تنوير الطلاب
بتحرير أسباب العلم
من كلام رب الأرباب
أبو القاسم المقدسي
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي حكم لأهل العلم على من سواهم فقال : (( قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون)) ، والصلاة والسلام على إمام العلماء القائل : (( من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين )) ، وعلى آله وأصحابه الميامين ، التابعين لهم بإحسان من حملة العلم والمجاهدين . ...
أما بعد..فهذا سِفر كتبته بعون اللطيف..اقتبسته من نور الكتاب..ورجوت أن ينتفع به إخوتي الطلاب وكتبته من إملاء الفؤاد إلا في مواضع نادرة اقتضتني دقة النقل..وعلى الله في ذلك العماد ، وهو الهادي سبحانه إلى سبيل الرشاد . ...
وقصدت به أن يكون ذخيرة لي قبل إخواني من طلبة العلم -وإن كنت والله عيّلا عليهم-ليكون زاداً لي عند الله تعالى. جمعت فيه بين شرائط العلم وأسبابه ، ولطائف معارف وفرائد فوائد. مقتصراً على مرجع وحيد هو كتاب الله عز وجل في تقرير الأصول مستعيناً بالسنة وكلام السلف..ليكون عمدة في انتهاج هذا المنحى في استخراج اللآليء من كلام الله الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه..وعدّة للطالب في المسير..بحيث تكون أمّات هذا المبحث مستحضرة في ذهنه وأضواء الطريق منتشرة من حوله.بمحفوظه من الآيات ..ولم أعز الشواهد من السنة إلى مصادرها في الغالب استغناءً بصحتها عن عزوها والله المستعان وعليه التكلان
(( واتقوا الله ويعلمكم الله )) ...
رتّب العلم على التقوى..لأن حقيقة العلم نور يقذفه الله في الصدور ، وليس هو مجرد حفظ مدونات السطور. ...
وكرر لفظ الجلالة..مع أن المعهود في التكرار إذا خلا عن سبب وجيه.. ...
خروج عن البلاغة ، وإملال للأذن.. ...
فلو قال أحد:واتقوا الله ويعلمكم ؛لم يلحن في ذلك . ...
ولكنه سبحانه كرر اسمه الشريف..تنبيهاً على علاقة العلم بالتقوى..(1/1)
فكأن الله أراد أن يقول : اتقوا الله ؛ لأن من تتقونه هو ذاته الله الذي يعلمكم .
فثم من يقول : إن الواو لا تتضمن ترتيباً بحجة أنها للعطف وليس من معانيها الترتيب كالفاء وهذا صحيح من حيث الأصل ، قال شيخ الإسلام في الفتاوى: ((قد يقال: العطف قد يتضمن معنى الاقتران والتلازم كما يقال:زرني وأزورك ، وسلم علينا ونسلم عليك ونحو ذلك..إلى أن يقول رحمه الله تعالى : ( (فقوله : (( واتقوا الله ويعلمكم الله قد يكون من هذا الباب فكل من تعليم الرب وتقوى العبد يقارن ذلك ويلازمه ويقتضيه فمتى علمه الله العلم النافع اقترن به التقوى بحسب ذلك ومتى اتقاه زاده من العلم وهلمّ جراً )) انتهى )) . ...
والناظر في علم الصحابة..يعلم أن سببه الأعظم بعد شرف استقائهم من معين المعصوم ..الورع والتقوى الفريدان..فلم يكن ابن عباس أو ابن مسعود رضي الله عنهما أو غيرهما من فقهاء السلف يحفظون المتون العلمية والمصنفات الضخمة كما هو حال المتأخرين سوى ما معهم من كتاب وسنة.. ...
وقد قرن الله بين الأمر بالتقوى والأمر بالعلم في غير موضع كقوله)) : واتقوا الله واعلموا أن الله بكل شيء عليم )) تأكيداً على المعنى السابق .
(( إنما يخشى اللهَ من عباده العلماء )) .
قال الإمام أحمد مقتبساً من نور الآية: (( أصل العلم الخشية )) .
وقد وصف الله تعالى أنبياءه عليهم الصلاة والسلام فقال: (( الذين يبلغون رسالات الله ويخشونه ولا يخشون أحداً إلا الله )) .
وثبت عن خاتمهم صلى الله عليهم وسلم أنه قال للثلاثة المتنطعين: (( أما إني أتقاكم لله وأخشاكم له ))
فليس غريباً أن تكون الخشية من أخص خصائص ورثتهم الحقيقيين وهم العلماء الربانيون .
والمتأمل في اختصاص ذكر الخشية بالعلماء دون غيرها ؛ يقع على السبب
فلم يقل سبحانه:إنما يرجو الله من عباده العلماء، وما قال:إنما يحب الله من عباده ، ولا غير ذلك .(1/2)
لأن الخشية منزلة تجعل من طالب العلم- لا أقول عاملاً بما يعلم فحسب، بل داعياً غيره .
آمراً بالمعروف ناهياً عن المنكر ، دون مخافةٍ في الله لومة لائم .
وهذه صفة العالم الرباني ؛ ولأن العلم بالخالق ، وأسمائه وصفاته ، يورث مراقبته..وقدره سبحانه حق قدره ، وهذه حقيقة الخشية .
وبالعكس..فإن خشيته سبحانه تورث عناية من الله تعالى بعبده يرزق بها مزيداً من العلم .
والحب لله تعالى يقتضي الاتباع كما قال : (( قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني )) ولايكون الاتباع لأحد في الأصل إلا عن معرفة به ، وهو ما يلزم من الخشية .
قال الراغب : (( الخشية خوف يشوبه تعظيم وأكثر ما يكون ذلك عن علم بما يخشى منه)) . وهذا دقيق بتأمل السياقات التي ورد فيها ذكر الخشية .
والخشية تمنع صاحبها من الكذب..الذي ينافي العلم..ويناقضه جملة وتفصيلاً..ولهذا ترد رواية الضعيف فضلاً عن الكذاب أو المتهم .
ولهذا أيضاً تجد الخوارج لا يقعون في الكذب ، ويروي عنهم البخاري وغيره، برغم بدعتهم المغلظة ..ولا يكفّرون على الصحيح..وبدعتهم على التحقيق : أنهم عبدوا الله بالخوف وحده ثم غلوا فيه حتى عميت أعينهم عن آيات سوى الترهيب ، بخلاف الرافضة فهم أكذب الطوائف .
