سلسلة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
توحيد الصفوف للأمر بالمعروف
- المؤلف -
أبو عبد الفتاح حمداش بن عمر بن
أحمد زراوي االجزائري السني
خطبة الحاجة:
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه و نعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا { من يهد الله فهو المهتد } { و من يضلل فلا هادي له ] ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، و أشهد أن محمدا عبده ورسوله { يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته و لا تموتن إلا وأنتم مسلمون }، {يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة و خلق منها زوجها و بث منهما رجلا كثيرا و نساء و اتقوا الله الذي تسآءلون به و الأرحام إن الله كان عليكم رقيبا }،{ يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله و قولوا قولا سديدا يصلح لكم أعمالكم و يغفر لكم ذنوبكم ومن يطع الله و رسوله فقد فاز فوزا عظيما }، أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم،وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة،وكل ضلالة في النار
مقدمة:
إن الأمة المسلمة شرفها الله بالفريضة الطاهرة المطهرة، التي تمسحُ المجتمع مسحة نقية فلا تذر فيه إلا فضيلة حسنة أو مكرمة حميدة أو خصلة مألوفة أو معاملة طيبة يعترفُ بها ألوا الفضل والإحسان وأهل النهى الأحلام وأصحاب العلم و العرفان و ذلك لكمال رسالتها وشرفها وسمُو همتها و علو رتبتها عند الله تعالى ،والنبي صلى الله عليه وسلم بين كمال رسالة الإسلام في السنة المباركة كمالا واضحا شافيا لا لبس فيه ولا غموض كما قال الله تعالى : {اليوم أكملتُ لكم دينكم وأتممتُ عليكم نعمتى و رضيتُ لكم الإسلام دينا}، قال ابن تيمية : [مجموع الفتاوى ج 28 ص 121] : هو بيان لكمال رسالته فإنه صلى الله عليه وسلم هو الذي أمر الله على لسانه بكل معروف و نهى عن كل منكر و أحل كل طيب و حرم كل خبيث [انتهى](1/1)
وأما الخبث فإن الفريضة تنفيه ولا تقره بدارها و كيف لا ؟ و الأخلاق الخيرة لا تمر على فساد إلا أزالته و لا على شر إلا مسحته و استبدلت مكانه صلحا و صلاحا و خيرا و فلاحا، إن الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر وظيفة الأنبياء و الربانيين الذين قاموا بالأمر من بعدهم عليهم السلام من حيث أنهم يقومون في أمتهم خير مقام، و ذلك وفاء لرسلهم للحفاظ على دينهم وأمتهم ومجتمعهم الذي طهره الله بالرسالة الإلهية الفيحاء والشريعة الربانية السمحاء، و إن فريضة الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر عبادة جليلة المنزلة تكفر خطايا أمة النبي صلى الله عليه وسلم وذلك لتطهيرها وتنقيتها من كل سوء و رذيلة و لرفع منزلتها في الدنيا و الآخرة.
إن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر صدقة يتصدق بها العبد المؤمن على نفسه ، فالمؤمن دائما يجتهد في تحصيل النفع الفردي فيما يتعلق بنفسه أو غيره أو النفع المتعدي فيما يخص حق غيره كعائلته ومجتمعه وأمته المحمدية.
رواه مسلم في صحيحه :عن أبي ذر رضي الله عنه : [ أن ناسا قالوا : يارسول الله ذهب أهل الدثور بالأجور، يصلون كما نصلى ويصمون كما نصوم ، و يتصدقون بفضول أموالهم ، قال : أو ليس قد جعل الله لكم ما تصدقون به ، إن بكل تسبيحة صدقة، وكل تكبيرة صدقة، وكل تحميدة صدقة، و كل تهليلة صدقة، وأمر بالمعروف صدقة، و نهي عن المنكر صدقة،] وفي رواية عند مسلم كذلك عن عائشة رضي الله عنها: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : [خلق كل إنسان من بني آدم على ستين وثلاثمائة مفصل ، فمن كبر الله ، و حمد الله، وهلل الله وسبح الله، واستغفر الله، وعزل حجرا عن طريق المسلمين، أو شوكة، أو عظما عن طريق المسلمين وأمر بمعروف،و نهي عن المنكر عدد تلك الستين والثلاثمائة، فإنه يمسي يومئذ و قد زحزح نفسه من النار].(1/2)
وهذه التربية الصالحة خلق كريم وسلوك حميد وعبادة نبيلة ومعاملة زكية سواء فيما تعلق بالأقوال والأفعال تجعل العبد المؤمن طيبا حقا أينما كان في بيته أو خارج بيته ، لا يعترف إلا بما يوافق الأصل الكريم الذي يدين الله تعالى به روى البخاري : رقم : 3586ج6/603 : عن حذيفة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : [فتنة الرجل في أهله و ماله و جاره، تكفرها الصلاة، و الصوم، و الصدقة، و الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر].
قال العلماء الكرام : من عبادة الأقوال الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر .
فأمة النبي صلى الله عليه وسلم فيهم الأحبار والرهبان و العبّاّد والقضاة و السلاطين والربانيون والعلماء الأخيار من أهل التقى و الرشاد من كل خلف وجيل ينير الله بهم أمة الإسلام فهم العدول الثقات الحفاظ للدين والملة والشريعة وهذه الزمرة المباركة تسوس الأمم بسياسة الأنبياء فقيامهم على أمر الناس بالكتاب والسنة ظاهر عبر القرون والعصور والأزمان كما جاء في صحيح البخاري : عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : [ كانت بنو إسرائيل تسوسهم الأنبياء، كلما هلك نبي خلفه نبي و إنه لا نبي بعدى ، و سيكون خلفاء فيكثرون ، قالوا : فما تأمرنا ؟ قال : أوفوا بيعة الأول فالأول، أعطوهم حقهم، فإن الله سائلهم ما استرعاهم ].
قال الحافظ : [ فتح الباري كتاب أحاديث الأنبياء] : أي : أنهم كانوا إذا ظهر فيهم فساد، بعث الله لهم نبيا يقيم لهم أمرهم، و يزيل ما غيروا من أحكام التوراة و فيه إشارة إلى أنه لابد للرعية من قائم بأمورها، يحملها على الطريق الحسنة وينصف المظلوم من الظالم [انتهى].(1/3)
و فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر شاقة و هي من أشد الأعمال لأنها من جنس الجهاد في سبيل الله لما فيها من تحمل أذى الناس والصبر على كلامهم وأفعالهم لله تعالى كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية :[مجموع الفتاوى ج 35 ص 158] : و معلوم أن الجهاد و الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر هو من أفضل الأعمال [انتهى] .
إن ديننا خير دين ونبينا صلى الله عليه وسلم خير نبي وشريعتنا أفضل شرعة ومصحفنا خير كتاب وقبلتنا خير قبلة، وأمتنا خير أمة أخرجت للناس، تدعو إلى الخير وتعمل به، وتأمر بالمعروف وتأتيه و تنهى عن المنكر و لا تأتيه، فهي خير الأمم بلا منازع إذا قامت بما أمرها الله و كلفها به، و إن الله تعالى فضل محمدا صلى الله عليه وسلم على سائر الرسل و الأنبياء ، قال ابن تيمية : [مجموع الفتاوى ج 1 ص 1] : وجعل أمته خير أمة أخرجت للناس ،يأمرون بالمعروف و ينهون عن المنكر ويؤمنون بالله،يوفون سبعين أمة، وهو شهيد عليهم ، وهم شهداء على الناس في الدنيا والأخرة، بماأسبغه عليهم من النعم الباطنة و الظاهرة،و عصمهم أن يجتمعوا على ضلالة [انتهى].
فكل مسلم جندي من جنود الله ولو كان بسيطا فلابد أن يأمر الناس بالخير و التقوى و الصلاح و ينهى عن الشر والإثم والفساد، و بهذا الشرط بعد التوحيد ارتقت أمة الإسلام إلى خير الأمم كما وصفها الله تعالى في كتابه العظيم حيث قال تعالى : { كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف و تنهون عن المنكر و تؤمنون بالله... } وروى الترمذي وحسنه : عن بهز بن حكيم عن أبيه عن جده رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : [أنتم توفون سبعين أمة أنتم خيرها و أكرمها على الله تعالى]
مدخل الرسالة(1/4)
لقد وصف الله تعالى الأمة المحمدية بخير وصف وسماها بخير تسمية فوصفها بوصف نبيها صلى الله عليه و سلم في التوراة والإنجيل قال عبد الرحمن بن ناصر السعدي : [تيسير الكريم الرحمن ج 3 ص 100-101 ] قال الله :{ الذين يتبعون الرسول النبي الأمي الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة و الإنجيل يأمرهم بالمعروف و ينهاهم عن المنكر و يحل لهم الطيبات و يحرم عليهم الخبائث} أي : اسمه وصفته التي من أعظمها و أجلها ما يدعو إليه و ينهى عنه
وأنه :{ يأمرهم بالمعروف }: وهو كل ما عرف حسنه و صلاحه و نفعه { وينهاهم عن المنكر } : هو كل ما عرف قبحه في العقول و الفطر فيأمرهم بالصلاة و الزكاة و الصوم و الحج وصلة الأرحام وبر الوالدين و الإحسان إلى الجار والمملوك وبذل النفع لسائر الخلق والصدق والعفاف والبر والنصيحة وما أشبه ذلك، وينهى عن الشرك بالله وقتل النفوس بغير حق و الزنا و شرب ما يسكر العقل و الظلم لسائر الخلق و الكذب والفجور و نحو ذلك، فأعظم دليل يدل على أنه رسول الله ما دعا إليه و أمر به و نهى عنه و أحله و حرمه فإنه :{ يحل لهم الطيبات}: من المطاعم والمشارب و المناكح ، {ويحرم عليهم الخبائث }: من المطاعم و المشارب والمناكح والأقوال والفعال [انتهى].
فالمؤمن طيب يأمر نفسه وغيره بالقول الطيب والعمل الصالح، حتى لو كان وحده في خلوة بينه وبين نفسه فلا بد عليه أن يحمل نفسه على ما يرضى الله تبارك وتعالى ولا يجوز له أن يتكاسل عن أمر نفسه بالمعروف ونهيها عن المنكر والإثم .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية :[ مجموع الفتاوى ج 28 ص 169 ] : وكل بشر على وجه الأرض فلا بد له من أمر ونهي، ولابد أن يأمر و ينهى، حتى لو أنه وحده لكان يأمر نفسه وينهاها إما بمعروف وإما بمنكر [انتهى].(1/5)
وإن الأمة إن لم تقم بما شرفها الله به أو تخاذلت عن نصرة رسالتها و الدعوة إلى ما أمر الله به من الفضيلة و نهى عنه من الشر و الرذيلة سقطت من مرتبتها و منزلتها و مكانتها، لأنها ما نالت ذلك إلا بالتوحيد والتقوى و تبيليغ الرسالة بالدعوة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والحمد لله تعالى حق حمده الخير في أمة محمد صلى الله عليه وسلم غير منقطع إلى يوم القيامة و لا يزال فيها الرجال من كل صنف من أهل العلم والخير ممن يقوم بأمر الله تعالى و رسوله.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية : [مجموع الفتاوى ج 18 ص 126 ]: ولهذا كان إجماع هذه الأمة حجة فأن الله تعالى أخبر أنهم يأمرون بكل معروف وينهون عن كل منكر، فلو اتفقوا على إباحة محرم أو إسقاط واجب أو تحريم حلال أو إخبار عن الله تعالى أو خلقه بباطل لكانوا متصفين بالأمر بمنكر و النهي عن معروف من الكلم الطيب و العمل الصالح ، بل الآية تقتضي أن ما لم تأمر به الأمة فليس من المعروف و ما لم تنه عنه فليس من المنكر، وإذا كانت آمرة بكل معروف ناهية عن كل منكر فكيف يجوز أن تأمر كلها بمنكر أوتنهى كلها عن معروف ، والله تعالى كما أخبر بأنها تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر فقد أوجب ذلك على الكفاية منها بقوله: {ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون }، وإذا أخبر بوقوع الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر منها لم يكن من شرط ذلك أن يصل أمر الآمر ونهي الناهي منها إلى كل مكلف في العالم ، إذ ليس هذا من شرط تبليغ الرسالة : فكيف يشترط فيما هو من توابعها ؟ بل الشرط أن يتمكن المكلفون من وصول ذلك إليهم ثم إذا فرطوا فلم يسعوا في وصوله إليهم مع قيام فاعله بما يجب عليه - كان التفريط منهم لا منه[انتهى](1/6)
إن الأمم المسلمة الأخرى التى كانت ما قبلنا لها من الفضل و الخير والصلاح ما الله به عليم فلقد كانوا يعبدون الله تعالى ويصلحون ويأمرون بالخير و ينهون عن الشر كما قال ابن النحاس الدمشقي : [ كتاب تنبيه الغافلين ص 52 ] : قال الله تعالى:{ إن الذين يكفرون بآيات الله ويقتلون النبيين بغير حق و يقتلون الذين يأمرون بالقسط من الناس } والقسط: العدل ، قال القرطبي : دلت هذه الآية على أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كان واجبا في الأمم المتقدمة[انتهى]
إن فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر سن الله لها عقوبات شرعية وأحكام ردعية حتى ينتظم الأمر و يستقيم الملك للأمة المؤمنة بالله ورسوله صلى الله عليه وسلم لأن الحياة لابد لها من سياسية شرعية تساس بها الشعوب والأمم
قال شيخ الإسلام ابن تيمية : [ مجموع الفتاوى ج 28 ص 107 ] : الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر لا يتم إلا بالعقوبات الشرعية، وإن الله يزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن وإقامة الحدود واجبة على ولاة الأمور، وذلك يحصل بالعقوبة على ترك الواجبات و فعل المنكرات [انتهى].
