الطبعة الثانية 1430هـ -2009م
مزيدة منقحة
جميع الحقوق محفوظة
دار البيان للنشر والتوزيع
84 ش محرم بك – محطة ترام بوالينو - الإسكندرية
ت/ 033929289 - 0102224336
مقدمة الطبعة الأولى
أحمد الله ربي حمد الشاكرين، وأصلي وأسلم على المبعوث رحمة للعالمين، سيدنا محمد النور الهادي المبين، وعلى آله وصحابته الغر الميامين، ومَن دعا بدعوته واستن بسنته إلى يوم الدين..
أما بعد..
فإن الله تبارك وتعالى لم يخلق الإنسان ليستكثر به من قلة، ولا ليستأنس به من وحدة، وإنما خلقه ليعبده طويلا، ويذكره كثيرا، ويسبحه بكرة وأصيلا..
ولا تصح العبادة إلا من أصحاب القلوب الصافية السليمة.. والقلوب يعكر صفوها، ويكدر سلامتها كثرة الذنوب وتتابعها؛ فإن العبد إذا أذنب نُكِتت في قلبه نكتة سوداء، فإن تاب ونزع صقل قلبه، وإذا لم يتب وأتبع الذنب بآخر نُكِتت في قلبه نكتة أخرى، وهكذا.. حتى يعلو القلب الران -والعياذ بالله- الذي ذكره المولى عز وجل في قوله تعالى: { كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ } [المطففين: 14]؛ فيصير القلب في غلاف، ويُحاط بحجاب كثيف من الظلمة، فلا يصل إليه قبس من النور الربانى الذى في كتاب الله: { وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآَنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلَا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا } [الإسراء:82].. وهكذا تجتمع الذنوب على العبد فتصرفه عما خُلِق من أجله فيهلك.. نعوذ بالله من الخذلان.
وحري بالسائرين إلى الله أن يشمروا -أول ما يشمرون- إلى: تطهير القلوب من جراحات الذنوب؛ ليرتقوا في مدارج السالكين، ويفوزوا برضوان رب العالمين..
هذا أوانُ الصلحِ ما أبعدَك ... عن بابِ مَن بالخيرِ قد عوَّدَك!
ترجو الرضا مِن غيرِ أبوابِهِ ... وعن طريقِ اللهِ ما أبعدَك!
وقد قسمت الكتاب -بتوفيق الله وفضله ومَنِّه- إلى ثلاثة أبواب:(1/1)
الباب الأول: جمعت فيه خلاصة أقوال العلماء في التوبة وفضلها وشروطها
وعلامات صحتها، وبعض أخبار التائبين.
الباب الثاني: ينبئك عنوانه عن مضمونه؛ فهو تحذير للأنام من الذنوب والآثام.
الباب الثالث: جمعت فيه بعض الأعمال الصالحة التى تفضل الله بها على عباده لتجبر النقص وتسد الخلل، فيُكَفِّر الله بها ما شاء من الذنوب، ويستر بسببها ما بدا من العيوب..
فسبحان الملك الوهاب، وله الحمد على ما منح من العطايا فأجزل بها الثواب.
فحيَّهَلا إنْ كنتَ ذا هِمَّةٍ فقد ... حَدَا بكَ حادي الشوقِ فاطوِ المراحلا
وقُلْ ساعدي يانفسُ بالصبرِ ساعةً ... فعندَ اللِّقَا ذا الكَدُّ يُصبِحُ زائلا
فما هيَ إلا ساعةٌ ثُمَّ تَنقَضي ... ويُصبِح ذو الأحزانِ فرحانَ جاذلا
وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت وإليه أنيب
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين
الإسكندرية في
جمادى الأولى 1417هـ
أكتوبر 1997م
مقدمة فضيلة الشيخ/ أحمد المحلاوي
الحمد لله وكفى، وسلام على عباده الذين اصطفى..
أما بعد..
فمن جانب.. خُلق الإنسان في أحسن تقويم، سواه خالقه، ونفخ فيه من روحه، وأسجد له ملائكته، وميزه بالعقل والعلم، وسخر له ما في السماوات وما في الأرض جميعا منه.. وكرمه وفضله على كثير ممن خلق تفضيلا.
ومن جانب آخر.. بدأ خلقه من طين؛ من نطفة أمشاج مختلطة من جميع أنواع الطين والماء؛ في طبيعته النسيان وفتور العزيمة: { وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آَدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا } [طه:115].. ثم الظلم والجهل: { إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا } [الأحزاب:72](1/2)
وزيَّن له حب الشهوات من النساء والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة والخيل المسومة والأنعام والحرث، وسلَّط عليه الشيطان بحقده وحسده وعداوته؛ يجلب عليه بخيله ورَجِله، ويشاركه في ماله وولده ويَعِدُه ويُمَنِّيه، ويجري منه مجرى الدم من العروق.. وطلب الله من هذا الإنسان أن يحيا حياة الجد والكفاح كادحا إلى ربه كدحا فملاقيه، ورسم له طريق السير إليه؛ فأرسل الرسل، وأنزل الكتب، وحدد المعالم، وأمده بجند من عنده، وأمره أن يستعين به ويتوكل عليه، وحذره من مزالق الطريق وعقباته، وعلمه كيف يتخطى العقبات ويقتحمها؛ كيف ينهض إذا عثر، وكيف يسير إذا توقف.
فكما كتب عليه حظه من السقوط؛ فهو مدركه لا محالة؛ كتب له حظه كذلك من النهوض؛ لو اتخذ إليه الوسيلة.. فكان الدواء كما كان الداء: "كل بني آدم خطَّاء".. هذا هو الداء، و"خير الخطائين التوابون".. وهذا هو الدواء.
وكان من فضل الله تعالى وعظيم عفوه وواسع رحمته وسابغ مغفرته: { وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ } [فاطر:45]، { لَوْ يُؤَاخِذُهُمْ بِمَا كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذَابَ } [الكهف:58]
وعلى الإنسان أن يتخذ أسباب الحمية من هذا الداء، وجُنة الوقاية منه: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ } [التحريم:6] فإذا غلبه القدر بما كسبت يداه فليشرع في تناول الدواء: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا } [التحريم:8]. ومن هذا الطريق تصل النفس إلى: { يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ } [الفجر:27]. وسوف ترفرف عليها هذه الظلال: { إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ } [البقرة:222](1/3)
وهذا الكتاب عون في هذا الطريق، ومعلم على مشارفه، وضميمة إلى البحر الزاخر في هذا المجال الذي أفاض فيه المصنفون والواعظون. وما تزال أنفس الناس في حاجة إلى هذا الدواء؛ طالما استشرى فيهم هذا الداء.
نرجو لكاتبته حسن المثوبة مع خلوص النية. ونرجو لقارئه المتعة الروحية والنفسية بمطالعته، والاسترشاد الواعي بمعالمه، والاقتداء البصير برموزه، والعزيمة الصادقة على تغيير ما بالنفس.
