تعالى نبك
لنطفىء
بحارا من نار
www.islammi.8m.com
عبدالرحمن السنجري
دار البشائر
البكاء من خشية رب الأرض والسماء
قال تعالى:{ ويبكون للأذقان يبكون ويزيدهم خشوعا} الاسراء 18.
وقال جلّ اسمه:{ أولئك الذين أنعم الله عليهم من النبيين من ذرية آدم وممن حملنا مع نوح ومن ذرية ابراهيم واسرائيل وممن هدينا واجتبينا, اذا تتلى عليهم آيات الرحمن خرّوا سجّدا وبكيّا} مريم 58.
اغسلوا أربعا بأربع
1. وجوهكم بماء أعينكم..
2. وألسنتكم بذكر خالقكم..
3. وقلوبكم بخشية ربكم..
4. وذنوبكم بالتوبة الى مولاكم..
فابكوا كثيرا
كيف احتيالي اذا جاء الحساب غدا
وقد حشرت بأثقالي وأوزاري
وقد نظرت الى صحفي مسودّة
من شؤم ذنب قديم العهد أو طاري
وقد تجلى لهتك الستر خالقنا
يوم المعاد ويوم الذل والعار
يفوز كل مطيع للعزيز غدا
بدار عدن وأشجار وأنهار
لهم نعيم خلود لا نفاد له
يخلدون بدار الواحد الباري
ومن عصى في قرار النار مسكنه
لا يستريح من التعذيب في النار
فابكوا كثيرا فقد حق البكاء لكم
خوف العذاب بدمع واكف جار
المقدمة
الحمد لله حمدا كما ينبغي لجلال وجهه وعظيم سلطانه, والصلاة والسلام على أخوف الناس وأعرفهم بربّه, الهادي الى طريق الله المستقيم, وعلى آله وصحبه أجمعين.
وبعد, فقد قال الامام أبو الفرج ابن الجوزي رحمه الله:
الخوف: هو النار المحرقة للشهوات.
فاذاً فضيلته بقدر ما يحرق من الشهوة, وبقدر ما يكفّ عن المعصية ويحث على الطاعة. وكيف لا يكون الخوف ذا فضيلة وبه تحصل العفة, والورع, والتقوى, والمجاهدة, والأعمال الفاضلة التي يتقرّب بها الى الله تعالى فهو كما قال تعالى:
{ هدى ورحمة للذين هم لربهم يرهبون} الأعراف 154.
وقوله:{ رضي الله عنهم ورضوا عنه, ذلك لمن خشي ربه} البيّنة 8.
{ وخافون ان كنتم مؤمنين} آل عمران 175.
{ ويخرّون للأذقان يبكون ويزيدهم خشوعا} الاسراء 109.(1/1)
والخوف ثمرة العلم, وكلما زاد الانسان علما زاد خوفا, قال تعالى:{ انما يخشى الله من عباده العلماء} فاطر 28.
وقال صلى الله عليه وسلم:" ان للله ملائكة ترعد فرائصهم من مخافته".
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:" هل تسمعون ما أسمع اطّت السماء وحق لها أن تئط, والذي نفسي بيده ما فيها من موضع أربع أصابع الا وملك ساجد لله تعالى, أو قائم, أو راكع, ولو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلا ولبكيتم كثيرا ولخرجتم الى الصعدات تجأرون الى الله تعالى خوفا من عظيم سطوته وشدة انتقامه".
لهذا كان لصدر رسول الله صلى الله عليه وسلم أزيز كأزيز المرجل من البكاء.
وتقول عائشة رضي الله عنها: ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم قط مستجمعا ضاحكا, حتى أرى لهواته, انما كان يبتسم, وكان اذا رأى غيما وريحا عرف ذلك في وجهه.
فقلت يا رسول الله: الناس اذا رأوا الغيم فرحوا رجاء أن يكون فيه المطر, وأراك اذا رأيته عرفت الكراهة في وجهك!
فقال: يا عائشة: ما يؤمنني أن يكون فيه عذاب؟ قد عذّب قوم بالريح, وقد رأى قوم العذاب فقالوا:
{هذا عارض ممطرنا} الأحقاف 24.
وفي حديث عن أبي ذر الطويل عن النبي صلى الله عليه وسلم, قلت: يا رسول الله ما كانت صحف موسى؟, قال: "كانت عبرا كلها, عجبت لمن أيقن بالموت وهو يفرح,وعجبت لمن أيقن بالنار وهو يضحك.." الحديث, رواه ابن حبّان في صحيحه.
وروى الامام أحمد من حديث أنس بن مالك عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه سأل جبريل عليه السلام, فقال له"ما لي لا أرى ميكائيل عليه السلام يضحك", فقال جبريل: ما ضحك ميكائيل منذ خلقت النار.
وكان الحسن البصري يقول: ان المؤمنين قوم ذلّت والله منهم الأسماع والأبصار والأبدان حتى حسبهم الجاهل مرضى, هم والله أصحاب القلوب, ألا تراه يقول:{وقالوا الحمد لله الذي أذهب عنّا الحزن} فاطر 34.(1/2)
والله لقد كابدوا في الدنيا حزنا شديدا وجرى عليهم ما جرى على من كان قبلهم, والله ما أحزنهم ما أحزن الناس, ولكن أبكاهم وأحزنهم الخوف من النار.
الدمعة تطفىء بحارا من نار
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:" ما اغرورقت عين بمائها الا حرّم الله ذلك الجسد على النار, ولا سالت على خدّها فيرهق ذلك الوجه قتر, ولا ذلّة, ولو أن باكيا بكى في أمّة من الأمم لرحموا, وما من شيء الا له مقدار وميزان الا الدمعة فانه يطفئ بها بحارا من نار". المصنف , لعبدالرازق الصنعاني 11\189.
أسباب البكاء وموجباته
قال تعالى:{ يا أيها الذين آمنوا قو أنفسكم وأهليكم نارا وقودها الناس والحجارة عليها ملائكة غلاظ شداد لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون* يا أيها الذين كفروا لا تعتذروا اليوم انما تجزون ما كنتم تعملون* يا أيها الذين آمنوا توبوا الى الله توبة نصوحا عسى ربّكم أن يكفّر عنكم سيئاتكم ويدخلكم جنّات تجري من تحتها الأنهار يوم لا يخزي الله النبي والذين آمنوا معه نورهم يسعى بين أيديهم وبأيمانهم يقولون ربنا أتمم لنا نورنا واغفر لنا انّك على كل شيء قدير} التحريم 6-8.
لم لا يبكي الانسان على نفسه المرهونة بالنار, والموت راكب على عنقه, والقبر منزله, والقيامة موقفه, والخصماء أقوياء, والقاضي جبّار, والمنادي جبريل, والسجن جهنّم, والسجّان الزبانية, وهو لا يصبر على حرّ الشمس, فكيف يصبر على لسعات الحيات والعقارب؟.
