، أو التغيير الحضاري بناءً على نتيجة هذا الصراع.
وفي هذه القصة ـ ولأمر ما ـ بدأ التحرك بالرسالة الربانية، برسولين قيل إنهما رسل عيسى عليه السلام، وبعض المفسرين رجح أنهما أرسلا من قِبَله ـ سبحانه ـ، ثم قواهما الحق ـ جل وعلا ـ برسول ثالث.
«فهي قرية أرسل الله إليها رسولين، كما أرسل موسى وأخاه هارون ـ عليهما السلام ـ إلى فرعون وملئه، فكذبهما أهل تلك القرية، فعززهما الله برسول ثالث يؤكد أنه وأنهما رسل من عند الله، وتقدم ثلاثتهم بدعواهم ودعوتهم من جديد: {فَقَالُوا إنَّا إلَيْكُم مُّرْسَلُونَ} [يس: 14]»(3).
«ولعل هذا هو الراجح؛ لأنه هو المتفق مع ظاهر النص القرآني»(4).
وهذا الاستثناء من القاعدة الذي نجد فيه أن التحول والتغيير الحضاري قد بدأ بحركة أكثر من فرد؛ فلقد وضحته الآيات أنه كان للتعضيد والتثبت والتصديق، والتقوية والإعزاز.
كما في قوله ـ سبحانه ـ: {فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ} [يس: 14].(1/83)
وفي قصة موسى ـ عليه السلام ـ: {وَأَخِي هَرُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَانًا فَأَرْسِلْهُ مَعِيَ رِدْءًا يُصَدِّقُنِي إنِّي أَخَافُ أَن يُكَذِّبُونِ (34) قَالَ سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ وَنَجْعَلُ لَكُمَا سُلْطَانًا فَلا يَصِلُونَ إلَيْكُمَا بِآيَاتِنَا أَنتُمَا وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغَالِبُونَ} [القصص: 34 - 35].
وهذه السمة هي مرتكز يؤكد على أهمية الشرط الكمي لجيل التغيير المنشود؛ أي لا بد من حركة جماعية منظمة تقوم بعملية التغيير.
وتدبر قوله -صلى الله عليه وسلم-: «خير الصحابة أربعة، وخير السرايا أربعمائة، وخير الجيوش أربعة آلاف، ولا تهزم اثنا عشر ألفاً من قلة»(5).
والعمل الجماعي وصيته -صلى الله عليه وسلم- لمن أراد النجاة: «فعليكم بالجماعة؛ فإنما يأكل الذئب من الغنم القاصية»(6).
والعمل الجماعي طريق إلى الجنة: «ومن أراد بحبوحة الجنة فليلزم الجماعة»(7).
وللجماعة بركة، ينالها حتى من كان في نيته دَخَن؛ لأنهم: «هم الجلساء لا يشقى بهم جليسهم»(8).
وتدبر كيف نال كلب أهل الكهف بركة الصحبة الصالحة؛ لأن «من أحب أهل الخير نال من بركتهم، كلب أحب أهل الفضل وصحبهم فذكره الله في محكم تنزيله»(9).
? السمة الثالثة: الربانية:
ثم يوضح السياق المصدر أو المرجعية التي بدأت منها عملية التغيير.
وذلك كما جاء قوله ـ سبحانه ـ في وصف هؤلاء الرسل للدلالة على المشيئة الربانية في تلك العملية: {إذْ أَرْسَلْنَا}
[يس: 14].
وأيضاً في وصفهم لأنفسهم، وفهمهم لطبيعتهم: {قَالُوا رَبُّنَا يَعْلَمُ إنَّا إلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ } [يس: 16].
إذن فهي طليعة ربانية مرسلة من قبله سبحانه.
تقوم على العقيدة الربانية، وهي الإيمان بالله.
وتتحرك بناءً على المشيئة الربانية فتقوم بأعظم وظيفة، ألا وهي الدعوة إلى الله عز وجل.
تؤمن بأنها تتحرك في أرض الواقع لتحقيق قدر الله في دنيا الناس.(1/84)
أي أنهم مجرد ستار لقدر الله، ينفذ بهم وعليهم ـ سبحانه ـ سننه الإلهية الكونية والاجتماعية.
وكما علمنا أن قاعدة التغييرات الحضارية، والتحولات الاجتماعية؛ تبين أنها تبدأ من رسالة عظيمة، في قلب رجل عظيم.
إذن فالعقيدة هي المنطلق الأول في عملية النهوض الحضاري.
وسلوك أي فرد، أو جماعة، أو أمة من الأمم إنما يكون بناءً على الفكرة التي تحركهم،
وطبيعة الرسالة هي التي تحدد طبيعة السلوك، إما حسناً أو سوءاً.
وبناء على هذا السلوك الذي يترجم طبيعة الفكرة المحركة يكون الجزاء والمصير في الدنيا والآخرة.
إذن فمجال تقييم أي فرد، أو جماعة أو أمة من الأمم، وكذلك أي مشروع حضاري، يكون بناءً على المرجعية العقدية، أو المنطلق العقدي؛ لأن المنطلق العقدي هو الجانب النظري الذي يحدد السلوك الذي هو الترجمة العملية للمنطلق العقدي، والسلوك العملي هو الذي ينبني عليه المصير والجزاء.
ولذلك نستطيع أن نقول ونؤكد على مدى سمو السلوك البشري، وكذلك مدى رقي أي مشروع حضاري ينطلق من فكرة ربانية، أي قاعدة إيمانية تنبثق من منهج إلهي، من رب الناس إلى الناس؛ لذا فإن من أعظم سمات الطليعة الرائدة المنفذة هي الربانية.
والربانية نعني بها أركاناً ثلاثة:
1 - ربانية الرسالة: أي أن المنطلق العقدي يقوم على قاعدة الإيمان بالله.
2 - ربانية الوسائل: أي ربانية وسمو السلوك.
3 - ربانية الغاية: أي أن يكون الهدف النهائي هو هداية الناس لرب الناس، للفوز بجنة عرضها السماوات والأرض أعدت للمتقين.
? السمة الرابعة: الجدية في التنفيذ:
ولقد جاء في سياق القصة أن عملية التغيير قد بدأت برسولين: {إذْ أَرْسَلْنَا إلَيْهِمُ اثْنَيْنِ} [يس: 14].
فالرسول الثاني يقوي ويعضد الرسول الأول.
ثم قوى ـ سبحانه ـ هذين الرسولين برسول ثالث، وذلك بعد أن كذب أهل القرية الرسولين: {فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ}.(1/85)
وتقدموا ثلاثتهم بدعواهم ودعوتهم من جديد: {فَقَالُوا إنَّا إلَيْكُم مُّرْسَلُونَ} [يس: 14].
فما كان من أصحاب القرية إلا أن شككوا في صدقهم، وفي صدق طبيعتهم البشرية، وفي صدق فكرتهم: {قَالُوا مَا أَنتُمْ إلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُنَا وَمَا أَنزَلَ الرَّحْمَنُ مِن شَيْءٍ إنْ أَنتُمْ إلاَّ تَكْذِبُونَ} [يس: 15].
فأعلن الرسل صدق مرجعيتهم الربانية؛ فهم رسل الله جل وعلا، وبينوا صدق فقههم لدورهم، وهو البلاغ: {قَالُوا رَبُّنَا يَعْلَمُ إنَّا إلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ (16) وَمَا عَلَيْنَا إلاَّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ} [يس: 16 - 17].
فتشاءم أهل القرية منهم وتوقعوا منهم الشر: {قَالُوا إنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ} [يس: 18].
ثم هددوهم: {لَئِن لَّمْ تَنتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ وَلَيَمَسَّنَّكُم مِّنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ}.
فما كان من الرسل الكرام إلا أن ردوا عليهم بثقة: {قَالُوا طَائِرُكُم مَّعَكُمْ أَئِن ذُكِّرْتُم بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ مُّسْرِفُونَ } [يس: 19].
من هذا السياق نستشعر سمة مهمة جداً تتصف بها الطليعة الربانية، ألا وهي الإصرار على القيام بالأمر الموكول، والجدية في تحقيق الغاية من المهمة.
وهذه الجدية نلمسها من خلال تدبر جانبين أو أمرين:
الأمر الأول: دور المشيئة الإلهية في جدية إتمام المهمة، من حيث إرسال رسولين، ثم تقويتهما برسول ثالث.
الأمر الثاني: نستشعرها من خلال دور وسلوك الرسل الكرام، وجدية أخذهم بمهمة الدعوة إلى الله ـ عز وجل ـ رغم كل العوائق التي واجهتهم، فكلما ظهرت عقبة، مثل التكذيب، أو التشكيك، أو التهديد ولو بالقتل، نجد أن هناك حلولاً وردوداً مقنعة ومفحمة تبين مدى الإصرار على إنجاز المهمة الربانية الشريفة.(1/86)
وهذا التعاضد بين الدور الإلهي والدور البشري، في تحقيق أي عمل، يكون على أساس قاعدة الجزاء من جنس العمل، وهي القاعدة التي تربط بين نوع وطبيعة مصير الفرد أو الجماعة بناءً على طبيعة ونوع العمل الذي يؤدونه. فالهداية الإلهية لا تكون إلا لمن جد في طلب الهداية والعمل لها، وتدبر هذا الحديث القدسي: «يا عبادي! كلكم ضال إلا من هديته؛ فاستهدوني أهدكم»(10).
وكذلك أمر الجدية.
وتدبر هذه الجدية، عندما وجد الحق ـ سبحانه ـ يحيى ـ عليه السلام ـ يعد نفسه بجدية منذ نعومة أظافره، ويقول لأقرانه من الصبيان الذين دعوه للعب: ما للعب قد خلقنا!!
فأنعم الله عليه بنعمة الفهم لكتابه ـ سبحانه ـ وهو التوراة، وهو لمَّا يزل بعدُ صغيراً.
ثم أمره أن يواصل المسيرة ويأخذ الأمر بالجد والاجتهاد، والإصرار: {يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا}
[مريم: 12] .
(فإن كمال الإنسان مداره على أصلين: معرفة الحق من الباطل، وإيثار الحق على الباطل.
وما تفاوتت منازل الخلق عند الله ـ تعالى ـ في الدنيا والآخرة إلا بقدر تفاوت منازلهم في هذين الأمرين؛ وهما اللذان أثنى الله بهما ـ سبحانه ـ على أنبيائه ـ عليهم الصلاة والسلام ـ في قوله ـ تعالى ـ: {وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إبْرَاهِيمَ وَإسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ أُوْلِي الأَيْدِي وَالأَبْصَارِ} [ص: 45].
فالأيدي: القوة في التنفيذ.
والأبصار: البصائر في الدين.
فوصفهم بكمال إدراك الحق وكمال تنفيذه)(11).
وقد علَّم الحق ـ سبحانه ـ الرسول -صلى الله عليه وسلم-، وكل داعية يأتي من بعده أن هذا المنهج آخر حكم عدل، وأنه جد وحق: {إنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ (13) وَمَا هُوَ بِالْهَزْلِ} [الطارق: 13 - 14].
وإنه لدرس لكل من أراد أن يكمل المسيرة، ويشارك الطليعة المؤمنة في همومها، وعبئها، أن يدرك مدى جدية المنهج، وجدية الطريق، وجدية التبعة.(1/87)
وإنه لدرس عظيم أن ندرك قاعدة الجزاء من جنس العمل.
? السمة الخامسة: فهم الدور الموكول، وهو البلاغ المبين:
وتحكي القصة أن الرسل الكرام عندما واجههم أهل القرية المكذبين الرافضين للفكرة؛ حيث: {قَالُوا مَا أَنتُمْ إلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُنَا وَمَا أَنزَلَ الرَّحْمَنُ مِن شَيْءٍ إنْ أَنتُمْ إلاَّ تَكْذِبُونَ} [يس: 15].
فكان ردهم الواثق الهادئ: {قَالُوا رَبُّنَا يَعْلَمُ إنَّا إلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ (16) وَمَا عَلَيْنَا إلاَّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ } [يس: 16 - 17].
أي إن تكذبونا فليس هذا ينقص من الأمر شيئاً فيكفي أن الله ـ عز وجل ـ يعرفنا، ويعرف مهمتنا، وكذلك إن تكذبونا، فلن نحاسب على استجابتكم، بل سيحاسبنا الله ـ عز وجل ـ على المهمة التي حمَّلنا إياها، وهي البلاغ، والبلاغ المبين الواضح الجلي.
فإلى هنا نكون قد أعذرنا إلى الله عز وجل، وبلغناكم الرسالة: {وَمَا عَلَيْنَا إلاَّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ}.
ومن خلال رد الرسل الكرام ندرك سمة مهمة أخرى من سمات أي طليعة مؤمنة، وهي فقه المهمة وفقه الدور المطلوب. وهذه المهمة هي البلاغ، التي هي مهمة رسله ـ سبحانه ـ وأنبيائه: {فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إلاَّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ } [النحل: 35].
والبلاغ لا بد أن يكون مبيناً واضحاً جلياً لا غموض فيه، كما جاء على لسان الرسل الكرام: {وَمَا عَلَيْنَا إلاَّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ}.
وهذه المهمة يأتي التأكيد عليها دوماً، عند وصول الرسالة إلى طريق مسدود، كما جاء في سياق القصة.(1/88)
وكما أخبر ربنا على لسان صالح ـ عليه السلام ـ عندما كذبه قومه، وعقروا الناقة، ثم أخذتهم الرجفة المهلكة، فأعلن ـ عليه السلام ـ أنه قد أدى ما عليه، فبلغ رسالة ربه: {قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إنَّا بِالَّذِي آمَنتُم بِهِ كَافِرُونَ (76) فَعَقَرُوا النَّاقَةَ وَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ وَقَالُوا يَا صَالِحُ ائْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إن كُنتَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ (77) فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ (78)فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَةَ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ وَلَكِن لاَّ تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ} [الأعراف: 76 - 79].
وحتى نعي خطورة هذه السمة، ألا وهي الدور البشري، في تحقيق أي أمر، لا بد أن نوضح قاعدة مهمة، وهي أن ركيزتي تحقيق أي عمل أو أي إنجاز ـ سواء على المستوى الفردي، أو على المستوى الجماعي، بل حتى في مجال التغيير الحضاري، وكل التحولات الاجتماعية ـ هما الترجمة الواقعية للآية الكريمة: {إيَّاكَ نَعْبُدُ وَإيَّاكَ نَسْتَعِينُ } [الفاتحة: 5].
فالعابد يعبده ـ سبحانه ـ فيقوم بوظيفته المناطة به، وهي العبودية لله ـ عز وجل ـ ثم يطلب الهداية والعون من المعبود سبحانه؛ لأن العبد دوماً في فقر وحاجة إلى الرشد وإلى الإعانة في كل سكناته، ولا يهدي إلى الخير، ولا يعين عليه إلا الحق سبحانه.
والمعبود ـ سبحانه ـ يرشد ويهدي ويعين ويوفق هذا العابد للقيام بأمر العبودية؛ لذا فإن أي عملية تحول حضاري ـ كما تدبرنا الآية الكريمة السابقة، وكما نتأمل في هذه التجربة الدعوية ـ تقوم على ركيزتين أساسيتين:
القاعدة الأولى: الدور الإلهي.
وتلك هي الإرادة أو المشيئة الإلهية في عملية التغيير، أو هو قَدَر الحق سبحانه.
وهذه هي أولى القواعد المهمة في عملية التغيير الحضاري، وهو الدور الإلهي، أو دور القدرة الإلهية في تحقيق العمل.(1/89)
وفي القصة التي بين أيدينا نجد أن هذا الدور يترجم في إرادة الحق ـ سبحانه ـ في عملية التحول الاجتماعي؛ حيث أرسل الرسل الثلاثة إلى القرية.
القاعدة الثانية: الدور البشري.
وهو الفاعلية أو الحركة الإيجابية البشرية، التزاماً بأمر الله عز وجل.
حيث نجد أن هؤلاء الرسل الكرام، أو تلك الطليعة المؤمنة، قد تحركت بفكرتها الربانية، وذلك بعد صياغتها إيمانياً، وعلى أساس التربية الربانية على الفكرة الربانية.
تحركوا لمهمة أو دور عظيم، ألا وهو البلاغ، أو الدعوة إلى الله عز وجل.
وكأن حركتهم ومشيئتهم دائرة صغرى، داخل دائرة كبرى هي المشيئة الإلهية.
فتدبر دور قدر الله ـ سبحانه ـ في ناموسية التغيير التاريخي، والتحول الحضاري، وهو دور لا يلغي دور البشر بل يتوافق ويتناغم معه. وهو ملمح تربوي يعطي الداعية ثقة في فاعليته وفي طريقه ثم في غايته.
فإن كان له مشيئة يتحرك من خلالها في حرية؛ فإنما هي تحت رعاية المشيئة الإلهية. ووجود إحداهما لا تلغي وجود الأخرى.
إذن فهنالك رعاية وحفظ وقوة تجري به وعليه أقدار الله وسننه في الأنفس والآفاق.
والمشيئة البشرية تدعوه للعمل والفاعلية والذاتية في التحرك، والأخذ بكل الأسباب، حتى يؤدي مهمته البلاغية، المبنية الواضحة.
والمشيئة الإلهية تدعوه، إن أتت النتائج على نحو ما قدر لها فليرضَ وليفرح، وإن لم تأت على نحو ما خطط لها، فلا يعجز ولا يحزن وليصبر، ثم ليبحث عن أسباب الخلل!
--------------------------------------------------------------------------------
(2)(1/90)
من خلال الجولات الثلاثة في قصة أصحاب القرية (المواجهة بين الرسل ـ عليهم الصلاة والسلام ـ وأصحاب القرية، والمواجهة بين الرجل المؤمن وقومه، والتعقيبات القرآنية الخاصة والعامة)، يوضح الكاتب دعامتي التغيير الحضاري. وفي الحلقة الأولى تحدث عن سمات الدعامة الأولى وهي القاعدة المؤمنة الصلبة، فذكر منها: الإيجابية، الجماعية، الربانية، الجدية في التنفيذ، فهم الدور الموكول وهو البلاغ المبين. ويواصل في هذه الحلقة تقديم القطوف التربوية العظيمة من هذه القصة من قصص الحق. البيان
? السمة السادسة: فهم طبيعة الطريق:
فقد أوضحت تلك التجربة الدعوية، كغيرها من التجارب الدعوية على مر تاريخ الحركة الإسلامية، أن الصراع مع الباطل، والصدام مع مكذبي الفكرة أمر حتمي: {الم* أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ} [العنكبوت: 1 - 3].
وتدبر التعقيبات القرآنية على مصيبة أُحُد: {مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِن رُّسُلِهِ مَن يَشَاءُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَإن تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ} [آل عمران: 179].
أي أن الله ـ عز وجل ـ شاء أن يميز بين الخبيث والطيب على أرض الواقع، وذلك بالاختبار والتمحيص، وهؤلاء الرسل في تجربتهم، قد تعرضوا لأنواع من الأذى والابتلاء، مثل:
1 - التكذيب: في كلتا الحالتين:
حينما كانا اثنين: {إذْ أَرْسَلْنَا إلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُمَا}
[يس: 14].
وحينما كانوا ثلاثة: {إنْ أَنتُمْ إلاَّ تَكْذِبُونَ} [يس: 15].(1/91)
2 - التشكيك: وذلك من خلال رؤية جاهلية ساذجة، وحجة غريبة، أن رسل الله لا يمكن أن يكونوا بشراً: {قَالُوا مَا أَنتُمْ إلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُنَا وَمَا أَنزَلَ الرَّحْمَنُ مِن شَيْءٍ إنْ أَنتُمْ إلاَّ تَكْذِبُونَ} [يس: 15].
وغاب عنهم أن الجانب العملي في أي دعوة، وهو سلوك الداعية، لا بد أن يكون ترجمة صادقة للجانب النظري في تلك الدعوة، وهي الفكرة المحركة.
ونسوا أيضاً أن السلوك إذا كان غير مرتبط بالفكرة، أي إذا كان العمل غير موافق للقول؛ فهو أمر قد ذمه الحق ـ سبحانه ـ في قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ * كَبُرَ مَقْتًا عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ} [الصف: 2 - 3].
«والرسالة منهج إلهي تعيشه البشرية، وحياة الرسول هي النموذج الواقعي للحياة وفق ذلك المنهج الإلهي، النموذج الذي يدعو قومه إلى الاقتداء به، وهم بشر. فلا بد أن يكون رسولهم من البشر ليحقق نموذجاً من الحياة يملكون أن يقلدوه، ومن ثَمَّ كانت حياة الرسول -صلى الله عليه وسلم- معروضة لأنظار أمته»(1).
3 ـ التطير والتشاؤم بالرسل: فهم مصدر الشر، وعدم النفع، والأذى: {قَالُوا إنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ} [يس: 18].
4 ـ التهديد بالرجم: {لَئِن لَّمْ تَنتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ} [يس: 18].
5 ـ التهديد بالتعذيب والقتل: {وَلَيَمَسَّنَّكُم مِّنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ} [يس: 18].
فكان من فقه هؤلاء الرسل الكرام لطبيعة الطريق؛ أنهم لم يفاجَؤوا بهذا الابتلاء المتعدد الصور، وكان ردهم: {قَالُوا طَائِرُكُم مَّعَكُمْ أَئِن ذُكِّرْتُم بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ مُّسْرِفُونَ} [يس: 19].
أي هذا التشاؤم إنما يأتي من داخلكم، وبناء على تصوراتكم، فلا تقذفوا غيركم بخرافة من صنعكم ومن بنات أفكاركم؟!(1/92)
ولم َتكذبونا وتهددونا بالرجم والتعذيب والقتل؛ أفهذا جزاء من أراد بكم خيراً فوعظوكم، وذكروكم بالله عز وجل، وبينوا لكم سبل النجاة في الدارين؟!
بل أنتم الذين أسرفتم وتجاوزتم التفكير السوي، ورفضتم سبل النجاة!! فتحملوا وزر موقفكم الشاذ، وانتظروا العاقبة منه ـ سبحانه ـ.
وفقه طبيعة الطريق هي سمة لازمة بل أساسية لكل طليعة رائدة، وذلك من شأنه أن يقي الصف من التساقطات، ومن الانتكاسات وظواهر النكول والنكوص.
وكل طليعة مؤمنة تدرك أن لها خيارين، لخّصهما سيد قطب ـ رحمه الله ـ:
فإما إلى النصر فوق الأنام
وإما إلى الله في الخالدين
? السمة السابعة: الثبات:
ويبين سياق القصة، من خلال موقف الرسل الكرام وردهم على أصحاب القرية، معلماً آخر أو سمة أخرى من سماتهم، وهي الثبات على الحق.
وهذه السمة تعدُّ محصلة أو جماع ونتيجة لكل السمات السابقة التي وضحتها الآيات، فما كان هذا الثبات ليأتي إلا من خلال كونهم ربانيين يثقون في مرجعيتهم وفي مصدر فكرتهم.
وما كان هذا الثبات ليأتي إلا من خلال كونهم جماعة تتعاضد ويساند بعضها بعضاً، وما كان لهذا الثبات أن يأتي إلا من خلال جديتهم في حمل الأمانة، ومن خلال فهمهم لدورهم الموكول، وهو حمل تلك الأمانة وتبليغها للناس، ومن خلال فهمهم للطريق واحتمالات النتائج.
ولا يقدر على الثبات إلا ذوو الطبيعة الإيجابية، والثبات على الحق سمة كل أصحاب الدعوات، حيث تبرز هذه الصفة جلية في سيرتهم.
وتدبر ثباته -صلى الله عليه وسلم- وهو يعلن: «ما أنا بأقدر على أن أدع لكم ذلك؛ على أن تشعلوا لي منها شعلة»(2) ـ يعني الشمس ـ.(1/93)
وتأمل ثبات أخيه هود ـ عليه السلام ـ وهو يواجه قومه، «في حسم كامل، وفي تحد سافر، وفي استعلاء بالحق الذي معه، وثقة في ربه الذي يجد حقيقته في نفسه بينة: {إن نَّقُولُ إلاَّ اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ قَالَ إنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ * مِن دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لا تُنظِرُونِ * إنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُم مَّا مِن دَابَّةٍ إلاَّ هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ * فَإن تَوَلَّوْا فَقَدْ أَبْلَغْتُكُم مَّا أُرْسِلْتُ بِهِ إلَيْكُمْ وَيَسْتَخْلِفُ رَبِّي قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلا تَضُرُّونَهُ شَيْئًا إنَّ رَبِّي عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ} [هود: 54 - 57]، إن أصحاب الدعوة إلى الله في كل مكان وفي كل زمان في حاجة إلى أن يقفوا طويلاً أمام هذا المشهد الباهر.. رجل واحد، لم يؤمن معه إلا قليل، يواجه أعتى أهل الأرض، وأغنى أهل الأرض وأكثر أهل الأرض حضارة مادية في زمانهم»(3).
والثبات على الحق في الحياة الدنيا، وفي القبر، وفي الدار الآخرة، نعمة ربانية: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ} [إبراهيم: 27].
وهو الرصيد الذي لا يضيع، وهو الزاد الذي لا ينضب، الذي يرثه اللاحقون ـ من أجيال الدعاة، وأصحاب الدعوات ـ من السابقين لهم على الطريق، الذين لم يبدلوا تبديلاً. وهو المنارة التي على ضوئها يهتدي كل شارد.
? السمة الثامنة: الاهتمام بنشر الدعوة:
ومن خلال تدبر آيات الجولة الثانية في القصة، والتي تبين المواجهة بين الرجل المؤمن وقومه، يمكننا أن نستشعر بعض السمات الأخرى للطليعة المؤمنة.(1/94)
فلقد أورد السياق أن الرجل المؤمن قد تحرك {وَجَاءَ مِنْ أَقْصَا الْمَدِينَةِ} [يس: 20].
وهي اللمحة القرآنية التربوية الطيبة التي تهمنا في قضيتنا أو موضوعنا، وهي البحث في سمات الدعامة الأولى في عملية التغيير الحضاري، أو هي صفات الطليعة الفاعلة.
والتي نستشف منها أن هؤلاء الدعاة الربانيين، وهم الرسل الذين أرسلهم الحق ـ سبحانه ـ إلى أصحاب القرية، قد نجحوا في عرض قضيتهم، فاستعصت على محاولات التحجيم والتغييب، وكسرت طوق التعتيم والتجهيل والعزل، واتسعت دائرتها، وأصبحت حديث الشارع، حتى وصلت إلى أقصى مكان بالمدينة.
وهذه سمة مهمة جداً، يتبين منها صورة من صور النصر، ألا وهي النجاح في المهمة الموكولة، وهي البلاغ.
وتبين نجاح الرسل في نشر الفكرة في كل مكان مستطاع، وعدم الركون أو الهزيمة أمام ضغط الواقع، وأمام صعوبة العوائق.
? السمة التاسعة: الاهتمام بقضية الخروج إلى الناس:
وتبين القصة، في بداية آيات الجولة الثانية، أن الخير قد أتى من حيث لم يُتوقع، وأن الله ـ عز وجل ـ قد سرّى عن هؤلاء الرسل عندما تعرضت فكرتهم للحصار، وتعرضوا للتكذيب والتهديد، فجاء الفرج: {وَجَاءَ مِنْ أَقْصَا الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ} [يس: 20].
وهي لمسة تسرية ربانية تعطي الأمل لهؤلاء الرسل، فتقول لهم لقد أديتم مهمتكم، ونجحتم في حسن عرض القضية وتقديمها، وبيان عدالتها، فتفاعل الشارع معكم ممثلاً في تحرك هذا الرجل المؤمن، حتى لو كان فرداً، وفرداً واحداً، متفاعلاً مع عدالة قضيتكم وصدقها.
بل يتحمل خطورة عرض دفاعه ورأيه، حتى لو أدى ذلك إلى استشهاده في سبيل موقفه المناصر.
وهي القضية التي ننظر إليها بمنظار آخر، وهي سمة عظيمة يجب أن تتصف بها كل طليعة مؤمنة، ألا وهي الاهتمام بقضية الخروج إلى الناس؛ وذلك من أجل هدف نهائي، هو إيجاد قاعدة جماهيرية تناصرها وتحميها.(1/95)
وتدبر كيف أن الحق ـ سبحانه ـ قد ربط بين خيرية هذه الأمة، وبين خروجها إلى الناس، كل الناس، على مختلف فئاتهم وأجناسهم وألوانهم، لتقودهم إلى خيري الدنيا والآخرة، أمراً بالمعروف ونهياً عن المنكر، وذلك بعد إعادة صياغتها عقدياً، لتنطلق من قاعدة إيمانية، ولتكون شهيدة عليهم: {كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} [آل عمران: 110].
فكان سلوكه -صلى الله عليه وسلم- في كل مراحل الدعوة، هو الالتزام بجانبين مهمين، هما:
1 - تربية قاعدة صلبة تقود التغيير.
2 - تكوين الرأي العام المناصر للفكرة، والمؤيد للداعية.
وعدم الاهتمام بقضية الخروج إلى الناس، كل الناس، من أجل تكوين تلك القاعدة الجماهيرية، حتى إن تواضع عددها تحول الطليعة المؤمنة إلى حركة نخبوية، فتؤدي إلى عملية عزل بينها وبين جماهير الأمة، فيؤدي إلى سهولة عمليات إجهاضها.
وتكون المحصلة النهائية هي تعرضها إلى عملية وأد مقنعة.
? السمة العاشرة: العفة والنزاهة:
وعندما جاء صاحب يس المؤمن إلى مسرح الأحداث، وصف هؤلاء الدعاة بصفتين أو سمتين بارزتين، لا يختلف عليهما اثنان، وهما أخطر صفتين؛ لأنهما جاءتا على لسان الآخر، وكذلك لم ينكرهما أصحاب القرية، والتي جعلت الرجل المؤمن يبني على أساسهما أن هؤلاء الدعاة صادقون، وبعيدون عن مواطن الشبهات أو مواضع الاتهام، وكانتا من أقوى حججه أثناء حواره مع قومه المكذبين.
وأول هاتين الصفتين نلمحها من قوله: {اتَّبِعُوا مَن لاَّ يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا} [يس: 21]؛ أي اتبعوا هؤلاء الكرام الذين لم يتكسبوا بفكرتهم، ولم يطلبوا أجراً نظير وعظهم، ولم يتعيشوا بدعوتهم.
ألا ترون من لا يسعى إلى مغنم، ولم يطمع في أجر، وتنزه عما بأيديكم؛ ألا يدل ذلك على صدقه؟!
وهي السمة التي يتميز بها أصحاب الدعوات.(1/96)
وتأمل كيف أنكر الحق ـ سبحانه ـ على مشركي مكة موقفهم من الرسول -صلى الله عليه وسلم-، وهو الذي لم يطلب أجراً يثقل كاهلهم، فيدفعهم إلى التكذيب: {أَمْ تَسْأَلُهُمْ أَجْرًا فَهُم مِّن مَّغْرَمٍ مُّثْقَلُونَ} [الطور: 40].
وهو الرد نفسه من نوح ـ عليه السلام ـ على قومه المكذبين: {وَيَا قَوْمِ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مَالاً إنْ أَجْرِيَ إلاَّ عَلَى اللَّهِ} [هود: 29].
وهو أيضاً الاستنكار نفسه من هود ـ عليه السلام ـ على موقف عاد: {يَا قَوْمِ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إنْ أَجْرِيَ إلاَّ عَلَى الَّذِي فَطَرَنِي أَفَلا تَعْقِلُونَ} [هود: 51].
والترفع عما بأيدي الناس، أو العفة والنزاهة، هي سمة بارزة لكل طليعة مؤمنة، وهذه السمة هي سبيل الكرامة والاحترام، ومن مسوغات قبول الناس للفكرة، وسبب أساس لكسب حبهم، كما قال الحسن البصري ـ رحمه الله ـ: «لا تزال كريماً على الناس ما لم تعاط ما في أيديهم، فإذا فعلت ذلك استخفوا بك، وكرهوا حديثك، وأبغضوك».
? السمة الحادية عشرة: حسن السيرة والسلوك:
أما الصفة الثانية التي لاحظها الرجل المؤمن؛ فهي أن هؤلاء الرسل: {مُّهْتَدُونَ} [يس: 21].
أي أن السمة الأخرى التي جعلت الرجل المؤمن يتحرك، ويخاطر بنفسه، ويدافع عن هؤلاء الدعاة، هي أن هؤلاء الرسل يتميزون بالصلاح والهداية، ولا يشين سلوكهم أي شائبة أخلاقية تقدح في صدقهم.
وقيل إن وصفه لهم بتلك السمة؛ هي الصفة التي عرف منها قومه أنه على دينهم، وأنه يدرك الفرق بين الهداية والضلال، ويميز بين المهتدي والضال، فرجموه بسببها(1).
وتأمل موقف السجينين عندما احتاجاً لتأويل رؤياهما، فما كان منهما إلا أن قصدا يوسف عليه السلام، وذكرا سبب ثقتهما فيه ـ عليه السلام ـ؛ أن سلوكه كان طيباً، حتى وهو في داخل السجن، فنطقا مقرَّيْن: {إنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ}
[يوسف: 36].(1/97)
وإنه لدرس عظيم لكل طليعة مؤمنة أن تري ربها ـ عز وجل ـ منها كل قوة وخير، ثم تري المؤمنين من حولها بل كل الناس كل خير وسلوك حسن؛ حتى تنطق الألسنُ فيهم بالذكر الحسن.
وإنها لسمة راقية بارزة أن يتحدث بها الآخر!
{وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} [التوبة: 105].
وقد ورد عن عائشة ـ رضي الله عنها ـ أنها قالت: «إذا أعجبك حسن عمل امرئ مسلم؛ فقل: اعلموا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون»(1).
الدعامة الثانية للتغيير الحضاري: وهي وجود القاعدة الجماهيرية:
أو الرأي العام الذي يناصر الفكرة، ويحب دعاتها ويكره أعداءها، ويحرص على انتصارها.
والتي تمثلت في حركة الرجل المؤمن، والذي جاء ليناصر الفكرة، ويدافع عن الدعوة، ويؤيد الدعاة.
وقد ورد الحديث عنها في آيات الجولة الثانية من القصة، وهي جولة المواجهة بين الرجل المؤمن وبين قومه:
{وَجَاءَ مِنْ أَقْصَا الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ * اتَّبِعُوا مَن لاَّ يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا وَهُم مُّهْتَدُونَ * وَمَا لِيَ لا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإلَيْهِ تُرْجَعُونَ * أَأَتَّخِذُ مِن دُونِهِ آلِهَةً إن يُرِدْنِ الرَّحْمَنُ بِضُرٍّ لا تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا وَلا يُنقِذُونِ * إنِّي إذًا لَّفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ * إنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ * قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ * بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ} [يس: 20 - 27].
ومن خلال تدبر الآيات يمكننا أن نبحث حول بعض صفات هذه القاعدة.(1/98)
ونقول بعض الصفات أو السمات؛ لأننا سنلتزم بما ورد عنها في آيات الجولة الثانية من القصة، وكذلك سنرتب السمات على حسب ورودها في سياق الآيات، وليس على حسب أولويتها، أو أهميتها.
? السمة الأولى: الوعي بالواقع:
تبين آيات الجولة الثانية من القصة؛ أن مؤمن يس قد تحرك في مبادرة وموقف عظيم: {وَجَاءَ مِنْ أَقْصَا الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى}.
ولا يهمنا أن يكون هذا الرجل هو حبيب النجار أو غيره، ولكن المهم أن نستشعر أنه رجل جاء من مكان ليس بالقريب، وكذلك كان يسعى؛ أي يسرع في مشيته، وهو ما يبين مدى الجهد الذي بذله للوصول إلى مسرح الأحداث، وهو المكان الذي كان يبتلى فيه الرسل، وذلك في مبادرة منه لم يحدها مكان ولا زمان ولا وقت، بل سعى ووصل في الوقت والمكان المناسبين، وعرض رأيه في القضية، وانتصر لهؤلاء الرسل ضد رغبة قومه.
ولقد بينت القصة أنه تحرك في وقت معين، وبعد وصول الفكرة مع قومه إلى طريق مسدود، وعندما بدأ التهديد الجاد للرسل ـ عليهم الصلاة والسلام ـ.
إذن لا فائدة الآن من القعود والسكوت، لا فائدة من الجلوس للمشاهدة والتصفيق.
وهذا ما يبين عمق فقه هذا الرجل للموقف، وحسن تقديره للحظة تدخله ومناصرته.
وهي سمة عظيمة أن تتربى الأمة على فقه الواقع، وحسن تقدير الظروف، وعلى فقه الموازنة بين الأمور. أو على الأقل أن تكون هناك قاعدة جماهيرية، تتربى على شيء من الوعي والدراية بحالة الأمة، ومعاناتها، وخطورة المرحلة التي تعيشها، وإصابتها بأمراض الاستنقاع والتردي الحضاري.
? السمة الثانية: الإيجابية:
لقد تحرك الرجل المؤمن بذاتية فريدة، وحضر بنفسه ومن خلال استشعار ذاتي بخطورة الموقف، ولم تذكر القصة أن أحداً قد استدعاه ليعرض رأيه، ولم يستنصره أحد ليقدم شهادته، وهذه اللمحة نستشعرها من تدبرنا لكلمة: {وَجَاءَ}.(1/99)
وهذا ما يدل على مدى إيجابيته وتفاعله مع القضية، قضية الظلم، ظلم الفكرة والدعوة من خلال محاولات التحجيم والتعتيم والتجهيل، وظلم الدعاة من خلال وصول المواجهة بينهم وبين قومهم إلى طريق مسدود، ثم تعرضهم للتهديد.
وهذه سمة مهمة تبين مدى حاجة الطليعة المؤمنة التي تقود عملية التغيير الحضاري؛ إلى دعامة جماهيرية تناصرها، وتتميز بالإيجابية، فتتسامى على سلبية المواقف وتمييعها. أو بمعنى أبسط أن تتخلص من أمراض (الأنامالية)!
وكم من فرص ثمينة ضاعت على أمتنا جرّاء سلبية الشارع، وتميّع الجماهير؛ مما أعطى الفرصة لأهل الباطل أن يستأصلوا كل محاولات النهوض والتغيير!
? السمة الثالثة: التوسع والانتشار:
وتذكر القصة أن الرجل المؤمن قد تحرك {مِنْ أَقْصَا الْمَدِينَةِ}.
وعلى الرغم من أن التحرك كان ممثلاً في حركة رجل واحد، ولكننا نستشعر من مغزى التعبير القرآني: {مِنْ أَقْصَا الْمَدِينَةِ}؛ أن الفكرة قد انتشرت وشملت كل طوائف المجتمع، ووصلت إلى كل مكان مستطاع.. إلى أقصى المدينة.
وهذا ما يدل على نجاح الدعاة في كسر طوق التعتيم والتجهيل، واختراق الحصار الرهيب للفكرة، وإيصالها لكل المجتمع. ونستشعر أن التحرك الجماهيري للنصرة؛ جاء من الذين يعيشون في أقصى المدينة، ولم يأت من القريبين لمكان الحدث!
وتدبر كيف رفضت قريش دعوته -صلى الله عليه وسلم- بينما قبلها ونصرها الأنصار في المدينة!
إذن لا بد أن تكون القاعدة الجماهيرية واسعة الانتشار، تشمل كل الفئات والطوائف، وتشمل كل الأمكنة؛ لأن الطليعة المؤمنة لا تدري من أين سيأتي التحرك لنصرتها، وهذا هو الشرط الكمي في تكوين الرأي العام المناصر.
? السمة الرابعة: تميز النوعية:
تذكر الآيات أن الذي تحرك في تلك الظروف الحرجة، هو نوعية معينة من البشر، نوعية زكاها الحق ـ سبحانه ـ عندما أخبرنا أن المناصرة جاءت من موقف {رَجُلٌ}.(1/100)
ولقد ورد عن الرازي ـ رحمه الله ـ حول (تنكير رجل) فائدتان وحكمتان:
الأولى: أن يكون تعظيماً لشأنه؛ أي رجل كامل في الرجولية.
الثانية: أن يكون مفيداً لظهور الحق من جانب المرسلين، حيث آمن رجل من الرجال لا معرفة لهم به، فلا يقال إنهم تواطؤوا(1).
وهي سمة مهمة يجب أن تكون مقياس مدى قوة القاعدة المناصرة، وهو أن تكون من نوعية من الرجال بمعنى كلمة الرجال، حتى لو كانوا رجالاً مؤيدين أو محايدين.
فكلمة رجل على الأقل تحمل معنى أنه سيقول رأيه وسيتحمل تبعة ذلك!
فالقضية الكبرى ليست أن يكون هناك من يعلن رأيه، بل أن يكون مستعداً لتحمل تبعة هذا الإعلان.
وهذا هو الشرط النوعي في تكوين الرأي العام المناصر.
? السمة الخامسة: الجدية والقوة في التنفيذ:
وعندما نستمر في تدبرنا لموقف الرجل المؤمن؛ نجد أنه قد تحرك وجاء بنفسه، بل أتى من أقصى المدينة، ثم تذكر القصة أنه جاء {يَسْعَى}.
أي أنه جاء يسرع في مشيته، وهو ما يبين مدى الجهد الذي بذله للوصول إلى مسرح الأحداث، وهو المكان الذي كان يبتلى فيه الرسل، وذلك حتى يصل في الوقت والمكان المناسبين، ليعرض رأيه في القضية، ولينتصر لهؤلاء الرسل ضد رغبة قومه.
وهو ما يبين مدى الجدية والقوة في محاولة تنفيذ ما عنّ له، ومدى حرصه على عرض رأيه في الوقت المناسب.
وقد بينا أن مقياس الكمال البشري أن يعرف الإنسانُ الحقَّ من الباطل، ثم يتبع هذا الحق بقوة وجدية، فالمواقف الحاسمة لا يلزمها مجرد الأداء الوظيفي الراتب، بل الجدية في الأداء، والإصرار على الموقف، وهما من السمات المهمة للتحولات الاجتماعية.
? السمة السادسة: معرفة تاريخها وأصلها:
لقد بدأ الرجل المؤمن خطابه مناشداً قومه: {قَالَ يَا قَوْمِ}.
ناداهم بخطاب فيه حكمة وشفقة وعاطفة؛ لأنه منهم ويعرف طبيعتهم، ويعرفونه.(1/101)
ونستشعر من مغزى كلمة {يَا قَوْمِ} أنه ـ وإن ذكرت الآيات أنه كان رجلاً ـ ليس في عزوة أو منعة من قومه، ولكنه مجرد رجل عامي، وأنه من هؤلاء القوم ومن تلك العشيرة.
وذلك أدعى أن لا يشكك أحد في سابق معرفته بالدعاة، أي ليست هنالك شبهة للتواطؤ، كما ذكر الإمام الرازي ـ رحمه الله ـ.
وكذلك فليس هنالك مجال للشك في أصله، فهو من هؤلاء القوم، ومن البيئة نفسها.
وما دام من البيئة نفسها فهو الأعرف بطبيعة قومه وبمداخل إقناعهم، وأعلم بنفوسهم وأمراضهم الاجتماعية، وأدرى بمشكلات حياتهم.
وهذا ما يبين لنا سمة مهمة من سمات القاعدة الجماهيرية، وهي أن تكون معروفة النسب، ومن البيئة نفسها، وأن تكون فوق مستوى الشبهات.
? السمة السابعة: الوعي بطبيعة الدعاة:
ثم جاء في خطاب الرجل المؤمن وشهادته، أثناء مواجهته لقومه أنه بعد أن استهل خطابه بالنداء الرقيق الشفيق؛ أخذ في عرض موجز يعرِّف بطبيعة هؤلاء الدعاة الجدد، حيث {قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ * اتَّبِعُوا مَن لاَّ يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا وَهُم مُّهْتَدُونَ} [يس: 20 -21].
أي أنه يعرف أن هؤلاء رسل من عند الله سبحانه، وأنهم يتميزون بالنزاهة والعفّة، وأنهم صالحون مهتدون محسنون، ونستشعر من تلك الآيات القرآنية الطيبة ملمحاً تربوياً طيباً، وهو أن الرجل المؤمن كان يملك من المُثُل والمقاييس التي تجعله يحكم بالعدل والإنصاف على سلوك البشر، خاصة هؤلاء الدعاة، فيعرف طبيعتهم، ويعرف أصلهم.
لذا فنحن نستشعر أنه قد خبر ميزاتهم وصفاتهم الربانية السامية الطيبة، وعرف الرسالة الربانية التي يحملونها.
فمن ناحية أن هؤلاء الرسل كانوا مختلطين بالناس، ومندمجين بطبقات المجتمع، وكان سلوكهم في التعامل طيباً، وأنهم لم يضعوا بينهم وبين الناس حواجز تمنعهم من معرفتهم واختبار سلوكهم.(1/102)
ومن ناحية أخرى: أن هذا الرجل كان يعرفهم جيداً؛ أي أن شهادته كانت قوية وعلى أساس متين، وعلى معرفة حقة.
وهي سمة طيبة لأي قاعدة بشرية أن تكون على وعي بالناس، خاصة أصحاب الأفكار الجديدة، وأنها لا تشهد إلا بما خبرت وعلمت.
? السمة الثامنة: الوعي بطبيعة الفكرة:
وعندما نستمر في قراءة شهادة الرجل المؤمن نجد أنه ـ وبعد عرضه لطبيعة الدعاة، ودعوته قومه لاتباع هؤلاء الرسل ـ بدأ عرضاً آخر موجزاً يشرح فيه الدعوة، ويوضح العقيدة الربانية، ويبين الرسالة التي جاء بها هؤلاء الرسل، فاستطرد قائلاً: {وَمَا لِيَ لا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإلَيْهِ تُرْجَعُونَ * أَأَتَّخِذُ مِن دُونِهِ آلِهَةً إن يُرِدْنِ الرَّحْمَنُ بِضُرٍّ لا تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا وَلا يُنقِذُونِ * إنِّي إذًا لَّفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ * إنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ}
[يس: 22 - 25].
أي ما الذي يدعوني أن لا أعبد الذي خلقني، وهو ـ سبحانه ـ سيحاسبني وسيحاسبكم على ما قدمنا في هذه الحياة الدنيا.
وكيف ألجأ إلى آلهة أخرى من دون الله، آلهة لا تضر ولا تنفع ولا تشفع، ولا تنقذ من النار ومن سوء المصير؟!
فإن زللت عن ذلك الطريق والصراط المستقيم، إنه والله! لهو الضلال المبين، وهذا هو قراري الأخير، وأعلنكم به بصراحة: أنني آمنت به سبحانه، وهذه هي شهادتي كاملة واضحة، فاسمعوها!
ويمكننا أن نخرج بملمح تربوي طيب من هذه الشهادة، أن هذا الرجل كان على معرفة جيدة بالعقيدة، وكان على قناعة بتلك الدعوة، وكان على يقين وإيمان ثابت صادق بها.
وهذا يدعو القائمين على عملية التغيير الحضاري إلى أن يهتموا ببيان العقيدة ودعوة جماهير الشارع؛ حتى يتكون رأي عام مناصر على قناعة راسخة بالرسالة، وعلى إيمان ثابت بالفكرة.
? السمة التاسعة: القدرة على التعبير عن الرأي:(1/103)
يبدو من خطاب الرجل المؤمن أنه يتميز بالشجاعة والقدرة على عرض شهادته، حيث جاء وتحرك وأعلن رأيه كاملاً واضحاً، وأعلن قراره أنه قد اتبع الدعاة وآمن بالفكرة.
وكانت أعظم مفردات خطابه، وأعظم بنود شهادته تحدياً، هي صرخته الأخيرة المدوية: {إنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ}.
وهي لمحة طيبة، أن تكون الأمة أو رموزها الاجتماعية على وعي بأهمية حرية إبداء الرأي، والشجاعة في التعبير عن أفكارها، تحت كل الظروف.
فلا يكفي أن تكون هنالك قاعدة جماهيرية لها رأي مناصر، بل الأهم منه أن تكون عندها الجرأة في التعبير عن آرائها.
وحرية الرأي أو حرية الحوار؛ إنما تدل على صحة المناخ الاجتماعي السائد، وهو الدعامة التي تصنع الأحرار، وتعمل على تفعيل وتنشيط عوامل الوحدة الفكرية عند الأمة.
وحرية الرأي هي المرتكز الذي على أساسه يتم تنقية العقلية المسلمة من آثار المناخات الاستبدادية، وهي الأمراض الفكرية التي تكاثرت جراثيمها في أروقة العقليات المكبوتة، فأثمرت: عقلية العوام، وطبيعة القطيع، ونفسية العبيد(1).
? السمة العاشرة: حب فعل الخير:
ولا يبين سياق القصة ما جرى للرجل المؤمن، «وتركها فجوة فنية، وترك لخيال القارئ أن يملأها، من خلال تصوره أو توقعه ما سيصيبه، إن ما جرى له معروف من خلال الجو الذي يعيشه، إنهم سيرجمون الرجل الذي تجرأ وتحداهم.
وقد وقف المفسرون أمام حقيقة قوله ـ سبحانه ـ: {قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ}.
فذهب بعضهم إلى أنه قيل له ذلك، وأن الملائكة قد أخذته وأدخلته الجنة فعلاً، وأنه يعيش فيها حقيقة.
وذهب بعضهم إلى أن المراد هو إخباره بأنه استحق دخول الجنة بموقفه الإيماني، وتبشيره بذلك، لينال عاجل البشرى(2).
ونحن مع القول الثاني ـ والله أعلم ـ.(1/104)
وبعد تبشيره باستحقاقه الجنة تذكّر قومه الذين آذوه، حيث {قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ * بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ}.
لقد قتله قومه، فقدموا له خيراً ومعروفاً من حيث لم يقصدوا أو يريدوا.
ولهذا تمنى لهم الهداية.
فنصحهم في حياته ونصحهم في مماته(3).
ونستشعر من خلال هذه النهاية، ومن خلال تدبر آخر كلماته، أن هذا الرجل المؤمن كان يتميز بصفة إنسانية راقية، وهي حب فعل الخير.
وتدبر ما ورد في قصة صاحب الجنتين، عندما نتأمل الرجل المؤمن في حواره، وعرض أفكاره، ونقف عند نقطة مهمة جاءت على لسانه، والحوار في مرحلة ساخنة، وهي نصحيته المشفقة: {وَلَوْلا إذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ اللَّهُ لا قُوَّةَ إلاَّ بِاللَّهِ} [الكهف: 39]، حيث أرشد الرجل المؤمن صاحبه الكافر، وهو يحاوره، إلى التصرف اللائق الصحيح الذي يشكر فيه ربه، ويعمل على دوام نعمة الله عليه.
وكذلك نتذكر ما ورد في قصة الغلام والراهب(4)، أنه ما أن استقر الإيمان في قلبه، بدأ في الاختلاط والخروج إلى الناس، وأخذ بالاندماج في مشاكل حياتهم، وقدم إليهم الخير والخدمات الجليلة، مثل قتل الدابة، ومعالجة المرضى.
وحب فعل الخير هي الصفة التي تفتح الأبواب الموصدة أمام الفكرة، وذلك من خلال فتح القلوب، ومعالجة النفوس التي تحب فعل الخير إليها.
فهي تقوم على فقه استعباد قلوب الناس.
وتلك ركيزة يستشعرها أبناء التيار الإسلامي من باب مسؤوليتهم، وتمثيلهم لتيار جاء ليحمل الخير للبشرية التعيسة الرافضة الجامحة.
ومن باب تلك العاطفة الجياشة التي يحملها دعاة التيار الديني دوماً في كل عصر، وفي كل موقف، حتى لمخالفيهم.
ذلك التيار الذي يحمل شعاراً، وأمراً ربانياً لبث الخير أينما حل، وهو طريق الفلاح {وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}
[الحج: 77].
الجولة الثالثة: جولة التعقيبات القرآنية:(1/105)
وهي التعقيبات التي تعرض خلاصة السنن الإلهية التي تدور حولها قصة أصحاب القرية.
وهي السنن الإلهية الاجتماعية التي تنطبق على أي واقع إذا وجدت أسبابها وظروفها زماناً ومكاناً وأشخاصاً وأفكاراً.
ومن ثم يمكن التفاعل معها، وحسن تسخيرها في المهمة الإنسانية الاستخلافية.
وفي عملية التغيير أو التبادل الحضاري.
خاصة في المواجهة الحضارية المعاصرة، وحسن عرض وتقديم المشروع الحضاري الإسلامي.
ومن خلال تلك التعقيبات يمكننا أن نتبين كيف أن القصة القرآنية تساهم في عملية البناء الفكري للأمة.
فالفكرة هي المنطلق الأول في عملية النهوض الحضاري.
والقصة تؤدي دوراً خطيراً في عملية البناء الفكري.
والبناء الفكري هو مرتكز التحول النفسي للأمة.
فما أحوج الدعاة لفقه دور القصة القرآنية؛ بما تحمله من رصيد فكري!
أولاً: التعقيبات القرآنية الخاصة:
وهي التعقيبات التي تبين مصير أهل القرية، الرافضين للدعوة، والمكذبين للرسل وللذي آمن معهم، ولعلهم قتلوهم جميعاً. وهي السنن الإلهية الاجتماعية التي برهنت القصة على صدقها وفعاليتها، {وَمَا أَنزَلْنَا عَلَى قَوْمِهِ مِنْ بَعْدِهِ مِن جُندٍ مِّنَ السَّمَاءِ وَمَا كُنَّا مُنزِلِينَ * إن كَانَتْ إلاَّ صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإذَا هُمْ خَامِدُونَ} [يس: 28 - 29].
لقد استقدموا عذابه وانتقامه ـ سبحانه ـ، فجاءهم سريعاً باغتاً ساحقاً ماحقاً، على هيئة صيحة الدمار، فأهلكتهم، فأصبحوا ميتين هامدين كما تخمد النار.
وسواء كان المعنى أنه ـ سبحانه ـ قد حقّر من شأنهم، وهوّن من أمرهم، فكان الانتقام الرباني من السهولة واليسر؛ أنه ـ سبحانه ـ لم يرسل إليهم الملائكة أو الجنود والعساكر لتهلكهم، بل كان الأمر أهون عليه ـ سبحانه ـ من ذلك، فكان الأمر إلى جبريل ـ عليه السلام ـ أن يرسل عليهم الصيحة المدمرة المهلكة.(1/106)
أو كان المعنى الآخر أنه ـ سبحانه ـ قد صغَّر من قدرهم، فلم يرسل إليهم جنوداً أي أنبياء أو رسل آخرين لهدايتهم، بل إنهم لا يستحقون ذلك لأنهم أصغر وأحقر.
ففي كلا المعنيين نستشعر مدى التحقير والهوان والصغار الذي استحقه هؤلاء المكذبون الرافضون.
وهي سنة الله ـ عز وجل ـ الإلهية الاجتماعية، العامة المطردة المتكررة، الثابتة والتي لا تتحول ولا تتبدل، مع كل الرافضين للهداية.
مع الذين يرفضون الفكرة ويحاربون الدعوة، مع الذين يكذبون الرسل والدعاة.
ثانياً: التعقيبات القرآنية العامة:
وهي التعقيبات التي توضح الدروس التربوية والعبر العامة التي وضحتها القصة.
وهي كذلك السنن الإلهية الاجتماعية العامة، والتي كانت القصة مثالاً تطبيقياً لها وبرهاناً ثابتاً حول فعاليتها.
{يَا حَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ مَا يَأْتِيهِم مِّن رَّسُولٍ إلاَّ كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ * أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُم مِّنَ الْقُرُونِ أَنَّهُمْ إلَيْهِمْ لا يَرْجِعُونَ * وَإن كُلٌّ لَّمَّا جَمِيعٌ لَّدَيْنَا مُحْضَرُونَ} [يس: 30 - 32] .
لقد جاءت هذه التعقيبات وكأنها إعلان علوي رهيب عام، ينادي بالحسرة والتندم والويل والبوار لنوعية من العباد، تبين الآيات أسباب أو مسوِّغات استحقاقهم لهذا الإعلان:
1 - عدم استغلال فرص النجاة والفوز في الدارين، وذلك باتباع الحق.
2 - الاستهزاء بالرسل والدعاة، ومحاربتهم، والاستهزاء بالفكرة ورفضها.
3 - عدم قراءة التاريخ، للوقوف على أحداثه، واستقراء سننه ـ سبحانه ـ الإلهية الكونية والاجتماعية، ومشاهدة سِيَر أعداء الدعوة، ومكذبي الفكرة، على مر تاريخ المسيرة الدعوية.
وإدراك معنى الرجوع إليه ـ سبحانه ـ للمحاسبة والجزاء.(1/107)
4 - الغفلة عن اليوم الآخر، وأن كل البشر مجموعون للحساب، على موقفهم من الدعوة والدعاة، ولتحديد المصير، {أَلا يَظُنُّ أُوْلَئِكَ أَنَّهُم مَّبْعُوثُونَ * لِيَوْمٍ عَظِيمٍ * يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [المطففين: 4 - 6].
والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات
--------------------------------------------------------------------------------
(1) مع قصص السابقين في القرآن، الدكتور صلاح عبد الفتاح الخالدي، طبعة دار القلم، دمشق، 2/ 130.
(2) الجامع لأحكام القرآن، الإمام القرطبي، بتصرف.
(3) في ظلال القرآن، سيد قطب، 23 / 2961.
(4) مع قصص السابقين في القرآن، الدكتور صلاح عبد الفتاح الخالدي، طبعة دار القلم، دمشق، 3 / 238.
(5) صحيح الجامع، الألباني، 3278.
(6) سنن أحمد بن شعيب النسائي، 2 / 107.
(7) سنن الترمذي، حسن صحيح غريب، 2254.
(8) متفق عليه.
(9) تفسير القرطبي، 6 / 47، نقلاً عن: مسافر في قطار الدعوة، الدكتور عادل الشويخ، 347.
(10) رواه مسلم.
(11) الجواب الكافي لمن سأل عن الدواء الشافي، ابن القيم، طبعة دار الكتاب العربي، بيروت، 146 ـ 147.
(2)
(1) في ظلال القرآن، سيد قطب، 23/ 2961.
(2) أخرجه الألباني في السلسلة الصحيحة، رقم 92، وإسناده حسن.
(3) في ظلال القرآن، سيد قطب، 12 / 1905.
(4) تفسير الجلالين.
(5) رواه البخاري.
(6) مع قصص السابقين في القرآن، الدكتور صلاح عبد الفتاح الخالدي، طبعة دار القلم، دمشق، 3 / 249.
(7) دور حرية الرأي في الوحدة الفكرية بين المسلمين، الدكتور عبد المجيد النجار، طبعة السعود العالمي للفكر الإسلامي، سلسلة أبحاث علمية (6 ـ 15).
(8) الجامع لأحكام القرآن، الإمام القرطبي، 15 ـ 19 بتصرف.
(9) مع قصص السابقين في القرآن، الدكتور صلاح عبد الفتاح الخالدي، طبعة دار القلم، دمشق، 3/ 258 ـ 261، بتصرف.
((1/108)
10) صحيح مسلم، كتاب الزهد والرقائق، باب قصة أصحاب الأخدود، 4/ 2299، ورقمه 3005، ورواه الترمذي في سننه في كتاب التفسير، تفسير سورة البروج، 4/ 437.
--------------------------------------------------------------------------------
مجلة البيان، العدد (192)، شعبان 1424،اكتوبر 2003 .
مجلة البيان، العدد (193)، رمضان 1424،نوفمبر 2003 .
* * *
http://www.albayan-magazine.com/zwaya/trbwi/5.htm
الثبات على الطريق وأثره في حياة الأمة
محمد أحمد سيد طه
إن الله - تعالى - خلق الخلق ليعرفوه ويعبدوه، ويخافوه، ويخشوه، ونصب لهم الأدلة الدالة على كبريائه وعظمته ليهابوه.
وقد اقتضت حكمة الله - تعالى - أن جعل الابتلاء سنة من سنن الله الكونية، وأن المرء بحاجة إلى تمحيص ومراجعة حتى يتميز الخبيث من الطيب، والمؤمن من غيره؛ فالسعيد من اعتصم بالله، وأناب ورجع إلى الله، والمؤمن الصادق ثابت في السراء والضراء. قال - تعالى -: {الم * أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ} [العنكبوت: 1 - 3]، وقال - تعالى -: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلِكُم مَّسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ} [البقرة: 214]، وقال - تعالى -: {وَبَلَوْنَاهُم بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [الأعراف: 168].(1/109)
إن في تعاقب الشدة والرخاء، والعسر واليسر، كشف عن معادن النفوس، وطبائع القلوب؛ حيث يتمحص المؤمنون، وينكشف الزائفون. ومن علم حكمة الله في تصريف الأمور، وجريان الأقدار فلن يجد اليأسُ إلى قلبه سبيلاً، ومهما أظلمت المسالك وتتابعت الخطوب، وتكاثرت النكبات؛ فلن يزداد إلا ثباتاً؛ فالإنسان إلى ربه راجع، والمؤمن بإيمانه مستمسك وبأقدار الله مسلمَّ.
وإن مما حث عليه الإسلام، وعظمة القرآن: الثبات على الدين، والاستقامة عليه؛ ذلك أن الثبات على دين الله والاعتصام به يدل دلالة قاطعة على سلامة الإيمان، وحسن الإسلام، وصحة اليقين، وحسن الظن بالله - تعالى - وما أعده الله ـ عز وجل ـ من النعيم المقيم في الآخرة لعباده الصالحين، وفي الدنيا من النصر والتمكين. قال - تعالى -: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ * وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْسًا لَّهُمْ وَأَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ} [محمد: 7 - 8]، وأعظم الثبات، الثبات على الدين.
إن الثبات على دين الله خلق عظيم، ومعنى جميل، له في نفس الإنسان الثابت، وفيمن حوله من الناس مؤثرات مهمة تفعل فعلها، وتؤثر أثرها، وفيه جوانب من الأهمية الفائقة في تربية الفرد والمجتمع.
إن صفة الثبات على الإسلام والاستمرار على منهج الحق نعمة عظيمة حبا الله بها أولياءه وصفوة خلقه، وامتن عليهم بها، فقال مخاطباً عبده ورسوله محمداً -صلى الله عليه وسلم-: {وَلَوْلا أَن ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدتَّ تَرْكَنُ إلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلاً } [الإسراء: 74].
وأمر الله ـ سبحانه ـ الملائكة الكرام بتثبيت أهل الإيمان، فقال ـ سبحانه ـ: {إذْ يُوحِي رَبُّكَ إلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ} [الأنفال: 12].(1/110)
إن الثبات على دين الله دليل على سلامة المنهج، وداعية إلى الثقة به، كما أن الثبات على الدين ضريبة النصر والتمكين والطريق الموصلة إلى المجد والرفعة.
والثبات طريق لتحقيق الأهداف العظيمة، والغايات النبيلة؛ فالإنسان الراغب في تعبيد الناس لرب العالمين، والعامل على رفعة دينه وإعلاء رايته لا غنى له عن الثبات.
إن الثبات يعني الاستقامة على الهدى، والتمسك بالتقى، وقسر النفس على سلوك طريق الحق والخير، والبعد عن الذنوب والمعاصي وصوارف الهوى والشيطان. إن مما يعين على الثبات أمام الفتن والابتلاءات صحة الإيمان وصلابة الدين؛ فكلما كان الإنسان قوياً في إيمانه، صلباً في دينه، صادقاً مع ربه، كلما ازداد ثباته، وقويت عزيمته وثبتت حجته، قال - تعالى -: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَ} [إبراهيم: 27]، وقال -صلى الله عليه وسلم-: «المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف، وفي كل خير»(1).
كما أن الدعاء والافتقار إلى الله ـ عز وجل ـ والاستكانة له من أقوى الأسباب لدفع المكروه وحصول المطلوب، وهو من أقوى الأسباب على الثبات إذا أخلص الداعي في دعائه؛ وحسبك أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان يدعو ربه ويسأله الثبات، فيقول: «اللهم إني أسألك الثبات في الأمر، والعزيمة على الرشد»(2).
وفي حديث ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان يدعو فيقول: «رب أعني ولا تعن علي، وانصرني ولا تنصر علي، وامكر لي ولا تمكر علي، واهدني ويسر الهدى لي، وانصرني على من بغى عليّ. اللهم اجعلني لك شاكراً، لك ذاكراً، لك راهباً، لك مطواعاً، إليك مخبتاً ومنيباً، رب تقبل توبتي، واغسل حوبتي، وأجب دعوتي، وثبت حجتي، واهد قلبي، وسدد لساني، واسلل سخيمة قلبي»(3).(1/111)
كما أن اليقين والرضى بقضاء الله وقدره من أعظم الأسباب المعينة على الثبات. قال علقمة بن قيس في تفسير قوله - تعالى -: { وَمَن يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [التغابن: 11] قال: هو الرجل تصيبه المصيبة فيعلم أنها من عند الله فيرضى ويسلِّم».
قال شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله ـ: «بالصبر واليقين تُنال الإمامة في الدين»، وقال ابن القيم ـ رحمه الله ـ: اليقين من الإيمان بمنزلة الروح من الجسد». وقال ابن تيمية ـ رحمه الله ـ: «الصبر نصف الإيمان، واليقين الإيمان كله».
إن المسلمين اليوم، وهم يمرون بمرحلة عصيبة من مراحل تاريخنا المعاصر ـ وتكاد تغلب في هذه المرحلة عوامل اليأس ومشاعر الإحباط ـ بأمس الحاجة إلى التمسك بالدين، والعض عليه بالنواجذ؛ لأن الاستسلام لليأس يقتل الهمم ويخدر العزائم، ويدمر الطموحات، وهذه المعاني هي التي تحرك الإرادات وبذل الجهد.
ورغم تتابع الفتن وتنوعها وتكاثرها فإن نصر الله آتٍ لا محالة إن شاء الله كما وعدنا ـ سبحانه ـ شريطة أن نتمسك بديننا ونعتز بشريعتنا ويكون ولاؤنا لله ولرسوله -صلى الله عليه وسلم-. قال - تعالى -: {وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} [الحج: 40]، وقال -صلى الله عليه وسلم-: «لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم حتى يأتي أمر الله وهم ظاهرون»(4). وفي حديث جابر بن سمرة ـ رضي الله عنه ـ قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «لا يزال هذا الدين قائماً يقاتل عليه عصابة من المسلمين حتى تقوم الساعة»(5).(1/112)
ومع تكاثر أعداء الإسلام، وتكالبهم على هذا الدين، والكيد له ولأهله قال - تعالى -: {يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ } [الصف: 8]. إلا أن النصر والتمكين بمشيئة الله لحملة هذا الدين المبشرين بالثناء والتمكين كما في حديث ثوبان ـ رضي الله عنه ـ: «إن الله زوى لي الأرض فرأيت مشارقها ومغاربها، وإن أمتي سيبلغ ملكها ما زُوي لي منها»(6).
وكما في حديث تميم الداري ـ رضي الله عنه ـ قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «ليبلغن هذا الأمر ما بلغ الليل والنهار، ولا يترك بيت مدر ولا وبر إلا أدخله الله هذا الدين بعز عزيز أو بذل ذليل، عزاً يعز الله به دين الإسلام، وذلاً يذل به الكفر»(7).
إن عز هذه الأمة، ورفعة أهل الحق لا تتم ولن تكون إلا بالعض على هذا الدين بالنواجذ عقيدة وشريعة، صدقاً وعدلاً، ثباتاً في الموقف وصدقاً مع الله، قال - تعالى -: {وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ إن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} [آل عمران: 139] ، وقال ـ سبحانه ـ: {وَإن تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ } [محمد: 38] .
? العوامل المعينة على الثبات على الدين:
إن الثبات على الدين مطلب عظيم ورئيس لكل مسلم صادق يحب الله ورسوله، ويريد سلوك طريق الحق والاستقامة بعزيمة ورشد، والأمة الإسلامية اليوم أحوج ما تكون إلى الثبات خاصة وهي تموج بأنواع الفتن والمغريات، وأصناف الشهوات والشبهات، فضلاً عن تداعي الأمم عليها، وطمع الأعداء فيها. ومما لا شك فيه أن حاجة المسلم اليوم لعوامل الثبات أعظم من حاجة أخيه المسلم إلى ذلك في القرون السالفة؛ وذلك لكثرة الفساد وندرة الإخوان، وضعف المعين، وقلة الناصح والناصر.
أهم عوامل الثبات ما يلي:
1 - صحة الإيمان وصلابة الدين:(1/113)
إن الإيمان له قوته الإيجابية التي تعمل على تنمية المشاعر وتنقيتها، وأن القوة الإيمانية تترك بصماتها على الفرد والجماعة، وعلى سائر اتجاهات السلوك الإنساني، ومتى صح الإيمان ورسخت حلاوته في قلب المؤمن رزقه الله الثبات في الأمر والعزيمة على الرشد، وكلما كان قوياً في إيمانه، صلباً في دينه، صادقاً مع ربه، كلما ازداد ثباته، وقويت عزيمته. قال - تعالى -: {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً } [الأحزاب: 23]، وقال -صلى الله عليه وسلم-: «المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف، وفي كل خير»(8).
2 - تدبر القرآن والعمل به:
إن من حق القرآن علىنا أن نتدبر معانيه، وأن نفهم مقاصده؛ ذلك أن القرآن هو كتاب الله الخالد، ومعجزة رسوله الباقية، ونعمته السابغة، وحكمته الدامغة، وهو ينبوع الحكمة، وآية الرسالة، ونور الأبصار والبصائر، أنزله الله على رسوله -صلى الله عليه وسلم- لنقرأه تدبراً، ونتأمله تبصراً، ونسعد به تذكراً، ونجتهد في إقامة أوامره ونواهيه، وعلماً تزداد البصائر فيه تأملاً فيزيدها هداية وثباتاً وتبصراً. قال - تعالى -: {كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلاً} [الفرقان: 32]، وقال - تعالى -: {كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الأَلْبَابِ} [ص: 29].(1/114)
لقد أنزل الله القرآن ليكون بشيراً ونذيراً، وهادياً إلى ما ارتضى له من دينه، وسلطاناً أوضح به وجهة دينه، ودليلاً على وحدانيته، ومرشداً إلى معرفة عزته وجبروته، ومفصحاً عن صفات جلاله وعلو شأنه وعظيم سلطانه، وحجة لرسوله محمد -صلى الله عليه وسلم- الذي أرسله به، عَلَماً على صدقه، وبيِّنة على أنه أمينه على وحيه والصادع بأمره، فما أشرفه من كتاب يتضمن صدق متحمله، بيَّن فيه ـ سبحانه ـ أن حجته كافية هادية، لا يحتاج مع وضوحها إلى بينة تعدوها أو حجة تتلوها، والقرآن الكريم وسيلة التثبيت الأولى للمؤمنين، ولقد أنزل الله القرآن العظيم منجَّماً مفصلاً، وجعل الغاية منه هي التثبيت لقلب النبي -صلى الله عليه وسلم-. قال - تعالى -: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلاً } [الفرقان: 32].
إن القرآن الكريم أعظم مصدر للتثبيت؛ لأنه يزرع الإيمان ويقوي الصلة بالله، كما أنه العاصم من الفتن وكيد الشيطان وغوايته، كما أنه يزود المسلم بالتصورات والقيم الصحيحة التي يستطيع على ضوئها أن يُقوِّم الأوضاع التي من حوله، تقييماً صحيحاً، كما أن القرآن بما اشتمل عليه من أحكام وأصول وقواعد وحكم وقصص، يرد على الشبهات التي يثيرها أعداء الإسلام من الكفار والمنافقين ومن سار على دربهم.
فإن عُلم ذلك كله لزم على من أراد الثبات في الدنيا والآخرة، والفوز بالنعيم المقيم، أن يتخذ القرآن سميره وأنيسه، وأن يجعله رفيقه وجليسه على مر الليالي، وتتابع الأيام، فلا يقتصر على النظر فيه، بل يحمل نفسه على العمل به.
3 - الصبر والتصبر عند نزول المصائب والمحن:(1/115)
إن الصبر من أجلِّ صفات النفس وأعلاها قدراً، وأعظمها أثراً قال -صلى الله عليه وسلم-: «الصبر ضياء» فالصبر من أعظم الأمور والعوامل المعينة على الثبات؛ ذلك أن الصبر هو حبس النفس عن الجزع، واللسان عن الشكوى، والجوارح عن التشويش؛ فالصبر إذن أعظم مظهر من مظاهر الثبات، ولقد أمرنا الله - تعالى - به فقال ـ سبحانه ـ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ إنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} [البقرة: 153]، وقال ـ سبحانه ـ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [آل عمران: 200].
قال ابن تيمية ـ رحمه الله ـ قد ذكر الله الصبر في كتابه في أكثر من تسعين موضعاً، وقرنه بالصلاة في قوله - تعالى -: {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ وَإنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إلاَّ عَلَى الْخَاشِعِينَ} [البقرة: 45]، وجعل الإمامة في الدين موروثة عن الصبر واليقين بقوله: {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ } [السجدة: 24]؛ فإن الدين كله عِلمٌ بالحق وعمل به، والعمل به لا بد فيه من الصبر، بل وطلب عِلْمِهِ يحتاج إلى الصبر، كما قال معاذ بن جبل ـ رضي الله عنه ـ: «عليكم بالعلم؛ فإن طلبه لله عبادة، ومعرفته خشية، والبحث عنه جهاد» فجعل البحث عن العلم من الجهاد، ولا بد في الجهاد من الصبر؛ ولهذا قال الله - تعالى -: {وَالْعَصْرِ * إنَّ الإنسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ}
[العصر: 1 - 3].
4 - اليقين، والرضا بقضاء الله وقدره:(1/116)
اليقين والرضا بقضاء الله وقدره من أعظم الأسباب المعينة على الثبات؛ ذلك أن اليقين هو جوهر الإيمان، وإن مما لا شك فيه أن اليقين، والرضا والتسليم لقضاء الله وقدره من أقوى الدعائم والعوامل المعينة على الثبات.
5 - التزام شرع الله والعمل الصالح:
قال - تعالى -: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ}[إبراهيم: 27].
قال قتادة: «أما في الحياة الدنيا فيثبتهم بالخير والعمل الصالح، وفي الآخرة (في القبر)» وكذلك روي عن غير واحد من السلف. وقال ـ سبحانه ـ: {وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَّهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا} [النساء: 66] أي على الحق؛ ولذلك كان -صلى الله عليه وسلم- يثابر على الأعمال الصالحة، وكان أحب العمل إليه أدومه وإن قل، وكان أصحابه إذا عملوا عملاً أثبتوه، وكانت عائشة ـ رضي الله عنها ـ إذا عملت العمل لزمته، وكان -صلى الله عليه وسلم- يقول: «من ثابر على اثنتي عشرة ركعة وجبت له الجنة»(9). وفي الحديث القدسي: «ولا يزال عبدي يتقرب إليَّ بالنوافل حتى أحبه»(10).
6 - الذكر والدعاء:(1/117)
سبق أن تحدثت عن الدعاء وفضله وأثره. أما الذكر فهو حياة القلوب، وشفاء الصدور، وجلاء الأحزان، وأنس المستوحشين، وأمان الخائفين، فضله عظيم، وأثره عميم، وهو من أعظم أسباب التثبيت في الجهاد وغيره. قال - تعالى -: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا} [الأنفال: 45]، وقال ـ سبحانه ـ: {وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا} [الأحزاب: 35]، وكان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يسأل ربه عند التضرع إليه وفي سجوده قائلاً: «يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك»(11).
7 - الاستعانة بالله وحسن الظن به:
قال الإمام ابن القيم ـ رحمه الله ـ: «وتحت قوله - تعالى -: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ} [إبراهيم: 27] كنز عظيم من وُفِّق لمظنته، وأحسن استخراجه واقتناءه، وأنفق منه فقد غنم، ومن حُرِمَه فقد حرم؛ وذلك أن العبد لا يستغني عن تثبيت الله له طرفة عين؛ فإن لم يثبته وإلا زالت سماء إيمانه وأرضه عن مكانها، وقد قال - تعالى - لأكرم خلفه: {وَلَوْلا أَن ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدتَّ تَرْكَنُ إلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلاً} [الإسراء: 74]، فأثبت الناس قلباً أثبتهم قولاً. والقول الثابت هو قول الحق والصدق، وهو ضد القول الباطل الكاذب. فالقول نوعان: ثابت له حقيقة، وباطل لا حقيقة له. وأثبت القول كلمة التوحيد ولوازمها؛ فهي أعظم ما يثبت الله بها عبده في الدنيا والآخرة، فما مُنح عبد منحة أفضل من منحة القول الثابت، ويجد أهل القول الثابت ثمرته أحوج ما يكون إليه في قبورهم ويوم معادهم»(12).(1/118)
وبهذا يتضح أن الاستعانة بالله وحسن الظن به وإخلاص العبادة له، من أقوى الأسباب المعينة على تثبيت الله لعبده بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة(13).
8 - الصحبة الصالحة، والأُخوة الصادقة:
إن الصحبة الصالحة والأُخوة الصادقة من أعظم الأمور المساعدة على الثبات على الدين والاستقامة عليه؛ إذ المؤمن الصادق يحب لأخيه ما يحب لنفسه، وهو مرآة له، كما جاء في الحديث، وقد أمر النبي -صلى الله عليه وسلم- بمصاحبة الطيبين وتخير الصالحين فقال: «لا تصاحب إلا مؤمناً، ولا يأكل طعامك إلا تقي»(14).
وهذا يدل على أثر الأخوة الصالحة في الثبات(15).
--------------------------------------------------------------------------------
(*) مدرس بدار الحديث الخيرية، مكة المكرمة.
(1) رواه مسلم.
(2) رواه أحمد والنسائي وهو حديث حسن.
(3) رواه أبو داود والترمذي، وقال: حديث حسن صحيح.
(4) رواه البخاري ومسلم.
(5) رواه مسلم.
(6) رواه مسلم.
(7) رواه أحمد والطبراني والحاكم، وقال: حديث صحيح.
(8) رواه مسلم.
(9) رواه الترمذي، 379، والنسائي، 1771، وابن ماجة، 1130، ولفظ الترمذي «بنى الله له بيتاً في الجنة».
(10) رواه الترمذي وقال حديث حسن.
(11) رواه الترمذي وهو في صحيح الجامع الألباني.
(12) أعلام الموقعين، 1/ 76.
(13) انظر: صفة الاستعانة، حسن الظن.
(14) الترمذي، 2318، وأبو داود، 4192، وأحمد، 10909.
(15) انظر: صفة حسن العشرة، حسن المعاملة، النصيحة.
--------------------------------------------------------------------------------
مجلة البيان، العدد (194)، شوال 1424،نوفمبر - ديسمبر 2003 .
* * *
http://www.albayan-magazine.com/zwaya/trbwi/6.htm
أخي احذر موارد الهلاك!
سليمان بن عبد الله الطريم(1/119)
جعل الله ـ سبحانه وتعالى ـ بحكمته الدنيا الغرارة العاجلة، الدنية الفانية دار ابتلاء وامتحان ليتميز بها من عباده الأحسن عملاً، والأكثر خيراً، والأرفع درجة ومنزلاً، والأفضل طاعة ونسكاً.
قال ـ تعالى ـ: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ وَمِنْهُم مُّقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ} [فاطر: 32].
وقال ـ تعالى ـ: {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً} [الملك: 2].
قال ابن كثير ـ رحمه الله ـ: «ليبلوكم أي: يختبركم أيكم أحسن عملاً، ولم يقل أكثر عملاً بل أحسن عملاً، ولا يكون العمل حسناً حتى يكون خالصاً لله ـ عز وجل ـ على شريعة رسول الله صلى الله عليه وسلم »(1).
وهي دار ابتلاء وفتنة بالمنحة والمحنة. قال ـ تعالى ـ: {وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً} [الأنبياء: 35].
وقال ابن كثير ـ رحمه الله ـ في معنى الآية: «أي نختبركم بالمصائب تارة، وبالنعم أخرى، فننظر: من يشكر ومن يكفر، ومن يصبر ومن يقنط؛ كما قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ: ونبلوكم أي نبتليكم: بالشر والخير فتنة بالشدة والرخاء، والصحة والسقم، والغنى والفقر، والحلال والحرام، والطاعة والمعصية، والهدى والضلال»(2).
ومن أسباب الفتنة عداوة الشيطان، ووسوسته للإنسان، وهي عداوة بينة ظاهرة، قديمة مستمرة، حذر الله منها، وأمر بالتوقي من شرها، وأوجب معاداته بصدق الإيمان، ومخالفته بطاعة الرحمن.(1/120)
قال ـ تعالى ـ: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلا يَغُرَّنَّكُم بِاللَّهِ الْغَرُورُ (5) إنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ} [فاطر: 5 - 6].
قال ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ: «أي لا يفتنكم الشيطان ويصرفنكم عن اتباع رسل الله، وتصديق كلماته؛ فإنه غرارٌ كذاب أفاك»(1).
قال مطرف بن عبد الله الشخير: «وجدنا أغش عباد الله لعباد الله الشياطين، ووجدنا أنصح عباد الله لعباد الله الملائكة»(2).
وهذه العداوة الإبليسية أبدية حسدية خطيرة لا ينتهي عداؤها إلا بمضي الأعمار، وقيام الأشهاد، أو بفساد الأعمال وموافقة الشيطان، وحسدية لا تنفك عُقدها بمصانعة بمال يدفع، أو مصيبة ببدن تقع، أو بفترة عن الاجتهاد في العمل الصالح تعرض، أو بمرحلة من العمر تمر وتنقضي بل وسوسة وحسد أبدي حتى عند الموت وسكراته، وفي خلوات المرء وجلواته، وفي يقظته ونومه وغفلاته، والله وحده هو المستعان عليه، وبالله ـ تعالى ـ وحده المعتصم، وإليه ـ سبحانه ـ الملجأ والمستعاذ.
وهي عداوة ـ أعاذنا الله منها ـ خطيرة متنوعة السلاح، قوية الفتك، شديدة الأثر، متعددة الأساليب، مختلفة الوسائل.
قال ـ تعالى ـ واصفاً حال عداوته: {قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ (16) ثُمَّ لآتِيَنَّهُم مِّنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَن شَمَائِلِهِمْ وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ} [الأعراف: 16 - 17].(1/121)
وقال ـ تعالى ـ في التحذير من الشيطان بعد طرده ولعنه وأنه عدوٌ مضل مبين، وأنه يورد موارد الردى ويضل عن طريق الهدى، وعن نور الحق إلى ظلام الكفر والبدعة والمعصية بالأماني الغرورة، والوعود المكذوبة والأوامر المخالفة للفطر. يقول ـ سبحانه وتعالى ـ: {إن يَدْعُونَ مِن دُونِهِ إلاَّ إنَاثًا وَإن يَدْعُونَ إلاَّ شَيْطَانًا مَّرِيدًا (117) لَعَنَهُ اللَّهُ وَقَالَ لأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيبًا مَّفْرُوضًا (118) وَلأُضِلَّنَّهُمْ وَلأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الأَنْعَامِ وَلآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ وَمَن يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيًّا مِّن دُونِ اللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَانًا مُّبِينًا (119) يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إلاَّ غُرُورًا}
[النساء: 117 - 120].
وقد حذر الله عباده من عداوة الشيطان والركون إلى إغوائه وإضلاله، والبُعد عن اتباع خُطواته؛ فإن عاقبتها الفاحشة والمنكر، ومآلها الخسران المبين. قال ـ تعالى ـ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ وَمَن يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ} [النور: 21].
قال ابن كثير ـ رحمه الله ـ: «وهذا تنفير من ذلك بأفصح عبارة وأبلغها وأوجزها وأحسنها، وخطوات الشيطان طرائقه ومسالكه، وقال ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ: عمله، وقال عكرمة: نزغاته، وقال قتادة: كل معصية فهي من خُطوات الشيطان»(3).
وخُطوات الشيطان هي خطى متلاحقة، ودركات متتابعة، وصور متنوعة: إفراطٌ وتفريط، وشهوات وشبهات، وسخرية واستهزاء، ومعصية لله ومعاداة للرسول صلى الله عليه وسلم ، ونبذٌ لكتاب الله، وتحكيم للهوى.(1/122)
والشيطان يجمل الفعل القبيح، ويزين الأمر المشين، ويحسن عمل السوء، ويغوي ويغري بالمال والمنصب والجاه ومتعة الحياة، ويجري من ابن آدم مجرى الدم، ويفتح باب الأمل والتسويف، ويستدرج بالحيلة والكذب. وقال ـ تعالى ـ: {وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الأنعام: 43]، وقال ـ تعالى ـ: {أَفَمَن زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا} [فاطر: 8]، وقال ـ تعالى ـ: {وَإنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُم مُّهْتَدُونَ} [الزخرف: 37].
فالشيطان وجنده وجميع حزبه لا يأمرون إلا بالشر ولا ينهون إلا عن الخير يأمرون بالكفر لا بالإيمان وبالشرك لا بالتوحيد، وبالبدعة لا بالسنة، وبالمعصية لا بالطاعة، وبالمنكر لا بالمعروف، وبالتفرق لا بالاجتماع، ويأمرون بتغيير خلق الله لا باتباع شرائع الإسلام وسنن الفطرة.
قال ابن كثير ـ رحمه الله ـ في التحذير من عداوة الشيطان وكيده لبني آدم: «إن الله ـ تعالى ـ يأمر بمصانعة العدو الإنسي والإحسان إليه ليرده عنه طبعه الطيب الأصل إلى الموالاة والمصافاة، ويأمر بالاستعاذة من العدو الشيطاني لا محالة؛ إذ لا يقبل مصانعة ولا إحساناً، ولا يبتغي غير هلاك ابن آدم لشدة العداوة بينه وبين أبيه آدم من قبل»(4).
ومن عداوة الشيطان الشديدة أنه قعد لابن آدم في كل طريق خير يخذِّل عنه، وقعد له في كل طريق شر يدعو إليه ويحثه عليه.(1/123)
وفي الحديث: «إن الشيطان قعد لابن آدم بأطرقه، فقعد له بطريق الإسلام فقال: تُسلم وتذر دينك ودين آبائك؟! فعصاه فأسلم، ثم قعد له بطريق الهجرة، فقال: تهاجر وتدع أرضك وسماءك، وإنما مثل المهاجر كمثل الفرس في الطِّوَل؟! فعصاه فهاجر، ثم قعد له بطريق الجهاد، فقال: تجاهد؛ فهو جهد النفس والمال فتقاتل فتقتل، فتنكح المرأة ويقسم المال. فعصاه فجاهد. فمن فعل ذلك كان حقاً على الله أن يدخله الجنة، ومن قتل كان حقاً على الله أن يدخله الجنة، وإن غرق كان حقاً على الله أن يدخله الجنة، وإن وقع من على دابته كان على الله أن يدخله الجنة»(1).
ولما كان هذا العدو بهذه القوة والشراسة فيحتاج العبد الضعيف إلى ركن شديد وسلاح واق، وحماية صلبة، وقوة ضاربة؛ ترد العدو على عقبه خاسئاً حسيراً، وتصده عن مقاصده مدحوراً، ولا أشد منعة، وأقوى حماية، وأعظم تحصيناً يجده العبد من الإيمان بالله عز وجل، والاعتصام بكتابه، ومتابعة رسوله صلى الله عليه وسلم ، واتخاذ منهاج السلف الصالح منهاجاً، وطريق أهل السنة والجماعة طريقاً، معرضاً عن مقالات أهل الأهواء والمبتدعين، وشبهات المضلين، وأقوال الجاهلين من الذين يجادلون في آيات الله ـ عز وجل ـ بغير علم، ويخوضون في آيات الله بغير حجة ولا برهان.
وهذا الإيمان والتوحيد بأصوله الاعتقادية والقولية والعملية هو النجاة يوم القيامة، والفلاح في الدنيا والآخرة.
ويزكي المرء نفسه، ويزيد إيمانه، ويقوي يقينه، ويطرد شيطانه بكثرة الإخبات والطاعة، والتزلف بالعبادة بأداء الواجبات، وترك المنهيات، والتقرب إلى الله بالنوافل والمندوبات.
ومن حصون الإيمان الشامخة الراسخة حصن العلم النافع الذي يؤخذ من أهله، ويتلقى من مظانه على المنهاج السديد، والدين القويم، والصراط المستقيم، والعلم الشرعي مأرز(*) للمؤمن من شبهات الشيطان، ونور له في معرفة أحكام الله وحكمه في الشريعة، وأسراره في الكون.(1/124)
والعلماء ورثة الأنبياء في بيان الدين، وكشف الشبهات، ودلالة الخلق على حق الخالق، وأثر علمهم النافع على الشيطان وحزبه شديد؛ فهو يهدم صروحهم، ويخرب حصونهم، ويفرق صفوفهم، ويكسر شوكتهم، ويحل ما عقدوا، ويفتح ما أغلقوه، ويغلق ما فتحوه، ويرد إلى الحق من حرفوه، وكما يهدون بإذن الله من أضلوه، وينصرون بالحق من خاصموه؛ ففضلهم على الحق ظاهر، وخيرهم إلى الناس واصل، ونفعهم ـ بإذن الله ـ إلى العباد سابغ.
ومن أسباب النجاة من نزغات الشيطان وكيده الاستعاذة بالله وحده، والالتجاء إليه ـ سبحانه ـ من شر وسواسه، وشر أتباعه؛ فهو الملاذ ـ سبحانه ـ وبه المعتصم؛ ولا حول ولا قوة إلا بالله. قال ـ تعالى ـ: {وَإمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [فصلت: 36].
وقد أنزل الله ـ تعالى ـ سورة في حفظ عباده المؤمنين حيث قال: بسم الله الرحمن الرحيم {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ (1) مَلِكِ النَّاسِ (2) إلَهِ النَّاسِ (3) مِن شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ (4) الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ (5) مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ} [الناس: 1 - 6].
وأمر ـ سبحانه وتعالى ـ بالاستعاذة من كيد جنده، وشر حزبه الذين يفسدون في الأرض ولا يصلحون، يسعون فيها فساداً، ويعيثون فيها خراباً فينشرون الرذيلة، ويحجبون الفضيلة، ويجادلون في آيات الله بغير سلطان ولا برهان. قال ـ تعالى ـ: {إنَّ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ إنْ فِي صُدُورِهِمْ إلاَّ كِبْرٌ مَّا هُم بِبَالِغِيهِ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ}
[غافر: 56].(1/125)
وأمر ـ سبحانه ـ عباده المؤمنين بالإعراض عن مجالس خوضهم، ومقاعد جدالهم التي لا يقصدون فيها حقاً، ولا يريدون خيراً، ويظهرون فيها استهزاء وسخرية وشراً. قال ـ تعالى ـ: {وَإذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإمَّا يُنسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} [الأنعام: 68].
ومن عواصم نزغات الشيطان، ونفثاته المسمومة، ونفخه المحموم، الاعتصام بذكر الله بالعشي والإبكار، وعند أطراف الليل والنهار فهو حرز مكين، وحصن حصين، قال ـ تعالى ـ: {قُلْ مَن يَكْلَؤُكُم بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ مِنَ الرَّحْمَنِ بَلْ هُمْ عَن ذِكْرِ رَبِّهِم مُّعْرِضُونَ} [الأنبياء: 42].
وحث ـ سبحانه ـ على دوام ذكره، وكثرة استغفاره، والصبر على طاعته؛ فهي زاد في طريق دعوته ونشر رسالته، وعون على القيام بحقوق عبوديته، وفيها انشراح الصدر وسروره، وطمأنينة القلب ونوره، وراحة البال وحبوره، ورضى النفس وسعادتها، قال ـ تعالى ـ: { أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} [الرعد: 28]، وقال ـ تعالى ـ: {فَاصْبِرْ إنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَالإبْكَارِ} [غافر: 55]، وقال ـ تعالى ـ: {فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا وَمِنْ آنَاءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرَافَ النَّهَارِ لَعَلَّكَ تَرْضَى} [طه: 130].(1/126)
ومن موانع تأثير الشيطان على العباد، ومنعه من تحقيق الفساد، ورد كيده وكيد الفجار والكفار قوة التعلق بالله، ولزوم التعوذ بالله، والالتجاء إلى الله، وقد جعل الله ـ سبحانه وتعالى ـ لعباده أذكاراً عاصمة، وأوراداً حافظة، وأسباباً واقية إذا اعتصم بها العبد عُصم، وإذا حفظها العبد حُفظ، وإذا تسربل بها وقي؛ وذلك حين يتلقاها بقلب موقن خاشع، وفؤاد بصير شاكر، وعمل صالح راشد فتحفظ المسلم قياماً وقعوداً، ودخولاً وخروجاً، وغياباً وحضوراً، وراحة ونوماً وإقامة ومكثاً، وسعياً في الحياة وضرباً في الأرض؛ فحاله حال الذاكر الشاكر الذي رطب لسانه بذكر ربه ليلاً ونهاراً، سراً وجهراً، وتضرعاً وخفية. قال ـ تعالى ـ: {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} [الأعراف: 55].
وفي هدي النبي صلى الله عليه وسلم وإرشاده، وتربيته ومنهاجه بيان الأوراد المندوبة المشروعة، والأذكار المسنونة المرغوبة التي كثرت حسناتها، وعظمت درجاتها، ودل فضلها وأثرها في حفظ المرء من الشيطان.
عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إذا خرج الرجل من باب بيته أو من باب داره كان معه ملكان موكلان به؛ فإذا قال: بسم الله، قالا: هديت، وإذا قال: لا حول ولا قوة إلا بالله، قالا: وقيت، وإذا قال: توكلت على الله، قالا: كفيت، فيلقاه قريناه فيقولان: ماذا تريدان من رجل قد هدي وكفي ووقي؟»(1)، وفي رواية عن أنس ـ رضي الله عنه ـ يقال له: «كفيت ووقيت، وتنحى عنه الشيطان».(1/127)
ومن رحمة النبي صلى الله عليه وسلم بأمته، وحرصه عليها في سلامة فطرتها، وطهارة نفوسها وصلاح قلوبها، وبركة عيشها، وإحرازها وذريتها من الشيطان وذريته علم أمته ونصحها في بيان الأدعية والأوراد والآداب في كل الأحوال والأزمان والمواضع من الأقوال والأفعال عند الطعام والشراب، وعند دخول وخروج الخلاء، وعند وقوع المصيبة وحصول البلاء، وعند النوم والجماع. قال صلى الله عليه وسلم فيما رواه ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ: «لو أن أحدكم إذا أراد أن يأتي أهله قال: باسم الله اللهم جنبنا الشيطان، وجنب الشيطان ما رزقتنا، فإنه إن يقدر بينهما ولد في ذلك لم يضره شيطان أبداً»(2).
وعن جابر بن عبد الله أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «إذا دخل الرجل بيته فذكر عند دخوله وعند طعامه قال الشيطان: لا مبيت لكم ولا عشاء، وإذا دخل فلم يذكر عند دخوله قال الشيطان: أدركتم المبيت، وإذا لم يذكر الله عند طعامه قال: أدركتم المبيت والعشاء»، وفي رواية: «وإن لم يذكر اسم الله عند طعامه، وإن لم يذكر اسم الله عند دخوله»(3).
وعن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «يعقد الشيطان على قافية رأس أحدكم إذا هو نام ثلاث عقد يضرب كل عقدة عليك ليل طويل فارقد، فإن استيقظ فذكر الله انحلت عقدة، فإن توضأ انحلت عقدة، فإن صلى انحلت عقدة، فأصبح نشيطاً طيب النفس وإلا أصبح خبيث النفس كسلان»(4).(1/128)
وقد وجه النبي صلى الله عليه وسلم أمته إلى ذكر الله ـ عز وجل ـ لتكون هذه الأذكار حرزاً مانعاً منه، وحجاباً ساتراً عنه. قال صلى الله عليه وسلم فيما رواه أبو هريرة وأخرجه الإمام البخاري: «من قال لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير في يوم مائة مرة كان له عدل ذلك عشر رقاب، وكتبت له مائة حسنة، ومحيت عنه مائة سيئة، وكانت له حرزاً من الشيطان يومه ذلك حتى يمسي، ولم يأت أحد بأفضل مما جاء به إلا أحدٌ عمل أكثر من ذلك»(5)، وللحديث روايات أخر.
وقال صلى الله عليه وسلم فيما رواه عبد الله بن عمرو بن العاص ـ رضي الله عنهما ـ عن النبي صلى الله عليه وسلم : «إنه إذا دخل المسجد قال: أعوذ بالله العظيم، وبوجهه الكريم، وسلطانه، من الشيطان الرجيم قال: أقط(6)، قلت: نعم، قال: فإذا قال ذلك حُفظ مني سائر اليوم»(7).
ووجه النبي صلى الله عليه وسلم أمته إلى الاستعاذة من الشيطان وشركه إذا أصبحوا، وإذا أم سوا، وإذا ناموا بوصيته العظيمة لصاحبه الصديق ـ رضي الله عنه ـ فيما رواه أبو هريرة ـ رضي الله عنه ـ أن أبا بكر الصديق قال: «قل اللهم فاطر السماوات والأرض عالم الغيب والشهادة رب كل شيء ومليكه أشهد أن لا إله إلا أنت، أعوذ بك من شر نفسي وشر الشيطان وشركه، قال: قلها إذا أصبحت، وإذا أمسيت، وإذا أخذت مضجعك»(8).
والعلاج حين يلبِّس الشيطان على العبد صلاته فيما رواه عثمان بن أبي العاص أنه: «أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله إن الشيطان قد حال بيني وبين صلاتي وقراءتي يلبِّسها عليّ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ذاك شيطان يقال له خنزب، فإذا أحسسته فتعوذ بالله منه، واتفل على يسارك ثلاثاً. قال: ففعلت ذلك فأذهبه الله عني»(1).(1/129)
وقد ذكر الإمام ابن القيم ـ رحمه الله ـ أن طريق الوقاية من الشيطان وكيده هو العلم بمداخله ومخارجه ووساوسه وخواطره، ومعرفة عسكره وجنده، وأنصاره وحزبه، وكذلك معرفة منهجه الضال الفاسد في إغراء الشهوات، وإيراد الشبهات، واتخاذ الحياة الدنيا مستقراً ومقاماً، ونهاية ومآلاً، وما الحياة الدنيا إلا ممر ومعبر إلى الدار الآخرة، وحياة قصيرة فانية، قليلة زائلة. قال ـ تعالى ـ: {اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الأَمْوَالِ وَالأَوْلادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا وَفِي الآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إلاَّ مَتَاعُ الْغُرُورِ} [الحديد: 20].
قال الإمام ابن القيم ـ رحمه الله ـ: «إن الله ـ سبحانه ـ بحكمته سلط على العبد عدواً عالماً بطرق هلاكه، وأسباب الشر الذي يلقيه فيه، متفنناً فيها، خبيراً بها، حريصاً عليها لا يفتر يقظة ولا مناماً...
أحدها: وهي غاية مراده منه أن يحول بينه وبين العلم والإيمان، فيلقيه في الكفر؛ فإذا ظفر بذلك فرغ منه واستراح... فإن فاتته هذه وهُدي للإسلام حرص على ما يتلو الكفر وهي البدعة، وهي أحب إليه من المعصية؛ فإن المعصية يتاب منها والبدعة لا يتاب منها؛ لأن صاحبها يرى أنه على هدى، وفي بعض الآثار يقول إبليس: أهلكت بني آدم بالذنوب وأهلكوني بالاستغفار وبلا إله إلا الله، فلما رأيت ذلك بثثت فيهم الأهواء؛ فهم يذنبون ولا يتوبون؛ لأنهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً... فإن ظفر منه بهذا صيره من رعاته وأمرائه، فإن أعجزه شغله بالعمل المفضول عن ما هو أفضل منه، فإن أعجزه ذلك صار إلى تسليط حزبه يؤذونه ويشتمونه ويبهتونه ويرمونه بالعظائم ليحزنه، ويشغل قلبه عن العلم والإرادة وسائر أعماله.(1/130)
فكيف يمكن أن يحترز منه من لا علم له بهذه الأمور؟ ولا بعدوه؟ ولا بما يحصن منه؟ فإنه لا ينجو من عدوه إلا من عرفه، وعرف طريقه الذي يأتيه منه، وجيشه الذي يستعين به عليه، وعرف مداخله ومخارجه، وكيفية محاربته، وبأي شيء يحاربه، وبماذا يداوي جراحه، وبأي شيء يستمد القوة لقتاله ودفعه.
وهذا كله لا يحصل إلا بالعلم؛ فالجاهل في غفلة وعمى عن هذا الأمر العظيم»(2).
ووحي الشيطان وإيحاؤه مصدر تلقي لحياة شركية، أو خصال جاهلية بما يزينه من كفر وشرك، وفتن وبدع، وضلال وفساد؛ فهو الآمر لهم، الناهي فيهم، المطاع بينهم، قد اتخذوه إلهاً ومعبوداً، ومصدقاً ومحبوباً، وقد حذر الله عباده المؤمنين من طاعته وعبوديته والتلقي عنه، قال ـ تعالى ـ: {أَلَمْ أَعْهَدْ إلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَن لاَّ تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ } [يس: 60].
والإلقاء بخواطر شيطانية، ووساوس إبليسية بزخرف من القول، وغرور من الأماني هو سبيل إبليس لإضلال بني آدم، وحقيقته وعدٌ مكذوب، وعهد منقوض، وشرٌ محتوم، وأمرٌ مشؤوم، يوردهم فيه إلى النار وبئس الورد المورود.
والمسلم الكيس من دان نفسه، وعمل لما بعد الموت، فيستيقظ من غفلته وينهض من رقدته، ولا يدع الشيطان يصيب مقاتله بسهامه المسمومة، ويهتك ستر عرينه بجنوده، ولا يمكنه من خلال وساوسه وخُطواته إلى خدش أصول عقيدته، ومباني ديانته، ومعالم شريعته، فيعتصم بالله وحده ليعصمه، ويستعيذ بالله وحده ليعيذه، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
--------------------------------------------------------------------------------
(1) تفسير ابن كثير، ج 2، ص 438.
(2) تفسير ابن كثير، ج 3، ص 179.
(1) تفسير ابن كثير.
(2) تفسير الطبري، ج 24، ص 46.
(3) تفسير ابن كثير.
(4) تفسير ابن كثير، ج 1، ص 14.
(1) أخرجه أحمد بن حنبل، والنسائي عن سبرة ابن أبي فاكه، صحيح الجامع للألباني، رقم 1652.
((1/131)
*) مأرز: ملجأ.
(1) سنن ابن ماجه، كتاب الدعاء، رقم الحديث: 3876.
(2) صحيح البخاري كتاب الدعوات، رقم الحديث: 5909.
(3) صحيح مسلم، كتاب الأشربة، رقم الحديث: 3763.
(4) صحيح البخاري، كتاب الجمعة، رقم الحديث: 1074.
(5) صحيح البخاري، كتاب بدء الخلق، رقم الحديث: 3050.
(6) أي فقط وحسب.
(7) سنن أبي داود، كتاب الصلاة، رقم الحديث: 394.
(8) سنن أبي داود، كتاب الآداب، رقم الحديث:
(1) صحيح مسلم، كتاب الإسلام، رقم الحديث: 4083.
(2) مفتاح دار السعادة، ج 1، ص 112.
--------------------------------------------------------------------------------
مجلة البيان، العدد (185)، المحرم 1424،مارس 2003 .
* * *
http://www.albayan-magazine.com/zwaya/trbwi/7.htm
بشائر النصر
أحمد بن صالح السديس
ظهر في الناس اليوم اليأس، وفقد الكثيرون الأمل. وكانت مصائب الأمة ونكساتها، وحروبها وانهزاماتها؛ سبباً في أنْ ينظروا إلى واقعهم بعين السخط والتشاؤم، وأنْ يغضّوا الطرف عن أسباب للنصر وبشائر؛ فخارت منهم القُوى، وتمكّن منهم العِدا. وما أحوجهم إلى استنطاق التاريخ، وقراءة النصوص، ومعرفة البشائر، وليس ذلك ليركنوا للأماني، ويسلكوا درب التواكل، ولكنْ ليعدّوا القوى، ويأخذوا بالأسباب والوسائل، في عزم صادق، وجهد متواصل وفاعل، بعيداً عن اليأس والقنوط الذي هو أول الانكسار، وبداية الانهزام، وقد يكفي العدوَّ من الغنيمة اليأسُ والانكسار؛ ذلك أنّ مَن يئس من النصر لم يعمل من أجله، ومن قنع ورضي بالذل طال لُبثه ومكوثه فيه.
لقد قضت سنة الله العليم، وتدبيرُه الحكيم، أنّ الحق والباطل في صراع وتدافع دائم، وأنّ الباطل قد يكون له في فترةٍ الفوزُ والغلب؛ ابتلاء من الله وتمحيصاً، وتربية للمؤمنين وتطهيراً: {ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لانتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِن لِّيَبْلُوَ بَعْضَكُم بِبَعْضٍ} [محمد: 4].(1/132)
ومتى وُجد الكفر والفتنة فقد فُرضت الحرب والقتال: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ} [الأنفال: 39]، والفتنة لن تخلو منها الأرض، بل إنّ الساعة لا تقوم إلا على شرّ الخلق.
وإنْ كانت الخصوم تبحث عن ولي لها ومعين؛ فإنّ وليَّ المؤمن أعظم الأولياء، وما خاب مَن لجأ إلى الله: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لا مَوْلَى لَهُمْ} [محمد: 11].
ولو صَفَت الحياة من المصاعب والمصائب؛ لكان ذلك لأفضل البشر وخير القرون!! لقد مرّ بالرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضوان الله عليهم محن وبلاء، وبأساء وضراء، كما مرّ ذلك برسل قبلهم وأنبياء، حتى تاقت نفوسهم إلى الخلاص، وتشوَّقت إلى النصر والنجاة، {أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلِكُم مَّسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ} [البقرة: 214]. لقد بلغ الضر والبلاء بالمؤمنين في صدر الإسلام مبلغاً عظيماً، وامتُحنوا امتحاناً شديداً، حتى شكوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الشدة، فقالوا: ألا تستنصر لنا؟ ألا تدعو لنا؟ فقال: «قد كان مَن قبلكم؛ يؤخذ الرجل فيُحفر له في الأرض، فيُجعل فيها، فيُجاء بالمنشار فيُوضع على رأسه فيُجعل نصفين، ويُمشط بأمشاط الحديد ما دون لحمه وعظمه، فما يصدّه ذلك عن دينه. والله ليَتِمنّ هذا الأمر، حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلا الله والذئب على غنمه، ولكنكم تستعجلون»(1).(1/133)
هكذا هي سنة الله التي لا تحابي أحداً، سأل هرقلُ أبا سفيان عن رسول الله صلى الله عليه وسلم : هل قاتلتموه؟ قال: نعم. قال: فكيف كانت الحرب بينكم؟ قال: سجالاً، يُدال علينا ونُدال عليه. قال هرقل: كذلك الرسل تُبتلى، ثم تكون لها العاقبة.
هذا يعقوب ـ عليه السلام ـ يفقد ابنه صغيراً، وبعد سنوات طِوال من الأحزان يفقد ابنه الآخر، فيتجدّد حزنه، ويشتد مصابه، حتى ابيضت عيناه، فيقول لأبنائه: {يَا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِن يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلا تَيْأَسُوا مِن رَّوْحِ اللَّهِ إنَّهُ لا يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ اللَّهِ إلاَّ الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ} [يوسف: 87]، فكانت عاقبة أحزان السنوات الطوال تفريجاً ورفعة في الدرجات، وفوزاً بأحسن حال.
ولما خرج الرسول صلى الله عليه وسلم وأبو بكر ـ رضي الله عنه ـ من مكة إلى المدينة مهاجرَين؛ جُنّ جنون قريش، واستنفرت قواها، وجعلت مائة ناقة لمن يأتيها بأحدهما حياً أو ميتاً، وطمع الناس بهذه الجائزة، ورجا كل منهم أنْ يكون الفائز بها، وكان سراقة ابن مالك ممن نشط لذلك، فانطلق يتبع أثرهما، حتى دنا منهما، فعثرت فرسه، وغاصت يداها في الأرض؛ فعرف أنّ الرسول صلى الله عليه وسلم محفوظ، وأنّ أحداً لن يناله بسوء؛ فناداهما بالأمان. وقال له الرسول الكريم صلوات الله وسلامه عليه مبشِّراً: «كأني بك يا سراقة! تلبس سوارَيْ كسرى»، فوقف سراقة متعجِّباً من هذه النبوءة والبشارة؛ محمد الذي خرج من مكة مطارَداً من قومه وأقرب الناس إليه يعدني سوارَيْ كسرى!! ولكنه اليقين بنصر الله وبموعوده الذي لا يتزلزل عند الملمّات والشدائد. وانقلب الحال فتحوَّل سراقة من عدو طامع، إلى صديق مدافع، ووقف مكانه يصرف الناس عنهما.(1/134)
وفي غزوة الأحزاب التي أخبر الله عن حال المؤمنين، والشدة التي صاروا فيها، حتى زاغت منهم الأبصار، وبلغت القلوب الحناجر، وظنوا بالله الظنونا، إنها الحال التي ابتُلي بها المؤمنون وزُلزلوا زلزالاً شديداً. فلمّا بدؤوا بحفر الخندق بذلاً للأسباب واستعداداً، ضرب الرسول صلى الله عليه وسلم صخرة صلْدةً بالمِعْول فصدعها، وبرقت منها برقة أضاءت المدينة، فكبَّر الرسول صلى الله عليه وسلم وكبَّر المسلمون، ولما تكرَّر ذلك ثلاث مرات؛ بشَّر ـ عليه الصلاة والسلام ـ المسلمين في ذلك الكرب وتلك الصِّعاب بأنهم سيفتحون مدائن كسرى، وقصور الروم، وقصور صنعاء.
إنّ الباطل وإنْ صال وجال، وإنْ علا في زمان أو طال؛ فإنه ولا ريب سيعود إلى ما كان عليه من التراجع والصغار، وتلك سُنَّة من سنن الحكيم القهار. وقد وعد أصدق الواعدين ـ سبحانه ـ: {بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإذَا هُوَ زَاهِقٌ} [الأنبياء: 18]؛ ذلك أنّ هذا هو طبيعة الباطل: {إنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا} [الإسراء: 81]. وإنّ الذي يمكث ويبقى هو ما ينفع الناس: {فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ} [الرعد: 17].(1/135)
إنّ المؤمنين الصابرين موعودون إحدى الحسنيين؛ فإما شهادة تعجِّل بهم إلى دار النعيم والكرامة، وإما نصر تَقرّ به عيونهم؛ ففيم اليأس والأسى؟ أما غيرهم ففيم يفرحون؟ وبم يُسرّون؟ أبالنار التي إليها يسيرون؟ أم بالعذاب الذي إليه يُساقون؟ أم بالخسارة التي إليها يُهرعون؟! ولقد قال الحكيم العليم ـ سبحانه ـ: {إنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَن سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ (36)لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعًا فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ أُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} [الأنفال: 36 - 37]. لقد كانت غايتهم من إنفاق أموالهم الصدَّ عن سبيل الله، فسيخسرون أموالهم، ثم تصير نفقتهم ندامة عليهم؛ لأنهم كما يقول ابن جرير الطبري ـ رحمه الله ـ عند تفسير هذه الآية: «أموالهم تذهب، ولا يظفرون بما يأملون ويطمعون فيه من إطفاء نور الله، وإعلاء كلمة الكفر على كلمة الله؛ لأنّ الله معلٍ كلمته، وجاعل كلمة الكفر السفلى، ثم يغلبهم المؤمنون، ويحشر الله الذين كفروا به وبرسله إلى جهنّم، فيُعذَّبون فيها، فأعظِم بها حسرة وندامة لمن عاش منهم ومَن هلك! أما الحي فحُرِبَ ماله، وذهب باطلاً في غير دَرْك نفع، ورجع مغلوباً مقهوراً، محروباً مسلوباً. وأما الهالك فقُتل وسُلب، وعُجِّل به إلى نار الله يخلد فيها»، وتلك والله هي الخسارة الكبرى.(1/136)
وإنّ من سنن الله ـ عزّ وجلّ ـ أنّ المستقبل لهذا الدين، والنصر لأوليائه الصادقين، مهما كاد الكائدون، وتآمر المتآمرون، {وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} [يوسف: 21]، إنهم كما أخبر الله: {يُرِيدُونَ أَن يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إلاَّ أَن يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} [التوبة: 32]، إنهم يكيدون الليل والنهار ويمكرون، والله خير الماكرين، وهو ـ سبحانه ـ ولي المؤمنين المتقين.
والابتلاء هو سبيل المرسلين والمؤمنين، ولكنّ أمر المؤمن كله له خير؛ فهو عند النصر والسراء من الشاكرين، وعند الكرب والضراء من الصابرين. ولقد وعد الله، ولا أصدق منه وعداً، فقال: {وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ (171) إنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنصُورُونَ (172) وَإنَّ جُندَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ} [الصافات: 171 - 173]، ونصر المؤمنين أعظم نصر وأشرفه؛ لأنه نصر للحق على الباطل، ونصر في الدنيا والآخرة، بذا وعدنا الحكيم القادر: {إنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ} [غافر: 51]، وجاء النص الإلهي الكريم في سورة الروم على انتقامه ـ سبحانه ـ من المجرمين الذين صدُّوا عن هدي المرسلين، ثم وَعَد بنصر المؤمنين، فقال ـ تبارك وتعالى ـ: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ رُسُلاً إلَى قَوْمِهِمْ فَجَاءُوهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَانتَقَمْنَا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ} [الروم: 47].(1/137)
وإنّ من نصر الله لدينه أنْ يبعث في كل حين مَن يجدِّده، كما جاء في سنن أبي داود عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إنّ الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدِّد لها دينها»(1). إنه رجل لا ينهض من أجل نفسه، ولكنه ينهض من أجل هذه الأمة المنصورة. إنّ الناس يموتون، ولكنّ الدين باق بعزَّة وشموخ، يقيِّض الله له من أبنائه مَن يكون عزُّه ونصره على يديه.
ومن نَصْر الله لدينه أنْ جعل الزمان لا يخلو من أهل الحق، الصابرين في سبيله، الذين يعضّون بنواجذهم عليه، ويتحمّلون في سبيله كل أذى وقتال، كما جاء في الحديث الصحيح عن الصادق المصدوق صلوات الله وسلامه عليه: «لا تزال طائفة من أمتي قائمة بأمر الله لا يضرهم من خذلهم أو خالفهم حتى يأتي أمر الله، وهم ظاهرون على الناس»(1).
إنّ الخوف على أنفسنا لا على دين الله، الخوف على أنفسنا في عالم تموج به الفتن أنْ يتخبّطنا الشيطان، أما الدين فله رب يحميه، وقد تكفَّل ببقائه وحفظه ونصره، ولا علينا أنْ يصيبنا ما يصيبنا في سبيل نصره وتمكينه، عن تميم الداري ـ رضي الله عنه ـ قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «ليبلغنّ هذا الأمر ما بلغ الليل والنهار، ولا يترك الله بيت مدر ولا وبر إلا أدخله الله هذا الدين، بعزِّ عزيز، أو بذلّ ذليل؛ عزّاً يعزّ الله به الإسلام، وذلاً يذلّ الله به الكفر»(2).(1/138)
وفي الحديث الصحيح الآخر أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إنّ الله زوَى لي الأرض، فرأيت مشارقها ومغاربها، وإنّ أمتي سيبلغ ملكها ما زُوي لي منها، وأعطيت الكنزين الأحمرَ والأبيضَ. وإني سألت ربي لأمتي ألا يهلكها بسنة عامة، وألا يسلِّط عليهم عدواً من سوى أنفسهم، فيستبيحَ بيضتهم. وإنّ ربي قال: يا محمد، إني إذا قضيت قضاء فإنه لا يُردّ، وإني أعطيتك لأمتك ألا أهلكهم بسنة عامة، وألا أسلِّط عليهم عدواً من سوى أنفسهم يستبيح بيضتهم، ولو اجتمع عليهم مَن بأقطارها، حتى يكون بعضهم يُهلك بعضاً، ويسبي بعضهم بعضاً»(3).
ومن بشائر النصر العظيمة: فتح القسطنطينية وروما، وقد تحققت الأولى، وبقيت الثانية، ولا شكّ في حصولها، فقد أخبر بذلك مَن لا ينطق عن الهوى، فعن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما، قال: بينما نحن حول رسول الله صلى الله عليه وسلم نكتب؛ إذ سُئل رسول الله صلى الله عليه وسلم : أيّ المدينتين تُفتح أولاً؛ قسطنطينية أو رومية؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «مدينة هرقل تفتح أولاً» يعني قسطنطينية(4).
ولئن كان لليهود اليوم صولة وجولة، وكان للنصارى مظاهرة لهم وممانعة، ولئن ظنّ بعض المنهزمين ألا قدرة لنا عليهم، فقد جاءتنا البشارة بأنّ خاتمة المطاف تحمل نصراً لنا وإبادة لهم؛ إبادة يتعاون معنا فيها الحجر والنبات. أخبر عبد الله بن عمر ـ رضي الله عنهما ـ أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «تقاتلكم اليهود، فتُسلَّطون عليهم، حتى يقول الحجر: يا مسلم، هذا يهوديّ ورائي، فاقتله»(5). وفي رواية أخرى عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا تقوم الساعة حتى يقاتل المسلمون اليهود، فيقتلهم المسلمون، حتى يختبئ اليهوديّ من وراء الحجر والشجر، فيقول الحجر أو الشجر: يا مسلم، يا عبد الله، هذا يهودي خلفي، فتعال فاقتله، إلا الغرقد؛ فإنه من شجر اليهود»(6).(1/139)
إنّ الإيمان ـ أيها الإخوة ـ هو شرط نصركم وتمكينكم، فمتى صحَّ ذلك منكم تحقَّق وعد ربكم لكم.
وإنّ العبرة ليست بالظاهر، فلربما أخفت الحقائقَ المظاهرُ. وإنّ الكافرين وإنْ كانت لهم الغلبة الظاهرة، إلا أنّ النصر الحقيقي يتمثل في الصبر والثبات، وفي خاتمة المسار والمطاف، {وَعْدَ اللَّهِ لا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (6)يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِّنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ} [الروم: 6 - 7].
لقد كانت النتائج العسكرية البحتة لكثير من الغزوات والمعارك تمثل هزائم ونكسات، ولكنها لم تكن القاضية، وكان بعدها جولات للمؤمنين غالبةٌ.
لما نجا خالد بن الوليد ـ رضي الله عنه ـ بالمسلمين في مؤتة؛ صاح بهم بعض الناس لما رجعوا إلى المدينة: يا فُرَّار، فررتم في سبيل الله، ولكنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «بل أنتم الكرَّارون، أنا فئتكم».
وفي أُحد دارت الدائرة على المسلمين بعدما كانت الغلبة لهم، واضطربت صفوفهم، وتمكّن منهم أعداؤهم، ولكنّ الحكيم العليم خاطبهم: {وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ إن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ (139)إن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِّثْلُهُ وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ} [آل عمران: 139 - 140].(1/140)
وليُعلمْ علم اليقين أنّ النصر قد يتأخر، ولكنه لا يتخلّف. وقد يأتي في غير صورته المعروفة، وهيئته المألوفة؛ فالابتلاء والمصائب قد تحمل من الخير الخفيِّ الكثيرَ، وقد تكون سبباً لنصر أعظم وأشمل. وعلينا ألا نيأس من نيل النصر، وأن نبحث عن أسبابه، وأنْ نجتهد في أن نكون جنداً من جنده، {وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} [الحج: 40].
فأبشروا وأمِّلوا، وثقوا بالنصر واعملوا، واعلموا أنّ الخير لا يُدرى أين يكون، عن أنس ـ رضي الله عنه ـ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «مَثَل أمتي مَثَل المطر، لا يُدرى أوله خير أم آخره»(7).
--------------------------------------------------------------------------------
(1) صحيح البخاري، كتاب الإكراه.
(1) سنن أبي داود: كتاب الملاحم.
(1) صحيح البخاري، كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة، وصحيح مسلم، كتاب الإمارة.
(2) مسند الإمام أحمد.
(3) صحيح مسلم، كتاب الفتن وأشراط الساعة.
(4) مسند الإمام أحمد.
(5) صحيح البخاري، كتاب المناقب، وصحيح مسلم، كتاب الفتن وأشراط الساعة، واللفظ له.
(6) صحيح مسلم، كتاب الفتن وأشراط الساعة.
(7) سنن الترمذي، كتاب الأمثال.
--------------------------------------------------------------------------------
مجلة البيان، العدد (188)، ربيع الآخر 1424،يونيو 2003 .
* * *
http://www.albayan-magazine.com/zwaya/trbwi/8.htm
معالم في المنهج التربوي النبوي
محمد عبد الله الدويش(1/141)
تكامل الشخصية النبوية لنبينا محمد جعلت منه الحاكم والقائد والزوج والمعلم والداعية والمربي. وما تتبع قارئ للقرآن الكريم والسيرة النبوية إلا وجد فيهما عناصر التفوق ووسائل النجاح من خلال الكثير من المواقف التربوية الراقية التي هي قدوة حسنة لكل راغب في الوصول إلى الحق. وعن طريق هذا المنهج ينشأ الإنسان الصالح ومن ثم المجتمع الإسلامي الكريم.
ولقد استقرأ الكاتب نماذج وصوراً من المنهج التربوي النبوي، وقربها للقارئ الكريم تذكيراً وترغيباً في هذا المنهج المتكامل الذي أرسل الله به نبيه للناس كافة ((وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إلاَّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ)) [الأنبياء: 107].
وكم نحن بحاجة للوقوف أمام هذه المعالم النبوية وتمثلها في حياتنا وسلوكنا؛ إذ هي السر في تميز الرعيل الأول رضي الله عنهم أجمعين.
- البيان -
1- الصبر وطول النفس:
يسهل على الإنسان أن يتعامل مع الآلة الصماء، ويستطيع الباحث أن يصبر ويكافح في دراسة هذه الظاهرة المادية أو تلك، لكن التعامل مع الإنسان له شأن آخر وبعد آخر، ذلك أن الناس بشر لا يحكم تصرفاتهم ومواقفهم قانون مطرد؛ فتراه تارة هنا وتارة هناك، تارة يرضى وتارة يسخط.
ولهذا أجمع المختصون بأن الظاهرة الإنسانية ظاهرة معقدة، وأن البحث فيها تكتنفه صعوبات عدة؛ فكيف بالتعامل المباشر مع الإنسان والسعي لتقويمه وتوجيه سلوكه؟
ومن يتأمل سيرة النبي -صلى الله عليه وسلم- يرى كيف صبر وعانى حتى ربى هذا الجيل المبارك، وكم فترة من الزمن قضاها؟ وكم هي المواقف التي واجهها؟ ومع ذلك صبر واحتسب، وكان طويل النفس بعيد النظر.(1/142)
إن البشر مهما علا شأنهم فلن يصلوا إلى درجة العصمة، وهل هناك من هو أعلى شأناً من أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- إلا الأنبياء، فها هم يتنزل فيهم في بدر: ((لَوْلا كِتَابٌ مِّنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ)) [الأنفال: 68] وفي أحد: ((مِنكُم مَّن يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنكُم مَّن يُرِيدُ الآخِرَةَ)) [آل عمران: 152] وفي حنين: ((وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنكُمْ شَيْئاً وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُم مُّدْبِرِينَ)) [التوبة: 25].
وحين قسم غنائم حنين وجد بعض أصحابه في نفوسهم ما وجدوا.
وكان يخطب فجاءت عير فتبعها الناس فنزل فيهم قرآن يتلى.
ومع ذلك يبقى هذا الجيل وهذا المجتمع هو القمة، وهو المثل الأعلى للناس في هذه الدنيا، ولن تكون هذه المواقف سبباً للحط من شأنهم ومكانتهم ـ رضوان الله عليهم ـ. فكيف بمن دونهم؟! بل لا يسوغ أن يقارن بهم. إن ذلك يفرض على المربي أن يكون طويل النفس صابراً عالي الهمة متفائلاً.
2- الخطاب الخاص:
وكما كان يوجه الخطاب لعامة أصحابه، فقد كان يعتني بالخطاب الخاص لفئات خاصة من أصحابه.
فقد كان من هديه حين يصلي العيد أن يتجه إلى النساء ويخطب فيهن، كما روى ذلك ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ قال خرج النبي -صلى الله عليه وسلم- يوم عيد فصلى ركعتين لم يصل قبل ولا بعد، ثم مال على النساء ومعه بلال فوعظهن وأمرهن أن يتصدقن،فجعلت المرأة تلقي القُلْب والخُرْص(1).(1/143)
بل تجاوز الأمر مجرد استثمار اللقاءات العابرة؛ فعن أبي سعيد الخدري ـ رضي الله عنه ـ أن النساء قلن لرسول الله -صلى الله عليه وسلم-: غلبنا عليك الرجال؛ فاجعل لنا يوماً من نفسك. فواعدهن يوماً، فلقيهن فيه فوعظهن وأمرهن، فكان مما قال: (ما منكن من امرأة تقدم ثلاثة من ولدها إلا كان لها حجاباً من النار). فقالت امرأة: واثنين فقال: (واثنين)(2).
وقد يكون الخصوص لقوم أو فئة دون غيرهم، كما فعل في غزوة حنين حين دعا الأنصار، وأكد ألا يأتي غيرهم.
وكما بايع بعض أصحابه على ألا يسألوا الناس شيئاً.
3- المشاركة العملية:
اعتاد بعض المربين أن يكون دورهم قاصراً على إعطاء الأوامر ومراقبة التنفيذ، وهو مسلك مخالف لمنهج المربي الأول، الذي كان يعيش مع أصحابه ويشاركهم أعمالهم وهمومهم.
فشاركهم في بناء المسجد: عن أنس بن مالك ـ رضي الله عنه ـ قال: قدم النبي -صلى الله عليه وسلم- المدينة فنزل أعلى المدينة في حي يقال لهم: بنو عمرو بن عوف، فأقام النبي -صلى الله عليه وسلم- فيهم أربع عشرة ليلة... وجعلوا ينقلون الصخر وهم يرتجزون والنبي -صلى الله عليه وسلم- معهم وهو يقول: اللهم لا خير إلا خير الآخرة؛ فاغفر للأنصار والمهاجرة)(3).
وشاركهم في حفر الخندق: فعن سهل بن سعد الساعدي ـ رضي الله عنه ـ قال: كنا مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في الخندق، وهو يحفر ونحن ننقل التراب ويمر بنا فقال: (اللهم لا عيش إلا عيش الآخرة فاغفر للأنصار والمهاجرة)(4).
وكان يشاركهم في الفزع للصوت: فعن أنس ـ رضي الله عنه ـ قال: كان النبي -صلى الله عليه وسلم- أحسن الناس وأشجع الناس، ولقد فزع أهل المدينة ليلة فخرجوا نحو الصوت فاستقبلهم النبي -صلى الله عليه وسلم- وقد استبرأ الخبر وهو على فرس لأبي طلحة عري وفي عنقه السيف وهو يقول: (لم تراعوا لم تراعوا) ثم قال: (وجدناه بحراً، أو قال: إنه لبحر)(5).(1/144)
وأما مشاركته لهم في الجهاد: فقد خرج في (19) غزوة(6)، بل قال عن نفسه: (ولولا أن أشق على أمتي ما قعدت خلف سرية)(7).
وهي مشاركة لا تلغي دورهم وتحولهم إلى مجرد آلات صماء، بل هي تدفع للتوازن بين هذا وبين تعويدهم على العمل والمشاركة.
إن مجرد إصدار الأوامر والتوجيه أمر يجيده الجميع، لكن الدخول مع الناس في الميدان ومشاركتهم يرفع قيمة المربي لديهم ويعلي شأنه ويشعرون أنه واحد منهم، وذلك أيضاً يدفعهم لمزيد من البذل والهمة والحماس عكس أولئك الذين يدعون للعمل ويربيهم بعيدٌ عنهم، وقد عبر عن هذا المعنى ذاك الحداء الذي كان يردده أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم-:
لئن قعدنا والنبي -صلى الله عليه وسلم- يعمل لذاك منا العمل المضلل
ثم إنه يشيع روح الود والإخاء، ويسهم في بناء علاقة إنسانية وطيدة بين المربي ومن يربيهم.
4- التربية بالأحداث:
من السهل أن نحدث الناس كثيراً عن معاني عدة، وأن ننظر لجوانب متعددة، لكن ذلك وإن أتّر فإن أثره يبقى باهتاً محدوداً.
أما النبي -صلى الله عليه وسلم- فمع توجيهه لأصحابه في كل موطن، إلا أن تربيته كانت تتم من خلال الأحداث، فكان يضع الناس في الموقع والميدان ويأتي التوجيه حينها.
يشكو إليه الحالَ أبو بكر ـ رضي الله عنه ـ وهما في الغار، فيقول: (ما ظنك باثنين الله ثالثهما).
ويسأله رجل في الميدان والمعركة: أرأيت إن قتلت؟ فيجيبه إجابة تصل إلى شغاف قلبه فيتقدم حتى يستشهد؛ فعن جابر بن عبد الله ـ رضي الله عنهما ـ قال: قال رجل للنبي -صلى الله عليه وسلم- يوم أحد: أرأيت إن قتلت فأين أنا؟ قال: (في الجنة)) فألقى تمرات في يده ثم قاتل حتى قتل)(8).(1/145)
ويوصي علياً ـ رضي الله عنه ـ بالدعوة ويذكِّره بفضلها وذلك؟ حين بعثه داعياً إلى الله مجاهداً في سبيله. عن سهيل بن سعد ـ رضي الله عنه ـ قال: قال النبي -صلى الله عليه وسلم- يوم خيبر: (لأعطين الراية غداً رجلاً يفتح على يديه يحب الله ورسوله -صلى الله عليه وسلم- ويحبه الله ورسوله) فبات الناس ليلتهم أيهم يعطى، فغدوا كلهم يرجوه، فقال: (أين علي؟) فقيل يشتكي عينيه، فبصق في عينيه ودعا له فبرأ كأن لم يكن به وجع، فأعطاه فقال أقاتلهم حتى يكونوا مثلنا، فقال: (انفذ على رسلك حتى تنزل بساحتهم، ثم ادعهم إلى الإسلام، وأخبرهم بما يجب عليهم؛ فوالله لأن يهدي الله بك رجلاً خير لك من أن يكون لك حمر النعم)(9).
أترى أن تلك التوجيهات لو تلقاها أصحابها وهم جالسون قاعدون في بيوتهم ستترك أثرها؟ إن مثل هذه التربية هي التي خرّجت الجيل الجاد العملي، الذي لم يتربّ على مجرد التوجيه الجاف البارد، إنما كان يعيش العلم والعمل معاً.
5- الاختيار والاصطفاء:
إن التربية كما أنها موجهة لكل أفراد الأمة أجمع مهما كان شأنهم، والدين خطاب للجميع صغاراً وكباراً، رجالاً ونساءً.
إلا أن الدعوة تحتاج لمن يحملها ولمن يقوم بأعبائها، إنها تحتاج لفئة خاصة تُختار بعناية وتُربى بعناية.
لذا كان هذا الأمر بارزاً في سيرة النبي -صلى الله عليه وسلم- وتربيته لأصحابه؛ فثمة مواقف عدة في السيرة يتكرر فيها ذكر كبار أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- وعلى رأسهم أبو بكر وعمر؛ مما يوحي أن هؤلاء كانوا يتلقون إعداداً وتربية أخص من غيرهم.(1/146)
عن ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ قال: إني لواقف في قوم فدعوا الله لعمر بن الخطاب وقد وضع على سريره؛ إذا رجل من خلفي قد وضع مرفقه على منكبي يقول: رحمك الله إن كنت لأرجو أن يجعلك الله مع صاحبيك لأني كثيراً ما كنت أسمع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: (كنت وأبو بكر وعمر، وفعلت وأبو بكر وعمر، وانطلقت وأبو بكر وعمر) فإن كنت لأرجو أن يجعلك الله معهما؛ فالتفتّ فإذا هو علي بن أبي طالب(10).
ومنها قصة أبي هريرة حين كان بواب النبي -صلى الله عليه وسلم-، فاستأذن أبو بكر، فقال: (ائذن له وبشره بالجنة)، ثم استأذن عمر، ثم عثمان... (11).
وما رواه أنس بن مالك ـ رضي الله عنه ـ حدثهم أن النبي -صلى الله عليه وسلم- صعد أُحُداً وأبو بكر وعمر وعثمان، فرجف بهم فقال: (اثبت أُحُد؛ فإنما عليك نبي -صلى الله عليه وسلم-، وصدِّيق، وشهيدان)(12).
ومثله ما رواه أبو هريرة ـ رضي الله عنه ـ أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كان على حراء هو وأبو بكر وعمر وعثمان وطلحة والزبير فتحركت الصخرة فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (اهدأ؛ فما عليك إلا نبي، أو صدِّيق، أو شهيد)(13).
ويحكي لنا أحد أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- عن توجيه خاص بهم، حين بايعهم على أمر لم يعتد أن يبايع عليه سائر الناس.(1/147)
عن عوف بن مالك الأشجعي ـ رضي الله عنه ـ قال: كنا عند رسول الله -صلى الله عليه وسلم- تسعة، أو ثمانية، أو سبعة، فقال: (ألا تبايعون رسول الله؟) وكنا حديثي عهد ببيعة، فقلنا: قد بايعناك يا رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ثم قال: (ألا تبايعون رسول الله؟) فقلنا: قد بايعناك يا رسول الله، ثم قال: (ألا تبايعون رسول الله؟) قال: فبسطنا أيدينا، وقلنا: قد بايعناك يا رسول الله؛ فعلامَ نبايعك؟ قال: (على أن تعبدوا الله ولا تشركوا به شيئاً، والصلوات الخمس، وتطيعوا، ـ وأسرّ كلمة خفية ـ ولا تسألوا الناس شيئاً) فلقد رأيت بعض أولئك النفر يسقط سوط أحدهم؛ فما يسأل أحداً يناوله إياه(14).
وهذا الأمر لم يكن عاماً لأصحابه ـ رضوان الله عليهم ـ، بل خاصاً بهؤلاء، فقد كان بعض أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- يسألونه ويعطيهم، ولم يكن يمنعهم أو ينهاهم عن السؤال.
ومن ذلك أنه كان لا يأذن بالسؤال لخاصة أصحابه كما يأذن لغيرهم، كما روى نواس بن سمعان ـ رضي الله عنه ـ قال أقمت مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بالمدينة سنة ما يمنعني من الهجرة إلا المسألة، كان أحدنا إذا هاجر لم يسأل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن شيء، قال: فسألته عن البر والإثم، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (البر حسن الخلق، والإثم ما حاك في نفسك وكرهت أن يطلع عليه الناس)(15).
6- التدرج:
إن الجوانب التي تتطلب التربية والإصلاح في النفس البشرية من الاتساع والتعدد والتنوع ما يجعل تحصيلها في وقت وجهد أمر عسير ومتعذر.
لذا فإن التدرج كان معلماً مهماً من معالم التربية النبوية، فخوطب الناس ابتداء بالاعتقاد والتوحيد، ثم أمروا بالفرائض، ثم سائر الأوامر.(1/148)
وفي الجهاد أمروا بكف اليد، ثم بقتال من قاتلهم، ثم بقتال من يلونهم من الكفار، ثم بقتال الناس كافة. ومثل ذلك التدرج في تحريم الخمر، وإباحة نكاح المتعة ثم تحريمها، وهكذا. لكن يبقى جانب مهم مع الإيمان بمبدأ التدرج، ألا وهو أن ما نص الشرع على تحريمه لا يجوز أن نبيحه للناس، وما نص على وجوبه لا يجوز أن نسقطه عن الناس.
7- تربية القادة لا العبيد:
ثمة سؤال يفرض نفسه ويقفز إلى أذهاننا: هل نحن نعنى بتعليم الناس وتهيئتهم ليكونوا أهل علم يستنبطون، ويبدعون ويبتكرون؟ أم أننا نربيهم على تلقي أقوال أساتذتهم بالتسليم دون مراجعة، وربما دون فهم لمضمون القول؟
هل نرى أن من أهدافنا في التعليم أن نربي ملكة التفكير والإبداع لدى طلابنا، وأن نعوِّدهم على استنباط الأحكام الشرعية من النصوص، وعلى الجمع بين ما يبدو متعارضاً؟
وهل من أهدافنا تربيتهم على تنزيل الأحكام الشرعية على الوقائع التي يرونها؟
إن المتأمل في واقع التعليم الذي نقدمه لأبنائنا ليلحظ أننا كثيراً ما نستطرد في السرد العلمي المجرد، ونشعر بارتياح أكثر حين نقدم للطالب كماً هائلاً من المعلومات، وهو الآخر ـ لِمَا غرسنا لديه ـ يقيس مدى النجاح والإنجاز بقدر ما يسطره مما يسمعه من أستاذه، والتقويم والامتحان إنما هو على أساس ما حفظه الطالب من معلومات، واستطاع استدعاء ذلك وتذكره.
وشيء من ذلك حق ولا شك؛ لكن توجيه الجهد لهذا النوع وهذا النمط من التعليم لا يعدو أن يخرج جيلاً يحفظ المسائل والمعارف ـ ثم ينساها بعد ذلك ـ أو يكون ظلاً لأستاذه وشيخه.
ولأن تُعَلِّمَ الجائع صيد السمك خيرٌ من أن تعطيه ألف سمكة.
وقد مثل ذلك في الأعمال الدعوية التي نقوم بها؛ فهل نحن نربي الناس على أن يكونوا عاملين مبدعين مشاركين، أم نربيهم على مجرد الاتباع والتقليد لما عليه كبراؤهم؟(1/149)
أما النبي -صلى الله عليه وسلم- فكانت تربيته لأصحابه لوناً آخر؛ ففي تربيته العلمية لهم خرّج علماء وفقهاء، ولم يكن يقتصر على مجرد إعطاء معلومات مجردة.
وكشف الواقع آثار هذه التربية النبوية، ففي ميدان العلم واجهت أصحابه قضايا طارئة مستجدة؛ لكنهم لم يقفوا أمامها حيارى، فاستثمروا نتاج التربية العلمية التي تلقوها، ولذا اجتهدوا في اتخاذ السجون، وجمع القرآن، وجلد الشارب، والخراج وغيرها.
وفي ميدان الجهاد وإدارة الدولة والدعوة قضوا في شهور على المرتدين بعد أن حسموا الموقف الشرعي من قضية الردة، ثم اتسعت الدولة ووطئت أقدام أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- بلاد المشرق حتى وصلوا أذربيجان وما وراء النهر، وبلاد المغرد حتى وصلوا غرب أفريقيا، ودفن منهم من دفن تحت أسوار القسطنطينية.
ولو تربى أولئك على غير هذه التربية لما صنعوا ما صنعوا.
فأين المربون اليوم الذين يترك أحدهم الفراغ حين يمضي؟ أين هم من هذه التربية النبوية؟
8- التوجيه الفردي والجماعي:
لقد كان يجمع بين التربية والتوجيه الفردي من خلال الخطاب الشخصي المباشر، وبين التربية والتوجيه الجماعي.
قال ابن مسعود ـ رضي الله عنه ـ: (علمني رسول الله التشهد كفي بين كفيه)(16).
ومن ذلك ما ورد عن غير واحد من أصحابه: أوصاني رسول الله -صلى الله عليه وسلم-.
ومن ذلك حديث معاذ ـ رضي الله عنه ـ كنت رديف النبي -صلى الله عليه وسلم- على حمار فقال: (يا معاذ، أتدري ما حق الله على العباد؟ وما حق العباد على الله؟)(17).
وعبد الله بن عمرو بن العاص ـ رضي الله عنهما ـ زوّجه أبوه امرأة فكان يتعاهدها، فتقول له: نِعْمَ الرجل لم يكشف لنا كنفاً ولم يطأ لنا فراشاً ـ تشير إلى اعتزاله ـ فاشتكاه إلى النبي -صلى الله عليه وسلم-، فدعاه فكان معه الحوار الطويل حول الصيام وختم القرآن وقيام الليل.(1/150)
وقد كان هذا الحوار والتوجيه له شخصياً، بينما نجد أنه في مواقف أخر يوجه توجيهاً عاماً، كما في خطبه ولقاءاته وتوجيهاته لعامة أصحابه؛ وهي أشهر من أن تورد وتحصر.
وها هنا مأخذ مهم في قصة عبد الله بن عمرو بن العاص ـ رضي الله عنه ـ إذ إن النبي -صلى الله عليه وسلم- دعاه وناقشه منفرداً به، بينما نجده في موقف آخر شبيه بهذا الموقف يعالج الأمر أمام الناس؛ فحين سأل طائفةٌ عن عبادته وتقالّوها وقالوا ما قالوا صعد المنبر وخطب في الأمر.
عن أنس ـ رضي الله عنه ـ أن نفراً من أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- سألوا أزواج النبي -صلى الله عليه وسلم- عن عمله في السر، فقال بعضهم: لا أتزوج النساء، وقال بعضهم: لا آكل اللحم، وقال بعضهم: لا أنام على فراش؛ فحمد الله وأثنى عليه فقال: (ما بال أقوام قالوا كذا وكذا، لكني أصلي وأنام، وأصوم وأفطر، وأتزوج النساء؛ فمن رغب عن سنتي فليس مني)(18).
ومثل ذلك في قصة الذي قال: هذا لكم وهذا أهدي إليّ، فعن أبي حميد الساعدي ـ رضي الله عنه ـ قال استعمل النبي -صلى الله عليه وسلم- رجلاً من الأزد يقال له ابن الأتبية على الصدقة، فلما قدم قال: هذا لكم وهذا أهدي لي، فقام النبي -صلى الله عليه وسلم- على المنبر ـ قال سفيان أيضاً فصعد المنبر ـ فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: (ما بال العامل نبعثه فيأتي يقول: هذا لك، وهذا لي؛ فهلاّ جلس في بيت أبيه وأمه فينظر أيهدى له أم لا؟ والذي نفسي بيده! لا يأتي بشيء إلا جاء به يوم القيامة يحمله على رقبته: إن كان بعيراً له رغاء، أو بقرة لها خوار، أو شاة تيعر) ثم رفع يديه حتى رأينا عفرتي إبطيه: (ألا هل بلغت) ثلاثاً(19).
إذن فهناك جوانب يمكن أن تطرح وتناقش بصورة فردية، ولا يسوغ أن تطرح بصفة عامة، ولو مع عدم الإشارة إلى صاحبها؛ لأنها ربما كانت مشكلات فردية لا تعني غير صاحبها، بل قد يكون ضرر إشاعتها أكثر من نفعه.(1/151)
وهناك جوانب يجب أن تطرح بوضوح وبصورة عامة وتعالج وتناقش أمام الجميع.
والمربي الناجح هو الذي يضع كل شيء موضعه.
9- التعويد على المشاركة والعمل:
اعتاد كثير من ناشئة المسلمين اليوم أن يُكفى كل شيء، فهو في المنزل يقدم له الطعام والشراب، ويتولى أهله تنظيم غرفته وغسل ملابسه، فساهم ذلك في توليد جيل كسول لا يعرف العمل والمسؤولية.
وفي المدرسة وميادين التعليم اعتاد التلاميذ الكسل الفكري، وصار دورهم مجرد تلقي المعلومات جاهزة دون أي جهد، وحتى حين يطلب منهم بحث أو مقالة فلا بد أن تحدد لهم المراجع، وبأرقام الصفحات، وقل مثل ذلك في كثير من المحاضن التربوية.
إننا حين نريد تخريج الجيل الجاد فلا بد من تعويده من البداية على المشاركة وتحمل المسؤولية: في المنزل بأن يتولى شؤونه الخاصة، وفي المدرسة بأن يبذل جهداً في التعلم.
وعلى القائمين اليوم على المحاضن التربوية أن يأخذوا بأيدي تلامذتهم، وأن يسعوا إلى أن يتجاوزوا ـ في برامجهم التي يقدمونها ـ القوالب الجاهزة، وأن يدركوا أن من حسن تربية الناشئة أن يمارسوا المسؤولية، وألا يبقوا أكلاّء على غيرهم في كل شيء، فينبغي أن يكون لهم دور ورأي في البرامج التي يتلقونها.
وحين نعود لسيرة المربي الأول فإننا نرى نماذج من رعاية هذا الجانب؛ فهو يعلم الناس أن يتحملوا المسؤولية أجمع تجاه مجتمعهم، فليست المسؤولية لفرد أو فردين؛ فعن النعمان بن بشير ـ رضي الله عنهما ـ قال: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (مثل المداهن في حدود الله والواقع فيها مثل قوم استهموا سفينة، فصار بعضهم في أسفلها، وصار بعضهم في أعلاها، فكان الذي في أسفلها يمرون بالماء على الذين في أعلاها، فتأذوا به، فأخذ فأساً، فجعل ينقر أسفل السفينة، فأتوه، فقالوا: ما لك؟ قال: تأذيتم بي، ولا بد لي من الماء، فإن أخذوا على يديه أنجوه ونجوا أنفسهم، وإن تركوه أهلكوه وأهلكوا أنفسهم)(20).(1/152)
ومن ذلك أيضاً استشارته لأصحابه في كثير من المواطن، بل لا تكاد تخلو غزوة أو موقف مشهور في السيرة من ذلك، وفي الاستشارة تعويد وتربية لهم، وفيها غرس للثقة، وفيها إشعار لهم بالمسؤولية، ولو عاش أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- على خلاف ذلك، أتراهم كانوا سيقفون المواقف المشهودة في حرب أهل الردة وفتوحات فارس والروم؟
وعلى المستوى الفردي كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يولي أصحابه المهام، من قيادة للجيش وإمارة ودعوة وقضاء وتعليم، فأرسل رسله للملوك، وبعث معاذاً إلى اليمن، وأمّر أبا بكر على الحج، بل كان يؤمِّر الشباب مع وجود غيرهم، فأمّر أسامة على سرية إلى الحرقات من جهينة (21)، ثم أمّره على جيش يغزو الروم(22)، وولى عثمان بن أبي العاص إمامة قومه(23)... وهكذا فالسيرة تزخر بهذه المواقف.
فما أجدر الدعاة والمربين اليوم أن يسيروا على المنهج نفسه ليخرج لنا ـ بإذن الله ـ جيل جاد يحمل المسؤولية ويعطيها قدرها.
الهوامش :
(1) رواه البخاري، ح/1431، ومسلم، ح/884. القلب: الإسورة. الخُرص: القرط.
(2) رواه البخاري، ح/101، ومسلم، ح/2633.
(3) رواه البخاري، ح/428، ومسلم، ح/ 524.
(4) رواه البخاري، ح/6414، ومسلم، ح/ 1804.
(5) رواه البخاري، ح/2908، ومسلم، ح/2307.
(6) رواه البخاري، ح/3949، ومسلم، ح/1254.
(7) رواه البخاري، ح/36، ومسلم، ح/1876.
(8) رواه البخاري، ح/4046.
(9) رواه البخاري، ح/3009.
(10) رواه البخاري، ح/3677، ومسلم، ح/2389.
(11) رواه البخاري، ح/3674، ومسلم، ح/2403.
(12) رواه البخاري، ح/ 3675.
(13) رواه مسلم، ح/2417.
(14) رواه مسلم، ح/1403.
(15) رواه مسلم، ح/2553.
(16) رواه البخاري، ح/831، ومسلم، ح/402.
(17) سبق تخريجه.
(18) رواه مسلم، ح/1401.
(19) رواه البخاري، ح/7174، ومسلم، ح/1832.
(20) رواه البخاري، ح/2686.
(21) رواه البخاري، ح/4269، ومسلم، ح/96.
(22) رواه مسلم، ح/468.
(23) رواه مسلم، ح/468.(1/153)
--------------------------------------------------------------------------------
مجلة البيان، العدد (125)، المحرم 1419،مايو 1998 .
* * *
http://www.albayan-magazine.com/zwaya/trbwi/9.htm
محاسبة النفس ضرورة مُلِحّة
عبد الله العسكر
النفس بطبيعتها كثيرة التقلّب والتلوّن، تؤثر فيها المؤثّرات، وتعصف بها الأهواء والأدواء، فتجنح لها وتنقاد إليها، وهي في الأصل تسير بالعبد إلى الشرّ كما قال ـ تعالى ـ: ((إنَّ النَّفْسَ لأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إلاَّ مَا رَحِمَ رَبِّي)) [يوسف: 53]، ولذا؛ فإن لها خطراً عظيماً على المرء إذا لم يستوقفها عند حدّها ويلجمها بلجام التقوى والخوف من الله، ويأطرها على الحق أطراً. قال لقمان الحكيم لابنه: (يا بنيّ: إن الإيمان قائد، والعمل سائق، والنفسَ حرون؛ فإن فتر سائقها ضلّت عن الطريق، وإن فتر قائدها حرنت، فإذا اجتمعا استقامت. إنّ النفس إذا أُطمعت طمعت، وإذا فوّضْت إليها أساءت، وإذا حملتها على أمر الله صلحت، وإذا تركت الأمر إليها فسدت؛ فاحذر نفسك، واتهمها على دينك، وأنزلها منزلة من لا حاجة له فيها، ولا بُدّ له منها. وإنّ الحكيم يذلّ نفسه بالمكاره حتى تعترف بالحق، وإنّ الأحمق يخيّر نفسه في الأخلاق: فما أحبّت منها أحبّ وما كرهت منها كره)(1).
ومن هنا كان لزاماً على كل عبدٍ يرجو لقاء ربّه أن يطيل محاسبته لنفسه، وأن يجلس معها جلسات طِوالاً؛ فينظر في كل صفحة من عمره مضت: ماذا أودع فيها، ويعزم على استدراك ما فات ويشحذ همّته لسفره الطويل إلى الله ـ تبارك وتعالى ـ.
أولاً: معنى المحاسبة:(1/154)
قال الماوردي في معنى المحاسبة: (أن يتصفّح الإنسان في ليله ما صدر من أفعال نهاره، فإن كان محموداً أمضاه وأتبعه بما شاكله وضاهاه، وإن كان مذموماً استدركه إن أمكن وانتهى عن مثله في المستقبل)(2). وقال ابن القيم ـ رحمه الله ـ: (هي التمييز بين ما له وما عليه (يقصد العبد) فيستصحب ما له ويؤدي ما عليه؛ لأنه مسافرٌ سَفَرَ من لا يعود)(3).
وأما الحارث المحاسبي فقد عرّفها بقوله: (هي التثبّت في جميع الأحوال قبل الفعل والترك من العقد بالضمير، أو الفعل بالجارحة؛ حتى يتبيّن له ما يفعل وما يترك، فإن تبيّن له ما كره الله ـ عز وجل ـ جانبه بعقد ضمير قلبه، وكفّ جوارحه عمّا كرهه الله ـ عز وجل ـ ومَنَع نفسه من الإمساك عن ترك الفرض، وسارع إلى أدائه)(4).
ثانياً: أهمية محاسبة النفس:
لمحاسبة النفس فوائد متعدّدة نذكر منها ما يلي:
1 - الاطلاع على عيوب النفس ونقائصها ومثالبها، ومن ثمّ؛ إعطاؤها مكانتها الحقيقية إن جنحت إلى الكبر والتغطرس. ولا شك أن معرفة العبد لقدر نفسه يورثه تذلّلاً لله فلا يُدِلّ بعمله مهما عظم، ولا يحتقر ذنبه مهما صغر. قال أبو الدرداء: (لا يفقه الرجل كلّ الفقه حتى يمقت الناس في جنب الله، ثم يرجع إلى نفسه فيكون أشدّ لها مقتاً)(5).
2 - أن يتعرّف على حق الله ـ تعالى ـ عليه وعظيم فضله ومنّه؛ وذلك عندما يقارن نعمة الله عليه وتفريطه في جنب الله، فيكون ذلك رادعاً له عن فعل كل مشين وقبيح؛ وعند ذلك يعلم أن النجاة لا تحصل إلا بعفو الله ومغفرته ورحمته، ويتيقّن أنه من حقّه ـ سبحانه ـ أن يطاع فلا يعصى، وأن يُذكر فلا يُنسى، وأن يُشكر فلا يُكفر.(1/155)
3 - تزكية النفس وتطهيرها وإصلاحها وإلزامها أمْر الله ـ تعالى ـ. قال ـ تعالى ـ: ((قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا(9)وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا)) [الشمس: 9، 10]، وقال مالك بن دينار: (رحم الله عبداً قال لنفسه: ألستِ صاحبة كذا؟ ألستِ صاحبة كذا؟ ثم ذمّها، ثم خطمها، ثم ألزمها كتاب الله ـ عز وجل ـ فكان لها قائداً)(6).
4 - (أنها تربّي عند الإنسان الضمير داخل النفس، وتنمّي في الذات الشعور بالمسؤولية ووزن الأعمال والتصرّفات بميزان دقيق هو ميزان الشرع)(7). حكى الغزالي في (الإحياء) أنّ أبا بكر ـ رضي الله عنه ـ قال لعائشة ـ رضي الله عنها ـ عند الموت: (ما أحدٌ من الناس أحبّ إليّ من عمر) ثم قال لها: (كيف قلتُ؟) فأعادت عليه ما قال، فقال: (ما أحدٌ أعزّ عليّ من عمر)!! يقول الغزالي: (فانظر كيف نظر بعد الفراغ من الكلمة فتدبّرها وأبدلها بكلمة غيرها)(8).
ثالثاً: فضل المحاسبة والآثار الواردة في ذلك:
قال الله ـ تعالى ـ: ((يَا أَيُّهَا الَذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ)) [الحشر: 18]، قال صاحب الظّلال: (وهو تعبير كذلك ذو ظلال وإيحاءات أوسع من ألفاظه، ومجرّد خطوره على القلب يفتح أمامه صفحة أعماله بل صفحة حياته، ويمدّ ببصره في سطورها كلّها يتأمّلها، وينظر رصيد حسابه بمفرداته وتفصيلاته لينظر ماذا قدّم لغده في هذه الصفحة. وهذا التأمّل كفيل بأن يوقظه إلى مواضع ضعف ومواضع نقص ومواضع تقصير مهما يكنْ قد أسلف من خير وبذل من جهد؛ فكيف إذا كان رصيده من الخير قليلاً ورصيده من البرّ ضئيلاً؟! إنها لمسةٌ لا ينام بعدها القلب أبداً، ولا يكفّ عن النظر والتقليب)(9).(1/156)
وقال ـ تعالى ـ: ((وَلا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ)) [القيامة: 2] يقول الفرّاء: (ليس من نفسٍ برّةٍ ولا فاجرة إلا وهي تلوم نفسها إن كانت عملت خيراً قالت: هلاّ ازددتِ، وإن عملت شرّاً قالت: (ليتني لم أفعل)(10)، وقال الحسن في تفسير هذه الآية: (لا يُلقى المؤمن إلا يعاتب نفسه: ماذا أردتُ بكلمتي؟ ماذا أردتُ بأكلتي؟ ماذا أردت بشربتي؟ والفاجر يمضي قُدُماً لا يعاتب نفسه)(11).
ويقول الله ـ عزّ وجلّ ـ في وصف المؤمنين الذين يحاسبون أنفسهم عند الزلّة والتقصير ويرجعون عمّا كانوا عليه: ((إنَّ الَذِينَ اتَّقَوْا إذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِّنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإذَا هُم مُّبْصِرُونَ)).[الأعراف: 201].
قال الفاروق عمر ـ رضي الله عنه ـ: (حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا، وزنوها قبل أن توزنوا، وتزيّنوا للعرض الأكبر ((يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفَى مِنكُمْ خَافِيَةٌ)) [ الحاقة: 18])(12).
ويصف الحسن البصري المؤمن بقوله: (المؤمن قوّام على نفسه يحاسبها لله، وإنّما خفّ الحساب على قوم حاسبوا أنفسهم في الدنيا، وإنّما شق الحساب يوم القيامة على قوم أخذوا هذا الأمر من غير محاسبة)(13). ويقول ميمون بن مهران: (إنه لا يكون العبد من المتقين حتى يحاسب نفسه أشدّ من محاسبة شريكه)(14).
ويحذّر ابن القيم ـ رحمه الله ـ من إهمال محاسبة النفس فيقول: (أضرّ ما على المكلّف الإهمال وترك المحاسبة، والاسترسال، وتسهيل الأمور وتمشيتُها؛ فإن هذا يؤول به إلى الهلاك، وهذا حال أهل الغرور: يغمض عينيه عن العواقب، ويمشّي الحال، ويتكل على العفو، فيهمل محاسبة نفسه والنظر في العاقبة، وإذا فعل ذلك سهل عليه مواقعة الذنوب وأنسَ بها وعسر عليه فطامها)(15).(1/157)
ولنستمع إلى هذه الكلمات الجميلة لأبي حامد الغزالي في (الإحياء) وهو يصف أرباب القلوب المنيبة وذوي البصائر الحيّة فيقول: (فَعَرف أربابُ البصائر من جملة العباد أنّ الله ـ تعالى ـ لهم بالمرصاد، وأنهم سيناقشون في الحساب ويُطالبون بمثاقيل الذرّ من الخطرات واللحظات، وتحقّقوا أنه لا ينجيهم من هذه الأخطاء إلا لزوم المحاسبة وصدقُ المراقبة ومطالبةُ النّفْس في الأنفاس والحركات، ومحاسبتُها في الخطرات واللحظات. فمن حاسب نفسه قبل أن يحاسب خفّ في القيامة حسابُه، وحَضَرَ عند السؤال جوابُه، وحسُن منقلبُه ومآبُه. ومن لم يحاسب نفسَه دامت حسراتُه، وطالت في عرصات القيامة وقفاتُه، وقادته إلى الخزي والمقت سيئاتُه)(16).
وقال الحسن ـ رحمه الله ـ: (اقرعوا هذه الأنفس؛ فإنها طُلَعَة(17)، وإنها تنازع إلى شرّ غاية، وإنكم إن تقاربوها لم تبقِ لكم من أعمالكم شيئاً، فتصبّروا وتشدّدوا؛ فإنّما هي أيّام تُعدّ، وإنما أنتم ركبٌ وقوف يوشك أن يُدعى أحدكم فلا يجيب ولا يلتفت فانقلبوا بصالح ما بحضرتكم)(18).
رابعاً: كيفية المحاسبة:(1/158)
في الحقيقة ليس هناك وسيلة محدّدة ذات خطوات وأساليب منضبطة في كيفية محاسبة النفس؛ وذلك لأن النفوس البشرية متباينة الطبائع والسجايا؛ لكنّ هناك أُطُراً عامة وخطوطاً عريضة يمكن الإشارة إليها والاستفادة منها في هذا الموضوع. والأمر الذي يجب أن يفقهه كل مسلم ومسلمة أنه لا بد من الجدّية في المحاسبة والحرص الشديد على أخذ النتائج والقرارات التي يُتوصّل إليها بعد ذلك بمأخذ العزيمة والجدّ. قال الغزالي: (اعلم أن العبد كما (ينبغي أن) يكون له وقت في أوّل النهار يشارط فيه نفسه على سبيل التوصية بالحق، فينبغي أن يكون له في آخر النهار ساعة يطالب فيها النفس ويحاسبها على جميع حركاتها وسكناتها، كما يفعل التجار في الدنيا مع الشركاء في آخر كلّ سنة أو شهر أو يوم حرصاً منهم على الدنيا، وخوفاً من أن يفوتهم منها ما لو فاتهم لكانت الخيرة لهم في فواته... فكيف لا يحاسب العاقل نفسه فيما يتعلق به خطر الشقاوة والسعادة أبد الآباد؟! ما هذه المساهلة إلا عن الغفلة والخذلان وقلة التوفيق نعوذ بالله من ذلك)(19)، ثم بيّن ـ رحمه الله ـ أن المحاسبة تكون على نوعين:(1/159)
النوع الأول: محاسبة قبل العمل، وهي: أن يقف عند أوّل همّه وإرادته، ولا يبادر بالعمل حتى يتبيّن له رجحانه على تركه. قال الدكتور عمر الأشقر: (ينظر في همّه وقصده؛ فالمرء إذا نفى الخطرات قبل أن تتمكّن من القلب سهل عليه دفعُها... فالخطرة النفسيّة والهمّ القلبي قد يقويان حتى يصبحا وساوس، والوسوسة تصير إرادة، والإرادة الجازمة لا بد أن تكون فعلاً. قال الحسن: كان أحدهم إذا أراد أن يتصدّق بصدقة تثبّت؛ فإن كانت لله أمضاها، وإن كانت لغيره توقّف)(20). وشرح بعضهم قول الحسن فقال: (إذا تحرّكت النفس لعملٍ من الأعمال وهمّ به العبد وقف أولاً ونظر: هل ذلك العمل مقدور عليه أو غير مقدور عليه؟ فإن لم يكن مقدوراً عليه لم يقدم عليه، وإن كان مقدوراً عليه وقف وقفة أخرى ونظر: هل فِعلُه خير له من تركه، أم تركُه خير له من فعلِه؟ فإن كان الخير في تَرْكه تَرَكَه، وإن كان الأوّل وقف وقفة ثالثة ونظر: هل الباعث عليه إرادة وجه الله ـ عز وجل ـ وثوابُه أو إرادة الجاه والثناء والمال من المخلوق؟ فإن كان الثاني لم يقدم عليه وإن أفضى به إلى مطلوبه؛ لئلا تعتاد النفسُ الشركَ ويخفّ عليها العمل لغير الله؛ فبقدر ما يخفّ عليها ذلك يثقل عليها العمل لله ـ تعالى ـ حتى يصير أثقل شيء عليها، وإن كان الأوّل وقف وقفة أخرى ونظر: هل هو مُعَانٌ عليه وله أعوان يساعدونه وينصرونه ـ إذا كان العمل محتاجاً إلى ذلك ـ أم لا؟ فإن لم يكن له أعوان أمسك عنه، كما أمسك النبيّ -صلى الله عليه وسلم- عن الجهاد بمكة حتى صار له شوكة وأنصار، وإن وجده معاناً عليه فليُقدم عليه فإنه منصورٌ ـ بإذن الله ـ)(21).
النوع الثاني: المحاسبة بعد العمل وهي على أقسام ثلاثة:(1/160)
محاسبتُها على التقصير في الطاعات في حق الله ـ تعالى ـ وذلك يكون بأن يديم سؤاله نفسه: هل أديتُ هذه الفريضة على الوجه الأكمل مخلصاً فيها لله ووفق ما جاء عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-؟ فإن كان مقصّراً ـ وأيّنا يسلم من ذلك؟ ـ فليسدّ الخلل بالنوافل فإنها تُرقّع النقص في الفريضة وتربي لدى العبد جانب العبادة، وبالمجاهدة وكثرة اللّوم يخفّ التقصير في الطاعات إلى درجة كبيرة.
ب - محاسبتها على معصية ارتكبتها: قال ابن القيم في ذلك: (وبداية المحاسبة أن تقايس بين نعمته - عز وجل - وجنايتك؛ فحينئذٍ يظهر لك التفاوت، وتعلم أنه ليس إلا عفوه ورحمتُه أو الهلاكُ والعطب. وبهذه المقايسة تعلم أنّ الرّب ربّ والعبدَ عبد، ويتبيّن لك حقيقةُ النفس وصفاتُها وعظمةُ جلال الربوبّية وتفرّدُ الربّ بالكمال والإفضال، وأنّ كل نعمة منه فضل وكلّ نقمة منه عدل... فإذا قايست ظهر لك أنها منبع كلّ شرّ وأساس كلّ نقص وأنّ حدّها: [انها] الجاهلةُ الظالمةُ، وأنّه لولا فضل الله ورحمتُه بتزكيته لها ما زكت أبداً. ولولا إرشاده وتوفيقه لما كان لها وصولٌ إلى خير البتة؛ فهناك تقول حقاً: أبوء بنعمتك عليّ وأبوء بذنبي)(22).(1/161)
وبعد أن يحاسب نفسه هذه المحاسبة ويجلس معها هذه الجلسة المطوّلة فإنه ينتقل إلى الثمرة والنتيجة ألا وهي العمل على تكفير تلك المعصية، فيتدارك نفسه بالتوبة النصوح وبالاستغفار والحسنات الماحيةِ والمذهبة للسيئات. قال ـ سبحانه ـ: ((إنَّ الحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ)) [هود: 114]. فالبدارَ البدارَ قبل أن يُختم لك بخاتمة سوء وأنت مُصِرّ على تلك المعصية ولم تتبْ منها. وتذكّر الحشرَ والنّشر وهوْلَ جهنّم وما أعدّه الله للعصاة والفسقة من الأغلال والحديد والزقوم والصديد في نارٍ قال كعبُ الأحبار عنها ـ رضي الله عنه ـ: (لو أنّه فُتح من جهنّم قدرُ منخرِ ثور بالمشرق ورجلٌ بالمغرب لغلى دماغُه حتى يسيل من حرّها)(23) أجارنا الله والمسلمين منها.
