…………
تهافت موت الدماغ
………تأليف/ د.وسيم فتح الله
تهافت موت الدماغ
مقدمة:
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد،
إن النوازل الطبية المعاصرة التي تواجه مجتمعاتنا المسلمة تشكل مورداً من موارد الاجتهاد الفقهي الذي لا يزال يُسفر عن سعة ورحابة منهج الفقه الإسلامي، وإن هذه السعة والرحابة في منهج الفقه الإسلامي تأبى دعاوي البت والقطع في نوازل لا تزال بحد ذاها قيد التغير والتجدد في مجالها الطبي. ولئن كان موضوع موت الدماغ قد بُحث وصدرت فيه الفتاوى من بعض المجامع الفقهية والاجتهادات الفردية لبعض العلماء المعاصرين، فإن إعادة النظر فيما توصلت إليه بعض هذه الاجتهادات غير ممتنع شرعاً ولا عقلاً، وإن هذه الرسالة الموجزة تدور حول القول الذي انتهت إليه بعض هذه الفتاوى المعاصرة، حيث تفتي بالحكم بالموت شرعاً بناء على تشخيص موت الدماغ، ولربما صار هذا أمراً مقبولاً ومسلَّماً به عند الكثير منا سواء أكان في المجال الطبي أم الاجتماعي، بل وينبني عليه بعض الممارسات التي تعتبر بحد ذاتها معقد خلاف وإشكال - وأعني بطبيعة الحال استقطاع بعض أعضاء المحكوم بموته بسبب الحكم بموت دماغه لغرسها في أجساد مرضى آخرين- كل هذا آخذ في الانتشار في بلادنا بصورة تدعو إلى التدبر في هذا القول، نظراً لما في هذا الحكم من تعدٍّ على حقوق وحرمات الفرد المسلم التي شرعها الله تعالى له وأمر بحفظها، وليست هذه الرسالة طعناً أو اتهاماً لأحد بالتواطؤ على ذلك معاذ الله، ولكن محاولة للتنبيه من غفلة اعترت البعض لما اعترته نشوة التقدم الطبي، وتوهم تناول التيسير الشرعي لمسائل لم تنشأ في بلادنا، وإنما نشأت في بيئات هي متقدمة علمياً ولكنها منحطة أخلاقياً ومتنصلة من شرع السماء، ولئن أثمر ذاك التقدم العلمي نفعاً ما لفئة من المجتمع، فإن هذه الثمرة التي أغرت بالبعض منا ليست هي معيار الخطأ والصواب في نفس الأمر، بل إن معيار الخطأ والصواب يجب(1/1)
أن يكون دوماً شريعة الله الخالدة أعني الإسلام.
وعند النظر مثلاً في الولايات المتحدة الأمريكية والتساؤل عن سر الحاجة إلى تشخيص "موت الدماغ" في تلك البلاد - التي يستطيع المريض أو وصيه بحكم قانونها - أن يرفع أجهزة العلاج والإنعاش عن المريض، ولو لم يكن ميتاً دماغياً فيهلك المريض برفع هذه الأجهزة، لما احتجت لمعرفة الجواب إلى كثير نظر، إذ أن الحاجة لهذا التشخيص هو أن ما يُسمى "موت الدماغ" هو الغطاء القانوني الوحيد المتلبس بلبوس العلم الذي يتم من خلاله تأمين مصدر رئيسي من مصادر الأعضاء البشرية، كي تروج هذه الصناعة الطبية التي لا تزال ممارستها تسترسل إلى حد التجارة بأعضاء البشر واستحلال دماء معصومة شرعاً، والله المستعان. ولما كان هذا الأمر الخطير يتعلق بأعظم الحرمات عند الله عز وجل، أعني حرمة النفس المسلمة التي أهدر الشرع لها حرمة الزمان كما في قوله تعالى :" الشهر الحرام بالشهر الحرام والحرمات قصاص"1، وحرمة المكان كما في قوله تعالى :"ولا تقاتلوهم عند المسجد الحرام حتى يقاتلوكم فيه فإن قاتلوكم فاقتلوهم"2، ونبه عليها في الحديث عنه صلى الله عليه وسلم :" لَزوال الدنيا أهون على الله من قتل رجل مسلم" 3، ولكنه لم يهدر في مقابلها دماء المسلمين الآخرين، فقد تقرر في الحديث قوله صلى الله عليه وسلم:"المسلمون تتكافأ دماؤهم"4، ولم يفرق في هذا الحديث بين من مات عضوٌ منه أو أُبين5 عضو منه أو أصابه غشي أو مرض أو نحوه، قلت: لما كان الأمر يتعلق بهذه الحرمة العظيمة، كان لزاماً أن نتوقف قليلاً لنستعيد توازننا في هذه المسألة الخطيرة، ولسوف أقدم إن شاء الله تعالى في هذه الرسالة ما يدل على تهافت دعوى الحكم بالموت على من يشخص الأطباء أنه ميت الدماغ، مع تقديم تصورٍ عمليٍ مقبولٍ شرعاً للتعامل مع هذه الحالات، اللهم يسر وأعن:
فصل: التعريفات:(1/2)
لا بد لنا قبل الخوض في هذه الرسالة الموجزة من تقرير بعض المصطلحات والتعريفات التي سنتطرق إليها ونتداولها إن شاء الله، وهي الموت وموت الدماغ وموت جذع الدماغ.
أولاً: الموت:
الموت مخلوق من مخلوقات الله عز وجل، قال تعالى:" الذي خلق الموت والحياة "6، وليس الموت أمراً عدمياً، بل هو أمرٌ وجودي لأن الله تعالى لا يخلق عدماً، وقد صح الحديث عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"يؤتى بالموت كهيئة كبشٍ أملح، فينادي منادٍ: يا أهل الجنة، فيشرئبون وينظرون، فيقول: هل تعرفون هذا؟ فيقولون: نعم، هذا الموت، وكلهم قد رآه، ثم ينادي: يا أهل النار، فيشرئبون وينظرون، فيقول: هل تعرفون هذا؟ فيقولون: نعم هذا الموت، وكلهم قد رآه، فيذبح ثم يقول:" يا أهل الجنة خلود فلا موت، ويا أهل النار خلود فلا موت"7، وقال الجرجاني :"الموت صفة وجودية خُلقت ضداً للحياة"8. وحقيقته مفارقة الروحِ للجسد كما دل الحديث الصحيح عن أم سلمة رضي الله عنها قالت: دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم على أبي سلمة وقد شق بصره، فأغمضه ثم قال:" إن الروح إذا قُبِض تبعه البصر"9، وهنا مسألة في غاية الأهمية وهي أن تعلق الروح بالجسد في حال الحياة لا تستلزم تعلقها بكامل الجسد، بل قد تتعلق بالجسد كاملاً وقد تتعلق ببعضه كما لو أُبين من الجسد عضو، وقد تُمسك عن الجسد ثم تُرسل كما هو حال النائم وقد تتفرق في كامل الجسد كما هي عند الكافر إذا جاء ملك الموت قبل أن ينزع روحه المتفرقة في كامل جسده، فإذا عُرف هذا كله - وستأتي أدلته مبسوطة في سياق الأدلة إن شاء الله - عُلم أن تلف أو موت عضو أو جزء من الجسد لا يستلزم مفارقة الروح للجسد كله وبالتالي لا يستلزم حدوث الموت، فتأمل هذا فإنه عظيم في هذا الباب، ومن وُفِّق إلى تأمله وفهمه وُفِّق إلى إزالة معظم الإشكال المتعلق بمسألتنا، والله أعلم.
ثانياً: موت الدماغ:(1/3)
يتألف الدماغ من ثلاثة أقسام رئيسة هي : المخ والمخيخ وجذع الدماغ، ويقوم المخ بسائر الوظائف العصبية أما المخيخ فمسؤول عن التوازن وتنسيق الحركات، وأما جذع الدماغ فهو المسؤول عن الوظائف الحياتية كالتنفس ونظم القلب كما توجد فيه نوى الأعصاب القحفية المسؤولة عن التعصيب الحسي والحركي للقحف.
والمقصود بموت الدماغ هنا يشمل هذه الأقسام كلها، ويتصور حصوله في حالات الرض الشديدة أو النزف الشديد أو التوذم الشديد الذي يحصل معه ما يعرف بالانفتاق الدماغي ونحوه، والمقصود بالموت هنا التلف الكامل الذي لا رجعة فيه، ويُستدل عليه من خلال جملة من الوسائل التشخيصية السريرية والمخبرية والشعاعية ونحوها.
ثالثاً: موت جذع الدماغ :
وهو يعني تلف جذع الدماغ الكامل الذي لا رجعة فيه ولكن قد يبقى المخ والمخيخ أو أحدهما سليماً أو تالفاً جزئياً.
وهنا فرق مهم جداً بين موت الدماغ وموت جذع الدماغ، لأن الكثير من المدارس الطبية تضع معايير وضوابط لتشخيص موت جذع الدماغ، في حين أن بعض الفتاوى المعاصرة التي أفتت بموت من مات دماغه نصت على تلف كامل الدماغ وأثبت هاهنا الفتوى كاملة لأنها - هي وما جرى مجراها من الفتاوى - محور النزاع في هذا البحث :
فتوى بشأن أجهزة الإنعاش رقم القرار ( 5 ) د3/07/86
إن مجلس مجمع الفقه الإسلامي10 المنعقد في دورة مؤتمره الثالث بعمان عاصمة المملكة الأردنية
الهاشمية من 8 إلى 13 صفر 1407هـ 11 إلى 16 أكتوبر 1986م ، بعد تداوله في سائر النواحي التي أثيرت حول موضوع أجهزة الإنعاش واستماعه إلى شرح مستفيض من الأطباء المختصين قرر ما يلي :-
يعتبر شرعاً أن الشخص قد مات وتترتب عليه جميع الأحكام المقررة شرعاً للوفاة عند ذلك إذا تبينت فيه إحدى العلامتين التاليتين:
1) إذا توقف قلبه وتنفسه توقفاً تاماً وحكم الأطباء بأن هذا التوقف لا رجعة فيه .(1/4)
2) إذا تعطلت جميع وظائف دماغه تعطلاً نهائياً وحكم الأطباء الاختصاصيون الخبراء بأن هذا التعطل لا رجعة فيه، وأخذ دماغه في التحلل.
وفي هذه الحالة يسوغ رفع أجهزة الإنعاش المركبة على الشخص وإن كان بعض الأعضاء كالقلب مثلاً لا يزال يعمل آلياً بفعل الأجهزة المركبة .
والله أعلم .
انتهى نص القرار، وموضع الشاهد فيه العلامة الثانية وفيها من الفروق والقيود ما يلزم تحريره وهي :
1- تعليق الحكم بتعطل جميع وظائف الدماغ وهذا يشمل - في عرف الأطباء11 - المخ والمخيخ وجذع الدماغ
2- أن يكون الحكم حكم الأطباء الاختصاصيين الخبراء ، وهذه الصفات بحاجة إلى ضبط وتحرير لم يتطرق إليه القرار
3- أن يكون التعطل لا رجعة فيه
4- أن يأخذ الدماغ في التحلل: وهذا قيد مهم ويحتاج إلى ضبط وتحرير، لأن ليس كل من ثبت عنده تشخيص موت الدماغ يكون دماغه آخذاً في التحلل على الفور، بل هناك فترة زمنية تتفاوت بتفاوت الأشخاص والأعمار والأسباب المؤدية إلى تعطل كامل الدماغ.
والحقيقة إن هذه القيود تستحق التأمل والنظر، لأنها قد تُخرج بعض الحالات - إن لم يكن كثيراً منها - عن ترتب الحكم الذي جاء به القرار، وأعني الحكم بموت الشخص بناء على ظهور هذه العلامة، فعلى سبيل المثال أذكر أن معايير تشخيص موت الدماغ أو جذع الدماغ التي يستعملها الأطباء لا تشمل القيد الرابع (أي إثبات أن الدماغ في التحلل)، مما يُخل بهذا القيد الذي ترتبت الفتوى على استيفائه مع غيره من القيود.
فصل: تحرير محل النزاع:(1/5)
قبل أن نمضي في هذه الرسالة لا بد من تحرير محل النزاع ومناط الإنكار الذي أوردنا هذه الرسالة لأجله، فنحن لا ننازع في حقيقة الحالة المرضية التي يؤول أمر المريض فيها إلى تلف دماغه تلفاً لا رجعة فيه - سواء أكان تلف كامل الدماغ أم تلف جذع الدماغ أو ما يسمى في المصطلح الطبي "موت جذع الدماغ"12 - فهذا موجود بل إنني عاينت العشرات من هذه الحالات بحكم عملي واختصاصي سواء أكان عند البالغين أم القُصَّر، كما إنني لا أنازع في أن تلف الدماغ الكامل حالة غير عكوسة، ولا يرجى برؤها البتة من جهة الأسباب، فنحن لا نتكلم عن حالات الغيبوبة العميقة كما أننا لا نتكلم عن حالات التلف الدماغي الشديد غير الكامل المفضي إلى ما يُعرف بالحالة النباتية13، وإنما محل النزاع هو في اعتبار موت الدماغ أو جذع الدماغ حكماً بموت الشخص موتاً شرعياً مع ترتب "جميع الأحكام المقررة شرعاً للوفاة عند ذلك" كما هو نص القرار المذكور سابقاً، ومع أن القرار تحدث عن تعطل جميع وظائف الدماغ تعطلاً نهائياً ( وليس وظائف جذع الدماغ فقط) فإننا في إيراد ما يُشكل على هذا المناط لن نفرق بين موت كامل الدماغ أو موت جذع الدماغ فقط، لأننا سنورد إن شاء الله من الأدلة ما يقرر ويبين فساد الحكم بالاعتبارين معاً.
والحاصل أن محل النزاع ومورد الإنكار في هذه الرسالة هو على الحكم بالموت على من تعطلت وظائف دماغه سواء أكان بالقيود المذكورة في نص الفتوى أم بغيرها، والإنكار على ترتيب الحكم بجواز رفع أجهزة الإنعاش، والإنكار على استقطاع الأعضاء البشرية من الشخص المحكوم بموته بناء على هذه الفتوى بغرض زراعتها في أجساد محتاجين آخرين.(1/6)
هذا هو محل النزاع إذاً، وليس نزاعنا حول صفة موت الدماغ أو جذع الدماغ من حيث التعطل الذي لا رجعة فيه ومن حيث انقطاع أسباب برؤ المريض المصاب بأي منهما، فهذا مما لا نزاع فيه من حيث الجملة، وإن كان النزاع بين أهل الطب لا يزال قائماً حول معايير التشخيص المعتبرة والكافية في إثبات أي من التشخيصين، كما يظهر من التفاوت الموجود في هذه المعايير بين مدرسة طبية وأخرى بل وبين مكان وآخر.
فإذا تقرر ما سبق، عُلم أن مبدأ الاتفاق بيننا وبين القائلين بالحكم بالموت على من تعطل دماغه تعطلاً لا رجعة فيه هو في الإقرار بأن موت الدماغ أو جذع الدماغ حالة سريرية حقيقية ذات صفة معلومة لا يرجى برؤها ولا ينتظر فيها عودة شيء من وظائف الدماغ عند تحقق معاييرها المعروفة في عرف أهل الطب طالما كان سببها غير قابل للعكس، كما نقرر أن هذا الإقرار هو منتهى الاتفاق بيننا وبين القائلين بموت من هذا حاله، ونقرر أن القول بموت من هذا حاله ناجمٌ عن توهم لزوم ما لا يلزم، ونقرر أن الأحكام المترتبة على هذا القول أحكام مرتبة بغير موجب شرعي صحيح، وعليه فإن من تعطل دماغه أو جذع دماغه تعطلاً نهائياً إلى غير رجعة لا يعتبر ميتاً شرعاً بمجرد ذلك، كما سنحرره لاحقاً وعليه لا يصح أن يُرتب على هذا التشخيص أي من الأحكام المرتبة على الحكم بالموت شرعاً، كما لا يعتبر مبيحاً لنزع أعضائه الحيوية14 عند من يرى جواز ذلك من الأموات دون الأحياء، ولئن بلغ بنا النزاع هذا المبلغ من الافتراق فقد آن أوان رد النزاع إلى الحكم الفصل في المسألة إن شاء الله تعالى.
