رسالة الجامعة السعودية نحو اللغة العربية والثقافية والإسلامية
لفضيلة الشيخ محمد مصطفى المجذوب
بحث قدمته الجامعة الإسلامية إلى مؤتمر رسالة الجامعة المنعقد بجامعة الرياض
الحمد لله الأكرم، الذي علم بالقلم، علم الإنسان ما لم يعلم، والصلاة والسلام على رسوله الصادق الأمين، المبعوث رحمة للعالمين، الذي شرفه بخاتم رسالاته المنزلة بلسان عربي مبين، وعلى آله وصحبه والتابعين بإحسان إلى يوم الدين.
القرآن والعرب:
المبدأ الذي لا ينبغي الاختلاف عليه هو أن العرب في استمرار وجودهم كأمة متميزة بخصائصها وقيمها ولغتها، مدينون للقرآن العظيم.. إذ هو الذي صان لهم كيانهم على الرغم من كل العقبات التي اعترضت مسيرتهم التاريخية حتى الساعة.
لقد بعث محمد صلى الله عليه وسلم وأنزل عليه القرآن خاتم كتب الله والعرب قبائل متمايزة لا تدين واحدة لأخرى وقد تفرقت بها المنازل، فلا تلتقي إلا على غزو أو ثأر، أو حلف لهما وبذلك تشقق لسانها حتى كاد يستحيل لغات مستقلة، لولا أثارة من روابط احتفظت بها الأسواق والمواسم إلى حد غير قابل للاستمرار، فبنزول القرآن واندماج العرب في الإسلام تمت لهذه الوحدات المتفرقة شروط التوحد، إذ وجدت نفسها مشدودة إلى وحدة البيان بالتزامها سبيل الوحي، الذي لا سبيل إلى فهمه وتحقيق دعوته إلا عن طريق هذه اللغة التي شرفها الله بالرسالة الخاتمة.
واستهوت بلاغة الكتاب الحكيم نفوس العرب الذين استولى عليهم سحر الكلمة إذ واجههم بما لم يألفوه في سوامق بيانهم من روائع المعاني، وبدائع الصياغات، فاستهانوا بأساليبهم بجانب أسلوبه الأعلى واستخفوا خطراتهم الفكرية بإزاء علومه الشاملة.. فإذا هم يقبلون عليه حفظا(1/43)
ودرسا، ويتنافسون في استيحائه نثرا ونظما وسلوكا.. وبذلك تفتت حواجز الفروق اللغوية والاجتماعية بين هاتيك الفرق، ثم ما لبثت أن انتهت إلى الانسجام الذي جعل منها خير أمة أخرجت للناس.. ومن هنا كان عظم فضل القرآن على العرب والعربية إذ نقل لهجاتهم من قيود الوحدات المحلية إلى آفاق اللغات العالمية، وأحال كياناتهم القبلية وحدة اجتماعية متكاملة لها أقوى ما لأعظم الأمم من وشائج القربى والاستمرار.(1/44)
أثر اللغة في مصاير الأمم:
كان مستحيلا على تلك القبائل ذات الخصائص المستقلة سياسيا واقتصاديا ودينيا أيضا أن تحتفظ ببقائها في عزلة عن مسيرة الركب البشري، إذ يستحيل البقاء لأسباب هذه العزلة في عالم متغير، تتطور فيه كل يوم أساليب المواصلات وتضيق مساحات الأرض حتى تقترب كل مجموعة سكانية من الأخرى بحيث تصبح أخيرا وكأنها منطقة واحدة ضيقة لا سبيل معها لواحدة إلى مقاطعة الأخرى، فالصحاري التي صدت من قبل جحافل الإسكندر عن غزو الجزيرة لم تعد شيئا مذكورا أمام البوينغ وسفن الفضاء ومراكز الإرسال الفضائية، وعشرات الوسائل الأخرى المحطمة لحواجز الفرقة البشرية والعزلة القبلية… وهذا يعني أنه يستحيل في ظل مثل هذه التطورات أن تظل القبائل العربية محصنة ضد الذوبان في الأجناس الأكثر قوة.. لأن اللغة التي هي ملاك هذه الحصانة ستكون خاضعة لقوانين التغير، حتى تتركز عوامل الفصل ما بين حدود اللهجات بصورة نهائية، فتكون كل لهجة أمة متمايزة، كالذي حدث للغة السامية إذ أدى بها تنائي المنازل وتباعد الزمن إلى الانفصام فالتعدد، حتى كانت اللغة لغات، وحتى بات الناطق بالعبرية لا يفقه من العربية شيئا، وكذلك الأرامي والحبشي والبابلي وسائر الفروع المنحدرات من الأصل الواحد.
ولو نحن رحنا نتقصى مسارب التطور اللغوي وما استتبع من الانفصام القومي لرأينا ذلك القانون هو الحاكم الحاسم في تمايز الشعوب وتكوّن الأمم، وهل كان الناس في أصولهم البعيدة سوى أمة واحدة، ذات لغة واحدة، فجرفتها سيول التطور حتى صارت أمما ولغات تتعدى الإحصاء.. وأقرب الأمثلة على ذلك الأمم التي يلفها حزام الشرق الأقصى، ومثلها المتفرعات من الأصل اللاتيني في أوروبة حيث تمخضت الأمة فنتجت أمما لا يفهم بعضها عن بعض إلا بترجمان… ولا جرم أن العرب هم(1/44)
الأمة المتميزة التي استعصت على هذا القانون، فاحتفظت بوحدتها وخصائصها وتصوراتها على الرغم من عشرات العوامل التي اعترضتها وكانت حرية بتمزيق الأمم مهما بلغت مقوماتها من المناعة.. وإنما مرد ذلك الامتياز إلى القرآن الذي بحفظه لغة الأمة حفظ وجودها فاستعلت على الذوبان في غيرها من الأمم واللغات.. وهي ميزة لم تتح لِلاَّتين ولا لسواهم، إذ لم يكن لهم الكتاب المقدس الذي يجمع الأشتات على الوحدة، فتمزقت أمتهم أمما على الرغم من وحدة الدين وتقارب المصالح فيما بين أجزائها.. على حين قيض القرآن لهذه اللغة مجالا للنمو البشري ما كان ليتصور لولا أثره إذ اجتذبت لغته شعوبا، دخلت العروبة بمجرد اعتناقها الإسلام، فنسيت لغتها الأم على الزمن، مؤثرة عليها لغة الكتاب الذي آثرت هدايته ولغته على كل شيء آخر…(1/45)
العربية والإسلام:
ومن هنا كان التلازم قائما إلى الأبد بين العربية والإسلام حتى ليعتبر المسلم الأعجمي هذه العربية لغته الأولى، فيحاول إتقانها ويعتز بإجادتها، لأنها اللغة التي تكلم بها الله في آخر رسالاته المقدسة.. وقد يتساهل في لغته القومية دون غضاضة، ولكنه لا يسمح لنفسه بالتساهل في العربية لغة أدبه ودينه وشريعته.. وبسبب من ذلك تماسكت لغة القرآن فاحتفظت بحيويتها وطلاقتها في أقطار غير عربية، في حين جمدت حتى الخمود في الأقطار العربية نفسها أثناء الفترة التي سبقت عصر النهضة الحديثة.
فبالقرآن إذن صار العرب أمة مميزة، وبالقرآن دخلوا أبواب التاريخ، لا عالة يتكففون كما يحلو لبعض الملاحدة المعاصرين أن يزعموا، بل كما يدخل فريق الإسعاف الصحي بمجالات الوباء، أو كما تقتحم وحدات الإطفاء مناطق الحريق، تحمل إلى المنكوبين أسباب العافية والأمن.
وعلى هذا فمن أوليات الوفاء لهذا الكتاب العزيز أن يعرف العرب حقه، فيصونوا لغته ويلتزموا منهجه في حياتهم كلها، ليظلوا الطاقة البناءة في كيان هذه الإنسانية المهددة كأمسها بالخراب والشقاء..(1/45)
خصائص العربية في التفوق:
ولأمر عظيم شاءه الله تبارك وتعالى كان للعربية خصائصها المتفوقة التي تجعلها أصلح اللغات للاستجابة إلى حاجات الحضارة، فكأن السنن الكونية جمعاء كانت متجمعة تحت بصر أهلها الأولين، فلم يعجزهم أن يضعوا لكل(1/45)
ظاهرة رمزها المميز المرن، الذي يتابع تحرك الحياة فلا يتخلف عنه ولا يضيق به.. فبالنحت والاشتقاق والاصطلاح والتعريب والمجاز تمددت هذه اللغة من نطاقها الصحراوي المحدود إلى منطلق العالمية، فلم تعي بعلم، ولم تعجز بإزاء فن، ولم تستغلق أمام فلسفة وبذلك تركت بصماتها بارزة غالبة على مقومات الحضارة كلها، فلا علم يزهو به هذا العصر إلا وللعربية فيه الأثر الدال على جلالها، الذي يتضاءل بجانب ضوئه كل جلال، سواء في ذلك خطرات الوجدان وما عملته اليدان، أو ما تكشف للإنسان الحديث من أسرار الكون.
ولا مندوحة عن القطع بأن الذي وهب للعربية خصائص القابلية للنماء إنما هيأها بذلك لاحتواء المعاني الكلية التي ادخرها للرسالة الخاتمة، فكانت لها القوة الدافعة لاستيعابها كل معطيات الحضارة دون استثناء.(1/46)
الإسلام مفجر المواهب:
وقد اتضح لكل ذي عينين أن الإسلام هو الذي فجر طاقات العرب فانصرفوا إلى الاهتمام بالكون علوا وسفلا، وانطلقوا يبحثون ويكتشفون ويصححون مناهج السابقين، تحقيقا للوعد الإلهي بالاستخلاف في الأرض، وتوجيه الفكر البشري إلى الحق والانسجام مع قوانين الكون، الذي أنبأهم كتاب ربهم أنه مخلوق لمصلحتهم مسخرا لمنفعتهم.. لقيموا في أكنافه ملكوت العلم الذي ميز به بنو آدم.. ومن هنا جاء التحرك الجديد لمواهب الإنسان، إذ أخذت طريقها للانطلاق وراء الحقائق الكونية في منجاة من قيود الكهنوت الذي أقام نفسه وصيا على العقل البشري طوال حقب التاريخ السابق للبعثة النبوية، واستجابت لغة القرآن للدوافع الجديدة إذ برزت عبقريتها في الانتفاع بكل ما انتهى إليه البحث والكشف والاقتباس، فلم تضق ذرعا بأي مفهوم ولم تقصر يدا عن أي معلوم.. بل أمدت الفكر الإسلامي بكل ما أعانه على النماء في جو من التعاون المتكامل بين مختلف روافد الثقافة الدافقة، وهكذا تسنمت العربية عرش التفوق العالمي، حتى باتت لغة العلم والأدب، يشرف بمعرفتها أساطين الفكر على اختلاف مشاربهم وأديانهم وجنسياتهم.. وحتى راح القسس ينعون لغة اللاتين لما واجهوه من إقبال شباب أوروبة على العربية، وتنافسهم في إتقانها، إيمانا منهم بأنها لغة الجنس الممتاز.. تماما كما يفعل اليوم الكثيرون من الناشئين على فتات الغرب، إذ يرفعون عقائرهم بإكبار لغاته وإصغار لغتهم، حتى(1/46)
يكادوا ينكرون عليها كل فضيلة.. وإن براهين ذلك الماضي لماثلة في الكثير من صنائع الغرب وعلومه، شاهدة على هذه الحقيقة بالمصطلحات العربية الناطقة بعظمتها، المؤكدة أنها على أتم الاستعداد لاستئناف مسيرتها الصاعدة في خدمة الحضارة، إذا وجدت من أبنائها العناية التي تشق لها سبيل النهوض.(1/47)
العربية وأعداؤها:
ولقد فطن أعداء هذه الأمة إلى الرباط الوثيق بين العربية والإسلام.. فلما يئسوا من إمكان التغلب على دين الله في مواجهة مكشوفة عمدوا لتحقيق مآربهم إلى تفكيك العربية، ففي المناطق التي غلبوا عليها من وطن الإسلام لجئوا إلى تعطيل الدراسة العربية أو تعويقها، فألغوها نهائيا من أوساط الحكم، وأحلوا مكانها لغاتهم، ثم التفتوا إلى الحرف العربي فنفوه من ميدان التعامل، وأقروا محله الحرف اللاتيني في كل قطر تمكنوا من إخضاعه لإرادتهم في هذا الميدان.. فبعد أن كان الحرف العربي هو أداة التسجيل لثقافات الشعوب الإسلامية جميعا تقلص عن معظم أقطارها، كما حدث لأندونسية وتركية، والدول الناطقة بالفرنسية والانجليزية من إفريقية، ولا تزال الجزائر تتخبط في بحران من الاضطراب بين الحرف العربي والحرف اللاتيني بل بين العربية نفسها والفرنسية التي لا تزال تأوي إلى أنصار كبار وكثار من أبناء المسلمين الذين يرفضون العودة إلى لغة القرآن في الجزائر والمغرب ويتشبثون بتلابيب اللغة الغازية على اعتبار أنها بنظرهم الأداة الوحيدة لاستمرار اتصالهم بالحضارة.
