بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه كما يحب ربنا ويرضى، والصلاة والسلام على رسول الله محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
أما بعد:
أعترف قبلاً أن عباراتي تقصُر عن وصف الجنة.. وكلماتي تتعثَّر، فماذا أصف؟ وماذا أقول؟ عن الجنة، يقول الله تعالى: «أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت ولا أذُن سمعت ولا خطر على قلب بشر»، { فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ } [السجدة: 17].
إذا كان حب الهائمين من الورى
بليلى وسلمى يسلب اللب والعقلا
فماذا عسى أن يصنع الهائم الذي
سرى قلبه شوقًا إلى العالم الأعلى
شوقًا على ما عند الله، فيا لذَّة الأسماع، ويا لذَّة الأبصار، ويا له من شوق كريم. عن أنس - رضي الله عنه - يرفعه: «إذا دخل أهل الجنة الجنة فيشتاق الأخوان بعضهم إلى بعض فيسير سرير هذا إلى سرير هذا وسرير هذا إلى سرير هذا، حتى يجتمعا جميعًا فيتكئ هذا ويتكئ هذا، فيقول أحدهما لصاحبه: تعلم متى غفر الله لنا؟ فيقول صاحبه: نعم، يوم كذا في موضع كذا وكذا، فدعونا الله فغفر لنا...» فيا له من تزاور... ويا له مِن لقاء... ويا له من تآخ على الحق... ويا له من شوق إلى الأخوة... فيا لذة نعيم المتآخين على طريق الله فهاهم يشتاقون إلى اللقاء على الطاعة كما كانوا في الدنيا يتذاكرون الأيام والمواضع والأعمال الصالحة والآثار الكريمة..(1/1)
يا وفد الرحمن... أيها المقبلون إلى الله.. هذه النوق البيض فاركبوها غير فزعين { لَا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ هَذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ } [الأنبياء: 103]، أقسم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يومًا فقال: «والذي نفسي بيده، إنهم إذا خرجوا من قبورهم استقبلوا بنوق بيض لها أجنحة، عليها رحال الذهب، شراك نعالهم نور تتلألأ، كل خطوة منها مثل مد البصر وينتهون إلى باب الجنة».
الجنة لا مثل لها، إنها فوق ما يخطر بالبال أو يدور في الخيال، فليس لنعيمها نظير فيما يعلمه أهل الدنيا... إن الجنة لا خطر لها، هي ورب الكعبة نور يتلألأ، وريحانة تهتز، وقصر مشيد، ونهر مطرد، وفاكهة كثيرة نضيجة، وزوجة حسناء جميلة، في مقام أبدًا، في حبرة ونضرة، في دور عالية سليمة بهية».
فلله ما في حشوها من مسرة
وأصناف لذات بها يتنعم
ولله برد العيش بين خيامها
وروضاتها والثغر في الروض يبسم
ولله واديها الذي هو موعد المزيد
لوفد الحب لو كنت منهم
بذيالك الوادي يهيم صبابة
محب يرى أن الصبابة مغرم
ولله أفراح المحبين عندما
يخاطبهم من فوقهم ويسلم
الجنة بعيدة المنال، لا تنال إلا برحمة الله؛ لأنها غالية «مَن خاف أَدْلَج، ومَن أدلج بَلَغَ المنزل، ألا إن سلعة الله غالية، ألا إن سلعة الله الجنة»، ولكن على المؤمن أن يسدِّد ويقارب ويعمل «سددوا وقاربوا وأبشروا واعلموا أن أحدًا منكم لن ينجو بعمله» قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: «ولا أنا، إلا أن يتغمدني الله برحمته». اللهم رحماك... رحماك.(1/2)