ينبغي على الدعاة و المصلحين وطلبة العلم أن يعلموا المسلمين شريعة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وأحكامها كما يجب تعليمهم شعائر الإسلام الباقية كالصلاة و غيرها و شرائع الدين كالواجبات التي أوجبها الله على من اتبع رسول الله صلى الله عليه و سلم و انتمى إلى أمة الإسلام اعتقادا و قولا و عملا .(1/7)
قال شيخ الإسلام ابن تيمية [مجموع الفتاوى ج 15 ص 165-166] : الدعوة إلى الله واجبة على من اتبعه وهم أمته يدعون إلى الله كما دعا إلى الله وكذلك يتضمن أمرهم بما أمر به ونهيهم عما ينهى عنه وإخبارهم بما أخبر به، إذ الدعوة تتضمن الأمر وذلك يتناول الأمر بكل معروف والنهي عن كل منكر، وقد وصف أمته بذلك في غير موضع كما وصفه بذلك فقال تعالى :{ كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر }وقال تعالى :{ والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف و ينهون عن المنكر } الآية وهذا الواجب واجب على مجموع الأمة وهو الذي يسميه العلماء فرض كفاية إذا قام به طائفة منهم سقط عن الباقين فالأمة كلها مخاطبة بفعل ذلك و لكن إذا قامت به طائفة سقط عن الباقين ، قال تعالى :{ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون } ، فمجموع أمته تقوم مقامه في الدعوة إلى الله، و لهذا كان إجماعهم حجة قاطعة، فأمته لا تجتمع على ضلالة، و إذا تنازعوا في شيء ردوا ما تنازعوا فيه إلى الله و إلى رسوله، و كل واحد من الأمة يجب عليه أن يقوم من الدعوة بما يقدر عليه إذا لم يقم به غيره فما قام به غيره سقط عنه وما عجز لم يطالب به، وأما مالم يقم به غيره وهو قادر عليه فعليه أن يقوم به،ولهذا يجب على هذا أن يقوم بما لا يجب على هذا وقد تقسطت الدعوة على الأمة بحسب ذلك تارة وبحسب غيره أخرى،فقد يدعو هذا إلى اعتقاد الواجب وهذا إلى عمل ظاهر واجب وهذا إلى عمل باطن واجب، فتنوع الدعوة يكون في الوجوب تارة وفي الوقوع أخرى، وقد تبين بهذا أن الدعوة إلى الله تجب على كل مسلم،لكنها فرض على الكفاية وإنما يجب على الرجل المعين من ذلك ما يقدر عليه إذا لم يقم به غيره وهذا شأن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وتبليغ ماجاء به الرسول والجهاد في سبيل الله وتعليم الإيمان والقرآن وقد تبين بذلك أن الدعوة(1/8)
نفسها أمر بالمعروف ونهي عن المنكر فإن الداعي طالب مستدع مقتض لما دعي إليه وذلك هو الأمر به،إذ الأمر هو طلب للفعل المأمور به واستدعاء له ودعاء إليه فالدعاء إلى الله الدعاء إلى سبيله فهو أمر بسبيله وسبيله تصديقه فيما أخبر و طاعته فيما أمر[انتهى].
ودعوة الناس إلى الدين الإسلامي الحنيف لابد أن يكون فيها من الترغيب الحسن الصالح على أمور انتظام الحياة الدنيا لأن السؤال الذي يتكرر دائما : ما حكم الإسلام في مسائل الدنيا ؟ هل يعتني فقط بشؤون الآخرة ؟وهل الإسلام له نظام حياة ؟ ولماذا يعيش المسلمون في حالة فوضى ؟ ولماذا لا تتنعمون بحياة سعيدة كغيركم من الناس في سائر الملل .
قال الشيخ عبد الرحمن بن ناصر السعدى : [ كتاب تيسير الكريم الرحمن ج 4 ص 143 ] : قال الله تعالى { كنتم خير أمة أخرجت للناس ..}يمدح تعالى هذه الأمة، ويخبر أنها خير الأمم التى أخرجها الله للناس، وذلك بتكميلهم لأنفسهم بالإيمان المستلزم للقيام بكل ماأمرالله به، وبتكميلهم لغيرهم بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر المتضمن دعوة الخلق إلى الله، وجهادهم على ذلك وبذل المستطاع في ردهم عن ضلالهم وغيهم وعصيانهم،فبهذا كانوا خير أمة أخرجت للناس لما كانت الآية السابقة و هي قوله:{ولتكن منكم أمة } : أمرا منه تعالى لهذه الأمة، و الأمر قد يمتثله المأمور و يقوم به و قد لا يقوم به أخبر في هذه الآية أن الآمة قد قامت بما أمرها الله بالقيام به، و امتثلت أمر ربها واستحقت الفضل على سائر الأمم [انتهى]
إن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يشمل كل الناس مهما كانت منزلتهم ومرتبتهم، و لا يختص بالإنس وحدهم ، بل هو عام حتى في الجن وحتى في الحيوانات ألم ينهى الرسول صلى الله عليه و سلم عن التحريش بين البهائم ، وإن المسلم إذا رآى البهائم يعتدي بعضها على بعض يجب عليه أن يخلص المعتدى عليه وهذا من سماحة الإسلام.(1/9)
قال ابن تيمية :[ مجموع الفتاوى ج 19 ص 40 ] : و الواجب على المسلم أن يستعمل فيهم ما استعمله في الإنس من الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر و الدعوة إلى الله كما شرع الله ورسوله و كما دعاهم النبي صلى الله عليه وسلم
ويعاملهم إذا اعتدوا بما يعامل به المعتدون، فيدفع صولهم بما يدفع صول الإنس [انتهى]
قبل الشروع في الرسالة أوصي إخواننا المسلمين : أن يعتنوا بالعلم النافع والعمل الصالح و أن يشتغلوا بالسنة البيضاء و الفقه على منهج أهل السنة و الجماعة و أن يعمل على ضوء الكتاب و السنة وكذا من كان مقبول العدالة يجب عليه أن يتصرف بالحكمة في كل خطواته و أعماله كما ينبغي عليه أن يتصرف بما يوافق الشرع في كل أفعاله ، و لله در الإمام العلامة العامل المجاهد ابن القيم إذ يقول في النونية [ كتاب الشافية الكافية]
* يا أيها الرجل المريد نجاته ** اسمع مقالة ناصح معوان**
* كن في أمورك كلها متمسكا ** بالوحي لا بزخارف الهذيان**
* وانصر كتاب الله والسنن التى ** جاءت عن المبعوث بالقرآن**
الفصل الأول
القسم الأول :
1 – حاجة العباد إلى رسالة الإسلام كاملة
إن الله تعالى خلق العباد وهو أعلم سبحانه وتعالى ما يصلح لهم وما لا يصلح وما من أمر خير ورحمة وبركة ونفع وصلاح إلا وسنه وشرعه لهم وما ذلك إلا لكمال رسالة التوحيد وسماحة ديانة الإسلام وفي المقابل ما من نهي نهى عنه سبحانه وتعالى إلا لصالحهم لما فيه من الضرر والشر والأذى والفساد قال تعالى : {ما جعل عليكم في الدين من حرج}(1/10)
قال شيخ الإسلام ابن تيمية : [مجموع الفتاوى ج 19 ص 97-98] وحاجة العبد إلى الرسالة أعظم بكثير من حاجة المريض إلى الطب، فإن آخر ما يقدر بعدم الطبيب موت الأبدان، وأما إذا لم يحصل للعبد نور الرسالة وحياتها، مات قلبه موتا لا ترجى الحياة معه أبدا أو شقي شقاوة لا سعادة معها أبدا، فلا فلاح إلا باتباع الرسول، فإن الله خص بالفلاح أتباعه المؤمنين وأنصاره كما قال تعالى : {فالذين آمنوا به وعزروه ونصروه واتبعوا النور الذي أنزل معه أولئك هم المفلحون } أي : لا مفلح إلا هم ، كما قال تعالى :{ ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون } ، فخص هؤلاء بالفلاح كما خص المتقين الذين يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلاة وينفقون مما رزقهم ويؤمنون بما أنزل إلى رسوله وما أنزل من قبله ويوقنون بالآخرة و بالهدى والفلاح فعلم بذلك أن الهدى والفلاح دائر حول ربع الرسالة وجودا وعدما، وهذا مما اتفقت عليه الكتب المنزلة من السماء، وبعث به جميع الرسل، ولهذا قص الله علينا أخبار الأمم المكذبة للرسل، وما صارت إليه عاقبتهم وأبقى آثارهم وديارهم عبرة لمن بعدهم وموعظة وكذلك مسخ من مسخ قردة وخنازير لمخالفتهم لأنبيائهم وكذلك من خسف به أرسل عليه الحجارة من السماء وأغرقه في اليم، وأرسل عليه الصيحة وأخذه بأنواع العقوبات وإنما ذلك بسبب مخالفتهم للرسل وإعراضهم عما جاءوا به واتخاذهم أولياء من دونه وهذه سنته سبحانه فيمن خالف رسله وأعرض عما جاءوا به واتبع غير سبيلهم ولهذا أبقى الله سبحانه آثار المكذبين لنعتبر بها ونتعظ لئلا نفعل كما فعلوا فيصيبنا ما أصابهم [انتهى](1/11)
إن الأمة المفلحة الناجية من العذاب في الدنيا والآخرة هي الأمة المسلمة المستسلمة لله تعالى التي تطبق الأوامر الربانية وتنتهي عن الزواجر والنواهي الإلهية وهي الأمة التي أمر ها الله أن تدعو إلى الخير وتأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر كما قال عبد الرحمن بن ناصر السعدى : [كتاب تيسير الكريم الرحمن ص ج 4 ص 132] قال الله تعالى : {ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير، ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، وأولئك هم المفلحون } وليكن منكم أيها المؤمنون الذين من الله عليهم بالإيمان والإعتصام بحبله {أمة}أي جماعة {يدعون إلى الخير} وهو اسم جامع لكل ما يقرب إلى الله ويبعد من سخطه {ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر} وهو ما عرف بالشرع والعقل قبحه، وهذا إرشاد من الله للمؤمنين أن يكون منهم جماعة متصدية للدعوة إلى سبيله، وإرشاد الخلق إلى دينه، ويدخل في ذلك العلماء المعلمون للدين والوعاظ الذين يدعون أهل الأديان إلى الدخول في دين الإسلام، ويدعون المنحرفين إلى الإستقامة والمجاهدون في سبيل الله، والمتصدون لتفقد أحوال الناس، وإلزامهم بالشرع كالصلوات الخمس والزكاة والصوم والحج وغير ذلك من شرائع الإسلام وكتفقد المكاييل والموازين وتفقد أهل السوق ومنعهم من الغش والمعاملات الباطلة وكل هذه الأمور من فروض الكفايات كما تدل عليه الآية الكريمة في قوله :{ ولتكن منكم أمة ...} أي : لتكن منكم جماعة يحصل المقصود بهم في هذه الأشياء المذكورة ومن المعلوم المتقرر أن الأمر بالشيء أمر به،وبما لا يتم إلا به، فكل ما تتوقف هذه الأشياء عليه فهو مأمور به، كالإستعداد للجهاد بأنواع العدد التى تحصل بها نكاية الأعداء وعز الأسلام، وتعلم العلم الذي يحصل به الدعوة إلى الخير وسائلها ومقاصدها وبناء المدارس للإرشاد والعلم ومساعدة النواب ومعاونتهم على تنفيذ الشرع في الناس بالقول والفعل والمال وغير ذلك مما تتوقف هذه الأمور عليه وهذه الطائفة(1/12)
المستعدة للدعوة إلى الخير والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هم خواص المؤمنين ولهذا قال تعالى عنهم:{وأولئك هم المفلحون} الفائزون بالمطلوب الناجون من المرهوب [انتهى]
و في غالب الأحوال الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يكونان عند ترك واجب أو فعل محرم ، و أما إذا انتهكت محارم الله أو اعتدى مسلم أو كافر على حدود الله فلأمر بالمعروف والنهي عن المنكر آكد في هذه الحال ، لأن الله تعالى نهى المسلمين أن يعترفوا بالمنكر أو يقروه بين ظهرانيهم وبهذا فالمسلمون هم خير الناس على وجه الأرض على الإطلاق كما نقل الحافظ في فتح الباري عن الطبري : عن ابن عباس رضي الله عنه قال: [ أمر الله المؤمنين أن لا يقروا المنكر بين أظهرهم فيعمهم العذاب].