كذلك نرجو أن يكون البداية الموفقة للعديد من المؤلفات التي تسلك بالكاتبة مسلك الأعلام في هذا المجال بالذات.
ونسأل الله للأمة الإسلامية أن يسدد خطوها، ويرفع أعلامها، ويبلغ بها أمانة المرسلين؛ حتى تتحقق بها رحمته للعالمين.
أحمد المحلاوي
لعلكم تفلحون:
التوبة هى رجوع العبد إلى الله، ومفارقته صراط المغضوب عليهم والضالين؛ بالتزام التائب فعل ما يحبه الله، وترك ما يكرهه سبحانه. فهي رجوع من مكروه إلى محبوب. فالرجوع إلى المحبوب جزء مسماها. والرجوع عن المكروه الجزء الآخر.
والذنوب حجاب عن المحبوب، والانصراف عما يبعد عن المحبوب واجب، وإنما يتم ذلك بالعلم؛ فإنه متى لم يعلم العبد أن الذنوب من أسباب البعد عن المحبوب لم يندم على الذنوب، ولم يتوجع بسبب سلوكه طريق البعد، وإذا لم يتوجع لم يرجع.
قال تعالى: { وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } [النور: 31] هذه الآية فى سورة مدنية، خاطب الله بها أهل الإيمان وخيار خلقه أن يتوبوا إليه؛ بعد إيمانهم وصبرهم وهجرتهم وجهادهم. ثم علق الفلاح بالتوبة، وأتى بـ(لعل)، إيذانًا بأنكم إذا تبتم كنتم على رجاء الفلاح، فلا يرجو الفلاح إلا التائبون؛ جعلنا الله وإياكم منهم..(1/4)
وقال تعالى: { وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ } [الحجرات: 11] فقسم العباد إلى تائب وظالم، وأوقع اسم الظلم على من لم يتب، ولا أظلم منه؛ لجهله بربه وبحقه، وبعيب نفسه وآفات عمله.
والله تعالى بكرمه الواسع يقبل توبة العبد مالم يغرغر، أي فى حال صحته قبل مرض موته، وقبل أن تصل روحه إلى الحلقوم: عن عبد الله بن عمر بن الخطاب ب عن النبى خ قال: "إنَّ اللهَ عزَّ وجلَّ يقبلُ توبةَ العبدِ ما لم يُغَرغِرْ"
[رواه ابن ماجه، والترمذي، وحسنه الألباني]
وباب التوبة مفتوح إلى أن تظهر إحدى علامات القيامة الكبرى؛ وهى طلوع الشمس من مغربها؛ فحينئذ لا تُقبل التوبة: عن أبى موسى الأشعرى ت عن النبي خ قال: "إنَّ اللهَ تعالى يَبسُطُ يدَه بالليلِ ليتوبَ مُسِيءُ النهارِ، ويَبسُطُ يدَهُ بالنهارِ ليتوبَ مُسِيءُ الليلِ حتى تَطلعَ الشمسُ مِن مَغربِها". [رواه مسلم]
قَدِّمْ لنفسَِك توبةً مَرجُوَّةً ... قبلَ المماتِ وقبلَ حَبْسِ الألْسُنِ
بادرْ بها غَلْقَ النفوسِ فإنها ... ذُخرٌ وغُنمٌ للمُنيبِ المحسِنِ
} - {
الله تعالى يفرح بتوبة عبده المؤمن:
عن أنس بن مالك ت قال: قال رسول الله خ: "لَلهُ أشدُّ فرحًا بتوبةِ عبدِهِ حينَ يتوبُ إليهِ مِن أحدِكم كانَ على راحلتِهِ بأرضِ فَلاةٍ، فانفلتَتَ منهُ وعليها طعامُهُ وشرابُهُ، فأَيِسَ منها، فأتَى شجرةً فاضطجعَ في ظِلِّها قد أَيِسَ مِن راحلتِهِ، فبينما هو كذلك، إذا هو بها قائمةً عندَهُ، فأخذ بخِطامِها ثم قالَ مِن شدةِ الفرحِ: اللهم أنتَ عبدي وأنا ربُّك؛ أخطأَ مِن شدةِ الفرحِ". [رواه مسلم](1/5)
وهذه فرحة إحسان وبِر؛ لا فرحة محتاج إلى توبة عبده منتفع بها. وفرح الله ليس كمثله شيء، نؤمن به لوروده فى نص الحديث كإيماننا بسائر صفات الله التى أثبتتها النصوص. ولو كان في الفرح المشهود في هذا العالم نوع أعظم من هذا الذى ذكره النبي خ لذكره، ولكن لا فرحة أعظم من فرحة هذا الواجد الفاقد لمادة حياته وبلاغه فى سفره، بعد إياسه من أسباب الحياة بفقده راحلته.
فإن العبد إذا عصى ربه عرَّض نفسه لغضب الجبار، وبذلك يصرف الله عنه رحمته. وإذا نزع العبد وتاب وأناب؛ فقد استدعى من الله ما هو أهله سبحانه من الجود والإحسان واللطف والإنعام.. وهذا موضع الحكاية المشهورة عن بعض العارفين؛ أنه رأى فى بعض السكك بابًا قد فُتح، وخرج منه صبي يستغيث ويبكي، وأمه خلفه تطرده حتى خرج، فأغلقت الباب فى وجهه ودخلت، فذهب الصبي غير بعيد، ثم وقف مفكرًا، فلم يجد له مأوى غير البيت الذي أُخرج منه، ولا مَن يؤويه غير والدته. فرجع مكسور القلب حزينًا. فوجد الباب مُرتَجًا، فتوسد ووضع خده على عتبة الباب ونام، فخرجت أمه، فلما رأته على تلك الحال لم تملك أن رمت نفسها عليه، والتزمته تقبله وتبكى وتقول: يا ولدي! أين تذهب عني؟ ومن يؤويك سواي؟ ألم أقل لك لا تخالفني؟ ولا تحملني بمعصيتك لي على خلاف ما جُبِلتُ عليه من الرحمة بك والشفقة عليك، وإرادتى الخير لك؟ ثم أخذته ودخلت.
فتأمل قول الأم: "لا تحملني بمعصيتك لي على خلاف ما جُبِلتُ عليه من الرحمة بك والشفقة". وفي الصحيح عن النبي خ : "للهُ أرحمُ بعبادِه مِنَ الوالدةِ بولدِها". فأين تقع رحمة الوالدة من رحمة الله التى وسعت كل شئ؟
} - {
التوبة واجبة على الدوام :(1/6)
فإن الإنسان لا يخلو عن معصية؛ لو خلا عن معصية بالجوارح لم يَخْلُ عن الهم بالذنب بقلبه، وإن خلا عن ذلك، لم يَخْلُ عن وساوس الشيطان بإيراد الخواطر المتفرقة المذهلة عن ذكر الله تعالى، وإن خلا عن ذلك لم يَخْلُ عن غفلة وقصور في العلم بالله تعالى وصفاته وأفعاله، وكل ذلك نقص، ولا يسلم أحد من هذا النقص، وإنما الخلق يتفاوتون فى المقادير.