فصل: رد النزاع في المسألة:(1/7)
إن الحكم بالموت حكم شرعي تنبني عليه مسائل شرعية كثيرة، وتترتب عليها حقوق وواجبات شرعية، وحيث إن النزاع حول الحكم بالموت على من تعطل دماغه إلى غير رجعة هو في حقيقته نزاع حول مسألة شرعية، فإننا نرد هذا النزاع إلى حيث أمرنا الله تعالى حيث قال:" يأيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلاً"15، وعليه فإنه لا يعنينا في هذا المقام تعريف الإغريق للموت، ولا مفهوم الفلاسفة حول قيمة الحياة، ولا الحكم الطبي المجرد16 عن إطار الشرع وأصوله، وإنما يعنينا شيء واحد فقط ألا وهو النظر في النصوص والأدلة الشرعية لفض النزاع الذي حررناه آنفاً، ولسوف أحشد فيما يلي ما تيسر من نصوص وأدلة شرعية إضافة إلى الأدلة والشواهد العقلية طالما كانت تابعة للشرع لا حاكمة عليه، وسوف يكون مورد هذه الأدلة نقض دعوى المعارِض بتعلق حكم الموت على تعطل الدماغ سائلاً المولى عز وجل براءة الصدر من كل دخل وتسديد البيان لما وافق الحق ، رب يسر وأعن:
فصل: أدلة تهافت دعوى الحكم بالموت على من تعطل دماغه إلى غير رجعة:(1/8)
1- قوله تعالى:" الله يتوفى الأنفس حين موتها والتي لم تمت في منامها فيمسك التي قضى عليها الموت ويرسل الأخرى إلى أجل مسمى إن في ذلك لآيات لقومٍ يتفكرون"17، ووجه الدلالة أن الله تعالى علق حكم الموت على إمساك النفس، وهي الروح كما ذكر الإمام الطبري :" ذكر أن أرواح الأحياء والأموات تلتقي في المنام فيتعارف ما شاء الله منها فإذا أراد جميعها الرجوع إلى أجسادها أمسك الله أرواح الأموات عنده وحبسها وأرسل أرواح الأحياء حتى ترجع إلى أجسادها إلى أجل مسمى وذلك إلى انقضاء مدة حياتها"18، فإذا كان حكم الموت معلق بإمساك الروح كما تقدم فلا عبرة بغير هذا، ولا يلزم من موت عضو من أعضاء الجسم خروج الروح من كامل الجسم، وهذا واضح فيمن أُبينت يده أو رجله فإن الروح تنحاز إلى باقي الجسد، وإن الحكم بموت الإنسان بناء على موت الدماغ الذي هو عضو من أعضاء الإنسان تعليق لحكم الموت بما لم يعلقه الشرع، فإن قيل إن موت الدماغ علامة من علامات خروج الروح أو النفس فإن هذا معارَض بالعلامات الأخرى19 الدالة على الحياة عند المريض المحكوم بموته، فإذا عُلم هذا التعارض تبين أن موت الدماغ لم يتمحض دليلاً على مفارقة الروح للجسد فبقي الحكم على الأصل وهو أن المرء لا يزال حياً.
2- قال تعالى:" ولو ترى إذ الظالمون في غمرات الموت والملائكة باسطوا أيديهم أخرجوا أنفسكم "20، قال الحافظ ابن كثير في تفسير قوله تعالى (أخرجوا أنفسكم):" وذلك أن الكافر إذا احتضر بشرته الملائكة بالعذاب والنكال والأغلال والسلاسل والجحيم والحميم وغضب الرحمن الرحيم، فتتفرق روحه في جسده وتعصى وتأبى الخروج فتضربهم الملائكة حتى تخرج أرواحهم من أجسادهم"21، فهذا شاهدٌ آخر على تعلق حكم الموت بخروج الروح من الجسد، ووجه الدلالة فيه كالدليل السابق.(1/9)
3- قال تعالى:" فلولا إذا بلغت الحلقوم. وأنتم حينئذٍ تنظرون. ونحن أقرب إليه منكم ولكن لا تبصرون. فلولا إن كنتم غير مدينين. ترجعونها إن كنتم صادقين"22، قال الحافظ ابن كثير رحمه الله تعالى:"يقول تعالى (فلولا إذا بلغت) أي الروح (الحلقوم) أي الحلق وذلك حين الاحتضار"23، فعلق الموت على خروج الروح من الجسد، وعلق عودتهم إلى الحياة على ما لا يستطيعونه وهو رد الروح إلى ذلك الجسد، وهذا كله بيِّن في تعلق الموت بمفارقة الروحِ الجسدَ لا غير، وفيه رد على من يورد شبهة تعلق الحياة بحياة الدماغ دون غيره من الأعضاء، ويمثل لذلك بالتوقيف الصناعي للقلب والدورة الدموية عن طريق التبريد - كما في حالات زرع القلب - ثم لا يلبث المريض أن يفيق بعد أن يوقف التبريد الصناعي فإذا به حي يُرزق، ويزعم هؤلاء أن الحياة متعلقة بالدماغ دون القلب، ولكن قوله تعالى :"ترجعونها إن كنتم صادقين" دليل جازم على أن الضابط في الموت هو مفارقة الروح للبدن والضابط في الحياة هو تعلق الروح بالبدن، ولا يلزم من توقيف القلب بالتبريد ونحوه أن تكون الروح قد فارقت الجسد، ولو أنها فارقت البدن لما نفع إعادة تشغيل القلب البتة، فتأمل.
4- قال تعالى :"كلا إذا بلغت التراقي. وقيل من راق. وظن أنه الفراق"24، قال الحافظ ابن كثير رحمه الله في قوله تعالى (إذا بلغت التراقي):" أي انتزعت روحك من جسدك وبلغت تراقيك"25، فهذا صريح أيضاً في أن حكم الموت متعلق بخروج الروح من الجسد لا بموت أو تعطل جزء من جسده، فتأمل.
5- عن أم سلمة رضي الله عنها قالت: دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم على أبي سلمة وقد شق بصره، فأغمضه ثم قال:" إن الروح إذا قُبِض تبعه البصر"26، والشاهد هنا أن الموت مرتبط بقبض الروح ووجه الدلالة ذكر النبي صلى الله عليه وسلم ذلك عند موت أبي سلمة رضي الله عنه، فدل على أن الموت متعلق بخروج الروح لا غير.(1/10)
6- في حديث البراء بن عازب مرفوعاً عن حضور ملائكة الموت حين الاحتضار وذكر فيه حال العبد المؤمن فقال صلى الله عليه وسلم:"...ثم يجئ ملك الموت عليه السلام حتى يجلس عند رأسه فيقول أيتها النفس الطيبة اخرجي إلى مغفرة من الله ورضوان، قال: فتخرج تسيل كما تسيل القطرة مِن فِي السِقاء فيأخذها..." ثم ذكر العبد الكافر فقال:" ...ثم يجئ ملك الموت حتى يجلس عند رأسه فيقول: أيتها النفس الخبيثة اخرجي إلى سخط من الله وغضب، قال فتفرَّق في جسده فينتزعها كما ينتزع السفود من الصوف المبلول فيأخذها.."27، والشاهد في هذا الحديث بيان أن الروح قد تنتشر في كامل الجسد كما ذُكر في حال العبد الكافر، كما أنها قد تنحاز في جزء من الجسد كما يشير إليه حال العبد المؤمن حيث اجتمعت روحه عند مخرجها بسهوله وسلاسة، ووجه الشاهد أن إمكان تفرق الروح أوانحيازها في الجسد دليل على أن تلف جزء من الجسد بحيث لا يعود صالحاً لتعلق الروح به لا يستلزم مفارقة الروح لكامل الجسد، وفي مسألتنا فلو فرض موت الدماغ فإن ذلك لا يستلزم مفارقة الروح لكامل الجسد، وليس هناك ما يمنع من دوام تعلق الروح بالجسد منحازة لغيره من الأعضاء، وقد دل دليل الشرع على إمكان ذلك ولا مانع له في العقل، وبهذا يبطل التلازم الموهوم بين تلف الدماغ والموت، فتأمل.(1/11)
7- في حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"في كل كبد رطبة أجر"28 وهذا الحديث جاء في سقيا البهائم فيدخل فيه الإنسان من باب أَولى، والشاهد فيه أن أجر السقي إنما يكون للأحياء، فليس لسقي الأموات معنى يتعلق به الأجر، ومعلوم أن المريض المستوفي لمعايير موت الدماغ لا تزال أعضاؤه رطبة حية - وهذا ما لا نعلم فيه نزاعاً - ومن هذه الأعضاء الكبد، فدل الحديث على أن من كان كبده حياً رطباً فإنه محلٌ لتعلق حصول الأجر بالإحسان إليه بالسقيا، وهذا لا يكون إلا في الأحياء، ولو قال قائل إن التعبير في الحديث تعبير مجازي فإن هذا المجاز هو من قبيل التعبير بالجزء عن الكل لأن الكبد الرطبة لا تكون إلا في الجسد الحي، بدليل أن السقي وقع على الجسد (وهو في الحديث الكلب الذي أشرف على الهلاك عطشاً) ولم يقع السقي على الكبد وحدها، وعلى أي حال فإن المريض الميت دماغه لا يزال الأطباء الذين يقولون بموت دماغه يمدونه بالماء والغذاء ولو أنهم احتسبوا الأجر على ذلك لما أنكر عليهم أحد، لا سيما وأن الحديث يشهد لهذا الاحتساب، وهذا قادحٌ في كونه ميتاً فليتأمل.(1/12)
8- حديث أبي موسى رضي الله عنها قال:" قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"إذا مرض العبد أو سافر كتب له مثل ما كان يعمل مقيماً صحيحاً"29، والشاهد هنا أن المريض يُكتب له عمله وهذا يدل على عدم حلول أجله بدليل أن ابن آدم ينقطع عمله بالموت إلا من ثلاث30 ليس واحداً منها متوافر في من مات دماغه، ولا شك أن من مات دماغه ينطبق عليه وصف المرض المُقعِد عن العمل وهذا مما لا يخالف فيه إلا ممارٍ مكابر، فإذا كان الحال كذلك فإن جريان القلم بالأجر على من مرض بموت الدماغ دليل على عدم موته، لأن من مات انقطع عمله كما هو ظاهر ومعلوم من الدين، ولا سبيل إلى إبطال دلالة هذا الدليل إلا بادعاء أن من مات دماغه - على تفاوت بين أهل الطب في ضبط هذا الوصف - أنه انقطع عمله وأنه لا يؤجر على مرضه، وأنه مستثنى من عموم لفظ حديث أبي موسى رضي الله عنه، وهذه الدعوى إن صدرت فليست إلا محض افتئات على الشرع وتقحم للغيب وتحكُّمٍ في النص، وتضييق لفضل الله تعالى وتحجير لواسع رحمته. والحاصل في هذا الدليل أننا نسأل الخصم: هل من مات دماغه يجري القلم بما كان يعمل من عمل وهو صحيح مقيم أم لا؟ فلا بد من نعم أو لا؛ فإن أجابوا بنعم دل ذلك حتماً على أن من مات دماغه حي، لأن الميت لا عمل له إلا ما استثناه النص وهذا ليس منه، وإن أجابوا بلا كان تحكماً محضاً وقلنا لهم أين الدليل على استثناء من مات دماغه من عموم حديث :" إذا مرض العبد أو سافر كتب له مثل ما كان يعمل مقيماً صحيحاً"، ولا دليل لهم على الاستثناء إلا دعوى الموت وهذا مردود لأنه من باب رد المختلف فيه إلى المختلف فيه وهو غير ملزم لنا، وهذا الدليل قوي جداً في نقض دعوى موت من مات دماغه، فتأمل.(1/13)
9- عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"أيها الناس اتقوا الله وأجملوا في الطلب، فإن نفساً لن تموت حتى تستوفي رزقها وإن أبطأ عنها فاتقوا الله وأجملوا في الطلب، خذوا ما حل ودعوا ما حرم"31وموضع الشاهد في قوله صلى الله عليه وسلم (فإن نفساً لن تموت حتى تستوفي رزقها)، فهذا خبرٌ عن الصادق المعصوم صلوات الله وسلامه عليه يخبر عن ارتباط الرزق بالحياة واستيفاؤه مع حلول الأجل، فالرزق مكتوب على حد الحياة وينقطع بالموت، فليس من ميت إلا وقد انقطع رزقه في الدنيا، فالرزق إنما يكون للأحياء، وأنت تشاهد المريض في حالة موت الدماغ وهو يُغذى بالسوائل المغذية بل وبالغذاء المحضر بشكله السائل والذي يُعطى عبر الأنبوب المعدي أو عبر الوريد وجسده يتقبل الغذاء ويستقلبه32، فهذا المريض يُرزق والرزق لا يكون بعد الموت، فلو كان ميتاً كما يزعم أصحاب القول المعارض لتناقض دليل الشرع الذي يدل على أن الرزق يُستوفي في الحياة وينقطع بالموت، وحاشا دليل الشرع أن ينخرم، وحاصل هذا أن الذي يُرزق الماء والغذاء حي لم يمت، فتأمل هذا الدليل فإنه دقيق.(1/14)
10- حديث جندب بن عبد الله رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"كان فيمن كان قبلكم رجلٌ به جرح فجزِع، فأخذ سكيناً فحزَّ بها يده، فما رقأ الدم حتى مات، قال الله تعالى:" بادرني عبدي بنفسه حرَّمتُ عليه الجنة""33، وفي رواية مسلم :"إن رجلاً ممن كان قبلكم خرجت به قرحة فلما آذته انتزع سهماً من كنانته فنكأها فلم يرقأ الدم حتى مات"34، والشاهد هنا من الدقة بمكان، فهذا الرجل كانت به جراحة تتهدد حياته، وكانت القرحة التي تسد هذا الجرح هي المانعة من النزيف القاتل، وهذا الوصف بالإضافة إلى قول الله تعالى (بادرني عبدي بنفسه) يدل على أن هذا الرجل كان مشرفاً على الموت، وأن حياته كانت معلقةً على سببٍ ماديٍ دقيقٍ غير مستقر، هذا بالإضافة إلى شدة ما عاناه من الألم الذي دفعه إلى استعجال الموت35، فلما نكأ هذا الجرح حصل النزف القاتل وترجحت كفة الموت، ومناط الحكم هنا هو مبادرة العبد إلى إزالة السبب الذي تعلقت به الحياة في هذا الوضع الحرج (وهي القرحة التي كانت تسد النزيف)، وعليه نُخرِّج مسألة الميت دماغياً الذي تعتمد حياته في وضعها الحرج على هذه الأجهزة التي تقوم بوظيفة التنفس، بحيث يكون وقف هذه الأجهزة من جنس فعل الرجل الذي نكأ الجرح، إذ لا يلبث أن يموت في الغالب على تفاوت في المدة والسرعة، والحكم المستفاد هنا هو تحريم تعاطي نزع السبب الذي تعلقت به حياة من شارف على الموت، وهذا يدل على أن حياة من شارف على الموت حياة معتبرة مهما كانت متعلقة ومعتمدة على أسباب ضعيفة، وهذا لا يتفق البتة مع الحكم بالموت على من مات دماغه وبقيت علامات الحياة فيه قائمة بفعل الأجهزة، إذ أن صورة موت الدماغ من هذا الوجه تدخل في صورة ما ورد فيه حكم الحديث كما لا يخفى، ولو كان مَن في هذه الصورة في حكم الأموات لما تعلق بهذه الوعيد، فتأمل.(1/15)
11- حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال:" اقتتلت امرأتان من هذيل فرمت إحداهما الأخرى بحجر فقتلتها وما في بطنها، فاختصموا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم أنَّ دية جنينها غُرة عبدٍ أو وليدة، وقضى بدية المرأة على عاقلتها وورثها ولدها ومن معهم، فقال حمل بن النابغة الهذلي:" يا رسول الله، كيف أغرم من لا شرب ولا أكل ولا نطق ولا استهل فمثل ذلك يطل؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:" إنما هذا من إخوان الكهان" 36، والشاهد في الحديث قول أحد العاقلة: (يا رسول الله كيف أغرم من لا شرب ولا أكل ولا نطق ولا استهل فمثل ذلك يُطل)، فهذا الجنين ليست فيه العديد من علامات الحياة المعتادة ومع ذلك حكم فيه بالدية، فدل على أن حياة الجنين معتبرة مع كونها حياة ناقصة، وأن الاعتداء عليها غير جائز ويوجب الدية، وإذا نظرنا إلى ما بقي من علامات الحياة عند الجنين الذي لم يشرب ولم يأكل ولم ينطق ولم يستهل37 فليست هذه العلامات إلا دوران الدم في جسده ونبض قلبه، بل إن التنفس المعهود بالرئتين غير موجود أصلاً عند الجنين الغارق في ماء السلى38، فإذا نظرنا إلى الميت دماغياً المتعلق بأجهزة التنفس الصناعية وجدنا من علامات الحياة عنده ما لا يقل عن علامات الحياة عند الجنين، بل وجدنا أكثر من ذلك كالتنفس الرئوي والحركة العضلية، وهذا مع مراعاة الفارق المرجح للميت دماغياً، وهو أن موت الدماغ عنده طارئ على شخص كامل الحياة، في حين أن حياة الجنين تحتمل النقصان إن كان الجنين الوارد في الحديث قبل نفخ الروح، فإذا كانت حياة الجنين على أقل حدٍ يحتمله الحديث معتبرة شرعاً، فكيف يقال إن حياة الميت دماغياً غير معتبرة أو يقال إنه ميت ، فالحاصل إذاً أن الميت دماغياً لا تزال فيه من علامات الحياة ما يدل على اعتبار حياته شرعاً وعلى بطلان الحكم بموته، فتأمل.(1/16)