قال شيخ الإسلام ابن تيمية في عقيدة أهل السنة والجماعة : [ العقيدة الواسطية ص 15] : ثم هم مع هذه الأصول يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر على ماتوجبه الشريعة و يرون إقامة الحج و الجهاد و الجمع و الأعياد مع الأمراء أبرارا كانوا أو فجارا ويحافظون على الجماعات و يدينون بالنصيحة للأمة [انتهى](1/13)
قال أبو بكر [كتاب أحكام القرآن ج2 ص 45 ] : قال الله تعالى : {ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير، ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر } قد حوت هذه الآية معنيين : أحدهما : وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ،والآخر أنه فرض على الكفاية ليس بفرض على كل أحد في نفسه إذا قام به غيره لقوله تعالى :{ولتكن منكم أمة}وحقيقته تقتضي البعض دون البعض, فدل على أنه فرض الكفاية إذا قام به بعضهم سقط عن الباقين، ومن الناس من يقول هو فرض على كل أحد في نفسه و يجعل مخرج الكلام مخرج الخصوص في قوله :{ ولتكن منكم أمة } مجازا...والذي يدل على صحة هذا القول أنه إذاقام به بعضهم سقط عن الباقين كالجهاد وغسل الموتى وتكفينهم والصلاة عليهم ودفنهم,و لو لا أنه فرض على الكفاية لما سقط عن الآخرين بقيام بعضهم به وقد ذكر الله تعالى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في مواضع أخر من كتابه فقال عز وجل:{ كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر }، وقال فيما حكى عن لقمان :{ يا بني أقم الصلاة وأمر بالمعروف وانه عن المنكر واصبر على ما أصابك إن ذلك من عزم الأمور} ، وقال تعالى :{ وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما، فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله } ، وقال عز وجل:{ لعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داود و عيسى ابن مريم ذلك بما عصوا و كانوا يعتدون كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه لبئس ما كانوا يفعلون } فهذه الآي ونظائرها مقتضية لإيجاب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر,وهي على منازل أولها تغييره باليد إذا أمكن, فإن لم يمكن وكان في نفيه خائفا على نفسه إذا أنكره بيده فعليه إنكاره بلسانه, فإن تعذر ذلك لما وصفنا فعليه إنكاره بقلبه كما حدثنا عبد الله بن جعفر بن أحمد بن فارس قال:حدثنا يونس بن حبيب قال:حدثنا أبو داود الطيالسي قال:حدثنا شعبة قال:أخبرني قيس بن مسلم قال:سمعت(1/14)
طارق بن شهاب قال:قدم مروان الخطبة قبل الصلاة فقام رجل فقال:خالفت السنة كانت الخطبة بعد الصلاة قال:ترك ذلك يا أبو فلان قال شعبة:وكان لحانا فقام أبو سعيد الخدري فقال أما هذا المتكلم فقد قضى ما عليه, قال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم: [ من رأى منكم منكرا فلينكره بيده فإن لم يستطع فلينكره بلسانه فإن لم يستطع فلينكره بقلبه وذاك أضعف الإيمان] ، وحدثنا محمد بن بكر البصري قال حدثنا أبوداود قال حدثنا محمد بن العلاء قال حدثنا أبو معاوية عن الأعمش عن إسماعيل بن رجاء عن أبيه عن أبي سعيد,وعن قيس بن مسلم عن طارق بن شهاب عن أبي سعيد الخدري قال:سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : [ من رأى منكم منكرا فاستطاع أن يغيره بيده فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه وذاك أضعف الإيمان]، فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن إنكار المنكر على هذه الوجوه الثلاثة على حسب الإمكان ودل على أنه إذا لم يستطع تغييره بيده فعليه تغييره بلسانه ثم إذا لم يمكنه ذلك فليس عليه أكثر من إنكاره بقلبه[انتهى]
تبسط أهل العلم لتعريفات الأمر والنهي
كفى بالأمر بالمعروف وجوبا أن الله تعالى فرضه على كل من رآى منكرا و كان قادرا على تغييره ، وكفى بالتخاذل عنه إثما وذما أن الله تعالى يعاقب من تركه وتخلى عن العمل به والتحلي بأخلاقه وأحكامه .
قال ابن تيمية:[ كتاب مجموع الفتاوى ج 11- ص 91 ] : و الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر فرض على كل مسلم، لكنه من فروض الكفايات إن قام بهما من يسقط به الفرض من ولاة الأمر أو غيرهم، و الأوجب على غيرهم أن يقوم من ذلك بما يقدر عليه [انتهى]
وكثير من الناس يظن أن الأمر بالمعروف فرض كفاية أي يسقط عنه ابتداء رغم انعدام من ينكره ويحذر منه ، وهذا خطأ كبير وجهل عظيم ،فيقول هذا المسكين سوف يغيره غيري إذا رآه أو سمعه أو شهده فنعوذ بالله من الفهم السقيم.(1/15)
قال ابن النحاس الدمشقي :[كتاب تنبيه الغافلين ص 23] : واعلم أن مقتضى فرض الكفاية، أنه إذا قام به البعض حاز الأجر الجزيل من الله تعالى،وسقط الحرج عن الباقين، ولكن يشترط في سقوط الحرج هنا أن يكون الساكت عن الأمر والنهي إنما سكت لعلمه بقيام من قام عنه بالفرض، فإن سكت ولم يعلم بقيامه، فالظاهر "والله أعلم" أنه لا يسقط عنه الحرج لأنه أقدم على ترك واجب عمدا [انتهى].
إن العصاة و الفجار والمنافقين دائما وأبدا لا بد لهم من تلزمهم بالطاعة قولا وعملا وكذلك من يجنبهم المعصية و إلا فإنهم لا ينزجرون و لا يرتدعون إلا بالسلطان الشرعي المتين لأن الله تعالى وصفهم في الكتاب فقال سبحانه :{وإن يروا سبيل الرشد} قال عبد الرحمن بن ناصر السعدى :[ كتاب التفسير تيسير الكريم الرحمن ج 3 ص 90 ] : أي : الهدى و الإستقامة وهو الصراط الموصل إلى الله و إلى دار كرامته { لا يتخذوه} أي : لا يسلكوه و لايرغبوا فيه {سبيلا }،{و إن يروا سبيل الغي } أي : الغواية الموصل لصاحبه إلى دار الشقاء { يتخذوه سبيلا }[انتهى]
إن الله تعالى وصف المؤمنين بأحسن الصفات ومنها قوله تعالى :{والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر }وذكر صفات المنافقين فبين سبحانه أنهم لا يأمرون بالمعروف و لا ينهون عن المنكر ، بل يفعلون عكس ما يفعله المؤمن والمؤمنة يأمرون بالمنكر وينهون عن المعروف
قال شيخ الإسلام ابن تيمية :[ اقتضاء الصراط المستقيم ج 1 ص 106 ] فقال سبحانه في صفة المنافقين :{ يأمرون بالمنكر وينهون عن المعروف }وبإزائه في صفة المؤمنين { يأمرون بالمعروف و ينهون عن المنكر } ، والمعروف : اسم جامع لكل ما يحبه الله من الإيمان والعمل الصالح، والمنكر : اسم جامع لكل ما نهى الله عنه (كرهه الله(1/16)
وقال عبد الرحمن بن ناصر السعدى : [ تيسير الكريم الرحمن ج 3 ص 261] قال الله تعالى :{المنافقون و المنافقات بعضهم من بعض …}،ثم ذكر وصف المنافقين العام:الذي لا يخرج منه صغير منهم و لا كبير فقال :{ يأمرون بالمنكر}: وهو الكفر و الفسوق و العصيان {وينهون عن المعروف }: و هو الإيمان والأخلاق الفاضلة و الأعمال الصالحة و الأداب الحسنة[انتهى]
والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر سهم من سهام الإسلام و منارات الدين التي لا يرفع لواءها إلا به ، لأنه ذروة صلاح المسلمين بعد الدعوة إلى التوحيد وعبادة وعبادة الله وحده لا شريك له كماروى البزار و صححه الألباني:عن حذيفة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :[الإسلام ثمانية أسهم الإسلام سهم ،والصلاة وسهم،والزكاة سهم،والصوم سهم،وحج البيت سهم والأمر بالمعروف سهم، والنهي عن المنكر سهم،والجهاد في سبيل الله سهم، وقد خاب من لاسهم له].
قال الشيخ ابن النحاس الدمشقي :[ كتاب تنبيه الغافلين ص 21 ] : فانظر أيها الأخ إلى هذا السهم من الدين، فقد تركه وأهمله أكثر المسلمين وأصبحوا فيه مداهنين لا يلفتون وجوههم إليه ولا يعولون فيما بينهم عليه كأنهم عنه لا يسألون إنا لله وإنا إليه راجعون [انتهى]
كل مسلم لا يقوم بواجبه اتجاه أمته في تطهيرها من كل شر وفساد أثم بلا شك لتركه هذه الفريضة الربانية بلا خلاف عند الفقهاء و من لم يجتهد في إقامة هذه الشريعة السمحة و تبصير الناس بأحكامها فليعلم أنه من المقصرين الأثمين(1/17)
قال شيخ الإسلام :[في المجموع ج 28 ص 127] وكذلك الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر لايجب على كل أحد بعينه، بل هو على الكفاية كما دل عليه القرآن، ولما كان الجهاد من تمام ذلك كان الجهاد أيضا كذلك فإذا لم يقم به من يقوم بواجبه أثم كل قادر بحسب قدرته، إذ هم واجب على كل إنسان بحسب قدرته كما قال النبي صلى الله عليه وسلم :[ من رأى منكم منكرا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان ]، و إذا كان كذلك، فمعلوم أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وإتمامه بالجهاد هو من أعظم المعروف الذي أمرنا الله به، ولهذا قيل : ليكن أمرك بالمعروف بالمعروف ونهيك عن المنكر من غير منكر، و إذا كان هو من أعظم الواجبات والمستحبات، فالواجبات والمستحبات لابد أن تكون المصلحة فيها راجحة على المفسدة، إذ بهذا بعثت الرسل و أنزلت الكتب،والله لا يحب الفساد،بل كل ماأمر الله به فهو صلاح، وقد أثنى الله على الصلاح والمصلحين والذين آمنوا وعملوا الصالحات،وذم المفسدين في غير موضع، فحيث كانت مفسدة الأمر و النهي أعظم من مصلحته لم تكن مما أمر الله به[انتهى].
