أقسام الناس في سورة الواقعة
وهذه سورة الواقعة كلها تتحدث عن الدارة الآخرة قال تعالى: {إِذَا وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ * لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ * خَافِضَةٌ رَافِعَةٌ} [الواقعة:1 - 3] أي: خافضة لأهل الكبر، ورافعة لأهل التواضع، خافضة لأهل الفسق، ورافعة لأهل الإيمان، خافضة لأهل الانحراف، ورافعة لأهل الاستقامة.
ثم بعد ذلك قال: {إِذَا رُجَّتِ الأَرْضُ رَجًّا} [الواقعة:4] ها هي مشاهد يوم القيامة! {إِذَا رُجَّتِ الأَرْضُ رَجًّا} الأرض ترج كما ترج زجاجة الدواء قبل أن تستخدمه، يقول لك: رج الزجاجة رجاً جيداً، هذا هو المعنى، الأرض ترتج بما فيها وما عليها! قال تعالى: {إِذَا زُلْزِلَتِ الأَرْضُ زِلْزَالَهَا} [الزلزلة:1] فهو زلزال حقيقي! قال تعالى: {إِذَا رُجَّتِ الأَرْضُ رَجًّا * وَبُسَّتِ الْجِبَالُ بَسًّا} [الواقعة:4 - 5] البسيس: هو الدقيق مع قليل من الماء أو التراب مع الرمل يسميه العرب بسة، إذاً: هذه الجبال تكون كالتراب الذي وضع عليه كأس من الماء، فكيف يكون الشكل؟! قال تعالى: {فَكَانَتْ هَبَاءً مُنْبَثًّا} [الواقعة:6] (هباء) أي: متناثراً! {وَكُنتُمْ أَزْوَاجًا ثَلاثَةً} [الواقعة:7] قسمنا ربنا في سورة الواقعة إلى ثلاثة أقسام قال تعالى: {فَأَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ} [الواقعة:8] اللهم اجعلنا منهم يا رب! {وَأَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ} [الواقعة:9] والعياذ بالله! {وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ * أُوْلَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ * فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ * ثُلَّةٌ مِنَ الأَوَّلِينَ * وَقَلِيلٌ مِنَ الآخِرِينَ} [الواقعة:10 - 14].
إذاً: الأقسام ثلاثة: أصحاب الميمنة، وأصحاب المشأمة، والسابقون.
سيدنا الحسن البصري رحمه الله ربيب أم سلمة عندما كان يقرأ: {وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ} [الواقعة:10] يقول: يا رب! لقد ذهب السابقون فاجعلنا من أهل اليمين.
أي يقول: إن السابقين قد ذهبوا مع سيدنا رسول الله، ومنهم: أبو بكر وعمر وعثمان وعلي وأبو ذر وخالد وأبو عبيدة وعمار وبلال كل هؤلاء هم السابقون.
وأصحاب الميمنة هم: كل إنسان يذنب فيتوب، ويواظب على توبته، فهو من أصحاب الميمنة يقول صلى الله عليه وسلم: (والذي نفسي بيده لو لم تذنبوا لذهب الله بكم، ولجاء بأناس يخطئون، فيستغفرون فيغفر الله لهم)، فكيف وهو الغفور الرحيم؟! إذاً: لابد أن يخطئ العبد منا، لكن المهم أن خير الخطائين التوابون.
قال تعالى: {فَأَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ * وَأَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ} [الواقعة:8 - 9] وهم أهل النار.(31/12)
ما أعد الله للسابقين من نعيم
قال تعالى: {وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ * أُوْلَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ} [الواقعة:10 - 11] أي: المقربون في الدنيا من الكتاب والسنة، ومقربون في الآخرة من الله ومن رسول الله.
قال تعالى: {فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ * ثُلَّةٌ مِنَ الأَوَّلِينَ} [الواقعة:12 - 13]، أي: مجموعة ضخمة من أوائل الصحابة: {وَقَلِيلٌ مِنَ الآخِرِينَ} [الواقعة:14]، يعني: في آخر الأمة.
أول أهل الجنة دخولاً بعد رسول الله هم أمة الحبيب المصطفى، فنحن آخر الأمم وأول الأمم دخولاً إلى الجنة، حتى يقول رضوان: والله ما أمرت أن أفتح لأحد إلا لأتباع محمد، ثم لمن بعدهم، اللهم اجعلنا من أتباع محمد يا رب! قال تعالى: {ثُلَّةٌ مِنَ الأَوَّلِينَ * وَقَلِيلٌ مِنَ الآخِرِينَ * عَلَى سُرُرٍ مَوْضُونَةٍ} [الواقعة:13 - 15] أي: مدثرة بحرير مغلف بماء الذهب! قال تعالى: {مُتَّكِئِينَ عَلَيْهَا مُتَقَابِلِينَ} [الواقعة:16] يا أخي! هذا التقابل نعمة من النعم، لابد أن أرى وجهك وأنت تتكلم، كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا تحدث للصحابة أعطاهم وجهه، وأعطى كل واحد وجهه، حتى يظن كل جالس أن الرسول لا يهتم إلا به، انظر إلى أدب الحديث! وكأن الذي هو جالس يقول في نفسه: كأن الرسول ليس مهتماً بأحد غيري.
قال تعالى: {مُتَّكِئِينَ عَلَيْهَا مُتَقَابِلِينَ * يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ} [الواقعة:16 - 17] الذين هم أولاد المسلمين الذين ماتوا صغاراً، وصبر عليهم آباؤهم، هؤلاء هم خدم أهل الجنة، مخلدون لا يموتون أبداً.
قال تعالى: {بِأَكْوَابٍ وَأَبَارِيقَ} [الواقعة:18] قلنا: إن الكوب الذي ليس له ممسك في الوسط، والإبريق: الشيء الذي له أذن وخرطوم يخرج منه الماء وغيره.
قال تعالى: {يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ * بِأَكْوَابٍ وَأَبَارِيقَ وَكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ} [الواقعة:17 - 18] العرب لا تقول كلمة (كأس) إلا عند أن تكون مليئة بالخمر، ولكن خمر الآخرة غير خمر الدنيا، لا يحصل له في رأسه صداع أو سكر، ولا يحصل له أن رأسه يهتز، فخمر الجنة تشربه من كأس فقط؛ ولذلك الذي يشرب الخمر في الدنيا لن يشرب الخمر في الآخرة، بل بالعكس، من أدمن الخمر في الدنيا ولم يتب قال: (سقي من طينة الخبال يوم القيامة في النار، قالوا: وما طينة الخبال يا رسول الله؟ قال: عصارة أهل جهنم وحيضهم وصديدهم).
قال تعالى: {وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ} [الواقعة:21] يا رسول الله! كيف يكون شكل هذه الطيور؟ قال: طيور لها أعناق كأعناق البخت، واقفة أمام العبد وشكلها جميل، ويخطر ببال العبد أنه يريد طيراً جميلاً مشوياً؛ فينزل الطير مباشرة في الطبق مشوياً، تقول: لو أنه كان محشياً؛ فينزل محشياً مثلما تريد، كل هذا سوف تلقاه، إذاً بالله عليك اصبر على طاعة الله، وواظب على دروس العلم.
نسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعلنا وإياكم من أهل الجنة.
اللهم اجعل الجنة مآلنا اللهم اجعل الجنة مآلنا اللهم اجعل الجنة مآلنا اللهم أدخلنا الجنة بدون سابقة عذاب اللهم أدخلنا الجنة بدون سابقة عذاب اللهم أدخلنا الجنة بدون سابقة عذاب.
اللهم اختم لنا منك بخاتمة السعادة أجمعين اللهم ارزقنا قبل الموت توبة وهداية، ولحظة الموت روحاً وراحة، وبعد الموت إكراماً ومغفرة ونعيماً.
أكرمنا يا رب ولا تهنا أعطنا ولا تحرمنا زدنا ولا تنقصنا كن لنا ولا تكن علينا آثرنا ولا تؤثر علينا انصرنا ولا تنصر علينا.
اللهم اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين.
اللهم انصر الإسلام وأعز المسلمين اجعلنا من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه.
اللهم اجعل قبورنا روضة من رياض الجنة، ولا تجعلها حفرة من حفر النار، اللهم أظلنا بظل عرشك يوم لا ظل إلا ظلك، اللهم ثبت أقدامنا على الصراط يوم تزل الأقدام واسقنا من حوض الكوثر شربة لا نظمأ بعدها أبداً، وزحزحنا عن النار وما قرب إليها من قول أو عمل وقربنا من الجنة وما قرب إليها من قول أو عمل واختم لنا منك بخاتمة السعادة أجمعين.
وصل اللهم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم يا رب تسليماً كثيراً.(31/13)
الأسئلة(31/14)
كيفية توبة من ارتكب الذنوب والمعاصي
السؤال
شخص ارتكب كثيراً من الفواحش ويريد أن يتوب الله عليه؟
الجواب
الله عز وجل يغفر كل الذنوب إلا الشرك به سبحانه وتعالى، طالما أيقنت أنك قد أخطأت في حق الله، وتجرأت على الله سبحانه وتعالى في حدوده، وتبت وندمت، وأكثرت من الحسنات، فإن الله عز وجل يقبل التوبة.(31/15)
شؤم معصية العاق لوالديه
السؤال
أرجو النصيحة لإخوة زوجي، حيث يسبون أمهم ويضربونها وقد نصحتهم في ذلك ولم يمتنعوا؟
الجواب
أولاً: من نظر إلى أبيه أو إلى أمه نظرة فيها كبر أو سخرية أو استهزاء، أمسكت الملائكة عرش الرحمة خشية أن يسقط من غضب الجبار سبحانه، واحذر أن تزوج ابنتك من عاق والديه، اسأل عن خطيب ابنتك فإذا عرفت أنه عاق لوالديه فلا تزوجه ابنتك؛ لأن هذا إنسان لن يبارك الله له في حياته، فبالتالي لن يبارك لابنتك، فنسأل الله الهداية لكل من لا يتقي الله عز وجل.(31/16)
حكم من أقسم على زوجته بالطلاق ثلاث مرات
السؤال
رجل أقسم على ابنته الراسبة دراسياً بالطلاق ألا تذهب إلى المدرسة مرة أخرى، ولكن عند بداية العام الدراسي تركها تذهب، ثم تكرر ذلك في العام الذي يليه، وأقسم مرة أخرى، ثم تركها تذهب، وبعد ذلك تقدم لها شخص يريد زواجها، فحدثت بعض المشاكل فأقسم بالطلاق ألا تتزوجه، والآن يريد هذا الشخص أن يرجع مرة أخرى ويلح في السؤال، هل تكون الزوجة طالقاً؟
الجواب
الزوجة طالق، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (ثلاث جدهن جدن وهزلهن جد) يعني: لم تجد في قسمك إلا الحلف بالطلاق، فمن أقسم بالطلاق فزوجته طالق، ويحرم أن تعيش معه، ولا يصح أن تعيش معه، ولا ينفع المحلل، قال صلى الله عليه وسلم: (لعن الله المحلل والمحلل له).(31/17)
حكم من ساعد امرأة على الإجهاض من الزنا
السؤال
ساعدت بنتاً من الجيران في الإجهاض من الزنا بالمال، هل أنا مشترك معها؟
الجواب
الدال على الخير كفاعله، والدال على الشر كفاعله، عند أن تأتي لك مشكلة مثل هذه فلا تتعاون معهم، قل لا أعرف؛ لأنه احتمال أن تكون قد سترت شيئاً الله عز وجل لم يكن يريد ستره، لا تعرض نفسك لهذا الموقف، إن الإخوة الأطباء والأخوات الطبيبات يأتون فيسألوننا، يقولون: امرأة أتت بابنتها وتقول: يا دكتور! استر علي ربنا يستر عليك بنتي وهكذا سبحان الله، فالحقيقة نقول لهم: كأنك ما رأيت، لماذا تريد أن تضع نفسك في هذه المشكلة؟!(31/18)
حكم إهداء هدية لشخص مقابل توفير فرصة عمل
السؤال
أنا لا أعمل وأمامي فرصة عمل بشرط أن أعطي للرجل الذي سيوفر لي فرصة العمل هدية قيمة، فهل تعتبر رشوة؟
الجواب
هذه رشوة، فهي رشوة من وقت ما تعامل في هذا العمل حتى تبدأ العمل، وما أقيم على الباطل فهو باطل، وما أقيم على الحرام فهو حرام، رزقنا الله وإياكم من الحلال.
وجزاكم الله خيراً.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.(31/19)
سلسلة الدار الآخرة_الجنة وآخر منازلها
الحديث عن الدار الآخرة -وخصوصاً عن الجنة- حديث ذو شجون، فإن الجنة هي الغاية الأسمى والأمنية العليا والمبتغى الأرفع لكل مسلم موحد، فيها ما لم تره عين، وما لم تسمعه أذن، وما لم يخطر ببال رجل من قبل، فيا فوز كل من وفقه الله لدخولها، وجعله من السائرين على الطريق الموصل إليها، ويا ندامة من مشى في طريق غير طريقها.(32/1)
أهمية الحديث عن الجنة والآخرة
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله ولي الصالحين، وأشهد أن سيدنا وحبيبنا محمداً رسول الله، اللهم صل وسلم وبارك عليه صلاة وسلاماً دائمين متلازمين إلى يوم الدين.
أما بعد فهذه بمشيئة الله عز وجل هي الحلقة الثانية والثلاثون في سلسلة حديثنا عن الدار الآخرة أو عن الموت وما بعده، وهي الحلقة الحادية عشرة في الحديث عن الجنة.
اللهم! اجعل الجنة مآلنا، ومصيرنا، ومكاننا يا رب العالمين، بدون سابقة عذاب.
اللهم اجعل خير أعمالنا خواتيمها، وخير أيامنا يوم أن نلقاك، واجعل اللهم جمعنا هذا جمعاً مرحوماً، وتفرقنا من بعده تفرقاً معصوماً، ولا تجعل بيننا شقياً ولا محروماً.
اللهم تب على كل عاصٍ واهد كل ضال، واشف كل مريض، واشرح صدر كل ذي صدر ضيق، وارحم أمواتنا، وأموات المسلمين.
اللهم انصر الإسلام وأعز المسلمين، اللهم من أراد بمسلم كيداً فاجعل كيده في نحره، وأوقع الكافرين بالكافرين، وأوقع الظالمين في الظالمين، وأخرجنا من بينهم سالمين.
اللهم إن أردت بعبادك فتنة فاقبضنا إليك معافين غير فاتنين ولا مفتونين، وغير خزايا ولا ندامى ولا مبدلين.
اجعل هذه الجلسات خالصة لوجهك الكريم، ثقل بها موازيننا يوم القيامة.
اللهم أظلنا في ظل عرشك يوم لا ظل إلا ظلك، اللهم أبعدنا عن النار وما قرب إليها من قول أو عمل، وثبت أقدامنا على الصراط يوم تزل الأقدام، واسقنا من حوض الكوثر شربة لا نظمأ بعدها أبداً.
اللهم متعنا بالنظر إلى وجهك الكريم، واختم لنا منك بخاتمة السعادة أجمعين.