وأما الرجاء..فالغالب في الناس أنهم يرجون الله وما عنده ؛ لأن النفس مجبولة على حب ذاتها والطمع..دون ارتباط ذلك بالعلم بنفس الوتيرة الذي يرتبط به الخوف أو الخشية بتعبير أدق .
فإن قيل قد قدّمت الخوف على منزلة الحب، والمعلوم أن الحب بمثابة رأس الطائر كما يقول الإمام بن القيم..والخوف والرجاء جناحاه .
قلت: ليست الخشية هي ذات الخوف..بل هي معنىً يلتئم من الخوف والتوقير والإجلال : (( فلا تخشوهم واخشوني )) .(1/3)
والتعظيم والتوقير المبني على حق يتضمن الرجاء في المعظّم بدليل سيدة السور فإذا قال العبد : (( مالك يوم الدين )) قال الله مجدني عبدي فدل أنه تعظيم ، وحينئذ..يقول العبد : (( اهدنا الصراط المستقيم )) والدعاء رجاء بدليل سيد الاستغفار؛ فإن العبد يقدم بين يدي حاجته تعظيما فيقول: (( اللهم أنت ربي خلقتني-إلى أن يقول : فاغفر لي فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت )) .
ثم هذا التوقير والتعظيم..يقتضي الطاعة ، والطاعة علامة المحب كما قال الشاعر:
لو كان حبك صادقاً لأطعته...إن المحب لمن يحب مطيع
كما أن المقصود بيان علاقة الخشية بالعلم علاقة السبب بالمسبب..فهي أوثق من علاقة الحب به ؛ ذلك أن آية حب الله الاتباع ، ولايكون الاتباع حقيقياً بل لا يكون متصوّراً إلا عن خشية..تورث علماً ، أو عن علم يورث خشية
ولهذا تميّز الأئمة والعلماء الصّديقون الربانيون عبر الزمان بقولهم الحق دون أن يخافوا في الله لومة لائم .
ولو أدى ذلك إلى سجنهم أو قتلهم أو التنكيل بهم..لسبب يسير ألا وهو تقديم خشيتهم لله على خشية من سواه (( فالله أحق أن تخشوه )) .
وكان السلف كما يفهم من كلامهم..يغلبون في الوعظ جانب الخوف على الرجاء ، إلا من وجدوه قانطاً عالجوه بما ينفعه من الرجاء..والمتتبع لآي القرآن..يجد أن النار مذكورة أكثر بكثير من الجنة ، وهذا بميزان العليم القائل : (( ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير )) .
(( الرحمن* علم القرآن*خلق الإنسان*علمه البيان ))
مقدمة هذه السورة الشريفة نبهت على أصل العلم وهو الوحي القرآني .
فلابد على طالب العلم أن يتقصد البدء بحفظ كتاب الله ، وفهم معانيه .
ولما كان القرآن عربياً ؛ ألمحت الآية إلى أن علم القرآن متعلق بالبيان .
فيلزم ممن قصد فهم الكتاب ومقاصده وأسراره وإعجازه أن يكون متضلعاً بالقدر الكافي من العربية ، وهذا جلي في قوله : (( كتاب فصلت آياته قرآناً عربياً لقوم يعلمون ))(1/4)
وأوحت الآية كذلك - بطريق الإيماء -أن صاحب القرآن قوي الحجة ؛ لأن البيان اسم مصدر من بيّن .
وخير البيان هو القرآن فمن اختلط حبه للقرآن بشحمه ودمه أكسبه ذلك قوة في الحجة ، وبراعة في المنطق والبرهان .
(( اقرأ باسم ربك الذي خلق*خلق الإنسان من علق*اقرأ وربك الأكرم*الذي علم يالقلم*علم الإنسان مالم يعلم )) .
تضمنت هذه الآيات على نفائس ، والسعيد من يوفقه الله بالعمل بها بعد الظفر بفهمها .
الأولى-أن الله تعالى قيّد تعليمه الإنسان بالقلم ؛ فدل أن معالجة آفة نسيان العلم تكون بتقييده بالقلم بالتلخيص وتدوين الفوائد والنكت والملاحظات .
الثانية-أن الأمر بالقراءة..جاء معدّى بباء الاستعانة..والمعنى أن فهم القرآن خاصة والوحي بعامة وما يتفرع عنه من علوم .
لابد أن يصحبه من الاستعانة بالله والافتقار إليه والتوكل عليه..والتنصّل من الحول الذاتي إلى حول الله وقوته ما على مثله تتحقق معية الله تعالى وعنايته وفتحه على السالك في مدراج العلم ، ولا يخفى مافي التوسل باسم الرب من التوفيق والتسديد والإلهام ؛ لأن الربوبية مصدر جامع لمعاني أسماء الله تعالى وصفاته ؛ وهي حجة الله على عباده في إلزامهم بتأليهه : (( ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن الله )) .
وسير أكابر أئمة أهل العلم..ملأى بما يدل على عنايتهم بهذا الشرط، ومن أبرز ذلك ما كان من أمر شيخ الإسلام رحمه الله تعالى فلطالما عفّر وجهه بالتراب في المساجد المهجورة..وهو ساجد يقول: اللهم يا معلم إبراهيم علمني ويا مفهم سليمان فهمني..ولهذا قال الملائكة : (( سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا )) .
الثالثة:-تكرار لفظ فعل الأمر(( اقرأ )) مرتين ، ويقارنها تكرير لفظ الفعل الماضي(( علّم )) .
وفي ذلك إشارة إلى أن القراءة مرة بعد مرة، والمراجعة تلو الأخرى، وترديد المحفوظ بعد الترديد .
شرط في ثبوت العلم وازدياد الفهم للمعلوم .(1/5)
وليس عبثاً أن يأتي فعل التعليم، بصيغة الماضي الدال على التحقيق ، في حين جاء فعل القراءة بصيغة الأمر .
كأن الله تعالى يقرر أنه كما خلق وهو أمر لا يجادل فيه أحد ؛ فإنه سبحانه هو من علّم ، وما عليك ياابن آدم ، سوى القراءة بتحقيق الشروط .
(( وعلم آدم الأسماء كلها )) .
يستشف منها ضرورة اهتمام طالب العلم بمفردات اللغة، ومعرفة لسان العرب
فقد عبر بلفظ العموم ( كل )..والراجح في أصل اللغة أنها تعليم من الله بالإلهام .
ولا ينافي هذا أن تكون تطورت مع الزمان ، لكن أن يقال إن مجموعة من العقلاء اصطلحوا على تسمية الأشياء فبعيد وليس عليه دليل قط .