وفي مسند أحمد من حديث أبي أمامة, قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:" تدنو الشمس يوم القيامة على قدر ميل, ويزاد في حرّها كذا وتغلي منها الرؤوس كما تغلي القدور, , يعرقون فيها على قدر خطاياهم, فمنهم من يبلغ الى كعبيه, ومنهم من يبلغ الى ساقيه, ومنهم من يبلغ الى وسطه, ومنهم من يلجمه العرق".(1/3)
اذا كان هذا حرّ الشمس فكيف سيكون حرّ النار, واذا كانت نار الدنيا كما قال رسولنا الأكرم صلى الله عليه وسلم:" جزء من سبعين جزءا من نار جهنم", فاللهم أجرنا من النار, وأدخلنا الجنّة دارك دار القرار برحمتك يا عزيز يا غفّار.
حدّثوا أن شيخا رأى صبيّا يتوضأ على ساحل نهر وهو يبكي, فقال الشيخ: يا صبي ما يبكيك؟
فقال الصبي: يا عم قرأت القرآن حتى جاءت هذه الآية: { يا أيها الذين آمنوا قوا أنفسكم وأهليكم نارا}التحريم 6.
فخفت أن يلقيني الله في النار.
قال الشيخ: أنت غير مؤاخذ لأنك لم تبلغ الحلم فلا تخف, انك لا تستحق النار.
فقال الصبي: يا شيخ أنت عاقل ألا ترى أن الناس اذا أوقدوا نارا لحاجتهم وضعوا صغار الحطب ثم وضعوا الكبار!..
فبكى الشيخ وقال: ان الصبي أخوف منّا من النار.
صور من أهوال يوم القيامة
بكت عائشة رضي الله عنها ذات يوم فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم:" ما يبكيك يا عائشة؟"
فقالت: ذكرت النار فبكيت, فهل تذكرون أهليكم يوم القيامة يا رسول الله؟
فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم:" أمّا في ثلاثة مواطن فلا يذكر أحد أحد"
الموطن الأول:
عند تطاير الكتب فلا يعلم أيؤتى كتابه بيمينه أم بشماله".
لأن كل انسان ينتظر صحيفة اعماله ونتيجة دنياه, فلا يدري ما هي النتيجة أهي الفوز أم الخسارة, أهي بطاقة الى الجنة أم الى النار, كل انسان مشغول بنفسه وما اقتترفه من ذنوب ولسان حاله يردد:
أنا مشغول بذنبي عن ذنوب العالمينا
وخطايا أثقلتني جعلت قلبي حزينا
ولقد كنت جليلا في عيون الناظرينا
صرت في ظلمة قبري ثاويا فيه رهينا
تتطاير الكتب وكل في خوف شديد.
{أم يحسبون أنّا لا نسمع سرّهم ونجواهم, بلى ورسلنا لديهم يكتبون} الزخرف 80.
الموطن الثاني:
"عند الميزان حتى يعلم أيخف أم يثقل؟".
{(1/4)
ونضع الموازين القسط ليوم القيامة فلا تظلم نفس شيئا وان كان مثقال حبة من خردل أتينا بها وكفى بنا حاسبين} الأنبياء 47.
{ فأمّا من ثقلت موازينه* فهو في عيشة راضية* وامّا من خفّت موازينه* فأمّه هاوية* وما أدراك ما هيه* نار حامية} القارعة 6-11.
الموطن الثالث:
" عند الصراط حتى يعلم أيجوز أم يسقط".
والصراط طريق يوضع على ظهر جهنّم, يمرّ عليه الأولون والآخرون بعد انصرافهم من الموقف, يجوز عليه المؤمنون الموفّقون الى دار السلام, ويسقط من عليه الفجرة العصاة.
فضل البكاء من خشية الله
كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:" شيّبتني هود وأخواتها الحاقّة, والواقعة, وعمّ يتساءلون, واذا الشمس كوّرت والغاشية".
قال العلماء: لعلّ ذلك لما فيهنّ من التخويف الفظيع والوعيد الشديد, وصور الآخرة, وعجائبها, وفظائعها, وأحوال الهالكين, والمعذّبين, مع ما اشتملت عليه هود من الأمر للنبي صلى الله عليه وسلم بالاستقامة كما أمر هو ومن معه.
وان أعظم زاجر عن الذنوب هو خوف الله تعالى وخشية انتقامه وسطوته, وحذر عقابه وغضبه وبطشه.
{ فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم}. النور 63.
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:" عينان لا تمسّهما النار, عين بكت من خشية الله, وعين باتت تحرس في سبيل الله".
وقد ذكر صلوات ربي وسلامه عليه من بين السبعة الذين يظلّهم الله في ظلّه يوم القيامة يوم لا ظلّ الا ظلّه:"... ورجل ذكر الله خاليا ففاضت عيناه".
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:" لا يلج النار رجل بكى من خشية الله".
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:" اذا اقشعرّ جسد العبد من مخافة الله تعالى تحاتت عنه خطاياه كما يتحاتّ عن الشجرة اليابسة أوراقها".(1/5)
ثم يقول ربّ العزّة جلّ اسمه في الحديث القدسي:" وعزّتي وجلالي لا أجمع على عبدي خوفين, ولا أجمع له أمنين, ان أمنني في الدنيا أخفته يوم القيامة, وان خافني في الدنيا أمّنته يوم القيامة".
تربّى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم على هذه التربية واقتدوا بسيّدهم فكانوا مصابيح خير وهدى, رضوان الله عليهم أجمعين.
صور من بكاء الصحابة رضوان الله عليهم
كان أبو بكر رجلا بكّاء لا يملك عينيه اذا قرأ القرآن.
وكان في وجه عمر بن الخطّاب خطّان أسودان من البكاء, وكان يسمع آية فيمرض فيعاد أياما.
وأخذ يوما تبنة من الأرض, فقال: يا ليتني كنت هذه النبتة, يا ليتني لم أك شيئا مذكورا, يا ليت أمّي لم تلدني.
ولما طعن رضي الله عنه وقربت وفاته قال لابنه: ويلك ضع خدّي على الأرض لا أمّ لك, وويلي ثم ولي ان لم يرحمني.
ورؤي عليّ في بعض مواقفه وقد أرخى الليل ستوره, وغارت نجومه, وقد تمثّل في محرابه قابضا على لحيته, يتململ تململ السليم _اللديغ_, ويبكي بكاء الحزين, وكأني أسمعه يقول: يا ربّنا, يا ربّنا.. يتضرّع اليه.
ثم يقول: يا دنيا, يا دنيا, اليّ تعرضت, أم بي تشوقت, هيهات هيهات غرّي غيري, وقد بتتك ثلاثا لا رجعة لي فيك, فعمرك قصير وعيشك حقير, وخطرك كبير, آه من قلّة الزاد وبعد السفر ووحشة الطريق.
