تنوير الأفهام
إلى بعض مفاهيم الإسلام
تأليف
محمد إبراهيم شقرة
حقوق الطبع محفوظة
الطبعة الأولى 1405 - 1985م
الطبعة الثانية 1421هـ - 2000م
تنوير الأفهام
إلى بعض مفاهيم الإسلام
بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة تنوير -ولو أثقله غباؤُه، أو زاده وزناً غِلظُ خُلُقِه، أو أرهقه سماجة حِسِّه وبلادة جلده- بدراهم معدودة من زهادةٍ فيه، وصرفةٍ عنه، وأنه من غير أهله ولا فيهم، يسعى إليه، وينادى بألقاب وأوصاف وكنى، تستحيي هي من نفسها أن تُنْسَبَ إليه أو يُنْسب إليها، أو تُذْكر معه أو يُذْكر معها.
وأحسبُ الأقلامَ قد أصابها دوار وأحلَّها شِقَّ البوار، والمحابر قد ملَّت ملأَها وإفراغها، والورق قد كره الحروف والكلمات التي تُرسَمُ فوق السطور.
وإني لأحمد الله سبحانه على ما أولاني من نعمٍ كثيرة، ومن أحسنها وأقربها منزلةً من قلبي، وأرغبها إليَّ نعمة العلم، وهي نعمة جُلَّى بقليل القليل منها، فإن أصبته وعملتُ به، فقد أصبت الخير كلَّه، وإنِّي لأستغفر الله من الحَنَفِ عنه، وأسأله سبحانه أن يردَّ إليَّ عافيةَ الرغبةِ في الحرص عليه، فَأَكون من المحسنين.
وقد كنت قبل خمسة عشر عاماً أخرجت للناس واحداً من كتبي هو: تنوير الأفهام إلى بعض مفاهيم الإسلام، وكان الذي اختار هذا العنوان له، واحداً من الأبناءِ الذين حاصوا حيصتهم الرادفة، وباضوا بيضتهم الواحدة، وأرخوا عليها ذيولهم إسبالاً، جزاه الله خيراً.(1/1)
وبعد مرور هذه الأعوام، رأيت أن أضمَّ إلى كتابي هذا موضوعاتٍ أخرى، ظهر بعضها من قبل، ولم يظهر البعض الآخر، فأجمعها على صعيد واحدٍ، لما أرى من فائدةٍ فيها تعود على القرَّاءِ إن شاء الله تعالى منها، ولأنها تلتقيها على غايةٍ واحدةٍ، وتأْلفها وَحْدةٌ واحدةٌ، وتسير إلى جانبها في سبيلٍ واحدٍ، ولسوف يظهر هذا للقارئ الكريم، ويعلم علماً يوثقه إلى الأمر الذي أردت إليه إن شاء الله سبحانه، في غير تكلُّفٍ ولا تحرُّجٍ، حتى يتبيَّن له أنه الحق إن شاء الله، ومنه: كراهيتي للتأْليف والكتابة، فقد كفينا همَّها من قبل، وقافلة الأيام تمشي موقورة بأحمال العلم، التي ألقت بها عقول البررة الصُدُق من علماء الأمة من قرونها المتتابعة العتاق، لا تبغي حولاً عن إسداءِ الخيْر إلى كلِّ من يحرص عليه في أعطافها، بإملاءٍ، أو إنقاصٍ لضرٍّ، أو إبانةٍ لشرٍّ، أو إمضاءٍ لموعود إحسانٍ، أو غير ذلك من خزائن العلم التي لا يملكها مَلِك، ولا يأتي عليها فناءٌ، ولا يُمرضُها سقم، ولا يُضلُّها تيهٌ، ولا يُبْرِمُها عَهْدٌ، ولا يخفيها رعْبٌ.
والعلم يأسِر صاحبه إن أحبَّه، ويزهد فيه إن آنس في غيره من أعراضِ
الدُّنيا ما يصرفه ولو إلى حين عنه، ويوثقه إليه إن وصله به واصلةٌ من معروف، لا تنأى به عمَّا يرغب فيه، ولا تُدنيه مما لا يُرغبُ فيه، وتقفه على حدٍّ وسط بين الاثنين، حتى إذا رأى ما يُرْغَبُ فيه مال إليه، وإن رأى غير ذلك صرف وجهه عنه، فهو أشبه ما يكون بالإنسان صاحب الإرادة، يُقبل ويُدبر، ويبعد ويقرب، ويحب ويكره، وهو ثابت مقيمٌ على الشيء الذي يراد منه، لا ينتقص منه، ولا يزاد عليه إلا إن كان لصاحبه رغبٌ يحرص به عليه، أو غير ذلك فيعرض عنه.(1/2)
وحسبي من هذا الذي وصفت من حال العلم، أني آنست مما أفضل الله به عليَّ من علمٍ يسيرٍ -وهو عليّ كثير- بعض مسائل أضُمُّها وأجمعها إلى المسائل التي أخرجت بها كتابي هذا أوَّل مرة، فيكون حافلاً بشيءٍ جديد لا أدَّعي أنه لم يعرفْ من قبل -فذا شيءٌ من الضرب في غيب مضى، متقطعاً على مرِّ السنين الخوالي- يعرفه من لم يسبق له أن عرفه، فيكون جديداً عليه، ويراه من عرفه من قبل، فيزداد به علماً وتثبتاً بما عرفه، لكنه مع ذلك لا يخلو من جديد فاته، أو يكون قد نسيه فذكره بعد طول نسيان، وغيابٍ عن قلبه، فكأنما هو بهذا أو بذاك شيء طارف وتليدٌ في آن معاً.
ولعلَّ أهمَّ جديد صار إلى هذا الكتاب، ما كنت قد أعلنته في كتابي "إرشاد الساري" من المسائل الأربع، التي أورمت آنافاً، وأهاجت صدوراً، وأعمت أعيناً، وأصمَّت آذاناً، وزحزحت مودَّاتٍ عن مواطنها، وكأنما كانت تتربَّص الدوائر بأمرٍ تحبُّه أو تكرهه - لا أدري- لتنال ممن كان لها يوماً ذكرٌ في أنفسها، وكانت تعلم أن رغائب النفوس طلعةٌ فيها، لا تبلغ مداها إلا بأن تُصيب شيئاً مما تؤَمَّل أن يكون لها. فإن لم يكن لها ذلك، ولم تر إلا العجز أن تصيبه، اكتنفها غمٌّ ثقيل أسود، أقعدها عن السعي من وراء ما تؤمِّل، عاجت عن الأمر الحق، وتَقَنَّعت بالباطل في سرٍّ وعلانية، وأخرجت مكنون صدورها، وأمَّلَت به عَفَن الباطل، تذوقه فلا تراه إلا حلواً، وتشمُّه فلا يكون إلا لذيذاً، وتبصر به فلا تعرفه إلا جميلاً.(1/3)
ويعظم البلاءُ حين تتسارع الدعاوى، فتهوي من علوِّ كبريائها الممزقة التافهة، على سماط الطمع الأشعبي، وتنظر من حولها فلا تجد إلا ما أحدثت من فتنة فرّقت الجمع المؤتلف، وسوَّدت الأبيض الناصع، وهشمت السليم المعافى، وما عادت تجد من لذةٍ تطمعها في خير هُيِّأ لها يوماً فأعرضت عنه، ولا رجاءٍ في أخوَّةٍ أصابت من معناها أُلفةً فألقت بها من وراءِ ظهرها غير آسفة عليها، ولا ندمٍ على حبٍّ أغمدت في جوفه خنجراً ينزف سمّاً زعافاً، وكنتُ أنا الغرضَ المصمتَ أمام أولئك الغواة (نسأل الله العافية) بزعم أن الحيد عن المنهج يُستباح به العِرْض.
وهكذا أيَّها الدُّعاة السَّلفيون (العظام) "جمع عظيم" وليس "جمع عظم" أو العكس، لم أعد أدري بعد خروجي عن المنهج، الذي ادعاه بعضهم، وجعل يذيعه في الناس، ويحذرهم من الاستماع إليَّ، أو الأخذ عنِّي، وجعلوا من أنفسهم قوَّامين على ميراث الألباني، ونسوا أنَّهم كانوا يشردون من مجالسه، ومن كان يحضر منهم يغطُّ في نوم عميق، ويقولون بعد أن يستيقظوا هذا علم مُعادٌ، وفقهٌ مكرَّرٌ، إي والله، ويدَّعون أن الألباني أثنى عليهم وشهد لهم بالعلم وخصاصتهم فيه بيِّنةٌ ظاهرةٌ.
رحم الله الشيخ الألباني صاحب نظرية: "التصفية والتربية"، فكم والله أُسيءَ إليه وإلى نظريته في حياته، ومن بعد موته، وأحسب أن المسيءَ يعرف نفسه، أو أن الناس يعرفونه.(1/4)
وإنِّي -إذ أُقدِّم لإخواني القراءِ كتابي هذا في طبعته الجديدة هذه- لأدعوهم إلى أن يتناسوا موشَّحات الخلاف التي انطلقت من حناجرهم، وأن يتداعوا إلى الأمر الأوَّل الذي التقت عليه القرون الأولى، وأن يؤوبَ كلٌّ منهم إلى إخوانه وهو يرفل بحُلَّةِ الحبِّ السابغة المسبلة، وأن يعضَّ لسانه بثناياه لئلا تفلت منه كلمةٌ تقول له يوماً: دعني فقد آذيتني وآذيت بي، وأن يرى في المسلمين بعامَّةٍ إخواناً له يكره لهم الشَّرَّ، ويحبُّ لهم الخير، وأجملُ وأرضى ما يحبُّه الله لهم جميعاً أن يكونوا على شرف قوله سبحانه: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ}.
ولعلَّ هذا -الكتاب بما منَّ الله به عليَّ، فأودعته إياه، وجهدت أن يكون نافعاً للناس- يحقق شيئاً مما أحرص عليه لنفع الناس، ابتغاءَ مرضاة ربي سبحانه.
أسأله سبحانه أن يجعلني من الصالحين، وأن يغفر لي خطيئتي يوم الدين، وأن يجعل لي لسان صدق في الآخرين، والله يهدي من يشاء إلى صراط مبين.
وصلى الله وسلم على النبي الهادي الأمين، وسائر إخوانه المرسلين.
? ?
المقدمة
إنَّ الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيِّئات أعمالنا، من يهده الله فلا مُضِلَّ له، ومن يُضْلل فلا هادي له، وأشهد أنْ لا إله إلا الله، وأشهدُ أنَّ محمداً عبده ورسوله.
أمَّا بعدُ:
فقد طاف بالمسلمين طائِف شرٍّ، أفزعهم في نوم وفي يقظة، فأزاغ قلوب كثير منهم عن معالم الهدى، وأوغَل بهم في مدارات الظلام والهوى، وأولجهم موالج سوء الثقافات المضِلة، المحمولة على أجنحة الغربان، من سِباخِ الغرب والشرق، وأفرغ في عقولهم فكراً آسناً لا يُرجى لمن أصاب منه حظّاً ولو قليلاً أن ينجو من أسَنِه، إلا أن يقيِّض الله له رجلاً أُوتي من بصيرة العلم الصحيح، والإيمان الصادق، والإخلاص السَّوي، ليأخذ بيده بعيداً عن ذلك الفكر.(1/5)
وأنَّى يكون له ذلك، وقد أُتْرع عقله من قبل هذا بزيفٍ من العلم، جثم على عقول الملايين مِنْ هذه الأُمة رَدحاً طويلاً من الزمن، بنفرٍ أمضوا مع الجهل عهداً أن يكونوا له دعاة صدقٍ أوفياء، وأن لا يرتابوا أبداً في شيء مما تلقفته أفئِدتُهم وأسماعهم منه، إلى أن يلقوا ربَّهم على غير ما دعا إليه محمدٌ ×، من فقهٍ في الدين، وبصرٍ بشرائع الإسلام، ووعيٍ لعقيدة التوحيد، فحملوا أوزار هذه الملايين من بعدهم، بما ورَّثوها من فكرِ أمشاجٍ، من: وثنيةٍ، ووسوسةٍ، وتأْويلاتٍ شاذةٍ باطلة، حَمَلَتْها جميعاً رسائِل صغيرة، وكتب كبيرة، سطرتها أقلامهم، فلقيت من القبول والرِّضا عند عامة الأُمة ما لم يلْقَه القرآن والسُّنَّة، فضلُّوا وأضلُّوا، وزاغوا وأزاغوا.
والبلاءُ الأطمُّ أن يكون رويبضاتٌ، فقْهُها لا يتجاوز دائِرة أسنانها التي تُقَطِّع بها الطعام، تُحكَّمُ في قضايا الأُمَّة، وتشرع لها في حياتها ما لم يأْذن به الله ولا نبيُّه ×.
فنبتت في الأمَّة نوابِتُ سوءٍ، لم تُعهد في القرون الثلاثة الأولى، فكان منها، الدِّين قشر ولباب، ومضمون وشكل، ورأيٌ وحكم، وغير هذا وذاك.
وخلطوا في أسماء الله وصفاته خلطاً، لم يخرجهم عن جادَّة القصد فحسب، بل قالوا في الله قولاً ادَّعوا به تنزيه الله سبحانه ما لم يُنَزِّه به هو نفسه عنه!! تعالى عما يقولون عُلوَّاً كبيراً.
وجعلوا لله ممثلين له وخلفاء عنه، حتى لقد سمعت أحدهم يقول: "محمد ممثل الله" نعم والله، هكذا قال، ألا ساء ما قال.
وأباحوا الغناء على إطلاقه، مُطَرَّباً وغيرَ مطرَّب، وجرَّؤوا الناس بفتاواهم على أن ينسبوا لأنفسهم من الأبناء المصنوعين على أعين من لا يخافُ الله، ولا يحسب حساباً لليوم الآخر، إلى غير هذا وذاك.(1/6)
وما كان يحسن، ولن يكون بحَسَنٍ أن يقدر واحدٌ على حمل قلمٍ يحملُ في جوفه فكراً جميلاً، وهو يرى ما يرى من بهتٍ، وضلالٍ، وإفكٍ، ثم يسكت، ويلزم قلمه السكوت معه، فذلك ظلْمٌ، قلَّ من الظلم ما يعدِلُه.
وقد كتب سبحانه على نفسه أن تكون الغلبةُ، والعُلُوُّ والظُّهور لرسله ولأوليائه {كَتَبَ الله لأَغْلِبَنَّ أَنَاْ وَرُسُلِي إِنَّ الله قَوِيٌّ عَزِيزٌ}، {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ الله وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ * وَمَن يَتَوَلَّ الله وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ فَإِنَّ حِزْبَ الله هُمُ الْغَالِبُونَ}.
وإذا كان دعاةُ الفتنة ورؤوس الشر قد وجدوا لفتنتهم ملاذاً يُليذونها بها، ولشرِّهم ملجأً في مكانسِ أُولئِك يُلْجِئُونها إليها، فإنَّهم جميعاً سيكونون حصب جهنم، ويومئذٍ يعلمون أنَّ الله هو الحق المبين، وأنَّ دينه هو الدين المتين، وإنَّ الذي جاء به هو النبي الأمين، وأنَّ ما يعلمون من حقٍّ أنكروه في الدُّنيا ليس بنافعهم أن يقولوا: كنا عنه غافلين، أو أن يقولوا: إنا أطعنا سادتنا وكبراءنا.
وقد نظرت في مقالات أُولئِك فكتبتُ ما كتبت بياناً -أرجو أن يكون فيه بعض شفاءٍ- للحق الذي أمسى غريباً، وأمسى أهله غرباء، رجاءً في رحمة الله، واستشفاعاً به إلى رضوان الله.
والله أسأل أن يجعل عملي هذا خالصاً لوجهه، وأن يكون صواباً موافقاً للحق المراد له سبحانه، والله من وراء القصد، وإليه المرجع والمآب، وربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا، وهب لنا من لدنك رحمة، إنك أنت الوهاب.
وصلى الله وسلَّم وبارك على صاحب الشفاعة، نبي المرحمة، الهادي بإذن ربه إلى صراط مستقيم.
وكتب
محمد إبراهيم شقره "أبو مالك"
عمَّان - غرة ربيع الثاني 1406هـ
صفات اللَّه العلى
•…أولاً:(1/7)
كثير من الناس اليوم، بل سوادهم الأعظم يتورعون عن التحدث في أمر العقيدة إلاَّ حديثاً عاماً لا يضع عن جاهل جهلاً، ولا يزيد عالماً علماً، ولو كان تورعهم هذا كائِناً منهم لوضوح تصورهم في العقيدة لمُدحوا عليه، لأنه هو الأصل، وهو سبيل السلف من الصحابة والتابعين رضوان الله عليهم أجمعين، فيكونون بذلك قد نهجوا نهج أسلافهم، وحذوا حذوهم، واتَّبعوا سبيلهم، ففازوا بالأخذ بهديهم، "عليكم بسنتي وسنة الخلفاء المهديين الراشدين من بعدي، عضوا عليها بالنواجذ".
غير أن تورعهم هذا كائِن إما خشيةً منهم على عقيدة ورثوها أن تبدل وتغير فيهم، وإما -زعموا- حفاظاً على وحدة كلمة الأُمة أن تفرق، أو تزداد فرقة، وإما خوفاً من الدهماء والعامة، وهذا لعمر الحق لا يدل على ورع صحيح، ولا حتى على علم شحيح، والورع منشؤه العلم، والعلم ينتهي بالعالم والمتعلم معاً إلى الورع.
وكان البعض الأُخر يمسك عن الحديث في صفات الله تنزيهاً له كما يزعمون، ينزهون الله بأكثر مما نزه به نفسه.
ومن هنا كان التحدث في أمر العقيدة فيه بعض الصعوبة والحرج من كثير ممن تأثر بهذا الاتجاه الخاطئ وتأَثم منه.
والذي أُريد التحدث عنه هو توحيد الصفات، فأقول: إن توحيد
الصفات هو الذي دارت فيه رحى الحرب الطويلة الأمد بين الحق وبين الباطل، وضلّت فيه طوائِف كثيرة من المسلمين، ودقّت في ساحتها أعناق الأُلوف المؤلفة من أهل العلم، إذ زاغت منهم العقول والقلوب، وانحرفت بهم الأهواءُ المضلة عن سواء الصراط.
فأقول أولاً: مضت القرون الفاضلة الأُولى، والقرآن والحديث هما مصدر التوحيد بأنواعه الثلاثة، كما كانا مصدر التشريع في العبادات وغيرها. توحيد الأُلوهية، وتوحيد الربوبية، وتوحيد الصفات، ولم يُعرف أن أحداً من الصحابة رضوان الله عليهم كان يسأل الرسول صلوات الله وسلامه عليه عن مسألة من مسائِل التوحيد أبداً.(1/8)
فكانوا يقرؤون قوله تعالى: {حَافِظُواْ عَلَى الصَّلَوَاتِ والصَّلاَةِ الْوُسْطَى وَقُومُواْ لله قَانِتِينَ }، ويقرؤون قوله تعالى: {إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ}، ويقرؤون قوله تعالى: {وَمَا رَبُّكَ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ}، ويقرؤون قوله تعالى: {وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ الله وَالله خَيْرُ الْمَاكِرِينَ}، ويقرؤون: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ الله مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُواْ بِمَا قَالُواْ بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ}، ويقرؤون: {يُخَادِعُونَ الله وَهُوَ خَادِعُهُمْ}، ويقرؤون قوله تعالى: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ}، وغير ذلك من الآيات. فلم يحفظ عنه أنهم سألوا الرسول سؤالاً واحداً عن وجه الله ولا عن يديه، ولا عن مكره، ولا عن إرادته وفعله أبداً، فكل هذه الأشياء كانت معلومة عندهم لا تحتاج إلى تأويل من الرسول × لهم.
بل كانت أسئِلتهم كلها تدور حول مسائِل الأحكام المتعلقة بالعبادات، والمعاملات، والأخلاق، وهي ما تسمى بالفروع، وهذا واضح جدّاً من آيات القرآن وسوره التي خلَّد فيها القرآن السؤالات التي كان الصحابة يسألونها الرسول حتى إنه نهاهم عنها بقوله: {لاَ تَسْأَلُواْ عَنْ أَشْيَاءَ إِن تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُم}.
لِمَ كان هذا من الصحابة؟ إنه ولا شك لأن فهمهم آيات العقيدة لم تكن عندهم معضلة تشكل عقبة تحول بينهم وبين الإحاطة بها، فاليد معناها يد، والعين عين، والوجه وجه، والإرادة هي الإرادة، إلى غير ذلك من الآيات التي اشتملت على ذكر الصفات الإلهية.
•…ثانياً:(1/9)
إنه حينما نشأَت الفرق المنحرفة الضالة بين المسلمين، وأخذ غلاتها يتأوَّلون آيات الصفات تأويلاً بعيداً عن الحق والصواب، ويعطلونها تعطيلاً يفضي إلى تجريد الله من كماله الذي أحاط به نفسه ونزهها عن النقص الذي ألحقه به أُولئِك الغلاة، قامت طائِفة من علماءِ الحق يردون الناس إلى ما كان عليه الصدر الأول تحقيقاً لموعود الله في هذه الأُمة أنه سينجي منها هذه الطائِفة التي وصفها رسول الله × بقوله: "كلها في النار إلا واحدة"، قالوا: مَنْ هُم يا رسول الله؟ قال: "ما أنا عليه وأصحابي".
هذه الطائِفة بعلمائِها وأئِمتها الأجلاءِ قالت بلسان واحد ما نطق به الإمام أحمد رضي الله عنه: "لا يوصف الله إلا بما وصف به نفسه، أو وصفه به رسوله ×، لا يتجاوز القرآن والحديث"، فأحيت بذلك تفكيراً مضاداً للتفكير الذي منيت به الطوائِف الضالة، ومذهب هذه الطائِفة يتلخص في ثلاثة أُصول:
الأصل الأول:
إثبات ما أثبت الله لنفسه وتنزيهه عما نزه به نفسه، سواءً أكان بصريح الكتاب أم بصريح سُنَّة نبيه عليه الصلاة والسلام، لا يزيد عليه ولا ينقص منه، لأن في الزيادة عليه كذباً على الله وعلى رسوله، وفي النقص اتهاماً لله ولرسوله، وكلا الأمرين كفر بواح عياذاً بالله. ومن هنا كانت السلامة كل السلامة في إثبات هذا الأصل على نحو ما أقرته هذه الطائِفة العظيمة من علماء هذه الأمة، والله ورسوله أعلم بحقِ الله في ذاته وصفاته وأسمائِه، قال تعالى: {أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ الله}.
الأصل الثاني:(1/10)
تنزيه الله سبحانه عن مشابهته بصفاته بصفات خلقه، فهو إن وصف نفسه بالسمع والبصر والإرادة والحياة والقدرة والعلم وغير ذلك، فلا يعني أنه بصفاته هذه يشبه صفات مخلوقيه، فالإنسان له سمع وبصر وإرادة وحياة وقدرة وعلم وغير ذلك، لكن صفات الإنسان تليق بضعفه ونقصه، وصفات الخالق تليق بكماله وعظمته، فبذهاب الإنسان وموته تذهب صفاته وتموت، أما صفات الخالق فهي متعلقة بذات الله سبحانه، قال تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ}، وقال: {فَلاَ تَضْرِبُواْ لله الأَمْثَالَ}، وذات الله لا تفنى ولا تزول.
الأصل الثالث:
أن يقطع الإنسان الطمع عن إدراك حقيقة صفات الله سبحانه، فكما أن ذاته العظيمة مجهولة للناس ولا تُعرف على حقيقتها، فكذلك صفاته سبحانه اللائِقة بذاته مجهولة للناس لا تعرف على حقيقتها، وهذا الأصل يوفر على الإنسان كثيراً من الجهد العقلي، ويحول بينه وبين الضلال الذي وقع فيه كثير من المعطِّلة والمشبِّهة في آنٍ معاً. قال تعالى: {يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلاَ يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً}.(1/11)
وإذا كان الله سبحانه قد حجب نفسه عن خلقه واختصَّ علمه بذاته بنفسه بحكمة يعلمها ويريدها في الدنيا، فإنّ هذه الحكمة اقتضت أن يعرف المُؤْمنون ربَّهم بذاتِه يوم القيامة حيث يشاهدونه عياناً فتغرق كل لذة أصابوها في بحر لذة مشاهدة الحق سبحانه، يشاهدونه كما يشاهد البدر ليلة تمامه، مصداق ذلك في كتاب الله وفي سُنَّة نبيِّه، أما ما جاء في الكتاب فقوله تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ}، هذه وجوه المؤْمنين مشرقة مسرورة تنظر إلى ربها في فرح وسرور وغبطة، أما ما في السُّنَّة فقوله صلوات الله عليه كما في البخاري: "إنكم سترون ربك عياناً"، وفي "الصحيحين" أيضاً عن أبي سعيد وأبي هريرة: أن أُناساً قالوا: يا رسول الله، هل نرى ربنا يوم القيامة؟ فقال: "هل تضارُّون في رؤْية الشمس والقمر ليس دونهما حجاب؟". قالوا: لا. قال: "إنكم ترون ربكم كذلك".
ولم يحدد لنا الرسول × في هذا الحديث صفات الذات الإلهية، ولا الحال التي يكون عليها الرب سبحانه حين يراه المؤْمنون يوم القيامة، ولكنه قال بأن الرؤية تتحقق لهم وأن الله سبحانه ينكشف لعباده المؤْمنين فيرونه بأبصارهم كانكشاف الشمس والقمر ورؤْيتهما بالأبصار المجردة، والمقصود هنا تشبيه الرؤْية بالرؤْية، وليس تشبيه المرئي في الآخرة -وهو الله سبحانه- بالمرئي في الدنيا -وهو الشمس والقمر.(1/12)
وإذا كان هذا ما عليه الأمر بالنسبة لله سبحانه في الآخرة، فأولى أن يكون ذلك في الدنيا. فالله سبحانه وصف نفسه بالاستواءِ على العرش في سبعة مواضع من القرآن كقوله: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى}، فالاستواءُ على العرش صفة من صفاته سبحانه، لكن الله سبحانه استأثر نفسه بكيفية استوائِه هذا، وإن كان معنى الاستواءُ معروفاً في اللغة، فمعنى استوى في اللغة: أي علا وارتفع، فعندما تقول: استوى فلان على كرسيه، أي: علا وارتفع عليه، أو استوت السفينة على الماء، أي: علت وارتفعت، لكن هذا المعنى لا نستطيع أن نطلقه على الله إطلاقه على الشيء المخلوق، فنحن وإن عرفنا معنى استوى في قوله سبحانه: {عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى}، لكننا لا نستطيع أن ندرك كيفية استواءِ الله سبحانه على عرشه.
وقد علَّمنا الإمام مالك رحمه الله كيف نفهم هذه الآية على وجه الصواب الذي لا يوقعنا في المحظور الذي من أجله عطلت الجهمية صفات الله سبحانه، وذلك فيما حكاه لنا ابن وهب عنه. قال: كنت عند مالك فدخل رجل فقال: يا أبا عبدالله {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى}، كيف استوى؟ فأطرق مالك، وأخذته الرُّحَضاءُ -العرق الكثير- ثم رفع رأْسه فقال: الرحمن على العرش استوى كما وصف نفسه، ولا يُقال كيف، وكيف عنه مرفوع، وأنت صاحب بدعة، أخرجوه.
وفي رواية أُخرى أنه قال: الاستواءُ منه غير مجهول، والكيف غير معقول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة، وإني أخاف أن تكون ضالاً وأمر به فأُخرج. وهذا هو قول أهل السُّنَّة قاطبة.
فالمطلوب إذاً في هذه الآية أن نسلم بها تسليماً، وأن نعلم أن المعنى
الذي يليق بالمخلوق لا يليق بالخالق، وأننا إن أدركنا وعلمنا كيفية استواءِ المخلوق فإننا نقطع بجهلنا بكيفية استواء الخالق سبحانه.(1/13)
وإذا سأل سائِل فقال: وأين العرش؟ فنقول: عرشه سبحانه فوق السماءِ السابعة والله سبحانه من فوق عرشه بذاته، وقد دلّ على هذا القرآن والسُّنَّة، أما القرآن فقوله تعالى: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ}، وقوله أيضاً: {يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِّن فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ}، وقوله أيضاً: {أَأَمِنتُمْ مَّن فِي السَّمَاءِ أَن يَخْسِفَ بِكُمُ الأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ}، و"في" هنا في هذه الآية بمعنى على، مثل قوله تعالى: {لأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ}، وقوله تعالى: {فَامْشُواْ فِي مَنَاكِبِهَا}.
وأما السُّنَّة: ففي "صحيح مسلم" أن معاوية بن الحكم السلمي كانت له جارية ترعى غنيمات، وأن ذئْباً ذهب بشاة منها، فلطمها، فندم، فأتى النبي × وقال له: ألا أُعتقها؟ فقال: "ادعها إليَّ". فقال لها: "أين الله؟" قالت: الله في السماء. قال: "فمن أنا؟" قالت: أنت رسول الله. قال: "أعتقها فإنها مؤْمنة".(1/14)
وقوله عليه الصلاة والسلام أيضاً: "ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماءِ". وبمثل هذه الآيات والأحاديث الصحيحة تزول ضلالة أخرى من ضلالات أهل الأهواء، وهي أن الله سبحانه في كل مكان، وقد يركنون في هذه الضلالة إلى بعض الآيات، كقوله تعالى: {مَا يَكُونُ مِن نَّجْوَى ثَلاَثَةٍ إِلاَّ هُوَ رَابِعُهُمْ وَلاَ خَمْسَةٍ إِلاَّ هُوَ سَادِسُهُمْ}، وقوله تعالى: {وَهُوَ مَعَكُم انه معهم بعلمه، فهو عالم محيط بكل شيء خفي أو ظهر، دق أو عظم، كما قال سبحانه: {يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى}. وكما قال: {وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُهَا وَلاَ حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلاَ رَطْبٍ وَلاَ يَابِسٍ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ} إلى غير ذلك من الآيات الدالة على إحاطة علم الله سبحانه بكل شيء.
•…ثالثاً:
بقيت مسألة أُخرى نريد أن نزيد بها بعض ما قدمنا وضوحاً وبياناً، يظهر لنا و جه الحق فيها بالمقارنة، فصفة الرحمة أو الرأْفة مشتركة بين الله وبين خلقه في قدر منها أو بمعناها الواسع، يقول الله في حق نبيه عليه السلام: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ}. وصف الله نبيه بوصفين وصف بهما نفسه، ولكن بين وصف النبي عليه السلام بالرأْفة والرحمة وبين وصف الله نفسه بالرأْفة والرحمة من الفرق كما هو الفرق بين ذات الرسول × وذات الله سبحانه، فقد مات الرسول عليه الصلاة والسلام، فرحمته ورأْفته ذهبتا معه إلى الرفيق الأعلى، أما الله سبحانه فرحمته ورأْفته أزليتان أبديتان لا تفنيان ولا تزولان.(1/15)
ومن هنا لا يجوز أن نسمي رجلاً بعبد الرؤوف مثلاً أو بعبد الرحيم إذا قصدنا إضافة عبوديته إلى الرسول عليه الصلاة والسلام كما يصنع بعض الجهلة من المسلمين إذ يسمون أبناءَهم بعبد الرسول، أو بعبد النبي.
أما إذا سمينا رجلاً بعبد الرؤوف أو بعبد الرحيم مضافاً إلى اسم من أسماء الله الحسنى فهذا مشروع وطيب.
وقد ذكرنا من قبل أن الله سبحانه مستوٍ على عرشه، وأنه فوق السماوات العلى بذاته، وأن استواءَه وإن كان معناه في اللغة الارتفاع والاعتلاءُ كما في نحو قوله تعالى: {وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ}، غير أنه ارتفاعٌ واعتلاءٌ مقيد بأمرين:
الأول: أن الله ليس في حاجة إلى شيء من خلقه، وأنه بائِن من عرشه، قال تعالى: {سُبْحَانَهُ هُوَ الْغَنِيُّ}.
الثاني: أن استواءَه لا يماثل ولا يشابه استواءَ خلقه. قال تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ}، غير أن سائِلاً قد يسأل فيقول: إذا كان عرش الله فوق السماءِ، وأنه سبحانه فوق عرشه بذاته، فكيف نوفق يبن هذا التأويل وبين قوله تعالى: {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَمَا كُنتُمْ}، وقوله أيضاً: {مَا يَكُونُ مِن نَّجْوَى ثَلاَثَةٍ إِلاَّ هُوَ رَابِعُهُمْ وَلاَ خَمْسَةٍ إِلاَّ هُوَ سَادِسُهُمْ وَلاَ أَدْنَى مِن ذَلِكَ وَلاَ أَكْثَرَ إِلاَّ هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَمَا كَانُواْ}.
فأقول وبالله التوفيق والتسديد، ليس هناك من منافاة بين الأمرين، وقبل
أن نبدأ ببيان هذا الأمر وجلاءِ الشبهة التي قامت في ذهن هذا السائِل، لا بد من التذكير بالآيات والأحاديث التي سقناها من قبل، مثل قوله تعالى: {يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِّن فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ}، وقوله تعالى: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ}، وقوله تعالى: {أَأَمِنتُمْ مَّن فِي السَّمَاءِ أَن يَخْسِفَ بِكُمُ الأَرْضَ}.(1/16)
أما الأحاديث فمثل قوله عليه السلام: "ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء"، وإقراره الجارية جوابها حين سألها: "أين الله؟" فقالت: في السماء.
هذه الآيات والأحاديث كلها تفيد تنزيه الله أن يكون في غير جهة العلو، وتثبت له الفوقية لأنها صفة كمال، فقوله تعالى: {يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِّن فَوْقِهِمْ} لا تجد في القرآن آية تقول: إنه على أيمانكم ولا عن شمائِلكم ولا من خلفكم ولا من أسفل منكم، بل تجد قولاً لإبليس عليه لعائِن الله حين قضى الله عليه بالطرد من الجنة، فتهدد بني آدم فقال: {ثُمَّ لآتِيَنَّهُمْ مِّن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَن شَمَائِلِهِمْ}، فلماذا عدد إبليس كل الجهات ولم يذكر جهة الفوقية؟ لأنها هي الجهة التي تليق بكمال الخالق سبحانه، فحجبها عنه ولم يمكِّنه حتى من التلفظ بها.
وأما قوله سبحانه: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ}، فهي أيضاً تعني أن الله فوق وليس في غير هذه الجهة، إذ الصعود لا يكون إلى غير جهة الفوق.
وأما قوله سبحانه: {أَأَمِنتُمْ مَّن فِي السَّمَاءِ}، فإن كلمة "في" هنا جاءت بمعنى على، كما في قوله سبحانه: {فَامْشُواْ فِي مَنَاكِبِهَا}، أي على مناكبها، وكما في قوله سبحانه: {وَلأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ}، أي على جذوع النخل، فلماذا نقول: إن كلمة "في" في هاتين الآيتين تعني الفوقية والعلو، وأنها في قوله: {أَأَمِنتُمْ مَّن فِي السَّمَاءِ} لا تعني ذلك. هذا التفريق يحتاج إلى ألف دليل ودليل، وليس عليه من دليل أبداً.(1/17)
وما قيل في كلمة "في" في قوله سبحانه: {أَأَمِنتُمْ مَّن فِي السَّمَاءِ} يقال في قوله عليه السلام: "ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء"، ولمزيد البيان نقول: إن الرسول عليه السلام يطلب من أُمته أن يتراحموا فيما بينهم، وهم أحياء طبعاً، لأن الخطاب الشرعي لا يقصد به الأموات الذين في باطن الأرض، بل يقصد به الأَحياءُ فوقها، فكأنه عليه السلام قال: ارحموا من فوق الأرض تكن لكم رحمة من فوق السماءِ، وهو الله سبحانه، فكلمة "في" في الجملتين تفيد العلو والفوقية لا غير.
والمعنى هو المعنى لكلمة "في" في حديث الجارية التي أمر النبي × سيدها معاوية بن الحكم السلمي أن يعتقها حين أجابته أن الله في السماءِ.
فإذا كان الأمر كذلك، وأن اللائِق بكمال الله سبحانه أن نثبت له صفة العلو والفوقية التي أثبتها لنفسه، وأن لا نتأولها تأوُّلاً نخرج به عن جادة اللغة والدين معاً، فيكون للمعية التي في الآيتين موضوع اعتراض المعترض، {وَهُوَ مَعَكُمْ}، وقوله: {إِلاَّ هُوَ مَعَهُمْ} معنى يتفق تماماً مع صفة العلو التي أثبتناها لربنا سبحانه تصديقاً بكتابه وإيماناً بما جاء به نبيه صلوات الله عليه. هذا المعنى هو أن المعية ليست بذاته، بل المعية بعلمه سبحانه، والعقل فضلاً عن الشرع يأبى أن يكون الله بذاته مع خلائِقه، لأن هذا يقتضي إما تعدد الذات الإلهية بصور وأشكال، وإما تجزئتها، وحاشا لله الذي وصف نفسه بالوحدانية أن يكون كذلك.
وهذا التأْويل الفاسد هو بداية تلكما العقيدتين الفاسدتين الباطلتين في الله سبحانه، عقيدة وحدة الوجود، وعقيدة الحلول، وهما عقيدتان واردتان إلى ديار الإسلام عن طريق فئة آلت على نفسها أن تُخرج المسلمين من دينهم، كما أخرجوهم هم من أديانهم وعقائِدهم الفاسدة الباطلة، فظلت هذه الفئة موتورة على الإسلام وأهله حتى أَدخلت إليهم عقائِدها الخبيثة التي أحسن المسلمون إليهم بإِخراجهم منها.(1/18)
إذاً فقوله تعالى: {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَمَا كُنتُمْ}، وقوله: {إِلاَّ هُوَ مَعَهُمْ} هو معكم ومعهم بعلمه لا بذاته، بعلمه الذي أحاط بكل شيءٍ ما خفي وما ظهر، وما دقَّ وما كبر، فهو سبحانه فوق عرشه بذاته، ومع خلقه بعلمه، لا يندُّ عنه من خلقه شيءٌ كما قال سبحانه في حقِّ نفسه: {يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى}، وكما قال: {وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُهَا وَلاَ حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلاَ رَطْبٍ وَلاَ يَابِسٍ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِين}.
وكثيراً ما يتردد على ألسنة الناس كلمة: لا تعطيل ولا تشبيه ولا تمثيل. وأحسبها -وهي كلمة ثمينة- تحتاج إلى شيءٍ من التوضيح في هذا الموطن، فأقول: وصف الله سبحانه نفسه بأوصاف، ربَّما أوقعت اللبس في قلوب كثير من الناس، كما في قوله: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ الله يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مَا يَكُونُ مِن نَّجْوَى ثَلاَثَة...}، وقوله عليه السلام: "إذا كان ثلث الليل الآخر ينزل ربنا إلى السماء الدنيا". وأسلم ما يسلم به العبد من هذا أن يعلم ويوقن أن الله ينزل، فنفى التعطيل، وأن نزوله غير معلوم الكيفية البتة، فانتفى التمثيل والتشبيه، فيبقى النص القرآني أو النبوي حافظاً لمعناه كما هو محفوظ بحروفه ومبناه. إذ الحفظ لا يكون هو الحفظ المراد لله إلا بمثل هذا، ولو كان شيء من التمثيل والتشبيه -وحاشا- لتطرق ولا بدَّ النقص لكلامه سبحانه، إذ النقص كما يكون بغياب الحرف أو الكلمة أو الجملة هو أولاً ايذان بضياع كله، وليس من فرق بين تطرق النقص له بالحرف وبين تطرقه له بالآية أو السورة.(1/19)
والنقص يكون بغياب الجزء من حرف ونحوه، فإنه يكون أيضاً بالزيادة بالتأويل، إذ التأويل بغير مراد الله سبحانه هو نفي له، والنفي ولا شك هو نوع انتقاص لسلامة كلامه سبحانه وصحته وكماله، وكي يسلم لنا النص القرآني أو النبوي فلا يجوز أن يؤخذ بشيء من التأويل بل يجب أن يبقى على ما يكون من توافق بين الحرف العربي الناطق بمعناه المتبادر منه، وإلا ما كان الله سبحانه أن يكون تكلم به، ولو كان المعنى المتبادر غير مراد الله سبحانه، لكان أعلمنا بمراده الخفي عنا - أي لكان قد ترجم الله لنا كلامه بكلامه كيلا يقع التأويل على غير مراده، بما خفي من معنى الحرف الذي ما كان لينزل القرآن به إلا تيسيراً لفهمه، وتمثل العمل به بهذا اليسر، ودعوة الناس على هدي إليه.
وليس من شك أن الفهم الصحيح لا تؤتاه الأمة إلا بمثل ما فهمه الجيل الذي عاشه في أكناف النبوة، ولو جهد العلماء في كل أعصارهم وأمصارهم ما كان لهم ليجدوا من علم يزيد على ما أفاء الله به على ذلك الجيل العظيم الذي عنت له اللغة بكل ضروب فصاحتها، وأسلمت له دلالات حروفها، وسمو معانيها ودقة استقاماتها وأسلمت لهم قيادها وبسلامة... الخ.
وحفظ المعنى الذي أشرنا لا يمكن أن يكون ولا يصلح أن يكون على المراد الذي يختلف على مر العصور، إلا بمثل ما عرفه الجيل الأول الذي حفظ الله به الكلمة القرآنية العربية بما تهدي إليه فطرتها وقانونها، وقانونها وضعه الله، وعلمه عباده، وأنزل به كتابه، وعصم به أصحابه، فكانوا سواسن الزمن -أنجم الدهر.
وأنه لمن البلاء المحكم الذي لا يطيق الصبر عليه إلا أن يكون هو البلاء نفسه- أن توضع الأمة في كتابها إيضاعاً يضلها عن كل ما أفاء الله به عليها من أسباب رفعتها وعزتها وبقاءِ ثقافتها، وترخص نفسها ويسهل عليها التفريط في هوية ذاتها.(1/20)
وإذا ما نظرنا في قوله سبحانه: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ الله يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مَا يَكُونُ مِن نَّجْوَى ثَلاَثَةٍ...} لم نجد من التحول عن ظاهر اللفظ لنصيب المعنى المراد بغير ما يتبادر من معنى اللفظ الظاهر، إذ المعية معيتان كما تقضي به قواعد الله، معية ذات، ومعية علم ورعاية، فمعية الذات تقتضي الملازمة بالصحبة، ومعية العلم تقضي الإحاطة بما يكون من شأن من تكون له معية بأمر من تكون له تلك المعية على الحال التي تكون بها، وحسب ما تحيط به من أسباب الدراية والذات التي تصيب من هذه الأسباب بنوع المعية التي تهدي إليها الحال التي هي عليها.
ولا ريب في أن المعية التي يحيط (صاحبها) علماً بكل شيء ليست تحتاج إلى أسباب تقربها فتكون أقدر على العلم والإحاطة، فإن بعدت هذه الأسباب بها أو خفيت عنها، فتضعف قدرتها عن العلم والإحاطة بقدر ما تبعد، فالله سبحانه لا يحتاج (وحاشاه) وهو خالق كل شيء، وله الأمر
كله، والعلم جميعه والإرادة.
وهذا التأويل -ولا بد منه- ينفي التأويل غير المراد لله سبحانه من تأويل بباطل أدخلته الأهواء الطائرة في آفاق ديار المسلمين، والمكر السيئ بهم، والانثناء الواقد بالشر على دينهم، والرصد الواغر بالحقد على لغتهم.
والعقل السليم لا يثبت غير ذلك لله، إذ لو كان الله على غير هذه الصفة لما كان علمه إلا بقرب ذاته من الأشياء التي خلقها، والعلم بقرب الذات ليس فيه أمر يجاوز نطاق العقل، فلا تكون هناك مخالفة لله عن خلقه في علمه وإرادته، إذ الخلائِق أصبح لهم سلطان على الأشياء بعلمهم وقربهم منها.(1/21)
وقد يسأل آخر سؤالاً فيقول: إذا ثبت لدينا أن الله مع خلقه بعلمه، وأنه فوق عرشه بذاته، ولكن ماذا تقول في غير ذلك من الصفات التي لا يمكن بحال ما أن تكون وفق ما نريد. فالله سبحانه يقول: {تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا}، ويقول: {وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي}، ويقول: {وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا}.
فنقول أولاً: إن هذه الآيات كلها دلت دلالة صريحة على ما دلت عليه جميع آيات الصفات، وهي أن لله عيناً.
ونقول ثانياً: ما قلناه في الاستواء واليد، نقوله في العين، فقد أثبت الله لنفسه استواءاً ويداً ليس بينهما وبين استواء البشر وأيديهم شبه، وكذلك العين، فليست هي العين الجارحة كعيون الخلق.
ونقول ثالثاً: بأن من الجهل الفادح بقواعد اللغة العربية وأُصولها أن
نقول بأن الفُلك تجري في عين الله بذاتها، فمن يقول فقد أغرق في الجهل، وجاوز حدود اللغة، فإن هذه الآيات الثلاث التي ذكرت فيها العين تدل على شيءٍ واحد، اقتضى الدلالة عليه أساليب اللغة، وتنزيه الله سبحانه عن الحلول والاتحاد والاحتياج لشيءٍ من خلقه.
فالمعنى المراد في هذه الآيات الثلاث هو أن الفُلك تسير فوق الماءِ بأمر ربها ورعايته وكلاءَته وحفظه، وأن موسى عليه السلام ينشأ برعاية الله سبحانه وحفظه ومحبته، وأنك يا محمد مهما أصابك من الأذى من قومك فإنك محفوظ مكلوءٌ بحمايتي ورعايتي لك.
ومثل هذا كما قلت عُرف في اللغة، فإذا أردت أن تدلل على حبك لإنسان ورعاية أمره تقول له: إنك في العين، فهل هو في العين فعلاً؟ أظن أن كل من يشم رائِحة العربية يعرف أن المقصود بذلك هو إظهار ما لهذا الرجل عندك من حب ورعاية.(1/22)
ويشبه هذا المعنى الذي أراده الله من هذه الآيات الثلاث، معنى حديث مشهور يجري على ألسنة الناس، وهو حديث الولاية الذي يرويه الرسول × عن ربِّه: "من عادى لي وليّاً فقد آذنته بالحرب...." الحديث، ولو سألنا الذين يتأولون العين واليد والاستواء وغيرها من الصفات التي أثبتها ربنا سبحانه لنفسه عن معنى قوله في هذا الحديث: كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، لقالوا في السمع والبصر واليد من غير تأويل لها، أما الرِّجل فإنهم سيؤولونها، لماذا هذا التأويل؟ ليس إلا تنزيهاً للخالق سبحانه، فمن أين جاؤوا بهذا التفريق الذي لا دليل عليه إلا أمر عاطفي وجداني محض.
والتأويل الحق لهذا الحديث هو كالتأْويل للعين التي جاءت في هذه الآيات الثلاث. فالعبد إذا أطاع ربَّه وأخلص له العبادة كان موفقاً في كل ما يفعلُ وما يقولُ، فهو إن سمع كان موفقاً فيما يسمَع، وإن أبصر كان موفقاً فيما يُبصر، وإن أصابت يده شيئاً أو تحركَ برجله إلى شيءٍ كان موفقاً فيما يفعله، ولا يُعقل في حقِّ الله أن يكون هو بصر العبد وسمعه، ويده ورجله، وإلا انتهينا إلى ضلالة كبيرة في العقيدة هي عقيدة الاتحاد والحلول.
بمثل هذا الفهم للقرآن الذي يقتضيه أمران اثنان، وهما تنزيه الله سبحانه عمّا لا يليق به، وقواعد اللغة العربية وأُصولها، يمكننا تجنب الوقوع في الإفك والضلال الذي وقعت فيه الفرق الضالة التي قال فيها رسول الله ×: "افترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة، وافترقت النصارى على ثنتين وسبعين فرقة، وتفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة، كلها في النار، إلا واحدة".
بقي أمرٌ مهمٌّ جدّاً يجب أن نبيِّنه، وهو أن الرسول × علم أن أُموراً كثيرة من أمور العقيدة بوحي من ربه ستقع فيها الأمة من بعده فبيَّنها بياناً شافياً لم يدع مجالاً فيها لمرتاب.(1/23)
ولو كان في هذه الآيات ما يريب في فهمها لبيَّنه عليه الصلاة والسلام، لأنه واجب في حقه ×. إذ لا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة، وإلا لم يكن قد بلَّغ الرسالة التي أمره الله سبحانه بإبلاغها بقوله: {بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَه}.
وهناك مسألة أخرى مهمة يتنطع فيها البعض بجهل وسوءِ طوية، وهي قولهم: كيف تصفون الله بالعصمة وهي ليست من الصفات التوقيفية التي
تدندنون حولها؟. فأقول وبالله التوفيق وعليه التكلان وإليه القصد والتوجه:
نعم، هي ليست صفة توقيفية من صفات الخالق، لكنها معنى لصفات عديدة من صفاته سبحانه، فالله سمى نفسه الحكيم، والمجيد، والعليم، والحفيظ، والقدير، والمحيط، وغير ذلك من الأسماء الحسنى التي تدل كلها، بل كل واحد منها بمفرده على أنه سبحانه يكلأُ الخلق ويرعاهم ويحفظهم ويحيط بهم علماً.
ولا يقع شيءٌ في الأكوان التي خلقها إلا بإرادته وعلمه ومشيئَته، فحين نقول: العصمة لله وحده، إنما نقول معنى لصفة أو صفات، تماماً كما يقال: الكمال لله وحده، وليس من أسمائه سبحانه الكامل، ولا يصح أن نقول: إن من أسمائه سبحانه المعصوم أو الكامل.
ونحن نقرأ فيما نقرأ وصف الله بالقديم، ونقول: الله قديمٌ، وقديمٌ ليست من أسماء الله، وإنما هي معنى لاسم من أسمائه وهو الأول، فلتقريب المعنى للذهن تؤول أسماء الله وصفاته تأويلاً يُبقي على الصفة أو الاسم التوقيفي من غير إخلال بهما، ويظلُّ المعنى دالاًّ عليهما من غير أن نسمي الله أو نصفه به، ولا غضاضة في ذلك البتة، وإلا فكيف نقول كما قالوا من قبل: الله قديم، والكمال لله وحده؟!!
? ?
شرط الصحة وشرط الكمال(1)(1/24)
الحمد لله الذي جعل في الحقِّ وثاق قلوبنا، وفي القرآن العظيم نور صدورنا، وفي السُّنَّة الشريفة الغرَّاء حسنَ الاتباع لنبيِّنا، وفي عمل القرونِ الثَّلاثة المفضلة الأولى البرهان الظاهر الباقيَ في وجوب التمسك والعملِ إلى يومِ القيامةِ بديننا أما بعد:
فإني لأشكر لنفرٍ من إخواننا حسن صنيعهم بإيثارهم الحكمة الشرعية، والأدب العلمي -وقد لُبِّسَ عليهم شيءٌ مما كتبته في شرطي الصحة والكمال- الأدب الذي أعرض عنه جلُّ طلاب العلم، وغُميِّ عليهم، وصاروا إلى غيره في زماننا هذا، الذي أضحى العلم فيه نُهبة غائِر، وسلعة عائِر، وخبطةَ عاثر، وصار الحسيب فيه مطعوناً عليه في نَسبه، والمغموز في نسبه صاعداً في حسبه، والخائنُ أميناً عليَّاً، والأمين خائناً رَزياً، وأُبْهِمت السبيل على الغادين المجدِّين، وعُمِّيَت الجادَّة على الرائحين الشاغبين.
فما كان من هؤُلاء الإخوان، إلا أن فرحوا بما أظهرت لهم ما كان قد خفي عليهم، وعرفوا أن الحق إن شاءَ الله الذي لا ريب فيه، من أنَّه لا فرق -بل وما ينبغي ذلك- بين شرطي الكمال والصحة، وأهلُ الحق في أيِّ مكان، وفي أيِّ زمان لا يستعصون على الحق، ولا يتأبَّونه حين يصيرون إليه بالدليل الذي لا يقبل التغيير ولا التَّبديل.
