مقدمة
شاهد حضاري في عناية المملكة بالقرآن وعلومه
الحمد لله ، والصلاة والسلام على رسول الله ، وعلى آله وصحبه ومن والاه..
لقد عززت المملكة العربية السعودية جهودها العديدة بالاهتمام بالقرآن الكريم ونشره في أنحاء قريبة وبعيدة من العالم الإسلامي، وذلك عن طريق مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف .
وقد اكتسبت هذه الجهود دفعتها القوية بمبادرة خادم الحرمين الشريفين الملك فهد بن عبد العزيز . وذلك في الماضي والحاضر حتى كان آخر هذه المجهودات رفيعة القدر طباعة المصحف الشريف بطريقة (برايل) حتى تمكن المكفوفون من قراءته. وهو دور حيوي تحت مظلة عناية المملكة بالقرآن الكريم وذلك يأتي في إطار الأريحية الفذة التي تتمتع بها المملكة والتي تعكس عزمًا أكيدًا على سد أي نقص وحاجة تظهر في العالم الإسلامي من خلال استقراء الأمور. وإذا كنا نتحدث في هذا المبحث عن: (تقويم أساليب تعليم القرآن الكريم وعلومه في وسائل الإعلام).
فإنه من الفخر أن يُذكر تبرع خادم الحرمين الشريفين بمبلغ 3.000.000 ريال لطباعة مصحف (برايل) والتي تشرف عليها الأمانة العامة للتربية الخاصة بوزارة المعارف التي تضع هدفًا لها (مصحف شريف لكل كفيف).(1/1)
فهذه اللبنة العظيمة في بناء صرح تعليم القرآن الكريم ليست الأولى ولا هي الأخيرة إن شاء الله تعالى إذ إنه عطاء متجدد منذ خمسة عشر عامًا يؤديه مجمع الملك فهد .. الذي أتاح للمسلمين في مشارق الأرض ومغاربها الحصول على نسخة صحيحة من القرآن الكريم في وقت أصبح فيه ديننا مستهدفًا.
والأيدي الآثمة تسعى بالعبث في الآيات الكريمة بالتحوير مستهدفة بث التحريف، وبلبلة الأفكار ، وهز العقيدة. وتأتي مساعي المجمع لتبدد عبث الباطل وتهدئ من روع المسلمين .
ومنذ نشأة المجمع عام 1405ه وحتى عام 1418ه تم توزيع (105,000,000) مائة وخمسة مليون نسخة من المصحف الشريف. وهو (مصحف المدينة المنورة) الذي تتم طباعته برواية حفص عن عاصم إضافة إلى روايات أخرى يجري إعدادها. وحتى نهاية عام 1418 ه تم إنتاج (124,267,700) نسخة من كافة الإصدارات وبأحجام وألوان مختلفة (1) .
_________
(1) يتم ذلك بمطبعة المجمع التي تعد من أكبر المطابع العالمية إذ تضم ثلاث آلات للطباعة الشريطية تبلغ سرعتها ما بين عشرين ألف إلى ستين ألف ملزمة في الساعة . ويتم صف الحروف بجهاز للحاسب الآلي يمكن استخدامه أيضًا لصف ترجمات معاني القرآن الكريم باللغات المختلفة . وهناك ستون أله حديثة في قسم التجليد وبينها إحدى عشرة آلة من أفضل آلات الطي في العالم ، كما توجد ثلاث آلات لتجميع ملازم المصحف تنجز الواحدة منها ستة آلاف مصحف في الساعة . هذا إلى جانب المقاطع الآلية التي تقوم بتفصيل مختلف أنواع الأغلفة سواء المصنوعة من الورق المقوي أم من الجلود الطبيعية .(1/2)
3- ولقد تم إنجاز ترجمات لمعاني القرآن الكريم بلغات عالمية بلغت إحدى وعشرين لغة وهي :الأسبانية ، والألبانية ، والإنجليزية، والإندونيسية ، والأردية، والآرومية ، والإيغورية ، ولغة البشتو، والبراهوائية ، والبنغالية ، والبوسنية، والتاميلية ، والتركية ، والصومالية ، والصينية ، والفارسية ، والفرنسية ، والقازانية ، والكورية ، ولغة المليباري ، ولغة الهوسا .
4-كما اهتم المجمع بالتسجيلات الصوتية حيث تبلغ الطاقة الإنتاجية أربعمائة ألف شريط سنويًّا. وتم تسجيل القرآن الكريم كاملًا برواية حفص عن عاصم بأصوات كل من :
الشيخ / علي بن عبد الرحمن الحذيفي .
والشيخ / محمد أيوب بن محمد يوسف .
والشيخ / إبراهيم الأخضر القيم .
والشيخ / عبد الله بن علي بصفر .
كما تم تسجيل القرآن الكريم كاملًا برواية قالون عن نافع بصوت الشيخ الحذيفي . مع المعاني باللغة الآرومية مع وجود خطة لتسجيل المعاني صوتيًّا باللغات الأخرى .
وتخرج هذه التسجيلات من (استديو المجمع) المجهز بأحدث المعدات ذات التقنية العالية فنيًّا ودينيًّا حيث يتم التسجيل تحت إشراف لجنة من كبار العلماء.(1/3)
5-يتعاون المجمع مع الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة فيما يتصل بأعمال مركز خدمة السنة والسيرة النبوية. ويجمع المركز الكتب والمخطوطات والوثائق والمعلومات المتعلقة بالسنة والسيرة وإعداد موسوعة الحديث النبوي، إلى جانب ترجمة بعض أمهات كتب السنة والسيرة. هذا إلى جانب مشروع برمجة الأحاديث النبوية على الحاسب الآلي ليسهل تخريجها وجمعها موضوعيًّا .
وهذا قليل من كثير نأمله في المستقبل مما اختطته العناية الإلهية للقرآن الكريم وهذا ما لم ولن يحظ به كتاب قبله ولا بعده ؛ لأنه ذو أسلوب مؤثر بليغ ، ربى النفوس وارتقت به الهمم حتى فتحت البشرية حافظتها لتسجل، وقلوبها لتفقه، وعقولها لتتدبر وعلى أكتاف حامليه اتسعت البلاد الإسلامية، وارتفعت منارات الحضارة حتى أفاد منها الغربيون وبَنَوْا حضارتهم ..(1/4)
وهاك خطوات البحث في هذا الموضوع :ـ
الباب الأول
1ـ الإعلام الإسلامي من متطلبات العصر الحديث .
2ـ وسائل الإعلام أداة تربوية تعليمية .
3ـ كيفية الاستفادة من الإعلام في توجيه الشباب .
4ـ وسائل الإعلام المرتبطة بتعليم القرآن الكريم وعلومه .
1-المسجد 2- المدرسة 3- الإذاعة
4-التلفاز 5- الإنترنت
الباب الثاني
أولًا : الأسس العامة لتقويم أسلوب التعلم من القرآن الكريم .
أسلوب الحوار.
أسلوب القصص.
أسلوب ضرب الأمثال .
ثانيًا : تقويم تعليم القرآن الكريم في وسائل الإعلام .
ثالثًا : تقويم أساليب علوم القرآن في وسائل الإعلام .
رابعًا : برامج خاصة بالإنترنت .
ترجمة معاني القرآن الكريم .
القرآن الكريم يوافق التقدم العلمي ولا يعارضه .
خاتمة وتوصيات
فهارس عامة(1/5)
الباب الأول
أولًا:الإعلام الإسلامي من متطلبات العصر الحديث :
بما أن الإسلام دين عالمي الرسالة ، وعالمي الدعوة كما قال الله تعالى { تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا } (الفرقان:1). فإن ذلك الأمر يتطلب إعلامًا واسع النطاق وشخصيات فذة تملأ هذا الوسع .
إذ أصبح الإعلام بوسائله المختلفة ومن خلاله لا يمكن أن تعيش دولة منعزلة عن الدول الأخرى دون أن يكون بينهما وسائل اتصال فهو إذن من متطلبات العصر الحديث . وحينما نعلم أن كثيرا من الدول تعاني من الحملات التنصيرية التي تهدف إلى رد المسلمين عن دينهم ، وزعزعة عقيدتهم السمحة ندرك أن الإعلام الإسلامي ضرورة من ضرورات العصر .
وتحت مظلة مفهوم الإعلام الإسلامي نجد معانٍي مشتركة عند المعرفين للإعلام الإسلامي.(1/6)
فيقول الدكتور محيي الدين عبد الحليم : (مدلول الإعلام الإسلامي: هو تزويد الإنسان بصفة عامة بحقائق الدين الإسلامي الحنيف المستمدة من القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة ، وعرض مشكلات المجتمع الثقافية والاجتماعية والتعليمية من وجهة نظر إسلامية، من خلال رجل الإعلام الذي يتمتع بمعرفة واسعة ومتعمقة في موضوع الرسالة التي يتناولها وصولًا إلى تكوين رأى عام صائب يعي ويدرك حقائق الدين الإسلامي اعتقادًا وعبادة ومعاملة) (1) ويقول: الركابي (إنه يتمثل في إعلاء كلمة الله عز وجل من خلال جميع وسائل الاتصال الممكنة في كل عصر من العصور والأزمنة بحيث لا تتعارض تلك الوسائل مع الشريعة الإسلامية السمحة) (2)
_________
(1) أ.د / محيي الدين عبد الحليم ، الإعلام الإسلامي وتطبيقاته العلمية ط2 مكتبة الخانكي بالقاهرة 1404ه ص140 .
(2) أ زين الدين الركابي ، النظرية الإسلامية في الإعلام والعلاقات الإنسانية ـ بحث منشور مقدم للندوة العالمية للشباب الإسلامي المنعقدة بالرياض 1396ه 22(1/7)
ويعرفه الشنقيطي بأنه: ( إعلام يتضمن حياة الناس كافة المحكومة بشرع الله عز وجل ومن ثم يشتمل على مضامين الوحي الإلهي ) (1) . نقول :هذه المعاني المشتركة عند المعرفين هي ارتكاز الإعلام الإسلامي في مضمونه على القرآن الكريم وعلومه والسنة النبوية المطهرة، أضف إلي ذلك الأطر الفكرية، والاجتماعية، والإنسانية والتربوية المنبثقة من روح الإسلام وحقائقه وقيمه وضوابطه الشرعية بدءًا من ترسيخ الجانب العقدي لدى الناس بما يوافق الشرع ومرورًا ببيان ما أحله الله سبحانه وأمرنا باتباعه، وبيان ما حرمه -عز وجل - ونهانا عنه باجتنابه .
وانتهاءً بإزالة الغبار الذي يعكر به أعداء الإسلام على ثوابت الدين وإظهار ملامح الصورة الحقيقية لسماحة الدين وعمقه المتفق مع فطرة البشر مهما كانت الجنسية أو الطبقة { فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ } (الروم:30)
_________
(1) الشنقيطي ، مفاهيم إعلامية من القرآن الكريم ، الرياض دار عالم الكتب 1406 ه صـ18(1/8)
هم لا يعلمون تواكبه مع فطرهم ، وقد أذن الله ورسوله لنا بما مكننا أن نبلغهم ونعلمهم حتى تسري حقيقة القرآن والسنة سريان الروح في الجسد في النشاط الإعلامي كله المقروء والمسموع والمرئي ، ومن ثم يصبح الإعلام الإسلامي حكمًا موضوعيًّا تتحاكم إليه جميع النشاطات الإعلامية .
وهو في ذاته الوقت يحقق لأبناء الأمة الإسلامية -على الدوام -الاستقرار والتوازن، ويخلصها من التناقض والصراع الذي يعاني منه المسلمون في الغرب وبعض أفراد الأمة كلما ابتعدوا عن منهج الله تعالى. حتى تتجلى لهم الصورة الشاملة للإسلام في علومه وشريعته وأحكامه وخلقه وآدابه وسلوكه .(1/9)
ثانيًا:وسائل الإعلام أداة تربوية تعليمية:
تعدُّ وسائل الإعلام عملية تربوية وتعليمية حيث لم تعد مسؤولية التربية والتعليم منوطة بالمدرسة والمنزل فقط بل تعدى ذلك إلى وسائل الإعلام .
والتربية والتعليم عن طريق وسائل الإعلام هو حجر الزاوية في تطور العلوم والمعارف، حيث تؤثر في أبناء المجتمع من خلال ما تزودهم به من ضروب المعرفة والثقافة .
فهو مؤثر إيجابًا وسلبًا ويتوقف ذلك على مضمون ومحتوى المادة الإعلامية التي تقرأ أو تسمع أو تشاهد.
وعن ارتباط الإعلام بالتربية والتعليم يقول د / حمود البدر : (التربية: عملية توجيه الأفراد نحو النمو بشكل يتمشى والخط الذي ارتضته الأمة لنفسها.
والإعلام: أيضًا عملية توجيه الأفراد بتزويدهم بالمعلومات والأخبار والحقائق لمساعدتهم على تكوين رأي صائب في واقعة محدودة أو مشكلة معينة.
وهذا يعني أن بين التربية والإعلام وشائج قوية ، وأرضًا مشتركة إن التربية في جوهرها عملية اتصال ، وإن الإعلام بجوهره ومظهره عملية اتصال ). (1)
أضف إلى ذلك انهما يشتركان في كونهما أداة للتغيير إما عن طريق زرع قيم جديدة لدى المجتمع ، وإما للإقلاع عن عادة قديمة .