و قد بين العلماء أنه لا نجاة لمن ترك الأمر و النهي و لاسيما إذا كان ممن يتبع الشهوات فإنه يعد من جملة المعتدين المفسدين في حق نفسه و أمته قال إسحاق بن عبد الرحمن بن حسن : [رسالة إلى رؤساء ساحل عمان وفارس وجعلان ] : قال تعالى :{ و لتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ...}: فدلت الآيات على : وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر و أنه لا نجاة إلا لمن قام بذلك و إن إتباع الشهوات و إيثار اللذات يوجب الكون في جملة المجرمين، والآيات في هذا المعنى والأحاديث أكثر من أن تحصر، ومن كان الله وحده مراده و معبوده و محبوبه انقاد لأوامره ونواهيه و لم يداهن أحدا فيه [انتهى](1/18)
فالواجب على كل مسلم أن ينصح ويوجه ويرشد ويعلم من لم يفقه أمور الدين وهذا من حق المسلم على المسلم عملا بما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم في الباب فيما رواه البخاري (1/137 رقم : 57) ومسلم في صحيحيهما : عن جرير رضي الله عنه قال :[ بايعت رسول الله صلى الله عليه وسلم على إقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، والنصح لكل مسلم ] قال ابن النحاس الدمشقي : [ كتاب تنبيه الغافلين ص 17] : فانظر رحمك الله كيف قرن النبي صلى الله عليه وسلم النصح الذي هو عبارة عن الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر بالصلاة و الزكاة، يتبين لك عظم محلهما وتأكد وجوبهما.
إن فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر شاقة و متعبة لما فيها من المشقة وبغض الناس للآمر والناهي و ربما يؤذونه في سبيل ذلك و لكن أجرها عظيم عند الله تعالى قال النووي : [ شرح صحيح مسلم ج 1 ص301 ] : واعلم أن الأجر على قدر النصب، ولايتاركه أيضا لصداقته ومودته ومداهنته وطلب الوجاهة عنده ودوام المنزلة لديه، فإن صداقته ومودته توجب له حرمة و حقا، و من حقه أن ينصحه و يهديه إلى مصالح آخرته، وينقذه من مضارها وصديق الإنسان ومحبه هو من سعى في عمارة آخرته وإن أدى ذلك إلى نقص في دنياه وعدوه من يسعى في ذهاب أونقص آخرته وإن حصل بسبب ذلك صورة نفع في دنياه وإنما كان إبليس عدوّا لنا لهذا و كانت الأنبياء-صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين- أولياء للمؤمنين لسعيهم في مصالح آخرتهم وهدايتهم إليها، ونسأل الله الكريم توفيقنا وأحبابنا و سائر المسلمين لمرضاته وأن يعمنا بجوده ورحمته -والله أعلم [انتهى](1/19)
كثير من المسلمين غفلوا عن هذا الواجب الرباني وحتى الذين يأمرون وينهون لا يؤدون هذا الواجب على الوجه الصحيح كما أمر الله إلا من رحم الله تعالى من القلة الصالحة ، و إن العداوة التي تقع بين الناس سببها ترك جزء مما أمروا به ( أي : بعضه) فكيف بمن ترك نصف ما أمر به؟ فكيف بمن ترك كل ما أمر به ؟ فكيف بمن بدل ما أمر به؟ قال شيخ الإسلام ابن تيمية : [ مجموع الفتاوى ج 3 ص 422 ] : فمتى ترك الناس بعض ما أمرهم الله به وقعت بينهم العداوة و البغضاء، و إذا تفرق القوم فسدوا وهلكوا و إذا اجتمعوا صلحوا و ملكوا، فإن الجماعة رحمة والفرقة عذاب وجماع ذلك في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كما قال تعالى:{ يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون }{ واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا } إلى قوله:{ ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون }، فمن الأمر بالمعروف : الأمر بالائتلاف والاجتماع ،والنهي عن الاختلاف والفرقة ومن النهي عن المنكر إقامة الحدود على من خرج من شريعة الله تعالى [انتهى]
وحقيقة المقصود بفريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إقامة الدين لله عقيدة وعبادة وحكما وعملا وخلقا وسلوكا وإذا ترك الناس هذا الأمر الرباني كانوا ممن نسوا حظا مما ذكروا به أي مما أمروا به .(1/20)
قال عبد الرحمن بن ناصر السعدى : [ كتاب التفسير تيسير الكريم الرحمن ج 3 ص 108 ] قال الله تعالى :{ فلما نسوا ما ذكروا به، نجينا الذين ينهون عن السوء ...} : وهذا هو المقصود العظيم من إنكار المنكر، ليكون معذرة وإقامة حجة على المأمور المنهي، ولعل الله أن يهديه فيعمل بمقتضى ذلك الأمر والنهي{ فلما نسوا ما ذكروا به ...} أي : تركوا ما ذكروا به و استمروا على غيهم واعتدائهم :{ نجينا الذين ينهون عن السوء...}،وهكذا سنة الله في عباده ، أن العقوبة إذا نزلت نجا منها الأمرون بالمعروف و الناهون عن المنكر [انتهى]
إن الله تبارك وتعالى جعل الأمر والنهي هو الفاصل بين المؤمنين الصالحين والفاسقين الفاجرين والصادقين و المنافقين والمحبين المطيعين والمنحرفين المفسدين كما قال ابن النحاس الدمشقي :[ كتاب تنبيه الغافلين ص 16] : قال أبو حامد الغزالي : فقد نعت الله المؤمنين بأنهم :{ يأمرون بالمعروف و ينهون عن المنكر} : فالذي هجر الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر خارج عن هؤلاء المؤمنين، و قال القرطبي رحمه الله تعالى : جعل الله الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر فرقا بين المؤمنين و المنافقين، فدل على أن أخص أوصاف المؤمنين الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر ورأسها الدعاء إلى الإسلام والقتال عليه [انتهى]
قال ابن النحاس (قلت): وفي ذكره تعالى {والمؤمنات }:هنا دليل على أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجب على النساء كوجوبه على الرجال حيث وجدت الإستطاعة - والله أعلم – [انتهى]
الواجب على القادر من هذه الأمة أن ينكر المنكر وليعلم أن ذلك من معالى الأخلاق(1/21)
بوب ابن حبان : باب نفي الإيمان عن الذي يحرم هذه الأخلاق روى مسلم (1/69 رقم:80) وأحمد(1/458)وابن حبان(1/346): عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : [ ما من نبي بعثه الله في أمة قبلي إلا كان له من أمته حواريون و أصحاب، يأخذون بسنته و يقتدون بأمره، ثم إنها تخلف من بعدهم خلوف يقولون ما لا يفعلون ويفعلون ما لا ُيؤمَرُون ،فمن جاهدهم بيده فهو مؤمن، و من جاهدهم بلسانه فهو مؤمن، و من جاهدهم بقلبه فهو مؤمن، و ليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردلي] .
قال ابن النحاس الدمشقي : [ تنبيه الغافلين ص 18 ] : فاختر يا هذا لنفسك، إما أن تكون خلف الأنبياء والحواريين فتكون رفيقهم في دار القرار، أو خلف الفاسقين والأشقياء فترد معهم دار البوار، إذ الساكت عن المنكر مع إمكان الإنكار، شريك له في الإثم يرَدِ ُمع شريكه النار، اللهم بصرنا بمهاوى الإغترار، واحشرنا مع عبادك الأبرار فإنك ذو الفضل العظيم [انتهى]
إن الأمربالمعروف من كمال الولاء بين المؤمنين لأن من نَصحك وأمَرك بخير فقد أحبك ومن أقرك على المنكر فقد غشك وداهنك ولم يخلص لك النصح والرشد وكذلك النهي عن المنكر ومن كمال إيمان المسلم ولا يعلو الدين إلا بذلك
قال سليمان بن عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب: [رسالة أوثق عرى الإيمان هل يتم الدين، أو يقام علم الجهاد، أوعَلَم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إلا بالحب في الله والبغض في الله، والمعادات في الله و الموالاة في الله، وكان الناس متفقين على طريقة واحدة ومحبة من غير عداوة و لابغضاء،لم يكن فرقانا بين الحق والباطل، و لابين المؤمنين والكفار و لا بين أولياء الرحمن و أولياء الشيطان [انتهى](1/22)
بوب النووي : باب بيان كون الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر من الإيمان و إن الإيمان يزيد وينقص و أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجبان روى مسلم(1/69 رقم: 49) :عن أبي سعيد الخدرى رضي الله عنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول :[ من رأى منكم منكرا فليغيره بيده فإن لم يستطيع فبلسانه فإن لم يستطيع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان ] قال النووي [ شرح صحيح مسلم ج1 ص299] : [فليغيره] : فهو أمر إيجاب بإجماع الأمة، و قد تطابق وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الكتاب والسنة وإجماع الأمة، و هو أيضا النصيحة التي من الدين، و لم يخالف في ذلك إلا بعض الرافضة و لا يعتد بخلافهم كما قال الإمام أبو المعالي إمام الحرمين لا يكترث بخلافهم في هذا فقد أجمع المسلمون عليه قبل أن ينبغ هؤلاء ووجوبه بالشرع لا بالعقل خلافا للمعتزلة [انتهى](1/23)
أمة النبي صلى الله عليه وسلم أحيت فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بعد أن اندرست بين الناس ولهذا استحقت وصف الخيرية في الكتاب والسنة فوصفهم الله تعالى بخير وصف في كتابه وفضلها على علم على سائر الأمم والأجناس بالتوحيد والأمر والنهي قال شيخ الإسلام ابن تيمية : [مجموع الفتاوى ج 28 ص 121] قال الله تعالى:{ كنتم خير أمة أخرجت للناس…}، { والمؤمنون و المؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر…}، ولهذا قال أبو هريرة رضي الله عنه : [ كنتم خير الناس للناس تأتون بهم في الأقياد والسلاسل حتى تدخلوهم إلى الجنة] ، فبين سبحانه أن هذه الأمة خير الأمم للناس،فهم أنفعهم لهم وأعظمهم إحسانا إليهم، لأنهم كملوا أمر الناس بالمعروف و نهيهم عن المنكر من جهة الصفة و القدر حيث أمروا بكل معروف ونهوا عن كل منكر لكل أحد، و أقاموا ذلك بالجهاد في سبيل الله بأنفسهم و أموالهم، و هذا كمال النفع للخلق و سائر الأمم لم يأمروا كل أحد بكل معروف، و لا نهوا كل أحد عن كل منكر، و لا جاهدوا على ذلك [انتهى](1/24)
ما من عبد أو أمة يغيروا الطاعة بالمعصية إلا و يغير الله عليهم العافية بالبلاء و النعمة بالنقمة والتمكين بالإستضعاف قال تعالى :{ ذلك بأن الله لم يكن مغيرا نعمة أنعمها على قوم حتى يغيروا ما بأنفسهم ...}، فنعوذ بالله العظيم من موجبات سخطه و سوء قضاءه و قدره ، روى أحمد و أبو يعلى والطبراني و الهيثمي و صححه الألباني : عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ أما بعد يا معشر قريش، فإنكم أهل لهذا الأمر ما لم تعصوا الله فإذا عصيتموه بعث عليكم من يلحاكم كما يلحى هذا القضيب-بقضيب في يده- ثم لحى قضيبه فإذا هو أبيض يصلد ]، والمعصية لها منازل متفاوتة ولكنها كلها شر صغيرها وكبيرها روى أحمد(ج1ص402)وابن ماجه(رقم:4243)والطبراني(10501) و صححه الحافظ ج11ص329: عن ابن مسعود رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : [ إياكم ومحقرات الذنوب، فإنهن يجتمعن على الرجل حتى يهلكنه،وضرب لهن رسول الله صلى الله عليه وسلم مثلا كمثل قوم نزلوا أرض فلاة، فحضر صنيع القوم، فجعل الرجل ينطلق فيجىء بالعود والرجل يجى ء بالعود، حتى جمعوا سوادا وأجّجوا نارا فأنضجوا ما قذفوا فيها].
فالصغيرة تجر إلى الكبيرة واللواحق لها سوابق والمعصوم من عصمه الله ورفعه.
