تقليد العُمَّال وترقيتهم في السُّنة النبويّة
( أ. د. زهير عثمان على نور (1)
مُقَدِّمَة:
إنّ مصلحة الناس في الحياة لا تتم إلاّ بالاجتماع والتعاون والتناصر، ذلك أنّ الإنسان مدني بالطبع، فالتعاون يكون لجلب مصالحهم العاجلة والآجلة، والتناصر يحصل لدفع المضار الآنية والمستقبلية، وهم إذا اجتمعوا لابد لهم من أمور يفعلونها لكي تحصل لهم بها هذه المصلحة، ولابد لهم من مسائل يجتنبونها لدفع تلك المفسدة.
لذلك فإن المجتمع يقسم الأعمال والوظائف والمهام بين أفراده، فتصبح تلك الأعمال فرضاً على الكفاية في المجتمع، إذا قام بها بعضهم سقطت عن الآخرين، وإذا لم يقم بها أحد، واحتاج الناس إليها ، فإنها تصير فرض عين لمن اختص بها وجوَّدها، لذلك نهى الفقهاء عن الإضراب عن العمل.
قال الإمام ابن تيمية : "فإذا كان الناس محتاجين إلى فلاحة قوم ، أو نساجتهم ، أو بنائهم صار هذا العمل واجباً يُجبرهم ولي الأمر عليه، إذا امتنعوا عنه بعوض المثل ، ولا يمكِّنهم من مطالبة الناس بزيادة عن عِوَض المثل، ولا يُمكِّن الناس من ظلمهم، ولا يمكِّنهم من مطالبة الناس من ظلمهم، بأن يعطوهم دون حقهم ، كما إذا احتاج الجند المرصدون للجهاد إلى فلاحة أرضهم، ألزم مَنْ صناعته الفلاحة بأن يصنعها لهم، فإن الجند يُلزَمون بألا يَظلِموا الفلاح، كما أَلْزم الفلاح أن يفلح للجند" (2) .
__________
(1) (() عميد المعهد العالي لعلوم الزكاة ـ الخرطوم.
(2) أبو العباس ، أحمد بن عبد الحليم بن تيمية – الحسبة في الإسلام – تحقيق محمد زهري النجار – نشر المؤسسة السعيدية بالرياض – ص 48 .(1/1)
وبناءً على ما تقدم؛ فإن الناس لابد لهم من آمرٍ وناهٍ، يلتزمون حدود أمره ونهيه، ويطيعونه ويسمعون له قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : (إذا خرج ثلاثة في سفر فليؤمروا أحدهم) (1) .
فإذا كان هذا الأمر واجباً في السفر العارض، وأقل الجماعات، وأقصر الاجتماعات، فإن تأمير الأمير في باقي الأمور يكون واجباً من باب أولى، لكن هذا التقليد ينبغي ألا يتم إلاّ لمن استحق تلك الوظيفة، ولا يحصل إلاَّ لمن كان لها أهلاً، فإن من علامات الساعة، وضع الشخص المناسب في المكان غير المناسب، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : (إذا أُسند الأمر إلى غير أهله فانتظر الساعة) (2) .
قال الحافظ بن حجر العسقلاني في شرح هذا الحديث: "المراد من الأمر: جنس الأمور التي تتعلق بالدين، كالخلافة والإمارة، والقضاء، والإفتاء، وغير ذلك ... قال بن بَطِّال : معنى أُسند الأمر إلى غير أهله : أن الأئمة قد ائتمنهم الله على عباده، وفرض عليهم النصيحة لهم، فينبغي لهم تولية أهل الدين فإذا قلدوا غير أهل الدين، فقد ضيعوا الأمانة التي قلدهم الله تعالى إياها" (3) .
__________
(1) أبو داود، سليمان بن الأشعث السجستاني – سنن أبي داود – طبع دار الفكر – نشر دار إحياء السنة النبوية – كتاب الجهاد – باب القوم يسافرون يؤمرون أحدهم – 3/36 – حديث رقم 2608.
(2) أبو عبد الله محمد بن اسماعيل البخاري – صحيح البخاري ( بشرح فتح الباري ) – المكتبة السلفية، كتاب الرقاق – باب رفع الأمانة – 11/333 – حديث رقم 1496.
(3) أبو فضل شهاب الدين، أحمد بن علي بن حجر العسقلاني – فتح الباري بشرح صحيح الإمام أبي عبد الله ، محمد بن اسماعيل البخاري – المكتبة السلفية – ترقيم محمد فؤاد عبد الباقي – 11/ 334 .(1/2)
ومصداق قول النبي - صلى الله عليه وسلم - ـ المذكور ـ اليوم هو ما تعاني منه المجتمعات الإسلامية المعاصرة، من عدم الاهتمام بتقليد العمال وتثبيتهم وترقيتهم وعزلهم وفق معايير الشرع، رغم أن الإسلام أعطى هذه المسألة ما تستحق من رعاية واهتمام، وسبق بذلك الفكر الغربي بمئات السنين.
المشاركة في السلطة :
تنادى شرائح المجتمع المتنوعة وفئاته المتعددة دوماً بوجوب مشاركتها في السلطة ، ومعاونتها في اتخاذ القرار، وذلك لأن أمر الإصلاح يهمها، وقضية التنمية تخصها، وتحقق العدل يسعدها، وبسط الشورى يرضي طموحها، قال إمام الحرمين الجويني: "الاستنابة لا بد منها، ولا غنى عنها، فإن الإمام لا يتمكن من تولي جميع الأمور وتعاطيها، ولا يفي نظره بمهمات الخطة ولا يحويها. وهذه القضية بينةٌ في ضرورات العقول لا يستريب اللبيب فيها ، ولكن لا يجوز له أن يطِّوق الكفاةَ الأعمالَ، ثم يقطع البحث عنهم ويُضرب في عن سَبر أحوالهم، فإنه لو فعل ذلك لكان مُعطِّلاًً فائدةَ الإمامة، مبطلاً سرَ الزعامة والرياسة العامة، بل عليه أن يمهد مسالك انتهاء الأخبار إليه في مجامع الخطوب، ويُنصب مُرتَّبين للإنهاء وتبليغ الأخبار والأنباء، حتى تكون الخطة بكلاءته مربوطة، وبرعايته محوطة، ومجامع الأمور برأيه منوطة، واطلاعاته على البلاد والعباد مبسوطة، فهو يرعاهم كأنه يراهم، وإن شطّ المزار وتقاصت الديار، وليس من الممكن أن يتكلف الإحاطة بتفاصيل الأمور وآحاد أفرادها، ولكنه لا يغفل عن مجامعها وأصولها، واستبراء أحوال أصحاب الأعمال" (1) .
__________
(1) أبو المعالي إمام الحرمين عبد الملك بن عبد الله الجويني – غياث الأمم في التياس الظلم – تحقيق
د/ عبد العظيم الديب – طبع الشؤون الدينية بدولة قطر – الطبعة الأولى – 1400هـ ص 159.(1/3)
لذلك لا ينبغي لأحد ـ مهما علت مرتبته، وسما علمه، وظهرت مواهبه ـ أن يستأثر بجميع الأمور، وأن يقبض بكافة المسؤوليات، كأنَّ حواء لم تلد غيره [الأحزاب: 4].
وإن لنا أن نبين في نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - القدوة في ذلك ، فقد كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في مدينته النبوية يتولى جميع ما يتعلق بولاة الأمور ويولِّي في الأماكن البعيدة عنه، كما ولَّى على مكة عَتّاب بن أسيد، وعلى الطائف عثمان بن العاص، وعلى قُرى عُرينة خالد ابن سعيد بن العاص، وبعث علياً ومعاذاً وأبا موسى إلى اليمن، وكذلك كان يُؤمِّر على السرايا، ويبعث على الأموال الزكوية السعاة، فيأخذونها ممن هي عليه، ويدفعونها إلى مستحقيها الذين سماهم الله في القرآن (1) .
__________
(1) أبو العباس ، أحمد بن عبد الحليم بن تيمية – الحسبة في الإسلام – مصدر سابق – ص 46.(1/4)
ولا يعني الكلام السابق أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يكن يتخذ أعواناً في المدينة المنورة، حاضرة الدولة الإسلامية يومئذٍ، بل يعني أنه - صلى الله عليه وسلم - كان يمثل السلطة العليا في الجهاز السياسي والإداري للدولة الإسلامية، ويعاونه بعض من اختاره من صحابته الكرام في خارج المدينة وفي داخلها، فلقد كان له صاحب سر هو حذيفة ابن اليمان، وأمين على خاتمه يتولاه ويعيده إليه بعد قلعه هو حنظلة بن الربيع ابن صيفي، كما كان يكتب له الخلفاء الأربعة وغيرهم الوحي وغيره ومعيقب ابن أبي فاطمة وعبد الله بن كعب بن عمرو الأنصاري المغانم، وعبد الله بن رواحة خرص ثمار خيبر، كما كان حذيفة بن اليمان يقوم بإحصاء المسلمين وعدهم، ويكتب له - صلى الله عليه وسلم - الزبير بن العوام وجهم بن الصلت أموال الصدقات، والمغيرة بن شعبة والحصين بن نمير المداينات والمعاملات، إلى غير ذلك من الوظائف (1) .