ولهذا قال النبي خ: "يا أيها الناسُ! توبوا إلى اللهِ واستغفروه؛ فإني أتوبُ إلى الله وأستغفره في كلِّ يومٍ مائةَ مرةٍ". [أخرجه مسلم، وصححه الألباني]
يا نفسُ توبي فإنَّ الموتَ قد حانا ... واعصي الهوى فالهوى مازالَ فتَّانَا
يا نفسُ توبي مِنَ المعاصي وازدجري ... واخشي إلهنا سِرًّا وإعلانَا
مضى الزمانُ وولَّى العُمُرُ في لَعِبٍ ... يكفيكِ ماقد مضى قد كان ماكانا
شروط التوبة:
إذا كان الذنب في حق الله عز وجل فشروط التوبة ثلاثة هي: الندم، والإقلاع عن الذنب، والعزم على عدم العودة.
فأما الندم فإنه لا تتحقق التوبة إلا به؛ إذ مَن لم يندم على القبيح فذلك دليل على رضاه به وإصراره عليه.
والندم هو توجع القلب، وعلامته طول الحزن والبكاء؛ فإن من استشعر عقوبة نازلة بولده أو مَن يعز عليه؛ طال بكاؤه واشتدت مصيبته، وأي عزيز أعز عليه من نفسه؟ وأي عقوبة أشد من النار؟
وأما الإقلاع عن الذنب فتستحيل التوبة مع مباشرة الذنب. وأما العزم على ألا يعود في المستقبل إلى تلك الذنوب ولا إلى أمثالها؛ فيعتمد أساسًا على الصدق في هذا العزم. مثال ذلك المريض الذي يعلم أن الفاكهة تضره، فيعزم عزمًا أكيدًا أن لا يتناول شيئًا من الفاكهة ما دام في مرضه.(1/7)
أما إذا كان الذنب متضمنًا لحق آدمي؛ فعلى التائب أن يصلح ما أفسد، أو يسترضي مَن أخطأ في حقه لقوله خ: "مَن كانت له مَظلمةٌ لأخيهِ مِن عِرضِهِ أو شيءٍ فليتحلله منهُ اليومَ قبلَ أنْ لا يكونَ دينارٌ ولا درهمٌ، إنْ كانَ لهُ عملٌ صالحٌ أُخِذَ منه بقَدْرِ مَظلمتِه، وإنْ لم تكن له حسناتٌ أُخِذَ مِن سيئاتِ صاحبِه فحُمِلَ عليهِ". [رواه البخارى]. فإن الذي بين العبد وبين ربه فالعفو فيه أرجى وأقرب، إلا أن يكون شركًا؛ فذلك الذي لا يُغفَر إلا بالتوبة. أما ما يتعلق بحقوق العباد فالأمر فيه أغلظ.
فإذا كانت المظلمة بقدح في الآدمي بغيبة أو قذف؛ فقد اشترط أبو حنيفة ومالك وغيرهما إعلام المظلوم، واحتجوا بالحديث السابق، واختار شيخ الإسلام ابن تيمية قولاً آخر بأنه لا يُشترط الإعلام، بل يكفره توبته بينه وبين الله، وأن يذكر المغتاب أو المقذوف في مواضع غيبته أو قذفه بضد ما ذكره به، ويستغفر له لأن إعلامه مفسدة محضة لا تتضمن مصلحة، وما كان هكذا فإن الشارع لا يبيحه فضلاً عن أن يوجبه.
أما توبة من اغتصب مالاً فعليه رد المال إلى أصحابه، فإن تعذر عليه رده لجهله بأصحابه أو لانقراضهم أو لغير ذلك؛ فعليه أن يتصدق بتلك الأموال عن أربابها، فإذا كان يوم استيفاء الحقوق كان لهم الخيار بين أن يجيزوا ما فعل؛ وتكون أجورها لهم، وبين أن لا يجيزوا ما فعل؛ ويأخذوا من حسناته بقدر أموالهم، ويكون ثواب الصدقة له؛ إذ لا يبطل الله سبحانه ثوابها.
روي أن ابن مسعود ت اشترى من رجل جارية، ودخل يزن له الثمن، فذهب رب الجارية، فانتظره حتى يئس من عودته؛ فتصدق بالثمن وقال: اللهم هذا عن رب الجارية، فإنْ رضي فالأجر له، وإنْ أبَى فالأجر لي، وله من حسناتي بقدره.(1/8)
وينبغى للتائب أن يستكثر من الحسنات، حتى إذا بقيت مظلمة لم تفِ بها توبته؛ فإنها -لا محالة- ستُجبَر يوم القيامة بالحسنات، فلا خلاص إلا برجحان الحسنات لئلا يُؤخَذ من سيئات المظلوم ويُطرَح عليه.
واحسرتي.. واشِقوتي ... مِن يومِ نَشرِ كتابِيَهْ
واطولَ حزني إنْ أكُن ... أُوتِيتُهُ بِشماليَهْ
وإذا سُئلتُ عنِ الخَطا ... ماذا يكونُ جَوابيَهْ
واحَرَّ قلبي أنْ يكونَ ... مع القلوبِ القاسيَهْ
كلا ولا قَدَّمتُ لي ... عملاً ليومِ حسابيَهْ
بل إنني لشقاوتي ... وقساوتي و عذابيَهْ
بارزتُ بالزلاتِ في ... أيامِ دهرٍ خاليَهْ
مَن ليس يَخفَى عنه مِن ... قُبحِ المعاصي خافيَهْ
أقسام الناس في التوبة:
الناس في التوبة أربع طبقات:
الطبقة الأولى: تائب يستقيم على التوبة إلى آخر عمره، ويتدارك ما فرط من أمره، ولا يُحَدِّث نفسه بالعودة إلى ذنوبه؛ إلا الزلات التي لا ينفك عنها البشر في العادات.. فهذه هي الاستقامة في التوبة، وصاحبها هو السابق بالخيرات. وتسمى هذه التوبة النصوح: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ } [التحريم: 8]
والنصح في التوبة هو الصدق فيها، وتخليصها من كل غش ونقص وفساد. عن أبي نجيد عمران بن الحصين الخزاعي ب أن امرأة من جهينة أتت رسول الله خ وهي حُبلى من الزنا، فقالت: يا رسول الله! أصبتُ حدًّا فأقمه عليَّ، فدعا نبي الله خ وليها، فقال: "أحسِن إليها، فإذا وضعت فائتني بها"، ففعل؛ فأمر بها نبي الله خ فشُدَّت عليها ثيابها، ثم أمر بها فرُجِمَت، ثم صلى عليها. فقال له عمر: تصلي عليها يا نبي الله وقد زنت؟! فقال: "لقد تابت توبةً لو قُسمَت بينَ سبعين مِن أهلِ المدينةِ لوَسِعَتْهم، وهل وجدَت أفضلَ مِن أنْ جادَتْ بنفسِها للهِ عزَّ وجلَّ". [رواه مسلم](1/9)
وأهل هذه الطبقة يختلفون، فمنهم مَن سكنت شهوته تحت قهر المعرفة ففتر نزاعها، ومنهم مَن تنازعه نفسه وهو مليء بمجاهدتها.