ووصف الامام علي رضي الله عنه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: والله لقد رأيت أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فما أرى اليوم شيئا يشبههم, لقد كانوا يصبحون شعثا غبرا, بين أعينهم أمثال ركب المعزى, فقد باتوا لله سجّدا وقياما, يتلون كتاب الله, يراوحون بين جباههم وأقدامهم, فاذا أصبحوا ذكروا الله عز وجل, مادوا كما يميد الشجر في يوم الريح, وهملت أعينهم حتى تبلّ ثيابهم.
ثم يقول: والله لكأن القوم باتوا غافلين. أي أهل زمانه فم بالأهل زماننا!!
قال يحيى بن معاذ الرازي في مناجاته:
الهي لا يطيب الليل الا بمناجاتك(1/6)
ولا يطيب النهار الا بطاعتك
ولا تطيب الآخرة الا بعفوك
ولا تطيب الجنة الا برؤيتك.
صور من بكاء التابعين ومن بعدهم
كان عمر بن عبد العزيز رحمه الله اذا ذكر الموت انتفض انتفاضة الطير, ويبكي حتى تجري دموعه على لحيته, وبكى ليلة فبكى أهل الدار, فلما تجلّت عنهم العبرة قالت فاطمة زوجته: بأبي أت يا أمير المؤمنين ممّ بكيت؟!
قال: ذكرت منصرف القوم من بين يدي الله تعالى, فريق في الجنة وفريق في السعير.
ثم صرخ وغشي عليه.
لقد كان عمر بن عبد العزيز يجمع الفقهاء كل ليلة, ويتذاكرون الموت والآخرة, فلا يزالون يبكون حتى كأنه بين أيديهم جنازة.
وكان ساكتا وأصحابه يتكلمون فقالوا له: ما لك لا تتكلم يا أمير المؤمنين؟!.
قال لهم: كنت مفكّرا في أهل الجنة كيف يتزاورون فيها, وفي أهل النار كيف يصطرخون فيها.
ثم بكى رحمه الله.
عن أبي معشر قال: رأيت أبا حازم يبكي ويمسح بدموعه وجهه, فقلت: يا أبا حازم لم تفعل هذا؟!. قال: بلغني أن النار لا تصيب موضعا أصابته الدموع من خشية الله.
قال أحد صالحين: من أذنب ذنبا وهو يضحك فان الله تعالى يدخله النار وهو يبكي, ومن أطاع الله وهو يبكي فان الله تعالى يدخله الجنة وهو يضحك.
قيل لأحد الصالحين كيف أصبحت؟
فبكى وقال: أصبحت والله في غفلة عظيمة عن الموت, مع ذنوب كثيرة قد أحاطت بي, وأجل يسرع كل يوم في عمري, وموئل لست أدري علام أهجم..
ثم بكى رحمه الله.
عن المزني قال: دخلت على اشافعي في علته التي مات فيها فقلت: كيف أصبحت؟
فقال: أصبحت من الدنيا راحلا, ولاخواني مفارقا, ولكأس المنيّة شاربا, ولسوء أعمالي ملاقيا, وعلى الله واردا, فلا أدري روحي تصير الى جنّة فأهنئها, أو الى مار فأعزيها؟..
ثم بكى وأنشأ يقول:
فلما قسى قلبي وضاقت مذاهبي
جعلت الرجا مني لعفوك سلّما
تعاظمني ذنبي فلما قرنته
بعفوك ربي كان عفوك أعظم
وما زلت ذا عفو عن الذنب لم تزل
تجود وتعفو منّة وتكرّما(1/7)
قال أبو حازم: عجبا لقوم يعملون لدار يرحلون عنها كل يوم مرحلة, ويدعون أن يعملوا لدار يرحلون اليها كل يوم مرحلة..
قال عبد الرحمن بن يزيد ليزيد بن مرثد وقد رآه يكثر من البكاء: ما لي أرى عينيك لا تجف؟
قال: وما مسألتك عنه؟!
فقال: عسى أن ينفعني الله به.
قال: يا أخي ان الله قد توعّدني ان أنا عصيته أن يسجنني في النار, والله لو لم يتوعدني أن يسجنني الا في حمّام, لكنت حريّا أن لا تجف لي عين.
قال: فقلت له: فهكذا أنت في خلواتك؟..
قال: وما مسألتك عنه؟
قلت: عسى الله أن ينفعني به.
قال: والله ان ذلك, أي السجن في النار,ليعرض لي حين أسكن الى أهلي, أي لارادة وطئها, فيحول ذلك بيني وبين ما أريد, وانه ليوضع الطعام بين يدي فيعرض لي فيحول بيني وبين أكله, حتى تبكي امرأتي ويبكي صبياننا لا يدرون ما أبكانا, ولربما أضجر ذلم امرأي فتقول: يا ويحها ما خصّت به من طول الحزن معك في الحياة الدنيا ما تقرّ لي معك عين.
عن مهران بن عمرو الأسدي قال: سمعت الفضيل بن عيّاض عشيّة عرفة بالموقف, وقد حال بينه وبين الدعاء البكاء, يقول: واسوأتاه, وافضيحتاه, وان عفوت!..
عن أحمد بن سهل قال: قدم علينا سعد بن زنبور فأتيناه فحدثنا, قال: كنا على باب الفضيل بن عياض فاستأذنا عليه فلم يؤذن لنا, فقيل لنا: انه لا يخرج اليكم أو يسمع القرآن.
قال: وكان معنا رجل مؤذن وكان صيّتا فقلنا له: اقرأ: {ألهاكم التكاثر} التكاثر 1.
ورفع بها صوته, فأشرف علينا الفضيل بن عيّاض وقد بكى حتى بلّ لحيته بالدموع ومعه خرقة ينشف بها الدموع من عينيه, وأنشأ يقول:
بلغت الثمانين أو جزتها
فماذا أؤمل أو أنتظر
أتى لي ثمانون من مولدي
وبعد الثمانين ماذا ينتظر
علتني السنون فأبلينني
فرقّ عظامي وكل البصر
قيل للحسن البصري رحمه الله: يا أبا سعيد كيف نصنع بمجالسة قوم يحدّثونا عن الرجاء حتى تكاد قلوبنا تطير؟(1/8)
فقال للسائل: انك والله ان تصحب قوما يخوّفونك حتى تدرك أمنا, خير لك من أن تصحب أقواما يؤمنونك حتى تلحق المخاوف.
وقال صلوات ربي وسلامه عليه رسول الله محمد بت عبد الله:" لو يعلم المؤمن ماعند الله من العقوبة ما طمع بجنّته أحد, ولو يعلم الكافر ما عند الله من الرحمة ما قنط من جنّته أحد."
ذكر الموت والنار يدعو الى البكاء
قال أبو الدرداء رضي الله عنه لأحد اخوانه في الكعبة: أليس اذا أراد أحدكم سفرا أن يتزود له بزاد؟
قالوا بلى:
قال: حجّوا حجّة لعظائم الأمور, وصلّوا ركعتين في جوف الليل لوحشة القبور, وصوموا يوما شديدا حرّه لطول يوم النشور.