فارتباط الإعلام بالتربية يقتضي:
_________
(1) د / حمود عبد العزيز البدر ، الحاجة إلى تنسيق وتكامل إعلامي تربوي بين دول الخليج العربي، الرياض -مكتب التربية العربية لدول الخليج 1409 ه بحث مقدم للاجتماع المشترك بين التربويين والإعلاميين ص2(1/10)
تغييرًا في السلوك .
مساعدة الفرد على التكيف مع واقع الحياة .
ويدل على تكاملهما وتواصلهما بعضهما ببعض نتيجة سعيهما لتحقيق النهوض بأبناء المجتمع وجعلهم أكثر إيجابية في ظل التحديات التي يواجهها الإنسان في هذا العصر. وهذا يدعونا إلى التساؤل عن :-(1/11)
ثالثًا:كيفية الاستفادة من الإعلام في توجيه الشباب.؟
إن إفادة الأمة من الوسائل الإعلامية الإسلامية القائمة على القرآن والسنة تتمثل في :
1-تثبيت الإيمان وتأصيل الانتماء :
وهذا له بالغ الأهمية في التوجيه السليم بينما في غياب الوسائل الإعلامية الإسلامية يحدث الخلل في الجانب الإيماني والعقدي في نفوس الشباب وقد تقودهم الوسائل الإعلامية غير الإسلامية إلى الانحراف والتيارات الإلحادية ومن ثم تمزق الروابط الإيمانية في داخلهم.
لذا .. فإن الإعلام الإسلامي يستطيع أن يسهم في تثبيت أركان العقيدة الإسلامية إضافة إلى تأصيل الانتماء للأمة الإسلامية من خلال وسائله المقروءة والمسموعة والمرئية .
2-إبراز المثل العليا والقدوة الصالحة:
وذلك من خلال ما تقدمه الوسائل الإعلامية الإسلامية من نماذج حية من سير الصحابة والخلفاء الراشدين التي تعلي من همم الشباب وتسهم في بناء ذواتهم.
3- تحقيق الاستقرار النفسي والعاطفي:(1/12)
نظرًا لما يغلب على الشباب من التوتر والانفعال والاضطراب النفسي والعاطفي في هذه المرحلة.. لذا فإن الإعلام الإسلامي يقوم برسالة تربوية بالغة الأهمية ولا سيما في مرحلة الشباب تتمثل في ضبط الانفعالات وتوجيه الجانب العاطفي للشباب وصولًا إلى تحقيق الاستقرار النفسي والعاطفي من خلال البرامج الإسلامية التي تعوض الشباب عن ذلك .
4-التثقيف العام وتنمية المواهب:
تستطيع وسائل الإعلام الإسلامية المشاركة الفعالة في تنمية قدرات الشباب ومواهبهم إضافة إلى تثقيفهم بصورة شاملة ، والإسهام بإيجابية في العملية التعليمية ومن ثم يجب أن توجه المواد الإعلامية الهادفة التي تتناسب مع طبيعة المرحلة التي يعيشها أبناء المجتمع حتى تكون خير مرشد وموجه للأبناء توجههم نحو تحقيق الأهداف المنشودة .
وذكر أ / ماجي الحلواني وظائف الإعلام الإسلامي وأنها تتمثل في :-
التعريف الصحيح بالدين الإسلامي الحنيف وأركانه .
نشر الإسلام وتعميقه في النفوس.
تعميق الثقافة الإسلامية في ضوء الكتاب والسنة ، والتشجيع على حفظ القرآن الكريم .
التعريف بالشخصيات الإسلامية والأحداث والوقائع ذات الدور الفعال في التاريخ الإسلامي .(1/13)
إلقاء الضوء على أخبار المسلمين في مختلف أرجاء المعمورة .
تقديم الحلول الناجحة للمشكلات التي تواجه أبناء الأمة الإسلامية.
تقديم المآثر الإسلامية من خلال شخصية الرسول صلي الله عليه وسلم والصحابة والسلف الصالح .
الرد على الأكاذيب والافتراءات التي تسيء إلى الإسلام .
إبراز الصفة العالمية للدين الإسلامي الحنيف .
إبراز صفة التسامح في الإسلام، ومعنى وحقيقة الجهاد في سبيل الله تعالى.
مقاومة الدعاوى الإلحادية التي تستهدف تدمير العقيدة الإسلامية والقيم الفاضلة (1) .
_________
(1) انظر أ / ماجي الحلواني ، الإعلام الإسلامي التحديات والمواجهة ط 1جدة مكتبة مصباح 1411ه ص24:22(1/14)
أولًا: المسجد:
يُعد تعليم القرآن الكريم وعلومه في المساجد وسيلة كبرى من وسائل الإعلام فالمسجد مكان رئيس لنشر الثقافة الإسلامية .
فهو دار للعبادة ، ومعهد للتعليم ، ودار للقضاء ، وساحة لتجمع الجيوش، وأصدق ما قيل فيه إنه جامع وجامعة، احتوت كل نشاطات الحياة المسلمة بكل أبعادها وحاجاتها وتغيراتها وتطوراتها .
ويعد المسجد مؤسسة تعليمية ومدرسة للعلم والتعليم والثقافة والأدب والتربية إلى جانب وظيفته الأولى ، وكونه مكانا ًوموضوعًا طاهرًا يتقرب فيه إلى الله سبحانه وتعالى عن طريق أداء الصلوات الخمس المفروضة على المسلم في اليوم والليلة (1) .
وهو المنارة التي يتم فيها تربية وتنشئة المسلم ويتم من خلاله غرس القيم الإيمانية والعقيدة الصحيحة ، وجوانب الحياة الإسلامية الاجتماعية والسلوكية السليمة في نفوس المسلمين .
فعندما يرى الناشئة الراشدون مجتمعين في المسجد على كتاب الله تعالى يتدارسونه ويقرأونه ينمو لديهم الشعور بالانتماء إلى المجتمع المسلم والاعتزاز بالجماعة لمسلمة ، إضافة إلى أنهم ينمو لديهم الوعي العقدي ومعرفة الهدف الذي خلقهم الله تعالى من أجله .
_________
(1) محمد الفزار وصالح الشهري ، المبادئ العامة للتربية ط1 خميس مشيط دار جرش للنشر 1410ه(1/15)
وفي المسجد يتعلم الناشئة قراءة القرآن الكريم وترتيله والأحاديث النبوية المطهرة إضافة إلى العلوم اللغوية والفقهية والتاريخ الإسلامي وغيرها من العلوم النافعة. فالمسجد بهذا الدور التربوي ينمي الناحية الروحية لدى الناشئة من حيث ارتباطهم بخالقهم سبحانه وتعالى ، وكذلك تعليمهم أمور الحياة الصادرة عن أهداف التربية الإسلامية التي تجعل الناشئة يسلكون السلوك الإسلامي تلقائيًّا دون مشقة أو عناء (1)
_________
(1) محمد أحمد عبد الهادي ، المربي والتربية الإسلامية ط1 جدة دار البيان العربي 1404 ه ص4 .(1/16)
ثانيًا: المدرسة:
إن وظيفة المدرسة متعددة الجوانب منها الدينية والتربوية والثقافية والاجتماعية إلا أن الجانب الديني يعد أهم الجوانب، لأن الجوانب الأخرى منبثقة عن الدين الإسلامي الذي يرتكز على ما تقوم به المدرسة من إيجابية وفاعلية وعن تحديد مدلول المدرسة يقول الدكتور / محمد الفزار :(هي إحدى وسائط أو مؤسسات التنشئة الاجتماعية ، وهي مؤسسة اجتماعية 0تربوية متميزة أنشأها المجتمع بهدف تربية وتنشئة الصغار وتعليمهم وتهيئتهم أو إعدادهم للمواطنة الصالحة لمجتمعهم) (1) .
ويمكننا إبراز وظائفها فيما يلي:ـ
عامل للتماسك الاجتماعي: فالمدرسة تعمل على تكوين الاتجاهات والقيم.
التعرف على الموهوبين: تكشف الأنشطة التعليمية عن طاقات التلاميذ الموهوبين ومن ثم تنمية ذلك حتى يعود بالنفع والصلاح على الفرد والمجتمع .
مسايرة التجديد والتغيير والتطوير:
يقع على المدرسة وظيفة هامة هي أن تساير التطور السريع في مختلف المجالات العلمية والثقافية والتقنية تمشيًّا مع طبيعة هذا العصر شريطة أن يتفق ذلك مع تعاليم الإسلام .
4ـ وسيلة اتصال عالمي :
_________
(1) د / محمد الفزار ، د / صالح الشهري ، المبادئ العامة للتربية ط 1 ، خميس مشيط ، دار جرش للنشر والتوزيع 1410 ه ص 53(1/17)
يتمثل ذلك بالإعداد الثقافي للمعلمين، فلا بد من الاطلاع على ما وصلت إليه الأمم الأخرى والإفادة من تجارب الآخرين (1) .
والمدرسة بصفة عامة في المجتمع المسلم تجمع بين علوم الدين التي هي فرض عليها وبين علوم الدنيا التي هي فرض كفاية تعبيرًا عن شمول الرسالة الإسلامية وتوازنها
_________
(1) السابق بتصرف واختصار ص 54 ،57(1/18)
ثالثا: الإذاعة:
هي وسيلة التبليغ الصوتية التي تعمل عن طريق الأثير.
والإذاعة :بدأت مع اكتشاف الموجات القصيرة ويرجع اكتشاف هذه الموجات إلى عوامل عدة منها :اهتمام الدول بإيجاد طرق جديدة للاتصال بالعالم الخارجي في حالة تخريب كبلات وأسلاك خدماتها التلغرافية في حالة قيام الحرب .ولكن الفضل الرئيسي لاكتشاف هذه الموجات يرجع إلى هواة الراديو، الذين كانت حكوماتهم قد منعتهم من استخدام الموجات الطويلة والمتوسطة في هوايتهم نظرًا لاكتظاظها بالخدمات الإذاعية، فخصصت لهم موجات غير معمول بها في ذلك الحين وهي الموجات القصيرة. وقد اكتشف الهواة في بحثهم عن وسيلة ومخرج يشبعون بها هوايتهم طريقة لاستخدام الموجات القصيرة.
وتم أول اتصال بين هواة أمريكا وهواة فرنسا عبر المحيط الأطلنطي في عام 1923على موجة طولها مائة متر.
وانتشرت الإذاعة الدولية على أثر نجاح الهواة في استخدام الموجات القصيرة. (1)
_________
(1) الإذاعة الدولية، دراسة مقارنة لنظمها وفلسفتها د / سهير عبد الغني بركات، 1978م بدون ط ص21(1/19)
وعملت الإذاعة خلال القرن الماضي والحالي على بث الوعي لدى جميع المسلمين في أرجاء العالم لتعريفهم بأن الأمة الإسلامية صاحبة رسالة إصلاحية شاملة تخاطب الناس في كل زمان ومكان ومن ثم تخضع في تنشئة أفرادها لأهداف رسالتها السامية. ومن ثم طوعت الإذاعة لخدمة القرآن الكريم وتفسيره وترتيله وتجويده حتى أصبح ضرورة من ضرورات الحياة ولا سيما في المجتمعات المسلمة التي تأمل في مستقبل مشرق ومزدهر بالدعوة إلى الله سبحانه وتعالى وتوحيده والعمل على تنفيذ أوامره واجتناب نواهيه عن طريق نقل المعلومة الصحيحة وتحريك مشاعر الفرد والمجتمع بما يجب عليهم تجاه كتاب ربهم وغرس ذلك في نفوس الناشئة منذ الصغر عن طريق تربيتهم الإعلامية التربية الإسلامية الصحيحة ومن ثم اصبح تقربهم من القرآن سلوكًا طبيعيا مألوفًا يسلكه أفراد المجتمع بكل يسر وسهولة .(1/20)
رابعًا: التلفاز:
إن البث التلفزيوني المباشر يعني :أن يستطيع المواطن العادي التقاط إرسال القمر الصناعي مباشرة من خلال محطة أرضية صغيرة في منزله ، وبالتالي وجود المحطات الأرضية أو القطاع الأرضي من القمر الصناعي (1) .
فالبث التلفزيوني المباشر لا يتم إلا من خلال قمر صناعي يستقبل البث من أي مركز على الأرض بواسطة هوائيات ذات قدرة عالية ، وتحويل هذا البث إلى الأرض لتستقبله تلك الصحون المستديرة أوما يسمى باللغة الإنجليزية بـ(Dich) وهي ذات قدرة تقنية خاصة قادرة على استقبال الترددات العالية جدًا من القمر الصناعي مباشرة ً ثم تحويل هذه الترددات إلي ترددات مناسبة للتلفزيون العادي لذا يعد البث التلفزيوني المباشر قضية اليوم والغد وذلك لاستقبال إرساله من الأقمار الصناعية مباشرةً، دون المرور على محطة أرضية، ومن ثم لا يمكن التحكم فيما يبثه للمشاهدين ، سواء كان البث قادمًا من المشرق أو المغرب فلماذا لا نوجِّه جهودنا الى قناة :
_________
(1) أ / ماجي حسن الحلواني، تكنولوجيا الإعلام في المجال التعليمي والتربوي القاهرة دار الفكر العربي 1988 م ص80(1/21)
1- تعرض ما يدعو للإيمان، يكون لها من الجوانب الإيجابية خاصة لخدم البلدان الإسلامية مترامية الأطراف للتعرف على قضاياهم ، وما يعانونه من مشكلات، والإجابة عنها من خلال القرآن الكريم والسنة المطهرة .