ومما يدعو إلى الكثير من الأسى أن دعاة الأجنبية في الشمال الإفريقي من موريتانية إلى تونس يتنافسون عامدين أو غافلين فضل لغة القرآن في صون شعوبهم من الذوبان أمام موجة الغزو التي بلغت من الشراسة أقصى ما يتصور الخيال، وكان عليهم لو أنصفوا أنفسهم وهويتهم أن يجاهدوا ليل نهار لتثبيت سلطان العربية في كل مجال، حتى تسترد قدرتها على تحقيق حاجاتهم الحضارية جميعا، فيتاح لهم أن يتحرروا من اللغة التي تتجسد فيها ذكريات الهوان والرزايا والمجازر التي عاشوا في غمرتها الحقب الطوال.(1/47)
بعض مؤامراتهم:
وبديهي أن أولئك المستغربين الذين يتشبثون بلغة المستعمر ويؤثرونها على لغة أمتهم، إنما يفعلون ذلك بدافع من مركب النقص الذي يعانونه بسبب جهلهم للغة الضاد، ثم لسبب أهم وهو انطباعهم بأسلوب التفكير الدخيل الذي تفرضه تلك اللغة الغربية، ذلك(1/47)
لأن اللغة ليست أداة تخاطب وتعبير فقط، بل هي إلى هذا عملية تصور نفسي ومنهج تفكير عقلي، فنشوء النفس في ظل لغة ما صائر بها إلى التفاعل مع مؤثراتها الخاصة، حتى لا تكاد تتذوق سواها إلا في كثير من التكلف.. وما دام القوم قد عاشوا لغة أعدائهم حتى خالطت جوارحهم وطبعت مشاعرهم دون أن يتزودوا من بيان العربية بما يحصنهم من الذوبان في غيرها، فعسير عليهم إن لم يكن مستحيلا أن يتخلصوا من إيحائها، لأن ذلك يكلفهم ما لا طاقة لهم به.
وقد شجع انحراف هؤلاء أخيرا حكومتي الصومال وماليزية، فإذا هما تقتحمان العقبة وتنبذان الحرف العربي، في الوقت الذي لا تنفكان تتحدثان فيه عن الإسلام بكل مناسبة، وتحضران المؤتمرات الإسلامية دون أن تريا في ذلك أي تناقض مع هذا الجفاء الخطير لآخر العلائق الأخوية بين بلادهما ولغة القرآن.. ولم تكن الهجمة على العربية مقصورة على جبهة دون أخرى.. بل كانت من الأحكام بحيث ألفت سلسلة متصلة الحلقات لا تسكت قذائفها من جانب حتى تنطلق من جوانب..
وليست الدعوة إلى أقلمة اللغة في البلاد العربية نفسها باستعمال العامية مكان الفصحى في نطاق الأدب إلا وجها من هذه المعارك التي لم تخمد.. وهكذا القول في الدعوة إلى تيسير القواعد بمسخها، وتغيير المألوف على القرون من مصطلحاتها إنما هو واحد من عشرات الذرائع لقطع صلة الأجيال العربية بماضيها المشرق كي تجد نفسها أخيرا كفقاع القاع لا يربطها بأصولها رباط من تفكير أو تصور أو منهاج.. ومثل هذا وذاك ما تثيره عصائب المضللين من المتنكرين لقيم العربية من حملات تستهدف تشويه الأدب العربي، والتهوين من شأنه بإزاء الآداب الأجنبية، التي لا ينفكون يضخمونها بمختلف وسائل التضخيم والتعظيم…(1/48)
وظلم ذوي القربى:
ومن المحزن المزعج أن تسري عدوى الاستخفاف بالعربية إلى أوساط دارسيها ومدرسيها.. حتى نرى أوفر الناس علما بها أكثرهم تهاونا بإعزازها.. حتى لا يسمحون لأنفسهم باستعمالها خارج حدود الكتابة أو الخطابة.. وفي ما عدا ذلك فهم أكبر مروجي السوقية حتى في حلبات الدرس، حيث يتوقع منهم التزام جانبها، لا يكادون يلجئون إليها إلا بعد تنبيه قد يصل إلى حدود الشكوى.. ولا أكشف سترا إذا قلت إن طلابا من مسلمي الأعاجم يفدون إلى البلاد(1/48)
العربية لاكتساب ملكة اللغة، فيفاجئون بخيبة لاذعة، إذ يجدون أنفسهم بإزاء مدرسين لا يحترمون لغة قرآنهم، بل كل منهم يلوذ بسوقيته فيفسر ويشرح ويقدم بها حتى دروس القواعد العربية.. ومهما أَنس لا أنس يوم لقيت طالبا ثانويا من أبناء أحدهم فسألته عن صحة والده وعن اختباره فلم يفهم مني حرفا لأني كنت أكلمه بلغة العرب.. ومن طريف الأحداث كذلك أن طالبا أعجميا وفد إلى إحدى الجامعات العربية لاستكمال دراسته بلغة القرآن فإذا هو بمدرسين لا يكادون يعرجون عليها، ولا يكاد يفهم منهم، فراح يستوضح عن كل كلمة يعجز عن فهمها حتى تبين أخيرا أن اللغو الذي يسمعه ليس من العربية، فاضطر إلى تذكيرهم بأنه لم يهاجر من بلاده القاصية ليتعلم غير اللغة التي تعينه على فهم كلام الله وكلام رسوله … ومع أن تذكيره لم يذهب سدى إلا أنه ظل مضطرا إلى تكراره بين الحين والحين، لأن لسان هؤلاء المدرسين قد طبع على العامية فلا يكاد يستطيع مفارقتها إلى الفصحى.. ولعل شيئا من هذا قد حدث لطه حسين أثناء دراسته الأزهرية فدفعه إلى القول بأن الأزهريين لا يحترمون لغة القرآن حتى في تدريسهم للقرآن.. وهو تعميم مسرف لا ينطبق على الواقع كله ولله الحمد.
وتذكرني هذه المفارقات بطرفة أخرى ذلك أن مؤتمر وزراء التعليم العرب عقد في أحد مصايف لبنان الشمالي في مطلع أيام جامعة الدول العربية فراح كل منهم يرطن بسوقيته فلا يفهم أحد عن أحد.. حتى تذكروا أن لديهم لغة كريمة تستطيع إنقاذ الموقف.(1/49)
العربية ووسائل التعليم:
وحتى وسائل الإعلام من صحف وإذاعة وتلفزة وهي التي كان بوسعها تدارك الكثير مما فات والقضاء على الكثير من الآفات قد أسهمت إلى حد كبير في إيذاء العربية، والترويج لأفكار أعدائها.. ولو تتبعنا برامج الإذاعة والتلفزة في معظم الربوع العربية لوجدنا نسبة ما تبثه باللغات السوقية يزيد كثيرا على ما يقابله بالفصحى.. ونشير من ذلك بخاصة إلى التمثيليات الشعبية التي تقدم باللهجات المحلية، وإلى الأغاني التي يندر فيها الفصيح، فضلا عما تحتويه من معان توافه تفسد الذوق العام وتسمم الضمير العربي حتى تجعله مستعدا للاستخفاف بكل القيم الفاضلة.
وكثيرون يذكرون مثلي تلك المقالة التي تصدرت ذات يوم إحدى كبريات(1/49)
المجلات الصادرة في بلاد العرب يتحدى بها كاتبها الشهير لغة العرب، إذ ينبزها بالعجز عن مجاراة التطور، بدليل أنه لا يستطيع أن يجد فيها اسما لكل جزء من سيارته الفارهة.. وما أحسب الرجل إلا مدركا مقدار المغالطة في تهمته، لأن المفروض بمثله العلم بأن حيوية كل لغة نابعة من حيوية أهلها.. فإذا جمدوا على أعتاب التخلف لم يطلب إليها أن تسبقهم إلى الأعلى.. ولقد كان الأحرى به أن يعمل قلمه في إلهاب المشاعر لمسابقة الزمن في إعمال المواهب المعطلة المحبوسة في معتقلات التقليد، لتستعيد مكانتها في موكب الحضارة ولتنقلب من محض مستهلك إلى منتج، يقدم للناس مصنوعاته الناجحة مغلفة بطابعه حاملة سماته مسماة بلغته.
ولعمر الله لا يرمي العربية بالعجز لسبب من ذلك إلا جاهل لا يفرق بين الأصل والفرع، ولا يحسن تجاوز الظواهر إلا ما وراءها، أو مدخول النية لا يقصد إلى غير التضليل.(1/50)
العرب المقصرون لا العربية:
لقد أثبتت العربية قدرتها الخارقة على الاستجابة لكل طارئ مهما دق وأمعن في الخفاء.. وحسبها حجة على ذلك اتساعها لكلمات الله التي تنفذ دونها البحار، ثم استجابتها لدواعي المدنية التي أظلت نصف البسيطة، واستوعبت كل مفهومات الأمم التي اختزنت تراث الإنسانية في ميادين المعرفة السابقة للإسلام.. فإذا تعثر أهلها فيما بعد حتى وقفوا عند حدود الاجترار لما ورثوا كان ظلما أي ظلم أن تتهم العربية بالعقم لأن مثلهم ومثلها كشأن إنسان يملك الملايين ولكنه لا يستعمل منها سوى القروش، على حين نرى فقيرا إلى جانبه لا يملك سوى القروش، ولكنه بنشاطه وخبرته يحرك بها السوق..
فمن المسئول عن تعطيل الملايين، وإلى من يعود الفضل في تحريك القروش وتمكينها من التأثير الكبير؟ أجل.. إن مظاهر القصور في لغتنا ليس إلا توكيدا للقصور في نشاطنا.
وأول سؤال يتبادر إلى الذهن بإزاء هذا الواقع الكئيب هو على من تقع تبعة هذا التخلف العقلي والعملي؟.. وما السبيل إلى تداركه وتحويله؟..