12- دليل اللغة: إن من القواعد المقررة في الأصول قاعدة:" إعمال الكلام أولى من إهماله"39، وإن الزيادة في المبنى تدل على زيادةٍ في المعنى وإلا كان الكلام لغواً، وهذا ما ليس في كلام العرب ولا من منهج الشرع، وعليه فإن الأصل في تقييد وصف الموت بالإضافة (أي في قولهم "موت الدماغ") أن يفيد معنى زائداً على مطلق الموت وهذا المعنى هو التقييد بالعضو، فعندما نقول فلانٌ ميت لا يتبادر إلى الذهن شيء سوى حصول الموت حقيقةً، في حين أن تقييد الخبر بالإضافة دليل على أن في النفس شيء من إطلاق وصف الموت والحكم به على الشخص40، فإن ورود التقييد في المصطلح أعني (موت الدماغ) يدل على وجود معنى زائد على مطلق لفظ (الموت) وهذا المعنى الزائد هو تقييد الموت بالعضو المذكور، فمن قيد الموت بعضو من أعضاء البدن ثم بنى عليه إطلاق الموت فقد أهمل الكلام، وأهمل دلالات اللغة وأهمل اللفظ الزائد (وهو المضاف إليه أي الدماغ)، كما أنه أطلق ما هو مقيَّد من غير دليل، وأطلق مع وجود الشك والتردد وهذا تحكمٌ واضح، وليس هذا من التعبير عن الكل بذكر الجزء أبداً وذلك لانخرام التلازم بينهما، وعليه نقول: إن كان موت الدماغ في نفس الأمر مرادفاً للموت فلا معنى لتقييده بدليل أننا عندما نحكم بموت الإنسان في العادة لا نقول إنه مصاب بموت القلب وموت الكبد وموت الكلى وهي أعضاء لا تقوم الحياة إلا بها وإنما نقول إنه ميت، وأما إن كان موت الدماغ مقصوراً على موت العضو المذكور - وهو ما يقتضيه ظاهر اللفظ والتقييد بالإضافة - فإن على القائلين بالحكم بالموت بناء على ذلك أن يأتوا بالدليل الذي يدل على أن موت الدماغ مرادف للموت، ولا دليل عند هؤلاء إلا الشبهات التي مِن أظهرها عندهم وأوهنها في نفس الأمر شبهة أن لا قيمة لهذه الحياة41.(1/17)
13- دليل قاعدة اليقين الشرعية: إن القاعدة في الأصول تنص على:"بقاء ما كان على ما كان"، وعلى أن :"اليقين لا يُزال بالشك"42، وصورة المسألة هنا أن المريض المصاب بموت الدماغ الأصل فيه أنه حي، ثم طرأ الشك في حصول الموت، ودليل الشك الفحوصات والاختبارات العديدة وطلب ثلاثة أطباء للحكم بموت الدماغ وإعادة الفحص بعد فترات متفاوتة ومضطربة بين أهل الفن أنفسهم وبين شتى المدارس الطبية، وما إلى ذلك من قيود وشروط لا تطلب في حالات الوفاة العادية مما يدل على وجود الشك في طروء الموت، وإذا ورد الشك رُجع إلى الأصل وهو كونه حياً، ولم يحكم بموته إلا بدليل قطعي، فتأمل.(1/18)
14- جاء في حديث بريدة وقصة ماعز الأسلمي :" ثم جاءته43 امرأة من غامد من الأزد فقالت:" يا رسول الله طهرني.فقال:" ويحك، ارجعي فاستغفري الله وتوبي إليه" فقالت: أراك تريد أن ترددني كما رددت ماعز بن مالك. قال:" وما ذاك؟" قالت: إنها حبلى من الزنى. فقال:"آنت؟" قالت: نعم. فقال لها:" حتى تضعي ما في بطنك" قال: فكفلها رجل من الأنصار حتى وضعت، قال: فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: قد وضعت الغامدية. فقال:" إذاً لا نرجمها وندع ولدها صغيراً ليس له من يرضعه"، فقام رجلٌ من الأنصار فقال: إليَّ رضاعه يا نبي الله. قال: فرجمها.44، ووجه الشاهد في هذه القصة الثابتة في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قد أخَّر إقامة حد الزنا وهو الرجم على هذه المرأة بسبب الجنين الذي في بطنها، ويبدو من سياق القصة أن هذا الحمل كان في مراحله المبكرة إذ لم يكن ظاهراً على المرأة حتى أخبرت به، وهذا يرجح أنه قبل الأشهر الأربعة الأولى حيث لا يظهر أمر الحبلى للناس بعد، وهذا في الغالب يوافق فترة ما قبل نفخ الروح حيث تكون حياة الجنين أقرب إلى الحياة النباتية، وحتى لو فرض أنه بعد نفخ الروح فإن أهلية الجنين أهلية ناقصة وحياته حياة ناقصة، ومع ذلك اعتبر الشرع حياته حياةً معتبرة لها حرمة تؤخر من أجلها إقامة حدود الله تعالى، بل وتفرض الدية على من اعتدى عليها كما تقدم في حديث المرأتين من هذيل45 ، فنحن في هذا الحديث أمام احتمالين : أحدهما أن حياة الجنين حين أخبرت الغامدية النبي صلى الله عليه وسلم أنها حبلى كانت قبل نفخ الروح أي أنها حياة نباتية، أو أنها كانت بعد نفخ الروح وهي حياة ناقصة وأهليتها ناقصة كما هو مقرر عند الفقهاء وأهل العلم، وفي كل حال نجد أن حياة الجنين معتبرة شرعاً لا يجوز الاعتداء عليها، حتى لو كان الاعتداء له مبرر شرعي وهو هنا إقامة الحد الواجب، فإذا نظرنا إلى من مات دماغه فلا يقل في أدنى حالاته عن الحياة(1/19)
النباتية باعتراف من يرون الحكم بموته ويفسرون الظواهر الحيوية فيه بالحياة النباتية، كما أنه من جهة الأهلية - أعني أهلية الوجوب - كامل الأهلية وهو بهذا أرفع وأعلى شأناً من الجنين ناقص الأهلية، فإذا كان الجنين في حياته النباتية وبأهليته الناقصة محترمٌ شرعاً، فمن باب أولى أن يكون المريض الذي مات دماغه وبقيت فيه علامات الحياة النباتية مع استصحاب أهلية الوجوب الكاملة عنده - حيث لا دليل على انخرامها- إن هذا المريض أولى أن يكون محترماً شرعاً أيضاً بحيث لا يجوز الاعتداء عليه برفع أجهزة التنفس عنه مما يؤدي إلى موته، فتأمل.(1/20)
15- حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:" من تطبب ولا يعلم منه طب فهو ضامن"46، ووجه الشاهد هنا أن الحديث هنا للعموم بدليل قوله (مَن) وهي من صيغ العموم، فكل من مارس شيئاً من التطبيب والعلاج يدخل في حكم التضمين هذا عند وقوع الخطأ الطبي قصداً أم خطأً، فمن أصيب بموت الدماغ يبقى على أجهزة الإنعاش وفي قسم العناية المركزة مدةً من الزمن، وهو في هذا كله تحت العناية الطبية وعرضة لشتى أنواع التطبيب والعلاج والممارسات الطبية مع ما في ذلك من احتمال وقوع الخطأ الطبي، فلو أن من حكم بموت دماغه تعرض لخطأ طبي قاتل (كأن يحقن بجرعة زائدة من البوتاسيوم أو المورفين خطأً) فصورة المسألة هنا صورة قتل خطأ في الأصل، فإما أن يُقال إن هذا قتلٌ خطأ وتترتب عليه الدية والكفارة أو لا؛ فإن قيل بالأول وهو ما يقتضيه عموم الحديث كان ناقضاً للحكم بموت من مات دماغه، إذ لا يتصور وقوع جناية القتل على ميت، وإذا قيل بالثاني وهو لازم قول من يحكم بالموت على من مات دماغه فلا دية ولا كفارة، ويكون الخطأ الطبي هدر، وهذا معارضٌ لعموم الحكم بالتضمين على من أخطأ في المعالجة الطبية، فضلاً عما فيه من تضييع حقوق المريض وأوليائه، وواضح أن القول الثاني بيِّن البطلان والفساد، والحاصل أن القول بإسقاط حقوق الميت دماغياً على من قتله خطأً قولٌ فاسد، وإذا فسد اللازم فسد الملزوم (وهو الحكم بالموت على من مات دماغه) وهو المراد، فتأمل هذا الموضع فإنه دقيقٌ جداً.(1/21)
16- دليل سد الذريعة : جاء في حديث ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم بمنى:"أتدرون أي يوم هذا؟" قالوا: الله ورسوله أعلم. قال:" فإن هذا يومٌ حرام، أفتدرون أي بلدٍ هذا؟" قالوا: الله ورسوله أعلم. قال:" بلدٌ حرام، أتدرون أي شهر هذا؟" قالوا:الله ورسوله أعلم. قال:" شهرٌ حرام"،قال:" فإن الله حرَّم عليكم دماءكم وأموالكم وأعراضكم كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا"47، ووجه الدلالة أن الشرع قد حرَّم دم المسلم وعصمه، فلا تجوز استباحة دم المسلم إلا بحق الإسلام، وإن الحكم على من مات دماغه بالموت وقلبه لا يزال ينبض، والدم لا يزال يجري طرياً في عروقه، والنَفَس لا يزال يجري فيه ولو بفعل الجهاز، وكبده لا تزال رطبةً محلاً لاحتساب الأجر، والرزق لا يزال يجري عليه غذاءً وشراباً ودواءً، إن الحكم على من هذه صفته بالموت والتذرع بذلك إلى استباحة استقطاع أعضاء حيوية من جسده كقلبه وكليتيه وكبده ورئتيه ثم رفع أجهزة التنفس والإنعاش عنه بعد ذلك ليموت حقيقةً، إن هذا كله استباحة لحرمة دم هذا المسلم وانتهاك لعصمته، وهذه الحرمة والعصمة هي الأصل في المسلم وهي مستصحبة عند المغمى عليه ولا يخرج من مات دماغه عن ذلك مطلقاً، ولا دليل على إباحة دم المسلم الذي مات دماغه وزوال عصمة دمه إلا دعوى موته عند القائلين بذلك48، وهذه الأعضاء الحيوية أي القلب والكبد والرئتين والكليتين معاً لا يجوز استقطاعها من المسلم الحي لزراعتها في شخص آخر حتى عند من يرون جواز "التبرع بالأعضاء"49، فأصبح الحكم بالموت شرعاً على من مات دماغه ذريعةً إلى استباحة ما حرمه الله تعالى، وهذا في الحقيقة هو سر ابتداع وصف موت الدماغ كذريعة قانونية لاستقطاع أعضاء حيوية من أحياء معصومي الدم، وهذه المآلات الفاسدة تنطق بل تصرخ ببطلان هذا الحكم أعني بطلان الحكم على من مات دماغه بالموت شرعاً، لأن الشرع لا يأتي بالباطل، ولا يمكن أن(1/22)
يؤدي حكم شرعي صحيح في نفس الأمر إلى مآل باطلٍ شرعاً وإلا كان ذلك تناقضاً في الشرع، فتأمل.
17- حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما يقول:" مرضت مرضاً فأتاني النبي صلى الله عليه وسلم يعودني وأبو بكر وهما ماشيان، فوجداني أغمي علي، فتوضأ النبي صلى الله عليه وسلم ثم صب وضوءه علي فأفقت، فإذا النبي صلى الله عليه وسلم فقلت: يا رسول الله كيف أصنع في مالي؟ كيف أقضي في مالي؟ فلم يجبني بشيء حتى نزلت آية الميراث"50، وقد ترجم الإمام البخاري رحمه الله لهذا الحديث بقوله (باب عيادة المغمى عليه)، قال الإمام العيني في شرح الحديث :"أي هذا باب في بيان عيادة المغمى عليه - مِن أغمي بضم الهمزة - من الإغماء وهو الغشي، وهو تعطل جل القوى المحركة والحساسة كضعف القلب واجتماع الروح كله إليه واستفراغه وتخلله، وقيل فائدة هذه الترجمة أن لا يعتقد أن عيادة المغمى عليه ساقطة الفائدة لكونه لا يعلم بعائده"51، انتهى. ووجه الدلالة أن من مات دماغه داخل في تعريف المغمى عليه في عرف الشرع وفي عرف الطب، وحديث عيادة المغمى عليه يبين صحة عيادة المغمى عليه وهو يفيد عند النظر والتدبر بطلان القول بموت من مات دماغه، فيقال فيمن مات دماغه : هل تجوز عيادته ويؤجر عليها العائد أم لا؟ فلا بد من نعم أو لا؛ فإذا كان الجواب لا، فقد خصصوا منطوق الحديث بدون مخصص ولا دليل، واستثنوا بدون حجة، فلم يبق إلا نعم، وهو ما يشير إليه الحديث صراحةً، لأن لفظ المغمى عليه يشمل من كان في غيبوبة لكون دماغه تالفاً ميتاً، وعندها نقول: كيف تصح عيادة من تسمونه ميتاً شرعاً ويثاب العائد عليها ؟ وهل تكون عيادة المريض إلا للأحياء، فتأمل!(1/23)
18- حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"أسرعوا بالجنازة فإن تك صالحة فخيرٌ تقدمونها وإن يك سوى ذلك فشرٌ تضعونه عن رقابكم"52،ووجه الدلالة من هذا الحديث أن الميت شرعاً له حقوق يتوجب أداؤها على الفور لا على التراخي، ومن أهم هذه الحقوق الإسراع في جنازته، وهو هنا أمرٌ يفيد الوجوب في الأصل إذ لا صارف له عن ذلك، ولكن عند النظر في حال من يقول إن من مات دماغه (يعتبر شرعاً أن الشخص قد مات وتترتب عليه جميع الأحكام المقررة شرعاً للوفاة) كما جاء في نص قرار عمَّان، نجد أن حال هؤلاء بعيد كل البعد عن العمل بهذا القول، فما منهم من أحدٍ يقول بوجوب الإسراع في تغسيل وتكفين وجنازة ودفن هذا الذي قالوا إنه ميتٌ شرعاً، وهذا تناقض بين القول والفعل سببه في الحقيقة فساد القول بموت من مات دماغه في حين لا تزال باقي أعضاؤه حية. ولو قلنا - من باب التنزل مع الخصم - ما بال هذا الذي قلتم إنه ميتٌ شرعاً لا تغسلونه ولا تكفنونه ولا تسرعون بجنازته كما أمر المعصوم صلى الله عليه وسلم؟ لما حاروا جواباً إلا أن يقولوا إن تأخير ذلك كله لعذرٍ شرعي (هو في زعمهم استقطاع أعضائه لغرسها في جسد مريض آخر)، وإن القول بأن هذا التأخير لعذرٍ شرعي محل نظر من وجهين ، الوجه الأول أنه عذر متعلق بمصلحة الغير وليست مصلحة الغير بأولى من مصلحة الميت، خلافاً لدرء المفسدة التي يقدم فيها الحي على الميت، والوجه الثاني أن هذا العذر - وهو الانتظار إلى حين استقطاع الأعضاء الحيوية التي لا يعيش الإنسان بدونها - يدور على اعتبار موت المريض لأنه لا يجوز أخذ هذه الأعضاء (كالقلب والكبد ونحوهما) من إنسان حي عند من يرى جواز استقطاع أعضاء الإنسان للزرع، فيكون هذا من باب رد المختلف فيه إلى المختلف فيه وهو غير ملزمٍ لنا، فبطل استدلالهم بالعذر الشرعي من وجهين، وإذا بطل العذر بطل الاعتذار، وعاد الأمر إلى ما كنا فيه من وجود التناقض(1/24)
بين الفتوى والتطبيق عند من يفتي بموت من مات دماغه، فتأمل.