__________
(1) انظر أبو الأسعاد : عبد الحي بن عبد الكبير الكتاني – نظام الحكومة النبيوية المسمي : التراتيب الإدارية – دار الكتاب العربي – بيروت- لبنان – 1/20 ،115 ،178 ،220 ،275 380 ،381،398، 399..(1/5)
يدعي بعض القادة أنه يَودُّ توزيع السلطات، ويرغب أن يشاركه الآخرون تحمل أعباء المسؤوليات، لكنه مضطر لئلا يفعل ذلك، بسبب عدم وجود الكفاءة المناسبة فيمن حوله، ونقص الأهلية المطلوبة فيهم، لذلك فهو يتمسك بجميع مقاليد الأمور، ويتحكم في معظم الشؤون، ويقبض مفاتيحها بيده ، فيجمع بين وظيفتين أو أكثر لنفسه كأن ذلك العمل العام ملك خاص له، مسجل باسمه ، لا يحب الخير فيه إلا شخصه، ولا يخاف على انهيار البناء سواه، ونسى ذلك القائد أنه ما ولد عالماً ومجوداً بل أنه تعلم وتدرج وأصاب وأخطأ، وغيره يحتاج إلى إعطاء فرصة، وإلى منح مهلة، كما يتمنى توظيفاً مناسباً له، واشعاراً بالثقة فيه وذلك كي يتعلم ويتدرب [النساء: 94]. وبعض هؤلاء القادة يوزع السلطات توزيعاً صورياً ويشارك الآخرين مشاركة ظاهرية فلا يعطيهم حرية اتخاذ القرار ولا يمنحهم فرصة الابتكار والإبداع والتجديد بل يلزمهم برأيه ويوجب عليهم الرجوع إليه في كل صغيرة وكبيرة قال الماوردي في هذا الشأن : "لا بُدَّ للملك مع ذلك من الاستعانة بالأخص الأخص من خدمه في مهمات أعماله ، من جباية أموال المملكة وتفريقها على الجيوش وفي سبيل الحقوق، ولا بد في إقامة المملكة والولايات العظيمة من وزراء وخلفاء وكتاب وأصحاب جيوش وعارضين وأصحاب شُرط ونقباء وأصحاب حرس وأصحاب أخبار وولاة وقضاة، فليجتهد الملك في اختيار هذه الطبقات من أهل الكفاية، والاستقلال، والشهامة، والأمانة، والعفة، والديانة، والعقل، والأصالة" (1) .
__________
(1) أبو الحسن علي محمد بن محمد بن حبيب الماوردي – نصيحة الملوك – تحقيق خضر محمد خضر – مكتبة الفلاح – الكويت – 1403هـ 1983م – ص 185.(1/6)
إن مما ينبغي أن ينتبه له في أمر مشاركة الأعوان، واختيار المساعدين، هو عدم التضخم الوظيفي، فلا يعين الملك أو الوزير إلا القدر المحتاج إليه من العمال ، ولا يوظف إلا العدد المناسب من الأشخاص لأن ذلك إن تم دون داع، تسبب في المشكلات الكثيرة وهدر الأموال في غير موضعها، يقول الماوردي
ـ ناصحاً الملك ـ أن عليه: أن لا يستكثر من العمال، ولا يستخلف على الرعية منهم إلا العدد الذي لا يجد منهم بداً فإن في الاستكثار منهم فوق الحاجة ضروباً من الفساد .
أولها : أنهم إذا كثروا كثرت أرزاقهم ومؤنهم على بيت المال، فشغلت المال عن الأوجب الأولى، والأحق الأحرى ، وأضرت ببيت المال .
والثاني : أنهم إذا كثروا كثرت مكاتباتهم وكتبهم وكتب الأمناء عليهم والشكايات منهم والرجائع عليهم فشغل ذلك الملك عن كثير مما هو أولى وأحق وأجدر وأخلق .
والثالث: أنهم إذا كثروا كانوا من اتفاق كلهم على الرشد والأمانة والصلاح والعفة والعفاف أبعد . لأن الأمناء المختارين والكُفاة المقدمين في كل عصر وزمان ووقت وأوان أعِزةٌ قليلون، فلابد إذا كثروا من اختلاف أحوالهم في هذه المعاني والخصال التي يحتاج إليها فيهم ومنهم.(1/7)
فالواجب أن يشتغل منهم ما أمكن وتيسر وراج بهم العمل وتقدر، وفي هذا موضع اقتداء بالله من جهة التأسي به، وذلك أن الله لم يبعث رسله إلا واحداً بعد واحد ، في الأيام المتطاولة والمدد المتراخية وعند امتساس الحاجة الضرورية من الخلق جميعاً إليه ودثور الشريعة ووقوع الفترة ولم ينصب الرسول - صلى الله عليه وسلم - لهم في كل عهد إلا إماماً واحداً، وقال لهم : ( إذا بويع لأميرين فاقتلوا آخرهما) (1) ) (2) .
وقال الماوردي ـ أيضاً ـ ناصحاً الوزير: "اقتصر من الأعوان بحسب حاجتك إليهم ولا تستكثر منهم لتكثر بهم ، فلن يخلو الاستكثار من تنافر يقع به الخلل، أو اتفاق يتآكل به العمل، وليكن أعوانك وفق عملك، فإنه أنظم للشمل، وأجمع للعمل وأبلغ للاجتهاد وأبعث على النصح" (3) .
لذلك كله لا بد للقائد – أو الملك أو الخليفة – من توزيع السلطات، ومشاركة الآخرين في تحمل المسؤوليات، واستشارة المؤتمنين في اختيار العدد المناسب من المعاونين، دون إسراف ولا تقتير، بل يكون الأمر بين ذلك قواماً.
اختيار العمال :
إن الإسلام لا يعطي الوظيفة لمن طلبها ـ وإن كان أهلاً لها ـ ولا لمن حرص عليها ـ وإن توفرت فيه شروطها ـ وذلك لأسباب منها:
__________
(1) أبو الحسين ملسم بن الحجاج القشيرى – صحيح مسلم – تحقيق محمد فؤاد عبد الباقي – طبع رئاسة إدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد – السعودية – كتاب الإمارة – باب بويع لخليفتين – 3/1480 – حديث رقم – 1853.
(2) أبو الحسن ، علي بن محمد بن حبيب الماوردي – نصيحة الملوك – مصدر سابق – ص 191 .
(3) أبو الحسن ، علي بن محمد بن حبيب الماوردي – قوانين الوزارة – تحقيق ودراسة د/ فؤاد عبد المنعم ود. محمد سليمان داود – نشر مؤسسة شباب الجامعة – الإسكندرية – 1398هـ 1978م الطبعة الثانية ص 143.(1/8)
السبب الأول : يتوق كثير من الناس لجمع المال، ولتولي المناصب الرفيعة، وذلك كي يحوز السلطة وتكون له المكانة العالية، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في هذا الشأن: (ما ذئبان جائعان أرسلا في غنم بأفسد لها من حرص المرء على المال والشرف لدينه) (1) .
لكن هذا المال لا ينفع صاحبه يوم القيامة، وتلك السلطة لا تمنع منه العذاب – إن كان ممن استحقه – قال الله تعالى عن الذي يؤتى كتابه بشماله [الحاقة: 28-29]. وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ( إنكم ستحرصون على الإمارة، وستكون ندامة يوم القيامة، فنعم المرضعة، وبئست الفاطمة) (2) .
قال الحافظ ابن حجر العسقلاني في شرح هذا الحديث: "قال الداودي: نعم المرضعة: أي في الدنيا، وبئست الفاطمة : أي بعد الموت، لأنه يصير إلى المحاسبة على ذلك، فهو كالذي يفطم قبل أن يستغني فيكون في ذلك هلاكه". وقال غيره : نعم المرضعة: لما فيها من حصول الجاه والمال، ونفاد الكلمة، وتحصيل اللذات الحسية والوهمية حال حصولها، وبئست الفاطمة: عند الانفصال عنها بموت أو غيره، ومما يترتب عليها من التبعات الآخرة" (3) .
لذلك لا يولي من سأل الولاية بذلك القصد السئ خوفاً من عدم قيامها بحقها فيؤول حاله إلى ما ذكرنا .
__________
(1) أبو عيسى محمد بن عيسى بن سورة – الترمذي – سنن الترمذي – تحقيق أحمد محمد شاكر وآخرون – دار التراث العربي – بيروت لبنان – كتاب الزهد -4/588 – حديث رقم 2376 قال الترمذي هذا حديث صحيح حسن .
(2) أبو عبد الله محمد بن اسماعيل البخاري – صحيح البخاري ( بشرح فتح البارئ ) مصدر سابق، كتاب الأحكام – باب ما يكره من الحرص على الإمارة 13/125 حديث رقم 7148.
(3) أبو الفضل، شهاب الدين ، أحمد بن علي بن حجر العسقلاني – فتح الباري بشرح صحيح الإمام أبي عبد الله محمد بن اسماعيل البخاري – مصدر سابق 13/126.(1/9)
السبب الثاني : إن في الاستجابة لطلبه في الولاية خرقاً لمعايير الاختيار في الشرع، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ( إنا لا نولي هذا الأمر من سأله، ولا من حرص عليه ) (1) .
وفي سؤال الوظيفة تزكية للنفس، ومظنة استعمالها لمصلحة الذات، والترفع عن الناس، وكل ذلك محظور في الدين [القصص: 83].
فالوظيفة في الدولة الإسلامية تكليف وليست تشريفاً، قال الماوردي موصياً الملك بما يجب عليه فعله تجاه من يختاره من عماله: "أن يجعل الولايات التي يوليها قضاءً بحق الخدمة، ولا يطمع في أحد من عماله لأجل تقليده إياه بل يُدرُّ عليه رزقه المرسوم بالمعروف إذا وجهه إليه ، وليقِّدر عنده أنه إنما ينفعه ليعمل، ولا يستعمله لينتفع ، فإن في كلتا الحالتين فساداً كثيراً ، لأن العامل إذا علم أن ولايته قضاء بحق خدمته ومكافأة له عليها ، أطمع نفسه في الرعية، ومطمعه كان في الراعي، وظن أن كل ما تحت يده ثمرة خدمته، وجدوى عمله" (2) .