فبذلك السبيل وأشباهه من المحاسبة يكون المرء صادقاً في محاسبته نفسه على ارتكاب المعصية والذنب ـ ومن منّا يسلم من معاقرة الذنوب والخطايا؟! نسأل الله اللطف والتخفيف.
ج - محاسبتها على أمرٍ كان تركه خيراً من فعله، أو على أمرٍ مباح، ما سبب فعلِه له؟ فيُوجّه لنفسه أسئلة متكرّرة: لِمَ فعلتُ هذا الأمر؟ أليس الخير في تركه؟ وما الفائدة التي جنيتها منه؟ هل هذا العمل يزيد من حسناتي؟ ونحو ذلك من الأسئلة التي على هذه الشاكلة.
وأمّا المباح فينظر: هل أردت به وجه الله والدار الآخرة فيكون ذلك ربحاً لي؟ أو فعلتُه عادةً وتقليداً بلا نيّةٍ صالحة ولا قصدٍ في المثوبة؛ فيكون فعلي له مضيعة للوقت على حساب ما هو أنفع وأنجح؟ ثم ينظر لنفسه بعد عمله لذلك المباح، فيلاحظ أثره على الطاعات الأخرى من تقليلها أو إضعاف روحها، أو كان له أثرٌ في قسوة القلب وزيادة الغفلة؛ فكلّ هذه الأسئلة غايةٌ في الأهمية حتى يسير العبد في طريقه إلى الله على بصيرة ونور.(1/162)
أورد أبو نعيم بسنده عن الحسن قوله: (إنّ المؤمن يفجؤه الشيء ويعجبُه فيقول: واللهِ إنّي لأشتهيك، وإنّك لمن حاجتي؛ ولكن ـ واللهِ ـ ما من صلةٍ إليك، هيهات!! حيل بيني وبينك. ويفرط منه الشيء (يقع في الخطأ) فيرجع إلى نفسه فيقول: ما أردتُ إلى هذا، وما لي ولهذا؟ ما أردتُ إلى هذا، وما لي ولهذا؟ واللهِ ما لي عذرٌ بها، وواللهِ لا أعود لهذا أبداً ـ إن شاء الله ـ.
إن المؤمنين قومٌ أوثقهم القرآن وحال بينهم وبين هلكتهم، إن المؤمن أسير في الدنيا يسعى في فكاك رقبته، لا يأمن شيئاً حتى يلقى الله ـ عز وجل ـ يعلم أنه مأخوذ عليه في سمعه وفي بصره وفي لسانه وفي جوارحه، مأخوذ عليه في ذلك كلّه)(24).
وبالجملة؛ فلا بُدّ للمسلم من دوام محاسبة النفس، ومعاتبتها وتذكيرها كلّما وقعت منها زلّة أو جنحت إلى حطام الدنيا الفاني.(1/163)
ولننظر إلى أنموذج آخر في كيفية معاتبة النفس أورده أبو حامد الغزالي ـ رحمه الله ـ حيث يقول: (وسبيلك أن تقبل عليها فتقول لها: يا نفس ما أعظم جهلك، تدّعين الحكمة والذكاء والفطنة وأنت أشدّ الناس غباوة وحمقاً!! أما تتدبرين قوله ـ تعالى ـ: ((اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُّعْرِضُونَ*مَا يَاًتِيهِم مِّن ذِكْرٍ مِّن رَّبِّهِم مُّحْدَثٍ إلاَّ اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ *لاهِيَةً قُلُوبُهُمْ...)) [الأنبياء: 1 3] ويحك يا نفس! إن كانت جرأتك على معصية الله لاعتقادك أن الله لا يراكِ فما أعظم كفرك! وإن كان مع علم باطلاعه عليكِ فما أشدّ وقاحتك وأقلّ حياءك! ويحك يا نفس!! لو كان الإيمان باللسان فلِمَ كان المنافقون في الدرك الأسفل من النار؟!! ويحك يا نفس! لا ينبغي أن تغرّكِ الحياة الدنيا، ولا يغرّكِ بالله الغرور... فما أمرك بمهمّ لغيرك، ولا تضيّعي أوقاتك؛ فالأنفاس معدودة، فإذا مضى عنكِ نَفَسٌ فقد مضى بعضُك. ويحك يا نفس! أوَ ما تنظرين إلى الذين مضوا كيف بنوا وعلوا، ثم ذهبوا وخلوا؟ اعملي يا نفس بقيّة عمرك في أيام قصار لأيّام طوال، وفي دار حزن ونصب لدار نعيم وخلود)(25).
خامساً: نماذج من محاسبة السلف لأنفسهم:
إنّ البحث والاستقصاء عن كلّ ما ورد من نماذج رائعة وصور مشرقة لمحاسبة السلف الصالح لأنفسهم يتطلّب مجهوداً جبّاراً ووقتاً طويلاً؛ لأن أولئك القوم ارتبطت قلوبهم بالله؛ فكانوا أجساداً في الأرض وقلوباً في السماء، وما إن يحصل من أحدهم تقصير أو زلّة إلا ويسارع في معالجة خطئه، ومعاقبة نفسه على ذلك؛ حتى لا تكاد تأمره إلا بخير. ولعلّنا نقتصر هنا على بعض النقولات العجْلى عن أولئك النفر الكرام لعلّها تحرّك القلوب، وتشحذ النفوس وتربّي المسلم تربية جادة قويّة.(1/164)
عن أنس بن مالك ـ رضي الله عنه ـ قال: سمعتُ عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ يوماً وخرجت معه حتى دخل حائطاً فسمعتُه يقول ـ وبيني وبينه جدار ـ: عمر!! أمير المؤمنين!! بخٍ بخٍ، واللهِ بُنَيّ الخطاب لتتقينّ الله أو ليعذبنّك)(26).
وجاء رجل يشكو إلى عمر وهو مشغول فقال له: أَتَتْركون الخليفة حين يكون فارغاً حتى إذا شُغِل بأمر المسلمين أتيتموه؟ وضربه بالدرّة، فانصرف الرجل حزيناً، فتذكّر عمر أنه ظلمه، فدعا به وأعطاه الدرّة، وقال له: (اضربني كما ضربتُك) فأبى الرجل وقال: تركت حقي لله ولك. فقال عمر: إما أن تتركه لله فقط، وإما أن تأخذ حقّك) فقال الرجل: تركته لله. فانصرف عمر إلى منزله فصلّى ركعتين ثم جلس يقول لنفسه: (يا بن الخطاب: كنتَ وضيعاً فرفعك الله، وضالاً فهداك الله، وضعيفاً فأعزّك الله، وجعلك خليفةً فأتى رجلٌ يستعين بك على دفع الظلم فظلمتَه؟!! ما تقول لربّك غداً إذا أتيتَه؟ وظلّ يحاسب نفسَه حتى أشفق الناس عليه)(27).
وقال إبراهيم التيمي: (مثّلتُ نفسي في الجنة آكل من ثمارها وأشرب من أنهارها وأعانق أبكارها، ثم مثّلتُ نفسي في النار آكل من زقومها وأشرب من صديدها وأعالج سلاسلها وأغلالها، فقلت لنفسي: يا نفس أيّ شيء تريدين؟ فقالت: أريد أن أُردّ إلى الدنيا فأعمل صالحاً! قلتُ: فأنتِ في الأمنية فاعملي)(28).
وحكى صاحب للأحنف بن قيس قال: كنتُ أصحبُه فكان عامةُ صلاته بالليل، وكان يجيء إلى المصباح فيضع إصبعه فيه حتى يحسّ بالنّار ثم يقول لنفسه: يا حنيف! ما حملك على ما صنعت يوم كذا؟ ما حملك على ما صنعتَ يومَ كذا؟)(29).(1/165)
ونُقِل عن توبة بن الصّمة: (أنه جلس يوماً ليحاسب نفسَه فعدّ عمره فإذا هو ابن ستين سنة، فحسب أيّامها فإذا هي واحدٌ وعشرون ألفاً وخمسمائة يوم؛ فصرخ وقال: يا ويلتى! ألقى الملك بواحدٍ وعشرين ألف ذنب! فكيف وفي كل يوم عشرة آلاف ذنب؟!! ثم خرّ فإذا هو ميّت!! فسمعوا قائلاً يقول: يا لكِ ركضةٌ إلى الفردوس الأعلى)(30). يقول الغزالي معلّقاً على هذه القصّة: (فهكذا ينبغي أن يحاسب (العبد) نفسه على الأنفاس، وعلى معصيته بالقلب والجوارح في كلّ ساعة. ولو رمى العبد بكلّ معصية حجراً في داره لامتلأت دارُه في مدة يسيرة قريبة من عمره، ولكنه يتساهل في حفظ المعاصي؛ والملكان يحفظان عليه ذلك ((أَحْصَاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ...)) [المجادلة: 6](31).
ويُحكى أن حسان بن أبي سنان مرّ بغرفة فقال: متى بنيت هذه؟ ثم أقبل على نفسه، فقال: تسألين عمّا لا يَعْنيكِ؟! لأعاقبنّك بصيام سنة، فصامها)(32)(33).
وقال عبد الله بن قيس: كنّا في غزاةٍ لنا فحضر العدو، فَصِيحَ في الناس فقاموا إلى المصافّ في يومٍ شديد الريح، وإذا رجلٌ أمامي وهو يخاطب نفسَه ويقول: أيْ نفسي! ألم أشهد مشهد كذا فقلتِ لي: أهلَكَ وعيالك؟!! فأطعتُك ورجعت! ألم أشهد مشهد كذا فقلتِ لي: أهلَكَ وعيالك؟!! فأطعتُكِ ورجعت! واللهِ لأعرضنّكِ اليوم على الله أخَذَكِ أو تَركَكِ. فقلت: لأرمقنّكَ اليوم، فرمقته فحمل الناسُ على عدوّهم فكان في أوائلهم، ثم إنّ العدو حمل على الناس فانكشفوا (أي هربوا) فكان في موضعه، حتى انكشفوا مرات وهو ثابت يقاتِل؛ فواللهِ ما زال ذلك به حتى رأيتُه صريعاً، فعددتُ به وبدابته ستين أو أكثر من ستين طعنة)(34).
وأخيراً:(1/166)
نختم بفائدة مهمّة فيما يعين على المحاسبة ذكرها الإمام ابن القيم ـ رحمه الله ـ في (مدارج السالكين)؛ فقد ذكر أن ممّا يعين على المحاسبة: أن يكون المرء صادقاً في محاسبته لنفسه. وتعتمد المحاسبة الصادقة على ثلاثة أسس: الاستنارة بنور الحكمة؛ وسوء الظنّ بالنفس، وتمييز النعمة من الفتنة.
فأمّا نور الحكمة؛ فهو العلم الذي يميّز به العبد بين الحقّ والباطل، وكلّما كان حظّه من هذا النور أقوى كان حظّه من المحاسبة أكمل وأتمّ.
وأما سوء الظن بالنفس؛ فحتّى لا يمنع ذلك من البحث والتنقيب عن المساوئ والعيوب.
وأما تمييز النّعمة من الفتنة؛ فلأنه كم مُسْتَدْرَج بالنّعم وهو لا يشعر، مفتونٍ بثناء الجهّال عليه، مغرورٍ بقضاء الله حوائجه وستره عليه!(35).
حكى الذهبي عن المرّوذي قال: قلت لأبي عبد الله (يعني الإمام أحمد): قدم رجلٌ من طرسوس فقال: كنّا في بلاد الروم في الغزو إذا هدأ الليل رفعوا أصواتهم بالدعاء لأبي عبد الله، وكنّا نمدّ المنجنيق ونرمي عن أبي عبد الله. وقد رُمي عنه بحجرٍ والعلج على الحصن مُتَتَرّسٌ بدَرَقَته(36) فذهب برأسه والدّرقة!! قال: فتغيّر وجه أبي عبد الله وقال: ليته لا يكون استدراجاً)(37).
وصلى الله وسلّم على محمدٍ وآله وصحبه وسلّم.
--------------------------------------------------------------------------------
(1) ذم الهوى لابن الجوزي (40).
(2) أدب الدنيا والدين (342) [نقلاً عن موسوعة نضرة النعيم، 8/ 3317].
(3) مدارج السالكين، 1/187.
(4) التربية الذاتية من الكتاب والسنة لهاشم علي أحمد (97).
(5) الزهد للإمام أحمد (196).
(6) إغاثة اللهفان لابن القيم (79).
(7) التربية الذاتية (98).
(8) إحياء علوم الدين لأبي حامد الغزالي، 4/587.
(9) في ظلال القرآن، لسيد قطب، 6/3531.
(10، 11) تفسير البغوي، 4/421، والزهد للإمام أحمد (396).
(12) الزهد للإمام أحمد (177)، ومدارج السالكين 1/187.
((1/167)
12) حلية الأولياء لأبي نعيم، 2/157.
(14) الزهد لوكيع بن الجرّاح تحقيق الفريوائي (501).
(15) إغاثة اللهفان، (82).
(16) الإحياء، 4/118.
(17) قال في القاموس في مادة (طلع): نفس طُلَعة: تكثر التطلّع إلى الشيء.
(18) حلية الأولياء 2/144، ذم الهوى لابن الجوزي (41).
(19) الإحياء، 4/588.
(20) مقاصد المكلفين فيما يتعبّد به لربّ العالمين، للدكتور عمر الأشقر (429) (بتصرّف).
(21) إغاثة اللهفان (81).
(22) مدارج السالكين 1/188.
(23) الزهد للإمام أحمد (179).
(24) حلية الأولياء 2/157، وذم الهوى (40).
(25) الإحياء، 4/605.
(26) الزهد للإمام أحمد (171).
(27) مناقب أمير المؤمنين عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ لابن الجوزي، 171.
(28) الزهد للإمام أحمد، 501.
(29) الزهد للإمام أحمد، 336، وذم الهوى، 41.
(30، 31) الإحياء، 4/589.
(32) حلية الأولياء، 3/115، وذم الهوى، 42.
(33) والأوْلى في هذا المقام اتباع هدي النبي -صلى الله عليه وسلم- الذي دلّنا على أن أفضل الصيام صيام داود -عليه الصلاة والسلام -، وهو صيام يوم وإفطار يوم.
- البيان -
(34) الإحياء، 4/591.
(35) مدارج السالكين، 1/188 (بتصرّف).
(36) الدّرَقَة: التّرس من جلدٍ ليس فيه خشب (المعجم الوسيط، 1/281).
(37) سير أعلام النبلاء للذهبي (11/210).
--------------------------------------------------------------------------------
مجلة البيان، العدد (139)، ربيع الأول 1420،يوليو 1999 .
* * *
http://www.albayan-magazine.com/zwaya/trbwi/10.htm
المال بين نظر الغني والفقير
سامي الماجد(1/168)
المال زينةُ الحياة الدنيا، قد فُطِرَ الإنسانُ على حُبِّه؛ فهو منهومٌ في طلبه، مطبوعٌ على الضنِّ به، كنودٌ لربِّه؛ تلك طبيعة الإنسان يُجلِّيها لنا القرآن: {وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا} [الفجر: 20]، {إنَّ الإنسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ * وَإنَّهُ عَلَى ذَلِكَ لَشَهِيدٌ * وَإنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ} [العاديات: 6 - 8]، {قُل لَّوْ أَنتُمْ تَمْلِكُونَ خَزَائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إذًا لأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الإنفَاقِ وَكَانَ الإنسَانُ قَتُورًا} [الإسراء: 100].
وما على الإنسان أنْ يحبَّ المالَ وقد فطره على ذلك ربُّه؟! وما عليه أن يحب المال وقد جعله الله قِواماً للمعاش لا تصلح بدونه الحياة؟! بل وما عليه أن يطلبَه من حِلِّه، ويسعى إلى كسبه، وقد أذن له بذلك ربُّه، فقال ـ سبحانه ـ: {فَإذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانتَشِرُوا فِي الأَرْضِ وَابْتَغُوا مِن فَضْلِ اللَّهِ} [الجمعة: 10]، {هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ ذَلُولاً فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِن رِّزْقِهِ وَإلَيْهِ النُّشُورُ}
[الملك: 15]؟!
إنَّ الإسلامَ لم يأتِ لينتزعَ من صدور الناس هذه الفطرةَ التي فطرهم اللهُ عليها، ولم يُرِدْهم على الانسلاخِ منها وانتباذِها؛ فليس الشرُّ ولا الإثمُ في طلبِ المال نفسه، ولا في حُبِّه، وليس هذا ما يخافه الإسلام على المسلم أو ينقمُه عليه.(1/169)
إنما الذي يخافُه الإسلام على المسلم: أن يتعبَّده المالُ حتى يعتلقَ حُبُّه قلبَه اعتلاقاً يجعله مَهووساً في جمعه، ويختلبَ حواسَّه وفكرَه، فيتركَه مجذوباً لا تستهويه إلاّ بوارقُ الثراء وعدُّ الأرصدة والأموال، حتى يصبح لصيقاً بالرَّغام، عبداً للدرهم والدينار؛ فالمالُ قصدُه أينما توجَّه، وغايتُه كلَّما تسبب، لا ينافس إلا عليه، ولا يهتدي إلا إليه. لا يبالي من أين أخذه، ولا كيف أنفقه، فمَطْعمُه حرامٌ، ومشْرَبُه حرامٌ، وملبسُه حرامٌ، وغُذِّي بالحرام؛ فهذا هو مَن عناه -صلى الله عليه وسلم- بدعوته المستجابةِ: «تَعِسَ عبدُ الدينار، تعسَ عبدُ الدرهم، تعس وانتكس، وإذا شيك فلا انْتَقَش»(1). وما أتعسه المالُ، ولكنْ حرصُه الشديدُ أتعسه، وغلوُّه في حُبِّه أهلكه.
إنَّ المالَ نعمةٌ لا تعدو أن تكونَ كسائر النِّعَم، هي محلٌّ للخير كما قد تكون محلاً للشرِّ، فإنْ يكن أحدٌ قد فسد بماله، فلقد شقي غيرُه بعقله. وإن يكن قد بطر بالمال أقوامٌ؛ فلقد بطر بالعافية والفراغِ آخرون. وكُل نعمة: الشاكرُ لها قليل، والكافرُ بها كثير.
ولذا؛ فليعلم الفقيرُ المعدمُ أنَّ ما يعانيه من الإملاق وقِلَّة ذات اليد حالٌ لا يرضاها له الإسلامُ وإنْ أمرَه بالصبر عليها، فضلاً أنْ يحبِّب إليه حياةَ العَيْلَةِ أو يدعوَه إليها. وكيف يُظن بالإسلام هذا ورسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- كان يداوم الاستعاذةَ من الفقر، ويأمرُ بمدافعة الفاقةِ والعِوزِ كلَّ سبيل، فقال في وصيته الشهيرة: «إنك أنْ تذرَ ورثتَك أغنياءَ خيرٌ من أن تذرْهم عالةً يتكففون الناس»(2)، وهو الذي دعانا إلى الخروج من رِبقة الفقر والتحرُّرِ من ذِلَّة الحاجة والمسألة، فقال: «اليدُ العليا خيرٌ من اليد السفلى»(3).(1/170)
وليعلم ـ كذلك ـ الغنيُّ الواجد أنَّ الغِنَى الذي ينعمه وسعةَ المال التي أُوتيها؛ ليست منزلةً يستكثرُها عليه الإسلام فيمقته عليها، أو يدعوه أن ينسلخَ منها، أو ينخلعَ من ماله وقد كسبه من حِلِّه، كيف وقد قال -صلى الله عليه وسلم-: «إنِّ هذا المالَ خضِرةٌ حلوةٌ؛ فمن أخذه بحقِّه ووضعه في حقِّه؛ فنِعمَ المعونةُ هو، ومن أخذه بغير حقه كان كالذي يأكل ولا يشبع»(4)، وقال -صلى الله عليه وسلم-: «نِعمَ المالُ الصالح للرجل الصالح»(5).
أمَا إن الإسلامُ لا يَذُمُّ الغِنَى، ولكنَّه يذمُ السَّرَفَ والتَّرَفَ فيه، وهو ـ كذلك ـ لا يُثني على فقيرٍ بفقره، ولكنَّه يُثني على حُسنِ ظنِّه وصبره.
فإذن ليس يلحق الغِنى ذمٌّ كما لا يلحق الفقرَ ثناء، وإنما العبرةُ بثباتِ الإنسان وتقواه وأخذِه في كلِّ حال بما يناسبها، فَلَغَنيٌّ متعفِّفٌ شاكرٌ خيرٌ من فقير حسودٍ ساخط؛ يحسد الناس على ما آتاهم الله من فضله، ويتسخط قضاءَ الله وقدرَه، وَلَفَقيرٌ صَابرٌ خيرٌ مِنْ غنيٍ جَاحدٍ: لا يرى لله عليه فَضْلاً، ولا يَرفعُ إليه شُكْراً.
فإن تساءل أحدٌ: فأين الأحاديث في ذم المال، كقوله -صلى الله عليه وسلم-: «ما ذئبان جائعان أُرسلا على غنم، بأفسد لهما من حرص المرء على المال والشرف؛ لدينه»(6)، ونحو ذلك من الأحاديث؟(1/171)
فإننا نجيب عن ذلك بما أجاب به الإمام الحافظُ ابنُ عبد البر؛ إذ قال: «وجهُ ذلك كلِّه ـ عند أهلِ العلم والفهم ـ في المال المكتسب من الوجوه التي حرَّمها الله ولم يُبِحْها، وفي كلِّ مالٍ لم يُطِعِ الله جامعُه في كسبه، وعصى ربه من أجله وبسببه، واستعان به على معصية الله وغضبه، ولم يؤد حقَّ الله وفرائضَه فيه ومنه؛ فذلك هو المال المذموم والمكسب المشؤوم. وأمّا إذا كان المال مكتسباً من وجهٍ مباح، وتأدّت منه حقوقُه، وتُقرِّبَ فيه إلى الله بالإنفاق في سبيله ومرضاته؛ فذلك المالُ محمودٌ، ممدوحٌ كاسبُه ومنفقُه، لا خلاف في ذلك بين العلماء، ولا يخالف فيه إلاّ مَنْ جهل أمرَ الله» ا هـ.
فإن قيل: لو كان في الغِنى خيرٌ لاختار له الله أفضلَ عبادِه رسولَه -صلى الله عليه وسلم-، ولكنه عاش فقيراً مسكيناً. قلنا: أمّا هذا فوَهْمٌ؛ فلم يعش -صلى الله عليه وسلم- فقيراً ولا مسكيناً بالمعنى الذي يفهمه الناس للمسكنة؛ مِن الحاجة إلى الناس وهوانِ النفس، بل كان عائلاً في أول حياته فأغناه الله، ومنَّ عليه بذلك فقال: {وَوَجَدَكَ عَائِلاً فَأَغْنَى} [الضحى: 8]، وجمع الله له بين مقامَيِ الصبرِ والشكر، وكيف يصحُّ هذا الزعم، وهو الذي كان يعطي عطاءَ مَن لا يخشى الفقر، ويثيب على الهدية بخيرٍ منها، وأنَّى يكون له الفقرُ وهو الذي كان يستعيذ بالله منه. وأمّا أنه لم يكن من أصحاب الثراء؛ فنعم! ولكن لله في ذلك الحكمةُ البالغة؛ فإنّه ـ سبحانه ـ لم يختر نبيّه -صلى الله عليه وسلم- صاحبَ ثراء، بل ولا زعيمَ قبيلة، ولا رئيسَ عشيرة، ولا صاحبَ جاه؛ كيلا تلتبس قيمةٌ واحدة من قيم هذه الأرض بهذه الدعوة الربانية النازلة من السماء، ولكي لا تزدان هذه الدعوة بزينة من حلي الأرض ليست من حقيقتها في شيء، ولكي لا يدخلها طامعٌ ولا يتنزَّه عنها متعفف.(1/172)
وإننا حين نستجلي موقفَ الإسلام من المال، وحين نستبينُ منزلةَ الغِنى والفقر فيه؛ فليس خوفاً على الأغنياء أن ينخلعوا من أموالهم ويتخفّفوا من ثرواتهم، ولا خشيةً على الفقراء أنْ يستمسكوا بغَرْزِ الفقرِ لا يبغون عنه حولاً؛ فما على الناس من خوفٍ في هذا الباب أبداً، وإنما الخوف عليهم من ضدِّه، ولكننا نستذكر ذلك لقصدين:
أمّا الأول: فهو تبرئة الإسلام مما أُلصق به، أو ظُنَّ أنه من شِرعته من المزاعم الباطلة، ومن ضروب ذلك: توهُّمُ النُّفرة بين طلب المال والسعي للآخرة، وتوهُّمُ التناقضِ بين الغنى والزهد، وظنُّ التلازم بين الثراء والفجور.
وكم يلد الجهلُ للإسلام من تُهمةٍ تتدثَّر بدثاره وتلبس لَبُوسَه وهو منها براء! والجهل بأحكام الشريعة والفهمُ المغلوطُ لحِكَمِها يُري صاحبَه أنَّ كلَّ مشهدٍ في واقع المسلمين هو ظلٌّ لشريعة الإسلام يُحسَبُ عليها، حتى أصبحتْ صورتُه باهتةً شائهةً مُرقَّعة.
وأمَّا القصدُ الثاني: فهو رسالةٌ إلى كلِّ غنيٍ متعفِّفٍ طاهرِ اليد لم يكتسب مالَه إلا من حِلِّه، رسالةٌ نُشعِره فيها وبها عظيمَ نعمةِ الله عليه؛ فقد فضّلَه وبَوّأَه منزلةً حُرِمَها كثيرون، فعليه أنْ يَستتمَّ هذه النعمةَ بالشكر، ولا ينبغي له ـ وهو في غمرة النعيم ورغدِ العيش ـ أنْ ينساها أو يتغافلَ عنها، وإلاَّ فإنّ نسيانَها أجدرُ أن يستجرَّه إلى نكرانها، وإنْ تغافلَ عن شكرِها فذلك أوْلى به أن يزدريَها.(1/173)
ثم ليذكر نعمةً أُخرى هي من تمام هذه النعمةِ وكمالها، ليذكر نعمةَ الله عليه إذ وفَّقه للرزق الحلال يستطيب به مطعَمه، فكثَّرَه الله له، وبارَكَ له فيه، وحماه ـ بفضله ورحمته ـ أنْ يستهويَه كسبٌ خبيثٌ، فلم ينهزم لإغرائه كما انهزمتْ أمامَه القلوبُ المنخوبةُ التي وَثِقتْ في الدنيا أكثرَ من الآخرة، فاستأكلت من هذا المالِ الخبيث، ونمَّتْ ثراءَه به، ونبتَ لحمُها من سُحتِه، فليس شيءٌ أوْلى بها بعد ذلك إلاَّ النار، كما قال -صلى الله عليه وسلم-: «كلُّ لحم نبت من سُحتٍ فالنار أوْلى به»(7)؛ فهذا بابٌ عظيمٌ مُشرعٌ إلى النار، ولكنَّ الله ـ تعالى ـ نجَّاه منه، ولولا فضلُ الله عليه ورحمتُه لتكبكبَ فيها مع الهالكين.
غير أنَّ شكرَ هذه النعمةِ الواجب لا تقوم به تمتمةُ اللسان بكلمات الحمد والشكر، وإنما يقوم بشكرِها حقَّاً عملُه فيها وبها؛ بأن يتقيَ اللهَ في إنفاق ماله كما كان يتقيه في كسبه، فيؤدي حقَّ الله فيه بلا مَنٍّ ولا أذى، ويبذلُه في مرضاته لا يؤودُه عن ذلك شحٌّ ولا بخل، ولا يضعُه في حرامٍ، ولا يُفضي به إلى تَرَفٍ ولا سَرَف، ولا ينحرفُ به عن الغاية.
إنَّ من أخطر الوساوس وأخبثِ الحيل التي يتسلل بها الشيطان إلى قلب الغني ليثنيه عن الخير، ويعطفه عن التسبب إلى الصلاح ـ أنْ يقذفَ في رُوعه: أنَّ هذا الثراءَ العريضَ الذي يملكه قد باعد بينه وبين الزهد والتعبد، وقارَب بينه وبين الغفلة والإخلاد إلى الأرض، فتستحيل هذه الوساوس عُقَداً في نفسه، تمُدُّ له في الغفلة، وكأنها حالٌ طبيعية لازمةٌ لكل غنيٍّ مثلِه، وتُضلُّه عن كثيرٍ من أبواب الخير؛ فلا يرى منها إلا ما لا يناسب حالَه لكثرة شواغله كنوافل الصلاة والصيام، فيستسلم لخدْرِ هذه الوساوس، ويفرِّط في استعمال جاهه وثرائه في مرضاة الله.(1/174)
ودفعاً لهذه الوساوس؛ فليعلم الغنيُّ أنّ الزهدَ الذي يدعو إليه الإسلام لا ينافي حالةَ الغنى، ولا يختصُّ بحالة الفقر والمسكنة، بل إنَّ زهدَ الغَنيِّ أصدقُ وأكملُ من زهد الفقير؛ لأنَّ زهدَ الغني عن قدرةٍ واختيار، وزهدَ الفقير عن عجزٍ واضطرار، وبينهما فرقٌ بعيدٌ.
وحقيقةُ الزهد فراغُ القلب من الدنيا لا فراغ اليدين منها، ولذا فكم من غنيٍّ هو في ثرائه أزهدَ من الفقير في فقره؛ لأنه ملك المال ولم يملكه المال، فزهِدَ في شهواتِ الدنيا وهو قادر عليها، وابتغى فيما آتاه الله الدارَ الآخرة وفي يديه ما أغرى أمثالَه عنها.
والزهد يتأتَّى للغني ولو كان له مالُ قارون؛ لأن الإسلامَ يزهِّدُه في الدنيا بقدر ما يمنعه من إيثارها على الآخرة.
إنَّ الزهدَ لا يمنع الغنيَّ أنْ يُريَ ربَّه أثرَ نعمتِه عليه، ولا أن يحدِّث بها، إنما يمنعه الترفَ والسرفَ، وما تولَّد منهما من المخيلةِ والكِبر، والبغيِ والفخر، وهذه المعاني هي أشدُّ ما يُناقض الزهدَ ويُناهضه.
وأمَّا المسكنةَ التي يحبها اللهُ من عبده فليست هي مسكنةَ الفقر، ولكنَّها انكسارُ القلب وذلُّه وخشوعُه وتواضعُه لله، وهذه المسكنةُ لا تنافي الغنى، ولا يُشترط لها الفقر.
ولو استشعر الغَنيُّ أنه في منزلةٍ هي من أوسعِ المنازل وأقربِها لوجوه الخير كُلِّها أو أكثرِها لأَعْظَمَ تفريطَه في اغتنامها، وَلَتحسَّر على تضييعها وهي قريبة بين يديه؛ فإنَّ أمامه من أبوابِ الخير والبر والإحسان ونصرةِ الإسلام ما لا يغنى أحدٌ فيها غَناءه، ولا يبلي أحدٌ فيها بلاءَه، فإنَّ بلاءَه فيها يغني غَنَاءَ الآلاف ممن يعيشون حياة الكفاف، ولو وَلَجَها لسبق بالأجر أولئك المنقطعين للعبادة الذين كان يحسَبُ أنّهم سابقون بالأجر لا يُدركهم أحدٌ، فضلاً أن يسبقهم؛ فهل يسعه وهو يرى سِعةَ طرقِ الأجر بين يديه أنْ يفرِّطَ فيها أو يزدريَها؟!(1/175)
أتى فقراءُ المهاجرين رسولَ الله -صلى الله عليه وسلم-، فقالوا: ذهب أهلُ الدثور من الأموال بالدرجات العُلا والنعيمِ المقيم؛ يصلون كما نصلي، ويصومون كما نصوم، ولهم فضل من أموال يحجُّون بها ويعتمرون ويجاهدون ويتصدقون. فقال -صلى الله عليه وسلم-: «أفلا أعلِّمكم شيئاً تُدركون به مَن سبقكم، وتسبقون به من بَعدَكم، ولا يكون أحدٌ أفضلَ منكم إلا مَن صنع مِثلَ ما صنعتم؟» قالوا: بلى يا رسول الله! فقال: «تُسبِّحون وتكبرون وتُحمِّدون دُبُرَ كلِّ صلاةٍ ثلاثاً وثلاثين مرة»، فرجع فقراءُ المهاجرين إليه -صلى الله عليه وسلم-، فقالوا: سمع إخوانُنا أهلُ الأموال بما فعلنا ففعلوا مثله! فقال -صلى الله عليه وسلم-: «{ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ} [الجمعة: 4]»(8).
وأخيراً: فإننا نُذكِّرُ الغنيَّ الثري أنّ المالَ هو مالُ الله ـ جل جلاله ـ يضعه حيث يشاء سبحانه، وإنما هو مستخلَفٌ فيه، عمَّا قليلٍ سيؤديه، كما قال ـ سبحانه ـ: {وَآتُوهُم مِّن مَّالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ} [النور: 33]، {وَأَنفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُم مُّسْتَخْلَفِينَ فِيهِ} [الحديد: 7].
ولعل الغني حين يتذكَّر هذه الحقيقةَ أنْ تخِفَّ يدُه للإنفاق، ويذهبَ عنه التردد في البذل حين يسمع داعي الله، بل ولعل أنْ تهونَ له مجاهدةُ الشحِ والبخلِ والمن والأذى؛ فالفضل لله أولاً وآخراً.
--------------------------------------------------------------------------------
(*) محاضر بكلية الشريعة، الرياض.
(1) رواه البخاري.
(2) البخاري، رقم 2537، 3643، ومسلم، رقم 3076.
(3) البخاري، رقم 1338، 2545، ومسلم، رقم 1715.
(4) البخاري، رقم 5947، ومسلم، رقم 1743 واللفظ لمسلم.
(5) رواه أحمد بسند حسن، رقم 17096، واللفظ: «.. للمرء الصالح».
(6) الترمذي، رقم 2298، وأحمد، رقم 15224، 15233.
((1/176)
7) الترمذي، رقم 558، ولفظه: (لا يربو لحم نبت من سحت إلا كانت النار أولى به).
(8) مسلم، رقم 936.
--------------------------------------------------------------------------------
مجلة البيان، العدد (190)، جمادي الآخرة 1424،أغسطس 2003 .
* * *
http://www.albayan-magazine.com/zwaya/trbwi/11.htm
المحافظة على الأسرار
د. عبد اللطيف الحسين
? أهمية الموضوع:
تعد المحافظة على الأسرار خاصية إنسانية في العلاقات الاجتماعية؛ من حيث تعامل الفرد مع الآخرين، ومع المجتمع الذي يعيش فيه، والأسرار لها أهمية كبيرة في الأمم، فهي من أعظم أسباب النجاح، وأدوم لأحوال الصلاح.
ومن هنا فرعاية الإسلام للمحافظة على الأسرار يستهدف من ورائها تكوين المجتمع الإسلامي، ووضع التشريعات الضابطة لحماية العلاقات وتنميتها أمر لازم لدوام الحياة الاجتماعية وتقدمها من الناحية المعنوية.
ولو أُهملت المبادئ الأخلاقية والاجتماعية، وسُمح للخيانة وفشو الأسرار بالانتشار؛ لزالت المعاني الإنسانية، كالأمانة وكتمان الأسرار، من حياة الناس، وتحولت الحياة الاجتماعية إلى جحيم لا يطاق(1).(1/177)
يقول الماوردي: «إن من الأسرار ما لا يُستغنى فيه عن مطالعة صديق مساهم، واستشارة ناصح مسالم، فليختر لسرّه أميناً، إن لم يجد إلى كتمه سبيلاً، وليتحر المرء في اختيار مَنْ يأتمنه عليه، ويستودعه إياه، فليس كل مَنْ كان أميناً على الأموال؛ كان على الأسرار مؤتمناً، والعفة عن الأموال أيسر من العفة عن إذاعة الأسرار؛ لأن الإنسان قد يذيع سر نفسه، بمبادرة لسانه، وسقط كلامه، ويشح باليسير من ماله، حفظاً لَهُ، وضناً به، ولا يرى ما أضاع من سرّه كبيراً، في جنب ما حفظه من يسير ماله، مع عِظَم الضرر الداخل عليه، فمن أجل ذلك كان أمناء الأسرار أشد تعذراً، وأقل وجوداً من أمناء الأموال، وكان حفظ المال أيسر من كتم الأسرار؛ لأن أحراز الأموال منيعة، وأحراز الأسرار بارزة يذيعها لسان ناطق، ويشيعها كلام سابق»(2).
وينبغي التنبيه في هذا المقام إلى أن المحافظة على الأسرار مشروطة بأن لا تؤثر في حق الله ـ تعالى ـ أو حق المسلمين، وإلا عُدَّ من الخيانة لحق الله ـ تعالى ـ أو حق المسلمين، وليس حفظ الأسرار هنا من الأمانة(3).
ونتناول موضوع المحافظة على الأسرار من خلال الأمور الآتية: تعريف السِّر، والمحافظة على الأسرار أمانة عظيمة، وصفات أمين السر، والتحذير من إفشاء الأسرار، ونماذج من السلف في المحافظة على الأسرار.
أ - تعريف السِّر:
1- في اللغة: اسم لما يُسر به الإنسان؛ أي يكتمه، وهو مأخوذ من مادة (س ر ر) التي تدل على إخفاء الشيء(1).
2 - في الاصطلاح: قال الراغب الأصفهاني: «السِّرُّ هو الحديث المُكَتَّمُ في النفس»(2).(1/178)
ويقول الجاحظ: «كتمان السر خُلُق مركب من الوقار والأمانة؛ فإن إخراج السر من فضول الكلام، وليس بِوَقُورٍ مَنْ تكلم بالفُضُول. وأيضاً فكما أنه من استودع مالاً فأخرجه إلى غير مودعه فقد خفر الأمانة؛ كذلك من استودع سراً فأخرجه إلى غير صاحبه فقد خفر الأمانة، وكتمان السر محمود من جميع الناس، وخاصة ممن يصحب السلطان؛ فإن إخراجه أسراره ـ مع أنه قبيح في نفسه ـ يؤدي إلى ضرر عظيم يدخل عليه من سلطانه»(3).
ب - المحافظة على الأسرار أمانة عظيمة:
حفظ الأسرار وكتمانها أمانة عظيمة، يجب الوفاء بها، وقد حثَّنا الشرع عليها، وحذَّرنا من فشو الأسرار والتفريط فيها، قال ـ تعالى ـ: {وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولاً} [الإسراء: 34]، وقال ـ تعالى ـ: {وَالَّذِينَ هُمْ لأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ} [المؤمنون: 8]. ويقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: «استعينوا على قضاء الحوائج بالكتمان»(4).
وعلى من أُودِعَ سراً أن يحافظَ عليه ولا يفشيه أبداً، وإلا أصبح خائناً، وهي صفة مشابهة للمنافق الذي إذا ائتمن على شيء خانه، كما في حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «أربعٌ من كُنَّ فيه كَانَ مُنَافِقاً خَالِصاً، ومَنْ كانت فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من النِّفَاقِ حتى يَدَعَهَا: إِذَا ائْتُمِنَ خَانَ، وإِذا حَدَّثَ كَذَبَ، وإِذَا عَاهَدَ غَدَر، وإِذَا خَاصَمَ فَجَر»(5)، وجاء في حديث عمران بن حصين ـ رضي الله عنه ـ قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: «.. إِنَّ بَعْدَكُم يَخُونُونَ ولا يُؤتمنُونَ»(6).
ويقول الكفوي عن عظم المحافظة على الأسرارِ والحذرِ من التساهلِ في التفريطِ فيها: «أوكد الودائع كتم الأسرار»(7).(1/179)
ولذا؛ فإن المحافظة على الأسرار أمر عظيم لا يقوم به إلا الخلَّص من الناس، وقد أجاب الراغب الأصفهاني عن سبب التفريط الشنيع في المحافظة على الأسرار بقوله: «إن للإنسان قوتين: آخذة، ومعطية، وكلتاهما تتشوف إلى الفعل المختص بها، ولولا أن الله ـ تعالى ـ وكَّل المعطية بإظهار ما عندها لما أتاك بالأخبار مَنْ تزوده، فصارت هذه القوة تتشوف إلى فعلها الخاص بها، فعلى الإنسان أن يُمسكها ولا يُطلقها إلا حيثما يجب إطلاقها»(8).
ولِيُعْلَم أن أمناء الأسرارِ عزيزٌ وجودهم، فهم أقل وجوداً من أمناء الأحوال، «وحفظ المال أيسر من كتم الأسرار»(9).
ج - صفات أمين السِّر:
قد تدعو الضرورة بعض الناس إلى الإفضاء بأسرارهم إلى بعض أصدقائهم من أجل مشورتهم أو تخفيف بعض همومهم، لكن عليه أن يتخير صاحب السِّر، من وُصِفَ بالأمانة والدِّينِ والعقلِ. ويذكر الماوردي بعض الخصال في صفات أمين السر، أن يكون: «ذا عقل صاد، ودين حاجز، ونصح مبذول، وود موفور، وكتوماً بالطبع»(10).
ومما ينبغي التنبه إليه في المحافظة على الأسرار وتخير صفات أمين السر ما يأتي:
1 - عدم إيداع السر إلى من يتطلع إليه، ويؤثر الوقوف عليه:
قال الشاعر:
لا تُذِعْ سراً إلى طالبه منك فالطالب للسر مذيع
2 - عدم كثرة المستودَعين للسر، فإن كثرتهم سبب الإذاعة؛ إذ القليل منهم الذي يحافظ على السر(11):
وقال الشاعر:
فلا تنطِق بسرك كلُّ سرٍّ إذا ما جاوز الاثنين فاشي
قال عمر بن عبد العزيز ـ رحمه الله ـ: «القلوب أوعية الأسرار، والشفاه أقفالها، والألسن مفاتيحها، فليحفظ كلُّ امرئ مفتاح سرِّه»(12).
وقال الشاعر:
إِذَا ضَاقَ صَدر المرء عَن سِر نَفسِهِ فَصَدر الذِي يستودع أَضيَق
وحكي أن رجلاً أَسَرَّ إلى صديق لَهُ حديثاً، ثم قال: «أفهمتَ؟ قال: بل جهلتُ، قال: أحفظتَ؟ قال: بل نسيتُ»(1)، وهو بهذا يُكَنّي عن نفسه بعدم البوح لأي أحد.
د - التحذير من إفشاء الأسرار:(1/180)
تعقد المجالس بالأمانة على ما يجري فيها من أمور، فيجب على الجالس أن يحفظ أسرارها، ولا يحل لَهُ أن يُفشي عن إخوانه ما لا يحبّون أن يخرج عنهم، فعن جابر بن عبد الله ـ رضي الله عنهما ـ عن النبي -صلى الله عليه وسلم-' قال: «إذا حَدَّثَ الرَّجُلُ الحَديثَ ثم الْتَفَتَ فَهِي أَمَانَةٌ»(2)، قال المباركفوري في شرحه للحديث: «تَحْسُنُ المَجَالسُ، أو حُسْنُ المجَالسِ وشَرَفُها، بأَمَانة حَاضِريها على ما يقع فيها من قَول وفعل. فكأن المعنى: ليكن صاحب المجلس أميناً لما يسمعه ويراه»(3).
ويؤكد هذا المعنى العظيم الحسن البصري بقوله: «إنما تُجالسون بالأمانة، كأنكم تظنون أن الخيانة ليست إلا في الدينار والدرهم، إن الخيانة أشد الخيانة أن يجالسنا الرجل، فنطمئن إلى جانبه، ثم ينطلق فيسعى بنا»(4).
ومن هنا؛ فإن حفظ الأسرار أمانة كبرى يجب رعايتها، والحذر من إفشاء ما يُدار في المجالس من أمور وأخبار مهمة رُبَمَا يُعَدُّ كشفُها خيانة صغرى أو كبرى.
? ومن الأمور التي يجدر التنبيه إليها في هذا الخصوص:
1 - كشف السر خيانة صغرى:(1/181)
ورد في سبب نزول قوله ـ تعالى ـ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ} [الأنفال: 27]، أنها نزلت في أبي لبابة بن عبد المنذر الأنصاري رضي الله عنه، وذلك أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حاصر يهود قريظة إحدى وعشرين ليلة، ثم إنهم بعثوا إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «أن ابعث إلينا أبا لبابة نستشيره في أمرنا، فبعثه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فأتاهم، فقالوا: يا أبا لبابة، ما ترى أَنَنْزِل على حكم محمد؟ فأشار أبو لبابة بيده إلى حلقه - أنه الذبح فلا تفعلوا -. ثم ندم بعد ذلك وقال: والله! ما زالت قدماي حتى علمت أني قد خنت الله ورسوله»(5)، فإن أبا لبابة -صلى الله عليه وسلم- كان يعلم الحكم في يهود بني قريظة بأنه الذبح! ولكنه أشار بيده إلى حلقه، فكان ذلك منه خيانة لأمانة المجلس(6).
2 - كشف السر خيانة كبرى:
حفظ أسرار المجالس أمانة كبرى يجب رعايتها، وعدم إفشاء ما يُدار فيها من أمور وأخبار مهمة ربما يصلُ كشفُها إلى الخيانة الكبرى، كما في قصة حاطب بن أبي بلتعة رضي الله عنه، في نقله لخبر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بفتح مكة إلى زعمائها(7)؛ إذْ إن حاطباً ممن أخبره النبي -صلى الله عليه وسلم- بوجهته إلى مكة، وهو ما جاء في سبب نزول(8) قوله ـ تعالى ـ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إلَيْهِم بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُم مِّنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإيَّاكُمْ أَن تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ إن كُنتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَادًا فِي سَبِيلِي وَابْتِغَاءَ مَرْضَاتِي تُسِرُّونَ إلَيْهِم بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِمَا أَخْفَيْتُمْ وَمَا أَعْلَنتُمْ وَمَن يَفْعَلْهُ مِنكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ} [الممتحنة: 1].(1/182)
2 - حفظ أسرار الزوجين:
الرجل والمرأة مؤتمنان على حفظ أسرار كل منهما، ويجب عليهما أن يحرصا أشد الحرص على عدم إفشائها، ولا شك أن حفظ سر الزوجين من أخص خصائص كل منهما تجاه الآخر، ومن أكثرها إسهاماً في ديمومة الحياة الزوجية واستقرارها، ويدخل في المحافظة على الأسرار ستْر العورات في العلاقات الزوجية كما في حديث النبي -صلى الله عليه وسلم-: «إنَّ من(9) أعظمِ الأمانَةِ عند اللهِ يوم القيامةِ، الرجل يُفْضِي إلى امرأتِهِ وتُفْضِي إليهِ ثم يَنْشُرُ سِرَّهَا» ـ وفي رواية ـ: «إنَّ من أَشَرِّ النَّاس عند اللهِ مَنزِلَة يَوم القيامة، الرجل يفضي إلى امرأته، وتفضي إليه، ثم ينشر سرها»(10).
وقال جرير يرثِي امرأته في عفافها ومحافظتها على حديثه:
كَانَت إذا هَجَرَ الخَليل فِرَاشَهَا خَزْنَ الحَدِيثِ وعفَّت الأسرارِ(1)
هـ ـ نماذج من أخلاق السلف في المحافظة على الأسرار:
إن حفظ الأسرار وكتمانها من الأخلاق العظيمة التي تُعْلِي من شيم أصحابها وشمائل صفاتهم، فقد كان الصحابة والصحابيات ـ رضي الله عنهم جميعاً - مضرب المثل في حفظ الأسرار التي يؤتمنون عليها.
فهذا حذيفة بن اليمان ـ رضي الله عنهما - أمين سِرِّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في المنافقين، وكان يقال له: صاحب السِّر الذي لا يعلمه أحدٌ غيره(2).(1/183)
وعن عبد الله بن عمر ـ رضي الله عنهما - أن عمر ـ حين تَأَيَّمَتْ بنته حفصة رضي الله عنها، قال: «أتيتُ عثمان بن عفان، فَعَرَضْتُ عليه حَفْصَةَ، فقال: سأنظر في أمري. فلبثت لياليَ ثم لقيني فقال: قد بدا لي أن لا أتزوجَ يومي هذا. قال عمر: فلقيتُ أبا بكر الصديق، فقلت: إن شئتَ زَوَّجْتُكَ حفصةَ بنتَ عمرَ، فَصَمَتَ أبو بكرٍ، فلم يرجعْ إليَّ شيئاً، وكنتُ أَوْجَدَ عليهِ مني على عثمانَ، فلبثتُ لياليَ، ثم خطبها النبي -صلى الله عليه وسلم-، فأنكحتُها إياه. فلقيني أبو بكر فقال: لقد وَجَدْتَ عليَّ حينَ عَرَضْتَ عليَّ حفصةَ فلم أرجعْ إليكَ شيئاً؟ قال عمر: قلت: نعم. قال أبو بكر: فإنه لم يمنعني أن أرجعَ إليكَ فيما عرضتَ عليّ إلاَّ أنِّي كنتُ علمتُ أَنَّ رسول -صلى الله عليه وسلم- قد ذكرها، فلم أكنْ لأفْشِيَ سِرَّ رسولِ الله -صلى الله عليه وسلم-، ولو تركَهَا رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- قَبِلْتُهَا»(3).(1/184)
وهذه فاطمة بنت محمد -صلى الله عليه وسلم- ورضي الله عنها - تضرب لنا مثالاً في أمانة حفظ السِّر، كما روت أم المؤمنين عائشة ـ رضي الله عنها ـ: «إِنَّا كُنَّا أزواجِ النَّبِي -صلى الله عليه وسلم- عنده جميعاً لم تغادرْ منا واحدة، فأقبلت فاطمة - رضي الله عنها - تمشي ما تُخطئ مِشيتَهَا من مِشيةِ رسولِ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- فلما رآها رحَّب، قال: مرحباً بابنتي. ثم أجلسَها عن يمينه ـ أو عن شماله ـ ثم سَارَّهَا، فَبَكَت بُكاءً شديداً، فلما رأى حُزْنَها سَارَّهَا الثانية، فإذا هي تضحك. فقلت لها: ـ أنا من نسائه ـ خَصَّك رسول الله بالسِّرِ من بيننا ثم أنت تبكين! فلما قام رسول الله -صلى الله عليه وسلم- سألتُها عَمَّا سَارَّهَا؟ قالت: ما كُنتُ لأفشي على رسولِ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- سِرَّهُ. فلما توفي قلت لها: عزمت عليك ـ بما لي عليك من الحق ـ لما أخبرتني! قالت: أما الآن فنعم. فأخبرتني قالت: أما حين سارَّني في الأمر الأول فإنه أخبرني أن جبريل ـ عليه السلام ـ كان يعارضه بالقرآن كل سنة مرة، وإنه قد عارضني به العام مرتين، ولا أرى الأجل إلا قد اقترب، فاتقي الله واصبري، فإني نعمَ السلفُ أنا لك. قالت: فبكيت بكائي الذي رأيت، فلما رأى جزعي سارَّني بالثانية، قال: يا فاطمة! ألا ترضين أن تكوني سيدة نساء المؤمنين، أو سيدة نساء هذه الأمة!»(4).
ولا يتوقف الأمر على أمانة حفظ الأسرار عند الرجال والنساء من الصحابة بل حتى الغلمان، فهذا أنس بن مالك ـ رضي الله عنه ـ الغلام الصغير الذي يخدم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: «أَسَرَّ إِلَيَّ النبي -صلى الله عليه وسلم- سِراً فما أخبرتُ به أحداً بعدهُ، ولقد سألتني أم سُلَيم فما أخبرتُها به»(5).
وفي الختام: على المرء أن يتخير الأمين لسِرِّهِ، وكما قال عامر بن الطفيل:
إذا أنت لم تجعلْ لسركَ جُنَّةً تعرَّضتَ أن تُرْوى عليكَ العَجَائِبُ(1/185)
وأن كل امرئ عهد إليه بسِرٍّ يجب أن يحفظه؛ سواء حاكماً أو طبيباً أو موظفاً أو عاملاً..، وكما قيل: «قلوب العقلاء، حصون الأسرار»(6).
وما أجمل قول حسان ـ في حفظ الأمين للسر:
وأمينٍ حَفَّظته سِرَّ نفسي فوعاهُ حِفْظَ الأمينِ الأمينَا(7)
وإن المحافظة على الأسرار من أعظم الأمانات في العلاقات؛ ليس على المستوى الفردي فحسب؛ بل على مستوى الدول والحكومات، وكم من أسرار كُشفت للخصوم والأعداء؛ سبَّبت الذل والهوان لأفراد وشعوب وأمم!
ونؤكد أن المحافظة على الأسرار مشروطة بأن لا تؤثر في حق الله تعالى، أو حق المسلمين، وإلا عُدَّ من الخيانة لحق الله ـ تعالى ـ أو حق المسلمين، وليس حفظ الأسرار هنا من الأمانة.
--------------------------------------------------------------------------------
(?) كلية الشريعة والدراسات الإسلامية بالإحساء، جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية.
(1) انظر: الاتجاه الأخلاقي في الإسلام، د. مقداد يالجن، ص 102.
(2) أدب الدنيا والدنيا، 296.
(3) انظر: الأخلاق الإسلامية وأسسها، لعبد الرحمن حسن حبنكة الميداني، (2/361).
(1) لسان العرب، لابن منظور، (6/235).
(2) الذريعة إلى مكارم الشريعة، ص 194.
(3) تهذيب الأخلاق، ص 25.
(4) المعجم الكبير، للطبراني، تحقيق: حمدي السلفي، برقم 183 (20/94)، وصححه الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة، برقم 1453، (2 / 436).
(5) رواه البخاري، في كتاب الإيمان، باب علامات المنافق، رقم الحديث 34 واللفظ له، ورواه مسلم في كتاب الإيمان، باب بيان خصال المنافق، رقم الحديث 58.
(6) رواه البخاري في كتاب الشهادات، باب لا يشهد على شهادة جور إذا شهد، رقم الحديث 2651.
(7) الكليات، ص 187.
(8) الذريعة إلى مكارم الشريعة، ص 297.
(9) أدب الدنيا والدين، ص 296، والمستطرف في كل فن مستظرف، لشهاب الدين الإبشيهي، (1/326).
(10) أدب الدنيا والدين، ص 296.
((1/186)
11) انظر: المرجع السابق، ص 297.
(12) المرجع السابق، ص 296.
(1) المرجع السابق، ص 296.
(2) رواه الترمذي في كتاب البر والصلة، باب ما جاء أن المجالس أمانة، وقال عنه: «حسن»، رقم الحديث 1959، وقال عنه الألباني: «حديث حسن»، جامع الترمذي، ص 328 ـ 329. «طبعة بيت الأفكار الدولية».
(3) التحفة في شرح جامع الترمذي، (6/93).
(4) إحياء علوم الدين، لأبي حامد الغزالي، (4/125).
(5) انظر: سيرة النبي -صلى الله عليه وسلم-، لابن هشام، (3/255 ـ 257)، وتفسير الطبري، (13/481 ـ 482)، وأسباب النزول، للواحدي، ص 197ـ 198.
(6) انظر: الأمانة كما يصورها القرآن، لجمال الشهاوي، ص 342، والأخلاق الإسلامية وأسسها، (1/665)، والتاريخ الإسلامي د. عبد العزيز الحميدي، (6/163).
(7) انظر: صحيح البخاري، كتاب المغازي، باب فضل من شهد بدرا، رقم الحديث 3983.
(8) انظر: صحيح البخاري، كتاب التفسير، باب {لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ} [الممتحنة: 1]، رقم الحديث 4890. وأسباب النزول، ص 346 ـ 348، وتفسير القرآن العظيم، لابن كثير (4/41)، و (8 /82 ـ 83).
(9) وفي رواية عن ابن نمير: «إن أعظم».
(10) رواه مسلم في كتاب النكاح، باب تحريم إفشاء سر المرأة، رقم الحديث 1437.
(1) ديوان جرير، شرح: محمد بن حبيب، تحقيق: د. نعمان طه، ص 865.
(2) انظر: صحيح البخاري، كتاب فضائل الصحابة، باب مناقب عمار وحذيفة رضي الله عنهما، رقم الحديث 3742.
(3) أورده البخاري في كتاب النكاح، باب عرض الإنسان ابنته أو أخته على أهل الخير، رقم الحديث 5122.
(4) رواه البخاري في كتاب الاستئذان، باب من ناجى بين يدي الناس، ولم يخبر به صاحبه..، رقم الحديث 6285، و 6286.
(5) رواه البخاري في كتاب الاستئذان، باب حفظ السر، رقم الحديث 6289.
(6) أدب الدنيا والدين، ص 296.
(7) ديوان حسان بن ثابت، ص 414.(1/187)
--------------------------------------------------------------------------------
مجلة البيان، العدد (197)، المحرم 1425،فبراير/مارس 2004 .
* * *
http://www.albayan-magazine.com/zwaya/trbwi/12.htm
مقاصد التوبة ـ دعوة إلى السير في مدارج الكمال
د. محمد عز الدين توفيق
التوبة التي أمر الله بها عباده توبتان: توبة تغير السير، وتوبة تصحح السير، توبة يسلم بها العبد، وتوبة يجدد بها إسلامه، فالأولى توبة إسلام، والثانية توبة إحسان، والثانية منهما تكمل عمل الأولى؛ ذلك أن التحول الذي تحدثه التوبة التي تعقب الغفلة والضلال، وإن كان شيئاً ضخماً في مجال الأفكار والمعتقدات والمشاعر والأحاسيس والأقوال والأعمال، إلا أنها غير كافية لتحقيق كل ما ينتظر الإنسان بعد الهداية، فعندما ينهض بإصلاح ما فسد من أخلاقه وعاداته، وتقويم ما اعوج من أعماله وتصرفاته، ويتتبع بقايا الجاهلية في سلوكه: يكون قد شرع في التوبة الثانية، وإذا كانت التوبة الأولى تحدث مرة واحدة ويعيشها صاحبها في لحظة أو يوم، فإذا هو قد فصل بين عهدين من حياته، فإن التوبة الثانية تجديد مستمر، وعمل متواصل، وسعي دؤوب لتقليص هامش الإساءة بجميع صورها وتوسيع هامش الإحسان بكل أشكاله.
إن توبة الهداية والإيمان تشبه الوقود اللازم لتشغيل محرك معطل عن العمل، وتوبة الإحسان هي الوقود الآخر الذي يحتفظ بالمحرك في حالة اشتغال حتى يبلغ صاحب السيارة مأمنه.
وقد يقول قائل: إن الإسلام إنما تحدث عن توبة واحدة، فلماذا جعلتهما توبتين؟. والحقيقة: أننا لم نفرد التوبة الأولى عن الثانية بخصائص خاصة، فالرجوع إلى الله والإقبال عليه قاسم مشترك فيهما، ولكننا ميّزنا بين مرحلتين في حياة الإنسان، تحتاج كل منهما إلى توبة.(1/188)
وإنما دعانا إلى هذا التمييز: ما نراه عند كثير من المسلمين من التهاون في الارتفاع بإسلامهم وإيمانهم، فتجد الواحد منهم ـ إذا كان قد حقق في أول التزامه بعض التحولات ـ لا يكاد يزيد عليها شيئاً جديداً، مع العلم أن إحلال السنة محل البدعة والطاعة محل المعصية لا يتم بين يوم وليلة.
لم يكن أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- هكذا، فقد كان الواحد منهم إذا أسلم يخلع على عتبة الإسلام رداء الجاهلية ويشرع في إقصاء شوائبها من حياته، ويواصل الليل بالنهار والنهار بالليل، ليصل أقصى ما يستطيع الوصول إليه من درجات الإسلام.
إن الكمالات التي جاء بها الإسلام وأمر بالمنافسة عليها كثيرة جدّاً، كما أن النقائص التي نهى عنها لا تنحصر، وإذا كان الشيطان يضع العوائق في وجه ابن آدم يمنعه بها من التوبة الأولى، فإنه يستأنف محاولته مع من أفلت منه وتاب إلى ربه ليعوقه عن التوبة الثانية، فيصرفه عن تجديد إسلامه لتستوي أيامه، وتضيع منه الفرص، وتتحول حياته إلى ركود، بل لا يتردد في جر الإنسان إلى الوراء والتقهقر إلى الخلف، فبعد أن كان يتقدم إذا به يتأخر.
حوافز التوبة :
إن دوافع التوبة إذا استقرت في قلب المسلم، وصارت جزءاً من العلم الذي في صدره، دفعته للأخذ بأسباب الهداية التفصيلية، بعد أن أكرمه الله (تعالى) بنعمة الهداية العامة، ويوجد بحمد الله (تعالى) أكثر من حافز لهذا التجديد الذي يرتقي بنا في درجات الكمال الممكنة، ويجعلنا دوماً في زيادة من ديننا، ويجعل من التوبة عمل اليوم والليلة.
الحافز الأول: عموم الأمر بالتوبة والحث على تعجيلها:(1/189)
لقد أمر الله (عز وجل) الناس كافة بالتوبة، وأمر بها المؤمنين خاصة، وهذا يعني أن أي إنسان مهما بلغ إيمانه، وتدينه واستقامته لا يستغني عن التوبة، فهي بداية السير ونهايته، يصبح فيها العبد ويمسي، ولا يدعها أبداً، لكن الناس يختلفون في موضوع التوبة: فقد يتوب عبد من الكفر، في الوقت الذي يتوب آخر من بدعة، وثالث من ذنب كبير، ورابع من صغيرة، وخامس من شبهة، وسادس من تقصير في فريضة أو نافلة، وسابع من ترك نصيحة أو غفلة عن ذكر أو تهاون في دعوة أو جهاد...
فهناك ـ إذن ـ أمر إلهي عام لعموم الناس ولعموم المؤمنين بالتوبة إليه، وهذا الأمر يجعل من التوبة ثوباً لا ينزعه العبد ما عاش، وإن نزعه لبعض الوقت عاد إليه من قريب.
فمن الآيات التي خاطب بها (سبحانه) عباده جميعاً : قوله (تعالى): ((وَإنِّي لَغَفَّارٌ لِّمَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً ثُمَّ اهْتَدَى)) [طه: 82].
وقوله (سبحانه): ((إنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِن قَرِيبٍ فَأُوْلَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً (17) وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ المَوْتُ قَالَ إنِّي تُبْتُ الآنَ وَلا الَذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ)) [النساء: 17، 18].
ومن الأحاديث: قوله ـ فيما رواه الترمذي وحسنه ـ: (تُقبل توبة العبد ما لم يغرغر)، والغرغرة: الاحتضار، وقوله ـ فيما رواه مسلم ـ : (إن الله (تعالى) يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار، ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل حتى تطلع الشمس من مغربها).(1/190)
أما الآيات التي خاطبت المؤمنين خاصة، فمنها قول الله (تعالى): ((يَا أَيُّهَا الَذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَّصُوحاً))[التحريم: 8]، وقوله (عز وجل): ((وَتُوبُوا إلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا المُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ)) [النور: 31].
ولايخفى أن التوبة التي أمر الله بها المؤمنين ليست توبة الإسلام والإيمان؛ فهم مسلمون مؤمنون، ولكنها توبة الإحسان التي تجدد إسلامهم، وتقوي إيمانهم، وتصلح ما فسد من أعمالهم وتقوِّم ما اعوج من تصرفاتهم.
وما دامت الأخطاء واردة فالأمر بالتوبة قائم لا يجاوزه أحد، وهو في كل وقت على التعجيل والفور، لا التأخير والتراخي، وكل توبة قبل الموت فهي توبة من قريب، وكل ذنب فارتكابه جهالة.
الحافز الثاني : التفكر الدائم في حقيقة الزمن :
هناك حجاب كثيف من الغفلة يمنع أكثر الناس من إدراك حقيقة الزمن، فهم لا يرون في طلوع الشمس سوى بداية يوم جديد يربطون فيه الاتصال بمجموعة من الهموم الآنية والأغراض العاجلة، كما لا يرون في الليل سوى نهاية ذلك اليوم، ونادراً ما يتجاوزن هذا النظر القريب إلى نظر آخر بعيد، يبدو فيه تعاقب الليل والنهار درساً بليغاً، وموعظة، وذكرى للنفس : ((وَهُوَ الَذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِّمَنْ أَرَادَ أَن يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُوراً)) [الفرقان: 62].
كل يوم يأتي هو فرصة لمن كان على قيد الحياة، فهذه الأيام لا تتعاقب بلا نهاية، بل لكل إنسان منها عدد محدود، يبدأ يوم ولادته، وينتهي يوم وفاته.(1/191)
إن قراءة الزمن ـ على ضوء الآيات والأحاديث وأقوال أهل العلم والإيمان ـ تنتهي بالعبد إلى نتيجة أخيرة، هي: أن أحسن ما يقدم بين يديه في هذه الأيام هو العمل الصالح، وأول عمل صالح يقدمه بين يديه هو التوبة الصادقة، فيقبل على ربه بالافتقار، ويعتذر إليه عن التقصير في القيام بواجب العبودية؛ لعل توبته تلك تشفع له بين يدي أعماله القليلة الهزيلة.
إن دورة اليوم، ودورة الأسبوع، ودورة الشهر، ودورة العام: كل منها يعطي مثلاً لعمر الإنسان، قال الله (تعالى): ((اعْلَمُوا أَنَّمَا الحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الأَمْوَالِ وَالأَوْلادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَراً ثُمَّ يَكُونُ حُطَاماً وَفِي الآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الحَيَاةُ الدُّنْيَا إلاَّ مَتَاعُ الغُرُورِ)) [الحديد: 20].
ففي هذه الآيات تعريف للدنيا وما يفعل الناس فيها؛ فهي لعب ولهو وزينة وتفاخر وتكاثر في الأموال والأولاد، ومثالها في سرعة الانقضاء كمثل النبات يتم دورته في مدة يسيرة: فبينما هو نبت صاعد أخضر، إذا هو هشيم أصفر.
وقال النبي -صلى الله عليه وسلم- ـ فيما رواه الحاكم وابن المبارك في الزهد بسند صحيح من مرسل عمرو بن ميمون ـ : (اغتنم خمساً قبل خمس: شبابك قبل هرمك، وصحتك قبل سقمك، وفراغك قبل شغلك، وغناك قبل فقرك، وحياتك قبل موتك).
ففي هذا الحديث: أن الزمن سريع الزوال، والدنيا فرص، إذا لم يغتنمها صاحبها فاتت وذهبت، فالشباب لا بد يأتي بعده الهرم، والحياة يأتي بعدها الموت.(1/192)
قال الحسن البصري: إنما أنت أيام مجموعة، كلما مضى يوم مضى بعضك، وإنما أنت بين راحلتين تنقلانك، ينقلك الليل إلى النهار، وينقلك النهار إلى الليل، حتى يسلمانك إلى الآخرة، فمن أعظم منك يا ابن آدم خطراً، والموت معقود بناصيتك، والدنيا تطوى من ورائك؟.
لقد التفت الحسن البصري (رحمه الله) في هذه القولة إلى البعد الزماني في تعريف الإنسان، فهو مجموعة من الأيام إذا مضى منها يوم مضى منه بعضه حتى ينتهي.
لقد قال بعض العارفين يصف الدنيا: إنها أنفاس تُعد، ورحال تُشد وعارية ترد، والتراب من بعد ينتظر الغد، وما ثمّ إلا أمل مكذوب، وأجل مكتوب، فكيف يغفل مَن يَوْمُه يهدم شهره، وشهره يهدم سنته، وسنته تهدم عمره، وعمره يقوده إلى أجله.
إن التفكر في حقيقة هذا الزمن على ضوء تصور الإسلام للحياة الإنسانية ضروري للقيام بتجديد شامل ومستمر في الأفكار والأعمال، فهو يكشف له أن بضاعته في هذه الحياة هي الزمن، وكل يوم يبزغ فجره فرصة إمهال ـ قد تكون الأخيرة ـ وبعدها العذاب الشديد أو المغفرة والرضوان.
إن هذا التفكر في ذلك البعد هو الذي يوقف داء التسويف الذي يعاني منه كثير من الناس عندما يَعِدون أنفسهم بالتوبة عدة مرات، ويقولون: غداً غداً، فيجيء الغد ويصير يوماً، ويصير اليوم من بعد ذلك أمساً، وهم على حالهم، مغترون بالعافية والستر، لا يذكرون ما بين أيديهم من أهوال وأخطار، حتى يفجأهم الموت في وقت لم يتوقعوه، ويصرعهم في يوم لم ينتظروه، فتفوتهم فرصة التوبة والتدارك.
ولا يحسبن أحد أن التفكر الذي ندعو إليه هو تلك الأفكار السوداوية التي تدعو إلى التشاؤم بهذه الحياة، بل نحن ندعو إلى تأمل إيجابي فعال، تكون ثمرته إعادة النظر في عوائد الحياة، وتصحيح ما لا يتفق مع قيمتها وأمانة الاستخلاف فيها.(1/193)
إنه ما لم يستحضر الإنسان حقيقة الزمن بين عينيه بكل خطورتها فلن يتقدم خطوة واحدة في توبته، لكنه إن ذكر أن عمره ينقص ولا يزيد، وأنه يسعى في هدمه منذ نزل من بطن أمه، وأنه في كل يوم مودع.. تنبه وتيقظ، ولم يؤخر عمل اليوم إلى الغد؛ لأن للغد عمله.
وما أدري وإن أَمّلتُ عمراً لعلي حين أصبح لست أمسي
أَلم تر أَن كل صباح يوم وعمرك فيه أقصى منه أمس
الحافز الثالث : النظر إلى الماضي:
خلق الله (عز وجل) الإنسان بقدرات عقلية متميزة، ومنها القدرة على التذكر، وهذه القدرة التي أوتيها الإنسان دون سائر الحيوانات ليست من أجل التعرف على الأشياء عند رؤيتها، أو من أجل إتقان المهن والحرف والمهارات، أو من أجل القراءة والكتابة... أو غير ذلك من منافع الذاكرة فقط، بل هناك مهمة أخرى أسمى من هذا كله، هي: استرجاع الماضي بقصد المحاسبة والمراجعة، قال الله (تعالى): ((لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ القِيَامَةِ (1) وَلا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ)) [القيامة: 1، 2].
والله (عز وجل) إذا أقسم بشيء من مخلوقاته: فإما لأجل بيان قدرة هذا الشيء ومنزلته، أو للتنبيه على ما فيه من دلائل الحكمة الإلهية، وفي هذه الآية أقسم (سبحانه) بالنفس اللوامة تنبيهاً على هذه الآية العقلية، وهي: قدرة الإنسان على التفكير بعامة والتذكر بخاصة، وثانياً : تنويها بهذه النفس التي استعملت هذه القدرات العقلية فيما خلقت لها ولم تقصرها على جانب التسخير والانتفاع فحسب، فجعلتها للتفكر والمحاسبة والاعتبار أيضاً.
إن الماضي لا يرجع، ولكن الإنسان يستطيع أن يسترجعه من الذاكرة، فإذا أحداثه حاضرة في وعيه وشعوره ينظر إليها، فإذا كان القصد من استرجاعها هو المحاسبة والمراقبة، فنحن أمام حافز آخر من حوافز التوبة.(1/194)
إن الذي ينسى ماضيه بمجرد مروره لا يمكن أن يصحح حاضره أو يخطط لمستقبله، لأنه يعيش عمراً متقطعاً منفصلاً بعضه عن بعض، ولكن الذي يرى عمره سلسلة واحدة متصلة الحلقات، يأخذ من ماضيه لحاضره، ومن حاضره لمستقبله، وهذا الذي يأخذه هو الدروس والعبر، وهو التجارب والخبرات، فالذي يفكر في ماضيه على ضوء الطموحات التي اختطها لنفسه في الحياة، وعلى ضوء الغاية التي يسعى إليها، وهي رضوان الله والجنة، يستقل طاعاته لا محالة، ولسان حاله في كل مرحلة: لو استقبلت من أمري ما استدبرت لفعلت كذا ولتركت كذا، فيتدارك ما استطاع، ويعوض عما فات ويسابق الأيام في ذلك.
بهذا يؤدي الماضي للمسلم الذي ينظر فيه مهمة جليلة؛ لأنه يتحول إلى ناصح وموجه، يدلي بمشورته عند الحاجة.
وإذا كانت التوبة الصحيحة تمحو ما قبلها، فإن هذا لا يعني أن المسلم إذا تاب ينسى ما قدمت يداه : ((وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ)) [الكهف: 57].
لكنه بعد التوبة يحتفظ لماضيه بهذه المهمة الإيجابية، وهي: الحث على الاستدراك وإصلاح الأخطاء، وهذا معنى قول بعض العلماء: معصية أورثت ذلاً وانكساراً خير من طاعة أورثت عجباً واستكباراً.
الحافز الرابع: النظر إلى المستقبل:
إذا كان الجسم الإنساني محصوراً في الحاضر، خاضعاً لسلطته: فإن القلب يستطيع أن يتحرر من هذه السلطة ليرتاد أغوار الماضي وآفاق المستقبل، فيرى حياته في أطوارها الماضية والحاضرة والمقبلة، والذي ينظر إلى حياته بهذا الشكل الممتد ولا يبقى سجين الحاضر هو الذي يرى عواقب الأمور في بداياتها، فيغنم خيرها، وينجو من شرها؛ لأنه يُعِد لكل أمر عدته ويلبس لكل حالة لبوسها، ويتصرف أمام كل موقف بما يناسبه، لا قبل الأوان ولا بعد الأوان.(1/195)
وإذا كان نظر المسلم إلى ما مضى يجدد عزمه ويشحذ همته، ليكون في يومه أفضل منه في أمسه، فإن نظره إلى المستقبل يحثه على المسارعة بتنفيذ ما عزم عليه من توبة وتصحيح، فالآجال بيد الله وحده، والأعمال بالخواتيم، والمستقبل يشمل ما ينتظره بعد الموت من أهوال القبر، وما ينتظره بعد البعث من أهوال الحشر والحساب.
إنه لا يدري متى يستدعى، ولا يدري ما اسمه غداً، ولايدري أيخف ميزانه أم يثقل، ولا يدري أيكون من السعداء أم من الأشقياء.
كيف ينسى المسلم هذا المستقبل وهو معني به، وسيعيش لحظاته لحظة لحظة، ويجتاز أطواره مرحلة مرحلة، حتى يكون مثواه في الجنة أو في النار.
وإنما يغفل عن هذا المستقبل من ضعفت خشيته، وبهت يقينه باليوم الآخر، وران على قلبه ما كسب من خطيئات، يلعب بالنار وهو لاهٍ غافل، ويقف على حافة الهاوية وهو سادر معرض، حتى يفجأه الموت وهو على عمل من أعماله الرديئة، فيهلك هلاك الأبد.
إنه لا ينجي من سوء الخاتمة إلا التفكر الدائم في المستقبل، والمستقبل يبدأ من اللحظة الآتية، ومن خاف سوء الخاتمة اجتهد في توسيع دائرة الإحسان في حياته وتقليص هامش الإساءة، وهذه هي التوبة الثانية بمعناها الواسع، فإنه لا يودع فترة من حياته إلا وقد شهد فيها إسلامه تحسناً جديداً.
--------------------------------------------------------------------------------
مجلة البيان، العدد (105 )، جمادي الأولى 1417،اكتوبر 1996 .
--------------------------------------------------------------------------------
مقاصد التوبة دعوة إلى السير في مدارج الكمال
(2/2)(1/196)
استهلّ الكاتب الحلقة الماضية ببيان نوعي التوبة وماهية كلٍّ منهما ، مع توضيح أهمية التوبة التي تجدد الإسلام (توبة الإحسان) ، ثم أخذ يتحدث عن حوافز (دوافع) التوبة ، فكان منها: عموم الأمر بها ، والتفكر في حقيقة الزمن ، والنظر إلى الماضي ، والنظر إلى المستقبل ، ويواصل الكاتب عرضه لجوانب أخرى.
- البيان -
الحافز الخامس: الشعور بالاصطفاء:
لقد مضت سنة الله (تعالى) في الناس أن يكون أهل الهداية قلة وأهل الضلالة كثرة ((وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ)) [يوسف: 103] ، ((وَإن تُطِعْ أَكْثَرَ مَن فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ)) [ الأنعام: 116]، ((وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ)) [هود: 119] ، ((اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْراً وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ)) [سبأ: 13] ، ((وَالْعَصْرِ (1) إنَّ الإنسَانَ لَفِي خُسْرٍ (2) إلاَّ الَذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ)) [العصر: 1 3].
والتفكر في هذه الحقيقة الإلهية ، وتتبع شواهدها في التاريخ والواقع: من أعظم الحوافز التي تدعو إلى التمسك بالهداية ، والتشبث بأسبابها ، والحذر من عوامل سلبها ، فالذي يعلم أنه بالتوبة الأولى قد التحق بالموكب الكريم من المؤمنين الصالحين ، وانتمى إلى الصفوة المختارة من عباد الله يتقدمهم الأنبياء والمرسلون: يعمل أقصى جهده ليتبوأ أفضل مقعد في هذا الموكب ، ويأخذ أحسن موقع في هذا الصف ، ولا يزال يجاهد نفسه ويحملها على الأحسن والأصوب ، وحتى يدرك من المراتب ما لا يشاركه فيه إلا القليل من الناس.
وأي شيء يهدده في هذه النعمة ، ويحرمه من هذه المعية الطيبة وهذا الجوار المقدس: يبعد عنه ويحذر منه.(1/197)
هذا الشعور بالاصطفاء الذي يبدأ في القلب عقب التوبة الأولى ، ويزداد ويعظم بالتوبة الثانية: هو الذي يهون على النفس سائر المعاصي مهما تكن جاذبيتها؛ لأنه عندما يضع تلك اللذات في كفة ، ويضع هذا الاصطفاء في كفة ، ويكون ذا عقل ورأي: لا يرجح إلا الثاني ، ولا يأنس إلا به ، وكيف لا يأنس وقد وجد الطريق ووجد الرفيق؟!.
الحافز السادس: التأسي برسول الله -صلى الله عليه وسلم-:
إن التأسي برسول الله -صلى الله عليه وسلم- فوق أنه فرض واجب ، فهو من أعظم الحوافز التي تدعو المسلم إلى تجديد إسلامه باستمرار.
والتأسي برسول الله -صلى الله عليه وسلم- ليس عمل يوم أو ليلة ، ولكنه عمل كل يوم وكل ليلة حتى الوفاة ، فقد جمع الله (عز وجل) الكمالات البشرية في نبيه -صلى الله عليه وسلم- ، وزكى سيرته من فوق سبع سماوات لتكون قدوة للناس ، فكل مسلم مأمور أن يدرس هذه السيرة بنيّة التأسي والاتباع ، قال الله (تعالى): ((لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً)) [الأحزاب: 21].
ومن اكتشف هذا المعِين: لزمه، واستقى منه، ومنع أي مصدر آخر أن يشوش عليه، وكيف يترك المقطوع به للمظنون ، والمعصوم لغير المعصوم؟!.
وما دام المسلم يرى في سلوكه بدعاً ومحدثات وذنوباً وآثاماً ، فإنه يشعر بالنقص الحاصل في امتثاله للآية السابقة ، فيزداد اقتراباً من سيرة نبيه -صلى الله عليه وسلم- ، جاعلاً الغاية التي يشمر إليها والشعار الذي يسعى نحوه: الأخذ بكل ما كان يفعله نبيه ، والإقلاع عن كل ما كان يتركه.
إن الاقتداء برسول الله -صلى الله عليه وسلم- في صلاته ، وصيامه ، وحجه ، وذكره ، وطهوره ، ودعوته ، وفي شأنه كله: حافز من حوافز التوبة الثانية التي تمتد سائر العمر.(1/198)
وإذا علم المسلم أن النبي نفسه ـ وهو المعصوم الذي غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر ـ قد أُمر بالتوبة والاستغفار في عدة آيات ، آخرها عند فتح مكة لما قال الله (تعالى) له: ((إذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ (1) وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجاً (2) فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إنَّهُ كَانَ تَوَّاباً)) [النصر: 1 3].
ماذا يكون حال غيره ممن لا يدري بَعْدُ مصيره ، وفي الحديث الذي رواه مسلم يقول رسول الله -صلى الله عليه وسلم- : »يا أيها الناس: توبوا إلى الله واستغفروه ، فإني أتوب في اليوم مئة مرة«.
الحافز السابع: الاقتداء بالسلف الصالح:
الاقتداء بالسلف الصالح فرع عن الاقتداء برسول الله -صلى الله عليه وسلم- ، والسلف الصالح هم القرون الثلاثة الأولى التي شهد لها رسول الله، صلى الله عليه وسلم، بالخيرية ثم جميع الذين يشبهونهم في الفهم والتطبيق ، كيفما كان عصرهم ، وكيفما كان بلدهم.
السلفية اتجاه في فهم الإسلام والعمل به ، والسلف هم الذين تحققوا بمقومات هذا الاتجاه في كل عصر ، الأمثل فالأمثل ، وفي حديث العرباض بن سارية (رضي الله عنه) ، قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: »أوصيكم بتقوى الله.... فإنه من يعش منكم فسيرى اختلافاً كثيراً، فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء المهديين الراشدين، تمسكوا بها، وعضوا عليها بالنواجذ ، وإياكم ومحدثات الأمور؛ فإن كل محدثة بدعة ، وكل بدعة ضلالة«(1).
فذكر سنته ، ثم ذكر سنة الخلفاء الراشدين بعده؛ لأنها امتداد لسنته ، فقد كانوا (رضي الله عنهم) أشبه الناس به في صلاته وقضائه وجهاده وفي هديه كله ، ثم يأتي بعدهم التابعون لهم بإحسان في كل جيل.(1/199)
ويحتاج المسلم الذي يريد أن يجدد إسلامه ويتوب توبة الإحسان أن ينظر في سيرة من سبقوه ، وحازوا قصب السبق في كل فضيلة؛ فعندما يطالع سيرهم: يقف على نماذج رائعة في استغلال الوقت ، واستثمار العمر ، ومبادرة الأجل بالأعمال الصالحة ، وترتيب الأعمال حسب الأولوية ، والموازنة بين العبوديات ، والشمول في فهم الدين ، واليقين العظيم في الجزاء ، والبعد عن موجبات النقمة والعذاب ، ثم ينظر إلى نفسه ، فيجدها بعيدة عن كل ذلك ، فتتحرك في نفسه غبطة محمودة تحمله على منافستهم في مقاماتهم ، والاقتداء بهم في أخلاقهم وأعمالهم، وقد كتب علماؤنا كتب التاريخ والتراجم لهذا الغرض؛ حتى تبقى التجارب الناجحة في تطبيق الإسلام محفوظة ، يستشهد بها الواعظ والخطيب والمربي والداعية والمدرس والشاعر والكاتب ، كلّ في مجاله وموضوعه ، وهذه مقتطفات من كتاب صيد الخاطر للشيخ عبد الرحمن بن الجوزي المتوفى سنة 597هـ ، نوردها مثالا لهذه السيرة النموذجية(*) يقول (2): »تأملت نفسي بالإضافة إلى عشيرتي الذين انفقوا أعمارهم في اكتساب الدنيا ، وأنفقت زمن الصفوة والشباب في طلب العلم، فرأيتني لم يفتني مما نالوه إلا ما لو حصل لي لندمت عليه، ثم تأملت حالي: فإذا عيشي في الدنيا أجود من عيشهم ، وجاهي بين الناس أعلى من جاههم ، وما نلته من معرفة العلم لا يقاوم ، وما طالت طريق أدت إلى صديق ـ كما يقال ـ ، وقد كنت في حلاوة طلبي للعلم ألقى من الشدائد ما هو عندي أحلى من العسل؛ لأجل ما أرجو وأطلب«.(1/200)
"كنت في زمن الصبا آخذ معي أرغفة يابسة ، فأخرج إلى طلب الحديث ، وأقعد على نهر عيسى في ضواحي بغداد ، فلا أقدر على أكلها إلا عند الماء ، فكلما أكلت لقمة شربت عليها ، وعين همتي لا ترى إلا تحصيل العلم ، وأثمر عندي ذلك من المعاملة ما لا يدرك بالعلم ، حتى إنني أذكر في زمان الصبوة ووقت الغلمة والعزبة: قدرتي على أشياء كانت النفس تتوق إليها توقان العطشان إلى الماء الزلال ، ولم يمنعني عنها إلا ما أثمر عندي من خوف الله (عز وجل) ، ولولا خطايا لا يخلو منها بشر... لقد أخاف على نفسي العجب، غير أنه (عز وجل) صانني وعلمني وأطلعني من أسرار العلم على معرفته وإيثار الخلوة به، حتى لو حضر معي معروف الكرخي وبشر الحافي لرأيتهما زحمة«.
وقد رباني (سبحانه) منذ كنت طفلاً ، فإن أبي مات وأنا لا أعقل به، والأم لم تلتفت إليّ، فركّز في طبعي حب العلم ، ومازال يوقعني على المهم فالمهم ، ويحملني إلى من يحملني على الأصوب حتى قوّم أمري...
ولقد تاب على يدي في مجالس الذكر أكثر من مئتي ألف ، وأسلم على يدي أكثر من مئتين ، وكم سالت عين متجبر بوعظي لم تكن تسيل...«.
هذه نشأة عالم مسلم وكلها تصون وعفاف ، وعلم نافع وعمل صالح ، ومع ذلك: كثيراً ما يؤنب نفسه ، ويرى أنه لم يسلم بعد إسلاماً جيداً ، يقول رحمه الله (تعالى) (3):(1/201)
"تفكرت في نفسي يوماً محققاً ، فحاسبتها قبل أن تحاسب ، ووزنتها قبل أن توزن... ولقد تفكرتُ في خطايا لو عوقبت ببعضها لهلكت سريعاً ، ولو كشف للناس بعضها لاستحييت ، ولا يعتقد معتقد أنها من كبائر الذنوب حتى يظن بي ما يظن في الفساق ، بل هي ذنوب قبيحة في حق مثلي ، وقعت بتأويلات فاسدة... أف لنفسي! وقد سطرت عدة مجلدات في فنون العلم وما عبق بها من فضيلة ، إن نُوظِرَتْ شَمَخَتْ ، وإن نوصحت تعجرفت ، وإن لاحت الدنيا طارت إليها طيران الرخم وسقوط الغراب على الجيف... أف والله مني اليوم على وجه الأرض وغداً تحتها! ، والله إن نتن جسدي بعد ثلاث تحت التراب أقل من نتن إخلاقي وأنا بين الأحباب... وغداً يقال : مات الحبر العالم الصالح ، ولو عرفوني بحق معرفتي ما دفنوني... والله لأنادين على نفسي نداء المكشِفين معايب الأعداء ، ولأنوحن نوح الثاكلين للأبناء...
واحسرتاه على عُمْر انقضى فيما لا يطابق الرضى ، واحرماني من مقامات الرجال الفطناء، يا حسرتي على ما فرطت في جنب الله وشماتة العدو بي ، واخيبة من أحسن الظن بي إذا شهدت الجوارح عَليّ ، واخذلاني عند إقامة الحجة ، سخر ـ والله ـ مني الشيطان وأنا الفطن«.
ثم يختم هذه المعاتبة بقوله: »اللهم توبة خالصة من هذه الأقذار ، ونهضة صادقة لتصفية ما بقي من الأكدار«.
فإذا كانت نهاية حوار هذا العالم مع نفسه أن يسأل توبة خالصة ونهضة صادقة ، فما أحرى من هو دونه علماً وعملاً أن يسأل ذلك.(1/202)
ونؤكد أن المسلم إذا طالت صحبته لسِيَر السلف استوحش من أهل زمانه وأنكر أسلوب حياتهم ، وتعلق بالآفاق العالية التي حلق فيها أولئك الرجال العظماء النبغاء الموهوبون ، فهو في كل ساعة مشغول بمنافستهم ومزاحمتهم ، وكلما حل بمنزلة من منازل السير: تراءت له أخرى أعلى ، وكلما دهمه كسل أو فتور: تذكر أنه في حلبة سباق ، وأي تهاون أو تباطؤ سيلقي به في مؤخرة المتنافسين ، ويزيده تشجيعاً: أن الاجتماع بهؤلاء السلف الصالح هو السير على نهجهم والتخلق بأخلاقهم.
إن الاقتباس من السِّيَر الناجحة والتجارب الموفقة في تطبيق الإسلام يحدث توبة متجددة في حياة المسلم ، ويصحح من أوضاعه باستمرار.
الحافز الثامن: حقارة الإنسان بلا إيمان:
إن مما يزكي خطوات المسلم في طريق التوبة: علمه أن الإنسان بلا إيمان كائن تافه حقير ، بل هو لا شيء ، يولد ويحيا ويموت كما ولد ومات الملايين من أمثاله.
ها هو الليل والنهار قد صحبا قوم نوح وعاد وثمود وقروناً بين ذلك كثيراً ، فقرب بهما البعيد ، وبلي بهما الجديد ، وتحقق بهما الموعود ، ولا زالا يسيران في الباقين سيرتهما في السابقين ، أفيكون من التبصر والتعقل تعرض الإنسان الضعيف الفقير لهلاك الأبد ـ إذا أصر على الكفر أو المعصية ، وأنفق أيام عمره فيما يغضب الله ويسخطه عليه ـ؟.
أيكون من التعقل أن يعرف الإنسان طريق الأمان ويظل شارداً عنه ، والله (سبحانه) يفرح بتوبته ـ إذا تاب ـ كما يفرح المسافر الذي أضل راحلته حتى أوشك الهلاك جوعاً وعطشاً، فوجدها وعليها طعامه وشرابه؟.(1/203)
كثير من الناس تتضخم عندهم ذواتهم ، وتتحول إلى معبود يعبدونه من دون الله ، فيظن أنه ذو شأن كبير بما عنده من أموال، أو ما يحمله من ألقاب ، أو ما عنده من خدم وحشم وولد، وتخدعه الأعراض الزائلة، فيغفل عن البداية والنهاية، أو الميلاد والممات ، وينسى أن ما أدركه من مال وجاه عَرَض حاضر، وعن قريب يزول، قال (تعالى): ((وَيْلٌ لِّكُلِّ هُمَزَةٍ لُّمَزَةٍ (1) الَّذِي جَمََعَ مَالاً وَعَدَّدَهُ (2) يَحْسَبُ أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ (3) كَلاَّ لَيُنْبَذَنَّ فِي الحُطَمَةِ)) [الهمزة: 1 4] ، فمالُه لا يُخلده ، بل مثله مثل سائر الناس يموت بأجَله؛ فيترك المال وراء ظهره ، ويقدم على ربه وحده.
تضخم الذات وتحولها إلى محور لاهتمامات الشخص ، واغتراره بالمكانة والجاه في بلده وقومه: موانع تحول دون الإنسان والتوبة ، ولكنه متى علم أنه بلا إيمان كائن حقير ، وأنه يموت فيرجع إلى ربه: طلب المكانة اللائقة به ، بصفته مخلوقاً كريماً على الله الذي خلق كل شيء من أجله وخلقه لعبادته.
الحافز التاسع: العلاقة بين الإنسان والكون :
إن الإسلام ليس دين الإنسان فحسب ، بل هو دين الكون كله ، فالسماوات والأرض وما فيهما خاضع لكلمة الله الواحدة ، وكل ما فيهما من كائنات علوية وسفلية مسلم لله عابد له بالكيفية التي تناسبه.
وأي مخالفة ـ مهما كانت هينة ـ تمثل شذوذاً عن كوْنٍ مسلم خاضع لربه مطيع لخالقه.
هذا الكون إبداع الخلاق العليم ، والإنسان جزء منه ، فالقوانين التي تحكم فطرته ليست بمعزل عن الناموس الذي يحكم الوجود كله ، والله الذي خلق هذا الكون وخلق الإنسان ، هو الذي سن للإنسان شريعة تنظم حياته تنظيماً متناسقاً مع طبيعته ، فأي خروج عنها يعني التصادم مع الفطرة والكون.(1/204)
وإذا كان الحفاظ على هذا الانسجام بين الفطرة والكون مطلباً عزيزاً؛ لكثرة أخطاء الإنسان وذنوبه: فإن الله (عز وجل) فتح باب التوبة ، يدخله العبد كل وقت ، فيجدد عهود الخلافة ويصحح ما كان قد انتقض منها ، وفي بعض الآثار: أن الإنسان إذا أذنب الذنب تستأذن المخلوقات في إهلاكه ، فيقال لها: لعله يتوب ، لعله يتوب.
إن الإحساس بالرابطة التي تربطنا بالكون ـ وهي رابطة العبودية لله ـ هو الذي يدفع إلى الالتزام الصارم بأوامر الشريعة؛ لأنها توفق بين نظام الكون ونظام الفطرة ، وتكون التوبة التي تعقب الذنوب أو تجدد الطاعات بمثابة المصالحة التي تعقب الخصام ، أو القرب الذي يقرب التباعد والهجران.
الإنسان المسرف على نفسه مثل النغمة النشاز التي تشذ عن أنشودة الكَوْن ، أو هي المتسابق الذي يسير في عكس اتجاه الكوكبة ، أو هو المصلي الذي يصلي في اتجاه مقابل للقبلة مخالفاً لباقي المصلين.
فلو تذكر الإنسان أنه ليس وحده في هذا الكون ، ولو التفت يميناً وشمالاً ، ورفع بصره وخفضه ، ورأى آيات الله في الآفاق والأنفس ، لرأى مخلوقات مقبلة على شأنها ، قائمة بحق ربها ، فيقبل مثلها على شأنه وينظر في أمر ربه فيلزمه ، عند ذلك يشعر بالأُنس ، وتزول عنه الغربة التي يشعر بها غيره، فكيف إذا ترقى من الشعور بالأُنْس مع المخلوقات إلى الأنس بالخالق، فيأنس إلى ربه عندما يشعر أن الله (تعالى) معه، يشهده وينظر إليه، وأن الله (تعالى) معه ، يحفظه ويرعاه، وهذه هي جنة الدنيا التي من دخلها دخل جنة الآخرة ـ بإذن الله ـ.
والآن: وبعد أن استعرضنا هذه الحوافز : لا بد أن نؤكد في الأخير أن تجديد الإسلام في حياة المسلم مشروع كبير ، وحتى ينجح أي مشروع لا بد أن يمر بثلاث مراحل : الأولى: التفكير والتنظير ، والثانية: التخطيط والبرمجة ، والثالثة: التنفيذ والمحاسبة.(1/205)
فالتوبة التي تصحح سير المسلم إلى ربه مشروع ما بعد الهداية ، فليضع له المسلم ما يحتاج إليه من أهداف وبرامج ، وهذا الشق العملي لا يُقَال ، بل يمارس ويطبق.
نسأل الله (تعالى) أن يرزقنا الإخلاص في القصد ، ويلهمنا الصواب في العمل.
الهوامش :
1)سنن أبي داود ، كتاب السنة ، ح /4607 ، وصححه الألباني.
2) صيد الخاطر ، ص 597.
3) ص 372.
*) ابن الجوزي عالم وواعظ مشهور ، غير أن له بعض السقطات في كتابه صيد الخاطر ، انظر: (تهذيب صيد الخاطر) للأستاذ محمود الحداد ، وأما عقيدته: فهو يميل إلى الأشعرية ، وقد ضمنها تفسيره ، وللوقوف على أخطائه العقدية: انظر: رسالة د/ محمد الغمراوي عن (التفويض عند المفسرين لآيات الصفات) ، أما بحث عقيدته وتسليط الأضواء عليها: فانظر: كتاب (اتحاف أهل الفضل والإنصاف بنقض كتاب ابن الجوزي دفع شبه أهل التشبيه) للشيخ سليمان العلوان ، وكذلك كتاب (الصواعق والشهب المرمية على ضلالات السقاف البدعية) للشيخ عبد الرحمن بن يوسف الرحمة.
--------------------------------------------------------------------------------
مجلة البيان، العدد (106 )، جمادي الآخرة 1417،نوفمبر 1996 .
* * *
http://www.albayan-magazine.com/zwaya/trbwi/13.htm
افتقار العمل التربوي إلى الضوابط الشرعية
محمد بن عبد الله الدويش
إن العمل التربوي ـ على اختلاف مستوياته ـ ضرورة لا تستغني عنها الأمة الإسلامية، فهو الوسيلة لنقل الأحكام الشرعية من الحيز النظري إلى العمل والتطبيق، ولقد وصف الله (سبحانه وتعالى) نبيه بأنه مربّ فقال: ((هُوَ الَذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ)) [الجمعة: 2].(1/206)
والتربية واجب الأب والمعلم والأستاذ، وواجب كل من ولاه الله مسؤولية أحد من الناس، وواجب على مستوى الأمة جمعاء.
ولعل من منجزات الصحوة المباركة إيجاد المحاضن التربوية التي أخذت بأيدي شباب الصحوة وناشئتها، وساهمت في حمايتهم من أبواب الشر والفساد.
وثمة اعتبارات عدة تؤكد على ضرورة إحاطة الجهود التربوية بسياج ضوابط الشرع، منها:
أولاً: أن التربية عمل شرعي، وعبادة لله (عز وجل)، فلابد لها أن تحاط بسياج الشريعة، وتضبط بضوابطها، وإن سلامة المقصد، وحسن النية، ونبل العمل ليست مسوغاً أو مبرراً لتسور السياج الشرعي وتجاوز الضوابط.
ثانياً: التربية شأنها شأن سائر الوظائف الشرعية الأخرى (الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، الحكم بين الناس، الجهاد..)، وهذه الوظائف لا يجادل مجادل أنها لابد أن تضبط بالضوابط الشرعية.
ثالثاً: التربية قدوة قبل أن تكون توجيهاً، وعملاً قبل أن تكون قولاً، والمربي ينبغي عليه أن يربي الناس بفعله قبل قوله، فحين يجاوز حدود الشرع فكيف سيربي المُرَبّي على الورع والتقوى ورعاية حدود الله؟ وهو يرى المخالفة الشرعية ممن يربيه ويقتدي به.
بل إنه من خلال عمله هذا يربي من وراءه على الاستهانة بالضوابط الشرعية، ويغرس لديهم الجرأة على ارتكاب المحرمات وتجاوز الحدود.
رابعاً: وكما أن المربي ينظر إليه بعين القدوة، فهناك عيون أخرى ترقبه وتنظر إليه، فينظر إليه من الخارج بوصفه واحداً ممن يعمل للإسلام وعمله يمثل السمت والهدي الشرعي، وربما ينظر إليه بعين تبحث عن الخطأ وتفرح به؛ وذلك كله يدعو المربي إلى أن يتقي الله ويتحرى الضوابط الشرعية فيما يأتي ويذر.(1/207)
خامساً: أن التوفيق والنجاح ليس مرده إلى الجهد البشري وحده، بل قبل ذلك كله إلى توفيق الله وعونه وتأييده؛ وهذا التوفيق له أسباب، من أعظمها وأهمها: رعاية العبد لحرمات الله، وما أحرى أولئك الذين يتجاوزون الحدود الشرعية بالبعد عن توفيقه (سبحانه) وتأييده.
والمتأمل في الساحة الإسلامية يرى أن هناك تجاوزات عدة في ميدان العمل التربوي للضوابط الشرعية تستوجب الوقوف والمراجعة.
ولعل أسباب هذه التجاوزات ما يلي:
أولاً: ضعف العلم الشرعي وقلة العناية به، فكثير من العاملين في الساحة الإسلامية يأخذ الجانب العلمي الشرعي مرتبة متأخرة ضمن برامجهم، ولعلنا نتساءل: ماذا قدمت فصائل العمل الإسلامي لأتباعها في ميدان البناء العلمي الشرعي؟ بل إن الأمر تجاوز مجرد إهمال العناية بالعلم الشرعي إلى تهميش دوره والتقليل من شأنه؛ فهو ـ في نظر هؤلاء ـ يشغل عن الدعوة إلى الله وهموها، أو هو شأن الخاصة والمهتمين، أو أن العناية (باستراتيجيات) الدعوة وقضاياها الفكرية الساخنة أولى وأصدق دلالة على عمق صاحبها!... هذه حجج يواجه بها من يدعو بعض العاملين للإسلام لكي يعطوا العلم الشرعي دوره اللائق به ضمن برامجهم الدعوية.
ونحن إذ نقول ذلك لا ندعو أيضاً إلى أن يكون الجانب العلمي هو وحده الهم الأوحد للدعاة، وأن يهمل ما سواه، ولا إلى أن يكون الدعاة فقهاء ومحدثين ومجتهدين فحسب.
ثانياً: الغلو والمبالغة في دور المربي وواجباته وتعظيم ذلك، وهذا يؤدي إلى نقل كثير من المناهي الشرعية إلى دائرة الضرورة؛ إذ لا تتم التربية إلا بذلك، فهو بحاجة لمعرفة معلومات دقيقة عمن يربيه، والاطلاع على كوامن نفسه، وإلى عدم الوقوف عند حدود الظاهر..
وحين يعطى هذا الجانب أكثر من حقه فسيشعر المربي أن الضوابط الشرعية ستقف عائقاً دون تأدية أدوار كثيرة فيضطر لتجاوزها.(1/208)
ثالثاً: ضعف الورع والانضباط الشرعي، وهو باب بُلي به كثير من الناس في هذا الزمان، ومن يضعف ورعه ويرق دينه ربما تجرأ على ما يعلم علم اليقين أنه محرم، أو تهاون فيما يستريب منه، أو يغلبه هواه.
رابعاً: الإغراق في التنظير والأسباب المادية والغفلة عن الإخلاص لله (سبحانه وتعالى)، واستحضار النية، والشعور بأن العمل عبادة لله وحده.
ولا نعني أن يهمل الدعاة إلى الله الأخذ بهذه الأسب??57? 5 الشرعي، وهو باب بُلي به كثي #1607; وحده.
ولا نعني أن يهمل الدعاة إلى الله الأخذ بهذه الأسباب، فهي مما لابد منه، لكن ينبغي ألا ينسينا ذلك استحضار النية والعبادة في هذا العمل.
من صور الإخلال بالضوابط الشرعية:
أولاً: الاتكاء والاعتماد على القواعد الشرعية العامة المجملة دون النظر للنصوص الخاصة في المسألة:
والشريعة باب واحد لا يمكن أن تتناقض أو تضطرب، والقواعد العامة للشرع إنما تفهم في إطار سائر النصوص، وتسليط الأفهام البشرية عليها يؤدي إلى فوضى واستهانة بحدود الله.
ومن أهم هذه القواعد مراعاة المصلحة، إذ كثيرٌ من المخالفات العظام في الساحة الإسلامية تجرأ عليها أصحابها، وللأسف باسم المصلحة، وهو المنهج نفسه الذي يسلكه بعض علماء السوء وأهل الأهواء في تبرير مواقف بعض الطواغيت.
إن جلب المصلحة ودرء المفسدة قاعدة شرعية عظيمة لا جدال فيها ولا نقاش، لكنها يجب أن تكون ضمن ضوابط، من أهمها: ألا تخالف نصّاً أو حكماً شرعيّاً، وإلا كانت مصلحة ملغاة، ومما قد يمارسه بعض المربين باسم المصلحة: التجسس، والاستماع لحديث الآخرين دون علمهم، والاطلاع على ما يخصهم دون إذنهم... كل هذه الأمور محرمة شرعاً، لا تبيح المصلحة والتربية تجاوز هذه الحقوق إلا في أحوال خاصة.(1/209)
فتجرؤ بعض المربين على تجاوز هذه الحدود الشرعية باسم المصلحة وضرورة التربية داخل في عموم قوله (تعالى): ((يَا أَيُّهَا الَذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِّنَ الظَّنِّ إنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إثْمٌ وَلا تَجَسَّسُوا وَلا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضاً أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَّحِيمٌ)) [الحجرات: 12]، وقوله: »من تحلم بحلم لم يره كُلّف أن يعقد بين شعيرتين، ولن يفعل، ومن استمع إلى حديث قوم وهم له كارهون صب في أذنيه الآنك يوم القيامة«(1).
ثانياً: عدم وضوح قضية الظاهر والباطن:
من القواعد الشرعية أخذ الناس بظواهرهم وعدم التنقيب عما وراء ذلك، وما سبق من النهي عن التجسس والتطلع داخل ضمن هذه القاعدة، ولهذا قال: »إني لم أومر أن أنقب عن قلوب الناس«(2)، وقال أيضاً: »يا معشر من آمن بلسانه ولم يدخل الإيمان قلبه: لا تغتابوا المسلمين، ولا تتبعوا عوراتهم؛ فإنه من اتبع عوراتهم تتبع الله عورته، ومن تتبع الله عورته يفضحه في بيته«(3).
وقال أيضاً لمعاوية: »إنك إن اتبعت عورات الناس أفسدتهم أو كدت تفسدهم«(4).
وينهى -صلى الله عليه وسلم- الرجل أن يطرق أهله ليلاً، معللاً ذلك بقوله: »يتخونهم أو يلتمس عثراتهم«(5).
وتدعو الشفقة والحرص والعناية المربي إلى التطلع ومحاولة معرفة ما وراء الظاهر، والدافع لذلك كله حسن ولا شك؛ فهو يسعى للتربية والإصلاح، ويخشى أن يغتر بالمظاهر، فيريد قياس نتاج تربيته، لكن ذلك كله لا يجوز أو يسوغ أن يكون على حساب الضوابط الشرعية.
ومما يعين المربي على الاقتناع بهذا المسلك، وتجاوز التطلع: علمه أنه غير مكلف شرعاً بسوى ما يظهر له، وأن النبي -صلى الله عليه وسلم- نفسه كان يقول: »إنكم تختصمون إلي ولعل بعضكم يكون ألحن بالحجة من بعض فأقضي له بنحو ما أسمع« (6).(1/210)
إن المربي ينبغي أن يحرص على إصلاح القلوب ومخاطبة الباطن والدعوة لتنقية السرائر، لكنه بعد ذلك يبقى يتعامل مع الظاهر لا مع السرائر.
ثالثاً: التهاون بحجة مسائل الاجتهاد:
ثمة قضايا كثيرة ضمن الوسائل الدعوية والتربوية اختلف فيها أهل العلم حلاّ وحرمة، ولكل منهم مأخذه ودليله، فهي دائرة ضمن مسائل الاجتهاد.
والأمر في مسائل الاجتهاد واسع، ولا يسوغ في ذلك الإنكار والإغلاط والتهارج، لكن ذلك قد يشعر بعض المربين أن هذه المسائل ما دامت ضمن مسائل الاجتهاد فالأمر فيها مفتوح على مصراعيه دون ضوابط، فيسلك فيها ما يتناسب معه دون أي اعتبار لأمر آخر.
ولا شك أن كون المسألة من مسائل الاجتهاد لا يسوغ أن يتبع فيها المرء ما يحلو له، بل لابد أن يتحرى ويجتهد في اتباع ما يؤدي إليه الدليل الشرعي ـ وليس هذا مقام بسط هذه المسألة ـ.
رابعاً: إهمال الورع الشرعي الواجب:
ومن صور ذلك:
ـ التوسع في الوقوع في الأعراض، فقد تدعو طبيعة العمل التربوي إلى الحديث عن قضايا خاصة للمتربين وانتقادهم،وقد يتحدث بعض الأساتذة عن طالب معين بما يكرهه،والأصل في ذلك كله هو المنع والتحريم إذ هو داخل تحت النصوص التي تحرم الغيبة وتشدد فيها، بل تجعل حرمة أعراض المسلمين كحرمة الشهر الحرام والبلد الحرام إلا ما كان له حاجة ومصلحة شرعية واضحة.
ـ ومن أخطر هذه الأبواب ما يتعلق بقضايا الأعراض، إذ قد يصارح تلميذ أستاذه ومربيه بمشكلة تتعلق بهذا الباب فيتجرأ هذا المربي على الحديث عنها لغيره بما لا ضرورة له، ولا يسوغ أن تكون المحاضن التربوية ميداناً تلاك فيه الأعراض، وتنتهك فيه الحرمات.
وبعد:
ونحن إذ نتحدث عن مثل هذه الأخطاء والتجاوزات فيجب أن نعتدل ونتوسط، فلا يسوغ أن تكون مجالاً للتندر وانتقاص العاملين لله، أو أن تحول إلى معول هدم للصروح التربوية وسعي إلى القضاء عليها بحجة الانضباط الشرعي.(1/211)
وندرك أيضاً أن الكثير ممن يقع في مثل هذه التجاوزات إنما أُتي من باب الغفلة والذهول عن مراعاتها، لا من قبل رقة الدين، بل أكثرهم خير وأتقى لله من كثيرين منا.
كما ندرك أيضاً المنجزات الرائعة التي قدمها هؤلاء المربون، نسأل الله أ ن يجعل ذلك في موازين حسناتهم، وأن يبارك في جهودهم، ويكلل أعمالهم بالتأييد والنجاح والتوفيق.
الهوامش:
1- البخاري، كتاب التعبير، باب من كذب في حلمه، انظر البخاري مع الفتح: جـ12، ص446.
2- البخاري، كتاب المغازي، انظر البخاري مع الفتح: جـ5، ص110.
3- أبو داود، كتاب الأدب، باب في الغيبة، انظر صحيح سنن أبي داود، ح 4083.
4- أبو داود، كتاب الأدب، باب في النهي عن التجسس، انظر صحيح سنن أبي داود، ح/4088.
5- البخاري، كتاب النكاح، انظر البخاري مع الفتح: جـ 9، ص251.
6- البخاري، كتاب الأحكام، انظر البخاري مع الفتح: جـ13، ص 168.
* * *
http://www.albayan-magazine.com/zwaya/trbwi/14.htm
صفات المربي دراسة تحليلية
أحمد فهمي
(1 ـ 2)
إن تأمُّل تاريخ الدعوة يخبرنا أن كل من أحدث فتنة أو أثار مشكلة أو تنكَّب طريقاً كان - غالباً - من الذين لم ينالوا التربية الكافية الراشدة في أوائل أمرهم.
وإذا اعتبرنا أن ركني التربية الأساسيين - من الناحية العملية -: منهج واضح شامل (يمثل الشق النظري)، ومربٍ كفء (يمثل الشق العملي)، وأن جوانب الخلل في العملية التربوية إنما تؤول في معظمها إلى الاختلال في هذين الركنين، فإن حديثاً عن صفات المربي ومؤهلاته يتناول - ولا شك - نصف قضية التربية وجانباً هاماً من أسباب مشكلاتها، بل لا نبالغ إذا قلنا: إنه النصف الأهم الذي بدونه يتحول الكلام عن المنهج إلى حبر على ورق.(1/212)
فمن ثم تبرز أهمية تحرير المواصفات الكاملة لشخصية المربي. وبادئ ذي بدء ينبغي استعراض بعض الملاحظات التحليلية الهامة وصولاً إلى تحديدٍ أمثل لهذه الصفات، وابتعاداً عن المغالاة أو التساهل.
1 - العوامل المؤثرة على المتربي:
وهي تحدث تغييرات متفاوتة بالسلب والإيجاب في مستواه التربوي في مختلف جوانبه.
أهم هذه العوامل: المجتمع الذي يعيش فيه، ويخضع لقواعده ونظمه، وتتحكم فيه أعرافه وتقاليده، ويؤثر فيه قربه أو بعده عن الإسلام، وكل ذلك يحتوي - غالباً - على الكثير من المؤثرات الفاسدة والمعوقات الفاعلة التي تعرقل نموه التربوي أو تؤخره أو تشوهه.
وأيضاً هناك الظروف الشخصية مثل: الحالة الأسرية، والاقتصادية، والثقافية،والعلاقات الاجتماعية والشخصية.
وأيضاً هناك المجتمع المتدين نفسه الذي يحتويه ويرتبط معه بعلاقات الأخوة والدعوة؛ فله تأثيراته المتفاوتة عليه.
وهذه العوامل - مع اختلافها - يجمعها: أن تأثر شخصية المتربي بها يتسم بالعشوائية فيما صلح منها أو فسد؛ بحيث لو اعتمدنا نموه وَفْقَها فحسب، لوجدنا أنفسنا بعد فترة أمام شخصية تجمع متناقضات عديدة.
وهنا يبرز دور المربي الذي يمثل الجهد التربوي الرشيد الذي يُصلح ما فسد، ويُبقي ويُنَقِّي ما صلح، ويرتقي بمستوى المتربي بصورة متوازنة بعيدة عن الاختلال والعشوائية.
ولهذا نقول: إنه لا يصلح كل أحد أن يكون مربياً؛ فللمربي صفات تتناسب مع الدور الذي يقوم به.
2 - المربي والداعية والقائد:
يخلط الكثيرون بين أدوار الدعوة والتربية والقيادة، ومن ثَمَّ يخلطون بين الصفات اللازمة للقائم بكلٍ منها. ونحن نريد تحديداً علمياً لصفات المربي بعيداً عن مبدأ "كُلُّه خيرٌ"، وبعيداً أيضاً عن نموذج الداعية الشامل - المسيطر إلى حد كبير في الأوساط الدعوية - الذي يصلح لأداء جميع الأدوار.(1/213)
فالمسلم منذ أن يضع قدمه على طريق الدعوة، ينبغي أن تلزمه صفات ومؤهلات عامة للقيام بهذه المهمة الجليلة مثل: الإخلاص، والعلم، والحكمة، ونحوها، أما إن أُريد تخصيصه في مجال التربية فلا بد عندها من البحث عن توفر مستويات وصفات إضافية يتطلبها أداء ذلك العمل، وهذه المستويات والصفات الإضافية هي موضوعنا لا غير.
ونستطيع أن نقول: إن القائد هو الذي يتولى إدارة الأفراد وعملهم نحو تحقيق الأهداف الموضوعة، والمربي هو الذي يتولى إعداد الأفراد وتأهيلهم ليعملوا على تحقيق تلك الأهداف، ولقب الداعية يجمعهم وغيرهم من أصناف العاملين في إطار واحد.
ويمكن أن نتلمس ذلك بوضوح في سيرة النبي صلى الله عليه وسلم في منهج انتقائه من بين الصحابة لأدوار تربوية أو قيادية، فهو صلى الله عليه وسلم قد رباهم على الإخلاص وعلمهم دينهم بداية، فكان الرجل منهم لا يألو أن يدعو إلى الإسلام ما استطاع، ثم كان ينتقي أشخاصاً بعينهم لأدوار تربوية - في المقام الأول - مثل اختياره مصعب بن عمير وإرساله إلى المدينة، واختياره معاذ بن جبل وإرساله إلى اليمن، ونعرف أثر كل منهما في المكان الذي أرسل إليه، ونعرف أيضاً أن الدور التربوي ظل ألصق الأدوار بهما.
فإذا كان الدور يتطلب رجلاً قيادياً - في المقام الأول - كان له رجاله أيضاً، مثل اختياره عمرو بن العاص وأبا عبيدة بن الجراح - رضي الله عنهما - لقيادة بعض السرايا، ونعرف أيضاً أن الدور القيادي ظل ألصق الأدوار بهما.
3 - المربي بين التساهل والمبالغة: هناك اتجاهان في انتقاء الشخصيات المربية:(1/214)
الأول:يقوم على المبالغة في تحديد الصفات الخاصة بالمربي، ولزوم تحققها فيه بمستويات عالية، فتغلب عليه المثالية في تصور حال المربي؛ بحيث ينتهي الأمر عند مطابقة هذه المواصفات واقعياً إلى أنه يكاد ألاَّ يكون هناك تربية ولا مربون، وإنما هو العبث وسد الخانات، ثم تبقى هذه المواصفات المثالية طي الأوراق بعيدة عن محاولة تحقيقها اكتفاءً بآهات الحسرة.
الثاني: يقوم على التساهل في صفات المربي؛ بحيث تتسع الدائرة لتشمل أعداداً كبيرة لا يمثل الانتقاء معها مشكلة، ودافع ذلك الاتجاه تغليب احتياجات الدعوة وتبعات انتشارها وانفتاحها دون اعتبار حقيقي لحال المُنتقى.
وكلا الاتجاهين لا يصلح منطلقاً لمعيار معتدل للمربي.
فالاتجاه الأول يتجاهل أن "المثاليات تتفرق في نفوس شتى، ولا تجتمع في نفس واحدة كل المثاليات"(1)، ولا يجتمع أغلبها إلا في نفوس معدودة و "إنما الناس كإبل مائة لا تكاد تجد فيها راحلة"(2) كما قال النبي - عليه الصلاة والسلام - فربْط العمل التربوي بذلك تعطيل له، وإعاقة لجهود الارتقاء به، ومدعاة لكل من يعجز عن محاكاة الصورة المثالية أن يتراجع ويترك العمل، وهذا ما حذرنا منه عمر بن عبد العزيز الخليفة الراشد - رحمه الله - إذ لما استَعْمَل على الجزيرة وعلى قضائها وخراجها ميمونَ بن مهران - رحمه الله - صعب على ميمون أن يحاكي الوضع المثالي هناك، فكتب إلى عمر يستعفيه: كلفتني ما لا أطيق. فكتب إليه عمر: اجْبِ من الخراج الطيب، واقضِ بما استبان لك، فإذا التبس عليك أمر فادفعه إليَّ؛ فإن الناس لو كان إذا كَبُر عليهم أمر تركوه ما قام لهم دين ولا دنيا(3).
ولذلك؛ فمهمة الصورة المثالية إذن: العلاج من الانحرافات على ضوئها، وكذلك هي التي تشجعنا على الصعود أولاً، ثم على العودة إلى الصعود بعد كل انتكاس، ومن هنا يلتقي الواقع بالمثال(4).(1/215)
أما الاتجاه الثاني الذي يتبنى شعار: "الجُود بالموجود" فيفوته أن اعتبار احتياجات العمل الدعوي مع الإعراض عن كفاءة المربي وصلاحيته خلل في التصور يتبعه خلل في العمل؛ إذ إن إتاحة الفرصة لغير ذوي الأهلية والكفاية مهلكة لهم، فوق أنها مضيعة للعمل.
وهنا يأتي السؤال: إذا كان النموذج المثالي استرشادياً، والنموذج الواقعي المنفتح لا يصلح للاسترشاد أو البدء به، فماذا نفعل؟
والجواب: أنه يلزمنا تحديد نموذج معتدل معياري للمربي يتوفر فيه أمران:
الأول: صفات أساسية هي من لوازم عمل المربي تحديداً.
الثاني: أن تتحقق هذه الصفات في المربي بمستوى معين - يختلف باختلاف الظروف والبيئة الدعوية - يمثل الحد الأدنى الذي يفصل بين اختلال عمل المربي، وبين عروجه على طريق الرشد التربوي، وبمعنى آخر يفصل بين النموذج الانفتاحي وبين النموذج المعتدل.
وينبغي ألا تُسند للداعية أي مسؤوليات تربوية قبل موافقة حاله لهذا النموذج - وفق حده الأدنى - وإنما يحكم بذلك أهل العلم والخبرة بهذا الأمر، كما قرر الإمام مالك - رحمه الله -: "لا ينبغي للرجل يرى نفسه أهلاً لشيء حتى يسأل من كان أعلم منه"(5)، ثم يأتي بعده التفاعل والارتقاء مع الهمة الذاتية واكتساب الخبرة والتمرس في العمل التربوي.
والآن نصل إلى الكلام عن صفات المربي. وتجدر الإشارة هنا إلى الاعتماد على الأسلوب التحليلي في هذه الدراسة مع تجاوز اقتصار كتابات سابقة كثيرة على ذكر فضل الصفات وأهميتها، نتجاوز ذلك إلى تحديدٍ أدق لمعنى تلك الصفات تربوياً مع الخوض في كيفية الاتصاف بها وأثر كل صفة على العمل التربوي.
الصفات الأساسية للمربي: وهذه الصفات المختارة - والتي هي من مؤهلات الداعية لممارسة العمل التربوي - يمكن تقسيمها وترتيبها - وفق ابتداء تأثيرها - إلى ثلاث مجموعات:
الأولى: مقومات البدء والانطلاق، (العلم - حسن السمت وتمثل مستوى القدوة - الثقافة والتجربة - العمق الإيماني).(1/216)
الثانية: مقومات الإتقان، (وهي مجموعة قدرات نفسية وعملية مهمتها رفع مستوى الأداء التربوي).
الثالثة: مقومات الاستمرار، (الصبر على .... و ....... و ...... ).
أولاً: مقومات البدء والانطلاق:
الصفة الأولى: العلم: ويهمنا في تحلي المربي بهذه الصفة لا مجرد حفظ واستظهار مجموعة من الكتب - وإن كثرت - بل تحقُّق أمور بعينها تمثل ما نقصده من وصف المربي بالعلم، وهي:
1 - المنهجية في تحصيل العلم: وطبيعة عمل المربي وإن كانت لا تسمح له بالاستغراق في طلب العلم وبلوغ الغاية فيه، إلا أنه ينبغي أن يحرص على تعويض ذلك بأمرين:
الأول: الشمول والتوازن في طلب العلم: وذلك بأن يحرص أن يكون له في كل مجال طلب، وفي كل علم قدم، ويأخذ من كل باب بقدر أهميته في مجال عمله التربوي، فيتجنب أن يكون هناك علوم لا يعلم عنها شيئاً البتة، أو أن يتعمق في مجال ما على حساب تسطيح مجالات أخرى، وضابطه في ذلك درجة تعلُّق ما يُحصِّل بما يعمل.
الثاني: الضبط العلمي: ونعني به أن يتقن المربي أموراً مثل إسناد الأقوال لقائليها أو مواضعها أو مظانها، وبيان درجة الحديث من الصحة أو الضعف، وإتقان لفظ النص، وضبط التواريخ والأسماء ونحو ذلك، وقبيح بالمربي أن تكثر على لسانه عبارات مثل: أظن أن قائله فلان، أو أظنه صحيحاً، أو ما معناه، ونحوه.. فإنه إن كان "نصف العلم: لا أدري"، فـ "نصف الجهل: يُقال، وأظن"(6).
واتصاف المربي بالضبط العلمي يعطي له سمت أهل العلم ولو كان قليل العلم نسبياً، في حين أن اتصافه بعدم الضبط العلمي يفقده هذا السمت وإن كان كثير القراءات متشعب الاهتمامات العلمية.
وقد كان السلف - رضوان الله عليهم - يهتمون بضبط علمهم اهتماماً شديداً، فيكفي أن نتأمل في علوم الرواية لنرى مصطلحات كثيرة على شاكلة: الإملاء، العرض، المقابلة، وكلها تدور حول تحقيق الضبط العلمي لما يقولون ويكتبون.(1/217)
كما أن عدم الضبط يعني كثرة الخطأ، أي: تلقين المتربين معلومات أو أفكاراً خاطئة يحملونها، وقد لا يكتشفون خطأها إلا بعد فترات طويلة؛ بل قد ينقلونها إلى غيرهم على ما هي عليه مما يعني توارث الأخطاء. أسند الخطيب عن الرحبي قال: سمعت بعض أصحابنا يقول: إذا كتب لحَّان، فكتب عن اللحَّان لحَّان آخر، فكتب عن اللحَّان لحَّان آخر، صار الحديث بالفارسية(7).
2 - التفرقة بين تحصيل العلم للاستظهار والامتحان، وبين تحصيله لتبليغه وتربية الناس عليه: فطالب العلم في الحالة الأولى يهتم أساساً بحفظ الألفاظ وضبط الاختلافات، ويغيب عنه الكثير من المعاني والإشراقات والدلالات التي تحملها الألفاظ وتدعو إليها؛ بينما طالبه في الحال الثانية بغيته المُقَدَّمة تلك الدلالات والإشراقات، وليس أقوى في تمثُّل الحال الثانية من اتباع طريقة السلف في حفظ العلم عن طريق العمل به؛ فذلك مما يفتح على طالبه باباً عظيماً من فوائد العلم وإشراقاته إن عَلم فعمل؛ فقد روي عن السلف أنهم كانوا يقولون: "كنا نستعين على حفظ الحديث بالعمل به"(8).
3 - التوازن بين مذاكرة العلم واستمرار البناء العلمي وبين العطاء التربوي.
فإذا كنا نشترط للمربي صفة العلم، فإن اتصافه بذلك مقترن باستمراره في المراجعة والطلب، فإذا توقف كان إلى الجهل أقرب. قال سعيد بن جبير: "لا يزال الرجل عالماً ما تعلَّم، فإذا ترك العلم وظن أنه قد استغنى واكتفى بما عنده فهو أجهل ما يكون"(9).
والذي يحتج بأن العمل التربوي لا يتيح له استمرار التعلم يغفل عن أن عمله ذلك لن يستمر إلا لمدة ثم لا يجد ما يعطيه؛ ففعله كفعل صاحب الحديث الذي يتشاغل عن مراجعته وطلبه بالتحديث ببعضه؛ فهو كما قال عبد الرحمن بن مهدي: "إنما مثل صاحب الحديث مثل السمسار: إذا غاب عن السوق خمسة أيام ذهب عنه أسعار ما في السوق"(10).(1/218)
فلا يلبث إلا وقد نضب ما لديه من العلم، ثم يصل بعدها إلى مرحلة التحضير بالقطعة أو بالطلب، ثم إلى مرحلة الإعادة والتكرار، وقد يشعر المتربي بأن مربيه قد فرغ جرابه، مع ما في ذلك من أثر سيئ.
وكان أهل العلم من السلف يحرصون على إيجاد هذا التوازن بين طلبهم ومذاكرتهم العلم، وبين تعليمهم إياه، ويتضح ذلك جلياً في قول ابن مهدي - رحمه الله -: "كان الرجل من أهل العلم إذا لقي من هو فوقه في العلم فهو يوم غنيمته، سأله وتعلم منه، وإذا لقي من هو دونه في العلم علَّمه وتواضع له، وإذا لقي من هو مثله في العلم، ذاكره ودارسه"(11).
4 - وضع العلم في إطار من الهيبة والوقار عند إلقائه أو تدريسه:
قال عمر - رضي الله عنه -: تعلموا العلم، وتعلموا له السكينة والوقار(12).
فذلك من شأنه أن يجعل للعلم الأثر النفسي ثم العملي اللائق به، مما يوفر على المربي جهداً كبيراً، ويُقرِّب له التوفيق من عمله. قال أحمد بن سنان: "كان عبد الرحمن بن مهدي لا يُتحدث في مجلسه، ولا يُبْرى قلم، ولا يقوم أحد كأنما على رؤوسهم الطير، أو كأنهم في صلاة، فإن تُحُدِّث أو بُري قلم صاح ولبس نعليه ودخل"(13) فما ظنك بأثر العلم الذي يتلقونه (في نفوسهم) وهم على هذه الحال؟!
وفي المقابل: حين دخل - رحمه الله - على الوليد بن يزيد - وهو خليفة - فقال له الوليد: يا ربيعة! حدثنا! قال: ما أحدِّثُ شيئاً. فلما خرج من عنده قال: ألا تعجبون من هذا الذي يقترح عليَّ كما يقترح على المُغنية: حدثنا يا ربيعة!(14).
الصفة الثانية: حسن السمت وتَمثُّلُ مستوى القدوة:
عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "الهَدْي الصالح، والسمت الصالح، والاقتصاد جزء من خمسة وعشرين جزءاً من النبوة"(15).
فهذا الحديث يبين لنا أن الذي يتحلى بالسمت الصالح والهدي الصالح يُقتدى به ويحاكي بعض صفات النبوة، وكفى بذلك شرفاً.(1/219)
والسمت والهَدْي متقاربا المعنى؛ فالسمت بمعنى الطريقة أو هيئة أهل الخير(16)، والهدي هو الطريقة أو السيرة(17)، وهدي الرجل سيرته العامة والخاصة وحاله وأخلاقه(18).
فهذا يشمل إذن ما يتعلق بحال المسلم من كلام وفعال وتعاملات وملبس وهيئة وحركات وسكنات ونحوه، ولا يتسع المجال - بالطبع - لاستعراض تفاصيل ذلك، ولكن لكل علم مظانه(19).
والمراد: أن المربي أوْلى الناس بالاتصاف بحسن السمت والهدي والأدب؛ إذ إنه القدوة الأولى لمن يربيهم، وقدوة المرء من تسنن واقتدى به(20)، وإذا كان مجرد المخالطة والاجتماع تفتح مجالاً كبيراً لتبادل الطباع والأخلاق؛ إذ الطبع لص - كما يقولون - يسرق من غيره؛ فكيف بمن يجتمع في حقه أثر المخالطة مع أثر الاحترام والاعتراف بالفضل.
ويكفي لتصور أهمية هذه الصفة بالنسبة للمربي أن نعلم أنه عندما ينزل عن مستوى القدوة الحسنة فيتدنى مستوى فعله عن مستوى كلامه فإنه يكون أشبه بمن يُمسك في إحدى يديه قلماً، وفي الأخرى ممحاة، فكلما كتب كلاماً بيمناه محته يسراه، "ومن لا يستطيع تصحيح أخطاء نفسه فلا يصح له أن يكون قيِّماً على أخطاء الآخرين يصحح لهم وينقد"(21).
ولبيان موقع القدوة الحسنة من التأثير التربوي نقول: إن الخطاب التربوي يمكن تجريده إلى ثلاثة أمور:
الأول: الكلام النظري ونعني به: بيان الأمر مع الثواب أو العقاب.
الثاني: حكاية الفعل ونعني به: ذكر مثال عملي لما سبق سواء كان معاصراً أو تاريخياً.
الثالث: رؤية الفعل (عمل المربي) ونعني به: التنفيذ العملي الذاتي لما سبق فيما يُستطاع شرعاً وواقعاً.
ولو نظرنا في أثر كل من هذه الثلاثة - منفرداً - في تكوين الدافعية للعمل، لوجدنا أن ثالثتها "رؤية الفعل" أشد أثراً وأبقى.(1/220)
فالنفس لديها استعداد للتأثر بما يلقى إليها من الكلام؛ ولكنه استعداد مؤقت في الغالب، ولذلك يلزمه التكرار. وحكاية الفعل وإن كانت تُقرب المسافة أكثر إلا أن أثرها بمفردها لا يكفينا لتحقيق ما نطمح إليه من رفع المستوى التربوي.
وأما القدوة المنظورة الملموسة فهي التي تعلق المشاعر، ولا تتركها تهبط إلى القاع وتسكن بلا حراك، بل سرعان ما تترجمها إلى عمل.
وفي هذا المثال من السيرة بيان ذلك:
في صلح الحديبية: لما فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من قضية الكتاب (يعني الصلح) قال لأصحابه: قوموا فانحروا ثم احلقوا، فلم يقم منهم رجل، حتى قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك ثلاث مرات، فلم يقم أحد، فدخل على أم سلمة - رضي الله عنها - فأخبرها الخبر، فقالت له: اخرج ثم لا تكلم أحداً منهم كلمة حتى تنحر بُدْنَكَ، وتدعو حالقك فيحلقك. فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يكلم منهم أحداً حتى فعل ذلك، فلما رأوا فعله صلى الله عليه وسلم قاموا فنحروا، وجعل بعضهم يحلق بعضاً، حتى كاد بعضهم يقتل بعضاً(22).
نرى في المثال أن الخطاب النظري أحدث أثراً في نفوس السامعين إلا أنه لم يترجم إلى عمل، ولما اقترن الأمر بممارسة الفعل سهل عليهم الامتثال والتنفيذ؛ فممارسة الفعل إذن هي بمثابة المرحلة الحاسمة والأخيرة التي تبرز قيمة ما سبقها وأثره، وتُخرج ما أحدثه من مشاعر نفسية إلى الوجود في صورة عملية، وبدونها يظل كَمٌّ كبير من مفاهيم الإسلام حبيس النفس في غياهب الإهمال أو النسيان.
ومن الآثار التربوية المفيدة لتمثل المربي مستوى القدوة الحسنة:
1 - توفير الجهد التربوي عن طريق انتقال مفاهيم كثيرة - انتقالاً غير مباشر - بالمحاكاة والتقليد.
عن الصَّلت بن بسطام التيمي قال: قال لي أبي: الزم عبد الملك بن أبجر فتعلَّمْ من تَوَقِّيهِ في الكلام؛ فما أعلم بالكوفة أشد تحفظاً للسانه منه(23).(1/221)
2 - تكون حال المربي تلك بمثابة المحفز والمنشط للكثيرين لمحاولة الوصول إليها، وبذل الجهد في ذلك؛ فإن النفس كلما اقتربت من الكمال في جانب صارت لها قوة جذب بحسب حالها تشد الناس إليها؛ فهذا عبد الله ابن عون - رحمه الله - من أعلام السلف، كانت حاله نموذجاً يُحفز الكثيرين لمحاكاته. عن معاذ قال: حدثني غير واحد من أصحاب يونس بن عبيد أنه قال: إني لأعرف رجلاً منذ عشرين سنة يتمنى أن يسلَمَ له يوم من أيام ابن عون، فما يقدر عليه(24)، وورد مثل ذلك عن كثير من السلف في محاولتهم التأسي بحال ابن عون.
3 - يكون له أثر عام يتعدى من يرتبط بهم من المتربين ارتباطاً مباشراً، فينتفع به آخرون بمراقبته أو بمعرفة حاله، ونحوه فيُسهم ذلك في إيجاد بيئة تربوية راشدة.
قال يونس بن عبيد: كان الرجل إذا نظر إلى الحسن انتفع به وإن لم يرَ عمله ولم يسمع كلامه(25).
4 - اكتساب كلامه وتوجيهاته قوة نفسية مؤثرة بحسب حاله، كان أبو العباس السرّاج من علماء نيسابور وعُبَّادها، وكان رجلاً تقياً حسن السيرة، وكان الناس يسمعون كلامه. قال الحاكم: سمعت أبي يقول: لما ورد الزعفراني وأظهر خلق القرآن سمعت السرّاج يقول: العنوا الزعفراني، فيضجُّ الناس بلعنه، فنزح إلى بُخارى(26).
ولأن سوء سيرة المربي تُذهب بركة علمه وتفقده تأثيره كان بعض السلف إذا ذهب إلى شيخه تصدق بشيء، وقال: اللهم استر عيب شيخي عني، ولا تُذهب بركة علمه مني(27).
كيف يُكتسب السمت الحسن؟
هناك عدة وسائل لذلك نذكر أهمها:
1- إصلاح الباطن: فأدب الظاهر عنوان أدب الباطن،وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: "ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله،ألا وهي القلب"(28).(1/222)
2 - إعلاء قيمة التأدب وجعله من الأولويات: وقد كان السلف - رحمهم الله - منهم من ينفق في ذلك جزءاً كبيراً من عمره، ويعتبر أنه رابح لا خاسر. قال الحسن رحمه الله: إن كان الرجل ليخرج في أدب نفسه السنتين ثم السنتين(29)، ومكث يحيى بن يحيى عاماً كاملاً يأخذ من شمائل مالك - رحمه الله - بعد أن فرغ من علمه(30).
3 - الاطلاع على حكايات العلماء: قال أبو حنيفة: الحكايات عن العلماء أحب إليَّ من كثير من الفقه؛ لأنها آداب القوم وأخلاقهم(31).
4 - لزوم الصالحين والقدوات الحسنة ومن يُستحْيى منه: فإن معاشرة هؤلاء ومخالطتهم تسهل على النفس الاقتباس عنهم والانضباط بوجودهم.
قال أبو الدرداء - رضي الله عنه -: من فقه الرجل ممشاه ومدخله ومخرجه مع أهل العلم(32).
وقال عبدوس: رآني أبو عبد الله يوماً وأنا أضحك، فأنا أستحييه إلى اليوم(33).
5 - التنفيذ الفوري لما يتعلمه: عن الحسن أنه قال: قد كان الرجل يطلب العلم، فلا يلبث أن يُرى ذلك في تخشعه، وهديه، ولسانه وبصره، وبره(34).
6 - مجاهدة النفس وتعويدها على الخير: قال النبي صلى الله عليه وسلم : "إنما العلم بالتعلم، وإنما الحلم بالتحلم، ومن يتحرَّ الخير يُعْطَهُ ومن يتَّق الشر يوقه"(35).
وكان عبد الله بن مسعود يقول: تعوَّدوا الخير، فإنما الخير عادة.
7 - معاقبة النفس والشدة عليها: قال الجيلاني: لا تهربوا من خشونة كلامي، فما رباني إلا الخشن في دين الله - عز وجل - ومن هرب مني ومن أمثالي لا يفلح(36).
وقال ابن وهب: نذرت أني كلما اغتبت إنساناً أن أصوم يوماً، فأجهدني، فكنت أغتاب وأصوم، فنويت كلما اغتبت إنساناً أن أتصدق بدرهم؛فمِنْ حُبِّ الدراهم تركت الغيبة(37).
الصفة الثالثة: الثقافة والتجربة:
وذلك فيما يتعلق مباشرة بالعمل التربوي، أو ما له تعلق غير مباشر به، ونبدأ بالثاني، ونقصد به أمرين:
الأول: الثقافة أو التجربة الواقعية المتعلقة بمعرفة أحوال الناس وطبائعهم وصفاتهم.(1/223)
ومصادر هذا النوع من الثقافة والتجربة متنوعة، يمكن استقاؤها من الأفراد مباشرة، كلٌّ بحسب حاله من خلال اغتنام لحظات الحوار العابر، أو توجيه السؤال والاستفسار مع تقوية ملكة جمع المعلومات الشفوية، وأيضاً يمكن استقاؤها من البحوث والدراسات التي تتناول هذه الموضوعات، وفي الجلوس مع الكبراء في السن وفي الخبرة فائدة لا تترك؛ قال المناوي: المجربون للأمور المحافظون على تكثير الأجور، جالسوهم لتقتدوا برأيهم وتهتدوا بهديهم(38).
وعن أبي جُحيفة - رضي الله عنه - قال: كان يقال: جالس الكبراءَ، وخالِلِ العلماءَ، وخالِطِ الحكماء(39).
وأيضاً يمكن استمداد هذه الثقافة والتجربة من الكثير من مراجع التاريخ القريب أو البعيد؛ فإنه كما قال السخاوي: "من عرفه كمن عاش الدهر كله وجرب الأمور بأسرها وباشر تلك الأحوال بنفسه، فيغزر عقله، ويصير مجرباً غير غر ولا غمر"(40).
الثاني: الثقافة العامة، بمعنى:الاطلاع السريع على العلوم الأساسية الطبيعية أو الإنسانية وأحدث التطورات العامة فيها.
ويمكن جمع الفوائد التي تعود على المربي من هذين المجالين في النقاط الآتية:
1- معرفة سبل الخير وسبل الشر، وكيف يُسلك كلٌ منها. يصف ابن القيم - رحمه الله - حال المؤمن المُجرب الذي يعرف الخير والشر كليهما فيقول: "وهذه حال المؤمن: يكون فطناً حاذقاً أعرف الناس بالشر وأبعدهم عنه، فإذا تكلم في الشر وأسبابه ظننته من شر الناس، فإذا خالطته وعرفت طويته رأيته من أبر الناس"(41).(1/224)
2 - توسيع المدارك وتعميق الأفهام وتنشيط العقول: فهذه الثقافات من شأنها أن تنمي قدرة المربي على التفكير، وعلى القياس المستقيم، وربط الأسباب بمسبباتها، ويقول شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - في فائدة الاطلاع على مختلف العلوم كلاماً نفيساً: "ففي الإدمان على معرفة ذلك تعتاد النفس العلم الصحيح والقضايا الصحيحة الصادقة والقياس المستقيم؛ فيكون في ذلك تصحيح الذهن والإدراك"(42).
3 - زيادة قدرة المربي على التحدث والحوار الثنائي أو الجماعي؛ فالمربي يتعامل مع عقول مختلفة وثقافات متنوعة يحتاج إلى التواصل معها بكفاءة، والمربي محدود الثقافات أشبه شيء بمذياع الشيوعية القديم ليس فيه إلا محطة واحدة: إما أن تسمعها أو تغلقه، بينما المربي متنوع الثقافات: متعدد الموجات؛ فاحتمال غلقه غير وارد.
4 - فهم ظروف المتربين المختلفة اجتماعياً واقتصادياً وثقافياً؛ انطلاقاً من فهمه لأحوال المجتمع الذي يعيشون فيه والتي تمثل الخلفية الدافعة للكثير من أقوالهم وتصرفاتهم.
أما النوع الثاني: - وهي الثقافة والتجربة التربوية - فلا غنى عنها للمربي؛ فهي التي تصبغه بهذه الصبغة بداية وعن طريقها يتعرف منهج التربية وما يتضمنه من أهداف التربية ووسائلها ومراحلها وأساليبها ومشكلاتها ونحوه، وهو يتعرف على ذلك بوصفه إما كلاماً نظرياً مجرداً يعرض المفاهيم والمبادئ، وإما وصفاً أو نقداً للمحاولات التطبيقية: ظروفها ونتائجها.
ويمكن استمداد تلك الثقافة والتجربة من مصدرين رئيسين:(1/225)
الأول: الكتب (المصادر المقروءة): وهي مصدر أساس لتلقي المبادئ والمفاهيم التربوية، وكذا التجارب والخبرات التربوية. وهنا وقفة وهي: أنه قد يتحرَّج بعضٌ من الاستفادة من الكتب الدعوية الكثيرة التي تنقل خبرات وتجارب العديد من الدعوات والدعاة، وهذا أمر غير مستقيم؛ فالحكمة ضالة المؤمن، ومن العار أن تمنعنا مشاعر التعصب أو أخطاء الآخرين من الاستفادة من تلك التجارب؛ خاصة أن ذلك لا يعني إعطاءها الصلاحية المطلقة، بل كلا الأمرين وارد، ومفيد أن نعرف تجربة الصواب وتجربة الخطأ.
قال الإمام أحمد - رحمه الله -: سمعت أن قَلَّ رجل يأخذ كتاباً ينظر فيه إلا استفاد منه شيئاً(43).
الثاني: السماع والممارسة: والسماع يعني أن يسعى المربي للاستفادة من تجارب المربين الأقران له والسابقين عليه، مع إعطاء أهمية خاصة لقدامى المربين.
والممارسة تعني: أن ينتفع المربي من تجربته الذاتية في العمل التربوي، فيستفيد من أخطائه وإصاباته السابقة فيما يُستجد من أعماله اللاحقة، وكما قيل: من التوفيق حفظ التجربة.
الصفة الرابعة: العمق الإيماني:
ونعني به ذلك النور وتلك الجاذبية التي تصدر عن المؤمن مع صلاح باطنه وقربه من الله - عز وجل - فينعكس ذلك على جوارحه وعلى كلامه وأفعاله، والمربي إن كان كذلك فهو لإخوانه بمثابة البحر العميق تمخر فيه كبار السفن هادئة مستقرة، بينما الماء الضحل لا يسلك فيه مركب صغير فضلاً عن كبارها، وقد كان السلف يهتمون بذلك ويُرجعون كل قصور عن بلوغ الكلام مراميَه في القلوب إلى ضعف القلب الصادر عنه قبل اتهام قلوب السامعين. قال الحسن ـ وقد سمع متكلماً يعظ فلم تقع موعظته من قلبه ولم يرقَّ لها -: يا هذا! إن بقلبك لشراً أو بقلبي(44).(1/226)
فتحقيق هذا العمق الإيماني إذن لا يكون بالكلام، أو بالتكلف والتحلي الزائف، بل ليس له إلا طريق واحد هو الإخلاص لله - عز وجل - والتقرب إليه - سبحانه - فإذا اقترب المربي من ربه اقتربت منه قلوب العباد، وإن ابتعد عن ربه بعدت عنه القلوب.
ومن أروع المشاهد التربوية الإيمانية التي تصور لنا أثر العمق الإيماني على التربية، ذلك المشهد الذي رسمه ابن القيم لشيخ الإسلام ابن تيمية - رحمهما الله - يقول: وكنا إذا اشتد بنا الخوف وساءت منا الظنون وضاقت بنا الأرض أتيناه؛ فما هو إلا أن نراه ونسمع كلامه فيذهب ذلك كله وينقلب انشراحاً وقوة ويقيناً وطمأنينة(45).
الهوامش:
(1) دراسات في النفس الإنسانية، محمد قطب، ص379.
(2) البخاري ، ح/6498، ومسلم، ح/2547.
(3) البداية والنهاية لابن كثير، ج/9/317.
(4) دراسات في النفس الإنسانية، ص382.
(5) حلية الأولياء، ج/6/316.
(6) حلية طالب العلم، بكر أبو زيد، ص45.
(7) المصدر السابق، ص59.
(8) اقتضاء العلم العمل، ص90.
(9) تذكرة السامع والمتكلم لابن جماعة،ص28.
(10) النظم التعليمية عند المحدثين، المكي أقلانية، ص93.
(11) المصدر السابق، ص82.
(12) التذكرة، ص16.
(13) سير أعلام النبلاء، ج9، ص201.
(14) الجامع لآداب الراوي والسامع، الخطيب البغدادي، ج/1/336.
(15) صحيح الأدب المفرد، ص294.
(16) القاموس المحيط، ص197.
(17) المصدر السابق، ص1734.
(18) الإعلام، ص139.
(19) يمكن أن يراجع في ذلك كتب كثيرة مثل: (مختصر منهاج القاصدين ربع العبادات، تذكرة السامع والمتكلم لابن جماعة، ورسالة تقرير ميداني، لمحمد الراشد).
(20) القاموس المحيط، ص1706.
(21) فضائح الفتن،ص5.
(22) تفسير ابن كثير، ج4، ص198.
(23) العقلاء لابن أبي الدنيا رقم 742.
(24) سير أعلام النبلاء، ج6،ص366.
(25) رسالة للمحاسبي، ص:60.
(26) سير أعلام النبلاء، ج14، ص394.
(27) لباب الآداب، ص: 227.
(28) البخاري، ح/520، ومسلم، ح/1599.
((1/227)
29) الأعلام، ص143.
(30) سير أعلام النبلاء، ج 14، ص35.
(31) التذكرة، ص50.
(32) حلية الأولياء، ج14، ص35.
(33) الإعلام، ص206.
(34) شعب الإيمان للبيهقي، ج2/291.
(35) حسن صحيح الجامع للألباني، ص461،ج1.
(36) الفتح الرباني، ص22.
(37) سير أعلام النبلاء، ج/9/228.
(38) فيض القدير للمناوي، ج/3/220.
(39) جامع بيان العلم وفضله لابن عبد البر، ج/1/126.
(40) الإعلان بالتوبيخ لمن ذم التاريخ ـ السخاوي.
(41) مفتاح دار السعادة، ج/1/295.
(42) الفتاوي، ج9/128.
(43) صفحات من صبر العلماء على شدائد العلم والتحصيل، عبد الفتاح أبو غدة، ص1.
(44) البيان والتبيين للجاحظ، ص59.
(45) الوابل الصيب، ص 45.
--------------------------------------------------------------------------------
صفات المربي .. دراسة تحليلية(2-2)
في الحلقة الأولى تعرض الكاتب للعوامل المؤثرة على المتربي من أسرة ومجتمع ومتعلقاتهما الاقتصادية والثقافية، ويرى أن تأثير ذلك كله على المتربي تأثيرٌ عشوائي، ومن ثم يبقى دور المربي فعالاً وسط هذه العوامل إذا ما اتصف بمقومات أساسية قسمها الكاتب إلى: مقومات البدء والانطلاق، مقومات الإتقان، مقومات الاستمرار، وقد أفاض في الحلقة الأولى في معالجة المقوم الأول (البدء والانطلاق)، ويبسط القول من خلال هذه الحلقة في المقومين الآخرين: (الإتقان والاستمرار).
البيان
ثانياً: مقومات الإتقان:
وهي مجموعة القدرات النفسية والعملية الأساسية التي تساعد المربي - عند اكتسابها - على رفع مستوى الأداء التربوي.
وهذه القدرات المختارة هي قدرات جامعة للعديد من المهارات والأنماط السلوكية التربوية التي تندرج تحتها وتشكل في مجموعها - وبتفاصيلها - الجهد التربوي للمربي في حالة الرشد.
القدرة الأولى: فهم الشخصية وتحليلها:
وما نحتاجه هنا مما يتعلق بهذه القدرة الإجابة عن سؤالين هامين:(1/228)
أ - لماذا (ومتى) نحتاج إلى فهم شخصية المتربي؟ (الدواعي).
ب - كيف نفهم شخصية المتربي؟ (وسائل جمع المعلومات).
أ - لماذا (ومتى) نحتاج إلى فهم شخصية المتربي؟ (الدواعي). وللإجابة نقول:
1 - للانتقاء: وهذا أمر لا عوج فيه؛ فإن الطاقات محدودة، فمن ثَمَّ ينبغي اختيار من يصلح لإعطائه مزيداً من الجهد والتركيز، وقد كان هذا ديدن سلفنا في اختيار تلاميذهم ومن يحيطون برعايتهم وعنايتهم. يقول الحافظ ابن جماعة: "كان علماء السلف الناصحون لله ودينه يلقون شبك الاجتهاد لصيد طالب ينتفع الناس به في حياتهم ومن بعدهم"(1).
2 - لتحديد الميول والإمكانات، ومن ثم ما يصلح له من العمل، والناس متفاوتون في ذلك تفاوتاً قدرياً من عند الله، وهناك عناصر ثلاثة يتحدد على ضوئها ما يصلح له المتربي من العمل، فبالإضافة إلى الميول والإمكانات هناك احتياجات العمل الدعوي؛ والذي يحدث في كثير من الأحيان أن مسار المتربي - في ميدان العمل الإسلامي - يتحدد وفق العنصر الأخير، والصحيح اعتبار الجميع.
3 - لتحديد مستوى أمثل للتعامل يراعي النفسيات والمشاعر والفروق الفردية (القدرات العقلية):
إن توحيد أسلوب التعامل مع كل الشخصيات أمر غير صواب؛ إذ إنه يفترِض التماثل في النفسيات والعقول وهذا غير متحقق، بل النفس الواحدة متغيرة، كما أن العقول أيضاً متفاوتة، والمربي الذي يتعامل مع مجموعة من المتربين ينبغي عليه أن يراعي ذلك في تعامله معهم، وأول خطوة في هذا الاتجاه: فهم هذه النفوس والعقول وتحليلها، ثم بعدها يحدد أسلوب التعامل مع كلٍّ.(1/229)
4 - لمعرفة التغير في مستوى المتربي التربوي وتقويمه من فترة لأخرى؛ وذلك للتأكد من أن العمل التربوي يحقق أهدافه؛ على أن يتم ذلك وفق معايير موضوعية تقاس عليها المعلومات المتحصلة من تحليل شخصية المتربي ورصدها ومتابعة تطورها، مع ملاحظة عدم الاقتصار على جوانب محدودة مثل: الجانب العلمي، الجانب الفكري، والغفلة عن بقية الجوانب مثل: المستوى الإيماني، والأخلاقي، والحركي.
ب - كيف نفهم شخصية المتربي؟ (وسائل جمع المعلومات):
هناك وسائل كثيرة لذلك نذكر أهمها:
1 - السؤال والتحري: لمن يعرفه أو يعلم حاله؛ فذلك يوفر وقتاً وجهداً كبيرين على المربي؛ خاصة لو كان خلفاً لسلف له من المربين عملوا مع الأشخاص أنفسهم؛ فهنا يتحتم عليه سؤالهم وإلا فهي الفوضى.
وكان من علماء السلف من يتحرى عن تلامذته ليتحقق من حالهم؛ فعن معاوية بن عمرو بن المهلب الأزدي أنه قال: كان زائدة لا يُحدِّث أحداً حتى يمتحنه؛ فإن كان غريباً قال له: من أين أنت؟ فإن كان من أهل البلد قال: لا تعودن إلى هذا المجلس، فإن بلغه عنه خيراً أدناه وحدثه.
2 - الكلام والحوار: فاللسان يعبر عن صاحبه ويبين حاله، ومهما تحفظ الرجل أظهر لسانه حاله ولو بعد حين؛ إذ اللسان يغرف من القلب، وما أسرَّ أحد سريرة إلا أظهرها الله على قسمات وجهه وفلتات لسانه؛ فهو بحق ترجمان العقل والنفس.
وكان بعض الفلاسفة يسأل تلامذته ويستنطقهم ويشجعهم على السؤال، فرأى يوماً أحد تلامذته صامتاً، فقال له: تكلم حتى أراك.
3 - الاختبارات: وغالب استخدام هذا الأسلوب للتحقق من مستوى الجوانب المعلوماتية، ولكن يمكن تفعيله في جوانب أخرى عملية أو نفسية باستخدام صور متطورة منه مثل الاختبارات النفسية - وذلك حسب الظروف - التي من الممكن إجراؤها في قوالب غير مباشرة: كالمسابقات، والمباريات الثقافية.(1/230)
ويرسِّخ ابن جماعة أهمية الاختبار فيقول: "إن الشيخ ينبغي له إن جَهِل حال تلميذه أن يختبره بكتاب سهل من الفن المطلوب، فإن رأى ذهنه قابلاً وفهمه جيداً نقله إلى كتاب يليق بذهنه وإلا تركه"(2).
4 - المواقف المفتعلة ومعرفة رد الفعل: وقد يكون ذلك بتتبع ردود أفعاله في مواقف سابقة من النوعية التي تظهر مكنونات النفس وجوانب القوة والضعف في الشخصية، وقد يكون أيضاً بمحاولة الافتعال لبعض المواقف التي تظهر هذه الخبايا.
قال ابن الجوزي: "حدثنا محمد بن إسحاق قال: قال لقمان لابنه: يا بني! إذا أردت أن تؤاخي رجلاً فأغضبه قبل ذلك، فإن أنصفك عند غضبه وإلا فاحذره"(3).
5 - الاحتكاك والمعاشرة: وبهما تتضح جوانب من الشخصية يصعب أن تتضح بغيرهما، ولتوضيح ذلك نضرب مثالاً: في كل خلاف بين زوجين لو سألت أحدهما لقال لك - غالباً -: إنه قد اكتشف في شريكه عيوباً لم يكن يعلمها من قبل، ولو علمها ما اقترن به، فلو قارنت بين ذلك وبين حالهما في بداية الزواج لوجدت أنهما لم يتزوجا بداية إلا وقد اقتنع كل منهما بالآخر ورضي به بعد سؤال وتمحيص، فما الذي طرأ؟ إنها معرفة الاحتكاك والمعاشرة.
6 - الفراسة: ونعني بها أن يدرب المربي نفسه على معرفة خبايا النفوس ومشاعرها من خلال قسمات الوجه والسمت العام.
قال عثمان بن إبراهيم الجمحي ـ وهو من فضلاء التابعين -: "إني أعرف في العين إذا أنكرت، وإذا عرفت، وإذا هي لم تعرف ولم تنكر: إذا عرفت تَحُوص - أي تضيق - وتعود لطبيعتها لارتياحها بالفهم بعد تحملقها للإنكار والاستفهام - وإذا أنكرت تجحظ - أي تبرز وتقسو، وإذا لم تعرف ولم تنكر تسجو - أي تسكن -"(4).
وجلس بعض العلماء يحرر يوماً في مشكلة، والطلبة به محدقون، فقال لهم: فهمتم؟ قالوا: نعم، قال: لا، لو فهمتم لظهر السرور على وجوهكم(5).
القدرة الثانية: الإقناع:(1/231)
والإقناع لغة: الإرضاء(6)، وفي العرف يراد به: نقل حالة القبول أو الرفض لأمر ما من شخص لآخر، ويكون بالكلام أو الفعل، والأول أغلب.
والمربي يحتاج هذه القدرة إلى درجة كبيرة؛ فهو يحتاج دوماً إلى تعديل وتغيير قناعات المتربين.
وهذه بعض وسائل الإقناع:
1 - استحضار الأفكار وترتيبها: فالقول دون تفكير سمة الجهال والفوضويين. قال المنصور لبعض ولده: "خذ عني اثنتين: لا تقل من غير تفكير، ولا تعمل من غير تدبير. وينبغي في هذه الخطوة تجنب التفكير الأحادي الذي يجعل المتحاور سجين فكرة واحدة دون النظر لمنظومة الأفكار الأخرى"(7).
2 - حسن العرض للحجة: فالعبرة ليست بحشد الكلمات والألفاظ وسكب الأفكار في ذهن المتربي.
3 - نقض الدوافع أو إثارتها: وهناك فرق بين محاولة إقناع المتربي باعتبار ظاهر فعله وكلامه وبين إقناعه بالنظر إلى دوافعه؛ فالتعامل معه في الثانية أشد أثراً وعمقاً، ولنا في رسول الله صلى الله عليه وسلم أسوة حسنة؛ ففي محاورته مع الشاب الذي جاء يطلب الإذن بالزنا مثال عملي على ذلك.
4 - الجواب الحاضر المفحم: فهو يغني عن كثير الكلام في أحيان عديدة.
5 - التدرج: وهو قاعدة هامة تندرج في معظم وسائل التربية، بل هو أصل من الأصول الهامة، وبعض المربين تأخذه الحماسة فيريد أن ينقل للمتربي كل قناعاته العلمية أو النظرية التي تكونت لديه على مَر الزمن دفعة واحدة، فلا يجادل ولا يناقش، وهذا بالطبع أمر مُتعسر، ولو كان ذلك كذلك لكان أوْلى به الصحابة - رضوان الله عليهم - أفضل هذه الأمة؛ فعلى الرغم من فضلهم وإيمانهم فقد نزلت عليهم الأحكام مُنجَّمة؛ بل أحياناً كان الأمر الواحد يُحرَّم عليهم بالتدريج - كما في الخمر - فما الظن بغيرهم ممن لا يبلغ عشر معشارهم في فضل ولا علم؟(1/232)
6 - نقض الأفكار المضادة: افتخر أحد خلفاء بني أمية يوماً بقريش فقال: "إن الله حبا قريشاً بثلاث: فقال لنبيه صلى الله عليه وسلم :(( وأنذر عشيرتك الأقربين)) [الشعراء: 214] ونحن عشيرته الأقربون، وقال - تعالى -: ((وإنه لذكر لك ولقومك)) [الزخرف: 44] ونحن قومه، وقال:(( لإيلاف قريش . إيلافهم)) [ قريش: 1، 2] ونحن قريش. فأجابه رجل من الأنصار، فقال: على رِسْلِكَ؛ فإن الله تعالى يقول:(( وكذب به قومك وهو الحق)) [الأنعام: 66] وأنتم قومه، وقال:(( ولما ضرب ابن مريم مثلا إذا قومك منه يصدون)) [الزخرف: 57] وأنتم قومه، وقال - تعالى -: ((وقال الرسول يا رب إن قومي اتخذوا هذا القرآن مهجورا)) الفرقان: 30] وأنتم قومه، ثلاثة بثلاثة ولو زدتنا لزدناك"(8).
7 - إتقان الصمت والاستماع: فذلك يعطي المربي فرصة لكشف أفكار المتربي ومنطلقاته، وكذا فرصة للتفكير والتركيز. ومن المقولات التي يرددها خبراء اللغويات النفسية أننا نفكر بأضعاف السرعة التي نتكلم بها، ولذلك فإننا حين ننصت تكون عقولنا في سباق(9)؛ فحسن الاستماع يتخطى مجرد الصمت وهز الرأس، بل يستلزم قدرات خاصة باستيعاب ما يُقال وتخزينه في الذاكرة بصورة منتظمة لاسترجاعه في الوقت المناسب في الحوار(10).
8 - يمكن اعتبار الأساليب الواردة في القدرة التالية من وسائل الإقناع:
القدرة الثالثة: استخدام أساليب غير مباشرة لتبليغ المفاهيم الشرعية والدعوية حتى ترسخ في النفس والواقع:
يشكو بعض المربين من عدم استجابة كثير ممن يربونهم لتوجيهاتهم بدرجة تتناسب مع كثرة تكرار هذه التوجيهات، وبنظرة فاحصة لأسلوبهم في التربية تجعلنا نكتشف قصور مفهوم التربية لديهم وانحصاره في التلقين والتكرار الحرفي للمفاهيم؛ واختزالُ التربية في هذه الصورة أشبه بالتعبير عنها بحرف واحد من حروفها، كما أن التكرار بهذه الصورة قد يُحدث أثراً عكسياً يُفقد الكلام جدته وهيبته.(1/233)
أما توسيع الدائرة واعتماد أساليب غير مباشرة في التربية فله أثر قوي وفاعلية بإذن الله، كما أنه يجعلنا نجتني فائدة التكرار مع تجنب عيبه، وأيضاً فهو يتناسب مع كون التربية تحتفي بالبناء الرأسي في العمق قبل البناء الأفقي.
وفيما يلي طائفة من هذه الأساليب - وإن كان المطلوب من المربي أن يبدع ويأتي بالنادر الطريف ولا يكتفي بالنسج على منوال الآخرين:
1 - استخدام الحكايات: وقد سبق الكلام عنها في صفة حسن السمت؛ فلها أثر عجيب في النفس، ويكفي أن القرآن الكريم والسُّنَّة النبوية ممتلئان بها، وقد تعدل حكاية صغيرة في سطرين كلاماً طويلاً في صفحات، فضلاً عن أنها تفوقه أثراً وثباتاً في النفس والعقل، قال البرقي: "الحكايات حبوب تُصطاد بها القلوب"(11).
2 - ضرب المثال: ويقصد به: ادعاء التماثل الجزئي أو الكلي بين شيئين أو حالين طلباً لإثبات أو إيضاح أحدهما اعتماداً على ثبوت أو وضوح الثاني.
فهو يُستخدم إذن في تقريب المعنى وإيضاحه والإقناع به والحث على الفعل ونحو ذلك، وله في ذلك تأثير عظيم، وهو أسلوب شائع الاستخدام في الكتاب والسنة. قال الحافظ ابن حجر في شرح حديث "النخلة": "وفيه ضرب الأمثال والأشباه لزيادة الإفهام، وتصوير المعاني لترسخ في الذهن، ولتحديد الفكر في النظر في حكم الحادثة"(12).
وله صور عديدة: فقد يكون تشبيهاً رمزياً للبشر وأحوالهم بالنبات أو الحيوان أو الجماد.
وقد يكون هذا المثال الرمزي مُعَايَناً، كما في حديث أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال: أخذ النبي صلى الله عليه وسلم غصناً، فنفضه فلم ينتفض، ثم نفضه فلم ينتفض، ثم نفضه فانتفض (لاحظ الانتفاض في الثالثة) قال: "إن سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله ينفض الخطايا كما تنفض الشجرة ورقها"(13).
وقد يكون المثال الرمزي "تخيُّلياً" كقوله تعالى:(( مثل الذين حملوا التوراة ثم لم يحملوها كمثل الحمار يحمل أسفارا)) [{الجمعة: 5}].(1/234)
ومثله: كان الإمام أحمد يقول لبعض أصحابه: "كم يعيش أحدنا: خمسين سنة؟ ستين سنة؟ كأنك بنا قد متنا، ما شبهت الشباب إلا بشيء كان في كمي فسقط"(14).
وقد يكون المثال تشبيهاً بأحوال البشر وأفعالهم: فيكون افتراضياً؛ فعن يعلى بن عبيد قال: سمعت سفيان الثوري يقول: "لو كان معكم من يرفع الحديث إلى السلطان أكنتم تتكلمون بشيء؟ قلنا: لا، قال: فإن معكم من يرفع الحديث... يعني إلى الله"(15).
وقد يكون حقيقياً؛ فقد قال عبد الواحد بن زيد للحسن البصري وكلاهما من التابعين -: "يا أبا سعيد! أخبرني عن رجل لم يشهد فتنة ابن المهلب بن أبي صفرة، إلا أنه عاون بلسانه ورضي بقلبه، فقال الحسن: يا ابن أخي! كم يد عقرت الناقة؟ قلت: واحدة، قال: أليس قد هلك القوم جميعاً برضاهم وتمالئهم؟"(16).