19- حديث ابن عباس رضي الله عنهما قال: بينا رجلٌ واقفٌ مع النبي صلى الله عليه وسلم بعرفة، إذ وقع عن راحلته فوقصته أو قال فأوقصته، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:" اغسلوه بماء وسدر وكفنوه في ثوبين ولا تمسوه طيباً، ولا تخمروا رأسه، ولا تحنطوه، فإن الله يبعثه يوم القيامة ملبياً"53، وحديث أم عطية الأنصارية رضي الله عنها قالت: دخل علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم حين توفيت ابنته فقال:"اغسلنها ثلاثاً أو خمساً أو أكثر من ذلك إن رأيتن ذلك بماء وسدر، واجعلن في الآخرة كافوراً أو شيئاً من كافور"54، ووجه الدلالة هنا كالدليل السابق، فهنا أمرٌ متوجه إلى الأحياء بوجوب غسل الميت، وهذا الأمر على الوجوب والفور في الأصل، ولئن اعتذر القائلون بموت من مات دماغه عن الإسراع في الجنازة للعذر الذي ذكرناه وفندناه في الدليل السابق رقم(18)، فإننا نقول هنا إن الانتظار بالمريض إلى حين استقطاع أعضائه عند من يرى جواز ذلك55، لا يمنع من تغسيل الميت (على قول من يحكم بموت من مات دماغه) ، فليس من سبب طبي يمنع من ذلك، ولئن أُخرت باقي حقوق الميت للضرورة فإن الضرورة تقدر بقدرها، فما اضطررنا لتأخيره كالتكفين والجنازة والدفن أخرناه، وما لم نضطر لتأخيره كالغسل أديناه لأن الأمر على الوجوب والفورية، ولكن ما من قائل بذلك عند من يقول بأن من مات دماغه قد مات شرعاً وترتبت كافة الآثار الشرعية للوفاة على ذلك، وهذا مورد آخر من موارد التناقض التي تعارض صحة هذه الفتوى، وغني عن القول أننا لا نرى وجوب تغسيل من مات دماغه على الوجه المذكور في هذا الدليل لأننا لا نرى موته، ولكننا أردنا بيان ما في لوازم الفتوى المذكورة من فساد وتناقض.(1/25)
20- دليل العدة الزوجية: قال تعالى:" والذين يُتوفون منكم ويذرون أزواجاً يتربصْنَ بأنفسهن أربعة أشهرٍ وعشراً"56، ووجه الدلالة أنه إذا قيل إن المريض ميت دماغياً وحكم أنه ميت شرعاً مع ترتب الآثار الشرعية للوفاة على هذا الحكم ومنها دخول الزوجات في العدة، فهنا لا بد من أحد قولين؛ الأول أن تدخل الزوجات في عدة الوفاة بمجرد تشخيص موت الدماغ ، والثاني أن لا تدخل الزوجات في عدة الوفاة حتى ترفع أجهزة التنفس ويتوقف القلب والتنفس، وقد تطول الفترة ما بين تشخيص موت الدماغ ورفع أجهزة التنفس أياماً كما هو معلوم، فأما القول الأول فلا أعرف أحداً من أهل العلم يقول إن الزوجة تعتد عدة الوفاة وفي صدر زوجها قلب ينبض وفي عروقه دم يجري، مع أن لازم القول بأنه ميت شرعاً بسبب موت دماغه أن تدخل في العدة بمجرد تشخيص موت الدماغ، فهذا قولٌ فاسدٌ بيِّن الفساد، والملزوم (وهو القول بأن من مات دماغه فقد مات) فاسدٌ أيضاً، ولا مندوحة عن القول الثاني وهو أنها لا تدخل في العدة حتى تتم الوفاة حقيقة، وهذا ينقض دعوى ترتب حكم الوفاة والموت شرعاً على الحكم بموت الدماغ، وهو المطلوب،فتأمل.(1/26)
21- دليل الإجماع: قال الإمام الموفق ابن قدامة رحمه الله:" وأجمع أهل العلم على أن الحر المسلم يُقاد به قاتلُه وإن كان مجدَّع الأطراف معدوم الحواس والقاتل صحيحٌ سوي الخلق"57، وقال ابن المنذر رحمه الله تعالى:"وأجمعوا على أن الحدَّ يُقاد به الحر، وإن كان المجني عليه مقعداً أو أعمى أو أشل اليدين، والآخر صحيحاً سوي الخلق"58، ووجه الدلالة من هذا الدليل أن المريض الحر المسلم الذي تبين موت دماغه اليقين أنه حرٌ مسلمٌ، فلا تجوز استباحة مباشرة ما يفضي به إلى الموت المحقق (كرفع جهاز التنفس عنه عمداً) بحجة انعدام حواسه وانعدام شعوره، وهو الوصف الوارد في الإجماع المذكور، وأنت إذا نظرت إلى المريض الذي تبين موت دماغه ولكن قلبه لا يزال ينبض بنفْسِه، وأعضاؤه لا تزال حيةً رطبة، وجسده لا يزال يتمثل الغذاء والشراب ويحيلهما ويستخلص فضلاتهما ويطرحها، وأطرافه تتحرك استجابة للتنبيه عن طريق منعكس يمر بالحبل الشوكي (وهو ما لا يحدث في الميت)، فعلامات الحياة هذه كلها أولى بالاعتبار من انعدام حواس المريض، والإجماع منعقد كما تقدم على حرمة الجناية على معدوم الحواس، فيكون مَن فيه علامات الحياة هذه كذلك من باب أولى، فتأمل.(1/27)
22- قاعدة تنزيل المعدوم منزلة الموجود: جاء في كتاب قواعد الأحكام للإمام العز بن عبد السلام رحمه الله :" فصل في التقدير على خلاف التحقيق: التقديرُ إعطاءُ المعدوم حكمَ الموجود, أو الموجود حكم المعدوم, فأما إعطاء المعدوم حكم الموجود فله أمثلة أحدها : إيمان الصبيان في وقت الطفولة، فإنهم لم يتصفوا به حقيقةً وإنما قُدِّر وجوده وأُجري على ذلك الموجود المقدر أحكام الإيمان , وكذلك تقدير الإيمان في حق البالغين إذا غفلوا عنه أو زال إدراكهم بنوم أو إغماء أو جنون"59 اهـ، ووجه الدلالة من هذه القاعدة أن المصاب بموت الدماغ وإن كان فاقداً للعقل والشعور، فإن حرمته قائمة تماماً كما أن حرمة النائم والمغمى عليه قائمة، وذلك من باب تنزيل المعدوم منزلة الموجود، وهذا كما أنه لا يحكم على النائم والمغمى عليه بالعدم بسبب فقدان عقله وانعدام محل التكليف والأهلية أثناء نومه، بحيث أنه لو اعتدى أحد على النائم بالقتل فإنه يقتص منه، ومناط القصاص هو الإسلام، ولكن محل التكليف بالإسلام هو العقل، والعقل غائب ومع ذلك لم يذهب دم النائم هدراً لأن الشرع نزل المعدوم (وهو العقل) منزلة الموجود، فاستصحب حكم الإسلام وعصمة المسلم النائم وفاقد الوعي وفاقد الشعور، وأنت إذا تأملت حال من مات دماغه وانعدم حسه وشعوره مع بقاء باقي علامات الحياة فيه، تجده لا يخرج عن هذه القاعدة الجليلة، ويلزم منه بطلان الحكم بموت من هذا حاله، ويبطل بهذا الحكم بالموت شرعاً على من مات دماغه،فتأمل.(1/28)
23- دليل القصاص فيما دون النفس: قال الله تعالى:" وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس والعين بالعين والأنف بالأنف والأذن بالأذن والسن بالسن والجروح قصاص"60، ووجه الدلالة أن الاعتداء على الأعضاء يوجب القصاص بشروطه أو الأرش إن لم يمكن استيفاء القصاص دون حيف، فتقلع العين بالعين والأذن بالأذن والسن بالسن كما هو مقرر بشروطه في كتب الفقه، وعليه نقول : هذا المريض الذي مات دماغه ولا تزال باقي أعضاؤه حية كما هو مستفيض في عرف الأطباء (بل إن هذه الأعضاء الحية هي سر اختراع هذا التشخيص من أجل استحلال استقطاعها)، فلو اعتدى شخص على مريض مصاب بموت الدماغ لا يزال على جهاز التنفس الصناعي فقام بقلع عينه أو قطع أذنه، فإما أن يحكم بقلع عين المعتدي أو قطع أذنه إن أراد الأولياء القصاص أو لا يحكم؛ فإن حكم بالقصاص فإن هذا ينقض ما يدعونه من كون المصاب بموت الدماغ ميتاً لأن الميت لا يقتص له من الحي الذي اعتدى عليه بجراحة أو أتلف منه عضواً، وإن لم يحكم له بذلك كان محض التحكم لأنهم يصرحون بأن أعضاء من مات دماغه لا تزال حية (حياة نباتية كما يدعون) فكيف يهدرون إتلاف عضو حي ويخرجونه عن حكم الآية بدون دليل؟ وحتى نزيد بطلان وفساد هذا القول وضوحاً نقول: هل لو استؤصلت أذن من مات دماغه بناء على الحكم بموته وجواز التبرع بالأعضاء عند من يرى ذلك، ثم زرعت في شخص آخر حي، ثم اعتدى أحد على من زرعت عنده هذه الأذن فأتلفها، أفلا يحكم له بالقصاص؟ فهنا لا بد من نعم، وعليه فإن هذا العضو الحي غير مهدر، وبه يتأكد بطلان القول بعدم الحكم بالقصاص (ولا أعلم أحداً أفتى به على كل حال)، فلم يبق إلا الحكم بالقصاص، ولازم هذا الحكم أن يكون من مات دماغه حياً، لأن القول بموته يلزم منه بطلان القصاص (لأنه لا بد من تكافؤ الجاني والمجني عليه إذ لا يقتص ممن أتلف عضو ميت بإتلاف عضوه)، واللازم باطل كما تقدم، فبطل الملزوم وهو الحكم بالموت على من(1/29)
مات دماغه، وهو المطلوب.
24- دليل الفطرة : ونحن نستشهد بالفطرة ونجعلها دليلاً لأن الله تعالى قد جعل الفطرة دليلاً على أعظم حقيقة في الكون ألا وهي حقيقة التوحيد، قال تعالى:"فأقم وجهك للدين حنيفاً فطرت الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله "61، وإنني أقول إنه ما من مرة واجهت فيها أهل مريض مصاب بموت الدماغ، وقد أخبرهم غيري بأن هذا يعني أنه ميت، إلا استشكلوا مظاهر حياته التي يرونها عياناً، كنبض القلب وبقاء حرارة الجسم، واغتذاء جسمه بالغذاء والماء وإخراجه الفضلات الدال على انتفاع جسده بالغذاء، وحركته الإنعكاسية التي تحدث عند طرق أوتار المفاصل، فلا يسعهم وهم يشاهدون ذلك كله إلا أن ينكروا حكم الموت على مريضهم، وكيف يتقبل المرء أن من يتلبس بكل هذه العلامات الحيوية شخصٌ ميت؟ أما قول من يقول إن هذه الحركة حركة إنعكاسية من الحبل الشوكي فكلام عديم المعنى، أوليس الحبل الشوكي جزءاً من المريض ؟ وهل يأتي الميت حقيقة بشيء من هذه الحركة الإنعكاسية؟ ومن قال: إن هذا الغذاء والشراب يقدم بالأنابيب بشكل صناعي، فيقال له: وهل ينتفع الميت بشيء من هذا لو أعطي له عن طريق الأنابيب؟ كلا وألف كلا، فما الذي جعل المريض الذي مات دماغه ينتفع بالغذاء ويتمثله ويحلله ويخرج فضلاته إلا الحياة؟ وهكذا دواليك.(1/30)
25- دليل الحس : إن الأطباء يفرقون بين الأعضاء المستقطعة من المحكوم بموته لموت الدماغ وبين الأعضاء المستقطعة من الجثث لغرض غرسها في أحياء آخرين، وهذا مستفيض ومعروف بين أهل الطب، فإذا كان الحال كذلك دل هذا على أن في جسم المصاب بموت الدماغ صفة زائدة على ما في جثة غيره من الآدميين، وهل هذه الصفة الزائدة إلا صفة الحياة؟ بل إن الأعضاء المأخوذة من الجثث تسمى بهذا الاسم في عرف الطب (أعضاء الجثث)، في حين لا يطلق هذا الاسم على الأعضاء المأخوذة ممن مات دماغه. وإن نسبة نجاح زراعة الأعضاء المستأصلة من المصابين بموت الدماغ وفعاليتها وكفاءتها أفضل بكثير من تلك الأعضاء التي تؤخذ من الجثث، وهذا دليل حسي يؤكد وجود فرق بين جسد المريض الذي تلف دماغه وبين جثة الميت حقيقةً، وهل يمكن أن يكون الفرق بين هاتين الحالتين إلا في صفة الحياة!(1/31)
26- دليل حق القصاص في النفس: قال تعالى :"يأيها الذين آمنوا كُتب عليكم القصاص في القتلى الحر بالحر والعبد بالعبد والأنثى بالأنثى"62، وقال تعالى:"وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس"63، ووجه الدلالة من هاتين الآيتين أن المسلم معصوم الدم إذا اعتدى عليه أحد بالقتل العمد العدوان كان من حق أوليائه القصاص من القاتل على تفصيل معروف عند الفقهاء رحمة الله عليهم، وصورة المسألة هنا أن يوجد مريض في وحدة العناية المركزة ويحكم الأطباء بأنه مصاب بموت الدماغ وفق الشروط المعتبرة والتي يترتب عليها الحكم بالموت شرعاً عند من يرى ذلك64 ، ثم يأتي شخص آخر كطبيب أو ممرض فيتعمد حقن هذا المريض بدواء قاتل (كأن يحقنه بجرعة عالية من البوتاسيوم الذي يؤدي إلى توقف القلب) فيتوقف قلب المريض وتتحقق وفاته، فإذا طالب أولياء المريض بالقصاص من هذا المعتدي المتعمد فلا بد من حكم، فإما أن يُحكم لهم بالقصاص وإما أن لا يُحكم لهم به؛ فإن حُكم بالقصاص وهذا هو الأصل لأن المريض الذي لم تتيقن وفاته لا يزال معصوم الدم وهو داخل في عموم النص الذي يحكم بأن النفس بالنفس، فإن هذا الحكم يستلزم أن المريض كان حياً قولاً واحداً إذ لا يقاد الحي بالميت، وهذا يدفع قول من يقول بأن ميت الدماغ ميتٌ شرعاً، وإما أن لا يُحكم بالقصاص وتهدر جناية هذا المعتدي عمداً عدواناً وهذا قولٌ ظاهر البطلان ولم أجد أحداً من أهل العلم قال به، ولأنه تخصيص لحكم الآية بدون مخصص فالآية لم تفرق بين حُر وحر، ولا بين نفس ونفس إلا ما دلت السنة الصحيحة على استثنائه كعدم قتل المسلم بالكافر ونحوه، وليس ثمة دليل شرعي على أن موت الدماغ مستثنى من عموم النص، فإذا بطل هذا القول اللازم لمن يفتي بموت من مات دماغه، فقد بطل الملزوم وهو الحكم بموت المصاب بموت الدماغ، وهذا هو المطلوب، فتأمل.(1/32)
27- دليل حق القَوَد للغير : ودليله قوله تعالى:" وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس"65، ووجه الدلالة هنا عكس ما ذكرناه في الدليل السابق رقم (26)، وصورة المسألة ما يلي: إذا كان المصاب بموت الدماغ قد قتل غيره عمداً عدواناً، وتعلق به حق قَوَد لأولياء المقتول لجناية نفس، ولم يكن الأولياء قد استوفوا حقهم في القصاص، فإذا حكم من يقول إن موت الدماغ موتٌ شرعاً بموت هذا المصاب الذي عليه الحق فقد فات محل القَوَد بمجرد ثبوت تشخيص موت الدماغ، ولكن يناقض هذا أن وقت الوفاة المثبت طبياً لا يكون إلا بعد توقف كل علامات الحياة الأخرى كلها وبعد رفع جهاز التنفس الاصطناعي كما بينا في موضع آخر وكما هو مستفيض معروف عند الأطباء، وعليه فإن محل القود لا يزال موجوداً طالما بقي المريض على جهاز التنفس الاصطناعي، وواضح ما في هذه الحالة من اضطراب تضيع به حقوق الناس، ثم إن صاحب الحق في القصاص لو أزهق حياة المحكوم بموت دماغه فلا بد من أحد حالين؛ أحدهما أن يقال إنه استوفى حقه (ويبقى للقاضي تعزيره إن لم يكن بإذن الإمام أو من ينوب محله) والثاني أن يقال إنه لم يستوف حقه؛ فإن قيل بالأول فهذا يناقض القول بحكم الموت على من مات دماغه، لأن الميت ليس محلاً للقود، وإن قلنا بالثاني حُكم له بالدية فقط، فهنا يبرز إشكال كبير لأن من له حق القصاص حينما تعمد إزهاق نفس الجاني فقد شفى غلّه وبردت جلدته تجاه القاتل واسترد حقه ولو واهماً (على القول بأن موت الدماغ موت) فإذا حكمنا له بالدية يكون قد أخذ فوق حقه، لأنه جمع بين كل من القود والدية وهذا باطل لأن الشريعة عادلة ولا تأتي بالظلم، فإذا كان اللازم باطلاً فالملزوم (وهو الحكم بموت من مات دماغه) أبطل منه، وهو المراد.(1/33)
28- تفاوت الحكم بالموت بحسب تفاوت الخبرات: نص قرار عمّان على أن الحكم المعول عليه في هذه المسألة يعتمد على الأطباء الاختصاصيين الخبراء كما هو نص القرار (وحكم الأطباء الاختصاصيون الخبراء بأن هذا التعطل لا رجعة فيه)66، ولكن هذا الوصف يتفاوت من مكان إلى مكان ومن مشفى إلى مشفى بحيث تتفاوت الخبرات والأجهزة والإمكانات العلمية والتقنية اللازمة لتحقق هذا الوصف، بل إنه في بعض البلدان المتقدمة طبياً كالولايات المتحدة الأمريكية يوكل تحديد معايير وضوابط استيفاء تشخيص موت الدماغ والتحقق منه إلى كل مشفى على حدة، فتجد من يشترط إجراء فحوصات تأكيدية ومن لا يشترط ذلك، وأياً ما كان فإن الحكم بالموت بناء على موت الدماغ يحتاج إلى خبرة سريرية وأطباء متخصصين وأجهزة فحص دقيقة لا تتيسر في كل زمان ومكان، ولا يمكن القبول بأمثل الموجود في مثل هذا الحالات، بل لا بد من معيار واحد منضبط لهذا التشخيص، ولما كان هذا غير متيسر فإنه يؤدي إلى حصول التفاوت في الحكم على المرضى بالموت شرعاً بتفاوت الإمكانيات الطبية الموجودة بين مكان ومكان؛ وبالمثال يتضح المقال؛ فلو تصورنا مريضين مصابين بموت الدماغ في نفس الأمر، ووُجد أحدهما في مستشفى متطور لديه الإمكانيات الطبية والأجهزة التي تمكن من التحقق من تشخيص موت الدماغ، ووُجد الآخر في مستشفى لا يملك هذه الإمكانيات، فإن النتيجة هي تشخيص المريض الأول بموت الدماغ وبالتالي الحكم عليه بالموت شرعاً، في حين لا يتم تشخيص الثاني بموت الدماغ لعدم توفر الإمكانيات فيبقى في حكم الأحياء، وهذا تفاوت واضطراب شديد في الحكم بالموت على شخصين مصابين بنفس الحالة، وهو تفاوت غير مقبول شرعاً ولا عقلاً ولا عرفاً، لا سيما أن البديل وهو التعويل على علامات الموت المعتادة المنضبطة التي يحسنها العوام فضلاً عن الأطباء لا يحدث فيه هذا الاضطراب الفاسد، فهل يعقل أن تتفاوت المشافي والمراكز الطبية في حكمها(1/34)
على المرضى المصابين بنفس المرض في مسألة خطيرة هي الموت؟ فأين هي حرمات المسلمين وأين هي عصمة دمائهم وأموالهم؟ سبحانك هذا بهتان عظيم.