كما إنها امتحان من الله لمن يتولاها: (إن الدنيا حلوة خضرة، وإن الله مستخلفكم فيها فناظر كيف تعملون) (3) .
وهي أمانة يسأل عنها يوم القيامة [الأحزاب: 72].
__________
(1) أبو عبد الله محمد بن اسماعيل البخاري – صحيح البخاري بشرح الباري – مصدر سابق كتاب الأحكام – باب ما يكره من الحرص على الإمارة -13/125 حديث رقم :7149.
(2) أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب الماوردي – نصيحة الملوك – مصدر سابق –ص 190
(3) أبو عيسى محمد بن عيسى بن سورة الترمذي – سنن الترمذي – مصدر سابق – كتاب الفتن – باب ما جاء ما أخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - أصحابه بما هو كائن إلى يوم القيامة -4/483 حديث رقم 2191 قال الترمذي: هذا حديث صحيح حسن .(1/10)
ينبغي للخليفة ـ أو الأمير أو المسؤول ـ أن يبحث عن الأكفاء لتولي الوظائف العامة في الدولة الإسلامية، وأن يختار الأصلح من الناس، وذلك لا يقتصر على طائفة من البشر، ولا على وظيفة دون غيرها، بل "يجب عليه البحث عن المستحقين للولايات ، من نوابه على الأمصار، ومن الأمراء الذين هم نواب ذي السلطان والقضاة ومن أمراء الأجناد ومقدّمي العساكر الصغار والكبار، وولاة الأموال من الوزراء والكتاب والشادين (1) ، والسعاة على الخراج والصدقات، وغير ذلك من الأموال التي للمسلمين، وعلى كل واحد من هؤلاء أن يستنيب ويستعمل أصلح من يجده، وينتهي ذلك إلى أئمة الصلاة والمؤذنين والمقرئين والمعلمين وأمراء الحاج والبُرد (2) ، والعيون الذين هم القُصَّاد وخُزَّان الأموال وحُرَّاس الحصون، والحدادين الذين هم البوابون على الحصون والمدائن، ونقباء العساكر الكبار والصغار، وعُرفاء القبائل والأسواق، ورؤساء القرى الذين هم الدِّهاقين (3) ، فيجب على كل من ولى شيئاً من أمر المسلمين من هؤلاء وغيرهم أن يستعمل فيما تحت يده في كل موضع أصلح من يقدر عليه" (4) .
__________
(1) الشادي : الجامع للشيء من علم وأدب ومال : انظر أبو الفضل جمال الدين ، محمد بن مكرم بن منظور الأفريقي – لسان العرب – دار صادر بيروت -14/ 452.
(2) البُرد : جمع بريد من ينقل الرسائل ونحوها إلى المدن والقرى انظر المصدر السابق – 3/86.
(3) الدِّهاقين : جمع دِّهقان – بكسر الدال وضمها – رئيس القرية ومقدم الثناء انظر : أبو السعادات ، مجد الدين المبارك بن محمد ابن الأثير الجزري – النهاية في غريب الحديث والأثر- تحقيق طاهر أحمد الزاوي ومحمود الطناحي – المكتبة العلمية بيروت – 2/145.
(4) أبو العباس أحمد بن عبد الحليم بن تيمية – تقليد العمال في السنة الشرعية في إصلاح الراعي والرعية – نشر دار الكتاب العربي – مصر – محمد حلمي المنياوي – الطبعة الرابعة ص 7.(1/11)
من هذا النص نفهم أن الأمانة تشمل جميع العاملين في الدولة سواء كانوا في الوظائف العليا أو الوسطى أو الدنيا، ولا تقصر على الولاية العامة التي يكون عليها الخليفة، لذلك يجب على كل مسؤول في الدولة الإسلامية أن يستنيب بعض المواطنين لشغل ما يوجد عنده من وظائف، لكن ينبغي عليه أن يلاحظ في هذا الشأن عدة مسائل وأن يراعي فيه بعض الأمور منها:
أولاً : اختيار الأصلح :
يجب على المسؤول أن يجتهد في اختيار الشخص المناسب الذي تتوفر فيه الصفات المطلوبة فيمن يتولى تلك الوظيفة، لا أن يختار أحد أقاربه أو أصدقائه، أو من تكون له مصلحة معه، أو من يوافقه في الاتجاه السياسي أو المذهب الفكري أو القبيلة أو الوطن أو الجامعة التي تخرج فيها أو البلد الذي درس فيه "فإن عدل عن الأحق الأصلح إلى غيره لأجل قرابة بينهما أو ولاء عتاقة أو صداقة أو موافقة في بلد أو مذهب أو طريقة أو جنس كالعربية والفارسية والتركية والرومية، أو لرشوة يأخذها منه من مال أو منفعة، أو غير ذلك من الأسباب، أو لضغن (1) في قلبه على الأحق، أو عداوة بينهما، فقد خان الله ورسوله والمؤمنين ودخل فيما نهى في قوله تعالى [الأنفال: 27]" (2) .
وقال النبي - صلى الله عليه وسلم - في هذا الشأن: (من استعمل رجلاً من عصابة، وفي تلك العصابة من هو أرضى لله منه، فقد خان الله، وخان رسوله، وخان المؤمنين) (3) .
__________
(1) الضغن : الحقد : انظر أبو الفضل جمال الدين محمد بن مكرم بن منظور الأفريقي – لسان العرب، مصدر سابق – 13/255.
(2) أبو العباس، أحمد بن عبد الحليم بن تيمية – السياسية الشرعية في إصلاح الراعي والرعية –مصدر سابق ص 8.
(3) أبو عبد الله، محمد بن عبد الله الحاكم النيسابوري – المستدرك على الصحيحين – نشر دار الكتاب العربي –بيروت – كتاب الأحكام – 4/92 وقال الحاكم : هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه وسكت عنه الذهبي .(1/12)
وإما إن لم يجد من تتوفر فيه تلك الصفات المطلوبة، فلا يترك ذلك المنصب شاغراً بحجة عدم وجود الشخص المناسب، بل يختار له أفضل الموجودين، وإن لم تتوفر فيه جميع الصفات اللازمة، أي أنه "ليس عليه أن يستعمل إلا أصلح الموجود، وقد لا يكون في موجوده من هو صالح لتلك الولاية، فيختار الأمثل فالأمثل في كل منصب بحسبه، وإذا فعل ذلك بعد الاجتهاد التام، وأخذه للولاية بحقها فقد أدى الأمانة، وقام بالواجب في هذا، وصار في هذا الموضع من أئمة العدل والمقسطين عند الله، وإن اختل بعض الأمور بسبب من غيره، إذا لم يمكن إلا ذلك، فإن الله يقول [التغابن: 16]، ويقول [البقرة: 286]، وقال في الجهاد : [النساء: 84]، وقال [المائدة: 105]، فمن أدى الواجب المقدور عليه فقد اهتدى، وقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : ( إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم ) أخرجاه في الصحيحين (1) . لكن إن كان منه عجز ولا حاجة إليه أو خيانة عوقب على ذلك" (2) .
إن مما يعين على اختيار الأصلح:
وصف الوظيفة وتحديد مهامها وبيان نوع العمل ومكانة ومدة انجازه والسلطات الممنوحة لمن يقوم به والحقوق المترتبة عليه، وغير ذلك من التوصيف اللازم.
قال ابن تيمية في هذا الشأن: "والمهم في هذا الباب معرفة الأصلح، وذلك إنما يتم بمعرفة مقصود الولاية، ومعرفة طريق المقصود فإذا عرفت المقاصد والوسائل تم الأمر" (3) .
__________
(1) أبو عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري – صحيح البخاري ( بشرح فتح الباري ) مصدر سابق، كتاب الاعتصام بالله والسنة – باب الاقتداء بسنن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - 13/251 حديث رقم 7288 وأبو الحسين بن الحجاج القشيري – صحيح مسلم –مصدر سابق – كتاب الحج – باب فرض الحج مرة في العمر 2/975 حديث رقم 1337.
(2) أبو العباس أحمد بن عبد الحليم بن تيمية – السياسية الشرعية في إصلاح الراعي والرعية – مصدر سابق – ص 13.
(3) المصدر السابق نفسه ص 22 .(1/13)
وقال البروفسير أبو سن شارحاً لهذا النص : "فهو هنا يحدد أن معرفة الأصلح تتم بمعرفة الهدف من الوظيفة والقصد منها والوسيلة إليها، أي المعدات والآلات التي تستخدم لإنجازها ـ وعندئذ يمكن الوصول إلى معرفة الشخص الأصلح لتحمل مسؤولياتها ـ والواجبات الرئيسية للوظيفة أمر أساسي لمعرفة الأصلح لملئها في المفهوم الإسلامي" (1) .
كما إن ذلك ـ إن تم بأحسن وجه ـ يساعد العامل في أداء عمله، وتنفيذ ما أوكل إليه من مهام، قال الماوردي مبيناً أنَّ العمل الذي يتقلده العامل "يعتبر فيه ثلاثة شروط :
أحدها: تحديد الناحية بما تتميز به عن غيرها.
والثاني: تعيين العمل الذي يختص بنظره فيها من جباية أو خراج أو عشر.
والثالث: العلم برسوم العمل وحقوقه، على تفصيل ينتفي عنه الجهالة، فإذا استكملت هذه الشروط الثلاثة في عمل علم به المولِّي والمولَّى صح التقليد ونفذ" (2) .
ثانياً: القوة والأمانة ركنا الولاية:
ينبغي أن يختار لكل وظيفة القوي الأمين [القصص: 26]. واختيار القوي الأمين يحب ألا يكون شعاراً سياسياً فحسب لا أساس له من التطبيق في الواقع، وإنما ينبغي أن يكون هادياً ومرشداً في الاختيار.