اغسلوا أريعا بأربع, وجوهكم بماء أعينكم, وألسنتكم بذكر خالقكم, وقوبكم بخشية ربكم, وذنوبكم بالتوبة الى مولاكم.
عن جعفر بن سليمان قال: بكى ثابت حتى كادت عينه تذهب, فجاؤوا برجل يعالجها.
فقال الرجل: أعالجها على أن تطيعني.
قال: وأيّ شيء؟
قال: على أن لا تبكي.
قال: فما خيرهما ان لم تبكيا.
وأبى أن يتعالج.
قال الفضيل بن عيّاض رحمه الله: لو أن الدنيا كلها بحذافيرها جعلت لي حلالا لا أحاسب بها في الآخرة لكنت أتقذّرها كما يتقذّر أحدكم الجيفة اذا مرّ بها أن تصيب ثوبه.
وكانت قراءة الفضيل بن عيّاض حزينة شهية بطيئة مترسّلة كأنه يخاطب انسانا, وكان اذا مرّ بآية فيها ذكر الجنة يردّدها.
وكان يلقي له حصير بالليل في مسجده فيصلي في أوّل الليل ساعة حتى تغلبه عينه فيلقي نفس على الحصير فينام قليلا ثم يقوم, فاذا غلبه النوم نام, ثم يقوم هكذا حتى يصبح.
وسمع واعظا في المسجد الحرام يصف شيئا من صفة النار فصاح صيحة حتى غشي عليه فطرح نفسه.
قال نافع خرجت م ابن عمر في بعض نواحي المدينة ومعه أصحابا له, فوضعوا سفرة, فمرّ بهم راع فقال عبد الله: هلمّ يا راعي فأصب من هذه السفرة.
فقال: اني صائم.(1/9)
فقال له عبد الله: في مثل هذا اليوم الشديد حرّه, وأنت في هذه الشعاب في آثار هذه الغنم, وبين الجبال ترعى هذه الغنم وأنت صائم؟!..
قال الراعي: أبادر أيامي الخالية.
فعجب ابن عمر وقال: هل لك أن تبيعنا شاة من غنمها نجتررها ونطعمك من لحمها ونعطيك ثمنها؟
قال: انها ليست لي, انها لمولاي.
قال: فما عسيت أن يقول لك مولاك ان قلت: أكلها الذئب.
فمضى الراعي وهو رافع اصبعه الى السماء وهو يقول: فأين الله؟ أين الله؟
قال فلم يزل ابن عمر يقول: قال الراعي: فأين الله.
فما عدا أن قدم المدينة فبعث الى سيّده فاشترى منه الراعي والغنم, فأعتق الراعي ووهب له الغنم.
ورويت هذه القصة عن سيدنا عمر رضي الله عنه فقال له: أعتقتك هذه الدنيا وأرجوا أن تعتقك في الآخرة.
عن عيسى بن عمر قال: كان عمرو بن عتبة بن فرقد يخرج على فرسه ليلا فيقف على القبور فيقول: يا أهل القبور قد طويت الصحف, وقد رفعت الأعمال, ثم يبكي ويصفّ بين قدميه حتى يصبح, فيرجع فيشهد صلاة الصبح.
عن ابن ثوبان قال: حدثني من سمع أبا عبد رب يقول لمكحول: يا أبا عبد الله أتحب الجنة؟
قال: ومن لا يحب الجنة؟
قال: فأحبّ الموت فانك لن ترى الجنة حتى تموت.
عن مسعر بن عبد الأعلى التيمي, قال: من أوتي من العلم ما لا يبكيه لخليق أن لا يكون أوتي علما ينفعه, لأن الله تبارك وتعالى نعت العلماء فقال:
{ ان الذين أوتوا العلم من قبله اذا يتلى عليهم يخرّون للأذقان سجّدا} الاسراء 107.
عن ابراهيم بن الأشعث قال: كنا اذا خرجنا مع الفضيل في جنازة لا يزال يعظ ويبكي ويذكّر حتى لكأنه يودّع أصحابه ذاهب الى الآخرة, حتى يبلغ المقابر فيجلس فكأنه بين الموتى جلس من الحزن والبكاء حتى يقوم, ولكأنه رجع من الآخرة يخبر عنها.
عن اسحاق بن ابراهيم الطبري قال: سمعت الفضيل بن عيّاض يقول: اذا لم تقدر على قيام الليل وصيام النهار فاعلم أنك محروم مكبّل كبّلتك خطيئتك.(1/10)
كان سعيد بن السائب الطائفي لا تكاد تجف له دمعة انما دموعه جارية وهرة, ان صلّى فهو يبكي, وان لقيته في طريق فهو يبكي.
قال الثوري رحمه الله: جلست ذات يوم أحدّث ومعنا سعيد بن السائب الطائفي,فجعل يبكي حتى رحمته, فقلت: يا سعيد ما يبكيك.. وأنت تسمعني أذكر أهل الخير وفعالهم؟!..
فقال: يا سفيان وما يمنعني من البكاء اذا ذكرت مناقب أهل الخير وكنت عنهم بمعزل!
قال سفيان حق له أن يبكي.
من كبرت ينه كان خوفه أكبر
عن بكّار بن عبد الله عن وهب قال: قرأت في بعض الكتب أن مناديا ينادي من السماء الرابعة كل صباح:
أبناء الأربعين زرع قد دنا حصاده,
أبناء الخمسين مذا قدّمتم وماذا أخّرتم؟
أبناء الستين لا عذر لكم,
ليت الخلق لم يخلقوا, واذا خلقوا علموا لما خلقوا, قد أتتكم الساعة فخذوا حذركم.
عن الحسن بن علي العابد قال: قال فضيل ابن عيّاض لرجل: كم أتت عليك؟
قال: ستون سنة.
قال: فأنت منذ ستين سنة تسير الى ربك وتوشك أن تبلغ.
فقال الرجل: يا أبا علي انا لله وانا اليه راجعون.
فقال الفضيل: تعلم ما تفسيره؟
فقال الرجل: فسّره لنا يا أبا علي؟
قال: قولك انّا لله, تقول أنا لله عبد, وأنا الى الله راجع, فمن علم أنه عبد لله وأنه اليه راجع فليعلم بأنه موقوف, ومن علم بأنه موقوف فليعلم بأنه مسؤول, ومن علم أنه مسؤول فليعدّ للسؤال جوابا.
فقال الرجل: فما الحيلة؟
قال: تستره.
قال: ما هي؟
قال: تحسن فيما بقي يغفر لك ما مضى وما بقي, فانّك ان أسأت فيما بقي أخذت بما مضى وبقي.