2- يكون لها قصب السبق في الرد على الجوانب السلبية في القنوات الأخرى وبخاصه التي تهدف إلى إظهار الإسلام بصور سيئة في نفوس الغرب .(1/22)
خامسًا: الإنترنت:
شبكة اتصالات عالمية إعلامية ، يتمكن المطلع عليها في مختلف أرجاء العالم من قراءتها والتعرف على محتوياتها والإفادة منها في جميع المجالات الحياتية.
طريقة النشر فيه:
يتم نشر الصفحات التي نريدها من خدمة لكتاب الله العزيز على شبكة الإنترنت بنقلها إلى ملقم (خادم)شبكة الإنترنت .
وهذا الملقم ( الخادم ) هو جهاز كمبيوتر متصل مع شبكة الإنترنت ويمُكّن الأفراد من الإطلاع على صفحاتك على شبكة الإنترنت والإفادة منها.
وقد يعطيك مقدم الخدمة الذي يربطك مع شبكة الإنترنت مساحة تمكنك من حفظ صفحاتك على الشبكة مجانًا ونستطيع استئجار مساحة يمكن الاتفاق عليها مع مقدم مثل هذه الخدمة .
- والأمر الذي يجب التنبيه إليه هو وجوب التأكد من صيانة البيانات المعروضة باستمرار .
وقد يكون هناك استفسارات أو ملاحظات من القراء .. فيجب أن يكون هناك متابعة لتلك الأمور بالتغذية الإرجاعية بالتوجيهات والإجابات حتى تكون صفحاتنا مفيدة وصالحة للنشر.(1/23)
إعلام المطلعين على الشبكة عن صفحتنا :
يمكن استخدام أمر Sub Mit It أي(تقديم العمل) وهي صفحة من صفحات مواقع شبكة الإنترنت للإعلام عن صفحتك على شبكة الإنترنت. وسيرسل هذا البرنامج معلومات عن صفحتك التي تزمع إنشاءها إلى كثير من معدي برامج البحث عن المعلومات .
وهي البرامج التي تساعد القراء في الحصول على المعلومات والبيانات التي يبحثون عنها ويمكنك الاتصال بهذا البرنامج من خلال الصفحة التالية :
(http / / www.sup mit-it.com / index.html)
وإنه آن الأوان للدعاة والعاملين في مجال الدعوة الإسلامية التشمير عن ساعد الجد ، وتقديم مساهمة فعالة في مجال الدعوة إلى هذا الدين الحق وإعلام الناس بعالميته من خلال شبكة الإنترنت. مع العلم بأن هناك إحصائيات تشير إلى أن هناك (22500) موقعًا ، وصفحة أو أكثر لخدمة النصرانية.
وأن هناك أكثر من (5800) موقعًا وصفحة أو أكثر لخدمة اليهودية بينما لا تتعدى الواقع إذاقلنا:إن الصفحات التي تتحدث عن دين الإسلام الحق -الصالح والمصلح لكل زمان ومكان -(500) موقع(1/24)
واللافت للنظر أن أعداء الإسلام ينشطون في تبليغ (الإنجيل)و(التوراة) باستخدام قوائم البريد الإلكتروني بحيث يقدمون للمشتركين (آية واحدة) كل يوم -أو يتعهدون بتقديم الإنجيل كاملا خلال عام واحد للقراء من خلال الإنترنت ، بينما لا تجد من يستغل تلك المعطيات والتقنيات الحديثة لإبلاغ كلام الله الخالد (القرآن الكريم )و(الحديث الشريف) باستخدام هذه الوسيلة التي يستخدمها أكثر من (600) مليون شخص في عالمنا المعاصر (1)
_________
(1) مجلة سعودي شوبر، العدد الخامس السنة الثانية يناير2000 مقال بعنوان (إنترنت- خطوة خطوة) ص33(1/25)
الأول :الحوار التعبدي: بأن يوجه القرآن سؤالًا فيجيب العبد المؤمن..
روى أبو داود والبيهقي : « كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قرأ { أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى } ( القيامة: 40) قال سبحانك ، فبلى » (1)
وقد حث الرسول صلى الله عليه وسلم أصحابه على تلبية هذه الأسئلة .
روى الحاكم عن جابر قال: « قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم سورة الرحمن حتى ختمها ثم قال : مالي أراكم سكوتًا ؟ الجن كانوا أحسن منكم ردًا، ما قرأت عليهم هذه الآية { فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ } ( الرحمن: 13) إلا قالوا: ولا بشيء من نعمك ربنا نكذب ، فلك الحمد » (2) .
إن القرآن يربي نفوس المتعلمين بهذا الحوار التعبدي على عدة أمور :ـ
التجاوب مع أسئلة القرآن واستحضار القارئ والمستمع لها بقلبه ، وقد علم النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه ذلك تعليمًا عمليًّا.
فعن حذيفة بن اليمان : « صليت مع النبي صلى الله عليه وسلم ذات ليلة فافتتح البقرة فقلت يركع عند المائة ثم مضى يصلي بها ... إلى أن قال ثم افتتح بآل عمران يقرأ متر سلا إذا مر بآية فيها تسبيح سبَّح، وإذا مر بسؤال سأل، وإذا مر بتعوذ تعوذ » (3)
_________
(1) رواه أبو داود ك الصلاة رقم 750 وأحمد 7086 .
(2) رواه الحاكم في المستدرك ج 2 ص 515 وقال صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه.
(3) رواه النسائي في المجتبى ج 3 ص 225 والبيهقي ج 1 ص 433(1/26)
2- استجابة السلوك وذلك نتيجة طبيعة للقناعة الفكرية الناشئة عن أسلوب الحوار فالذي يستجيب لسؤال ربه ووعده ووعيده حري بأن يستجيب بسلوكه.
3- إشعار المتعلم والقارئ للقرآن الكريم بمكانته عند الله حتى خاطبهم به. فلما نزل قوله { فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ } (المائدة: 91) في آيات تحريم الخمر قالوا : انتهينا يا رب.(1/27)
الثاني : حوار الخطاب التذكيري
بتذكير المتعلم بما يجب عليه أقتبس من القرآن الكريم تذكيره لنبي إسرائيل بالنعم { يَابَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ } (البقرة: 40). { يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ } (المائدة: 11) وقال لرسوله صلى الله عليه وسلم { أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ }{ وَوَضَعْنَا عَنْكَ وِزْرَكَ } (الشرح: 1 ، 2) ..
وهذا الحوار له أثر نفسي عميق فهو يوقظ في النفس عاطفة العرفان بالجميل المترتب عليه عاطفة الخضوع والانقياد لأوامر الله عز وجل على أن تكون دافعة له إلى التطبيق .(1/28)
الثالث : حوار الخطاب التنبيهي
فقد يرد التساؤل ويعقبه الجواب للفت الأنظار إلى أمر هام ثم يُشرح هذا الأمر تاركًا أعظم العبر كقوله تعالى { الْقَارِعَةُ }{ مَا الْقَارِعَةُ }{ وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْقَارِعَةُ }{ يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ } ( القارعة: 1-4) وقد اتخذ الرسول صلى الله عليه وسلم هذا الأسلوب في قوله صلى الله عليه وسلم « أتدرون من المفلس؟ قالوا : المفلس فينا من لا درهم له ولا متاع قال كلا بل المفلس من يأتي يوم القيامة بحسنات مثل الجبال ويأتي وقد شتم هذا .. وقذف هذا فيأخذ هذا من حسناته وهذا من حسناته » ...الخ (1) وإذا كانت المدرسة الحديثة تستخدم طريق الاستجواب لتثبت المعلومة فإن الإسلام قد وضع هذا الأسلوب منذ خمسة عشر قرنًا من الزمان وشتان ما بينهما فالمدرسة الحديثة الاستجواب فيها مقصور على أمور علمية جافة بظن أو يقين لكن الحوار القرآني والنبوي يجدد أفكار السامعين بأمور يقينية جديدة موجهًا لهم الأخذ بخيرها وترك شرها.
_________
(1) رواه مسلم 4 / 1997 والترمذي 4 / 613 ومسند أحمد 2 / 303 وابن حبان 10 / 259(1/29)
الرابع: حوار الخطاب العاطفي
وهو خطاب أو استفهام يعتمد على استثارة العواطف الإنسانية والانفعالات الوجدانية حتى تترك أثرًا في تغيير ما كان عليه إلى السلوك الصالح والعمل الطيب مثل قوله تعالى { يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ }{ كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ } ( الصف: 2 ،3)
ومثل قوله تعالى { يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ }{ إِلَّا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلَا تَضُرُّوهُ شَيْئًا وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } ( التوبة: 38 ،39).(1/30)
وهذا الأسلوب يؤدي إلى الاستعداد الوجداني كلما تكررت المناسبة أو الموضوع الذي أثار الانفعال كاستعداد المؤمن للحماسة من أجل العقيدة الخالصة، ولتحقيق أوامر الله عز وجل ، والغضب لله، والدعوة إلى دينه. والعاطفة الفعالة تؤدي بصاحبها إلى سلوك يرضيها ويحقق غايتها .(1/31)
الخامس : حوار الخطاب التعريضي
وهو خطاب يتضمن تعريضًا بأصحاب السلوك غير المرضي - بوصف حالتهم وضعفهم وتهديدهم بالعذاب - وفي هذا تسلية لأصحاب السلوك الصالح وتقوية لعزائمهم والأخذ بيد الآخرين إلى الهدى من الضلالة .
كقوله تعالى { فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهَذَا الْحَدِيثِ }{ سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ } ( القلم: 44، 45)
ومثل قوله تعالى { أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآيَاتِنَا وَقَالَ لَأُوتَيَنَّ مَالًا وَوَلَدًا }{ أَطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا }{ كَلَّا سَنَكْتُبُ مَا يَقُولُ وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذَابِ مَدًّا }{ وَنَرِثُهُ مَا يَقُولُ وَيَأْتِينَا فَرْدًا } ( مريم: 77-80)
وفي هذا الأسلوب إيذان للمؤمن أن يحتقر صفات المشركين وأعمالهم وإيقاظ انفعال الاشمئزاز من باطلهم وكفرهم حتى تصبح هذه الانفعالات عاطفة متأصلة في نفس المتعلم عن طريق التكرار.
وهذه طريقة تلقين غير مباشر تكون أشد تأثيرًا في بعض الأحيان من التلقين المباشر.(1/32)
أسلوب القصص القرآني :
للقصة القرآنية وظيفتها التعليمية التي لا يحققها لون آخر من ألوان الأداء اللغوي ذلك أنها تمتاز بميزات جعلت لها آثارًا نفسية وتربوية بليغة ومحكمة وثابتة على مر الأزمان مع ما تثيره من حرارة العاطفة تدفع إلى تغيير السلوك وتجديد العزيمة .
وللقصة القرآنية أغراض ينبغي للمعلم أن يحققها في نفس مستمعيه وتربية عقولهم وعواطفهم .
الغرض الأول: إثبات الوحي والرسالة ففي أول سورة يوسف قال تعالى { إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ } ( يوسف: 2 ،3)
وفي قصة نوح { تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنْتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلَا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا } ( هود: 49).(1/33)
فمحمد صلى الله عليه وسلم هذا النبي الأمي الذي لا يقرأ ولم يجلس إلى معلم بشري قط ، يتلو على قومه هذا القصص أعذب الكلام وأبلغه في أسلوبه ونظمه وفي غاياته ومقصده، فهو في موضوعه نسيج من الصدق الخالص، وعصارة الحقيقة المصفاة ، لا تشوبه شائبة من وهم أو خيال لأنه بناء شامخ من لبنات الواقع، وهو نقل حي لها، حتى لكأنها تتجسد في الزمان والمكان اللذين حملاها لحظة حدوثها، فتظهرها دائمًا وكأنها في ساعة مولدها، لا يختلف يومها عن أمسها ولا يفقد من يشهدها اليوم أو غدًا شيئًا مما شهده عليها المشاهدون ساعة مولدها .. وهذا الإعجاز الذي نشهد بعض أسراره في كلمات القرآن الكريم، الأمر الذي لا يشبهه شيء من أعمال الناس وآثارهم.
ولا يشك عاقل في أن وظيفة محمد صلى الله عليه وسلم إن هي إلا التبليغ { إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلَاغُ } ( الشورى: 48).
الغرض الثاني : تثبيت حملة الرسالة وتسليتهم عما يلاقونه من المصائب { وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءَكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ } ( هود:120)(1/34)
فعلى المعلم استحضار مكان الموعظة والذكرى من كل قصة ليحاور متعلميه حوارًا يوجههم إلى المعرفة ، والتأثر بها ، والعمل بمقتضاها .