__________
(1) د/ أحمد إبراهيم أبو سن – الإدارة في الإسلام – المطبعة العصرية –دبي – 1981م ص 83 .
(2) أبو الحسن ، علي بن محمد بن حبيب الماوردي – الأحكام السلطانية والولايات الدينية – دار الكتب العلمية – بيروت لبنان -1389هـ ص 209.(1/14)
والقوة هي المقدرة على أداء العمل المعين، وهي الكفاءة العلمية المتوفرة عند من يكلف بأدائه، وضده الضعف. ومن اتصف به لا يصلح أن يقلد عملاً عاماً ، عن أبي ذر الغفاري - رضي الله عنه - قال : قلت: يا رسول الله ألا تستعملني؟ قال: فضرب بيده على منكبي ثم قال: (يا أبا ذر، إنك ضعيف، وإنها أمانة وإنها يوم القيامة خزي وندامة، إلا من أخذها بحقها، وأدى الذي عليه فيها) (1) .
والقوة في كل وظيفة بحسبها فمثلاً: القوة في إمارة الحرب ترجع إلى شجاعة القلب وإلى الخبرة بالحروب والمخادعة فيها فإن الحرب خدعة وإلى القدرة على أنواع القتال من رمي وطعن وضرب وركوب وكر وفر ونحو ذلك... والقوة في الحكم بين الناس ترجع إلى العلم بالعدل الذي دل عليه الكتاب والسنة وإلى القدرة على تنفيذ الأحكام (2) .
__________
(1) أبو الحسين، مسلم بن الحجاج القشيري – صحيح مسلم – مصدر سابق – كتاب الإمارة – باب كراهية الإمارة بغير ضرورة 3/1457 حديث رقم 1825.
(2) أبو العباس أحمد بن عبد الحليم بن تيمية – السياسة الشرعية في إصلاح الراعي والرعية – مصدر سابق ص 14، 15.(1/15)
والأمانة راجعة إلى خشية الله تعالى، ومراقبته في كل أمر خاصة في العمل المكلف به وقلما تجتمع الدرجات العليا من الأمانة والقوة في شخص واحد قال ابن تيمية : "اجتماع القوة والأمانة في الناس قليل، ولهذا كان عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - يقول : اللهم أشكو إليك جلد الفاجر وعجز الثقة، فالواجب في كل ولاية الأصلح بحسبها ، فإذا تعين رجلان أحدهما أعظم أمانة والآخر أعظم قوة ، قُدِّم أنفعهما لتلك الولاية وأقلهما ضرراً فيها، فيقدم في إمارة الحروب الرجل القوي الشجاع وإن كان فيه فجور على الرجل الضعيف العاجز وإن كان أميناً. كما سئل الإمام أحمد عن الرجلين يكونان أميرين في الغزو وأحدهما قويُّ وفاجر، والأخر صالح وضعيف، مع أيُّهما يغزى؟ فقال: أمَّا الفاجر القوي، فقوته للمسلمين، وفجوره على نفسه، وأمَّا الصالح الضعيف؛ فصلاحه لنفسه، وضعفه على المسلمين، فيُغْزَى مع القوي الفاجر. وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : (إن الله يؤيد هذا الدين بالرجل الفاجر) (1) .
وإن كانت الحاجة في الولاية إلى الأمانة أشد قُدّم الأمين مثل حفظ الأموال ونحوها ... وهكذا في سائر الولايات إذا لم تتم المصلحة برجل واحد جمع بين عدد فلابد من ترجيح الأصلح أو تعدد المولى إذا لم تقع الكفاية بواحد تام" (2) .
كما يشترط في العامل الالتزام بالسلوك الإسلامي الظاهر، وأهم ذلك إقامة الصلاة، وذلك لأنها أحد أركان الإسلام بعد الشهادتين، وهي تنهي عن الفحشاء والمنكر، وتعين على ما سواها من الطاعات [البقرة: 45].
__________
(1) أبو عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري – صحيح البخاري ( بشرح الباري) مصدر سابق كتاب الجهاد – باب إن الله يؤيد الدين بالرجل الفاجر – 6/179 حديث رقم 3062.
(2) أبو العباس أحمد بن عبد الحليم بن تيمية – السياسية الشرعية في إصلاح الراعي والرعية – مصدر سابق – ص 16 -20.(1/16)
وقد كان عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - يكتب لعماله في الآفاق فيقول لهم: "إن أهم أموركم عندي الصلاة ، فمن حفظها وحافظ عليها، حفظ دينه، ومن ضيَّعها كان لما سواها أضيع" (1) .
فأداء العامل للصلاة في وقتها مع الجماعة لا يشغلها عنها عمل، ولا يؤخره عنها فعل، من مظاهر تعظيمه لشعائر الله، وشكره لنعمه، وقيامه ببعض واجبات الخلافة [الحج: 41].
ثالثاً : الاجتهاد والمشاورة في اختيار الأصلح :
نصل إلى الشخص المناسب في الوظائف العليا عن طريق البحث والتفتيش والجرح والتعديل، وباستعمال الشورى التي هي من صفات المؤمنين [الشورى: 38]. ونقصد بالشورى تلك الواسعة التي يُشرَك فيها أكبر عدد ممكن من العارفين، وليس المقصود بها تلك الشورى الضيقة الصورية التي لا تتجاوز العشرة أشخاص، ومعلوم أن الجماعة أقدر من الفرد على اختيار الأصلح للوظيفة والعثور على المناسب للولاية فبوساطة الشورى نستطلع الآراء ونسأل عن الأكفاء ونتعرف على مواهبهم ونقف على مقدراتهم وذلك لأنه "بعد أن توسعت الدولة الإسلامية فقد كان لزاماً على ولاة الأمور أن يدقِّقوا في الاختيار، وألا يكون الاختيار فردياً، حتى لا يفتح المجال لسوء استعمال السلطة، وتعيين غير الأصلح" (2) .
__________
(1) أبو عبد الله مالك بن أنس الأصبحي – الموطأ – تحقيق محمد فؤاد عبد الباقي – القاهرة ، دار إحياء الكتب العربية – كتاب وقوت الصلاة 1/6 حديث رقم 6.
(2) د. أحمد إبراهيم أبو سن – الإدارة في الإسلام – مرجع سابق ص 85 .(1/17)
ولا بأس في سبيل الوصول للأصلح أن نستعمل كل وسيلة مشروعة لتحقيق هذا الغرض، وأن نستفيد من كل علم نافع في ذلك الشأن، وأن نستخدم كل جهاز أو آلة لتنفيذ تلك المهمة، مثل الحاسوب الذي يساعدنا في تخرين المعلومات الخاصة بكل كفاءة، وفي ترشيح المناسب لكل وظيفة، ونصل للشخص المناسب في الوظائف الوسطى والدنيا عن طريق المسابقات والامتحانات والمقابلات وغيرها من آليات الاختيار التي يتحقق فيها العدل للمتقدمين، وتتم فيها المساواة لهم، ويختار الأصلح من وسطهم لتلك الوظيفة.
قد يزعم البعض أن هذا الاختيار وذلك البحث والتفتيش ينبغي أن تراعى فيه السرية ويحاط بالكتمان، وذلك حتى لا يفشو أمره وتظهر حقيقته، وإذا وسعنا الشورى وأكثرنا من السؤال وبالغنا في التريث فإن تلك السرية تذهب ولا يبقى لها أثر، وبذهابها تضيع المصلحة وتجلب المفسدة، ولكنا نقول: لنحاول المحافظة على تلك السرية أثناء عملية البحث والتفتيش للأصلح ما استطعنا إلى ذلك سبيلاً، وإذا لم نتمكن من ذلك فالأفضل أن تذهب السرية وتبقى الشورى، فهي التي تأتي بالأصلح، وليس من المناسب أن نحافظ على الشكل ونفرط في الجوهر، فنراعي السرية ولا نهتم بالشورى فنأتي بغير الكفء ونولي غير الأهل.
تراعي بعض الحكومات اختيار العمال من الجهات المختلفة فتقلد من كل قبيلة مسئولاً، ومن كل إقليم والياً، فترضي الجميع وتمنع احتكار السلطة لأهل جهة أو أفراد قبيلة أو أعضاء حزب، وهو أمر مقبول وهو من السياسية الشرعية ومن باب الترجيح بين المصالح ، بشرط أن يختار من كل ناحية أفضل الموجود وأصلح المرشحين ممن تتوفر فيهم أغلب شروط الكفاءة.(1/18)
قال ابن تيمية : "أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - مرةً : عمرو بن العاص في غزوة ذات السلاسل، استعطافاً لأقاربه الذين بعثه إليهم على من هم أفضل منه، وأمر أسامة بن زيد لأجل ثأر أبيه، ولذلك كان يستعمل الرجل لمصلحة، مع أنه قد يكون مع الأمير من هو أفضل منه في العلم والإيمان" (1) .
والمحذور يكون الانتماء لهذا الإقليم أو الانتساب لتلك القبيلة هو وحده معيار الكفاءة وغاية الجدارة، دون مراعاة الأمور الأساسية وملاحظة للصفات الرئيسية وانتباه للأركان المهمة في الولاية.
رابعاً : التعيين تحت الاختبار :
إن من المناسب في اختيار العمال وتقليدهم أن يعينوا تحت الاختبار
ـ أو التجربة ـ مدة معينة فإذا أثبتوا في وظيفتهم تلك جدارة وكفاءة ثبتوا فيها، وإن كانت الأخرى عزلوا منها.