وهنا نتذكر التقويم الفكري الذي صوره الكاتب الإسلامي الكبير المرحوم مالك ابن نبي بما مؤداه: إننا أمة خرجت من الحضارة.. وبهرها تقدم عدوها، فلم تفعل شيئا سوى الإعجاب بمصنوعاته ثم الخضوع لكل مؤشراته..
ولا جرم أن الخلاص من هذا الوضع الشاذ يقتضي أن نستعيد الإحساس بذاتنا(1/50)
أولا، فندرك واقعنا ثم نتعاون على تغييره بالارتفاع إلى مستوى المسئولية، ويومئذ فقط سنعرف أن الخطوة الأولى لتصحيح مسيرتنا تبدأ من دائرة الاكتفاء الذاتي.. الاكتفاء أولا بمعطيات الرسالة التي مكنت لسلفنا الصالح من ناصية الأرض، إذ كونت من خامات الجاهلية المعطلة خير أمة أخرجت للناس تأمر بالمعروف الذي يضيء للإنسانية الحائرة مسالك النجاة، وتنهى عن المنكر الذي يتمثل في كل زيغ يدفع بأصحابه إلى الهاوية … وبذلك يتاح لنا أن نتحرر من دوامة الضياع التي أغرقتنا بدعوات تتكشف كل يوم عن ضلال جديد … وهناك فقط نشعر أننا استعدنا مكاننا المفقود … فعدنا إلى صفوف القادة بعد التيه الطويل في صحراء التبعية، ثم الاكتفاء ثانيا بمقدرتنا على إنتاج الحاجات التي تتطلبها دواعي الحضارة التي لا حياة لأمة بدونها، وهي أحد الأهداف المنشودة من الرسالة الإلهية التي تقرر في أصولها الكبرى أن كل شيء في هذا الكون مسخر لمصلحة الإنسان، وكلا الأمرين على جلاله في متناول الإرادة لو استطعنا تحريرها من مركب النقص الذي ساقتنا إليه أحداث لم نكن بالخليين من تبعاتها …(1/51)
مخططات للتدمير:
ولكن … من الذي سيتولى قيادة الأمة إلى الاكتفاء الذاتي في نطاق القيم والإنتاج!..
قبل أيام سمعت من بعض الإذاعات العالمية الخبر التالي: ((لقد تبين أن مئات الملايين من قروض حصل عليها أحد الأقطار العربية منذ سنوات لم يستعمل منها للمصالح التي تم من أجلها الاقتراض سوى النزر.. والتحقيق جار لمعرفة الأسباب … وقد يكشف التحقيق عن أن ثمة تواطؤا مع تجار السوق السوداء هو الذي قضى بتعطيل هذه المئات من الملايين عن القيام بمهمتها …
هذا الخبر ذكرني بمثل له نشرته صحف ذلك البلد من قبل، وخلاصته أن عشرات البعثات الدراسية التي وجهت إلى الغرب، قد خصص خمس بالمائة منها للعلوم العملية كالطب والهندسة والتكنولوجية، ووزعت الأخريات كلها على العلوم النظرية والفنية وما يسمى بالعلوم الإنسانية! ..
وتقول هذه الصحف إن عشرات الآلاف من الطالبات لم تتسع لهن جامعات القطر، فأحيل معظمهن إلى إلى معاهد لتخريج السكرتيرات! وما ندري كم هؤلاء الفتيات قد ألحقن بمعاهد الرقص(1/51)
والفنون الترفيهية!.. ولا غرو فهناك معهد لرقص الباليه يحمل المتخرج فيه شهادة البكالوريوس 1 ومعاهد للفنون والموسيقى على هذا المستوى أيضا.. وقبل ذلك احتفت بعض الصحف العربية بفتى يماني حصل على دكتوراه في الغناء الصنعاني… الذي لم يعد لليمن من حاجة إلى غيره لاستكمال بنيانها المتهدم!..
ما أحسب مفكرا يتردد في الحكم بأن تصرفا كهذا يتوقف عليه مصير الأمة لا يمكن أن يحدث اعتباطا ودون تخطيط يقصد به إلى استبقائها في هوة التخلف، ومع ذلك نتساءل: لماذا نظل حيث نحن نراوح مكاننا، ولماذا تظل لغتنا مقصرة عن اللحاق بعالم الإبداعات الذي لم ندخل أبوابه بعد!..
فمن الذي حال حتى اليوم بيننا وبين التقدم الصحيح؟!.
ومن الذي منعنا حتى الساعة من إقامة المصانع الكبرى، ونحن الذين لا نعلم سبيلا لتشغيل فوائض أموالنا إلا عن طريق أعدائنا!.. ولا نعرف طريقا للانتفاع من خاماتنا المستوعبة لكل حاجات الصناعات إلا تسليمها بأرخص الأثمان لأولئك الذين يبيعوننا إياها مع أسمائها الأعجمية الجديدة بأرفع الأثمان! من وراء هذا التصرف الأحمق؟ … من وراء هذا التخطيط المدمر!..
__________
1 أذاع صوت أميركا تقريرا عن الفن بمصر يوم 11-4-76 فجاء فيه أن أربعين راقصا قد تخرجوا من معهد الباليه، وقد التحقوا أو التحقن بالفرقة الفنية …(1/52)
فوضى لابد من تداركها:
كنت مكبا على كتابة هذا البحث عندما سمعت من الإذاعات أنباء الخطوات الجديدة التي شرعت بها هذه المملكة الغالية في طريق التصنيع، الذي قررت أن تقيمه على أرقى الأصول التكنولوجية.. وقد عودتنا هذه المملكة أن للكلمة عندها مضمونها العملي الحتم.. ومعنى هذا أننا بإزاء مرحلة تحولية هامة لا مفر من أن تؤثر على الكثير من جوانب الحياة في هذا المجتمع … وهي إما أن تنطلق على عفويتها فلا تستقيم على الجادة، فتجر الخير مع الشر، وتعمل في الهدم والبناء على غير هدى.. وإما أن يرسم لها المخطط السليم فتكون مسيرتها على هديه بحيث تكون خيرا لا شر معه إن شاء الله.. ولكن … من الذي سيضع للغد القريب هذا التخطيط النجيب!..
إن المرحلة التاريخية القادمة ستحمل في طواياها مصانع ومعامل وفيوضا من الإنتاج الراقي … فمن الذي سيضع لهذه المصانع نظمها الاجتماعية؟.. ومن الذي سيمد منتجاتها بالمسميات العربية المحكمة!..
ليسمح قراء هذا البحث أن أذكرهم بظاهرة يمرون بها كل يوم، بل لعلهم(1/52)
منفعلون بها كما ينفعل بها جمهور الشعب دون تمييز بين جاهل وعالم.
السيارة التي نستخدمها في مختلف الحاجات وعلى مختلف الأحجام والأشكال كان معقولا أن تستعمل أسماؤها النوعية المميزة بين صنف وصنف، وكذلك من حقها أن نستعمل مسميات أجزائها كما وردت من مصانعها، لأننا مضطرون أبدا إلى استيراد هذه الأجزاء فلا سبيل إلى طلبها من مصانعها بأسماء معربة كحجرة التبخير وشمعة الاشتعال والكابح، وأنبوب التصريف والمكبس ومحور المحرك … وما إلى ذلك من عشرات الأسماء التي لا يفهمها أحد غيرنا … فطبيعي إذن أن تظل أسماؤها الأعجمية على ألسنتنا وفي حوانيتنا، ريثما تقوم مصانعنا بإنتاجها فنصنع لها الاسم الملائم ونصدرها للخارج مميزة به ... ولكن هناك أشياء لا يحسن بنا أن نستبقيها على أصولها الأعجمية لأنها من حاجات الجمهور كله لا المستوردين وحدهم، ومع ذلك فنحن نقول ونسمع في مختلف المناسبات أسماء الكَفَر والبنشر والوايت والوانيت والتكسي والباص والأتوبيس وما إلى ذلك من مسميات لسنا ملزمين باجترارها مع وجود أجمل منها وأدلّ على وظيفتها في الكلام العربي، كالعجلات وإصلاح العجلات والتنفيس والصهريج والشاحنة الكبيرة والشاحنة الصغيرة وسيارة الأجرة والحافلة ونصف الحافلة.. وهلم جرا … حتى في نطاق الحاجات اليومية والمحلية التي لا علاقة لها بالاستيراد يقلد بعضنا بعضا في تسميتها، كالبتر والماصة والكنبة والطبلة وعشرات المسميات، وأجمل منها وأدل وأخف العمود والركيزة والمنضدة والأريكة والبيان.. ولكن من المسئول عن وقف هذه الفوضى.. وما السبيل إلى التنظيم الذي يضع الاستعمالات الصحيحة تحت تصرف الجمهور!..(1/53)
الحكمة ضالتنا:
أما بعثاتنا الموجهة إلى الدراسات الأدبية والفنية وما يسمونه بالعلوم الإنسانية.. فهي هي التي تتولى اليوم تدمير حصوننا من الداخل إلا من رحم الله … إن كل ما تعلّمه هؤلاء ويتعلمونه لا يعدو نطاق التقديس لكل ما نبت في دنيا الغرب من نظريات يكذب بعضها بعضا، ويسخر بعضها من بعض.. وهاهي ذي حصائد علومها نجنيها كفرا بقيمنا وطعنا في ديننا وشتما لأسلافنا وتنكرا لرسالتنا واستهزاء بلغتنا وأدبنا.
ولا عجب فإن القيم الروحية والمثل العليا التي تصور علائق الإنسان بالكون(1/53)
والحياة إنما هي من الخواص التي لا تجتلب من الخارج إلا إذا أريد اقتلاع الأمة من جذورها وسلخها من مقوماتها … بخلاف العلوم الرياضية التي لا سلطان لها على السلوك الروحي فهي حق مشاع لكل أمة ولكل فرد، يأخذ منها المعوز ويعطي منها المليء.. فتظل أبدا بين الأخذ والعطاء دون غضاضة ولا منّ.. إنها حصيلة الجهد البشري كله، فالانتفاع بها حق كالجنس كله.
أليس من الطرائف المضحكة المبكية أن ترى حامل دكتوراه في الخدمة الاجتماعية من أميركة مثلا، لا يكاد يعرف شيئا عن هذا المرفق الهام في أنظمة الإسلام، وهو الذي يملأ حيزا كبيرا من فقه القرآن والسنة تحت عنوان الحسبة والحبوس الخيرية ونحوهما.. ولو هو قد درس بيئته المحلية على الطبيعة لواجهته بقايا الآثار الكثيرة لألوان الخدمات الاجتماعية، والضمان الاجتماعي، والتكافل الاجتماعي مما لم يصل إلى أقله تفكير كبار المفكرين الغربيين حتى اليوم!..