الغرض الثالث : الاعتبار بالحوادث التاريخية:
وما أعظم هذه الحوادث التي توجه المتعلم إلى معرفة المغزى:-
(أ)كمعرفة سنة الله في إهلاك المفسدين بسبب فسادهم وظلمهم وإبقاء الصالحين قال تعالى { وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ } ( هود: 102)
(ب) ومعرفة سنة الله في نصر عباده المؤمنين العاملين بشرعه { إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ } (غافر: 51)
(ج) معرفة سنة الله في إلحاق الهزيمة بالكافرين إذا تمسك المؤمنون بشرعه { وَلَوْ قَاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوَلَّوُا الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا }{ سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا } (الفتح: 22 ،23)(1/35)
(د) إذا تمادى مرضى القلوب (المنافقون) في إفساد المؤمنين وإنشاء الفتن والإشاعات الكاذبة فإن سنة الله فيهم الهلاك { لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لَا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلَّا قَلِيلًا }{ مَلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلًا } (الأحزاب: 60 ،61)
(ه) البحث عن أثر إصلاح النفس البشرية وتربيتها في مجرى الحوادث التاريخية { ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ } (الأنفال: 53)
وأن الغاية من القوة والغلبة والتمكين في الأرض إقامة شرع الله وتحقيق الصلاح ومحو الفساد { الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ } (الحج:41)(1/36)
أسلوب ضرب الأمثال
ضرب المثل عبارة عن إيقاعه وبيانه لإيضاح حال من الأحوال بذكر ما يناسبه ويشابهه ويظهر حسنه أو قبحه ما كان خفيًّا .واختير له لفظ (الضرب) لأنه يأتي عند إرادة التأثير وهيج الانفعال، كأن ضارب المثل يقرع به أذن السامع قرعًا ينفذ أثره إلى قلبه وينتهي إلى أعماق نفسه .وإذا كان الغرض التأثير فالبلاغة تقضي بأن تضرب الأمثال لما يراد تحقيره والتنفير عنه بحال الأشياء التي جرى العرف وتحقيره واعتادت النفوس النفور منها. (1)
فيشبه ما يراد تحقيره بالأشياء التي عرفت حقارتها كتشبيه معبودات المشركين وأوليائهم ببيت العنكبوت { مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتًا وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ } ( العنكبوت: 41)
ولكن بعض المنافقين والمشركين لم يروا في القرآن شيئًا يعاب فتمحلوا بنحو قولهم: إنه لا يليق بالله ضرب المثل بالذباب والعنكبوت ولذا رد الله عليهم بقوله { إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا } (البقرة: 26)
_________
(1) تفسير القرآن الحكيم / 167 ط المنار(1/37)
وليست الأمثال مجرد عمل فني يقصد من ورائه الرونق البلاغي فحسب بل إن لها غايات تعليمية .
تقريب المعنى إلى الأفهام { كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ } ( الرعد: 17)
فالباطل يضمحل كالزبد الذي يحمله السيل وإن علا في بعض الأوقات كما يعلو الزبد ، والحق ثابت باق يمكث في القلب فينتفع به المؤمن فيثمر عملًا صالحًا كما يمكث الماء في الأرض المنبتة فيثمر عشبًا وزرعًا وأعنابًا ونخيلًا.(1/38)
2ـ إثارة الانفعالات عند ورود المعنى تاركًا أثره في أعماق النفوس بالكراهية لكل معاني الشرك والكفر ، وإثارة الرضا بالإيمان والإسلام مع الركون إلى القوة التي لا تضعف والعز الذي لا يزول { يَاأَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لَا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ }{ مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ } ( الحج: 73 ، 74).
3ـ تربية العقل على التفكير الصحيح والقياس المنطقي السليم : { يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْدًا } ( البقرة:264).(1/39)
من هنا فينبغي للمعلِّم أن يستعين بأسلوب ضرب المثل قال الماوردي : (من أعظم علم القرآن علم أمثاله والناس في غفلة عنه لاشتغالهم بالأمثال وإغفالهم الممثلات) (1) .
فإن الأمثال تصور المعاني بصورة الأشخاص لأنها أثبتت في الأذهان لاستعانة الذهن فيها بالحواس، ومن ثم كان الغرض من المثل تشبيه الخفي بالجلي ، والغائب بالمشاهد. وتأتي أمثال القرآن مشتملة على بيان تفاوت الأجر، وعلى المدح والذم وعلى الثواب والعقاب وعلى تفخيم الأمر وتحقيره وعلى تحقيق أمر أو إبطاله قال تعالى: { وَضَرَبْنَا لَكُمُ الْأَمْثَالَ } ( إبراهيم: 45)
_________
(1) انظر السيوطي ، الإتقان ج 2 ص 167 ط عيسى الحلبي(1/40)
الترغيب في حفظ القرآن ومذاكرته من السنة النبوية
ونجد في السنة النبوية ما يرغب في حفظ القرآن .
1ـ روى مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: « ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة وغشيتهم الرحمة ، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده » . (1)
2- وروى الشيخان قال صلى الله عليه وسلم: « الذي يقرأ القرآن وهو ماهر به مع السفرة الكرام البررة ، والذي يقرأ القرآن ، وهو يتعتع فيه وهو عليه شاق له أجران » (2)
3-وروى الترمذي وقال حسن صحيح قال صلى الله عليه وسلم : « من قرأ حرفًا من كتاب الله تعالى فله به حسنة ، والحسنة بعشر أمثالها ، لا أقول الم حرف ، ولكن ألف حرف ، ولام حرف ، وميم حرف » (3)
4- وقال صلى الله عليه وسلم : « لا حسد إلا في اثنتين : رجل آتاه الله القرآن وهو يقوم به آناء الليل وآناء النهار ، ورجل آتاه الله مالًا فهو ينفقه آناء الليل وآناء النهار » (4) ) الشيخان
5-وقال صلى الله عليه وسلم : « يقال لقارئ القرآن :اقرأ وارتق ورتل كما كنت ترتل في الدنيا فإن منزلتك عند آخر آية كنت تقرؤها » الترمذي وقال حسن صحيح (5)
_________
(1) رواه مسلم ج 4 ص 2074
(2) رواه البخاري ج4 ص 1882 ومسلم 1 / 549 والترمذي 5 / 171
(3) رواه الترمذي ج 5 ص 175
(4) رواه البخاري ج4 ص 1919 ومسلم ج1 ص 558
(5) رواه الترمذي 5 / 177 ومسند أحمد 2 / 192(1/41)
6-وقال صلى الله عليه وسلم « خيركم من تعلم القرآن وعلمه » (1) البخاري .
أليس كل ذلك يحفز الهمم ويحرك العزائم إلى حفظ القرآن واستظهاره والمداومة على تلاوته مخافة الوقوع في وعيد نسيانه ...
_________
(1) رواه البخاري 4 / 1919(1/42)
الطريقة العملية للحفظ:
كان الرسول صلى الله عليه وسلم يعلم الصحابة تعليمًا عمليًّا فيردد الصحابي أمام الرسول بطريق الترديد والتسميع بقصد التصحيح .
وفي ذلك ورد حديث الدعاء قبل النوم عن البراء بن عازب قال النبي صلى الله عليه وسلم: « إذا أتيت مضجعك فتوضأ وضوءك للصلاة ثم اضطجع على شقك الأيمن ثم قل:(اللهم أسلمت نفسي إليك ووجهت وجهي إليك، وفوضت أمري إليك، وألجأت ظهري إليك، رغبة ورهبة إليك لا ملجأ ولا منجى منك إلا إليك ، آمنت بكتابك الذي أنزلت ونبيك الذي أرسلت ).
فإن مت من ليلتك مت وأنت على الفطرة، واجعلهم آخر ما تتكلم به قال : فرددتهن لأستذكرهن فقلت آمنت برسولك الذي أرسلت.
قال : قل آمنت بنبيك الذي أرسلت » (1) .
وأما تعليم القرآن فقد أشار إليه الصحابي الجليل جابر بن عبد الله في حديث تعلم الاستخارة قال: « كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلمنا الاستخارة في الأمور كلها كما يعلمنا السورة من القرآن يقول لهم: إذا هم أحدكم بالأمر فليركع ركعتين من غير الفريضة ثم ليقل (اللهم إني أستخيرك بعلمك » ...الخ (2)
_________
(1) رواه البخاري 5 / 2326 ومسلم 4 / 2081 .
(2) رواه البخاري 5 / 2345(1/43)
والشاهد قول جابر « كما يعلمنا السورة من القرآن » فدل على أن تعليم القرآن الكريم كان أمرًا واقعًا بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه تلقيًّا وتلقينًا ولقد كانت همة النبي صلى الله عليه وسلم عند نزول القرآن هي حفظه واستظهاره ثم يقرأه على الناس على مكث ليحفظوه ويستظهروه { هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ } (الجمعة : 2)
ومن شأن الأمي أن يعول على حافظته فيما يهمه أمره، ويعينه استحضاره وجمعه خصوصًا إذا أوتي من قوة الحفظ والاستظهار ما ييسر له هذا الجمع والاستحضار. ثم جاء القرآن فبهرهم بقوة بيانه ، وأخذ عليهم مشاعرهم بسطوة سلطانه، فخلعوا عليه حياتهم حين علموا أنه روح الحياة.
وقد اعتنى الصحابة الكرام بكتابة القرآن التي هي وسيلة للحفظ وعدم الاختلاف فكتبوه ونقشوه بمقدار ما سمحت لهم وسائل الكتابة وأدواتها في عصرهم .(1/44)
فاتخذ النبي صلى الله عليه وسلم كتابًا للوحي إذا نزل شيء أمرهم بكتابته زيادة في التوثق والضبط حتى تظاهر الكتابة الحفظ ، ويعاضد النقش اللفظ .
ومن هذا المنطلق فعلى المعلم أن يرشد متعلميه عبر وسائل الإعلام إلى أهمية الكتابة عند الحفظ فذلك أدعى لثبات المحفوظ وترسيخه في الذاكرة وقد قال المعلم :
قيد صيودك بالحبال الواثقه ... العلم صيد والكتابة قيده
وتتركها بين الخلائق طالقه ... فمن الحماقة أن تصيد غزالة
ويصور لنا السيوطي في كتابه الإتقان (1) في علوم القرآن في النوع الرابع والثلاثين في (كيفية تحمله) أي القرآن قال: اعلم أن حفظ القرآن فرض عين على الأمة والمعنى فيه ألا ينقطع عدد التواتر فيه فلا يتطرق إليه التبديل والتحريف، وتعليمه أيضًا فرض كفاية وهو أفضل القرب.
- وأوجه التحمل (في طرق تعلم ونقل الحديث) عند أهل الحديث: (السماع من لفظ الشيخ والقراءة عليه، والسماع عليه بقراءة غيره ، والمناولة، والإجازة والمكاتبة والعرضية، والإعلام والوجادة) فأما غير الوجهين الأولين فلا يأتي هنا .
_________
(1) الإتقان 1 / 279-291(1/45)
وأما القراءة على الشيخ فهي المستعملة سلفًا وخلفًا .وأما السماع من لفظ الشيخ فيحتمل أن يقال به هنا لأن الصحابة رضى الله عنهم إنما أخذوا القرآن من النبي صلى الله عليه وسلم .
ثم قال : وأما الصحابة فكانت فصاحتهم وطباعهم السليمة تقتضي قدرتهم على الأداء كما سمعوه من النبي صلى الله عليه وسلم لأنه نزل بلغتهم ومما يدل للقراءة على الشيخ :عرض النبي صلى الله عليه وسلم القرآن على جبريل في رمضان في كل عام ويحكى أن الشيخ شمس الدين بن الجزري لما قدم القاهرة وازدحمت عليه الخلائق لم يتسع وقته لقراءة الجميع ، فكان يقرأ عليهم الآية ثم يعيدونها عليه دفعة واحدة ، فلم يكتف بقراءته .
- وقد كان الشيخ علم الدين السخاوي يقرأ عليه اثنان وثلاثة في أماكن مختلفة ويرد على كل منهم ، أي يصحح خطأهم إذا أخطؤوا . (1)
وهذه الطريقة التربوية للتعليم بالعمل والممارسة .. تجعل الفرد أكثر استقامة وسعادة فيسير على الإتقان العملي الذي هو خير مقياس للتعلم سواء في ذلك الاستحفاظ أو أداء العبادات .
لذا .. كان من أهم نتائج هذا الأسلوب
_________
(1) السيوطي ، الإتقان 1 / 171(1/46)
تعود الدقة وتوخي صحة النتائج ، فكل متعلم يمارس العمل أمام معلمه ، ثم يناظره المعلم ويصحح أخطاءه يغرس في نفس المتعلم عدم العود إلى الخطأ مع ثبات الصواب .
شعور المتعلم بالمسؤولية عن صحة العمل .. وهذا يجعل منهجية التربية الإسلامية منهجية حركية فكرية عاطفية مبنية على الوعي والدقة وصحة الأداء فالدقة في العواطف والاتجاهات والأفكار تتجلى في إخلاص النية وتوجيه العمل نحو إرضاء الله جل جلاله بلا رياء ولا استكبار ولا استهتار. تواكبها الدقة في حركية العمل أو لفظية القول كما نقله لنا الصحابة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم من بعدهم إلى يومنا هذا .