(( قد فصلنا الآيات لقوم يعلمون ))
التفصيل هو الإسهاب في ذكر ما أوجز وأحكم .
فعلى طالب العلم أن يعتني بتقسيم المباحث وتفصيل إشكالاتها وفروعها ، حتى تكون حاضرة، في ذهنه وقت الحاجة إليها .
ومن سمات بحور العلم اتضاح الفروق بين دقائق المسائل ، وتفريعاتها .
ونضرب على هذا مثالاً يسيراً بالتوحيد .
فهو في مجمله إذا لخص بجملة :شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله
فإذا أردت استقراء التوحيد وجدته منقسما إلى ثلاثة أنواع:-
توحيد الألوهية..وتوحيد الربوبية..وتوحيد الأسماء والصفات . وكل واحد من هذه الأقسام يتفرع عنه شعب ومقتضيات ولوازم ، وهكذا
(( فاعلم أنه لا إله إلا الله واستغفر لذنبك وللمؤمنين والمؤمنات والله يعلم متقلبكم ومثواكم )) .
هذه قاعدة جليلة..وهي على صغرها ,يندرج تحتها من الفوائد واللطائف علم جمّ وأسوق إليك طرفاً من ذلك ، وبالله التوفيق ومنه السداد:-
-قدّم العلم على العمل..ولذلك بوّب البخاري باب العلم قبل العمل .
-ذكر من العلم أخصّه ، وهو التوحيد الخالص الذي يطهر القلب من الشرك ، والشبهات
وذكر من العمل الذكر ، وخصّ الاستغفار ؛ لأنه يطهر القلب من الغفلة ، والشهوات(1/6)
واجتناب البدع والمعاصي صفة طريق المسلم الحق ، مثلما أن تحقيق الاعتقاد مقدم على معرفة تفاصيل الحلال والحرام في طريق طالب العلم .
وخص الاستغفار كذلك تلويحاً على : (( إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر مادون ذلك لمن يشاء )) .
-وجمع بين طلب العلم والاستغفار تطهيراً لطالب العلم من العُجب ، وحبه محمدة الناس ، والتفاته لحظوظ نفسه.
-ذكر سبحانه المعمول في فعل : (( اعلم )) وحذفه في فعل : (( استغفر )) لأن من عَلِم اللهَ وأنه لا إله إلا هو حق المعرفة استغفره ولابد ، والقرآن جاء بأبلغ عبارة دالة على المقصود ، والاختصار من طرائق الطلبة الأذكياء..إذا استشرحوا أو قرؤوا المطوّلات ، وقد حذف سبحانه من شهادة التوحيد ههنا الأمر بعلم أن محمداً رسول الله ؛ لأن الخطاب له عليه الصلاة والسلام ، فاكتفى بذلك عن ذكرها ؛ ولأن الأصل أن العلم بالله سبب للعلم برسله ، وأنهم واسطة الحق إلى الخلق في التبليغ.
-نصّ على الذنب في حق الرسول صلى الله عليه وسلم..فقال : (( لذنبك )) وحذفه في حق المؤمنين والمؤمنات ؛ لأن الأصل أن يستغفر الإنسان لذنبه هو فلا يتكل على غير ربه؛ ولأن المؤمنين والمؤمنات أولى بثبوت الذنوب في حقهم سداً لذريعة أن يداخل أحدهم كبر كما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم قوله : (( ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمته )) ؛ ولأنه صلى الله عليه وسلم أسوة لنا..فاستغفاره ربه سبب لأن يقتفي المؤمنون أثره في ذلك.
-ختم بقوله : (( والله يعلم متقلبكم ومثواكم)) فقابل تحقيق التوحيد بالمثوى ، وقابل الاستغفار بالتقلّب ؛ لأن الجنة مثوى كل موحد ، وإن وقع في الكبائر، والمعاصي سبب لتقلب القلوب والاستغفار سبب لثباتها..ومنه دعاء النبي صلى الله عليه وسلم من حديث أم سلمة رضي الله عنها : (( يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك )) .
(( وما علمناه الشعر وما ينبغي له إن هو إلا ذكر وقرآن مبين )) .(1/7)
هذه إشارة أن المبالغة في الاشتغال بالشعر؛ يصرف عن العلم النافع .
ولهذا قال الشافعي:
ولولا الشعر بالعلماء يزري...لكنت الآن أشعر من لبيدِ
وكثير من الطلبة يقضي الأوقات الطوال في حفظ الأشعار على حساب السنة ، وربما القرآن
فيقال لمثلهم: إنما يستعان بدواوين العرب طلباً لفهم اللغة والقرآن .
أما صرف الهمم للإحاطة بأشعار العرب ، أو الإكثار من النظم .
فثم ما هو أولى منه، وإني لأعجب من اشتغال فئام من أهل العلم بوضع المنظومات إلى يومنا هذا ، مع كون القدامى لم يتركوا فنّا إلا كتبوا فيه عشرات المنظومات .
فألئك ضوّعوا العلم ، وبعض هؤلاء ضيّعوه..وإن كان قد يلتمس العذر لبعضهم ، ومن باب الترف هذا أن يجرد أحد علماء النحو وقته لإعراب ألفية ابن مالك .
: (( لقد من الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولا من أنفسهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين )) وقال تعالى : (( هو الذي بعث في الأميين رسولاً منهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين )) وقال تعالى : (( كما أرسلنا فيكم رسولاً منكم يتلو عليكم آياتنا ويزكيكم ويعلمكم الكتاب والحكمة ويعلمكم مالم تكونوا تعلمون )) البقرة 151
وقال تعالى : (( ربنا وابعث فيهم رسولا منهم يتلو عليهم آياتك ويعلمهم الكتاب والحكمة ويزكيهم إنك أنت العزيز الحكيم )) .
وههنا هنا ملحوظات ، وبإزائها تعليقات
-يلاحظ من تدبر هذه الآيات أن الله سبحانه وتعالى قدم التزكية على تعليم الكتاب والحكمة ما خلا آية ، فتقدم تعليم الكتاب والحكمة على التزكية ،(1/8)
والسر في ذلك أن الآية التي تقدّم فيها ذكر التعليم على التزكية هي حكاية على لسان الخليل عليه السلام ، والمقام مقام دعاء والأليق بالدعاء أن يقدّم العلم كما علم الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم : (( وقل رب زدني علماً )) وصح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه دعا لابن عباس فقال : (( اللهم فقهه في الدين )) وفي لفظ : (( وعلمه التأويل )) .