3 - افتعال المواقف: ومَثَلُه حديث جبريل - عليه السلام - لما حاكى فعل الغريب السائل الطالب للعلم، فقدم وجلس وسأل ومضى؛ فالنظر إلى أثر افتعال هذا الموقف وما ذكر فيه العلماء من الفوائد يُبين أهمية هذه الوسيلة، وأنه لو كان المطلوب مجرد تلقين المعلومات لأجلسهم النبي صلى الله عليه وسلم ، وعرَّف لهم الإسلام والإيمان والإحسان وذكر علامات الساعة وانتهى الأمر.
4 - الحث على السؤال وفتح المجال له: ففيه تنشيط للذهن ودفع لتمام الاستيعاب وسد ثغرات الفهم بالسؤال، قال عكرمة يوماً لتلاميذه يحثهم على السؤال: ما لكم لا تسألوني؟ أأفلستم؟
5 - التلغيز: وهو السؤال المحير للفهم المشكل على سامعه ومنه حديث النبي صلى الله عليه وسلم الذي رواه ابن عمر قال: "إن من الشجر شجرة لا يسقط ورقها، وإنها مثل المسلم، فحدثوني ما هي؟ فوقع الناس في شجر البوادي، قال عبد الله: ووقع في نفسي أنها النخلة، فاستحييت - لصغر سني - ثم قالوا: حدثنا ما هي يا رسول الله؟ قال: هي النخلة"(17).(1/235)
قال ابن حجر في فوائده: "وفيه امتحان العالم أذهان الطلبة بما يخفي مع بيانه لهم إن لم يفهموه"(18).
وقال أيضاً: "وفيه أن المُلغِّز ينبغي له ألا يبالغ في التعمية بحيث لا يجعل للمُلَغَّز له باباً يدخل منه، بل كلما قَرَّبه كان أوقع في نفس سامعه"(19).
6 - الكناية عن الأمر بعاقبته: ومعلوم ما في ذلك من دوام الترهيب أو الترغيب واستحضاره في النفس وتذكره على الدوام، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة بدر لأصحابه يحثهم على القتال: "قوموا إلى جنة عرضها السموات والأرض"(20).
7 - إذكاء روح التنافس في الخير: من الثابت في علم النفس أن المنافسة وسيلة فعالة لرفع المستوى وتنمية الموهبة، وأن انعدامها بين الأفراد من شأنه أن يُبطئ ذلك.
وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم - المربي الأول - يستخدم هذا الأسلوب في تربية الصحابة، وهناك السباق المشهور في الخير والطاعات بين أبي بكر وعمر - رضي الله عنهما - الذي كان النبي صلى الله عليه وسلم يحفزه ويشجعه، وقد فاز أبو بكر بهذا السباق حتى قال عمر: والله! لا أسابقك بعدها إلى شيء أبداً.
8 - استخدام الحِيَل: فقد تستعصي بعض المفاهيم على القبول لدى بعض الأشخاص فلا بأس من استخدام الحيل المشروعة لتحقيق ذلك.
ومن ذلك احتيال عبد الله بن المبارك لكي يغير فكرة الأوزاعي عن أبي حنيفة؛ فقدم له بعض مؤلفاته من غير أن يكون عليها اسمه الحقيقي، فلما أعجب بها أخبره بأنها من تأليف أبي حنيفة، فتغيرت فكرته عنه وصار يُجِلُّه (21).
القدرة الرابعة: الاحتواء النفسي:
وهو أن تنشأ بين المربي والمتربي علاقة نفسية قلبية قوية من الحب في الله، يكون المربي هو المُوَجِّه فيها بحيث يرتبط المتربي به ارتباطاً نفسياً يرفع من مستوى قبوله وامتثاله لتوجيهات مُربيه ويُيسر عملية التربية.(1/236)
ويمكن تلخيص كيفية اتصاف المربي بهذه القدرة في: أن يهتم بالتفعيل القوي لحقوق الأخوة بمعناها الشامل، مع التركيز على الجوانب ذات التأثير النفسي القوي، حتى يكون له تواجد مؤثر على خريطة المتربي النفسية - بدون اقتحام فيما لا يعنيه -.
والمربي يلزمه قبل ذلك أن يتحلى بأمور لها تأثير فعال على تحقق هذا الاحتواء النفسي - وإن كانت غير مباشرة - وهذه الأمور مثل: حرصه على أن يتصف بسلامة النية وتجنب المسالك الملتوية في التعامل مع الناس. يقول ابن حزم: "احرص على أن توصف بسلامة الجانب، وتحفَّظ من أن توصف بالدهاء فيكثر المتحفظون منك"(22).
وأيضاً يتصف بحسن معاملة الناس، فيعاملهم بمكارم الأخلاق، والإيثار وترك الاستئثار، والتحلي بالإنصاف وترك الاستنصاف، وشكر التفضل(23)، مع التنزه عن الاستعانة بأحد من تلاميذه في مصلحة خاصة به، "وقد كان منصور بن المعتمر لا يستعين بأحد يختلف إليه - يعني لطلب العلم - في حاجة"(24) وغيرها من الصفات المشابهة.
وبتأملنا مسلك السلف في التعامل مع تلاميذهم يتبين لنا أنه كان لهم منهج واضح في مشاركة تلاميذهم مشاكلهم وسعيهم في مساعدتهم؛ بحيث إن الشيخ كان له تأثير عظيم في نفسية تلميذه وهذه بعض ملامح هذا المنهج:
\ كانوا يُظهرون الاهتمام والإقبال على جلسائهم وتلاميذهم: يقول ابن عباس - رضي الله عنهما -: "أكرم الناس جليسي الذي يتخطى رقاب الناس إليَّ، لو استطعت أن لا يقع الذباب عليه لفعلت"(25).
\ الاهتمام بالتعرف عليهم وعلى ظروفهم. يقول ابن جماعة: "وينبغي أن يتعلم أسماءهم وأنسابهم ومواطنهم وأحوالهم ويكثر الدعاء لهم بالصلاح"(26).
\ الحنو عليه والرفق به، يقول ابن جماعة: "ويعامله بما يعامل به أعز أولاده من الحنو والشفقة عليه والإحسان إليه"(27).(1/237)
\ مساعدته في تذليل الصعاب والتغلب على الظروف المعوقة لطلب العلم، ومن ذلك أن أسد بن الفرات كان يريد السماع على محمد بن الحسن الشيباني، فحضر إليه وقال: "إني غريب - من القيروان - قليل النفقة والسماع منك نَزْر، والطلبة عندك كثير، فما حيلتي؟ فقال له: اسمع مع العراقيين بالنهار، وقد جعلت لك الليل وحدك، فتبيت عندي وأسمعك، قال أسد: وكنت أبيت عنده وينزل إليَّ، ويجعل بين يديه قدحاً فيه ماء، ثم يأخذ في القراءة، فإذا طال الليل ونعست، ملأ يده ونضح وجهي بالماء فأنتبه، حتى أتيت على ما أريد من السماع عليه. كما كان يتعهده بالنفقة إذا نَفدت نفقته"(28).
ثالثاً: مقومات الاستمرار:
وهذه المقومات يجمعها لفظ الصبر، ويُفَرِّقُها وينوعها مجالاته.
ولأن العمل التربوي هو في مجمله محاولة للتأثير في نفس وسلوك الإنسان فإن ذلك يقترن - ولا بد - بكمٍّ من الصعوبات والمعوقات - تنبعث من تعقد النفس البشرية وتردِّي الظروف المحيطة - تحتاج من المربي أن يعالج نفسه بالصبر ليقدر على مواصلة الجهد - وبالمستوى نفسه إن لم يكن أرقى - وإن من أهم الوسائل التي تُعين المربي على التصبر أن يتذكر دائماً اقتران الأجر الأوفى بالصبر، وكذا اقتران النتائج الكبيرة به أيضاً، كما يتذكر أن الله - سبحانه وتعالى - قد ذكر على لسان نبيه أن أحب العمل إليه ما استمر عليه صاحبه ولم يقطعه وصبر عليه وإن قلَّ؛ لأنه بذلك تزداد احتمالات الوصول للأهداف الموضوعة لهذا العمل:(( واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه ولا تعد عيناك عنهم ...)) [الكهف: 28].
وليتأمل المربي في واقعنا العام والعمل الإسلامي على وجه الخصوص، ليجد هناك ظاهرة فوضوية تشوب الكثير من أعمالنا، وهي ظاهرة أحجار الأساس؛ حيث نكتفي في أعمالنا بوضع حجر الأساس ولا بأس بحجر آخر أو حجرين معه - ونعتبر ذلك إنجازاً -.(1/238)
إنها ظاهرة الأعمال المبتورة التي لا تكتمل؛ ولو أجرينا إحصاءاً لمرات البدء في الأعمال المختلفة في ميدان العمل الإسلامي ثم أحصينا كم من الأعمال بلغت منتصف الطريق، ثم تفقدنا الأعمال التي بلغت نهايتها المرجوة أو كادت، فكم يا تُرى يكون حجم التفاوت العددي في الحالات الثلاث؟!
فالمربي يحتاج إذن إلى الصبر وإلى مجاهدة النفس عليه في مجالات كثيرة، أهمها: الصبر على البذل والتضحية.
والمربي يحتاج إلى مداومة البذل والصبر عليه، البذل من وقته وراحته وبيته وماله، وقد سبق كيف كان السلف ينفقون من أموالهم على تلاميذهم - خاصة النجباء منهم - وعدم تضجرهم من ذلك إن استطاعوا.
وقال محمد بن سلام - شيخ البخاري - "أنفقت في طلب العلم أربعين ألفاً، وأنفقت في نشره أربعين ألفاً"، ومثل هذا - ولا شك - يحدث كثيراً في عصرنا ولكن بقلب "أنفقت" إلى "جمعت".
وكان النبي صلى الله عليه وسلم يجتمع بالصحابة في دار الأرقم لتعليمهم وتربيتهم، وأحياناً بمنزله صلى الله عليه وسلم ، ثم كان الصحابة يفتحون بيوتهم لتلامذتهم مثل عبد الله بن عباس - رضي الله عنهما - ومن بعده مالك بن أنس، وقبيصة بن ذؤيب، وأبي غطفان بن طريف المري... وغيرهم كثير(29)، وقد مر كيف فتح محمد بن الحسن بيته لابن الفرات فكان يؤويه ويعلمه وينفق عليه.
والمربي أيضاً يحتاج إلى الصبر على تأخر ثمرة العمل التربوي - نسبياً - فضلاً عن احتمالات ضياع بعضها أو تلفها.
ويحتاج أيضاً إلى الصبر على جفاء بعض الطباع وخشونة التعامل؛ فهذا نبينا - عليه الصلاة والسلام - وقد أقيمت الصلاة حين يأتي أعرابي فيأخذ بثوبه ويقول: إنما بقي من حاجتي يسيرة وأخاف أنساها، فيقوم صلى الله عليه وسلم معه حتى يفرغ من حاجته - والصلاة مقامة - ثم أقبل فصلى(30).(1/239)
وقد ذكر ابن جماعة أن من أدب المعلم مع تلميذه: "الصبر على جفاءٍ ربما وقع منه أذى لا يكاد يخلو الإنسان عنه، وسوء أدب في بعض الأحيان، ويبسط عذره بقدر الإمكان، ويوقفه مع ذلك على ما صدر منه بنصح وتلطف لا بتعنيف وتعسف، قاصداً بذلك حسن تربيته"(31).
وأخيراً: نختم بذكر الأمر الثاني الذي ينبغي توافره في النموذج المعتدل للمربي، وهو: أن يكون تحقق الصفات والمؤهلات السابقة فيه حدٌّ أدنى لا يتأهل الداعية بالنزول عنه للعمل التربوي.
وهنا ملاحظات غير عابرة:
أولاً: هذا الحد الأدنى يختلف باختلاف الظروف والأحوال؛ فهو يتغير من بيئة دعوية إلى أخرى، وحسب تعقُّد العمل وتوفر الكفاءات، كما أنه يتغير بتغير حجم المسؤولية التربوية؛ فالذي يتولى تربية عدد كبير ليس كمن يعمل مع أشخاص محدودين، كما أن الذي يربي أشخاصاً حديثي عهد بالدعوة، ليس كمن يعمل مع دعاة متمرسين.
ثانياً: لتحقيق قدر من المرونة والواقعية - ونظراً لضعف عملية التنمية البشرية - قُسمت المقومات وفق ابتداء تأثيرها، وهذا يعني أن أهمية تحقق كل قسم منها في بداية العمل في شخص المربي متفاوتة؛ فمقومات البدء لا مفر من تحققها تماماً - وفق البند السابق - ومقومات الإتقان يمكن التجاوز فيها قليلاً، على أن يبدأ سد الخلل فيها بعد البدء مباشرة وإلا ظهر أثر ذلك على العمل التربوي.
وأما مقومات الاستمرار فيمكن العمل على تنميتها وترسيخها أثناء ممارسة العمل التربوي.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
الهوامش:
(1) التذكرة ، ص 63.
(2) التذكرة ، ص 56.
(3) الأذكياء ، ابن الجوزي ، ص 24.
(4) صفحات من صبر العلماء ، ص 200 الهامش .
(5) التذكرة ، ص 105 الهامش .
(6) القاموس المحيط ، ص 977.
(7) مقدمة في علم التفاوض الاجتماعي والساسي ، د. حسن وجيه ص 28.
(8) المستطرف ، ص 91.
(9) علم التفاوض ، ص 203.
(10) المصدر السابق ، ص 27.
(11) النظم التعليمية ، ص 69.
((1/240)
12) فتح الباري ، ص 177.
(13) صحيح الأدب المفرد ، البخاري ، بتحقيق الألباني ، ص 237.
(14) صفحات من صبر العلماء ، ص 151.
(15) حلية الأولياء ، ج7/70.
(16) الزهد للإمام أحمد ، ص 289.
(17) البخاري ، ح/59.
(18) فتح الباري ، ص175-176.
(19) المصدر السابق ، ص176.
(20) مسلم ، ح/3520.
(21) الخطيب البغدادي في تاريخه ، ج13/338.
(22) مداواة النفوس ، لابن حزم ، ص71.
(23) التذكرة ، ص23.
(24) التذكرة ، ص19.؟
(25) التذكرة ـ، ص49.
(26) المصدر السابق ، ص60.
(27) المصدر السابق ، 49.
(28) صفحات من صبر العلماء ، ص119.
(29) النظم التعليمية ، ص40.
(30) صحيح الأدب المفرد ، ص120.
(31) التذكرة ، ص49-50.
--------------------------------------------------------------------------------
مجلة البيان، العدد (143-144 )، رجب - شعبان 1420،نوفمبر - ديسمبر 1999 .
* * *
http://www.albayan-magazine.com/zwaya/trbwi/15.htm
الترويح عن النفس في الإسلام.. مفاهيم وضوابط
فيصل البعداني
يعتبر الترويح عن النفس من الأمور المهمة التي قد يحتاجها المربون والدعاة أثناء مخالطتهم للناس ودعوتهم إياهم، إلا أن استخدام كثير من المشتغلين بالدعوة والتربية له لا يتم بالصورة المطلوبة، إذ يقعون أثناء ممارسته بين إفراط أو تفريط؛ فمنهم من غلا فيه، وصار جل همه مجرد الترويح عن من يدعوهم بدعوى كسبهم وتحبيبهم في الخير الذي يدلهم عليه، ومنهم من يرى أنه لا فائدة فيه بل هو مضيعة للوقت مفسدة للعمر.
ولذا: فسأحاول هنا تبيان مفهوم الترويح في ضوء القيم والمبادئ الإسلامية مع بيان أهميته وتقديم شيء من أدلته وخصائصه، وإبراز ما يوفق الله له من ضوابط وقواعد شرعية علّ ذلك أن يدفع إلى استخدام صحيح للترويح، وممارسة له منضبطة بالشرع الحنيف.
تعريف الترويح :(1/241)
تدور مادة (روح) في اللغة حول معاني: السعة، والفسحة، والانبساط، وإزالة التعب والمشقة، وإدخال السرور على النفس، والانتقال من حال إلى آخر أكثر تشويقاً منه(1)، وتختلف تعريفات الترويح في اصطلاحات الباحثين نظراً لاختلافهم في الاتجاهات التي ينطلقون منها لتحديد ماهيته، فمنهم:
1- من يربط الترويح بالغرض الذي يؤديه، وعليه: فالترويح هو: التسرية والتنفيس عن النفس(2) ويسمي بعضهم هذا الاتجاه بنظرية التعبير الذاتي(3).
2- من يربط الترويح بالوقت، وعليه: فالترويح هو: التعبير المضاد للعمل على أساس أن الإنسان قليلاً ما يجد في عمله نوعاً من الترويح(4).
3- من يربط الترويح بالغرض الذي يؤديه والوقت معاً، وعليه: فالترويح هو: أوجه النشاط التي يمارسها الفرد في أوقات فراغه والتي يكون من نتائجها الاسترخاء والرضى النفسي(5).
4- وذهب بعض المختصين في الأعمال الترويحية إلى اشتراط النفع في العمل الترويحي سواء أكان نفعاً فرديّاً أم جماعيّاً، نفسيّاً أم بدنيّاً أم عقليّاً(6).
ولن أطيل في هذا المقام باستعراض نصوص الباحثين في تعريف الترويح، بل سأقتصر على تعريف واحد آراه الأنسب، وهو: أن الترويح عن النفس في الإسلام عبارة عن: أوجه النشاط غير الضارة التي يمكن أن يقوم بها الفرد أو الجماعة طوعاً في أوقات الفراغ بغرض تحقيق التوازن أو الاسترخاء للنفس الإنسانية في ضوء القيم والمبادئ الإسلامية.
وفي ظل هذا التعريف؛ فإنه من الممكن أن تكون تلك الأنشطة وجدانية، أو عقلية، أو بدنية، أو مركبة من كل ذلك أو بعضه.
أهمية الترويح:
تبرز أهمية الترويح عن النفس في جوانب كثيرة، منها:
* تحقيق التوازن بين متطلبات الكائن البشري (روحية، عقلية، بدنية) ففي الوقت الذي تكون فيه الغلبة لجانب من جوانب الإنسان يأتي الترويح ليحقق التوازن بين ذلك الجانب الغالب وبقية الجوانب الأخرى المتغلب عليها.(1/242)
* يساهم النشاط الترويحي في إكساب الفرد لخبرات ومهارات وأنماط معرفية، كما يساهم في تنمية التذوق والموهبة، ويهيء للإبداع والابتكار(7).
* يساعد الاشتغال بالأنشطة الترويحية في إبعاد أفراد المجتمع عن التفكير أو الوقوع في الجريمة، وبخاصة في عصرنا (عصر التقنية) الذي ظهرت فيه البطالة حتى أصبحت مشكلة وقلت فيه ساعات العمل والدراسة بشكل ملحوظ جدّاً، وأصبح وقت الفراغ أحد سمات هذا العصر(8).
* من أبرز المسميات التي أطلقت على عصرنا: عصر التقنية، و عصر القلق، و عصر الترويح.. وترتبط هذه المسميات بعلاقة وثيقة فيما بينها؛ فالتقنية تولد عنها القلق، وأصبح الترويح أحد أهم متطلبات عصر التقنية والقلق؛ لما له من تأثير في الحد من المشاكل المترتبة عن ذلك(9).
أدلة جواز الترويح:
لا يقدر بعض الدعاة أهمية الترويح، وينظرون إليه على أنه مضيعة للوقت مفسدة للعمر، وفي هذا الأمر نظر، إذ قد دلت النصوص الشرعية إجمالاً وتفصيلاً على جواز الترويح، بل إن منها ما دعت إليه وحثت عليه، وسأكتفي هنا ـ لعدم مناسبة التوسع في الطرح ـ ببعض الأدلة الإجمالية والتفصيلية، فمن الأدلة الإجمالية:
* حديث حنظلة (رضي الله عنه) وفيه:.. قلت: نافق حنظلة يا رسول الله، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: وما ذاك، قلت: يا رسول الله نكون عندك تذكرنا بالنار والجنة حتى كأنا رأي عين، فإذا خرجنا من عندك عافسنا الأزواج والأولاد والضيعات نسينا كثيراً، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: والذي نفسي بيده إن لو تدومون على ما تكونون عندي، وفي الذكر، لصافحتكم الملائكة على فرشكم وفي الطرقات، ولكن يا حنظلة ساعة وساعة(10).(1/243)
* حديث أبي جحيفة في الصحيح، وفيه:.. فزار سلمان أبا الدرداء، فرأى أم الدرداء متبذلة، فقال: ما شأنك؟ قالت: أخوك أبو الدرداء ليس له حاجة في الدنيا، فجاء أبو الدرداء فصنع له طعاماً، فقال له: كل، قال: فإني صائم، قال: ما أنا بآكل حتى تأكل، قال: فأكل، فلما كان الليل ذهب أبو الدرداء يقوم قال: نم فنام، ثم ذهب يقوم فقال: نم، فلما كان من آخر الليل قال سلمان: قم الآن، فصليا فقال له سلمان: إن لربك عليك حقّاً، ولنفسك عليك حقّاً، ولأهلك عليك حقّاً، فأعط كل ذي حق حقه، فأتى النبي -صلى الله عليه وسلم- فذكر ذلك له، فقال له النبي -صلى الله عليه وسلم-: صدق سلمان(11).
* حديث عبد الله بن عمرو بن العاص (رضي الله عنهما) وفيه: أن الرسول -صلى الله عليه وسلم- قال: صُم وأفطر وقم ونم، فإن لجسدك عليك حقّاً، وإن لعينك عليك حقّاً، وإن لزوجك عليك حقّاً، وإن لزورك عليك حقّاً(12) وفي رواية: قال: قال لي رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: يا عبد الله بن عمرو: إنك لتصوم الدهر وتقوم الليل، وإنك إذا فعلت ذلك هجمت له العين ونهكت، لا صام من صام الأبد(13).
ومن الأدلة التفصيلية:
1- عن أنس بن مالك أن النبي -صلى الله عليه وسلم-قال له: يا ذا الأذنين قال أبو أسامة - أحد رواة الحديث -: يعني يمازحه(14).
2- عن عائشة (رضي الله عنها) قالت: كنت ألعب بالبنات عند النبي وكان لي صواحب يلعبن معي، فكان رسول الله إذا دخل يتقمعن* منه فيسر بهن إليّ(15).
3- قال محمود بن الربيع: إني لأعقل مجة مجها رسول الله في وجهي وأنا ابن خمس سنين من دلو(16).
4- عن عائشة رضي الله عنها أنها كانت مع النبي-صلى الله عليه وسلم- في سفر، قالت: فسابقته فسبقته على رجلي، فلما حملت اللحم سابقته فسبقني، فقال: هذه بتلك(17).(1/244)
5- وعن عائشة رضي الله عنها قالت: والله لقد رأيت رسول الله-صلى الله عليه وسلم-، يقوم على باب حجرتي والحبشة يلعبون بحرابهم في مسجد رسول الله، سترني بردائه لكي أنظر إلى لعبهم، ثم يقوم من أجلي حتى أكون أنا التي أنصرف، فاقدروا قدر الجارية الحديثة السن حريصةً على اللهو(18).
خصائص الترويح عن النفس في الإسلام:
يمثل الإسلام نظام حياة متكامل ـ عقيدة وشريعة ـ يجب أن تنبثق عنه جميع تصورات ومبادئ وقيم وسلوكيات الإنسان المسلم، وعلى ذلك: ينبغي أن ننظر إلى الموضوع الذي نحن بصدده (الترويح) من خلال الخصائص التي أعطاها له الإسلام، ومنها أنه:
1- عبودية لله (تعالى):
قال الله (تعالى): ((قُلْ إنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ العَالَمِينَ)) [الأنعام: 162] والترويح هو جانب من المحيا في حياة المسلم، وبالتالي: فهو (لله رب العالمين لا شريك له) في حال إصلاح العبد لنيته في ممارسته بشروط حلّه، واتخاذه وسيلة لتحقيق عمل صالح أو لتجديد نشاط المسلم في الأعمال الجادة؛ روي عن أبي الدرداء أنه قال: إني لأستجم قلبي بالشيء من اللهو ليكون أقوى لي على الحق(19).
2- ثابت المعالم متجدد الوسائل:
ليس للمسلم أثناء قيامه بنشاط ترويحي أن يتجاوز جوانب يوجب الإسلام تركها ـ لحرمتها أو ضررها ـ بل عليه أن ينضبط بضوابط الإسلام ويحتكم بأحكامه، وهذا هو الجانب الثابت في الترويح، وما سوى ذلك فللإنسان أن يبدع ويجدد فيه ما شاء من كيفيات ووسائل، وذلك الثبات في الترويح من جهة والإفساح وفتح المجال للتجديد من جهة أخرى: هو أحد الخصائص المهمة للترويح في الإسلام.
3- يراعي طبيعة الفطرة الإنسانية:(1/245)
عند التأمل في أنواع الترويح المشروع والمباح: نجده شاملاً لجميع حاجات ودوافع الإنسان التي تتطلبها جوانبه المختلفة (الروح، العقل، الجسد) مما يدل على أن من خصائصه العموم والشمول لجميع مكونات وخصائص الكائن البشري ومراعاة الفطرة التي خلقه الله (تعالى) عليها.
4- يحقق التوازن بين جوانب الإنسان المختلفة:
للإنسان جوانب مختلفة (روح، عقل، جسد)، وله ميول متنوعة، قد تدفعه إلى تغليب جانب أو أكثر على بقية الجوانب الأخرى، ولكن نتيجة للترابط بين جوانب الإنسان المختلفة نجده يكلّ ويملّ، ويصعب عليه مواصلة المسير، بل قد يمتنع من ذلك، وهنا يأتي دور الترويح لتحقيق التوازن بين تلك الجوانب، لكي يبتعد الإنسان عن الكلل والملل، ويعاود المسير براحة وطمأنينة.
5- انطلاقة من دافِعِيّة وممارسة بانتقائية:
يتم الإقبال على ممارسة النشاط الترويحي وفقاً لرغبة الممارس ودافعيّته الذاتية حسب حاله من الكلل والملل أو النشاط والهمة، كما أن الإقبال يتم أيضاً وفقاً لاختياره لأي نوع من أنواع الأنشطة الترويحية التي تناسبه وتحقق ميوله ورغبته واحتياجاته.
6- لا يزحف على عمل جاد:
يتم النشاط الترويحي في وقت الفراغ، والمراد به: الوقت الخالي عن الأعمال الجادة كأوقات الشعائر التعبدية الواجبة، وأوقات العمل، وأوقات القيام بواجبات ومستلزمات الحياة الأخرى، كالأكل والنوم، وما توجبه طبيعة الحياة الاجتماعية من آداب مرعية كزيارة الأقارب، وإكرام الضيف، وعيادة المريض.. ونحو ذلك.
ضوابط للترويح عن النفس في الإسلام:
1- الأصل في الترويح الإباحة:
ويدل لذلك حديث أبي الدرداء (رضي الله عنه) أن الرسول -صلى الله عليه وسلم- قال: ما أحل الله في كتابه فهو حلال، وما حرم فهو حرام، وما سكت عنه فهو عافية، فاقبلوا من الله العافية، فإن الله لم يكن نَسيّاً، ثم قرأ هذه الآية ((وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِياً)) (20).(1/246)
ومن القواعد المتقررة في الشرع أن الأصل في الأشياء الإباحة حتى يدل الدليل على التحريم(21).
2- الترويح وسيلة لا غاية:
الترويح وسيلة من الوسائل التي يستطيع بها الإنسان تحقيق التوازن بين جوانبه المختلفة، في حالة وجود اختلال بالإفراط في جانب على حساب بقية الجوانب الأخرى، وإذا تجاوز النشاط الترويحي هذا الحد وأصبح هدفاً وغاية في ذاته، فإنه يخرج من دائرة المستحب أو المباح إلى دائرة الكراهية أو الحرمة.
وبهذا الضابط يخرج الاحتراف لبعض الأنشطة الترويحية عن دائرة المباح أو المشروع لأن فيه إخلالاً ببنية وهيكل النظام الاجتماعي القائم على تعاليم الإسلام، وفيه قيادة أفراد الأمة إلى الميوعة والترف والانحلال، أضف إلى ذلك: تحقيق ذلك لرغبات أعداء الأمة في إلهاء أفرادها وإشغالهم عن جوهر الصراع الحضاري الذي يمارسونه ضدها.
وأدلة هذا الضابط ظاهرة في الشريعة، ومنها:
أن الإسلام رفض الإفراط في كمية العبادات الشرعية التي جاء آمراً بنوعها أمر وجوب أو استحباب، إذا أُخرجت عن حد المألوف المستطاع، ومن النصوص الدالة على ذلك - بالإضافة إلى ما سبق -:
* عن أنس بن مالك (رضي الله عنه) قال: دخل النبي -صلى الله عليه وسلم- فإذا حبل ممدود بين الساريتين فقال: ما هذا الحبل؟ قالوا: هذا حبل لزينب فإذا فترت تعلقت، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-:لا،حلوه، ليصل أحدكم نشاطه، فإذا فتر فليقعد(22).
* عن أبي هريرة (رضي الله عنه) قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: إذا قام أحدكم من الليل فاستعجم القرآن على لسانه فلم يدر ما يقول فليضطجع(23).
وإذا كان هذا النهي عن أمر مشروع، فما الحال بأمر مباح ـ لم يأمر الشارع بنوعه ـ، يُزاد في كميته زيادة مفرطة، تسبب ضياع المأمور به، وتجحف بالتوازن بين جوانب الإنسان المختلفة، وتغير هيكل النظام الاجتماعي الإسلامي، وتحقق مكائد ومخططات أعداء الأمة الساعين إلى إلهائها وتقويض بنيانها؟!.(1/247)
3- الجد هو الأصل، والترويح فرع:
سبق ذِكْرُ أن النشاط الترويحي في التصور الإسلامي ما هو إلا حالة علاجية، لحصول الاختلال في إعطاء كل جانب من جوانب الكائن البشري ما يستحقه من النشاط والقوة، ليعود الإنسان بكافة جوانبه لمواصلة السير في طريقه إلى الله (عز وجل) بجد ونشاط ومثابرة، وسأحاول تأصيل ذلك والتأكيد على أن الجد صاحب التقدمة والسبق، وأن الترويح تابع له، وفرع عنه، من خلال الأمرين التاليين:
أ- الأولوية للجد في حال التعارض:
يقدم الإسلام الجد على الترويح، ويَظْهَر هذا جليّاً في سلوكياته -صلى الله عليه وسلم- وأقواله، ومن ذلك: ما رواه أبو برزة الأسلمي (رضي الله عنه) أنه -صلى الله عليه وسلم- كان يكره النوم قبل العشاء والحديث بعدها (24).
قال الحافظ ابن حجر ـ أثناء شرحه لهذا الحديث ـ: قوله: وكان يكره النوم قبلها والحديث بعدها لأن النوم قبلها قد يؤدي إلى إخراجها عن وقتها مطلقاً، أو عن الوقت المختار، والسمر بعدها قد يؤدي إلى النوم عن الصبح أو عن وقتها المختار(25).
والقارئ الكريم يلاحظ أن الشارع لم يكره الترويح المتمثل في النوم لراحة البدن أو السمر لكونه سيؤدي إلى تضييع الواجب يقيناً، بل لاحتمال أن يكون ذريعة إلى الوقوع في ذلك.
* ما رواه أبو هريرة (رضي الله عنه) أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: ولا تكثر الضحك؛ فإن كثرة الضحك تميت القلب(26).
* عن سماك قال: قلت لجابر بن سمرة: أكنت تجالس رسول الله -صلى الله عليه وسلم، قال: نعم، فكان طويل الصمت، قليل الضحك، وكان أصحابه يذكرون عنده الشعر وشيئاً من أمورهم فيضحكون، وربما تبسم(27).
4- ألا يكون في النشاط الترويحي مخالفة شرعية:
يعتبر هذا الضابط الأهم من ضوابط النشاط الترويحي، ولتطبيقه صور مختلفة، منها:(1/248)
* ألا يكون في النشاط الترويحي أذية للآخرين من سخرية، أو لمز، ونبز، أو ترويع، أو غيبة، أو اعتداء على ممتلكاتهم بإتلاف أو استخدام... ونحو ذلك؛ قال الله (تعالى): ((يَا أَيُّهَا الَذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِّن قَوْمٍ عَسَى أَن يَكُونُوا خَيْراً مِّنْهُمْ وَلا نِسَاءٌ مِّن نِّسَاءٍ عَسَى أَن يَكُنَّ خَيْراً مِّنْهُنَّ وَلا تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ وَلا تَنَابَزُوا بِالأَلْقَابِ بِئْسَ الاسْمُ الفُسُوقُ بَعْدَ الإيمَانِ وَمَن لَّمْ يَتُبْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (11) يَا أَيُّهَا الَذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِّنَ الظَّنِّ إنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إثْمٌ وَلا تَجَسَّسُوا وَلا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضاً أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَاًكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَّحِيمٌ)) [الحجرات: 11، 12]، وقال -صلى الله عليه وسلم-: لا يأخذن أحدكم متاع أخيه لاعباً ولا جاداً..(28).
* ألا يكون في النشاط الترويحي كذب وافتراء؛ قال -صلى الله عليه وسلم-: ويل للذي يحدث بالحديث ليضحك منه القوم فيكذب، ويل له، ويل له(29).
* ألا يكون في النشاط الترويحي تبذير للمال واستهلاك باذخ؛ قال الله (تعالى): ((وَآتِ ذَا القُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلا تُبَذِّرْ تَبْذِيراً (26) إنَّ المُبَذِّرِينَ كَانُوا إخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُوراً)) [ الإسراء: 26، 27]، وسياق الآية في الإنفاق على ذي القربى والمسكين وابن السبيل، فكيف الحال في الترويح(30)؟!.(1/249)
* ألا يكون في النشاط الترويحي اختلاط بين الرجال والنساء لما يفضي إليه ذلك من النظر المحرم، والخلوة المحرمة، بالإضافة إلى أنه قد يكون ذريعة لمخالفات شرعية أكبر؛ قال الله (تعالى): ((وَإذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعاً فَاسْأَلُوهُنَّ مِن وَرَاءِ حِجَابٍ)) [الأحزاب: 53]، وقال رسول الله: إياكم والدخول على النساء، فقال رجل من الأنصار: يا رسول الله: أفرأيت الحمو؟ قال: الحمو الموت(31).
وعن جرير (رضي الله عنه) قال: سألت رسول الله عن نظر الفجاءة فأمرني أن أصرف بصري(32).
* ألا يكون في النشاط الترويحي نص على الحرمة.
ولقد جاءت بعض النصوص بتحريم بعض أنواع ووسائل الترويح، ومن ذلك:
أ -المعازف؛ ورد في تحريمها نصوص، منها قوله -صلى الله عليه وسلم-: ليكونن من أمتي أقوام يستحلون الحر والحرير والخمر والمعازف(33).
ب -النرد؛ قال ضص: من لعب بالنردشير فكأنما غمس يده في لحم الخنزير(34).
ج -الميسر؛ قال الله (تعالى): ((يَا أَيُّهَا الَذِينَ آمَنُوا إنَّمَا الخَمْرُ وَالمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ)) [المائدة: 90].
د -التحريش بين البهائم؛ قال ابن عباس (رضي الله عنهما): نهى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن التحريش بين البهائم(35)(*).
هـ -اتخاذ ما له روح غرضاً؛ قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: لا تتخذوا شيئاً فيه الروح غرضاً(36).
و -تصوير ما له روح؛ قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: من صور صورة في الدنيا كلف يوم القيامة أن ينفخ فيها الروح، وليس بنافخ(37).
ز -كثرة الضحك، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ولا تكثر الضحك؛ فإن كثرة الضحك تميت القلب(38).(1/250)
ح -النظر إلى ما حرم الله (تعالى)؛ ورد في ذلك نصوص كثيرة، منها قوله (تعالى): ((قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ (30) وَقُل لِّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فَرُوجَهُنَّ)) [النور: 30، 31].
5- ألا يشغل النشاط الترويحي عن واجب شرعي أو اجتماعي:
الطابع العام لحياة المسلم: الجدية، وما الترويح إلا عامل مساعد للحياة الجادة، والاستمرار فيها، فإذا تجاوز الترويح هذا الحد فشغل عن الجد: فإنه يخرج إلى دائرة المكروه أو المحرم بحسب نوع الجد الذي يشغل عنه، فإذا كان شاغلاً عن أداء واجب أو ترك محرم فإنه محرم، وإن كان شاغلاً عن أداء مستحب أو ترك مكروه فإنه مكروه، لأنه أصبح ذريعة إلى الحرام أو المكروه، وما كان ذريعة إليهما أعطى حكمهما، يقول أبو زهرة في بيان قاعدة سد الذرائع:
... وذلك لأن الشارع إذا كلف العباد أمراً فكل ما يتعين وسيلة إليه مطلوب، وإذا نهى الناس عن أمر فكل ما يؤدي إلى الوقوع فيه حرام أيضاً، وقد ثبت هذا بالاستقراء للتكليفات الشرعية طلباً ومنعاً.(39)
6- ألا يكون النشاط الترويحي ضارّاً على ممارسه:
إذا كان في النشاط الترويحي ضرر على ممارسه ـ أيّاً كان نوع الضرر ـ ولم يوجد فيه نفع يفوق ذلك الضرر فإنه يحرم على ذلك الممارس مزاولته؛ لقوله -صلى الله عليه وسلم-: لا ضرر ولا ضرار(40)، ولما قد تقرر في الشرع من قواعد مثل قاعدة: إذا اجتمع الحلال والحرام غُلّب الحرام(41)، وقاعدة: درء المفاسد مقدم على جلب المصالح(42)، وبهذا تظهر حرمة أنواع من الرياضة في عصرنا كالملاكمة والمصارعة ـ بوضعها الحالي والله أعلم ـ لما تؤدي إليه من أضرار في الجسم، بل وربما أدى بعضها إلى الوفاة أو الإعاقة ـ كما هو مشاهد ـ.(1/251)
--------------------------------------------------------------------------------
1- انظر: معجم مقاييس اللغة جـ2، ص454، الترويح للعودة ص23.
2،4- انظر: البدائل الإسلامية لمجالات الترويح المعاصرة لبسيوني، ص21.
3- انظر: الترويح ونظرياته في المجتمعات الحضرية المعاصرة د. إسحاق القطب، والمنشور في مجلة الدار عدد شوال 1402هـ.
5- انظر: الترويح وأوقات الفراغ لدرويش والحمامي، ص21.
6- انظر: البدائل الإسلامية لبسيوني، ص24.
7- انظر: الترويح وأوقات الفراغ لدرويش والحمامي، ص25.
8- انظر: السابق ص63، 77.
9- انظر: السابق ص23.
10- مسلم م4، ص2106، ح2750.
11- البخاري مع الفتح جـ4، ص209، ح 1968.
12- البخاري مع الفتح جـ4، ص217، ح 1975.
13- مسلم م2، ص815، ح1159.
14 -الترمذي جـ4، ص358، ح 1992م، وقال: صحيح غريب، وصححه الألباني في صحيح الجامع ح7909.
*في القاموس المحيط: تقمع فلان تحير أو جلس وحده، والمقصود: أنهن يجلسن بعيداً عن النبي دون عائشة.
15- البخاري مع الفتح جـ10، ص526، ح 6103.
16- البخاري مع الفتح جـ1، ص172، ح 77.
17- أخرجه أبو داود، جـ3، ص66، ح2578، وابن ماجة م1، ص636. وقال في الزوائد: إسناده صحيح على شرط البخاري.
18- مسلم م2، ص609، ح 892.
19- بهجة المجالس لابن عبد البر، جـ1، ص115.
20- أخرجه الحاكم: ج2، ص375، وقال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي.
21- انظر: الأشباه والنظائر للسيوطي، ص60.
22- البخاري مع الفتح جـ3، ص36، ح 1150.
23- مسلم م1، ص543، ح 787.
24- انظر: البخاري مع الفتح جـ2، ص7273، ح 599.
25- فتح الباري جـ2، ص73.
26- ابن ماجة م2، ص1403، وقال الألباني في صحيح الجامع، ح7321: صحيح.
27- أحمد: جـ5، ص86.
28- أبو داود: جـ5، ص273، ح 5003، وقال الألباني في صحيح الجامع، ح7454: حسن.
29- أحمد جـ5، ص5 وقال الألباني في صحيح الجامع، ح7013: حسن.
30- انظر: تفسير ابن كثير، جـ3، ص36.(1/252)
31- مسلم م4، ص1711، ح2172.
32- مسلم م3، ص1699، ح2159.
33- البخاري مع الفتح جـ10، ص51، ح5590.
34- مسلم م4، ص1770، ح 2260.
35- الترمذي جـ4، ص210، ح 1708 وقد رواه مرسلاً عن مجاهد (ح1709) وحكى أن المرسل أصح، وكذا قال المنذري في مختصر السنن جـ3، ص391، وضعف الألباني المرفوع في ضعيف الجامع، ح6049.
*في القاموس المحيط: التحريش: الإغراء بين القوم أو الكلاب وذلك بتدريبها على ما يشبه المصارعة بهدف التسلي بذلك.
36- مسلم م3، ص1549، ح1957.
37- البخاري مع الفتح جـ10، ص393، ح 5963.
38- أحمد: جـ2، ص310، وقال الألباني في صحيح الجامع، ح7312: صحيح.
39- ابن حنبل حياته، وعصره، وآراؤه الفقهية لأبي زهرة، ص314.
40- أحمد: جـ1، ص313، وقال الألباني في صحيح الجامع: ح7517: صحيح.
41- الأشباه والنظائر للسيوطي، ص105، والأشباه والنظائر لابن نجيم، ص121.
42- الوجيز في القواعد الفقهية للبرنو، ص85.
--------------------------------------------------------------------------------
مجلة البيان، العدد ( 90)، صفر 1416،يوليو 1995 .
* * *
http://www.albayan-magazine.com/zwaya/trbwi/16.htm
ولا تلبسوا الحق بالباطل
عبد العزيز الجليل
(1)
تمهيد :
الحمد لله رب العالمين وصلي الله وسلم على عبده ورسوله نبينا محمد وآله وصحبه.. أما بعد:(1/253)
فإن الله عز وجل خلق الخلق من الجن والإنس لغاية عظيمة، وهي عبادته سبحانه وتوحيده والإخلاص له وحده لا شريك له، قال تعالى: ((وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون))[الذاريات: 56]، ومن أجل ذلك أنزل سبحانه الكتب وأرسل الرسل، وزود عباده بالعقول التي تميز الخير من الشر والحق من الباطل، وتكفل سبحانه بالعون والتوفيق لمن أراد الهدى والحق فدله إليه ورزقه الانقياد له، وتخلى عمن أعرض عن الحق فلم يقبل به، ولم يستسلم ويخضع له، وكل هذا من الابتلاء الذي خلق الله سبحانه الموت والحياة من أجله، قال تعالى: ((الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملاْ وهو العزيز الغفور))[الملك: 2].
وانقسم الناس إثر ذلك إلى مؤمنين موحدين مدركين للغاية التي من أجلها خلقوا، فصارت دوافعهم كلها في مرضاة الله سبحانه، وسخروا كل ما آتاهم الله في هذه الدنيا لخدمة هذه الغاية الشريفة لنيل مرضاة الله سبحانه وتعالى، فعملوا للآخرة والفوز برضوان الله والجنة، ومن الناس من أمضى حياته في اللهو واللعب وإيثار الحياة الدنيا، وجعل هذه الدنيا همه وغايته واتبع هواه، فخسر الدنيا والآخرة، ألا ذلك هو الخسران المبين.
ثم إن الفئة المؤمنة لم تسلم كذلك من الفتن، وكيف لا يكون ذلك وعدوها الشيطان الرجيم متربص بها لا يفتأ يضلها ويزين لها ويخدعها؟ يقول الله عز وجل عن إبليس اللعين: ((قال فبما أغويتني لأقعدن لهم صراطك المستقيم، ثم لآتينهم من بين أيديهم ومن خلفهم وعن أيمانهم وعن شمائلهم ولا تجد أكثرهم شاكرين))[الأعراف: 16، 17]، وقال تعالى: ((قال رب بما أغويتني لأزينن لهم في الأرض ولأغوينهم أجمعين، إلا عبادك منهم المخلصين))[الحجر: 39، 40].
أحابيل الشيطان:(1/254)
إن من أعظم الفتن التي يفتن الشيطان بها العباد، فتنة التزيين ولبس الحق بالباطل واتباع الهوى في ذلك، ولقد وقع في هذا الشَرَك الخطير كثير من الناس وبخاصة في زماننا هذا، حيث تموج الفتن موج البحر، وحيث كثر الخداع والنفاق والدجل والرياء.
نعم إننا في زمان اشتدت فيه غربة الإسلام، وضُلل كثير من الناس وتمكن الشيطان من كثير منهم تمكناً يظنون معه أنهم بمنأى عن عدوهم اللدود وعلى صلة بربهم سبحانه وتعالى، وما ذلك إلا بسبب التباس الحق بالباطل والجهل بالعلم ولتعاون شياطين الجن والإنس ((يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غروراْ))[الأنعام: 112]، فتعاونوا في وضع هذا التلبيس في قوالب من الأقوال مزخرفة، وألفاظ من القول خادعة، وتسمية للأشياء بغير أسمائها فَضَلّ بسبب ذلك كثير من الناس، والعاقل منهم من وقف حائراً لا يدري أين وجهة الحق فيما يسمع ويرى من التناقضات وتبرير المواقف الخاطئة المخالفة للشريعة، بسبب استيلاء الهوى على النفوس واستيلاء الشهوات على القلوب.
ولما كان من غير المستطاع المجاهرة برد الشريعة ورفضها، كان لابد لهم من لي أعناق النصوص من آيات وأحاديث ليستدل بها أولئك المبطلون على المواقف المنحرفة وليست فيها دلالة عليها، ولو أن الذي يقع في الانحراف يعترف بذنبه وخطئه وضعفه في مخالفة الشريعة، لكان الأمر أهون، وكذلك لو أنه استدل بدليل في غير محله ولما نُبّهَ إلى هذا الخطأ في الاستدلال رجع واعترف لكان هذا أيضاً أهون، ولكن المصيبة أن يصر المسلم الذي حَرّفَ الأدلة ولواها ليجد لعمله مَخْرَجَاً وشرعية، فيكابر بعد بيان الحق له، ويغالط نفسه والمسلمين بصنيعه هذا.
منطلق هذه الوقفات:(1/255)
إننا في زماننا هذا نرى صوراً كثيرة من لبس الحق بالباطل، وصوراً أخرى من المغالطات والخداع والحيل المحرمة في شرع الله عز وجل، فكان لزاماً على الدعاة والمصلحين أن يحذروا من الوقوع في هذا المزلق، وأن يكشفوه للناس ولا يدَعُوهم لأهل الأهواء يلبسون عليهم دينهم ويحرفون الكلم عن مواضعه، ومعلوم ما ينتج من وراء ذلك من الفتن والتضليل.
من أجل ذلك جاءت هذه الوقفات التربوية في ضوء القرآن الكريم لمعالجة هذا الموضوع المهم على ضوء الكتاب والسنة وما ذكره العلماء الفحول، وقد اخترت عنواناً لها قوله تعالى: ((ولا تلبسوا الحق بالباطل))، وهو جزء من آيتين كريمتين وردت إحداهما في سورة البقرة عند قوله تعالى: ((ولا تلبسوا الحق بالباطل وتكتموا الحق وأنتم تعلمون)) [البقرة:42] والأخرى في سورة آل عمران عند قوله تعالى: ((يا أهل الكتاب لم تلبسون الحق بالباطل وتكتمون الحق وأنتم تعلمون))[آل عمران:71].
العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب:
وهاتان الآيتان وإن كانتا قد نزلتا في أهل الكتاب فالعبرة بعموم اللفظ لابخصوص السبب كما هو مقرر عند علماء الأصول، فكل من كتم الحق وخلطه بالباطل وهو يعلم فهو من أهل هذه الآية، ولذلك سوف لا أتطرق لمحاولات أهل الكتاب ولا أصحاب الملل الكافرة في تلبيس الحق بالباطل ومغالطاتهم في ذلك، بل سينصب جل البحث على واقعنا المسلم الذي نعيش فيه وندعو إلى الله فيه، محاولاً كشف بعض الصور التي التبس فيها الحق بالباطل والتي يقع فيها بعض المنتسبين لهذا الدين من المنافقين وضعاف الإيمان لتبرير الانحراف أو التهوين منه والرضى به وإقراره، بل إن بعض الطيبين من دعاة وطلاب علم قد تأثروا بأولئك الملبسين فصاروا يرددون بعض ما يقولون بعلم أو بغير علم، وقد قسمت الموضوع إلى المباحث التالية:
* أهمية الموضوع * تعريفات
* أسباب التباس الحق بالباطل * صور من لبس الحق بالباطل
* الأسباب الواقية من لبس الحق بالباطل *خاتمة.(1/256)
أسأل الله عز وجل أن ينفع به ويحسن القصد فيه، إنه سميع مجيب.
أهمية الموضوع:
إن لدراسة التباس الحق بالباطل أهمية كبرى لما ينتج عن ذلك التلبيس من تزييف وفتنة يكون لها الأثر السيء والضرر البالغ في تضليل الأمة وتحريف الحقائق وتزوير الأحداث، ويمكن توضيح أهمية الموضوع في الأمور التالية:
1- القيام بالعبودية لله تعالى لا يتم إلا بالإخلاص له سبحانه وتعالى، وأن تكون العبادة على بصيرة باتباع ما جاء به الرسول -صلى الله عليه وسلم-، والبصيرة بالدين لا تتحقق مادام أن الباطل ملتبساً بالحق، مما يلزم تنقية الحق من الباطل قال تعالى: ((قد تبين الرشد من الغي))[البقرة: 56].
2- كثرة التلبيس والتضليل في عصرنا بوسائل إعلامية ماكرة مضللة تلبس على الناس دينهم وتخلط الحق بالباطل، بل وصل الأمر لدرجة قلب الحقائق وإظهار الحق في صورة الباطل والباطل في صورة الحق، وذلك لطمس الحق أو تشويهه وتشويه حملته والداعين إليه، فكان لابد من إزالة هذا اللبس لإحقاق الحق وإبطال الباطل بقدر المستطاع ((ليحق الحق ويبطل الباطل ولو كره المجرمون))[الأنفال: 8].
3- السكوت المزعج لكثير من العلماء وطلبة العلم في ديار الإسلام أمام كثير من المستجدات والنوازل التي تبحث فيها الأمة عن الموقف الشرعي إزاء تلك النوازل، مما حدا بذوي القلوب المريضة في غيبة العلماء أن يلبسوا على الأمة أمرها، وتكلمت الرويبضة في أمر العامة، والأدهى والأمر أن من أهل العلم من يساهم في هذا التلبيس فتراه يسمي الأمور بغير أسمائها، وينزل النوازل في غير مناطاتها، بل قد يثني على المبطلين ويغض من قدر المصلحين، فإلى الله المشتكى.
4- أهمية تعرية الباطل وأهله، فمادام أن الحق مختلط بالباطل، وسبيل المجرمين لم يتميز عن سبيل المؤمنين، فإن الدين سيبقى مشوهاً عند الناس، وسيبقى التلبيس فيه قائماً، (ليهلك من هلك عن بينة ويحيا من حي عن بينة) .(1/257)
5- ضرورة بيان تلبيس الطواغيت ودعاة العلمنة في كثير من بلدان الإسلام وما يضفونه على مخططاتهم الظالمة من تبريرات لظلمهم وادعاءاتهم التي قال الله تعالى في مثلها: ((وإذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض قالوا إنما نحن مصلحون ألا إنهم هم المفسدون ولكن لا يشعرون))[البقرة: 11، 12].
6- ظهور بعض المغالطات من كثير من الناس واستخدامها في تبرير المواقف الخاطئة والمخالفات الشرعية، سواء أكانت فردية أو جماعية فينبثق عنها مواقف وممارسات خاطئة تلبس على الناس أمرهم، ومنشأ هذه المغالطات في الغالب شهوة مزجت بشبهة فتولد عنها مغالطة، وسيأتي تفصيل ذلك فيما بعد.
مصطلحات في الموضوع:
يحسن بنا قبل الدخول في ثنايا الموضوع الإلمام بتعريفات كثر إيرادها، من أهمها (اللبس والتلبيس) و(الأغاليط والمغالطات):
أولاً- اللبس والتلبيس:
قال في لسان العرب: »اللّبْس واللّبَس: اختلاط الأمر، لبس عليه الأمر يلبسه لبْساً فالتبس، إذا خلطه عليه حتى لا يعرف جهته، والتبس عليه الأمر أي اختلط واشتبه، والتلبيس: كالتدليس والتخليط، شدد للمبالغة، وربما شدد للتكثير، يقال: لَبَستُ الأمر على القوم ألبْسُه إذا شبهته عليهم وجعلته مشكلاً«أ.هـ، وقال ابن الجوزي - رحمه الله - في تلبيس إبليس: »التلبيس إظهار الباطل في صورة الحق«أ.هـ، ومن ذلك قوله تعالى: ((ولا تلبسوا الحق بالباطل وتكتموا الحق وأنتم تعلمون))[البقرة:42]، قال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - عند هذه الآية: »فإنه من لبس الحق بالباطل فغطاه به فغلط به لزم أن يكتم الحق الذي تبين أنه باطل إذ لو بينه زال الباطل الذي لبس به الحق«.
ثانياً- الأغاليط والمغالطات:(1/258)
قال في لسان العرب: »المغْلطَة والأغلوطة: ما يغالط به من المسائل والجمع: الأغاليط، وفي الحديث أنه -صلى الله عليه وسلم- نهى عن الأغلوطات، قال الهروي: وأراد بها المسائل التي يغالط بها العلماء ليزلوا فيهيج بذلك شر وفتنة، وإنما نهي عنها لأنها غير نافعة في الدين ولا تكاد تكون إلا بما لا يقع، ومثله قول ابن مسعود - رضي الله عنه -: (أنذرتكم صعاب المنطق) يريد المسائل الدقيقة الغامضة«.
وقد أخرج أبو داود - رحمه الله - في سننه عن معاوية - رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- نهى عن الأغلوطات(1)، وروى كل من البخاري ومسلم حديث حذيفة المشهور في الفتن، وفيه قول حذيفة: »إني حدثته حديثاً ليس بالأغاليط«(2) قال في الشرح: الأغاليط جمع أغلوطة وهي المسائل التي يغلط فيها والأحاديث التي تذكر للتكذيب، ونقل الحافظ بن رجب - رحمه الله - في جامع العلوم والحكم عند شرحه للحديث التاسع من أحاديث الأربعين النووية قوله: وقال الحسن البصري: »شرار عباد الله الذين يتبعون شرار المسائل يعمون بها عباد الله« وقال الأوزاعي: »إن الله إذا أراد أن يحرم عبده بركة العلم ألقى على لسانه المغاليط، فلقد رأيتهم أقل الناس علماً«.
والحاصل مما ذكر أن المغاليط هي التي يثيرها المغالطون من صعاب المسائل أو المسائل التي لم تقع، وذلك ليغالطوا بها العلماء ليزلوا فيعمون بها العباد ويهيج من ذلك شر وفتنة وتلبيس على الناس، نسأل الله السلامة..
وللحديث بقية إن شاء الله.
الهوامش:
(1) أبو داود. كتاب العلم ح/8.
(2) البخاري. كتاب المواقيت ح/4، مسلم. كتاب الإيمان.
--------------------------------------------------------------------------------
((ولا تلبسوا الحق بالباطل..))
(2)(1/259)
في الحلقة الأولى تطرق الكاتب لبيان منطلق هذه الوقفات من قوله تعالى: ((ولا تلبسوا الحق بالباطل)) وأهمية الموضوع وبيان معنى اللبس والتلبيس ويواصل الكاتب المزيد من الإيضاح حول تلك القضية.
-البيان-
إن الانحراف عن الحق والوقوع في الخطأ لا تعدوا أسبابه الفتن التالية:
1- فتنة الشبهات.
2- فتنة الشهوات.
3- فتنة الجمع بين الشبهة والشهوة لبس الحق بالباطل وكل انحراف أو ضلال أو خطأ سواء أكان صغيراً أو كبيراً لا يخرج في دوافعه عن الأسباب الثلاثة السابقة:
فإذا وقع العبد في مخالفة شرعية، فإما أن يكون السبب في هذه المخالفة هو الجهل بها وعدم العلم بحرمتها، أو اشتبه الأمر عليه فحسبها مكروهة فقط، فهذا الخطأ سبب الشبهة الناتجة من قلة العلم وضعف البصيرة.
وأما إذا كان لدى من وقع في المخالفة علم وبصيرة في دين الله بأنها محرمة ومخالفة للشرع ومع ذلك وقع فيها عمداً، فإن الدافع لهذه المخالفة إنما هو الشهوة، وضعف النفس، ومثل هذا يقر ويعترف بمخالفته ومجانبته للصواب كما يعترف بذنبه وتقصيره.
أما إذا وقع في المخالفة عن شهوة وضعف ثم لم يعترف بذنبه وتقصيره، وإنما راح يبحث عن شبهة شرعية أو تفسير خاطئ أو تأويل متعسف للأدلة ليبرر بها خطأه ويبرر بها ضعفه وشهوته مع علمه بخطأ تصرفه هذا في قرارة نفسه فهذا هو الهوى وهذه هي المغالطة وهذا هو لبس الحق بالباطل، وهو أشنع أنواع الانحراف لأنه مكر وتحايل على شرع الله وخداع للناس.
إن أشد وأشر هذه الفتن من جمع بين الشبهة والشهوة وتحايل على شرع الله بأن غطى مخالفته وانحرافه بشبهة شرعية، وهو يعلم أنه متحايل ومخادع، ومثل هؤلاء الملبسين عقوبتهم عند الله عز وجل أشد من الذين يقعون في المخالفات الشرعية ولكنهم يعترفون بتقصيرهم وذنوبهم، ولا يكابرون، ولا يبررون ولهذا حذر النبي -صلى الله عليه وسلم- أمته من ارتكاب الحيل فقال ولا تركبوا ما رتكب اليهود فتستحلوا محارم الله بأدنى الحيل(1).(1/260)
وهذه هي حقيقة لبس الحق بالباطل وحقيقة المغالطة، إذ أن الدافع الحقيقي للانحراف هو الهوى والشهوة وحب الدنيا، ولكن عوضاً عن أن يعترف بضعفه هذا وشهوته، ويعترف بذنوبه في مخالفته للشريعة فإنه يستدل لشهوته هذه بشبهة شرعية يعلم هو في قرارة نفسه أنها لا تصلح للاستدلال، لكن لابد من غطاء يغطى به هذا الضعف والهوى، وإذا ذهبنا لنتعرف على وسائل التلبيس والطرق التي ينطلق منها الملبس في أغلوطاته نجدها لا تخرج في الغالب عن الأمور التالية:
1- التأويل الفاسد واتباع المتشابه.
2- كتمان الحق وإخفاؤه.
3- تحريف الأدلة عن مواضعها، وعدم إنزالها في مناطاتها، وتفصيل ذلك فيما يلي:
1- التأويل واتباع المتشابه:
التأويل الفاسد الذي لم يدل عليه دليل يصرفه عن المعنى الظاهر الذي هو أشبه بتحريف الكلم، والغالب أن الذي يدفع إليه هو الجهل والهوى وفي ذلك يقول الإمام ابن القيم رحمه الله: فأصل خراب الدين والدنيا إنما هو التأويل الذي لم يرده الله رسوله بكلامه ولا دل عليه أنه مراده، وهل اختلفت الأمم على أنبيائها إلا بالتأويل، وهل وقعت في الأمة فتنة كبيرة أو صغيرة إلا بالتأويل؟ فمن بابه دخل إليها، وهل أريقت دماء المسلمين في الفتن إلا بالتأويل؟(2).(1/261)
وعند قول الله عز وجل في اليهود: ((وإن منهم لفريقا يلوون ألسنتهم بالكتاب لتحسبوه من الكتاب وما هو من الكتاب ويقولون هو من عند الله وما هو من عند الله ويقولون على الله الكذب وهم يعلمون))[ال عمران: 78] يقول سيد قطب رحمه الله تعالى عن هذه الآية: وآفة رجال الدين حين يفسدون أن يصبحوا أداة طيعة لتزييف الحقائق باسم أنهم رجال الدين وهذه الحال التي يذكرها القرآن عن هذا الفريق من أهل الكتاب نعرفها نحن جيداً في زماننا هذا فهم كانوا يؤولون نصوص كتابهم، ويلوونها لياً، ليصلوا منها إلى مقررات معينة، يزعمون أنها مدلول هذه النصوص، وأنها تمثل ما أراده الله منها، بينما هذه المقررات تصادم حقيقة دين الله في أساسها، معتمدين على أن كثرة السامعين لا تستطيع التفرقة بين حقيقة الدين ومدلولات هذه النصوص الحقيقية، وبين تلك المقررات المفتعلة المكذوبة التي يُلجئون إليها النصوص إلجاء (3).
2- كتمان الحق وإخفاؤه:
وهو تحريف الأدلة عن مواضعها وتغطية الحق بالباطل، وقد ورد في كتاب الله عز وجل وسنة رسوله -صلى الله عليه وسلم- من النصوص المحذرة من كتمان الحق وإخفائه والمتوعده لفاعليه بالوعيد الشديد من ذلك: قوله تعالى: ((إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات والهدى من بعد ما بيناه للناس في الكتاب أولئك يلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون))[البقرة: 159] وقوله: ((إن الذين يكتمون ما أنزل الله من الكتاب ويشترون به ثمنا قليلا أولئك ما يأكلون في بطونهم إلا النار ولا يكلمهم الله يوم القيامة ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم))[البقرة: 174].(1/262)
يقول الشيخ رشيد رضا في تفسيرها: هذه الآية جارية على الرؤساء الذين يحرمون على الناس ما لم يحرمه الله، ويشرعون لهم ما لم يشرعه من حيث يكتمون ما شرعه بالتأويل أو الترك، فيدخل فيه اليهود والنصارى ومن حذا حذوهم في شرع مالم يأذن به الله وإظهارخلافه سواء أكان ذلك في أمر العقائد ككتمان اليهود أوصاف النبي -صلى الله عليه وسلم-، أو الأكل والتقشف وغير ذلك من الأحكام التي كانوا يكتمونها إذا كان لهم منفعة في ذلك، كما قال تعالى: ((تجعلونه قراطيس تبدونها وتخفون كثيراْ))[الانعام: 91] وفي حكمهم كل من يبدي بعض العلم، ويكتم بعضه لمنفعة لا لإظهار الحق وتأييده(4).
وبقيت كلمة أخيرة في موضوع كتمان الحق، ألا وهي أن بعض الطيبين قد يقول: ألا يجوز كتمان العلم بل قد يجب أحياناً عند خوف الفتنة من الجهر به سواء أكان على النفس أو على الناس؟ والجواب أن في ذلك تفصيل كما يلي:(1/263)
بادئ ذي بدء فإن حديثنا ليس عن كتمان العلم وإنما هو عن كتمان الحق الذي يجب أن يقال، وفي نظري والله أعلم أن بينهما اختلاف، وذلك أن العلم أنواع فمنه ما هو واجب القول به وتعليمه الناس كفروض العين ونحوها ومنه ما هو مستحب ومنه ما يجوز قوله لأناس دون أناس حسب عقولهم وأفهاهم، أما قول الحق الواجب فأرى أنه من العلم الواجب إيصاله للناس، ولا يجوز كتمه لأن في كتمه مفسدة تنافي مقاصد الشرع أو بعضها، وفي إخفائه فتنة للناس وليس العكس، فإذا جاز كتمان العلم أو وجب في ضوء قواعد الشريعة المعتبرة فإنا والحالة هذه نقول: إن الحق في هذا هو كتمان العلم، وإن الجهر بالعلم مع معرفتنا بالمفسدة المترتبة عليه هو الباطل والفتنة وهذا والله أعلم هو الذي عناه الشاطبي رحمه الله تعالى في الموافقات حيث قال : ومن هذا يعلم أنه ليس كل ما يعلم مما هو حق يطلب نشره وإن كان من علم الشريعة، ومما يفيد علماً بالأحكام بل ذلك ينقسم، فمنه ما هو مطلوب النشر وهو غالب علم الشريعة، ومنه ما لا يطلب نشره بإطلاق، أولا يطلب نشره بالنسبة إلى حال، أو وقت أو شخص، ومن ذلك تعيين هذه الفرق فإنه وإن كان حقاً فقد يثير فتنة كما تبين تقريره فيكون من تلك الجهة ممنوعاً بثه، ومن ذلك علم المتشابهات والكلام فيها، فإن الله ذم من اتبعها فإذا ذكرت وعرضت للكلام فيها فربما أدى ذلك إلى ما هو مستغنى عنه(5).
3- تحريف الأدلة عن مواضعها:(1/264)
وهذه الطريقة من طرق التلبيس هي ثمرة من ثمرات الطريقتين السابقتين، إذ لابد لمحرف الأدلة من كتمان الحق، ولابد لمتبع المتشابه من تأويل كلام الله سبحانه وكلام رسوله -صلى الله عليه وسلم- من التأويل الفاسد الذي يؤدي إلى صرف الأدلة عن ما أراد الله بها وأراده رسوله -صلى الله عليه وسلم- ومن ثم وضعها في غير موضعها، وهذا هو نوع من أنواع التحريف للأدلة عن مواضعها، إذ لايلزم من التحريف أن يكون لفظياً كما فعلت اليهود في التوراة بل إن تحريف المعنى المراد إلى غير المراد هو تحريف للنصوص عن مواضعها أيضاً وهذا ما أشار إليه الشاطبي رحمه الله تعالى: وهو يستعرض مآخذ أهل البدع في الاستدلال: ومنها تحريف الأدلة عن مواضعها بأن يرد الدليل على مناط فيصرف عن ذلك المناط إلى أمر آخر موهماً أن المناطين واحد، وهو من خفيات تحريف الكلم عن مواضعه والعياذ بالله، ويغلب على الظن أن من أقر بالإسلام وبأنه يذم تحريف الكلم عن مواضعه لا يلجأ إليه صراحاً، إلا مع اشتباه يعرض له، أو جهل يصده عن الحق مع هوى يعميه عن أخذ الدليل مأخذه، فيكون بذلك السبب مبتدعاً وبيان ذلك أن الدليل الشرعي إذا اقتضى أمراً في الجملة مما يتعلق بالعبادات مثلاً فأتى به المكلف في الجملة أيضاً، كذكر الله والدعاء والنوافل المستحبات وما أشبهها مما يعلم من الشارع فيها التوسعة، كان الدليل عاضداً لعلمه من جهتين: من جهة معناه، ومن جهة عمل السلف الصالح به.
فإن أتى المكلف في ذلك الأمر بكيفية مخصوصة أو زمان مخصوص أو مكان مخصوص أو مقارنٍ لعبادة مخصوصة، والتزم ذلك بحيث صار متخيلاً أن الكيفية أو الزمان أو المكان مقصود شرعاً من غير أن يدل الدليل عليه، كان الدليل بمعزل عن ذلك المعنى المستدل عليه (6).
الهوامش:
(1) تفسير بن كثير، طبعة الشعب جـ3 ص492، وجود ابن كثير إسناد هذا احديث.
(2) إعلام الموقعين 4/353
(3) في ظلال القرآن.
(4) تفسير المنار 2/101.
((1/265)
5) الموافقات جـ4 ص109.
(6) الاعتصام جـ1 318.
--------------------------------------------------------------------------------
صور من لبس الحق بالباطل
(3)
مدخل:
بعد بيان معنى اللبس والتلبيس وأنه إلباس الهوى والشهوة لبوساً شرعياً بتحريف الأدلة أو كتا، ثم بيان الأسباب التي تؤدي إلى لبس الحق بالباطل والمؤدية بدورها إلى الضلال والإضلال، نذكر هنا بعضاً من صور اللبس والتضليل، وذلك لنحذر من الوقوع فيها بأنفسنا، ونحذر إخواننا المسلمين من الوقوع فيها والانخداع بها، ولم أراع في ترتيبها الأهمية، لكن حسب ما عنّ في الخاطر، أسأله (سبحانه) التوفيق والسداد في القول والعمل، ومن هذه الصور ما يلي:
1- الاحتجاج على شرعية الأنظمة المبدلة لشرع الله والمستحلة لما حرم الله بآثار عن السلف (رضي الله عنهم) أنه: كفر دون كفر: وهذا، والله تحريف للأدلة عن مواضعها، وإنزال الحكم في غير محله، وافتراء وتجن على سلفنا الصالح وخير القرون في هذه الأمة، فما كانوا عن عصرنا يتحدثون ولا أنظمته المبدلة لشرع الله يقصدون، فالله المستعان، ومن أحسن ما رأيت من الردود على هذا التلبيس ما كتبه الشيخ أحمد شاكر (رحمه الله)، ومما قاله: وهذه الآثار عن ابن عباس وغيره مما يلعب به المضللون في عصرنا من المنتسبين للعلم ومن غيرهم من الجرآء على الدين، يجعلونها عذراً أو إباحة للقوانين الوثنية الوضعية التي ضربت على بلاد المسلمين(1).(1/266)
فاللهم إنا نبرأ من هذا اللبس ونبرئ صحابة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- والتابعين لهم بإحسان من هذا التلبيس وهذه المغالطات، وإنه لا أحد ينزل قول ابن عباس (رضي الله عنه) أو غيره من السلف على المبدلين لشرع الله في زماننا هذا إلا رجل سيطر عليه الجهل بالواقع فلا يعلم ما يدور من حوله، أو رجل منافق ملبس يعلم واقعه وعدم مشابهته للواقع الذي كان يتحدث عنه ابن عباس (رضي الله عنه)، ولكنه يغالط ويخلط الحق بالباطل اتباعاً للهوى وطمعاً في دنيا يصيبها؛ فإنه لم يحدث قط في تاريخ الإسلام أن سن حاكم حكماً وجعله شريعة يتحاكم إليها الناس.
2- الاحتجاج بالقدر على فعل المعاصي، والرضى بالذل والمهانة: وهذه الصورة من صور اللبس والمغالطة ليس القصد من إيرادها هنا الرد على المحتجين بالقدر على ضلالهم ومعاصيهم، وإنما المقصود التنبيه على أن من يحتج بالقضاء والقدر ليبرر به انحرافه وكسله وضعفه إنما هو مغالط وملبس ومدلس، وموضوع الرد على المحتجين بالقدر موجود في مظانّه من كتب العقيدة الصحيحة لدى سلفنا (أهل السنة والجماعة)، مثل: العقيدة الواسطية، ومعارج القبول، والعقيدة الطحاوية..إلخ، والمراد هنا: كشف اللبس الحاصل بين الحق والباطل في هذه المسألة، حيث إن المحتج بالقدر على فعل المعاصي والإصرار عليها قد وقع في لبس عظيم، ويعلم هو بنفسه أن احتجاجه ليس في محله، وإنما أورده لتبرير شهوته وضعفه بدليل أنه في أمور الدنيا وكسبها لا نجده يقعد محتجاً بالقدر، وأن الله (سبحانه) كتب عليه الفقر أو الجوع أو عدم الزواج، بل إنا نجده يسعى ويفعل الأسباب الممكنة لدفع كل ذلك، فلماذا لا يوجد هذا الدفع أيضاً في أمور الدين وأمور الآخرة فيسعى للآخرة سعيها، ويأخذ بأسباب الهداية وأسباب النجاة من النار، وهي ميسرة لمن أرادها؟!، لماذا هو جبري في أمور الدين والآخرة، وقدري في أمور الدنيا؟.(1/267)
وقريب من الذين يحتجون بالقدر على فعل المعاصي والرضى بالواقع أولئك الذين يتجرؤون على فعل المعاصي اعتماداً على رحمة الله (سبحانه)، نعم إن الله غفور رحيم، ولكن ليس مقتضى هذه الرحمة أن يتجرأ هذا الملبس على المعصية، وإنما المقصود منها: فتح باب التوبة والرحمة لمن وقع فيها وانتهى وندم، فيقال له: لا تيأس؛ فإن الله غفور رحيم.
3- ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والجهاد في سبيل الله خوف الابتلاء وتعريض النفس للفتن: هناك من يترك الأمر والنهي عجزاً وكسلاً وجبناً وبخلاً، لكن لا يريد أن يعترف بهذه الصفات الذميمة، فبدلاً من الاعتراف بها والسعي للتخلص منها فإنه يحاول جاهداً في تغطية ضعفه هذا بمبررات شرعية، منها: الخوف من الفتن واعتزال كل ما يعرض النفس للابتلاء والفتنة والهلكة ودرء المفاسد، معتمداً على قاعدة درء المفاسد مقدم على جلب المصالح والضوابط الشرعية في ذلك، فمقصودنا هو كشف اللبس والتدليس والمغالطة على النفس وعلى الناس في أن النكول عن الأمر والنهي قد تم من منطلق شرعي وضوابط شرعية، والأمر في حقيقته ليس كذلك، وإنما هو الخوف والجبن وإيثار السلامة وعدم تحمل أي أذى أو مكروه في سبيل الله (عز وجل)؛ يقول الإمام ابن تيمية (رحمه الله): ولما كان في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والجهاد في سبيل الله من الابتلاء والمحن ما يعرض به المرء للفتنة: صار في الناس من يتعلل لترك ما وجب عليه من ذلك بأنه يطلب السلامة من الفتنة، كما قال [تعالى] عن المنافقين: ((ومنهم من يقول: ائذن لي ولا تفتني، ألا في الفتنة سقطوا))[التوبة: 49] (2).(1/268)
فلا يصح لقائل أن يقول أنه يجب الابتعاد في الدعوة إلى الله (سبحانه) عن كل ما من شأنه أن يجر على الداعية الأذى والمحن!، إن صاحب هذا القول قد نسي أو تناسى سنة الله (عز وجل) في الصراع بين الحق والباطل، وسنته (سبحانه) في الابتلاء والتمحيص؛ قال (تعالى): ((ومن الناس من يقول آمنا بالله فإذا أوذي في الله جعل فتنة الناس كعذاب الله، ولئن جاء نصر من ربك ليقولن إنا كنا معكم، أوليس الله بأعلم بما في صدور العالمين* وليعلمن الله الذين آمنوا وليعلمن المنافقين))[العنكبوت:10،11].
نعم إن من بيننا من يريد المغنم من الدعوة ولا يريد المغرم، بدليل عدم الإعداد والاستعداد لأي أذى يعترضه في الطريق ـ ولو كان قليلاً ـ، وإنما مادام الأمن والسلامة والراحة فهو نشيط ومتحرك، فإذا ظهرت المحن وبدايات الابتلاء والتمحيص آثر السلامة والراحة، وعلل ذلك بالابتعاد عن الفتن ودرء المفاسد.
ولا يعني ما سبق من الكلام أن يبحث الداعية عن الأذى والابتلاء، كلا، فالمطلوب سؤال الله العافية وعدم تمني البلاء، كما لا يفهم منه أيضاً الدعوة إلى التهور والطيش ـ معاذ الله ـ، فلابد من وجود المنطلقات الشرعية في كل التصرفات، لكن المراد أن لا نغفل عن سنة الله (سبحانه) في ابتلاء المؤمنين، وأن نوطن أنفسنا على هذه الأمور، لأنه لابد منها لكل من ادعى الإيمان وتصدّر للدعوة والجهاد، ولابد منها ليتميز الخبيث من الطيب، ولابد منها لتمحيص القلوب والصفوف، ولو قلبنا تاريخ الأنبياء (عليهم الصلاة والسلام)، وتاريخ الدعاة والمصلحين لرأينا ذلك المعلَم ظاهراً وقاسماً مشتركاً عندهم جميعاً.(1/269)
وقريب من هؤلاء أولئك الذين يبررون كسلهم وحبهم للراحة وضعف همتهم بالتواضع البارد والزهد في المسؤولية، لأنه يعرف أن الدعوة إلى الله (سبحانه) لا يعرف صاحبها الراحة، وتحتاج إلى همة عالية، لكنه عوضاً من أن يعترف بضعفه هذا، فإنه يغالط نفسه وغيره، ويسعى إلى ترقيعه بإلقاء هذا الضعف على الخوف من المسؤولية واحتقار النفس، وأن هناك من هو أولى وأتقى وأفضل.. إلخ.
4- المداهنة وضعف الولاء والبراء بحجة المداراة والتسامح ومصلحة الأمة: إن الخلط بين المداراة والمداهنة، والتميع في الولاء والبراء بحجة التسامح، كل ذلك ينتج عنه آثار خطيرة على الدين وأهله، وذلك بما يفرزه هذا الخلط واللبس من المغالطة والتضليل على الأمة في أن ما يقع من الملبسين من مداهنة وموالاة لأعداء هذا الدين إنما هو مداراة.
وإيضاحاً لهذا الأمر: أنقل كلاماً لأهل العلم يزيل اللبس في مسألة المداراة والمداهنة ومسألة الولاء والتسامح.
قال البخاري (رحمه الله) في باب المداراة مع الناس: ويذكر عن أبي الدرداء: إنا لنكشر في وجوه قوم وإن قلوبنا لتلعنهم، وعن عائشة (رضي الله عنها) أنه استأذن على النبي -صلى الله عليه وسلم- رجل فقال: ائذنوا له فبئس ابن العشيرة ـ أو بئس أخو العشيرة ـ فلما دخل ألان له الكلام، فقلت له: يا رسول الله، قلت ثم ألنت له في القول، فقال: أي عائشة، إن شر الناس منزلة عند الله مَن تَركه ـ أو ودعه ـ الناس اتقاء فحشه (3).(1/270)
ويعلق ابن حجر (رحمه الله) على حديث عائشة بقوله: قال ابن بطال: المداراة من أخلاق المؤمنين، وهي خفض الجناح للناس ولين الكلمة وترك الإغلاظ في القول، وذلك من أقوى أسباب الألفة، وظن بعضهم أن المداراة هي المداهنة فغلط؛ لأن المداراة مندوب إليها، والمداهنة محرمة، والفرق: أن المداهنة من الدهان، وهو الذي يظهر على الشيء ويستر باطنه، وفسرها العلماء بأنها معاشرة الفاسق وإظهار الرضا بما هو فيه من غير إنكار عليه، والمداراة هي الرفق بالجاهل في التعليم وبالفاسق في النهي عن فعله وترك الإغلاظ عليه، حيث لا يظهر ما هو فيه، والإنكار عليه بلطف القول والفعل، لا سيما إذا احتيج إلى تألفه، ونحو ذلك(4).
ومن هذا يتبين ما هي المداراة وما هي المداهنة، وأنهما ضدان لا يجتمعان، إذ إن المداراة صفة مدح وهي لأهل الإيمان، بينما المداهنة صفة ذم وهي لأهل النفاق، فهل بقي بعد هذا البيان مجال للالتباس في هذا الأمر؟!.
ثم إن مكمن الخطر في هذا الخلط ليس في مداهنة الفساق وأهل المعاصي من المسلمين فحسب، وإنما الأخطر من ذلك هو: مداهنة الكفار بمشاربهم المختلفة تحت غطاء المداراة ومصلحة الأمة، حتى اهتز جانب الولاء والبراء ـ الذي هو الركن الركين في عقيدة التوحيد ـ وبدأ حاجز البغض للكفر وأهله يضعف، بل اهتز عند بعضهم، والسبب في ذلك: الجهل بحقيقة المداراة والمداهنة، أو المغالطة فيهما عن علم وهوى.(1/271)
5- الانفتاح على الدنيا والركون إليها، بحجة التعفف عن الناس وإنفاق المال في وجوه الخير: وفي هذه الصورة مدخل خفي للشيطان يتسرب منه إلى نفس الإنسان، ويبلغ اللبس في هذا الأمر من الخفاء بحيث لا يفطن له إلا المجاهد لنفسه، المفتش لقلبه، الحذر الخائف من الدنيا وغرورها، ومكمن اللبس هنا في أن التعفف عن الناس أمر مطلوب، ويحث عليه الشرع في أكثرمن آية وحديث، وكذلك الإنفاق في سبيل الله وبذل المال في أوجه البر المختلفة، كل هذا حق لا ريب فيه، لكن الشيطان لا يألو جهداً في إغواء بني آدم وجرهم إلى حزبه خطوة خطوة، ولهذا: فهو يبدأ مع الإنسان ـ ليجره إلى الدنيا وغرورها ـ من باب التعفف عن الناس، ومساعدة المحتاج، وإغاثة الملهوف..إلخ، ثم بعد ذلك، وبعد إشغاله بالمال وطرق جمعه ومشاكله وشبهاته نبحث عن صاحبنا الذي كنا نراه في لقاءات الخير والدعوة إلى الله (سبحانه) فلا نراه إلا قليلاً، وهكذا، حتى ينفتح على الدنيا، ويركن إليها، ويضع له الشيطان في كل وادٍ من أوديتها شغلاً وهماً يتشعب فيهما الفكر، ويتشتت فيهما الذهن ويتحول المال المكتسب إلى استثمارات جديدة وتوسع في المباحات وإسراف في المآكل والمراكب والمساكن، وقد كان الهدف في البداية هو التعفف والإسهام في وجوه الخير والبر، والغريب في الأمر أن هذا المغالط عندما يذكّر بالآيات التي تحذّر من الدنيا، وسرعة زوالها، وخطر الركون إليها، فإنه بدلاً من أن يشعر بالخطر ويسعى لتدارك الأمر؛ فإنا نجده يصر على المغالطة واللبس، ويقول: إن التعفف عن الناس مطلوب، ولابد للداعية أن يكون له مصدر يستغني به عن الناس وينفع به دعوته، ويساهم في الخير، وهو يعلم أن ليس هذا قصده، وإنما أراد تغطية حبه للدنيا والركون إليها بهذا الغطاء الشرعي الذي لم يراع الضوابط الشرعية فيه.
وقد يقول قائل: إذن، ما العمل في مثل هذه الحالة وبخاصة لمن أراد صادقاً أن يتعفف عن الناس وأن ينفع دعوته بالمال؟(1/272)
والجواب لا أملكه، لأنها معادلة صعبة يختلف حلها من شخص لآخر، ويكفي في حلها أن يعلم الله (سبحانه) من أنفسنا أننا نريد التعفف والبذل بصدق في سبيل الله (سبحانه)، فعندئذ يحمينا برحمته من الدنيا وزخرفها، ويخرجها من قلوبنا لتبقى في أيدينا، وكل إنسان على نفسه بصيرة.
6- الاحتجاج بيسر الشريعة وضغط الواقع: إن القول بيسر الشريعة وسماحتها حق لا شك فيه، ولكن الاحتجاج بهذا التيسير للتفلت من أحكام الشريعة والتحايل عليها، واتباع الهوى في الأخذ بالرخص والشذوذات الفقهية، كل هذا باطل وتلبيس وتضليل، يتبنى ذلك أهل الأهواء الذين يتبعون الشهوات، يريدون بذلك تحلل المجتمع المسلم من أحكام الشريعة باسم التيسير وترك التشديد، وصدق الله العظيم: ((ويريد الذين يتبعون الشهوات أن تميلوا ميلاْ عظيماً))[النساء: 27].
ومن رحمة الله (عز وجل) أنه لم يكل مصالح العباد إلى أهواء البشر وشهواتهم، بل وضع (سبحانه) شريعة كاملة مبرأة من الجهل والهوى، ومبرأة من النقص والقصور، لأن مصدرها منه (سبحانه) الذي له الأسماء الحسنى والصفات العلا، ولو أن تقرير مصالح العباد كان في أيدي البشر لحصل من ذلك شر وفساد كبير، وذلك لما عليه البشر من الجهل والنقص والهوى والشهوة، وهذا مشاهد في الواقع؛ فالمجتمعات التي لا يحكمها شرع الله (سبحانه) وتحكمها أنظمة البشر وقوانينهم نرى فيها من الفساد والشرور والظلم والاستعباد والضنك والضيق ما تعج منه الأرض والسماوات، وتبرأ منه الوحوش في البريات، وصدق الله العظيم: ((ولو اتبع الحق أهواءهم لفسدت السماوات والأرض ومن فيهن، بل أتيناهم بذكرهم فهم عن ذكرهم معرضون))[المؤمنون: 71](1/273)
إن الذين يتشدقون بالتيسير ويغالطون به بغير علم ولا هدى من الله (سبحانه)، لو كان الأمر بأهوائهم لعطلوا كثيراً من أحكام الشريعة التي قد يُظَن فيها المشقة والضيق مع أن مآلها اليسر والسعادة في الدارين، فالله (سبحانه) الرحيم بعباده، هو الذي يعلم ما يصلح شؤونهم، وييسر أمورهم، ويعلم ما يشق عليهم وما لا يشق، إنه حكيم عليم.
7- التشهير بالدعاة والمصلحين واغتيابهم بحجة النصيحة والتحذير من الأخطاء: عن أبي برزة الأسلمي، والبراء بن عازب (رضي الله عنهما)، قالا: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: يا معشر من آمن بلسانه ولم يدخل الإيمان قلبه: لا تغتابوا المسلمين، ولا تتبعوا عوراتهم، فإنه من يتبع عورة أخيه المسلم، تتبع الله عورته، ومن يتبع الله عورته يفضحه ولو في جوف بيته (5).(1/274)
والمقصود من إيراد هذه الصورة هو الحذر من تزيين الشيطان وتلبيسه في إظهار الغيبة أو النميمة أو التشهير في قالب النصيحة، والتحذير من الأخطاء والغيرة على دين الله وتعظيم حرمات الله (عز وجل)، إن هذا هو الخطير في الأمر: إذ لو أن الواقع في الغيبة أو النميمة أقر بذنبه، واعترف بتقصيره، واستغفر ذنبه لكان الأمر أهون، أما أن يكابر ويلبس على نفسه وعلى الناس بأن قصده النصيحة للأمة وتحذيرها من الأخطاء، وهو يعلم من نفسه غير ذلك من التشفي أو الحسد أو التهوين من شأن من وقع منه الخطأ وتنفير الناس عنه، فكل ذلك من المغالطة وتلبيس الشيطان وتزيينه؛ يقول شيخ الإسلام ابن تيمية (رحمه الله): ومنهم من يخرج الغيبة في قوالب شتى، تارة في قالب ديانة وصلاح، فيقول: ليس لي عادة أن أذكر أحداً إلا بخير ولا أحب الغيبة ولا الكذب، وإنما أخبركم بأحواله، ويقول: والله إنه مسكين، أو رجل جيد ولكن فيه كيت وكيت، وربما يقول: دعونا منه، الله يغفر لنا وله، وإنما قصده استنقاصه، وهضماً لجنابه، ويخرجون الغيبة في قوالب صلاح وديانة، يخادعون الله بذلك، كما يخادعون مخلوقاً، وقد رأينا فيهم ألواناً كثيرة من هذا وأشباهه، إلى أن قال: وربما يذكره عند أعدائه ليتشفوا به، وهذا وغيره من أعظم أمراض القلوب والمخادعات لله ولخلقه، ومنهم من يظهر الغيبة في قالب غضب وإنكار منكر، فيظهر في هذا الباب أشياء من زخارف القول، وقصده غير ما أظهر، والله المستعان(6).
فلا مدخل لملبّس ومغالط في إظهار حقده وتشفيه وحميته لنفسه في قالب النصح والديانة، وكل إنسان أدرى بنفسه وقصده.
ولكن يبقى هناك بعض القرائن التي تكشف هذا اللبس والخداع في نفس المدعي للنصح والديانة، منها:
1- التشهير والتعيير بالمنصوح، خاصة إذا كان من المصلحين وأهل العلم.
2- الظلم، وعدم الإنصاف مع المنصوح، وبخسه حقه، وإخفاء خيره وحسناته.
3- عدم التثبت، والأخذ بالشائعات، وتصيد الأخطاء والفرح بها.(1/275)
4- تغليب سوء الظن، وتفسير المقاصد بدون دليل وبرهان.
5- أن يكون قد عرف عنه الكذب وقلة الورع.
6- المداهنة للظالمين والركون إليهم.
8- التلبيس على الناس برفع لافتات إسلامية تخفي وراءها الكيد للدين وأهله: إن من أخطر ما يهدد الأمة في عقيدتها وأخلاقها أن تعيش في جو من اللبس والتضليل والخداع، فلا ترى الحق بصورته المضيئةولا الباطل بصورته القاتمة المظلمة، بل قد يصل بها المكر والخداع إلى أن ترى الحق باطلاً والباطل حقاً، ويلتبس سبيل المجرمين بسبيل المؤمنين، ومن أعظم الالتباس بين السبيلين أن يقوم المجرمون من أعداء المسلمين سواء من الكفار الصرحاء أو المنافقين الدخلاء برفع لافتات، ظاهرها الإسلام ومحبة الدين والدعوة إليه، وباطنها الكيد والمكر والخداع، ويحصل من جراء ذلك: أن يُخدع كثير من المسلمين بهذه اللافتات فينشغلون بها، ويثنون على أهلها بدلاً من فضحها وكشف عوارها وتعرية باطلها، وعن خطورة التباس سبيل المجرمين بسبيل المؤمنين، يقول ابن القيم (رحمه الله): فإن اللبس إنما يقع إذا ضعف العلم بالسبيلين أو أحدهما؛ كما قال عمر بن الخطاب: إنما تنقض عرى الإسلام عروة عروة إذا نشأ في الإسلام من لم يعرف الجاهلية، وهذا من كمال علم عمر (رضي الله عنه)، فإنه إذا لم يعرف الجاهلية وحكمها، وهو كل ما خالف ما جاء به الرسول -صلى الله عليه وسلم-، فإنه من الجاهلية، فإنها منسوبة إلى الجهل، وكل ما خالف الرسول فهو من الجهل، فمن لم يعرف سبيل المجرمين، ولم تستبن له أوشك أن يظن في بعض سبيلهم أنها من سبيل المؤمنين، كما وقع في هذه الأمة من أمور كثيرة في باب الاعتقاد والعلم والعمل، هي من سبيل المجرمين والكفار وأعداء الرسل، أدخلها من لم يعرف أنها من سبيلهم في سبيل المؤمنين، ودعا إليها وكفر من خالفها واستحل منه ما حرمه الله ورسوله(7).(1/276)
وقد قص الله (سبحانه) علينا في كتابه الكريم قصة قوم من المنافقين أرادوا خداع الرسول -صلى الله عليه وسلم- ومن معه من المؤمنين برفع لافتة إسلامية على صرح من صروح النفاق، لكن الله (عز وجل) فضحهم وفضح لافتتهم وعرّى باطلهم، ليكونوا عبرة للمسلمين في وقتهم، وعبر التاريخ الطويل لمن يأتي بعدهم ممن يرفع لافتة إسلامية يخفي وراءها خبثه ومكره، ويكيد بها المسلمين في أي زمان ومكان، وهذه القصة ذكرها الله (سبحانه) في سورة التوبة بما يعرف بمسجد الضرار، حيث أنزل فيها قرآناً يتلى إلى قيام الساعة، قال (سبحانه): ((والذين اتخذوا مسجداْ ضراراْ وكفراْ وتفريقاْ بين المؤمنين وإرصاداْ لمن حارب الله ورسوله من قبل، وليحلفن إن أردنا إلا الحسنى، والله يشهد إنهم لكاذبون * لا تقم فيه أبداْ. لمسجد أسس على التقوى من أول يوم أحق أن تقوم فيه، فيه رجال يحبون أن يتطهروا، والله يحب المطهرين)) [التوبة: 107108]، واللافتات المرفوعة اليوم كثيرة وماكرة، أقتصر منها على بعض الأمثلة:
ما يرفعه الذين بدلوا شرع الله (عز وجل) ورفضوا التحاكم إليه في بلادهم من لافتات يخدعون بها شعوبهم المسلمة، مثل إقامة الذكرى السنوية لإحراق المسجد الأقصى المبارك، فترى هؤلاء المجرمين الخائنين لله (سبحانه) ورسوله -صلى الله عليه وسلم- يخدعون المسلمين بإحياء ذكرى حرق المسجد الأقصى كأنهم يهتمون بالمسلمين ومقدساتهم، وهم قد خانوا الله (سبحانه) من قبل بتنحية شريعته واستحلال محرماته، وخانوا أمتهم بعد ذلك بالتذلل لليهود والنصارى، وما أصدق ما قاله الشيخ عبد الرحمن الدوسري (رحمه الله) في محاضرة له مسجلة: إن إحراق المسجد الأقصى بل إحراق مساجد الدنيا كلها ليس أعظم جرماً من الاعتداء على شرع الله وحكمه وسلطانه في الأرض من قبل الأنظمة التي تتباكى على الأقصى وإحراقه.
الهوامش:
(1) عمدة التفسير، جـ4، ص156158.
(2) مجموع الفتاوى، جـ28، ص168.
((1/277)
3) البخاري، كتاب الأدب، وانظر: فتح الباري، جـ10، ص528.
(4) فتح الباري، جـ10، ص28.
(5) رواه الترمذي وأبو داود، وصححه الألباني في مشكاة المصابيح (5044).
(6) مجموع الفتاوى، جـ28، ص237238.
(7) الفوائد، ص109.
--------------------------------------------------------------------------------
مجلة البيان، العدد ( 83)، رجب 1415،ديسمبر 1994 .
مجلة البيان، العدد ( 84)، شعبان 1415،يناير 1995
مجلة البيان، العدد ( 88)، ذو الحجة 1415،مايو 1995 .
* * *
http://www.albayan-magazine.com/zwaya/trbwi/17.htm
الأسباب الواقية من لبس الحق بالباطل
عبد العزيز الجليل
بعد أن تبين لنا خطورة لبس الحق بالباطل من خلال الصور التي أوردناها في السابق، وما ينتج عنها من الضلال والانحراف الذي يورث العواقب الوخيمة في الدنيا والآخرة، بعد ذلك: يحق لنا ـ بل يجب علينا ـ أن نسأل: كيف النجاة من ذلك الخطر؟ وما هي الأسباب الواقية منه؟ وللإجابة على ذلك: نستعرض أسباب التباس الحق بالباطل؛ فمنها ينطلق العلاج، وبضدها تتميز الأشياء.
فقد مر بنا أن تلك الأسباب لا تخرج عن ثلاثة أمور:
1- شبهة تسببت في أخذ الباطل على أنه الحق، وأصل هذا: الجهل.
2- شهوة تسببت في أخذ الباطل وترك الحق عن شهوة وضعف واعتراف بالخطأ.
3- شهوة وشبهة نتج عنهما أخذ الباطل وإظهاره في صورة حق عن هوى ومغالطة استناداً إلى شبهة يعلم صاحبها أنها لا تصلح للاستدلال.
وبعد هذه المقدمة التي لابد منها بين يدي الأسباب الواقية من اللبس والتلبيس.
يمكن تفصيل وبيان الأسباب الواقية من لبس الحق بالباطل فيما يلي:(1/278)
1- علم وبصيرة بدين الله (عز وجل) وشرعه، وعلم وبصيرة بما يضاد دين الله (سبحانه) وشرعه؛ فإذا تحقق هذا الأمر: فإن الاستبانة لسبيل المؤمنين وسبيل المجرمين قد تحققت، وبهذا: فلا مجال للشبهة هنا أبداً؛ لانتفاء الجهل الذي منه تنتج الشبهات المؤدية إلى اللبس والتلبيس، وفي هذا يقول الإمام ابن القيم (رحمه الله تعالى): فتنة الشبهات تُدفع باليقين، وفتنة الشهوات تُدفعُ بالصبر، ولذلك جعل (سبحانه) إمامة الدّين مَنوطةً بهذين الأمرين، فقال: ((وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ)) [ السجدة: 24]، فدلّ على أنه بالصبر واليقين تُنالُ الإمامة في الدين، وجمع بينهما أيضاً في قوله: ((إلاَّ الَذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ)) [العصر: 3]، فتواصوا بالحق الذي يَدْفَعُ الشبهات، وبالصبر الذي يَكُفّ عن الشهوات(1).
2- الصبر وتقوى الله (عز وجل):(1/279)
فبالصبر وتقوى الله (سبحانه) تدفع الشهوة وينتصر الإنسان على هواه؛ لأنه قد يحصل للإنسان البصيرة والعلم بدين الله (عز وجل)، ويتبين له الحق من الباطل، ولكن إذا لم يكن لديه الصبر عن شهوات النفس، والتقوى التي تحجزه عن مخالفة الصواب: فإنه يضعف ويقع في المخالفة مع علمه بذلك، أما إذا اجتمع العلم والبصيرة مع التقوى والديانة فإنه إذا بان الحق ولاح: لم يكن أمام من هذه صفته إلا الإذعان والتسليم والانقياد، وذلك لانتفاء الشبهة والشهوة في حقه، وإلى هذا أشار ابن القيم في النقل السابق بقوله: إن فتنة الشبهات تدفع باليقين، وفتنة الشهوات تدفع بالصبر ولكن إذا ضعف الصبر والتقوى، ووجدت الغفلة عن الآخرة، وتنوسِيَ الوقوف بين يدي الله (عز وجل)، وصاحب ذلك شيطان يزين، ودنيا تتعرض بفتنها: فالغالب عدم السلامة. ولكن المخالف للحق هنا: إما أن يكون لديه بقية تقوى وخوف من الله (عز وجل) فيعترف بذنبه، ويستغفر منه ويتوب، أو يكون (عياذاً بالله) قد رقّ دينه وسيطر عليه هواه فأخذ يلتمس مبرراً لباطله، ويبحث هنا وهناك عن شبهة يظهر بها باطله ومخالفته في قالب الحق والموافقة لدين الله، وهذا هو الخداع والتلبيس، ولا علاج له إلا بتقوى الله (سبحانه)، واليقين بالرجوع إليه.(1/280)
نعم.. إنه لا يمنع من الوقوع في الباطل بعد العلم والبصيرة، ولا يمنع من تلبيسه على الناس إلا الإيمان باليوم الآخر إيماناً جازماً ويقيناً صادقاً، وإن لم يتذكر العبد هذا اليوم ويحسب له حسابه: فلن يفيده في ذلك العلم والبصيرة؛ فكم من عالم بالحق تنكب عنه وخالفه، أما إذا انضم إلى العلم والبصيرة: الصبر والتقوى والخوف من الحساب يوم القيامة، فإن الشهوة ستنقمع وإن الهوى سيُغلب، وعندها: يختفي اللبس والتلبيس والخداع والمغالطة في دين الله (عز وجل)؛ يقول الإمام ابن القيم (رحمه الله) ـ في معرض رده على المحتالين على شرع الله بالحيل الباطلة ـ: فحقيق بمن اتقى الله وخاف نكَاله أن يحذر استحلال محارم الله بأنواع المكر والاحتيال، وأن يعلم أنه لا يخلصه من الله ما أظهره مكراً وخديعة من الأقوال والأفعال. (2).
ويقول سيد قطب (رحمه الله) ـ في ظلال قوله (تعالى): ((وَالدَّارُ الآخِرَةُ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلا تَعْقِلُونَ)) [الأعراف: 169] ـ:
نعم.. إنها الدار الآخرة! إن وزنها في قلوب الذين يتقون هو وحده الذي يرجح الكفة، وهو وحده الذي يعصم من فتنة العَرَض الأدنى القريب في هذه الدنيا.. نعم، إنها هي التي لا يصلح قلب ولا تصلح حياة إلا بها؛ ولا تستقيم نفس ولا تستقيم حياة إلا بملاحظتها(3).
أسباب أخرى مساعدة:
وبعد ذكر السببين الرئيسين للوقاية من اللبس والتلبيس، وهما: البصيرة في الدين الذي تدفع به الشبهة، والصبر والتقوى اللذان تدفع بهما الشهوة: نذكر فيما يلي بعض الأسباب المساعدة لتثبيت السببين السابقين:
3- محاسبة النفس ومجاهدتها وتحصينها بالذكر والدعاء والعمل الصالح:(1/281)
حيث لابد للمسلم من محاسبة دائمة للنفس، ومجاهدة لها في تطويعها لشرع الله (عز وجل) والحذر من الشيطان الذي لا يفتأ يوسوس ويزين لها الباطل، فإن لم يتفقد كل منا نفسه، ويسد على الشيطان مداخله المتعددة؛ فإن النفس تكون على خطر أن تنساق مع شهواتها وهواها، فيحصل من جراء ذلك:اللبس والتلبيس والتضليل والمغالطة، إما بعلم أو بجهل، وإن مما يؤكد أهمية المحاسبة الدائمة واليقظة الشديدة للنفس ما يحصل من كثير منا في يومه أو غده من المغالطات والمعاذير الكاذبة والتبريرات الغامضة، سواء أكان ذلك مع النفس أو مع الناس، ولكنها تكثر وتقل حسب التقوى وقوتها أو ضعفها في القلب، مع أنه يوجد من الدعاة والمصلحين نماذج فريدة في إخلاصها وصدقها وبعدها عن المداهنة والمغالطة والتلبيس، نسأل الله لهم الثبات، ونسأله (سبحانه) للجميع الصدق في المقاصد والأقوال والأعمال.
ومن الأسباب القوية التي يُتحصن بها من الشيطان ووساوسه: ذكر الله (عز وجل) في أحوال اليوم والليلة؛ فكلما كان اللسان رطباً بذكر الله (تعالى) والقلب يواطؤه في ذلك: كلما كان الشيطان بعيداً ولا يستطيع اقتحام الحصن؛ لأن ذكر الله (سبحانه) يحرقه ويمنعه من الدخول، ولكن ما إن يغفل العبد عن ذكر الله (تعالى) حتى يكر مرة أخرى للوسوسة، فهذا دأب الشيطان في كره وفره على القلب، فكلما ذكر العبد ربه خنس وإذا غفل وسوس.(1/282)
ومن الأسباب الواقية من التباس الحق بالباطل: مجاهدة النفس في عمل الصالحات والإكثار منها من غير إفراط ولا تفريط، كما جاء في الحديث القدسي الذي منه: وما تقرب إليّ عبدي بأحب مما افترضت عليه، وما يزال عبدي يتقرب إليّ بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ويده التي يبطش بها ورجله التي يمشي عليها.. الحديث(4) فمن كان يسمع ويبصر ويمشي ويبطش بنور الله وهداه: فإنه لن يخطئ أبداً؛ قال (تعالى): ((وَالَّذِِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإنَّ اللَّهَ لَمَعَ المُحْسِنِينَ)) [العنكبوت: 69] وبالضد من ذلك فإن كثرة الذنوب من أسباب الضلال والزيغ؛ قال (تعالى): ((...فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ...)) [الصف: 5]
4- مصاحبة أهل العلم والورع:
إن الجليس يتأثر بجليسه وصاحبه، سواءً أكان ذلك في الخير أو الشر، وذلك عن طريق المؤانسة والمشابهة والقدوة، وعليه: فإن من الأسباب المانعة من الانحراف ولبس الحق بالباطل: الجلوس مع أهل العلم والتقوى ومصاحبتهم ومشاورتهم، لأنه بالعلم الذي عندهم تحترق الشبهات، وبالتقوى والورع لديهم تحترق الشهوات، وبذلك يُسد على الشيطان البابان الرئيسان اللذان يدخل منهما ليلبس على النفس ويزين لها التلبيس، والعكس بالعكس: ما إن يصاحب المرء أهل الجهل والجدال ومن لم يؤتوا حظّاً من التقوى والورع إلا ويتأثر بهم وينطبع بأخلاقهم وتشتبه عليه الأمور لضعف العلم والبصيرة، أو يتعمد ترك الحق وتعميته على الناس لضعف التقوى والصبر عن الشهوات، وقد روي عن عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) قوله: لولا ثلاث لما أحببت البقاء: لولا أن أحمل على جياد الخيل في سبيل الله، ومكابدة الليل، ومجالسة أقوام ينتقون أطايب الكلام كما ينتقى أطايب الثمر .(1/283)
ولعل مما يدخل في هذا السبب: الإكثار من قراءة أخبار أهل العلم والتقوى والجهاد من أنبياء الله الكرام وصحبهم الأجلاء والتابعين لهم بإحسان؛ ففيهم الأسوة والقدوة والخير كله.
5- الحذر من الدنيا، وعدم الركون إليها:
إن من أعظم أسباب الانحراف عن الحق والوقوع في الانحراف والمخالفات: هذه الدنيا الغرارة؛ فكلما انفتحت على العبد كثرت شبهاتها وانساق مع شهواتها المختلفة، وعندما يرد ذكر الدنيا فإنه يقصد بها كل ما أشغل عن الآخرة من متعها المختلفة التي أجملها الله (عز وجل) في قوله (سبحانه) ((قُلْ إن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إلَيْكُم مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَاًتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي القَوْمَ الفَاسِقِينَ)) [التوبة: 24].
والانغماس في الدنيا وترفها وملذاتها ينتج عنه: غفلة عن الآخرة، وتشتت للذهن والقلب، وإعمال الفكر في الاستزادة منها، والخوف على فواتها.. وهذا يؤدي إلى قسوة القلب ورقة الدين، ومن هنا: تبدأ النفس في الاستجابة لتزيين الشيطان، وتثور الشبهات والشهوات في القلب، والذي ينشأ منهما: الكذب، والتدليس، والتلبيس، والطمع، والجشع.. وبخاصة في مثل عصرنا الذي نعيش فيه، والذي كثرت فيه المعاملات المحرمة والشبهات، ولا عاصم من أمر الله إلا من رحم، ولذا: كان الأولى لمن أراد لنفسه السلامة من الدنيا وشبهاتها وشهواتها: أن يتخفف منها قدر الاستطاعة وأن يرضى منها بالقليل؛ لأن هناك تناسب طردي ـ وخاصة في زماننا هذا ـ بين كثرة الدنيا وكثرة الوقوع في الشبهات والشهوات المؤديات إلى التدليس والتلبيس.
6- النصح للأمة والحذر من عاقبة التلبيس والتدليس عليها:(1/284)
إن الشعور بواجب النصح للأمة يقتضي من المسلم ـ وبخاصة الداعية إلى الله (عز وجل) ـ أن يبين الحق لأمته، ويعري الباطل ويكشفه لها، ولا يجعله ملتبساً عليها فتضل؛ لأن الذي يرى أمته تُضلل ويُلَبّس عليها دينها فتعيش في عماية من أمرها، ثم يتركها ـ وهو يعلم الحق من الباطل ـ إن مَن هذا شأنه: يعتبر خائناً لله ورسوله وللمؤمنين، وإن الله (عز وجل) سائله يوم القيامة عن علمه: فيم عمل به؟، وهذا فيمن رأى التضليل والتلبيس فلم يُحذّر منه ولم يكشفه للناس، فكيف بمن باشر التلبيس والتضليل بنفسه (عياذاً بالله)؟ إن هذا ـ بلا شك ـ أكثر خيانة من سابقه، وإن وزر وضلال من ضلله بتلبيسه هذا سيحمله فوق ظهره يوم القيامة من غير أن ينقص من أوزار من ضللهم شيء. والحاصل: أن شعور المسلم بإثم وعاقبة التلبيس أو السكوت عليه: من أقوى الأسباب المانعة من الوقوع فيه ـ إن كان في القلب حياة وخوف من الله (سبحانه) والدار الآخرة ـ، لأن من كان في قلبه المحبة الحقيقية لهذا الدين وأهله: لا يمكن أن يرى التضليل والتلبيس من المفسدين المنافقين ثم يرضى لنفسه السكوت والوقوف موقف المتفرج، بل لن يقر له قرار ويهدأ له بال حتى يساهم قدر استطاعته في إبانة سبيل المؤمنين وإسقاط اللافتات الزائفة عن سبيل المجرمين وتعرية باطلهم وخداعهم كما مر بنا في صور التلبيس، وعندها: تعرف الأمة من توالي ومن تعادي، وعندها: تتميز الصفوف ويتميز المؤمن من المنافق، وكل هذا يحتاج إلى تضحيات باهظة، لكنها رخيصة في سبيل الله (عز وجل) لأن نصر الله (جل وعلا) الموعود لا يتم بدونها.
وبعد:(1/285)
فهذا ما يسره الله (عز وجل) في هذه العجالة حول هذا الموضوع المهم الذي يمس المسلم في عقيدته وأخلاقه ومجتمعه، ولا أزعم أنني أحطت بجوانبه كلها، ولكن حسبي إثارة هذا الموضوع والتذكير به لعل فضيلة العلماء الكرام والإخوة الدعاة يكملون ما نقص منه، ويقوّمون ما اعوج منه. وأحب أن أنبه: أن ما ذكرته من صور التلبيس ذكرته على سبيل المثال لا على سبيل الحصر، فالصور كثيرة وكثيرة وبخاصة في زماننا هذا الذي قلّ فيه العلم والورع ونجم فيه الجهل والنفاق.
وفي خاتمة هذه المقالات: أوصي نفسي الأمارة وأوصي إخواني المسلمين: بأن يتفقد كل منا نفسه، ويبحث عن هذا المرض الخطير فيها فإذا وجدنا شيئاً من ذلك ـ وسنجد ـ فعلينا التوبة الصادقة من هذا المرض، ولنبادر بقطع جذوره قبل أن يستفحل، ولا نُسوّف في ذلك أبداً؛ لأن التسويف وطول الأمل من عمل الشيطان وتلبيسه.
والله أعلم، وصلّ الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم.
الهوامش:
1- إغاثة اللهفان: جـ2، ص167.
2- إعلام الموقعين: جـ3، ص214.
3- في ظلال القرآن: جـ3، ص387.
4- البخاري: كتاب الرقائق، ح 6502.
--------------------------------------------------------------------------------
مجلة البيان، العدد ( 89)، محرم 1416،يونيو 1995 .
* * *
http://www.albayan-magazine.com/zwaya/trbwi/18.htm
لا تحسبوه شراً لكم
عبد العزيز الجليل
مدخل :
يواصل الكاتب (وفقه الله) وقفاته التربوية القرآنية مع بعض الآيات القرآنية، فقد سبق أن تطرق لوقفات مع قوله (تعالى): ((وَلا تَلْبِسُوا الحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُوا الحَقَّ وَأََنتُمْ تَعْلَمُونَ)) [ البقرة: 42] ويواصل مجدداً وقفات إيمانية أخرى مع قوله (تعالى): ((لا تَحْسَبُوهُ شَراً لَّكُم)) [النور: 11].
- البيان -
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه.(1/286)
إن الله (عز وجل)، بما له من الأسماء الحسنى والصفات العلا، كتب النصر والغلبة لأهل الحق من أوليائه الصالحين والمصلحين، وكتب المهانة والذلة على أعدائه من الكافرين والمنافقين، وهذه سنة لا تتخلف إلا إذا تخلفت أسبابها، حيث يديل الله (سبحانه) أعداءه الكفرة على عباده المؤمنين، ويسلطهم عليهم ويظهرهم، فتظهر من ذلك الشرور والمصائب كما هو الحاصل في واقعنا المعاصر حيث الاستضعاف والذلة لجل المسلمين، والغلبة والقهر للكافرين، وما كان لسنة الله (سبحانه) أن تتبدل ولا أن تتحول، ((فَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلاً وَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلاً)) [فاطر: 43] ولكن أسباب تحقيق سنة الله (سبحانه) في نصر عباده المؤمنين قد تخلفت؛ فحقت علينا سنة الله (سبحانه) في التغيير ((إنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ)) [الرعد: 11] وسنة الله (سبحانه) لا تحابي أحداً. ومع وضوح هذه السنة وجلائها من القرآن، وبمقتضى العقل والحس، إلا أننا نجد من هو في غفلة عنها وعن مقتضى أسمائه (سبحانه) وصفاته العلا؛ حيث أدت هذه الغفلة عند بعضنا إلى شيء من اليأس والإحباط، أو إلى شيء من العجلة والتسرع أمام ضغط الواقع، وتسلط الأعداء، وعند انتشار الظلم والفساد.
ولن يكون الكلام هنا عن تلك السنة، وإنما سينصب الاهتمام على سنة عظيمة تنبثق عنها السنة السابقة، والله (سبحانه) يبينها لنا من خلال أسمائه الحسنى وصفاته العلا، حيث إن الجهل بها أو الغفلة عنها بعد معرفتها يسهم أيضاً في مزيد من اليأس والقنوط، أو الجزع والتسخط، أو الاندفاع والعجلة والتهور، وهذه وقفات مع قوله (تعالى): ((لا تَحْسَبُوهُ شَراً لَّكُم)) [النور: 11].(1/287)
هذه الآية توجيه رباني في إحسان الظن بالله (عز وجل)، والثقة بحكمته ورحمته، وأنه (سبحانه) لا يريد بعباده المؤمنين إلا الخير ((يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ اليُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ العُسْرَ)) [البقرة: 185] وهذا بدوره يبث الأمل في النفوس إزاء المصائب، ويبث الأمل في الأمة بأن المستقبل لهذا الدين مهما تسلط أعداؤه عليه، وكادوا له كيداً ((إنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْداً (15) وَأَكِيدُ كَيْداً (16) فَمَهِّلِ الكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْداً)) [الطارق: 15 17]، وهو ضروري كذلك لإدراك أن رحمة الله (عز وجل) سبقت غضبه في كل ما يقدره على عباده المؤمنين ((كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ)) [الأنعام: 54] وما أجمل ما قاله الإمام ابن القيم (رحمه الله تعالى) حول هذا المعنى، ومما ذكره: قد شهدت الفطر والعقول بأن للعالم ربّاً قادراً، حليماً، عليماً، رحيماً، كاملاً في ذاته وصفاته، لا يكون إلا مريداً للخير لعباده، مجرياً لهم على الشريعة والسنة الفاضلة العائدة باستصلاحهم، الموافقة لما ركب في عقولهم من استحسان الحسن، واستقباح القبيح(1).
وسيأتي ـ إن شاء الله ـ في ثنايا البحث من خلال الآيات القرآنية والأحاديث النبوية والمواقف العملية التي تظهر لنا منها ثمار هذه السنة الكريمة، وبخاصة في واقعنا المعاصر المليء بالشبهات، والشهوات، والمتناقضات، والمكائد، والمؤامرات.. ما يزيد الموضوع بياناً.
أهمية الموضوع:
تتضح أهمية الموضوع في الأمور التالية:(1/288)
أولاً: علاقة هذه السنة بالعقيدة قوة وضعفاً؛ فكلما قوي الإيمان بالله (سبحانه) في ربوبيته وألوهيته وأسمائه وصفاته: كلما قوي الفهم لهذه السنة، وأثمرت في القلب ثمارها الطيبة. والإيمان بهذه السنة والاصطباغ بها هو مقتضى الرضا بالله ربّاً ومعبوداً، ومقتضى أسمائه الحسنى وصفاته العلا؛ حيث إن هذه السنة من ثمرات أسمائه (سبحانه) الحسنى، التي منها: الحكيم، والعليم، والكريم، واللطيف، والبر الرحيم.. وغيرها من الأسماء والصفات التي يجب التعبد لله (سبحانه) بها. كما يظهر الارتباط بين هذه السنة وبين التوحيد في: أثرها على صدق التوكل على الله (عز وجل)، وتفويض الأمور إليه، واليقين والثقة بوعده، وإحسان الظن به (جل وعلا)، وأنه (سبحانه) لا يريد بعباده المؤمنين إلا الخير والإصلاح، فمهما ظهر من الشرور والمصائب، فله (سبحانه) الحكمة البالغة((وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لا تَعْلَمُونَ)) [آل عمران: 66] وأما ارتباطها بالأصل الخامس من أصول الإيمان ـ ألا وهو الإيمان باليوم الآخر ـ فهذا واضح؛ لأن اليقين باليوم الآخر ورجاء الأجر من الله (عز وجل) يقويان الارتباط بهذه السنة في أن الآخرة خير وأبقى، مهما فات من هذه الدنيا. وأما علاقتها بالأصل السادس من أصول الإيمان ـ وهو الإيمان بالقدر خيره وشره ـ فهذا ظاهر لا يحتاج إلى تعليق.(1/289)
ثانياً: ما نراه اليوم في واقعنا المعاصر من الضغوط الشديدة والحرب الشرسة من أعداء هذا الدين من اليهود والنصارى والمنافقين والمفسدين، وما يكيدون به لهذا الدين وأهله من المكر والتشويه والابتلاء؛ مما أدى ويؤدي إلى ظهور حالات اليأس والإحباط من تغير الحال، أو الشعور بالهزيمة النفسية والهوان والاستكانة، فكان لابد من التذكير بهذه السنة العظيمة التي تقوي اليقين بوعد الله (سبحانه)، والثقة بنصره، والاطمئنان إلى قضائه وتدبيره، وأنه (سبحانه) الحكيم العليم فيما يقضي ويقدر، ولابد أن يأتي الخير بعد الشر عندما يأذن الله (سبحانه) في ذلك وفق علمه الشامل، وحكمته البالغة، وسننه التي لا تتبدل ولا تتحول.
ثالثاً: الجهل الحاصل عند بعض المسلمين بسنن الله (سبحانه) في التغيير، أو التغافل عنها بعد معرفتها، لا سيما وأن في فهم قوله (تعالى): ((لا تَحْسَبُوهُ شَراً لَّكُم)) [النور: 11] خير معين لتفهم سنن الله (عز وجل) الأخرى: كما في قوله (تعالى): ((إنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ)) [الرعد: 11] وفي هذه المعرفة فتح باب للمنهج الصحيح في الدعوة إلى الله (سبحانه)، كما أن فيها وقاية من التخبط والاضطراب في المنهاج والاجتهادات، كما أن في دراسة هذه السنة وربط الأحداث والوقائع بها أكبر ضمانة للعقل المسلم من أن يتأثر بالتصورات الجاهلية، والتفسيرات المادية للتاريخ والأحداث التي سيطرت اليوم على كثير من عقول المسلمين المتأثرين بوسائل الإعلام المادية وبالثقافات التي لا تؤمن بالله، ولا باليوم الآخر، ولا بالقدر خيره وشره.(1/290)
رابعاً: التنبيه إلى طلب الخِيَرة من الله (سبحانه) في كل الأمور، وتفويض الأمور إلى حسن تدبيره (عز وجل) واختياره؛ لأنه (سبحانه) يعلم ولا نعلم، ويقدر ولا نقدر، وهو علام الغيوب الذي يعلم ما كان وما سيكون، ويعلم أين يكون الخير، وأين يكمن الشر؛ ولذلك جاء التوجيه إلى دعاء الاستخارة في الأمور كلها.
خامساً: كثرة المشاكل والمصائب في زماننا هذا، سواء على مستوى الأفراد أو الجماعات، التي أدت إلى ظهور كثير من الأمراض النفسية المعقدة: كالقلق، والاكتئاب، والفصام.. وغيرها، حتى أصبحت سمة لواقعنا المعاصر، ومعرفة الله (سبحانه) بربوبيته وألوهيته وأسمائه وصفاته التي تزرع في القلب الاطمئنان والرضا، وتفويض الأمور إليه (سبحانه)، وحسن الظن به (عز وجل)، وأن اختيار الله لعبده أحسن من اختيار العبد لنفسه، ولو ظهر ما يكرهه العبد ويؤذيه: إن في تفهم قوله (تعالى): ((لا تَحْسَبُوهُ شَراً لَّكُم)) [النور: 11] أحسن علاج لهذه الأمراض وغيرها.
سادساً: إن في هذه السنة وفهمها طريقاً موصلاً إلى الفقه بقاعدة الشرع العظيمة، التي بنيت عليها أحكام الشرع؛ ألا وهي: اليسر ورفع الحرج والمشقة، وأن الله (عز وجل) لا يريد بعباده إلا اليسر والرحمة، سواء أكان في أحكامه الكونية القدرية، أو الدينية الشرعية.
الهوامش:
(1) مفتاح دار السعادة: ص326.
--------------------------------------------------------------------------------
(2)
في الحلقة الماضية:أوضح الكاتب أهمية فهم قوله (تعالى):((لا تَحْسَبُوهُ شَراً لَّكُم بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ))، وبيّن ارتباط هذا الفهم بسنن الله (سبحانه) في التغيير، ثم نوّه بأهمية هذا الموضوع، فكان مما تناوله: علاقة هذه السنة بالعقيدة، ودورها في علاج اليأس والإحباط، والرضى بقضاء الله...
وفي هذه الحلقة يوضح الكاتب هذه السنة.
- البيان -
من ثمرات هذه السنة:(1/291)
إن لتَفَهّم هذه السنة الكريمة وتذكرها دائماً أثراً كبيراً في القلب، يظهر جليّاً في المواقف، وبالذات في مواقف الشدة والبلاء؛ فكان لزاماً على المسلم، وبخاصة الداعية المجاهد، ألا يغفل عن هذه الثمرات المنبثقة من قوله (تعالى): ((لا تَحْسَبُوهُ شَراً لَّكُم بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ))، وثمار الإيمان بهذه السنة واليقين بها كثيرة، أذكر منها ما يلي:
1- حقيق العبودية لله (عز وجل) بأسمائه الحسنى وصفاته العُلا:
إن الله (عز وجل) لم يعرفنا على أسمائه وصفاته لنحفظها ونعدها فقط، وإنما المقصود الأسنى من معرفة أسمائه (عز وجل) وصفاته: أن ندعوه بها، وأن نتعبد له (سبحانه) بها؛ قال الله (تعالى): ((وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا)) [الأعراف: 180] إن في كل اسم من أسمائه (سبحانه) عبودية على العبد، يجب أن تظهر آثارها في القلب، وعلى الجوارح، وفي المواقف.
فمن الأسماء الحسنى التي يتعبد لله (عز وجل) بها من خلال معرفة هذه السنة: الحكيم، العليم، البر، الرحيم، الودود، اللطيف.. وغيرها. فعندما يؤمن العبد المسلم بهذه الأسماء فإنها تثمر الإيمان بحكمة الله (عز وجل) في كل أحكامه الكونية والشرعية، وتضفي على القلب الأنس، وإحسان الظن بالله (عز وجل)، والرضا بقضائه، وأنه بر رحيم، لا يريد بعباده إلا الخير والتيسير والرحمة، وأن من لطفه (سبحانه) أن يأتي بالخير لعبده المؤمن من حيث يظن أنه شر ومكروه، وهذا من معاني اسمه سبحانه (اللطيف).
يقول الشيخ السعدي (رحمه الله): (ومن معاني اللطيف: أنّه الذي يلطف بعبده ووليه، فيسوق إليه البر والإحسان من حيث لا يشعر، ويعصمه من الشر من حيث لا يحتسب، ويرقّيه إلى أعلى المراتب، بأسباب لا تكون من العبد على بال، حتى إنّه يذيقه المكاره، ليوصله إلى المحاب الجليلة، والمطالب النبيلة)(1).(1/292)
إن اليقين بلطف الله (تعالى) ينفي الشعور باليأس والقنوط من مجيء فرج الله ونصره، وينشيء مكانه الأمل والثقة بوعد الله ونصره، كما أنه ينشيء في القلب الافتقار إلى الله (عز وجل) وتفويض الأمور إليه، وسؤاله (عز وجل) دائماً حُسْنَ العاقبة والاختيار.
وبقيت كلمة أخيرة في هذه الثمرة أنصح بها نفسي وإخواني طلاب العلم؛ وذلك بأن نحرص أشد الحرص ـ ونحن ندْرس أو نُدَرّس أبواب التوحيد المختلفة ـ على ألا نكتفي بالدراسة العلمية الذهنية المجردة فقط، وإنما نسعى جاهدين في ربطها بأعمال القلوب، وما تثمره فيها من أنواع العبوديات المختلفة التي يجب أن يظهر أثرها في المواقف والسلوك وجميع التصرفات، والله المستعان.
2- الصبر على البلايا والمصائب وقوة الاحتمال:
وهذه الثمرة لها علاقة بما قبلها؛ فعندما يعرف العبد ربه بأسمائه وصفاته ويتعبده بها، فإنها تثمر في القلب ثباتاً، ورباطة جأش، وصبراً أمام الابتلاءات والمصائب؛ فلا يضعف ولايخور وهو يعلم أن ربه الرحيم الحكيم، اللطيف الخبير، الودود الغفور: هو الذي قدرها عليه، وأنه لم يقدرها ليعذبه ويشقيه، ولكن ليرحمه ويرده إليه.. عند ذلك يفوض أمره إلى ربه، ويرضى بما يختار له مولاه (سبحانه)، ويعلم أنه هو الذي يمده بالقوة والعزيمة، والصبر وحسن العاقبة. إن هذا الشعور يملأ القلب قوة وصبراً واحتمالاً أمام الشدائد؛ لقوة الرجاء في الله (عز وجل)، واليقين بفرجه ونصره، واليقين بحسن العاقبة من الله (عز وجل) فيما أعده للصابرين؛ قال (تعالى):((إن تَكُونُوا تَاًلَمُونَ فَإنَّهُمْ يَاًلَمُونَ كَمَا تَاًلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لا يَرْجُونَ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً)) [النساء: 104].
وإن مما يقوي الصبر على الشدائد يقين العبد أن ما أصابه إما أن يكون تكفيراً لذنوبه، أو سبباً لنعمة لا تنال إلا بذلك المكروه.(1/293)
فإذا أيقن العبد المبتلى أن العاقبة الحميدة من النصر في الدنيا، والجنة في الآخرة لا يوصل إليهما إلا على جسر التعب والمشقة: فإنه بذلك يقوى صبره، واحتماله، وبذله وتضحيته في سبيل الله (عز وجل)، مع تفقد النفس من الذنوب، وتنقية الصف من المنافقين، فذلك من أسباب النصر.
3- سعادة القلب وطمأنينته وسكينته:
عندما يعلم العبد المؤمن أن كل ما يقضيه الله (عز وجل) هو عين الحكمة والرحمة، والخير، سواء في العاجل أو الآجل، فإن هذه المعرفة تضفي على القلب شعوراً بالأنس والسعادة والطمأنينة والسكينة، مهما اشتدت المصائب، وتوالت المحن؛ وبذلك يسلم صاحب هذا القلب من تلك الأمراض والوساوس التي تفتك بكثير من الناس الذين حرموا مثل هذه المعرفة العظيمة بربهم، نعم سوف لا يخيم على نفسه ما يخيم على النفوس اليائسة، من الشعور بالقلق والاكتئاب وانكساف البال، تلك الأشياء التي تجر وراءها من مصائب الدنيا والدين ما لا يعلمه إلا الله (عز وجل). وسوف يريحه هذا الشعور من الأفكار المتعبة التي تنشأ من كثرة الاختيارات والترددات، التي هي منشأ القلق والهم والغم.
إن التسخط وعدم الرضى بما قضاه الله (عز وجل) باب إلى الهم، والغم، والحزن، وشتات القلب، وسوء الحال، والظن بالله ظن السوء، ولا يدفع ذلك كله إلا معرفة الرب (عز وجل) بأسمائه الحسنى، وصفاته العلا، والتعبد له (سبحانه) بها، والعمل بمقتضاها، والذي يولد في النفس الرضى بما يختاره الله (عز وجل)، وأنه أرحم بعبده من نفسه ((وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لا تَعْلَمُونَ)) [ آل عمران: 66].
4- سلامة القلب:(1/294)
عندما يمتلئ القلب بتوحيد الله (عز وجل) ومعرفته (سبحانه) بأسمائه الحسنى وصفاته العلا، ويمتلئ باليقين بوعده، والثقة بحكمته، وانتظار رحمته؛ فإن كل ذلك يضفي على القلب صفاءً ونوراً وطهارة تُسل بها من القلب أمراض كثيرة؛ فيصبح القلب بعدها سليماً صحيحاً، وينعم به صاحبه في الدنيا والآخرة؛ قال (تعالى) في وصف إمام الحنفاء (عليه الصلاة والسلام): ((إذْ جَاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ)) [الصافات: 84] وقال (تعالى) حكاية لدعاء إبراهيم (عليه الصلاة والسلام): ((وَلا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ (87) يَوْمَ لا يَنفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ (88) إلاَّ مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ)) [الشعراء: 87 89].
ومن أهم مظاهر سلامة القلب التي تحصل بهذه المعرفة ما يلي:
أ- السلامة من أمراض الحقد والحسد والشحناء:
وذلك لأن الذي يوقن بحكمة الله (عز وجل) ورحمته في كل ما يقضيه من أقضية كونية وشرعية: يعلم علم اليقين أن لله (عز وجل) الحكمة البالغة في إعطاء من يشاء، ومنع من يشاء، وإعزاز من يشاء، وإذلال من يشاء. وهذا العلم لابد أن يثمر الرضى بما يقدره الله (عز وجل) ويقضيه على الناس؛ وبذلك تزول الشحناء والأحقاد المتولدة عن الحسد المتولد أصلاً من معارضة أقدار الله (عز وجل) والتسخط لها.
ب- لسلامة من أمراض الخوف والطمع:(1/295)
إن المؤمن الراضي بربه والموقن بحكمته وبره ولطفه لا تجده إلا قانعاً بما آتاه الله (عز وجل)، مطمئناً إلى اختيار الله (سبحانه) له؛ لأنه (عز وجل) أعلم بما يصلح للعبد من نفسه، وهذه الثمرة تقضي على هذا الداء الخطير (داء الطمع والحرص والتهالك على الدنيا وزينتها)؛ لأن القلب الراضي المفوض أمره إلى الله (عز وجل) قد امتلأ غنى وقناعة ومحبة وتوكلاً على الله (سبحانه)؛ فحري بقلب هذه صفته ألا يكون فيه محل لمحبة غير الله، وهذه الثمرة يتولد عنها ثمار طيبة، منها: عدم الأسى على ما فات، وعدم الفرح بما هو آت؛ قال (تعالى): ((مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي أَنفُسِكُمْ إلاَّ فِي كِتَابٍ مِّن قَبْلِ أَن نَبْرَأَهَا إنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (22) لِكَيْلا تَاًسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ)) [الحديد: 22،23]، والعبد المؤمن لا يدري أين يكون الخير، أهو في الفائت أم الآتي؟ ولكن الله وحده هو الذي يعلم، وهو علام الغيوب.
كما أنها تثمر أيضاً: الزهد في الدنيا، والحذر منها، فكم فرح بالدنيا أناس فكانت سبب هلاكهم وشقوتهم؛ قال (تعالى): ((وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الأَرْضِ وَلَكِن يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَّا يَشَاءُ إنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ)) [الشورى: 27].(1/296)
وكيف يسكن الخوف والهلع في قلب من اطمأن إلى حكم ربه، وأحسن الظن به، وفوض أموره إليه. إن الخوف والهلع سواءً أكان على الرزق أو الأجل لا يكونان إلا عند من لم يعرف ربه بأسمائه الحسنى وصفاته العلا، أما لو عرف ربه (عز وجل)، وأنه رحيم ودود، وأنّه حكيم عليم، وأنه لطيف خبير.. معرفة حقيقية يتعبد لربه بها: فإن الاطمئنان والسكينة تعمران القلب، وتنفيان كل دواعي الخوف والوجل من المخاليق الضعفاء الذين لا يملكون لأنفسهم نفعاً ولا ضرّاً فضلاً عن أن يملكوا شيئاً من ذلك لغيرهم. ويبقى صاحب هذا القلب مطمئناً إلى حسن اختيار الله له، يستشرف رحمة ربه وخيره في كل ما يقضيه الله عليه؛ ولو ظهر في هذا المقضي من الشر والألم ما ظهر، فمن يدري؟! فلعل في طيات المحنة منحة ونعمة.
ج- السلامة من أمراض الكبر والخيلاء:(1/297)
إن القلب لا يصدق عليه أن يوصف بكونه سليماً صحيحاً حتى ينضم إلى ما ذكر سابقاً سلامته من أمراض الكبر والفخر والخيلاء؛ فإن العبد المؤمن متى ما عرف ربه (عز وجل) وتعبد له بأسمائه وصفاته فإن المسكنة والمحبة لله (عز وجل) سوف تملأ القلب؛ وينتج عن ذلك: التواضع للحق وإيثاره، والتواضع للخلق، وعدم غمطهم وظلمهم، بل لا ترى مَن هذه صفته إلا محبّاً للخير والإحسان للناس، ولا تراه إلا محقراً لنفسه، منشغلاً بعيوبها عن عيوب الناس؛ لأنه يشهد حكمة الله (عز وجل) في ابتلائه لعبده بالخير والشر. ولأن أسباب الكبر والتعالي على الناس لا تخرج عن كونها اغتراراً بنعمة دينية أو دنيوية، وأنه إذا أيقن العبد المؤمن أن هذه النعم إنما أعطاها الله لعبده ليبلوه أيشكر أم يكفر؛ فإن الخوف على النفس من هذا الابتلاء سيشغله عن التعالي على الناس، أو الفخر عليهم، وكيف يكون ذلك وهو لا يدري أين يكمن الخير أو الشر؟! ولعل هذه النعمة التي يفتخر بها فتنة له ومتاع إلى حين، أو أن الذي يفخر عليه ممن هو دونه يكون في خير ورحمة مفتوحة من الله (عز وجل) عليه، والناس يحسبون أنه في ضيق وشر!.
5- محاسبة النفوس والانتباه إلى خطر المعاصي وشؤمها على الفرد والمجتمع:
إن من ثمار هذه السنة الكريمة أن ينتبه العبد المؤمن إلى نفسه ويحاسبها على تفريطها وذنوبها. وهذا بعض الخير الذي يجعله الله فيما يراه الناس شرّاً ومصيبة؛ حيث إن المصائب والشرور المقدرة على العبد المؤمن غالباً ما تكون تكفيراً للذنوب، وإيقاظاً له من الغفلة، ومجالاً لتطهير النفس من أدران المعاصي والسيئات. ومتى ما حصلت هذه الثمرة العظيمة في القلب فإن المصيبة والنقمة تصبح في حقيقة الأمر خيراً ونعمة لصاحبها؛ وصدق الله العظيم: ((لا تَحْسَبُوهُ شَراً لَّكُم بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ)).(1/298)
أما إذا حصل العكس من ذلك ـ والعياذ بالله ـ وذلك بأن كانت المصيبة سبباً في مزيد من الغفلة أو التسخط على أقدار الله (تعالى)؛ فإن المصيبة والحالة هذه لا تعتبر خيراً لمن وقعت عليه، لكنها قد تكون خيراً لغيره عندما يحصل الاتعاظ والعبرة بحال من وقعت له المصيبة.
6- التعرف على سنن الله (عز وجل) في التغيير، والسير على هداها:
إن إدراك معاني أسماء الله (عز وجل) وآثارها ومقتضياتها يفتح في قلب المؤمن منافذ عديدة على سننه (عز وجل) التي لا تتبدل ولا تتحول، وبخاصة إدراك آثار حكمة الله (عز وجل) ورحمته ولطفه وإحسانه، ولقد مرّ بنا كيف أن فقه قوله (تعالى): ((لا تَحْسَبُوهُ شَراً لَّكُم بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ)) يطبع في القلب شعوراً برحمة الله (عز وجل) وخيره وبره، وأن كل ما يقضيه (عز وجل) هو عين الخير والمصلحة والحكمة، وهذا الشعور يؤدي بدوره إلى فتح القلب والفكر على سنن الله (عز وجل) التي تنبثق من هذه المعرفة، وعندما تحصل هذه المعرفة لسنن الله (عز وجل) في التغيير: فإن الفكر البشري ينضبط ويستقيم ولا تتقاذفه الثقافات المادية ذات اليمين وذات الشمال، وبذلك يسلم من التفسيرات المادية للأحداث، والتي تربط كل المتغيرات بأسباب مادية بحتة؛ كتلك التي تربط النصر والهزيمة بأسباب مادية، أو تلك التي تفسر العقوبات الربانية كالزلازل والأعاصير بكونها ظواهر فلكية بحتة، متجاهلين قدر الله وحكمته.(1/299)
كما أن هذه المعرفة تثمر أيضاً: معرفة الموازين المنضبطة الثابتة التي توزن بها الأمور والأحوال والأشياء، وحُقّ لها أن تكون بهذه المثابة؛ لأنها من عند الله (عز وجل) الحكيم، العليم، الرحيم، الودود، الذي يعلم ما كان وما سيكون، والذي له الكمال المطلق، وهو الغني الحميد. وهو (سبحانه) يقول الحق، ويقصّ على عبيده ـ رحمة منه وفضلاً ـ جانباً من أسرار سنته وقدره ليأخذ الناس حذرهم وليعتبروا ويتعظوا، وليدركوا الرحمة والخير والحكمة الكامنة وراء هذه السنن الربانية والموازين الإلهية، والتي بدورها تؤدي إلى معرفة المنهج الصحيح للتغيير، كما تؤدي إلى المنهج الصحيح لتقويم الأمور ووزنها بالميزان الحق.
ولقد مر بنا في الثمرات السابقة بعض السنن الربانية التي يهتدي إليها القلب العامر بمعرفة الله (عز وجل) وتوحيده، ولكن نخص هنا بعض السنن بشيء من التفصيل، وذلك فيما يلي:
أ- العاقبة للمتقين: إن وعد الله (عز وجل) لا يتخلف، وكلمته لا تتبدل، ولقد قال ـ وقوله الحق ـ: ((وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا المُرْسَلِينَ (171) إنَّهُمْ لَهُمُ المَنصُورُونَ (172) وَإنَّ جُندَنَا لَهُمُ الغَالِبُونَ)) [الصافات: 171- 173] هذا وعد الله (سبحانه)، ولو تأخر وأبطأ على عباده فإن من وراء ذلك التأخير حكمة وخير.
ب- ويتعلق بهذه السنة سنة أخرى في معناها، وهي قوله (تعالى): ((وَلَن يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى المُؤْمِنِينَ سَبِيلاً)) [النساء: 141] يقول ابن القيم (رحمه الله تعالى) في معنى الآية: (قيل: بالحجة والبرهان، فإن حجتهم داحضة عند ربهم، وقيل: هذا في الآخرة وأما في الدنيا فقد يتسلطون عليهم بالضرر لهم والأذى، وقيل: لا يجعل لهم عليهم سبيلاً مستقرة، بل وإن نصروا عليهم في وقت فإن الدائرة تكون عليهم، ويستقر النصر لأتباع الرسول.(1/300)
وقيل: بل الآية على ظاهرها وعمومها، لا إشكال فيها ـ بحمد الله ـ؛ فإن الله (سبحانه) ضمن أن لا يجعل للكافرين على المؤمنين سبيلاً، فحيث كانت لهم سبيلٌ ما عليهم فهم الذين جعلوها بتسببهم ترك بعض ما أقروا به، أو ارتكاب بعض ما نُهوا عنه؛ فهم جعلوا لهم السبيل عليهم بخروجهم عن طاعة الله ورسوله فيما أوجب تسلط عدوهم عليهم في هذه الثغرة التي أدخلوها، كما أخلى الصحابة يوم أُحد الثغرة التي أمرهم رسول الله بلزومها وحفظها؛ فوجد العدو منها طريقاً إليهم، فدخلوا منها)(2).
والحاصل مما سبق: أن معرفة السنة السابقة لا تفهم حق الفهم إلا بمعرفة الله (عز وجل) وتوحيده؛ فإنه (سبحانه) لا يريد بعباده إلا الخير والرحمة، ولو تسلط الأعداء في وقت ما فإن عاقبة هذا التسلط هي الخير والتمكين؛ وذلك أن المؤمنين عندما يتسلط عليهم أعداؤهم وينالونهم بالأذى يدركون من واقع قوله (تعالى): ((لا تَحْسَبُوهُ شَراً لَّكُم بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ)) أن ما أصابهم إنما هو بذنوبهم؛ فيكون الخير في تسلط الأعداء هو تغيير ما بالنفوس من خلل، وإحداث التوبة والاستغفار، وترك ما أوجب حلول المصيبة، وهذا خير في حد ذاته لم يكن ليظهر لو استمر النصر والتمكين مع وجود المعاصي، وضعف الإيمان؛ لأنه ـ والحالة هذه ـ يستمر الفساد بدون إصلاح.
وهذا هو معنى السنة الثابتة التي لا تتغير، ألا وهي قوله (تعالى):
ج- ((إنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ)) [الرعد: 11].
ومثلها قوله (تعالى): ((وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ القُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ وَلَكِن كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُم بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ)) [الأعراف: 96]. والآيات في هذا المعنى كثيرة جدًّاً.(1/301)
د- قوله (تعالى): ((وَلا يَحْسَبَنَّ الَذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لُهُمْ خَيْرٌ لأَنفُسِهِمْ إنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إثْماً وَلَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ)) [آل عمران: 178].
هذه الآية ترسم ميزاناً قويماً ثابتاً في أن إغداق النعم على العبد ليس علامة على كرامة الله له ومحبته إياه، ولا يدل على أنه في خير وسعادة، بل الغالب أن وراء الإملاء والنعم شرّاً وعذاباً، وفي هذا الميزان توجيه للناس إلى حقيقة الابتلاء بالخير والشر، وألا تكون موازينهم في السعادة والتعاسة هي النظر إلى كثرة النعم أو قلتها؛ فكم كان الرخاء سبباً للعذاب ـ دنياً وأخرى ـ، وكم من أناس صالحين حرموا في هذه الدنيا من نعمة المال والأولاد، ولكنهم في خير وسعادة ـ دنياً وأخرى ـ. وهذه المعاني العظيمة لا يمكن إدراكها إلا في ضوء التوحيد وأنواره، وصدق الله العظيم: ((لا تَحْسَبُوهُ شَراً لَّكُم)) والآيات في هذا المعنى كثيرة جدّاً، أذكر منها قوله (تعالى): ((فَلا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ إنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُم بِهَا فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ)) [التوبة: 55].
7- التؤدة والأناة وعدم الاستعجال:(1/302)
وهذه هي الثمرة السابعة من ثمار قوله (تعالى): ((لا تَحْسَبُوهُ شَراً لَّكُم بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ)) فإذا كان العبد لا يعلم أين يكون الخير والشر فيما يقضيه الله (سبحانه) إلا في ضوء ما أعلمه الله (عز وجل) عباده من السنن والثواب، فإنه ـ والحالة هذه ـ لا ينبغي له أن يتعجل الأمور أو يحلل المواقف والأحداث قبل دراستها والبحث في جوانبها، متجرداً في ذلك لله (عز وجل)، مهتدياً بالموازين والسنن الثابتة التي ذكرها الله (سبحانه) في كتابه، وعلى لسان رسوله، وإذا وُفّق العبد إلى هذا الفضل: فإنه في الغالب يصدر عن الحق، وينطق بالحق، وتنشأ عنده صفتا (الحلم) و(الأناة) اللتان يحبهما الله (عز وجل).. وكم رأينا من أناس تعجلوا أمورهم قبل أوانها فكانت نتيجتها وبالاً وشرّاً، وكم سئم أناس من نعمة أنعم الله بها عليهم فتقالّوها وملّوها وأرادوا غيرها، فلما جاءهم ما أرادوه وتعجلوه أصابهم منه ضررٌ ونكدٌ وندمٌ.
ومن صور الاستعجال التي يمكن معالجتها بهذه السنة: ما نراه من تعجل بعض الطيبين من الغيورين على هذا الدين في قطف ثمرة جهدهم، وتعريض أنفسهم للابتلاء، وتمنيهم لمواجهة الأعداء... وينسون أو يغفلون عن قوله: (لا تمنوا لقاء العدو، وإذا لقيتموهم فاصبروا)(3). لأن المرء لا يدري ما تؤول إليه الحال عند مواجهة العدو، ومشاهدة الأهوال. وقد يتمنى العبد حالة معينة ويستعجلها بتصرفه الجاهل بعواقب الأمور، ولكن الله (عز وجل) برحمته يحول بينه وبين هذا الأمر لما يعلمه (سبحانه) من الشر والفتنة على عبده من هذا الأمر؛ فكم من أناس استعجلوا البلاء قبل أوانه، فلما أصبحوا تحت وطأته: ضعفوا وانتكسوا ـ والعياذ بالله ـ فحريّ بالمسلم أن يسأل ربه الدلالة على ما فيه الخير والصلاح، وعلى ما فيه مرضاته (عز وجل) ورحمته.(1/303)
مما سبق يتبين لنا فضل التؤدة والأناة، وأنها من ثمرة العلم بالله (عز وجل) وتوحيده وأسمائه وصفاته، وأنه (عز وجل) يقدر الوقت المناسب لنصر أوليائه بعد أن يكونوا قد أخذوا بأسباب النصر وأعدوا عدته، وأنه (سبحانه) هو العليم الحكيم والبر الرحيم بعباده، فلا يؤخر عنهم شيئاً، ولا يقضي عليهم أمراً إلا وفيه الخير والرحمة، ولكن العبد القاصر والجاهل بعواقب الأمور يستعجل أمر ربه الرحيم.
وصدق الله العظيم في وصفه للإنسان: ((خُلِقَ الإنسَانُ مِنْ عَجَلٍ سَأُرِيكُمْ آيَاتِي فَلا تَسْتَعْجِلُونِ)) [الأنبياء: 37] فطبيعته العجل والتسرع، إلا مَن منّ الله عليه بتوحيده ومحبته والتسليم له، مع فعله للأسباب الممكنة، فإنه يسلم من الأفكار المتعبة، والاندفاعات المتهورة، لأنه يفقه قوله (تعالى): ((لا تَحْسَبُوهُ شَراً لَّكُم)) وصدق الرسول: (التؤدة في كل شيء إلا في عمل الآخرة)(4).
الهوامش:
(1) تفسير السعدي: جـ5، ص279.
(2) بدائع التفسير: جـ2، ص85.
(3) متفق عليه: رواه البخاري في الجهاد، باب (156)، جـ6، ص181. ومسلم في الجهاد، باب: كراهة تمني لقاء العدو، م3، ص1362.
(4) رواه: أبو داود في الأدب، باب: في الرفق، جـ5، ص157. وهو في السلسلة الصحيحة للألباني، رقم (1794).
--------------------------------------------------------------------------------
(3)
تناول الكاتب في الحلقتين الماضيتين مفهوم قوله (تعالى): ((لا تَحْسَبُوهُ شَراً لَّكُم)) [النور:11] وأهمية ذلك المفهوم ضمن سياق سنن الله في التغيير، وبيّن ثمرات هذه السنة، التي كان منها: تحقيق العبودية لله (عز وجل)، وسلامة القلب من الكثير من أمراضه، والصبر على البلايا والمصائب، ومحاسبة النفوس، والتؤدة وعدم الاستعجال.. ويواصل الكاتب وقفاته حول معنى هذه الآية..
البيان(1/304)
في هذا المبحث سأتعرض ـ إن شاء الله (تعالى) ـ لبعض المواقف من السيرة المطهرة وغيرها، والتي ظهرت فيها حكمة الله (عز وجل) ورحمته، وأن ما اختاره الله (عز وجل) لعباده خير مما اختاروه لأنفسهم.
من السيرة المطهرة:
الموقف الأول: غزوة بدر الكبرى: وهي أشهر من أن تذكر؛ فلقد كانت فرقاناً بين الحق والباطل، ولكن المراد من الاستشهاد بها هنا: هو ما ظهر في هذه الغزوة العظيمة من الفرق بين ما أراده المسلمون قبل الغزوة، وكراهيتهم للقاء عدوهم، ورغبتهم في أن تكون في العير، وبين ما اختاره الله لهم من أن تكون في النفير وفي ذات الشوكة؛ يقول الله (عز وجل): ((وَإذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللَّهُ أَن يُحِقَّ الحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الكَافِرِينَ (7) لِيُحِقَّ الحَقَّ وَيُبْطِلَ البَاطِلَ وَلَوْ كَرِهَ المُجْرِمُونَ)) [الأنفال: 7، 8].
فأين الخير الذي علمه الله (عز وجل) وغاب عن المسلمين آنذاك فأرادوا غيره؟ إن الجواب في الآية نفسها؛ يعلق الأستاذ سيد قطب (رحمه الله تعالى) على هذه الآية فيقول: (لقد أراد الله ـ وله الفضل والمنة ـ أن تكون ملحمة لا غنيمة، وأن تكون موقعة بين الحق والباطل؛ ليحق الحق ويثبته، ويبطل الباطل ويزهقه، وأراد أن يقطع دابر الكافرين؛ فيُقتل منهم من يقتل، ويُؤسر منهم من يؤسر، وتذل كبرياؤهم، وتخضد شوكتهم، وتعلو راية الإسلام وتعلو معها كلمة الله، ويمكّن الله للعصبة المسلمة التي تعيش بمنهج الله، وتنطلق به لتقرير ألوهية الله في الأرض، وتحطيم طاغوت الطواغيت، وأراد أن يكون هذا التمكين عن استحقاق لا عن جزاف ـ تعالى الله عن الجزاف ـ وبالجهد والجهاد، وبتكاليف الجهاد ومعاناتها في عالم الواقع وفي ميدان القتال..
...(1/305)
وينظر الناظر اليوم، وبعد اليوم، ليرى الآماد المتطاولة بين ما أرادته العصبة المسلمة لنفسها يومذاك وما أراده الله لها، بين ما حسبته خيراً لها وما قدره الله لها من الخير.. ينظر فيرى الآماد المتطاولة؛ ويعلم كم يخطئ الناس حين يتضررون مما يريده الله لهم، مما قد يعرضهم لبعض الخطر، أو يصيبهم بشيء من الأذى، بينما يكمن وراءه الخير الذي لا يخطر لهم ببال، ولا بخيال!.
فأين ما أرادته العصبة المسلمة لنفسها مما أراده الله لها؟ لقد كانت تمضي ـ لو كانت لهم غير ذات الشوكة ـ قصة غنيمة، قصة قوم أغاروا على قافلة فغنموها! فأما بدر فقد مضت في التاريخ كله قصة عقيدة، قصة نصر حاسم وفرقان بين الحق والباطل، قصة انتصار الحق على أعدائه المدججين بالسلاح، المزودين بكل زاد، والحق في قلة من العدد وضعف في الزاد والراحلة)(1).
الموقف الثاني: غزوة أحد: وهذه الغزوة أيضاً من أشهر غزوات الرسول، ومن أشدها على المسلمين؛ حيث استشهد سبعون صحابيّاً، وشُجّ وجه النبي الكريم، ومع ذلك كان فيها خير للمسلمين ورحمة؛ يدل على ذلك قوله (تعالى): ((وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ التَقَى الجَمْعَانِ فَبِإذْنِ اللَّهِ وَلِيَعْلَمََ المُؤْمِنِينَ (166) وَلِيَعْلَمَ الَذِينَ نَافَقُوا وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا قَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوِ ادْفَعُوا قَالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتَالاً لاَّتَّبَعْنَاكُمْ هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلإيمَانِ يَقُولُونَ بَأَفْوَاهِهِم مَّا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ)) [آل عمران:166،167].
ولقد أحسن الإمام ابن القيم (رحمه الله تعالى) في ذكره لبعض الحِكَم والغايات المحمودة التي كانت في وقعة أحد، أقتطف منها قوله:(1/306)
1- فمنها: تعريفهم سوء عاقبة المعصية، والفشل، والتنازع، وأن الذي أصابهم إنما هو بشؤم ذلك؛ كما قال (تعالى): ((وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إذْ تَحُسُّونَهُم بِإذْنِهِ حَتَّى إذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الأَمْرِ وَعَصَيْتُم مِّنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُم مَّا تُحِبُّونَ مِنكُم مَّن يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنكُم مَّن يُرِيدُ الآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنكُمْ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى المُؤْمِنِينَ)) [آل عمران: 152].
فلما ذاقوا عاقبة معصيتهم وتنازعهم وفشلهم: كانوا بعد ذلك أشد حذراً ويقظة وتحرزاً من أسباب الخذلان.
2- ومنها: أن يتميز المؤمن الصادق من المنافق الكاذب؛ فإن المسلمين لما أظهرهم الله على أعدائهم يوم بدر، وطار لهم الصيت: دخل معهم في الإسلام ـ ظاهراً ـ من ليس معهم فيه باطناً، فاقتضت حكمة الله (عز وجل) أن سبّب لعباده محنة ميزت بين المؤمن والمنافق، فأطلع المنافقون رؤوسهم في هذه الغزوة، وتكلموا بما كانوا يكتمونه، وعاد تلويحهم تصريحاً، وانقسم الناس إلى كافر، ومؤمن، ومنافق، انقساماً ظاهراً، وعرف المؤمنون أن لهم عدواً في نفس دورهم، وهم معهم لا يفارقونهم، فاستعدوا لهم، وتحرزوا منهم؛ قال الله (تعالى): ((مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ المُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَلكُمْ عَلَى الغَيْبِ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِن رُّسُلِهِ مَن يَشَاءُ)) [ال عمران: 179]. أي: ما كان الله ليذركم على ما أنتم عليه من التباس المؤمنين بالمنافقين، حتى يميز أهل الإيمان من أهل النفاق، فإنهم متميزون في غيبه وعلمه، وهو (سبحانه) يريد أن يميزهم تمييزاً مشهوداً، فيقع معلومه الذي هو غيب شهادةً.(1/307)
3- ومنها: استخراج عبودية أوليائه وحزبه في السراء والضراء، وفيما يحبون وما يكرهون، فإذا ثبتوا على الطاعة والعبودية فيما يحبون وما يكرهون فهم عبيده حقّاً، وليسوا كمن يعبد الله على حرف واحد من السراء والنعمة والعافية.
4- ومنها: أنه (سبحانه) لو نصرهم دائماً؛ لطغت نفوسهم، وشمخت، وارتفعت؛ فلو بسط لهم النصر والظفر، لكانوا في الحال التي يكونون فيها لو بسط لهم الرزق، فلا يصلح عباده إلا السراء والضراء، والشدة والرخاء، والقبض والبسط.
5- ومنها: أن النفوس تكتسب من العافية الدائمة والنصر والغنى طغياناً وركوناً إلى العاجلة، وذلك مرض يعوقها عن جدها في سيرها إلى الله والدار الآخرة، فإذا أراد بها ربها ومالكها وراحمها كرامته: قيّض لها من الابتلاء والامتحان ما يكون دواءً لذلك المرض العائق عن السير الحثيث إليه، فيكون ذلك البلاء والمحنة بمنزلة الطبيب يسقي العليل الدواء الكريه، ولو تركه لغلبته الأدواء حتى يكون فيها هلاكه.
6- ومنها: أن الشهادة عنده من أعلى مراتب أوليائه، وهو (سبحانه) يحب أن يتخذ من عباده شهداء تُراق دماؤهم في محبته ومرضاته، ويؤثرون رضاه ومحابه على أنفسهم. ولا سبيل إلى نيل هذه الدرجة إلا بتقدير الأسباب المفضية إليها من تسليط العدو.
7- ومنها: أن الله (سبحانه) إذا أراد أن يهلك أعداءه ويمحقهم، قيض لهم الأسباب التي يستوجبون بها هلاكهم ومحقهم، ومن أعظمها بعد كفرهم: بغيهم، وطغيانهم، ومبالغتهم في أذى أوليائه، ومحاربتهم، وقتالهم، والتسلط عليهم؛ فيتمحص بذلك أولياؤه من ذنوبهم وعيوبهم، ويزداد بذلك أعداؤه من أسباب محقهم وهلاكهم. وقد ذكر (سبحانه وتعالى) ذلك في قوله: ((وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الكَافِرِينَ)) [ال عمران: 141](2).
مواقف من السلف:
1- الموقف الأول: محنة الإمام أحمد ابن حنبل (رحمه الله تعالى):(1/308)
وما أظن أحداً من المسلمين يجهل المحنة التي تعرض لها أبو عبد الله أحمد بن حنبل (رحمه الله تعالى)؛ وذلك فيما يعرف بفتنة القول بخلق القرآن، وقد تعرض هذا الإمام الجليل لمحنة وبلاء عظيم؛ تلك المحنة كانت مؤذية له (رحمه الله)، ومؤذية للمسلمين معه، ولكن الله (عز وجل) ثبّته في هذه المحنة العظيمة، وحمى به عقيدة أهل السنة من الانحراف أو الاندثار، ولقد كانت هذه البليَّة لإمام السنة خيراً له فيما بعد؛ فما كان لينال هذا الخير لولا هذا الابتلاء وما من الله به عليه من الثبات والتضحية.
2- شيخ الإسلام ابن تيمية وسجنه:
وكذلك لا أظن أحداً من أهل العلم يجهل هذا الرجل العظيم، وما ضحى به في سبيل الله (عز وجل) بعلمه وجهاده وصبره وما لاقى في ذلك من السجن والإبعاد، ولكن كان في ذلك الابتلاء خير له ورفعة، كما يقول ذلك هو عن نفسه عندما ورد المرسوم السلطاني بسجنه في قلعة دمشق: (أنا كنت منتظراً ذلك، وهذا فيه خير عظيم)(3).
وقال: (لو بذلت ملء هذه القلعة ذهباً ما عدل عندي شكر هذه النعمة).
كما كان في الابتلاء الذي تعرض له خير للمسلمين في عصره وما تلاه من العصور؛ وذلك بانتشار دعوته وعلمه؛ يقول (رحمه الله): (ومن سنة الله: أنه إذا أراد إظهار دينه أقام من يعارضه، فيحق الحق بكلماته، ويقذف بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق...)(4).
احتراس وتنبيه:(1/309)
وفي هذا المبحث أود التنبيه على قضية يُخشى أن تنشأ من خلال الحديث عن الرضا بقدر الله (عز وجل) وتفويض الأمور إليه؛ ألا وهي الانحراف بهذا الأمر إلى المفهوم الخاطئ لمسألة الرضا والتسليم لقضاء الله (عز وجل)، والذي قد يؤدي إلى التواكل، والعجز، والرضا بالفساد، والذلة، والمهانة، وترك الأخذ بالأسباب والدعوة والجهاد؛ فنكون قد عالجنا مرضاً وانفتح علينا مرض آخر. من أجل ذلك سأخص هذا المبحث بالحديث عن هذه القضية، وذلك احتراساً من الفهم الخاطئ الذي قد ينشأ لو لم يحصل هذا التنبيه، فأقول وبالله التوفيق:(1/310)
إن من القواعد المهمة لمطالعة حوادث الزمان: الفهم الصحيح لعقيدة القضاء والقدر، والفهم الصحيح لمقتضى أسماء الله (عز وجل) الحسنى وصفاته العلا، والتوازن في هذا الفهم بين الغلو والجفاء، وهذا (والحمد لله) هو سمة معتقد أهل السنة والجماعة في جميع أبواب العقيدة، ومن ذلك: عقيدة القضاء والقدر، وتوحيد الأسماء والصفات. ولقد انحرف عن هذه القواعد طرفان من الناس: فمنهم من أنكر الاستدلال بالقضاء والقدر على حوادث الزمان، وتنقص المؤمنين به، ومنهم من فهم القضاء والقدر على أنه تواكل وخمول وخنوع مُذل، وكلا الموقفين منحرف ومجانب للصواب؛ فالإيمان بقضاء الله (عز وجل) وبعلمه وتقديره للأمور قبل وقوعها، ثم مشيئته، وخلقه لها، وأن له الحكمة البالغة في كل ما يقضيه ويقدره، وأن من وراء ذلك رحمته، وإرادة الخير واليسر لعباده..(1/311)
كل ذلك مما يجب الإيمان به في باب القضاء والقدر، كما أنه مقتضى الإيمان بأسمائه (سبحانه) وصفاته، ولكن هذا الإيمان بهذه القواعد والحقائق لا يعني ترك الأسباب، والرضا بالذلة والهوان وانتشار الفساد، كلا، بل إن الفهم الصحيح للقضاء والقدر يكمن في التوازن بين الاستسلام المطلق لقدر الله، والعمل بكل ما في الوسع والوقوف المطمئن عند حد الاستطاعة؛ وهذا يعني فعل الأسباب التي سخرها الله (سبحانه)، ومدافعة أقدار الله (عز وجل) بأقداره، ما دام أن هناك إمكاناً للمدافعة؛ قال (تعالى): ((وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ الأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى العَالَمِينَ)) [البقرة: 251] فإذا لم تُجدِ المدافعة، أو لم يكن ذلك في الإمكان: فالواجب: الصبر والاستسلام لقضاء الله (عز وجل)، واليقين بأن من وراء ذلك خيراً ومصلحة ورحمة، يجب أن يتجه الجهد إلى التماسها، وتسخيرها في مزيد من الخير والإصلاح، وتغيير الأحوال، ومحاسبة النفوس، وإزالة أسباب المصيبة، وبذل الجهد في دفعها؛ قال (تعالى): ((إنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ)) [الرعد: 11].
ويوضح هذا المعنى الإمام ابن القيم (رحمه الله تعالى) فيقول:
(ودفع القدر بالقدر نوعان:
أحدهما: دفع القدر الذي قد انعقدت أسبابه ـ ولمّا يقع ـ بأسباب أخرى من القدر تقابله، فيمتنع وقوعه، كدفع العدو بقتاله، ودفع الحر والبرد ونحوه.(1/312)
الثاني: دفع القدر الذي قد وقع واستقر بقدر آخر يرفعه ويزيله، كدفع قدر المرض بقدر التداوي، ودفع قدر الذنب بقدر التوبة، ودفع قدر الإساءة بقدر الإحسان، فهذا شأن العارفين وشأن الأقدار، لا الاستسلام لها، وترك الحركة والحيلة؛ فإنه عجز، والله (تعالى) يلوم على العجز. فإذا غُلب العبد، وضاقت به الحيل، ولم يبق مجال؛ فهنالك الاستسلام للقدر، والانطراح كالميت بين يدي الغاسل، يقلبه كيف يشاء)(5).
وعن أبي هريرة (رضي الله عنه) عن رسول الله-صلى الله عليه وسلم- أنه قال: (المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف، وفي كلّ خير. احرص على ما ينفعك، واستعن بالله ولا تعجز، وإن أصابك شيء فلا تقل لو أني فعلت كان كذا وكذا.. الحديث)(6)، ويشرح الإمام النووي الحديث، فيقول: (والمراد بالقوة هنا عزيمة النفس والقريحة في أمور الآخرة، فيكون صاحب هذا الوصف أكثر إقداماً على العدو في الجهاد، وأسرع خروجاً إليه، وذهاباً في طلبه، وأشد عزيمة في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والصبر على الأذى في كل ذلك، واحتمال المشاق في ذات الله (تعالى)، وأرغب في الصلاة، والصوم، والأذكار، وسائر العبادات، وأنشط طلباً لها، ومحافظة عليها ونحو ذلك.. وقوله-صلى الله عليه وسلم- (احرص على ما ينفعك، واستعن بالله ولا تعجز) معناه: احرص على طاعة الله (تعالى)، والرغبة فيما عنده، واطلب الإعانة من الله (تعالى) على ذلك، ولا تعجز ولا تكسل عن طلب الطاعة، ولا عن طلب الإعانة)(7).
ويتحدث الإمام ابن القيم (رحمه الله تعالى) عن الفرق بين العجز والتوكل، فيقول:
((1/313)
والفرق بين التوكل والعجز: أن التوكل عمل القلب وعبوديته: اعتماداً على الله، وثقة به، والتجاءً إليه، وتفويضاً إليه، ورضاً بما يقضيه له؛ لعلمه بكفايته (سبحانه)، وحسن اختياره لعبده إذا فوض إليه مع قيامه بالأسباب المأمور بها، واجتهاده في تحصيلها؛ فقد كان رسول الله أعظم المتوكلين، وكان يلبس لأَمَتَه ودرعه، بل ظاهر يوم أحد بين درعين، واختفى في الغار ثلاثاً؛ فكان متوكلاً في السبب لا على السبب.
وأما العجز: فهو تعطيل الأمرين أو أحدهما: فإما أن يعطل السبب عجزاً منه، ويزعم أن ذلك توكل! ولعمر الله إنه لعجز وتفريط، وإما أن يقوم بالسبب ناظراً إليه، معتمداً عليه، غافلاً عن المسبّب، معرضاً عنه، وإن خطر بباله لم يثبت معه ذلك الخاطر، ولم يعلق قلبه به تعلقاً تاماً، بحيث يكون قلبه مع الله، وبدنه مع السبب. فهذا توكله عجز، وعجزه توكل)(8).