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
إن الحديث عن الجنة يشرح الصدور الضيقة، وصدورنا تضيق بالدنيا وما فيها ومن فيها، ومن لم يحزن على نفسه فليحزن على دين الله عز وجل الذي يُستهزأ به عند الكبير وعند الصغير.
فالمسلم يغار على دين الله، والمؤمن القوي هو الذي يغار عندما يرى حرمة من حرمات الله تنتهك، ويحدث في قلبه ثورة، وما عليه عند ذلك إلا أن يحسن المعاملة بينه وبين ربه، وأن يدعو الله مخلصاً له الدين، {أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ} [الزمر:3]، بقلب تقي نقي، من الشيطان بريء، ولله ولي، نسأل الله أن ينصر الإسلام وأن يعز المسلمين، وأن يجعلنا وإياكم من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه.
قلنا من قبل ونكرر كلام الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم: (عجبت للجنة كيف نام طالبها، وعجبت للنار كيف نام هاربها)، فمن يريد الجنة قد نام، ومن يهرب من النار قد نام، مع أن الإنسان لو طلب شيئاً لحث في سبيل الوصول إلى هذا الشيء، ولو خاف من شيء لرفع المحاذير أمامه كي لا يقع ولا يتورط في هذا الشيء، على سبيل المثال: لكي تصل بابنك إلى بر السلامة لغرض المؤهل فإنك تتعب من أجله، وتقوم بتدريسه دروساً خصوصية، وتأتي له بمدرسين جيدين، وتختار له المدرسة الجيدة، وتظل تواصل الليل بالنهار حتى يكبر الابن ويتخرج ويصبح في يده عمل يستطيع أن يأكل منه لقمة العيش، وفي المقابل تحمي نفسك، وابنك، وزوجتك عن كل سوء قد يقع فيه، فهناك محاذير تضعها نصب عينيك لكي لا تقع في المحظور، فهل يا ترى في مسألة الجنة والنار نصنع هذا؟ هل المسلم يصنع ما يرضي الله عنه حتى يدخل الجنة، ويبعد عن كل ما يغضب الله حتى يبتعد أيضاً عن النار؛ لأننا قلنا: إن الله عز وجل لن يدخل أحداً الجنة بعمله ولكن دخول الجنة برحمة الله عز وجل، فكلنا تحت عنوان: {لَئِنْ لَمْ يَرْحَمْنَا رَبُّنَا وَيَغْفِرْ لَنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [الأعراف:149].(32/2)
الحث على إطابة المطعم
فالمسألة كلها مسألة رحمة؛ لأن ربنا لو يحاسبنا على الذنوب التي نعملها فنحن لسنا بجيدين حقيقة، سواء الكبير منا أو الصغير أو الرجال أو النساء أو المدعي الإيمان أو غيره، كلنا أعمالنا عندما تزنها بميزان الشرع تجد أن معظم الوقت الذي سيحاسبنا ربنا عليه ضائع فيما لا يرضي الله عز وجل، فأغلب الناس وقته ضائع في لقمة العيش، ولقمة العيش أكثر ما تحصل في زماننا تحصل بالشبهات، نسأل الله السلامة لنا ولكم وللمسلمين، فإن لقمة العيش تحصل بوسائل غريبة.
والناس صارت لا تستحي من الله فلو كان عنده حياء من الله لم يكن ليأخذ منك خمسة جنيهات كي يمشي لك المصلحة، وما كان لأصحاب المهن الذي يأتي ليصلح لك الآلة ألّا يقوم بإصلاحها بشكل تام لكي تستدعيه مرة ثانية، وهذا كله مال حرام، والأموال الحرام لا تُصرف إلا في الحرام، فإنه لا يوجد مال يؤخذ بالحرام فيُصرف بالحلال.
وإن أنفقها في حلال كانت زاده إلى النار يوم القيامة، فقليل من يحصل اليوم على مال ويتحرى مصدره، وعلى سبيل المثال: استخدام تلفون المصلحة من قبل الموظفين فيتصل للبيت ولخالته ولعمته، ولو كان التلفون فيه اشتراك دولي وإلا اشتراك محلي فإنه يتصل بعمته في أسيوط، وبخالته في الإسكندرية، وبأخيه الذي في الكويت، وابن أخته التي في أمريكا وكل هذا على حساب المصلحة، وفي يوم القيامة يقال: من أخذ من حق أخيه دانقاً -والدانق جزء من الدرهم كالفلس أو المليم- أي أنك لا تستطيع أن تشتري به شيئاً.
من أخذ من أخيه دانقاً بغير وجه حق لكن هذا الدانق لا يُعلم كم من الحسنات سيأخذ، فهل تكون بمقدار الحسنات الناتجة عن قول: سبحان الله، أم أنه يساوي سبعمائة صلاة مكتوبة مقبولة، فلا يتهاون الإنسان في حقوق العباد، قال عليه الصلاة والسلام في الحديث القدسي: إن الله يقول يوم القيامة: (يا عبادي! ما بيني وبينكم قد غفرته لكم فتغافروا)، وفي رواية الإمام الترمذي قال: (فتصالحوا).
وإن الإنسان لن يرفض حسنة تأتيه يوم القيامة، وخصوصاً إذا كان ذاهباً إلى النار والعياذ بالله، فإذا كان يذهب إلى النار وقيل له: إن فلاناً من الناس عليه لك مئات أو ملايين من الحسنات فإنه سيأخذ ذلك.
فإن الإنسان يوم القيامة يهرب من ابنه ومن زوجته ومن صديقه ومن جاره ومن أبيه ومن أمه، وتقول الأم مذكرة ابنها: يا بني! كانت بطني لك وعاء، وصدري لك سقاء، وحجري لك وطاء، هل من حسنة عندك تنفعني في مثل هذا اليوم؟ فيقول: يا أماه! أنا لا أنكر شيئاً من ذلك، ولكني أشكو مما تشكين منه، أوَ ليس عندك أنت من حسنة؟ فالأمومة في مثل هذا الموقف والبنوة انتهت، والأب يقول للابن: أعطني، فيقول الابن: أعطني أنت يا أبي! أتذكر كم كنت شفيقاً عليك، وباراً بك، وقد خدمتك لغاية ما مت، فيقول له: يا بني! أنا لم أنسَ ولكني أشكو مما تشكو أنت منه، أليس عندك أنت من حسنة؟ يوم يقول فيه عيسى: يا رب! لا أسألك عن مريم بنت عمران وإنما نفسي نفسي، سيدنا إبراهيم الخليل، وسيدنا موسى الكليم وهم من أولي العزم وسيدنا موسى آخذ بإحدى قوائم العرش، ودعوة الأنبياء جميعاً والملائكة في ذلك اليوم: يا رب سلم! يا ربِ سلم.(32/3)
أهمية وضع اليوم الآخر وأهواله نصب العينين
وأقسم بالله! لو أن كل مسلم في مصر وفي غير مصر حاكماً كان أو محكوماً وضع هذا الأمر -وهو اليوم الآخر- نصب عينيه لصلح حال المسلمين؛ لأن الإنسان عندما يضع في ذهنه أن المظالم يوم القيامة لن يدافع أحد عن أحد فيها فلن يأكل أحد حق أحد.
فـ أبو بكر لم تحتمل بطنه -التي لا تتعود إلا على الحلال- جرعة لبن شك في مصدرها، فبعد ما شرب قال له خادمه: يا خليفة رسول الله! ألا تسألني من أين أتيت به؟ فسأله عن ذلك فقال: تكهنت لقوم في الجاهلية، أي: كنت أعمل كعراف يقرأ الحظ أو كعبقري الفلك أو شيئاً من هذا القبيل فلما مررت عليهم وكان عندهم عرس أعطوني قليلاً من اللبن، فوضع أبو بكر أصبعه في فمه فتقيأ ما شرب ثم نظر إلى السماء وقال: اللهم إني أعتذر إليك مما علق باللحم والعروق.
فكيف الحال بمن يأخذ مال أخته، أو يغتصب أرض أخيه، فيجب أن يُسمع مثل هذا الكلام بأذن القلب لا بأذن الرأس، ويجب أن ينفتح القلب لمثل هذا الكلام.
والله! لو أدرك المسلمون مسألة هول المطلع يوم القيامة لصلح حالهم كما قال سلمان الفارسي رضي الله عنه: ثلاث أحزنتني حتى أبكتني: فراق الأحبة محمد عليه الصلاة والسلام وحزبه، وهول المطلع، والوقوف بين يدي الله عز وجل.
ويروى أن عمر بن الخطاب أمير المؤمنين رضي الله عنه عندما يرى امرأته قد أشعلت النار يقرب إصبعه من النار ويقول: يا ابن الخطاب! ألك صبر على مثل هذا؟ ويبكي حتى تظن زوجته أنه لن يسكت.
والإنسان الذي يدمن شرب الدخان قد يشعر بالحرارة على أصبعه أفلا يتذكر مثل هذا الشخص دخان النار يوم القيامة؟! فالنار أمام فيه ولو نسي نفسه بالكلام ستحرق السيجارة يديه، فهو بذلك يحرق جسمه ويحرق فلوسه ويحرق صحته ويحرق نعمة الله عز وجل، ويدعي أن الشيخ يقول: إنها مكروهة، وهذا خطأ فادح فهي حرام؛ لأن أصل التدخين يلوث الأخلاق ويلوث هواء البيئة الخلقي، فضلاً عن تلويث الهواء النقي على الآخرين، وبعضهم يقول: إن التدخين حرام لكن الشيشة ليست حراماً؛ لأن الشيخ الفلاني أفتى بذلك، فيقتطع ما أعجبه من الفتوى.
ومن الغريب أن نجد في أوساط المسلمين أعداداً كثيرة ممن يدعون الفقه ويتصدرون الفتوى وهم لا يجيدون ولا يتقنون ما يتكلمون فيه، فإن الإنسان -لا قدر الله- إذا أراد أن يؤلف قطعة موسيقى فإنه لا يستطيع إلا إذا أتقن فن الموسيقى، وكذلك في اللعب وفي غيرها.
فالعبد لو وضع الآخرة نصب عينيه لما ظلم الظالم ولما ارتشى المرتشي، ولما اختلس المختلس، ولما كذب الكذاب، فالكذاب يكذب لأنه ظن أن ربنا ما سمعه، والعبد يعصي لأنه يظن أن الله لا يراه، وهذا بسبب انعدام المراقبة التي كانت موجودة في قلوب الصحابة ومنهم أبو بكر الذي سئل: كيف خوفك من الله؟ قال: ما خطوت خطوة إلا ورأيت الله أمامي، وكان رضي الله عنه لا يتحلل من ثيابه بمفرده في الحجرة، فسئل: لماذا تفعل هذا يا خليفة رسول الله؟! قال: أستحي إن ربي معي.
وبهذا تحقق معنى الإحسان الذي هو: (أن تعبد الله كأنك تراك فإن لم تكن تراه فإنه يراك)، والمصيبة أن يحفظ الإنسان هذا الكلام دون العمل به.
وقد يهتم الناس بالمظاهر فلا يراقبون الله، ومثال ذلك: إذا جاء ولد صغير مع أبيه فإن الناس يمدحون الولد ويمسحون رأسه، بينما لو جاء ولد فدخل الصف الأول ووالده لم يكن معه فإنه سيُنهر ويُزجر.
وكذلك قد يأتي صاحب سيارة أجرة يريد البنزين فيصادف أن يكون العامل مشغولاً، فلا يُجيب صاحب السيارة، وإن أتى صاحب سيارة فخمة فإن العامل سينتفض من عمله ويرحب فيه، وهذا بسبب التلوث الأخلاقي الذي أصابنا، فنحن لا نعاني من تلوث في الهواء فإن هذا قد حمانا الله من عواقبه بأن منحنا مناعات قوية، لكننا نعاني من تلوث خلقي نسأل الله أن يعافينا.
رأيت الناس قد مالوا إلى من عنده مال ومن لا عنده مال فعنه الناس قد مالوا رأيت الناس منفضة إلى من عنده فضة ومن لا عنده فضة فعنه الناس منفضة رأيت الناس قد ذهبوا إلى من عنده ذهب ومن لا عنده ذهب فعنه الناس قد ذهبوا يجب أن نضع الدار الآخرة نصب أعيننا، ونضع مسألة مظالم العباد نصب أعيننا، ويجب على الإنسان أن يذكر نفسه بهول المطلع والوقوف بين يدي الله بين الآونة والأخرى، ويوم ينادي المنادي: تعال هذا فلان ابن فلان من كان له عنده مظلمة فليأتِ يأخذها منه، سواءًَ كانت هذه المظلمة غيبة أو نميمة أو غيرها، فيأخذ هذا من حسناته وهذا من حسناته فإذا انتهت حسناته يؤخذ من سيئات المظلومين وتوضع على سيئات الظالم، وهذا هو المفلس الذي أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم عنه، ثم يطرح على وجهه في النار والعياذ بالله رب العالمين.
فلهذا يجب أن ينتبه الإنسان فقد يتقبل الله منه في الدنيا عملاً عمله كالصلاة مثلاً فهو يصليها بإتقان وبخشوع وفي جماعة ويحاول ألا يسهو ويبكي فيتقبلها الله، وتكتب في ميزان حسناته، فيأتي شخص يأخذ أجرها بسبب أنه ظلمه، فإن المظلوم يبحث عن الحسنة الخالصة للظالم، وعندما يأخذ حسناتك المظلومون فإنك تصبح مفلساً، فالمسألة تريد مراجعة، فليس المقصود من هذه الحلقات مجرد الاستماع فقط وإنما العمل مطلوب.
نسأل الله أن يكون هذا العلم لنا لا علينا.(32/4)
أقسام الناس يوم القيامة حسب تقسيم سورة الواقعة(32/5)
السابقون الأولون
كنا قد توقفنا في الحديث عن الجنة في سورة الواقعة عند كلام الله عز وجل عن السابقين وعن المقربين، وقد قسمت السورة الناس يوم القيامة إلى ثلاثة أقسام، وقلنا: إن السابقين كصحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا يسيرون على الأرض ولكن قلوبهم معلقة بالله وبالدار الآخرة، فهم مثلنا يأكلون ويشربون ويبتسمون لكن قلوبهم مع الله، ثم جاء من بعدهم جيل وهو جيل التابعين وتابعي التابعين، اللهم احشرنا في زمرة الصالحين يا رب العالمين! وبسبب التباعد عن عصر النبوة تغيرت بعض الأمور، فقد قال سيدنا علي رضي الله عنه في سنة ستة وثلاثين هجرية: كان الرجل يأتي -أي في أيام سيدنا رسول الله- فيدخل إلى السوق فيقول: من أعامل؟ فيقال له: عامل من شئت.
وهذا يدل على أن كل التجار في السوق يتصفون بالأمانة! ثم جاء زمن فيسأل الرجل: من أعامل؟ فيقال: عامل من شئت إلا فلاناً وفلاناً! والبعض قد يقول لك: هذه غيبة، وهذا خطأ ففرق بين الغيبة والنصيحة فعندما أراك تمشي مع واحد ليس بجيد فليس لي أن أسكت، بل من الواجب أن أنصحك، (الدين النصيحة)، فإذاً: هذه ليست غيبة.