وأنه دعا لمعاوية فقال : (( اللهم علمه الكتاب )) لأنَّ الدعاء بذكر السبب غالباً ما يكون أصدق من الدعاء بالغاية .
فهناك من يقول: اللهم أدخلني الجنة ، وثم من يقول : ارزقني الشهادة في سبيلك فالأول قد لا يلتفت للعمل..والثاني لحظ معنى ثمن الجنة..وأنها محفوفة بالمكاره..فإبراهيم عليه السلام..قد قدم علم الكتاب على التزكية ، باعتبار أن الاستنارة بالوحي ، سبب لتزكية النفس ورفعتها فهو عليه الصلاة والسلام لحظ هذا المعنى وفيه قوله تعالى : (( وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين )) .وحرف الخفض ( من ) للجنس وليست للتبعيض قطعاً..وكذلك قوله سبحانه (( ألا بذكر الله تطمئن القلوب )) والقرآن خير الذكر والنفس المطمئنة نفس زكيّة .
أما في الآيات الثلاث الأخر فهي من كلام الله ابتداءً ، وهي في مقام الامتنان، فناسب كرمه سبحانه أن يقدم الغاية التي أرادها إبراهيم .
وهي التزكية بمنزلة من سأل الله شيئاً فأعطاه الله خيراً مما سأل .
وأيضاً فإنَّ تزكية النفس وتهذيبها بالإيمان ومكارم الأخلاق وأدب الطلب يجب أنْ يتقدم على العلم البحت .
ويدل عليه ما ورد عن ابن مسعود وابن عمر من تعلم الإيمان قبل القرآن
وكذلك ما نقل عن غير واحد من السلف كسفيان الثوري : (( تعلمنا العلم لغير الله فأبى أن يكون إلا لله )) .
فلو أنه تزكى في البدء لما قال ذلك لكنّ الله تكرّم عليه ولطف به فصرف توجهه إليه ، وزكى قلبه بحرصه على العلم .(1/9)
والحاصل أن العلم سبب لرفعة النفس في مقام التزكية ، والاهتمام بتزكية النفس عن الرزايا شرط للعلم الذي ينفع صاحبه فالنسبة بينهما مطردة
-كل الآيات اشتركت في البداءة بذكر وظيفة الرسول صلى الله عليه وسلم وأنها تلاوة الآيات ؛ لأنَّ هذا هو الأصل ولكن بشرط الفهم والتدبر والعمل كما نقل عن أبي عبد الرحمن السلمي: (( حدثنا الذين كانوا يقرئوننا القرآن أنهم كانوا إذا تعلموا عشر آيات لم يجاوزهن حتى يتعلموا ما فيها من العلم والعمل قال فتعلمنا القرآن والعلم والعمل جميعا )) .
فيجب على طالب العلم دونما أدنى ريب أن يقدم حفظ الكتاب..وتدبره..وفهمه ما استشكل عليه..ولو بتفسير صغير الحجم .
ثم يشرع بعد ذلك في التوسع في المتون وغيرها..مع الأخذ بحظ وافر من القرآن ؛ لأنَّ الله قدم الكتاب على الحكمة التي هي السنة ، وكما قال الشافعي: (( كل ما حكم به رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو مما فهه من القرآن مستدلاً بقول الله : (( وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزّل إليهم )) .
-ثلاث آيات منهن اختتمت ببيان حال الأمة قبل البعثة من التيه والانحراف لمناسبة ذلك في معرض الامتنان ( ثنتان منها نصت على الضلال المبين وواحدة أشارت إلى تفسير هذا الضلال وأنه الجهل السابق بقوله تعالى : (( ويعلمكم مالم تكونوا تعلمون )) وآية اختتمت بالثناء على الله تعالى وذكر اسمين من أسمائه الحسنى : (( العزيز الحكيم )) لأنَّ مقام الدعاء يلائمه الثناء .
وأما اختصاص ذكر هذين الاسمين ههنا فهو أدب الأنبياء فنبّه على العزة لأنَّ هداية الضلّال ..لا ينفع الله بشيء ..كما أنَّ معصيتهم..لا تضره..وثنى بذكر اسم الله ( الحكيم ) لأنَّ إرسال الرسل بالكتب المشتملة على الحجة البالغة والرحمة الهادية..هو من لازم حكمة الله تعالى..وهذا نظير قول عيسى عليه السلام : (( إن تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم ))(1/10)
(( وتلك الأمثال نضربها للناس وما يعقلها إلا العالمون)) .
من ثمار العلم الصحيح..أن يعقل أهل العلم الأمثال التي يضربها الله عز وجل..
ويضربها نبيه صلى الله عليه وسلم..
كذلك من أسباب الإعانة على الفهم والتمكن في العقل عن الله..أن يعتني الطالب بأمثال القرآن..
وإن كان المطلوب بالطبع أن يعتني بكل آية..لكن المقصود..أن العناية بالأمثال خاصة..من أسرار الدربة على الفهم..ولهذا قال سبحانه عقيب مثل البعوضة (( فأما الذين آمنوا فيعلمون أنه الحق من ربهم )) .
(( إن في ذلك لآيات للعالِمين )) .
التفكر في ملكوت الله ومخلوقاته..والوقوف على دلائل جبروته ورحموته..
وجلاله وعظمته..ما انفك صفةً أصيلة في كل مؤمن..وهي في حق العالم أوجب منها في حق عامة الناس..وقد نبه الإمام الجهبذ ابن القيّم ، وأفاض في ذكر بعض عجائب ما خلق الله عن متابعة دقيقة منه ، وليس نقلاَ عن غيره كحديثه عن النحل مثلاً .
(( أأنتم أعلم أم الله )) هذا سؤال استنكاري من الله تعالى..والجواب:بل الله أعلم .
وهذا الجواب الحتم سر من أسرار التواضع..فإنَّك لا تجد عالماً نحريراً مخلصاً إلا أكثر من هذه الإحالة إلى علم الله المطلق..ولا تجد متطفلاً على العلم أو معجباً بعلمه..إلا أقلّ منها..دفعا لتوهم الناس –في ظنه-أنْ يقولوا لو كان (( والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا )) .
هذا على قراءة الوقف عند قوله : (( وما يعلم تأويله إلا الله )) .