أوليس من الطرائف الغريبة أيضا أن تلقى امرءا يحمل أعلى المؤهلات من هناك وهنالك في التربية وعلم النفس ويكاد يعرف كل شيء عن ديوي وهربرت ومونتاني.. ثم لم يسمع شيئا عن ابن مسكويه والغزالي وابن جماعة وابن خلدون والقابسي في هذا المضمار!..(1/54)
أفكار مستوردة:
وتجيء في أعقاب ذلك ثالثة الأثافي ممثلة في المناهج الدراسية على اختلاف مراحلها، إذ لا تزيد على أن تشحن الأجيال بمركبات النقص، بما تترجمه من نظريات كثيرا ما تكون قد هجرت في الغرب والشرق على السواء، ولكنها فرضت على أبنائنا كأنها تنزيل من التنزيل… ومن هنا تزدوج المحنة، إذ على طالبنا أن يتجرع أخطاء الأمم دون رحمة، ثم عليه في الوقت نفسه أن يظل مؤمنا بأنه من أمة كتب عليها أن تتجرد من كل أثر للاستقلال الفكري، وسأكتفي بمثل لعله يساعد على إيضاح فاعلية المناهج في شخصية الطالب العربي، لما استحكمت الدعاية إلى الاشتراكية كان لابد من انعكاس آثارها على مناهج الدراسة.. فبعد أن كانت كلاما يقال في الأندية الحزبية وفي نطاق بعض الصحف المعزولة إذا هي قوانين تفرض ويساق الناس للتصفيق لها ولدعاتها على أنهم رسل الإنقاذ وعباقرة الفكر.. وما هي إلا خطوة إثر خطوة حتى كان لها الحصص الطوال في مواد الدراسة والتوجيه.. ولم يقف الأمر عند هذا الحد بل سرعان ما ولدت نظريات تؤكد(1/54)
أن الاشتراكية هي نظام الإسلام الأصيل مستوحى من القرآن والسنة.. ثم جاءت المرحلة الآخرة لتقول: إن الاشتراكية وليدة القرمطية، وأن القرمطية زبدة النظام الإسلامي في المال والحكم! ودون حياء أو تحفظ أخذت هذه المفتريات سبيلها إلى مناهج التعليم حتى في أعرق المعاهد الإسلامية، وفي صحف تصدر عن أكبر المؤسسات الرسمية التي تحمل شعار الإسلام!..
وبقليل من التأمل يدرك المفكر مدى التحول النفسي الذي ستثمره هذه التطورات الخطيرة.. لقد بدأت تلك الأفكار كمحاولة للتعريف بخصائص الاشتراكية ولكنها انتهت إلى أن تصبح عملية تغيير في مفهوم الإسلام نفسه حتى بتنا نسمع أصواتا ذات وزن أدبي وديني تعلن أن الإسلام هو الاشتراكية والاشتراكية هي الإسلام.
وهكذا الأمر بالنسبة إلى سائر النظريات الواغلة علينا من هنا وهناك وهنالك.. وقد أحالت مناهجنا معرضا للتناقض الذي من حقه أن يمزق نفس الطالب بين مختلف الاتجاهات… ولا مندوحة هنا عن التذكير بأننا لا نريد بكلامنا هذا أن ندعو إلى وضع الحجر على الفكر الإسلامي بحيث نقطعه عن خبرات الأمم في هذا أو ذاك من التخصصات، بل إننا لندعو إلى الانتفاع بكل ذلك عملا بالحكمة القائلة: خذوا الحكمة من أي وعاء خرجت لأن الحكمة ضالة المؤمن أنى وجدها فهو أولى بها، ولكننا نريد أن تكون دراستنا لتجارب الآخرين في مثل هذه القضايا محاولة لإغناء روافدها الأصيلة في تراثنا العريق.
وبذلك نصون شخصيتنا المتميزة من الذوبان الذي يسوقنا إليه بكل وسائل الإغراء أولئك الخارجون على قيمنا من المبهورين بأضواء الأعداء.. وبذلك أيضا نعيد للغتنا المقدسة إشراقها وعزها، إذ نستغني بمصطلحاتها الجميلة المبنية عن رموز اللغات الأخرى التي نلوكها دون أن نعرف الأصول البعيدة من مدلولاتها اللغوية، التي كثيرا ما تعود إلى لغة بائدة يريد أصحاب هذه النظريات الغربية استبقاءها في دائرة الحياة.(1/55)
السبيل إلى التصحيح:
لقد حاولت فيما أسلفت من حديث أن أوجز واقع العربية وما يحيق بها من أخطار، وما تتعرض له من مضار لابد لها إذا استمرت في سبيلها من أن تترك جراحا عميقة في قلبها قد يتعذر شفاؤها منها فيما بعد.
وقد بقي على أن أدلي بما أحسبه وسائل صالحة لخدمة هذه اللغة الحبيبة، وإعطائها(1/55)
ما تستحقه من الرعاية لغة شرفها الله بكلامه، وأنزل بها خاتم رسالاته، وجمع بها أشتات العرب في وحدة خالدة بعد أن كانت مزقا متباينة، فوطأ لها بكل أولئك طريق القيادة العالمية … وطبيعي أن يكون في مقدمة هذه الوسائل التنويه بدور الجامعات العربية والإسلامية في هذه السبيل، لأنها مراكز التوجيه الكبرى للعقل والضمير واللسان، فلديها من الإمكانات ما يتيح لها أن تصنع الأعاجيب.
وأول ما نتطلع إليه من جهود هذه الجامعات هو اتخاذ العربية لغة التدريس في سائر موادها وكلياتها خارج نطاق اللغات الأجنبية، وهو الأمر الذي عليه أكدت مقررات المؤتمرات العلمية العربية في مختلف المناسبات وسبق إلى تنفيذه بعض الجامعات العربية بنجاح كبير، على أن بعض الجامعات الأخرى لا تزال تتردد في قبوله تحت ضغط المستغربين، الذين خيل لهم جهلهم بلغة العرب أنها عاجزة عن مجاراة التطورات المستمرة، في حين أثبتت جامعة دمشق التي سبقت إلى تعريب هذه المادة منذ عهد الانتداب الفرنسي أن العربية أوسع صدرا مما يظنون إذ حققت شأوا بعيدا من النجاح يصلح أن يتخذ أسوة في سائر ديار العرب.. وعلى قدر إيمان هذه الجامعات بحق العربية عليها سيكون اهتمامها باستعمالها في قاعات الدرس، بحيث يكون التزام الفصحى قانونا لا يتساهل بالخروج عليه فلا يسمح لمدرس أن يعمد إلى لغته السوقية بأي حال حفاظا على كرامة الفصحى، وتدريبا لألسنة الطلاب على إلفها، وإنقاذا لهم من التشويش الذي يحدثه اختلاف لهجات المدرسين ولغاتهم المحلية، ولاسيما إذا كانوا وافدين من أقطار عربية متعددة..
وعلى الجامعات العربية أن توجه مثل هذه العناية إلى لغة التخاطب بين الطلاب أنفسهم، سواء في قاعة الدرس أو خارجها.. فلا تفتأ تذكرهم بواجبهم نحو لغتهم، ولا أجدى عليهم في هذا الصدد من الندوات التي توفر لهم جو التعبير عن أفكارهم بالأساليب العربية السليمة.. ولا يبعد عن ذلك إعلان الجامعة بين الحين والحين عن بعض الكتب النافعة ذات الصلة بموضوع اللغة والأدب والأخلاق، ترغيبا لهم في مطالعتها، والكتابة عنها وتلخيصها، ومناقشة أفكارها أثناء بعض الندوات..(1/56)
دور الجامعات في خدمة البيان العربي:
وهنا أراني مضطرا إلى وقفة قصيرة للتذكير بالواجب الكبير نحو الكتاب(1/56)
الذي رفع الله به ذكر العرب وفتح لهم أوسع أبواب التاريخ.
إن الله يصف معجزته الخالدة هذه بأنها المتفوقة أبدا على كل فكر وكل طريقة وكل فلسفة.. ذلك بأن {هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ} فلا أدب إلا وهو فوقه، ولا علم إلا وهو سابقه لأنه الأقوم والأهدى …..
ولقد عرف الصدر الأول من هذه الأمة عظمة القرآن فاتخذوه منهاج حياة يقوّمون به أخلاقهم، ويؤدبون أبناءهم، وينظمون دولتهم، ويوجهون طاقاتهم.. فأعطاهم من مردود المجد والعزة والقيادة العالمية خلال أقل من قرن ما لم تبلغه أمة قط سابقا ولا لاحقا خلال القرون.. وقد استطاعت تعاليم هذا الكتاب المعجز أن تفتت الحواجز ما بين الشعوب حتى ردتهم إلى الأخوة التي نسوها في غمار الجهل والمظالم.. فإذا هم أمة واحدة ربها واحد وقائدها واحد ونظامها واحد ولغتها واحدة، هي لغة هذا الكتاب العظيم، آثرتها على ألسنتها الموروثة، لأنها لغة نبيها ووسيلتها إلى فهم شريعته الحكيمة.. وهكذا تسابق أولو المواهب من أقصى الصين إلى غرب أوربة لإتقانها والانطباع ببيانها، فكانت ملايين المؤلفات التي وضعت بأقلام عربية لم تمت من قبل إلى العرب بأدنى سبب.. ولو استمرت المسيرة في سبيلها السليم لالتقت القارات كلها على هذه الوحدة العجيبة، ولكن كواكب العرب تعبت من أعباء المجد فانصرفوا عن هدفهم الأعلى ليشاركوا الغافلين في ملاهيهم المتبرة.. ثم لم يلبثوا أن نسوا أنفسهم ورسالتهم، فإذا هم محطمو القوى مسلوبو الأوطان قد اصطلح عليهم كل شيء، وسلط عليهم حتى من لا يستطيع دفعا عن نفسه..
ونفتح أعيننا اليوم لنرى العالم الإسلامي وقد شرع يتمطى ليسترد بعض يقظته التي طال بها عهده.. ولكنه يجد نفسه أثناء ذلك محاطا بأكداس المطبوعات، ومأخوذ السمع بآلاف الصيحات، وكلها يدعوه إلى غير سبيل القرآن، إنها أشبه شيء بالطريق الذي حدّث به ابن مسعود عن رسول الله صلى الله عليه وسلم تحذيرا للمؤمنين من مغويات المفسدين فذكر أنه صلى الله عليه وسلم خط خطا ثم قال: "هذا سبيل الله مستقيما وخط عن يمينه وشماله ثم قال: هذه السبل ليس منها سبيل إلا عليه شيطان يدعو إليه … ثم قرأ {وَأَنَّ(1/57)
هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ} "1.
فالمسلمون إذن على مفترق طرق، وخلالها طريق واحد هو المؤدي إلى النجاة والقوة والعزة، طريق القرآن الذي _ كما ورد في الأثر _ هو المخرج من الفتنة ((فيه نبأ ما قبلكم، وخبر ما بعدكم، وحكم ما بينكم.. من تركه من جبار قصمه الله، ومن ابتغى الهدى في غيره أضله الله … من قال به صدق ومن عمل به أجر، ومن حكم به عدل، ومن دعا إليه هدي إلى صراط مستقيم..)) 2.
وقد أسلفت فيما تقدم أن اللغة لا تقتصر على التخاطب والتعبير، وإنما هي عملية تصور ومنهج تفكير.. وما دام القرآن هو قمة البيان العربي وحارسه على امتداد الزمن، فهو إذن مكون التصور، ومنظم الفكر، ومهذب التعبير.. ومن هنا كانت هيمنته على أدب العرب بعد الإسلام، بحيث ترك طابعه على إنتاجه كله إلى أحقاب مديدة.. وإذا اتفق أولو العلم على هذه الحقيقة لم يختلفوا على أن للجامعات العربية دورها الهام في ربط الجيل العربي بعروة هذا الكتاب المرهف للطاقات، الحافظ لذاتية الأمة، الجامع بين ماضيها وحاضرها ومستقبلها، ولتحقيق هذا الواجب العظيم لابد من توافر قدر مشترك من الاهتمام به في كل كلية مهما يكن تخصصها، وذلك بإعطائه عددا من الحصص الأسبوعية لدراسة نصوص منه دراسة بيانية، تساعد الطالب على تذوق بلاغته بعد التبصير بمعانيها، وبذلك تسد الفجوة القائمة بين الدراسات العلمية والنظرية، حتى يتخرج كل طالب مزودا بقدر لا غنى عنه من الذوق البياني.
