توقُّعات المستقبل واستشرافه في العقيدة الإسلامية
( د. حيدر بن أحمد الصافح (1)
مُقَدِّمَة:
يعيش الإنسان بين ماض سحيق محاطٍ بغيب لا يعلم عنه شيئاً ، وبين مستقبل مغيب عنه لا يدري ما الله صانع فيه . ولا يملك الإنسان وهو محدود في الزمان والمكان أن يملك معلومات صحيحة مؤكدة وموثقة ، إلا من طريق وحيد هو طريق النبوة والرسالة إذ بواسطتها يطلع الله أنبياءه ورسله على ما يشاء من أخبار الماضي وتكوينه ونشأته وما حدث فيه أو من أخبار المستقبل التي لا يعلم أحداثه وتفاصيله قبل كونه ووقوعه إلا الله العليم الخبير: [النمل: 65] ( الجن: 26ـ27].
وما عدا هذا الطريق فإنما هو حدس وتخمين ، وظنٍ وتخرُّص لا يغني من الحق شيئاً .
والإنسان مجبول على حب المعرفة والتطلع إلى ماضيه ومستقبله ، شديد الولوع بمعرفة أيامه ، وهو مع هذا مدعوٌ ومكلف بالبحث والتأمل والنظر ليكون على يقين تام من مبدئه ومعاده ، وبداياته ونهاياته [العنكبوت: 19-20].
والمؤمن العاقل المدرك يستفيد من الماضي وأحداثه وتجاربه ويستخلص منه العبر والدروس والعظات ويؤسس حاضره على علم وهدى والقرآن مليء بالدعوة للاستفادة من الماضي [آل عمران: 137]. وقد ذم الله تعالى الذين لا يفكرون ولا يعتبرون بمصارع السابقين ونهاية الظالمين، فقال سبحانه: [الحج: 45–46]، هذا فيما يتعلق بالماضي وأحداثه .
أما المستقبل وتطلعاته فقد أمر الله عباده بأن يكونوا على استعداد تام ويقظة مستمرة، وعمل دؤوب من أجل مستقبلهم، كما قال سبحانه : [الحشر: 18]، وقال:
__________
(1) (() أستاذ مساعد بكلية التربية جامعة صنعاء.(1/1)
[آل عمران: 133]، وقال: [التوبة: 105]، وقال: [البقرة: 148]، وإذا كان اهتمام القرآن والسنة بالدار الآخرة لأنها الحياة الحقيقية، فإننا نجد الاهتمام كذلك بحياة الإنسان فرداً وأسرة ومجتمعاً وأمة في حاضرهم ومستقبلهم ، ولقد شرع الله لعباده ما يسعدهم في الدنيا والآخرة، ووضع لهم معالم، وزودهم بملكات وقدرات يستطيعون من خلالها صياغة الحاضر والمستقبل، وتحقيق الأهداف الكبيرة التي كلَّف الله الإنسان بها، وهي عبادته تعالى، وعمارة الأرض وإصلاحها، وإقامة العدل وتحقيق الخير ونشره بين العالمين.
وقد حاولت ومن خلال هذا البحث أن أسلط الأضواء على هذا الموضوع الحيوي والمهم ، والذي أسميته: (توقُّعات المستقبل واستشرافه في العقيدة الإسلامية ) وذلك من خلال المباحث الآتية ، والتي نبدأها بتعريف العنوان:
التعريف بالعنوان
توقع الأمر: ارتقب وقوعه .. وتوقع فلان الأمر تخوَّف منه (1) .
وأوقع ظنه على الشيء ووقعه: قدره وأنزله (2) . وغالباً ما تكون التوقعات محفوفة بالخوف والقلق من المفاجآت .
والمراد بالمستقبل: الزمن القادم، وما يحمل في طياته من أقدار وأحداث، والاستقبال ضد الاستدبار، واستقبل الشيء وقابله حاذاه بوجهه (3) .
وحروف الاستقبال ـ وهي السين وسوف ـ تدخل على الفعل المضارع فتجعله نصاً في المستقبل (4) .
__________
(1) انظر: المعجم الوسيط، للدكتور/ إبراهيم مدكور "وآخرون"، المَجْمَع العلمي بالقاهرة، ط/2، دون ذكر التاريخ أو الدار، 2/1050، وترتيب القاموس، للطاهر أحمد الزاوي، ط/2، دار الكتب العلمية،
1399هـ، 4/645.
(2) انظر: لسان العرب لمحمد بن مكرم بن منظور الإفريقي ، دار صادر دون ذكر رقم الطبعة أو تأريخها،
8/403 .
(3) انظر: لسان العرب 11/356 .
(4) المعجم الوسيط 2/712 .(1/2)
والاستشراف: مصدر استشرف الشيء رفع بصره إليه ، وبسط كفه فوق حاجبه كالمستظل من الشمس ، واستشرفت الشيء إذا رفعت رأسك أو بصرك تنظر إليه (1) .
والتشرف للشيء: التطلع ، والنظر إليه وحديث النفس وتوقعه ، ويقال: أشرفت الشيء علوته، وأشرفت عليه اطلعت عليه من فوق (2) .
ومن خلال التعريف اللغوي يمكننا أن نعرّف استشراف المستقبل بأنه: عملية التوقع بما سيحدث ، ثم محاولة الوصول إلى أهداف محددة في المستقبل، والعمل من أجل تحقيقها . وذلك بالاستفادة من المعطيات القائمة لرصد العوامل المؤثرة في جريان الأحداث المستقبلية . وحد المستقبل هو كل زمان ما بعد الحاضر، ويشمل القريب منه والبعيد ، ويدخل في ذلك فترة ما بعد الموت ونهاية الكون القائم .
فتكون عملية توقع المستقبل واستشرافه قائمة على شيئين :
[1] محاولة التعرف على ما سيقع في المستقبل .
[2] السعي لصياغة المستقبل وفق أهداف مرسومة من خلال توظيف المعطيات القائمة لتؤثر في مجريات الأحداث القادمة (3) .
__________
(1) لسان العرب 9 /171- 172 .
(2) لسان العرب 9 / 172 .
(3) انظر: استشراف المستقبل في القرآن والسنة ص 14 للباحث فهمي إسلام جيوانتو .(1/3)
إن النظر إلى المستقبل واستشرافه له صلة بالعقيدة الإسلامية ، ذلك أن الإسلام جاء بتصور كامل للحياة التي يعيشها الإنسان . وصور المراحل التي مر بها الإنسان أو سيمر بها ، وبين طبيعة كل مرحلة ومتطلباتها . وبين الهدف من وجود الإنسان ، وأوضح الوظائف والمهمات والواجبات المطلوبة منه ، ثم أوضح معايير النجاح والفشل ومعايير الترقي والنهوض ، ومقاييس التردي والسقوط، وبين كيفية المحاسبة والتقويم للعمل والنتائج للأعمال المتفاوتة ووفر دوافع وحوافز للعمل الطيب من جانب ، وأوجد محذرات وزواجر عن العمل السيئ من جانب [الزلزلة: 7ـ8]، [فصلت: 46]، والإيمان باليوم الآخر أقوى ما يؤثر في سلوك المؤمن الصادق ويحدد موقفه من مستقبله ، والإيمان عبارة عن منظومة من المعتقدات المترابطة المتكاملة التي توضح مهمة الإنسان ، ومبدأ الجزاء والعقاب ثم الحساب والمستقر الأخير إما إلى جنة أو إلى نار وتلك ثمرة لأعمال الإنسان في هذه الحياة [الكهف: 49].
إن العقيدة الإسلامية سهلة يسيرة واضحة لا لبس فيها ولا غموض، إنه وضوح في الهدف ، ووضوح في الطريق ، ووضوح في المعايير ، ثم وضوح في المصير المترتب على العمل ، فليست المسألة خبط عشواء أو بالأماني كما قال تعالى : [النساء: 123].
حكم توقُّع المستقبل واستشرافه
وجَّه الإسلام الأنظار وحث على أنواع من التطلع المستقبلي الذي يخدم رسالة الوجود للإنسان على سطح الأرض ثم العمل على صياغة المستقبل من خلال المعطيات الحاضرة وتلك هي مهمة الإنسان التي كلف بها وحملها .
إنَّ النظر إلى المستقبل من منظور الشرع والعقل يقوم على الاستدلال بالأحوال الظاهرة للوصول إلى الأمور الغائبة ، وهذا يجيده أهل العقل والفراسة وقد جاء في القرآن الكريم إشارة إلى هذا المعنى في قول الله تعالى : [الحجر: 75]، وقوله:(1/4)
[البقرة: 273]، وقوله تعالى: [محمد: 30 ]، وقوله تعالى: [الفتح: 29]، غير أن هناك حدوداً لا يمكن ولا يجوز تجاوزها عند النظر إلى المستقبل واستشرافه ، فلا يجوز أن يعتمد على الظنون والتخرصات والأوهام الكاذبة التي يحرمها الشرع ويرفضها العقل، لقد فتح الإسلام للإنسان أبواباً واسعة لصياغة الرؤية المستقبلية وحدد منافذ لتوقع الأحداث المستقبلية للوصول إلى نتائج صحيحة ، كما نصب من جانب آخر إشارات وخطوطاً حمراء لا يجوز اقترابها والاشتغال بها لأنها تؤدي بالإنسانية إلى التيه والخرافات والضلال البعيد ، إذاً فالإسلام يمنع ويحرم الاشتغال بالأمور التي لا تنفع لا في الحاضر ولا في المستقبل ، ويدعو ويشجع ويدفع بالإنسان إلى الإيجابية وتحقيق الأمور النافعة في حاضره ومستقبله . وهذا ما سأحاول بحثه وإيضاحه في الفقرة الآتية :
وسائل مشروعة في استشراف المستقبل وتوقعاته
الإسلام يربي الإنسان على الاهتمام بالمستقبل وليس مقصوراً على هذه الحياة المحدودة بل يتجاوزها إلى الآخرة الباقية الدائمة، ولقد أخذ الإيمان باليوم الآخر ووجوب الاستعداد له حيزاً كبيراً من القرآن الكريم ، حتى يكون الناس على بينة من أمرهم فلا يغتروا بهذه الحياة الفانية، ويسجنوا أنفسهم بها ، كما أوضح القرآن الكريم وبين بأن العبرة في نجاح الإنسان وفشله وسعادته وشقائه إنما هو بالنتيجة النهائية يوم القيامة ، إن قضية الإيمان باليوم الآخر ووجوب الاستعداد له تمثل ثلث القرآن . إذ محاور القرآن تدور على ثلاثة ركائز: التوحيد والرسالة وأمر المعاد ، وهذه القضايا اتفقت عليها الشرائع الإلهية ودعا الرسل عليهم الصلاة والسلام الناس إليها (1) .
وهذه القضية مبسوطة ومقررة في القرآن الكريم بطرق متعددة
__________
(1) انظر: مدارج السالكين للإمام ابن القيم الجوزية بتحقيق الفقي ط 2 ، دار الكتاب العربي ـ بيروت، 1393 هـ ـ 1973م، 1/7 .(1/5)
ومتنوعة (1) .
وليس الغرض هنا إلا الإشارة فقط دون التفصيل ، وأكتفي بذكر نموذج من القرآن الكريم يبين للناس قيمة هذه الحياة الدنيا والحياة الآخرة ، ويؤكد للبشر بأن هذه الحياة إنما هي دار ممر لا دار مقر، وأن الإنسان لا بد أن يوجه جهوده وطاقاته كلها للاهتمام بيوم معاده ورجوعه إلى ربه قال تعالى: [العنكبوت: 64]، في هذه الآية الكريمة تشجيع على العمل من أجل المستقبل البعيد الذي ينتهي إليه مصير الإنسان . وبناءً عليه فلا بد أن يربط المرء جهده بهذه النظرة ، فلا يجوز أن يكون نشاطه مقطوعاً بموته ، يتبخر كل ما عمله بمجرد فراقه لهذه الحياة الدنيا، فإن ذلك من اللهو واللعب الذي يترفع عنه العاقل ، وإنما العمل المفيد الذي يجمع بين خيري الدنيا والآخرة "والمسألة مسألة قيم يزنها بميزانها الصحيح ، فهذه قيمة الدنيا وهذه قيمة الآخرة كما ينبغي أن يستشعرها المؤمن ثم يسير في متاع الحياة الدنيا على ضوئها ، مالكاً لحريته ، معتدلاً في نظرته : الدنيا لهو ولعب ، والآخرة مليئة بالحياة" (2) .
