تهذيب الداء والدواء
محمد بن عبدالله بن صالح الهبدان
بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة
الحمد لله رب العالمين ، وفق من شاء لهدايته ، وأبان لسالكين طريق جنته ، وحذر السائرين أسباب نقمته ، والصلاة والسلام على من جاء بالأدوية الشافية ، والأجوبة الكافية ، فما مات ( حتى ترك الأمة على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك أما بعد ،،
فلا تزال ـ بحمد الله تعالى ـ قوافل العائدين إلى الله تعالى من هذه الصحوة الميمونة تعود إلى المعين الصافي ، والمنبع الوافي ، إلى كتاب ربها وسنة نبيها ( لتنهل من معينهما ، وتغرف من بركاتهما ، كل ذلك بعزم وتصميم ، وهمة وصلت إلى الصميم ..وإنك لتشعر من عزم شبابها ، ووعيهم لضرورة الجد في استدراك ما فات ، ما يجعلك تتفاءل بعودة تباشير الصباح ، وتجزم بإذن الله تعالى بأن المستقبل لهذا الدين ولو كره المشركون .
وصحوة هذا شأنها ، وتلك عزمتها ، من حقها علينا أن نبادرها بالرعاية ، وأن نتسابق لإنمائها ، وتمتين التربية فيها حتى تصل إلى المرتقى المنشود ، وتبلغ المستوى المحمود .
ولقد كان من اجتهادي في ذلك : اختيار كتاب ( الجواب الكافي لمن سأل عن الدواء الشافي ) والقيام بتهذيبه ، وتقديمه إلى شباب الإسلام ، عنوانا للمساهمة في هذه التنمية للعملية التربوية .
وهذا الكتاب بحق يحتاجه كل مسلم فهو يعالج قضايا خطيرة من أهمها قضية الشهوة ، وموقف المسلم منها ؟ و علاجها ..ونحوها من الموضوعات التي أجاد فيها الإمام ابن القيم ـ رحمه الله ـ وكتبها بعبارات بليغة ، مع غزارة المنفعة.
منهج هذا التهذيب(1/1)
حرصت في هذا التهذيب على تخليص الكتاب من الاستطرادات التي استرسل فيها المؤلف ، والتي تقطع على القارئ استرساله واندماجه القلبي مع المعاني الوعظية ، فحذفت الاستطرادات الفقهية،وبعض القضايا العقدية ،والآثار الإسرائيلية،والأحاديث الضعيفة (1)، والمعاني المكررة ،وكنت أحذف أحيانا لمجرد الاختصار في مواضع التطويل .
وقد حرصت على أن يكون الكتاب بأسلوب مؤلفه وألا أدخل عليه شيئا وإن اضطررت إلى ذلك وضعته بين قوسين ، وقد وضعت عناوين جانبية جعلتها بين قوسين [ ] توضح للقارئ المعاني الأساسية ، وقد زاد هذا الوضوح بعض تقديم وتأخير لجأت إليه ومناقلات من موضع إلى موضع،جمعت المعاني المتماثلة في مكان واحد (2).
وقمت بتخريج أحاديث الكتاب وبعض الآثار الواردة عن السلف الصالح، وبيان درجة كل حديث ، وقد استفدت كثيراً من تحقيق الأستاذ عامر بن علي بن ياسين لكتاب الجواب الكافي ، وكذا استفدت منه العناوين الجانبية التي وضعها للتوضيح وهذا في الغالب ـ فجزاه الله عني خيرا ـ .
وهكذا فإني أظن أن كتاب ( الجواب الكافي ) الذي تعثر الكثير من شبابنا في قراءته والاستفادة منه ؛ قد أصبح بهذا التهذيب والترتيب ، كتابا لطيفا سلسا قريبا من الجميع ، وصار أهلا أن أقدمه ليقرأ على مجموعات الشباب في المكتبات الخيرية ، والمراكز الصيفية ، والرحلات الخلوية ،كما أنه يعتبر موردا رئيسا ، ورافدا ثريا يعين الواعظ ، وخطيب الجمعة ، وإمام المسجد .
ووصيتي للمربين ـ خاصة ـ أن يقرؤوه مرة ، بعد مرة ..وأن يحفظوا المهم من سطوره ، وشواهده من الآيات القرآنية ، والأحاديث النبوية ، والأبيات الشعرية ،فإنهم إن فعلوا ذلك ، استطاعوا ـ بإذن الله تعالى ـ معالجة الكثير من الأمراض التي يعاني منها شبابنا ، ويجيبوا على أسئلة الحائرين منهم وكان لهم من التأثير الشيء العظيم .(1/2)
وأخيراً..فقد بذلت جهدي ، وأفرغت وسعي وأرجو أن أكون قد وفقت لأقدم للمكتبة الإسلامية شيئا جديدا ينفع الله به الأمة ، كما إني لا أنسى في نهاية المطاف أن أشكر زوجتي ـ أم عبدالله ـ حيث إنها قد ساعدتني في تهيئة الجو المناسب للبحث والمطالعة ؛ فلها مني الدعوات الصالحات،وأشكر الأخوة الذين أتحفوني بتنبيهاتهم التي هي محل التقدير والاهتمام .
وإني آمل من الجميع إبداء النصيحة لأخيهم فالخطأ والتقصير وارد والمعصوم من عصمه الله ، ورحم الله رجلا أهدى إليّ عيوبي وستر عليّ عواري اسأل المولى القدير أن ينفع بهذا التهذيب كاتبه وقارئه وأن يجعله حجة لنا لا علينا والله أعلم وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم .
وكتبه
محمد بن عبدالله بن صالح الهبدان
مدرس العلوم الشرعية بثانوية الأندلس
ص .ب 120969 الرمز : 11689
البريد الإلكتروني
alhabdan@email.com
جوال : 055203538
بسم الله الرحمن الرحيم ، وبه نستعين .
[ بيان سبب تأليف الكتاب ]
سئل الشيخ العلامة ابن القيم رحمه الله تعالى :
ما تقول : في رجل ابتلى ببلية (3)وعلم أنها إن استمرت به أفسدت دنياه وآخرته وقد اجتهد في دفعها عن نفسه بكل طريق فما يزداد إلا توقداً وشدة فما الحيلة في دفعها ؟ وما الطريق إلى كشفها ؟ فرحم الله من أعان مبتلى .والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه أفتونا مأجورين .
فكتب الشيخ رحمه الله الجواب :
[ بيان أن الله لم ينزل داء إلا وأنزل له دواء ]
الحمد لله ؛ أما بعد : فقد ثبت في صحيح البخاري من حديث أبي هريرة عن النبي ( أنه قال : " ما أنزل الله داء إلا أنزل له شفاء "(4) ،وفي صحيح مسلم من حديث جابر بن عبد الله قال قال رسول الله ( : " لكل داء دواء ؛ فإذا أصيب دواء الداء ؛ برأ بإذن الله " (5) ..وهذا يعم أدواء القلب والروح والبدن وأدويتها .(1/3)
وقد أخبر سبحانه عن القرآن أنه شفاء فقال الله تعالى :( ولو جعلناه قرآنا أعجميا لقالوا لولا فصلت آياته أعجمي وعربي قل هو للذين آمنوا هدي وشفاء ( [فصلت :44]وقال: ( وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين ([الإسراء :82].
و( من ( هاهنا لبيان الجنس لا للتبعيض ؛فإن القرآن كله شفاء ؛ فلم ينزل الله سبحانه من السماء شفاء قط أعم ولا أنفع ولا أعظم ولا أنْجع في إزالة الداء من القرآن .
فصل
[ الدعاء من أنفع الأدوية ]
والدعاء من أنفع الأدوية ، وهو عدو البلاء ؛ ويعالجه ويمنع نزوله ، ويرفعه أو يخففه إذا نزل ، وهو سلاح المؤمن . وقد روى الحاكم في صحيحه من حديث عائشة رضي الله عنها قالت : قال لي رسول الله ( : " لا يُغني حذر من قدر ، والدعاء ينفع مما نزل ، ومما لم ينْزل ، وإن البلاء لينْزل ، فيلقاه الدعاء ، فيتعلجان إلى يوم القيامة " (6) .
فصل
[ استعجال الاستجابة يفوت أثر الدعاء ]
ومن الآفات التي تمنع ترتب أثر الدعاء عليه : أن يستعجل العبد ، ويستبطئ الإجابة ،فيستحسر ، ويدع الدعاء ..وفى البخاري من حديث أبي هريرة أن رسول الله ( قال :" يستجاب لأحدكم ما لم يعجل يقول : دعوت فلم يستجب لي" (7)
فصل
[ متى يستجاب الدعاء ؟ ]
إذا جمع مع الدعاء :
ـ حضور القلب وجمعيته بكليته على المطلوب .
ـ وصادف وقتاً من أوقات الإجابة الستة وهي : الثلث الأخير من الليل ، وعند الأذان ، وبين الأذان والإقامة ، وأدبار الصلوات المكتوبات ، وعند صعود الإمام يوم الجمعة على المنبر حتى تقضى الصلاة ، وآخر ساعة بعد العصر من ذلك اليوم .
ـ وصادف :خشوعاً في القلب وانكساراً بين يدي الرب وذلاً له وتضرعا ورقة.
ـ واستقبل الداعي القبلة .
ـ وكان على طهارة .
ـ ورفع يديه إلى الله تعالى .
ـ وبدأ بحمد الله والثناء عليه، ثم ثنى بالصلاة على محمد عبده .
ـ ثم قدم بين يدي حاجته التوبة والاستغفار .(1/4)
ـ ثم دخل على الله وألح عليه في المسألة وتملقه ودعاه رغبة ورهبة وتوسل إليه بأسمائه وصفاته وتوحيده .
ـ وقدم بين يدي دعائه صدقة .
فإن هذا الدعاء لا يكاد يرد أبداً .
فصل
[ هل لمرض الشهوة علاج ؟ ]
فإن قيل مع هذا كله ؛ فهل من دواء لهذا الداء العضال ،ورقية لهذا السحر القتال ؟
وما الاحتيال لدفع هذا الخبال ؟
وهل من طريق قاصد إلى التوفيق ؟
وهل يمكن السكران بخمرة الهوى أن يُفيق ؟
وهل يملك العاشق قلبه والعشق قد وصل إلى سويدائه ؟
وهل للطبيب بعد ذلك حيلة في برئه من سويدائه ؟
وهو إن لامه لائم ؛ التذ بملامه لذكره لمحبوبه ،وإن عذله عاذل ؛ أغراه عذله وسار به في طريق مطلوبه .
[ علاج مرض الشهوة ]
قيل : نعم .
الجواب من أصل :" ما أنزل الله من داء ؛ إلا جعل له دواء ؛ علمه من علمه وجهله من جهلة " (8)
والكلام في دواء هذا الداء من طريقين :
أحدهما : حسم مادته قبل حصولها .
والثاني : قلعها بعد نزولها .
وكلاهما يسير على من يسره الله عليه ، ومتعذر على من لم يعنه الله ؛ فإن أزمة الأمور بيديه .
[ التدابير العملية الواقية من مرض الشهوة ]
وأما الطريق المانع من حصول هذا الداء [ فهي ثلاثة أمور] :
( أحدهما غض البصر : فإن النظرة سهم مسموم من سهام إبليس ، ومن أطلق لحظاته ؛ دامت حسراته .
فاللحظات : هي رائد الشهوة ورسولها ، وحفظها أصل حفظ الفرج ؛ فمن أطلق نظره أورده موارد الهلاك .
وقد قال النبي ( : " يا على لا تتبع النظرة النظرة ؛ فإنما لك الأولى ، وليست لك الأخرى "(9) .
وقال : " إياكم والجلوس على الطريق ". قالوا : يا رسول الله ! مجالسنا ، مالنا بد منها !! قال : "فإن كنتم لا بد فاعلين ؛ فأعطوا الطريق حقه "قالوا : وما حقه ؟ قال : " غض البصر وكف الأذى ورد السلام " (10).(1/5)
والنظر أصل عامة الحوادث التي تصيب الإنسان ؛ فإن النظرة تولد خطرة ، ثم تولد الخطرة فكرة ، ثم تولد الفكرة شهوة ، ثم تولد الشهوة إرادة ، ثم تقوى فتصير عزيمة جازمة ، فيقع الفعل ، ولا بد ، ما لم يمنع منه مانع .
وفى هذا قيل :الصبر على غضّ البصر أيسرُ من الصبر على ألم ما بعده .
قال الشاعر :
كلُّ الحوادثِ مبدأها من النظرِ ومُعظَمُ النارِ مِنْ مُستصغَر الشَّررِ
كمْ نظرةٍ بلَغَت منْ قلْبِ صاحبِها كمبلغِ السهْم بينَ القوسِ والوتر
والعبدُ ما دام ذا طَرْفٍ يُقَلِّبُه في أعُين الغيْدِ مَوقوفٌ على الخَطَرِ
يَسُرُّ مُقْلَتَهُ ما ضَرَّ مُهْجَته لا مَرْحباً بِسُرورٍ عادَ بالضَّررِ
ومن آفات النظر : أنه يورث الحسرات والزفرات والحرقات ، فيرى العبد ما ليس قادراً عليه ولا صابرا عنه ، وهذا من أعظم العذاب : أن ترى ما لا صبر لك عنه ولا عن بعضه ولا قدرة لك عليه ولا عن بعضه . قال الشاعر :
وكُنْتَ متى أرسلْتَ طَرْفَكَ رائِداً لقلْبكَ يوماً أتعبتْكَ المناظِرُ
رأيتَ الذي لا كُلُّهُ أنتَ قادرٌ عليهِ ولا عنْ بعضهِ أنتَ صابرُ
وقد قيل : إن حبس اللحظات أيسرُ من دوام الحسرات .
( وفي غض البصر عدة منافع :
أحدها : أنه امتثال لأمر الله ، الذي هو غاية سعادة العبد في معاشه ومعاده ؛ وليس للعبد في دنياه وآخرته أنفع من امتثال أوامر ربه تبارك وتعالى ،وما سعد من سعد في الدنيا و الآخرة إلا بامتثال أوامره ، وما شقي من شقي في الدنيا والآخرة إلا بتضييع أوامره .
الثانية : أنه يمنع من وصول أثر السهم المسموم الذي لعل فيه هلاكه إلى قلبه .
الثالثة : أنه يورث القلب أنسا بالله وجمعيَّة على الله ؛ فإن إطلاق البصر ؛ يفرق القلب ويشتته ويبعده عن الله ، وليس على القلب شيء أضر من إطلاق البصر ؛ فإنه يوقع الوحشة بين العبد وبين ربه .
الرابعة : أنه يقوي القلب ويفرحه كما أن إطلاق البصر يضعفه ويحزنه .(1/6)
الخامسة : أنه يكسب القلب نوراً كما أن إطلاقه يكسبه ظلمة :
وإذا استنار القلب ؛ أقبلت وفود الخيرات إليه من كل ناحية ؛ كما أنه إذا أظلم ؛ أقبلت سحائب البلاء والشر عليه من كل مكان ؛ فما شئت من بدع ، وضلالة ، واتباع هوى ، واجتناب هدى، وإعراض عن أسباب السعادة ، واشتغال بأسباب الشقاوة ؛ فإن ذلك إنما يكشفه له النور الذي في القلب ؛ فإذا فُقِد ذلك النور ؛ بقى صاحبه كالأعمى الذي يجوس(11) في حنادس الظلمات .(12)
السادسة : أنه يورث فراسة صادقة يميز بها بين الحق والبطل والصادق والكاذب .
وكان شاه بن شجاع الكرماني يقول : ( من عمر ظاهره باتباع السنة ، وباطنه بدوام المراقبة ،وغض بصره عن المحارم، وكف نفسه عن الشهوات ، واغتذى بالحلال لم تخط له فراسة )(13) .
وكان [ابن ] شجاع هذا ؛ لا تخطيء له فراسة .(14)
والله سبحانه يجزي العبد على عمله بما هو من جنس عمله ،ومن ترك لله شيئا ؛ عوضه الله خيرا منه .
فإذا غض بصره عن محارم الله ؛ عوضه الله بأن يطلق نور بصيرته عوضة عن حبسه بصره لله ، ويفتح له باب العلم والإيمان والمعرفة والفراسة الصادقة المصيبة التي إنما تنال ببصيرة القلب .
وضدُّ هذا ما وصف الله به اللوطية من العمه الذي هو ضد البصيرة ، فقال تعالى : ( لعمرك إنهم لفي سكرتهم يعمهون ( [الحجر :72]فوصفهم بالسكرة التي هي فساد العقل وعمه الذي هو فساد البصيرة .
فالتعلق بالصور يوجب فساد العقل وعمه البصيرة وسكر القلب ؛كما قال القائل :
سَكْرانُ سُكْرَ هوىً وسُكْرَ مُدامَةٍ ومتى إفاقةُ مَنْ بهِ سُكْران
وقال الآخر :
قالوا جُننْت بِمَنْ تهوى فقلتُ لَهُمْ العشقُ أعظمُ مِمَّا بالمَجانين
العشقُ لا يستفيقُ الدَّهْرُ صاحِبُهُ وإنَّما يُصْرعُ المَجنونُ في الحين
السابعة : إنه يورث القلب ثباتاً وشجاعة وقوة .
فجمع الله له بين سلطان البصيرة والحجة وسلطان القدرة والقوة .(1/7)
وضد هذا ؛ تجده في المتبع هواه من ذلِّ النفس ووضاعتها ومهانتها وخستها وحقارتها وما جعل الله سبحانه فيمن عصاه ، كما قال الحسن : ( إنهم وإن طقطقت بهم البغال وهملجت بهم البراذين ؛إن ذلَّ المعصية في رقابهم ،أبى الله إلا أن يذل من عصاه )(15) .
وقد جعل الله سبحانه العز قرين طاعته والذل قرين معصيته : فقال تعالى: ( ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين ( [المنافقون :8]وقال تعالى ( ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين ( [آل عمران :139] .والإيمان ؛ قول وعمل ، ظاهر وباطن . وقال تعالى ( من كان يريد العزة فلله العزة جميعا إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه ( [فاطر :10] أي : من كان يريد العزة ؛ فليطلبها بطاعة الله وذكره من الكلم الطيب والعمل الصالح .
وفي دعاء القنوت : " إنه لا يذل من واليت ولا يعز من عاديت "(16)
ومن أطاع الله ؛ فقد والاه فيما أطاعه فيه ، وله من العز بحسب طاعته ، ومن عصاه ؛ فقد عاداه فيما عصاه فيه ، وله من الذل بحسب معصيته .
الثامنة : أنه يسد على الشيطان مدخله إلى القلب ؛فإنه يدخل مع النظرة ، وينفذ معها إلى القلب أسرع من نفوذ الهوى في المكان الخالي ؛ فيمثل له صورة المنظور إليه ، ويزينها ، ويجعلها صنما يعكف عليه القلب ،ثم يعده ، ويمنيه ، ويوقد على القلب نار الشهوة ، ويلقى عليه حطب المعاصي التي لم يكن يتوصل إليها بدون تلك الصورة، فيصير القلب في اللهيب ؛ فمن ذلك اللهيب تلك الأنفاس التي يجد فيها وهج النار ، وتلك الزفرات والحرقات ؛ فإن القلب قد أحاطت به النيران من كل جانب؛ فهو في وسطها كالشاة في وسط التنور.
ولهذا كانت عقوبة أصحاب الشهوات للصور المحرمة : أن جُعِل لهم في البرزخ تنور من نار ، وأودعت أرواحهم فيه إلى يوم حشر أجسادهم ؛ كما أراها الله تعالى لنبيه ( في المنام في الحديث المتفق على صحته (17).(1/8)
التاسعة :أنه يفرغ القلب للفكرة في مصالحه والاشتغال بها ، وإطلاق البصر ينسيه ذلك ويحول بينه وبينه ؛ فينفرط عليه أمره ، ويقع في اتباع هواه وفي الغفلة عن ذكر ربه . قال تعالى ( ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا واتبع هواه وكان أمره فرطا ( [الكهف :28]. وإطلاق النظر يوجب هذه الأمور الثلاثة بحبسه .
العاشرة :أن بين العين والقلب منفذاً و طريقا يوجب اشتغال أحدهما عن الآخر ، وأن يصلح بصلاحه ،ويفسد بفساده ؛ فإذا فسد القلب ؛فسد النظر ،وإذا فسد النظر؛ فسد القلب ، وكذلك في جانب الصلاح .
فإذا خربت العين وفسدت ؛ خرب القلب وفسد وصار كالمزبلة التي هي محل النجاسات والقاذورات والأوساخ ؛فلا يصلح لسكنى معرفة الله ومحبته و الإنابة إليه والأنس به والسرور بقربه فيه ،وإنما يسكن فيه أضداد ذلك .
فهذه إشارة إلى بعض فوائد غض البصر تطلعك على ما ورائها .
( الطريق الثاني المانع من حصول تعلق القلب : اشتغال القلب بما يصده عن ذلك ويحول بينه وبين الوقوع فيه ، وهو إما خوف مقلق أو حب مزعج ،فمتى خلا القلب من خوف ما فواته أضر عليه من حصول هذا المحبوب ، أو خوف ما حصوله أضر عليه من فوات هذا المحبوب ، أو محبة ما هو أنفع له وخير له من هذا المحبوب ، و فواته أضر عليه من فوات هذا المحبوب، لم يجد بداً من عشق الصور .
وشرح هذا : أن النفس لا تترك محبوبا إلا لمحبوب أعلى منه ،أو خشية مكروه حصوله أضر عليه من فوات هذا المحبوب .
وهذا يحتاج صاحبه إلى أمرين ، إن فقدهما أو أحدهما لم ينتفع بنفسه :
أحدهما : بصيرة صحيحة يفرق بها بين درجات المحبوب والمكروه ، فيؤثر أعلى المحبوبين على أدناهما ، ويحتمل أدنى المكروهين ليخلص من أعلاهما .
وهذا خاصة العقل ، ولا يُعد عاقلاً من كان بضد ذلك ،بل قد تكون البهائم أحسن حالاً منه .
الثاني : قوة عزم وصبر يتمكن بهما من هذا الفعل والترك .(1/9)
فكثيراً ما يعرف الرجل قدر التفاوت ولكن يأبى له ضعف نفسه وهمته وعزيمته على إيثار الأنفع من خسته وحرصه ووضاعة نفسه وخسة همته .
ومثل هذا لا ينتفع بنفسه ولا ينتفع به غيره .
وقد منع الله سبحانه إمامة الدين إلا من أهل الصبر واليقين ، فقال تعالى ـ وبقوله يهتدي المهتدون ـ : ( وجعلنا منهم أئمة يهدون بأمرنا لما صبروا وكانوا بآياتنا يوقنون ( [ السجدة :24]وهذا هو الذي ينتفع بعلمه وينتفع به الناس ، وضد ذلك لا ينتفع بعلمه ،ولا ينتفع به غيره .
ومن الناس من ينتفع بعلمه في نفسه ولا ينتفع به غيره .
فالأول : يمشي في نوره ويمشي الناس في نوره .
والثاني : قد طُفِئَ نوره فهو ؛ يمشي في الظلمات ومن تبعه في ظلمته .
والثالث : يمشي في نوره وحده .
[ والطريق الثالث المانع من حصول تعلق القلب :حفظ الخطرات ] وشأنها أصعب ؛ فإنها مبدأ الخير والشر ، ومنها تتولد الإرادات والهمم والعزائم .
فمن راعى خطراته ؛ ملك زمام نفسه وقهر هواه ،ومن غلبته خطراته ؛ فهواه ونفسه له أغلب ،ومن استهان بالخطرات ؛ قادته قهرا إلى الهلكات .
ولا تزال الخطرات تتردد على القلب حتى تصير مُنىً باطلة ( كسراب بقيعة يحسبه الظمأن ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئا ووجد الله عنده فوفاه حسابه والله سريع الحساب ( [النور :39].
وأخس الناس همة و أوضعهم نفساً من رضي من الحقائق بالأماني الكاذبة ، واستجلبها لنفسه ، وتحلى بها .
وهي ـ لعمر الله ـ رؤوس أموال المفلسين ومتاجر الباطلين ، وهي أضر شيء على الإنسان ،وتتولد من العجز والكسل،وتُولِّد التفريطَ والحسرة والندامة .
والمتمنّي لما فاته مباشرة الحقيقة بجسمه ، حوّل صورتها في قلبه ، وعانقها، وضمها إليه ، فقنع بوصال صورةٍ وهمية خالية صَوّرها فكره ،وذلك لا يجدي عليه شيئا ،وإنما مثله مثل الجائع والظمآن ؛يصور في وهمه صورة الطعام والشراب، وهو لا يأكل ولا يشرب .(1/10)
والسكون منه إلى ذلك واستجلابه يدل على خساسة النفس ووضاعتها .
وإنما شرف النفس وزكاؤها وطهارتها وعلوها بأن ينفى عنها كل خَطرة لا حقيقة لها ، ولا يرضى أن يُخْطرها بباله ،ويأنف لنفسه منها .
ثم الخطرت ـ بعد ـ أقسام تدور على أربعة أصول :
ـ خطرات يستجلب بها العبد منافع دنياه .
ـ وخطرات يستدفع بها مضار دنياه .
ـ وخطرات يستجلب بها مصالح آخرته .
ـ وخطرات يستدفع بها مضار آخرته .
فليحصر العبد خطراته وأفكاره وهمومه في هذه الأقسام الأربعة.
فإذا انحصرت له فيها ؛ فما أمكن اجتماعه منها ؛لم يتركه لغيره ، وإذا تزاحمت عليه الخطرات كتزاحم متعلقاتها؛ قدم الأهم فالأهم الذي يخشى فوته .
والتحكيم في هذا الباب : للقاعدة الكبرى التي يكون عليها مدار الشرع والقدر وإليها يرجح الخلق والأمر ،وهي : إيثار أكبر المصلحتين وأعلاهما وإن فاتت المصلحة التي هي دونها ، والدخول في أدنى المفسدتين لدفع ما هو أكبر منها. فتفوّتُ مصلحةً لِيُحصِّل ما هو أكبر منها ، ويرتكب مفسدة لدفع ما هو أعظم منها .
فخطرات العاقل وفكره لا يتجاوز ذلك ، وبذلك جاءت الشرائع ، ومصالح الدنيا والآخرة لا تقوم إلا على ذلك .
وأعلى الفِكَر وأجلها وأنفعها ما كان لله والدار الآخرة .
فما كان لله ؛ فهو أنواع :
أحدها : الفكرة في آياته المنزلة ، وتعقلها، وفهم مراده منها، ولذلك أنزلها الله تعالى ، لا لمجرد تلاوتها بل التلاوة وسيلة . قال بعض السلف : أنزل القرآن ليعمل به فاتخذوا تلاوته عملا .
الثاني : الفكرة في آياته المشهودة ،والاعتبار بها ، والاستدلال بها على أسمائه وصفاته وحكمته وإحسانه وبره وجوده .
وقد حث الله سبحانه عباده على التفكر في آياته وتدبرها وتعقلها، وذم الغافل عن ذلك .
الثالث : الفكرة في آلائه ،وإحسانه ،وإنعامه على خلقه بأصناف النعم، وسعة مغفرته ورحمته وحلمه .
وهذه الأنواع الثلاثة تستخرج من القلب معرفة الله ومحبته وخوفه ورجاءه.(1/11)
ودوام الفكرة في ذلك مع الذكر يَصبغ القلب في المعرفة والمحبة صبغة تامة .
الرابع : الفكرة في عيوب النفس وآفاتها وفى عيوب العمل .