الجنة ما أوسعها! وما أطيب ريحها! أمَّا عرضها فكعرض السموات والأرض { سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ... } [الحديد: 21]، وأما ريحها فيوجد من مسيرة مائة عام. أما أبوابها فثمانية أبواب ما بين مصراعي كل باب مسيرة أربعين سنة «وليأتين عليها يوم وهي كظيظ من الزحام»، حلقة باب الجنة من ياقوتة حمراء على صفائح الذهب، على يمين الداخل الجنة أو أمامه شجرة عظيمة ينبع من أصلها عينان أعدت إحداهما لشرب الداخلين والأخرى لاغتسالهم، فيشربون من الأولى لتجري نضرة النعيم في وجوههم فلا يبأسون أبدًا، ويغتسلون من الثانية فلا تشعث أشعارهم أبدًا { وَحُلُّوا أَسَاوِرَ مِنْ فِضَّةٍ وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا } [الإنسان: 21]، يدخلون على صورة القمر... أرأيت القمر بهجة وضياء.. أتأمَّلته بدرًا.. إنهم على صورته.. اسمه الحبيب - صلى الله عليه وسلم - وهو يصف هذه الأفواج الداخلة – جعلني الله وإياك منهم ووالدينا -: «إن أول زمرة يدخلون الجنة على صورة القمر ليلة البدر، والذين يلونهم على أشد كوكب دُري في السماء إضاءة، لا يبولون، ولا يتغوطون، ولا يمتخطون، ولا يتفلون. أمشاطهم الذهب، ورشحهم المسك، ومجامرهم الألوة، أزواجهم الحور العين، أخلاقهم على خلق رجل واحد، على صورة أبيهم آدم، ستون ذراعًا في السماء».
ها هو الوفد قادم إلى الجنة، فاستقبلهم يا رضوان... استقبلهم بالتهنئة والسلام: { وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلَامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ } [الزمر: 73]، وأول مَن يفتح له باب الجنة ليدخلها هو محمد - صلى الله عليه وسلم - ، فعن أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال: قال(1/3)
رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : «آتي إلى باب الجنة يوم القيامة فأستفتح فيقول الخازن: مَن أنت؟ فأقول محمد، فيقول: بك أُمِرت لا أفتح لأحد قبلك.
ويدخل الرجل الجنة وهو يعرف منزله، ويتلقاهم الوالدان فيستبشرون برؤيتهم كما يستبشر الأهل بالحميم يقدم من الغيبة فينطلقون إلى أزواجهم فيخبرونهم بمعالنتهم فنقول: أنت رأيته؟ فيقوم إلى الباب فيدخل إلى بيته فيتكئ على سريره فينظر إلى أساس بيته فإذا هو قد أسس على اللؤلؤ ثم ينظر في أخضر وأحمر وأصفر ثم يرفع رأسه إلى سماء بيته فلولا أنه خلق له لالتمع بصره، فيقول: الحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله».
للجنة مفتاح لا تفتح إلا به، كما جاء في الحديث: «مفتاح الجنة: شهادة أن لا إله إلا الله». ألا وإن لكل مفتاح أسنان، فإن أتيت بمفتاح له أسنان فتح لك وإلا لم يفتح. ألا وإن أسنان هذا المفتاح العمل الصالح بشروط لا إله إلا الله ومقتضياتها.(1/4)
المنعَّمون في الدنيا يُغبطون على ما هم فيه من نعيم وحياة مُرفَّهة، لكن ما نعيمهم بجانب ما أفاء الله به على أهل الجنة من النعيم، قال ابن عباس رضي الله عنهما: «ليس في الجنة شيء مما في الدنيا إلا الأسماء» فلا رمان كرمان، ولا عنب كعنب، ولا عسل كعسل، ولا فاكهة كفاكهة... اللهم بلِّغنا جنَّتك برضاك. ألا وإن آخر الداخلين الجنة له من النعيم ما ليس لملك من ملوك الدنيا، اسمع معي بقلبك ووعيك ما يرويه المغيرة بن شعبة - رضي الله عنه - ، يرفعه قال: «سأل موسى ربه: ما أدنى أهل الجنة منزلة؟ قال: هو رجل يجيء بعدما أدخل أهل الجنة الجنة، فيقال له: أدخل الجنة، فيقول: أي رب كيف وقد نزل الناس منازلهم وأخذوا أخذاتهم، فيقال له: أترضى أن يكون لك مثل مُلك مَلكٍ من ملوك الدنيا؟ فيقول: رضيت رب، فيقول: لك ذلك ومثله ومثله ومثله، فقال في الخامسة: رضيت رب، فيقول: هذا لك وعشرة أمثاله ولك ما اشتهت نفسك ولذت عينك، فيقول: رضيت رب. قال: رب فأعلاهم منزلة؟ قال: أولئك غرست كرامتهم بيدي وختمت عليها، فلم تر عين ولم تسمع أذن ولم يخطر على قلب بشر، ومصداقه في كتاب الله عز وجل: { فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ } » [السجدة: 17].(1/5)
إن الجنة درجات كثيرة: { هُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ } [آل عمران: 163]، وهذه الدرجات تختلف باختلاف العمل، فكلما كان العمل أكثر وموافقًا للسنة كلما كان أجره أكثر ودرجته في الجنة أعلى { وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَلِيُوَفِّيَهُمْ أَعْمَالَهُمْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ } [الأحقاف: 19]، عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «إن أهل الجنة يتراءون أهل الغرف من فوقهم كما تتراءون الكوكب الدري الغابر في الأفق من المشرق أو المغرب لتفاضل ما بينهم» قالوا: يا رسول الله، تلك منازل الأنبياء لا يبلغها غيرهم؟ قال: «بلى والذي نفسي بيده، رجال آمنوا بالله وصدقوا المرسلين».(1/6)
هيا نتجول بين أنهار الجنة وأشجارها نمتِّع النفس بالحديث عنها وعشق النظر إليها... هيا إلى أنهار الجنة جعلنا الله من أهلها لنرى علامة الجمال وآية الزينة والكمال... لو قيل: سنعطيك بيتًا يجري بجانبه نهر، أليس من أعظم البشارات وأعظم الأعطيات، فما بال قصر عظيم في جنات كثيرات تجري من تحته الأنهار { لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ غُرَفٌ مِنْ فَوْقِهَا غُرَفٌ مَبْنِيَّةٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ الْمِيعَادَ } [الزمر: 20]، إنها أربعة التي هي أصل كل نهر في الجنة، { مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آَسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى } [محمد: 15] ومن أعظم أنهار الجنة نهر الكوثر، فقد حدَّث عنه مرة الرسول - صلى الله عليه وسلم - كما في البخاري فقال: «بينما أنا أسير في الجنة إذا أنا بنهر حافتاه قباب اللؤلؤ المجوف، فقلت: ما هذا يا جبريل؟ قال: هو الكوثر الذي أعطاك ربك. قال: فضرب الملك بيده فإذا طينته مسك أذخر»، «الكوثر في الجنة حافتاه من ذهب ومجراه الدر والياقوت، تربته أطيب من المسك، وماؤه أحلى من العسل وأبيض من الثلج».
وحي على وادٍ هنالك أفيح
وتربته من أذخر المسك أعظم
منابر من نور هناك وفضة
ومن خالص العقيان لا تتقصم(1/7)
والجنة لها نور: { لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا إِلَّا سَلَامًا وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيًّا } [مريم: 62]، قال ابن تيمية رحمه الله: «والجنة ليس فيها شمس ولا قمر، ولا ليل ولا نهار، لكن البكرة والعشية تعرفان بنور يظهر من قبل العشر»، وقال القرطبي رحمه الله: قال العلماء: «ليس في الجنة ليل ونهار، وإنما هم في نور دائم أبدًا، وإنما يعرفون مقدار الليل بإرخاء الحجب وإغلاق الأبواب، ويعرفون مقدار النهار برفع الحجب وفتح الأبواب».