قال الشيخ ابن القيم : [ كتاب الجواب الكافي ص63 ] قال بعض السلف : المعاصي بريد الكفر، كما أن القبلة بريد الجماع، و الغناء بريد الزنا و النظر بريد العشق، والمرض بريد الموت [انتهى](1/25)
يجب على كل مسلم أن يعرف سبيل المؤمنين من سبيل المجرمين كما قال الله تعالى :{ و كذلك نفصل الايات ولتستبين سبيل المجرمين }روى الطبراني في الكبير(9/112)وإسناده صحيح وقال الهيثمي في المجمع(7/275):رجاله رجال الصحيح سمع ابن مسعود رضي الله عنه رجلا يقول : [ هلك من لم يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر] فقال : [ هلك من لم يعرف بقلبه المعروف و المنكر] ، قال ابن رجب الحنبلي : [ جامع العلوم و الحكم ج2/ص235] يشير إلى أن معرفة المعروف والمنكر بالقلب فرض لا يسقط عن احد فمن لم يعرفه هلك [انتهى].
القسم الثاني :
فضائل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر:(1/26)
إن أمة النبي صلى الله عليه وسلم خصها الله بخصائص وأكرمها بنعم ومنّ عليها بمنن لم يمنها على غيرها ومن هذه النعم الكبرى أنه تعدل كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم سبعين أمة هي خيرها وأكرمها على الله تعالى قال الجصاص: [أحكام القرآن (2/52)] قوله عز وجل:{ كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر } قيل في معنى قوله : { كنتم } وجوه : روي عن الحسن أنه يعني فيما تقدمت البشارة والخبر به من ذكر الأمم في الكتب المتقدمة , قال الحسن : نحن آخرها , وأكرمها على الله ، وحدثنا عبد الله بن محمد بن إسحاق قال : حدثنا الحسن بن أبي الربيع قال : أخبرنا عبد الرزاق قال : أخبرنا معمر عن بهز بن حكيم عن أبيه عن جده : أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول في قوله تعالى : { كنتم خير أمة أخرجت للناس } قال :" أنتم تتمون سبعين أمة أنتم خيرها, وأكرمها على الله تعالى" فكان معناه : كنتم خير أمة أخبر الله بها أنبياءه فيما أنزل إليهم من كتبه وقيل : إن دخول كان وخروجها بمنزلة " إلا " بمقدار دخولها لتأكيد وقوع الأمر لا محالة إذ هو بمنزلة ما قد كان في الحقيقة كما قال تعالى : {وكان الله غفورا رحيم} وكان الله عليما حكيما والمعنى الحقيقي وقوع ذلك ، وقيل : { كنتم خير أمة } بمعنى حدثتم خير أمة , فيكون " خير أمة " بمعنى الحال . وقيل : { كنتم خير أمة } في اللوح المحفوظ , وقيل : كنتم منذ أنتم ليدل أنهم كذلك من أول أمرهم . وفي هذه الآية دلالة على صحة إجماع الأمة من وجوه . أحدها : كنتم خير أمة , ولا يستحقون من الله صفة مدح إلا وهم قائمون بحق الله تعالى غير ضالين . والثاني : إخباره بأنهم يأمرون بالمعروف فيما أمروا به فهو أمر الله تعالى ; لأن المعروف هو أمر الله . والثالث : أنهم ينكرون المنكر , والمنكر هو ما نهى الله عنه , ولا يستحقون هذه الصفة إلا وهم لله رضى ; فثبت بذلك أن ما أنكرته الأمة فهو منكر وما(1/27)
أمرت به فهو معروف وهو حكم الله تعالى وفي ذلك ما يمنع وقوع إجماعهم على ضلال , ويوجب أن ما يحصل عليه إجماعهم هو حكم الله تعالى [ انتهى].
عباد الله : إن حب الخير و بغض الشر خصلة فطرية مؤصلة في الإنسان والمؤمن المستقيم يحب الخير أكثر من غيره من البشر، فلهذا لا ينبغي له أن يرضى إلا بما يوافق دين الله تعالى في بيته وأهله وأمته ، قال شيخ الإسلام ابن تيمية [مجموع الفتاوى ج 28 ص 131] : وأصل هذا أن تكون محبة الإنسان المعروف وبغضه للمنكر وإرادته لهذا وكراهته هذا موافقة لحب الله وبغضه وإرادته وكراهته الشرعيين وأن يكون فعله للمحبوب ودفعه للمكروه بحسب قوته وقدرته وإن الله لا يكلف نفسا إلا وسعها وقد قال:{واتقوا الله ما استطعتم} وأماحب القلب وبغضه وإرادته وكراهيته:فينبغي أن تكون كاملة جازمة لا يوجب نقص ذلك إلا نقص الإيمان [انتهى]
وما ضاعت هذه الأمة إلا بتركها التوحيد و الإصلاح هذه المنارة الرفيعة من ديننا ، و إلا بالله عليكم كيف طرأ عليها الضعف والفساد لو لا تركها هذه الفريضة التي لا يهزم من قام بحقها أما م اليهود والنصارى والمجوس والمشركين .(1/28)
قال الشيخ النووي : [شرح صحيح مسلم ج 1 ص 300-301] و اعلم أن هذا الباب أعني الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، قد ضيع أكثره من أزمان متطاولة، و لم يبق منه في هذه الأزمان إلا رسوم قليلة جدّا، و هو باب عظيم به قوام الأمر و ملاكه و إذا كثر الخبث عم العقاب الصالح و الطالح ، و إذا لم يأخذوا على يد الظالم أوشك أن يعمهم الله تعالى بعقابه { فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة }، فينبغي لطالب الآخرة و الساعي في تحصيل رضا الله عز وجل أن: يعتني بهذا الباب، فإن نفعه عظيم لاسيما وقد ذهب معظمه ويخلص فيه نيتة ولايهادن من ينكر عليه لارتفاع مرتبته فإن الله تعالى قال : {ولينصرن الله من ينصره } ، قال تعالى :{ ومن يعتصم بالله فقد هدي إلى صراط مستقيم }، وقال تعالى: {والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا } و قال تعالى :{ أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون، و لقد فتنا الذين من قبلهم فليعلمن الله الذين صدقوا و ليعلمن الكاذبين }[انتهى](1/29)
ولو قامت أمة الإسلام والتوحيد بفريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على الوجه الصحيح الذي يرضي الله سبحانه وتعالى لما استطاع أحد من الأمم الكافرة أن يتجرأ عليها لأن الله تعالى كتب البقاء لأهل الخير، وإن أهل الخير هم البقية الباقية التى استبقاها الله من كل عصر ودهر بعد إهلاك المترفين و المجرمين المفسدين في الأرض من كل قوم وأمة قال الحافظ المفسر ابن كثير :[ تفسير ر ج 2 ص577 ] قال الله تعالى :{ فلو لا كان من القرون من قبلكم أولوا بقية ينهون عن الفساد في الأرض إلاّ قليلا ممن أنجينا واتبع الذين ظلموا ماأترفوا فيه وكانوا مجرمين وما كان ربك ليهلك القرى بظلم وأهلها مصلحون } قول تعالى فهلا وجد من القرون الماضية بقايا من أهل الخير ينهون عما يقع بينهم من الشرور والمنكرات والفساد في الأرض وقوله { إلاّ قليلا }: أي قد وُجد منهم هذا الضرب قليل لم يكونوا كثيرا،وهم الذين أنجاهم الله عند حلول غيره وفجأة نقمه، ولهذا أمر الله تعالى الأمة الشريفة أن يكون فيها من يأمربالمعروف و ينهى عن المنكر كما قال تعالى:{ ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهمن عن المنكر و أولئك هم المفلحون }، وفي الحديث :[إن الناس إذا رأوا المنكر فلم يغيروه، أوشك أن يعمهم الله بعقاب]، ولهذا قال تعالى:{فلو لا كان من القرون...}وقوله :{ واتبع الذين ظلموا ماأترفوا فيه } أي : استمروا على ما هم فيه من المعاصي والمنكرات،ولم يلتفتوا إلى إنكار أولئك حتى فجأهم العذاب {وكانوا مجرمين }:ثم أخبر تعالى أنه لم يهلك قرية إلاّ وهي ظالمة لنفسها، و لم يأت قرية مُصلحة بأسه و عذابه قط حتى يكونوا هم الظالمين :{و ما ظلمناهم و لكن ظلموا أنفسهم}، و قال :{و ما ربك بظلام للعبيد}[انتهى](1/30)
قال عبد الرحمن بن ناصر السعدى :[ تيسير الكريم الرحمن ج 3 ص 468 ] ما ذكر تعالى إهلاك الأمم المكذبة للرسل، وأن أكثرهم منحرفون عن أهل الكتب الإلهية ،وذلك كله يقضي على الأديان بالذهاب و الإضمحلال، ذكر أنه لو لا أنه جعل في القرون الماضية بقايا من أهل الخير يدعون إلى الهدى،و ينهون عن الفساد والردى فحصل من نفعهم وأبقيت به الأديان و لكنهم قليلون جدا، و غاية الأمر : أنهم نجوا باتباعهم المرسلين و قيامهم بما قاموا به من دينهم ويكونوا حجة الله أجراها على أيديهم ليهلك من هلك عن بينة {و} لكن {اتبع الذين ظلموا ما أترفوا فيه } أي:اتبعوا ما هم فيه من النعيم والترف و لم يبغوا به بدلا ،{ وكانوا مجرمين } أي :ظالمين باتباعهم ماأترفوا فيه فلذلك حق عليهم العقاب واستأصلهم العذاب ، وفي هذا حث لهذه الأمة أن يكون فيهم بقايا مصلحون لما أفسد الناس قائمون بدين الله يدعون من ضل إلى الهدى ويصبرون منهم على الأذى و يبصرونهم من العمى وفي هذه الحالة أعلى حالة يرعب فيها الراغبون وصاحبها يكون إماما في الدين إذ جعل عمله خالصا لرب العالمين [انتهى]
إن مفهوم الأصلاح و الإفساد في الأرض ينبغي أن يفهم بفهم الشرع الإسلامي الحنيف ، لأن الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر هو الإصلاح الحقيقي الذي أمر الله به العباد ، فلا إصلاح إلا بعد صلاح ، و إن ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هو حقيقة بداية الفساد لأنه إقرار للفاسق على معاصيه مع القدرة على الإنكار ، و في حقيقة لا الأمر لا ينجو من عقاب الله تعالى في الدنيا و الآخرة إلا من أمر بالمعروف ونهى عن المنكر كما أوجب الله تعالى.(1/31)
قال الشيخ عبد الرحمن بن ناصر السعدي : [ تيسير الكريم الرحمن ج 3 ص40] :{ و لا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها} : عمل المعاصي ، {بعد إصلاحها}بالطاعات ، فإن المعاصي تفسد الأخلاق و الأعمال و الأرزاق كما قال تعالى :{ظهر الفساد في البر و البحر...} ما أن الطاعات تصلح بها الأخلاق و الأعمال و الأرزاق وأموال الدنيا والآخرة [انتهى].
و إن ظهور السوء إذن بنزول البأس و الإنتقام والعذاب والخسف والقذف والرجف والمسخ من الله تعالى بعباده المفسدين ، و لقد أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم عن فساد الدنيا في آخر الزمان و لكنه لم يتركنا هملا و لا سدى بعد إخباره إ يانا عن الفتن وكثرة الفساد غير علاج بل بين للأمة المخرج من الفتن و الدواء لإزالة الداء .