فأقولُ وبالله ومنه التوفيق والسَّداد:
أولاً: لا أعلم أن لهذا التفريق أصلاً في العهد الأزهر الأول، عهد رسول الله ×، ولا جرى له ذكرٌ على لسان أحدٍ من أصحابه رضي الله عنهم، لا في حياته ولا من بعد موته، حتى ولا ما يشي أو يشير أو يومىءُ إليه، ومن أدَّعى غيره فعليه أن يُفْصح بالدليل، أو يبينُ عن الحجة، ولا أحسبه واجِده، لا تحت التراب ولا فوق السحاب، إذ مثلُ هذا القول لو كان -وقد أضحى في الناس أصلاً من الأصول، وشاع فيهم شيوع الضوء والهواءِ- لا يمكن أن يأْتي عليه يوم بعد قوله -لو أنه قيل- إلا وقد صار إلى مسامع الناس، ولقفته عقولهم، وحفظته ذواكرهم.(1/25)
وأنا لست بمنكرٍ على من قال بهذا القول أول ما قال، ولا بمن أصاب فيه أو أخطأ باجتهاده، فعلوم الإسلام طوَّفت في الأرض، وباد في طريقها من باد، وحيي فيها من حيي.
وما كان ممن ظهر أمره أو خفي من أهل العلم، إلا وهو آخذٌ نفسه بظنٍّ رجح لديه أنّه به على حقٍّ، إن كان منه تَوْقٌ إلى الحقِّ، في أيَّة مسألة من مسائل العلم اجتهد فيها، ونحن جميعاً على مثل اليقين، أن العهد الأول الأزهر، هو الميزان الذي توزن به العقول والأعمال، وتقاس به مسائل العلم، إذاً: فإنه لا ينكر على من أصاب بهذا الميزان، بل إنه ليُفْرَحُ له، ويُثنى عليه، أما من أخطأ، فيُرَدُّ عليه خطؤه، ليقال له: زن قولك بذلك الميزان، ليصار بخطئك هذا إلى الصواب، وإلا كيف يكون الوصول إلى الحق والصواب والاهتداءُ إليه؟.
ثانياً: وإذ الأَمر هو الأمر، فإننا نرتضيه، ونسلِّم به، ولا ينبغي أن يُتَحوَّل عنه، بل ونسخطُ أشدَّ السُّخط على من لا يرتضيه، وهل يكون فقه سليمٌ وحصينٌ ممن ولمن يقول: فقهُنا كتابٌ وسنَّة على فهم سلف الأمة، ثم نراه لا يقف عند هذا القول، إلا بقدر ما يعرف أنه موافقٌ أو غير موافق لهواه، فإن كان موافقاً سعد به وأخذه، وإلا ابتأس وتركه.
واحسبني -والحمد لله- أني جريت حياتي العلمية والعملية على هذه القاعدة العظيمة، فأن يكون منِّي خروجٌ عليها في هذه القاعدة العلمية: (شرط كمال وشرط صحة)، فأقول بالفرق بينهما، وهو ما لم يعرفه العهدُ الأزهر الأول، فذا منِّي إفك محضٌ، وضلالٌ صرف، وإني لأُعيذُ نفسي منه، ولا أُراني إن شاءَ الله في هذا إلا حيث يُرضي الله سبحانه ويُرضي رسوله عليه الصلاة والسلام.(1/26)
والسَّلفيُّون الصالحون الطيِّبون (عظَّم الله لهم الأجر)!! يزعمون أنَّ الاجتهاد -في غير هوىً- لا يعاب به صاحبه، وأن الزَّيغَ بالباطل، لا يردُّ به صوابٌ جاهر، فمن هنا إذاً: يكون الاجتهاد ولا بدَّ حقيقاً بالتقدير وحسن الظنِّ، وحسن النظر أيضاً على الأقل، وهل من السَّلفية أن أكون معك فقط فيما تعلم -خطأً كان أو صواباً- وإلا كنت عليك؟! أية سلفية هذه؟! إنها سلفية مجدوعة الأنف!! وهي التي يريدها السَّلفيون الحُدثاءُ الحداثيون! فانظر يا صاحبي، أين أنت من هذه السَّلفية العجيبة الغريبة؟! إنها سلفية تصلح للدفِّ، والمزمار، والعزف على القيثار، وأهلها هم أهلُها!! لا زالوا
وحتى الآن ما زالوا، والعرقُ دساسٌ، هشاشٌ، حوَّاسٌ.
وليُعلم أنِّي أنا باجتهادي هذا الذي ذهبت إليه -بعدم التفريق بين شرط الكمال وبين شرط الصحة- ما أراني خالفت فيه، ولا خرجت به عن الأصل الكبير -الذي لا يختلف عليه علماءُ الأعصار والأمصار- كتاب وسنة على فهم سلف الأمة(2)-، ومن خالف، فقد ذهب مذهباً لا يأمن معه على نفسه من الوقوع في الوعيد الشديد المصرَّح به في قوله سبحانه: {وَمَن يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيراً}، وهذه الآية عند السَّلفيين الحدثاءِ الحداثييِّن أصل من أصول الدين، فأين هم عنها ومنها؟(1/27)
ثالثاً: ثمّ إن لم يكن لدينا ما يعين على فهمٍ يصلنا مع هذا التفريق بالعهد الأزهر الأول، فليس يصلح بنا ولا يحسن، أن لا نلتمس الدليل الذي يؤيِّدُ ويصدِّق الفهم الذي أردناه باجتهاد منا، علَّنا نخرج به طائفةً -ولو قليلة من أهل العلم الأتقياء، الأصفياء، النُّبلاء- من طول المقام، الذي لبثوا فيه زماناً، إلى حقٍّ أردناه للناس، بظنٍّ منا أننا على صوابٍ، لا يُخلف ظَنَّنا الحسن في غيرنا، بما عندهم من علم، حسبوا أنفسهم أنهم به على صواب، وهذا خُلقٌ لا يجوز النفرة منه، أو النَّأْيُ عنه، صنيع بعض العبثة الصغار.
وقد رأينا هذا الدليل واضحاً قائماً في قوله تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الأِسْلاَمَ دِيناً}، ولا يبعد عندي أنّه هو الدليل الذي ارتضاه أهل العهد الأول الأزهر، فلم يكن به عندهم هذا التفريق العجيب الغريب، بين شرطي الصحة والكمال الذي صار فيمن بعدهم، لذا: سكتوا وأمسكوا، إذ لم يخطر ببالهم -وقد قرءُوا هذه الآية- أن يقولوا في أنفسهم -بَلْهَ أن يعلنوه في الناس- "شرط كمال وشرط صحة".
ونحن نظهر ونعلن في الناس ما سكتوا عنه، ونحركُ ما سكن فيهم، ونبدي لنا ولغيرها ما خفي عنا زماناً، فإن أخطأْنا فالله عفوٌ غفورٌ حليم، وإن أصبنا فالله ودودٌ كريم شكور.
وليُعْلَمْ، أن ليس مرادنا نقل -القواعد التي صارت مسلَّمة في الأمة- عن مواضعها، وإبدالها بغيرها، لكن أردنا درءَ الفساد الذي غشي دارَ العلم وأهلها بسوءِ الفهم، واختلاط الأمور اختلاطاً، ينبئُ عن فقدان الذاكرة العلمية، كما سيأْتي بيانه في الصفحات الآتية من بعد.(1/28)
وقد صار عندنا عِلْمٌ، أن هذا التفريق قد أطاح بالإيمان كلِّه، وسوَّى بين الناس جميعاً، مؤْمنهم وكافرهم، وتقيِّهم وفاجرهم، ونزيدك في هذا بياناً وتوضيحاً فنقول: ماذا تقول طائفة المفرِّقين بين شرطي الكمال والصحة فيمن يبغض الصحابة -باستثناء عدد قليل جداً منهم- ويستبيح أعراضهم، ويتقرب إلى الله سبحانه بسبِّهم ولعنهم، وهو مع ذلك يصلِّي ويصوم، ويقوم بشرائع الإسلام وشعائره. هل هو كامل الإيمان، أم هل هو صحيح الإيمان؟ وماذا يقول: هل حبُّ الصحابة رضوان الله عليهم شرط صحة أم شرط كمال؟ إن كان يقول: هو شرط كمال، فقد اعتقد أن انتقاص الصحابة -أيَّ انتقاص- لا يؤثِّر في صحة الإيمان، إذاً: فهو قائل بصحةِ إيمانِ منتقصِ الصحابة، إذاً - فهو والحالة هذه- صحيح الإيمان، وهو يسبُّ الصحابة ويطعن عليهم، وينتقصهم، ويتقرَّب إلى الله ببغضهم، ولسوف يقول من بعد هذا أيضاً: إن توحَّد الأُمة والتئَامَ صفِّها، وجمعها على كلمة واحدة، أولى من مثل هذا الذي تقول، فلنتجاوز عنه، ولسوف يزول كلُّ هذا الذي هو كائنٌ أو ما سيكون مما تخشاه، يا سبحان الله، مئاتُ القرون مضت بكلِّ ما فيها من سرّاءَ وضراءَ، وحبٍّ وبغضَاءَ، واجتالت أمامها ملايين من أمواتٍ وأحياءَ، والأمر السَّيئ هو هو لم يتغيرَّ ولم يتحوَّل، بل ويزداد سوءاً يوماً بعد يوم، فماذا يكون من تفريقٍ منا بين شرطي الصحة والكمال، إلا زيادة في إمعانٍ منا بهذا التفريق في التنازل عن أصول العقيدة وشرائع الأحكام، في حين أن سيكون من غيرنا إصرار على حملنا على ترضِّيهم وإرضائهم وهم مقيمون مطمئنُّون أنهم بتفريقنا بين شرطي الصحة والكمال، سيبقون على صحة إيمانهم، بل: ولربَّما كان أصح وأصوب من إيماننا.(1/29)
وقس على هذا سائر الفرق، التي ذكرها الرسول × في الحديث المشهور: "وستفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة، كلُّها في النار إلا واحدة"، إذاً: فليهنأْ المعتزلة، وليفرح الجهمية، ولترقص المرجئَة، وليسعدوا بكلِّ ضلالهم وإفكهم، (وخروجهم عن المنهج، منهج السَّلفيين الحدثاءِ، الحداثيين)، وبمثل هذا التفريق، تسلم هذه الفرق كلُّها من النار، ويسقط فيها: (الخارجون من السَّلفيين عن منهج هؤلاء الحدثاءِ الحداثيين) انظر بربك... فماذا بعد الهدى إلا الضلال؟!
أيُّ عقل يرضى بمثل هذا الفقه، الذي إن دلَّ على شيءٍ فإنما يدل على نمطٍ جديدٍ من أنماط التخلُّف العقلي لدى السَّلفيين الحدثاءِ الحداثيين الذين صاروا على قلتهم من الادواءِ الفكرية الخطيرة بين جماعات السَّلفيين.
نعم: إننا نرضى ما يذهب إليه هؤلاء وهؤلاء من التفريق بين شرطي الكمال والصحة في حالة واحدة فقط، وهي: أن يكون لقاءٌ بين الإيمان وبين الكفر على صعيد واحد، وأن يتداخلا تداخلاً مزجياً، ليصبحا مادةً واحدةً، وعندها يمكننا أن نستأذن إخواننا المعتزلة في استعارةِ مصطلح عقديٍّ علميٍّ (نراه حينئذٍ حسناً جداً) وهو: المنزلة بين المنزلتين، فنعين السَّلفيين الحداثيين الحدثاء على تقسيمهم مراتب الإيمان إلى ثلاث: فتصير على هذا النحو: (إيمانٌ، وكفرٌ، وإيمان وكفر مزجي)، وبذلك يسلم (المنهج السلفي!) الذي صار يعرف به السَّلفيون الحدثاءَ الحداثيون!
وبذلك يكون المنهج السلفي على أيديهم بألف خيرٍ، والفِ عافية، ثم بألف ألف بليَّةٍ ومصيبة.(1/30)
رابعاً: فقوله سبحانه: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ ...} الآية، واضح الدلالة على عدم التفريق بين شرطي الكمال والصحة، إذ قوله سبحانه: {أَكْمَلْتُ} صريح في أن الدين الذي كان قد أنزله الله على النبي عليه السلام، كان فيه نقص أَتمه الله يوم حجة الوداع، والنقص هنا ليس نقصاً في لفظ النص القرآني، لا في جملته، ولا في تفصيله -وحاشاه- لكن النقص: بأن الله سبحانه لم يكن قد أذِن بإنزال آيات الأحكام والتشريع كلَّها، فلمَّا وافى اليوم الذي أنزل فيها: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ} كان الكمال والتمام للأحكام والتشريع، نعمة أنعم الله بها على الناس، وهي أجلُّ نعمةٍ، وأصلحها لشؤون العباد كافّة، وهذا يشبه قوله سبحانه بقريب من معناه: {مَا يَأْتِيهِمْ مِّن ذِكْرٍ مِّن رَّبِّهِمْ مُّحْدَثٍ إِلاَّ اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ} فقوله: {مُّحْدَثٍ} وصف للتنزيل، وليس وصفاً للذكر المنزل.
وهل كان لدين الله سبحانه أن يحفظ إلا على صحّة؟ وهل تكون صحة إلا على حفظ؟ ولو أننا قلنا: الصحة شرطٌ في الكمال، والكمال شرطٌ في الصحة، لكان هذا وحده أغنانا عن إيراد ما أوردناه بتمام وكمال، فهما -الصحة والكمال- متداخلان بمعناهما، لا يصلح هذا إلا بذاك، ولا ذاك إلا بهذا، فأيُّ نقصٍ يكون -لو أنه كان وحاشا أن يكون في كتاب الله- يستوي في أن يكون بحرفٍ أو بكلمةٍ أو بآية، فهو نقصٌ يردُّ وعد الله بحفظه وكماله وتمامه، وإذ ذلك كذلك، فهو حينئذٍ عارٍ عن الصحة التي حفظ الله سبحانه بها كتابه كاملاً، ودفع بها الريب عنه {ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ} وهذا شيءٌ يبرأ منه كتاب الله.(1/31)
وبهذا الكمال والتمام كانت الهداية للمتقين، وهم الكَمَلَةُ الأتَمَّة {هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ} فوافق التمامُ والكمالُ بالحفظ لكتاب الله، الهدى الذي جعله الله وصفاً بكرامته للمتقين، وهل كان يكون الهدى بكماله وتمامه، إلا ليستقيم أهله على صحة الهدى، الذي لا تسلم له صحته إلا بكماله وتمامه، وهل يكون التمام والكمال إلا بالصحة الكاملة التَّامة، التي جعلها الله سبحانه لباساً لكتابه، فكان الكمال بالصحة، وكانت الصحة بالكمال، وأيُّ نقصٍ يحدث للشيء يفقده الصحة والكمال معاً، إلا ما يكون لبعضٍ من أَجزائه، إن كان يمكنُ تجزِأته، أما أن يوصفَ بالصحة بكلِّه فذاك لا، وما كان ليكون وصف بصحةٍ إثباتاً، ولا بعكسها سلباً ونفياً، إلا بالكمال إثباتاً أو نفياً.
ومثل ذلك في الدلالة والاستدلال قوله عليه الصلاة والسلام: "إنما بُعثت لأتمم صالح الأخلاق"، وما كان صلاحُ الأخلاقِ إلا باجتماعها كلِّها، وبتمامها جميعها، وباتلافِها على صعيد واحد، إذ كلُّ خلق منها مؤَثِّرٌ في غيره، متأثِّر به، فالأخلاق كالأحكام لا تصلُح، ولا تُحدِث أثرها المطلوبَ المقصودَ من الأخذ بها والعمل بها إلا بكمالها، وتمامها، وهو ما صرَّح به هذا الحديث. إذاً: فمن هنا نتبيَّن، أنْ لا كمالَ إلا بصحةٍ، ولا صحةَ إلى بكمالٍ.(1/32)
خامساً: والكلامُ في شرطي الصحة والكمال على ما ذهبت إليه، وفصَّلته بمثل هذا التفصيل، يخرجُ منه حجَّةٌ لا تقبل الدَّفع، ولا الإبطال، إلاعند من يحب الزَّيغ عن الحق، ويؤثر الباطل عليه، هذا ظني، وهو ما لا قبل عندي إلا له وحده إن شاءَ الله تعالى، وهذا -أي على ما بيَّنت وفصَّلت- ليس بمخرجه عن المعنى الذي يكون به فرق بين شرطي الكمال والصحة، ويكون به معنى مستقلاً عن الآخر، ويزداد ذلك وضوحاً بتأويل قوله سبحانه: {وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلاً لاَّ مُبَدِّلِ لِكَلِمَاتِه}، إذ معنى التمام لكلمة ربك هنا، ليس لما كان بها من نقصٍ فكملت من بعده، بل المعنى: استمرَّت ودامت على التمام والصحة، فلم يعتورها نقصٌ يَخْرم تمامها وصحتها، ومن هذا المعنى ما جاءَ في الأثر: "وتمَّ حمزة على إسلامه، أي استمر وبقي على إيمانه"، إذاً: فإنَّ بين هذا المعنى وبين الذي قبله، عمومٌ وخصوص، وكل من المعنيين، يهدي إليه السياق الذي يعتدُّ به في لغة العرب، وذا ظاهرٌ لا يخفى، وما ينبغي له.
سادساً: ثم كيف يصحُّ في عقل العقلاء أن لا يكون شرط الكمال هو نفسه شرط الصحة والعكس كذلك، وليس من أحدٍ يستطيع أن يقضي على نفسه ولا على أحدٍ غيره، بصحة الإيمان فيه، إلا أن تجتمع عليه الأجزاءُ الثلاثةُ جملةً واحدةً بكل مقتضاها، ما صغر منها وما عظم، ... إذ صحة الإيمان لا تكون إلا باجتماعها كلها كاملة.
إذاً؛ فإننا نخلص إلى ضبط هذه المسألة ضبطاً وثيقاً على النحو الآتي فأقول:(1/33)
إنَّ القول: إنَّ الإيمانَ صحيحٌ أو كاملٌ، أو كامل أو صحيح، بشطرٍ يكون به صحيحاً، وبشطرٍ آخر يكون به كاملاً، لا يؤثر بتقديم ولا بتأخيرٍ، ما دام أنَّ الإيمانَ ينقصُ بأيِّ عملٍ من الأعمال -من نافلةٍ أو فريضةٍ- ينقص تبعاً له أجرُ العبد وثوابه، كما أنَّ أجْرَه يزيدُ بأيِّ عملٍ صالحٍ من الأعمال، وينقص بنقصه، دلَّ على هذا وهذا الكتاب والسُّنَّة، ولا ينازع في هذا منازع.
والنقصُ والزيادةُ بالعمل في الإيمان شيءٌ، وجحوده شيءٌ آخر، بل إنَّ الجحود لا يوفي بالجاحد على الكفر إلا بشرط يجمع إليه شروطاً، ذلكم أن الجحود لا يَكْفُر به الجاحد، إلا بالعلم بما يكفر به الجاحد، وهذا العلم إما أن يكون مما يُعْلَم بالضرورة الكفر به، وإما أن يقوم الدليل عنده على صدق العمل وصوابه فآمن به وصدَّقه بقيام الدليل عنده على صدقه وصوابه، وهذا يعني عنده ولا بدَّ أنه شيءٌ من الوحي نزل به جبريل عليه السلام من عند الله على رسول الله ×، والفرق بين الأول وبين الثاني ظاهر.
فالأوَّل: يعلم كل أحدٍ في الأمة، وليس في حاجةٍ إلى تلمُّس الدليل لإثباته أو نفيه، كتحريم شتم صاحب الرسالة أو شتم القرآن، ووجوب إثبات الوحدانية لله، وإثبات صدق الرسالة، وأما الثاني: فالعلم به علمٌ خاص، إذ أنه يعتمد قيامَ صحةِ الدليل وضبطه بالفهم الصواب، وهذا لا يعلمه إلا الخاصة، والكفر به إنما هو كفر بالدليل، الذي قام عنده أنه وحيٌ من الوحي، وهو بهذا يكون كما لو جحد السُّنَّة كلها، إذ جحود الجزءِ كجحود الكلِّ ولا فرق، فقد قام عنده ما أوجب به على نفسه التصديق به، ووجوب العمل بمقتضاه، وليس في هذا الجحود من فرقٍ بين أن يكون جحودَ عملٍ نافلةٍ، وبين أن يكون جحود عملٍ فريضةٍ، إذ كلاهما إنما هو جحودٌ للدليل الذي نزل به الوحي على رسول الله ×، والوحيُ كما أسلفنا كله سواءٌ، كتاباً كان أم سُنَّة.(1/34)
ولعل سائلاً يسأل فيقول: وماذا لو أنه عادَ عن هذا الدليل إذ ظهر له ضعفه أو وضعه، فترك العمل به؟ فالجواب:
أولاً: أنه يجب عليه ترك العمل به، ولو بقي يعمل به من بعد ذلك لكان مخطئاً بل يكون آثماً إلا أن يقع في العمل به بحكم ما جرت عليه العادة، لذا؛ فعليه أن يحاذر.
ثانياً: أما ما مضى من العمل بهذا الدليل، فإنه ما كان إلا من علم
بصحته، فما كان له أن يتحوَّل عنه، فإن كانت دلالته على الوجوب فواجبٌ عليه العمل به، وإن كان دالاً على التحريم وجب عليه تركه، وهكذا في سائر الأحكام.
ولا بدَّ من تبيُّن شيء تبيُّناً يفضي إلى دفع لبْسٍ قد يخالط البعض، فيقولون قولاً غير صالح، ذلكم: أن الإنكار أو الجحود الذي بيَّناه آنفاً إنَّما هو في غير ما يكون تركه كفراً من حيث هو تركٌ، سواء أكان بجحودٍ أم لم يكن كذلك. وذلك كترك الصلاة، أما ما نعلم كفره -بتركه الدليل الذي اعتقد صحته وأن العمل به واجب إن دلَّ على الوجوب أم لم يدل على الوجوب- فإنه لا يُحكم عليه بالكفر، إلا من بعد أن يُعلم السبب الذي حمله على ترك العمل به، إذ قد يكون قد تبيَّن له حكم أو وصف جديد غير الذي كان قد جرى عليه العمل عنده، حتى لو كان حراماً فواقعه، أو واجباً فتركه، أما إنْ كان الدليل قام على كفر الفاعل -بفعله أو بتركه جَحَده أو لم يَجْحَدْه- فالكفر هو الكفر ولا ريب، كترك الصلاة، لكن لا يُعْجَل، بل لا بدَّ من استتابته قبلها، فإن تاب وإلا قُتِلَ بردَّته.
وإذ الأمر كذلك، فما فائدة التفريق بين الكمال وبين الصحة، وجعلهما شرطين؟!
وعليه: فإنَّ ما ذهبتُ إليه من أن التفريق بين شرطي الكمال والصحة لا ترتجى من ورائه فائدة، ولا يُدْرك به طائل، بل إنه يفضي إلى فسادٍ كبير، يجب التحذير منه، وسدُّ باب الذريعة الذي ينتهي إليه، وبخاصة في المسائل العقدية، التي استبيحت بها وصائِدها، وشوِّهت بها معالمها، بما(1/35)
ذاع وشاع في أرض المسلمين على أيدي الفرق الضالة الكافرة.
سابعاً: وما دام أن قد علما أنَّ هذا التفريق بين شرطَيّ الكمال والصحة قد حدث بعد جيل الصحابة رضوان الله عليهم، ولم يأتنا عن المعصوم صاحب الرسالة الأمين على وحي ربه، صلوات الله وسلامه عليه، شيءٌ يهدينا إلى مثل هذا التفريق، فعلينا أن نبيِّن الأمر في هذه المسألة بياناً يذهب عنا الحَزَن، ويؤْوينا إلى كَنَفِ السَّهلِ الواضحِ الذي لا تخفى فيه خافية، فأقول والله المستعان:(1/36)
فإن إيمان العبد لا يكمل ولا يصحُّ على نحو ما بيَّنا في الفقرات السابقة إلا بإيمانه بكل ما جاءَ في كتاب الله عز وجل، وبكل ما نطق به وفعله وأقرَّه رسول الله ×، وصحت نسبته إليه، وصدَّقه فيه، بالقول وبالعمل، ولم يردَّ منه شيئاً ولم يجحده، إذ هو تصديق بالوحي ويجب التصديق به، وسواءٌ أكان هذا الذي جاءنا عن رسول الله × من المباحات أم من المندوبات، أم من الواجبات، أم من المكروهات أم من المحرَّمات، وقد أمرنا الله سبحانه أن نعظِّم رسول الله × وأن نوَّقِره وأن ننصره، فمن ردَّ شيئاً صحت نسبته إليه عليه السلام، فليس هو بالمعظِّمهِ ولا بالموقِّرهِ ولا بالناصرهِ، والله سبحانه وقد خاطب عباده بما شرع لهم في كتابه وسنَّة نبيِّه × لم يخاطبهم بما يعجزهم أو يوقعهم في حرج، فهو الرؤوف الودود الرحيم بهم، بل خاطبهم وقال فيه: {لاَ يُكَلِّفُ الله نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا}، {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ}، وصواب العمل الذي خاطب الله سبحانه به وصحته، لا يكون كذلك، إلا بصحَّة الاعتقاد به قلباً، والتصديق به، والتسليم بأنه المقتضى الحقُّ المستطاعُ له، والكمالُ المطلوبُ للعمل لا يكون إلا بتلك كلِّها مجتمعةً، فأين إذاً يقع شرط الكمالِ وحده أو شرطُ الصحة وحده من مثل هذا الضبط لأعمال الإيمان كلِّها، حين يريد العبد أن يعمل، بل وحين يعمل؟ أما أنا ومن يعقل الحق، ويعرف الفرق بينه ويبن الباطل، الذي أزعم أنه هو الحق لا سواه، فليس يحسن، ولا ينبغي أن يَذْهَبَ ذاهب إلى غير الذي ذهبت.(1/37)
(وليس هذا من باب الظنِّ الْيُؤْتى به إلى الحق من غير وجهه)، بل هو من باب الظَّن الحسن بما أودعني الله سبحانه من دقَّة النظر، واستجلاءِ الحقائق من مظانِّها بما دلَّت عليه لغة العرب في أصولها وسلامةِ ألفاظها وقواعدها، وحسن النظر فيها، والحمد لله الذي تتم به الصالحات، وتهوي إليه قلوبُ المحسنين الأبرار، ومن خالف عن مثل ذلك، فلست بقائل فيه: إلا إنه شائَل بغير هدى، ولا علم، ولا صراط مستقيم، فقد طويت قرون على مثل الذي خالفنا فيه، واستقرَّ في قلوب طوائف أهل العلم قديماً وحديثاً، بل قد يعكس هذا المخالفُ الأمر علينا فيقول: أنتم المخالفون عن المنهج العلمي، بل ولربما قال: الاعتقادي (وقد قيل، وقيل، وقيل)، ولا حول ولا قوَّة إلا بالله، ونقول لمثل هذا المخالف: ما أحسنَك، وأطيبَ حديثك، وأرخم صوتَك، لو أنك خالفت بأدبِ أو على أدبِ العلم وأهله، أما أن تكون فظاً حتى وأنت تبتسم، غليظَ القلب حتى وأنت تسرد الأحاديث وتقرأُ الآيات، مضطربَ الجسم حتى وأنت نائمٌ تحلم بالرُّوىَ الضبابية الواهمة، فذا لا يصلح إلا وأنت في سُرى الليل البهيم من خوف الذئاب الجائعة العاوية، أو من فوق رؤُوس الأعلام الشاهقة، ولا مِسْمَعَ من أنسٍ حتى ولا من جنٍّ يقع فيه كلامك الصائتُ، أو في أجوافِ الكهوف والمغارات السحيقة البعد. فهوِّن أنت ومن معك من مثلك على أنفسكم، واعلموا أن الحقَّ ليس يجتنى ثمره بمثل ذاك، فثمر العلم رطبٌ جنيٌّ، وعناقيد دانية، وأثمار طيبة شهيَّة، فكونوا على ما تريدون، ولكن لا تنابذوا المخالف بعزة المتكبرين، وأهواءِ المغرضين، وكونوا بصواع الحبِّ، والأُخوَّة، والإيثار، كائلين، وتأمَّلوا بفقه الكتاب العزيز قوله سبحانه: {وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ}.
وبعد:(1/38)
فإن العبد إزاءَ العمل الذي كلَّفه الله سبحانه به على صورٍ وأحوال، فيحسن بنا الاتيانُ عليها، أو على بعضٍ منها، لنهتدي بها إلى الوجه الحق والصواب إن شاء الله، ومن قبل أن نأْتي على هذه الصور أو بعضٍ منها، فلا بد من أن نأتي على فرقٍ بين من يعجز عن فعلٍ كلَّفه الله به وهو مصدِّق به مؤْمن بحكمه المطلوب منه، وبين من لم يعجز عنه ونبذه وهو مؤْمن به، فالأول يعذره الله سبحانه، ولا يعاقبه، بل ربما أثابه وكتب له أجراً عنده، أما الثاني فقد أصاب منكراً يستأْهل به العقوبة من الله.
وهذا أيضاً يختلف من واحدٍ لآخر، فتارك النافلة من غير إنكار ولا جحود لها وبإنكار دليلها الثابت القويِّ، غير التارك الفريضة، وهو يعلم أنه عاص بتركها وغير منكر ولا جاحد لها، فهو مؤمن ناقص الإيمان.
ومن تركها وهو غير مؤْمن بها لأنه غير عالمٍ بفرضيتها ولم يأته علمٌ بها فهو كامل الإيمان.
فإن علم حكمها وهو متلبِّسٌ بضِّدها، وهو قادرٌ على العدول عنها ولم يعدِل وهو غير منكرٍ لفرضيتها، فهو ناقصُ الإيمان.
ومن علم حكمها وهو متلبِّسٌ بها وعدل عنها لقدرته على العدول فهو
كامل الإيمان صحيحه.
ومن شرع في معصيةٍ، عالماً حكمَ ما يعصي به، مصرَّاً عليها، غير جاحدها، فهو مؤمنٌ ناقصُ الإيمان.
ثامناً: ومما أوضحنا وبيَّنا في الفقرة السابقة، نعلم أن شيئاً من الأعمال، سواءٌ أكانت واجبةً أم مندوبةً، أم محرَّمةً، أم مكروهةً، إن تحقَّق فيها الإخلاص والموافقة والاستطاعة -وصحة العمل لا تكون إلا بها مجتمعة- فلا معنى للفصل ما بين شرطين، فيقال: هذا شرط صحة، وهذا شرط كمال، وقد أشبعنا هذه المسألة فيما تقدم، وهو الأمر الذي جرى عليه عمل القرن الأول، قرن النُّبوَّة، الذي كمل فيه الإسلام، وتمت فيه كلمة الله، ونشأت فيه القواعد والأصول، من غير أن توضع أو تصاغ لها أسماءٌ واصطلاحاتٌ.(1/39)
ونحن ذاكرون لهذا مثلاً من قوله عليه الصلاة والسلام: "إذا سافر العبد أو مرض، كتب له من العمل، ماكان يعمله صحيحاً مقيماً"، ومن قوله عليه السلام أيضاً: "إن الله تجاوز لي عن أُمتي الخطأُ والنسيان، وما استكرهوا عليه". إذ ما من شك أن نقصاً وقع على العمل، في حالات المرض والسَّفر، والخطأ، والنسيان، والإكراه، ولكنها حالات طارئة، والأصل أن تكون الأعمال في معزلٍ عنها، تُؤدَّى بشروطها التي تقبل بها، (الإخلاص، والموافقة، والاستطاعة)، وهي حالات تكون بها الأعذار ومعها (على النقص الظاهر فيها)، لكنه نقص لا ينتفى معه كمال العمل ولا صحته، إذ قد تحققت فيه شروط القبول، فلماذا إذاً ندخل على الأعمال ما ليس منها، ولا يُحدِثُ فيها زيادة توضيح سواءٌ أقلنا بالتفريق أم لم نقل، في شرطي الصحة والكمال، فما استقر الأمر عليه في القرن الأول هو الأمر الذي لا ينازع، وقد استقر ولم يُعرف أن قيل فيها: "شرط صحة، وشرط كمال"، فَلِمَ يكون منَّا ما لم يكن منهم؟ ومما لا شك فيه أن الذي كانوا عليه خير من الذي صرنا إليه، إذ هَديهم هو خير الهدي، الذي يجب أن يُعَضَّ عليه بالنواجذ.
إذاً: فإنَّ النقص الذي يكون في بعض الأعمال الإيمانية، ولا يُعَدُّ نقصاً لأنه قد سلِم لها الأصل الذي تسلم به لها الصحة والكمال -حتى عند القائلين بالتفريق بينهما- لا يؤثِّر في الصِّحة، وما يصدق على الفرائض والواجبات، يصدق على النوافل والمندوبات، وسائر الأحكام ومثلها جميعاً في ذلك العقائد والأُصول، فنكون نحن وأهل الصدر الأوَّل، على تطابقٍ تامٍّ كاملٍ صحيح في كلِّ ما كانوا عليه من مثل هذا الأمر، نغدو به ونروح ونحن نقرأ أو نستحضر قول الرسول ×: "الإيمان بضع وسبعون شعبة أعلاها لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياءُ شعبةٌ من الإيمان". وهذا الحديث لم يفرِّق بين ما يعرف بالأحكام، وبين ما يعرف بالعقائد، وسيأتي الحديث عنه قريباً.(1/40)
تاسعاً: ثم ليكن معلوماً بيقين، أن عدم التفريق بين شرطي الكمال والصحة على ما تقضي به قواعد لغة العرب، ومعاني كلامها، مفردات وتراكيب -على نحو ما أوضحت في كل ما سلف- لا يردُّ أصلاً من أصول الاعتقاد، ولا يبطل قاعدة من قواعد الأحكام، بل هو إغلاق لبابٍ، ولج منه المتأوِّلون في الإسلام، أحكامه وشرائعه، وعقائده، وأُصوله، بعيث التحريف، والإبطال، والتأْويل، ولا أقرب من برهانٍ يصدِّق ذلك، أنَّهم -وقد قالوا بالكفر الاعتقادي القلبيِّ، والكفر العمليِّ، وجعلوا الثاني مبقياً على الإيمان لصاحبه -وإن انتقص- ابرءُوا تارك الصلاة، والرَّاميَ أُمَّ المؤمنين عائشة رضي الله عنها بالفاحشة، والحاكم على الأخيارِ الأطهارِ من أصحاب رسول الله × بالرِّدَّة والكفر، والمكذِّب المفتَرِي على الشيخين أبي بكر وعمر رضي الله عنهما وابنتيهما رضي الله عنهما، والحابسَ الزكاة، والشاتم الرسول ×، والسَّاجد للصنم، والملقيَ المصحف في السباطة، والنابذ كتاب الله من وراء ظهره، تاركاً الحكم به مختاراً، أو حمل الناس عليه وهو قادر عليه، وتمكين العائثين في الأرض فساداً بأحكامه وشرائعه، وكفَّ أيدي الصالحين العقلاءِ الأمناءِ من أهل العلم والفكر السليم الصالح، وعقولهم، من الدعوة إليه، وبيان أحكامه وعقائده على النحو الذي فهمها عليه أهل الصدر الأول(3)، وغيرهم ممن لا يشك في خروجهم من الملة بما صنعوا، واعتقدوا، أو بما اعتقدوا، أو بما صنعوا من الكفر، وحظي منهم بصك غفران في الآخرة، فأين هم بهذا من قوله سبحانه: {أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ * مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ} بزعم أنَّ الإيمان أو التصديق القلبي كافٍ في خروجه من النار ووجوب الجنة له.
ولربَّما وجدنا بعضهم يفرُّ من هذا البغي الفاجر، الذي كان يُرْقص(1/41)
جسده طرباً له، ليعود عنه -متربِّصاً بنفسه الدوائر التي حاكها، وطوَّق نفسه بها، بفقهه الباطل، وقلمه المثلوم- فيقول في نفسه: لم يكن مرادي هو الذي فهمه عنِّى الناس، ثم يسارع في سوءِ فهمه وباطل دعواه، لينقض ما كان قد سوَّد به صفحاتٍ كثيرةً، ويدَّرأ بواحد من أهل العلم، زعم أنه تتلمذ على يديه، منكراً بزعمه هذا من تتلمذ عليه حقيقةً، دأْبه الدائبُ في التَّحوُّلِ والنكوصِ، وصار في ذلك كله وغيره من السيِّئات مثلاً يحتذى.
وحتى لا تذهب الظنون بالقراءِ بعيداً فيقولوا فيَّ قولاً قاسياً يعود عليهم بالضُّرِّ والأذى أُسرعُ بهم إلى درء هذه الظنون فأقول: إن ما ذكرت إنما هو صورة تصوُّريَّةٌ، تصويرية، تراها على كل باب من أبواب الكثيرين من طلاب العلم يعني (وجه البُكْسة) على رأيْ المثل، فما ينبغي لزائر واحدٍ يَضعُها على بابه، أن يغبط نفسه أو غيره أنه يعرف فلاناً أو فلاناً من (وجه البُكْسة) فما عرف والله إلا ما كان خيراً له أن لا يعرفه.
وإن كان من دعوى بعضٍ أن ما يُذْهَبُ إليه من هذا التفريق بين شرطي الكمال والصحة، إنما هو من حرصٍ على الإبقاء على صيغة المنهج الدَّعوي صحيحةً، صواباً، سالمةً، فإنها دعوى ربَّما كان لها قبول -على النقض والنقص والاختلاف الذي فيها- لو علم مُدَّعوها ما أوجب الله عليهم -من وجوب فهم مقتضى التَّوحيد الحق، والإيمان الصحيح (وإن بشرطيه)- بنبذ أسباب الفرقة كلِّها، -(التي ضربت بطنبها في بني إسرائيل، وأضحوا من أشد ما يكونون هم حرصاً عليها)- والحرص على كلِّ أسبابِ اللقاءِ والاجتماع على كلمة واحدةٍ سواءٍ (وهي التي التأم بها جماعة المسلمين السابقين، وكانوا أشد ما يكونون حرصاً عليها) ليُفهم بها المنهج المظلوم على يد كثير من أهله، الذين يدَّعون أنهم أهله والأحقُّ به، نسأل الله العافية، والسَّلامة من كل سوءٍ.(1/42)
وهنا أُذكر وأُنبِّه إلى مسألةٍ طالما ذكرتها من قبل وهي: "أن الله سبحانه كلَّف عباده بأوامر ونواهٍ، أوامر يأْتون منها ما استطاعوا، ونواهيَ يقفون عندها لا يتجاوزونها، وفي هذا يقول عليه السلام: "إذا أمرتكم بأمر فأْتوا منه ما استطعتم وإذا نهيتكم عن شيء فاتركوه"، فالمأْمورات يؤْتى منها المستطاع، والمنهيَّاتُ تترك كلُّها، وكلُّها -المباح منها والمحظور- دائر بين الحلال وبين الحرام، بين تحقيق المصلحة وبين تحقيق المفسدة، فيثابُ على المصلحة، ويعاقب على المفسدة، يزيدُ الإيمانُ بالأولى {فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُواْ فَزَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ} ومثلها: {لِيَزْدَادُواْ إِيمَاناً مَّعَ إِيمَانِهِمْ}، وينقص الإيمان بالثانية، {فَزَادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ}، وكلُّ عملٍ يُفْعل أو يُتركُ، فهو بين هذين، فلماذا التَّذرُّعُ بمثل هذا التفريق بين شرطي الكمال والصحة من هذه الأعمال، وقد صارت الأعمالُ المكفِّرةُ معلومةً، ما بين فعلٍ لها وبين تركٍ، وليس لكل أحدٍ الحق في الحكم بهذه الأعمال على آتيها أو تاركها بالكفر، فذا موكول إلى من هو أهل لذلك من العلماء الراسخين في العلم، ومن تجرأ على التكفير من غيرهم فيجب أن يؤدَّب تأديباً زاجراً يقمع طلعته، ويعرَّفه قدْره، ويلزمه رتبته.(1/43)
وأما الأعمال التي لا يُكفَّر العبدُ بفعلها أو بتركها -مما يوصف فعلها أو تركها بالمعاصي- فإنَّ العبدَ الفاعِلَها أو التارِكَها لا يعدو أن يكون عاصياً، ويبقى لابثاً في دائرة الإيمان بمعصبته التي لا تدنو به من دائرة الكفر أو تدخله فيها، وهو بفعله المعصية أو بتركه الطاعة قد أتى على إيمانه بشيءٍ من النقص، أما إن كان فعله طاعة فأتاها، أو كان معصية فأباها، فقد ازداد إيماناً مع إيمانه، وهو في الحالين ليس بحاجةٍ إلى شرط صحةٍ ليكون به عمله صحيحاً، ولا إلى شرط كمال ليكون به كاملاً، وما من شك أن المؤْمن لا يصلح عمله إلا بأن يكون صواباً، وصوابه إنَّما يكون بالإخلاص وصدق الاتباع للرسول عليه الصلاة والسلام، فإن نلتمس شرطاً ليكون به العمل صحيحاً، أو آخر ليكون به العمل مقبولاً فقط، فهذا ليس يُؤثِّر في صحة الإيمان لا من قريب ولا من بعيد.(1/44)
ولنأخذ مثلاً توضيحياً لذلك قوله ×: "صلوا كما رأيتموني أصلي"، ومعلومٌ أن من أعمال الصلاة ما لا تُقْبل الصلاةُ إلا بالإتيان بها، كقراءة الفاتحة، والركوع، والسجود، ومنها ما تُقْبَلُ الصلاة بدونها، كقراءة السورة بعد الفاتحة، وترك التَّشهُّد الأول، وتركِ دعاءِ الاستفتاح، والصلاة صحيحة بالنقص وبالتمام والكمال، فلماذا نغذُّ السَّيْر لالتماس شرط صحة، وآخر شرط كمال، ولسنا بحاجة لمثل هذا، ما دمنا أننا أدَّينا الصلاة -أي ما بقي منها مما يدخل تحت عموم قوله صلَّوا كما رأيتموني أصلِّي- على نحو ما أدَّاها رسول الله ×، فكانت به صحيحةً، وهي غير كاملة، وما ينبغي للمسلم -وهو يسمع أو يقرأ صلوا... أن يسأل نفسه أو يسأل غيره، أين ما يسمَّى من أعمال الصلاة واجباً وبين ما يسمَّى نافلة، فذلك يوهن الصلاة وذلك بالتفريق بين أعمالها، فيكون منها واجباً ويكون منها نافلة، ويضعف من تعظيم الصلاة في نفسه يوماً بعد يوم، حتى إنَّ المصليَ ليقول في نفسه، يكفي أن أقتصر على الأركان، ثم ينتقص من الأركان ويجتزئُ من تمامها والطمأْنينة التي أوجب الله على المصلِّي أن يأْتي بها، لذا؛ فقد كان حقاً على المصلِّي أن لا يفرِّق في صفة الأداءِ (أي من التمام والطمأنينة... في صلاته كلها) وهذا لو قيل فيه: إنه شرط صحة أو شرط كمال، لكان أصدق ما يكون بوصفه بأحدهما وحده دون الآخر، لقبول الصلاة، فلا يكون تعسُّف بالتأْويل، الذي ينتهي بالمصلي آخراً إلى بطلان الصلاة كما بيَّنَّا.(1/45)
ومثل ما يصدُق على الصلاة، وهي عملٌ واحدٌ من أعمال الإيمان يصدق أيضاً على أعمالِ الإيمان كلها مجموعةً معاً، كما في قوله عليه السلام: "الإيمان بضع وسبعون شعبة، أعلاها لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياءُ شعبةٌ من الإيمان"، فكل عمل من أعمال الإيمان هذه يؤثر في الأعمال الأخرى، بانتقاصٍ أو بزيادة، فعلى المسلم أن يوفِّرَ من جهده لهذه الأعمال، ما لا يَعْجِزُ معه عن القيام بها كلِّها، إلا ما يكون من نسيانٍ، أو خطأ، أو إكراهٍ، أو غيرِ ذلك من الأعذار، التي وإن نَقَصَتْ بها الأعمالُ الإيمانيةُ في الظاهر، فهو نقصٌ لا يُنْتَقَصُ به الإيمانُ حقيقةً، ويبقى أجره بها كاملاً غير منقوص.
فمطلوبٌ من العبد المؤمن إذاً: أن يكون يقظاً، حاضِرَ القلب، حريصاً على تأْدية هذه الأعمال كلها، من غير تفريق بين الأعلى منها، وبين الأدنى، وإلا فإنَّ ما يتركه من عملٍ منها، قد يُفْضي إلى بطلان سائر الأعمال وفسادها، لأن منها، ما يكون فعله أو تركه كفراً، وقد يكون التَرك تركاً دون تركٍ، أو فعلاً دون فعلٍ، فلا يكون معهما إلا العصيان من غير جحود، فلا كُفر حينئذٍ.
ثم ليُعْلم أن كلمة التوحيد -التي لا يُقبَلُ من العبد صرفٌ ولا عدلٌ إلا بها- تقضي على العبد أن يسعى إليها وبها بكل أعمال الإيمان، -أعلاها من بعدها، وأدناها- آخذاً في اعتباره أن نقصَ الإيمان وزيادته، إنما هو بترك العمل بهذه الشعبة، أو بالعمل بها، وأن هذه الشعب لا تُعلمُ إلا بعد الإتيان بها والعمل بها، إذ إن هذا الحديث لم يحصِ هذه الأعمال، فهي: منها ما يُعْرف بالاستقراءِ والتَّتَبُّع، إذ يذكر العملُ مقروناً بنفي الإيمان أو بإثباته لتاركه أو لفاعله، وحتى لو أنه أحصى منها العددَ الذي جاءَ ذكرُه في هذا الحديث، فإنه لا يُدرى في واقع الأمر هل هي هذه الأعمال التي أحصاها أم هي غيرها.(1/46)
وعليه، فإننا نعلم أن نقصاً قد يعرو ما ذكره الحديث بسبب عدم ذكر هذه الشعب فيغيب عن الذي أحصاها العمل بها بهذا السبب، فهل يكون حينئذٍ مثلُ هذا النقص يحتسب به نقصٌ في الإيمان، أم لا يحتسب؟ لو كان به احتسابٌ، لكان يكون معه تكليفٌ، ولو كان به يكون تكليفٌ، لكان تكليفاً بشيء غير مقدورٍ عليه، فكيف يكون مثله"؟!
عاشراً: وقد علمت أن ما يُذْهَبُ إليه من هذا التفريق بين شرطي الصحة والكمال عند بعض الذين يدَّعون السَّلفية -ممن جربوا مغانمها المعنوية والمادية- إنما هو من حرصٍ فيهم على الإبقاء على صيغة المنهج الدَّعوي السَّلفيِّ صحيحة كاملة، وأنا سائل الذين يعقلون منهم سؤالات.
السؤال الأول: هل من الحرص على صحة هذا المنهج وكماله الإجلاب بالصوت، والرَّجل، على من يخالفهم في الرأي، في بعض المسائل العلمية، ابتغاء الانتصار للمنهج، (زعموا) في حين أن خفض الصَّوت، والرفق، وحسن الخلق، أحسن وأكرم.
السؤال الثاني: هل من الحرص على صحة هذا المنهج وكماله
الانتقاصُ من النصوص التي يؤيِّدون بها آراءَهم، وبَتْرُها، وتشويهُها، إما بسوءِ النقل وإما بسوء القصد؟ لا أدري، ولا أقطع، والله وحده أعلمُ.
السؤال الثالث: هل من الحرص على صحة المنهج وكماله النكوصُ على الأعقاب، والتبرُّؤُ مما وقعوا فيه بتسرُّعهم في الرَّدِّ على المخالف، حين فوجئوا بردِّ لجنة الإفتاء الدائمة؟
السؤال الرابع: هل من الحرص على صحة المنهج وكماله، استبطان قلوب الخلائق، ليستخرجوا منها ما يحسبونه هيِّناً من ظنونهم الواهمة وهوعند الله عظيم؟
السؤال الخامس: هل من الحرص على صحة المنهج وكماله، أن ينسبوا إلى من يخالفهم كلاماً لم يَقُله، أو يُبدِّلوه ويحرِّفوه عن مواقِعِه، وهم ربما علموا صنيعَ من هذا؟(1/47)
السؤال السادس: هل من الحرص على صحة المنهج وكماله، أن تكون الرُّدود العلمية المدَّعاة سبباً في تفرِّقِ الجماعة، واختلافِ بعضها على بعض، حتى لو أن الحقَّ كان معهم بردودهم.
السؤال السابع: هل من الحرص على صحة المنهج وكماله، أن يكون حكمهم على المسائل العلمية وحده هو الصواب، وحكم غيرهم هو الخطأ الذي لا بدَّ من العودِ عنه إلى حكمهم، في حين أن كليهما عرفته الأُمة منذ قرون في سيرة علمائها السابقين؟!
السؤال الثامن: هل من الحرص على صحة المنهج وسلامته، وصف المخالفين لهم من بعض إخوانهم بالخبث، أو النفاق، أو سوء الطَّويَّة، أو المكر السَّيِّء، أو أن فلاناً تكفيري جلدٌ، أو أنه عدوٌ لله ولرسوله، وبجمهرةٍ أخرى من الأوصاف والنعوت، التي توحي بها إليهم نفوسهم أو الشياطين القابعون من وراءِ أُهبِهم؟
السؤال التاسع: هل من الحرص على صحة المنهج وسلامته، أن يتَّهمَ السَّلَفيُّ أخاه السلفيَّ الآخر، بمثل تلكم النُّعوت والأوصاف، فيكون هو باتهمامه كامل الإيمان لأنه قد أبقى على شرط الصحة فيه، في حين أنه قد أسقط هذا الشرط عن أخيه الآخر، ولا يُدْرى هل قد جعل لأخيه هذا حقاً في ادعائه لنفسه شرط الكمال؟!
السؤال العاشر: وهل تبرئة المسلم السَّلفيِّ -الذي ارتضى المنهج السَّلفي الذي يدين به القوم- من النفاق، والخبث، وسوءِ الطَّويةِ شرطُ كمالٍ أم شرطُ صحةٍ، وهل يكون المتَّهِمُ أخاه السَّلفيَّ الآخر، بنى اتهامه أخاه هذا على شرط كمال أم على شرط صحة؟
هذه أسئلةٌ أحسب الإجابة عنها سهلة جداً على من يعرفون الفرق بين شرط الكمال وبين شرط الصحة، ولربما أُبْهِمَتْ عليهم بالتلبيس، والتَّقنُّع بألبسة الزور، والادِّعاءَات الواهمة الراجفة من فوق السراب أو من تحته.
وسؤالٌ استدراكيٌّ مباشر:(1/48)
ماذا يقول المفرِّقون بين شرطي الصحة والكمال، فيمن لا يحب الصحابة باستثناء عدد قليل منهم -وهو مع ذلك يصلِّي، ويصوم، ويزكِّي، ويحج، ويعتمر، ويؤدِّي سائر شرائع الإسلام- هل حقق ببغضهم شرط صحة الإيمان، أم شرط كمال الإيمان، إن كان يقول إن حبَّهم هو شرط كمال فقد اعتقد أن انتقاص الصحابة شيءٌ لا يؤثِّر في صحة الإيمان، إذاً فهو قائل بصحة إيمان الباغضين الصحابة، فهل يستوي إيمانه على ساقه، ويكون ببغضه الصحابة، والطعن عليهم، قد حقق شرط صحة الإيمان؟
وقس على هذا كلَّ أمرٍ مثله، وعلى الأمة أن تنسى كل منقصةٍ يؤتى بها إلى حمى الصحابة، رضوان الله عليهم أجمعين.