فالسوق كله فيه مئات التجار الصالحين ولكن فيهم من هو ليس كذلك، ثم جاء زمن فيسأل الرجل: من أعامل؟ فيقال له: لا تعامل أحداً إلا فلاناً أو فلاناً! فصار معظم تجار السوق من السيئين، هذا سيدنا علي في سنة ستة وثلاثين هجرية فكيف لو جاء سنة 1412هـ فماذا سيقول؟! وأبو حنيفة رضي الله عليه كان أكبر تاجر حرير في أرض العراق، عندما باع ابن أخيه ثوباً بأكثر من ثمنه، فرجع أبو حنيفة من الصلاة فلقي الرجل معه الثوب الذي اشتراه من ابن أخيه فقال له: من أين هذا؟ قال له: أتيت به من متجر أبي حنيفة -وما يعرف أن الذي يملكه هو أبو حنيفة - قال له: بكم هذا؟ قال له: بأربعمائة، فقال أبو حنيفة: هذا غالٍ فهو لا يساوي إلا مائتين؛ قال هذا لأنه عارف بضاعته، قال: في بلدتنا يساوي ستمائة، فهو الرابح.
فالبعض يقول: ما هي المشلكة، فإنه يذهب في الليل إلى البقال المسكين الذي يشكو نظره ويعطيه جنيهاً شبه ممزق، ويبقى الجنيه السليم في جيبه، وهذا قد آثر نفسه وترك الشر لأخيه، ولن يكمل إيمان أحدنا حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه.
فذهب أبو حنيفة وقال لابن أخيه: الثوب هذا لا يساوي إلا مائتين، فكيف تبيعه بأربعمائة، فقال: يا عم هو راضٍ وأنا راضٍ، قال: إذا كان هو قد رضي فإن الله لم يرضَ.
ولهذا قال سيدنا الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم -والكلام هذا لإخواننا التجار-: (الجالب مرزوق، والمحتكر ملعون) والجالب هو الذي يجلب السلعة لكي يبعيها بالحلال فإن ربنا يوسع عليه، والمحتكر هو الذي يسمع خبر الغلاء فيخبئ السلع، سواء كانت دواء أو غيره، فإذا جاء المريض إلى صاحب الصيدلية فإنه يكذب بأن الدواء غير موجود بل وقد يحلف، ولكن عندما يقول له: أنا من طرف فلان من الناس ويخرج البطاقة فإنه يقول: كانت آخر واحدة وسأعطيها لك.
فالمحتكر ملعون ومحتكر السلعة كإبليس مطرود من رحمة الله.
ولذلك نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن التناجش فقال: (لا تناجشوا، ولا يبع بعضكم على بيع بعض)، والتناجش هو أن يأتي البائع بمن يزيد له في السلعة وهو لا يريد الشراء بغرض أن يزيد في سعر السلعة على المشتري.
فالسابقون وهم جيل صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا رهبان الليل، فرسان النهار رضي الله عنهم، والواحد منهم تكون الآخرة أمامه دائماً ولا تغيب عنه أبداً.
سيدنا أبو بكر في يوم أن مات نادى عائشة، فقالت: نعم يا أبتي! قال لها: خذي إلى بيت المال الأشياء التي كنت أملكها، فوجدوا عنده زيراً يضع فيه ماء، ورحى يُطحن فيها، وسجادة قديمة من الصوف كان يفرش نصفها ويتغطى هو وزوجته بنصفها، فقال: يا عائشة! عندما أموت قومي بإرجاع هذا لبيت المال لكي أعود إلى الله كما خرجت إلى الدنيا.
وعمر رضي الله عنه يقول وهو ينازع سكرات الموت: وددت أن كنت قد عشت كفافاً لا عليَّ ولا لي ولا ألي أمر المسلمين يوماً واحداً، وكان يمسك تبنة ويقول: ليتني كنت تبنة، ليت أم عمر لم تلد عمر، يا ليتني كنت نسياً منسياً.
وكان سيدنا عثمان رضي الله عنه في حجرته في الدور العلوي وكان يقرأ من أواخر سورة التوبة فدخلوا عليه وهو يقرأ: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ * فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ} [التوبة:128 - 129]، فقتلوه وسالت دماؤه الزكية على المصحف، وذهب إلى الله عز وجل شهيداً.
ثم جاء علي كرم الله وجهه في ليلة السابع عشر من رمضان وهو ذاهب يصلي الفجر فطعنه ابن ملجم.
وغيرهم أمثال: عمار بن ياسر وبلال وأبو ذر وعبد الرحمن بن عوف فهؤلاء طبقة السابقين.(32/6)
أصحاب اليمين
القسم الثاني: هم أهل اليمين وهؤلاء أناس كانت الدار الآخرة أمامهم وهم لا يرتكبون ما حرم الله ولكن الدنيا قد تشغلهم قليلاً، ولكنهم أوابون إلى الله عز وجل في كل وقت فقد يعمل أحدهم خطأ ثم يتوب، لكن الغلطات درجات فـ أبو ذر نسي مرة فوضع رجله اليسرى في نعله قبل الرجل اليمين فتصدق بدينار، قال: خالفت سنة رسول الله.
وسهل بن عبد الله رضي الله عنه قعد مع جماعة أتوا ببطيخ فقالوا له: كل يا سهل، فامتنع عن الأكل، فسئل إذا ما كان البطيخ فيه شيء فقال: لا أدري كيف كان يأكله رسول الله، أي: لا أعرف الطريقة التي كان يأكل بها.
وكان أنس لا يأكل هو وأمه من إناء واحد، فذهبت تشتكيه إلى رسول الله، فسأله رسول الله عن ذلك فقال: يا رسول الله! أخاف أن تمتد يدي إلى جزء في الصحفة قد وقعت عليه عين أمي فأكون عاقاً لها.
يقول أبو حنيفة: رأينا هذا صواب يحتمل الخطأ، ورأي غيرنا خطأ يحتمل الصواب، فمن رأى غير ما رأينا فله ما رأى ولنا ما رأينا.
ويقول: مذهبي هو الحديث الصحيح، فإن رأيت مذهبي يخالف الحديث الصحيح فقل بالحديث الصحيح ودع مذهبي.
وكان الإمام الشافعي يقول: ما حاججت أحداً إلا ودعوت الله عز وجل أن يجعل الحجة على لسانه.
يقول الله عز وجل: {وَأَصْحَابُ الْيَمِينِ مَا أَصْحَابُ الْيَمِينِ * فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ} [الواقعة:27 - 28]، والسدر نوع من الشجر الخالي من الشوك وليس كسدر الدنيا.
ونحن قلنا: إن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ليس في أخراكم من دنياكم إلا الأسماء)، يعني: مجرد مسميات وسأضرب لك مثالاً أوضح: عندما يصعد رواد الفضاء إلى الفضاء فإنهم يريدون تغذية وتغذيتهم ليست كأهل الأرض وإنما يعطونهم مادة فيها بروتين، وكربوهيدرات، وفيتامينات مختلفة، وهذه تغني عن الطعام، فإذا كنا في الدنيا قد عرفنا أشياء بالشكل هذا، فما بالك بما يصنعه الملك سبحانه لأهل الجنة، يقول تعالى عن ثمار أهل الجنة: {وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا} [البقرة:25]، ويقال: كل يا ولي الرحمن! إن اللون واحد ولكن الطعم مختلف.
في الجنة ما لا أذن سمعت ولا عين رأت ولا خطر على قلب بشر.
و (المنضود) معناه أنه خالٍ من الشوك، فهو أصلاً فيه شوك في الدنيا، لكنه في الجنة منزوع شوكه، لأنه لا يوجد أي نوع من الألم في الجنة.
حتى امرأتك في الجنة لن تسمع منها إلا كل كلام سوي طيب.
{وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ} [الواقعة:29]، الطلح هو الموز المنتظم في شكله، حلو لا تراب فيه ولا أي شيء من شوائب موز الدنيا.
{وَظِلٍّ مَمْدُودٍ} [الواقعة:30]، وقد يقول قائل: من أين يأتي الله به.
وربنا يوم القيامة يبدل الأرض غير الأرض والسماوات، والشمس تترك مدارها الدنيوي ولكن الظل في الجنة نوع من النعيم في الجنة يعني: ربنا جعل من آياته في الدنيا الظل، وجعل الشمس عليه دليلاً، فيبدأ الظل يكبر ثم يصغر منذ طلوع الشمس إلى غروبها {لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ} [يونس:5]، {لا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} [يس:40]، لكن ظل الجنة نعيم من نعيمها.
{وَمَاءٍ مَسْكُوبٍ} [الواقعة:31]، سبحان الذي سكبه وسبحان من حده، هو مسكوب يجري في مجرى لا يعكر صفو طعمه، قال الله عنه في سورة محمد: {أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ} [محمد:15].
{وَفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ} [الواقعة:32]، وربنا عندما يقول: كثيرة فلا يمكن للإنسان أن يتصور كميتها {لا مَقْطُوعَةٍ وَلا مَمْنُوعَةٍ} [الواقعة:33]، أي: أن الفاكهة التي لا يجدها الإنسان في الشتاء موجودة بشكل دائم في الجنة، فأي فاكهة تتخيلها موجودة في جنة الرحمن، اللهم لا تحرمنا منها يا رب العالمين.
{وَفُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ} [الواقعة:34]، الفرش هنا كناية عن الزوجات لكن القرآن يتحدث بأدب رفيع، وليس مثل جماعة الأدب الذين ما عندهم أدب في الدنيا الذين يكتبون القصة وغيرها.
{إِنَّا أَنشَأْنَاهُنَّ إِنشَاءً} [الواقعة:35]، وهذا يدل على أن الله يغير خلقة زوجتك، (فلو بصقت في البحر الملح الأجاج لحولته عذباً فراتاً).
(لو خرج أنملها يعني: طرف سبابتها إلى الناس في ليلة داجية لحولته نهاراً مضيئاً)، ترى بياض وجهك في صفحة وجهها، كلامها طيب، وشكلها طيب.
ربنا يقول: {إِنَّا أَنشَأْنَاهُنَّ إِنشَاءً * فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَارًا * عُرُبًا أَتْرَابًا * لِأَصْحَابِ الْيَمِينِ} [الواقعة:35 - 38]، عرب: جمع عروب، والعروب هي المتحببة لزوجها، وليست صاحبة شك في زوجها، فلا وجود للشك في الجنة وإنما اطمئنان؛ لأن الله يقول: {كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ} [الصافات:49]، مكنون لا يحل إلا لصاحبه، وهذا جزاء تستر النساء المسلمات في الدنيا.
{إِنَّا أَنشَأْنَاهُنَّ إِنشَاءً * فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَارًا * عُرُبًا أَتْرَابًا * لِأَصْحَابِ الْيَمِينِ * ثُلَّةٌ مِنَ الأَوَّلِينَ * وَثُلَّةٌ مِنَ الآخِرِينَ} [الواقعة:35 - 40]، لكن في السابقين قال: {ثُلَّةٌ مِنَ الأَوَّلِينَ * وَقَلِيلٌ مِنَ الآخِرِينَ} [الواقعة:13 - 14].
وفي آخر السورة تحدث حالة نزع الروح وهي أصعب اللحظات عند المؤمن.
قال تعالى: {فَلَوْلا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ} [الواقعة:83]، أي: الروح {وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنظُرُونَ} [الواقعة:84]، أي: الميت والناس حوله ينظرون إليه كيف تنفس بصعوبة، وكيف أنه لا يستطيع الكلام {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ} [الواقعة:85]، فنحن مجتمعون حوله وأقرب ما نكون إلى جسمه، ولكن الله أقرب منا إليه.
{فَلَوْلا إِنْ كُنتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ * تَرْجِعُونَهَا إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ} [الواقعة:86 - 87]، فلا يستطيع أحد أن يرجع الروح إلى صاحبها بعد إخراجها منة.
عجز الطب والطبيب الحكيمُ وخطى الموت أسرعت لا تريمُ فما دام الله عز وجل أقرب إليه منا والملائكة قد نزلت لقبض روحه فقد أصبح في عالم غير عالمنا، ويمكن أن يكون مفتوح العينين لكنه ليس قادراً على أن يتكلم، ولو نطق لقال لنا: {وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى} [البقرة:197].
فهذه هي أصعب اللحظات، ولكن رسول الله يقول: (من أحب لقاء الله أحب لقاءه، ومن كره لقاء الله كره الله لقاءه)، ويحب لقاء الله بأن يقدم سابقة أعمال طيبة، ومن كان هذا حاله فإنه يقول للملكين: ألدار الهموم والأحزان تريدان أن ترجعاني؟ قدماني إلى ربي قدماني، فقد تركت الدنيا والمال والعيال، وجئت هنا برحمة الله، أما من كان عاصياً لا يعرف الله في الدنيا فإنه يقول: أرجعوني لعلي أعمال صالحاً فيما تركت، وقد كان في مهلة ثلاثين سنة وأربعين سنة وستين سنة، {وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} [الأنعام:28]، فالله يعلم ما توسوس به نفسك، قال تعالى: {وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ} [ق:16].
{وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلَكِنْ لا تُبْصِرُونَ * فَلَوْلا إِنْ كُنتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ * تَرْجِعُونَهَا إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ * فَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ * فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّةُ نَعِيمٍ} [الواقعة:85 - 89]، الروح: هو الراحة.
وكان سيدنا محمد عليه الصلاة والسلام عندما يزور المقابر يقول: (يا خالق هذه الأجسام البالية! أدخل عليها روحاً من عندك وسلاماً من عندي) وكان يقول هذا عليه الصلاة والسلام: (إن القبر أول منزل من منازل الآخرة، فإن كان يسيراً فما بعده أيسر وإن كان عسيراً فما بعده أشد)، أي: أن الكتاب يقرأ من عنوانه، فأما روضة من رياض الجنة، أو حفرة من حفر النار.
{فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّةُ نَعِيمٍ} [الواقعة:89]، أي: أنه يفتح له باب يرى مقعده من الجنة فيقول: يا رب! عجل بالساعة.
{وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ * فَسَلامٌ لَكَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ} [الواقعة:90 - 91]، سلم أصحاب اليمين من كل سوء؛ لأن حسناتهم غلبت سيئاتهم والله سبحانه وتعالى قد تولاهم بفضله وبرحمته.
{وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ} [الواقعة:92]، أي: مكذبين بالآخرة، ومكذبين للعلماء، ومكذبين لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ومكذبين لكل من يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر (الضالين) أي: البعيدين عن طريق الصواب وطريق الهداية.
{فَنُزُلٌ مِنْ حَمِيمٍ} [الواقعة:93]، وفي بعض البلاد العربية يسمى الفندق: نزلاً، فالنزل هو المكان الذي سيبيت ويقعد ويعيش فيه.
{وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ * إِنَّ هَذَا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ * فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ} [الواقعة:94 - 96]، ولما نزلت هذه الآية قال النبي صلى الله عليه وسلم: (اجعلوها في ركوعكم)، ولما نزل قول الله عز وجل: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى(32/7)
الآيات التي تتحدث عن الجنة في سورة الحاقة
وفي سورة الحاقة آيات تتحدث عن الجنة، وهي قوله تعالى: {يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ} [الحاقة:18]، أي: يوم القيامة لن يختفي شيء، فلو أن أحدنا اقترف ذنباً وربنا ستره وهو لم يتكلم عن هذا الذنب فإن الله أكرم من أن يفضحه على رءوس الأشهاد يوم القيامة، فإنه لو سترك في الدنيا فهذا دليل ستر الآخرة.