عن العمارة بن العلاء قال: سمعت عمر بن ذر يقول:
اعملوا لأنفسكم رحمكم الله في هذا الليل والنهار, والمحروم من حرم خيرهما, وانما جعلا سبيلا للمؤمنين الى طاعة ربهم ووبالا على الآخرين للغفلة عن أنفسهم, فأحيوا أنفسكم بذكره, فانما تحيا القلوب بذكر الله.(1/11)
كم من قائم في هذا الليل قد اغتبط بقيامه في حفرته, وكم من نائم في هذا الليل قد ندم على طول نومه عندما يرى من كرامة الله عز وجل للعابد غدا, فاغتنموا ممر الساعات والليالي والأيام رحمكم الله.
عن بكر العابد قال: قلت لسفيان بن عيينة: يا أبا محمد أبلغك أن الناس يزدحمون يوم القيامة؟
فقال: الأقدام يوم القيامة هكذا ووضع يده فوق الأخرى.
ثم قال بكر: بلغني أن الناس يخرجون من قبورهم وهم يقولون: الماء الماء.. العطش العطش..
ثم قال: أشد الناس حسرة يوم القيامة ثلاثة:
رجل كان له عبد فجاء يوم القيامة أفضل عملا منه, ورجل له مال فلم يتصدّق منه فورثه غيره فتصدّق منه, ورجل عالم لم ينتفع بعلمه فعلّم غيره فانتفع به.
كان عمر بن المنكدر لا ينام الليل يكثر البكاء على نفسه, فشقّ ذلك على أمه فقالت لأخيه محمد بن المنكدر: ان الذي يصنع عمر يسقّ عليّ فلو كلمته في ذلك. فاستعان عليه بأبي حازم فقالا له: ان الذي تصنع يشق على أمك.
قال: فكيف أصنع..؟ ان الليل اذا دخل عليّ هالني فأستفتح القرآن وما تنقضي نهمتي فيه.
قالا: فالبكاء؟
قال: آية من كتاب الله أبكتني.
قالا: وما هي؟
قال: قول اله عز وجل:{ وبدا لهم من الله ما لم يكونوا يحتسبون} الزمر 47.
فهو يخشى أن يبدو له من الله ما لم يكن يحتسب!.. هذا الذي أبكاه.. فلنبك.
بعث سليمان بن عبد الملك الى أبي حازم فجاءه فقال: يا أبا حازم ما لنا نكره الموت؟
قال: لأنكم عمرتم دنياكم وأخربتم أخراكم, فأنتم تكرهون أن تنتقلوا من العمران الى الخراب.
قال صدقت, فكيف القدوم على الله عز وجل؟
قال: أما المحسن فكالغائب يقدم على أهله فرحا مسرورا, وأما المسيء فكالآبق يقدم على مولاه خائفا مذعورا.
فبكى سليمان وقال: ليت شعري ما لنا عند الله يا أبا حازم؟
قال: اعرض نفسك على كتاب الله تعالى فانك تعلم ما لك عند الله.
قال: وأنّى أصيب ذلك؟(1/12)
قال: عند قوله تعالى:{ ان الأبرار لفي نعيم* وان الفجّار لفي جحيم} الانفطار 14.
فقال سليمان: وأين رحمة الله؟
قال:{قريب من المحسنين} الأعراف 56.
قال: يا أبا حازم ادع لنا بخير.
قال: اللهم ان كان سليمان وليّك فيسّره للخير, وان كان عدوّك فخذ الى الخير بناصيتك.
قال أحد العلماء: كان أشياخنا يحاسبون أنفسهم على ما يتكلمون به وما يفعلونه, ويقيّدونه في دفتر, فاذا كان بعد العشاء حاسبوا نفوسهم, وأحضروا دفترهم, ونظروا فيما صدر منهم من قول وعمل, وقابلوا كلا بما يستحقه, وان استحق استغفارا استغفروا, أو التوبة تابوا, أو شكرا شكروا ثم ينامون, فزدنا عليهم في هذا الباب: الخواطر, فكنا نقيّد ما نحدّث به نفوسنا ونهمّ به, ونحاسبها عليه.
قال الامام الحسن البصري رحمه الله: ان المؤمن قوّام على نفسه, يحاسب نفسه لله عز وجل, وانما خفّ الحساب يوم القيامة على قوم حاسبوا أنفسهم في ادنيا, وانما سقّ الحساب على قومأخذوا هذا الأمر من غير محاسبة.
اشترى رجل غلاما أسودا بأربعة دنانير فكان لا ينام ولا يدع مولاه ينام, فاذا جنّ الليل قال سيّده, يا غلام لما لا تنام ولا تدعنا ننام؟
فقال الغلام: يا مولاي اذا جنّ الليل تذكّرت ظلمة القبر وظلمة جهنّم فيطير نومي, فاذا ذكرت الوقوف بين يدي ربي عظم عمّ قلبي, واذا ذكرت الجنّة ونعيمها تضاعف شوقي اليها, فكيف لي بالنوم با مولاي؟!.
فلمّا سمع سيّده منه ذلك خرّ مغشيّا عليه, فلما أفاق قال: يا غلام مثلي لا يصلح أن يملك مثلك, اذهب أنت حر لوجه الله.
ورووا أن رجلا له ابن صغير يبيت معه في الفراش, وفي ليلة من الليالي اضطرب الولد ولم ينم, فقال له: يا ولدي أبك وجع؟
قال: لا يا أبي, ولكن غدا يوم الخميس أعرض ما كسبت من العلم على معلّمي في الأسبوع, فأخاف أن يجد الأستاذ خطأ فيضربني ويغضب عليّ.(1/13)
فصاح الرجل وأهال التراب على رأسه وبكى. وقال: أنا أحقّ بهذا الخوف ليوم العرض على الرحمن بما كسبت في الدنيا من العصيان كما قال تعالى:
{ وعرضوا على ربّك صفّا لقد جئتمونا كما خلقناكم أوّل مرّة, بل زعمتم ألّن نجعل لكم موعدا} الكهف 42.
هكذا كان المسلمون, وبهذا كانو يفكّرون, وللدار الآخرة يعملون..
الناس صنفان موفّق ومخذول
عن محمد بن سليمان القرشي قال: بينا أنا أسير في طريق اليمن اذا أنا بغلام واقف في الطريق في أذنيه قرطان, في كل قرط جوهرة, يضيء وجهه من ضوء تلك الجوهرة, وهو يمجّد ربه بأبيات من الشعر, فسمعته يقول:
مليك في السماء به افتخاري
عزيز القدر ليس به خفاء
فدنوت منه فسلّمت عليه فقال: ما أنا برادّ عليك حتى تؤدي من حقي ما يجب لي عليك.
قلت: وما حقك؟
قال: أنا غلام على مذهب ابراهيم الخليل عليه السلام لا أتغدى ولا أتعشى كل يوم حتىأسير الميل والميلين في طلب الضيف.
فأجبته الى ذلك, فرحّب بي وسرت معه حتى قربنا من الخيمة وصاح: يا أختاه.
فأجابته جارية من الخيمة: يل لبيّكاه.
فقال: قومي الى ضيفنا.
فقالت الجارية: حتى أبدأ بشكر المولى الذي سبب لنا هذا الضيف, فقامت فصلّت ركعتين شكرا لله تعالى.