إن كل جهد يبذل في نفع دنيوي محض يعتبر عبثاً ، فكأنه يلهو ويلعب، نشاط ليس له صلة بالحقيقة، تعب بدون جدوى ، ومشقة لغير طائل ، ولذلك جعل الله للناس قاعدة ليسيروا على ضوئها ، وهي أن يبذلوا كل جهودهم لصالح مستقبلهم الحقيقي كما قال تعالى : [الحشر: 18]، لا بُدَّ أن يقيس الإنسان كل سعيه بما يعود عليه من ربح في مستقبله، وإلا فهو الخسران المبين .
أخبار عن المستقبل في القرآن الكريم
لقد أخبرنا الله تعالى في كتابه الكريم عن بعض الأمور الغيبية ، وأخبرنا أنها ستقع في المستقبل ، ووقعت هذه الأمور على نحو ما أخبر بها ، وهي كثيرة.. أكتفي بذكر ثلاثة نماذج فيما يلي:
__________
(1) انظر: القواعد الحسان لتفسير القرآن للسعدي القاعدة الثامنة ملحق التفسير ، ط1 مؤسسة الرسالة، بيروت / 1421هـ ـ 2000م .
(2) في ظلال القرآن ط دار الشروق ، 5/2751 .(1/6)
[1] من ذلك إخبار الله في كتابه عن انتصار المسلمين وسيادتهم على الرغم من صعوبة الظروف وقساوتها على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ومن آمن به، لقد بدأ رسول الله بدعوته ، وكل من في الأرض يخالفه ، بل ويحاربه وأخذت العزة بالإثم قريشاً ، فأنفقت الأموال ورسمت الخطط، وأعلنت العداء السافر، وهددت بإبادة كل من يعتنق الدين الجديد .
في هذه الظروف الحرجة الصعبة البائسة اليائسة في ميزان العقل المادي تنزلت الآيات على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مخبرة له بالنصر والظفر، والمحن والهلاك لأعدائه، ينزل قول الله تعالى رداً على خيلاء قريش وغرورها، ينزل متهدداً متوعداً، ومعلناً لأغرب خبر يمكن للإنسان أن يسمعه في مثل تلك الظروف والأحوال قال تعالى : [القمر: 44ـ46]، وينزل قوله سبحانه : [الصافات: 171-175].
ويفرح المسلمون المستضعفون بهذا الوعد الكريم، وترتسم على وجوههم علامة الفرح بهذه البشارة، وكأنهم يرونها رأي العين ، ويحي الأمل في نفوسهم وتغمر الطمأنينة قلوبهم ، ويعدون الأيام والليالي لاستقبال ذلك اليوم الذي يتحقق فيه هذا الخبر الذي أيقنوا به .
وتتلاحق الأحداث وتتطور الأمور ، لتكشف عن أعظم معركة في التاريخ، وأغرب معركة في ميزان العقل المادي ... إذ هَزم أولئك الضعفاء من المؤمنين المهاجرين ، الفقراء الجياع ، هزموا جيش المشركين في بدر ، الذين كانوا يفوقون المسلمين بثلاثة أضعاف مع ما لديهم من العُدد ، قال عبد الله بن عباس رضي الله عنهما : كان بين نزول قوله تعالى: [القمر: 45]، وبين غزوة بدر سبع سنين ، لقد تحقق وعد الله لرسوله ونصر الله عبده، وأعز جنده وهزم الأحزاب وحده (1) .
__________
(1) الدر المنثور في التفسير بالمأثور للإمام السيوطي ، ط2 دار الفكر، بيروت / 1403هـ ـ 1983م، 6 / 479، 7 / 680 .(1/7)
[2] ومن ذلك إخبار القرآن عن انتصار الروم على الفرس . إنه خبر مثير يتعلق بمصير دولة من الدول الكبرى في ذلك الزمان ، في صراعها مع دولة أخرى ، إنها دولة الروم في صراعها مع دولة الفرس ، لقد هاجمت الدولة الفارسية الدولة الرومانية ، واستولت على ممالكها، واستباحت كل شيء فيها، وقتلت عشرات الألوف من النصارى المسالمين ، ودمرت الكنائس، وأقام الفرس بيوت عبادة النار في كل مكان ، وأكرهوا الناس على عبادة الشمس والقمر والنار ، وأحدث هذا النصر نشوة واستعلاء وكبرياء لدى كسرى ملك الفرس، يظهر ذلك من خلال الرسالة التي بعث بها إلى هرقل قائلاً فيها : ( من لدن الإله كسرى ، الذي هو أكبر الآلهة ، وملك الأرض كلها إلى عبده اللئيم الغافل هرقل ، إنك تقول : إنك تثق في إلهك ، فلماذا لا ينقذك إلهك المقدس من يدي ؟ ) واستبد اليأس والقنوط بهرقل، وكان جل تفكيره في الهرب والنجاة بنفسه .. إنها ذروة اليأس التي وصل إليها هرقل ، ووصل إليها الروم، وذروة الاستعلاء التي وصل إليها الفرس .. وإنها لحال أشبه ما تكون بحالة المؤمنين في مكة مع المشركين الذي يسومونهم أشد أنواع العذاب .. وفرح المشركون بانتصار الفرس على الروم، وحزن لذلك المؤمنون، وازداد بأس المشركين، واستفادوا من الظروف الدولية حين انتصر الفرس على الروم ، إذ كانوا يرون الروم وهم على الدين النصراني أقرب إلى محمد - صلى الله عليه وسلم - والمسلمين منهم، وكانوا يرون الفرس أقرب إليهم من المسلمين لاجتماعهما على الوثنية. فبلغت النشوة أوجها عند المشركين بانتصار الفرس على الروم ، واعتبروا هذا انتصاراً لهم ، وأخذوا يرددون أمام المسلمين قولهم : ( لقد غلب إخواننا على إخوانكم ) وفي هذه الأجواء والظروف الحرجة عند الروم ، والضيق والشدة التي كان فيها المسلمون ينزل قول الله تعالى بخبر لم يتوقعه أحد من أهل الأرض لا من المسلمين ولا من غيرهم، نزل قوله تعالى: [الروم:
1ـ6].(1/8)
ولم يكتف القرآن بالإخبار عن انتصار الروم على الفرس بعد هزيمتهم في بضع سنين، وإنما أشار كذلك إلى نصر سيحصل للمسلمين في الوقت ذاته يفرحوا به ، وإذا كان كل واحد من النصرين مستبعد عند الناس أشد الاستبعاد، فكيف الظن بوقوعهما مقترنين في يوم واحد، لذلك أكد القرآن أعظم التأكيد بقوله : ولقد صدق الله وعده، فتمَّت للروم الغلبة على الفرس بإجماع المؤرخين في أقل من تسع سنوات ، وكان يوم نصرها هو اليوم الذي وقع فيه النصر للمسلمين على المشركين في غزوة بدر يوم الفرقان ، قال أبو سعيد الخدري - رضي الله عنه - : لما كان يوم بدر ظهرت الروم على فارس فأعجب ذلك المؤمنين فنزلت إلى قوله : قال : يفرح المؤمنون بظهور الروم على فارس (1) .
__________
(1) انظر في ذلك: الرسول لسعيد حوى ط 3 ، مؤسسة الرسالة ـ بيروت /1393هـ ـ 1973م ، 2/55 ، وسنن الترمذي للإمام الترمذي بتحقيق أحمد محمد شاكر وآخرون ، دار إحياء التراث العربي ـ بيروت،
5/189 برقم ( 2935) ، المستدرك على الصحيحين للإمام الحاكم بتحقيق مصطفى عبد القادر عطا، دار الكتب العلمية ـ بيروت / 1411هـ ـ 1990م ، 2 / 445 برقم (3540).(1/9)
[3] ومن ذلك الإخبار عن حفظ القرآن إلى يوم القيامة . من خصائص نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - عالمية الرسالة التي جاء بها وخلودها فلا نبي بعده ، وأعظم نعمة أكرمه الله بها وأكرم البشرية القرآن الكريم ، هذا القرآن الذي أنزله الله على عبده ورسوله محمد - صلى الله عليه وسلم - يخاطب كل من في الأرض ، من عربي وأعجمي، وأبيض وأسود وأحمر ، ومشرك وكتابي وملحد ومادي ، والجن والإنس جميعاً، والقرآن برسالته يواجه كل قوى الشر والباطل في الأرض . وهذا يعني أن أهل الباطل سيثورون على القرآن والرسول من كل حدب وصوب ، ولقد استنفر الباطل قواه واستخدم كل أجندته لحرب القرآن ، بتحريفه تارة وتشويهه، أو بالافتراء عليه والتنفير عنه، أو بالصخب واللغو فيه ، وقد يصل بهم الحال إلى قتل حملته ومنع دراسته وتدريسه وملاحقة مؤسساته ومعاهده وشيوخه وتلامذته، فالظروف كلها حين نزول القرآن كانت ضد رسول الله وضد القرآن، وكل من يراقب مجرى الأحداث ، ويعرف التحديات التي أتى بها القرآن لكل من في الأرض فإنه يتوقع أن تندثر تلك الدعوة ، كما يتوقع أن يزول القرآن وتنسى آياته ، شأنه في ذلك شأن كثير من المبادئ التي مرت بها ظروف مشابهة للظرف القرآني ، بل ربما كانت في ظروف أحسن بمئات المرات من ظروف القرآن ، ولكنها مع ذلك زالت من الوجود ، ومحيت من الأذهان ، ولم يبق لها من الذكر إلا ما يكتب عنها في بطون كتب التاريخ في أحسن أحوالها (1) .
__________
(1) انظر: المعجزة القرآنية د/ محمد حسن هيتو ط 1 ، مؤسسة الرسالة ـ بيروت / 1409هـ ـ 1989م،
ص 119 وما بعدها .(1/10)
وفي تلك الظروف العصيبة والأجواء القاسية التي كان يعيشها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، تتنزل آيات القرآن مدوية قوية في أرجاء الوجود معلنة عالمية رسالته واستمرارها وخلودها في تحد واضح ، مطمئنة رسول الله والمؤمنين في كل زمان ومكان بحفظ الله لهذا الكتاب الكريم قال تعالى: [الفرقان: 1]، وقال: [الأنعام: 19]، وقال: [الإسراء: 88]، وقال سبحانه : [الحجر: 9]، إنه تحدٍّ جديد يضيفه القرآن إلى تحدياته السابقة، والمعركة مفتوحة مع كل الطواغيت وهو يتحداهم بكلام يعتبر من أكثر أنواع الكلام تأكيداً ، إنَّ المؤكدة ولام التأكيد وبالجملة الاسمية التي تفيد الاستمرار, ولأعداء الإسلام قديماً وحديثاً محاولات كثيرة وكبيرة للنيل من هذا القرآن ولكن سهامهم طائشة وجهودهم فاشلة ، ونهاياتهم يائسة .
لقد تكفل الله بحفظ القرآن الكريم واستمراره ما بقيت الحياة، كما تكفل سبحانه بحمايته من التبديل والتحريف ، والتغيير والتزييف ، فلا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، كما قال سبحانه : [فصلت: 41ـ42].
الإسلام يدعو إلى العمل والجد للمستقبل وينهى عن الأماني والكسل
يريد الإسلام من المسلمين أن يكونوا على علم تام ويقظة كاملة وعمل دؤوب قال الله تعالى : [آل عمران: 133].
لا بد من أن يبادر الإنسان إلى الخيرات، ويغتنم وقته قبل أن تفوته الفرصة وتذهب عنه الإمكانية، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : (بادروا بالأعمال سبعاً ، هل تنتظرون إلا فقراً منسياً ، أو غنى مطغياً ، أو مرضاً مفسداً ، أو هرماً مفنداً ، أو موتاً مجهزاً، أو الدجال فشر غائب ينتظر ، أو الساعة فالساعة أدهى وأمر) (1) .
__________
(1) سنن الترمذي ، 4/552 برقم ( 2306) ، وضعفه الشيخ الألباني ، انظر ضعيف الجامع الصغير ط/ 2، المكتب الإسلامي ـ بيروت ، دمشق / 1399هـ ـ 1979 م ، (3 / 3 ) حديث رقم : (2314 ) .(1/11)
وإذا كان الإسلام يحث على العمل الدائب ، فإنه ينهى عن التسويف والكسل والتفريط، فقد جاء في الحديث أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (الكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت، والعاجز من أتبع نفسه هواها وتمنى على الله الأماني) (1) .