وهذه الفكرة عظيمة النفع ، وهي باب لكل خير ،وتأثيرها في كسر النفس الأمارة بالسوء ،ومتى كُسِرت ؛ عاشت النفس المطمئنة وانتعشت وصار الحكم لها ،فحيي القلب ، ودارت كلمته في مملكته ، وبث أمراءه وجنده في مصالحه .
الخامس : الفكرة في واجب الوقت ووظيفته وجمع الهم كله عليه .
فالعارف ابن وقته فإن أضاعه ؛ضاعت عليه مصالحه كلها .
فجميع المصالح إنما تنشأ من الوقت ، فمتى أضاع الوقت لم يستدركه أبدا ، قال الشافعي رضى الله عنه : صحبت الصوفية فلم أستفد منهم سوى حرفين : أحدهما قولهم :الوقت سيف ؛ فإن لم تقطعه قطعك ، وذكر الكلمة الأخرى :ونفسك إن أشغلتها بالحق وإلا؛ شغلتك بالباطل .
فوقت الإنسان هو عمره في الحقيقة وهو مادة حياته الأبدية في النعيم المقيم ،ومادة المعيشة الضنك في العذاب الأليم ، وهو يمر أسرع من مر السحاب .
فما كان من وقته لله وبالله ؛ فهو حياته وعمره ،وغير ذلك ليس محسوبا من حياته وإن عاش فيه ؛عاش عيش البهائم .
فإذا قطع وقته في الغفلة والشهوة والأماني الباطلة ،وكان خير ما قطعه بالنوم والبطالة ؛ فموت هذا خيرا له من حياته .
وإذا كان العبد ـ وهو في الصلاة ـ ليس له من صلاته إلا ما عقل منها ؛ فليس له من عمره إلا ما كان فيه بالله وله .
وما عدا هذه الأقسام من الخطرات والفكر؛ فإما وساوس شيطانية ،و إما أماني باطلة وخدع كاذبة ، بمنزلة خواطر المصابين في عقولهم من السكارى والمحشوشين والموسوسين ، ولسان حال هؤلاء يقول عند انكشاف الحقائق :
إنْ كانَ مَنْزِلَتي في الحشرِ عِنْدكُمُ ما قدْ لقيتُ فقدْ ضَيَّعتُ أيَّامي
أمْنِيّةٌ ظَِفرتْ نفْسي بها زَمناً واليومَ أحسبُها أضْغاثَ أحْلام
واعلم أن ورود الخاطر لا يضر، وإنما يضر استدعاؤه ومحادثته .(1/12)
فالخاطر كالمار على الطريق ؛فإن لم تستدعه وتركته ؛ مر وانصرف عنك ، وإن استدعيته سحرك بحديثه وخدعه وغروره .وهو أخف شيء على النفس الفارغة بالباطلة ،وأثقل شيء على القلب والنفس الشريفة السماوية المطمئنة .
فصل
[ بين سلطان الشهوة وسلطان العقل والإيمان ]
إن العبد لا يترك ما يحب ويهواه إلا لما يحبه ويهواه ، ولكن يترك أضعفهما محبة لأقواهما محبة ، كما أنه يفعل ما يكرهه لحصول ما محبته أقوى عنده من كراهة ما يفعله ،أو لخلاص من مكروه كراهته عنده أقوى من كراهة ما يفعله .
وخاصية العقل إيثار أعلى المحبوبين على أدناهما ، وأيسر المكروهين على أقواهما . وهذا من كمال قوة الحب والبغض .
ولا يتم له هذا إلا بأمرين : قوة الإدراك ، وشجاعة القلب .
فإن التخلف عن ذلك والعمل بخلافه يكون : إما لضعف الإدراك ؛بحيث إنه لم يدرك مراتب المحبوب والمكروه على ما هي عليه ،و إما لضعف في النفس وعجز في القلب ؛ بحيث لا يطاوعه إيثار الأصلح له مع علمه بأنه الأصلح .
فإذا صح إدراكه وقويت نفسه وتشجع القلب على إيثار المحبوب الأعلى والمكروه الأدنى فقد وُفِّق لأسباب السعادة .
فمن الناس من يكون سلطان شهوته أقوى من سلطان عقله وإيمانه ،فيقهر الغالب الضعيف .
ومنهم من يكون سلطان إيمانه وعقله أقوى من سلطان شهوته .
وإذا كان كثير من المرضى يحميه الطبيب عما يضره ،فتأبى عليه نفسه وشهوته إلا تناوله ،ويقدم شهوته على عقله ،وتسميه الأطباء : عديم المروءة ؛ فهكذا أكثر مرضى القلوب ؛ يؤثرون ما يزيد مرضهم لقوة شهوتهم له .
فأصل الشر من ضعف الإدراك ، وضعف النفس ودناءتها ، وأصل الخير من كمال الإدراك وقوة النفس وشرفها وشجاعتها .
فالحب والإرادة أصل كل فعل ومبدؤه ،والبغض والكراهة أصل كل ترك ومبدأه ، وهاتان القوتان في القلب أصل سعادته وشقاوته .
فصل
[ الطريق الأنفع للوصول إلى السعادة ](1/13)
وكل واحد من الفعل والترك الاختياريين إنما يؤثره الحي لما فيه من حصول المنفعة التي يلتذ بحصولها أو زوال الألم الذي يحصل له الشفاء بزواله ،ولهذا يقال:شفاء صدره وشفاء قلبه، وقال :
هي الشفاءُ لدائي لو ظفرتُ بها وليس منها شفاءُ الداءِ مبذولُ
وهذا مطلوب يؤثره العاقل ، حتى الحيوان البهيم ،ولكن يغلط فيه أكثر الناس غلطا قبيحا ، فيقصد حصول اللذة بما يعقب عليه أعظم الألم ،فيؤلم نفسه من حيث يظن أنه يحصل لذتها ، ويشفي قلبه بما يعقب عليه غاية المرض .
وهذا شأن من قصر نظره على العاجل ولم يلاحظ العواقب .
وخاصّة العقل النظر في العواقب : فأعقل الناس من آثر لذته وراحته الآجلة الدائمة على العاجلة المنقضية الزائلة ، وأسفه الخلق من باع نعيم الأبد وطيب الحياة الدائمة واللذة العظمى التي لا تنغيص فيها ،ولا نقص بوجه ما بلذة منقضية مشوبة بالآلام والمخاوف وهي سريعة الزوال وشيكة الانقضاء .
قال بعض العلماء : فكرت في سعي العقلاء ، فرأيت سعيهم كله في مطلوب واحد ،وإن اختلفت طرقهم في تحصيله ،رأيتهم جميعاً إنما يسعون في دفع الهم والغم عن نفوسهم ؛ فهذا في الأكل والشرب ،وهذا بالتجارة والكسب ،وهذا بالنكاح، وهذا بسماع الغناء والأصوات المطربة ،وهذا باللهو واللعب ، فقلت : هذا المطلوب مطلوب العقلاء ، ولكن الطرق كلها غير موصلة إليه ، بل لعل أكثرها إنما يوصل إلى ضده ، ولم أر في جميع هذه الطرق كلها طريقا موصلةً إليه إلا الإقبال على الله ومعاملته وحده وإيثار مرضاته على كل شيء ،فإن سالك هذا الطريق :
إن فاته حظه من الدنيا ؛فقد ظفر بالحظ العالي الذي لا فوت معه .
وإن حصل للعبد ؛حصل له كل شيء ،وإن فاته؛ فاته كل شيء ، وإن ظفر بحظه من الدنيا ؛ ناله على أهنأ الوجوه ، فليس للعبد أنفع من هذا الطريق ،ولا أوصل منها إلى لذاته وبهجته وسعادته .وبالله التوفيق .
فصل
[ عشق الصور وأضراره ](1/14)
[هذا] الفصل متعلق بعشق الصور وما فيه من المفاسد العاجلة والآجلة ، وإن كانت أضعاف ما يذكره ذاكر ؛ فإنه يفسد القلب بالذات ، وإذا فسد فسدت الإرادات والأقوال والأعمال ، وفسد ثغر التوحيد .
والله سبحانه وتعالى إنما حكى هذا المرض عن طائفتين من الناس ،وهم : اللوطية، والنساء .
( [ الطائفة الأولى : النساء ](18)
فأخبر عن عشق امرأة العزيز ليوسف وما راودته وكادته به ،وأخبر عن الحال التي صار إليها يوسف بصبره وعفته وتقواه ، مع أن الذي ابتلي به أمر لا يصبر عليه إلا من صبَّره الله عليه ؛ فإن موافقة الفعل بحسب قوة الداعي وزوال المانع ، وكان الداعي ها هنا في غاية القوة ،وذلك لوجوه :
أحدها : ما ركبه الله سبحانه في طبع الرجل من ميله إلى المرأة ؛كما يميل العطشان إلى الماء والجائع إلى الطعام ، حتى إن كثيراً من الناس يصبر عن الطعام والشراب ولا يصبر عن النساء .
وهذا لا يذم إذا صادف حلالا ،بل يحمد .
الثاني : أنَّ يوسف عليه السلام كان شاباً ،وشهوة الشباب وحدته أقوى .
الثالث : أنه كان عزبا لا زوجة له ولا سُرِّيَّة تكسر شدة الشهوة .
الرابع : أنه كان في بلاد غربة يتأتى للغريب فيها من قضاء الوطر ما لا يتأتى لغيره في وطنه وأهله ومعارفه .
الخامس: أن المرأة كانت ذات منصب وجمال ؛ بحيث إن كل واحد من هذين الأمرين يدعو إلى موافقتها .
السادس : أنها غير آبية ولا ممتنعة ؛ فإن كثيراً من الناس يزيل رغبته في المرأة إباؤها وامتناعها ؛لما يجد في نفسه من ذل الخضوع والسؤال لها .
السابع :أنها طلبتْ وأرادتْ وبذلت الجهد ،فكفته مُؤنة الطلب وذل الرغبة إليها ، بل كانت هي الراغبة الذليلة ،وهو العزيز المرغوب إليه .
الثامن : إنه في دارها وتحت سلطانها وقهرها ؛بحيث يخشى إن لم يطاوعها من أذاها له؛ فاجتمع داعي الرغبة والرهبة .(1/15)
التاسع :إنه لا يخشى أن تَنِمِّ عليه هي ولا أحد من جهتها ؛فإنها هي الطالبة والراغبة ،وقد غلقت الأبواب وغيبت الرقباء .
العاشر : أنه كان مملوكا لها في الدار ؛ بحيث يدخل ويخرج ويحضر معها ولا ينكر عليه، وكان الأنس سابقا على الطلب ،وهو من أقوى الدواعي ؛كما قيل لامرأة شريفة من أشراف العرب ما حملك على الزنى ؟ قالت : قرب الوساد وطول السَّواد ؛ تعني : قرب وساد الرجل من وسادتي وطول السواد بيننا .
الحادي عشر : أنها استعانت عليه بأئمة المكر والاحتيال ،فأرته إياهن وشكت حالها إليهن لتستعين بهن عليه ، فاستعان هو بالله عليهن فقال: ( وإلا تصرف عني كيدهن أصب إليهن وأكن من الجاهلين ( [يوسف :33] .
الثاني عشر : أنها توعّدته بالسجن والصغار ،وهذا نوع إكراه ؛ إذ هو تهديد ممن يغلب على الظن وقوع ما هدد به ؛ فيجتمع داعي الشهوة وداعي السلامة من ضيق السجن والصغار.
الثالث عشر : أن الزوج لم يظهر منه الغيرة والنخوة ما يفرق به بينهما ويبعد كلا منهما عن صاحبه ، بل كان غاية ما خاطبهما به أن قال ليوسف: ( أعرض عن هذا ( وللمرأة ( استغفري لذنبك إنك كنت من الخاطئين ( [ يوسف :29]وشدة الغيرة للرجل من أقوى الموانع ، وهنا لم يظهر منه غيرة .
ومع هذه الدواعي كلها ؛ فآثر مرضاة الله وخوفه ،وحمله حبه لله على أن اختار السجن على الزنى فقال : ( قال رب السجن أحب إلي مما يدعونني إليه ( [يوسف :33]وعلم أنه لا يطيق صرف ذلك عن نفسه ،وأن ربه تعالى إن لم يعصمه ويصرف عنه كيدهن ؛صبا إليهن بطبعه وكان من الجاهلين .وهذا من كمال معرفته بربه وبنفسه .
وفي هذه القصة من العبر والفوائد والحِكَم ما يزيد على ألف فائدة لعلنا إن وفقنا الله أن نفردها في مصنف مستقل .
فصل
والطائفة الثانية الذين حكى الله عنهم العشق هم : اللوطية .(1/16)
كما قال تعالى : ( وجاء أهل المدينة يستبشرون .قال إن هؤلاء ضيفي فلا تفضحون. واتقوا الله ولا تخزون . قالوا أولم ننهك عن العالمين . قال هؤلاء بناتي إن كنتم فاعلين. لعمرك إنهم لفي سكرتهم يعمهون ([الحجر :67-72] فهذا من العشق .
فحكاه سبحانه عن طائفتين ؛ عَشِقَ كل منهما ما حُرِّم عليه من الصور ، ولم يبال بما في عشقه من الضرر .
[ عظم داء العشق وأقسام أصحابه ]
وهذا داء أعي الأطباء دواؤه ،وعز عليهم شفاؤه ،وهو لعمر الله الداء العضال والسم القتال ، الذي ما علق بقلب ؛ إلا وعزَّ على الورى استنقاذه من إسارِه ، ولا اشتعلت ناره في مهجة ؛ إلا وصعب على الخلق تخليصها من ناره .
وهو أقسام :
تارة يكون كفرا ، كمن اتخذ معشوقه ندا ، يحبه كما يحب الله ؛فكيف إذا كانت محبته أعظم من محبة الله في قلبه ؟ فهذا عشق لا يغفر لصاحبه ؛ فإنه من أعظم الشرك ،والله لا يغفر أن يشرك به ،وإنما يغفر بالتوبة الماحية ما دون ذلك .
وعلامة هذا العشق الشركي الكفري : أن يقدم العاشق رضى معشوقه على رضى ربه، وإذا تعارض عنده حق معشوقه و حظه وحق ربه وطاعته؛ قدم حق معشوقه على حق ربه وآثر رضاه على رضاه ، وبذل لمعشوقه أنفس ما يقدر عليه، وبذل لربه ـ إن بذل ـ أردأ ما عنده ،واستفرغ وسعه في مرضاة معشوقه وطاعته والتقرب إليه ، وجعل لربه ـ إن أطاعه ـ الفضلة التي تفضل عن معشوقه من ساعاته .
فتأمل حال أكثر عشاق الصور ؛هل تجدها إلا مطابقة لذلك ؟! ثم ضع حالهم في كفة، وتوحيدهم وإيمانهم في كفة،ثم زن وزنا يرضى الله به ورسوله ويطابق العدل! وربما صرح العاشق منهم بأن وصل معشوقه أحب إليه من توحيد ربه كما قال الفاسق الخبيث (19):
يَتَرشفْنَ مِنْ فَمي رَشَفاتٍ هُنَّ أحْلى فيه مِنَ التَّوحيدِ
وكما صرح الخبيث الآخر بأن وصل معشوقه أشهى إليه من رحمة ربه ـ فعياذا بك اللهم من هذا الخذلان ـ ومن هذا الحال قال الشاعر :(1/17)
وصلُكَ أشهى إلى فؤادي منْ رحمةِ الخالقِ الجليلِ
ولا ريب أن هذا العشق من أعظم الشرك .
وكثير من العشاق يصرح بأنه لم يبق في قلبه موضع لغير معشوقه البتة ،بل قد ملك معشوقه عليه قلبه كله ، فصار عبداً مخلصا من كل وجه لمعشوقه !
فقد رضي هذا من عبودية الخالق جل جلاله بعبودية المخلوق مثله ؛ فإن العبودية هي كمال الحب والخضوع ،وهذا قد استغرق قوة حبه وخضوعه وذله لمعشوقه؛ فقد أعطاه حقيقة العبودية .
ولا نسبة بين مفسدة هذا الأمر العظيم ومفسدة الفاحشة ؛ فإن تلك ذنب كبير لفاعله حكمه حكم أمثاله ، ومفسدة هذا العشق مفسدة الشرك !
وكان بعض الشيوخ يقول : لئن أُبتلى بالفاحشة مع تلك الصورة أحب إليّ من أن أُبتلى فيها بعشق يتعبد لها قلبي ويشغله عن الله .
فصل
[ علاج العشق ]
ودواء هذا الداء القتال :
أن يعرف أن ما ابتلي به من هذا الداء المضاد للتوحيد إنما هو من جهله وغفلة قلبه عن الله ، فعليه :
أن يعرف توحيد ربه و سننه وآياته أولاً .
ثم يأتي من العبادات الظاهرة والباطنة بم يشغل قلبه عن دوام الفكر فيه .
ويكثر اللَّجأ والتضرع إلى الله سبحانه في صرف ذلك عنه وأن يرجع بقلبه إليه.
وليس له دواء أنفع من الإخلاص لله .
وهو الدواء الذي ذكره الله في كتابه حيث قال : ( كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء إنه من عبادنا المخلصين ( [ يوسف :24] ؛فأخبر سبحانه أنه صرف عنه السوء من العشق والفحشاء من الفعل بإخلاصه .
فإن القلب إذا خلص وأخلص عمله لله ؛لم يتمكن منه عشق الصور ؛فإنه إنما يتمكن من قلب فارغ ؛كما قال :
أتاني هواها قبلَ أنْ أعرِفَ الهوى فصادفَ قلباً خالياً فتمكَّنا
وليعلم العاقل أن العقل والشرع قد يوجبان تحصيل المصالح وتكميلها وإعدام المفاسد وتقليلها ؛فإذا عرض للعاقل أمر يرى فيه مصلحة ومفسدة ؛وجب عليه أمران : أمر علمي ، وأمر عملي .(1/18)
فالعلمي : طلب معرفة الراجح من طرفي المصلحة والمفسدة ؛فإذا تبين له الرجحان وجب عليه إتيان الأصلح له .
ومن المعلوم : أنه ليس في عشق الصور مصلحة دينية ولا دنيوية ،بل مفسدته الدينية والدنيوية أضعاف أضعاف ما يقدر فيه من المصلحة ،وذلك من وجوه :
أحدها : الاشتغال بذكر المخلوق وحبه عن حب الرب تعالى وذكره ؛فلا يجتمع في القلب هذا وهذا ؛ إلا ويقهر أحدهما صاحبه ويكون السلطان والغلبة له .
الثاني : عذاب قلبه بمعشوقه؛فإن من أحب شيئا غير الله عذب به ولا بد كما قيل :
فما في الأرضِ أشقى منْ مُحِبٍّ وإنْ وَجَد الهوى حُلْوَ المَذاقِ
تَراهُ باكياً في كُلِّ حينٍ مَخافةَ فُرْقةٍ أو لاشتياقِ
والعشق ؛ وإن استلذ به صاحبه فهو من أعظم عذاب القلب .
الثالث :أن العاشق قلبه أسير في قبضة معشوقه يسومه الهوان ، ولكن لسكرة العشق لا يشعر بمصابه ،فقلبه :
كعصفورةٍ في كفِّ طفلٍ يَسومُها ……حِياضَ الرَّدى والطفلُ يَلْهو ويلعبُ فيعيش العاشق عيش الأسير الموثق ، وعيش الخلي عيش المسيب المطلق .
والعاشق كما قيل:
طَليقٌ برأيِ العيِن وهو أسيرُ عَليلٌ على قُطبِ الهلاكِ يَدورُ
وميتٌ يُرى في صورةِ الحيِّ غادياً وليس لَهُ حتى النُّشورِ نُشورُ
أخو غمراتٍ ضاعَ فيهنَّ قلبُهُ فَليسَ لَهُ حتى المماتِ حضورُ
الرابع : أنه يشتغل به عن مصالح دينه ودنياه ؛فليس شيء أضيع لمصالح الدين والدنيا من عشق الصور :
أما مصالح الدين ؛ فإنها منوطة بلمِّ شعث القلب وإقباله على الله ،وعشق الصور أعظم شيءٍ تشعيثاً وتشتيتا له .
وأما مصالح الدنيا ؛ فهي تابعة في الحقيقة لمصالح الدين ؛ فمن انفرطت عليه مصالح دينه وضاعت عليه ؛ فمصالح دنياه أضيع وأضيع .
الخامس : أن آفات الدنيا والآخرة أسرع إلى عشاق الصور من النار في يابس الحطب .(1/19)
وسبب ذلك : أن القلب كلما قرب من العشق قوى اتصاله به ؛ بَعُد من الله ؛ فأبعدُ القلوب من الله قلوبُ عشاق الصور ،وإذا بعد القلب من الله طرقته الآفات ، وتولاه الشيطان من كل ناحية ، ومن تولاه عدوه واستولى عليه ؛لم يدع أذى يمكنه من إيصاله إليه إلا أوصله .
فما الظن من قلب تمكن منه عدوه وأحرص الخلق على غيّه وفساده ،وبعده من وليه ومن لا سعادة له ولا فلاح ولا سرور إلا بقربه ولا ولايته ؟!
السادس : أنه إذا تمكن من القلب واستحكم وقوى سلطانه ؛أفسد الذهن ، وأحدث الوساوس ،وربما التحق صاحبه بالمجانين الذين فسدت عقولهم فلا ينتفعون بها .
وأخبار العشاق في ذلك موجودة في مواضعها ،بل بعضها يشاهد بالعيان .
وأشرف ما في الإنسان عقله ،وبه يتميز عن سائر الحيوانات ،فإذا عدم عقله ؛التحق بالبهائم ، بل ربما كان حال الحيوان أصلح من حاله .
وهل أذهب عقل مجنون ليلى وأضرابه إلا العشق ؟!
وربما زاد جنونه على جنون غيره كما قيل :
قالوا جُنِنتَ بمن تَهوى فقلتُ لهم العشقُ أعظمُ مما بالمجانينِ
العشقُ لا يَسْتفيقُ الدهر صاحبُه وإنما يُصرعُ المجنونُ في الحين
السابع : أنه ربما أفسد الحواس أو أنقصها ، إما فساداً معنوياً أو صورياً .
أما الفساد المعنوي : فهو تابع لفساد القلب ،فإن القلب إذا فسد فسدت العين والأذن واللسان فيرى القبيح حسنا منه ومن معشوقه .
فهو يعمي عين القلب عن رؤية مساوي المحبوب وعيوبه ؛فلا ترى العين ذلك ويصم أذنه عن الإصغاء إلى العذل فيه ؛فلا تسمع الأذن ذلك .
والرغبات تستر العيوب ؛فإن الراغب في الشيء لا يرى عيوبه ، حتى إذ زالت رغبته فيه ؛أبصر عيوبه ،فشدت الرغبة غشاوة على العين تمنع من رؤية الشيء على ما هو عليه كما قيل :
هويتُكَ إذْ عَيْنى عليها غشاوةٌ فلمّا انجلتْ قطعتُ نفسي ألومُها
والداخل في الشيء لا يرى عيوبه ،والخارج منه الذي لم يدخل فيه لا يرى عيوبه ولا يرى عيوبه ، إلا من دخل فيه ثم خرج منه .(1/20)
ولهذا كان الصحابة الذين دخلوا في الإسلام بعد الكفر خير من الذين ولدوا في الإسلام ، قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه : إنما ينتقض عرى الإسلام عروة عروة إذا ولد في الإسلام من لا يعرف الجاهلية .
وأما فساده للحواس ظاهراً :فإنه يمرض البدن وينهكه وربما أدى إلى تلفه ؛كما هو المعروف في أخبار من قتله العشق .
وقد رفع إلى ابن عباس وهو بعرفة شاب قد انتحل حتى عاد جلداً على عظم ، فقال : ما شأن هذا ؟ قالوا : به العشق ، فجعل ابن عباس يتعوذ بالله من العشق عامة يومه .
الثامن : أن العشق و هو الإفراط في المحبة ؛ بحيث يستولي المعشوق على قلب العاشق ،حتى لا يخلو من تخيله وذكره والتفكر فيه، بحيث لا يغيب عن خاطره وذهنه ، فعند ذلك تشتغل النفس بالخواطر النفسانية ،فتتعطل تلك القوى ،فيحدث بتعطيلها من الآفات على البدن والروح ما يعزُّ دواؤه ويتعذر، فتتغير أفعاله وصفاته ومقاصده ،ويختل جميع ذلك ،فتعجز البشر عن صلاحه كما قيل :
الحبُ أولَ ما يكونُ لجاجَةٌ يأتي بها وتسوقُه الأقدارُ
حتى إذا خاضَ الفتى لججَ الهوى جاءت أمورٌ لا تُطاقُ كِبارُ
والعشق مبادئه سهلة حلوة ، وأوسطه هم وشغل قلب وسقم ، وآخره عطب وقتل ،إن لم تتداركه عناية من الله كما قيل :
وعشْ خالياً فالحبُ أولُهُ عنى وأوسطُهُ سُقْمٌ وآخرهُ قتلُ
وقال آخر :
تَولعَ بالعشقِ حتى عشقْ فلمِّا استقلّ به لمْ يُطِق
رأى لُجةً ظنّها مَوْجةً فلما تمكنَ منها غرقْ
والذنب له ، وهو الجاني على نفسه ، وقد قعد تحت المثل السائر : يداك أوكتا وفوك نفخ (20).
فصل
[ مقامات العاشق ، ومراحل العشق ]
والعاشق له ثلاث مقامات : مقام ابتداء، ومقام توسط ، ومقام انتهاء .
فأما مقام ابتدائه : فالواجب عليه مدافعته بكل ما يقدر عليه إذا كان الوصول إلى معشوقه متعذرا قدراً وشرعا .
فإن عجز عن ذلك وأبى قلبه إلا السفر إلى محبوبه وهذا مقام التوسط والانتهاء :(1/21)
فعليه كتمانه ذلك ، وأن لا يفشيه إلى الخلق ،ولا يُشبِّب بمحبوبه ويهتكه بين الناس، فيجمع بين الشرك والظلم .
[ ألوان الظلم التي يسببها العشق ]
فإن الظلم في هذا الباب من أعظم أنواع الظلم ،وربما كان أعظم ضرراً على المعشوق وأهله من ظلمه في ماله ؛ فإنه يعرض المعشوق ـ بهتكه في عشقه ـ إلى وقوع الناس فيه وانقسامهم إلى مصدق ومكذب ،وأكثر الناس يصدق في هذا الباب بأدنى شبهة ،وإذا قيل : فلان فعل بفلان أو بفلانه ؛كذَّبه واحد وصدقه تسع مائة وتسعة وتسعون .
وخبر العاشق المتهتك عند الناس في هذا الباب يفيد القطع اليقيني ،بل إذا أخبرهم المفعول به عن نفسه كذباً وافتراءً على غيره ؛ جزموا بصدقة جزما لا يحتمل النقيض ، بل لو جمعهما مكان واحد اتفاقا ؛لجزموا أن ذلك عن وعد واتفاق بينهما ،وجزمهم في هذا الباب على الظنون والتخيّل والشبهة والأوهام والأخبار الكاذبة ؛كجزمهم بالحسيات المشاهدة .
وبذلك وقع أهل الإفك في الطيبة المطيبة ، حبيبة رسول الله ( ،المبرأة من فوق سبع سموات ؛ بشبهة مجيء صفوان بن المعطل بها وحده خلف العسكر ، حتى هلك من هلك ،ولولا أن تولى الله سبحانه براءتها والذب عنها وتكذيب قاذفها لكان أمراً آخر .(21)
والمقصود :أن في إظهار المبتلى عشق من لا يحل له الاتصال به من ظلمه وأذاه ما هو عدوان عليه وعلى أهله ،وتعريض لتصديق كثير من الناس ظنونهم فيه.