وفرق بين العالم..والراسخ في العلم..فكلاهما قد يشترك في حفظ ذات الأشياء(1/11)
أما الراسخ..فهو كالجبل لا تهزه عواصف الشبهات التي يوردها المبطلون..وإن لم يهتد لبيان مشكلها أو ما ظاهره التعارض..فتراه مسلّماً بأنه الحق..كما لو كان يراه رأي العين أو أزيد من ذلك..وقد أسدى الإمام بن تيمية..لتلميذه ابن القيم نصيحة نفيسة احتفى بها فقال له : (( لا تجعل قلبك للإيرادات والشبهات مثل السفنجة فيتشربها فلا ينضح إلا بها ولكن اجعله كالزجاجة المصمتة تمر الشبهات بظاهرها ولا تستقر فيها )) .
فتكسوه هذه الخصلة من كرامة الله له والعناية به باستعماله في مرضاته والذب عن دينه
في المواطن التي يعز فيها الرجال..مع ما يصحب ذلك من الثبات في المحن والصبر على اللأواء
وأما على الوقف على قوله : (( والراسخون في العلم )) فيكون الراسخون مشمولين في علم تأويل المتشابهات .
ودخولهم في علم ذلك بواو العطف مع الله تعالى شرف لا يدانيه شرف
والله أعلم
راسخاً لجزم في المسألة .
(( وما اختلف الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءهم العلم بغيا بينهم ))
فالاختلاف من بعد مجيء العلم دليل على البغي ..والتعصب..والظلم ، وليس هو من باب اختلاف التنوع، إذا كان في المسألة دليل شرعي واضح ليس معارَضاً بغيره .
ولهذا قال الشافعي : (( إذا صح الحديث فهو مذهبي )) وقال أحمد : (( من ترك حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو على شفا هلكة )) وقال أبو حنيفة: (( إذا أتاك الحديث من رسول الله فاضرب بقولي عرض الحائط )) وقال مالك: ((كل أحد يؤخذ من قوله ويرد إلا صاحب هذا القبر ))
فمن وجد نفسه يختار قول إمام يبجله..مع كون حجة غيره أقوى..فليتهم علمَه وقلبه
(( قل الروح من أمر ربي وما أوتيتم من العلم إلا قليلاً )) .
لابد على طالب العلم مهما بلغ شأنه ..أن يظل مستحضرا أن ما أوتيه من العلم قليل..
فلا يغتر بما معه..فيعاقب بالحرمان والطغيان..وقسوة القلب وفساد النية
وقد قيل في مراتب طالب العلم في ذلك:-(1/12)
-المبتدي..وهو يتوهم بحفظه لبعض المتون وإتقانه لبعض المسائل..أنه غدا في عداد الراسخين أو من يحق لهم الفتوى..والجسارة على ما ليس من حقه
-والمتوسط..وهو من فجأته كثرة العلوم والكتب واطلاعه على علم العلماء ..فأكسبه ذلك تواضعاً وانكسار نفس .
-والمنتهي..وهو من إذا سألته عن حجم علمه..قال لك:لا أعلم شيئاً!
ثم اعلم أن استذكار المرء لكون علمه قليلاً جداً..يحفزه لمواصلة المسير..بقدر ما يتيقن من هذه الحقيقة..
(( إن الذين أوتوا العلم من قبله إذا يتلى عليهم يخرون للأذقان سجداً )) . وإنك لن تجد عالماً ربانياً صادقاً..إلا وجدت الله قد جمّله بحسن عبادته والإنابة إليه والإخبات..والانكسار بين يديه سبحانه ما بين قيام ليل وغيره..وقد أرشد النبي صلى الله عليه وسلم إمام العلماء معاذ لأنْ يقول دبر كل صلاة: (( اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك )) .
ومن تتبع سير أكابر أهل العلم..يلحظ ذلك خصيصة فيهم..
وقد راقب ابن القيم شيخه ابن تيمية..فنقل أنه كان يجلس بعد الفجر حتى ينتصف النهار..
فقال له مرة:هذه غدوتي ولم لم أتغدَّ سقطت قواي .
وعند الترمذي من حديث علي موقوفاً..قال في صفة القرآن: (( ولا يشبع منه العلماء )) .
ونحو ذلك عن عثمان رضي الله عنهما..فقال: لو صحت قلوبنا لما شبعت من كلام الله .
وقد وصف حالة الذين أوتوا العلم..وأثنى على خشوعهم ..وبيّن ما يحرصون هم على إخفائه..رفعاً لذكرهم..
وصوّر حالاً من أحوالهم..وهو الخر للأذقان بالسجود ..عند تلاوة الآيات عليهم .
مع أنَّ أهل العلم تطرق أسماعهم آيات الله كثيراً..فلا يعتادون عليها..وهم في خشوع مستمر .
يتعاظم مع تعاظم علمهم..بخلاف الضلّال الظالمين..فلا يزيدهم القرآن إلا خساراً
والآية عامة في الذين أوتوا العلم ولا وجه لتخصيصها
(( بل هو آيات بينات في صدور الذين أوتوا العلم )) .(1/13)
وهذا دليل الحفظ..وقد وجدت شاعر النيل-رحمه الله- في كتابه النظرات يسخر من حفظة المتون..ككتاب كالبخاري ونحوه..قائلاً إن هؤلاء الحفظة..لم يزيدوا على أن زاد عدد النسخ!..وهذه نظرة قاصرة وقع فيها جماعة من المعاصرين..من الفقهاء ونحوهم..من المغترين بفهمهم أو الفرحين بما عندهم من العلم .
ووضوح بطلانها أظهر من أنْ يرد عليه .
وقوله ( بينات ) بيان لشرف محفوظهم .
وتأكيد على أنَّ حفظهم قارنه الفهم .
فليس ما استودعوه صدروهم حروفاً مجردة..لا تجاوز حناجرهم..
بل آيات بينات..تهدي إلى الحق وإلى صراط مستقيم .
(( يرفعِ الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات)) .
قال ترجمان القرآن :أي يرفع الله الذين أوتوا العلم من الذين آمنوا على الذين آمنوا ولم يؤتوا العلم .
وفرق بين (( الذين أوتوا العلم )) وبين طلبة العلم..أو العلماء..
لأنَّ الله تعالى هو من آتاهم العلم وإن كان بنى الفعل على مالم يسم فاعله..
فهذه النسبة تدل على شرفهم..بخلاف مطلق طلبة العلم..فلا يلزم أنْ يكونوا أرفع درجة من الذين آمنوا..حتى يحققوا ما تعلموه ويدعوا إليه ويصبروا على الأذى فيه ولا يتنكبوا الطريق..فإنْ خالفوا مجاملة لسلطان أو طمعاً في منصب أو رياسة أو تقديماً لخشية أحد وملامته على خشية الله تعالى..إلخ..فإنما يتبعون أهواءهم..وهم حيئنذ من شرار الخلق..فعلم أن هناك علماء ربانيين..وعلماء سوء..في كل زمان ومكان .