وعندما نتذكر أن خريجي الجامعات هم أصحاب المناصب الإدارية والقيادات الفكرية والإذاعية في كل بلد أدركنا أي خدمة تقدمها الجامعات لصالح العربية عن طريق هؤلاء الذين أكسبتهم من الخبرة والدراية ما يجعلهم قدوة حسنة تشيع حب العربية في مختلف الأوساط.
__________
1 رواه أحمد عن ابن مسعود رضي الله عنه.
2 انظر جمع الفوائد ج 2 ص 162 رقم 6704.(1/58)
العالم الإسلامي يتلهف إلى العربية:
وحق القرآن ولغته ليس مقصورا على بلاد العرب وحدها وإن تكن الأحق برعايته من بين سائر البلاد، إنما القرآن مرجع أمة تنتشر في قارات العالم، ويضطرب في مئات ملايينها الإحصاء، وهي تتطلع إلى كل حرف من لغة القرآن متلهفة إلى نطقه وفهمه، وقد بلونا الكثيرين من أبناء هذه الشعوب الغريبة(1/58)
عن العربية، فإذا هم أشد حماسة لها من أبنائها، بل لا أغالي إذا قلت إنهم أكثر إقبالا على دراستها وأوفر إتقانا لقواعدها من العرب أنفسهم.. وما أسعدهم بإخوتهم بل أساتيذهم أبناء الضاد لو بذلوا لهم ما يستحقونه من العون لدراسة هذا اللسان الحبيب..
ولعمر الله إنه لعجب من العجب أن نرى أمم الغرب ترصد في ميزانياتها القناطير المقنطرة من الأموال لنشر ألسنتها بين شعوب الإسلام، وتعقد الدورات السنوية لتدريب المتخصصين لتدريسها في كل مكان، وتبذل الجهود الجبارة لابتداع الوسائل الكفيلة بتيسيرها بأحدث وسائل الإعلام.. على حين تقف الحكومات العربية مكتوفة اليدين أمام حاجة هؤلاء الأخوة إلى لغتها، وهم حلفاؤها الطبيعيون في كل مأزق عالمي.. وهي التي ينفق بعضها من الكنوز على أتفه الأشياء ما إن مفاتحه لتنوء بالعصبة أولي القوة.. ولو أن كل حكومة عربية رصدت خمسة في المائة من ميزانيتها على نشر العربية في أوساط الشعوب الإسلامية لعدت مقصرة، لما يتوقف على هذا المرفق من مصالح سياسية تتجاوز حدود التخمين..(1/59)
عبرة من باكستان:
دعوني أذكركم أيها الإخوة الأفاضل بمأساة باكستان القريبة.. لما لها من صلة بموضوع اللغة، لقد كانت هذه الدولة هبة الإسلام، كما صرح أول رئيس لوزرائها لياقات علي خان.. ولكنها لم تستمر سوى القليل من السنين حتى انشقت إلى دولتين لكل منهما لغتها، ولا تزال المخاطر تهدد الأصلي من شقيها بضروب من الانقسام الذي يمهد له تعدد اللغات، إلى جانب الأسباب الاجتماعية والسياسية الأخرى، ولقد لاحظ أحد زعماء باكستان منذ أيامها الأولى مطالع الفتنة التي تتمخض بها الأحداث بسبب اختلاف الألسنة بين سكانها.. فراح يحذر أمته من مخاطر المستقبل إذا هي استمرت في تجاهلها لمشاكل اللغات المتنازعة في باكستان.. وكان مما قاله يومئذ: (إن البنغاليين لن يرضوا سيادة الأوردية، ولا السندية براضية عن سيادتهما.. ولكن هؤلاء جميعا مستعدون للتنازل عن كل حقوقهم في السيادة للغة للقرآن، لأنها لغة دينهم ولسان نبيهم، ولن يكلفنا تمكين العربية من ألسنة الأمة الباكستانية أكثر من ربع قرن إذا نحن أسرعنا إلى وضع التخطيط المساعد لتحقيق هذه الغاية) ، ولكن صيحة الآغاخان الجدّ هذه لم تبلغ آذان المسئولين يومذاك لانشغالهم(1/59)
عنها بالتنافس على السلطان.. حتى انتهى الأمر إلى ما نشاهده اليوم من بنغلادش وباكستان.. وما لا يعلمه إلا الله في قابل الزمان.. ولئن فاتت العرب فرصة الأمس فما زالت أمامهم فرص في باكستان وبنغلادش والأفغان وفارس وأندنوسية وتايلاند وماليزية والعشرات من مناطق أفريقية المسلمة، لقد وضع الله في أيديهم مفاتيح الدنيا بما يملكونه من الذهب الأسود، ولو هم أجمعوا أمرهم على نشر دينهم ولغتهم في جماهير المسلمين على الأقل لما وجدوا حتى من الحكام غير المسلمين من يحول دون إرادتهم، بل لألفوا أبواب الأرض مفتوحة لهم على مصاريعها، ولو لم يكن ذلك بدافع الحب للإسلام ولغة الإسلام، لكان بدافع الحفاظ على مصالحهم في نفطهم وأموالهم … ولعل كثيرين غيري من الزملاء الأفاضل قد سمع ما سمعت قليل من تشمير باكستان لنشر العربية، بل لمضاعفة العناية بها في مدارسها.. وفي الجامعة الإسلامية اليوم بعثة رسمية من أساتذة المدارس الباكستانية أوفدت للتدريب عليها والتمرس بنطقها وتعليمها فما الذي يمنع العرب أن يقابلوا باكستان وغيرها في وسط الطريق فيرسلوا إليها بعثاتهم لتعليم عربيتهم على مستوى أكثر جدوى وأعم نفعا!..
إن الحكومات العربية مسئولة عن هذا الواجب ولكن للجامعة العربية أيضا مسئولياتها نحوه، وإذا كان هذا حقا بالنسبة إلى سائر الجامعات العربية في كل بلد عربي فهو أحق بالنسبة إلى جامعات المملكة الغالية التي شاء الله أن يأتمنها على مقدسات الإسلام.. الذي لا يمكن فصله عن لغة القرآن..
ولعل من بواعث التفكير الجدي في هذا الجانب من البحث أن أعرض لأعين الزملاء خلاصة رسالة تسلمتها قبيل أيام.. إنها من أستاذ يتولى تدريس العلوم العربية في معهد حكومي بساهي وال الباكستانية، ويريد الاستزادة من هذه المادة، لذلك يريد مني أن أتخذه تلميذا بالمراسلة لتحقيق متمناه الذي يعتبره منة وفضلا.. أظن من حق هذه الكلمات أن تحرك عواطفنا نحو هؤلاء الإخوة فنوفد إليهم من يروي ظمأهم إلى لغة القرآن، مما لا يمكن تأمينه عن طريق المراسلة إلا عند متفرغ لا يشغله شاغل عن هذا الواجب، أو عن طريق برنامج خاص لتعليم هذه اللغة على الهواء كما تفعل إذاعة لندن في برنامجها المعروف لتعليم الإنجليزية، وهو أقل ما يجب ابتداء على وزارات المعارف في كل دول العرب.(1/60)
أدبنا.. ما هو؟ وكيف يجب أن يكون؟
وكما أن الفرد لا يتصور له وجود خارج نطاق الجماعة، كذلك اللغة، بدأ من الكلمة المفردة إلى النصوص المختلفة، لا وجود لها منفصلة عن الصياغة الأدبية، لأننا بالأدب الأصيل نتعلم ونعلم طريقة البناء الفني للكلمة، وبالأدب نعين مدلولاتها المختلفة حسب موقعها في ثنايا التعبير.
وعلى هذا فلا مندوحة من إلمامة قصيرة بواقع الأدب العربي، لنرى ما يمثله من أصالة أو غرابة، وإلى أي مدى يسهم في خدمة هذه اللغة الكريمة…
وسأحاول أولا تعيين مدلول موجز لكلمة الأدب بغض النظر عن التعريفات المختلفة المتموجة، ففي يقيني أنه البيان بالكلمة المناسبة عن مضمون النفس والنفس والعقل والشعور وسائر مصادر النشاط العاطفي عناصر لا يمكن عزلها عن موحيات البيئة على اختلاف مركباتها الاجتماعية والثقافية والتاريخية والطبيعية، يقول ألكسيس كاريل في كتابه النفيس: الإنسان ذلك المجهول: إننا عاجزون عن حماية أنفسنا من تأثير المجتمع لأن حدود النفس مفتوحة لهجوم المحيط العقلي والروحي …) ، فالأديب إذا من حيث كونه فردا في جماعة لا يستطيع تحرير أفكاره ومشاعره من سلطان البيئة، ولا مندوحة لها من أن تفرض عليه آثارها ولكنه من حيث كونه إنسانا مزودا بقابلية التطلع إلى الأبعد، والتفكير فيما وراء حدود الواقع، يتجاوز بهذا الامتياز حدود الترديد لما يتلقاه، إذ يأبى بطبعه أن يكون صدى محضا لهتفات البيئة.. ومن هنا كان التفاوت بين زمر الأدباء إذ كلهم منفعل بمؤثرات المجتمع، إلا أنه في الوقت نفسه متطلع إلى ما يتصوره الأصلح والأجمل لمجتمعه، انسياقا مع غريزة التجديد، التي هي الحافز الغرزي لتطوير الحضارة البشرية.
والآن بوسعنا أن نرجع البصر في منطلقات الحركات الأدبية على امتداد الأقطار التي تغتذي بالكلمة العربية من شواطئ الأطلسي إلى مشارف دجلة وأقاصي الخليج..
أول ما يتراءى لنا هنا هو تباين المستويات والنزعات والروافد التي من شأنها أن تصنع هذه الاتجاهات.. وأكثر هذه المواطن اتصالا بحضارة العالم الصناعي أشدها تحركا في نطاق الفكر والإنتاج الأدبي.. وأوفرها تفاعلا مع التيارات الغازية التي تكاد تغطي على أصالة الشخصية العربية حتى في نطاق التعبير الذي بات مثقلا بالمصطلحات المقحمة والصور البيانية الغريبة، والأساليب المهزوزة..(1/61)
وكان للاستعمار الغربي آثاره العميقة في صبغ هذا الإنتاج إذ تركت لغة كل مستعمر طابعها على أدب الجيل الناشئ في ظلها …
ولقد بدأت النهضة الأدبية في القرن الماضي أصيلة الطابع إلى حدّ بعيد، إذ كانت ثورة إحياء للغة والأساليب والتراث، ثم أعقبت ذلك ثورة التغريب في مناهج التعليم، فكانت الطامة التي خربت مراكز الثقل في الشخصية الإسلامية إذ أبعدت التعليم كليا عن سلطان القرآن الذي كان المنطلق الأول والأكبر لكل حركة ثقافية في العالم الإسلامي غير منازع، فبات معزول الأثر عن البصر والفكر، لا يعدو أن يكون كأقل مادة دراسية حظا من العناية والتأثير خارج هذه المملكة، حتى أن بعض الأقطار العربية قد ألغت قيمته التأثيرية نهائيا، بجعلها مادة التربية الدينية غير ذات أثر في معادلات القبول للدراسة الجامعية …(1/62)
بين الأصالة والتزوير:
وطبيعي أن الأجيال الناشئة في هذا المناخ غير القرآني لن تجد في مكتساباتها الفكرية ما يحصنها بوجه التيارات الدخيلة إذ تصبح على أتم الاستعداد للاندماج في أي اتجاه مؤيد بالمغريات.. وفي هذا الجو المرجوح برزت الطبقة الجديدة التي سحرها بريق الفكر الدخيل على اختلاف مذاهبه، فراحت تتبع آثاره وتنشر أخباره، وتزين للناشئين أوزاره حتى لم يستنكف بعض دعاة هذا الاستغراب أن يدعو إلى تحطيم القيم الإسلامية، فيجرئ السفهاء على التنكر لحقائق القرآن، والإقبال على مسالك الغرب دون تفريق بين النافع منها والضار، لأن الحضارة بزعمهم كل لا يتجزأ، فلا مندوحة عن أخذه بعجزه وبحره..