فإن استعان عليه بمن يستميله إليه إما برغبة أو رهبة ؛تعدى الظلم وانتشر ، وصار ذلك الواسطة ديوثا ظالما .(1/22)
وإذا كان النبي ( قد لعن الرائش (22)ـ وهو الواسطة بين الراشي والمرتشي في إيصال الرشوة ـ فما ظنك بالديوث؛الواسطة بين العاشق والمعشوق في الوصل ؟! فيتساعد العاشق والديوث على ظلم المعشوق وغيره ممن يتوقف حصول غرضهما على ظلمه في نفس أو مال أو عرض ؛فإن كثيراً ما يتوقف حصول المطلوب فيه على قتل نفس تكون حياتها مانعة من غرضه ،وكم قتيل طَلَّ (23) دمه بهذا السبب من زوج وسيد وقريب ،وكم خُبِبت (24) امرأة على بعلها،وجارية وعبد على سيدهما ، وقد لعن رسول الله ( من فعل ذلك وتبرأ منه (25)وهو من أكبر الكبائر .
وإذا كان النبي ( قد نهى أن يخطب الرجل على خطبة أخيه وأن يستام (26)على سومه (27) ؛فكيف بمن يسعى بالتفريق بينه وبين امرأته وأمته حتى يتصل بهما ؟!
وعشاق الصور ومساعدوهم من الدِّياثيَّة لا يرون ذلك ذنبا !!
فإنْ طلب العاشق وصل معشوقه ومشاركة الزوج والسيد ،ففي ذلك من إثم ظلم الغير ما لعله لا يقصر عن إثم الفاحشة إن لم يربُ عليها .
ولا يسقط حق الغير بالتوبة من الفاحشة ؛ فإن التوبة وإن أسقطت حق الله؛ فحق العبد باق ، له المطالبة به يوم القيامة ؛ فإن من ظلم الوالد بإفساد ولده وفلذة كبده ومن هو أعز عليه من نفسه ، وظلم الزوج بإفساد حبيبه والجناية على فراشه أعظم من ظلمه بأخذ ماله كله ،ولهذا يؤذيه ذلك أعظم مما يؤذيه أخذ ماله ،ولا يعدل ذلك عنده إلا سفك دمه .
فيا له من ظلم أعظم إثماً من فعل الفاحشة !
فإن كل ذلك حقا لغاز في سبيل الله ؛وقف له الجاني الفاعل يوم القيامة ،وقيل له : " خذ من حسناته ما شئت " كما أخبر بذلك النبي ( ثم قال ( : " فما ظنكم؟! "(28) أي : فما تظنون يبقى له من حسناته ؟ !
فإن انضاف إلى ذلك أن يكون المظلوم جاراً أو ذا رحم محرم ؛ تعدد الظلم وصار ظلماً مؤكداً لقطيعة الرحم وأذي الجار ،" ولا يدخل الجنة قاطع رحم " (29) ولا " من لا يأمن جاره بوائقه " (30).(1/23)
فإن استعان العاشق على وصال معشوقه بشياطين الجن ـ إما بسحر أو استخدام أو نحو ذلك ـ ؛ ضم إلى الشرك والظلم كفر السحر .
فإن لم يفعله هو ورضي به ؛كان راضياً بالكفر غير كاره لحصول مقصوده به ، وهذا ليس ببعيد من الكفر .
والمقصود : أن التعاون في هذا الباب تعاون على الإثم والعدوان .
وأما ما يقترن بحصول غرض العاشق من الظلم المنتشر المتعدي ضرره ؛ فأمر لا يخفى : فإنه إذا حصل له مقصوده من المعشوق ؛فللمعشوق أمور أخر يريد من العاشق إعانته عليها ، فلا يجد من إعانته بدّاً ، فيبقى كل منهما يعين الآخر على الظلم والعدوان ،فالمعشوق يعين العاشق على ظلم من اتصل به من أهله وأقاربه وسيده وزوجه ، والعاشق يعين المعشوق على ظلم من يكون غرض المعشوق متوقفا على ظلمه ؛فكل منهما يعين الآخر على أغراضه التي يكون فيها ظلم الناس، فيحصل العدوان والظلم للناس بسبب اشتراكهما في القبح لتعاونهما بذلك على الظلم ؛ وكما جرت به العادة بين العشاق والمعشوقين من إعانة العاشق لمعشوقه على ما فيه ظلم وعدوان وبغي حتى ربما يسعى له في منصب لا يليق به ولا يصلح لمثله ، وفي تحصيل مالٍ من غير حله ،وفي استطالته على غيره ،فإذا اختصم معشوقه وغيره أو تشاكيا ؛لم يكن إلا في جانب المعشوق؛ ظالما كان أو مظلوما .
هذا إلى ما ينضم إلى ذلك من ظلم العاشق للناس بالتحيل على أخذ أموالهم والتوصل بهما إلى معشوقه بسرقة أو غصب أو خيانة أو يمين كاذبة أو قطع طريق ونحو ذلك وربما أدى ذلك إلى قتل النفس التي حرم الله ليأخذ ماله ليتوصل به إلى معشوقه .
فكل هذه الآفات وأضعافها وأضعاف أضعافها تنشأ من عشق الصور، و تحمل على الكفر الصريح .(1/24)
وقد تنصر جماعة ممن نشؤوا في الإسلام بسبب العشق ؛كما جرى لبعض المؤذنين حين أبصر وهو على سطح مسجد امرأة جميلة ، ففتن بها ، فنزل ودخل عليها وسألها نفسها ، فقالت: هي نصرانية ؛إن دخلت في ديني تزوجت بك .ففعل؛ فرقي في ذلك اليوم على درجة عندهم فسقط منها ، فمات . ذكر هذا عبدالحق في كتاب " العاقبة " له.
وإذا أراد النصارى أن ينصروا الأسير ؛ أروه امرأة جميلة وأمروها أن تطمعه في نفسها ، حتى إذا تمكن حبها من قلبه ؛ بذلت له نفسها إن دخل في دينها؛ فهنالك ( يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة ويضل الله الظالمين ويفعل الله ما يشاء ( [إبراهيم :27].
وفي العشق من ظلم كل واحد من العاشق والمعشوق لصاحبه لمعاونته له على الفاحشة وظلمه لنفسه ما فيه ، وكل منهما ظالم لنفسه وصاحبه ، وظلمهما متعد إلى الغير .
وأعظم من ذلك ظلمهما بالشرك .
فقد تضمن العشق أنواع الظلم كلها .
والمعشوق إذا لم يتق الله ؛فإنه يعرض العاشق للتلف، وذلك ظلم منه ؛أن يطمعه في نفسه ويتزين له ويستميله بكل طريق حتى يستخرج منه ماله ونفعه ولا يمكنه من نفسه ، لئلا يزول غرضه بقضاء وطره منه ؛ فهذا يسومه سوء العذاب ، والعاشق ربما قتل معشوقه ليشفي نفسه منه ،ولا سيما إذا جاد بالوصال لغيره .
وكم للعشق من قتيل من الجانبين !! وكم قد زال من نعمة !!وأفقر من غني !! وأسقط من مرتبة !! وشتت من شمل !! وكم أفسد من أهل الرجل وولده ،فإن المرأة إذا رأت بعلها عاشقا لغيرها اتخذت هي معشوقا لنفسها فيصير الرجل متردداً بين خراب بيته بالطلاق وبين القِيادة (31)، فمن الناس من يؤثر هذا ، ومنهم من يؤثر هذا .
[ التدابير العملية التي تقي من الإصابة بداء العشق ](1/25)
فعلى العاقل أن يحكم على نفسه سد عشق الصور لئلا يؤذيه ويؤديه ذلك إلى الهلاك وإلى هذه المفاسد وأكثرها أو بعضها ؛ فمن فعل ذلك فهو المفرط بنفسه والمغرر بها ،فإذا هلكت فهو الذي أهلكها ؛ فلولا تكراره النظر إلى وجه معشوقه وطمعه في وصاله لم يتمكن عشقه من قلبه :
فإن أول أسباب العشق الاستحسان سواء تولد عن نظر أو سماع .
فإن لم يقارنه طمع في الوصال وقارنه الإياس من ذلك ؛لم يحدث له العشق .
فإن اقترن به الطمع :
فصرفه عن فكره ولم يشغل قلبه به لم يحدث له ذلك .
فإن أطال مع ذلك الفكر في محاسن المعشوق ،وقارنه خوف ما هو أكبر عنده من لذة وصاله : إما خوف ديني ؛كخوف النار وغضب الجبار واجتناب الأوزار ،وغلب هذا الخوف على ذلك الطمع والفكر ؛لم يحدث له ذلك العشق .
فإن فاته هذا الخوف وقارنه خوف دنيوي ؛كخوف إتلاف نفسه أو ماله وذهاب جاهه وسقوط مرتبته عند الناس وسقوطه من عين من يعز عليه وغلب هذا الخوف لداعي العشق ؛دفعه ،وكذلك إذا خاف من فوات محبوب هو أحب إليه وأنفع له من ذلك المعشوق وقدم محبته على محبة المعشوق ؛ اندفع عنه العشق .
فإذا انتفى ذلك كله ، و غلبت محبة المعشوق لذلك ؛ انجذب إليه القلب بكليته ،ومالت إليه النفس كل الميل .
[ العشق بين المنافع والمضار ]
فإن قيل : قد ذكرتم آفات العشق ومضاره ومفاسده ، فهلا ذكرتم منافعه وفوائده ؟
فالجواب وبالله التوفيق :
إن الكلام في هذا الباب لا بد فيه من التمييز بين الحرام والجائز والنافع والضار، ولا يستعجل عليه بالذم والإنكار ولا بالمدح والقبول من حيث الجملة ،وإنما يتبين حكمه وينكشف أمره بذكر متعلقه ،وإلا فالعشق من حيث هو لا يحمد ولا يذم.
ونحن نذكر النافع من الحب ، والضار ، والجائز ، والحرام :
[ أنواع المحبة ]
هاهنا أربعة أنواعٍ من المحبة يجب التفريق بينها ، وإنما ضلّ من ضلّ بعدم التمييز بينها :(1/26)
أحدهما : محبة الله ؛ ولا تكفي وحدها في النجاة من الله من عذابه والفوز بثوابه؛ فإن المشركين وعبَّاد الصليب واليهود وغيرهم يحبون الله .
الثاني : محبة ما يحب الله ؛ وهذه هي التي تدخله في الإسلام وتخرجه من الكفر، وأحب الناس إلى الله أقومهم بهذه المحبة وأشدهم فيها .
الثالث : الحب لله وفيه ؛ وهي من لوازم محبة ما يحب الله ، ولا يستقيم محبّة ما يحب الله إلا بالحب فيه وله .
الرابع : المحبة مع الله ؛ وهي المحبة الشركية ، وكل من أحبّ شيئاً مع الله ،لا لله ، ولا من أجله ، ولا فيه ، فقد اتخذه نداً من دون الله ،وهذه محبة المشركين .
وبقي قسم خامس ليس مما نحن فيه وهى المحبة الطبيعية : وهي ميل الإنسان إلى ما يلائم طبعه ؛كمحبة العطشان للماء ،والجائع للطعام ،ومحبة النوم والزوجة والولد؛ فتلك لا تذم إلا إذا ألهتْ عن ذكر الله وشغلت عن محبته ،كما قال تعالى ( يا أيها الذين آمنوا لا تلهكم أموالكم ولا أولادكم عن ذكر الله ( [المنافقون :9] وقال تعالى: ( رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله ( [النور :37].
[ أعظم أنواع المحبة وأنفعها هي محبة الله تعالى ]
واعلم أن أنفع المحبة على الإطلاق وأوجبها وأعلاها وأجلها محبة من جبلة القلوب على محبته وفطرت الخليقة على تأليهه ،وبها قامت الأرض والسموات ،وعليها فطر المخلوقات، وهي سر شهادة أن لا إله إلا الله ، فإن الإله هو الذي تألهه القلوب بالمحبة والإجلال والتعظيم والذل له والخضوع والتعبد ، والعبادة لا تصح إلا له وحده ، والعبادة هي كمال الحب مع كمال الخضوع والذل ، والشرك في هذه العبودية من أظلم الظلم الذي لا يغفره الله ، والله سبحانه يُحب لذاته من سائر الوجوه ،وما سواه فإنما يحب تبعا لمحبته .(1/27)
وقد دل على وجوب محبته سبحانه :جميع كتبه المنزلة،ودعوة جميع رسله أجمعين ، وفطرته التي فطر عليها عباده ، وما ركب فيها من العقول ، وما أسبغ عليهم من النعم ، فإن القلوب مفطورة مجبولة على محبة من أنعم عليها وأحسن إليها ؛ فكيف بمن كل الإحسان منه ، وما بخلقه جميعهم من نعمة فمنه وحده لا شريك له كما قال تعالى: ( وما بكم من نعمة فمن الله ثم إذا مسكم الضر فإليه تجأرون ( [ النحل :53] وما تعرَّف به إلى عباده من أسمائه الحسنى وصفاته العلا ، وما دلت عليه آثار مصنوعاته من كماله ونهاية جلاله وعظمته .
والمحبة لها داعيان : الجلال ، والجمال .
والرب تعالى له الكمال المطلق من ذلك ؛ فإنه جميل يحب الجمال ،بل الجمال كله له ، والإجلال كله منه ؛فلا يستحق أن يُحب لذاته من كل وجه سواه : قال الله تعالى : ( قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ( [ آل عمران :31]. وقال تعالى: ( يا أيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه( الآية [المائدة :54].
والولاية أصلها الحب ؛ فلا موالاة إلا بحب ،كما أن العداوة أصلها البغض.
والله ولي الذين آمنوا وهم أولياؤه ؛ فهم يوالونه بمحبتهم له ، وهو يواليهم بمحبته لهم ؛ فالله يوالي عبده المؤمن بحسب محبته له .
ولهذا أنكر سبحانه على من اتخذ من دونه أولياء ؛ بخلاف من والى أولياءه ؛فإنه لم يتخذهم من دونه ، بل موالاته لهم من تمام موالا ته .
وقد أنكر على من يُسوّى بينه وبين غيره في المحبة ، وأخبر أن من فعل ذلك ؛فقد اتخذ من دون الله أندادا يحبونهم كحب الله . قال تعالى : ( ومن الناس من يتخذ من دون الله أندادا يحبونهم كحب الله والذين آمنوا أشد حبا لله ( [البقرة :165]. وأخبر عمن يُسوِّي بينه وبين الأنداد في الحب أنهم يقولون في النار لمعبوديهم ( تالله إن كنا لفي ضلال مبين إذ نسويكم برب العالمين ( [الشعراء :97-98].(1/28)
وبهذا التوحيد في الحبِّ أرسل الله سبحانه جميع رسله ، وأنزل جميع كتبه ، وأطبقت عليه دعوة جميع الرسل ـ عليهم الصلاة والسلام ـ من أولهم إلى آخرهم ،ولأجله خلقت السموات و الأرض ،والجنة والنار ،فجعل الجنة لأهل هذا التوحيد ، والنار للمشركين به وفيه .
وقد أقسم النبي ( أنه :" لا يؤمن عبد حتى يكون هو أحب إليه من ولده ووالده والناس أجمعين "(32) .
فكيف بمحبة الرب جل جلاله ؟ !
وقال لعمر بن الخطاب رضي الله عنه : " لا ؛ حتى أكون أحب إليك من نفسك "(33) أي لا تؤمن حتى تصل محبتك ليّ إلى هذه الغاية .
وإذا كان النبي ( أولى بنا من أنفسنا بالمحبة ولوازمها ؛ أفليس الرب جل جلاله وتقدست أسماؤه وتبارك اسمه وتعالى جدُّه ولا إله غيره أولى بمحبة عباده من أنفسهم ؟! وكل ما وصل منه إلى عبده المؤمن يدعوه إلى محبته و محبة ما يحبه ، وكراهة ما يكرهه .
فعطاؤه ومنعه ، ومعافاته وابتلائه ، وقبضه وبسطه ، وعدله وفضله ، وأماتته وإحياؤه ، ولطفه وبره ، ورحمته وإحسانه ،وستره وعفوه ، وحلمه وصبره على عبده ، وإجابته لدعائه، وكشف كربه، وإغاثة لهفته ،وتفريج كربته ؛ من غير حاجة منه إليه ، بل مع غناه التام عنه من جميع الوجوه ، كل ذلك داع للقلوب إلى تألهه ومحبته ، بل تمكينه عبده من معصيته ، وإعانته عليها، وستره حتى يقضي وطره منها ، وكلاءته وحراسته له ،وهو يقضي وطره من معصيته ؛ وهو يعينه ويستعين عليها بنعمه : من أقوى الدواعي إلى محبته .
فلو أن مخلوقاً فعل بمخلوق أدنى شيء من ذلك ؛لم يملك قلبه عن محبته ؛ فكيف لا يحب العبد بكل قلبه وجوارحه من يحسن إليه على الدوام بعدد الأنفاس مع إساءته؛ فخيره إليه نازل ، وشره إليه صاعد ،يتحبب إليه بنعمه ،وهو غني عنه ، والعبد يتبغض إليه بالمعاصي ،وهو فقير إليه ؛ فلا إحسانه وبره وإنعامه عليه يصده عن معصيته ، ولا معصية العبد ولؤمه يقطع إحسان ربه عنه ؟!(1/29)
فألأم اللؤم تخلف القلوب عن محبة من هذا شأنه وتعلقها بمحبة سواه !!
وأيضا : فكل من تحبه من الخلق أو يحبك إنما يريدك لنفسه وغرضه منك ،والرب سبحانه وتعالى يريدك لك ، فكيف لا يستحيي العبد أن يكون ربه له بهذه المنزلة ؛وهو معرض عنه ، مشغول بحب غيره؛وقد استغرق قلبه محبة ما سواه ؟!
وأيضا : فكل من تعامله من الخلق : إنْ لم يربح عليك ؛لم يعاملك ،ولابد له من نوع من أنواع الربح ،والرب تعالى إنما يعاملك لتربح أنت عليه أعظم الربح وأعلاه فالدرهم بعشرة أمثاله إلى سبعمائة ضعف إلى أضعاف كثيرة ، والسيئة بواحدة وهي أسرع شيء محوا.
وأيضا : فهو سبحانه خلقك لنفسه وكل شيء خلق لك في الدنيا والآخرة فمن أولى منه باستفراغ الوسع في محبته وبذل الجهد في مرضاته .
وأيضا:فمطالبك ـ بل مطالب الخلق كلهم جميعا ـ لديه وهو أجود الأجودين ، وأكرم الأكرمين ،ويعطي عبده قبل أن يسأله فوق ما يؤمله،يشكر على القليل من العمل وينميه ، ويغفر الكثير من الزلل ويمحوه ، ويسأله من في السموات والأرض كل يوم هو في شأن ، لا يشغله سمع عن سمع،ولا تُغلطه كثرة المسائل ، ولا يتبرم بإلحاح الملحين ، بل يحب الملحين في الدعاء ، ويحب أن يُسأل ، ويغضب إذا لم يُسأل ،يستحي من عبده حيث لا يستحي العبد منه،ويستره حيث لا يستر نفسه ، ويرحمه حيث لا يرحم نفسه .
دعاه بنعمه وإحسانه ، وناداه إلى كرامته ورضوانه ، فأبى !
فأرسل رسله في طلبه ، وبعث معهم إليه عهده .
ثم نزل سبحانه بنفسه وقال:" من يسألني فأعطيه ؟ من يستغفرني فأغفر له "(34) كما قيل : أدعوك للوصل فتأبى !! أبعث رسلي في الطلب !! أنزل إليك بنفسي!! ألقاك في النوم !!
وكيف لا تحب القلوب : من لا يأتي بالحسنات إلا هو ، ولا يذهب بالسيئات إلا هو ، ولا يجيب الدعوات ويقيل العثرات ، ويغفر الخطيئات ، ويستر العورات ، ويكشف الكربات ، ويغيث اللهفات ، ويُنيل الطلبات سواه ؟ !(1/30)
فهو أحق من ذكر ، وأحق من شُكِر، وأحق من حمد ، وأحق من عبد ، وأنصر من ابتُغي ، وأرأف من ملك ، وأجود من سُئل ، وأوسع من أعطى ، وأرحم من اسُترحم ، وأكرم من قُصد ، وأعز من التُجيء إليه ،وأكفى من توكل عليه ، أرحم بعبده من الوالدة بولدها(35) ، وأشد فرحا بتوبة التائب من الفاقد لراحلته التي عليها طعامه وشرابه في الأرض المهلكة إذا يئس من الحياة ثم وجدها (36).
وهو الملك فلا شريك له ، والفرد فلا ند له ، كل شيء هالك إلا وجهه، لن يطاع إلا بإذنه ،ولن يعصي إلا بعلمه ،يطاع فيشكر ، وبتوفيقه ونعمته أُطيع ،ويعصي فيغفر ، ويعفو وحقه أُضيع .
فهو أقرب شهيد ، وأجلُّ حفيظ ، وأوفى بالعهد ، وأعدل قائم بالقسط ، حال دون النفوس ،وأخذ بالنواصي ،وكتب الآثار،ونسخ الآجال، فالقلوب له مفضية ، والسر عنده علانية ، والغيب لديه مكشوف ،وكل أحد إليه ملهوف ،وعنت الوجوه لنور وجهه ،وعجزت العقول عن إدراك كنهه(37)،ودلت الفطر والأدلة كلُّها على امتناع مثله وشبهه ، أشرقت لنور وجهه الظلمات ،واستنارت له الأرض والسموات ،وصلحت عليه جميع المخلوقات .
لا ينام ولا ينبغي له أن ينام ،يخفض القسط ويرفعه ،يُرفع إليه عمل الليل قبل عمل النهار ، وعمل النهار قبل عمل الليل ، حجابه النور ، لو كشفه ؛ لأحرقت سبحات (38)وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه (39):
ما اعْتاضَ باذِلُ حُبِّهِ لسِواهُ مِنْ عِوضٍ ولو مَلَكَ الوجودَ بأسْرِه .
فصل
[ نعيم القلب والروح تبع لكمال المحبوب وكمال المحبة ]
وهاهنا أمر عظيم يجب على اللبيب الاعتناء به ،وهو أن كمال اللذة والسرور والفرح ونعيم القلب وابتهاج الروح تابع لأمرين :
أحدهما : كمال المحبوب في نفسه وجماله ،وأنه أولى بإيثار المحبة من كل ما سواه .
والأمر الثاني : كمال محبته ، واستفراغ الوسع في حُبه ، وإيثار قربه والوصول إليه على كل شيء .(1/31)
وكل عاقل يعلم أن اللذة بحصول المحبوب بحسب قوته ومحبته ، فكلما كانت المحبة أقوى ؛كانت لذة المحب أكمل ، فلذة من اشتد ظمؤه بإدراك الماء الزلال ومن اشتد جوعه بأكل الطعام الشهيّ ونظائر ذلك على حسب شوقه وشدة إرادته ومحبته .
وإذا عُرِف هذا ؛ فاللذة والسرور والفرح أمر مطلوب في نفسه ، بل هو مقصود كل حي وعاقل .
وإذا كانت اللذة مطلوبة لنفسها ؛ فهي تذم إذا أعقبت ألماً أعظمَ منها ، أو منعت لذةً خيراً منها وأجلَّ ؛ فكيف إذا أعقبتْ أعظم الحسرات ، وفوتت أعظم اللذات والمسرات ؟! وتُحمدُ إذا أعانت على لذةٍ عظيمة دائمة مستقرة لا تنغيص فيها ولا نكدَ بوجه ما ، وهي لذة الآخرة ونعيمُها ، وطيب العيش فيها، قال تعالى: ( بل تؤثرون الحياة الدنيا .والآخرة خير وأبقى ( [الأعلى :16-17] . وقال السحرة لفرعون لما آمنوا:( فاقض ما أنت قاض إنما تقضي هذه الحياة الدنيا.إنا آمنا بربنا ليغفر لنا خطايانا وما أكرهتنا عليه من السحر والله خير وأبقى( [طه : 72 ـ 73] .
والله سبحانه وتعالى خلق الخلق ليبتليهم وينيل من أطاعه هذه اللذة الدائمة في دار الخلد ، وأما الدنيا فمنقطعة ،ولذاتها لا تصفو أبدا ولا تدوم ؛ بخلاف الآخرة فإن لذاتها دائمة ونعيمها خالص من كل كدر وألم ، وفيها ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين مع الخلود أبدا ، ولا تعلم نفس ما أخفى الله لعباده فيها من قرة أعين ، بل فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر .
وهذا المعنى الذي قصده الناصح لقومه بقوله : ( يا قوم اتبعون أهدكم سبيل الرشاد.يا قوم إنما هذه الحياة الدنيا متاع وإن الآخرة هي دار القرار ([غافر :38-39] . فأخبرهم أن الدنيا متاع يُتمتع بها إلى غيرها ،وأن الآخرة هي المستقر .(1/32)
وإذا عُرف أن لذات الدنيا ونعيمها متاع ووسيلة إلى لذات الآخرة ، ولذلك خلقت الدنيا و لذاتُها ، فكل لذة أعانت على لذة الآخرة وأوصلت إليها ؛لم يذم تناولها ،بل يُحمد لحسب إيصالها إلى لذة الآخرة .
إذا عُرف هذا فأعظم نعيم الآخرة ولذاتها : النظر إلى وجه الله جل جلاله ، وسماع كلامه والقرب منه ، كما ثبت في الصحيح في حديث الرؤية :" فوالله ؛ما أعطاهم شيئاً أحبَّ إليهم من النظر إليه "(40) ، وفي النسائي ومسند الإمام أحمد من حديث عمار بن ياسر رضي الله عنه عن النبي ( في دعائه :"أسألك لذة النظر إلى وجهك الكريم ،والشوق إلى لقائك "(41)
فإذا عُرف هذا ؛ فأعظم الأسباب التي تُحصِّل هذه اللذة هو أعظم لذات الدنيا على الإطلاق ،وهي لذة معرفة الله سبحانه وتعالى ولذة محبته ؛ فإن ذلك هو لذة الدنيا ونعيمها العالي ، ونسبة لذاتها الفانية إليه كتفْلَةٍ في بحر ، فإن الروح والقلب والبدن إنما خُلِق لذلك ؛ فأطيب ما في الدنيا معرفته سبحانه ومحبته ،وألذ ما في الجنة رؤيته ومشاهدته ؛ فمحبته ومعرفته قرة العيون ولذة الأرواح وبهجة القلوب ونعيم الدنيا وسرورها ، بل لذات الدنيا القاطعةُ عن ذلك تتقلب آلاما وعذابا ، ويبقى صاحبها في المعيشة الضنك ؛ فليست الحياة الطيبة إلا بالله .
وكان بعض المحبين تمر به أوقات فيقول : إن كان أهل الجنة في نعيم مثل هذا؛ إنهم لفي عيش طيب .
وكان غيره يقول : لو يعلم الملوك وأبناء الملوك ما نحن فيه ؛ لجالدونا عليه بالسيوف .
وإذا كان صاحب المحبة الباطلة التي هي عذاب على قلب المحب يقول في حاله :
وما النَّاسُ إلا العاشقونَ ذَوو الهَوى فلا خَيرَ فِيْمنْ لا يُحِبُ ويَعْشقُ(1/33)
فكيف بالمحبة التي هي حياة القلوب وغذاء الأرواح ؟ وليس للقلب لذة ولا نعيم ولا فلاح ولا حياة إلا بها ،وإذا فقدها القلب ؛كان ألمه أعظم من ألم العين إذا فقدت نورها ،والأذن إذا فقدت سمعها ،والأنف إذا فقد شمه ، واللسان إذا فقد نطقه ؟! بل فساد القلب إذا خلا من محبة فاطره وبارئه وإلهه الحق أعظمُ من فساد البدن إذا خلا منه الروح ، وهذا الأمر لا يصدِّقُ به إلا من في قلبه حياة ، وما لجرح بميِّتٍ إيلام .