حادي عشر: وما ينبغي أن يخفى على أحدٍ أنَّ هذا التفريق يضعنا على المحجة في هذه القضية، التي عشيت فيها أبصار، وتأنَّقت فيها أفكار، وطافت وطوَّفت بها أباطيل وأسمار، فنسأل هؤلاءِ المفرِّقين بين شرطي الكمال والصحة، ماذا أنتم قائلون في الإيمان بالإسلام كلِّه، ومنه كما تعلمون، الواجب، والحرام، والمندوب، والمكروه والمباح والله يقول: {ادْخُلُواْ فِي السِّلْمِ كَافَّةً} هل هو شرط كمال أم شرط صحة؟ فإن قلتم هو شرط كمالٍ، فإنَّ الانتقاص حينئذٍ، سواءٌ أكان بجحودٍ قلبيٍّ أم بجحودٍ عمَليٍّ لبعض الأعمال المباحات، أم المندوبات، أم المكروهات، لا يضر بصاحب مثلِ هذا الإيمان شيئاً، لأنَّ مجرَّد الإيمان القلبيِّ كافيه في النَّجاة من النار، ولو لم يعمل قطُّ، وإن قلتم: هو شرطُ صِحَّة، ولا أحسبُ إلا أنكم قائلون به، فيسقط القول بشرط الكمال، ويبقى القول بشرط الصحة هو القائم اللازم، وهذا هو الذي يلزمكم ولا بدَّ، واللازم عندكم هو اللازم عندنا فنلتقي عندئذٍ على أقومِ سبيل، وأحسنِه، وأبْيَنِه.(1/49)
وإذا نحن تجاوزنا هذا اللازم المتفق عليه، فإنه سَيُلجِئُنا ولا بدَّ إلى أن نجعل مراتب الاعتقادِ القلبي ثلاثاً، إيمان، وكفر، وثالثةٌ مزجيَّةٌ (كفرٌ وإيمانٌ) وهذه الثالثة مرتبةٌ بين مرتبتين، والفضل للسابق إن كان في ذلك فضل، وهو لمن قال: منزلة بين المنزلتين، ولمَ لا نقترب من المعتزلة الذين طواهم الزمان، وأبقى من بعدهم فينا، عقائِدهم، وأفكارهم، وأُصولهم، ولعلَّ مثل هذا الاقتراب يفضي بنا يوماً بعد يوم إلى هدم الجدار النفسي الذي شادته الفرقةُ المذهبيةُ العقدية خلال الحِقبِ والقرون الخالية، وبخاصة في هذه الفترة التي تأصَّلت فيها الخلافات الفقهية، حتى أضحت سحباً دكناء، وتسارعت فيها خُطى الأصاغرِ المفلسين المتكسِّبين، وجهدت -في سعار لاهثٍ أحمقَ- الطُّلَعُ النَّهِمة، واتخذت بها سربالاً فضفاضاً صفيقاً، يمتنع على حواسِّ البصر والشَّمِّ والذَّوق، فيظل كوره في أعين الناس على حاله، لا يمسُّه من أذى منهم، لأنهم رأوه على غير حقيقته، ولا يبالون أن يستبطنوا رؤْيته من وراءِ سرباله، فهو يأ ْخذ عليهم طرائق التقدير بجهير صوته، وهزهزة شحمه ولحمه، وصولة فتكه، فيخشى من حوله من المقرَّبين إليه ما يتوعَّدهم من كفِّ يدٍ من عطاءٍ، أو سَحِّها بما يعدهم إن هم أطاعوه ولم يخالفوه في رأيه على طمس حقٍّ، وإشهادٍ على باطلٍ يدَّعيه وأنَّه الحق، فهم حينئذٍ بين حقٍّ هو باطلٌ، وبين باطلٍ هو حقٌّ، (ولقمة العيش عزيزةٌ جداً)، والله وحده هو المستعان.
تنبيه يجب ذكره:(1/50)
لقد أدرنا كلامنا في كلِّ المسائل التي أتينا عليها -وهي عشر- على أن الصحة والكمال بمعنىً، وإن كان بينهما عموم وخصوص، حتى لو أننا قلنا أن الكمال أعم في الدلالة على المعنى المراد بالصحة وأشمل وأوعب، لما كنا جاوزنا الحقَّ، يدلُّ لذلك ويقوِّيه قوله عليه الصلاة والسلام: "كَمُلَ من الرجال كثير، ولم يَكْمُلْ من النساء إلا آسيةُ امرأةُ فرعون، ومريمُ ابنة عمران، وإن فضل عائشة على النساء، كفضل الثريد على سائر الطعام"، ولستُ بظانٍّ أحداً ممن لقلبه علوق بالعربية، قائلاً: إن الكمال لا يهدي بمعناه الجليِّ في هذا الحديث إلى أبعد مما يدل عليه الصحيح، فالكمال درجة فوق الصحة ولا بدَّ، إلا ما يكون مما أحدث الناس بعد العهد الأزهر الأول، كما ذكرتُ ذلك من قبل، وقد مَنَّ الله على الأُمة في كل أعصارها، بأن ما جرى عليه الأمر في ذلك العهد لم يتغيَّر ولم يتبدَّل، وبقي ظاهراً في الدنيا على ما كان عليه، إلى أن صار للأسماء -التي لم يُعْرفْ لها في لغة العرب إلاما وضعت له على لسان الذين ولدت اللغة العربية بولادتهم، ونزل بها ما أنزل الله من كتابه- معنى يقال له: لُغَوِيٌّ، ومعنى يقال له: اصطلاحيٌّ، ولو قالوا غير ذلك لكان أهدى وأمثل، لو قالوا: إنَّ من بعض كلام العرب، ما تدلُّ الكلمة الواحدة منه على معانٍ عدَّة، وهو ما صار يعرف باللفظ المشترك، فهذا لا يغيِّر معنى، ولا ينقص معنى، ولا يزيد معنى.(1/51)
هذا ما يجب أن يُعلم حتى تسلم للغة مقاليدها، وقلائدها، وحتى لا يكون منا بغيٌ ظاهر، وجور جاهر على لغة القرآن، ولسان المصحف. أما إذا أُريد بكلمة "الكمال" ما يراد من معنى الزينة والجمال -على أنه أيضاً، مصطلح بمثل هذه الكلمة ذاتها لا يعرف، ولم يُعْهد في الصدر الأول- فقد يُتساهل فيه، ويسلَّم لمن اصطلح عليه على غير قناعة، لذا؛ فإنَّ الخير الانتهاءَ إلى ما جرى عليه العهد الأزهر الأول، وقد بيَّنت الأمر بياناً شافياً كافياً، لا يؤْذن معه -والله أعلم بالحقِّ والصواب- أن يكون اختلاف يقرَّب به بعيد، أو يُبْعد معه قريب، والله يهدي إلى الحق وإلى صراط مستقيم.
? ?
ونصيحةٌ ناصحةٌ
أَرجو تَدَبُّرَها وتَمثُّلَها والأَخذ بها، أجعلها في مسائل:
الأولى: كيف يصح في عقل العقلاء أن لا يكون شرط الكمال هو شرط الصحة والعكس، وليس من أحدٍ يستطيع أن يقضي على نفسه، ولا على غيره، بما يكون به الإيمان صحيحاً إلا باجتماع أجزائه الثلاثة جملة واحدة بكل مقتضاها بما صغر وبما كبر من العمل، أما أن يكون بالتفصيل، فإنه ينقطع العمر بصاحبه على ما صح له من عمل في حياته، وصحة العمل إنما هي بصحة المعتقد قلباً، وبما يستطاع من صالح العمل الصواب جارحة، ولا يكون الكمال إلا على مثل ذلك، وترك العمل ببعض الأعمال الإيمانية، لا يسمَّى به نقصاً، لأنه قد سلم له الأصل أولاً، ولأن الله لا يكلف نفساً إلاَّ وسعها. والقدرة على العمل شرط في صحته وكماله، فكيف يصح في الأذهان إذاً أن يُفرَّق بين كمال وبين صحة، وليس هناك من سبب يُقدم، أو يؤخر قاعدة تضع العبد أمامها، ليُعرف الفرق بينهما، وليس هو بمدركٍ هذه ولا هذا، إلا إدراكاً عاطفياً شعورياً محضاً.(1/52)
الثانية: وليُعلم أن عدم التفريق بين شرطي الكمال والصحة على ما تقضي به قواعد اللغة، ومعاني كلامها -مفردات وتراكيب على نحو ما أوضحت- لا يردُّ أصلاً من أصول الاعتقاد، ولا يُبْطلُ قاعدة من قواعد الأحكام، إنما هو إغلاق لباب، ولج منه المتأولون في الإسلام، أحكامه وشرائعه، عقائده وأصوله، بعْيث التحريف، والإبطال، والتأويل، ولا أقرب من برهانٍ يصدق ذلك، أنهم -وقد قالوا بالكفر الاعتقادي القلبيِّ والكفر العملي، وجعلوا الثاني مبقياً على الإيمان لصاحبه وإن انتقص- أبرءُوا تارك الصلاة والرامي أمّ المؤمنين عائشة، والحاكم على الأخيار من أصحاب محمد × بالرِّدة، والمكذبَ المفتريَ على الشيخين أبي بكر وعمر، والحابس الزكاة، والشاتم الرسول، والساجد للصنم، والملقي المصحف في السباطة وغيرهم ممن لا يشك في خروجهم من الملة بما صنعوا - من الكفر وحظي منهم بصك غفران في الآخرة، فأين هم بهذا من قوله سبحانه: {أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ * مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ}.(1/53)
الثالثة: وإن نحن ادعينا أن ما يُذهَبُ إليه من هذا التفريق إنما هو من حرص على الإبقاء على صيغة المنهج الدعوي صالحة صحيحة، صواباً، لا يقبل بهذا النَّقض، ولا النقص، ولا الاختلاف عليه، فإنَّ مما أوجب الله على أهل هذا المنهج المبارك، أن يزيدوا من حرصهم على زيادة الإيمان، وذلك بالإعراض عن أسباب الفرقة والاختلاف، التي ضربت طنُبها في بني إسرائيل. وأعظم ما يستجلب التفرق والاختلاف بأسبابه وآثاره من (الكفر، والزندقة، والنفاق)، ما كان يكون لأحدٍ من الفريقين المتنازعين أن يصف به الآخر، أو أن يجوس خلال قلبه ليظهر للناس منه، ما لا يعلمه إلا الله وحده، بخلافه عليه فيما ذهب إليه، وهويه بحق يراه فيه في أية مسألة من المسائل، إلا أن يكون أمراً ظاهراً جلياً لا تخفى منه خافيةٌ بكفر أو بظلم أو بعدوان، وحتى هذا لو أنه سكت عنه، وأمسك عليه لسانه لكان خيراً له، لأنه أسلمُ عاقبةً، وأهدى سبيلاً، ولكن أنى وكيف وقد أوتى بعضهم بصيرة أشد ثقوباً من أشعة إكس، أو الليزر فصار يعرف ما في الصدور!! ليحكم بالغيب على هذا أو ذاك بالخبث، وسوء الطوية، والنفاق، وغيرها من الأوصاف.
الرابعة: وما علمت من قبلَ من واحدٍ من الفريقين -قامت عليه حجة الآخر، فأباها، وردّها، وصَدَفَ عنها، أم قبلها، وصدّقها، وسلَّم بها- تاركاً لها أو فاعلاً بأمرٍ أو بنهي، لا يُنْهزُه إلى كفر، أو زندقةٍ، أو نفاق - نازع الآخر في خصومةٍ به، فأولجه مولج التُّهمة بكفرٍ أو بغيره، وهذا أدبٌ ما أحسنه وأفضله لو عدنا إليه أو ذكرناه في نفوسنا.
فإن كان ذلك كذلك، وهو كذلك، فإن هذا النزاع يبقى نزاعاً نظرياً في ذاته، بصرف النظر عن النتيجة الناشئة عنه، فلِمَ إذا يُحْرَص على أسوأ الأثر، من خصومة كادرة، وفرقة هادرة، وشرَّةٍ بائرة؟ وهل مثل هذا الأثر من العلم؟ أو هل العلم منه؟!. وحتى لو ادعينا أننا ندغرُ في حلق البدعة، ونشرَخ رأسَ الجهل، ونقيمُ ميزان القسط والعدل!.(1/54)
لكن دعوى أخرى تسوقها من أمامها، وهي -وبلا ريب- أصدق وأثبت منها: إنَّ مثل هذا الذي صار آية نكراء بين السَّلفيين المختلفين -المدَّعين أنهم على منهج الحق الواحد- قد صرَّتهم فيها وإليها ضراء نافرةٌ، وحبئهم بكَشْرها نعمة جائرة، وأصمّتهم بنعيبها خيْبة عاثرة، أفما كان حسناً جميلاً أن يسلكوا سبيل المودَّات، فلا يجدوا وهم من فوقها إلا ما يزيد من بأسها في صدورهم، ويوثقهم إلى نورها الهادي، ويقيل عثرتهم من سقطةٍ أودت بأحسن ما أوجب الله عليهم أن يحرصوا عليه، وهو الأخوَّةُ الراضيةُ المرضية، لينالوا بها رضوان الله في الآخرة، وتوفيقه في الدنيا؟، إنه والله لشيءٌ عُجاب، يُعصى فلا يجاب، ويعيبُ ولا يُعاب!.
الخامسة: لقد حُفَّت مسيرة الإسلام العلمية منذ نشأتها، وستبقى محفوفة، بأسباب الحفظ والبقاء على نحو لم تعرفه علوم البشر كافة، ومن ذلك التوفيق الذي لم يدع للخطأ -مهما عظم وقوي- مكاناً يؤويه إليه، لذا فإننا نقرأ للعالم الواحد القول والقولين والثلاثة، في المسألة الواحدة، ولربما بقيت هذه الأقوال منسوبة إليه على سواءٍ وقصد إليها، فلا يُعرف أنه رجع عن واحد منها. وأعجب من هذا أن تلتقي الطائفةُ من العلماء، على تباين اختلاف فيها -على أقوالٍ- لا يماز واحدٌ منها من الأخرى، لا يمنع المودّة فيهم، بل ربما كانوا في ذلك على قدم الصحابة رضي الله عنهم في جعل الاختلاف في المسائل العلمية طريقاً إلى المودَّة.(1/55)
السادسة: وقد ظلت سنَّة حسنة في المنهج العلمي الذي اتبعته الأجيال الصالحة، إذاً: فلِمَ كان هذا التحول الذي صار إليه أهل العلم من العداوة، والخصومة، والتحاسد؟ ولماذا تضيق أعطاننا بالخلاف العلمي، حتى نتبارى في السخائم وإحراز قصب السبق إليها؟. ومن الخلاف العلمي -الذي لا محيد عنه- أن يختلف الواحدُ على قوله هو نفسه في مسألة ما، يكون قال فيها قولاً ثم عاد عنه، ومن هذا، ماكان مني أنا من توضيح للقول الذي شُهرَ عن ابن عباس رضي الله عنهما في مسألة: (كفر دون كفر) حتى لكأنها لصيقة بالوحي، وما كانت -لو صحت تلك النسبة- إلا من اجتهاد منه رضي الله عنه.
وكان لي في هذه المسالة فهمٌ غيره، لا أحسبني خالفت فيه عن أصل من أصول الدين، ولا خرجت به عن قاعدة من قواعد الشرع، ولا حتى عن المعنى الذي أوقعوه على كلمة ابن عباس رضي الله عنهما.
ولو كان نظر متأمَّل فيما ذهبت إليه ما كان إلا الذي قلت ومع كلِّ الذي كان -مما أثير حول ما صرت إليه من اجتهادي في هذه القولة- فإني أقول لطلاب العلم- إن فهموا عنِّي ما قصدت إليه من المعنى الصحيح الجديد، الذي صرت إليه، وهو حق إن شاءَ الله، أم لم يفهموا -إنَّ الذي أثبتُّهُ في الطبعة الجديدة الثامنة لإرشاد الساري، هو الذي أرتضيه حقاً في مقولة ابن عباس رضي الله عنهما، وأن الذي كنت عليه في كتبي السابقة، من مثل: "هي السَّلفية" و "مجتمعنا المعاصر" و "رفع الجهالة والغرر" يحتاج إلى نظر جديد وصياغةٍ جديدة، ولا عيبَ يعيب طالب العلم من مثل هذا، فتلك سنَّةٌ ماضيةٌ من سنن العلم، عُرفَ بها أهلُ العلم وارتضوها لأنفسهم، ورحم الله ذلك الإمام العظيم القائل: يا هذا لا تكتب عني كل ما أقول، فقد أقول اليوم قولاً، فأعود عنه من غدٍ.
السابعة: وإني لناصحٌ من يقرأ ما أكتُب أو كَتبتُ باثنتين:(1/56)
أولاً: أن يقرأ بعينه لا بعين غيره، وأن يفكر بعقله لا بعقل غيره، وأن يتوب من مواقعةٍ في أعراض إخوانه بجهل أو بهوى، وبغير حق، وليستذكر دائماً، حديث معاذٍ رضي الله عنه وهو: "وهل يكب الناس في النار على وجوههم، أو على مناخرهم، إلا حصائد ألسنتهم"، وإن كان لم يفهم ما كتبت لاستغلاقه عليه، فخير له أن يسألني أنا، لا أن يسأل غيري عنه لأني أنا أعلم بما أكتب وأدرى بما أقول، فذلك خير له ولي أنا وللقراء كافَّة.
ثانياً: أن يمسكوا عن الحكم على أحد بالكفر أو بالظلم أو بالفسوق (المراد منهما الكفر)، فذلك ليس لكل أحدٍ، بل هو لأهل العلم الذين بلغوا منزلة عالية فيه، وأكلَّت أجسادهم الأيام، وأجهدت قلوبهم الأعوام بخاصة، إذ لو ترك الأمر فيه لكل أحدٍ، لشاعت الفوضى العلمية، حتى يصبح المسلم كافراً، والكافر مؤمناً، وهذا ما يخشى، ويجب أن يُجتنب، ولكن! إنا لله وإنا إليه راجعون.(1/57)
الثامنة: وما كان لغير الله أن يقضي بالكفر على أحد، أو لمن أذن له أن يحكم بذلك وهو محمد ×، ذلكم أن الله عز وجل هو الذي حد الحدود، وشرع الشرائع، وقضى أمره في كل خلقه {أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ}، أما من أذن الله لهم أن يحكموا بمثل هذا، فهم العلماء الحكماءُ السادة الذين يعرفون ما يكفر به العبد وما لا يكفر به، فهو حق بإذن الله، أما غير العلماء فحقُّهم في هذا الأمر السكوت، ولا يكون منهم إلا أن يحفظوا عن ربهم، أو عن نبيِّهم، ثم عمن أذن لهم ما قضى به في هذا الأمر، وماذا عليهم لو أنهم سكتوا فأحسنوا؟ وإن ما صارت الحالُ إليه -من ذيوع الفوضى العلمية، والتجرُّؤ على الفتيا- بين المسلمين بعامّة، وبين الذين ينتسبون إلى العلم بخاصة، وبين من يدّعون أنهم على منهج الكتاب والسُّنَّة بوجه أخص، ليُنذِرُ بطغيان الشر، وتصاعد لهيب الفتن، وأحسب أن هذا الذي كان، ما كان ليكون إلا باستسهال العلم، وتناوشه من بعيد، وأخذه من غير طريقه، وعن غير شيوخه، والله وحده المستعان، وعليه التكلان.
التاسعة والأخيرة:
فألخِّصُ هذه المسألة على النحو التالي:(1/58)
هل يتصوَّر عقلاً أن يكون إيمانٌ صحيحٌ إلا بأن يكون إيماناً بكل قولٍ وعملٍ، والقول والعمل إنما هو الأثر الظاهر الجليُّ للإيمان، وبقدر ما يكون من نقضٍ في القول أو العمل على غير مراد الله سبحانه، فإنه يكون نقصاً في الإيمان ذاته، وهذا النقص لا يُعَدُّ نقصاً إلا بتعمُّده، أما إن كان بسببٍ يُعْذرُ به العبد، فإنَّه لا يكون نقصاً في واقع الأمر، لأنَّ العذر يجبر النقص، ويرفع الحرج عن العبد، فإن كان من حرصٍ من العبد المكلَّف على العملِ كله، وعراه عذرٌ أمسك به عن العمل، فإن ثوابَ هذا العمل لا ينقص شيئاً، وإنما يراد من العمل (ثمرته) وهو الثواب، فما دام أن ثواب العمل لم ينتقص، (فإن العمل صحيح كامل)، والله سبحانه لا يقبل من العمل إلا ما أُتي به على مراده، ومراده فيه لا بدَّ وأن يكون على أحسن وجه من الصواب، وهل يكون حقيقاً بالصواب إلا بأن يكون صحيحاً كاملاً، فإن كان فيه من نقصٍ بعذر فلا نقص، وعليه: فإن النقص الذي يردُّ به العمل ما كان ناشئاً من النهي عنه، والكمال الذي يقبل به العمل ما كان ناشئاً من الأمر به، وحتى في حال ما يكون العذر كالإكراه، فإنَّ فعل المنهي عنه يكون صواباً موافقاً شرطي الصحة والكمال، ويطلبُ حين يطلب على أنه مرادٌ لله سبحانه كاملاً صحيحاً، ويوفى أجره به كاملاً غير منقوص. ثم انظر بربك أخيراً كيف يكون العمل بشرط الصحة صحيحاً مقبولاً، وكيف يكون العمل بشرط الكمال صحيحاً، وقد يخرج صاحبه من الدين؟!!
والله يهدي إلى الحقِّ وإلى صراط مستقيم.
? ?
مسألة تكفير تارك الصلاة
الحمد لله وكفى، وسلامٌ على عباده الذين اصطفى.
أما بعد:(1/59)
فقدِ اشتجرت العقول قديماً وحديثاً في مسألة كفر تارك الصَّلاة، تمارت فيها الآراءُ، وتباينت في الحكم فيها الأقلام، ولسوف تبقى متداولةً في النَّاس ما دام فيهم من يدَّعي: أنَّ الصواب ما ينميه إليه، وأنَّ الخطأ ما يَنْسُبه لغيره، وهو أمر ليس عنه من محيد، ولا جناح عليهم منه، فهي جبلَّة فيهم، وكأنَّهم على تواصٍ بينهم أن لا يدعوها حتى تكون هي التي تُبينُ نفسها منهم، فلا يكون من حرجٍ عليهم إن هم أيسوا من الحديث فيها مِن بَعْد.
وفي ظنِّي: أنْ لو كان قسطٌ في النَّاس، بالوقوف على دلالات الكلمات والحروف، وقوفاً قصداً على مقتضى عربية السليقة التي ولدت مع ألسنة العرب في مهودها الصعبة النَّقيّة، في اليَمن، وأرجاءِ الجزيرة؛ لَما كان يكون اضطراب في الاتفاق، ولو على أدنى قدر من الحكم الصواب على المصطلحات الحادثة؛ التي لم تكن في العرب من قبل، ولكنَّ إدراك دلالاتِ الحروف والكلمات المركبَّة منها؛ ما كانت لتحولَ بينهم وبين تلك المصطلحات؛ التي هبط بها الوحي الأمين؛ ليخاطبَ بها النبي × النّاسَ، ويدعوهم إلى الإيمان بها، ورعايتها حقَّ الرعاية، ثم ليكونَ لهم دورٌ في توظيف الوحي: بالأدب، والفهم، والحرص الذي كان شيئاً من الوحي نفسه.(1/60)
وعندي: أنَّ اللغة التي عرفها العرب أنَّها لغتُهم، بقيت مستقرّةً في ألسنتهم ؛ والقرآن ينزل، والوحي يتتابع، يصدرون عنه، ويَردُون عليه، حتى استوفَوا قلائد الأحكام، وعيون الشرائع، وصاروا الأكنَّة الأمينة، والعَيْباتِ الحافظَ لهذا الدين، فكانوا -بهذه اللغة- هم السَّدَنَةَ، المبارَكين، الأخيار، التي ما فتأت تهَب من ذاتها في غير رُقبى لجزاءٍ، أو نظرٍ إلى غير عقبى الدّار، فلما أن جاء أمر الله، وأخذتِ الفتوح - بعد القرون الثلاثة الأولى- تأكل من أطراف الأمّة، وتسوقها بأذواق الحضارات الغائرة البائرة؛ إلى جوادَّ ملتويةٍ متداخلة، وتمعن في إقامة شخوص، معالِمُها الوهميّة أطاحت من قبل بشعوبِ وأخلاطها: تحاتَّت الحروف والكلمات العربية على أطراف ألسنةِ أهلها، وتساقطت ذرّاتها وأجزاؤها، وتمازجت باللغات التي أوت إلى الأرض العربية، وهاجرت إلى أرض أهلها، وهي مقيمةٌ بين ظهرانيهم فيها، فصار اللسان العربيّ غيرَ وادٍّ أن يبقى مصاحباً كثيراً من أهله؛ وهمُ الذي استعجمت العربية على ألسنتهم، وصار شديد الرغبة في الهجرة من أرضه الأولى إلى الأرض الأعجمية؛ التي أنبَتت فيما أنبتت -على هُجنَةٍ وعُجمَةٍ فيها- علوماً عقليةً، أبحرت بفلكها؛ تقلُّها، لتضعَها على شواطىء الأرض العربية، فكانت ثروةً جديدة للعلوم التي أنشأها العقل العربي الصريح في أرضه، قبل أن تكون العُجْمة الوافدة بعد ذيوع الفتح العربي.(1/61)
وليس من شكٍّ في أنّ العربية ما كانت لتستعجمَ على ألسنة العرب، وتَثقلَ حركة حروفها فوق ظهور ألسنتهم، لو أن الفتوح أبقت على التَّعَرُّب الأول عند بدايات الفتوح، لكن هذا ما كان ليكون، وطبائع الأشياء كلُّها -المعنوية منها والحسيّة- تأباه، حيث إن حركة العلم -تلقياً، وبذلاً، وذيوعاً- تسرع وتبطىءُ، بما يكون من الانفعالات النفسية، والاستقبالات الحسِّية، التي تكون من جوارح البشر، سواءٌ أكانت من فردٍ واحدٍ، على ضعف فيه أم على قوة، أم كانت من أفرادٍ -تأتلف حركاتهم- لتشكِّل حركةً واحدةً بائتلافها.
واللغة هي التي تكشف عن هذه الانفعالات، وتصوّر تلكُمُ الاستقبالات وهي (اللغة) التي تمزج بينها كلِّها، لتتَّسق في صورٍ تعبيرية عن مكنونات الحياة البشرية، والقدُرات التي تمدّها بالاستمرار، واختزان الأشياءِ: بصورها، وأشكالها، وأسمائها، وأوصافها، وكل ما يقدَّرُ أن يصدر عنها، ولا يخفى -حتى على الجهلاء- أن اللغة هي الكاشف، المظهر، الواصف لكل هؤلاء، بعد أن تكون قد استوت في تصوراتها، واستقامت على معانيها، واستقرت بمبانيها، ولا يكون الحكم عليها حكماً سليماً، إلاّ من بعد أن تكون قد أخذت من كلِّ واحدٍ من هؤلاء شيئاً، لتعطي الحكم الدقيق في الحكم كذلك -إلاّ من بعد أن ينتهي مريدُ الحكم من الموازنة والمقابلة بين الأشياءِ التي تكون قد اجتمعت والتقت، وذلك: لما يكون بينها -أحياناً- من التشابه والمشاكلة التي تحتاج لذلك بشيءٍ من التريُّث والوقوف المتأمِّل، الذي لا يخطىء الحكمُ معه، أو يكون مقارباً الصواب(4).(1/62)
وليس في وسع كلِّ من يحرِّك لسانه بالحرف العربي، أن يكون قادراً على إدراك المعاني المكنونة في الحروف والألفاظ العربية، وبخاصةٍ؛ وأنها قد غابت حتى عن الطبَقة التي تتصدر الأمة، ممن جيء بهم: إمّا من عند أنفسهم قسراً، وإمّا فرضاً من غيرهم ممن غُلبوا على أمرهم، وإمّا حين صوّحتِ الأرض من القادرين على اجتلاب المعاني والأفكار، من غير جهد ولا إعسار.
وليس يخفى بأن هذه الطبقة، قد أرقدتِ الجهلَ في عقولها، وأبت إلاَّ أن تقوم على حراسته حتى تفارق الدّنيا، والدنيا -عندها- مزيجٌ حافل من متاع الدنيا، ومِن سوءِ عذاب الآخرة، فقد غَفَلت عن أنَّ اللغة العربية هي الأصل، المنيع، الواسع، الَّذي تجتمع إليه علوم الإسلام، ومعارف العربية كلُّها، وأنَّ من أكبر الخطيئَات - بل هي أعظمها وأفدحها - أن تُغشى تلكم المعارف والعلوم من غير بابَتها، وذلك حين تصبح اللغة كلاً على كواهل من يحركون ألسنتهم برطانتها!
لذا؛ فإنه ليس من حقّ كلِّ من يحرّك لسانه بالحرف العربي أن يدخُلَ مُدْخلَ عجز في المعارف والعلوم العربية، ثم لا يجد منجىً منه إلا بعجز أشدَّ منه(5).
وعليه؛ فإن للأمور أهلَها الأحقَّ بها، والأولى أن يقوموا عليها، ولا يكونون أهلها الأحقَّ بها؛ إلاَّ بالأسباب الموصلتِهم بها وإليها، والأسبابُ كلُّها مجموعة في هذا الأمر بالإحاطة علماً باللغة العربية، والتي خلَّدها القرآن، وخلُدت بالقرآن، وكانت اللسان المبين للقرآن.
وتبقى مسألة التكفير على رأس المسائل؛ التي استوت على ساقها زماناً وأكلت من جهد العلماء، وأذابت من أسنان أقلامهم، وأورمت آنافَ كثير ممن خاضوا فيها؛ بحقٍّ أو بباطل.
وكان الخلاف - ولا زال - في هذه المسألة يدور حول معنى الكفر؛ لغة وشرعاً، وتداخل المعنيين بعضهما ببعض، وظهور المعنى المراد في أحدهما أقوى من الآخر، وكون اللفظ عاماً واسع الدلالة، أو خاصاً لا يتعدّى إلى سواه، أو أنَّ مما يدلّ على الشيء وضدّه.(1/63)
وأوضح ما نوضح به هذه المسألة، قوله ×:
"العهد الذي بيننا وبينهمُ الصلاة، فمن تركها فقد كفر".
فقد جعل النبي ×، دوام العهد بين المسلمين وبين المشركين مرهوناً بالصلاة، فإن هُم أدَّوُا الصلاة، وحافظوا عليها؛ فهي البرهان على صدق العهد الذي أُخذ عليهم بالإسلام، ودوام قيامه فيهم، فإذا تركوا الصلاة،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= حين تعوزه الكلمة أو الجملة لوضعها في مكانها، فلا يجدها، وذلك لما عُلِم من التعليق السابق، وأنصح لهم بَدَلاًمن أن يطوفوا إعجاباً وعُجباً بأنفسهم، وأن يرقصوا أثقالهم من قهقهةٍ غبيّة، وأن ينتهبوا العشرات بل المئات من الصفحات الخفية، أن يحسنوا سنن صلاتهم التي تشبه صلاة الثعالب والديكة، وألسنتهم التي تشبه المناشير والمبارد.
ولم يحافظوا عليها؛ فذلك برهان على نقض ذلك العهد، وردّهم إياه، وحسبه من نقض العهد ذاك.
ولا بدَّ من الوقوف على معنى الإيمان، الذي هو نقيض الكفر، وقد يقال: هو مؤمن بكفره، وكافرٌ بإيمانه، أمّا إيمانه بالكفر؛ أي: أن الكفر عنده دينٌ يَدين به لكل ما سوى الله -عزَّ وجلَّ-؛ فهو مؤمن به على أنه دين، أو شيءٌ اغتنى به عن الإقرار؛ أنّ شيئاً بكونه جزءاً من هذا الشيء المجتمِع من أجزاء كثيرةٍ؛ يمكن أن يَكون بانفراده ديناً يتقرب به تقرُّباً عاطفياً قلبيّاً إلى من استجمع قلْبَه للدَّينونةِ به؛ ليس الله.
وأما كفره بالإيمان به؛ أي: فهو كافرٌ بأنّه لا يؤمن إلاّ بأنه كافر، وهو لا يدري أنه بإيمانه بكفره أنه كافر، ليس له بكفره سبيل إلى الإيمان الذي يريده الله، وهذا ما عليه أكثر الناس قال تعالى: {وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ}.(1/64)
وعلى هذا؛ فالإيمان -كما عرّفه الراغب الأصفهاني - هو: "إذعان النفس للحقِّ على سبيل التصديق، وذلك باجتماع ثلاثةِ أشياءَ: تحقيق بالقلب، وإقرارٌ باللسان، وعملٌ - بحسب ذلك - بالجوارح، وعلى هذا قوله -تعالى-: {وَالَّذِينَ آمَنُواْ بِالله وَرُسُلِهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ} [الحديد: 19]" أ.هـ(6).
ولا يكون إذعانٌ يَسْلم من الشوائِب؛ إلاّ بتحقق هذه الثلاثة، فإن تخلّف واحدٌ منها كان إخلالاً بحقيقة الإذعان، وسلباً لمعنى الإيمان.
وأعلم الأمة بحقائق الأشياء، والمسميّات التي تَهدي إليها الأسماء، والمعاني التي تدل عليها الحروف والكلماتُ؛ هم أهل الصدر الأول، ممن أفاءَ الله عليهم -سبحانه- بصحبة النبي ×، وشهود نزول الوحي، والإحاطة الكاملة بلغته، ومدارك أحكامه، ومقاصد بلاغاته وخطاباته(7)، فلو كان شيءٌ يصرف عن المعنى المتبادر من كلمة: "من تركها فقد كفر" إلى غيره؛ لكان شيئاً يعرفه أولئك الذين سعِدوا بصحبة النبي ×، وكانت لغة العرب سائغةَ المذاق على أسلاف ألسنتهم، وحيث إنَّ شيئاً من ذلك لم يكن منهم ولا فيهم؛ فلن يكون فيمن بعدهم، ممن رضُوا أن يكونوا على مثل ما ماتوا عليه -رضوان الله عليهم-، أمَّا من فارقوا الصحابةَ وعلمَهم؛ فلهم أن يكونوا حيث تريدُ لهم أهواؤهم، وكما يُبْدي لهم زخرفُ باطلهم، إذ أعرضوا عن الحق الذي أجاءَ الله إليه أولئك الأصحابَ الأخيارَ، فَشرَعوا -لمن بعدهم من الأجيال العاقبة- ما رضي الله به عنهم، ورضوا عنه، ولن يكون زخرفُ الباطل، وإرادةُ الأهواءِ على شيءٍ مما شرع الأصحاب الأخيار، من منهج علمي ملأ الآفاق نورُه، وصيَّر أهله سادة الدُّنيا في العلم، وهل يستوي النور والظُلمات؟! أم هل يستوي الهدى والضلال؟!(1/65)
وعليه؛ فإنَّ الجحود جحودان: جحودٌ خفيٌّ؛ هو جحودُ القلب، وجحود جليُّ؛ هو جحود الجوارح، وكلاهما تركٌ، ولربما كان جحود الجوارح أشدَّ وأنكرَ لحقيقة الإيمان من جحود القلب(8)، ذلكم أنَّ جحود القلب خفي لا يبين، أمّا جحود الجوارح، فبادٍ جليٌّ، لا يخفى، وهو لذلك أدلُّ على المقصود، ولا يردُ هنا أن يقالَ: إن الكفر هو الستر، وإن قيل: هو الستر، أفليس ما تركته الجارحة من حقِّ عليها، أوجبته عليها حقيقة الإيمان بظهوره، فنبذَته من ورائها، فجعلته مستوراً، بتركه هو من هذا المعنى؟! فصار بهذا ظاهراً مكشوفاً من جهة، خفياً مستوراً من جهة أخرى، فظهوره أنه لا يُرى مأتيّاً به من الجارحة، وستره مِنْ حيث إنّه متروكٌ لم تفعله الجارحة، بل إنّ الجحودَ القلبيَّ قد يظهر على الجوارح فعلٌ يدل بظاهره على الإيمان والتصديق، وهو ليس كذلك، كما هو شأنُ المنافقين الذين يخادعون الله وهوخادعهم(9).
ولا شكَّ أنَ الإيمانَ الصحيحَ هو بالتطابق بين إيمان القلب المعنوي، وبين إيمان الجوارح العملي والمعاصي التي تدنو من الكفر والشرك لا تَنفي الإيمان عن العبد؛ ويكون العبد بها مؤمناً مع معصيته، وعاصياً مع إيمانه، وهذا أمر ارتضاه جماهير العلماءِ الأخيار(10).
أمَّا إن كانت المعصية كفراً وشركاً صريحاً، أو كانت تُسمّى: كفراً أو شركاً؛ لمشابهتها الشركَ أو الكفر(11)؛ لأنّ الله -سبحانه- وصفها به، ولا صرافَ لهذا الوصف عنها، ولا يُغني التأويلُ عنها شيئاً، إلاَّ بتكلُّفٍّ ثقيل؛ فأنَّها - أي: المعصيةَ -، حينئذٍ - هي الكفر والشرك، والكفر والشرك هي، لا فرق بين هذه وبين تلك، إلاَّ بالمركَّب الحرفي من كلمة واحدة أو من أكثر، مثال ذلك: قوله × -الذي أخرجه مسلم في "صحيحه" عن جابر -رضي الله عنه-:
"بين الرجل وبين الكفر ترك الصلاة".
ومثله ما رواه أحمد وأصحاب "السنن" عن بُريدة بن الحُصيب الأسلمي، أنّه سمع رسول الله × يقول:(1/66)
"العهد الَّذي بيننا وبينهم الصلاة فمن تركها فقد كفر".
ومثله -أيضاً- ما رواه هبةُ الله الطبري عن ثوبانَ -مولى رسول الله ×-: قال: سمعت رسول الله × يقول:
"بين العبد وبين الكفر ترك الصلاة، فإذا تركها فقد أشرك".
والشرك والكفر لفظان يعتوران الحكم الواحد في هذه الأحاديث،
وكلاهما مصرِّحٌ بإخراج تارك الصلاة من الملَّة.
وهناك نصوص أخرى استفاضت بها كتب السُّنَّةِ، تُصرِّح أو تومىءُ إلى مثل ما صرّحت به هذه النصوص الثلاثة التي أوردناها، مِنْ كُفرِ تارك الصلاة، من غير ما تفريقٍ بين من يتركُها عامداً، جاحداً لها، وبين من يتركها كسلاً وتهاوناً من غير جحودٍ ولا إنكارٍ لها.
ومعلومٌ: بأن الحقائق اللغوية والشرعيةَ لا تتحوَّل عن مواقعها. ولا يُعدل بها عن معانيها الأصلية المتبادرة منها، إلاّ بصوارفَ تصرفُها عنها، وهنا لا صارف يصرف؛ من قريبٍ ولا من بعيدٍ.
ومما يقوِّي أنَ لا صارف يصرف الكفر هنا عن معناه المتبادر أنّه لم يُعرف أن واحداً من الصحابة تأول هذا اللفظ؛ لأنَّ التأول لا بدَّ له من مُسوِّغ يَسُوغُ به التأويل، مثل: السَّبب أو المناسبة، وهما من أعظم مسوِّغات التأويل؛ التي تساعد على تقديم المعنى الذي يقف من وراء اللفظ، بما يتبادر منه من معنى لا ينبغي أن يكون سواه.
ولم يبلُغنا من هذه الأحاديث سببٌ أو مناسبةٌ تسوِّغ لنا صرف المعنى المتبادر؛ إلا بالتأويل المتكلَّف الذي يُغثي النفس، ويأباه الطبع، ثم لا يكون من ورائه طائل، إلاَّ ما يكون من تسليم الصبيان بما يُملى عليهم وهم به فرحون!(12).(1/67)
إذاً؛ فلم يَبق أمام مُريد الحق؛ إلاّ متابعةُ أهله من القرون الثلاثة الأولى؛ الذين أصابوا النُّور، وهُدوا به حيثما حلُّوا، وكيفما كانوا، وصاروا -بتوفيق من الله- سادةَ القرون، بل لم يُدرَكوا؛ إلا ما كان في كل قرنٍ من طائفةٍ وَلِيَتْ أمرَ الله على مراده، فكانوا كما كانوا، أسأل الله أن نكون على الذي كانوا، وأن نلقاه عليه.
وحتى يتبيّن لنا الحقُّ بأمر ربّنا - سبحانه - علىمراده؛ بإذنه وتوفيقه؛ فإنه لا بدَّ من إعمال النظر في هذه النصوص جملةً واحدةً، إعمالاً سهلاً، هيّناً، قريباً - إذ ما تُؤذنُ به أظهرُ وأوضحُ من أن يتعب المرءُ قلمَه في الاستجلاء، والاستنباط-؛ لكي يجمع أجزاءً متفرقةً من القناعة العقلية؛ يصلُ بها الحكمَ الصحيح؛ الذي تَهْدي إليه هذه النصوص.
وإنه لغريب حقاً؛ أن يكون هدمٌ لهذه النصوص، أو محاولةٌ لهدمها بفهم اشتطَّت به أقلام، وتزاحمت عليه أفهام، تزعم -جميعُها - أنها على منهج العلم الصحيح، فتخرجها عن قِيَم الجادّة، وهي تَحيص في دائرة التقليد، زاعمةً أنّها قافيةٌ باجتهادٍ جديدٍ، أثر الاجتهاد التّليد، وهي -والحق يقال - ليست بشيءٍ، ولا إلى شيءٍ، ولا في شيءٍ، ولا من شيءٍ!
ولسوف نأتي على ما نرى أنَّه الحق -إن شاء الله -، ولستُ أنا بالسابق إليه، فإنّا نبطىءُ في زمانٍ لا يَحسُن فيه إلا الإبطاء، ومن زعم أنّه يحسنُ الإسراعَ فيه، فاسْتُه على لاهبةِ قيْظٍ من صحراءَ مجدبةٍ، مُرْملةٍ، شاسعةٍ، فلْيسرع بالقيام من قبل أن تذوب إليَتُه! من لاهبة القيظ.
وأحسبني في غنى عن ذكر أمر في نفسي وعلى ملأ، لا ينهض ولا يعلو في الناس إلا ومعه حجته القوية، وبرهانه الظاهر المنيف، وهو:(1/68)
إنّ مسألة التكفير برمتها - وقد دارت رحاها بين الإفراط وبين التفريط منذ القرن الأول - لم تكن سبباً في نشوء عداوة ولا في زيادتها بين الخيرة من علماء الأمة، إلا ما كان بين من استقام على سواء الحق في المنهج العلمي وبين من أزرى على نفسه بما أصاب من إسراف في الجهل، واقتراف لآثام البغي، واجتراح لمودات من عادى الله ورسوله وهاجت به سوافي التأويل والتعطيل والتشبيه فانتصر الأولون للحق الذي هم عليه، وأرغى وأزبد في باطله الآخرون(13).
وأما الذين اختلفوا في تكفير تارك الصلاة من قبلُ، فلم يكن منهم فيما كان بينهم إلا محض اختلاف في مسألة فقهية، خرجت عن حيز الاتفاق الذي كانوا يرونه الأحسن لو كان، أما وقد خرج عن حيز الاتفاق، فلا ينبغي أن يكون إلا اختلافاً في الرأي، والاختلاف في الرأي لا ينبغي أن يفسد في الود قضية كما قيل(14).
أما انشمار النفوس، وتبرم القلوب، وتقطع المودات، الذي صار إليه
أهل العلم وطلابه - باختلاف الأنظار في مسائل العلم - فإنه دليل جهل وغياب ورع!! ولا أدري والله متى يعقل هذا الأمر على وجهه، ويصار إليه بأدب العلم العالي؟!(15).
بل أنه هو ظاهر الكتاب العزيز الذي أخذ به وصار إليه الجمَّ الغفير من علماء الأمصار السابقين واللاحقين ممن قال بتكفير تارك الصلاة، منهم الإمام أحمد، وإسحق بن راهويه، وعبدالله بن المبارك، فإن أصاب هؤلاء فقد أصاب معهم آخرون، وإن أخطأوا فذلك من جبِّلة البشر القاصرة، فلماذا إذاً التعادي والشموس والتصابي؟! ولا أحسب الاختلاف إلا منشوراً لواؤه فوق رؤوس مسائل العقيدة وأصول الأحكام، منذ أن كانت وأُتيت من كل شراحها(16).
وحسنٌ أن نبيِّن هذه المسألة مرتبَّةً على النحو الآتي:(1/69)
•…فأولاً: كان الصحابة -رضوان الله عليهم جميعاً- همُ الأوعيةَ الحافظةَ للوحي بشقَّيه، وكان الواحد منهم لا يرى من حرج عليه -إن هو سمع مقالةً من رسول الله × وأبهم عليه فهمُها- أن يسأل رسول الله × فيجيبه ليذهب عنه عيُّه، أما أن يسألوا عن أشياءَ من قبل أن يأتيَهم بها وحيٌ؛ فلا، وقد عَلِموا من نبيِّهم ×، أنَّ مِن أعظم الذنب أن يَكون الله قد سكت عن شيءٍ فحرِّم بسبب مسألته؛ لذا، أمسكوا!
•…ثانياً: وكانوا كلُّهم عرباً أقحاحاً، لم تَحُمْ حولهم عُجمةٌ، ولم تصب ألسنتهم منها شيةٌ من لبسٍ وضِلَّة، فكانوا حفظةً للوحي بالحرف والمعنى، من لم يكن سمع من رسول الله × أخذ ممن سمع منه، فأوفى بسماعه على التَّمام، ومن عَراه نسيان لمقالةٍ أو حرفٍ؛ وَجد ذكره عند غيره فوفَّاه إيّاه، رغبةً في الخير يشيع فيهم، وأن لا يُؤتى شيءٌ من الوحي بثَلْم، أو بنقصانٍ، أو بزيادةٍ، وما كان من لفظٍ أعجمي أو عربيٍّ لِيْثَ بغيره، فهو ممن جاء من بعدهم.(1/70)
* ثالثاً: ونحن نقرأ في بعض ما جاءَنا من صحيح الخبر، وقَيِّم الأثر؛ ما اصطلح عليه علماءٍ المصطلح بـ (الإدراج)(17) : تأويلاً لغامضٍ، أو إظهاراً لخفيٍّ، أو توليفاً لمتفرق، وهو شيءٌ كان الصحابة -رضوان الله عليهم- يصنعونه: أداءً للأمانة، وبياناً للحق، وإبراءً للذمّة؛ بما علموا من أنفسهم، أو بما بيّن لهم نبيُّهم؛ لئلا يكون لمن بعدهم -ممن قال الله فيهم: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ}- حجة عليهم، وهذا الإدراج، ما رأيناه في شيءٍ من مثل قوله ×: "من تركها فقد كفر"، ومن قول تلك المرأة التي جاءت تشكو بعلها للرسول ×: "إني أكره الكفر في الإسلام"، إذ اللفظ في كليهما -بسياقه وسباقه- دالٌّ على ذاته بذاته، وما علمنا خلافاً حدث بينهم باختلافهم على معناه، ولو كان لأتانا خبرُه، ذلكم أنَّ استقامة العربية على ألسنتهم وفي عقولهم؛ لم تكن لتعجزَهم عن الإحاطة بالمعنى المراد من لفظ من مثل هذا اللفظ؛ باختلاف مواقعه وسياقاته.
والحجة -ولا ريب- فيما كان فيهم ومنهم، أو فيما كان قريبَ عهدٍ منهم(18).
* رابعاً: ولعل من يذهب إلى التفريق بين كفر وبين كفر، في قوله ×: "من تركها فقد كفر"، فيقول بكفر جاحدها دون غيره، ممن تركها من غير جحود -كما يزعمون-؛ لم يأته -أو لم يبلُغه- من مكان قريبٍ أو من مكانٍ بعيدٍ، أنَّ أحداً من الصحابة لم يفرّق بين هذا وبين ذاك في الحكم عليهما معاً بالكفر؛ لأنّ الوحي لم يجعل سبيلاً للنبي × أن يقع في قلبه هذا التفريقُ بينهما؛ بعلم أتاه به، أو باجتهاد من عند نفسه، وإلا لما كان هذا الإجماعُ الذي أذهب عنهم سوءَ الخلاف في هذه المسألة، وعاشوا من غير أن يكون ذكرٌ لهذا الفرق الذي صار في القرون اللاحقة(19).(1/71)
وقد ذكر ابن حزم -رحمه الله تعالى- أن المحفوظَ عن جمهور الصحابة -رضوان الله عليهم- أنّ من ترك صلاة واحدةً متعمداً حتى يخرج
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= الدعوى المباركة، فإن قول الواحد من الصحابة والاثنين والثلاثة كدعوى العشرات، والمئات منهم، وبخاصة إن كان الواحد هذا لم يثبت أن واحداً غيره خالفه في هذا النقل، وبخاصة إن كان هذا القول في مسألة عظيمة كالصلاة، التي لو أنه سُكت عن الجهر أو التحدث بها منهم اكتفاءً بمثل قوله عليه السلام: "العهد الذي بيننا..."، بما تدل عليه بحرفها الظاهر ومعناها الدائر الجاهر لكان سكوتهم وحده -بدلالته على أدبهم مع رسول الله × وهم يلقون السمع لكلامه- دليلاً كافياً على رضاهم الذي لو اجتمع كلام البشر جميعاً -عربهم وعجمهم- ما وزن كلمة واحدة منه، ولا كان أدلَّ على مقنعهم به، فأين تذهبون يا هؤلاء المتفاصحون المتعالمون، إن علمكم يا أيُّ هؤلاء لا ينقصه العلم وحده، وأقسم بالله على ذلك، بل والأدب أيضاً. ثم إن عبدالله بن شقيق لم يردَّ قوله هذا إلى العشرة واحداً واحداً، ولعلَّ الشك في صحة النقل يكون أقوى لو أنه سمَّى العشرة أو الأقل من العشرة وهو ينقل عنهم ما نقل. لكنه لم يفعل ذلك، ثم لماذا لا يكون نقل عبدالله بن شقيق عن هؤلاء العشرة الذي نَقَل كل واحد منهم عن عشرة على الأقل فيكون العدد الفعلي الذي نقل عنهم عبدالله بن شقيق مئة وعشرة، وهذا الفرض على هذا النحو -وهو فرضٌ لا يردُّ- ينسحب حتى يدخل فيه كل صحابي.(1/72)
إذاً: فأيُّ القولين أحقُّ بالرد على مثل هذا التصور المائل عن الجادة، قول عبدالله بن عباس رضي الله عنه (كفر دون كفر)، وقد ثبت عن بعض جلَّة الصحابة مخالفته، أم قول: عبدالله بن شقيق ولم يثبت عن واحدٍ من الصحابة مخالفته، إن كان الحق أحقَّ أن يتبع عند هؤلاء، فليس بمضيرهم إذاً: أن يَدَعوا مثل هذا القول لمن هم دونهم إن كانوا يظنون أنفسهم من كبار طلاب العلم، لعلهم يعقلون قول القائل: (قد يوجد في النهر ما لا يوجد في البحر) مع اعتذاري الشديد لهذا القول وقائله، فلعلي أخطأت في الاستشهاد إذ قلت: (قد يوجد في النهر ) فإنه لا نهر حتى يقارن بجدول، لكنه المثل، والأمثال لا تُغَيَّر، حتى ولو كانت تخطىءُ مواردها التي تساق إليها.
وقتها؛ فهو كافرٌ مرتدٌ، صرّح بذلك -كما قال-: عمر، وعبدالرحمن بن عوف، ومعاذ بن جبل، وأبو هريرة رضي الله عنهم.