29- دليل الطب على بطلان دعوى أن مظاهر حياة المريض تالف الدماغ مجرد انفعال لتأثير الأجهزة الصناعية: يزعم القائلون بموت من مات دماغه أن نبض القلب والدوران والتنفس عنده ليس حقيقياً وإنما هو بفعل الأجهزة، وهذا كلامٌ باطل من وجهين يدركهما أهل الطب إدراكاً بيِّناً، أحدهما أن المريض ميت الدماغ وإن كان تنفسه بفعل جهاز التنفس الذي يدفع الهواء في رئتيه فإن نبض قلبه والدوران الدموي فيه ليس نتيجةً آلية لفعل جهاز التنفس كما يتوهم البعض، بدليل أنك لو أخذت جهاز التنفس هذا ووضعته لإنسان ميت فإنك تستطيع أن تحدث جرياناً للهواء في صدره ولكن قلبه لن ينبض ودمه لن يجري في عروقه، وليس الفرق بين هذه الجثة وبين المريض تالف الدماغ إلا صفة الحياة التي تجعل القلب والدوران محلاً قابلاً للدعم التنفسي بفعل الأجهزة، والوجه الثاني لبطلان هذه الدعوى يستلزم مني الخوض بتفصيل تقني حول تشخيص موت الدماغ الذي يتم وفق إجراءات تشخيصية محددة منها أن يستوفي المصاب عدداً من المعايير والعلامات التي يحكم بها بموت الدماغ، وإن من هذه المعايير ما يسمى باختبار (توقف التنفس) وهو موضع الشاهد، وطريقة إجراء هذا الاختبار باختصار تتمثل في إزالة جهاز التنفس الاصطناعي عن المريض وتزويده بجريان مستمر من الأكسجين عبر أنبوب يصل إلى قصبته الهوائية، ثم مراقبة تراكم غاز ثاني أكسيد الكربون في الدم حتى يصل إلى مستوى أعلى من المستوى الطبيعي بمرة ونصف أو مرتين، مع ملاحظة أنه إذا تدهور وضع القلب والدورة الدموية أو نزل مستوى الأكسجين في الدم عن الطبيعي فإن هذا الاختبار يتم إلغاؤه فوراً ويعاد جهاز التنفس الصناعي لمريض، فإذا لم تصدر أي حركة تنفس تلقائية عند المريض رغم ارتفاع مستوى ثاني أكسيد الكربون فإن نتيجة(1/35)
الاختبار تكون تأكيد تعطل وظيفة التنفس التلقائي في الدماغ، والشاهد هنا أن فترة رفع جهاز التنفس الصناعي عن المريض اللازمة لحصول التراكم المطلوب لغاز ثاني أكسيد الكربون تتراوح ما بين 5 إلى 10 دقائق، يبقى فيها المريض بدون جهاز التنفس الصناعي والأكسجين لديه بتركيز طبيعي والقلب في هذه الحالة ينبض والدم في العروق يدور سواء تلقائياً أم بمساعدة بعض الأدوية الداعمة ، فإذا علم هذا فمعناه أن ما يقال من أن حياة المريض المصاب بموت الدماغ حياة غير حقيقية وأنها مجرد تأثر منفعل بجهاز التنفس كلام غير دقيق بل كلام غير صحيح، بل إن الوصف الأقرب لحياة المريض في هذه الحالة هو وصف الحياة غير المستقرة، وهو وصفٌ معتبرٌ شرعاً ولكنه غير مرادف للموت. نعم إن الغالب في مريض موت الدماغ أنه لا يعيش طويلاً بدون جهاز التنفس، ولكن هذا ليس بمسوغ لعدم اعتبار حياته أثناء وضع الجهاز، ووجه ذلك أن هناك العديد من الأمراض التي لا يكون الدماغ فيها ميتاً وتكون حياة المريض معتمدة بعد الله تعالى على جهاز التنفس الاصطناعي ولو رفع جهاز التنفس الاصطناعي لهلك أو أوشك أن يهلك، بل إن أي إنسان طبيعي لو منع من التنفس دقائق معدودة لهلك فهل يقال إن حياته غير مستقرة؟ إن تقييم حياة الإنسان من جهة كونها مستقرة أو غير مستقرة يجب أن تكون بحسب حاله دون أن نُحدث تغييراً في هذه الحال، أما أن نقول إننا إذا أوقفنا تنفس المريض مات فما الذي يميز مريض موت الدماغ عن غيره في هذا؟! وعليه فإن القول بأن المريض المصاب بموت الدماغ حياته غير حقيقية لأنه لا يعيش بدون جهاز التنفس الصناعي لا يسلم من اعتراض، فما بالك بالحكم عليه بالموت وهو ماثلٌ أمام عينيك ينبض قلبه ويجري دمه في عروقه ويحافظ جسده على مستوى الأكسجين فيه وجهاز التنفس مفصول عنه، فأي ميتٍ هذا ؟ وأي موت هذا؟(1/36)
30- دليل ثاني من الطب: يقول من يرى الحكم بالموت على من مات دماغه إن ما يبدو من مظاهر حياتية كنبض القلب والدورة الدموية وجريان النفس إنما هي علامات ناجمة عن فعل الأجهزة والأدوية كجهاز التنفس الصناعي والأدوية الداعمة للقلب والدوران ونحوه، فهم يقولون إن هذه الحياة غير حقيقية لأنها بفعل الأجهزة الصناعية كجهاز التنفس ونحوه، وهذا باطل لأن هذه الأجهزة لا تؤثر بنفسها في وصف الحياة ما لم يكن الجسد محلاً قابلاً للحياة ومتلبساً بها على الحقيقة، بدليل أن الإنسان عندما يموت حقيقةً فمهما وضعت له من هذه الأجهزة لا يكون لها أثر في سريان علامات الحياة في جسده البتة، ولو كان الأمر كما يزعمون وأن هذه الأجهزة موضوعة فقط للحفاظ على حيوية الأعضاء التي يراد استقطاعها لأجل الزراعة فلماذا لا يطبقون هذه الأجهزة على من ماتوا حديثاً بشكل فوري من أجل الحفاظ على حيوية هذه الأعضاء، والجواب الذي لا مندوحة عنه والذي يشهد به الطب والحس هو أن هذه الأجهزة لن تؤثر في منع تحلل هذه الأعضاء في جسد الميت حقيقةً، لأن حقيقة الحياة لا تسري في الجسد بمجرد وجود هذه الأجهزة، وهذا يؤكد ما قررناه سابقاً من أن المريض الذي مات دماغه وبقيت علاماته الحيوية الأخرى فإنه لم يمت موتاً حقيقياً بعد، بمعنى أن الروح لم تفارق جسده بعد، وأنه لا يزال حياً ولو مع وجود هذه الأجهزة. والحاصل في هذا الدليل هو التساؤل التالي: ما الذي جعل جسد من مات دماغه ينفعل ويتأثر بهذه المداخلات العلاجية التي لو أجريت لأي جسد إنسان ميت حقيقةً لما أحدثت في قلبه نبضاً ولا أدارت في عروقه دماً ولا استخلصت من هواء رئتيه أكسجيناً، في حين لا ينفعل جسد الميت لشيء من ذلك؟ أفلا يدل هذا الفرق الذي لا يجحده إلا مكابر على أن هناك فرقاً بين جسد من مات دماغه وجسد من مات حقيقةً، وهل هذا الفرق إلا الحياة، وبقاء تعلق الروح بهذا الجسد رغم ما فيه من التلف!(1/37)
31- دليل ثالث من الطب : ظنية دلالة معايير موت الدماغ على موت الدماغ: وهو يقوم على ما هو معروف مستفيض عند أهل الفن والخبرة في هذا المجال من أن "علامات موت الدماغ" ليست قادرة على التمييز بين موت الدماغ الذي لا رجعة فيه الناشيء عن تلف الدماغ حقيقة، وبين تعطل وظائف الدماغ المؤقت الناشيء عن أسباب عكوسة يؤدي زوالها إلى انخرام علامات موت الدماغ هذه، والدليل على ما تقدم أن المعايير الطبية لتشخيص موت الدماغ تستلزم نفي وجود سبب آخر يؤدي إلى ظهور علامات موت الدماغ، وهذا إقرار من أهل الطب بأن علامات موت الدماغ ليست خاصة بموت الدماغ الذي لا رجعة فيه، وأهل الطب المتخصصون بهذا الفن يقرون بأن أصعب حالات تشخيص موت الدماغ هي تلك التي تكون مجهولة السبب، بل إن بعض المدارس تشترط كون سبب المرض معروفاً حتى تعتبر استيفاء معايير موت الدماغ، والشاهد هنا أمران أحدهما أن علامات موت الدماغ ليست خاصة بموت الدماغ الذي لا رجعة فيه، بل يمكن إحداثها بالأدوية ونحوها ولقد شاهدت ذلك بأم عيني، والثاني أن الأمر محتمل من جهة دلالة هذه العلامات على موت الدماغ الذي لا رجعة فيه، والقاعدة في الأصول - أعني أصول الفقه - أنه إذا دخل الاحتمال بطل الاستدلال، ولا يرد مثل هذا في علامات الموت الحقيقي لأنها وإن كان يمكن ظهورها مع احتمال عدم موت الشخص حقيقةً إلا أن ذلك نادر جداً والنادر لا حكم له، خلافاً لمسألة معايير موت الدماغ حيث تكثر المحترزات والشروط الاحترازية فضلاً عن تفاوت هذه المعايير بين أهل الطب. والحاصل من هذا الدليل أن حال الطب والأطباء ناطق وشاهد على أن ورود الاحتمال قوي في هذه العلامات والمعايير بحيث لا يصلح التعويل عليها للجزم بالموت شرعاً.(1/38)
32- دليل رابع من الطب : ظنية دلالة معايير تشخيص موت الدماغ على الموت: ووجهه أنه إذا استوفى المصاب المعايير التشخيصية لموت الدماغ في ساعةٍ ما، فإنه لا يحكم بتشخيص موت الدماغ ولا يجزم به إلا بعد إعادة فحص المصاب بعد فترة زمنية تتراوح ما بين 12 ساعة إلى 48 ساعة حسب عمر المصاب؛ فإذا بقيت المعايير السريرية لموت الدماغ مستوفاة بعد هذه الفترة حُكم بموت الدماغ وإلا فلا. ونحن لا ننازع في كون المعايير التشخيصية لموت الدماغ مبنية على مشاهدات علمية وطبية واسعة، ولكن يبقى هنا إشكال مهم في قطعية دلالة هذه المعايير، فهي إما أن تدل دلالة قطعية على موت الدماغ أو لا، فإذا قلنا إنها تدل دلالة قطعية على موت الدماغ يبرز التساؤل : لماذا إذاً نعيد تقييم وتحري هذه المعايير بعد 12 ساعة أو 24 ساعة أو 48 ساعة من استيفائها في المرة الأولى؟ إن اشتراط إعادة التثبت من استيفاء هذه المعايير دليلٌ ظاهرٌ على بقاء شيء من الشك في مصداقية دلالتها على موت الدماغ (وبالتالي موت المريض)، هذا بالإضافة إلى أن التفاوت في تحديد الفترة الزمنية الفاصلة بين التقيمين بحسب سن المريض يدل أيضاً على اضطراب في مصداقية دلالة هذه المعايير على موت الدماغ (وبالتالي موت المريض)، ونحن ندرك أن هذا التفاوت أساسه العمر ولكن هذا لا يعارض مورد الشك الذي أوردته، وإلا فهل سمع أحد أنه إذا مات طفل فإننا لا نحكم بموته إلا بعد التأكد من موته بعد 48 ساعة؟ إن هذا التثبت والإعادة يدل على أن دلالة معايير موت الدماغ دلالة ظنية، وإذا كان كذلك فلا يمكن رفع الحكم القطعي المستصحب وهو حياة المريض بدلالة ظنية محتملة هي معايير موت الدماغ، لأن اليقين لا يزول بالشك كما هو مقرر في الأصول.(1/39)
33- دليل خامس من الطب: الاضطراب في تحديد زمن الوفاة: إذا فحص المصاب وتبين أنه استوفى علامات موت الدماغ، فإنه سيتم إعادة فحصه بعد فترة زمنية للتأكد من بقاء هذه المعايير والعلامات كما تقدم ، ثم إن الأمر لا يخرج عن احتمالين؛ فإما أن يُظهر الفحص الثاني أن معايير موت الدماغ لا تزال مستوفاة أو لا، فإن ظهر الاحتمال الأول وهو أنها مستوفاة فإنهم يحكمون بموت الدماغ وبالتالي يتفرع الحكم بالموت عند من يقول به (وهو محل النزاع) وعندها نسأل: ما هو وقت موت هذا المصاب، هل هو وقت استيفاء معايير تشخيص موت الدماغ في الفحص الأول أم الثاني؟ قد تعجب أن الجواب ليس بهذا أو ذاك، وإنما يكون وقت الموت المسجل هو الوقت الذي تظهر فيه علامات الموت المعتادة بعد نزع أجهزة الإنعاش عن المريض!(وقد يستغرق هذا دقائق أو ساعات أو أياماً أو أكثر!)، أي إن القائلين بثبوت الموت بناء على ثبوت موت الدماغ لا يحددون وقت الوفاة بناءً على توقيت أيٍ من الفحصين الذين أثبتوا بهما موت الدماغ، وإنما يثبتونه بناءً على مجموعة أخرى من العلامات هي علامات الموت المعتادة، فأي تناقض هذا وأي تخبط. بقي الاحتمال الثاني وهو أن لا تبقى علامات موت الدماغ مستوفاة وقت الفحص الثاني وهذا إذا حصل فإنه يناقض مصداقية دلالة معايير موت الدماغ على الموت الذي لا رجعة فيه، فيؤول الأمر إلى ما ذكرناه في الدليل السابق حول ظنية دلالة معايير موت الدماغ على موت الدماغ وعلى الموت، فتأمل!(1/40)
34- دليل سادس من الطب : يقول البعض إن من أوقف قلبه ووضع على المضخة الصناعية (كالمرضى الذين تجرى لهم عمليات القلب المفتوح) لا نقول إنه ميت لأن دماغه لا يزال حياً، ويستدلون بهذا على أن الموت يرتبط بوظائف الدماغ، ونحن نقلب الدليل عليهم فنقول طالما أنكم قبلتم وصف الحياة معلقاً على تحقق وظائف القلب بمضخة الدورة الدموية الصناعية، فلماذا لا تقبلون وصف الحياة معلقاً على تحقق وظائف الدماغ الحيوية (التنفس ونظم القلب) بالوسائل الصناعية؟
35- دليل سابع من الطب: بطلان دعوى تعلق الحياة بحياة الدماغ: إن التعلق بدعوى أن الحياة لا يمكن أن تستمر أو تستقر عند من مات دماغه، والاستدلال بذلك على موت من مات دماغه يشكل عليها أن أعضاء أخرى في الجسم تتعلق بها نفس الدعوى، فموت الكلى أو موت الكبد أو موت القلب لا يمكن أن تستمر معه الحياة، ومع ذلك فإن من ماتت كليتاه وبقي على الغسيل الكلوي لا يطلق عليه بحال أنه ميت، وكذلك من تلف كبده لا يحكم عليه بالموت حتى يموت حقيقة، وقد يبقى على أجهزة صناعية ريثما يزرع له كبد آخر ولا يحكم عليه بالموت في هذه الفترة، وكذلك من ماتت عضلته القلبية ولكن تم علاجه بزرع القلب فلا يطلق عليه أنه ميت (ولا يشوش على هذا أنه حي بقلب آخر لأن مورد النزاع هو تعلق موت الفرد بموت عضو من أعضائه أو جزء من أجزائه)، وهو أثناء عملية القلب المفتوح في غيبوبة دماغية تامة وتعتمد حياته بعد الله تعالى على دورة دموية خارجية صنعية ريثما يُزرع له قلب آخر ومع هذا كله فما من قائل بموته، والشاهد هنا أن مجرد تعلق حياة الفرد بحياة عضو أو جزء من جسده لا يستلزم موت الفرد بموت هذا العضو، وعلى هذا ينتفي لزوم الحكم بالموت على من مات دماغه وإلا لزمه الحكم بالموت على من مات قلبه أو كبده أو كليتاه وليس من قائل بهذا القول فدل على بطلان الملزوم وهو المطلوب.(1/41)
36- دليل ثامن من الطب: إن دعوى موت من مات دماغه لتدعوا إلى العجب والغرابة حين ترى هذا المريض المصاب بموت الدماغ والذي يزعمون موته وهو في سرير العناية المركزة وفريق الرعاية الطبية يقوم بمراقبة وتسجيل علاماته الحيوية على مدار الساعة، نعم تسجل العلامات الحيوية عند من يزعمون أنه ميت، وهل سمع أحد في عالم الطب أو غيره أن للميت علامات حيوية (أي العلامات الدالة على الحياة في عرف الطب)، بل إنك لترى الطبيب في وحدة العناية المركزة يتدخل في حال حصول أي تبدل في هذه العلامات الحيوية، فإذا بالجسم يستجيب والعلامات الحيوية تستقر، وكذلك الحال عندما يؤخذ المريض إلى غرفة العمليات لانتزاع أعضائه، فإذا بطبيب التخدير يراقب عن كثب هذه العلامات الحيوية ويتدخل سراعاً لمنع تدهور المريض في حال حصول تبدل في الضغط الدموي والنبض القلبي، فإذا بالضغط يعود لطبيعته بعد التدخل العلاجي، وإذا بنبض القلب يعود لمستواه الطبيعي بعد هذا التدخل العلاجي، مؤكداً أن الجسم لا يزال يمتلك تلك الخاصة الحيوية التي تجعله محلاً قابلاً لهذه المشاهدات السريرية، فتأمل.(1/42)
37- دليل تاسع من الطب: يتعلق من يزعم أن موت الدماغ مرادف للموت بأن مظاهر الحياة عند ميت الدماغ ليست حقيقية، وأنه بمجرد نزع أجهزة الإنعاش أو التنفس الصناعي فإن المصاب بموت الدماغ يفقد هذه المظاهر الحيوية فيتوقف قلبه وتنفسه بشكل محقق ، ونقول إن هذه العلة وإن كانت مطردة في كل حالات موت الدماغ إلا أنها ليست علة مناسبة لتعليق حكم الموت بها، إذ أنه من المعلوم علماً جازماً في الطب أن كثيراً من الحالات المرضية - غير حالة موت الدماغ- يكون المريض فيها حياً بصورة جازمة لا منازعة فيها يتوقف فيها قلب وتنفس المريض برفع أجهزة الإنعاش عنه،ومثال ذلك حالات الفشل التنفسي الحاد والمزمن وحالات الفشل القلبي النهائي وغيرها من الحالات التي يكون فيها المريض حياً قولاً واحداً في عرف الأطباء، وهو مع ذلك معتمد - بعد الله تعالى - على هذه الأجهزة، فظهر أن مجرد تعلق مظاهر حياة المريض بهذه الأجهزة لا يعتبر علة مناسبة للحكم بالموت، وهذا واضحٌ من جهة الطب ومن جهة الأصول، فتأمل.(1/43)
38- دليل اللزوم الفاسد: اختلاج حقوق الناس المالية : إن القول بأن من مات دماغه فقد مات شرعاً يلزم منه استحقاق ورثته لتركته بمجرد موته، كما يلزم منه نفاذ التصرفات المالية المسندة لما بعد الموت كالوصية ونحو ذلك، فإذا كان الأمر كذلك فهب أن زيداً تم فحصه في الساعة 11 ليلاً من يوم الجمعة فتبين أنه مستوفٍ لمعايير موت الدماغ، ثم أعيد فحصه الساعة 11 صباحاً من يوم السبت فتأكد بقاء هذه المعايير وحكم بأنه ميت دماغياً، ثم رفعت أجهزة الإنعاش فتوقف القلب والدوران الساعة الثانية ظهراً يوم السبت، ففي أي من هذه الأوقات يحكم للورثة باستحقاق ميراثهم وبالتصرفات المالية المسندة لما بعد الوفاة بالنفاذ؟ قد يبدو السؤال شكلياً، ولكن هذه الصورة مظنة اختلاج حقوق الناس كما نبين هاهنا، فلو مات أحد ورثة زيد (كابنه) ما بين الساعة 11 صباحاً والساعة 2 ظهراً يوم السبت، فإما أن يقال إن ساعة الموت المعتبرة هي الساعة 11 صباحاً (أي ساعة توثيق تشخيص موت الدماغ) أو أن يقال إن ساعة الموت المعتبرة هي الساعة 2 ظهراً، فأما القول الأول فلم أسمع أحداً يقول به لا في عرف المهنة ولا في الشرع وهو خلاف المعمول به في كل الأنظمة، وهذا القول يناقض دعوى أن تشخيص موت الدماغ حكم بالموت شرعاً، لأن لازم هذا القول استحقاق الورثة للإرث بمجرد توثيق موت الدماغ ولا قائل بذلك فيما أعلم، وأما القول الثاني فلازمه أن المريض المصاب بموت الدماغ لم يكن ميتاً شرعاً ولا عرفاً في الساعة 11 صباحاً، وأنت ترى ما في هذا كله من خلط واختلاج وتخبط، ناهيك عن تضييع الحقوق المالية إذ لا يخفى أنه لو حكم بالموت في الساعة 11 صباحاً فإن الابن الذي مات بعد ذلك يكون وارثاً لأبيه، في حين أنه لو حكم بالموت في الساعة 2 ظهراً فإن الابن يكون موروثاً، وهكذا تضطرب الحقوق المالية للورثة اضطراباً ظاهر الفساد، وإذا كان اللازم فاسداً كان الملزوم فاسداً أيضاً كما تقدم. ولو(1/44)
أننا استرسلنا في عرض صور اختلاج حقوق الناس المالية المترتبة على الحكم بالموت شرعاً على من مات دماغه لاحتاج ذلك إلى استطراد يخرج بنا عن المطلوب، وفيما ذكرنا كفاية لمن رام الحق.