والمقصود : أن أعظم لذات الدنيا هي السبب الموصل إلى أعظم لذةٍ في الآخرة .
[ أنواع لذات الدنيا ]
( ولذات الدنيا ثلاثة أنواع :
فأعظمها وأكملها : ما أوصل إلى لذة الآخرة ، ويثاب الإنسان على هذه اللذة أتم ثواب .
ولهذا كان المؤمن يثاب على ما يَقِصد به وجه الله من أكله وشربه ولبسه ونكاحه وشفاء غيظه بقهر عدو الله وعدوه ، فكيف بلذة إيمانه ومعرفته بالله ومحبته له وشوقه إلى لقائه وطمعه في رؤية وجهه الكريم في جنات النعيم ؟!
النوع الثاني : لذة تمنع لذة الآخرة وتعقب آلاما أعظم منها :
كلذَّة الذين اتخذوا من دون الله أوثانا مودة بينهم في الحياة الدنيا ؛ يحبونهم كحب الله ، ويستمع بعضهم ببعض ؛فإنهم يقولون في الآخرة إذا لقوا ربهم : ( ربنا استمتع بعضنا ببعض وبلغنا أجلنا الذي أجلت لنا قال النار مثواكم خالدين فيها إلا ما شاء الله إن ربك حكيم عليم . وكذلك نولي بعض الظالمين بعضا بما كانوا يكسبون ([ الأنعام :128-129] .
ولذة أصحاب الفواحش والظلم والبغي في الأرض والعلو بغير الحق.
وهذه اللذات في الحقيقة إنما هي استدراج من الله لهم ؛ليذيقهم بها أعظم الآلام ، ويحرمهم بها أكمل اللذات ؛ بمنزلة من قدم لغيره طعاماً لذيذاً مسموماً يستدرجه به إلى هلاكه .(1/34)
قال تعالى ( سنستدرجهم من حيث لا يعملون . وأملي لهم إن كيدي متين ( [الأعراف :182-183] قال بعض السلف في تفسيرها : كلّما أحدثوا ذنباً ؛أحدثنا لهم نعمة ( حتى إذا فرحوا بما أوتوا أخذناهم بغتة فإذا هم مبلسون . فقطع دابر القوم الذين ظلموا والحمد لله رب العالمين( [الأنعام :44-45].
وقال تعالى لأصحاب هذه اللذة ( أيحسبون أنما نمدهم به من مال وبنين. نسارع لهم في الخيرات بل لا يشعرون ( [المؤمنون :55-56] وقال في حقهم : ( فلا تعجبك أموالهم ولا أولادهم إنما يريد الله ليعذبهم بها في الحياة الدنيا ( [التوبة :55]الآية .
وهذه اللذة تنقلب آلاما من أعظم الآلام ؛كما قيل :
مآرِبُ كانتْ في الحياةِ لأهْلهِا عِذاباً فصارتْ في المَعادِ عَذابا
النوع الثالث : لذة لا تعقب لذة في دار القرار ولا ألما يمنع وصول لذة دار القرار ، وإن منعت كمالها .
وهذه اللذة المباحة التي لا يُستعان بها على لذة الآخرة ؛فهذه زمانها يسير ، وليس لتمتع النفس بها قدر ،ولا بد أن تشغل العبد عما هو خير له وأنفع منها .
وهذا القسم هو الذي عناه النبي ( بقوله :" كل لهو يلهو به الرجل فهو باطل ؛ إلا رميهُ بقوسه ،وتأديبه فرسه ،وملاعبته امرأته ؛ فإنهن من الحق " (42) .
فما أعان على اللذة المطلوبةِ لذاتها ؛فهو حق ، وما لم يعنْ عليها ؛ فهو باطل .
فصل
[ بعض أنواع المحبة التي فيها منافع العشق ومزاياه ]
فهذا الحب لا ينكر ولا يذم بل هو أحد أنواع الحب،وكذلك حب رسول الله ( وإنما نعني بالمحبة الخاصة ، وهي التي تشغل قلب المحب وفكره وذكره بمحبوبه ، وإلا فكل مسلم في قلبه محبة لله ورسوله ( ،والتي لا يدخل الإسلام إلا بها ، والناس متفاوتون في درجات هذه المحبة تفاوتا لا يحصيه إلا الله ، فبين محبة الخليلين صلى الله عليهما وسلم ومحبة غيرهما ما بينهما .(1/35)
فهذه المحبة هي التي تُلَطف وتخفف أثقال التكاليف ،وتسخي البخيل ، وتشجع الجبان ،وتصفي الذهن ، وتروض النفس ،وتطيب الحياة على الحقيقة ، لا محبة الصور المحرمة ، وإذا بُلِيت السرائر يوم اللقاء ؛كانت سريرة صاحبها من خير سرائر العباد ؛كما قيل :
سيبقى لكمْ في مُضمرِ القلْب والحشا سريرةُ حُبٍّ يوم تبلى السرائرُ
وهذه المحبة هي التي تُنور الوجه ، وتشرح الصدر، وتحيي القلب .
وكذلك محبة كلام الله ؛ فإنها من علامة محبة الله .
وإذا أردت أن تعلم ما عندك وعند غيرك من محبة الله ؛فانظر محبة القرآن من قلبك والتذاذك بسماعه أعظم من التذاذ أصحاب الملاهي والغناء بسماعهم ،فإنه من المعلوم أن من أحب حبيبا ؛كان كلامه وحديثه أحب شيءٍ إليه ؛كما قيل :
إن كُنتَ تَزعُمُ حُبِّي فلمْ هجرتَ كتابي
أما تأملتَ ما فيـ ـه مِنْ لذيذِ خِطابي
وقال عثمان بن عفان رضي الله عنه : لو طَهُرَتْ قلوبنُا ؛ لما شبعت من كلام الله (43). وكيف يشبع المحب من كلام محبوبة وهو غاية مطلوبه ؟
وقال النبي ( يوما لعبد الله بن مسعود رضي الله عنه : "اقرأ علي " فقال : أقرأ عليك وعليك أنزل ؟ فقال : " إني أحب أن أسمعه من غيري" فاستفتح فقرأ سورة النساء حتى إذا بلغ قوله : ( فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيدا ( [النساء :41] قال : "حسبك الآن " فرفع رأسه فإذا عينا رسول الله ( تذرفان من البكاء (44).
وكان الصحابة إذا اجتمعوا وفيهم أبو موسى ؛ يقولون: يا أبا موسى ! اقرأ علينا فيقرأ ، وهم يستمعون (45).
فلِمُحبي القرآن من الوجد والذوق واللذة والحلاوة والسرور أضعاف ما لِمُحِبي السماع الشيطاني .(1/36)
فإذا رأيت الرجل ؛ ذوقه وشدة وجده وطربه وشوقه إلى سماع الأبيات دون سماع الآيات ،و سماع الألحان دون سماع القرآن ؛ كما قيل : تقرأ عليك الختمة وأنت جامد كالحجر ،وبيت من الشعر يُنْشَدُ فتميل كالنشوان ! فهذه من أقوى الأدلة على فراغ قلبه من محبة الله وكلامه ، وتعلقه بمحبة سماع الشيطان ، والمغرور يعتقد أنه على شيء !!
ففي محبة الله وكلامه ورسوله ( أضعاف أضعاف ما ذُكِرَ من فوائد العشق ومنافعه، بل لا حب على الحقيقة أنفع منه ،وكل حب سوى ذلك باطل ، إن لم يُعنْ عليه ويسوق المحب إليه .
فصل
[ لا تثريب في حب النساء إن كان بالوجه الشرعي ]
وأما محبة الزوجات : فلا لوم على المحب فيها ، بل هي من كماله .
وقد امتنَّ الله سبحانه بها على عباده فقال : ( ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة ( الآية [الروم :21] ؛ فجعل المرأة سكنا للرجل ؛ يسكن إليها قلبه وجعل بينهما خالص الحب ، وهو المودة المقرونة بالرحمة .
وقد قال تعالى عقيب ذكره ما أحل لنا من النساء وما حرم منهن: ( يريد الله ليبين لكن ويهديكم سنن الذين من قبلكم ويتوب عليكم والله عليم حكيم . والله يريد أن يتوب عليكم ويريد الذين يتبعون الشهوات أن تميلوا ميلا عظيما . يريد الله أن يخفف عنكم و خلق الإنسان ضعيفا ( [ النساء :26-28].
وفي الصحيح من حديث جابر عن النبي ( أنه رأى امرأة فأتى زينب ،فقضى حاجته منها وقال : " إن المرأة تُقبل في صورة شيطان وتدبر في صورة الشيطان فإذا رأى أحدكم امرأة ، فأعجبته ؛فليأت أهله ؛ فإن ذلك يرد ما في نفسه "(46) .
ففي هذا الحديث عدة فوائد منها :
منها : الإرشاد إلى التسلي عن المطلوب بجنسه ؛ كما يقوم الطعام مكان الطعام والثوب مقام الثوب .(1/37)
ومنها : الأمر بمداواة الإعجاب بالمرأة المورث لشهوتها بأنفع الأدوية ، وهو قضاء وطره من أهله ،وذلك ينقض شهوته لها ،وهذا كما أرشد المتحابين إلى النكاح كما في سنن ابن ماجه مرفوعا : " لم ير للمتحابين مثل النكاح " (47)
فنكاحه لمعشوقه هو دواء العشق الذي جعله الله دواءً شرعا وقدرا .
ولا ريب أن النبي ( حُبِّب إليه النساء؛كما في الصحيح عن أنس عنه ( :" حُبّب إلي من دنياكم النساء والطيب وجعلت قرة عيني في الصلاة "(48) .
وقد حسده أعداء الله اليهود على ذلك وقالوا : ما همه إلا النكاح ! فرد الله سبحانه عن رسول الله ( ونافح عنه فقال : ( أم يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله ( الآية [النساء :54].
وقد سُئل رسول الله ( عن أحب الناس إليه فقال " عائشة "(49) رضى الله عنها وقال عن خديجة " إني رُزِقت حُبها "(50) .
فمحبة النساء من كمال الإنسان .
[ أقسام عشق النساء ]
فعشق النساء ثلاث أقسام :
قسم هو قربة وطاعة : وهو عشق الرجل امرأته وجاريته ، وهذا العشق نافع فإنه ادعى إلى المقاصد التي شرع الله لها النكاح ، واكف للبصر والقلب عن التطلع إلى غير أهله ، ولهذا يحمد هذا العاشق عند الله وعند الناس .
وعشق هو مقت عند الله وبعد من رحمته ، وهو أضر شيء على العبد في دينه ودنياه ، وهو عشق المردان ؛ فما ابتلي به إلا من سقط من عين الله ،وطرد عن بابه ، وأبعد قلبه عنه ، وهو من أعظم الحجب القاطعة عن الله ؛كما قال بعض السلف : إذا سقط العبد من عين الله ؛ ابتلاه بمحبة المردان .
وهذه المحبة هي التي جلبت على قوم لوط ما جلبت ،فما أوتوا إلا من هذا العشق قال الله تعالى : ( لعمرك إنهم لفي سكرتهم يعمهون ( [الحجر :72].
ودواء هذا الداء : الاستغاثة بمقلب القلوب ، وصدق اللجأ إليه ، والاشتغال بذكره ، والتعوض بحبه وقربه ، والتفكر بالألم الذي يعقبه هذا العشق بل واللذة التي تفوته به ، فترتب عليه فوات أعظم محبوب وحصول أعظم مكروه .(1/38)
فإذا أقدمت نفسه على هذا وآثرته ؛ فليكبر عليها تكبير الجنازة ، وليعلم أن البلاء قد أحاط بها .
والقسم الثالث من العشق : العشق المباح ، كعشق من صُوِرتْ له امرأة جميلة أو رآها فجأة من غير قصد فتعلق قلبه بها ، ولم يحدث له ذلك العشق معصية ؛ فهذا لا يملك ولا يعاقب عليه ، والأنفع له مدافعته والاشتغال بما هو أنفع له منه ، ويجب على هذا : أن يكتم ويعف ويصبر على بلواه ، فيثيبه الله على ذلك ، ويعوضه على صبره لله ، وعفته ،وترك طاعته هواه ،وإيثار مرضاة الله وما عنده .
فصل
[ أقسام العشاق ]
والعشاق ثلاثة أقسام :
منهم : من يعشق الجمال المطلق .
ومنهم : من يعشق الجمال المقيد ؛ سواء طمع بوصاله أو لا .
ومنهم : من لا يعشق إلا من يطمع في وصاله .
وبين هذه الأنواع الثلاثة تفاوتٌ في القوة والضعف .
فعاشق الجمال المطلق : يهيم قلبه في كل وادٍ، وله في كل صورة جميلة مراد ..فهذا عشقه أوسع ، ولكنه غير ثابت كثير التنقل :
يَهيمُ بهذا ثُمَّ يَعْشَقُ غَيْرَهُ ويَسلاهُمُ منْ وقتهِ حينَ يُصبحُ
وعاشق الجمال المقيد : أثبت على معشوقهِ وأدوم محبة له ،ومحبته أقوى من محبة الأول ؛ لاجتماعهما في واحد ،ولكنْ يضعفهما عدم الطمع في الوصال .
وعاشق الجمال الذي يُطْمُع في وصاله أعقل العشاق وأعرفهم ، وحبه أقوى ؛لأن الطمع يمده ويقوِّيه .
فصل
[ بيان أن خبر : " من عشق فعف .." موضوع ]
[ ولا يغتر بالحديث الموضوع على رسول الله ( ..أنه قال : " من عشق فعف فمات فهو شهيد " وفي رواية " من عشق وكتم وعف وصبر غفر الله له و أدخله الجنة " (51) .
فإن هذا الحديث لا يصح عن رسول الله ولا يجوز أن يكون من كلامه فإن الشهادة درجة عالية عند الله مقرونة بدرجة الصديقية ولها أعمال وأحوال هي شرط في حصولها .
وهي نوعان : عامة وخاصة :
فالخاصة : الشهادة في سبيل الله .
والعامة : خمس مذكورة في الصحيح ليس العشق واحداً منها .(1/39)
وكيف يكون العشق الذي هو شرك في المحبة ، وفراغ القلب عن الله ، وتمليك القلب والروح والحب لغيره ؛ تنال به درجة الشهادة ؟!
هذا من المحال ؛ فإن إفساد عشق الصور للقلب فوق كل إفساد ، بل هو خمر الروح الذي يسكرها ويصدها عن ذكر الله وحبه والتلذذ بمناجاته والأنس به، ويوجب عبودية القلب لغيره ؛ فإن قلب العاشق متعبد لمعشوقه ،بل العشق لب العبودية ؛ فإنها كمال الذل والحب والخضوع والتعظيم .
فكيف يكون تعبد القلب لغير الله مما تنال به درجة أفاضل الموحدين وساداتهم وخواص الأولياء ؟!
فلو كان إسناد هذا الحديث كالشمس ؛كان غلطا ووهما .
ولا يحفظ عن رسول الله ( لفظ ( العشق ) في حديث صحيح ألبته .
ثم إن العشق منه حلال ومنه حرام ؛فكيف يظن بالنبي ( أنه يحكم على كل عاشق يكتم ويعف بأنه شهيد ؟!
فترى من يعشق امرأة غيره أو يعشق المردان والبغايا ينال بعشقه درجة الشهداء؟! وهل هذا إلا خلاف المعلوم من دينه ( بالضرورة ؟!
كيف والعشق مرض من الأمراض التي جعل الله سبحانه لها الأدوية شرعا وقدرا، والتداوي منه إما واجب ـ إن كان عشقا حراما ـ وإما مستحب ؟!
وأنت إذا تأملت الأمراض والآفات التي حكم رسول الله ( لأصحابها بالشهادة ؛ وجدتها من الأمراض التي لا علاج لها ؛كالمطعون ،والمبطون ،والمجنون ،والحريق، والغريق ،وموت المرأة يقتلها ولدها في بطنها ؛ فإن هذه بلايا من الله لا صنع للعبد فيها ، ولا علاج لها ، وليست أسبابها محرمة ، ولا يترتب عليها من فساد القلب وتعبده لغير الله ما يترتب على العشق ..] (52) .
(((
فصل
[ عظيم مفسدة اللواط وشدة فحشه ]
ولما كانت مفسدة اللواط من أعظم المفاسد كانت عقوبته في الدنيا والآخرة من أعظم العقوبات .
فذهب جمهور الأمة وحكاه غير واحد إجماعاً للصحابة : ليس في المعاصي مفسدة أعظم من مفسدة اللواط وهى تلي مفسدة الكفر ،وربما كانت أعظم من مفسدة القتل .(1/40)
قالوا : ولم يبتل الله تعالى بهذه الكبيرة قبل قوم لوط أحداً من العالمين .
وعاقبهم عقوبة لم يعاقب بها أمة غيرهم ،وجمع عليهم أنواعا من العقوبات من الإهلاك ، وقلب ديارهم عليهم ،والخسف بهم ، ورجمهم بالحجارة من السماء، وطمس أعينهم، وعذبهم وجعل عذابهم مستمرا ، فنكل بهم نكالا لم ينكله بأمة سواهم .
وذلك لعظم مفسدة هذه الجريمة ، التي تكاد الأرض تميد من جوانبها إذا عملت عليها ، وتهرب الملائكة إلى أقطار السموات والأرض إذا شهدوها خشية نزول العذاب على أهلها فيصيبهم معهم ،وتعج الأرض إلى ربها تبارك وتعالى ، وتكاد الجبال تزول عن أماكنها .
ولأن يُقتلَ المفعول به خيرٌ له من أن يؤتى ؛ فإنه إذا وطأه الرجل ؛ قتله قتلا لا ترجى الحياة معه ؛ فإنه يفسد فساداً لا يُرجى له بعده صلاح أبدا ،ويذهب خيره كله ،وتمص الأرض ماء الحياء من وجهه ،فلا يستحي بعد ذلك من الله ولا من خلقه ، وتعمل في قلبه وروحه نطفة الفاعل ما يعمل السم في البدن ؛ بخلاف قتله؛ فإنه مظلوم شهيد ،وربما ينتفع به في آخرته .
[ بيان عقوبة اللوطي ]
[عقوبة اللوطي القتل حدا] ؛ كما أجمع عليه أصحاب رسول الله ( ودلت عليه سنة رسول الله ( الصحيحة الصريحة ،التي لا معارض لها ، بل عليها عمل أصحابه وخلفائه الراشدين رضي الله عنهم أجمعين .
وقد ثبت عن خالد بن الوليد : ( أنه وجد في بعض نواحي العرب رجلا يُنكح كما تُنكح المرأة ، فكتب إلى أبي بكر الصديق رضي الله عنه؟ فاستشار أبو بكر الصديق الصحابةَ رضي الله عنهم ،فكان عليُّ بن أبي طالب أشدهم قولا فيه ،فقال: ما فعل هذا إلا أمة من الأمم واحدة ، وقد علمتم ما فعل الله بها ، أرى أن يحرق بالنار .فكتب أبو بكر إلى خالد فحرقه )(53) .
وقال عبد الله بن عباس : ينُظر أعلى ما في القرية ، فيرمى اللوطي منها منكّسا ، ثم يتبع بالحجارة (54) . وأخذ ابن عباس هذا الحد من عقوبة الله للّوطيّة .(1/41)
وابن عباس هو الذي روى عن النبي ( أنه قال : " من وجدتموه يعمل عمل قوم لوط ؛ فاقتلوا الفاعل والمفعول به "(55) رواه أهل السنن وصححه ابن حبان وغيره واحتج الإمام أحمد بهذا الحديث وإسناده على شرط البخاري .
قالوا : وثبت عنه ( أنه قال :" لعن الله من عمل عمل قوم لوط ، لعن الله من عمل عمل قوم لوط ، لعن الله من عمل عمل قوم لوط "(56)
ولم يجيء عنه ( لعنة الزاني ثلاث مرات في حديث واحد ،وقد لعن جماعة من أهل الكبائر فلم يتجاوز بهم في اللعن مرة واحدة ، وكرر لعن اللوطية و أكده ثلاث مرات .
وأطبق أصحاب رسول الله ( على قتله ، لم يختلف منهم فيه رجلان ، وإنما اختلفت أقوالهم في صفة قتله ، فظن بعض الناس أن ذلك اختلاف منهم في قتله، فحكاها مسألة نزاع بين الصحابة ،وهي بينهم مسألة إجماع لا مسألة نزاع .
قالوا : ومن تأمل قوله سبحانه ( ولا تقربوا الزنا إنه كان فاحشة ومقتا وساء سبيلا ( [الإسراء :32] وقوله في اللواط ( أتأتون الفاحشة ما سبقكم بها من أحد من العالمين ( [الأعراف :80] تبين له تفاوت ما بينهما ، فإنه سبحانه نكَّر الفاحشة في الزنى ؛ أي : هو فاحشةٌ من الفواحش ، وعرّفها في اللواط ، وذلك يفيد أنه جامعٌ لمعاني اسم الفاحشة ؛كما تقول :زيد الرجل ، ونعم الرجل زيد ؛ أي أتأتون الخصلة التي استقر فُحشها عند كل أحد ، وهي لظهور فُحشها وكماله غنية عن ذِكرها بحيث لا ينصرف الاسم إلى غيرها .
وهذا نظير قول فرعون لموسى ( وفعلت فعلتك التي فعلت ( [الشعراء :19] ؛ أي : الفعلة الشنعاء الظاهرة المعلومة لكل أحد .
ثم أكّد سبحانه شأن فُحشها بأنها لم يعملها أحدٌ من العالمين قبلهم ، فقال ( ما سبقكم بها من أحد من العالمين ( [ الأعراف :80].(1/42)
ثم زاد في التأكيد بأن صرح بما تشمئز منه القلوب وتنبوا عنها الأسماع وتنفر منه الطباع أشد النفور ، وهو إتيان الرجل رجلاً مثله ينكِحُه كما ينكِحُ الأنثى فقال : ( إنكم لتأتون الرجال ( [الأعراف :81] .
ثم نبه على استغنائهم عن ذلك ، وأن الحامل لهم عليه ليس إلا مجرد الشهوة لا الحاجة التي لأجلها مال الذكر إلى الأنثى ؛ من : قضاء الوطر ، ولذة الاستمتاع، وحصول المودة والرحمة التي تنسى المرأة لها أبيها وتذكر بعلها، وحصول النسل الذي هو حفظ هذا النوع الذي هو أشرف المخلوقات ،وتحصين المرأة ، وقضاء وطرها ، وحصول علاقة المصاهرة التي هي أخت النسب ، وقيام الرجال على النساء ، وخروج أحب الخلق إلى الله من جماعهن كالأنبياء والأولياء والمؤمنين ومكاثرة النبي ( الأنبياء بأمته ...إلى غير ذلك من مصالح النكاح ، والمفسدة التي في اللواط تقاوم ذلك كله ، وتُربي عليه بما لا يمكن حصر فساده ،ولا يعلم تفصيله إلا الله عز وجل .
ثم أكد سبحانه قُبح ذلك بأن اللوطية عكسوا فطرة الله التي فطر عليه الرجال، وقلبوا الطبيعة التي ركبها الله في الذكور ، وهي شهوة النساء دون الذكور، فقلبوا الأمر، وعكسوا الفطرة والطبيعة ، فأتوا الرجال شهوة من دون النساء ، ولهذا قلب الله سبحانه عليهم ديارهم ، فجعل عاليها سافلها ، وكذلك قُلِبوا هم ونُكِسوا في العذاب على رؤسهم .
ثم أكد سبحانه قُبح ذلك بأن حكم عليهم بالإسراف ، وهو مجاوزة الحد، فقال : ( بل أنتم قوم مسرفون( [الأعراف :81] .
فتأمل ؛ هل جاء مثل ذلك أو قريبا منه في الزنى ؟ !
وأكد سبحانه ذلك عليهم بقوله (ونجيناه من القرية التي كانت تعمل الخبائث ( [الأنبياء :74] .
ثم أكد سبحانه عليهم الذم بوصفين في غاية القبح ،فقال ( إنهم كانوا قوم سوء فاسقين ( [الأنبياء :74] .
وسماهم مفسدين في قول نبيهم ( فقال رب انصرني على القوم المفسدين ( [العنكبوت :30] .(1/43)
وسماهم ظالمين في قول الملائكة لإبراهيم عليه السلام : ( إنا مهلكوا أهل هذه القرية إن أهلها كانوا ظالمين ( [العنكبوت :31]
فتأمل من عوقب بمثل هذه العقوبات ، ومن ذمه الله بمثل هذه الذمات .
ولما جادل فيهم خليله إبراهيم الملائكة ؛وقد أخبروه بإهلاكهم ؛ فقيل له : ( يا إبراهيم أعرض عن هذا إنه قد جاء أمر ربك وإنهم آتيهم عذاب غير مردود ( [هود :76] .
وتأمل خبث اللوطية وفرط تمردهم على الله ؛ حيث جاؤا نبيهم لوطا لما سمعوا بأنه قد طرقه أضياف ، هم من أحسن البشر صورا ، فأقبل اللوطية إليهم يهرعون فلما رآهم قال لهم ( يا قوم هؤلاء بناتي هن أطهر لكم ( [هود :78] ففدى أضيافه ببناته يزوجهم بهم خوفاً على نفسه وعلى أضيافه من العار الشديد ، فقال : ( يا قوم هؤلاء بناتي هن أطهر لكم فاتقوا الله ولا تخزون في ضيفي أليس منكم رجل رشيد ( [هود :78]فردوا عليه ، ولكن رد جبار عنيد ( لقد علمت ما لنا في بناتك من حق وإنك لتعلم ما نريد ( [هود :79] ! فنفث نبي الله نفثة مصدور خرجت من قلب مكروب ،فقال: ( لو أن لي بكم قوة أو أوي إلى ركن شديد ( [هود :80] فكشف له رسل الله عن حقيقة الحال ، وأعلموه أنهم ممن ليس يوصل إليهم ولا إليه بسببهم ، فلا تخف منهم ولا تعبأ بهم وهوّنْ عليك ، فقالوا ( يا لوط إنا رسل ربك لن يصلوا إليك ( [هود :81] وبشروه بما جاءوا به من الوعد له ولقومه من الوعيد المصيب فقالوا ( فأسر بأهلك بقطع من الليل ولا يلتفت منكم أحد إلا امرأتك إنه مصيبها ما أصابهم إن موعدهم الصبح أليس الصبح بقريب ( [هود :81] .
فاستبطأ نبي الله ـ عليه السلام ـ موعد هلاكهم،وقال : أريد أعْجل من هذا. فقالت الملائكة : ( أليس الصبح بقريب ( [ هود :81].(1/44)
فوالله ؛ ما كان بين إهلاك أعداء الله ونجاة نبيه وأوليائه إلا ما بين السحر وطلوع الفجر ، وإذا بديارهم قد اقتلعت من أصولها ، ورفعت نحو السماء ، حتى سمعت الملائكة نباح الكلاب ونهيق الحمير ، فبرز المرسوم الذي لا يرد من الرب الجليل على يدي عبده ورسوله جبرائيل بأن يقلبها عليهم كما أخبر به في محكم التنزيل ، فقال عزّ من قائل: ( فلما جاء أمرنا جعلنا عاليها سافلها وأمطرنا عليها حجارة من سجيل ( [هود :82] .