إذاً: فإنَّ من يفرِّق -في مسألة تكفير تارك الصلاة- بين جاحدها وبين غير الجاحد يعوزُه الدّليلُ على هذا التفريق، كما يلزمه أن يأتي على خبر واحدٍ من القرن الأول يفرِّق هذا التفريق، الذي أودى بالصلاة، وأذهب من قلوب الأمّةِ مع الأيام قدسيتَها، ولا سبيل إلى واحد منهما، إلاّ أن يكونَ غمض حاله، أو اضمحل ذِكرُه، أو لا زال محفوفاً بالخفاء أمره(20).
وليكن منا انتظار أن يظهر علينا يوماً من يقول لنا: إفرحوا أيُّها المسلمون، فقد جاءكم من يضع عنكم الصلاة!
•…خامساً: ثم إنَّ القول بتكفير تارك الصلاة هو منطوق الأخبار، والمفصَح به من الآثار، ومن قال بغيره؛ لا يقوله إلاّ وهو متأوِّل، متكلِّف، وقائلٌ أو ناسبٌ إلى الصحابة شيئاً يتعذَّر وجوده، بل إنَّه مؤتفكٌ ما لا يحسن أن يجول بخاطر أحدٍ منهم، فضلاً عن أن يفصح به، ذلكم أنهم سمعوا نبيهم × يقول: "من تركها فقد كفر"؛ فقالوا كما قال، وفهموا عنه مراده الذي أراد.(1/73)
وقد أسلفنا أن الكفر هو السِّتر، وهو كما يكون بالاعتقاد القلبي، يكون بترك الجوارح العمل بما أمِرَ العبد به، غير أنَّ الصلاة وحدها هي التي تشارك النطق بالشهادة، فمن كتم الشهادة وحبس عنها لسانه فلم يحرِّكه بها، وأبى أن ينطق بها وقد أُمر بها -أو طلب منه أن ينطقها-؛ فهو كافرٌ ولا بدَّ، فلماذا لا تكون الصلاة -وهي من أعمال الجوارح الظاهرة- ترْكها مكفِّرٌ، سواءٌ أكانَ الترك من جحود أم من غير جحود؟! وهي بذلك تشبه الشهادة، فهل من يترك الشهادة من غير جحودٍ قلبي لها يُعدُّ مسلماً؟! وهل من ينطق بها -وهو جاحدها بقلبه- يُعَدُّ مسلماً؟! إن الاثنين كليهما سواءٌ.
إنّ التفريق بين الصلاة وبين الشهادة -في هذا الباب-؛ تفريقٌ ليس بلازم، بل هو تفريق يفضي إلى الخروج عن بَدَه الأمر؛ بتكلُّف الخطأ المظنون أنّه صوابٌ.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= المبشرين- ونحن لا نكاد نعلم حتى ظاهره الذي يراد لنا ومنا أن نحكم له معه بالإيمان، وإن كان لا يصلي ولا يؤَدِّي شعائر الإيمان.
وعليه: فإنَّ العدول عن مثل هذه المقايسة، بما تنتجه عدول عن الحق ولا بدَّ، وبخاصة إذا وضعنا في حسابنا أنهم -أي: الصحابة، رضوان الله عليهم- ما كانوا يعرفون هذا التفريق، ولو عرفوه لأعلموناه- فبأي شيءٍ يسوغ التفريق بين شيئين؛ كلٌّ منهما ينطق بما ينطق به صِنْواه؟! ولو تعدّاه بشيءٍ من المخالفة عنه؛ لكان الصحابة -رضي الله عنهم- أوّلَ من علمه، وقالوا به، ودعوا إليه، وعلَّموه النّاس!(1/74)
وقد أسلفنا أنَّ الكفر هو الستر، وهو كما يكون بالاعتقاد القلبي، يكون بمثله بما يشبهه من ترك الجوارح له، ولو قلنا: إنه اعتقاد جارحيّ لما أخطأنا؛ لأنّ الإذعان كما يكون بالقلب، يكون بالجوارح أيضاً، غير أنّ الإذعان القلبي أمرٌ مستورٌ خفيُّ، والإذعان بالجوارح أمرٌ مكشوفٌ جليُّ، ولولا أنّ هذا هو المعنى المراد من الإذعان، وأنه بشقَّيه لا يخرج عن مقتضاه الحق، لَما كان من الصحابة -رضوان الله عليهم- مثلُ هذا الإطباق على تكفير تارك الصلاة، والصلاة من أعمال الجوارح، لا من أعمال القلوب(21)، إلا ما كان من نيَّة يقصد بها إليها، ومن يدَّعي غير هذا عن الصحابة، فإنَّه متكلف شططاً، ناءٍ عن اليسر المقتضيه سلامةُ الإقبال على الفهم السَّويِّ، ومن فرَّق في هذا؛ فهو شاقٍّ المعنى الواحدَ شِقَّين، وراضخٌّ الحرفَ الواحدَ؛ ليجعل منه حرفين اثنين، ولو كان شيءٌ من هذا مقبولاً عندهم -وهم السادة في فقه الوحي بشقَّيه، وأهلُ اللَّسن والعقل في اللغة-؛ لألقوا إليه قلوبهم، وأفصحت عنه مقاولهم، ولَبَاتَ عندهم في خبر أضحى، ولكان يكون إخفاؤهم إياه خيانةً لله ولرسوله، وحاشاهم من ذلك، فهُم الصُّدق، الأمناءُ، الأخيار، الذين ألْقوا أنفسَهم على فطرة التوحيد الحق.
* سادساً(22) : وما يكون لنا -ونحن نَعرض للكلام في هذا الأمر- أن
..............................................................................
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ(1/75)
= مرة أخرى: أرجو القارئ (الذي لا يمشي على أربع) أن يقرأ هذه الصفحات وجزاه الله خيراً، فوالله ما أُوتينا إلا من مثل ما هو فيه من سوءٍ من يزعمون أنهم سلفيُّون، يتسللون لواذاً بما يمكرون وبما يصِدُّون (بكسر الصاد)، وبما يصُدُّون (بضمها)، والسَّلفية قبل أن تكون اسماً، فهي يا عمُّ، ويا صاحبُ، ويا أخ، ويا تقي، ويا فاجر، ويا عالم، ويا جاهل، ويا... ويا... سلوك عملي صالح يرتضى في السماءِ وفي الأرض، ولا والله ما رأيت هذا إلا في القليل القليل من السَّلفيين، الذين ينكرون على إخوان لهم فقه الواقع، برمِّ التقليد، وفتات الاتباع بالهوى.
ويحسن بنا أن نبيِّن أن هذا الحديث: "خمس صلوات ... إلخ"، يوضحه لفظ آخر هو: (وحافظ عليهن...)، فهذا اللفظ يوضح اللفظ الآخر: (لم يضيِّع منهن شيئاً) أي العبد، يصليهن بتمامهنَّ، ويحافظ عليهن في أوقاتهن، فلا يفرِّط فيهن، ولا يدعُ واحدةً منهن.
إذاً: فالذي لا يحافظ عليهن كما أمر الله، ولا يصليهن في أوقاتهن التي كتبهن الله، ويدخل الصلاة إلى الصلاة، ويؤخر واحدة إلى وقت التي بعدها، ويصليها معها، أو يقدم واحدة ويصليها مع التي قبلها، فلا شك أن الذي يصنع هذا الصنيع صلى الصلوات كلها، لكنه قدَّم وأخَّر في أوقاتهن، فهل يقال في مثل هذا إنه حافظ على صلاته والله يقول: {إِنَّ الصَّلاَةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَاباً مَّوْقُوتاً}.(1/76)
الجواب: ان مثل هذا لم يحافظ على الصلاة، وأضاعها حيث أنه لم يوقعها في أوقاتها، وفيه وفي مثله نزل قوله تعالى: {وَيْلٌ لِّلْمُصَلِّينَ} وقوله تعالى: {فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُواْ الصَّلاَةَ}، ومنهم أئمَّة الجور، أما الذين أعرضوا عن الصلاة بالكليَّة، ولم يصلوها بمرة، فهم تركوها وهجروها، وفرق كبير بين هذا وذاك. ولينظر في هذا كلام شيخ الإسلام في "مجموع فتاواه". وهو كلام معجب يحرص على حفظه وفهمه معاً، وقد وافقته رحمه الله فيما أثبته من كلامي بمثل معناه، فهو والحمد لله كلام يحسن بمن شنّع وأذاع السوءَ، أن يعيد النظر فيه، لعلَّه يزدجر، ويتوب قبل ساعة مندم، وصنيعه معي يذكرني بصنيع من عدا عليَّ في كتابي "هي السلفية"، فما أشبه الليلة بالبارحة، واليوم بالأمس، وسفح ظلم هذا بسفح ظلم ذاك، وما علمي إلى جانب علم شيخ الإسلام إلا كضغث =
..............................................................................
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= في بيدر، فما أشبه الليلة بالبارحة، كلاهما عدا عليَّ وهيَّج السفهاءَ عليَّ (بلا خوف من سوء عاقبة)، وصاحب "هي السلفية" عُديَ عليه من صاحبنا هذا حيث سطا على رسالة كان كتبها ذاك، فاختلسها هذا، ولم يسقط منها هذا ولا كلمة واحدة إلا ما كان من تغييره العنوان فقط. وهذه سنة من سنن التأليف (الرَّمُّ، والقضم، واللَّمُّ والهضم ثم... ما تعلم من كريه الريح)، في أيامنا هذه، في ديارنا، فما على القلم من مستعتب ما دام يرم، ويلم، ويقضم، ويهضم... ثم يخرج ما يخرج. وخير لنا أن ندع الجواد لفارسه، والفلك لربانها، والقلم لسيده، فأين نحن منه إذ يخرج لنا من نور قلمه، وسلامة فلكه، وقوة جواده، ما حفظته لنا بعضٌ من قراطيسه.(1/77)
فيقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "وأما الصلاة والزكاة فلهما شأن ليس لسائر الفرائض، ولهذا ذكر الله تعالى في كتابه القتال عليهما، لأنهما عبادتان: بخلاف الصوم فإنه أمر باطن وهو مما ائتمن عليه الناس، فهو من جنس الوضوء والاغتسال من الجنابة ونحو ذلك مما يؤتمن عليه العبد، فإن الإنسان يمكنه أن لا ينوي الصوم وأن يأكل سراً كما يمكنه أن يكتم حدثه وجنابته، وأما الصلاة والزكاة فأمر ظاهر لا يمكن الإنسان بين المؤمنين أن يمتنع من ذلك.
وهو × يذكر في الإسلام الأعمال الظاهرة التي يقاتل عليها الناس، ويصيرون مسلمين بفعلها: فلهذا علق ذلك بالصلاة والزكاة دون الصيام، وإن كان الصوم واجباً كما في آيتي براءة، فإن براءة نزلت بعد فرض الصيام باتفاق الناس. وكذلك لما بعث معاذ بن جبل إلى اليمن قال له: "إنك تأتي قوماً أهل كتاب: فليكن أول ما تدعوهم إليه: شهادة أن لا إله إلا الله، وأني رسول الله، فإن هم أجابوك لذلك، فأعلمهم أن الله افترض عليهم خمس صلوات في اليوم والليلة، فإن هم أطاعوك لذلك: فأعلمهم أن الله افترض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم، فإن هم أطاعوك لذلك، فإياك وكرائم أموالهم، واتق دعوة المظلوم فإنه ليس بينها وبين الله حجاب"، أخرجاه في "الصحيحين".
ومعاذ أرسله إلى اليمن في آخر الأمر، بعد فرض الصيام؛ بل بعد فتح مكة، بل بعد تبوك، وبعد فرض الحج والجزية، فإن النبي × مات ومعاذ باليمن، وإنما قدم =
..............................................................................
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= المدينة بعد موته؛ ولم يذكر في هذا الحديث الصيام، لأنه تبع وهو باطن، ولا ذكر الحج، لأن وجوبه خاص ليس بعام، وهو لا يجب في العمر إلا مرة.(1/78)
ولهذا تنازع العلماء في تكفير من يترك شيئاً من هذه "الفرائض الأربع" بعد الإقرار بوجوبها، فأما "الشهادتان" إذا لم يتكلم بهما مع القدرة فهو كافر باتفاق المسلمين، وهو كافر باطناً وظاهراً عند سلف الأمة وأئمتها، وجماهير علمائها، وذهبت طائفة من المرجئة، وهم جهمية المرجئة: كجهم، والصالحي واتباعهما، إلى أنه إ ذا كان مصدقاً بقلبه كان كافراً في الظاهر دون الباطن، وقد تقدم التنبيه على أصل هذا القول، وهو قول مبتدع في الإسلام لم يقله أحد من الأئمة، وقد تقدم أن الإيمان الباطن يستلزم الإقرار الظاهر، بل وغيره، وأن وجود الإيمان الباطن تصديقاً وحباً، وانقياداً بدون الإقرار الظاهر ممتنع.
وأما "الفرائض الأربع" فإذا جحد وجوب شيء منها بعد بلوغ الحجة فهو كافر، وكذلك من جحد تحريم شيء من المحرمات الظاهرة المتواتر تحريمها كالفواحش والظلم والكذب والخمر ونحو ذلك، وأما من لم تقم عليه الحجة مثل أن يكون حديث عهد بالإسلام، أو نشأ ببادية بعيدة، لم تبلغه فيها شرائع الإسلام ونحو ذلك، أو غلط فظن أن الذين آمنوا وعملوا الصالحات يستثنون من تحريم الخمر، كما غلط في ذلك الذين استتابهم عمر. وأمثال ذلك، فإنهم يستتابون وتقام الحجة عليهم، فإن أصروا كفروا حينئذ، ولا يحكم بكفرهم قبل ذلك؛ كما لم يحكم الصحابة بكفر قدامة بن مظعون وأصحابه، لما غلطوا فيما غلطوا فيه من التأويل.
وأما مع الإقرار بالوجوب إذا ترك شيئاً من هذه الأركان الأربعة ففي التكفير أقوال للعلماء هي روايات عن أحمد:
(أحدها): أنه يكفر بترك واحد من الأربعة حتى الحج، وإن كان في جواز تأخيره نزاع بين العلماء، فمتى عزم على تركه بالكلية كفر، وهذا قول طائفة من السلف، وهي إحدى الروايات عن أحمد اختارها أبو بكر.(1/79)
و (الثاني): أنه لا يكفر بترك شيء من ذلك مع الإقرار بالوجوب، وهذا هو المشهور عند كثير من الفقهاء من أصحاب أبي حنيفة، ومالك، والشافعي، وهو احدى الروايات عن أحمد اختارها ابن بطة وغيره. =
..............................................................................
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= و (الثالث): لا يكفر إلا بترك الصلاة، وهي الرواية الثالثة عن أحمد، وقول كثير من السلف، وطائفة من أصحاب مالك، والشافعي، وطائفة من أصحاب أحمد.
و (الرابع): يكفر بتركها، وترك الزكاة فقط.
و (الخامس): بتركها، وترك الزكاة إذا قاتل الإمام عليها دون ترك الصيام والحج، وهذه المسألة لها طرفان:
(أحدهما): في إثبات الكفر الظاهر.
و (الثاني): في إثبات الكفر الباطن.
فأما "الطرف الثاني" فهو مبني على مسألة كون الإيمان قولاً وعملاً كما تقدم، ومن الممتنع أن يكون الرجل مؤمناً إيماناً ثابتاً في قلبه، بأن الله فرض عليه الصلاة والزكاة والصيام والحج ويعيش دهره لا يسجد لله سجدة، ولا يصوم من رمضان، ولا يؤدي لله زكاة، ولا يحج إلى بيته، فهذا ممتنع، ولا يصدر هذا إلا مع نفاق في القلب، وزندقة، لا مع إيمان صحيح؛ ولهذا إنما يصف سبحانه بالامتناع من السجود الكفار، كقوله: {يَوْمَ يُكْشَفُ عَن سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلاَ يَسْتَطِيعُونَ * خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ وَقَدْ كَانُواْ يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سَالِمُونَ}.(1/80)
وقد ثبت في "الصحيحين" وغيرهما، من حديث أبي هريرة وأبي سعيد وغيرهما، في الحديث الطويل، حديث التجلي: "أنه إذا تجلى تعالى لعباده يوم القيامة، سجد له المؤمنون وبقي ظهر من كان يسجد في الدنيا رياء وسمعة، مثل الطبق لا يستطيع السجود" فإذا كان هذا حال من سجد رياء فكيف حال من لم يسجد قط؟! وثبت أيضاً في "الصحيح": "أن النار تأكل من ابن آدم كل شيء إلا موضع السجود، فإن الله حرّم على النار أن تأكله" فعلم أن من لم يكن يسجد لله تأكله النار كله، وكذلك ثبت في "الصحيح": "أن النبي × يعرف أمته يوم اليامة غراً محجلين من آثار الوضوء" فدل ذلك على أن من لم يكن غراً محجلاً لم يعرفه النبي ×، فلا يكون من أمته.
وقوله تعالى: {كُلُواْ وَتَمَتَّعُواْ قَلِيلاً إِنَّكُمْ مُّجْرِمُونَ * وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ* وَإذَا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُواْ لاَ يَرْكَعُونَ * وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ}، وقوله تعالى: {فَمَا لَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ * وَإِذَا قُرِىءَ عَلَيْهِمُ الْقُرْانُ لاَ يَسْجُدُونَ * بَلِ الَّذِينَ كَفَرُواْ يُكَذِّبُونَ * =
..............................................................................
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ(1/81)
= وَالله أَعْلَمُ بِمَا يُوعُونَ}، وكذلك قوله تعالى: {فَلاَ صَدَّقَ وَلاَ صَلَّى * وَلَكِن كَذَّبَ وَتَوَلَّى}، وكذلك قوله تعالى: {مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ * قَالُواْ لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ * وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ * وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الُخَائِضِينَ * وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ * حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ} فوصفه بترك الصلاة، كما وصفه بترك التصديق، ووصفه بالتكذيب والتولي، و "المتولي" هو العاصي الممتنع من الطاعة، كما قال تعالى: {سَتُدْعَوْنَ إِلَى قَوْمٍ أُوْلِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ فَإِن تُطِيعُواْ يُؤْتِكُمُ الله أَجْراً حَسَناً وَإِن تَتَوَلَّوْاْ كَمَا تَوَلَّيْتُمْ مِّن قَبْلُ يُعَذِّبْكُمْ عَذَاباً أَلِيماً}.
وكذلك وصف أهل سقر بأنهم لم يكونوا من المصلين، وكذلك قرن التكذيب بالتولي في قوله: {أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى * عَبْداً إِذَا صَلَّى * أَرَأَيْتَ إِن كَانَ عَلَى الْهُدَى * أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوَى * أَرَأَيْتَ إِن كَذَّبَ وَتَوَلَّى * أَلَمْ يَعْلَم بِأَنَّ الله يَرَى * كَلاَّ لَئِن لَّمْ يَنتَهِ لَنَسْفَعاً بِالنَّاصِيَةِ * نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ}.
و "أيضاً" في القرآن علق الأخوة في الدين على نفس إقام الصلاة وإيتاء الزكاة، كما علق ذلك على التوبة من الكفر، فإذا انتفى ذلك انتفت الأخوة، و "أيضاً" فقد ثبت عن النبي × أنه قال: "العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة فمن تركها فقد كفر". وفي "المسند": "من ترك الصلاة متعمداً فقد برئت منه الذمة".(1/82)
و "أيضاً" فإن شعار المسلمين الصلاة، ولهذا يعبر عنهم بها فيقال: اختلف أهل الصلاة، واختلف أهل القبلة، والمصنفون لمقالات المسلمين يقولون: "مقالات الإسلاميين، واختلاف المصلين" وفي "الصحيح": "من صلى صلاتنا، واستقبل قبلتنا، وأكل ذبيحتنا، فذلك المسلم له ما لنا، وعليه ما علينا" وأمثال هذه النصوص كثيرة في الكتاب والسُّنَّة.
وأما الذين لم يكفروا بترك الصلاة ونحوها؛ فليست لهم حجة إلا وهي متناولة للجاحد كتناولها للتارك، فما كان جوابهم عن الجاحد كان جواباً لهم عن التارك؛ مع أن النصوص علقت الكفر بالتولي كما تقدم؛ وهذا مثل استدلالهم بالعمومات التي يحتج بها المرجئة كقوله: "من شهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله وأن عيسى عبد الله و رسوله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه... أدخله الله الجنة" ونحو ذلك من النصوص. =
..............................................................................
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= وأجود ما اعتمدوا عليه قوله ×: "خمس صلوات كتبهن الله على العباد في اليوم والليلة، فمن حافظ عليهن كان له عند الله عهد أن يدخله الجنة ومن لم يحافظ عليهن لم يكن له عند الله عهد، إن شاء عذبه، وإن شاء أدخله الجنة". قالوا: فقد جعل غير المحافظ تحت المشيئة، والكافر لا يكون تحت المشيئة، ولا دلالة في هذا؛ فإن الوعد بالمحافظة عليها، والمحافظة فعلها في أوقاتها كما أمر، كما قال تعالى: {حَافِظُواْ عَلَى الصَّلَوَاتِ والصَّلاَةِ الْوُسْطَى} وعدم المحافظة يكون مع فعلها بعد الوقت، كما أخر النبي × صلاة العصر يوم الخندق، فأنزل الله آية الأمر بالمحافظة عليها وعلى غيرها من الصلوات.(1/83)
وقد قال تعالى: {فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُواْ الصَّلاَةَ وَاتَّبَعُواْ الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقونَ غَيّا}، فقيل لابن مسعود وغيره: ما إضاعتها؟ فقال: تأخيرها عن وقتها، فقالوا: ما كنا نظن ذلك إلا تركها، فقال: لو تركوها لكانوا كفاراً، وكذلك قوله: {فَوَيْلٌ لِّلْمُصَلِّينَ * الَّذِينَ هُمْ عَن صَلاَتِهِمْ سَاهُونَ} ذمهم مع أنهم يصلون: لأنهم سهوا عن حقوقها الواجبة من فعلها في الوقت وإتمام أفعالها المفروضة، كما ثبت في "صحيح مسلم" عن النبي × أنه قال: "تلك صلاة المنافق، تلك صلاة المنافق، تلك صلاة المنافق، يرقب الشمس حتى إذا كانت بين قرني شيطان قام فنقر أربعاً لا يذكر الله فيها إلا قليلاً" فجعل هذه صلاة المنافقين لكونه أخرها عن الوقت ونقرها.
وقد ثبت في "الصحيح" عن النبي ×: أنه ذكر الأمراء بعده الذين يفعلون ما ينكر؛ وقالوا: يا رسول الله! أفلا نقاتلهم! قال: "لا ما صلوا". وثبت عنه أنه قال: "سيكون أمراء يؤخرون الصلاة عن وقتها، فصلوا الصلاة لوقتها، ثم اجعلوا صلاتكم معهم نافلة" فنهى عن قتالهم إذا صلوا وكان في ذلك دلالة على أنهم إذا لم يصلوا قوتلوا، وبين أنهم يؤخرون الصلاة عن وقتها، وذلك ترك المحافظة عليها لا تركها.
وإذا عرف الفرق بين الأمرين، فالنبي × إنما أدخل تحت المشيئة من لم يحافظ عليها، لا من ترك، ونفس المحافظة يقتضي أنهم صلوا ولم يحافظوا عليها، ولا يتناول من لم يحافظ، فإنه لو تناول ذلك قتلوا كفاراً مرتدين بلا ريب، ولا يتصور في =
..............................................................................
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ(1/84)
= في العادة أن رجلاً يكون مؤمناً بقلبه، مقراً بأن الله أوجب عليه الصلاة، ملتزماً لشريعة النبي × وما جاء به، يأمره ولي الأمر بالصلاة فيمتنع، حتى يقتل، ويكون مع ذلك مؤمناً في الباطن قط لا يكون إلا كافراً، ولو قال: أنا مقر بوجوبها غير أني لا أفعلها كان هذا القول مع هذه الحال كذباً منه كما لو أخذ يلقي المصحف في الحش ويقول: أشهد أن ما فيه كلام الله. أو جعل يقتل نبياً من الأنبياء، ويقول: أشهد أنه رسول الله ونحو ذلك من الأفعال التي تنافي إيمان القلب، فإذا قال: أنا مؤمن بقلبي مع هذه الحال كان كاذباً فيما أظهره من القول.
فهذا الموضع ينبغي تدبره فمن عرف ارتباط الظاهر بالباطن زالت عنه الشبهة في هذا الباب، وعلم أن من قال من الفقهاء أنه إذا أقر بالوجوب وامتنع عن الفعل لا يقتل، أو يقتل مع إسلامه؛ فإنه دخلت عليه الشبهة التي دخلت على المرجئة والجهمية، والتي دخلت على من جعل الإرادة الجازمة مع القدرة التامة لا يكون بها شيء من الفعل، ولهذا كان الممتنعون من قتل هذا من الفقهاء بنوه على قولهم في "مسألة الإيمان"، وأن الأعمال ليست من الإيمان وقد تقدم أن جنس الأعمال من لوازم إيمان القلب، وإن إيمان القلب التام بدون شيء من الأعمال الظاهرة ممتنع، سواء جعل الظاهر من لوازم الإيمان، أو جزء من الإيمان كما تقدم بيانه.
وحينئذ فإذا كان العبد يفعل بعض المأمورات، ويترك بعضها، كان معه من الإيمان بحسب ما فعله، والأيمان يزيد وينقص، ويجتمع في العبد إيمان ونفاق، كما ثبت عنه في "الصحيح" أنه قال: "أربع من كن فيه كان منافقاً خالصاً ومن كانت فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من النفاق، حتى يدعها، إذا حدث كذب، وإذا ائتمن خان، وإذا عاهد غدر، وإذا خاصم فجر".(1/85)
وبهذا تزول الشبهة في هذا الباب، فإن كثيراً من الناس؛ بل أكثرهم في كثير من الأمصار لا يكونون محافظين على الصلوات الخمس، ولا هم تاركيها بالجملة بل يصلون أحياناً، ويدعون أحياناً، فهؤلاء فيهم إيمان ونفاق، وتجري عليهم أحكام الإسلام الظاهرة في المواريث ونحوها من الأحكام؛ فإن هذه الأحكام إذا جرت على المنافق المحض -كابن أُبيّ وأمثاله من المنافقين- فلأن تجري على هؤلاء أولى وأحرى. =
نفرّق بين النصوص ذوات المعنى الواحد، أو التي لا يكون لها معنى تامٌ إلا بالتئامِها معاً على جادَّة من النظر واحدة، حيث يُتِمُّ كل واحدٍ منها نقصاً لا يُتمّه غيره، فيتِمّ لنا المعنى المراد الصحيح بها كلِّها، فمن ذلك: الحديث الذي في "المسند" عن عبادة بن الصامت -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله ×: "خمس صلوات كتبهنَّ الله على العباد، فمن جاءَ بهنَّ، لم يُضيِّع منهنّ شيئاً -استخفافاً بحقّهنَّ-؛ كان له عند الله عهدٌ أن يدخله الجنَّة، ومن لم يأتِ بهن؛ فليس له عند الله عهدٌ؛ إن شاء عذّبه، وإن شاءَ أدخله الجنَة".
وفي رواية: "خمس صلوات افترضهن الله -عز وجل-: من أحسن وضوأهنَّ، وصلاَّهن لوقتهنَّ، وأتمَّ ركوعَهنَّ وخشوعهنَّ؛ كان له على الله عهداً أن يَغفر له، ومن لم يفعل؛ فليس له على الله عهدٌ؛ إن شاء غفر له، وإن شاء عذّبه".
فهذا الحديث مصرِّحٌ بعدم تكفير تارك الصلاة، بل أمره في الآخرة إلى
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ(1/86)
= وبيان "هذا الموضع" مما يزيل الشبهة: فإن كثيراً من الفقهاء يظن أن من قيل هو كافر، فإنه يجب أن تجري عليه أحكام المرتد ردة ظاهرة، فلا يرث ولا يورث، ولا يناكح حتى أجروا هذه الأحكام على من كفروه بالتأويل، من أهل البدع، وليس الأمر كذلك؛ فإنه قد ثبت أن الناس كانوا "ثلاثة أصناف": مؤمن، وكافر مظهر للكفر، ومنافق مظهر للإسلام مبطن للكفر. وكان في المنافقين من يعلمه الناس بعلامات ودلالات بل من لا يشكون في نفاقه ومن نزل القرآن ببيان نفاقه -كابن أُبيّ وأمثاله- ومع هذا فلما مات هؤلاء ورثهم ورثتهم المسلمون، وكان إذا مات لهم ميت آتوهم ميراثه وكانت تعصم دماؤهم، حتى تقوم السُنَّة الشرعية على أحدهم بما يوجب عقوبته.
الله -سبحانه-؛ فإن شاء عذّبه، وإن شاء غفر له، فكيف يكون التوفيق بينه وبين الحديث المصرّح بتكفيره، وكلاهما صحيحان؛ لا مِرية في واحدٍ منهما؛ ولا يُعْرَف المتقدِّم من المتأخِّر منهما، حتى يُعَدَّ واحدٌ ناسخاً، والآخر منسوخاً؟
والجواب عند من فرّق بين تركٍ وبين ترك؛ هو الجواب الجاري على ألسنتهم، إذ يقولون: إنَّ كُفْر تارك الصلاة الموجبَ خلودَه في النّار؛ هو كفر الجحود، وأنّ تاركها -غير جاحدها-، أمره إلى الله في الآخرة؛ من تعذيبه في النّار، أو المغفرة له.
بيد أن هناك ما هو أصرحُ من هذا الحديث؛ في حَجْب الكفر المُخَلِّد في النار عن تارك الصلاة؛ يستوجب على الله -إذ أوجبه على نفسه- أن يُدخله الجنّة؛ إن قال: لا إله إلا الله، ويخرجَه من النار، ولا يخلِّده فيها، وذلكم هو قوله ×: "من كان آخر كلامه: لا إله إلا الله، دخل الجنة"، وهذا مرده إلى الله وحده يوم القيامة أما الحكم عليه في الدنيا فكما مرَ معنا.
ومثلُه الحديث الذي رواه عِتبان بن مالك: "إنّ الله قد حرّم على النار من قال: لا إله إلا الله، يبتغي بذلك وجه الله".(1/87)
وفي حديث الشفاعة المعروف: "يقول الله -عزّ وجلّ-: وعزَّتي وجلالي؛ لأخرجنَّ من النّار من قال: لا إله إلا الله -وفيه أيضاً-: فيخرج من النار من لم يعمل خيراً قطُّ"، وتأويل هذا الحديث لا يحتاج -لو أنه سيق وحده- إلى أكثر من دلالة ألفاظه بظاهرها المجرَّد على ظاهر المعنى المتبادر منه، فهو إذاً: ليس بحاجةٍ إلى التأويل المقتضي غيرَ هذا الظاهر المتبادر منه، وهو: أنّ من قال: لا إله إلا الله بلسانه، ولم يعمل بأي شيءٍ من مقتضاها - ومن أجلِّه، وأرفعه، وأسناه؛ الصلاة-؛ فهو ناجٍ من النار، وإن عُذِّب فيها إلى أجل؛ كما صرَّح بذلك لفظٌ آخر: "نفعته يوماً من دهره".
* سابعاً: إذاً: فلِقائل أن يقول: ونحن مع من يقول: ما ينبغي لنا أن نتأول، وظهور المعنى في هذا الحديث وأشباهه، يغنينا عن التأويل، إذ الظاهر منه: أنَّ من قال: لا إله إلا الله، ومات عليها؛ فهو من أهل الجنة، وإن عُذِّب زماناً، يطول أو يقصر.
لكن؛ هيهات هيهات أن يَسلَم هذا الفهم بمثل هذه السَّذاجة لقائله؛ إلاّ أن يستحضر معه قولَه × -وهو من تمام الحديث بلفظٍ آخر-: "خالصاً بها قلبه"، وقوله -أيضاً-: "نفعته يوماً من دهره"، أي: إن قالها -حين قالها- مخلصاً بها قلبه، ومات عليها، فهو ليس من أهل الخلود في النار، وإن كان تاركاً للصلاة، وهذا ما تقول به طوائفُ كثيرة من المسلمين، وهو خلاف ما يقول به آخرون، ممن يعتقدون أنَّ تارك الصلاة كافر، مخلَّدٌ في نار جهنّم -عياذاً بالله تعالى-.
* ثامناً: لكن هل يَسلمُ لأولئك ما يقولون؟! أم أنه يجب أن يكون في هذا قولٌ ليس بالهزل؛ يُفصل فيه بين الفريقين، لا يُنتصرُ فيه بالهوى ولا بالتقليد، بل تكون النُصرة فيه للحق بما يهدي إليه الدليل الصحيح الصريح؟!
إنَّي لا أحسِب أحداً يؤمن بالله واليوم الآخر يرى لنفسه حقاً يعرو عن الدليل أو يخالف عنه، لذا؛ فإني قائلٌ:(1/88)
إنّ الإخلاص الذي جاء في قوله ×: "مخلصاً بها قلبه" شرط صريح، ولا بدَّ منه في قَبول كلمة التوحيد عند الله -ونفع صاحبها بها يوم القيامة، وإنجائها إيّاه من النّار، لكن؛ هل الإخلاص أمرٌ قلبي محض؟ أم أنّه له من الآثار الظاهرة ما يدل عليه، ويهدي إليه؟
إن الإخلاص -ولا بدَّ- يقتضي الإذعان، والذي لا يملك العبد بإخلاصه أن يدرأه عن نفسه.
والإذعان: هو الخضوع، والإقرار، والذلّ، والإسراع في الطّاعة، والانقياد، هذه كلُّها معانٍ للإذعان، يقال: ناقة مِذْعان، أي: سلسة الرأس، فمن لم يكن مذعناً بجوارحه؛ فكأنَّما يأبى الانقياد لله في طاعته، وهو بذلك يدلِّل على نفي الإخلاص من قلبه -ولا بد-، إذاً؛ فإنَّه لو كان يقولها مخلصاً بها قلبه؛ لذلّت بها جوارحه، وانقادت، وأسرعت لله في طاعته، وبخاصة العمل الذي يُعَدُّ العبد بتركه كافراً، وهو الصلاة.
وبذا نعلم: أن الإخلاص كما يكون من عمل القلب يكون -أيضاً- من عمل الجوارح، فهو في القلب خفيٌّ معنويٌّ، وعلى الجوارح ظاهر عمليٌّ، ولا يمتنع قولنا -هذا- بمثل قول من يقول: إنَّ إعمال الجوارح ليست هي الإخلاص، بل هي أثرٌ للإخلاص؛ فالنتيجةُ واحدةٌ، والثّمرة غيرُ مختلفة.
وقد يكون من معنى الإخلاص في النّطق بكلمة التوحيد: المسارعة في التّوبة من سوء ما ينافي معناها ومقتضاها، من ترك العمل كلِّه.(1/89)
•…تاسعاً: وعليه؛ فنقول: إنّ الإخلاص بنوعيه لا يَعلَم صدقَه إلا الله وحده؛ لأنهما -أي: إخلاص القلب، وإخلاص الجوارح- كلٌّ منهما أثرٌ ومؤثّر، ولسنا نخطئُ الصوابَ؛ إنْ قلنا: الإخلاص هو الإيمانُ، والإيمان يزيد وينقص، كما صرّح بذلك القرآن بقوله: {وَإِذَا مَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَّن يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَاناً فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُواْ فَزَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ * وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُواْ وَهُمْ كَافِرُونَ} [التوبة: 124-125].
أما البشرُ -فإنَّهم- حتى وإن رأوا الإخلاصَ العمليَّ بظاهر ما تجري به الجوارح؛ فإنهم لا يعلمون صدقه، وإلا لكان المنافقون هم منَ المخلصين الدّينَ لرب العالمين، وهم كما قال الله -عزّ وجلّ-: {فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ}، فإذا عَلم الله -ولا أحدَ يَعلم الذي يعلمه الله- أنّ قائلاً: لا إله إلا الله؛ مخلص بها؛ فهو الذي يَؤول بعلم الله إلى يوم القيامة؛ نائلاً من رحمته بإخلاصه، النّجاة من الخلود في النار، وليس يعلم ذلك إلا الله وحده.
أما البشرُ؛ فإن حكمهم على من قضى الله -سبحانه- من عدم الخلود في النّار يوم القيامة؛ بإخلاصه في قول: لا إله إلا الله؛ مختلِف بالكليّة؛ لأن حكمنا إنما يكون بظاهر ما يكون من دلالة الإخلاص عليه، وحقيقة الإخلاص لا يعلمها إلا الله، وظاهر الإخلاص إنما هو بإذعان الجوارح بالعمل بما أمر الله -سبحانه-، وليس بغير ذلك، فلماذا القولُ على الله ما لم يقل؟
وأعظم ما يُستدلْ به على إخلاص الجوارح من أعمالها؛ الصلاةُ، فمن أتى بالصلاة؛ فهو بظاهر ما أدّاها به مخلصٌ، لا يؤثّر على إخلاصه الظاهر ما انتقص من عمله من غير الصلاة؛ إلاّ من أجر يزيد أو ينقص؛ بنقصه من عمل أو بزيادته.(1/90)
أما إخلاصه الظاهر؛ بمجملَه؛ فباقٍ، يُحتسَب له -بما يُكنّه من إخلاص القلب- الإيمان الحقّ، جمع فيه بين الإخلاص الباطن وبين الظاهر.
أما إن هو ترك الصلاة؛ فقد حبط ظاهر إخلاصه، وبه يتحوَّل من الإيمان إلى الكفر، وذلكم هو ظاهر حاله، سواءٌ أكان مخلصاً بنطقه الشهادةَ قلبُه، أم لم يكن مخلصاً، فذا علمه إلى الله وحده، والعباد في تقديرهم الأحكام، وحكمهم بها على بعضهم، لا يكلَّفون إلا بظاهر الحال وحده.
وما يأتيه العبدُ من عمل من غير الصلاة، فليس بنافعه في ردِّ إيمانه عليه شيئاً؛ لأنه بتركه الصلاة قد نزع نفسه وأعتقها من الإيمان، بصريح قوله -عليه السلام-: "من تركها فقد كفر"، وما يكون من بعد الصلاة من عمل؛ فهو تَبعٌ للصلاة؛ إثباتاً ونفياً، قبولاً ورداً، ولا عمل من بعد الصلاة ينفع صاحبه إن كان صالحاً وقد رُدت صلاته، واستأهل بردِّها النار، يدل لذلك قوله ×: "أول ما يحاسب عليه العبد يوم القيامة الصلاة فإن صلحت صلح سائر عمله، وإن فسدت فسد سائر عمله".
وليس من عمل يُقضى به على صاحبه كفراً بتركه غير الصلاة، إلاّ أن يكون حلالاً فحرّمه، أو حراماً فأحلَّه، أو فرضاً فجحده، وهو بذلك كافر، ولو كان يصلّي؛ لأنه بتحليله ما حرّم الله، أو بتحريمه ما أحلَّ الله، أو بجحده ما فرض الله، جعل من نفسه مشرِّعاً نائباً عن الله في شرعه، {قُلْ آلله أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى الله تَفْتَرُونَ}، {قُلْ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى الله الْكَذِبَ لاَ يُفْلِحُونَ}، {وَمَا ظَنُّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى الله الْكَذِبَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ}.(1/91)
أما أن كان تركه العملَ المأمورَ به، أو فعلُه المنهيَّ عنه من غير تحليل ولا تحريم؛ فهو معصيةٌ لا يوصفُ بها بالكفر، وأمره إلى الله -سبحانه-؛ إن شاءَ عفا عنه، وإن شاءَ عذَّبه عليها، (أي: المعصية التي لا يستحلُّها مرتكِبُها) إلاّ أن يكون مسَّته عقوبةٌ بحدٍّ أو قصاص في الدنيا، أو أسرع بتوبة إلى الله، فقد رفع الله عنه عقوبة الآخرة، أما الذي جاءَ الخبرُ بتكفيره عن رسول الله × وتأسس إجماعُ الصحابة عليه فليس عن تكفيره إلى مردٍّ من سبيل.
وإن حكَمنا له بالإسلام -وهو على نحو ما علمنا منه من تركه الصلاة-؛ فقد أبَنَّا عنه ما حكم الله به عليه، وهو: أنَّه كافر، لنحكم عليه من عند أنفسنا حكماً غير ما حكم الله به عليه، ذلكم أننا لا نعلم منه الإخلاص في نطقه الشهادة من عدمه، وأداءُ الصلاة من مقتضاها.
وبما أن إخلاصه لا يقوم عليه دليل -عندنا-؛ إلاَّ ما يكون من ظاهر أشرفِ عمل وأرجاه بالنّجاة عند الله -وهو الصلاة وليس موجوداً، ولا معلوماً بأمارة- فالحكم عليه هو الحكم الذي حكم الله به عليه، وهو الكفر، من غير تأويل لا يسعفه الدليل، بل يعوزه أضعفُ الضعيف من الدليل!! فلماذا الغوص، والحوص، واللوص، في أمر وعليه ومنه، وقد فرغ منه، وصار إلى قرارٍ؛ وما ينبغي أن ينأى عنه بتأويل متمحَّل، ليس ينهض عليه شبهة دليل؟!
* عاشراً: ثم إن حكمنا على تارك الصلاة بتركه الصلاة بالكفر، فلربما كان غير الذي يقضي به عليه الله -سبحانه- حيث إنه علم إخلاصه في قوله: لا إله إلا الله، وهذا هو منطوق قوله -عليه السلام-: "خمس صلوات كتبهنَّ على العباد..." الحديث؛ الذي سقناه آنفاً، وأدرجناه في الفقرة "سادساً"(23).(1/92)
فليس يَحْسُن الحكمُ عليه بظاهر قوله ×: "فأمره إلى الله إن شاءَ عذَّبه وإن شاء عفا عنه"، فهذا الذي يكون أمره إلى الله -سبحانه-؛ إمَّا بالنجاة، وإما بالعذاب، وهو أمرٌ مجهولٌ لنا، ولا نُحيط من علمه بشيءٍ البتّة، ولو أننا حكمنا عليه بغير ما هو ظاهر منه، لكان حكماً مضطرباً، غير سائغ بدليل من الشرع، ولا برأي يهتدي به العقل، فقد بيّنا -آنفاً- أن الإخلاص نوعان: ظاهر بالعمل، وخفيُّ بالاعتقاد، وليس يصلح الإخلاص ولا يسلم من ثَلْب، إلاّ بهما معاً، وقَصْره على القلب عدْوٌ بظلم على ما كان من عمل بالجوارح ولا بدَّ.
ولسنا مع من يحكُم بعلم اليقين على من يجعل عمل الجوارح دليلاً على صحة إيمانه، وسلامة دينه، إذاً؛ فقد عهد المنافقون إلى الأمة أنّهم على أوفر ما يكونون من إيمان، لكن يلزمنا أن نحكم لهم بظاهر عمل الجوارح أنهم مسلمون، وأنه دافعٌ عنهم عقوبة الكفر أو المعصية، وبمثل هذا كان ردُّ النبي × على بعض أصحابه -حين هموا بقتل واحد من المنافقين-؛ بقوله: "لئلا يقال: إن محمداً يقتل أصحابه!!"، ووكَلَهم إلى ظاهر حالهم، وهو يعلم المنافقين جميعاً بأعيانهم، ولم يُعلم بهم أصحابَه؛ لئلا يُفتح باب من الشر، يصعب غلقه مِنْ بعد، وأنْ يكون الخطأ في صيانة الدماء، خيراً ولا بدَّ منْ أن يكون الخطأ في إصابة الدماءِ.
والإذعان القلبيُّ لما أوجب الله الإذعان إليه، إن علم المذعنُ أن به النّجاة؛ فهو سهل يسير، ليس فيه من مشقة الإذعان البدني شيءٌ، وحقيقة الإذعان، أو الإذعان الحق -كما أسلفنا- مزيجٌ منهما معاً، لا يغني أحدهما عن الآخر في العموم، إذ كلٌّ منهما مُتِمٌّ للآخر، وكلاهما يأتلفان على ما يُطلب من العبدِ أن يكون به مؤدياً حقَّ الإذعان له بكل ما شرع.(1/93)
وتظهر لذة الإذعان بمثل هذا حيث يتوب العاصي، ويُسلم الكافر، ويؤوب المنافق، وحين يستذكرُ؛ المنافق، أو الكافر، أو العاصي؛ ما كان عليه من قبل توبته، وبين ما صار إليه من بعد توبته، يدرك أن ما كان عليه من قبل، ليس يحقق له تلك اللذة، والتي لولاها ما حرص -من بعدُ- على الإبقاء على أسبابها.
ومما يُستأنس له في ذلك قوله -سبحانه-: {وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الْخَاشِعِينَ}، والخشوع لا يستوي على وجهه وهو أول ما يرفع من الأمة؛ إلاّ بمزيج من الإذعانين معاً، فلا يشق أداؤها حينئذٍ، أما غير الخاشعين؛ فإنَّها ثقيلةٌ عليهم، واستثقالها إنّما هو نوع جحود، وإن كان يكون معه إقرارٌ قلبي واعتراف(24).
..............................................................................
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= نسبتها، فماذا في كلامي ما يدل علىنفي صحة نسبتها، وهذه دعوى القوم، فليلتمسوا صحة كلامهم بالنفي في فهمهم اللغة التي يكتبون ويؤلفون بها.(1/94)
ثانياً: وتمام كلامي: إن صحت نسبتها سنداً ومتناً، وصحة المتن غير صحة السند، إذ صحة الشيء فرعٌ عن تصور ثبوته، وهذا شيءٌ من بدهيات العلم الذي شغلوا أنفسهم به فلم يصيبوا إلا الجهد واللهاث! فإذا ما كانت دعواي أن فقه متن كلمة ابن عباس رضي الله عنهما الذي طافت الأقلام حوله قديماً وحديثاً فقهٌ خطأٌ، (فهي دعوى أنا المسؤول عنها لا غيري) خطأ كانت أو صواباً ثم هي دعوى لا تنفي صحة السند، كما بيَّنت آنفاً؛ فما لهؤلاء القوم لا يفقهون حديثاً؟! وهل يكون من جرحٍ على إنسان له عقل يدَّبَر الأمر ويقلِّبه على وجوهه برغبة في الحق، أن يقدِّم أو يؤخِّر باجتهاد أهَّله له مراسُه في كلام العلماء الذين يكتبون العلم بلغةٍ عربيةٍ أمينة؟ فإن كان وافق اجتهادي الصوابَ كان فرحهم أن وافق الصواب، وإلا كان منهم إعذارٌ لا يقطع حبل المودة كما صنعوا، وكفى به إثماً مبينا، إلا أن يكون ما علموا هداهم إلى الهجر في الله، وهو شائعٌ ذائعٌ في الطبقات العليا من طبقات السلفية العصرية.
ثالثاً: وكل ما كتبته حول هذه الكلمة من عند قولي: "حادي عشر: وقد شغف الناس قديماً وحديثاً بالمقولة المنسوبة إلى ابن عباس... وإلى قولي: بقيت مسألةٌ أخيرةٌ... وهي مسألة الإرجاءِ" في سبع صفحات تقريباً، كان على أنها صحيحة النسبة لابن عباس رضي الله عنهما، فكانت مناقشتي لها على هذا الأصل، فهي عندي إن كانت صحيحة فهذا موردها عندي، وإن كانت غير صحيحة، فقد كُفينَاها، فماذا بعد الهدى إلا الضلال؟ وماذا بعد العلم إلا الجهل؟ وقد توسع أحد أصحابنا الأفاضل في تخريج هذه الكلمة وأفاض فيها أيما إفاضة في رسالة حسنةٍ لطيفةٍ (وهو الأستاذ حسّان عبد المنَّان) فليحرص على قراءتها والإفادة منها.(1/95)
هذا مع العلم أنه لا يتحرج ديناً من تضعيفها، فكم كان اختلاف كل واحد من المختلفين في حديث عن رسول الله × (صحة وضعفاً) على طرفي نقيض، ولا يخفى أن التضعيف أقرب إلى التكذيب منه إلى التصديق، وأن التصحيح نفي له، وهذا كثير جداً. ولا ننسى صنيع الشيخ الكبير المحدث الألباني رحمه الله في =
..............................................................................
? ?
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= شيء يصححه اليوم ويضعفه غداً، والعكس، ونرى في صنعه شيئاً لا يعيب، وقد يكون الذي ركن إلى تضعيفه جرى على حكم يطول به الزمان حتى يعود عنه إن كان تيسر له الاطلاع على تضعيفه، ومثله عكسه.
فماذا إذاً لو أن أحداً ضعَّف أثر ابن عباس رضي الله عنه. نعم قد يُقال: أجمع جمهور أهل العلم عليه، وأخذوا به، وإجماعهم ينفي ضعفه، وأنا قد أقول مثل قولهم، ولكن أيهما أشد أن يرد أثر عن ابن عباس أو أن يرد حديث ثبتت صحته من بعد ولو بزمان طويل؟
ابن عباس رضي الله عنه لا يضيره تضعيف كلامه كمثل ما يكون من ذلك له لو ضعف حديث منسوب إلى رسول الله ×، "فإن كذباً عليه ليس ككذب على أحد" وهذا في النفي والإثبات على حد سواء. فلينظر الأمر فإن صمامه التقوى، والله يقول الحق وهو يهدي السبيل.
1- معنى كلمة: "كفر دون كفر"
شغف الناس قديماً وحديثاً بالمقولة المنسوبة إلى ابن عباس -رضي الله عنهما-: "كفر دون كفر... إلخ"، وهي لو صحت نسبتها لابن عباس ولم يتطرق لإسنادها أو لمتنها وهنٌ تردُّ به، فإنها لم تفهم علىمراد ابن عباس، ولم يؤت إليها من الجهة التي ينبغي أن يؤتى منها إليها، بل لقفتها الأسماع وسوّدتها الأقلام في الصحائف، وتداولتها القرون، غير اعتداد بما عهد عن ابن عباس -رضي الله عنهما- من دقةِ نظرٍ، وحسن تأويل، وسعة إحاطة، ومن غير استحضار للمناسبة التي جرى لسان ابن عباس بهذه المقولة -لو صحت!- عليها.(1/96)
وإني لأعجب حقاً؛ كيف مضت هذه القرون على هذه الكلمة ولم يتنبّه إلى الخطأ الجسيم -الذي جلَّلها- أحدٌ من أهل العلم؛ على وفرة عددهم، وكثرة جماعاتهم؟! حتى أضحى هذا الخطأ جزءاً من هذه المقولة، لا ينفك عنها، ولا تنفك عنه، وحتى صارت هذه الكلمة أو كادت أن تكون نسبتها إلى بعض أهل العلم -ممن شهروا بالولوع بتردادها- أقرب من نسبتها إلى ابن عباس -رضي الله عنهما-؛ على ما هي عليه! وما عليك صاحبي إلا أن تنظر بانعامٍ، لتعلم أن كلَّ الذي أجلت قلمي به في كلمة ابن عباس، إنما هو بإثباتها لا بنفيها.
وإن نحن أردنا التحقق من فقه هذه الكلمة، وصواب أحقيتها؛ بالإثبات أو بالنفي؛ فإنَّ ذلك يقتضينا أن نعرض لها في مسائل:
* الأولى: أن هذه الكلمة لم تعرف نسبتها -لو صحت- لابن عباس إلا من بعد موت رسول الله × ولم تُعرفْ نسبتها لأحد غيره -رضوان الله عليهم- وهي مسألة جليلةٌ خطيرةٌ، ما كان للوحي أن يدعها لاجتهاد مجتهد، أو لتأويل متأول، فكان -إذاً- ولا بدَّ من أن يجعلها رسول الله × ميراثاً من بعده لأمته، لئلا تشتجر فيها الأفهام، أو تزلَّ عنها الأقلام.