روى أحمد (ج6 ص 304) و أبو داود و الهيثمي في المجمع ( ج7ص 268)وصححه الألباني: عن أم سلمة رضي الله عنها قالت : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : [ إذا ظهرت المعاصي في أمتي عمّهم الله بعذاب من عنده فقلت : يارسول الله أما فيهم يومئذ أناس صالحون ؟ قال :بلى، قالت قلت : فكيف يُصنع بأولئك ؟ قال : يصيبهم ما أصاب الناس ثم يصّيرون إلى مغفرة من الله ورضوان ] و روى أحمد : عن عائشة رضي الله عنها تبلغ به عن النبي صلى الله عليه و سلم :[بإذا ظهر السوء في الأرض أنزل الله بأهل الأرض بأسه، قالت : وفيهم أهل الطاعة ؟ قال : "نعم ثم يصيرون إلى رحمة الله ]، روى أبو داود و صححه الألباني : عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال :قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ يا أنس إن الناس يمصرون أمصارا و إن مصرا منها يقال له : البصرة أو البصيرة : فإن أنت مررت بها، أو دخلتها، فإياك وسباخها، وكلاءها، وسوقها، وأبواب أمراءها، وعليك بضواحيها فإنه يكون بها خسف وقذف ورجف وقوم يمسخون قردة وخنازير ](1/32)
وروى الترمذي وصححه الألباني:عن عمران بن حصين رضي الله عنه : أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : [ في هذه الأمة خسف و مسخ و قذف فقال رجل من المسلمين : و متى ذلك يا رسول الله ؟ قال : إذا ظهرت القينات و المعازف و شربت الخمور]، روى مسلم (3/1480) عن أم سلمة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال : [ إنه يستعمل عليكم أمراء فتعرفون و تنكرون، فمن كره فقد برىء، ومن أنكر فقد سلم،ولكن من رضي وتابع، قالوا يا رسول الله ألا نقاتلهم ؟ قال : لا ما أقاموا فيكم الصلاة]
قال النووي : [ رياض الصالحين ص 68 رقم الحديث : 188) معناه من كره بقلبه ولم يستطع إنكارا بيد ولا لسان فقد برىء من الإثم وأدّى وظيفته،ومن أنكر بحسب طاقته فقد سلم من هذه المعصية ومن رضي بفعلهم و تابعهم فهو العاصي روى أحمد وخرجه السيوطي و صححه الأ لباني :عن عبسا الغفارى رضي الله عنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول :[ بادروا بالموت ستا: إمرة السفهاء وكثرة الشرط وبيع الحكم واستخفافا بالدم "وسفك الدماء" ، وقطيعة الرحم ونشوا يكونون في آخر الزمان : [ يتخذون القرآن مزامر يقدمونه يغنيهم و إن كان أقل منهم فقه](1/33)
من سنن الله تعالى في المعمورة أنه من عصاه من عباده يسلط عليه الذل و الصغار و يجعل الإهانة لا تفارقه إما بتسليط عدو أو إنزال بلاء، و ما ضلال أهل الأرض و فسادهم إلا بسبب تركهم الأمر و النهي و اتباعهم الهوى. روى أحمد (ج2ص50) و البخارى تعليقا و الطحاوي في مشكل الآثار(ج1ص88) و صححه أحمد شاكر والألباني في الإرواء (ج5ص109) عن ابن عمر رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :[ عثت بالسيف بين يدي الساعة، حتى يعبد الله وحده لا شريك له، وجعل رزقي تحت ظل رمحي وجعل الذل والصغار على من خالف أمرى، و من تشبه بقوم فهو منهم] ، فكل من عصى رسول الله صلى الله عليه و سلم عبر العصور و الأزمان لزمه الذل والصغار الذي ورد في الحديث ، و الفاسق ليس على خير و إن كانت له الدنيا و ما فيها بحذافرها ، لأن الله تعالى يبتلي عباده بالخير والخير فتنة ليعلم الله تعالى من الصادق من الكاذب و هو بكل شيء عليم روى أحمد (ج4ص145) والهيثمي في المجمع (ج10ص245)الطبراني عن عقبة بن عامر رضي الله عنه قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :[ إذا رأيت الله يعطي العبد من الدنيا على معاصيه مايحب فإنما هو استدراج ثم تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم :{ فلما نسوا ما ذكّروا به فتحنا عليهم أبواب كل شيء، حتى إذا فرحوا بما أوتوا، أخذناهم بغتة فإذا هم مبلسون }.
فالقلوب بيد فاطرها وخالقها سبحانه وتعالى فهو وحده يملك ناصية العباد وحده لا شريك له فنسأل الله تعالى الهداية لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يكثر من الدعاء الذي رواه روى أحمد و مسلم و ابن حبان : عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم :[ يا مصرف القلوب صرّف قلبي على طاعتك](1/34)
وفي رواية عند الترمذي : [يا مقلب القلوب ثبت قلوبنا على دينك] وقال صلى الله عليه وسلم :[ القلوب بين أصبعين من أصابع الرحمن فمن شاء أقام ومن شاء أزاغ ] كان معاذ ابن جبل رضي الله عنه إذا ذكر الحديث قال :{ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذهديتنا وهب لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب }
قال ابن الجوزى [ صيد الخاطر ص38 ] : قال الحكماء : المعصية عقاب المعصية، والحسنة بعد الحسنة ثواب الحسنة
قال الفضيل بن عياض : إني لأعصي الله عز وجل فأعرف ذلك في خلق دابتي و امرأتي و جاريتي [انتهى]
فالعاصي أسير هواه لا ينفك منه إلا بالعودة إلى الله ، فكم من مذنب مات من غير توبة لأن هواه أنهكه تعبا وأرهقه اتباعا لما يطلب ، و كم من عاص لله تعالى لم يرجع و قضى طول عمره لهفا و ركضا وراء مطلوبه و لم يدركه ، و كم من ضال تائه أعمى قضى حياته لا يبصر نورا في غيه وجهالته يتخبط ، و كم من أصم قضى أفنى كل عمره في الإعراض عن القرآن لا يهتدي بهدى و لا يسمع الحكمة و لا ينتفع بالسنن و لايتفقه في دينه حتى أدركته المنية.
قال ابن القيم: [ كتاب طريق الهجرتين ص 28 ] : فإن تم تحريكه [أي القلب ] بالمعصية التجأ التجاء أسير قد أسره عدوه، وهو يعلم أنه لا خلاص له من أسره إلا بأن يفتكّه سيده من الأسر، ففكاكه في يد سيده ليس في يده منه شيء البتة،ولا يملك لنفسه ضرا ولا نفعا ولا موتا ولا حياة ولا نشورا، فهو في أسر العدو ناظر إلى سيده وهو قادر، قد اشتدت ضرورته إليه وصار اعتماده كله عليه [انتهى]
فهذه هي حال العباد مع الله تعالى والغالب الذي عليه الناس على الأرض العصيان والتمرد على الله بالفساد والإفساد فالله تعالى نسأل سلامة القلب من الضلال و الفتن و المعاصي و مضلات الهوى و الفتن اللهم آمين.(1/35)
قال عبد الرحمن بن ناصر السعدى :[ كتاب تيسير الكريم الرحمن ج2 ص 462] :قال الله تعالى :{ وإن تطع اكثر من في الأرض يضلوك عن سبيل الله} فإن أكثرهم قد انحرفوا في أديانهم وأعمالهم وعلومهم،فأديانهم فاسدة وأعمالهم تبع لأهوائهم وعلومهم ليس فيها تحقيق و لا إيصال لسواء الطريق، بل غايتهم أنهم يتبعون الظن الذي لا يغني من الحق شيئا ويتخرصون في القول على الله ما لا يعلمون،ومن كان بهذه المثابة فحري أن يحذر الله منه عباده ويصف لهم أحواله ، لأن هذا وإن كان الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم فإن أمته أسوة له في سائر الأحكام التى ليست من خصائصه[انتهى]
2_ العلم بأحكام الفرائض واجب على كل آمر(1/36)
يجب على المسلم أن يتعلم دينه وشرع ربه ليأمر بالمعروف ولينهى عن المنكر وليعلم علم اليقين كما أن الإيمان والعلم واجبان لا ينفكان فكذلك الأمر و النهي و العلم لا ينفكان ، قال شيخ الإسلام :[ اقتضاء الصراط المستقيم ج 2 ص 171-172 ] : فائدة العلم والإيمان أعظم من فائدة مجرد العمل الذي لم يقترن به علم فإن الإنسان إذا عرف المعروف وأنكر المنكر كان خيرا من أن يكون ميت القلب لا يعرف المعروف ولا ينكر منكرا، ألا ترى أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : [ من رأى منكم منكرا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه و ذلك أضعف الإيمان] رواه مسلم و في لفظ له :[ ليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل ]، و انكار القلب هو : الإيمان بأن هذا منكر و كراهته لذلك ،فإذا حصل هذا كان في القلب إيمان وإذا فقد القلب معرفة هذا المعروف و إنكار هذا المنكر ارتفع هذا الإيمان من القلب ، وأيضا:فقد يستغفر الرجل من الذنب مع إصراره عليه أو يأتى بحسنات تمحوه أو تمحو بعضه وقد يقلل منه وقد تضعف همته في طلبه إذا علم أنه منكر، ثم لو فرض أنا علمنا أن الناس لا يتركون المنكر و لا يعترفون بأنه منكر، لم يكن ذلك مانعا من إبلاغ الرسالة وبيان العلم، بل ذلك لا يسقط وجوب الإبلاغ و لا وجوب الأمر و النهي – في إحدى الروايتين عن أحمد- و قول كثير من أهل العلم على أن هذا ليس موضع استقصاء ذلك [انتهى]
وأول واجب على الآمر والناهي هو معرفة حكم المنكر وهذا لا يدرك إلا بتعلم أحكام وقواعد وضوابط الفريضة
قال الطبري : قال عبد الله بن عمر و جرير بن عبد الله البجلى رضي الله عنهما : [ تعلمنا الإيمان ثم تعلمنا القرآن فازددنا إيمانا] ،وقال شيخ الإسلام ابن تيمية : كانوا يحفظون حدوده كما يحفظون حرفه.(1/37)
قال النووي : [شرح صحيح مسلم ج1 ص302 ]: وقد ذكر الماوردي في آخر الأحكام السلطانية بابا حسنا في الحسبة مشتملا على جمل من قواعد الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وقد أشرنا هنا إلى مقاصدها وبسطت الكلام في هذا الباب لعظم فائدته وكثرة الحاجة إليه وكونه من أعظم قواعد الإسلام -والله أعلم [انتهى
وقد جعل الله القائمين على هذه الفريضة رجالا صالحين ذكرهم في الآية التي قال الله تعالى فيها :{ التائبون العابدون الحامدون السائحون الراكعون الساجدون الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر و الحافظون لحدود الله وبشر المؤمنين }، و الله عز وجل وصفهم بأنهم قائمون بالحق على أنفسهم و على غيرهم ، و إنهم حافظون لحدود الله ومحارمه و آوامره و نواهيه و هذا القيام لا يكون إلا عن علم و معرفة، قال أبو بكر الجصاص : [ أحكام القرآن (2/48-49] : و قد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك أيضا ما حدثنا محمد بن بكر قال : حدثنا أبو داود قال : حدثنا وهب بن بقية قال : أخبرنا خالد عن إسماعيل عن قيس قال : قال أبو بكر بعد أن حمد الله تعالى وأثنى عليه : [ يا أيها الناس إنكم تقرءون هذه الآية وتضعونها في غير موضعها :{عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم } وإنا سمعنا النبي صلى الله عليه وسلم يقول : [ إن الناس إذا رأوا الظالم فلم يأخذوا على يديه يوشك أن يعمهم الله بعقاب ]، وحدثنا محمد بن بكر قال : حدثنا أبو داود قال : حدثنا أبو الربيع سليمان بن داود العتكي قال : حدثنا ابن المبارك عن عتبة بن أبي حكيم قال : حدثني عمرو بن جارية اللخمي قال : حدثني أبو أمية الشعباني قال : سألت أبا ثعلبة الخشني فقلت : [ يا أبا ثعلبة كيف تقول في هذه الآية : { عليكم أنفسكم } فقال : أما والله لقد سألت عنها خبيرا , سألت عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : بل ائتمروا بالمعروف وتناهوا عن المنكر حتى إذا رأيت شحا مطاعا وهوى متبعا ودنيا مؤثرة وإعجاب(1/38)
كل ذي رأي برأيه فعليك يعني بنفسك ودع عنك العوام فإن من ورائكم أيام الصبر الصبر فيه كقبض على الجمر للعامل فيهم مثل أجر خمسين رجلا يعملون مثل عمله ]، قال : وزادني غيره : قال : يا رسول الله أجر خمسين منهم ؟ قال : أجر خمسين منكم ]، و في هذه الأخبار دلالة على أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لهما حالان : حال يمكن فيها تغيير المنكر وإزالته , ففرض على من أمكنه إزالة ذلك بيده أن يزيله ، وإزالته باليد تكون على وجوه : منها أن لا يمكنه إزالته إلا بالسيف ,وأن يأتي على نفس فاعل المنكر فعليه أن يفعل ذلك كمن رأى رجلا قصده أو قصد غيره بقتله أو بأخذ مال أو قصد الزنا بامرأة أو نحو ذلك , وعلم أنه لا ينتهي إن أنكره بالقول أو قاتله بما دون السلاح فعليه أن يقتله لقوله صلى الله عليه وسلم : [ من رأى منكرا فليغيره بيده ] فإذا لم يمكنه تغييره بيده إلا بقتل المقيم على هذا المنكر فعليه أن يقتله فرضا عليه، و إن غلب في ظنه أنه إن أنكره بيده و دفعه عنه بغير سلاح انتهى عنه لم يجز له الإقدام على قتله , وإن غلب في ظنه أنه إن أنكره بالدفع بيده أو بالقول امتنع عليه و لم يمكنه بعد ذلك دفعه عنه , و لم يمكنه إزالة هذا المنكر إلا بأن يقدم عليه بالقتل من غير إنذار منه له فعليه أن يقتله ، وقد ذكر ابن رستم عن محمد في رجل غصب متاع رجل : < و سعك قتله حتى تستنقذ المتاع و ترده إلى صاحبه >، وكذلك قال أبو حنيفة في السارق إذا أخذ المتاع : " وسعك أن تتبعه حتى تقتله إن لم يرد المتاع " قال محمد و قال أبو حنيفة في اللص الذي ينقب البيوت : " يسعك قتله وقال في رجل يريد قلع سنك قال : فلك أن تقتله إذا كنت في موضع لا يعينك الناس عليه "، وهذا الذي ذكرناه يدل عليه قوله تعالى : { فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله } فأمر بقتالهم ولم يرفعه عنهم إلا بعد الفيء إلى أمر الله تعالى وترك ما هم عليه من البغي و المنكر و قول النبي صلى(1/39)
الله عليه وسلم [ من رأى منكم منكرا فليغيره بيده ] يوجب ذلك أيضا لأنه قد أمر بتغييره بيده على أي : وجه أمكن ذلك فإذا لم يمكنه تغييره إلا بالقتل فعليه قتله حتى يزيله [انتهى].