ومرحلة التعيين تحت الاختبار "هي مرحلة تعتبر في مفاهيم إدارة شئون الأفراد المعاصرة جزءاً من مراحل الاختيار للوظيفة، وهي أن يعين الشخص تحت الاختبار لفترة من الزمن محددة، قد تمتد من ستة أشهر إلى سنتين في قوانين الخدمة العامة بالدول المختلفة، فإذا أثبت الشخص جدارته بالعمل تم تثبيته في الوظيفة وإلا فصل منها.
وقد كان معمولاً بها في عهد الخلفاء الراشدين، ويروى أن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - قال لأحد عماله : "إني قد عينتك لأبلوك، فإن أحسنت زدتك، وإن أسأت عزلتك" (2) .
__________
(1) أبو العباس أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحسبة في الإسلام –مرجع سابق ص 45
(2) د. أحمد إبراهيم أبو سن – الإدارة في الإسلام – مرجع سابق ص 43 .(1/19)
وبرغم هذا نجد اليوم كثيراً من المسئولين إذا عينوا في وظيفة عليا بالإنابة أو بالتكليف وذلك اختباراً لهم وامتحاناً لمقدراتهم ضاقوا بذلك ذرعاً، بل إن بعضهم ليطلب ممن ولاه تلك الوظيفة أن يجعلها له حالاً بالأصالة أو يرجعه لمكانه الأول وهذا جهل بحكمة هذا التعيين، وتزكية للنفس بذلك الرفض، وطلب للولاية بالترفيع لتلك الوظيفة العليا .
مراقبة العمال وتقويمهم :
إن من أوجب واجبات ولي الأمر ـ بعد أن يختار الأصلح للوظيفة ـ أن يراقب عمله ويُقوّم أدائه. وبناءً على ذلك ربما ثبته في موقعه أو حوَّله لموقع آخر، وربما صعَّده لمنصب أعلى أو عزله تماماً من العمل العام.
كما يجب على ولي الأمر أن يجعل العامل ملتزماً بأحكام الشريعة الإسلامية نصاً وروحاً، وأن يعمل على تطبيقها في كل شأن من شؤون الحياة مع إقامة المعروف وإزالة المنكر، قال ابن تيمية : "الولايات كلها الدينية مثل إمرة المؤمنين وما دونها من ملك ووزارة وديوانية سواء كانت كتابة خطاب أو كتابة حساب لمستخرج أو مصروف في أرزاق المقاتلة وغيرهم ومثل إمارة حرب وقضاء وحسبة. وفروع هذه الولايات إنما شرعت للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر" (1) .
وولاء العامل فيها ليس مرتبطاً بالأشخاص ولا بالهيئات ولا بالمنظمات والأحزاب والجماعات إذا حضروا وجد وإذا ذهبوا غاب، إنما ولاؤه لهذا الدين، وهو ثابت دائم مستقيم، فولاؤه كذلك غير خاضع للتغير والتبديل والتجديد
"فالموظف العام يكون ولاؤه للشريعة الإسلامية وليس للأشخاص أو الأحزاب أو الهيئات التشريعية أو التنفيذية، والتي يجب أن تشاركه نفس الولاء للشريعة الإسلامية كمنهاج عمل وسلوك" (2) .
__________
(1) أبو العباس أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحسبة في الإسلام –مرجع سابق ص 45
(2) د. أحمد إبراهيم أبو سن – الإدارة في الإسلام – مرجع سابق ص 52(1/20)
لقد بين الإسلام أن الأصل في العامل المسلم أن يراقب الله في عمله ، وأن يحاسب نفسه على فعله ، وذلك قبل أن يراقبه غيره ويحاسبه رئيسه، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : (كلكم راعٍ وكلكم مسئول عن رعيته، الإمام راعٍ ومسئول عن رعيته... كلكم راعٍ وكلكم مسئول عن رعيته) (1) .
فالرقابة الذاتية هي الأساس، وكل ما عدها – من مراقبة الغير، ووضع القوانين وتشريع اللوائح وسن الأنظمة – يأتي تابعاً لها وتالياً لمرتبتها، "وترتكز فلسفة الوظيفة العامة في الإسلام أيضاً على أن مسئولية العمل في وظيفة بعينها هي مسئولية شخصية، وليست جماعية، فكل شخص مسئول عن عمله وتصرفه. والإسلام ينظر إلى الموظف العام على أنه حارس أمين، وعليه أنْ ينصح للجهاز الوظيفي الذي ينتمي إليه ويخلص في عمله ويبذل قصارى جهده لأدائه، ويرعى مواعيده دون الحاجة إلى رقابة من رقيب أو رئيس، ولذلك فإن الرقابة على الموظف العام تبدأ من ضميره الحي الذي يرعى الله في كل خطوة يخطوها" (2) .
لا يعني ما ذكرنا ترك الحبل للعامل على الغارب، فلا يحاسب على عمله، ولا يراقب في فعله اعتماداً على الثقة فيه، واطمئناناً على مراقبة نفسه له ومحاسبتها إياه ، بل لا بد من أن نُعينه على ذلك إن قام به، ونذكِّره به إن نسيه، ونقوم به إن تركه، فلقد كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يحاسب عماله، ويراقب تصرفاتهم.
__________
(1) أبو عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري – صحيح البخاري بشرح فتح الباري مصدر سابق - –كتاب الجمعة – باب الجمعة في القرى والمدن – 2/380 حديث رقم 893 وأبو الحسين مسلم بن الحجاج القشيري – صحيح مسلم – مصدر سابق – كتاب الإمارة – باب فضيلة الإمام العادل 3/1459، حديث رقم 1829.
(2) د. أحمد إبراهيم أبو سن – الإدارة في الإسلام – مرجع سابق ص 43.(1/21)
ومن أمثلة ذلك أنه - صلى الله عليه وسلم - (استعمل ابن اللتبية على صدقات بني سليم، فلما جاء إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وحاسبه قال: هذا الذي لكم، وهذه هدية أهديت لي، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : فهلا جلستَ في بيت أبيك وبيت أمك حتى تأتيك هديتك إن كنت صادقاً؟ ثم قام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فخطب الناس، وحمد الله وأثنى عليه، ثم قال : (أما بعد، فإني أستعمل رجلاً منكم على أمور مما ولاني الله، فيأتي أحدكم فيقول: هذا لكم ، وهذه هدية أهديت لي، فهلا جلس في بيت أبيه وبيت أمه حتى تأتيه هديته إن كان صادقاً؟ فوالله لا يأخذ أحدكم منها شيئاً بغير حقه إلا جاء الله يحمله يوم القيامة ألا فلأَعرفنَّ ما جاء الله ، رجلٌ ببعير له رُغاء (1) أو ببقرة لها خُوار (2) أو شاة تَيْعر (3) ، ثم رفع يديه حتى رأيت بياض إبطيه: ألا هل بلغت) (4) .
__________
(1) الرُغاء : صوت الإبل انظر أبو السعادات مجد الدين المبارك بن محمد ابن الأثير الجزري – النهاية في غريب الحديث والأثر – مصدر سابق 2/240.
(2) الخُوار : صوت البقر انظر المصدر السابق نفسه ص2/87.
(3) يقال يعرت العنز تيعر – بالكسر – يعاراً بالضم – انصر المصدر السابق 5/297.
(4) أبو عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري – صحيح البخاري ( بشرح فتح الباري ) مصدر سابق، كتاب الأحكام – باب محاسبة الإمام عماله – 3 /189 حديث رقم 7197 وأبو الحسين مسلم بن الحجاج القشيرى – صحيح مسلم – مصدر سابق – كتاب الإمارة – باب تحريم هدايا العمال – 3/1463- حديث رقم 1832 .(1/22)
ولقد نص العلماء على ضرورة مراقبة العمال ومحاسبتهم، فهذا هو الماوردي ينصح الملك تارة بذلك، ويوصي الوزير بالأمر نفسه تارة أخرى، يقول مرشداً الملك لطريق تقويم عماله ومحاسبتهم بعد حسن اختيارهم : "أن يجعل على كل منهم عيوناً ومشرفين وأَزِمَّةً سراً وعلانية من أمناء الناس ومشايخ الكور ـ أي المدن ـ وعلمائها وصلحائها وأهل العفة والعفاف منها، يتبعون آثاره، وينهون إليه أخباره، ويكون سبيل الأمناء والعيون سبيلهم، ومجالهم مجالهم إذا أخلُّوا بما هم بسبيله، أو ضيعوا منه شيئاً أو طابقوا أحداً من العمال على ظلم أو جناية أو فاحشة أو ريبة على أن لا يعجل في ذلك حتى يستبرئ ويملي ويصح عنده ثمار الأخبار أسباباً" (1) .
وقال ناصحاً الوزير : "حق عليك أيها الوزير أن تكون لأعوانك مختبراً، ولأحوالهم متطلعاً، وبهما على نفسك وعليهم مستظهراً، لأنهم من بين من تسوسه وتستعين بهم، لتعلم ما فيهم من فضل ونقص وعلم وجهل وخير وشر، وتتحرز من غرور المتشبه، وتدليس المتصنع، فتعطي كل واحد حقه، ولا تقصر بذي فضل، ولا تعتمد على ذي جهل، فقد قيل : من الجهل صحبة ذوي الجهل، ومن المحال مجادلة ذوي المحال، وافرق بين الأخيار والأشرار فإن ذا الخير يبني وذا الشر يهدم ، وأحذر الكذوب فلن ينصحك من غش نفسه ، ولن ينفعك من ضرها وقد قيل: من ضيع أمره ضيع كل أمر ، ومن جهل قدره جهل كل قدر" (2) .
ومما ينبغي أن ينتبه له جيداً هو أن يكون تقويم العمال تقويماً علمياً دقيقاً كاملاً ، وليس تقويماً عاجلاً سريعاً كما يحدث في كثير من الأحيان وذلك أن هذا الأمر بمثابة الحكم وقد أمرنا بالعدل فيه [النساء: 58].