إن هذا الحديث الشريف يبين عوامل نجاح الشخص وأسباب فشله، فالشخص الناجح يداوم محاسبة نفسه، ويمارس العلم الدءوب من أجل تحسين مستقبله ، والشخص الفاشل هو من يترك نفسه غارقة في اللذة الحاضرة، ويؤثر الراحة ، ثم يحلم ويتمنى خيراً يأتي مجاناً بدون بذل السبب ودفع الثمن.
__________
(1) الترمذي 4 / 638 برقم ( 2459) ، وسنن ابن ماجة للإمام ابن ماجة بتحقيق محمد فؤاد عبد الباقي،
دار الفكر ـ بيروت ، 2 / 1423 برقم (4260) ، ومسند أحمد للإمام أحمد بن حنبل ، مؤسسة قرطبة، مصر (مصورة عن الطبعة الميمنية) 4 / 124 برقم ( 17164) ، المستدرك على الصحيحين للإمام الحاكم ، 1 / 125 برقم (191) ، وضعفه الشيخ الألباني ، انظر ضعيف الجامع الصغير (4/167) حديث رقم : (4310) .(1/12)
إن الأماني الفارغة من الأدواء القاتلة التي تغتال حركة الإنسان دون أن يشعر ، وهي أهم سلاح يستخدمه الشيطان في تثبيط الإنسان والحيلولة بينه وبين الإيمان والخير ، ولقد أخبرنا الله تعالى عن الشيطان وحذرنا منه وبين لنا أن الشيطان سيستخدم هذا السلاح الفتاك لإجهاض كل إرادة تصدر من الإنسان نحو الخير، قال تعالى مخبراً عن الشيطان أنه قال : [النساء: 119]، وقال : [النساء: 120]، والشيطان لا يفتأ يصور للإنسان عواقب سيئة جراء أي عمل صالح يقوم كما قال تعالى : [البقرة: 268]، فالإنفاق يأتي بالفقر ، والجهاد يعجل بالموت، وهكذا يسير الشيطان في خداعه للإنسان وإغوائه ، وقد جاء في الحديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم - بيان لشيء من إيعاد الشيطان ووسوسته للإنسان في قوله - صلى الله عليه وسلم - : (إن للشيطان لمة بابن آدم وللملك لمة، فأما لمة الشيطان فإيعاد بالشر وتكذيب بالحق، وأما لمة الملك فإيعاد بالخير وتصديق بالحق، فمن وجد ذلك فليعلم أنه من الله فليحمد الله، ومن وجد الأخرى فليتعوذ بالله من الشيطان الرجيم) (1) .
__________
(1) الترمذي 5 / 219 برقم ( 2988) . وضعفه الشيخ الألباني ، انظر ضعيف الجامع الصغير (2 / 185) حديث رقم : ( 1961 ) .(1/13)
ومثله قوله - صلى الله عليه وسلم - : (إن الشيطان قعد لابن آدم بأطرقه فقعد له بطريق الإسلام فقال : تسلم وتذر دينك ودين آبائك وآباء أبيك ، فعصاه فأسلم ، ثم قعد له بطريق الهجرة فقال : تهاجر وتدع أرضك وسماءك وإنما مثل المهاجر كمثل الفرس في الطول ، فعصاه فهاجر، ثم قعد له بطريق الجهاد فقال : تجاهد فهو جهد النفس والمال فتقاتل فتقتل فتنكح المرأة ويقسم المال ، فعصاه فجاهد، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : فمن فعل ذلك كان حقاً على الله عز وجل أن يدخله الجنة، ومن قتل كان حقاً على الله عز وجل أن يدخله الجنة ، وإن غرق كان حقاً على الله أن يدخله الجنة ، أو وقصته دابته كان حقاً على الله أن يدخله الجنة) (1) .
نماذج عملية من حياة الرسول - صلى الله عليه وسلم - تجاه المستقبل
لقد كانت حياة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حياة جد واجتهاد وعبادة وجهاد ، يهتم بمستقبله ومستقبل أمته، لقد كانت الجنة والنار نصب عينيه . وكان يخطط لكل أعماله ، كان يخطط لمسيرة الدعوة، وكان يخطط للهجرة ، وكان يخطط قبل خوض المعركة ، وكان يهتم صلوات الله وسلامه عليه بما سيحدث لأمته بعده، ويمكننا أن ندلل لهذه الجوانب من خلال المواقف الآتية :
ففي مجال استعداده واستحضاره لليوم الآخر: كان عليه الصلاة والسلام إذا ذهب ثلثا الليل قام فقال : (( يا أيها الناس اذكروا الله .. جاءت الراجفة تتبعها الرادفة , جاء الموت بما فيه، جاء الموت بما فيه )) (2) .
__________
(1) سنن النسائي للإمام النسائي بتحقيق عبدالفتاح أبو غدة ، مكتب المطبوعات الإسلامية ، حلب، 1406هـ ـ 1986م ، 6 / 21 برقم ( 3134 ) .
(2) الترمذي 4 / 636 برقم( 2457) .(1/14)
وفي شدة مسارعته - صلى الله عليه وسلم - لعمل الخير: أنه - صلى الله عليه وسلم - صلى يوماً العصر ، فأسرع ثم دخل البيت فلم يلبث أن خرج فسئل - صلى الله عليه وسلم - عن سبب سرعة انصرافه من الصلاة فقال : (( كنت خلفت في البيت تبراً – وهو ذهب أو فضة – من الصدقة فكرهت أن أبيته فقسمته )) (1) .
وهكذا كانت حياته - صلى الله عليه وسلم - حرص ومسارعة إلى الخيرات ، وهو بذلك يقدم - صلى الله عليه وسلم - قدوة لأمته لكي يستبقوا الخيرات، وأن لا يتوانوا عن العمل .
وفي مجال التخطيط للأعمال المستقبلية: نجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعيد النظر حسن التخطيط والتدبير فلم تكن للعشوائية والارتجالية مكان في حياته. وحين رأى ما يلاقيه أصحابه من عنت وتعذيب من كفار مكة، وما تلاقيه الدعوة من حرب وتضييق، فكَّر - صلى الله عليه وسلم - في أماكن أخرى يأمن فيها أصحابه، وتنطلق منها الدعوة فخرج صلوات الله وسلامه عليه إلى الطائف، وكان يعرض نفسه على القبائل علَّه يجد من ينصره ويؤويه وقال لأصحابه: (لو خرجتم إلى أرض الحبشة فإن بها ملكاً لا يظلم عنده أحد، وهي أرض صدق حتى يجعل الله لكم فرجاً مما أنتم فيه) (2) .
__________
(1) صحيح البخاري للإمام البخاري بتحقيق د. مصطفى ديب البغا ، دار ابن كثير , اليمامة ـ بيروت، 1407هـ ـ 1987م ، 1 / 408 و 2 / 519 برقم ( 1163) ورقم ( 1363) .
(2) انظر في ذلك سيرة ابن هشام بتحقيق محمد خليل هراس مكتبة الجمهورية دون ذكر لتأريخ أو رقم أو بلد الطباعة ، ج1/ 330 والسيرة النبوية لإبن كثير ، دار إحياء التراث العربي ـ بيروت ، دون ذكر رقم الطبعة أو تأريخها ، 2/3(1/15)
لم تكن تلك الخطوات مجرد فرار من المشاكل، بقدر ما تمثل خطوة استراتيجية لإنقاذ المدعوين ولسلامة الدعوة ونشرها، ولذلك فقد هاجر من المسلمين أصحاب الوجاهة والقوة والمنعة أمثال جعفر بن أبي طالب وعثمان ابن عفان وأبي سلمة المخزومي وغيرهم رضوان الله عليهم أجمعين . ولم يزل نبي الله صلوات الله وسلامه عليه يبحث عن مستجيب لدعوة الإيمان والتوحيد يتبناها ويحميها حتى أكرم الله بذلك الأنصار الذين عرض عليهم النبي - صلى الله عليه وسلم - دعوته فآمنوا به وبايعوه بيعة العقبة، وكان من بنودها المبايعة على السمع والطاعة في المنشط والمكره وعلى النفقة في العسر واليسر ، وعلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وقول كلمة الحق لا تأخذهم في الله لومة لائم، وعلى أن ينصروا رسول الله ويمنعوه ويحموه إذا قدم عليهم كما يمنعون أنفسهم وأزواجهم وأبناءهم ولهم الجنة (1) .
وكان من هديه - صلى الله عليه وسلم - أن يستطلع الأخبار ويتحرى المعلومة لتكون خطواته مبنية على معلومات دقيقة ، ومن يدرس سيرته - صلى الله عليه وسلم - يجد ذلك واضحاً جلياً في هجرته وفي غزواته وسائر أحواله .
__________
(1) البخاري 6 / 2633 برقم ( 6774 ) ، وصحيح مسلم للإمام مسلم بمراجعة محمد فؤاد عبد الباقي ، دار إحياء التراث العربي ـ بيروت / 1374هـ ـ 1954م ، 3 / 1470 برقم ( 1709 ) ، وقصة البيعة بتمامها عند أحمد 3 / 322 ، 460 برقم ( 14496 ) و ( 15836 ) صحيح ابن حبان بترتيب بن بلبان للإمام ابن حبان بتحقيق شعيب الأرنؤوط ، مؤسسة الرسالة ـ بيروت / 1414هـ ـ 1993م ،15/471 برقم (7011 ) ، والحاكم 3 / 323 برقم ( 5405 ) وانظر الفتح للحافظ ابن حجر بتحقيق ابن باز، رئاسة إدارات البحوث العلمية والإفتاء دون ذكر لتأريخ أو رقم أو بلد الطباعة 7 / 223 .(1/16)
ومن اهتمامه - صلى الله عليه وسلم - بأصحابه من بعده ، أن وضع لهم معالم وإشارات ذات طابع مستقبلي بعيد، فقد اتخذ تدابير تحدد مسيرة الأمة بعد وفاته - صلى الله عليه وسلم - ومن ذلك إبرازه - صلى الله عليه وسلم - لشخصيات وترشيحه لها ليعتمد عليها بعد وفاته - صلى الله عليه وسلم - ، فقد جاءته امرأة فكلمته في شيء ، فأمرها أن ترجع إليه ، قالت : يا رسول الله أرأيت إن جئت ولم أجدك ؟ كأنها تريد الموت قال : (إن لم تجديني فأتي أبا بكر) (1) وعن عائشة رضي الله عنها قالت : قال لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في مرضه (ادعي لي أبا بكر وأخاك حتى أكتب كتاباً فإني أخاف أن يتمنى متمنٍ ويقول قائل أنا أولى ، ويأبى الله والمؤمنون إلا أبا بكر) (2) . وكان - صلى الله عليه وسلم - يعد إرسال الجيش لمقارعة الروم وهو في فراش الموت ، وأوصى عند موته بثلاث ، أوصى أن ينفذ جيش أسامة ، ولا يسكن معه المدينة إلا أهل دينه ، وأن يجيزوا الوفد بنحو ما كان يجيزهم) (3) .
__________
(1) البخاري 3 / 1338 برقم ( 3459 )، ومسلم 4 / 1856 برقم ( 2386).
(2) مسلم 4 / 1857 برقم ( 2387) .
(3) البخاري 3 / 1111 برقم ( 2888) ، ومسلم 3 / 1257 برقم ( 1637 ) ، والإمام أحمد في المسند 1/ 222 برقم ( 1935) ، واللفظ للطبراني في المعجم الكبير بتحقيق حمدي بن عبدالمجيد السلفي ، مكتبة العلوم والحكم ـ الموصل / 1404هـ ـ 1983م ، 3 / 130 برقم ( 2891 ) عدا الثالثة فهي عند الشيخين وأحمد وغيرهم .(1/17)
وكان من التخطيط للمستقبل: أن أمر - صلى الله عليه وسلم - بإخلاء جزيرة العرب من أي دين غير الإسلام فكان من أواخر وصاياه صلوات الله وسلامه عليه أن قال: (قاتل الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد ، لا يبقين دينان بأرض العرب) (1) .
ولقد سار الصحابة الكرام رضوان الله عليهم على نهج نبيهم في النظر للمستقبل والاستعداد والتخطيط له والعمل من أجله ، أما اهتمامهم بالآخرة والتسابق في أعمالها فأكثر من أن تحصر، فلهم في كل باب حظ وافر في الصلاة والصوم والذكر والصدقة والجهاد وغير ذلك مما لا يحصى.