في الجنة مطاعم ومشارب على ما تشتهي النفس { وَيُطَافُ عَلَيْهِمْ بِآَنِيَةٍ مِنْ فِضَّةٍ وَأَكْوَابٍ كَانَتْ قَوَارِيرَ * قَوَارِيرَ مِنْ فِضَّةٍ قَدَّرُوهَا تَقْدِيرًا * وَيُسْقَوْنَ فِيهَا كَأْسًا كَانَ مِزَاجُهَا زَنْجَبِيلًا * عَيْنًا فِيهَا تُسَمَّى سَلْسَبِيلًا } [الإنسان: 15-18]، يقول عليه الصلاة والسلام: «أهل الجنة يأكلون ويشربون ولا يتمخطون ولا يتغوطون ولا يبولون، طعامهم جشاء كريح المسك، يلهمون التسبيح والتكبير كما يلهمون النفس»، ويقول عليه الصلاة والسلام: «إن أسفل أهل الجنة أجمعين مَن يقوم على رأسه عشرة آلاف خادم، مع كل خادم صحفتان، واحدة من فضة، وواحدة من ذهب. في كل صحفة لون ليس في الأخرى مثلها، يأكل من آخره كما يأكل من أوله، يجد لآخره من اللذة والطعم ما لا يجد لأوله، ثم يكون بعد ذلك رشح مسك وجشاء ولا يبولون ولا يتغوطون ولا يمتخطون».
عناقيد من كرم وتفاح جنة
ورمان أغصان به القلب مغرم(1/8)
أما الحور العين.. فهن المخبآت عند رب العالمين لعباد الله الصالحين.. عجبًا لمن شغل بحور الطين عن الحور العين.. اسمع أحد العقلاء الذين عرفوا طريق الفلاح، قال أبو سليمان الداراني: بينما أنا ساجد إذ ذهب بي النوم، فإذا أنا بحوراء قد ركضتنتي برجلها، وقالت: يا حبيبي، أترقد عيناك والملك يقظان ينظر إلى المتهجدين في تهجدهم؟! يا حبيبي وقرَّة عيني، أترقد عيناك وأنا أربى لك في الخدور منذ كذا وكذا؟ قال أبو سليمان: فوثبت فزعًا وقد عرفت حياء منها، وإن حلاوة منطقها لفي سمعي وبصري.
أتلهو بالكرى عن طيب عيش
مع الخيرات في غرف الجنان
تعيش مخلدًا لا موت فيه
وتنعم في الجنان مع الحسان
تيقظ من منامك إن خيرًا
من النوم التهجد بالقرآن
الحور العين حسان الوجوه كصفاء الياقوت في بياض المرجان، خيرات الأخلاق، قاصرات الطرف، مقصورات على أزواجهن في خيام اللؤلؤ: «إن للمؤمن في الجنة لخيمة من لؤلؤة واحدة مجوفة طولها ستون ميلاً، فيها أهلون، يطوف عليهم المؤمن فلا يرى بعضهم بعضًا» متوددات لأزواجهن كواعب { كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ } [الصافات: 49]، صفاء ورقة، نعومة ولطفًا. يرى مخ ساقها من وراء اللحم «إن أول زمرة تلج الجنة صورتهم على صورة القمر ليلة البدر، لا يبصقون فيها، ولا يمتخطون، ولا يتغوطون، آنيتهم فيها الذهب، وأمشاطهم من الذهب والفضة، ومجامرهم الألوة، ورشحهم المسك، ولكل واحد منهما زوجتان يرى مخ سوقها من وراء اللحم من الحسن، لا اختلاف بينهم ولا تباغض، قلوبهم قلب واحد، يسبِّحون الله بكرة وعشيًا».