تثبيت العمال :
__________
(1) أبو الحسن، علي بن محمد بن حبيب الماوردي: نصيحة الملوك، مصدر سابق، ص 190.
(2) أبو الحسن، علي بن حبيب الماوردي: قوانين الوزارة، مصدر سابق، ص 141.(1/23)
تقوم الدولة بتثبيت العمال في وظيفته التي رشح لها، وذلك بعد انقضاء فترة تربصيّة معينة، لتقدير كفاءته، والتأكد من صلاحيته، كما إنها تعتبر بمثابة فترة تدريبية له، يكتسب فيها مهارة ودربة، تعينه على أداء عمله فيما يأت من أزمان. وبما أن هذا المرشح لم يطلب تلك الوظيفة، ولم يسع إليها، وإلا لما ثبت فيها، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : (يا عبد الرحمن بن سَمُرة: لا تسأل الإمارة، فإن أعطيتها عن مسألة وكلت إليها، وإن أعطيتها عن غير مسألة أعنت عليها) (1) .
ولأجل ذلك ينبغي أن يعان العامل على وظيفته التي تقلدها من غير مسألة لها، وحرص عليها. ومن إعانته عليها : إبقاءه مدة معقولة في تلك الوظيفة حتى يستطيع أن يتعرف على واقعها، ثم يتمكن أن يضع الخطط والبرامج المناسبة للقيام بواجباتها، ثم يقوم بتنفيذها، وعمل التقويم اللازم لها بعد فترة من الزمن. ومهما كان هذا المسئول مثالياً، فإنه يحب أن يرى ثمرة جهده وحصاد زرعه في الواقع وقد قال إبراهيم - عليه السلام - [البقرة: 260]، وكل هذا إذا لم يأت العامل بفاحشة مبينة تسبب عزله .
__________
(1) أبو عبد الله، محمد بن إسماعيل البخاري: صحيح البخاري (بشرح فتح الباري)، مصدر سابق، كتاب الأحكام، باب من سأل الإمارة وكل إليها، 13/124، حديث رقم 7147.(1/24)
قد يقول قائل : إن في ثبات العامل في موقعه مدة طويلة، مظنة أن يؤدي به ذلك إلى تكوين مركز قوة ونفوذ يجعله يتحدى به قرارات الدولة أو يخالفها، وذلك مثلما حدث في التاريخ الإسلامي الأول ، إذ بقي معاوية بن أبي سفيان - رضي الله عنه - مدة سبعة عشر عاماً والياً على منطقة الشام، وهي منطقة هامة واسعة الأرجاء، تشمل الآن : الأردن وسوريا ولبنان وفلسطين، حتى استقرت جذوره عليها، وثبت أوتاده فيها، فلم يبق داخل سلطان المركز الرئيسي للدولة، بل أصبح المركز الرئيسي معتمداً عليه خاضعاً له، وقد قاتل الحكومة المركزية وفي وقت من الأوقات (1) .
نقول في الجواب عن هذه الشبهة، إن بقاء معاوية - رضي الله عنه - كل هذه المدة لم يكن عملاً موفقاً، فقد كان ينبغي أن يحول لمكان آخر بعد عدة سنوات، كما كان يفعل عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - مع عماله في الأقاليم المختلفة.
قال الأستاذ المودودي في هذا الشأن: "لم يكن تعيين معاوية حاكماً على إقليم بعينه قرابة سبعة عشر عاماً غير جائز شرعاً، إنما كان بالضرورة عمل غير سليم من ناحية التخطيط، أنا لا أقول أن يعزل اعتباطاً وجزافاً دون تقصير يبدر منه، إنما كان يكفي تغييره بعد بضعة أعوام وإحلال آخر محله، وتنصيبه على إقليم آخر، وهكذا حتى لا يقوى مركزه، فيقاتل الحكومة المركزية في وقت من الأوقات" (2) .
__________
(1) انظر: أبو الأعلى المودودي: الخلافة والملك، تعريب أحمد إدريس، دار القلم، الكويت، الطبعة الأولى، 1398هـ ـ 1978م، ص 70.
(2) المرجع السابق نفسه، ص 223.(1/25)
إن عدم ثبات العامل في وظيفة بعينها، واستقراره في مكان واحد، وتنقله بين المناصب فكل يوم هو في شأن. كل هذا يسبب له عدم الاطمئنان النفسي والقلق الفكري، وهو لا يستطيع وضع الخطط طويلة الأمد، ولا يقدر على تنفيذ قصيرة الزمن، وذلك لأن فكره مشغول وذهنه مضطرب، وسمعه يترقب التحويل أو الإعفاء كلما لاحت في الأفق شائعة التغيير. وربما كان التحويل الكثير لمواقع بعض العمال في أوقات قصيرة هو لأجل أنه نجح فيما أوكل إليه من عمل أيما نجاح، وتحتاج الدولة إلى جهده وفكره لنجاح عمل آخر في موقع ثان، لكن الأفضل استمراره في ذلك العمل الذي وُفِّقَ فيه، وذلك كي نضمن بقاء النجاح ودوام الإنجاز. وكم من موقع ذهب عنه العامل الناجح إلى موقع آخر، فانهار البناء، وتقهقر الإنجاز، فيمكن أنْ يختار شخص آخر لذلك الموقع الذي تحتاج فيه لمثل ذلك العامل الناجح، فالأكفاء كُثر، وهم لا يقدمون أنفسهم، والبحث عنهم ممكن، ويحتاج إلى الوقت، كما يتطلب الصبر. ومن أدرانا إن أصررنا على تحويل ذلك الناجح إنه سوف ينجح في الموقع الثاني! فربما لا يوفق، فنكون قد خسرنا في الأولى والآخرة وذلك هو الخسران المبين .
إن أداء العمل والقيام بحق الوظيفة وإتقان الأداء وحسن استغلال الإمكانات المتوفرة واجب مقدس في الشرع، كما أن احترام المواعيد، وعدم إضاعة الوقت، وطلاقة الوجه عند مقابلة الناس، وإنجاز ما يطلبونه بأفضل سبيل وأسرع وقت، كل ذلك مما أمر به الدين، وحثَّ عليه الإسلام، وأوجبه العقد الذي بين العامل وبين من ولاه [الإسراء: 34]. وإذا أدى العامل كل ذلك جعل ما يأخذه من أجر حلالاً، ووجد ثوابه عند ربه يوم القيامة، وربما كوفئ عليه في الدنيا بترفيع درجته، وعلو منزلته مادياً ومعنوياً، وتلك عاجل بشرى المؤمن.
ترقية العمال :(1/26)
يحتاج كل من يتولى وظيفة عليا ويتبوأ منصباً كبيراً إلى بعض العاملين الأكفاء يعاونونه في وضع الخطط وتسيير العمل، ومتابعة سير الأداء، وهو يثبت بعض من كان في تلك الوظائف من قبل، أو يعيِّن فيها أشخاصاً لا علاقة لهم بذلك الموقع من قبل، أو يصعِّد آخرين كانوا في وظائف دنيا، وهو يفعل ذلك بمقتضى مسئوليته، وبحكم وظيفته، لكنه مدرك أن ذلك مؤاخذ به ، محاسب عليه ويسمى هذا التحويل ترقية ، فهي تعني نقل العامل من مركزه الوظيفي الحالي إلى مركز وظيفي أعلى وأكثر صعوبة ومسئولية يتيح له الحصول على مزايا مادية أكبر ووضع أدبي أفضل مما كان عليه قبل الترقية (1) .
وهي مهمة لنجاح العمل وتجويد الأداء، ذلك أن العامل الذي يعين في أول درجات السلم الوظيفي، أو في أدنى مراتبه السفلى، يضع نصب عينيه احتمال صعوده درجات ذلك السلم، ووصوله إلى مراتبه العليا يوما ما، وهذا يؤثر في حياته الوظيفية، لأنها بمثابة الحافز القوي لزيادة الإنتاج وتجويد الأداء (2) .
__________
(1) انظر: عصمت عبد الكريم خليفة: نظام الترقية في الوظيفة العمومية في الجمهورية الجزائرية الديمقراطية الشعبية، جامعة الدول العربية، المنظمة العربية للعلوم الإدارية، الأردن، عمان، 1981م، ص 16.
(2) المرجع السابق نفسه، ص 10.(1/27)
لكن هذا الأمر ينبغي ألا يكون هو الباعث الأساسي الدافع للعمل، بل ينبغي أن يكون القصد الحسن والنية السليمة هي من وراء العمل الجاد المخلص وهذا مثل قوله - صلى الله عليه وسلم - لأصحابه الذين خرجوا للقتال إعلاءً لكلمة الله : (من قتل قتيلاً له عليه بينة فله سلبه (1) ) (2) .
وقد قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذلك لهم قبل القتال ليجتهدوا في قتال المشركين، فكما قصد نيل السلب لا ينافي قصد إعلاء كلمة الله لأنه انضاف إلى الإعلاء ضمناً، فكذلك قصد الترقية لا يضر إذا لم يكن هو الباعث الأساسي للعمل بل جاء تبعاً للنية الصالحة له.
إن الترقية تعد من الخير الذي يبتلي الله به الناس لينظر كيف يعملون
[الأنعام: 165]. كما يمكن بوساطتها إنجاز الكثير من الأعمال، وذلك لأنه يصعب طاعة العمال لبعضهم إذا كانوا في رتبة واحدة، فلا بُدَّ من وجود تفاوت بينهم، فيطيع الأدنى الأعلى [الزخرف: 32].