الطبقة الثانية: تائب قد سلك طريق الاستقامة فى أمهات الطاعات وكبائر الفواحش، إلا أنه لا ينفك عن ذنوب تعتريه؛ لا عن عمد، ولكنه يُبتَلى بها في مجاري أحواله من غير أن يُقدِّم عزمًا على الإقدام عليها، وكلما أتى شيئًا منها لام نفسه، وندم وعزم على الاحتراز من أسبابها؛ فهذه هي النفس اللوامة؛ لأنها تلوم صاحبها على ما يستهدف له من الأحوال الذميمة.
وهذه رتبة عالية أيضًا، وإن كانت نازلة عن الطبقة الأولى، وهي أغلب أحوال التائبين.
وهؤلاء لهم حسن الوعد من الله سبحانه إذ قال تعالى: { الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ } [النجم: 32]
الطبقة الثالثة: أن يتوب ويستمر على الاستقامة مدة، ثم تغلبه شهوته في بعض الذنوب، فيُقدِم عليها لعجزه عن قهر الشهوة؛ إلا أنه مع ذلك مواظب على الطاعات، وترك جملة من الذنوب مع القدرة عليها والشهوة لها، وإنما قهرته شهوة واحدة أو شهوتان، وهو يود لو أقدره الله على قمعها، وكفاه شرها، فإذا انتهت ندم، لكنه يعد نفسه بالتوبة عن ذلك الذنب.. فهذه النفس تسمى المسئولة، وصاحبها من الذين قال الله تعالى فيهم: { وَآَخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلًا صَالِحًا وَآَخَرَ سَيِّئًا } [التوبة: 102] فأمر هذا من حيث مواظبته على الطاعات وكراهيته لما يتعاطاه مرجو لقوله تعالى: { عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ } [التوبة: 102] وعاقبته خطرة من حيث تأخيره وتسويفه، فربما يُختَطَف قبل التوبة؛ فإن الأعمال بالخواتيم، فعلى هذا يكون الخوف من الخاتمة، وكل نَفَس يمكن أن يتصل به الموت فتكون الخاتمة، فليراقب الأنفاس، وليحذر وقوع المحذور.
إلى كم أقولُ ولا أفعلُ ... وكم ذا أحومُ ولا أنزلُ(1/10)
وأزجرُ عيني فلا ترعوي ... وأنصحُ نفسي فلا تَقبَلُ
وكم ذا تُعَلِّلُ لي؛ وَيحَها ... بعَلَّ وسوف، وكم تَمطُلُ
وفي كلِّ يومٍ ينادي بنا ... منادي الرحيلِ: ألا فارحلوا
كأنْ بي وشيكًا إلى مصرعي ... يُساقُ بنعشي ولا أُمهَلُ
الطبقة الرابعة: أن يتوب ويجري مدة على الاستقامة، ثم يعود إلى الذنوب منهمكًا من غير أن يُحَدِّث نفسه بالتوبة، ومن غير أنْ يأسف على فعله؛ فهذا من المصرين، وهذه النفس هي الأمارة بالسوء، ويُخاف على هذا سوء الخاتمة. فإن مات هذا على التوحيد؛ فإنه يُرجى له الخلاص من النار، ولو بعد حين.
} - {
علامات صحة التوبة:
? أن يكون العبد بعد التوبة خيرًا مما كان قبلها.
? أن لا يزال الخوف مصاحبًا له، لا يأمن مكر الله طرفة عين، فخوفه مستمر إلى أن يسمع قول الرسل لقبض روحه: { أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ } [فصلت: 30] فهناك يزول خوفه.
? انخلاع القلب وتقطعه ندمًا وحسرة على ما فرط منه، وخوفًا من سوء عاقبته؛ فمَن لم يتقطع قلبه في الدنيا على ما فرط منه تقطع في الآخرة إذا حقت الحقائق وعاين ثواب المطيعين وعقاب العاصين.
فيجتمع للتائب من هذه الأحوال كسرة وذلة وخضوع؛ ما أنفعها له! وما أجدى عائدتها عليه! وما أعظم جبره بها! فليس شيء أحب إلى الرب تبارك وتعالى من هذه الكسرة والخضوع والتذلل والإخبات والانطراح بين يديه والاستسلام له.. فلله ما أحلى قوله في هذه الحال: أسألك بعزك وذلي إلا رحمتني، أسألك بقوتك وضعفي، وبغناك غني وفقري إليك، هذه ناصيتي الكاذبة الخاطئة بين يديك، عبيدك سواي كثير، وليس لي سيد سواك، لا ملجأ ولا منجا منك إلا إليك، أسألك مسألة المسكين وأبتهل إليك ابتهال الخاضع الذليل، وأدعوك دعاء الخائف الضرير؛ سؤال مَن خضعت لك رقبته، ورغم لك أنفه، وفاضت لك عيناه، وذل لك قلبه.(1/11)
إن ذرة من صاحب هذا القلب المكسور، ونَفَسًا منه أحب إلى الله من طاعات أمثال الجبال من الْمُدِلِّين الْمُعجَبين بأعمالهم وعلومهم وأحوالهم، وأحب القلوب إلى الله قلب قد تمكنت منه هذه الكسرة، وملكته هذه الذلة؛ فهو ناكس الرأس بين يدي ربه، لا يرفع رأسه إليه حياءً وخجلاً من الله.
فررتُ إليكَ مِن ظُلمي لنفسي ... وأوحشني العبادُ فأنتَ أُنسي
رضاكَ هو المُنَى وبهِ افتخاري ... وذِكرُكَ في الدُّجَى قمري وشمسي
قصدتُ إليكَ مُنقطِعًا غريبًا ... لتُؤنِسَ وَحدتي في قَعرِ رَمْسي (1)
فهذا وأمثاله من أثار التوبة المقبولة، فمَن لم يجد ذلك في قلبه فليتهم توبته، وليرجع إلى تصحيحها.
} - {
التوبة منحة ربانية لمن أخلص لله وصدق النية في ترك الذنوب والمعاصي بالكلية..