ويقول الدكتور علي العلياني (وفقه الله تعالى) في حديثه عن أهل التصوف وانحرافهم في موضوع الجهاد في سبيل الله: إن من صفاتهم:
((1/314)
الرضا بما يقع عليهم من مصائب وذنوب، فلا يحاولون دفعها عن أنفسهم، زعماً منهم أن دفعها ينافي الرضا بالقدر، فلو وطئ الكفار رقابهم يرضون ويسلمون؛ لأن الله أراد ذلك!.. ويذكر الأستاذ محمود مهدي قصة ملخصها: أن الفرنسيين إبان استعمارهم لتونس كانوا يجدون معارضة شديدة من الناس؛ فتفاهم الفرنسيون مع شيخ الصوفية على أن يدخلوا البلاد؛ فلما أصبح الصباح قعد الشيخ مطرقاً رأسه وهو يقول: لا حول ولا قوة إلا بالله، فلما سأله أتباعه عن الأمر الذي يقلقه قال لهم: لقد رأيت الخضر وسيدي أبا العباس الشاذلي وهما قابضان بحصان جنرال فرنسا ثم أوكلا الجنرال أمر تونس، يا جماعة هذا أمر الله، فما العمل؟ فقالوا له: إذا كان سيدي أبو العباس راضياً، ونحن نحارب في سبيله، فلا داعي للحرب! ثم دخل الجيش الفرنسي تونس بدون مقاومة) إلى أن يقول: (... إن عقيدة الصوفية المنحرفة في التوكل والرضا بالقدر: جعلت نفوسهم راضية مطمئنة ولو وطئ الكفار على رقابهم؛ فإن التوكل عندهم عدم ممارسة الأسباب، والرضا معناه أن ترضى بما يحصل لك ولو هو استيلاء الكفار على بلاد المسلمين، وسبي ذراريهم. وإن أبديت مقاومة فأنت معارض للقدر! وغير متوكل على الله! فالذي يسافر في البراري الخالية بغير زاد، هل يتصور منه أن يلبس لأَمَة الحرب ودروع القتال؟ وليته إذ لم يفعل ذلك غمس نفسه في القتال حاسراً!!.. ولكن ما له ولفرقعة السلاح، ولخرير الدماء؛ وحلق الرقص وطقطقة المسابح كفيلة بإنزاله منزلة الصديقين على زعمه، فأي انحراف هذا الذي أصاب الأمة الإسلامية، وأي فرحة للكفار تحصل لهم أشد من فرحتهم بهذا)(9).
الهوامش:
1- في ظلال القرآن، م3، ص1481.
2- زاد المعاد، جـ3، ص218-222 باختصار.
3- العقود الدرية، ص329.
4- مجموع فتاوى ابن تيمية، جـ28، ص57.
5- مدارج السالكين، جـ1، ص20.
6- رواه مسلم: كتاب القدر، ح2664.
7- شرح صحيح مسلم للنووي، جـ16، ص215.
8- الروح، ص344.(1/315)
9- أهمية الجهاد في نشر الدعوة الإسلامية، باختصار، ص288.
--------------------------------------------------------------------------------
مجلة البيان، العدد ( 91،92،93)، و ربيع الأول - جمادى الأولى 1416،أغسطس - أكتوبر 1995 .
* * *
http://www.albayan-magazine.com/zwaya/trbwi/19.htm
من ثمرات اليقين باليوم الآخر
عبد العزيز الجليل
(1)
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على نبينا وقدوتنا محمد، وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهديه إلى يوم الدين، أما بعد..
لما كان الإيمان باليوم الآخر أحد أصول الإيمان الستة التي لا يصح إيمان مسلم بدونها.
ولما لذلك الإيمان من أثر في حياة المسلم وطاعته لأوامر الله (عزو جل) واجتناب نواهيه، ولما له من أثر في صلاح القلوب وصلاح الناس وسعادتهم في الدنيا والآخرة، ولما في نسيان ذلك اليوم العظيم والغفلة عنه من خطر على حياة الناس ومصيرهم.. فلا غرابة إذن أن يرد ذكر هذا اليوم كثيراً في القرآن، حتى لا تكاد تخلو منه صفحة من صفحاته.
وإذا كان الكتاب والسنة قد اهتما غاية الاهتمام بتفاصيل ذلك اليوم المشهود وبأحوال هذا النبأ العظيم؛ فإنه من الحمق والجهل ألا نهتم بما اهتم به الوحيان.
إن أعظم قضية يجب أن ينشغل بها كل واحد منا هي: قضية وجوده وحياته والغاية منها، وقضية مستقبله ومصيره وشقائه وسعادته، فلا يجوز أن يتقدم ذلك شيء مهما كان، فكل أمر دونه هين وكل خطب سواه حقير. وهل هناك أعظم وأفدح من أن يخسر الإنسان حياته وأهله، ويخسر مع ذلك سعادته وسعادتهم، فماذا يبقى بعد ذلك؟ ((قُلْ إنَّ الخَاسِرِينَ الَذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ القِيَامَةِ أَلا ذَلِكَ هُوَ الخُسْرَانُ المُبِينُ)) [الزمر: 15].
وأهمية هذا الموضوع تتجلى فيما يلي:(1/316)
1- انفتاح الدنيا الشديد على كثير من الناس في هذا الزمان وما صحب ذلك من مكر الليل والنهار بأساليب جديدة ودعايات خبيثة تزين الدنيا في أعين الناس وتصدهم عن الآخرة، ومع ما كان عليه صحابة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من الإيمان والتقوى، فقدكان يحذرهم من الاغترار بالدنيا وضرورة الاستعداد للآخرة، مع أن الدنيا لم تنفتح عليهم مثل اليوم، فلا شك ولا ريب أننا أحوج منهم بكثير إلى أن نتذكر الآخرة ويذكّر بعضنا بعضاً بعظمة شأنها وأهمية الاستعداد لها.
2- ركون كثير من الناس للدنيا ولقد ترتب على ذلك أن قست القلوب، وتحجرت الأعين، وهُجِرَ كتاب الله (عز وجل)، وإذا قرأ أحدنا القرآن قرأه بقلب لاهٍ، فأنّى لمثل ذلك القلب أن يخشع لذكر الله؟ وأنّى لعينيه أن تدمع خوفاً من الله، وقد انعكس ذلك على الصلاة فقلّ الخاشعون والمطمئنون فيها.. والله المستعان.
3- لما في تذكر ذلك اليوم ومشاهده العظيمة من حث على العمل الصالح والمبادرة لفعل الخيرات وترك المنكرات، بل ما تكاسل المتكاسلون في عمل الصالحات سواء الواجب منها والمسنون إلا بسبب الغفلة عن الآخرة والانشغال عنها، يقول (تعالى) في وصف عباده الصالحين: ((رِجَالٌ لاَّ تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَإقَامِ الصَلاةِ وَإيتَاءِ الزَّكَاةِ)) [النور: 37]. ((أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِداً وَقَائِماً يَحْذَرُ الآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لايَعْلَمُونَ إنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الأَلْبَابِ)) [الزمر: 9].
4- لما ظهر في عصرنا اليوم من المشكلات المعقدة والأمراض المزمنة، التي نشأت عنها الأمراض النفسية المتنوعة من القلق والاكتئاب اللذين يؤديان غالباً إلى حياة يائسة، ومن أسباب ذلك: البعد عن الله (تعالى)، وعن تذكر اليوم الآخر.(1/317)
5- لما تميز به زماننا اليوم من كثرة المظالم في بعض المجتمعات واعتداء الناس بعضهم على بعض، من أكلٍ لأموال غيرهم بدون وجه حق، وكذلك النيل من الأعراض، والحسد والتباغض، والفرقة والاختلاف، وبخاصة بين بعض الدعاة وطلبة العلم، ولا شك أنه لا شيء مثل تذكر اليوم الآخر وتذكر الوقوف بين يدي الله (عز وجل) علاجاً لتلك الأمراض.
6- ولما كان الركون إلى الدنيا والغفلة عن الآخرة من أعظم الأسباب في وهن النفوس وضعفها كان لا بد من التذكير المستمر بذلك اليوم وما فيه من نعيم أو جحيم، لأن في هذا التذكير أكبر الأثر في نشاط الهمم وعدم الاستسلام للوهن واليأس رجاء ثواب الله (عز وجل) وما أعده للمجاهدين في سبيله الداعين إليه.
7- ولما قلّ في برامج الدعوة والتربية الاعتناء بهذه الجانب العظيم من التربية مما له الأثر الكبير في الاستقامة على الجادة والدعوة إلى الله على بصيرة، ولكن نرى من بعض المهتمين بالدعوة من يستهين بهذا الجانب العظيم حتى صار بعضهم يقلل من أثر التذكرة بالآخرة بقوله: إن هذا الأمر يغلب عليه الوعظ أو هذا مقال عاطفي وعظي ... إلخ.. مع أن المتأمل لكتاب الله (سبحانه) وسنة رسوله -صلى الله عليه وسلم- يرى بجلاء جانب الوعظ بارزاً بالربط بين الدنيا والآخرة والثواب والعقاب.. نسأل الله أن يهدينا جميعاً وأن يوفقنا للاقتداء بالسنة والسير على نهجها.
الآثار المرجوة لليقين باليوم الآخر:(1/318)
إن في اليقين باليوم الآخر وأنبائه العظيمة لآثاراً واضحة وثماراً طيبة، لابد أن تظهر في قلب العبد وعلى لسانه وجوارحه، وفي حياته كلها، ولكن هذا اليقين وحده لا يكفي حتى ينضم إليه الصبر ومجاهدة الشهوات والعوائق، لأن الواحد منا ـ مع يقينه باليوم الآخر وأهواله ـ يرى في حياته أن ثمرات هذا اليقين ضعيفة، فلابد إذن من سبب لهذا الأمر، ويجلي هذه المسألة الإمام ابن القيم (رحمه الله تعالى) فيقول: (فإن قلت كيف يجتمع التصديق الجازم الذي لا شك فيه بالمعاد والجنة والنار ويتخلف العمل؟ وهل في الطباع البشرية أن يعلم العبد أنه مطلوب غداً إلى بين يدي بعض الملوك ليعاقبه أشد عقوبة، أو يكرمه أتم كرامة، ويبيت ساهياً غافلاً! ولا يتذكر موقفه بين يدي الملك، ولا يستعد له، ولا يأخذ له أهبته؟!.
قيل: هذا (لعمر الله) سؤال صحيح وارد على أكثر الخلق؛ فاجتماع هذين الأمرين من أعجب الأشياء، وهذا التخلف له عدة أسباب:
أحدهما: ضعف العلم ونقصان اليقين، ومن ظن أن العلم لا يتفاوت، فقوله من أفسد الأقوال وأبطلها.
وقد سأل إبراهيم الخليل ربه أن يريه إحياء الموتى عياناً بعد علمه بقدرة الرب على ذلك، ليزداد طمأنينة، ويصير المعلوم غيباً شهادة.
وقد روى أحمد في مسنده عن النبي أنه قال: (ليس الخبر كالمعاينة) (1).
فإذا اجتمع إلى ضعف العلم عدم استحضاره أو غيبته عن القلب في كثير من أوقاته أو أكثرها لاشتغاله بما يضاده، وانضم إلى ذلك تغاضي الطبع، وغلبات الهوى، واستيلاء الشهوة، وتسويل النفس، وغرور الشيطان، واستبطاء الوعد، وطول الأمل، ورقدة الغفلة، وحب العاجلة، ورخص التأويل، وإلف العوائد، فهناك لا يمسك الإيمان إلا الذي يمسك السموات والأرض أن تزولا، وبهذا السبب يتفاوت الناس في الإيمان والأعمال، حتى ينتهي إلى أدنى مثقال ذرة في القلب.(1/319)
وجماع هذه الأسباب يرجع إلى ضعف البصيرة والصبر، ولهذا مدح الله (سبحانه) أهل الصبر واليقين، وجعلهم أئمة الدين، فقال (تعالى): ((وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ)) [السجدة: 24])(2).
ذكر الثمرات المرجوة:
وبعد هذه المقدمة التي لا بد منها حول ثمرات اليقين بالنبأ العظيم نذكر ما تيسر من هذه الثمرات، والله ولي التوفيق:
1- الإخلاص لله (عز وجل) والمتابعة للرسول :
إن الموقن بلقاء الله (عز وجل) يوم الفزع الأكبر، لا تلقاه إلا حريصاً على أعماله، خائفاً من كل ما يحبطها من أنواع الشرك الأكبر أو الشرك الأصغر، حيث إن الشرك الأكبر يحبط جميع الأعمال، فتصير هباءً منثوراً، والشرك الأصغر يحبط العمل الذي حصل فيه هذا النوع من الشرك كيسير الرياء، والعجب، والمن، وطلب الجاه والشرف في الدنيا، فكلما كان العبد موقناً بلقاء ربه كان منه الحرص الشديد على ألا تضيع منه أعماله الصالحة في موقف القيامة، يوم أن يكون في أشد الأوقات حاجة إليها؛ ولذلك فهو يجاهد نفسه بحماية أعماله في الدنيا بالإخلاص فيها لله (تعالى) لعل الله (عز وجل) أن ينفعه بها، كما أن اليقين بالرجوع إلى الله (عز وجل) يجعل العبد في أعماله كلها متبعاً للرسول -صلى الله عليه وسلم- غير مبتدع ولامبدل؛ لأن الله (عز وجل) لا يقبل من العمل إلا ما كان خالصاً صواباً، قال (تعالى):- ((قُلْ إنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَى إلَيَّ أَنَّمَا إلَهُكُمْ إلَهٌ وَاحِدٌ فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً)) [الكهف: 110].
2- الحذر من الدنيا والزهد فيها والصبر على شدائدها وطمأنينة القلب وسلامته:(1/320)
إذا أكثر العبد ذكر الآخرة، وكانت منه دائماً على بال، فإن الزهد في الدنيا والحذر منها ومن فتنتها سيحلان في القلب، وحينئذ لا يكترث بزهرتها، ولا يحزن على فواتها، ولا يمدن عينيه إلى ما متع الله به بعض عباده من نعم ليفتنهم فيها، وهذه الثمرة يتولد عنها بدورها ثمار أخرى مباركة طيبة منها: القناعة، وسلامة القلب من الحرص والحسد والغل والشحناء؛ لأن الذي يعيش بتفكيره في الآخرة وأنبائها العظيمة لا تهمه الدنيا الضيقة المحدودة، مع ملاحظة أن إيمان المسلم باليوم الآخر وزهده في الدنيا لا يعني انقطاعه عنها وعدم ابتغاء الرزق في أكنافها؛ يقول (تعالى):- ((وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآخِرَةَ)) [القصص: 77].(1/321)
كما يتولد أيضا من هذا الشعور، الراحة النفسية والسعادة القلبية وقوة الاحتمال والصبر على الشدائد والابتلاءات، ذلك للرجاء فيما عند الله (عز وجل) من الأجر والثواب، وأنه مهما جاء من شدائد الدنيا فهي منقطعة ولها أجل، فهو ينتظر الفرج ويرجو الثواب الذي لا ينقطع يوم الرجوع إلى الله (عز وجل)، قال (تعالى): ((إن تَكُونُوا تَاًلَمُونَ فَإنَّهُمْ يَاًلَمُونَ كََمَا تَاًلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لا يَرْجُونَ)) [النساء: 104] وما إن يفقد القلب هذه المعاني حتى يخيم عليه الهم والتعاسة، ومن هنا ينشأ القلق والانزعاج والضيق والحزن، أما ذاك الذي عرف الدنيا على حقيقتها، وامتلأ قلبه بهمّ الآخرة وأنبائها، فإن نفسه لا تذهب على الدنيا حسرات، ولا تنقطع نفسه لهثاً في طلبها، ولا يأكل قلبه الغل والحسد والتنافس فيها، ولا يقل صبره ولا يجزع قلبه عند المحن والشدائد، ومهما حرم في هذه الدنيا الفانية فهو يعلم أن لله (عز وجل) في ذلك الحكمة البالغة، وهو يرجو الأجر يوم القيامة، قال (تعالى): ((وَلَوْلا أَن يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَّجَعَلْنَا لِمَن يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِّن فِضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ (33) وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْوَاباً وَسُرُراً عَلَيْهَا يَتَّكِئُونَ (34) وَزُخْرُفا وَإن كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتاعُ الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالآخِرَةُ عِندَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ)) [الزخرف: 33- 35].
3- التزود بالأعمال الصالحة وأنواع القربات واجتناب المعاصي والمبادرة بالتوبة والاستغفار:
يقول الإمام ابن القيم (رحمه الله تعالى): (ومما ينبغي أن من رجا شيئاً استلزم رجاؤه ثلاثة أمور:
أحدهما: محبة ما يرجوه.
الثاني: خوفه من فواته.
الثالث: سعيه في تحصيله بحسب الإمكان.(1/322)
وأما رجاءٌ لا يقارنه شيء من ذلك فهو من باب الأماني، والرجاء شيء والأماني شيء آخر، فكل راجٍ خائف، والسائرعلى الطريق إذا خاف أسرع السير مخافة الفوات.
وفي جامع الترمذي من حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله (من خاف أدلج، ومن أدلج بلغ المنزل، ألا إن سلعة الله غالية، ألا إن سلعة الله الجنة)(3) وهو (سبحانه) كما جعل الرجاء لأهل الأعمال الصالحة، فكذلك جعل الخوف لأهل الأعمال الصالحة، فعلم أن الرجاء والخوف النافع ما اقترن به العمل، قال (تعالى): ((إنَّ الَذِينَ هُم مِّنْ خَشْيَةِ رَبِّهِم مُّشْفِقُونَ (57) وَالَّذِينَ هُم بِآيَاتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ (58) وَالَّذِينَ هُم بِرَبِّهِمْ لا يُشْرِكُونَ (59) وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ (60) أُوْلَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ)) [المؤمنون: 57- 61].
وقد روى الترمذي في جامعه عن عائشة (رضي الله عنها) قالت: سألت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن هذه الآية، فقلت: أهم الذين يشربون الخمر ويزنون ويسرقون؟ قال: (لا، يا ابنة الصديق، ولكنهم الذين يصومون ويصلون ويتصدقون ويخافون أن لايتقبل منهم، أولئك يسارعون في الخيرات)(4) وقد روي من حديث أبي هريرة أيضاً.
والله (سبحانه) وصف أهل السعادة بالإحسان مع الخوف، ووصف الأشقياء بالإساءة مع الأمن)(5).
وقال (تعالى): ((إنَّ الَذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللَّهِ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ)) [البقرة: 218].
يقول ابن القيم (رحمه الله تعالى): (فتأمل كيف جعل رجاءهم إتيانهم بهذه الطاعات؟ وقال المغرورون: إن المفرطين المضيعين لحقوق الله المعطلين لأوامره الباغين المتجرئين على محارمه، أولئك يرجون رحمة الله)(6). للحديث صلة.
الهوامش :
((1/323)
1) أحمد، جـ1ص215، 271. وصحح إسناده أحمد شاكر (1842).
(2) الجواب الكافي، ص 54.
(3) رواه الترمذي، كتاب صفة القيامة، باب 18 الحديث رقم 2450. وانظر صحيح سنن الترمذي (1993).
(4) رواه أحمد، جـ6ص159، والترمذي (كتاب التفسير) باب تفسير سورة المؤمنون، ح 3175.
(5) الجواب الكافي، ص 57، 58.
(6) الجواب الكافي، ص 56.دراسات تربوية
من ثمرات اليقين باليوم الآخر
بقلم: عبد العزيز بن ناصر الجليل
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على نبينا وقدوتنا محمد، وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهديه إلى يوم الدين، أما بعد..
لما كان الإيمان باليوم الآخر أحد أصول الإيمان الستة التي لا يصح إيمان مسلم بدونها.
ولما لذلك الإيمان من أثر في حياة المسلم وطاعته لأوامر الله (عزو جل) واجتناب نواهيه، ولما له من أثر في صلاح القلوب وصلاح الناس وسعادتهم في الدنيا والآخرة، ولما في نسيان ذلك اليوم العظيم والغفلة عنه من خطر على حياة الناس ومصيرهم.. فلا غرابة إذن أن يرد ذكر هذا اليوم كثيراً في القرآن، حتى لا تكاد تخلو منه صفحة من صفحاته.
وإذا كان الكتاب والسنة قد اهتما غاية الاهتمام بتفاصيل ذلك اليوم المشهود وبأحوال هذا النبأ العظيم؛ فإنه من الحمق والجهل ألا نهتم بما اهتم به الوحيان.
إن أعظم قضية يجب أن ينشغل بها كل واحد منا هي: قضية وجوده وحياته والغاية منها، وقضية مستقبله ومصيره وشقائه وسعادته، فلا يجوز أن يتقدم ذلك شيء مهما كان، فكل أمر دونه هين وكل خطب سواه حقير. وهل هناك أعظم وأفدح من أن يخسر الإنسان حياته وأهله، ويخسر مع ذلك سعادته وسعادتهم، فماذا يبقى بعد ذلك؟ ((قُلْ إنَّ الخَاسِرِينَ الَذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ القِيَامَةِ أَلا ذَلِكَ هُوَ الخُسْرَانُ المُبِينُ)) [الزمر: 15].
وأهمية هذا الموضوع تتجلى فيما يلي:(1/324)
1- انفتاح الدنيا الشديد على كثير من الناس في هذا الزمان وما صحب ذلك من مكر الليل والنهار بأساليب جديدة ودعايات خبيثة تزين الدنيا في أعين الناس وتصدهم عن الآخرة، ومع ما كان عليه صحابة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من الإيمان والتقوى، فقدكان يحذرهم من الاغترار بالدنيا وضرورة الاستعداد للآخرة، مع أن الدنيا لم تنفتح عليهم مثل اليوم، فلا شك ولا ريب أننا أحوج منهم بكثير إلى أن نتذكر الآخرة ويذكّر بعضنا بعضاً بعظمة شأنها وأهمية الاستعداد لها.
2- ركون كثير من الناس للدنيا ولقد ترتب على ذلك أن قست القلوب، وتحجرت الأعين، وهُجِرَ كتاب الله (عز وجل)، وإذا قرأ أحدنا القرآن قرأه بقلب لاهٍ، فأنّى لمثل ذلك القلب أن يخشع لذكر الله؟ وأنّى لعينيه أن تدمع خوفاً من الله، وقد انعكس ذلك على الصلاة فقلّ الخاشعون والمطمئنون فيها.. والله المستعان.
3- لما في تذكر ذلك اليوم ومشاهده العظيمة من حث على العمل الصالح والمبادرة لفعل الخيرات وترك المنكرات، بل ما تكاسل المتكاسلون في عمل الصالحات سواء الواجب منها والمسنون إلا بسبب الغفلة عن الآخرة والانشغال عنها، يقول (تعالى) في وصف عباده الصالحين: ((رِجَالٌ لاَّ تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَإقَامِ الصَلاةِ وَإيتَاءِ الزَّكَاةِ)) [النور: 37]. ((أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِداً وَقَائِماً يَحْذَرُ الآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لايَعْلَمُونَ إنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الأَلْبَابِ)) [الزمر: 9].
4- لما ظهر في عصرنا اليوم من المشكلات المعقدة والأمراض المزمنة، التي نشأت عنها الأمراض النفسية المتنوعة من القلق والاكتئاب اللذين يؤديان غالباً إلى حياة يائسة، ومن أسباب ذلك: البعد عن الله (تعالى)، وعن تذكر اليوم الآخر.(1/325)
5- لما تميز به زماننا اليوم من كثرة المظالم في بعض المجتمعات واعتداء الناس بعضهم على بعض، من أكلٍ لأموال غيرهم بدون وجه حق، وكذلك النيل من الأعراض، والحسد والتباغض، والفرقة والاختلاف، وبخاصة بين بعض الدعاة وطلبة العلم، ولا شك أنه لا شيء مثل تذكر اليوم الآخر وتذكر الوقوف بين يدي الله (عز وجل) علاجاً لتلك الأمراض.
6- ولما كان الركون إلى الدنيا والغفلة عن الآخرة من أعظم الأسباب في وهن النفوس وضعفها كان لا بد من التذكير المستمر بذلك اليوم وما فيه من نعيم أو جحيم، لأن في هذا التذكير أكبر الأثر في نشاط الهمم وعدم الاستسلام للوهن واليأس رجاء ثواب الله (عز وجل) وما أعده للمجاهدين في سبيله الداعين إليه.
7- ولما قلّ في برامج الدعوة والتربية الاعتناء بهذه الجانب العظيم من التربية مما له الأثر الكبير في الاستقامة على الجادة والدعوة إلى الله على بصيرة، ولكن نرى من بعض المهتمين بالدعوة من يستهين بهذا الجانب العظيم حتى صار بعضهم يقلل من أثر التذكرة بالآخرة بقوله: إن هذا الأمر يغلب عليه الوعظ أو هذا مقال عاطفي وعظي ... إلخ.. مع أن المتأمل لكتاب الله (سبحانه) وسنة رسوله -صلى الله عليه وسلم- يرى بجلاء جانب الوعظ بارزاً بالربط بين الدنيا والآخرة والثواب والعقاب.. نسأل الله أن يهدينا جميعاً وأن يوفقنا للاقتداء بالسنة والسير على نهجها.
الآثار المرجوة لليقين باليوم الآخر:(1/326)
إن في اليقين باليوم الآخر وأنبائه العظيمة لآثاراً واضحة وثماراً طيبة، لابد أن تظهر في قلب العبد وعلى لسانه وجوارحه، وفي حياته كلها، ولكن هذا اليقين وحده لا يكفي حتى ينضم إليه الصبر ومجاهدة الشهوات والعوائق، لأن الواحد منا ـ مع يقينه باليوم الآخر وأهواله ـ يرى في حياته أن ثمرات هذا اليقين ضعيفة، فلابد إذن من سبب لهذا الأمر، ويجلي هذه المسألة الإمام ابن القيم (رحمه الله تعالى) فيقول: (فإن قلت كيف يجتمع التصديق الجازم الذي لا شك فيه بالمعاد والجنة والنار ويتخلف العمل؟ وهل في الطباع البشرية أن يعلم العبد أنه مطلوب غداً إلى بين يدي بعض الملوك ليعاقبه أشد عقوبة، أو يكرمه أتم كرامة، ويبيت ساهياً غافلاً! ولا يتذكر موقفه بين يدي الملك، ولا يستعد له، ولا يأخذ له أهبته؟!.
قيل: هذا (لعمر الله) سؤال صحيح وارد على أكثر الخلق؛ فاجتماع هذين الأمرين من أعجب الأشياء، وهذا التخلف له عدة أسباب:
أحدهما: ضعف العلم ونقصان اليقين، ومن ظن أن العلم لا يتفاوت، فقوله من أفسد الأقوال وأبطلها.
وقد سأل إبراهيم الخليل ربه أن يريه إحياء الموتى عياناً بعد علمه بقدرة الرب على ذلك، ليزداد طمأنينة، ويصير المعلوم غيباً شهادة.
وقد روى أحمد في مسنده عن النبي أنه قال: (ليس الخبر كالمعاينة) (1).
فإذا اجتمع إلى ضعف العلم عدم استحضاره أو غيبته عن القلب في كثير من أوقاته أو أكثرها لاشتغاله بما يضاده، وانضم إلى ذلك تغاضي الطبع، وغلبات الهوى، واستيلاء الشهوة، وتسويل النفس، وغرور الشيطان، واستبطاء الوعد، وطول الأمل، ورقدة الغفلة، وحب العاجلة، ورخص التأويل، وإلف العوائد، فهناك لا يمسك الإيمان إلا الذي يمسك السموات والأرض أن تزولا، وبهذا السبب يتفاوت الناس في الإيمان والأعمال، حتى ينتهي إلى أدنى مثقال ذرة في القلب.(1/327)
وجماع هذه الأسباب يرجع إلى ضعف البصيرة والصبر، ولهذا مدح الله (سبحانه) أهل الصبر واليقين، وجعلهم أئمة الدين، فقال (تعالى): ((وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ)) [السجدة: 24])(2).
ذكر الثمرات المرجوة:
وبعد هذه المقدمة التي لا بد منها حول ثمرات اليقين بالنبأ العظيم نذكر ما تيسر من هذه الثمرات، والله ولي التوفيق:
1- الإخلاص لله (عز وجل) والمتابعة للرسول :
إن الموقن بلقاء الله (عز وجل) يوم الفزع الأكبر، لا تلقاه إلا حريصاً على أعماله، خائفاً من كل ما يحبطها من أنواع الشرك الأكبر أو الشرك الأصغر، حيث إن الشرك الأكبر يحبط جميع الأعمال، فتصير هباءً منثوراً، والشرك الأصغر يحبط العمل الذي حصل فيه هذا النوع من الشرك كيسير الرياء، والعجب، والمن، وطلب الجاه والشرف في الدنيا، فكلما كان العبد موقناً بلقاء ربه كان منه الحرص الشديد على ألا تضيع منه أعماله الصالحة في موقف القيامة، يوم أن يكون في أشد الأوقات حاجة إليها؛ ولذلك فهو يجاهد نفسه بحماية أعماله في الدنيا بالإخلاص فيها لله (تعالى) لعل الله (عز وجل) أن ينفعه بها، كما أن اليقين بالرجوع إلى الله (عز وجل) يجعل العبد في أعماله كلها متبعاً للرسول -صلى الله عليه وسلم- غير مبتدع ولامبدل؛ لأن الله (عز وجل) لا يقبل من العمل إلا ما كان خالصاً صواباً، قال (تعالى):- ((قُلْ إنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَى إلَيَّ أَنَّمَا إلَهُكُمْ إلَهٌ وَاحِدٌ فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً)) [الكهف: 110].
2- الحذر من الدنيا والزهد فيها والصبر على شدائدها وطمأنينة القلب وسلامته:(1/328)
إذا أكثر العبد ذكر الآخرة، وكانت منه دائماً على بال، فإن الزهد في الدنيا والحذر منها ومن فتنتها سيحلان في القلب، وحينئذ لا يكترث بزهرتها، ولا يحزن على فواتها، ولا يمدن عينيه إلى ما متع الله به بعض عباده من نعم ليفتنهم فيها، وهذه الثمرة يتولد عنها بدورها ثمار أخرى مباركة طيبة منها: القناعة، وسلامة القلب من الحرص والحسد والغل والشحناء؛ لأن الذي يعيش بتفكيره في الآخرة وأنبائها العظيمة لا تهمه الدنيا الضيقة المحدودة، مع ملاحظة أن إيمان المسلم باليوم الآخر وزهده في الدنيا لا يعني انقطاعه عنها وعدم ابتغاء الرزق في أكنافها؛ يقول (تعالى):- ((وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآخِرَةَ)) [القصص: 77].(1/329)
كما يتولد أيضا من هذا الشعور، الراحة النفسية والسعادة القلبية وقوة الاحتمال والصبر على الشدائد والابتلاءات، ذلك للرجاء فيما عند الله (عز وجل) من الأجر والثواب، وأنه مهما جاء من شدائد الدنيا فهي منقطعة ولها أجل، فهو ينتظر الفرج ويرجو الثواب الذي لا ينقطع يوم الرجوع إلى الله (عز وجل)، قال (تعالى): ((إن تَكُونُوا تَاًلَمُونَ فَإنَّهُمْ يَاًلَمُونَ كََمَا تَاًلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لا يَرْجُونَ)) [النساء: 104] وما إن يفقد القلب هذه المعاني حتى يخيم عليه الهم والتعاسة، ومن هنا ينشأ القلق والانزعاج والضيق والحزن، أما ذاك الذي عرف الدنيا على حقيقتها، وامتلأ قلبه بهمّ الآخرة وأنبائها، فإن نفسه لا تذهب على الدنيا حسرات، ولا تنقطع نفسه لهثاً في طلبها، ولا يأكل قلبه الغل والحسد والتنافس فيها، ولا يقل صبره ولا يجزع قلبه عند المحن والشدائد، ومهما حرم في هذه الدنيا الفانية فهو يعلم أن لله (عز وجل) في ذلك الحكمة البالغة، وهو يرجو الأجر يوم القيامة، قال (تعالى): ((وَلَوْلا أَن يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَّجَعَلْنَا لِمَن يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِّن فِضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ (33) وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْوَاباً وَسُرُراً عَلَيْهَا يَتَّكِئُونَ (34) وَزُخْرُفا وَإن كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتاعُ الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالآخِرَةُ عِندَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ)) [الزخرف: 33- 35].
3- التزود بالأعمال الصالحة وأنواع القربات واجتناب المعاصي والمبادرة بالتوبة والاستغفار:
يقول الإمام ابن القيم (رحمه الله تعالى): (ومما ينبغي أن من رجا شيئاً استلزم رجاؤه ثلاثة أمور:
أحدهما: محبة ما يرجوه.
الثاني: خوفه من فواته.
الثالث: سعيه في تحصيله بحسب الإمكان.(1/330)
وأما رجاءٌ لا يقارنه شيء من ذلك فهو من باب الأماني، والرجاء شيء والأماني شيء آخر، فكل راجٍ خائف، والسائرعلى الطريق إذا خاف أسرع السير مخافة الفوات.
وفي جامع الترمذي من حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله (من خاف أدلج، ومن أدلج بلغ المنزل، ألا إن سلعة الله غالية، ألا إن سلعة الله الجنة)(3) وهو (سبحانه) كما جعل الرجاء لأهل الأعمال الصالحة، فكذلك جعل الخوف لأهل الأعمال الصالحة، فعلم أن الرجاء والخوف النافع ما اقترن به العمل، قال (تعالى): ((إنَّ الَذِينَ هُم مِّنْ خَشْيَةِ رَبِّهِم مُّشْفِقُونَ (57) وَالَّذِينَ هُم بِآيَاتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ (58) وَالَّذِينَ هُم بِرَبِّهِمْ لا يُشْرِكُونَ (59) وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ (60) أُوْلَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ)) [المؤمنون: 57- 61].
وقد روى الترمذي في جامعه عن عائشة (رضي الله عنها) قالت: سألت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن هذه الآية، فقلت: أهم الذين يشربون الخمر ويزنون ويسرقون؟ قال: (لا، يا ابنة الصديق، ولكنهم الذين يصومون ويصلون ويتصدقون ويخافون أن لايتقبل منهم، أولئك يسارعون في الخيرات)(4) وقد روي من حديث أبي هريرة أيضاً.
والله (سبحانه) وصف أهل السعادة بالإحسان مع الخوف، ووصف الأشقياء بالإساءة مع الأمن)(5).
وقال (تعالى): ((إنَّ الَذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللَّهِ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ)) [البقرة: 218].
يقول ابن القيم (رحمه الله تعالى): (فتأمل كيف جعل رجاءهم إتيانهم بهذه الطاعات؟ وقال المغرورون: إن المفرطين المضيعين لحقوق الله المعطلين لأوامره الباغين المتجرئين على محارمه، أولئك يرجون رحمة الله)(6). للحديث صلة.
الهوامش :
((1/331)
1) أحمد، جـ1ص215، 271. وصحح إسناده أحمد شاكر (1842).
(2) الجواب الكافي، ص 54.
(3) رواه الترمذي، كتاب صفة القيامة، باب 18 الحديث رقم 2450. وانظر صحيح سنن الترمذي (1993).
(4) رواه أحمد، جـ6ص159، والترمذي (كتاب التفسير) باب تفسير سورة المؤمنون، ح 3175.
(5) الجواب الكافي، ص 57، 58.
(6) الجواب الكافي، ص 56.
--------------------------------------------------------------------------------
(2)
تطرق الكاتب في الحلقة الأولى إلى بعض ثمار الإيمان باليوم الآخر، وهي: الإخلاص لله (تعالى) والمتابعة للرسول، والحذر من الدنيا، والزهد فيها، والصبر على شدائدها، والتزود بالأعمال الصالحة وأنواع القربات، واجتناب المعاصي، ويواصل الكاتب في هذه الحلقة ما تبقى من هذا الموضوع.
- البيان -
4- الدعوة إلى الله (عز وجل ) والجهاد في سبيله:
وهذا يدخل في الثمرة السابقة، حيث إنه من أفضل القربات والأعمال الصالحة، وقد أفردته هنا باعتباره ثمرة مستقلة من ثمار اليقين باليوم الآخر، وذلك لما يلي:
(1) فضل الجهاد والدعوة إلى الله (سبحانه) وأثرهما في إنقاذ الناس بإذن ربهم من الظلمات إلى النور، ولذلك كان من أحب الأعمال إلى الله (عز وجل)، قال (تعالى): ((وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِّمَّن دَعَا إلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحاً وَقَالَ إنَّنِي مِنَ المُسْلِمِينَ)) [ فصلت: 33]
(ب) وصف الرسول للجهاد بأنه ذروة سنام الإسلام.(1/332)
في الجهاد أيضاً: حقيقة الزهد في الحياة الدنيا، وفيه أيضاً: حقيقة الإخلاص؛ فإن الكلام فيمن جاهد في سبيل الله، لا في سبيل الرياسة، ولا في سبيل المال، ولا في سبيل الحمية.. وهذا لا يكون إلا لمن قاتل ليكون الدين كله لله، ولتكون كلمة الله هي العليا، وأعظم مراتب الإخلاص: تسليم النفس والمال للمعبود، كما قال (تعالى): ((إنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ المُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقاً فِي التَّوْرَاةِ وَالإنجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَذِي بَايَعْتُم بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الفَوْزُ العَظِيمُ)) [التوبة: 111].
(ج) في الحديث عن الجهاد في سبيل الله (عز وجل) ومحاربة الفساد وتعبيد الناس لرب العالمين أكبر رد على الذين يرون أن التعلق باليوم الآخر والاستعداد له يعني اعتزال الناس، وترك الدنيا لأهلها، والاشتغال بالنفس وعيوبها، وترك الحياة يأسن فيها أهلها.(1/333)
نعم هذا ما يراه بعض المتصوفة وأصحاب الفهم المنحرف لحقيقة الدنيا والآخرة.. ([لقد كان ] الناس في فترات من الزمان يعيشون سلبيين، ويَدَعون الفساد والشر والظلم والتخلف والجهالة تغمر حياتهم الدنيا مع ادعائهم الإسلام هم يصنعون ذلك كله أو بعضه لأن تصورهم للإسلام قد فسد وانحرف؛ ولأن يقينهم في الآخرة قد تزعزع وضعف! لا لأنهم يدينون بحقيقة هذا الدين... فما يستيقن أحد من لقاء الله في الآخرة؛ وهو يعي حقيقة هذا الدين، ثم يعيش في هذه الحياة سلبيّاً أو متخلفاً أو راضياً بالشر والفساد. إنما يزاول المسلم هذه الحياة الدنيا وهو يشعر أنه أكبر منها وأعلى، ويستمتع بطيباتها أو يزهد فيها وهو يعلم أنها حلال في الدنيا خالصة له يوم القيامة...، ويكافح الشر والفساد والظلم محتملاً الأذى والتضحية حتى الشهادة، وهو إنما يقدم لنفسه في الآخرة... إنه يعلم من دينه أن الدنيا مزرعة الآخرة، وأن ليس هنالك طريق للآخرة لا يمر بالدنيا، وأن الدنيا صغيرة زهيدة، ولكنها من نعمة الله التي يجتاز منها إلى نعمة الله الكبرى)(1).
5- اجتناب الظلم بشتى صوره:(1/334)
نظراً لكثرة الظلم والشحناء بين المسلمين في عصرنا الحاضر، وأنه لا شيء يمنع النفس من ظلم غيرها في نفس أو مال أو عرض: كاليقين بالرجوع إلى الله (عز وجل)، وإعطاء كل ذي حق حقه، وإنصاف المظلوم ممن ظلمه، فإذا تذكر العبد هذا الموقف العصيب الرهيب، وأنه لا يضيع عند الله شيء، كما قال (تعالى): ((وَنَضَعُ المَوَازِينَ القِسْطَ لِيَوْمِ القِيَامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإن كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ)) [الأنبياء: 47] وقوله (تعالى) ((وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْماً)) [طه: 111]، إذا تذكر هذه المواقف واتعظ بهذه الآيات، وأيقن بتحققها فلا شك أن ذلك سيمنعه من التهاون في حقوق الخلق، والحذر من ظلمهم في دم أو مال أو عرض، خاصة وأن حقوق العباد مبنية على المشاحة والحرص على استيفاء الحق من الخصم، وبالذات في يوم الهول الأعظم الذي يتمنى العبد فيه أن يكون له مظلمة عند أمه وأبيه وصاحبته وبنيه، فضلاً عن غيرهم من الأباعد، ومعلوم أن التقاضي هنالك ليس بالدينار والدرهم ولكن بالحسنات والسيئات.
فياليتنا نتذكر دائماً يوم الفصل العظيم، يوم يفصل الحكم العدل بين الناس، ويقضي بين الخصماء بحكمه وهو أحكم الحاكمين، ليتنا لا نغفل عن هذا المشهد العظيم، حتى لا يجور بعضنا على بعض، ولا يأكل بعضنا لحوم بعض، ولا نتكلم إلا بعلم وعدل، إنه لا شيء يمنع من ذلك كله إلا الخوف من الله (عز وجل) وخوف الوقوف بين يديه، واليقين الحق بأن ذلك كائن في يوم لا ريب فيه؛ قال (تعالى): ((إنَّكَ مَيِّتٌ وَإنَّهُم مَّيِّتُونَ (30) ثُمَّ إنَّكُمْ يَوْمَ القِيَامَةِ عِندَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ)) [الزمر: 30، 31].
6- حصول الأمن والاستقرار والألفة بين الناس بالحكم بشريعة الله:(1/335)
إن مجتمعاً يسود بين أهله الإيمان بالله (عز وجل) واليقين بالآخرة والجزاء والحساب، لا شك أنه مجتمع تسوده المحبة ويعمه السلام؛ لأن تعظيم الله (سبحانه) سيجعل هذه النفوس لا ترضى بغير شرع الله (عز وجل) بديلاً، ولا تقبل الاستسلام إلا لحكمه، وهذا بدوره سيضفي الأمن والأمان على مثل هذه المجتمعات، لأن أهلها يخافون الله ويخافون يوم الفصل والجزاء، فلا تحاكم إلا لشرع الله، ولا تعامل إلا بأخلاق الإسلام الفاضلة: فلا خيانة ولا غش ولا ظلم، ولا يعني هذا أنه لا يوجد في المجتمعات المسلمة من يظلم أو يخون أو يغش، فهذا لم يسلم منه عصر النبوة ولا الخلافة الراشدة، لكن هذه المعاصي تبقى فردية، يؤدّب أفرادها بحكم الله (عز وجل) وحدوده، إذا لم يردعهم وازع الدين والخوف من الله، والحالات الفردية تلك ليست عامة، أما عندما يقل الوازع الديني والخوف من الآخرة، ويكون التحاكم إلى أهواء البشر وحكمهم فهذا هو البلاء العظيم والفساد الكبير: حيث تداس القيم والحرمات، ويأكل القوي الضعيف، وبالتالي: لا يأمن الناس على أديانهم ولا أنفسهم ولا أموالهم ولا أعراضهم، وكفى بذلك سبباً في عدم الأمن والاستقرار، وانتشار الخوف، واختلال حياة الناس.
7- تقصير الأمل وحفظ الوقت:
إن من أخطر الأبواب التي يدخل منها الشيطان على العبد: طول الأمل، والأماني الخادعة التي تجعل صاحبها في غفلة شديدة عن الآخرة، واغترار بزينة الحياة الدنيا، وتضييع ساعات العمر النفيسة في اللهث وراءها حتى يأتي الأجل الذي يقطع هذه الآمال، وتذهب النفس حسرات على ما فرطت في عمرها، وأضاعت من أوقاتها. ولكن اليقين بالرجوع إلى الله (عز وجل) والتذكر الدائم لقصر الحياة وأبدية الآخرة وبقائها، هو العلاج الناجع لطول الأمل وضياع الأوقات.
يقول ابن قدامة (رحمة الله): (واعلم أن السبب في طول الأمل شيئان:
أحدهما: حب الدنيا، والثاني: الجهل.(1/336)
أما حب الدنيا: فإن الإنسان إذا أنس بها وبشهواتها ولذاتها وعلائقها، ثقل على قلبه مفارقتها، فامتنع من الفكر في الموت، الذي هو سبب مفارقتها، وكل من كره شيئاً دفعه عن نفسه...
السبب الثاني: الجهل، وهو أن الإنسان يعول على شبابه، ويستبعد قرب الموت مع الشباب، أو ليس يتفكر المسكين في أن مشايخ بلده لو عدوا كانوا أقل من العشرة؟ وإنما قلوا لأن الموت في الشباب أكثر، وإلى أن يموت شيخ قد يموت ألف صبي وشاب، وقد يغتر بصحته، ولا يدري أن الموت يأتي فجأة، وإن استبعد ذلك)(2).
8- سلامة التفكير وانضباط الموازين وسمو الأخلاق:
لا يستوي من يؤمن بالله واليوم الآخر ويوقن بيوم الحساب والجزاء ولا يغفل عنه، ومن لا يؤمن بالآخرة، أو يؤمن بها ولكنه في لهو وغفلة عنها، لا يستويان أبداً في الدنيا ولا في الآخرة، أما في الآخرة فيوضحه قوله (تعالى): ((لا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الجَنَّةِ أَصْحَابُ الجَنَّةِ هُمُ الفَائِزُونَ))[الحشر: 20].
وأما في الحياة الدنيا فلا يلتقي أبداً من يعلم أن له غاية عظيمة في هذا الحياة، وأن مرده إلى الله (عز وجل) في يوم الجزاء والحساب والنشور، مع من لا يعلم من هذه الحياة الدنيا إلا ظاهرها، وأنها كل شيء عنده، وهو عن الآخرة من الغافلين.
إنهما لا يلتقيان في التفكير، ولا في الميزان الذي توزن به الأشياء والأحداث، ولا في الأحكام، وبالتالي: فبقدر ما تسمو أخلاق الأول وتعلو همته لسمو منهجه وميزانه بقدر ما تسفل وترذل أخلاق الآخر لسفالة تصوره وفساد ميزانه. قال (تعالى) في وصف أهل الدنيا: ((يَعْلَمُونَ ظَاهِراً مِّنَ الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ)) [الروم: 7].
9- الفوز برضا الله (سبحانه) وجنته، والنجاة من سخطه والنار:(1/337)
وهذه ثمرة الثمار، وغاية الغايات، ومسك الختام في مبحث الثمار، قال (تعالى): ((كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ المَوْتِ وَإنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ القِيَامَةِ فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الحَيَاةُ الدُّنْيَا إلاَّ مَتَاعُ الغُرُورِ)) [آل عمران: 185].
يقول الشيخ السعدي (رحمه الله تعالى) عند قوله (تعالى): ((فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ)): (أي: حصل له الفوز العظيم بالنجاة من العذاب الأليم، والوصول إلى جنات النعيم، التي فيها: ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر؛ ومفهوم الآية: أن من لم يزحزح عن النار، ويدخل الجنة، فإنه لم يفز، بل قد شقي الشقاء الأبدي، وابتلي بالعذاب السرمدي، وفي هذه الآية إشارة لطيفة إلى نعيم البرزخ وعذابه، وأن العاملين يجزون فيه بعض الجزاء مما عملوه، ويقدم لهم أنموذج مما أسلفوه)(3).
اللهم إنا نسألك بأن لك الحمد، أنت المنان، بديع السموات والأرض، يا ذا الجلال والإكرام، نسألك الجنة وما قرب إليها من قول وعمل، ونعوذ بك من النار وما قرب إليها من قول وعمل، ونسألك أن لا تجعل الدنيا أكبر همنا، ولا مبلغ علمنا، يا حي يا قيوم، يا أرحم الراحمين.
الهوامش :
(1) اليوم الآخر في ظلال القرآن، ص6.
(2) مختصر منهاج القاصدين، ص367 ـ 368.
(3) تفسير السعدي، جـ1 ص 467 ـ 468.
--------------------------------------------------------------------------------
مجلة البيان، العدد ( 98)، شوال 1416،مارس 1996 .
مجلة البيان، العدد ( 99)، ذو القعدة 1416،أبريل 1996 .
* * *
http://www.albayan-magazine.com/zwaya/trbwi/20.htm
نظرات تربوية في خلق الصدق
عبد العزيز الجليل
(1)(1/338)
منزلة الصدق منزلة عظيمة ليس في دين الإسلام فقط بل في جميع الأديان، لا لأنه خُلق من الأخلاق الحميدة فحسب، بل لأنه أصل الإيمان المقبول عند الله عز وجل، وهو أساس النجاة من عذاب الله عز وجل ، وبه يتميز أهل الإيمان الحق من المنافقين الكاذبين، يقول الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى في منزلة الصدق: »وهو منزل القوم الأعظم الذي منه تنشأ جميع منازل السالكين،والطريق الأقوم،الذي من لم يسر عليه فهو من المنقطعين الهالكين«... إلى أن يقول: »فهو روح الأعمال، ومحك الأحوال، والحامل على اقتحام الأهوال، والباب الذي دخل منه الواصلون إلى حضرة ذي الجلال،وهو أساس بناء الدين، وعمود فسطاط اليقين ، ودرجته تالية لدرجة (النبوة) التي هي أرفع درجات العالمين«.
ولقد تضافرت الأدلة من الكتاب والسنة وآثار السلف في فضل الصدق وخطورة أمره وعلو شأنه.
ولقد اخترت هذه الوقفات التربوية لخلق الصدق في ضوء القرآن الكريم لمعالجة هذا الموضوع الذي يهم كل مسلم بصفة عامة ، ويهم الدعاة إلى الله عز وجل بصفة خاصة ، لاسيما في واقعنا المعاصر ، وتتجلى أهميته في الأمور التالية:
الأمر الأول:
لأنه أساس الإيمان ، وركنه الركين ، وأساس قبول الطاعات والقربات عند الله عز وجل، وعليه يترتب الأجر والثواب يوم القيامة،قال تعالى:((ليجزي الله الصادقين بصدقهم))(1) وقال تعالى:((هذا يوم ينفع الصادقين صدقهم لهم جناتِ تجري من تحتها الأنهار...))(2) ولأنه أساس الطاعات وجماعها ، فقد أصبح الصفة الفارقة بين المؤمن والمنافق.
يقول الإمام ابن تيمية رحمه الله تعالى: »الصدق أساس الحسنات وجماعها، والكذب أساس السيئات ونظامها ، ويظهر ذلك من وجوه منها:(1/339)
*أن الصدق هو المميز بين المؤمن والمنافق ، ففي الصحيحين عن أنس عن النبي: »آية المنافق ثلاث: إذا حدّث كذب ، وإذا وعد أخلف، وإذا اؤتمن خان«(3) ، وفي حديث آخر: »على كل خلق يطبع المؤمن ليس الخيانة«(4)وقد وصف الله المنافقين في القرآن بالكذب في مواضع عدة ومعلوم أن المؤمنين هم أهل الجنة ، وأن المنافقين هم أهل النار في الدرك الأسفل منها.
*أن الصدق هو أصل البر، والكذب هو أصل الفجور، كما جاء في الصحيحين عن النبي: »عليكم بالصدق فإن الصدق يهدي إلى البر...«(5).
*أن الصادق تنزل عليه الملائكة،والكاذب تنزل عليه الشياطين كما قال تعالى: ((هل أنبئكم على من تنزل الشياطين تنزل على كل أفَّاك أثيم يلقون السمع وأكثرهم كاذبون))(6)(7).
الأمر الثاني:
أن الصدق في كل الأمور يوصل صاحبه إلى مرتبة»الصديقية« ، التي هي المرتبة التالية لمرتبة النبوة، وعندما أقول في كل الأمور أريد من ذلك عدم حصر الصدق في اللسان فقط، وإنما الصدق في النيات والأقوال والأعمال والأصل تحري الصدق في ذلك كله.
إن مجاهدة النفس على تحري الصدق في جميع الأمور يوصلها إلى هذه المرتبة العظيمة مرتبة»الصديقية« كما جاء في الحديث السابق الذكر: »... ولايزال الرجل يصدق ويتحرى الصدق حتى يُكتب عند الله صدّيقا«(8).
وهنيئاً لمن وصل إلى هذه المرتبة ، فيا لها من رتبة ، وما أشرف قدرها وأعظم فضلها ، يقول الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى في وصف أهل هذه الطبقة: »الطبقة الرابعة ورثة الرسل وخلفاؤهم في أممهم ، وهم القائمون بما بعثوا به علماً وعملاً ودعوة للخلق إلى الله على طريقهم ومنهاجهم ، وهذه أفضل مراتب الخلق بعد الرسالة والنبوة ، وهي مرتبة الصديقية ، ولهذا قرنهم الله في كتابه بالأنبياء فقال تعالى: ((ومن يطع الله والرسول فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقاْ))(9).
الأمر الثالث:(1/340)
ثمرات الصدق العظيمة التي تحصل منه في الدنيا والآخرة من البركة والقبول والإصلاح في الدنيا ، والأجر العظيم والثواب الجزيل في الآخرة وسيأتي تفصيل كل ذلك إن شاء الله تعالى في (ثمرات الصدق).
الأمر الرابع:
خطورة الكذب والنفاق وأثرهما على الفرد والمجتمع والأمة وبخاصة في مجتمعاتنا اليوم التي كثر فيها الكذب والدجل والمداهنة ، وقل الصدق فيها والصادقون ، ولا أعلم والعلم عند الله عصراً ظهر فيه الكذب والنفاق بوسائله الماكرة المتطورة كما ظهر في عصرنا اليوم، حتى أصبح الكذب له مدارسه وأساليبه التي تعلم الناس كيف يكذبون ، وكيف ينافقون وكيف يدلسون... الخ ، ولا أبالغ إذا قلت إن وسائل الإعلام اليوم المقروءة منها والمسموعة والمنظورة قد قامت في أغلب برامجها على الكذب ، وقلب الحقائق وتسمية الأمور بغير أسمائها، وقد تجاوز الأمر حده حتى أصبح المعروف منكراً والمنكر معروفاً، وظهر الحق في صورة الباطل ، والباطل في صورة الحق ، وأصبحنا نسمع من يقول عن المسلم الصادق الذي يتحرى الصدق بأنه ساذج وبسيط وسطحي... الخ ، في الوقت الذي يوصف الكاذب المنافق بأنه السياسي الحكيم المحنك ، إن مجتمعاً كهذا حري بالسقوط والدمار، ولا نجاة ولا فلاح إلا بالصدق، والأمة الصادقة مع ربها سبحانه ومع رسولها-صلى الله عليه وسلم-لا تهزم أبداً.
الأمر الخامس:(1/341)
ظهور بعض علامات ضعف الصدق في صفوفنا معشر الدعاة إلى الله عز وجل، وذلك بوجود بعض التصرفات والممارسات التي تتنافى مع الصدق في الدعوة إلى الله عز وجل والجهاد في سبيله، فقلّ الصادقون الربانيون الذين يصدقون في نياتهم وأقوالهم وأعمالهم، ويضحون في سبيل الله عز وجل بكل ما يملكون لنيل مرضاته وحبه، نعم إنه بمحاسبة عجلى لنفوسنا يتبين لنا هذا الضعف، وأننا في أمس الحاجة إلى تقوية هذا الخُلق، ونبذ كل ما يتنافى معه من صور الكذب والنفاق ووهن العزيمة، وضعف الهمة، وإلا فما معنى وجود هذه الجهود الضخمة المبذولة اليوم في طرق الدعوة إلى الله عز وجل ، ثم لا نرى لها إلا أثراً ضعيفاً لا يكافئ تلك الجهود المبذولة؟!
الأمر السادس:
إن الصراع الذي نشاهده اليوم بين الحق والباطل ، بين دعاة الشر والكفر ودعاة الخير والإصلاح ، ليحتم على أهل الخير حرصهم الشديد على الصدق مع الله سبحانه واليقين بنصره وثوابه ، حتى لا تزل الأقدام ، وتضعف العزائم إزاء هذا البلاء العظيم والمعركة الشرسة بين الحق والباطل ، وهذه المواطن هي التي يتميز فيها الصادقون عمن سواهم ، قال تعالى: ((الم * أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون * ولقد فتنا الذين من قبلهم فليعلمن الله الذين صدقوا وليعلمن الكاذبين))(10).
وكذلك أيام الفتن لا يثبت فيها إلا الصادقون العالمون العاملون ، وهم الذين يشرفهم الله عز وجل بنصره ، ويمكن لهم في الأرض ، ويجعلهم أئمة ويجعلهم الوارثين.
حقيقة الصدق:(1/342)
إن حقيقة الصدق أوسع من كونها الصدق في الحديث فقط ، وإنما حقيقة الصدق شاملة لصدق النية والعزيمة ، وصدق اللسان ، وصدق الأعمال ، يقول الإمام ابن تيمية رحمه الله تعالى : »ومما ينبغي أن يعرف أن الصدق والتصديق يكون في الأقوال وفي الأعمال كقول النبي-صلى الله عليه وسلم-في الحديث الصحيح: »كتب على ابن آدم حظه من الزنا، فهو مدرك ذلك لا محالة، فالعينان تزنيان وزناهما النظر ، والأذنان تزنيان وزناهما السمع، واليدان تزنيان وزناهما البطش، والرجلان تزنيان وزناهما المشي، والقلب يتمنى ويشتهي، والفرج يصدق ذلك أو يكذبه«(11).
ويفصّل الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى القول في هذا المعنى فيقول: »والإيمان أساسه الصدق ، والنفاق أساسه الكذب ، فلا يجتمع كذب وإيمان إلا وأحدهما محارب للآخر«.
وأخبر سبحانه: أنه في يوم القيامة لا ينفع العبد وينجيه من عذابه إلا صدقه قال تعالى: ((هذا يوم ينفع الصادقين صدقهم لهم جناتِ تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبداْ رضي الله عنهم ورضوا عنه ذلك الفوزٍ العظيم))(12) وقال تعالى: ((والذي جاء بالصدق وصدق به أولئك هم المتقون))(13) ، فالذي جاء بالصدق هو من شأنه الصدق في قوله وعمله وحاله ، والصدق إنما يكون في هذه الثلاثة:(1/343)
فالصدق في الأقوال: استواء اللسان على الأقوال كاستواء السنبلة على ساقها ، والصدق في الأعمال: استواء الأفعال على الأمر والمتابعة كاستواء الرأس على الجسد ، والصدق في الأحوال: استواء أعمال القلب والجوارح على الأخلاق ، واستفراغ الوسع وبذل الطاقة ، فبذلك يكون العبد من الذين جاءوا بالصدق ، وبحسب كمال هذه الأمور فيه ، وقيامها به تكون صديقيته ولذلك كان لأبي بكر الصديق رضي الله عنه وأرضاه ذروة سنام الصديقية فسمي (الصدّيق) على الإطلاق، و(الصدّيق) أبلغ من الصدوق، والصدوق أبلغ من الصادق، فأعلى مراتب الصدق مرتبة الصديقية وهي كمال الانقياد للرسول-صلى الله عليه وسلم-مع كمال الإخلاص للمُرْسل«(14).
الفرق بين الصدق والإخلاص:
الصدق والإخلاص عملان قلبيان من أعظم أعمال القلوب ، وأهم أصول الإيمان ، فأما الصدق فهو الفرقان بين الإيمان والنفاق ، وأما الإخلاص فهو الفرقان بين التوحيد والشرك في قول القلب واعتقاده أو في إرادته ونيته والأعمال التي رأسها وأعظمها»شهادة أن لا إله إلا الله« لا تقبل إلا بتحقيق الصدق والإخلاص.
ومن هنا كان الصدق والإخلاص شرطين من شروطها ، ولذلك كذّب الله المنافقين في دعوى الإيمان، وقول الشهادة لانتفاء الصدق، فقال:((إذا جاءك المنافقون قالوا نشهد إنك لرسول الله والله يعلم إنك لرسوله والله يشهد إن المنافقين لكاذبون))(15) ، وقال: ((فليعلمن الله الذين صدقوا وليعلمن الكاذبين))(16).
كما أبطل سبحانه زعم أهل الكتاب والمشركين أن دينهم هو الحق بانتفاء الإخلاص فقال: ((لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين منفكين حتى تأتيهم البينة))(17)، إلى أن يقول:((وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين حنفاء ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة وذلك دين القيمة))(18).(1/344)
والصدق والإخلاص مع تقاربهما ترادفهما أحياناً يميز بينهما بتعريف ضد كل منهما: فالصدق ضده انتفاء إرادة الله بالعمل أصلاً،كمن آمن وصلى كاذباً ولم يرد الإيمان والصلاة، وإنما فعل ذلك لسبب آخر، كما فعله المنافقون حفظاً لأنفسهم وأموالهم من السيف، وجبناً عن تحمل أعباء المواجهة الصريحة للإيمان.
والإخلاص ضده انتفاء إفراد الله بالإرادة والتوجه كمن آمن أو صلى صارفاً ذلك لأحد مع الله، وهذا هو الشرك الذي وقع فيه أكثر العالمين،وعلى قدر ما يحقق العبد الإخلاص لربه يكون ترقيه في»المخلصين« الذين صرف الله عنهم غواية الشياطين وأثنى عليهم في كل أمة»(19).
وللحديث بقية..
الهوامش:
(1)الأحزاب ، آية 24.
(2)المائدة ، آية 119.
(3)البخاري، كتاب الإيمان،ج24 الطبعة الأولى، ص14، مسلم كتاب الإيمان، الطبعة الأولى، طبعة دار الكتب العلمية.
(4)رواه الإمام الحاكم وضعفه الألباني.
(5)البخاري، كتاب الأدب، ج3 ص59، طبعة إستانبول؛ مسلم كتاب البر، ج2 ص438، طبعة الكتب العلمية.
(6)الشعراء:221-222
(7)مجموع الفتاوى ، 20/74.
(8)سبق تخريجه في رقم (5).
(9)النساء ، آية 69.
(10)سورة العنكبوت:1.
(11)البخاري ، 10/22 كتاب الاستئذان.
(12)سبق تخريجها في رقم (2).
(13)مدارج السالكين ، 2/269.
(14)الزمر:33.
(15)المنافقون:1.
(16)العنكبوت:3.
(17)البينة:1.
(18)البينة:5.
(19)ظاهرة الإرجاء في الفكر المعاصر ص 438.
--------------------------------------------------------------------------------
(2)
في الحلقة الأولى، تطرق الكاتب إلى منزلة الصدق العظيمة، ومبررات تناول هذا الموضوع، وحقيقة الصدق والفرق بين الصدق والإخلاص، ونواصل مع الكاتب نظرات أخرى في الموضوع.
-البيان-
وعلى ضوء ما سبق يتضح للقارىء الكريم أن الصدق أنواع ومراتب تتجلى فيما يلي:
1- صدق النية:(1/345)
وذلك بأن تكون النية خالصة لله عز وجل وابتغاء مرضاته ، وأن لا يكون هناك باعث في الحركات والسكنات إلا مرضاة الله عز وجل ، فإن شاب النية شيء من حظوظها لم تكن صادقة ، وإن تكلم العبد بلسانه خلاف ما في قلبه فهذا أيضاً دليل على عدم الصدق في النية ، والأدلة في ذلك كثيرة منها قوله تعالى في وصف المنافقين: ((يقولون بألسنتهم ما ليس في قلوبهم))[الفتح:1] وقوله تعالى:((من كان يريد الحياة الدنيا وزينتها نوف إليهم أعمالهم فيها وهم فيها لا يبخسون))[ هود:15،16].
ومن الصدق في النية: الصدق في العزيمة على الفعل إذا تمكن منه، لأن النية قد تكون صادقة، لكن العزيمة على الفعل ضعيفة وصاحبها متردد،وقد تكون العزيمة صادقة،لكن إذا جد الجد، وعزم الأمر، وهاجت الشهوات خارت وضعفت، ولم يحصل الوفاء بالعزيمة، وقد لا تضعف في البداية لكن إذا باشرت الفعل وذاقت مرارته ضعفت وخارت، والموفق من وفقه الله تعالى وأمده بعونه ورحمته، ولو وكل العبد إلى نفسه ضاع وهلك، فيا حي يا قيوم برحمتك نستغيث، أصلح لنا شأننا كله، ولا تكلنا إلى أنفسنا طرفة عين أبداً.
2- الصدق في الأقوال:
وذلك لا يكون إلا في الأخبار ، أو ما يتضمن الإخبار ، والخبر إما أن يتعلق بالماضي فلا يخبر عن الأشياء على خلاف ما هي عليه ، أو بالمستقبل كالوفاء بالوعد والعهد(1).
وهذه المرتبة من الصدق هي التي يحصر كثير من الناس الصدق فيها ، ولا يتجاوزونها إلى غيرها ، ولا شك أنها مرتبة عظيمة وتكميلها من أعز الأمور وأشقها على النفس ، ولكنها يسيرة على من يسرها الله عليه ، وجاهد نفسه في تحقيقها.
صور من الصدق في الأقوال:
والصدق في الأقوال له صور عديدة منها:
أ- الصدق في نقل الأخبار:(1/346)
فلا ينقل المسلم إلا الأخبار الصادقة ، وهذا بدوره يتطلب من الناقل التثبت فيما يقال ، واجتناب الظنون والأوهام والحذر من التحدث بكل ما يُسْمَعُ ، فمن حفظ لسانه من الإخبار عن الأشياء على خلاف ما هي عليه ، فهو صادق في خبره وهذا يقتضي الابتعاد عن الظنون والإشاعات. قال -صلى الله عليه وسلم-: »إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث«(2) ، وقال: »كفى بالمرء إثماً أن يحدث بكل ما سمع« (3).
ب- الصدق في الوعد:
لأن إعطاء الوعد غالباً ما يكون بالقول ، فالوفاء بالوعد من الصدق في الأقوال ، وإخلافه يعد كذباً ، إلا إذا كانت النية عند إعطاء الوعد صادقة ثم حال بينه وبين تنفيذ الوعد أمر خارج عن إرادته ، فإن هذا لا يعد إخلافاً للوعد وبالتالي لا يعتبر كذباً ، والوعد قد يكون على مكان معين أو في زمن معين أو على أعطية أو زواج أو أي أمر آخر يعد به الرجل أخاه ، فإن الإخلاف في هذه الأمور وأمثالها بدون مبرر شرعي يعتبر كذباً لقوله تعالى: ((واذكر في الكتاب إسماعيل إنه كان صادق الوعد وكان رسولاْ نبياْ))[مريم:54].
ج -الوفاء بالعقود والعهود:
وهذا أيضاً من الصدق في الأقوال ، فإخلاف العهد والغدر فيه من أشد أنواع الكذب. قال تعالى: ((يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود))[المائدة:1] وقال تعالى: ((والموفون بعهدهم إذا عاهدوا))[البقرة:177]. ومن الوفاء بالعهد حفظ الأسرار وكتمانها ، ولعل قوله -صلى الله عليه وسلم- في التحذير من صفات المنافقين خير شاهد لما سبق ذكره ، يقول صلى الله عليه وسلم: »أربع من كُنّ فيه كان منافقاً خالصاً ، ومن كانت فيه خصلة منهن كان فيه خصلة من النفاق: إذا حدث كذب ، وإذا وعد أخلف ، وإذا عاهد غدر ، وإذا خاصم فجر«(4).
3- الصدق في الأعمال:(1/347)
وهو استواء الأفعال على الأمر والمتابعة ، وأن يجاهد العبد نفسه في أن تكون سريرته وعلانتيه واحدة ، وأن لا تدل أعماله الظاهرة على أمر في باطنه لا يتصف به حقيقة: كمن يتظاهر بالخشوع في الظاهر والقلب ليس كذلك أو يتظاهر بالحرقة على الدين والغيرة على المحارم وهو في الباطن ليس كذلك والصور كثيرة جداً فمنها صور الرياء المختلفة، والقول باللسان ما ليس في القلب ، وهذا لا يعني أن يترك المرء الأعمال الصالحة حتى يصلح باطنه، كلا ولكن يجاهد نفسه في أن يستحيل باطنه إلى تصديق ظاهره، يقول صاحب الإحياء: »إن مخالفة الظاهر للباطن إن كانت عن قصد سميت رياء ويفوت بها الإخلاص ، وإن كانت عن غير قصد فيفوت بها الصدق« ، وقال يزيد بن الحارث: »إذا استوت سريرة العبد وعلانيته فذلك النّصَفُ ، وإن كانت سريرته أفضل من علانيته فذلك الفضل ، وإن كانت علانيته أفضل من سريرته فذلك الجور« ، وقال معاوية بن مرة: »من يدلني على بكّاء في الليل بسّام في النهار؟« أ.هـ.
4- الصدق في مقامات الدين:
وهو أعلى الدرجات وأعزها ، الصدق في مقامات الدين كالصدق في الخوف والرجاء والتعظيم والزهد والرضا والتوكل والحب وسائر هذه الأمور فإن هذه الأمور مباديء ينطلق الاسم بظهورها ، ثم لها غايات وحقائق والصادق المحقق من نال حقيقتها ، وإذا غلب الشيء وتمت حقيقته سمي صاحبه صادقاً فيه ، كما يقال: فلان صدق القتال ، ويقال: هذا هو الخوف الصادق وهذه هي الشهوة الصادقة... وقال الله تعالى: ((إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله ثم لم يرتابوا)) إلى قوله ((أولئك هم الصادقون)) [الحجرات:15] وقال:((ولكن البر من آمن بالله واليوم الآخر)) إلى قوله:((أولئك الذين صدقوا))[البقرة:177].
من علامات الصدق:
إن للصدق علامات ومظاهر تنفي ضدها ، وإذا لم توجد أو كانت ضعيفة فإن ذلك دليل على ضعف الصدق ، وتسلط العوائق عليه ، ومن هذه العلامات ما يلي:
1- طمأنينة القلب واستقراره:(1/348)
إن الصدق في جميع الأحوال باطنها وظاهرها يورث الطمأنينة والسكينة في القلب ، وينفي عنه التردد والريبة والاضطراب التي لا توجد إلا في حالات الشك وضعف الصدق أو عدمه ، يقول صلى الله عليه وسلم: »دع ما يريبك إلى ما لا يريبك ، فإن الصدق طمأنينة والكذب ريبة« (5).
2- الزهد في الدنيا والتأهب للقاء الله عز وجل:
ومن علامة طمأنينة القلب النابعة من الصدق انشراحه وزهده في الدنيا والتأهب للآخرة ، قال تعالى: ((فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقاْ كأنما يصعد في السماء))[الأنعام:125] ، لما نزلت هذه الآية سئل الرسول -صلى الله عليه وسلم- عن شرح الصدر فقال: »نور يقذفه الله في قلب المؤمن فينشرح له وينفسح«،قيل فهل لذلك أمارة؟ قال: نعم، الإنابة إلى دار الخلود والتجافي عن دار الغرور،والاستعداد للموت قبل نزول الموت« (6).
فالصادق مع الله عز وجل لا تراه إلا متأهباً للقاء ربه ، مستعداً لذلك بالأعمال الصالحة ، والقيام بأوامر الله عز وجل والانتهاء عن نواهيه ، يريد بذلك وجه الله عز وجل متبعاً في ذلك رسوله صلى الله عليه وسلم .
3- سلامة القلب:(1/349)
إن من علامة الصدق سلامة القلب ، وخلوه من الغش والحقد والحسد للمسلمين ، فالعبد المؤمن الصادق في إيمانه لا يحمل في قلبه غلاً للمؤمنين ولا شراً، بل إن حب الخير والنصح للمسلمين هو طبعه وعادته ، وهذه الحالة القلبية تظهر علاماتها على الأعمال ، وذلك بتجنب الظلم والعدوان والاستطالة على الأعراض ، والحرص على العدل والقسط مع الناس ، والانطلاق بما في الوسع لقضاء حاجات المسلمين وإغاثة ملهوفهم ودفع الظلم عنهم والحزن على مصابهم والفرح لفرحهم. إن كل هذه الخلال تفرزها سلامة القلب الذي يترتب عليه أيضاً مظهر من مظاهر الصدق ألا وهو محبة الناس لمن هذه حاله ، فيصبح مألوفاً لهم لأنه صدق معهم ؛ فألفهم وألفوه ، وتواضع لهم فأحبوه ، وهذا مصداق قول الرسول -صلى الله عليه وسلم-: »المؤمن مؤلف ولا خير فيمن لا يألف ولا يؤلف«(7).
4- حفظ الوقت وتدارك العمر:
إن الصادق في إيمانه لا تجده إلا محافظاً على وقته شحيحاً به ، لا ينفقه إلا فيما يرجو نفعه في الآخرة ، ينظر إلى العمر كله كأنه ساعة من نهار وإلى الدنيا كأنها ظل شجرة نزل تحتها ، ثم قام وتركها ، فبادر بالأعمار الصالحة فراغه وصحته ، وشبابه ، وحياته ، وابتعد عن كل آفة تقطع عليه طريقه ، وتضيع عليه وقته ، وتبدد عليه عمره القصير بما لا ينفع.
5- الزهد في ثناء الناس ومدحهم بل وكراهة ذلك:
ويتبع ذلك الزهد فيما عند الناس ، والقناعة بما كتب الله عز وجل ، وهذه الصفة إذا وجدت فهي علامة على الصدق والإخلاص ، وهي تنبع أصلاً من صحة المعتقد ، وكمال التوحيد لله عز وجل ، وحول هذه الصفة والوصول إليها يقول الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى : »لا يجتمع الإخلاص في القلب ومحبة المدح والثناء والطمع فيما عند الناس إلا كما يجتمع الماء والنار«.
6- إخفاء الأعمال الصالحة وكراهة الظهور:(1/350)
إن من علامة صدق العبد فيما يعمله لله عز وجل حرصه على إخفاء عمله وكراهة اطلاع الناس عليه ، كما أن كراهة الشهرة والظهور علامة من علامات الصدق الذي يبعد صاحبه عن الرياء والسمعة والتصنع للخلق ، فكلما كان العبد صادقاً مع ربه عز وجل كلما كان حريصاً على إخفاء أعماله حيث لا يطلع عليها إلا الله عز وجل ، الذي يسمع ويرى ويجازي على الحسنة بعشر أمثالها ، وإن حياة سلفنا الصالح مليئة بهذه النماذج الوضيئة نذكر منها ما يلي:
* عن أبي حمزة الثمالي قال: كان علي بن الحسين يحمل جراب الخبز على ظهره بالليل فيتصدق به ويقول: »إن صدقة السر تطفئ غضب الرب عز وجل« (8).
* وقال عبد الله بن المبارك عن مبارك بن فضالة عن الحسن قال: إن كان الرجل لقد جمع القرآن وما يشعر به الناس ، وإن كان الرجل لقد فقه الفقه وما يشعر به الناس ، وإن كان الرجل ليصلي الصلاة الطويلة في بيته وعنده الزور وما يشعرون به.
7- الشعور بالتقصير والانشغال بإصلاح النفس ونقدها أكثر من الآخرين:
إن من أخطر ما على النفوس أن ينشغل العبد بغيره بالنقد والتقويم وينسى نفسه والتفتيش عن عيوبها ، وهذا للأسف كثير عندنا في زماننا هذا ، وإن من علامات صدق العبد مع ربه ومع نفسه أن ينشغل بنفسه وإصلاحها وتقويمها أكثر مما يعطيه لغيرها ، وإذا وجدت هذه الصفة نتج عنها المحاسبة للنفس والتربية والتزكية لها ، كما ينتج عن ذلك أيضاً احتقار النفس في ذات الله عز وجل والنظر إليها بالتقصير في جنب الله ، وبالتالي تنتفي صفات العجب والغرور والاعتداد بالنفس ، وعلى هذا فلا يجتمع الصدق والعجب في قلب مؤمن أبداً ، كما إن هذه الصفة تطهر القلب من الحقد على المسلمين ، وتصيّد أخطائهم وعثراتهم والتفكه بذلك في المجالس بحجة الدعوة وبيان الأخطاء والتحذير منها.
8- الاهتمام بأمر هذا الدين والجهاد في سبيل الله عز وجل:(1/351)
إن الصدق في محبة الله عز وجل ومحبة دينه تقتضي أن يكون أمر هذا الدين هو شغل المؤمن الشاغل ، حيث لا يقر له قرار، ولا يهدأ له بال وهو يرى دين الله عز وجل ينتهك ويقصى من الحياة ، وبالتالي يرى الفساد المستطير يدب في أديان الناس ودمائهم وأعراضهم وعقولهم وأموالهم. إن المؤمن الصادق لا يقدّم على هذا الهم الأكبر أي اهتمام من أمور الدنيا الفانية ، ولكن إلى الله نشكو حالنا ، وضعف إيماننا وركوننا إلى دنيانا حيث إننا إذا رجعنا إلى قلوبنا وما هي الاهتمامات التي تملؤها ، لم نجد عند أكثرنا وياللأسف إلا اهتمامات دنيوية بحتة هي التي تحتل الأرقام الأولِى في تفكيرنا ، فمنا من همه الأول منصب يحصل عليه ، أو شهادة يستلمها ليعيش بها ، ومنا من همه زوجته وأولاده أو تجارته وأمواله... الخ. هذه الاهتمامات الفانية ، ثم إن كان هناك فضول تفكير واهتمامات جاء أمر هذا الدين والدعوة إليه بعد الاهتمامات السابقة ، وهذا إن دل على شيء فإنما يدل على ضعف الصدق عندنا في الدعوة إلى الله عز وجل والجهاد في سبيله ، يقول الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى »وأي دين وأي خير فيمن يرى محارم الله تنتهك وحدوده تضاع ودينه يترك وسنة رسوله -صلى الله عليه وسلم- يرغب عنها، وهو بارد القلب، ساكت اللسان ، شيطان أخرس كما أن المتكلم بالباطل شيطان ناطق«.
9- التميز:
إن التميز في حياة المؤمن أمر ضروري جداً خاصة في عصور الغربة ، وإن المسلم الصادق يُعرف بتميزه وإصراره على دينه بين الناس، فيعرف بصحة معتقده عند فساد المعتقدات، وبالتزامه بالسنة عند فشوا المبتدعات، وبصدق إيمانه إذا فشا الكذب والنفاق، وبعبادته إذا الناس يلهون ويلعبون ، وبأخلاقه إذا هدرت الأخلاق وضيعت.
هذه بعض صفات الغرباء الذين قال فيهم الرسول -صلى الله عليه وسلم-: »طوبى للغرباء أناس صالحون في أناس سوء كثير من يعصيهم أكثر ممن يطيعهم« (9).
10- قبول الحق والتسليم له:(1/352)
إن من علامات الصدق لدى المسلم إذعانه للحق وقبوله من أي أحد كان فالصادق لا تراه إلا باحثاً عن الحق الذي يتعبد به لربه عز وجل ويقربه إلى مولاه ، وإذا بان له الدليل ولا ح له الحق فرح به ووجد فيه بغيته ، ولا يرده إبداً سواء أكان قائله صغيراً أو كبيراً، أكان عدواً أو صديقاً ، وإذا وجدت هذه الصفة الكريمة عند المسلم ، وصارت من عاداته وأخلاقه فإنها تنفي كثيراً من الصفات الذميمة مثل الكبر والاستعلاء والتعصب للآراء والتحزب للأشخاص والهيئات ، كما أنها تورث المحبة والألفة بين أهل العلم والدين ، وتورث الاجتماع والائتلاف وتنفي الفرقة والاختلاف ، كما أن قبول الحق والتمسك به يقتضي القول به والدعوة إليه دون لبس أو تردد ، فالصادق لا تراه إلا صادعاً بالحق لا يخاف في الله لومة لائم ، ولا يجامل ولا يداهن.
هذه بعض صفات الصادقين.. والله نسأل أن يجعلنا من الصادقين قولاً وفعلاً.. والله المستعان.
هوامش:
(1)إحياء علوم الدين 4/533.
(2)البخاري 9/171.
(3)صحيح مسلم ، المقدمة.
(4)متفق عليه.
(5)رواه أحمد 1/201 ، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة ح1/637.
(6)هذا الحديث قواه ابن كثير لتعدد طرقه 2/176.
(7)رواه الإمام أحمد ، ج2 9187.
(8)صفة الصفوة 3/61.
(9)رواه الإمام أحمد ، وأورده الألباني في صحيح الجامع الصغير رقم 3921.
--------------------------------------------------------------------------------
(3)
نشرت الحلقتان الأولى والثانية من هذه الدراسة في العددين (75) و(76) من هذه المجلة، ولظروف فنية تأجلت هذه الحلقة الأخيرة حيث يضع الكاتب بين يدي القارئ هذه الهموم والأشجان في صورة رسائل إلى من يهمه الأمر.
- البيان -
الرسالة الأولى إلى علماء الأمة وطلاب العلم فيها:
أوصي نفسي وإياكم بما أوصى به ربنا عز وجل عباده المؤمنين ((يا أيها الذين آمنوا اتقوا وكونوا مع الصادقين))[التوبة: 119].(1/353)
يا علماءنا الأجلاء: يا من تعقد عليهم الأمة أملها بعد الله سبحانه في إنقاذها مما هي فيه من جهل ومحن وبلاء ((اتقوا الله وكونوا مع الصادقين)) وإن من لوازم الصدق مع الله سبحانه وتعالى ومع عباده المؤمنين ، الحذر الشديد من الدنيا وزينتها وزخرفها ، فلا أضر على العالم منها ، ولذا كان سلفنا الصالح يحذرونها أشد الحذر ، فبارك الله في علمهم وعملهم ، وأصلح الله بهم ما فسد.
أيها العلماء الأجلاء: إن أمتنا الإسلامية تمر في هذا الزمان بمحن شديدة وهي تنتظر كلمتكم ، فإذا سكتم فمن لعقيدة الأمة التي يسعى الأعداء لإفسادها ومن لدماء الأمة التي تسفك وتستباح يوماً بعد يوم ، ومن لأعراض الأمة وأخلاقها التي تنتهك باسم الحرية والتقدم والتحضر ، ومن لأموال الأمة واقتصادها الذي تسري فيه نار الربا والبيوع المحرمة؟!
ودعاؤنا إلى الله عز وجل أن تلتحم صفوف المصلحين في هذه الأمة من علمائها ودعاتها ومجاهديها وقادتها ليكونوا يداً واحدة في الإصلاح والدعوة إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة ، راجياً أن تقبلوا هذا التذكير ولو صدر من ابنكم الصغير.
ولكم في سيرة الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله قدوة حسنة ، فقد استفاد في محنته من أعرابي عامي... ذكر الذهبي في السير: قال أحمد بن حنبل: ما سمعت كلمة منذ وقعت في هذا الأمر يعني محنته أقوى من كلمة أعرابي كلمني بها في رجعة طوق ، قال: يا أحمد ، إن يقتلك الحق مُت شهيداً ، وإن عشت عشت حميداً ، فقَوى قلبي)(1).
الرسالة الثانية إلى دعاة الأمة ومجاهديها:
أوصي نفسي وإياكم بما أوصى به الله سبحانه عباده المؤمنين: ((يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين))[التوبة: 119].(1/354)
وإن من لوازم الصدق ومقتضياته أن تكون الدعوة إلى الله عز وجل والجهاد في سبيله لأجل الله عز وجل وابتغاء مرضاته ، فلا تكون لأجل مال أو منصب أو جاه أو كسب شهرة أو التعصب لشيخ أو حزب أو طائفة ، لأن كل ذلك ذاهب وضائع وممحوق البركة في الدنيا والآخرة ، فحري بنا أن نحاسب أنفسنا ونحن في طريق الدعوة والجهاد في سبيل الله ، ونتبين مدى صدقنا في دعوتنا إلى الله سبحانه ، وهل هي خالصة لله وحده أم يشوبها ما يشوبها من أعراض الدنيا الفانية..؟!
وإن من لوازم الصدق في الدعوة إلى الله سبحانه أن يبادر الداعية إلى تصديق قوله وما يدعو إليه بفعله ، وأن لا يقول بلسانه ما ليس في قلبه ، أو يرغب في فعل ولا ينوي القيام به ، أو يظهر للناس حرقة وغيرة على هذا الدين والأمر لا يتعدى شقشقة اللسان ، والقلب مشحون بأمر الدنيا وشهواتها وغارق في وديانها ، إن كل ذلك مما ينافي الصدق في الدعوة إلى الله عز وجل.
مع أهمية سلامة قلب الداعية من الغل والحقد والحسد على إخوانه الآخرين من الدعاة، وإنما يُكنّ المحبة لكل مصلح يدعو إلى الخير، ويتعاون معه في طاعة الله عز وجل، ولا يحتقر جهده مهما قل ، ولا تراه إلا حريصاً وساعياً إلى اجتماع الكلمة ووحدة الصف ، فالداعية الصادق يكره الفرقة والاختلاف إذا لم يكن في أصول الدين وكلياته ، والدعاة الصادقون يرحم بعضهم بعضاً ، ويرفق بعضهم ببعض، ويتناصحون فيما بينهم.
كما إن الصدق مع الله سبحانه في الدعوة والجهاد يفرض على المسلم أن يكون على بصيرة فيما يدعو إليه ويجاهد من أجله ، وهذا يلزم التفقه في الدين والتبصرة فيه بما قال الله عز وجل وقال رسوله -صلى الله عليه وسلم- وفهمه الصحابة الكرام رضي الله عنهم.(1/355)
وإن من لوازم الصدق في الدعوة إلى الله سبحانه ، الحذر من كيد الأعداء المتربصين بهذا الدين وأهله من الكافرين والمنافقين ، وبخاصة في زماننا هذا الذي تنوعت فيه أساليب المكر والخبث ، فحري بالداعية الصادق أن يتفطن لدسائس الأعداء ودجلهم ونفاقهم ولو ألبسوا ذلك كله لبوس الحكمة والمصلحة إن التنازل اليسير من الداعية إلى الله سبحانه لا يقف عند حد ، بل يتبعه تنازلات وتنازلات ، لأن أعداء هذا الدين لا يكتفون بالقليل من الداعية وقد حذر الله سبحانه نبيه -صلى الله عليه وسلم-من هذا الخطر فقال: ((فلا تُطِعِ المكذبين * وَدُّوا لو تُدْهِنُ فَيُدْهِنُون))[القلم: 8-9]، والحقيقة التي ينبغي أن يعيش فيها أصحاب الدعوة إلى الله هي هذه الحقيقة التي لقنها الله لصاحب الدعوة الأولى -صلى الله عليه وسلم- وهي أن التكليف بهذه الدعوة تنزل من عند الله فهو صاحبها، وأن الحق الذي تنزلت به لا يمكن مزجه بالباطل الذي يدعو إليه الآثمون الكفار، فلا سبيل إلى التعاون بين حقها وباطلهم، أو الالتقاء في منتصف الطريق بين القائم على الحق والقائمين على الباطل، فهما منهجان مختلفان وطريقان لا يلتقيان، فأما حين يغلبه الباطل بقوته وجمعه على قلة المؤمنين وضعفهم ، لحكمة قضاها الله فالصبر حينئذ حتى يأتي الله بحكمه والاستمداد من الله والاستعانة بالدعاء والتسبيح ، وهما الزاد المضمون لهذا الطريق.(1/356)
إنها حقيقة كبيرة لا بد أن يدركها ويعيش فيها رواد هذا الطريق فالمحاولات كثيرة التي حاول المشركون مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم-فيها المساومة على الدعوة ، ولكن الله عصم منها رسوله ، وهي محاولات الطغاة مع أصحاب الدعوات دائماً ، محاولة إغرائهم لينحرفوا ولو قليلاً عن استقامة الدعوة وصلابتها ، ويرضوا بالحل الوسط الذي يغرونهم به في مقابل مغانم كثيرة ، ومن جملة الدعاة من يفتن بهذا عن دعوته لأنه يرى الأمر هيناً ، فأولئك لا يطلبون منه أن يترك دعوته كلياً ، إنما يطلبون تعديلات طفيفة ليلتقي الطرفان في منتصف الطريق.
ومن لوازم الصدق في الدعوة أن يحذر الداعية من الكذب على إخوانه المسلمين والدعاة المصلحين ، ومن ذلك إشاعة الأخبار قبل التحقق من صحتها واستخدام الأساليب الملتوية والمراوغات بحجة السياسة والمصلحة.. كل هذا لا يتفق وصدق الداعية وسلامة قلبه.
ومن لوازم الصدق في الدعوة إلى الله سبحانه أن يعتني كل مسلم منا بنفسه بالوسائل الشرعية للتربية ، وذلك في وسط بيئة صالحة معروفة بصحة الفهم وحسن القصد ، يتربى معها ، ويعد نفسه للتضحية في سبيل الله عز وجل وبذل المال والنفس في ذلك ، وأن يوطن نفسه لابتلاءات الطريق ومشاقه، التي هي سنة من سنن الله عز وجل لتمحيص الصفوف ، قال تعالى: ((ألم * أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون * ولقد فتنا الذين من قبلهم فليعلمن الله الذين صدقوا وليعلمن الكاذبين)) [العنكبوت:2-3] فلا يتبين الصادق في دعوته من الكاذب إلا بالابتلاء نسأل الله عز وجل العافية والصبر عند البلاء.(1/357)
إن الداعية الذي يهمل نفسه فلا يربيها ويعدها للبيع على الله عز وجل يوشك أن ينهزم وتخذله نفسه عند أول هزة وأول اختبار ، مع أنه يحب لنفسه غير ذلك مما يعيشه في حال الرخاء والأمن من الحماس العاطفي والكلام الذي لا يجاوز التراقي ، يقول سيد قطب رحمه الله : »إن العقيدة وطريقها لشاقة بعيدة ، تتقاصر دونها الهمم الساقطة والعزائم الضعيفة ، إن تكاليف العقيدة هو جهد خطر ، تجزع منه الأرواح الهزيلة والقلوب الخاوية ، ولكنه الأفق الذي تتخاذل دونه النفوس الصغيرة والبيئة الهزيلة ، قال تعالى: ((لو كان عرضاً قريباً وسفراً قاصداً لاتبعوك ولكن بعدت عليهم الشقة)) [التوبة: 42](2).
وإنني بهذه المناسبة أوصي نفسي وإخواني الدعاة والمجاهدين أن لا نتكلم في أمر ، أو نقدم على موقف من مواقف الدعوة حتى تتوفر فيه الشروط التالية:
1- الاطمئنان التام أنه الحق الذي يحبه الله تعالى ، وإعداد النفس لتحمل تبعاته.
2- الاطمئنان التام على أن القيام في هذا الأمر هو لله سبحانه وحده وابتغاء مرضاته.
3- الاستعانة بالله وحده في تحقيق هذا الأمر والثبات عليه إذ لا قدرة للعبد لحظة واحدة بدون عون الله وتوفيقه.
إذن يا إخواني الدعاة: إن الأمر جد ليس بالهزل.
قد هيؤوك الأمر لو فطنت له فاربأ بنفسك أن ترعى مع الهمل
الرسالة الثالثة إلى المربين في هذه الأمة:
أوصي نفسي وإياكم بما أوصى به الله سبحانه عباده المؤمنين ((يا أيها الذين أمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين))[التوبة: 119].(1/358)
أيها المربون: إن التربية لها معنى أوسع من التعليم وتلقين المعلومات فالتربية هي الجهد الذي يبذله المربون في كل مجتمع من آباء ومعلمين وغيرهم في إنشاء الأجيال القادمة على أساس العقيدة التي يؤمنون بها ، ومنحهم الفرصة الكافية لتشرب معاني الدين والتضحية من أجله والاعتزاز به بين الأمم فالأمة الجادة هي التي تربي أبناءها طبقاً للعقيدة التي تدين بها لله تعالى ، وتسعى لنشرها بين الأمم ، حتى لا تكون فتنة ، ويكون الدين كله لله تعالى ، وهذه مهمة المربين في هذه الأمة فما أثقلها من تبعة ، وما أشرفها من رسالة.
ومن لوازم الصدق أيها المربون الكرام أن تصدقوا مع من ولاكم الله تربيتهم وتعليمهم ، وذلك بتعليمهم الخير ، وربطهم بأبطال هذه الأمة ورعيلها الأول ، وتحذيرهم من الشر وأهله ، وتبصيرهم سبيل المجرمين وأفكارهم الخبيثة وتفنيدها والتحذير منها.
ومن لوازم الصدق في التربية إعداد المناهج الكريمة المستمدة من الكتاب والسنة، وفهم الصحابة وفقه الواقع الذي تعيشه الأمة، فعلى المسؤولين عن مناهج التعليم في المجتمعات المسلمة أمانة عظيمة وتبعة ثقيلة، فليصدقوا مع الله عز وجل في أمة محمد ص وأبنائها، فلا يختاروا إلا ما فيه الخير والإصلاح وتنشئة الأجيال على العقيدة الحقة والأخلاق السامية، وأن يردوا ويسقطوا كل ما من شأنه إفساد العقيدة والأخلاق والأفكار والهمم ، فنحن أمة ذات رسالة عظيمة خالدة ينبغي للناشئة أن يدركوا رسالة أمتهم ، وأنها خير أمة أخرجت للناس.(1/359)
أيها المربون من آباء ومعلمين: إن الله سبحانه سائلكم عما استرعاكم فأعدوا للسؤال جواباً ((واتقوا يوماً ترجعون فيه إلى الله))[البقرة: 281] تذكروا أثر العمل الطيب، والسنة الحسنة حين تسري في الأمة وينتشر الخير بسببها، فتنالوا أجر ذلك عن كل من تأثر به، والعكس بالعكس والعياذ بالله تذكروا أثر العمل السيء والسنة السيئة حين تسري في أبناء الأمة ويتربون عليها فستنالوا وزر ذلك ووزر من تأثر به نعيذكم بالله من هذا المآل، وهذا مصداق قوله -صلى الله عليه وسلم- »من سن في الإسلام سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها من غير أن ينقص من أجورهم شيئاً ، ومن سن سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها«(3).
ومن لوازم الصدق في التربية: أن يربط الأبناء والطلاب في حياتهم بالأهداف العالية النبيلة، ولا يربطون بالتوافه من الأمور والأهداف الهابطة لأن النظرة السائدة اليوم في أكثر بيوت المسلمين ومدارسهم: أن طلب العلم قد ربط بالمصلحة الدنيوية ، وأنها وسيلة للعيش ولا يوجد في جو المنزل أو جو المدرسة إلا من رحم الله من يقول للمتربي إن لك أمة تنتظرك، وأن لك دوراً ينتظرك في الدعوة إلى التوحيد وهداية الناس بإذن الله تعالى والجهاد في سبيله عز وجل والذود عن حمى الأمة وعقيدتها، إن هذا النوع من التربية قليل، فعلى المربين الصادقين مع ربهم سبحانه أن يحيوا هذه المعاني عند إخوانهم المربين ويصبغوا بها المناهج المعدة لذلك، وينشروها في صفوف أبنائهم وطلابهم حتى يخرج جيل قوي متماسك يشعر بانتمائه لهذا الدين، ويشعر بمسؤوليته ليتولى هو بدوره إكمال الطريق، وتربية الأجيال التي تأتي بعد ذلك.(1/360)
وبقيت كلمة أخيرة أوصي بها نفسي وإخواني الآباء، ألا وهي الصدق مع الله سبحانه في جعل البيت محضناً من محاضن التربية الكريمة للأبناء والبنات والإخوان والأخوات والزوجات، وذلك بعمارته بذكر الله عز وجل ووجود القدوة الصالحة، وتطهيره من أسباب الرجس والفساد، فكلكم راع ومسؤول عن رعيته.. إن العجب كل العجب من أناس أنعم الله عليهم بنعمة الأموال والأولاد، ثم هم يخربون بيوتهم بأيديهم ويلقون بأنفسهم وأهليهم إلى النار، والله تعالى يقول: ((يا أيها الذين آمنوا قوا أنفسكم وأهليكم ناراْ وقودها الناس والحجارة))[التحريم: 6].
إن أحدنا لو رأى ابنه أو ابنته أو أخاه أو أخته أو زوجته يتعرض أحدهم لهلاك في الدنيا بحريق أو غرق أو سقوط من شاهق، لهب مسرعاً لإنقاذه وإن لم يكن قريباً منه صاح به محذراً من السقوط في المهلكة، وإن الله سبحانه يحذرنا من نار تلظّى لا تأتي نار الدنيا عندها إلا جزءاً من سبعين جزء منها ومع ذلك لا يتحرك الكثير منا في إنقاذ نفسه وأهله منها ((قل نار جهنم أشد حراْ لو كانوا يفقهون))[التوبة: 81].
الرسالة الرابعة إلى الإعلاميين في هذه الأمة:
أوصي نفسي وإياكم بما أوصى به عباده المؤمنين سبحانه عز من قائل: ((يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين))[التوبة: 119].
أيها المؤمنون من إعلاميي هذه الأمة: إني أخاطب فيكم عقيدتكم الإسلامية، التي تحملونها بين جوانحكم التي تحدد هويتكم بين بني البشر وترفع رؤوسكم بين بني الإنسان ، أخاطب فيكم غيرتكم الإسلامية ومروءتكم العربية ، وأخلاقكم العريقة التي تميز المسلم عن غيره، أخاطب فيكم الأمانة العظيمة التي حملكم الله إياها من خلال مسؤولياتكم الخطيرة التي تتولونها أخاطب فيكم المسؤولية التي أناطتها الأمة بكم لتربوا أبناءها على الإيمان الصادق والعفة والطهارة والعزة والكرامة.(1/361)
أيها الإعلاميون المؤتمنون على عقيدة الأمة وأخلاقها: اصدقوا مع ربكم سبحانه في الوفاء بما عهد إليكم ((وأوفو بالعهد إن العهد كان مسئولا)) [الإسراء: 34] ، ((ولا تخونوا الله والرسول وتخونوا أماناتكم وأنتم تعلمون)) [الأنفال: 27].
واصدقوا مع أمتكم المسلمة التي أمنتكم دينها وأعراضها وعقولها وأفكارها ، فلا تخونوا أمتكم ، وكونوا عند حسن ظنها بكم.
إن إعلام أي أمة يعبر عن عقيدتها وهويتها ، وإذا أردنا أخذ صورة سريعة عن أي أمة أو مجتمع ، فلننظر إلى إذاعتها وتلفازها وصحفها وما ينشر فيها فإن ذلك يدلنا على ما يقوم عليه هذا المجتمع من عقيدة وأخلاق.
إن لكل أمة هوية ، فأين هويتنا الإسلامية في في كثير من إعلام دولنا؟!
إن الإسلام ليس كلمة فحسب ، ليس عقيدة مستكنة في القلب فحسب بل الإسلام هو الاستسلام لله عز وجل وحده في جميع شؤون الحياة ، قال تعالى: ((يا أيها الذين آمنوا ادخلوا في السلم كافة))[البقرة: 208].
هذا هو الإسلام الذي جاء من عند الله عز وجل ، وإن الناظر في إعلام المجتمعات المسلمة اليوم ليرى ازدواجية وانحرافاً ، وهذا يعني أحد أمرين:
1- أن يكون هناك جهل بحقيقة هذا الدين ، وأنه بالإمكان أن يكون المرء مسلماً بقلبه ولسانه فقط ثم يفعل بعد ذلك ما يشاء ويعمل ما يحلو له أن يعمل مادام أنه ينطق الشهادتين، فالهوية التي يحملها هي الإسلام وهذه عقيدة المرجئة التي أفسدت في الأرض ودخل من خلالها العلمانيون الذين يفصلون الدين عن الحياة، ويجعلونه عقيدة مستكنة في الضمير وبين جدران المساجد فحسب!!
2- أو أن حقيقة الدين ومفهومه الواسع واضحة في أذهان القوم ، ولكنهم آثروا الحياة الدنيا ومناصبها وزخرفها على مرضاة الله سبحانه وتعالى والدار الآخرة ، فاشتروا الحياة الدنيا الفانية بالدار الآخرة الباقية فما أشد خسارتهم وأكسد تجارتهم ، ألا ذلك هو الخسران المبين.(1/362)
ثم ماذا سيكون جوابك إذا حاكمتك الأمة بأسرها على ما قدمت لها من كلمة مسموعة أو مرئية أو مقروءة يوم تكون سبباً في إضلال أبنائها ، أناشدك بما معك من الإيمان بالله واليوم الآخر أن لا تغفل عن هذا اليوم الرهيب ، فوالله إنه لقريب: ((وما يدريك لعل الساعة قريب * يستعجل بها الذين لا يؤمنون بها والذين آمنوا مشفقون منها ويعلمون أنها الحق ألا إن الذين يمارون في الساعة لفي شقاق بعيد))[الشورى: 18].
وبعد: هذا ما يسر الله سبحانه كتابته حول هذا الموضوع، عسى الله أن ينفع به كاتبه وقارئه في الدنيا والآخرة. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين ، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه.
الهوامش:
(1)سير أعلام النبلاء 11/241.
(2)طريق الدعوة ، ج1 ، ص 96.
(3)صحيح مسلم (كتاب الزكاة ح/1017
سيصدر هذا الموضوع بحلقاته السابقة مع زيادات في رسالة مستقلة إن شاء الله في الحلقة السادسة من »دراسات تربوية في ضوء القران للكاتب
--------------------------------------------------------------------------------
مجلة البيان، العدد (88)، ذو الحجة 1415،مايو 1995 .
* * *
http://www.albayan-magazine.com/zwaya/trbwi/21.htm
تأملات في معاني كلمات الأذان
د. محمد عز الدين توفيق
ليس : المقصود من هذا المقال تفصيل أحكام الأذان وبيان شروطه وسننه وآدابه ، فذلك مذكور في مواضعه من كتب الحديث والفقه ، ولكنه نظرات في كلماته الجامعة ، وتأملات في معانيه الكبيرة، بقصد الوقوف على الحقائق الدينية التي تقررها تلك الكلمات، وتسعى إلى ترسيخها في نفوس المسلمين ، بل في نفوس الناس كافة.(1/363)
مَنْ منا لم يسمع الأذان؟ ومن منا لم تطرق كلماته المتميزة أذنيه؟ إن كلمات الأذان بحمد الله (تعالى) تتردد في كل بلد مسلم ، وترتفع كل يوم خمس مرات من آلاف المآذن والمساجد المنتشرة في المدن والقرى ، بحيث يمكن القول: إن عدد المرات التي يسمع فيها المسلم الأذان في حياته يفوق أي كلمات أخرى تتكرر على سمعه.
الأذان هو ذلك النداء الذي يعرفه كل مسلم، ويحفظ كلماته منذ طفولته وصباه ، فهو شعار من شعائر الدين المشهورة، لكن هذه الشهرة التي يتمتع بها الأذان بين المسلمين لا تعني بالضرورة أن المعاني والحقائق التي ينادي بها معروفة لكل الناس ، فشهرة الكلمات تقابلها غربة المعاني والمضامين.
إن معظم المسلمين يعرفون الأذان بوصفه أداة تجمعهم على الصلوات في المساجد ، وقد يعرف بعضهم المعنى اللغوي لكلماته وألفاظه ، ولكنهم يتفاوتون في معرفة المعاني الشرعية التي تحملها تلك الكلمات؛ مما يجعل لهذا الموضوع أهمية كبيرة ، لأنه يحاول إحياء هذه المعاني والإشارة إلى هذه الحقائق حتى إذا سمع المسلم الأذان حضرت في قلبه وذكرها في نفسه، وهي حقائق لا يجوز أن تغيب عنه ، فيتولى الأذان تذكيره بها بصفة مستمرة.
وقد شُرع الأذان في السنة الأولى بعد الهجرة ، بينما فرضت الصلاة قبلها بعدة شهور في ليلة الإسراء والمعراج ، ويبدو أن تشريع الأذان تأخر إلى ما بعد الهجرة؛ لأنه لم يكن للمسلمين بمكة مسجد يجتمعون للصلاة فيه، فلما هاجروا إلى المدينة وبنوا المسجد احتاجوا إلى أداة تجمعهم في وقت واحد لإقامة الصلوات المكتوبة في جماعة.(1/364)
وكانت الأدوات التي يُدْعَى الناس بها إلى الصلوات والطقوس الدينية هي: النفخ في البوق كما عند اليهود، والضرب على الناقوس كما عند النصارى،وإشعال النار كما عند المجوس، فأبدل الله هذه الأمة بذلك كله: كلمات الأذان، والملاحظ أن الفرق بين هذه الطرق الثلاث وبين رفع الأذان هو أن هذا الأخير كلماته مركبة في جمل لها معنى يرددها إنسان ويرفع بها صوته؛ فيفهمها من له معرفة باللغة العربية أو من تُرجمت له معانيها ونقلت إليه باللغة التي يتكلمها، بينما النفخ في البوق أو الضرب على الناقوس لا ينشىء كلاماً له معنى ، وإنما يحدث أصواتاً صماء غاية ما تدل عليه هو الهدف الديني الذي وضعت له، لكنها لا تحمل إلى السامع معاني أخرى عبر الصوت الذي يصل إلى مسامعه، وهذا الذي ذكرناه عن النفخ في البوق والضرب على الجرس ينطبق على إشعال النيران أيضاً.
فلا يمكن أن يكون العدول عن هذه الطرق الثلاث إلى كلمات الأذان لمجرد مخالفة المشركين وأهل الكتاب ، ومع أن القصد إلى مخالفتهم واضح في تشريع الأذان؛ لأنه شعار من شعائر الدين ، لكن القصد إلى المخالفة والتميز لا يمنع من إثبات قصد آخر ، هو: تركيز معاني الإسلام وحقائقه الكبرى في كلمات هذا الأذان ليؤدي مهمة مزدوجة ، ويجتمع للمسلمين في أداتهم ما لم يجتمع لمن قبلهم.
إننا نلاحظ لدعم هذا المعنى الأمور الآتية:
أولاً: الأذان كلمات مختارة ومرتبة بعناية ، وهذا الاختيار والترتيب مقصود لأمر يتجاوز مجرد الإعلام بدخول وقت الصلاة.
ثانياً: السنة في الأذان أن يجهر به المؤذن ، ويمد الصوت بألفاظه حتى يصل إلى أطول مسافة وأكبر عدد من الناس.
ثالثاً: تكراره مع دخول وقت كل صلاة وعددها في اليوم خمس ، فيتكرر خمس مرات في كل يوم صبحاً وظهراً وعصراً ومغرباً وعشاءً.(1/365)
رابعاً: النهي عن خلط أي كلمات أخرى به سواء في أوله أو في آخره حتى تتميز كلماته عن غيرها من الكلام الذي قد يزيده الناس ، وقد حفظت كلمات الأذان بالتواتر على مر العصور ، تبدأ بكلمة (الله أكبر) ، وتنتهي بـ (لا إله إلا الله).
خامساً: ليس كل من يسمع الأذان بالضرورة من المصلين ، بل ليس كل من يسمع الأذان مسلم ، فلا شك أن للأذان رسالة إلى هؤلاء.
سادساً: اختيار المؤذن الأندى صوتاً ، فإن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال للصحابي الذي رأى في منامه من يعلمه الأذان: »قم فلقنه بلالاً فإنه أندى صوتاً منك«(1). والصوت الندي هو: الصوت القوي الواضح الجميل الذي تجتمع في صاحبه الموهبة والدربة ، فلا يكون الصوت حسناً بالأذان إلا إذا كان النطق به وفق قواعد اللغة العربية ومخارج حروفها ، وهذا ـ بالتأكيد ـ من أجل أن يفهم الناس عن المؤذن ما يقول ، فإذا كان الصوت منفّراً أثر في هذه الغاية وأضعفها.
سابعاً: الترغيب في المؤذن الذي لا يأخذ على أذانه أجراً وتفضيله على الذي يأخذ؛ ليمتزج إخلاص قلبه مع كلمات لسانه ، ولذلك أثره في نفس السامع.
سبب مشروعية الأذان:(1/366)
لقد كان سبب مشروعية الأذان رؤيا رآها الصحابي الجليل عبد الله بن زيد بن عبد ربه ، قال: »لما أمر رسول الله بالناقوس لِيَضْرب به الناس في الجمع للصلاة ـ وفي رواية: وهو كاره لموافقته للنصارى ـ طاف بي وأنا نائم رجل يحمل ناقوساً في يده ، فقلت له: يا عبد الله أتبيع الناقوس؟ قال: ما تصنع به؟ قال: فقلت ندعو به إلى الصلاة؟ قال: أفلا أدلك على ما هو خير من ذلك؟ قال: فقلت بلى ، قال: تقول: الله أكبر ، الله أكبر ، الله أكبر ، الله أكبر ، أشهد أن لا إله إلا الله...(2) ، فلما أصبحت أتيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فأخبرته بما رأيت ، فقال: إنها لرؤيا حق إن شاء الله ، فقم مع بلال فألق عليه ما رأيت فليؤذن به ، فإنه أندى صوتاً منك ، قال: فقمت مع بلال فجعلت ألقيه عليه ويؤذن به ، قال: فسمع بذلك عمر وهو في بيته فخرج يجر رداءه يقول: والذي بعثك بالحق لقد رأيت مثل الذي رأى ، قال: فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: فلله الحمد«.
لم يكن الأذان إذن اقتراحاً من بعض الصحابة أو اتفاقاً بينهم ، وإنما كان رؤيا رآها أحدهم ، وقال عنها النبي -صلى الله عليه وسلم-: إنها رؤيا حق.
ما يقوله المسلم عقب الأذان عنوان فهمه معناه:
ومما يؤكد أيضاً أن الأذان يتجاوز في مقاصده مجرد الإعلام بدخول وقت الصلاة إلى ما يقوله المسلم عندما يسمعه ، فقد ندب الإسلام المسلم إذا سمع المؤذن أن يقول مثل ما يقول ووعده على ذلك بالجنة(3) ، وهذا يقتضي أن يُقْبِل على الأذان فكلما سمع منه جملة رددها بلسانه ، فتتاح لقلبه فرصتان لتدبر معناها: الأولى: عندما يسمعها ، والثانية: عندما يقولها ، ومعلوم أن الإسلام إذا أمر المسلم أن ينصت إلى كلام أو يردده فإنه يقصد استماع القلب لا استماع الأذن فحسب.(1/367)
إن توقف اللسان عن الاستمرار في الكلام الذي كان يقوله وانصرافه إلى متابعة كلمات الأذان من غير أن يسابق المؤذن بها ، ومن غير أن يتأخر عنه ، دليل آخر يؤكد أن الأذان للإعلام بدخول الوقت ، وهو أيضاً تذكير بحقائق معينة لابد أن الناس مسلمهم وكافرهم بحاجة إلى التذكير بها.
فإذا فرغ المؤذن من أذانه يسن للسامع أن يقول بعد الصلاة على رسول الله: »اللهم رب هذه الدعوة التامة والصلاة القائمة ، آت محمداً الوسيلة والفضيلة ، وابعثه مقاماً محموداً الذي وعدته«.
عن عبد الله بن عمرو ، أنه سمع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: »إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثل ما يقول ثم صلوا عليّ؛ فإنه من صلى علي صلاة صلى الله عليه بها عشراً ، ثم سلوا الله لي الوسيلة ، فإنها منزلة في الجنة لا تنبغي إلا لعبد من عباد الله ، وأرجو أن أكون أنا هو ، فمن سأل الله لي الوسيلة حلت له الشفاعة«(3).
وإذا تأملنا هذا الدعاء الذي يقال بعد الأذان ، نجد فيه »اللهم رب هذه الدعوة التامة والصلاة القائمة« فيكون الأذان تلخيصاً لدعوة الإسلام ، ثم إعلاماً بدخول وقت الصلاة.
فإذا أجاب المسلم المؤذن وحضر إلى الصلاة ، فقد صدّق بالحق وامتثل للأمر فجمع شَرطي الفلاح.
وإنما كان الأذان تلخيصاً لدعوة الإسلام؛ لأنه متضمن للشهادتين ، والإسلام كله قام على أساسين عظيمين: أن يُعبد الله وحده ، وتلك شهادة »أن لا إله إلا الله« ، وأن يُعبد بما جاء به رسوله -صلى الله عليه وسلم- وتلك شهادة »أن محمداً رسول الله« ، فالإسلام بناء يقوم على أركان خمسة أولها الشهادتان.(1/368)
وكما في الأذان: أشهد أن لا إله إلا الله ، أشهد أن محمداً رسول الله ، ففيه: حي على الصلاة ، حي على الفلاح ، والصلاة من أولها إلى آخرها تصديق عملي بالشهادتين؛ ففيها يقول المسلم في الفاتحة ((إياك نعبد وإياك نستعين)) وتلك شهادة »أن لا إله إلا الله« ، وفيها يقول: ((اهدنا الصراط المستقيم)) ، وتلك شهادة »أن محمداً رسول الله«.
أشهد أن لا إله إلا الله ، أشهد أن محمداً رسول الله:
لقد كان الإسلام في بدايته كلمة يقولها الرجل فيصير مسلماً أو يعرض عنها فيكون كافراً ، ولا يمكن لكلمة أن تكون فيصلاً بين الإسلام والكفر إلا إذا كان الإسلام نفسه مجموعاً في هذه الكلمة ، وما سينزل فيما بعد من أحكام تفصيلاً لما أجمل فيها.
لقد كانت البداية التي بدأت بها الدعوة إلى الإسلام ـ وهي »قولوا لا إله إلا الله تفلحوا« ـ دليلاً على ما لهاتين الشهادتين من معنى كبير وخطير ، يترتب على العلم به والعمل بمقتضاه فلاح الدنيا والآخرة.
والسؤال الذي يعد مدخلاً هنا هو: ماذا فهم العرب عندما خوطبوا بهذه الكلمة ودُعوا إليها؟ وهل كان الرفض الذي واجهوا به هذه الكلمة لمجرد التلفظ بجملتين ، أم لما يترتب على ذلك النطق من التزامات علمية وعملية؟
لقد كان المتلفظ بالشهادتين في عصر الرسالة يعرف أنه يجتاز عالماً بأكمله ويدخل إلى عالم جديد ، يجتاز عالم الجاهلية بمبادئه وأخلاقه وعاداته ويَعْبر إلى عالم الإسلام.
إن الرجل العربي أيام البعثة كان يفهم من مدلولات لغته ـ ولذلك حضرت في ذهنه ـ كل المعاني التي يستعمل لها لفظ (الإله) عندما قيل له: »قل لا إله إلا الله« وكان على بينة من أمره أيضاً.(1/369)
وإن أخطر ما يصاب به هذا الركن الاعتقادي هو: أن يبقى في الناس لفظه ويضيع معناه أو جزء منه ، فيتشوه الباقي وتختلف الأمة فيه ، وهذا ما حصل بالفعل عندما ابتعد المسلمون عن اللغة العربية وابتعدوا عن الكتاب والسنة ، فصاروا ينطقون الشهادتين ويرددونهما في الأذان والإقامة والتشهد وغيرها ، وهم على جهل بمعناها الصحيح؛ فيشهدون دون أن يتبينوا على أي شيء يشهدون؟
إن الشهادتين ثلاثة أقسام: الأول: فعل »أشهد« ، الثاني »لا إله إلا الله« ، والثالث: »محمد رسول الله«.
أولاً: أشهد:
هذا الفعل يأتي في اللغة بمعانٍ ثلاثة أولها: أرى وأشاهد ، ومنه قوله (تعالى): ((يَشْهَدُهُ المُقَرَّبُونَ)) [المطففين: 21].
الثاني: الشهادة ، وهي القول بما تعلم ومنه قوله (تعالى): ((وَأََشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِّنكُمْ)) [الطلاق: 2]. وثالثها: الحلف ، ومنه الحديث: »على مثل الشمس فاشهد أو ذر«(4).
فيكون معنى »أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمد رسول الله« ، أنني شاهدت بقلبي، وشهدت بلساني ، وأيقنت يقين الحالف أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله.
ثانياً: لا إله إلا الله:
لقد كان العرب يعتقدون أن آلهتهم التي يشركونها مع الله (تعالى) أو من دونه تحميهم وتنصرهم وتجيرهم وتقضي حاجاتهم؛ ولذلك عبدوها دون أن ينكروا وجود الله (تعالى) ، أو ينكروا أنه الخالق والرازق ، فلم يكن نزاع النبي -صلى الله عليه وسلم- معهم حول وجود الله (تعالى) وربوبيته ، وإنما كان حول التسليم بالوحدانية والألوهية لله وحده.
إن المشركين العرب الذين خوطبوا بـ »لا إله إلا الله« كانوا يعتقدون أن آلهتهم المزعومة لها قداسة وبها استحقت العبادة ، فالقرآن الكريم عَمَدَ إلى هذا الاعتقاد الأصلي فأبطله؛ليبطل به كل شرك موجود أو متوقع ، فبين بياناً حاسماً: أنه لا سلطة لأحد في الكون مع الله (عز وجل) ، ووضع خطّاً فاصلاً بين الألوهية والعبودية ، وأنزل كلاّ منزلته.(1/370)
إن »لا إله إلا الله« تعني أن كل ما كان يصف به العرب آلهتهم من صفات الألوهية لله وحده، فهو الذي في السماء إله وفي الأرض إله.
لقد قال القرآن الكريم لهؤلاء المشركين: إن مَنْ خلق الكون ويملك السلطة فيه هو الإله المستحق للعبادة ، فهذا الأمر غير قابل للتجزئة ، إذ لا يكون الخلق في يد إله ، والرزق في يد آخر ، والحكم في يد ثالث.
ثالثاً: محمد رسول الله:
هذا الشطر الثاني من الشهادتين يعني ثلاثة أمور: الأول ، أن محمداً رسول الله حقّاً،فهو من جهة ليس إلها ، وليست فيه أي صفة من صفات الألوهية ، ومن جهة ثانية: ليس كذاباً ولاساحِراً ولاكاهناً ولامجنوناً ولاسامر ا ، فالذي يشترك فيه مع الناس هو البشرية، والذي يتميز به عنهم هو الوحي والنبوة ، كما قال (سبحانه): ((قُلْ إنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَى إلَيَّ)) [ فصلت: 6].
وقد قامت على صدق نبوته دلائل كثيرة: فمنها صفاته، ومنها معجزاته ، ومنها نبوءاته، ومنها البشارات به في الكتب السابقة ، ومنها ثمرات دعوته في الأرض... إلا أن أعظم آية تشهد له بالنبوة هي القرآن الكريم ، قال الله (تعالى): ((تَنزِيلٌ مِّن رَّبِّ العَالَمِينَ))[الحاقة: 43].
الرسول في اللغة هو المبعوث ، وإضافته إلى الله يعني أنه مبعوث الله إلى الناس ، فالرسول رجل بعثه الله ليبلغ الناس ، وأيده بالآيات الدالة على صدقه.
أما المعنى الثاني لشهادة أن محمداً رسول الله فهو: أن ما أخبر به من أمور الغيب حق يجب تصديقه فيه ، وهذا الغيب يشمل الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر خيره وشره.
وتصديقه في دعوى النبوة والرسالة يفضي إلى التسليم له بهذا العلم الذي أخبر به؛ لأنه ليس من عنده ، بل من عند الله (تعالى) عالم الغيب والشهادة.(1/371)
والمعنى الثالث: أن ما أمر به من أمور الشرع عدل وخير يجب اتباعه فيه ، وقد أمر بشرع فيه صلاح الأفراد والأسر والمجتمعات ، فاتباعه فيه بغير قيد ولا شرط من تمام الشهادة له بالنبوة والرسالة.
هذه المعاني الثلاثة مترابطة؛ فالطاعة تتفرع عن المحبة ، والمحبة تتفرع عن المعرفة؛ إذ لا يمكن أن تطيع شخصاً لا تعرفه أو تتبع شخصاً لا تحبه.
إن »لا إله إلا الله محمد رسول الله« اختيار في الحياة ، يحدد التصور الذي يعيش به المرء والسلوك الذي يتصرف به ، والنطق بهما يعني تحولاً على المستوى الفكري والواقعي، فبهما يتحدد مصدر التلقي ، وبهما تتحدد الغاية والهدف، وتلك الربانية: ربانية المصدر وربانية الغاية ، فيعيش العبد بعلم الله (تعالى) المنزل يصوغ تصوراته كما يصوغ تصرفاته.
حي على الصلاة، حي على الفلاح:
وهاتان الجملتان تعقبان الشهادتين في الأذان،وذكر الصلاة عقب الشهادتين يوافق الترتيب الذي رتبت به أركان الإسلام في الأحاديث التي عدّدَتْها.(1/372)
وحيث إن الإنسان مجبول على تقديم العاجلة على الآجلة ، وتفضيل النقد على النسيئة، وبما أن الدنيا عَرَض حاضر ، والآخرة وعد صادق ، فالدنيا يراها والآخرة يسمع عنها، فالذي يحدث غالباً هو انشغال الإنسان بما يرى عما يسمع، والإقبال على العرض الحاضر والغفلة عن الوعد الصادق ، فيأتي في الأذان »حي على الصلاة ، حي على الفلاح« لينادي على الناس في أسواقهم يبيعون ويشترون ، أو في أعمالهم يصنعون ويعملون ، أو في بيوتهم يأكلون ويشربون ، أن يوازنوا في حياتهم بين الدنيا والآخرة، كما أمرهم الله،قال (تعالى): ((يَا أَيُّهَا الَذِينَ آمَنُوا إذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِن يَوْمِ الجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا البَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ)) [الجمعة: 9].وقال (سبحانه):((يَا أَيُّهَا الَذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الخَاسِرُونَ)) [المنافقون: 9]. وقال عز وجل: ((فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ * رِجَالٌ لاَّ تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَإقَامِ الصَلاةِ وَإيتَاءِ الزَّكَاةِ)) [النور: 36 ، 37].
فقد أثنى عليهم ، ليس لكونهم تفرغوا للصلاة ولازموا المساجد لا يبرحونها ، بل لكونهم أصحاب تجارات وأعمال لا تلهيهم عن ذكر الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة.
إن نداء المؤذن: »حي على الصلاة ، حي على الفلاح« على رأس وقت كل صلاة إعلان عن وسطية الإسلام وجمعه بين الدين والدنيا ، فالمسلم في عبادة قبل الحضور إلى المسجد، وهو في عبادة عندما يحضر بعد سماع الأذان، وهو في عبادة عندما ينصرف بعد الصلاة إلى أشغاله وأعماله.(1/373)
وإن مما يحبب الناس في دين الله أن يعرفوا وسطيته هذه ، وأن الاستعداد للموت والتزين للقاء الله ليس مشروطاً بهجر الدنيا ورميها جانباً، بل لكل وقت عمله ، والحياة مجموعة من الأولويات ، تبرز كل أولوية في وقتها المناسب.
ثم إن النداء بـ »حي علي الصلاة ، حي على الفلاح« إيذان بانطلاق جولة جديدة من معركة الإنسان مع الشيطان ، فهذا العدو سيسعى جهده ليصده عن ذكر الله وعن الصلاة وإجابة النداء والذهاب إلى المسجد معناه كسب هذه الجولة الجديدة وتحقيق الانتصار فيها، فالأذان يصل إلى الجميع، ولكن الناس يختلفون: فمنهم منتصر ومنهم منهزم ، فواحد يسمعه فيدع ما كان فيه ويجيب النداء ، وآخر يصلي في بيته في الوقت ، وثالث يؤخرها عن وقتها، ورابع يتركها ولا يصليها ، وبهذا يستخرج الأذان ما في القلوب من إيمان، أو كفر ونفاق ، ويكشف لكل عبد درجة إيمانه؛ فإن الإيمان يعرف عند الطاعات ((قَدْ أَفْلَحَ المُؤْمِنُونَ الَذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خاشعون)) [المؤمنون: 1] ((وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ)) [المؤمنون: 9].
والناس عندما يسمعون »حي على الصلاة حي على الفلاح« تحضرهم صور مختلفة لهذه الصلاة التي يُدْعَون إليها ، فكل واحد تحضره صورة معينة قد تكون موافقة لصورتها في دين الله ، وقد يكون بين الصورتين تباعد وتنافر.
والصلاة في دين الإسلام هي الركن الثاني الذي لا يصح إسلام المسلم إلا بها ، وهي توبة متجددة ، وطهارة ظاهرة وباطنة وقوة روحية وبدنية ومناجاة بين العبد وربه ، وهي كفارة للذنوب ، وتذكرة بلقاء الله يوم القيامة ، وشرط من شروط النجاة والفلاح في ذلك اليوم.
فمن وافقت صورة الصلاة في نفسه صورتها في دين الله ، فإنه يُعَظّمُ قدرها ولايسهو عن وقتها: ((فَوَيْلٌ لِّلْمُصَلِّينَ * الَذِينَ هُمْ عَن صَلاتِهِمْ سَاهُونَ)) [الماعون: 4 ، 5].
الله أكبر الله أكبر:(1/374)
هذا النداء الذي افتتح به الأذان واختتم به ، فيه تكبير الله (عز وجل) ، فهو (سبحانه) ((عَالِمُ الغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الكَبِيرُ المُتَعَالِ)) [الرعد: 9] وحيث إن الصلاة دعوة منه (سبحانه) ينقلها المؤذن عبر الأذان؛ ناسب افتتاحها بالتكبير ليعلم الناس أن الله (تعالى) أكبر من كل شيء يَصدّهم عن دعوته ، أو يشغلهم عن إجابة ندائه ((يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ المَلِكِ القُدُّوسِ العَزِيزِ الحَكِيمِ)) [الجمعة: 1].
الأذان معانٍ ومواقف:
وكما يشدنا الأذان إلى كلماته ، يشدنا إلى تاريخه ، فتاريخه هو تاريخ الإسلام في الأرض، وهو تاريخ التوحيد في صراعه مع الشرك.
لما فتح رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مكة ، وطهر البيت من الأصنام التي فيه وفيما حوله ، دعا مؤذنه بلالاً ، وأمره أن يصعد على الكعبة ويؤذن ، فارتقى (رضي الله عنه)، ورفع صوته بالأذان، فكان هذا الأذان أبلغ رسالة لقريش تخبرها بمواصفات العهد الجديد.
ولقد قال أحد المشركين ـ وهو يسمع الأذان ويرى بلالاً يجهر به فوق الكعبة ـ: »أما وجد محمد غير هذا الغراب الأسود مؤذناً؟« وقال آخر: »الحمد لله الذي قبض أبي قبل أن يرى هذا اليوم« فكانت كلمات هذين المشركين تلخيصاً لما دافعت عنه قريش مدة عشرين عاماً، ولكن الحق إذا جاء زهق الباطل ، ولقد كانت تلك الأصنام قبل قليل آلهة تعبد ، أما الآن فالله أكبر ولا إله إلا الله.(1/375)
وارتبط الأذان في فترة النبوة باسم بلال وإن كان لرسول الله مؤذنون آخرون ، ولما توفي النبي -صلى الله عليه وسلم- امتنع بلال عن الأذان ولحق بالشام مجاهداً ومرابطاً في سبيل الله ، فلما فتح المسلمون مدينة دمشق وذهب عمر (رضي الله عنه) يزورها ، توسل رؤساء القوم إلى بلال ـ وكان حاضراً ـ أن يؤذن فأذن إكراماً لمقدم أمير المؤمنين ، فما رؤي أحد إلا وهو يبكي؛ لأن صوته ـ الذي انقطع عنهم أكثر من اثني عشر عاماً ـ ذكرهم بأيام عزيزة عندما كان يؤمهم سيد الخلق (عليه الصلاة والسلام) ، فقد كان المسلمون إذا فتحوا بلداً بنوا به المساجد ، ورفعوا فيها الأذان ، وأقاموا فيها الصلاة ، وجلسوا بها لتعليم العلم.
وصار سماع الأذان في قرية علامة على إسلام أهلها؛ فإذا سمعه المسلمون كفّوا عنها، وميزوها عن غيرها من القرى الكافرة ، وكان لصيحة (الله أكبر) ـ وهي من كلمات الأذان ـ هيبتها عبر التاريخ الإسلامي ، فقد كانت تزلزل قلوب الأعداء ، وتلقي الرعب في قلوب الكفار ، فهي كلمة الثبات وكلمة النصر ، فإذا غزا المسلمون قالوا: »الله أكبر« ، وإذا فتح الله عليهم ونصرهم أذنوا فقالوا: »الله أكبر«.(1/376)
ولقد استغل التتار أيام هجومهم على بلاد الإسلام دور الأذان في جمع المسلمين عند ساعة المحنة ، فكانوا إذا خربوا مدينة من مدن الإسلام يرفعون الآذان في بعض مآذنها بعد يوم أو يومين ، فكل من كان مختبئاً يخرج معتقداً أن العدو زال عن المدينة ، فكانوا يغرون بهم ويقتلونهم ، وبقي الأذان والمئذنة رمزين في صراع المسلمين وأعدائهم ، وكانت أحقاد اليهود والنصارى والمشركين تتجه أول ما تتجه إلى المآذن والمؤذنين ، وكلنا يتابع ما يفعله الصرب في البوسنة وما يفعله الصهاينة في فلسطين والهندوس في الهند والروس في الشيشان، ومايفعله غيرهم في بلاد مختلفة من العالم، مما يبين أن الأذان والمئذنة رمز لأمة، وشعار لدين ، فهما مستهدفان كما يستهدف اللواء في المعارك والحروب.
الأذان والدعوة إلى الإسلام:
الأذان كلمات لا إكراه فيها ، بل فيها دعوة إلى الإيمان بالحق والعمل بمقتضاه ، ولعل إدراك الغرب النصراني أن الأذان سينتصر على الناقوس سببٌ في أنهم لايزالون يمنعون رفعه في المساجد الموجودة ببلادهم ، ولكن عندما تكون أغلبية السكان بهذه البلاد مسلمين سيرفع الأذان فوق المساجد ، ولبلوغ هذه الغاية فإن هؤلاء السكان بحاجة إلى من يشرح لهم كلمات الأذان ، ومن يترجم لهم ما يقوله المؤذن ، فالأذان ليس للمسلمين وحدهم ولكنه نداء عالمي كما أن الإسلام دعوة عالمية.
إن عدداً من السياح الأجانب عندما زار بلاد المسلمين تساءلوا ـ عندما سمعوا الأذان ـ عما يقوله هؤلاء المؤذنون ، ودفعهم ذلك إلى التساؤل عن الإسلام.
خاتمة:(1/377)
إن من أسوء ما يبتلى به المسلمون ، أن تجرد شعائر دينهم من معناها ، وتفرغ رموز دينهم من دلالتها ، فتتحول إلى رسوم وأسماء ، والواجب أن نقول ذلك بقوة لتبقى لهذه الرموز دلالتها ، تستعيد ما كان لها من معنى يوم شرعت أول مرة ، وهذا يفرض علينا إحياء طريقة السلف في تلقين أحكام الدين حتى لا تقصر على جانب واحد ، فإذا تناولنا أحكام الأذان على سبيل المثال لا نقتصر على بيان ألفاظه والأدعية التي تكون بعده ومايشترط في المؤذن، بل نجمع إلى ذلك ما ذكرناه في هذا الموضوع ، ونفعل مثل هذا في دراسة الصلاة والزكاة والحج والصيام.. وسائر شعائر الإسلام.
الهوامش :
1- رواه الترمذي وأحمد وأبو داود وابن ماجه وابن خزيمة ، وقال الترمذي: حسن صحيح. وانظر: صحيح سنن أبي داود ، جـ1 ص98 ح469 ، وصحيح ابن ماجه ، جـ1 ص118 ح706.
2- وفي الحديث: أنه علمه في الرؤيا ألفاظ الإقامة أيضاً.
3- مسلم: كتاب الصلاة ، باب استحباب القول مثل قول المؤذن... جـ1 ص288.
4- أخرجه الحاكم في المستدرك (جـ4 ص 98) عن ابن عباس بلفظ: ».. لا تشهد إلا على ما يضيء لك كضياء الشمس« ولكن تعقبه الذهبي ، وضعفه الألباني في إرواء الغليل (جـ8 ص282).
--------------------------------------------------------------------------------
مجلة البيان، العدد (95)، رجب 1416،ديسمبر 1995 .
* * *
http://www.albayan-magazine.com/zwaya/trbwi/22.htm
المفهوم الصحيح للعبادة ومظاهر انحرافه وضعفه
عبد العزيز الجليل(1/378)
يواصل الأخ الكاتب ـ وفقه الله ـ وقفاته الإيمانية التربوية عند بعض الآيات القرآنية في دراساته "وقفات تربوية في ضوء القرآن الكريم"، وهذه وقفته العاشرة عند آية ((إيَّاكَ نَعْبُدُ وَإيَّاكَ نَسْتَعِينُ)) حيث تطرق لمعاني هذه الآية الكريمة وما ورد فيها من أحاديث، مع لمحات علمية وتوجيهات دعوية، سنختار بعضاً منها؛ لما انطوت عليه من دراسة وتحقيق وإيضاح لمفاهيم انحرف معناها في حس الكثير من المسلمين.
- البيان -
ما العبادة؟:
اختلفت أقوال العلماء في مفهوم العبادة وتعريفها، وهذا الاختلاف هو من اختلاف التنوع لا التضاد، أي: إن هذه التعريفات يكمل بعضها بعضاً، والإلمام بكل هذه الأقوال ينتج عنه المفهوم الصحيح للعبادة، ومن هذه الأقوال:
قول ابن القيم (رحمه الله تعالى):
( أصل العبادة: محبة الله، بل إفراده بالمحبة، وأن يكون الحب كله لله، فلا يحب معه سواه، وإنما يحب لأجله وفيه، كما يحب أنبياءه ورسله وملائكته وأولياءه، فمحبتنا لهم من تمام محبته، وليست محبة معه، كمحبة من يتخذ من دون الله أنداداً يحبونهم كحبه، وإذا كانت المحبة له حقيقة عبوديته وسرها: فهي إنما تتحقق باتباع أمره واجتناب نهيه)(1).
وقوله في موطن آخر:
( العبادة تجمع أصلين: غاية الحب بغاية الذل والخضوع) (2).
ويعرفها شيخ الإسلام ابن تيمية (رحمه الله تعالى) فيقول: (العبادة: اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال الظاهرة والباطنة)(3).
وعلى ضوء ذلك: لا يكون العبد متحققاً بوصف العبودية إلا بأصلين عظيمين:
1- الإخلاص لله (جل وعلا).
2- متابعة الرسول.
ومما سبق بيانه من النقولات وغيرها يتضح لنا جليّاً معنى العبادة الحقة التي أمرنا الله (عز وجل) أن نتعبد له بها، ويمكن تلخيص هذا المعنى العظيم وتلك الحقيقة الضخمة فيما يلي:(1/379)
* العبادة الحقة تعني تمام المحبة مع تمام الخضوع والتذلل لله (عز وجل) الذي يعني طاعته (سبحانه) والانقياد لأمره، ومحبة ما يحب، وبغض ما يكره، واتباع رسوله -صلى الله علييه وسلم- فيما أمر ونهى وما سن وما شرع، من غير زيادة ولا نقصان؛ وإلا.. فما قيمة محبة وخضوع لايثمران طاعة واتباعاً وقبولاً والتزاماً؟.
* العبادة الحقة تفرض على العبد أن يكون في كل أوقاته وتحركاته وسكناته مصبوغاً بصبغة العبودية، لا يخرج عنها في أي لحظة من اللحظات.
* ومن صرف شيئاً من العبادة لغير الله (تعالى) فهو مشرك تجب البراءة منه ومن شركه، ولا تصح العبادة إلا بهذه البراءة.
بعض مظاهر الضعف والانحراف في مفهوم العبادة وتطبيقها:
بعد أن اتضح لنا مفهوم العبادة الحقة كما عرضناها من فهم العلماء الربانيين للكتاب والسنة: فلابد بعد ذلك من عرض هذه المفاهيم العظيمة والحقائق الضخمة على واقعنا نحن المسلمين في هذه الأزمنة المتأخرة، وهل هذا الفهم الصحيح للعبادة هو السائد اليوم بين المسلمين؟ أم أن هذا الفهم قد اعتراه من الضعف والانحراف الشيء الكثير؟.
إن المتأمل في حال المسلمين الأليم، والغربة التي يعيشها أهل الإسلام اليوم: ليجد كثيراً من المفاهيم العقدية قد انحرفت عند كثير من عامة المسلمين إلا من رحم الله (عز وجل)، فهناك انحراف في معنى التوحيد والعبادة، وانحراف في عقيدة اليوم الآخر، وانحراف في عقيدة القضاء والقدر، وانحراف.. وانحراف.. ولقد ساهم في هذه الانحرافات غزو أعداء المسلمين لديار المسلمين بثقافاتهم الكافرة وأفكارهم المنحرفة، وقابل هذا الغزو من الأفكار جهلٌ عند كثير من الأجيال المسلمة بدينها وعقيدتها، وعجز عند أكثر علماء الأمة عن تعليم الناس والوقوف في وجه هذا الغزو، (فوافق الغزو قلباً خالياً فتمكنا).
من هنا سيتوجه التركيز على بعض مظاهر الانحراف والضعف في مفهوم العبادة، فمن ذلك ما يلي:
1- الانحراف في تطبيق شرطي العبادة:(1/380)
من مظاهر الانحراف في العبادة ـ فهماً وتطبيقاً ـ ما هو منتشر بين أهل البدع والخرافة في القديم والحديث من ترك لأحد شرطي العبادة ـ أو كليهما ـ واللذين لا تصح العبادة إلا بهما، ألا وهما: الإخلاص والمتابعة... المراد هنا: إيضاح الانحراف الذي يترتب على ترك هذين الشرطين أو أحدهما؛ فترك الإخلاص في العبادة نتج عنه صرف العبادة التي هي لله وحده إلى غيره من الخلق ـ ولو كانوا أنبياء أو ملائكة أو أولياء ـ وهذا صرف للعبادة عن مستحقها، وحجتهم الداحضة عند ربهم: أنهم يؤمنون بأن الله الخالق الرازق بيده الضر والنفع، ولكنهم يتوسلون بالصالحين ليقربوهم إلى الله زلفى؛ وهذا هو الشرك الأكبر الذي من أجله أنزلت الكتب وأرسلت الرسل، فترى هؤلاء يصرفون العبادة بأنواعها المختلفة من ذبح، ونذر، وخوف، ورغبة... وغير ذلك من أصناف العبادة إلى غير الله (عز وجل)، وهذا من أشد مظاهر الانحراف في العبادة؛ لأنه شرك أكبر يضاد الإخلاص لله (عز وجل)، الذي هو شرط من شروط كلمة التوحيد وقبول العبادة.. ومحل الكلام عن هذا الشرك وأنواعه مبسوط في كتب التوحيد والعقائد (4).(1/381)
أما ترك الشرط الثاني لصحة العبادة (وهو المتابعة) فينتج عنه انحرافات كثيرة في العبادة وتطبيقاتها، حيث ظهرت ألوان وصور من العبادات التي لم يأذن بها الله (عز وجل)، ولم يشرعها الرسول لأمته، وبخاصة بين المتصوفة الذين يعطون لمشائخهم حق التشريع، وبعتبرون أقوالهم وأفعالهم مصدراً من مصادر الاستدلال، فظهرت بذلك هيئات وصور متعددة للعبادة والأوراد والأذكار، كلها مبتدعة، سواء أكان ذلك في كيفيتها، أو كمها، أو هيئتها، أو طريقة أدائها، أو زمانها، أو مكانها، وهذه كلها مردودة على أصحابها، لأنها تشريع لم يأذن به الله، قال (تعالى): ((أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُم مِّنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَاًذَنْ بِهِ اللَّهُ وَلَوْلا كَلِمَةُ الفَصْلِ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ)) [الشورى: 21]، ولقوله: (من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد) (5).
2- الانحراف في مفهوم العبادة:
وهو النظر إلى العبادة على أنها أداء للشعائر التعبدية من: صلاة، وصيام، وحج، وذبح، وقراءة قرآن... فحسب، وأن ما سوى ذلك من معاملات، وأخلاقيات، ومباحات.. وغيرها، كل ذلك لايدخل في العبادة.(1/382)
نعم إن هذا المفهوم هو السائد عند بعض المسلمين، سواء أقالوه بلسان مقالهم أم بلسان حالهم وأعمالهم، ولا أدل على ذلك من أننا قد نجد ذاك العبد المصلي، الصائم، القارئ للقرآن، بعد فراغه من هذه الشعائر التعبدية لا يتورع أن يغشّ، أو يرابي، أو يظلم، أو يملأ بيته من آلات اللهو ووسائل الإفساد ما الله به عليم، وكذلك قد نرى المرأة المصلية الصائمة لا تتورع عن التصرف في نفسها بما يخالف الشرع، من سفور، أو زينة محرمة، أو اختلاط.. أو غيره. وإذا نصح مثل هؤلاء الناس، قالوا: إنهم من المصلين العابدين، وقد انتهى وقت العبادة! وهكذا تنحرف الغايات، وتنشأ اللوثات، وتفسد النيات، وذلك كمن يفصل أمر تعليمه وتعليم أولاده عن غاية العبادة لله (عز وجل)، ويربط ذلك بالشهادة والمال والوظيفة، بل يستخدم أي وسيلة توصله إلى ذلك.
إن العبادة بهذا المفهوم المنحرف تجعل المسلم في انفصال وانفصام بين حياته في مسجده وخارج مسجده، لأنه لو كان مفهوم العبادة التي يريدها الله (عز وجل) كما فهمها هذا الصنف من الناس لكانت عبثاً، ولبقي أكثر الأوقات غير معمور بعبادة الله (عز وجل)، وهذا لا يرضاه الباري (جل وعلا)؛ ذلك لأن أوقات الصلوات لا تتعدى ساعتين أو ثلاث في اليوم والليلة، فماذا يكون شأن الساعات الباقية؟ هل تنفق في غير عبادة؟! كلا.. فإن الله (سبحانه) لا يرضى لعباده هذه الحال.
إذن: فالواجب على كل مسلم أن يعلم أنه ما خلق إلا للعبادة، وأن وقته يجب أن يكون في عبادة؛ سواء ما كان منه في الشعائر التعبدية، أو ما كان منه في المعاملات، أو ما كان منه في المباحات، كل ذلك يجب أن يمارسه العبد وشعور العبادة لله (عز وجل) يصاحبه، فيراقب ربه في كل أعماله، وينوي بها التقرب إليه (عز وجل) والاستعانة بها على طاعته.(1/383)
إن هذا الشعور وهذه النية تجعل العبد في كل أعماله ـ حتى في مباحاته ولذاته ـ عبداً لله، مسلماً وجهه لربه (عز وجل)(6)، ((قُلْ إنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ العَالَمِينَ (162) لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ المُسْلِمِينَ)) [الأنعام: 162، 163].
3- الانحراف في التطبيق:
وقد ترتب على ذلك الانحراف في مفهوم العبادة انحراف آخر في تطبيق العبادة، فحتى الشعائر التعبدية التي حُصرت العبادة فيها بحسب، هي الأخرى نالها ما نالها من الضعف والميل بها عن حقيقتها وغايتها، وهذه نتيجة متوقعة وبدهية معروفة؛ فالانحراف في الفهم لابد أن ينتج عنه انحراف في التطبيق، ويوضح الأستاذ محمد قطب (وفقه الله) هذا الانحراف، فيقول:
( حين صار المطلوب كله هو أداء الشعيرة، وانحصرت (العبادة) كلها في هذا الأمر، كان حريّاً بهذا اللون من العبادة أن ينحسر أكثر فأكثر، حتى يصبح المطلوب هو أداء الشعيرة بأي صورة كانت.. ولو كان أداءً آليا بغير روح، أو أداء تقليديّاً يحركه الحرص على التقاليد أكثر مما يحركه الدافع إلى عبادة الله.
وتلك هي الصورة التي انتهت إليها العبادة في الجيل الذي شهد الانهيار).
4- الانحراف في مصدر التلقي:(1/384)
ترتب على الانحراف السابق في مفهوم العبادة انحراف أشد خطراً وأسوأ أثراً، حيث كان الانحراف السابق ذكره منحصراً على مستوى الفرد، بينما هذا الانحراف الذي نحن بصدده يتمثل في النظم التي تحكم في أكثر بلدان المسلمين اليوم، والتي يسعى أربابها إلى عزل الدين عن الحياة وتوجيهها وتنظيمها، وحصره بين جدران المسجد وأداء الشعائر التعبدية، ولسان مقالهم أو حالهم يردد تلك المقولة الجاهلية، والتي قالها أصحاب مدين لنبيهم شعيب (عليه الصلاة والسلام) ويقولها العلمانيون في زماننا: ما للدين وحجاب المرأة وعملها، ما للدين والسياسة وموالاة الكفار ومحبتهم، ما للدين والاقتصاد، ما للدين والإعلام والتعليم..!! إلخ، الدين: أن تعبد الله في المسجد، وتقرأ القرآن، وتذكر الله... هكذا يزعمون!! أما الحياة فلها نظمها التي تتناسب مع تطورها.. إلى آخر هذا الهذيان والانحراف والفجور.
إن هذا الفهم الأعوج هو ما قاله أهل مدين لنبيهم شعيب بعد أن دعاهم إلى التوحيد وترك البخس والنقص في المكيال والميزان، قال الله (عز وجل): ((قَالُوا يَا شُعَيْبُ أَصَلاتُكَ تَاًمُرُكَ أَن نَّتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا أَوْ أَن نَّفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ إنَّكَ لأَنتَ الحَلِيمُ الرَّشِيدُ)) [هود: 87]. إنهم يقولون: يا شعيب: ما دخل عبادتك وصلاتك في حياتنا الاقتصادية، وفي اتباعنا لآبائنا وطاعتهم فيما كانوا يعبدون.. سبحان الله! ما أشبه قلوبهم بقلوب الجاهلين في زماننا هذا، وما أشبه مقولتهم بمقولة العلمانيين المنافقين(7).
والحاصل مما سبق: إذا حصرت العبادة في الشعائر التعبدية فحسب، فما معنى قوله (تعالى): ((اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِّن دُونِ اللَّهِ)) [التوبة: 31]، وما معنى قوله (تعالى): ((وَإنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ)) [الأنعام: 121]، وقد علق العلامة الشنقيطي (رحمه الله) على هذه الآية، فيقول:
((1/385)
فهي فتوى سماوية من الخالق (جل وعلا) صرح فيها بأن متبع الشيطان المخالف لتشريع الرحمن مشرك بالله)(8).
إذن: فإن من أخص خصائص العبادة: الطاعة، والاتباع، والخضوع، والانقياد، فكما أن العبادة تأتي بمعنى الدعاء والنسك، فهي تأتي أيضاً بمعنى الطاعة والاتباع، ولكن الجاهلين أو المتجاهلين يريدون حصرها فقط في الشعائر التعبدية والعبادات الخاصة، ثم لا دخل بعد ذلك للعبادة في شؤون الحياة وتسيير دفتها.
وإن الذين يرون هذا الفصل المشين والفصام النكد بين الدين والحياة على قسمين:
* إما أن يكونوا جهلة بحقيقة الدين وحقيقة العبادة في الإسلام، إذ لم يكن لهم حظ من العلم الشرعي ينير بصائرهم، وإنما غاية ما عندهم ثقافات مشوهة من الغرب أوالشرق تسربت إلى قلوبهم على حين غفلة وخواء، فتمكنت منها، وهؤلاء وأمثالهم من الذين انحرفوا بمفهوم العبادة عن معناها الصحيح بسبب جهلهم، وقد نرى بعضهم من المصلين، الصائمين، التالين للقرآن الكريم!.
وعلاج هذا الصنف من الناس يكون بالعلم الشرعي، والرفق بهم حتى يفقهوا هذا الدين بمعناه الصحيح.
* والأخطر من أولئك هم الذين يفهمون حقيقة العبادة وحقيقة دين الإسلام، ولكنهم يستكبرون عن الانقياد لهذا الفهم، وينطلقون بخبث وغرض سيء لإثارة الشبهات، وصرف المسلمين عن دينهم، وتشويه هذه المفاهيم في نفوسهم، وهؤلاء إن صلوا أو قاموا ببعض الشعائر فهو نفاق وزندقة. والحذر من هؤلاء يجب أن يكون على أشده، كما أن فضح أفكارهم وخططهم هو المتعين، فهم من المنافقين الذين جاء الأمر الإلهي بمجاهدتهم، قال (تعالى): ((يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَاًوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ المَصِيرُ)) [التحريم: 9].
5- الانحراف في المفهوم والتطبيق:(1/386)
ومن مظاهر الانحراف في مفهوم العبادة وتطبيقها ما عرف عن بعض غلاة المتصوفة وزنادقتهم من أن أداء العبادات والطاعات مرتبط بحصول اليقين المطلق ـ هكذا زعموا ـ فإذا وصل العبد إلى هذا المستوى سقط عنه التكليف ولم يعد في حاجة إلى العبادة التي هي من منازل العامة!، أما الخاصة، ومن يسمونهم بالأبدال والأقطاب: فقد بلغوا درجة اليقين التي ترفع عنهم التكاليف والعبادات (نعوذ بالله من هذه الحال)، ونبرأ إلى الله (عز وجل) من أهل الزندقة والإلحاد (9).
هذا... ومن شطحات الصوفية في مفهوم العبادة أيضاً: المقالة المشهورة عن بعضهم من أنهم (لا يعبدون الله خوفاً من ناره، ولاطمعاً في جنته، وإنما حبّاً له وشوقاً إليه).
وواضح ما في هذا الكلام من تكلف وانحراف عن طريق الأنبياء (عليهم الصلاة والسلام)، وسؤالهم الله (عز وجل) جنته وتعوذهم به من النار، يقول شيخ الإسلام (رحمه الله تعالى) في معرض رده على هذه المقالة:
( كان أفضل الخلق يسأل الله الجنة ويستعيذ به من النار، ولما سأل بعض أصحابه عما يقول في صلاته، قال: إني أسأل الله الجنة وأعوذ بالله من النار، أما إني لا أحسن دندنتك ولا دندنة معاذ، فقال: (حولها ندندن) (10) (11).
وقال من قال من السلف: (من عبد الله بالحب وحده فهو زنديق، ومن عبده بالرجاء وحده فهو مرجئ، ومن عبده بالخوف وحده فهو حروري (أي خارجي)؛ ومن عبده بالحب والخوف والرجاء فهو مؤمن موحد).
إذن: فالعبادة الحقة هي التي تجمع بين المحبة والخوف والرجاء والذلة والخضوع، كماسبق ذلك في تعريف العبادة وحقيقتها.
الهوامش :
1) مدارج السالكين، لابن القيم، 1/91.
2) مدارج السالكين، لابن القيم، 1/77.
3) العبودية لابن تيمية، ص4، ت: بشير عيون.
4) مثل: كتاب التوحيد الذي هو حق الله على العبيد، للشيخ محمد بن عبد الوهاب (رحمه الله)، وشروحه المعروفة، ومن أشهرها: (فتح المجيد) و (تيسير العزيز الحميد).(1/387)
5) رواه البخاري من حديث عائشة (رضي الله عنها (، ك/ الصلح، ح/2697، ومسلم، ك/ الأقضية، ح/ 1343.
6) وقد تحدث الأستاذ محمد قطب حول هذا الموضوع حديثا مستفيضاً وفق فيه، عند حديثه عن مفهوم العبادة، انظر كتابه (مفاهيم ينبغي أن تصحح).
7) تحدث الأستاذ سيد قطب عن قوله (تعالى): ((أَصَلاتُكَ تَاًمُرُكَ)) الآية حديثاً قيماً، فضح فيه منطلقات العلمانيين من الدين وتعاليمه ومحاولاتهم الدائبة لفصل الدين عن الحياة بدعاوى ما أنزل الله بها من سلطان، انظر الظلال (آية 87 من سورة هود).
8) أضواء البيان، 7/170.
9) وقد فضح الإمام ابن القيم هؤلاء المتصوفة الزنادقة في (مدارج السالكين)، 1/103، 104.
10) ابن ماجة في الإقامة (910)، والدعاء (3847)، وأبو داود في الصلاة (792)، وفي صحيح ابن ماجة (748).
11) تفسير ((لا إلَهَ إلاَّ أَنتَ سُبْحَانَكَ إنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ)) [الأنبياء: 87] لابن تيمية، تحقيق: عبد العلي حامد، ص13.
--------------------------------------------------------------------------------
مجلة البيان، العدد (104)، ربيع الآخر 1417،سبتمبر 1996 .
* * *
http://www.albayan-magazine.com/zwaya/trbwi/23.htm
تعليمنا والعلم المفقود
محمد بن عبد الله الدويش
إن المتأمل في التعليم السائد اليوم ـ سواءً أكان على مقاعد الدراسة، أو حتى في حلق العلم ودروس المساجد ـ يرى أن هناك إهمالاً عند الكثيرين في العناية بتعليم الرقائق والأدب والسلوك، وأنهم شغلوا كثيراً بتعليم المسائل والخلافيات وآراء الرجال، وصار الحديث في هذه القضايا غالباً من اختصاص الوعاظ القصاصين وحدهم، لذا: غلبت علينا قسوة القلب، وفعلت الأهواء بنا ما فعلت إلا من رحم ربك.
وهذه إشارات عاجلة تؤكد أهمية العناية بهذا الجانب من العلم، وضرورة تقريره ضمن منهاج التعليم، إن كنا نريد أن تُخرِج لنا هذه البرامج علماء ربانيين.(1/388)
إن هذا المطلب الملح تدفع إليه الحقائق الآتية:
أولاً: طالب العلم داعية ومعلم بفعله قبل قوله:
إن طالب العلم وهو يسعى لنشر الخير والعلم لدى الناس، لا يقف دوره على مجرد تبليغ المسائل بقوله، بل يجب أن يرى الناس ذلك من خلال سلوكه وسمته.
لهذا قال أبو العالية: (كنا إذا أتينا الرجل لنأخذ عنه: نظرنا إلى صلاته، فإن أحسن الصلاة أخذنا عنه، وإن أساء لم نأخذ عنه)(1).
بل كان السلف يعدون تعلم هدي العالم وسمته مطلباً أعلى من تعلم المسائل، قال إبراهيم: (كنا نأتي مسروقاً فنتعلم من هديه ودله)(2).
وقال ابن سيرين: (كانوا يتعلمون الهدي كما يتعلمون العلم)(3).
وروى ابن المبارك عن مخلد بن الحسن: (نحن إلى كثير من الأدب أحوج منا إلى كثير من حديث)(4).
وأوصى حبيب الشهيد (وهو من الفقهاء) ابنه، فقال: (يا بني: اصحب الفقهاء، وتعلم منهم، وخذ من أدبهم؛ فإنه أحب إليّ من كثير من الحديث)(5).
فكم يترك طالب العلم أثراً على تلامذته، وعلى عامة الناس من خلال هديه وسمته، وسلوكه وعمله، بل وكم يمحو الخلل في سلوكه الكثير الكثير مما يدعو الناس إليه بقوله.
ثانياً: عوائق في وجه طالب العلم:
يتعرض طالب العلم لمزالق خطيرة وعوائق تعرض له كما تعرض لسائر الناس، بل ربما كانت في حقه أخطر، ومنها:
1- الإعجاب بالنفس: وهذا (عافنا الله منه) عنوان الضلالة وبداية الشطط والانحراف، وليس أدل على ذلك من أن الشيطان إنما طرد من رحمة الله، وكتبت عليه اللعنة إلى يوم الدين بسب العجب والغرور الذي قاده للاستكبار عن أمر الله.
قال الغزالي: (والقلب بيت هو منزل الملائكة ومهبط أثرهم، ومحل استقرارهم، والصفات الرديئة مثل: الغضب والشهوة والحقد والحسد والكبر والعجب وأخواتها، كلاب نابحة، فأنى تدخله الملائكة وهو مشحون بالكلاب)(6).
2- الحسد، وهو خصلة ذميمة، وصفة قبيحة، يسعى الشيطان إلى إهلاك الصالحين بأن يقذفها في قلوبهم.(1/389)
3- الهوى، وحين يستحكم بصاحبه يريه الحق باطلاً، والباطل حقّاً، والمعروف منكراً، والمنكر معروفاً.
4- لبس الحق بالباطل وكتمان الحق، ولهذا: أخذ الله المواثيق على الذين آتاهم العلم ((وَإذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ)) [آل عمران: 187]، وتوعد الذين يكتمون العلم فقال: ((إنَّ الَذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أََنزَلْنَا مِنَ البَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الكِتَابِ أُوْلَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللاَّعِنُونَ)) [البقرة: 159] ولم يقبل (تبارك وتعالى) توبة هؤلاء إلا بشرط البيان، فقال: ((إلاَّ الَذِينَ تَابُوا وَأََصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُوْلَئِكَ أََتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأََنَا التُّوَّابُ الرَّحِيم)) [البقرة: 160].
5- التوصل بالعلم للأغراض والمكاسب الشخصية، ولهذا توعد الله (تبارك وتعالى) أمثال هؤلاء الذين يشترون بآيات الله ثمناً قليلاً ((إنَّ الَذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أََنزَلَ اللَّهُ مِنَ الكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاًً أُوْلَئِكَ مَا يَاًكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إلاَّ النَّارَ وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ القِيَامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أََلِيمٌ (174) أُوْلَئِكَ الَذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالهُدَى وَالْعَذَابَ بِالْمَغْفِرَةِ فَمَا أََصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ)) [البقرة: 174، 175].
ولله در الجرجاني (رحمه الله) حين قال:
يقولون لي فيك انقباض وإنما رأوا رجلاً عن موقف الذل أحجما
أرى النّاسَ من داناهم هان عندهم ومن أكرمته عزة النفس أكرما
ولم أقض حق العلم إن كان كلما بدا طمع صيرته لي سُلّما
إذا قيل هذا مورد قلت قد أرى ولكن نفس الحر تحتمل لضخما
ولم أبتذل في خدمة العلم مهجتي لأخدم من لا قيت لكن لأخدما(1/390)
أأشقى به غرسا وأجنيه ذلة إذاً فاتباع الجهل قد كان أحزما
ولو أن أهل العلم صانوه صانهم ولو عظموه في النفوس لعظما
ولكن أهانوه فهان ودنسوا محياه بالأطماع حتى تجهما
وليس المقصود هنا تعداد الآفات التي يمكن أن يقع فيها طالب العلم، فهذه أمثلة تدل على ما سواها، ونماذج تذكر بأخواتها، فما السبيل لتجاوز هذه الآفات؟ وما الطريق لاجتنابها؟ وهل نحن نعلِّم طالب العلم ما يكون له وسيلة لتجاوزها؟ أم أننا نعنى بإعطائه الأداة، ونهمل بناء النفس التي تحمله؟.
ثالثاً : صفات أهل العلم في القرآن :
إن التعلم يهدف إلى الرقي بالمرء إلى منازل أهل العلم، فما صفاتهم في كتاب الله (عز وجل)؟:
أ- هم يسجدون لله ويخشعون ويبكون حين يسمعون آياته ((قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لا تُؤْمِنُوا إنَّ الَذِينَ أُوتُوا العِلْمَ مِن قَبْلِهِ إذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ سُجَّداً (107) وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إن كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولاً (108) وَيَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعاً)) [الإسراء: 107- 109] إنه ليس هدياً خاصّاً بهذه الأمة؛ بل هو سنة فيمن كان قبلنا.
وقال عبد الأعلى التيمي: (من أوتي من العلم ما لا يبكيه لخليق أن لا يكون أوتي علماً ينفعه، لأن الله (تعالى) نعت العلماء، ثم قرأ القرآن ((إنَّ الَذِينَ أُوتُوا العِلْمَ مِن قَبْلِهِ إذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ سُجَّداً (107) وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إن كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولاً (108) وَيَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ يَبْكُونَ...)) [الإسراء:107ـ109](7).
ب- والعلماء هم أهل الخشية لله (سبحانه وتعالى) ((إنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ العُلَمَاءُ إنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ)) [فاطر: 28].(1/391)
ج- والذين يعلمون يقنتون لله سجداً وقياماً، يحذرون عذابه ويرجون رحمته ((أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِداً وَقَائِماً يَحْذَرُ الآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الأَلْبَابِ)) [الزمر: 9].
أليس من واجب طالب العلم أن يتصف بهذه الصفات، وأن يتطلع إلى هذه المنازل؟ فهل في تعليمنا ما يحققها لديه ويغرسها في نفسه؟ ونعوذ بالله إن كان فيه ما يمحو بقية أثرها ويزيله؛ فهذا عنوان البوار والهلاك.
رابعاً: العناية به في عصر النبوة:
ويصور لنا ذلك أحد شبان أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم-، وأنهم كانوا يعنون بتعلمه، فعن جندب بن عبد الله (رضي الله عنه) قال: كنا مع النبي -صلى الله عليه وسلم- ونحن فتيان حزاورة، فتعلمنا الإيمان قبل أن نتعلم القرآن، ثم تعلمنا القرآن فازددنا به إيماناً(8).
فهو يذكر لنا (رضي الله عنه) جانباً مهمّاً من جوانب التعلم التي قد غفل عنها كثير من طلبة العلم اليوم، فأهملوا تعلم الإيمان ومسائله، وشعروا أن العلم إنما يتمثل في تعلم مسائل الأحكام وحدها، والعناية بجمع آراء الرجال واختلافهم حول مثل هذه المسائل، ونسي أولئك أصل الأصول وأساس الأسس، لذا: فلا نعجب حين ندرك هذا الخلل أن نرى عدم التوافق بين ما يحمله بعض الناس من العلم وبين سلوكه وسمته.(1/392)
وعن أبي الدرداء (رضي الله عنه) قال: كنا مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فشخص ببصره إلى السماء، ثم قال: (هذا أوان يُخْتَلَسُ العلم من الناس، حتى لا يقدروا منه على شيء)، فقال زياد بن لبيد الأنصاري: يا رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وكيف يُخْتَلَسُ منا وقد قرأنا القرآن؟ فوالله لنقرأنه ولنقرئه نساءنا وأبناءنا، فقال: (ثكلتك أمك يا زياد، إن كنت لأعدك من فقهاء أهل المدينة، هذه التوراة والإنجيل عند اليهود والنصارى فماذا يغني عنهم؟) قال جبير: فلقيت عبادة بن الصامت، قال: قلت: ألا تسمع ما يقول أخوك أبو الدرداء، فأخبرته بالذي قال، قال: صدق أبو الدرداء، إن شئت أخبرتك بأول علم يرفع من الناس: الخشوع، يوشك أن تدخل مسجد الجماعة فلا ترى فيه رجلاً خاشعاً(9).
وانظر (رحمك الله) كيف عد عبادة بن الصامت (رضي الله عنه) الخشوع علماً، وأنه أول علم يرفع.(1/393)
ويحكي لنا حنظلة (رضي الله عنه) صورة من مجالسهم مع النبي -صلى الله عليه وسلم- في هذا الحديث، إذ يقول: (لقيني أبو بكر فقال: كيف أنت يا حنظلة؟ قال: قلت: نافق حنظلة، قال: سبحان الله! ما تقول؟ قال: قلت: نكون عند رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يذكرنا بالنار والجنة حتى كأنا رأي عين، فإذا خرجنا من عند رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عافسنا الأزواج والأولاد والضيعات فنسينا كثيراً، قال أبو بكر: فوالله إنا لنلقى مثل هذا، فانطلقت أنا وأبو بكر حتى دخلنا على رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، قلت: نافق حنظلة يا رسول الله، فقال رسول الله: (وما ذاك؟) قلت: يا رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، نكون عندك تذكرنا بالنار والجنة حتى كأنا رأي عين، فإذا خرجنا من عندك عافسنا الأزواج والأولاد والضيعات نسينا كثيراً، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (والذي نفسي بيده إن لو تدومون على ما تكونون عندي وفي الذكر، لصافحتكم الملائكة على فرشكم وفي طرقكم، ولكن يا حنظلة ساعة وساعة) ثلاث مرات(10).
والشاهد من الحديث: أن تلك المجالس التي كانوا يجلسون فيها مع النبي -صلى الله عليه وسلم- كانت تبلغ بهم إلى هذه الحال.
خامساً: عناية السلف به:
ولقد كان السلف (رضوان الله عليهم) يعنون بذلك، فها هو ابن مسعود (رضي الله عنه (يقول: (ليس العلم بكثرة الرواية، إنما العلم خشية الله)(11).
ومالك (رحمه الله) يقول: (العلم والحكمة نور يهدي به الله من يشاء، وليس بكثرة المسائل)(12).
وقال أيضاً: (إن حقّاً على من طلب العلم أن يكون له وقار وسكينة وخشية، وأن يكون متبعاً لأثر من مضى قبله)(13).