فأدخلني الخيمة وأجلسني, وأخذ الغلام الشفرة وأخذ عناقا ليذبحها, فلما جلست في الخيمة نظرت الى أحسن الناس وجها, فكنت أسارقها النظر ففطنت لبعض لحظاتي اليها, فقالت: مه أما علمت أنه نقل الينا عن صاحب يثرب صلى الله عليه وسلم أن زنى العينين النظر, أما اني ما أردت بهذا أن أوبّخك, ولكني أردت أن أؤدبك لكي لا تعود الى مثل هذا.
فلما كان النوم بت أنا والغلام خارجا وباتت الجارية في الخيمةو وكنت أسمع دويّ القرآن بالليل كله بأحسن صوت يكون وأرقّه, فلما أصبحت قلت للغلام: صوت من كان ذلك؟
فقال: تلك أختي تحيي الليل كله الى الصباح.
فقلت: يا غلام أنت أحق بهذا العمل من أختك, أنت رجل وهي امرأة.(1/14)
قال: فتبسّم وقال لي: يا فتى أما علمت أنّه موفّق ومخذول؟
بكاء الرشيد من خشية الله
عن الفضل بن الربيع قال: لما حجّ أمير المؤمنين هارون الرشيد أراد أن يسترشد بعلماء الأمة, فقال: انظر لي رجلا أسأله.
فذهبت به الى سفيان بن عيينة فحدّثه ساعة ثم قضى الرشيد دينه وانصرف, ثم التفت اليّ وقال: ما أغنى عني صاحبك شيئا, وكأنه لم يجد دواء عنده لعلته.
وقال لي: انظر لي رجلا أسأله. فمضيت به الى عبد الرزّاق بن همّام فحادثه ساعة, ثم قال له: عليك دين؟ قال: نعم.
قال: يا أبا عباس اقض دينه.
فلما خرجنا قال: ما أغنى عني صاحبك شيئا, انظر لي رجلا أسأله.
فذهبت به الى الفضيل بن عيّاض فاذا هو قائم يصلي يتلو آية من القرآن ويرددها.
فقال هارون: اقرع الباب.
فقرعت الباب فقال: من هذا؟
قلت: أجب أمير المؤمنين.
فقال: مالي ولأمير المؤمنين؟
فقلت: سبحان الله, أما عليك طاعة؟
فنزل ففتح الباب ثم ارتقى الى الغرفة فأطفأ المصباح ثم التجأ الى زاوية من زوايا البيت, فدخلنا فجعلنا نجول عليه بأيدينا فسبقت كف هارون قبلي اليه.
فقال: يا لها من كفّ, ما ألينها ان نجت غدا من عذاب الله عز وجل.
ثم أخذ بالكلام مع هارون الرشيد فقال: انّّ عمر بن عبد العزيز لما ولي الخلافة دعا سالم بن عبد الله ومحمد بن كعب القرظي, ورجاء بن حيوة, فقال لهم: اني قد ابتليت بهذا البلاء فأشيروا عليّ.
فعدّ الخلافة بلاء, وعددتها أنت وأصحابك نعمة.
فقال له سالم بن عبد الله: ان أردت النجاة غدا من عذاب الله فصم عن الدنيا وليكن افطارك من الموت.
وقال له محمد بن كعب القرظي: ان أردت النجاة من عذاب الله فليكن كبير المسلمين عندك أبا, وأوسطهم أخا, وأصغرهم عندك ولدا, فوقّر اباك, وأكرم أخاك, وتحنّن على ولدك.
وقال له رجاء: ان أردت النجاة غدا من عذاب الله عز وجل فأحب للمسلمين ما تحب لنفسك, واكره لهم ما تكره لنفسك, ثم مت ان شئت.(1/15)
واني أقول لك اني أخاف عليك أشد الخوف في يوم تزل فيه الأقدام, فهل معك رحمك الله من يشير عليك بمثل هذا؟!.
فبكى الرشيد بكاء شديدا حتى غشي عليه.
فقلت له: ارفق بأمير المؤمنين.
فقال: يا ابن أم الربيع تقتله أنت وأصحابك وأرفق به أنا..!
ثم أفاق فقال له: زدني رحمك الله؟
فقال: يا أمير المؤمنين بلغني أن عاملا لعمر بن عبد العزيز شكا اليه, فكتب اليه عمر: يا أخي أذكّرك طول سهر أهل النار في النار مع خلود الأبد, واياك أن ينصرف بك من عند الله فيكون آخر العهد انقطاع الرجاء.
قال: فلما قرأ الكتاب طوى البلاد حتى قدم على عمر بن عبد العزيز. فقال له: ما أقدمك؟
قال: خلعت قلبي بكتابك لا أعود الى ولاية أبدا حتى ألقى الله عز وجل.
فكبى هارون بكاء شديدا, ثم قال له: زدني يرحمك الله؟
فقال: يا أمير المؤمنين ان العبّاس عمّ المصطفى صلى الله عليه وسلم جاء الى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله أمّرني على أمارة.
فقال له النبي صلى الله عليه وسلم:" ان الامارة حسرة وندامة يوم القيامة,فان استطعت الا تكون أميرا فافعل".
فبكى هارون الرشيد بكاء شديدا وقال له: زدني يرحمك الله؟
فقال: يا حسن الوجه أنت الذي يسألأك الله عز وجل عن هذا الخلق يوم القيامة, فان استطعت أن تقي هذا الوجه من النار فافعل, واياك أن تصبح وتمسي وفي قلبك غش لأحد من رعيّتك فان النبي صلى الله عليه وسلم قال:" من أصبح لهم غاشّا لم يرح رائحة الجنّة".
فبكى هارون الرشيد وقال: هل لك دين؟
قال: نعم, دين لربي يحاسبني عليه, فالويل لي ان سألني, والويل لي ان ناقشني, والويل لي ان لم ألهم حجّتي..
قال: انما أعني دين العباد.
قال: ان ربي لم يأمرني بهذا, أمر ربي أن أوحّده وأطيع أمره.
قال عز وجل:{ وما خلقت الجنّ والانس الا ليعبدون} الذاريات 56.
فقال له: هذه ألف دينار خذها فانفقها على عيالك وتقوّ بها على عبادتك.(1/16)
فقال: سبحان الله انا أدلّك على طريق النجاة وأنت تكافئني بمثل هذا.. سلّمك الله.
خوف الله تعالى يدفع الانسان الى الايثار والعفّة والورع
عن عبد الله ابن اخت مسلم بن سعد أنه قال: أردت الحج فدفع اليّ خالي مسلم عشرة آلاف درهم وقال لي: اذا قدمت المدينة فانظر أفقر أهل بيت بالمدينة فأعطهم ايّاه.
فلما دخلت سألت عن أفقر أهل بيت بالمدينة, فدللت على أهل بيت, فطرقت الباب, فأجابتني امرأة: من أنت؟
فقلت: أنا رجل من أهل بغداد وأودعت عشرة آلاف درهم وأمرت أن اسلمها الى أفقر أهل بيت بالمدينة, وقد وصفهم لي فخذوها.