39- دليل أهلية الوجوب: "إن الأهلية صفة يقدرها الشرع في الشخص تجعله صالحاً لأن تثبت له الحقوق وتثبت عليه الواجبات وتصح منه التصرفات"67، وهي تنقسم إلى أهليه وجوب وأهلية أداء كما هو مقرر عند العلماء، وأهلية الوجوب هي "صلاحية الشخص للإلزام والالتزام"68، وبمعنى آخر أهليته لأن تثبت الحقوق له وعليه، وهذه هي أهلية الوجوب الكاملة وهي تثبت للإنسان بمجرد ولادته وتستمر معه حتى وفاته، وهذه الأهلية تبقى مصاحبة للإنسان في مختلف أحواله حتى يموت، وهنا وجه الشاهد، حيث إن المصاب بموت الدماغ من المسلمين يُسأل عنه: هل هو محلٌ لثبوت الحقوق له أو عليه؟ فلا بد من نعم أو لا، فمثال ثبوت الحقوق له أن يثبت له الإرث من موت قريب له، وثبوت حق النفقة له على غيره كوالده أو زوجها، واستحقاقه للانتفاع من الوقف الذي أوقف على المرضى مثلاً، ومثال ثبوت الحقوق عليه ثبوت حق النفقة لزوجته عليه، وثبوت الضمان في ذمته ونحو ذلك، وعند النظر في هذه الأمثلة لا يملك أحدٌ إلا أن يجيب بنعم فالحقوق التي ذكرناها ثابتة للمريض الذي حكم بموت دماغه ولا أعلم أحداً من أهل العلم يقول بعكس ذلك، فلو أن مريضاً ميت دماغه وله مال تنفق منه زوجته وأولاده وله أنساب يرثون لو مات ليس لهم حق في منع الزوجة والأولاد من هذه النفقة لأنها لم تتمحض إرثاً بعد، ولو أن شخصاً أوقف مالاً لنفع المرضى الزمنى الذين لا يرجى برؤهم لدخل المريض الميت دماغياً في هذا الوصف ولاستحق الانتفاع من هذا الوقف، والأمثلة كثيرة تدل على ثبوت أهلية الوجوب للمريض المحكوم بموت دماغه ولم تتحقق وفاته بعد، وثبوت هذه الأهلية لا يكون إلا للأحياء، فدل هذا على بطلان القول بموت من مات دماغه، لأن لازم هذا القول(1/45)
القول بانعدام أهلية الوجوب وبالتالي بطلان ثبوت الحقوق المالية للمريض أو عليه وهذا باطل، ولولا خشية الإطالة لذكرت من الأمثلة الشيء الكثير، ولكن فيما تقدم كفاية لمن أراد الوقوف على الصواب،69 فتأمل.
40- دليل القياس على مسألة الحياة غير المستقرة، فعن كعب بن مالك يحدث عن أبيه أنه كانت لهم غنم ترعى بسلع، فأبصرت جاريةٌ لنا بشاةٍ من غنمنا موتا، فكسرت حجراً فذبحتها به، فقال لهم: لا تأكلوا حتى أسأل النبي صلى الله عليه وسلم أو أُرسل إلى النبي صلى الله عليه وسلم من يسأله، وأنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن ذاك أو أرسل فأمره بأكلها"70، فهذه المسألة تُعرف عند أهل العلم بمسألة الحياة غير المستقرة، ووجه الدلالة من الحديث أن هذه الشاة التي أدركتها الجارية وهي موتى71 ليست فيها حياةٌ مستقرة، فلو تركت وشأنها ماتت في دقائق يسيرة كما يدل الحديث من إسراع الجارية بذبحها بما تيسر لديها لتدركها قبل تمام زهوقها، فلما أباح النبي صلى الله عليه وسلم أكل هذه الذبيحة دل على أن هذه الحياة غير المستقرة حياةٌ معتبرة شرعاً، وإلا لو تكن هذه الحياة غير المستقرة معتبرة وكان حكم الموت مستقراً لما جاز أكلها، لأن الميتة إذا ذُبحت بعد موتها لم يجز أكلها قولاً واحداً، ولهذه الحياة غير المستقرة علامات منها الحركة ومنها طرف العين ومنها سيلان الدم - أي جريانه، ولقد سُئل مالك رحمه الله عن شاةٍ تردَّت فتكسرت فأدركها صاحبها فذبحها، فسال الدم منها ولم تتحرك، فقال مالك: إذا كان ذبحها ونَفَسُها يجري وهي تَطرف فليأكلها"72، قال الزرقاني رحمه الله في الشرح: (فقال مالك إن كان ذبحها ونفسُها) أي دمها (يجري) أي يسيل، سُمي الدم نفساً لأن النفس التي هي اسم لجملة الحيوان قوامها بالدم، (وهي تطرف) تحرك بصرها، يقال طرف البصر كضرب: تحرك، وطرْف العين نظرها، (فليأكلها) لدلالة ذلك على الحياة فعمل فيها الذبح"73 ، فهذه العلامات أعني الحركة(1/46)
وطرف العين وجريان الدم وسيلانه علامات على وجود الحياة غير المستقرة والتي تقرر أنها معتبرة شرعاً، وإذا نظرنا إلى المريض المصاب بموت الدماغ وجدنا أن حياته غير مستقرة تعتمد - بعد الله تعالى - على أجهزة التنفس الصناعية ولكن فيه من علامات الحياة جريان الدم وسيلانه وحركة أطرافه بالتنبيه الحسي المؤلم ( ويعزو الأطباء هذه الحركة لمنعسكات في الحبل الشوكي) ونحوها، فكما أن الشرع اعتبر أن حياة الذبيحة غير المستقرة حياة معتبرة شرعاً، فكذلك نقول إن حياة الشخص الذي مرض أو جُرح إلى الحد الذي كادت تزهق روحه كما هو حال من مات دماغه هي حياة غير مستقرة ولكنها معتبرة شرعاً، فإذا ثبت هذا ظهر بطلان القول بأن من تحقق موت دماغه هو ميتٌ شرعاً، ولا شك في أن الحكم بالحياة المبني على القياس أسعد حظاً بالدليل وأكثر موافقةٌ للأصول، والله تعالى أعلم.(1/47)
41- دليل سد الذرائع: لقد أصبح الحكم بالموت شرعاً على من مات دماغه كما ورد في قرار عمَّان وسيلةً لاستباحة استقطاع الأعضاء الحيوية التي لا يجوز استقطاعها في الأصل، حتى عند من يرى جواز استقطاع الأعضاء من إنسان لزرعها في إنسان آخر، فلا يجوز استقطاع القلب مثلاً من إنسان حيٍ لزرعه في آخر قولاً واحداً عند الفقهاء، في حين أن الحكم على من مات دماغه بالموت شرعاً قد أصبح ذريعةً لاستباحة هذا الفعل، ويتذرع من يرى جواز هذا الفعل بأن هذا المريض الذي مات دماغه ميتٌ شرعاً، وهذا مرفوض لأنه من باب رد المختلف فيه إلى المختلف فيه، لأننا ننازع في كون من مات دماغه قد مات شرعاً، كما ننازع في جواز استقطاع القلب من المريض سواء أكان حياً أم ميتاً74، ووجه الدلالة هنا أن الحكم بالموت شرعاً على من مات دماغه ذريعة إلى استباحة ما لا يجوز استباحته من إبانة أعضائه بحجة أنه ميت، وأرجو أن يتأمل القارئ صورة المسألة هنا حتى تتبين له قبحها وبشاعتها: فعندنا مريض جيء به إلى المشفى طلباً للعلاج لحفظ نفسه المحترمة شرعاً، وكان أن تدهورت حالته إلى الحد الذي تعطلت فيه وظائف دماغه فيما يُعرف بموت الدماغ، وهو في هذه الحالة يتنفس بواسطة جهاز التنفس الصناعي، والدم يجري في عروقه، والقلب في صدره ينبض، والماء والغذاء يسري في جسده ويتمثله جسده ويخرج فضلته بولاً وغائطاً، وإذا قرصت رجله ربما حركها وقبضها، ثم يأتي من يقول إن هذا الموصوف إنسان ميت لأن تعطل دماغه لا رجعة فيه، فإذا أذن أولياؤه - ولا أدري بأي حق يأذنون - لفريق الجراحة في المشفى فإن هذا المريض يؤخذ إلى غرفة العمليات ليشق صدره ويُستقطع قلبه ورئتاه وكبده وكلوتاه وغير ذلك مما يتيسر من أعضاء ثم يُضم ما بقي من جسده بعد أن يُجهز عليه بهذه الصورة الخالية من أي حفظٍ للكرامة الإنسانية، فلما كان الحكم بالموت شرعاً على من مات دماغه ذريعةً لهذا الفعل الشنيع كان بطلان هذا الحكم(1/48)
سداً لذريعة استباحة حرمة الجسد المسلم.
42- دليل تناقض الفتاوى المعاصرة في حكم الموت على من مات دماغه: لقد تقدم معنا نص قرار عمَّان الذي يقضي بالحكم بالموت شرعاً على من مات دماغه وفق التعريف الوارد في القرار، ولقد جاء في هذه المسألة قرار آخر هو قرار المجمع الفقهي لرابطة العالم الإسلامي وهذا نصه:
……………القرار الثاني
بشأن موضوع تقرير حصول الوفاة ورفع أجهزة الإنعاش من جسم الإنسان
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده سيدنا ونبينا محمد صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم
أما بعد
فإن مجلس المجمع الفقهي الإسلامي في دورته العاشرة المنعقدة بمكة المكرمة في الفترة من يوم السبت 24 صفر 1408هـ الموافق 17 أكتوبر 1987 م إلى يوم الأربعاء الموافق 28 صفر 1408 هـ الموافق 21 أكتوبر 1987 هـ قد نظر في موضوع تقرير حصول الوفاة، بالعلامات الطبية القاطعة، وفي جواز رفع أجهزة الإنعاش عن المريض الموضوعة عليه في حالة العناية المركزة، واستعرض المجلس الآراء والبيانات الطبية المقدمة شفهياً وخطياً من وزارة الصحة في المملكة العربية السعودية، ومن الأطباء الاختصاصيين، واطلع المجلس كذلك على قرار مجمع الفقه الإسلامي التابع لمنظمة المؤتمر الإسلامي، المنعقد في مدينة عمان العاصمة الأردنية رقم (5) في3/7/1986م، وبعد المداولة في هذا الموضوع من جميع جوانبه وملابساته، انتهى المجلس إلى القرار التالي:
المريض الذي ركبت على جسمه أجهزة الإنعاش يجوز رفعها إذا تعطلت جميع وظائف دماغه تعطلاً نهائياً، وقررت لجنة من ثلاثة أطباء اختصاصيين خبراء، أن التعطل لا رجعة فيه، وإن كان القلب والتنفس لا يزالان يعملان آلياً، بفعل الأجهزة المركبة، لكن لا يحكم بموته شرعاً إلا إذا توقف التنفس والقلب، توقفاً تاماً بعد رفع هذه الأجهزة.
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً والحمد لله رب العالمين75
انتهى نص القرار.(1/49)
قلت: إن قرار المجمع التابع لرابطة العالم الإسلامي جاء بعد قرار المجمع الفقهي التابع لمنظمة المؤتمر الإسلامي ويختلف عنه اختلافاً مهماً جداً في عدم اعتبار موت الدماغ علامة للموت الشرعي كما هو نص القرار : ( لكن لا يحكم بموته شرعاً إلا إذا توقف التنفس والقلب، توقفاً تاماً بعد رفع هذه الأجهزة)، خلافاً لقرار عمّان الذي يعتبر ذلك حيث جاء فيه: (يعتبر شرعاً أن الشخص قد مات وتترتب عليه جميع الأحكام المقررة شرعاً للوفاة .. )، ثم ذكر القرار موت الدماغ وتعطله نهائياً وأخذه في التحلل علامة للموت شرعاً كما تقدم76، ولقد نقل فضيلة الشيخ محمد بن محمد المختار الشنقيطي في رسالته (أحكام الجراحة الطبية) قول جمع من العلماء المعاصرين الذي لا يرون اعتبار موت الدماغ موتاً، وذكر منهم :" الشيخ بكر بن عبد الله أبو زيد، والشيخ عبد الله البسام، والدكتور توفيق الواعي، والشيخ محمد المختار السلامي، والشيخ بدر المتولي عبد الباسط، والشيخ عبد القادر محمد العمادي"77 ، ونقل هذا القول أيضاً عن لجنة الفتوى بوزارة الأوقاف الكويتية78، ورجح فضيلته هذا القول وانتصر له79، فالمسألة ليست إجماعيةً كما يتوهم البعض أو يوهم، وحيث إنه يوجد هذا التعارض بل والتناقض بين هذين القولين، فإن الالتزام بما دلت عليه أصول الشرع وأدلته التي تقدم بيانها أولى وأحرى بالصواب، وهو خروج من الخلاف بلا ريب، والشاهد هنا أن المسألة من حيث فتاوى الفقهاء المعاصرين المجتهدين ليست على قولٍ واحد في المسألة.(1/50)
وبعد، فلقد استعرضت بفضل الله تعالى اثنين وأربعين دليلاً على بطلان الحكم بالموت على من مات دماغه، وقدمت من الأدلة على بطلان هذا الحكم ما فيه - بإذن الله - شفاء لكل من رام وجه الحق في هذه المسألة. وحيث إن البعض قد يستشكل بعض المسائل المتعلقة بالموضوع إما من جهة تبرير نزع أجهزة الإنعاش عن المريض أو من جهة تبرير الحكم بالموت ليسوغ استقطاع الأعضاء الحيوية من المريض (كالقلب والرئتين)، فلقد رأيت من تمام البحث استعراض هذه الشبهات ودفعها بإيجازٍ غير مخل إن شاء الله.