قال ابن المبارك رحمه الله تعالى ورضي عنه :وهل أفسد الدين إلا الملوك ..وأحبار سوء ورهبانها .
(( ففهمناها سليمان وكلا آتينا حكما وعلما )) .
دلّت الآية أن الفهم أخص من العلم..
فعلى طالب العلم أن يحرص على الفهم العميق لأنه نادر حتى في ذكره في الكتاب العزيز فلم ترد مادة "فهم" في القرآن العظيم..إلا في هذا الموضع..فذلك مما تتفاوت فيه مراتب العلماء والمجتهدين(1/14)
وإسناد التفهيم لله تعالى..يتضمن التذكير بعدم الاغترار ..على طريقة من قال"إنما أوتيته على علم عندي"
فهناك من طلبة العلم من لسان حاله كذلك..وإن لم يتفوه بلسان المقال
ولهذا أحسن كثير من العلماء..في السنة التي درجوا عليها بتسمية كتبهم..بالفتح..
كفتح الباري..وفتح المبدي..وفتح المغيث..اعترافا منهم وإقرارا بأن الله هو من منّ عليهم بالفتوحات وعلمهم .
وقل رب زدني علما"
هذا الأمر الرباني في حق أعلم الخلق..فتعين على سالك طريق العلم..
أن يتخذ له زادا من هذا الدعاء ونظائره..يعينه على بلوغ مرامه من التوقيع عن رب العالمين
والقيام بمهمة المرسلين..والدعوة إلى الله تعالى..
ولم يرد طلب الاستزادة من شيء بلفظ اشتق من "الزيادة " في كتاب الله..إلا العلم..
فتدبر!
((قل الحمد لله بل أكثرهم لا يعلمون)) لعل الحمد مما يمتاز به أهل العلم..وكما في الآية الأخرى""هل يستويان مثلا الحمد لله بل أكثرهم لا يعلمون"
فتجد أحدهم إذا استفتي بدأ جوابه بالحمدلة..شكرا لله أنه علمه هذا الذي سيجيبه
وعندما علم الله تعالى سليمان عليه السلام منطق الطير والدواب..وسمع كلام النملة قال"رب أوزعني أن أشكر نعمتك التي أنعمت علي"
والآية تربط بين العلم والحمد من طرف خفي ..فكان لزاما على الطالب أن يستحضر نعمة الله وشكره في كل شيء فهمه وحفظه..ويستودع الله تعالى بهذا الحمد أن يبارك في علمه..
وأختم باستنباط الفوائد من أشهر قصة علمية ..وهي رحلة موسى عليه السلام لطلب علم الخضر..وفيها جماع ما تفرق في الآيات من شروط وأسباب لطلب العلم والترقي فيه..
- أول شيء- الإخلاص ..
وهذا الشرط جامع مانع..وذِكره على التحقيق..يقود إلى ما سواه..وهو شرط في كل عمل..وشطر لقبوله...عند الله سبحانه وتعالى ويظهر إخلاص موسى عليه السلام منذ مطلع القصة حيث قال"لا أبرح حتى أبلغ مجمع البحرين "(1/15)
فهذا الإصرار بهذا النفي المقيد بانتهاء غايته..وهي لقاء الخضر عليه السلام..ليتعلم منه..
والحق أن كل آيات القصة تنضح ببيان إخلاص موسى عليه السلام
ثانيا-الغربة والعزلة..في طلب العلم..
..فكل من ألف خلطة الناس..وأكثر من تندره مع الخلان والأصحاب والأهل..لايمكن أن يصبح عالما..
ولهذا سافر موسى عليه السلام مع فتاه لطلب العلم وقال"أو أمضي حقبا"..أي مهما سرت من أحقاب الزمان فلن أبرح..حتى بلوغ غايتي وهي الخضر..ليعلمني..ولهذا لاتجد في سيرة العلماء ..من لم يرتحل أو ينعزل في طلبه ..كل بحسبه..وليس معنى هذا الانقطاع الكلي عن الأبوين والزوج..ونحوهم..ولكن أدنى الكمال في ذلك..أن يقتطع الإنسان من وقته جزءا معلوما
في بيته يداوم عليه..يكون فيه منكبا على العلم والنهم به..ولايزاحمه في وقته هذا أحد..وقد سئل مالك عن رجل محكوم بالقتل..ماذا يفعل إلى حين قتله..قال:يتعلم علما!
وترك الشافعي قيام الليل ليلة مبيته عند أحمد حتى استعظمته فاطمة بنته على سبيل الإنكار..فلما سأل الإمام أحمد في صبيحة اليوم علل ذلك بأنه كان يتفكر في قضية فقهية فرع عليها نحو سبعين مسألة وهو مضطج!
ثالثا-الكفاف في الطعام والمتاع والتقلل منه بما يقيم الصلب..
واستمع إلى موسى عليه السلام وهو يقول"آتنا غداءنا لقد لقينا من سفرنا هذا نصبا"فجاع في سبيل العلم..وعند هذا الموطن خاصة أي لما بلغ به النصب في طلب بغيته العلمية حد الجوع..اهتدى إلى الأمارة التي أوصلته للخضر..فتأمل!..وكما عند مسلم عن يحيى بن أبي كثير مقطوعا:لا يستطاع العلم براحة البدن
وليس معنى هذا أن يحرم الإنسان نفسه الطعام"قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق"..ولكن يتقلل من المتاع..ولا يملأ بطنه..ولايسد شهوته بكل ما اشتهى..بل يعيش كفافا ما أمكن..(1/16)
ولما رأى الإمام الشافعي..الإمام محمد بن الحسن الشيباني(أحد كبار تلامذة أبي حنيفة )..قال له:ما رأيت سمينا عقل قط غيرك..وصدق من قال:البطنة تذهب الفطنة
رابعا- التواضع..وهو من أعظم الشروط وأبرز معالم طالب العلم الحقيقي الذي طلب العلم ابتغاء مرضاة الله..ونفع الأمة,,وإعزازها..