فتوبة العبد إلى الله محفوفة بتوبة من الله عليه قبلها، وتوبة منه بعدها، فتوبته بين توبتين من ربه: سابقة ولاحقة؛ فإنه تاب عليه أولاً إذنًا وتوفيقًا وإلهامًا؛ فتاب العبد، فتاب الله عليه ثانيًا قبولاً وإثابة، وذلك لقوله عز وجل: { وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لَا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ } [التوبة: 118]
__________
(1) قعر رمسي: عميق قبري(1/12)
فأخبر سبحانه أن توبته عليهم سبقت توبتهم، وأنها هي التي جعلتهم تائبين؛ فكانت سببًا مقتضيًا لتوبتهم، وهذا القدر من سر اسمه "الأول والآخر"؛ فهو المعد والممد، ومنه السبب والمسبب، والعبد تواب، والرب تواب؛ فتوبة العبد رجوعه إلى سيده بعد الإباق، وتوبة الرب نوعان: إذن وتوفيق، وقبول وإثابة. والتوبة لها مبدأ ومنتهى، فمبدؤها الرجوع إلى الله بسلوك الصراط المستقيم الذي أمر بسلوكه بقوله تعالى: { وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ } [الأنعام: 153] ونهايتها الرجوع إليه في الميعاد، وسلوك صراطه الذي نصبه موصلا إلى جنته. فمَن رجع إلى الله في هذه الدار بالتوبة رجع إليه في المعاد بالثواب، قال الله عز وجل: { وَمَنْ تَابَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتَابًا } [الفرقان: 71]
يا مَن يَرَى مَدَّ البعوضِ جَناحَهُ ... في ظُلمَةِ الليلِ البهيمِ الأليلِ
ويَرَى نِياطَ عُروقِها في نَحرِها ... والمخَّ في تلكَ العِظامِ النُّحَّلِ
ويَرَى ويَسمعُ ما يَرَى ما دُونَها ... في قاعِ بحرٍ زاخرٍ مُتجندِلِ
اُمنُنْ عليَّ بتوبةٍ تَمحُو بها ... ما كانَ مني في الزمانِ الأولِ (1)
روي أن شابًّا أطاع الله عشرين عامًا، وعصاه عشرين عامًا، فنظر في المرآة يومًا وقال: اللهم إني أطعتُك عشرين سنة، وعصيتُك عشرين سنة؛ فهل إن رجعتُ إليك تقبلني؟ فسمع صوتًا يقول ولا يرى شيئًا: أحببتَنا فأحببناك، وتركتَنا فتركناك، وعصيتَنا فأمهلناك، وإنْ رجعتَ إلينا قبلناك.
} - {
توبة الخواص:
__________
(1) البهيم الأليل: المظلم شديد الظلام - النُّحَّل: النحيلة الرفيعة - متجندل: عظيم(1/13)
توبة الخواص تكون من تضييع الوقت في لغو أو لهو؛ فإنه يُفضي إلى درك النقيصة، ويُطفئ نور المراقبة، وأما الحافظ لوقته فهو مترقٍ على درجات الكمال، فإذا أضاعه فإنه لا يقف موضعه، بل ينزل إلى درجات من النقص. فإن لم يكن في تقدم فهو متأخر ولا بد. فالعبد سائر لا واقف. فإما إلى أعلى، وإما إلى أسفل. إما إلى أمام، وإما إلى وراء. وليس في الطبيعة، ولا في الشريعة وقوف البتة. ما هو إلا مراحل تُطوَى أسرع طي إلى الجنة أو إلى النار؛ مسرع وبطيء، متقدم ومتأخر، وليس في الطريق واقف البتة، وإنما يتخالفون في جهة السير، وفي السرعة والبطء: { إِنَّهَا لَإِحْدَى الْكُبَرِ . نَذِيرًا لِلْبَشَرِ . لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ } [المدثر: 35-37] ولم يذكر واقفًا؛ إذ لا منزل بين الجنة والنار، ولا طريق لسالك إلى غير الدارين البتة. فمَن لم يتقدم إلى هذه بالأعمال الصالحة؛ فهو متأخر إلى تلك بالأعمال السيئة، فإن قيل: كل مُجِد في طلب شيء لا بد أن يعرض له وقفة وفتور ثم ينهض إلى طلبه. قلتُ (1) : لا بد من ذلك، ولكن صاحب الوقفة له حالان: إما أن يقف ليُجم نفسه، ويُعدها للسير؛ فهذا وقفته سير، ولا تضره الوقفة؛ فـ"إنَّ لكل عملٍ شِرَّةً، ولكلِّ شِرَّةٍ فَترةً". (2)
__________
(1) ابن القيم في: مدارج السالكين
(2) شِرَّة: نشاط وقوة – فترة: ضعف وفتور . وتمام الحديث: عن عبد الله بن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لكل عملٍ شِرةٌ ولكلِّ شِرةٍ فترةٌ، فمَن كانت فترتُه إلى سُنتي فقد اهتدى، ومَن كانت فترتُه إلى غيرِ ذلك فقد هلك". رواه ابن أبي عاصم، وابن حبان في صحيحه، وصححه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب.(1/14)
وإما أن يقف لداعٍ دعاه من ورائه، وجاذب جذبه من خلفه؛ فإنْ أجابه أخره ولابد، وإن تداركه الله برحمته، وأطلعه على سبق الركب له وعلى تأخره؛ نهض نهضة الغضبان الآسف على الانقطاع، ووثب واشتد سعيًا ليلحق الركب، وإن استمر مع داعي التأخر وأصغي إليه؛ فهو بمنزلة النكسة الشديدة عقيب الإبلال من المرض؛ فإنها أخطر منه وأصعب.
فيا واعدًا بالتوبة ولا نرى إلا إخلافا.. أما ترى الناس بهذه الدار أضيافا.. أتنسى الموت وكم قد أقام أسيافا.. أما بقى القليل ثم تلحق أسلافا.. متى تعمل باليسير فيضاعف لك أضعافا..
إذا كَثُرَتْ منكَ الذنوبُ فداوِها ... برفعِ يدٍ في الليلِ والليلُ مُظلِمُ
ولا تَقنطَنْ مِن رحمةِ اللهِ وإنما ... قُنوطُكَ منها من ذنوبِكَ أعظمُ
فرحمتُهُ للمحسنينَ كرامةٌ ... ورحمتُهُ للمُسرفينَ تَكَرُّمُ
قبسات من أخبار التائبين
توبة من قتل مائة نفس:(1/15)
عن أبي سعيد الخدري ت أن نبي الله خ قال: "كان فيمَن قبلَكم رجلٌ قتلَ تسعةً وتسعينَ نفسًا، فسألَ عن أعلمِ أهلِ الأرضِ فدُلَّ على راهبٍ، فأتاهُ فقالَ: إنه قتلَ تسعةً وتسعينَ نفسًا، فهل له من توبةٍ؟ فقال: لا.. فقتله فكمَّلَ بهِ مائةً، ثم سألَ عن أعلمِ أهلِ الأرضِ فدُلَّ على رجلٍ عالمٍ، فقالَ: إنه قتلَ مائةَ نفسٍ، فهل له من توبةٍ؟ فقال: نعم! ومَن يَحولُ بينَه وبينَ التوبةِ؟ انطلِق إلى أرضِ كذا وكذا؛ فإنَّ بها أناسًا يعبدونَ اللهَ تعالى، فاعبدِ اللهَ معهم، ولا تَرجِعْ إلى أرضِكَ؛ فإنها أرضُ سُوءٍ. فانطلَقَ حتى إذا نَصَفَ الطريقَ أتاهُ الموتُ، فاختصمتْ فيه ملائكةُ الرحمةِ وملائكةُ العذابِ. فقالت ملائكةُ الرحمةِ: جاءَ تائبًا مُقبِلاً بقلبِه إلى اللهِ تعالى. وقالت ملائكةُ العذابِ: إنه لم يَعملْ خيرًا قَطُّ. فأتاهم مَلَكٌ في صورةِ آدميٍّ فجعلوه بينَهم، فقال: قيسوا ما بينَ الأرضينِ، فإلى أيتِهما كان أدنى فهو له. فقاسوا، فوجدوه أدنى إلى الأرضِ التي أرادَ، فقبضته ملائكةُ الرحمةِ". [متفق عليه]
وفي رواية في الصحيح: "فأوحى اللهُ تعالى إلى هذهِ أنْ تباعدي، وإلى هذه أنْ تَقربي، وقال: قيسوا ما بينهما، فوجدوه إلى هذه أقربَ بشِبرٍ فغُفِرَ له".