فقلت: يا عبد الله ان صاحبك اشترط أفقر أهل بيت, وهؤلاء الذين بازائنا أفقر منا.
فتركتهم وأتيت الى أولئك, فطرقت الباب فأجابتني امرأة فقلت لها مثل الذي قلت لتلك المرأة.
فقالت: يا عبد الله نحن وجيراننا في الفقر سواء فاقسمها بيننا وبينهم.
وصدق الله:{ ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة} الحشر 9.
وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم
روى ابن مسعود قال: اجتمعنا في بيت أمنا عائشة رضي اله عنها, فنظر الينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فدمعت عيناه, فنعى الينا نفسه.
وقال:" مرحبا, حيّاكم الله بالسلام, حفظكم الله, رعاكم الله, نصركم الله, وفقكم الله, نفعكم الله, سلّمكم الله, أوصيكم بتقوى الله, وأوصي الله بكم, وأستخلفه عليكم".
قلنا: يا رسول الله متى أجلك؟!
قال:" قد دنا الأجل, والمنقلب الى الله, والى سدرة المنتهى وجنّة المأوى, والفردوس الأعلى".
قلنا: يا رسول الله! ففيم نكفّنك؟
قال:" في ثيابي هذه ان شئتم, أو يمنيّة أو بياض".
فقلنا: يا رسول الله: من يصلي عليك؟.. وبكينا.(1/17)
فقال:" مهلا, رحمكم الله, وجزاكم عن نبيكم خيرا, اذا غسّلتموني وكفنتموني, فضعوني في سريري هذا على شفير قبري,ثم اخرجوا عني ساعةو فان أول من يصلي عليّ خليلي وحبيبي جبريل, ثم ميكائيل, ثم اسرافيل, ثم ملك الموت, ثم ملائكة كثيرة,ثم ادخلوا علي فوجا, فصلوا عليّ وسلّموا تسليما, لا تؤذوني بتزكية, ولا برنّة, ولا بصيحة, وليبدأ الصلاة عليّ رجال أهل بيتي, ثم نساؤهم, ثم أنتم بعد, واقرؤوا السلام على من غاب عني من أصحابي, وعلى من تابعني على ديني الى يوم القيامة, ألا واني أشهدكم أني قد سلّمت على كل من دخل الاسلام".
وفاة أمير المؤمنين عمر بن الخطاب
أما وفاة سيدنا عمر رضي الله عنه فيروى أنه لما طعن وحمل الى بيته, وجاء الناس يثنون عليه, جاء رجل شاب فقال: أبشر يا أمير المؤمنين ببشرى من الله لك, صحبة رسول الله صلى الله عليه وسلم, وقدم في الاسلام ما قد علمت, ثم ولّيت فعدلت, ثم شهادة.
فقال: وددت أن ذلك كان كفافا, لا لي ولا عليّ.
ثم قال: يا عبد الله بن عمر, انطلق الى عائشة أم المؤمنين,فقل: عمر يقرأ عليك السلام, ولا تقل: أمير المؤمنين, فاني لست اليوم للمؤمنين أميرا, وقل يستأذن عمر بن الخطّاب أن يدفن عند صاحبيه.
فمضى وسلّم واستأذن عليها, ثم دخل فوجدها قاعدة تبكي, فقال: عمر يقرأ عليك السلام, ويستأذن أن يدفن عند صاحبيه.
فقالت: كنت أريده لنفسي, ولأوثرنّه اليوم على نفسي.
فلما أقبل, قيل: هذا عبد الله بن عمر قد جاء.
قال: ارفعوني.
فأسنده رجل اليه, فقال: ما وراءك؟
قال: الذي تحب يا أمير المؤمنين, أذنت.
قال: الحمد لله, ما كان شيء أحب اليّ من ذلك, فاذا أنا مت فاحملوني, ثم سلّم وقل: يستأذن عمر بن الخطاب, فان أذنت, فأدخلوني, وان ردّتني, فردّوني الى مقابر المسلمين.
الدموع تمحي الذنوب(1/18)
فاذا محت الدموع بحار النار, فأحرى أن تمحو من الكتاب القبائح والأوزار, واذا زالت من الكتاب الفضائح والأوزار, رضي عنك الملك الغفّار, وأمر بك الى دار الراحة والقرار, وخلصت من عذاب البوار.
فابكوا يا جماعة المسلمين على ما أذنبتم في الشهور والأعوام, وفي الساعات والأيام من الخطايا والاجرام, واكتساب الربا والحرام, وظلم الضعفاء والأرامل والأيتام, وما فرّطتم من حقوق الملك العلام.
فالواجب على كل مسلم ومسلمة علم من نفسه ذنبا أن يكثر البكاء عليه عساه يمحو من كتاب مولاه, ويتفضّل عليه ويغفر له ما قد جناه, فهو المنّان الكريم, المتفضّل العظيم.
فاللهم يا أكرم الأكرمين, ويا آخر الغافرين تفضّل علينا بتوبة وعلى جميع المذنبين, تنقلنا بها من ذلّ المعصية اى عز الطاعة, وثبّتنا عليها حتى تخرجنا من الدنيا بلا ذنب ولا تباعة, على منهج أهل السنة والجماعة,... اللهم آمين.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين, وصلّى اللهم على سيّدنا محمد, وعلى آله وصحبه أجمعين.
ذكر الموت جلاء للقلوب
يروى أن ذا القرنين مرّ بقوم لا يملكون شيئا من اسباب الدنيا, وقد حفروا قبور موتاهم على أبواب دورهم, وهم كل يوم يقصدون تلك القبور يكنسوها, وينظفونها, ويزرونها, ويعبدون الله وما لهم طعام الا الحشيش ونبات الأرض.
فبعث اليهم ذا القرنين رجلا فدعا ملكهم فلم يجبه, وقال: مالي وله.
فجاء ذو القرنين وقال: كيف حالكم؟ فاني لا أرى شيئا من ذهب ولا فضّة, ولا أرى عندكم شيئا من نعم الدنيا.
قال الملك: لأن نعم الدنيا لا يشبع منها أحد قط.
وقال: لما حفرتم القبور على أبوابكم؟
فقال الملك: لتكون نصب أعيننا فننظر اليها ويتجدد لنا ذكر الموت, ويبرد حب الدنيا في قلوبنا فلا نشتغل بها عن عبادة ربنا.