وعلى المعلم توجيه الآباء وحثهم أبناءهم على الاهتمام بذلك عن طريق التشجيع وضرب الجوائز وغير ذلك. ومتابعة ما حفظوه وما كتبوه من خلال حلقات القرآن في وسائل الإعلام. وهذا هو الرباط على المتابعة وجني الثمرة.
ولقد اهتم المسلمون الأول بتعليم أولادهم القرآن :-(1/47)
يقول عبد الملك بن مروان لمؤدب ولده (علمهم الصدق كما تعلمهم القرآن) (1) وكذلك هشام بن عبد الملك يقول لسليمان الكلبي لما اتخذه مؤدبًا لابنه: (وأول ما أوصيك به أن تأخذه بكتاب الله ثم روّه من الشعر أحسنه) (2) . وقد قال الرشيد للأحمر معلم ولده الأمين ولي عهده: (فكن له بحيث وضعك أمير المؤمنين: أقرئه القرآن، وعرفه الأخبار) (3)
إن تعليم القرآن من شعارات الدين ، أخذ به المسلمون ، ودرجوا عليه في جميع أمصارهم وجعلوه أصل كل تعليم عندهم .
والقرآن مطلوب الحفظ لفظًا ومعنى بل فهم المعنى والأخذ به لا يكونان إلا عن طريق تلاوة الألفاظ أو إسماعها ، ثم تدبرها وتذكرها .
وإذا كان مالك - فيما قيل - كره التعجيل بتعليم الطفل القرآن فلعله لم يكره ذلك إلا خشية أن ينطق به على خلاف ما ينبغي له من إقامة الحروف وإخراجها من مخارجها (4) على أن الأخبار التعليمية - عند المسلمين - تفيد أن كثيرين حفظوا القرآن في سن مبكرة . ومن ذلك ما ذُكر من أن الشافعي حفظ القرآن وهو ابن سبع سنين (5)
وأن جلال السيوطي حفظ القرآن وله دون ثمان سنين (6) .
_________
(1) ابن قتيبة ، عيون الأخبار 2 / 167 .
(2) الأصفهاني ، محاضرات الأدباء 1 / 29
(3) البيهقي ، المحاسن والمساوئ ص617
(4) الكتاني ، التراتيب الأدارية2 / 293
(5) الحسيني الملقب بالمصنف ، طبقات الشافعية ص3 .
(6) السيوطي ، حسن المحاضرة في أخبار مصر والقاهرة 1 / 140(1/48)
وما جرت عليه عادات المسلمين من أخذ الصبي بكتاب الله في أول أمره، حتى ولو كان يقرأ ما لا يفهم عزاه صاحب (أبجد العلوم )إلى (إيثار الثواب) وخشية ما يعرض للولد من جنون الصبا من الآفات والقواطع عن العلم فيفوته القرآن (1)
وفي قول يحيى عليه السلام { وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا } (مريم: 12). أراد بالحكم فهم الكتاب فقرأ التوراة وهو صغير ) (2) .
وروى عن بعض السلف قال من قرأ القرآن - قبل أن يبلغ - فهو ممن أوتي الحكم صبيا ) (3)
وفي حديث حذيفة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « إن القوم يبعث الله عليهم العذاب حتمًا مقضيا فيقرأ صبي من صبيانهم في الكتاب { الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ } فيسمعه الله تعالى فيرفع عنهم بذلك العذاب أربعين سنة » يقول ابن حجر، ولهذا الحديث شاهد في مسند الدارمي عن ثابت بن عجلان (إن الله ليريد العذاب بأهل الأرض فإذا سمع تعليم الصبيان بالحكمة صرف الله ذلك عنهم يعني الحكمة : القرآن) (4) .
ولذا فإن المادة الرئيسية لدى النشء هو حفظ القرآن مجودًا والذي كان يستطيع ختم القرآن في المدارس والكتاتيب بمنزلة( شتلات ) صالحة تنتقل إلى أرض التعليم فيزكو نباتها .
_________
(1) أبجد العلوم ص66 .
(2) الخازن ، لباب التأويل في معاني التنزيل 3 / 284
(3) الخازن ، لباب التأويل في معاني التنزيل 3 / 284 .
(4) ابن حجر العسقلاني ، الكاف الشاف في تخريج أحاديث الكشاف ص3(1/49)
ومما حفل به التاريخ الإسلامي أن نساءً ختمن القرآن مثل ميمونة بنت أبي جعفر القعقاع المدني أحد القراء العشرة المختارين روت القراءة عن أبيها وروى القرآن عنها آخرون (1)
وكان في قصر زبيدة بنت أبي جعفر المنصور وزوجة هارون الرشيد وأم ولده الأمين مائة جارية تقرأ القرآن فكان يُسمع من قصرها دوي كدوي النحل من القراءة . (2)
وذكر ابن فياض في تاريخه في أخبار قرطبة أنه كان بالرَّيَض الشرقي من قرطبة مائة وسبعون امرأة كلهن يكتبن المصاحف بالخط الكوفي وكان هذا في ناحية من نواحيها فكيف بجميع جهاتها (3) .؟
وعائشة بنت إبراهيم بن صديق زوج الحافظ المزي المتوفاة 741 ه كانت تحفظ القرآن وتلقنه النساء وكانت عديمة النظير لكثرة عبادتها وحسن تأديتها القرآن وتفضل في ذلك على كثير، وأقرأت عدة من النساء وختمن عليها وانتفعن بها. (4) وعرض ابن الجزري السيرة العلمية لابنته ( سلمى ) فذكر ضمنًا أنها: (عرضت القرآن حفظًا بالقراءات العشر، قراءة صحيحة مجودة مشتملة على جميع وجوه القراءات بحيث وصلت في الاستحضار إلى غاية لا يشاركها فيها أحد في وقتها (5) .
_________
(1) ابن الجزري ، غاية النهاية 2 / 321 .
(2) ابن تغريردي ، النجوم الزاهرة 2 / 214
(3) عبد الواحد المراكشي ، المعجب في تلخيص أخبار المغرب 372
(4) ابن حجر العسقلاني، الدرر الكامنة في أعيان المائة الثامنة ترجمة رقم 2080.
(5) غاية النهاية 1 / 310 .(1/50)
وطريق التلقين الشفهي هي الطريقة المثلى لتعليم القرآن، ولا سيما أن المعتمد عند المسلمين أن يكون تلقي العلم النقلي بعامة والقرآن بخاصة من الأفواه.
فابن مسعود :أحد كبار الصحابة وأعلام رواة القرآن وتجويده وتحقيقه وترتيله يقول:حفظت من في رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم - بضعة وسبعين سورة. (1)
وعن أنس بن مالك قال صلى الله عليه وسلم لأبيّ : « إن الله أمرني أن أقرأ عليك القرآن قال:الله سماني لك ؟قال :الله سماك لي فجعل أبي يبكي. » (2)
قال صلى الله عليه وسلم : « خذوا القرآن من أربعة من عبد الله بن مسعود فبدأ به وسالم مولى أبي حذيفة ، ومعاذ بن جبل ، وأبي بن كعب » (3) .
وتلك قاعدة متبعة لطالب القرآن أن يتلقاه من أفواه المشايخ الضابطين المتقنين وأن لا يعتد أبدًا بالأخذ من المصاحف المكتوبة بدون معلم لما قد يقع في ذلك من تصحيف يتغير به وجه الكلام .
وهم يقولون :لا تأخذوا القرآن من مصحفي ، ولا العلم من صحفي. (4)
_________
(1) ابن الجزري ، غاية النهاية 1 / 458
(2) مسلم 4 / 1915
(3) رواه البخاري 3 / 1385
(4) العسكري ، شرح ما يقع فيه التصحيف والتحريف ص 10(1/51)
ومن أشهر ما يروى في هذا أن حمزة أحد أئمة القراءة السبعة كان يقرأ القرآن وهو في سن تعلم الهجاء من المصحف فتلا ( ذلك الكتاب لا زيت فيه ) وأبوه يسمع بدلًا من { لَا رَيْبَ فِيهِ } فقال له أبوه :دع المصحف وتلقن من أفواه الرجال (1)
وسمع أعرابي رجلًا يقرأ ( وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا ) بفتح التاء فقال سبحان الله .هذا قبل الإسلام قبيح فكيف بعده ؟فقيل له إنه لحن وإنما القراءة { وَلَا تُنْكِحُوا } فقال قبحه الله إنه يحل ما حرم الله. (2)
وذلك فيه من التنبيه ما فيه إلى طالبي القرآن، إلى وجوب التزام التلقي الصوتي من قراء ضابطين محققين .
ومن أقوال العلماء : ( من أعظم البلية تشييخ الصحيفة ) أي أن يتعلم الناس في الصحف . وكان الشافعي يقول :من تفقه من بطون الكتب ضيع الأحكام (3) .
فالنقل من أفواه المعلمين هو النقل السليم الذي يظهر كل زيف يعتريه .
ولذا لم يكن غريبًا أن يكون الاكتفاء بالأخذ من المصحف بدون مُوّقف أو معلم أمرًا لا يجيزه المسلمون ولو كان المصحف مضبوطًا بل إنهم يعدون هذا الاكتفاء منافيًّا للدين لأنه ترك للواجب وارتكاب للمحرم. (4)
_________
(1) المرجع السابق ص 13 .
(2) ابن الجوزي أخبار الحمقى ص107
(3) ابن جماعة ، تذكرة السامع ص 87
(4) علي الضباع بحث في التجويد بمجلة كنوز الفرقان عدد مايو1950 ص13(1/52)
وهم يذهبون إلى هذا بناءً على أن ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب.
ويقول ابن حجر : (اعلم أن كل ما أجمع القراء على اعتباره من مخرج مد أو إدغام أو إخفاء أو إظهار وغيرها وجب تعلمه وحرم مخالفته)
ويقول السيوطي : ولا شك أن الأمة - كما هم متعبدون بفهم معاني القرآن وإقامة حدوده - هم متعبدون بتصحيح ألفاظه وإقامة حروفه على الصفة المتلقاة من أئمة القراء المتصلة بالحضرة النبوية (1) . وقوله (على الصفة المتلقاة) لا يكفي الأخذ من المصحف بدون تلقٍ من أفواه المشايخ المتقنين.
وابن الجزري في تعريفه للمقرئ يقول: إنه العالم بالقراءات رواها مشافهة فلو حفظ التيسير مثلًا ليس له أن يقرئ بما فيه إن لم يشافهه مسلسلًا، لأن من القراءات أشياء لا تحكم إلا بالسماع والمشافهة (2) .
_________
(1) الإتقان 1 / 100
(2) منجد المقرئين ص3(1/53)
فوائد معرفة أسباب النزول
زعم بعض الناس أنه لا فائدة للإلمام بأسباب النزول ، وأنها لا تعدو أن تكون تاريخًا للنزول أو جاريةً مجرى التاريخ، وقد أخطأ فيما زعم ؛ فإن لأسباب النزول فوائد متعددة، لا فائدة واحدة: ( الأولى ) معرفة حكمة الله تعالى على التعيين، فيما شرعه بالتنزيل، وفي ذلك نفع للمؤمن وغير المؤمن. أما المؤمن فيزداد إيمانًا على إيمانه ، ويحرص كل الحرص على تنفيذ أحكام الله والعمل بكتابه لما يتجلى له من المصالح والمزايا التي نيطت بهذه الأحكام ومن أجلها جاء هذا التنزيل . وأما الكافر فتسوقه تلك الحكم الباهرة إلى الإيمان إن كان منصفًا، حين يعلم أن هذا التشريع الإسلامي قام على رعاية مصالح الإنسان، لا على الاستبداد والتحكم والطغيان، خصوصًا إذا لاحظ سيرَ ذلك التشريع وتدرجه في موضوع واحد وحسبك شاهدًا على هذا تحريم الخمر وما نزل فيه.
( الفائدة الثانية ) الاستعانة على فهم الآية ودفع الإشكال عنها حتى لقد قال الواحدي : لا يمكن معرفة تفسير الآية دون الوقوف على قصّتها وبيان نزولها وقال ابن تيمية : معرفة سبب النزول يعين على فهم الآية ، فإن العلم بالسبب يورث العلم بالمسبب ا ه .(1/54)
ولنبين لك ذلك بأمثلة ثلاثة: (الأول) قال تعالى في سورة البقرة: { وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ } (البقرة: 115) فهذا اللفظ الكريم يدل بظاهره على أن للإنسان أن يصلى إلى أية جهة شاء، ولا يجب عليه أن يولي وجهه شطر البيت الحرام، لا في سفر ولا حضر. لكن إذا علم أن هذه الآية نازلة في نافلة السفر خاصة، أو فيمن صلى باجتهاده ثم بان له خطؤه ، تبين له أن الظاهر غير مراد، إنما المراد التخفيف على خصوص المسافر في صلاة النافلة أو على المجتهد في القبلة إذا صلى وتبين له خطؤه. عن ابن عمر رضى الله عنهما أن هذه الآية نزلت في صلاة المسافر على الراحلة أينما توجهت . وقيل : عميتُ القبلة على قوم فصلوا إلى أنحاء مختلفة ، فلما أصبحوا تبينوا خطأهم فعذروا .وقيل في الآية غير ذلك ، ولكن ما ذكرناه يكفيك.(1/55)
(المثال الثاني )روى في الصحيح أن مروان بن الحكم أشكل عليه معنى قوله تعالى { لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا فَلَا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِنَ الْعَذَابِ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } (آل عمران: 188)
وقال لئن كان امرؤ فرح بما أوتى وأحب أن يحمد بما لم يفعل معذبًا لنعذبن أجمعون . وبقى في إشكاله هذا حتى بين له ابن عباس أن الآية نزلت في أهل الكتاب حين سألهم النبي صلى الله عليه وسلم عن شيء فكتموه إياه وأخبروه بغيره ، وأروه أنهم أخبروه بما سألهم عنه ، واستحمدوا بذلك إليه أي طلبوا منه أن يحمدهم على ما فعلوا . وهنالك زال الإشكال عنه ، وفهم مراد الله من كلامه هذا ووعيده .