__________
(1) السلب: ما يأخذه أحد المقاتلين من الآخر مما يكون عليه من سلاح وثياب. انظر: أبو السعادات، مجد الدين، المبارك بن محمد، ابن الأثير الجزري: النهاية في غريب الحديث والأثر، مصدر سابق، 2/387.
(2) أبو عبد الله، محمد بن إسماعيل البخاري: صحيح البخاري (بشرح فتح الباري)، مصدر سابق، كتاب فرض الخمس، باب من لم يخمس الأسلاب، 6/247، حديث رقم 3142.(1/28)
قال الماوردي ناصحاً الملك تجاه رعيته: "أن يستخلص من بعضهم خواص لمشاورته ويشركهم في وزارته يكونون واسطة بينه وبينهم، وأعواناً له على باقيهم، وعيوناً عليهم إن أحدث مُحدثٌ أو كاد كائدٌ، ثم لا يفعل ذلك بمن فعل به منهم إلاّ بعد امتحان وتجربة وابتلاء وظهور نصحية وشفقة وعفة وأمانة ومساهمة ومشاركة وكتمان للسر، ووفاء له ولمن تقدمت صحبتهم له، فعلى هذا جرت السنة، واستمرت العادة في كل نبوة وديانة ومملكة وعمارة احتيج في إقامتها إلى جنود وجيوش، ولا يستقيم شئ منها إلا بعد تدريج وترتيب وتحويل من درجة إلى أقرب الدرج منها، فإن ذلك أشبه بأدب الله، وأدل في الأخذ عنه في مواترته العصم والتوفيق والمثوبة والتأييد والمعرفة بما لا يصلح المرفوع والمريد ويصلح به فقد قال الله تعالى في أول هذه القضية : [الحج: 75]، وقال : [المائدة: 12]، وقال: [الأعراف: 155]، وقال [الأعراف: 144].
واختار النبي - صلى الله عليه وسلم - من صحابته لوزارته ومشاورته جماعة، واختار لبيعة الرضوان نفراً من أصحابه، ولخدمته جماعة، ولقيادة جيشه جماعة، ولرسائله وكتابته عدة، ولاستخلافه على الأعمال جماعة ، واختار للإمامة بعده نفراً .. وقد فضَّل الله مع ذلك بعض ملائكته على بعض، فبالله وملائكته ورسله قدوة حسنة" (1) .
__________
(1) أبو الحسن، علي بن محمد بن حبيب الماوردي: نصيحة الملوك، مصدر سابق، ص 182 إلى ص 183.(1/29)
يسلك بعض العمال المرشحين لوظائف عليا أساليب ملتوية، وطرائق غير شريفة من أجل نيل ذلك المنصب، والصعود لتلك الوظيفة، وكثيراً ما تنطلي تلك الحيل على من بيده أمر الترقية، فيصعد أولئك لأرفع المناصب ويتمتعون بأفضل المخصصات والمزايا، فمن ذلك: تركهم نصح المسؤول الأعلى، وكتمان أخطائه عليه، رغم أن صاحبنا يعلم أن: (الدين النصيحة، لله، ولكتابه، ولرسوله، ولأئمة المسلمين وعامتهم) (1) . ظناً منه أنه لو فعل ذلك لنال غضب المسئول، وربما غيَّر له موقعه، ولم يصعد أبداً ، ومنها نسبة كل عمل ناجح في مؤسسته لشخصه، وإن لم يشارك فيه ولو برأي إظهاراً لمقدرات مفقودة وكفاءة معدومة [آل عمران: 188]. ومنها الاستفادة من كل فرصة تتاح للحديث والخطابة في أي اجتماع داخلي أو احتفال خارجي وذلك حتى يظهر مقدرته ويبين فصاحته، يفعل ذلك ولو لم يكن يفهم موضوع الحفل أو يدرك قضية الاجتماع [الإسراء: 36].
وقد أشار الماوردي إلى بعض وهو ينصح الملك بكيفية التقويم فقال: "ألا يقدم أحداً منهم قفزاً، ولا يرفع منهم وضيعاً، ولا يؤخر أحداً، ولا يضع له قدراً إلا على استحقاق في قديمه، أو بلاء في نفسه، أو كفاية أو غناء لا ميلاً إلى هوى ولا حيفاً على أحد" (2) .
لقد وضع علماء الإدارة أسساً لترقية العمال، ومعايير لتصعيد الموظفين منها :
أولاً : المسابقات :
__________
(1) أبو الحسين، مسلم بن الحجاج القشيري: صحيح مسلم، مصدر سابق، كتاب الإيمان، باب بيان أنَّ الدين النصيحة، 1/74، حديث رقم (55).
(2) أبو الحسن، علي بن محمد بن حبيب الماوردي: نصيحة الملوك، مصدر سابق، ص 176.(1/30)
وتتم عن طريق الاختبارات العامة أو المهنية، وذلك أنه إذا أعلن عن وظيفة عليا شاغرة في جهة مخصوصة تقدم كل من رأي توفر شروط تلك الوظيفة في نفسه، فإن نجح في الامتحان تمت ترقيته ، وإلا فلا. وهو معيار مشروع في الدين موافق لكثير من النصوص مثل قوله تعالى في امتحان اليتيم حتى يعطى ماله [النساء: 6]. ومثل: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما أراد أن يبعث معاذاً إلى اليمن قال : كيف تقضي إذا عرض لك قضاء ؟ قال : اقضي بكتاب الله . قال فإن لم تجد في كتاب الله ؟ قال : فبسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : فإن لم تجد في سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - . قال : اجتهد رأيي ولا آلو ، فضرب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صدره وقال : (الحمد لله الذي وفق رسول رسول الله لما يرضي رسول الله) (1) .
وقد استعمل المحدثون وسيلة الاختبار لمعرفة حفظ المحدث ومن ذلك امتحان أهل بغداد الامام البخاري عند قدومه عليهم إذا قلبوا له مائة حديث، وسألوه عنها امتحاناً لحفظه فردها على ما كانت عليه قبل القلب ولم يخطئ في واحد منها) (2) . فاعترفوا بفضله وتيقنوا غزارة علمه .
ربما يقول قائل : كيف نجوِّز للعامل أن يتقدم لشغل وظيفة عليا عن طريق الترقية، وتلك تزكية للنفس، ويقول الله تعالى : [النجم: 32]. وذلك طلب للولاية والنبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: (إنا لا نولي هذا الأمر من سأله ولا من حرص عليه) (3) .
__________
(1) أبو داود، سليمان بن الأشعث السجستاني: سنن أبي داود، مصدر سابق، كتاب الأقضية، باب اجتهاد الرأي في القضاء، 3/303، حديث رقم 3532.
(2) أبو بكر، أحمد بن علي الخطيب البغدادي: تاريخ بغداد، دار الكتب العلمية، بيروت، لبنان، 2/20.
(3) سبق تخريج هذا الحديث في موضع سابق من هذا البحث.(1/31)
فنقول في الجواب عن ذلك: إن الأصل هو عدم تزكية النفس والإحجام عن طلب الولاية، لكن إن خشي العامل أن تؤول الوظيفة العليا إلى من ليس لها بأهل جاز له أن يقدم نفسه إليها، كما قال يوسف - عليه السلام - لعزيز مصر:
[يوسف: 55].
قال الإمام القرطبي في تفسير هذه الآية : "إن يوسف إنما طلب الولاية، لأنه علم أنه لا أحد يقوم مقامه في العدل والإصلاح وتوصيل الفقراء إلى حقوقهم، فرأى أن ذلك فرض متعيناً عليه، فإنه لم يكن هناك غيره، وكذا الحكم اليوم، لو علم إنسان من نفسه أنه يقوم بالحق في القضاء والحسبة ولم يكن هناك من يصلح ولا يقوم مقامه، تعين ذلك عليه، ووجب أن يتولاها ويسأل ذلك ويخبر بصفاته التي يستحقها به من العلم والكفاية وغير ذلك، كما قال يوسف - عليه السلام - . فأما لو كان هناك من يقوم بها، ويصلح لها، وعلم بذلك، فالأولى ألا يطلب، لقوله - عليه السلام - لعبد الرحمن: (لا تسأل الإمارة) (1) .
ثانياً : الأقدمية :
__________
(1) الحديث سبق تخريجه في موضع سابق من هذا البحث، وانظر: أبو عبد الله، محمد بن أحمد الأنصاري القرطبي: الجامع لأحكام القرآن، نشر مؤسسة مناهل العرفان، بيروت، توزيع مكتبة الغزالي، دمشق، 9/216.(1/32)
وتعني أن العامل الذي بقي مدة أطول من غيره في الوظيفة الدنيا يحق له الترقية للوظيفة العليا (1) . ويشهد لهذا المعيار قوله - صلى الله عليه وسلم - : ( إن أحب الأعمال إلى الله ما دام وإن قل ) (2) . فالذي يستمر في أداء عمل معين مدة طويلة ـ وإن كان يسيراً ـ يجوده ويتقنه أكثر من غيره وكذلك يشهد له قول أبي بكر الصديق - رضي الله عنه - لزيد بن ثابت - رضي الله عنه - لما أمره بكتابة المصحف: "إنك رجل شاب عاقل لا نتهمك، وقد كنت تكتب الوحي لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - فتتبع القرآن فاجمعه" (3) . فسابق خبرته أهَّله لتولي مهمة كتابة المصحف في عهد أبي بكر الصديق - رضي الله عنه - ، وفي عهد عثمان بن عفان - رضي الله عنه - أيضاً .
ثالثاً : تقارير الكفاية :
__________
(1) انظر: عصمت عبد الكريم خليفة: نظام الترقية في الوظيفة العمومية في الجمهورية الجزائرية الديمقراطية الشعبية، مرجع سابق، ص 43.