وانفرجت زاوية الانحراف تبعا لاتساع نطاق التواصل الفكري العالمي، سواء عن طريق البعثات التي أتم معظمها حلقة التطويق على القيم الإسلامية باندماجها العملي في الحضارة التي دمرت سعادة الإنسان واطمئنانه _ بشهادة أساطينها _ أو عن طريق المترجمات والمنشورات التي أغرقت العالم العربي بسيول الفكر الدخيل، ثم عن طريق الوسائل الإعلامية المنظورة والمسموعة التي اقتحمت البيت الإسلامي دون استئذان، فعودته ما لم يعتد من المشاهد وقربت إلى قلبه كل ما من شأنه أن يسلبه بقية امتيازه الروحي …
وهكذا كان على الأدب الحديث أن يمثل مجموع هذه التيارات التي تخضّ(1/62)
المجتمع العربي الإسلامي فيكون له ألوانه ولكل لون دعاته، وكلهم مشدود إلى هذا أو ذاك من الجواذب الغريبة عن شخصيتنا الأصيلة.
على أن من الغفلة أو الجهل أن ننسى تلك الفئة العملاقة من حملة القلم الإسلامي الذين حفظوا للأدب العربي الأصيل جانبه المشرق.. وقد تتابعوا على خدمة الكلمة المؤمنة جيلا يقفو جيلا، وما زالوا ولله الحمد، يزودون القراء بالغذاء الدسم المستمد من مائدة القرآن، حتى لكأن التاريخ يعيد اليوم ما شهده في عصور العباسيين من تدفق الفكر الدخيل الذي استهوى كثيرين فانساقوا في تجاربه يتفلسفون ويتصوفون ويتمنطقون ويتزندقون، ويشغلون العقل المسلم بالمناقضات من الحقائق والأباطيل، فكان أن نهض لغربلة هذه الأخلاط رجال أضاء الله قلوبهم بنور القرآن فثبتوا في وجه الأعاصير حتى أعلى بهم كلمته وأقام على المضلِّلين والمضلَّلين حجته …
وهاهي ذي المعركة ما تفتأ على أشدها بين الأصالة والتزوير.. وإنها لمعركة متعددة الجبهات، متنافسة الأسلحة يخوضها الفكر المسلم بالبيان القرآني المتألق، يخترق بأشعته الهادية ضباب التهريج، فيغنم كل يوم مساحة جديدة، ويكسب في كل مناسبة مؤمنين جددا يستردون في أضوائه حقيقتهم الضائعة.(1/63)
تغيير جذري:
وطبيعي أن الأدب الذي تجب نصرته هو هذا الذي ينبع من معين الإسلام إيمانا بالحق، وتصورا للجمال، ودعوة إلى الخير، ولكن نصرة هذا الضرب من الأدب لا يمكن أن تؤتى أكلها إلا في جو من التوعية العميقة في أوساط القراء وهي مهمة ضخمة تقتضي تعبئة عامة في مجال الإعلام والتعليم جميعا، فينحّى عن دفة التوجيه الإعلامي كل ذي فكر لقيط وثقافة مدخولة لا تصلح للانصهار في قيمنا الأصيلة.. وبذلك تتوافر على هذا المرفق الخطير الأيدي النظيفة التي ستعيد للكلمة المسلمة حق المرور إلى القلوب والأسماع بكل الوسائل الجمالية … ثم تأتي الخطوة التالية من التوعية في ميدان التعليم، وهذه تنحصر في تحرير إرادتنا من التبعية لموحيات الفكر الغربي، الذي عبث بنا طويلا حتى كاد يسلخنا نهائيا من خصائصنا الذاتية، ويجعل من شبابنا المتعلم مجموعة من الإمّعات لا تسمع إلا بإذنه، ولا تبصر إلا من وراء نظاراته.
إن التوعية التي نريدها في ميدان التعليم تتطلب جرأة فائقة تخلص مناهجنا من التقليد الذي يكاد يحصر مهمة(1/63)
المدرسة والجامعة في حدود مكافحة الأمية الفطرية لينقل أبناءنا إلى أمية أخرى هي أمية الجهل بدينهم وتاريخهم وأنفسهم، وإنه لضرب من الجهل عجيب يشحن الرؤوس بأكداس المعلومات الممزقة دون أن يمكن لقدراتنا الذاتية من العمل الذي يجعل للحياة أي قيمة، لأن غرضه المخطط من وراءه هو إعداد جيل يصلح للاستهلاك دون الإنتاج … وحين تتحقق أمنية التوعية هذه فستكون لدينا المناهج التي تساعد الإنسان العربي بل المسلم، على أن يكون الروح التي تكافح لبلوغ مثل أدبي عال، وتبحث عن النور في الظلمات، وتسير قدما في الطريق الذي يكشف لها الأساس غير المنظور لهذا العالم كما يقول مؤلف الإنسان ذلك المجهول.
أجل.. إن مناهج من هذا المستوى ستفسح الطريق لإغناء الفكر العربي بالمعاني الربانية، التي من اختصاصها دائما وأبدا تكوين الصفوة البشرية المزودة بكل الفضائل التي تجعل منها أمة لا تعرف الفصل بين حدود الدين والدنيا، فهي تنظر إلى كل علم وفن وعمل بنور الله فتملك بذلك الفكر الموسوعي الذي يعرف حلول الإسلام لكل جوانب الأزمات العالمية، ولا يفوته الإحاطة بكل ما انتهت إليه التجارب البشرية من خطأ وصواب …
وفي كنف هذا الضرب من التغيير الجذري سينطلق من جديد مارد الأدب العربي الأصيل أكثر قوة ومضاء، ليستأنف جهاده في توجيه الحياة إلى الأعلى، وليمد الفكر العالمي بما عهد عنده من عطاء لا تزال آثاره دالة على نفسها في كل خير عرفته حضارة الغرب والشرق على السواء..
إن واقع العرب اليوم ليجعل من هذه الأفكار صنفا من الأحلام العصية على التحقيق… ولكنها على الرغم من ذلك حقيقة لابد من الإيمان بها والكدح لإخراجها إلى حيز الوجود، إذا نحن صممنا على استعادة مكاننا من قيادة الفكر البشري، وتذكرنا أننا الأمة الوحيدة التي تملك برسالتها الآلهية مقاليد الإنقاذ لسفينة العالم الضالة … وفي يقيني أننا في الطريق إلى هذه الحقيقة لابد لنا من التركيز على المبادئ التالية:
تعديل مناهجنا الدراسية بردها إلى منطلقات القرآن والصحيح من السيرة النبوية حتى يكونا هما المهيمنين على شعب المنهج جميعا، وقد بدأ ذلك يأخذ طريقه إلى مخططات التعليم في هذه المملكة المؤمنة ولله الحمد، وبقي إعداد المعلم(1/64)
1) المنسجم مع هذه المخططات، سواء كان وطنيا أو مستعارا..
2) مضاعفة الاهتمام بالبيان العربي، وتلقيح العقول بخصائصه الجمالية التي لا يعجزها التعبير عن أية خلجة أو خطرة أو كشف …
3) الإقلال من الابتعاث إلى الغرب حتى أدنى الحدود الضرورية، مع إلزام المبتعثين ممارسة الحياة الإسلامية تحت إشراف الأكفاء، على أن يسترد كل من يثبت شذوذه عن قيم الإسلام، حماية لصحة الأمة الروحية من التلوث بأوباء الجاهلية الجديدة..
وأخيرا إنشاء مؤسسة فكرية باسم نادي القلم الإسلامي تكون قاعدتها مكة المكرمة أو طيبة المباركة، ويشارك في عضويتها كل ذي غيرة على رسالة الله من أدباء المسلمين، على أن تعقد اجتماعاتها الدورية في العشرة الأواخر من ذي الحجة لكل عام، حيث تدرس أوضاع المسلمين والحركات الثقافية العالمية، ويصار إلى الاتفاق على الخطط الصالحة لخدمة الكلمة المؤمنة بكل وسائل الإعلام.
ومرة أخرى أعترف بأنها أفكار أشبه بالأحلام، لما يعترض طريقها من عقبات جسام.. غير أنها ليست مستحيلة التحقيق إذا لامست موضع القناعة من قلوب الرجال الذين آمنوا بألاّ استقرار ولا بقاء ولا صلاح إلا بالإسلام..(1/65)
العربية والأدب الشعبي:
في مؤتمر الأدباء السعوديين الأول بوادر نشاط مشكور، من شأنه أن يضاعف جهود الأقلام المشهورة، ويحرك الكثير من المواهب المغمورة.. وقد اتخذت فيه مقررات إذا نفذ نصفها كان ربحا كبيرا، فكيف والمتوقع أن توضع كلها في حيز التنفيذ إن شاء الله، على أن واحدا من هذه المقررات لا أزال حائرا بإزائه، ذلك الذي يحمل الرقم السابع عشر، ويتضمن توصية المجلس الأعلى للفنون والآداب بأن يولي اهتمامه بالأدب الشعبي، ويعلل القرار هذه التوصية بالرغبة في تمكين الباحثين والدارسين من الاستفادة منه في دراسة تاريخ المملكة ولهجاتها وفقه لغتها.
والأدب الشعبي قديم في كلام العرب حتى الجاهلية لم تفقده، لأن ألسنة القبائل لم تكن على مستوى واحد من حيث الصحة والجمال.. فكان منها اللغات العالية التي بها نزل القرآن، وعليها تنهض علوم العربية التي ركزت فيما بعد، وكان منها لغات مشوشة لم يعن بها رواة اللغة ولا مدونوها بعد الإسلام، ولم يصلنا منها سوى النزر من شواهد احتفظ بها(1/65)
علماء اللغة للدلالة على اللغات الشاذة أو الضعيفة.
وبنزول القرآن العظيم وإقبال العرب عليه قلّ استعمال تلك اللغات النوادر إلا في سياق التخاطب بين أبنائها وإلا في الأمثال التي ألِف العرب روايتها دون تعديل ولو اعتورتها الأغاليط، ثم تسلل الضعف إلى سلائق أبناء الفصحاء مع تفاقم الاختلاط بشعوب البلاد المفتوحة، مما اضطر العلماء إلى تدارك ذلك الفساد بوضع القواعد وإقامة الشواهد.. ولكن طبيعة التطور أدت إلى تشقيق العربية، فكان فيها فيما بعد لغة الأدب المحتفظة بخصائصها، وكان منها لغة العامة التي شابها اللحن وكثرت فيها الكلمات الدخيلة، ثم انتهت إلى أن كونت لنفسها ما يسمونه اليوم بالأدب الشعبي.. وهو طراز من الكلام كان من آثاره البارزة خلخلة الكيان العربي، إذ جعل لكل جماعة لسانها الخاص، بحيث لا يكاد فريق يفهم لغة فريق، إلا إذا عمد إلى اللغة الجامعة الأصيلة، التي لم يعد يحسنها إلا خواص المتعلمين.. ولا عجب فالسوقية في كل إقليم مزيج من العربية وما سبقها من لغات محلية أو غازية، وبما أن لكل إقليم ماضيه التاريخي الخاص كان لكل عامية لهجاتها ومفرداتها الخاصة أيضا.. وفي مستطاع كل منا أن يلمس هذا الواقع من خلال سماعه لهجات العرب الوافدين إلى موسم الحج من مختلف أقطارهم … وما أظن عربيا منا مهما تبلغ معرفته باللهجات وتطورها بقادر على أن يفهم لهجة مغربي أو جزائري أو حتى يماني من سكان المناطق النائية … فإذا نحن رحنا نتتبع نصوص هذه الحكايات أو المنظومات الشعبية في بلد عربي لم نزد على أن مكنا لهذه الفرقة من الرسوخ، وبالتالي لم نقدم لقارئ الأدب العربي سوى نماذج لا تقل غرابة عن أي نص من الصينية أو اليابانية مثلا … ومن هنا يتضح لنا ما أهدرناه من جهود ووقت في غير فائدة، بل في ضرر مؤكد..