فجعلهم آية للعالمين ، وموعظة للمتقين ، ونكالاً وسلفاً لمن شاركهم في أعمالهم من المجرمين ، وجعل ديارهم بطريق السالكين ( إن في ذلك لآيات للمتوسمين . وإنها لبسبيل مقيم . إن في ذلك لآية للمؤمنين ( [الحجر :75-77] .
أخذهم على غرة وهم نائمون ، وجاءهم بأسُه وهم في سكرتهم يعمهون ، فما أغنى عنهم ما كانوا يكسبون، تقلبوا على تلك اللذات طويلا ، فأصبحوا بها يعذبون :
مآربُ كانتْ في الحياةِ لأهلِها عذباً فصارتْ في المماتِ عَذابا
ذهبت اللذات وأعقبت الحسرات ،وانقضت الشهوات وأورثه الشقوات ،تمتعوا قليلا وعذبوا طويلا ، رتعوا مرتعا وخيما فأعقبهم عذابا أليما ،أسكرتهم خمرة تلك الشهوات فما استفاقوا منها إلا في ديار المعذبين ، وأرقدتهم تلك الغفلة فما استيقظوا منها إلا وهم في منازل الهالكين ، فندموا ـ والله ـ أشد الندامة حين لا ينفع الندم ، وبكوا على ما أسلفوه بدل الدموع بالدم .
فلو رأيت الأعلى والأسفل من هذه الطائفة، والنار تخرج من منافذ وجوههم وأبدانهم وهم بين أطباق الجحيم ، وهم يشربون بدل لذيذ الشراب كؤوس الحميم ،ويقال لهم وهم على وجوههم يُسحبون :( ذوقوا ما كنتم تكسبون اصلوها فاصبروا أو لا تصبروا سواء عليكم إنما تجزون ما كنتم تعملون ( [الطور :16].
ولقد قرب الله سبحانه مسافةَ العذاب بين هذه الأمة وبين إخوانهم في العمل، فقال مخوفّاً لهم بأعظم الوعيد (وما هي من الظالمين ببعيد( [هود:83].(1/45)
[ توبة اللوطي هل تقبل ؟ ]
وقد اختلف الناس هل يدخل الجنة مفعول به ؟
التحقيق في هذه المسألة أن يقال : إنْ تاب المبتلى بهذا البلاء وأناب ، ورزق توبة نصوحا وعملا صالحا ،وكان في كبره خيراً منه في صغره ،وبدل سيئاته بحسنات، وغسلَ عار ذلك عنه بأنواع الطاعات والقربات ،وغض بصره وحفظ فرجه عن المحرمات ،وصدق الله في معاملته ؛فهذا مغفور له ،وهو من أهل الجنة ؛فإن الله يغفر الذنوب جميعا .
وإذا كانت التوبة تمحو كلَّ ذنب ، حتى الشرك بالله وقتل أنبيائه وأوليائه والسحر والكفر وغير ذلك ؛ فلا تَقْصُرُ عن مَحْو هذا الذنب .
وقد استقرت حكمة الله به عدلاً وفضلاً أن التائب من الذنب كمن لا ذنب له. وقد ضَمِنَ الله سبحانه لمن تاب من الشرك وقتل النفس والزنى أنه يُبدِّلُ سيئاته حسنات ، وهذا حكم عام لكل تائب من ذنب .
وقد قال تعالى : ( قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعا إنه هو الغفور الرحيم ( [الزمر :53] فلا يخرج من هذا العموم ذنب واحد . ولكن هذا في حق التائبين خاصة.
وأما المفعول به : إن كان في كبره شراً مما كان في صغره ؛لم يوفق لتوبة نصوح، ولا لعمل صالح ،ولا استدرك ما فات و أحيا ما مات ،ولا بدَّل السيئات بالحسنات ؛فهذا بعيد أن يوفق عند الممات لخاتمةٍ يدخل الجنة،عقوبةً له على عمله؛ فإن الله سبحانه يعاقب على السيئة بسيئة أخرى ،وتتضاعف عقوبة السيئات بعضها ببعض ؛كما يثيب على الحسنة بحسنة أخرى .
[ فصل ]
[ حرمة الزنى ]
[ بين ]سبحانه حرمت [ الزنى ] بقوله : ( والذين لا يدعون مع الله إلها آخر ولا يقتلون النفس التي حرم الله إلا بالحق ولا يزنون ومن يفعل ذلك يلق أثاما .يضاعف له العذاب يوم القيامة ويخلد فيه مهانا . إلا من تاب ( [الفرقان:68 -70] الآية.(1/46)
فقرن الزنا بالشرك وقتل النفس وجعل جزاء ذلك الخلودَ في النار في العذاب المضاعف المهين ، ما لم يرفع العبد موجب ذلك بالتوبة والإيمان والعمل الصالح . وقد قال تعالى : ( ولا تقربوا الزنا إنه كان فاحشةً وساء سبيلا ( [الإسراء :32] فأخبر عن فُحشه في نفسه ، وهو القبيح الذي قد تناها قبحه حتى استقر فُحشه في العقول ، ثم أخبر عن غايته بأنه ساء سبيلا ؛ فإنه سبيل هلكة وبوار و افتقار في الدنيا ، وعذابٍ وخزي ونكال في الآخرة.
ولما كان نكاح أزواج الآباء من أقبحه ؛خصه بمزيد ذم ، فقال : ( إنه كان فاحشة ومقتا وساء سبيلا ( [النساء:22] .
وعلق سبحانه فلاح العبد على حفظ فرجه منه ؛ فلا سبيل له إلى الفلاح بدونه فقال: ( قد أفلح المؤمنون الذين هم في صلاتهم خاشعون . والذين هم عن اللغو معرضون . والذين هم للزكاة فاعلون . والذين هم لفروجهم حافظون . إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فإنهم غير ملومين . فمن ابتغى وراء ذلك فأولئك هم العادون ( [المؤمنون :1-7].
وهذا يتضمن ثلاثة أمور : أن من لم يحفظ فرجه ؛ لم يكن من المفلحين ، وأنه من الملومين ، ومن العادين ؛ ففاته الفلاح ، واستحق اسم العدوان ، ووقع في اللوم فمقاساة ألم الشهوة ومعاناتها أيسر من بعض ذلك .
ونظير هذا : أنه ذم الإنسان ،وأنه خُلِق هلوعاً لا يصبر على سراء ولا ضراء ،بل إذا مسه الخير؛ مَنع وبَخل ، وإذا مسّه الشر؛ جَزِع ؛ إلا من استثناه بعد ذلك من الناجين من خلقه ، فذكر منهم : ( والذين هم لفروجهم حافظون. إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فإنهم غير ملومين .فمن ابتغى وراء ذلك فأولئك هم العادون ( [ المعارج :29-31] .
فصل
[ عظم مفسدة الزنى ](1/47)
مفسدة الزنى من أعظم المفاسد ، وهى منافية لمصلحة نظام العالم في: حفظ الأنساب ، وحماية الفروج ، وصيانة الحرمات ، وتوقى ما يوقع أعظم العداوة والبغضاء بين الناس من إفساد كل منهم امرأة صاحبه وابنته وأخته وأمه، وفى ذلك خراب العالم .
فإن المرأة إذا زنت ؛ أدخلت العار على أهلها وزوجها وأقاربها ونكست رؤسهم بين الناس .
وإن حملت من الزنى : فإن قتلت ولدها جمعت بين الزنى والقتل ، وإن حملته على الزوج ؛ أدخلت على أهله وأهلها أجنبيا ليس منهم ، فورثهم وليس منهم ، ورآهم وخلا بهم ، وانتسب إليهم وليس منهم .. إلى غير ذلك من مفاسد زناها .
وأما زنا الرجل :
فإنه يوجب اختلاط الأنساب أيضا .
وإفساد المرأة المصونة ، وتعريضها للتلف والفساد .
ففي هذه الكبيرة خراب الدنيا والدين وإن عمرت القبور في البرزخ والنار في الآخرة ، فكم في الزنى من استحلال محرمات ،وفوات حقوق، ووقوع مظالم !!
ومن خاصيته أنه:يوجب الفقر ، ويقصر العمر، ويكسو صاحبه سواد الوجه، وثوب المقت بين الناس .
ومن خاصيته أيضا : أنه يشتت القلب ، ويمرضه إن لم يُمته ،ويجلب الهم والحزن والخوف ،ويباعد صاحبه من الملك ،ويقربه من الشيطان .
فليس بعد مفسدة القتل أعظم من مفسدته ،ولهذا شرع فيه القتل على أشنع الوجوه وأفحشها وأصعبها .(1/48)
ولو بلغ العبد أن امرأته أو حرمته قتلت ؛كان أسهل عليه من أن يبلغه أنها زنت . وقال سعد بن عبادة رضي الله عنه : لو رأيت رجلا مع امرأتي لضربته بالسيف غير مصفح (57)فبلغ ذلك رسول الله ( فقال: " أتعجبون من غيرة سعد ؟ والله ؛ لأنا أغير منه ، والله أغير مني ، ومن أجل غيرة الله حرم الفواحش ما ظهر منها وما بطن " متفق عليه (58)، وفى الصحيحين أيضا عنه : " إن الله يغار ،وإن المؤمن يغار، وغيرة الله أن يأتي العبد ما حرم عليه "(59) ، وفى الصحيحين في خطبته ( في صلاة الكسوف أنه قال : " يا أمة محمد ! والله ؛ إنه لا أحدَ أغيرُ من الله أن يزنى عبده أو تزني أمته ، يا أمة محمد ! والله لو تعلمون ما أعلم ؛ لضحكتم قليلا ، ولبكيتم كثيرا " ثم رفع يديه فقال : " اللهم ! هل بلغت ؟ " (60)
وفى ذكر هذه الكبيرة بخصوصها عَقِبَ صلاةِ الكسوف سر بديعٌ لمن تأمله، وظهور الزنى من أمارات خراب العالم ، وهو من أشراط الساعة .
كما في الصحيحين عن أنس بن مالك أنه قال : لأحدثنكم حديثاً لا يحدثكموه أحدٌ بعدي ،سمعت رسول الله ( يقول :" من أشراط الساعة : أن يقل العلم، ويظهر الجهل ،ويظهر الزنى ،ويقل الرجال ، وتكثر النساء ،حتى يكون لخمسين امرأة القيم الواحد " (61)
وقد جرت سنة الله سبحانه في خلقه أنه عند ظهور الزنى يغضب الله سبحانه وتعالى ويشتد غضبه ، فلابد أن يُؤَثِّرَ غضبُه في الأرض عقوبة ، قال عبد الله بن مسعود : ما ظهر الربا والزنى في قرية إلا أذن الله بإهلاكها (62).
فصل
[ التشديد والتشنيع في حد الزنى وأسبابه ]
وخص سبحانه حد الزنا من بين سائر الحدود بثلاث خصائص :
أحدها :القتل فيه بأشنع القتلات ، وحيث خففه ؛فجمع فيه بين العقوبة على البدن بالجلد وعلى القلب بتغريبه عن وطنه سنة .(1/49)
الثاني : أنه نهى عباده أن تأخذهم بالزناة رأفة في دينه ؛بحيث تمنعهم من إقامة الحد عليهم ؛ فإنه سبحانه من رأفته بهم ورحمته بهم شرع هذه العقوبة ؛ فهو أرحم منكم بهم ، ولم تمنعه رحمته من أمره بهذه العقوبة ؛ فلا يمنعكم أنتم ما يقوم بقلوبكم من الرأفة من إقامة أمره .
وهذا ؛ وإن كان عاما في سائر الحدود ، ولكنْ ذُكِرَ في حد الزنى خاصة لشدة الحاجة إلى ذكره ؛ فإن الناس لا يجدون في قلوبهم من الغلطة والقسوة على الزاني ما يجدونه على السارق والقاذف وشارب الخمر ،فقلوبهم ترحم الزاني أكثر مما ترحم غيره من أرباب الجرائم ،والواقع شاهد بذلك ، فنهوا أن تأخذهم هذه الرأفة وتحملهم على تعطيل حد الله عز وجل .
وسبب هذه الرحمة :أن هذا ذنبٌ يقع من الإشراف والأوساط والأراذل ،وفي النفوس أقوى الدواعي إليه ،والمشارك فيه كثير ، وأكثر أسبابه العشق ،والقلوب مجبولة على رحمة العاشق ، وكثير من الناس يعد مساعدته طاعة وقربة ،وإن كانت الصورة المعشوقة محرمة عليه .
ولا يُسْتَنكَرُ هذا الأمر ؛ فهو مستقر عند من شاء الله من أشباه الأنعام .
ولقد حُكِيَ لنا من ذلك شيء كثير عن ناقصي العقول ؛كالخدام والنساء .
وأيضاً : فإن هذا ذنبٌ غالباً ما يقع مع التراضي من الجانبين ؛فلا يقع فيه من العدوان والظلم والاغتصاب ما تنفر النفوس منه ، وفيها (63)شهوة غالبة له ، فيُصور ذلك لها ، فتقوم بها رحمة تمنع إقامة الحد .
وهذا كله من ضعف الإيمان .
وكمال الإيمان أن تقوم به قُوةٌ يُقيم بها أمر الله ، ورحمةٌ يَرحم بها المحدود ، فيكون موافقاً لربه تعالى في أمره ورحمته .
الثالث : أنه سبحانه أمر أن يكون حدُّهما بمشهد من المؤمنين ،فلا يكون في خلوة بحيث لا يراهما أحد ،وذلك أبلغ في مصلحة الحد وحكمة الزجر .(1/50)
وحدُّ الزاني المحصن : مشتق من عقوبة الله تعالى لقوم لوط بالقذف بالحجارة، وذلك لاشتراك الزنى واللواط في الفحش ، وفى كل منهما فساد يناقض حكمة الله في خلقه وأمره .
(((
فصل
[ آثار الذنوب والمعاصي ]
مما ينبغي أن يعلم :
أن الذنوب والمعاصي تضر ، ولا شك أن ضررها في القلوب كضرر السموم في الأبدان على اختلاف درجاتها في الضرر ، وهل في الدنيا و الآخرة شرور وداء إلا سببه الذنوب والمعاصي ؟!
فما الذي أخرج الأبوين من الجنة ـ دار اللذة والنعيم والبهجة والسرورـ إلى دار الآلام والأحزان والمصائب ؟
وما الذي أخرج إبليس من ملكوت السماء ،وطرده ،ولعنه،ومسخ ظاهره وباطنه؟ وما الذي أغرق أهل الأرض كلهم حتى علا الماء فوق رأس الجبال ؟
وما الذي سلط الريح العقيم على قوم عاد حتى القتهم موتى على وجه الأرض كأنهم أعجاز نخل خاوية ودمرت ما مر عليه من ديارهم وحروثهم وزروعهم ودوابهم حتى صاروا عبرة للأمم إلى يوم القيامة ؟
وما الذي أرسل على قوم ثمود الصيحة حتى قطعت قلوبهم في أجوافهم ،وماتوا عن آخرهم ؟
وما الذي رفع قرى اللوطية حتى سمعت الملائكة نبيح كلابهم ،ثم قلبها عليهم، فجعل عاليها سافلها، فأهلكهم جميعا، ثم أتبعهم حجارة من السماء أمطرها عليهم، فجمع عليهم من العقوبة ما لم يجمعه على أمة غيرهم ،ولإخوانهم أمثالها ،وما هي من الظالمين ببعيد ؟
وما الذي أرسل على قوم شعيب سحاب العذاب كالظلل ،فلما صار فوق رؤسهم ؛ أمطر عليهم ناراً تلظى ؟
وما الذي أغرق فرعون وقومه في البحر ،ثم نُقِلَت أرواحُهم إلى جهنم ؛فالأجساد للغرق والأرواح للحرق ؟
وما الذي خسف بقارون وداره وماله وأهله ؟
وما الذي أهلك القرون من بعد نوح بأنواع العقوبات ودمرها تدميرا ؟
وما الذي أهلك قوم صاحب يس بالصيحة حتى خمدوا عن آخرهم ؟(1/51)
وما الذي بعث على بنى إسرائيل قوماً أولى بأس شديد ، فجاسوا خلال الديار، وقتلوا الرجال ،وسبوا الذراري والنساء ،وأحرقوا الديار ،ونهبوا الأموال ،ثم بعثهم عليهم مرة ثانية ،فاهلكوا ما قدروا عليه ،وتبروا (64)ما علو تتبيرا ؟
وما الذي سلط عليهم أنواعَ العقوبات ؛ مرةً بالقتل والسبي وخراب البلاد ،ومرة بجور الملوك ، ومرة بمسخهم قردة وخنازير، وآخر ذلك أقسم الرب تبارك وتعالى ( ليبعثن عليهم إلى يوم القيامة من يسومهم سوء العذاب ( [الأعراف :167]؟ وعن جبير بن نفير قال : ( لما فتحت قبرص فُرق بين أهلها ،فبكى بعضهم إلى بعض ؛ فرأيت أبا الدرداء جالسا وحده يبكى ، فقلت :يا أبا الدرداء !ما يبكيك في يوم أعز الله فيه الإسلام وأهله ؟! فقال : ويحك يا جبير !! ما أهون الخلق على الله عز وجل إذا أضاعوا أمره ، بينما هي أمة قاهرة ظاهرة لهم الملك ، تركوا أمر الله فصاروا إلى ما ترى )(65)
وفي مسند أحمد ؛من حديث أم سلمة؛ قالت : سمعت رسول الله ( يقول : " إذا ظهرت المعاصي في أمتي عمهم الله بعذاب من عنده فقلت :يا رسول الله أما فيهم يومئذ أناس صالحون ؟ قال : بلى ، قلت :كيف يصنع باؤلئك ؟ قال : يصيبهم ما أصاب الناس ثم يصيرون إلى مغفرة من الله ورضوان " (66)(1/52)
وفي سنن ابن ماجه من حديث عبدالله بن عمر بن الخطاب قال: كنت عاشر عشرة رهط من المهاجرين عند رسول الله ( فأقبل علينا رسول الله ( بوجهه فقال :" يا معشر المهاجرين خمس خصال وأعوذ بالله أن تدركوهن ما ظهرت الفاحشة في قوم حتى أعلنوا بها إلا ابتلوا بالطواعين والأوجاع التي لم تكن في أسلافهم الذين مضوا ،ولا نقص قوم المكيال والميزان ،إلا ابتلوا بالسنين وشدة المؤنة وجور السلطان ،وما منع قوم زكاة أموالهم ؛ إلا منعوا القطر من السماء ، فلولا البهائم ؛لم يمطروا ،ولا خفر قوم العهد؛ إلا سلط الله عليهم عدوا من غيرهم، فاخذوا بعض ما في أيديهم ، وما لم تعمل أئمتهم بما أنزل الله عز وجل في كتابه ؛ إلا جعل الله بأسهم بينهم " (67)
وعن ابن عمر قال : سمعت رسول الله ( يقول : " إذا ظن الناس بالدينار والدرهم ،وتبايعوا بالعينة ،وتبعوا أذناب البقر ،وتركوا الجهاد في سبيل الله ؛أنزل الله بهم بلاء فلا يرفعه عنهم حتى يُراجعوا دينهم "(68)ورواه أبو داود بإسناد حسن .
وقال العمري الزاهد(69) : ( من ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مخافة من المخلوقين ،نُزِعتْ منه الطاعة ،ولو أمر ولده أو بعض مواليه لاستخف بحقه ) .(1/53)
وذكر الإمام أحمد في مسنده من حديث قيس بن أبي حازم قال :قال أبو بكر الصديق : ( يا أيها الناس ! إنكم تتلون هذه الآية وإنكم تضعونها على غير موضعها ( يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم ( [المائدة :105]وإني سمعت رسول الله ( يقول : " إن الناس إذا رأوا الظالم فلم يأخذوا على يديه " وفي لفظ " إذا رأوا المنكر فلم يغيروه " أوشك أن يعمهم الله بعقاب من عنده "(70) وفي صحيح البخاري عن أنس بن مالك قال : إنكم لتعملون أعمالا هي أدق في أعينكم من الشعر وإنا كنا لنعدها على زمن رسول الله ( من الموبقات .(71) وفي الصحيحين من حديث عبد الله بن عمر :أن رسول الله ( قال : " عذبت امرأة في هرة ،سجنتها حتى ماتت، فدخلت النار ، لا هي أطعمتها ولا سقتها ، ولا هي تركتها تأكل من خشاش الأرض "(72)
ومن هاهنا قال بعض السلف : المعاصي بريد الكفر ،كما أن القبلة بريد الجماع ، والغناء بريد الزنى ،والنظر بريد العشق ،والمرض بريد الموت .
وقال بلال بن سعد : لا تنظر إلى صغر الخطيئة ولكن انظر إلى من عصيت (73).
وقال الفضيل بن عياض : بقدر ما يصغر الذنب عندك يعظم عند الله ،وبقدر ما يعظم عندك يصغر عند الله .
وفي المسند وجامع الترمذي من حديث أبي صالح عن أبي هريرة قال :قال رسول الله ( : " إن المؤمن إذا أذنب ذنبا ؛نكت في قلبه نكتة سوداء ،فإذا تاب ونزع واستغفر ؛صقل قلبه ،وإن زاد زادت ،حتى تعلو قلبه،فذلك الران الذي ذكره الله عز وجل ( كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون ( [المطففين :14] "(74)
قال الترمذي هذا حديث [حسن ]صحيح .
وذكر عبد الله بن أحمد في كتاب الزهد لأبيه عن محمد بن سيرين : أنه لما ركبه الدين ؛ اغتم لذلك ،فقال: إني لأعرف هذا الغم بذنب أصبته منذ أربعين سنة (75) .(1/54)
وهاهنا نكتة دقيقة يغلط فيها الناس في أمر الذنب ،وهي أنهم لا يرون تأثيره في الحال وقد يتأخر تأثيره فينسي ، ويظن العبد إنه لا يغير بعد ذلك ؟!!
وسبحان الله !! كم أهلكتْ هذه النكتة من الخلق ؟! وكم أزالت من نعمة ؟! وكم جلبت من نقمة ؟! وما أكثر المغترين بها من العلماء والفضلاء ؛ فضلا عن الجهال ! ولم يعلم المغتر أن الذنب ينقض ـ ولو بعد حين ـ كما ينقض السهم وكما ينقض الجرح المندمل على الغش والدغل .
وقد ذكر الإمام أحمد عن أبي الدرداء : اعبدوا الله كأنكم ترونه ،وعُدُّوا أنفسكم في الموتى ،واعلموا أن قليلاً يُغنيكم خيرٌ من كثير يُطغيكم ،واعلموا أن البر لا يبلى وأن الإثم لا يُنسى (76).
ونظر بعض العباد إلى صبي ،فتأمل محاسنه،فأتى في منامه،وقيل له:لتجدنّ غِبَّها بعد أربعين سنة (77).
هذا مع أن للذنب نقداً معجلا لا يتأخر عنه :
قال سليمان التيمي : إن الرجل ليصيب الذنب في السر، فيصبح وعليه مذلته (78).
(((
فصل
[ آثار المعاصي على العبد في دينه ودنياه وآخرته ]
وللمعاصي من الآثار القبيحة المذمومة المضرة بالقلب والبدن في الدنيا والآخرة ما لا يعلمه إلا الله :
فمنها:حرمان العلم فإن العلم نور يقذفه الله في القلب والمعصية تطفئ ذلك النور .
ولما جلس الإمام الشافعي بين يدي مالك وقرأ عليه ؛ أعجبه ما رأى من وفور فطنته ،وتوقد ذكائه ،وكمال فهمه ،فقال : إني أرى الله قد ألقى على قلبك نوراً؛ فلا تطفئه بظلمة المعصية . وقال الشافعي :
شكوتُ إلى وكيعٍ سوءَ حفظي فأرشدني إلى تركِ المعاصي
وقال أعلمْ بأنَّ العلمَ فَضْلٌ وفضلُ اللهِ لا يُؤتاهُ عاصِ
ومنها : حرمان الرزق : فكما أن تقوى الله مجلبة للرزق ؛فترك التقوى مجلبةٌ للفقر ؛فما اسُتجلِبَ رزقٌ بمثل ترك المعاصي .(79)(1/55)
ومنها : الوحشة التي تحصل بينه وبين الناس ،ولاسيما أهل الخير منهم ؛ فإنه يجد وحشة بينه وبينهم ، وكلما قويت تلك الوحشة ، بعد منهم ومِنْ مجالستهم ،وحُرِمَ بركة الانتفاع بهم ، وقَرُبَ من حزب الشيطان بقدر ما بَعُدَ من حزب الرحمن، وتقوى هذه الوحشة حتى تستحكم ؛فتقع بينه وبين امرأته وولده وأقاربه،وبينه وبين نفسه ، فتراه مستوحشا من نفسه .
وقال بعض السلف : إني لأعصي الله ، فأرى ذلك في خُلق دابتي وامرأتي (80).
ومنها : تعسير أموره عليه ؛ فلا يتوجه لأمر إلا يجده مغلقا دونه أو متعسراً عليه. وهذا كما أن من اتقى الله جعل له من أمره يسرا ؛ فمن عطل التقوى جعل الله له من أمره عسرا .
ويالله العجب !! كيف يجد العبد أبواب الخير والمصالح مسدودة عنه متعسرة عليه وهو لا يعلم من أين أُتي ؟!
ومنها : أن المعاصي توهن القلب والبدن :
أما وهنها للقلب؛ فأمر ظاهر ، بل لا تزال توهنه حتى تزيل حياته بالكلية .
وأما وهنها للبدن ؛فإن المؤمن قوته من قلبه ، وكلما قوى قلبه ؛قوى بدنه .
وأما الفاجر ؛ فإنه وإن كان قوي البدن ؛ فهو أضعف شيء عند الحاجة ، فتخونه قوته عند أحوج ما يكون إلى نفسه .
وتأمل قوة أبدان فارس والروم كيف خانتهم عند أحوج ما كانوا إليها ، وقهرهم أهل الإيمان بقوة أبدانهم وقلوبهم ؟
ومنها : حرمان الطاعة ؛ فلو لم يكن للذنب عقوبة إلا أنه يصد عن طاعة تكون بادية ، ويقطع طريق طاعة أخرى ،فينقطع عليه طريق ثالثة ثم رابعة .. وهلم جرا، فينقطع عليه بالذنب طاعات كثيرة ،كل واحدة منها خير له من الدنيا وما عليها. وهذا كرجل أكل أكلةً أوجبت له مرضةً طويلة منعته من عدة أكلات أطيب منها والله المستعان .
ومنها : أن المعاصي تزرع أمثالها ،وتولد بعضها بعضا ،حتى يعز على العبد مفارقتها والخروج منها ؛كما قال بعض السلف : إن من عقوبة السيئة السيئة بعدها ،وأن من ثواب الحسنة الحسنة بعدها .(1/56)
فالعبد إذا عمل حسنة ؛قالت أخرى إلى جنبها : اعملني أيضا ؛ فإذا عملها ؛ قالت الثالثة كذلك ..وهلم جرا، فتضاعف الربح ،وتزايدت الحسنات ..وكذلك كانت السيئات أيضا ..حتى تصير الطاعات والمعاصي هيئات راسخة ،وصفات لازمة وملكات ثابتة.
ومنها : ـ وهو من أخوفها على العبد ـ أنها تُضعف القلب عن إرادته ؛فتقوى إرادة المعصية وتضعف إرادة التوبة شيئا فشيئا ، إلى أن تنسلخ من قلبه إرادة التوبة بالكلية ؛ فلو مات نصفه لما تاب إلى الله ، فيأتي بالاستغفار وتوبة الكذابين باللسان بشيء كثير ،وقلبه معقود بالمعصية مصرٌ عليها ،عازم على مواقعتها متي أمكنه .
وهذا من أعظم الأمراض وأقربها إلى الهلاك .