تولد نور النور من نور خدها
فمازج طيب الطيب من خالص العطر
فلو وطئت بالفعل منها على الحصى
لأعشبت الأقطار من غير ما قطر
ولو شئت عقد الخصر منها عقدته
كعود من الريحان ذي ورق خضر
ولو تفلَّت في البحر شهد رُضابها
لطاب لأهل البر شرب من البحر(1/9)
منديل الحوراء على رأسها خير من الدنيا وما فيها... هذا المنديل فكيف صاحبته، نظرة منها تضيء ما بين السماء والأرض وتملأ ما بينهما عطرًا.
الحوراء وجه حسن، ولحن حسن، وكلام حسن، يُغنين لأزواجهن في الجنة على تربة المسك والزعفران بين أشجار الذهب وتحت الأغصان بأعذب الألحان، يقلن: نحن الخيرات الحسان، أزواج قوم كرام، ينظرن بقرة أعيان. ويقلن كذلك: نحن الخالدات فلا يمتنه، نحن الآمنات فلا يخفنه، نحن المقيمات فلا يضعنه. ويقلن كذلك: نحن الحور الحسان، خُبئنا لأزواج كرام.
فيا من يرجو الحور: إنهن في دار النعيم، ينتظرن قدومك، يرقبن لحظة اللقاء يزددن جمالاً.
فيا لذة الأبصار إن هي أقبلت
ويا لذة الأسماع حين تكلم
ويا خجلة الغصن الرطيب إذا انثنت
ويا خجلة الفجرين حين تبسم
فإن كنت ذا قلب عليل بحبها
فلم يبق إلا وصلها لك مرهم
تقسم منها الحسن في جمع واحد
فيا عجبًا من واحد يتقسم
فيا خاطب الحسناء إن كنت راغبًا
فهذا زمان المهر فهو المقدم
نعم هذا زمان المهر فتحسن للحسناء بعمل صالح يقربك من الله، جعلني الله وإياك من أهل الجنة.
يا ناشد طريق الجنة هل تعرف أكرم زيارة؟ إنها زيارة الله تبارك وتعالى، روى أبو نعيم في الحلية عن علي - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - : «إذا سكن أهل الجنة الجنة أتاهم ملك فيقول لهم: إن الله يأمركم أن تزوروه، فيجتمعون، فيأمر الله تعالى داود - عليه السلام - فيرفع صوته بالتسبيح والتهليل، ثم توضع مائدة الخلد – قالوا: يا رسول الله، وما مائدة الخلد؟ قال: زاوية من زواياها أوسع ما بين المشرق والمغرب – فيطعمون، ثم يسقون، ثم يكسون، فيقولون: لم يبق إلا النظر في وجه ربنا عز وجل، فيتجلى لهم فيخرون سُجَّدًا، فيُقال لهم: لستم في دار عمل، إنما أنتم في دار جزاء».
تجلى لهم رب السموات جهرة
فيضحك فوق العرش ثم يكلم
سلام عليكم يسمعون جميعهم
بآذانهم تسليمه إذ يسلم(1/10)
يقول سلوني ما اشتهيتم فكل ما
تريدون عندي إنني أنا أرحم
فقالوا جميعًا نحن نسألك الرضا
فأنت الذي تولي الجميل وترحم
فيا بائعًا هذا ببخس معجل
كأنك لا تدري بلى سوف تعلم
فإن كنت لا تدري فتلك مصيبة
وإن كنت تدري فالمصيبة أعظم
زوج يحب زوجه في الدنيا... مودة ورحمة.. فهل يحرمان من بعضهما وهما الحبيبان؟ اسمع قول الله تعالى: { جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آَبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَالْمَلَائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ } [الرعد: 23]. والمؤمن في الجنة يضحك مما أفاء الله عليه من النعيم وينادي وهو في النعيم على أهل النار: { وَنَادَى أَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابَ النَّارِ أَنْ قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقًّا فَهَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا قَالُوا نَعَمْ فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَنْ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ } [الأعراف: 44].