والواجب على كل إنسان أن يتحرى الرفق في كل تصرفاته و إنكاره حتى يحصل الخير عملا بما ثبت في صحيح مسلم عن عائشة رضي الله عنها قالت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :[ ما كان الرفق في شيء إلا زانه ولا كان العنف في شيء إلا شانه ] إلا فيما وجب تغييره إلا به و لا سبيل إلى انكاره بالطرق السلمية المقدمة بالرفق واللين والرأفة كما ثبت عند أحمد بسند صححه الحافظ ابن حجر عن أبي أمامة رضي الله عنه قال : إن فتى شابا أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله ائذن لي بالزنا، فأقبل القوم إليه فزجروه وقالوا : مه مه فقال صلى الله عليه وسلم : ادنه فدنا منه قريبا فقال : اجلس فجلس قال : أتحبه لأمك؟ قال : لا و الله جعلني الله فداك ، قال صلى الله عليه وسلم : و لا الناس يحبونه لأمهاتهم قال : أفتحبه لابنتك ؟ قال : لا و الله يا رسول الله جعلني الله فداك، قال صلى الله عليه وسلم : و لا، الناس يحبونه لبناتهم ، قال : أتحبه لأختك ؟ قال : لا والله جعلني الله فداك قال صلى الله عليه وسلم : ولا الناس يحبونه لأخواتهم، قال صلى الله عليه وسلم : أفتحبه لعمتك ؟ قال : لا والله جعلني الله فداك، قال صلى الله عليه وسلم : و لا الناس يحبونه لعماتهم قال : أفتحبه لخالتك ؟ قال : لا و الله جعلني الله فداك، قال : و لا الناس يحبونه لخالاتهم،قال : فوضع يده عليه و قال : اللهم اغفر ذنبه وطهر قلبه و حصن فرجه، قال لم يكن بعد ذلك الفتى يلتفت إلى شيء] ، إذا فالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر له مراحل وأطوار وأول مرحلة من هذه المراحل الدعوة إلى الخيرو المؤمن أخو المؤمن ينصحبه ويحبه و يسعى في خدمته ومنفعته ويكون ردءا له يحميه من كل سوء بإذن الله وهذا هو الإخاء(1/40)
الحقيقي الذي أمر الله به في كتابه ورسول الله صلى الله عليه وسلم في سنته و عمل به الخلفاء و الصحابة رضي الله عنهم و عن التابعين و من كان على شاكلتهم .
قال الشيخ الجصاص : من ذكرنا في وجوب النكير عليهم بما أمكن وتغيير ما هم عليه بيده , وإن لم يستطع فلينكره بلسانه وذلك إذا رجا أنه إن أنكر عليهم بالقول أن يزولوا عنه ويتركوه , فإن لم يرج ذلك , وقد غلب في ظنه أنهم غير قابلين منه مع علمهم بأنه منكر عليهم وسعه السكوت عنهم بعد أن يجانبهم ويظهر هجرانهم، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: [فليغيره بلسانه فإن لم يستطع فبقلبه]،وقوله صلى الله عليه وسلم [فإن لم يستطع ] فعليه إنكاره بقلبه سواء كان في تقية أو لم يكن لأن قوله : إن لم يستطع ] معناه : أنه لا يمكنه إزالته بالقول فأباح له السكوت في هذه الحال ، و قد روي عن ابن مسعود في قوله تعالى : { عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم } : [ مر بالمعروف وانه عن المنكر ما قبل منك , فإذا لم يقبل منك فعليك نفسك ] وحديث أبي ثعلبة الخشني أيضا الذي قدمناه يدل على ذلك ; لأنه قال صلى الله عليه وسلم : [ائتمروا بالمعروف وتناهوا عن المنكر حتى إذا رأيت شحا مطاعا وهوى متبعا ودنيا مؤثرة وإعجاب كل ذي رأي برأيه فعليك نفسك ودع عنك العوام ] يعني و الله أعلم : إذا لم يقبلوا ذلك و اتبعوا أهواءهم و آراءهم فأنت في سعة من تركهم وعليك نفسك ودع أمر العوام وأباح ترك النكير بالقول فيمن هذه حاله ، وروي عن عكرمة أن ابن عباس قال له : [قد أعياني أن أعلم ما فعل بمن أمسك عن الوعظ من أصحاب السبت , فقلت له : أنا أعرفك ذلك اقرأ الآية الثانية قوله تعالى : { أنجينا الذين ينهون عن السوء } قال : فقال لي : أصبت وكساني حلة ] فاستدل ابن عباس بذلك على أن الله أهلك من عمل السوء ومن لم ينه عنه , فجعل الممسكين عن إنكار المنكر بمنزلة فاعليه في العذاب ، وهذا عندنا على أنهم كانوا راضين(1/41)
بأعمالهم غير منكرين لها بقلوبهم , وقد نسب الله تعالى قتل الأنبياء المتقدمين إلى من كان في عصر النبي صلى الله عليه وسلم من اليهود الذين كانوا متوالين لأسلافهم القاتلين لأنبيائهم , بقوله : { قد جاءكم رسل من قبلي بالبينات وبالذي قلتم فلما قتلتموهم } وبقوله : { فلم تقتلون أنبياء الله من قبل إن كنتم مؤمنين } فأضاف القتل إليهم و إن لم يباشروه و لم يقتلوه إذ كانوا راضين بأفعال القاتلين ، فكذلك ألحق الله تعالى من لم ينه عن السوء من أصحاب السبت بفاعليه إذ كانوا به راضين و لهم عليه متوالين [ انتهى]
فهكذا يتصرف العبد المؤمن الذي يحب الخير للناس ولا يسأم من إرشاد الناس وتعليمهم بالحكمة والنصح والإرشاد والوعظ و التأديب و هذه الخصال الحميدة لا تتوفر حقا إلا في العباد الطيبيين وقليل ما هم كما جاء وصفهم في الأحاديث روى أبو داود (ج 5 رقم:4918) و صححه الأرناؤوط في تخريج جوامع الكلم لابن رجب عن أبي هريرة رضي الله عنه : عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :[ المؤمن مرآة المؤمن، و المؤمن أخو المؤمن، يكف عليه ضيعته ويحوطه من وراءه]، قال الشيخ المحدث الخطابي : [ معالم السنن للخطابي ج5 ص218 رقم الحديث:4918 ] المعنى : أن المؤمن يحكي لأخيه المؤمن جميع ما يراه منه، فإن كان حسنا زينه له ليزداد منه، و إن كان قبيحا نبهه لينتهي عنه كما روي عن عمر رضي الله عنه : [ رحم الله من أهدى إليّ عيوبي]
3_ شروط وقواعد الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر(1/42)
إن الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر يتعين على كل مسلم قدر عليه وعلم يقينا أنه قادر على التغيير والإنكار و نفس الحال لمن علم يقينا بوجود منكر في مكان ، قال النووي : [ شرح صحيح مسلم ج 1 ص 299_300 ] : ثم إن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فرض كفاية إذا قام به بعض الناس سقط الحرج عن الباقين، و إذا تركه الجميع أثم كل من تمكن منه بلا عذر و لا خوف ثم إنه قد يتعين كما إذا كان في موضع لا يعلم به إلا هو، أو لا يتمكن من إزالته إلا هو، و كمن يرى زوجته أو ولده أو غلامه على منكر أو تقصير في المعروف ، قال العلماء رضي الله عنهم : لا يسقط عن المكلف الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر، لكونه لا يفيد في ظنه ، بل يجب عليه فعله فإن الذكرى تنفع المؤمنين، و قد قدمنا أن الذي عليه الأمر والنهي لا القبول ، و كما قال الله عز وجل : { ما على الرسول إلا البلاغ ...} ، و مثّل العلماء هذا بمن يرى إنسانا في الحمام أو غيره مكشوف بعض العورة ونحو ذلك [انتهى]
وطرق إنكار المنكر كثيرة منها الإكفهار بالوجه وعدم إظهار الرضا عند المعصية حتى يشعر العاصي أنه غير مرغوب فيه بمعصيته و أن البشر مهما كانت أخطاءهم يجب أن تُنكر و لا تُقر ، قال ابن النحاس :[ كتاب تنبيه الغافلين ص 39 ] : من لم يقدر على الإنكار باللسان و قدر على إظهار دلائل الإنكار، مثل تعبيس الوجه والنظر شذرا والتجهم، و إظهار الكراهة لفعله والإزدراء به و هجره في الله تعالى لزمه ذلك ، و لا يكفيه العدول إلى الإنكار بالقلب مع إمكان دلائل الإنكار الظاهرة – و الله أعلم –[انتهى](1/43)
إن المنكر قد قبحه الله و أنكره و لم يرضه لهذه الأمة و لا لغيرها فعلى المسلم أن يستعمل الطرق المشروعة لإزالته وإبطاله و ليعلم أن الله معه مادام على الحق و يطالب به ، قال ابن القيم : [التبيان في أقسام القرآن 1/54] : فإن الانسان قد يقوم بما يجب عليه و لا يأمر غيره فإن الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر مرتبة زائدة و قد تكون فرضا على الأعيان وقد تكون فرضا على الكفاية وقد تكون مستحب والتواصي بالحق يدخل فيه الحق الذي يجب و الحق الذي يستحب و الصبر يدخل فيه الصبر الذي يجب والصبر الذي يستحب ، فهؤلاء إذا تواصوا بالحق و تواصوا بالصبر حصل لهم من الربح ما خسره أولئك الذين قاموا بما يجب عليهم في أنفسهم ولم يأمروا غيرهم به و إن كان أولئك لم يكونوا من الذين خسروا أنفسهم وأهليهم فمطلق الخسار شيء والخسار المطلق شيء[انتهى]
إن دين الإسلام الذي ختم الله به النبوات والرسالات رتب أحكام الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ترتيبا لم يرتب في أي أمة من قبلنا و ما ذلك إلا لعظمة هذه الفريضة و مكانتها في الأمة المحمدية لأن الله تعالى جعلهم خير أمة أخرجت للناس فلا بد أن يكونوا خير من الناس في جميع العبادات و الأحكام والمعاملات و والأخلاق والتصرفات(1/44)
قال الشيخ أبو بكر الجصاص : [ أحكام القرآن للجصاص 2/45-46 ] قال الله تعالى : { و لتكن منكم أمة يدعون إلى الخير و يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر }، قد حوت هذه الآية معنيين أحدهما : وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، والآخر : أنه فرض على الكفاية ليس بفرض على كل أحد في نفسه إذا قام به غيره ، لقوله تعالى :{ولتكن منكم أمة } وحقيقته تقتضي البعض دون البعض , فدل على أنه فرض الكفاية إذا قام به بعضهم سقط عن الباقين ، و من الناس من يقول هو فرض على كل أحد في نفسه و يجعل مخرج الكلام مخرج الخصوص في قوله : {ولتكن منكم أمة } مجازا, كقوله تعالى : { يغفر لكم من ذنوبكم } و معناه : " ذنوبكم " ، و الذي يدل على صحة هذا القول أنه إذا قام به بعضهم سقط عن الباقين ، كالجهاد و غسل الموتى و تكفينهم و الصلاة عليهم ودفنهم ، ولو لا أنه فرض على الكفاية لما سقط عن الآخرين بقيام بعضهم به ، و قد ذكر الله تعالى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في مواضع أخر من كتابه فقال عز وجل : { كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر } ، وقال فيما حكى عن لقمان : { يا بني أقم الصلاة وأمر بالمعروف وانه عن المنكر واصبر على ما أصابك إن ذلك من عزم الأمور }، وقال تعالى : { وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله}، وقال عز وجل : {لعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داود وعيسى ابن مريم ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه لبئس ما كانوا يفعلون } فهذه الآي ونظائرها مقتضية لإيجاب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وهي على منازل : أولها تغييره باليد إذا أمكن , فإن لم يمكن وكان في نفيه خائفا على نفسه إذا أنكره بيده فعليه إنكاره بلسانه , فإن تعذر ذلك لما وصفنا فعليه إنكاره بقلبه كما حدثنا عبد الله بن جعفر بن أحمد بن(1/45)