(2) أبو عبد الله، محمد بن إسماعيل البخاري: صحيح البخاري (بشرح فتح الباري)، مصدر سابق، كتاب اللباس، باب الجلوس على الحصير ونحوه، 10/314، حديث رقم 5861.
(3) المصدر السابق نفسه، كتاب فضائل القرآن، باب جمع القرآن، 9/10، حديث رقم 4986.(1/33)
قد تتم ترقية العامل إلى الوظيفة العليا بناءً على التقارير الدورية التي يكتبها رئيسه المباشر، ففيها تظهر جوانب القوة والضعف في العامل (1) . ويدخل في كفاءة العامل التدين والأمانة والتقوى والعلم وتجويد العمل وعدم الإنفراد بالسلطة بل مشاورة معاونيه، فلقد قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : (ما بعث الله من نبي ولا استخلف من خليفة إلا كانت له بطانتان : بطانة تأمره بالمعروف وتحضه عليه، وبطانة تأمره بالشر وتحضه عليه، فالمعصوم من عصم الله تعالى) (2) .
ولا يعني ذلك الركون إلى رأي المعاونين دوماً، بل لا بد من النظر فيه والأخذ بأحسنه خاصة إذا انفرد بعضهم.
رابعاً : الاختيار على أساس الجدارة :
يمكن أن يرقَّى العامل لرتبة أعلى دون تقيد بالمسابقات أو التفات إلى الأقدمية، أو نظر إلى تقارير الكفاءة، وربما استُونس بذلك ولم يُعتمد عليه اعتماداً كلياً (3) . ويسمي بعضهم هذا الأساس : الاختيار المطلق (4) . وغالباً ما يكون هذا الأساس في الترقية للوظائف العليا في الدولة .
__________
(1) د. القطب محمد القطب طبلية: نظام الإدارة في الإسلام، دار الفكر العربي، القاهرة، الطبعة الثانية، 1985م، ص 126.
(2) أبو عبد الله، محمد بن إسماعيل البخاري: صحيح البخاري (بشرح فتح الباري)، مصدر سابق، كتاب الأحكام، باب بطانة الإمام وأهل مشورته، 13/189، حديث رقم 7198.
(3) د. القطب محمد القطب طبلية: نظام الإدارة في الإسلام، مرجع سابق، ص 126 إلى ص 127.
(4) د. فؤاد عبد المنعم أحمد: مبادئ الإدارة العامة والنظام الإداري في الإسلام مع بيان التطبيق في المملكة العربية السعودية، نشر مؤسسة شباب الجامعة، الإسكندرية، 1411هـ ـ 1991م، ص 65.(1/34)
لعل أفضل الطرق للترقية هو ما كان بناءً على الجدارة مع الأخذ في الاعتبار تقارير الكفاءة والأقدمية والمؤهل العلمي، وأن يكون تعيين العامل في الوظيفة العليا لمدة معينة، اختباراً له ، وامتحاناً لمقدرته حتى إذا أثبت جدارة وأظهر كفاءة ثُبِّت في تلك الوظيفة وإلا فلا. وليس المهم في هذا الشأن أسلوب الترقية ومعيارها، وإنما المهم هو عدالتها واستنادها إلى أسس واضحة ثابتة دون محاباة أو تمييز .
عزل العمال :
يجوز للخليفة أو نائبه أن يعزل العامل من منصبه، وأن يعفه من مهامه وذلك متى ما ارتكب كبيرة أو وقع في أخطاء كثيرة أو حصل منه الظلم لرعيته، أو ظهرت منه الخيانة لهم أو كان عاجزاً مقصراً أو تبين ضعفه، أو ثبتت عدم كفاءته، أو لغير ذلك من الأسباب (1) .
لكن لا يجوز العزل لغير سبب يوجبه، مثل الانتقام للنفس، أو لكثرة نقد العامل ونصحه، أو حباً في تغيير الوجوه أو عدم توافق المزاج فكلها ليست بالأسباب المعتبرة التي تجعل الخليفة يعزل العامل وذلك أنه قد تحققت فيه الأمانة والقوة وغيرهما من الشروط اللازمة في الولاية فلا ينبغي أن يزاح عنها إلا بسبب قوي وحجة مفحمة ، قيل: "إن العزل أحد الطلاقين، كما أنه لا يحسن الطلاق لغير سبب، كذلك لا يحسن العزل لغير سبب" (2) .
__________
(1) انظر أسباب عزل العمَّال: أبو الحسن، علي بن محمد بن حبيب الماوردي: قوانين الوزارة، مصدر سابق، ص 119 وما بعدها، د. فؤاد عبد المنعم أحمد: مبادئ الإدارة العامة والنظام الإداري في الإسلام مع بيان التطبيق في المملكة العربية السعودية، مرجع سابق، ص 80 وما بعدها.
(2) أبو الحسن، علي بن محمد بن حبيب الماوردي: قوانين الوزارة، مصدر سابق، ص 119.(1/35)
وإذا عزم الخليفة على عزل أحد العمال واطمئن إلى ذلك فيجب عليه ألا يتأخر في إنفاذ ذلك القرار حتى يتخير الوقت المناسب مثلاً، أو يهيئ العامل لتقبل قرار العزل أو ليبحث له عن وظيفة أخرى، إلا إذا كان التأخير لمبرر مقبول، فكثيراً ما نجد أن العزل يأتي بعد زمن طويل وعمر مديد ويكون ذلك العامل عنده قد استنفذ غرضه كاملاً من وجوده في ذلك الموقع.
إذا تم عزل العامل لأسباب معتبرة وموجبات مقبولة فإنه ينبغي عدم تحويله لموقع آخر، وإعطائه منصباً ثانياً فلا مكان للترضيات في دولة الشريعة، ولإثبات لشخص في العمل العام دوماً، إذا فشل في مكان أعطى فرصة أخرى في مكان ثان وثالث ورابع، حفظاً لكرامته وإبقاءً لماء وجهه دونما نظر لما يسببه ذلك التحويل من مفاسد في الموقع الجديد، ومراعاة لما يرتكبه من أخطاء متجددة، وملاحظة لما سيقع فيه من مشكلات مستقبلية كان يمكن إلا يحدث كل ذلك إذا أعفى من كل عمل عام، وتفرغ لعمله الخاص وذلك أن التجربة دلت على أنه غير مناسب في العمل العام ، أما إذا لم يتمكن من إيجاد عمل خاص مناسب فإن الدولة الإسلامية توفر له المال الذي يسد حاجته ويكفي نفقة من يعولهم.(1/36)
قال البروفسير أبو سن في هذا الشأن : "من حق العامل المبعد على المجتمع الإسلامي أن يجد له ما يناسبه من عمل، وإلا رُزق من بيت المال ، حتى لا يتعرض للضياع فالمجتمع الإسلامي يرعى ويحمي العامل العاجز، ويكفل عياله في شكل معاشات أو ضمانات اجتماعية، ولئن توصلت الإدارة العامة المعاصرة في الدولة المتقدمة إلى حق الضمان الاجتماعي لأفراد المجتمع في القرن الحالي، فلقد مارست دولة الإسلام هذه المسئولية الاجتماعية منذ عهد الرسول - صلى الله عليه وسلم - فقد روى أنه قال: (من ترك مالاً فلورثته، ومن ترك ضياعاً أو كلاً ـ أي ذرية ضعافاً ـ فليأتني فأنا مولاه) (1) .
الخاتمة :
غَرَّ كثيراً من المسلمين ما رأوا من أدب علماء الغرب وجهودهم في علمي السياسة والإدارة، فظنوا أن ذلك من أنفسهم، لا تأثير لفكر غيرهم فيه ، ولا اقتباس له من آخرين.
ووقع في أذهان أولئك المسلمين أن ليس أحد من بني جلدتهم بمستطيع أن يأتي بمثل ما أتوا به، فضلاً أن يبزهم إلا أن يكون تقليداً واتباعاً، فراحوا يثقون بالغرب ويغالون في الثناء على علم مفكريه في هذا الشأن ويحتجون بكل ما يصدر منهم من رأى خطأ كان أو صواباً، يقلدونهم ويدافعون عنهم ويجعلون قولهم فوق كل قول وكلمتهم عالية على كل كلمة.
__________
(1) أبو عبد الله، محمد بن إسماعيل البخاري: صحيح البخاري (بشرح فتح الباري)، مصدر سابق، كتاب الفرائض، باب ابني عم أحدهما أخ لأم والآخر زوج، 12/27، حديث رقم 6745، بلفظ قريب منه، وأبو الحسين، مسلم بن الحجاج القشيري، صحيح مسلم، مصدر سابق، كتاب الفرائض، باب من ترك مالاً فلورثته، 3/1237، حديث رقم 1619 بنحوه. وانظر: د. أحمد إبراهيم أبو سن: الإدارة في الإسلام، مرجع سابق، ص 46.(1/37)
وربما كان ذلك بسبب تلقي هؤلاء المسلمين دراستهم في الغرب، فتأثروا بهم وتعلموا على أيديهم، وتخرجوا في جامعاتهم ومعاهدهم، وربما كان ذلك بسبب أننا اليوم في ضعف، والضعيف مُغرى أبداً بتقليد القوي وتمجيده، فرأى بعضنا في أعمال الغربيين ما بهر أبصارهم وذهب بألبابهم.
وما درى هؤلاء وأولئك أن كثيراً مما ذكروا قد وجد أصله عند المسلمين قديماً ، أخذوه منَّا، ونقلوه عن علمائنا، ثم أعادوه لنا في ثوب جديد وطعم مختلف.
لكن الحقيقة أنّ [يوسف: 65]، وليس الأمر كما يظن غير المنصفين من الغربيين حيث لسان حالهم يقول: [القصص: 78]، وما أكثر ما خسر العالم بانحطاط المسلمين.(1/38)