المؤمنون في الجنة – جعلني الله وإياك منهم – في قصور شاهقة ومنازل عظيمة لبنة من ذهب ولبنة من فضة، وملاطها المسك، يرى باطنها من خارجها وخارجها من داخلها { وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ آَمِنُونَ } [سبأ: 37]، عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - في الحديث المتفق على صحته أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «إن أهل الجنة يتراءون أهل الغرف من فوقهم كما يتراءون الكوكب الدري الغابر في الأفق من المشرق أو المغرب لتفاضل ما بينهم» قالوا: يا رسول الله، تلك منازل الأنبياء لا يبلغها غيرهم؟ قال: «بلى والذي نفسي بيده رجال آمنوا بالله وصدَّقوا المرسلين».(1/11)
وبعد أن ينقضي الحساب ويستقر أهل الجنة في الجنة تحمد الملائكة الله تعالى { وَتَرَى الْمَلَائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ } [الزمر: 75]، وبعد دخول أهل الجنة الجنة يقولون: { الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ } [فاطر: 34]، { دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلَامٌ وَآَخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ } [يونس: 10].
* * *
تلك الجنة
أيها السائرون:
أسمعتم قول الله تعالى: { تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا... } [مريم: 63] تلك باللفظ الدال على البُعد فهي بعيدة المنال؛ لأنها غالية ولكنها يسيرة على مَن يسَّرها الله عليه فَوُفِّق لطريقها.
فإلى الجنة دار النعيم عرفها لكم... هذا طريقها واضح.. عليه أعلامه وفوقه أنواره.. ها نحن في مبتداه فسيرًا حثيثًا إلى منتهاه حيث أبواب الجنة مفتَّحة للسالكين، فاسلكوا طريق محمد - صلى الله عليه وسلم - فبه النجاة فدونكم الجنة دار السلام، فلنتهيَّأ للدخول يقدمنا على باب الجنة محمد - صلى الله عليه وسلم - يومها يفرح المتقون بفضل الله.
فيا عجبًا كيف طاب العيش في الدار الدنيا بعد سماع أخبار الجنة! كيف قرَّ للمشتاق القرار قبل أن يحط الرحال في دار القرار! كيف سلت النفس دون معانقة أبكار الجنة!.. كيف قرّت دون الجنة الأعين! كيف صبرت أنفس الموقنين قبل أن تتلذ بنعيم الجنة.
فحي على جنات عدن فإنها
منازلنا الأولى وفيها المخيم
ولكننا سبي العدو فهل ترى
نعود إلى أوطاننا ونسلم
وقد زعموا أن الغريب إذا نأي
وشطت به أوطانه فهو مغرم(1/12)
أبعد هذا كله تريد أن تشتري الغالي بالرخيص!. { إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ } [ص: 5]... عجبًا لمن عرف الجنة.. وصفها.. وصفتها.. ثم لم يعمل لها حق العمل.. عجبًا له حيث خلط في عمله ولم يجعله صافيًا من أكدار المعاصي...
هل تشترى الخلد بالمغشوش من عمل
فسلعة الله لا تشرى بما خلطا
يا سلعة الرحمن لست رخيصة
بل أنت غالية على الأثمان
إنها الجنة أيها العاقل، إنها بعيدة «تلك الجنة» ولكنها قريب ممن عرف سبيلها { إِنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ } [الأعراف: 56].
اسمع المشفق الحبيب محمد - عليه السلام - وهو يقول: «الجنة أقرب إلى أحدكم من شراك نعله والنار مثل ذلك» إذًا فهي قريبة ولكن على من عرف كلمة التوحيد بشروطها ومقتضياتها، وحسبك من حديث البطاقة شاهدًا... نعم إنها قريبة ممن عمل مخلصًا متبعًا لا يريد بعمله إلا الله.. قريبة ممن أحسن العمل وتعرض لنفحات الله، أليست المرأة البغي لمَّا أطعمت هرة بارك الله لها وأدخلها الجنة؟! أليس الذي أماط غصن شوك عن الطريق حتى لا يؤذي المسلمين غفر الله له وأدخله الجنة؟!