__________
(1) البخاري 1 / 168 و 3 / 1111 برقم ( 426 ) ورقم ( 2888 ) ، ومسلم 1 / 377 و 3 / 1257 برقم (530) ورقم (1637) واللفظ لمالك في الموطأ بتحقيق محمد فؤاد عبد الباقي ، دار إحياء التراث العربي، مصر دون ذكر لرقم الطبعة أو تأريخها ، 2 / 892 برقم (1583).(1/18)
وإنما أريد أن أبين أن نظرتهم للمستقبل والتخطيط له سمة من سماتهم وسياسة رشيدة ساروا عليها ومن بعد نظرهم ونضج تفكيرهم رضي الله عنهم أنهم قاموا بجمع القرآن الذي كان مفرقاً في الرقاع والجريد والعظام وفي صدور القراء الحفَّاظ، لكنهم لما أحسوا بخطورة موت كثير من الحفاظ في حروب الردة سيما في حرب اليمامة ، فاستدركوا الأمر وبادروا بخطوات وقائية قبل فوات الأوان ، فعن زيد بن ثابت - رضي الله عنه - قال : أرسل إلي أبو بكر الصديق مقتل أهل اليمامة فإذا عمر بن الخطاب عنده ، قال أبو بكر - رضي الله عنه - : إن عمر أتاني فقال : إن القتل قد استحر يوم اليمامة بقراء القرآن ، وإني أخشى أن يستحر القتل بالقراء في المواطن ، فيذهب كثير من القرآن ، وإني أرى أن تأمر بجمع القرآن. قلت لعمر : كيف تفعل شيئاً لم يفعله رسول الله - صلى الله عليه وسلم - . قال عمر : هذا والله خير. فلم يزل عمر يراجعني حتى شرح الله صدري لذلك ، ورأيت في ذلك ما رأى عمر . قال زيد : قال أبو بكر : إنك رجل شاب عاقل لا نتهمك ، وكنت تكتب الوحي لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فتتبع القرآن فاجمعه . فوالله لو كلفوني نقل جبل من الجبال ما كان أثقل علي مما أمراني به من جمع القرآن . قلت : كيف تفعلون شيئاً لم يفعله رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ؟! قال : هو والله خير ، فلم يزل يراجعني حتى شرح الله صدري للذي شرح له صدر أبي بكر وعمر رضي الله عنهما (1) .
فكانت تلك الخطوة التاريخية من أعظم الأعمال التي بسببها حفظ الله كتابه من الضياع ، فلم يُضع كما ضاعت التوراة والإنجيل .. إن هذه النظرة الثاقبة حفظت كيان الأمة بحفظ هذا الهدى والنور الذي أنزله الله تعالى للبشرية.
__________
(1) البخاري 4 / 1720 و 6 / 2629 برقم ( 4402) ورقم ( 6768) .(1/19)
ثم كان التحدي الآخر في زمن عثمان - رضي الله عنه - ، فبعد أن جمع القرآن في مصحف واحد ، ظهر اختلاف القراءات فقد نزل القرآن على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على سبعة أحرف ، كما جاء في الصحيحين عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : (أقرأني جبريل على حرف ، فراجعته ، فلم أزل أستزيده ويزيدني حتى انتهى إلى سبعة أحرف) (1) وقد كان - صلى الله عليه وسلم - يقرأ بهذه الأحرف كلها، إلا أن الصحابة رضي الله عنهم لم يتلقوا هذه الأحرف جميعها ، فمنهم من أخذ بحرف من هذه الأحرف، ومنهم من أخذ بحرفين ، ومنهم من زاد على ذلك فلما تفرقوا في البلاد أخذ التابعون عنهم حسبما أخذوا من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، ولذلك اختلف الناقلون للقراءات فمنهم من نقل قراءة معينة ، ومنهم من لم ينقلها لأنه لم يسمعها ممن أخذ عنه ، وهذه القراءات إنما هي أوجه متعددة لقراءة بعض الكلمات، نزلت رخصة وتيسيراً من الله تعالى ، وكان هذا معلوماً عند أصحاب رسول الله ولكنه مع توالي الزمن ، وقر في نفوس كل إقليم أن قراءتهم هي الأصح والأولى ، مما جعلهم ينكرون على غيرهم قراءتهم حينما يلتقون في مواطن الجهاد . فكان لا بد من الحزم في مواجهة هذا التحدي الخطير ومعالجة الأمر ، فقام عثمان بن عفان - رضي الله عنه - باتفاق الصحابة بجمع المصاحف، وكلف لجنة من قراء الصحابة الكبار فكتبوا هذا المصحف الذي نتداوله اليوم، وبعث عثمان إلى كل إقليم بنسخة وجمع الأمة على مصحف واحد ، فانتهت الفتنة وحسمت بسبب هذا التحرك السريع الذي قام به الصحابة (2) .
__________
(1) البخاري 4 / 1909 برقم ( 4705) ، ومسلم 1 / 561 برقم ( 819) .
(2) انظر في ذلك صحيح البخاري 4 / 1908 حديث رقم ( 4987) وانظر الفتح 9 / 16 .(1/20)
وعلى نهج الصحابة سار التابعون في حفظ السنة ، لقد كان الصحابة يعتمدون على الحفظ لحديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقليل منهم هم الذين كانوا يدونون ما حفظوا ، وتلقى التابعون عن الصحابة وحفظوا عنهم ما رووه لهم عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، غير أن عمر بن عبد العزيز وتوقعاته للمستقبل ونظره الثاقب رأى أن التدين سيرق في الناس ويكون حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عرضة للضياع والتحريف والنسيان، فعمل رحمه الله على تشجيع العلماء في زمنه على كتابة السنة، وكتب إلى واليه على المدينة أبي بكر بن حزم قائلاً له: (انظر ما كان من حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فاكتبه فإني خفت دروس العلم وذهاب العلماء، ولا تقبل إلا حديث النبي - صلى الله عليه وسلم - ، ولتفشوا العلم ولتجلسوا حتى يعلم من لا يعلم ، فإن العلم لا يهلك حتى يكون سراً) (1) .
وبهذا التوجيه السديد والعمل الرشيد يكون عمر بن عبد العزيز قد وضع اللبنة الأولى في تدوين السنة وحفظها وضبطها ، وقد حفظ الله بتلك الجهود المصدر الثاني من مصادر التشريع وهي سنة المصطفى - صلى الله عليه وسلم - ، وأحبط الله بذلك كيد الكائدين وحقد الحاقدين الذين كانوا يرومون الكذب والافتراء على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - . وهناك نماذج كثيرة تدل على وعي السلف الصالح رحمهم الله واهتمامهم بالمستقبل ومبادرتهم بالأعمال التي تتناسب مع معطيات حاضرهم واستشراف مستقبلهم.
وسائل مشروعة ومساعدة لاستشراف المستقبل
هناك مجموعة من الوسائل التي يمكن الاعتماد عليها في استشراف المستقبل بعضها أساسي وبعضها ثانوي ، أما الوسائل الأساسية فيمكن تلخيصها في شيئين هما :
الأول: النظر في السنن الجارية التي تسير عليها الحياة ويجري على قانونها الكون.
__________
(1) البخاري ج1/49.(1/21)
والآخر: النظر في الأخبار الصريحة التي وردت في القرآن والسنة عن أخبار المستقبل من وقت نزول الوحي وإلى أن تقوم الساعة .
وأما الوسائل الثانوية المساعدة التي اعتمدها الشرع لتوقعات المستقبل واستشرافه ، ويستطيع آحاد من الناس الاستفادة منها وفق الضوابط والشروط الشرعية مثل الرؤيا والفراسة والتفاؤل ونحو ذلك . وسأشير بإيجاز إلى هذين النوعين من الوسائل فيما يلي :
أولاً : الوسائل الأساسية وهي قسمان :
[أ] فمن الوسائل الأساسية النظر إلى سنن الحياة التي قدرها الله عزوجل لتسيير هذا الكون، فالكون كله يسير وفق نظام محكم دقيق يحدد حركات الأشياء ويضبط سائر الأمور، وهذا النظام له وجهان :
الأول: هو الجانب المادي الذي تخضع له كل الكائنات في وجودها المادي، وما يتعلق بها من الحوادث، ويخضع له كيان الإنسان المادي، وما يطرأ عليه من تغيرات، مثل نموه وحركة أعضائه ومرضه وهرمه ، ولوازم بقائه حياً ونحو ذلك.
وهذا الوجه لا يختلف في وجوده أهل العلم بهذه الأمور المادية .. وقد دل القرآن على هذا الوجه من هذا النظام العام في آيات كثيرة ، أكد عليها ولفت الأنظار إليها ليدل بذلك على ربوبية الله تعالى وليزداد الإيمان بالله واليوم الآخر (1) .
والثاني: يتعلق بالجانب الاجتماعي الذي يخضع له البشر باعتبارهم أفراداً وجماعات وأمماً ، فهم خاضعون لهذه السنة. وهذا القانون في تصرفاتهم وسلوكهم وما يكونون عليه من أحوال وما يترتب على ذلك من نتائج كالرفاهية أو ضيق العيش ، والسعادة والشقاء ، والعز والذل ، والرقي والتأخر، والقوة والضعف ، ونحو ذلك من الأمور الاجتماعية في الدنيا وما يصيبهم في الآخرة من عذاب أو نعيم (2) .
__________
(1) انظر السنن الإلهية د. عبدالكريم زيدان ، ط1 مؤسسة الرسالة ـ بيروت / 1413هـ ـ 1993م ، ص7 وما بعدها .
(2) السنن الإلهية ص 12 .(1/22)
هذا القانون عبر عنه القرآن الكريم بالسنة ، وقد دل القرآن على ثباتها واطرادها قال تعالى : [الأحزاب: 62]، وقال [فاطر: 43]، وقال: [آل عمران: 137]، والنظر في هذه السنن ومآلاتها ونتائجها توصل إلى حقائق علمية يتوصل إليها المتفرسون من المؤمنين ، فتوقعاتهم واستشرافهم للمستقبل المبني على وقائع الماضي ومعايشة الحاضر غالباً ما تكون النتائج فيه علمية قطعية ، لأن التنبؤ أو التوقع والاستشراف للمستقبل يقوم على حقيقة مفادها أن يفعل في الثاني ما فعل في الأول ، فإذا علمنا ما فُعل في الثاني على أساس معرفة الفعل الأول كنا على علم .. فإذا عرفت الشروط الماضية، وبدأت هذه الشروط تتحقق مرة ثانية، فنحن نتوقع بأن ما سبق أن حدث سيحدث مرة ثانية. إذا صح التوقع أو التنبؤ فوقع الثاني كما توقعناه على أساس ملاحظاتنا السابقة . فذلك دليل على أن الأمر علم ، ففي عالم الفيزياء ـ مثلاً ـ نحكم على الحديد بأنه يتمدد بارتفاع درجة الحرارة وذلك بناء على رؤية سابقة للموضوع.
وفي عالم المجتمع ـ وهو ما يهتم به القرآن ويكرر الحديث عنه ـ نحكم على المجتمع بأنه سيفقد الاستقرار والنمو ، وستحل به النكبات والمصائب حين ينحرف عن الصراط السوي ، وتفقد فيه العدالة ويقتصر تطبيق القانون على بعض الناس فقط ، وهذا الحكم إنما كان بناء على معرفة التاريخ وأحوال المجتمعات والأمم ، وذلك ما يلح عليه القرآن الكريم حين يقص علينا أخبار الأمم السابقة وأحوال الكفار ، وأحداث المجتمعات التي يذكرها أحياناً موجزة وأخرى مفصلة ، وغاية القرآن من ذلك أن تترسخ السنة في نفوس المؤمنين، وأن يفهم الناس أن الآخر سيفعل فيه ما فعل في الأول حين يسير في طريقه.(1/23)
وكل تلك القصص والأخبار تتلوها تعقيبات تؤكد هذه السنة والقاعدة التي صارت علماً كما قال تعالى : [سبأ: 17]، وقال: [الرحمن: 60]، وقال: [المرسلات: 16ـ18]، وقال : [الأنبياء: 88]، وقال: [فاطر: 43] (1) .