•…الثانية: أن هذا التَّفريق كان يمكن أن يكون؛ لو أن رسول الله × لم يحكم فيه حكماً لا يقبل التأويل، وذلك قوله: "من تركها فقد كفر"، ولم يكن لهذا الحكم مولجٌ لشبهة دافعةٍ لصريح هذا الحكم، ولو كان لهذه الشبهة من سبيل لدفعه -لأغنانا عنها شيء من عند الله سبحانه- يُقْضى به، أما ولم يكن شيءٌ يحب الله أن يكون، فخيرٌ لنا أن نمسك عنه ولا نتخوّض فيه، {وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيّاً}.(1/97)
•…الثالثة: إن الله -سبحانه- قد فصَّل لنا في كتابه، وفيما أوحى إلى نبيِّه من حكمته، من الفواصل الموضحة؛ ما بين الإيمان، وما بين الكفر، ولم يجعل فيها شيئاً يبهمها، أو يُلْبِسها بشبهةٍ تُنْقصُ من صريحها، أو تنقُضُ شيئاً من صوابها، فلماذا لم يوح ربُّنا -سبحانه- إلى نبينا × بشيءٍ يُماز فيه بين الأمرين، ويستبين فيه وجه الحق لو كان الكفر بترك الصلاة معنى غير المخلد في النار؟! وهو ما أجمع الصحابة عليه، رضوان الله عليهم جميعاً؟!
ثم لماذا نستفظع هذا الحكم وهو صريح منطوق قوله ×: "من تركها فقد كفر"؟! ولا نستفظع الذَّهاب عنه بالمفهوم، الذي لا يغني من المنطوق الصريح؛ إلاّ حين يُقدم المنطوق الصريح ولا يكون بدٌّ من التحول عنه
إلى المفهوم؟! إذ لا مكان هنا للمنطوق.
وإذا حكمنا بكفر تارك الصلاة -وهو الحق إن شاء الله- فإنّه يترتب على موته من الأحكام ما يترتب على موت الكافر، سواءً بسواءٍ، ولا يضرنا من خالفنا، ولا من قال بغير قولنا، وليُعْلم بأن القول بكفر تارك الصلاة، قول قديم، ومن قال بغيره فذاك قوله، وليس يحسن منه أن ينكر على مخالفه، وليس لخلافه ما يُردُّ به الحق المستبين.
* الرابعة: يضاف إلى هذه الثلاثة -على فرض صحة أثر ابن عباس رضي الله عنهما- أنه وصف لواقعة عين لا يجوز تعديتها إلى غيرها؛ إلاَّ إلى ما يماثلها من وقائع(25)؛ ذلكم: أن بعض يهود أصاب رجل منهم الفاحشة، وحدُّها في التوراة القتل، وكان رجلاً من أشرافهم، وكانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف حدوه، ولعل نفراً منهم فطنوا إلى أن حدَّ البكر في الإسلام، هو جلدُ مئة، وتغريب عام، فقالوا في أنفسهم: لو أنَّا أتينا محمداً وسألناه أن يَحُدَّ صاحبنا، بما يجده في كتابهم، فينجو، ويكون لنا من بعدُ سبيل إليه، كلّما وقع فينا مثلُ ما كان من صاحبنا هذا!(1/98)
وأتوا رسول الله ×؛ وهم يبيِّتون في أنفسهم أمراً غير صالح، ففطن رسول الله × إلى سوءِ مكرهم، فسألهم ماذا يجدون في توراتهم؛ لمثل أمر صاحبهم هذا؟ -وكان في المجلس بعضٌ مِمَّن آمن من يهود-، فأعلموه ما في التّوراة من عقوبةٍ لمثله، فأمر به فقتل بالتّوراة، ولم يصيبوا من مكرهم إلا فضحاً، لما قَنّعوه به، فقال ابن عبَّاس -رضي الله عنهما-: "كفر دون كفر"(26) .
والناظر المتأمِّل في هذه الكلمة يعلم أن مرادَ ابن عبّاس -رضي الله عنهما- بعيدٌ عن المعنى الذي ذهب إليه المتأولوها على ما ذاع وانتشر، فيكون المعنى -والله أعلم-؛ إن صحت نسبة هذه المقولة لابن عبَّاس -رضي الله عنهما-:
أنهم كفروا -بصنيعهم بصاحبهم هذا- كفرين اثنين: كفراً أدنى، وكفراً أعلى، والكفر الأعلى -وهو كفرهم بمحمد × وما أنزل الله عليه من كتاب- لا يساويه كفرهم بإنكارهم حكم التوراة -وهو القتل للزاني-، بل لا يُعدُّ كفراً إلا من جهة أنه جحودٌ من حيث إخفاؤهم ذلك الحدَّ، وكان حقاً عليهم أن يتحاكموا فيه إلى التوراة، إذ قد كفروا بما أنزل على محمد × فكفْرهم بما أنزل الله على نبيِّه، وإعلام الله عباده أنه لا يَقْبل منهم ديناً
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= إذاً: فالأقوى والأسدُّ، أن يكون المعنى المراد للفاءِ، هو السببية، وهذا المعنى لا يُشترَط تقدُّم زمانِ الفعل أو تأخرُّه عن الفاء السَّببية، ولا قصرُ زمان قولها مقرونة بالسبب بعد وقوعه ولا طوله.
لذا؛ فإن الفاء في قولي: (فقال ابن عباس رضي الله عنهما)، من الحتم أن تكون للسببية، وما ينبغي أن يكون مثل هذا خافياً على من دون أولئك، الذين وهبوا أنفسهم حقاً من أنفسهم (أنفسِهِم) لم يأذنوا به لغيرهم ممن هم دونهم، ولا أدري ما الذي يريدون؟(1/99)
فيكون معنى كلامي: لما بلغ ابن عباس سبب نزول هذه الآيات أو لما سئل عن السبب، قال بعد إبانته وإظهاره: "كفر دون كفر". وما كانت الحاجة داعيةً، ولا تائقةً، ولا مائقة إلى مثل هذه الإطالة المكزوزة المأروزة، لولا ما منَّ الله به على بعض الناس من تَفَتُّتِ الفهم، وتَبعثُره، وتخبُّطه، وإنا لله وإنا إليه راجعون، ويا حسرتا حتى على غُسالةِ أقلام العلماء، أن تُصيب منها أقلام الأغلمة المتحزقين، وأرجو أن يعودوا إلى كتاب ابن هشام رحمه الله "مغني اللبيب" لاستظهار المعاني التي تدل عليها الفاء في كلام العرب.
غير الإسلام؛ هو الكفر الذي لا يُعدُّ كفراً دونه كفر، ولو أنهم صدقوا الله لآمنوا بما أنزل على عبده، فانتفى بإيمانهم هذا عنهم كلُّ كفر دونه؛ أما وأنهم لم يؤمنوا بما أنزل الله على نبيِّه فجحودهم ما في التوراة كفرٌ أدنى، يغيب في كفرهم الأعلى بالإسلام ولا يبين، ثم يكون كفرهم بما يجب أن يكفروا به، إذ تصديقهم به هو كفر، وقد كفروا به، إلى جانب ما يجب الإيمان والتصديق به، وهو دين الإسلام، فإيمانهم بما في التوراة كفرٌ، ولكن أنَّى لمثل هذا الكفر أن يذْكر إلى جانب الكفر الأكبر، وهو الكفر بدين الإسلام الذي يذهب فيه كل كفر؟! أحسبُ من يفهم هذه المقولة المنسوبة لابن عبّاس على غير هذا المعنى مخطئاً في فهمه والله أعلم بالصواب والحق(27).
ولا يرد هنا أنّ الرسول × حكم على بعض الأعمال والأقوال بالكفر، كحكمه على تارك الصلاة، فلماذا لا يقال في هذه الأقوال والأعمال ما قيل في ترك الصلاة؟!(28)
الجواب:
* أولاً: إنَّ تطابق اللفظ لا يعني تطابق الحكم، فمن حلف بغير الله؛ فلا يدخل في باب الشرك الأعظم، إلا أن يكون معظماً المحلوف به تعظيماً يفوق تعظيم الله، في نفسه، أو يشاكله ويساويه، وهذا أمر بعيد التصور، فضلاً عن أن يكون واقعاً؛ إلاَّ من جهلٍ، أو ارتياب في قدسيّة الحق جلَّ وعلا.(1/100)
* ثانياً: إنَّ الصحابة -رضوان الله عليهم- لم يطبِقوا على تكفير أحدٍ مثل إطباقهم على تكفير تارك الصلاة، ولم يُعرف عنهم أنهم كفّروا من حلف بغير الله كتكفيرهم تارك الصلاة، ولو عرف عنهم ذلك لبلغنا خبره.
* ثالثاً: على أنهم كانوا يتّقون هذا الحلف أشدَّ التوقّي، حذراً من أن يقعوا فيما نُهوا عنه، ثم سداً للذريعة أن يبلغ بهم ما يُخشى معه عليهم مما هو أشد نكراً منه.
* رابعاً: إنَّ إجماع الصحابة -رضوان الله عليهم- هو الإجماع الذي لا يأتيه باطل ولا يقاربه، وما كان إجماعٌ منهم إلاّ على ما لا يحتمل، إلاَّ الإجماع الذي لا يضاهى إلا بمثله.
وما كان شيءٌ أثقل على قلوب الصحابة من نعتهم أحداً بالكفر إلاَّ أن يكون الكفر ظاهراً فيه؛ بأسبابه ودواعيه، فلولا أنَّ تارك الصلاة كان كافراً عندهم بترك الصلاة؛ لما حدثتهم أنفسهم أن يكفروا به، ذلكم أن التكفير
ــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= و (الهشِّ) و (النشِّ) و (الحشِّ) و (العشِّ) و (الكشِّ) ذلك طبعاً، بفضلٍ من... ثم بفضل وعورة الإحسان إليهم! من الصِّبيَة النُّفَيْرِّيين الذين جاوزوا سنَّ البلوغ، ولما يبلغوا الحلم بعد.
هو إخراجٌ للمكفَّر من الملة، وهل يكون تارك الصلاة من أهل القبلة ثم يتجرأ على تكفيره؟(1/101)
* خامساً: ثم نحن لسنا في حاجةٍ إلى إحداث مثل هذا المصطلح -أي: كفراً دون كفر-، وعندنا عنه مندوحة بما عرف من لغة العرب التي لا يُخْتلف عليها، فقد عرف العرب ما يعرف بالتشبيه، والتشبيه: يكون وجه الشبه فيه حيناً في المشبه أظهر منه في المشبه، وحيناً يكون التساوي، فمن حلف بغير الله -سبحانه- وهو يعلم النهي عنه في مثل قوله ×: "من حلف بغير الله فقد أشرك"، فأحسب أنّه لا يخفى على مثل هذا الحالف، أنّه لا يبلغ به الأمر أن يكون معظِّماً المحلوف به حين يحلف -تعظيم الله سبحانه- إذاً؛ فهو بحلفه -وهو لا يعظّم المحلوف به- إنما يُشبه بحلفه بغير الله المشركين الذين يحلفون بغير الله، ولكن أين هذا من ذاك؟! فالمشركون إذ يحلفون بآلهتهم وأصنامهم هم مشركون أولاً وآخراً.
أما المؤمن الذي يحلف بغير الله؛ فهو مؤمن، ولا يخرجه من إيمانه حَلِفه هذا، إلا ما يكون من تعظيم المحلوف به تعظيمه الله، وليس لهذا -قطُّ- مورد على قلب من يقول: لا إله إلا الله وهكذا كل ما يكون من مثل هذا أو يشابهه.
2- مسألة الإرجاء
الإرجاء في اللغة معناه: التأخير، قال صاحب "القاموس": يقال: أرجأ الأمر: أخَّره، والنّاقة: دنا نتاجها، والصائد: لم يصب شيئاً، وقوله تعالى: {وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لأَمْرِ الله} مؤخرون حتى ينزل الله فيهم ما يريد، ومنه سميّت المرجئة، وبهذا المعنى اللغوي نَعْرف لماذا سميِّت المرجئَة مرجئةً؟ أي: لأنها أرجأت العصاة بمعاصيهم إلى أمر الله يوم القيامة، وجعلت التصديق فيهم -أي: مجرَّد الإيمان القلبي- من غير عمل يقتضيه هذا الإيمان كافياً في نجاتهم يوم القيامة من عذاب النار، فهم مُرجوْن لأمر الله، إما يعذبهم بمعصيتهم بتركهم الطاعة، واكتفائهم بالإيمان القلبي وحده، وإمّا ينجيهم من العذاب برحمته، هذا هو معنى الإرجاء الذي لا خلاف عليه(29).(1/102)
وليس من شك في أن مثل هذا يقلِّل في صدور الناس من قيمة العمل الذي أوجبه الله -سبحانه- على العباد، ويكون تعلّق الناس المؤمنين برجائهم في الله وحده؛ دونما عمل يقدّمونه بين أيديهم فعلاً بأمر، وتركاً بنهيٍ، وهو ما يحقق الطاعة الصحيحة لله في أنفسهم، وهذا يعني بالضرورة: عكس ذلك، أي: قد يكون الترك منهم مع الأمر، والفعل مع النهي، وهم بذلك يَرجُون النجاة من العذاب بإرجاءِ أمرهم في حسابهم إلى ربِّهم -سبحانه- إذاً؛ فالإرجاءُ هو: تأخير شيءٍ لا يعرف له وجهٌ يصرفُ إليه؛ لأنه غيبٌ من الغيب، يترك فيه الحكم -ثواباً أو عقاباً- إلى الله سبحانه وحده، يُقضى فيه على الخلائق، بقبح عمل يعاقبون به، أو بحسن عمل يثابون به، يُصار بهم فيه إلى رحمة من الله، أو إلى عذابٍ، قلَّ العمل فيه أو كثر، صواباً موافقاً للشرع، أم خطأً مخالفاً للشرع، وليس للإرجاء معنى غيره! ويغلب على المرجئة بهذا المعنى الظَّنُّ بالنجاة من النار.
ولنا أن نسأل هنا: هل يُستثنى واحدٌ من عباد الله من هذا الإرجاء بمثل هذا المعنى؛ يستوي في ذلك من آمن بقلبه، وصدّق وأذعن بعمله الصالحات، ومن آمن بقلبه وصدق فقط، ولم يذعن بصالح العلم؟!
أحسِب أن لا أحدَ قطُّ يجاوز حدود الإرجاء بمثل هذا المعنى، مؤمناً كأان أم غير مؤمن(30)، أي: على وجه التعيين لأفرادٍ بأسمأائهم وأعيانهم، أما
على وجه الوصف العام -بالإيمان- أو بالكفر؛ فإن الحكم -حينئذٍ- مختلف، فالمؤمنون هم أهل الجنَّة، والكافرون هم أهل النّار، والله مريدٌ
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ(1/103)
= وهذا كلُّه طبعاً، يستثنى منه تارك الصلاة، فهو غير مشمولٍ بالإرجاء المعروف عند جمهور فقهاء أهل السُّنَّة، كما يُستثنى منه أيضاً من اختص الله بفضله ورحمته ممن ذكرت في التعليق الموضح السابق، وخير الهدي هديُ القرن الأول والذي يليه والثالث، فهلاَّ كان من أهل القرون التي بعدها أن تأخذ العلم والدين عنها ثم لا تجد في أنفسها حرجاً مما قضت به تلك القرون الأولى.
وليس يُنكر أن، يعفو الله سبحانه عن بعضٍ ممن أنالهم من فضله، أدخلهم النار بما كان منهم من سوءِ العمل، الذي خَلُص من أيِّ عملٍ صالح، إلا ما كان لهم من شيءٍ ربَّما كان بعضه في ظاهره أقربَ إلى السوء، كذلك الذي أوصى بنيه أن يحرِّقوه ويَذْروه في البحر خشيةً من أن يقدر الله عليه فيعذبه.
ويمكن القول: إنه قد أدركته توبة، ظن معها أنه لا يُنْجيه من سوءِ عملٍ واقعه إلا ما أوصى به بنيه.
وليس ينبغي أن يُنْسى أن الذين ماتوا وكان آخر كلامهم: لا إله إلا الله مخلصين بها قلوبهم فأوجب الله لهم الجنّة، حالهم قريبٌ من حال الذين ذكرنا، وليس يصدق عليهم أو فيهم جميعاً أيٌّ معنى يدخلهم في حيِّز الإرجاء بنوعيه، لأن الله سبحانه عرَّفنا ما يكون من أمرهم في الآخرة، فهو وعدٌ منه يوفيهم به من أجرهم الموعود.
لكننا، لا نعلمهم على وجه التعيين بأعيانهم، بل بالوصف العام، والله سبحانه هو وحده الذي يعلمهم بأعيانهم، وينجيهم برحمته، ومن هؤلاء الذين أخبرنا بهم رسول الله × فيما أخرج البخاري ومسلم عن عبادة بن الصامت بقوله: "من أتى منكم حداً فأُقيم عليه فهو كفارته، ومن ستره الله عليه فأمره إلى الله إن شاءَ عذَّبه، وإن شاءَ غفر له".(1/104)
فمثل هذا الذي أصاب حداً من حدود الله، ولقي ربه غير محدود -وهو محافظٌ على صلاته- يرتجى له النجاة من العذاب، أما إن كان يجمع إلى المعصية التي أصابها -حدَّ بها أو لم يُحدَّ- تركهُ الصلاة، فليس من أولئك في شيء فهي إن جاز التعبير حالات استثنائيَّة اختص الله بها بعضاً من عباده على نحوٍ لم تظهر الحكمة منها، لأمر يريده الله سبحانه.
فعّالٌ لما يشاءُ ويختار، يقدِّم من يشاء من العباد برحمته، وإرادته، وبحكمته؛ استثناءً، ويؤخر من يشاء من العباد بعقوبته، وإرادته، وبحكمته، إستثناءً، ليس للعباد -مؤمِنِهم وكافِرهم- إلاّ التسليمُ والتفويضُ، على أعمال صالحة؛ يرجون بها رحمته، أو على أعمال غير صالحة؛ يخافون بها عذابه، ويدلُّ لهذا قوله سبحانه: {فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُواْ فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ * خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ إِلاَّ مَا شَاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ} [سورة هود: 106-107].
هذا الإرجاء بهذا المعنى، وعلى الوجه الذي بيَّنا؛ ليس فيه من حرج يجلب الكفر لمعتقده(31).
أمّا الإرجاء الذي أصابت منه طائفة من المسلمين ما أصابت من سوءٍ، وأخرجها من حظيرة الإيمان الحق؛ فهو الذي قالوا فيه: لا يضرُّ مع الإيمان به معصية، ولا ينفع به مع الكفر طاعة، فالمرْجأ بهذا المعنى لو حَمَل قُراب الأرض خطايا وجاءَ يوم القيامة ربه وهو يُؤمِن به؛ ما كان إلاّ من أهل الجنّة، ولا يصيب حظاً من النار إلاّ تحلَّة القسم، {وَإِن مِّنكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْماً مَّقْضِيّاً}.
وهذه عقيدةٌ باطلةٌ فاسدةٌ، إذ يخرج بها العبد من الدنيا من غير عمل صالح، وتكون الجنة مفتّحةٌ له أبوابُها، ليدخلها مع الصِّدِّيقين والشهداء، والصالحين، ولربّما كان أسبق منهم إلى الجنّة!!(1/105)
أيَّةُ عقيدةٍ هذه؛ المزريةُ بالعقل، المضحكة، التي يتساوى العبادُ بمقتضاها في أصل الثواب والنعيم، اللهم إلا ما يكون من تفاوتٍ في مراتبه؛ إن كان أصحابها يقولون بذلك؟!
ولا شكَّ؛ أنَّه ما كان ليكون لهذه العقيدة مكانٌ في صدور المسلمين، لو أنَّ أهل العلم بعامَّتهم، وقفوا في تأويلاتهم النصوصَ عند حدودِ ما أنزل الله من صريح الكتاب العزيز وما تَبَعتْ به السُّنَّةُ المطهرةُ من يُسر الفهم، وسهولة اللفظ التي لا يعرف معنى النَّص الواحد منها؛ إلا بالتئامه مع نظائره، فيصيرُ بالمعنى المراد على صحّته وكماله وصوابه.
والنّجاة من النار يوم القيامة، مردُّها إلى رحمة الله بالإخلاص في الشهادة، ولو لم يكن معها عمل، والمصير إلى النار بعقوبةٍ من الله بعدم الإخلاص في الشهادة، ولو كان معها عمل، لأن الأمورَ كلَّها، مردُّها إلى الله وحده، وليس يعرفُ الإخلاص من غيره في الدنيا، فهو إذاً؛ في كلا الحالين مُرْجأٌ إلى الله وحده، وليس لنا عليه في الدنيا من سبيل، نحكم عليه به بمثوبة أو بعقوبة ينالها في الآخرة، بل هو مرجأ -في حاليه جميعاً- إلى الله بسخطه، أو برضاه، وهل يكون إرجاءٌ غير هذا؟!
وإذ ذلك كذلك؛ فلا مفر من الوقوع في الإرجاء، وهو في نهاية الأمر أمرٌ متفق عليه، لا أحد يخالف عنه، ولا شيء يصرف عنه، ولا محيدَ عن الانتهاء إليه.(1/106)
وحين اختلط الأمر، وصار الإرجاءُ -حتى لو كان لا بدَّ من القول به- على نحو ما صار إليه -وتقاولت فيه الألسنُ، وتطاولت به الآراءُ، وتمارت فيه العقولُ، وأضحى عقيدة- وما لنا فيها من حاجة -يُدانُ بها- ويوسم أو يرمى طوائف بها، وأقيم سدٌّ منيع بين حقٍّ وباطل فيها؛ فهذا على حقٍّ برده وصدِّه عنه، وهذا في باطل على عناد وتشبُّثٍ به-؛ لم يكن بدٌّ من توجيهه -أي الإرجاء- توجيهاً تنكفئ فيه الآراءُ انكفاءً، توثق به إلى ما وراء الظهر، فلا يكون منها إلا تسليم -إن شاء الله- لحقٍّ يرتجى لصواب، ومجانبةٌ لباطل يطلب بها نأيٍّ عن خطأ، لذا فقد رأيت أن أجمع أطراف هذه المسألة علىنحو ما بيّنا منها آنفاً، نعود به إلى الأمر العتيق الأول؛ بسذاجته، وسهولته، ويسره، فإن وافق صواباً يحبه الله -عز وجلّ- فهو منه وإليه، وإن كان غيره -وأرجو أن لا يكون-؛ فهو مني وإليَّ - وأسأل الله أن يغفر لي زلّتي فيه، وحسبي أنني أدليت في هذه المسألة بدلوي الصغيرة؛ على وهني، وقلّة حيلتي، وعجز مني، ونزر بضاعتي في العلم، وهي مسألة، وأحلف بالله -ولست حانثاً إن شاء الله- أنها لا تستحق إلا السكوت عنها، وعدم إثارتها، ولا الخوض فيها، نجري بذلك فيها على سنن السابقين الأولين(32).
إيقاظٌ وتنبيه - (1)
كم كنت أكون سعيداً أن لا يكون مني سببٌ يكون به ما يكون بين من يكونان على خلافٍ في أمرٍ يكون به محقٌّ ومبطلٌ، المحقُّ قد يكون فيه مُبطلاً، ولو كان يغلبُ على ظَنِّه أنَّه محقٌّ، والمبطل قد يكون محقَّاً وإن كان لا يرى نفسه مبطلاً.(1/107)
وحين جهرت بهذا الحكم الذي قضى به رسول الله × على تارك الصلاة: أنَّه كافرٌ -من فَوْق منبر مسجد صلاح الدين بالدُّوار الرابع من جبل عمان- ما كان يدور بخلدي أن يتوَّلى كِبْرَ التخرُّصِ والتَّأفُّكِ عليَّ وعلى هذا الحكم نفسه - واحدٌ يقول عن نفسه: إنه طالب علم، يتصدَّق على عقله، ولو بِرُبْع درهمٍ من بضاعته الكاسدة، فيصيب به نجحاً أو ربحاً ممنوناً.
لكن الأمر وقع على مراده، وذهب يطوف على المساجد ويرفع عقيرته في المتحلِّقين من حوله، يحذِّر وينذرُ ويتبجح، ويقول: لقد رددت عليه، وأتيتُ بكذا من النقولات والأقوال، ونصحناه فلم يأبه لنصحنا.
وشاعت أصالتهم التي تحمل إفكهم، وبترهم، وطمسهم، وزورهم، وما بقي بعد هذا وقبله، إلا جهلُهم، حتى بما أفِكوا وبتروا، وطمسوا، وزوَّروا. أما تقوى الله فهي بمثابة (ضمير الغائب) فيما كتبوا وقالوا.
وما كان مني طول هذه المدة التي فرحوا بصنيعهم فيها -إلا السكوتُ والإعراضُ والإغضاءُ، حتى لا أكونَ مُورياً ولو قشَّة في فتنةٍ أحدثوها، وزمَّروا لها، وطبَّلوا، ورقصوا على حسِّها وسِرِّها، وجهرها وجرشها، ثم كانت الصفعة المباركة!! التي رنَّحتهم، ولعلَّهم شكروا لمن أنالهم إياها، وحمدوه على أنها كانت خفيفة، فقد كانت لواحدٍ منهم، لكنَّها وزِّعت بين الناس على أربعة أو على خمسة، لا أدري! وعلم ذلك عند ربي.
وكان لا بدَّ من أن يكون توضيح لبعض المسائل التي لبَّسوا على الناس بها، وأضحكوا طلابَ العلم النُّجباءَ عليهم، بما ظنوا أنهم بالغون بها ما تنقطع به بعدِّ: واحد، اثنان، ثلاثة - أنفاسُهم بانطباق الشفتين والسكوت عليها.(1/108)
فآثرت أن أجعلها مسألة برأسها مستقلة من مسائل الطبعة الجديدة من كتابي "تنوير الأفهام"، وجعلت هذا التوضيح حواشيَ، أسفل أصلِ ما كنت كتبتهُ، وجعلتُه في الطبعة الثامنة من كتابي "إرشاد الساري". فمن شاء فليقرأْ بعقله وعينيه، ومن شاءَ فَلْيَبْقَ على ما هو عليه، ليعلم الفرق بين ما انتقل منه، وبين ما صار إليه، إن قدَّر الله يوماً أن يفيءَ إليه.
? ?
إيقاظ وتنبيه - (2)
أولاً: اعلم -رعاك الله- أن مما يجرِّئُ السواد الأعظم ممن سوَّل لهم الشيطان أن يتركوا الصلاة -على تركها- هو تعطُل حدود الله، ومنع العقوبات الزاجرة أن تنال من أبشار المستحقِّيها، ولَحَدٌّ يقام في الناس خيرٌ من أن يمطروا أربعين صباحاً، والله سبحانه يزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن.
وحال الأُمة السَّيءِّ، تزداد سوءاً يوماً بعد يوم، ومثل الصلاة في هذا سائر المعاصي، ولا أدلَّ على ذلك مما هو واقع بين ظهرانينا.
ثانياً: وقد علمنا أن عقوبة ترك الصلاة هي القتل، سواءٌ أكان التاركها كافراً أم غير كافر، لكن من الذي ينفِّذُ عقوبة القتل فيه؟ ليس بخافٍ على أحدٍ أن الذي ينفذها هو السلطان، ولا سلطان الآن، وغيابه قد أبطل العقوبة، بل إن غيابه كان أشد الأسباب وأقواها في ازدياد عدد تاركي الصلاة، وكثرة المستخفِّين بها، بل والناهين غيرهم عنها.
أما أن التاركها يموت كافراً أو عاصياً فقط، فذا أمر آخر، يعود إلى الدليل الذي يسوقه القائل بهذا القول أو ذاك.
وقولي أنا بتكفير تارك الصلاة ليس قولاً محدثاً، بل المحدث عندي -وهو الظاهر الجليِّ- القول الآخر، إذ إجماع الصحابة -رضي الله عنهم- على كفر التاركها، كما سبق بيانه مفصَّلاً.(1/109)
ثالثاً: لكن ما ينبغي أن ننسى، أن القول بكفر تارك الصلاة في زماننا هذا، يدعونا إلى زيادة الشفقة عليه، وعدم الإعراض عنه، والحرص على نصحه، والأخذ بيده، لتخليصه من كفره هذا، بالترغيب والترهيب، إذ قد غلب على الناس الجهل، وضعف فيهم العلم، وزاد من فداحة هذا الأمر وشدته، استسهال كثير من أهل العلم، ومخالطتهم أهل المعاصي حتى ولكأنَّهم بذلك يقرونهم ويوافقونهم على معاصيهم، وطال الزمان على هذا، حتى لم يعد هناك من فرقٍ عند الأمة بعامتها بين تارك الصلاة، وبين من يصلي، وهل شيءٌ اسوأُ من هذا، أن يسوَّى بين المختلف على الأقل في كفره وبين المجمع على أيمانه.
فليس يعقل إذاً أن يترك تارك الصلاة فريسة لكفره، من غير أن يعرَّف الحكم الصحيح، الذي يستحقه بتركه الصلاة، ليُحالَ بينه وبين ظنِّه الخطأ، وهو أنه مسلم بتركه الصلاة، وبخاصة في زمان وفي حالٍ زال فيه حكم الإسلام، وغدا المسلمون به على اختلاف وشتات.
وهذا حقّ لهؤلاء التاركي الصلاة، على من يعلم حكم تركها، وما لم يبيِّن هؤلاء العالمون الحكم الصحيح الحقَّ الذي أوجبه الله عليهم، فإنهم حينئذٍ مقصِّرون ويلحقهم وزرٌ لا يوضع عنهم إلا بتعليمه وبيانه، وتظل الحجة قائمةً عليهم في ذلك.
رابعاً: إذاً: فما الذي يزعج تارك الصلاة، إذ يقضى عليه بالكفر، وهو ما قضى به صحابة رسول الله ×، وقد أمن عقوبة تركها، وهل القتل، لو وجد من يوقعها فيه. هل يزعجه أن يقال إنه كافر؟ إن كان هذا يزعجه، فلما يصر على الإقامة عليه؟(1/110)
وأسوأ من هذا الذي يزعجه أن يقضى عليه بالكفر بترك الصلاة، ولا يتحول عن قبيح فعله ذلك الذي يعينه، على الإقامة على كفره وذلك بالطعن على من يقول بهذا الحكم ويعتقده، اقتداءً بصحابة رسول الله ×، إذ ينعون عليهم قولهم هذا، وينعتونهم (بالتكفيريين)، نسبة إلى التكفير، ولا شك أنهم يريدون بذلك الذَّمَّ، فأين تذهب بهم عقولهم، وفي أي وادٍ يهيمون هم بعقولهم؟ إنها والله الطَّامَّة التي تأخذ ولا تبقي، وتهب من السفاهة بلا حساب وهي لا تدري. لو كان مرادهم المدح خيراً صنعوا، لكن قد علمنا مرادهم من ذلك إنهم يريدون التحريض على الأبرياء، والتأليب على الأولياءِ، والأخذ بمجامع الظنون في صدور الأغبياء، أن يكونوا لهم أعداءً ألدَّاء.
فانظر بربك يا مسلم كيف يوردون أنفسهم موارد الهلكة ثم استمع إلى واحدٍ من جفاتهم، وغربانهم، إذ يقول في صاحب الفضل عليه وعلى كل من ينتسب إلى السَّلفية في العالم كله: (إنه لا يلتقي ولا يجتمع إلا بالتكفيريين، ويتخذهم مستشارين له)! يلقي بهذه الكلمات المهووسة على (كاسيت) وينشره في دنيا الناس، وهكذا يكون الوفاء.
لا أدري ما يخبِّىء في جوفه من بعد ذلك.
? ?
أمية الحرف وأمية الولاء
هذه المقالة!
من قبل أعوام سبعة، كنت في زيارة للرياض، لقيت فيها الأخ العزيز الفاضل الدكتور ناصر العمر، عَمّر الله قلبه بالتقوى، وكساه من صالح عمله حُلَّة سابغة في الجنة، فقال لي: إنني أعرفك من قبل أن أراك، ذلك من مقالة كنت بعثتَ بها إلى مجلة كلية أُصول الدين، إحدى كليات جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، وقد كتبنا إليك لإرسالها للمجلة، ففعلت، وجزاك الله خيراً.
وكم كان سروري بها عظيماً، فقلت لاخواني: هذه أول مقالةٍ أقرؤُها في فقه الواقع، وبادرت فوراً إلى نشرها في المجلة، لتكون الكلمة الأولى في عددها الثالث.(1/111)
أرجو أن يظلَّ حبل المودة، والنصح، والتعاون موصولاً بين الدعاة، على هدى وبصيره، وشهادةُ مثل الأخ ناصر حرية أن تذكر. والذكرى تنفع المؤمنين.
(1)
للقرآن الكريم طريقة فريدة ليس لغيره شبه منها قريب في تحديد مفاهيم الأشياء، يعرض لها في آياته المحكمات البينات، وهي طريقة ترتكز على نظرة القرآن الكلية الشاملة للوصول بالعقل الإنساني إلى القناعة التي تقود الإنسان إلى التسليم بكل ما يعرض له القرآن الكريم أمراً ونهياً، ترغيباً وترهيباً، قصصاً وأمثالاً، وغير ذلك مما يفسح للقلب المؤمن في دائرة العمل الموصل إلى رضوان الله عز وجل في الآخرة.
(2)
ومما يجعل للمفهوم الذي يعرض له القرآن زيادة فضل في القناعة، أنه يأتي في دلالة الحكم الشرعي وصورته، لأنه تكوَّن مفهوماً كاملاً من مجموع آيات طلبية أمراً أو نهياً، أو آيات خبرية سيقت مساق الطلب أمراً أو نهياً كذلك، أو من آية واحدة طلبية أو خبرية كذلك أمراً أو نهياً، ويكون المفهوم الذي حددته الآية الواحدة في قوة المفهوم الذي حددته الآيات المتعددة، إذ المفهوم القرآني يكسب قوته من قوة النص القرآني، والنص القرآني الواحد، قوته كقوة النصوص المتعددة.
(3)
ومن المفاهيم التي أظهرها القرآن إظهاراً جلياً، وفي مواضع كثيرة منه مفهوم الولاية، وقد ركز القرآن على هذا المفهوم وأولاه عناية كبيرة، وأعطاه حظاً فائقاً من الرعاية والتوضيح أكثر من أي مفهوم آخر، لأنه هو الذي يضع الحد الفاصل بين الناس، ويميز بعضهم من بعض على أساس لا يقبل الانتقاض أو الخلل.
وقد ظهر هذا المفهوم مفهوماً إيجابياً بعد الهجرة، وبعد أن صار للمسلمين دولة تحميهم وترهب عدوهم، وتمنع أرضهم أن تنال، وبعد أن ظهر لهم مجتمع يستظل بعقيدة التوحيد وشريعة القرآن، ينفي بهما عنه كل مالا ينسجم معهما سواء في ذلك المبادئ والأفكار والأفراد.
(4)(1/112)
وكانت المدينة مستقر هذه الدولة، والأرض الصلبة التي نشأ فوقها المجتمع المسلم، وصادف ذلك وجود أفراد لم يرضوا عن التحول الذي حدث فوق أرضها، فأخذوا يسعون في سر وعلن لوضع العقبات في وجه ذلك التحول، يظنون بذلك وبالأفكار والمبادئ التي ملأت سخائمها قلوبهم أنهم قادرون على تحقيق مرادهم في الأرض التي نشأوا فيها، وترعرعوا فوق ترابها، ولكن غاب عنهم أن الأرض ليست ملكاً لمن ينشأ فوقها وهو يحمل في صدره عداوة الإنسانية، ويبغي الشر لها من ورائها، ومن خلفها، ولكنها ملك لله وحده، والله يصرف ملكه كيف يشاء، والأرض يورثها الله عباده الصالحين، وهل محمد × وأصحابه رضوان الله عليهم إلا أولئك، فمن أحق منهم فيها إذاً؟
(5)
ووجد أيضاً فئة أخرى كانت تسعى في خفاء بعد أن أخذت العهود والمواثيق عليها بموالاة الدولة الجديدة، مع الأفراد الذين لم يداخلهم الرضا عن التحول الجديد الذي حدث فوق أرض المدينة، للحيلولة دون تحقيق الدولة غايتها التي نصبتها أمامها من أول يوم قامت فيه، هذه الفئة هم اليهود، فالتقت الفكرة اليهودية بفكرة المنافقين، وصخبتا بحقدهما على الإسلام وأهله، ظناً منهما أن الأمر يسير، وليس في تحققه مشقة تذكر، بيد أن الأمر كان أعظم وأشد صعوبة وعناء مما صورته لهم نفوسهم وأطماعهم وأحقادهم معاً.
(6)
في مثل هذا الجو لا بد وأن يوضع خط فاصل بين ولاءين، ولاء لله ولرسوله، وولاء لغير الله ولرسوله، وأن يميز كل ولاء من الآخر بسماتٍ يُعرف بها لا تختلط ولا تغيب أو تضل في سمات الولاء الآخر، فمن شاء من الناس فليكن ولاؤه لله ولرسوله، ومن شاء منهم فليكن ولاؤه لغير الله ورسوله.
(7)(1/113)
والولاية لله هي الاصطباغ بالصبغة القرآنية، ونبذ كل صبغة لا تنسجم ولا تتفق معها، وهي الشعار الذي حملته الدولة، وأعلنته من أول يوم قامت فيه على أرض المدينة، والاستمساك به هو الذي يحبس الخوف والأذى عن المستمسك به في الحياة الدنيا وفي الآخرة، وهذا ما أوحى به الله لنبيه (صلوات الله عليه وسلامه) {أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ الله لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ * الَّذِينَ آمَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ * لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَياةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ لاَ تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ الله ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} بل أن الولاية لله تضع الإنسان في منزلة رفيعة، تقضي بوقوع النقمة من الله عز وجل بعدم لزومها. وهذا ما يشير إليه الحديث القدسي: "من عادى لي ولياً فقد أذنته بالحرب".
(8)
وحتى لا يختلط الأمر على مؤمن أو كافر في معرفة مكانه من هذه الولاية أو تلك، فقد رسم القرآن خط ولاية كل منهما، فقال في ولاية المؤمن: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} وقال في ولاية الكافر: {وَالَّذينَ كَفَرُواْ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} فلم يبق بهذا غموض تنبهم معه الطريق الموصلة إلى أسباب الولاية لله ولرسوله، أو تنبهم معه الطريق المفضية إلى المخالفة عن الولاية لله ولرسوله، إذ أن الإيمان له ضوء يدل على الأسباب الواصلة لولاية الله ولرسوله، والكفر له ظلمة ينقطع فيها الرجاء للاهتداء إلى هذه الأسباب فلا يكون اختلاط أو خوف من الاختلاط، فلا يكون حجة للناس على الله أو على رسوله × يوم القيامة بعد هذا.
(9)
وقد يحمل الميل الشعوري المؤمن على شيء من الولاء تكون النفس(1/114)
معه حائرة وجلة، لا يحمل عليه إلا الشفقة والرأفة على مصير إنسان أو فئة يمت أو تمت بصلة القربى والعشيرة إلى ذلك المؤمن فيهم لسانه بوحي من شفقة قلبه ورأفته أن يتحرك بكلمات يدعو بها ربه أن ينزل رحمته أو يدفع عذابه عن ذلك الإنسان، فيقطع القرآن عليه ذلك الولاء الشعوري من غير نظر إلى صلة القربى والعشيرة بآية يبدأ فيها بنهي نبيه × فيقول: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُواْ أَن يَسْتَغْفِرُواْ لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُواْ أُوْلِي قُرْبَى مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ} وقد يقع في وهم بعض المؤمنين ما كان من إبراهيم عليه السلام نحو أبيه من استغفاره ربه له فيدفع ذلك عنهم ويقول: {وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لأَبِيهِ إِلاَّ عَن مَّوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لله تَبَرَّأَ مِنْهُ} وبذلك يتلاشى ذلك الوهم من نفوسهم وتطمئن قلوبهم إلى أمر الله عز وجل لهم بألا يستغفروا للمشركين.
ومثله قوله تعالى: {يأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ آبَاءَكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاءَ إَنِ اسْتَحَبُّواْ الْكُفْرَ عَلَى الإِيمَانِ وَمَن يَتَوَلَّهُمْ مِّنكُمْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ}.
(10)
وما كان ذلك النهي لهم عن الاستغفار لأولئك المشركين، إلا لأنهم شاقوا الله ورسوله، وخالفوا عن شريعة السماء، وتنكبوا طريق الوحي، وإلا لأن الاستغفار لا يحمل عليه إلا الميل الشعوري نحو المستغفر له، وهذا أول مراتب الولاء التي سيعقبها الولاء الحسيُّ الظاهر الجاهز، وهذا ما هو كائنٌ اليوم فينا ثم يكون التقارب والتمازج، ثم يكون ذوبان الأمة بفكرها وقيمها وأخلاقها فيمن كان له منها الولاء.
(11)(1/115)
ولعل هذا الأخير هو السبب الأقوى في أمر القرآن بنبذ الولاء مهما كان نوعه، شعورياً كان أو حسياً، خصوصاً في أول عهد الدولة الإسلامية الأولى، لأنها هي التي ستكون القدوة لكل دولة تأتي من بعد، وإن كنت استغفر الله من ذلك، فعندي أن الدولة الإسلامية وقد قامت على أرض المدينة لا ينبغي أن توصف بالأولية، لأن هذا الوصف مشعر بأن ستكون دولة ثانية وثالثة ورابعة وهكذا، وهذا إقرار بالأخطاء التي ارتكبت والآثام التي اجترحت في حق الدولة التي شادها رسول الله صلوات الله عليه، بل ينبغي أن لا تقرن الدولة بهذا الوصف ليظل معنى الدولة على الأقل -قائماً في صدور المسلمين، وإن كانت شرائع الإسلام معطلة اليوم ومنذ سنين طويلة في معظم الأرض، وليس لهذه الشرائع قوة سلطان تدفع عنها أذى المغرضين والمعتدين وتقيم سوراً منيعاً حول حماها المقدس، وإن كانت الأرض كلها هي حمى دولة الإسلام منذ وجد الإسلام عليها، لأنها ميراث الصالحين بإذنٍ من خالقها ربها سبحانه.
(12)
والقرآن كشأنه في كل قضية يعالجها، لا يكون النهي منه أو الأمر دفعة واحدة، بل يسير في ذلك متدرجاً في خطوات متعددة، وذلك أدعى إلى الإقناع بأي مفهوم يريد الوصول إليه وتأكيده في أذهان المخاطبين.
وهذا المفهوم الذي نحن بصدده -مفهوم الولاية-، سار فيه القرآن بياناً وتحقيقاً في ثلاث دوائر، الثانية منها أوسع من الأولى، والثالثة أوسع من الثانية، وبذلك اكتمل المفهوم اكتمالاً لم يبق للعقل المجرّد معه مجال للإنكار أو الإعراض والصد، وهذه كما أسلفنا طريقة القرآن الفريدة.
(13)(1/116)
فالدائرة الأولى وهي أصغر الثلاث حددتها آية سورة التوبة: {يأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ آبَاءَكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاءَ إَنِ اسْتَحَبُّواْ الْكُفْرَ عَلَى الإِيمَانِ وَمَن يَتَوَلَّهُمْ مِّنكُمْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} دائرة القرابة الدانية، فالأبوة والأخوة والبنوة إذا كانت مجبولة بالعداوة لله ولرسوله، وهي تؤثر الكفر على الإيمان فمنبوذة مبتوتةٌ فهي وشائج واهية لا تقوى على حمل تبعات الإيمان، لأن للإيمان تبعات جسيمة على الإنسان أن يعد نفسه إعداداً سليماً لكي يقتدر على حملها ووضعها في موضعها الملائم، ومما لا ريب فيه أن وشيجة القربى تعين على حمل تلك التبعات، وتقوى عليها، إن كانت تحمل الولاء لله ولرسوله، أما إذا كانت خاوية من الولاء، فخواؤها ذلك يضعفها ويوهيها فلا تقوى على حمل أية تبعة من تلك التبعات.
(14)
وإذا رفض القرآن وشيجة القربى بالرحم التي تحمل عداوة الله ورسوله، ونهى المؤمنين أن يوالوا من أثر الكفر على الإيمان، فرفضه لوشيحة القربى بالعشيرة ستكون أولى وأشد، وهي الدائرة الثانية التي تحدد فيها مفهوم الولاية، وجاءت آيات عدة شكلت هذه الدائرة، فمن ذلك قوله تعالى: {يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَن يَتَوَلَّهُمْ مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ الله لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ}. فالولاية لله لا تعرف المصانعة والمداهنة، ولا يحسن عقلاً أن يصانع أو يداهن إنسان لانتمائه القبلي في حين يبطن العداوة لله ولرسوله.
(15)(1/117)
والنصرة لا تطلب من عدو لعدوه، وإذا كان الوحي هو الكاشف عن هذا العدو أو ذاك فيجب أن يتخذ عدواً، ففي ذلك استجابة للوحي في أمره أو نهيه، وصرف العقل عن ذلك معناه المخالفة عن الوحي ونبذه، وهذا هو المشاقة لله ولرسوله، وموالاة العدو الذي حذر منه القرآن تعني أن الموالي لهذا العدو قد أصبح منه، فهو يحب ما يحب، ويكره ما يكره، فيقعد عن جهاده، وتنحيته عن طريق الدعوة أن وقف فيها يصدُّ عن الغاية التي يجب تحقيقها، وهذا أمر لا يغيب عنا في كل زمان التقى فيه الإيمان الكفر على صعيد واحد، وتجسد ذلك اللقاء في صراع نشب بينهما.
(16)
أما الدائرة الثالثة لتحديد هذا المفهوم فهي أوسع الدوائر الثلاث وأشملها فكل ما يند عن الدائرتين الأولى والثانية يقع في هذه الدائرة فلا يفلت منها، وبذلك يحكم أمر المفهوم أحكاماً دقيقاً لا يسع العقل معه إلا الإدغان والتسليم. هذه الدائرة تشكلها آيات كثيرة من القرآن الكريم منها قوله تعالى: {يأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ}، وقد يحمل على الولاية هنا مع الكفر وأهله ما يكون من نفع دنيوي، أو مغنم مادي، يدفع بالراغب فيه أن يتسنم كل صعب وذلول ليناله أو ينال بعضاً منه، وقد يكون له ما يرغب وقد لا يكون، فإن كان فما يناله وبال عليه في الدنيا يزرى به عند المؤمنين، وشر يحل به في الآخرة يذيقه عذاب الهون.
(17)
وبهذه الدوائر الثلاث التي شكلتها هذه الآيات الكريمات يكتمل مفهوم الولاية الذي به تحدد علاقة الإنسان في دنياه فيصيب من أوليائه نصرتهم التي يصعد بها في ملكوت الرحمة، أو تحيف عليه فتركسه في حمأة النقمة.
(18)(1/118)
ومن هذا الذي تقدم كله، ندرك أن أُميّة الحرف التي لا يكون منها إلا العجز عن القراءَة والكتابة ليست هي الأُميّة التي يعاب بها الفرد أو تعاب بها طائفة أو طوائف من الأمة، فلو كان بها تُعاب الأمة لما كانت مِنّة من الله سبحانه عليها: {لَقَدْ مَنَّ الله عَلَى الْمُؤمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُواْ عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُواْ مِن قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ}، بل أنها الأمية التي يفرق فيها الفرد أو الطائفة، أو الأمة بقضِّها وقضيضها في الكفر، والتيه المطبق بظلمته، بموالاتها الكفر وأهله ونبذها كتاب ربها، وسنة نبيها، والخروج عن منهج السماء، الذي سعدت به الأُمة ردحاً طويلاً من حياتها، فتكون بذلك كله وغيره -مما يُشبهه- على أُميَّة الولاء، التي تذهب بها بصيرتها، وتفقد بها التسليم والإخبات لربها ونبيِّها، ودينها، بل ولغتها، فانظر من تكون جيال هذا الإثم العظيم الشنيع؟! وضع ولاءَك حيث شئت!
? ?
كلمة راضية مرضية
وأخيراً: فإني أقول قولاً، تذكيراً لما نُسي، وتبييناً لما قد خفي، وتقريراً وتوكيداً لأمر حفي.
لكلٍ من الفريقين سلفٌ فيما ذهب إليه، فلماذا يُنكر كلٌّ منهما على الآخر ما سبق هو به إليه، ولا يُنكر هو على نفسه من قبل ذلك.(1/119)
وكل فريق منهما له ضلوع في مذهبه بما جرى عليه سلفه، ولقد علمنا أنَّ من أدب العِلم، أن ظنك على أنك على صواب فيما ذهبت إليه، وأن الذي خالفك فيه -وظنك أنه على خطأ فيما ذهب إليه- لا يؤكد صوابك، بل يجعل صوابه مرجوحاً عندك. ولا ينفيه ليجعله خطأ محضاً، فيكون ذلك زيادةً في ترجيح صوابك فإذا ما عبت رأيَ غيرك، فأنت -ولا بدَّ- معيبٌ برأيك عنده، ودعواك أن دليلك أقوى وأظهر وأهدى، هي دعواه نفسها، فتسقط الدعويان بذلك، ويكون إعذار كلٍّ منهما صاحبه، من غير نكيرٍ من أحدهما على الآخر، وهذا أدب جرى في الناس حيناً، ثم ولَّى مدبراً ولم يعقِّب.
إذاً فالقول قول من يقول: أنَّ الدليل معه فيما ذهب إليه، وقد أحاط علماً بالمسألة التي يرى قوله هو الأولى والأحق بدليلها الذي يراه دليلاً، فإن وافاها بحقِّها هذا، فهو ما يراد وينبغي، من غير أن تقوم للخلاف قائمةٌ بين المختلفين في المسألة، بل إننا نوجب أن يكون مثل هذا الاختلاف -لو كان- سبباً واصلاً بين المختلفين ولا يتم هذا على الوجه الحسن إلا بانتفاءِ الأهواء، وإيثار الحق المحبوب، وتقديمه على كلِّ مرغوب ينافي
الحق المطلوب.
وهذا لا يظهر على جليَّته، ولا يبين على حقيقته، ولا يُفرح به إلا إن رُئيَ على أهله، وأهله هم أهله، الذين أخذوا من العلم بحظٍّ وافر، وامتاروا بضاعتهم منه، ومن سوقه الرائجة، التي تفوح بأطيب الطُّيوب وأغلاها وأنفسها.(1/120)
ولا تثريب على من كان على قول في مسألة أو في مسائل، بدليل كان يذهب به إلى ذلك القول، ثم رجع عنه إلى غيره، إذ قد ظهر له الحق بدليل آخر في سواه من باب "الحق أحق أن يُتبع" وأجدر ان يُتحوَّل عنه إلى ما بدا أنه الحق، ولعله بتحوله عن القول السابق، قد تحول من الصواب إلى الخطأ، لكنه الاجتهاد الذي لا مناص منه، ولا حَيْد عنه، ولا محبوب بكرهٍ أو برضا، إن كان لا يخالطه هوى أو تَجَهُّمٍ كالح بسوء ظَنٍّ لمن يرى مخالفته، فيكون في كلتا الحالتين على حقٍّ، حقٍّ ناسخ، وحقٍّ منسوخ، وليس يُعاب العاَلِمُ أو طالبُ العلم إن كان علمه قد التُمِس على مثل ذلك.
فلمَ يكون التلاحي والتنابذ والتعادي في أمرٍ قُطع عنانه، وكُسر عظمه، وذلَّ متنه، ولم يبقَ شيءٌ منه يُقال فيه، بزيادةٍ أو بنقصٍ؟ فهلاَّ وسعَ الأخيار العقلاء بعضهم بعضاً، وصاروا إلى ألفةٍ لا يبين منها الواحد إلا بكُفر صُراح يُعرف به أنه كافر، والتقوا على كلمةٍ سواءٍ لا يكون عنها نفرة إلا من ردِّ العقل إلى جنونٍ يحكم به على صاحبه أنه مجنون، أما من كان صبياً، فهو لم يدرِ ما العلم ولا العلماء(33) !!
رسول الله في ذكراه
الرسول والرسالة، والنبي والنبوة
على صعيد الزمن، وفوق أديم الحياة، تجري أقلام القدر، تخط آيات القدر الإلهية، تبثُّها في تنسيق بديع وتنشرها في نظام محكم دقيق، بتقدير العزيز الحكيم {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ}.