إذن فكن عالي الرجاء في الله تعالى، فمن صفات المؤمنين: { أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَةَ اللَّهِ } [البقرة: 218].
اسمع هذه القصة التي يرويها الصاحب الجليل أنس بن مالك قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : «يقول الله لأهل الجنة: يا أهل الجنة، فيقولون: لبيك ربنا وسعديك. فيقول: هل رضيتم؟ فيقولون: وما لنا لا نرضى وقد أعطيتنا ما لم تعط أحدًا من خلقك؟ فيقول: إنما أعطيتكم أفضل من ذلك. فيقولون: يا ربنا فأي شيء أفضل من ذلك؟ فيقول: أحل عليكم رضواني فلا أسخط عليكم بعده أبدًا».(1/13)
أيها المشمرون: إن خير جيل ظهر على الأرض جيل الصحابة رضوان الله عليهم، عرفوا قيمة السلعة فدفعوا الثمن { أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ } [الأنعام: 90] اقتد بهم في الاتباع وخُذ أسوة منهم في طول الباع.. ما الثمن الذي قبضه الأنصار في بيعة العقبة الثانية بعد أن بايعوا على بذل أنفسهم وأموالهم، أليس الثمن هو الجنة؟ ولذا عرف العقلاء هذه القيمة الكبيرة فقالوا قولتهم: «ربح البيع، لا نقيل ولا نستقيل» لله درهم.
وهذا المفهوم هو الذي فهمه أنس بن النضر لما عرف أن ليس بينه وبين الجنة إلا أن يموت في أُحُد فقاتل وهو يشم ريحًا عجيبة «إني لأشم رائحة الجنة من دون أُحد» فقاتل حتى قُتِل. عرف الثمن العظيم الغالي جعفر الطيار فكان له جناحان يطير بهما في الجنة. بل وعرفه ضمام بن ثعلبة كما في الحديث الصحيح أنه لما أسلم وعرف أركان الإسلام قال وهو يخاطب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : «والله لا أزيد على ما سمعت ولا أنقص» فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأصحابه بعد خروج ضمام: «مَن سره أن ينظر إلى رجل من أهل الجنة يمشي على الأرض فلينظر إلى هذا» هنيئًا له، وفي رواية: «أفلح إن صدق». إذًا فهو الصدق مع الله والإخلاص له طريق إلى الثمن الغالي. وهذا عثمان - رضي الله عنه - سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يومًا يقول: «من يشتري بئر رومه وله الجنة» فاشتراها عثمان وجعلها في سبيل الله. وسمع يومًا الحبيب عليه السلام يقول: «من يجهز جيش تبوك وله الجنة» فجهزه عثمان فاستحق ذلك، { وَمَنْ أَرَادَ الْآَخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا } [الإسراء: 19].(1/14)
اجتمع عبد الله بن عمر وعروة بن الزبير ومصعب ابن الزبير وعبد الملك بن مروان بفناء الكعبة فقال لهم مصعب: «تمنوا» فقالوا: «ابدأ أنت»، فقال: «ولاية العراق، وتزوج سكينة بنت الحسين، وعائشة بنت طلحة بن عبيد الله»؛ فنال ذلك. ثم تمنى عروة بن الزبير الفقه والحديث؛ فنال ذلك وكان من الفقهاء السبعة. وتمنى عبد الملك الخلافة فنالها. وتمنى عبد الله بن عمر رضي الله عنهما صاحب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الجنة. إنها الهمة رفعت ابن عمر حتى يتمنى الأغلى... الأغلى من العراق وسكينة وعائشة والخلافة كلها وهو من ثمار العلم والاتباع والإخلاص.. فلله همته.