وقيل لسعد بن إبراهيم: من أفقه أهل المدينة؟ قال: أتقاهم لربه(14).(1/394)
ولعل من صور عناية السلف به: أنك لا تكاد تجد كتاب حديث يخلو من أبواب الزهد والأدب والرقاق، بل وصنفوا مصنفات خاصة في ذلك، مثل: الجامح لأخلاق الراوي وآداب السامع للخطيب، والمحدث الفاصل للرامهرمزي، وجامع بيان العلم وفضله لابن عبد البر، وأخلاق العلماء، وأخلاق أهل القرآن كلاهما للآجري.
فهل نعيد الاعتبار لهذا العلم المفقود؟.
الهوامش:
1) رواه الرامهرمزي في المحدث الفاصل، ص409.
2) جامع بيان العلم وفضله، 1/127.
3) جامع بيان العلم وفضله، 1/127
4) جامع بيان العلم وفضله، 1/127.
5) جامع بيان العلم وفضله، 1/127.
6) إحياء علوم الدين، 1/49.
7) (أخرجه الدارمي، ح/ 296.
8) رواه ابن ماجة، ح /61.
9) رواه الدارمي، ح/293.
10) رواه مسلم، ح/2750.
11) جامع بيان العلم وفضله، 2/52.
12) جامع بيان العلم وفضله، 2/52.
13) الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع، 1/156، وانظر آداب طالب العلم لمحمد رسلان.
14) أخرجه الدارمي، ح/300.
--------------------------------------------------------------------------------
مجلة البيان، العدد (103)، ربيع الأول 1417،أغسطس 1996 .
* * *
http://www.albayan-magazine.com/zwaya/trbwi/24.htm
المفهوم الصحيح للتوكل - ومظاهر الانحراف فيه
عبد العزيز الجليل
يمكن القول بأن التوكل نصف الدين، ونصفه الثاني هذه(العبادة)؛ لأن الدين استعانة وعبادة ، كما يشير إليه قوله (تعالى): ((إيَّاكَ نَعْبُدُ وَإيَّاكَ نَسْتَعِينُ)) [ الفاتحة: 5] ، وقد ورد التوكل في كثير من آيات القرآن الكريم والأحاديث النبوية الصحيحة، ومن ذلك: قوله (تعالى): ((وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ)) [المائدة: 23] ، وقوله (تعالى): ((وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ)) [الطلاق: 3].(1/395)
وقال (تعالى) عن أوليائه: ((رَّبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإلَيْكَ أَنَبْنَا وَإلَيْكَ المَصِيرُ)) [الممتحنة: 4]، وقال (تعالى) لرسوله : ((فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إنَّكَ عَلَى الحَقِّ المُبِينِ)) [النمل: 79] ، وكذلك: ((وَتَوَكَّلْ عَلَى الحَيِّ الَذِي لا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ)) [الفرقان: 58].
وأما الأحاديث فكثيرة أيضاً ، منها:
أ- في الصحيحين: حديث السبعين ألفاً الذين يدخلون الجنة بغير حساب «هم الذين لا يسترقون ، ولا يتطيرون ، ولا يَكْتَوون ، وعلى ربهم يتوكلون»(1).
ب- وفي صحيح البخاري عن ابن عباس (رضي الله عنهما) قال: »(حسبنا الله ونعم الوكيل) قالها إبراهيم ، حين ألقي في النار ، وقالها محمد حين قالوا له: ((إنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إيمَاناً وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الوَكِيلُ))«(2).
جـ- وفي الترمذي عن عمر (رضي الله عنه) مرفوعاً: »لو أنكم تتوكلون على الله حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير: تغدو خماصاً ، وتروح بطاناً«(3).
تعريف التوكل بمعناه الصحيح:
التوكل عمل قلبي من أعمال القلوب ، وقد وردت له تعريفات كثيرة يكمل بعضها بعضاً لتنتهي مجتمعة إلى حقيقة التوكل ومعناه:
أ -فمن ذلك: ما ذكره الإمام ابن القيم (رحمه الله) عن التوكل: »هو حال للقلب ينشأ عن معرفته بالله ، وتفرده بالخلق والتدبير، والضر والنفع ، والعطاء والمنع، وأنه ما شاء كان، وإن لم يشأ الناس، وما لم يشأ لم يكن ، وإن شاءه الناس ، فيوجب له هذا اعتماداً عليه ، وتفويضاً إليه ، وطمأنينة به ، وثقة به ، ويقيناً بكفايته لما توكل عليه فيه«(4).
ب- ومن ذلك: ما نقله الشيخ محمد العثيمين (حفظه الله) في شرحه لكتاب التوحيد ، حيث قال: »التوكل: هو الاعتماد على الله (سبحانه وتعالى) في جلب المطلوب وزوال المكروه ، مع فعل الأسباب المأذون فيها«(5).(1/396)
تباين الخلق في توكلهم على الله (سبحانه) وأفضلهم في ذلك:
وضّح الإمام ابن القيم (رحمه الله تعالى) هذه المسألة أتم توضيح بقوله:
»فأهل السموات والأرض ـ المكلفون وغيرهم ـ في مقام التوكل ، وإن تباين متعلق توكلهم:
ـ فأولياؤه وخاصته يتوكلون عليه في الإيمان، ونصرة دينه وإعلاء كلمته ، وجهاد أعدائه، وفي محابِّه وتنفيذ أوامره.
ـ ودون هؤلاء: من يتوكل عليه في استقامته في نفسه ، وحفظ حاله مع الله ، فارغاً عن الناس.
ـ ودون هؤلاء: من يتوكل عليه في معلوم يناله منه: من رزق ، أو عافية ، أو نصر على عدو ، أو زوجة ، أو ولد.. ونحو ذلك.
ـ ودون هؤلاء: من يتوكل عليه في حصول الإثم والفواحش؛ فإن أصحاب هذه المطالب لا ينالونها غالباً إلا باستعانتهم بالله وتوكلهم عليه.
فأفضل التوكل: التوكل في الواجب ـ أعني واجب الحق، وواجب الخلق، وواجب النفس ـ وأوسعه وأنفعه: التوكل في التأثير في الخارج في مصلحة دينية، أو في دفع مفسدة دينية؛ وهو توكل الأنبياء في إقامة دين الله، ودفع فساد المفسدين في الأرض، وهذا توكل ورثتهم، ثم الناس بعدُ في التوكل على حسب هممهم ومقاصدهم ، فمِنْ متوكل على الله في حصول الملك ، ومن متوكل في حصول رغيف« (6).
التوكل وأنواعه:
1- توكل الموحدين الصادقين:
وحقيقته: الاعتماد على الله (عز وجل) وحده ، والثقة بكفايته مع فعل الأسباب المأذون فيها من غير اعتماد عليها ولا ركون إليها ؛ فخالق الأسباب ومسببها هو الله وحده.
2- التوكل الشركي ، وهو نوعان:
أ - أكبر، وهو: »الاعتماد الكلي على الأسباب، واعتقاد أنها تؤثر استقلالاً في جلب المنفعة أو دفع المضرة ، وهذا من الشرك الأكبر«(7).(1/397)
ب - الشرك الأصغر ، وهو: »الاعتماد على شخص في رزقه ومعاشه.. وغير ذلك ، من غير اعتقاد استقلاليته في التأثير، لكن التعلق به فوق اعتقاد أنه مجرد سبب، مثل اعتماد كثير من الناس على المالية في الراتب ، ولهذا تجد أحدهم يشعر من نفسه أنه معتمد على هذا الراتب أو من يقرر الراتب اعتماد افتقار ، فتجد في نفسه من المحاباة لمن يكون هذا الرزق عنده ما هو ظاهر«(8).
3- التوكل الجائز:
»وهو أن يُوكِّلَ الإنسان في فعل يقدر عليه ، فيحصل للموكِّل بذلك بعض مطلوبه ، فأما مطالبه كلها فلا يقدر عليها إلا الله وحده«(9) »كمن وكّل شخصاً في شراء شيء أو بيعه ، فهذا لا شيء فيه ، لأنه اعتمد عليه ، وكأنه يشعر أن المنزلة العليا له فوقه ، لأنه جعله نائباً عنه، وقد وكل النبي علي بن أبي طالب أن يذبح ما بقي من هديه ، ووكل أبا هريرة على الصدقة ، ووكل عروة بن الجعد أن يشتري له أضحية«(10) ، ولكن توكيل المخلوق غايته أن يفعل بعض المأمور ، وهو لا يفعل ذلك إلا بإعانة الله له ، فرجع الأمر كله لله وحده.
ضوابط الأخذ بالأسباب:
الأخذ بالأسباب لا بد له من ضوابط تقي من الوقوع في الشرك الناشئ من التعلق بها والاعتماد عليها ، ومن أهم هذه الضوابط ما يلي:
1- »الاعتقاد بأنها لا تستقل بالمطلوب ، بل تُتعاطى من غير ركون إليها ، ومع هذا فلها موانع ، فإن لم يكمل الله الأسباب ، ويدفع الموانع: لم يحصل المقصود ، وهو (سبحانه) ما شاء كان وإن لم يشأ الخلق ، وما لم يشأ لم يكن وإن شاءه الخلق« (11).
2- »ألا يعتقد في الشيء أنه سبب إلا بعلم وتحقق، فمن أثبت سبباً بلا علم، أو بما يخالف الشريعة: كان مبطلاً في إثباته ، آثماً في اعتقاده«(12).
3- »أن الأعمال الدينية لا يجوز أن يُتخذ شيء منها سبباً ، إلا أن يكون مشروعاً ، فإن العبادات مبناها على التوقيف، فلا يتقرب إلى الله (عز وجل) بالأعمال الشركية أو البدعية أو نحوها«(13).(1/398)
4- »إذا لم يوجد من الأسباب في تحصيل المطلوب إلا سبباً محرماً: فلا يجوز مباشرته ولا الأخذ به ، وتوحد السبب في حقه في التوكل على الله (عز وجل) ، فلم يبق سبب سواه ، فإنه من أقوى الأسباب في حصول المراد ، ودفع المكروه ، بل هو أقوى الأسباب على الإطلاق«(14).
5- »إن كان السبب مباحاً، نُظر: هل يضعف القيام به التوكل أو لا يضعفه ، فإن أضعفه، وفرق على العبد قلبه ، وشتت همه: فترْكه أولى ، وإن لم يضعفه: فمباشرته أولى؛ لأن حكمة أحكم الحاكمين اقتضت ربط المسبب به ، فلا تعطل حكمته مهما أمكن القيام بها ، لا سيما إذا كان الأخذ بالسبب عبودية لله (عز وجل) ، فيكون العبد قد أتى بعبودية القلب بالتوكل ، وعبودية الجوارح بالسبب المنوي به القربة« (15).
»إن القيام بالأسباب على نحو ما سبق هو الذي يحقق التوكل ، فمن عطل الأسباب المأمور بها لم يصح توكله ، كما أن القيام بالأسباب المفضية إلى حصول الخير يحقق رجاءه ، فمن لم يقم بها كان رجاؤه تمنياً ، كما أن من عطلها يكون توكله عجزاً أو عجزه توكلاً« (16).
»وسر التوكل وحقيقته هو: اعتماد القلب على الله وحده ، فلا يضره مباشرة الأسباب مع خلو القلب من الاعتماد عليها والركون إليها ، كما لا ينفعه قوله »توكلت على الله« مع اعتماده على غيره وركونه إليه وثقته به ، فتوكل اللسان شيء ، وتوكل القلب شيء«(17).
مظاهر الانحراف في مفهوم التوكل وتطبيقه:(1/399)
بعد أن اتضحت حقيقة التوكل والفهم الصحيح له ومراتب الناس فيه ، فيجدر بنا الآن أن نتعرف على بعض مظاهر وصور الانحراف التي طرأت على هذا العمل العظيم من أعمال القلوب ، وما كان لهذا الانحراف من أثر سيء على بعض أبناء الأمة في عجزهم ، أو تعلقهم بغيرهم ، أو تركهم لما يجب الأخذ به.. وما إلى ذلك من الآثار السيئة والنتائج الوخيمة ، هذا.. ولقد كان للفكر الصوفي المنحرف ، وظهور الفِرَق: أكبر الأثر في انتشار هذه المظاهر من الانحراف ، يضاف إلى ذلك: ما ساهم به الغزو الفكري لهذه الأمة من نشر للمذاهب المادية، التي لا تربط النتائج إلا بالمادة المحسوسة، وتلغي جانب الغيب والإيمان بالله (عز وجل) وقضائه وقدره وملكه وقهره وعظمته.. وما كان لهذه الأفكار كلها أن تؤثر لو كان العلم وفهم العقيدة الصحيحة منتشراً بين الأمة ، ولكن لما وافق هذا جهلاً عند بعض المسلمين بحقيقة هذا الدين وأصوله: نشأ من ذلك بعض المفاهيم المغلوطة للتوكل كما نشأ الضعف في التطبيق لهذه العبادة العظيمة.
وفي الفقرات التالية: أستعرض بعض صور الانحراف والضعف في هذا الجانب المهم من جوانب العقيدة، لعلنا نتفقده في أنفسنا أو عند غيرنا؛ حتى نتجنبه ، ونحذر منه.
ومن أهم مظاهر الانحراف في ذلك ما يلي:
1- النظر إلى التوكل على أنه تواكل وترك للأسباب ، والذين وقعوا في هذا الانحراف على صنفين:
أ- صنف يعلم أن التوكل لا ينافي فعل الأسباب والأمر واضح عنده بلا شبهة ، ولكنه ينطلق من هذا الفهم المنحرف في تبرير عجزه وكسله وتفريطه، فهذا عجزه توكل، وتوكله عجز ، وهذا الصنف من الناس لا ينقصه إلا أن يتقي الله (عز وجل) ، ولايبرر شهوته بشبهة ، وفي ذلك يقول ابن القيم (رحمه الله تعالى):
»وكثيراً ما يشتبه في هذا الباب: المحمودُ الكامل بالمذموم الناقص.
ومنه: اشتباه التوكل بالراحة وإلقاء حمل الكَلِّ؛ فيظن صاحبه أنه متوكل، وإنما هو عامل على عدم الراحة..«(18).(1/400)
ب- أما الصنف الثاني: فقد أُتي من جهله بحقيقة التوكل على الله (عز وجل) ، وجهله بسنن الله (سبحانه) في ارتباط المسببات بالأسباب، وأن الأخذ بالأسباب بضوابطها الموضحة سابقاً لا ينافي التوكل ، بل إن تركها قدح في حكمة الله (عز وجل) ، ونقص في العقل، وما علم صاحب هذا الفهم أن التوكل عليه (سبحانه) هو أقوى الأسباب في حصول المطلوب ودفع المكروه ، يقول الإمام ابن رجب (رحمه الله تعالى): »واعلم أن تحقيق التوكل لا يُنافي السعي في الأسباب التي قدّر الله سبحانه المقدورات بها ، وجرت سنته في خلقه بذلك ، فإن الله (تعالى) أمر بتعاطي الأسباب مع أمره بالتوكّل ، فالسّعيُ في الأسباب بالجوارح طاعةٌ له ، والتوكل بالقلب عليه إيمانٌ به ، كما قال الله (تعالى): ((يَا أَيُّهَا الَذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ)) [النساء: 71]«(19).
ويتحدث ابن القيم (رحمه الله تعالى) عن توكل الرسول وصحابته الكرام مع أخذهم بالأسباب ، فيقول: »... وكان يدخر لأهله قوت سنة وهو سيد المتوكلين ، وكان إذا سافر في جهاد أو حج أو عمرة حمل الزاد والمزاد، وجميعُ أصحابه، وهم أولو التوكل حقّاً،... فكانت هممهم (رضي الله عنهم) أعلى وأجل من أن يصرف أحدهم قوة توكله واعتماده على الله في شيء يحصل بأدنى حيلة وسعي؛ فيجعله نصب عينيه ، ويحمل عليه قوى توكله«(20).(1/401)
2- ويقابل الانحرافَ السابق انحرافٌ في الجانب المقابل، ألا وهو الإفراط في فعل الأسباب والتعلق بها محبةً وخوفاً ورجاء، ومعلوم ما في هذا الانحراف من خطر شديد على التوحيد، فهو إما شرك أكبر: إذا اعتقد فاعل الأسباب أنها تؤثر استقلالاً، وإما شرك أصغر: إذا لم يعتقد ذلك ، ولكنه تعلق بها وحابى من أجلها ، وجعل أكثر اعتماده عليها في حصول المطلوب وزوال المكروه. وما أكثر من يقع منا في هذا الضعف القادح في التوكل على الله (عز وجل) ، ولكن ما بين مُقِلٍّ ومكثر ، وإن وجد من يحقق التوكل على الله (عز وجل) في أمور الدنيا فإن المحققين له في العبادة وأمور الآخرة أقل وأقل ، وفي ذلك يقول الشيخ محمد ابن عثيمين (حفظه الله):
»(ولكن الغالب عندنا ضعف التوكل، وأننا لا نشعر حين نقوم بالعبادة أوالعادة بالتوكل على الله والاعتماد عليه في أن ننال هذا الفعل ، بل نعتمد في الغالب على الأسباب الظاهرة ، وننسى ما وراء ذلك ، فيفوتنا ثواب عظيم وهو ثواب التوكل«)(21).
3- ما ينقل عن بعض غلاة المتصوفة من أن التوكل من مقامات العامة ، لا من مقامات الخاصة ، ومنشأ هذا الانحراف أتى من ظنهم أن التوكل لا يطلب به إلا حظوظ الدنيا ، كما هو شأن عامة الناس ، وهذا غلط ، فإن أعظم ما يُتوكل على الله فيه الأمور الدينية ، وحفظ الإيمان ، وجهاد أعداء الله (عز وجل) ، ورجاء ثوابه (سبحانه).
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية:
».. وعلى هذا: فالذي ظن أن التوكل من المقامات العامة ظن أن التوكل لا يطلب به إلا حظوظ الدنيا ، وهو غلط ، بل التوكل في الأمور الدينية أعظم« (22).
4- جبن القلب والخوف من المخلوق:(1/402)
إن مما ينافي حقيقة التوكل: الخوف من المخلوق خوفاً يدفع إلى ترك ما يجب أو فعل ما يحرم ، محاباة للمخلوق أو خوفاً من شره ، ومثل ذلك يكون أيضاً في الطمع والرغبة ، فالطمع في نفع المخلوق أو الخوف من شرِّه إذا أدى إلى ضعف التعلق بالله (عز وجل) وضعف الثقة به (سبحانه)؛ فإن هذا يقدح في التوكل ، ويضعفه ـ إن لم يذهبه ـ ، ومن تعلق بشيء وُكِلَ إليه ، ومن وكل إلى غير الله (عز وجل) ضاع وهلك ، وخاب وخسر.. ومما يصلح التمثيل به في عصرنا اليوم على هذا الضعف: ما يعتري بعض الدعاة وهو في دعوته إلى الله (عز وجل) من خوف على نفسه أو رزقه أو منصبه ، الأمر الذي يؤدي ببعضهم إلى ترك ما هم عليه من تعليم للعلم أو دعوة إلى الله (عز وجل) ، والإحجام عن مجالات الخير ونفع الناس ، بحجة الحذر والبعد عن الفتن.. والله (سبحانه) أعلم بما في قلوب العالمين. ثم إنه لو كان يغلب على الظن حصول الأذى والابتلاء لكان لذلك بعض الوجه في الأخذ بالرخصة وترك العزيمة ، أما وأن الأمر على العكس من ذلك ؛ حيث يغلب على الظن عدم التعرض للأذى ، فإنه لا تفسير لهذه المواقف إلا ضعف التوكل على الله (عز وجل) ، والوسوسة الشديدة ، والمبالغة في الخوف ، والحذر الزائد من المخلوق الضعيف ، وتهويل أمره ، وهذا من كيد الشيطان ووسوسته ، وكأننا لم نسمع ولم نعِ قوله (تعالى): ((إنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ)) [آل عمران: 175].(1/403)
يقول صاحب الظلال (رحمه الله تعالى): »والشيطان صاحب مصلحة في أن ينتفش الباطل وأن يتضخم الشر، وأن يتبدى قويّاً قادراً قاهراً بطّاشاً جباراً ، لا تقف في وجهه معارضة، ولا يصمد له مُدافِع، ولا يغلبه غالب ، الشيطان صاحب مصلحة في أن يبدو الأمر هكذا ، فَتَحْت ستار الخوف والرهبة ، وفي ظل الإرهاب والبطش: يفعل أولياؤه في الأرض ما يقر عينه، يقلبون المعروف منكراً، والمنكر معروفا، وينشرون الفساد والباطل والضلال،ويُخفتون صوت الحق والرشد والعدل.. والشيطان ماكر خادع غادر يختفي وراء أوليائه، وينشر الخوف منهم في صدور الذين لا يحتاطون لوسوسته... ومن هنا: يكشفه الله ويوقفه عارياً، لا يستره ثوب من كيده ومكره ، ويُعرِّف المؤمنين الحقيقة: حقيقة مكره ووسوسته؛ ليكونوا على حذر ، فلا يَرهبوا أولياء الشيطان ، ولا يخافوهم ، فهم وهو أضعف من أن يخافهم مؤمن يركن إلى ربه ويستند إلى قوته«(23).
الهوامش :
1) البخاري ، ح/5705 ، ك/ الطب ، من حديث عمران بن حصين، ومسلم، ح/218، ك/ الإيمان.
2) البخاري ح/4563 ، ك/ التفسير ـ سورة آل عمران.
3) الترمذي في الزهد ، ح/2345 ، وابن ماجة، ح/4164، وأحمد، 1/52 ، وصححه الشيخ أحمد شاكر ، 1/206 ، وهو في صحيح سنن الترمذي ، ح/1911.
4) مدارج السالكين ، 1/82...وهو دراسة موسعة شرح فيها معاني((إيَّاكَ نَعْبُدُ وَإيَّاكَ نَسْتَعِينُ)) ، وهو (شرح منازل السائرين) للإمام الهروي ، والكتاب ـ مع أهميته واستقصائه لأعمال القلوب ـ فيه استطرادات وبعض شطحات يسيرة ، وقد حُقق مؤخراً تحقيقاً جيداً من قبل الأستاذ »محمد المعتصم بالله البغدادي« ، ولتلافي بعض الملحوظات فيه عمد بعض العلماء والدعاة إلى اختصاره ليكون سهل التناول ، ومن أفضل المختصرات: (تهذيب مدارج السالكين) للشيخ عبد المنعم العزي ، وكذلك: (بغية السالكين من مدارج السالكين) للشيخ عبد الله السبت.
5) شرح كتاب التوحيد للشيخ ابن عثيمين ، 2/185.(1/404)
6) مدارج السالكين ، 2/113 ، 114.
7) انظر: شرح كتاب التوحيد للشيخ ابن عثيمين (حفظه الله) ، 2/190 ، 191.
8) انظر: المصدر السابق ، 2/190 ، 191.
9) انظر: جامع الرسائل لابن تيمية ، 1/89.
10) انظر: شرح كتاب التوحيد ، للشيخ ابن عثيمين (حفظه الله) ، 2/190 ، 191.
11 ، 12) انظر: توحيد الخلاق ، للشيخ سليمان بن عبد الله ، ص 169 ـ 172.
13) المرجع السابق.
14) انظر: الفوائد ، لابن القيم ، ص 86 ، 87.
15) المرجع السابق.
16 ، 17) المرجع السابق.
18) مدارج السالكين ، 2/123 ، 124.
19) جامع العلوم والحكم ، ص 498.
20) مدارج السالكين ، 2/134 ، 135 ، بتصرف.
21) شرح كتاب التوحيد ، للشيخ ابن عثيمين ، 2/190.
22) مجموع الفتاوي ، 10/18 ـ 20 ، باختصار..
23) طريق الدعوة في ظلال القرآن ، 2/151.
--------------------------------------------------------------------------------
مجلة البيان، العدد (108)، شعبان 1417،يناير 1997 .
* * *
http://www.albayan-magazine.com/zwaya/trbwi/25.htm
فضيلة الشكر ..العملة النادرة في هذا العصر
محمد عز الدين توفيق
(1-2)
الشكر هو: الاعتراف بالإحسان(1)، يقال: شكرتُ الله، وشكرتُ لله، وشكرتُ نعمة الله... والشكر مثل الحمد، إلا إن الحمد أعم منه، فإنك تحمد الإنسان على صفاته الجميلة، وتحمده على معروفه وإحسانه، لكنك لا تشكره إلا على معروفه دون صفاته.
وأصل الاستعمال اللغوي للشكر هو ظهور أثر الغذاء في جسم الحيوان، فالشّكور من الدواب: ما يكفيه العلف القليل، أو الذي يسمن على علف قليل، فيكون الشكر هو: ظهور أثر النعم الإلهية على العبد في قلبه إيماناً، وفي لسانه حمداً وثناءً، وفي جوارحه عبادة وطاعة، ويكون القليل من النعمة مستوجباً للشكر الكثير، فكيف بالكثير منها؟!.(1/405)
الشكر شعبة من شعب الإيمان: وشعب الإيمان هي صفاته وأخلاقه المتفرعة عنه، مثل: الصبر، والرضا، والتوبة، والإنابة، والخوف، والرجاء، والرغبة، والرهبة، والتقوى، والورع، والخشوع، والإخبات، والإحسان، والعبادة.
هذه الشعب، وإن كانت جميعها تتفرع عن الإيمان، فهى آثاره في باطن المؤمن وظاهره، إلا إن بينها فروقاً تميز بعضها عن بعض، وبعضها أعم من بعض، ومن شعب الإيمان الجامعة: الشكر؛ فإن كثيراً من الشعب الأخرى تطبيق عملي له، كما إن شعباً أخرى تطبيق عملي للصبر الذي يقابله، فيكون الإيمان نصفين: نصف شكر، ونصف صبر.
وقد اقترن الصبر والشكر في كتاب الله (تعالى) في مواضع، مثل قوله (تعالى): ((إنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ)) [ إبراهيم: 5].
فالشكر على النعمة يقابله الصبر على الضراء، وفي الحديث: (عجباً لأمر المؤمن، إن أمره كله له خير، إن أصابته نعماء شكر فكان خيراً له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيراً له)(2).
ويتداخل الشكر والصبر في شعب عديدة، فيبدو الشكر أعم من الصبر من بعض الوجوه، والصبر أعم من الشكر من وجوه أخرى، ومما يبدو به الشكر أعم: أنه يكون على كل ما قضى الله (تعالى)، بما في ذلك ما يستوجب الصبر، فالمؤمن يشكر ربه على ما نزل به من ضراء ويصبر، وشكره ذلك لإيمانه الراسخ بأن الله (تعالى) حكيم رحيم، فالخير فيما اختاره، وما ظنه العبد مصيبة هو بعاقبته نعمة، ويكفي أن الله (تعالى) يكفِّر بها خطاياه ويكتبها له في حسناته إلى يوم يلقاه، والمقصود: أن كل ما يستوجب صبر المؤمن فإن الشكر يخالطه، فهو بهذا المعنى أعم من الصبر.(1/406)
والشكر صفة من صفات الله (عز وجل): فقبل أن يُشَرف الحق (سبحانه وتعالى) عباده بدعوتهم إلى التخلق بالشكر أخبرهم أنه في حقه صفة من صفات كماله، فمن أسمائه الحسنى: (الشّكُور)، لا يبخس العبادَ أعمالهم، ولا يظلمهم حقهم، بل يجزي بالحسنة أضعافها، ويجزي بالسيئة مثلها وقد يعفو ويغفر، يثني على عباده الذين آمنوا وعملوا الصالحات ويضاعف أجرهم وثوابهم، قال (عز وجل): ((مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إن شَكَرْتُمْ وَآمَنتُمْ وَكَانَ اللَّهُ شَاكِراً عَلِيماً)) [النساء: 147].
وقال (سبحانه): ((إن تُقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً يُضَاعِفْهُ لَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ شَكُورٌ حَلِيمٌ)) [التغابن: 17]، ويوم القيامة: يرى الناس من هذه الصفة الإلهية ما لم يروه في الدنيا، وعند ذلك يقول المؤمنون ما قال الله عنهم في كتابه: ((وَقَالُوا الحَمْدُ لِلَّهِ الَذِي أَذْهَبَ عَنَّا الحَزَنَ إنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ)) [ فاطر: 34].(1/407)
والشكر خلق من أخلاق الأنبياء: فهم أول من اقتبس من نور هذه الصفة الإلهية، فشكروا الله (تعالى) فشكر الله لهم، قال (تعالى) عن نوح (عليه السلام): ((إنَّهُ كَانَ عَبْداً شَكُوراً)) [الإسراء: 3]، وقال عن إبراهيم (عليه السلام): ((إنَّ إبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتاً لِّلَّهِ حَنِيفاً وَلَمْ يَكُ مِنَ المُشْرِكِينَ)) [النحل: 120]، وقال عن سليمان (عليه السلام) ـ لما رأى عرش بلقيس مستقرّاً عنده ـ: ((فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِراً عِندَهُ قَالَ هَذَا مِن فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ)) [النمل: 40]، وكان نبينا محمد أول الشاكرين، فقد قام بواجب الشكر على أكمل وجه، وامتثل لأمر ربه الذي قال له: ((بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُن مِّنَ الشَّاكِرِينَ)) [الزمر: 66]؛ أخرج الشيخان عن عائشة (رضي الله عنها)، قالت: (كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يقوم من الليل حتى تتفطر قدماه، فقلت له: لِمَ تصنع هذا يا رسول الله وقد غُفر لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر، فقال: أفلا أكون عبداً شكوراً)؛ فهو النبي -صلى الله عليه وسلم- الذي لا يلحقه أحد في معرفة النعمة وتعظيمها وشكرها بالقلب واللسان والجوارح.
والشكر خلق من أخلاق المؤمنين: وإنما كان الشكر من أخلاقهم لأن الإيمان يُعَلِّمهم أنهم وما يملكون لله، وما هم فيه من نعم محضُ فضل الله، فكيف لا يشكرون؟، ويعلمهم أنهم إذا شكروا الله (تعالى) فإنما يشكرون لأنفسهم؛ لأن خير هذا الشكر يعود إليهم، والله غني عنهم، قال الله (تعالى): ((يَا أََيُّهَا الَذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إن كُنتُمْ إيَّاهُ تَعْبُدُونَ)) [البقرة: 172]، وقال (سبحانه): ((وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ وَمَن يَشْكُرْ فَإنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَن كَفَرَ فَإنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ)) [لقمان: 12].(1/408)
الشكر في الناس قليل: إذا كان الشكر من صفات الأنبياء والمؤمنين، فإنه ليس كذلك عند كل الناس؛ فالانتفاع بالنعم والغفلة عن المنعم بها سمة أكثر البشر، على الرغم من ظهورها وكثرتها وإحاطتها بهم من كل جانب، ((وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الأَرْضِ وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ قَلِيلاً مَّا تَشْكُرُونَ)) [الأعراف: 10]، وقوله (تعالى): ((وَهُوَ الَذِي أَنشَأَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ قَلِيلاً مَّا تَشْكُرُونَ)) [المؤمنون: 78]، وقوله (تعالى): ((وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ)) [سبأ: 13].
تقصير أهل هذا الزمان في الشكر: ولو كان الناس يُحْدثون لكل نعمة شكراً، لكان أهل هذا الزمان أَشكر لله من كل من سبقهم، لكثرة ما فتح الله عليهم من نعمة، آثرهم بها على غيرهم، فهم يشتركون مع السابقين في نعم لا تحصى، ويزيدون عليهم بنعم أخرى لم يعرفها المتقدمون على الرغم من وجودها في الأرض، وإنما تمكنوا من اكتشافها في هذا العصر لتقدم علومهم، والعلوم هبة العقل، والعقل هبة الله الأكرم الذي علم الإنسان ما لم يعلم.
لقد حصل تطور هائل في الإنتاج الزراعي والحيواني، وفي النقل ووسائل المواصلات، وفي اللباس والزينة، وفي الكسب والاحتراف، وفي السكن والفراش والأثاث، وفي الطب والعلاج، وفي الإعلام والتواصل، وفي كل مجال تقريباً نجد تطوراً كبيراً غيّر ظروف الناس نحو الأحسن ومكّنهم في الأرض ما لم يمكن لمن قبلهم.
ويبدو موقف هذا الجيل صعباً عندما يلقى ربه، بالنظر إلى المفارقة العجيبة بين ازدياد النعم وتناقص الشكر، فالنعم تزيد والشكر ينقص، وصدق الله: ((إنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ)) [البقرة: 243].(1/409)
الشكر يقابله الكفر: فشكر النعمة: ذكرها ونشرها، وكفرها: جحدها وحجبها، قال الله (تعالى): ((وَمَن شَكَرَ فَإنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَن كَفَرَ فَإنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ)) [النمل: 40]، وقال (عز وجل): ((إن تَكْفُرُوا فَإنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنكُمْ وَلا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الكُفْرَ وَإن تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ)) [الزمر: 7].
ومن أسباب كفر النعم: الغفلة عنها ونسيانها؛ أو تفسير مصدرها تفسيراً باطلاً، فتصده شبهات أو شهوات عن رؤية النعم أو رؤية المنعم بها، وإذا تسلطت الشبهات والشهوات على قلب ابن آدم كثرت فيه الأفكار الباطلة والإرادات الفاسدة، ومن ذلك: ما ذكره الله (تعالى) عن قارون عندما ذكّره قومه بأن ما أدركه من مال نعمة من الله، فليحسن كما أحسن الله إليه ((قَالَ إنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي)) [القصص: 78]، وظن أن تلك الأسباب التي أدرك بها ذلك المال نتيجة علمه ومهارته، وغاب عنه أنه وما يملك لله وحده، وأنه لا يرد عن نفسه ولا عن ماله الهلاك إذا شاء الله (تعالى) أن يهلكه أو يهلك ماله، وكذلك كان، لكنه لم ينتفع بآيات الله لما نزلت به، وإنما انتفع بها من اغتر به من قومه، أما هو فقد ذهب عِبرة لمن خلفه، والسعيد من وعظ بغيره، والشقي من اتعظ الغير به.
فحتى لا يكفر العبد نعمة الله يجب أن ينظر إلى ما وراء الوسائط والأسباب حتى لا تحجبه الوسائط عن رؤية المنعِم الذي قدرها، قال (تعالى): ((وَمَا بِكُم مِّن نِّعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ....)) [النحل: 53].(1/410)
الشكر درجات: إذا كانت النعم تتفاضل، فهل يتفاضل الشكر؟، والجواب: نعم، فالشكر أشبه بمتصل يبدأ بأسوأ درجات الكفر وينتهي بأعلى درجات الشكر، فإذا كان الكافر محروماً من هذا الخلق ولا حظ له فيه، فإن المؤمنين بعد اشتراكهم في أصل الصفة يتفاوتون فيها زيادة ونقصاً، بل تتفاوت أحوال الواحد منهم، فلا يكون شكره على درجة واحدة في كل أوقاته ومراحل عمره، وحتى ينافس المسلم على هذه الدرجات: ينبغي أن يدخل حلبة السباق متسلحاً بالعلم اللازم، وذلك بأن يعرف مراتب الشكر الثلاث، وهي: شكر القلب، وشكر اللسان، وشكر الجوارح.
شكر القلب: أول الشكر: علم، ومحله: القلب، فيعلم أن الله (تعالى) هو المنعم بكل النعم التي يتقلب فيها، فالالتفات إلى النعمة وحدها لا يجعل القلب شاكراً حتى يفسر: هذه النعمة من أين جاءت؟، ومَنْ ساقها إلى الإنسان؟، وما دور الأسباب التي حصلت بها؟.
وقد جاء القرآن الكريم ليدفع جميع التفسيرات التي تنسب النعم لغير الله، قال (تعالى): ((يَا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ لا إلَهَ إلاَّ هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ)) [ فاطر: 3]، وقال (عز وجل): ((أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَكْفُرُونَ))[العنكبوت: 67].
إن رصد النعم، والتعرف إليها، وتسميتها.. مرحلة تمهيدية لابد منها لشكر القلب، ولذلك أمر القرآن الكريم بإحصاء النعم ليكتشف الإنسان كثرتها وعجزه عن الإحاطة بها، فيعتبر بما عرف منها وأحصى، ويعتبر بما عجز عن معرفته وإحصائه، ولا يفهم من الآية الآتية عكس هذا؛ لأنها جاءت عقب مجموعة من النعم سماها القرآن الكريم وعدها، ثم قال: ((وَإن تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا إنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ)) [النحل:18].(1/411)
وهناك طرق يمكن أن يسلكها القلب ليجمع بها في عالمه الذهني ما يوجد من النعم في العالم الخارجي، ومنها: ردها إلى أصولها، فالنعم أصول وفروع، فالصحة نعمة أصلية، يتفرع عنها: الحركة، والمشي، والعمل، والرياضة، والأكل، والشرب، والنوم، والسفر، والتعلم.. ومثل الصحة: الوقت، والعلم، والمال.. فهي نعم أصلية تندرج تحت كل واحدة نعم لا تحصى.
ومن هذه الطرق: ضم النعم إلى ما يجانسها ويشابهها، ونستطيع أن نصف النعم التي أنعم الله بها علينا في ثلاث دوائر، تضم كل واحدة عدداً لا يحصى من النعم.
فالأولى: تشمل النعم التي أنعم الله بها علينا بوصفنا مخلوقات، فهي نعم متفرعة عن نعمة الخلق والإيجاد، والثانية: تشمل النعم التي أنعم الله بها علينا بوصفنا آدميين، فهي نعم متفرعة عن نعمة الآدمية والإنسانية، والثالثة: تشمل النعم التي أنعم الله بها علينا بوصفنا مسلمين، فهي نعم متفرعة عن نعمة الهداية والإيمان.(1/412)
فالدائرة الأولى: تشمل سلسلة لا تنتهي من الترتيبات الكونية جعلت حياتنا على هذا الكوكب ممكنة، وقد عرف الإنسان اليوم ما لم يكن يعرفه أسلافه عن هذه الترتيبات، وعرف من دقتها أن أي خلل يقع في واحد منها يجعل الحياة على الأرض مستحيلة.. وعلى سبيل المثال: لو كانت الأرض أقرب إلى الشمس مما هي عليه الآن لكانت كالكواكب القريبة منها كوكباً ملتهباً وساخناً تصل حرارته إلى بضع مئات، ولو كان القمر أقرب إلى الأرض منه الآن لارتفع المد في البحار إلى الدرجة التي تغرق فيها المناطق الساحلية المأهولة، وإذا زاد المد أزالت الأمواج أعلى قمم الجبال في أيام، ولو لم يكن للأرض غلاف هوائي لم يمكن وجود حياة، ولو لم يكن فيها ماء لم يظهر كائن حي واحد، ولو لم تكن تدور على نفسها وحول الشمس لم يمكن بقاؤها في مدارها، بل إن وقوفوها للحظة واحدة يعني اجتذاب الشمس لها وفناءها السريع بالاندماج مع هذا النجم المشتعل الذي يزود الأرض بحاجتها من الضوء وهو على بعد مئة وخمسين مليوناً من الكيلومترات.. والأمثلة لا تحصى.
والدائرة الثانية: تجمع النعم التي خص الله بها الإنسان من دون سائر الحيوانات التي تشاركه الحياة على الأرض، ومنها: أنه (سبحانه) خلقه بيده، ونفخ فيه من روحه، وأسجد له ملائكته، وجعله عاقلاً ناطقاً، وسخر له ما في السموات والأرض، وأنزل إليه الكتب، وبعث إليه الرسل، ووعده على الإيمان والطاعة بالجنة.
فهذه الشمس، وهذا القمر، وهذه النجوم، والجبال، والبحار، والأنهار والأشجار، والدواب، والأنعام، والأسماك، والمعادن، والثمار..كلها سخرة له، يأكل، ويلبس، ويفترش، ويدخر، ويتنزه.. فتمت نعمة الله عليه بما أعطاه من قدرة على التسخير، وبما جعل في هذا الكون من استعداد للتسخير.
(((1/413)
أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً)) [لقمان:20]، ((اللَّهُ الَذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقاً لَّكُمْ وَسَخَّرَ لَكُمُ الفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي البَحْرِ بِأَمْرِهِ وسَخَّرَ لَكُمُ الأَنْهَارَ (32) وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبَيْنِ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ (33) وَآتَاكُم مِّن كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإن تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا إنَّ الإنسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ)) [ابراهيم: 32،34]، ((وَهُوَ الَذِي سَخَّرَ البَحْرَ لِتَاًكُلُوا مِنْهُ لَحْماً طَرِياً وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِن فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (14) وَأَلْقَى فِي الأَرْضِ رَوَاسِيَ أَن تَمِيدَ بِكُمْ وَأَنْهَاراً وَسُبُلاً لَّعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (15) وَعَلامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ (16) أَفَمَن يَخْلُقُ كَمَن لاَّ يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ (17) وَإن تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا إنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ)) [النحل: 14 18]، ((وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُم مِّمَّا خَلَقَ ظِلالاً وَجَعَلَ لَكُم مِّنَ الجِبَالِ أَكْنَاناً وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الحَرَّ وَسَرَابِيلَ تَقِيكُم بَاًسَكُمْ كَذَلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ (81) فَإن تَوَلَّوْا فَإنَّمَا عَلَيْكَ البَلاغُ المُبِينُ (82) يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللَّهِ ثُمَّ يُنكِرُونَهَا وَأَكْثَرُهُمُ الكَافِرُونَ)) [النحل: 81 83].(1/414)
والدائرة الثالثة: تشمل النعم التي خص الله بها المؤمنين دون سائر الناس، وأعظمها في الدنيا هي: نعمة الإيمان نفسه، وأعظمها في الآخرة: رضوان الله (تعالى)، ورؤيته، وجواره في جنته، وصحبة الأنبياء والصديقين والشهداء والصالحين من عباده.
((يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُل لاَّ تَمُنُّوا عَلَيَّ إسْلامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلإيمَانِ إن كُنتُمْ صَادِقِينَ)) [الحجرات: 17]،((الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإسْلامَ دِيناً)) [المائدة: 3].
وتتفرع عن نعمة الهداية والإيمان نعم كثيرة، منها: الأمن، والسكينة، والمغفرة،والرحمة، والتيسير، والرزق الواسع، والبركة في المال والعمل والأهل.. وغيرها كثير.
هذه دوائر ثلاث تصنف النعم حسب أنواعها وأجناسها.
أما اكتشاف النعم والتعرف عليها تفصيلاً فله طريقان، هما: الوحي، والعقل، فالكتاب والسنة ذكرا نِعماً كثيرة، وأرشدا إلى وجوه المنافع الكامنة فيها، وبيّنا طريق شكرها.. والعلوم البشرية ـ طبيعية، وإنسانية ـ اكتشفت نعماً أخرى، ولا زالت تكشف نعماً جديدة أو منافع جديدة لنعم معروفة.(1/415)
كثير من النعم لا يحتاج الإنسان إلى العلوم المتخصصة ليعرف منافعها وفوائدها، لكن هذه العلوم تُوسِّعُ معارف الإنسان، فيعرف منها ما لا يعرفه بالنظر العادي أو بالتجربة العادية، فالحواس الخمس، واللسان والفم، واليدان والرجلان، والماء والهواء، والطعام واللباس، والشمس والقمر، والليل والنهار.. نِعَم يستطيع كل إنسان أن يعد منافعها، ولكن العلوم التي درست هذه النعم تعرف عنها أكثر مما يعرفه الشخص العادي، فهذه العلوم في مسيرتها الطويلة كشفت ـ بقصد أو بغير قصد ـ من وجوه المنافع في الشيء الواحد ما يجعل نعمة واحدة من نِعَم الله نعم لا تحصى، وهذا وجه آخر في معنى قول الله (تعالى): ((وَإن تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا)) [النحل: 18]؛ لأن إحصاءها لا يمكن إلا وهي محصورة، فكيف وهي تتجدد، وتزيد، ويظهر في نعم معروفة ما لم يكن معروفاً؟، فكيف يحصي الإنسان شيئاً لا ينحصر؟.
يقول الله (تعالى): ((فَلْيَنظُرِ الإنسَانُ مِمَّ خُلِقَ)) [الطارق: 5].
ويقول (سبحانه): ((فَلْيَنظُرِ الإنسَانُ إلَى طَعَامِه)) [ عبس: 24].(1/416)
فلو قام الإنسان برحلة عقلية مع الجنين في أطوار خلقه حتى يصير إنساناً سويّاً، وقام برحلة مماثلة مع الطعام خارج الجسم ثم داخل الجسم حتى يصير غائطاً وبولاً.. ما استطاع أن يحصي نعم الله عليه في هاتين الرحلتين اللتين يمر بالأولى مرّاً، أو يمر بالثانية آلاف المرات، فيكف إذا استعان بما قاله علم الأجنّة عن الرحلة الأولى وما قاله علم الفسيولوجيا عن الثانية؟، ومع كل نعمة احتمالات عقلية أخرى لِما كان سيحدث من أنواع الاختلالات والأعراض والإصابات لو لم تسر الأمور سيراً طبيعيّاً، فالنعم تعرف بما يقابلها من المحن، وكثيراً ما نجد في القرآن الكريم التذكير بالنعمة وبالاحتمالات العقلية المقابلة، كقوله (تعالى): ((أَفَرَأَيْتُمُ المَاءَ الَذِي تَشْرَبُونَ (68) أَأَنتُمْ أَنزَلْتُمُوهُ مِنَ المُزْنِ أَمْ نَحْنُ المُنزِلُونَ (69) لَوْ نَشَاءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجاً فَلَوْلا تَشْكُرُونَ)) [الواقعة: 68 70].
أي: لو نشاء جعلناه مالحاً، ولو تبخرت مياه البحر مرة واحدة بأملاحها لسقطت الأمطار مالحة، فأفسدت الحياة النباتية والحيوانية والإنسانية لكنها تتبخر دون أن تحمل معها الأملاح فتسقط ماءً عذباً.
شكر القلب وفتنة الشيطان: لا يمكن أن يسلك الإنسان طريق الشكر دون أن يعرض له الشيطان بفتنته، بل سيقعد له بكل وجه، ويأتيه من كل طريق، ليُغفل قلبه عن ذكر الله وشكره، قال (تعالى): ((ثُمَّ لآتِيَنَّهُم مِّنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَن شَمَائِلِهِمْ وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ)) [الأعراف: 17].
فلا بد من كسب هذه الجولة والتصدي لهذه الفتنة ودفع وساوسه عن القلب، وهي شبهات تفسر النعمة بالباطل أو شهوات تصرف القلب عن الالتفات إلى النعمة عند الانتفاع بها، فإذا تحرر القلب من هذه الوسوسة فاللسان والجوارح تبع له، تصلح بصلاحه وتفسد بفساده.
الهوامش :
1) انظر: لسان العرب، مادة (ش ك ر).(1/417)
2) رواه مسلم في الزهد.
--------------------------------------------------------------------------------
(2-2)
تطرق الكاتب في الحلقة السابقة إلى توضيح حقيقة الشكر، فبيّن أنه شعبة من شعب الإيمان، وصفة من صفات الله، وخلق من أخلاق الأنبياء والمؤمنين، ثم بيّن قلة الشاكرين. وبعد أن ذكر كفر النعمة الذي يقابل الشكر وضح درجات الشكر ودوائره... وفي هذه الحلقة يتابع بيان جوانب أخرى من الموضوع.
ـ البيان ـ
شكر اللسان:
ولسان المرء يعرب عما في قلبه، فالكلام اللفظي يترجم ما في النفس ويظهره؛ فإذا امتلأ القلب شكراً لله (تعالى) لهج اللسان بذلك، وقد جاء الإسلام ليعلم الناس كيف يشكرون ربهم بألسنتهم كما يشكرونه بقلوبهم، جاء يعلمهم ماذا يقولون.
وهذه أمثلة لأذكار وأدعية تتضمن الحمد والثناء على الله (تعالى) وشكره على نعمه وآلائه:
أولاً: إذا أفاق من نومه يقول: (الحمد لله الذي أحيانا بعد ما أماتنا وإليه النشور) (1).
ويقول: (الحمد لله الذي عافاني في جسدي ورد عليّ روحي وأذن لي بذكره)(2).
ثانياً: وإذا أوى إلى فراشه لينام يقول: (الحمد لله الذي أطعمنا وسقانا وآوانا؛ فكم ممن لا كافي له ولا مؤوي)(3).
ثالثاً: ومن أذكار الصباح والمساء يقول: (اللهم ما أصبح بي من نعمة أو بأحد من خلقك فمنك وحدك لا شريك لك فلك الحمد ولك الشكر، من قاله حين يصبح فقد أدى شكر يومه، ومن قاله حين يمسي فقد أدى شكر ليلته)(4).
رابعاً: وإذا أراد أن يستغفر فسيد الاستغفار أن يقول: (اللهم أنت ربي لا إله إلا أنت، خلقتني وأنا عبدك، وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت، أعوذ بك من شر ما صنعت، أبوء لك بنعمتك عليّ وأبوء بذنبي؛ فاغفر لي؛ فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت، من قاله حين يمسي فمات من ليلته دخل الجنة،ومن قاله حين يصبح فمات من يومه دخل الجنة)(5)، والاعتراف بالنعمة والاعتراف بالتقصير في شكرها، في قوله: أبوء لك بنعمتك عليّ وأبوء بذنبي.(1/418)
خامساً: وإذا أراد أن يدعو أي دعاء افتتح بالحمد لله أولاً والثناء عليه بما هو أهله، ثم الصلاة على نبيه، ويذكر بعد ذلك حاجته.
سادساً: وإذا أراد أن يخطب في جمعة أو نكاح أو أي أمر ذي بال افتتح بالحمد لله كما كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يفعل، وتسمى خطبته الافتتاحية بخطبة الحاجة.
سابعاً: وإذا صلى فالحمد في دعاء الاستفتاح وفي سورة الفاتحة وفي الرفع من الركوع وفي أذكار ما بعد السلام.
فمن أذكار الاستفتاح: الله أكبر كبيراً، والحمد لله كثيراً، وسبحان الله بكرة وأصيلاً (6).
ومن أذكار الرفع من الركوع: سمع الله لمن حمده، ربنا ولك الحمد حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه (7).
أو (ربنا لك الحمد ملء السموات وملء الأرض، وملء ما شئت من شيء بعد. أهل الثناء والمجد. أحق ما قال العبد. وكلنا لك عبد، اللهم لا مانع لما أعطيت ولا معطي لما منعت، ولا ينفع ذا الجد منك الجد)(8).
ومن الذكر عقب الصلوات المفروضة أن يسبح الله ثلاثاً وثلاثين، ويحمده ثلاثاً وثلاثين، ويكبره ثلاثاً وثلاثين، ويقول تمام المئة: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، من قال ذلك غفر ذنوبه وإن كانت مثل زبد البحر (9).
ومن أدعية التهجد: اللهم لك الحمد أنت نور السموات والأرض ومن فيهن، ولك الحمد أنت قَيّام السموات والأرض ومن فيهن، ولك الحمد أنت رب السموات والأرض ومن فيهن، ولك الحمد أنت الحق ووعدك الحق وقولك الحق ولقاؤك حق والجنة حق والنار حق ومحمد حق والساعة حق (10)... إلى آخر الدعاء.
ثامناً: وإذا أكل أو شرب أو أفطر أو سافر أو سئل عن حاله أو عطس يقول: الحمد لله.
تاسعاً: وإذا أراد أن يحمد ربه في أي ساعة من ليل أو نهار حمده؛ لأنه من الأذكار المطلقة: (كل تحميدة صدقة)(11).(1/419)
ولو مكث العبد يومه كله يلهج بالحمد لله (تعالى) ما وفّى شكر نعمة واحدة من النعم الإلهية عليه، فكيف وهي نعم كثيرة لا تحصى؟ وما أهدف الدعاء النبوي الذي رواه مسلم عن عائشة (رضي الله عنها) قالت: افتقدت النبي -صلى الله عليه وسلم- ذات ليلة، فالتمسته، فوقعت يدي على بطن قدميه وهو في المسجد وهما منصوبتان، وهو يقول: اللهم إني أعوذ برضاك من سخطك، وبمعافاتك من عقوبتك، وبك منك، لا أحصي ثناءً عليك، أنت كما أثنيت على نفسك).
لا يستطيع أحد أن يحصي الثناء على ربه؛ لأنه لا يستطيع أن يحصي نعمه عليه، فليسأل العون من ربه، وليقل كما قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- : (يا معاذُ! إني أحبك؛ فلا تَدع أن تقول دبر كل صلاة: اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك)(12).
شكر الجوارح :
والقلب واللسان معدودان في الجوارح والمقصود ما سواهما من بقية أعضاء الإنسان وحواسه التي يكسب بها أعماله، والحقيقة: أنه ما من عمل يعمله ابن آدم إلا وهو فيه شاكر لنعم الله أو كافر لها، ويتصور شكر الأعمال باستعمال النعم فيما يرضي الله (تعالى) وهذا يحتاج إلى فقه في دين الله (تعالى)؛ لأن العمل الصالح الذي يرضاه الله (تعالى) يعرف من طريق الوحي قال (تعالى): ((حَتَّى إذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحاً تَرْضَاهُ)) [الأحقاف: 15]، فسأل العمل الصالح الذي يرضاه الله عقب سؤاله التوفيق إلى شكر النعمة؛ وهذا دليل أن الشكر باللسان وحده لا يكفي.
وقد جاء في السنة النبوية أن كل آدمي يصبح معافى في بدنه؛ فهو مطالب بثلاثمئة وستين صدقة يتصدق بها في ذلك اليوم بعدد مفاصل جسمه؛ وتكون هذه الصدقات هي الشكر اليومي الذي يفك به رقبته من النار.(1/420)
وعند النظر في روايات الحديث الوارد في ذلك نجد أنه وَسّع معنى الصدقات فلم يحصرها في الصدقة المالية، بل جعلها أنواعاً من الأعمال الصالحة فيها أذكار وعبادات، وفيها أعمال اجتماعية، وفيها أعمال مهنية، وفيها أعمال دعوية.. يجمعها وصف البر والخير أو العمل الصالح، فصارت هذه الأعمال الصالحة المتنوعة فداءً يفدي به العبد نفسه من النار كل يوم.
أخرج مسلم من حديث عائشة عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: (خُلق ابن آدم على ستين وثلاثمئة مفصل، فمن ذكر الله، وحمد الله، وهلل الله، وسبح الله، وعزل حجراً عن طريق المسلمين، أو عزل شوكة، أو عزل عظماً، أو أمر بمعروف، أو نهى عن منكر عدد تلك الستين والثلاثمئة السلامى أمسى يومه وقد زحزح نفسه عن النار)(13).
وقد تتبع ابن رجب الحنبلي (رحمه الله تعالى) روايات هذا الحديث وألفاظه في شرحه للحديث السادس والعشرين من الأربعين النووية واستخرج منها أنواعاً كثيرة من الأعمال سماها النبي -صلى الله عليه وسلم- صدقات، كما تتبعها النووي (رحمه الله تعالى) في الباب الثالث عشر من رياض الصالحين وجعل عنوانه: باب في بيان كثرة طرق الخير.
واللافت للنظر في هذه الأحاديث هو التصريح بأن تلك الصدقات (أو الأعمال) تؤدي عن صاحبها شكر يومه، وقد قسّم ابن رجب في شرحه للحديث السادس والعشرين المشار إليه آنفاً الشكر إلى: واجب ومستحب، فحمل ما ذكر من الفرائض واجتناب الكبائر على الشكر الواجب، وحمل ما سوى ذلك من أنواع البر على المستحب.(1/421)
ولم يكن قصد النبي -صلى الله عليه وسلم- حصر الصدقات في الأعمال التي ذكر رغم كثرتها بمجموع الروايات؛ وإنما قصد التمثيل، والقاعدة هي أن كل عمل صالح فهو صدقة تضاف إلى الصدقات الأخرى التي يؤدي بها العبد شكر يومه ويجب أن يجاوز في مجموعها ثلاثمئة وستين، وهو شكر يتجدد كل يوم فلا يغني شكر يوم عن شكر يوم غيره؛ والدليل أن الأمثلة ليست للحصر هو حديث جابر (رضي الله عنه) أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: (كل معروف صدقة) (14).
لا تعارض بين شكر الله وشكر الناس :
لأن الله (عز وجل) هو الذي أذن بشكرهم إذا استحقوا الشكر قال (تعالى): ((أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إلَيَّ المَصِيرُ)) [لقمان: 14].
ولا يخفى الفرق بين شكر العبد وشكر الله، فلا أحد في قلب المسلم يعدل ربّه وخالقه لكنه يعرف لكل ذي فضل فضله، ويكافئ كل صانع معروف بما يستحقه؛ فإن لم يستطع مكافأته شكره ودعا له وقال: جزاك الله خيراً.
هناك من يشكر المخلوق ولا يشكر الخالق، وهناك من يشكر الخالق ولا يشكر المخلوق؛ وهدي الإسلام أن يشكر الخالق والمخلوق، وفي الحديث (15): (لا يشكر الله من لا يشكر الناس)، أن الله (تعالى) لا يقبل شكر عبده له إذا لم يشكر من أجرى النعمة على يديه، أو يكون المعنى: أن من كان من طبعه كفر نعمة الناس كان من عادته كفر نعمة الله.
لا تنظر إلى ما ليس عندك وتنسى ما عندك!(1/422)
تعرف النعم بدوامها، وتعرف بزوالها، وتعرف بالمقارنة، وتعرف بالتفكر. ومن الآفات التي تضعف شكر العبد كثرة نظره إلى ما عند غيره من النعم فينسى ما عنده أو يحتقره، والمنهج السليم أن ينظر ما عنده ويقارنه بما ليس عند غيره؛ فيحمد الله على ما أولاه وآتاه، ويسأل ما ليس عنده من الله وحده، قال الله (عز وجل): ((لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِن كَفَرْتُمْ إنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ)) [ابراهيم: 7] وقال (تعالى): ((وَلا تَتََمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ لِّلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِّمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِّمَّا اكْتَسَبْنَ وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِن فَضْلِهِ)) [النساء: 32].
وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة (رضي الله عنه) قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- : (انظروا إلى من هو أسفل منكم، ولا تنظروا إلى من هو فوقكم؛ فهو أجدر ألا تزدروا نعمة الله).
وحتى لا يحيك في صدر المؤمن شيء إذا رأى من يفضله في النعم فإنه ينبغي أن يذكر بأن النعم ابتلاء يتبعه حساب فعليه أن يُقبل على ما آتاه الله منها فيؤدي شكره ويسأل الله من فضله والإعانة على الشكر، قال (تعالى): ((وَهُوَ الَذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ إنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ العِقَابِ وَإنَّهُ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ)) [الأنعام: 165].
وقال (تعالى): ((ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ)) [التكاثر: 8].
الشكر ووسطية الإسلام :(1/423)
قد يشتط بعض الناس في فهم شكر ما أسبغ الله عليهم من النعم إلى الدرجة التي يشددون فيها على أنفسهم ويحملونها على التقشف الشديد والحرمان من الطيبات بدعوى العجز عن الشكر والخوف من الحساب، وهذا مخالف لهدي الإسلام؛ فالشكر لا يتعارض مع الانتفاع بالنعم إذا كان في حدود الاعتدال؛ قال (تعالى): ((كُلُوا وَاشْرَبُوا مِن رِّزْقِ اللَّهِ وَلا تَعْثَوْا فِي الأََرْضِ مُفْسِدِينَ)) [البقرة: 60]، وقال (تعالى): ((يَا أََيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الأََرْضِ حَلالاً طَيِّباً وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ)) [البقرة: 168]، ومن اتباعه التبذير والإسراف، وقال (سبحانه): ((يَا أََيُّهَا الَذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إن كُنتُمْ إيَّاهُ تَعْبُدُونَ)) [البقرة: 172]، فليس الشكر بتحريم الحلال بل بإحلال الحلال وتحريم الحرام: ((لَقَدْ كَانَ لِسَبَأٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتَانِ عَن يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُوا مِن رِّزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ)) [سبأ: 15].
ولو كان شرطاً في الانتفاع بالنعمة أداء ثمنها من الشكر لما وفّت أعمال العبد كلها بنعمة واحدة؛ فالاعتراف بالنعمة والاجتهاد في شكرها هو المطلوب، والله (سبحانه) هو الذي يحب إذا أنعم على عبد أن يرى أثر نعمته عليه.
والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات.
الهوامش :
1) رواه البخاري، ح/6314، (الفتح11/118)، ومسلم، ح/2083، 2711.
2) أخرجه الترمذي 5/473.
3) رواه مسلم، 4/2085، ح/ 2715 ورواه أبو داود، والترمذي.
4) رواه أبو داود 5/314، ح/5073 بإسناد حسن وضعفه الألباني في ضعيف أبي داود، ح/1079.
5) رواه البخاري، ح/6323 (الفتح 11/134).
6) رواه مسلم 1/420، ح/601.
7) رواه البخاري، ح/799 (الفتح 2/332).
8) رواه مسلم 1/347، ح/477.(1/424)
9) رواه مسلم 1/418، ح/597.
10) أخرجه البخاري، كتاب التهجد، ومسلم، كتاب صلاة المسافرين، ح/769 واللفظ له.
11) رواه مسلم، كتاب صلاة المسافرين، ح/720.
12) أخرجه مسلم، كتاب الزكاة، ح/1007.
13) انظر جامع العلوم والحكم، ح/ 26.
14) رواه البخاري ومسلم، ح/6021، (الفتح 10/462).
15) رواه أبو داود وأحمد والبيهقي وهو في سلسلة الأحاديث الصحيحة للألباني، ح/417
--------------------------------------------------------------------------------
مجلة البيان، العدد (114-115)، صفر - ربيع الأول- 1418،يونيو- يوليو 1997 .
* * *
http://www.albayan-magazine.com/zwaya/trbwi/26.htm
الاهتمام بدعوة المرأة وتربيتها
عبد اللطيف بن الحسن
(1/2)
تعاني الصحوة اليوم من ضعف في طاقاتها العاملة المؤهلة التأهيل اللازم، مما يساعد على محدودية الانتشار، ونخبوية العمل، ومن أشد ذلك تَبِعَةً: عدم تكافؤ الجهد المبذول لدعوة المرأة وتربيتها مع الواجب تجاهها، وما ترتب عليه من تنحي المرأة عن ميدان الدعوة، وبخاصة في ظل الدور الإفسادي المركّز الموجّه إلى المرأة المسلمة في جل ديار الإسلام لإبعادها عن رسالتها.
التقصير في دعوة المرأة:
إن نظرة في واقع الصحوة اليوم، ومكان المرأة فيه تنبئ عن ذلك ـ دون عناء ـ، ومن أبرز مظاهر ذلك:
1- قلة الطاقات والكفاءات الدعوية النسائية.
2- ضعف الاستفادة من هذا القليل؛ لندرة المبادرات الذاتية المستغلة لتلك الطاقات القليلة، وإهمالها في غالب الخطط الدعوية.
3- ضعف التكوين الدعوي والتربوي والعلمي لدى الداعيات الموجودات، وكثير من نساء الدعاة.
4- ضعف استيعابهن لدور أزواجهن الدعوي ـ المنوط بهم شرعاً ـ مما يفضي إلى شيء من التذمر، وربما الخصام!!
5- تفشي الجهل في الأمور الشرعية لدى غالبية النساء.
6- تأثير الدور العلماني الموجه لإفساد المرأة في الواقع المعاش.(1/425)
7- ندرة المؤسسات الدعوية النسائية.
8- ضعف المؤسسات النسائية الدعوية القائمة ـ غالباً ـ؛ بدليل ضعف الإنتاج، وكثرة الوقوع في الأخطاء (1).
أسباب التقصير:
إن مما سبب إهمال المرأة أموراً عدة، هي في الحقيقة عقبات وعوائق، يصعب معها القيام بالواجب دون معرفتها وتحليلها، والسعي إلى معالجتها وتجاوزها:
-تسليم المجتمع للموروثات الخاطئة عن المرأة، ونظرته المستنقصة لها، حيث يعتبرها مجرد أداة لحفظ النسل فقط، وأيضاً بمراعاته للعادات والتقاليد التي ليس لها أصل في الشرع، والتي تحد من الحركة الدعوية للمرأة.
-عدم اقتناع الرجل بمسؤولية المرأة الدعوية، وذلك عندما يحمّل قول الله (تعالى): ((وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ)) [الأحزاب: 33]، ما لا يحتمل، ويسيء استخدام حق القوامة، فيمنع المرأة من الخروج لمصلحة دينها ودنياها، وينسى أن المعاشرة بالمعروف تستلزم إذنه لها فيما لا محذور فيه ولا ضرر، ويسوء الحال أكثر عندما يكون أنانياً، أو ضيِّق الأفق، لا يفكر إلا في مصلحة شخصه، وأسوأ من ذلك: عندما يكون غير مستقيم.
-وبشكل أخصّ، فإن من الأسباب: غياب الأولويات لدى الرجل الداعية الذي أذهله واقع أمته عن الاهتمام ببيته وأهله، واستُنفِدت طاقته في العمل الدعوي خارج المنزل، فلم يُبق له شيئاً في ظل تخاذل غيره عن القيام بواجبه، مما أرهق الداعية وأفقده شيئاً من التوازن الضروري.(1/426)
-والمرأة ذات دور مؤثر في الموضوع؛ وذلك عندما يضعف مستوى الوعي عند الملتزمات ويقفن دون مستوى النضج المطلوب، وأيضاً: حين تضعف رغبة المرأة في التضحية، أو تبالغ في التوسع في المباحات والكماليات، مما يضاعف جهدها داخل المنزل، وحين تصعب عليها الموازنة بين الحق والواجب، وحين تفقد شيئاً من الموضوعية والتوازن، فتنسى أن عملها داخل بيتها هو جوهر رسالتها، وتغفل عن أداء دورها فيه، وأيضاً: حين تجهل ترتيب الأولويات فترتبط بعمل وظيفي يشغلها عن بيتها، فضلاً عن رسالتها الدعوية داخله وخارجه، وكذلك حين ينقلب الحياء خجلاً من أداء الواجب، فيصير مرضاً خطيراً يفتقر إلى العلاج.
-ومن الأسباب: محدودية بعض الدعوات الإصلاحية، وعجز أكثرها عن استيعاب المرأة، وعدم مراجعتها لخططها وبرامجها، وضعف التربية المؤدي إلى ضعف الشعور بالمسؤولية بالشكل المتكامل.
-ومن الأسباب: الكيد الخارجي ـ والداخلي أيضاً ـ المتمثل في الغزو الفكري، وخاصة الموجه للمرأة، تحت ستار: تحرير المرأة، مما أقصى المرأة عن رسالتها، وشوّه صورة الإسلام في ذهنها، واستخدمها في غير ما خلقت له، ومنها أيضاً الأوضاع الجائرة في كثير من بلاد المسلمين التي أقصت الرجال عن ميدان الدعوة، فضلاً عن النساء.
-وهناك أسباب أخرى، مثل: صعوبة المواصلات، وهذا أمر يهون؛ إذ لا مانع من الدعوة داخل البيت، ومع الجيران والزائرات والأرحام، وفي هذه الحال على ولي المرأة ـ وكل من يعنيهم الأمر ـ احتساب الأجر، وسعيهم في تذليل هذه العقبة.
أهمية إعداد المرأة الداعية:
ثمة أسباب ومسوغات كثيرة تعكس أهمية ذلك، ومنها:
1- أن المرأة أقدر من الرجل على البيان فيما يخص المجتمع النسائي.
2- أن المرأة تتأثر بأختها في القول والعمل والسلوك أكثر من تأثرها بالرجل.
3- أنها أكثر إدراكاً لخصوصيات المجتمع النسائي، ومشكلاته.(1/427)
4- قدرتها على الشمولية للجوانب الدعوية النسائية، والتمييز بين الأولويات، لطبيعتها ومعايشتها للوسط النسائي.
5- أنها أكثر قدرة وحرية في الاتصال بالنساء، سواء بصفة فردية، أو من خلال المجامع النسائية العامة، التي يكثر فيها لقاء النساء من خلال قنوات الدراسة والتدريس والعمل والزيارات وغيرها.
6- أن كثيرات من المسلمات اللاتي يحتجن إلى دعوة وتوجيه وتربية يفتقرن إلى وجود المحرم الذي يقوم بدعوتهن؛ مما يعني تحتّم قيام بنات جنسهن بهذا الدور تجاههن.
7- أن وظيفة المرأة التربوية أوسع من وظيفة الرجل؛ لقيامها بالحمل والولادة والرضاع والحضانة، مما يجعل الأولاد أكثر التصاقاً وتأثراً بها من الأب، بالإضافة إلى طول ملازمتها للأولاد في البيت، خاصة قبل بلوغ الأبناء وزواج البنات، مما يمكنها من تنشئة أولادها كما تريد، وبالتالي فقد تضيِّع كثيراً من جهود زوجها الدعوية، إذا لم تحمل الهمّ الدعوي الذي يحمله، أو تقتنع بجدواه على الأقل، ولعل في قصة امرأة نوح (عليه الصلاة والسلام) وابنه ما يشير إلى هذا (نسأل الله السلامة).
8- أن للمرأة تأثيراً كبيراً على الزوج، فصلاحها معين على صلاحه، وأيضاً فإن ضعف قناعتها بأمر دعوته موهن له كثيراً، وفي قصة طلب زوجة فرعون الإبقاء على موسى (عليه السلام) ما يؤكد هذا، وكذا قصة إسلام عكرمة بسبب إلحاح زوجه أم حكيم (رضي الله عنها)(2).
9- تتميز المرأة بجملة من الصفات والخصائص، تؤكد الأهمية، كما ينبغي وضعها في الحسبان، ومنها:
أ - رقة العاطفة، والحماس لنشر قناعاتها.
ب - ضعف الإرادة، وسرعة التأثر، وحب التقليد.
ج - ضعف التحمل، والميل إلى الفسحة واللهو.
د - كثرة الإلحاح على الرجل ومراجعته، ومحاولة ثني إرادته، وتغيير قراره (3).
آثار قيام المرأة بالدعوة:
-رفع الجهل وإعمال سعة الأفق الفكري، وتوفير كفايات علمية نسائية تكون مرجعاً للنساء.(1/428)
-إصلاح السلوك، واختفاء كثير من الممارسات الخاطئة التي أخذت طابع الظاهرة الاجتماعية في كثير المجتمعات.
اكون الداعية رقيبة على نفسها في حركاتها وسكناتها، مما يقلل متابعة الرجل، وحرصه على ذلك للثقة بها.
-إبراز مكان المرأة في الإسلام وإشعارها بحقوقها وواجباتها؛ لتسعى إلى أداء الواجب، والمطالبة بالحق الشرعي.
-التوازن في التوجيه، واتحاد الأهداف وتضافر الجهود لتنشئة الجيل المسلم الصالح.
-سدها ثغرة من ثغرات المجتمع، بوقوفها أمام تيار الفساد الموجه ضد المسلمين بعامة، والنساء منهن بخاصة.
-إحياء قوة الانتماء للإسلام، بإظهار شعيرة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهي من أعظم شعائره.
-تأمين رافد مالي مهم للدعوة، وهو جانب الإنفاق النسائي في وجوه الخير، لوفرة ما لديهن عادة، ووجود المال ـ أحياناً ـ من إرث ونحوه، ومن ناحية أخرى: حفظ مال الزوج من تبديده في الكماليات، للإبقاء عليه معيناً له على الاستمرار في دعوته (4).
المرأة المسلمة مدعوّة وداعية:
كل أمر ونهي عام في خطاب الشارع فإنه شامل للذكر والأنثى قطعاً، والمرأة داخلة فيه بلا شك، وإنما يوجّهَ الخطاب للذكور تغليباً على الإناث، وهذا أمر سائغ في اللغة، إلا أن هناك أحكاماً لا خلاف في اختصاصها بالرجال.
وبالمقابل فإن الله (عز وجل) ونبيه قد خصّا النساء بأمور دون الرجال، مما يدل على اعتبار شخصيتها المستقلة عن الرجال، وهذا وذاك يؤكد وجوب التوجه إلى المرأة بالدعوة والتربية والإصلاح والتوجيه؛ فإنها مخاطبة بدين الله (عز وجل)، مأمورة بالتزام شرعه، مدعوة لامتثال الأوامر، وترك النواهي.
ولذا كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يوجه للنساء خطاباً خاصاً بعد حديثه للرجال، وربما خصهن بيوم يعلمهن فيه دون الرجال(5).(1/429)
ويؤكد الوجوب أيضاً: مسؤولية الرجل عن بيته مسؤولية خاصة، قال الله (عز وجل): ((يَا أَيُّهَا الَذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدادٌ لاَّ يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ)) [التحريم: 6]، وقال الرسول: (والرجل راعٍ على أهل بيته، وهو مسؤولٌ عن رعيته)(6)، وقد أورد البخاري (رحمه الله) في باب: (تعليم الرجل أَمَته وأهله) حديث أبي موسى (رضي الله عنه) قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (ثلاثة لهم أجران ـ وذكر منهم ـ: رجل كانت عنده أَمَةٌ فأدبها فأحسن تأديبها، وعلّمها فأحسن تعليمها، ثم أعتقها فتزوجها، فله أجران)(7)، ولا شك أن الاعتناء بالأهل الحرائر في التعليم والتربية آكد من الاعتناء بالإماء.
ويزداد هذا الواجب في حق الداعية؛ لاعتبارات كثيرة لا تخفى، هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى فإن المرأة مكلفة بالدعوة إلى الله (عز وجل)، ويستفاد وجوب الدعوة عليها من أدلة كثيرة منها:
1- عموم الأدلة على وجوب الدعوة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، كقول الله (تعالى): ((وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إلَى الخَيْرِ وَيَاًمُرُونَ بِالمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ المُنكَرِ...)) [آل عمران: 104]، ونحوه من الآيات والأحاديث.(1/430)
2- تخصيصها بخطاب التكليف بالدعوة؛ كقوله (تعالى): ((يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِّنَ النِّسَاءِ إنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلاً مَّعْروفاً)) [الأحزاب: 32]، قال ابن عباس (رضي الله عنهما) في قوله (تعالى): ((وَقُلْنَ قَوْلاً مَّعْروفاً)): (أمْرُهن بالمعروف، والنهي عن المنكر)(8) وهذا خطاب عام لنساء المؤمنين، وقوله (تعالى): ((وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَاًمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ المُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ...)) [التوبة: 71]، وهذا دليل على وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر عليهن كوجوبه على الرجال، حيث وجدت الاستطاعة، وكذا قوله: (ألا كلكم راعٍ وكلكم مسؤول عن رعيته...)، وفيه: (والمرأة راعية على أهل بيت زوجها وولده، وهي مسؤولة عنهم)، والراعي: هو الحافظ المؤتمن على ما وضع عنده، الملتزم صلاح ما قام عليه.
3- بعض الأحوال والقرائن والأحكام الشرعية، نحو:
أ- حرمة الاختلاط بين الجنسين؛ مما يعني وجوب قيام داعيات بين صفوف النساء.
ب- وجود بعض الأحكام الشرعية التي اختصت المرأة بروايتها عن النبي.
ج- صعوبة قيام الدعاة من الرجال بكل ما تحتاجه الدعوة بين النساء؛ لاختصاص المرأة ببعض الأحكام والأعذار الشرعية، التي يصعب إفصاح الرجال عنها، وتستحيي النساء من السؤال عنها(9)، إلى غير ذلك من الأمور التي يصعب القول معها بغير الوجوب.
حقيقة دور المرأة الدعوي المطلوب:(1/431)
الناظر في دور المرأة المسلمة ـ في هذا المجال ـ يجد أنه كان لدعم عمل الرجل، ولا يصح بحال أن يستهان بهذا الدور؛ فإن المرأة تمثل السكن النفسي للرجل، وهي بذلك تؤدي دوراً دعوياً مهماً؛ لأنه لا يستطيع حل مشكلاته الخاصة إذا كان مشغول البال، فضلاً عن تحمله أعباء الدعوة. وكم عرفت الدعوات أناساً سقطوا على طريق الدعوة أو ضعف إنتاجهم؛ لهذا السبب.
وموقف خديجة (رضي الله عنها) في مواساة النبي -صلى الله عليه وسلم- ومؤازرته وعونه: أكبر دليل على الأهمية البالغة لهذا الدور. ولقد تأملت في حال الصحابة (رضي الله عنهم) وسلف الأمة (رحمهم الله) في انطلاقهم في كل صقع من الأرض، مجاهدين ودعاة ومربين... وغياب بعضهم المدد الطويلة فألفيتها تعطي أوضح دليل على ما كان لنسائهم من دور فعّال في تربية أبنائهم، الذين كانوا على خطى آبائهم؛ ديناً ومنهجاً وقوة ومَضَاء!!.
وجُلّ نساء اليوم لا تعي هذا الدور، ولا تفهمه، ومن باب أوْلى لا تقوم به، فعندما تزف البنت إلى عش الزوجية تظنه مكاناً للراحة والتدليل، وما درت أنه بداية الكفاح والتضحية والمسؤولية والعطاء الذي تطرق به باب الجنة، إن قامت به على وجهه.
ولا يقف دور المرأة عند هذا الحد، فإن لها دوراً قوياً مؤثراً في كونها قدوة حسنة، كريمة الأخلاق، حسنة المعشر، تقضي حوائج الناس، وتشاركهم همومهم وأفراحهم ـ مع التزام الشرع ـ إضافة إلى الدعوة المقصودة في انتهاز الفرص المناسبة للدعوة والتوجيه، مع مراعاة أحوال المدعوات والمدعوين من المحارم(10)، وقد بلغ نساء السلف في هذا مبلغاً عظيماً.
صور من دعوة المرأة تجلي دورها:(1/432)
حقاً لقد فهمت المرأة واجبها فبدأت بنفسها، فبادرت بطلب حقها من التعليم والتربية ولم تبالِ بعد ذلك بما حصلت عليه من متع الحياة الفانية، روى البخاري عن أبي سعيد (رضي الله عنه) قال: قالت النساء للنبي: غلبنا عليك الرجال، فاجعل لنا يوماً من نفسك، فوعدهن يوماً لقيهن فيه، فوعظهن وأمرهن.. الحديث(11).
فكانت ثمرة ذلك الفهم النسوي مع ذلك الاهتمام النبوي صوراً مشرقة، أدعو المرأة المسلمة إلى الوقوف معها.
فهذه (أم سليم) (رضي الله عنها) تلقن ولدها أنس بن مالك الشهادتين، مع رفض زوجها مالك بن النضر الإسلام، حتى هلك، فخطبها أبو طلحة ـ وكان مشركاً ـ فتجعل مهر زواجها الإسلام، فيسلم، فتتزوجه، وتجعل ابنها خادماً لرسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وأم حكيم كانت سبباً في إسلام زوجها عكرمة، وعمة عدي بن حاتم كانت سبباً في إسلامه (رضي الله عنهم).
وعَمْرَة ـ امرأة حبيب العجمي ـ توقظ زوجها للصلاة ليلاً، وتقول: (قم يا رجل! فقد ذهب الليل، وجاء النهار، وبين يديك طريق بعيد وزاد قليل، وقوافل الصالحين قد سارت قدّامنا، ونحن قد بقينا)(12)، وأسماء (رضي الله عنها) نهت ابنها عبد الله ابن الزبير (رضي الله عنهما) عن قبول خطة غير مرضية خشية الموت، مع كبر سنها، وحاجتها لابنها، ومن قبل كان لها موقف في صباها يوم هجرة الرسول، حين سميت (ذات النطاقين)، وكانت حفصة بنت سيرين (رحمها الله) تقول: (يا معشر الشباب! خذوا من أنفسكم وأنتم شباب، فإني ما رأيت العمل إلا في الشباب) (13)، فإذا كان هذا حالهن في دعوة الرجال، فماذا يُظن بدورهن بين النساء؟.(1/433)
وإذا انتقلنا إلى دائرة أوسع وجدنا للمرأة المسلمة دوراً عظيماً في التضحية والبذل لدين الله (عز وجل)، فبذلت سمية (رضي الله عنها) نفسها ـ قتلها أبو جهل لإسلامها ـ، فكانت أول شهيدة في الإسلام، وأنفقت خديجة (رضي الله عنها) مالها، فكانت أول مناصر للدعوة، وكانت رقية (رضي الله عنها) من المهاجرات إلى الحبشة أول مرة، وضحّت أم سلمة (رضي الله عنها) بسبب الهجرة كثيراً، ففارقت زوجها، وأوذي ولدها، حتى جمع الله شملها، وكان لعائشة (رضي الله عنها) صولات وجولات في العلم والتعليم والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وحضرت أم عمارة يوم أحد، وابنها معها، وقاتلت دفاعاً عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وحضر نساء من المسلمين يوم اليرموك، فرددن المنهزمين إلى صفوف القتال، وكان لرفيدة الأسلمية وغيرها جهد في معالجة جرحى المسلمين... والأمثلة أكثر من أن تذكر.
ضوابط عمل المرأة الدعوي:
الدعوة الموجهة إلى المرأة ينبغي أن لا تخرجها عن فطرتها وأنوثتها؛ وهناك ضوابط مهمة في هذا الباب يمكن إجمالها فيما يلي:
1 - الأصل: قرار المرأة في البيت، قال (تعالى): ((وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الجَاهِلِيَّةِ الأُولَى)) [الأحزاب: 33]، وقال: (المرأة عورة، فإذا خرجت من بيتها استشرفها الشيطان حتى ترجع)(14).
2 - للمرأة أحكام خاصة، لا بد من مراعاتها في أي نشاط دعوي يوجه إليها، أو تقوم به، ومن ذلك:
أ - التزام الحجاب الشرعي بشروطه، مع تغطية الوجه والكفين، فالوجه موضع الزينة، ومكان المعرفة، والأدلة على وجوب ستره كثيرة.
ب - تحريم سفرها دون محرم، قال: (لا تسافر المرأة إلا مع ذي محرم)(15).
ج - تحريم خلوتها بالأجانب، لقوله: (لا يخلونّ رجل بامرأة إلا مع ذي محرم) وفي رواية: (إلا كان الشيطان ثالثهما) (16).(1/434)
د - تحريم اختلاطها بالرجال الأجانب، فقد قال للنساء: (استأخرن؛ فإنه ليس لكنّ أن تَحْقُقْن الطريق، عليكن بحافات الطريق)، فكانت المرأة تلتصق بالجدار، حتى إن ثوبها ليتعلق بالجدار من لصوقها به(17).
هـ ـ تحريم خروجها من بيتها إلا بإذن وليها... إلى غير ذلك من الضوابط الشرعية التي لا يجوز الإخلال بها.
3 - يضرب أعداء الإسلام على هذا الوتر الحسّاس، ويجعلون مثل هذه الأحكام مدخلاً لوصفهم الإسلام بإهانته المرأة، فتأثر بذلك بعض دعاة الإسلام، فحصل لديهم تفلّت في هذا الباب، فيتأكد في حق دعاة أهل السنة: ضرورة الانضباط في ذلك، وعدم التأثر والانصياع لشهوات المجتمع ورغباته.
4 - الأصل في الدعوة والتصدر للميادين العامة: أنها للرجال، كما كان الحال عليه في عصر الرسول والقرون المفضلة، وما رواه التاريخ من النماذج النسائية الفذة لا يقارن أبداً بما روي عن الرجال؛ وذلك مصداق قول النبي: (كمل من الرجال كثير، ولم يكمل من النساء إلا: آسية: امرأة فرعون، ومريم: بنت عمران، وإن فضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام)(18)، فطلبُ مساواة المرأة بالرجل في أمور الدعوة ينافي روح الدعوة أصلاً.
5 - ولا يعني هذا الكلام إلغاء دور المرأة وتهميشه وإهماله، بل دورها لا ينكر، وشأنها له أهميته، لكن مع التزام ما سبق (19) من ضوابط، وللحديث بقية في العدد القادم ـ إن شاء الله (تعالى)
الهوامش :
1) وانظر: مشكلات وحلول في حقل الدعوة الإسلامية، عبد الحميد البلالي، ص 151.
2) انظر: المرأة المسلمة المعاصرة، إعدادها ومسؤوليتها في الدعوة، د. أحمد أبا بطين، 141 ـ 146 (وهي رسالة دكتوراه قيمة في هذا الباب)، نشرتها (دار عالم الكتب) بالرياض.
3) انظر: منهج ابن تيمية في الدعوة، د. عبد الله الحوشاني، جـ1، ص 216، 220.
4) انظر: المصدر السابق، 147 ـ 152.
5) انظر: صحيح البخاري، ح/98، 101.
6) متفق عليه، البخاري، ح/7137، مسلم، ح/1829.(1/435)
7) كتاب العلم، ح/97، (الفتح جـ 1، ص 229).
8) تفسير القرطبي، جـ 14، ص 178.
9) انظر: المرأة المسلمة المعاصرة، إعدادها ومسؤوليتها في الدعوة، د. أحمد أبا بطين، ص 121 ـ 129، ومسؤولية النساء في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، د. فضل إلهي ظهير، ص 11.
10) صفة الصفوة، جـ 4، ص 21.
11) رواه الترمذي، ح/1173، وصححه الألباني في صحيح الترمذي، ح/936، والمرأة فتنة ولو كانت متحجبة، لذا شُرع قرارها في البيت، فيقدر خروجها بقدر الحاجة.
12) رواه البخاري، ح/1862.
13) رواه البخاري، ح/5233، واللفظ للترمذي، ح/1171.
14) رواه أبو داود، ح/5272، وحسنه الألباني في صحيح سنن أبي داود، ح/4392، ومعنى (تحققن الطريق): تركبن وسطها.
15) رواه البخاري، ح/3411.
16) انظر: مجلة البيان، ع/95، ص 56.
17) انظر: مقابلة مع الأستاذة: خولة درويش، في مجلة البيان، ع/40، ص 78 ـ 84.
18) رواه البخاري، ح/101.
19) صفة الصفوة، جـ 4، ص 30.
--------------------------------------------------------------------------------
(2من 2)
تحدث الكاتب عن أهمية الدعوة في محيط النساء وأهمية أن تقوم النساء بالدعوة، وبيَّن الضوابط في خروج المرأة الداعية، بعد أن بيَّن العوائق التي قد تقف أمام حركتها في دعوة بنات جنسها، ويواصل في هذه الحلقة بقية الموضوع .
البيان
أهداف دعوة النساء:
أعظم معين على بلوغ الأهداف ـ بعد عون الله (عز وجل) ـ هو رسم الخطط العلمية ووضوحها، وتعيين الوسائل والطرق المعينة على الوصول إليها، ومتابعة العمل فيها بدقة وجدّ، ولعل أهم الأهداف التي ينبغي للداعية رجلاً كان أو امرأة أن يهتم بها في دعوته في داخل البيت وخارجه، ما يلي(1):
أولاً: التربية الإيمانية، ويتحقق هذا الهدف بالعناية بوسائل منها: الوعظ والرقائق، ودراسة أسماء الله وصفاته وآثارها، وآياته في الكون من خلال الوسائل المتاحة، ودراسة الآيات والأحاديث ذات الصلة بها.(1/436)
ثانياً: التأهيل العقدي، بتأصيل عقيدة أهل السنة والجماعة إجمالاً، وتأصيل القضايا ذات البعد العملي كالشرك، والولاء والبراء، وخطر التشبه بغير المسلمين، وذكر ملامح أهل السنة والجماعة.
ثالثاً: التأصيل العلمي والشرعي، بتنمية حب العلم، والاهتمام به، وحفظ القرآن الكريم، وبعض الدروس والبرامج العلمية.
رابعاً: التأهيل الفكري، بالتوعية بمعرفة التيارات والأفكار المنحرفة، وخطط الأعداء الماكرة التي كثيراً ما تخدع المرأة بأنواع من زخرف القول وادعاء إنصافها وتحريرها. ومن التأهيل الفكري أيضاً: توضيح المفاهيم الإسلامية الغائبة لدى كثيرات في خضم كثير من المناهج القاصرة والبعيدة عن التأصيل الشرعي في مناهج مدارس البنات في أكثر ديار الإسلام. والحق يقال: إن تعليم البنات في السعودية يعتبر نموذجاً طيباً للالتزام الشرعي، ويستحق التقدير.
خامساً: التأهيل الدعوي، ويمكن تحقيقه من خلال: تحميل المدعوين همّ الإسلام والدعوة؛ بتبصيرهم بأحوال المسلمين وجهود الأعداء، وتكوين الثقافة الدعوية، وبناء المبادرات الذاتية والمشاركة الفعالة في الدعوة، وتنمية الملكات التي يُحتاج إليها في الدعوة.
سادساً: تنمية الملكات التربوية، نظرياً وعملياً بالاستفادة من الأخطاء وكيفية التعامل معها، والاستفادة من التجارب التربوية للآخرين ما أمكن ذلك.
سابعاً: تنمية الملكات الاجتماعية، في التعامل مع الآخرين، بتمثّل القدوة الصالحة في نفسه، والربط بالقدوات، والتعريف بالحقوق والواجبات، وذكر النماذج الحيّة من حسن الخلق، وبيان كيفية كسب الآخرين.
ثامناً: بناء الحصانة ضد المنكرات، ويتم ذلك ببيان أضرار المعاصي ـ وخاصة النسائية ـ وسد ذرائعها؛ بإبعاد وسائلها، وتجنب أماكنها.
تاسعاً: ملء الفراغ بالمباح، واستغلاله بالمفيد، ووسائل هذا كثيرة.
طرق إعداد المرأة للدعوة:(1/437)
وهو المقصود الأهم من الحديث عن هذا الموضوع، وغير ممكن أصلاً أن تفي كتابة كهذه المقالة بشيء من هذا، غير أن هذا لا يمنع من إشارة تذكّر بجوانب من الموضوع، وتفتح الذهن لمداخله، وتبقي العهدة في مراجعة ما كتب في الموضوع لمباشرة العمل، ومما يعوّل عليه في هذا الصدد: رسالة (المرأة المسلمة المعاصرة، إعدادها ومسؤوليتها في الدعوة، للدكتور أحمد أبا بطين)(2).
أسلوب إعداد المرأة للدعوة:
ولإعداد المرأة الداعية طريقان:
الأول: الإعداد النظري، ويشمل الجوانب التالية:
1- الإعداد العلمي: وهو أمر ضروري في جانبين:
أولهما: المادة العلمية التي تدعو إليها، وتريد تعليمها (3).
وثانيهما: العلم بالكيفية المناسبة لعرض تلك المادة.
وقد عني الإسلام بإعطاء المرأة حقها في التعليم، مع التزام الضوابط الشرعية لذلك، والعلم المقصود هنا: ما يفيد المرأة في دعوتها من العلوم الشرعية، والعلوم المساعدة على فهمها، ولا يجوز بحال أن نجعل العلم عائقاً عن الدعوة، كحال الكثيرين اليوم، فالواجب التوازن، وكل تدعو حسب علمها وقدرتها.
2- الإعداد النفسي: بأن تتوفر في الداعية صفات: الإيمان بالله ورسوله، والإخلاص، والتفاؤل، والجرأة في الحق، والاعتزاز بالإسلام، والصبر، ومعرفة حال المخاطبين وبيئاتهم.
وهو إعداد غاية في الأهمية لارتباط وظيفة الداعية بالناس، وهم مختلفون في أديانهم وثقافاتهم وعاداتهم وأخلاقهم وأهوائهم وأهدافهم.
3- الإعداد الاجتماعي: وهو أن تعيش الداعية الحياة الإسلامية في الأسرة والمجتمع تطبيقاً عملياً كما تعلمتها نظرياً، وكما تريد للناس أن يكونوا، وذلك بالتزام دين الله (عز وجل)، والتخلق بأخلاق الإسلام، وأخلاق الدعاة بخاصة، وإلا كانت الداعية على هامش المجتمع.(1/438)
ومن أهم عناصر الإعداد الاجتماعي: الشعور بأن الدعوة حق لجميع الناس يجب بذلها لهم، والصدق والأمانة والكرم والسخاء ـ في حدود ما تملك ـ، والزهد والعفة، والحلم والعفو، والرحمة، والتواضع، والمودة والتآلف(4).
الثاني: الإعداد التطبيقي:
وهو: تهيئة الداعية بالتدريب العملي على فن الإلقاء، والكتابة؛ لنقل دين الله (سبحانه وتعالى) إلى الناس، عن طريق الخطبة والدرس والمحاضرة والندوة، والكتابة بأنواعها المختلفة.
وهو أمر في غاية الأهمية؛ إذ الإلقاء والكتابة هما وسيلتا مخاطبة الناس بالدعوة، وبهما نحصّل الثمرات المرجوّة من الإعداد النظري، فكم من الدعاة مَنْ يضعف أثره بسبب ضعف إعداده التطبيقي، وقد حصل في هذا الإعداد تقصير كبير، أسهم في قلة الدعاة المؤثرين.
ويقوم هذا الإعداد على أمرين:
أولاً: فن الإلقاء للمحاضرة أو الدرس أو الندوة، أو الكلمة أو الموعظة أو الخطبة.. ونحو ذلك.
ويعتمد على عنصرين:
1- إقناع المستمع بمخاطبة عقله بالأدلة والبراهين.
2- إثارة عاطفته وأحاسيسه ومشاعره وهما أساس التأثير.
ولكل نوع من أنواع الإلقاء خصائصه ومميزاته وفوائده وأسسه وطريقته الخاصة، ويتطلب الإعدادُ لها جانبين:
أ - النظري: بمعرفة أهمية الخطبة ـ مثلاً ـ وأنواعها وصفات الخطيب.
ب- العملي: بالتطبيق والإلقاء أمام النساء في خطبة في المسجد أو المدرسة أو مجتمع النساء.. مع مراقبة المتدربة، وملاحظتها وتقويم أخطائها شيئاً فشيئاً.
ثانياً: الكتابة وذلك بإعداد البحوث والمقالات والنشرات... لنشرها في الكتب والمجلات والصحف التي طالت كل الناس، وأخذت جزءاً كبيراً من أوقاتهم، ويعتمد أسلوب الكتابة على عاملين:
1- دقة العبارة وسلامتها.
2- قوة إقناع القارئ بالمكتوب: بوضوح الدليل، وقوة الاستدلال، والصدق والتوثيق.(1/439)
وتعد الكتابة من أنسب وأهم الوسائل الدعوية بالنسبة للمرأة؛ إذ يمكنها الكتابة وهي في بيتها، فتستغل بها أوقات فراغها، وتصل بما تكتب إلى جميع طبقات المجتمع. والكتابة كالإلقاء تتطلب إعداداً نظرياً وعملياً ليس هذا مكان تفصيله(5).
ميادين دعوة المرأة:
الإنسان مكوّن من روح وجسد، ويمكن تقسيم عمل الداعية ـ بناء على هذا ـ قسمين:
أولاً: الميادين التربوية: وهي الميادين المتعلقة بتربية الروح وتزكية النفس وتطهيرها بالإيمان، ويمكن من خلالها مخاطبة عقل الإنسان وروحه، وتتمثل هذه الميادين في المساجد والمدارس والمؤسسات والجمعيات الدعوية، ونحوها.
ثانياً: الميادين الاجتماعية، وهي الميادين المتعلقة بتربية الجسد من ناحية النمو والسلامة والصحة النفسية والاجتماعية والجسدية وأخذ الزينة، وتبادل هذه الخدمات بين الناس بما يخدم التربية الروحية؛ لإبراز الشخصية المسلمة، كما أراد الله (عز وجل).
وهذان الجانبان ـ الروحي والجسدي ـ مترابطان، وينبغي الوفاء بهما جميعاً بتوازن؛ لأن تغليب طلروح: رهبانيةٌ، وتغليب الجسد: حيوانيةٌ، وكلاهما مذموم، وكم كانت تلبية الحاجات الجسدية سبباً في إسلام وهداية الكثير، وهو أسلوب يركز عليه المفسدون ـ وخاصة المنصّرين ـ اليوم؛ لأنه يصةب على الجائع والمريض والعاري والمشرّد أن يستمع لك ويعي كلامك، بل يكاد ذلك أن يكون محالاً(6).
وسائل دعوة المرأة:
يمكن للداعية أن تبث دعوتها في الميادين التربوية والاجتماعية من خلال الوسائل التالية:(1/440)
1- المنزل: وهو الميدان الخصب، والوسيلة الأبلغ تأثيراً، ولا غرو أن الله جعل كلاً من الزوجين راعياً في بيته، وسيسأله الله عن أهله وزوجه، وأمرهما بوقاية الأهل من النار، ومهما حصل من تقصير من أهل المسؤولية في الدعوة من خلال الوسائل الأخرى، فإن ذلك مما يزيد مسؤولية الأبوين. والأم لها نصيب كبير ـ كما تقدم ـ والمسؤوليات التي تشارك فيها الرجل كثيرة أهمها: مسؤولية التربية الإيمانية، والعلمية، والخلقية، والجسمية، والنفسية، والاجتماعية، والجنسية، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والدعوة إلى الله (تعالى).
ويتميز المنزل عن بقية الوسائل باجتماع أفراد الأسرة فيه لساعات طويلة، والتوافق النفسي والاجتماعي بينهم، مما يتيح إمكانية عرض القدوة الصالحة، والتأثير عبر التوجيه الموزع غير المباشر، والملاحظة المستمرة، والاستفادة من سائر الفرص والأحوال وتأثير التوجيه والعقاب؛ لكونه بعيداً عن أعين الناس.
2- المجتمع: من خلال الإحسان إلى ذوي القربى والجيران والمحتاجين، ودعوتهم وتوجيههم، مما يوحي بترابط أفراد الأمة، وكونهم كالجسد الواحد.
3- المدرسة: من خلال استغلال المناهج الدراسية،والأنشطة المدرسية في توجيه الطالبات، وتربيتهن، والعمل على توجيه المدرسات والعاملات وإصلاحهن.
4- المسجد: حيث يجوز للمرأة الحضور إليه بإذن زوجها، ـ ولا ينبغي له منعها إذا استأذنته ـ للاستفادة مما يلقى فيه، ومن القدوة الصالحة؛ حيث يرتاد المسجد النخبة من الناس، وهو مكان مناسب لأنشطة نسائية مفيدة من حلقات تحفيظ القرآن، وتعليم العلم الشرعي النافع وغيرها.
5- المستشفيات والسجون ومراكز الرعاية الاجتماعية(7).
وعَوْداً على بدء أقول: إن المقصود بالكلام هو العمل، ولا مكان اليوم للكسالى ولا النائحين. إن إعداد المرأة ميدانُ تنافُسٍ كبير، تتسابق فيه الأمم والشعوب والملل والمذاهب.(1/441)
انظر مثلاً: كتاب (المرأة وبرنامج التثقيف ـ المجالس الحسينية نموذجاً) لـ (عالية مكي) لترى أن الرافضة ينتقلون من مرحلة النياحة، إلى مرحلة أخرى من البناء والتثقيف والإعداد والتربية؛ ليقينهم أن العواطف لا تجدي شيئاً في عالم الصراع اليوم.
ولقد وعت الصوفية هذه الحقيقة، فسعت إلى إقامة حركة نسائية، امتدت في بلدان عدة، تقوم بتربية المرأة تربية تتفق مع المنهج الصوفي.
فأين المتحرقون من أهل السنة والجماعة حقاً لواقع المرأة المسلمة حتى لا تكون صيداً سهلاً للمنصّرين وللرافضة والمبتدعة؟
وبعد: فما زالت المرأة تتطلع إلى المزيد من عناية العلماء والدعاة بها، كما أن الصحوة تنتظر من المرأة الكثير والكثير من التوجيه والإرشاد السليمين من الإفراط والتفريط.
وما نيل المطالب بالتمني.
والله من وراء القصد.
الهوامش :
1) انظر شرح هذه الأهداف،ووسائل تحقيقها وطرقها،في مقال: الدعوة إلى الله في البيوت، عبد الله البوصي، في البيان، ع/88، ص 14 ـ 22.
2) وأظن الكتاب سد ثغرة مهمة، فجزى الله مؤلفه خيراً، ومن الكتب المفيدة في الجوانب الدعوية والتربوية النسائية ـ على قلتها ـ: مشكلات المرأة المسلمة المعاصرة وحلها في ضوء الكتاب والسنة،دكتورة/ مكية مرزا، والمرأة في العهد النبوي، دكتورة/عصمت الدين كركر، ومسؤولية النساء في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، د/ فضل إلهي، والنساء الداعيات،د/ توفيق الواعي، ويا نساء الدعاة، للزبير فضل مضوي، والداعية الناجحة، لأحمد القطان، وشخصية المرأة المسلمة، د.محمد علي الهاشمي.(1/442)
3) من الجوانب العلمية الملحّة:ما يخص المرأة من أحكام، وهو أمر تأخر إفراده بالتأليف، فقد كتب ابن الجوزي (رحمه الله) (ت597هـ) كتاباً سمّاه (أحكام النساء)، قال في مقدمته: (ولم أر من سبقني إلى تصنيف مثله)، ولـ (صدّيق حسن خان) كتاب: (حسن الأسوة بما ثبت من الله ورسوله في النسوة) وهناك موسوعة نسائية شاملة بعنوان: (المفصّل في أحكام المرأة)، د. عبد الكريم زيدان، غير أن (ابن الجوزي) (رحمه الله) قد ضمّن كتابه ـ على صغر حجمه ـ ما لم يشتمل عليه الكتابان ـ على كبرهما ـ وهو فصل لذكر صفحات نسائية مشرقة في جوانب عدة بمثابة قدوات عملية للمرأة.
4) انظر تفصيلاً أكثر في رسالة د.أحمد أبا بطين، ص 153 ـ 244.
5) لمعرفة تفاصيل الخطوات العملية للإعداد، انظر رسالة د. أبا بطين، ص 245 ـ 298.
6) انظر الميادين مفصّلة، في مشكلات المرأة المسلمة المعاصرة، ص 432 ـ 459.
7) انظر: المصدر السابق، ص 460 ـ 520.
--------------------------------------------------------------------------------
مجلة البيان، العدد (116-117)، ربيع الآخر - جمادى الأولى - 1418،أغسطس - سبتمبر 1997 .
* * *
http://www.albayan-magazine.com/zwaya/trbwi/27.htm
موقف النظرية التربوية الإسلامية من النظرية التربوية الغربية
عبد المجيد بن مسعود
مقدمة:(1/443)
لعل من الثوابت التي أصبحت راسخة في وجداننا الحضاري وسلوكنا الفكري ـ نحن المسلمين ـ في العصر الحديث، وباتت تتحكم بقدر غير يسير في منهج دراستنا للظواهر، وتحليلنا لمختلف القضايا الفكرية والتربوية، لعل من تلك الثوابت: أن نعرض الأنساق والنظم الإسلامية المرتبطة بشتى مجالات النشاط النظري والفكري، في سياق المقارنة بينها وبين مثيلاتها في عالم الغرب، ولا شك أن هذا الثابت النسبي ستستمر مسوغاته وفعالية تأثيره على تحليلاتنا ودراستنا الفكرية والنظرية، ما دام هناك في واقعنا المعاصر فئات عريضة من الناس تنظر إلى الغرب على أنه مركز الحضارة والإشعاع الفكري المستنير الذي لا نملك إزاءه إلا أن نطأطئ رؤوسنا في خشوع! من هنا رأيتني أُقبل على دراسة موقف النظرية التربوية الغربية ومناقشتها في ضوء معالم التربية الإسلامية؛ بغرض إبراز التصور التربوي الإسلامي للتربية. والواقع: أن منهجية المقابلة هذه لا يمكن للتصور الإسلامي إلا أن يخرج منها منتصراً مرفوع الرأس؛ لأنه ينطلق من موقع قوة يستمدها من ربانية مصدره التي تمنحه التنزه عن التجاوز والضعف، والاهتزاز والقصور، ولأن منهجية المقابلة تقتضي عرض الصورة كاملة أمام الناس ـ بكلا طرفيها ـ فيتضح الطرف الهزيل من الطرف القوي، من خلال إبراز العناصر والمكونات التي تدخل في نسيج كل بناء نظري على حدة.
النظرية التربوية عرض وتقديم:
هناك قواسم مشتركة بين النظريات التربوية الغربية تتمثل فيما يلي:
أولاً: الاعتماد المطلق على العقل:
منذ البداية يمكننا أن نلفت النظر إلى حقيقة أساس مفادها: أن النظريات الغربية على تعددها وتباينها في بعض الخصائص والصفات، تكاد يجمعها قاسم مشترك هو: كونها صادرة عن مصدر وحيد في المعرفة هو: العقل البشري في حركته ومعاناته وقلقه المأساوي في البحث عن الحقيقة، وكونها صادرة عن تصور واحد للكون والإنسان والحياة.(1/444)
والجدير بالاعتبار أنه ما من نظرية في التربية إلا وهي انعكاس لمذهب فلسفي ما، وهذه قاعدة عامة لا يمكن أن يند عنها أي مذهب تربوي.
ولا تعدو الاختلافات التي تظهر بين نظرية وأخرى أن تكون تعبيراً عن الاختلاف والتنوع في الملابسات والتطورات التاريخية التي مرت بها المجتمعات الغربية، بكل ما تحمله تلك التطورات من أبعاد سياسية واجتماعية واقتصادية وعلمية وغيرها.
ثانياً: النظريات التربوية الغربية ضيقة الأفق أحادية النظرة:
فالنظرية التربوية المثالية هي صدى للفلسفة الأفلاطونية حيث يقول أفلاطون بعالمين: (العالم المحسوس) ويتألف من الأجسام أو الماديات، و (العالم المعقول) وهو يتكون من الموجودات المجردة(1).
فتلك النظرية تنطلق أساساً من (الصدارة المطلقة للروح على المادة) وهي تفضي إلى تصرف تأملي يهمل المشكلات الزمنية، وطبيعة الإنسان الأرضية، وتعنى أساساً بكمال الروح ونجاتها.
وانطلاقاً من هذه المعطيات يتجلى لنا الطابع النظري الذي يكتسيه التعليم في إطار النظرية المثالية؛ حيث إن الهدف من التربية يرمي بالدرجة الأولى إلى (تمرس العقل بالتراث الفكري والعقلي الذي خلفته الأجيال السابقة، بل اكتسب هذا التراث صبغة القداسة وأصبح ينقل بحرفيته، وارتبطت موضوعات الدراسة بضرورات التراث بدلاً من ضرورات الواقع، وصارت صلتها الوثيقة بالماضي في تحوّل دون ارتباطها بالحاضر والمستقبل)(2).
أما المذهب الطبيعي، فإنه على العكس من المذهب المثالي؛ إذ يركز على الجسد وما به من عواطف وغرائز وميول، فيعطيها الأهمية القصوى على حساب العقل.
وإن كان من المعلوم أن هذا المذهب قد تجاوز من طرف التيار النفسي في التربية الذي يستمد أسسه من رائد المذهب نفسه (روسو (، حيث يرى (بأن اللجوء إلى علم النفس هو الإمكانية الوحيدة لتوفير المعيار الحقيقي لموضوعية البيداغوجيا)(3).(1/445)
ومما يؤخذ أيضاً على هذه النظرية تضييق نطاق التربية بحيث ينحصر في الطفل، الأمر الذي أدركت التربية المعاصرة خطأه وقصوره فوسّعت نطاق التربية ليشمل المراهق والراشد والشيخ، وهذا ما أكدت عليه الرابطة الدولية (الجديدة) للتربية الجديدة.
أما المذهب البرجماتي، وهو ذلك المذهب الذي يحوّل (النظر بعيداً عن الأشياء الأولية والمبادئ والقوانين والحتميات المسلّم بها، (ويوجه) النظر نحو الأشياء الأخيرة: الثمرات، النتائج، الآثار(4).
فإن مركز الثقل في اهتمامه لا ينصبّ على الحقائق الثابتة، وإنما على ما يحصله الإنسان من منافع يستثمرها في حياته العلمية حتى إنه ينظر إلى الحقيقة على أنها هي المنفعة وفي هذا (خلط واضح بين الحقيقة نفسها، والهدف الأساس من محاولة الظفر بها، فقد ينبغي أن يكون الغرض من اكتساب الحقائق هو استثمارها في المجال العملي والاستنارة بها في تجارب الحياة، ولكن ليس هذا هو معنى الحقيقة بالذات، فإعطاء المعنى العلمي (البحت) للحقيقة، وتجريدها من خاصية الكشف عما هو موجود وسابق! استسلام مطلق للشك الفلسفي الذي تحارب التصورية والسفسطة لأجله، وليس مجرد الاحتفاظ بلفظة الحقيقة في مفهوم آخر كافياً للرد عليه، أو التخلص منه)(5)، وما دام تيار الحياة متنامياً في سيره، فإن حقائق جديدة تلغي وتتجاوز الحقائق القديمة، فلا شيء يبقى ثابتاً!، وفي ضوء هذه القناعة فإن أصحاب هذا المذهب يرون أن (التربية والنمو صنوان وليس للنمو غاية تتجاوزه أو تعلو عليه، فغاية النمو هو النمو ذاته)(6).(1/446)
إن من عيوب هذا المذهب جعله الحياة الحاضرة محوراً وحيداً للتربية دون الالتفات للحياة المستقبلية، الأمر الذي جعله يفتقد قاعدة صلبة من المبادئ والأهداف الثابتة التي تضبط حركة الحياة، وتحمي الإنسان من التيه والقلق والتأرجح بين أحداث الحياة وتطوراتها المتلاحقة؛ وتلك نتيجة حتمية لإغفاله للجانب الروحي في الإنسان ورفضه للإيمان بما وراء المادة(7)، وهذا ما حكم على نظريته التربوية بالدوران في حلقة مفرغة، فهي تدور مع حركة الحياة المادية حيث دارت من غير الاستناد إلى مبدأ عميق ومقياس دقيق تفصل بواسطته بين الغث والسمين، والصالح والطالح ضمن تراث الإنسانية المترامي الأطراف، وتنفذ بواسطته وراء أسوار الحياة المادية الضيقة.
سمات عامة في التربية الغربية:
وهكذا فإننا إذا تأملنا المذاهب التربوية الثلاثة تبين لنا بوضوح انطباعُها بطابع النظرة الأحادية الجانب، التي تركز على بُعد واحد من أبعاد الكيان الإنساني على حساب الأبعاد الأخرى؛ فقد لمسنا كيف يضخم المذهب المثالي جانب الروح على جانب الجسد بكل ثقله، مستهيناً بما يستشعر ذلك الجسد من حاجات، عازلاً الإنسان عما تموج به الحياة، مغرقاً إياه في صور وخيالات غريبة لا قِبَلَ له بها، مخرجاً إياه من فطرته التي فطره الله (تعالى) عليها، وهذا في مقابل المذهب الطبيعي الذي يفعل العكس تماماً؛ فليس هناك في ظل ذلك المذهب مُثُلٌ عليا يتجه إليها، غير الانسياق وراء ما تمليه عليه الطبيعة، ولا مكانٌ مرموق لقوى العقل وضوابط الأخلاق، والثغراتُ نفسها تشكو منها النظرية التربوية البراجماتية؛ إذ إن إعداد الإنسان عندها هو الإعداد لحياة هادرة يتقلب الإنسان بعنف وراء أمواجها المتلاطمة دون تحديد لقواعد ثابتة يتم الرجوع إليها وللكمال الذي يأوي إليه.(1/447)
إن نتيجة مهمة يمكن استخلاصها مما سبق، وهي أن تضارب الأفكار والمواقف الذي تعبر عنه النظريات الغربية، هو برهان ساطع على أن المنطلقات التي تصدر عنها تلك النظريات خالية تماماً من اليقين العلمي، وإلا لانتهت إلى قناعات مشتركة حول قضايا الإنسان والمجتمع، فهذا التخبط الذي تعاني منه هذه النظريات وغيرها نابع من الجهل بحقيقة الوجود وحقيقة الإنسان محور الحياة فيه، وهذا ما يؤكد عليه الدكتور (ألكسيس كاريل) في قوله: (إننا لا نفهم الإنسان ككل.. إننا نعرفه على أنه مكون من أجزاء مختلفة، وحتى هذه الأجزاء ابتدعتها وسائلنا، فكل واحد منا مكون من موكب من الأشباح، تسير في وسطها حقيقة مجهولة)(8).
من سمات النظرية التربوية الإسلامية: إن التصور الإسلامي في التربية تجاوز ذلك التخبط الرهيب، الذي ظل يلاحق النظريات الغربية؛ لأنه ينطلق من أسس وأصول محكمة وفهم شامل حول الكون والإنسان والمجتمع بني على وحي ممن خلق الإنسان ويعلم حقيقته وجوهره: ((أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الخَبِيرُ)) [الملك: 14]، وهو يتعامل مع الإنسان على بصيرة، بمكوناته كلها، دون إغفال إحداها لصالح الأخرى؛ لأن مطبقيه يعلمون أن ذلك الإغفال هو مدخل الخلل في الكيان البشري وانعدام التوازن فيه، وبالتالي إفلات الزمام تماماً من قبضة المربين الذين يتولون تنشئة الإنسان، وتعرّض هذا الأخير للدمار والانتكاس.(1/448)
فالتربية الإسلامية التي تنبثق من الإسلام ونظرته الشاملة في الكون والإنسان والمجتمع، تميز في المعرفة بين مجال يرتاض فيه الإنسان بطاقاته العقلية، ويصل فيه إلى اكتشاف حقائق وأسرار، وهو مجال الطبيعة الفسيح الذي لا قِبَلَ للإنسان بمعرفته إلا عن طريق الوحي الإلهي: أي عن طريق الدين الصحيح، وهو مجال (ما وراء الطبيعة)، والكيان البشري بتعقيده الهائل وتفاعل عناصره جزء من ذلك المجال، وبتعبير واضح: مجال تنظيم حياة الإنسان وعلاقاته بالآخرين في دوائرها المختلفة وكيفية معاملته لذاته.
فإصرار الفكر الغربي على أن بوسعه معرفة كل شيء عن الإنسان هو الذي قاده إلى الطريق المسدود، والأزمة الخانقة التي تضرب الغرب بعنف شديد.
العلوم الكونية بين ذانك المنهجين:
وتقودنا المسألة الآنفة الذكر إلى البحث عن الدافع الذي كرس لدى الإنسان الغربي هذا الاعتداد بالعقل. ومن الميسور لنا أن نقول بأن التقدم العلمي الذي أحرزه الإنسان الغربي أدى إلى إصابته بالغرور والانبهار؛ فاعتقد ـ خطأً ـ أن العلم هو الآلة السحرية التي لا يند عنها شيء؛ ولا يعزب عنها مثقال ذرة، وخيل إليه من فرط إعجابه باكتشافات العلم أن هذا الأخير أصبح بديلاً عن الدين في تحقيق السعادة للإنسان.(1/449)
أما التربية الإسلامية، فإنها تنظر إلى العلوم الكونية على أنها مجال لتعميق الإيمان بالخالق (عز وجل)؛ إذ إن المعرفة ليست معزولة عن الحكمة، بل هي على العكس من ذلك المحراب الذي يقود إليها، قال (تعالى): ((إنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ العُلَمَاءُ)) [فاطر: 28]، وقال (تعالى): ((إنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لأُوْلِي الأَلْبَابِ (190) الَذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ)) [آل عمران:190، 191].
وإننا بنظرة عميقة إلى كلمة الشهادة التي هي إعلان لدخول الإنسان في الإسلام نتبين حقيقتين عظيمتين في الوقت ذاته: الحقيقة الأولى: هي مسؤولية الإنسان الفردية في فعل الشهادة، والحقيقة الثانية: تعني أن تعبيري عن الشهادة بقولي: (أشهد أن لا إله إلا الله) (لا يحدث في فراغ أو في انعزال عن عالم الطبيعة، وإنما يحدث في عالم الطبيعة وبه، فالمعرفة المطلوبة في الشهادة لا تحدث في الإنسان وحده كعارف، وإنما تحدث فيه بوجود موضوع المعرفة أو وجود عالم المخلوقات بما فيها هو نفسه كأحدها)(9).(1/450)
أهداف التربية بين المنهجين: إن الخصائص المذكورة التي ميزت النظريات الغربية في التربية، ومن بينها وقوع الفصام النكد بينها وبين الدين، وبالتالي التعويل على العقل وتأليه العلم، كل ذلك أوقع التربية الغربية في الذاتية والهوى ومحدودية الأفق في تحديد الأهداف الكبرى التي تتوخاها، ورغم الشوط الذي قطعته العلوم الإنسانية في الغرب، فإنها لم ترتق بتلك الأهداف (فعلى الصعيد الفردي دعت هذه العلوم الإنسان إلى الاعتماد على الذات وتقويتها؛ لأنها منبع القيم المستقل والمرجع الأخير لوجود الإنسان ووعيه بوجوده، وأصبحت الحرية في نظر الغرب متساوية مع الممارسة التي لا تخضع لمبدأ أو قانون، بل تصدر عن الإرادة الشخصية مجردة)، وقد تأثرت نظرية التربية بهذه النزعة إلى التمركز حول الذات؛ فأصبحت ترى غايتها في إحداث التجانس في الرغبات بين أفراد المجتمع الواحد، أما إذا تجانست فلا سؤال ولا استفهام بعد ذلك في خيرها أو شرها(10). لقد استقرت التربية الغربية على أن الهدف الأسمى (للتربية) الذي ينبغي العمل على تحقيقه هو إعداد المواطن الصالح، وشتان بين هذا الهدف الضيق والهدف الرفيع الذي ترمي إليه التربية الإسلامية، وهو إعداد الإنسان الصالح (الإنسان بجوهره الكامن في أعماقه، الإنسان من حيث هو إنسان، لا من حيث هو مواطن في هذه البقعة من الأرض أو في ذلك المكان؛ وذلك معنى أشمل ـ ولا شك ـ من كل مفهوم للتربية عند غير المسلمين)(11).(1/451)
من إيجابيات النظريات التربوية الغربية: وإذا كانت النظريات الغربية ـ موضوع النقاش ـ تشكو من تلك العيوب والثغرات التي رأيناها، وهي عيوب وثغرات مترتبة حتماً عن طبيعة الأسس الفلسفية التي يشيد عليها أعلام الفكر والتربية في الغرب أبنيتهم ونظرياتهم التربوية، فإن الإطار العام لتلك النظريات قد اشتمل على بعض الاجتهادات في مجال التنظير والتطبيق التربويين، التي مكنت الفكر التربوي الحديث من تجاوز بعض العناصر المثبطة؛ فاهتداء التربية الحديثة في شخص أحد أقطابها المرموقين (روسو (إلى أهمية وضرورة تحرير الطفل من عوائق الآباء والمجتمع، وتحذير (البراجماتية) ـ مستفيدة في ذلك من تراث: (روسو) من سلب الطفل فاعليته وقصر نشاطه على تقبل آراء المعلم ومتابعة أفكاره، بدل إشراكه بطريقة ديمقراطية في التفكير والبحث والتمحيص ليصل إلى الحقائق بنفسه(12)، كل ذلك شكّلَ مكاسب في إطار الفكر التربوي الغربي أزاحت مجموعة من العوائق التي كبلت الفعل التربوي مما تسبب عنه ارتقاء في المردود التربوي وتحسن في وتيرته.
ملحوظة مهمة: ومن خلال بحث هذا الموضوع أرى ـ من الأمانة العلمية والإخلاص للحق ـ أن نورد ما انتهى إليه أحد الباحثين من أن هذا الذي أصبحت تنادي به التربية الحديثة من ضرورة تخفيف (آثار البيئة وآثار الآباء على نمو الأطفال من ناحية، وتنظيم البيئة التي تتطابق أكثر من غيرها مع خير نمو لنموهم العقلي والخلقي من ناحية أخرى)(13)، إن هو إلا تعبير عما جاء به الإسلام ممثلاً في مفهوم الفطرة الواردة في حديث الرسول -صلى الله عليه وسلم- : (كل مولود يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه...)(14)(1/452)
إن التأمل في واقع الإنسان يدلنا على قابليته للتطبع بعقائد البيئة التي تكتنفه في مراحله الأولى؛ مما يترتب عنه تشكّل عقليته ونظرته للحياة في قوالبها، كما يدلنا على حرص الآباء على أن يكون أبناؤهم على غرار النماذج المرضية عندهم المألوفة لديهم. في خضم هذا الوضع يعلن الإسلام عن مبدأ الفطرة التي تعني أن مصير الولد في عقيدته وأخلاقه كامن فيه وليس في المجتمع الذي يولد فيه و (هذا التركيز على ما أوجد في خلق الإنسان من قدرات ترشحه لحب الحق وللتوجه نحوه وبه، نَقَلَ مهمة التربية نقلاً جذرياً وغيّر غاياتها تغييراً أساساً، فبعد أن كانت مهمتها نَقْلَ ما توارثه الآباء والمجتمع صارت مهمتها توفير ما يلائم فطرة الإنسان من نمو عقلي وخلقي ووجداني، وصارت غايتها كمال هذه الفطرة، وبهذا الانتقال ارتقت التربية من ضيق وتعدد نسبية المجتمعات المختلفة إلى تربية عالمية ترتبط بحقيقة الإنسان أينما كان وفي أي عصر كان)(15).
خلاصة واستنتاجات: يَتَبَينُ من المعطيات السابقة أن في الإسلام تصوراً يمتلك مقياساً دقيقاً يُعْرَض عليه ما توصل إليه التراث الإنساني في المجال التربوي، يقبل منه ما يقبل مما هو داخل في نسيج الحقائق المعبرة عن واقع الإنسان، ويرفض منه ما يرفض مما لا تتوفر فيه شروط الصدق وموافقة قوانين الفطرة التي فطر الله الناس عليها؛ ومن هذا المنطلق: فإن التصور الإسلامي يتبنى بكل ثقة ما تتوصل إليه الإنسانية من كشوف متميزة ومناسبة في عالم التربية بما لا يناقض أسسها ومنطلقاتها معتبراً إياها جزءاً من نسيجها الشامل على اعتبار أن في ذلك النسيج ما يدل دلالة واضحة عليها، ويهدي إليها.
الهوامش :
(1) سعد بن عبد الله، أصول التربية الإسلامية، ص 40.
(2) أحمد علي الفنيش، أصول التربية، ص 29، 30، الدار العربية للكتاب، ليبيا، تونس.
(3) محاضرات الأستاذ الدباجي في علوم التربية، المركز الوطني لتكوين المفتشين لسنة 1987م، 1988م.
((1/453)
4) خليل أبو العينين، مرجع سابق.
(5) محمد باقر الصدر، فلسفتنا، ص 180، ط2/9/19، والكاتب رافضي ينسى الموضوعية عند الحديث عن عقيدته..
(6) خليل أبو العينين، مرجع سابق، ص 272.
(7) آمال حمزة المرزوقي، النظرية التربوية الإسلامية، ص 55، ط1 1402هـ، 1982م، جدة.
(8) ألكسيس كاريل، الإنسان ذلك المجهول، ص 16، ط 3، مكتبة المعارف، بيروت.
(9) عيسى عثمان، الإسلام اكتشف الإنسان، مجلة العلوم الاجتماعية، ص 45.
(10) إسماعيل راجي الفاروقي، مجلة المسلم المعاصر، ع/39.
(11) محمد قطب، منهج التربية الإسلامية، ج 1، ص 9، ط دار الشروق، بيروت.
(12) خليل أبو العينين، مرجع سابق، ص 278.
(13) عيسى عثمان، مرجع سابق، ص 39.
(14) أخرجه البخاري بتمامه: كتاب الجنائز، باب ما قيل في أولاد المسلمين.
(15) المرجع السابق، ص 38، 39
--------------------------------------------------------------------------------
مجلة البيان، العدد (119)، رجب 1418،نوفمبر 1997 .
* * *
http://www.albayan-magazine.com/zwaya/trbwi/28.htm
الخصومة وفن المصالحة
عبد القادر أحمد عبد القادر
إن الخصومة معركة معنوية، وقد تتحول إلى قتال... وبداية أقول: إن الخصومة أمر وارد، ويتكرر كلما دعت الأسباب: كمنافسة، أو حسد، أو صراع على غنيمة، أو منصب... إلخ، فكيف تُدار الخصومة؟ وكيف تدار عملية الإصلاح؟ ألتمس من (فقه الدعوة) هذه المتابعة، والله الهادي.
للخصومة مواضع ومواضيع، بعضها تجب معالجته تواً، أو في وقت لا يزيد عن ثلاث ليال أو ثلاثة أيام، وبعضها قد يطول، ولكن خير الخصمين هو الذي يبدأ بالسلام.
وإن لم ينته سبب الخصام، فإنه يجب ألا تتدهور الخصومة إلى خصومة أشد؛ فإن أنواعاً من الاقتتال الدائر الآن على بعض الساحات كانت بدايته خصومة فردية، ثم اتسعت فصارت جماعية؛ لأنها لم تعالَجْ موضعاً وموضوعاً.(1/454)
اتصل بي أخ فاضل وقال لي: أرجوك أن تتحرك أنت والأخ (...) لتصلحا بيني وبين الأخ (....)!! فاستحسنت هذا الموقف النادر، في زمن يتعامل فيه الخصوم بمبدأ (يضرب رأسه في الحائط)! وقد تحركت حركة خفيفة (بالهاتف) وتحرك المرشح الثاني لإجراء الصلح... وتم الصلح بفضل الله.
الخصومات أنواع:
تتراوح الخصومات بين شؤون فردية، أو شؤون جماعية... فمن الخصومات الفردية مثلاً:
خصومة بين اثنين (صديقين أو زوجين أو أخوين أو أختين) أو نحو ذلك.
ومن الخصومات الجماعية مثلاً:
خصومة بين قبيلتين أو حزبين أو جماعتين، وقد تكون بين شعبين أو دولتين.
وتندرج تحت كل قسم من الأقسام السابقة أنواع، وسوف نذكر أهم الأنواع في موضعها بتوفيق الله.
خصومة شخصين، أو خصومات الأفراد:
وهي كثيرة كثرة الأفراد، وندر مَنْ لا يُخاصِم أو يُخاصَم، وسببها تعارض المصالح، أو تصادم الأهواء؛ فإذا تعارضت المصالح أمكن التوفيق بينها بطريقة أو بأخرى، أما خصومات تصادم الأهواء، أو تصادم الهوى مع الحق، فتقلّ فيها احتمالات العلاج، إلا بالرجوع إلى الحق، والتخلص من الهوى.
إن أهواء الأفراد متعددة متنوعة، وهي مطامع الدنيا في الأموال، والمناصب والشهوات كالمذكورة في قوله ـ تعالى ـ: ((زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ المُقَنطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ المُسَوَّمَةِ وَالأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِندَهُ حُسْنُ المَآبِ)) [آل عمران: 14].
درس من القرآن:
((وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إذْ قَرَّبَا قُرْبَاناً فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الآخَرِ قَالَ لأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ المُتَّقِينَ)) [المائدة: 27].(1/455)
إنه عرض لدرس في الخصومة الفردية التي تصاعدت حتى وصلت إلى أن يقتل الأخ أخاه في بيت البشرية الأول، في بيت النبوة!!
دبّت الخصومة بين قابيل وهابيل بشأن مسألة زواج، أيّهما يتزوج الجميلة؟ وأيهما يتزوج الدميمة؟ فاتفقا على أن يقدم كل منهما قرباناً، فأكلت النار قربان هابيل، وتلك علامة القبول، فتمادى الطرف الشرير الخبيث في خصومته، ونقلها من الإطار المعنوي إلى الإطار الحسي المادي ((قَالَ لأَقْتُلَنَّكَ))... وعيد مؤكد بمؤكديْن هما: (اللام)، ونون التوكيد الثقيلة... يقول صاحب الظلال ـ رحمه الله ـ: (وهكذا يبدو هذا القول بهذا التأكيد المنبئ عن الإصرار نابياً مثيراً للاستنكار؛ لأنه ينبعث من غير موجب، اللهم إلا ذلك الشعور الخبيث المنكر، شعور الحسد الأعمى الذي لا يعمر نفساً طيبةً).
فماذا كان حال الطرف الثاني؟
الوداعة والطيبة، طيبة الظاهر، وطيبة السريرة، يقول سيد قطب ـ رحمه الله ـ: (هكذا في براءة يُرد الأمر إلى وضعه وأصله، وفي إيمان يدرك أسباب القبول، وفي توجيه رفيق للمعتدي أن يتقي الله، وهداية له إلى الطريق الذي يؤدي إلى القبول، وتعريض لطيف به، لا يُصرّح بما يخدشه أو يثيره! ثم يمضي الأخ المؤمن التقي الوديع المسالم يكسر من شرّة الشر الهائج في نفس أخيه الشرير، فيقول له: ((لَئِن بَسَطتَ إلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إلَيْكَ لأَقْتُلَكَ إنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ العَالَمِينَ)) [المائدة: 28]، وهكذا يرتسم نموذج الوداعة والسلام والتقوى، أمام موقف الشراسة والعدوان والفجور.(1/456)
لقد كان في هذا القول الليِّن ـ قول الابن الصالح ـ ما يهدئ الحسد، ويسكّن الشر، ويمسح على الأعصاب المهتاجة... لقد كان في ذلك كفاية، ولكن الأخ الصالح يضيف إلى ما سبق النذير والتحذير: ((إنِّي أُرِيدُ أَن تَبُوءَ بِإثْمِي وَإثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ)) [المائدة: 29].
إذا أنت مددت يدك لتقتلني، فليس من شأني، ولا من طبعي أن أفعل هذه الفعلة بالنسبة لك، فهذا الخاطر ـ خاطر القتل ـ لا يدور بنفسي أصلاً، ولا يتجه إليه فكري إطلاقاً، خوفاً من الله رب العالمين ـ لا عجزاً عن إتيانه ـ وأنا تاركك تحمل إثم قتلي، وتضيفه إلى إثمك... فيكون إثمك مضاعفاً، وعذابك مضاعفاً ((وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ)).
بعد عرض هذا المشهد لخصومة فردين أخَويْن يمكننا استخلاص هذه الفوائد، تحت عنواننا المختار: (الخصومة وفن المصالحة).
1- المسلم رباني حتى في أثناء خصومته، وهكذا هو قبل الخصومة وبعدها، يحرص على مرضاة الله، ورضوانُ الله لا يتحقق بمخالفة أمره، أو بالتمادي في الخصومة أو بتطويرها إلى حالة فجور.
2- عند إظهار الخصومة، يوطّن المؤمن التقي نفسه على أن يبتعد عن الشر قولاً وعملاً ((ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ)) [فصلت: 34].
3- إن كثرة الخصومات تعني وجود خلل عند طرف، أو عند الطرفين، أو الأطراف في فهم الأمور.
4- في المجتمعات البعيدة عن تعاليم الإسلام محترفو خصومات وصراعات، وهؤلاء لا تصلحهم المواعظ؛ لأنهم قد عزموا على الطمع، والقطيعة، والعدوان، ويجب ألا يتغاضى عنهم الدعاة والقضاة وأولو الأمر، ويجب أن يُزجَروا بوسائل مكافئة.(1/457)
وإذا كانت خصومة ابني آدم قد انتهت بمقتل الطرف الطيب التقي، إلا أن اكتمال التشريع ببعثة محمد -صلى الله عليه وسلم- قد أوجد فقهاً وطريقة أو أسلوباً للتصدي لفجّار الخصومات، من ذلك قوله ـ تعالى ـ: ((وَإن طَائِفَتَانِ مِنَ المُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإن بَغَتْ إحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإن فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إنَّ اللَّهَ يُحِبُّ المُقْسِطِينَ)) [الحجرات: 9]
إن الحركة الإسلامية سواء في إطارها الشعبي أو إطارها التنظيمي مطالبة بإيجاد آليّة التصدي لفجّار الخصومات على جميع المستويات، وإلا فإن حقبة التمزق الداخلي في المجتمع الإسلامي سيطول مداها، وستكون إفرازاتها دماً غزيراً وعزيزاً.
5- لن تزول الخصومات، ولن تنتهي من الوجود البشري، ولكنها ستقل، وستخف آثارها في ظل المنهج الرباني احتكاماً إليه، وتربية عليه.
6- إذا كان الباعث على الخصومة الطمع في المال، وأمكن لولي الأمر أن يمنح الطامع، فربما تُعالج الخصومة، وقد سلك النبي -صلى الله عليه وسلم- ذلك الطريق. أما إذا كانت الخصومة من أجل منصب، فإن الأمور توزن بمقدار المصلحة والمفسدة، ثم تُحسم الخصومة دون تغليب الهوى الشخصي، والفقه الإسلامي في هذا الباب حكيم عظيم.
7- إذا اشتدت الخصومة فلا يصح شرعاً أن تتدهور إلى أكثر من الهجر ثلاثاً، ويكون الفضل لمن يبدأ بالسلام. فإن بقي سبب الخصومة، وجب على الخصمين أن ينتقلا إلى التحكيم، ويوطّن كل طرف نفسه على الرضا والتسليم بالحكم الصادر، وإن خالف الرغبة الشخصية ((فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجاً مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً)) [النساء: 65].(1/458)
8- إذا لم يكن لدى الطرفين، أو أحدهما ـ على الأقل ـ استعداد للصلح، ضاعت الأوقات وضاعت الجهود، وعلى المصلحين التثبت من وجود هذه الرغبة بدايةً، فضلاً عن وجودها في نفوس المصلحين ((إن يُرِيدَا إصْلاحاً يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا)) [النساء: 35].
9- تشتد وطأة الخصومة إذا كان مصدرها الحسد، فإنه نار تحرق الحاسد، وقد تحرق مَنْ حوله، إنه الحسد الذي دفع ابن آدم إلى قتل أخيه.
إن خصومات كثيرة تخفى أسبابها الحقيقية؛ لأنها آفة القلب الخفيّة، وإن لم يدركها المصلح فإنه كمن يحرث في الماء، أو من يريد أن يطير بغير جناحين في الهواء!!
وإذا عُرف السبب بطل العجب، فحينئذ يبدأ المصلح بإطفاء النار، ثم يُتبع ذلك بتمديد خطوط المحبة، وذلك يحتاج لوقت وجهد قد يطولان، ويكون الصلح هو البلسم بفضل الله وتوفيقه.
--------------------------------------------------------------------------------
مجلة البيان، العدد (88)، ذو الحجة 1415،مايو 1995 .
* * *
http://www.albayan-magazine.com/zwaya/trbwi/29.htm
أطفالنا ومدارس اللغات الأجنبية
د. مصطفى حسين(1/459)
شهدت بعض البلدان العربية في الآونة الأخيرة انتشاراً واسعاً لما يسمّى: (مدارس اللغات)، وهي نمطٌ من المدارس يُعنى بتدريس اللغات الأجنبية بشكل مكثّف منذ مرحلة (رياض الأطفال) إلى نهاية المرحلة الثانوية، ولا تكتفي هذه المدارس بلغةٍ أوروبيةٍ واحدة، بل تدرّس لغتين اثنتين، إحداهما هي اللغة الأوروبية الأولى، وتبدأ من مرحلة (رياض الأطفال)، والثانية هي اللغة الأوروبية الثانية، وتبدأ في مرحلة متأخرة نسبياً. ويتم في هذه المدارس تدريس موادّ العلوم والرياضيات باللغة الأوروبية الأولى إلى جانب مقرّر مكثّف لهذه اللغة، ومقرّر أقل كثافة للغة الأوروبية الثانية، يظل مرافقاً للتلميذ إلى نهاية المرحلة الثانوية. وبطبيعة الحال يتم تدريس مقرري اللغة العربية والدين، والموادّ الاجتماعية (وهذه تدرس باللغة العربية)، بالمستوى السائد في المدارس العربية.
وهذا النهج الدراسي يعتبر نمطاً خطيراً من (ازدواجية التعليم) يذكرنا بما صنعه (دنلوب) ـ الوزير البريطاني خلال العشرينيات الميلادية من هذا القرن ـ في مصر خلال حقبة الاحتلال البريطاني.
ومن الملاحظ أن هذا النمط من المدارس ينتشر ويتزايد إلى حدّ التفاقم، ويتزايد الإقبال عليه، حتى وصل الأمر إلى تحويل بعض المدارس الحكومية إلى مدارس للغات. وعلى حين كانت مدارس اللغات مقصورة ـ إلى عهدٍ قريب ـ على أبناء الأثرياء القادرين، فقد بدأت تشهد إقبالاً متزايداً من جانب محدودي الدخل، أولئك الذين يعانون إرهاقاً شديداً، ومع هذا يصرّون على احتمال هذا الإرهاق، بسبب تصورهم الواهم عن هذه المدارس، وما تصنعه لأبنائهم من مستقبل زاهرٍ مضيء.(1/460)
وأمام المنافسة الشديدة لهذه المدارس، وأمام رواجها المتزايد، اضطر بعض أصحاب المدارس الأهلية، التي أخذت على عاتقها تكثيف الجانب الإسلامي في الإعداد والتدريس، نقول: اضطرّت هذه المدارس الأهلية إلى أن تصدِّر إعلاناتها ولافتاتها بعبارات مثل: (تعلّم الإنجليزية) أو (مدارس... الأهلية الإسلامية للغات).
والأعجب من ذلك والأخطر أن المسؤولين عن التعليم في هذه البلدان يقفون صامتين أمام تلك الظاهرة، ويشاركهم صمتهم الجمهرة الغالبة من خبراء التربية. وقصارى ما يفعله الخبراء أن يكتبوا بحثاً عن (الثنائية اللغوية في المرحلة الابتدائية)، بين مرحِّب ورافض، وحتى إن بعض أولئك الرافضين يتحدثون عن هذه الثنائية من ناحية القدرات دون أدنى تعرّض للخطر الداهم الذي تتعرض له الأمة نتيجة هذا الغزو الداهم لكيانها وهويتها، ممثلاً في الناشئة.
وهكذا، فإن هذا النمط من المدارس الذي يتكاثر ويتفاقم، ويستجيب لاندفاع جماهير الناس في موجاتٍ محمومة يوشك أن يكون الأصل والأساس، وأن تصبح (المدارس العربية) عنصراً طفيلياً دخيلاً، يفقد بالتدريج مقومات وجوده بل ومسوغات استمراره في ساحة التعليم.
ومع الاندفاع المحموم نحو (مدارس اللغات)، وأمام تكاثرها المتزايد، بدأ فريق من رجال الأعمال والمستثمرين يشاركون في تأسيس هذه المدارس، ولا همّ لهم إلا تحقيق الكسب المادي؛ والغريب المثير أن هذه الفئة لا صلة لها ـ أصلاً ـ بحقل التربية والتعليم، فبعضهم من التجار، والآخر من أصحاب المشاريع الصناعية.
ذريعة مدارس اللغات:
ولكن ما هي الذريعة التي يتشبث بها المؤيدون لهذا النمط من المدارس، سواء في ذلك الآباء أو التربويون؟(1/461)
وجوابهم هو: أن المستقبل والحاضر يقفان إلى جانب اللغات؛ فها هو العالم قد تحول إلى قرية صغيرة مفتحة النوافذ؛ مما يفرض تعلم لغة أجنبية واحدة على الأقل يستطيع الإنسان من خلالها أن يتصل ويتواصل، وأن ينفتح على المستجدات المتسارعة في المجالات المعرفية والتقنية، وأن الاقتصار على اللغة الأم يعني العزلة والانغلاق، وحتى يستطيع إنسان العصر المتجدّد أن يحافظ على بقائه، فإنه ينبغي عليه أن يتواصل مع الآخرين.
ونودّ قبل أن نردّ على أصحاب هذه الذريعة، أن نقرر حقيقة هامة: وهي أننا لا نعارض ـ قط ـ مبدأ تعلم اللغات الأجنبية، ولا نؤيد ـ قط ـ مبدأ الاقتصار على العربية لغتنا الأم، سواء في عصرنا أو في عصرٍ سبق أو عصر لاحق؛ ولكننا نقرر جملةً من الحقائق نفند بها ذرائع المؤيدين لمدارس اللغات، ونوجزها فيما يلي:
أولاً: نحن نؤيد تجربة اللغات ومدارس اللغات، شريطة أن تكون هذه التجربة في إطار هدف سامٍ نابع من هويتنا وجذورنا، وشريطة أن نُخضع هذه التجربة لنظام دقيق؛ بحيث لا يسمح لها بالانفلات والتكاثر المحموم، وشريطة أن يتوافر لها العناصر القادرة المدرّبة: تدريساً وتوجيهاً وإدارةً، وأن تقتصر على أبناء المبتعثين العائدين من دول أجنبية، أو من في حكمهم من أبناء الأجانب: أعضاء البعثات الدبلوماسية، ورجال الأعمال(1).
ثانياً: لِنكنْ واقعيين مع أنفسنا، ومع الواقع ذاته ولْنتساءلْ: هل استطاعت الأسر التي ألحقت أبناءها بهذه المدارس أن تتابع أبناءها؟ وهل لدى غالبية تلك الأسر القدرات اللغوية التي تمكنهم من تلك المتابعة؟
ثالثاً: هل استطعنا أن نحسم قضية تعريب كليات الطب والعلوم والهندسة، حتى نضيف إلى القضية قضايا أخرى؟(1/462)
وللأسف الشديد فإننا نصرّ على المغالطة وإغماض أبصارنا وبصائرنا عن الحقيقةِ والواقعِ، والحقيقةُ والواقعُ أن طلابنا في كليات الطب ـ مثلاً ـ وكذلك أطباؤنا يجدون صعوبات جمّة تحول دون الاستيعاب الحقيقي للمادة الطبية، لا فرق في ذلك بين من حصل على (الثانوية العامة) من مدارس عربية أو مدارس اللغات.
رابعاً: وضع اللغة العربية: للغتنا الأم، وضعٌ مقلق مزعج إلى أبعد الحدود؛ والدليل واضح ماثل لكل ذي بصرٍ وبصيرة؛ فطلابنا يعانون ضعفاً مزرياً في لغتهم الأم، وقد بدت الشكوى متزايدة من هذا الضعف، فخريجو الجامعات ضعاف في اللغة العربية، لا فرق في ذلك بين خريجي أقسام اللغة العربية ومعاهدها، وبين غيرهم، والأغلاط اللغوية في الكتب والصحف متفشية. وهذا الضعف ليس في أساسيات اللغة العربية ومهاراتها ـ فقط ـ بل يمتد إلى معارفها وثقافاتها المتصلة بها. فكيف نضيف إلى ضعفنا في لغتنا الأم ضعفاً في سائر اللغات؟
خامساً: نشير هنا إلى رأي فريق من علماء التربية لا يستهان به؛ فالبعض يؤكد أن ثمة ظاهرةً تسمى ظاهرة: (الاعتماد أو التوافق المتبادل Interdependence ) بين اللغة الأم واللغة الأجنبية، مما يؤثر في إتقانهما معاً؛ فالطفل الذي يتلقى دروساً في لغة ثانية (أجنبية)، قبل أن يتقن لغته الأولى لن يتقدم في هذه أو تلك(2).
سادساً: يقسّم بعض علماء التربية الثنائية اللغوية إلى نوعين: (الثنائية اللغوية الطارحة، والثنائية اللغوية الجامعة) فالأولى هي تلك التي تسود بين أطفال يتهدد لغتهم الأم خطر الاندثار، وأما الثانية فهي تلك التي تسود بين أطفال تتمتع لغتهم الأم بقدرٍ كبيرٍ من الرسوخ والتفوق.
والسؤال: إلى أي النوعين تنتمي الثنائية اللغوية في ظل ما يسمّى بمدارس اللغات؟(1/463)
نضيف إلى ما تقدّم حقيقة تربوية لا يختلف عليها التربويون برغم اختلافهم حول قضية (الثنائية اللغوية)، وهي: (أنه كلما ازداد أساس اللغة الأم رسوخاً، واستمرت في تطورها ازدادت القدرة على اللغة الثانية)(3).
سابعاً: يتشبث المتحمسون لمدارس اللغات بمنطق مغلوط معكوس؛ فالمعلوم ـ من واقع التاريخ الإنساني ـ أن المجتمع لا يحافظ على بقائه في عالم مفتّح متواصل، بالحفاظ على هوية الآخرين والذوبان المطلق فيهم، ولكن بحفاظه على هويته أولاً، وتحصين ذاته ضدّ عوامل الفناء والاندثار؛ فإن صنع الإنسان العكس، فقد غالط طبيعة الأشياء، ورضي لنفسه أن يكون التابع الذليل.
وإذا راجت بيننا اليوم مقولة أن (لا مكان في عالم اليوم لمن لا يتسلح باللغات)، فإن الأصحّ من هذه المقولة أنه (لا مكان لمن يدخل بيوت الآخرين، بعد أن نسف بيته، وأتى على بنيانه من القواعد).
ثامناً: نؤكد ـ ونحن مضطرون للتكرار ـ أننا لا نرفض مبدأ تعلم اللغات، ولكن شريطة أن يكون هذا المبدأ مؤسساً على أهداف وثيقة الصلة بوجودنا وكياننا وأصالتنا، ومرتبطاً بخطة مدروسة لا تتجاهل واقع مدارس اللغات، وحصاد هذه التجربة بعد اتساعها واستفحالها، على أن نخضع ذلك كله لدراسة علمية فاحصة، تسبر الواقع ونتائجه دون تجاهل أو تعصب.
تاسعاً: ليس من اللازم اللازب ـ لكي نحقق مبدأ التواصل مع عالمنا وعصرنا ـ أن نترك الحبل عل غاربه لمدارس اللغات، وأن يُرهق أبناؤنا وبيوتنا مادياً ونفسياً؛ إذ يكفي أن ندعِّم مقررات اللغات الأجنبية (اللغة الثانية) في المرحلة المتوسطة (الإعدادية)، وأن نعمل على تطويرها، مع الملاحقة والمتابعة لمقررات اللغة العربية، بالتطوير والدعم المستمر وتدريب المختصين بها: معلمين وموجهين، وإخضاع الكتب المقررة للدراسة الدائمة في ضوء مرئيات التلاميذ والمعلمين وأولياء الأمور وسائر من ينبغي الاستئناس بآرائهم من الخبراء وأساتذة التربية.(1/464)
عاشراً: إن قضية (ثنائية التعليم) منذ المراحل الأولى للتعليم (رياض الأطفال والمرحلة الابتدائية) قضية ما تزال مثارة، والخلاف حولها ما يزال قائماً، فلماذا نتصرف على أنها قضية محسومة؟ ولماذا هذا التدافع المحموم نحو اللغات ومدارس اللغات.
حادي عشر: إن نجاح الأمم يقاس بمبدأ: (التوازن الثقافي) الذي تحققه لنفسها، وبقدر هذا التوازن بين كيانها وأصالتها من جانب وثقافات الآخرين من جانب آخر تكون قوتها وقدرتها على العطاء الإنساني الذي يكسبها الاحترام والوجود المتميز.
بقيت حقيقة أخرى نختم بها مقالنا وهي تتعلق بما يسمى دولة (إسرائيل) واللغة العبرية؛ فقد استطاع اليهود أن يجعلوا لغتهم الأم، (وهي العبرية)اللغةَ الدارجة السيّارة: في المدرسة والجامعة، والحقل والمزرعة، والمتجر والمصنع، والشارع العام؛ وهي لغة العلم والتعليم والإعلام والسياسة. وقد عاش اليهود ـ على آمادٍ طويلة من الأحقاب ـ يعملون بكل سبيل على أن تظل لغتهم حية تحتكّ بكل لغات العالم، لكي تبقى وتعيش لا لتفنى وتندثر.
وفي كل بلد عاش فيه اليهود، كانوا يتحدثون بلغتهم، ويشاركون بأقلامهم في الإبداع الأدبي والعلمي بلغة هذا البلد، ولكنهم داخل (الجيتو (الذي حرصوا على أن يصنعوه لأنفسهم، كانوا يتحدثون العبرية ويلقنونها أبناءهم.
فهل نتنكر نحن للعربية، ونذوب عشقاً وهياماً في الآخرين؟
إن العربية أعرق وآصل من العبرية ومن غير العبرية، وأيادي العربية على العبرية وغيرها من اللغات يؤكدها التاريخ. والناشئةُ من أبنائنا أحوج في هذا العصر، وأكثر من أي عصر مضى، إلى أن يرتبطوا بلغتهم حباً وولاءً.
والعربيةُ ـ بعدُ ـ ارتبطت بكتاب سماوي خالد، وارتبط بها ذلك الكتاب السماوي(*).
فهل تصحو ضمائرنا؟!!
الهوامش :
((1/465)
1) أشار الكاتب في أول هذه الفقرة إلى تأييد مدارس اللغات ما دامت في إطار هدف سامٍ نابع من جذورنا وهويتنا؛ وانطلاقاً من هذا المبدأ فإنه ينبغي ألا نقصر هذا النوع من الدراسة على الفئات التي أشار إليها الكاتب الكريم ما دامت هذه المدارس تسير وفق خطة واضحة المعالم تخدم الأمة وتسهم في تحقيق تطلعاتها، وتحول بينها وبين إضعاف اللغة الأم.
- البيان -
(2) وانظر: الطفل العربي واللغات الأجنبية (سلسلة عالم العربية، الرياض 1993م)، تأليف د. نادية أحمد طوبا، ص 39، 83، دار النشر الدولي بالرياض.
(3) وانظر: الطفل العربي واللغات الأجنبية (سلسلة عالم العربية، الرياض 1993م)، تأليف د. نادية أحمد طوبا، ص 39، 83، دار النشر الدولي بالرياض.
(*) أرجو أن أتفرغ لدراسة منهجية أصيلة حول هذه الفكرة؛ والله أسأل التوفيق والسداد.
--------------------------------------------------------------------------------
مجلة البيان، العدد (122)، شوال 1418،فبراير 1998 .
* * *
http://www.albayan-magazine.com/zwaya/trbwi/30.htm
نظرات في التربية بالأهداف
عبد الله عبد الرحمن البريدي
إن في الإسلام منهجاً تربوياً فريداً، يقوم على دعائم وأسس من شأنها إن هي لُمست وجُلِّيت وأُبرزت أن تكوِّن نظرية تربوية إسلامية متكاملة الأهداف، واضحة الخطوات، متناسقة المراحل، مضمونة الثمرات ـ بإذن الله ـ.
إن النظرات الجزئية للمنهج الإسلامي التربوي مفيدة ولا شك؛ بيد أنها تعجز عن تكوين وصياغة تلك النظرية؛ لأن ذلك فقط هو من شأن النظرات الشاملة العميقة المتكئة على دعائم قرآنية، وأسس نبويّة، وتطبيقات صحيحة يجب أن تنداح دائرتها لتشمل النظريات والتطبيقات المعاصرة المفيدة في علوم التربية والنفس والاجتماع ونحوها.(1/466)
إن عملية تحديد دعائم وأسس النظرية التربوية الإسلامية ضرورة حتمية لصياغة النظرية وتكوينها، وهي في الوقت ذاته صعبة وشاقة؛ لذا فهي تستحق من أرباب العلم والفكر والإبداع: إجالة نظر في النصوص، وتأملاً وتفكراً في التطبيقات، كيما يتضح السبيل لصياغة النظرية التربوية المنشودة، وبلورة تفصيلاتها وإجراءاتها، وتجلية أهدافها وغاياتها.
إن منظومة الدعائم والأسس التربوية تنتظم عدداً كبيراً، لعل من أبرزها وأوضحها ما يلي:
1- تحقيق التوحيد في النفس الإنسانية.
2- الأهداف التربوية: تحديداً وربطاً وتذكيراً.
3- الترغيب والترهيب.
4- مراعاة مقتضيات الفطرة الإنسانية.
5- الشمول والتكامل.
وفي هذا الموضوع سيكون التركيز على أساس ودعامة الأهداف مبيناً كيفية استخدام المنهج الإسلامي وتفعيله لهذا الأساس، ليكون توطئة وتمهيداً للحديث عن التربية بالأهداف.
معنى الهدف:
يدور المعنى اللغوي والاصطلاحي للهدف على معنى واحد مفاده: الغاية التي يُسعى إلى الوصول إليها وإلى تحقيقها، والغرض الذي يُراد إدراكه ونيله (1).
كل له غرض يسعى ليدركه والحر يجعل إدراك العلا غرضاً
المنهج الإسلامي والأهداف:
إن المتأمل للمنهج الإسلامي ليدرك بجلاء دون أن تلحقه صعوبة أو تعتريه مشقة قدر العناية التي أولاها ذلك المنهج لقضية الأهداف، وكيف أن الإسلام يتكئ بكامل ثقله على أهداف محددة؛ تبني بمجموعها الهدف الأسمى والغرض الأوحد الذي جاء الإسلام لتحقيقه: وهو تحقيق العبودية الحقة لله ـ تعالى ـ، ويُتوصل بذلك إلى تحقيقه ونيله، قال ـ تعالى ـ: ((وَمَا خَلَقْتُ الجِنَّ وَالإنسَ إلاَّ لِيَعْبُدُونِ)) [الذاريات: 56].
بعد تأمل للكيفية التي انتهجها المنهج الإسلامي فيما يتعلق بالأهداف، تمكنت من لمس الخطوات التي نفذها هذا المنهج لتفعيل دور الأهداف والإفادة منها، وهي متمثلة ـ بحسب اجتهادي ـ فيما يلي:
أولاً: تحديد الأهداف بدءاً؛ وذلك بكل دقة ووضوح:(1/467)
نقرأ في القرآن الكريم أنه خاطب رسولنا الأمين-صلى الله عليه وسلم- ـ في أول آياته نزولاً(2) ـ بأن يقوم عازماً، وينهض راشداً، ويسير ثابتاً واثقاً صابراً، مزيلاً اللحاف والدثار ليحقق أهدافاً شاملة عظيمة:((يَا أَيُّهَا المُدَّثِّرُ (1) قُمْ فَأَنذِرْ (2) وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ(3) وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ (4) وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ (5) وَلا تَمْنُن تَسْتَكْثِرُ)) [المدثر:1-6]، ثم توالت بعد ذلك آي القرآن العظيم لتبين هذه الأهداف وتفسرها وتكملها وتفضلها، فهدف العلم محدد بقوله ـ تعالى ـ: ((اقْراً بِاسْمِ رَبِّكَ الَذِي خَلَقَ)) [العلق:1]، وهدف التحلي بجميل الخلق وعاطر المعاملة وحسن السلوك بقوله ـ تعالى ـ: ((وَإنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ)) [القلم:4]، وقوله ـ تعالى ـ: ((فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظاً غَلِيظَ القَلْبِ لانفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إنَّ اللَّهَ يُحِبُّ المُتَوَكِّلِينَ)) [آل عمران:159]، وهدف التماس الحكمة في الدعوة بقوله ـ تعالى ـ ((ادْعُ إلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ)) [النحل:125].
وهدف الثبات بقوله ـ تعالى ـ: ((وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَاًتِيَكَ اليَقِينُ)) [الحجر: 99](1/468)
وهدف الانتماء للدين وأهله بقوله ـ تعالى ـ: ((اللَّهُ وَلِيُّ الَذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُم مِّنَ النُّورِ إلَى الظُّلُمَاتِ أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ)) [البقرة:257]، وقوله ـ تعالى ـ: ((لَهُمْ دَارُ السَّلامِ عِندَ رَبِّهِمْ وَهُوَ وَلِيُّهُم بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ)) [الأنعام:127]، وغير ذلك من الأهداف التي ناسب تقريرها في المجتمع المكي الذي كان يمر بظروف بداياته، ويتطلب التركيز على قضايا محددة.
ولقد أكد القرآن الكريم على أكثر الأهداف حتى بعد انتقال الجماعة المؤمنة من طور التأسيس العقدي والإيماني (مكة) إلى عهد البناء الشامل المتكامل (المدينة)؛ لأنها أهداف متناسقة متكاملة، بيد أنه قرر أهدافاً أخرى، تستطيع الجماعة المؤمنة من خلالها أن تقيم البناء الإسلامي الحضاري الشامل، فمن ذلك ما قرره القرآن بقوله ـ تعالى ـ: ((وَمَا كَانَ المُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلا نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَائِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ إذَا رَجَعُوا إلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ))[التوبة: 122] لقد دفع القرآن الكريم الأفواج المؤمنة لاقتحام مجالات الجهاد المتعددة وطرق أبوابه المتنوعة.
ثانياً: ربط الحياة بهذه الأهداف:(1/469)
رَبَطَ الإسلامُ حياة المسلمين بأهدافه السامية التي حددها في البداية بكل جلاء ووضوح عبر قوالب متعددة ووسائل متنوعة، لعل من أكثرها وضوحاً القالب المشكّل بـ ((وَمَا خَلَقْتُ الجِنَّ وَالإنسَ إلاَّ لِيَعْبُدُونِ))، ((قُلْ إنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ العَالَمِينَ لله162) لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ المُسْلِمِينَ)) [الأنعام: 162، 163]، فهل ثمة جزء من حياة الإنسان بقي دون أن يربط بالعبودية لله ـ تعالى ـ؟! لا وحاشا.
ثالثاً: التذكير بالأهداف:
إن المنهج الإسلامي رباني يتعامل مع الإنسان، مدركاً طبعه وجبلّته، ومراعياً نقصه وضعفه؛ لذا فمن غير المستغرب أن تكثر النصوص التي تذكِّر الإنسان ـ الذي يغفل ويذهل وينسى بحكم طبيعته ـ بالأهداف التي يجب أن يحققها، بل إنه يمكن تقرير أن نصوص الشرع جميعها تذكر بالأهداف ولكنها مختلفة في طبيعة التدكير وقوته وقالبه، إن قول الله ـ تعالى ـ: ((إيَّاكَ نَعْبُدُ وَإيَّاكَ نَسْتَعِينُ)) [الفاتحة: 5] من أقوى النصوص تذكيراً وأكثرها ترداداً.
ولعل مما يجدر ذكره وتقريره أن الخطوات الثلاث سالفة الذكر لا تخص المنهج الإسلامي التربوي فحسب، بل هي صبغة اصطبغ الإسلام بها بأكمله؛ لذا فإنه يمكن الإفادة منها عند دراسة وتأصيل المناهج السياسية والاقتصادية والإدارية والنفسية والاجتماعية ونحوها.
وبعد هذا الاستعراض المجمل للكيفية التي انتهجها الإسلام ـ وذلك حسب فهمي ـ تجاه الأهداف، يمكنني أن أتناول موضوع التربية بالأهداف: مصطلحها ومنطلقاتها ومراحلها(3) وذلك عبر النقاط التالية:
تعريف التربية بالأهداف:
يمكن تعريف التربية بالأهداف بأنها (عملية إكساب المتربين سلوكاً جديداً، أو ترسيخ سلوك معين من خلال تحديد الأهداف عبر المربين والمتربين معاً والتي يجب تحقيقها مع تحديد الوسائل الكفيلة بتحقيقها).
منطلقات التربية بالأهداف:(1/470)
تقوم هذه التربية على أسس، منها ما يلي:
1- ضرورة تحديد الأهداف الواجب تحقيقها في البداية بشكل واضح ودقيق.
2- ضرورة مشاركة المتربين في عملية تحديد الأهداف أو بعضها، وذلك بحسب استطاعتهم، وقدراتهم العلمية والفكرية والنفسية والعمرية؛ طلباً لتحقيق الأهداف التالية:
أ - شعور المتربين بتحقق ذواتهم، وذلك لاستشارتهم وأخذ آرائهم.
ب - شعورهم بالارتياح النفسي التام؛ لأنهم يعملون على تحقيق أهداف ساهموا هم في تحديدها.
ج - التوفيق بين أهداف المربين والمتربين (في حالة وجود تعارض).
3- تحديد الوسائل التي تحقق الأهداف المنشودة من خلالها.
خطوات التربية بالأهداف:
ثمة خطوات في ضوء التربية بالأهداف، يجب على المؤسسات التربوية (كوزارات المعارف والتربية والتعليم) أن تقوم بها:
أولاً: تحديد الأهداف الواجب تحقيقها في البداية بكل دقة ووضوح: وتحت هذه الخطوة يجب مراعاة الأمور التالية:(1/471)
أ - وصفت الأهداف المحددة المنشودة بالواجبة التحقيق، وهذا يعني عدم ترك المربي ليحقق من الأهداف ما تميل إليها نفسه، أو تتفق معها طبيعته وجبلته، أو أن تحقيق تلك الأهداف سهل المنال، أو أنها مما يتقنه ويقدر عليه!! إن الأمانة التربوية تقتضي تحديد الأهداف التربوية الواجبة التحقيق ليتم تحقيقها في الواقع التربوي، ولهذا ندرك أن ممارسات بعض المربين السلبية مخالفة للأمانة التربوية.. إنهم أولئك الذين لا يحققون إلا الأهداف التي تتفق مع قدراتهم وطبيعتهم وميولهم ورغباتهم.. إن بعضهم مغرم بالكمال، متشدق به، متكلف لأحواله، متلبس بزيه، إنه ليس ثمة نقص يعتريه، ولا عيب يكتنفه!! لذلك فقد استحالت ممارساتهم التربوية إلى (استنساخ تربوي)!! وبعضهم لا يريد ذلك، ولكنهم يتجهون إلى الأهداف التي يتمنون تحقيقها بمقتضى الجبلّة والفطرة، وبهذا نعرف قدر وصية أحد السلف لابنه وأهميتها؛ إذ هو يقول له: (يا بني تعلم العلم كله؛ فإن الإنسان عدو ما جهل، ولا أريدك أن تكون عدواً لشيء من العلم)، إن الإحاطة والإلمام بفنون العلم والثقافة في الوقت الحاضر من الصعوبة بحيث لا مفر من أن يستفيد بعضنا من بعض، فكلنا يكمل الآخر.
ب - ثمة اعتبارات علمية يجب مراعاتها عند تحديد الأهداف التربوية:
1- تحديد الأهداف بدقة ووضوح بحيث تفهم من الجميع فهماً واحداً، ولتوضيح المقصود نفترض أن من ضمن الأهداف المحددة: حفظ ما تيسر من القرآن.
إن هذا الهدف عام وفضفاض، وقابل لتفسيرات متعددة.
2- تناسق الأهداف وتكاملها وعدم تعارضها.
3- واقعية الأهداف، وذلك بإمكانية تحقيقها، وهي باعتبارين:
أ - باعتبار كل هدف على حدة؛ وذلك بكونه ممكن التحقق.
ب - باعتبار الأهداف مجتمعة؛ وذلك بكونها ممكنة التحقق في وقت واحد.
4- صياغة الأهداف بشكل قابل للقياس طلباً لتحديد نسبة النجاح في تحقيقها وذلك بربطها بأمر أو أكثر من الأمور التالية:(1/472)
أ - الزمن: مثل: حفظ كتاب الله ـ تعالى ـ في فترة لا تتجاوز السنتين.
ب - الكمية: مثل: حفظ وجه واحد من القرآن يومياً.
5- ترتيب الأهداف بحسب أهميتها.
6- أن تكون الأهداف من نوع واحد، فإما أن تكون رئيسة (استراتيجية) أو مرحلية (تكتيكية أو فرعية)، ولا يصح الجمع بينها؛ لأن الرئيسة تشمل المرحلية (مثل هدف: تعبيد الأفراد لله ـ تعالى ـ (رئيس) وهدف: تربية الأفراد على أعمال القلوب (فرعي) أليست التربية من التعبيد لله؟) ومن البدهي وجوب كون الأهداف التربوية مشروعة وشاملة.
ج - لتسهيل عملية تحديد الأهداف وعملية تحقيقها، يمكن أن تقسم إلى أقسام:
فمن حيث النوع: يمكن تقسيمها إلى: أهداف رئيسة، وأهداف مرحلية.
ومن حيث الزمن: يمكن تقسيمها إلى: أهداف طويلة أو متوسطة أو قصيرة الأجل.
ثانياً: تحديد الوسائل الكفيلة بتحقيق الأهداف المنشودة بأعلى كفاءة ممكنة؛ وعند تحديد مثل تلك الوسائل يجب مراعاة الأمور التالية:
1- أن تحقق الوسائل (البرامج العملية) الأهداف المحددة بأعلى كفاءة ممكنة.
2- أن تكون الوسائل مرنة، بحيث يمكن تعديلها عند الحاجة.
3- أن تتضمن البرامج العملية كيفية مواجهة العقبات المستقبلية (إن وجدت).
4- الاستفادة من العلوم الحديثة النافعة، كعلوم التربية والنفس والاجتماع والفسيولوجيا والإدارة والاقتصاد وغيرها.
بالإضافة إلى الاعتبارات العلمية الثلاثة الأولى المذكورة آنفاً (الخاصة بالأهداف).