لكن يوجد نوع آخر: كأن تعمل معاصي وأنت تعجب بستر الله عليك فهذا اسمه استدراج، فيتركك مرة ومرتين وعشراً وعشرين، فإما أنك تستهزئ بمقام الله عز وجل والعياذ بالله، وإما أنك لست موقناً أن عذاب ربك لشديد، ففي هذه الحالة تفضح على رءوس الأشهاد يوم القيامة.
وقوله: {لا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ} [الحاقة:18]، كقوله تعالى: {مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا} [الكهف:49]، مكتوبة سواء كانت كبيرة أو صغيرة.
{فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ} [الحاقة:19]، وقد ضربنا المثل بأن هذا مثل الولد الذي أخذ الشهادة وفيها الدرجات النهائية فكلما يقابل أحداً يخبره بالنتيجة الرائعة.
{إِنِّي ظَنَنتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسَابِيَهْ} [الحاقة:20]، أي: أني أيقنت وليس ظن شك وريبة.
{فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ} [الحاقة:21]، فالعيشة نفسها راضية فكيف بصاحبها؟! {فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ * قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ} [الحاقة:22 - 23]، يعني على سبيل المثال: أنك نمت على سريرك في الجنة، والتفاحة بعيدة عنك فتقول: أنا أريد التفاحة تلك، فيميل الغصن إلى فمك، لكي لا تتعب وتمد يدك.
{كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الأَيَّامِ الْخَالِيَةِ} [الحاقة:24]، أي: من صيام رمضان؟ وصيام كل إثنين وخميس؟ وقيام الليل، أي فقد تعبتم وتعذبتم والناس لا يشعرون بشيء مما تتعبون فيه بل وقد يسخرون منكم، ولكنكم اليوم في الراحة الأبدية، يا أهل الجنة! خلود بلا موت، يا أهل النار! خلود بلا موت.(32/8)
الآيات التي تتحدث عن الجنة في سورة المطففين
يقول تعالى في سورة المطففين: {إِنَّ الأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ} [المطففين:22]، الأبرار جمع بار، والبار هو الذي يعمل كل بر، ولا يعمل الفجور.
{إِنَّ الأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ * عَلَى الأَرَائِكِ يَنظُرُونَ * تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ} [المطففين:22 - 24]، أي: عندما تنظر في وجهه فإن البشر والنضارة ينطق في الوجه وقد جاءته هذه النضارة منذ دخوله الجنة، فقد سقوه شربة من حوض الكوثر فحصل له أشياء منها أنه: نزع الغل والحقد والحسد من القلب فما يحقد على أحد في الجنة، وأن وجهه يصبح نضراً، ويرضى عن الله ويرضى الله عنه.
{يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ مَخْتُومٍ} [المطففين:25]، الرحيق هو صفوة الخمر، من الخمر التي لا تختل العقول ولا يسكر ولا يهذي ولا يخرف صاحبها.
{خِتَامُهُ مِسْكٌ} [المطففين:26]، أي: طعم فمه مسك في آخر ما يشرب.
ومن ذهب إلى مكة وقبل الحجر الأسود فإنه يشم رائحة زكية هي رائحة المسك، والجرام من هذا المسك الدنيوي بسبعة آلاف ريال، فما بالك بمسك الجنة؟!! وفي الجنة عندما يمطر السحاب فوقك فإنها تمطر مسكاً، والجدران يوم القيامة مبنية من لبنة من فضة ولبنة من ذهب.
{خِتَامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ} [المطففين:26]، هو التنافس الحقيقي.
{وَمِزَاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ * عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ} [المطففين:27 - 28]، أي: يشرب منها المقربون، وتسنيم من سنام الجمل أي أنها عين منتفخة مثل سنام الجمل، والله أعلم برزقه وفضله سبحانه وتعالى، أي: أن الرحيق الذي آخره مسك ممزوج بعين التسنيم.(32/9)
الآيات التي تتحدث عن الجنة في سورة الذاريات
قال تعالى في سورة الذاريات: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ} [الذاريات:15]، وثبت علمياً أن النظر إلى الماء وإلى الخضرة يجلو البصر والبصيرة فيريح الإنسان.
{آخِذِينَ مَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ} [الذاريات:16]، وإليك صفات المحسنين عسى أن نكون مثلهم: {كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ} [الذاريات:17].
فالعجب ممن يقول: أنا أنام ثمان ساعات في اليوم وهذا ضروري، ومثل هذا لو عاش ستين سنة فإنه قد نام من عمره عشرين سنة، فيبقى من الستين أربعين سنة منها خمس عشرة سنة مع عيالك، فتبقى خمس وعشرون وهكذا يضيع العمر.
{كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ} [الذاريات:17]، فالاستثناء هو النوم، والقاعدة هي القيام.
{وَبِالأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} [الذاريات:18]، أول الليل ينادي المنادي: ألا ليحكم العابدون.
وفي آخر الليل ينادي: ألا ليحكم المستغفرون بالأسحار، وبعد أن يأذن الفجر ينادي: ألا ليحكم الغافلون.
{وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ} [الذاريات:19]، أي: حق له سبحانه لا يأتي به الإنسان من نفسه وإنما هو حق واجب السداد.
وفي سورة السجدة ما يعضد الآيات السابقة: {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ} [السجدة:16]، تتجافى جاءت من الفعل جفى ومعناه: عدم القبول والبعد.
{تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا} [السجدة:16]، فهم قاموا بمثل هذا العمل بسبب خوفهم، فحاول أن تجعل خوفك أكبر من الرجاء؛ لأنك عندما تخاف اليوم تأمن غداً بإذن الله، ولو أمنت الله اليوم فستخاف غداً، قال تعالى في الحديث القدسي: (لا أجمع على عبدي أمنين ولا خوفين).
{تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ * فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ} [السجدة:16 - 17]، فلا أحد يعرف كم مقدار الخير الذي أعده للمؤمنين في الآخرة {جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [السجدة:17].(32/10)
الآيات التي تتحدث عن الجنة في سورة الطور
قال تعالى في سورة الطور: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَعِيمٍ * فَاكِهِينَ بِمَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ} [الطور:17 - 18]، أي: مرتاحين بنعمة الله عليهم، {وَوَقَاهُمْ رَبُّهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ * كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} [الطور:18 - 19]، وكلمة (هنيئاً) أتى بها في هذه الآية لبيان أنه ليس في الأكل منغص أبداً، فإن الأكل لن ينفد ولن يسبب لصاحبه مغصاً أو أي نوع من أنواع التنغيص.
{مُتَّكِئِينَ عَلَى سُرُرٍ مَصْفُوفَةٍ} [الطور:20]، أي: موصولة ببعضها البعض؛ لأن الاجتماع مع الإخوان فيه سرور وفرح، ولذلك قال لنا النبي صلى الله عليه وسلم: (المسافر شيطان)؛ لأنه لوحده فيمكن أن يضله الشيطان في الطريق، لكن عندما يكون معه شخص آخر فإنه سيدله على الخير ويعينه على الصلاة.
{مُتَّكِئِينَ عَلَى سُرُرٍ مَصْفُوفَةٍ وَزَوَّجْنَاهُمْ بِحُورٍ عِينٍ * وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ} [الطور:20 - 21]، فنفرض أن الأسرة كلها صالحة ودخلت الجنة فكان الأب والأم في درجة عالية عن الأولاد أو العكس فالأولاد كانت أعمالهم طيبة لدرجة أنهم أخذوا درجة عالية أعلى من الأب والأم، وهذا قد يحصل في الدنيا.
ويريد أفراد الأسرة أن يأتلفوا ويجلسوا مع بعض كما كانوا في الدنيا، فيأذن الله للذين في الدرجة الأقل إلى الدرجة الأعلى، فيرفع الدني إلى العلي وليس فيها دني.
ولهذا يسأل أبو ذر الرسول عليه الصلاة والسلام: (يا رسول الله! كل من قال: لا إله إلا الله يدخل الجنة؟ فقال: نعم، قال: وإن سرق وإن زنى -فأعادها أبو ذر ثلاثاً- وفي الثالثة قال له رسول الله: وإن سرق وإن زنى رغم أنف أبي ذر).
{وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ} [الطور:21]، أي ما أنقصنا من أجور أعمالهم شيئاً {كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ} [الطور:21].
{وَأَمْدَدْنَاهُمْ بِفَاكِهَةٍ وَلَحْمٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ} [الطور:22]، فليست ميتة، وهي طرية لم تمر عليها فترة كبيرة بعد ما ذبحت.
{يَتَنَازَعُونَ فِيهَا كَأْسًا لا لَغْوٌ فِيهَا وَلا تَأْثِيمٌ} [الطور:23]، أي: لا تجعلهم آثمين، فالكأس لا يقال في اللغة العربية إلا عندما يكون مليئاً بالخمر، وليس المقصود بقوله: {يَتَنَازَعُونَ} [الطور:23]، أن في الجنة نزاعاً ومضاربات، فقد كان الصحابة رضي الله عنهم يتنازعون البطيخ، أي يقومون بتناقلها من واحد إلى واحد والذي تسقط منه هو الذي يدفع ثمنها، وهذا نوع من الترفيه المشروع، ولكنهم كانوا رجالاً في الوغى وأي رجال.
{وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ غِلْمَانٌ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ لُؤْلُؤٌ مَكْنُونٌ} [الطور:24]، يا سلام، الغلمان هم الخدم الذين في الجنة مثل: اللؤلؤ، فكيف يكون المخدوم؟! {وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ} [الطور:25]، أي: أهل النعيم، {قَالُوا إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ} [الطور:26]، أي: أنهم كانوا خائفين في الدنيا من الله.
{فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ} [الطور:27]، أبعدنا عن نار جهنم، {إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ} [الطور:28]، وفي قراءة: {أَنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ} [الطور:28]، يعني: هو اللطيف الرحيم، اللهم كن براً بنا يا رب العالمين ورحيماً بنا.(32/11)
الآيات التي تتحدث عن الجنة في سورة النبأ
قال تعالى في سورة النبأ: {إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازًا} [النبأ:31]، أي: أن أهل التقوى لهم فوز عند الله {حَدَائِقَ وَأَعْنَابًا * وَكَوَاعِبَ أَتْرَابًا} [النبأ:32 - 33]، كواعب جمع كاعب، أتراباً أي في سن واحد، فالرجل الذي عمره تسعين سنة يتكأ على العصا في الدنيا فيوم القيامة يكون سنه ثلاثاً وثلاثين سنة في الجنة، والمرأة التي تأتي معها مائة سنة سيكون عمرها ثلاثاً وثلاثين سنة.
{أَتْرَابًا} [النبأ:33]، وجاءت امرأة عجوز إلى سيدنا الحبيب صلى الله عليه وسلم وقالت: (يا رسول الله! ادع الله أن أكون معك في الجنة، قال لها: لن يدخل الجنة عجوز)، فجلست تبكي فقال: ألم تقرئي قول الله عز وجل: {وَكَوَاعِبَ أَتْرَابًا} [النبأ:33] أي: الكل في سن واحد.
{وَكَأْسًا دِهَاقًا} [النبأ:34]، الكأس الدهاق هو المعبأ، الذي يتعبأ على قدر حاجته، ويشرب أهل الجنة لا عن عطش لكن عن تلذذ، ويأكل أهل الجنة لا عن جوع بل عن تلذذ، ولو ظل أهل الجنة يأكلون ألف سنة فإن ذلك بقدرتهم.
{لا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلا كِذَّابًا} [النبأ:35]، أي: لا يوجد فيها لغو وهو الكلام الفارغ، ولا كذب، والكذب صعب أعاذنا الله.
{جَزَاءً مِنْ رَبِّكَ عَطَاءً حِسَابًا} [النبأ:36]، كل هذا رحمة من الله عز وجل، {رَبِّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا الرَّحْمَنِ لا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطَابًا * يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلائِكَةُ صَفًّا لا يَتَكَلَّمُونَ} [النبأ:37 - 38]، الروح: هو سيدنا جبريل، والملائكة صف لا يصدرون أي كلمة {إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَقَالَ صَوَابًا * ذَلِكَ الْيَوْمُ الْحَقُّ فَمَن شَاء اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ مَآبًا} [النبأ:38 - 39]، الذي يريد أن ينجو يتخذ مرجعاً إلى الله عز وجل في كل عمله في الدنيا، {إِنَّا أَنذَرْنَاكُمْ عَذَابًا قَرِيبًا يَوْمَ يَنظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ وَيَقُولُ الْكَافِرُ يَا لَيْتَنِي كُنتُ تُرَابًا} [النبأ:40]، وهو يقول ذلك عندما يرى الحيوانات قد قضى الله بينها فيأمرها أن تكون تراباً، فيتمنى الكافر ذلك.(32/12)
الآيات التي تتحدث عن الجنة في سورة المدثر
يقول تعالى في سورة المدثر: {كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ} [المدثر:38]، أي: كل نفس مرتهنة بعملها.
{إِلَّا أَصْحَابَ الْيَمِينِ * فِي جَنَّاتٍ يَتَسَاءَلُونَ * عَنِ الْمُجْرِمِينَ * مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ} [المدثر:39 - 42]، ما الذي أدخلكم سقر؟ وما الذي وضعكم في المكان السيئ هذا؟ {قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ} [المدثر:43]، يعني: أن أي واحد كان لا يصلي في الدنيا فلازم يوضع في مثل هذا المكان وسميت سقر بهذا الاسم؛ لأنها تسلط على لحوم المعذبين في النار حتى لا تبقي إلا العظم، يعني: أنها تشوي اللحم وتنضجه ويتساقط وبعد ذلك يعود اللحم مرة أخرى فيكسو العظم وهكذا، هذا هو العذاب في سقر والعياذ بالله.
فالصلاة أمرها عظيم وكل شيء يتأجل إلا الصلاة، ما عدا حالات الضرورة الماسة كأن يكون طبيباً قد فتح بطن المريض لعمل عملية له ففات وقت الصلاة وهو يعمل العملية فلا بأس، وكذلك مراقب الطائرات في برج المراقبة الذي إن قام للصلاة قد تتعرض الطائرات للتصادم فلا بأس.
{وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ} [المدثر:44]، أي: كنا نمنع الزكاة ولا نتصدق، {وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ} [المدثر:45]، فكل من جاء برأي أو فتوى باطلة سمعه، وإن كان فيها تحليل لما حرم الله.
{وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ * حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ} [المدثر:46 - 47]، وهو الموت، {فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ} [المدثر:48]، صدق الله، وبلغ رسوله صلى الله عليه وسلم.(32/13)
سلسلة الدار الآخرة_رضا الله والنظر إلى وجهه الكريم
أعد الله لعباده المؤمنين في جنته ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، وآيات كتاب الله سبحانه تعبر عن ذلك النعيم المقيم بصورة يعجز المتمكن في بلاغته عن الإتيان بمثلها، وهل هناك أعظم نعمة من رضوان الله عليهم الذي لا سخط بعده، وهل هناك أعظم من النظر إلى وجهه الكريم سبحانه؟!(33/1)
يمن صحبة الأخيار وشؤم صحبة الأشرار
أحمد الله رب العالمين، وأصلي وأسلم على المبعوث رحمة للعالمين؛ سيدنا محمد، اللهم صل وسلم وبارك عليه صلاة وسلاماً دائمين متلازمين إلى يوم الدين.