[ب] أما النظر في أمور المستقبل والأحداث الواقعة فيه فالقرآن والسنة مليئان بالحديث عن ذلك وقد أشرت إلى شيء من ذلك في فقرة سابقة.
وأذكر ها هنا نماذج من الأخبار الواردة من مستقبل الأمة بعضها مبشرة وبعضها محذرة:
فمن الأخبار المبشرة لهذه الأمة ما جاء في القرآن من وعد الله لعباده المؤمنين بنصرة الإسلام وظهوره وإتمام نوره رغم أنف الكارهين من الكفار والمشركين، قال الله تعالى: [التوبة: 32-33]، ونور الله تعالى ودينه في ظهور وازدياد منذ أن بعث الله رسوله - صلى الله عليه وسلم - على الرغم من كيد الكائدين ومكر المجرمين ، قد يضعف المسلمون في بعض الفترات بسبب بعدهم عن دينهم ونسيانهم لأحكام الله ولكنهم سرعان ما يعودون ويستأنفون ، ويوضح رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هذه الآية وما جاء في معناها كما جاء عن تميم الداري - رضي الله عنه - قال : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : (ليبلغن هذا الأمر ما بلغ الليل والنهار ، ولا يترك الله بيت مدر ولا وبر إلا أدخله الله هذا الدين، بعز عزيز أو بذل ذليل عزاَ يعز الله به الإسلام وذلاً يذل الله به الكفر) فكان تميم الداري يقول : قد عرفت ذلك في أهل بيتي، لقد أصاب من أسلم منهم الخير والشرف والعز ، ولقد أصاب من كان كافراً منهم الذل والصغار والجزية (2) .
__________
(1) انظر في ذلك سلسلة سنن في تغيير النفس والمجتمع ، اقرأ وربك الأكرم ، دار الفكر المعاصر ـ بيروت لبنان / 1414هـ ـ 1993م ، ص 131 وما بعدها جودت سعيد .
(2) أخرجه الإمام أحمد في مسنده ج 4/ 103 برقم ( 16998) والحاكم 4 / 477 برقم( 8326).(1/24)
وعن عدي بن حاتم - رضي الله عنه - قال : "دخلت على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فقال : ياعدي، أسلم تسلم . فقلت : إني من أهل دين . قال : أنا أعلم بدينك منك . فقلت: أنت أعلم بديني مني ؟ قال : نعم ، ألست من الركوسية (1) ؟ وأنت تأكل مرباع قومك ؟ قلت : بلى . قال : فإن هذا لا يحل لك في دينك. قال : فلم يعدُ أن قالها فتواضعت لها . قال : أما إني أعلم ما الذي يمنعك من الإسلام ، تقول إنما اتبعه ضعفة الناس ، ومن لا قوة له ، وقد رمتهم العرب ، أتعرف الحيرة ؟ قلت : لم أرها ، وقد سمعت بها . قال : فوالذي نفسي بيده ، ليتمن الله هذا الأمر حتى تخرج الظعينة من الحيرة حتى تطوف بالبيت من غير جوار أحد ، ولتفتحن كنوز كسرى بن هرمز . قلت : كسرى بن هرمز ؟ قال : نعم كسرى بن هرمز، وليبذلن المال حتى لا يقبله أحد . قال عدي : فهذه الظعينة تخرج من الحيرة فتطوف بالبيت من غير جوار أحد ، ولقد كنت فيمن فتح كنوز كسرى بن هرمز ، والذي نفسي بيده لتكون الثالثة ، لأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قالها" (2) .
__________
(1) هو دين بين النصارى والصابئين ، النهاية للإمام ابن الأثير بتحقيق الزاوي والطناحي ، المكتبة الإسلامية دون ذكر لتأريخ أو رقم أو بلد الطباعة ، 2 / 259 .
(2) أخرجه الإمام أحمد في مسنده 4/257 برقم ( 18286) ، وأصله في البخاري 3 / 1316 برقم ( 3400) .(1/25)
ومن الأخبار المبشرة لهذه الأمة ما جاء في القرآن الكريم من التمكين لدين الله وأهله المؤمنين كما في قوله تعالى [النور: 55]، قال الإمام ابن كثير رحمه الله في تفسيره لهذه الآية : هذا وعد من الله تعالى لرسوله صلوات الله وسلامه عليه بأنه سيجعل أمته خلفاء الأرض، أي أئمة الناس والولاة عليهم ، وبهم تصلح البلاد وتخضع لهم العباد وحكماً فيهم ، وقد فعله تبارك وتعالى وله الحمد والمنة ، فإنه - صلى الله عليه وسلم - لم يمت حتى فتح الله عليه مكة وخيبر والبحرين وسائر جزيرة العرب وأرض اليمن بكاملها، وأخذ الجزية من مجوس هجر ومن بعض أطراف الشام ، وهاداه هرقل ملك الروم وصاحب مصر وإسكندرية وهو المقوقس وملوك عمان والنجاشي ملك الحبشة الذي تملك بعد أصحمة رحمه الله وأكرمه . ثم لما مات رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، واختار الله له ماعنده من الكرامة ، قام بالأمر بعده خليفته أبو بكر الصديق ، فلمَّ شعث ما وهَى بعد موته - صلى الله عليه وسلم - ، وأخذ جزيرة العرب ومهدها، وبعث جيوش الإسلام إلى بلاد فارس ، صحبة خالد بن الوليد - رضي الله عنه - ففتحوا طرفاً منها ، وقتلوا خلقاً من أهلها ، وجيشاً آخر صحبة أبي عبيدة - رضي الله عنه - ، ومن اتبعه من الأمراء إلى أرض الشام ، وثالثاً صحبة عمرو بن العاص - رضي الله عنه - إلى بلاد مصر ، ففتح الله للجيش الشامي في أيامه بصرى ودمشق ومخاليفهما من بلاد حوران وما والاها . وتوفاه الله عز وجل واختار له ما عنده من الكرامة .(1/26)
ومنّ على أهل الإسلام بأن ألهم الصديق أن يستخلف عمر الفاروق ، فقام بالأمر بعده قياماً تاماً ، لم يدر الفلك بعد الأنبياء على مثله في قوة سيرته وكمال عدله، وتم في أيامه فتح البلاد الشامية بكاملها وديار مصر إلى آخرها ، وأكثر إقليم فارس ، وكسر كسرى وأهانه غاية الهوان وتقهقر إلى أقصى مملكته ، وقصر قيصر وانتزع يده عن بلاد الشام ، وانحدر إلى القسطنطينية ، وأنفق أموالهما في سبيل الله ، كما أخبر بذلك ووعد به رسول الله عليه من ربه أتم سلام وأزكى صلاة . ثم لما كانت الدولة العثمانية – يعني خلافة عثمان بن عفان عليه رضوان الله – امتدت الممالك الإسلامية إلى أقصى مشارق الأرض ومغاربها، ففتحت بلاد المغرب إلى أقصى ما هنالك ، الأندلس وقبرص وبلاد القيروان وبلاد سبتة مما يلي البحر المحيط، ومن ناحية المشرق إلى أقصى بلاد الصين، وقتل كسرى وباد ملكه بالكلية، وفتحت مدائن العراق وخراسان والأهواز، وقتل المسلمون من الترك مقتلة عظيمة جداً، وخذل الله ملكهم الأعظم خاقان، وجُبي الخراج من المشارق والمغارب إلى حضرة أمير المؤمنين عثمان بن عفان - رضي الله عنه - ، وذلك ببركة تلاوته ودراسته وجمعه الأمة على حفظ القرآن.
ولهذا ثبت في الصحيح أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (إن الله زوى لي الأرض فرأيت مشارقها ومغاربها وإن أمتي سيبلغ ملكها ما زوي لي منها) (1) . ثم يعلق الإمام ابن كثير ـ رحمه الله ـ بقوله: "فها نحن نتقلب فيما وعدنا الله ورسوله وصدق الله ورسوله ، فنسأل الله الإيمان به وبرسوله والقيام بشكره على الوجه الذي يرضيه عنا" (2) .
__________
(1) مسلم 4 / 2215 برقم ( 2889) .
(2) تفسير القرآن العظيم للإمام ابن كثير ط 1 ، مكتبة النهضة الحديثة ـ القاهرة / 1384هـ ـ 1965م،
3 / 314 .(1/27)
ومن أخبار القرآن المستقلبية التي أكدها والتي تحمل في طياتها تبشيراً وتهديداً، تهديدٌ ووعيد لمن يتقاعس ويرتد عن دينه ، وتبشير باستمرار هذا الدين، ووجود أنصاره في كل مكان وزمان قال الله عزَّ وجلَّ: [المائدة: 54]، يخبرنا الله تعالى عن قدرته العظيمة وأن من يتولى عن نصرة دينه وإقامة شريعته فإن الله يستبدل به من هو خير لها منه وأشد منعة وأقوم سبيلاً ، كما قال في آية أخرى: [محمد: 38]، وقال تعالى:
[إبراهيم: 19ـ20]، أي : بعظيم ولا ممتنع بل هو سهل عليه إذا خالفتم أمره أن يذهبكم ويأت بآخرين على غير صفتكم (1) .
ولما كان القرآن هو كتاب الله الخالد إلى يوم القيامة ويتحدث عن مسيرة البشرية إلى أن تلقى ربها ، فمن البدهي أن يشير إلى الأحداث الكبرى في صراع المسلمين مع أعدائهم ، وكم من آيات نقرؤها اليوم وكأنها تتنزل للتوِّ تحدثنا عن واقعنا ومستقبلنا .. ومن ذلك ما أخبرنا الله تعالى في كتابه الكريم عن مستقبل الصراع مع اليهود من بني إسرائيل وهم الأعداء الاستراتيجيون للأمة الذين أمرنا في كل صلاة أن نتبرأ من سلوك طرائقهم في قوله تعالى:
[الفاتحة: 6ـ7]، يقول الله تعالى:
[الإسراء: 4ـ8]، في هذه الآيات الكريمة إشارات ودلالات تدل على مستقبل اليهود ونهايتهم ، ولقد اختلف المفسرون في فهمهم لهذه الآيات حول الإفسادتين التي تحدثت عنهما الآيات ما هما؟ ومتى كانتا ؟ ومن هم الأقوام الذي سلطوا عليهم ؟ وهل هاتان الإفسادتان قد حدثتا أو أنهما ستحدثان بعد نزول القرآن أو أن واحدة قد حدثت من قبل، والثانية في طريقها أو هي قائمة حالياً .. خلاف كثير وتباين كبير بين الآراء..