ثالثاً: يجب تحديد نسبة النجاح في تحقيق كل هدف عقب فترة محددة طلباً لتشجيع وزيادة الإيجابيات والنجاحات، والتماساً لعلاج الأخطاء والسلبيات وتلافيها، وهذه الخطوة تظهر بجلاء أهمية كون الأهداف قابلة للقياس (الاعتبار العلمي الخاص بالأهداف رقم 4).
رابعاً: التذكير بالأهداف الواجب تحقيقها على فترات دورية، لئلا يُنسى بعضها!!(1/473)
إن شركة (ماتسوشيتا) وهي شركة يابانية استطاعت أن تحقق نجاحات كبيرة لتصبح من كبريات الشركات العالمية، تؤكد على هذه الخطوة، وتعرف أهميتها وثمرتها، وذلك بأنها تطلب من مديريها وعمّالها أن يرددوا أهداف الشركة صباح كل يوم(4).
خامساً: مراجعة الأهداف المنشودة والوسائل المحددة عقب فترة زمنية معينة؛ وذلك لإجراء التعديلات اللازمة لمقتضيات شرعية أو واقعية، وتجدر الإشارة هنا إلى أهمية التجديد في البرامج العملية طرداً لسآمة المربين ودفعاً لملل المتربين!!.
الخلل التربوي:
يجمع المربون على وجود خلل واضح في المنتجات التربوية ناتجٍ من وجود تصدع بيِّن في البنية التحتية للتربية، بيد أنهم يختلفون كثيراً في أسباب الظاهرة وعلاجها، وفي رأيي ـ المتواضع ـ أن للظاهرة أسباباً متعددة يمكن إرجاعها إلى سبب واحد هو غياب الأهداف التربوية الواضحة التي يجب على المربي تحقيقها.
فكيف ـ والحالة كهذه ـ يحقق المربي نجاحاً مثمراً وهو لا يدري في حالات كثيرة ما هي المواصفات التي يجب التقيد بها؟!!
إن بعض المربين قد يغفل عن بعض الأهداف لمدة قد تصل إلى سنوات؟! فماذا عن المُنتَج..؟ قطعاً إنه معيب!! وهنا يأتي دور المؤسسة التربوية في صياغة وتحديد الأهداف التربوية، ومطالبة المربين بتحقيقها، وذلك لئلا يُلجأ المربي لأن يجتهد.. فيخطئ ويغفل وينسى!(5).
المعادلة التربوية الفعالة:
إن خلاصة القول يمكن قراءتها في أحرف هذه المعادلة:
قصد ونية خالصة نقية <---
أهداف ووسائل شرعية علمية <---
صنع أجيال فتية للمجد بانية.
الهوامش :
(1) المنجد في اللغة والأعلام، مادة هدف، ص 858.
(2) ثبت في صحيح البخاري عن جابر أنه كان يقول: (أول شيء نزل من القرآن ((يا أيها المدثر))، والجمهور بأنها ((اقرأ باسم ربك الذي خلق))، والمهم أنها من أول الآي نزولاً.
((1/474)
3) استندت كثيراً من فلسفة المدرسة الإدارية الحديثة0(الإدارة بالأهداف)، ولمزيد من المعلومات عن هذه المدرسة يمكنك مراجعة كتاب: (الإدارة بالأهداف ـ النظرية والتطبيقية) د. علي عبد الوهاب.
(4) لم أقصد أن السبب الوحيد في نجاح الشركة هو ترديد الأهداف، وإنما قصدت أنه من ضمن الأسباب الرئيسية في ذلك. ولمزيد من المعلومات عن هذه الشركة وفلسفتها، انظر كتاب: (فن الإدارة اليابانية) باسكال وآخر، ترجمة حسن ياسين.
(5) إن عملية تحديد الأهداف صعبة وهي مناطة بالمؤسسة التربوية، ولا مناص من الاجتهاد في حالة تقصيرها، ويمكن الاستفادة من بعض الكتب في هذا الموضوع مثل:أهداف التربية الإسلامية، محمد الحريري، وأهداف التربية الإسلامية وغايتها، د. مقداد يالجن.
--------------------------------------------------------------------------------
مجلة البيان، العدد (122)، شوال 1418،فبراير 1998 .
* * *
http://www.albayan-magazine.com/zwaya/trbwi/31.htm
التلقي للتنفيذ .. سمة إيمانية
سلمان بن عمر السنيدي
تلقِّي النصوص الشرعية لتنفيذ ما فيها من أوامر وتطبيق ما فيها من أحكام من سمات التربية الجادة التي تُفترض في أفراد الأمة الإسلامية. وهذه السمة تحتاج إلى رصيد من الإيمان القوي والتربية الزاكية. ولقد دلت النصوص الشرعية على أهمية هذه السمة في أكثر من آية وحديث؛ فمن ذلك قوله ـ تعالى ـ: ((وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَن يَكُونَ لَهُمُ الخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ)) [الأحزاب: 36] وقال ـ تعالى ـ: ((فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجاً مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً)) [النساء: 65](1/475)
ولقد ابتلى الله صحابة رسوله -صلى الله عليه وسلم- بآية في كتاب الله وقفوا منها موقف المتلقي للتنفيذ المشفق على نفسه من القصور، مع شعور قوي بمسؤولية الأمانة تجاه أنفسهم في تلقي أحكام النصوص الشرعية فظنوا أنهم عاجزون عن العمل بمقتضاها، فراجعوا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فيها إشفاقاً على أنفسهم لا اعتراضاً؛ ومع ذلك سمعوا وأطاعوا؛ فنسخ الله حكمها وبقي لفظها. وكم من سامع لها بعدهم ممن لا يحمل همّ التلقي للتنفيذ يمر عليها لا يحسب لها حساباً، ولا يقف عندها بل يستوي الأمر عنده: أنسخت الآية، أم لم تنسخ!(1/476)
عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ قال: لما نزلت على رسول الله: ((لِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَإن تُبْدُوا مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُم بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَن يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَن يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ)) [البقرة: 284] قال: فاشتد ذلك على أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فأتوا رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ثم بركوا على الركب، فقالوا: أي رسول الله! كُلِّفنا من الأعمال ما نطيق: الصلاة والجهاد والصدقة، وقد نزلت عليك هذه الآية ولا نطيقها. قال رسول الله: أتريدون أن تقولوا كما قال أهل الكتابين من قبلكم: سمعنا وعصينا؟ بل قولوا: سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير. فقالوا: سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير. فلما اقترأها القوم وذلت بها ألسنتهم أنزل الله في إثرها: ((آمََنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إلَيْهِ مِن رَّبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإلَيْكَ المَصِيرُ)) [البقرة: 285]. فلما فعلوا ذلك نسخها الله ـ تعالى ـ فأنزل ـ عز وجل ـ: ((لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إلاَّ وسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَاًنَا)) [البقرة: 286] (قال: نعم) ((رَبَّنَا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إصْراً كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَذِينَ مِن قَبْلِنَا)) (قال: نعم) ((رَبَّنَا وَلا تُحَمِّلْنَا مَا لا طَاقَةَ لَنَا بِهِ)) (قال: نعم) ((وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنتَ مَوْلانَا فَانصُرْنَا عَلَى القَوْمِ الكَافِرِينَ)) (قال: نعم) (1).
أهمية هذه السمة: تبرز أهمية هذه السمة في الأمور التالية:(1/477)
أ -أن الغاية من الأحكام الشرعية التي جاءت بها نصوص الكتاب والسنة هي العمل بها بتنفيذ أوامرها واجتناب نواهيها.
قال الله ـ تعالى ـ: ((وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إلاَّ لِيُطَاعَ بِإذْنِ اللَّهِ)) [النساء:64]، وقال ـ تعالى ـ ((وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا)) [الحشر:7].
قال الخطيب البغدادي: والعلم يراد للعمل، كما يراد العمل للنجاة، فإذا كان العلم قاصراً عن العمل، كان العلم كلاّ على العالم، ونعوذ بالله من علم عاداً كلاّ، وأورث ذلاً، وصار في رقبة صاحبه غلاّ)(2).
ولذلك قال الفضيل: إنما نزل القرآن ليعمل به فاتخذ الناس قراءته عملاً.
وقال أبو رزين: في قوله ـ تعالى ـ: ((يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ)) [البقرة: 121] قال: يتبعونه حق اتباعه يعملون به حق عمله.
* أن الله عاب على أمم سابقة ما تلقوا به النصوص الشرعية فقال عنهم: ((قَالُوا سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ العِجْلَ بِكُفْرِهِمْ قُلْ بِئْسَمَا يَاًمُرُكُم بِهِ إيمَانُكُمْ إن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ)) [البقرة: 93]، وقال ـ تعالى ـ عن اليهود خاصة: ((مَثَلُ الَذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَاراً بِئْسَ مَثَلُ القَوْمِ الَذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي القَوْمَ الظَّالِمِينَ)) [الجمعة: 5]. وعن قوله ـ تعالى ـ: ((نَبَذَ فَرِيقٌ مِّنَ الَذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ كِتَابَ اللَّهِ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ)) [البقرة: 101]، قال مالك بن مغول: تركوا العمل به. وقال ابن تيمية: (أشد الناس عذاباً يوم القيامة عالم لم ينفعه الله بعلمه، فذنبه من جنس ذنب اليهود).
* أن الإعراض عن آيات الله بتعطيل أحكامها من أعظم صور الظلم. قال الله ـ تعالى ـ: ((وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا)) [الكهف: 57].(1/478)
أن الإنسان محاسب ومسؤول يوم القيامة عن علمه كما ثبت من حديث أبي برزة الأسلمي أنه قال: قال رسول الله: (لن تزولا قدما عبد يوم القيامة حتى يُسأل عن أربع: عمره فيما أفناه، وعن علمه ماذا عمل به، وعن ماله من أين اكتسبه وفيما أنفقه، وعن جسمه فيما أبلاه)(3).
وقال أبو الدرداء ـ رضي الله عنه ـ: إن أخوف ما أخاف على نفسي أن يقال لي: يا عويمر هل علمتَ؟ فأقول: نعم، فيقال: فماذا عملت فيما علمت؟
* أن الأقوال الصالحة مرهونة بالأعمال الصالحة؛ فقد قال الحسن البصري: ليس الإيمان بالتمني ولا بالتحلي ولكن ما وقر في القلب وصدقته الأعمال، من قال حسناً وعمل غير صالح رده الله على قوله، ومن قال حسناً وعمل صالحاً رفعه العمل، وذلك بأن الله ـ تعالى ـ يقول: ((إلَيْهِ يَصْعَدُ الكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ)) [فاطر: 10].
* أن العلم النافع لا بد له من العمل وإلا صار حجة على صاحبه قال: (القرآن حجة لك أو عليك)(4).
ولذلك قال ابن عيينة: العلم إن لم ينفعك ضرك.
مظاهر غياب هذه السمة: إن غياب هذه السمة أو وجود خلل فيها يبرز في واقع الأمة صوراً من الخلل والانحراف ومن أبرزها المظاهر التالية:
* جعل النصوص الشرعية للتزود الثقافي، وانحصار استخدامها في الخطابات الإنشائية التي لا رصيد لها في الواقع ولا تأثير لها في تصريف مجرياته.
* ضعف تعظيم كلام الله ـ تعالى ـ وكلام رسوله؛ وذلك بالاعتراض عليهما بآراء العقول وتصورات الأفهام التي يبعثها الواقع المنحرف وهوى الأنفس.
* ضعف الالتزام بالآداب الشرعية والأحكام المرعية؛ تكاسلاً وتساهلاً وعدم الاكتراث بترك السنن والمستحبات، بل قد يصل الأمر إلى ترك الواجبات والأركان بلا خوف أو ندم.(1/479)
نماذج مشرقة: من أسمى الصور التي تتحقق فيها سمة التلقي للتنفيذ، تلك الصورة التي يتلقى فيها المؤمن الحث على أعمال مستحبة غير ملزم بفعلها، فيأخذها مأخذ العزيمة، ويلتزم بما فيها من أعمال من لحظة تلقيه للنصوص الشرعية بلا تردد أو تكاسل أو انقطاع أو فتور، وهذه بعض النماذج المشرقة التي تتجلى فيها هذه الصفة:
1- عن عائشة ـ رضي الله عنها ـ قالت: ما رأيت النبي -صلى الله عليه وسلم- منذ نزل عليه: ((إذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ)) [النصر: 1] يصلي صلاة إلا قال فيها: (سبحانك ربي وبحمدك، اللهم اغفر لي)(5).
2- عن سالم بن عبد الله بن عمر ابن الخطاب ـ رضي الله عنهم ـ، عن أبيه: أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، قال: (نِعْمَ الرجل عبد الله لو كان يصلي من الليل) قال سالم: فكان عبد الله بعد ذلك لا ينام من الليل إلا قليلاً) (6).
3- عن ابن عمر ـ رضي الله عنه ـ قال: بينما نحن نصلي مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إذ قال رجل من القوم: الله أكبر كبيراً، والحمد الله كثيراً، وسبحان الله بكرة وأصيلاً. فقال رسول الله: من القائل كلمة كذا وكذا؟) قال رجل من القوم: أنا يا رسول الله! قال: (عجبت لها! فتحت لها أبواب السماء). قال ابن عمر: فما تركتهن منذ سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول ذلك(7).
4- وعن أبي بكر بن أبي موسى الأشعري، قال: سمعت أبي ـ رضي الله عنه ـ، وهو بحضرة العدو يقول: قال رسول الله: (إن أبواب الجنة تحت ظلال السيوف)، فقام رجل رث الهيئة فقال: يا أبا موسى أأنت سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول ذلك؟ قال: نعم، فرجع إلى أصحابه فقال: أقرأ عليكم السلام. ثم كسر جفن سيفه فألقاه، ثم مشى بسيفه إلى العدو فضرب به حتى قُتِلَ(8).(1/480)
5- عن علي ـ رضي الله عنه ـ قال: اشتكت فاطمة ـ رضي الله عنها ـ ما تلقى من الرحى في يدها، وأتى النبي -صلى الله عليه وسلم- سبيٌ فانطلقت فلم تجده؛ فأخبرته عائشة بمجيء فاطمة إليه، فجاء النبيّ -صلى الله عليه وسلم- إلينا وقد أخذنا مضاجعنا، فذهبنا نقوم، فقال النبي: على مكانكما. فقعد بيننا، ثم قال: (ألا أعلمكما خيراً مما سألتما؟ إذا أخذتما مضاجعكما: أن تكبرا الله أربعاً وثلاثين، وتسبحا ثلاثاً وثلاثين، وتحمدا ثلاثاً وثلاثين؛ فهو خير لكما من خادم). قال علي ـ رضي الله عنه ـ: ما تركته منذ سمعته من النبي. قيل له: ولا ليلة صفين؟ قال: ولا ليلة صفين(9).
6- قال الإمام مسلم: حدثنا محمد بن عبد الله بن نمير حدثنا أبو خالد ـ يعني ـ سليمان بن حيان عن داود بن أبي هند، عن النعمان بن سالم، عن عمرو بن أوسٍ، قال: حدثني عنبسة بن أبي سفيان في مرضه الذي مات فيه بحديث يتسارّ إليه [يُسَرّ به] قال: سمعت أم حبيبة تقول: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: (من صلى اثنتي عشرة ركعة في يوم وليلة بُنِيَ لهُ بهن بيت في الجنة) قالت أم حبيبة: فما تركتهن منذ سمعتهن من رسول الله. وقال عنبسة: فما تركتهن منذ سمعتهن من أم حبيبة. وقال عمرو بن أوسٍ: ما تركتهن منذ سمعتهن من عنبسة. قال النعمان بن سالم: ما تركتهن منذ سمعتهن من عمرو بن أوسٍ(10).
7- عن أم حبيبة ـ رضي الله عنها ـ أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: من ركع أربع ركعات قبل الظهر وأربعاً بعدها حرم الله ـ عز وجل ـ لحمه عن النار. قالت: فما تركتهن منذ سمعتهن(11).
8- عن ابن عمر ـ رضي الله عنهما ـ قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: ما حق امرئ مسلم له شيء يوصي فيه؛ يبيت ثلاث ليالٍ إلا ووصيته مكتوبة. قال عبد الله بن عمر ـ رضي الله عنهما ـ: ما مرت عليّ ليلة منذ سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال ذلك إلا وعندي وصيتي(12).(1/481)
9- عن ابن عمر ـ رضي الله عنهما ـ قال: (سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: اقتلوا الحيّات، واقتلوا ذا الطفيتين والأبتر؛ فإنهما يلتمسان البصر ويستسقطان الحبالى. قال عبد الله بن عمر: فلبثت لا أترك حية أراها إلا قتلتها..)(13).
10- عن أبي مسعود الأنصاري ـ رضي الله عنه ـ عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: (من قرأ بالآيتين من آخر سورة البقرة في ليلة كفتاه) (14). قال ابن القيم ـ رحمه الله ـ: (قال علي بن أبي طالب ـ رضي الله عنه ـ: ما كنت أرى أحداً يعقل ينام قبل أن يقرأ الآيات الأواخر من سورة البقرة) (15).
11- قال البخاري: ما اغتبت أحداً قط منذ علمت أن الغيبة حرام. إني لأرجو أن ألقى الله ولا يحاسبني أني اغتبت أحداً (16).
12- عن أبي أمامة ـ رضي الله عنه ـ قال: قال: (من قرأ آية الكرسي عقب كل صلاة، لم يمنعه من دخول الجنة إلا أن يموت)(17). قال ابن القيم ـ رحمه الله ـ: (بلغني عن شيخ الإسلام أنه قال: ما تركتها عقب كل صلاة إلا نسياناً أو نحوه) (18).
13- وقال الإمام أحمد ـ رحمه الله ـ: (ما كتبت حديثاً إلا وقد عملت به، حتى مر بي أن النبي -صلى الله عليه وسلم- احتجم وأعطى أبا طيبة ديناراً، فأعطيت الحجام ديناراً حين احتجمت)(19).
الهوامش :
(1) رواه مسلم، ح/125.
(2) اقتضاء العلم العمل، 158.
(3) رواه الترمذي، وقال حديث حسن صحيح، وصححه المنذري.
(4) رواه مسلم، ح/223.
(5) رواه مسلم، ح/484.
(6) رواه البخاري، 3/5، 6، ومسلم ح/2479.
(7) رواه مسلم، ح/601، ورواه أحمد 4399.
(8) رواه مسلم، ح/1902؛ والترمذي 1659.
(9) رواه مسلم، ح/2727، وأبو داود، 4403، وأحمد 797.
(10) رواه مسلم، ح/728، ك 6، ب 15. وروى الحديث النسائي، 1773، وأبو داود 1059، وابن ماجة 1131 وأحمد 25543، والدارمي 1402.
(11) رواه أحمد، 25539، والنسائي، 1789.
(12) رواه أحمد، 4239، ومسلم، 3075، والنسائي، 3559.
(13) رواه مسلم، 4141.
((1/482)
14) رواه البخاري ومسلم.
(15) أخرجه أبو بكر بن أبي داود في (شريعة القارئ) بإسناد صحيح على شرط البخاري ومسلم.
(16) انظر الطبقات للسبكي، 2/9.
(17) رواه النسائي وابن السني، 121 بسند حسن.
(18) الوابل الصيب، ص 229.
(19) سير أعلام النبلاء، 11/213.
--------------------------------------------------------------------------------
مجلة البيان، العدد (123)، ذو القعدة 1418،مارس 1998 .
* * *
http://www.albayan-magazine.com/zwaya/trbwi/32.htm
المعلم المسلم والهدف البعيد
إبراهيم داود
( إني أعالج أمراً لا يُعين عليه إلا الله، قَدْ فَنِيَ عليه الكبير، وكبر عليه الصغير، وفصح عليه الأعجميّ، وهاجر عليه الأعرابيّ، حتى حسبوه ديناً لا يرون الحقّ غيره)(1).
لا زالت هذه العبارة البليغة التي قالها الخليفة الراشد عمر بن عبد العزيز ترسم لنا صورة المعلم المسلم في هذه الأيام، وإن لم يعد ـ هذا المعلم ـ (يعالج) الأمر الذي يهمّه كما كان خامس الراشدين ـ رحمه الله ورضي عنه ـ يفعل.
لا شك أن الذين ما زالوا يعالجون أمر التربية والتعليم من المعلمين المسلمين يعانون مثلما عانى عمر، ولكنهم أفذاذ قليلون لا يُقاسون بالكثرة الكاثرة التي تعكس صورة الحيرة والتردد حيناً وصورة الغفلة والضياع أحياناً. وممّا لا سبيل إلى إنكاره أنّ المسلم في هذه الأيام ـ معلماً وغير معلم ـ مُوَزّعٌ بين إسلامٍ يأمره بالمعروف، وواقع يغريه بالمنكر أو يُكرهه عليه إكراهاً، وأنّ هذه الحال تعرقل عمل المعلم وتزيد معاناته أضعافاً مضاعفة!(1/483)
فبحسب المعلم المسلم المعاصر أن المَثَل التربويّ الأعلى الذي يُراد له أن يصبّ تلاميذه في قالبه هو التربية الغربية الغريبة التي يتولى كبرها ويضع مناهجها وبرامجها رجال لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر(2)، وبحسب المعلم أنّ له شركاء في التربية يحادّونه ويعادونه: يُفسدون إذا أصلح، ويهدمون إذا بنى، ويُدمّرون إذا عمّر، وأنهم ـ وهذا أدهى وأمرّ ـ يملكون من أسباب النجاح في الإفساد والهدم والتدمير، ما لا يملك ـ هو ـ مثله ولا دونه في الإصلاح والبناء والتعمير، وأنّ الهدم أهون من البناء كما أن القائمين عليه أمضى سلاحاً وأكثر عدداً:
فلو أَلْفُ بانٍ خلفهم هادم كَفَى فكيف ببانٍ خلفه أَلْفُ هادم؟!
وبحسب المعلم ـ كذلك ـ أنّ نجاح عمله موقوف على كفاءة النظام التربوي السائد، وعلى اضطلاع الأسرة بواجباتها، وعلى قيام وسائل الإعلام بمسؤولياتها،بل وعلى كون المجتمع بكافة قطاعاته ومؤسساته ساعياً بصدق وقوة إلى تحقيق الغاية الكبرى من الحياة الدنيا، وهي عبادة الله ـ تعالى ـ وتعبيد الأجيال له ـ سبحانه ـ... فإنْ صَحّ ذلك ـ وإنّه لصحيح ـ فهل تبقى على المعلم حجة إن غفل أو فشل أو نكص على عقبيه؟! نعم؛ لأن تفريط أحد لا يكون حجة لأحد، ولأنّ أسباب الفشل وإن تعددت وتجمعت لا تُبطل حقاً ولا تُحقّ باطلاً؛ ولأن المسلمين لا يكونون إمّعات، ولا يقول قائلهم:
وهل أنا إلا من غَزِيّة إنْ غوتْ غويتُ وإنْ ترشدْ غزيّة أرشد
إنّ إحجام مَنْ يُحجم عن أداء واجبه لا يسقط وجوب الواجب، ونكوص من ينكص من أهل المسؤولية لا يُحلّ لغيره النكوص، ولا يُبطل ذلك ولا يقدح فيه ما يكون بين درجات المسؤولية ومستوياتها من التكامل والتكافل وصِلات التأثّر والتأثير، بل الحق الذي لا ريب فيه أنّ فشل الأفشال ونكول الناكلين ما هو في أعراف المجاهدين الصابرين إلا دوافع إلى مزيد من الصبر والثبات:
ومَن تكن العلياء همّة نفسه فكلّ الذي يلقاه فيها مُحبّبُ(1/484)
والنفوس الكبيرة تثق بفضل ربها وقدرته ورحمته، أكثر مما تثق بالقوى الخاصة والظروف المحيطة، وطاعة الله ـ تعالى ـ حقّ على الفرد والمجتمع وإن كثرت الأعباء وثقلت التكاليف، وبلوغُ الهدف ـ كما يقول الدكتور محمد عبد الله دراز ـ رحمه الله تعالى ـ يتطلب تأسيس العمل على نيّة تستهدف أعلى درجات الكمال المستطاع، وإلا كان التوقف والتهافت والنكوص؛ ولذا يأمرنا القرآن الكريم بأن نجاهد في الله حقّ الجهاد، وأن ننشد الأفضل، ونُسابق على المراتب الأولى، ويأمرنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن نقنع ونرضى بما قسم الله لنا من نعيم الدنيا، وأن نسمو إلى مَنْ هم أَسْمى منا في مضمار التقوى والعمل الصالح. يقول: (خصلتان من كانتا فيه كتبه الله شاكراً صابراً، ومن لم تكونا فيه لم يكتبه الله لا شاكراً ولاصابراً: مَنْ نظر في دينه إلى من هو فوقه فاقتدى به، ونظر في دنياه إلى من هو دونه فحمد الله على ما فضّله به عليه، كتبه الله شاكراً صابراً. ومن نظر في دينه إلى من هو دونه، ونظر في دنياه إلى من هو فوقه فأسف على ما فاته منها لم يكتبه الله شاكراً ولا صابراً)(3).(1/485)
ومن الثابت قطعاً أنّ الله ـ تعالى ـ لم يكلّف نفساً إلا وسعها، ولم يأمرها إلا بما تستطيع؛ ولكن الوُسْعَ في قوله ـ تعالى ـ: ((لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إلاَّ وسْعَهَا)) [البقرة: 286]، والاستطاعة في قوله ـ عز وجل ـ: ((فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ)) [التغابن: 16] لا يدل أيّ منهما على تكليف الفرد أو الجماعة ببذل أدنى الجهد؛ بل كلاهما دليل على التكليف ببذل أعظم الجهد، وهذا ظاهر في كلمة ((وسْعَهَا)). قال الرازي: [والوُسْع والسّعة بالفتح الجدة والطاقة، وأَوْسَع الرجل صار ذا سَعَة وغنى ومنه قوله ـ تعالى ـ: ((وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإنَّا لَمُوسِعُونَ)) [الذاريات: 47] أي أغنياء قادرون، والتوسيع خلاف التضييق..](4)، وقال صاحب الظلال في تفسير قوله ـ تعالى ـ: ((وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ)) [الأنفال: 60] فهي حدود الطاقة إلى أقصاها بحيث لا تقعد العصبة المسلمة عن سبب من أسباب القوة يدخل في طاقتها)(5)؛ ولذا كان المسلم بعشرة من الكفار في حال قوته، وباثنيْن منهم في حال ضعفه كما نص على ذلك قوله ـ تعالى ـ: ((إن يَكُن مِّنكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإن يَكُن مِّنكُم مِّائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفاً مِّنَ الَذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَفْقَهُونَ (65) الآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً فَإن يَكُن مِّنكُم مِّائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإن يَكُن مِّنكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ)) [الأنفال: 65، 66].(1/486)
ولو جاز لامرئ أن يُقيم حركة حياته على الأخذ بالرّخَص، للزم أرباب المسؤوليات الكبرى ـ والمعلمُ منهم ـ أن يقيموها على العزائم، والأمة المسلمة هي أمة جهاد واجتهاد على كل حال؛ وهذا المعنى جليّ في قوله ـ تعالى ـ: ((يَا أَيُّهَا الَذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ)) [آل عمران: 200]. فهل صبر المعلم وصابر؟ وهل بذل وسعه، وأدّى ما عليه من حقّ الجهاد والاجتهاد؟ ما بال أكثر أبناء المسلمين ـ إذاً ـ يتأسّوْن بـ (نجوم الفنّ) و (أبطال الكرة)، ويلتمسون المجد في ملاعب الرياضة ودور الأزياء ومعاهد التمثيل؟! بل ما بال الأمة عامة تستبدل بالأعمال الجليلة ألفاظاً طنانة، وبالمبادئ العظيمة شعارات تافهة، وبالجهاد في سبيل الله أشكالاً عقيمة من الشجب والنّدب والتنديد والاحتجاج؟!
لقد سقط المعلم ـ إلا من رحم الله ـ في مستنقع الواقع، وأصبح قانعاً بشرح ما بين يديه من معلومات ـ أيّاً ما كانت ـ مكتفياً بحشو رؤوس تلاميذه بها دون أدنى اهتمام ببناء الشخصية المسلمة، القادرة على التأثير والتغيير، وهكذا اتّخذت المظاهر الجوفاء أرباباً تُعبد من دون الله، وتَحَوّل أكثر طلبة العلم إلى (مرتزقة)، لا يرون فيه إلا سبباً لكسب الرزق، أو سبيلاً إلى تحقيق الوجاهة الاجتماعية، ونسي الطالب والمعلم كلاهما أنّ العلم لا يُطلب في شرعة الإسلام إلا للعمل، وأنّ كلاً ـ من العلم والعمل ـ عبادة يبتغى بها وجه الله والدار الآخرة، وأنّ الأجيال التي تتخرج في المدارس والجامعات وهي لا تعرف معروفاً، ولا تنكر منكراً ـ إلا ما أُشربتْ من هواها ـ ليست من العلم على شيء.(1/487)
إنّ الغاية من التربية والتعليم هي نفسها الغاية من خلق الله ـ تعالى ـ الإنسان في هذه الدنيا: أن تُعمر الأرض وفق مقتضى المنهج الإلهي العظيم، فما ينبغي لمعلم مسلم أن يهون عليه عمله حتى يصبح مجرد دروس تُلقى، ثم يتفرق الطلبة بعدها أشتاتاً، ثم يُسألون عنها فينجحون أو يرسبون، وما ينبغي للغاية العظمى أن تتحول من إعداد أجيال تحمل مسؤولية الدعوة إلى الله على بصيرة، إلى تخريج أجيال تحمل الشهادات، وتميل مع الشهوات، ثم لا يكون أكبر همّها إلا أنْ تتقلّد الوظائف، وتُخلد إلى الأرض، وترضى من الدنيا بمتاعها الرخيص!
كلا، بل التعليم تربية للأقوياء الأمناء، العلماء العاملين، الذين لا يزالون (ظاهرين على الحق لا يضرهم من خذلهم حتى يأتي أمر الله وهم كذلك)(6)، ولقد وعى أسلافنا الأوائل ذلك حقّ الوعي، وأخلصوا له كل الإخلاص، فوفّقهم الله ـ تعالى ـ لتخريج أجيال عالمة عاملة، تجعل رضوان الله ـ عز وجل ـ غاية غاياتها، وتتخذ من عقيدة الإسلام قوام حياتها، كما تتخذ من الحلال والحرام مقياساً لسلوكها وضابطاً لتصرفاتها.
إنّ الله ـ تعالى ـ لم يخلقنا عبثاً ولن يتركنا سدى، وإنّ ذلّنا المعاصر ليُشير إلى انحراف خطير عن صراط الغاية التي خُلقنا من أجلها، والتي نحن محاسبون على تحقيقها، فكان حقاً علينا أن نُغَيِّر ما بأنفسنا من انحراف ليغيّر الله ـ تعالى ـ ما بنا من ذلّ: ((إنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ)) [الرعد: 11]، وليت شعري ما فَرْقُ بين مَنْ أسلم لله ـ تعالى ـ ومَنْ لم يسلم إذا استويا في الافتتان بزهرة الحياة الدنيا، ولم يعلما أنّ ما عند الله خير وأبقى؟!
إن الله ـ تعالى ـ لم يأمرنا إلا بالسعي الذي يحقّق شَرْطي الإخلاص والإصابة، فما نحن بمسؤولين عن تحقيق النتائج وقطف الثمرات:
على المرء أن يسعى إلى المجد جهده وليس عليه أن تتم الرغائب(1/488)
حسبنا أن نخلص ديننا لله ربنا، وأن نحرص على أن نكون الأمناء الأقوياء، فإن وُفّقنا إلى تحقيق طلبتنا وبلوغ غايتنا، فذلك فضل الله علينا، وإلا فقد أبرأنا ذممنا واعتذرنا إلى ربنا. قال ـ تعالى ـ في شأن الناهين عن المنكر من بني إسرائيل: ((وَإذْ قَالَتْ أُمَّةٌ مِّنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَاباً شَدِيداً قَالُوا مَعْذِرَةً إلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (164) فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ أَنجَيْنَا الَذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ)). [الأعراف: 164، 165].
إنّ العمل نفسه مقصود في نظر الإسلام؛ ولذا قال ـ عليه الصلاة والسلام ـ: (إنْ قامت الساعة وبيد أحدكم فسيلة، فاستطاع ألا تقوم حتى يغرسها فليغرسها فله بذلك أجر)(7)، ولا ريب أن نتيجة العمل مطلوبة بقوة، ولكنها ليست شرطاً في قيام العمل نفسه، وإلا لكفّ الناس عن العمل بمجرد تحقيق النتائج، على أن ذلك لا يعني أبداً عدم الاهتمام بالنتائج، فلا بد من درس النتائج ومراجعتها والوقوف على أسباب تحققها أو تخلّفها، واستخلاص العِبَر المستفادة منها، ومن ثم تقويم العمل نفسه على ضوئها، ويبقى المعيار الأمثل لنجاح أي عمل في نظر هذا الدين هو أن يُرضي الله ـ عز وجل ـ، وبهذا المعنى لا يُخفِق عَمَلُ عاملٍ مسلم ما دام يجمع بين فضيلتي الإخلاص من جهة والصواب (بموافقة الشرع) من جهة أخرى.
فليكن كل معلم مسلم على بصيرة، وليعلم واقعه وواجبه، ثم ليأت من ذلك الواجب ما استطاع. ومن يدري فلعل الله ـ تعالى ـ يبارك عمل المعلمين العاملين، فيكشف بهم ما نزل بأمتهم من هوان وخذلان، إنه ولي ذلك والقادر عليه، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
الهوامش :
(1) سيرة عمر بن عبد العزيز؛ لابن عبد الحكم/ 37.
((1/489)
2) من الإنصاف أن نشير إلى أن التعليم في المملكة العربية السعودية يمتاز عن التعليم في سائر أنحاء العالم الإسلامي بصبغته الإسلامية الظاهرة؛ فما ذكرناه حكم عام.
(2) الترمذي، كتاب صفة القيامة، باب 58. وانظر: دستور الأخلاق في القرآن، للدكتور محمد عبد الله دراز، ص 666، وما بعدها، والحديث إسناده ضعيف، ضعفه الألباني في الضعيفة رقم (1924) والأرناؤوط فيشرح السنة رقم (4102).
ـ البيان ـ
(4) مختار الصحاح، مادة: وسع.
(5) في ظلال القرآن لسيد قطب ـ رحمه الله تعالى ـ، ج3، ط9، دار الشروق، ص 1544.
(6) من حديث رواه مسلم، وأوله: (لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين...).
(7) عمدة القاري في شرح صحيح البخاري لبدر الدين العيني، باب الحرث والزراعة.
--------------------------------------------------------------------------------
مجلة البيان، العدد (124)، ذو الحجة 1418،أبريل 1998 .
* * *
http://www.albayan-magazine.com/zwaya/trbwi/33.htm
الشباب المراهق في الإسلام
محمد حامد الناصر
(2/1)
المراهقة هي مرحلة الشباب المتدفق، مرحلة عنفوان شباب المستقبل، وهي مرحلة التطورات السريعة، تطرأ على كيان المراهق كله جسمياً ونفسياً وجنسياً..
وما المراهقة إلا مرحلة من مراحل العمر المختلفة، لها خصائصها ومميزاتها ومشكلاتها، شأن كل مرحلة كالطفولة أو الكهولة؛ ولذلك لا بد من التعامل مع هذه المرحلة على أسس علمية مدروسة، بعيداً عن التخبط والارتجال؛ ذلك أن الشباب أمل الأمة، ومعقد آمالها، هم وقود الحرب والجهاد، وعماد السلم والبناء إذا أحسنّا إعدادهم منذ وقت مبكر من العمر. ولكن أيّ شباب نريد؟!
نريد شباباً تقياً ورعاً مجاهداً، يعتز بهويته وانتمائه إلى دينه، وتراث أمته، وأن يكون معتزاً بأبطال الإسلام، وأعلامه العظام على مر العصور.(1/490)
نريد شباباً قدوته فتيان الرعيل الأول الذين نشروا هذا الدين، وكانوا نجوماً مضيئة في دياجير الظلام.
نريدهم كما وصفهم الشاعر بقوله:
شبابٌ ذللوا سبل المعالي وما عرفوا سوى الإسلام دينا
إذا شهدوا الوغى كانوا كماة يدكون المعاقل والحصونا
وإن جن الظلام فلا تراهم من الإشفاق إلا ساجدينا
نريد لشبابنا أن يتجهوا صوب المعالي، وأن يسلكوا سبل الرشاد وأن يديروا ظهورهم لهذا السيل الغازي من أفكار الحضارة الوافدة..
معنى المراهقة: فما المقصود بالمراهقة؟ وما أبرز خصائصها؟ وكيف نتعامل مع الشباب المراهق؟
الحقيقة أن هنالك رأيين مختلفين، ونظريتين متباعدتين:
1- معنى شائع عند علماء الغرب تأثر به بعض كتاب العرب.
2- ومعنى علمي يقول به المشتغلون بعلم النفس من المسلمين ومن المعتدلين الغربيين.
الرأي الأول: يقول به علماء غربيون يرى أن المراهقة فترة من القلق والاضطراب،والصراع، يمتد من قُبَيْلِ البلوغ وحتى العشرين من العمر، ويرون أنها فترة حتمية يمر بها كل إنسان، وأنها عاصفة تهز كيان المراهق كله.
وأول من قال بذلك: (ستانللي هول) إذ يرى أن المراهقة هي مرحلة عواصف وتوتر وشدة، تكتنفها أزمات نفسية، وتسودها المعاناة والإحباط، والقلق والمشكلات.
ويشبه بعضهم حياة المراهق بحلم طويل في ليل مظلم، تتخلله أضواء ساطعة تخطف البصر أكثر مما تضيء الطريق، فيشعر المراهق بالضياع ثم يجد نفسه عند النضج(1).
إن هذا المفهوم للمراهقة، مأخوذ من دراسات غربية أجريت على مجتمعات أوروبا وأمريكا، ثم عممت نتائجها على الآخرين، وكأن المجتمع الغربي عيّنة صحيحة تمثل الإنسان السوي.
ويرى هؤلاء المربون، أنه لا بد من التغاضي عن هفوات المراهقين؛ ريثما يجتازون هذه المرحلة؛ لأن المراهق ـ عندهم ـ مريض، ولا حرج على المريض.
وعلى ذلك فإن الشاب ـ هنالك ـ لا يحاسب قانونياً خلال هذه المرحلة، أي حتى يبلغ سن العشرين، أو الثامنة عشرة على أبعد تقدير.(1/491)
ويدحض هذا الرأي ما أثبته علم النفس لدى العلماء المسلمين، وحتى المعتدلين من الغربيين أنفسهم.
بل يدحضه سن التكليف الشرعي عند المسلمين وهو سن البلوغ.
ويسفّه ذلك الرأيَ أيضاً ما قام به فتيان الدعوة الإسلامية من جهاد وبطولات وتضحيات، فلم يحسوا بمعاناة وتوتر كما يزعم علماء الغرب.
وقد جاء في الحديث الشريف:(رُفِعَ القلم عن ثلاثة: عن المجنون المغلوب على عقله حتى يبرأ، وعن النائم حتى يستيقظ، وعن الصبي حتى يحتلم)(2).
وإن الفتى إذا استكمل خمس عشرة سنة يصبح مكلفاً، وإن لم يحتلم، فتجري عليه الأحكام من وجوب العبادة وغيرها.
روى نافع عن ابن عمر قوله: (عرضني رسول الله لله يوم أحد في القتال وأنا ابن أربع عشرة سنة فلم يجزني، وعرضني يوم الخندق وأنا ابن خمس عشرة سنة فأجازني)(3).
فهذا هو السن الذي يجعل صاحبه من المقاتلين، ويجري عليه حكم الرجال في أحكام القتال وغيرها.
الرأي الثاني: وهو المعنى العلمي عند المشتغلين بعلم النفس من علماء المسلمين، فيعني أن المراهقة، هي فترة تغيرات شاملة وسريعة، في نواحي النفس والجسد، والعقل والروح لدى الشاب المراهق، وهي فترة نمو سريع في هذه الجوانب كلها، حتى قيل: (إن المراهقة فترة انقلاب كامل)(4).
إنها مجموعة من التغيرات التي تحدث في نمو الفرد الجسمي والعقلي والنفسي والاجتماعي.. وفيها يحدث كثير من التغيرات التي تطرأ على وظائف الغدد الجنسية، والعقلية، والجسمية.
إنها ولادة جديدة لشخصية المراهق، حيث تظهر وظائف جديدة، بطريقة فجائية فتسيطر على سلوك الشاب.
فالمراهقة تعتبر مرحلة انتقال من الطفولة إلى الرشد، وذلك يعني أن القلق والاضطراب ليسا حتميين.
(والنمو الجنسي في المراهقة، قد لا يؤدي بالضرورة إلى أزمات، ولكن النظم الاجتماعية الحديثة، هي المسؤولة عن أزمة المراهقة) كطول فترة التعليم، وتأخير الزواج... إلخ)(5).(1/492)
ولذلك فإن الأحكام الشرعية لا تعترف بفترة انتقالية بين الطفولة والرشد، كما يسن في القوانين الوضعية التي لا تعتبر الإنسان رجلاً يطبق عليه القانون قبل الثامنة عشرة من عمره.
ولا يجوز أبداً تسويغ الانحراف، والتغاضي عن إهمال التكاليف، وإنما تعني أن فترة المراهقة مرحلة من العمر لها خصائصها التي تميزها جسمياً وجنسياً وانفعالياً، شأنها شأن كل مرحلة من مراحل العمر(6).
كيف نتعامل مع الشباب المراهق:
للمراهقة سماتها ومطالبها، وإذا لم تُلَبّ هذه المطالب، فقد يقع المراهق في اضطرابات مؤلمة، أو يلجأ إلى وسائل غير سوية.
ولذلك فواجب المربي الحكيم أباً كان أو أماً أو مدرساً أن يتفهم حاجات المراهق،ويوجهه نحو أفضل الوسائل لتلبية هذه الحاجات.
علينا أن نزوده بخبرات ملائمة، ليتخلص من التردد، ويبتعد عن المكابرة والعناد، ويتعود على احترام رأي الآخرين.
ولعل أبرز مهمات المربي تتلخص فيما يأتي:
1- تربية انفعالات المراهق وترويضها.
2- مراعاة حاجاته الأساسية.
3- معالجة أبرز مشكلاته.
إن مهمة المربي تتمثل في تهذيب انفعالات المراهق، فلا تتركه في حيرة من أمره، بل نشيع في نفسه الطمأنينة، وحب الآخرين وتجاوز مصلحة الذات، نوجهه نحو حقيقة أن الناس في الإسلام يلتقون على العقيدة في الله، فلا تكون ذواتهم بارزة، ولا متحفزة لاقتناص المصلحة من الآخرين، وإنما يكون الجانب البارز هو الحب في الله، والمؤمن يتعامل تعاملاً سوياً مع الآخرين ويستطيع التلاحم معهم في يسر(7).(1/493)
إن حب الذات من أقوى انفعالات هذه المرحلة، ولذلك تأتي أهمية التوجيه المنظم من الأسرة والمدرسة، حتى يتمكن الشاب من حسن التكيف مع بيئته، وإذا تهيأ المربي الصالح الذي يساعده على الفهم الصحيح لذاته بأسلوب تربوي لا يشعر معه بالتدخل المباشر في شؤونه الخاصة، فإن ذلك سيساعده على تخطي هذه المرحلة في أمان كما يجتنب مخاطرها النفسية كالقلق واليأس أو الحب المفرط للذات، والغرور والكبر(8).
كما أن على المربي أن يراعي حاجات المراهق الأساسية:
ومن أبرز هذه الحاجات.. الحاجة إلى الاستقلال، فهو يبحث عن فطامه عن الإشراف الأسري، وأن يصبج موجهاً لذاته.
ومن ذلك حاجته إلى احترام الآخرين، وإشعاره بمكانته؛ فهو يريد أن يكون هامّاً، وله موقعه وسط الجماعة. وقد ربى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أصحابه على ذلك وتعامل مع صغار أصحابه بهذه الروح، كان يجتمع مع أصحابه سراً في دار الأرقم بن أبي الأرقم وكان عمره آنذاك ست عشرة سنة، وجمع الأسرى من بني قريظة في دار أسامة بن زيد، وكان أسامة آنذاك فتى صغيراً(9).
ومن حاجات المراهق الأساسية أنه يهتم بالبحث عن الحق والدين، والمثل العليا، فلا بد أن يراعي المربي في توجيهاته هذه الناحية، كما أن من حاجاته الأساسية حاجته الجنسية، التي تظهر بقوة خلال هذه الفترة، وتحصين الشباب بالدين ووازع التقوى من غض البصر والبعد عن المثيرات هو خير علاج؛ إذ يسمو المراهق بغرائزه وانفعالاته ويضبطها بضوابط الشرع.
ينبغي على المدرسين والآباء، ألا يفرطوا في بسط حمايتهم على المراهقين وألا يلجأوا إلى التعنيف على التافه من المخالفات، بل ينبغي أن يمدح التلميذ أمام زملائه، وقد أظهرت الدراسات الميدانية أن المدح أفضل من الذم في دفع الطلاب إلى التعلم(10).
ومن أبرز الطرق النافعة لإشباع الحاجة النفسية لدى المراهق:
ـ تشجيعه على أن يعبر عن حاجاته وألا يعمد إلى تخبئتها.(1/494)
ـ صرف الطاقة النفسية في وجهات اجتماعية مرغوبة: كأن يشجعه لجلسات حفظ القرآن في المساجد، وخروجه مع مجموعات المراكز الصيفية المأمونة في المدارس والجامعات، على أن يكون الموجهون فيها من ذوي الخلق والدين.
ـ تدريب المراهق على قمع بعض الرغبات، دون تخويفه ولا العطف الزائد عليه حتى لا يتحول العطف إلى تدليل.. وإشغاله بهوايات فنية يتقنها، على أن تكون مباحة(11).
ـ نعلّمه أن الحياة ليست كلها مباهج ومسرات، وعليه أن يتعود الصبر واحتمال المكاره، فيحس بقيمته ويرتقي بمركزه الاجتماعي.. ونربيه على تحمل شظف العيش فلا نترفه في تلبية طلباته جميعاً، حسنها وسيئها، فينشأ وقد عرف الجهد والعمل(12).
الهوامش:
(1) ينظر علم نفس النمو: د. حامد زهران، ص 291، والمراهقون: سمير جميل الراضي، ص 2، وتربية الشباب المسلم للآباء والدعاة: خالد الشنوت، ص 3 ـ 12.
(2) رواه أحمد وأبو داود والحاكم. وهو صحيح/ صحيح الجامع الصغير. ج1/659.
(3) رواه الإمام مسلم: في كتاب الجهاد والسير.
(4) انظر: منهج التربية الإسلامية: الأستاذ، محمد قطب، 2/196، وسيكيولوجية المراهق المسلم المعاصر، د. عبد الرحمن العيسوي، ص 11.
(5) المصدر السابق.
(6) ينظر: السيرة النبوية لابن هشام، ج1/318، 1/485، والإصابة، ج3/648.
(7) منهج التربية الإسلامية: الأستاذ محمد قطب، ج2، ص 40.
(8) تربية المراهق بين الإسلام وعلم النفس، د. محمد السيد الزعبلاوي، ص 129.
(9) السيرة النبوية في ضوء المصادر الأصلية، وطبقات ابن سعد، 3/244.
(10) سيكيولوجية المراهقة للمربين: بيلزوجونز. بإيجاز، ص 21 ـ 26.
(11) رعاية المراهقين: يوسف أسعد، ص 125.
(12) للتوسع في موضوع المراهقة: ينظر كتابنا: تربية المراهق في رحاب الإسلام.
--------------------------------------------------------------------------------
(2/2)(1/495)
حدد الكاتب في الحلقة الماضية معنى المراهقة ومرحلتها السنية، ثم تحدث عن أهمية هذه المرحلة، وكيفية التعامل الصحيح مع الشباب في هذا السن، ومنها: تربية انفعالات المراهق وترويضها، ومراعاة حاجاته الأساسية. ويواصل الكاتب إيضاح جوانب أخرى في هذه الحلقة.
- البيان -
شباب السلف الصالح قدوة مثلى:
إن هذا السن هو سن الطاقات المتفجرة، سن الإبداع البناء، ولقد ضرب سلفنا الصالح أروع الأمثلة في مختلف ميادين الدعوة والتضحية والعلم والجهاد، ولمّا يبلغوا سن العشرين، بل كان بعضهم لم يبلغ الخامسة عشرة من عمره.
كانوا فتياناً بعمر الورود عندما تحملوا العذاب والاضطهاد في سبيل عقيدتهم في جنبات مكة المكرمة.
منهم مصعب بن عمير، والزبير بن العوام، وطلحة الخير، وسعد بن أبي وقاص، وعلي بن أبي طالب ـ رضي الله عنهم جميعاً ـ، فقد تحملوا الجوع والعطش، وهم محاصرون في شِعب أبي طالب، حتى جهدوا، فكانوا يأكلون ورق الشجر ولم يتجاوزوا سن الخامسة عشرة من أعمارهم.
أما آل ياسر، وبلال بن رباح، وخباب بن الأرت، فقد لاقوا من العذاب ألواناً، وهم صابرون لا يغير ذلك من دينهم شيئاً.
فهذه تطبيقات واقعية،تدحض أقوال الزاعمين: (أن فترة المراهقة فترة أزمات، وصراعات) وتؤكد أن التربية المتوازنة تحت مظلة العقيدة قد حوّلت صغار الشباب أولئك إلى مجاهدين بررة، بل إلى قادة للجيوش الإسلامية، تنشر التوحيد في ربوع الأرض(1).
كان صغار الشباب في فجر الدعوة يتسابقون إلى ساحات الجهاد كما يتسابق شباب اليوم إلى ساحات الملاعب، وأماكن اللهو والترفيه.
وهل سمعت أخي الكريم! بشباب يبكون لأنهم رُدّوا عن ساحات المعارك، ولمّا يبلغوا الحلم بعدُ؟!
وهل تُغلب أمة هذا شأن صغارها، فما بالك بكبارها؟!
أولئك آبائي فجئني بمثلهم إذا جمعتنا يا جرير المجامع
كان معاذ بن الحارث ومعوذ أخوه، وهما ابنا عفراء، شابين من شباب الأنصار، شهدا معركة بدر الكبرى.(1/496)
قال الشابان لابن عوف ـ رضي الله عنه ـ قبل بدء المعركة: يا عم أتعرف أبا جهل؟ قد بلغنا أنه يؤذي رسول الله؛ فدلهما عليه، وعندما حمي الوطيس، شد الشابان على عدو الله، فوقع صريعاً، وأجهز عليه بعد ذلك عبد الله بن مسعود ـ رضي الله عنه ـ.
شابان في سن المراهقة، لا يقبل طموحهما أقل من قائد معسكر الشرك وصنديدهم آنذاك.
أما الذين ردهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لصغر سنهم في معركة أحد فكثير، منهم: عبد الله بن عمر ـ رضي الله عنهما ـ رُدّ في أحد، وفي غزوة الخندق أجازه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وقد بلغ الخامسة عشرة(2).
وقد رد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يومئذ: أسامة بن زيد، وزيد بن ثابت، والبراء بن عازب، وأجازهم كلهم يوم الخندق.
وممن رُدّ يومئذ: سمرة بن جندب، ورافع بن خديج، وهما ابنا خمس عشرة، فقيل: يا رسول الله إن رافعاً رامٍ؛ فأجازه، وقيل: يا رسول الله إن سمرة يصرع رافعاً؛ فأجازه(3).
قصص البطولة عند أبناء هذه المرحلة لا تنتهي.. فعمير بن أبي وقاص أخي سعد، ومن تلك الروائع المأثورة عنه ما يروي سعد أن أخاه عميراً كان يتوارى قبل أن يعرضهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- للخروج إلى بدر: فقلتُ: ما لك يا أخي؟ فقال: أخاف أن يراني رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فيستصغرني فيردني، وأنا أحب الخروج لعل الله يرزقني الشهادة.
وبالفعل رده رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فبكى عمير، فأجازه رسول الله. قال سعد: كنت أعقد له حمائل سيفه من صغره، فقتل ببدر وهو ابن ست عشرة سنة، قتله عمرو بن ود، وكان هذا من صناديد قريش(4).
ماذا يقول شباب اليوم أمام هؤلاء الصبيان وقد كانوا في سن المرحلة المتوسطة في هذه الأيام؟!(1/497)
ماذا يقولون؟ وها هو حنظلة ـ رضي الله عنه ـ، يخرج ليلة زفافه تاركاً عروسه ليلبي منادي الجهاد، وعندما استشهد في معركة أحد، أخبر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بقوله: (إن صاحبكم ـ يعني حنظلة ـ لتغسله الملائكة، فاسألوا أهله ما شأنه؟ (فسئلت صاحبته عنه، فقالت: خرج وهو جنب حين سمع الهاتفة. قال ابن إسحق: فقال رسول الله: (لذلك غسلته الملائكة)(5).
هذه هي تربية رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لأصحابه، وهذا ما ينبغي أن نسعى إلى تحقيقه تربيةً واقتداءً.. ولم يقف الأمر عند هذا الحد بل ظهرت كفاءات قيادية نادرة، سيّروا الجيوش المجاهدة، ومن هؤلاء علي بن أبي طالب، وأسامة بن زيد، ومن سار على نهجهم كمحمد بن القاسم الثقفي.
فكان علي ـ رضي الله عنه ـ بطلاً مغواراً، وكان اللواء بيده في كثير من المشاهد والغزوات، ودفع الرسول لله إليه الراية يوم بدر وهو ابن عشرين سنة وكان حامل الراية يوم خيبر.
أما أسامة بن زيد ـ رضي الله عنهما ـ، فقد كان أحد القادة الفتيان، توفي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ولأسامة عشرون سنة، وقيل ثمانية عشر عاماً، وكان قد أمّره رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على جيش عظيم فتوفي رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فأنفذه أبو بكر ـ رضي الله عنه ـ، لمحاربة الروم في الشام، وكان عمر بن الخطاب يجله ويكرمه، وكان لم يلق أسامة قط إلا قال: السلام عليك أيها الأمير ورحمة الله، توفي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأنت عليّ أمير. قال عروة بن الزبير: فلما بلغ الجيش الشام أصابتهم ضبابة شديدة فسترتهم حتى أغاروا وأصابوا حامية العدو(6).
ومن القادة الشباب محمد بن القاسم الثقفي، ولاّه الحجاج فتح السند (باكستان الآن) فهدم صنم الهنود، وقتل ملكهم، ورجع بجيشه بغنائم عظيمة. قال أحد معاصريه فيه:
ساس الرجال لسبع عشرة حجة ولداته عن ذاك في أشغال
أخي الشاب: إن أمتك في انتظارك، حتى تقيل عثرتها وتعيد أمجادها..(1/498)
قد أعدّوك لأمر لو فطنت له فاربأ بنفسك أن ترعى مع الهمل(7)
وقد نبغ شباب الرعيل الأول في العلوم المختلفة: فنبغوا وكانوا قمماً عالية في كل شيء، ويأتي على رأس هؤلاء الصحابي الجليل عبد الله بن عباس ـ رضي الله عنهما ـ.
قال عنه ابن مسعود ـ رضي الله عنه ـ: (نِعْمَ ترجمان القرآن ابن عباس) كان أصحابه يسمونه الحَبْر، كان يطلب حديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وعمره حين وفاة الرسول -صلى الله عليه وسلم- ثلاثة عشر عاماً، يقول ـ رضي الله عنه ـ: (إن كان ليبلغني الحديث عن رجل فآتي بابه وهو قائل، فأتوسد ردائي على بابه، يسفي الريح عليّ من التراب، فيخرج فيراني، فيقول: (يا ابن عم رسول الله ما جاء بك؟ هلاّ أرسلت إليّ فآتيك؟ (فأقول: لا، أنا أحق أن آتيك. فأسأله الحديث..) فكان عَلَماً في التفسير والقرآن وعلومه، والحديث وعلوم الشعر واللغة(8).
وزيد بن ثابت الأنصاري، كان عمره حين قدم الرسول -صلى الله عليه وسلم- المدينة إحدى عشرة سنة، جمع القرآن زمن أبي بكر كما ثبت في الصحيح.
ومن فتيان الصحابة وعلمائهم: عمرو بن حزم الخزرجي، استعمله رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهو ابن سبع عشرة سنة، على أهل نجران ليفقههم في الدين، ويعلمهم القرآن.
وربيعة الرأي صار محدّث المدينة وفقيهها وإمامها رغم حداثة سنه؛ كان مجلسه يضم مالك بن أنس (صاحب المذهب المعروف) وأبا حنيفة النعمان وسفيان الثوري، والأوزاعي، والليث بن سعد(9).
والإمام أحمد ـ رحمه الله ـ كان قد برع في طلب الحديث وعمره ست عشرة سنة، نشأ يتيماً وعنيت به أمه. واشتهر علمه في الآفاق، وقيل: إنه طلب العلم وهو ابن خمس عشرة سنة، وأنه حج وعمره عشرون سنة ماشياً، ليس معه إلا جراب فيه كتبه، كان يضعه فوق لَبِنَةٍ، ويضع رأسه عليه(10).(1/499)
ومن علماء هذه الأمة الإمام البخاري، ربته أمه ثم قرأ الكتب المشهورة وهو ابن ست عشرة سنة، وصنف في قضايا الصحابة والتابعين وأقاويلهم وهو ابن ثماني عشرة، وصنف كتاب التاريخ إذ ذاك عند قبر رسول الله لله في الليالي المقمرة (هدي الساري مقدمة فتح الباري).
أدبهم مع شيوخهم: تلقى الإمام أحمد بعض العلم والسنن عن الإمام الشافعي خلال إقامته بالعراق، وانتقل إلى مصر وتوفي فيها. كان الإمام أحمد يقول: (ما بتّ منذ ثلاثين سنة إلا وأنا أدعو للشافعي وأستغفر له) ولما سأله ابنه عبد الله: أي رجل كان الشافعي؟ قال: (يا بني! كان الشافعي كالشمس للدنيا، وكالعافية للبدن، هل لهذين من خَلَفٍ؟ أو عنهما من عِوض؟)(11).
وعندما علم سفيان الثوري بقدوم الإمام الأوزاعي إلى مكة للحج خرج منها سفيان يستقبل ضيفها، حتى لقيه بذي طوى، وأخذ بخطام بعيره يقوده قائلاً: الطريقَ للشيخ...
هكذا كان طلب العلم عند شباب هذه الأمة، علماً وأدباً وخشوعاً لله.
بقدر الجد تكتسب المعالي ومن طلب العلا سهر الليالي
تروم العز ثم تنام ليلاً يغوص البحر من طلب اللآلي
هؤلاء هم قدوتك أخي الشاب، أبناء الرعيل الأول؛ وليسوا شباب الفن والطرب وأجيال الهزائم!
هذه نماذج نضعها بين يديك ولك فيها قدوة حسنة تنسج على منوالها بإذن الله، عسى أن تكون من السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله.
وفقنا الله وإياك إلى ما يحبه ويرضاه، والحمد لله رب العالمين.
الهوامش :
(1) ينظر كتب السيرة، السيرة لابن هشام، ج1 /485، والإصابة: ج3/648 مطبعة السعادة بمصر.
(2) سير أعلام النبلاء، ج2/359.
(3) البداية والنهاية، ج4/15، والإصابة، ج1/146. (4) صفة الصفوة، ج1/394.
(5) سيرة ابن هشام، ج2/75.
(6) الإصابة، ج1/46، سير أعلام النبلاء، 2/397 وحتى ص 503.
(7) البداية والنهاية، ج9/87، مع الرعيل الأول لمحب الدين الخطيب، ص200 ـ 207.
((1/500)
8) الإصابة، ج2/326، وصفة الصفوة، ج1/754، والطبقات لابن سعد، صغار الصحابة، ج1/196، ص 137، تحقيق د. محمد بن صامل السلمي.
(9) ينظر: سير أعلام النبلاء، ج2/426، وما بعدها، والإصابة: ج1/545، الاستيعاب، ج2/510، صور من حياة التابعين، د. عبد الرحمن الباشا، ص 77 - 110.
(10) البداية والنهاية، ج10/326، سير أعلام النبلاء، ج11/186.
(11) ينظر: مع الرعيل الأول، ص69 - 70.
--------------------------------------------------------------------------------
مجلة البيان، العدد (128)، ربيع الآخر 1419،أغسطس 1998 .
* * *
http://www.albayan-magazine.com/zwaya/trbwi/34.htm
الأخوة في الله ... بين الواقع والمثال
طارق محمد العمودي
إن أشد ما أخشاه أن نكون في زمن يَعِزّ فيه وجود أخٍ واحدٍ في الله يغنمه الواحد منا في زماننا هذا، فينعم برباط الأخوّة الصادقة التي ندر وجودها، وأُطلقت تساهلاً على مفاهيم دون مرتبتها بكثير.
نعم، أقول ذلك خوفاً من وقوع ما قاله الصادق المصدوق: (قلّما يوجد في آخر الزمان درهم حلال، أو أخ يوثق به)(1).
خشيت ذلك مع أني أتمنى من صميم قلبي عدم وقوع ما في الحديث في زماننا، فنحرم بذلك نعمة الأخوة الصادقة التي لم يبق منها غير المعرفة السطحية المقتصرة على الابتسامة، والتلطف في أسلوب الكلام ولا تتعدى ذلك غالباً ـ إن كثرت ـ الملاقاة.
ولقد قرأت كلاماً محزناً قاسياً ـ ولكنها الحقيقة ـ للإمام الواعظ ابن الجوزي (ت: سنة 597 هـ) ـ رحمه الله ـ يقول فيه(2): (جمهور الناس اليوم معارف، ويندر فيهم صديق في الظاهر، أما الأخوة والمصافاة فذاك شيء نسخ فلا يُطمَع فيه) ثم بيّن سبب نسخ وجود الأخوة والصفا لكون السلف كانت همتهم الآخرة وحدها فصفت نياتهم في الأخوّة والمخالطة فكانت ديناً لا دنيا.
أما الآن فقد استولى حب الدنيا على القلوب إلا ما شاء الله.(2/1)
فانظر ـ رحمك الله ـ إلى مقولة هذا الإمام وهو في القرن السادس الهجري؛ حيث يرى بهذه النظرة معنى الأخوة في زمانه، فكيف في زماننا هذا؟ والأصل في كل زمان متأخر عن سابقه وقوع صفة الشرفية للسابق، واقتراب الفتن وأشراط الساعة، والرقة في الدين.
ولكن لا يخلو الأمر من تنفيس، والخير في أمة نبينا -صلى الله عليه وسلم- إلى يوم القيامة.
ولعل من أسباب ضعف رباط الأخوة في الله غموض الرؤية لدى بعض الناس لمعانيها في زماننا. ولذا رأيت أن أسوق من أقوال وصور السلف حول هذا الموضوع ما تنحلّ به حبوة القارئ، ويسيل لعابه عجباً واندهاشاً من هؤلاء الرجال الكبار، لنرى البون الشاسع بين ما قد حققوه من معاني الأخوة الصادقة فيما بينهم، ونرى بالمقابل ما آلت إليه في زماننا، فنصلح الخلل، وإلا تحقق فينا الحديث الشريف السابق الذكر.
قال أمير المؤمنين عمر بن الخطاب: (إذا رزقكم الله ـ عز وجل ـ مودة امرئ مسلم فتشبثوا بها)(3).
وكان عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- يذكر الرجل من إخوانه في بعض الليل، فيقول: يا طولها من ليلة، فإذا صلى المكتوبة غدا إليه، فإذا التقيا عانقه(4).
وكان ابن مسعود -رضي الله عنه- إذا خرج إلى أصحابه قال: أنتم جلاء حزني(5).
ولمّا أتى عمر الشام استقبله أبو عبيدة بن الجراح، وفاض إليه ألماً، فالتزمه عمر، وقبّل يده، وجعلا يبكيان(6).
وقال ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ: أَحبّ إخواني إليّ إذا رأيته قَبِلَني، وإذا غبت عنه عذرني(7).
وكان الخليفة عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- يُقبّل رأس أبي بكر(8).
ورئي على علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- ثوب كأنه يُكثر لبسه، فقيل له فيه، فقال: (هذا كسانيه خليلي وصفيّي عمر بن الخطاب، إنّ عمر ناصح الله فنصحه الله)(9).
ولقي الصحابي حكيم بن حزام عبدَ الله بن الزبير ـ رضي الله عنهما ـ بعدما قُتل الزبير فقال: كم ترك أخي من الدّيْن؟ قال: ألفي ألف. قال: عليّ منها ألف ألف(10).(2/2)
ودخل رجل من أصحاب الحسن البصري عليه، فوجده نائماً على سريره، ووجد عند رأسه سلة فيها فاكهة، ففتحها، فجعل يأكل منها، فانتبه، فرأى الرجل يأكل، فقال: (رحمك الله، هذا والله فعل الأخيار)(11).
وقال أبو خلدة: دخلنا على ابن سيرين أنا وعبد الله بن عون، فرحب بنا، وقال: (ما أدري كيف أتحفكم؟ كل رجل منكم في بيته خبز ولحم، ولكن سأطعمكم شيئاً لا أراه في بيوتكم. فجاء بشهدة، وكان يقطع بالسكين ويطعمنا)(12).
وقال محمد بن واسع: (لا خير في صحبة الأصحاب ومحادثة الإخوان إذا كانوا عبيد بطونهم؛ لأنهم إذا كانوا كذلك ثبّط بعضهم بعضاً عن الآخرة)(13).
وقال عثمان بن حكيم الأودي: (اصحب من فوقك، ودونك في الدنيا)(14).
وكان بلال بن سعد الأشعري يقول: (أخ لك كلما لقيك ذكّرك بحظك من الله خير لك من أخ كلما لقيك وضع في كفك ديناراً)(15).
وكان المحدث القارئ طلحة بن مصرف إذا لقي مالك بن مغول يقول له: (لَلُقياك أحبّ إليّ من العسل)(16).
وقال ابن عيينة: سمعت مساور الورّاق يحلف بالله ـ عز وجل ـ: ما كنت أقول لرجل إني أحبك في الله ـ عز وجل ـ فأمنعه شيئاً من الدنيا (17).
وكان أبو جعفر محمد بن علي يقول لأصحابه: يُدخِل أحدكم يده في كُمِّ صاحبه ويأخذ ما يريد؟ قلنا: لا. قال: فلستم بإخوان كما تزعمون(10).
وأخيراً: فمن أمثلة أخوة زمن المتأخرين من علمائنا ما كان بين شيخ الإسلام ابن تيمية، وشيخ المحدثين جمال الدين المزّي ـ رحمهما الله ـ، فقد تأثر الثاني بشخصية شيخ الإسلام التي كانت قد اكتملت، فأعجب به المزي الإعجاب كله، وترافق معه طيلة حياته. قال مؤرخ الإسلام الذهبي: (ترافق هو وابن تيمية كثيراً في سماع الحديث، وفي النظر في العلم، وكان يقرر طريقة السلف في السنة..) (18).(2/3)
ولقد أخلص (المزي) لرفيقه (ابن تيمية) الإخلاص كله، ولآرائه التجديدية، وجعله مثله الأعلى، ويظهر ذلك جلياً من خلال دفعه لثمن ذلك من الأذى الذي تعرض له عدة مرات من سجن وعدم تمكينه من التحديث، ووضع العراقيل عند توليه لرئاسة دار الحديث الأشرفية.
ولما توفي شيخ الإسلام (ابن تيمية) مسجوناً بقلعة دمشق لم يسمح لأحد بالدخول أول الأمر إلا بخواص أصحابه منهم (المزي) وكان ممن ساعد في غسله.
وبالجانب الآخر كان (ابن تيمية) كثير الاعتماد على (المزي) وعلمه ومعرفته؛ فحينما خرج من سجنه بـ (مصر) سنة 709 هـ، وجلس في القاهرة ينشر علمه، واحتاج إلى بعض كتبه التي بالشام، كتب إلى أهله كتاباً يطلب جملة من كتبه، وطلب منهم أن يستعينوا على ذلك بـ (جمال الدين المزي) وسبب ذلك ما قاله ابن كثير: (فإنه يدري كيف يستخرج له ما يريد من الكتب التي أشار إليها)(19).
وحينما ولي (المزي) أكبر دار حديث بـ (دمشق) وهي الأشرفية سنة 718 هـ، فرح (ابن تيمية) فرحاً عظيماً بذلك وقال: (لم يَلِ هذه المدرسة من حين بنائها إلى الآن أحق بشرط الواقف منه).
وكان شرط واقف الدار أن يُقَدّم من اجتمع فيه الرواية والدراية على من اجتمع فيه الرواية فقط، ففضله (ابن تيمية) بذلك على علماء عظام قد تولوا هذه الدار كـ (ابن الصلاح)، و (أبي شامة) و (النووي).
وحصل أن أخرج (ابن تيمية) رفيقه (المزي) من السجن بنفسه.
وبعدُ: فإن ما سقته من صور الأخوة في الله من حياة سلفنا لجديرة بالتأمل.
ولعل من أسباب الفتور الحاصل بين شباب الصحوة ضعف رباط الأخوة الصادقة.
فأين واقعنا الذي لا يخلو من المشاحنات والخلافات والبحث عن الزلات من واقع سلفنا الصالح ـ رضي الله عنهم ـ: (هيا بنا نؤمن ساعة)؟، و (هيا بنا نبك من خشية الله، فإن لم نجد بكاءً تباكينا علّ الله يرحمنا)؟.(2/4)
وأين الفائدة العلمية ومذاكرة العلم بيننا، مع وجود وسائل الاتصال الحديثة التي تسهّل وتحفز للحرص على لقاء الفائدة؟
نسأل الله صلاح الأحوال والقلوب للفوز بمرضاته إنه مجيب الدعاء.
الهوامش :
(1) أخرجه أبو نعيم في الحلية (4/94) وفي إسناده محمد بن أيوب الرقي، ضعفه أبو حاتم، وقال ابن عدي: عزيز الحديث، وله شاهد من حديث حذيفة بلفظ (سيأتي عليكم زمان لا يكون فيه شيء أعز من ثلاثة..) فذكر: (أخ يستأنس به) أخرجه الطبراني في الأوسط (1/88)، وأبو نعيم في الحلية (4/370) وفيه روح بن صلاح وثقه ابن حبان والحاكم وضعفه الأكثر، فالحديث لا ينزل عن درجة الحسن لغيره ـ بإذنه تعالى ـ.
(2) الاختراعات العصرية لما أخبر به سيد البرية، للغماري، ص 326، وله كلام طويل فلينظر.
(3) أخرجه ابن أبي الدنيا في كتاب (الإخوان)، ص 81، ورجاله ثقات.
(4) رواه أحمد في مسنده (123)، وابن أبي الدنيا في الإخوان، ص134، ورجاله ثقات.
(5) أخرجه ابن أبي الدنيا، ص 135، بإسناد فيه شعبة لم يدرك ابن مسعود والبقية ثقات.
(6) أخرجه البيهقي في سننه الكبرى (7/101)، وابن أبي الدنيا في الإخوان، ص 182 ورجاله ثقات.
(7) أخرجه ابن أبي الدنيا كما في المصدر السابق، ص 113.
(8) أخرجه ابن أبي الدنيا بإسناد لا بأس به، كتاب (الإخوان)، ص 199.
(9) أخرجه ابن أبي الدنيا في كتاب (الإخوان)، ص 248 بإسناد رجاله ثقات وفيه انقطاع.
(10) أخرجه البخاري في صحيحه (6/227). (11) أخرجه ابن أبي الدنيا في (الإخوان)، ص 245.
(12) أخرجه ابن أبي الدنيا في الإخوان، ص 239، وأبو نعيم في الحلية (4/269)، بإسناد حسن.
(13) أخرجه ابن أبي الدنيا، ص 100. (14) أخرجه ابن أبي الدنيا في الإخوان، ص 96.
(15) أخرجه ابن المبارك في الزهد، ص 167، وأبو نعيم في الحلية (5/225)، وابن أبي الدنيا في الإخوان، ص 136، ورجاله ثقات وصرح الوليد بن مسلم بالسماع في رواية ابن المبارك.
((2/5)
16) أخرجه ابن أبي الدنيا كما في المصدر السابق، ص 138، وأبو نعيم في الحلية (5/17) بسند حسن.
(17) أخرجه ابن أبي الدنيا كما في المصدر السابق، ص 202، وأبو نعيم في الحلية (7/299) بسند حسن.
(10) أخرجه أبو نعيم في الحلية (3/187)، وابن أبي الدنيا في الإخوان، ص 203.
(18) تذكرة الحفاظ (4/1499)، وانظر مقدمة الدكتور (بشار عواد) لكتاب تهذيب الكمال للمزي.
(19) البداية والنهاية (14/54).
--------------------------------------------------------------------------------
مجلة البيان، العدد (129)، جمادى الأولى 1419،سبتمبر 1998 .
* * *
http://www.albayan-magazine.com/zwaya/trbwi/35.htm
المبادرات الذاتية وتنميتها
محمد بن سعد الخالدي
تحتاج الأمة فيما تحتاج إلى أشخاص يحملون زمام المبادرة بأنفسهم غير منتظرين أن يسلك الطريق سواهم.. وذلك في كل مجال من شأنه رفعة الأمة وعزتها وإخراجها من هذا النفق المظلم الذي تسير فيه.. وهؤلاء المبادرون قلة قليلة وعملة نادرة في مجموع الأمة.. لذا رأيت أن من واجبي أن أبادر بالحديث عن الموضوع علّه أن يحرك أنفساً ساكنة.. وهمماً متقاعسة..
وفي بداية الحديث عن المبادرة يحسن إيضاح المعنى اللغوي لها؛ إذ هي مأخوذة من: بدر إلى الشيء، إذا أسرع وبادر إليه أيضاً، وتبادر القوم تسارعوا، وابتدروا السلاح تسارعوا إلى أخذه. وسمي البدر بدراً لمبادرته الشمس بالطلوع في ليلته كأنه يعجلها المغيب، وقيل: سمي به لتمامه.
وفي القاموس: (بادَرَهُ: مُبادَرَةً وبِداراً، وابْتَدَرَهُ، وبَدَرَ غيرَهُ إليه، عاجَلَهُ. وبَدَرَهُ الاًمْرُ، وإليه: عَجِلَ إليه)(1).
كون المبادرة تجديداً:
لا شك أن المبادرات فردية كانت أو جماعية تحمل في ذاتها نوعاً من التجديد؛ إذ هي إحياء لأمر اندرس أو لم يكن قد قام أصلاً. ولذا فإن الحديث عن التجديد وأهميته قد ينساق في بعض صوره هاهنا.(2/6)
ما هي المبادرة المنشودة؟
إننا في حديثنا عن المبادرة هنا إنما نعني: أن يسابق المرء إلى الأمور التي تبدو له فائدتها دون انتظار تقدم الآخرين وإقدامهم، فيأخذ الزمام ويُقْدِم على الأمر بعد دراسة وتخطيط، فإن نجح المبادر في مسيره.. فهو مأجور من طريقين: طريق الاجتهاد، وطريق الإصابة؛ إذ هو مجتهد مصيب، وإن أخطأ ولم يصب فهو مأجور كذلك له أجر الاجتهاد ولو لم ينل أجر الإصابة.
أدلة مشروعية المبادرة والحث عليها:
أتت النصوص الشرعية كتاباً وسنة بالحث على المسابقة على أعمال الخير والتنافس فيها والمسابقة إليها، وهذا النوع من المبادرة هو ما لا ينتظر المرء غيره في الإقدام على الطاعة، بل يتقدم هو لذلك جاعلاً نفسه قدوة للناس وإماماً، والله ـ تعالى ـ يقول على لسان نبيه إبراهيم الخليل:-((وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إمَاماً)) [الفرقان: 74] أي: قدوة يحتذى بفعاله. والمسلم يسأل الله ـ تعالى ـ أن يكون مفتاحاً للخير، مغلاقاً للشر.. وطبيعة المفتاح أنه أول الداخلين، مما يعني كون الداعي مبادراً للعمل سابقاً إليه.
وقد حكى لنا القرآن الكريم قصة الرجلين المبادرين اللذين قال الله فيهما: ((وَجَاءَ رَجُلٌ مِّنْ أَقْصَا المَدِينَةِ يَسْعَى)) [القصص: 20] قال الوزير ابن هبيرة: (تأملت ذكر أقصى المدينة؛ فإذا الرجلان جاءا من بُعدٍ في الأمر بالمعروف ولم يتقاعدا لبعد الطريق).
وأما مبادرات الرسول -صلى الله عليه وسلم- فالحديث عنها طويل جداً، غير أنني أشير إلى القصة الشهيرة التي تروي لنا أنه (فزع أهل المدينة ذات ليلة، فانطلق الناس قِبَلَ الصوت فاستقبلهم النبي -صلى الله عليه وسلم- قد سبق الناس وهو يقول: (لم تراعوا، لم تراعوا) وهو على فرس لأبي طلحة عري ما عليه سرج، في عنقه سيف)(2). فدل الحديث على أن الرسول -صلى الله عليه وسلم- سبق إلى استطلاع الأمر.(2/7)
وقد أثنى النبي -صلى الله عليه وسلم- على ذلك الصحابي الذي بادر بالصدقة كما في حديث المنذر بن جرير عن أبيه قال: كنا عند رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في صدر النهار فجاءه قوم حفاة عراة مجتابي النمار أو العباء، متقلدي السيوف، عامتهم من مضر، بل كلهم من مضر فتمعّر وجه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لما رأى بهم من الفاقة فدخل ثم خرج فأمر بلالاً، فأذن وأقام، فصلى، ثم خطب فقال: ((يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ))[النساء: 1] إلى آخر الآية ((إنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً)) والآية في الحشر: ((اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ)) [الحشر: 18] تصدق رجل من ديناره، من درهمه، من ثوبه من صاع بره، من صاع تمره، حتى قال: ولو بشق تمرة. قال: فجاء رجل من الأنصار بصرة كادت كفه تعجز عنها، بل قد عجزت، قال: ثم تتابع الناس حتى رأيت كومين من طعام وثياب، حتى رأيت وجه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يتهلل كأنه مذهبة، فقال رسول الله: (من سن في الإسلام سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها بعده من غير أن ينقص من أجورهم شيء، ومن سن في الإسلام سنة سيئة كان عليه وزرها ووزر من عمل بها بعده من غير أن ينقص من أوزارهم شيء).
وفي الحديث تصريح بأجر المبادر للخير، وكونه ينال أجره وأجر كل من سلك طريقه واقتفى أثره الذي بادر إليه، وهذا من أعظم الدواعي للمبادرة للخير؛ إذ يستشعر المبادر أن أجور السائرين من بعده على هذا الطريق ستكون في موازين أعماله.(2/8)
وفي الحث على المبادرة تساق قصة ذي الجوشن الضبابي حينما دعاه الرسول -صلى الله عليه وسلم- بعد معركة بدر للدخول في الإسلام قائلاً له: (هل لك إلى أن تكون من أوائل هذا الأمر؟ قال: لا، قال: فما يمنعك منه؟ قال: رأيت قومك كذبوك وأخرجوك وقاتلوك، فأنظر: فإن ظهرت عليهم آمنت بك واتبعتك، وإن ظهروا عليك لم أتبعك) فكان ذو الجوشن يتوجع على تركه الإسلام حين دعاه رسول الله؛ إذ قد ترك المبادرة إلى الإسلام وإلا لكان من أوائل الداخلين إليه فكان على ذلك نادماً.
والحث على المبادرة بالعمل واردة في حديث أبي هريرة أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: (بادروا بالأعمال فتناً كقطع الليل المظلم يصبح الرجل مؤمناً ويمسي كافراً، أو يمسي مؤمناً ويصبح كافراً، يبيع دينه بعرض من الدنيا) (3) وكذا حديثه أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: (بادروا بالأعمال ستاً: طلوع الشمس من مغربها، أو الدخان، أو الدجال، أو الدابة، أو خاصة أحدكم، أو أمر العامة).
ومن أعظم ما يوقظ الهمة إلى المبادرة للخير وما يحث عليها ما ذكره الله في كتابه من أحوال الكافرين في مبادراتهم الدنيئة في الأمر بالمنكر والنهي عن المعروف، والكيد الكبير، والمكر الكُبّار.. كما في قوله ـ تعالى ـ: ((وَانطَلَقَ المَلأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ إنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ)) [ص: 6]، وقوله ـ تعالى ـ: ((وَتَرَى كَثِيراً مِّنْهُمْ يُسَارِعُونَ فِي الإثْمِ)) [المائدة: 62] فالمؤمنون أوْلى بالمسارعة في الخير والبر.
ومن المبادرات الجريئة ما صنعه البراء بن مالك في قصة الحائط الشهيرة، يوم أن قعد على ترس وقال: (ارفعوني برماحكم فألقوني إليهم) فألقوه ثم أدركوه بعدُ وقد قتل منهم عشرة، وجُرح يومئذ بضعاً وثمانين جراحة(4).
أهمية المبادرات:(2/9)
تعد المبادرة الفردية سفينة النجاة في حالة انحطاط الأمة، وتربيتُها لدى الناس جزء من المنهجية الصحيحة في بناء الإيجابية، وتعني المبادرة رفع أفراد من الأمة إلى مستواها وسقف حيويتها واندفاعهم نحو ما يتمنى الناس حصوله، لكنهم يفقدون العزم والإرادة للبدء به، وقد علمتنا التجربة أن معظم الناس يحبون الخير ويقدرون فاعليه، وهم على استعداد للمشاركة في مشاريعه؛ لكن المشكلة الكبرى هي أن المستعدين فيهم لخطو الخطوة الأولى ووضع أول لبنة قلة قليلة، وهذه القلة هي ملح المجتمع وبركته، إنهم أناس يحبون الخير ويثقون في أنفسهم ويحبون خدمة الآخرين، وهم إلى ذلك مستعدون لتحمل نتائج مبادراتهم وما قد تجره إليهم من مشكلات ومتاعب.
(كثير من الناس يملك الاستعداد للقيام ببعض الأدوار التي تملى عليه وفق خطوات محددة، لكنه يقف عند هذا الحد، ويطرح التساؤل في كل مناسبة وكل حين: ماذا يعمل؟ وما واجبه؟ ويعتذر عن القيام بأي دور بأنه لم يتلق توجيهاً وتكليفاً.. ـ ولذا فإن ـ من ثمار التربية الجادة: (المبادرة الذاتية). إن من نتائج التربية السلبية السائدة في مجتمعاتنا: الاتكالية وانعدام المبادرة، وحتى العاملون للإسلام أصاب بعضَهم ما أصابه، فأصبح ينتظر الأمر، ولا يعمل إلا من خلال توجيه محدد، فتعطلت طاقات فعّالة في الأمة، وصارت الصحوة تفكر من خلال عقول محددة، وكم هي الأفكار والأعمال والجهود التي لم تتجاوز نطاق تفكير صاحبها، والسبب أنه لم يعتد على المبادرة ولم يربّ عليها.
وإن التربية الجادة تنتج فيما تنتج تنمية المبادرة الذاتية، فيعمل صاحبها ابتداءً دون انتظار التكليف أو التوجيه، ويرى أن جدية الهدف وصدق العمل يتطلب منه ألا تكون الاستشارة والاستفادة من آراء الآخرين حاجزاً وهمياً وعائقاً دون أي عمل، فينطلق ويعمل ويبادر ويفكر محيطاً ذلك كله بأسوار الاستشارة جاعلاً إياه في دائرة الانضباط والالتزام) (5).(2/10)
إن علينا أن نعترف أن حرصنا على أن يكون كل شيء وفق نظام محدد، واحتياطاتنا الشديدة لكل شيء، والتعليم التلقيني، والحرص على أن يكون لكل شيء نموذج سالف ـ إن ذلك كله أدى إلى خشية المسلم من أن يكون في الطليعة وصار الواحد منا يقول في داخله: (ليبدأ غيري) و (علينا أن ننتظر النتائج)، وهذا أدى إلى المؤاخذة الشديدة لكل من يبادر إلى خير ثم يُخفق فيه، أو تكون عواقبه على غير ما يريد، مع أن هذا المبادر لو لم يكن له سوى فضل الانتصاب بين الأموات لكفى!
إن الصمود والاستمرار وعدم الخوف من الإخفاق عمد أساسية في خلق الإيجابية، وعبادات الإسلام وتكاليفه تصب جميعهاً في تنمية إرادة الصمود؛ حيث يظل المسلم يلاحق هدفاً واحداً طول حياته بفعل الخيرات وترك المنكرات، هذا الهدف هو نيل رضوان الله ـ تعالى ـ والفوز بالجنة.
إن ما نراه من نجاحات في عالم الواقع ليس وليد المحاولة الأولى؛ بل إن هناك مئات بل ألوف التجارب المخفقة التي سبقت النجاح الكبير؛ ومما يُذكر أن (أديسون) واجه في بحثه الدؤوب عن (سلك الملف) المناسب لصناعة المصباح الكهربائي ثلاثة آلاف حالة إخفاق، وهي بالطبع ثلاثة آلاف عقبة مؤقتة، قبل أن يتوصل للمادة المناسبة بعد ثلاثة آلاف محاولة. ويمكن لأي رجل عادي أن يعترف بالهزيمة إن كان لا يتمتع بخاصية الصبر والإصرار على الظفر غير المحدود!
إن علينا أن نشجع من غير ملل كل أولئك الذين يصرون على عملية المحاولة والخطأ، أولئك الذين يملكون الإرادة الحديدية للاستمرار في طريق البناء والإصلاح والخير إلى آخره.. مهما كانت التكاليف(6).
نماذج واقعية لمبادرات ذاتية في الزمن المعاصر:(2/11)
أشرت في البداية إلى أن المبادرين في هذه الأمة صاروا أقل من القليل.. ولذا فإن نماذج المبادرة التي يمكن أن توصف بالنجاح المميز.. ليست بالكثيرة، وهذا بلا شك ثمرة لقلة المبادرات أصلاً.. ولعل من النماذج المتميزة في هذا الزمان: المبادرة بإنشاء مجلة إسلامية نسائية تسد فراغاً مهماً في حياة المسلمة، وتقف أمام هذا الزخم الضخم من الإعلام المضل الموجه للمرأة المسلمة.. ومنذ بدايات الصحوة الإسلامية وهذه الثغرة لم تسد.. وأهل الإصلاح يتمنون من زمن بعيد أن توجد تلك المجلة الناضجة.. غير ان ذلك لم يجاوز الأمنيات إلى حيز الواقع إلا قبل سنيات محدودة.. فكانت هذه المبادرة فتحاً.. فتتابعت المجلات ذات التوجه الإسلامي والموجهة للمرأة في الصدور.. والسبب الذي أخرها إلى هذه الفترة هو ضعف روح المبادرة.
والأمر نفسه يقال في مجلة الأطفال.. حيث لم تكن في الساحة مجلات تتبنى المنهج الإسلامي إلا قبل فترة يسيرة.. وكم من الأحلام والأفكار والمقترحات ما يدور في خلد الكثيرين.. غير أن القليل من يقول: أنا لها..
وما تزال قطاعات أخرى من الأمة في حاجة إلى حديث خاص بها.. وطرح موجه نحوها بشتى الوسائل الممكنة.. غير أن الإقدام على ذلك.. لم يحصل بانتظار من يخرق السكون.
ويمكن أن يقال الأمر نفسه في نماذج أخرى من المبادرات الناجحة كالمبادرة بإنشاء متاجر الفيديو الإسلامي.. والمبادرة بإنشاء مكاتب دعوة الجاليات المسلمة وغير المسلمة، والمبادرة بإنشاء المبرات الخيرية والجمعيات الإغاثية التطوعية، والمبادرة بإنشاء مواقع للدعوة للإسلام على شبكة الإنترنت.. إلى غير ذلك من المبادرات الفردية والمؤسسية.. على نطاق الأمة ككل أو على النطاقات المحلية والإقليمية والأسرية.
مقترحات لتنمية روح المبادرة:
1- تحلي المربين والأساتذة ورجال الأمة ودعاتها بروح المبادرة وكونهم قدوات عملية صالحة ونماذج تحتذى في هذا المجال.(2/12)
2- حث المربي لمن دونه على المسابقة لأوجه الخير والمبادرة إليها دون انتظار الآخرين.
3- إشعار المتربين بأن إنقاذ الأمة من واقعها واجب الجميع، وهو مسؤولية مشتركة، وأن على كل فرد من أفرادها أن يسعى بحسب ما أوتي نحو الإصلاح..
4- تشجيع المبادرين، والثناء عليهم، وإظهار صنيعهم، وجعل مبادراتهم سبباً في حث الآخرين على الاقتداء بهم.
5- تقبّل الأخطاء الواقعة من المبادرين واحتوائها، ومحاولة التخفيف من آثارها، وعدم تعنيف فاعليها، وبيان صحة الدافع لذلك العمل بغض النظر عن تحقيق النتيجة من عدمه.
6- أهمية عدم تضخيم العوائق أمام المبادرة ومحاولة التغلب عليها، وعدم الوقوف عندها طويلاً.
7- عقد الجلسات والندوات لبحث سبل إحياء روح المبادرة ومجالاتها.
نصائح لمريد المبادرة:
1- الثقة بالله والتوكل عليه، وإخلاص النية قبل البدء في أي أمر من الأمور.
2- دراسة المشروع المقدم عليه قبل البدء فيه، ودراسة جوانبه حتى لا تذهب الجهود سدى.
3- الثقة بالنفس والتخلص من الهزيمة النفسية وترك الخوف من الإخفاق الذي طالما قصم مشاريع وقوض من عزائم.
4- سمو الأهداف وعلو الهمة مما يجعل المبادرة تحقق أفضل النتائج، وأن لا يكون المبادر قصير النظر ممن لا يجاوز نظره قدميه بل يحاول إنجاح المبادرة، وتوسيع فاعليتها، وبثها بين الآخرين.
5- التربية الجادة التي من ثمارها ـ كما سبق ـ أن يشعر المرء بالمسؤولية الملقاة على عاتقه مما يجعل المرء مبادراً بطبيعته.
6- الجرأة المنضبطة، والإقدام المدروس؛ حيث إن الخوف سبب رئيس للإخفاق، غير أن التهور سبب آخر كذلك، ونحن بحاجة إلى جرأة وشجاعة مضبوطة بزمام العقل والدراسة والتأمل العميق، مع العلم والمعرفة لحدود الإمكانات والمواهب والعمل بموجبها.
7- التضحية بالمصالح الذاتية لمصلحة الأمة؛ فالمبادرة قد تجر على صاحبها مادياً أو معنوياً؛ ما تجر، ومع ذلك فاستشعاره للأجر والمثوبة يدفعه للتضحية.(2/13)
8- أن تعلم ـ أيها الأخ الكريم ـ أن المشكلة ليست في أن تخطئ؛ وإنما المشكلة أن لا تعمل، وأما من يعمل ويبادر فإنه سوف يخطئ بلا شك ولكنه خطأ في سلسلة من الإصابات والنجاحات، والمحاولةُ والتكرارُ سبيل للنجاح والتميز.
واجب المصلحين:
ولا بد للمصلحين من تشجيع المبادرة الفردية لدى المسلم، ومكافأة الذين يطلقون أكبر عدد ممكن من المبادرات الجديدة(7)، وأن يحرصوا على أن يكون اللوم على من بادر وعمل ثم وقع في الخطأ أقل من اللوم على من لم يبادر أصلاً.
وفي الختام:
أرجو أن أكون قد وُفّقْت في إثارة شيء من الاهتمام وإلقاء الضوء على هذا الموضوع المهم، آملاً أن تكون المبادرة بإثارة الموضوع على صفحات هذه المجلة دافعاً للمربين والدعاة إلى إثراء الموضوع بمقالات أكثر عمقاً وموضوعية، وعذري هاهنا أنني مبادر.. ومن شأن المبادر أن يكون على عمله آثار الجدة والحداثة مما يجعل المطاعن عليه أكثر.. وحسبي أنني لفتّ النظر إلى الموضوع، سائلاً الله ـ تعالى ـ أن يجعلنا مفاتيح للخير مغاليق للشر، والله من وراء القصد، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم.
الهوامش:
(1) القاموس المحيط، للفيروز أبادي، (باء الراء، فصل الباء).
(2) رواه البخاري.
(3) صحيح مسلم ـ كتاب الإيمان.
(4) أسد الغابة، 1/206.
(5) التربية الجادة ضرورة، للشيخ محمد الدويش.
(6) مقدمات للنهوض بالعمل الدعوي، د. عبد الكريم بكار.
(7) مقدمات للنهوض بالعمل الدعوي، د. عبد الكريم بكار.
--------------------------------------------------------------------------------
مجلة البيان، العدد (130)، جمادى الآخرة 1419،اكتوبر 1998 .
* * *
http://www.albayan-magazine.com/zwaya/trbwi/36.htm
بعضهم أولياء بعض
عبد الملك بن محمد القاسم(2/14)
تميز عصرنا الحاضر بارتفاع أصوات المنافقين والمنافقات في أنحاء العالم الإسلامي،فأُفردت لهم الصفحات، ودُعوا إلى التحدث في المنتديات، واحتفلت بهم التجمعات، وسيطروا على كثير من وسائل الإعلام كما يلاحظه القاصي والداني لفشو الأمر وظهوره.
وحالُ المنافقين ليست بجديدة على أمة الإسلام.. فهم أعداء ألِدّاء لهذا الدين منذ بعثة محمد ـ عليه أفضل الصلاة وأزكى التسليم ـ يكيدون ويدبرون ويخططون وينفذون، وقد وصفهم الله ـ عز وجل ـ في سبعة وثلاثين موضعاً من القرآن، وسميت سورة كاملة باسم المنافقين، وأفاضت السنة النبوية المطهرة في ذلك الأمر العظيم وتوضيحه وجلائه.
ولأن الصراع بين الحق والباطل قائم إلى قيام الساعة؛ فإننا لا نزال نرى الصفات نفسها تتوارثها الأجيال المنافقة زمناً بعد زمن حتى وقتنا الحاضر. يقول الله عن صفة من صفاتهم: ((وَإذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإن يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُّسَنَّدَةٌ)) [المنافقون: 4].
فما أكثر المستمعين لحديثهم المنصتين لهرائهم المتابعين لإنتاجهم وهم يلبّسون على الناس ويدّعون فيهم الإصلاح والفلاح كما كان فرعون يقول لقومه عن موسى نبي الله ـ عليه الصلاة والسلام ـ: ((إنِّي أَخَافُ أَن يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَن يُظْهِرَ فِي الأَرْضِ الفَسَادَ)) [ غافر: 26].(2/15)
ومن العجب أن يتولى نفر من المنافقين والمنافقات، إفساد الأمة ومسخها عن دينها ودعوتها إلى التحرر والإباحية والرذيلة، ومن تأمل في التاريخ القريب مثلاً أدرك أن (هدى شعراوي) و(قاسم أمين)، وحثالة لا يزيدون عن المائة قوّضوا أركان الفضيلة مما أدى إلى نزع الحجاب عن وجه المسلمات، وأوردوا قومهم موارد الهلاك وما ترتب على ذلك من شيوع قله الحياء والتهاون بالحشمة والفضيلة؛ حتى ظهرت المرأة متبرجة في الشارع والمكتب والمسرح، بل صارت شبه عارية على شواطئ البحر؛ وقد كان لا يُرى لأمها وجدتها ظفر أو خصلة شعر حتى جاء هؤلاء فأسقطوا الحجاب شيئاً فشيئاً!!
وهكذا هم المنافقون في كل أمة وفي كل قطر يتحينون الفرص، ويقطعون الطريق ((وَانطَلَقَ المَلأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ)) [ص: 6].
ها هم يسيرون متكاتفين متماسكين يتواصون بالباطل ولهم جَلَد وصبر عجيب ((الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُم مِّنْ بَعْضٍ يَاًمُرُونَ بِالْمُنكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ المَعْرُوفِ)) [التوبة: 67].
والعجب ليس من حرص هؤلاء وجدهم واجتهادهم لهدم صروح العفة والفضيلة؛ بل ومحاولة تقويض ركائز الدين بعامة، إنما العجب كيف يرضى بذلك عقلاء القوم وكبارهم، وكيف تترك سموم هؤلاء تنتشر في الفضاء وتنفذ إلى القلوب؟ وكثيرٌ اليوم من أشرف الناس ينادون بالقضاء على تلوث البيئة وحصار البعوض وإزالة النفايات.. ولا نجد لهؤلاء القوم وعقلائهم كلمة في إسكات أهل الباطل من المنافقين والمنافقات ممن يحفل بهم جل إعلام العالم الإسلامي شرقاً وغرباً وشمالاً وجنوباً حتى طفح الكيل وبلغ السيل الزبى...(2/16)
والعجب موصول أن نرى لَبِنات هذا البناء الديني والاجتماعي تتساقط واحدة تلو الأخرى ونحن ننتظر المزيد! إن الأمر ليس خوفاً على هذا الدين فحسب؛ فالله ناصره حتى لا يبقى بيت مدر ولا وبر إلا دخله، ولكنه خوف على أبنائا ونسائنا وشبابنا من أن يأخذهم الطوفان ويجرفهم التيار والمؤمل فيهم أن يكونوا أهل عفة وحياء ومرتع فضيلة ومأوى كل خير.
وإن أردت أن تلقي نظرة فاحصة على كتاباتهم وكثرة إنشائهم وتسويد أوراقهم، فهي من النطيحة والمتردية فكراً وأسلوباً؛ فأكثر أفكارهم (بهيمية) وجل كتاباتهم سوقية، حتى إنك تخشى أن يقرأها صغارك لركاكة ألفاظها وتفاهة معانيها.. ثم ترى للواحد منهم عدداً من المقابلات في شهر واحد.. وهم في أكثر المطبوعات يتكررون حتى لا يحرم أحد من شرهم.. ثم ترى أحدهم إذا أتته الأسئلة مشرّقة صرفها نحو المغرب جهلاً وغباءً، وهو مع ذلك يمدح ثلة من أتباعه ويطلق عليهم صفات تنوء بحملها الجبال، ولو لم تعرف حقيقة أذنابهم من الممدوحين لقلت: مرحى لأمة منهم هؤلاء؛ لما يلقى عليهم من صنوف المديح والبهرج الكاذب.
وآخر منهم يفتعل الغضب والخلاف مع صاحبه وهو في ثنايا كلماته الواهية يشيد به ويروّج لآثاره وكتاباته ومؤلفاته.. وإن تطفلت وقلت: لا أدع هذه الثروات تفوتني، لَهَالَكَ اسم هذه المؤلفات وعددها وتناثُر حروفها وفحش غلافها وتهالك مادتها.. وإن يممت نحو العلماء الحقيقيين ممن رفعت بهم الأمة رأساً، ولهم قدم صدق وجهاد في الأمة لوجدت عشرات المجلدات: السطر الواحد منها يعجز أن يأتي ببعضه أمثال أولئك القوم؛ ولكنْ بتآمر عجيب وخطط ماكرة أُخمد ذكرهم وطُويت سيرتهم وأُخفي أثرهم، وسُميت أوراقهم الذهبية ومؤلفاتهم العظيمة: (كتباً صفراء) استهتاراً واستهزاءً بهم، وتنفيراً وتحقيراً لشأنهم.(2/17)
وتأمل حال المنافقين والمنافقات؛ فهم أولياء بعضهم لبعض، قد ملؤوا الساحة ضجيجاً وعفناً في الصحف وعلى الشاشات المرئية وفي بث الإذاعات. إننا نجد غزواً عجيباً لا تسلم منه خيمة ولا بيت، ولا امرأة ولا رجل، ولا طفل ولا شيخ، وتتقزز نفسك وأنت ترى تلك الكتابات والصور التي يطل عليك من خلالها شؤم المعصية؛ فهي كغثاء السيل، وحاطب الليل يتبرأ منهم بل هو خير منهم صفاتٍ.
وحتى يكتمل الحديث وتتضح الصورة لبعض القرّاء أُورد بعضاً من صفات المنافقين حتى يكون على بينة من أمره ولا يسلك مسلكاً خطيراً، وطريقاً وعراً، وهو تصنيف الناس بالظن والحدس والتوقع، بل أمامه ركائز يعتمد عليها ومنائر يسير على هداها، وليعرف المنافق برأسه وعينه متثبتاً متيقناً هم العدو؛ فاحذرهم:
الأولى: الكسل في العبادة قال ـ تعالى ـ: ((وَإذَا قَامُوا إلَى الصَّلاةِ قَامُوا كُسَالَى)) [النساء: 142].
الثانية: قلة ذكرهم الله ـ عز وجل ـ قال ـ تعالى ـ: ((وَلا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إلاَّ قَلِيلاً)) [النساء: 142]
الثالثة: لمز المطوعين من المؤمنين والصالحين والنيل منهم: ((الَّذِينَ يَلْمِزُونَ المُطَّوِّعِينَ مِنَ المُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ)) [التوبة: 79].
الرابعة: الاستهزاء بالقرآن والسنة. يقول الله ـ تعالى ـ: ((قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِءُونَ (65) لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إيمَانِكُمْ)) [التوبة: 65، 66].
الخامسة: الوقوع في أعراض الصالحين غيبة وحقداً. يقول الله ـ تعالى ـ عنهم: ((فَإذَا ذَهَبَ الخَوْفُ سَلَقُوكُم بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ أَشِحَّةً عَلَى الخَيْرِ)) [الأحزاب: 19] [الأحزاب: 19].
السادسة: التخلف عن صلاة الجماعة؛ قال ابن مسعود: (وما يتخلف عنها إلا منافق معلوم النفاق) رواه مسلم.(2/18)
السابعة: مخالفة الظاهر للباطن. وهذه المسألة تدور عليها جميع المسائل. يقول الله ـ تعالى ـ: ((إذَا جَاءَكَ المُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إنَّ المُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ)) [المنافقون: 1]
فما أكثر ترديدهم دعوى الحدب على صلاح هذا الدين وشريعته والحرص على هذا المجتمع؛ وما إن ترى أفعالهم حتى تتمثل لك تلك الآية تفضح خبيئة نفوسهم وبواطن قلوبهم.
الثامنة: الأمر بالمنكر والنهي عن المعروف. يقول الله ـ تعالى ـ: ((يَاًمُرُونَ بِالْمُنكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ المَعْرُوفِ))[التوبة: 67].
وتأمل آراءهم حول الحجاب والتحرر وعمل المرأة وغيرها ترى الضلال المبين والدعاية للمبطلين.
التاسعة: عدم الفقه في الدين؛ فتجد الكثير يملك معلومات عجيبة وتفصيلات دقيقة وجزئيات صغيرة في أمور الدنيا دقيقها وجليلها، كبيرها وصغيرها، ولكن إذا سئل عن المسح على الخفين سكت!! يقول الله عنهم: ((هُمُ الَذِينَ يَقُولُونَ لا تُنفِقُوا عَلَى مَنْ عِندَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنفَضُّوا وَلِلَّهِ خَزَائِنُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَلَكِنَّ المُنَافِقِينَ لا يَفْقَهُونَ)) [المنافقون: 7].
هذه تسع من ثلاثين أو تزيد من صفاتهم، ولكن حسبك من العقد ما أحاط بالعنق.. وبواحدة من هذه تعرف من يبارز الحرب والعداء لله ولرسوله وللمؤمنين؛ ولعظم الأمر وخطورته، ولأنهم بؤرة فساد وموطن سوء جعلهم الله في الدرك الأسفل من النار وهم أشد عذاباً من الكفار: ((إنَّ المُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَن تَجِدَ لَهُمْ نَصِيراً)) [النساء: 145].
وقد قال بعض السلف: لو كان للمنافقين أذناب لما استطعنا السير في الشوارع والطرقات من كثرتها!! وفي أمة الإسلام اليوم أكثر من ذلك، والله غالب على أمره، ولكن أكثر الناس لا يعلمون.(2/19)
--------------------------------------------------------------------------------
مجلة البيان، العدد (88)، ذو الحجة 1415،مايو 1995 .
* * *
http://www.albayan-magazine.com/zwaya/trbwi/37.htm
أثر القرآن في تقوية الإحساس بالأخوة
د. أحمد بن شرشال
الاشتغال بفهم القرآن وتفسيره والتفقّه فيه يرقق إحساس المسلم ويقوي شعوره،وينمي فيه حب الآخرين؛ بحيث يتألم لآلامهم، ويفرح لفرحهم، ويسعد لسعادتهم.
ومن الأساليب القرآنية في التعبير عن هذا الإحساس أن جعل قتل الرجل لغيره قتلاً لنفسه، وجعل إخراج الرجل من داره إخراجاً لنفسه، وجعل ظن السوء بالغير ظناً بنفسه، وجعل لمز الغير لمزاً لنفسه، والسلام على الغير سلاماً على نفسه؛ وكل ذلك ذكره القرآن. قال الله ـ تعالى ـ في سياق أخبار بني إسرائيل: ((وَإذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ وَلا تُخْرِجُونَ أَنفُسَكُم مِّن دِيَارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنتُمْ تَشْهَدُون ثُمَّ أَنتُمْ هَؤُلاءِ تَقْتُلُونَ أَنفُسَكُمْ)) [البقرة: 84، 85].فجعل دم كل فرد من أفرادهم كأنه دم الآخر عينه حتى إذا سفكه كان كأنه قتل نفسه وانتحر ذاته.
قال القرطبي: (ولما كانت ملتهم واحدة وأمرهم واحداً، وكانوا كالشخص الواحد جعل قتل بعضهم بعضاً وإخراج بعضهم بعضاً قتلاً لأنفسهم ونفياً لها)(1).
ومثل هذا السياق قوله ـ تعالى ـ: ((فَاقْتُلُواً أََنفُسَكُمْ)) [البقرة: 54] ومعناه: فليقتل بعضكم بعضاً بأن يقتل من لم يعبد العجل عابديه؛ فإن قتل المرء لأخيه كقتله لنفسه.
قال القرطبي: (وأجمعوا على أنه لم يؤمر كل واحد من عَبَدَة العجل بأن يقتل نفسه) ثم نقل عن الزهري قوله: (أن يقتل من لم يعبد العجل من عبد العجل)(2).(2/20)
وقال الله ـ تعالى ـ في سياق هذه الأمة: ((وَلا تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ)) [النساء: 29] أي: لا يقتل بعضكم بعضاً، فجعل قتل الرجل لغيره قتلاً لنفسه، قال القرطبي: (أجمع أهل التأويل على أن المراد بهذه الآية النهي أن يقتل بعض الناس بعضاً، ثم لفظها يتناول أن يقتل الرجل نفسه بقصد منه)(3). قال الحافظ ابن كثير: (وهو الأشبه بالصواب)(4)، قال الزمخشري: (شبّه الغير بالنفس لشدة اتصال الغير بالنفس في الأصل أو الدين؛ فإذا قتل المتصل به نسباً أو ديناً فكأنما قتل نفسه)(5)، وقال الحافظ ابن كثير: (إن أهل الملة الواحدة بمنزلة النفس الواحدة)(6). وقد بيّن الله أن من قتل نفساً بغير حق فكأنما قتل الناس جميعاً، فقال: ((..كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَن قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأََرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً)) [المائدة: 32].(2/21)
ومن تعبيرات القرآن بالنفس وإرادة الأخ في الدين قوله ـ تعالى ـ: ((يَا أََيُّهَا الَذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أََنفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُم مَّن ضَلَّ إذَا اهْتَدَيْتُمْ)) [المائدة: 105]. حكى الفخر الرازي مقالة لعبد الله بن المبارك أنه قال: (هذه أوْكد آية في وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فإنه ـ سبحانه ـ قال: ((عَلَيْكُمْ أََنفُسَكُمْ)) يعني عليكم أهل دينكم، ولا يضركم من ضل من الكفار، بأن يعظ بعضكم بعضاً، ويُرغّب بعضكم بعضاً في الخيرات وينفره عن القبائح والسيئات)(7) لأن المؤمنين إخوة في الدين. ومن تعبيرات القرآن بالنفس وإرادة الغير قوله ـ تعالى ـ: ((فَإذَا دَخَلْتُم بُيُوتاً فَسَلِّمُوا عَلَى أَنفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِّنْ عِندِ اللَّهِ مُبَارَكَةً طَيِّبَةً)) [النور: 61] والمعنى: فليسلم بعضكم على بعض، وهم أهل البيوت التي يدخلونها؛ لأنهم بمنزلة أنفسهم في شدة المحبة والمودة والألفة، ولأنهم منهم في الدين، فكأنهم حين يسلمون عليهم يسلمون على أنفسهم. وقد أنكر الشيخ ابن عاشور على من فهم من الآية أن الداخل يسلم على نفسه فقال: (ولقد عكف قوم على ظاهر هذا اللفظ وأهملوا دقيقه، فظنوا أن الداخل يسلم على نفسه إذا لم يجد أحداً، وهذا بعيد من أغراض التكليف والآداب)(8). وهذا هو المأثور عن سعيد بن جبير والحسن البصري وقتادة والزهري؛ حيث قالوا: (فليسلم بعضكم على بعض)(9).
ومن تعبيرات القرآن بالنفس وإرادة الأخ في الدين قوله ـ تعالى ـ: ((وَلا تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ)) [الحجرات: 11] والإنسان لا يلمز ولا يعيب نفسه، وإنما اللامز يلمز غيره إشارة إلى أن من عاب أخاه المسلم فكأنما عاب نفسه، فنزّل البعض الملموز منزلة نفس الإنسان لتقرير معنى الإحساس بالأخوة وتقوية الشعور بها.(2/22)
ومن تعبيرات القرآن عن الغير بالنفس قوله ـ تعالى ـ: ((لَوْلا إذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ المُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنفُسِهِمْ خَيْراً)) [النور: 12].
المراد بأنفسهم هنا إخوانهم في الدين والعقيدة، والمعنى: فهلاّ وقت أن سمعتم حديث الإفك هذا ظننتم بأنفسكم ـ أي: بإخوانكم وأخواتكم ـ ظناً حسناً جميلاً؛ إذ لا يظن المرء بنفسه السوء، وفي هذا التعبير عن إخوانهم وأخواتهم في العقيدة بأنفسهم أسمى ألوان الدعوة إلى غرس روح المحبة والمودة والإخاء والإحساس الصادق؛ حتى لكأن الذي يظن السوء بغيره إنما يظنه بنفسه(10). قال الرازي: (فجعل الله المؤمنين كالنفس الواحدة فيما يجري عليها من الأمور؛ فإذا جرى على أحدهم مكروه فكأنه جرى على جميعهم)(11).
فهذا الأسلوب القرآني، وهذا الخطاب الرباني يؤكد معنى وحدة الأمة، ويُحدِث في النفس أثراً وإحساساً يبعثها على الامتثال؛ فالمسلم الذي يُربى على هذه المعاني، وهذه الدقائق القرآنية، لا شك في أنها تؤثر فيه وتغرس في أعماقه هذا الإحساس وهذا الشعور.
ومن تدبر هذا الأسلوب القرآني علم أنه لا قوام لهذه الأمة إلا بمثل هذا الشعور وهذا الإحساس، وشعور كل فرد من أفرادها بأن نفسه نفس الآخرين ودمه دمُ الآخرين، وظن السوء بهم ظنّ بنفسه، والسلام عليهم سلامٌ على نفسه، وعيبهم عيبٌ لنفسه؛ لا فرق في المحافظة على الروح التي تجول في بدنه والدم الذي يجري في عروقه، وبين الأرواح والأبدان التي يحيا بها إخوانه قال ـ تعالى ـ: ((يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ)) [ النساء: 1] وقال: (مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتواصلهم كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى)(12)، وكل هذه المعاني كامنة في القرآن والتفسير يكشفها ويجلّيها.
الهوامش :
(1) الجامع للقرطبي (2/19).
(2) الجامع للقرطبي (1/376).
((2/23)
3) الجامع للقرطبي (3/136).
(4) تفسير ابن كثير (1/524)
(5) التحرير والتنوير (18/376).
(6) تفسير ابن كثير (1/129).
(7) تفسير الرازي (6/118).
(8) التحرير والتنوير (18/303).
(9) تفسير ابن كثير (3/336).
(10) الجامع للقرطبي (6/186).
(11) تفسير الرازي (12/178).
(12) أخرجه مسلم، البر والصلة (2586).
--------------------------------------------------------------------------------
مجلة البيان، العدد (133)، رمضان 1419،يناير 1999 .
* * *
http://www.albayan-magazine.com/zwaya/trbwi/38.htm
حسن الظن بالله
فهد بن أحمد الأسطاء
عُنِيَ السلف بالحديث عن أعمال القلوب ومعالجة أمراضها وسبل صلاحها، وتكلم العلماء عن ذلك في مواضع شتى من تآليفهم، كابن الجوزي وابن تيمية وتلميذيه ابن القيم وابن رجب ـ رحمهم الله جميعاً ـ.
ويأتي موضوع: (حسن الظن بالله) باعتباره واحداً من أعظم أعمال القلوب التي تحدّث عنها العلماء، ولم يُفرَد ـ على أهميته ـ بمؤلف ـ فيما أعلم ـ سوى ما كتبه الإمام أبو بكر بن أبي الدنيا في كتابه: (حسن الظن بالله ـ عز وجل ـ). فأحببت أن أجمع شتات الموضوع وآثار العلماء فيه، مضيفاً إليها مسائل عدة مما يتعلق بحسن الظن بالله من خلال المحاور التالية:
أولاً: مفهوم حسن الظن بالله ـ تعالى ـ:
لعله يحسن بنا قبل الشروع في بيان مفهوم (حسن الظن بالله ـ تعالى ـ) أن ننظر إلى معنى الظن لغوياً؛ حيث إنه يدل على أكثر من معنى. قال الفيروز آبادي في القاموس المحيط: (الظن: التردد الراجح بين طرفي الاعتقاد غير الجازم، (الجمع) ظنون وأظانين، وقد يوضع موضع العلم)(1).
وفي المعجم الوسيط: (ظن الشيء ظناً) علمه بغير يقين، وقد تأتي بمعنى اليقين. وفي محكم التنزيل العزيز: ((قَالَ الَذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلاقُوا اللَّهِ)) [البقرة: 249].(2/24)
ومن هنا يتبين أن معنى الظن يدل على الشك والعلم غير المتيقن، كما أنه يدل على اليقين والعلم المتيقن، وهذا المعنى هو المراد في موضوعنا، وهو المقصود في قولنا: حسن الظن بالله. إلا أنه يُمكننا أن نعبر الآن عن مفهوم حسن الظن بالله ـ تعالى ـ بأنه: (هو ظنّ ما يليق بالله ـ تعالى ـ واعتقاد ما يحق بجلاله وما تقتضيه أسماؤه الحسنى وصفاته العليا مما يؤثر في حياة المؤمن على الوجه الذي يرضي الله ـ تعالى ـ).
ثانياً: بيان أهمية حسن الظن بالله ـ تعالى ـ:
إن هناك أموراً كثيرة تُشعر بأهمية هذا الأمر، وتَدفع للتحدث عنه والتنبيه عليه، ومنها:
1- أن حسن الظن بالله ـ تعالى ـ من الأمور التي أوصى بها الرسول.
ولا شك بأن سيد المرسلين ـ عليه الصلاة والسلام ـ قد دلنا وأرشدنا إلى خير ما يعلمه لنا، وحذرنا وأنذرنا من شر ما يعلمه لنا؛ ولذا فقد جاء في الحديث الصحيح أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: (لا يموتن أحدكم إلا وهو يحسن الظن بالله ـ عز وجل ـ)(2). قال الخطابي ـ رحمه الله ـ في شرح هذا الحديث: (وقد يكون أيضاً حسن الظن بالله من ناحية الرجاء وتأميل العفو)(3). وقال العظيم آبادي في عون المعبود: (أي لا يموت أحدكم في حال من الأحوال إلا في هذه الحالة وهي حسن الظن بالله بأن يغفر له؛ فالنهي وإن كان في الظاهر عن الموت؛ لكن في الحقيقة عن حالة ينقطع عندها الرجاء لسوء العمل كيلا يصادفه الموت عليها). قاله علي القاري ـ ثم قال ـ: وقال النووي في شرح المهذب: (معنى تحسين الظن بالله ـ تعالى ـ أن يظن أن الله ـ تعالى ـ يرحمه ويرجو ذلك بتدبر الآيات والأحاديث الواردة في كرم الله ـ تعالى ـ وعفوه وما وعد به أهل التوحيد وما سيبدلهم من الرحمة، يوم القيامة، كما قال ـ سبحانه وتعالى ـ في الحديث الصحيح: (أنا عند ظن عبدي بي) هذا هو الصواب في معنى الحديث وهو الذي قاله جمهور العلماء)(4).(2/25)
وقد روى أبو بكر بن أبي الدنيا في كتاب: (حسن الظن بالله ـ عز وجل ـ بسنده عن المعتمر قال: (قال أبي حين حضرته الوفاة: يا معتمر! حدثني بالرخص لعلّي ألقى الله ـ عز وجل ـ وأنا حسن الظن به. وروى أيضاً ـ رحمه الله ـ بسنده عن حصين عن إبراهيم قال: كانوا يستحبون أن يلقنوا العبد محاسن عمله عند موته لكي يحسن ظنه بربه ـ عز وجل ـ)(5).
وعلى هذا فإنه يتبين للناظر في الحديث السابق ومن خلال كلام العلماء حوله وحال السلف ـ رحمهم الله ـ أن حسن الظن بالله ـ تعالى ـ يكون عند احتضار المرء وقرب موته، والصحيح أن حسن الظن بالله أعم من ذلك؛ فإنه مع ما يشمله ويتأكد فيه من حسن الظن بالله عند اقتراب الممات، فإنه يكون أيضاً مع المؤمن طيلة حياته وحتى مماته؛ فقد جاء في الحديث الصحيح أن الله ـ سبحانه وتعالى ـ يقول: (أنا عند ظن عبدي بي)(6).
قال ابن حجر ـ رحمه الله تعالى ـ في الفتح: (أي قادر على أن أعمل به ما ظن أني عامل به)(7). وقال النووي في شرح صحيح مسلم: (قال العلماء: معنى حسن الظن بالله ـ تعالى ـ أن يظن أنه يرحمه ويعفو عنه)(8) وقال في موضع آخر حول هذا الحديث أيضاً: (قال القاضي: قيل معناه بالغفران له إذا استغفر، والقبول إذا تاب، والإجابة إذا دعا، والكفاية إذا طلب. وقيل: المراد به الرجاء وتأميل العفو وهو أصح)(9).
إذاً فحسن الظن بالله ـ عز وجل ـ يجب أن يكون صفة المؤمن وسَمته طيلة حياته، ويتأكد أكثر عند مماته حتى يأتيه الموت وهو محب للقاء الله؛ ففي الحديث الصحيح: (من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه)(10).(2/26)
كما أنه يتبين من خلال ما سبق أن من مفهوم حسن الظن بالله ـ عز وجل ـ ظن ما يليق بالله ـ سبحانه وتعالى ـ من ظن الإجابة والقبول والمغفرة والمجازاة، وإنفاذ الوعد، وكل ما تقتضيه أسماؤه وصفاته ـ سبحانه ـ كما بينا سابقاً؛ ولذا فقد قال الإمام ابن القيم ـ رحمه الله تعالى ـ في ظن السوء، والظن بالله غير الحق ظن الجاهلية المنافي لحسن الظن بالله، قال: (وإنما كان هذا ظن سوء، وظن الجاهلية المنسوب إلى أهل الجهل وظن غير الحق؛ لأنه ظن غير ما يليق بأسمائه الحسنى وصفاته العليا وذاته المبرأة من كل عيب وسوء، بخلاف ما يليق بحكمته وحمده وتفرده بالربوبية والإلهية، وما يليق بوعده الصادق الذي لا يخلفه)(11).
2- أن حسن الظن بالله ـ تعالى ـ يرتبط ارتباطاً كبيراً بنواحي عقدية وسلوكية متعددة، فهو يرتبط بالتوكل على الله والثقة به؛ حيث إنك لا تتوكل إلا على من تحسن الظن به؛ ولذا فقد جعله الإمام ابن القيم ـ رحمه الله تعالى ـ أحد درجات التوكل فقال: (الدرجة الخامسة: حسن الظن بالله ـ عز وجل ـ فعلى قدر حسن ظنك بربك ورجائك له يكون توكلك عليه، ولذلك فسر بعضهم التوكل بحسن الظن بالله. والتحقيق: أن حسن الظن به يدعوه إلى التوكل عليه؛ إذ لا يتصور التوكل على من ساء ظنك به ولا التوكل على من لا ترجوه، والله أعلم)(12).
وقال الإمام ابن القيم ـ رحمه الله تعالى ـ: (ويكون الراجي دائماً راغباً راهباً مؤملاً لفضل ربه حسن الظن به)(13).(2/27)
وكذا الاستعانة بالله والاعتصام به واللجوء إليه ـ سبحانه ـ كلها تستلزم أن يحسن العبد الظن بربه ـ عز وجل ـ، وكذلك فإن حَسُنَ الظن بالله يجب أن يقترن بالخوف منه ـ سبحانه ـ حتى لا يفضي إلى الغرور وترك العمل، وقد قال أبو سليمان الداراني ـ رحمه الله ـ: (من حَسُنَ ظنه بالله ـ عز وجل ـ ثم لا يخاف الله فهو مخدوع)(14). وبهذا يتبين أن حسن الظن يرتبط ارتباطاً وثيقاً بعدة نواحي اعتقادية سلوكية لدى المؤمن تتعايش مع إيمانه وعبوديته لله ـ سبحانه ـ؛ ولذا كان لزاماً التنبيه لهذا الأمر وتوضيحه.
3- ومما يُجلّي أهمية هذا الأمر واقع الناس وحالهم مع حسن الظن بالله؛ فمن الناس من اتكل على حسن ظنه بربه واعتمد عليه مع إقامته على المعاصي متناسياً ما توعد الله به من وقع في مساخطه وما يغضبه، وغافلاً عن الخوف من الله حتى وقع في الغرور.
وعلى النقيض من هذا من ساء ظنه بربه فاعتقد بالله خلاف مقتضى أسمائه وصفاته واقعاً بما وصف الله به الكفار والمنافقين من أنهم يظنون بالله غير الحق ظن الجاهلية.
وانظر إلى ابن القيم ـ رحمه الله تعالى ـ عندما يتكلم عن حال الناس في الظن بالله حيث يقول: (فأكثر الخلق بل كلهم إلا من شاء الله يظنون بالله غير الحق ظن السوء؛ فإن غالب بني آدم يعتقد أنه مبخوس الحق، ناقص الحظ، وأنه يستحق فوق ما أعطاه الله، ولسان حاله يقول: (ظلمني ربي ومنعني ما أستحق) ونفسه تشهد عليه لذلك، وهو بلسانه ينكره ولا يتجاسر على التصريح به. ومن فتش نفسه وتغلغل في معرفة دفائنها وطواياها، رأى ذلك فيها كامناً كمون النار في الزناد، فاقدح زناد من شئت ينبئك شَراره عما في زناده، ولو فتشت من فتشته، لرأيت عنده تعتباً على القدر وملامة له، واقتراحاً عليه خلاف ما جرى به، وأنه ينبغي أن يكون كذا وكذا، فمستقل ومستكثر. وفتش نفسك هل أنت سالم من ذلك:
فإن تنجُ منها تنجُ من ذي عظيمة وإلا فإني لا إخالك ناجياً(15)(2/28)
ومن هنا يتضح لنا أن مسلك حسن الظن بالله مسلك دقيق ومنهج وسط بين نقيضين لا يسلكه إلا من وفقه الله وجعل قلبه خالصاً له ـ سبحانه ـ.
ولذا كان على المؤمن أن يتحرى معرفة المنهج الصحيح في حسن الظن بالله حتى لا يقع فيما نهى الله عنه من الغرور أو سوء الظن بالله ـ تعالى ـ.
4- ومما يبين أهمية هذا الأمر: أثر حسن الظن بالله على المؤمن في حياته وبعد مماته؛ فإن المؤمن حين يحسن الظن بربه لا يزال قلبه مطمئناً ونفسه آمنه تغمرها سعادة الرضى بقضاء الله وقدره وخضوعه لربه ـ سبحانه ـ (فالقلب المؤمن حَسَنُ الظن بربه يَتوقّع منه الخير دائماً، يتوقع منه الخير في السراء والضراء، ويؤمن بأن الله يريد به الخير في الحالين؛ وسر ذلك أن قلبه موصول بالله، وفيض الخير من الله لا ينقطع أبداً؛ فمتى اتصل القلب به لمس هذه الحقيقة الأصيلة وأحسها إحساس مباشرة وتذوّق)(16).
بل إن من أحسن الظن بربه وتوكل عليه حق توكله جعل الله له في كل أمره يسراً ومن كل كرب فرجاً ومخرجاً، قال بعض الصالحين: (استعمل في كل بلية تطرقك حسن الظن بالله ـ عز وجل ـ في كشفها؛ فإن ذلك أقرب إلى الفرج)(17).
كما أن مَنْ أحسن الظن بربه ـ عز وجل ـ فأيقن صدق وعده وتمام أمره وما أخبر به من نصرة الدين والتمكين في الأرض للمؤمنين(18)، اجتهد نفسه في العمل لهذا الدين العظيم، والدعوة إلى الله، والجهاد في سبيله بماله ونفسه غير هياب ولا وجل، بل يُقدِم إقدام الواثق بنصر الله وموعوده وهو يلمح نور الفجر الصادق وقد أطل على هذه الأمة، فلا يعلق آماله إلا بالله ـ سبحانه وتعالى ـ، ولا يتوكل إلا عليه.(2/29)
ومن أثر حسن الظن بالله على المؤمن أيضاً أنه عندما يسمع ما يخبر به الله ـ تعالى ـ عن نفسه من أنه عفو غفور وتواب رحيم، ويسمع قول نبيه ـ عليه الصلاة والسلام ـ: (إن الله ـ تعالى ـ يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار، ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل حتى تطلع الشمس من مغربها)(19)؛ فإنه يطمع بعفوه فيطرق بابه منطرحاً بين يديه راجياً مغفرته، وأن يتوب عليه من معاصيه.
وأما في الآخرة فإنما النجاة في حسن الظن بالله ـ عز وجل ـ؛ ولهذا أوصى به رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في أول منازل الآخرة عند حضور الموت فقال: (لا يموتن أحدكم إلا وهو يحسن الظن بالله ـ عز وجل ـ). وروى أبو بكر بن أبي الدنيا عن إبراهيم قال: (كانوا يستحبون أن يلقنوا العبد محاسن عمله عند موته لكي يحسن ظنه بربه ـ عز وجل ـ)(20).
وإنما عُنِيَ السلف بهذا الأمر؛ لأن من لقي الله ـ سبحانه وتعالى ـ وهو يحسن الظن به في أنه يغفر له ويتوب عليه؛ فإن الله يكون عند ظنه به، ولا يخيّب رجاءه فيه؛ وهذا من أعظم الأثر لحسن الظن بالله؛ إذ ارتبط بالنجاة يوم القيامة.
ثالثاً: السلف وحسن الظن بالله ـ تعالى ـ:
لما كان السلف ـ رحمهم الله ـ هم أقرب الناس إلى منهج الله وسنة رسوله -صلى الله عليه وسلم-، أدركوا أهمية حسن الظن بالله ومدى أثره على المؤمن؛ فكانوا أحرص الناس عليه، وأكثرهم دعوة إليه وحثاً على التمسك به على وجهه الحق؛ فهذا سعيد بن جبير ـ رحمه الله ـ، كان يدعو: (اللهم إني أسألك صدق التوكل عليك وحسن الظن بك)(21).
وقال عبد الله بن مسعود ـ رضي الله عنه ـ: (والذي لا إله غيره ما أُعطي عبد مؤمن شيئاً خير من حسن الظن بالله ـ عز وجل ـ، والذي لا إله غيره لا يحسن عبد بالله ـ عز وجل ـ الظن إلا إعطاه الله ـ عز وجل ـ ظنه؛ ذلك بأن الخير في يده)(22). وسفيان الثوري ـ رحمه الله ـ كان يقول: (ما أحب أن حسابي جعل إلى والدي؛ فربي خير لي من والدي)(23).(2/30)
ويقول عن قوله ـ تعالى ـ: ((وَأََحْسِنُوا إنَّ اللَّهَ يُحِبُّ المُحْسِنِينَ)) [البقرة: 195]. قال: (أحسنوا بالله الظن)(24).
كما أخرج أبو بكر بن أبي الدنيا(25)، عن عمار بن يوسف قال: (رأيت حسن بن صالح في منامي فقلت: قد كنت متمنياً للقائك؛ فماذا عندك فتخبرنا به؟ فقال: أبشر! فلم أرَ مثل حسن الظن بالله ـ عز وجل ـ شيئاً).
رابعاً: الفرق بين حسن الظن بالله والغرور:
وحيث جاء الأمر بحسن الظن بالله ـ تعالى ـ فإن بعض الناس قد أساء في هذا الأمر وغلا فيه حتى سقط في الغرور جاهلاً بكيفية إحسان الظن بالله ـ تعالى ـ ناسياً أليم عقاب الله ـ سبحانه ـ وغافلاً عن شدة عذابه ومحاسبته لعباده عما اقترفت أيديهم وكسبت نفوسهم.
وقد ذكر الإمام ابن القيم ـ رحمه الله ـ(26)، شيئاً من أحوال المغترّين وجهلهم بالله ـ سبحانه ـ فقال: (وكثير من الناس يظن أنه لو فعل ما فعل، ثم قال: أستغفر الله، زال الذنب وراح هذا بهذا. وقال لي رجل من المنتسبين إلى الفقه: أنا أفعل ما أفعل ثم أقول: سبحان الله وبحمده مائة مرة، وقد غفر ذلك أجمعه، كما صح عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: (من قال في يوم: سبحان الله وبحمده مائة مرة حُطّتْ خطاياه ولو كانت مثل زبد البحر)(27). وقال آخر من أهل مكة: نحن أحدنا إذا فعل ما فعل ثم اغتسل وطاف بالبيت أسبوعاً قد محي عنه ذلك)، وقال لي آخر: (قد صح عن النبي -صلى الله عليه وسلم-أنه قال: (أذنب عبد ذنباً فقال: أي رب أصبت ذنباً فاغفر لي فغفر الله ذنبه، ثم مكث ما شاء الله، ثم أذنب ذنباً آخر، فقال: أي رب أصبت ذنباً فاغفر لي فقال الله ـ عز وجل ـ: (علم عبدي أن له رباً يغفر الذنب ويأخذ به، قد غفرت لعبدي فليصنع ما شاء)(28).(2/31)
وقال: أنا لا أشك أن لي رباً يغفر الذنب ويأخذ به. وهذا الضرب من الناس قد تعلق بنصوص من الرجاء واتكل عليها، تعلق بها بكلتا يديه، وإذا عوتب على الخطايا والانهماك فيها سرد لك ما يحفظه من سعة رحمة الله ومغفرته ونصوص الرجاء، وللجهال من هذا الضرب من الناس في هذا الباب غرائب وعجائب كقول بعضهم:
وكثّر ما استطعت من الخطايا إذا كان القدوم على كريم
وقول بعضهم: التنزه من الذنوب جهل بسعة عفو الله، وقال الآخر: ترك الذنوب جراءة على مغفرة الله واستصغار لها، وقال محمد بن حزم: رأيت من بعض هؤلاء من يقول في دعائه: (اللهم إني أعوذ بك من العصمة) ثم ذكر ابن القيم ـ رحمه الله تعالى ـ من هؤلاء المغرورين من يتعلق بمسألة الجبر(29)، والإرجاء(30) أو يغتر بمحبة الفقراء والمشايخ والصالحين أو آبائه وأسلافه، أو يغتر بأن الله ـ عز وجل ـ غني عن عذابه ـ إلى غير ذلك في كلام طويل قيّم يحسن الرجوع إليه حتى قال ـ رحمه الله ـ تعالى ـ: (ومثال اتكال بعضهم على قوله -صلى الله عليه وسلم- حاكياً عن ربه: (أنا عند حسن ظن عبدي فليظن بي ما شاء(31)، يعني ما كان في ظنه فأنا فاعله به، ولا ريب أن حسن الظن إنما يكون مع الإحسان؛ فإن المحسن أحسن الظن بربه أن يجازيه على إحسانه، وأن لا يخلف وعده، وأن يقبل توبته، وأما المسيء المصرّ على الكبائر والظلم والمخالفات؛ فإن وحشة المعاصي والظلم والحرام تمنعه من حسن الظن بربه) ثم قال أيضاً ـ مفرقاً بين حسن الظن بالله والغرور ـ: (وقد تبين الفرق بين حسن الظن والغرور وأن حسن الظن إن حَمَل على العمل وحث عليه، وساعده وساق إليه فهو صحيح، وإن دعا إلى البطالة والانهماك في المعاصي فهو غرور).
فعلى المؤمن مع إحسانه الظن بربه ألا يغفل عن محاسبة الله ـ سبحانه ـ لعباده بعدله وحكمته ومجازاته لهم بما كانوا يعملون حتى لا يقع في الغرور فيوبق نفسه.
خامساً: التحذير من سوء الظن بالله ـ تعالى ـ:(2/32)
كما أن حسن الظن بالله ـ تعالى ـ يجب أن يكون سمة للمؤمن في حياته يطمئن بها قلبه، فإن عليه أيضاً أن يحذر كل الحذر من سوء الظن بالله ـ تعالى ـ أو ظن ما لا يليق به ـ جل وعلا ـ والذي جعله الله ـ سبحانه ـ صفة للكفار والمنافقين، فقال ـ تعالى ـ: ((وَيُعَذِّبَ المُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ)) [الفتح: 6].
قال الألوسي: (أي ظن الأمر الفاسد المذموم وهو أن الله ـ عز وجل ـ لا ينصر رسوله -صلى الله عليه وسلم-، وقيل المراد به، ما يعم ذلك وسائر ظنونهم الفاسدة من الشرك وغيره)(32).
وقال الشيخ السعدي ـ رحمه الله ـ حول هذه الآية: (وذلك أنه لا يتم للعبد إيمان ولا توحيد حتى يعتقد جميع ما أخبر به أن يفعله، وما وعد به من نصر الدين وإحقاق الحق وإبطال الباطل؛ فاعتقاد هذا من الإيمان، وطمأنينة القلب بذلك من الإيمان، وكل ظن ينافي ذلك فإنه من ظنون الجاهلية النافية للتوحيد؛ لأنها سوء ظن بالله، ونفي لكماله وتكذيب لخبره، وشك في وعده، والله أعلم)(33).(2/33)
وقال الشيخ الشنقيطي ـ رحمه الله ـ: عند قوله ـ سبحانه ـ: ((ذَلِكَ ظَنُّ الَذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ)) [ص: 27]. قال: (يدل على أن من ظن بالله ما لا يليق به ـ جل وعلا ـ فله النار) وقد بين ـ تعالى ـ في موضع آخر أن من ظن بالله ما لا يليق به أرداه وجعله من الخاسرين وجعل النار مثواه، وذلك في قوله ـ تعالى ـ: ((وَلَكِن ظَنَنتُمْ أَنَّ اللَّهَ لا يَعْلَمُ كَثِيراً مِّمَّا تَعْمَلُونَ (22) وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ....)) [فصلت: 22، 23]. وبعد هذا فكيف يستسيغ المؤمن أن يظن بربه ظن السوء وظن ما لا يليق بجلاله ـ سبحانه ـ وهو يعلم أن هذا من صفة الكفار والمنافقين؟ وهذا الإمام ابن القيم ـ رحمه الله ـ يجعل سوء الظن بالله من أسباب ارتكاب المحرمات، فيقول: (ما أخذ العبد ما حرم عليه إلا من جهتين: إحداهما: سوء ظنه بربه وأنه لو أطاعه وآثره لم يعطه خيراً منه حلالاً)(34).
وقد ذكر الإمام ابن القيم ـ رحمه الله تعالى ـ أمثلة وأحوالاً لهذا الظن السيئ في كلام رائع طويل يستحسن الرجوع إليه لمن يريد الزيادة في الموضوع(35).
فلينظر اللبيب إلى نفسه وأحوالها فإن كان يعتريها شيء من سوء الظن بالله ـ تعالى ـ فليبادر بالتوبة إلى الله ومعالجة نفسه من شرورها.
سادساً: كيف نحسن الظن بالله ـ تعالى ـ؟
إن مما يهم معرفته عند الحديث عن حسن الظن بالله ـ تعالى ـ أن نعلم ما هي البواعث التي تدعو إلى إحسان الظن بالله، وتحتم على المؤمن أن يضعها بين عينيه، ويحاسب نفسه على الأخذ بها. فمن هذه البواعث:(2/34)
1-أن يعلم أن في امتثاله لهذا الأمر استجابة لله ـ تعالى ـ وامتثالاً لأمره ولوصية رسوله ـ عليه الصلاة والسلام ـ كما مرّ في الآيات والأحاديث السابقة. وقد قال ـ تعالى ـ: ((يَا أَيُّهَا الَذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ)) [الأنفال: 24] قال الإمام ابن القيم ـ رحمه الله ـ: (فتضمنت هذه الآية أموراً:
أحدها: أن الحياة النافعة إنما تحصل بالاستجابة لله ولرسوله؛ فمن لم تحصل له هذه الاستجابة فلا حياة له، وإن كانت له حياة بهيمية مشتركة بينه وبين أرذل الحيوانات؛ فالحياة الحقيقية الطيبة هي حياة من استجاب لله ولرسوله ظاهراً وباطناً؛ فهؤلاء هم الأحياء وإن ماتوا وغيرهم أموات وإن كانوا أحياء الأبدان، ولهذا كان أكمل الناس حياة أكملهم استجابه لدعوة الرسول -صلى الله عليه وسلم- فإن كل ما دعا إليه ففيه الحياة)(36) فكفى بهذا باعثاً لكل مؤمن على امتثال كل ما أمر الله به رسوله ـ عليه الصلاة والسلام ـ.
2-إدراك أهمية التعلق بحسن الظن بالله ومدى أثره على سلوك النفس المؤمنة في حياتها وحتى الممات، ومعرفة حال السلف وعظيم تمسكهم بهذا الأمر وحثهم عليه؛ فإن هذا أحرى في الاقتداء بهم وتمثل منهجهم.
3-ومن أهم البواعث والأسباب التي تفضي إلى حسن الظن بالله ـ تعالى ـ: التدبر والتفكر في أسماء الله وصفاته وما تقتضيه من معاني العبودية والإخلاص.
قال الإمام ابن القيم ـ رحمه الله تعالى ـ: (والأسماء الحسنى، والصفات العلى مقتضية لآثارها من العبودية والأمر اقتضاءها لآثارها من الخلق والتكوين؛ فلكل صفة عبودية خاصة هي من موجباتها ومقتضياتها، أعني من موجبات العلم بها، والتحقق بمعرفتها وهذا مطّرد في جميع أنواع العبودية التي على القلب والجوارح(37).(2/35)
وفي الختام أرجو أن أكون قد وفقت في بيان هذا الأمر العظيم، وأسأل الله أن ينفع به وأن لا يحرمني أجره، وأن يغفر لي خطئي فيه، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
الهوامش:
(1) القاموس المحيط، 1566، ترتيب القاموس 3/130.
(2) أخرجه مسلم والترمذي وأبو داود وابن ماجه والإمام أحمد.
(3) معالم السنن مع كتاب سنن أبي داود، 3/484.
(4) عون المعبود شرح سنن أبي داود، 8/382.
(5) الخبران في كتاب: (حسن الظن بالله ـ عز وجل ـ)، لأبي بكر بن أبي الدنيا، ص04.
(6) أخرجه البخاري ومسلم وابن ماجه والإمام أحمد.
(7) فتح الباري، 17/397.
(8) شرح صحيح مسلم، للنووي، 14/210.
(9) شرح صحيح مسلم، للنووي، 14/2.
(10) أخرجه البخاري ومسلم والنسائي والترمذي.
(11) زاد المعاد في هدي خير العباد، 3/299.
(12) تهذيب مدارج السالكين، 240.
(13) تهذيب مدارج السالكين، 300.
(14) حسن الظن بالله، 40.
(15) زاد المعاد، 3/235.
(16) في ظلال القرآن، 6/3219.
(17) الفرج بعد الشدة، للتنوخي، 1/154.
(18) قال الله ـ تعالى ـ: ((وَعَدَ اللَّهُ الَذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَذِي ارْتَضَى لَهُمْ...)) [النور: 55]. وعن تميم الداري قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: (ليبلغن هذا الأمر ما بلغ الليل والنهار ولا يترك الله بيت مدر ولا وبر إلا أدخله الله هذا الدين بعز عزيز أو بذل ذليل، عزاً يعز الله به الإسلام، وذلاً يذل به الكفر) أخرجه الإمام أحمد والحاكم والطبراني. وانظر في تخريج هذا الحديث وغيره من الأحاديث المبشرة بنصرة الإسلام كتاب: (البشائر بنصرة الإسلام)، للشيخ محمد الدويش.
(19) أخرجه مسلم من حديث أبي موسى الأشعري ـ رضي الله عنه ـ.
(20) كتاب حسن الظن بالله ـ عز وجل ـ، ص 40.
((2/36)
21) سير أعلام النبلاء، 4/325.
(22) كتاب حسن الظن بالله ـ عز وجل ـ 96.
(23) حسن الظن بالله ـ عز وجل ـ، 45.
(24) حسن الظن بالله ـ عز وجل ـ، 117.
(25) المرجع السابق، 23.
(26) انظر: الجواب الكافي، ص24، وما بعدها.
(27) أخرجه البخاري ومسلم والترمذي ومالك في الموطأ.
(28) أخرجه البخاري ومسلم والإمام أحمد في مسنده.
(29) مسألة الجبر هي قولهم: إن العبد لا فعل له البتة، ولا اختيار، إنما هو مجبور على فعل المعاصي.
(30) الإرجاء: هو اعتقاد أن الإيمان هو مجرد التصديق وأن الأعمال ليس من الإيمان وأن إيمان أفسق الناس كإيمان جبريل وميكائيل. وللاطلاع والتعرف على الجبر والإرجاء وفرقتي الجبرية والمرجئة، انظر: الملل والنحل، للشهرستاني، والفصل في الملل والأهواء والنحل، لابن حزم.
(31) أخرجه البخاري ومسلم والإمام أحمد.
(32) روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني، 9/95.
(33) المجموعة الكاملة، لمؤلفات الشيخ السعدي ـ رحمه الله ـ، 3/50.
(34) الفوائد، 86.
(35) انظر: زاد المعاد، المجلد الثالث، ص922، وما بعدها.
(36) الفوائد، 166.
(37) مفتاح دار السعادة، 424، وما بعدها.
--------------------------------------------------------------------------------
مجلة البيان، العدد (134)، شوال 1419،فبراير 1999 .
* * *
http://www.albayan-magazine.com/zwaya/trbwi/39.htm
الرابطة الإيمانية.. حقوقها ـ آدابها ـ أهدافها
عبد الحكيم بن محمد بلال
يستمد المسلم سعادته في هذه الحياة من أمرين:
أولهما: حسن الصلة بالله ـ تعالى ـ.
وثانيهما: حسن الصلة بعباد الله المؤمنين. الذين عقد الله بينهم رباط الأخوة الإيمانية.(2/37)
وهذه الرابطة هي الركيزة الأساس بعد الإيمان بالله ـ عز وجل ـ الذي هو أساسها؛ حيث أمر الله بالاجتماع على أساس الإيمان فقال: ((يَا أَيُّهَا الَذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ)) [آل عمران: 102]، ثم قال: ((وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا)) [آل عمران: 103]، ثم امتنّ بهذه النعمة الجليلة فقال: ((وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إذْ كُنتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إخْوَاناً)) [آل عمران: 103](1).
فلا أخوة بلا إيمان: ((إنَّمَا المُؤْمِنُونَ إخْوَةٌ)) [الحجرات: 10]، ولا صداقة بلا تقوى: ((الأَخِلاَّءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إلاَّ المُتَّقِينَ)) [الزخرف: 67]، وإذا انعدمت الصلة الروحية الإيمانية التقت الأجساد على المصالح الذاتية، والمنافع الشخصية.
وهذه الرابطة هي قوام المجتمع. وقد كانت الدعامة الثانية - بعد بناء المسجد - في تأسيس دولة الإسلام في المدينة بُعَيد هجرة النبي. ولقد كانت قصة المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار قصة من عالم الحقيقة، ولكنها في طبيعتها أقرب إلى الأحلام، وهي قصة وقعت في الأرض، ولكنها في طبيعتها من عالم الخلد والجنان.
وفي المقابل فإن انفكاك هذه الرابطة هو سبب الفشل والضياع، قال ـ تعالى ـ: ((وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ)) [الأنفال: 46]؛ لذا عمل الإسلام على توثيق عرى الأخوة ببيان فضائلها ومقاصدها وثمراتها ووسائل تعميقها، ووعد عليها أحسن الجزاء، واعتبرها وسيلة لكثير من المقاصد والغايات الشرعية العامة. وهذه النقاط هي محور الحديث. وحتى يكون الحديث مجدياً فلا بد أن يكون وسطاً بين المثالية المغرقة، وبين إقرار الواقع على علاته(2).
فضائل الأخوة:(2/38)
1- الأخوة أوثق عرى الإيمان، وتحقيقها عبادة من أعظم العبادات، بل هي من كمال الإيمان. قال: (من أحب لله، وأبغض لله، وأعطى لله، ومنع لله، فقد استكمل الإيمان)(3)، وبها تُتَذوق حلاوته، قال: (من سره أن يجد طعم الإيمان فليحب المرء، لا يحبه إلا لله ـ عز وجل ـ)(4) والموالاة على أساس الإيمان منهج أولياء الله ـ تعالى ـ، قال ـ عز وجل ـ: ((لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُوْلَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الإيمَانَ وَأَيَّدَهُم بِرُوحٍ مِّنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ)) [المجادلة: 22]. فهي طريق إلى ولاية الله ـ عز وجل ـ.
2- وبالأخوة تُستجلب محبة الله ـ تعالى ـ، كما في الحديث القدسي: (وجبت محبتي للمتحابين فيّ، والمتجالسين فيّ، والمتزاورين فيّ، والمتباذلين فيّ)(5).
3- والأخوة سبيل إلى ظل عرش الله ـ تعالى ـ، فمن السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله: (رجلان تحابا في الله اجتمعا عليه وتفرقا عليه)(6).
4- والأخوة سبب لعلو المكان في الآخرة، ودخول الجنة؛ فالمتحابون في الله على منابر من نور ـ يوم القيامة ـ يغبطهم الأنبياء والشهداء(7)، وجوههم نيّرة، وقلوبهم آمنة، لا خوف عليهم ولا هم يحزنون.
5- وهي عماد التعاون على البر والتقوى، وهو أمر لا يُتصور حصوله من الفرد؛ وذلك أن الأخوة قوة إيمانية تورث الشعور بالمحبة والثقة والارتباط، الذي ـ بدوره ـ يولد أصدق العواطف في اتخاذ مواقف إيجابية من التعاون والإيثار والرحمة والعفو والتكافل، وفي اتخاذ مواقف سلبية من الابتعاد عن كل ما يضر الناس في أنفسهم وأموالهم وأعراضهم(8).
6- أنها تعتبر سبباً لتحصيل أجور عبادات لا تحصل إلا بها، وهي ما كان من باب حقوق الأخوة وآدابها، ومن ذلك:(2/39)
أ - المصافحة: وهي من أسباب المغفرة، لحديث النبي: (ما من مسلمين يلتقيان فيتصافحان، إلا غفر الله لهما قبل أن يفترقا)(9).
ب - عيادة المريض: ففي الحديث: (من عاد مريضاً أو زار أخاً له في الله ناداه منادٍ: أن طبت وطاب ممشاك، وتبوأت من الجنة منزلاً)(10).
7- والأخوة ـ أيضاً ـ طريق للنجاة من وعيد الله ـ تعالى ـ الذي توعد به من آثر الدنيا على محبة الله؛ حيث قال: ((فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَاًتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي القَوْمَ الفَاسِقِينَ)) [التوبة: 24].
مقاصد الأخوة وثمراتها:
1- لا يخفى أن المقصود من الأخوة: التعاون على البر والتقوى، والتواصي بالصبر. ورعايةً لهذا المقصود النبيل؛ فإنه يلزم اختيار الأخ والصديق على هذا الأساس؛ بحيث يكون معيناً على طاعة الله ومرضاته، فإن أقل ما يستفيده الأخ من أخيه: الانكفاف بسببه عن المعاصي؛ رعايةً للصحبة، وتنافساً في الخير(11).
2- وهناك مقصود آخر لا يقل أهمية عن الأول وهو: الاستعانة على نوائب الدهر، وحاجات الزمان، وإنما يحتاج الإنسان (إخوان العُشرة لوقت العسرة)(12)، وقال القاسم بن محمد: (قد جعل الله في الصديق البار المقبل عوضاً من ذي الرحم العاق المدبر)(13). وانظر كيف سأل موسى ـ عليه السلام ـ ربه أن يجعل معه أخاه هارون وزيراً.
3- وحين نوسّع النظرة نرى الأخوة رباط المجتمع وعماده، وصمام أمانه، وسرّ قوته.
ويوم أن يكون المؤمنون جسداً واحداً فإنه يستحيل لقوة بشرية - كائنة ما كانت - اختراقهم، إلا حين يدب الداء من داخلهم. ويوم يتحقق الجسد الواحد نرى النتائج الطيبة التي حققها الرعيل الأول حين نشروا الإسلام في أرجاء المعمورة، وانبثقت عنهم حضارة الإسلام(14).
وبالجملة: فإن أقل ما تستفيده من الأخ: (أن يحفظك في حضرتك ومغيبك، وأن تنفعك محبته ودعاؤه في حياتك ومماتك، وأن يدافع عنك، وقد يعرّفك ويصلك بمن تستفيد منهم)(15) لدنياك وآخرتك.(2/40)
لأجل هذه الأمور ونحوها كان ابتعاد المسلم عن إخوانه وانقطاعه عنهم عقوبة من أعظم العقوبات، قال الشافعي: (ضياع العالم أن يكون بلا إخوان) (16). وهل كانت عقوبة الثلاثة الذين خُلّفُوا ـ رضي الله عنهم ـ إلا بقطع صلتهم عن إخوانهم وحجبهم عنهم؟ ولا عجب فإن المؤمن بلا إخوان كعضو بُتر من جسد؛ فإن النبي -صلى الله عليه وسلم- قد شبه المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضاً، وجعل مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى(17).
شرائط الأخوة وضوابطها:
إن من ينشد تلك الفضائل والمقاصد من علاقة يقيمها هو وفق هواه كمن ينشد الماء في السراب؛ فإن ذلك مكسب كبير لا يتأتى إلا من علاقة خاصة تتوجها الحلل الآتية:
1- كونها خالصة لوجه الله ـ تعالى ـ، مجردة من المقاصد المادية؛ ففي الحديث أن رجلاً زار أخاً له في قرية أخرى، فأرصد الله له على مدرجته ملكاً، فلما أتى عليه قال: أين تريد؟ قال: أريد أخاً لي في هذه القرية، قال: هل لك عليه من نعمة تربّها؟ قال: لا، غير أني أحببته في الله ـ عز وجل ـ. قال: فإني رسول الله إليك بأن الله قد أحبك كما أحببته فيه(18)، وإلى هذا المعنى تشير النصوص العامة في اشتراط الإخلاص في كل عمل، وبخاصة الواردة في المؤاخاة والمحبة.
2- اقترانها بالإيمان والتقوى: ((إنَّمَا المُؤْمِنُونَ إخْوَةٌ)) [الحجرات: 10]، وبيّن ـ عز وجل ـ تبدد العلاقات إلا ما كان عماده التقوى، فقال: ((الأَخِلاَّءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إلاَّ المُتَّقِينَ)).[الزخرف: 67]
3- التزامها منهج الإسلام وتعاليمه: وإليه يلمح قوله -صلى الله عليه وسلم- في نعت الأخوة الموصلة إلى ظل الله ـ تعالى ـ: (ورجلان تحابا في الله اجتمعا عليه وتفرقا عليه).(2/41)
4- قيامها على النصح: ولمكانة هذا الشرط استحق أن تؤخذ عليه العهود، قال جرير بن عبد الله البجلي: (بايعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على إقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، والنصح لكل مسلم)(19)، وإذا كان ذلك لعامة المسلمين فهو لخاصة الأصحاب أوْلى بالمراعاة.
5- التعاون على البر والتقوى: وهو الهدف الأول من عقد الأخوة، واختلاله يؤذن بزوالها وتحولها.
6- التكافل والتباذل والتضحية والتعاون على ضرورات المعيشة وحاجاتها، وهو أمر من الجلاء بحيث لا تخفى نصوصه الآمرة به، كحديث: (لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه)(20)، وحديث: (مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى)(21) ونحوها.
من تُصاحب؟
قديماً قيل: قلْ لي من تصاحب أقل لك من أنت. ومصداقه قول النبي: (الرجل على دين خليله فلينظر أحدكم من يخالل)(22). وعليه فاختيار الصديق مرحلة خطيرة تشبه مرحلة اختيار الزوجة من حيث أنها تشكل منعطفاً ـ في حياة المرء ـ له ما بعده.
أما خصال ذلك الصاحب المراد اختياره فتُجمَل في أمور:
1- سلامة دينه من البدعة والفسق وإيثار الدنيا؛ وذلك لأن من شروط الصحبة قيامها على الإيمان والتقوى.
2- حسن خلقه وطيب قوله.
3- دوام نصحه، وأمره بالمعروف، ونهيه عن المنكر.
4- استعداده لبذل المعروف وكف الأذى، وإيثاره على نفسه.
5- سلامة عقله، وحسن اختياره، وسداد رأيه؛ لشدة تأثيره على صاحبه في ذلك(23).
ومن ذلك جِدّه في حياته، وحسن استغلاله وقته، فإن من أعظم الضرر صحبة البطالين، وهم من ليسوا في شغل نافع من أمر دينهم أو دنياهم، وإن كان ظاهرهم الصلاح؛ فإن هؤلاء أكبر مضيع للحياة، ولقد كان للسلف تدابير وخطط في التعامل مع هؤلاء، وتوقي ضررهم...(2/42)
أما قول وهب بن منبه: (استكثرْ من الإخوان ما استطعت، فإن استغنيت عنهم لم يضروك، وإن احتجت إليهم نفعوك)(24) فينبغي حمله على من تصح مؤاخاته ممن توفرت فيه شرائط المؤاخاة المتقدمة.
ومن المقرر: أن الرجال أنواع وأصناف ودرجات، ولكل منهم منزلة ومكانة؛ فالواجب إنزال الناس منازلهم، وأن تمنح من وقتك وجهدك لكل منهم ما يليق به، ويتناسب مع مستواه، ولذا كان من أعسر الأمور، إدارة العلاقات الاجتماعية، لحاجتها إلى فهم النفسِيّات وحسن التعامل معها.
وسائل تعميق الأخوة:
لقد شرع الله ـ عز وجل ـ كثيراً من العبادات الجماعية التي تقوي الصلة بين المسلمين، كصلاة الجماعة والجمعة، وصلاة العيدين والحج، وشرع أيضاً عبادات أخرى تحقق التكافل والتعاون بينهم كالصوم والزكاة، وأوجب حقوقاً وواجبات متبادلة بين الأرحام والجيران، وتزداد إذا كان القريب أو الجار مسلماً صالحاً. كما شرع كثيراً من المعاملات التي تزيد روابط المجتمع وثوقاً كالقرض والحوالة، وحرّم أخرى كالبيع على البيع، والشراء على الشراء، والخِطبة على الخِطبة، والنجش والربا، وقرر أصولاً في التعامل: كالصدق والبيان لعيوب السلعة، والخيار، والوزن بالقسط(25).
وإن من أعظم ما يعمق الأخوة أمرين: القيام بحقوق الأخوة، والتزام آدابها. وبين هذين الأمرين تشابه واشتراك وتداخل، ولكن الحقوق أوجب وألزم من الآداب. والآداب هي مكان من باب الاستحباب، وقد يقوى بعضها فيصير واجباً لما يقترن به من القرائن.
أولاً: حقوق الأخوة:
وهي حقوق واجبة الوفاء، والتزامها بمنزلة التزام الصلاة والزكاة والصيام والحج، فهي واجبة ـ بنص الشارع ـ على المسلمين بعضهم لبعض، وتتأكد أكثر في حق من تربطك بهم علاقة أخرى، كالاجتماع على الخير والعلم والعبادة والدعوة، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.(2/43)
ومن تلك الحقوق: إفشاء السلام، ورده، وعيادة المريض، واتباع الجنائز، وتشميت العاطس، ونصر المظلوم، وإجابة الدعوة، وبذل النصيحة وقبولها(26).
ومن حقوق الأخوة: ما جاء في حديث أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ قال: قال رسول الله: (لا تحاسدوا، ولا تناجشوا، ولا تباغضوا، ولا تدابروا، ولا يبع بعضكم على بيع بعض، وكونوا عباد الله إخواناً. المسلم أخو المسلم: لا يظلمه، ولا يخذله، ولا يحقره، التقوى هاهنا ـ ويشير إلى صدره ثلاث مرات ـ بحسب امرئٍ من الشر أن يحقر أخاه المسلم، كل المسلم على المسلم حرام: دمه، وماله، وعرضه)(27).
وهذا الحديث مأخوذ من قول الله ـ تعالى ـ: ((إنَّمَا المُؤْمِنُونَ إخْوَةٌ)) [الحجرات: 10] فإذا كانوا إخواناً أُمروا بما يوجب الألفة، ونُهوا عما يوجب الفرقة، وهذا من ذلك. وهذا كقوله: (وكونوا عباد الله إخواناً)، فإن فيه الأمر باكتساب ما يصير به المسلمون إخواناً على الإطلاق، ويدخل فيه أداء الحقوق الواردة في الحديث، وغيرها(28).
ولعظم حق المسلم كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يخطب بالجملة الأخيرة من الحديث: (كل المسلم على المسلم حرام: دمه وماله وعرضه) في المجامع العظيمة: في عرفة، والنحر، واليوم الذي بعده. ورعاية لحرمة المسلم حرّم الشارع السرقة، والغيبة، والترويع، والمزاح بأخذ متاع المسلم، والتناجي دونه(29) وخلاصة هذه الحقوق كلها: ما ثبت في الحديث الصحيح: (لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه)(30).(2/44)
أما الأخوة الخاصة ـ وهي الصحبة في سبيل الله والعمل لدينه ـ فإن حقوقها أوجب وآكد، وتختص بحقوق أخرى كالسعي في قضاء الحاجات بالمال والنفس والجاه والوقت والتضحية بالراحة(31) فكما أن لها من المنزلة أعلاها، فكذلك لها من الحقوق الأخوية أكملها وأوجبها، من السؤال وتفقّد الأحوال، وسد الحاجات، والوفاء للأخوة والثبات عليها، وترك التكلّف حتى لا يُشْعِر الأخ أخاه أنه غريب فيُحوجه إلى الاعتذار عند كل هفوة(32).
ثانياً: آداب الأخوة:
وهي كثيرة يجمعها أدب المعاشرة بحسن الخلق؛ فإن الألفة التي هي حقيقة الأخوة إنما هي: (ثمرة حسن الخلق، والتفرّق ثمرة سوء الخلق؛ لأن حسن الخلق يوجب التحابب والتوافق، وسوء الخلق يثمر التباغض والتدابر)(33) قال: (وخالق الناس بِخُلق حسن)(34)، وقال: (من أحب أن يُزحزَح عن النار ويُدخَل الجنة فلتأته منيته وهو يؤمن بالله واليوم الآخر، وليأت إلى الناس الذي يحب أن يُؤتى إليه) وهذه قاعدة عظيمة جليلة، وأصل جامع، يبين حقيقة اجتماعية صاغها الحسن ـ رحمه الله ـ في قوله: (اصحب الناس بما شئت أن تصحبهم؛ فإنهم سيصحبونك بمثله)(35).
ومن آداب الأخوة:
1- إعطاء كل واحد من الإخوان حقه، على اختلاف منازلهم؛ بحيث لا يوغر صدور بعضهم على بعض.
2- الصفح عن العثرات، واحتمال الأخطاء؛ لأنها من طبيعة البشر، وستر العيوب وتحسينها، وملازمة الحياء منهم.
3- بشاشة الوجه ولطافة اللسان، وسعة القلب، وسلامة الصدر، وقبول النصيحة منهم، وأن يحب لهم ما يحب لنفسه.
4- إحسان الظن بهم، وحمل كلامهم على أحسن الوجوه، وقبول أعذارهم، ومعرفة نفسياتهم.
5- ملازمة الأخوة وعدم قطعها أو الملل منها؛ إلا بعد استنفاد الفرص الممكنة لالتماس العذر، كما فعل الخضر مع موسى ـ عليهما السلام ـ، والتواضع، وحفظ المودة القديمة، وحفظ الأسرار.
6- موافقة الصاحب لصاحبه في غير الأمور المحذورة؛ وذلك سبب عظيم لبقاء الصحبة وتأكدها، وعسكه بعكسه(36).(2/45)
7- إخبار الأخ لأخيه أنه يحبه، ففي الحديث: (إذا أحب الرجل أخاه فليخبره أنه يحبه)(37).
8- تَبَنّي مشاريع عامة لصالح المسلمين، أو المشاركة فيها، والتفاعل معها، من أبلغ الوسائل تعميقاً للأخوة.
ومن آداب الأخوة أيضاً: المشاورة، وقبول الرأي الصائب والإيثار، والدفاع عن أعراض الإخوان والذب عنهم، والانتصار لهم، والحرص على خدمتهم، ومشاركتهم في أفراحهم وأحزانهم، والوفاء لهم بعد مماتهم، والتودد إليهم بصنائع المعروف، وزيارتهم، ومواساتهم بالمال، والصبر على جفائهم وإكرامهم، وإكرام أهل الصاحب وأولاده.
ومنها: حسن الاستماع، والهدية، والدعاء بظهر الغيب، والانبساط ـ في اعتدال ـ والصبر واحتمال الأذى. قال أصحاب طب القلوب: (إذا قصّر الأخ في حق أخيه فالواجب الاحتمال والعفو والصفح، إلا إذا كان بحيث يؤدي استمراره إلى القطيعة؛ فالعتاب في السر خير من القطيعة، والتعريض به خير من التصريح، والمكاتبة خير من المشافهة، والاحتمال خير من الكَل)(38)، - وترك الجفاء ـ فالأخوة لا تزيد بالصلة ولا تنقص بالانقطاع ـ، ودوام المودة وتقارب القلوب، فـ (ليس كل غيبة جفوة، ولا كل لقاء مودة، وإنما هو تقارب القلوب)(39). ومنها: مراعاة النفسِيّات، وعدم المواجهة بالعتاب، وأن لا يكون الأخ ثقيلاً.
ومما يتأكد تركه واجتنابه: الحسد، وإخلاف الوعد، وما يؤذي، والمخالفة في أمور الدنيا، والغضب، والمنّ بالمعروف، وقبول الوشاية والنميمة، والهجر والتدابر والمقاطعة، والاحتجاب عن الإخوان لغير سبب، والملامة والعتاب، والتمادي في المماراة والجدال والخصام، والانتقام والتشفي، والمبالغة في المدح والإطراء.
آفات المؤاخاة ومفسداتها(40):
وهي أمر ينبغي أن لا يُغفل عنه. ولا يعني ذكر الآفات التقليل من قيمة الأخوة، وإنما المقصود صيانتها مما يمسّها. فمن تلك الآفات:
1- الإخلال بحقوق الأخوة وآدابها؛ مما يفصم عرى الأخوة، أو يضيع مقصودها.(2/46)
ومن صور الإخلال: ترك النصرة والنصيحة، وترك آداب الحديث والمحادثة، وضعف الاحترام، وكثرة النقد والجدال والمعارضة، والاعتداد بالرأي، وضيق العطن، والنصيحة في العلن، وتصديق النمّامين والحاسدين، وإذاعة السر، والتدخل في خصوصياته، أو عدم الاكتراث بمشاكله وظروفه، والحرص على إظهار الذات، وتحقيق الوجاهة من خلاله، وإخلاف المواعيد والاتفاقات دون عذر، وكثرة تحديث الأخ بما يغمه ويسوؤه.