أما بعد: هذه بمشيئة الله عز وجل هي الحلقة الثالثة والثلاثون في سلسلة حديثنا عن الدار الآخرة أو عن الموت وما بعده، وهي الحلقة الثانية عشرة في الحديث عن الجنة، جعل الله الجنة مآلنا ومكاننا ومنزلنا ومستقرنا والمسلمين والمسلمات.
وهذه بمشيئة الله أيضاً هي الحلقة الأخيرة في الدار الآخرة.
نعم يبقى لنا حلقتان سوف نوجز لكم فيهما ما قلناه منذ الحلقة الأولى منذ ما يربو على تسعة أشهر.
فاللهم اجعل جمعنا هذا جمعاً مرحوماً، وتفرقنا من بعده تفرقاً معصوماً، ولا تجعل يا ربنا بيننا شقياً ولا محروماً.
اللهم لا تدع لنا ذنباً إلا غفرته، ولا مريضاً إلا شفيته، ولا عسيراً إلا يسرته، ولا كرباً إلا أذهبته، ولا هماً إلا فرجته، ولا شيطاناً إلا طردته، ولا ميتاً إلا رحمته ولا طالباً إلا نجحته، ولا مظلوماً إلا نصرته، ولا ظالماً إلا هديته، ولا مسافراً إلا رددته لأهله غانماً سالماً.
ارزقنا يا مولانا قبل الموت توبة وهداية، ولحظة الموت روحاً وراحة، وبعد الموت إكراماً ومغفرة ونعيماً.
اللهم ثقل بمجالس العلم موازيننا يوم القيامة، ثبت بها على الصراط أقدامنا يوم تزل الأقدام.
اللهم اجعلنا نشرب من حوض الكوثر شربة لا نظمأ بعدها أبداً، زحزحنا عن النار وما قرب إليها من قول أو عمل، قربنا من الجنة وما قرب إليها من قول أو عمل.
نسألك يا مولانا رضاك والجنة، ونعوذ بك من سخطك والنار، اجعل خير أعمالنا خواتيمها وخير أيامنا يوم أن نلقاك.
اللهم أحسن لنا الختام في الأمور كلها واغفر لنا وارحمنا وأنت خير الغافرين.
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
أقول: بفضل الله عز وجل أولاً وأخيراً كان لبعض الإخوة وبعض الجنود المجهولين في الدعوة الإسلامية، والله لا أعلم كثيراً منهم، قاموا بترجمة هذه الحلقات إلى عدة لغات، نسأل الله أن يبارك في أهل الخير، وبفضل الله عز وجل جاءتني هذا الأسبوع رسالتان وعدة مكالمات تلفونية من مدريد ومن بعض الدول الإسكندنافية أن بعض الإخوة عندما قاموا بترجمة هذه الأشرطة دخل في دول من الدول الاسكندنافية ومن أسبانيا علاوة على أمريكا الجنوبية ما يربو على ألف شخص في دين الله عز وجل بين رجل وامرأة، وهذا بفضل الله سبحانه وتعالى، ولسماحة أو يسر هذا الدين وقربه من الفطرة، ولا يصح إلا الصحيح.
فاللهم أعز دينك وانصره في بقاع الأرض يا رب العالمين! ومما أسعدني أكثر وأكثر أن بعض الدول مثل السويد وسويسرا هناك أسرة كاملة دخلت في دين الله عز وجل وهذا من فضل الله أولاً وأخيراً.
وأقول ما قلته في الحلقة الأولى أيضاً: إن كنت قلت خيراً أو صواباً فمن الله وحده، وإن قلت سيئاً أو خطأً فمن الشيطان ومن نفسي.
فاللهم اغفر لنا وارحمنا ووفقنا وسددنا وقربنا منك يا رب العالمين! لكي لا ندخل في مقدمات؛ لأن الحلقة طويلة، سوف نكمل نصين أو ثلاثة نصوص من كتاب الله عز وجل؛ لندخل بعد ذلك في الحديثين اللذين أخرتهما حتى نختم بهما هذه الحلقات في رضا الله عز وجل على أهل الجنة.
اللهم اجعلنا منهم يا رب العالمين! ثم كما قلنا في رؤية وجه الله الكريم سبحانه وهي أعظم نعمة ينعم الله بها على عباده.
فاللهم لا تحرمنا من رؤية وجهك الكريم يا رب العالمين! في الأسبوع الماضي كنا نقرأ نصاً من سورة الصافات، ووصلنا إلى قول الله عز وجل: {قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ إِنِّي كَانَ لِي قَرِينٌ} [الصافات:51]، مؤمن من أهل الجنة مكث مدة في الجنة، ثم قال: إنني كان لي صاحب في الدنيا، يمشي معي ويجلس معي ويزورني وأزوره.
ولكن أريد أن أوضح نقطة هامة، يجب ألا تصاحب إلا من تذكرك بالله رؤيته، ويدلك على الله حاله، ويزيد في علمك منطقه، لا تصاحب إلا من يصير مرآة لك ترى فيها عيوبك، فصديقك من صَدَقَك لا من صدَّقك، وقلنا من قبل: إن الطفل قد يكره أباه عندما يأتي له بالطبيب ليعطيه إبرة مؤلمة أو دواءً مؤلماً، ويحب أمه لأنها تدافع وتقول: لا داعي أبداً للطبيب ولا داعي أبداً للإبرة التي تؤلم الولد، وللأسف الشديد لو كان هذا الطفل بالغاً عاقلاً واعياً لأحب أباه في هذه النقطة أكثر من حبه لأمه لأن أباه صديق له وصادق معه، فإنه قد يؤلمه ولكن هذا الألم له هدف وهو النتيجة، ولله المثل الأعلى ولرسوله صلى الله عليه وسلم.(33/2)
الابتلاء على قدر الإيمان واليقين
الله عز وجل قد يبتلي الإنسان منا في الدنيا بمرض أو مشكلة أو بزوجة بذيئة اللسان، أو بزوج سليط متطاول أو بجار سيئ أو مدير في العمل يؤذيه، أو عامل عندك أو موظف يخونك في مالك وفي عملك، وقد تكون هذه الابتلاءات ليست لأن الله عز وجل يكره هذا العبد، فإنما أكثر الناس بلاءً الأنبياء فالأولياء فالأمثل فالأمثل، إذْ يصاب المؤمن على قدر إيمانه، فإن كان إيمانه قوياً قال: يا جبريل! صب البلاء على عبدي فلان صباً، فيصبه، ثم يقول: ماذا صنع عبدي؟ فيقول: يا رب حمدك واسترجع، فيقول الله عز وجل: أعد عليه، صب البلاء مرة أخرى فإني أحب أن أسمع صوته، والإنسان المسلم لو مر عليه -كما قلنا- أربعون يوماً لا يبتلى بمشكلة ولا مصيبة ولا بلية رغم سيره في طريق الله عز وجل، يجب -كما قلنا- أن يعيد حساباته مرة أخرى وأن يحدد المسار؛ لأنه بعيد عن رب العباد سبحانه.
(ودخل أعرابي على رسول الله صلى الله عليه وسلم فرأى رجلاً يقول: يا رسول الله! أصابتني أم ملدم)، وأم ملدم: الحمى، (فقال الأعرابي: وما أم ملدم)، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (أما أصابتك حمى من قبل؟ قال الأعرابي: كلا، أما صدعت رأسك، قال: كلا)، أي: لم يصب بحرارة ولم يصب بالصداع فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (من لم يبتلَ فهو شيطان).
وقلنا: إن الابتلاء ثلاثة أنواع، فأنت تمشي في طريق الله عز وجل وتتدرج في طاعة الله عز وجل وتحاول أن تتجنب محارم الله سبحانه، ورغم ذلك تبتلى، فهذا اسمه رفع درجات.
فالله عز وجل يرفع المبتلى درجات؛ وقد كانت السيدة عائشة تقول: وارأساه، فقال الحبيب صلى الله عليه وسلم: (وأنا وارأساه يا عائشة!) أي: أنا كذلك رأسي يؤلمني، قالت: (أتوعك أنت يا رسول الله؟! قال: أوعك كما يوعك رجلان من أمتي ليضاعف لي الثواب عند الله يوم القيامة)، يعني: إن كنت تحس بالألم ثلاثين درجة فالحبيب يحس ستين درجة، وإذا كنت تحس بالألم مائة درجة فالحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم ينازع، فكانت الروح توشك أن تغادر الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم، فالسيدة عائشة رأته وهو يتمتم بكلمات، علمت أنه يقرأ الفلق والناس حتى طلع الفجر، ولم يكن ينم أبداً حتى يقرأ بهن ثلاث مرات ويمسح بها وجهه وما استقبل من جسده، فأراد أن يرفع يديه ليمسح وجهه فلم يستطع من شدة سكرات الموت، فهو القائل صلى الله عليه وسلم: (إن للموت لسكرات)، فمسحت عائشة بيديها على وجه الحبيب صلى الله عليه وسلم، فنظر إلى سواك في يدها، فعلمت أنه يريد أن يستاك، ولكن يده لا تستطيع أن تأخذ السواك وتضعه في فمه صلى الله عليه وسلم، فأخذت السواك ولينته بفمها، ثم أعطته وأمسكت بيده فاستاك صلى الله عليه وسلم، ثم نزل جبريل وقال: يا رسول الله! هذه هي آخرة مرة أنزل فيها إلى الأرض.
وسيدنا جبريل مهمته تبليغ وحي السماء إلى من اختارهم الله سبحانه لتبليغ دعوته إلى عباده، فقد نزل على آدم، ثم نزل على نوح وإبراهيم وموسى وعيسى وهكذا نزل على كل الأنبياء عليهم وعلى نبينا الصلاة والسلام.
يا محمد! -عليه الصلاة والسلام- هذا ملك الموت يستأذن بالباب! ملك الموت لا يستأذن على أحد لا من قبل رسول الله ولا من بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإنما استأذن على رسول الله لمقام الرسول صلى الله عليه وسلم عند ربه.
وبعد ذلك إذا بالحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم يقول له جبريل: أتحب أن تكون في الدنيا ملكاً مخلداً أم إلى جوار الرفيق الأعلى؟ قال: بل أختار الرفيق الأعلى بل الرفيق الأعلى بل الرفيق الأعلى بل الرفيق الأعلى، أشهد أن لا إله إلا الله وأني عبده ورسوله، ثم فاضت روح رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وعلمنا كيف عاد أنس رضي الله عنه بعد دفن رسول الله صلى الله عليه وسلم ليعزي السيدة فاطمة، فقالت له فاطمة: يا أنس! هل هانت عليكم أنفسكم أن تحثوا التراب على وجه رسول الله، أي: هل هذا معقول أنكم تضعون التراب بأيديكم على وجه الحبيب صلى الله عليه وسلم كيف؟ فقال: هو الذي أمرنا بهذا يا بنت رسول الله! فهو الذي نزل عليه: {مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى} [طه:55]، ونزل عليه قوله تعالى: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِينْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ} [آل عمران:144].
{إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ} [الزمر:30].
إذاً: أنت في الدنيا تختار الصديق الذي يذكرك بالله؛ لأنك في الجنة ستبحث عن صديقك وستقول: أين فلان الذي كان يذهب معي إلى المكان الفلاني؟ قال تعالى: {إِنِّي كَانَ لِي قَرِينٌ} [الصافات:51] أي: صاحب.(33/3)
إطعام الصالحين وضيافتهم
في الحديث: (لا يدخل بيتك إلا مؤمن) لماذا؟ من أجل أن يحافظ على حرمتك، فعندما يدخل المؤمن بيتك يحافظ على حرمته، (ولا يأكل طعامك إلا تقي) لماذا؟ لأن التقي عندما يأكل يدعو لك، وكان ابن مسعود رضي الله عنه كما يقول: أرق إنسان على قلبي -أخف إنسان على قلب ابن مسعود - الضيف، قالوا له: لماذا؟ قال ابن مسعود: لأن رزقه على الله، فلا تظن أنك تطعم الضيف من مالك، بل الضيف رزقه على الله.
قال: لأن رزقه على الله وثوابه لي.
فحتى لو كان الضيف غنياً لابد أن يأخذ ثواباً في إطعامه.
إذاً: الأول: رزقه على الله والثاني: ثوابه لي، والثالث: قوله: ويأخذ ذنوب أهل البيت وهو خارج معه، وقد كان سيدنا الخليل إبراهيم عليه السلام إذا أراد أن يأكل لابد أن يخرج من بيته ويمشي مسافة طويلة إلى أن يلقى ضيفاً فيأتي به.
جاء أعرابي إلى الحبيب صلى الله عليه وسلم وقال: أنا ضيفك الليلة يا رسول الله! يفرض نفسه على رسول الله صلى الله عليه وسلم ضيفاً (دخل الحبيب إلى بيوت نسائه فقال: أعندكن طعام؟ قلن: ما عندنا إلا الماء يا رسول الله! فخرج وقال للصحابة: من يضيف ضيف رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الليلة؟ فقال أحد الأنصار رضي الله عنهم: أنا يا رسول الله!) وأخذ الضيف وهو فرح به، ليس مثل من يدخل على امرأته بضيف فتشعر امرأته بتفكك كتفكك الاتحاد السوفيتي، إن المسألة سهلة جداً ونحن لا نتكلف وإنما نعطي الموجود، قالت زوجة الأنصاري لزوجها: ليس عندنا طعام إلا الطعام الذي كنت قد أبقيته لك، يعني: طعام يكفي نفراً، والنفر الذي كان يأكله الصحابي كان ثلثاً للطعام وثلثاً للشراب وثلثاً للنفس، يعني: يأكل بضع لقيمات.
قال لها: نطفئ النور ونضع الطبق الذي فيه الأكل أمام الضيف، ونوهمه أننا نأكل من أطباق أمامنا، فنضرب عليها من أجل أن تصدر صوتاً فيظن أننا نأكل معه.
قال النبي صلى الله عليه وسلم: (المؤمن كيس فطن).
وهكذا أكل الضيف وأنهى الذي أمامه وشبع، ولم يأكلوا هم، بل قام الأنصاري وأخذ الضيف وذهب به إلى صلاة الفجر، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (لقد شكر الله صنيعك الليلة أنت وزوجك بضيف رسول الله).
إذاً: (لا يدخل بيتك إلا مؤمن، ولا يأكل طعامك إلا تقي)، لماذا؟ لأن المؤمن عندما يدخل بيتك يجلس فإن كان عنده كلمة طيبة يقولها.