} - {
توبة أبي محجن الثقفي ت:
كان أبو محجن الثقفي لا يزال يُجلد في الخمر، فلما أكثر عليهم سجنوه وأوثقوه، فلما كان يوم القادسية وقد اشتد القتال؛ أرسل إلى سلمى بنت حفصة امرأة سعد، فقال: يا بنت آل حفصة! هل لك إلى خير؟
قالت: وماذاك ؟
قال: تخلين عني وتعيرينني البلقاء، فلله عليّ إنْ سلمني الله أن أرجع حتى أضع رجليَّ في قيدي، وإنْ أُصِبتُ فما أكثر من أفلت.
فقالت: ما أنا وذاك. فرجع يرسف في قيوده ويقول:
كفى حَزَنًا أنْ تلتقي الخيلُ بالقَنا ... وأُترَكُ مَشدودًا عليَّ وَثاقِيَا
إذا قُمتُ عَنَّاني الحديدُ وغُلِّقَت ... مصاريعُ مِن دوني تَصُمُّ المنادِيَا(1/16)
وقد كنتُ ذا مالٍ كثيرٍ وإخوةٍ ... فقد تَركوني واحدًا لا أخَا ليَا
وللهِ عَهدٌ لا أخيسُ بعَهدِهِ ... لئن فُرجَتْ أنْ لا أزورَ الحَوانيَا
فقالت سلمى: إني استخرتُ الله، ورضيتُ بعهدك؛ فأطلقته.
فاقتاد الفرس، فأخرجها وركبها، ثم دب عليها حتى إذا كان بحيال الميمنة كبر، ثم حمل على ميسرة القوم يلعب برمحه وسلاحه بين الصفين، ثم رجع من خلف المسلمين إلى الميسرة فكبر على ميمنة القوم يلعب بين الصفين برمحه وسلاحه، ثم رجع خلف المسلمين إلى القلب، فبدر أمام الناس، فحمل على القوم يلعب بين الصفين برمحه وسلاحه؛ فجعل لا يزال يحمل على رجل فيقتله ويدق صلبه.
وتعجب الناس منه وهم لا يعرفونه، ولم يروه من النهار، وجعل سعد بن أبي وقاص ت يقول: والله! لولا محبس أبي محجن لقلتُ: إن هذا أبو محجن، وهذه البلقاء.
فلم يلبثوا إلا يسيرًا حتى هزمهم الله، ورجع أبو محجن، ورد السلاح، وجعل رجليه في القيود كما كان.
فجاء سعد، فقالت له امرأته: كيف كان قتالكم؟ فجعل يخبرها ويقول: لقينا ولقينا، حتى بعث الله رجلاً على فرس أبلق؛ لولا أني تركت أبا محجن في القيود لقلت: إنها بعض شمائل أبي محجن! فقالت: والله! إنه لأبو محجن؛ كان من أمره كذا وكذا.. فقصت عليه قصته.
فدعا به، فحل قيوده، وقال: لا نجلدك على الخمر أبدًا.
قال أبو محجن: وأنا والله؛ لا أشربها أبدًا، كنتُ آنف أنْ أدعها من أجل جلدكم! فلم يشربها بعد ذلك. [التوابين للمقدسي]
} - {
توبة عبد الله بن مسلمة القعنبي: (1)
__________
(1) عبد الله بن مسلمة بن قعنب القعنبي الحارثي أبو عبد الرحمن المدني، نزيل البصرة، روى عنه البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي والترمذي، قال أبو حاتم: ثقة حُجة. وشُعبة هو ابن الحجاج بن الورد العتكي الآمدي، قال أحمد: لم يكن في زمنه مثله.(1/17)
قال بعض ولده: كان أبي يشرب النبيذ، ويصحب الأحداث، فدعاهم يومًا؛ وقد قعد على الباب ينتظرهم، فمر "شُعبة" على حماره؛ والناس خلفه يُهرَعون.. فقال: مَن هذا؟ قيل: شُعبة. قال: وإيش شُعبة؟ قالوا: مُحَدِّث. فقام إليه؛ وعليه إزار أحمر، فقال له: حَدِّثني!
فقال له: ما أنتَ من أصحاب الحديث فأحدثك! فأشهر سكينه، وقال: تُحَدِّثني أو أجرحك؟!
فقال له: حَدَّثنا منصور عن ربعي عن أبي مسعود قال: قال رسول الله خ: "إذا لم تستحِ فاصنع ما شِئتَ".
فرمى سكينه ورجع إلى منزله، فقام إلى جميع ما كان عنده من الشراب فأهرقه، وقال لأمه: الساعة أصحابي يجيئون، فأدخليهم وقدمي الطعام إليهم، فإذا أكلوا فخبريهم بما صنعت بالشراب حتى ينصرفوا. ومضى من وقته إلي المدينة، فلزم مالك بن أنس، فأثر عنه. ثم رجع إلى البصرة؛ وقد مات شُعبة، فما سمع منه غير هذا الحديث. [التوابين]
} - {
توبة شاب مسرف على نفسه على يد إبراهيم بن أدهم:
روي أن رجلاً جاء إلى إبراهيم بن أدهم فقال له: يا أبا إسحاق! إنى مسرف على نفسي، فاعرض عليَّ ما يكون لها زاجرًا ومستنقذًا لقلبي.
قال: إنْ قبلت خمس خصال وقدرت عليها لم تضرك معصية، ولم توبقك لذة.
قال: هات يا أبا إسحاق!
قال: أما الأولى: فإذا أردتَ أن تعصي الله عز وجل فلا تأكل رزقه.
قال: فمن أين آكل، وكل ما في الأرض من رزقه؟
قال له: يا هذا! أفيحسن أن تأكل رزقه وتعصيه؟
قال: لا.. هات الثانية.