__________
(1) انظر تفسير ابن كثير 2 / 569 .(1/28)
والذي أميل إليه هو أن اليهود لهم إفسادات عديدة إذ هم أمة الفساد والإفساد ولكن الإفسادتين الكبيرتين التي تتحدث عنها الآيات مرتبطة بعلو، والعلو لا يتحقق إلا بقوة ودولة وسيادة. ومن المعلوم تاريخياً أن اليهود بعد وفاة نبي الله سليمان - عليه السلام - كانت لهم دولة، ولكنهم بعد فترة من الزمن تنكبوا عن منهاج النبوة ، واحترفوا الإجرام والفساد ، انحرفوا وأفسدوا، وطغوا وبغوا وعطلوا أحكام الله وحاربوا الذين يأمرون بالقسط من الناس وقتلوهم فسلط الله عليهم ، من خرب دولتهم وضرب كيانهم وحطم بنيانهم، وكان أخر ذلك على يد بختنصر ( نبو خذ نصر) سنة 588 قبل الميلاد (1) . وانتهى اليهود كدولة وقوة منظمة منذ ذلك التاريخ وكتب الله عليهم الذلة والمسكنة وقطعهم في الأرض كيانات متناثرة تعيش إما ملاحقة أو تحت حماية الأمم الأخرى حقيرة ذليلة . ثم لم تقم لهم دولة تتصف بالعلو الكبير والفساد العظيم إلا هذه الدولة القائمة حالياً ، وإذا ما تأملنا الآيات التي تتحدث عن اليهود وإعادة الكرة لهم فإننا نجد انطباقاً كاملاً على هذه الحالة التي تعيشها دولة اليهود حالياً.. فالذين سلطهم الله على اليهود في الماضي قبل الإسلام فأزال كيانهم ودولتهم هم من قبل العراق ، ويحتمل أن يكون بختنصر موحداً سلطه الله على اليهود وتذكر الآيات بأن الذين يسلطون على بني إسرائيل أول مرة هم الذين يسلطون عليهم ثاني مرة ، بدليل أن الضمائر تعود عليهم في قوله سبحانه
__________
(1) انظر مكائد يهودية عبر التاريخ لعبدالرحمن حسن حبنكة الميداني ط 5 ، دار القلم ـ دمشق ـ بيروت، 1405هـ ـ 1985م ، ص 430 وما بعدها .(1/29)
وقوله [الإسراء: 7]، ويبدو والله أعلم أن الإفسادة الأولى هي التي سلط الله عليهم فيها بختنصر ، فهي الإفسادة التي رافقها بغي وطغيان وعتو، والتي يدور حولها كثير من الكلام في العهد القديم ، وقبل ذلك لا نعرف تاريخياً أنه حدث لبني إسرائيل مثل هذا الدمار ، ولم يحدث أن قوماً سيطروا على المسجد الأقصى وجاسوا خلال الديار . ومما يرجح أن الإفسادة الثانية هي التي نراها لليهود اليوم في شكل دولة وسلطان ومما يؤيد ذلك من الآيات أن الله تعالى قال : [الإسراء: 6]، ومن المعلوم أن أسس قيام دولة ما لا بد لها من عناصر أساسية تقوم عليها، وهي أرض وشعب ونظام ، وهذه العناصر غير متوفرة في دولة اليهود الحالية ، فلا أرض ولا شعب مجموع لأن الله قطعهم في الأرض أمماً ، متناثرين في أصقاع الأرض في ذلة وهوان ، ولما قررت الدول الاستعمارية زرع هذا الكيان الدخيل في فلسطين الأرض المقدسة التي باركها الله، قاموا بمنحهم أرضاً ليست لهم ، ثم قاموا بإمدادهم باليهود أبناء القردة والخنازير ممن غضب الله عليهم ولعنهم ، من مختلف البقاع فكان هذا المدد البشري لهم ، وقامت الدول الاستعمارية كذلك بإمدادهم بالأموال الطائلة وتكفلت بدعم ميزانياتهم وببناء مصانعهم واقتصادهم ، والآية ذكرت هذا الإمداد بالأموال والبنيين ثم ذكرت معنى آخر [الإسراء: 6]، وإن اليهود اليوم يستنفرون العالم ويجندونه لصالحهم ، ويفرضون على الجميع سياساتهم طائعين أو مكرهين ولا يستطيع أحد أن يحاسبهم أو يلزمهم بعهد أو ميثاق. وأي فساد واستكبار أعظم من هذا الذي يعيشه اليهود اليوم إذ لهم تأثير في مجالات السياسة والاقتصاد والإعلام على كبريات الدول فضلاً عن صغارها .(1/30)
و إذا سلمنا بهذا التأويل مع فهمنا لقوله تعالى في سورة الإسراء في أواخرها : [الإسراء: 104]، يكون المعنى اسكنوا الأرض كلها متفرقين ، فإذا جاء وعد الإفسادة الثانية جئنا بكم إلى أرض فلسطين ، وعندئذ نسلط عليكم من سلطناهم عليكم من قبل ، فإن كان بختنصر مسلماً فالمسلطون الجدد هم المسلمون بإطلاق ، وإن لم يكن كذلك، فالعراقيون خاصة وهم مسلمون اليوم بفضل الله (1) .
وهذا ما يؤكده اليهود اليوم بتخوفهم من العراق وسعيهم لقتله والتنكيل به عبر الحصار الاقتصادي ، ودفع الأمريكان وغيرهم للانقضاض عليه وإضعافه وتدميره ، إنهم على يقين بأن تدمير دولتهم القائمة اليوم يأتي عبر العراق ومن شعبها أو عن طريقها ، وها نحن اليوم نرى تباشير النصر تلوح بالأفق بعد الاحتلال الصليبي واليهودي للعراق ، حيث تشتد المقاومة ، وينضج الجهد والجهاد وتتربى الأمة على حب الجهاد والاستشهاد والتضحية والفداء ، إن الأمة اليوم وعلى ثرى فلسطين وبلاد الرافدين وغيرها تربيها الأحداث المؤلمة على القوة والشدة ، إنه تأهيل لجيل يكون أولي بأس شديد [المائدة: 54]، ليدمروا كلما شيده اليهود وأقاموه على مدار سنين لدولتهم الإجرامية.
ومما يؤيد هذا الفهم حديث النبي - صلى الله عليه وسلم - الذي أخبرنا بأن الساعة لا تقوم حتى يقتل المسلمون اليهود ليطهروا الأرض من رجسهم وفسادهم ويشارك في قتال اليهود حتى الأشجار والأحجار قال - عليه السلام - : (لا تقوم الساعة حتى يقاتل المسلمون اليهود فيقتلهم المسلمون حتى يختبىء اليهودي من وراء الشجر والحجر فيقول الحجر أو الشجر : يا مسلم ياعبدالله ، هذا يهودي خلفي فتعال فاقتله إلا الغرقد فإنه من شجر اليهود) (2) .
__________
(1) انظر الأساس في التفسير لسعيد حوى ، ط2 دار السلام ـ مصر / 1412هـ ـ 1992م ، ج6 /3038
وما بعدها .
(2) البخاري 3 / 1070 برقم ( 2768) ، مسلم 4 / 2239 برقم ( 2922) واللفظ له.(1/31)
والغرقد شجيرة صغيرة كثيفة الأغصان تزرع الآن في كل فلسطين, ويزرعها اليهود بأيديهم (1) والدلائل الواقعية تشير بقوة إلى أن اليهود في هذا العصر يسعون بأيديهم وبكل ما أوتوا من قوة لتهيئة كل ما يلزم لتنفيذ وعد الآخرة عليهم ، حتى تنزل بهم نقمة الله على أيدي المسلمين ومن يؤازرهم...
إن اليهود يسعون إلى حتفهم بظلفهم ، ولن تتزلزل عقيدة المسلمين بكتاب الله تعالى ولا بخبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الذي قال فيه بأنه لن تقوم الساعة حتى يقاتل المسلمون اليهود، فيقتلهم المسلمون ولكن بشرط أن يكونوا مسلمين حقاً (2) .
ومن الأخبار المبشرة بمستقبل مشرق للأمة الإسلامية فتح القسطنطينية وروما وعودة الخلافة على منهاج النبوة فقد صح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه سئل عن أي المدينتين تفتح أولاً أقسطنطين أو رومية ؟ ـ وقسطنطينية هي استنبول التي فتحت على يد محمد الفاتح ورومية هي روما عاصمة إيطاليا ـ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : (مدينة هرقل تفتح أولاً) (3) يعني قسطنطينية.
__________
(1) انظر زوال إسرائيل حتمية قرآنية ص22 للشيخ أسعد التميمي إمام المسجد الأقصى سابقاً .
(2) انظر مكايد يهودية ص435 .
(3) أحمد 2 /176 برقم ( 6645) ، والحاكم ج4 / 468 برقم ( 8301) وغيرهم.(1/32)
وعن حذيفة - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : (تكون النبوة فيكم ما شاء الله أن تكون ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها ، ثم تكون خلافة على منهاج النبوة فتكون ما شاء الله أن تكون ثم يرفعها إذا شاء الله أن يرفعها ، ثم تكون ملكاً عاضاً فيكون ما شاء الله أن يكون ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها ، ثم تكون ملكاً جبرياً فتكون ما شاء الله أن تكون ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها ، ثم تكون خلافة على منهاج النبوة ، ثم سكت) (1) .
هذه المبشرات وغيرها كثير والتي تبشر بالخير وأن النصر قادم وأن المستقبل للإسلام ينبغي أن تكون دافعاً قوياً للمسلم إلى الجد والعمل لا أن تتخذ ذريعة للاتكال والكسل ، وترقباً وانتصاراً سلبياً ، كمن يعطل أحكام الإسلام من أهل الأهواء والبدع منتظراً للمخلص المنتظر ؟!
وسائل مساعدة في استشراف المستقبل
هناك عدد من الوسائل التي يستأنس بها لتوقعات المستقبل واستشرافه اعتمدها الشارع وجعل لها ضوابط ومن تلك الوسائل:
الرؤيا الصالحة :
تكون من المبشرات سيما عند ظهور الفتن واشتداد البلايا والمحن، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : (إذا اقترب الزمان لم تكد رؤيا المسلم تكذب ، وأصدقكم رؤيا أصدقكم حديثاً، ورؤيا المسلم جزء من خمس وأربعين جزءً من النبوة والرؤيا ثلاثة : فرؤيا الصالحة بشرى من الله ، ورؤيا تحزين من الشيطان ، ورؤيا مما يحدث المرء نفسه ، فإن رأى أحدكم ما يكره فليقم فليصل ولا يحدث بها الناس) (2) .
__________
(1) أحمد 4 / 273 برقم ( 18430) ومجمع الزوائد للحافظ الهيثمي ط 3 ، دار الكتاب العربي – بيروت، 1402هـ - 1982م ، 5 /189 .
(2) البخاري 6 / 2574 برقم ( 6614) ، مسلم 4 /1773 برقم( 2263) واللفظ له .(1/33)
فالناس على هذا ثلاث درجات الأنبياء ورؤياهم كلها صدق .. والصالحون والأغلب على رؤياهم الصدق. وقد يقع فيها ما لا يحتاج إلى تعبير . ومن عداهم يقع في رؤياهم الصدق والأضغاث، وهم على ثلاثة أقسام : مستورون فالغالب استواء الحال في حقهم ، وفسقة والغالب على رؤياهم الأضغاث، ويقل فيها الصدق ، وكفار ويندر في رؤياهم الصدق جداً (1) .
وكلامنا إنما هو في الرؤيا الصالحة الصادقة التي تفيد في معرفة المستقبل وهي من بقايا النبوة التي قال عنها الرسول - صلى الله عليه وسلم - : (أيها الناس إنه لم يبق من مبشرات النبوة إلا الرؤيا الصالحة يراها المسلم أو ترى له) (2) .
والرؤيا لا يعبرها كل أحد بل لا بد من عالم ناصح صادق ، وقد قيل للإمام مالك رحمه الله: أيعبر الرؤيا كل أحد ؟ فقال : أبا النبوة يلعب ؟ وقال مالك : لا يعبر الرؤيا إلا من يحسنها ، فإن رأى خيراً أخبر به وإن رأى مكروهاً فليقل خيراً أو ليصمت (3) . وقد قال - صلى الله عليه وسلم - : (إن الرؤيا تقع على ما تعبر ، ومثل ذلك مثل رجل رفع رجله فهو ينتظر متى يضعها ، فإذا رأى أحدكم رؤيا فلا يحدث بها إلا ناصحاً أو عالماً). وفي رواية عند أحمد (أو لبيباً) وعند ابن حبان (أو حبيباً) (4) .
__________
(1) انظر فتح الباري ج12 /362 .
(2) البخاري 6 / 2564 برقم ( 6589) ، مسلم 1 /348 برقم (479) واللفظ له.
(3) التمهيد لابن عبد البر ، وزارة الأوقاف المغربية ـ الرباط، دون ذكر لرقم الطبعة أو تاريخها ، ج1 /288 .
(4) الحاكم ج4 / 433 برقم ( 8177 ) ، أحمد 4 /10 برقم ( 16228) ، صحيح ابن حبان 13/420 برقم (6055) واللفظ للحاكم .(1/34)
إن الرؤى الصالحة مجرد مبشرات أو منبهات لتثبيت قلوب المؤمنين أو تقوية عزائمهم .. وليست مخدرات يتعاطاها بعض السلبيين ليتخذوا منها تكأة للاتكالية الواهنة ، وللهرب من الواقع ، أو للقعود عن العمل ومجاهدة الفساد، ومقاومة الظلم والطغيان فالنبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه لم يكونوا ينظرون إلى الرؤيا أكثر من أنها بشرى ، ثم يمضون في خطتهم وجهادهم آخذين بالسنن مقبلين على العمل (1) .