فمثلاً: تأتي إلى رجل جلس هو وزوجته في أمان الله فتقول: لقد رأيت البارحة شخصاً يشبهك وهو راكب سيارة وبجانبه امرأة، فما هذا البلاء الذي أتيت به؟ فأنت لو سترته بثوبك لكان خيراً لك، وانصحه بينك وبينه، لأنك مرآة أخيك.(33/4)
محاورة أهل الجنة لقرنائهم من أهل النار
قال تعالى: {إِنِّي كَانَ لِي قَرِينٌ} [الصافات:51]، أي: كان لي صاحب في الدنيا، {يَقُولُ أَئِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ} [الصافات:52] أي: يقول: حقاً لقد فزت بالجنة، فقد كنت مصدقاً بالبعث، ومصدقاً بالنشور، ومصدقاً بالحساب، وكان فعلاً لك هذا القرين وهذا الصاحب.
وأريد أن أعرج إلى مسألة القرين، يقول كثير من الناس: كل واحد له قرين من الجن وله قرين تحت الأرض؟! وهذه فرية ما أنزل الله بها من سلطان، بل إن موضوع القرين أنك إن كنت مؤمناً سائراً على طريق الله فقرينك الملك، وإن كنت رجلاً -والعياذ بالله- منحرفاً فقرينك الشيطان، إنه يقف على بابك في كل يوم ملك وشيطان، وكل واحد معه راية، فإن خرجت في سبيل الله ذاهباً إلى عملك، أو ذاهباً لتصلح بين اثنين، أو لتزور أخاً لك مسلماً أو لتصل رحماً أو لتتصدق؛ أظلتك راية الملك حتى تعود، فالملك يلازمك حتى في وقت الأذان وأنت في الطريق، ويقول: ادخل صل العصر أولاً وهكذا.
وإن خرجت في غير سبيل الله أظلك الشيطان برايته حتى تعود.
والعجيب عندما تذهب إلى مكان فيه جماعة من الكرويين كأن يكون هذا المكان ملعباً، ونفرض جدلاً -لا قدر الله- أن المدرجات ستنهدم على المتفرجين، إذا بهم يقولون: شهداء الكرة، شهداء الكرة؟! وهل موتى الكرة شهداء؟! ومن الناس من يقول: هذا الفنان رحمه الله وقع على المسرح، وقع وهو ويؤدي رسالته في محراب الفن، فهو سيد الفن! وتسمع كلاماً يضيق به صدرك.
فأنت إن كنت في طريق الله فإن الملك يظلك برايته حتى ترجع قال تعالى: {أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَئِنَّا لَمَدِينُونَ} [الصافات:53] أي: هل هذا يعقل؟ بعدما نموت ونكون تراباً ونكون شيئاً بالياً هل من المعقول أن نخرج مدينين في الحسنات والسيئات؟!(33/5)
حقيقة البعث والنشور بعد الموت
جاء أمية بن خلف -والعياذ بالله- ببعض عظام من مقابر في مكة قد بليت، وأخذها بيده وطحنها ونفخ بها في الهواء، وقال: (يا محمد! هل يستطيع ربك أن يعيد هذه مرة أخرى؟)، فينزل جبريل الأمين بآخر سورة ياسين، قال تعالى: {وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ * قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ} [يس:78 - 79]، ثم بعد ذلك التنظير يقول سبحانه: {الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الأَخْضَرِ نَارًا فَإِذَا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ} [يس:80]، فالشجر الأخضر يحمل أوراقاً فيها التمثيل الضوئي وفيها مادة البلاستيد الخضراء وفيها ما نستخدمه من طاقة، قال تعالى: {الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الأَخْضَرِ نَارًا فَإِذَا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ * أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلَى وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ * إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ * فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [يس:80 - 83].
فانظر إلى بساطه هذه الآيات وسهولتها وكيف يضرب الله مثلاً على مسألة الخلقة.
وهذا عزير تزوج بامرأة، وبعد يومين خرج ذاهباً إلى مزرعته، كان فلاحاً مزارعاً عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام وكان أحد الأنبياء والرسل، فمر عزير عليه السلام على مقابر وأشواك عظام بالية، فقال: {أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا} [البقرة:259]، ولا يقول ذلك من باب التعجيز، وإنما يريد أن يعرف الكيفية، قال تعالى: {فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ} [البقرة:259]، أي: قبض ملك الموت روحه مائة سنة، وكانت امرأته حاملاً، فنام مائة سنة ثم أفاق وبجانبه ملك، فقال له الملك: {كَمْ لَبِثْتُ قَالَ لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالَ بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عَامٍ} [البقرة:259]، قال: هل هذا معقول؟ هل أنا نمت مائة سنة؟ قال: {فَانظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ} [البقرة:259]، ويقال: إنه أخذ معه تيناً ولبناً وماءً، ومكث معه هذا الطعام مائة سنة فنظر إلى طعامه هذا فوجده لم يتغير.
قال: {وَانظُرْ إِلَى حِمَارِكَ} [البقرة:259]، فنظر إلى عظام الحمار منثوراً، فركب الله الهيكل، وإذا بالعظم يكسى باللحم، ثم جرت فيه الدورة الدموية، فأوقف الله الحمار على أربع ينفض أذنه، {قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [البقرة:259]، لكنه لم ير سر الصنعة.
كذلك سيدنا إبراهيم قال: {رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي} [البقرة:260]، وليس من سمع كمن رأى، وهكذا سيدنا موسى الكليم قال الله تعالى: {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا} [النساء:164]، فأراد أن ينعم الله عليه برؤيته فقال: {رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي وَلَكِنِ انظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا} [الأعراف:143].
إذاً: قال الخليل إبراهيم عليه السلام: أريد يا رب! أن أنظر كيف تحيِ الموتى، {قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ} [البقرة:260] هات مثلاً حمامة ويمامة ودجاجة وعصفورة يعني: أربعة من الطير مختلفة، واذبحها واقطعها قطعاً واخلطها ثم انثرها فوق الجبل، قال تعالى: {ثُمَّ ادْعُهُنَّ} [البقرة:260] أي قل لهن: تعالين بإذن الله، {يَأْتِينَكَ سَعْيًا} [البقرة:260]، فدعاهن فأتين طائرات إليه بإذنه سبحانه.
دخل رجل على الشافعي فقال له: يا إمام! ما الدليل على وجود الله؟ قال: ورقة التوت، تأكلها الشاة فتخرجها بعراً، وتأكلها البقرة فتخرجها روثاً، وتأكلها النحلة فتخرجها شهداً، وتأكلها الدودة -دودة القز- فتخرجها حريراً، وتأكلها الغزالة فتخرجها مسكاً، من الذي وحد الأصل وعدد المخارج؟ فانظر ما هو المدخل وما هو المخرج، فقد قيل: تفكر ساعة خير من عبادة سنة.
ويذكر أن أعرابياً جلس تحت ظل شجرة، فنظر إلى جمله وقد بعر بعراً ورجلاه على الرمال، ونظر إلى البحر من بعيد فقال: البعرة تدل على البعير وأقدام السير تدل على المسير، فأرض ذات فجاج وسماء ذات أبراج، وبحار ذات أمواج ألا يدل ذلك على اللطيف الخبير، وهل يعقل المرء هذا كله ويقول: أين الله؟ قال الشاعر: وفي كل شيء له آية تدل على أنه الواحد فقوله تعالى: {أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَئِنَّا لَمَدِينُونَ} [الصافات:53] أي: هل يعقل أننا بعد أن نكون تراباً وعظاماً نبعث مرة أخرى ونسأل؟ ولذلك قال: {وَأَنَّ عَلَيْهِ النَّشْأَةَ الأُخْرَى} [النجم:47].
إذاً: سوف يفنى من ابن آدم كل شيء إلا عجب الذنب، وهي ذرة من العصعص آخر فقرة من العمود الفقري الموجود في الظهر، ومازالت الأبحاث العلمية لم تصل إلى هذه النقطة، لكن هناك بوادر في أمريكا إذ بدءوا يصلون إلى أن كل شيء يفنى من ابن آدم إلا الجزئية الأخيرة من العصعص، لماذا؟ لأن هذا حديث رسول الله الذي لا ينطق عن الهوى صلى الله عليه وسلم.(33/6)
ذكر اطلاع أهل الجنة على أهل النار
قال تعالى: {قَالَ هَلْ أَنْتُمْ مُطَّلِعُونَ} [الصافات:54]، أي: هل تنظرون نظرة، ومعلوم أن بين أهل الجنة وأهل النار سوراً باطنه فيه الرحمة من جهة أهل النعيم وظاهره من ناحية أهل الجحيم عذاب، قال تعالى: {وَبَيْنَهُمَا حِجَابٌ} [الأعراف:46] يمنع النعيم عن أهل الجحيم ويمنع العذاب عن الأحباب، فهذا الحجاب لا يوصل النعيم لأصحاب الجحيم؛ لأن الشقي -والعياذ بالله- من ساءت خاتمته، والسعيد من حسنت خاتمته.
اللهم أسعد ختامنا يا رب العالمين! قال تعالى: {فَاطَّلَعَ} [الصافات:55] أي: نظر ذلك الرجل الذي كان يسأل: {إِنِّي كَانَ لِي قَرِينٌ} [الصافات:51]، أي: كان لي صديق في الدنيا أبحث عنه في الجنة ولم أره، قال تعالى: {فَاطَّلَعَ فَرَآهُ فِي سَوَاءِ الْجَحِيمِ} [الصافات:55] انظر عندما رآه لم يحزن عليه؛ لأن العواطف منزوعة هنالك، نفرض أن رجلاً صالحاً لديه ابن منحرف، الأب الصالح دخل الجنة والابن المنحرف دخل النار، فلو كان هنالك عواطف في الجنة، هل سيحزن الأب على الابن أو لا؟ نعم سيحزن، ولكن الجنة هل فيها حزن أو ليس فيها حزن؟
الجواب
لا يوجد حزن، الحزن في الدنيا فقط، إذاً لا تخف من هذه النقطة، يعني: عندما ترى ابنك لم يستقم أو امرأتك، أو المرأة ترى أن زوجها لا يريد الاستقامة فلا أحد يحزن، لأن الله عز وجل يدبر الأمر من قبل ومن بعد.
قال تعالى: {قَالَ تَاللَّهِ إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ} [الصافات:56] أي: إنك كنت ستوقعني في مصيبة ومهلكة، ولذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (المرء على دين خليله) فلابد أن تنظر إلى ابنك من يصاحب في المدرسة، وابنتك من تصاحب في الجامعة، لابد من أنك ترى، أليست هي مسئولة، وأنت مسئول؟ أم أننا ننجب أبناء ويكفي؟! انظر أولاً: الولد من هو صاحبه؟ من هو أبوه؟ فقد يكون أبوه تاجر مخدرات، وقد تكون أمه كذا وكذا، مثلاً، لابد أن تدقق النظر؛ لأنها مسئولية، وعندما ينحرف الولد ويحمل ذنوباً يأتي يوم القيامة يتعلق برقبتك ويقول: أبي رآني على الخطأ فما نهاني، خذوا ذنوبي له، ورغم ذلك لا ينجو هو يوم القيامة.
قال تعالى: {وَلَوْلا نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ} [الصافات:57] أي: في النار والعياذ بالله، والمعنى: لولا أن الله أكرمني بالتقوى والإيمان والهداية وأكرمني بأهل الخير الذين أخذوا بيدي، لكنا كلنا ضالين والعياذ بالله.
قال تعالى: {أَفَمَا نَحْنُ بِمَيِّتِينَ * إِلَّا مَوْتَتَنَا الأُولَى وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ} [الصافات:58 - 59] هؤلاء الكفار والعياذ الله.
قال تعالى: {إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ * لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُونَ} [الصافات:60 - 61].
فانتبه أن تظن أن الفوز العظيم الذي يأخذ شهادة استثمار بمائة ألف جنيه، فهذا ليس فوزاً بل هذا أكبر خسارة، لكن الفوز: {فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ} [آل عمران:185] هذا هو الفوز الحقيقي.
ذكر أن الحجاج قال لرجل: إن هذا اليوم حار فلا داعي للصيام فيه؟ قال: صمت ليوم هو أشد منه حراً، فقال له: كل هذا اليوم وصم غداً، قال له: هل يضمن لي الأمير أن أعيش إلى الغد، إذاً: لا يضمن، ومادام لا يضمن فلابد أن أعمل في هذا الوقت خيراً، فأنا لا أضمن أن أعيش إلى الصباح، ومن يضمن منا لنفسه أن يعيش إلى الإثنين القادم؟ فسبحان من يرث الأرض ومن عليها.(33/7)
الاستقامة بعد التوحيد طريق الفلاح
قال الله سبحانه في سورة فصلت: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ} [فصلت:30].
قد يقول بعض الناس: إن المحتال يقول: ربنا الله، والسارق عندما يسرق يقول: يا رب! استر، إذاً: الكل يقول: ربنا الله باللسان، لكن لو عمل بمقتضى هذا الكلام، فإنه لن يعمل الخطأ.
قالوا للإمام البصري: كم تخاف من الله؟ قال: لو ركبت أنت البحر فتحطمت سفينتك فلم يبق منها إلا لوح واحد فقط فأمسكت به بين الموج العاتي كيف حالك؟ قال له: في خوف شديد، قال له: أنا هكذا مع الله ليل نهار، لذلك انظر كم مقدار خوفه من الله.
جاء رجل إلى المدينة يريد أن يبشر عمر بن الخطاب بفتح المدائن، فقال: لا يعقل أن أدق على بيت أمير المؤمنين الساعة الثانية بعد منتصف الليل؟! سأذهب إلى المسجد النبوي أزور قبر النبي صلى الله عليه وسلم وأصلي في الروضة وأنتظره حتى يأتي.
فدخل الرجل المسجد فوجد رجلاً في القبلة ساجداً ينتحب ويبكي، وصوت نحيبه أصبح عالياً فاقترب الرجل منه، فسمعه يقول: يا رب! لائذ ببابك عائذ بجنابك لا تطردني من رحابك، فقال: يا إلهي! كم عمل هذا الرجل من ذنوب حتى يقول هذا الكلام الذي يحرق القلب؟ سوف أنتظره حتى ينتهي وأحدثه بحديثين عن الرحمة، لعله يجعله يشعر بالأمل قليلاً، فاقترب منه فإذا به أمير المؤمنين عمر، فقال له أمير المؤمنين: يا أخا الإسلام! إن نمت النهار كله أضعت رعيتي، وإن نمت الليل كله أضعت نفسي.
إذاً: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ} [فصلت:30] هذا هو القول: {ثُمَّ اسْتَقَامُوا} [فصلت:30] هذا هو العمل.
إذاً: ((رَبُّنَا اللَّهُ)) هو القول اللساني واليقين القلبي، ((ثُمَّ اسْتَقَامُوا))، هو الترجمة العملية، أي: العمل بالأركان.
إذاً: أركان الإيمان ثلاثة: تصديق بالجنان، وقول باللسان، وعمل بالأركان.(33/8)
سعة رحمة الله وتوبته على من تاب إليه
ورحمة الله واسعة، نسأل الله أن يرحمنا وإياكم.