(المثال الثالث) أشكل على عروة بن الزبير رضى الله عنه أن يفهم فرضية السعي بين الصفا والمروة مع قوله سبحانه : { إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا } (البقرة: 158).(1/56)
وإشكاله نشأ من أن الآية الكريمة نفت الجناح ، ونفي الجناح لا يتفق والفرضية في رأيه ، وبقى في إشكاله هذا حتى سأل خالته أم المؤمنين عائشة رضى الله عنها فأفهمتهُ أن نفي الجناح هنا ليس نفيًا للفرضيةِ ، إنما هو نفي لما وقر في أذهان المسلمين يومئذٍ من أن السعي بين الصفا والمروة من عمل الجاهلية نظرًا إلى أن الصفا كان عليه صنم يقال له (إساف) وكان على المروة صنم يقال له : ( نائلة ) وكان المشركون إذا سعوا بينهم تمسحوا بهما . فلما ظهر الإسلام وكسر الأصنام تحرج المسلمون أن يطوفوا بينهما لذلك ، فنزلت الآية ، كذلك جاءت بعض الروايات .(1/57)
لكن جاء في رواية صحيح البخاري ما نصه : « فقال (أي عروة ) لها (أي لعائشة ) أرأيت قول الله تعالى { إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا } : فوالله ما على أحد جناح ألا يطوف بالصفا والمروة : قالت : بئسما قلت يا بن أختي ، إن هذه لو كانت كما أولتها عليه ، كانت ( لا جُناح عليه ألا يطوف بهما ) ولكنها أنزلت في الأنصار ، كانوا قبل أن يسُلموا يهلون لمناة الطاغية التي كانوا يعبدونها عند المشلل ، فكان بعضهم يتحرج أن يطوف بالصفا والمروة. فلما أسلموا سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك قالوا : يا رسول الله إنا كنا نتحرج أن نطوف بين الصفا والمروة ، فأنزل الله { إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ } الآية قالت عائشة ( وقد سن رسول الله صلى الله عليه وسلم الطواف بينهما ، فليس لأحد أن يترك الطواف بينهما » انتهى ما أردنا نقله ومعنى يهلون : يحجون ومناة الطاغية : اسم صنم وكان صخرة نصبها عمرو بن لحىٍ بجهة البحر فكانوا يعبدونها . والمشلل بضم الميم واللام الأولى مشددة مفتوحة : اسم موضع قريب(1/58)
من قديد من جهة البحر . وقديد بضم القاف : قرية بين مكة والمدينة المنورة وكلمة ( سن ) معناها في هذا الحديث شرع أو فرض بدليل من السنة لا من الكتاب .
وهذه الرواية - كما ترى - تدل على أن عروة فهم من جملة { فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا } أن الجناح منفي أيضا عن عدم الطواف بهما وعلى ذلك تنتفي الفرضية ، وكأنه اعتمد في فهمه هذا على أن نفى الجناح ، أكثر ما يستعمل في الأمر المباح . أما عائشة رضي الله عنها فقد فهمت أن فرضية السعي بين الصفا والمروة مستفادة من السنة ، وأن جملة { فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا } .لا تُنافي تلك الفرضية كما فهم عروة إنما الذي ينفيها أن يقال ( فلا جناح عليه ألا يطوف بهما وإنما توجه نفي الحرج في الآية عن الطواف بين الصفا والمروة لأن هذا الحرج هو الذي كان واقرًا في أذهان الأنصار ، كما يدل عليه سبب نزول الآية الذي ذكرته السيدة عائشة فتدبر .(1/59)
هداية القرآن :
وهداية القرآن تمتاز بأنها عامة ، وتامة ، وواضحة .(1/60)
أما عمومها فلأنها تنتظم الإنس والجن في كل عصر ومصر ، وفي كل زمان ومكان .قال الله سبحانه : { وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ } (الأنعام: 19) وقال جلت حكمته : { وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا } (الأنعام: 92)، وقال عز اسمه : { قُلْ يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا } (الأعراف: 158) وقال عمت رحمته: { وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ }{ قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ }{ يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ }{ وَمَنْ لَا يُجِبْ دَاعِيَ اللَّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الْأَرْضِ وَلَيْسَ لَهُ مِنْ(1/61)
دُونِهِ أَولِيَاءُ أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ } (الأحقاف: 29-32).
وأما تمام هذه الهداية فلأنها احتوت أرقى وأوفى ما عرفت البشرية وعرف التاريخ من هدايات الله والناس، وانتظمت كل ما يحتاج إليه الخلق في العقائد والأخلاق والعبادات والمعاملات على اختلاف أنواعها وجمعت بين مصالح البشر في العاجلة والآجلة، ونظمت علاقة الإنسان بربه وبالكون الذي يعيش فيه، ووفقت بطريقة حكيمة بين مطالب الروح والجسد .
وقال جل جلاله { يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ } (الحجرات: 13) وقال عز من قائل { يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ } (البقرة: 172) وقال تعالت حكمته { فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } (الجمعة: 10).
إلى غير ذلك من آيات . كثيرة .(1/62)
وأما وضوح هذه الهداية : فلعرضها عرضا رائعا مؤثرًا توافرت فيه كل وسائل الإيضاح وعوامل الإقناع : أسلوب فذ معجز في بلاغته وبيانه. واستدلال بسيط عميق يستمد بساطته من كتاب الكون الناطق وأمثال خلابة تخرج أدق المعقولات في صورة أجلى الملموسات . وحكم بالغات تبهر الألباب بمحاسن الإسلام وجلال التشريع. وقصص حكيم مختار يقوي الإيمان واليقين ويهذب النفوس والغرائز ويصقل الأفكار والعواطف، ويدفع الإنسان دفعا إلى التضحية والنهضة ويصور له مستقبل الأبرار والفجار، تصويرًا يجعله كأنه حاضر تراه الأبصار في رابعة النهار، والأمثلة على ذلك كثيرة في القرآن، يخرجنا استعراضها عما نحن بسبيله الآن.
والمهم أن نعلم في هذا المقام أن الهدايات القرآنية الكريمة منها ما استفيد من معاني القرآن الأصلية ، ومنها ما استفيد من معانيه التابعة ، أما القسم الأول فواضح لا يحتاج إلى تمثيل ، وهو موضوع اتفاق بين الجميع. وأما القسم الثاني ففيه دقة جعلت بعض الباحثين يجادل فيه وإنا نوضحه لك بأمثلة نستمدها من فاتحة الكتاب العزيز:(1/63)
منها استفادة أدب الابتداء بالبسملة في كل أمر ذي بال ، أخذا من ابتداء الله كتابه بها ، ومن افتتاحة كل سورة من سوره بها عدا سورة التوبة .
ومنها : استفادة أن الاستعانة في أي شيء لا تستمد إلا من اسم الله وحده ، أخذا من إضافة الاسم إلى لفظ الجلالة موصوفا بالرحمن الرحيم ، ومن القصر المفهوم من البسملة على تقدير عامل الجار والمجرور متأخرًا ، ومن تقدير هذا العامل عاما لا خاصا .
ومنها : استفادة الاستدلال على أن الحمد مستحق لله بأمور ثلاثة : تربيته تعالى للعوالم كلها ، ورحمته الواسعة التي ظهرت آثارها وتأصل اتصافه تعالى بها ، وتصرفه وحده بالجزاء العادل في يوم الجزاء . وذلك أخذًا من جريان هذه الأوصاف على اسم الجلالة في مقام حمده بقوله سبحانه : { الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ }{ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ }{ مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ }
ومنها استفادة التوحيد بنوعيه توحيد الألوهية وتوحيد الربوبية من القصر الماثل في قوله سبحانه : { إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } .
ومنها : استفادة دليل هذا التوحيد من الآيات السابقة عليه ووقوعه هو في سياقها عقيبها كما تقع النتيجة عقب مقدماتها .(1/64)
ومنها : استفادة أن الهداية إلى الصراط المستقيم هي المطمع الأسمى الذي يجب أن يرمي إليه الناس ويتنافس فيه المتنافسون . يدل على ذلك اختيارها والاقتصار على طلبها والدعاء بها ثم انتهاء سورة الفاتحة بها كما تنتهي البدايات بمقاصدها.
ومنها: استفادة أن الهداية لا يرجى فيها إلا الله وحده ، لأنها انتظمت مع آيات التوحيد قبلها قي سمط واحد
ومنها : استفادة أدب من الآداب ، هو أن يقدم الداعي ثناء الله على دعائه، استنتاجا من ترتيب هذه الآيات الكريمة، حيث تقدم فيها ما يتصل بحمد الله وتمجيده، وتوحيده ، على ما يتصل بدعائه واستهدائه .
هذه أمثلة اقتبسناها من سورة الفاتحة ونحن لا نظن أن أحدا يخاصم فيها .
فحسبنا في هذا الموضوع بيان دلالة نظم القرآن الكريم باعتباردلالة معانيه الثانوية على هدايات متنوعة من عقائد وأحكام وآداب وأدلة ولطائف ، دقيقة الطرق، لطيفة المسالك. ومن شأن القرآن الكريم على هداياته باعتبار معانيه الأصلية فإنها واضحة قل أن يقع فيها تفاوت أو خلاف ، لأن هذه المعاني - كما قررنا يستوي فيها العربي والعجمي ، والحضري والبدوي .(1/65)
إعجاز القرآن:
المقصد الثاني من نزول القرآن الكريم ، أن يقوم في فم الدنيا آية شاهدة برسالة رسوله محمد صلى الله عليه وسلم ، وأن يبقى على جبهة الدهر معجزة خالدة تنطق بالهدى ودين الحق ظاهرًا على الدين كله ! إن بلاغته العليا وجه بارز من هذه الوجوه . بل هي أبرز وجوهه وجودًا وأعظمها أفرادا ، لأن كل مقدار ثلاث آيات قصار معجز ، ولو كان هذا المقدار من آية واحدة طويلة فقد تحدى الله أئمة البيان أن يأتوا بسورة من مثله ، وأقصر سور هي سورة الكوثر ، وآياتها ثلاث قصار . وإذا كان أئمة البيان في عصر ازدهاره والنبوغ فيه ، قد عجزوا فسائر الخلق أشد عجزا . ولقد فرغنا من أن بلاغة القرآن منوطة بما اشتمل عليه من الخصوصيات والاعتبارات الزائدة وأنت خبير بأنها سارية فيه سريان الماء في العود الأخضر أو سريان الروح في الجسم الحي وأن نظم القرآن الكريم مصدر لهدايته كلها سواء منها ما كان طريقه النظم وما كان طريقه تلك الخصوصيات الزائدة عليه .(1/66)
التعبد بتلاوة القرآن .
المقصد الثالث من نزول القرآن أن يتعبد الله خلقه بتلاوته ، ويقربهم إليه ويأجرهم على مجرد ترديد لفظه ولو من غير فهمه ، فإذا ضموا إلى التلاوة فهما زادوا أجر على أجرًا ، قال الله تعالى : { إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ }{ لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ } (فاطر:29 ،30).
وقد سبق الترغيب من السنة وما فيه من الثواب على التلاوة. وبعد أن علمنا المقاصد التي يستصحبها المترجم نذكر جهود المترجمين المسلمين خلال القرن الهجري الماضي،(1/67)
تعد ترجمة الدكتور عبد الحكيم خان والتي طُبعت بلكنو بالهند عام 1905 م (1323 ه ) أول ترجمة قام بها مسلم إلى اللغة الإنجليزية . وهناك ما يقرب من حوالي سبع عشرة ترجمة كاملة أو مختارات قام بنقلها مسلمون إلي اللغة الانجليزية هي ترجمة محمد ماديوك بيكتهال ، والتي ظهرت في لندن عام 1930 م ( 1349 ه ) ، وكذلك ترجمة الأستاذ عبد الله يوسف وهي ترجمة معروفة ومنتشرة في أوساط المثقفين المسلمين وغير المسلمين ، وقد قامت بطبعها رابطة العالم الإسلامي .