ومنها : أنه ينسلخ من القلب استقباحها ،فتصير له عادة فلا يستقبح من نفسه رؤية الناس له ولا كلامهم فيه !
وهذا عند أرباب الفسوق هو غاية التهتك وتمام اللذة ،حتى يفتخر أحدهم بالمعصية، ويحدث بها من لم يعلم أنه عملها ،فيقول :يا فلان !عملت كذا وكذا!! وهذا الضرب من الناس لا يعافون ،ويُسد عليهم طريق التوبة ، وتُغلق عنهم أبوابها في الغالب ،كما قال النبي ( : " كل أمتي معافى ؛ إلا المجاهرون ، وإن من الإجهار أن يستر الله على العبد ،ثم يصبح يفضح نفسه ويقول :يا فلان! عملت يوم كذا وكذا وكذا ! فيهتك نفسه وقد بات يستره ربه "(81) .
ومنها : أن المعصية سبب لهوان العبد على ربه وسقوطه من عينه، قال الحسن البصري : هانوا عليه فعصوه ،ولو عزوا عليه لعصمهم .
وإذا هان العبد على الله ؛لم يكرمه أحد كما قال الله تعالى ( ومن يهن الله فماله من مكرم ( [الحج :18]وإن عظمهم الناس في الظاهر لحاجتهم إليهم أو خوفا من شرهم ؛فهم في قلوبهم أحقر شيء وأهونه .
ومنها : أن العبد لا يزال يرتكب الذنوب حتى يهون عليه ويصغر في قلبه ،وذلك علامة الهلاك ؛ فإن الذنب كلما صَغُرَ في عين العبد؛ عَظُمَ عند الله .(1/57)
وقد ذكر البخاري في صحيحه عن ابن مسعود قال :" إن المؤمن يري ذنوبه كأنها في أصل جبل يخاف أن يقع عليه ،وإن الفاجر يرى ذنوبه كذباب وقع على أنفه فقال به هكذا فطار" (82)
ومنها : أن المعصية تورث الذل ولا بد ، فإن العز كل العز في طاعة الله تعالى ، قال تعالى ( من كان يريد العزة فلله العزة جميعا ( [فاطر :10] أي : فليطلبها بطاعة الله ؛ فإنه لا يجدها إلا في طاعته ،قال الحسن البصري : إنهم وإن طقطقت بهم البغال وهملجت بهم البراذين ؛ فإن ذل المعصية لا يفارق قلوبهم ، أبى الله إلا أن يذل من عصاه .
وقال عبد الله بن المبارك :
رأيتُ الذُّنوبَ تُميتُ القلو بَ وقدْ يُورِثُ الذُّلَّ إدمانُها
وتَركُ الذُّنوبِ حياةُ القلو بِ وخيرٌ لنفسِكَ عصيانُها
ومنها : أن الذنوب إذا تكاثرت ؛طبع على قلب صاحبها فكان من الغافلين ،كما قال بعض السلف في قوله تعالى ( كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون ( [المطففين :14]قال : هو الذنب بعد الذنب .
وقال الحسن: هو الذنب على الذنب حتى يعمي القلب .
وقال غيره : لما كثرت ذنوبهم ومعاصيهم ؛ أحاطت بقلوبهم .(83)
وأصل هذا : أن القلب يصدأ من المعصية ؛ فإذا زادت غلب الصدأ حتى يصير رانا، ثم يغلب حتى يصير طبْعا وقفلاً وختماً ،فيصير القلبُ في غشاوة وغلاف ،فإذا حصل له ذلك بعد الهدى والبصيرة ؛ انتكس ، فصار أعلاه أسفله ، فحينئذ يتولاه عدوه ويسوقه حيث أراد .
ومنها :حرمان دعوة رسول الله ( ودعوة الملائكة :(1/58)
فإن الله سبحانه أمر نبيه أن يستغفر للمؤمنين والمؤمنات وقال تعالى ( الذين يحملون العرش ومن حوله يسبحون بحمد ربهم ويؤمنون به ويستغفرون للذين آمنوا ربنا وسعت كل شيء رحمة وعلما فاغفر للذين تابوا واتبعوا سبيلك وقهم عذاب الجحيم . ربنا وأدخلهم جنات عدن التي وعدتهم ومن صلح من آبائهم وأزواجهم وذرياتهم إنك أنت العزيز الحكيم . وقهم السيآت ومن تق السيئات يومئذ فقد رحمته وذلك هو الفوز العظيم ( [غافر :7-9] .
فهذا دعاء الملائكة للمؤمنين التائبين ،المتبعين لكتابه وسنة رسوله ،الذين لا سبيل لهم غيرهما ،فلا يطمع غير هؤلاء بإجابة هذه الدعوة ؛ إذ لم يتصف بصفات المدعو له بها .والله المستعان .
ومن عقوبات المعاصي : ما رواه البخاري في صحيحه من حديث سَمُرَةُ بْنُ جُنْدُبٍ قَالَ :كَانَ رَسُولُ اللَّهِ ( مِمَّا يُكْثِرُ أَنْ يَقُولَ لِأَصْحَابِهِ : " هَلْ رَأَى أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنْ رُؤْيَا ؟ " قَالَ : فَيَقُصُّ عَلَيْهِ مَنْ شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَقُصَّ .
وَإِنَّهُ قَالَ ذَاتَ غَدَاةٍ : " إِنَّهُ أَتَانِي اللَّيْلَةَ آتِيَانِ ، وَإِنَّهُمَا ابْتَعَثَانِي ، وَإِنَّهُمَا قَالَا لِي انْطَلِقْ ! وَإِنِّي انْطَلَقْتُ مَعَهُمَا ، وَإِنَّا أَتَيْنَا عَلَى رَجُلٍ مُضْطَجِعٍ ، وَإِذَا آخَرُ قَائِمٌ عَلَيْهِ بِصَخْرَةٍ ،وَإِذَا هُوَ يَهْوِي بِالصَّخْرَةِ لِرَأْسِهِ ، فَيَثْلَغُ(84) رَأْسَهُ فَيَتَهَدْهَدُ (85)الْحَجَرُ هَا هُنَا فَيَتْبَعُ الْحَجَرَ فَيَأْخُذُهُ ، فَلَا يَرْجِعُ إِلَيْهِ حَتَّى يَصِحَّ رَأْسُهُ كَمَا كَانَ ، ثُمَّ يَعُودُ عَلَيْهِ فَيَفْعَلُ بِهِ مِثْلَ مَا فَعَلَ الْمَرَّةَ الْأُولَى " قَالَ : " قُلْتُ لَهُمَا : سُبْحَانَ اللَّهِ ! مَا هَذَانِ؟ قَالَ : قَالَا لِي انْطَلِقِ انْطَلِقْ !(1/59)
فَانْطَلَقْنَا فَأَتَيْنَا عَلَى رَجُلٍ مُسْتَلْقٍ لِقَفَاهُ ، وَإِذَا آخَرُ قَائِمٌ عَلَيْهِ بِكَلُّوبٍ (86)مِنْ حَدِيدٍ،
وَإِذَا هُوَ يَأْتِي أَحَدَ شِقَّيْ وَجْهِهِ ، فَيُشَرْشِرُ شِدْقَهُ(87) إِلَى قَفَاهُ ، وَمَنْخِرَهُ إِلَى قَفَاهُ، وَعَيْنَهُ إِلَى قَفَاهُ ، ثُمَّ يَتَحَوَّلُ إِلَى الْجَانِبِ الْآخَرِ ،فَيَفْعَلُ بِهِ مِثْلَ مَا فَعَلَ بِالْجَانِبِ الْأَوَّلِ ، فَمَا يَفْرُغُ مِنْ ذَلِكَ الْجَانِبِ؛ حَتَّى يَصِحَّ ذَلِكَ الْجَانِبُ كَمَا كَانَ ، ثُمَّ يَعُودُ عَلَيْهِ فَيَفْعَلُ مِثْلَ مَا فَعَلَ الْمَرَّةَ الْأُولَى " قَالَ: " قُلْتُ : سُبْحَانَ اللَّهِ ! مَا هَذَانِ ؟ فقَالَا لِي :انْطَلِقِ انْطَلِقْ !
فَانْطَلَقْنَا فَأَتَيْنَا عَلَى مِثْلِ التَّنُّورِ " قَالَ : وأَحْسِبُ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ : "فَإِذَا فِيهِ لَغَطٌ(88) وَأَصْوَاتٌ " قَالَ : " فَاطَّلَعْنَا فِيهِ ؛ فَإِذَا فِيهِ رِجَالٌ وَنِسَاءٌ عُرَاةٌ ،وَإِذَا هُمْ يَأْتِيهِمْ لَهَبٌ مِنْ أَسْفَلَ مِنْهُمْ ، فَإِذَا أَتَاهُمْ ذَلِكَ اللَّهَبُ ؛ ضَوْضَوْا (89)" قَالَ : " قُلْتُ لَهُمَا : مَا هَؤُلَاءِ ؟" قَالَ : "قَالَا لِي: انْطَلِقِ انْطَلِقْ !(1/60)
فَانْطَلَقْنَا فَأَتَيْنَا عَلَى نَهَرٍ (حَسِبْتُ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ : ) أَحْمَرَ مِثْلِ الدَّمِ ، وَإِذَا فِي النَّهَرِ رَجُلٌ سَابِحٌ يَسْبَحُ ، وَإِذَا عَلَى شَطِّ النَّهَرِ رَجُلٌ قَدْ جَمَعَ عِنْدَهُ حِجَارَةً كَثِيرَةً ،وَإِذَا ذَلِكَ السَّابِحُ يَسْبَحُ مَا يَسْبَحُ ، ثُمَّ يَأْتِي ذَلِكَ الَّذِي قَدْ جَمَعَ عِنْدَهُ الْحِجَارَةَ ، فَيَفْغَرُ لَهُ فَاهُ فَيُلْقِمُهُ حَجَرًا ، فَيَنْطَلِقُ يَسْبَحُ ، ثُمَّ يَرْجِعُ إِلَيْهِ ، كُلَّمَا رَجَعَ إِلَيْهِ ؛ فَغَرَ لَهُ فَاهُ، فَأَلْقَمَهُ حَجَرًا . قُلْتُ لَهُمَا : مَا هَذَانِ ؟ قَالَ : قَالَا لِي : انْطَلِقِ انْطَلِقْ !
قَالَ : فَانْطَلَقْنَا فَأَتَيْنَا عَلَى رَجُلٍ كَرِيهِ الْمَرْآةِ (90)كَأَكْرَهِ مَا أَنْتَ رَاءٍ رَجُلًا مَرْآةً ،وَإِذَا عِنْدَهُ نَارٌ يَحُشُّهَا (91)وَيَسْعَى حَوْلَهَا . قَالَ : قُلْتُ لَهُمَا : مَا هَذَا ؟ قَالَ : قَالَا لِي: انْطَلِقِ انْطَلِقْ !
فَانْطَلَقْنَا فَأَتَيْنَا عَلَى رَوْضَةٍ مُعْتَمَّةٍ (92)فِيهَا منْ كُلِّ لَوْنِ الرَّبِيعِ ، وَإِذَا بَيْنَ ظَهْرَيِ الرَّوْضَةِ رَجُلٌ طَوِيلٌ ، لَا أَكَادُ أَرَى رَأْسَهُ طُولًا فِي السَّمَاءِ ، وَإِذَا حَوْلَ الرَّجُلِ مِنْ أَكْثَرِ وِلْدَانٍ رَأَيْتُهُمْ قَطُّ . قَالَ : قُلْتُ لَهُمَا : مَا هَذَا ؟ مَا هَؤُلَاءِ ؟ قَالَ : قَالَا لِي : انْطَلِقِ انْطَلِقْ!(1/61)
فَانْطَلَقْنَا فَانْتَهَيْنَا إِلَى رَوْضَةٍ عَظِيمَةٍ لَمْ أَرَ رَوْضَةً قَطُّ أَعْظَمَ مِنْهَا وَلَا أَحْسَنَ . قَالَ : قَالَا لِي : ارْقَ فِيهَا ! فَارْتَقَيْنَا فِيهَا فَانْتَهَيْنَا إِلَى مَدِينَةٍ مَبْنِيَّةٍ بِلَبِنِ ذَهَبٍ وَلَبِنِ فِضَّةٍ فَأَتَيْنَا بَابَ الْمَدِينَةِ ، فَاسْتَفْتَحْنَا ، فَفُتِحَ لَنَا ، فَدَخَلْنَاهَا فَتَلَقَّانَا فِيهَا رِجَالٌ ؛ شَطْرٌ مِنْ خَلْقِهِمْ كَأَحْسَنِ مَا أَنْتَ رَاءٍ ،وَشَطْرٌ كَأَقْبَحِ مَا أَنْتَ رَاءٍ ، قَالَ : قَالَا لَهُمُ : اذْهَبُوا فَقَعُوا فِي ذَلِكَ النَّهَرِ .قَالَ : وَإِذَا نَهَرٌ مُعْتَرِضٌ يَجْرِي ،كَأَنَّ مَاءَهُ الْمَحْضُ(93) فِي الْبَيَاضِ ، فَذَهَبُوا فَوَقَعُوا فِيهِ ، ثُمَّ رَجَعُوا إِلَيْنَا ؛ قَدْ ذَهَبَ ذَلِكَ السُّوءُ عَنْهُمْ . [ فَصَارُوا فِي أَحْسَنِ صُورَةٍ ] قَالَا لِي : هَذِهِ جَنَّةُ عَدْنٍ وَهَذَاكَ مَنْزِلُكَ .
قَالَ :فَسَمَا بَصَرِي صُعُدًا (94) ؛ فَإِذَا قَصْرٌ مِثْلُ الرَّبَابَةِ(95) الْبَيْضَاءِ .
قَالَ : قَالَا لِي : هَذَا مَنْزِلُكَ . قَالَ : قُلْتُ لَهُمَا : بَارَكَ اللَّهُ فِيكُمَا ؛ ذَرَانِي فَأَدْخُلَهُ. قَالَا :أَمَّا الْآنَ ؛ فَلَا ،وَأَنْتَ دَاخِلَهُ .
قُلْتُ لَهُمَا : فَإِنِّي قَدْ رَأَيْتُ مُنْذُ اللَّيْلَةِ عَجَبًا ؛ فَمَا هَذَا الَّذِي رَأَيْتُ ؟
قَالَ : قَالَا لِي : أَمَا إِنَّا سَنُخْبِرُكَ .
أَمَّا الرَّجُلُ الْأَوَّلُ الَّذِي أَتَيْتَ عَلَيْهِ يُثْلَغُ رَأْسُهُ بِالْحَجَرِ؛ فَإِنَّهُ الرَّجُلُ يَأْخُذُ الْقُرْآنَ فَيَرْفُضُهُ وَيَنَامُ عَنِ الصَّلَاةِ الْمَكْتُوبَةِ .(1/62)
وَأَمَّا الرَّجُلُ الَّذِي أَتَيْتَ عَلَيْهِ يُشَرْشَرُ شِدْقُهُ إِلَى قَفَاهُ ، وَمَنْخِرُهُ إِلَى قَفَاهُ ، وَعَيْنُهُ إِلَى قَفَاهُ ، فَإِنَّهُ الرَّجُلُ يَغْدُو مِنْ بَيْتِهِ فَيَكْذِبُ الْكَذْبَةَ تَبْلُغُ الْآفَاقَ .
وَأَمَّا الرِّجَالُ وَالنِّسَاءُ الْعُرَاةُ الَّذِينَ فِي مِثْلِ بِنَاءِ التَّنُّورِ ؛فَإِنَّهُمُ الزُّنَاةُ وَالزَّوَانِي .
وَأَمَّا الرَّجُلُ الَّذِي أَتَيْتَ عَلَيْهِ يَسْبَحُ فِي النَّهَرِ وَيُلْقَمُ الْحَجَرَ فَإِنَّهُ آكِلُ الرِّبَا.
وَأَمَّا الرَّجُلُ الْكَرِيهُ الْمَرْآةِ الَّذِي عِنْدَ النَّارِ يَحُشُّهَا وَيَسْعَى حَوْلَهَا فَإِنَّهُ مَالِكٌ خَازِنُ جَهَنَّمَ .
وَأَمَّا الرَّجُلُ الطَّوِيلُ الَّذِي فِي الرَّوْضَةِ فَإِنَّهُ إِبْرَاهِيمُ ( .
وَأَمَّا الْوِلْدَانُ الَّذِينَ حَوْلَهُ ؛ فَكُلُّ مَوْلُودٍ مَاتَ عَلَى الْفِطْرَةِ .
فَقَالَ بَعْضُ الْمُسْلِمِينَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ! وَأَوْلَادُ الْمُشْرِكِينَ ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ( وَأَوْلَادُ الْمُشْرِكِينَ .
وَأَمَّا الْقَوْمُ الَّذِينَ كَانُوا شَطْرٌ مِنْهُمْ حَسَنًا وَشَطْرٌ قَبِيحًا ؛ فَإِنَّهُمْ قَوْمٌ خَلَطُوا عَمَلًا صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا تَجَاوَزَ اللَّهُ عَنْهُمْ "(96)
ومن آثار الذنوب والمعاصي : إنها تحدث في الأرض أنواعا من الفساد في المياه والهوى والزرع والثمار والمساكن قال تعالى ( ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس ليذيقهم بعض الذي عملوا لعلهم يرجعون ( [الروم:41].
ومن تأثير معاصي الله في الأرض : ما يحل بها من الخسف والزلازل ويمحق بركتها وقد مر رسول الله ( على ديار ثمود فمنعهم من دخول ديارهم ؛ إلا وهم باكون، ومن شرب مياههم ،ومن الاستسقاء من آبارهم ،حتى أمر أن لا يُعلف العجين الذي عجن بمياههم لنواضح الإبل ؛ لتأثير شؤم المعصية في الماء .(1/63)
وكذلك شؤم تأثير الذنوب في نقص الثمار وما ترى به من الآفات .
وأخبرني جماعة من شيوخ الصحراء إنهم كانوا يعهدون الثمار أكبر مما هي الآن، وكثير من هذه الآفات التي تصيبها لم يكونوا يعرفونها ،وإنما حدثت من قرب .
ومن عقوبات الذنوب : أنها تطفي من القلب نار الغيرة التي هي لحياته وصلاحه كالحرارة الغريزية لحياة جميع البدن ؛ فإن الغيرة حرارته وناره التي تخرج ما فيه من الخبث والصفات المذمومة ؛كما يخرج الكير خبث الذهب والفضة والحديد. وأشرف الناس وأعلاهم همةً أشدهم غيرة على نفسه وخاصته وعموم الناس .
ولهذا كان النبي ( أغيرَ الخلق على الأمة ،والله سبحانه أشدُّ غيرة منه ؛كما ثبت في الصحيح عنه أنه قال :" أتعجبون من غيرة سعد لأنا أغير منه والله أغير مني "(97) والمقصود : أنه كلما اشتدت ملابسته للذنوب ؛ أخرجت من قلبه الغيرة على نفسه وأهله وعموم الناس ، وقد تضعف في القلب جدا لا يستقبح بعد ذلك القبيح لا من نفسه ولا من غيره ،وإذا وصل إلى هذا الحد فقد دخل في باب الهلاك .
وكثير من هؤلاء لا يقتصر على عدم الاستقباح بل يحسن الفواحش والظلم لغيره ،ويزينه له ، ويدعوه إليه ، ويحثه عليه ،و يسعى له في تحصيله .
ولهذا كان الديوث أخبث خلق الله ، والجنة عليه حرام .
وكذلك محلل الظلم والبغي لغيره ومزينه لغيره ، فانظر ما الذي حملت عليه قلة الغيرة .
وهذا يدلك على أن أصل الدين الغيرة ومن لا غيرة له لا دين له .
فالغيرة تحمي القلب ، فتحمي له الجوارح ، فتدفع السوء والفواحش . وعدم الغيرة تميت القلب ، فتموت الجوارح ، فلا يبقى عندها دفع البتة .
ومثل الغيرة في القلب مثل القوة التي تدفع المرض وتقاومه ؛فإذا ذهبت القوة ؛وجد الداء المحل قابلا ، ولم يجد دافعا ،فتمكّن ، فكان الهلاك .
ومثلها مثل صياصي الجاموس (98)التي تدفع بها عن نفسه وولده ؛فإذا كُسِرتْ طمع فيه عدوه .(1/64)
ومن عقوبات الذنوب : أنها تضعف في القلب تعظيم الرب جل جلاله ،وتضعف وقاره في قلب العبد ،ولابد شاء أم أبى ، ولو تمكن وقار الله وعظمته في قلب العبد لما تجرأ على معاصيه .
وكفى بالعاصي عقوبة أن يضمحل من قلبه تعظيم الله جل جلاله ،وتعظيم حرماته، ويهون عليه حقه .
ومن بعض عقوبة هذا : أن يرفع الله عز وجل مهابته من قلوب الخلق ،ويهون عليهم ،ويستخفون به ؛كما هان عليه أمره واستخف به ؛فعلى قدر محبة العبد لله يحبه الناس ،وعلى قدر خوفه من الله يخافه الخلق، وعلى قدر تعظيمه الله وحرماته يعظمه الناس .
وكيف ينتهك عبد حرمات الله ويطمع أن لا ينتهك الناس حرماته ؟!
أم كيف يهون عليه حق الله ولا يهونه الله على الناس ؟!
أم كيف يستخف بمعاصي الله ولا يستخف به الخلق ؟ ! ولهذا قال تعالى في آية سجود المخلوقات له ( ومن يهن الله فماله من مكرم ( [الحج :18] فإنهم لما هان عليهم السجود له ،واستخفوا به ،ولم يفعلوه ؛ أهانهم الله ؛ فلم يكن لهم من مكرم بعد إن أهانهم ، ومن ذا يكرم من أهانه الله ؟! أو يهن من أكرمه الله ؟ !
ومن عقوباتها : أنها تستدعي نسيان الله لعبده وتركه وتخليته بينه وبين نفسه وشيطانه ، وهنالك الهلاك الذي لا يرجى معه نجاة .
قال الله تعالى : ( يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله ولتنظر نفس ما قدمت لغد واتقوا الله إن الله خبير بما تعملون .ولا تكونوا كالذين نسوا الله فأنساهم أنفسهم أولئك هم الفاسقون ( [الحشر :18-19] .
فترى العاصي مهملا لمصالح نفسه ، مضيعا لها ، قد أغفل الله قلبه عن ذكره ، واتبع هواه ، وكان أمره فرطا ؛ قد انفرطت عليه مصالح دنياه وآخرته ، وقد فرّط في سعادته الأبدية ،واستبدل بها أدنى ما يكون من لذة ،إنما هي سحابة صيف أو خيال طيف :
أحلامُ نومٍ أو كظلٍّ زائلٍ إنّ اللبيبَ بمثلِها لا يُخْدَعُ(1/65)
وأعظم العقوبات : نسيانُ العبدِ لنفسه ،وإهمال لها ، وإضاعةُ حظها ونصيبها من الله ، وبيعها ذلك بالغبن والهوان وأبخس الثمن ،فضيّع من لا غني له عنه ،ولا عوض له منه ، واستبدل به من عنه كل الغنى ،أو منه كل العوض :
منْ كلِّ شيءٍ إذا ضيّعْتَهُ عِوَضٌ وما من الله إنْ ضَيَّعْتَهُ عِوَضُ
فالله سبحانه وتعالى : يعوِّض عن كلِّ ما سواه ،ولا يعوِّض منه شيء ،ويغني عن كل شيء ، ولا يغني عنه شيء ، ويمنع من كل شيء ، ولا يمنع منه شيء ، ويُجير من كل شيء ولا يُجير منه شيء .
فكيف يستغني العبد عن طاعة من هذا شأنه طرفة عين ؟ !
وكيف ينسى ذكره ويضيع أمره حتى ينسيه نفسَهُ فيخسرَها ويظلِمَها أعظم الظلم ؟ !
فما ظلم العبدُ ربَّه ، ولكن ظلم نفسَه ،وما ظلمه ربُّه ،ولكن هو الذي ظلم نفسه !
ومن عقوباتها : أنها تُضِعفُ سير القلب إلى الله والدار الآخرة ،أو تعوقه وتوقفه وتعطفه عن السير ؛ فلا تدعه يخطوا إلى الله خطوة ،هذا إن لم ترده عن وجهته إلى ورائه !
فالذنب يحجب الواصل ،ويقطع السائر ، ويُنَكِّسُ الطالب .
والقلب إنما يسير إلى الله بقوته ؛ فإذا مرض بالذنوب ؛ ضعفت تلك القوة التي تسيره ؛ فإن زالت بالكلية ؛انقطع عن الله انقطاعا يبعد تداركه والله المستعان .
ومن عقوبات الذنوب : أنها تزيل النعم وتُحِلُّ النقم ، فما زالت عن العبد نعمة إلا بسبب ذنب ، ولا حلت به نقمة إلا بذنب ،كما قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه : ما نزل بلاء إلا بذنب ولا رفع بلاء إلا بتوبة .
وقد قال تعالى:( وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفو عن كثير ( [الشورى :30] ، وقال تعالى : ( ذلك بأن الله لم يك مغيراً نعمة أنعمها على قوم حتى يغيروا ما بأنفسهم ( [الرعد :11]وقد أحسن القائل :
إذا كُنتَ في نعمةٍ فارْعَها فإنَّ المعاصي تُزيلُ النِّعمْ
وحُطْها بطاعةِ رَبِّ العبادِ فرَبُّ العبادِ سريعُ النِّقمْ(1/66)
ومن عقوباتها : ما يلقيه الله سبحانه من الرعب والخوف في قلب العاصي ؛ فلا تراه إلا خائفا مرعوبا .
فإن الطاعة حِصْن الله الأعظم ، الذي من دخله ؛كان من الآمنين من عقوبة الدنيا والآخرة ،ومن خرج عنه ؛ أحاطتْ به المخاوفُ من كل جانب؛ فمن أطاع الله انقلبت المخاوف في حقه أمانا ،ومن عصاه ؛انقلبت مآمنه مخاوف .
فلا تجد العاصي إلا وقلبه كأنه بين جناحي طائر: إنْ حَرَّكَتِ الريحُ الباب ؛ قال: جاء الطلب ! وإن سمع وقع قدم ؛ خاف أن يكون نذيراً بالعطب ، يحسب أنّ كل صيحةٍ عليه ، وكل مكروه قاصداً إليه .
فمن خاف الله ؛ آمنه من كل شيء ،ومن لم يخف الله أخافه من كل شيء .
ومن عقوباتها : أنها توقع الوحشة العظيمة في القلب ،فيجد المذنب نفسه مستوحشا ؛قد وقعت الوحشة بينه وبين ربه ، وبين الخلق وبين نفسه ،وكلما كثرت الذنوب اشتدت الوحشة .
وأمرُّ العيش عيش المستوحشين الخائفين ، وأطيب العيش عيش المستأنسين .
فلو نظر العاقل ووازن بين لذة المعصية وما توقعه من الخوف والوحشة ،لعلم سوء حاله ،وعظيم غبنه ،إذ باع أنس الطاعة وأمنها وحلاوتها بوحشة المعصية وما توجبه من الخوف والضرر الداعي له كما قيل :
فإنْ كُنتَ قدْ أوحشتْكَ الذُّنوبُ فدَعْها إذا شِئْتَ واستأْنِس
فصل
[ العقوبات الشرعية موعظة لمن لم يتعظ بالقدرية ]
فإن لم ترعك هذه العقوبات ، ولم تجد لها تأثيراً في قلبك ؛ فاستحضر العقوبات الشرعية التي شرعها الله ورسوله على الجرائم :
كما قطع السارق في ثلاثة دراهم .