ومن الرؤى الصالحة التي رآها أحد الصالحين ولها صلة بواقعنا المعاصر أنه رأى في المنام أثناء غزو أمريكا لأفغانستان أن مجندة أمريكية لطمت أفغانياً لطمة شديدة حتى وقع على الأرض ثم قام من بعد سقوطه وأخذ تلك المجندة فضربها فحاولت الهروب غير أنها وقعت في مستنقع فكانت تحاول أن تخرج منه ولكن محاولاتها باءت بالفشل وبعد فترة من الزمن استطاعت الخروج من ذلك المستنقع، ولكنها خرجت وهي عجوز شمطاء قد ذهب شبابها وضمر جسمها وابيض شعرها وتجعد وجهها . فاستبشر الناس الذين سمعوا بهذه الرؤيا وقالوا: لعل أمريكا قد وقعت في مستنقع يصعب عليها أن تخرج منه متعافية ، وهذا بالفعل ما تؤكده الوقائع والأحداث . وما هذه الرؤيا وغيرها في هذا السياق إلا من المبشرات التي تبعث الأمل في النفوس فتنهض من كبوتها وتجاهد وتكافح الجبروت والطغيان والهيمنة الأمريكية واليهودية وأن توقن بأن أمرهم إلى تباب وانحسار تحقيقاً لقوله تعالى : [الرعد: 17].
الفراسة :
وهي تطلق ويراد بها أحد معنيين :
الأول : ما يوقعه الله تعالى في قلوب أوليائه يعلمون به أحوال بعض الناس بنوع من الكرامات وإصابة الظن والحدس .
والثاني : نوع يتعلم بالدلائل والتجارب والخلق والأخلاق فتعرف به أحوال الناس (2) .
والفراسة ثلاثة أنواع :
__________
(1) انظر موقف الإسلام من الإلهام والكشف والرؤى للقرضاوي ، مؤسسة الرسالة ـ بيروت / 1422هـ، 2001م ، ص 124 .
(2) انظر النهاية ج2 /354 .(1/35)
النوع الأول: فراسة إيمانية:
وسببها نور يقذفه الله في قلب عبده ، وحقيقتها أن خاطراً يهجم على القلب ، يثب عليه كوثوب الأسد على الفريسة ، ومنه اشتقاقها، وهذه الفراسة على حسب قوة الإيمان ، فمن كان أقوى إيماناً فهو أحد فراسة . وإذ اعُمّر القلب بالإيمان والتقوى انجلت له الأمور ، وانكشفت . بخلاف القلب الخرب المظلم، وفي الحديث الصحيح: (إن الدجال مكتوب بين عينيه كافر يقرؤه كل مؤمن قارئ وغير قارئ) (1) .
فدلَّ ذلك على أن المؤمن يتبين له ما لا يتبين لغيره ، ولاسيما في الفتن ، حيث تنكشف له حال الكذاب ولا يروج عليه الباطل ، وكلما قوي الإيمان في القلب ، قوي انكشاف الأمور له وعرف حقائقها من بواطلها . وكلما ضعف الإيمان ضعف الكشف . وذلك مثل السراج القوي والسراج الضعيف في البيت المظلم . في الصحيح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: (لقد كان فيما قبلكم من الأمم ناس محدثون فإن يك في أمتي أحد فإنه عمر) (2) .
والمحدث : هو الملهم المخاطب في سره . وما قال عمر - رضي الله عنه - لشيء: إني لأظنه كذا وكذا ، إلا كان كما ظنه .
__________
(1) البخاري برقم 2 / 563 برقم (1480) ومسلم 4 / 2249 برقم (2934) واللفظ له .
(2) البخاري 3 / 1349 برقم ( 3486) واللفظ له ، مسلم 4 / 1864 برقم ( 2398) .(1/36)
وكانوا يرون السكينة تنطق على قلبه ولسانه ، وكثير من أهل الإيمان والكشف يلقي الله في قلبه أن هذا الطعام حرام ، وأن هذا الرجل كافر ، أو فاسق أو ديوث أو لوطي أو خمار أو مغنٍ أو كاذب من غير دليل ظاهر ، بل بما يلقي الله في قلبه . وكذلك بالعكس يلقي في قلبه محبة لشخص ، وأنه من أولياء الله ، وأن هذا الرجل صالح ، وهذا الطعام حلال ، وهذا القول صدق . فهذا وأمثاله لا يجوز أن يستبعد في حق أولياء الله المؤمنين المتقين . وقصة الخضر مع موسى - عليه السلام - هي من هذا الباب . وإن الخضر علم هذه الأحوال المعينة بما أطلعه الله عليه (1) .
النوع الثاني: فراسة رياضية :
وهي التي تحصل بالجوع والسهر والتخلي ، فإن النفس إذا تجردت عن العوائق صار لها من الفراسة والكشف بحسب تجردها ، وهذه فراسة مشتركة بين المؤمن والكافر ، ولا تدل على إيمان، ولا على ولاية ، ولا تكشف عن حق نافع ، ولا عن طريق مستقيم ، بل كشفها من جنس فراسة الولاة وأصحاب عبادة الرؤساء.
والنوع الثالث : فراسة خِلقية :
وهي التي صنف فيها العلماء من الأطباء وغيرهم ، واستدلوا بالخلْق على الخُلُق ، لما بينهما من الارتباط الذي اقتضته حكمة الله ، كالاستدلال بصغر الرأس الخارج عن العادة على صغر العقل ، وبكبره على كبره ، وسعة الصدر على سعة الخُلق ، وبضيقه على ضيقه ، وبجمود العينين وكلال نظرهما على بلادة صاحبهما وضعف حرارة قلبه ونحو ذلك (2) .
__________
(1) انظر: مجموع الفتاوى لابن تيمية جمعه عبد الرحمن بن محمد العاصمي وابنه محمد ، تصوير الطبعة الأولى 1398هـ ، ج20 /42 وما بعدها .
(2) انظر شرح العقيدة الطحاوية بتحقيق الألباني ، ط1، الدار الإسلامي ـ عمان / 1419هـ ـ 1998م،
ص 498 ومابعدها .(1/37)
ومع كل ما سبق ذكره من أنواع الفراسة وإقرار الشرع بقبولها واعتبارها مشروطاً بشرط عدم مخالفته حكماً شرعياً وعدم مصادمته لقاعدة دينية ثابتة . فإن خالف كتاباً أوسنة صحيحة فإنه لغو من الباطل لا يلتفت إليه مهما كان قائله .
ومن الوسائل المساعدة لتوقعات المستقبل واستشرافه : الاستبشار والفأل والتفاؤل ، والفأل أن يكون الرجل مريضاً فيسمع آخر يقول له يا سالم ، أو يكون طالب ضالة فيسمع آخر يقول يا واجد ، فيقول تفاءلت بكذا ، ويتوجه له في ظنه كما سمع أنه يبرأ من مرضه أو يجد ضالته (1) .
وفي الفأل تقوية للعزم وباعث على الجد ، ومعونة على الظفر ، فقد تفاءل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في غزواته وحروبه . فينبغي لمن تفاءل أن يتأول بأحسن تأويلاته، ولا يجعل لسوء الظن على نفسه سبيلاً (2) . وسمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كلمة فأعجبته فقال : ( أخذنا فألك من فيك) (3) وكان - صلى الله عليه وسلم - يعجبه الفأل الحسن ، ويكره الطيرة، وكان - صلى الله عليه وسلم - يقول : (لا طيرة وخيرها الفأل) (4) قيل: يا رسول الله : وما الفأل ؟ قال: (الكلمة الصالحة يسمعها أحدكم) وفي لفظ قال : (لا عدوى ولا طيرة، ويعجبني الفأل : الكلمة الحسنة والكلمة الطيبة) (5) .
__________
(1) انظر لسان العرب ج11 /513 .
(2) انظر أدب الدنيا والدين للماوردي بتحقيق د. محمد صبّاح ، منشورات دار مكتبة الحياة ـ بيروت، 1986م ، ص 316 .
(3) سنن أبي داود للإمام أبي داود بتحقيق محمد محيي الدين عبد الحميد، دار الفكر ، دون ذكر لرقم الطبعة أو تاريخها ، 4 / 18 برقم 3917 .
(4) البخاري 5 / 2171 برقم ( 5422 ) ومسلم 4 / 1745 برقم ( 2223 ).
(5) البخاري 5 / 2178 برقم ( 5440 ) ومسلم 4 / 1746 برقم ( 2224).(1/38)
وهذه الوسيلة لا تكشف شيئاً عما يكنه ستار الغيب إلا أنها تعطي شعوراً بالانبساط والاستبشار بتوقع خير في المستقبل ، والإنسان دائماً يحتاج إلى أمل وتفاؤل واستبشار حتى يواصل حياته، ويمارس عمله في حيوية وقوة وانطلاق.
وسائل محرمة لاستشراف المستقبل
هناك وسائل وأعمال متنوعة تضلل وتوهم الناس بأنها تكشف عن غيب المستقبل وهي أكاذيب وخداع وتضليل جاء الإسلام بمنعها وأعلن الحرب عليها وعلى المروجين لها ومن تلك الوسائل التي حرمها الإسلام :
الكهانة:
والكاهن : هو الذي يأخذ عن مسترق السمع من الشياطين وكانوا قبل بعثة محمد - صلى الله عليه وسلم - كثيراً، وأما بعد البعثة فإنهم قليل ، لأن الله تعالى حرس السماء بالشهب ، وأكثر ما يقع في هذه الأمة ما يخبر به الجن أولياءهم من الإنس عن الأشياء الغائبة بما يقع في الأرض من الأخبار . فيضل بسبب ذلك كثير من الرعاع والجهَّال إذ يحسبون ذلك كشفاً وكرامة ، والواقع أن الكاهن من أولياء الشيطان ، حيث يتم تآلف روح الشيطان القرين مع روح الإنسان الخبيث فيتناجيان ، ويتكلم الشيطان مع قرينه بما يحب من الأخبار التي يتلقاها الشيطان عن الشيطان الآخر قرين الإنسان الآخر ، وهكذا فإن لكل إنسان قريناً من الشياطين كما جاء ذلك في القرآن الكريم والسنة المطهرة . فيخبر شيطان الإنس بما أوحى إليه شيطان الجن من أخبار السائل وأحواله وخصوصية نفسه مما ألقاه إليه الشيطان القرين ، فيظن الجهلة أن ذلك ناتج عن صلاح وتقوى وكرامات ، وأنه بصلاحه قد كشف الحجاب عنه . وهذا من أضل الضلال ومن أعظم الخذلان (1) .
قال تعالى مبيناً ذلك: [الأنعام: 128].
__________
(1) انظر فتح المجيد شرح كتاب التوحيد لعبدالرحمن بن حسن آل الشيخ بتحقيق ابن باز ، ط1 ، دار القلم ـ بيروت / 1405هـ ـ 1985م ، ص 306 .(1/39)
وقد حذَّر النبي - صلى الله عليه وسلم - عن إتيان الكهان وعن سؤالهم وتصديقهم، وشدَّد النكير على من يفعل ذلك كما جاء في صحيح مسلم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (من أتى عرافاً فسأله عن شيء لم تقبل له صلاة أربعين ليلة) (1) والعراف هو الذي يدعي معرفة الأمور الغائبة ، وإذا كانت هذه حال السائل فكيف المسؤول ؟ وفي السنن عن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : (من أتى كاهناً فصدقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد - صلى الله عليه وسلم - ) (2) .
__________
(1) مسلم 4 / 1751 برقم (2230 ) .
(2) أبو داود 4 / 15 برقم( 3904 ) ، والترمذي 1 / 242 برقم( 135 ) ، وابن ماجة 1 / 209 برقم( 639 )، وأحمد 2 / 429 برقم( 9532 ) .(1/40)
ويدخل في هذا التنجيم ، وهو نوع من الكهانة وقد شاع استعماله في الناس ، وانتشر تداوله شرقاً وغرباً ، وغدا مألوفاً عند الناس ورُوج له في الصحف والمجلات ، واعتمدوا في ذلك على دلالة البروج ، وخصصوا صفحات المجلات والصحف للتنبؤ بمستقبل شخص عن طريق النظر إلى برجه . وهذا من الكهانة المحرمة شرعاً . ومن يصدق هذه الأشياء يخشى عليه من خسران عمله وعدم قبول صلاته وقد يقع في الكفر والعياذ بالله . ومما يدل على تحريم التنجيم قول النبي - صلى الله عليه وسلم - : (من اقتبس علماً من النجوم اقتبس شعبة من السحر ، زاد ما زاد) (1) ، وقال - صلى الله عليه وسلم - : (أربع في أمتي من أمرالجاهلية لايتركوهن: الفخر في الأحساب ، والطعن في الأنساب ، والاستسقاء بالنجوم ، والنياحة) (2) . والمنهي عنه من علم النجوم ما يدعيه أهلها من معرفة الحوادث التي لم تقع وربما تقع في مستقبل الزمان ، مثل إخبارهم بوقت هبوب الرياح ، ومجيء المطر ، ووقوع الثلج ، وظهور الحر والبرد وتغيير الأسعار ونحوها. ويزعمون أنهم سيدركون معرفتها بسير الكواكب واجتماعها وافتراقها.