روي أن رجلاً من بني إسرائيل قال لحبر يهودي: يا سيدي! لا يوجد ذنب نهى الله عنه إلا وارتكبته، ولم أعمل خيراً قط، فقال له: قتلت؟ قال: نعم، قال: شربت الخمر؟ قال: نعم، قال له: ارتكبت كل الذنوب، قال: نعم، فقال له الحبر: خذ عرجوناً قديماً من النخل وضعه أمامك وأكثر من الصالحات فإن اخضر العرجون فسيكون الله قد تاب عليك، فأخذ الرجل الكلام بصدق، قال: نجرب، فوضع العرجون وأكثر من الحسنات، فكان يقوم الليل ويصوم النهار ويعمل الخير، واستمر شهرين وثلاثة أشهر والعود لم يخضر، وأصبح الصباح مرة وإذا بالعود كله أخضر، فذهب إلى الحبر يقبل يده ورجله ويقول له: بارك الله فيك، أنت الذي هديتني أنت الذي عرفتني، قال: خيراً إن شاء الله، قال: العود اخضر، قال له: دلني كيف تبت حتى أتعلم منك؟ ولذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (رب حامل فقه ليس بفقيه، ورب حامل فقه إلى من هو أفقه منه، ورب مبلغ أوعى من سامع)، فالمهم تأخذ الكلام بمنطق اليقين.
قال تعالى: {تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا} [فصلت:30]، وتنزل الملائكة في ثلاثة أماكن: في الدنيا بالتثبيت، وهو الملك القرين الذي يكون معك باستمرار، يوفقك، فيقول لك: لا تقل هذا، ولا داعي لهذا، حتى عندما تقع في الخطأ وملك السيئات يريد أن يسجل، فالله عز وجل من رحمته يجعل الحسنات فوق السيئات، إذ إن ملك الحسنات يقول لملك السيئات: انتظر عسى أن يتوب، لماذا أنت مستعجل عليه؟ لماذا لا تحبه؟ كذلك ملك الحسنات يدعو له، ويقول: اللهم تب عليه، وهنيئاً لمن تدعو له الملائكة.
اللهم اجعلنا من الذين تدعو لهم الملائكة وتؤمن على دعائهم.
وعندما يدعو ملك الحسنات يؤمن ملك السيئات.
فإذا تاب العبد من سيئاته لم يكتبها الله عليه، مع أن الذنب وقع في الأرض، والأرض تشهد عليه يوم القيامة، فالله عز وجل ينسي الحفظة وينسي الأرض، فيجعل الأرض لا تذكر هذا الذنب، حتى لا تكون عليه شاهد إثبات، أليس الله رحيماً؟ كذلك إذا تاب العبد تقول الملائكة: اللهم فرحه كما فرحنا، إذاً: الملائكة تفرح بتوبتك، ويقولون: مادام أنه أدخل علينا الفرح وتاب فيا رب! أفرحه؟ ويفرح الله عبده بالجنة.
هذا هو التنزل الأول في الدنيا، والتنزل الثاني لحظة خروج الروح يثبتونه بالقول الثابت، قال تعالى: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ} [إبراهيم:27]، إذاً: في الدنيا -أي: في الحياة- ولحظة خروج الروح تثبيت.
واقرأ سورة البروج لتعرف من هم أصحاب الأخدود، فقد حفروا أخدوداً وكان يؤتى بالرجل فيقال له: أتؤمن أن الملك هو الإله؟ يقول: لا، ربي الذي في السماء، وهو خالق السماوات والأرض، فيرمونه في النار، فأتوا بامرأة لها من الأولاد سبعة، فأمسكوا واحداً واحداً من أولادها، وقالوا لها: أتكفرين بالله وتؤمنين بأن الملك هو الله؟ فقالت لهم: لا، فيرمون أول ولد، ثم الولد الثاني ثم الثالث وكان السابع رضيعاً له ثلاثة شهور، فقالوا لها: ستؤمنين بالملك أنه هو الله، أو أنت مصرة على أن الله هو خالق السماوات والأرض؟ فالمرأة تلجلجت، فنطق الرضيع وقال: يا أماه اثبتي إنك على الحق، فهؤلاء أربعة تكلموا في المهد أولهم سيدنا عيسى وآخرهم هذا الولد، فلما قال الرضيع: اثبتي على الحق رمت المرأة نفسها ومعها ابنها في تلك النار من دون أن يقوم بدفعها أي شخص إلى تلك النار.
وهذه السيدة آسية امرأة فرعون، استمر فرعون في تعذيبها إلى أن وصل إلى لسانها فقالت: يا رب! هذا الذي يؤنسني بذكرك، أي: هذا الذي بقي لي لذكرك، فقالت: {رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنَ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} [التحريم:11]، فإذا بملك الموت ينزل ليقبض روحها وهي تبتسم، وكما يقال: جسدها في الفرش وروحها في العرش، فجسمها أمامهم مسجى، لكن كرم الله واسع.
إذاً: التنزل يكون في الدنيا ولحظة الموت، ثم بعد ذلك يكون التنزل عند الخروج من القبر، إذ يمشي الملك أمام المؤمن فيدله على مكانه في الجنة.
تقول الملائكة: ستصلك رسالة من الله من الحي الذي لا يموت إلى الحي الذي لا يموت، صحيح أنه مات في الدنيا، لكن في الآخرة خلود بلا موت، والله يقول: عبدي! اشتقت إليك فزرني، ما هذا الكرم؟! إذاً: سنصبر ونصبر ونتمسك بالدين وننصر الإسلام ونتوكل على الله ونوقن بنصر الله عز وجل مهما يحدث من أذى ومصاعب.
قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ * نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنفُسُكُمْ} [فصلت:30 - 31].
إن الواحد منا لو رأى رؤيا صالحة لفرح بها، فكيف يكون فرحه لو أنه رأى الرسول صلى الله عليه وسلم في الرؤيا؟ أنت تقول: أنا أريد أن أسمع منك القرآن، فما بالك إذا سمعت القرآن ممن نزل عليه القرآن؟! فلا شيء يضيع في الآخرة أبداً، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (المؤذنون هم أطول الناس أعناقاً يوم القيامة)، وقارئ القرآن الذي يتقي الله عز وجل يقال له: (اقرأ وارتق ورتل كما كنت ترتل، فإن منزلتك عند آخر آية تقرؤها)، فلو كان يحفظ القرآن كله ويعمل به لكان بجانب الحبيب المصطفى.
قال تعالى: {نُزُلًا مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ} [فصلت:32] والنزل هو المكان المعد للضيافة، إذاً: الجنة هي نزل، وهذا النزل من غفور رحيم، وهذه الآية دليل على أن العبد مهما كان صالحاً فله ذنوب، ولكن يغفرها الغفور سبحانه، بل أكبر الكبائر يغفرها الله سبحانه، فلا تظن أن ذنبك أعظم من عفو الله، بل إن عفو الله أعظم.
قيل لـ أبي الحسن: مات أبو نواس فهل تصلي عليه؟ قال: لا، قالوا: لماذا؟ قال: لأنه كان مجاهراً بالمعصية، فليصل عليه واحد منكم، فلن أصلي عليه.
وهذا فرض كفاية وليس فرض عين، إن صنعه البعض سقط عن الآخرين.
وقد كان أبو نواس عجيباً، فقد قال له أمير المؤمنين: إن رأيتك عند الجواري سأفصل رأسك عن جسدك، وكان يريد أن يتزوج امرأة اسمها أم طوق، وهي لم ترض به في قصر أمير المؤمنين، ففجأة دخل أمير المؤمنين القصر فوجد أبا نواس فوق، فقال: ماذا تصنع؟ قال: يا أمير المؤمنين! قد هزني الشوق إلى أم طوق فتدحرجت من تحت إلى فوق.
وقبل أن يصلوا صلاة الجنازة على أبي نواس لقي صديقه ورقة في جيبه، فأخرج الورقة وإذا بها آخر ما كتب: يا رب إن عظمت ذنوبي كثرة فلقد علمت بأن عفوك أعظم إن كان لا يرجوك إلا محسن فبمن يلوذ ويستجير المجرم ما لي إليك وسيلة إلا الرجا وجميل عفوك ثم إني مسلم فعندما سمع أبو الحسن هذه الكلمات قال: يرحم الله أبا نواس، هيا لنصلي عليه، فصلى عليه لأنه ميت يحسن الظن بالله، ومن أحسن الظن بالله سيختم الله له بالخير إن شاء.
اللهم اجعلنا من محسني الظن بك يا رب العالمين!(33/9)
ذكر ما أعد الله للمؤمنين من رضوان كما في سورة الإنسان
تعالوا بنا إلى السورة التي كنا نسمعها في الركعة الثانية مع أخينا إمام المسجد، كان يقرأ من سورة الإنسان قوله تعالى: {هَلْ أَتَى عَلَى الإِنسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ} [الإنسان:1]، إلى قوله تعالى: {إِنَّ الأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُورًا} [الإنسان:5].
الأبرار: جمع بر أو بار، والبار هو البار بدينه، والبار بوالديه والبار بولده والبار بالمسلمين عامة، والبر: كلمة تجمع الخلق الحسن، فكل ذي خلق حسن بار، وهي صفة من صفات الله عز وجل، قال تعالى: {إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ} [الطور:28].
وبر الوالدين معروف، لكن كيف أبر ولدي؟
الجواب
بأن أعلمه القرآن وأجعله يستقيم على طريق الله وأبعده عن الأولاد السيئين، وأبر بابنتي فأول ما تصل إلى سن البلوغ أعلمها الحجاب، وأبر بزوجتي فأحسن إليها وأراعيها في أيامها التي لا تصلي فيها للعذر الشرعي في كل شهر، وأعاملها معاملة الأطفال، وذلك لأن تركيبها مختلف عن تركيب الذكر، هذه هي طبيعتها والله عز وجل خلقها هكذا، فالأيام التي لا تصلي فيها زوجتك تعاملها معاملة الأطفال؛ لكي لا نجعل للشيطان مكاناً فيدخل ويفرق، فهذا الشيطان ولد من أبناء إبليس عمله التفرقة بين الزوجين وخلق المشاكل بينهما، ولذلك كان يدرسنا أستاذ رحمة الله عليه، فكان أول ما تقول له امرأته: اسمع يا هذا! يقول: يا إلهي! هل اشتغل الشيطان الذي يفرق؟ قال تعالى: {إِنَّ الأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُورًا} [الإنسان:5].
والمزاج هنا ليس معناه المزاج الذي في الدماغ، بل هو ماء طعمه ممزوج بالكافور، وقلنا: إن هذا مجرد اسم فقط.
قال تعالى: {عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيرًا} [الإنسان:6] كيف هذا؟ إن ساكن الجنة وهو يمشي في ملكه في الجنة، إذ يقول الله للجنة: طوبى لك منزل الملوك، فكل واحد في الجنة ملك، ولذلك فإن الملائكة تعطيك قضيباً من زبرجد، فأنت في الدنيا تعتمد على عصاً فيها شوك وحالتها سيئة، من أجل أن تنهض لصلاة الصبح والكلاب تنبح وأنت تمشي وتضرب وتعكز عليها، لكن في الجنة قضيب ليس له مثيل، قال: ويمشي بها على الأرض، فيخط خطاً ويخرج له نهر من عسل مصفى، ويخط ثانية فيخرج له نهر من لبن، ويخط ثالثة يخرج له عين وهكذا قال: {يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيرًا} [الإنسان:6] فهو الذي فجرها وهو يمشي، ثم إنها تتفجر ولا تغرقه، (قال: يا رسول الله! هل يعقل أن تمشي من دون مجرى؟ قال: سبحان الذي سكبه وسبحان الذي حده) فلا نهر النيل، ولا الذي يرمون فيه حميراً ميتة وجاموساً ولا بقايا مصانع، بل هو ماء غير آسن، وأنهار من خمر، وأنهار من عسل مصفى، كل هذا نعيم أهل الجنة، قال تعالى: ((عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا)) أي: منها: ((عِبَادُ اللَّهِ)) اللهم اجعلنا منهم يا رب! ((يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيرًا)).
قال تعالى: {يُوفُونَ بِالنَّذْرِ} [الإنسان:7] فهذه أول صفة، والنذر ما فرضه الله عليك، قال تعالى: {ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ} [الحج:29] إذاً: النذر: الفرائض التي فرضها الله، لأن الذي يزحزحك عن النار إقامة الفرائض، ثم الذي يدخلك الجنة إقامة النوافل، يعني: الذي يزحزحك عن جهنم هي الفرائض، والذي يقربك ويرفعك إلى الجنة هي النوافل، قال الله تعالى في الحديث القدسي: (وما يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه).
اللهم اجعلنا منهم يا رب! والمعنى الآخر للنذر: ما نذرته أنت على نفسك في الطاعات، فتقول: إذا نجح الولد أو دخلت البنت الهندسة فإنني سأصوم خمسة عشر يوماً.
ولكن أنا سأوصيك كأخ مخلص أن تصدق في الوفاء بالنذر؛ لأن المصري متردد، في وقت الضيق يقول: أصوم شهرين، وأذبح خروفين وجاموسة وبقرة، ثم بعد أن يحقق الله له ما طلب يقول: يا شيخ! ألا تنفع الدجاجة؟! تنذر بالجاموسة ثم تقول: دجاجة؟! ألست كنت وقت النذر سخياً بالطاعات.
قال تعالى: {يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا} [الإنسان:7]، المستطير أصلها: من تطاير الشرر، ولا تقال إلا في الخطر، يقال: استطار الشر يعني: تطاير وبدأ، فشر يوم القيامة مستطير، لأن الله عز وجل يقول: يا جبريل! ائتني بجهنم، قال تعالى: {وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ} [الفجر:23]، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لها سبعون ألف زمام، كل زمام يجره سبعون ألف ملك) لها فحيح كفحيح الأفاعي، انظروا وتأملوا إلى صوت جهنم والعياذ بالله، فأول ما أن يراها عباد الله الصالحون والطالحون يهربون من أرض المحشر، فيجدون الملائكة محيطة بهم، قال تعالى: {وَنُزِّلَ الْمَلائِكَةُ تَنزِيلًا} [الفرقان:25]، يعني: محيطين بأرض المحشر.
وأرض المحشر ليس فيها حفرة تختبئ فيها، وليس فيها تل تختبئ وراءه، قال تعالى: {فَيَذَرُهَا قَاعًا صَفْصَفًا * لا تَرَى فِيهَا عِوَجًا وَلا أَمْتًا} [طه:106 - 107]، ولذلك دائماً نقول: الدار الآخرة ليس فيها كلام من عندنا، بل كله من كتاب الله ومن السنة الصحيحة، فلا نستطيع أن نأتي بكلام من عندنا.
إذاً: الملائكة تقوم بشد زمامها وتقوم بتوقيفهم، وتخرج من جهنم أعناق والعياذ بالله! فما من نبي مرسل ولا ملك مقرب ولا عبد صالح إلا ويجثو على ركبتيه، قال تعالى: {وَتَرَى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً} [الجاثية:28]، أي: جثا الإنسان على ركبتيه فوقع بأكمله على الأرض، والذكي جداً الذي يرفع نظره قليلاً وينظر من طرف خفي هل هي آتية أم أنها وقفت؟ فإذا اطمأن أن الملائكة أمسكوا بأزمتها، يبلغ الذي وراءه ويقول: وقفت، قم ارفع رأسك.
ولجهنم زفرة ثالثة، والزفرة الثالثة أصعب، فيأخذ سيدنا موسى بقوائم العرش، وينسى الخليل إبراهيم إسماعيل وينسى موسى هارون، وينسى عيسى مريم، وكل يقول: يا رب سلم! يا رب سلم! فيوم القيامة شره مستطير.