وليس من آية من تلك الآيات إلا وقد أوفت على الغاية بما أودع الله فيها من قدرة، فتبدو أعظم من أُختها، وأكبر من نظائِرها.
آيات تَحار فيها عقول المبطلين الجاحدين، أما المؤمنون الصَّادقون فيسلمون لها تسليماً أو يقولون: آمنَّا بها، إنها الحق من ربنا.(1/121)
وتوجت هذه الآيات كلُّها أكبرُها وأجلُّها، ألا وهي: نبي الرحمة والملحمة المبعوث نذيراً وبشيراً للخلق كافَّة، آيةٌ تجلت فيها خصائصُ الآيات جميعها، والتقت في سرِّها أسرارُها كلُها، ودارت في فَلَكِها حقائِقُها الظاهرةُ والباطنةُ بأسرها، وازدهت على الكون كله بثوب النبوة الأقدس، وتسامت على الدهر بنور الرسالة الأَسنى، وتناهت إليها هذه الآيات كلها في طواعية مختارة.
وتفجَّرت هذه الآية الكبرى آياتٍ بيناتٍ، تسعى في أرجاء الحياة الإنسانية كلها، في عطاءٍ جمٍّ، وسخاءٍ ثَرٍّ، وعطف نائِل، وهداية بارَّة، ورحمة سابغة، وشفقة غامرة، وشجاعة فريدة، وإنسانية تجاوزت في قُدُراتها وخصائِصها إنسانية الناس جميعاً، وذكاءٍ متوقد غابت بظهوره شموس المعرفة، وتواضعٍ نبيل لم يؤذن لتواضع معه أن يظهر، وقيادةٍ ملهمةٍ طأطأت لها القيادات هاماتِها، وحكمةٍ يانعةٍ بصيرة، وقفت أثرها حكمةُ الحكماءِ، وإنصافٍ من النفس، عجزت عنه حُلوم الحلماء، وصبر على الأذى، قَشْقَشَ جلادةَ الأقوياءِ، وعبادةٍ متبتلةٍ، أعجزت أقدامَ العباد، وزهد في الدنيا، أحزنَ قلوب الزُّهاد، وبأسٍ مرير تقطعت به مِرَّة أهل البأس، وخُلقٍ بعيد المنال، لاذت به أخلاق الأنبياءِ، واستشفعت به.
آيةٌ أشرقت بها الظلمات، وصَلُحَ عليها أمر الناس، ولوت إليها أعنَّتها ركائِبُ الإيمان، وتدافعت إلى وِرْدِها رغائِبُ الهدى، وصارت بها صحراءُ الجزيرة مهتوى قلوب العلماءِ، وتناهت إليها روافدُ الحق والجزاء، وانقشعت بها عن العيون الغواشي، وخمدت بقوتها رياح الشر السوافي.
آيةٌ مرموقة في الأَرض وفي السماء، تراها العيون، وتسمعها الآذان، وتعقلها القلوب، تنزَّل بها جبريل عليه السلام بأمر ربه، ليقرأها الكونُ كلُّه، بسمائِه وأرضه وأفلاكه، وتُخومه وأشجاره وأنهاره وبحوره، وإنسه وجنه وملائِكته وهوائِه، {وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ}.(1/122)
آيةٌ كُتِبت حروفُها، ونُسِجَت معانيها بخصائِص النبوة الخاتمة، وأنبلُ خصائِص البشرية، لقفتها بشغفٍ رغيبٍ أُذُنُ كلِّ واحدٍ من أصحابه، واستقرت في وجدان كل واحد منهم، وامتزجتْ بأرواحهم، وسَرَت في عروقهم فقرؤوها حركة دائِبة تمشي في ليل ونهار، بكل معطيات الخير والحق والجمال، {لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ الله أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو الله وَالْيَوْمَ الآخِرَ}.
ثم رأوْا تأويلها الواضح المبين فيه، بشراً رسولاً، يَرُدُّ غَرْبَ العقول إلى الحقيقة التي غابت عنها وهي ماثلة أمامَها، حين قال بعض الشاغبين: لولا أُنزل إليه مَلَك. فرد عليهم بوحي ربه: {وَلَوْ أَنزَلْنَا مَلَكاً لَّقُضِيَ الأَمْرُ ثُمَّ لاَ يُنظَرُونَ * وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكاً لَّجَعَلْنَاهُ رَجُلاً وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِم مَّا يَلْبِسُونَ}، {قُلْ إِنَّمَا أَنَاْ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ}، {سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنتُ إَلاَّ بَشَراً رَّسُولاً}.
رأوا تأْويلها فيه حين سمعوه يصرِّم آذان نفر تنزَّهوا عن شيء ترخَّص فيه، فيُذكِّرهم بأنَّه وإن فاق البشر بنبوته لكنَّه يظل بشراً مثلهم، "ما بالُ اقوام يتنزهون عن الشيء أصنُعه، فوالله إني أعلمُهم بالله وأشدُّهم له خشية"، توجيه محكم، لا يُنْصِفُ فيه نفسه من نفسه، فقد جعله الله ميزاناً دقيقاً لكنه يُحذِّر به أقواماً يأتون من بعده، يكادون يفوِّقون أنفسهم حتى على الأنبياء، ويبسطون أيديَهم وألسنتهم بالسوء والأذى في غير ورعٍ ولا علم.(1/123)
رأوا تأويلها فيه، وهو يطوي الليالي والأيام ذات العدد ساغباً، لا يجد في بيت من بيوت أزواجه كسرَة خبز، ولا تَمْرَةً يُهَدِّئ بها بعض مسْغبته، فيقول يُذَهِّبُ وجهه الأغر: إني إذاً صائِم. لا ليُعَلِّمُ الناس بذلك الصبر على الجوع واحتمالَ آلامه فحسب، بل ليعلمهم أن اللقمة شيء شريف، لا ينبغي أن تُنال إلا بشرف، ولا يُجمل بالشريف أن يُذِلَّ نفسه من أجل شيء شريف، إذ الشرف معدن نفيس كل ما يصدر عنه نفيس مثلُه.
رأوْا تأويلها فيه، حين أقبل عليه أعرابي، وضع كلَّ غلظته وفظاظته في يده، فجَبذه بردائِه جَبْذة شديدة حتى أثَّرت في عُنقه، صلوات الله وسلامه عليه. وقال له: يا محمد (هكذا)! مُرْ لي من مالِ الله الذي عندك، فما يزيد
صلوات الله عليه على أن يبتسم ثم يَأمُرَ له بعطاء.
حلم تقاصر عنه الحلم نفسه، وعفوٌ ما يطيقه العفو نفسه، وصفح يستحيي منه الصفح نفسه.
رأوْا تأويلها فيه وهو يقف في غزوة أحد كأحد، مُرْسياً قدميه في الأرض، تنهال عليه السهام، وتنعطف عليه الرماح، وتعقره الحفر، وتُحدِق به السيوف، كلها طامعة أن تأكلَ ولو مُضغة من جسده الطاهر، وتحيط به سنابك الشِّرك من كل جانب فلا ينال شيءٌ من ذلك من شجاعته، ولا يَفُلُّ من غرب بأسه.
طود شامخٌ يقف إلى جانب طود شامخ مثلِه، يُضرب بثباتِه المثلُ الأمثلُ في الشجاعة وشدةِ البأس.
رأوْا تأويلها فيه وقد أتاه حِبُّه زيدُ بن حارثةَ يشفع في امرأة من أشراف قريش سَرقت أنْ لا يقيم عليها الحدَّ، فقال: "والله لو أنّ فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها، إنَّما أهلك منْ كان قبلكم أنهم إذا سَرَق فيهم الشريف تركوه، وإذا سَرَق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد".(1/124)
رأوْا تأويلها في ذلك كله وغيره، فعاشوا في أعطاف نبوَّة النبي، وأووا إلى ظلِّها في شدة ورخاء، في خوف وأمْن، في كرب وفرج، في ألم وفَرَح، في رغْبة ورهبة، في ضَعْفٍ وقوة، في فقر وغنى، في عُسْر ويُسْر، في مكره ومنشط، في ظمإٍ وري، في جوع وشبع.
أمة بأسرها تعيش في صدر هذا النبي، منذ أن وُلدَت رسالته، وإلى أن تقوم الساعة، حتى إذا سيقت الأمم إلى عَرَصات الآخرة قام عليه الصلاة والسلام ثم خرَّ ساجداً بين يدي ربه قائِلاً: أمتي أمتي. فيُخْرجُ الله من نار جهنم كرامة له، كل من قال لا إله إلا الله.
ونبوة تعيش في هواجر القلوب والأرض بأسرار الوحي لا ترى لنفسها حقّاً على الناس ما لم يكن قد استوفى الناس حقّهم منها أولاً، فإنما كانت نبوة لتقيم الوزن بالقسط فيهم، حقّاً مفروضاً عليها من بارئِها تجري به رخاء، تُصيبُ به من تشاءُ بإذن ربها، غير مُؤثرة نفسَها عليهم بشيءٍ من زينة الدنيا، فقد أدَّبه سيده وخالقه، {وَلاَ تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مِّنْهُمْ} وأغناه بما لم يكن لغيره من البشر، {وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعاً مِّنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ}، فكان في أعين الناس أكبر من كل مَلِك، وأملك للمال من كل غني، وأكثر تابعاً من كل متبوع، بل أين الملوك، وأهل المال، وأصحاب الرياسة منه؟ وهل تُقَاسُ الأرض بالسماء؟ وهل تُذْكرُ النجوم الغائِرة مع الشمس المنيرة؟
ماذا يَصْنع بالمُلْك والملوكُ قد أقبلت عليه، إما راغبة وإما راهبة، "إنما أنا ابن امرأة كانت تأكل القديدَ بمكة"؟ وماذا يصنع بالمال والأرض قد طويت له بأرجائِها، "وإنَّ مُلْك أُمتي سيبلغ ما زُوي لي منها"؟ وماذا يصنع بالرياسة والسمعة، وقد جاءته تسعى على استحياء ووجلٍ: "نُصرت بالرعب من مسيرة شهر؟".(1/125)
لو كان للملوك مَلِكٌ غير الله لكان محمداً، ولو كان للمال مالك غير الله لكان محمداً، ولو كان للسيادة على الثقلين غير الله لكان محمداً، أليس محمد صلوات الله وسلامه عليه هو الآية الكبرى التي انْخَنستْ بظهورها الآيات؟
آية اعتلت السماء عرشاً، وتبوأت الأرض داراً، وفُتِحت لها أبواب الحصون المنيعة والقلاع طواعية، وارتقت الإنسانية كلها في سُلَّمها الصاعد في أسباب السماء، وركب الربانيون والأحبار بما استُحفِطُوا من حق وهدى، وانجابت بها عن الأرض غواشي الظُّلْم والظُّلَم، وتهاوت أمام عدلها عروش الطواغيت.
آية أخذ كل واحد من أصحابه رضوان الله عليهم منها قدر طاقته واستعداده، تفاوتوا فيها، فكان منهم المكثر ومنهم المقل، والمقل منهم كان كالمكثر فيمن بعدهم والمكثر فيمن بعدهم كان كالمكثر فيمن وراءهم، "خير القرون قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم".
ثم أعقبتهم قرون، وكل قرن يأخذ ممن قبله، حتى آل ميراث النبوة إلى قرن كثرت فيه نوابتُ السوءِ، وتعاظمت طغام الهوى، وأركضتْ خيلها الهزيلة خُيلاءُ الجهل، وطافت بليل ذئاب الغدر والختل، وأشرفت من فوق متن الزمن الشقي المكروب رؤوسُ الكِبْر الغريب، وتسربلت بسرابيلِ العلَم أجسادٌ فتك بها الحسدُ وسوءُ الظن والاستكبار عن الحق، ودَقَلُ العلم وزغَلُ الريبة، وأمسكت برُمَّة المسؤولية أيدٍ لا تفتأْ تنقض غَزل الصَّدر الأول من الصحابة والتابعين، واعتلت كرسيَّ العدالة قاماتٌ فارعة ازَّينتْ بأردية الكهنوت وأذناب الجحود والتنكر، فطمست أو كادت معالمُ العدالة التي نشرت الأمن في ربوع الأرض رَدْحاً من الزمن.(1/126)
أخذ هذا القرن على نفسه أن يُجَمِّد الإسلام بصقيع البلاد التي صدَّرت قوانينها وأنظمتها، وأجلبت عليه بزيف حضارتها، التي دمرت الإنسان وأحبطت سعيه الجاهد في إعلاء صرح الخير في الأرض، كما أخذت على نفسها أيضاً أن لا تذكر نَبيَّها صلوات الله وسلامه عليه في كل عام إلا مرة أو مرتين، ثم تطمسه بضباب النسيان الثقيل، فلا تذكره وهي تُبصر بأعدائِها ينقضون أطرافها في عقيدتها وعبادتها وجهادها وأخلاقها وعلمها وقيمها وتاريخها ولغتها وأرضها وعِرْضِها وكرامتها، فتكون لهم في كل واحدة من هذه ذكرى تحفزها إلى كفت كل الأنظمة والقوانين المصدرة إليها في أُتون الحق المتأجج بشوقه العارم إلى بعث الدفء في أوصال المجتمع المسلم ووصله بالمجتمع الأول الذي أقامه صاحب الذكرى، فلا أدري والله كيف يطيب لنا أن نحتفل بذكراه في يوم لم يُرِد هو أن يكون.
إنه والله لبلاء ليس بعده بلاءٌ أن لا يُذكَرَ محمد صلوات الله وسلامه عليه في كل يوم بل في كل لحظة من لحظات الحياة، لأنه هو الذي بنى حياة المسلمين وأرسى قواعدها، فمن حقه علينا أن يعيش في قلوبنا آية متلوة بالحركة قبل الحروف ليكون لنا نصيب من قوله تعالى: {قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ الله فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ الله} ونصيب من قوله: {لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ الله أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو الله وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ الله كَثِيراً}.
حينئِذ يكون الاحتفال الحق، أما احتفالنا هذا فمعذرة لك منه يا ربَّنا، فليس هذا من قدر نبيِّك، ولا به نكافئه، ونستغفرك اللهم منه، ونسألك ربَّنا أن تجزيه عنا وعن أُمته خير الجزاء.
? ?
التديّن بين الشكل والمضمون
أو بين القشر واللباب(1/127)
الأمة التي لا تعرف قدر نفسها، هي التي تجعل من مقوِّماتها الموروثة حقلاً موروثاً للتجارب، تَعبث بها العقول والأقلام، لينتهي الأمر إلى التفريط فيها، إما بتغييرها، وإما بسلخها عن ماضيها، حتى إن الناظر إليها ليكادُ يظنها -وهي أشياء متناثرة مقطعة- بعضاً من أجزاء الأرض التي لا قيمة لها، تمتد إليها يد الإنسان لإزالتها وإخفائها.
والأمة المسلمة أثْرَت نفسها في الماضي بولائِها لدينها -وهو أعظمُ مقومات وجودها- والتصاقها بعقيدتها، وإسباغها على نفسها ثوب الإيمان الذي صنعه لها نبيُّها بوحي من ربه، وألبسها إياه لتكون به أُمة متميزةً عمن سواها من الأمم.
ولقد ظلت الأُمة المسلمة قوية في نفسها، قادرةً على العطاء قروناً طويلة، رغم ما اعْتراها من ضعف في فترات متقطعةٍ من تاريخها، كان دينها يُقصي عنها هذا الضعف، وتمضي به إلى غايتها تشيد المجد والعزة لنفسها، والأمن والسعادة لغيرها.
فلما أنْ خالفت الأمة عن دينها، ونزعت ثوب إيمانها، وأزهقت الميراث الذي آل إليها من السابقين الأولين، لم تعد قادرة -ليس على العطاء- بل على التماسك والثبات في وجه رياح الفكر التي تهب بين الحين والآخر من كل الآفاق والأقطار تنزعها من بقايا مقوماتها التي صارت تشبه الأحلام المخْتلطة، وتحكي الرؤى الواهمة، حتى أن الأجيال القادمة سوف لا تراها - لا أحلاماً مختلطة، ولا رؤى واهمة - بل ستكون في أعينها سراباً مضطرباً بقيعة، يقطع أنفاسها، ولا تدرك منه ريّاً لظمئِها.(1/128)
وتذكيراً مني لشباب الإسلام وشيوخه، وعلمائِه ودعاته، وأوليائِه وأعدائِه معاً، أود أن أُذكِّرهم بحقيقةٍ من الحقائق الكلية الكبرى التي وضعها لنا نبينا محمد × بقوله: "من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد"، ولقد رأينا الكثيرين اليوم يُقصي هذه الحقيقة عمداً أو غفلة وجهلاً، أو إنه لينساها، حتى لكأنَّ قائِلها ليس النبيَّ المعصوم صلوات الله وسلامه عليه، فصارت تحدث أشياء، وتغير أشياء، وتقدم وتؤخر أشياء وأشياء، فكانوا بذلك كأهل الكتاب، والذين قال القرآن فيهم: {فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ الله لِيَشْتَرُواْ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً}.
ومما أحدثَ الناس في زماننا هذا مقولة واسعة الأرجاء، ممتدة الأطراف، ليس لها بداية، ولا تعرف لها نهاية، زيَّنها في أعيُنهم العجز والجهل والهوى جميعاً، تلكم هي: "على المسلمين اليوم أن يدعوا القشور ويهتموا باللباب"، أو بعبارة أخرى: "أن يأخذوا المضمون ويتركوا الشكل"، وصارت هذه المقولة شعاراً له أنصارٌ ودعاة وأقلام وصُحف ومناهج وعقول.
وبالرغم من كل هذا الحشد الذي التف حول هذا الشعار فإننا لم نجد حتى الآن ترجمة واضحة له، أو تحديداً دقيقاً لمعناه، لذا فإنني أجدني مُلْجَأً أنْ أُناقِشَ هذه المقولة مناقشة علمية، مطَّرحاً جانباً الحماسة العاطفية، والانفعالات الوجدانيةـ والسورات النفسية، في فقرات متتابعة، آخذ بعضها ببعض.
•…أولاً:(1/129)
إن القائِلين بهذه المقولة الحادثة، رغم تأكيدهم عليها، والإكثار من الحديث عنها، فإنهم لم يضعوا تعريفاً أو حدّاً لما سموه قشراً، أو لما يسمَّى لباباً ينتهي إليه الراغب في العمل باللباب وحدَه دون القِشْر، ولا أحسَبُهم واضعين، وهل من الحكمة أن يدعوَ واحدٌ أو جماعة لشيء ثم لا يكونوا على بينة منه؟ ثم كيف يستطيع هؤلاء أن يدعوا غيرهم إلى شيء وهم غير قادرين على تعريفه أو بيان حدِّه؟ أو لِنَقُل: لم يضعوا له تعريفاً ولا حدّاً حتى الآن، وقديماً قيل: "الحُكْم على الشيء فرعٌ من تصوره"، وإنَّ دعوتهم إلى هذه المقولة الحادثة لا يمكن أن تصادفَ قبولاً في عقول الناس إذا كانوا هم أنفسهم غيرَ قادرين على الحكم على ما يدعون إليه، هذا إنْ كانوا قادرين أيضاً على الإحاطة به تصوراً في أنفسهم أولاً، أما وهُم غيرُ قادرين على ذلك، فمن الخير والأجدى أن يصمتوا وأن يمسكوا عن مواصلة الحديث في هذه المقولة.
•…ثانياً:
إذا كان الداعون إلى هذه المقولة لم يضعوا لها تعريفاً ولم يرسموا لها حدّاً، فلنضع نحن لها تعريفاً تقريبياً -كما يُقال- ثم لِنَنْظُر، هلى يقوى هذا التعريف على الثبات أمام النظر العلمي المحض بما نورده في الفقرات الآتية، أو أنه لا يثبت. لنقل: "اللباب في المأمورات الشرعية هو ما يدخل تحت الحكم الواجب، والقشر هو ما جاوز دائِرة الحكم الواجب، أما اللباب في النواهي فهو ما يدخل تحت الحكم الحرام، والقشر هو ما لم يتناوله الحرام الصريح في النواهي"، وعلى ذلك فالقشور في المأمورات: كل مندوب أو مباح، وفي النواهي: المكروهات، وبذلك فإنه يجتمع لدينا من القشور ما يزيد على نصف الدين، ويبقى لنا من لبابه أقل من النِّصف، فهل من الوَرَع في الدين أنْ ندع لعذر لا يدرى مأتاه -إلا جهل أو هوى أو غفلة- أكثر من نصف الدين قشوراً، لنأخذ أقل من نصفه لباباً؟
•…ثالثاً:(1/130)
نسأل هؤلاء المفرقين في الدين بين القشر وبين اللباب إذا اتفقوا معنا على التعريف الذي أسلفنا، أين يضعون بعضَ المسائل المخْتَلَفِ عليها، بين الواجب والمندوب، أو بين الحرام والمكروه، حسب التعريف الذي وضعناه لكل من اللباب والقشر، ففي الأوامر نأخذ مثلاً صلاة الوتر، فهي عند أبي حنيفة رحمه الله واجب يأْثم تاركه، وعند جماهير العلماء، ومنهم الشافعي ومالك وأحمد رحمهم الله سنة لا يأْثم تاركها ويثاب فاعلها، ففي أيِّهما نضع صلاة الوتر، أفي القشر أمْ في اللباب؟
وفي النواهي نأْخذ مثلاً، شارب المسكر "من غير العنب"، فإنه لا يُجلد عند أبي حنيفة إلاَّ إذا سكر وثَمِل، وعند الجمهور يجلد لمجرد شُرْبه، وسواءً أكان المُسْكِرُ من عنب أم كان من غير العنب، ففي أيِّهما أيضاً نضع وجوب الجلد لشاربها أفي القشر أم في اللباب؟
وهناك أمثلة أخرى كثيرةٌ تتعارض فيها آراءُ الفقهاءِ تعارُضاً يجعل كل رأي من الآراء المتعارضةِ على طَرفي نقيض مع الرأي الآخر، بحيث لا يمكن إسقاط هذا التعارض القائِم بين هذه الآراء إلاّ بالوقوف عند الدليل القاطِع الصَّريح من كتاب الله عز وجل، ومن صحيح سُنَّةِ النبيِّ ×، وفيهما النَّجاة كل النجاة لمن أراد النجاة.
•…رابعاً:(1/131)
الله سبحانه أنزل دينه على نبيه × ليبني به الإنسان المسلم، فيكون به سعيداً في الدنيا والآخرة، ولا يخفى على ذي عقل أن كل أمر ونهي من أوامر هذا الدين ونواهيه تسهم إسهاماً فعَّالاً في بناءِ هذا الإنسان، سواء أكانت من المندوبات أمْ من المُباحات أمْ من الواجبات، وسواءً أكانت من المكروهات أمْ من المحرمات، لأن جميع هذه الأحكام هي شعب الإيمان التي قال فيها عليه الصلاة والسلام: "الإيمان بضع وسبعون شعبة، فأفضلها قول لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياءُ شعبة من الإيمان"، فأيُّما شعبة نقصت منها كانت نقصاً من الإيمان، وأيُّما شعبة التزَمها المسلم كانت زيادةً في إيمانه، لأن الإيمان يزيد وينقص بالقول والعمل، وهو مذهب السواد الأعظمِ من الأمة.
•…خامساً:
يقول الرسول ×: "إذا أمرتُكم بأمرٍ فائْتوا منه ما استطعتم، وما نهيتُكم عنه فاجْتنبوه" والاستطاعة في إنفاذ الأمر إما أنْ تكون في الفعلِ الواحد، كالصلاة مثلاً، فإذا لمْ يستطع المسلم أنْ يصليها وهو قائِم، وجب عليه أداؤها على الوجه الذي يستطيعه من قعود أو اضطجاع أو غير ذلك.
وإما أن تكون الاستطاعة في مجموع الأفعال، فقد لا يستطيع المسلم أن يصومَ لمرضٍ، في حين يكون قادراً على أداء الصلاة على كل حال، فوجبت الصلاة في حقِّه، وسقط عنه الصيام إن كان مرضه مزمناً، وإلا صامَ حينَ شفائِه، وقد لا يقوى المسلم -لعذر من الأعذار- أن يصلي في المسجد، وهو مأمور بأدائِها فيه، فلا يقال ما دام أنه لا يستطيع أن يصليها في المسجد فلا يصليها، بل يقال: يفعلُ ما يقدِرُ عليه، ويُعذرُ فيما لا يقدِرُ عليه.(1/132)
أما المنهيات، فقد أمر النبي × أُمته أن تجتنبها كلَّها، من غير فرق بين واحد وواحد، فكما أنه نهى عن الزنا، فإنه نهى عن النظر المحرم إلى المرأة، وكما أنه نهى عن شرب الكثير من الخمر، فإنه نهى عن شرب القليل منها، وكما أنه نهى عن سرقة المال الكثير، فإنه نهى عن سرقة الدرهم والدرهمين، وكما أنه نهى عن الكذب على الأمة كلها، فإنه نهى عن الكذب على الرجل الواحد، وكما أنه نهى عن أن تَكْشِفَ المرأة عن جميع جسدها، فإنه نهى أن تكشف عن صدرها أو عن ساقها أو عن أي جزءٍ من بَدَنِها إلا الوجه والكفين، فلا يقال هنا: يجتنب ما يستطاع اجتنابُه، بل يجب اجتناب كل ما نهى عنه، ولا يُعفى إلا عن الناسي أو المخطئ أو المُكره.
•…سادساً:
يقول ×: "لا يَحْقِرُ أحدُكم نفسَه"، قالوا: يا رسول الله كيف يحقر أحدُنا نفسه؟ قال: "يرى أمراً لله فيه مقال، ثم لا يقول فيه، فيقول الله عز وجل له يوم القيامة: ما منعك ان تقول في كذا وكذا؟ فيقول: خشية الناس. فيقول: فإياي كنت أحقَّ أن تخشى".
هذا الحديث ألمَّ بكل ما يخطر بالبال من قشور ولباب، ولم يفرق الرسول × فيه بين شيء وشيء، فمن رأى أمراً يخالف فيه حكم الشرع، ويجانب فيه فاعله الحق، سواء أكان قشراً أم لباباً، فحق عليه أن يأمر بالمعروف أو ينهى عن المنكر، فإن سكت خشية أن يتهمه الناس مثلاً بالتعصب، أو التزمت، أو الاهتمام بالسفاسف من الأشياء، أو مخالفة العرف السائِد، أو الخروج على مألوف الناس، أو تساهلاً وإعراضاً، أو تجنباً لنقد الناقدين، أو لئَلا يقال بأنه لا يعرف حق العصر، أو أنه خارج على مألوف الناس، أو غير ذلك من الأعذار التي لا تقبل عند الله سبحانه، فهو آثم يستحق الذم والعقوبة من الله، وهو محقر نفسه كما وصفه الرسول ×.
•…سابعاً:(1/133)
أسأل المفرقين بين القشر واللباب، هل شيءٌ من القشر لا يدخل في دائِرة الأحكام الخمسة؟ ولعلهم لا يخطئون، إذاً فليقولوا قولاً سديداً: إنَّ اللباب والقشر جميعاً لا يخرج عن دائِرة الأحكام الخمسة، وإذا كان ما قالوا صحيحاً وحقّاً، فإني أُذكرهم بمعنى الحكم الشرعي، وهو: "خطاب الله تعالى المتعلق بأفعال المكلفين على سبيل التخيير أو الطلب تركاً أو فعلاً"، وهل يجوز أنْ يسمى شيءٌ من أحكام الله تعالى قشراً على سبيل الاصطلاح كما افترضنا، أو على سبيل التهوين والغض مما يسمى قشراً، أو التفريق بين الأحكام الصادرة عن الله سبحانه تفريقاً مجرداً لا لشيء إلا لظن فاسد؟ لا أحسب أحداً يؤمن بالله واليوم الآخر يجيز مثل هذا، وهو يعلم أن الله قد أتمَّ النعمة على المؤْمنين، فأكمل لهم الدين: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الأِسْلاَمَ دِيناً}، فكانوا بذلك خير أمة: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ}.
•…ثامناً:
لست أقول بأنه لا تكون أولويات في الدعوة، فلا يقدم شيء على
شيء، فمثلاً إذا رُئي إنسان يُعاقر الخمر وهو تارك الصلاة، فإنه يدعى إلى الصلاة أولاً لأمرين اثنين:
1- إن إثمَ شُرب الخمر لا يبلغ إثمَ ترك الصلاة.(1/134)
2- إنَّ فعل الصلاة يعين على ترك المنكر كما قال الله تعالى: {إِنَّ الصَّلاَةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ}، لكن هذا ليس بمانع الداعية في الوقت نفسه، إذا رأى إنساناً مُرتكباً إثمين، أن يُقدِّم الأصغر على الأكبر منهما إذا كان مرتكبهما أدنى إلى الاقتناع بترك الأصغر قبل الأكبر. فالداعية هو الذي يستطيع أن يُحدِّد الأهم من الأمرين، أو من الأُمور جميعاً، وقد كان النبي × يفعل ذلك مع أصحابه، فكان إذا رأى آحاداً منهم، يفعل كل واحد منهم شيئاً أو يترك شيئاً، لا يدعه يمر إلا وأمر هذا ونهى هذا، حرصاً منه على أن ينال كل منهم الخير وإن كان قليلاً، وأن يعلم أن يحرص كل من يعلم منهم علماً أن يبلغه، فيناله فضل إبلاغ الدعوة، الذي أمر به النبي ×: "بلغوا عني ولو آية"، "فربَّ مُبلَّغ أوعى من سامع"، ودعا بالرحمة لمن فعله: "رحم الله امرءاً سمع مقالتي فبلغها كما سمعها". ولا يقال هنا: إن مجتمع الصحابة مختلف عن مجتمع المسلمين اليوم، فكل مجتمع في حاجة إلى الدين كله، آدابه، ومعاملاته، وعباداته، وعقائِده، وانتقاص أي أمرٍ من هذه هو انتقاص من الدين والإيمان، ولا يزيله إلا الرجوع عنه، وقد أخبر النبي × بما سيكون من شأن الأمة مع دينها، ونقضها عراه، فقال: "لتُنْقَضَنَّ عُرى الإسلام عُروة عُروة، فكلما انتقضت عروة تشبث الناس بالتي تليها، وأَولهن نقضاً الحكم، وآخرهنَّ الصلاة".
•…تاسعاً:(1/135)
إن التفريط في الأمر الصغير يؤدي إلى التفريط في الأمر الكبير، لأن استمرار هذا التفريط ينشئُ في الإنسان عادة تنتهي به إلى التهاون فيما يفعل، أو يقع عليه حسه من الأحوال والأفعال، والأُمة كلها تعلم أنَّ هناك كثيراً من عرى الدين، وأحكام الإسلام مقصية عن واقعهم، ولا يستطاع الوصول إليها، أو التحدث عنها، وبعض هذه العرى مما يترتب عليه إقامة حكم الله في الأرض، وحماية بيضة الإسلام، فهل من الحكمة والإيمان معاً أن يترك الداعية الدعوة إلى ما بقي من عرى الدين وأحكام الإسلام -وأغلبها مما يدخل في عداد القشور- بعذر أنه لا يقدر على هذه أو تلك منها؟ إنه لقول عجاب.
•…عاشراً:
وأخيراً، فإن هذا التفريق لم يعرف في سلف الأمة من الصحابة والتابعين وتابعيهم بإحسان، فقد كانوا أحرص الناس على الاستجابة لكل أمر فيفعلونه، وعلى كل نهي فيتجنبونه، تحقيقاً في أنفسهم لقوله ×: "إذا أمرتكم بأمر فائْتوا منه ما استطعتم وما نهيتكم عنه فاجتنبوه"، فهو أمرٌ حادث، وكانوا أشد الناس نفرة من الحوادث، لأنها بدع، "وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار".
بل لقد بلغ من خوفهم من المخالفة عن الدين، وتحريهم امتثال أحكامه أنهم كانوا يَدَعونَ كثيراً من الحلال خشية الوقوع في باب من أبواب الحرام.
لقد نشأت هذه المَقُولة الحادثة من خضوع العقل المسلم للثقافة الغربية التي أخذت عليه أقطاره، وسدت عليه طرائِقه التي وصلت به من قبل إلى الهدى والحق، وخير الهدي ما استقر عليه الأمر في القرون المفضلة الأولى التي عاشت بالإسلام كله عقيدة وشريعة.
فليسعنا ما وَسِعَ هذه القرون، ولنمض في الطريق الذي مضَوا فيه، وليكن منهاجنا قوله تعالى: {فَاتَّقُواْ الله مَا اسْتَطَعْتُمْ}، و {اتَّقُواْ الله حَقَّ تُقَاتِهِ}.
? ?
معنى خلافة الإنسان في الأرض(1/136)
كنت على متن طائِرة الخطوط السعودية في رحلتها رقم (265) العائِدة إلى عمان يوم الاثنين 27 شوال 1402هـ حين قدم لي أحد أفراد طاقم الطائِرة مجلة (المسلمون) عدد (42)، فجعلت أُقلب صفحاتها مستعرضاً موضوعاتها لأقرأ بعضها، فوقفت عند مقال للأُستاذ سهل محمد القباني بعنوان: "الإسلام لماذا؟"، فلفت نظري عبارة منه، "لأنه هداية الله لخليفته في الأرض" في بدايته.
ومما جاء في هذا المقال: "ثم إن الله جعل الإنسان خليفته في الأرض، فيتحتم أيضاً أن تكون الهداية مباشرة من الله تعالى إلى خليفته في وصاياها وتكاليفها، لأنه لا معنى لهذه الخلافة إذا كانت الهداية من عند غير الله، والإنسان في مركزه المرموق كخليفة الله في الأرض لا بد أن تكون الهداية مصدراً مقصوداً لسعادته".
أنا لا اعتراض لي على المعنى الجميل الذي حملته هذه الفقرة، بل اعتراضي على بعض ألفاظها، بل على واحدة منها فقط، وهي: "خليفة الله".
شاعت هذه اللفظة وكثير غيرها مصطلحات مسلَّمة قديماً وحديثاً حتى أصبحت راسخة في أذهان العامة والخاصة مسلمين وغير مسلمين، مما يجعل الإنسان الذي يعرف الخطأ من الصواب يقف متردداً في إقرارِ الصواب والتنبيه على الخطإ، لا خشية من الناس بقدر ما هو ظن يحمله على الظَن في نفسه أن الخطأ فيما يظنه صواباً، وأن الصواب فيما يظنه خطأً، فيجعل نفسه غرضاً تتناوشه الأقلام التي تنبري في سرعة للرد عليه.
ومجلة (المسلمون) لشيوعها الواسع يجدر بها -وهي كذلك إن شاء الله- أن تقدم الإسلام للناس نقيّاً خالصاً بريئاً من كل شائِبة في عقائده وأحكامه وشرائِعه، ولن يتم لها ذلك إلا إذا هي ردت كل ما تقدمه لقرائِها إلى مصدري الوحي: الكتاب والسُّنَّة، فإذا هي وقعت في خطإٍ ادَّاركتْه ونبهت الأذهان إليه، حفظاً لمادة الإسلام أن تنتقض أو أن تشاب بشائبة، إيذاناً منها أن الحق هو الحق من أينَ أتى، وأن الباطل هو الباطل من أين أتى.(1/137)
وعليه فإني -ومع تقديري للمقالة التي كتبها الأُستاذ سهل- أودُّ -إبراءً للذمة، وأداءً للأمانة العلمية- أن أُبين للقراءِ خطأً شاع وانتشر حتى صار مقبولاً مقطوعاً به، وهو كلمة "الإنسان خليفة الله في الأرض".
وردت كلمة خليفة في القرآن في موضعين، الأول في سورة البقرة آية رقم (30): {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً}، والثاني في سورة ص آية رقم (26): {يا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ }، كما ورد جمع لهذه الكلمة على لفظين: خلائِف وخلفاء، الأول في أربعة مواضع، والثاني في ثلاثة مواضع.
وأصلُ مادة هذه الكلمة: خَلَفَ، ثلاثي مفتوح العين، والمصدر خِلافة، ومعنىخلف فلان فلاناً خلافة، أي جاء بعده، قال في "الصحاح": "يقال: خلف فلان فلاناً إذا كان خليفته، يقال: خلف في قومه خلافة، ومنه قوله تعالى: {وَقَالَ مُوسَى لأَخِيهِ هَارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي}، وخلفته أيضاً: جئْت بعده، قال في "القاموس المحيط": "{جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً}، أي هذا خَلَفٌ من هذا، أو هذا يأتي خَلْفَ هذا".
وخليفة على وزن فعيلة، وهي بمعنى فاعل (خالف)، وهذا يستلزم أن الخليفة يقوم عن المخلوف عنه في حال غياب المخلوف عنه بسبب من الأسباب الموجبة لوجود الخليفة، كي يؤدي ما كان يؤديه المخلوف عنه، فاجتماعهما معاً -أيْ: الخليفة والمخلوف عنه- فيه استحالة، لأن الخلافة لا تكون في حال وجود المخلوف عنه، بل تكون في غيابه لموت أو سفر أو مرض أو نحو ذلك من الأسباب، سواءٌ أكان السبب كليَّاً كالموت، أو نسبيَّاً كالسفر.
وهذا المعنى للخلافة لا يتحقق -قطعاً- إذا كان متعلقها بين الإنسان وبين الله، لأن الله سبحانه حي لا يغيب، وصفة الحياة لله دائِمة كذاته، وإذا كان الله سبحانه هذا شأْنه، فهل يكون للخلافة عنه معنى، أو هل يكون هو بحاجة إلى الإنسان الذي يخلقه؟(1/138)
لو كان الله سبحانه محتاجاً لخليفة يقوم عنه بأمره، وينزل أحكامه نيابة عنه على خلق مثله، لكان مفتقراً إلى خلقه، وحاشا لله أن يكون كذلك، وتعالى عن ذلك علوّاً كبيراً، وهو سبحانه (الغني) كما وصف نفسه.
إذاً فالعاجز هو من يكون في حاجة لمن يخلفه، وإذا كان هذا لا يصْدُق في حق الله فهو يَصْدُق في حق الإنسان، فيكون الإنسان هو في حاجة لمن يخلفه، سواءً أكان من يخلفه مثله أمْ لم يكن مثله بأن كان فوقه، أما إذا كان دونه فلا يكون خليفة عنه، لأن من دونه لا يكون إلا مما لا يعقل، ولا يصح عقلاً أن يكون ما لا يعقل خليفة عمن يعقل، وإلا لما كان
معنى لتفضيل الإنسان بعقله.
فاتضح مما سبق أن الخليفة إما أن يكون مماثلاً للمخلوف عنه. وإما أن يكون أفضل منه، وأنه لا يكون خليفة لمخلوف عنه من كان دون المخلوف في صفاته.
ولم يعهد عن أحد من السلف الصالح من القرون الثلاثة الأولى أنه كان يقول: إن الإنسان خليفة الله في الأرض، وإن ذلك من قول بعض المتأخرين، فعلينا كما قال ابن مسعود رضي الله عنه: بالأمر العتيق.
ولو كان هناك دليل من كتاب أو سُنَّة يصلح للركون إليه لوصلنا علْمٌ عن السلف بذلك، بل إن الذي صحَّ عن رسول الله × خلاف ذلك، وهو ما جاءَ في الحديث الصحيح الذي كان يدعو به، وعلَّم أصحابه أن يدعوا به في السفر: "اللهم أنت الرفيق في السفر والخليفةُ في الأهل"، فانتفى بهذا الحديث على وجه القطع واليقين أن يكون الله سبحانه -وحاشاه- مخلوفاً.
ثم إن كلمة خليفة التي جاءت في آية سورة البقرة لا يمكن أن تفيد ذلك المعنى البعيد، إذ لو كان ذلك المعنى المقصود لكانت الإضافة بكلمة خليفة لذاته العظيمة، كأن يقول: إني جاعل لي في الأرض خليفة، أو يقول: إني جاعل آدم خليفتي، ونحو ذلك مما يجعل المعنى البعيد معقولاً، بل أن يكون هو عين المطلوب.(1/139)
أما وقد قال الله: {إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً} فإن المعنى كما قال ابن كثير رحمه الله في "تفسيره": "أي قوماً يخلف بعضهم قرناً بعد قرن، وجيلاً بعد جيل، كما قال الله: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلاَئِفَ الأَرْضِ}"، وهذا هو الصواب في تفسير خليفة، لا قول من يقول: إن آدم خليفة الله في الأرض مستدلاً بقوله تعالى: {إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً}. انتهى. وعليه فتكون كلمة خليفة مفرداً أُريد به الجمع.
وذكر صاحب "البحر المحيط" قولاً لطيفاً وهو: أن الخليفة اسم لكلِّ من انتقل إليه تدبير أهل الأرض والنظر في مصالحهم، كما أن كل من ولي الروم قيصر، والفرس كسرى، واليمن تبَّع، وفي المستخلف فيه آدم قولان: أحدهما: الحكم بالحق والعدل، والثاني: عمارة الأرض؛ يزرع ويحصد ويبني ويجري الأنهار.
على أن بعض المفسرين ذهبَ إلى أنَّ آدم عليه السلام هو خليفةٌ لخلقٍ سبقوه، وقد أُهلكوا فلم يدركهم، مستدلاً على هذا بقوله تعالى حاكياً عن ملائِكته: {أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ}، مشيرين بذلك إلى ما كان من أُولئِك الخلْق السابقين لآدم، قال القرطبي: "أي يخلف من كان قبله من الملائكة في الأرض، أو من كان قبله من غير الملائِكة علىما روي"، وقال أيضاً عند تأويل قوله تعالى: {إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ}: "أي ملَّكناك لتأمُر بالمعروف، وتنهى عن المنكر، فتخلف من كان قبلك من الأنبياء والأئِمةِ الصالحين".(1/140)
وإن قال قائِل: إن الاستخلاف ليس على نحو ما قاله من ذكرهم ابن كثير رحمه الله، بل يراد به: القيام بأمر الله في الأرض وإنفاذ شرائِعه وأحكامه في نفسه وفي غيره. فهذا أيضاً لا يسمى استخلافاً لأن الله سبحانه هو قيوم السماوات والأرض، بيده الأمر كلُّه، إذا أراد شيئاً فإنما يقول له كن فيكون، وقيام الإنسان بأمر الله سبحانه وإنفاذ شرائِعه وأحكامه في نفسه وفي غيره في الأرض هو طاعة واستجابة لأمره سبحانه بها: {أَطِيعُواْ الله}، والطاعة ليست استخلافاً عن الله سبحانه، بل هي إخبات وطواعية له، وإنفاذ أمره، واجتناب نهيه كما أراد من عباده.
وقد يحتج القائِلون بهذا المعنى للخلافة بقوله سبحانه: {وَأَنفِقُواْ مِمَّا جَعَلَكُم مُّسْتَخْلَفِينَ فِيهِ} وهو بعيد جدّاً، لأن المعنى: إن تعلق صاحب المال بماله هو تعلق عارض يزول بزوال يد صاحبه عنه بالموت، ليؤول من بعده إلى الوارثين، فيكونون بهذا المال إما أسعد منه، وإما أن تلحقهم شقوة ذلك المال، فيكونون هم ومن كان يملكه ملكاً عارضاً من قبلهم في هذه الشقاوة سواءً إن كان لم يقم بحقه في حياته، أو يزيدون عليه فيها، أوْ يكونون أدنى منه منزلة في هذه الشقاوة.
فهذه الآية أيضاً ليس فيها ما يُغني من الحق شيئاً، والحق أحق أن يُتبع، والله يهدي من يشاء سواءَ السبيل.
ولعل في هذا القدر من البيان ما يكفي لإجلاء الريب، وإذهاب الشك، وإحلال اليقين والجزم بالحق الذي هو في الحقيقة ظاهر بنفسه، جلي بذاته، لا يحتاج إلى إدامة النظر، واستنطاق من غَبَر.
? ?
الوسطيّة بين الشرع والواقع
حين تبصر برجل ممَّن يقال عنهم: إنهم دعاةُ الإسلام، يفرح له قلبك، وينشرح له صدرك، وتقول: الحمد لله أنْ جعل للإسلام نصيباً فيه، وتقبل عليه غير برم به، ولا مستثقل له حديثاً، ولا راغب عنه.(1/141)
ولربما استصغرت شأْنك مع شأْنه، لما ترى فيه من قدرة على تقليب وجوه الكلام، ونفاذٍ بالنظر العقلي المحض إلى مدارك الأشياء، وقدرة على استحضار ما حفظ من مقولات أو نظريات في العلوم التي أصاب منها حظّاً، ومنح في بعضها أو في واحد منها لقباً زيَّن به اسمه، يصوغها بكلمات واضحة حيناً، وغامضة أحياناً، حتى لتحسب أن لعلمه هذا وجهين، ظاهراً لا تُنكره، وخفيّاً يدق فهمه عليك!
وتقول في نفسك أيضاً: الحمد لله أن عاد صاحبنا هذا من غربية العلمية وهو لا زال يحتفظ بقدر ولو يسيراً من الانتماءِ إلى الإسلام!!
ثم لا تلبث مع الأيام أن تعرف من حال صاحبنا هذا كل ما يدعو إلى الرثاء والألم والإشفاق، فلا تملك إلا أن تقول: الحمد لله على كل حال، وإنا لله وإنا إليه راجعون!!! وتعود إلى نفسك أنت إن آتاها الله علماً، تستنطقها ما أودعت من علم، وتأخذ عنها ما قد تفضل الله به عليها، فتجد نفسك راضياً به لصفائِه وحسنه.
والإسلام دعوة مباركة، تفوق في أُصولها وفروعها كل الدعوات التي سبقتها مجتمعة، ولن تكون إلا بمن يحملها ويبلغها، يحملها كما حملها الداعية الأول، ويبلغها كما بلَّغها، وحملها وبلاغها يحتاج إلى أصلين اثنين:
الأول: الفهم الصحيح الواضح.
الثاني: الالتزام الكامل بهذا الفهم.
وبغير هذين الأصلين يكون الداعية ملبساً نفسه ثوب الفشل، عرف ذلك من نفسه أو لم يعرف.(1/142)
ولا أجدني الآن راغباً في تفصيل هذين الأصلين، وبيان فروعهما، إذْ ليس هذا مرادي، ولا هو قصدي، بل أقصُد إلى تصويب مقولةٍ صارت من الحقائِق المسلَّم فهمها على غير وجه حق أو صواب عند السواد الأعظم من مثقفي هذه الأمة، تصويباً لا يعتمد خطفة النظر السريعة في صفحة من صفحات كتاب، ولا إصغاءة عابرة تلقف جملة مبتورة لا تغني من الحق شيئاً، ولا جراءَة على الدين واللغة، يضل بها العقل والقلب معاً، بغير علم ولا كتاب منير، وهل أُتي المسلمون قديماً وحديثاً إلا من جهل ضرب على عقولهم، وهوىً استحوذ على قلوبهم، وبين جهل وهوى لا يظهر حق لطالبه، ولا يبين رشد لباغيه.
هذه المقولة هي ما صار يعرف بـ "نظرية الوسطية" التي شاعت على ألسنة دعاة الإسلام، آخذين لها من قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِّتَكُونُواْ شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ}، ظانين أن كلمة وسطاً تعني وقوع الشيء بين شيئَين، وهذا بعدٌ بعيدٌ عن الصواب، يظهر بعده من وجوه نعرضها إن شاء الله.
•…الأول:
إن كلمة الوسط في اللغة تعني العدل، قال صاحب "القاموس": "والوسَط محركة، من كل شيء أعدله، {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً}، أي عدلاً خياراً".
أما الكلمة التي تعني وقوع الشيء بين شيئَين فهو وسْط، بتسكين السين لا بفتحها، والفعل منها (وسَطَ) كوعد، قال صاحب "القاموس": "وسَطَهم وسْطاً، بتسكين السين، وسِطَةً، جلس وسْطهم، بتسكين السين، كتوسَّطهم، بتضعيف السين".
من هذا الوجه يظهر لنا الخلاف بين الكلمتين في المعنى - فوسط بتحريك السين فتحاً هي العدل، ووسط بتسكين السين هي بمعنى وقوع الشيء بين شيئَين، واتفاق الكلمتين في أصل مادتهما لا يعني اتفاقهما في المعنى، وهذا كثير جدّاً في اللغة.
•…ثانياً:
أقوال المفسرين في هذه الكلمة تجري بين المعنيين اللذين جرت فيهما بمعناها اللغوي، إذ اللغة أصل من أُصول التفسير.(1/143)
يقول ابن جرير رحمه الله عند تأْويله: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً...}: "كما هديناكم أيها المؤمنون بمحمد عليه السلام، وبما جاءَكم به من عند الله، فخصصناكم بالتوفيق لقبلة إبراهيم وملته، وفضلناكم بذلك على من سواكم من أهل الملل، كذلك خصصناكم ففضلناكم على غيركم من أهل الأديان بأن جعلناكم أمَّةً وسطاً".
ثم قال رحمه الله: "وأما الوسَط؛ فإنه في كلام العرب: الخيار، يقال منه: فلان وَسَطُ الحسب في قومه، أي متوسط الحسب، إذا أرادوا بذلك الرفع في حسبه، وهو وَسَطٌ في قومه وواسط، ومن ذلك قول زُهير بن أبي سُلمى:
هُمُ وَسَطٌ ترضَى الأنامُ بحكمهم إذا نَزَلَت إحدى الليالي بمُعْظَمِ
ثم قال: "وأما التأويل؛ فإنه جاء بأن الوسط العدلُ، وذلك معنى الخيار، لأن الخيار من الناس عدولهم"، ثم أورد أقوال من قال بأن الوسط العدل، فقال: "حدثنا سَلْم بن جُنادة، ويعقوب بن إبراهيم، قالا: حدثنا حفص بن غياث، عن الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي سعيد، عن النبي × في قوله: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً}، قال: "عدولاً"". وساق مثله من طريق أُخرى عن أبي هريرة. ثم ساق أقوال طائِفة من السلف، منهم ابن عباس، ومجاهد، وقتادة، والربيع، وكلهم يقول: "إن الأُمة الوسط هم العدول".
•…ثالثاً:
إن هذا المعنى هو الذي يأْتلف مع الجزء التالي من الآية، وهو: {لِّتَكُونُواْ شُهَدَاءَ}، فإن الشهادة لا تقوم إلا بالعدل والعدول، ولا تقبل إلا من عدل، وإذا كانت الشهادة في الدنيا لا تكون إلا من عدل، فأولى أن تكون الشهادة في الآخرة من عدول أيضاً.(1/144)
والأمة المسلمة اكتسبت صفة العدل من توسطها بدينها، أي: اعتدالها فيه بين الغلو والتقصير من بين الأُمم التي سبقتها، فإن كل أُمة من تلك الأُمم قد جنحت إلى شيء سلبها هذه الصفة، فاستقرت لهذه الأُمة، فلا هي غَلتْ في الدين غُلُوَّ النصارى الذين غلوا بالترهب، وقيلهم في عيسى عليه السلام ما قالوا، ولا هي قصرت في الدين تقصير اليهود، الذين بدَّلوا الكتاب، وقتلوا الأنبياء، وكذبوا على ربهم، فاستحقت الأُمة بذلك أن تكون شاهدة على الأمم كلها، بأن أنبياءها قد بلَّغوا رسالات ربهم، ونصحوا لها، يوم تدعى كل أُمة برسولها، يشهد لهذا قوله عليه الصلاة والسلام: "يُدْعَى بنوح عليه السلام يوم القيامة، فيقال له: هل بلغت ما أُرسلتَ به؟ فيقول: نعم. فيقال لقومه: هل بلَّغكم؟ فيقولون: ما جاءنا من نذير. فيقال له: من يعلم ذلك؟ فيقول: محمد وأمته. فهو قوله: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً...}، ويكرم الله هذه الأُمة بتصديق النبي عليه السلام شهادتها هذه، وذلك قوله تعالى: {وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً}.