أما ما يدرك من طريق المشاهدة من علم النجوم كمعرفة الأوقات والجهات والفصول فهذا النوع غير داخل في النهي . وقد لخص الشيخ محمد بن عثيمين رحمه الله علم النجوم وقسمها إلى قسمين :
[1] علم التأثير .
[2] علم التسيير .
__________
(1) أخرجه الإمام أحمد 1 / 311 برقم (2841 ) وأبو داود 4 / 15 برقم ( 3905 ) وابن ماجة 2 / 1228 برقم ( 3726 ).
(2) رواه مسلم 2 / 644 برقم (934 ).(1/41)
فعلم التأثير يدخل فيه الاعتقاد بأن هذه النجوم مؤثرة فاعلة ، بمعنى أنها هي التي تخلق الحوادث فهذا شرك أكبر . أو أن يجعلها سبباً يدعي به علم الغيب ، فيستدل بحركاتها وتنقلاتها وتغيراتها على أنه سيكون كذا وكذا فهذا اتخذ علم النجوم وسيلة لا دعاء معرفة الغيب ودعوى علم الغيب كفر مخرج عن الملة لأن الله يقول : [النمل: 65]. أو أن يعتقد أنها سببٌ لحدوث الخير والشر ، أي أنه إذا وقع شيء نسبه إلى النجوم وهذا شرك أصغر .
أما علم التسيير فهو أن يستدل بسيرها على المصالح الدينية كالاستدلال بها على جهة القبلة مثلاً أو على مصالح دنيوية كأن يستدل بها على الجهات ، ويتعرف من خلالها على الفصول من خلال معرفة منازلها ومطالعها فهذا لا شيء فيه ولا بأس به (1) .
ومن الوسائل المكروهة كراهة تحريم الاعتماد على الإسرائيليات التي تتحدث عن أحداث المستقبل إذ معظمها من وضع اليهود الذين يفترون على الله الكذب ، ويضللون الأمم، ويخدعون الشعوب بما سطروا من خرافات، وكتبوها بأيديهم وضمنوها أسفارهم ثم أودعوها في التلمود أو بروتوكولات حكماء صهيون [البقرة: 79]، كتلك الوعود المفتراة التي تخول لهم السيطرة على العالم، وتشكيل مستقبل البشرية وفق رؤياهم وتصوراتهم التي لا تقوم على علم ولا هدى ولا كتاب منير، وإنما هي رغبات خبيثة، وأهواء مضلة تلِج في صدورهم وتنفح بها نفوسهم الإجرامية .
ومما يؤسف له أن كثيراً من الكتاب والمثقفين قد وقعوا في شراكهم وراحوا يحددون في كتاباتهم ومقالاتهم عمر أمة الإسلام ونهاية العالم وفق التصور اليهودي الصليبي .
__________
(1) انظر القول المفيد لابن عثيمين ، ط1 دار البصيرة ـ الاسكندرية / 1419هـ ـ 1998م ، ص 357
وما بعدها .(1/42)
وهناك من الأشخاص من يبحث في أحاديث الفتن والملاحم ويحاول أن يفصلها وينزلها على أشخاص بأعيانهم ، فقد ظهر عدد من الكتاب ادعوا أن صدام حسين هو القحطاني وذهب آخرون إلى أنه السفياني .. معتمدين على روايات غير موثوقة فوقعوا في ضلالات وجهالات عديدة لو لم يكن منها إلا تشكيك الناس وفقد ثقتهم بالأحاديث والأخبار التي تنسب إلى الرسول - صلى الله عليه وسلم - حين يرون الوقائع على خلاف ما يقوله أولئك . ثم إن الروايات التي يوردونها مرفوضة عند علماء الحديث وغير مقبولة في الميزان العلمي الدقيق ، كاعتمادهم على كتاب الفتن لنُعيم بن حماد ، وهو مليء بالطوام ، والأحاديث الضعيفة والموضوعة كما ذكر ذلك علماء الجرح والتعديل من السابقين واللاحقين (1) .
وحتى الأحاديث الصحيحة فإنه لا ينبغي الجزم بما يفهم منها ثم إنزال ذلك على أشخاص بأعيانهم زماناً ومكاناً ، كمن ينزلون أحاديث المهدي على أشخاص بأعيانهم ؟فذلك كله من أحلام اليقظة ومن الحدس والأوهام والظنون الكاذبة [النجم: 28]، وفي الحديث: (إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث) (2) .
وإن السير نحو المستقبل بهذا الفهم السقيم والمنهج العقيم إنما هو إعاقة لانطلاقة الأمة، وتخدير لمشاعرها وإقناعها بالوهم وتغييب لها عن الواقع العملي الذي ينبغي لها أن تسلكه وقد جاء في الحديث أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (إن قامت الساعة وبيد أحدكم فسيلة فإن استطاع أن لا يقوم حتى يغرسها فليفعل) (3) .
العمل للمستقبل المشرق
__________
(1) انظر ترجمته في سير أعلام النبلاء للإمام الذهبي بتحقيق الأرنؤوط وآخرون ، ط1 ، مؤسسة الرسالة ـ بيروت / 1402هـ ـ 1982م ، 10 / 595 رقم ترجمته ( 209 ) .
(2) البخاري 5 / 1976 برقم ( 4849 ) ومسلم 4 /1985 برقم ( 2563 ) .
(3) أحمد في المسند 3 / 91 برقم ( 13004 ) .(1/43)
لن يصلح آخر هذه الأمة إلى بما صلح به أولها ولقد وضع - صلى الله عليه وسلم - الأسس القوية المتينة لبناء الفرد والأسرة والمجتمع والدولة.
وأولى تلك الأسس: التي بدأ بها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بناء الإيمان والعقيدة والتوحيد: الإيمان بالله وحده لا شريك له رباً خالقاً رازقاً آمراً وناهياً ومشرعاً لخلقه [الأعراف: 54]، فتحقيق العبودية لله تعالى بطاعته وطاعة رسوله ، والمسارعة إلى جنته ومرضاته ، والخوف من مقته وعذابه، والهروب من مساخطه التي توجب النار .. هذا الشعور وهذه العقيدة إذا ترسخت في النفوس تكون هي عربون النصر والتمكين كما قال الله تعالى:
[إبراهيم: 13ـ14]، ويندرج تحت هذا الأصل كل أركان الإيمان والإسلام وهذا هو الأساس المتين الذي يقوم عليه هذا الدين ، فتحقيق عبادة الله وحده والكفر بالطاغوت هو الأصل والأساس. ومعظم القرآن إنما يتحدث عن أسس الإيمان ومقتضياته ومتعلقاته ، حتى يستقر أهل الجنة في الجنة وأهل النار في النار .
والأساس الثاني: الذي بدأ به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مع أصحابه هو الأخوة والحب في الله والتناصر والتآزر والموالاة وربط المؤمنين ببعضهم وتوثيق عرى الحب والتآلف وإزالة كل عوامل الفرقة والتنافر والتدابر والتقاطع مع قطع علائق المولاة والحب والنصرة مع غير المؤمنين كما قال سبحانه وتعالى: [المائدة: 55ـ56]، وقال - عليه السلام - : (مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى) (1) .
ولا بُدَّ للأمة أن تعيد بناء علاقاتها وصياغتها وفق أحكام الإسلام وتتخلص من هذه الغثائية والتقاطع والتدابر الذي نعيشه فإن المستقبل الإسلامي المشرق منوط بتحقيق ذلك .
__________
(1) البخاري 5 / 2238 برقم (5665 ) ومسلم 4 /1999 برقم ( 2586 ) .(1/44)
والأساس الثالث: الذي أقامه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - للمجتمع الإسلامي بناء المسجد ليكون مقراً للعبادة يجتمع فيه المسلمون ويتعارفون ويتآلفون ويتعلمون ويتطهرون ويتعاونون على البر والتقوى . إن كثيراً من حقائق الإسلام ومبادئه لا تتحقق إلى في حرم المسجد ورحابه.
لقد كان المسجد في عصر النبي - صلى الله عليه وسلم - وعصر خلفائه هو كل شيء في حياة المسلم فهو مكان للصلاة والعبادة . وهو المدرسة والجامعة وهو مقر الحكم والقيادة ومكان للشورى ، واستقبال الوفود ، منه تنطلق السرايا والبعوث ، وفيه تستقبل أخبار الانتصارات والفتوح ، وإليه يفزع المسلمون في الشدائد والملمات، يصلون ويدعون الله في كشف البلايا والمحن .
لقد كان المسجد هو أول شيء يُبدأ في تشييده وبنائه حين تفتح البلدان وتمصر الأمصار، لقد كانت الأمة كلها في عصور ازدهار الإسلام تلتقي في المسجد وتنهل من معينه العذب، ونميره الصافي الرجال والنساء والكبار والصغار ، لا يشذ عنه ولا يتخلف إلا منافق معلوم النفاق . ولقد ابتعدت الأمة عن بيوت الله تعالى وعطلت رسالته وحجمت دوره في كثير من الأحيان ، وإن من واجبات الحركات الإسلامية وجيل الصحوة أن يستأنفوا مسيرة العمل الإسلامي ويعيدوا الأمة إلى المساجد لتصاغ صياغة الإيمان وتتربى على مائدة القرآن ، لتكون بحق خير أمة أخرجت للناس .(1/45)
أما الأساس الرابع: الذي انتهجه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في نشر دعوة الإسلام وتبليغها وحماية المسلمين من مكائد الأعداء فهو الجهاد في سبيل الله، ذروة سنام الإسلام ، فرضه الله على هذه الأمة، وكتبه عليها وأمرها بالإعداد والأخذ بأسباب القوة لتكون مرهوبة الجانب ، عزيزة تحمل الحق وتقيم العدل وتحرس الفضائل وتنشر الخير والنور للعالمين وتحررهم من الرق والعبودية لغير الله وتؤدب الطغاة والمجرمين الذين يظلمون الناس ويستعبدونهم، ويجعلون من أنفسهم أرباباً وآلهة ويبغون الأمور انحرافاً وعوجاً . ولقد رغب الله عباده في الجهاد، ودعاهم إليه، ورتب عليه عظيم الأجر .. وربط العزة والرفعة والخير بإقامة هذه الفريضة، التي يحاول أعداء الإسلام ومنذ زمن طويل أن يلغوها من دين الإسلام، ويحرفوا معانيها، ويحولوا بين الأمة وبين القيام بها .. غير أن الله تعالى جعل طائفة من الأمة تقوم به على مر العصور لا يضرهم من خذلهم أو خالفهم حتى قيام الساعة .
هذه الأسس التي أرسى دعائمها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ينبغي أن تكون هي المنطلقات الحقيقية لبناء المستقبل الإسلامي وصناعته .. والأمة موعودة ومبشرة بذلك في الكتاب والسنة . كما أشرنا إلى ذلك والدلائل والمؤشرات كلها تشير إلى أن المستقبل لهذا الدين ، وأن الجولة القادمة له، والعاقبة للمتقين [الأنبياء: 105]، فعلى علماء الأمة ودعاتها وزعمائها وقادة الرأي فيها ألا يضيعوا الجهود، ويبعثروها في متاهات وخلافات على جزئيات تهدر طاقاتهم، وتبدد قواهم، وتتشرذم جهودهم، بل الواجب أن تتوحد الجهود وتتضافر وتتوحد الصفوف، بعد اجتماع القلوب على تحقيق هذه الأسس وتقويتها وترسيخها في عقول الأمة وأفئدتها وفي واقعها المعاش ، فإذا تحققت هذه الأمور في حياة الأمة فإنها ستكون مع النصر والتمكين على موعد [الحج: 40].
الخاتمة(1/46)
وفي خاتمة هذا البحث الموجز يمكنني القول بأنني لم أستوف الموضوع حقه لطوله وسعته، وحسبي أنني سلطت بعض الأضواء عليه، وأثرت عدداً من القضايا التي تحتاج من الباحثين إلى مزيد من الدراسة والاهتمام، في صناعة مستقبل إسلامي زاهر مستضيء بنور الوحي وقائم على هداه ، ليسير على صراط مستقيم.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين ، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين .(1/47)