فالمرة الثالثة الملائكة تمسك أبداً، فيقوم لها الحبيب المصطفى، كما قال الشاعر: إن العظائم كفؤها العظماء.
فيقول: عودي يا نار الجبار إلى مكانك، فتقول النار: إليك عني يا محمد! فما وكلت بك ولا بأصحابك، فيقول الله عز وجل: يا نار! اسمعي لمحمد وأطيعي، فتخرج منها أعناق تلتقط بنيها كما يلتقط الطير الحب؛ ولذلك يقال: ذهب إلى أمه الهاوية: {وَمَا أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ * نَارٌ حَامِيَةٌ} [القارعة:10 - 11]، ومعلوم أن الأم في الدنيا تأخذ ولدها في حجرها بحنان، فتخيل أن شخصاً أمه جهنم، ألا يكون شره مستطيراً؟ نسأل الله أن يجعلنا وإياكم من أهل الجنة.
إذاً: أول صفة من صفات عباد الله أنهم يوفون بالنذر، ثم يخافون من الله يوم القيامة، فأنت عند أن تأتي إلى شخص منحرف فتقول له: اتق الله، فيقول: قلبي أبيض، ويقول: الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (من قال: لا إله إلا الله دخل الجنة).
قال تعالى: {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ} [الإنسان:8]، فهم ينفقون الأكل في سبيل الله، لذلك قلت قبل ذلك: لا تتصدق بالأكل بعد أن يتلف، أي: بعد سبعة أيام، ولكن تصدق يوم أن تطبخ، واغرف للمسكين عندما تغرف لنفسك، وعندما تشتري قميصاً لك اشتر قميصاً للمسكين، ولا تكن كمن قال الله تعالى فيهم: {وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ مَا يَكْرَهُونَ} [النحل:62].
إذاً: أخرج من أفاضل ما لك من الشيء الجيد؛ كي يقع ما أخرجته في كف الله عز وجل، فهؤلاء: {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا} [الإنسان:8]، ولا يمنون عليهم قال تعالى: {إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلا شُكُورًا} [الإنسان:9].
كان رجل ثري جالساً بجانب الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم فمر به فقير فلم إليه العباءة، فقال له الرسول صلى الله عليه وسلم: أخفت أن يعدو عليه غناك، أم خفت أن يؤذيك فقره، فقال الرجل الثري: نزلت له عن نصف مالي يا رسول الله! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هل تأخذ نصف ماله؟ قال: لا يا رسول الله! فقال: لماذا؟ قال: أخاف أن يدخلني من الغرور ما دخله.
فالمال سمي مالاً لأنه مال بالناس عن الحق، فاحذر أن ترى لنفسك فضلاً، فالفضل لله وحده.
قال تعالى: {إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا} [الإنسان:10]، يقال: العبوس يكون في الشفتين، والقمطرير يكون في الجبهة، فإنه يكون مكشراً جداً.
ذكر أن سيدنا الحبيب صلى الله عليه وسلم في ليلة المعراج كان كلما مر على ملك من الملائكة يقول: السلام عليكم، فيرد الملك السلام ويتهلل فرحاً بمحمد صلى الله عليه وسلم، فسلم عليه ملك الموت وهو مكشر، فقال صلى الله عليه وسلم: من هذا يا جبريل؟! قال: هذا ملك الموت ما ابتسم منذ أن خلق.
قال تعالى: {فَوَقَاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُورًا} [الإنسان:11].
النضرة الأولى: غاية النور، ثم نقاء السريرة، ثم الحسن والبهاء.
قال تعالى: {وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيرًا} [الإنسان:12]، لماذا؟ لأنه حرمه عليه في الدنيا، فقال له: انتبه أن تلبس في الدنيا، ومادام أنك لم تلبس في الدنيا فسنلبسك في الجنة، وقد وصلت إلى الرسول صلى الله عليه وسلم هدايا مناديل من الحرير اليماني، وكان الصحابة رضوان الله عليهم يلبسون لبساً خشناً، فعندما لمسوا الحرير قالوا: سبحان الله! ما أنعم ملمس هذا الحرير يا رسول الله! فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لمناديل سعد بن معاذ في الجنة أنعم ملمساً من هذا الحرير.
قال تعالى(33/10)
سبق كتاب الله سبحانه بإدخال المؤمنين الجنة وإبعادهم عن النار
قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُوْلَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ} [الأنبياء:101].
فقوله: ((إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى))، أي: الجنة، ((أُوْلَئِكَ عَنْهَا))، أي: عن النار: ((مُبْعَدُونَ)).
قال تعالى: {لا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا} [الأنبياء:102] فالعربي عندما كان يتضرر يقول: حس، حس، فكلمة التأوه العربية: حس، حس.
فالله عز وجل يقول: ((لا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا))، دليل على أن النار والعياذ بالله لها تأوه.
قال تعالى: {تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ} [الملك:8] أي: يأكل بعضها بعضاً والعياذ بالله، فقد قيل: لو وجد أهل النار ناراً من نيران الدنيا لاستراحوا فيها وناموا، فالمسألة ليست فوضى، إنما المسألة مسألة حساب.
قال تعالى: {وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنفُسُهُمْ خَالِدُونَ * لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الأَكْبَرُ وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ هَذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ} [الأنبياء:102 - 103].
يقول أهل العلم: كيف يقدر قدر دار غرسها الله بيده، يعني: كيف نقدر شيئاً الله هو الذي غرسه بيده؟ ليس خبير زراعة غرسها، بل الذي غرس أشجار الجنة خالق السماوات والأرض.
وجعلها مقراً لأحبابه، وملأها من رحمته وكرامته ورضوانه، وعطف نعيمها بالفوز العظيم، وملكها بالملك الكبير، وأودعها جميع الخير بحذافيره، وطهرها من كل عيب.
فإن سألت عن أرضها وتربتها فهي المسك والزعفران، وإن سألت عن سقفها فعرش الرحمن، فالله سبحانه يقول: {يَوْمَ تُبَدَّلُ الأَرْضُ غَيْرَ الأَرْضِ وَالسَّمَوَاتُ} [إبراهيم:48] فعندما تبدل فليس هناك سماء ولا سقف؛ وإنما سقف الجنة عرش الرحمن.
وإن سألت عن بلاطها فالمسك الأذفر، وإن سألت عن حصبائها فاللؤلؤ والجوهر، وإن سألت عن بنائها فلبنة من فضة ولبنة من ذهب، فهي طوبة من فضة وطوبة من ذهب والفواصل زعفران ومسك.
وإن سألت عن أشجارها؛ فما من شجرة إلا وساقها من ذهب وفضة، لا من حطب وخشب.
وإن سألت عن أنهارها فأنهار من لبن لم يتغير طعمه، وأنها من خمر لذة للشاربين، وأنهار من عسل مصفى.
وإن سألت عن طعامهم ففاكهة مما يتخيرون، ولحم طير مما يشتهون، وعن شرابهم فالتسنيم والزنجبيل والكافور، آنيتهم الفضة والذهب، في صفاء القوارير، وسعة أبوابها مسيرة أربعين سنة، وأبواب الجنة ثمانية، وأما حلق الباب فبين أن يصل راكب فرس من حلق إلى حلق سبعون سنة، وسيدنا الحبيب صلى الله عليه وسلم يقول: أمتي كظيظ على أبواب الجنة، وكأنهم يزدحمون على أبواب المساجد.
يسير الراكب بالجواد المضمر مائة سنة في ظل الشجرة الواحدة لا يقطعه.
وأما عن سعتها فإن أقل ملك في الدنيا من يسير في ملكه ألفي سنة.
وعن لباسها فالحرير والذهب، وعن وجوه أهلها فكالقمر ليلة التمام، وعن أعمار أهلها فثلاثون سنة، وعن سماعهم؛ فاسمعوا الحور العين ماذا يقلن لأزواجهن: نحن الناعمات فلا نبأس أبداً، الراضيات فلا نسخط أبداً، الخالدات فلا نموت أبداً، المقيمات فلا نظعن أبداً، فطوبى لمن كان لنا وطوبى لمن كنا له.
فلا تسمع كلمة سيئة حين تدخل عليهن فأنت في قصورهن وهن يقلن: أهلاً بحبيبنا.(33/11)
النظر إلى وجه الله الكريم
ينادي المنادي في أهل الجنة: إن لكم عند الله موعداً يريد أن ينجزكموه، يقولون: ما هو؟ ألم يبيض وجوهنا ويثقل موازيننا ويدخلنا الجنة ويزحزحنا عن النار؟ هل هناك شيء أكثر من هذا؟ فبينا هم كذلك إذ سطع لهم نور أشرقت له الجنة، فرفعوا رءوسهم فإذا الجبار جل جلاله وتقدست أسماؤه قد أشرف عليهم من فوقهم يقول: يا أهل الجنة! سلام عليكم، {سَلامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ} [يس:58].
فيقولون: اللهم أنت السلام ومنك السلام تباركت وتعاليت يا ذا الجلال والإكرام! ويسجد الجميع، فيقول: يا عبادي ارفعوا رءوسكم هنا دار جزاء لا دار عمل.
يا عبادي! لأسمعنكم صوتاً ما سمعتموه من قبل، قم يا داود! رتل مزامير الزبور، فقد كان سيدنا داود من جمال صوته يتوقف الماء عن الجريان عندما كان يرتل، وكان الجبال والطير تسبح وتؤوب مع داود عليه السلام، قال تعالى: {يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ} [سبأ:10]، ومن شدة حلاوة صوت داود يقولون: لا يوجد أجمل من هذا ولم يحصل مثله.
فيقول الله تعالى: أسمعتم صوتاً أجمل من هذا؟ يقولون: وعزتك وجلالك ما سمعنا، يقول: وعزتي وجلالي لأسمعنكم أجمل منه، قم يا حبيبي يا محمد! عليه الصلاة والسلام رتل عليهم سورة طه، فتسمع طه من فم طه وما أحلاها، وإذا بالله عز وجل يكشف عن وجهه الكريم ويقرأ عليهم سورة الرحمن، فيتجلى الرب لهم ويضحك إليهم، ويقول: أين عبادي الذين أطاعوني بالغيب؟ أين الذين لم يروني ولكن كانوا يعبدونني؟ والله إنا نراك يا رب! في كل وقت وحين، وفي كل حركة وسكنة، وفي النبات وفي الحشرة وفي جريان الماء وفي قوة الجبال وقوة الرياح وفي السماوات وما فيها، وفي الأجرام وفي الأرض وفي اليابسة وفي المحيطات وفي عالم البحار وفي الجو العادي وفي الأكسجين.
وفي كل شيء له آية تدل على أنه الواحد يقول الله تعالى: أين عبادي الذين أطاعوني بالغيب ولم يروني فهذا يوم المزيد؟ فيقولون مجتمعين على كلمة واحدة: يا رب! قد رضينا فارض عنا، فيقول: يا عبادي! إني رضيت عنكم، فهل رضيتم عني؟ ويقول تعالى: يا أهل الجنة! لو لم أرض عنكم لم أسكنكم جنتي، هذا يوم المزيد فاسألوني، فيجتمعون على كلمة واحدة، فيقولون: أرنا وجهك الكريم ننظر إليك.
فيكشف الله لهم الحجب ويتجلى لهم فيغشاهم من نوره ما لو قضى أن يحترقوا لاحترقوا.
ولا يبقى في المجلس أحد إلا وحاضره الله محاضرة.
يعني: حتى يقول كل واحد منهم: إن الله يكلمني أنا لوحدي فقط، فيذكر الله العبد ببعض غدراته في الدنيا، ويقول له: أتذكر يوم كذا، عملت كذا وكذا، وتذكر يوم كذا، أخطأت في كذا وكذا، فيقول العبد: يا رب! ألم تغفر لي؟ فيقول: بلى بمغفرتي بلغت منزلتك هذه.
قال تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة:22 - 23] وعندئذ يقول الله عز وجل: يا ملائكتي هؤلاء هم عبادي وجيراني وأهلي ووفدي أطعموهم واكسوهم واسقوهم وطيبوهم.
فتأتي السحاب فوقك وتمطر عليك ريح المسك، وترجع إلى أهل بيتك من الحور العين، فيقلن لك: لقد جئت إلينا بوجه أجمل من الوجه الذي تركتنا به، فتقول: وكيف لا أكون كذلك وقد جالسنا ربنا الملك سبحانه؟ فعندئذ يقول: يا عبادي! قد أسبغت عليكم رضواني فلا أسخط عليكم أبداً، قال تعالى: {وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ} [التوبة:72].
اللهم ارض عنا، اللهم ارض عنا، اللهم ارض عنا، اللهم ارض عنا، اللهم ارض عنا، اللهم ارض عنا، اللهم إن لم ترض عنا فاعف عنا، اللهم إن لم ترض عنا فاعف عنا، اللهم إن لم ترض عنا فاعف عنا، اللهم اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين.
اهدنا فيمن هديت، وعافنا فيمن عافيت، وتولنا فيمن توليت، وبارك لنا فيما أعطيت، وقنا واصرف عنا شر ما قضيت، إنك سبحانك تقضي ولا يقضى عليك، إنه لا يذل من واليت ولا يعز من عاديت، تباركت يا ربنا! وتعاليت، لك الحمد على ما أعطيت، ولك الشكر على ما أوليت، نستغفرك ونتوب إليك، نستغفرك ونتوب إليك، نستغفرك ونتوب إليك، نستغفرك ونتوب إليك، نستغفرك ونتوب إليك، نستغفرك ونتوب إليك، نستغفرك ونتوب إليك، نستغفرك ونتوب إليك، نستغفرك ونتوب إليك، نستغفرك ونتوب إليك، نستغفرك ونتوب إليك، نستغفرك ونتوب إليك.
نؤمن بك ونتوكل عليك، أنت القوي ونحن الضعفاء إليك، أنت الغني ونحن الفقراء إليك، أنت القوي ونحن الضعفاء إليك، أنت الغني ونحن الفقراء إليك، أنت القوي ونحن الضعفاء إليك، أنت الغني ونحن الفقراء إليك.
ارحمنا فوق الأرض وتحت الأرض ويوم العرض عليك، ثبت أقدامنا على الصراط يوم تزل الأقدام، ثبت أقدامنا على الصراط يوم تزل الأقدام، زحزحنا عن النار وما قرب إليها من قول أو عمل، وقربنا من الجنة وما قرب إليها من قول أو عمل، واسقنا من حوض الكوثر شربة لا نظمأ بعدها أبداً.
متعنا بالنظر إلى وجهك الكريم، متعنا بالنظر إلى وجهك الكريم، متعنا بالنظر إلى وجهك الكريم، متعنا بالنظر إلى وجهك الكريم، متعنا بالنظر إلى وجهك الكريم، متعنا بالنظر إلى وجهك الكريم.
اللهم لا تحرمنا لذة النظر إلى وجهك الكريم.
دعواهم فيها سبحانك اللهم وتحيتهم فيها سلام وآخر دعواهم أن الحمد لله رب العالمين.
ونصلي ونسلم على سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم.(33/12)