فارس قال : حدثنا يونس بن حبيب قال : حدثنا أبو داود الطيالسي قال : حدثنا شعبة قال : أخبرني قيس بن مسلم قال : سمعت طارق بن شهاب قال : قدم مروان الخطبة قبل الصلاة فقام رجل فقال : خالفت السنة كانت الخطبة بعد الصلاة قال : ترك ذلك يا أبو فلان قال شعبة : وكان لحانا فقام أبو سعيد الخدري فقال : أما هذا المتكلم فقد قضى ما عليه قال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم : [من رأى منكم منكرا فلينكره بيده فإن لم يستطع فلينكره بلسانه فإن لم يستطع فلينكره بقلبه وذاك أضعف الإيمان ]، وحدثنا محمد بن بكر البصري قال : حدثنا أبو داود قال : حدثنا محمد بن العلاء قال : حدثنا أبو معاوية عن الأعمش عن إسماعيل بن رجاء عن أبيه عن أبي سعيد وعن قيس بن مسلم عن طارق بن شهاب عن أبي سعيد الخدري قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : [من رأى منكم منكرا فاستطاع أن يغيره بيده فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه وذاك أضعف الإيمان ] ، فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن إنكار المنكر على هذه الوجوه الثلاثة على حسب الإمكان , ودل على أنه إذا لم يستطع تغييره بيده فعليه تغييره بلسانه , ثم إذا لم يمكنه ذلك فليس عليه أكثر من إنكاره بقلبه [انتهى]
وإذا كان الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجبا على الناس أجمع في حالة القدرة ، فعلى العلماء من باب أولى أوجب في حقهم وخاصة أنهم هم أهل الأمر والنهي والنصح والتعليم والإرشاد والتبيين كم قال الله تبارك وتعالى :{لو لا ينهاهم الربانيون والأحبار عن قولهم الإثم وأكلهم السحت}.(1/46)
قال العلامة القرطبي : [تفسير القرطبي ج6/ ص 237] : ودلت الآية على أن تارك النهي عن المنكر كمرتكب المنكر فالآية توبيخ للعلماء في ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وقد مضى القول في هذا المعنى في البقرة و آل عمران وروى سفيا ن بن عيينة قال : حدثني سفيان بن سعيد عن مسعر قال بلغني : أن ملكا أمر أن يخسف بقرية فقال: يارب فيها فلان العابد فأوحى الله تعالى إليه : أن به فابدأ فإنه لم يتمعر وجهه في ساعة قط [انتهى].
فالمسلم ينكر المنكر بقلبه ولسانه ويده عند القدرة و من فعل ذلك فقد برىء حقا وصدقا من الإثم ، و من لم يفعل عند القدرة على إزالته فليس ببرىء عند الله ولا رسوله و لا المؤمنين روى النسائي : عن أبي سعيد الخدرى رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم:[من رأى منكم منكرا فغّيره بيده فقد برىء،ومن لم يستطع أن يغيره بيده فغيره بلسانه فقد برىء،ومن لم يستطع أن يغيره بلسانه فغيره بقلبه فقد برىء،و ذلك أضعف الإيمان]
قال ابن النحاس الدمشقي :[ كتاب تنبيه الغافلين ص 20 ] : قوله [فقد برىء] : أي من الإثم بإنكاره ، و فيه : الدليل الواضح على أن من استطاع الإنكار فلم ينكر أنه غير برىء من الإثم، بل هو شريك فيه، و فيه : التصريح الثاني بأن من أنكر بلسانه فلم يرجع إليه مع إمكان إنكاره باليد، لا يسقط عنه الإثم و إنما يسقط عنه الإثم إذا لم يستطع الإنكار باليد، و فيه : أنه لا يقتصر على الإنكار بالقلب إلا من ضعف إيمانه سواء استطاع الإنكار باليد واللسان أو لم يستطع إلا عند عدم الإستطاعة ليسقط عنه الإثم و إن كان ضعيف الإيمان [انتهى](1/47)
وعلى العالم أن ينكر ما يستطيع إنكاره على الخاص والعام بالضوابط الشرعية والسنن النبوية ولا يعرض نفسه للهلاك لأن الأمة بحاجة إلى علمه وفقهه وفهمه إلا إذا علم أن الحق لا يظهر إلا به فلا بد في هذه الحال أن يبينه لأنه قد تعين عليه وحده ولكن في أغلب الأحيان فيما يتعلق بالأمر والنهي المتعلق بالمسائل الكبار يجب التريث والتعقل فيها تقديرا للخير والنفع.
قال أبو بكر الجصاص: [ أحكام القرآن (2/50)] وحدثنا عبد الله بن جعفر قال : حدثنا يونس بن حبيب قال : حدثنا أبو داود قال : حدثنا شعبة فإذا كان منكرا للمنكر بقلبه , ولا يستطيع تغييره على غيره فهو غير داخل في وعيد فاعليه , بل هو ممن قال الله تعالى : { عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم } وحدثنا مكرم بن أحمد القاضي قال : حدثنا أحمد بن عطية الكوفي قال : حدثنا الحماني قال : سمعت ابن المبارك يقول : لما بلغ أبا حنيفة قتل إبراهيم الصائغ بكى حتى ظننا أنه سيموت فخلوت به فقال : كان والله رجلا عاقلا و لقد كنت أخاف عليه هذا الأمر قلت : وكيف كان سببه ؟ قال : كان يقدم و يسألني وكان شديد البذل لنفسه في طاعة الله و كان شديد الورع كنت ربما قدمت إليه الشيء فيسألني عنه ولا يرضاه و لا يذوقه و ربما رضيه فأكله , فسألني عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إلى أن اتفقنا على أنه فريضة من الله تعالى فقال لي : مد يدك حتى أبايعك فأظلمت الدنيا بيني وبينه فقلت : و لم ؟ قال : دعاني إلى حق من حقوق الله فامتنعت عليه و قلت له : إن قام به رجل وحده قتل و لم يصلح للناس أمر و لكن إن وجد عليه أعوانا صالحين و رجلا يرأس عليهم مأمونا على دين الله لا يحول .(1/48)
قال : و كان يقتضي ذلك كلما قدم على تقاضي الغريم الملح كلما قدم علي تقاضاني , فأقول له : هذا أمر لا يصلح بواحد ما أطاقته الأنبياء حتى عقدت عليه من السماء و هذه فريضة ليست كسائر الفرائض لأن سائر الفرائض يقوم بها الرجل وحده و هذا متى أمر به الرجل وحده أشاط بدمه وعرض نفسه للقتل فأخاف عليه أن يعين على قتل نفسه ، و إذا قتل الرجل لم يجترئ غيره أن يعرض نفسه و لكنه ينتظر فقد قالت الملائكة : { أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك قال إني أعلم ما لا تعلمون }، ثم خرج إلى مرو "خراسان " حيث كان أبو مسلم فكلمه بكلام غليظ فأخذه فاجتمع عليه فقهاء أهل خراسان وعبادهم حتى أطلقوه , ثم عاوده فزجره ثم عاوده ثم قال : ما أجد شيئا أقوم به لله تعالى أفضل من جهادك و لأجاهدنك بلساني ليس لي قوة بيدي ولكن يراني الله وأنا أبغضك فيه فقتله "أي أبو مسلم الخراساني"[انتهى]
وقد جعل الأئمة للأمر والنهي شروطا يرجعون إليها و هي في الأصل قواعد عند أهل السنة والجماعة في تقدير المصالح والمفاسد ، لأن الشريعة اشتملت على قاعدة عظيمة وأصل متين : درء المفاسد مقدم على جلب المصالح(1/49)
قال ابن النحاس الدمشقي : [كتاب تنبيه الغافلين ص 25] : يشترط في وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، الإسلام و التكليف والإستطاعة وهذه الشروط متفق عليها واختلف في العدالة و الإذن من الإمام ، أما اشتراط الإسلام : فلأن القيام بالأمر و النهي نصرة للديين فلا يقوم به من هو جاحد لأصل الدين، والأمر والنهي سلطنة واحتكام ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلا، و يجب على العبد والمرأة حيث وجدا استطاعة ، وأما اشتراط التكليف : فإنه شرط لوجوب سائر العبادات فلا يجب الأمر و النهي على مجنون و صبي لأن القلم مرفوع عنهما، ولكن لو أنكر الصبي المميز جاز وأثيب على ذلك و لم يكن لأحد منعه لأنها قربة و هو من أهل أدائها لا من أهل وجوبها، قال الغزالي و الرفاعي والنووي :و لا أعلم في ذلك خلافا أنه ليس لحد منع الصبي من كسر الملاهي وإراقة الخمر وغيرهما من المنكرات والله أعلم، و أما شرط الإستطاعة فقد قال الله تعالى:{ لا يكلف الله نفسا إلا وسعها}، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم : [ ما نهيتكم عنه فاجتنبوه،وما أمرتكم به فأتوا منه ما استطعتم]، فقد أسقطه النبي صلى الله عليه وسلم في الأحاديث السابقة عمن لايستطيع،وقد يكون وجود الإستطاعة كعدمها فيسقط الوجوب مع وجودها،كما إذا خاف على نفسه أوماله أوخاف مفسدة أعظم من مفسدة المنكر الواقع [انتهى](1/50)
ومما ينبغي التنبه له الرفق بالجاهل والغافل وتذكيره بالله تعالى ووعظه ونصحه وإرشاده وتبصيره ، قال النووي :[ شرح صحيح مسلم ج 1 ص 301] : وينبغي للآمر والناهي عن المنكر أن يرفق ليكون أقرب إلى تحصيل المطلوب فقد قال الإمام الشافعي رضي الله عنه :"من وعظ أخاه سرّ فقد نصحه، ومن وعظه علانية فقد فضحه وشانه "ومما يتساهل أكثر الناس فيه، هو من هذا الباب ما إذا رأى إنسانا يبيع متاعا معيبا أونحوه فإنهم لا ينكرون ذلك،ولايعرفون المشتري بعيبه، وهذا خطأ ظاهر وقد نص العلماء على أنه يجب على من علم ذلك أن ينكر على البائع و أن يعلم المشتري به - والله أعلم –[انتهى](1/51)