وبمثل قول ابن جرير قال ابن عطية في "تفسيره"، قال: وسطاً: معناه عدولاً، روي ذلك عن رسول الله ×، وتظاهرت عبارة المفسرين، والوسط: الخيار والأعلى من الشيء، كما تقول: وسط القوم، ووساطةُ القلادة: أنفس حجر فيها، والأمير: وسط الجيش، وكقوله تعالى: {قَالَ أَوْسَطُهُمْ}، والوسْط بإسكان السين ظرف مبني على الفتح، وقد جاءَ متمكناً "أي معرباً" في بعض الروايات في بيت الفرزدق:
فجاءَت بملجوم كأنَّ جبينه صلاءَة ورس وسطها قد تقلعا
•…رابعاً:(1/145)
قد تأتي كلمة وسط بفتح السين بمعنى وقوع الشيء بين شيئَين، ولكن لا يمكن أن تكون دالةً بهذا المعنى على المعنى الذي يريده أُولئِك النفر، لأنهم هم يريدون أن يجعلوه دالاً على الاعتدال في الشيء بمعنى عدم الغلو فيه، وأين هذا من معنى وقوع الشيء بين شيئَين. يقول الراغب الأصفهاني: "وسط الشيء: ما له طرفان متساويا القدر، ويقال ذلك في الكمية المتصلة كالجسم الواحد، إذا قلت: وسطه صلب، وضريب وسط رأْسه بفتح السين، ووسط بالسكون، يقال في الكمية المنفصلة، كشيء يفصل بين جسمين، نحو: وسط القوم كذا".
•…خامساً:
قد يقال: إن دلالة لفظ وسط على الاعتدال، هو من باب التشبيه أو الاستعارة، فيقال لهم: إن الاستعارة أو التشبيه قد يُقبلان إذا كان اللفظ نفسه لا يدل على المعنى المراد المتبارد منه بدلالة اللغة، أو قد يكون في دلالته على المعنى المراد شيءٌ من الخفاءِ أو البعد، أما واللفظ يدل بنفسه علىالمعنى المراد وحده دلالة صريحة لا على معنى سواه، فما الذي يحوجنا إلى تلمس الاستعارة أو التشبيه؟!
•…سادساً:
ثم إنه لو سلمنا بأن كلمة وسط -بفتح السين- دالة على هذا المعنى الذي أرادوا، فإن هذا يقبل إذا كان للدين طرفان حسيان أو مقدران يتساويان تماماً ويتطابقان، ولا أحسب أنه يغيب عن فطنة عاقل أنه ليس للدين شيء من ذلك على نحو ما أرادوا لا حسّاً ولا تقديراً، لأن الوسط يعني وجود الشيء من الدين وسطاً بين طرفين، وكل طرف منهما كالجناح له. أما الوسطية بمعنى الفضل والخير فيمكن أن يقال، لقوله ×: "الإيمان بضْعٌ وسبعون شعبة، أعلاها لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق" فكلمة أعلاها هذه تعني ولا شك الأفضل والخير.
•…سابعاً:(1/146)
ما جاءَ في القرآن من معنى وسط، مما أيدته لغة العرب وتأويل المفسرين الحذّاق لقوله تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً}، نجده أيضاً في السُّنَّة هو المعنى نفسه، من ذلك: ما جاءَ في "مسند الإمام أحمد" من حديث البراءِ بن عازب قال: كنا جلوساً عند النبي × فقال: "أي عرى الإسلام أوسط؟". قالوا: الصلاة، إلى أن قال: "إن أوسط عرى الإيمان أن تحبَّ في الله وتبغض في الله". ومنه ما جاء في "البخاري" من كلام أبي بكر رضي الله عنه يوم السَّقيفة: هم أوسط العرب داراً. يعني المهاجرين. ومنه أيضاً ما رواه الترمذي وأحمد وابن ماجه: أن رسول الله × قال: "الوالد أوسط أبواب الجنة"، أي خيرها. قال في "النهاية": ومنه سُميت الصلاة الوسطى، لأنها أفضل الصلاة وأعظمها أجراً.
•…ثامناً:
من كل ما تقدم علمنا بأن المراد بكلمة وسطاً في قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً}: العدول والأخيار. وليس كما يَفْهم بعض المثقفين، أو الجهلاء من الدعاة، أو الذين يحرفون الكلم عن مواضعه، من نفرٍ أُوتوا حظّاً من القدرة البيانية، والفصاحة اللغوية، لحاجةٍ في نفس يعقوب، يحرصون على نوالها، ولا يجدون موطئاً لألسنتهم -التي تسوق البيان والفصاحة سوقاً- تطؤه أسهل من النفاق، لتنال حظوة عند ذي جاه أو سلطان، أو لئَلا تخرج عن دائِرة سفهاءِ الأحلام، أو لئَلا تثير سخط
العامَّة عليها.
أقول: ليس كما يفهم هؤلاءِ أو أولئِك معنى (وسطاً) من أنه التوسط في أمر الدين على نحو لا يغضب به أحد مما يخالفك فيه، حتى ولو كان أصلاً من أصول العقيدة.
فالجانح بنفسه عن الدين كله وهو يعتقد أنَّه موصول به لا ينبغي -في مفهوم الوسطية- أن يقال له: إنك جنحت، إلا إذا علم أنه لا يغضب من هذا القول أو من مثله.(1/147)
والمتذبذب في الدين - وهو قطعاً يعلم أنه تارة لهؤلاء وتارة لهؤلاء- لا يجوز أن يقال له: إنك متذبذب، لأنه قد يترك أثراً سلبيَّاً في نفسه يجعله يلوي بعنان قلبه إلى صريح الكفر.
والمداهن في دينه، لا يصلح -في مفهوم الوسطية- أن يقال له: إنك مداهن، خشية أن ينفر فلا يستمع إلى قول حق أنت قائِله له.
والخبيث الذي ينطوي قلبه على دخن، ويتربص بالإسلام الدوائِر، لا يحسن أن يكاشف بخبثه، لأنَّه في مفهوم الوسطية قد يزيد من خبثه.
والذي يدَّرئ بالعمل بأمر من أُمور الشرع، يرضي به المغفلين الجهلة، ويمد قلبه ويده إلى غير هذا الأمر، فيغير ويبدل كما تزين له نفسه، لا ينبغي -في مفهوم التوسط- أن يقال له: أنت على خطإٍ، على الأقل، لكيلا يتركَ الأمر الذي يضحك به على المغفلين الجهلة.
وذو الفكر الداعر الذي يحلو له أن يصلي مثلاً أحياناً من الخير -في مفهوم الوسطية- أن يسكت عنه لئَلا يترك الصلاة بالكلية.
والضالع في الشرك من الغارقين في ضلالات الفكر الديني، المصنوع في الأقبية والزوايا، ووراءَ الأستار السوداء، وتحت الألحفة الحريرية، على عين إبليس، من الأفضل -في مفهوم الوسطية- أن نسكت عنه لئَلا نثير فتنة، أما أن يمخر هو عباب الفتنة بكل عتمتها وحصادها وآثامها فحسن جميل.
والضارب في متاهات التهويم من المُسلمين قيادَهم للإفك والخرافة والزندقة، فيجدر بنا -في مفهوم الوسطية- أن نتركهم وشأنهم ليملؤوا الأرض فساداً وقبحاً.
والآخذ بعنان الشهوات يركض فيها خيله، فلا يخلص من واحدة حتى يضع في ثانية وثالثة، متخذاً من الدين مطيَّةً لها، كلما لاح له برق أسرع، حتى إذا عجز أو أقعده عن شهواته أمر، وقف عند ثمالة آخر واحدة منها لا يبرحها، فحري بنا -في مفهوم الوسطية- أن نحزن بقلوبنا حزناً خفيّاً لا يكون له أي أثر ظاهر علىما يصيب من شهوات، وأن نفرح فرحاً عظيماً، حين يقف به العجز عند ثمالة واحدة منها.(1/148)
ومن مفهوم الوسطية أنه إذا قام في الناس من هُديَ إلى الحق، وأكرمه الله بفقه في كتابه وسنة نبيه ×، وعرف وجوه الباطل المقنَّعة، التي تتمعر لذكر الله وما نزل من الحق، ورأى بعين البصيرة القلوب المغلولة على مثل الجمر المتلهب من حسد ومكر وخبث، فقال قولاً ليِّناً، يذكِّر به من نسي، ويُعلِّم من جهل، أن يُرمى بكل مؤْثمة، من الخروج على الأمة، وتفريق كلمتها، وتمزيق شملها، والإتيان بشيءٍ لم يأت به الراسخون في العلم، والزور والبهت، وإزاءَ هذا كلِّه فإنه حُقَّ لكل من لقِّنَ ضلالاً وجهلاً، ووُضع على عينيه قناع أسود، وغلِّف قلبه بالهوى أن يُسمع لقوله الباطل فيه.
ومن مفهوم الوسطية تخير الأقوال المتفق عليها، وترك الاقوال المختلف فيها من غير نظر إلى دليل هذا أو دليل ذاك.
ومن مفهوم الوسطية ترتيب الأعمال حسب الأولويات.
ومن مفهوم الوسطية العمل بهذا القول تارة وبالقول المضاد له تارة لأن حاجة الناس تقضي بذلك.
ومن مفهوم الوسطية التحرز من إغضاب من يغضبه الحق، وإظهار موهبة القول بالحق(!!!) أمام من يستجيب بلا تردد فور سماعه.
كل هذه الأوشاب العجيبة الغريبة من مفهوم الوسطية عند هؤلاء، ليس لها في النهاية إلا مفهوم واحد أو قل نتيجة واحدة، هي: (هجر الإسلام بالكلية).
? ?
التبيين في مسألتي حكم الدِّين ورأي الدِّين
كانت جريدة الدستور الغراءُ قد نشرت لي مقالاً بعنوان: (رأي الإسلام في الإجهاض).
وعجبت أشد العجب وأنا أقرأ هذا العنوان، الذي ما خطر ببالي يوماً أن أختاره عنواناً لمقالي هذا أو لغيره.
ولعل جميع القراء -وبخاصة الذين عرفوني من قرب- يعرفون هذا عني، لذا فقد اتصل بي عدد منهم يسألونني، لِمَ اخترت هذا العنوان؟! وهل يجوز شرعاً أن يعنون بكلمة (رأي الدين) أو (رأي الإسلام) أو (رأي الشرع)؟!(1/149)
وإذا كان السائِلون قد عرفوا أنني لم أختر هذا العنوان لمقالي هذا، وأنه كان من تصرف إدارة التحرير، وأنه لم يكن منهم عن سوء قصد، فإن مئات القراء الذين لم يسألوا قد ظنُّوا صواب هذا العنوان، وعدوا سكوتي وعدم تعقيبي عليه فتوى بجواز استعمال كلمة (رأي الإسلام)وجعلها مرادفةً لكلمة (حكم الإسلام).
وبياناً للحقيقة، وإظهاراً لوجه الصواب إن شاءَ الله، وكشفاً لأمر خافٍ على الناس، فلا بدَّ من تعقيب على هذا العنوان، حتى وإن جاءَ متأخراً، فإن لكل أجل كتاباً، وعسى أن يكون في هذا التأخير شيءٌ من الفائِدة لمن يحرص على معرفة الحق، ولا يحرص إلا عليه فقط، وإن كان يحرص على معرفة الباطل فلأجل اجتنابه والبعد عنه.
•…أولاً:
اعتاد كثير من الذين يعنون بالكتابة، التساهل في إيراد بعض الألفاظ والمصطلحات، فيما يكتبون، إما أن يكون ذلك منهم من باب خفاءِ الأمر عليهم، وإما أن يكون من باب مجاراة العامَّة عن غير قصد منهم لذلك، وإما من باب الأخذ بالشائع وإن كان باطلاً، ونبذ المهجور وإن كان حقّاً، وليس من هذه الثلاثة شيءٌ يصلح أن يكون مستنداً لأولئِك، فيأخذوا به راغبين عما هو صواب ظاهر الصواب، والذي يتتبع ما كتب أُولئِك الكتاب فسوف يجمع الكثير من هذه الألفاظ والمصطلحات، ليخرجها للناس مجموعة، مبيناً زغلها، وغربتها عن جواهر الإسلام. ومن هذه الألفاظ والمصطلحات التي شاعت: (رأي الدين)، أو (رأي الإسلام) ، أو (رأي الشرع).
•…ثانياً:
ولا يكفي للحكم على بطلان هذا اللفظ الشائع حتى بين خاصة المثقفين الإسلاميين ودعاتهم أن نقول: إنه باطل غريب، فالحكم بإطلاق الألفاظ والأحكام من غير دليل على ما فيها من صواب أو من خطإٍ هو شيءٌ يدخل في باب التساهل، بل في باب النكر، ولا يتجاوز ما أشرنا إليه من غربة وزغل، وهذا -على الأقل- محظور على من يتصدى لبيان وجه الحق في أي أمر من الأمور.
•…ثالثاً:(1/150)
وإذ الأمر كذلك، وإنه لا يكفي في الحكم على هذا اللفظ بالغربة
والبطلان، بإطلاق ذلك عليه، فلا بُدَّ إذاً من إقامة الحجة، وتقديم الدليل على بطلان هذا المصطلح وغربته، وعلى فساده وعدم صحته. فكلمة (رأي) مصدر لرأى يرى، يقال: رآه يراه رأياً، أي: أبصره بحاسَّة البصر، واعتقده، ودبَّره، فتكون كلمة (رَأْي) مصدراً لـ (رأَى البصرية) و (رأَى العلمية) كما يقول اللغويون والنُّحاة، ولسنا هنا بصدد الحديث عن رأى البصرية ومصدرها، بل حديثنا يدور حول رَأى العلمية ومصدرها.
فحين يعمل الإنسانُ رأيه في أمر للوقوف عليه صحةً أو بطلاناً، قوةً أو ضعفاً، صواباً أو خطأً، يعمله وهو يعلم علم اليقين أن وقوفه على أحد وصفي الأمر الذي يُعمل رأيه فيه، يتردد بين الوصفين اللذين يوصف بهما الأمر نفسه، من صحة أو بطلان، وقوة أو ضعف، وصواب أو خطإٍ، لأن وقوفه عليه -وهو الحكم الذي ينتهي إليه على هذا الشيءِ- ناشئٌ من تقديره العقلي، والعقل خَلْق الله سبحانه، ولا يبلغ حدَّ الكمال بنفسه، ولا يرتكس إلى النقص بنفسه، فنقصه وتمامه، أمران نسبيان ينشأ بهما الحكم على الأشياء.
والرأي هو نوع من التدبير، بل هو التدبير عينه، وإعمال النظر، وإجالة التفكير في الأمور، والحكم الذي ينشأُ من ذلك، لا يكون مقطوعاً به يقيناً، بل يكون مظنوناً، والظن -راجحاً كان أم مرجوحاً- لا يخرج عن دائِرة الظن، وإن كان صاحبه قد وصل إليه بإعمال، وتدبير، وتفكير، وتسميته حكماً من باب التجوُّز ليس إلاَّ، وهو بهذا لا يكون إلا ظنّاً، والرأي، والظنُّ، والحكم في هذا، كلُّها مترادفات لشيء واحد.
وإذ ذلك كذلك فإنَّ كلمة (رأي) لا تصلح أن تُطلق، ويراد بها أمر(1/151)
قضى به الله سبحانه في كتابه أو في سنة نبيه ×، لأنهما -الكتاب والسُّنَّة- هما قوام دين الله، الذي قال فيه: {إِنَّ الدِّينَ عِندَ الله الإِسْلاَمُ} و {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الأِسْلاَمَ دِيناً}.
وكل أمر قضى به الله في الكتاب والسُّنَّة يقالُ فيه: هو من دين الله، ودين الله يخاطب به الله سبحانه خلقه جميعاً على لسان نبيه ×، وقد عرَّف العلماء الحكم الشرعي بأنه: خطاب الله المتعلق بأفعال المكلفين، إما بالطلب، وإما بالكف، وإما بالتخيير، والله سبحانه لا يخاطب عباده بحكم مبني على التدبير، والتفكير، وإعمال النظر، بل يخاطبهم بحكمٍ ناشئٍ من علمه بما يصلح لعباده، وإرادته الصلاحَ لعباده، فيقضي به بكلمة كن، فيكون حكماً لله سبحانه، ليس الرأي شيئاً قريباً منه، وليس هو قريباً من الرأي، بل بينهما من البعد والفرق ما بين الرأي والحكم.
وتشريع الله أحكامه، وخطابه عباده بها يكون، بلفظ: (قضى) أو (حَكَم)، أو (أمر)، كقوله تعالى: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً}، وكقوله تعالى: {وَأَنِ احْكُم بَيْنَهُمْ بِمَا أَنزَلَ الله وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ}، وكقوله تعالى: {إِنَّ الله يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا}.
وهذه الألفاظ بمعانيها اللغوية لا تحتمل إلا وجهاً واحداً فقط، وهو إمضاءُ ما تحمل من حكمٍ وإنفاذُه، على مُراد الله سبحانه، ومرادُ الله في خطابه، لا ينكشفُ لعباده إلا بظهوره بأمره أو بقضائِه أو بحكمه.
وأمر الله سبحانه عباده بأحكامه إما أن يكون بصريح لفظ (أمر) أو ما(1/152)
اشتق منه، وإما بألفاظ أخرى بصيغة طلب الأمر، كقوله تعالى: {حَافِظُواْ}، وكقوله: {فَاتَّبِعْهَا}، وكقوله: {قُلِ}. وإما بصيغة طلب النهي، كقوله تعالى: {لاَ تَكُونُواْ}، وكقوله: {لاَ تَقْرَبُواْ}، وكقوله: {لاَ تَشْتَرُواْ}.
وكلا الصيغتين: الأمر والنهي لهما صيغٌ أخرى، تفيد ما يفيده صريح الأمر والنهي، من طلب للشيءِ، أو طلب للكفِّ عنه، كقوله تعالى في الأمر: {عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ}.
مما تقدَّم يستبين لنا أن الرأْي ليس له موردٌ قطعاً في أوامر الله ونواهيه، وأن ما قضى به الله سبحانه، أو حكم به، أو أمر، ونزل به الوحي على رسول الله × إنما كان قضاءً أو حكماً أو أمراً عَلِم الله سبحانه به مصلحةً لعباده، فخاطبهم به خطاب العليم الحكيم الذي أحاط بكل شيء علماً منذ أن كان.
وقد يقول قائل: إنَّ الله سبحانه قد نسخ بعض الأحكام وشرع غيرها بدلاً منها، وأثبت ذلك في محكم تنزيله فقال: {مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا أَوْ مِثْلِهَا}، وقال أيضاً: {وَإِذَا بَدَّلْنَآ آيَةً مَّكَانَ آيَةٍ وَالله أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُواْ إِنَّمَا أَنتَ مُفْتَرٍ} أفليس هذا يشبه أن يكون رأياً؟!
فأقول: هذا قول في دين الله سبحانه بغير علم، وليس يدَّعيه إلا من لم يؤْت أدنى حظٍّ من الفقه في الدين، أو كان مجانباً للحق، باغياً عليه، عادياً حدوده، إذ النسخ شيءٌ، والرأي شيءٌ، فالنسخ زوال حكم قضى به الله وأمر به عباده في زمان ما، بحكمٍ آخر، اقتضت حكمته -وهو أعلم بما يصلح لعباده- أن يكون خطابه لهم على هذا النحو، يُدْرَكُ ذلك بعد ظهور الحكم واستجابة العباد له، وإذعانهم له بالعمل به، فيعلمون أن خطابهم بالحكم، أو بالحكمين الناسخ والمنسوخ في زمانين متعاقبين، إنما كان من رحمة الله سبحانه بهم.(1/153)
ثم إن من يقول بأن النسخ يشبهُ أن يكون رأياً، قد أوغل بعقله القاصر مَوْغِل بعض الفرق الشاردة عن مورد الهدى، تلك التي تقول وتعتقد بعقيدة "البَداء"، وهي عقيدة تكاد أن تكون اتهاماً صريحاً لله في علمه حاشاه، إذ معنى البَداءِ: "علم شيءٍ لم يكن الله يعلمه من قبل، فبدا له وظهر من حسن شيءٍ أو قبحه ما كان خافياً مستوراً"، وأيُّ ضلال أكبر من مثل هذا الاعتقاد المفترى على الله جلَّ جلاله، وهو الذي أحاط بكل شيءٍ منذ أن كان، وهو وحده أعلم كيف كان، وإلى أن تقوم الساعة.
فأيُّ فرق حينئذٍ بين من يرى أن النسخ يشبه أن يكون رأياً، وبين من يقول ويعتقد بعقيدة البداء؟! فهما شيءٌ واحد، واسم واحد، لمسمَّى واحد، وإن اختلفت صورتهما، وتباينت حروفهما.
والوحيان (الكتاب والسُّنَّة) شيءٌ واحد، مصدرهما الله سبحانه، نزل بهما جبريل على رسول الله ×، وقد قطع الرسول × الطريق على أُولئِك الذين أرادوا أن يفرقوا بين الوحيين، فقال: "يوشك الرجل متكئاً على أريكته يحدَّث بحديث من حديثي فيقول: بيننا وبينكم كتاب الله عز وجلَّ، فما وجدنا فيه من حلال استحللناه، وما وجدنا فيه من حرام حرَّمناه، ألا وإن ما حرَّم رسول الله × مثل ما حرَّم الله"، وقال فيهما أيضاً: "ولن يتفرقا حتى يردا عليَّ الحوض".
ولست هنا بصدد بيان مرتبة السُّنَّة من القرآن، والقرآن من السُّنَّة، فهذا يطول جداً، وقد أفردته في بحث خاص، أتيت فيه على مسائل نافعة إن شاء الله تعالى، يسَّر الله نشره، ولكنني بصدد بيان أنه لا يجوز إطلاق (الرأي) على السُّنَّة النبوية، كما لا يجوز إطلاقها على القرآن، فكلاهما وحيٌ من الله سبحانه، يدبِّر بهما أمر خلائِقه، الذين ذرأهم في الأرض ليعمروها.(1/154)
ومما يؤكد هذا أن الرسول × -مناط الوحي، ومعدنه المتلقيه، وحافظه ومُبْلغُهُ- قد علَّم الأُمة أن الرأي منه لا يكون وحياً، وأن الوحي لا يكون إلا وحياً، وأنه × بمحض بشريته لا يكون إلا بشراً فقال عليه السلام: "إذا أمرتكم بشيءٍ من رأيي فإنما أنا بشر"، فما يصدر عنه من رأي محض يظل رأياً، ربما كان رأي غيره مقدماً عليه، كما كان ذلك في تأبير النخل، وردِّه الأمر إليهم، وأنهم أعلم بأمور دنياهم، وما ذلك منه صلوات الله عليه وسلامه إلا إقراراً ببشريته، وإن فاق بشرية الناس بها، لكنه يظلُّ بشراً، يكون منه ما يكون من سائِر البشر، يدع لهم ما يحسبون أنهم على علم به لتجربة أو خبرة، فيقول لهم يوماً في سفر، وقد ظنوا أنهم فرَّطوا في صلاتهم: "ما تقولون؟ إن كان أمر دنياكم فشأنكم وإن كان أمر دينكم فإليَّ" إنه حقّاً لرسول بشر عظيم!!
وقد فقه الصحابةُ رضوان الله عليهم هذا عن نبيهم عليه الصلاة والسلام، فما عدوه، ولا جاوزوه، بل وقفوا عنده، ولزموه، وكانوا به متبعين، آخذين به أنفسهم، فلم يقدِّموا الرأي، ولم يُقدموا على جعله سبيلاً إلى دين الله، إلا كان أحدهم يعجز عن إقامة الدليل على المسألة التي يفتي بها غيْره، متهماً نفسه أولاً، فهذا عمر رضي الله عنه، يخطب الناس يوماً فيقول: "يا أيها الناس، إنَّ الرأي إنما كان من رسول الله × مصيباً، لأن الله
كان يريه، وإنما هو منا الظنُّ والتكلف".
بمثل هذا النظر الدقيق المنبِئ عن تقوى في صدورهم كانوا يعرفون الفرق الكبير بين الوحي وبين الرأي، قبل أن يتقرر الوحي فيُمضى، لأنه وحي، أو يوقَفُ عنده، فلا يُمْضَى لأنه ليس بوحي.(1/155)
وقد ظل الرأي مدرجة الظن والاتهام والخطإ عند الصحابة، ومن بعدهم، ممن أخذ عنهم أو أخذ ممن أخذ عنهم، لا يجدون فيه بَلالاً لعقولهم، التي ما كانت تجد ريّاً لظمئِها إلا في نصوص الوحي فحسب، حتى وفدت على دار الإسلام وأهله عقول، لم تكن بقادرة أن تُسيغ بعجمتها الفكرية سلامة الوحي، وصفاء آياته وكلماته، فأبعدت النجعة بآرائِها، وسارت بالأمة بعيداً عن صفاء الوحي وسلامته، وأخذت تزرع آراءَها العقلية، بين أظهر المسلمين، وكادت أن تجعل منها ديناً يعدل الوحي، ولكن أنى؟ وكيف؟ والوحي محفوظ بحفظ الله، لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه!!
ولست بمغفلٍ القول: إن الاجتهاد الذي حرَّك نصوص الوحي في عقول العلماء، وأدخلها عقول الملايين من طلاب العلم في شتى الأعصار والأمصار، وماج بها موجاً في عرصات المدارس والمساجد، وبنى صروحاً شامخة ضخمة في كل ديار الدنيا، انطلقت من فوقها نظريات وقواعد علمية جرت في الآفاق مجرى الليل والنهار، وفي الأنفس والعقول مجرى الهواء والدَّم، وبهرت أنظار العلماء من كل أُمم الأرض قاطبة، وحملتهم على حروفها ودلالاتها كما تحمل الطيور على الأغصان المونقة الخضراء.
أقول: إن هذا الاجتهاد كان، ولا زال، وسيظل أبرز سمات الإسلام نفسه وأعظمها، بل هو السمة الظاهرة الكبرى، التي تميزه من بين سائر الأديان والمذاهب، التي حملها الأنبياء والمصلحون البشر إلى شعوبهم وأُممهم.(1/156)
ولكن الاجتهاد لا يعني سوى تقليب النظر، وإعمال التفكير في النصوص، أو في النص الواحد لاستنباط حكم لا يفيده النص صراحة، بحيث يقال فيه: لا اجتهاد مع النصِ، فيكون الاجتهاد على هذا النحو الذي ذكرنا رأياً للمجتهد، يُصيبُ فيه أو يخطئُ، وله بصوابه فيه أجران، ويخطئِه فيه أجر واحد، غيْر أنَّه لا يُقال لاجتهاد أيِّ مجتهد، مهما كانت قدمه راسخة في الاجتهاد: هذا رأيُ الدين، أو رأي الإسلام، بل يُمكن أن يقال: هذا رأيُ المجتهد فلان في هذه المسألة، مع القطع بأن اجتهاده لا يعني أنه هو الذي أصاب به الحق المراد لله سبحانه، وأن اجتهاد غيره هو الخطأ، الذي لم يصب الحق المراد لله سبحانه، إذ الاجتهاد كما تقدم هو إعمال التفكير وتقليب النظر في النص الواحد، أو في النصوص، وهذا يكون منه الخطأُ كما يكون منه الصواب، وإلا لكان المجتهدون كلهم مخطئين أو مصيبين، وهذا ليس من العقل في شيءٍ.(1/157)
ومع أنَّ الجلَّة من أهل العلم في كل عصر لم يجاوزوا باجتهادهم هذا الفهم، فإنهم جميعاً أو عامتهم كانوا يرون في الرأي شيئاً من الإثم، أو يكاد، يفرون منه إلى البحث عن النص الصريح في الدِّلالة أو غير الصريح، يأخذون منه الحكم في المسألة التي تعرض، فإذا عجزوا فاؤوا إلى الرأي الاجتهادي في حرج بالغ، وقد توافرت النصوص عنهم، التي تفيد رغبتهم الأكيدة عن الرأي وذمِّه، إلى النص وحده ومدحه، مع إيصائِهم الناس أن يكونوا من الرأْي على حذر، وأن يطَّرحوا الرأيَ بعيداً حين يجدون الدليل من كتاب الله، وسُنَّة نبيه ×، يقول إمام دار الهجرة مالك بن أنس: "إنما أنا بشر أُخطئُ وأُصيب، فانظروا في رأيي، فكل ما وافق الكتاب والسُّنَّة فخذوا به، وكل ما لم يوافق الكتاب والسُّنَّة فاتركوه". وقد اتفقوا جميعاً على هذه الكلمة، على اختلاف في ألفاظها وحروفها. فقالها الإمام الشافعي، وأبو حنيفة، والأوزاعي، وغيرهم، وكل واحد كان يقولها وهو يعلم أنّ علماً كثيراً من رسول الله × لم يصله، وإن كان قد بذل جهداً في تحصيله وتعليمه الناس، ولم يدَّخر وُسْعاً أن يصيب منه قدراً ينيله تقوى الله، ويقفه تابعاً خلف نبيه صلوات الله وسلامه عليه.
وبدهي أن الرأي المذموم عند هذه الجلَّة الباهرة، ليس الرأي الذي يتعارض مع النص في صراحته أو دلالته القريبة أو البعيدة، فهذا شيءٌ كان عندهم أدنى إلى الكفر منه إلى الإيمان، لكنه الرأي الذي لا يجد باذله عنه مندوحة لتقرير مسألة، أو إظهار حكم الله في أمر يؤديه إليه اجتهاده، الذي يتقرب به إلى الله عبادة.(1/158)
هذا الرأي كانوا يفرون منه، ويود أحدهم لو يلقى الله سبحانه وهو لم يفت مستفتٍ في مسألة واحدة، لكنه إذا لم يجد إلا أن يفتي فهو يقدم على الفتيا، وقد علت وجهه الرُّحضاء، وارتجف قلبه من خوف ما هو مقدم عليه، كأنما نار تتلظى يراها بناظريه، يكاد أنْ يكب فيها على وجهه، لأنه إنما يفتي موقعاً بفتياه عن الله عز وجل، فأي أرض تقله، وأي سماءٍ تظله، وأي مدخلٍ يأوي إليه، إن هو قال على الله مالم يرد، أو قال على نبيه عليه
السلام ما لم يأذن به؟؟!!
من هنا ظلَّ الرأْي متهماً عندهم، لا يفصح عنه أحدهم إلا محذراً غيره، خائِفاً منه على نفسه، وهذا ابن سيرين رحمه الله، كان إذا سئِل عن شيءٍ قال: "ليس عندي فيه إلا رأي أتهمه، فيقال له: قل فيه على ذلك برأيك، فيقول: لو أعلم أنَّ رأيي يثبت لقلت فيه، ولكني أخاف أن أرى اليوم رأياً، وأرى غداً غيره، فأحتاج أن أتبع الناس في دورهم".
وكذلك قال سالم بن عبدالله بن عمر لرجل سأله عن شيءٍ: "لم أسمع في هذا بشيءٍ، فقال له الرجل: إني أرضى برأيك، فقال له سالم: أُخبرك برأي ثم تذهب، فأرى بعدك رأياً آخر غيره فلا أجدك".
ومن قبل هؤلاء قال الصحابة مثل قولهم، فكان قول المتأخرين موافقاً قول المتقدمين مطابقاً له، حتى لكأنهم ينطقون بلسان واحد، ويصدرون عن نظر واحد، ولا يخالف أحدهم الآخر إلا في اللفظ وحدهُ، وهذه منَّة امتن الله بها على هؤلاء النفر، الذين أُوتوا العلم بإخلاصهم، وصدق توجههم إلى ربهم، من ذلك ما روي عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه كان إذا سئل عن شيءٍ لم يبلغه فيه شيءٌ قال: إن شئْتم أخبرتكم بالظن.(1/159)
وكان الرأي عند أصحاب رسول الله × غير مساغ قط حتى ولو كان صواباً، فلا يجد أحدهم بدّاً من نصح إخوانه أن يتهموا الرأي في الدين، وإذ الرأْي متهم فصاحبه مقدَّم في الاتهام. فهذا سهل بن حنيف رضي الله عنه يقول: "يا أيها الناس، اتهموا رأيكم عن دينكم، لقد رأيتني يوم أبي جندل ولو أستطيع أن أردَّ أمر رسول الله × لرددته، وما وضعنا سيوفنا على عواتقنا إلى أمر يفظِعنا إلا أسهَلْنَ بنا إلى أمرٍ نعرفه".
وكان هذا منهم ليس من عند أنفسهم، بل هو أخذ عن رسول الله ×
الذي قال لهم فيما يروي لنا عبدالله بن عمرو رضي الله عنهما: "إن الله لا ينزع العلم بعد أن أعطاهموه انتزاعاً، ولكن ينتزعه منهم مع قبض العلماء بعلمهم، فيبقى ناسٌ جهَّال يستفتون، فيفتون برأيهم، فيُضلُّون ويَضِلُّون".
ولقد صدق أبو السمح حين قال: "إنه سيأتي على الناس زمان يُسْمِن الرجل راحلته، ثم يسير عليها حتى تهزل، يلتمس من يفتيه بسنَّة، فلا يجد إلا من يفتيه بالظن".
ولقد نبتت نابتة سوء في زماننا حين ألوى المشايخ أعنَّة عقولهم عن الإصغاء للحق وسماعه من نفر آتاهم الله حظّاً من فهم الكتاب والسُّنَّة، وأخذوا يعرضون على الناس هذا الفهم بأسلوب يجمع بين لغة الماضي ودقتها، وبين لغة الحاضر وسهولتها، فأصغت قلوب الكثيرين وعقولهم إليهم، فأوجد عليهم المشايخ، وأخذوا يريشون السهام ويشدون أوتار الأقواس، ويرمونهم من مكان خفي، لا يجرؤون على المواجهة الصريحة الشريفة، لعلمهم أنهم عاجزون أمام أُولئِك النفر، فأتوا من جهل وحسد في آن معاً، وشر الداء وأدوؤه ما يكون من جهل وحسد.
وأخيراً فإنني لا أحسب أحداً يجرؤُ أن يقول: رأي الله كذا، وأي فرق ظاهر بين قولنا مثلاً: رأي الله كذا، ورأي الدين أو الإسلام كذا، فإن الدين هو الوحي المنزل على النبي × الذي قال الله فيه: {إِنَّ الدِّينَ عِندَ الله الإِسْلاَمُ}.
? ?
مَن أحقُّ بالفتيا؟(1/160)
حينما رزحت على صدر مجتمع المسلمين كوارث الكفر، وأقامت بين أظهرهم بوائِق الشر، وسلبتهم الأمم الغالبة حرية التصرف في شؤونهم وفق مقتضى شريعة الإسلام، وألزمتهم السير في ركابها، والأخذ بكل ما تمليه عليهم في نظام حياتهم، صاروا إلى حال من السوء أدنى ما تكون إلى الشك في صحة شريعة الإسلام وحقيقتها بالأخذ، وجعلوا يصرفون -مع اتساع رقعة الزمن- أبصارهم عنها، يأخذون لأنفسهم من غيرها مما قد يتفق أو لا يتفق مع صريح الشريعة، متأولين نصوصاً فقهية لا يُدرى في حقيقة الأمر صحة نسبتها إلى قائِليها، لكثرة ما أعتور مؤلفاتها، محاولين بذلك التلفيق أو التوفيق بين ما صار مفروضاً عليهم، وبين ما تفرضه الشريعة من أحكام، غير ذاكرين أن ذلك الشك لا يتطرق من قريب أو من بعيد إلى الأصلين اللذين يجب على كل من يطلب منه الإفتاء أن يعود إليهما في فتواه، إذ الإفتاء هو في حقيقته اجتهاد.
واختلاف العلماء في مسألة من المسائِل يعود في جميع أحواله إلى أمرين اثنين:
•…أحدهما: عدم توفر الدليل مما يحمل العالم على الاجتهاد قياساً على مسألة، أو استنباطاً من دليل عام يتناول مسائِل كثيرة.
•…ثانيها: وجود الدليل ولكن ربما خفي وجه الدِّلالة فيه على المسألة التي دلَّل به عليها عالم، وظهر وجه الدلالة فيه بشكل أدق وأسلم لعالم آخر، وهذا يكون لاختلاف قوة النظر بين العلماء، بما أوتي كل منهم من فهم للنص ذاته، وبمعرفته بما يتصل به من أحوال تعين على فهمه، بغض النظر عن فلان أو فلان، فإن الحق لا يعرف بالرجال، بل الرجال يعرفون بالحق.(1/161)
وهنا يأتي دور العالم أو الفقيه في أي زمان، وفي أي مكان، أن ينظر في ما نظر فيه العلماء أو الفقهاء الذين مضوا قبله، وخلَّفوا وراءهم اجتهادهم في المسائِل التي اجتهدوا فيها، لا في الأخذ بها أخذاً مسلَّماً فيه، من غير ترجيح لاجتهاد على اجتهاد في مسألة ما، ولا في النظر الحائِر الذي يتيه فيه الناظر نفسه، فضلاً عن غيره، ممن ينتظر أن يعرف حكم الله في هذه المسألة، ولا في سوق الاجتهاد فيها سوقاً مجرداً، قائِلاً: هذا رأي فلان في هذه المسألة، وهذا رأي فلان... الخ. ولا في التعصب لرأي واحد لا يحمله عليه إلا الهوى، فكل هذه لا يكون فيها نصح لعامة المسلمين ولا لخاصتهم، وليس يصح أن يقال: إن في واحد من هذه كلها علماً صحيحاً بله أن يقال: إفتاء.
إذاً فواجب العلماء في المسائل التي اختلفت فيها أنظار العلماء باجتهادهم هو النظر من جديد في هذه المسائِل، بإنزالها على أدلتها من الكتاب والسُّنَّة وإجماع الأمة، فإن رجح لديهم اجتهاد عالم في مسألة منها على اجتهاد عالم آخر لموافقته صريح الدليل، فيكون اجتهادهم فيها قد وافق اجتهاد من سبق، ولا يكون ذلك إلا محض توافق في نظر مجتَهدَيْن اثنين متقدم منهما ومتأخر، اجتهد كلاهما، مستندين في اجتهادهما إلى دليل.(1/162)
وفي الأغلب أن اجتهاد المتأخرين لا يتجاوز دائِرة اجتهاد المتقدمين في المسائل التي اجتهدوا فيها، ولا يعدوا اجتهادهم ترجيح رأي على رأي، إلا في قليل من المسائِل التي اختلفت أيضاً فيها أنظار المتقدمين للسببين اللذين ذكرنا آنفاً - غير أن اختلافهم لم ينته بأحدهم إلى الوقوف على الحكم الصحيح في هذه المسائِل، وهنا يكون الدور الكبير للمتأخرين من العلماء، القادرين على النظر الاجتهادي، ليقدموا جديداً من العلم للأمة غفل عنه المتقدمون، أو أخطؤوا فيه، أو لم يقطعوا فيه برأي لخفاء الدليل أو ذهابه، ولا يقال هنا: لم يترك المتقدمون للمتأخرين شيئاً، بل يقال: كم ترك المتقدمون للمتأخرين، وفي عالمنا الإسلامي اليوم وفرةٌ من العلماء القادرين على النظر الاجتهادي، ولكن منهم من يحجم عن الاجتهاد وهم الأكثرون، ومنهم من يقحم على الاجتهاد دائِرته وهم الأقلون، فيخرج منها بين الفينة والفينة قبضة من العلم، فينثرها بالقلم واللسان بين المسلمين في بلادهم وفي غير بلادهم.
وقد مني هؤلاء الأقلون بجهلةٍ ممن يُلحقون أنفسهم بالعلم إلحاقاً، وسربلوا أجسامهم بسرابيل تقيهم الأقل منهم جهلاً أن يُفْتَضحوا في أعينهم، وغشيتهم غواشي الحسد الأسود، فانطلقوا في خفوت أحياناً، وفي صراخ أحياناً أخرى يمكرون بأولئِك الأقلين، ويكيدون لهم كيداً لا يفعله أعدى الأعداء، وأشدهم حرباً على الحق، ويصورونهم تارة بالخروج على جماعة المسلمين، وتارة بكراهية الأئِمة الأعلام، وتارة بالطعن على الأولياء، وتجريح الأتقياء بنصوص الكتاب والسُّنَّة، وتارة بالتآمر على الأمن، وتارة بإثارة الفتن، وتارة وتارة وتارة، فيلقى أولئك الأقلون من
هؤلاء من الشر والبَهْت، ما لا يقوى على احتماله إلا أولو العزم.(1/163)
ومما يزيد من إلزام هؤلاء الأقلين بالاجتهاد الأمور الحادثة التي لم تكن في عهود مضت، وهي كثرة، ولا يمكن القول بالاكتفاء بوقوعها، وترك الناس وشأنهم فيها، من غير أن يفصل بين ما هو محظور منها وبين ما هو مباح، فإن إظهار حكم الله في المسائل الحادثة واجب لا محيد عنه، وتخلي القادر عنه فيه إثم كبير، لأن الله سبحانه انتدب لدينه طائِفة من العلماء أوجب عليهم ذلك، ولا يستقيم أمر الإسلام في حياة الناس إلا به، ولا يعظم شأن الإسلام في أعين الناس إلا به، ولا يُقْبِلُ غيرُ المسلمين على الإسلام إلا به، فإن أحجم العلماء القادرون عن إظهار حكم الله في هذه المسائِل، فإنهم بإحجامهم هذا قد ألقوا الناس في ظلمات الحيرة والاضطراب.
وإذا قُدِّر وجودُ فقهاء مذاهبَ في زماننا، ليس فيهم قدرة سوى استيعاب نصوص المذاهب وحكايتها كما هي لمن يستفتونهم، والقطع في أنفسهم أنها هي الحق ولا حقَّ سواها، أو أن الحق متعددٌ بتعدد المذاهب التي ينسبون أنفسهم إليها، ثم نراهم يحرصون على إلزام الناس بها بما يكون أشدَّ من حرصهم على استقصاء أدلة المذهب الذي يفتون به من يستفتونهم، ويُعلَنُ في الناس أنهم مفتون، فهؤلاء ما كان ينبغي أن يرضوا أن يتبوَّءوا مناصب المفتين، لأنهم يعلمون أن الإفتاء هو الاجتهاد، والمفتي مجتهد، وهم قد قعدوا عن بلوغ مرتبة الاجتهاد، إما من عجز وإما من خوف، وكلاهما حائل لهم عن الوصول إلى منصب الإفتاء، فأولى بمن يعرف من نفسه عجزاً عن الاجتهاد، أو خوفاً من ولوج بابه، وهو يتبوأُ
منصب الإفتاء أن يعتزله لئلا يحمل وزره ويتخوض في إثمه.(1/164)
ولا يجوز شرعاً إذا وجد من يقدر على الفتيا بالنظر في ما تيسر له من الأدلة، والمعرفة بمذاهب المجتهدين أن يُصَدَّ عن الفتيا، أو يؤخذ بحجْزِه عنها، أما من كان جاهلاً بها، ينكشف جهله من أول فُتيا يُفتي بها، ولم يعرف عنه إلا التسليم للمذهب الذي تفقه فيه، من غير أن يكون له جهد إلا نقل مسائِله لمن يستفتونه، فهذا هو الذي يُمنع من الفتيا، وحتى هذا لا يجرؤ على منعه من كان مثلَه، أو من كان دونه، أو من كان أعلى منزلة منه في معرفة المذهب والتسليم له.
وقد أخبر النبي × عن زمان يأتي على الناس يتصرف فيه العلماء ويضعف فيه العلم، وينزع الناس فيه إلى الجهل، فقال: "إن الله لا يقبض هذا العلم انتزاعاً ولكن يقبضه بموت أهله، حتى إذا مات العلماء اتخذ الناس رؤوساً جهالاً فاستفتوهم فأفتوهم فضلوا وأضلوا". أفيكون من حق هؤلاء الذين أخبر النبي × عنهم أن يقولوا في الذين ويجولوا كما يشتهون، ثم لا يكون من حق من أكرم الله بعلم الكتاب والسُّنَّة والإحاطة بمذاهب أئِمة الإسلام ومجتهديه أن يفتي، فإذا أفتى انتضى أُولئِك أقلامهم وأحقادهم وحسدهم ثم أخذوا يأتمرون عليه، ويظهرون في أعين من ألقوا إليهم بمقاليد عقولهم الجاهلة أنه داعية فرقة، ومثير فتنة، ومدبر مكيدة، لا تحكمهم تقوى، ولا يردهم دين، ولا يَرْدَعُهم خوف من الله ولا اليوم الآخر.
وأضع بين يدي القارئ الكريم ما كنت كتبته في كتابي "الرأي السديد في الاجتهاد والتقليد" تحت عنوان: وأخيراً المفتي.(1/165)
إن من أهم ما يجب أن يعرفه طالب العلم أن الفتوى في الدين أمرها ليس بالسهل، وأنه لا يجوز لأي إنسان أن يتعرض لها من غير أن يتخذ الأسباب الكاملة التي تؤهله أن يفتي في المسألة الواحدة، أو المسائِل الكثيرة التي تعرض له، ولا ينبغي أن يغيب عن فطنة طالب العلم أنه إذا ذكر الاجتهاد ذكر الإفتاء، فهما صنوان، ولذا يجب علينا أن نعرف الأوصاف التي يجب أن تتوفر في المفتي أولاً، قال أحمد بن حمدان الحراني الحنبلي: "ومن صفته وشروطه -أي المفتي- أن يكون مسلماً، عدلاً، مكلفاً، فقيهاً، مجتهداً، يقظاً، صحيح الذهن والفكر والتصرف في الفقه وما يتعلق به".
ثم عرض ابن حمدان رحمه الله إلى تفصيل هذه الشروط وبيانها، وصفة الاجتهاد التي تؤهل المفتي للإفتاء ليس مقصوداً بها أن يكون قد نال مرتبة الاجتهاد المطلق، بل المهم أن يكون مجتهداً فيما يفتي فيه، فالمجتهد المطلق، ومجتهد المذهب، والمجتهد في نوع من أنواع العلم كأن يكون متبحراً في علم الفرائِض مثلاً، ومجتهد المسألة أو المسائِل، كل هؤلاء مجتهدون، ويجوز لهم أن يفتوا، أما المجتهد المطلق فله أن يفتي في كل مسألة يسأل عنها، وأما مجتهد المذهب فميدانه المذهب الذي تفقه فيه، وعرف مسائِله كلها خفيها وجليها، فهو إذ يفتي إنما يفتي بالمسألة المستندة إلى دليلها الذي يعرفه ويتقنه. وأما المجتهد في نوع من العلم فيفتي في مسائِل هذا العلم فقط دون سواها، وأما مجتهد المسألة أو المسائِل فلا يجاوزها إلى غيرها في فتياه.
وأما ما ترى عليه المفتين في أغلب بلاد المسلمين من التقيد في(1/166)
فتياهم بمسائِل المذاهب التي تفقهوا بها، من غير نظر في الدليل، فإن ذلك منهم لا يعتبر إفتاء، وإنما هو حكاية لرأي أو بيان لاجتهاد رجل آخر حفظ عنه مسائِله التي أفتى بها، وهو إذ يفعل ذلك إنما يفتي من غير دليل، وهذا لا يجوز من المفتي أبداً، يقول ابن القيم رحمه الله: "ينبغي للمفتي أن يذكر دليل الحكم ومأخذه ولا يلقيه للمستفتي ساذجاً مجرداً عن دليله ومأخذه، فهذا لضيق عطنه وقلة بضاعته من العلم، ومن تأمل فتاوى النبي × الذي قوله حجة بنفسه، رآها مشتملة على التنبيه على حكمة الحكم ونظيره ووجه مشروعيته، فإذا عريت الفتوى من الدليل فلا يجوز للمفتي أن يفتي مقلداً إمامه في المذهب من غير نظر في الدليل، بل يكتفي بمعرفة حكم هذه المسألة التي تعرض له عند إمام مذهبه من غير أن يعرف دليلها".
وقال الرازي في "المحصول": "اختلفوا في غير المجتهد، هل يجوز له الفتوى بما يحكيه عن المفتين، فيقول: لا يخلو إما أن يحكي عن ميت أو عن حي، فإن حكى عن ميت لم يجز له الأخذ بقوله لأنه لا قول للميت، لأن الإجماع لا ينعقد على خلافه حيّاً، وينعقد على موته، وهذا يدل على أنه لم يبق له قول بعد موته، وقد حكى الغزالي في المنخول إجماع أهل العلم على المنع من تقليد الأموات".
ولذلك كان الصحابة والتابعون يحذرون من الفتيا التي لا تستند إلى دليل من قرآن أو سُنَّة، فهذا عبدالله بن قيس رضي الله عنهما يقول لجابر ابن زيد وقد لقيه في الطواف: "يا أبا الشعثاء، إنك من فقهاء البصرة، فلا تفت إلا بقرآن أو سُنَّة، فإنك إن فعلت غير ذلك هلكت وأهلكت". ويقول عبدالله بن مسعود رضي الله عنه: "تعلموا العلم قبل أن يُقبض، وقبضه أن
يذهب أهله، ألا وإياكم والتنطع والتعمق والبدع، وعليكم بالعتيق".(1/167)
وكانوا يرون إثم الفتيا يلحق من يفتي بغير دليل، لأنه بفتياه هذه حمل من قبل فتياه أن يعمل بها من غير تثبت، يقول أبو هريرة رضي الله عنه: "من أفتي فتيا من غير تثبت فإنما إثمه على من أفتاه".
كما كانوا يكرهون السؤال عن أمر لم يقع، لما فيه من التكلف، فعن مسروق قال: "كنت أمشي مع أُبيِّ بن كعب، فقال فتى: ما تقول يا عماه في كذا وكذا؟ قال: يا ابن أخي: أكان هذا؟ قال: لا. قال: فاعفنا حتى يكون". وعن الأعمش قال: "كان إبراهيم إذا سئِل عن شيء لم يجب فيه إلا جواب الذي سئِل عنه".
وكانوا يمسكون عن الفتيا بما لا يعلمون خشية أن يقعوا في هلاك بفتياهم، ويرون النجاة في قول لا أدري. فعن الشعبي قال: "لا أدري نصف العلم".
انظر إلى ما يقوله أعلام العلماء، ثم انظر ما يكون من مفتي هذا الزمان، واعتمادهم في فتاواهم على ما استودعه المؤلفون بطون كتبهم، وهم يظنون أنهم بذلك يحسنون صنعاً، أو أن العلم لان لعقولهم، ولو علم هؤلاء المفتون لِمَ صنف الفقهاء كتبهم لراجعوا أنفسهم كثيراً قبل أن يعمدوا إلى إحدى فتاواهم فيفتوا الناس بها، والفقهاء الذين ألفوا ثم أفضوا إلى ربهم رحمهم الله، ما ألفوا إلا لأمرين:
•…أولاً: ليفيد الناس من بعدهم طرق الاجتهاد، وذلك لحسن تصرفهم في الحوادث، وبناء بعضها على بعض.