أما أول طبعة لهذه الترجمة فقد صدرت في عام 1935 م (1354 ه ) ، ثم تولى طبعها الأستاذ خليل الرواف في أمريكا عام 1946م - 1366 ه تخليدًا لذكرى وصول الوفد السعودي إلى أمريكا، ثم طبعتها الرابطة في عام 1963م (1383 ه ).(1/68)
(ب) - القرآن الكريم يوافق العلم ولا يعارضه
إذا تكلم القرآن على شيء من فنون الطب والصناعة والزراعة فإنما يريد أن يوجه الإنسان إلى الإيمان بوجود خالق مبدع لكل الكائنات وإلى ما فيها من خواص طبيعية وقوانين علمية وترتيبات سببية ويريد أن يحيا معها ضمن عقيدة سليمة وتفكير قويم وأن يستخدمها في أسلوب صحيح وأخلاق سامية.
وهذه آيات قرآنية لها مساس بعلم الطب ، تضيء الإيمان في جنبات النفس فيستنير الفكر بإشاعات اليقين بالخالق المبدع جل في علاه .وهي في ذاته الوقت توضح الحقائق التي توصل إليها العلم الحديث وذلك يبث في أعماق النفوس معجزة القرآن المتفجرة في كل آن الخالدة على مر الزمان فكما أن العصر الأول وجد فيه البلاغة في صدق دعواه فإن الناس اليوم يجدون فيه سلسلة لا نهاية لها من الإعجاز سواء في النظام الاجتماعي أو السياسي أو الاقتصادي أو منهجه التربوي والخلقي أو في إشاراته العلمية للكون والخالق مع التنبيه على أن القرآن لم يكن كتابًا في الطب أو في أي فرع من العلوم وإنما هو منهج هداية ضرب الله فيه للإنسان من كل شيء { وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ لِلنَّاسِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ } (الكهف: 54)(1/69)
فحث القرآن المسلم على التعلم والبحث والتأمل حتى غدت آيات القرآن الكريم معلمًا في طريق العلم تمده في مسار صحيح ليؤدي وظيفته في حياة البشر .
ولنعلم أن شقاء البشرية رغم التقدم التكنولوجي الكبير يعود إلى اندفاعها في ركب العلم على غير هدى وبدون أية ضوابط أخلاقية أو إنسانية .(1/70)
ولم يفد الدول المتقدمة تكنولوجيًّا علومها عن مضار الخمر والمخدرات والزنا في الحد من ويلاتها المدمرة كما لا نستغرب إذ نسمع أن معدلات العمر الوسطي للبدء في التدخين في الدول الاسكندنافية (السويد والدانمرك والنرويج) هو ثمان سنوات . وهذه هوة واسعة بين علم الإنسان وواقعه ، لا توجد بين تعاليم القرآن وواقع المسلم الحق .. وإنما نجد إيمانًا صادقًا يطابقه عمل صالح .فكان لا بد من الإشارة عن هذا التقدم القرآني عبر الإنترنت جذبًا للقلوب لتتشوق إلى معرفة القرآن مع ملاحظة عدم تحميل آيات القرآن أكثر مما تحمل ، وتجنب تطويعها للمعطيات العلمية . ولا تفسر بما وصل إليه العلم الحديث إلا بعد أن تكون المعطيات العلمية حقائق ثابتة . حتى نصل إلى أن القرآن بهذا السبق معجز حين طرق فروع الطب ابتداء بعلم الأجنة ومرورًا بعلم التشريح الوصفي والنسيجي وعلم الطفيليات والجراثيم وانتهاءً بدراسة الأمراض الجهازية المختلفة .
كيف كانت دهشة الأطباء حينما تعرض القرآن لأهم مشكلات العلوم الحديثة الغامضة التي استعضلت على علماء الاختصاص كتعرضه لمسألة بدء الخلق وعملية تمايز أعضاء الجنين المختلفة ونعرض نموذجًا على ذلك(1/71)
أطوار التخلق الإنساني (1)
قال تعالى في سورة نوح { مَا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا }{ وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا } ( نوح : 13-14). يبين تبارك وتعالى أن تخلق الإنسان إنما يتم على أطوار متتالية، ثم يشير في سورة المؤمنين إلى أهم هذه الأطوار حيث يقول: { وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ }{ ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ }{ ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ } (المؤمنون :14:12).
إن الناظر اليوم ، في هذه الآيات البينات وهو يضع في جعبته حقائق القرن العشرين عن علم الأجنة Embryology يشعر بأن الله تبارك وتعالى إنما خَصَّه هو بهذه الآيات ، وإن كانت قد نزلت منذ أربعة عشر قرنًا من الزمان، لأنها تخاطبه باللغة التي يتباهى بها اليوم !!
_________
(1) مع الطب في القرآن الكريم للدكتور / عبد الحميد دياب ، د / أحمد قرقوز مؤسسة علوم القرآن دمشق ص 80 وما بعدها.(1/72)
فهذه الآيات تحوي على إيجازها أهم أطوار تخلق الجنين في بطن أمه وهي (النطفة، والعلقة، والمضغة، ومرحلة تخلق الأجهزة، ثم الخلق الآخر) هذه الأطوار التي استخدم لها القرآن ألفاظًا لم يستطع العلم الحديث إلا أن يستخدمها، وبذلك نجد أن الآيات القرآنية قد جاءت إضافة لإعجازها العلمي بإعجاز بلاغي فريد ومدهش .والآن لنسر مع آيات القرآن في تلك الأطوار التي أشارت إليها :(1/73)
من النطفة إلى العلقة : { ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً } (المؤمنون : 14) ما إن يتم التحام النطفة بالبيضة، حتى تباشر البيضة الملقحة بالانقسام إلى خليتين، فأربع، فثمانٍ، وهكذا ... دون زيادة في حجم مجموع هذه الخلايا عن حجم البيضة الملقحة، وتتم عملية الانقسام هذه والبيضة في طريقها إلى الرحم، تدفعها حركة أهداب البوق، والتقلصات العضلية المنتظمة لعضلات جدار البوق.حتى إذا وصلت إلى الرحم كانت كتلة من الخلايا الصغيرة الضلعة، يطلق عليها اسم التوته Marula حيث تشبه ثمرة التوت بتقسيمها الخارجي، ثم لاتلبث الخلايا السطحية لهذه الكتلة ان تفترق عن الخلايا الداخلية، وتصبح بشكل خلايا أسطوانية، ومهمة هذه الخلايا تأمين الغذاء وتسمى بالخلايا المغذية - Troph blast وبذلك يصبح محصول الحمل قابلًا للتعشيش، فتغرس الخلايا المغذية استطالاتها في مخاطبة الرحم ، وتستمر عملية العلوق مدة (24) أربع وعشرين ساعة، وبذلك تنتهي مرحلة تشكل العلقة. وقد لا يدرك روعة التصوير القرآني لهذه المرحلة بالعلقة إلا من شاهد تلك الكتلة الخلوية وهي عالقة علوقًا - وليس التصاقًا - بواسطة تلك الاستطالات التي غرستها في مخاطبة الرحم، وما(1/74)
أجدرنا هنا أن نُعِّرج على هذه الآيات التي تذكر الإنسان بتلك اللحظات التي كان فيها مجموعة خلوية عالقة بجدار رحم الأم، تستمد منها الدفء والغذاء والسكن، فيقول في أول سورة نزلت من القرآن، وأسماها الحق تبارك وتعالى بالعلق { اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ }{ خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ } (العلق:1-2)
من العلقة إلى المضغة : { فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً } (المؤمنون:14).(1/75)
بعد عملية العلوق تبدأ مرحلة المضغة في الأسبوع الثالث، بتشكل اللوحة المضغية، وذلك ابتداءً من الخلايا المضغية Embryoblast ، وهي الخلايا التي بقيت بعد انفصال الخلايا المغذية .واللوحة المضغية هي عبارة عن قرص مؤلف في البدء من وريقتين: خارجية Ectoderm ، وداخلية Endoderm ، ثم تتشكل بينهما وريقة ثالثة هي الوريقة المتوسطة 'Mesoderm ، وحتى نهاية الأسبوع الرابع لا يكون هناك أي تمايز لأي عضو أو جهاز ، ويمكن أن نسمي هذه المرحلة بالمضغة غير المخلقة. ثم يمر الحمل في أدق مراحله وأصعبها، حيث يطرأ على اللوحة المضغية المؤلفة من الوريقات الثلاث جملة تغيرات نسيجية هادفة ومدهشة ابتداء من الأسبوع الخامس، وتسمى بعملية التمايز Defferention ، أو كما أسماها القرآن (التخلق )، فكل زمرة من خلايا هذه الوريقات تأخذ على عاتقها تشكيلًا واحدًا من أجهزة الجسم أو أعضائه، وذلك في إطار من التكامل والتنسيق بين هذه الأجهزة ، وهي تنمو وتتطور، ليكون الإنسان في أحسن تقويم ، وتنتهي عملية التخلق في نهاية الشهر الثالث تقريبًا، ويكون طول الجنين عندها (10) سم ، ويزن حوالي (55) ج .ويمكن تسمية هذه المرحلة بمرحلة المضغة المخلقة. فطور(1/76)
المضغة يمر إذًا بمرحلتين: المرحلة الأولى حيث لم يتشكل فيها أي عضو أو جهاز وأسميناها مرحلة المضغة المخلقة وهكذا يتضح جليًّا إعجاز القرآن الكريم في وصفه لطور المضغة بقوله : { ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ } (الحج:5).(1/77)
اللغز المحير: لا بد أن يستوقفنا ونحن نتكلم على عملية التخلق سؤال هام، وهو: كيف يمكن للخلايا المضغية Embryoblast المتماثلة تمامًا في بنائها أن تعطي هذه الوريقات الثلاث (الداخلية والخارجية والمتوسطة )المختلفة بعضها عن بعض ؟، ثم كيف يمكن للخلايا المتماثلة في كل وريقة على حدة أن تعطي الأجهزة المختلفة في بنائها ووظائفها وخصائصها ؟(1)...فالوريقة الخارجية مثلًا يتشكل منها :الدماغ ، والأعصاب ، وبشرة الجلد ولواحقه من الغدد والأشعار والأغشية المخاطية بالفم والأنف .والوريقة المتوسطة يتشكل منها: القلب والأوعية الدموية، والدم، والعظام، والعضلات، والكليتين، وأدمغة الجلد ، وقسم من الغدد الصماء أما الوريقة الداخلية ، فيتشكل منها: مخاطية الجهاز التنفسي ، والطريق الهضمي، والغدة الدرقية ، والغدة جار الدرقية، والكبد ، والبنكرياس ..أجل ، كيف تم ذلك؟ ومن الذي دفع هذه الخلايا المتماثلة الضعيفة لتعطي كل هذا من مراكز التفكير والشعور والإبداع؟ وكل هذا من مصانع الدم والسكاكر والبروتين ؟وكل هذا من أجهزة التكيف والراحة ومن وسائل الوقاية والحماية والأمن في الجسم؟ إنه اللغز الذي حير وما زال يحير كل علماء الدنيا حتى(1/78)
يعلموا أن المبدع والموجه في هذه الحياة ، هو الله ...ويوم يَصِلون إلى حل هذا اللغز فسيوقنون أكثر أنه { هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ } (الحشر :24 ).(1/79)
ويتمالكنا العجب ونحن نرى أن القرآن قد أشار لهذا اللغز . في آيات تعد منارات هداية على طريق العلم ، وبواعث تدفع للبحث والتحليل باستمرار ، وقال تعالى في سورة الحج { ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ } ، ثم يؤكد هذه الناحية حيث يقول في سورة المؤمنون { فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا } فهذه الآية لا تشير فقط إلى بدء تشكل العظام قبل تشكل اللحم (العضلات )، كما لا تقتصر على الإبداع التعبيري الواقعي في تصوير علاقة العضلات بالعظام على علاقة كساء. ومن يدرس التشريح يعلم تمامًا كيف تحيط العضلات بالعظام كأنها كساؤها ... أجل لا تقتصر الآية على ذلك فقط ، وإنما تشير في تقديرنا إلى عملية التمايز والتخلق التي تبتدئ من تلك المضغة الصغيرة : { فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا } .
ثم أنشأناه خلقًا آخر (طور الجنين )
يميل محصول الحمل نحو الزيادة في الوزن بعد الشهر الثالث، وتسعى الأجهزة التي تشكلت نحو التكامل، حتى إن بعض الأجهزة تبدأ عملها أثناء الحياة الجنينية، كالقلب وجهاز الهضم، ويقوم نقي العظام بتكوين عناصر الدم.(1/80)
وبشكل عام فإن أهم ما يطرأ على الجنين بعد الشهر الثالث هو: الحركة، ونبضان القلب واستقلاله، وتسعى الأجهزة التي تشكلت نحو التكامل، حتى إن بعض الأجهزة تبدأ عملها أثناء الحياة الجنينية، كالقلب وجهاز الهضم، ويقوم نقي العظام بتكوين عناصر الدم ....
وبشكل عام فإن أهم ما يطرأ على الجنين بعد الشهر الثالث هو: الحركة، ونبضات القلب واستقلال فراز المشيمة الغدي ، والنمو المتسارع في حجم الجنين وتكامل شكله الخارجي .