مع أن واقع الجزيرة العربية يمتاز على غيره من واقع الأقطار العربية الأخرى من حيث أن لغاتها العامية أكثر اتصالا بأصول العربية، وأكثر حفاظا على جوها، فالمشهود الملموس أنها تشترك مع غيرها من عاميات العرب بقيامها على اللحن، وتسرب الكثير من الدخيل إلى صميمها … ولاسيما في عهدها الراهن، حيث كثر اتصالها بديار الغرب ولغاته ومصنوعاته، فضلا عن تعدد أصول السكان والوافدين الذين يمثلون أكثر من نصف لغات العالم.(1/66)
أجل.. إن الدعوة إلى تنشيط الأدب الشعبي لا تختلف بنظري عن الدعوة إلى ما يسمونه بإحياء الفولوكلور، ويريدون به كل ما كان لأي شعب من فنون متميزة من الرقص إلى الأغاني إلى الأزياء.. وما إلى ذلك.. وقد فقه أولو العلم حقيقة ما وراء هذا الفولوكلور من محاولات للعودة بالشعوب الإسلامية إلى جاهلياتها السابقة للإسلام.. فالفولوكلور إذن حركة مناوئة للإسلام نفسه الذي أخرج الأمم من الظلمات إلى النور، ووضع الإنسانية الجديدة في الطريق المؤدي إلى الحضارة الربانية المتميزة بأنها لا شرقية ولا غربية..
وإذن فالاهتمام بالأدب الشعبي كتابة وإذاعة وتنويها ودراسة هبوط بالفكر العربي عن المستوى الذي يجب أن يؤكد عليه في مسيرته الجديدة، وعندي أن السعي لرفع النظامين الشعبيين إلى مستوى العربية الصحيح أجدى عليهم وعلى أوساطهم وعلى أقطارهم من تشجيعهم على ما أخذوا به من قول ملحون.. ولا جرم أن في تجاربهم الشعورية وتوهجاتهم الخيالية لظواهر مواهب لو أخذ بيدها إلى الطريق السوي لجاءت بالبديع الرفيع، ولزادت ثروتنا الأدبية جمالا وتألقا.. وإلا فإن كل مجهود في غير هذا الطريق السوي منته إلى الإخفاق الذريع، لأن طبيعة الفكر العربي لا تسمح بالخلود والبقاء لأي فكر أو شعور لم يسجل بلغة القرآن.. والأدلة على ذلك تواجهنا في محاولات المتفرعنين بمصر والمتفينقين بلبنان، الذين بذلوا ويبذلون الجهود والأموال لكتابة أفكارهم باللغات السوقية، فأخفقوا ولا يزالون يخفقون..(1/67)
من أجل تيسير التعليم:
ونعود إلى موضوع نشر العربية في المجال العالمي فنذكر بأن ذلك يقتضي الاهتمام بوسائل هذا النشر، فمعلوم أن شكاوى كثيرة تصاعد في كل مكان عن صعوبة العربية.. وليس هذا موضع الرد أو النقد لهذه الشكاوى، إذ من الطبيعي ألا تكون على مستوى واحد من حيث الدوافع.. فهناك المغرضون الذين يريدون مجرد التنفير من العربية باختلاق المعايب لها، وربما جاهدوا لقلب فضائلها نقائص.. ولكن هناك أيضا المخلصون الذين يمارسون تجربة التعليم منذ عشرات السنين، فيواجهون في طريقهم الكثير من المصاعب؛ ذلك أن الوسائل التي يستعان بها لتعليم العربية لا تزال ضمن نطاق الموروثات القديمة لم يعترها التعديل أو التطوير إلا قليلا، وتستيقظ الآن في أعماقي ذكرى أيام كنت أتلقى فيها علوم العربية على أحد الشيوخ من(1/67)
خريجي الأزهر.. فأضطر إلى العض على راحتي بكل ما أملك من قوة لأمنع نفسي النوم خشية أن تفوتني خفية من الدرس لا أستطيع تداركها.. ولا أريد بذلك أن طريقة التنويم هذه هي نفسها طريقة كل مدرس للعربية اليوم، بل أقول: إننا لم نفد كثيرا من التطورات الحديثة التي طرأت على طرائق التعليم الخاصة باللغات، لقد سمعنا وشاهدنا الكثير من مؤتمرات العرب في القانون والهندسة والزراعة والأدب والشعر والفن.. ولكننا لم نسمع قط عن مؤتمر عقد للبحث في الانتفاع بخبرات الحضارة لتعليم لغة العرب.. أجل لقد سمعنا عن محاولات لتيسير القواعد، وقرأنا مؤلفات تقوم على استبدال مصطلحاتها على وجه لا يراد به على أفضل الاحتمالات أكثر من التلاعب بالألفاظ، واستقطاب الأنظار إلى عبقريات أصحابها.. هذا إذا لم نقل إن وراء الأكمة ما وراءها من محاولات الإساءة للعربية، والذي أؤمن به في هذا الصدد هو أن لغة الأمة جزء أساسي من ذاتيتها، عليها أن تتقبله كما تلقته، ثم تسلمه أجيالها القادمة كما تسلمته، دون أي مساس بأصولها المميزة كالإعراب ومخارج الحروف والتزام التراكيب الأصيلة، لأن اللغة أشبه بالكيان الحي، كل تغيير في تركيبه الطبيعي قاتل له أو مشوه، غير إن التزام الأصول لا يمنع تطوير وسائل الصيانة لصحة هذا الكيان، ولتوسيع دائرة نشاطه.. تماما كما نعامل الجسم إذ نحصنه من السوء بكل المبتكرات الصحية ولكن دون أن نحاول إحداث أي تغيير في تركيبه الطبيعي…
وهذا يقتضي أمورا أهمها:
1) الانتفاع بأحدث الوسائل الفنية التي توّصل إليها ذوو الخبرات العالمية في تعليم اللغات، كالمسجلات الفردية، والمعامل الجماعية، ومختلف وسائل الإيضاح العملي.
2) إعداد المدرس الخبير باللغة والنفس، المحب لمهنته، القادر على الاستفادة من تجاربه اليومية.
3) عقد مؤتمرات دورية يشهدها المدرسون المتفوقون لإعطاء زبدة تجاربهم وتعميم ما يتفق عليه بشأنها على المدارس والمعاهد في نشرات صالحة.
4) تمكين سلطان العربية من سائر مواد الدراسة، فلا يسمح لمدرس أي مادة باستعمال لغته السوقية أو الملحونة أثناء الدرس، ولا يقبل من الطالب سؤال ولا جواب بغير اللغة الصحيحة.(1/68)
5) توجيه عناية خاصة لطالبي العربية من غير العرب، بحيث تقدم إليهم في كتب تعتمد الإيضاح بكل الوسائل المعقولة ويراعى فيها التدرج من الأسهل إلى الأصعب، مع العناية الكبيرة بجمال المظهر وأناقة الطبع.
6) بناء مناهج المعاهد الخاصة بتعليم العربية للأعاجم على أساسين:
الأول: تصحيح مخارج الحروف وضبط الألفاظ ومراعاة التركيب العربي.
الثاني: العناية بالقصة في تزويد الطلاب بالمفردات العربية، على أن لا يقل مجموع الكلمات التي يجب عليهم حفظها وإتقان استعمالها عن خمسمائة كلمة خلال العام الدراسي الواحد.
7) العناية بتزويد الفصول بالكتب الملائمة لمستويات الطلاب وبخاصة القصص الموجهة على أن يلزم الطالب قراءة عدد منها، وتلخيصها وبيان قيمتها شفهيا وكتابيا.
8) وأخيرا إعطاء العربية مثل ما تعطى الأجنبية اليوم من العناية على الأقل.. وعدم تمكين أي مادة من الحيف عليها.(1/69)
مخطط نبوي ضد الجهل:
وبحث في العربية وحقوقها سيظل أبتر، إذا أغفل الإشارة إلى موضوع ما يسمونه بمكافحة الأمية، ويحاول بعض المعنيين به تهذيب عنوانه باسم: تعليم الكبار، ومهما تختلف الأسماء في هذا الشأن فالمقطوع به أن الإسلام أول مكافح للأمية خلال التاريخ.
ولا غرابة فهو دين العلم الذي يعتبر اعتناق أي إنسان له هجرة من الجهل إلى المعرفة، ومن الظلمات إلى النور، وحسبه سموا أن أول آياته النازلة في حراء على قلب محمد صلى الله عليه وسلم كانت تبشيرا بالعلم وتنويها إلهيا بفضل القراءة والكتابة.
ولقد كانت أولى حملات الإسلام على الأمية في أعقاب غزوة بدر لما جعل رسول الله فداء الأسير الكاتب من المشركين تعليم عشرة من أبناء المسلمين القراءة والكتابة … ثم جاءت المرحلة التالية يوم خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسلمين وكان من خطبته تلك قوله: "والله ليعلمنّ قوم جيرانهم ويفقهونهم ويعظونهم ويأمرونهم وينهونهم، وليتعلمن قوم من جيرانهم ويتفقهون ويتعظون أو لأعاجلنهم العقوبة.."، وعلم الأشعريون وهم المتعلمون أنهم المقصودون بالإنذار، فجاءوا رسول الله يسألونه المهلة، فأمهلهم سنة ليحققوا واجبهم في تعليم جيرانهم من جفاة(1/69)
الأعراب1، وكان ذلك تشريعا نبويا بإيجاب التعليم والتعلم على كل قادر كضرب من التكافل الاجتماعي الذي يستهدف رفع سوية الكافة إلى المستوى اللائق بالإنسان المسلم، وهي سابقة عظيمة تعطي ولي أمر المسلم حق تحويلها إلى قانون يلزم كل خريج في الجامعة مثلا ألا يتولى عملا إلا بعد أن يقدم البرهان على أنه استنقذ واحدا على الأقل من ظلمات الجهل، ويلزم كل جاهل أن يقبل على التعلم تحت طائلة العقوبة.
__________
1 من حديث طويل رواه الطبراني في الكبير عن علقمة، ويرى العلماء سنده في مرتبة الحسن. انظر: الترغيب والترهيب ج رقم 205.(1/70)
سلاح ذو حدين:
على أن من حق البحث علينا أن نتساءل عن الغاية من حركة مكافحة الأمية في أوساط المسلمين خاصة.. لا شك أن سؤالا كهذا من شأنه أن يبعث الدهشة أو الضحك لأن جوابه من أقرب البديهيات، فالمشروع قائم على قدم وساق في كل مكان، وقد أجمعت عليه البشرية كلها ممثلة في هيئة الأمم ومؤسساتها الثقافية، وتتسابق الدول على اختلافها لتسجيل الأرقام القياسية في هذا الميدان.. ومع ذلك يأتي من يسأل عن غايته وأغراضه؟ ولكن كثيرا من الأمور التي تظن من البديهيات يتعذر على المفكر إيضاحها، وليس موضوعنا هذا إلا واحدا من هذه البديهيات.