•…وثانياً: لمعرفة المتفق في المسائِل والمختلف فيها، وهذا اللون العلمي لا نجده إلا عند فئة قليلة من الفقهاء، وهم الطبقة الممتازة كالنووي، وابن قدامة، وابن حزم رحمهم الله، أما الغالبية العظمى من الفقهاء فهم ناقلون جمَّاعون.(1/168)
أما أن يحكي غير المجتهد فتواه عن مجتهد حي ويفتي الناس، فقد قال فيه الآمدي رحمه الله: "ذهب أبو الحسن البصري وجماعة من الأُصوليين إلى المنع من ذلك، لأنه إنما يُسأل عما عنده، لا عما عند غيره، ولأنه لو جازت الفتوى بطريق الحكاية عن مذهب الغير، لجاز ذلك للعامي، وهو محال مخالف للإجماع"، وقال ابن القيم رحمه الله: "ليحذر المفتي الذي يخاف مقامه بين يدي الله سبحانه وتعالى أن يفتي السائِل بمذهبه الذي يعتقده وهو يعلم أن مذهب غيره في تلك المسألة أرجح من مذهبه وأصح دليلاً، فتحمله الرياسة على أن يقتحم الفتوى بما يغلب على ظنه أن الصواب في خلافه، فيكون خائِناً لله ورسوله وغاشّاً له، والله لا يهدي كيد الخائِنين، وحرم الجنة على من لقيه وهو غاش للإسلام وأهله، والدين النصحية، والغش مضاد للدين كمضادة الكذب للصدق و الباطل للحق"، وقد تقدم كلام لابن القيم أيضاً نصه: "ينبغي للمفتي أن يذكر دليل الحكم ومأخذه ولا يلقيه للمستفتي ساذجاً مجرداً عن دليله ومأخذه"، وقال أيضاً: "لا يجوز للمقلد أن يفتي في دين الله بما هو مقلد فيه وليس على بصيرة فيه سوى أنه قول من قلده دينه، هذا إجماع السلف كلهم، وصرح الإمام أحمد والشافعي رضي الله عنهما بذلك".
هذه النقول تكفي في تعريف المفتين واجبهم وما ينبغي عليهم أن
يفعلوه من بذل الجهد في استيعاب العلم ومعرفة خوافيه وظواهره، وصرف الهمة إلى علوم الكتاب والسُّنَّة، والوقوف بالمسائِل عند حدودها المرسومة التي عرفها السلف الصالح، فوقفوا عندها، وليعلم أن الإفتاء جليل الشأن خطير الأثر، فإن فتوى المفتي شريعة عامة كما يقول ابن القيم رحمه الله تعالى، وقد أخرج أبو داود عن أبي هريرة قال: قال رسول الله ×: "من أفتي بغير علم كان إثمه على من أفتاه".(1/169)
ولا شك أن الإفتاء أصعب منزلة من القضاء، لأن المفتي من شأنه إصدار ما يرد عليه من ساعته بما حضره من القول، والقاضي شأنه الأناة والتثبت، ومن تأنى وتثبت تهيأ له من الصواب ما لم يتهيأ لصاحب البديهة.
? ?
الخرَّاصُون
الخَرَص هو: الحزر، والكذب، وكل قول بالظن، قاله صاحب "القاموس"، والخارص: اسم فاعل من الخَرَص، والخرَّاص: صيغة مبالغة تدل على كثرة الخرص أو الكذب، أو القول بالظنِّ، إذ القاعدة في اللغة: أنَّ زيادة المبنى تدل على زيادةٍ في المعنى.
والقول القائِم على الظن والحرز هو كذب ومين، ومنه قوله ×: "إياكم والظنَّ، فإن الظنَّ أكذب الحديث"، قال في "النهاية": الخرص هو تقدير بظن.
وإذا ظلَّ الخرص حبيس النفس لا يتجاوزها إلى قول أو فعل، فهو لا إثمَ فيه، أما إذا ظهر له أثرٌ، فأشفى بصاحبه على قول فقاله، أو على فعلٍ ففعله، فيكون حينئذٍ قد اجترأ على إثمٍ فاجترح ما أداه إليه من أسبابه التي تبديه، فهو خراص، والخراص ملعون، قال رسول الله ×: "وإن همَّ بسيِّئة فلم يعملها كتبها الله تعالى له عنده حسنة كاملة، وإن همَّ بها فعملها كتبها الله سيئَةً واحدة".
ومعنى قُتِلَ في قوله تعالى: {قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ}، لُعِنَ، ويراد به الدعاء عليهم، ولم يأتِ اللعنُ في القرآن بهذا اللفظ إلا في أربعة مواضع:
•…الأول: في سورة الذاريات، وهو هذه الآية.
•…والثاني: في سورة المدثر، وهو: {فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ * ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ}.
•…والثالث: في سورة عبس، وهو: {قُتِلَ الإِنسَانُ مَا أَكْفَرَهُ}.
•…والرابع: في سورة البروج، وهو قوله: {قُتِلَ أَصْحَابُ الأُخْدُودِ}.(1/170)
والعلاقة بين اللعن والقتل وثيقة جدّاً، فاللعن معناه الطرد والإبعادُ من رحمة الله تعالى، والقتل: إزالة الروح عن الجسد، ومن طُرِدَ من رحمة الله وأُبْعِدَ فله بالمقتول شبه محاكاة، إذ ليس له حظ مما كان يصيبه من تلك الرحمة لو لم يكن منها مطروداً، والقتل يفضي بالمقتول إلى زوال الحياة عنه التي بها الإحساس والإمساس، فلا يصل بينه ويين ما حوله من الأشياء واصلةٌ.
ولم يذكر الخرص في القرآن إلا مقروناً بالظن الصريح، ففي سورة الأنعام: آية 148 {قُلْ هَلْ عِندَكُم مِّنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِن تَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ أَنتُمْ إَلاَّ تَخْرُصُونَ}، وآية 116، {وَإِن تُطِعْ أَكْثَرَ مَن فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَن سَبِيلِ الله إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ}، وفي سورة يونس: آية 66 {وَمَا يَتَّبِعُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ الله شُرَكَاءَ إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ}.
والظنُّ في هذه الآيات هو تأويل أو كالتأويل لكلمة الخرص، بل إنه هو اللفظ المرادف للفظ الخرص في معناه كما سبق وبينا، فكأنما هو فيها من بابِ تأكيد اللفظ باللفظ.
وإذ قد تضافرت نصوص القرآن والسُّنَّة كليهما على ذم الظن - الذي هو من معاني الخرص ومرادفاته - فليس للإنسان أن يقحم نفسه في الخرص إقحاماً، وهو قادر على أن ينأى عنه، وإذا أرخى الإنسان لنفسه العنان في مضمار الخَرَصِ جمح به فأهلكه، وليس العاقل بذاك.
ويحسن بالإنسان أن يُعَوِّد نفسه على أن يحسن الظن بالناس، إذ ليس في حسن الظن ما يسوءُ أو يسيءُ -وإن كان يلحق بصاحبه شيئاً من الأذى- أما سوءُ الظن فإنه وائِد للمودة، مثير للخصومة، باعث للفتنة، مهيج للعداوة، مفرق للجماعة، ممزق للألفة، ولا يقي من ذلك كله ويدفعه إلا ضده وهو الظن الحسن.(1/171)
والخرص لا يختص ضره بالخارص وحده، فإنه لا يكاد يلم بأحد حتى ينتقل إلى آخر، ومنه إلى غيره وهكذا، حتى يشيع في الناس، فيأْكل ما في قلوبهم من خير، ويحصد ما زرعوا من أسبابه، ولا يكون من ثم فيهم فضل لشيءٍ مثلما للظن السيِّءِ في نهاية الأمر، إذ لا يحيق الظن السيِّءُ إلا بأهله.
ودائِرة الخرص واسعة جدّاً لا يكاد العقل يحيط علماً بقطرها، وعلى كل جزءٍ منها يقف خراص متخصص في الجزء الذي يقف عليه، وكلما أمعن الخرَّاص في الوقوف على ذلك الجزء، تراه يزداد بصراً ومعرفة بالخرص، حتى يصير -أو يكاد- خارصاً بالفطرة، لا يمكنه النزوع مما هو فيه، لأنه شيءٌ فطر عليه، وليس من شيءٍ أقوى استمساكاً ورسوخاً من الفطرة، فلا يكون له من شغل إلا أن يصرف عقول الناس إليه، وبخاصة من ارتابت قلوبهم، ونأى عن النور إلى الظلمة بصرهم، ولا يزال الخرص بالخارص أو الخراص - على اختلاف درجاتهم - حتى تصرعه على وجهه غمرته في دنياه، وتبوِّئُه نار جهنم في أُخراه.(1/172)
والخراص أدنى ما يكون شبهاً بالجعل الذي يدفع النتن بأنفه، فإذا جاوز دائِرة النتن، وخرج بما يدفعه إلى جو النظافة والطهر سقط صريعاً، فيخلفه على النتن غيره، وهكذا كلما سقط واحد من الجعلان لخروجه من النتن يخلفه سواه، والخراصون يشبهون الجعلان في ذلك، فإنهم لا يعيشون إلا في النتن، ولا يجدون متعتهم إلا فيه، ولا تملأُ قلوبهم السعادة إلا في الروائِح الكريهة، ولا تغمرهم اللذة إلا في رطوبته وعفونته، لذلك لا تراهم إلا متسللين وسط الفتنة يبغنوها، وفي لجة الخبائِث يرتعون فيها، وفي كبة الشر يعلونها، يقطعون علائِق الحب، ويخرجون الأبرياء إلى ساحات الاتهام، ويفتشون عن القبائِح والسوْءات، ينشرونها على الناس بلا حياء ولا ورع، ويرمون المحصنات العفيفات في غير خوف من عذاب ولا رجاءٍ في رحمة، ويقذفون الورعين الأتقياءَ بالغيب من مكان بعيدن ويكيلون للشرفاء الأقوياء في دينهم التهم جزافاً، ولا يرون في الأطهار العظماء إلا ريبة تتبعها ريبة، ويوزعون الألقاب والأوصاف على الناس، فهذا عندهم خائِن عميل، وهذا منافق حاذق، وهذا خبيث ماكر، وهذا كذاب أشر، وهذا يلعب على سبعين حبلاً، وهذا لا تغلق السفارات أبوابها في وجهه، بل وتغرقه بالمال إغراقاً، وهذا يختل المغفلين ويستدرجهم إلى مآربه، وهذا يعرف من أين تؤكل الكتف، وهذا يملأُ جيوبه من جهات مريبة، وهذا يمده أهل الضلال بالفكر الباطل مدّاً، إلى غير ذلك من الألقاب والأوصاف التي لا تليق إلا بهم، ولا تصلح إلا لهم، وهم يظنون أنهم من كل تلك الأوصاف والألقاب أبرياء، أو قل: هكذا يخيل إليهم شياطينهم الذي يوحون إليهم بها، أفلا يكون حقّاً علينا أن نلعن هؤلاء بلعنة الله، فنقول: {قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ}.(1/173)
ومن شر الخرص أن يأتي الخراص من وراءِ ظهور الناس، يبحث عن واحد منهم يلقي إليه بشَرَكِهِ، ويوثقه به، فلا يقوى على الفكاك منه، وهذا الواحد لا يصرفه عن حسن ظنه بالخراص صارف، فإذا لقيه أسرع إليه بالمودة، وألقى إليه بالسلام، وأقبل عليه بالبشاشة، والخراص لا يرى في براءَة هذا الواحد أوْ ذاك إلا لوثة يصبغ بها لسانه، ويفتل بها حبلاً من الإفك فتلاً شديداً ليزيد من شدة وثاقه إليه.
ومن شر الخرص أيضاً أن يقتنص الخراص كلمات سمعها من فلان أوْ من فلان، فيزيد عليها أوْ ينقص منها، لا يبغي إلا أن يشوه صورة فلان هذا، فيجرِّئُ الناس عليه بذمه والنيل منه، لا يحمله على ذلك إلا حسد حط في صدره بأقبح شيءٍ وأسوئِه، أو مظنة سوءٍ أفزعته في نوم ويقظة، بلا دليل ظاهر، ولا برهان مبين.
ومن شر الخرص أيضاً أن يتربص الخراص بمن يريد خرصه الدوائِر، حتى إذا شام شيئاً رابه منه، أمسك به بيديه، ثم أقام عليه بنياناً من الإفك والزور، وأغرى الناس بزيارته والطواف به، فيعجبون مما صنع هذا الخراص، ويرون في بنيانه هذا - وقد نمقه وشيده - بنياناً حقيقاً بالتدبر والنظر، ليكون أنموذجاً لهم، فيدخلونه ثم لا يعرفون كيف يخرجون منه.
والخرَّاص يرسم لنفسه دائِرةً يجر إليها من يحب أن يخرصه صيداً سهلاً بلسانه الذرب ونفسه المريضة، فلا يغادرها إلا إذا ملك الضجر عليه أقطار نفسه، فإذا عاد إلى ما كان عليه من قبل فإنه لا يلبث أن يعود سيرته الأولى، وهكذا حتى يرى نفسه موثوقة إلى خرصه، فلا يفتأُ يذكرها بالسوء والشر في سره، فيدخلها في تلك الدائِرة التي رسمها لنفسه، فيكون شأنه في ذلك شأن الحُطيئَةِ حين لم يجد من يهجوه بشعره، ولم ير بدّاً من أن
يقول هجاء لغلبة طبع فيه، فهجا نفسه.(1/174)
وما أجدر الخراصين الذين ذهبوا في غمرتهم يضعون في الناس بألسنتهم إيضاع مأفون أخرق أن يحفظوا قول نبينا صلوات الله وسلامه عليه في وصيته لمعاذ بن جبل حين سأله معاذ، وهل نحن مؤاخذون بما نقول يا رسول الله؟ فقال عليه الصلاة والسلام: "ثكلتك أمك يا معاذ، وهل يكب الناس على مناخرهم في جهنم إلا حصائِد ألسنتهم؟!".
? ?
حكم الغناء
عني الإسلام بالإنسان عناية عظيمة، وفضله على كثير من خلق الله، فأوضح له السبيل، وأبان له المنهج، وأقامه على المحجة، وأمره باتباع الحق، ونهاه عن التلبس بالباطل، وهيّأَ له أسباب الحياة الفاضلة المطمئِنة، وأباح له الاستمتاع بوسائِل اللهو المباح التي لا تحرجه، ولا تخرجه إلى دائِرة الحرام.
ومن الوسائل التي أباح الإسلام الاستمتاع بها الغناء المُطرَّب، ولكن بشروط عرفناها من نصوص القرآن العزيز، والسُّنَّة النبوية المطهرة، فإذا اختل شرط من هذه الشروط دخل الغناء في دائِرة الحرام ولم يعد مباحاً.
•…الشرط الأول:
أن لا يكون في الغناء دعوة لمعصية، أو وصف لشيءٍ محرم، أو الإشادة بأمر منكر، أو التجرؤ على فجور في قول أو فعل، أو غير ذلك مما حرم الله سبحانه على عباده من الفواحش الظاهرة والباطنة، يقول الله سبحانه: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ}، وفي الحديث الصحيح حين ذكر للنبي × غيرة سعد بن عبادة، قال: "أرأيتم إلى غيرة سعد، فأنا أغير منه، والله أغير مني، من أجل ذلك حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن".
•…الشرط الثاني:(1/175)
أن لا يصرف الغناءُ المغني أو من يستمع إليه عن واجب ديني، وأن لا يوقعه في حرام ظاهر أو خفي، كأن يشغله عن صلاة من الصلوات الخمس، أو عن إصلاح ذات البين، أو السعي في حاجة ملهوف يقدر على قضائِها، أو كأن يحمله الغناءُ على مخالطة العصاة والفجار، وأهل الفسوق والمجانة وسفهاء الناس، ثم على الوقوع في المعاصي والفواحش التي قد يدعو إليها الغناءُ، وهذا الشرط مستنبط من آيات قرآنية كثيرة، فمن الآيات قوله تعالى: {إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَن ذِكْرِ الله وَعَنِ الصَّلاَةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُّنتَهُونَ}، وكل ما صدَّ عن الصلاة وغيرها من الواجبات فهو كالخمر، وقوله: {الَّذِينَ يَسْتَحِبُّونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الآخِرَةِ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ الله}، ومن صرفه الغناءُ عن واجب ديني فقد استحب الحياة الدنيا، وكل ما أوصل إلى حرام أو نشأ عنه حرام فهو حرام، ومن الأحاديث قوله ×: "قاتل الله اليهود، إن الله لما حرم عليهم شحومها جملوه - أي: أذابوه- ثم باعوه فأكلوا ثمنه"، أي: لعنوا باستحلالهم ثمن الشحوم، والشحوم حرام عليهم.
•…الشرط الثالث:
أن لا يكون الغناءُ مصحوباً بآلات الطرب والموسيقى، القديم منها والحديث التي تزيد في تحسين صوت المغني وأدائِه، وهذا الشرط مستفاد من صريح قوله ×: "ليكوننَّ من أُمَّتي أقوام يستحلُّون الحِرَ والحرير والخمر والمعازف". ووجه استنباط هذا الشرط الثالث من هذا الحديث، أن الرسول × أنبأ عن أُناس يفسدون ويجترئُون على أشياء حرمها الله، لما فيها من إفساد للعقل والجسم والمال، فيحلونها لأنفسهم أو لغيرهم، وهذه الأشياء هي "الزنا" الذي جاء في الحديث بلفظ "الحر" و "الحرير" فهو محرم على الرجال لا على النساء، و "الخمر"، و "المعازف" وهي الآلات
التي يعزف عليها للتطريب كالعود والمزمار وغيرهما.(1/176)
وقد يستشهد بعض الناس على جواز استخدام آلات الطرب والموسيقى بإباحة الرسول × للجاريتين أن يضربا على الدف، حين أنكر أبو بكر الصديق رضي الله عنه عليهما قائلاً: أمزامير الشيطان في بيت رسول الله؟! فقال له الرسول ×: "دعهما يا أبا بكر، فإن لكل قوم عيداً" فهذا لا يصح الاستشهاد به على جواز استعمال هذه الآلات، فقد كان وقر في نفس أبي بكر أن الدف من المزامير المحرمة، فلما سمعهما يضربان أنكر ذلك عليهما، فلما سمع إذن الرسول × لهما بالضرب عليه وأتبع ذلك بقوله: "فإن لكل قوم عيداً" علم أن الإذن لا يتعدى الدف وفي أيام العيد، فجواز استعمال هذه الآلة من المعازف مخصوص بأيام العيد، وما يشبهها من مناسبات كالأعراس مثلاً، وللجاريات فقط، على أن لا يتعدى ذلك الدف إلى غيره من آلات الموسيقى.
فإذا تحققت هذه الشروط الثلاثة أُضيف إليها شرط رابع، وهو: أن يكون غناءُ المرأة للنساء وحدهن، وغناءُ الرجل للرجال وحدهم، لأن في غناءِ المرأة للرجال أو غناءِ الرجل للنساء مفسدة أي مفسدة، تقع بسبب افتتان بالمرأة وبصوتها، ومن المعلوم عقلاً وواقعاً أن هذه الشروط يصعب تحققها، وتعظم هذه المفسدة كلما اتسعت دائرة الاختلاط، وازداد عدد المخالطين من الرجال والنساءِ، وتعظم هذه المفسدة حين يصاحب هذه المخالطة التبرج و التزين والتطيب وسقوط الكلفة أو زوالها بين الرجال وبين النساءِ، وقد أمر الله سبحانه في شريعته المحكمة بإغلاق الأبواب المفضية إلى الفساد، وقطع الأسباب المؤدية إليه.
طفل الأنبوب
هذه مسألة شغلت أذهان الناس منذ سنين، وجالت فيها أنظار العلماء، وحدَّقت في نتائِجها ومقدماتها عقولهم، فكان منهم المتثبت المتأني، وكان منهم المتخوِّض المتسرع.(1/177)
وقد نظرت فيها نظر الحذر اليقظ المتوقي بالأدلة الشرعية، التي كان واحد منها يغني عن كل الأدلة العقلية مجتمعة، فما و جدت إلا الدليل الحاظر المانع، الذي تدرأُ به تقوى الله سبحانه، فلا يكاد مؤمن يخالجه ريب في حظره ومنعه، ولا أحسب أن تحدثه نفسه أن يُدلي فيها برأي عقلي محض، ليقول فيه بالإباحة، بالغاً ما بلغ ذلك الرأي العقلي من قوة الإحكام والنظر، فليس للرأي حيلة مع الدليل الشرعي الموحى به إلى رسول الله × من ربه، فأقول مستعيناً بالله طالباً منه السداد.
•…أولاً:
إن طفل الأنبوب لا يعدو أن يكون تجربة علمية ظنية، لا يمكن القطع معها بحمل المرأة وإنجابها، لأن الحمل والإنجاب حتى في الحالات الطبيعية -يبقيان شيئاً ظنيّاً محضاً، مرده إلى علم الله وإرادته وحده، لا يستطيع إنسانٌ أن يحدسه فضلاً عن أن يقطع بوقوعه قبل أن يكون أمراً واقعاً مشهوداً.
•…وثانياً:
إن المادة التي تساعد البويضة على الانشطار، والحيوان المنوي على(1/178)
التفاعل مع البويضة والالتحام بها لم تعرف حتى الآن على وجه القطع ماهيتها، رغم أن بعض الأطباء يحاول أن يزيل الشك من حولها بقوله: إن الحيوانات المنوية الآن تُجمَّد وتباع علانية وبصراحة، فربما خالطت هذه المادة أشياء عضوية، ومنها حيوانات منوية، ولا يقال هنا: إنه لا داعي لإخفاء ماهية هذه ما دامت الحيوانات المنوية تباع كما يباع الدَّم، فإن العقلية التجارية غلبت على العلم، والمنطق التجاري يفرض على صاحب تجربة طفل الأنبوب أن يخفي ماهية هذه المادَّة، إذ إن جُلَّ الناس لا زالوا على الأقل - ينفرون من أن يكون علوق حمل في أرحام أزواجهن من غير مائِهم، إذاً فمن شاء من الناس الملهوفين على الأبناء - فليأْخذ بما هو مجهول غير معلوم، ومن شاء فليأْخذ بما هو ظاهر معلوم، والنتيجة في النهاية واحدة، حمل لا يُعرف ماؤُه، لكنَّ الإقبال على المجهول غير المعلوم يظل أرغب وأكثر، ويتوفر بذلك لصاحب تجربة الأنبوب دخل مالي وفير.
•…وثالثاً:
قضت إرادة الله سبحانه أن يكون تزاوج بين الرجال وبين النساء، وأن يكون منهم العقيم ومنهم الولود، قال تعالى: {أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَاناً وَإِنَاثاً وَيَجْعَلُ مَن يَشَاءُ عَقِيماً إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ}، ولا بدَّ للإنسان الذي يُبتلى بالعقم أن يصبر عليه، وأن يعلم علم اليقين بأن لله سبحانه حكمة في ذلك، وحكمة الله وإرادته لا يضادان.(1/179)
وإذا جاشت عاطفة البنوة في صدر الرجل، وكانت المرأة عقيماً، فقد أباح الله للرجل أن يجمع إليها ثانية، وثالثة، ورابعة. ولكن ماذا لو تحركت عاطفة البنوة في صدر المرأة، وكان الرجل عقيماً؟ فماذا تصنع المرأة حينئِذ؟ الجواب: إما أن تطلب من زوجها أن يفارقها لتجرب حظَّها مع رجل غيره في نيل طلبتها، وإما أن تجد في طفل الأُنبوب تسكيناً لعاطفتها، وفي هذه الحالة طبعاً لن يكون طفل الأُنبوب من زوجها العقيم، بل من رجل آخر مجهول تبرع بمائِه، أو باعه، وهذا هو المحظور الذي سوف لن يطول زمانه، بل سيصبح يوماً ما أمراً عاديّاً غير محظور ولا معيب، وكم من باب شر فتح على الأمة بمثل هذا الأمر الذي كانت الآراء فيه مختلفة، وتساهل فيه الناس.
•…ورابعاً:
في هذا لا يختلف بين ما إذا كان عقم في الزوجين أو في أحدهما، وبين ما إذا كان عدم الحمل من عائِق عضوي في المرأة، ولا يقال بأن العائِق العضوي يشبه المرض الذي يستدعي الكشف من الطبيب لعلاجه، فالمرض شيءٌ والعائِق شيءٌ آخر لا يقاس به، المرض يطلب له الدواء، والعائق لا يطلب له دواء، فاختلفت العلة فيهما، فبطل القياس إلا أن يكون هذا العائِق مرضاً عضويّاً يخشى منه على صحة المرأة، فحينئذٍ يكون العلاج لأن العائِق مرض.
•…وخامساً:
معلوم أن الزواج يكون لأمرين اثنين، الأول: إعفاف النفس عن الحرام. والثاني: النسل والولد. وتحقق الأول يغني عن الثاني، أما تحقق الثاني فليس مغنياً عن الأول، فقد يكون مع الإنجاب والولد وقوع الفاحشة من الرجل أو من المرأة، أما إذا عفَّ الإنسان بالزواج عن الوقوع في الفاحشة فيبقى طلب الولد أمراً ثانوياً يمكن الاستغناء عنه كما هو واقع في حياة الكثيرين.
•…وسادساً:(1/180)
قاعدة سد الذرائع في الإسلام تفرض حظر طفل الأُنبوب ومنعه، إذ إن هذه القاعدة لا تحظر على المسلم شيئاً من الحلال الصريح مخافة الوقوع في الحرام الصريح، وطفل الأنبوب يطلب - بغض النظر عن وصفه بالحل أو بالحرمة - بسبيل غير مشروع، وهو الكشف على عورة المرأة وملامستها وتصويب النظر إلى مواطن الفتنة، فالقضية فيه معكوسة تماماً، فيكون أولى بالتحريم مما حُرِّم بسد الذرائع.
•…وسابعاً:
وبعدما تقدم ينبغي أن نعلم أن مثل هذه الحالة التي يمتنع فيها الحمل لعائِق إلا بطريق الحمل الأنبوبي، ليست حالة مرضية يصدق عليها ما يصدق على ما يطلب للمرض من علاج ودواء، فلا يباح للطبيب علاجها بالنظر إلى عورة المرأة وبخاصة المغلظة منها، وليس كل حالة مرضية أيضاً يباح للطبيب أن يجري ما يعرف بـ "الفحص النسائي" الذي تساهل فيه الناس في زماننا هذا تساهلاً جرَّهم إلى الإثم، وأوقعهم في حبالة المنكر، وأذهب عنهم الحياء، والحياء من الإيمان.
وإذا كان النظر لا يباح لوجه المرأة الأجنبية إلا أن تكون نظرة واحدة فجائِية، يحرم على الرجل بعدها النظر مرة أخرى، فكيف بمثل هذا الكشف الذي لا تُمليه ضرورة شرعية.(1/181)
وقد صحَّ في ذلك أحاديث كثيرة عن رسول الله × منها قوله لعلي رضي الله عنه: "إن لك الأولى وعليك الآخرة"، وأخرج الإمام مسلم في "صحيحه" عن جرير بن عبدالله البجلي قال: "سألت رسول الله × عن نظر الفجأة فأمرني أن أصرف بصري"، والقرآن صريح في نهيه وأمره في هذا الأمر: {قُلْ لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّواْ مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُواْ فُرُوجَهُمْ}، و {َقُل لِّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ }، ولا شك أن من حفظ الفرج عدم الإذن بالنظر إليه لغير ضرورة شرعية أباحها الشارع الحكيم، بل إن الأمر بغض البصر وعدم النظر كما يكون من الرجل للمرأة وبالعكس، يكون من المرأة للمرأة أيضاً، ومن الرجل للرجل، يقول عليه الصلاة والسلام: "لا ينظر الرجل إلى عورة الرجل، ولا تنظر المرأة إلى عورة المرأة".
ومما يؤسف له، ويؤذن بالإثم والعقوبة أن المسلمين قد تساهلوا في مثل هذا الأمر وغيره تساهلاً عجيباً، حتى إن المرأة لتسمح لنفسها أن تذهب إلى الطبيب النسائي لأدنى ألم تحس به، كان أضعافه في زمان مضى وانقضى تؤديه (الدَّاية) الله يرحمها، ويرحم زماناً كانت فيه الداية أُمّاً بارة رحيمة، وطبيباً حاذقاً مؤنساً، وجدَّة فاضلة تقية.
? ?
فهرس الموضوعات
مقدمة تنوير الأفهام
7
المقدمة
13
صفات الله العلى
19
شرط الصحة وشرط الكمال
39
ونصيحة ناصحة
67
مسألة تكفير تارك الصلاة
77
معنى كلمة: "كفر دون كفر"
117
مسألة الإرجاء
125
إيقاظ وتنبيه (1)
131
إيقاظ وتنبيه (2)
133
أمية الحرف وأمية الولاء
139
كلمة راضية مرضية
151
رسول الله في ذكراه
155
التديّن بين الشكل والمضمون
165
معنى خلافة الإنسان في الأرض
177
الوسطيّة بين الشرع والواقع
185
التبيين في مسألتي حكم الدِّين ورأي الدِّين
197
من أحق بالفتيا؟
211
الخراصون
223
حكم الغناء
231
طفل الأنبوب
237
فهرس الموضوعات
243
? ?(1/182)
(1) كان حريَّاً بهذا العنوان أن يُجْعل في رسالة مستقلة، لكنِّي آثرت أن لا يكون إلا معه صنوانِه الأخرى - (ويقال في مثنى صنو، (صنوانِ) وفي الجمع (صنوانٌ) وفي التنزيل: {صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ يُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ} - التي ظهر معها أول ما ظهر، في كتابي: "إرشاد الساري" ثم رأيت أن تظهر مع أخواتٍ لها أخرى في كتابي: "تنوير الأفهام" وكان هذا العنوان من اختيار واحدٍ من الأبناءِ صار إلى عقوق جاحد مرٍّ، بقبيح سبِّه والنيل منِّي. عافاه ا÷ من سوء ما هو فيه.
(2) سمعت أحدهم (واحد شائع) يقول: إن أبا مالك خرج عن المنهج، لذا فلا نصلي معه حتى يعود عما هو فيه، (فإن عاد عدنا)، أليس هذا يشين ويُضحك ويُحزن في وقت واحد؟ ثم يقول أو يقولون: أنا أو نحن سلفيون! على سيرة القرن الأول، وإني وا÷ لأستحيي من أن أُلْمح أو أشير أو أُصرِّح إلى من يقول مثل هذا القول، إذ هو ليس أهلاً أن يجري له ذكر على لسان قلمي، وقد أرضخه كِبْرَهُ الباخِعه إلى عَظْمةٍ ملساءَ، حين ناله سوط لجنة الافتاءِ بقرحة بليغة لا أحسبه يقدر على إغماضها. فأين يذهب من أصحابه الذاهبين في هواه؟!
(3) فرق بين من يُكفَّر بمثل ما أوردنا من الأمثلة، وبين ما يجب أن يُصْنَع بالكافر الجاحد، فقد تكون المصلحة الشرعية ببيان كفر من كفر، والتحذير من مغبة الكفر، وقد تكون في السكوت والصبر والمهادنة، وقد تكون في المهاجرة والمنابذة.
(4) وهنا يجدر أن ننبِّه إلى أن السواد الأعظم، ممَّن يدَّعون أنهم طلاب علم ودعاة (لا على أبواب جهنم إن شاء ا÷) ليس بينهم وبين لغتهم العربية، التي يحسنون (عامِّيتها) مودَّة، بل وقلَّ منهم من يحسن النطق بما ينسج لسانه من كلام من فوق المنابر، أو في الحلق، التي يسمُّونها (باسمها زعموا) حلق العلم، بل إن =(1/183)
= من كبار كبارِهم المقدَّمين فيهم، وبعضاً من جلة الصفوة فيهم، وممن يُكْذَب عليهم لا تكاد تُحصى أخطاؤهم، وهي ذائعةٌ في الناس بأصواتهم، لكن من الأنصاف استثناء من منَّ ا÷ عليهم فأخذوا العربية مشافهةً من علمائها الخيرة، وهم كسائر علماءِ سائر المعارف في إتقانٍ وقلَّة، وإذا ما دعوا إلى تحسين نطقهم أعرضوا عنك وصدوا صدوداً وقالوا عسى أن تدركنا باللغة دائرة فنكون من الخاسرين.
(5) ... ثم هو من بعد ذلك، لا يقوم إلا كما يقوم الذي يتخبَّطه الشيطان من المسِّ،=
(6) وكلامه حسن نفيس، وكأنما يقول: الإيمان، حدُّه واحد في اللغة والاصطلاح، وليس ينبغي أن يجعل بينهما حدٌّ فاصل، فيقال: لغة كذا وشرعاً كذا، ولو كان عود على بدءٍ واستقبال ما اسْتُدبِر، لكان حقاً علينا أن نسقط هذا الفاصل الذي بينهما في العلوم كلِّها، إذ ذلك لم يكن في العلوم، من قبل ولا من بعد أن صار لها اصطلاحات تعرف بها، والأصل أن يعود الناس إلى الأصل.
(7) أي: الإحاطة الكاملة نسبيّاً، إذ اللغة لا تُحيط بها وما أحاط، وما كان لأحد أن يكون له ذلك إلا للنبي وحده ×، فهي خصِّيصة له دون سواه، وإحاطة الصحابة باللغة هي إحاطةٌ نسبية، تكافئُ قدراتهم وكرامتهم، وما أهلهم ا÷ به لفهم كتابه وسُنَّة نبيه عليه الصلاة والسلام.
(8) قولي: ولربما كان جحود الجوارح الخ، ظاهر جداً في أن مرادي بـ (ربَّما)، ليس التقليل من وقوع هذا الأمر، أو تصور وقوعه، بل هو ترجيح للثاني على الأول، وهذا من بده الظهور, ويرجح هذا الظهور البدهي، ظهور أثر الإنكار على الجوارح التي هي اللسان المعبِّر للعمل غير اللسان الذي هو أداة التعبير بالكلام. فَيُحْكَمُ إليه النظر كيلا يزيغ مع النظر البصر! والترك باللسان يكون بالإمساك عن الكلام، أما تركُ الجوارح، فيكون: بالإمساك عن الأفعال، وبذلك يكون التركُ، تركَيْن، أي نوعين اثنين.
(9) وهذا معنى جليلٌ يتفق مع دلالات حروف العربية وكلماتها.(1/184)
(10) وقد بيّنا هذا الأمر بياناً شافياً في مسألة شرطيّ الصحة والكمال.
(11) أي: مشابهة لا تصرفها عن حقيقة معناها من الشرك والكفر.
(12) وهو إلى ذلك كلِّه لا يستقيم مع شعائر لغة القرآن العظيم التي لا يأْتيها باطل اللغات المختلطة السقيمة، وتأبى على نفسها عجمة الجهلاء الأدعياءِ من الملحدين فيها ويدَّعون أنهم أهلها.
(13) وليس يخفى على الناس، ما أثاره وأحدثه بعض من لا يستحيي من المهرِّجين الذين لا يخافون ا÷، ولا يدرون ما أدب العلم ولا خلق العلماء، وهم (يبرطعون) بأوزانهم، أو بعَصْعَصَتِهم أو وهم يُرقِصون أعضاءَهم المكسَّعة على صوت النَّعيِّ الباكي على المنهج المزكوم (المدوَّخ)! ألا ما أضيع المنهج.
(14) هذا هو خلق العلم الذي عرفناه ممن أخذنا عنهم العلم في رحاب الأزهر الشريف في بَكْرةِ العمر، ثمَّ من بعد ممن أكرمنا ا÷ بالجلوس في حلقهم في الأرض الحرام، كشيخ الإسلام ابن باز، والإمام الشنقيطي والمحدث الأنصاري وغيرهم رضي ا÷ عنهم جميعاً، فلقد وا÷ تعلمنا منهم العلم والعمل، ورضينا بهم الخلق والأدب، وكان لنا من ذلك كلِّه زينةٌ، زيّنا بها مجالسنا، وجمَّلنا بها مواردنا ومصادرنا والحمد ÷.
(15) ولو كان عند هؤلاء أدبٌ يُعْرَف لكان موصولاً أو منتهياً إلى من ضلَّ قلبه، وأُزيغ عن الفرح بالحق الذي يفرح به أهله، وهم به فرحون أن أجاءَهم إلى صلصلة الكبر، وجلجلة الهوى.
(16) وهؤلاء الغرَّة العِرَّة يدَّعون أن الاختلاف في العقيدة، أي: في أصولها لا يوجب الكفر للمخالفين، ولا الخلود في النار.(1/185)
(17) ولا أدري ما الذي أراب بعض الألسنة المتتعتعة -بالبهت وسوء الفهم- في معنى الإدراج الذي ذكرت، حين أزبد وأرغى في الكلام عن فاحش الخطأ، الذي زعم أني تعثرت به، وهل درى هذا المسكين، أن الشيءَ يمكن أن يعرَّف بلازم معناه. وهذا شيءٌ يدخل في باب الكناية، وهو بابٌ واسعٌ، ثم أنا ما عرَّفت الإدراج، بل بيَّنت ما ينشأ من تعريفه، وهذا أمر ما كان ينبغي أن يخفى على أضعف طلاب العلم، وأقلِّهم درايةً بمسائله، فضلاً عن أن يكون من أرحبهم جسماً، وأضيقهم عطناً، وسبحان من جلَّ بذاته، وأسمائه وصفاته.
(18) ولكن ماذا يمكن أن يقال: إذا ما عميت بصيرة المتخبِّط الحائر، فأوفي بجعيرته على غير هدىً ولا شفيع يطاع، إذاً: فماعليه إلا أن يفرح هو نفسه بضلالتها.
(19) ويل ثم ويل لمن يستدرج الطغام من الأدعياء الغثاء لإيهامهم أن عبدا÷ بن شقيق -وهو واحد من خيار خيار القرون الأولى- لا يقبل قوله: إن الصحابة قد أجمعوا على تكفير تارك الصلاة، بدعوى أنه لم يدرك إلا عشرة من الصحابة. يا سبحان ا÷، ما كنت وا÷ أظن أن واحداً من أدعياء السلفية يبلغ به الجهل أو الشك أن نقل عبدا÷ بن شقيق، حتى ولو كانت عن واحدٍ منهم لا تصلح لإثبات هذه =(1/186)
(20) وإني لا أدري لماذا يتوجَّس أولئك خيفة من القول بتكفير تارك الصلاة، وهي الركن العملي الأوّل الذي يشهد لمن ينطق بالشهادتين أنه مسلم بقوله وعمله؟ لكأنَّما هم بتوجُّسهم هذا يضنُّون على تاركيها أن يكونوا -بغير ما يقولون- على غير هدي القرن الأول، أفلا يكون خليقاً بهم، أن يحسنوا لأنفسهم وللناس أن يطلقوا قلوبهم من عقال سوءِ الانتقاص للإيمان، وهم معنا على أن تارك الصلاة يقتل بعد الاستتابة، سواء أكان الحكم عليه بتركها كفراً أم معصية، وأن إنفاذ الحكم بالقتل لا يكون إلا للسلطان، لأنه هو معقل الحدود، وموقع العقوبات، وإن عجز عنها، أو منعها باقتداره عليها، فلا يحادُ بها عنه إلى غيره حتى لا تكون فوضى، ترمُّ بأرض المسلمين، وتشيع بين ظهرانيهم الفتنة، فعجزه يعذره، أما منعها باقتداره فهو يحمل كلَّ أوزارها، لأن ا÷ عز وجلَّ قد استرعاه الأمة، وقال عليه السلام: "ما من راع يسترعيه ا÷ رعيةً يموت يوم يموت وهو غاشٌّ لها إلا حرَّم ا÷ عليه الجنّة". وأن الأدلة القاضية بقتله عندهم، هي الأدلة التي عندنا ولا خلاف.
ثم إني سائل أولئك المخالفين، هل يكون إسلامٌ إذا كان شيءٌ منه -أعظم شيء- لا يقوم شاهداً على صدق إيمانه، وكمال إسلامه، حتى يلجئنا إلى التَّثبُّت منه بتحرِّيه بعملٍ آخر يدلُّ عليه، وإما بأن يترك وشأنه ليقال: إنَّه -بجوره على دينه، وبتركه صلاته، وسائر أعمال الإسلام- مؤمن بقلبه وكفى، والذي بقلبه يخفى حتى على الذكيِّ الفطن الذي يُحْكَمُ عليه بأنه مؤْمن، ويكفي للحكم عليه بأنه مؤمن نطقه بالشهادة، وإن كان أخلص بها فهو من أهل الجنة -أي مع أبي بكرٍ والعشرة =(1/187)
(21) ثم إذا كان الحكم بظاهر العمل هو الذي ينفي الحكم بالنفاق على المصلي ظاهراً -وهو منافق في واقع الأمر- فَلِمَ لا يكون ترك الصلاة -وهو تركٌ ظاهر جاهر لا يُحْتاج معه إلى التأويل، لا إثباتاً ولا نفياً- يكفي في الحكم على التارك بصريح ما حكم به رسول ا÷ ×: (من تركها فقد كفر) وكما أن الفعل وهو إيجاب يكون به الحكم، فإن التركَ وهو سلبٌ يكون به الحكم كذلك.
(22) من أول المسألة التي جعلناها تحت: سادساً: وحتى نهاية المسألة السابعة، وهي: "إذاً فلقائلٍ أن يقول: ونحن... إلى قولنا: وإن عُذِّب زماناً يطول أو يقصر"، هذا كلام سقناه على لسان من ينفي الكفر عن تارك الصلاة، وتقريرٌ له، وقد فهموا منه بخلط أو بلبس أو بغير هذا وذاك أنه من بعض كلامي، فيا سبحان واهب العقول.
ولو كانت الأرزاق تجري على الحجا هلكن إذاً من جهلهن البهائم
ويزيد هذا الكلام توضيحاً وتوكيداً ما أوردته من كلام في المسألة التي جعلتها تحت: (ثامناً) فمن كان له قلب يعقل وسمع يعي، فليسأل نفسه هو بنفسه، وليُجِب عنه بجواب من عنده، أين الاضطراب الذي في كلامي حين يجمع بعضه إلىبعض، أوله إلى آخره، ووسطه إلى منتهاه؟! وليحرص القارىء في زمانٍ لحبت فيه العداوات (بالعلم) على التمسك بقوله سبحانه: {إِن جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ...} فلطالما أودت هذه الردود العلمية التي ألجبَها الخصم الألد بالبتر والشطر ...والقص واللصق.
لكنها التقوى يا صاحبي، تخطىءُ الراغب عنها، لتكون من حظِّ الراغب فيها، والموفق هو الذي يحرص عليها من قبل أن تخطئه.(1/188)
وأرجو القاريءَ (الإنسان!) الذي يمشي على ثنتين! أي نعم! أن يقرأ بتمعُّن وتأمُّلٍ ما هو مسطور من قولي: (وأعظم ما يُستدلُّ به على إخلاص الجوارح من أعمالها الصلاة الخ) في الصفحة 173 وما بعدها إلى قولي: (وليس يصلح الإخلاص ولا يسلم من ثلب إلا بهما معاً (أي: بظاهر العمل، وخفيِّ الاعتقاد) وقصره على القلب عدوٌ بظلمٍ على ما كان من عمل بالجوارح ولا بدَّ). في الصفحة 176. =
(23) ويجدر بالقارىء أن يعود بالنظر إلى كلام ابن تيمية رحمه ا÷ تعالى الذي مرَّ معنا، كي لا يؤخذ بالتناقض الذي وقع فيه كثيرون.
(24) ومما يُسْعد الجهلاءَ حقاً، أن يظنوا أنهم بجهلهم على قرار لا يميد من تحتهم بأدنى ميد، فيفرحوا بما أخطأُوا، ويحزنهم إن أصابوا أنهم أصابوا، وقد تجلَّت العبقرية الرَّدِّيَّة أيما تجلٍٍ حين قرأُوا قولي في الكلمة المنسوبة لابن عباس رضي ا÷ عنهما: (كفر دون كفر)، فأخذوا يأتون بكلام يريدون به إثبات صحة نسبتها إلى ابن عباس، وأنا أعجب من كل ما كتبوا وذلك لأمور:
أولاً: أن الذي كتبته لا يصح أن تنفى به هذه الكلمة إذ قلت: إن صحت نسبتها... الخ، فمعنى كلامي إن صح سندها صحت نسبتها، وإن لم يصح سندها لم تصح =(1/189)
(25) أي فحسب، فلا تُعدَّى إلاَّ إلى ما يماثلها، فهي خاصة بآيات سورة المائدة (44-47)، بل حكى البعض أنها في المسلمين خاصة، وليس يهمنا هذا ولا ذاك، ما دام أنها كلمة، لم تقل في حياة الرسول ×، ولو قيلت لعلم، وعلى أنها قيلت بعد موته ×، وصحت نسبتها لقائلها، فقد عورضت من غير قائلها أولاً، ثم هي لا تخرج عن دائرة الاجتهاد من قائلها ومن وافقه لو صحَّت نسبةُ القول بها إليهم ثانياً، فلماذا يكون اجتهادٌ في مسألة ما لاثنين أو لأكثر، فننكر على واحد، ولا ننكر على الآخرين، أو العكس، في حين أنَّ كلَّ قولٍ قيلَ في هذه المسألة، لا يجاوز دائرة الاجتهاد، والاجتهاد فيها على تباعد الزمن، لا يحكمه الزَّمن صواباً وخطأً، إذ الزمن إنما هو عيبة الأحداث ووكاؤها ومن هذه الاحداث تلك الاجتهادات العلمية، التي تظهرها عقول العلماء، وأمة الإسلام في كل ما يصدر منها في كل أطوار حياتها كالمطر، لا يدرى خيرٌ أوله أم آخره، وليس يصلح عقلاً، ولا واقعاً، ولا شرعاً، أن يقول الرسول × قولاً، خبراً كان أم طلباً، ثم يأتي من يقول: إنه يصدق في زمان دون زمان، وفي حالٍ دون حالٍ، وقوله عليه الصلاة والسلام يقضي بالحق على كل زمان، وفي كل حال، إذاً؛ فليس بجائزٍ أن يُحجَّرَ واسع من الأمر، وهو في واقعه متصوَّرٌ مأذونٌ فيه من ا÷ سبحانه.
(26) ولعلَّ بعضاً ممن ابتلوا برفع الأقلام من محابرها، ووضعها من وراء آذانهم، يقولون: وماذا يراد بالفاء في قولي: فقال ابن عباس، فيقولون قولاً من عند أنفسهم، لا يصيبون فيه إلا خطأً يتركُ عليه بأوهام وتخيُّلات شتى.(1/190)
فأقول: الفاء في لغةالعرب تأتي لمعان، فهي تكون عاطفة تفيد الترتيب والفورية على خلاف ثم، إذ تفيد الترتيب والتراخي. وهي تكون للسببية، أي أن ما قبلها يكون سبباً فيما بعدها. وقد يراد المعنى الأول -أي الترتيب والفورية- لكن على احتمالٍ بعيد بعض الشيء، لأن ابن عباس رضي ا÷ عنهما لم يقل وهو يسمع كلاماً من كلام النبي ×، لا في مجلس كان هو فيه معه، ولا في مجلس كان فيه غائباً عنه في حال حياته ×، ليكون احتمال بلوغه ذلك القول قائماً، نقله إليه بعض من كان جالساً مع الرسول ×. =
(27) ومن أحسن ما قرأت في مسألتي الإيمان والكفر كتاب: "التبيان لعلاقة العمل بمسمى الإيمان" لمؤلفه الابن: "علي بن أحمد بن خليفة آل سوف" المكنى بأبي معاوية، استوفىمسائله من أقوال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه ا÷، وألّف بينها تأليفاً موفقاً، أوفى به على الغاية، أنصح الجميع بقراءته.
(28) وإني ناصح القرَّاء الفضلاء المهتمِّين بهذه المسألة أن يقرءوا كتاب الدكتور محمد أبو ارحيم "حقيقة الخلاف بين السلفية الشرعية وأدعيائها في مسائل الإيمان" فهو بحقٍّ كتاب يقرأ، وحريٌّ أن يقرأ، انه كتاب أساس في واحدة من مسائل الإيمان، التي خاض فيها كثير ممن يعجزه أن يؤلِّف بين اثنتين منها، أو أن يعرف كيف يبتر جزءاً من أجزاء واحدة أخرى، كي ينتصر لهواه اليحموم بأسلوبٍ لصوصي دنيءٍ، أو كيف يعوِّل على واحدٍ ممن يدرِّبهم على (اللَّطش) و (الرَّشِّ) و (الوشِّ) =
(29) أي أنه الإرجاء الذي اشتُهر معناه، وعرفت به الطائفة الذين ينسبون لأهل السُّنَّة بإرجائهم الحتم، وهو نوع إرجاء ولا بدَّ، لكنه لا يدخل هذه الطائفة في عداد الفرقة التي تعدُّ أصلاً من أصول الفرق الثلاث والسبعين، وهذا إرجاءٌ لا يسلم منه إلا فئةٌ قليلةٌ من أهل السُّنَّة، وما وقعت فيه هذه الطائفة، إنما كان باجتهادٍ يُعْذَرون به، لكنه اجتهاد غير صواب على كل حال.(1/191)
ومن هذه الطائفة الذين لا يقولون بعدم خلود تارك الصلاة في النار عياذاً با÷ تعالى، وأن كلمة (لا إله إلا ا÷) وحدها بإخلاصٍ نجهله، ولا نعرفه بأثر من آثاره العملية، تكفي لنجاته من النار، فأيُّ إخلاصٍ هذا الخالي من الإخلاص أو مما يدلُّ عليه؟
هذا هو إخلاص مرجئة أهل السُّنَّة، وهم بقولهم هذا يكونون في ما يشبه: (المنزلة بين المنزلتين) وطبعاً ولسنا ندخلهم في عداد المعتزلة، وهذا منهم نوع تلبُّسٍ يجب أن يُقْلِعوا عنه، ولا يدوموا على المكث في الاعتقاد به، لأنَّه ليس له حظٌّ من هدي القرن الأوَّل، فإن كان لهم منا إعذارٌ بخطئهم فباجتهادهم يكون.
(30) أي: ما يقوله عامة المرجئة، من غير الفرقة المعروفة التي تعتقد أنه لا ينفع مع الكفر طاعة، ولا يضرُّ مع الإيمان معصية، وأرجو أن يُتأمَّلَ جيداً قولي: أي: "على وجه التعيين لأفرادٍ بأسمائهم وأعيانهم، أما على وجه الوصف العام -بالإيمان أو بالكفر- فإن الحكم، حينئذٍ مختلف، فالمؤمنون بعامتهم هم أهل الجنة، والكافرون هم أهل النار". =
(31) أي ممن ينتسب لأهل السُّنَّة والجماعة على عقيدتهم هذه، لأنها عقيدته، ولكن حين يزري العقلُ بصاحبه، أو يزري صاحب العقل بعقله، فإن (في) وهو حرف الجر، يصير (قيءْ) أي مصدر قاءَ، وهذا طبعاً من الإزراءِ الذي ذكرنا، وليس هو من التصحيف المعروف، وإلا فإن صغار البُهم تنفر وا÷ مما صار إليه من يُدْعون بطلاب العلم في زماننا هذا، حين يلجُّون في خصومتهم المدبَّرةِ الكائدةِ الحاطبةِ بليل أليل، يا سبحانه ا÷، اللهم لاعفوَ إلا عفوك، ولا رضا يُطْلَبُ إلا رضاؤك، فعفوَك ربِّي ورضاكَ.(1/192)
(32) هذا وقد بيَّنت فيما سبق أن عبداً ربما يكون قد صلّى ومات على ذلك -وحكمنا له بالإيمان بظاهر عمله، وأنه ناجٍ من النار- قد يدخل النار، وإن حكمنا له نحن بالنجاة منها، فعِلْمُ ا÷ بحاله ليس كعلمنا، فا÷ سبحانه يكون قد علم منه عدم إخلاصه، وأنه ليس مصدقاً بقلبه بكلمة التوحيد، فيقضي ا÷ عليه بعلمه، ولو علمنا منه ما علم ا÷، لما قلنا: إنّه مرجأُ إلى أمر ا÷، ولقطعنا بأنه من أهل النار، إذ علمنا أنَّه ليس من أهل النار، لا يكون إلا بما نعلم من ظاهر عملٍ هو أرجاه وأحسنه، وهو الصلاة، فتنبَّه لها فإنَّها فائدة عزيزة، ونعوذ با÷ من الغفلة.
(33) هذه الكلمة لها علاقة وطيدة بكل الموضوعات التي شملها الكتاب، ما تقدّمها وما تأخر عنها، وبخاصة الموضوعات الأربعة التي ضممتها إلى الكتاب، فلينظر ذلك.
??
??
??
??
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
16
17(1/193)