قال: وإذا أردت أن تعصيه فلا تسكن شيئًا من بلاده.
قال الرجل: هذه أعظم من الأولى. إذا كان المشرق والمغرب وما بينهما له،
فأين أسكن ؟
قال: يا هذا! أفيحسن أن تأكل من رزقه وتسكن في بلاده وتعصيه؟
قال: لا.. هات الثالثة.
قال: إذا أردت أن تعصيه؛ وأنت تحت رزقه وفي بلاده، فانظر موضعًا لا يراك
فيه مبارزاً له؛ فاعصه فيه.
قال: كيف هذا؛ وهو مطلع على ما في السرائر؟
قال: يا هذا! أفيحسن أن تأكل من رزقه، وتسكن بلاده، وتعصيه؛ وهو يراك(1/18)
ويرى ما تجاهره به؟
قال: لا.. هات الرابعة.
قال: إذا جاءك ملك الموت ليقبض روحك فقل له: أخرني حتى أتوب توبة
نصوحاً وأعمل عملاً صالحا.
قال: لا يقبل مني!
قال: يا هذا! فأنت إذا لم تقدر أن تدفع عنك الموت لتتوب، وتعلم أنه إذا جاء
لم يكن له تأخير، فكيف ترجو وجه الخلاص؟!
قال: هات الخامسة.
قال: إذا جاءتك الزبانية يوم القيامة ليأخذوك إلى النار فلا تذهب معهم.
قال: لا يَدَعونني، ولا يقبلون مني.
قال: فكيف ترجو النجاة إذن؟!
قال: يا إبراهيم! حسبي.. حسبي.. أنا أستغفر الله وأتوب إليه. ولزمه فى العبادة
حتى فرق الموت بينهما.
} - {
توبة الفضيل بن عياض:
كان الفضيل يقطع الطريق وحده، فخرج ذات ليلة ليقطع الطريق، فإذا هو بقافلة قد انتهت إليه ليلاً، فقال بعضهم لبعض: اعدلوا بنا إلى هذه القرية؛ فإن أمامنا رجلاً يقطع الطريق يقال له: الفضيل.
فسمع الفضيل، فأرعد، فقال: يا قوم! أنا الفضيل، جوزوا، والله؛ لأجتهدن أن لا أعصي الله أبدًا.. فرجع عما كان عليه.
وروي أنه أضافهم تلك الليلة، وقال: أنتم آمنون من الفضيل، وخرج يرتاد لهم علفًا، ثم رجع فسمع قارئًا يقرأ: { أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آَمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ } [الحديد: 16]
قال: بلى والله قد آن.. فكان هذا مبتدأ توبته. [التوابين]
} - {
توبة فتى على يد صالح المري:
كان صالح المري في مجلسه يتكلم، فقال لفتى بين يديه: اقرأ يا فتى! فقرأ الفتى: { وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْآَزِفَةِ إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ كَاظِمِينَ مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلَا شَفِيعٍ يُطَاعُ } [غافر: 18](1/19)
فقطع صالح عليه القراءة، وقال: كيف يكون لظالم حميم أو شفيع، والْمُطالِب له رب العالمين؟ إنك والله لو رأيت الظالمين وأهل المعاصي يُساقون في السلاسل والأنكال إلى الجحيم؛ حفاة عراة، مسودة وجوههم، مزرقة عيونهم، ذائبة أجسادهم؛ ينادون: يا ويلنا..! يا ثبورنا..! ماذا يراد منا..؟ والملائكة تسوقهم بمقامع النيران؛ فمرة يُجرون على وجوههم ويُسحبون عليها منكبين، ومرة يُقادون إليها مقرنين؛ مِن بين باكٍ دمًا بعد انقطاع الدموع، ومِن بين صارخ طائر القلب مبهوت.. إنك والله لو رأيتَهم على ذلك لرأيت منظرًا لا يقوم له بصرك، ولا يثبت له قلبك، ولا يستقر لفظاعة هوله على قرار قدمك!
ثم نحب وصاح: يا سوء منظراه..! يا سوء منقلباه..! وبكى، وبكى الناس.
فقام فتى فقال: أكل هذا في يوم القيامة يا أبا بشر؟
قال: نعم والله يابن أخي! وما هو أكثر.. لقد بلغني أنهم يصرخون في النار حتى تنقطع أصواتهم.
فصاح الفتى: إنا لله! وا غفلتاه عن نفسي أيام الحياة..! وا أسفاه على تفريطي في طاعتك يا سيدي..! وا أسفاه على تضييعي عمري في دار الدنيا..!
ثم بكى واستقبل القبلة، فقال: اللهم إني أستقبلك في يومي هذا بتوبة لا يخالطها رياء لغيرك.. اللهم فاقبلني على ما كان فيَّ، واعفُ عما تقدم من فعلي ، وأقلني عثرتي، وارحمني ومَن حضرني، وتفضل علينا بجودك وكرمك يا أرحم الراحمين.. لك ألقيت معاقد الآثام من عنقي، وإليك أنبت بجميع جوارحي صادقًا لذلك بقلبي، فالويل لي إن لم تقبلني..
ثم غلب، فسقط مغشيًّا عليه، فمكث صالح وإخوانه يعودونه أيامًا، ثم مات فحضره خلق كثير يبكون عليه ويدعون له. فكان صالح كثيرًا ما يذكره في مجلسه فيقول: بأبي قتيل القرآن، وبأبي قتيل المواعظ والأحزان.
ورآه رجل في منامه بعد موته، قال: ما صنعت؟ قال: عمتني بركة مجلس صالح؛ فدخلت في سعة رحمة الله التي وسعت كل شيء. [التوابين]
} - {
مالك بن دينار يحكي قصة توبته:(1/20)
كنت في صدر أيامي شرطيًّا، وكنت في آنفة الحداثة من قبلها أتفتى وأتشطر (1) ، وكنت قاسيًا كأن في أضلاعي جندلة لا قلبًا، فلا أتذمم ولا أتأثم، وكنت مدمنًا على الخمر، لأنها روحانية من عجز أن تكون فيه روحانية.
فبينا أنا ذات يوم أجول في السوق، والناس يفورون في بيعهم وشرائهم، وأنا أراقب السارق، وأعد للجاني، وأتهيأ للنزاع، إذ رأيت اثنين يتلاحيان، وقد لبب أحدهما الآخر، فأخذت إليهما، فسمعت المظلوم يقول للظالم: لقت سلبتني فرح بنياتي، فسيدعون الله عليك، فلا تصيب من بعدها خيرًا.
وكنت عزبًا لا زوجة لي، ولكن الآدمية انتبهت فيّ، وطمعت في دعوة صالحة من البنيات المسكينات، ودخلتني لهن رقة شديدة، فأخذت للرجل من غريمه حتى رضي، وأضعفت له من ذات يدي لأزيد في فرح بناته، وقلت له وهو ينصرف: عهد يحاسبك الله عليه، ويستوفيه لي منك، أن تجعل بناتك يدعون لي إذا رأيت فرحهن بما تحمل إليهن، وقل لهن: مالك بن دينار!