وقطع اليد والرجل في قطع الطريق على معصوم المال والنفس .
وشق الجلد بالسوط على كلمة قذف بها المحصن ،أو قطرة خمر يدخلها جوفه.
وقتل بالحجارة أشنع قتلة في إيلاج الحشفة في فرج حرام ، وخفف هذه العقوبة عمن لم تتم عليه نعمة الإحصان بمائة جلدة وبنفي سنة عن وطنه وبلده إلى بلد الغربة .(1/67)
وفرق بين رأس العبد وبدنه إذا وقع على ذات رَحِمٍ مُحَرَّمٍ منه ، أو ترك الصلاة المفروضة أو تكلم بكلمة كفر .
وأمر بقتل من وطئ ذكراً مثله وقتل المفعول به .
وأمر بقتل من أتى بهيمة ، وقتل البهيمة معه .
وعزم على تحريق بيوت المتخلفين عن الصلاة في الجماعة .
وغير ذلك من العقوبات التي رتبها على الجرائم ، وجعلها بحكمته على حسب الدواعي إلى تلك الجرائم ، وحسب الوازع عنها .
فعقوبات الشارع جاءت على أتم الوجوه ،وأوفقها للعقل ، وأقومها بالمصلحة .
والمقصود : أن الذنوب إنما تترتب عليها العقوبات الشرعية ،أو القدرية ،أو يجمعهما الله للعبد ، وقد يرفعهما عمن تاب وأحسن .
[ سوء الخاتمة وخشية والصالحين منها ]
وإذا نظرت إلى حال كثير من المحتضرين ؛وجدتهم يُحال بينهم وبين حسن الخاتمة؛ عقوبة لهم على أعمال السيئة .
فربما تعذر عليه النطق بالشهادة ؛كما شاهد الناس كثيراً من المحتضرين أصابهم ذلك حتى قيل :
لبعضهم قل : لا إله إلا الله ! فقال: آه ! آه ! لا أستطيع أن أقولها !
وقيل لآخر : قل : لا إله إلا الله ! فقال : شاه رخ (99)،غلبنك ! ثم قضى .
وقيل لآخر : قل : لا إله إلا الله ! فجعل يهذي بالغناء ويقول تاتا ..ننتنتا ..حتى قضى !!
وقيل لآخر ذلك ، فقال :ما ينفعني ما تقول ؛ولم أدع معصية إلا ركبتها ! ثم قضى ولم يقلها !
وقيل لآخر ذلك ، فقال : وما يغني عني ؛وما أعلم أني صليت لله تعالى صلاة ثم قضى ولم يقلها !!!
وقيل لآخر ذلك ، فقال : هو كافر بما تقول !! وقضى !
وقيل لآخر ذلك ،فقال :كلما أردت أن أقولها فلساني يمسك عنها !!
وسبحان الله !! كم شاهد الناس من هذا عبرا ! والذي يخفي عليهم من أحوال المحتضرين أعظم وأعظم .(1/68)
وإذا كان العبد في حال حضور ذهنه وقوته وكمال إدراكه ؛ قد تمكن منه الشيطان واستعمله بما يريده من معاصي الله ، وقد أغفل قلبه عن ذكر الله، وعطل لسانه من ذكره وجوارحه عن طاعته ، فكيف الظن به عند سقوطه قواه واشتغال قلبه ونفسه بما هو فيه من ألم النزع ، وجمع الشيطان له كل قوته وهمته وحشده عليه بجميع ما يقدر عليه ؛ لينال منه فرصته ؟! فإن ذلك آخر العمل؛ فأقوى ما يكون عليه شيطانه ذلك الوقت ، وأضعف ما يكون هو في تلك الحالة؟! فمن ترى يسلم على ذلك ؟!
فهناك ( يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة ويضل الله الظالمين ويفعل الله ما يشاء ( [إبراهيم :27] .
فكيف يوفق لحسن الخاتمة من أغفل الله سبحانه قلبه عن ذكره ، واتبع هواه ،وكان أمره فرطا؟!!
فبعيدٌ ؛ مَنْ قلبُه بعيدٌ من الله تعالى، غافل عنه ، متعبد لهواه ، أسير لشهواته ، ولسانه يابس من ذكره ، وجوارحه معطلة من طاعته، مشتغلة بمعصيته ؛أن يوفق لحسن الخاتمة .
ولقد قطع خوف الخاتمة ظهور المتقين ..وكأن المسيئين الظالمين قد أخذوا توقيعا بالأمان .. ( أم لكم أيمان علينا بالغة إلى يوم القيامة إن لكم لما تحكمون سلهم أيهم بذلك زعيم ( [القلم :39-40].
قال الحافظ أبو محمد عبد الحق بن عبد الرحمن الإشبيلي رحمه الله : واعلم أن لسوء الخاتمة ـ أعاذنا الله منها ـ أسباباً ولها طرقٌ وأبواب :
أعظمها الانكباب على الدنيا ، والإعراض عن الآخرة ،والإقدام والجرأة على معاصي الله عز وجل ،وربما غلب على الإنسان ضرب من الخطيئة ،ونوع من المعصية ، وجانب من الإعراض ،ونصيب من الجرأة والإقدام ،فملك قلبه وسبي عقله ، وأطفأ نوره ، وأرسل عليه حجبه ؛ فلم تنفع فيه تذكرة ، ولا نجعت فيه موعظة ،فربما جاءه الموت على ذلك ،فسمع النداء من مكان بعيد ، فلم يتبين له المراد ، ولا علم ما أراد ، وإن كرر عليه الداعي وأعاد .(1/69)
قال عبد الحق :وقيل لآخر ممن أعرفه : قلْ : لا إله إلا الله . فجعل يقول : الدار الفلانية أصلحوا فيها كذا ، والبستان الفلاني افعلوا فيه كذا .
وقال : وفيما أذن لي أبو طاهر السلفي أن أحدث به عنه : أن رجلا نزل به الموت فقيل له : قل : لا إله إلا الله .فجعل يقول بالفارسية : ده يازده ده وازداه ،تفسيره عشرة بأحد عشر .
وقيل لآخر : قل : لا إله إلا الله فجعل يقول :
أين الطريق إلى حمام منجاب ؟
قال :وهذا الكلام له قصة : وذلك أن رجلا كان واقفا بازاء داره ،وكان بابها يشبه باب الحمام ،فمرت به جارية لها منظر،فقالت:أين الطريق إلى حمام منجاب ؟ فقال :هذا حمام منجاب! فدخلت الدار ودخل وراءها ،فلما رأتْ نفسها في داره، وعلمت أنه قد خدعها ؛ أظهرت له البشر والفرح باجتماعها معه ، وقالت له : يصلح أن يكون معنا ما يطيب به عيشنا وتقر به عيوننا .فقال لها : الساعة آتيك بكل ما تريدين وتشتهين .وخرج وتركها في الدار ولم يغلقها، فأخذ ما يصلح، ورجع ،فوجدها قد خرجت وذهبت ولم تخنه في شيء ، فهام الرجل ، وأكثر الذكر لها ،وجعل يمشي في الطرق والأزقة ويقول :
يا رُبَّ قائِلَةٍ يوماً وقدْ تَعِبَتْ كيفَ الطريقُ إلى حَمَّامِ مِنْجابِ
فبينما هو يقول ذلك ، وإذا بجاريةٍ أجابته :
هَلاَّ جَعَلتَ سَريعاً إذْ ظَفِرْتَ ِبها حِرْزاً على الدَّارِ أو قُفْلاً على الباب
فازداد هيمانه ،واشتد هيجانه ، ولم يزلْ على ذلك ، حتى كان هذا البيت آخر كلامه من الدنيا ! فعياذا بالله من سوء العاقبة وشؤم الخاتمة .
ولقد بكى سفيان الثوري ليلة إلى الصباح ، فلما أصبح ؛ قيل له : كل هذا خوفا من الذنوب ؟ فأخذ تِبْنَةً من الأرض، وقال : الذنوب أهون من هذا ،وإنما أبكى خوفا سوء الخاتمة (100).
وهذا من أعظم الفقه : أن يخاف الرجل أن تَخْذُلَهُ ذنوبه عند الموت ،فتحول بينه وبين الخاتمة الحسنى .(1/70)
وقد ذكر الإمام أحمد عن أبى الدرداء :أنه لما احتُضِرَ ؛جعل يُغمى عليه ثم يُفيق ويقرأ ( ونقلب أفئدتهم وأبصارهم كما لم يؤمنوا به أول مرة ونذرهم في طغيانهم يعمهون ( [الأنعام :110].(101)
فمنْ هذا خاف السلف من الذنوب ؛ أن تكون حجابا بينهم وبين الخاتمة الحسنى.
قال :وأعلم أن سوء الخاتمة ـ أعاذنا الله تعالى منهاـ لا تكون لمن استقام ظاهره وصلح باطنه ، ما سُمِع بهذا ولا عُلِم به ولله الحمد ،وإنما تكون لمن له فساد في الأصل أو إصرار على الكبيرة وإقدام على العظائم ، فربما غلب ذلك عليه حتى ينزل به الموت قبل التوبة ، فيأخذه قبل إصلاح الطوية ويصطلم(102) قبل الإنابة، فيظفر به الشيطان عند تلك الصدمة ،ويختطفه عند تلك الدهشة ، والعياذ بالله .
قال : ويروى أنه كان بمصر رجلٌ يلزم مسجداً للأذان والصلاة ، وعليه بهاء الطاعة ونور العبادة فَرَقِيَ يوماً المنارة على عادته للأذان ،وكان تحت المنارة دارٌ لنصران،ي فاطَّلع فيها ، فرأى ابنة صاحب الدار ،فافْتُتِنَ بها ،فترك الأذان ،ونزل إليها ، ودخل الدار عليها ،فقالت له : ما شأنك ؟! وما تريد ؟! قال : أريدك ! قالت : لماذا ؟ قال : قد سلبت لُبّي وأخذتِ بمجامع قلبي . قالت : لا أجيبك إلى ريبة أبدا. قال : أتزوجُك .قالت :أنت مسلم وأنا نصرانية ،وأبي لا يزوجني منك ، قال : اتنصر . قالت : إن فعلت أفعلُ ، فتنصَّر الرجل ليتزوجها ،وأقام معهم في الدار، فلما كان في أثناء ذلك اليوم ؛رَقِيَ إلى سطحٍ كان في الدار ،فسقط منه ،فمات ، فلم يظفر بها ،وفاته دينه .
فصل
[ ترتيب الله تعالى الخير والشر على أسباب ](1/71)
قد دل العقل والنقل والفطرة وتجارب الأمم ـ على اختلاف أجناسها ومللها ونحلها ـ على أن التقرب إلى رب العالمين ، وطلب مرضاته ، والبر والإحسان إلى خلقه ؛ من أعظم الأسباب الجالبة لكل خير ، وأضدادها من أكبر الأسباب الجالبة لكل شر ؛ فما استُجْلِبت نِعَمُ الله واستُدْفِعت نقمه بمثل طاعته والتقرب إليه والإحسان إلى خلقه .
وقد رتب الله سبحانه حصول الخيرات في الدنيا والآخرة ،وحصول الشرور في الدنيا والآخرة في كتابه على الأعمال ..وهذا في القرآن يزيد على ألف موضع: كقوله تعالى : ( فلما عتوا عما نهوا عنه قلنا لهم كونوا قردة خاسئين ( [الأعراف :166].
وكقوله تعالى :( إن تتقوا الله يجعل لكم فرقانا ويكفر عنكم سيآتكم ويغفر لكم ( [الأنفال :29] .
وبالجملة : فالقرآن من أوله إلى آخره صريح في ترتب الجزاء بالخير والشر والأحكام الكونية والأمرية على الأسباب ، بل ترتيب أحكام الدنيا والآخرة ومصالحهما ومفاسدهِما على الأسباب والأعمال .
ومن فَقِه هذه المسألة وتأملها حق التأمل ؛ انتفع بها غاية النفع .
ومن يتَّكلُ على القدر ـ جهلاً منه وعجزاً وتفريطاً وإضاعةً ـ فيكون توكله عجزا ، وعجزه توكلا .
بل الفقيه ـ كل الفقيه ـ الذي يردُّ القدر بالقدر ، ويدفع القدر بالقدر ، ويعارض القدر بالقدر ، بل لا يمكنُ الإنسانَ أن يعيشَ إلا بذلك ؛ فإن الجوع والعطش والبرد وأنواع المخاوف والمحاذير هي من القدر ، والخلق كلهم ساعون في دفع هذا القدر بالقدر.
وهكذا ؛ مَنْ وفَّقه الله وألهمه رُشْده يدفع قدر العقوبة الأخروية بقدر التوبة والإيمان والأعمال الصالحة ؛ فهذا وِزانُ القدرِ المخوف في الدنيا وما يضاده سواء ؛ فربُّ الدارين واحد ، وحكمتُه واحدة ،لا يناقض بعضُها بعضا،ولا يبطل بعضها بعضا. فهذه المسألة من أشرف المسائل لمن عرف قدرها ورعاها حق رعايتها .والله المستعان.
[ أسباب سعادة الإنسان وفلاحه ](1/72)
لكن يبقى عليه أمران بهما تتم سعادتُه وفلاحه :
أحدهما : أن يعرف تفاصيل أسبابِ الشر والخير ،وتكون له بصيرةٌ في ذلك ؛ بما يشاهده في العالم ، وما جربه في نفسه وغيره ،وما سمعه من أخبار الأمم قديما وحديثا .
ومن أنفع ما في ذلك :
تدبر القرآن : فإنه كفيل بذلك على أكمل الوجوه ،وفيه أسباب الخير والشر جميعا مفصلة مبينة .
ثم السنة : فإنها شقيقة القرآن ،وهي الوحي الثاني .
ومن صرف إليهما عنايته ؛اكتفى بهما من غيرهما ،وهما يريانك الخير والشر وأسبابهما حتى كأنك تعاين ذلك عيانا .
وبعد ذلك ؛ إذا تأملت أخبار الأمم وأيام الله في أهل طاعته وأهل معصيته ؛طابق ذلك ما علمته من القرآن والسنة ،ورأيته بتفاصيل ما أخبر الله به ووعد به ، وعلمت من آياته في الآفاق ما يدلك على أن القرآن حق ،وأن الرسول حق ،وأن الله ينجز وعده لا محالة ؛ فالتاريخ تفصيل لجزئيات ما عرَّفنا اللهُ ورسوله من الأسباب الكلية للخير والشر .
فصل
الأمر الثاني : أن يحذر مغالطة نفسه على هذه الأسباب .
وهذا من أهم الأمور فإن العبد يعرف أن المعصية والغفلة من الأسباب المضرة له في دنياه وآخرته ولابد ، ولكن تغالطه نفسه بالاتكال على عفو الله ومغفرته تارة ، وبالتسويف بالتوبة تارة ، وبالاستغفار باللسان تارة ، وبفعل المندوبات تارة ، وبالعلم تارة ، وبالاحتجاج بالقدر تارة ، وبالاحتجاج بالأشباه والنظائر تارة ، وبالاقتداء بالأكابر تارة أخرى .
وكثير من الناس يظن أنه لو فعل ما فعل ، ثم قال : أستغفر الله ؛ زال أثر الذنب وراح هذا بهذا !!
وهذا الضرب من الناس قد تعلق بنصوص من الرجاء ، واتكل عليها ، وتعلق بها بكلتا يديه ،وإذا عوتب على الخطايا والانهماك فيها ؛ سرد لك ما يحفظه من سعة رحمة الله ومغفرته ونصوص الرجاء .
وللجهال من هذا الضرب من الناس في هذا الباب غرائب وعجائب كقول بعضهم :
وكَثِّرْ ما اسْتَطَعْتَ مِنَ الخَطايا إذا كانَ القُدُومُ على كريمِ(1/73)
فتأمل هذا الموضع ،وتأمل شدة الحاجة إليه .
وكيف يجتمع في قلب العبد تيقنه بأنه ملاق الله ، وأن الله يسمع كلامه ، ويرى مكانه ،ويعلم سره وعلانيته ، ولا يخفى عليه خافية من أمره؛ وأنه موقوف بين يديه ، ومسؤول عن كل ما عمل ؛ وهو مقيم على مساخطه ، مضيع لأوامره ، معطل لحقوقه ،وهو مع هذا يحسن الظن به !!
وهل هذا إلا من خدع النفوس ، وغرور الأماني ؟!!
وقد قال أَبِو أُمَامَةَ سَهْل بن حنيف : دَخَلْتُ أَنَا وَعُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ عَلَى عَائِشَةَ رضي الله عنها ، فَقَالَتْ : لَوْ رَأَيْتُمَا رسول اللَّهِ ( ذَاتَ يَوْمٍ فِي مَرَضٍ له ، وَكَانَت عِنْدِه سِتَّةُ دَنَانِيرَ أَوْ سَبْعَةٌ ، فَأَمَرَنِي رسول اللَّهِ ( أَنْ أُفَرِّقَهَا .
قَالَتْ : فَشَغَلَنِي وَجَعُ رسول اللَّهِ ( حَتَّى عَافَاهُ اللَّهُ ، ثُمَّ سَأَلَنِي عَنْهَا ، فَقَالَ :" مَا فَعَلَتِ ؟ أكنتِ فرقتِ السِّتَّةُ دنانير ؟ " فقُلْتُ : لَا وَاللَّهِ ؛ لَقَدْ شَغَلَنِي وَجَعُكَ. قَالَتْ : فَدَعَا بِهَا ثُمَّ فوضَعهَا فِي كَفِّهِ ، فَقَالَ :" مَا ظَنُّ نَبِيِّ اللَّهِ لَوْ لَقِيَ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ وَهَذِهِ عِنْدَهُ ؟ " وفي لفظ : " ما ظنُّ محمدٍ بربِّهِ لو لقي اللهَ وهذه عنده " (103)
فيا لله !!
ما ظن أصحاب الكبائر والظلمة بالله إذا لقوه ومظالم العباد عندهم ؟!
فإن كان ينفعهم قولهم : حَسَّنَّا ظنوننا بك أنك لن تعذب ظالما ولا فاسقا ؛ فليصنع العبد ما شاء ، وليرتكب كل ما نهاه الله عنه ، وليحسن ظنه بالله ، فإن النار لا تمسه !!
فسبحان الله !! ما يبلغ الغرور بالعبد ؟!
وقد قال إبراهيم لقومه ( أإفكا آلهة دون الله تريدون. فما ظنكم برب العالمين ( [الصافات :86-87] أي ما ظنكم أن يفعل بكم إذا لقيتموه وقد عبدتم غيره ؟!(1/74)
ومن تأمل هذا الموضع حق التأمل ؛ علم أن حسن الظن بالله هو حسن العمل نفسه ؛ فإن العبد إنما يحمله على حسن العمل ظنه بربه أن يجازيه على أعماله ويثيبه عليها ويتقبلها منه ؛فالذي حمله على العمل حسن الظن، فكلما حسن ظنه بربه ؛ حَسُنَ عمله ، وإلا فحسن الظن مع اتباع الهوى عجز .
وبالجملة فحسن الظن إنما يكون مع انعقاد أسباب النجاة ،وأما مع انعقاد أسباب الهلاك ؛ فلا يتأتى إحسان الظن .
فإن قيل : بل يتأتى ذلك ، ويكون مستند حسن الظن سعة مغفرة الله ورحمته وعفوه وجوده ، وأن رحمته سبقت غضبه ، وأنه لا تنفعه العقوبة ، ولا يضره العفو ؟
قيل : الأمر هكذا ، والله فوق ذلك وأجل وأكرم وأجود وأرحم ،ولكن إنما يضع ذلك في محله اللائق به ؛ فإنه سبحانه موصوف بالحكمة والعزة والانتقام وشدة البطش وعقوبة من يستحق العقوبة ؛ فلو كان معوّلُ حسن الظن على مجرد صفاته وأسمائه ؛ لاشترك في ذلك البر والفاجر ،والمؤمن والكافر ،ووليه وعدوه ، فما ينفع المجرم أسماؤه وصفاته ؛ وقد باء بسخطه وغضبه ،وتعرض للعنته ،ووقع في محارمه، وانتهك حرماته ؟! بل حسن الظن ينفع من تاب ، وندم ، وأقلع ، وبدل السيئة بالحسنة ، واستقبل بقية عمره بالخير والطاعة ، ثم أحسن الظن ؛ فهذا هو حسن ظن ، والأول غرور . والله المستعان .
ولا تستطل هذا الفصل ؛ فإن الحاجة إليه شديدة لكل أحد يفرق بين حسن الظن بالله وبين الغرور به .
قال الله تعالى :( إن الذين آمنوا والذين هاجروا وجاهدوا في سبيل الله أولئك يرجون رحمة الله ( [البقرة :218]فجعل هؤلاء أهل الرجاء ، لا الظالمين ولا الفاسقين ، وقال تعالى :( ثم إن ربك للذين هاجروا من بعد ما فتنوا ثم جاهدوا وصبروا إن ربك من بعدها لغفور رحيم ( [ النحل :110] فأخبر سبحانه أنه بعد هذه الأشياء غفور رحيم لمن فعلها .
فالعالم يضع الرجاء مواضعه ، والجاهل المغتر يضعه في غير مواضعه .
فصل
[ شدة عقابه جل شأنه لمن اجترأ عليه بالمعاصي ](1/75)
وكثير من الجهال اعتمدوا على رحمة الله وعفوه وكرمه ،وضيعوا أمره ونهيه ، ونسوا أنه شديد العقاب ،وأنه لا يرد بأسه عن القوم المجرمين .
ومن اعتمد على العفو مع الإصرار على الذنب فهو كالمعاند .
قال معروف : رجاؤك لرحمة من لا تطيعه من الخذلان والحمق .
وقال بعض العلماء : من قطع عضوا منك في الدنيا بسرقة ثلاثة دراهم؛ لا تأمن أن تكون عقوبته في الآخرة على نحو هذا .
وسأل رجل الحسن فقال : يا أبا سعيد ! كيف نصنع بمجالسة أقوام يخوفوننا حتى تكاد قلوبنا تنقطع ؟ فقال : والله ؛ لأن تصحب أقواما يخوفونك حتى تدرك أمنا ، خير لك من أن تصحب أقواما يؤمنونك حتى تلحقك المخاوف .
وفي صحيح مسلم عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ( :" يُؤْتَى بِأَنْعَمِ أَهْلِ الدُّنْيَا مِنْ أَهْلِ النَّارِ [ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ]فَيُصْبَغُ فِي النَّارِ صَبْغَةً (104)ثُمَّ يُقَالُ له : يَا ابْنَ آدَمَ ! هَلْ رَأَيْتَ خَيْرًا قَطُّ ؟ هَلْ مَرَّ بِكَ نَعِيمٌ قَطُّ ؟ فَيَقُولُ : لَا وَاللَّهِ يَا رَبِّ ! وَيُؤْتَى بِأَشَدِّ النَّاسِ بُؤْسًا فِي الدُّنْيَا مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ ، فَيُصْبَغُ صَبْغَةً فِي الْجَنَّةِ ، فَيُقَالُ لَهُ : يَا ابْنَ آدَمَ هَلْ رَأَيْتَ بُؤْسًا قَطُّ ؟ هَلْ مَرَّ بِكَ شِدَّةٌ قَطُّ ؟ فَيَقُولُ : لَا وَاللَّهِ يَا رَبِّ ! مَا مَرَّ بِي بُؤْسٌ قَطُّ ، وَلَا رَأَيْتُ شِدَّةً قَطُّ " (105)
وفي صحيح مسلم من حديث جَابِرٍ قال : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ( :"كُلُّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ، و إِنَّ عَلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ عَهْدًا لِمَنْ يَشْرَبُ الْمُسْكِرَ أَنْ يَسْقِيَهُ مِنْ طِينَةِ الْخَبَالِ " قَيل : وَمَا طِينَةُ الْخَبَالِ ؟ قَالَ : " عَرَقُ أَهْلِ النَّارِ أَوْ عُصَارَةُ أَهْلِ النَّارِ "(106)(1/76)
وفي صحيح البخاري من حديث أبي سَعِيدٍ الْخُدْرِيَّ رَضِي اللَّه عَنْه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ :" إِذَا وُضِعَتِ الْجِنَازَةُ ،وَاحْتَمَلَهَا الرِّجَالُ عَلَى أَعْنَاقِهِمْ ؛ فَإِنْ كَانَتْ صَالِحَةً قَالَتْ : قَدِّمُونِي ، وَإِنْ كَانَتْ غَيْرَ صَالِحَةٍ ؛ قَالَتْ : يَا وَيْلَهَا أَيْنَ يَذْهَبُونَ بِهَا ؟ يَسْمَعُ صَوْتَهَا كُلُّ شَيْءٍ إِلَّا الْإِنْسَانَ ،وَلَوْ سَمِعَهُ صَعِقَ "(107)
وفي الصحيحين عنه قال : قال رسول الله ( :" إن المصورين يعذبون يوم القيامة، ويقال لهم: احيوا ما خلقتم "(108)
وفي صحيح البخاري من حديث أبي هريرة عن النبي ( :" من كانت عنده لأخيه مظلمة في مال أو عرض؛ فليأته ، فليستحلها منه قبل أن يؤخذ وليس عنده دينار ولا درهم : فإن كانت له حسنات ؛أخذ من حسناته فأُعطيها هذا ،وإلا أخذ من سيئات هذا ، فطرحت عليه ثم طرح في النار "(109)
وفي الصحيحين عنه قال : قال رسول الله ( :" ناركم هذه التي يوقد بنوا آدم ، جزء واحد من سبعين جزءاً من نار جهنم " قالوا : والله ؛إن كانت الكافية.قال : " فإنها قد فضلت عليها بتسعة وستين جزءاً ،كلهن مثل حرها " (110)
والأحاديث في هذا الباب أضعاف أضعاف ما ذكرنا ؛فلا ينبغي لمن نصح نفسه : أن يتعامى عنها ، ويرسل نفسه في المعاصي ، ويتعلق بحسن الرجاء وحسن الظن. قال أبو الوفاء بن عقيل: احذره ،ولا تغتر به ؛فإنه قطع اليد في ثلاثة دراهم ،وجلد الحد في مثل رأس الإبرة من الخمر ،وقد دخلت امرأة النار في هرة ، واشتعلت الشملة ناراً على مَنْ غلَّها وقد قُتِل شهيدا .
[ اغترار العبد بإنعام الله عليه وهو مقيم على معصيته ]
وربما اتكل بعض المغترين على ما يرى من نعم الله عليه في الدنيا ، وأنه لا يغير ما به ، ويظن أن ذلك من محبة الله له ، وأنه يعطيه في الآخرة أفضل من ذلك ، وهذا من الغرور .(1/77)
فعن عقبة بن عامر عن النبي ( قال : " إذا رأيت الله عز وجل يعطي العبد من الدنيا على معاصيه ما يحب ؛ فإنما هو استدراج " ثم تلا قوله عز وجل: ( فلما نسوا ما ذكروا به فتحنا عليهم أبواب كل شيء حتى إذا فرحوا بما أوتوا أخذناهم بغتة فإذا هم مبلسون ( [الأنعام :44] (111).
وقال بعض السلف : إذا رأيت الله عز وجل يتابع عليك نعمة ،وأنت مقيم على معاصيه ؛ فاحذره ؛ فإنما هو استدراج منه يستدرجك به .
وقد قال تعالى ( ولولا أن يكون الناس أمة واحدة لجعلنا لمن يكفر بالرحمن لبيوتهم سقفا من فضة ومعارج عليها يظهرون .ولبيوتهم أبوابا وسررا عليها يتكئون . وزخرفا وإن كل ذلك لما متاع الحياة الدنيا والآخرة عند ربك للمتقين ( [الزخرف :33-35].