له همم لا منتهى لكبارها
وهمته الصغرى أجلُّ من الدهر
إن الجنة غالية لا يدركها إلا صاحب همة على طريق الله يجود بالنفس والنفيس في سبيل تحصيلها وهي الغاية والمكرمة والمكارم منوطة بالمكاره.
بصرت بالراحة الكبرى فلم أرها
تنال إلا على جسر من التعب
كان أبو موسى الأشعري - رضي الله عنه - يصوم حتى يعود كالخلال، فقيل له: «لو أجممت نفسك؟» فقال: «هيهات! إنما يسبق من الخيل المضمرة». وقيل للربيع بن خثيم وكان يُجهد نفسه في ابتغاء ما عند الله، قالوا له: «لو أرحت نفسك؟» فقال: «راحتها أريد»، وقيل للإمام أحمد: «متى يجد العبد طعم الراحة؟» فقال: «عند أول قدم يضعها في الجنة».
أحزان قلبي لا تزول
حتى أبشر بالقبول
وأرى كتابي باليمين
وتُسَرُّ عيني بالرسول
فيا عالي الهمة: ها هو الطريق إلى رضوان الله ثم الجنة مبسوط واضح، فكن دائم الترحال في طلبه حيث لاح.
أعاذلتي على إتعاب نفسي
ورعيي في الدجى روض السهاد
إذا شام الفتى برق المعالي
فأهون فائت طيب الرقاد(1/15)
فيا من أراد الجنة، لا يؤخرك لوم لائم ولا عذل عاذل «من خاف أدلج، ومن أدلج بلغ المنزل، ألا إن سلعة الله غالية ألا إن سلعة الله الجنة» وقدر السلعة يعرف بمقدار مشتريها والثمن المبذول فيها { إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ } [التوبة: 111].
أنت يا مفتون ما تبرح في بحر المنام
فدع السهو وبادر مثل فعل المستهام
وسح الدمع على ما أسلفته
وابك ولا تلو على عذل الملام
أيها اللائم دعني لست أصغي للملام
إنني أطلب ملكًا نيله صعب المرام
في جنان الخلد والفردوس في دار السلام
وعروسًا فاقت الشمس مع بدر التمام
طرفها يشرق بالخط مُضيًا بالسهام
ولها صدغ على خد كنون تحت لام
أحسن الأتراب قدًا في اعتدال وقوام
مهرها من قام ليلاً وهو يبكي في الظلام(1/16)
نعم هذا هو المهر... فأقصر في الطلب أو امدد بغير حساب، فنحن في هذه الدنيا شئنا أم أبينا مسافرون غرباء فلنتأدب مع الله بآداب الضيافة ولا يلهينك عن الغاية العظمى فُتات الطريق وبريق الشهوات وبهرج الحياة وحلاوة العيش فإن ذلك لا يدوم... تزود بتقوى فهي نجاة فإنك لا تدري متى تتوقف عجلة الحياة؟! تزود بالتقوى فإن زادها سيغلو ثمنه وترتفع سوقه ويربح طالبه، ففيها النجاء والفلاح. فأين المشمرون عن ساعد الجد؟ وصحيح العزم إلى { جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ * فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ } [القمر: 54، 55] فالحياة قصيرة.. ولا أمل بدون عمل، والنعيم لا يدرك بالنعيم، قال ابن تيمية رحمه الله: «ومن أراد السعادة الأبدية فلينطرح على عتبة العبودية» { أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ } [يونس: 62] اللهم إيمانًا لا يرتد ونعيمًا لا ينفد ومصاحبة نبيك محمد - صلى الله عليه وسلم - في أعلى جنان الخلد.: اللهم لذة النظر إلى وجهك والشوق إلى لقائك في غير ضراء مضرة ولا فتنة مضلة. والحمد لله أولاً وآخرًا، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
كتبه/ حسن بن محمد آل شريم
أبها – ص.ب 3547
* * *(1/17)