2- طلب الكمال: لذا ينبغي أن يُعلم أن الأخوة: جهد بشري، وأن الدنيا لا تخلو من منغصات، بدليل أن الشرع أباح الهجر دون ثلاث، وإنما يطيب العيش في الجنة، ولا يخفى ما حصل بين خيرة الأمة.
3- الأثرة وحب النفس، وتقديم حاجاتها مطلقاً على ضرورات الأخوة وحاجاتهم، وهو مناقض لمقصد الأخوة أصلاً.
4- دخول رابطة من روابط الجاهلية؛ كرابطة الجنس أو النسب أو العشيرة أو الوطنية أو المصالح المشتركة، بحيث تؤثر على الرابطة الأساس التي قامت عليها الأخوة.
5- الإفراط في المعاتبة والنظر إلى السلبيات دون الإيجابيات، وترك الاعتذار أو التسامح. يروى عن رجاء بن حيوة أنّه قال: (من لم يؤاخِ إلا من لا عيب فيه قلّ صديقه، ومن لم يرضَ من صديقه إلا بالإخلاص دام سخطه، ومن عاتب إخوانه على كل ذنب كثر عدوه)(41).
6- تصيّد الأخطاء؛ فإن ذلك يوغر الصدر، وهو مناقض لمقصد النصيحة وحسن الظن، ثم إن (كل ابن آدم خطاء، فخير الخطائين التوابون)(42)، وأيضاً فإن كل متصيد لعيب غيره، غافل عن عيوب نفسه.
7- سوء الظن: وهو جالب للهم والغم، ومتضمن ظلم المظنون فيه، فكم ظُنّ في رجل سوءٌ، وعومل على أساسه سنوات دون علمه، ومن غير سؤاله والاستفسار منه، ثم تبين خلاف ذلك.(2/47)
8- كثرة المخالطة بحيث تُقصد لذاتها ولمجرد المؤانسة، فتصرف عن المقصود، وتضيع الوقت، وتؤثر في القلب. ومع كثرة المخالطة تكثر الزلاّت والعثرات، وتزول الكلفة، ويتولد من التزين والبطالة الضيق عن العفو فيكثر العقاب والتأنيب واللوم والمحاسبة، وحينئذٍ اقرأ على الأخوة السلام؛ لأن الأخوة النافعة هي التي تُذكّر بالآخرة، وتعين على البر والتقوى، فإن غاب هذا القصد، حل مكانه التزين والبطالة. كما ذكر ابن القيم - رحمه الله - في كتاب الفوائد(43).
9- ضعف الاحتكام إلى شرع الله، والإعراض عن الضوابط الشرعية التي تحكم علاقات الناس.
10- الطمع في الدنيا، وفيما في أيدي الناس؛. ففي الحديث: (ازهد في الدنيا يحبك الله، وازهد فيما في أيدي الناس يحبك الناس)(44). ومن تمام أخوة الصادقين أنهم ((وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ))[الحشر: 9]. ولذا قال: (لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه)(45).
11- التفريط في الطاعات، وعمل المخالفات. قال النبي: (ما تواد اثنان في الله فيفرق بينهما إلا بذنب يُحْدثهُ أحدهما)(46).
12- برود العاطفة، وضعف الحنين والشوق، فتفتقد الأخوة وقودها الذي يخفف عن النفس القيام بحقوقها؛ فإن المحبة الصادقة والعاطفة الجياشة تحمل الأخ على الدعاء لأخيه، والقيام بحقوقه، والإحساس بقيمته وخطورة فقده. وفي الحديث: (ما تحابّ رجلان في الله إلا كان أفضلهما أشدهما حباً لصاحبه)(47).
13- التحفظ والتكلف والإثقال على الصاحب، ومراقبته في قيامه بحقوق الأخوة نحوك، قال ابن تيمية: (العارف لا يرى له على أحد حقاً، ولا يشهد له على غيره فضلاً، ولذلك لا يعاقب ولا يطالب)(48).(2/48)
14- التفريط في إظهار المحبة أو ما يدل عليها وما يستجلبها ويزيدها، كإعلامه بالمحبة. قال: (إذا أحب أحدكم صاحبه فليأته في منزله، فليخبره أنه يحبه لله)(49)، وكالهدية والشكر والثناء بالدعاء أو غيره.
15- إهمال الدفاع عنه في غيبته؛ فإن ذلك ترك لحق النصرة، وخذلان للأخ، وإذا سمعت ذم أخيك فافترض أحد أمرين:
أ - أن الذي قيل فيه قيل فيك وهو حاضر، فتقول ما تحب أن يقوله.
ب - أن تقدر أنه حاضر وراء جدار يتسمع إليك، وليكن الحال حال حضوره مثله في غيبته(50).
16- التلهي عنه بغيره، وقلة الوفاء. وقد كان -صلى الله عليه وسلم- يحسن إلى صديقات خديجة ـ رضي الله عنها ـ، ويقول: (إن حسن العهد من الإيمان)(51).
17- الإفراط والغلو في المحبة، قال: (أحبب حبيبك هوناً ما، عسى أن يكون بغيضك يوماً ما، وأبغض بغيضك هوناً ما، عسى أن يكون حبيبك يوماً ما)(52).
الهوامش :
(1) انظر الملتقى التربوي، جاسم المسلم، 1 /41 .
(2) انظر: مشكلات الدعوة والداعية، فتحي يكن، ص 207208.
(3) رواه أبو داود، ح/4681، وصححه الألباني في صحيح الجامع، ح/5965.
(4) رواه أحمد في مسنده، 2/298، 520، وحسنه الألباني في صحيح الجامع، ح/5958. ونحوه الحديث الآخر المشهور: (ثلاث من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان...).
(5) المسند، 5/ 233.
(6) أخرجه البخاري، 1/160، في الأذان، باب من جلس ينتظر الصلاة وفضل المساجد.
(7) كما في المسند، 5/229.
(8) انظر: الأخوة الإسلامية، لعبد الله علوان، ص5.
(9) أخرجه أبو داود، ح/5212، وأحمد، 4/ 289. وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة، ح525.
(10) رواه الترمذي (ح/2008)، وحسنه الألباني في صحيح الجامع، ح/ 6387.
(11) انظر: الأخوة، لجاسم الياسين، ص 65 68.
(12) من مقولة للصعلوكي، في السير 17/208، وانظر: نزهة الفضلاء في تهذيب سير أعلام النبلاء، لمحمد بن حسن عقيل موسى، ص 1678، 1679.
(13) السير، 5/57.
((2/49)
14) انظر: الأخوة الإسلامية، ص66، وما بعدها.
(15) مجتبى الفوائد الدعوية والتربوية من مؤلفات السعدي، للوائلي، ص 100.
(16) السير، 10/42.
(17) كما ورد في الأحاديث، انظر: البخاري، 1/123، 7/77.
(18) رواه مسلم، ح 2567.
(19) البخاري، 1/20.
(20) مسلم، ح/45.
(21) البخاري، 7/77.
(22) الترمذي، ح/2378، وصححه الألباني في صحيح الجامع، ح/ 3545.
(23) انظر: مختصر منهاج القاصدين، ص 120.
(24) السير، 4/550.
(25) انظر: العلاقات الاجتماعية في القرآن، للجلالي، ص 127 - 173.
(26) وهي الواردة في حديث البراء الذي رواه البخاري، 7/124، ح/1239.
(27) رواه مسلم، ح/2564.
(28) انظر: جامع العلوم والحكم، لابن رجب، 2/271 - 273.
(29) انظر: جامع العلوم والحكم، 2/271 - 273.
(30) رواه البخاري، 1/9.
(31) انظر: السلوك الاجتماعي، حسن أيوب، ص 485.
(32) انظر: خواطر في الدعوة، 1/6.
(33) مختصر منهاج القاصدين، ص 116.
(34) رواه أحمد، 5/153، وحسنه الألباني في صحيح الجامع، ح/ 97.
(35) السير، 4/584.
(36) انظر: مجتبى الفوائد، للسعدي، جمع: الوائلي، ص 100 110.
(37) رواه أبو داود ح/5124، وانظر صحيح الجامع، ح/ 279، 280، 281.
(38) خواطر في الدعوة، 1/59.
(39) من قول إبراهيم الحربي، ذكره في السير، 13/358.
(40) مأخوذة: عن محاضرة مسجلة لمحمد الدويش، بعنوان آفات الأخوة، وكتاب مفسدات الأخوة، هشام آل عقدة.
(41) السير، 4/558.
(42) رواه أحمد 3/198، وحسنه الألباني في صحيح الجامع، ح/ 4515.
(43) انظر ص: 93.
(44) رواه ابن ماجه، ح/ 4102، وصححه الألباني في صحيح الجامع، ح/922.
(45) رواه البخاري، ح/7، ومسلم، ح/45.
(46) رواه البخاري في الأدب المفرد، ح/ 401، وصححه الألباني في صحيح الجامع، ح/5603.
(47) رواه البخاري في الأدب المفرد، ح/544، وصححه الألباني في صحيح الجامع، ح/5594.
(48) انظر: مدارج السالكين، 1/561.
((2/50)
49) رواه أحمد، 5/145، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة، ح/797.
(50) انظر: مختصر منهاج القاصدين، ص: 102.
(51) المستدرك، 1/16، وحسنه الألباني في صحيح الجامع، ح/ 2056.
(52) رواه الترمذي، ح/ 1997، وصححه الألباني في صحيح الجامع ح/178.
--------------------------------------------------------------------------------
مجلة البيان، العدد (88)، ذو الحجة 1415،مايو 1995 .
* * *
http://www.albayan-magazine.com/zwaya/trbwi/40.htm
الثواب والعقاب في التربية
د. عمر النمري
تلتقي نظريات علم النفس الحديث مع الإسلام في أن العقوبة أمر مشروع لمن لم تُفد معه الأساليب التربوية الأخرى كالمدح والثناء في وضع حد للسلوك الخاطئ وإطفائه؛ ذلك أن بعض الناس لا يرتدعون إلا بالعقوبة؛ وقد جاء في الأثر: (إن الله ليزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن).
والإسلام يُجيز العقوبة ويشرّع لها؛ ولذلك وضع عقوبات وحدوداً معينة لبعض الجرائم الأخلاقية: فجريمة القتل حدها القتل، وجريمة السرقة حدها قطع اليد، وجريمة شرب الخمر حدها الجلد، وكذلك جريمة الزنا لغير المحصن حدها الجلد أيضاً.
وهكذا نجد في القرآن الكريم تفاصيل هذه الحدود بما لا يدع مجالاً للشك؛ قال ـ تعالى ـ في حد القتل: ((وَلَكُمْ فِي القِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُوْلِي الأََلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ)) [البقرة: 179]. فجعل حياة المجتمع وقفاً على موت بعض أفراده السيئين قطعاً لجذور الفساد وردعاً لمن تسول له نفسه القيام بذلك جزاء وفاقاً.
وقال في حد السرقة: ((وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مِّنَ اللَّهِ واللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ)) [المائدة: 38].(2/51)
وقال في حد الزنا: ((الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلا تَاًخُذْكُم بِهِمَا رَاًفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِّنَ المُؤْمِنِينَ)) [النور: 2].
وقال ـ تعالى ـ في جواز ضرب الرجل زوجته ضرباً غير مبرح: ((وَاللاَّتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي المَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإنْ أَطَعْنَكُمْ فَلا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً إنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِياً كَبِيراً)) [النساء: 34].
وفي تأديب الصبي وجواز ضربه على إهمال الصلاة إذا بلغ عشراً، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (مروا أولادكم بالصلاة وهم أبناء سبع سنين، واضربوهم عليها وهم أبناء عشر سنين، وفرقوا بينهم في المضاجع)(1).
وهكذا يتبين لنا من هذه الأدلة أن الإسلام يجيز مبدأ العقاب ويشرع له، ولذلك لا نجد من التربويين المسلمين الأوائل من أنكر مبدأ العقاب في التربية؛ ولكنهم أحاطوه بسياج من الشروط والقيود، وجعلوه تالياً للمدح، وقدموا عليه الرفق؛ عملاً بقول الرسول الكريم -صلى الله عليه وسلم-: (إن الرفق لا يكون في شيء إلا زانه، ولا ينزع من شيء إلا شانه)(2).
وعن عائشة أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: (يا عائشة! إن الله رفيق يحب الرفق، ويعطي على الرفق ما لا يعطي على العنف، وما لا يعطي على ما سواه)(3).
ونجد من بين التربويين الأوائل الذين تكلموا في هذا الموضوع: الإمام الفقيه محمد بن سحنون (ت 256هـ)، وأبا الحسن القابسي (ت 324 هـ)، وابن الجزار القيرواني الطبيب (ت 369هـ)، والغزالي (ت 505 هـ)، وبرهان الدين الزرنوجي (ت 640 هـ)، وابن جماعة الكناني (ت 733هـ) وابن خلدون (ت 808 هـ) وغيرهم.(2/52)
قال ابن سحنون: (ولا بأس أن يضربهم ـ يعني المؤدب أو المعلم ـ على منافعهم، ولا يتجاوز بالأدب ثلاثاً إلا أن يأذن الأب في أكثر من ذلك إذا آذى أحداً، ويؤدبهم على اللعب والبطالة، ولا يجاوز بالأدب عشراً، وأما على القرآن فلا يجاوز أدبه ثلاثاً)(4).
ويعلل ابن سحنون ذلك بقوله: (لأن عشرة غاية الأدب؛ وكذلك سمعت مالكاً يقول: وقد قال -صلى الله عليه وسلم-: (لا يضرب أحدكم أكثر من عشرة أسواط إلا في حد).
وقد جاء في وصية ابن سحنون لمعلم ولده: (لا تؤدبه إلا بالمدح ولطيف الكلام، وليس هو ممن يؤدّب بالضرب والتعنيف)(5).
ويلتقي أبو الحسن القابسي مع ابن سحنون في ضرورة الرفق بالصبيان وعدم تجاوز الثلاثة في التأديب، وإنما يلجأ إلى الضرب فقط عندما لا ينفع العذل والتقريع بالكلام الذي فيه التوعد من غير شتم ولا سب لعِرْض، يقول أبو الحسن القابسي: (وإذا استأهل الضرب فاعلم أن الضرب من واحدة إلى ثلاث، فليستعمل اجتهاده لئلا يزيد رتبة فوق استئهالها، وهذا هو أدبه إذا فرّط فتثاقل عن الإقبال على المعلم، فتباطأ في حفظه، أو أكثر الخطأ في حزبه، أو في كتابة لوحه.(2/53)
ولئن سمح القابسي للمعلم بمعاقبة التلاميذ بهذا القدر من الضرب إلا أنه علّق ذلك على مدى استئهال التلميذ لذلك، وقيّده بثلاثة، واشترط في تجاوز الثلاثة إلى العشرة مشورة أبي الصبي أو ولي أمره ومدى احتمال الصبي للضرب فوق الثلاثة إذا استأهل ذلك، وألا يتعدى أثر الضرب الألم إلى التأثير المشنع أو الوهن المُضِر. وعلى الجملة: فالمعلم عنده عوض عن الأب بالنسبة للصبيان (فهو المأخوذ بأدبهم، والناظر في زجرهم عما لا يَصْلح لهم، والقائم بإكرامهم على مثل منافعهم؛ فهو يسوسهم في كل ذلك بما ينفعهم، ولا يخرجهم ذلك من حسن رِفْقه بهم، ولا من رحمته إياهم؛ فإنما هو لهم عوض من آبائهم)(6) ويعلل القابسي ذلك بقول الرسول -صلى الله عليه وسلم-: (اللهم من ولي من أمر أمتي شيئاً فرفق بهم فارفق به)(7)، وقوله -صلى الله عليه وسلم-: (إن الله يحب الرفق في الأمر كله)(8).
وقد تحدث ابن الجزار القيرواني الطبيب عن الفرق بين الصبيان في مدى قبولهم للأدب؛ إذ منهم من يتقبل الأدب قبولاً سهلاً، ومنهم من لا يقبل ذلك، ومنهم من إذا مُدِحَ تعلم علماً كثيراً، ومنهم من يتعلم إذا عاقبه المعلم ووبخه، ومنهم من لا يتعلم إلا إذا استعملت معه أساليب أشد تعنيفاً كالضرب مثلاً. ولذلك قرر ابن الجزار مراعاة هذه الفروق الفردية، واتباع الأسلوب المناسب لتأديب كل صبي بما يناسبه من الأساليب؛ حيث قال: (فأما إذا كان الصبي طبيعته جيدة، أعني: أن يكون مطبوعاً على الحياء وحب الكرامة والألفة محباً للصدق؛ فإن تأديبه يكون سهلاً، وذلك أن المدح والذم يبلغان منه عند الإحسان أو الإساءة ما لا تبلغه العقوبة من غيره، فإن كان الصبي قليل الحياء، مستخفاً للكرامة، قليل الألفة، محباً للكذب، عسراً تأديباً، ولا بد لمن كان كذلك من إرهاب وتخويف عند الإساءة، ثم يحقق ذلك بالضرب إذا لم ينجح التخويف(9).(2/54)
وقد بين الغزالي أن الطريق في رياضة الصبيان وتأديبهم ينبغي أن يؤسس على الرفق واللين، والثواب والمدح لا العقاب والشدة والتعنيف؛ حيث قال: (ثم مهما ظهر من الصبي من خلق جميل وفعل محمود فينبغي أن يكرم عليه، ويجازى عليه بما يفرح به ويمدح بين أظهر الناس، فإن خالف ذلك في بعض الأحوال مرة واحدة؛ فينبغي أن يتغافل عنه، ولا يهتك ستره، ولا يكاشفه، ولا يظهر له أنه يتصور أن يتجاسر أحد على مثله، ولا سيما إذا ستره الصبي واجتهد في إخفائه؛ فإن إظهار ذلك عليه ربما يفيده جسارة حتى لا يبالي بالمكاشفة، فعند ذلك إن عاد ثانية فينبغي أن يعاقب سراً ويعظم الأمر فيه، ويقال له: إياك أن تعود بعد ذلك لمثل هذا، وأن يُطّلع عليك في مثل هذا فتُفضح بين الناس. ولا تكثر القول عليه بالعتاب في كل حين فإنه يهون عليه سماع الملامة، وركوب القبائح، ويسقط وقع الكلام من قلبه)(10).
أما العلاّمة ابن خلدون فقد عقد في مقدمته فصلاً في أن الشدة على المتعلمين مُضرّة بهم، أشار فيه إلى الأضرار الخطيرة التي تعود على الفرد في مرحلة الرشد، وعلى المجتمع بأسره نتيجة الشدة والتعنيف في تأديب الولدان في الصّغر، وما ينجرّ عنها من فساد وسوء خلق وتعوّد على الكذب والخبث والكيد والمكر والخديعة؛ لأن الراشد قد تعوّد في صغره التظاهر بغير ما في ضميره خوفاً من انبساط الأيدي بالقهر عليه، فصار ذلك له خلقاً وعادة لم يستطع منها فكاكاً في الكبر.(2/55)
يقول ابن خلدون: (ومن كان مَرْباه بالعسف والقهر من المتعلمين أو المماليك أو الخدم سطا به القهر، وضيّق على النّفْسِ في انبساطها، وذهب بنشاطها، ودعاه ذلك إلى الكسل،وحمله على الكذب والخبث وهو التظاهر بغير ما في ضميره خوفاً من انبساط الأيدي بالقهر عليه، وعلمه المكر والخديعة لذلك، وصارت له هذه عادة وخلقاً، وفسدت معاني الإنسانية التي له من حيث الاجتماع والتمدّن، وهي الحمية والمدافعة عن نفسه ومنزله، وصار عيالاً على غيره في ذلك، بل وكسلت النفس عن اكتساب الفضائل والخلق الجميل؛ فانقبضت عن غايتها ومدى إنسانيتها، فارتكس وعاد في أسفل السافلين)(11).(2/56)
ولم يكتف ابن خلدون بهذه الإشارة الجميلة للآثار المترتبة على العنف في التربية؛ بل ضرب لنا مثلاً واقعياً باليهود وما اتصفوا به من خبث ومكر وكيد؛ ومردّ ذلك حسب تحليله يعود إلى ما لقوه من قهر وعسف نتيجة تيههم وتفرقهم في الأمصار. يقول ابن خلدون: (وانظره في اليهود وما حصل بذلك فيهم من خلق السوء، حتى إنهم يوصفون في كل أفق وعصر بالحرج؛ ومعناه في الاصطلاح المشهور: التخابث والكيد؛ وسببه ما قلناه. (أي: العسف والقهر في التأديب)(12). ولذلك دعا ابن خلدون إلى الرفق بالمتعلم واجتناب الشدة في تأديبه وتهذيبه، واستحسن وصية الرشيد لمعلم ولده محمد الأمين، واعتبرها من أحسن مذاهب التعليم، ومما جاء فيها: (يا أحمر! إن أمير المؤمنين قد دفع إليك مهجة نفسه، وثمرة قلبه، فصيّر يدك عليه مبسوطة، وطاعته لك واجبة، فكن له بحيث وضعك أمير المؤمنين: أقرئه القرآن، وعرّفه الأخبار، وروّه الأشعار، وعلّمه السنن، وبصّره بمواقع الكلام وبدئه، وامنعه من الضحك إلا في أوقاته، وخذه بتعظيم مشايخ بني هاشم إذا دخلوا عليه، ورفع مجالس القواد إذا حضروا مجلسه، ولا تمرّنّ بك ساعة إلا وأنت مغتنم فائدة تفيدها إياه، من غير أن تحزنه فتميت ذهنه، ولا تمعن في مسامحته فيستحلي الفراغ ويألفه، وقوّمه ما استطعت بالقرب والملاينة؛ فإنْ أباهما فعليك بالشدة والغلظة)(13).
وأجمل منها وصية مسلمة بن عبد الملك إلى مؤدب ولده؛ حيث قال: (إني قد وصَلْتُ جناحك بعضدي، ورضيتُ بك قريناً لولدي؛ فأحسن سياستهم تدم لك استقامتهم، وأسْهِلْ بهم في التأديب عن مذاهب العنف، وعلّمهم معروف الكلام، وجنّبهم مثاقبة اللئام، وانههم أن يُعرَفوا بما لم يَعْرِفوا، وكن لهم سائساً شفيقاً، ومؤدباً رفيقاً تكسبك الشفقة منهم المحبة، والرفق حسن القبول ومحمود المغبة، ويمنحك ما أرى من أثرك عليهم، وحسن تأديبك لهم مِني جميل الرأي، وفاضل الإحسان ولطيف العناية)(14).(2/57)
ومما سبق يتضح أن المربين المسلمين الأوائل وإن أقرّوا بدور العقاب في التربية إلا أنهم جعلوه من باب: (آخر العلاج الكي) بحيث لا يلجأ إليه المربي إلا عند الضرورة القصوى، وضمن حدود معينة، وشروط محددة؛ فهم قد فاضلوا بين الأساليب التربوية على النحو الآتي:
1- المدح والثناء والترغيب:
اعتبر التربويون المسلمون الأوائل الثواب والمدح والثناء الأسلوب الأمثل، والحافز الأقوى للتعلم، ولذلك طالبوا المعلم بالمبادرة به قبل غيره، وأن لا يلجأ إلى غيره إلا لحاجة ملحّة قد تفرضها طبيعة الصبي كأن يكون الصبي قليل الحياء مستخفّاً بالكرامة، قليل الألفة محباً للكذب. وفي ذلك يقول أبو الحسن القابسي: (وإذا هو أحسن يغبطه بإحسانه من غير انبساط إليه ولا منافرة له ليعرف وجه الحسن من القبيح فيتدرج على اختيار الحسن)(15).
وفي ذلك أيضاً يقول الغزالي: (ثم مهما ظهر من الصبي خلق جميل، وفعل محمود فينبغي أن يكرم عليه ويجازى عليه بما يفرح به ويمدح بين أظهر الناس)(16).
وقد مر معنا وصية ابن سحنون لمؤدب ولده: (ولا تؤدبه إلا بالمدح ولطيف الكلام)(17).
كذلك أوصى ابن جماعة المعلم بشكر التلميذ إذا أصاب الجواب ومدحه والثناء عليه، فقال: (فمن رآه مصيباً في الجواب، ولم يخف عليه شدة الإعجاب شكره وأثنى عليه بين أصحابه ليبعثه وإياهم على الاجتهاد في طلب الازدياد)(18). وقد كان المربون الأوائل يتحينون الفرص لتشجيع الأولاد وحثهم على المنافسة النزيهة في العلم وتحصيله. قال ابن سحنون في حث المعلم على ذلك: (وينبغي أن يجعل لهم وقتاً يعلمهم فيه الكتاب ويجعلهم يتجاوزون؛ لأن ذلك مما يصلحهم ويخرجهم، ويبيح لهم أدب بعضهم بعضاً)(19).(2/58)
وكانوا إذا حذق الصبي القرآن ـ أي أصبح ماهراً فيه ـ جمعوا له الناس وعملوا له وليمة لتشجيعه ومدحه بين الناس بما يدفعه إلى الاستزادة من العلم وتحصيله؛ خصوصاً إذا علمنا أن أول ما يتعلمه الصبي في الكتّاب القرآن الكريم، فهو بختمه القرآن الكريم وحذقه لا يزال في بداية الطريق. جاء في: (كتاب العيال) للحافظ ابن أبي الدنيا: (حدثني بشر بن معاذ العبدي، حدثنا أبو عمارة الرازي، حدثنا يونس، قال: حذق ابنٌ لعبد الله بن الحسن بن أبي الحسن، فقال الحسن: إن فلاناً قد حذق.
فقال الحسن: كان الغلام إذا حذق قبل اليوم نحروا جزوراً وصنعوا طعاماً للناس)(20).
وبهذا يكون المربون الأوائل قد سبقوا بأشواط كثيرة علماء النفس المحدثين في تقرير أهمية المدح والثناء في التربية. ويشار إلى أسلوب التشجيع والثواب في علم النفس بمصطلح (التعزيز). ومعناه المكافأة ويعتبر التعزيز، سواء كان معنوياً كالمدح والثناء، أو مادياً، من أهم الأساليب الحديثة في تعديل السلوك وتهذيبه. وهكذا يتضح أن التربويين المسلمين قد لامسوا الموضوع عن قرب ولكن دون الدخول في تفصيلات كبيرة كما هو الشأن بالنسبة لعصرنا الحالي الذي تشعبت فيه التخصصات.
2- الإيحاش والإعراض والتّرْك:(2/59)
ويعتبر الإيحاش والإعراض والترك أقل درجات العقوبة المعنوية؛ فالمعلم قد يلحظ على الصبي ملحظاً أو يرى منه تصرفاً غير لائق؛ ولكنه يُعرض عنه ويتغافل عنه ولا يعنفه أو يشتد عليه في العقوبة؛ ربما لأن الصبي قام بهذا السلوك مرة واحدة فيعفو عنه، أو لأنه كان يتوقع أن ما قام به يعتبر لائقاً وينتظر عليه مكافأة من المعلم ولو في صورة مدح أو بشاشة وجه أو اهتمام به، فيعرض المعلم عنه ويبدي له نوعاً من الإيحاش وعدم البشاشة. وقد أشار الغزالي إلى هذا الأسلوب بقوله: (فإن خالف ذلك (أي: أتى فعلاً غير محمود أو تخلق بخلق غير جميل) في بعض الأحوال مرة واحدة فينبغي أن يتغافل عنه ولا يهتك ستره ولا يكاشفه ولا يظهر له أنه يتصور أن يتجاسر أحد على مثله، ولا سيما إذا ستره الصبي واجتهد في إخفائه)(21).
ويشار إلى هذا الأسلوب في نظريات التعلم بمصطلح: (الانطفاء).
ومعناه أن الصبي إذا قام بسلوك غير لائق وتجاهله المعلم وأعرض عنه ولم يُبْدِ نوعاً من الإيناس وبشاشة الوجه للصبي؛ فإن الصبي يبدي رغبة أقل في تكراره ويتركه؛ فينطفئ. وقد قدم لنا كل من (مارتن وبير) في كتابهما: (تعديل السلوك) عدة شروط يجب مراعاتها لكي يكون استخدامنا للانطفاء أكثر فعالية في تعديل السلوك، يمكن الرجوع إليها في مظانها لمن رام المزيد.
3- الذم والتوبيخ والترهيب:
إذا لم ينفع مع الصبي أسلوب الإيحاش والإعراض والترك يلجأ المعلم إلى أسلوب أشد في العقوبة المعنوية وهو أسلوب الذم والتوبيخ والترهيب والوعيد الشديد دون إيقاع الضرب ودون التبذل في العذل والتقريع في الكلام أو اللجوء إلى الشتم والسب. وقد جعل أبو الحسن القابسي هذا الأسلوب في العقوبة أعلى درجات العقوبة المعنوية، ويليه مباشرة إيقاع العقوبة البدنية بالصبي إذا استأهل ذلك.(2/60)
كذلك أشار الغزالي إلى أن الصبي إذا نُهي عن التخلق بسيئ الأخلاق فلم ينته، ولم ينفع معه أسلوب الإيحاش والإعراض والترك فينبغي أن يعاقب سراً ويعظم الأمر فيه؛ فيقال له: إياك أن تعود بعد ذلك لمثل هذا وأن يُطّلع عليك في مثل هذا فتُفتضح بين الناس(22). فإن لم ينته الصبي عن ذلك يُلجأ إلى العقاب الجهري والتغليظ في القول لينزجر السامع ومن معه ويتأدبوا بذلك؛ فإن لم ينفع معه ذلك يُلجأ إلى العقوبة البدنية على النحو الذي سيأتي ذكره.
4- العقوبة البدنية:
إذا لم تفلح أساليب العقوبة المعنوية من إيحاشٍ وإعراضٍ وذمٍ وتوبيخٍ وتخويفٍ يَلجأ المعلم إلى العقوبة البدنية؛ حيث أجاز الإسلام العقوبة البدنية وشرع لها كما أسلفت، كما أجاز المربون المسلمون استعمال الضرب لتأديب الصبيان؛ ولكنهم جعلوه آخر أسلوب في التربية، وأحاطوه بسياج من القيود والشروط. وفيما يلي الشروط التي وضعها أبو الحسن القابسي للعقوبة البدنية(23):
1- ألاّ يستعمل المعلم الضرب إلا لذنب.
2- أن يوقع المعلم الضرب بقدر الاستئهال الواجب في الجُرْم (وإذا استأهل الضرب فاعلم أن الضرب من واحدة إلى ثلاث،فليستعمل اجتهاده لئلا يزيد في رتبة فوق استئهالها)(24).
3- أن يكون الضرب من واحدة إلى ثلاث، ويستأذن القائم بأمر الصبي في الزيادة إلى عشر ضربات. فإن اكتسب الصبي جرماً من أذى ولعب، وهروب من الكتّاب، وإدمان البطالة فينبغي للمعلم أن يستشير أباه، أو وصيه إن كان يتيماً، ويُعْلمه إذا كان يستأهل من الأدب فوق الثلاث، فتكون الزيادة على ما يوجبه التقصير في التعلم عن إذن من القائم بأمر هذا الصبي، ثم يزاد على الثلاث ما بينه وبين العشر(25).(2/61)
4- أن يزاد على عشر ضربات إذا كان الصبي يطيق ذلك أو كان سيئ التربية غليظ الخلق. (وربما كان من صبيان المعلم من يناهز الاحتلام ويكون سيئ الرعية، غليظ الخلق، لا يروعه وقوع عشر ضربات عليه ويرى للزيادة عليه مكاناً، وفيه محتمل مأمون، فلا بأس ـ إن شاء الله ـ من الزيادة على العشر ضربات)(26).
5- أن يقوم المعلم بضرب الصبيان بنفسه: (ولْيتولّ أدبهم بنفسه؛ فقد أحب سحنون ألا يُولي أحداً من الصبيان الضرب)(27).
6- أن يوقع المعلم الضرب على الرّجْلين دون الوجه والرأس: (وليتجنب أن يضرب رأس الصبي أو وجهه؛ فإن سحنون قال فيه: لا يجوز له أن يضربه، وضرر الضرب فيهما بيّن، قد يوهن الدماغ، أو تطرف العين أو يؤثر أثراً قبيحاً، فلْيُجتنبا؛ فالضرب على الرّجْلين آمن وأحمل للألم في سلامة)(28).
7- أن يكون الضرب بحيث لا يتعدى الألم إلى التأثير المشنع أو الوهن المضر: (وصِفَة الضرب: هو ما يؤلم ولا يتعدى الألم إلى التأثير المشنع، أو الوهن المضر)(29).
8- أن تكون الدّرّة التي يضرب بها المعلم الصبيّ رطبة مأمونة لئلا تؤثر أثراً سيئاً.
9- ألاّ يكون الضرب انتقاماً من الصبي وإنما يكون لعلاجه وتأديبه: (ينبغي لمعلم الأطفال أن يراعي منهم حتى يخلص أدبهم لمنافعهم، وليس لمعلمهم في ذلك شفاء من غضبه، ولا شيء يريح قلبه من غيظه؛ فإن ذلك إن أصابه فإنما ضَرَبَ أولاد المسلمين لراحة نفسه، وهذا ليس من العدل)(30).
ومن استعراض هذه الأساليب ومفاضلة التربويين المسلمين بينها يتبين لنا مدى حرصهم على الرفق بالصبيان عند تعليمهم وتأديبهم ومدى تضييقهم على مسلك العقاب في التربية.(2/62)
ونجد في الدراسات النفسية الحديثة دعوة ملحة لاجتناب استخدام العقاب في التعليم، وإشارات عديدة لكون العقاب يعد أقل الأساليب التربوية فعالية في التعليم، ومع ذلك فإنِ احتاج المعلم إليه فعليه أن ينبه الصبيّ إلى مواضع الخطأ قبل إيقاع العقاب عليه، وأن يبين له السلوك البديل فيما أخطأ فيه، وإذا أوقع عليه العقاب فليكن القصد منه مصلحة الصبي دون التهجم على شخصه.
--------------------------------------------------------------------------------
الهوامش:
(1) سنن أبي داود، كتاب الصلاة، باب متى يؤمر الصبي بالصلاة، حديث رقم 494.
(2) صحيح مسلم، كتاب البر والصلة والآداب، باب فضل الرفق، حديث 6549.
(3) صحيح مسلم، كتاب البر والصلة والآداب، باب فضل الرفق، حديث 6548.
(4) محمد بن سحنون، آداب المعلمين، ملحقة في كتاب التربية في الإسلام، أحمد فؤاد الأهواني، دار المعارف دت، 354.
(5) المرجع السابق، ص 148.
(6) القابسي، 1986، 128.
(7) ورد هذا الحديث في مسند الإمام أحمد بالصيغة الآتية: حدثنا عبد الله، حدثني أبي، حدثنا وكيع قال: حدثنا جعفر بن برقان، عن عبد الله البهي، عن عائشة قالت: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (اللهم من رفق بأمتي فارفق به، ومن شق عليهم فشق عليه) مسند أحمد، حديث السيدة عائشة ـ رضي الله عنها ـ، حديث 23876.
(8) صحيح البخاري، كتاب الأدب، باب الرفق في الأمر كله، حديث 5802.
(9) ابن الجزار، 1404 هـ، 116.
(10) الغزالي، ج3، ص 73.
(11) ابن خلدون، 1979م، ج3، 1253 ـ 1254.
(12) المرجع نفسه، 1979م، ج3، 1252.
(13) ابن خلدون، 1979م، ج3، 1254.
(14) ابن أبي الدنيا، 1410 هـ، ج1، ص 518.
(15) القابسي، 1986م، ص 133.
(16) الغزالي، د ت، ج3، ص 73.
(17) الأهواني، 1984م، ص 148.
(18) ابن جماعة، ص 54.
(19) ابن سحنون، 1984م، ص 357.
(20) ابن أبى الدنيا، 1410هـ، ج1، ص 489.
(21) الغزالي، ج 3، ص 73.
((2/63)
22) الغزالي، ج 3، ص 73.
(23) انظر الأهواني، 1984م، ص 152 ـ 153.
(24) المرجع نفسه، ص 309.
(25) المرجع نفسه، ص 310.
(26) المرجع نفسه، ص 310.
(27) انظر الأهواني، 1984م، ص 310.
(28 المرجع نفسه، ص 310 ـ 311.
(29-30) المرجع نفسه، ص 310.
--------------------------------------------------------------------------------
مجلة البيان، العدد (137)، محرم 1420،يونيو 1999 .
* * *
http://www.albayan-magazine.com/zwaya/trbwi/41.htm
المفاهيم التربوية في القيادة عند ابن حزم الأندلسي
جمال الحوشبي
يُصنّف الإمام أبو محمد: علي بن أحمد بن حزم الأندلسي (384 ـ 456هـ) ضمن رواد المدرسة الظاهرية، بل هو المتحدث الرسمي بلسانها. وبعيداً عن الخوض في المذهب الظاهري سلباً وإيجاباً، فإن أبا محمد ـ رحمه الله ـ يعد من أبرز أعلام التربية الإسلامية.. وله في هذا الشأن الكثير من روائع الاستدلالات والاستنباطات التربوية التي تشكل بمجموعها ثروة تربوية هائلة تستحق أن تفرد في رسائل تربوية مقننة على أيدي الأكفاء من علماء التربية الإسلامية في هذا العصر، ولقد استعنت عن عمد بآراء هذا الإمام التربوية وملامحه القيادية، غير متجاهل بعض آرائه التي نازع فيها أهل العلم وشذ عن أقوالهم في تقريرها؛ ذلك أن هذه الملامح التربوية ـ بعيداً عن الخوض في تلك المسائل المتنازع فيها ـ تعد ثروة تربوية وكنزاً ثميناً تفخر به تربيتنا الإسلامية ضمن ذخائرها الكثيرة.(2/64)
وما أحسن كلام الذهبي ـ رحمه الله ـ الذي لا يقل ميزانه في نقد الرجال عن نفيس نقده وسبكه ـ حين عرض لتلك الآراء الاجتهادية ـ التي انفرد فيها ابن حزم ـ رحمه الله ـ فأنصفه وبالغ في تعظيمه بقوله: (ولي أنا ميل إلى أبي محمد لمحبته في الحديث الصحيح، ومعرفته به، وإن كنت لا أوافقه في كثير مما يقوله في الرجال والعلل، والمسائل البشعة في الأصول والفروع، وأقطع بخطئه في غير ما مسألة، ولكن لا أكفّره ولا أضلّله، وأرجو له وللمسلمين العفو والمسامحة، وأخضع لفرط ذكائه وسعة علومه)(1).
وهي عبارة دقيقة، وإنصاف عادل، وأصل نفيس نفتقده اليوم في خضم الأهواء والأفكار البشعة في النقد والحكم على الآخرين، وبها تستقيم التربية ويعرف الحق من الباطل.
لقد تميز الفكر التربوي لدى الإمام ابن حزم ـ رحمه الله ـ بالأصالة والابتكار، واتسم ـ إلى حد كبير ـ بالاستقلالية ورفض التقليد أو المحاكاة، فجاءت آراؤه التربوية ذات أسس وقواعد، لها تجاربها وعبرها الذاتية، كما أن لها رحلاتها وشواهدها القاسية التي خاضها بنفسه، وربما سطّر بعضها في أخريات حياته!
ومما تتميز به لمحات ابن حزم التربوية وتوجيهاته القيادية النظرة الشمولية لطبيعة الحلول (العملية) المقترحة التي يقدمها للقادة والمربين، ولا يدرك قيمة هذه المهارة التربوية التي تُعنى بالجانب التكاملي في العلاج إلا من كان له سابق اطلاع على (النظريات) التربوية الغربية في علاج المسائل التربوية ذاتها التي تطرق لها ابن حزم ـ أو غيره من علماء التربية الإسلامية ـ قديماً. وأكتفي بضرب مثال واحد للتوضيح.(2/65)
لعل أبرز العقبات التي تواجه المربين والمصلحين ما يلاقونه من كلام الناس وتجهمهم وانتقاداتهم الجائرة جراء الجهالة المطبقة لدى الكثيرين منهم. والقضية هنا قضية نسبية تختلف باختلاف مفهوم التربية والإصلاح، بل باختلاف العقائد والأديان قبل كل شيء، غير أن الأمر المشترك فيها هو كونها عقبة تتكرر دائماً ويشتكي منها (المربون)(2) إن جاز أن نطلق هذا اللفظ على كل من سلك الطريق (الإصلاحي) في المجتمع الذي يعيش فيه ـ.
فإذا تصدّى المربي المسلم لسبر هذه العقبة بعينها، وتكلّف البحث الجاد في كتب التربية لإيجاد العلاج لها فإنه يجد الفرق الواضح ماثلاً أمامه بين المفاهيم التربوية الإسلامية للعلاج وتلك المفاهيم الغربية. فإذا أخذنا ـ على سبيل المثال ـ كلام ابن حزم ـ رحمه الله ـ في تقرير العلاج فإنك تجده ينطلق في تسليته للمربي والمصلح والقائد (المسلم) من قواعد وتأصيلات (إسلامية) ثابتة مبنية على نصوص كلية من الكتاب والسنة تباين كلياً تلك القواعد والتأصيلات الغربية التي حُرّرت لعلاج هذه القضية ذاتها. ثم إنك تجد (الصدق) و (النصح) يناغمانك في طيات حديث الإمام ابن حزم ـ رحمه الله ـ، وتطوّف بك حرارة نصائحه في محيط الحدث ذاته سبراً وغوراً وحدوداً حتى تخرج منه وقد أرويت الغليل بوصايا هذا الإمام، بخلاف ما تجده في كثير من توجيهات ونصائح علماء التربية في الغرب ممن يراوحون حول كلام جاف (مقنن) محلىً بألفاظ آسرة، مفرّغ من الروح، بعيد عن الحدث ـ في كثير من الأحيان ـ مفتقر لتلك الحرارة الإيمانية الصادقة.
وفيما يلي عرض لجملة من هذه المفاهيم القيادية التي يستخلصها القارئ لواحد من كتب ابن حزم ـ رحمه الله ـ وهو كتاب (مداواة النفوس) الذي يعد من أواخر كتبه ـ رحمه الله ـ واستودع فيه خلاصة تجاربه ورحلاته وأظهر فيه لمحات تربوية فذة لا غنى عنها.
النبوغ والتفوق:(2/66)
ينطلق ابن حزم ـ رحمه الله ـ في تعريف النبوغ والتفوق من منظورين. أولهما: تجلية مفردات الإبداع ومهاراته ومتطلباته (المادية).. والثاني: الأخذ بمعايير الفضيلة والأخلاق اللازمة لتكوين المبدع وصياغة فكره واتجاهاته، ويرى أن تمثّل (القدوة) لمبدع في فن بذاته، أو إطلاق صفة (النبوغ) في القيادة وغيرها لا بد أن تكون وفق الموازنة بين هذين المنظورين معاً؛ بل إنه يرى ـ رحمه الله ـ أن كفة الأخلاق والفضيلة لا بد أن تنال قسطاً أكبر من اهتمام المبدع ومن تفكيره. ولذا؛ فإن معيار الحكم بالنجاح أو الإخفاق لمبدع أو آخر يعود ـ بدرجة كبيرة ـ إلى نسبة المحتوى الأخلاقي والتربوي في سيرته الذاتية.. فالنبوغ والإبداع ـ من منظور ابن حزم التربوي ـ لا يعود بالدرجة الأولى إلى تلك المهارات المكتسبة التي ربما شاركه فيها غيره من البشر، أو في تلك القدرات التي ربما شاركه فيها الحيوانات والعجماوات. ولذا يقول ـ رحمه الله ـ: (فالعاقل لا يغتبط بصفة يفوقه فيها سبع أو بهيمة أو جماد، وإنما يغتبط بتقدمه في الفضيلة التي أبانه الله بها عن السباع والبهائم والجمادات.. وهي التمييز الذي يشارك فيه الملائكة. فمن سُرّ بشجاعته التي يضعها في غير موضعها لله ـ عز وجل ـ فليعلم أن النمر أجرأ منه، وأن الأسد والذئب أشجع منه، ومن سُرّ بقوة جسمه فليعلم أن البغل والثور والفيل أقوى منه جسماً، ومن سُرّ بحمله الأثقال فيلعلم أن الحمار أحمل منه، ومن سُرّ بسرعة عدوه فليعلم أن الكلب والأرنب أسرع عدواً منه، ومن سُرّ بحسن صوته فليعلم أن كثيراً من الطير أحسن صوتاً منه، وأن أصوات المزامير ألذ وأطرب من صوته(3)، فأي فخر وأي سرور فيما تكون فيه البهائم متقدمة عليه؟ لكن من قوي تمييزه، واتسع علمه، وحسن عمله فليغتبط بذلك؛ فإنه لا يتقدمه في هذه الوجوه إلا الملائكة وخيار الناس)(4).
صلاح العمل:(2/67)
يؤكد ابن حزم ـ رحمه الله ـ في غير ما موضع من كتبه على أن المفهوم الصحيح للعمل لا يعود إلى العمل ذاته فحسب؛ بل إن توابعه ولوازمه وشروطه لها درجة عظمى في الحكم على صلاحه أو فساده، وهو ينطلق ـ كغيره من علماء التربية الإسلامية ـ في تحديد هذه النظرة الحكيمة للعمل من قاعدة الاهتمام بإصلاح النية ـ بعد صلاح العقيدة والمنهج ـ قبل الشروع في أداء العمل، ومهما كان العمل بعيداً فإن النية الصالحة تقرّبه، ومهما كان العمل قريباً فإن فساد النية يبعده.
الوصول إلى الإبداع:
كما يرى ـ رحمه الله ـ أن القائد لا يولد قائداً ولا المبدع مبدعاً كاملاً.. وأن المرة الواحدة في طريق القيادة أو الإبداع لا تكفي، إنما لا بد من الكرّة تلو الكرة واكتساب الخبرة بعد الخبرة، ولذا فإن حدوث الخطأ وتكرره في المراحل الأولى أمر مألوف جِبِلّةً ولا يُذم صاحبه بحال، حتى تصبح القيادة فيما بعد ملكة ومهارة مصقولة بكثرة التجارب والخبرات، وفي هذا يقول ـ رحمه الله ـ: (إن التجارب لا تكون إلا بتكرار الحال مراراً كثيرة على صفة واحدة).
أهمية الاستمرار:
وبالرغم من تأكيده ـ رحمه الله ـ على أهمية المحاولة، وضرورة اكتساب الخبرة عبر التكرار في الأداء فإنه يحذر كذلك من إهمال تهذيب النفس أو إهمال المداومة على تكرار التجارب، وأن ذلك يعد عائقاً من عوائق التربية ويؤدي إلى توقفها أو ضياع الفائدة منها، وبهذا الصدد رفع صوته بالمقولة التي باتت مثلاً سائراً: (إهمال ساعة يفسد رياضة سنة)!(5).
إعداد القيادة ضرورة:(2/68)
يؤكد ابن حزم على وجوب الاعتناء بالقادة والنوابغ في الأمة، ويرى أن الاعتناء بهم كفيل بصلاح أمور المجموعة، وأن لكل عمل تقوم به المجموعة درجة من الكمال توازي كمال ساستها وقادتها في الأخذ بمعايير القيادة السليمة، ويفرّق ـ رحمه الله ـ بين صلاح الفرد أو فساده في ذاته وبين إصلاحه أو إفساده في إدارة المجموعة؛ فتراه يؤكد في مواضع من كتبه ـ أن المجموعة بغير قائد يقودها لا يصلح لها حال، ولا يمكنها القيام بالأعمال العظيمة التي تقارب الكمال حتى ينتظم عقدها تحت قائد يقودها ويدير شؤونها، وهذا القائد لا بد أن يُعَدّ بعناية لهذه المهمة لتتكامل شخصيته وتحسن طباعه وتصرفاته؛ وهذا الإعداد المبكر يعد من الأمور اللازمة للحكم على نجاحه في القيادة أو عدمه، وكذا في العملية التربوية والتنظيمية للمجموعة بدون شتات أو تناقض أو اضطراب، ويوقفك ـ رحمه الله ـ أمام افتراضات تقريبية لهذا المفهوم ليؤكد لك أهميته فيقول: (خطأ الواحد في تدبير الأمور خير من صواب الجماعة التي لا يجمعها واحد؛ لأن خطأ الواحد في ذلك يُستدرك، وصواب الجماعة يُضري ـ أي: يعوّد ويُغري ـ على استدامة الإهمال.. وفي ذلك الهلاك)(6).
فقه الاحتساب:(2/69)
يقتحم ـ رحمه الله ـ علم الاجتماع ليستخرج قاعدة في بذل المعروف مفادها: أن على من تصدّى للناس بدعوتهم أو بخدمتهم ومساعدتهم وبذل المعروف لهم ألاّ ينتظر عاقبة بذله ومعروفه منهم؛ لأن ذلك عليه مدار تأليف القلوب والتأثير في الناس، وبه اتقاء الشرور من خبث نفوسهم؛ وهنا يكمن الفرق بين التربية المادية التي لا تؤمن إلا بالمصالح الوقتية والنتائج النفعية وبين التربية الإسلامية التي ترى أن إسداء المعروف والإحسان للغير بدعوتهم لا بد أن يتجرّد من كونه عملاً مشروطاً بنتائجه وعواقبه، وأن يجرّد ابتداءً وانتهاءً لله وحده، يقول ـ رحمه الله ـ: (وابذل فضل مالك وجاهك لمن سألك أو لم يسألك، ولكل من احتاج إليك وأمكنك نفعه ـ وإن لم يعمدك بالرغبة ـ ولا تُشعر نفسك انتظار مقارضة على ذلك من غير ربك ـ عز وجل ـ، ولا تبنِ إلا على أن أول من أحسنت إليه أول مضرّ بك، وساعٍ عليك؛ فإن ذوي التراكيب الخبيثة يبغضون ـ لشدة الحسد ـ كل من أحسن إليهم إذا رأوه في أعلى من أحوالهم) وهكذا الشأن في إعطاء الهبات والإعانات وإسداء النصيحة.. فكما أن المرء لا يشترط لأداء المعروف والإحسان انتظار الجزاء.. فهو كذلك لا بد مُلْزَمٌ بأداء الفضل ابتداء، وآخذٌ بأكمل الأخلاق وأرفعها، وزاهد فيما عند الناس راغب فيما عند الله. يقول ـ رحمه الله ـ: (ولا تنصح على شرط القبول، ولا تشفع على شرط الإجابة، ولا تهب على شرط الإثابة، لكن على سبيل استعمال الفضل، وتأدية ما عليك من النصيحة والشفاعة وبذل المعروف).
الكمال البشري:(2/70)
ينظر ـ رحمه الله ـ إلى الإنسان الكامل في فنه ومنهجه بمنظار آخر وهو دأبه في الطلب والاستزادة والجد في تحصيل العلوم النافعة؛ إذ ليس الكمال محدوداً بشهادة يحصلها الفرد لينقطع بها عن غيرها، كما أنه ليس مجرد مهارات محدودة يمكنه تحصيلها ليكتفي بها عن مواصلة الطلب والبحث، ومتى رأيت القائد أو المربي أو الداعية قانعاً بما هو عليه من علم أو دعوة أو مهارات قيادية فإنك لن تكون مجازفاً إذا راهنت بإخفاقه بعد زمن ليس بالطويل، ولو عاين ـ رحمه الله ـ بعض أرباب (الدوالّ) في هذا العصر وما آلوا إليه من خمول وكسل، وما أصبحت تدور عليه اهتماماتهم وأهدافهم، ومستوى تفكيرهم لكانت أولى سهامه في هذا الباب موجهة إليهم بالنقد والتعيير؛ إذ هم أوْلى بالتبكيت من المقلدة، أو مجتهدي المذاهب ومتعصبيها!!
يقول ـ رحمه الله ـ: (الإنسان الكامل هو الذي لا ينفك طالب علم ما تردد في رئتيه نفس) وذلك لأن طريق التربية وتهذيب السلوك طويل يبدأ مع الإنسان طفلاً ثم يتدرّج به حتى الوفاة.
التأثير والتأثر:(2/71)
الحياة تدور بين الأخذ والعطاء والسلب والإيجاب، وبين هذا وذاك يتوزع الناس في أي زمان ومكان. والقائد أو الداعية الناجح مطالب قبل غيره أن يكون عضواً عاملاً فعّالاً في مجتمعه، وأن يكون عنده إنتاج يحتاج إليه الناس ويفيدون منه، كما أنه ينتفع بما عندهم كذلك من أمور الحياة. إن حب التعاون والتكامل والسعي في إيصال الخير لهم وهدايتهم إلى الطريق الصحيح والتزام منهج الله ـ تعالى ـ إن كل ذلك وغيره مجالات خصبة يمكن أن ينفع بها القائد أو المربي غيره، وبدونها سيصبح خاملاً عالة على غيره في أموره الحياتية التي يحصل عليها، ولا يملك شيئاً من العطاء أو النفع في المقابل.. وهذا الصنف من الخاملين هم الذين يَعجب منهم ابن حزم ـ رحمه الله ـ: تخور قواهم وتضعف عزائمهم وهممهم؛ في حين تجد أرباب الصناعات والحرف أعظم منهم خطراً وأكثر نفعاً فيقول: (إن من العجب من يبقى في هذا العالم دون معاونة لنوعه على مصلحة. أما يرى الحرّاث كيف يحرث له، والطحان يطحن له، والنساج ينسج له، والخياط يخيط له، والجزار يجزر له، والبنّاء يبني له، وسائر الناس كل متولّ شغلاً له فيه مصلحة، وبه إليه ضرورة؟ أفما يستحيي أن يكون عيالاً على كل العالم لا يعين هو أيضاً بشيء من المصلحة؟!).
العلم.. التعليم.. التخصص:(2/72)
يوجه ابن حزم ـ رحمه الله ـ إلى ضرورة الإلمام بعلم الشريعة وبأصول المعتقد لكل قائد أو مبدع بالإضافة إلى إلمامه بتخصصه وسعة اطلاعه فيه. وتجده يعيب بشدة ذلك المربي القدوة أو القائد الموجه أو المبدع الماهر الذي يفتقر للثقافة الإسلامية العامة ـ إن صح التعبير ـ ولأصول الإسلام التي لا يُعذر أحد في الجهل بها، ومن نظرته الخاصة في العلوم والفنون يحذّر ـ رحمه الله ـ من أن يحصر الإنسان نفسه في معين تخصصه وفنه فحسب؛ لأنه متى ما جف نبع ذلك المعين أو ترحّل عنه لأي طارئ أوشك أن يشابه صنوف الجهال ـ على حد تعبيره ـ وأن يقارب العامة والدهماء. وفي هذه الوصية نصح ظاهر وغيرة واضحة، وبخاصة إذا علمنا أن الدعاة والمربين والموجهين هم أول المعنيين بها؛ ذلك أن القدوة الذي ينظر إليه، ويحتذى به لا بد أن يوطن نفسه أن تكون قامته أعلى من قامة من يقوم بتوجيههم وتربيتهم وقيادتهم، لا قامة الطول المحسوس أو هيبة (التصنّع الكاذب) وإنما قامة العلم والأخلاق والأدب، وحسن السياسة والتدبير، وسعة الاطلاع وكريم السجايا والإلمام بواقع الحال!
ولذا تجد ابن حزم ـ رحمه الله ـ يؤكد ـ في سبيل تحقيق ذلك ـ على وجوب التأصيل العلمي منذ الصغر وعلى التدرج في نيل العلوم واحداً تلو الآخر وهو مراده من (لوازم التعلّم)، والبدء به مرحلة مرحلة وفناً فناً، مبتدئاً ـ بطبيعة الحال ـ بإقامة الحروف، ثم تعلّم اللغة، فحفظ القرآن، ثم مطالعة السنة، ثم اللغة والأدب والنحو ليقيم لسانه.(2/73)
ولتحصيل جواهر الثقافة والمعرفة يوصي بشيء من شعر الحكمة، والرياضيات، وهندسة الفلك والشروع إلى علم التاريخ وتراجم الرجال للاعتبار، وما لا يجوز جهله من علم الطب ومما يحفظ الصحة! بل إنك لا تجده يحصر حد الطلب، ومفهومه على العلوم والفنون النظرية، وإنما يستحث على العمل والكسب ومزاولة المهن أو الاتجار لتحصيل المال ولطلب الرزق، فيقول ـ رحمه الله ـ: (فإذا بلغ المتعلّم هذا المبلغ من الثقافة العامة ـ مما سبق ذكره ـ فلا بد عليه أن ينصرف إلى ما يحصّل به عيشه من صناعة أو تجارة أو زراعة أو تعليم، أو إذا شاء إلى التخصص في علم من العلوم والتعمق فيه) وهذا من باب الزهد فيما عند الناس ولئلا يكون الفرد عالة على غيره وبخاصة أرباب الدعوة والتربية. ومع تأكيده على أهمية التخصص ـ فيما بعد ـ فإنه يؤكد كذلك على أهمية الاطلاع على مفاتيح العلوم وفرائد الفنون.. ويحذّر من الذوبان في خبايا التخصص عبر الولوغ في مداخله وشوارده التي ربما لم يفد منها ولم ينفع بها غيره في معترك الحياة بقوله: (ومن اقتصر على علم واحد لم يطالع غيره أوشك أن يكون ضُحكة، وكان ما خفي عليه من علمه الذي اقتصر عليه أكثر مما أدرك منه؛ لتعلّق العلوم بعضها ببعض).
ولا يفوته ـ رحمه الله ـ أن يوجه أنظار من انقطعوا عن تعليم الناس وتوجيههم وتربيتهم لعذر التحصيل أو لسبب الاستزادة من العلوم تاركين السواد سادرين في جهلهم وغفلتهم فيقول: (ومن طلب الاحتواء على كل علم أوشك أن ينقطع وينحسر ولا يحصل على شيء، وكان كالمحضر (المسرع) إلى غير غاية؛ إذ العمر يقصر عن ذلك. وليأخذ من كل علم بنصيب مما به ضرورة إلى ما لا بد له منه، ثم يعتمد العلم الذي يسبق فيه بطبعه وبقلبه وبحليته فيستكثر منه ما أمكنه) إلى آخر كلامه ـ رحمه الله ـ في هذا الباب.
الفضائل ثمرة العلم:(2/74)
وضابط تحصيل العلوم وتكميلها ـ ما أمكن السبيل لذلك ـ ألا يُفوّت علم الكتاب والسنة، وأن يضرب فيهما بسهم؛ إذ فيهما الخير كله والفضائل كلها. والقاعدة في ذلك يلخصها ابن حزم ـ رحمه الله ـ بقوله: (من جهل معرفة الفضائل فليعتمد على ما أمر الله به ورسوله؛ فإنه يحتوي على جميع الفضائل) وعلى هذا يمكننا تفسير موقفه المتشدد من المقلدة، وتحذيره من الجمود والتحجر وإغلاق بصائر العقل وأنوار حكمته فيقول ـ رحمه الله ـ: (المقلّد راضٍ أن يغبن عقله، ولعله مع ذلك يستعظم أن يغبن ماله فيخطئ في الوجهين معاً).
العلم للعمل:
الواقع والمثال وجهان لعملة واحدة في حياة المسلم، وبخاصة في حياة أرباب القيادة والدعوة والتربية. ويتمثل ذلك في عدم التناقض بين المعلومات والمفاهيم النظرية وبين الواقع العملي الذي يعيشه الفرد ويمارسه. وتحذيراً من ذلك التناقض في حياة المربين والقادة يؤكد ـ رحمه الله ـ على ضرورة العمل بالعلم، وعلى أهمية التطبيق العملي للعلوم والتحلي بها ويذم ـ تبعاً لذلك ـ كل متكلّف علماً لا يفيد منه أو فناً ليس له به حاجة غير الاستكثار والتشبع، فيقول ـ رحمه الله ـ: (من أخذ من كل علم ما هو محتاج إليه ـ أي ابتعد عن التكلّف والاستزادة التي لا طائل من ورائها ـ، واستعمل ما علم كما يجب، فلا أحد أفضل منه؛ لأنه حصل على عز النفس وغناها في العاجل وعلى الفوز في الآجل).
الإنصاف يحتاج إلى فراسة:(2/75)
ومن خلال تجاربه في معترك الحياة يرشد ـ رحمه الله ـ كل من أخذ على نفسه سياسة الناس وتربيتهم إلى ما سيتعرض له من تجارب تستوجب منه أن ينصب لنفسه ميزاناً يحكم به بالقسط ويزن الأعمال والأقوال بالحق، فلا ينبهر بظواهر الناس، ولا يأخذهم بالظنة أو الوهم.. وهذا مراده من قوله ـ رحمه الله ـ: (ينبغي للعاقل ألا يحكم بما يبدو إليه من استرحام الباكي المتظلّم وتشكّيه، وشدة تلوّيه وتقلّبه وبكائه) حتى قوله: (وهذا مكان ينبغي التثبت منه، ومغالبة ميل النفس جملة، ولا يميل المرء مع الصفة التي ذكرنا ولا عليها، ولكن يقصد الإنصاف لما يوجبها الحق على السواء).
يضيع من العمر قدر ما يضيع من الفرص:
ورديفُ التجارب في التكرار تتابعُ الفرص التي لا يمكن تعويضها، ولربما تفاوت حجم الفرصة وعظيم قدرها من زمن لآخر ومن مكان لآخر؛ غير أن الفرص جميعاً تشترك في كونها نادرة الوقوع، وثمينة الأثر إذا أحسن صاحبها الإفادة منها، وكثيراً ما أرشد ابن حزم ـ رحمه الله ـ إلى وجوب استغلال هذه الفرص والحذر من تضييعها، ويشير مراراً إلى كثرة الفرص التي تضيع على أولئك العظماء والقادة والدعاة، وهو يؤكد لك باليقين أن (لكل شيء فائدة) ينبغي عدم الذهول عنها، ويضرب مثلاً عجيباً يتعلق بنظرة المبدع والقائد لكل ما يحيط به، وكيف يمكنه تحويل الخسائر الظاهرة إلى فرص سانحة لا تُعوّض، يقول ـ رحمه الله ـ: (لكل شيء فائدة؛ ولقد انتفعتُ بمحك أهل الجهل منفعة عظيمة، وهي أنه توقّدَ طبْعي، واحتدمَ خاطري، وحمي فكري، وتهيّج نشاطي، فكان ذلك سبباً إلى تواليف عظيمة المنفعة، ولولا استثارتهم ساكني واقتداحهم كامني ما انبعثت تلك التواليف).
نفسك غالية... لا تبذلها إلا لله:(2/76)
ومن فرائد هذه اللمحات عناية ابن حزم ـ رحمه الله ـ كغيره من علماء السلف ـ رحمهم الله جميعاً ـ بتكوين الشخصية الإسلامية الفريدة عبر إذكاء روح العزة والثقة بالله، وعدم الرضا بإذلال النفس أو بذلها في الحقير من الأعمال والفنون والمقاصد، وبعث الهمة إلى معالي الأمور وعظيمها؛ تزهيداً بالسفاسف والترهات التي تقتل المواهب وتئد الطاقات والهمم، ولذا فأنت تجد أن إذكاء شعور العزة في النفس، والثقة ـ بعد الله ـ بالطاقات والمواهب والملكات، وحسن التدبير وغيرها من الصفات اللازمة لكل مبدع أو قائد أو مربّ تلح على ابن حزم ـ رحمه الله ـ وغيره من عظماء التربية الإسلامية على تحذير من يتصدى لسياسة الناس وتوجيههم من بذل النفس أو صرف ماء الوجه في أمر حقير أو متاع زائل يذهب بمكانتهم عند الناس؛ لأن مقامهم عزيز ومعدنهم لا بد أن يكون ثميناً؛ فلا يحل مساومته بعرض رخيص مهما كان، أو بمقصد حقير هو من مقاصد أولي الهمة الدنيا من الناس، فيقول ـ رحمه الله ـ: (لا تبذل نفسك إلا فيما هو أعلى منها، وليس ذلك إلا في ذات الله ـ عز وجل ـ، وفي دعاء إلى الحق، وفي حماية الحريم، وفي دفع هوان لم يوجبه عليك خالقك ـ تعالى ـ، وفي نصر مظلوم)، ولهذا فإنّ حدّ (العاقل) في هذا المفهوم التربوي عنده ـ رحمه الله ـ هو من: (لا يرضى لنفسه ثمناً إلا الجنة)(7).
الهوامش :
(1) سير أعلام النبلاء، 18/201.
(2) نحن بحاجة لتحديد مفهوم التربية من جديد وفق مصطلحات الشرع الذي لم ترد فيه هذه اللفظة إلا في معرض التربية البدنية في قوله ـ تعالى ـ على لسان فرعون لموسى: ((أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيداً)) [الشعراء: 18] ولم يذكر القرآن هذا المفهوم الذي نتداوله اليوم إلا بلفظ التزكية كما في قوله ـ تعالى ـ: ((يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنََا وَيُزَكِّيكُمْ)) [البقرة: 151] وقوله: ((قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا)) [الشمس: 9] وغيرها من الآيات.(2/77)
* نختلف مع الكاتب في هذا ـ فقد ورد في تفسير قوله ـ تعالى ـ ((وَلَكِن كُونُوا رَبَّانِِيِّينَ...)) [آل عمران: 79] قول ابن عباس: (الربانيون الذين يربون الناس بصغار العلم قبل كباره) ـ · ـ.
(3) على أنها محرمة بطبيعة الحال.. فالتفضيل هنا في ميزان المقارنة فحسب! ولا عبرة لنا بالمعنى الآخر.
(4) مداواة النفوس، ص 57.
(5، 6) المرجع السابق نفسه، ص 82.
(7) يمكن الرجوع لاستخلاص مثل هذه اللمحات التربوية لهذا الإمام من مؤلفاته العديدة ومن كتب أخرى عنيت بهذا الشأن منها الدراسة التي قدمها الأستاذ/ سعيد الأفغاني إلى مكتب التربية العربي لدول الخليج التي قام المكتب بإخراجها مع دراسات أخرى في هذا الشأن تحت عنوان: من أعلام التربية الإسلامية، جزى الله القائمين على هذا المشروع خير الجزاء.
--------------------------------------------------------------------------------
مجلة البيان، العدد (138)، صفر 1420،يونيو 1999 .
* * *
http://www.albayan-magazine.com/zwaya/trbwi/42.htm
معوقات الأخوة الإسلامية
د.محمد طاهر حكيم
إن أي حديث عن الوحدة والتضامن قبل تحقيق الأخوة والألفة والمحبة والاحترام المتبادل بين المجتمعات والأفراد حديث في الوقت الضائع؛ فعندما تغلب الخلافاتُ بين الأفراد عناصرَ الائتلاف، ويطغى منهج تصفية الحسابات الشخصية على الإحساس بالمسؤولية، وتعلو الاعتبارات الضيقة الخاصة على الاعتبارات العامة، فلا مكان هناك للوحدة. وإذا عجزنا عن تحقيق الأخوة والمحبة بين الأفراد فنحن عن بناء الوحدة بين الأمة أعجز، وعن إرساء مشروع متكامل للتضامن أبعد.
يجب أن نسأل أنفسنا أولاً:
- هل نحن نحب للمسلمين ما نحب لأنفسنا، ونكره لهم ما نكره لأنفسنا؛ كما قال -صلى الله عليه وسلم-: (لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه)(1)؟(2/78)
- هل نحن نعفو ونصفح عن هنَات المسلمين ونشفق عليهم، ونسعى لقضاء حوائجهم وستر عوراتهم كما أمر ربنا - جل وعلا -: ((خُذِ العَفْوَ وَاًمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الجَاهِلِينَ))
[ الأعراف: 199]، وقال: ((وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ)) [الحجر: 88]، وكما قال -صلى الله عليه وسلم-: (المسلم أخو المسلم، لا يظلمه ولا يُسْلمه. من كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته، ومن فرّج عن مسلم كربة فرج الله عنه بها كربة من كرب يوم القيامة، ومن ستر مسلماً ستره الله يوم القيامة)(2)؟
- هل نحن قمنا بإصلاح ذات البين بين المسلمين؟ وهل نشعر بآلامهم وأحزانهم؟ كما قال - سبحانه -: ((فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ)) [الأنفال: 1]، وقال: ((إنَّمَا المُؤْمِنُونَ إخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ)) [الحجرات: 10]، وكما قال -صلى الله عليه وسلم-: (كل سُلامى من الناس عليه صدقة، كل يوم تطلع فيه الشمس: تعدل بين اثنين صدقة)(3)، وقال - عليه الصلاة والسلام -: (مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم، مثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى)(4)؟
- هل نحن تركنا التباغض والتقاطع والتدابر والتحاسد كما قال -صلى الله عليه وسلم-: (لا تباغضوا ولا تحاسدوا ولا تدابروا ولا تقاطعوا، وكونوا عباد الله إخواناً، ولا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث)(5)؟
- هل تركنا سوء الظن بالمسلمين، كما قال - تعالى -: ((يَا أَيُّهَا الَذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِّنَ الظَّنِّ إنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إثْمٌ)) [الحجرات: 12]؟(2/79)
- أليس فينا من يحتقر المسلمين ويبغي عليهم ويسخر منهم ويظهر الشماتة بهم متجاهلاً قول ربه - سبحانه -: ((يَا أَيُّهَا الَذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِّن قَوْمٍ)) [الحجرات: 11]، وقوله: ((إنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الحَقِ)) [الشورى: 42]، وقوله -صلى الله عليه وسلم-: (بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم)(6). وقوله -صلى الله عليه وسلم-: (لا تظهر الشماتة لأخيك؛ فيرحمه الله ويبتليك)(7)، وقوله -صلى الله عليه وسلم-: (إن الله - تعالى - أوحى إليّ أن تواضعوا حتى لا يبغي أحد على أحد، ولا يفخر أحد على أحد)(8)؟
- أليس فينا من يرمي أخاه المسلم بالبذاءة والفحش والفسق مخالفاً قول الرسول -صلى الله عليه وسلم-: (لا يرمي رجلٌ رجلاً بالفسق أو الكفر)(9). وقوله - عليه الصلاة والسلام -: (ليس المؤمن بالطعّان ولا اللعّان ولا الفاحش ولا البذيء)(10)؟
- أليس فينا من يثير النعرات القومية والعصبيات القبلية والدعوات الجاهلية متناسياً قوله -صلى الله عليه وسلم-: (ليس منا من ضرب الخدود، ودعا بدعوى الجاهلية)(11)؟
- أليس فينا من لا يرد عن عرض أخيه المسلم، ولا يتورع عن ذكره بما لا يحب وقد قال صلى الله عليه وسلم: (متن رد عن عرض أخيه رد الله عن وجهه النار يوم القيامة)(12)، وقال -صلى الله عليه وسلم-: (المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده)(13)؟
وأورد ابن كثير(14) أن سفيان الواسطي ذكر رجلاً بسوء عند إياس بن معاوية فنظر إليه وقال: أغزوتَ الروم؟ قال: لا. قال: السّنْدَ والهندَ والتركَ؟ قال: لا. قال: أفسَلِمَ منك الروم والسند والهند، ولم يسلم منك أخوك المسلم؟ قال: فلم أعد بعدها - يعني إلى عيب أحد.(2/80)
هذه بعض معوقات الأخوة الإسلامية التي يجب إزالتها وإحلال المحبة والتعاون والتكافل والإيثار محلها حتى تكون العلاقة بين المسلمين مثل علاقة أجزاء الجسد الذي يتأثر كله بشكوى بعضه؛ كما قال -صلى الله عليه وسلم-: (مثل المؤمنين في توادّهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمّى)(15).
وبه تُحَقّقُ الوحدة بين المسلمين بإذن الله. والله الموفق.
الهوامش :
(1) رواه البخاري، ح./13، ومسلم، ح./45.
(2) رواه البخاري، ح./2442، ومسلم، ح./2580.
(3) رواه البخاري، ح./2707، ومسلم، ح./1009.
(4) رواه البخاري، ح./6011، ومسلم، ح./2586.
(5) رواه البخاري، ح./6064، ومسلم، ح./1413.
(6) رواه مسلم، ح./2564.
(7) رواه الترمذي وحسنه، ح./2506.
(8) رواه مسلم، ح./2865.
(9) رواه البخاري، ح./6045، ومسلم، ح./61.
(10) أحمد، ح./3829، ورواه الترمذي وحسنه، ح./1977.
(11) رواه البخاري، ح./1297، ومسلم، ح./103.
(12) أحمد، ح./ 26988، ورواه الترمذي وحسنه، ح./1931.
(13) رواه البخاري، ح./11، ومسلم، ح./42.
(14) البداية والنهاية، 9/336.
(15) رواه البخاري، ح./6011، ومسلم، ح./ 2586.
--------------------------------------------------------------------------------
مجلة البيان، العدد (140)، ربيع الآخر 1420،أغسطس 1999 .
* * *
http://www.albayan-magazine.com/zwaya/trbwi/43.htm
وصايا محب
بليغ المشاعل
الحمد لله رب العالمين...(2/81)
أخي الحبيب: كم يعتريني خجل وحياء كلما رأيت قلمي يداعب الورقة لكتابة رسالة إليك، فأنا كالمدين الذي جاء يسدد الدين بعد فوات الأجل، تراه يسير بجانب الجدار ثم يطرق الباب، وهو يسأل الله ألا يفتحه الدائن بل أحد أبنائه الصغار، فيعطيه ما معه وينصرف سريعاً ليختفي عنه ردحاً من الدهر.. وأحسب أني لا أختلف كثيراً عن ذلك المدين؛ فكم أتمنى أن أرسل هذه الرسالة مع أحد معارفك أو زملائك، أو لعل ريحاً تأتي فتحمل تلك الرسالة إليك وتريحني من عناء اللقاء المشوب بخجل المداينة؛ لكن طمعي وأملي في جميل طبائعك وكريم سجاياك سيجعلني أتجرأ لأقف بالرسالة بين يديك فأعطيكها دون خوف الدَّين والمدين.
مشاعر غريبة جداً اعتلجت في صدري حينما قرأت ما كتبته إليَّ حول طلبك النصيحة مني:
أهي شعور بالفرح لاستمرار الثقة والمودة بيننا؟
أم شعور بالخوف من عدم القدرة على أداء هذه المهمة؟
أم شعور محبط بنقصي الذي يمنعني من نصح من هم على مستوى عالٍ من الخلق والدين.
وبقيت أياماً لا أستطيع تحديد حقيقة مشاعري وموقفي تجاه تلك الرسالة، حتى استقر شأني على أمرين لا ثالث لهما: إما أن أكتب الرد، أو لا أكتبه.
وكان لكلٍ من هذين الأمرين داعيه الذي يلح عليَّ بالإجابة فأقف حائراً بينهما، ولكني عزمت على الكتابة أداءً للحق الواجب شرعاً بين المؤمنين، ولعلَّ الله - تعالى - أن ينفعني وإياك بهذه الوصايا:
الوقفة الأولى: رفيق الدرب!
أخي الفاضل... ما أشق الطريق وأبعد الغاية على الذين يسافرون وحدهم من غير صاحب يخفف عنهم عناء الطريق، ويدفع عنهم جهد السفر، والمسلم في هذه الحياة مسافر يحتاج إلى أنيس في سفره ومعين في جهاده حتى يصل لغايته وهدفه، ويا لسعادة ذلك المسافر إن كان رفيق دربه كيّساً تقياً! ويا لتعاسته إن كان غير ذلك!(2/82)
إن المؤمن قوي بإخوانه ضعيف وحده، ولا يزال العبد في قوته ما دام آخذاً برفقة الخير والجلساء الصالحين "فإنما يأكل الذئب من الغنم القاصية"(1).
كم أشعر بالغباوة وأنا أسترسل في ذكر أهمية الأخ الصادق والرفقة الطيبة وهي حقيقة أصبحت من آكد المسلَّمات!
قد يستنكر بعض الشباب الذين قطعوا شوطاً كبيراً في الهداية حينما توصيه بالتزام الرفقة الصالحة والعض عليها بالنواجذ، وهم مخطئون بذلك الاستنكار؛ فالمؤمن في كل حال ومهما بلغ يظل محتاجاً لإخوانه، بل هذا نبي الله محمد صلى الله عليه وسلم يوصيه ربه فيقول:((واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه ولا تعد عيناك عنهم تريد زينة الحياة الدنيا ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا واتبع هواه وكان أمره فرطا)) [الكهف: 28].
فيا لغباء المستكبرين!!
الوقفة الثانية: وللرفيق بريق:
من الخطأ بل من السذاجة أن نعتقد أن الشيطان سينسحب من المعركة في أول هزيمة له أو أنه سيتركنا مع أول وقفة جادة لنا مع أنفسنا.
ولئن أشرت إلى أهمية الرفقة الصالحة قبل قليل فلا بد من الإشارة إلى مزلقين هامين يحرص الشيطان على نصبهما لنا كثيراً:
المزلق الأول: أن نعتقد أنَّا قد وجدنا الرفيق الصالح بمجرد رفقتنا لمجموعة صالحة، ومن ثمَّ يعتقد الإنسان أنه مع جليس صالح بمجرد أن يكون مع رفقة بعمومها صالحة، وننسى أن النفع الأكبر إنما يكون من خاصة أولئك الصالحين، فبعض الناس ينتقي أردى الأصحاب ليقتبس أخلاقه ويتطبع بطباعه، ويهمل الأخيار والمتميزين منهم؛ لأنه في رفقةٍ الغالبُ عليها الصلاح، ولا يزال يتردى وينحط مع خليله ذاك حتى ينسى نفسه، ويفقد خيراً كثيراً.
وقد أشار الإمام ابن القيم إلى آفات الاجتماع بالإخوان فقال: "الاجتماع بالإخوان قسمان:
أحدهما: اجتماع مؤانسة الطبع وشغل الوقت؛ فهذا مضرته أرجح من منفعته، وأقل ما فيه أنه يفسد القلب ويضيع الوقت.(2/83)
الثاني: الاجتماع بهم على التعاون على أسباب النجاة والتواصي بالحق والصبر؛ فهذا من أعظم الغنيمة وأنفعها، ولكن فيه ثلاث آفات:
تزيين بعضهم لبعض، والكلام والخلطة أكثر من الحاجة، وأن يصير ذلك شهوة وعادة ينقطع بها عن المقصود"(2).
المزلق الثاني: الاكتفاء بدور الأستاذ المربي، ومع شرف هذه المهمة وأهميتها إلا أن الاهتمام بمعاشرة أهل الفضل والعقل والتقوى من الجانب الآخر أمر مهم؛ لكي لا يكون عقل الرجل ـ مع مرور الوقت ـ عقل صبي في جسم رجل. والتوسط في كل الأمور حسن ومطلوب.
الوقفة الثالثة: حياة بلا روح:
ما أقبح الحياة بلا روح! بل لا حياة بلا روح.. وكل مبتغٍ للحياة استمراراً من غير روح فهو كمن يرجو المحال.. يقول ـ تعالى ـ: وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا [الشورى: 52].
سبحان الله! فقد سمَّى الله القرآن العظيم بالروح، فلا حياة حقة من غير كتاب الله ـ عز وجل ـ، ولا نعيم في الدنيا والآخرة من غير كتاب الله؛ فهو لذة المتلذذين ونعيم المتنعمين، وهو حبل الله المتين وصراطه المستقيم.
إن خير ما يربي به المرء نفسه وخير ما يربي به المربون أبناءهم جلسة خاشعة مع كتاب الله ـ عز وجل ـ خالية من كدر الدنيا، وخالصة من شوائب الحياة، وما أجمل الصلة بحبل السماء يوم تنقطع حبال الأرض! وما أجمل ولوج أبواب السماء يوم تغلق أبواب الأرض! وأعظم ما يكون الأُنس بكتاب الله ـ تعالى ـ حينما تهدأ العيون ويغط الناس بنومهم، فيقوم الصالحون يتلون كتاب الله ـ تعالى ـ بخشوع صادق، وإخبات تام، تحفهم الملائكة بالرحمة، ((وقرآن الفجر إن قرآن الفجر كان مشهودا)) [الإسراء: 78].
احرص على قراءة كتاب الله وتفسيره وحفظه وتدبره والعيش معه في ورد خاص، ولا تقطع صلتك بكتاب الله، بعيداً عن كل ملهيات الدنيا وصوارف الحياة.
((وما يلقاها إلا ذو حظ عظيم)) [ فصلت: 35].
الوقفة الرابعة: أرحم الناس بالناس:(2/84)
أخي الكريم: كم تكون شفيقاً حينما تشاهد منكوباً يتألم، فتتألم لألمه وتبكي لبكائه.
وكم تكون رحيماً حينما تمد يدك بصدق من أجل مساعدته.
وكم تكون أرحم ممن سبق حينما تجهد نفسك في عونه ومساعدته، وتؤثره على نفسك.
لكن اعلم ـ رحمك الله ـ أنك من أرحم الناس بالناس يوم تدعوهم إلى الله، يوم تقدم لهم نور الهداية، وتنقذهم من ظلمة الغواية.
إن الدعوة إلى الله هي مهمة الأنبياء والمرسلين من قبلنا، ولنا الشرف يوم نسلك مسلكهم ونسير على طريقهم، واعلم أن من أعظم الدعوة إلى الله تربية النشء على حب الله وحب رسوله صلى الله عليه وسلم ، وإبعادهم عن مستنقعات الرذيلة؛ أقول كلامي هذا في وقت انتقص فئام من الناس مهمة المربين ووصموهم بقصر النظر وسطحية التفكير، وتعليم الصبيان.
أخي المحب: إن تربية الشباب على الطاعة والتقوى من أعظم أوجه الدعوة إلى الله التي لا يبصر نتائجها إلا أهل البصيرة الثاقبة الذين وفقهم الله لفهم هذه الأمور، ولْيرتع أصحاب الفكر السطحي وطالبو النتائج السريعة في حمأة سذاجتهم ولْيتركوا هذا الأمر لرجاله.
إن المربين هم صُنَّاع الرجال، وهم بنّاؤو الحضارة، ومغيرو مسيرة التاريخ. والدعوة التي تمتلك أكبر قدر من المربين الصادقين هي الدعوة التي يكتب لها البقاء، وترسخ أقدامها في أعماق الأرض، فلا تضرها فتنة إلا أن يشاء الله.
الوقفة الخامسة: لا تكن شمعة!
مسكينة هي الشمعة، كم هو مؤلم أن تحترق ويستفيد الناس من نورها..!
وكم هو مؤلم أن يحترق الداعية للناس فيستنيرون ويذبل هو..!(2/85)
ما أعنيه هنا هو إهمال المرء تربية نفسه ببلوغه مرحلة من العمر؛ فقد يعتقد بعضنا أن كبر سنه يغنيه عن التربية الفردية لنفسه، أو أن ممارسته لنشاط دعوي يغنيه عن الانتباه لنفسه، وهذا مزلق خطير؛ ففاقد الشيء لا يعطيه، والداعية في مقام القدوة دائماً فلا بد من أسلوب التربية الذاتية، والحرص على بناء الإيمان، وتعهد القلب بالصلاح وإنماء الورع، حتى لا نكون مثل الشمعة تحترق وغيرنا يتمتع بالإضاءة.
الوقفة السادسة: ميراث الأنبياء!
مع أهمية ما أسلفت من دعوة إلى الله ـ عز وجل ـ وعبادة صالحة له، إلا أنها قد تكون وبالاً على صاحبها إذا خلت من أساسها المتين ومادتها الأصيلة وهي العلم الشرعي، قال الله ـ تعالى ـ: ((قل هذه سبيلي أدعو إلى الله على" بصيرة أنا ومن اتبعني وسبحان الله وما أنا من المشركين)) [يوسف: 108].
إن كل دعوة ـ مهما بلغت من نشاط ـ هي دعوة جوفاء إذا خلت من العلم الشرعي الرصين، بل ربما تكون دعوة إلى الجهل، وما نشأت الجماعات الضالة إلا بسبب الدعوة المفرَّغة من العلم الصحيح.
وكل عبادة على غير هدي النبوة ـ مهما بلغت من كثرة ـ هي نقص وخلل وخاصة إذا خلت من العلم الشرعي، وما نشأت فرق الزهاد الضالة إلا بسبب الجهل العريض الذي اكتنف تلك الفرق.
إن في العلم حياة لا يعرف قدرها إلا من ذاق حلاوتها، واستطعم لذتها، وما أحسب أن هناك صفوة في أي مجتمع إلا وكان أهل العلم هم روادها، ((إنما يخشى الله من عباده العلماء)) [ فاطر: 28].
الوقفة السابعة: إخلاص يحتاج إلى إخلاص:
يقول الله ـ عز وجل ـ: ((ليبلوكم أيكم أحسن عملا)) [الملك: 2] لقد جعل الله ـ عز وجل ـ أساس التفاضل هنا الحسن، ولم يجعله الكثرة؛ فالمسألة ليست مسألة كثرة، بل هي نوع وجنس صالح.
وأكمل ما يعين على تحسين العمل ووصفه بالحسن: "إخلاص العمل لله ـ عز وجل ـ " بل هو مادة العمل الحقيقية، ومن غيره فوجود العمل وعدمه سواء.(2/86)
أخي الكريم: كم يعاني الصادقون من قضية الإخلاص، لكن لا بأس؛ فأول خطوات الوصول (المعاناة) لكن لا بد من الصبر والمصابرة والمجاهدة حتى يصل المرء إلى غايته ومطلوبه ولو بعد حين، وإياك والاغترار بالعمل فقد قال بعض السلف: "من ظن أن في إخلاصه إخلاصاً، فإخلاصه يحتاج إلى إخلاص".
أخي الفاضل: إن ما ذكرته سابقاً من وصايا ـ أنا والله من أحوج الناس إليها ـ قد تثير في نفسك همة العمل وشِرَّة(3) الإنتاج، وهذا ما أرجوه، لكن قد يعجز المرء في أول أمره فلا بأس، فليعاود ثم ليجاهد ثم ليصابر حتى يبلغ مراده ولا تحسبن أن الأمر سهل ميسر، بل هو غاية قُطِعَتْ من أجلها رقاب وأزهقت أنفس، فأرخص الغالي لها ـ سددك الله ـ:((والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا)) [العنكبوت: 69].
ختاماً: أخي الكريم! أعتذر إليك إن كنت قصرت في نصحك أو أسأت الأدب في وعظك؛ فهذا جهد المقل وأرجو التجاوز والصفح، واعلم ـ يا رعاك الله ـ أني ما كتبت هذا الكلام إلا بعد تردد لعلمي بقصور ذاتي وقلة علمي.
وأسأل الله أن يعينني وإياك على تحقيق مرادنا، وأن يتجاوز عنا جهلنا وإسرافنا في أمرنا.
الهوامش:
(1) أخرجه أحمد،ح.20719، والنسائي، ح/838، وأبو داود، ح/460.
(2) الفوائد، ص51.
(3) الشرة: النشاط والرغبة.
--------------------------------------------------------------------------------
مجلة البيان، العدد (146)، شوال 1420،فبراير 2000 .
* * *
http://www.albayan-magazine.com/zwaya/trbwi/44.htm
من أسباب تساقط الشباب
أحمد العميرة(2/87)
تضافرت الأدلة من الكتاب والسنة على أهمية الدعوة وفضلها؛ فلن أستطرد في ذلك، وما دامت هذه الطاعة قد انتسبت إلى الإيمان فإنها معرضة لما يتعرض له الإيمان من الزيادة والنقص؛ فالإيمان يزيد وينقص كما هو معلوم، وأصبحت الدعوة ـ باعتبارها من الإيمان ـ ككل عمل إيماني يعلو فيصل الأوج والذروة أحياناً، اعتقاداً وحماساً، وينحدر
متضائلاً تارة أخرى، والفائز الذي لا يغالي عند التعالي، ولا يسرف عند الهبوط، وذلك بأن يلزم هدي السنة النبوية الشريفة، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: "لكل عمل شِرَّة ولكل شرة فترة؛ فمن كانت فترته إلى سُنَّتي فقد اهتدى"(1)، وفي لفظ آخر: "ومن كانت شرته إلى سنتي فقد اهتدى"(2).
ولعلنا نختصر أكثر فنقول: إن ما نريد طرحه نستطيع أن نسميه بـ "التساقط"، ويجب أن نفرق بين عدة مصطلحات قد يحصل الخلط بينها (الردة ثم الانحراف والانتكاسة ثم الفتور ثم ضعف الإيمان ثم القعود عن الدعوة) والأخير هو الذي نسميه: (التساقط في طريق الشاب).
الأسباب:
1- عدم إخلاص النية لله، قال تعالى:((ومَا أُمِرُوا إلاَّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ)).
[البينة: 5].
2- تخويف أعداء الله للعبد بقطع المعاش أو الفصل من الوظيفة ونحوها.
قال ـ تعالى ـ: ((إنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلا تَخَافُوهُمْ وخَافُونِ إن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ)) [آل عمران: 175].
3- خذلان أهل الحق والخير ممن كان يُؤمَّل فيهم نصرة الدعوة. قال الشاعر ـ وما أحسن ما قال ـ:
وظلم ذوي القربى أشد مضاضة على المرء من وقع الحسام المهند
4- قراءة الواقع قراءة سلبية تؤدي بالداعية للإحباط واليأس، فيترك طريق الدعوة.
5- عدم القناعة الكافية بطريق الدعوة.
6- تعلق قلب الداعية بالدنيا وكراهية الموت.
7- الانفتاح على الأعمال التجارية والدنيوية دون الالتزام بوسائلها الشرعية.
8- الأمراض النفسية كالعجب والغرور والحسد وغيرها.(2/88)
9- الحيل النفسية وهي كثيرة، منها: احتقار الداعية لنفسه، أو الخوف الموهوم، أو الخجل المذموم أو غيرها.
10- فقدان التربية الذاتية الجادة؛ فمجرد الابتعاد عن وسط من الأوساط قد يكون كفيلاً بأن يرجع الداعية الضعيف عما كان عليه من العمل الدعوي.
11- غياب الأهداف الرئيسة للدعوة الإسلامية في هذا الوقت عن ذهن الشاب المسلم كالرجوع بالأمة الإسلامية إلى عزها ومكانتها، وإعادة حكم الله في الأرض، ونشر العقيدة الصحيحة، إضافة إلى الحرص على هداية الناس.
12 - تسرب فكرة (طلب العلم أولاً ولفترة معينة، ثم الانتقال إلى الدعوة إلى الله) ولم يبيِّن لنا أصحاب هذه الفكرة: إلى متى يطلبون العلم؟ وما هو الحد الذي إذا وصلوه سينتقلون منه إلى الدعوة إلى الله؟ وأصحاب هذه الفكرة ـ بلا شك ـ لم يستوعبوا طبيعة هذا الدين
منذ أن نزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم للناس. يقول صلى الله عليه وآله وسلم: "بلِّغوا عني ولو آية"(3).
وقد ثبت أنه صلى الله عليه وسلم استعاذ من علم لا ينفع؛ فقد ورد ذلك في حديث زيد بن أرقم وأنس وعبد الله بن عمرو بن العاص وأبي هريرة ـ رضي الله عنهم ـ: "اللهم أعوذ بك من علم لا ينفع"(4)
وعن جابر ـ رضي الله عنه ـ أنه صلى الله عليه وسلم قال: "سلوا علماً نافعاً، وتعوَّذوا بالله من علم لا ينفع"(5)، وعن سلمان ـ رضي الله عنه ـ قال: "علم لا يُقَالُ به ككنز لا ينفق منه"(6)، وحين سأل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما بال الهلال يبدو صغيراً ثم يكبر؟ نزل قول الله ـ تعالى ـ: ((يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ والْحَجِّ ولَيْسَ البِرُّ بِأَن تَأْتُوا البُيُوتَ مِن ظُهُورِهَا ولَكِنَّ البِرَّ مَنِ اتَّقَى وأْتُوا البُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا)) [البقرة: 189]، وحين سأل رجل النبي صلى الله عليه وسلم: متى الساعة؟ قال له: "ماذا أعددتَ لها؟"(7).(2/89)
فماذا تعني ـ بالله عليكم ـ الاستعاذة من علم لا ينفع، والتوجيه إلى السؤال العملي الجاد؟ أليس يعني أن العلم ما لم يَقُدْ صاحبه إلى نتيجة عملية يعتبر من العبث، بل مما يُستعاذ منه؟ فحري بطلبة العلم أن يتربوا ويُرَبُّوا على أن لا يكون شحذ الذهن بالمعلومات هو الهدف النهائي والغاية القصوى، بل يكون التعلم للعمل والدعوة إليه، وأن يدركوا أن مجرد التعلم والانشغال به لا يغني عن تصحيح النية وإخلاصها لله وحده، إذاً فلا علم بلا دعوة، ولا دعوة بلا علم، وهذا هو دين الله، وعلى من يعترض علينا أن يأتي ببينة سليمة من سيرة السلف تشهد لكلامه.
13 - جهل الواقع والبعد عن فقهه ومعرفته فلا يستطيع التعرف على مشكلات مجتمعه وواقعه ويؤدي ذلك به إلى ترك الدعوة أو الضعف عنها.
14 - تأثير التفرق والاختلاف بين الدعاة والجماعات الإسلامية على الداعية، فيؤدي به ذلك إلى اجتناب طريق الدعوة قال ـ تعالى ـ: (($ولا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وتَذْهَبَ رِيحُكُمْ)) [الأنفال: 46].
15- قلة العلم وقلة التأصيل الشرعي للقضايا والمسائل الحادثة والنوازل؛ فهذا بدوره يُضعف الداعية عن المضي قدماً في دعوته.
16 - الإغراق في الجدل مع أصحاب الأهواء وإضاعة الوقت في ذلك، فهذا مما يضعف الهمة ويغفل عن جوانب أخرى كثيرة، وقد يتأثر بهم ويسقط معهم.
17 - عدم فقه المصالح والمفاسد وإدراك ظروف المرحلة التي تعيشها الدعوة، فيقدم المفضول على الفاضل، وهكذا.
18 - عدم الصبر عند وقوع الابتلاء والأذى في سبيل الله.
19 - عدم التعود على إنكار المنكر والنفرة منه ومجابهته، فيألف المنكر مما يسبب له التساقط والنكوص.
20- التنازل عن أمور لا يجوز شرعاً التنازل عنها من الدعوة، فتقوده السلسلة من التنازلات إلى النكوص والتراجع.
21 -عدم التدرج في الدعوة؛ فيبدأ بأعمال غير مؤهَّل لها، فيصاب بشيء من الضعف نتيجةً لذلك.(2/90)
22 - عدم الانضباط مع الصحبة الصالحة التي هي الزاد للداعية في طريقه، وانعدام الاستشارة في الأعمال الدعوية أو قلتها.
23 - الارتباط بصحبة بطَّالة أو مثبِّطة ذات اهتمامات دنيئة مما يضعف عزم الداعية.
24 - استعجال الثمرة واعتقاد قربها.
25 - ضعف اليقين بنصر الله لعباده المؤمنين قال ـ تعالى ـ: ((إنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا والَّذِينَ آمَنُوا فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا ويَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ)) [ غافر: 51].
26 - عدم الاعتراف بالأخطاء، وعدم تقبل النصيحة.
27 - ارتكاب المعاصي والاستهانة بالصغائر من الذنوب.
28 - قلة الاهتمام بالجانب العبادي لدى الداعية كقيام الليل والأذكار اليومية.
29 - ترك الدعاء الذي هو سلاح المؤمن.
30 - ضعف شخصية الداعية فيسهل التأثير عليها بأي شيء.
31 - عدم التنظيم للعمل الدعوي، وقلة التخطيط السليم.
32 - التحريش بين الدعاة، وتحريض بعضهم على بعض.
33 - تغير المجتمع أو الوسط الذي يعيش فيه وقد كان زاداً على الاستمرار في الدعوة.
34 - العاطفة الزائدة والحماس المفرط الذي قد يؤدي للغلو في أمور كثيرة، وبعد فترة يجد نفسه متراجعاً عن كل عمل دعوي.
كانت تلك أبرز أسباب التساقط اجتهدت فيها بالاختصار والدمج بين سببين في سبب واحد، وعدم التكرار في الصيغة النهائية لها.
نسأل الله لنا ولكم التوفيق في الدارين، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
الهوامش:
(1) مسند الإمام أحمد، ح/ 6473.
(2) المصدر السابق.
(3) رواه البخاري، ح/ 3202.
(4) رواه مسلم، ح/ 4899.
(5) رواه ابن ماجة، ح/ 3833.
(6) رواه الدارمي، ح/ 554.
(7) رواه البخاري، ح/ 3412.
--------------------------------------------------------------------------------
مجلة البيان، العدد (147)، ذو القعدة 1420،مارس 2000
* * *
http://www.albayan-magazine.com/zwaya/trbwi/45.htm
إيش ضرَّ أبا الحسنِ انصرافي؟(2/91)
أكرم عصبان الحضرمي
إنَّ هذه النصيحة الغالية، والحكمة البالغة التي أطلقها الإمام الصَيْمَري(1) ـ عليه رحمة الله ـ تأسفاً على فوات كثير من العلم والاستفادة من عَلَمٍ من أعلام الحديث، لتمثل لنا سِراجاً نستنير به في ظلمات الهجر غير المنضبط الذي خيَّم في سماء صحوتنا، والذي يمثل عقبة في طريق العلم والاستفادة.
إنَّ مَنْ تفقه في هذه العبارة، وتأملها كل التأمل، انتفع بها غاية الانتفاع؛ لأنها تعالج لنا واقعاً من الانحراف في حياتنا التعليمية ومنهجاً معوجاً في التعامل مع اجتهاد العلماء، وأخطائهم، وتتضح لنا خطورة هذا المسلك حين تأتي الثمار السيئة من تفويت الخير الكثير في ترك جهود العلماء المشهود لهم بالعلم الراسخ والقدَمَ الثابت.
من أجل هذا وغيره أضحت هذه المشكلة جديرة بالوقوف أمامها وصرف النظر إليها، إنها مشكلة الازورار عن العلم (دروساً وكتباً وأشرطة...) بسبب بعض الاجتهادات والأخطاء، فما هو خبر الصَيْمَري؟
لنستمع إليه يحدثنا عن خبره.
قال الخطيب: قال لي الصَيْمَري: "سمعتُ من الدارقطني(2) أجزاءاً من سننه، وانقطعتُ لكونه ليَّن أبا يوسف، وليتني لم أفعل، إيش ضرَّ أبا الحسن انصرافي؟"(3).
تشخيص الظاهرة:
إنه يشخِّص الظاهرةَ (الانقطاع عن دروس الدارقطني) ولقد انتشرت هذه الظاهرة في عصرنا وفشت، فكم من مجالسَ للعلماء تُهجَرُ، وكم من كتب تحرق، وكم من أشرطة ترمى! بل وصل الأمر ذروته وبلغ السيل الزبى حين يُهْجَرُ مَنْ لَمْ يَهْجُرْ تلك الأمور، وهذه ـ لعمري ـ قاصمةُ الظهر، فلم يقطعوا دروسَ الدارقطني فحسبْ، بل قطعوا من لم ينقطع من دروسه، وهذه من فرائِد عصرِنا وهذا مخالف لميزان الإنصاف ((قال معاذ الله أن نأخذ إلا من وجدنا متاعنا عنده إنا إذا لظالمون))}. [يوسف: 79].
أسباب الظاهرة:(2/92)
إن سبب الانقطاع (لكونه ليَّن أبا يوسف)(4) صاحب أبي حنيفة وأحد أئمة الأحناف وأركان المذهب، فالصَيْمَري لم يتحملْ كلام الدارقطني فيه فترك مجلسه؛ وهذا نَعدُّه تعصباً منه ـ رحمه الله ـ وانتصاراً لإمامه.
داء التعصب:
فالتعصب إذن مَزَلةُ أقدام، ومَظنّة أفهام، وآفة من آفات العلم، "وهو انتحالُ مجموعةٍ من الناسِ مذهباً أو انتخابُ آراء بحيثُ لا يبغون عنها حولاً ولا يريدون بها بدلاً".
إن الدارقطني أدَّاه اجتهادُه ـ وهو إمامُ الحديث ورجاله ـ إلى تليين أبي يوسف؛ فعلامَ يُترك الأخذ عن مجتهدٍ قد يكون رأيه هو الحق، ومذهبُه هو الصواب؟ ولكنه التعصب الذي يَحْرِم صاحبَه التعلم! قال حُسَيْنَكُ بنُ علي: أول ما سألني ابنُ خزيمة فقال: كتبت عن محمد بن جعفر الطبري؟ قلت: لا. قال: ولِمَ؟ قلت: لأنه كان لا يَظْهرُ وكانت الحنابلة تمنع من الدخول عليه(5). قال: "بئسَ ما فعلت. ليتَكَ لم تكتبْ عن كلِّ ما كتبتَ عنهم، وسمعتَ من أبي جعفر"(6).
فالواجب على طالب العلم ألا يتحيَّزَ لمذهبٍ معينٍ، ولا لآراء خاصة، وإنَّما ينتخب من الأقوال ما وافق الحق، ويجتنبُ ما خالفه.
التسرع في الحكم وعدم التثبت:
وتزداد الزاوية انفراجاً عند ترك التثبت، والتسرع في الحكم؛ فإن اجتهاد الدارقطني يُنظرُ إليه، فقد سبقه إلى ذلك نفرٌ من علماءِ الجرح والتعديل منهم شيخ المحدثين ـ البخاري ـ فقبلَ هجره يُتبَيَّنُ قوله، كما قال الحسنُ البصري ـ رحمه الله ـ: "المؤمنُ وقَّاف حتى يتبين"(7).
فإن أصاب فنعمَّا هو، وإن أخطأ فالكمال عزيز، وإنما يمدحُ العالمُ بكثرة ما له من الفضائل؛ فلا تدفنُ المحاسنُ لورطة ربما رجع عنها وقد يَغْفِرُ الله له باستفراغه الوُسعَ في طلب الحق فيه، ولمن ثبت عنده ذلك الخطأ أن يجادل بالتي هي أحسن، ويرشده إلى الحق مع حفظ الأخوة، وبقاء الاستفادة؛ فكم من علمٍ فاتَ بسبب التسرع وعدم التثبت.(2/93)
قال قيسُ بن الربيع: "قدم علينا قتادة الكوفة فأردنا أن نأتيه فقيل: إنه يُبغِض علياً، ثم قيل: إنه أبعدُ الناس من هذا؛ فأخذْنا عن رجل عنه"(8).
كم فاتهم من الخير، وأي خسارة خسروا حين نزل سندهم فأخذوا العلم نازلاً بعد إمكان أخذه عالياً، وانظر إلى السند والإحالة تجدها عن مجهول "قيل: إنه يبغض علياً". وقيل: "إنه أبعد من هذا"، فأين تعاليم القرآن؟ (({يا أيُّها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأٍ فتبينوا أن تصيبوا قوما بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم نادمين)) [ الحجرات: 6].
التعصب وسوء الظن:
وتزداد زاوية الانفراج للتعصب أكثر حين يُولِّدُ ظنوناً سيئةً ألا "وإن الظن أكذب الحديث"(9) ويؤدي إلى تتبع العثرات، وترصُّد الزلات، ويبدأ الخلاف في فرعية صغيرة فيرقى إلى الاتهام في أصول الإسلام وقواعد الديانة. قال الذهبي: "قرأت بخط الموفَّقِ قال: سمعنا درسه ـ أي ابن عُصْرُون ـ مع أخي أبي عمر وانقطعنا. فسمعت أخي يقول: دخلت عليه بعدُ، فقال: لِمَ انقطعتم عني؟ قلت: إن ناساً يقولون: إنك أشعري. فقال: "والله ما أنا بأشعري"(10) هذا معنى الحكاية.
وهذه الصورة من التعصب تظهر في عصرنا في أكمل مبانيها، وفي أوضح معانيها؛ فمن تكلم بنصوصٍ في الحاكمية من وجوب الحكم بما أنزل الله، والتحذير من القوانين الوضعية، والأحكام الدولية، يُهْجَرُ أولاً ويعدُّ خارجياً ثانياً، كما أن مَن لم يرَ إقحامَ الأمةِ في ظلماتِ الخروج غير المنضبط بالضوابط الشرعية يعد مُرْجئاً جَهْمياً.
إن الظنَّ السيئَ، والاتهام بالبدعة، والتسرع في ذلك، رُوِّع بها شيوخ(11) وظلم بها علماء وهُجِرَ بها دعاةٌ لا يرون مسوِّغات ذلك، كما قال الأول: (وأرى العداوة لا أرى أسبابها) وكل ذلك بسبب أسانيد منقطعة (يقولون) ويرد ابن عصرون هذه الفرية مؤكداً كلامه بالقسم: (والله ما أنا بأشعري)، وكان حاله كحال القائل(12):
ولكني ظلمت فكدت أبكي من الظلم المبيَّن أو بكيت(2/94)
الكذب وكيد الشيطان:
انظر كيف يُكذَبُ على العلماءِ بسندٍ مبهمٍ لا يُعرفُ قائله أجنيٌ أم إنسي؟ ومن يدري؟ لعل الشيطان هو الذي نقله! وما ذلك ببعيد، فقد قال أبو عمر بن عبد البر: (روينا أن جارية لصفية أتت عمر بن الخطاب فقالت: إن صفية تحبُّ السبت وتصل اليهود، فبعث عمر يسألها فقالت: أما السبت فلم أحبه منذ أن أبدلني الله به الجمعة، وأما اليهود فإن لي فيهم رحماً، فأنا أصلها، ثم قالت: يا جارية ما حملك على ما صنعتِ؟ قالت: الشيطان. قالت: فاذهبي فأنت حرة"(13).
ولكن إنْ مَرَّ كيدُ الشيطان على بعض العلماء فإنه لا يمرُّ على عمر ـ رضي الله عنه ـ الذي كان الشيطان يَفْرَقُ منه. وهكذا نجدُ أن الشيطان قد نَصَب أحابيله وأقامَ شِراكه ودبَّر مكائده حتى يصطاد العلماء وطلبة العلم فيها. فلا يُغْفَلُ عملهُ؛ إنه دورُ: "ولكن بالتحريش بينهم"(14).
مراعاة التخصصص:
والحاصل أن الدارقطني ـ رحمه الله ـ حين تكلم فيما تكلم لم يجاوز فنه، ولم يتعد تخصصه، فقد كان إمام الجرحِ والتعديل، والحديث عن الرجال، فلا يعنَّفُ ولا يُهْجَر. فإذا كان المخطئ في غير فنِّه يُرْفَقُ به، ويردُّ إلى الصواب فمن باب أوْلى المتخصص. ومن هنا ردَّ العلماءُ على ابنِ طاهر حين قال: "وأقبحُ ما رأيتُ في قولِ إمام الحرمين(15) في كتاب أصول الفقه: والعمدة في هذا الباب على حديث معاذ" قال: وهذه زلةٌ منه ولو كان عالماً بالنقل لما ارتكب هذه الجهالة".
قال الحافظ: "قلت: أساء الأدب على إمام الحرمين، وكان يمكنه أن يعبِّر بألين من هذه العبارة، مع أن كلام إمام الحرمين أشدُّ مما نقله عنه، فإنه قال: "والحديث مدون في الصحاح متفق على صحته لا يتطرق إليه التأويل"(16).(2/95)
فهذا في مَنْ لم يبلغ المرتبة العالية في هذا الفن "أما من بلغَ مرتبة الرسوخِ والإفادةِ، وكان على جانب عظيم من العلم ـ كالدارقطني، وانتحل مما انتحل عن اجتهادٍ ونظرٍ فلا يُرتابُ في العناية بالأخذ عنه والتلقي منه".
ثمرة فعل الصيمري:
لقد نعتَ ابنُ كثير الإمامَ الصَيْمَري بأنَّه كان عارفاً بحقوقِ العلماءِ، ومن حقِ الدارقطني عليه أن لا يقطعه بل ينْصَحه ولذلك قال: ليتني لم أفعلْ!(17). إنه لم يَزدْ على تركِ مجلسه، فلم يتكلم فيه بل حفظ لسانه. وتُعَدُّ هذه في عصرنا منقبة للهَاجِرِ ليقابل من يعنِّف على مخالفه ويفسِّقه ويبدِّعه، وأين هذا المسلك الذي سلكه الصَيْمَري من مسلك زاهد الكوثري الحنفي الذي آذى العلماء الذين تكلموا في أبي يوسف أمثال البخاري والخطيب والعقيلي ونبز الأخير بأنه حشوي(18). فهذا يعتبر عقوقاً من الخَلَفِ بتركِ مسلك السلف!
ثم قال: "إيشٍ ضرَّ أبا الحسن انصرافي؟" لم يضرَّه شيئاً بل بقي إمامَ عصره. إن انجفال طلبة العلم عن علماء السُّنَّة والدعاة إليها بسبب اجتهاد أو خطأ يفوِّتُ عليهم ـ وا أسفا ـ علماً جماً، وخيراً كثيراً {$ّمّا يٍضٌلٍَونّ إلاَّ أّنفٍسّهٍمً $ّمّا يّشًعٍرٍونّ} [آل عمران: 69]. ولا يَبْعُدُ أن يكونَ ذلك عقوبةَ الظلم، وترك الإنصاف؛ وما ضرَّهم لو صححوا الخطأ واعتذروا له؟ ورحم الله ابن الوردي(19) حين قال:
والناسُ لم يصنِّفوا في العلمِ ما صنَّفوا إلا رجاءَ الأجرِ
لكنْ قديتُ جَسداً بلا حسدْ واللهُ عندَ قولِ كلِّ قائلِ
لكيْ يَصْيروا هَدَفاً للذمِّ والدَعَواتِ وجَميلِ الذكرِ
ولا يُضيعُ الله حقاً لأحدْ وذو الحجَا في نفسِه في شاغلِ
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين...
الهوامش :
(1) أبو عبد الله الحسين بن علي الصيمري، أحد أئمة الحنفية كان صدوقاً وافر العقل عارفاً بحقوق العلماء. البداية والنهاية، 12/57، السير، 17/615.
((2/96)
2) أبو الحسن علي بن عمر البغدادي الدارقطني صاحب السنن الحافظ المجوِّد، كان من بحور العلم وأحد أئمة الدنيا، انتهى إليه الحفظ ومعرفة علل الحديث ورجاله، البداية والنهاية، 11/307، السير 16/449.
(3) سير أعلام النبلاء، 17/616.
(4) أبو يوسف يعقوب بن إبراهيم صاحب أبي حنيفة الإمام المجتهد، لم يختلف يحيى بن معين وأحمد بن حنبل وعلي بن المديني في ثقته في النقل.
(5) وقع بين محمد بن جرير وأبي بكر أمور وكانت الحنابلة حزب ابن أبي بكر فكثروا وشغبوا عليه. السير، 14/277، وقد صدق ابن عقيل حيث يقول:"رأيت الناس لا يعصمهم من الظلم إلا العجز ولا أقول العوام بل العلماء، كانت أيدي الحنابلة مبسوطة، في أيام ابن يونس فكانوا يستطيلون على أصحاب الشافعي فلما جاءت أيام النظَّام استطال عليهم أصحاب الشافعي فتدبرت أمر الفريقين فإذا بهم لم تعمل فيهم آداب العلم"، شرح الإقناع، 1309.
(6) سير أعلام النبلاء، 14/262، طبقات السبكي، 2/137.
(7) الفتاوى لشيخ الإسلام، 10/382.
(8) سير أعلام النبلاء، 5/272.
(9) جزء من حديث صحيح عند البخاري من حديث أبي هريرة.
(10) وقد تعقب السبكي ـ الأشعري تلميذ الذهبي ـ على شيخه هذه القصة بما لا طائل تحته؛ وهذا يعد تعصباً أيضاً وجرأة على شيخه. انظر طبقات السبكي، ترجمة ابن عصرون، وحاشية السير، 21/129، سير أعلام النبلاء، 21/129.
(11) ومن الصور المبكية أن الكيا الهراسي أشيع أنه باطني إسماعيلي فنمت له فتنة هائلة هو بريء منها، ولكن وقع الاشتباه على الناقل، فإن ابن الصباح باطني إسماعيلي كان يلقب الكيا ثم ظهر الأمر وفرجت الكربة، الطبقات الكبرى.
(12) سنان بن الفحل الطائي.
(13) السير، 2/231.
(14) رواه مسلم، ح/5030.
((2/97)
15) قال الذهبي: كان هذا الإمام مع فرط ذكائه وإمامته في الفروع وأصول المذهب وقوة مناظرته لا يدري الحديث كما يليق به لا متناً ولا سنداً ذكر في كتاب البرهان حديث معاذ في القياس فقال: هو مدون في الصحاح متفق على صحته، السير 18/471.
(16) السلسلة الضعيفة، 2/28.
(17) يقول ـ تعالى ـ:(( ولا تنسوا الفضل بينكم})) [البقرة: 237].
(18) حاشية مناقب أبي حنيفة وصاحبيه، ص 72.
(19) ويقول الحريري:
وإن تجد عيباً فسدَّ الخللا جلَّ الذي لا عيبَ فيه، وعلا
--------------------------------------------------------------------------------
مجلة البيان، العدد (150)، صفر 1421،يونيو 2000 .
* * *
http://www.albayan-magazine.com/zwaya/trbwi/46.htm
التربية أساس الدعوة
سالم فرج سعد
حين نتعمق في الفكر قد نغفل أحياناً عن مسلَّمات بدهية وأساسية ، فنجعلها أموراً ثانوية إذا تناولنا الحديث حولها ، فلا تبقى لها أهميتها الأساسية في طرحها أو تنفيذها في ساحة العمل الدعوي .
من ذلك قضية التكامل التربوي وشخصية الداعية المربي الذي يربي الناس على مراعاة الأولويات والتدرج في تعليمها ومثله في ذلك تماماً مثل العلماء الربانيين الذين يربون الناس على صغار العلم قبل كباره .
يجب علينا ألا نكتفي بإدراك تلك القضية ومعرفتها نظرياً ، بل علينا أن نعمل بمقتضاها ، ونسعى لتحقيقها وتطبيقها عملياً في الدعوة إلى الله عز وجل .
فالتربية هي أساس سلوك الفرد في مجتمع الدعوة وبناء الجيل المسلم الذي يطمح للإصلاح ومستقبل أفضل ؛ مما ينعكس ذلك إيجابياً على طبيعة العمل الإسلامي ، ويعطيه صبغة يميزه الناس بها .(2/98)
وقد ينطلق بعضهم حين يريد تقييم أسلوب العمل الإسلامي من منطلق التعميم في الخطأ أو الصواب ؛ لذلك فإن التربية هنا تلعب دوراً مهماً في علاقة الداعية بالتربية الدعوية ، فتؤتي ثمارها الطيبة في استجابة الناس وقابليتهم للخير بالسلوك الراقي في التعامل والثقة المتبادلة في العرض والطلب .
إن المفهوم التربوي الصحيح لا يفصل التربية عن الدعوة والعلم أو الجهاد والعمل للدين ؛ فهي كلها خطوط واحدة ومتوازية كما في الآية الكريمة : ] يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الكِتَابَ وَالْحِكْمَة [ ( الجمعة : 2 ) .
ومن الشمولية في هذا المفهوم ضرورة تجاوز التربية الحزبية بين العاملين من أبناء الأمة إلى التربية الواسعة الآفاق في العمل الاجتماعي والثقافي والعلمي المشتمل على أمور الدين والدنيا والمرتبط بالمجتمع والدولة .
ذلك لأن التربية هي الأساس التوجيهي لكل عمل أو فكر أو خلق ؛ ليس ذلك في العمل الدعوي وحده ؛ فإن تربية المرء مثلاً على القيم والمبادئ النبيلة منذ صباه لا شك أن ذلك سيكوِّن فيه شخصية متكاملة ومتماسكة ؛ لأنه عايش مراحل تأسيسه مرحلة مرحلة .. وخطوة خطوة ..
وهكذا هو الأساس التربوي في تماسك بنيان الدعوة المرصوص .. والمعين على وحدة صفها وكلمتها بإذن الله تبارك وتعالى .
--------------------------------------------------------------------------------
مجلة البيان، العدد (199)، ربيع الأول 1425، أبريل - مايو 2004
* * *
http://www.albayan-magazine.com/zwaya/trbwi/47.htm
الإيمان هو المنقذ
عبد المجيد الزنداني
إذا استعرت الأهواء في النفوس، وحُطّمت القيم، وتجاوزت الحدود؛ فإن الإيمان هو المنقذ من جحيم تلك الأهواء التي تدمر حياة البشر وتفسدها، وإذا ازدحمت النظريات المتناقضة، واحتجبت الرؤيا الصحيحة، وأُعجب كل ذي رأي برأيه، وأظلمت الطرق فإن الإيمان هو المنقذ.(2/99)
وإذا حيكت المؤامرات لتلبيس الحقائق وإحباط الهمم وتفريق الصفوف واستدراج الشعوب فإن الإيمان هو المنقذ.
وإذا أحاطت الجيوش، ونصبت المنصات لإطلاق الصواريخ، وزمجرت الطائرات، وصوبت المدافع فإن الإيمان هو المنقذ.
يقول كثير من الناس: هل هذا صحيح؟ وهل يمكن أن يكون؟ وهيّا لنرى الجواب:
إن النفس البشرية قد جُبِلت على حب الخير والاستكثار منه، والخوف والفرار من الأخطار والاحتياط من الوقوع فيها، وليس من الخير مثل الجنة التي فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر كما وصفها الله بقوله: {فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [السجدة: 17]؛ فهي دار الخلود التي يتحقق فيها كل ما تشتهي الأنفس، وليس من الخطر مثل النار التي وقودها الناس والحجارة التي قال الله في أهلها: {وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ أَوَ لَمْ نُعَمِّرْكُم مَّا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَن تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِن نَّصِيرٍ} [فاطر: 37].
وإذا استقر الإيمان بحقيقة الثواب والعقاب هذه في النفس البشرية انطلقت تلك النفس لممارسة الأعمال الصالحة رجاء الفوز بنعيم الجنة، وأحجمت عن الانطلاق وراء الأهواء والشهوات خوف الوقوع في النار.
وعندئذٍ يفيض الخير في المجتمع فيضاً، ويغيض الشر فيه غيضاً، وتنجو البشرية من شر النفوس ونزعاتها المدمرة لحياة الأفراد والجماعات، لكن ذلك كله يتوقف على تحقق الإيمان بالوعد والوعيد.(2/100)
وإذا استقر الإيمان في النفس البشرية علم صاحبها أن له خالقاًً عليماً قد أحاط بكل شيء علماًً، حكيماً يهدي إلى الحق وإلى الصراط المستقيم، عدْلاً لا يظلم الناس شيئاً، خبيراً بدخائل النفوس وخفاياها، وأن ما جاء من عنده هو الحق الذي لا يشوبه باطل كما قال ـ تعالى ـ: {فَمَا يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ * أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ} [التين: 7 - 8].
وكما قال ـ تعالى ـ: {الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إلاَّ اللَّمَمَ إنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إذْ أَنشَأَكُم مِّنَ الأَرْضِ وَإذْ أَنتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ فَلا تُزَكُّوا أَنفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى} [النجم: 32]، وكما قال ـ تعالى ـ: {قُلْ أَأَنتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ} [البقرة: 140].
وعندئذٍ تتجلى أنوار الطريق المستقيم الذي لا تغشاه ظلمة نظرية قاصرة وفكرة بشرية محدودة، فتنجو البشرية من التخبط في ظلمات النظريات القاصرة والأفكار المشحونة بالأهواء الجائرة، ويخرج الناس من الظلمات إلى النور كما قال ـ تعالى ـ: {اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إلَى النُّورِ} [البقرة: 257]، وكما قال ـ تعالى ـ: {وَيُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إلَى النُّورِ بِإذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} [المائدة: 16]. فيضع المؤمن رأيه متخلياً عن إعجابه وغروره برأيه معتصماً بالهدى الذي جاءه من خالقه، فيجتمع الناس على طريق واحد يعصمهم من كل زيغ وجهل وضلال.(2/101)
وإذا تحقق الإيمان في مجتمع من المجتمعات تولاه الله ودافع عنه كما في كتابه بقوله: {إنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا إنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ } [الحج: 38]، فتتحطم شباك المكر والخداع التي يمكر بها الكافرون بالمسلمين كما قال ـ تعالى ـ: {وَإذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} [الأنفال: 30].
فتنفضح مؤامرات وتنكشف خيانات، وتسقط أقنعة وينجلي الصدق وأهله، ويتمايز الخبيث من الطيب والصادق من الكاذب، ويحتشد جميع المؤمنين صفاً واحداً معتصمين بحبل الله تاركين أسباب الفرقة والاختلاف كما أمرهم الله بقوله: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا} [آل عمران: 103].
وإذا تمكن الإيمان في النفوس وتحقق في واقع الحياة عبادة صحيحة وأخلاقاً نبيلة وسلوكاً مستقيماً ودعوة صادقة استحق المؤمنون ما وعدهم الله به؛ والله لا يخلف الميعاد.
وقد وعد الله المؤمنين إذا صدقوا في إيمانهم، وقاموا بما أوجب عليهم بوعود لا تُخلف.
وعد الله المؤمنين بالنصر على أعدائهم: {وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ} [الروم: 47].
ووعد الله المؤمنين بالعزة فقال: {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ} [المنافقون: 8].
ووعد الله المؤمنين بأن يتولاهم فقال: {اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا} [البقرة: 257].(2/102)
ووعد الله الذين آمنوا بالتمكين في الأرض والاستخلاف فقال ـ تعالى ـ: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [النور: 55].
ويتساءل الناس: أيقع كل هذا مع نقص الأسباب وغياب المؤهلات المادية؟ والجواب ما حدَّث به التاريخ: كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله.
والله لا يعجزه شيء فهو القائل: {وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَبَقُوا إنَّهُمْ لا يُعْجِزُونَ} [الأنفال: 59].
فهيَّا إلى الإيمان نثبته في قلوبنا بالعلم والبينات، ونعلنه بألسنتنا وأجهزة إعلامنا، ونطبقه بأفعالنا.
وبهذا يتضح أن الإيمان هو المنقذ من كل ما نشكوه.
--------------------------------------------------------------------------------
مجلة البيان، العدد (200)، ربيع الآخر 1425 - مايو - يونيو 2005
* * *
http://www.albayan-magazine.com/zwaya/trbwi/48.htm
لا تحقرن نفسك!
نجيب الحيدري(2/103)
الناظر في حال أمتنا اليوم يرى أنها مصابة بكثير من الأمراض القلبية التي تجعلها في ذيل القافلة.. ومن هذه الأدواء: (داء احتقار الذات) «وعدم ثقة الفرد بقدراته بصورة جعلته في غاية السلبية مما أفقده الحماس الدافع للعمل؛ فترى الإنسان المسلم في أحيان كثيرة إنساناً خاملاً لا يعمل لنفسه شيئاً فضلاً عن أن يعمل للرفع من شأن أمته(1)، وقد استشرى هذا الداء في أوساط العاملين كذلك؛ فترى من يحتقر نفسه في مواطن يجب أن يقدم فيها، أو يحتقر فيها عمله أو يحتقر من يدعو؛ فلا يكاد هذا المرض يفارق الكثير منا ما لم نعالجه ونحاول أن ندفع شره كما ندافع الأمراض الفتاكة. ولعلّي أحاول هنا مستنيراً بكتاب الله وسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن أهتف بنفسي وبإخواني لعل نفساً أن تؤوب وتثوب، ولعل قلباً أن يعي، ولعل روحاً أن تبذل، ولعل رجع صوتي يوقظني ويوقظ إخواناً معي.
_ أسباب المرض:
لكل مرض أسباب ومظاهر وعلاج؛ ولكن ما هي أسباب هذا المرض الخطير على الأمة يا ترى؟ فخذ بعضاً منها:
1 - البعد عن منهج الله ـ تعالى ـ وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - يجعل الإنسان يُحس بعبثية الحياة وفقدان الهدف، ومن ثم احتقار الذات وعدم الشعور بالمسؤولية. قال ـ تعالى ـ: {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ} [المؤمنون: 115].
2 - حال الأمة وما تعانيه من الهزيمة النفسية ومن الذل والهوان والانقسام والتشرذم مما جعل أفرادها يحتقرون ذواتهم في مقابل قوة أعدائهم، ولكن إذا رجعوا إلى دينهم أعزهم الله.
3 - التربية غير السوية سواء في الأسرة أو في المدرسة أو في المجتمع عموماً؛ فإذا كانت هذه التربية لا تؤهل الفرد ليعبر عن رأيه واختياره ما يراه مناسباً له ولا تؤهله لتحمل المسؤولية؛ فإن ذلك ينتج أفراداً مسلوبي الإرادة ومحتقرين لذواتهم.(2/104)
4 - عدم تنمية الذات؛ فإن الذات تنمو إذا تربت على حمل المسؤولية، وتذبل إذا أُهملت وتركت بدون تربية، ثم النظر في جوانب النفس والحياة المشرقة وجوانب التفوق فيها؛ فإن النفس إذا تربت على التفاؤل أقدمت وتفاعلت، وإذا تربت على التأنيب والانتقاد تلاشت واضمحلت.
5 - التقليد الأعمى للغرب، والانبهار بما وصلوا إليه من حضارة وتفوق دنيوي يجعل الإنسان يحتقر ذاته، ويشك في دينه ومجتمعه.
6 - ضياع الهوية وتشتت الاهتمامات، فيشعر الفرد المسلم أن عزته في غير دينه، ويحاول أن يتميز بهذه الأمور ويهتم بها أياً كانت (كرة، فن، قنوات... غيرها) مما يشتت اهتماماته، ويجعل منه إنساناً سلبياً محتقراً لذاته غير مبالٍ بأمته، بل جل اهتمامه بهذه الأمور.
وفيما يلي ذكر لبعض المظاهر عسى أن أوفق لعلاج نفسي ومعالجة هذا الموضوع بطريقة ترفع الهمم وتوقظها.
_ مظاهر المرض:
وهنا نعرض لبعض مظاهر هذا المرض حتى نعرف هل نستطيع العلاج على أفضل وجه؟ فمن هذه المظاهر:
1 - ما نلحظه من احتقار الكثير ذاته في سد ثغرات الدعوة إلى الله التي يجب سدها في جميع جوانب الدعوة، أو عدم وجود الكفاية ممن يسد المحل ويفي بالغرض. ومن الحجج التي تقال وترفع: «لسنا أهلاً لسد هذه الثغرات...» وكان الأجدر بنا فعل ما يمكن فعله، وعمل ما يستطاع عمله لا أن نترك مجالات الدعوة فارغة وننشغل بدنيانا بحجة عدم القدرة.
2 - ترك إنكار المنكر تذرعاً بأنه لم يبلغ الحد الذي يُسمَع له، أو أن صاحب المنكر قد لا يراه أهلاً، أو نحوها من حبائل الشيطان. ومنها احتقار الذات وعدم الثقة في النفس. ومن المعلوم أن من الواقع المشاهد أن المنكر يزول أو يخف مع كثرة عدد المنكرين؛ فكن أحدهم.
3 - احتقار ما يقدم لبعض المدعوين تقليلاً من شأنهم، أو ازدراءً لهم، أو لضعف أثرهم في تسيير الدعوة إلى الله، أو على العكس من اليأس من هدايتهم؛ فلا يقدم لهم شيئاً من النصح أو التوجيه.
_ علاج المرض:(2/105)
العلاج يحتاج لصبر ومصابرة، ويجب علينا جميعاً أن ندرك خطر إهمال أنفسنا وعدم علاجها من مثل هذه الأمراض أو هذه الظواهر في المجتمع فلا بد من الدأب على علاجها، ودرء شرها لكي لا نصبح مجتمعاً متبلد الإحساس بارد المشاعر لا يهم أحدنا إلا نفسه ودنياه، ولا يحرص على الرقي بنفسه ومجتمعه المسلم؛ فهذه بعض ما أعانني الله على استنتاجها، فأسأل الله أن يعيننا على أنفسنا، وأن يهدينا سواء السبيل.. فإلى العلاج معاً:
1 - أن تعرف قيمتك وموقعك في الحياة. فمن أنت؟
أنت أيها المسلم من قال فيك نبيك محمد - صلى الله عليه وسلم -: «لَزَوَالُ الدُّنْيَا أَهْوَنُ عِنْدَ اللَّهِ مِنْ قَتْلِ رَجُلٍ مُسْلِمٍ»(1).
أنت من خير أمة أخرجت للناس قال ـ تعالى ـ فيها: {كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} [آل عمران: 110].
ثم أنت أيها المسلم جندي من جنود الإسلام بصلاحك يصلح مجتمعك، وبفسادك يفسد مجتمعك؛ ألم تسمع حديث السفينة؟
عن النُّعْمَان بْنِ بَشِيرٍ ـ رضي الله عنه ـ عَنِ النَّبِيّ ِ- صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «مَثَلُ الْقَائِمِ عَلَى حُدُودِ اللَّهِ وَالْوَاقِعِ فِيهَا كَمَثَلِ قَوْمٍ اسْتَهَمُوا عَلَى سَفِينَةٍ، فَأَصَابَ بَعْضُهُمْ أَعْلاهَا، وَبَعْضُهُمْ أَسْفَلَهَا؛ فَكَانَ الَّذِينَ فِي أَسْفَلِهَا إِذَا اسْتَقَوْا مِنَ الْمَاءِ مَرُّوا عَلَى مَنْ فَوْقَهُمْ، فَقَالُوا: لَوْ أَنَّا خَرَقْنَا فِي نَصِيبِنَا خَرْقًا وَلَمْ نُؤْذِ مَنْ فَوْقَنَا! فَإِنْ يَتْرُكُوهُمْ وَمَا أَرَادُوا هَلَكُوا جَمِيعًا، وَإنْ أَخَذُوا عَلَى أَيْدِيهِمْ نَجَوْا وَنَجَوْا جَمِيعًا»(2).(2/106)
فهل ترضى أنت أن تكون سبباً في فساد مجتمعك بقعودك وتركك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والقيام بدين الله عز وجل؟ فاعلم أن الإسلام والدين ينتصر بجهد أفرادٍ من الأمة... وقد تكون أنت منهم فلا تحقرن نفسك.
ثم إن معارك الإسلام الفاصلة على مدار التاريخ الإسلامي منذ معركة بدر إلى وقتنا الحاضر إنما وقع النصر فيها بجهد أفراد من الأمة منهم القائد المعروف، ومنهم الجندي في أطراف الجيش لا يعرف، ولكن كل منهم قام بدوره؛ فلم يحتقر الجندي الصغير نفسه فيؤتى الجيش من قِبَله، بل كان كما أخبر النبي - صلى الله عليه وسلم -: «طوبى لعبد آخذ بعنان فرسه في سبيل الله أشعث رأسه، مغبرة قدماه؛ إن كان في الحراسة كان في الحراسة، وإن كان في الساقة كان في الساقة، إن استأذن لم يؤذن له، وإن شفع لم يشفّع»(3)، هؤلاء صدقوا مع الله وفقهوا قول الله ـ عز وجل ـ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} [محمد: 7]، إنْ ننصر الله في أحقر الأمور وأصغرها ينصرنا الله في أجلِّ الأمور وأكبرها على عدونا في أي ميدان وعلى أي أرض.
2 - التأمل في قيمة العمل عند الله:
نعم! لماذا تحقر عملك والفضل لله وحده وهو الكريم الجواد المنان، والذي لا يظلم مثقال ذرة أو ما هو أقل منها؟ {وَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ نَقِيرًا} [النساء: 124] أي لا يظلم الذين عملوا الصالحات من ثواب أعمالهم مقدار النقرة في ظهر النواة، وهو أقل شيء؛ فكيف بما هو أعظم من ذلك؟ وقوله ـ تعالى ـ: {وَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ} ولم يقل (ومن يعمل الصالحات) فدخول (من) على (الصالحات) لوجهين:(2/107)
الأول: أن الله أَعْلمَ عبادَه المؤمنين أنهم لن يطيقوا عمل جميع الأعمال الصالحة، فوعد بالجنة لمن عمل ما أطاق منها، ولم يحرمه منها لسبب عجزه عن بعض الصالحات.
الثاني: أن الله أوجب وعده لمن اجتنب الكبائر وأدى الفرائض وإن قصّر في بعض الواجبات؛ وهذا تفضل من الله للمؤمنين(4).
ولكن المشكلة أننا جميعاً حين نعمل نقدم ما نراه نحن، ونزن الأعمال بموازيننا الضعيفة الهزيلة الدنيوية الأرضية. وإني هنا أريد أن أنقلك أخي القارئ إلى ميزان غير ميزاني وميزانك... فلنبحر في رحلتنا لعلنا نصل... لشاطئ الأمان.
كم مرة يقال لي ويقال لك: ألق كلمة، أو وجِّهْ إنساناً، أو انصح، أو وزِّع شريطاً، أو ادعم مشروعاً، أو قدِّم خيراً.. فنعرض احتقاراً.. إما لأنفسنا أو للمشروع أو لما معنا من علم أو للشخص المدعو أو نحو ذلك.. ولكن اقرأ معي هذه النصوص، وتأملها جيداً، وأطِلِ التأمل لتعرف شأن العمل الحقير في أنظارنا:
_ قال ـ تعالى ـ: {وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ} [الزلزلة: 8]، أي وزن نملة وهي أصغر ما يكون من النمل. وقال بعضٌ إن الذرة هو أن يضرب الرجل بيده على الأرض وما علق من تراب فهو الذرة، وقيل الذرة ما يُرى في شعاع الشمس من الهباء(1).
_ عن أبي الدرداء ـ رضي الله عنه ـ قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «لا تحقرن من المعروف شيئاً ولو أن تلقى أخاك بوجه طلق»(2).
قال النووي ـ رحمه الله ـ في شرحه لهذا الحديث: وفيه الحث على فضل المعروف وما تيسر منه وإن قلّ حتى طلاقة الوجه عند اللقاء(3).
_ عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «سبق درهم مئة ألف» فقال رجل: وكيف ذاك يا رسول الله؟ قال: «رجل له مال كثير أخذ من عَرَضه مئة ألف، فتصدق بها، ورجل ليس له إلا درهمان، فأخذ أحدهما فتصدق به»(4).
فَشمِّر عن ساعد الجِد، وبادر بالأعمال الصالحة ولو استصغرتها في نفسك.(2/108)
3 - النتائج ليست في يديك فلا تحقِّر عملاً قط .. كلمةً.. أو ديناراً... أو حتى بسمة:
أتعلم أن كلمة منك قد تراها عابرة لأي إنسان لا تلتفت أنت لها، وقد تحتقرها، وتقول في نفسك: هل أقولها أم لا؟ وهل سيستفيد منها المدعو أم لا؟ وهذا المبلغ القليل الحقير هل سيؤثر لقلته وحقارته؟ وهل سيستفيد منه المحتاج أم لا؟ قد يكون له من الأثر ما لا يخطر لك على بال. ثم نحن عادة ما نجيب أنفسنا وبدون كثير عناء بكلمة «لا» في مثل هذه المواقف المتكررة في اليوم والليلة عشرات المرات.
ولكن أتدري أن كلمة مني وكلمة منك وكلمة من أخ ثالث لها أثر على رفع المنكر وإثبات المعروف؟ ثم افرض أن المنكر لم يرتفع، أو المعروف لم يثبت؛ فهل ذهب عملك سدى؟ وهل ضاع جهدك أدراج الرياح؟
وعلى مدار التاريخ الإسلامي هناك عدد من العلماء كانت هدايتهم بسبب كلمة، وخذ على سبيل المثال لا الحصر «زاذان» ـ رحمه الله ـ فقد روى عن عبد الله بن مسعود ـ رضي الله عنه ـ أنه مر ذات يوم في موضع من نواحي الكوفة فإذا فتيان فُسّاق قد اجتمعوا يشربون وفيهم مغن يقال له «زاذان» يضرب بالعود ويغني، وكان له صوت حسن؛ فلما سمع ذلك عبد الله بن مسعود ـ رضي الله عنه ـ قال: ما أحسن هذا لو كان بقراءة كتاب الله، وجعل الرداء على رأسه ومضى، فسمع زاذان قوله، فقال: من كان هذا؟ قالوا: عبد الله بن مسعود ـ رضي الله عنه ـ صاحب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. قال: وأي شيء قال؟ قالوا: إنه قال: ما أحسن هذا الصوت لو كان بقراءة كتاب الله تعالى!
ثم قام وضرب العود على الأرض فكسره، ثم أسرع فأدركه وجعل المنديل في عنق نفسه، وجعل يبكي بين يدي ابن مسعود ـ رضي الله عنه ـ فاعتنقه عبد الله، وجعل يبكي كل واحد منهما.(2/109)
ثم قال عبد الله بن مسعود ـ رضي الله عنه: كيف لا أحب من أحبه الله عز وجل. فتاب إلى الله من ذنوبه، ولازم ابن مسعود ـ رضي الله عنه ـ حتى تعلم القرآن، وأخذ حظاً من العلم حتى صار إماماً في العلم، وروى عن ابن مسعود ـ رضي الله عنه ـ وسلمان ـ رضي الله عنه ـ وغيرهما(5).
فعبد الله بن مسعود ـ رضي الله عنه ـ عمل بقوله - صلى الله عليه وسلم -: «بلِّغوا عني ولو آية.. الحديث» (6)، ثم تأمل هذا الصحابي والعالم الجليل المحدِّث كيف اختار الكلام المناسب في الوقت المناسب والقدر القليل ثم هو شيء ليس من المتوقع الهداية على مثله، ولكن الهداية بيد الله؛ فهذه كلمات قليلات صار لها من الأثر ما جعل الرجل يصبح من المحدِّثين العلماء. لا شك أن القائل كذلك له أثر؛ ولكن لاحِظْ أن الكلمات قليلة والجهد يسير محتقر لدينا.. ولكن الأثر والنتائج ليست بأيدي البشر.
بل إن رسولنا محمداً - صلى الله عليه وسلم - حثنا على أقل من الكلمة وهي الابتسامة والتي لا تكلف شيئاً بقوله - صلى الله عليه وسلم -: «لا تحقرن من المعروف شيئاً ولو أن تلقى أخاك بوجه طلق»(7)، .. وكم للابتسامة من الأثر الطيب على نفوس إخوانك من المسلمين مما يزيدهم ألفة ومحبة فيما بينهم وهي كذلك تزيل الأحقاد والضغائن بإذن الله... نعم! لو انتشر هذا التصرف الجميل لأحدث من الألفة والترابط الشيء الكثير الكثير.
كم من ابتسامة رفعت الأسى والحزن عن مصاب، وكم من ابتسامة أزالت غضب غضبان أراد البطش بمن ابتسم له ولكن جاءت هذه الابتسامة لتطفئ الغضب ولتعطي رسالة على حسن أخلاق من ابتسم، وكم من ابتسامة كانت سبب المحبة بين الإخوان في الله فزادت العلاقات وقويت واندحر الشيطان وخنس.
4 - المدعو قد يكون أفضل من الداعي.. فقدِّم ما تستطيعه لكل أحد بلا احتقار ولا يأس:(2/110)
ثم يا أخي الطيب! لا تحقرنََّ إنساناً على وجه الأرض؛ فقد قال الله ـ تعالى ـ: {إنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات: 13]؛ فالإسلام أعز بالإيمان بلال الحبشي وسلمان الفارسي وصهيباً الرومي ـ رضي الله عنهم ـ وأذل بالكفر أبا جهل القرشي وكسرى الفارسي وهرقل الرومي؛ فيا من تدعو إلى الله لا تحقر من تدعو مهما كان.... انظر وتأمل معي.. ألم تسمع بالبخاري ـ رحمه الله ـ الذي يعد كتابه أصح كتاب بعد كتاب الله أنه ليس بعربي، وغيره الكثير من علماء الأمة الجهابذة الكبار من مثل الإمام مسلم والترمذي، بل وعالم اللغة الأول سيبويه، بل إنك لتعجب حين تعلم عن كثير من علماء السلف ـ رحمهم الله ـ وممن علا كعبهم في العلم والدين أنهم كانوا موالي (أي أنهم كانوا أرقَّاء ثم أُعتقوا) ولو تسمع بأسماء بعضهم لتعجبت؛ لكن ما بلغوا ما بلغوه إلا بالدين والعلم من مثل (الحسن البصري، والليث بن سعد، وابن سيرين، وابن المبارك، وعكرمة..) وغيرهم كثير، رحمهم الله. انظر صفة الصفوة لابن الجوزي، رحمه الله. ثم إن كثيراً مما نقوم به في اليوم والليلة من صلاة وصيام وصدقة بل تفاصيل الدين نقله أمثال هؤلاء العلماء الذين عزوا بالدين لا بغيره؛ فهل بعد هذا نحقر مسلماً؟ فتأمل قوله - صلى الله عليه وسلم -: «بِحَسْبِ امْرِئٍ مِنَ الشَّرِّ أَنْ يَحْقِرَ أَخَاهُ الْمُسْلِمَ»(1).(2/111)
نعم! ليست نظرتنا هي المقياس، بل يكفي أن نبذل الوسع في الدعوة مع جميع المسلمين، وعدم القياس بقياسنا، بل نعطي وندعو ونترك الهداية بيد الله، عز وجل. وهذا نبينا محمد ِ- صلى الله عليه وسلم - يعلمنا أن لا نُخدع بالمظاهر ولا نزن الناس بموازيننا؛ فعن سهل ـ رضي الله عنه ـ قال: «مر رجل على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: ما تقولون في هذا قالوا: حري إن خَطب أن يُنكح وإن شَفع أن يُشفّع وإن قال أن يُستمع. قال: ثم سكت، فمر رجل من فقراء المسلمين، فقال: ما تقولون في هذا؟ قالوا: حَرِيٌّ إن خَطب أن لا يُنكح، وإن شَفع أن لا يُشفّع، وإن قال أن لا يُستمع. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: هذا خير من ملء الأرض مثل هذا»(2).
ثم من أنا وأنت في مقابل أنبياء الله ورسله ـ عليهم السلام ـ وهم يدعون الناس بكل إخلاص وتفانٍ؟! ولكن الهداية ليست على الجهد المبذول فقط؛ بل هناك توفيق الله وهدايته للمدعو؛ ألم تقرأ هذا الحديث:
عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رضي الله عنهما ـ قَالَ: لَمَّا أُسْرِيَ بِالنَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - جَعَلَ يَمُرُّ بِالنَّبِيِّ وَالنَّبِيَّيْنِ وَمَعَهُمُ الْقَوْمُ، وَالنَّبِيِّ وَالنَّبِيَّيْنِ وَمَعَهُمُ الرَّهْطُ، وَالنَّبِيِّ وَالنَّبِيَّيْنِ وَلَيْسَ مَعَهُمْ أَحَدٌ..»(3).
وكذلك أيضاً هل هذا الرجل سينفع الأمة، أم هو لن ينفعها؟(2/112)
فهذا نعيم بن مسعود ـ رضي الله عنه ـ لما أسلم ولم يعلم قومه به، فأتى النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال: يا رسول الله! إني أسلمت وإن قومي لم يعلموا بإسلامي فمُرني بما شئت! فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم -: «إنما أنت رجل واحد، فخذِّل عنّا إن استطعت» فالحرب خدعة. فلم يحقره النبي - صلى الله عليه وسلم -، بل أمره بالشيء الذي يناسبه؛ ومن ثم انطلق هذا الشخص الواحد؛ فماذا صنع بقريش ومن معها من اليهود وغطفان؟ صنع بهم العجائب من تشكيك بعضهم في نوايا بعضهم الآخر، فتفرقت الجموع بفضل الله(4)، ثم بجهد هذا الصحابي الواحد، رضي الله عنه. وكذلك أيضاً هل هذا الرجل مقرب من قلبك أو أنت تحب هدايته وحريص عليها؟ فكل هذه الموازين لا قيمة لها؛ فهذا رسولنا محمد - صلى الله عليه وسلم - دعا عمه وحرص أشد الحرص حتى قبل موته، ولكنه لم يهتد، فقال الله ـ عز وجل ـ له: {إنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَاءُ} [القصص: 56] (5)؛ فهذا أحب الخلق لله؛ فكيف بي وبك؟ فلندعُ إلى الله ونترك الهداية والنتائج بيد الله عز وجل.
5 - العمل الصغير قد يصبح كبيراً بالنية الخالصة لله:(2/113)
هناك من الأعمال ما نراه في أعيننا كبيراً ونبذل فيه من الأوقات والأموال، ونرى أن هذا العمل هو ما يدخلنا الجنة... فيخالطه من الرياء أو السمعة أو عدم الإخلاص أو نحو من ذلك مما يحبطه أو يصغره... والعكس بالعكس؛ فقد نحقر بعض الأعمال ولا نراها شيئاً في أعيننا ويخالطها من أعمال القلوب من الإخلاص والرجاء والمحبة والإخبات ونحو ذلك ما يجعلها كبيرة.. كما قال أحد السلف: (كم من عمل كبير صغرته النية، وكم من عمل صغير عظمته النية).. ولا تحقر عملاً قدمته بنية خالصة.. فالقليل مع الإخلاص كثير، ثم خذ على سبيل المثل هذه المواقف التي وردت في السنة من الأعمال التي قد لا نراها في أعيننا شيئاً... فعَنْ أَبِي هُرَيْرَة ـ رضي الله عنه ـ قَالَ: قَالَ النَّبِي - صلى الله عليه وسلم -: بَيْنَمَا كَلْبٌ يُطِيفُ بِرَكِيَّةٍ كَادَ يَقْتُلُهُ الْعَطَشُ إذْ رَأَتْهُ بَغِيٌّ مِنْ بَغَايَا بَنِي إسْرَائِيلَ، فَنَزَعَتْ مُوقَهَا فَسَقَتْهُ فَغُفِرَ لَهَا بِهِ»(6). فهذه بغيُّ (أي زانية تمارس الزنا بل هو مهنة لها) عملت هذا العمل الذي نحقره نحن؛ وانظر للعمل: سقيا كلب؛ فكيف ببني الإنسان؟ بل فكيف بأعمال فيها من نشر للخير ما فيها ونشر للعلم ونحوها ونحن لا نراها في أعيننا شيئاً وهي عند الله بقدر عظيم...؟ وهذا عمل محتقر آخر أيضاً لا نلتفت إليه.. اقر وتأمل: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ـ رضي الله عنه ـ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ بَيْنَمَا رَجُلٌ يَمْشِي بِطَرِيقٍ وَجَدَ غُصْنَ شَوْكٍ عَلَى الطَّرِيقِ فَأَخَذَهُ فَشَكَرَ اللَّهُ لَهُ فَغَفَرَ لَهُ»(7).
فلا تحقر عملاً صغيراً في نظرك؛ فإنك تعلم مدى أثره ونفعه على نفسك وأمتك أو على من تدعوهم إلى الله عز وجل.
قُلْ؛ فقد يقول من بعدك فيتغير الحال ويتغير المآل.
أََنفِقْ ولو بالقليل؛ فإن المال القليل على المال القليل يكثر.(2/114)
أَسِّسْ من المشاريع ولو كانت صغيرة أو حقيرة في نظرك؛ فكم من المشاريع الضخمة قامت على مشاريع صغيرة في البداية.
ابْدِأ بأي عمل ولو صغيراً؛ فإن البدايات دائماً تكون أضعف من النهايات. والأمثلة كثيرة لا تحصر.
فَكِّر فكم من مشروع ضخم كتب الله له القبول والنفع بإذن الله كان من فكرة عابرة.
ابْتَسِم؛ فإن للبسمة من الأثر في قلوب الناس الشيء الكثير الكثير، وإن الشخص البسوم مقبول قوله وفعله لدى العامة قبل الخاصة. وللابتسامة من رفع للمعنويات وإزالة للحزن من قلوب الناس وتثبيت بعضهم الشيء الذي قد يذهل لو اطلع عليه المبتسم.
6 - ممارسة المشاريع الصغيرة .... فهل من عامل؟
هذه لك مني.. ولكي أكون قد بدأت بنفسي فهذه بعض المشاريع للدعوة إلى الله. أسأل الله أن تكون بداية انطلاقة لي ولك للعمل الجاد المثمر؛ فكما قال: «خذوا من الأعمال ما تطيقون؛ فإن الله لا يمل حتى تملوا، وإن أحب الأعمال إلى الله ما دام وإن قلَّ»(8).
7 - فخذ هذه الأفكار البسيطة والتي أسأل أن ينفع الله بها القارئ والكاتب:
1 - احمل حقيبة صغيرة تكون فيها كتيبات ومطويات ورسائل من عدة لغات (أولها العربية) ثم ضع عدة لغات على حسب وجود الجالية في طريقك وفي عملك.. وعند وقوفك عند إشارة أو عند محطة للوقود أعطِ من يستفيد منها.
2 - شارك بمقال أو كلمة لإحدى المجلات أو الجرائد؛ ففيها من الخير الكثير من نشر للخير، وقد يقرأ من يستفيد، وفيها تعويد نفسك الكتابة مما يعودك نشر الخير.
3 - الإنترنت وسيلة كبيرة وسهلة التناول، وممكن أن تصل إلى العدد الكبير في زمن قصير وبالقليل من المال.
4 - إذا اشتريت شريطاً أو مطوية فخذ منها عدداً لإخوانك؛ فلعل المهدى إليه أكثر انتفاعاً من المشتري.
5 - قم بزيارة للمؤسسات والهيئات الخيرية؛ ففيها من رفع معنويات العاملين، وقد تُمكن من المشاركة معهم في مشاريع الخير والإصلاح.
8 - عليك بما تطيق:(2/115)
إن الله «لن يحاسبنا إلا بما أعطانا من القدرات والطاقات، وكل بحسبه؛ فبقدر ما أعطاك سيحاسبك: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إلاَّ وُسْعَهَا} [البقرة: 286]، فلن يحاسَب الأصم الأبكم كالسميع المتكلم، ولن يسأل من أعطاه العلم والقدرة على الإلقاء والتحدث كمن لا علم لديه ولا قدرة له على ذلك.
ولن يحاسبنا ويسألنا أيضاً إلا بقدر الطاقة البشرية وبحسب المستطاع.. وهو ـ تعالى ـ لن يسألك عمن هم في مجاهل أفريقيا، أو من هم في أقاصي الأرض إذا كنت لا تستطيع الذهاب إليهم وليس لديك من العلم ما تبلغه إياهم، بل سيسألك عن نفسك وأهلك: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ} [التحريم: 6] وسيسألك عمَّن هم في مقدورك ومن هم حولك؛ فبلِّغ من تستطيع ممن هم حولك: {وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ} [الشعراء: 214] .
ولكن هناك قدر مشترك بيننا جميعاً ولا يعذر به أحد وهو بذل المستطاع في الدعوة وتبليغ الدين والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كما قال الله ـ تعالى ـ: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن: 16] أي بذل الوسع ولو قليلاً، والجهد ولو نزراً يسيراً، ولكنك تستطيعه وتَقدِر عليه وكلٌّ بحسبه.
ولكي لا أطيل عليك أخي القارئ أذكر بعض طرق تنمية الذات والخلاص من مرض السلبية باختصار:
استشعار مهمة الإنسان في هذه الحياة والحكمة التي خلقه الله من أجلها وهي عبادة الله وحده لا شريك له. قال ـ تعالى ـ: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإنسَ إلاَّ لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56]:(2/116)
أ - قراءة سيرة خير البشر - صلى الله عليه وسلم - وسير الصحابة ـ رضي الله عنهم ـ والسلف الصالح الذين غيَّروا مجرى التاريخ بدين الإسلام، ثم قراءة كتب المبدعين والمخترعين مؤمنين وكفاراً مما يشحذ الهمة إلى المعالي؛ لأننا أوْلى من الناس في هذا الإبداع (وقد ذكرت طرفاً من هذا في صلب المقال).
ب - الإقبال على العلم الشرعي تعلماً وتعليماً ومجالسة لأهله مما يعطي المرء ثقة بنفسة وتعزيزاً لذاته والقدرة على السؤال والحوار وهو ينمي في النفس الثقة مع أهل الفضل عبر الأيام، ويزداد علماً وعملاً وتواضعاً فيزينه العلم وهو يزين العلم بالعمل.
ج - النظر في الجوانب المشرقة من النفس، وإهمال الجوانب السلبية... ولا يخفى أن كل إنسان يحمل في نفسه وذاته كمّاً لا يستهان به من الطاقات والقدرات؛ فلنستغلها قدر الإمكان.
د - الاستفادة من العلوم المعاصرة التي تزيد في النفس الثقة، وتزيد من القدرات والطاقات. (كدورات الخطابة، ودورات الحاسب، ودورات البرمجة العصبية... وغيرها).
والله أسأل أن يجعلنا وإياك ممن نصر الله بهم الدين.
ثم إن ما سطرته لا يدفعني وإياك لتصدُّر المجالس والعلو والزهو بأنفسنا على الناس، لا بل يدفعنا للعطاء والبذل مع التواضع لله والخوف من عدم قبول العمل؛ فإن العمل يعظُم شأنه ويكبُر بالإخلاص لله، وهو كذلك يصغُر ويحقُر بالرياء والسمعة؛ فقد قال أحد السلف: كم من عمل كبير حقرته النية، وكم من عمل صغير عظمته النية؛ فعليك بالإخلاص؛ فهذه الصدِّيقة بنت الصديق ـ رضي الله عنها ـ تقول في حادثة الإفك لما بلغ منها البلاء مبلغه: «ولَشأني في نفسي كان أحقر من أن يتكلم الله فيَّ بوحي يتلى»(2)، مع ما لها من فضل عند الله وعند رسوله - صلى الله عليه وسلم -، ولكنها تتواضع وتستصغر نفسها، ولكن لم تترك العمل مع هذا الاحتقار.(2/117)
وكل ما قلناه ونقوله في عدم احتقار الأعمال لا يدفع كذلك للعمل الفردي والاكتفاء بصغائر الأمور وترك كبارها، لا بل هذا يزيد عزمنا وإصرارنا على المضي قُدُماً في الأمور الكبار والأعمال المؤسسية، وبذل الوسع والطاقة في عدم احتقار ما يعمل الإنسان، ولنعطِ كل شخص أهميته؛ فإن المؤسسات الإسلامية والدعوة لن تستغني عن أي جهد وطاقة ولو قلّت وحقرت؛ فإن كل إنسان فيها يؤدي وظيفة لا يؤديها الآخر؛ فإن من ينظف ويحضر الشاي والمرطبات له الأثر البالغ على الزائرين وعلى نفس العاملين، ولو لم يحضِّر لبُحث عن بديل له؛ فكيف بمن يعلوه في العمل والأهمية وليلاحظ مثل هذه الوظيفة وغيرها من الوظائف التي يجب أن يقدر أصحابها ويُذكَّر ويُوجّه بأن له مكانة لدينا، وأنه قد خدم دينه وأمته.. وبمثل هذا العمل ولو رآه الناس عملاً لا يستحق الكثير من الجهد ولا يستحق صاحبه الكثير من التقدير؛ فالموازين عند الله ـ تعالى ـ وحده، ومثل هذا الأخ أو غيره ممن يقوم بأعمال قد تُرى حقيرة ولكنها بمجموعها تخدم الدعوة والإسلام بأجمعه والعمل القليل بالعمل القليل يكثر ويثمر.
وبعد هذا المشوار ابذل ما تستطيع، ولا تعجز ولا تجلس، وسارع إلى الركب؛ فإن الركائب قد أُسرجت واركب مع القوم؛ فإن لم تركب معهم ذهبوا وتركوك تعالج الحسرات؛ فبادر قبل الرحيل: {حَتَّى إذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلاَّ إنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِن وَرَائِهِم بَرْزَخٌ إلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ } [المؤمنون: 99 - 100] .
--------------------------------------------------------------------------------
(1) من مقدمة مجلة البيان، العدد 160 ذو الحجة بتصرف.
(1) رواه النسائي، (3987)، باب تعظيم الدم، 4.
(2) رواه البخاري، (2361)، باب هل يقرع في القسمة.
(3) رواه البخاري، كتاب الجهاد رقم (2887).
((2/118)
4) تفسير القرطبي، 3/ 38 ـ 39.
(1) تفسير الشوكاني، 5/ 479، طالع تفسير في ظلال القرآن، 6.
(2) رواه مسلم، (4760) باب البر.
(3) شرح النووي على مسلم، 16/ 117.
(4) صحيح ابن حبان، (3347)، باب صدقة التطوع.
(5) كتاب التوابين، 222.
(6) رواه البخاري، (3202)، في كتاب أحاديث الأنبياء، 16 سبق تخريجه.
(7) رواه مسلم، (4650)، من حديث أبي هريرة في البر والصلة.
(1) قال أبو عيسى هذا حديث حسن صحيح وفي الباب عن ابن مسعود وأبي هريرة رضي الله عنهم.
(2) رواه الترمذي، (2370) صفة القيامة.
(3) رواه البخاري، (5091)، كتاب النكاح، باب الأكفاء في الدين.
(4) انظر: تاريخ الطبري، 2/ 178.
(5) انظر: تفسير ابن كثير، وهذا سبب نزول هذه الآية، وانظر: البداية والنهاية، 2/ 489.
(6) رواه البخاري، (3208)، كتاب أحاديث الأنبياء.
(7) رواه البخاري، (2292)، كتاب أحاديث المظالم والغصب.
(8) رواه البخاري، (5523).
(1) رواه البخاري، (4750)، كتاب التفسير.
--------------------------------------------------------------------------------
مجلة البيان، العدد (201)، جمادى الأولى1425،مايو-يونيو 2004 .
* * *
http://www.albayan-magazine.com/zwaya/trbwi/49.htm
من أجل تربية أفضل
إبراهيم بن صالح الدحيم
_ بين يدي الحديث:
الحديث عن التربية حديث مهم تحتاج إليه جميع طبقات المجتمع بلا استثناء، فالتربية الإسلامية: جهد يقوم على تطبيق منهاج الله في الأرض وتحقيق الدينونة له، وهذا الأمر يجب على الجميع السعي فيه.(2/119)
ولقد كان أنبياء الله ـ عليهم الصلاة والسلام ـ يقومون في أممهم بالدعوة إلى الله، وإلزامهم منهج الله ومعالجتهم على ذلك، كما قال موسى ـ عليه السلام ـ: «لقد عالجتُ بني إسرائيل أشد المعالجة»(1). ثم كان لنبينا -صلى الله عليه وسلم- القِدْح المعلى في ذلك، وقد أخرج جيلاً فريداً صار معجزةً من معجزاته، كما قال القرافي ـ رحمه الله ـ: «لو لم يكن لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- معجزة إلا أصحابه لكفوه في إثبات نبوته..»(2).
لقد كان الرجل من أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- يسلم، فما يلبث إلا ويحسن إسلامه، ويعظم أمره؛ مما يلقى من حسن الرعاية وعظيم التربية.
ثم تتابع الناس بعد ذلك جيلاً بعد جيل يعنون بالتربية.. فالآباء على مر العصور يُلزمون أبناءهم مجالس العلماء وحلق الذكر، وربما طلبوا لهم مؤدباً ومربياً تُوكل إليه مهمة العناية بهم، ورعاية أدبهم، وتكميل جوانب النقص فيهم.
حتى إذا أقبل علينا هذا الزمن بما فيه، وفُتحت علينا فيه الثقافات، وغزتنا الأفكار من كل جانب، وهاجت أعاصير العولمة، واهتزت القيم والمبادئ، واضطربت الثوابت؛ صار الحديث عن التربية أشد إلحاحاً من ذي قبل؛ بغية تحصين المجتمع، وتثبيت ثوابته، وحفظ مبادئه وقيمه.
ولئن كان الناس يسعون دائماً إلى طلب الأفضل في مآكلهم ومشاربهم وملابسهم ومراكبهم ومساكنهم؛ فإن طلب الأفضل في جانب التربية أحق وأوْلى؛ إذ بها تجمُل الحياة وتزين، وتصلح وتستقيم، وبدونها تختفي قيمة المظاهر وتذبل، وتنقلب نقمة لا نعمة.. لأجل هذا كله كان الحديث: (من أجل تربية أفضل)، أُثير فيه قضايا ملحّة، وألفت النظر فيه إلى جوانب مهمة.. ولا أزعم بهذا الحديث أني استوفيت جميع الجوانب، ولكن حسبي أنها مراجعات لبعض جوانب التربية في مجتمعنا، تُذكّر الناسي، وتنبه الغافل، وتُرشد الجاهل، وتدعو الراغب إلى زيادة البحث، وتعميق النظر والسعي إلى الأفضل.
_ أولاً: ما التربية؟(2/120)
إن معرفتنا لمفهوم التربية على الوجه الصحيح سيساعدنا في القيام بها، وسيجنبنا تبعات تصرفات غير مسؤولة تُمارَس باسم التربية، وما هي من التربية بسبيل!
فما التربية؟ بالنظر إلى أهداف التربية الإسلامية وجوانبها يمكن أن نقول إن التربية هي: (تنمية الشخصية عبر مراحل العمر المختلفة؛ بهدف تكوين المسلم الحق الذي يعيش زمانه، ويحقق حياة طيبة في مجتمعه على ضوء العقيدة والمبادئ الإسلامية التي يؤمن بها).
حول التعريف: حين نتأمل في تعريف التربية تتبين لنا أمور يجب العناية بها:
ـ فالتربية التي نريد؛ تكون بتنمية الشخصية بجميع جوانبها، العقلية منها والجسمية والروحية والنفسية والاجتماعية؛ بحيث نعطي كل جانب من هذه الجوانب حقه في الرعاية والتوجيه، فلا نشطط بجانب دون آخر.
دخل ثلاثة رهط على بعض أزواج النبي -صلى الله عليه وسلم- يسألون عن عبادة النبي -صلى الله عليه وسلم-.. فكأنهم تقالُّوها، فقال أحدهم: «أما أنا فأصوم ولا أفطر. وقال الآخر: وأما أنا فأقوم ولا أرقد. وقال الثالث: وأما أنا فلا أتزوج النساء». فرد عليهم النبي -صلى الله عليه وسلم- ذلك، وأرشد إلى ضرورة العناية بجميع الجوانب، فقال: «ولكني أصوم وأفطر، وأقوم وأرقد، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني»(1).
ـ والتربية التي نريد هي التي تستمر وتتطور، مراعيةً مراحل العمر المختلفة، لا تقف عند سن معيّنة، ولا تعمم لجميع المراحل أسلوباً تربوياً واحداً، بل تعرف لكل مرحلة خصائصها التي تميزها عن غيرها، والتي يجب مراعاتها من أجل تربية أفضل، وهذا يحتم علينا مزيداً من التعرف على خصائص المرحلة التي نريد توجيه التربية إليها، وهو الشيء الذي يجعل التربية أكثر سلاسة، وأسرع كسباً، وأنضج ثماراً. وأيضاً فإن معرفتنا بخصائص المرحلة سيجنبنا الصدام النكد مع الطباع والفطر الكامنة في النفوس مما قد يجعل خسائرنا في التربية أضعاف مكاسبنا.(2/121)
ـ والتربية التي نريد هي التي يُرسم لها أهداف يتم العمل على تحقيقها؛ إذ إن العمل دون هدف محدد مدعاة إلى التخبط والاضطراب، وتحويل ميدان التربية إلى معمل تكثر فيه الضحايا وسط تجارب مرتجلة. ثم إن العمل دون أهداف إهدار لأنواعٍ من الثروات الدعوية دون عائد كبير، وقد قيل: «إذا خرجت من منزلك دون هدف؛ فكل الطرق توصلك إلى المكان الذي تريد..»، والمعنى: إن أي مكان تذهب إليه فهو ما تريد؛ لأنك لم تقصد شيئاً بعينه تريد الذهاب إليه.