أما الحركة فتبدأ في آخر الشهر الثالث وابتداء الرابع حيث تتم عملية اتصال الجهاز العصبي بالأجهزة، والعضلات، وتشعر الحامل بحركات جنينها الفاعلة في الشهر الرابع، أو قبل ذلك في المولودات. أما نبضات القلب، فتبدأ بعد بداية الشهر الرابع ، ويمكن سماعها أيضًا ، وتكون واضحة في الشهر الخامس تذكر الدكتورة فلك الجعفري : ( أن أحد الأساتذة المصريين أراد تسجيل أول دقة للقلب، وعندما ابتدأ مشعر المسجل بالحركة، قال هنا الله أي هنا قدرة الله).(1/81)
وبالنسبة لاستقلال المشيمة الغدي ، فهو مباشرتها بإفراز الهرمونات اللازمة لاستمرار الحمل بعد أن أصبحت الكميات التي يفرزها المبيض غير كافية، ولأن متطلبات الحمل من هذه الهرمونات تصبح أكبر بكثير من كفاءة المبيض .
أما نمو الجنين فيكون سريعًا في هذه المرحلة ، فبعد أن كان وزنه في نهاية الشهر الثالث (55) غ ، وطوله (10) سم ، يصبح وزنه عند تمام الحمل حوالي (3250) غ ، وطوله (50) سم وخلال هذه الفترة ، يتكامل شكله الخارجي ، فيصبح لون الجلد أحمر ، وتنبسط تجعداته ، وتسقط عنه الأوبار ، وتنفتح الجفون، وتتكامل الأظافر ....(1/82)
وبهذا الاستعراض السريع لأهم ميزات هذه المرحلة نجد أن تلك المضغة قد أخذت بعدًا آخر ، اكتسبت فيه قدرة على الحركة ، وابتدأ بها القلب بالنبضان بلا توقف، ولهذا أشار القرآن بعد عرضه لسلسلة أطوار تخلق الجنين، حيث قال: { ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ } ولعل أكثر الناس شعورًا بهذا البعد ليس الطبيب وإنما الأم الحامل التي ما إن تشعر بحركات جنينها حتى تحس بشيء لم تعهده من قبل ، إنها تحس أن روحًا أخرى تدب في أعماقها، فتظهر علامات الارتياح على ملامحها، وتعلو البسمة محياها ، وإذا ما غابت عنها تلك الحركات مدة بسيطة، قلقت وتأرقت .(1/83)
وأبعد من هذا فقد وجد العلماء أن الجنين يبدأ في آخر الحمل بالسماع، ومما يسترعي سمعه وهو في بطن أمه ، ذلك الصوت الحنون الخالد الذي لا يعرف إلا الحب والحنان والعطاء ... إنه صوت خفقان القلب الكبير .... قلب أمه ، وهكذا تنشأ صلات الحب والمسؤولية بين الأم ووليدها، في الوقت الذي تعاني فيه الأم من الوهن والعذاب ما لا يحتمله غيرها، ولذلك قال تعالى في سورة لقمان : { وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ } (لقمان :14)
وبعد أن وقفنا على أطوار خلقنا البديعة المدهشة، هل لنا أن نقدر الله حق قدره؟، هل لنا أن نرجو لله وقارًا؟.... { مَا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا }{ وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا } (نوح :13-14)
ـ تشخيص الحمل اليقيني والعدة :(1/84)
إن الشعور بحركة الجنين ، وسماع نبضات القلب ، هما العلامتان اليقينيتان لتشخيص الحمل، وكل العلامات التي تسبقها كانقطاع الطمث، وأعراض الوحام، وحتى إيجابية تفاعل الحمل الحيوي، لا تعد علامات يقينية نستطيع على أساسها القطع بحصول الحمل، فهناك حالات مرضية، يمكن أن تعطي نفس الأعراض، كالرحى العدارية، والورم الكوريوني البشري، والحمل الهستريائي .
وكما لاحظنا أن هاتين العلامتين :شعور الحامل بحركة جنينها، وسماع الطبيب لدقات قلب الجنين، يحصلان بعد الشهر الرابع، وهذا ما بينه القرآن الكريم منذ ألف وأربعمائة عام، حيث قال تعالى : { وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا } (البقرة :234)
إن وجه الإعجاز في هذه الآية الكريمة ظاهر بلا شك، وهي تقرر ما يسمى بعدة المرأة التي توفي زوجها، حيث حددت وبالضبط المدة التي يصبح عندها أو بعدها تشخيص الحمل يقينيًّا.(1/85)
أما عن الحكمة في هذه العدة فيعلمها الأطباء الشرعيون، إذ يجب أن يعرف ما إذا كان الحمل من الزوج المتوفى أم لا، وحتى لا تنسب المرأة حملًا حملته سفاحًا لزوجها المتوفى، وحتى لا ينكر أهل الزوج المتوفى بنوة الجنين الجديد لأبيه بغية التخلص من ميراثه، ويتهمون الأم البريئة بأن حملها هذا سفاحًا أو من زوجها الجديد ...وإلى آخر ما هنالك من المشكلات أو المظالم التي قد تقع .(1/86)
وأحب ألا أنتهي من هذا الموضوع حتى أنبهك إلى شيء آخر جدير بالنظر والتقدير : وهو أن القرآن الكريم في طريقة عرضه للهداية والإعجاز على الخلق قد حاكم الناس إلى عقولهم ، وفتح عيونهم إلى الكون وما في سماء وأرض ، وبر وبحر وحيوان ونبات ، وظواهر ؛ ونواميس وسنن .وكان القرآن في طريقة عرضه هذه موفقًا كل التوفيق ، بل كان معجزًا أبهر الإعجاز ؛ لأن حديثه عن تلك الكونيات كان حديث العليم بأسرارها ، الخبير بدقائقها، المحيط بعلومها ومعارفها ، على حين أن هذا الذي جاء بالقرآن رجل أمي، نشأ في أمة أمية جاهلة ، لا صلة لها بتلك العلوم وتدوينها ولا إلمام لها بكتبها ومباحثها . بل إن بعض تلك العلوم لم ينشأ إلا بعد عهد النبوة ومهبط الوحي بقرون وأجيال . فأنى يكون لرجل أمي كمحمد ذلك السجل الجامع لتلك المعارف كلها إن لم يكن تلقاه من لدن حكيم عليم ؟ قال سبحانه مقررًا الإعجاز العلمي : { وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لَارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ } .(1/87)
فانظر إلى قوله في سورة القيامة مبينًا ومقررًا اقتداره على إعادة الإنسان وبعثه بعد موته : { أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظَامَهُ }{ بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَنْ نُسَوِّيَ بَنَانَهُ } . أرجو أن تقف قليلا عند تخصيصه ( البنان ) بالتسوية في هذا المقام. ثم تستمع بعد ذلك إلى هذا العلم الوليد (علم تحقيق الشخصية) في عصرنا الأخير، وهو يقرر أن أدق شيء وأبدعه في بناء جسم الإنسان، هو تسوية البنان، حتى إنه لا يمكن أن تجد بنانًا لأحد يشبه آخر بحال من الأحوال. وقد انتهوا من هذا القرار إلى أن حكَّموا البنان في كثير من القضايا (والحوادث فتبارك الله أحسن الخالقين) ! ولا أريد أن أطيل عليك في هذا الموضوع ؛ فمعجزات القرآن العلمية لها ميدان آخر . إنما هي نظرة خاطفة نوضح بها المراد بعلوم القرآن والله وحده هو المحيط بأسرار كتابه . ولا يزال الكون وما يحدث في الكون من علوم وفنون وشؤون لا يزال كل أولئك يشرح القرآن ويفسره، ويميط اللثام عن نواح كثيرة من أسراره وإعجازه، مصداقًا لقوله جلَّ ذكره { سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ } . {(1/88)
وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ } .(1/89)
خاتمة وتوصيات
وسائل الإعلام الصحيح لا بد أن تنطلق من منطلق إسلامي يتمثل في :ـ
1ـ خضوع المبادئ والأسس الإعلامية للمنطلقات الإيمانية والقيم الفاضلة حتى يمكن تطبيقها عمليًّا .
2ـ الاستيعاب الجيد لتقنيات الوسائل الإعلامية الحديثة حتى يمكن تطبيق هذه التقنيات وممارستها في إنتاج المواد الإعلامية المختلفة .
3ـ الحرص على احتواء المواد الإعلامية وصبغتها بالصبغة الإسلامية .
4ـ العناية والتركيز على نشر اللغة العربية وآدابها وفنونها .
5ـ الاهتمام بواقع العالم الإسلامي وحاضره اليوم
إن العالم الإسلامي المعاصر يعيش الآن مرحلة من أخطر المراحل؛ إذ أصبح عالمنا اليوم يعيش ثورات في المعلومات والاتصالات والتكنولوجيا .
ويحتاج المسلمون اليوم إثبات دورهم ومواجهة شتى التيارات التي تحيط بهم من كل جانب بعد الإيمان بالله والثقة في نصره إلى أسس يسيرون عليها :ـ
1ـ ضرورة التزام الشرع وإعمال العقل والبعد عن الخرافات والأوهام .
2ـ الإقبال بكل همة على العلم بجميع مجالاته والتنافس من أجل التفوق فيه .(1/90)
3ـ الوعي بأن إعمار الأرض يعد مسؤولية دينية تحقق إرادة الله الذي أمرنا بذلك في قوله { وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ الْأَرْضِ }
لنعلم من ذلك أن الحضارة فريضة إسلامية .
4- تغليب المصلحة العامة للمسلمين على المصالح الذاتية للأفراد والجماعات والتنسيق والتكامل والتعاون في جميع المجالات .
5- التسلح بثقافة رشيدة من شأنها تدفع المسلمين إلى العمل وإتقانه وإلى الإنتاج وتجويده ، وإلى تحويل الطاقات المعطلة في بلاد العالم الإسلامي إلى طاقات فعالة تبني وتعمر ، وتنشر الخير في كل مكان .(1/91)
المراجع
- الإتقان في علوم القرآن للسيوطي ط.الحلبي بمصر
- الإذاعة الدولية ، دراسة مقارنة لنظمها وفلسفتها د / سهير عبد الغني بركات 1978م
- الإعلام الإسلامي التحديات والمواجهة ا.د / ماجي الحلواني ط.مصباح جدة 1411ه
- الإعلام الإسلامي وتطبيقاته العلمية ط2 مكتبة الخانكي بالقاهرة 1404ه ا.د / محيي الدين عبد الحليم
- البرهان في علوم القرآن للزركشي ط.دار التراث العربي القاهرة
- البيان والتبيين للجاحظ
- تذكرة السامع لابن جماعة
- التراتيب الإدارية للكتاني
- تكنولوجيا الإعلام في المجال التعليمي والتربوي د / ماجي الحلواني ط دار الفكر العربي القاهرة 1988
- الحاجة إلى تنسيق وتكامل إعلامي بين دول الخليج د / حمود عبد العزيز البدر
الرياض مكتب التربية العربية لدول الخليج 1409ه
- حسن المحاضرة في أخبار مصر والقاهرة للسيوطي
- الدرر الكامنة في أعيان المائة الثامنة لابن حجر العسقلاني
- سراج الملوك ، للطرطوشي
- سنن أبي داوود ، دار الفكر ـبيروت مراجعة محمد محيي الدين عبد الحميد
- سنن الترمذي ، دار إحياء التراث العربي بيروت مراجعة أحمد محمد شاكر وآخرون
- شرح ما يقع فيه التصحيف والتحريف للعسكري(1/92)
- صحيح البخاري ، دار ابن كثير ـ بيروت 1407ه مراجعة مصطفى ديب البغا
- صحيح مسلم ، دار إحياء التراث العربي بيروت 1374ه مراجعة محمد فؤاد عبد الباقي
- عيون الأخبار ، ابن قتيبة الدينوري
- غاية النهاية لابن الجزري
- الكاف الشافي في تخريج أحاديث الكشاف لابن حجر العسقلاني
- لباب التأويل في معاني التنزيل للخازن
- المبادئ العامة للتربية ا.د / محمد الفزار ، وصالح الشهري ط.دار جرش، خميس مشيط 1410ه
- المجتبي للنسائي : مكتب المطبوعات الإسلامية حلب ـ 1406 ه مراجعة عبد الفتاح أبو غدة .
- مجلة سعودي شوبر العدد الخامس السنة الثانية يناير 2000م
- المحاسن والمساوي ، للبيهقي
- محاضرات الأدباء ، للأصفهاني
- المربي والتربية الإسلامية ا.د / محمد أحمد عبد الهادي دار البيان العربي ـ جده 1404ه
- مستدرك الحاكم ، دار الكتب العلمية ـ بيروت 1411ه مراجعة مصطفى عبد القادر عطا
مسند الإمام أحمد بن حنبل ط : الميمنية بمصر
مع الطب في القرآن الكريم للدكتور / عبد الحميد دياب وآخر ط . مؤسسة علوم القرآن دمشق 1982م
- المعجب في تلخيص أخبار المغرب لعبد الواحد المراكشي(1/93)
مفاهيم إعلامية من القرآن الكريم للشنقيطي عالم الكتب بالرياض 1406ه
- مناهل العرفان في علوم القرآن للشيخ / محمد عبد العظيم الزرقاني ط الحلبي ـ القاهرة
- منجد المقرئين لابن الجزري
- النجوم الزاهرة لابن تغري
-النظرية الإسلامية في الإعلام والعلاقات الإنسانية زين الدين الركابي بحث منشور مقدم للندوة العالمية للشباب الإسلامي المنعقدة بالرياض 1396ه(1/94)