وقد رد سبحانه على من يظن هذا الظن بقوله : ( فأما الإنسان إذا ما ابتلاه ربه فأكرمه ونعمه فيقول ربي أكرمن . وأما إذا ما ابتلاه فقدر عليه رزقه فيقول ربي أهانن .كلا ( [الفجر :15-17] أي : ليس كل من نعَّمتُهُ ووسعت عليه رزقَه أكون قد أكرمته ، ولا كل من ابتليتُه وضيقت عليه رزقه أكون قد اهنته ، بل أبتلي هذا بالنعم ، وأُكرم هذا بالابتلاء .
وفي [ مسند أحمد ] عنه ( :" إن الله يعطي الدنيا من يحب ومن لا يحب ولا يعطي الإيمان إلا من يحب " (112)
وقال بعض السلف : رُبّ مُستَدرجٍ بنعمِ الله عليه وهو لا يعلم ، ورُبّ مفتون بثناء الناس عليه وهو لا يعلم ، ورب مغرور بستر الله عليه وهو لا يعلم .
فصل
[ الركون إلى الدنيا والاغترار بعاجل نعيمها ]
وأعظم الخلق غروراً من اغتر بالدنيا وعاجلها ، فآثرها على الآخرة ، ورضي بها من الآخرة :
حتى يقول بعض هؤلاء : الدنيا نقد ، والآخر نسيئة (113)، والنقد أنفع من النسيئة! ويقول آخر منهم : لذات الدنيا متيقنة ،ولذات الآخرة مشكوك فيها ، ولا أدع اليقين للشك ؟!
وهذا من أعظم تلبيس الشيطان وتسويله !(1/78)
والبهائم العجم أعقل من هؤلاء ؛ فإن البهيمة إذا خافت مضرة شيء ؛لم تقدم عليه؛ ولو ضُرِبت ،وهؤلاء يُقدم أحدهم على ما فيه عطبه ؛وهو بين مصدق ومكذب .
فهذا الضرب : إن آمن أحدهم بالله ورسوله ولقائه والجزاء ؛ فهو من أعظم الناس حسرة ؛ لأنه أقدم على علم ، وإن لم يؤمن بالله ورسوله؛ فأبعد له.
( وقول هذا القائل : ( النقد خير من النسيئة ) جوابه :
إنه إذا تساوي النقد والنسيئة ؛ فالنقد خير ، وإن تفاوتا ، وكانت النسيئة أكثر وأفضل فهي خير .
فكيف والدنيا كلها من أولها إلى آخرها كنفس واحد من أنفاس الآخرة ؟!
كما في [مسلم ]من حديث المستورد بن شداد قال قال رسول الله ( : " ما الدنيا في الآخرة إلا كما يُدخل أحدكم إصبعه في اليم ؛فلينظر بم يرجع "(114) .
فإيثار هذا النقد على هذه النسيئة من أعظم الغبن وأقبح الجهل !
وإذا كان هذا نسبة الدنيا بمجموعها إلى الآخرة !! فما مقدار عمر الإنسان بالنسبة إلى الآخرة ؟!!
فأيما أولى بالعاقل : إيثار العاجل في هذه المدة اليسيرة وحرمان الخير الدائم في الآخرة ؟! أم ترك شيء حقير صغير منقطع عن قرب ؛ ليأخذ ما لا قيمة له [ولا حصر له] ولا نهاية لعدده ولا غاية لأمده ؟!
( وأما قول الآخر : ( لا أترك متيقناً لمشكوك فيه )
فيقال له : إما أن تكون على شك من وعد الله ووعيده وصدق رسله ،أو تكون على اليقين من ذلك :
فإن كنت على اليقين من ذلك ؛فما تركت إلا ذرة عاجلة منقطعة فانية عن قرب لأمر متيقن لا شك فيه ولا انقطاع له .
وإن كنت على شك : فتأمل آيات الرب تعالى الدالة على وجوده وقدرته ومشيئته ووحدانيته وصدق رسله فيما أخبروا به عنه ، وتجرد ، وقُم لله ناظرا أو مناظرا ؛ حتى يتبين لك أن ما جاءت به الرسل عن الله ؛ فهو الحق الذي لاشك فيه ، وأن خالق هذا العالم هو رب السموات والأرض يتعالى ويتقدس ويتنزه عن خلاف ما أخبرت به رسله عنه ،ومن نسبه إلى غير ذلك فقد شتمه وكذبه وأنكر ربوبيته وملكه .(1/79)
إذ من المحال الممتنع عند كل ذي فطرة سليمة أن يكون الملك الحق : عاجزا ، أو جاهلا لا يعلم شيئا، ولا يسمع ولا يبصر ولا يتكلم ، ولا يأمر ولا ينهي ، ولا يثيب ولا يعاقب ، ولا يعز من يشاء ولا يذل من يشاء ، ولا يرسل رسله إلى أطراف مملكته ونواحيها ، ولا يعتني بأحوال رعيته ، بل يتركهم سدى ، ويخليهم هملا !
ولهذا يقدح في مُلك آحاد ملوك البشر ، ولا يليق به ؛ فكيف يجوز نسبه الملك الحق المبين إليه ؟!
وإذا تأمل الإنسان حاله من مبدأ كونه نطفة إلى حين كماله واستوائه ؛تبين له أنَّ من عُنِي به هذه العناية ، ونقّله إلى هذه الأحوال ، وصرفه في هذه الأطوار؛ لا يليق به أن يهمله ويتركه سدى ؛ لا يأمره ،ولا ينهاه ،ولا يعرفه بحقوقه عليه،ولا يثيبه ، ولا يعاقبه.
[ كيف يجتمع التفريط مع تيقن الحساب ]
فإن قلت :كيف يجتمع التصديق الجازم الذي لا شك فيه بالمعاد والجنة والنار ويتخلف العمل ؟ وهل في الطباع البشرية أن يعلم العبد أنه مطلوب غداً إلى بين يدي بعض الملوك ليعاقبه أشد عقوبة ، أو يكرمه أتم كرامة ، ويبيت ساهيا غافلا، لا يتذكر موقفه بين يدي الملك ، ولا يستعد له ، ولا يأخذ له أهبته ؟ !
قيل : هذا لعمر الله سؤال صحيح وارد على أكثر هذا الخلق ؛ واجتماع هذين الأمرين من أعجب الأشياء !
وهذا التخلف له عدة أسباب :
أحدها : ضعف العلم ، ونقصان اليقين .
فإذا اجتمع إلى ضعف العلم : عدم استحضاره ، أو غيبته عن القلب في كثير من أوقاته أو أكثرها لاشتغاله بما يضاده .
وانضم إلى ذلك : تقاضي الطبع ،وغلبات الهوى ، واستيلاء الشهوة ، وتسويل النفس، وغرور الشيطان ، واستبطاء الوعد ، وطول الأمل ، ورقدة الغفلة ، وحب العاجلة، ورخص التأويل ، وإلف العوائد ، فهناك لا يمسك الإيمان إلا الذي يمسك السموات والأرض أن تزولا .
وبهذا السبب يتفاوت الناس في الإيمان والأعمال، حتى ينتهي إلى أدنى مثقال ذرة في القلب .(1/80)
وجماع هذه الأسباب :يرجع إلى ضعف البصيرة والصبر .
ولهذا مدح الله سبحانه أهل الصبر واليقين ، وجعلهم أئمة في الدين ، فقال تعالى: ( وجعلناهم أئمة يهدون بأمرنا لما صبروا وكانوا بآياتنا يوقنون ([السجدة :24].
فصل
[ بين أماني المفرطين ورجاء الصحابة والصالحين ]
ومما ينبغي أن يعلم : أن من رجا شيئا ؛ استلزم رجاؤه ثلاثة أمور :
أحدها : محبة ما يرجوه .
الثاني : خوفه من فواته .
الثالث :سعيه في تحصيله بحسب الإمكان .
وأما رجاء لا يقارنه شيء من ذلك ؛ فهو من باب الأماني ، والرجاء شيء، والأماني شيء آخر .
فكل راج خائف ، والسائر على الطريق إذا خاف ؛ أسرع السير مخافة الفوات. وفي جامع الترمذي من حديث أبي هريرة قال قال رسول الله ( :" من خاف أدلج، ومن أدلج(115) بلغ المنزل ، إلا إن سلعة الله غالية ،إلا إن سلعة الله الجنة " (116) .
وهو سبحانه كما جعل الرجاء لأهل الأعمال الصالحة ، فكذلك جعل الخوف لأهل الأعمال الصالحة ،فعلم أن الرجاء والخوف النافع هو ما اقترن به العمل .
قال الله تعالى ( إن الذين هم من خشية ربهم مشفقون .والذين هم بآيات ربهم يؤمنون .والذين هم بربهم لا يشركون .والذين يؤتون ما أتوا وقلوبهم وجلة أنهم إلى ربهم راجعون .أولئك يسارعون في الخيرات وهم لها سابقون( [المؤمنون :57-61] .
وقد روى الترمذي في جامعه عن عائشة رضى الله عنها قالت :سألت رسول الله ( عن هذه الآية فقلت : أهم الذين يشربون الخمر ويزنون ويسرفون ؟ فقال :" لا يا ابنة الصديق ! ولكنهم الذين يصومون ويصلون ويتصدقون ، ويخافون أن لا يتقبل منهم ، أولئك يسارعون في الخيرات "(117) .
والله سبحانه وصف أهل السعادة بالإحسان مع الخوف ووصف الأشقياء بالإساءة مع الأمن .
ومن تأمل أحوال الصحابة رضى الله عنهم ؛ وجدهم في غاية العمل مع غاية الخوف ،ونحن جمعنا بين التقصير ـ بل التفريط ـ والأمن !(1/81)
فهذا الصديق رضي الله عنه يقول :وددت أني شعرة في جَنْب عبد مؤمن .ذكره أحمد عنه (118).
وهذا عمر بن الخطاب قرأ سورة الطور إلى أن بلغ قوله ( إن عذاب ربك لواقع ( [الطور:7] فبكى ، واشتد بكاؤه ، حتى مرض وعادوه .
وقال لابنه وهو في سياق الموت : ويحك ! ضع خدي على الأرض؛ عساه أن يرحمني . ثم قال: ويل أمي إن لم يغفر الله لي ؛ ثلاثا ثم قضى .(119)
وهذا عثمان بن عفان رضي الله عنه كان إذا وقف على القبر ؛ يبكى حتى تبل لحيته (120).
وقال : لو أنني بين الجنة والنار ، لا أدري إلى أيتهما يؤمر بي ؛ لاخترت أن أكون رمادا قبل أن أعلم إلى أيتهما أصير (121).
وهذا علي بن أبي طالب رضي الله عنه وبكاؤه وخوفه ، وكان يشتد خوفه من اثنتين : طول الأمل ، واتباع الهوى . قال : فأما طول الأمل فينسي الآخرة ، وأما اتباع الهوى فيصد عن الحق ، ألا وإن الدنيا قد ولت مدبرة ،والآخرة قد أسرعت مقبلة ،ولكل واحدة منهما بنون ، فكونوا من أبناء الآخرة، ولا تكونوا من أبناء الدنيا ، فإن اليوم عمل ولا حساب ، وغداً حساب ولا عمل (122).
وقرأ تميم الداري ليلة سورة الجاثية فلما أتى على هذه الآية : ( أم حسب الذين اجترحوا السيئات أن نجعلهم كالذين آمنوا وعملوا الصالحات ( [الجاثية :21]جعل يرددها ويبكي حتى أصبح (123).
وقال أبو عبيدة عامرُ بن الجراح : وددت أني كبش ، فذبحني أهلي ، وأكلوا لحمي وحسوا مرقي (124) .
وهذا باب يطول تتبعه .
قال البخاري في صحيحه ( باب خوف المؤمن أن يحبط عمله وهو لا يشعر ) . وقال إبراهيم التيمي : ما عرضتُ قولي على عملي ؛إلا خشيت أن أكون مكذبا. وقال بن أبي مليكة : أدركتُ ثلاثين من أصحاب النبي ( ؛كلهم يخاف النفاق على نفسه ، ما منهم أحد يقول : إنه على إيمان جبريل وميكائيل !(1/82)
فنسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يجعلنا ممن آثر وابتغى حبه ورضاه على هواه بذلك قربه ورضاه آمين يا رب العالمين وصلى الله على محمد وآله وصحبه أجمعين آمين .
* * *
تم تهذيبه واختصاره في يوم الأحد الموافق 9/3/1421هـ
محمد بن عبدالله الهبدان
غفر الله له ولوالديه ولجميع المسلمين
فهرس الموضوعات
1 ـ مقدمة الكتاب
2 ـ بيان سبب تأليف الكتاب
3 ـ بيان أن الله لم ينزل داء إلا وأنزل له دواء
4 ـ الدعاء من أنفع الأدوية
5 ـ استعجال الاستجابة يفوت أثر الدعاء
6 ـ متى يستجاب الدعاء ؟
7 ـ هل لمرض الشهوة علاج ؟
8 ـ علاج مرض الشهوة
9 ـ التدابير العملية الواقية من مرض الشهوة
10 ـ بين سلطان الشهوة وسلطان العقل والإيمان
11 ـ الطريق الأنفع للوصول إلى السعادة
12 ـ عشق الصور وأضراره
13 ـ عظم داء العشق وأقسام أصحابه
14 ـ علاج العشق
15 ـ مقامات العاشق ومراحل العشق
16 ـ ألوان الظلم التي يسببها العشق
17 ـ التدابير العملية التي تقي من الإصابة بداء العشق
18 ـ العشق بين المنافع والمضار
19 ـ أنواع المحبة .
20 ـ أعظم أنواع المحبة وأنفعها هي محبة الله تعالى
21 ـ نعيم القلب والروح تبع لكمال المحبوب وكمال المحبة
22 ـ أنواع لذات الدنيا
23 ـ بعض أنواع المحبة التي فيها منافع العشق ومزاياه
24 ـ لا تثريب في حب النساء إن كان بالوجه الشرعي
25 ـ أقسام عشق النساء
26 ـ بيان أن خبر : " من عشق فعف .." موضوع
27 ـ عظيم مفسدة اللواط وشدة فحشه
28 ـ بيان عقوبة اللوطي
29 ـ توبة اللوطي هل تقبل ؟
30 ـ حرمة الزنى
31 ـ عظيم مفسدة الزنى
32 ـ التشديد والتشنيع في حد الزنى وأسبابه
33 ـ آثار الذنوب والمعاصي
34 ـ آثار المعاصي على العبد في دينه ودنياه وآخرته
35 ـ العقوبات الشرعية موعظة لمن لم يتعظ بالقدرية
36 ـ سوء الخاتمة وخشية الصالحين منها
37 ـ ترتيب الله تعالى الخير والشر على أسباب
38 ـ أسباب سعادة الإنسان وفلاحه(1/83)
39 ـ شدة عقابه جل شأنه لمن أجترئ عليه بالمعاصي
40 ـ اغترار العبد بإنعام الله عليه وهو مقيم على معصيته
41 ـ الركون إلى الدنيا والاغترار بعاجل نعيمها
42 ـ كيف يجتمع التفريط مع تيقن الحساب ؟
43 ـ بين أماني المفرطين ورجاء الصحابة والصالحين
44 ـ الفهرس
(1) واعتمدت في هذا على كلام العلماء في التصحيح والتضعيف .
(2) وفي موطن واحد أضفت كلاما لابن القيم ـ رحمه الله ـ استقيته من كتابه زاد المعاد .
(3) لم يبين السائل ولا المؤلف ما هذه البلية التي وقع فيها هل هي داء العشق ؟ أم داء اللواط ؟ والذي يظهر من صنيع الإمام ابن القيم ـ رحمه الله ـ أنه لم يخصص هذا أو ذاك بل جعل كلامه على داء الشهوة والتي يدخل فيها مرض العشق واللواط وغيرها من الأمراض ـ عافنا الله وإياكم من ذلك . فتكلم على الجميع والله أعلم .
(4) أخرجه : البخاري (5678) .
(5) أخرجه : مسلم ( 2204) .
(6) أخرجه : الحاكم (1/492) وصححه . وقد حسنه الألباني في صحيح الجامع (7739) .
(7) أخرجه : البخاري (6340) .
(8) أخرجه : أحمد (4/278) من حديث أسامة بن شريك رضي الله عنه ، وصححه الألباني في السلسلة (451) .
(9) أخرجه : أبو داود (2148) والترمذي (2776) وأحمد (5/353) وقد حسنه الألباني في جلباب المرأة المسلمة ص 77 .
(10) أخرجه : البخاري (2465) ومسلم (2121) عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه .
(11) الجَوْس : طلب الشيء باستقصاء ، والتردد والطواف خلال البيوت والدور في الغارة .
(12) الحِنْدس : الظلمة ، والليل المظلم .
(13) انظر : حلية الأولياء (10/237) .
(14) انظر : حلية الأولياء (10/237) .
(15) انظر : الحلية (2/149) . والطقطقة : صوت حوافر البغال . والهملجة : الانقياد والذل . والبراذين : الدواب .(1/84)
(16) أخرجه : أبو داود (1425) والترمذي (464) والنسائي (1744) وابن ماجه (1178) من حديث الحسن بن علي رضي الله عنهما .قال الترمذي : هذا حديث حسن . وصححه أحمد شاكر والألباني .
(17) أخرجه : البخاري (7047) ومسلم (2275) من حديث سمرة بن جندب رضي الله عنه .
(18) هذا العنوان من المختصر .
(19) هو أبو الطيب المتنبي !! والبيت في ديوانه (2/40) .
(20) الوكاء : رباط القربة ونحوها . وهذا مثل يضرب لمن يجنى على نفسه بفعله . انظر مجمع الأمثال (2/414) للميداني .
(21) انظر : قصة الإفك في صحيح البخاري (2661) ومسلم (2770) .
(22) أخرجه : الترمذي (1336) وأحمد (2/387) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه وقد صحح الألباني هذا الحديث دون زيادة " الرائش " انظر : السلسلة الضعيفة (3/381) وإرواء الغليل (8/243) .
(23) طلّ دمه يطل : أُهدر ؛ فلا يُثأر له .
(24) خُبّبت : خدعت وأفسدت .
(25) أخرجه :أبو داود (5170) وأحمد (2/397) وابن حبان ( 568) عن أبي هريرة رضي الله عنه.
(26) يستام على سوم أخيه : هو أن يتجادل المتبايعان في ثمن سلعة ، حتى إذا قاربا الاتفاق ؛ جاء رجل ثالث يريد أن يشتري السلعة ويخرجها من يد المشتري الأول بزيادة على ما استقر عليه الأمر بين المتساومين ورضيا به قبل الانعقاد .
(27) أخرجه مسلم (1408) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه .
(28) أخرجه : مسلم (1897) من حديث بريدة رضي الله عنه .
(29) أخرجه : البخاري (5984) ومسلم (2556) من حديث جبير بن مطعم رضي الله عنه .
(30) أخرجه : البخاري (6016) ومسلم (46) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه .
(31) أي : يكون ديوثا يقر الخبث في أهله ولا حول ولا قوة إلا بالله .
(32) أخرجه البخاري (15) ومسلم (44) من حديث أنس رضي الله عنه .
(33) أخرجه البخاري (6632) من حديث عبد الله بن هشام رضي الله عنه .
(34) أخرجه : البخاري (1145) ومسلم (758) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه .(1/85)
(35) أخرجه : البخاري (5999) ومسلم (2754) من حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه .
(36) أخرجه : البخاري (6308) ومسلم (2744) من حديث ابن مسعود رضي الله عنه .
(37) أي : إدراك كيفية صفاته سبحانه وتعالى .
(38) سُبُحات وجهه : أنواره .
(39) كما جاء في حديث عند مسلم (179) من حديث أبي موسى رضي الله عنه .
(40) أخرجه : مسلم (181) من حديث صهيب رضي الله عنه .
(41) أخرجه : النسائي (1304) وأحمد (4/264) وصححه الألباني في الكلم الطيب ص 65-66 .
(42) أخرجه : أبو داود (2513) والترمذي (1673) والنسائي (3146) وأحمد (4/114) من حديث عقبة بن عامر الجهني رضي الله عنه . قال الترمذي : هذا حديث حسن صحيح .
(43) أخرجه : أحمد في الزهد ص 159 .
(44) أخرجه : البخاري (4582) ومسلم (800) .
(45) أخرجه : أبو نعيم في الحلية (1/258) .
(46) أخرجه : مسلم (1403) .
(47) أخرجه : ابن ماجه (1847) وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة ورقمه (625) .…
(48) أخرجه : النسائي (3949) وأحمد (3/128-199-285) وحسن إسناده ابن حجر في التلخيص (3/116) وتابعه الألباني في تخريج المشكاة ( 3/1448-2561) .
(49) أخرجه : البخاري (3662) ومسلم (2384) من حديث عمرو بن العاص رضي الله عنه .
(50) أخرجه : البخاري (3816) ومسلم (2435) من حديث عائشة رضي الله عنها .
(51) أخرجه ابن حبان في المجروحين (1/349) وانظر : السلسلة الضعيفة (1/587) .
(52) هذا المقطع أخذته من كلام ابن القيم ـ رحمه الله ـ في زاد المعاد (4/275) لأهميته .
(53) أخرجه : ابن أبي الدنيا ،ومن طريقه البيهقي في السنن (8/232) وجود إسناده المنذري في الترغيب (3/251) .
(54) أخرجه : ابن أبي شيبة في المصنف (5/493) .
(55) أخرجه : أبو داود (4462) والترمذي (1456) وابن ماجه (2561) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما وصححه الحاكم والذهبي والألباني في الإرواء (8/16) .(1/86)
(56) أخرجه : أحمد (1/309) وابن حبان (4417) والحاكم (4/356) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما وصححه الحاكم وحسنه الألباني في أحكام الجنائز ص 203 .
(57) يعني : بحده لا بصحفته .
(58) أخرجه : البخاري (6846) ومسلم (1499) من حديث المغيرة بن شعبة رضي الله عنه .
(59) أخرجه : البخاري (5223) ومسلم (2761) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه .
(60) أخرجه : البخاري (1044) ومسلم (901) من حديث عائشة رضي الله عنها .
(61) أخرجه : البخاري (80-81) ومسلم (2671) .
(62) أخرجه : أبو يعلى في المسند (4981) قال الهيثمي في المجمع (4/121) والمنذري في الترغيب (2/621) روه أبو يعلى ، وإسناده جيد " والحديث بمجموع طرقه لا ينزل عن رتبة الحسن ، وقد حسنه الألباني في غاية المرام ص 203 رقم 344 .
(63) الضمير يعود على النفوس .
(64) تَبّر : أهلك وحطّم .
(65) أخرجه : أحمد في الزهد ص 179 .
(66) أخرجه : أحمد (6/294) والحديث صححه الألباني في السلسلة (3/359) .
(67) أخرجه :ابن ماجه (4019) وقال الألباني بعد أن أطال في تخريج الحديث وذكر طرقه وشواهده في السلسلة (1/216) : وبالجملة ؛ فالحديث بهذه الطرق والشواهد صحيح بلا ريب "
(68) أخرجه : أحمد (2/42) وأبو داود (3462) قال شيخ الإسلام ابن تيمية (29/30) : وقد روى أحمد وأبو داود بإسنادين جيدين عن ابن عمر ..( فذكره ) . وصححه الألباني في السلسلة (1/42) .
(69) هو : عبدالله بن عبدالعزيز بن عبدالله بن عبدالله بن عمر بن الخطاب المتوفى سنة 184هـ .
انظر : السير (8/375) .
(70) أخرجه : أحمد (1/7) و أبو داود (4338) والترمذي (3057) وابن ماجه (4005) وقال الترمذي : هذا حديث حسن صحيح .
(71) أخرجه : البخاري (6492) .
(72) أخرجه : البخاري (2365) ومسلم (2242) .
(73) أخرجه : أحمد في الزهد ص 460 .
(74) أخرجه : الترمذي (3334) وابن ماجه (4244) وأحمد (2/297) وقال الترمذي : هذا حديث حسن صحيح .(1/87)
(75) انظر : الحلية (2/271) .
(76) الزهد ص 168 .
(77) هو ابن الجلاء .وانظر الخبر في : صفوة الصفوة (2/443-444) . قوله :( غبّها ) أي عاقبتها.
(78) أنظره في : الحلية (3/31) .
(79) كما في قوله تعالى : ( ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض ولكن كذبوا فأخذناهم بما كانوا يكسبون ([ الأعراف :96]
(80) هو الفضيل بن عياض ؛ كما جاء في الحلية (8/109) .
(81) أخرجه : البخاري (6069) ومسلم (3990) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه .
(82) أخرجه : البخاري (6308) .
(83) انظر : الدر المنثور (6/541) .
(84) يثلغ : يشدخ .
(85) يتدهده : أي ينحط من علو إلى أسفل .
(86) كلُّوب : خطاف ، حديدة معوجه الرأس لتعليق الأشياء .
(87) فيشرشر شدقه : أي يقطع جانب الفم .
(88) اللغط : الضجيج غير المفهوم .
(89) ضوضوا : رفعوا أصواتهم مختلطة .
(90) المرآة : المنظر .
(91) يحش : يوقد .
(92) معتمة : كثيرة النبت غطاها الخصب .
(93) المحض : اللبن الخالص الذي لا شائبة فيه .
(94) صعدا : صاعدا في ارتفاع كثير .
(95) الربابة : السحابة .
(96) أخرجه : البخاري (7047) ومسلم (2275) .
(97) أخرجه : البخاري (6846) ومسلم (1499) .
(98) صياصي الجاموس : قرونه ، مفردها صيصة .
(99) شاه ورخ قطعتان من قطع الشطرنج ، والمحتضر يذكرهما لأنهما أخذا عليه لبه وعقله من كثرة اللعب فنسأل الله حسن الخاتمة .
(100) انظر : الحلية (7/12) .
(101) أخرجه : ابن المبارك ،وأحمد في الزهد . انظر : الدر المنثور (3/73) .
(102) اصْطُلِم : استُؤصل .
(103) أخرجه : أحمد (6/49-86-182) وقد صححه الألباني في السلسلة (3/12) .
(104) أي : يدخل فيها إدخالة سريعة للحظات قليلة .
(105) أخرجه : مسلم (2807) .
(106) أخرجه : مسلم (2002) .
(107) أخرجه : البخاري (1314) .
(108) أخرجه : البخاري ((4951) ومسلم (2108) .
(109) أخرجه : البخاري (2449) .(1/88)
(110) أخرجه : البخاري (3265) ومسلم (2843) .
(111) أخرجه : أحمد (4/145) .وصححه الألباني في السلسلة (1/773) .
(112) أخرجه : أحمد (1/387) قال الألباني في صحيح الأدب المفرد ص 119 : صحيح موقوف في حكم المرفوع .
(113) أي : متأخرة .
(114) أخرجه : مسلم (2858) .
(115) الإدلاج : السير في أول الليل ، وهو كناية عن الاهتمام والسعي في الأمر بجد .
(116) أخرجه : الترمذي (2450) وصححه الألباني في السلسلة (5/442) .
(117) أخرجه : الترمذي (3175) وقد صححه الألباني لشواهده في السلسلة (1/304) .
(118) في الزهد ص 135 .
(119) الزهد لأحمد ص 149و155 .
(120) أخرجه : الترمذي (2308) .
(121) أخرجه : أحمد في الزهد ص 160 .
(122) أخرجه : أحمد في الزهد ص 162-163 .
(123) أخرجه : أحمد في الزهد ص 227 .
(124) أخرجه : أحمد في الزهد ص 230 .
??
??
??
??
( 6 )
( 13 )(1/89)