إن وراء حملة مكافحة الأمية في العالم أهدافا شتى.. فهي كما تستهدف تأهيل الإنسان الأمي لتحسين واقعه، وتوسيع آفاق حياته، بالاطلاع على ما كان محجوبا عنه من عوالم الوحي، والاستمتاع بثمرات الفكر المبدع للحضارات.. كذلك وراءه الأصابع التي تريد اقتلاعه من عالم الفطرة، لتقذف به في تيه المغويات الشيطانية.. أجل أيها الإخوة الأعزة إن مشروع مكافحة الأمية سلاح ذو حدين، ففيه الإعداد للخير الكبير الذي يريده الإسلام وأهله، وفيه كذلك التحضير لشيوع الفساد المدمر لهناءة الإنسان.. والمؤسف أن وسائل الشر المتربصة خلف هذا المشروع أقوى وأرقى وأكبر فاعلية من وسائل الخير.
إن ذوي الفكر الشرير قابضون على ناصية الإعلام وفنونه المغرية في كل مكان، وقد أعدوا لكل مستوى عقلي ما يلاءمه من هاتيك الوسائل.. تساعد على تحقيق أغراضهم الطاقات الهائلة الموضوعة تحت تصرفهم من دول الإلحاد ومنظمات الإفساد، على حين لا يكاد الفكر البناء المؤمن يجد سبيله إلى الظهور(1/70)
إلا في أردأ المظاهر.. لأنه في الغالب مجهود أفراد فقراء لا مدد لهم ولا عُدد، فإذا نحن في عالمنا الإسلامي نجحنا في القضاء على الأمية، وسننجح بمشيئة الله فماذا أعددنا لاستقبال هذه الجماهير التي ستكون مستعدة لالتهام كل ما تقع عليه من مطبوعات تلاءم مستواها الفكري؟
ذلك هو السؤال الذي يجب على كل ذي غيرة على عروبته ودينه أن يطرحه على نفسه، وأن يفكر بجوابه الأفضل، ومن أجل أن يكون نجاحنا صحيحا في هذا الميدان لابد لنا من تهيئة الغذاء الفكري الصالح لبنية هؤلاء الوافدين حديثا إلى مائدة المعرفة..
قبل أن يخرج الله تبارك وتعالى الإنسان إلى هذه الدنيا أعدها لاستقباله بكل ما يساعده على بناء المدنيات، فلما أطل عليها وجد كل شيء على أتم الاستعداد لمساعدته على مهمته في إعمار الأرض، وعلينا نحن أن نتعلم من هذه السنن الإلهية كيف نهيئ الضرورات الأساسية لذلك الجيل الذي فتحنا أعينه على عالم القلم.. وهذا يقتضي في مفهومي أن يجد مادة القراءة الصالحة لتحسين واقعه النفسي، صحفا تقدم له وجباته الأولية من الثقافة الصحيحة، وكتبا تتدرج معه في مختلف المستويات، قصة ومقالة وبحثا … ثم تخصيصه ببرامج من الإذاعة اليومية مسموعة ومرئية، تأخذ بيده في طريق التطور الصاعد.. ولا حاجة إلى التذكير بأن ذلك كله يجب أن يستمد من معين الإسلام، في أساليب مبسطة من البيان العربي السليم..
أما إذا اكتفينا من هذه المهمة بتمكين الأمي من فك الحرف دون أن نزوده بالمقومات التي تصونه من السقوط في حبائل الشياطين، فمعنى ذلك أننا حررناه من أمية الفطرة لنسلمه لقمة سائغة لأمية أخرى هي أخطر عليه وعلى مجتمعه وعلى البشرية من الجهل، وأمامنا نماذج لا تحصى من أولئك الذين عبدت لهم الطرق إلى أعلى الشهادات، فكانوا كما وصف الله زملاء لهم سابقين بقوله الحكيم: {مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَاراً..} ، أو كما قال سبحانه في عالم إسرائيلي اشترى بآيات الله ثمنا قليلا: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} (7-147) .(1/71)
وهل أنا بحاجة للإشارة إلى هؤلاء المساكين الذين اجتالهم الشيطان، فاتخذوا من ألقابهم العلمية الوهمية ذريعة للطعن على دين الله، فراحوا يعقدون المؤتمرات للدعوة إلى تهديم ما بناه الله! أجل.. أجل إنها أمية جديدة تتبجح بالشهادات ولا مندوحة لحماية الناس، ولاسيما أولئك الذين فارقوا الأمية من مخاطر دعواتهم الخبيثة رحمة بأمتنا وبإخوتنا.. وبإنسانيتنا على الأقل، ومن لهذه المهمة الضخمة سوى معاقل العلم العالية، تسهم في إعداد الحصانة اللازمة لهؤلاء الوافدين على العلم!.
وإنها لأعباء ثقيلة.. ولكنها جديرة بعاتق الجامعات العربية، ولاسيما في هذه المملكة الناهضة، وفي عصر التيارات الفكرية المتضاربة.(1/72)
ورطة لابد من علاجها:
وثمة قضية على جانب كبير من الغرابة والخطورة معا، تلك هي إجماع وزارات المعارف في كل بلد عربي على تعليم الأجنبية في المرحلتين الإعدادية والثانوية، وهو أمر لا يزال يثقل كاهل التلاميذ بأعباء غير يسيرة، على حساب العربية والدين وغيرهما من المواد الرئيسية.. وقد أثبتت التجربة الطويلة أن المردود الوحيد الذي جنيناه من هذا الاتجاه هو ضحالة الثقافة مطلقا، وشحن نفوس الشباب بشعور التبعية للأمم التي فرضت عليهم لغاتها.. يضاف إلى ذلك أن هذا الطالب المسكين لا يكاد يطأ أرض العالم الغربي للدراسة الجامعية حتى يفاجأ بصدمة الجهل التام للغة المفروضة، فيلجأ إلى المعهد الخاص لإعداد أمثاله، وقد تستغرق هذه المحاولة زمنا غير يسير ليتمكن من الالتحاق بالقسم الذي يريد.. ولو نحن أمعنا الفكر في قوادم هذا الوضع وخوافيه لأدركنا عظم الخطأ الذي اقترفناه بذلك التقليد غير الواعي.. إذ أضعنا جزءا كبيرا من حياة هذا الطالب دون ثمرة، سوى ما أسلفناه من شعور التبعية، والإحساس بصغار الجنس الذي ينتمي إليه، بإزاء الأمة التي أكره على إذابة الكثير من طاقاته في التشمم للغتها.. ولعل هذا أشد ما يكون بروزا في دور إعداد المعلمين للمرحلة الابتدائية، حيث يهدر الزمن غير القصير من حياة الطالب في دروس الأجنبية، دون أن يحتاج إلى كلمة منها طوال جهاده في تعليم الصغار.
أجل.. إنني بكل صراحة، وبعد تجربة ثلث قرن في ميدان التعليم، أرفع صوتي بهذا الاقتراح وهو إنقاذ الجيل العربي من هذه الورطة.. وبديهي أن اقتراحي يشمل الدراسة الجامعية نفسها التي سبق أن أشرت إلى ضرورة وقفها(1/72)
على العربية وحدها إلا في الأقسام الخاصة باللغات الأجنبية …
وما دمنا في حاجة إلى الدراسات الأجنبية في نطاق العلوم العملية فبالإمكان تدارك ذلك بافتتاح معاهد خاصة لتعليم اللغات الأخرى ضمن سنتين، لينطلق بعدهما لمتابعة دراسته في المادة المرادة دون تعثر.. وذلك على غرار مدرسة اللغات التي أنشأها محمد علي لإعداد البعثات التي رأى ضرورة إرسالها إلى الخارج.. وعلى شاكلة دار الترجمة التي أنشأها المأمون لنقل العلوم عن اليونانية إلى العربية دون أن يكره الناس على تعلمها في المدارس أو الجامعات، ولا أذهب بعيدا للتدليل على سداد ما أشير إليه، ففي الكثير من تجارب المملكة مع بعثاتها إلى الخارج ما يؤكد أن تأخير دراسة الأجنبية إلى ما بعد الثانوية خير وأجدى على المبتعث من أن يلزم دراستها قبل ذلك.. وفي المملكة _ ولعل منهم بيننا الآن _ حملة دكتوراه من الغرب كانوا قد تخرجوا في المعاهد العلمية، حيث انقطعوا إلى دراسة دينهم ولغتهم والعلوم التي لا غنى عنها للمثقف دون أن يدرسوا حرفا من الأجنبية إلا بعد أن توجهوا إلى بلادها … على حين أن كثيرين ممن درسوا الأجنبية طوال المرحلة الإعدادية والثانوية لم ينتفعوا منها بشيء إلا بعد أن تفرغوا لها في بيئتها، فأقبلوا على دراستها من جديد.(1/73)
وقل اعملوا:
ولعل من غير البعيد عن مهمة الجامعات ولاسيما في هذه المملكة الغالية أن تعمل لإنشاء مجمع علمي للغة العربية إلى جانب مجمع كبار العلماء، يحشد له أساطين العربية والمتخصصين في مختلف العلوم ذات الصلة بها سواء من داخل المملكة أو خارجها، يكون من مهامه متابعة التطورات العلمية، وإمداد الجامعات ومؤسسات الإعلام بما يسد الحاجة إلى المستحدثات اللغوية عن طريق الاشتقاق أو الاصطلاح أو النحت أو المجاز، وما يتصل بذلك مما تضمنته المعاجم القديمة من أصول يمكن الانتفاع بها إلى مدى بعيد في تنمية البيان العربي.
إن عملا جليلا كهذا لا يتجاوز حدود الممكنات إذا تضافرت عليه جهود الجامعات العربية وكلياتها.
وإذا كان ذلك حقا على كل جامعة في بلاد العرب فهو حق أكبر على جامعات البلاد التي منها انطلقت لغة العرب إلى الدنيا، ومن حرميها المكرمين تدفقت أشعة الوحي، الذي أمد هذه اللغة بما أهلّها للمكان العالمي الذي تبوأته في عهود المجد والازدهار، ولا جرم أنها حين(1/73)
تتداعى للنهوض بهذا العبء ستجد من العون الكريم لدى حكومة جلالة الفيصل ما يؤمن لها كل وسائل النجاح إن شاء الله.
وما أسعدنا ببشرى رسول الله صلى الله عليه وسلم التي تخبرنا أن طائفة من أمته لا تزال ظاهرة على الحق لا يضرها من خالفها حتى يأتي أمر الله وهم ظاهرون، وقد ذهب أكابر علماء السلف إلى أن الطائفة الظاهرة هذه هي العرب، حملة رسالة القرآن بلغة القرآن إلى أهل الأرض.
وليس في الدنيا من يزاحم أهل هذه الديار العزيزة على مركزها من قلب العروبة وصميمها وذؤابتها.
{وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ} .. والحمد لله رب العالمين.. وصلاته وسلامه على أكرم المرسلين سيد الأولين والآخرين، محمد وعلى آله وصحبه وذريته الطاهرين ومن دعا بدعوته إلى يوم الدين.(1/74)