فقال: ولما تأكلون الحشيش؟
فقال الملك: لأنا كرهنا أن نجعل بطوننا قبورا للحيوانات, لأن لذّة الطعام لا تتجاوز الحلق.(1/19)
ثم مدّ يده الى طاقة فأخرج منها قحف رأس ,جمجمة, آدمي فوضعه بين يديه وقال: يا ذا القرنين أتعرف من كان صاحب هذا؟
قال: كان صاحب هذا القحف ملكا من ملوك الدنيا وكان يظلم رعيّته ويجور عليهم وعلى الضعفاء ويستفرغ زمانه في جمع حطام الدنيا فقبض الله روحه وجعل النار مقرّه, وهذا رأسه؟
ثم مدّ يده الى الطاقة وأخرج قحفا آخر فوضعه بين يديه وقال له: أتعرف من كان صاحب هذا؟
قال: كان هذا ملكا عادلا مشفقا على رعيّته محبا لأهل مملكته, فقبض الله روحه وأسكنه جنّته ورفع درجته.
ثم انه وضع يده على رأس ذي القرنين وقال: ترى أي هذين الرأسين يكون هذا الرأس؟
فبكى ذو القرنين بكاء شديدا وضمّه الى صدره وقال له: ان رغبت في صحبتي اليك وزارتي وأقاسمك ملكتي.
فقال: هيهات.. مالي رغبة في ذلك.
قال: ولم؟
قال: لأن الناس جميعا أعداؤك بسبب المال والمملكة وكلهم أصدقائي بسبب القناعة والصعلكة.
{أينما تكونوا يدرككم الموت...}
وجرّه القدر.. الى مكان مصرعه!!
حكي أن ملك الموت كان في زيارة سليمان عليه السلام, وكان يأتي الأنبياء بصورة بشر لا يعرفه أحد غيرهم, وكان عنده بعض أصحابه, فأخذ ملك الموت ينظر الى رجل منهم ويتفرس في وجهه, ثم آن لملك الموت أن ينصرف, ولكن بينما هو يهمّ بالانصراف نظر للرجل نظرة ارتعدت منها فرائصه وانخلع قلبه..!!
فقال لسليمان عليه السلام بعدما مضى: يا نبي الله, ما بال هذا الرجل ينظر اليّ هكذا؟.
قال: ألا تعرف هذا؟ انه ملك الموت..!!
قال الرجل متوسلا اليه: يا نبي الله.. مر الريح العاصف تحملني في أسرع وقت الى أقصى بلاد الهند فانني أرى الشر في عينيه..!
قال له سليمان: وهل تهرب من قدرك اذا جاء أجلك!؟.
قال الرجل: لقد أمرنا الله أن نأخذ في الأسباب.. وانك لتؤدي لي أعظم خدمة.
فأمر سليمان الريح العاصف أن تنقله الى المكان الذي يريده..
فأمر سليمان الريح العاصف أن تنقله الى المكان الذي يريده..(1/20)
ثم بعد فترة جاء ملك الموت, فسألأه سليمان عليه السلام: ما بال الرجل الذي كان عندي.. كيف تنظر اليه هكذا؟
قال ملك الموت: اني نظرت اليه نظرة دهشة.. انه عندي في صحائف الموتى.. ان هذا الرجل سيموت في بلدة كذا في الهند, وتعجّبت فكيف أذهب الى الهند وهو عندك, وفي المكان المحدد وفي الموعد المحدد لقبض روحه, رأيته ينزل عليّ, فقبضت روحه..!!
هذه رسلي يا يعقوب الى بني آدم
يحكى أن ملك الموت كان مؤاخيا ليعقوب عليهما السلام..
فقال له سيدنا يعقوب ذات يوم: أريد منك مطلبا أرجوا أن تحققه لي بحقّ ما بيننا من أخوّة وصداقة..
قال: وما هو؟
قال: أن تخبرني اذا دنا أجلي..
فقال له ملك الموت: لك مني هذا, ولم أرسل اليك رسولا واحدا, وانما سأرسل اليك رسولين أو ثلاثة..
وبعد أن اتفقنا على هذا, انصرف ملك الموت, ثم عاد بعد مدّة من الزمان..
فقال له سيدنا يعقوب عليه السلام: أرائرا جئت أم قابضا؟
فقال: بل قابضا.
فتعجّب سيّدنا يعقوب عليه السلام, فقال له مذكّرا ومعاتبا: وأين الرسل الثلاثة..؟
قال: قد فعلت..
بياض شعرك بعد سواده...
وضعف بدنك بعد قوّته..
وانحناء جسمك بعد استقامته..
هذه رسلي يا يعقوب الى بني آدم.
توجيهات غالية ومواعظ رشيدة
قال عليّ رضي الله عنه: ( لا تخف الا ذنبك, ولا ترج الا ربّك, ولا يستحي الذي لا يعلم أن يسألأ حتى يعلم, ولا يستحي من يسأل عمّا لا يعلم أن يقول: لا أعلم).
قال سيّدنا عمر رضي الله عنه: ( ما أبالي على أي حال أصبحت, أعلى ما أحب أم على ما أكره؟ ذلك لأني لا أدري الخير فيما أحب أو فيما أكره).(1/21)
قال سيّدنا عليّ رضي الله عنه: ( يا ابن آدم, لا تفرح بالغنى, ولا تقنط بالفقر, ولا تحزن بالبلاء, ولا تفرح بالرخاء, فان الذهب يجرّب بالنار, وانّ العبد الصالح يجرّب بالبلاء, وانك لا تنال ما تريد الا بترك ما تشتهي, ولن تبلغ ما تؤمّل الا بالصبر على ما تكره وابذل جهدك لرعاية ما افترض عليك, وارض بما أرادك الله به).
ذو القرنين يعزّي أمّه
ذكر أبو الفرج ابن الجوزي باسناده عن عبد الله بن زياد قال: حدّثني بعض من قرأ في الكتب أن ذا القرنين لمّا رجع من مشارق الأرض ومغاربها وبلغ أرض بابل مرض مرضا شديدا, فلمّا أشفق أن يموت كتب لى أمه: يا أماه اصنعي طعاما واجمعي من قدرت عليه, ولا يأكل طعامك من أصيب بمصيبة, واعلمي هل وجدت لشيء قرارا باقيا, وخيالا دائما, اني قد علمت يقينا أن الذي أذهب اليه خير من مكاني.
قال: فلما وصل كتابه صنعت طعاما, وجمعت الناس وقالت: لا يأكل هذا من أصيب بمصيبة.
فلم يأكلوا, فعلمت ما أراد, فقالت: من يبلّغك عني أنك وعظتني فاتعظت, وعزّيتني فتعزّيت, فعليك السلام حيّا وميّتا.
اجعل الموت بين عينيك.. ولا تغفل
ان في هذا الدار نملة تجمع الحب في الصيف فتأكله في الشتاء, فلما كان يوم: أخذت حبة في فمها, فجاء عصفور, فأخذها والحبّة, فلا ما جمعت أكلت, ولا ما أملت نالت...
وهكذا حياة الانسان: يجمع, فيأتيه الموت, فيأخذه وما جمع:
يؤمّل دنيا لتبقى له
قوافي المنيّة قبل الأمل
حثيثا يروّي أصول الفسيل
فعاش الفسيل ومات الرجل
انتهى من فضل الله علينا والحمد لله رب العالمين أخوكم في الله منير الليل(1/22)