إننا حين نطالب بوضع أهداف للتربية؛ فإن ذلك لا يعني بالضرورة أن تتحول التربية إلى آلة تجعل كل كلمة لا بد أن تصدر عن هدف وكل تصرف كذلك.. إنه أحياناً قد يكون من العقل والحكمة وحسن التدبير عمل شيء زائد عن هدف محدد مرسوم، حين يمر عليك مثلاً حدث يستدعي التنفير من العقوق، أو الرحمة بالمسكين، أو التذكير بحسن الخاتمة أو سوئها... أَوَ ليس من العقل والحكمة استغلال الحدث في التأثير وإن لم يكن نوع الحدث من أهدافك المرحلية الحاضرة؟!
ـ والتربية التي نريد هي التي تساعد الفرد على أن يعيش في زمانه، لا خارج زمانه، ولا بعيداً عن مجتمعه معزولاً عن واقعه، يقبع في وادٍ والناس في وادٍ وشأن آخر.
لقد كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يعيش زمانه ويتعامل معه تعامل الخبير الفاحص، لم يكن يجهل تحركات الأعداء، أو تخفى عليه مكائدهم، ولذا كانت استعدادته -صلى الله عليه وسلم- مبكرة، وغزواته أكبر شاهد بذلك، وقد أكد النبي -صلى الله عليه وسلم- ذلك على الصحابة، ودعاهم إلى ضرورة مخالطة الناس والعيش معهم فقال -صلى الله عليه وسلم-: «المسلم إذا كان مخالطاً الناسَ ويصبر على أذاهم؛ خير من المسلم الذي لا يخالط الناس ولا يصبر على أذاهم»(2).(2/122)
ـ والتربية التي نريد هي التي نسعى من خلالها إلى تحقيق حياة طيبة في المجتمع، من خلال ترسيخ روح العمل الجماعي في الفرد، والقضاء على كل أنانية مقيتة، تجعل الشخص نفعياً يعيش لمصلحة نفسه فحسب، إنما نريد أن نعد المسلم الحق الذي ينفع أمته ومجتمعه، فيكون بذلك عضواً نافعاً يطيب بمثله المجتمع، لا أن يكون غصة على مجتمعه ونكالاً عليه، نريدها تربية تفاعلية، يتفاعل فيها الفرد مع من حوله، ويتفاعل من حوله معه.
ـ والتربية التي نريد هي التي تُصاغ على ضوء العقيدة الإسلامية والمبادئ التي يؤمن بها المسلم، فتكون بذلك تطبيقاً عملياً لاعتقاد المسلم ومبادئه.. وعلى هذا؛ فحين نستفيد من الدراسات الغربية وغيرها في هذا المجال؛ فلا بد أن نعرضها على عقيدتنا ومبادئنا، فما وافق منها العقيدة قبلناه، وما خالفها رددناه ولا كرامة.
تلك هي التربية ـ بالمعنى العام ـ التي نصبو إلى تحقيقها، وهذا ما نريده من المربين عموماً.
ـ لكن يبقى أن أشير إلى أمر مهم، هو: أننا حين نريد تنزيل هذه التربية على شخصٍ ما؛ فلا بد أن نراعي قدراته وإمكاناته وميوله الشخصية حتى نحقق بذلك تربية أفضل، وهذا ما يُعبّر عنه بمراعاة الفروق الفردية؛ إذ تجد بعض المربين يخطئ حين يريد أن يجعل من المتربي نسخة طبق الأصل منه، أو من قدوة يرتسمها، أو يريد أن يجعل الأشخاص الذين يقوم على تربيتهم نسخة واحدة متماثلة!! وحين يسير المربي على هذه الطريقة؛ فإنه سيحكم على المتربي بالإخفاق لمجرد أنه لم يصل إلى الحد الذي قدَّره له؟! مع أن المتربي قد يكون قد خطا خطوات كبيرة لكنها في عين المربي غير ملحوظة؛ ولذا يمكن أن نقول: إن التربية في حق الشخص المعيَّن هي: إيصال الفرد إلى كماله هو (لا إلى كمال غيره).
_ ثانياً: الارتقاء المعرفي بالفرد:(2/123)
الحقيقة أننا نعيش أزمة معرفية يشترك فيها عامة طبقات المجتمع بلا استثناء، حتى إنه جاء في إحصائية علمية أُجريت على خريجي جامعة عربية كان من نتائجها: «أن 72%من الخريجين لم يستعيروا كتاباً واحداً من مكتبة الجامعة طَوال حياتهم الجامعية»(1)؛ فإذا كان هذا في الطبقة التي يُفترض أن تكون علاقتها مع الكِتَاب أكبر؛ فما الظن بغيرهم؟ لذا فإن من الضروري لرفع مستوى التربية تركيز العناية بهذا الجانب، فكم نحن بحاجة إلى رفع مستوى العلم والثقافة والمعرفة عند المربي، وكذا عند المتربي..
لا بد أن يكون عند المربي أرضية معرفية كافية يستطيع من خلالها إدارة التربية على شكل صحيح وبوضع صحيح، إن من المقررات البديهية أننا حين نريد أن نرتقي بإنسان إلى مستوى أرفع؛ فلا بد أن نكون نحن في موضع أرفع منه حتى نستطيع أن نناوله أيدينا فيرتقي.. وحين يكون المربي أقل معرفة من المستوى المطلوب فإنه لا يملك أن يعطي شيئاً؛ إذ فاقد الشيء لا يعطيه، إنه لا بد من مخزون معرفي كافٍ يمتلكه المربي، يكون به قادراً على تغذية التربية معرفياً ورعايتها.
ـ وهذا يدعونا إلى القول بأن من الأمانة حين يرى المربي أن المتربي لا يستفيد منه كثيراً، أو أنه قد نفد ما عنده ـ ليس في كل جوانب المعرفة فحسب ـ؛ فمن الأمانة أن يدفع بالمتربي ويوجهه إلى من قد يكون أكثر منه نفعاً وأقدر على العطاء.. وسيكون ذلك حسنة من حسنات المربي الأول، ودلالة على النصح والتجرد؛ مما سيكون له أعظم الأثر في نفس المتربي، بل إنه سيحس بمدى العناية التي تُقدَّم من أجله، وهو الشيء الذي سيدفع به إلى مزيد من الاجتهاد والتقدم والرقي.
أما العناية بالارتقاء المعرفي لدى الفرد فهي أيضاً مسؤولية عظيمة، يجب أن تُصرف العناية لها من سن مبكرة، تبدأ من سني العمر الأولى، وأن يستدرك ما فات بعد ذلك.
يقول أحد الباحثين: (إن تعليم القراءة للأطفال يبدأ من سن ستة أشهر..)(2).(2/124)
قد نحكم على هذا الكلام بأنه مجازفة، لكن حين يُنظر إلى أن الطفل يمكن أن تُوجَّه ميوله، وتقع عنده الرغبة والولع في القراءة من سن مبكرة جداً؛ فإن هذا الكلام قد يكون أكثر مصداقية.
ـ حين تهيأ للطفل فرصة المعرفة من الصغر، ويرى أدواتها معروضة بين عينيه، في صورة مكتبة منزلية، أو عن طريق اهتمام أفراد الأسرة بالكتاب؛ فإن ذلك سيوجه ميول الطفل ولا بد، وسيولد عنده الرغبة شيئاً فشيئاً..
وينشأ ناشئ الفتيان منّا
على ما كان عوَّده أبوه
لقد رأينا ونحن نطالع سِيَر العلماء أن بيوت العلم قد أثَّرت في الغالب في أبنائها، فأخرجت علماء أصحاب مخزونٍ معرفيٍ ضخم. إن هذا التوجه المعرفي في البيت، وتوافر أدواته فيه، سيساعد في اكتشاف موهوبي القراءة على أقل تقدير، فضلاً عن تولُّد الرغبة في نفسه، («مايكل فاراداي» عالم فيزيائي شهير، كان أبوه فقيراً، وكانت الأسرة من شدة الفقر تسكن فوق حظيرة لعربات الخيل؛ مما اضطر «مايكل» إلى الانقطاع عن الدراسة ليعمل بمحل لتجليد الكتب، ولعل هذه المهنة المرتبطة بالمعرفة كانت أحد أسباب عشقه للعلم؛ فقد كان ينكب على الكتب التي يراد تجليدها؛ مما كوَّن لديه حصيلة معرفية جيدة)(3).
ـ ثم قد لا يكفي تهيئة الجو وإيجاد الرغبة، بل لا بد من تشجيع القراءة عند الأطفال من سن مبكرة؛ بأن تبذل لهم المكافآت وغيرها من الحوافز التي تدفعهم إلى المواصلة، وأن يُشجَّعوا مع ذلك على المشاركة أثناء القراءة (ونقصد بالمشاركة: التعليق على المقروء، وذكر شواهد مماثلة له من الواقع، ونقد المواقف..)؛ فإن هذا يربي في نفس الطفل الشوق إلى القراءة والاستمتاع بها، ونستطيع من خلالها أن نوصل إليهم المبادئ والقيم المهمة التي يحتاجون إليها، وتلك هي المهمة الأولى للقراءة.(2/125)
ـ وكذا من فاته قطار المعرفة في الصغر؛ فإنه يحتاج إلى تشجيعٍ أكبر وبعث للهمة، من أجل استدراك ما فات، ولن يكون الأمر صعباً حين توجد الرغبة وتنبعث العزيمة.
وإذا كانت النفوس كباراً
تعبت في مرادها الأجسامُ
ثم إن مما يبعث النفس إلى القراءة والمعرفة الاطلاع على سِيَر السلف وشدة شغفهم بالعلم والمعرفة(4).
ولا بد مع التشجيع من توجيه قراءة المتربي، ومساعدته على اختيار الأنسب والأنفع، فلا يقرأ كل ما تدفع به أرحام المطابع دون تمييز؛ لأن قراءة ما هو نافع ـ فضلاً عما لا نفع فيه أو فيه ضرر ـ سيفوّت قراءة ما هو أنفع، وهذا التوجيه وهذه المساعدة للمتربي تؤكد ما سبق ذكره؛ من ضرورة وجود حظوة معرفية كافية لدى المربي ـ ولو للمرحلة العمرية التي يقوم عليها ـ.
ـ كما يلزم المربي وهو يوجه القراءة أن يكون لديه معرفةً بمستوى المتربي وقدراته وحاجاته المعرفية؛ لأن الكتاب الجيد كالدواء لا يفيد كل الناس، وإلى هذا المعنى أشار الغزالي ـ رحمه الله ـ بقوله: «أن يقتصر بالمتعلم على قدر فهمه، فلا يلقي إليه ما لا يبلغه عقله فينفره، أو يخبط عليه عقله.. ولذلك قيل: كِلْ لكُل عبدٍ بمعيار عقله، وزِنْ له بميزان فهمه؛ حتى تسلم منه وينتفع بك، وإلا وقع الإنكار لتفاوت المعيار»(1).(2/126)
ـ ثم على المربي أن يُشعر المتربي أن الارتقاء المعرفي لا يأتي دون ثمن، بل يحتاج إلى جد واجتهاد وصبر ومثابرة؛ حتى تتهيأ النفس لذلك، وقديماً قال السلف: (لا يُنال العلم براحة الجسم)، ولما سُئل (أديسون) عن العبقرية قال: (إنها 1% إلهام، و 99%عرق جبين)(2)، ومما يحسن التنبيه عليه في هذا المقام هو توجه كثير من الناس إلى الكتب السهلة والقصص والحكايات، وعزوفهم عن الكتب الصعبة والكتابات الرفيعة، والتي من طبيعتها استنفار القوى العقلية لدى القارئ لمزيد الفهم والتأمل والتفكير. إن التوجه للكتب السهلة قد يكون مقبولاً لوقت معين، لكن لا يصح أبداً الاستمرار عليها؛ لأن ذلك يعوق عملية الارتقاء، ويسبب للذهن نوع تأسُّن أو ركودٍ في المعاني والمفهومات والمدارك.
_ ثالثاً: الرقابة الذاتية:
يهتم كثير من المربين بمتابعة سلوك المتربي وملاحظة التغير الذي يطرأ عليه، والارتقاء به ومعالجة الظواهر السيئة والسعي في وضع حمايات تقيه بعض المخاطر، وهذا الفعل حسن لا غبار عليه بل هو المطلوب، لكن حين يسير في وضعيته الصحيحة التي تُصلح ولا تُفسد. ولكننا أحياناً كثيرة نغفل عن غرس الرقابة الذاتية في نفس المتربي، والتي بدورها تساعد في تعميق التربية بشكل أقوى فتكون أدعى للثبات، وتمنحنا شيئاً من الوقت يمكن صرفه لآخرين ابتغاء توسيع العمل.(2/127)
ـ لست أهوّن من المتابعة، بل هي جانب مهم في نجاح العملية التربوية، ولكني أقول إنه لا بد من بذل جهد قوي وكبير في سبيل تقوية الحصون الداخلية لدى المتربي؛ حتى يشعر دائماً برقابة الله له وقربه منه واطلاعه عليه، فيشعر بالمسؤولية تجاه نفسه، بضرورة لزوم الصدق مع الله ومع النفس؛ فكم نحن بحاجة إلى أن نعيد قراءة قصة يوسف مع امرأة العزيز يوم واجه الإغراء بقول (معاذ الله!!)، وقصة الراعي مع ابن عمر ـ رضي الله عنه ـ حين أعلنها الراعي مدوية تنساب في أودية مكة (فأين الله؟)، وكذا قصة المرأة الأعرابية يوم صرخت بصوت جلجل في الأفق (فأين مُكَوْكِبُها؟)، وغير ذلك كثير مما جاء عن السلف الصالح ومن بعدهم.
ـ لا بد أن يرسخ عند المتربي الشعور بالمسؤولية تجاه نفسه، وأنه هو المطالب بتزكيتها وتكميلها، وأن دور المربي معه ما هو إلا إعانة له على تزكيته هو لنفسه: {قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا} [الشمس: 9 - 10]، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ} [الحشر: 18]، {وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا} [مريم: 95].
إن ضمور هذا المعنى في النفوس ـ الرقابة الذاتية ـ أحدث ضعفاً واضحاً في صفوف المتربين من خلال التقصير في بعض الواجبات ـ كالصلاة، وبر الوالدين، وصلة الأرحام ـ أو الوقوع في شيء من المحرمات ـ كإطلاق البصر واللسان، وما يجري بعده من ويلات.. ـ كل ذلك يحصل نتاج ضعف المراقبة في النفوس.(2/128)
ـ لقد فهم السلف هذا المعنى، ونادوا بإصلاح النفس ومحاسبتها والقيام عليها بالمتابعة والرقابة؛ فهذا عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ يقول: «حاسبوا أنفسكم قبل أن تُحاسبوا، وزِنوها قبل أن توزنوا..»(3)، ويقول الحسن البصري ـ رحمه الله ـ: «المؤمن قوَّام على نفسه يحاسبها لله»(4)، وهذا ابن القيم ـ رحمه الله ـ يحذر من إهمال النفس وعدم القيام عليها فيقول: (أضر ما على المكلف الإهمال وترك المحاسبة والاسترسال وتسهيل الأمور وتمشيتها؛ فإن هذا يؤول إلى الهلاك، وهذا حال أهل الغرور، يغمض عينيه عن العواقب ويمشّي الحال، ويتكل على العفو، وإذا فعل ذلك سَهُل عليه مواقعة الذنوب، وأنس بها، وعسر عليه فطامها.. إلخ)(5).
إن تنمية الشعور بالمسؤولية تجاه النفس والرقابة الذاتية عليها ومحاسبتها؛ سيساعدنا كثيراً في التربية، ويجعلنا نجني نتائج أفضل، ونحس بنوع من الأمن تجاه المتربي.
ـ وعلى المربي وهو يغرس الرقابة الذاتية في نفس المتربي؛ أن يعلم أنها لا تنمو إلا على قسط من الحرية وترك الفرصة للاختيار، ولا بد من غرس نوع من الثقة في نفس المتربي، فالتنقيب عن أخطائه وتتبع عوراته والبحث عن سقطاته والسير معه بنظام الجاسوسية؛ كفيل بإفساد النتائج على عكس ما يراد لها من صلاح، وفي حديث معاوية بن أبي سفيان ـ رضي الله عنه ـ قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: «إنك إن اتبعت عورات الناس أفسدتهم أو كدت أن تفسدهم»(1).
إنه ليس من أحد إلا لديه عيوب ونقائص، وحين نتوجه للبحث عن الخبايا وكشف المستور؛ فإننا نساهم ـ شعرنا أو لم نشعر ـ في إعطاء الجرأة للمخطئ في التبجح بالخطأ وإظهاره دونما استحياء، حيث يحس أن أوراقه قد احترقت فلا يبالي بما صنع، بل يصل الحال أحياناً عند بعضهم إلى قصد المخالفة والعناد، وبهذا يخرج من حيز المعافاة ويعم الضرر به من بعد ما كان الأمر مقصوراً على المخطئ ذاته.. «كل أمتي معافى إلا المجاهرين»(2).(2/129)
إن أحداً منا لو سُلطت عليه الأضواء لنكشف منه ألف عيبٍ وعيبٍ؛ لذا ينبغي على المربي أن يعلم أنه يربي بشراً من عادته الخطأ والتقصير؛ فالمرء لا يولَد كاملاً بل يتطور ويرتقي ويكتسب الكمالات شيئاً فشيئاً، (إننا حين نرسم للناس صورة مثالية فسوف نحاسبهم على ضوئها، فنرى أن النقص عنها يُعَدُّ قصوراً في تربيتهم، فتأخذ مساحة الأخطاء أكثر من مداها الطبيعي الواقعي. وقد أخبر النبي -صلى الله عليه وسلم- أصحابه أنهم لن يصلوا إلى منزلة لا يواقعون فيها ذنباً، فقال: «والذي نفسي بيده! لو لم تذنبوا لذهب الله بكم، ولجاء بقوم يذنبون فيستغفرون الله فيغفر لهم»(3)(4)، ولما أفشت حفصة ـ رضي الله عنها ـ ما أسرَّه النبي -صلى الله عليه وسلم- لها أطلعه الله على ذلك فلم يُفِضَ في المناقشة أو يستقصي، بل كان -صلى الله عليه وسلم- كما قال ـ تعالى ـ: {عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ} [التحريم: 3]، كل ذلك كرماً منه -صلى الله عليه وسلم- وحسن إدارة ورعاية، قال الحسن: «ما استقصى كريم قط»، وقال سفيان الثوري: «ما زال التغافل من شيم الكرام»(5).
ليس الغبي بسيدٍ في قومه
لكنَّ سيد قومه المتغابي
وحين ندعو إلى نوع من الإغضاء فلسنا نريد الإهمال، وترك الحبل على الغارب، والانقطاع عن المتابعة.. كلا.. بل إن «.. الشخص الذي لا يجد في نفسه الطاقة على المتابعة والتوجيه المستمر شخص لا يصلح للتربية ولو كان فيه كل جميلٍ من الخصال !...»(6).
_ رابعاً: إطلاق الإبداع:
((2/130)
دماغ الإنسان مظهر من مظاهر قدرة الله وإتقانه ومننه وعظيم إحسانه؛ فالدماغ قادر على معالجة ما يصل إلى 30 بليون معلومة في الثانية، وفيه نحو ستة آلاف ميل من الأسلاك، ويحوي الجهاز العصبي للإنسان عادة حوالي 28 بليون عصبون، وكل عصبون من هذه العصبونات عبارة عن حاسب آلي ضئيل الحجم له استقلاله الذاتي، وهو قادر على معالجة حوالي مليون معلومة..»(7)، {رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} [آل عمران: 191].
إذا علمنا هذا؛ فإن قدرات هائلة مما زوَّد الله بها بني آدم يقتلها الناس وهم لا يشعرون؛ من خلال ممارستهم السيئة تجاه الإبداع والمبدعين.
ـ لقد دلت بعض الدراسات أن الطفل يولد وهو على درجة عالية من القدرة على الإبداع، (إن الأطفال حين تكون أعمارهم بين سنتين وأربع سنوات يكون 95% منهم إبداعيين وإمكاناتهم في ارتقاء مستمر، في حين تقل النسبة تدريجياً كلما تقدم السن حتى لا يبقى سوى 2%)(8)؛ فأي فرصة تضيع وأي إبداعات تهدر؟!
ـ إننا نخطئ كثيراً في التعرف على الإبداع، حين نحس أنه مرادف للذكاء والتفوق، وليس هذا بالضروري، بل إننا بهذه النظرة القاصرة نفقد صوراً من الإبداع لا تراها العيون.. فقد دلَّت الدراسات على أن لدى كل واحد منا جانباً إبداعياً في شخصيته، وسيظهر ذلك حين نحسن استخراج الإبداع ونفتح المجال له، وقد قيل: (العقل كمظلات الطيارين لا تنفع حتى تُفتح)، وهكذا الإبداع لا يشرق حتى يُطلق.(2/131)
- وحين لا نتعامل مع الإبداع بطريقة صحيحة؛ فإننا لسنا نخسر إبداعه فقط، بل إن مجرد إغفال الإبداع سيسبب للأمة أزمات ويخلق لها مشكلات هي عنها بغناء، (والغنم بلا راعٍ ليس له مرعى)؛ يعني: أنها ستتجاوز مرعاها فتفسد زروع الآخرين أو تقع في فم الذئب الضاري! يقول أحد المشتغلين بقضايا الإبداع: إن عقل الطفل ابن الخامسة يشبه بركاناً له فوهتان: واحدة هدامة، والأخرى مبدعة، ونحن بقدر ما نوسّع مدى الفوهة المبدعة؛ نوقف الفوهة الهادمة. ا. هـ.
- وإذا فرض عدم وجود آثار سلبية لإهمال الإبداع؛ فإن الإبداع قد يتوجه ـ إن لم يوجه ـ إلى ما لا نفع فيه، فنقع في مشكلة (هدر الطاقات) دون أي عائد يذكر!! ذُكِرَ أن رجلاً جاء إلى أحد الخلفاء العباسيين فعرض عليه لعبة بارعة بأن يثبت إبرة في الأرض، ثم يرمي وهو واقف إبرة أخرى فتدخل في سُمِّها، ثم يرمي الثالثة والرابعة.. إلى المئة كل إبرة تدخل في سُمّ الأُخرى، فلما انتهى أَمَرَ له الخليفة بمئة دينار ومئة جلدة، فعجب الرجل!! فقال الخليفة: مئة دينار لبراعتك، ومئة جلدة لانشغالك فيما لا طائل من ورائه!
إن علينا مسؤولية عظيمة في توجيه الإبداع ورعايته، والسعي الجاد في تهيئة المواقع التي تنمّيه، والمحاضن التي تغذّيه وتحسن توجيهه، ومن ثم تنعم بالاستفادة منه.
وينبغي من أجل رعاية الإبداع التنبه إلى ما يلي:(2/132)
- إن الإبداع من أجل أن ينمو ويزهر يحتاج إلى بيئة آمنة داخلية وخارجية تضمن له الاستمرار في الإبداع، وزيادة العطاء وروعة الإنتاج؛ فحين يسمع الابن في البيت عبارات الاستهزاء وألفاظ الازدراء والتنقُّص تنهال عليه من أبويه أحدهما أو كلاهما، أو من إخوته وأقاربه وجيرانه، فإن ذلك سيقيد حركته ويجعله يضرب أخماساً بأسداسٍ قبل أن يقدم على فعل شيء ـ ماذا تفعل.. هذا جنون.. دعنا من عبثك.. لا تكلف نفسك عناءً لا طائل منه ـ وغيرها من الكلمات التي نقولها نطفئ بها ثورة في نفوسنا دون أن نعرف عواقبها.. فهل سينمو الإبداع في مثل هذه الأرضية؟!
وحين يجد مثل هذا التندُّر والتنقيص في محيط مدرسته يوجَّه إليه من معلميه أو من زملائه؛ فإن ذلك سيؤدي إلى ضمور اهتماماته، وفتور عزيمته، وخبوّ ذهنه، ومن ثم التفاته عن إبصار كل نقطة تفوّق لديه.
- لا بد من أجل نمو الإبداع من التشجيع وتقديم الحوافز، وإعطاء نوع من الأمن الذي يجرئ المتربي على مزيد من الإبداعات، ولا بد أن تُثار في نفسه روح المغامرة والتحدي من أجل إثبات الذات دون غرور أو جنوح. كان ابن شهاب ـ رحمه الله ـ يشجع الأولاد الصغار ويقول لهم: (لا تحتقروا أنفسكم لحداثة أسنانكم؛ فإن عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ كان إذا نزل به الأمر المعضل دعا الفتيان فاستشارهم، يتبع حِدَّة عقولهم)(1)، (وفي مسابقة أجرتها مجلة إنجليزية شهيرة وجهت فيه سؤالاً للأدباء عن الأمر الذي يتوقف عليه نمو العلوم وازدهار الأدب، فكانت الإجابة الفائزة لكاتبة مشهورة قالت: «إنه التشجيع!!»، وقالت: «إنها في تلك السن بعد تلك الشهرة والمكانة، تدفعها كلمة التشجيع حتى تمضي إلى الأمام، وتقعد بها كلمة التثبيط عن المسير!!»(2).(2/133)
ـ ثم إن مما يجعل بعض جوانب الإبداع تختفي لدى المتربي هو أن المربي قد يكون يعيش ميولاً معرفية محددة، وأنماطاً حياتية معينة تجعله لا يبصر الحياة إلا من جهة ميوله ورغباته الخاصة؛ فهو يبصر كل إبداع يتوافق مع ميوله، في حين تغيب عنه صور من الإبداع كثيرة تجري من بين يديه ومن خلفه دون أن يراها؟! لذا فإن على المربي أن يقيس الأعمال والتصرفات، لا من جهة توافقها مع أنماطه وميوله ورغباته الشخصية، بل يجب أن يقيسها بنظرة شمولية واسعة تجعله أقدر على اكتشاف صور أكثر من الإبداع المختفي حول حواجز الرؤية المحدودة والنظرة المحجمة الضيقة التي يعيش فيها المربي.
ـ وحين يخفق المبدع مرة؛ فإن من الواجب ألا يُعَيَّرَ بإخفاقه ويُحَمَّل مسؤولية ذلك وحده ويُتخلى عنه، على حد قول القائل: (يداك أوكتا وفوك نفخ)، بل يجب أن يواسى ويُشد من أزره، ويثنى على مبادرته وخطوات العمل التي قام بها؛ إذ هي في حد ذاتها جهد يحتاج إلى شكر، ثم بعد ذلك يعلم أن في العالم ناجحين كُثراً أخفقوا في محاولات كثيرة؛ لكنهم لم يقنطوا ولم يرضوا أن يحكموا على أنفسهم بالإخفاق الدائم، بل إنهم رأوا أن كل حالة إخفاق فإنها لا بد ستدلهم على اكتشاف طريق مسدودٍ قد غاب عنهم، أو أسلوب غير صحيح يتم تلافيه في تجربة أخرى جديدة... لا بد أن يقال له وبوضوح: (إنك لن تعدم الفائدة حتى في إخفاقاتك).
إن علينا ـ معاشر المربين ـ ونحن نطلب مزيداً من إطلاق الإبداع؛ أن نمتلك حاسة شم قوية تنفذ إلى مواطن الإبداع في شخصية المتربي، وتجيد توظيفها والتعامل معها.
_ خامساً: الرسائل الخفية:
أو ما يُطلق عليها لغة الإيحاء، {وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ} [هود: 88](3).(2/134)
كم تصنع الرسائل الخفية من أثرٍ بالغٍ في شخصية المتربي دون أن نشعر؟! وهذا الأثر قد يكون إيجابياً نافعاً، وقد يكون سلبياً يهدم ما قد بني ويفسد ما تم إصلاحه؛ فحين تكون سيرة المربي حسنة، واستقامته جيدة، ومراقبته لنفسه مستمرة؛ فإن رسائل حسنةً منه ستظهر دون أن يشعر، تؤثر في المتربي، وتساهم في صياغة شخصيته دون كثير نصح أو توجيه مباشر. ذكر ابن حجر في ترجمة (الجُلندي ملك عُمان) عن ابن إسحاق: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- بعث إليه عمرو بن العاص ـ رضي الله عنه ـ يدعوه إلى الإسلام، فقال: «لقد دلني على هذا النبي الأمي: أنه لا يأمر بخير إلا كان أول آخذ به، ولا ينهى عن شر إلا كان أول تارك له..»(4)، وقال يونس بن عبيد ـ رحمه الله ـ: «كان الرجل إذا نظر إلى الحسن انتفع به وإن لم ير عمله ويسمع كلامه»(5)، وقال عبد الواحد بن زيد: «ما بلغ الحسن إلى ما بلغ إلا لكونه إذا أمر الناس بشيء يكون أسبقهم إليه، وإذا نهاهم عن شيء يكون أبعدهم منه». إن «الواو والراء والدال» لا يُشَمُّ منها رائحة الورد؛ فكن بالخير موصوفاً ولا تكن للخير وصّافاً.
إن في الناس أوجهاً لامعاتٍ تملأ العين زهرة ورواءَا
ويراها البصير صورة زهرٍ لم تهبها الحياة عطراً وماءَا
ولقد ترى الناس يتأثرون بسمت العالم والداعية وحسن دلّه وعظيم مواقفه؛ أبلغ مما يتأثرون بكلامه، بل ربما نسوا الكلام وبقيت المواقف والمُثل التي انطبعت في النفوس، وقد قيل: «من لا ينفعك لحظه لا ينفعك لفظه».(2/135)
إن القدوة الحسنة عملية تربوية مستمرة لا تعرف الملال ولا الانقطاع تساعد المتربي على الارتقاء، وبلوغ الكمالات، وتختصر الوقت، وتعطي قناعة تامة بإمكانية بلوغ الفضائل والكمالات. «إن الأسوة هي علم الحياة»، كما قال مصطفى الرافعي(1) ـ رحمه الله ـ: (لو أقام الناس عشر سنين يتناظرون في معاني الفضائل ووسائلها، ووضعوا في ذلك مئة كتاب، ثم رأوا رجلاً فاضلاً بأصدق معاني الفضيلة، وخالطوه وصاحبوه؛ لكان الرجل وحده أكبر فائدة من تلك المناظرة، وأجدى على الناس منها، وأدل على الفضيلة من مئة كتاب ومن ألف كتاب.. إلخ)(2). ذكر صاحب كتاب (من وحي الأسرة)(3) أن أحد علماء الشام قال له: «التقيت بسبعة إخوة حفظة كتاب الله، وكان أكبرهم على مشيخة القراء، فلما مات استلم المشيخة الثاني ثم الثالث وهكذا.. فقلت لأحدهم يوماً: كيف حفظتم بهذا الإتقان والإجادة وأبوكم يعمل في صبغ الثياب من الصباح إلى المساء؟! فقال: أُمُّنا حافظة لكتاب الله...»، لقد كانت أمهم أسوة تتردد في جنبات البيت، تبني قناعات في نفوس أبنائها، وترسل رسائل خفية حسنة مفادها: (أن بالإمكان فعل ما كان وأفضل مما كان..).(2/136)
ـ وعلى هذا؛ فحين يختلف الحال ويظهر التقصير من المربي ولو تكلف إظهار نفسه بالمظهر الحسن؛ فإن لغة الإيحاء أو الرسائل الخفية ستوصل غير ما يقال وتؤكد غير ما يُنفى، (كيف نطمع في دعوة الناس إذا كنا نحن ـ الدعاة ـ غير مطبقين له في ذواتنا؟ كيف ندعو الناس إلى أخلاقيات لا إله إلا الله إذا كنا نحن أنفسنا غير متخلقين بها؟ كيف ندعوهم إلى الثبات إذا كنا نحن لا نثبت؟ وكيف ندعوهم إلى الصدق إذا سوغنا لأنفسنا أن نكذب؟ كيف ندعوهم إلى التجرد لله إذا كانت ذواتنا هي محور تحركنا؟ ومصالحنا الذاتية هي التي تحدد مواقفنا وأعمالنا؟... {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ * كَبُرَ مَقْتًا عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ} [الصف: 2 - 3]. كبر مقتاً لأنه يكون صدّاً عن سبيل الله؛ بدلاً من أن يكون دعوة إلى الله! والشاعر يقول:
ومهما تكن عند امرئ من خليقة وإن خالها تخفى على الناس تُعلمِ!
نستطيع أن نخفي حقيقة أنفسنا في خطبة حماسية بليغة، أو موعظة مؤثرة، أو محاضرة قيمة، أو كتاب نؤلفه؛ ولكن الدعوة ليست خطباً ولا مواعظ ولا محاضرات ولا كتباً ـ وإن كانت كلها أدوات نافعة مطلوبة للدعوة ـ إنما الدعوة قدوة وصحبة وتربية.. هكذا علمنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وهكذا ينبغي أن يكون فهمنا لحقيقة الدعوة.
وفي الصحبة الطويلة التي تقتضيها عملية الدعوة ـ أي تقتضيها عملية التربية ـ يستحيل علينا أن نخفي حقيقة أنفسنا، ولا بد أن «ننكشف» أمام الذين يتلقون منا؛ فكيف إذا اكتشفوا ذات يوم أننا كنا «نخدعهم»؟! أننا كنا نحدثهم بمعانٍ نفتقدها نحن، أو نشتمل على أضدادها؟! كيف تكون الصدمة؟! وكيف تكون النتيجة؟!) ونحن بهذا لسنا نشترط بلوغ الكمال في شخصية المربي ـ وإن كان الترقّي فيه مطلوب ـ بل نقصد الحث إلى مزيدٍ من الاجتهاد في متابعة النفس وإلزامها منهج الصدق والإخلاص والمراقبة.(2/137)
_ سادسًا: لغة الحوار:
(الحوار المنهجي مفيد في إيصال الفكرة للآخرين، وحين نمارس الحوار على وجهه الصحيح؛ فإننا لا نفيد المتربي وحده بل نحن نستفيد منه أكثر؛ فمن خلال الحوار والنقاش تنضج أفكارنا ويرتقي تفكيرنا وتتزن نظرتنا. إننا حين نعرض أفكارنا للتشذيب والتهذيب والإضافة والنقد؛ نكون أكثر معرفةً للواقع وأقدر على التعامل معه.
ـ الحوار يزيد من قبول المتربي للمربي؛ حيث يشعر أن المربي لا يمارس معهم نوعاً من إلغاء الشخصية.
وحين نطالب بالحوار؛ فإننا نقصد القيام بدور المُحاور لا المناظِر؛ فهناك فرق كبير بينهما؛ فالمناظِر يبغي إقناع صاحبه برأيه ليتبناه، بينما المحاور يقوم بإضاءة نقطة مظلمة، وتوضيح قضية غامضة لا يراها المُحاور الآخر على الوجه الصحيح، وبهذا يكون الحوار هادئاً ومنتجاً؛ لأنه يستهدف النفع المتبادل وليس الاستحواذ والاستيلاء..)(4).(2/138)
ـ إن من المهم جداً أن نجعل الحوار أساساً في حياتنا، لا سيما في المجال التربوي، فلا نفرض الأمور فرضاً جازماً لا يقبل المناقشة. لقد كانت النساء من أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- لا يجدن حرجاً في مراجعته المرة تلو الأخرى في أي شأن من شؤونهن، فضلاً عن الرجال، {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إلَى اللَّهِ} [المجادلة: 1]، إنه الشعور بالأمن بين المربي الرحيم -صلى الله عليه وسلم- وبين الأمة، والذي ينظر في سيرته -صلى الله عليه وسلم- يجد ما يشفي ويكفي في هذا الباب. هذا ضمام بن ثعلبة وافد بني سعد إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- يأتي إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فيقول له: «إني سائلك فمشدد عليك في المسألة فلا تجد عليّ في نفسك. فقال -صلى الله عليه وسلم-: سل عما بدا لك. فقال: يا محمد! أتانا رسولك فزعم لنا أنك تزعم أن الله أرسلك! قال: صدق. فلم يزل يسأل والنبي -صلى الله عليه وسلم- يجيبه على ما سأل حتى رجع ضمام إلى قومه مسلماً»(1)، إنك لتعجب وأنت تطالع مثل هذا المثال؛ فمع الجفاف في أسلوب ضمام ـ زعم، وتزعم.. ـ إلا أن النبي -صلى الله عليه وسلم- يقابل ذلك كله بهدوء نفس وحسن إجابة.
(وهذا حصين بن عبيد يأتي إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- ولَمَّا يسلم بعدُ، فيبدأ النبي -صلى الله عليه وسلم- معه حواراً منطقياً: «كم تعبد يا حصين؟! قال: سبعة: واحداً في السماء وستة في الأرض. قال: يا حصين من تعد من هؤلاء السبعة لرغبتك ورهبتك؟! قال: الذي في السماء..»(2)، وبمثل هذا الحوار تُزال الشبهة ويُصحح التصور!
ـ ويذكر الشيخ عمر الأشقر في كتابه (مواقف ذات عبر)(3) ما جرى في إحدى البلاد: أن فتاةً صغيرة جاءت من المدرسة يوماً وعلامات الحزن والهمّ بادية على نفسها، فلاحظت أمها ذلك فسألتها: ما السبب يا بنيتي؟(2/139)
قالت الطفلة: إن مدرّستي هددتني بالطرد إن أنا عدت بهذه الملابس الطويلة غداً، قالت الأم المربية: ولكنها الملابس التي يريدها الله يا بنيتي! قالت الطفلة: نعم يا أماه! ولكن المدرّسة لا تريد ذلك. عندها قالت الأم بعبارة حانية وحوار هادئ: حسناً يا بنيتي! المدرّسة لا تريد والله يريد؛ فمن تطيعين؟! أفتطيعين الذي أوجدك وصوَّرك وأنعم عليك.. أم مخلوقة لا تملك لنفسها ضراً ولا نفعا؟
فقالت الطفلة: بل أطيع الله. قالت الأم: أحسنت يا بنيتي وأصبت.
بهذه الطريقة، وبهذا الأسلوب المقنع الذي يؤكد الثوابت ويقيم القيم جرى الحوار الهادئ بين الأم والطفلة؛ فماذا كانت النتيجة؟
في اليوم التالي: جاءت البنت إلى المدرسة بالثوب الطويل، فانفجرت المعلمة غاضبة مؤنبة للفتاة أمام زميلاتها، حتى ثَقُلَ الأمر بالطفلة فهُرعت بالبكاء الذي لا ينقطع، وعندها هدأت المعلمة وخفّضت من صوتها، وقطعت صراخها، ثم توجهت إلى الطفلة قائلةً: لِمَ لا تستجيبين لما أمرتك به؟!
فنطقت الطفلة بكلمة الحق التي صارت كالقذيفة على هذه المعلمة: والله! ما أدري من أطيع: أنت، أم هو؟! قالت المعلمة: ومن هو؟ قالت الطفلة: الله.. أأطيعك فألبس ما تريدين، أم أطيعه وأغضبك؟! ثم قالت بكل ثبات: سأطيعه ـ سبحانه ـ وليكن ما يكون.. فسكتت المعلمة... وفي اليوم التالي: دعت المعلمة الأم لتقول لها: لقد وعظتني ابنتك أعظم موعظة سمعتها في حياتي!
لقد كان هذا الثبات من هذه الطفلة نتاج القناعات التي رسخت في نفسها من جراء هذا الحوار المثير الذي قامت به الأم؛ فهل نحاور أبناءنا وطلابنا ومن نقوم على تربيتهم من أجل أن نبني في نفوسهم قناعات لا تتزعزع، وثوابت لا تتغير تكون أكثر صموداً في زمن المتغيرات والفتن؟(2/140)
ـ ثم إن الحاجة تعظم إلى الحوار والمراجعة حال معالجة الأخطاء؛ إذ لا بد منه لأجل التعرف على ملابسات الخطأ وأسبابه قبل إصدار الأحكام؛ وذلك من أجل تجنب ردود الأفعال السريعة التي تفسد أكثر مما تصلح، وتزيد من اتساع الهوة بدلاً من تضييقها.
جاء إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- شاب ممتلئ شباباً وقوةً وشهوةً يستأذن في الزنى؛ فهل رجمه النبي -صلى الله عليه وسلم- أو ضربه؟ لا؛ فالأمر يحتاج إلى نوع إقناع، وفتح لعين المخطئ إلى جوانب قد غفل عنها.. وهذا هو ما فعله النبي -صلى الله عليه وسلم- مع هذا الشاب؛ حيث قال له: ادنُ مني. (إشعاراً له بالأمن)، فلما دنا قال له: أترضاه لأمك..؟! لأختك..؟! لابنتك..؟! والشاب يقول: لا.. لا.. والنبي -صلى الله عليه وسلم- يرد عليه بقوله: (وكذلك الناس لا يرضونه..)(4)، فيا له من حوار هادئ وإقناع منطقي آتى أكله وأعطى ثماره!
وكذا كان الأمر مع حاطب بن أبي بلتعة في القصة المشهورة في أحداث غزوة الفتح؛ فهل نحن نفتح حلقات للحوار عند معالجة أخطاء أبنائنا وطلابنا؟
حين تكتشف أن ابنك يدخن مثلاً، أو يسمع الغناء، أو يجلس مع رفقة سيئة؛ فإنك قد ترفع العصا عليه فتوجع يده أو تضرب هامته، وتتبع ذلك بصيحات الوعيد وزمجرات التهديد، وتظن أنك قد قضيت على المشكلة، لكنها في الحقيقة تزداد تجذراً في نفسه ورسوخاً قد يحمله على التحدي والعناد، بينما لو فتحت عينيه بالحوار الهادئ إلى شيء لم يدركه؛ فإنك على أقل تقدير إن لم تقض على المشكلة فستوقف مدها، أو تجعله يتعامل بحذر قد يسهم باستيقاظه فيما بعد، وتنبعث في نفسه أسئلة تحتاج إلى إجابة.. وحين نقول ذلك فلسنا نعارض العقوبة ونمنع منها؛ لكنّا نحاول حصرها في مكانها الصحيح الذي تفيد منه.(2/141)
أما حين نفرض الأمور فرضاً جازماً ونلغي مساحة الحوار والنقاش المفيد؛ فإننا قد نوجه الظاهر من شخصية المتربي بحكم السلطة والنفوذ، لكننا سنكون بعيدين كل البعد عن الشعور الداخلي وتغيير القناعات؛ مما قد يسبب تمرداً ـ إن صح التعبير ـ في المستقبل القريب أو البعيد متى ما وجدت الفرصة مواتية لذلك، وكما في المثال الإنجليزي: (من السهل قيادة الحصان إلى نبع الماء، ولكن من الصعب إجباره على أن يشرب)(1).
_ سابعاً: التدريب:
لقد كتب الله لأنبيائه رعي الغنم قبل البعثة كفرصةٍ للتدرب على سياسة الناس والصبر والجلد، إضافةً إلى ما تورثه برعيها من الرحمة واللين؛ فعن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «ما بعث الله نبياً إلا رعى الغنم. قالوا: وأنت يا رسول الله؟ قال: نعم! كنت أرعاها على قراريط لأهل مكة»(2)، قال ابن حجر معلقاً: «قال العلماء: الحكمة في إلهام الأنبياء من رعي الغنم قبل النبوة أن يحصل لهم التمرن برعيتها على ما يكلفونه من القيام بأمر أمتهم، ولأن في مخالطتها ما يحصل لهم من الحلم والشفقة؛ لأنهم إذا صبروا على رعيها وجمعها بعد تفرقها في المرعى، ونقلها من مسرح إلى مسرح، ودفع عدوها من سبع وغيره كالسارق، وعلموا اختلاف طباعها وشدة تفرقها مع ضعفها واحتياجها إلى المعاهدة، ألفوا من ذلك الصبر على الأمة، وعرفوا اختلاف طباعها وتفاوت عقولها، فجبروا كسرها ورفقوا بضعيفها وأحسنوا التعاهد لها، فيكون تحملهم لمشقة ذلك أسهل مما لو كلفوا القيام بذلك لأول وهلة، لما يحصل لهم من التدريج على ذلك برعي الغنم.(2/142)
وخُصّت الغنم بذلك لكونها أضعف من غيرها، ولأن تفرقها أكثر من تفرق الإبل والبقر؛ لإمكان ضبط الإبل والبقر بالرباط دونها ـ أي الغنم ـ في العادة المألوفة، ومع أكثريتها فهي أسرع انقياداً من غيرها..»(3)، فإذا كان الأنبياء ـ عليهم الصلاة والسلام ـ يحتاجون إلى نوع تمرين وتدريب لأجل رعاية الخلق ومعالجتهم؛ فغيرهم ممن يسير على طريقتهم من باب أوْلى وأحرى.
والتدريب هو: «عبارة عن نشاط منظم يركز على الفرد لتحقيق تغير في معارفه ومهاراته وقدراته لمقابلة احتياجات محددة في الوضع الحاضر أو المستقبلي، في ضوء متطلبات العمل الذي يقوم به المرء، وفي ضوء تطلعاته المستقبلية للوظيفة التي يقوم بها في المجتمع»(4).
ومن هنا نعلم أن التدريب ارتقاء دائم، وتطور مستمر، يسهم في تحسين الأداء وتصحيح الأفكار وزيادة البصيرة.(2/143)
إن الدورات التربوية التدريبية تجمع إليك تجارب مركزةً لناجحين اختيرت بعناية، تجعل المربي يقوم بأداء أفضل ومن ثم ثمرات أفضل، فإذا كان هذا ما سنحصل عليه من خلال الدورات التدريبية التربوية، فلا ينبغي الاستنكاف عن الاستفادة منها حتى لو كلفنا ذلك بعض المال. إن رجال الإدارة والاقتصاد وغيرهم ليسوا أحق بهذه الدورات والبرامج التدريبية من رجال التربية والتعليم والدعوة الذين يقومون على بناء الأجيال ورعاية الناشئة وصياغة ألامة وصناعتها، إننا (بحاجة لمن يعلمنا فن الحوار، وفن الصمت، ومن يعلمنا الكف عن الإدمان على بعض الأشياء وبعض التصرفات، كما أننا بحاجة إلى من يدربنا على إدارة الوقت وإدارة أعمالنا عن طريق الهاتف وعن طريق الأهداف وطريق التفويض، ومن يدربنا على رسم الأهداف، وعلى التخلي عن النزعات العدوانية، ومن يدربنا على حل مشكلاتنا عن طريق التفاوض ومقايضة المصالح، ومن يدربنا على القراءة المثمرة والتفكير المبدع، وحين نحرز تقدماً على هذه الأصعدة؛ فإننا سنجد أن معالم حياتنا كلها قد تغيرت، وصارت فرص النجاح والارتقاء أفضل بكثير مما هي عليه اليوم)(5).
وحيث إن الأمر هنا مجرد إثارة للموضوع لا غير؛ فإني أشير إلى بعض مواضيع الدورات التي يحتاج إليها المربي من أجل تربية أفضل فمن ذلك:
صياغة الأهداف ـ إدارة العمل ـ تحسين الأداء ـ أنماط الشخصية ـ فن التعامل والقدرة على التأثير ـ رعاية الإبداع ـ أدبيات الحوار ـ حل المشكلات وغيرها كثير.
وختاماً: فإن صياغة النفس البشرية على الفضائل، وتربيتها على الكمالات؛ عملية ضخمة كبيرة لا يصح أن تُصرف لها فضول الأوقات، إنها ليست عملية يوم أو شهرٍ أو سنة، بل هي جهد دائم وسعي مستمر، وكما قال الرافعي: (إننا لسنا على غارة نُغيرها.. بل على نفوس نُغيّرها)(6)، فكم هي مهمة عظيمة جليلة!
--------------------------------------------------------------------------------
((2/144)
1) رواه البخاري ضمن حديث الإسراء الطويل، رقم (3207).
(2) الفروق، 4/ 170.
(1) البخاري، رقم (5063).
(2) رواه الترمذي، رقم (2507)، وصححه الألباني.
(1) الطرق الجامعة للقراءة النافعة، لمحمد موسى الشريف، ص 20.
(2) بناء الأجيال، د. عبد الكريم بكار، ص 99، وفيه مزيد كلامٍ يحسن مراجعته.
(3) وأد مقومات الإبداع، إبراهيم البليهي، ص 81، كتاب المعرفة.
(4) انظر: المشوق إلى القراءة وطلب العلم، علي العمران؛ فقد جمع من عجيب أحوال السلف مع القراءة والطلب.
(1) مسافر في قطار الدعوة. الشويخ، ص 312، نقلاً عن إحياء علوم الدين.
(2) القراءة المثمرة، بكار، ص 54.
(3) إغاثة اللهفان، ص 86.
(4) إغاثة اللهفان، ص 87.
(5) إغاثة اللهفان، ص 91.
(1) أبو داود، رقم (4888).
(2) البخاري، رقم (6069).
(3) مسلم، رقم (2749).
(4) مقالات في التربية، الدويش، ص 71.
(5) محاسن التأويل، للقاسمي، في تفسير آية التحريم 3.
(6) منهج التربية الإسلامية، محمد قطب، 2/ 47.
(7) اكتشاف الذات، بكار، ص (109).
(8) اكتشاف الذات، بكار، ص (109 ـ 110).
(1) جامع بيان العلم وفضله، 1/ 85.
(2) علو الهمة. محمد إسماعيل المقدم، 399.
(3) الإصابة، (1/ 538).
(4) سير أعلام التابعين، صبري شاهين، ص (15).
(5) وحي القلم، (2/ 111).
(1) وحي القلم، ( 3/ 46).
(2) عبد الله البوسعيد، ص 210.
(3) رؤية إسلامية لأحوال العالم المعاصر، محمد قطب، ص 230.
(4) بناء الأجيال، لعبد الكريم بكار، ص 29، (بتصرف).
(1) البخاري، حديث، رقم 63.
(2) الترمذي، رقم 3483، وضعفه الألباني.
(3) ص 99.
(4) رواه أحمد، (5/256)، والهيثمي في المجمع، (1/ 129).
(1) 200 حكمة قيادية ووصية إدارية، للحمّادي، ص 30.
(2) البخاري، رقم (2262).
(3) فتح الباري، (4/ 558).
(4) حول التربية والتعليم، عبد الكريم بكار، ص 389.
(5) حول التربية والتعليم، د. عبد الكريم بكار، ص 403.
((2/145)
6) وحي القلم، (1/ 23).
--------------------------------------------------------------------------------
مجلة البيان، العدد (202)، جمادى الآخرة 1425 ، يوليو - أغسطس 2004
* * *
http://www.albayan-magazine.com/zwaya/trbwi/50.htm
الشيخ عباسي مدني يكتب عن:
حاجات النظام التربوي إلي الإصلاح
د. عباسي مدني
إن الحضارة أي حضارة إذا فقدت عنصر التجديد لسبب ما فإنها تُهدَّد بالركود ثم الانحطاط، وإذا كان للإصلاح عدة أغراض؛ فمن أهمها: شحذ عبقرية الأمة، ودفعها إلى الإبداع والتجديد انطلاقاً من خدمة التراث الأصيل فإلى اكتشاف لمجاهل الكون، وإثراء للمعرفة والمنظومة التربوية بحكم موقعها كالعمود الفقري من كيان الأمة الحضاري الشامل المتكامل تحتاج إلى الإصلاح، لتساهم بدورها في عملية التغير المطلوب، بل يمكن أن نذهب إلى أبعد من ذلك عندما نعتبر التربية من أهم وسائل الرقي الحضاري والازدهار الثقافي؛ لذلك فهي مطالبة بسبق كل المحاولات الحضارية في عملية التغير، وإلا تعذر أن تكون في مستوى وظيفتها الإصلاحية الحضارية الشاملة.
فالتغير الحضاري ليس أبداً بالتغير العفوي الذي يأتي مصادفة، بل هو عملية طبيعية تخضع لشروط تاريخية في غاية من التعقيد. والتربية من أهم الوسائل التي يمكن بواسطتها التحكم في عملية التحكم بطريقة أكثر مباشرة وفعالية وانتظاماً. بل إن النمو الحضاري وما يحتاج من رعاية وعناية لجميع المواهب، والاستعدادات والقدرات والمهارات يشكل أهم أغراض التربية في الأمة المتحضرة ذات الرسالة التي جاءت لتحقق للناس سعادة الدارين.
بيد أن التربية لا تحقق سبقها للحياة الثقافية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية إلا بقدر نجاح إصلاح نظامها باستمرار.
` أهداف إصلاح النظام التربوي:(2/146)
وعملية الإصلاح المستمر تهدف بالضرورة إلى التكيف مع الأوضاع المتجددة، والتوظيف الجيد لكل الإمكانيات والمعطيات الذاتية، والموضوعية البشرية والطبيعية على المستوى الحضاري في الجملة. ومن ثمة فهي ضرورة تمليها حاجة الأمة المتحضرة التي وعت رسالتها، وهيأت نفسها من جديد للصدارة التاريخية والريادة الحضارية.
لقد أصبحت سرعة التغير الحضاري والتطور التكنولوجي من أعقد المشكلات وأعوصها أمام التربية، وصار ليس من السهل على التربية إدراك التطور التكنولوجي فضلاً عن تجاوزه، وهذا ما يعطي لعامل الزمن أهميته القصوى في الإصلاح للتحكم في التغير الاجتماعي؛ لهذا يحتاج المصلح الاجتماعي إلى دقة التنبؤ، وحدس صادق يتجاوز بها حدود الحاضر الذي يسيطر على تصوراتنا، ويتحكم في تفكيرنا إلى أبعد الحدود، ومعنى هذا: هل يمكن للعلم أن يطمح إلى فهم صيرورة الظواهر؛ فضلاً عن فهمه للظواهر ذاتها، ويحول موضوعه من اللامتغير إلى المتغير؟
ما أعقد الأمور في علاقتها المتشعبة، وما أبسط معارفنا أمام أغوار الحقائق، وما أضيق عقولنا حيال هذه الأكوان الشاسعة، وما أضيق آفاق علومنا وتصوراتنا؟ قال الله ـ تعالى ـ: {وَمَا أُوتِيتُم مِّنَ الْعِلْمِ إلاَّ قَلِيلاً} [الإسراء: 85].(2/147)
وإذا لم تحقق التربية غلبتها على عامل الزمن فإنها تتقهقر وتتخلف، وتصير تابعة لا متبوعة، وتعجز عندئذ عن ضمان حاجة الحضارة إلى التجديد والنمو؛ فالإنسان هو صانع الحضارة وكل شيء في الحضارة يتوقف عليه، والإنسان بدوره أيضاً يتوقف مصيره إلى حد بعيد على التربية من حيث هي التي تكون البيئة التي تترعرع فيها مواهبه ومختلف قدراته وخبراته. فكلما ازدهرت التربية ازدهرت الحضارة واتسعت أمامها آفاق الإنسان. وما التفاوت الذي حدث للتربية المدرسية الكنسية في القرون الوسطى(1) إلا خير دليل على خطورة تخلف التربية عن ركب الحضارة، كما أن مجهودات المصلحين في القرنين الخامس عشر والسادس عشر الميلاديين خير دليل على أهمية التربية بالنسبة إلى نشأة النهضة وازدهارها.
ولعل أخطر حالات التفاوت بين الحياة، والتربية هي عندما يكون التباين بين مطالب الحياة، والمحتوى التربوي وخبراته، وجميع أهداف التربية وأغراضها؛ لأن التربية التي لا تتمتع بالرؤية الواضحة عن الحاضر بكل جوانبه، والمستقبل بكل أبعاده لا تعرف كيف تواجههما، وكيف تعد الأجيال لهما بالضرورة؛ لأن تحديد موقف التربية منهما لا يكون سليماً في المستوى المطلوب إلا بقدر تغلغلها في أسرار الواقع التاريخي المتغير، وإلا تصبح الأجيال التي تربيها والخبرات التي تعلمها غير مطابقة لمتطلبات العصر، فلا تفيد أصحابها في حياتهم الحضارية، أو تكون غير مناسبة لمقومات الأمة وقيمها.(2/148)
هذا ولقد أثار هذه القضية مربون كثيرون أذكر منهم (هالبارت سبنلتر) و (جون ديوي). فبالنسبة إلى سبنلتر(1) يرى لزاماً على التربية أن تقيّم محتواها تقييماً موضوعياً بحيث تستطيع أن تعرف أهمية كل مادة من مواد التعليم؛ ذلك لأنه لاحظ أن تعليم اللغة اللاتينية كمادة أساسية في المحتوى التربوي في كل مستويات التعليم، في حين أن اللغة اللاتينية لم تكن مستعملة في الحياة العملية، وهو الأمر الذي دعا إلى التساؤل عن قيمة هذه المادة الصعبة التي يعاني المتعلمون الكثير من أجل تعلمها، وإذا ما عادوا إلى الحياة العملية لا تجديهم نفعاً.
أما (جون ديوي) فيرى أن المدرسة(2) كبيئة تربوية كما تتكون فيها القدرات والميول الفردية تنمو فيها كذلك وتترعرع الميول الاجتماعية. فإذا كانت المدرسة في شكلها التقليدي أبعد ما تكون عن الصورة الحقيقية في الحياة الاجتماعية الناجحة فكيف تستطيع هذه أن تحقق الميل الاجتماعي الممتاز عند الطفل؟
وينتهي جون ديوي بنقده هذا إلى إقامة الحجة على إخفاق ذلك النموذج التربوي الأمريكي التقليدي، ويقدم بديلاً يتمثل في «التربية التقدمية» التي كان قد نادى بها باركر، ووليام جايمس كمدرسة تقوم على أساس الفلسفة البرجماسية روحها الديمقراطية بمعناها الليبرالي الواسع.
والحقيقة أن محاولات ربط التربية بالحياة عند كل من سبنسر وديوي إن كانت ذات أهمية في عصرهما وبلديهما فإن ذلك الربط يبدو بسيطاً ممعناً في السطحية، والدليل على ذلك أنه إذا كانت الحضارة برمتها في حاجة إلى تربية تكون في مستوى إنقاذها من كبوة المادية؛ فإن المشكلة لا تقف عن حد تربية تساير الحياة بقدر ما هي مسألة تربية تنقذ الحياة ذاتها من صميم الشقاء والتعاسة اللتين صار يعاني منهما إنسان المجتمعات الحديثة.(2/149)
لقد كان على أتباع ديوي من فلاسفة التربية البرجماسية أن يستفيدوا من دراسة أرنولد توينبي كفيلسوف في تاريخ الحضارة التي كشفت القناع عن أزمة الحضارة؛ حيث تكنولوجية الحياة صارت من أهم ميادين المعرفة التي تساعد علوم التربية على تحديد مهمتها التاريخية والحضارية، كما تساعد المربين على إدراك الفروق الزمانية، واختلاف الظروف والأوضاع الحضارية، ومختلف شروط الصيرورة التاريخية.
لقد كانت التربية في عهد ديوي تعيش في أحضان الفلسفة الوثيرة متقوقعة لا تخرج عن دائرتها متقيدة بدروب مذاهبها المتشعبة، وتتشكل حسب مقتضيات مدارسها المختلفة، جاء ديوي وحاول قلب المعادلة، وزعم أن التربية هي التي تكوِّن(3) الفلسفة، وليس العكس. على أنه إن ذهب ديوي هذا المذهب، واعتبر الفلسفة تابعة للتربية فهو كبرجماتي يحاول أن يهوِّن من شأن الفلسفة أكثر من أن يحاول النظر إلى التربية من خلال نظرة أشمل على مستوى حضاري أوسع، بالإضافة إلى ذلك أنه نسي أن التربية التي نادى بها هي في حقيقتها تنتسب إلى فلسفته البرجماسية، ولا تنتسب فلسفته إلى تربية، كما أن ديوي لم ينتبه إلى بوادر أزمة الحضارة، ولعله لم يلاحظ بوادر إخفاق البدائل التي عم العمل بها، وغطت أغلب المجتمعات الحديثة، والحقيقة أن ذاكرته ما تزال عالقة بظروف أواخر القرن التاسع عشرة وأوائل القرن العشرين حين كانت هذه البدائل محط آمال المفكرين على اختلاف مذاهبهم وفلسفاتهم؛ بحيث لم يكن من السهل على ديوي توقع خيبتها، والتنبؤ بإخفاقها في أي مجال من مجالات الحياة الروحية والمادية الحضارية.
على أن بعض المفكرين الغربيين قد انتبهوا إلى ذلك بعد الحربين العالميتين، ومنذ ذلك الحين حاولوا أن يربطوا التربية بالحياة أكثر من ارتباطها بالفلسفة. كما أدرك هؤلاء أهمية التربية إلى التطور التكنولوجي الذي صار يشكل أهم قضية في مرحلة ما بعد الحربين العالميتين.(2/150)
ولئن صارت مراكز النفوذ في العالم المعاصر تحددها مرتبة الدولة في السباق على التسلح فإن التطور السريع للأسلحة الحديثة يتوقف إلى حد بعيد على مستوى التطور التكنولوجي الذي حققته تلك الدولة. ولكن التطور التكنولوجي لا يتحقق إلا بقدر ما أحرزته الأمة من التطور التربوي الذي توصلت إليها منظومتها التربوية. فمنذ ذلك الحين شعرت الأمم بضرورة إصلاح منظوماتها التربوية، فترى فرنسا التي كانت تحت الاحتلال الألماني، وحكومتها في المهجر لم تشغلها الحرب، ولم تلهها أهوالها عن إعداد الخطة الإصلاحية التربوية، فكونت في تلك الظروف القاسية لذلك الغرض لجنة من أساتذة جامعة الجزائر في ذلك الوقت؛ حيث كانت الجزائر مقراً للحكومة الفرنسية، و (ديجول) في المهجر يشرف على تلك الخطة التي شرع في تطبيقها بعد الحرب. أما بريطانيا فقررت مبدأ ديمقراطية التعليم الثانوي بقرار 1944 الشهير ـ واقتصادها محطم وعمران مدائنها مخرب ـ. وألمانيا المهزومة، واليابان المحروقة كل هذه الأمم وغيرها أدركت حاجتها إلى إصلاح نظمها التربوية حتى تكون في مستوى مرحلة ما بعد الحرب ومتطلبات النمو الحضاري السريع، ومرحلة السباق على التطور التكنولوجي، واستطاعت بالفعل النظم التربوية التي كانت موضوعاً للإصلاح الجاد أن تحقق نتائج مذهلة في الميدان التكنولوجي.
على أن التربية في هذه الأمم بعدما تأكد لمعظم أهلها إخفاق البدائل الفلسفية، وبعد أن سحبوا ثقتهم منها ركزوا على العلم، وعلقوا عليه كل آمالهم دون أن يضعوا في حسابهم أدنى احتمال للخيبة؛ مع أن العلوم الإنسانية ما تزال تكبو، وما فتئت شعلة ذكاء أصحابها تخبو، وبدا عالم الإنسان أعقد عوالم مخلوقات الله، وأعظمها شأناً، وأرقاها شأواً وأعقدها سراً، وأدقها تركيباً وأعجبها خلقة: {فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ} [المؤمنون: 14].
` أسباب تخلف النظم التربوية في العالم الإسلامي من وجهة نظر العلمانيين:(2/151)
أما النظم التربوية في العالم الإسلامي فهي منذ عهد طويل تشكو من تخلفها عن ركب الحياة إلى درجة أنها صارت غير قادرة على أن تلبي حاجات المجتمعات الإسلامية إلى تربية تحقق لها سعادة الدارين الدنيا والآخرة. وخاصة بعد أن تعرضت لإصلاحات مخفقة قام بها أهل الدجل ومتطفلون من أصحاب الدجل، وصارت هي في وادٍ ومطامح الأمة ورغباتها وأصالتها ووحدتها في وادٍ آخر؛ فلا على التالد حافظت، ولا في الطارف أنجبت، سجت العقول بثقافة دخيلة، وخدرت الضمائر بمفاتن سخيفة، وثبطت العزائم بخيبات أمل متتالية، وبدأ شعور الناس يشك في قدراتهم التي وهبهم الله إياها، وقلَّت ثقتهم في أنفسهم، فزاد إعجابهم بمن تفوق عليهم وغلبهم، وأوشكت أن تخبو شعلة العبقرية التي وهبها الله كل جيل من الناس من كل الأجناس، فضاقت آفاق المعرفة الواسعة بضيق العقول، وقصر الباع بقصر الهمم...؛ فإذا لم يستدرك الأمر بالإصلاح الجاد السليم لمنظوماتنا التربوية فستبقى الأمور على ما هي عليه، بل تزداد سوءاً يوماً بعد يوم.(2/152)
ويرى بعض من المتأثرين بالفكر الحديث العلماني المادي أن تخلف المنظومات التربوية في العالم الإسلامي راجع إلى كونها في الأصل دينية، ولا يمكن في رأيهم بأية حال أن تصلح للمجتمعات الحديثة التي ينادون بها القائمة مفاهيمها على العقل وحده؛ لأن أساسها أيديولوجي فلسفي لا علاقة له بدين، وهؤلاء في الحقيقة لم يأتوا بهذه الأفكار من تلقاء أنفسهم وجهد تفكيرهم، وإنما نقلوها نقلاً حرفياً لما قاله (دوركايم) وأصحاب هذه النزعة في فرنسا في محاضراتها التي ألقاها في السربون تحت عنوان: «التربية الأخلاقية»(1) ونسي هؤلاء أمراً في غاية الخطورة وهو أن الأمة الإسلامية أمة قائمة مفاهيمها وقيمها كلها على الدين، فإذا حذف منها الدين لم يبق للأمة الإسلامية شيء. وزعم هؤلاء أن أمم الغرب لم تصل إلى ما وصلت إليه من تطور حضاري إلا بعدما نفضت يدها من الدين، ومن كل ما جاء به، وتبنوا فصل الدين عن الدولة تبني لائكة التربية والحداثة فلسفة والديمقراطية أيديولوجيةً... ويعتقد هؤلاء أنه إذا لم يتجه المسلمون اتجاه الغرب ويسلكوا نهجه فلا يمكنهم أن ينهضوا، وينصح هؤلاء باتباع الغرب لتحقيق ما حققه من تطور ورفاهية وازدهار وتفوق...، ويمثل هذا الرأي أدباء ومفكرون وغيرهم في كل بلاد العالم الإسلامي، كطه حسين، وميشال عفلق، والخديوي إسماعيل، ومصطفى كمال، وأمثال هؤلاء من الذين تكوَّنوا في المؤسسات التربوية الغربية المزروعة في أهم العواصم العربية والإسلامية، كالجامعة الأمريكية في بيروت، بالإضافة إلى الخريجين من مختلف الجامعات الأجنبية في أوروبا وأمريكا الشمالية وغيرها.(2/153)
يقول لو تروب(2): «وأظهر ما يكون المتغربون في الطبقة العليا والوسطى، ولا سيما في أولئك المهذبين على الطراز الغربي» فمهمة المدارس والمعاهد والجامعات الاستعمارية ما هي إلا تكوين تربوي موازٍ للنظام التربوي الإسلامي الأصيل لتنشئة وتكوين جيل غربي في ثقافته، وإعداده للقيام بحملة على كل ما هو إسلامي(3) حتى يحارب الإسلام بأبناء المسلمين. ولقد أدرك المستعمرون بما عندهم من دهاء ومكر السياسة وتقنية الدساسة أنهم لن يصلوا إلى الإضرار بالإسلام والمسلمين ما لم يجدوا من أبناء المسلمين من يُسخّر لضرب الإسلام عن غير وعي. إن ما حققه المتحمسون للفكر الغربي من أحلام الاستعمار كطه حسين(4) وسلامة موسى وتوفيق الحكيم، وغيرهم... لم تستطع أن تحققه جموع المستشرقين الذين كرسوا حياتهم وشحذوا ذكاءهم، وجندوا عبقرياتهم لضرب الإسلام والتحامل عليه.
والحقيقة أن نموذج سلامة موسى، وطه حسين، وتوفيق الحكيم، لا يكاد يخلو منه بلد من العالم الإسلامي؛ لقد كانت لهم نفس المهمة سواء شعروا بذلك أم لم يشعروا، لقد نشروا الفكر الغربي وسموم السياسة الاستعمارية كدعاة الطورانية، ومجاهدي خلق وأصحاب النزعة القومية، وانخدع الناس بهم، وانشغلوا عن أولي الأصالة الفكرية ونباهة السجية كمصطفى صادق الرافعي، وحسن البنا، ومصطفى السباعي، وسعيد النورسي، ومحمد إقبال، والندوي، وابن باديس، ومالك بن نبي، وغيرهم من أقطاب الصحوة والحركات الإسلامية الرشيدة.
` بيان فساد ما ذهب إليه العلمانيون:(2/154)
أما الرد على ما ذهب إليه أصحاب البدائل الحديثة فمجمله أن زعمهم باطل لا سند له من أدلة النقل ولا براهين العقل؛ فأحكامهم ذاتية، ومزاعمهم ادعائية، وأبعد ما يكونون عن موضوعية العلم وحكمة العلماء، والدليل على ذلك أنهم ربطوا بين الإسلام وظاهرة التخلف بمعناها الواسع الثقافي، والاجتماعي، والاقتصادي، والسياسي. ولو أنصف هؤلاء الحق والحقيقة لاعترفوا بما أقره التاريخ من أن الناس كلما كانوا حنفاء مؤمنين صادقين عاملين بكتاب الله وسنة رسوله، سائرين على نهج الرسول -صلى الله عليه وسلم- وخلفائه الراشدين كانت أحوال الأمة الإسلامية على أحسن ما تكون عليه من السلامة والصحة والصواب والقوة والمنعة والعزة، كما كان الشأن في عهد الرسول -صلى الله عليه وسلم- وخلفائه الراشدين، وما أن دب في الأمة الضعف في دينها كما كان الشأن في ما بعد عهود بني أمية والعباسيين حتى دب الضعف في كل شيء إلى أن آل الأمر إلى ما آل إلىه حال الأمة اليوم؛ فكيف يفسر هؤلاء إذن قدرة الأمة الإسلامية على الإبداع في ميادين المعرفة من علوم وفنون؟ ألم تنجب هذه الأمة أئمة الفقه وأصوله أمثال أبي حنيفة ومالك والشافعي، وجعفر الصادق، وعلماء اللغة كالخليل، وسيبويه، والكسائي، والفراء، والمازني، وجهابذة العلم كجابر بن حيان، والحسن بن الهيثم، والخوارزمي، وابن سينا، وابن رشد، وابن خلدون وغير هؤلاء من الذين تزخر بهم دائرة المعارف الإسلامية؛ فما الذي يمنع ـ إذا ما تهيأت الشروط التربوية والثقافية ـ ظهور عباقرة مجدِّين مبدعين لا مقلدين في إطار الحضارة الإسلامية الواسع؟ أليس من الأصح أن تكوّن التربية جيلاً أصيلاً في ثقافته، مُجدّاً في إنتاجه، مستقلاً في تفكيره عن أي تيار فكري غربي أو شرقي بدلاً من أن تدعو إلى التقليد، والتقليد ضعف وتبعية وتخلف؟(2/155)
إن الربط المنهجي لدراسة التاريخ يدل دلالة واضحة على أن الإسلام هو الدين الذي شملت شريعته واحتوت على الحكم والأحكام، وهو ما يجعلها تضمن للعامل بها عن قناعة إيمانية صادقة سعادة الدارين: الدنيا، والآخرة. وهو الذي كان شرط الرقي والازدهار الحضاري، والصلاح الاجتماعي من قبْلُ ومن بعْدُ.
أما قولهم: إن نظم الغرب التربوية لم ترقَ رقيها الحضاري، ولم تُثْرَ ثراءها الثقافي والتكنولوجي في هذا العصر إلا بعد تخلصها من الدين فهو ادعاء باطل. إن هذا الزعم قد يصح لو كانت كل النظم التربوية التي تتمتع بسمعة أكاديمية هي النظم اللائكية. أما وقد كان العكس حيث نجد النظم التربوية اللائكية تعد على الأصابع، ولم تتفوق بحال من الأحوال على النظم التربوية الأخرى البروتستانتية والكاثوليكية والإنجليكائية؛ فالجامعات والمعاهد اليهودية في أمريكا وغيرها من الدول الأوروبية تتمتع بشهرة كبرى لا تضاهيها جامعات أخرى في العالم.
والحقيقة أن لائكية التربوية ظهرت في فرنسا في عهد (جول فيرييه) حلاً لمشكلة الصراع المذهبي الذي مزق فرنسا بين الكاثوليك والبروتستان، وهو الأمر الذي جعل ديمقراطية التعليم الذي تبنته السياسة التربوية غير ممكنة التطبيق إلا إذا كانت المدارس الحكومية لائكية تستطيع أن تجمع كل أبناء فرنسا بقطع النظر عن النزعة المذهبية التي ينتمون إليها؛ حيث يجلس الطفل الكاثوليكي بجانب الطفل البروتستاني واليهودي(1) وغيرهم.(2/156)
هذا وإن المعاهد الخاصة التي تنشئها الطوائف للمحافظة على تربيتها ومكانتها الاجتماعية منتشرة على ربوع التراب الفرنسي؛ لأنه من الطبيعي أن لا تعتمد الطائفة أو الملة على غيرها في تنشئة أبنائها ومساعدتهم على تحقيق نبوغهم وتفوقهم؛ لذلك نجد المعاهد الخاصة، وحتى الجامعات في أمريكا وبريطانيا وإيطاليا وإسبانيا وغيرها تحتل مكانة هامة؛ فكل مذهب يريد أن يحتل مكان الصدارة للحياة الاجتماعية والثقافية والاقتصادية والسياسية لا بد له من مؤسسة تربوية، ولما كانت هذه المكانة(2) مرتبطة بالكفاءة وجودة التحصيل صاروا يركزون على التربية التي خصصوا لها معاهد ومدارس لتكوين النخبة المتفوقة من رجال الأعمال والعلوم والسياسة. وبذلك تصدروا الحياة الاجتماعية، والثقافية، والاقتصادية، والسياسية في أغلب الدول الأوروبية وأمريكا الشمالية. وصارت هذه المؤسسات التربوية التي تشرف عليها الكنيسة أو الهيئات اليهودية تحتل الصدارة، وتتمتع بسمعة أكاديمية عالية. وجُعلت لتزاحم المدارس والمعاهد والجامعات التي كان يحتكرها الأرستقراطيون وأهل الطبقة العليا في المجتمعات الليبرالية في فرنسا وبريطانيا وأمريكا وغيرها.(2/157)
وأما فصل الدين عن الدولة الذي حدث بعد الثورة الفرنسية فهي قضية في حقيقة أمرها سياسية محضة لا علاقة لها بالتربية والنهضة، وأما المقصود بها فقد كان دعاة فصل الدين عن الدولة في فرنسا وروسيا البلشفية يريدون إضعاف سلطة الدين التي كانت تجابههم، وتشكل على ثوراتهم خطراً؛ لأن المذاهب الدينية والطوائف والملل لا ترضى إلا بالحكم الذي يتفق مع دينها؛ ومن ثمة فإن الطابع المسيحي لا ينكر بالنسبة إلى الحضارة الغربية. يقول هتلر في مستهل برنامجه الوزاري يوم ولي رئاسة الوزراء: «إن أول واجب ستقوم به الحكومة القومية الألمانية هو العمل من أجل الوحدة الروحية وإحياء العقيدة النصرانية في الأمة والتقاليد في الملة»(3) وغير هتلر من الساسة الأوربيين أقوالهم كثيرة صريحة الدلالة على تشبع الثقافة الغربية بالروح النصرانية التي تشربوها مع ألبان أمهاتهم منذ نعومة أظافرهم.(2/158)
إن البيئة الأوروبية على ما انتابها من الانحلال والميوعة والتسامح ما تزال تنضح بالروح النصرانية على اختلاف مذاهبها. ونتيجة لاجتياح المذاهب الفلسفية المادية لساحتها الفكرية، لقد صارت تشكو فقرها الروحي، وحاجتها إلى دين يروي ظمأها الروحي، ويلقي الروح في كيانها المادي... وهذه كلها أدلة تقضي بخطأ دعاة اللائكية، وفصل الدين عن الدولة في نظمها التربوية وغيرها، وخطر هذه الدعوة وفداحة نتائجها التي ترتبت على العمل بها في المجتمعات الإسلامية. إنه إذا كان من مقتضيات الشريعة الإسلامية السمحاء، والعقل السليم أن تكون الحكمة ضالة المؤمن حيثما وجدها التقطها؛ فإنه ليس من الشرع ولا من العقل أن نتبع الغرب والشرق فيما وقعوا فيه من أخطاء؛ فصوابهم في علوم الطبيعة والرياضيات لا يلزمنا اتباعهم فيما زلت فيه قدمهم في باب العقائد والمفاهيم والقيم... ونحن إن كنا ننشد الحكمة والعلم والتجارب الصحيحة، فيجب أن نتوخى الصواب في كل الأمور والحق والهدى؛ فأهل الخطأ والزيغ والضلال أحوج إلى اتباع أهل الصواب والحق وليس العكس.
إن المنظومات التربوية الإسلامية ما تأخرت عن ركب الحياة، وعجزت عن تحقيق ما تتم به سعادة الدارين إلا لَمَّا صارت تفتقر الأمة إلى حكمة العلماء؛ فالإشراف على الإصلاح ممن هم أبعد الناس عنه عرَّض الأمة لهدم مُبيَّت، وإفساد تحت شعار الإصلاح.(2/159)
أما قولهم: إن النظم التربوية الإسلامية أصولية همها الأوحد الدين، وأخلاقه، ومن ثمة فهي لا تليق بمجتمع اليوم في عصر غزو الفضاء وازدهار التكنولوجيا؛ فهي من حيث هي إسلامية تربية أصولية أساسية تهتم أول ما تهتم بالدين وأخلاقه؛ باعتبارها أمة الرسالة تطمح إلى الدعوة إليها والعمل على نشرها في ربوع العالم، هذا العالم الذي صار يعاني من الفقر الروحي والانحلال الأخلاقي والتقوقع الفكري في دائرة المذاهب الفلسفية التي تحجرت، وهو ما يدفعها أيضاً إلى أن تهتم بمطالب عالم الأسباب من العلوم ومبادئها على اختلاف ميادينها ومناهجها، والتكنولوجيا وفنونها. فلا تعارض بين متطلبات عالم الأسباب ومتطلبات العقيدة والشريعة والقيم والمفاهيم الإسلامية وبكل ما له علاقة بشخصية الأمة الإسلامية؛ فهذه غاية، والأخرى وسائل لا بد من توفرها لتحقيق الغاية. إنه لا تعارض بين الغاية والوسيلة إطلاقاً لدى المفاهيم الإسلامية، ولا يدَّعي ذلك إلا جاهل للإسلام، أو جاحد للحق والحقيقة.(2/160)
هذا ولقد حددت المفاهيم والقيم إلى درجة لم يبق بعدها أي مجال للتناقض والتفريط أو الإفراط، وهو ما لم تحققه ديانة غير الإسلام ولا فلسفة. ولن تستطيع أمم الغرب والشرق أن يحصلوا على ما هم عليه من ازدهار حضاري تكنولوجي إلا بعد نجاح إصلاح نظمهم، وما نجحت إصلاحاتهم إلا بفضل مستوى وعيهم الذي انعكس في تكامل العلماء ورجال السياسة، وتضافر عوامل الكفاءة التي يتمتع بها العلماء ورجال السياسة، وهو ما ساعد على نمو الشعور بالحاجة إلى إصلاح نظمها التربوية وتطويرها لتكون في مستوى القدرة على إعداد ما تحتاج إليه الحضارة من العلماء وكبار الخبراء ورجال الأعمال وعباقرة العصر، فلم تمنعهم لتحقيق ذلك ظروف الحرب القاسية، والهزيمة النكراء؛ لأنهم أدركوا أن مصيرهم مرتبط بالتفوق التكنولوجي أكثر مما تتوقف على نتائج الحرب التي خرجوا منها غالبين كأمريكا وروسيا وبريطانيا وفرنسا، أو مغلوبين كالألمان واليابان، لا الغلب يبطرهم، ولا النصر يلهيهم، فشمروا عن ساق الجد، وركزوا على مطامح المجد، لا يلوون على شيء إلى أن حققوا ما هم عليه الآن من ازدهار ورخاء. ولولا هذه الإصلاحات التي تجاوزت المحيط إلى أمريكا الشمالية؛ حيث عرفت التربية الأمريكية هي الأخرى تحولات كبرى لولاها ما عرف العالم الجديد هذا الازدهار الثقافي والتطور التكنولوجي المذهلين، وما كان لهذه الإصلاحات أن تحقق هذا المستوى من النجاح ولا أدنى منه إلا لأنها كانت اختيارية خالية من أي نوع من القسرية، شرعية منهجية لا يخالطها ارتجال، لم تفرض على أمة من الأمم أمراً، ولم تفعل حاجة لطائفة أو فئة من الفئات الاجتماعية والطوائف والملل والنحل.(2/161)
والطبقات لم تكن لصالح مجموعة على حساب مجموعة أخرى، إلى درجة أن الصراع الطبقي الذي لا تخلو آثاره، ولا ينجو من ضغوطه قرار؛ فإن مفعوله وتدخله في توجيهه الخطة الإصلاحية التربوية التي عمل بها في مرحلة ما بعد الحربين العالميتين كان ضئيلاً؛ ففي بريطانيا البلد الرأسمالي الذي يعيش صراعاً طبقياً رهيباً حيث لم يحدث مرة في التاريخ البريطاني العريق أن خرجت السياسة التربوية عن قبضة الطبقة الأرسقراطية، مع ذلك يعترف رجالها بعد الحرب العالمية الثانية بفضل جميع الإنجليز على اختلاف طبقاتهم على ما أحرزته بريطانيا من النصر، ويقولون في مسودة إصلاح التعليم 1944م: «إن مصير الأمة البريطانية مرتبط برجالها كل رجالها دون استثناء أو تمييز».
` شروط عملية الإصلاح التربوي:
نستنتج من ذلك أن العملية الإصلاحية التربوية معقدة لا يجوز تركها للمصادفة والمخاطرة والارتجال، ولكي تنجو من الأخطار ومن الوقوع في الهوى والأغراض الشخصية فإنه لا بد أن تكون العملية الإصلاحية علمية في منهجها ودقتها وموضوعيتها، وهذا ما يجعل الأمانة العلمية جِدَّ صعبة ومعقدة، وحتى يكون العلماء في مستوى المسؤولية العظمى يطلب أن تكون العملية الإصلاحية على الأسس التالية:
أ ـ الأسس المنهجية. ب ـ الأسس الشرعية.
ج ـ الأسس الغائبة.
` العملية الإصلاحية عملية منهجية:(2/162)
إن تغلغل النظام التربوي في أعماق حياة الأمة الثقافية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية والحضارية ووضعه منها موضع العمود الفقري في الجسم جعل عملية تبادل التأثير والتأثر بينه وبين مختلف مجالات الحضارة في حالة من التفاعل الوظيفي المستمر. وبهذا صار الإصلاح التربوي في غاية من التعقيد؛ فأي خطأ يرتكبه المصلحون في أي مرحلة من المراحل النظرية أو الإجرائية تترتب عليه عواقب ومشكلات قد لا تكون من السهل تصحيحها بعد فوات الأوان. هذا ومن الحقائق التي أثبتتها التجارب الإصلاحية التي قام بها المصلحون في مختلف النظم التربوية أن وراء كل خلفيةٍ إشكاليةً تترتب عليه عند تزامنها كمتغير مع الثابت، وهو الأمر الذي سيُحدِث من التناقضات ما يفوق الحصر. وحتى يمكن للمصلحين التحكم والضبط والتحديد للفروض التي لا بد أن تحصر نتائجها حصراً دقيقاً عن طريق التنبؤ لا بد للعملية الإصلاحية من منهج تحدد في ضوئه مشكلاتها ومفاهيمها وأبعادها ومختلف عواملها، بالإضافة إلى الحل المنطقي والمراحل الإجرائية التي تمر بها إلى عملية التطبيق، ثم اختياره لمعرفة مدى صحة الفروض وما يترتب عليها من النتائج؛ فإذا تأكد لنا أنه لرفع مستوى التحصيل لا بد من رفع مستوى ثقافة المعلم وتحسين خبراته فإن هذا الحل يستلزم توفير شروط ذلك الإعداد، وإلا تعذر الحل؛ فالعملية الإصلاحية عملية تنصب على معطيات الحاضر لتصيغها صياغة جديدة مستقبلة قابلة للعمل الإجرائي في الميدان؛ لأن الحاضر في حكم الماضي، والماضي لا يغير أبداً. على أن هذا لا يعني إطلاقاً الانتقاص من قيمة التاريخ؛ لأنه هو الذي يجمع معطياته، ويمثل الكيان الموضوعي الذي تم تشكيله النهائي داخل الصيرورة، وصار يمثل الصورة الحقيقية لحال من أحوال الأمة في زمن محدد؛ وهذا يعني أنه لا بد من المعطَى التاريخي الذي يُكوّن موضوع الصياغة المستقبلية من حيث هي صميم العملية الإصلاحية.(2/163)
فالإصلاح ليسـ أبداً انطلاقاً من لا شيء، بل هو انطلاق من التاريخ كشيء موضوعي لواقع الأمة، وبه يتحقق كمالها في المستقبل باستمرار؛ لأنه عملية اصطفاء وترقٍّ لخبرة الأمة الحضارية باستمرار؛ فالمناهج التاريخية حسب رأي «برايند هولمس»(1) مناهج مفيدة لكنها ناقصة؛ والدليل على ذلك أنها ركزت على الماضي، وتقوقعت فيه دون الاهتمام بالمستقبل، مع أن المستقبل هو موضوع التغير وليس الماضي؛ لأن هذا الأخير ثابت لا يقبل التغير. فالإشكالية عند «هولمس» تكمن في تزامن المتغير، وهو ما يجب أن تكون عليه الأوضاع والأحوال للمنظومة التربوية مع اللامتغير، وهي الأحوال الثابتة للمؤسسات التربوية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية. فالتقاء الصورة المثلى التي يريد الإصلاح تحقيقها في زمن واحد مع الثوابت يحدث التناقض والإشكال حتى يتحقق التطابق بينهما؛ لأنه لا بد من دراسة عميقة دقيقة لمختلف العوامل لتحديد تأثيرها، ومدى تأثرها ضمن العملية الإجرائية الإصلاحية؛ فالحل إذن يقتضي تحقيق التطابق بين المتغير واللامتغير في المستقبل، وإزالة التناقضات التي تتعارض مع الحل. أو بمعنى آخر أن يكون الحل متمثلاً في حالة التطابق الخالية من التناقضات، وهذا ما يجعل العملية الإصلاحية قائمة على أساس منهجي بواسطة العلاقات المختلفة للظواهر.
إذن لا بد من تحديد الخطة الإصلاحية في ضوء المعطيات التاريخية التي تنصب عليها العمليات الإصلاحية في إطار منهج يساعد على إعادة صياغة المعطى التاريخي صياغة نظرية تسمح بتحديد المشكلة والتوصل إلى تحليلها، وتفسير مختلف أوضاعها، ووضع الفروض المناسبة، وتحديد المراحل الإجرائية العملية عن طريق التنبؤ. فالتاريخ إذن هو أهم وسيلة لنقل مكتسبات جهد وجهاد الأجداد باستمرار، ولولاه لما تحقق التطور الفكري ولا الحضاري؛ باعتبار التطور هو بداية كل جيل من حيث انتهى سلفه، وهو الجهد المستمر عبر الزمن.(2/164)
زد على ذلك أن مطالب الحضارة تنمو باستمرار، وتتعقد، وعمر الإنسان مهما طال قصير، والعوائق كثيرة، ونوائب الدهر لا يخلو منها عصر؛ ولا يبخل بها دهر، منها ما أمكن للأجداد التغلب عليه، ومنها ما لم يمكنهم تجاوزه أو تحقيقه من الآمال.
ما كل ما يتمنى المرء يدركه
تجري الرياح بما لا تشتهي السفن
فينبغي للخلف استكمال واستدراك ما فات السلف؛ لأن الإنتاج الحضاري ليس وقفاً على جيل دون جيل، وليس احتكاراً لعصر دون عصر، فلكل جيل جهوده ومجال جهاده، واجتهاده؛ بالإضافة إلى ذلك عامل الزمن الذي يجب أن يقرأ له ألف حساب. إنه يزداد في كل عهد خطورة وأهمية؛ فقد كان كالسيف يومذاك حين كان السيف أحسم سلاح في الهيجاء. أما اليوم فقد صار الوقت كالصاروخ النووي سرعة وخطراً وفصل خطاب.
إن عامل الزمن في وقت الأقمار الصناعية ومضاعف سرعة الصوت والعقول الإلكترونية لا تدانيها سرعة الحصان؛ على أن التطور التكنولوجي لا ينسينا فضل السلف الصالح، وجهده، وجهوده، واجتهاده؛ مما يجعلهم لنا دوماً قدوة حسنة لا بد من التوقان إلى اتباعهم والسير على نهجهم. إلا أنه إذا كان لا بد من حكمة الأجداد وحسن الاقتداء بهم فإنه من الحكمة أيضاً معرفة الأحفاد ما يمكن أن يضاف من جديد لجهود واجتهاد الأجداد.
ومن أهم وظائف التربية المحافظة على ما تجب المحافظة عليه كالدين وشريعته السمحة، وأخلاقه الفاضلة، وقيمه النبيلة. إلى جانب ذلك فهي مطالبة أيضاً بأن تجدد الفكر وتطور العلم، وأن تجعل الجيل بطل عصره وعبقري زمانه ينشد الصواب والحق والخير والفضيلة متخلصاً من الضلال والزيف، وتكون فيه القدرة على الانتقاء، وتنمي عنده ملكة الاصطفاء ليكون دوماً عنصر صلاح وسعادة وفلاح.(2/165)
وليحقق التغير أغراضه، وينشد الإصلاح مراميه التي تحدد في إطاره التاريخي لا بد من منهج يضع الأمور مواضعها، فلا تطغى الوسيلة على الغاية، ولا البداية على النهاية، ولا تسبق التحسينات الضروريات والحاجيات. لذا فالتحليل المنهجي للأغراض والمرامي التربوية، وغيرها لا يكون إلا نتيجة للتصور المنهجي لمعطيات التاريخ مصوغة صياغة مستقبلية إصلاحية؛ لأن التصور لمعطيات التاريخ يطلب أن يكون تصوراً واضحاً صحيحاً مطابقاً للحقائق تطابقاً لا يشوبه زيف ولا تشويهٌ؛ مما يجعل عملية الإصلاح جِدَّ معقدة؛ فالكل يعلم ما يدور في الساحة الثقافية وغيرها من إنتاج مغرض يقبِّح المحاسن، ويحسِّن المساوئ مضفياً على التراث غموضاً، وعلى الحقائق التاريخية التباساً بقصد تضليل وتحريف الجيل الجديد، وتنفيره من التراث.
وهذا كله من شأنه أن يجعل عملية جمع المعلومات تحتاج إلى منهجية محددة ذات ضوابط علمية وقيم. فإذا كان هذا هو الشأن بالنسبة لجمع المعلومات الصحيحة عن معطيات التاريخ لأخذ صورة صحيحة يمكن الاعتماد عليها في بناء التصور المنهجي للرؤية المستقبلية؛ فكيف بالمراحل التي تمتد بالعملية الإصلاحية التي تتطلع إلى آفاق ما يجب أن تكون عليه، وفق توقعات لا سبيل لنا إلى ضبطها إلا عن طريق الاحتمالات المبنية على التنبؤ؟ إذن لا بد من منهج ضابط للمعطيات، محقق للنتائج والمقدمات، مقنن للعلاقات، رابط بين العوامل، مفسر للأحداث والمواقف والحالات لتكون عندئذ الرؤية المستقبلية رؤية علمية تبدأ بالمشاهدة، فالملاحظة، فالتحليل، فالمقارنة، فالتفسير، فالحكم، فالبرهنة عليه... ثم التحقق من صدق الفرضية والعمل على ضبط الاحتمالات عن طريق الربط التجريبي، أو المنطقي بين مختلف العوامل للتوصل إلى الصورة الواضحة الكاملة على النموذج الإصلاحي، ثم إلى المراحل الإجرائية التي تمر بها العملية الإصلاحية كعملية منهجية أبعد ما تكون عن الارتجال والمصادفة.(2/166)
ولكي لا تقع الخطة الإصلاحية في الظلم لا بد من مراعاة العدالة، والتقيد بها تقيداً تاماً كشرط من الشروط المنهجية اللازمة.
--------------------------------------------------------------------------------
(*) رئيس الجبهة الإسلامية للإنقاذ في الجزائر.
(1) وهيب إبراهيم سمعان، الثقافة والتربية في العصور الوسطى، دار المعارف بمصر، 162، ص: 195.
(1) بول منور، المرجع في تاريخ التربية، مكتبة النهضة المصرية، 1953م، ج 2، ص 309 ـ 311.
(2) جون ديوي، الخبرة والتربية. (3) جايمس دوبي، الأسس العامة لنظريات التربية، ترجمة صالح عبد العزيز، مكتبة النهضة المصرية.
(1) أميل دور كايم، التربية الأخلاقية، ترجمة محمد بدي، مكتبة مصر، ص: 6.
(2) لوتروب ستودار، حاضر العالم الإسلامي، ترجمة عجاج نوبهض، ج4، ص: 4 ، ط 4، دار الفكر العربي.
(3) أ. ل. شاتليه، الغارة على العالم الإسلامي، المصدر السابق، ص: 55. (4) انظر مستقبل الثقافة في عصر طه حسين.
(1) p. cnevallier. Ensclgnemcnt Fruncnis Mowon. 1974, p.344. (2) Mach.
(3) شكيب أرسلان، حاضر العالم الإسلامي، ج3، ص: 363، دار الفكر، ط 4، 1973م.
(1) Drfan Hoimes in Education.p.911.
--------------------------------------------------------------------------------
مجلة البيان، العدد (203)، رجب 1425 ، أغسطس-سبتمبر 2004
* * *
http://www.albayan-magazine.com/zwaya/trbwi/51.htm
التناقض بين العبادة والسلوك
د. أسامة مشعل
من نظر في حياة المسلمين في جانبيها العبادي والسلوكي وجد تناقضاً واختلالاً بين ما يجب أن يكون متلازماً ومتناغماً.
ففي الجانب العبادي: المساجد تغص بالمصلين، والصائمون في رمضان أكثر من المصلين، ومؤسسات استقبال الزكاة كثيرة ومتنوعة، وعدد الحجاج يزيد عن ثلاثة ملايين كل عام.(2/167)
وفي الجانب السلوكي: انتشر الكذب والغيبة والنميمة والغش وقول الزور، وقطيعة الرحم وعقوق الوالدين، والتعامل بالربا، وتكشُّف النساء... إلخ.
ونظراً لما للتلازم بين العبادة والسلوك من أثر في إصلاح الفرد الذي هو اللبنة الأولى في إصلاح المجتمع وبنائه؛ ولما لذلك من علاقة في تغيير الأنفس قبل تغيير الأنظمة والمؤسسات قال الله ـ تعالى ـ: {إنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِم} [الرعد: 11]؛ ولأن هذا التلازم كذلك يتعلق بجهاد النفس المقدم على جهاد العدو، والمسلم إذا لم يجاهد نفسه أولاً لتفعل ما أُمِرت به، وتترك ما نُهيت عنه، ويحاربها في الله لم يمكنه جهاد عدوه في الخارج، وبإصلاح الفرد بدأ الأنبياء والمرسلون، وفي مقدمتهم نبينا محمد -صلى الله عليه وسلم-.
من أجل ذلك وغيره فإن دراسة ظاهرة التناقض بين العبادة والسلوك في غاية الأهمية.
إن التساؤلات حول هذه الظاهرة كثيرة، ومن أبرزها: ما معنى هذا التناقض؟ وما هي أهمية هذا الموضوع؟ وما هي حقيقة العلاقة بين العبادة والسلوك؟ وما أدلتها؟ ما النماذج والصور الواقعية التي توضح هذا التناقض؟ ما الأسباب الرئيسية لهذا التناقض؟ ماالعلاج لهذا التناقض؟
` أولاً: معنى التناقض بين العبادة والسلوك:
التناقض لغة(1): الإفساد أو الهدم أو الإبطال أو المخالفة والمعارضة.
العبادة لغة(2): الشعائر التعبدية: كالصلاة والصيام والزكاة والحج.
السلوك لغة(3): سيرة الإنسان: تصرفات الإنسان القولية والفعلية.
وبناء على ذلك يصبح معنى التناقض بين العبادة والسلوك: مخالفة الأصل الذي هو التلازم والانعكاس المتبادل بين العبادة والسلوك سلباً أو إيجاباً، وإبطال السلوك السلبي لأجر أو قبول عند الله.
` ثانياً: أهمية موضوع التناقض بين العبادة والسلوك:
تعود أهمية هذا الموضوع إلى أسباب اختياره، ومن أبرزها:
1 ـ انتشار هذا التناقض في حياة كثير من المسلمين.(2/168)
2 ـ جهل كثير من المسلمين بأثر هذا التناقض على الشعائر التعبدية.
3 ـ اقتناع كثير من المسلمين بعدم وجود علاقة بين العبادة والسلوك.
4 ـ نوضيح أسباب هذا التناقض، وأن الأصل هو التوافق.
5 ـ تقديم مقترحات لعلاج هذا التناقض.
` ثالثاً: حقيقة العلاقة بين العبادة والسلوك:
إن حقيقة العلاقة بين العبادة والسلوك هي علاقة توافق سلباً وإيجاباً، وذلك وفق الآتي:
ـ إن العبادة التي تؤدى على الوجه الأكمل تنتج سلوكاً إيجابياً في الغالب.
ـ وإن العبادة التي لا تؤدى على الوجه الأكمل تنتج سلوكاً سلبياً في الغالب، أو على الأقل تنتج سلوكاً فيه نقص أو خلل.
ـ وإن السلوك الإيجابي يدل على أن العبادة تؤدى على الوجه الأكمل.
وإن السلوك السلبي يدل على أن العبادة لا تؤدى على الوجه الأكمل.
ولعل من المفيد الإشارة إلى أن البحوث الإعلامية تعبر عنها بالعلاقة بين متغيرين (متغير العبادة ومتغير السلوك) أي زيادة الانضباط في العبادة يؤدي إلى زيادة الانضباط في السلوك، وأن الخلل أو النقصان في العبادة يؤدي إلى خلل أو نقصان في السلوك الإيجابي، كما أن الانضباط في السلوك يشير إلى الانضباط في العبادة، والخلل في السلوك يشير إلى الخلل أو النقصان في العبادة.
وتظهر هذه الموازنات والمتغيرات كثيراً في علاقة عبادة الصلاة بالسلوك لتكررها اليومي، ثم الصيام؛ لأنه شهر مفروض في كل عام، وتكون أقل في الظهور في الزكاة لارتباطها بتوفر نصاب من المال، وتقل هذه الموازنات أكثر في الحج لكونه مرة في العمر على القادر والمستطيع.
والوجه الأكمل للعبادة هو: أن تكون خالصة لله عز وجل، وأن تؤدى وفق ما نقل عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- شكلاً ومضموناً، وأن يخلو المؤدي لأي شعيرة من الشعائر التعبدية من موانع القبول وفي مقدمتها البعد عن المنهيات والمحرمات، وعن أمراض القلوب.(2/169)
وإن السلوك الإيجابي هو: التخلق بأخلاق الإسلام المتعلقة بالقلب واللسان والجوارح.
وإن الأخلاق المتعلقة بالقلب هي ملء القلب بالإيمان وبذكر الله، وسلامته من أمراض القلوب المعنوية مثل: الحقد، والحسد، والعجب، والكبر، والغرور...، ومن العقائد والأفكار المخالفة للدين.
وإن الأخلاق المتعلقة باللسان هي: قراءة القرآن، والذكر، والصدق، وقول الحق، والدعوة إلى الله والنصح للمسلمين، والبعد عن آفاق اللسان، مثل الكذب، والغيبة، والنميمة، وشهادة الزور، والدعاية للأفكار والمبادئ الهدامة، والترويج للبضائع المحرمة، والإخلال بالمقصود والعهود والمواثيق، واستخدامه في الضروريات والحاجيات والمباحث.
وإن الأخلاق المتعلقة بالجوارح (اليد والرجل والفم والسمع والبصر والبطن والفرج...) هي: استعمال الجوارح فيما أمر الله به أو أباحه، وتجنيبها ما نهى الله عنه أو حرمه.
` أدلة العلاقة الترابطية بين العبادة والسلوك:
تشير كثير من النصوص في القرآن الكريم والسنة النبوية إلى العلاقة الترابطية بين الشعائر التعبدية والسلوك القولي والفعلي، وسأكتفي بذكر بعضها وفق الآتي:
1 ـ أدلة الترابط بين الصلاة والزكاة والسلوك من الكتاب والسنة:
ـ الترابط بين الصلاة والزكاة وسلوك الوفاء بالعهد والصبر:
قال الله ـ تعالى ـ: {وَأَقَامَ الصَّلاةَ وآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُون} [البقرة: 177].
ـ الترابط بين الصلاة والزكاة وسلوك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر:
قال ـ تعالى ـ: {الَّذِينَ إن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ} [الحج: 41].(2/170)
ـ الترابط بين الصلاة وسلوك الانتهاء عن الفحشاء والمنكر:
قال ـ تعالى ـ: {إنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُون} [العنكبوت: 45].
ـ الترابط بين الصلاة والزكاة وسلوك النصح:
عن جرير بن عبد الله ـ رضي الله عنه ـ قال: «بايعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على إقام الصلاة والزكاة والنصح لكل مسلم»(1) حديث صحيح حسن.
ـ الترابط بين الصلاة والزكاة وسلوك صلة الرحم:
عن أبي أيوب الأنصاري أن رجلاً قال: يا رسول الله! أخبرني بعمل يدخلني الجنة، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: «تعبدُ الله لا تشرك به شيئاً، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصل الرحم»(2).
ـ الترابط بين الصلاة والصيام وسلوك تحريم الحرام وإحلال الحلال:
عن جابر بن عبد الله ـ رضي الله عنه ـ أن النعمان بن نوفل ـ رضي الله عنه ـ جاء رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: يا رسول الله! أرأيت إذا صليت المكتوبات، وصمت رمضان، وحرمت الحرام، وأحللت الحلال ولم أزد على ذلك شيئاً أفأدخل الجنة؟ قال: نعم! فقال: والله لا أزيد على ذلك شيئاً»(3).
ـ الترابط بين الصيام والبعد عن سلوك قول الزور:
عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة بأن يدع طعامه وشرابه»(4) حديث حسن صحيح.
ـ الترابط بين الحج والبعد عن سلوك الرفث والفسوق والجدال:
قال الله ـ تعالى ـ: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِ} [البقرة: 197].
وعن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «من حج ولم يرفث ولم يفسق غُفِرَ له ما تقدم من ذنبه»(5) حديث حسن صحيح.(2/171)
ـ وإن من أبلغ الأدلة على هذا الترابط أن السلوك السلبي لا يشير إلى أن العبادة لا تؤدى على الوجه الأكمل فقط، بل ينقل ثواب العبادة إلى المتضرر من السلوك السلبي، ويُدخل صاحبه النار، أو يبعده عن الله.
قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «أتدرون ما المفلس؟
قالوا: المفلس فينا من لا درهم له ولا متاع، فقال: إن المفلس من أمتي: من يأتي يوم القيامة بصلاة وصيام وزكاة، ويأتي وقد شتم هذا، وقذف هذا، وأكل مال هذا، وسفك دم هذا، وضرب هذا، فيعطى هذا من حسناته وهذا من حسناته، فإن فنيت حسناته قبل أن يقضي ما عليه أخذ من خطاياهم، فطُرحت عليه، ثم طُرح في النار»(1).
وعن أبي هريره ـ رضي الله عنه ـ قال: قيل للنبي -صلى الله عليه وسلم-: يا رسول الله! إن فلانة تقوم الليل، وتصوم النهار، وتفعل، وتتصدق، وتؤذي جيرانها بلسانها؟ قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «لا خير فيها هي من أهل النار»(2).
ويقول عبد الله بن مسعود ـ رضي الله عنه ـ: «من لم تنهه صلاته عن الفحشاء والمنكر لم يزدد من الله إلا بعداً»(3).
` رابعاً: نماذج وصور واقعية توضح التناقض بين العبادة والسلوك:
إن واقع المجتمعات المسلمة الظاهر، والممارسات الاجتماعية والاقتصادية في الغالب تدل على هذا التناقض، ويجد المتأمل أمثلة واقعية كثيرة قولية وفعلية، ومن ذلك انتشار التعامل بالربا، وكثرة الكذب والغيبة والنميمة والغش والخداع والظلم، وعقوق الوالدين، وعدم الوفاء بالعقود والعهود...، وتقليد غير المسلمين والتشبه بهم دون أي تمييز بين الحسن والقبيح، وعدم التزام الطالب بمدرسته أو جامعته أو المحافظة على أثاثها ومقتنياتها، وكذلك المدرس وأستاذ الجامعة والموظف.
وهذه بعض الصور والنماذج الواقعية التي توضح ذلك:(2/172)
ـ امرأة تصف زوجها فتقول: إنه حريص على الصلاة في أوقاتها بالمسجد وعلى الصيام في رمضان وعلى أداء الزكاة وعلى الحج والعمرة، ومعاملته حسنة مع الناس، ولكنه يأكل الربا، ويسافر للخارج للزنا وشرب الخمور وفعل المنكرات، وإذا دخل المنزل يخلع ثلاثة أشياء: حذاءه، وثيابه، وأخلاقه؛ فهو فظ غليظ سبّاب فاحش مع زوجته وأولاده، ولا يجلس معهم، بل يقضي وقته في مشاهدة البرامج والأفلام الخليعة في الفضائيات والإنترنت.
ـ جار يصف جاره فيقول: جاري حريص على الصلاة، والصيام، والزكاة، والحج في كل عام، ويلقي أحياناً دروساً في المسجد، ولكنه لا يتورع عن الكذب والغيبة والنميمة واحتقار بعض أقاربه وجيرانه، وسبَّاب وفاحش ولعَّان لزوجته وبناته وأولاده، ويربيهم على الحقد وعلى حب المال، ويقول: معك ريال فقيمتك ريال.
ـ صديق يتحدث عن صديق: صديقي حريص على الصلاة بجماعة في المسجد وعلى أداء السنن الرواتب بدقة وعلى بقية الشعائر التعبدية، ولكن بناته سافرات؛ فواحدة منهن تعمل مديرة لشركة في أوروبا بمفرها ولم تتزوج بعد، وواحدة تدرس دون مرافق محرم في بلد أوروبي، فهذه النماذج يغيب فيها السلوك الحسن والخلق الفاضل عن بعض المتدينين.
ـ من أبرز أركان العقود المتفق عليها في الشريعة الإسلامية: الإيجاب والقبول والصيغة؛ فعندما يتقدم الطالب بطلبه للقبول في الجامعة فإن ذلك يعتبر إيجاباً من طرفه وموافقة على نظام الجامعة إن قبلته، وإذا تم القبول فقد اكتملت أركان العقد، ووجب الالتزام به، قال ـ تعالى ـ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} [المائدة: 1].(2/173)
ويتألف نظام الجامعة في الغالب من آداب وشروط أو ضوابط، وتشتمل الآداب على علاقة الطالب بأساتذته وبزملائه وبالإداريين، وببناء الجامعة ومرافقها، وبالفصول الدراسية وأثاثها، وأما الشروط والضوابط فتتعلق غالباً بالالتزام في الحضور إلى المحاضرات في أوقاتها المحددة وفي حضور الامتحانات بأنواعها، وفي الحصول على الحد الأدنى من الدرجات التي تسمح للطالب بالاستمرارية إلى نهاية المرحلة التي هو فيها.
إن غالب طلاب الجامعات يؤدون الشعائر التعبدية، وإن كثيراً منهم لا يلتزمون بالمطلوب منهم في نظام الجامعة، وهذا تناقض بين العبادة والسلوك.
ـ عندما يتقدم الطالب بطلب إلى الجامعة للابتعاث للخارج فإن هذا الطلب هو إيجاب من الطالب أي موافقة من الطالب على أن ترسله الجامعة للحصول على التخصص الذي تحتاجه، ولهذا الابتعاث نظام معروف، وإذا قبلته الجامعة فقد تم العقد وعلى الطالب الوفاء بمضمونه.
ونظام الابتعاث يتضمن آداباً وشروطاً وضوابط منها العودة للعمل في الجامعة ضمن نظام يتعلق بأعضاء هيئة التدريس يجب أن يلتزم به العائد من الابتعاث، وفي هذا النظام كذلك شروط وضوابط وآداب، ومنها: تدريس ما يُكلَّف به، والحضور في المواعيد المحددة، والعلاقة بطلابه وزملائه والإداريين، ومباني الجامعة ومرافقها وأثاثها.
والمتأمل يرى أن بعض أعضاء هيئة التدريس من المؤدين للشعائر التعبدية لا يلتزمون بالمطلوب منهم في نظام الجامعة، وهذا تناقض بين العبادة والسلوك.
إن خلق الشعور بالمسؤولية والوفاء بالالتزامات التي يقطعها الإنسان على نفسه يعتبر من أعظم الأخلاق التي تدل على رقي صاحبها، وعلو مكانته، ومستواه الاجتماعي، ومن أهم العوامل التي تؤدي إلى نجاح الإنسان في مجتمعه.(2/174)
فالوفاء بالعهد مسؤولية سيناقَش عليها الإنسان الحساب. قال الله ـ تعالى ـ: {وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إذَا عَاهَدتُّمْ} [النحل: 91]؛ ولذلك يجب الوفاء بالعهد مهما كانت الظروف. قال الله ـ تعالى ـ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ * كَبُرَ مَقْتًا عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُون} [الصف: 2 - 3].
فالإخلال بالعقد والعهد من المقت السيئ الكبير الذي يكرهه الله لعباده المؤمنين.
إن حسن إسلام المرء تؤكده العبادات فقط، بل لا بد من تأكيد ذلك بالقول والفعل من خلال سلوكه وتصرفاته.
` خامساً: الأسباب الرئيسة للتناقض بين العبادة والسلوك:
ويمكن إجمالها في ستة أسباب رئيسة:
1 ـ الفهم غير الصحيح للإسلام:
ويعود ذلك بشكل رئىس إلى عدم فهم القرآن الكريم على وجهه الصحيح؛ حيث أصبحت قراءته لدى كثير من الناس دون فهم وتدبر وتطبيق، ويرجع هذا إلى عوامل عديدة من أبرزها:
أ ـ بُعد المسلمين عن العلم الشرعي وعلمائه.
ب ـ ضعف المسلمين باللغة العربية الفصحى.
ج ـ فشوُّ العامية.
لقد كان القرآن الكريم كل شيء في حياة المسلمين بدءاً من رسولهم ـ عليه الصلاة والسلام ـ ويبدو ذلك جلياً عندما سألت السيدة عائشة ـ رضي الله عنها ـ عن خُلُقه -صلى الله عليه وسلم-، فقالت: «كان خلقه القرآن»(1)، ويظهر ذلك أيضاً في قول سيدنا عبد الله بن مسعود ـ رضي الله عنه ـ: «كنا لا نتجاوز حفظ عشر آيات حتى نعمل بما فيهن»(2).(2/175)
ومنذ نزول القرآن الكريم أدرك كفار قريش أن السبيل لمحاربته هو أن يبعدوا تأثيره عن قلوب المسلمين، وأن يصدوا الناس عن سماعه والإقبال عليه. قال ـ تعالى ـ: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُون} [فصلت: 26]، وما فتئ أعداء الإسلام منذ ذلك الحين إلى يومنا هذا يبذلون كل طاقاتهم لصد الناس عن القرآن الكريم بمختلف الطرق والأساليب.
وعندما لم تستطع أوروبا أن تثبت أقدامها في العالم العربي بعد الحروب الصليبية بقوة السلاح بدأت تبحث عن العوامل التي حالت دون ذلك، وفي الوقت ذاته ظهر الاستشراق الذي كان من أول أهدافه أن يبحث لأوروبا عن سلاح غير أسلحة القتال، وبَعْد الدراسة والبحث تبين للمستشرقين: أن العامل الرئيس في قوة المسلمين هو القرآن الكريم؛ ولذلك فلا بد من العمل على إزالته.
وفي العصر الحديث وفي مجلس العموم البريطاني رفع (غلادستون) المصحف قائلاً: «إنكم لن تستطيعوا أن تحكموا المسلمين إلا إذا نزعتم هذا منهم». ولكنهم بعد استعمارهم لبلاد المسلمين توصلوا إلى أنه لا يمكن نزع القرآن الكريم من حياة المسلمين إطلاقاً، ولكن من الممكن نزع تأثيره؛ ويصبح شكلاً دون مضمون، أو جسداً بلا روح، ولا يمكن نزع تأثيره إلا بإضعاف أدوات فهمه وتدبره، وفي مقدمتها: اللغة العربية الفصحى، والعلم الشرعي وعلمائه.
وهنا قرروا العمل بهذا الاتجاه، والذي يؤكد ذلك كثير، ومنه ما ورد في تقرير لجنة العمل المغربي الفرنسي: «وإن أول واجب هذ السبيل ـ مقاومة الإسلام ـ هو التقليل من أهمية اللغة العربية، وصرف الناس عنها؛ بإحياء اللهجات المحلية واللغات العامية في شمالي أفريقية حتى لا يفهم المسلمون قرآنهم، ويمكن التغلب على عواطفهم»(3).(2/176)
وقد أدرك هؤلاء أن اللغة العربية تعتبر من أهم عناصر قوة الأمة الإسلامية؛ لأنها لغة القرآن والعنصر الرئيس في توحيد الأمة الذي يرتفع فوق العصبيات والقوميات، ولم يكن هذا الأمر وليد الساعة، بل تنبه إليه الصحابة ـ رضوان الله عنهم ـ وإليه أشار سيدنا عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ بقوله: «تعلموا العربية فإنها من دينكم»(4). وأشار إليه كذلك الإمام ابن تيمية ـ رحمه الله ـ عندما قرر أن اللسان العربي شعار الإسلام وأهله.
وعندما جاء الاستعمار الحديث إلى البلاد العربية، وقامت الحملة الفرنسية على مصر بقيادة (نابليون بونابرت)، وقد تم اختيارها ـ مصر ـ؛ لأنها بلد العلم ومصدر إشعاعه في العالم الإسلامي، ورافق المستشرقون الحملة ليضعوا أسس إضعاف تلك الأدوات ـ اللغة العربية، والعلم الشرعي وعلمائه ـ وتهميشهاً؛ ولتحقيق ذلك اصطحبت الحملة معها كتباً كثيرة، وفتحت مراكز للثقافة، وتوجهت إلى الأزهر ورجاله ودور العلم والمكتبات، وعاثت فيها فساداً من كل جوانبها.
وبعد أن خرج الفرنسيون صار أمر مصر إلى محمد علي باشا (الألباني) عام 1805م، وسيطر قناصل أوروبا على مرافق البلاد، وفي مقدمتها التعليم، وركزوا على عدة أمور من أبرزها: إضعاف مناهج اللغة العربية، وتدعيم نشر العامية، وإبعاد الناس عن العلم الشرعي؛ وذلك برفع مستوى دخل المختص في غير العلوم الشرعية، وتشويه صورة العلماء في نفوس الناس.(2/177)
وانطلاقاً من تلك الأمور وغيرها أرسلت البعثات العلمية إلى فرنسا عام 1826م، وكان ممن رافق البعثات الأولى إماماً ومرشداً لها الشيخ الأزهري رفاعة الطهطاوي، وبدلاً من أن يكون عامل وقاية للبعثة من التأثر بالأفكار الفرنسية تأثر هو بها، ولما عاد إلى مصر ألَّف عدة كتب، منها: «أنوار توفيق الجليل في أخبار مصر وتوثيق بني اسماعيل» يدعو فيه إلى العامية، ومما قال فيه: «نعم! إن اللغة المتداولة المسماة باللغة الدارجة التي يقع بها التفاهم في المعاملات السائرة لا مانع أن تكون لها قواعد قريبة المأخذ تضبطها ليعرفها أهل الإقليم حيث نفعها بالنسبة إليهم عميم، وتصنف فيها كتب المنافع العمومية والمصالح البلدية».
وبعد ذلك أُلفت كتب كثيرة في مصر وغيرها تدعو إلى العامية، وتقعّد لها، وتهاجم الفصحى، ومن تلك الكتب: (قواعد اللغة العامية في مصر: ولهلم سبيتا) و (اللهجة العامية في مصر: كارل فورلرس) و (قواعد اللهجة اللبنانية السورية: رافائيل نخلة) و (في متلو هلكتاب: مارون غصن) و (معجم الألفاظ العامية في اللهجة اللبنانية: أنيس فريجة).
وتكاثر دعاة العامية، وأغلبهم من النصارى: عيسى إسكندر المعلوف، ولويس عوض، وسعيد عقل، وسلامة موسى.
واللغة العربية من أهم أدوات فهم القرآن، فإذا ما اضعِفت أو هُمِّشت لم يعد يُفهم القرآن على وجهه الصحيح، ونجحوا في ذلك، فلم يعُد المسلم يفهم القرآن، ومن ثم ما عاد يتدبره ويطبقه؛ وبذلك تحقق في المسلمين قوله ـ تعالى ـ: {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} [محمد: 24].
2 ـ حب الدنيا واتباع الشهوات:(2/178)
أصبح المسلم اليوم حريصاً على دنياه ومتبعاً لشهواته. قال الله ـ تعالى ـ: {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِندَهُ حُسْنُ الْمَآبِ} [آل عمران: 14].
لقد شُغل قلب المسلم وعقله وفكره بحب الدنيا وكيفية تحصيلها بأشكالها وأنواعها حتى أصبحت أكبر همه، واحتلت الشهوات المكانة الأولى في اهتماماته، ولم يعُد يفكر في الموت وما بعده، بل صار يكره الموت، وهذا ما عبّر عنه النبي -صلى الله عليه وسلم- بقوله: «وليقذفن في قلوبكم الوهن، قال قائل: يا رسول الله! وما الوهن؟ قال: حب الدنيا وكراهية الموت»(1).
3 ـ خلوُّ الشعائر التعبدية من الخشُوع والخضوع الحقيقي:
لقد أصبحت الصلاة ـ مثلاً ـ لدى الكثيرين جسداً (شكلاً) دون روح (مضمون)، فلم تعد تنهى عن الفحشاء والمنكر، ولم يعد المصلي يستشعر بين يدي مَنْ يقوم، ومَنْ يواجه.
ويصوم المسلم عن الطعام والشراب، ولا تصوم جوارحه؛ فلا يكف لسانه عن الغيبة والنميمة والكذب...، ولا عينه عن النظر للعورات، ولا أذنيه عن سماع المحرمات.
ويؤدي المسلم الحج، ولكنه لا يتغير فيه شيء لا قَبْل الحج ولا بَعْده.
وبذلك تحقق في المسلمين: «يأتي على الناس زمان تصبح فيه الصلاة عادة، والصوم جلادة، يحج أغنياؤهم للنزهة، وفقراؤهم للتكسُّب، وقراؤهم للرياء والسمعة»(2).
4 ـ ضعف الإيمان، وبخاصة في جانب مراقبة الله ـ عز وجل ـ والموت والرزق:(2/179)
لم يعد المسلم يستشعر أن الله يراه في كل وقت وحين؛ لذلك صار يقع في المخالفات الشرعية، وأيضاً لم يعد عمله يدل على أنه موقن بالموت، فصار لا يتوقف كثيراً للتدقيق في قضايا الحلال والحرام، وتحقق قول عمر بن عبد العزيز ـ رضي الله عنه ـ: «ما رأيت يقيناً أشبه بالشك من يقين الناس بالموت، ثم لا يستعدون له يعني كأنهم فيه شاكون»(3).
ولم يعُد المؤمن يؤمن تمام الإيمان بأن الرزق تكفل به الله في كتابه الكريم: {وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ * فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ إنَّهُ لَحَقٌّ مِّثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنطِقُون} [الذاريات: 22 - 23]؛ ومن هنا وقع المسلم في الكسب الحرام، وسلك مسالكه.
5 ـ الجهل بخطورة هذا التناقض على العبادة:
ويعود ذلك بشكل رئيس إلى بُعْد المسلمين عن العلم الشرعي وعن التلقي عن العلماء الذي تولَّد منه عدم الاكتراث بقبول العبادة أو عدمه. ومن جانب آخر ضعف الشعور بالمؤاخذة على أعمال الجوارح، بل برزت الاستهانة بأفعالها، حتى انطبق عليهم قول الله ـ تعالى ـ: {إذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُم مَّا لَيْسَ لَكُم بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِندَ اللَّهِ عَظِيمٌ} [النور: 15].
6 ـ الأفكار المستوردة:
ويعود انتشار الأفكار المستوردة إلى عوامل عديدة، من أبرزها:
الاستعمار في الماضي، عودة كثير من المبتعثين الذين يحملون الأفكار التغريبية، البعثات التنصيرية ـ في الماضي ـ إلى بلاد العرب والمسلمين، التدفق المعلوماتي والإعلامي عبر الوسائل الحديثة: الإنترنت والفضائيات...، وغيرها.
وتأتي فكرة فصل الدين عن الحياة في مقدمة الأفكار المستوردة التي كان لها أثر كبير في حياة المسلمين، وأصبح المسلم كالنصراني في نظرته لعلاقة الدين بالحياة والتي تقوم على: «دع ما لقيصر لقيصر، وما لله لله...».
` سادساً: علاج التناقض بين العبادة والسلوك:(2/180)
إذا استطاع الطبيب أن يشخص أسباب المرض بدقة فإنه يتمكن في ـ الغالب ـ من إعطاء العلاج الناجع لهذا المرض، وإذا لم يستطع التشخيص التدقيق فإنه يعطي للمريض مسكنات للألم حتى يقيِّض الله له دواء شافياً.
وبعد سبْر حقيقة ظاهرة التناقض بين العبادة والسلوك أمكن حصر غالب أسبابها التي ذكرت آنفاً، وبالدراسة تبين أن العلاج الناجع لهذه الظاهرة يتلخص في النقاط الآتية:
1 ـ العودة إلى دراسة سيرة النبي -صلى الله عليه وسلم-، وصحابته ـ رضي الله عنهم ـ والتعمق في فهم الجوانب المتعلقة بالتلازم بين العبادة والسلوك.
2 ـ العمل على إيجاد قدوات حقيقية في المجتمع المسلم يتمثلون تعاليم الإسلام بدقة وحذر، ويخشون أن يؤتى الإسلام من قِبَلهم.
3 ـ إبراز مكانة العلم الشرعي وعلمائه في الأمة.
4 ـ العودة إلى فهم الإسلام وتعاليمه على يد العلماء العاملين الثقات.
5 ـ تعليم اللغة الفصحى، وإبراز مكانتها في الدين، وضرورتها في فهم القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة.
في الختام: لا أزعم أن هذه العجالة كاملة مستوعبة إنما هي بداية لدراسة متعمقة إن شاء الله. وأؤكد: أنه لا يصلح أمر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها.
وخير ختام ما قاله نبي الله شعيب فيما حكاه القرآن الكريم: {إنْ أُرِيدُ إلاَّ الإصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إلاَّ بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإلَيْهِ أُنِيب} [هود: 88].
--------------------------------------------------------------------------------
(*) جامعة الملك سعود، قسم الإعلام.
(1) انظر: المعجم الوسيط، مادة: نقض.
(2) المرجع السابق، مادة: عبد.
(3) المرجع السابق، مادة: سلك.
(1) الترمذي، الجامع الصحيح، باب في النصيحة، رقم الحديث 1991.
(2) البخاري، صحيح البخاري، كتاب الزكاة، باب وجوب الزكاة، رقم الحديث 1332.
(3) مسلم، صحيح مسلم، كتاب الإيمان، باب بيان الإيمان...، رقم الحديث 18.
((2/181)
4) الترمذي، مرجع سابق، باب ما جاء في التشديد على الغيبة للصائم، رقم الحديث 702.
(5) الترمذي، مرجع سابق، رقم الحديث 808.
(1) رواه مسلم، مرجع سابق، باب تحريم الظلم، رقم الحديث 2581.
(2) رواه أحمد 2/440، والبخاري في الأدب المفرد (119)، وصححه الحاكم 4/116، ووافقه الذهبي. (3) الطبراني، معجم الطبراني الكبير، باب الظاء، مج 9، ص104.
(1) أحمد، مسند الإمام أحمد، مج 6.
(2) الصنعاني: سبل السلام، ص2، باب صلاة الجماعة، ص 59.
(3) مجلة الهلال: يناير 1934م.
(4) كنز العمال، ص3، رقم الحديث 9037، مسند عمر ـ رضي الله عنه ـ «تعلموا العربية، فإنها تنبت العقل، وتزيد المروءة».
(1) أحمد، مسند الإمام أحمد، ص5، مسند الأنصار.
(2) تخريج أحاديث الإحياء للحافظ العراقي، كتاب الحج.
(3) القرطبي، الجامع لأحكام القرآن، ص 10، سورة الحجر.
--------------------------------------------------------------------------------
مجلة البيان، العدد (205)، رمضان 1425،اكتوبر - نوفمبر 2004 .
* * *
http://www.albayan-magazine.com/zwaya/trbwi/52.htm
قطوف تربوية حول قصة المجادلة
د. حمدي شعيب
? شاهدة على عصرها:(2/182)
عَنْ خَوْلَةَ بِنْتِ ثَعْلَبَةَ قَالَتْ: وَاللَّهِ فِيَّ وَفِي أَوْسِ بْنِ صَامِتٍ أَنْزَلَ اللَّهُ ـ عَزَّ وَجَلَّ ـ صَدْرَ سُورَةِ الْمُجَادَلَةِ. قَالَتْ: كُنْتُ عِنْدَهُ وَكَانَ شَيْخاً كَبِيراً قَدْ سَاءَ خُلُقُهُ وَضَجِرَ. قَالَتْ: فَدَخَلَ عَلَيَّ يَوْماً فَرَاجَعْتُهُ بِشَيْءٍ فَغَضِبَ فَقَالَ: أَنْتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي. قَالَتْ: ثُمَّ خَرَجَ فَجَلَسَ فِي نَادِي قَوْمِهِ سَاعَةً، ثُمَّ دَخَلَ عَلَيَّ؛ فَإِذَا هُوَ يُرِيدُنِي عَلَى نَفْسِي. قَالَتْ: فَقُلْتُ: كَلا؛ وَالَّذِي نَفْسُ خُوَيْلَةَ بِيَدِهِ لا تَخْلُصُ إِلَيَّ وَقَدْ قُلْتَ مَا قُلْتَ حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ فِينَا بِحُكْمِهِ. قَالَتْ: فَوَاثَبَنِي، وَامْتَنَعْتُ مِنْهُ، فَغَلَبْتُهُ بِمَا تَغْلِبُ بِهِ الْمَرْأَةُ الشَّيْخَ الضَّعِيفَ، فَأَلْقَيْتُهُ عَنِّي. قَالَتْ: ثُمَّ خَرَجْتُ إِلَى بَعْضِ جَارَاتِي فَاسْتَعَرْتُ مِنْهَا ثِيَابَهَا، ثُمَّ خَرَجْتُ حَتَّى جِئْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-، فَجَلَسْتُ بَيْنَ يَدَيْهِ، فَذَكَرْتُ لَهُ مَا لَقِيتُ مِنْهُ، فَجَعَلْتُ أَشْكُو إِلَيْهِ -صلى الله عليه وسلم- مَا أَلْقَى مِنْ سُوءِ خُلُقِهِ. قَالَتْ: فَجَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ: يَا خُوَيْلَةُ! ابْنُ عَمِّكِ شَيْخٌ كَبِيرٌ فَاتَّقِي اللَّهَ فِيهِ. قَالَتْ: فَوَاللَّهِ مَا بَرِحْتُ حَتَّى نَزَلَ فِيَّ الْقُرْآنُ فَتَغَشَّى رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- مَا كَانَ يَتَغَشَّاهُ، ثُمَّ سُرِّيَ عَنْهُ. فَقَالَ لِي: يَا خُوَيْلَةُ قَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ فِيكِ وَفِي صَاحِبِكِ.(2/183)
ثُمَّ قَرَأَ عَلَيَّ: {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ} [المجادلة: 1] إِلَى قَوْلِهِ: {وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [المجادلة: 4] فَقَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: مُرِيهِ فَلْيُعْتِقْ رَقَبَةً. قَالَتْ: فَقُلْتُ: وَاللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا عِنْدَهُ مَا يُعْتِقُ. قَالَ: فَلْيَصُمْ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ. قَالَتْ: فَقُلْتُ: وَاللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ! إِنَّهُ شَيْخٌ كَبِيرٌ مَا بِهِ مِنْ صِيَامٍ. قَالَ: فَلْيُطْعِمْ سِتِّينَ مِسْكِيناً وَسْقاً مِنْ تَمْرٍ. قَالَتْ: قُلْتُ: وَاللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا ذَاكَ عِنْدَهُ. قَالَتْ: فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: فَإِنَّا سَنُعِينُهُ بِعَرَقٍ مِنْ تَمْرٍ. قَالَتْ: فَقُلْتُ: وَأَنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ سَأُعِينُهُ بِعَرَقٍ آخَرَ. قَال:َ قَدْ أَصَبْتِ وَأَحْسَنْتِ، فَاذْهَبِي فَتَصَدَّقِي عَنْهُ، ثُمَّ اسْتَوْصِي بِابْنِ عَمِّكِ خَيْراً. قَالَتْ: فَفَعَلْتُ. قَالَ سَعْدٌ: الْعَرَقُ: الصَّنُّ»(1).
وردت هذه القصة، في مطلع (سورة المجادلة)، وهي أول سورة في الجزء الثامن والعشرين، من القرآن الكريم.
وسور هذا الجزء تركز على البعد الداخلي؛ والمشاكل الداخلية للمجتمع الوليد في المدينة، خاصة المشاكل الحياتية اليومية العادية، مع عدم إهمال البعد الخارجي للواقع المحيط وما يوجد به من أعداء للدعوة مثل اليهود والمنافقين.(2/184)
وهو عبارة عن جولة (مع الجماعة المسلمة الناشئة؛ حيث تُربى وتُقوَّم، وتُعد للنهوض بدورها العالمي، بل بدورها الكوني، الذي قدّره الله لها في دورة هذا الكون ومقدّراته. وهو دور ضخم يبدأ من إنشاء تصور جديد كامل شامل للحياة، في نفوس هذه الجماعة، وإقامة حياة واقعية على أساس هذا التصور، ثم تحمله هذه الجماعة إلى العالم كله لتنشئ للبشرية حياة إنسانية قائمة على أساس هذا التصور كذلك ... وهو دور ضخم إذن يقتضي إعداداً كاملاً.
وفي هذه السورة بصفة خاصة نشهد صورة موحية من رعاية الله للجماعة الناشئة؛ وهو يصنعها على عينه، ويربيها بمنهجه.
هذه الفترة الفريدة في تاريخ البشرية؛ فترة اتصال السماء بالأرض في صورة مباشرة محسوسة.
فنشهد السماء تتدخل في شأن يومي لأسرة صغيرة فقيرة مغمورة، لتقرر حكم الله في قضيتها)(1).
وعندما نتأمل هذه السورة نجد أنها تدور حول عدة قضايا أو موضوعات رئيسة:
(أ) قصة المجادلة.
(ب) تهديد الذين يُحادّون، أي يخالفون ويعادون الله ورسوله.
(ج) التذكير بعلم الله ـ سبحانه ـ المحيط بكل نجوى، وتهديد من يتناجى بالإثم والعدوان والكيد والتآمر ضد المسلمين.
(د) التذكرة بأدب السماحة والطاعة للقيادة، وأدب مجالس العلم.
(هـ) كشف بعض كيد المنافقين الذين يتآمرون مع أعداء الدعوة من اليهود.
(و) بيان الصورة الربانية العظيمة لحزب الله؛ والممثل بالسابقين من المهاجرين والأنصار.
ولكن عندما نتدبر هذه القضايا المهمة والعظيمة، ونجد أن السورة قد بدأت بقضية المجادلة، بل إن اسم السورة التوقيفي نجده على نفس القضية، وهذا ما يُلقي في الروع؛ كيف أن الحق ـ سبحانه ـ يُولي أهمية خاصة بتلك القضية، وتكون في مقدمة سلم أولويات قضايا السورة بل والجزء كله.(2/185)
وعندما نتأمل كيف أن التربية القرآنية الربانية ـ والممثلة في تلاوة وتدبر القرآن الكريم يومياً ـ تقوم بدور عظيم في عملية البناء الفكري والسلوكي لعقل الأمة الباطن، وتذكره بأهمية مثل تلك القضية.
لأن البداية في عملية التغيير الحضاري إنما تنبع من فكرة عظيمة في قلب رجل عظيم.
ثم تنشئ هذه الفكرة تحولاً نفسياً في نفوس البشر؛ وهذا التحول ينشئ دافعاً داخلياً؛ ثم يفرز هذا الدافع سلوكاً عملياً، فينتج تغييراً فردياً؛ ثم تحولاً حضارياً بأشكاله المنوعة؛ سواء الجانب الاقتصادي أو السياسي أو الثقافي أو الاجتماعي.
{إنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ} [الرعد: 11].
إذن: أي تغيير فردي أو جماعي أو أممي إنما ينطلق من تغيير فكري.
والتغيير الفكري هو الذي يحدد نوعية هذا التغيير الحضاري.
إذن: مقياس جودة أي تغيير فردي أو حضاري هو المنطلق الفكري لهذا التحول؛ أو القاعدة الفكرية لهذا التغيير.
فما أحوجنا لتأمل ذلك، وما أحوجنا لتدبر الأساليب التربوية القرآنية.
وكذلك ما أحوجنا لفقه دور القصة في تشكيل وإعادة صياغة عقل الأمة، في مواجهة التحديات الحضارية.
تلك التحديات التي تشمل صوراً منوعة من التدافعات؛ وأهمها التدافع الفكري والآرائي.
وبتدبر آيات هذه القصة، نجد أن لها بعدين:
الأول: وهو البعد الظاهر القريب؛ إذ تقص علينا أحداث خلاف حياتي عادي وملابساته، وقع في إحدى البيوتات الإسلامية، بين رجل وامرأته، فحدث بينهما ما يشبه الطلاق، ثم أراد الرجل أن يجامعها فأبت، وذهبت إلى الرسول -صلى الله عليه وسلم-، فشكت إليه، وحاورته، في رأيه في القضية، ولم تقتنع برأيه -صلى الله عليه وسلم-، حتى نزل الوحي بآيات الظهار، في مطلع سورة المجادلة؛ لتقدم الحل الرباني الشامل الكامل الخالد لهذه القضية.(2/186)
الثاني: وهو البعد التربوي العظيم، والذي يمكننا استجلاؤه من خلال النظرة المنهجية الكلية الفاحصة لآيات القصة وملابساتها؛ حيث يقدم الرد الهادئ لقضية مهمة، طالما دار الجدال والتشكيك حولها؛ ألا وهي قضية مكانة المرأة ودورها في المجتمع الإسلامي.
وبتدبر آيات القصة ـ من خلال تلك النظرة ـ يمكننا أن نضع أيدينا على بعض السمات أو الركائز التي تجعل من خولة ـ رضي الله عنها ـ شاهدة صادقة وموثقة على عصرها؛ ولتكون خير دليل، وبرهان عملي على مكانة المرأة في هذا المجتمع الرباني:
? السمة الأولى: قدرتها على إدارة الأزمة:
لقد أوضحت خولة بنت ثعلبة ـ رضي الله عنها ـ أن سبب المشكلة، وبداية القضية؛ أنها راجعت زوجها أوس بن الصامت ـ وهو أخو عبادة بن الصامت رضي الله عنهما ـ في شيء مما أثار غضبه، فقال لها: أنت عليّ كظهر أمي؛ أي محرمة عليّ، وهو من الطلاق في الجاهلية.
ثم بعد ذلك أراد زوجها أوس بن الصامت ـ رضي الله عنه ـ أن يباشرها فأبت، وخرجت قاصدة الرسول -صلى الله عليه وسلم- في شكواها، ورفع القضية إليه.
وقد ورد أن أوساً كان (امرأً به لَمَمٌ، فكان إذا أخذه لممه واشتد به يظاهر من امرأته، وإذا ذهب لم يقل شيئاً)(2).
وسنرى كيف تصرفت خولة ـ رضي الله عنها ـ تصرفاً راقياً حيال هذه المشكلة.
وسنرى كيف أن كل الروايات الصحيحة، أوردت أنها هي التي تحركت وجادلت، بل صممت على الحل العادل الذي يتوافق وظروف بيتها.
ويؤكد ذلك الروايات الصحيحة عن القصة، وكذلك اسم السورة.
وكل هذا يؤكد أنها كانت على قدر من المسؤولية على استيعاب أي خلاف عائلي، أو إدارة الأزمات العائلية بحكمة؛ خاصة إذا علمنا سلوك وطباع زوجها المذكورة.
? السمة الثانية: فقهها لأدب الاختلاف:(2/187)
وعندما نورد هذا المثال إنما نورده، لنفتح باباً في التربية، وهو إذا كان هؤلاء بشر يخطئون، ويتشاحنون، ويختلفون، ولكن كان يظلل هذا الخلاف ضوابط معينة لم تك لتغيب عن امرأة من ذلك الجيل القرآني العظيم.
وهو باب عظيم في التربية، ومدخل يتوازى مع الخط الذي ينتهج دراسة الشخصيات المميزة، والقدوات من ناحية الفضائل، وننسى أنهم بشر، بل يجب دراسة أدب السلوك عند النقائص.
أو من باب فقه أن الإسلام من خصائصه العظيمة: الواقعية.
(وليس هذا من باب الطعن بالسلف بحالٍ من الأحوال، ونعلم أن الله ـ سبحانه ـ يزن المسلمين بميزان سورة الأحقاف: {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَنَتَجَاوَزُ عَن سَيِّئَاتِهِمْ فِي أَصْحَابِ الْجَنَّةِ وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ} [الأحقاف: 16]. نعم! إنه ليس الطعن، ولكنها دعوة إلى الواقعية في فهم تاريخنا)(1).
وندرك أيضاً أن الاختلاف بين البشر سنة ثابتة ومطردة، من سنن الله ـ عز وجل ـ الإلهية {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ * إلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ} [هود: 118 - 119].
إذن لا يحق لنا أن نذهل أمام المشاكل والخلافات التي تقع، سواء في محيط الأفراد، أو في محيط الأسرة الواحدة، أو في محيط المؤسسات.
ولكن الخطورة هي أن ينقلب هذا الخلاف الظاهري إلى خلاف باطني مذموم، بل محرم: «لا تختلفوا فتختلف قلوبكم»(2).
ومن هذا الملمح التربوي المهم، نضع أيدينا على سمة مهمة من سمات المنهج الذي أفرز هذا العصر الناصع؛ وهو أن المنهج الذي أخرج هذه الأمة الرائدة القائدة، كان منهجاً واقعياً، منهجاً يرقى بالبشر إلى أفق وضيء، ولا ينسى أنهم بشر، يخطئون، ويتعاتبون ويغفرون، ويُعاقبون.(2/188)
منهج لا يقوم على المثالية المجردة، التي لا تحدث ولا توجد إلا في الأحلام والخيالات، في أحلام (اليوتوبيا) أو مدينة أفلاطون الفاضلة. والأمثلة كثيرة، أكثر من أن تُحصى، ولك في الخلاف على الغنائم أثناء غزوة بدر، أبرز مثال نرى فيه كيف كان هذا القرآن هناك يعاتب ويصحح: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَنفَالِ قُلِ الأَنفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} [الأنفال: 1].
والعجيب أننا لا نعي ولا نستفيد مما وصل إليه الإداريون التربويون، في هذا الجانب؛ لقد وصلوا إلى خلاصة تعتبر قاعدة تربوية دعوية، نحن أحق بأن نعيها، وهو أن الخطأ يعتبر ظاهرة صحية في حق الجماعات، وليس الأفراد فقط؛ لأنه طريق التجربة والرصيد والمعرفة، ثم النماء إلى ما هو أفضل، (فالقائد يدرك أن للجماعة الحق في أن تُخطئ، وأنها لا تنمو إلا إذا تعلمت كيف تتحمل المسؤولية كاملة لِمَا تُصدره من قرارات وما تحسمه من أمور)(3).
ومن هنا يتبين لنا أن لا نذهل، ولا يصيبنا الإحباط إذا رأينا بعض الخلافات الداخلية، وننظر إليها برؤية المنهج، الذي جاء ليرقى بالبشر، من حيث هم، ولم يعاملهم كملائكة مبرئين من النواقص، جاء ليصنع أمة من البشر العاديين، ولن يحمله إلى الإنسانية إلا بشر، يخطئون، فيُصححون، ويختلفون، فيُراجعون.
وسنرى كيف تصرفت خولة ـ رضي الله عنها ـ تصرفاً راقياً حيال هذه المشكلة.
حتى عندما نزل الوحي بالحل لقضيتها، نجد أنها جادلت وحاورت، وحصلت بحكمتها على أفضل الحلول، ثم كانت رفيقة بأسرتها، حتى بزوجها وهي في قمة غضبها منه ومن تصرفاته.(2/189)
وهي بذلك تفتح لنا باباً عظيماً في التربية؛ وهو الباب الذي ننساه في خضم المشاكل الحياتية واليومية؛ ذلك الباب الذي نحن أحوج الناس إلى ممارسته؛ وهو الباب الذي لم يزل مفتقداً بين الدعاة، وانطمس أثره بين الناس عموماً؛ وهو أدب الاختلاف.
? السمة الثالثة: الورع والخوف منه سبحانه:
لقد كان موقف خولة ـ رضي الله عنها ـ عظيماً وفريداً، عندما حكت عن زوجها عندما خرج وعاد؛ فقالت: «ثُمَّ دَخَلَ عَلَيَّ فَإِذَا هُوَ يُرِيدُنِي عَلَى نَفْسِي قَالَتْ: فَقُلْتُ: كَلاَّ وَالَّذِي نَفْسُ خُوَيْلَةَ بِيَدِهِ لا تَخْلُصُ إِلَيَّ وَقَدْ قُلْتَ مَا قُلْتَ حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ فِينَا بِحُكْمِهِ. قَالَتْ: فَوَاثَبَنِي وَامْتَنَعْتُ مِنْهُ فَغَلَبْتُهُ بِمَا تَغْلِبُ بِهِ الْمَرْأَةُ الشَّيْخَ الضَّعِيفَ، فَأَلْقَيْتُهُ عَنِّي. قَالَتْ: ثُمَّ خَرَجْتُ إِلَى بَعْضِ جَارَاتِي، فَاسْتَعَرْتُ مِنْهَا ثِيَابَهَا، ثُمَّ خَرَجْتُ حَتَّى جِئْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-».
فتدبر أحداث تلك الواقعة، والملابسات الداخلية التي حدثت بين زوجين داخل بيتهما، وقارن بين سلوك زوجها وسلوكها الراقي الورع الذي استوعب أخطاء الزوج، من أجل عدم الوقوع فيما يغضب الحق سبحانه.
وتذكر كيف فقهت أن طاعة الزوج لها حدود؛ وهي طاعة مبصرة في غير معصية لله عز وجل.
ثم سرعة تصرفها وحكمتها في وجوب الإسراع في حل تلك المشكلة العائلية، من أجل المحافظة على كيان الأسرة.
وهذا ما يشعرنا بالمستوى الراقي من الأخلاق والورع، الذي ربيت عليه المرأة في هذا المجتمع الرباني الفريد.
فالهدف العظيم الذي يرنو إليه أي زوجين؛ وهو حماية كيان الأسرة، لا يسوِّغ أن يكون ذلك على حساب طاعته سبحانه.(2/190)
ولا يستوي بناء قام على طاعة الله ـ عز وجل ـ مع بناء قام على غير ذلك: {أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَم مَّنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [التوبة: 109].
? السمة الرابعة: فقهها للمرجعية:
لقد حملت خولة ـ رضي الله عنها ـ شكواها إلى الحبيب -صلى الله عليه وسلم-.
فلم تذهب لغيره -صلى الله عليه وسلم-، حتى وإن كانت عائشة رضوان الله عليها. وتدبر كيف أن خولة ـ رضي الله عنها ـ أتت إلى بيتها، وانفردت به -صلى الله عليه وسلم- ولم تشرك أحداً في حل قضيتها.
عَنْ عَائِشَةَ ـ رضي الله عنها ـ قَالَت: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَسِعَ سَمْعُهُ الأصْوَاتَ؛ لَقَدْ جَاءَتِ الْمُجَادِلَةُ إِلَى النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- تُكَلِّمُهُ وَأَنَا فِي نَاحِيَةِ الْبَيْتِ مَا أَسْمَعُ مَا تَقُولُ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ ـ عَزَّ وَجَلَّ ـ: {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا} [المجادلة: 1] إِلَى آخِرِ الآيَةِ»(1). وهذا يضع أيدينا على سمة أخرى، نستشعرها من هذا التصرف.
لقد كانت ـ مثل أي فرد داخل هذا المجتمع ـ تقر وتعلم أن لها قيادة ومرجعية تنظيمية يرجع إليها.
وكان لهذه القيادة، المرجعية في كل المجالات، سواء في مجال الفقه والتعليم، أو في مجال الأمور الحياتية العادية، أو في المجال العسكري.
وكان لها أيضاً المرجعية لكل فرد من الأمة، وكأنهم جنود داخل معسكر، يأتمرون ويرجعون إلى قيادتهم، ولم يكن يجهل ذلك أي فرد سواء الرجل أو المرأة أو الطفل.
ففي مجال الفقه في الدين، كانوا جميعاً يعودون إلى قيادتهم، ولقد وردت كلمة (يسألونك) تسع مرات في القرآن الكريم. وذلك كما في قوله ـ سبحانه ـ: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ} [البقرة: 219].(2/191)
وفي المجال العسكري والفقهي أيضاً. كما في قوله ـ سبحانه ـ: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَنفَالِ} [الأنفال: 1].
ويوضح هذا الملمح أيضاً أهمية وجود روح الانضباط التنظيمي داخل الأمة، ووجوب تنميتها، خاصة بين أفراد كل جماعة تتبنى المشروع الحضاري الإسلامي، وركن ذلك أن يعي كل فرد أن له قيادة ومرجعية يعود إليها.
فإذا كنا على قناعة بواقعية البشر؛ وأن من حقهم الخطأ، فلا يحق أن ننسى الضابط الذي يحمي هذه الواقعية ويمنع انحرافاتها؛ ألا وهو ضابط المرجعية التي يرجع إليها عند حدوث الخلافات.
وإن كنا على قناعة في أن كل زوجين من حقهما الخطأ، وأن حدوث أي مشاكل زوجية؛ هو أمر طبيعي من سمات البشر، فإننا نتعلم من خولة ـ رضي الله عنها ـ أهمية معرفة من له الحق في إصلاح هذا الخلاف؛ فيحافظ على السر، ويحاول حل المشكلة.
? السمة الخامسة: شجاعتها الأدبية وقدرتها على الحوار:
لقد ورد عن خولة ـ رضي الله عنها ـ أنها كانت تتمتع بقدرة فائقة على الحوار؛ حيث عرضت قضيتها بشجاعة وثقة ولباقة.
وكيف أنها بهذه الصفة قد رفعت عن نفسها؛ بل عن أمة كاملة الحرج والظلم إلى يوم القيامة.
وتدبر كيف بدأت شكواها وهي تقول: (يا رسول الله! أكلَ مالي، وأفنى شبابي، ونثرت له بطني، حتى إذا كبرت سني وانقطع ولدي، ظاهر مني! اللهم إني أشكو إليك)(2).
ثم في حوارها وجدالها في رأي الحبيب -صلى الله عليه وسلم-:
((2/192)
فسألت النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال لها: (حُرِّمْتِ عليه) فقالت: والله! ما ذكر طلاقاً، ثم قالت: أشكو إلى الله فاقتي ووحدتي ووحشتي وفراق زوجي وابن عمي وقد نفضت له بطني، فقال: (حُرِمْتِ عليه) فما زالت تراجعه ويراجعها حتى نزلت عليه الآية. وروى الحسن: أنها قالت: يا رسول الله! قد نسخ الله سنن الجاهلية وإن زوجي ظاهَرَ مني، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (ما أُوحي إليَّ في هذا شيء) فقالت: يا رسول الله! أوحِيَ إليك في كل شيء وطوي عنك هذا؟ فقال: (هو ما قلت لك) فقالت: إلى الله أشكو لا إلى رسوله. فأنزل الله: {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ} [المجادلة: 1](3).
وكذلك في حوارها وجدالها في الحل الرباني الذي جاءت به الآيات.
وتدبر ما ورد عن موقفها.
((2/193)
قَالَتْ: فَوَاللَّهِ مَا بَرِحْتُ حَتَّى نَزَلَ فِيَّ الْقُرْآنُ، فَتَغَشَّى رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- مَا كَانَ يَتَغَشَّاهُ، ثُمَّ سُرِّيَ عَنْهُ. فَقَالَ لِي: يَا خُوَيْلَةُ! قَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ فِيكِ وَفِي صَاحِبِكِ. ثُمَّ قَرَأَ عَلَيَّ: {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ} [المجادلة: 1] إِلَى قَوْلِهِ {وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [المجادلة: 4] فَقَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: مُرِيهِ فَلْيُعْتِقْ رَقَبَةً. قَالَتْ: فَقُلْتُ: وَاللَّهِ! يَا رَسُولَ اللَّهِ! مَا عِنْدَهُ مَا يُعْتِقُ. قَالَ: فَلْيَصُمْ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ. قَالَتْ: فَقُلْتُ: وَاللَّهِ! يَا رَسُولَ اللَّهِ! إِنَّهُ شَيْخٌ كَبِيرٌ مَا بِهِ مِنْ صِيَامٍ. قَالَ: فَلْيُطْعِمْ سِتِّينَ مِسْكِيناً وَسْقاً مِنْ تَمْرٍ. قَالَتْ: قُلْتُ: وَاللَّهِ! يَا رَسُولَ اللَّهِ! مَا ذَاكَ عِنْدَهُ. قَالَتْ: فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: فَإِنَّا سَنُعِينُهُ بِعَرَقٍ مِنْ تَمْرٍ. قَالَتْ فَقُلْتُ: وَأَنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ! سَأُعِينُهُ بِعَرَقٍ آخَرَ. قَال:َ قَدْ أَصَبْتِ وَأَحْسَنْتِ، فَاذْهَبِي فَتَصَدَّقِي عَنْهُ، ثُمَّ اسْتَوْصِي بِابْنِ عَمِّكِ خَيْراً»(1).
بل إنها كانت طوال حياتها على هذه السمة المميزة لها.
فقد (مر بها عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ في خلافته والناس معه على حمار، فاستوقفته طويلاً ووعظته، وقالت: يا عمر! قد كنت تدعى عُمَيْراً، ثم قيل لك: عمر، ثم قيل لك: أمير المؤمنين، فاتق الله يا عمر! فإنه من أيقن بالموت خاف الفَوْت، ومن أيقن بالحساب خاف العذاب؛ وهو واقف يسمع كلامها، فقيل له: يا أمير المؤمنين! أتقف لهذه العجوز هذا الوقوف؟(2/194)
فقال: واللهِ! لو حبستني من أول النهار إلى آخره لا زلت إلا للصلاة المكتوبة، أتدرون من هذه العجوز؟ هي خولة بنت ثعلبة سمع الله قولها من فوق سبع سماوات، أيسمع رب العالمين قولها ولا يسمعه عمر؟)(2).
? السمة السادسة: اعتزازها بكرامتها وإنسانيتها:
لقد ورد في أمر خولة ـ رضي الله عنها ـ أن أمها (معاذة) التي أنزل الله فيها: {وَلا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً} [النور: 33] وهي الأَمَة التي كان عبد الله بن أُبَيّ بن سلول يُكرهها على البغاء والزنا والفجور، فأبت ذلك ونزلت فيها هذه الآية(3).
قال السدي: أنزلت هذه الآية الكريمة في عبد الله بن أُبي بن سلول رأس المنافقين، وكانت له جارية تدعى (معاذة) وكان إذا نزل به ضيف أرسلها إليه ليواقعها إرادة الثواب منه والكرامة له، فأقبلت الجارية إلى أبي بكر ـ رضي الله عنه ـ فشكت إليه فذكره أبو بكر للنبي -صلى الله عليه وسلم-، فأمره بقبضها، فصاح عبد الله بن أُبي: من يعذرنا من محمد؟ يغلبنا على مملوكتنا. فأنزل الله فيه هذا)(4).
ونستشعر من هذا الخبر ملمحاً تربوياً طيباً؛ وهو أن خولة ـ رضي الله عنها ـ قد نشأت متأثرة تأثراً بالغاً بأمها معاذة التي كانت مجرد أمة مملوكة؛ ولكنها لم تك إمعة أو سهلة أمام سيدها الذي أكرهها على الفسق، فرفضت وكان لها موقف زكاه الله ـ عز وجل ـ من فوق سبع سماوات، وخلده فكان سبباً في نزول آية سورة النور.
ولو تدبرنا محور الآيات التي نزلت في خولة وأمها ـ رضوان الله عليهما ـ لوجدناها تدور حول قوة الشخصية، والاعتزاز بالرأي طالما كان على الحق، حتى كان موقفهما سبباً في نزول آيات بينات يتعبد بتلاوتها، وأحكام ثابتة نزلت لتوجه أمة إلى قيام الساعة.
وهي السمة التي تبين مدى رفعة المنهج الذي كان سبباً في بث روح الكرامة والعزة والأنفة في روح حامليه، حتى وإن كُنَّ نساءً أرقاءً.(2/195)
وكذلك أهمية التربية الأسرية؛ وكيف أن الأبناء يتأثرون بالآباء والأمهات؛ ويحملون الكثير من صفاتهم.
? السمة السابعة: احترام خصوصية الزوج:
وهناك ملمح تربوي عظيم نستشعره من الحديث الشريف الذي ورد (عن عَائِشَةَ ـ رضي الله عنها ـ قَالَت:ِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَسِعَ سَمْعُهُ الأصْوَاتَ؛ لَقَدْ جَاءَتِ الْمُجَادِلَةُ إِلَى النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- وَأَنَا فِي نَاحِيَةِ الْبَيْتِ تَشْكُو زَوْجَهَا، وَمَا أَسْمَعُ مَا تَقُولُ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ} [المجادلة: 1](5).
فعائشة ـ رضي الله عنها وهي من هي ـ لم تشأ أن يدفعها الفضول لترى أو تتسمع ما يحدث في بيتها بين زوجها -صلى الله عليه وسلم-، وبين أحد الضيوف؛ خاصة عندما يكون امرأة.
وهو الملمح الذي يبين مدى سعة أفق هذا الجيل الرباني، ومدى السمو في العلاقات الزوجية، ومدى الثقة التي كانت بين الزوجين.
? السمة الثامنة: الثقة في القيادة الواعية:
عندما حملت خولة ـ رضي الله عنها ـ شكواها إلى الحبيب -صلى الله عليه وسلم- أخذ الأمر بجدية وحقق في الأمر.
وتصرفه -صلى الله عليه وسلم- إنما يدل على أمور عظيمة، تضع الضوابط المطلوب توافرها في كل قيادة راشدة.
تلك الصفات هي التي جعلت كل فرد يرجع إليها في كل شيء، حتى ولو كانت مشكلة داخلية عائلية، لا يدري بها أحد.
تلك الضوابط هي التي جعلت من الجميع حتى ولو كانت امرأة أن ترجع إليها بشكواها، وتطلعها على أسرارها الداخلية.
ومن هذه الصفات:(2/196)
أ - الشعور بالمسؤولية: لأنه -صلى الله عليه وسلم- كان على الرغم من مشاغله كحاكم مسؤول عن دولة عظيمة مترامية الأطراف، كان عنده الوقت ليفصل في الأمور الحياتية العادية بين الأفراد، دون قيود أو حواجز تحول بينه وبين كل فرد من أمته ليدخل عليه.
ب - التواضع: لأنه -صلى الله عليه وسلم- ـ وهو من هو ـ لم يدّع الدراية بكل شيء، بل قال رأيه، وسمح لخولة ـ رضي الله عنها ـ أن تحاوره، حتى نزل الوحي بالحل.
ج - الحيادية والتروي والعدل: وذلك عندما نرى أنه -صلى الله عليه وسلم- قد قال لخولة ـ رضي الله عنها ـ مذكراً إياها بحساسية القضية، فرد غيبة زوجها: «يَا خُوَيْلَةُ! ابْنُ عَمِّكِ شَيْخٌ كَبِيرٌ فَاتَّقِي اللَّهَ».
وكم مَنْ أُخذ بجريرة الوشايات، ولم يُستمع إلى رأيه!
د - الرفق بالرعية: خاصة إذا كان المقصود فرداً غائباً؛ وتدبر نصيحته -صلى الله عليه وسلم-: «قَدْ أَصَبْتِ وَأَحْسَنْتِ، فَاذْهَبِي فَتَصَدَّقِي عَنْهُ، ثُمَّ اسْتَوْصِي بِابْنِ عَمِّكِ خَيْراً».
هـ - الثقة المتبادلة بين الحاكم والمحكوم: وهذا هو حجر الزاوية؛ أو هي القاعدة التي تقوم عليها كل الصفات.
وهو ما يتضح من توجه خولة ـ رضي الله عنها ـ بشكواها لثقتها أنه سينصرها ويأتي لها بحقها؛ لأن الكل عنده سواسية.
وكذلك لعلمها أنه -صلى الله عليه وسلم- سيحافظ على سرها، وتدبر ما قالته عائشة ـ رضي الله عنها ـ من أنها لم تدر ما هي المشكلة وهي في غرفة مجاورة.
وفي هذا المقام لا يسعنا إلا أن نورد هذا الرأي لخطورة هذا الضابط. وذلك من باب أن الحكمة هي ضالتنا.
ولنأخذ العبرة من ذلك الحوار الذي دار حول السياسة، بين الفيلسوف الصيني (كونفوشيوس) وأحد أتباعه ويدعى (تسي كوغ) الذي كان يسأل أستاذه عن السلطة.
(أجاب الفيلسوف قائلاً: على السياسة أن تُؤمِّن أشياء ثلاثة:
1 - لقمة العيش الكافية لكل فرد.
2 - القدر الكافي من التجهيزات العسكرية.(2/197)
3 - القدر الكافي من ثقة الناس بحكامهم.
سأل التلميذ: وإذا كان لا بد من الاستغناء عن أحد هذه الأشياء الثلاثة، فبأيها نضحي؟
أجاب الفيلسوف: بالتجهيزات العسكرية.
سأل التلميذ: وإذا كان لا بد أن نستغني عن أحد الشيئين الباقيين؛ فبأيها نضحي؟
أجاب الفيلسوف: في هذه الحالة نستغني عن القوت؛ لأن الموت كان دائماً هو مصير الناس، ولكنهم إذا فقدوا الثقة لم يبق أي أساس للدولة)(1).
وتدبر تلك الثقة العظيمة؛ فيما ورد عن الحبيب -صلى الله عليه وسلم-: «بينما رجلٌ يسوقُ بقرةً له قد حملَ عليها، فالتفتَتْ إليه البقرة، فقالت: إني لم أُخلق لهذا، ولكني إنما خُلِقْتُ للحرثِ».
فقال الناسُ: سبحان الله! ـ تعجباً وفزعاً ـ أَبقرةٌ تكَلَّمُ؟!
فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «فإني أُومن به، وأبو بكرٍ وعمر»(2).
والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات.
--------------------------------------------------------------------------------
(1) مسند الإمام أحمد ـ كتاب: مسند القبائل ـ حديث مرفوع ـ برقم 26056. العَرَق والزبيل: كل منهما وعاء كالسلة.
(1) في ظلال القرآن: سيد قطب 28/3503 - 3504 بتصرف.
(2) تفسير القرآن العظيم: ابن كثير ـ تفسير سورة المجادلة.
(1) العوائق: الراشد 306 .
(2) رواه البخاري على ما في الجامع الصغير 2/494.
(3) كيف نعد قادة أفضل؟: ترجمة د. حسين حمدي الطويحي 21 نقلاً عن: القيادة: جاسم بن محمد بن مهلهل الياسين 57.
(1) مسند الإمام أحمد ـ كتاب: باقي مسند الأنصار ـ مرفوع إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- ـ برقم 23064.
(2) تفسير القرآن العظيم: ابن كثير ـ تفسير سورة المجادلة.
(3) الجامع لأحكام القرآن: القرطبي ـ تفسير سورة المجادلة.
(1) مسند الإمام أحمد ـ كتاب: مسند القبائل ـ حديث مرفوع ـ برقم 26056.
(2) الجامع لأحكام القرآن: القرطبي ـ تفسير سورة المجادلة.
((2/198)
3) تفسير القرآن العظيم: ابن كثير ـ تفسير سورة المجادلة.
(4) تفسير القرآن العظيم: ابن كثير ـ تفسير سورة النور.
(5) سنن ابن ماجه ـ كتاب: المقدمة ـ حديث شريف مرفوع إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- ـ برقم 148.
(1) تاريخ الحضارة: ترجمة بدران 4/60 نقلا عن: مشكلة الأفكار في العالم الإسلامي: مالك بن نبي 132.
(2) أخرجه مسلم في صحيحه ـ كتاب فضائل الصحابة 2388.
--------------------------------------------------------------------------------
مجلة البيان، العدد (206)، شوال 1425 ،نوفمبر 2004 .
* * *
http://www.albayan-magazine.com/zwaya/trbwi/53.htm
تربية السلف لأطفالهم
عبد العزيز الدغيثر
إن من أعظم النعم أن يُرزق الإنسان ذرية تسعده وتبره في حياته، وتحمل اسمه من بعده بعد مماته، وفي هذه العصور يشتكي كثير من الناس من وجود عناصر خارجية مؤثرة في تربية الصغار كالإعلام والمدارس وغيرها. وفي هذا البحث محاولة لمعرفة بعض الطرق التربوية المستخرجة من التراث الإسلامي والتي أسأل الله ـ تعالى ـ أن ينفع بها كاتبها وقارئها.
? تعويد الصغار على الالتزام بالشعائر التعبدية:
أولاً: تعويدهم على الصلاة:(2/199)
يقول الله ـ تعالى ـ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ} [التحريم: 6]، قال علي ـ رضي الله عنه ـ: «علموهم وأدبوهم» وعن الحسن البصري مثله(1)، وقال ـ تعالى ـ مادحاً نبيه إسماعيل ـ عليه السلام ـ: {وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ وَكَانَ عَندَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا} [مريم: 55]، وقال ـ تعالى ـ: {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا} [طه: 132]، قال ابن مسعود ـ رضي الله عنه ـ: «حافظوا على أبنائكم في الصلاة، ثم تعوَّدوا الخير؛ فإن الخير بالعادة»(2)، و «كان عروة يأمر بنيه بالصيام إذا أطاقوه وبالصلاة إذا عقلوا»(3)، ولا مانع من إعطائهم الهدايا التشجيعية على أداء الصلاة؛ فقد روت عائشة ـ رضي الله عنها ـ أنهم كانوا يأخذون الصبيان من الكُتَّاب ليقوموا بهم في رمضان، ويرغبوهم في ذلك عن طريق الأطعمة الشهية(4)، وكان بعض السلف يعطون الأطفال الهدايا التشجيعية على أداء الصلاة(5).
ثانياً: تعويدهم على الصيام:
روى البخاري ومسلم عن الربيِّع بنت معوذ قالت: «أرسل النبي -صلى الله عليه وسلم- غداة عاشوراء إلى قرى الأنصار: من أصبح مفطراً فليتم بقية يومه، ومن أصبح صائماً فليصم، قالت: فكنا نصومه بعد ونصوِّم صبياننا، ونجعل لهم اللعبة من العهن؛ فإذا بكى أحدهم على الطعام أعطيناه ذلك حتى يكون عند الإفطار»(6). وجيء بسكران في رمضان إلى عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ فقال له موبخاً وزاجراً: «في رمضان ويلك وصبياننا صيام؟!» فضربه(7).
? القدوة وأثرها في تعبد الصغار:
وذكر ابن الجوزي عن نفسه أنه كان يتأثر ببكاء بعض شيوخه أكثر من تأثره بعلمهم(1)، وكان عبد الله التستري يردد في طفولته قبل أن ينام: الله شاهدي، الله ناظري، الله معي(2)، ولا شك أنه لشيء رآه من والديه أو أحدهما في هذا الأمر.(2/200)