فتأمل كيف قال موسى عليه السلام وهو كليم الله تعالى وذو المقام الرفيع ومن أولي العزم"هل أتبعك على أن تعلمن مما علمت رشدا"
1- فأتاه بصيغة السؤال..لا بصيغة الجزم..وفي هذا من التواضع والأدب ما لايخفى..فلم يقل له:أريد أن تعلمني..ولكن تلطف تواضعا فقال:هل..وعلاقة الأدب بالتواضع.. من علاقة الصفة بلازمها..وهي كعلاقة الرجولة بالشجاعة..أو الشهامة بالكرم
2- ثم قال "أتبعك"..فهو تابع..ومن يأنف اتباع أهل العلم الراسخين ..فاته المقصود..حتى لو كانوا أصغر منه سنا ..وقديما قال السلف:اثنان لا يتعلمان المستحي والمتكبر
3- وأيضا قوله"تعلمن"..ولم يقل تذاكرني..أو تدارسني..أو تبادلني النقاش العلمي...كأنه ند له وصاحب..(مع كونه أفضل منه قطعا!)..ولكن نسب العلم إليه
4- ثم قال"من ما علمت رشدا"..أي أريد بعض ما عندك فحسب..لا كل ما لديك من علم
ولاشك أن من تكبر من العلماء ففيه شبه من إبليس ..الذي غره علمه..فاستحق اللعنة
وفيه شبه باليهود..الذين استحقوا غضب الله ولعنته
فتدبر كيف اختزلت جملته القصيرة..كل إشارات التواضع لله والذلة على أخيه..كما قال تعالى في صفة الأبدال"أذلة على المؤمنين "..فما ظنك بطلبة العلم منهم..كيف ينبغي أن يكون؟
خامسا- الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر..وهي من زكاة العلم الواجبة
والنصاب فيها مبلغ كل واحد من العلم..فيما يعرف وينكر..بشرط إعمال الحكمة
وقد اشتملت القصة على إنكار موسى على الخضر في ثلاثة مواقف..
فكان أول ما أنكر عليه"أخرقتها لتغرق أهلها"؟
ولم يحتمل أن يرى ما يظنه منكرا دون السكوت عليه..حتى مع من له فضل عليه(1/17)
وفي هذا أدب الشفافية والصدق والعدل..وعدم التعصب للمشايخ..بنفي أي خطأ عنهم.. وإنزالهم منزلة المعصومين بلسان الحال
بل نصحهم وتبيين خطئهم بأدب الإسلام..
والعالم الذي لا يأمر بالمعروف ولا ينهى عن المنكر..عالم سوء..بحسب انتفاء ذلك عنه
وقد وصف الله خسة كثير من علماء بني إسرائيل واستحقاقهم اللعنة على لسان داود وعيسى بن مريم أنهم "كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه"
سادسا-التضحية ..فتهون على الإنسان نفسه في سبيل طلب العلم..
وذلك جلي في فعل موسى حيث ركب السفينة وهي مخروقة..وخاطر بحياته..وأرخصها في سبيل العلم الشرعي المفضي إلى مرضاة الله عز وجل
وقد ارتحل جابر
بن عبد الله رضي الله عنه من البصرة للمدينة..في طلب حديث واحد!
وعبد الله بن أنيس..رضي الله عنه كذلك
من المدينة إلى الشام..في طلب حديث واحد
ويدل عليه أيضا مجاهدة موسى في الوصول للخضر وفرحه بظهور الآية فقال "ذلك ما كنا نبغ فارتدا على آثارهما قصصا"..وقطعه المفاوز الطوال دونما يأس
سابعا-معصية الشيطان..الذي يوحي بالأهواء
فإن تسلطه على المرء سبب للنسيان وانعدام البركة في العلم
ولذك عزا فتى موسى النسيان إليه..فقال"وما أنسانيه إلا الشيطان أن أذكره"
ومن أعظم ما يعين على طرده وكبح وساوسه ذكر الله تعالى
ففي مسند أحمد بسند صحيح"أنا مع عبدي ما تحركت بي شفتاه"
ومن أشهر ما قيل في ذلك..قول الإمام الشافعي:-
شكوت إلى وكيع سوء حفظي..فأرشدني إلى ترك المعاصي
وأخبرني بأن العلم نور..ونور الله لا يؤتى لعاص
ووكيع بن الجراح..من أكابر أهل العلم..وفي طبقة شيوخ الشافعي
ثامنا- الرحمة.. واقترانها بالعلم..سبب للبركة فيه ووضع القبول في الأرض
فإن طالب العلم إذا كان قاسيا زهد في علمه الكثير..وكما قال تعالى في أعلم الخلق صلى الله عليه وسلم "ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا
من حولك".. وانتزاع الرحمة منه آفة تورث العجب بنفسه وغمط الناس حقهم..وجحد ما عند الآخرين من صواب(1/18)
يدل عليه من قصة موسى "فوجدا عبدا من عبادنا آتيناه رحمة من عندنا وعلمناه من لدنّا علما"
وهذه الرحمة في الأصل خاصة بما سوى الكافرين..من مؤمنين..وتشمل المخلوقات من دواب ونحوها
أما الكفار..فكما قال تعالى في صفة الصحابة"أشداء على الكفار رحماء بينهم"
وقد كان أبو بكر أعلم الصحابة..وكان مع ذلك أرحمهم..كما تدل سيرته ومناقبه
أما حديث الأوسمة..وفيه "أرحم أمتي بأمتي"..فأعله السخاوي ..فهو ضعيف
والله أعلم
تاسعا-الصبر..حتى كان أول ما سجله الله تعالى على لسان الخضر أن قال لموسى"إنك لن تستطيع معي صبرا"..
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: يرحم الله موسى لو كان صبر لقصّ الله علينا من أمرهما
فدل أن الصبر والمصابرة..التي هي الصبر على الصبر..سبب للعلم الكثير..كما أن نقصه سبب للحرمان
ثم إن الإحاطة بالعلم..والتوسع فيه..سبب رئيس للصبر..كما أن الصبر شرط للتعلم
يدل عليه قول الخضر"وكيف تصبر على مالم تحط به خبرا"
واختتمت القصة بقول الخضر"ذلك تأويل مالم تسطع عليه صبرا"..
فمعرفة مآلات الأمور وتفسيرها واستنباط الأحكام واستكناه الدلائل..كل ذلك وثيق الصلة بصبر العالم والمتعلم..والمبتدي والمنتهي..إذا جاز أن نقول :منعاشرا-الأدب-يبدو جليا في جواب موسى عليه السلام"ستجدني إن شاء الله صابرا ولا أعصي لك أمرا"
وههنا أدب مع الله..بقوله"إن شاء الله"..وأدب مع شيخه..بوعده بالصبر..وعدم عصيان أي أمر..