فصل: شبهات وردها:
نورد فيما يلي بعض الشبهات التي يتعلق بها من يرى جواز الحكم بالموت على من مات دماغه ونرد عليها بما يجلي وجه الحق فيها بإذن الله تعالى:(1/51)
1- الشبهة الأولى: توهم الإجماع في القول المعارض: مما لا شك فيه أن ظهور المجمعات الفقهية المعاصرة ثمرة مباركة من ثمار الصحوة العلمية الإسلامية المباركة، وهي مجمعات تجمع ثلة من العلماء والباحثين المشهود لهم بالفضل والعلم مع تنوع مشاربهم الفقهية وغير الفقهية مما يساهم في إثراء هذه المجمعات بالاجتهادات المأجورة النافعة بإذن الله، ومع إقرارنا بأن فتاوى هذه المجمعات الفقهية تحمل من المرجعية والثقة الشيء الكثير نتيجة هذا الاجتماع المبارك، غير أن البعض يتوهم أن هذه الفتاوى الجماعية إن صح التعبير مرادفة للإجماع الذي هو حجة ملزمة، في حين أن بين هذه القرارات والفتاوى وبين الإجماع المعتبر شرعاً مفاوز وقفار، ولا نقول هذا تقليلاً من قيمة هذه الفتاوى حاشا وكلا، وإنما نقوله دفعاً للوهم وإفساحاً للمجال للنظر في الفتاوى المتعلقة بنوازل العصر، ورضي الله عن أمير المؤمنين عمر حيث كتب إلى أبي موسى الأشعري رضي الله عنه كتاب القضاء الشهير وفيه:"ولا يمنعنَّك قضاء قضيت فيه اليوم فراجعت فيه رأيك فهُديت فيه لرشدك أن تراجع فيه الحق، فإن الحق قديم لا يبطله شيء، ومراجعة الحق خير من التمادي في الباطل"80، وإنه من التعنت والتشدد أن يدعي البعض اليوم أن هذه النوازل وما شابهها قد بتَّ فيه الأمر لغير رجعة ويوهم الإجماع فيما تقدم من فتاوى ليغلق باب الاجتهاد والمراجعة والنظر في أحكام هذه النوازل لا سيما مع تجدد الفهم فيها والنظر فيها، والحاصل أن هذه القرارات ليست مرادفاً ولا نظيراً للإجماع المعتبر شرعاً، فليتنبه لهذا، وليعلم أننا لسنا ممن يدعو لنقض إجماع متقدم بل إننا نبين أن الإجماع غير منعقد في هذه المسألة النازلة، وهي بالتالي لا تزال مفتوحة للنظر والمراجعة ، وبالله التوفيق.(1/52)
2- الشبهة الثانية : توهين قيمة حياة الميت دماغه : إن هذه الشبهة تقوم على أساس عقلي مادي جلي التأثر بالحضارة المادية المعاصرة التي تنظر إلى قيمة كل شيء من خلال شيء واحد فقط هو الإنتاج واللذة؛ فمن لا ينتج ولا يتلذذ بمتع المادة ليس بشيء أو هكذا يزعم أرباب الحضارة المادية، ولا شك أن المصاب بموت الدماغ عديم القيمة بهذا المعيار، فما المانع من تحويله إلى قطع غيار بشرية تحت شتى شعارات التقدم العلمي والتبرع الخيري والإخاء الإنساني؟ وجواب هذه الشبهة يقوم على ما قررناه في مقدمة الرسالة من التحاكم إلى كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم عند التنازع، فنحن نقول إن من مات دماغه له قيمة، ولنا من النصوص القرآنية التي تشهد لذلك قوله تعالى :"ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعاً"81، وهذا عام في كل نفس ولا دليل على التخصيص أو على إخراج من مات دماغه من هذا الحكم، فمن عالج مريضاً بنية إحياء نفسه بإذن الله واستبقائها فإن داخلٌ في هذه الآية لا شك، إذ لا دليل على تخصيص الحكم بمن لم يمت دماغه، وإذا كان من مات دماغه داخلاً في هذا الحكم فإن حياته عظيمة القيمة لأن نص القرآن جعل إحياءها كإحياء جميع الأنفس، فتأمل هذا المعنى رحمك الله. ولنا من السنة حديث :" إذا مرض العبد أو سافر كتب له مثل ما كان يعمل مقيماً صحيحاً"82، فمن مات دماغه ولم تفارق روحه بدنه فإن القلم يجري بأعماله وعباداته التي كان يداوم عليها قبل المرض، ولا دليل على تخصيص الحكم بمن لم يمت دماغه، بل إن الكل متفق على أن موت الدماغ هو من جنس المرض، فالحاصل إذاً أن هذه الحياة التي تستمر لساعات أو أيام أو أسابيع أو ربما أشهر حياة عظيمة القيمة من جهة الأجر الذي يكتب للمرء بهذه العبادات التي تُكتب له، لعل هذه الدقائق تثقل موازين العبد بحسنة ينجو بها من النار، وتأمل دليلاً آخر يقوي هذا المعنى فعن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال:" كان رجلان أخوان،(1/53)
فهلك أحدهما قبل صاحبه بأربعين ليلة، فذُكرت فضيلة الأول منهما عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ألم يكن الآخر مسلماً؟ قالوا: بلى، وكان لا بأس به. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:" وما يدريكم ما بلغت به صلاته؟ إنما مثل الصلاة كمثل نهر عذب غمر بباب أحدكم يقتحم فيه كل يوم خمس مرات فما ترون في ذلك يبقي من درنه، فإنكم لا تدرون ما بلغت به صلاته" رواه مالك واللفظ له وأحمد بإسناد حسن والنسائي وابن خزيمة في صحيحه83، وروى ابن خزيمة بسنده عن عامر بن سعد بن أبي وقاص قال: سمعت سعداً وناساً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يقولون: كان رجلان أخوان في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان أحدهما أفضل من الآخر، فتوفي الذي هو أفضلهما ثم عمّر الآخر بعد أربعين ليلة، ثم توفي، فذُكر ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال:" ألم يكن يصلي؟" قالوا: بلى يا رسول الله، وكان لا بأس به. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:" وماذا يدريكم ما بلغت به صلاته"84 ، قلت: والشاهد هنا أن من كان مواظباً على الصلاة ثم أقعده المرض عنها فإن القلم لا يزال يجري بأجره بها، وما يدرينا ما تبلغ صلاة ساعات وأيام بالرجل! ولنا أيضاً حديث :"في كل كبد رطبة أجر"، وحديث عيادة المغمى عليه وقد تقدما ذكراً وتعليقاً. أفيبقى بعد هذا مجال للتساؤل عن قيمة حياة العبد المسلم مهما كانت حالته الصحية؟ أم لعلنا نسترسل فنتساءل عن قيمة حياة المجانين والمصابين بالغيبوبة والحالة النباتية ممن لا تنطبق عليهم علامات موت الدماغ تماماً؟(1/54)
3- الشبهة الثالثة: الاعتذار بالضرورة : ومدار هذه الشبهة حول اضطرار وحاجة المرضى الآخرين إلى هذه الأعضاء المستقطعة من جسد من مات دماغه، وهم يرون أن هذه الأعضاء الحيوية مهدرة في جسد صاحبها الأصلي، ويبيحون استقطاعها استنقاذاً لحياة شخص آخر ليس دم من مات دماغه بأقل عصمةً من دمه، وجواب هذه الشبهة مقرر في القواعد الفقهية المعلومة: وهي قاعدة (الضرر لا يُزال بالضرر)85، فلا يزال ضرر المرض عن مريض بإحداث ضرر في مريض آخر، وقاعدة ( الاضطرار لا يُبطل حق الغير)86، وحق من مات دماغه هنا هو حفظ وصون حرمة دمه وجسده وعرضه، فبأي حق يستبيح الطبيب وغيره كشف عورة هذا المريض وتقطيع جسده وانتزاع أعضائه،ولقد قال المعصوم صلى الله عليه وسلم:"إن كسر عظم المسلم ميتاً ككسره حياً"87، فالمسلم محترمٌ حياً وميتاً، ومع ذلك فنحن لا نقر كونه ميتاً فالأمر أغلظ والحرمة أشد وحقن الدم وعصمته أولى، وكون الآخر مضطراً لا يرفع شيئاً من هذه الحقوق، بل إن من أُكره على قتل غيره استنقاذاً لحياته هو لا يجوز له قتل الغير لأن حرمة الغير لست بأقل من حرمته، وعصمة دم الغير ليست بأقل من عصمة دمه، قال الإمام ابن حزم رحمه الله :"...والإكراه على الفعل ينقسم قسمين: أحدهما كل ما تبيحه الضرورة كالأكل والشرب، فهذا يبيحه الإكراه لأن الإكراه ضرورة فمن أُكره على شيء من هذا فلا شيء عليه لأنه أتى مباحاً له إتيانه، والثاني ما لا تبيحه الضرورة كالقتل والجراح والضرب وإفساد المال، فهذا لا يبيحه الإكراه فمن أكره على شيء من ذلك لزمه القود والضمان لأنه أتى محرماً عليه إتيانه"88، فكون شخصٍ ما مضطراً ومحتاجاً لزراعة قلب أو رئة أو كبد لا يبيح الإجهاز على مسلمٍ معصوم الدم باستقطاع أعضائه بحجة أنه ميت الدماغ، فليتأمل هذا جيداً كل من أراد أن يحير جواباً للمسألة بين يدي الديان.(1/55)
4- الشبهة الرابعة: الاعتذار باليأس من المرض: ومدار هذه الشبهة حول عدم رجاء شفاء المريض ميت الدماغ، أعني من جهة الأسباب، وجواب هذه الشبهة من جهتين أولهما أن عدم رجاء برء المرض لا يبيح استعجال الموت ومباشرة أسبابه كما تقدم في الأدلة من حديث الذي نكأ جرحه، وثانيهما أن هذه العلة إن صلحت في الاعتبار وإيجاب التصرف بناء عليها لفتح ذلك باباً عظيماً من المفاسد إذ كم من الأمراض المزمنة التي لا يرجى برؤها ولا شفاؤها وهي دون موت الدماغ، فهلا أبحنا الإجهاز على هؤلاء برفع أجهزة التنفس عنهم وباستقطاع أعضائهم (كما يُفعل بموتى الدماغ) طرداً لهذه العلة؟ لا شك أن هذا قول باطل، فكون المرض لا يرجى برؤه شيء، وهذا محض ابتلاء من الله تعالى، وأما مباشرة الأسباب المفضية للموت فشيء آخر، وهو شيء بعيد كل البعد عن مقاصد الشريعة بحفظ الأنفس وعصمتها.
5- الشبهة الخامسة: الاعتذار بالتكلفة المادية: والحقيقة إن هذه المسألة بحاجة إلى نظر وتحرير، وصورة المسألة أن التكاليف العلاجية للمصابين بموت الدماغ باهظة جداً بسبب ما يحتاج إليه من أجهزة وعاملين متخصصين في وحدة العناية المركزة مما قد تصل معه المصاريف إلى عشرات بل مئات الألوف، وذلك في مقابل معالجة غير مجدية من جهة شفاء المرض وبرئه. فليس من المصلحة وليس من المجدي هدر هذه الأموال الطائلة من أجل حالات فردية في حين أن إنفاق هذه الأموال في مصارف صحية أخرى يعود على باقي الأفراد والمجتمع بفوائد كثيرة ملموسة لا يمكن إنكارها، كأن تنفق في برامج الرعاية الأولية وعلاجات الأمراض السارية القابلة للشفاء بإذن الله ونحو ذلك. وجواب هذه الشبهة أنها خارجة عن محل النزاع، فمحل النزاع هو كون موت الدماغ مرادفاً للحكم بالموت شرعاً، أما مسألة الجدوى الاقتصادية للعلاج فسنعرج عليها إن شاء الله تعالى في الفصل التالي عند الكلام على التعامل مع حالات موت الدماغ.(1/56)
بعد ما تقدم من بيان للأدلة على بطلان الحكم بالموت شرعاً على من أصيب بموت الدماغ ، ورد الشبهات المتعلقة بالمسألة، نرى أنه لا بد من تقديم تصور عملي للتعامل مع هذه الحالات يكون موافقاً للشرع بإذن الله تعالى، وهذا ما أعرضه في الفصل التالي.
فصل: ثمرة الخلاف :
لا بد لنا بعد بيان الأدلة على رجحان القول بعدم الحكم بالموت بمجرد موت الدماغ من بيان الآثار المترتبة على هذا الحكم، وفيما يلي جملة من الأحكام المترتبة على الحكم ببقاء حياة المريض ميت الدماغ وبالله التوفيق:
1. عدم جواز رفع أجهزة التنفس الصناعي : لأن هذا الرفع هو بمثابة المباشرة في إزهاق الروح، وهو بمثابة الإجهاز على من فيه حياة معتبرة شرعاً كما تقدم في مسرد الأدلة.
2. عدم جواز استقطاع الأعضاء الحيوية: كالقلب والرئتين وكامل الكبد، لأن القائلين بجواز استقطاع الأعضاء البشرية لنقلها إلى آخر يمنعون أخذ هذه الأعضاء من الحي.
3. عدم ترتب أي من الآثار الشرعية للموت على تشخيص موت الدماغ: فإذا شُخِّص المريض بموت الدماغ بقيت أحكام الحياة سارية عليه حتى يتيقن موته، وهذا يشمل سائر الأحكام في العبادات والمعاملات.
فصل: توجيه التعامل مع حالات موت الدماغ:
بعد أن قررنا بالأدلة المستفيضة بطلان الحكم بالموت شرعاً على من أصيب بموت الدماغ، تبقى مسألة التعامل مع هذه الحالات التي بدأت تثقل كاهل المجتمعات على شتى الصعد الأخلاقية والاجتماعية والطبية والاقتصادية، بحيث أصبح من اللازم لنا كمسلمين أن نضع ضوابط عامة للتعامل مع هذه الحالات تندرج تحت المقاصد العامة للشريعة من جهة، وتراعي مصالح الفرد والجماعة من جهة أخرى، وهذا الفصل محاولة جادة لتقديم أنموذج عملي للتعامل مع هذه الحالات يراعي ما تقدم بإذن الله تعالى.(1/57)
بدايةً نقول إن صورة المسألة تتمثل في مريض مصاب بما اصطلح عليه موت الدماغ (أو موت جذع الدماغ) وحقيقته تلف دائم في الدماغ تتعطل بسببه الوظائف الدماغية لا سيما الحيوية منها، وهي حالات لا يُرجى برؤها في الأعم الغالب، والغالب كالمحقق شرعاً وعرفاً، فلا إشكال في هذه الصورة، ثم إن هذا المريض يكون عادة معتمداً - بعد الله تعالى - على جهاز التنفس الصناعي وغيره من الأجهزة والأدوية التي تحافظ بإذن الله على وظائف الجسم الحيوية، بحيث إن نزع هذه الأجهزة وبالتحديد جهاز التنفس الصناعي يؤدي في الغالب إلى تعطل وظيفة التنفس عند المريض وبالتالي موته بالمباشرة. وإذا تقرر معنا أن من أصيب بموت الدماغ لا يزال حياً شرعاً، تمحض أن أي فعل يفضي إلى الموت بالمباشرة ممنوعٌ شرعاً، شأنه شأن أي مريض، وعليه لا يجوز نزع أجهزة التنفس الصناعي عن هذا المريض، علماً بأنه قد يبقى على هذه الحالة أياماً بل أسابيع، فهل يبقى الحال هكذا إلى أن يقضي الله أمراً كان مفعولاً؟ وما هي الصيغة المقترحة للتعامل مع هذه الحالات؟(1/58)
إن التعامل مع حالات موت الدماغ يحتاج إلى التفريق بين أمرين قد يلتبس أحدهما بالآخر؛ أولهما ترك العلاج ابتداءاً والثاني رفع العلاج بعد تعاطيه وتعلق حياة المريص به؛ وما يهمنا هنا على وجه الخصوص هو جهاز التنفس الصناعي إذ أن ترك تعاطيه ابتداءاً شيء، ورفعه بعد تعاطيه وتعلق حياة المريض به شيء آخر، فالأول جائز والثاني غير جائز، ولسائل أن يسأل : من أين لنا هذا التفريق؟ وله أن يسمع الجواب وهو أن هذا التفريق أتينا به من نصوص الشرع الدالة على التفريق ونثبت ما نحتاج إليه هاهنا، فأما دليل جواز ترك تعاطي أسباب العلاج فحديث ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:" يدخل الجنة من أمتي سبعون ألفاً بغير حساب، هم الذين لا يسترقون ولا يتطيرون وعلى ربهم يتوكلون"89، وفي رواية "ولا يكتوون وعلى ربهم يتوكلون"، وحديث مرض وفاة النبي صلى الله عليه وسلم وقد نهى عن مداواته باللدود90،وحديث المرأة السوداء التي خيَّرها النبي صلى الله عليه وسلم بين أن يدعو لها فتشفى بإذن الله وبين أن تترك العلاج وتصبر ولها الجنة91، وهذا الأخير صريح جداً في جواز بل وفضل تارك العلاج احتساباً، ولا سيما وأن العلاج المتروك في هذا الحديث علاج شافٍ بإذن الله، وفي هذا رد على من يتوهم أن مشروعية ترك التداوي تنحصر فيما لا علاج له، ولقد ثبت عن عدد من السلف الصالح رضوان الله عليهم ترك العلاج والتداوي في مرض الموت، منهم خير هذه الأمة بعد نبيها صلى الله عليه وسلم ورضي الله عنه أبو بكر الصديق وغيره، وأما دليل عدم جواز رفع السبب الذي تعلقت به الحياة بعد تعاطيه فهو مجمل الأدلة الدالة على تحريم القتل، لأن حقيقة رفع السبب الذي تعلقت به الحياة سببياً هي القتل بالمباشرة، ولقد تقدم معنا دليل خاص على صورة المسألة وهو حديث جندب ابن عبد الله رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"كان فيمن كان قبلكم رجلٌ به جرح فجزع،(1/59)
فأخذ سكيناً فحزَّ بها يده، فما رقأ الدم حتى مات، قال الله تعالى:"بادرني عبدي بنفسه حرَّمتُ عليه الجنة""92، وفي رواية مسلم :"إن رجلاً ممن كان قبلكم خرجت به قرحة فلما آذته انتزع سهماً من كنانته فنكأها فلم يرقأ الدم حتى مات"93، والشاهد هنا من الدقة بمكان، فهذا الرجل كانت به جراحة تتهدد حياته، وكانت القرحة التي تسد هذا الجرح هي المانعة من النزيف القاتل، وهذا الوصف بالإضافة إلى قول الله تعالى (بادرني عبدي بنفسه) يدل على أن هذا الرجل كان مشرفاً على الموت، وأن حياته كانت معلقة على سببٍ ماديٍ دقيقٍ غير مستقر، هذا بالإضافة إلى شدة ما عاناه من الألم الذي دفعه إلى استعجال الموت، فلما نكأ هذا الجرح حصل النزف القاتل وترجحت كفة الموت، ومناط الحكم هنا هو مبادرة العبد إلى إزالة السبب الذي تعلقت به الحياة في هذا الوضع الحرج، وكذلك الحال هنا لو رفع جهاز التنفس فإنه يرفع السبب الذي تعلقت به حياة من أصيب بموت الدماغ، مما يؤدي إلى قتله بالمباشرة وهو ممنوع شرعاً، والله أعلم.
بناءً على ما تقدم فإن الصيغة المقترحة للتعامل مع حالات موت الدماغ تتمثل فيما يلي:
1. التوقف في العلاج عند الحد الذي وصل إليه الفريق الطبي ساعة تشخيص موت الدماغ، وعدم تكثيف أو زيادة العلاج عن ذلك94 عملاً بمبدأ جواز ترك العلاج لا سيما في حالات مرض الموت أو المرض الذي لا يرجى برؤه.
2. عدم إصلاح أو إعادة ما قد يتعطل تلقائياً من وسائل العلاج التي يتلقاها المريض: فلو تعطل جهاز، أو خرج أنبوب التنفس من موضعه، أو انقطع دواء ما فلا يُصار إلى إعادته عملاً بمبدأ عدم تكثيف العلاج.
3. الاستمرار في إمداد الجسد بالغذاء والماء حتى لا يُقتل المريض صبراً.
4. التوقف عن إجراء الفحوصات التشخيصية وغيرها من التقويمات التي لا تفيد المريض في شيء.(1/60)
وهكذا فإن هذه الصيغة لا تشتمل على تعاطي أي سبب من الأسباب المفضية للموت بالمباشرة، وفيها إعمال للأدلة الدالة على الندب إلى العلاج وذلك باستصحاب الأسباب العلاجية السابقة لساعة تشخيص موت الدماغ، والأدلة الدالة على جواز ترك العلاج في مرض الموت وذلك بالتوقف عن تعاطي ما لا طائل منه من أسباب علاجية مستأنفة يحكم الأطباء المختصون بعدم جدواها. ومن الجدير بالذكر أن هذا التدبير المذكور غالباً ما لا تستمر معه الحياة لفترة طويلة، مما يدرأ شبهات الاعتذار بالمعاناة الطويلة للمرضى، والتكلفة المادية التي قد ترهق الأموال العامة للمسلمين.
وهنا تبقى مسألتان نختم بهما هذا البحث هما :
1- مسألة ازدحام الحقوق في المال العام: ومدى جواز رفع أجهزة التنفس مما هو مال عام عمن لا يرجى برؤه لإنقاذ من يرجى برؤه، وصورة هذه المسألة تتمثل في حالة وجود مريض ميت الدماغ في سرير العناية المركزة وهو يشغل جهاز التنفس الصناعي، مع طروء الحاجة لهذا الجهاز لمريض يُرجى برؤه، ومحل النظر هنا هو تقديم المصلحة الراجحة وهي استنقاذ حياة من يُرجى برؤه على المصلحة المرجوحة وهي حفظ حياة ميت الدماغ، والمسألة من حيث المصالح والمفاسد وازدحام الحقوق في المال العام تميل إلى ترجيح كفة جواز رفع أجهزة الإنعاش عن الميت دماغه لاستنقاذ من يُرجى برؤه، في حين أن الأصول تقتضي عدم تفضيل نفسٍ على نفس وأن الاضطرار لا يُبطل حق الغير، وأنا متوقف في الترجيح بين هذين القولين، ولعل الأَولى في مثل هذه الحالات أن يكون للمؤسسات الصحية الحكومية موقفاً اجتهادياً من هذه المسائل ليُعمل به في مثل هذه المواقف من جهة كونه حكم الحاكم، والله أعلم.(1/61)
2- مسألة طلب أولياء المريض تصعيد العلاج إلى آخر حد ممكن، سواء أكان على نفقتهم الخاصة أم لا: وصورة المسألة أن يطلب أولياء المريض بعد شرح وتوضيح طبيعة المرض والحالة وغلبة الظن بالهلاك أن يطلبوا الاستمرار في أخذ كل وسائل التدخل العلاجي الممكنة ورفضهم لمسلك عدم تصعيد العلاج، ولا تخرج هذه المسألة عن حالين أحدهما يكون أولياء المريض ينفقون من مالهم الخاص أو لا، فإذا كانوا ينفقون من مالهم الخاص فلا وجه لمنعهم أو رفض طلبهم لأن حقيقة المسألة إجارة على أمر جائز وهو حفظ النفس وهذه مصلحة مقصودة شرعاً لذاتها، وأما لو كانت النفقة من المال العام كالمشافي الحكومية فعلى كل مؤسسة صحية حكومية أن تتخذ موقفاً اجتهادياً يحكم به الحاكم في مثل هذه القضايا، والذي أراه هنا تقديم المصلحة العامة على المصلحة الخاصة فلا يُستجاب لطلب أولياء المريض لأن فيه إهدار مال عام لمصلحة خاصة مرجوحة، هذا مع مراعاة أن المصلحة الخاصة متحققة من جهة استصحاب العلاج الذي يعالج به المريض وإنما جاء التوقف عن استئناف أسباب جديدة غير مجدية، فالمريض قد أخذ حظه وحقه من المال العام ولا بد من مراعاة حقوق الآخرين مما هو أولى بالإنفاق عليه، والله أعلم.
الخاتمة:
بهذا البحث الموجز أكون قد استعرضت ما تيسر لي من الأدلة الشرعية والعقلية على بطلان القول بموت من مات دماغه ولم يتوقف قلبه، وبينت ما يترتب على هذا القول من آثار، وقدمت تصوراً طبياً عملياً مقبول شرعاً للتعامل مع هذه الحالات، وفندت بعض الشبه المتعلقة بهذه المسألة، فأسأل الله عز وجل أن أكون قد وفقت للصواب فيما سطرت، وأن يعفو عن الزلل فيما به أخطأت، وكل ما كان في هذه الرسالة حقاً فمن الله، وكل ما كان سوى ذلك فمن نفسي الخاطئة ولا أصر عليه، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
وكتب الفقير إلى عفو ربه
الطبيب المسلم وسيم فتح الله
غرة ذي الحجة 1426 هـ
1 يناير 2006 مـ(1/62)
…………فهرس الموضوعات
العنوان………………………الصفحة
مقدمة………………………1
فصل: التعريفات……………………3
فصل: تحرير محل النزاع…………………6
فصل: رد النزاع في المسألة…………………8
فصل: أدلة تهافت دعوى الحكم بالموت على من تعطل دماغه إلى غير رجعة:……9
فصل: شبهات وردها…………………46
فصل: ثمرة الخلاف ……………………51
فصل: توجيه التعامل مع حالات موت الدماغ……………52
الخاتمة………………………57
1 سورة البقرة - 194
2 سورة البقرة - 191
3 رواه الترمذي - صححه الألباني
4 رواه أبو داود والنسائي وابن ماجة وصححه الألباني رحمه الله
5 أبين أي قُطع
6 سورة الملك - آية 2
7 صحيح البخاري - كتاب التفسير
8 التعريفات - الجرجاني - 1/304
9 صحيح مسلم - كتاب الجنائز - باب في إغماض الميت
10 هذا المجمع الفقهي التابع لمنظمة المؤتمر الإسلامي
11 عُرف الأطباء هو المتحاكم إليه في هذا القرار كما هو واضح من نص القرار حيث علق الحكم على حكم الأطباء الاختصاصيين
12 وهو ما يعرف بالاأجنبية باسم Brainstem Death
13 وهو ما يعرف بالاجنبية باسم chronic vegetative state، وهذا - أي المعروف بالحالة النباتية - مما لا أعلم خلافاً في عدم جواز الحكم بالموت على من كان تشخيصه من هذا القبيل
14 كالقلب والكبد والرئتين فهذه لا يجوز أخذها من حي لغرسها في آخر حتى عند من يرى جواز نقل الأعضاء لأن المأخوذ منه يهلك كما لا يخفى
15 سورة النساء - آية 59
16 أما عرف الأطباء وعرف أهل الفن فمحتكم إليه فيما اعتبر الشرع العرف ضابطاً فيه
17 سورة الزمر - 42
18 تفسير الطبري - 24/4
19 كنبض القلب والحركة وتحول الغذاء والماء في جسده
20 سورة الأنعام - 93
21 تفسير ابن كثير - 2/158
22 سورة الواقعة 83-87
23 تفسير ابن كثير - 4/300
24 سورة القيامة - 26-28
25 تفسير ابن كثير - 4/452
26 صحيح مسلم - كتاب الجنائز - باب في إغماض الميت(1/63)
27 مسند الإمام أحمد - 4/287، والحديث صححه الألباني في صحيح الجامع وصححه ابن القيم في الروح وهو جزء من حديث طويل
28 صحيح البخاري - كتاب المساقاة - باب فضل سقي الماء - حديث 2234
29 صحيح البخاري - كتاب الجهاد والسير - باب ما يكتب للمسافر مثل ما كان يعمل في الإقامة - حديث 2834
30 كما ورد في حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:" إذا مات الإنسان انقطع عمله إلا من ثلاث صدقة جارية وعلم ينتفع به وولد صالح يدعو له"، قال أبو عيسى: هذا حديث حسن صحيح
31 سنن ابن ماجة - كتاب التجارات - باب الاقتصاد في المعيشة - حديث 2144، وصححه الألباني رحمه الله
32 واستقلاب الغذاء معناه معالجة الجسد له بحيث يتحول من صيغته التي أخذها الجسد إلى عناصره التي تمكن الجسد من الاستفادة منه، وهذا ما لا يتم في الجيف والأجساد الميتة، فتأمل.
33 صحيح البخاري - كتاب الأنبياء - باب ما ذُكر عن بني إسرائيل - حديث 3276
34 صحيح مسلم - كتاب الإيمان - باب غلظ تحريم قتل الإنسان نفسه - حديث 113
35 وفي هذا رد صريح على التذرع بشبهة رفع المعاناة عن هؤلاء المرضى، هذا إذا سلمت دعوى المعاناة
36 صحيح مسلم - كتاب القسامة والمحاربين والقصاص والديات - باب دية الجنين - حديث 1681
37 لم يستهل أي لم يصرخ ، وهذا يدل على عدم تنفسه.
38 السلى هو غشاء الرحم المعروف بالأجنبية بالأمنيوس، ويعرف سائل السلى بالأجنبية بالسائل الأمنيوسي
39 الأشباه والنظائر - السيوطي - الكتاب الثاني- القاعدة العاشرة
40 ويؤكد هذا ما يتخذه القائلون بحكم الموت على الميت دماغياً من احتياطات وفحوصات ومحترزات عند تشخيص حالة الميت دماغياً قبل الحكم بالموت واستباحة ما يرون استباحته بناء على الحكم بموته مما يدل على ترددهم في الحكم بادئ الرأي
41 وسنفند هذه الشبهات لاحقاً إن شاء الله تعالى(1/64)
42 الأشباه والنظائر -السيوطي - الكتاب الأول - القاعدة الثانية، قلت: وهذه كما هو معروف عند أهل العلم من القواعد الخمس الكلية التي ينبني عليها الفقه الإسلامي
43 أي جاءت النبي صلى الله عليه وسلم
44 صحيح مسلم - كتاب الحدود - باب من اعترف على نفسه بالزنا - حديث 1695
45 راجع الدليل رقم 11
46 سنن أبي داود - كتاب الديات - باب فيمن تطبب بغير علم فأعنت - حديث 4586 وحسنه الالباني رحمه الله، ورواه النسائي وابن ماجه رحمة الله على الجميع
47 صحيح البخاري - كتاب الأدب - حديث 5696
48 وسياتي لاحقاً أن المسلم الميت له من الحرمة ما للحي ولكن ذكرنا هذا على سبيل التنزل مع الخصم
49 ولهذا الأمر مجال آخر عسى أن ييسر الله تعالى دراسته
50 صحيح البخاري - كتاب المرضى - باب عيادة المغمى عليه - حديث 5327
51 عمدة القاري - 21/213
52 صحيح البخاري - باب السرعة بالجنازة - حديث 1252
53 صحيح البخاري - باب المحرم يموت بعرفة - حديث 1752
54 صحيح البخاري - باب غسل الميت - حديث 1195
55 ولست ممن يراه
56 سورة البقرة - آية 234
57 المغني - 11/342
58 الإجماع لابن المنذر 1/ 126 ، مسألة رقم 652
59 قواعد الأحكام في مصالح الأنام - العز بن عبد السلام- فصل التقدير على خلاف التحقيق
60 سورة المائدة - آية 45
61 سورة الروم - آية 30
62 سورة البقرة - آية 178
63 سورة المائدة - آية 45
64 كما هو نص قرار عمّان المثبت آنفاً
65 سورة المائدة - آية 45
66 نص قرار عمان وقد تقدم
67 النظريات الفقهية - الدكتور محمد الزحيلي - 130
68 السابق
69 ولقد أثبت الشرع للجنين الذي لم تكتمل حياته بعد أهلية وجوب ناقصة تثبت له بها الحقوق لا عليه، فكيف إذاً بالإنسان مكتمل الحياة الذي طرأ عليه المرض، أليس استصحاب الحكم بأهليته أولى، فتأمل.
70 صحيح البخاري - كتاب الوكالة - باب إذا أبصر الراعي أو الوكيل شاة تموت - حديث 2181(1/65)
71 موتى هنا أي أوشكت على الموت، كما هو معروف في لغة العرب حيث يقال: طلع الفجر وهو يوشك أن يطلع، وأفطر الصائم وهو يوشك على الفطر ،ولما يطلع الفجر بعد أو يفطر الصائم بعد...
72 موطأ مالك - 2/490
73 شرح الزرقاني - 3/110
74 ولهذه المسألة - أعني استقطاع أعضاء آدمي لزرعها في آخر - مجال آخر عسى أن ييسر الله تعالى التفصيل فيه
75 ملحق رقم 2 من كتاب الموقف الفقهي والأخلاقي من قضية زرع الأعضاء - الدكتور محمد علي البار
76 والعجيب أن قرار مكة قد وافق قرار عمان في تجويز رفع أجهزة الإنعاش عمن مات دماغه رغم أنه لا يرى أنه ميتٌ شرعاً، وهذا في غاية العجب، لأن حقيقته الإجهاز على هذا المريض، فتأمل.
77 أحكام الجراحة الطبية - الدكتور محمد بن محمد المختار الشنقيطي - مكتبة الصحابة - الطبعة الثالثة - 228
78 السابق
79 السابق
80 إعلام الموقعين - ابن قيم الجوزية - 86
81 سورة المائدة - آية 32
82 صحيح البخاري - كتاب الجهاد والسير - باب ما يكتب للمسافر مثل ما كان يعمل في الإقامة - حديث 2834
83 الترغيب والترهيب - المنذري - 1/148-149 ، وأخرجه من ذكر
84 صحيح ابن خزيمة - باب فضائل الصلوات الخمس - حديث 310 ( 1/160 )
85 القواعد الفقهية - د.محمد بكر إسماعيل - 72
86 السابق
87 صححه الألباني في صحيح الجامع - وأخرجه بألفاظ متقاربة أبو داود وابن ماجة وابن حبان والدارقطني والإمام أحمد
88 المحلى - ابن حزم - 8/329-330
89 صحيح البخاري - كتاب الرقاق - باب ومن يتوكل على الله فهو حسبه - حديث 6472، وقوله (لا يسترقون) أي يطلبون الرقية، و(لا يتطيرون) أي لا يتشاءمون بالطيور(1/66)
90 ونص الحديث قالت عائشة: لددناه في مرضه فجعل يشير إلينا أن لا تلدوني، فقلنا كراهية المريض للدواء، فلما أفاق قال: ألم أنهكم أن تلدوني؟ قلنا كراهية المريض للدواء. فقال: لا يبقى أحد في البيت إلا لد وأنا أنظر إلا العباس فإنه لم يشهدكم" (صحيح البخاري - كتاب المغازي - حديث 4458) واللدود: صب الدواء في جانب الفم
91 ونص الحديث عن عطاء بن أبي رباح قال: قال لي ابن عباس: ألا أريك امرأة من أهل الجنة؟ قلت: بلى. قال : هذه المرأة السوداء أتت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت إني أصرع، وإني أتكشف فادع الله لي. قال: إن شئت صبرت ولك الجنة، وإن شئت دعوت الله أن يعافيك. فقالت: أصبر. فقالت: إني أتكشف فادع الله أن لا أتكشف، فدعا لها"(صحيح البخاري - كتاب المرضى - باب فضل من يصرع من الريح- حديث 5652)
92 صحيح البخاري - كتاب الأنبياء - باب ما ذُكر عن بني إسرائيل - حديث 3276
93 صحيح مسلم - كتاب الإيمان - باب غلظ تحريم قتل الإنسان نفسه - حديث 113
94 وهذا المسلك متداول حديثاً في عرف المهنة وهو ما يعرف بالعلاج غير التصعيدي Non escalation therapy
??
??
??
??
9(1/67)