لأن النكرة جاءت في سياق النفي في قوله"ولا أعصي لك أمرا"..وذلك يعمّ
والعجيب أن موسى عليه الصلاة والسلام..مع استثنائه بقوله " إن شاء الله".. لم يصبر
فالله تعالى لم يشأ لحكمة بالغة..
وقد منع موسى من ذلك غضبُه وحدته..
ولو صبر وتحلّم..لتعلم وتعلمنا كثيرا..
تهٍ .
الحادي عشر-الحفظ....وعدم الركون إلى المخزون في المكتبة..فما العلم إلا ما حواه الصدر
يقول الإمام الشافعي
علمي معي حيثما يممت يتبعني..قلبي وعاء له لا جوف صندوق ِ(1/19)
إن كنت في البيت كان العلم فيه معي..أو كنت في السوق كان العلم في السوق ِ
وقال الإمام ابن حزم بعد تعرضه لفتنة حرق كتبه
فإن يحرقوا القرطاس لا يحرقوا الذي
تضمنه القرطاس بل هو في صدري
يسير معي حيث استقلت ركائبي
ويمكث إن أمكث ويدفن في قبري..
وقد أجاد ابن حزم فيما يبدو لي فوق إجادة الشافعي في وصف ذات الأمر..
وعدا جماعة من الشطار على قافلة كان فيهم أبو حامد الغزّالي فترجّاهم وقال..:خذوا كل شيء ودعوا لي كتبي..فنظر إليه الله اللص شزرا..وقال ما معناه:بئس طالب العلم أنت!
لو كنتَ عالما لحفظتها..فتأثر الغزالي من يومها وعزم أن يحفظ ما يتعلمه
وهذا الشرط يهمله كثير من طلبة العلم بحجة أن الفهم يكفي وهو باطل..فعود نفسك أن تحفظ كلما وقعت عينك على فائدة..بحسب تيسير الله لك..بدءا بالكتاب ثم السنة..وغير ذلك
ويشير إلى هذا بالتلميح قول الله تعالى"نسيا حوتهما"..وقول يوشع بن نون"وما أنسانيه إلا الشيطان أن أذكره"
فلما نسيا..استدركا وعادا أدراجهما..وهكذا النسيان يعالج بالعود على بدء مع كل محفوظ..لترسيخه في الذهن
الثاني عشر-العدل..من القيم العزيزة ..التي تلبس طالب العلم تاج القبول
وتزين علمه بالصدق والاعتبار والبركة..
وقد برز عدل موسى عليه السلام جليا..فحين أنكر على الخضر في الحادثتين الأوليين كان شديدا لأن ظاهر الأمر الفساد البالغ..فشدد عليه في النكير..بخلاف الحادثة الثالثة..فتلطف في الإنكار..لأن ظاهر عمله الإحسان فقال"لو شئت لاتخذت عليه أجرا"..بصيغة "لو"..الدالة على التحبيذ
ثم الحادثة الأولى..عبر عن المنكر بقوله"لقد جئت شيئا إمرا"..في خرق السفينة..
وفي الثانية اختلف توصيفه فقال "لقد جئت شيئا نكرا".على خلاف بين العلماء..أيهما أشد وأبلغ النكر أم الإمر؟
قيل الإمر لأن حاصل خرق السفينة.. إغراق جماعة كثيرة..
وقيل بل النّكر.. لأنه ذكره عقيب سفك دم ظاهر العمد في حق غلام(1/20)
وليس المقام مقام ترجيح..ولكن عدل موسى ظاهر حتى حين أخطأ التقدير وظن أن ما قام به الخضر من المنكرات
بخلاف بعض المنتسبين لطلب العلم..فتجدهم إذا ناظروا أشعريا أو رافضيا..لم تشعر من كلامهم سوى أنهما على نفس الدرجة من الضلال..مع أن الفرق بينهما..كالفرق بين السماء والأرض..
وكذلك يخلط الكثير بين المبتدع القح المصر على بدعته الداعية إليها..وبين المجتهد الذي يُعذر..أو حتى المبتدع الذي يحتفظ ببدعته دون دعوة غيره إليها..والبون بينهما كبير شرعا وعقلا
وقس على ذلك عامة الأحكام.. يصدرها بعض طلبة العلم الذين لم يتخذوا منهج العدل ضابطا..
فيسقطون بالكلية..من يخطيء في مسألة هنا أو هناك..أو يجردون أقلامهم كأشد السيوف الصوارم..في مقارعة من يخطّيء عالما يتعصبون له ويحبونه..
وذلك آفة الحيدة عن العدل..فهو بين إفراط وتفريط .
واعلم أرشدك الله للعلم النافع..أن جماع الإمامة في الدين ملخّص في قول الله تعالى"وجعلنا منهم أئمة يهدون بأمرنا لما صبروا وكانوا بآياتنا يوقنون"
فالصبر بأنواعه..سبب للترقي في العلم المبثوث في السطور..كما أنه سبب للسلامة من الشهوات والمعاصي..وفضول المباحات
واليقين في حقيقته..سبب للترقي في إدراك نور العلم المقذوف في الصدور..كما أنه سبب للسلامة من الشبهات والبدع..وفضول الجدالات
وهذه الإمامة..تكون تارة لأئمة العلم..وتارة لأئمة الجهاد..
وأختم بلطيفة..
قال الله تعالى"قال الذين أوتوا العلم إن الخزي اليوم والسوء على الكافرين"(1/21)
وهذا تشريف لأهل العلم عجيب..فإن لهم -حتى يوم القيامة- مقاما كمقامهم في الدنيا من الحكم في القضايا والإفتاء فيما أشكل..فهذا الذي سجل الله أنهم يقولونه..هو رديف قوله سبحانه عن الكافرين"ثم يو القيامة يخزيهم ويقول أين شركائي الذين كنتم تشاقون فيهم"..وههنا..عقّب الله تعالى بذكر قولهم الذي يشبه الفتوى "قال الذين أوتوا العلم :إن الخزي اليوم والسوء على الكافرين"..فهو يستشهد سبحانه بكلامهم..وما أعظمه من تشريف..!
وأظهر من ذلك في بيان شرفهم أنه استشهدهم على أعظم شهادة ,وحدانيتٍه سبحانه فقال عز من قائل"شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولو العلم قائما بالقسط"
ومن بديع هذه الآية..أن الله تعالى لم يخص الأنبياء-صلوات الله وسلامه عليهم- بذكر..فدخلوا هم وورثتهم في مدلول"أولو العلم"
وصل اللهم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم(1/22)