ثم فكرت في الزواج، وعلمت أن الناس لا يزوجونني من طيباتهم ما دمت من الخبيثين، فلما أصبحت غدوت إلى سوق الجواري، فاشتريت جارية نفيسة، ووقعت مني أحسن موقع، وولدت لي بنتًا فشُغِفت بها، ولما دبت على الأرض ازددت لها حبًّا، فلما تم لها سنتان ماتت!
__________
(1) أقطع الطريق.(1/21)
فأكمدني الحزن عليها، ولم يكن لي من قوة الإيمان ما أتأسى به، فضاعف الجهل أحزاني، وجعل مصيبتي مصائب، ورجعت بجهلي إلى شر مما كنت فيه، وكانت أحزاني أفراح الشيطان، وأراد -أخزاه الله- أن يفتن في أساليب فرحه، فلما كانت ليلة النصف من شعبان وكانت ليلة جمعة، سول لي الشيطان أن أسكر سكرة ما مثلها. فبت كالميت مما ثملت، وقذفتني أحلام إلى أحلام، ثم رأيت القيامة والحشر، وقد ولدت القبور من فيها، وسيق الناس وأنا معهم، وليس وراء ما بي من الكرب غاية، وسمعت خلفي زفيرًا كفحيح الأفعى، فالتفت فإذا أنا بتنين عظيم، أسود، أزرق، يرسل الموت من عينيه الحمراوين، وفي فمه مثل الرماح من أنيابه، وقد فتح فاه ونفخ جوفه وجاء مسرعًا يريد أن يلتقمني، فممرت بين يديه هاربًا فزعًا، فإذا أنا بشيخ هرم يكاد يموت ضعفًا فعذت به وقلت: أجرني وأغثني. فقال: أنا ضعيف كما ترى، وما أقدر على هذا الجبار، ولكن.. مر وأسرع، فلعل الله أن يسبب لك أسبابًا للنجاة.
فوليت هاربًا، وأشرفت على النار وهي الهول الأكبر، فرجعت أشتد هربًا والتنين على أثري، ولقيت ذلك الشيخ مرة أخرى، فاستجرت به، فبكى من الرحمة لي وقال: أنا ضعيف كما ترى، ما أقدر على هذا الجبار، ولكن اهرب إلى هذا الجبل، فلعل الله يُحدِث أمرًا.
فنظرت فإذا جبل كالدار العظيمة، له كُوَىً عليها ستور، وهو يبرق كشعاع الجوهر، فأسرعت إليه والتنين من ورائي، فلما شارفت الجبل فُتحت الكوى، ورُفعت الستور، وأشرفت على وجوه أطفال كالأقمار، وقرب التنين مني، وصرت في هواء جوفه وهو يتضرم عليَّ، لم يبقَ إلا أن يأخذني، فتصايح الأطفال جميعًا: يا فاطمة! يا فاطمة!(1/22)
فإذا ابنتي التي ماتت قد أشرفت عليَّ، فلما رأت ما أنا فيه صاحت وبكت، ثم وثبت كرمية السهم، فجاءت بين يدىّ، ومدت إليّ شمالها فتعلقت بها، ومدت يمينها إلى التنين فولى هاربًا، وأجلستني وأنا كالميت من الخوف والفزع، وقعدت في حجري، كما كانت تصنع في الحياة، وضربت بيدها إلي لحيتي وقالت: يا أبت..! { أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آَمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ } [الحديد: 16]
فبكيت وقلت: يا بنية! أخبريني عن هذا التنين الذي أراد هلاكي.
قالت: ذاك عملك السوء الخبيث، أنت قويته حتى بلغ هذا الهول الهائل.
قلت: فذاك الشيخ الضعيف الذي استجرت به ولم يجرني؟
قالت: يا أبت! ذاك عملك الصالح، أنت أضعفته فضعف حتى لم يكن له طاقة أن يغيثك من عملك السيئ.
وانتبهتُ من نومي فزعًا، لا أراني أستقر، كأني طريدة عملي السيئ، كلما هربت منه هربت به، وأين المهرب من الندم الذي كان نائمًا في القلب واستيقظ للقلب ؟
وأملت في رحمة الله أن أربح من رأس مال خاسر، وقلت في نفسي: إن يومًا باقيًا من العمر هو للمؤمن عمر ما ينبغي أن يستهان به، وصححت النية على التوبة؛ لأرجع الشباب إلى ذلك الشيخ الضعيف، وأسمن عظامه حتى إذا استجرتُ به أجارني، ولم يقل: أنا ضعيف كما ترى!(1/23)
وسألت، فدُللت على أبي سعيد الحسن بن أبي الحسن البصري؛ سيد البقية من التابعين. وقيل لي: إنه جمع كل علم إلى الزهد والورع والعبادة، وإن أمه كانت مولاة لأم المؤمنين أم سلمة زوج النبي خ، فكانت بينه وبين بركة النبوة صلة. وغدوتُ إلى المسجد؛ والحسن في حلقته يتكلم، فجلستُ حيث انتهى بي المجلس، وما كان غير بعيد حتى عرتني نفضة كنفضة الحمى؛ إذ قرأ الشيخ قوله تعالى: { أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آَمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ } [الحديد: 16]، وأخذ الشيخ يفسر الآية، فصنع بي كلامه ما لو بُعث نبي من أجلي خاصة لما صنع أكثر منه. [وحي القلم (بتصرف)]
} - {
توبة في مرقص حكاها الشيخ على الطنطاوي:
قال /: دخلت أحد مساجد مدينة حلب فوجدت شابًّا يصلي. فقلت: سبحان الله! إن هذا الشاب من أكثر الناس فسادًا؛ يشرب الخمر، ويفعل الزنا، ويأكل الربا، وهو عاق لوالديه، وقد طرداه من البيت، فما الذي جاء به إلى المسجد؟! فاقتربت منه وسألته: أنت فلان؟!! قال: نعم.
قلت: الحمد لله على هدايتك.. أخبرني كيف هداك الله؟؟
قال: هدايتي كانت على يد شيخ وعظنا في مرقص.
قلت مستغربًا: في مرقص؟!
قال: نعم.. في مرقص.
قلت: كيف ذلك؟!
قال: هذه هي القصة، فأخذ يرويها فقال:
كان في حارتنا مسجد صغير؛ يؤم الناس فيه شيخ كبير السن، وذات يوم التفت الشيخ للمصلين وقال لهم: أين الناس؟! ما بال أكثر الناس وخاصة الشباب لا يقربون المسجد، ولا يعرفونه؟!
فأجاب المصلون: إنهم في المراقص والملاهي.
قال الشيخ: وما هي المراقص والملاهي؟!
رد عليه أحد المصلين: المرقص صالة كبيرة فيها خشبة مرتفعة تصعد عليها الفتيات عاريات أو شبه عاريات؛ يرقصن والناس حولهن ينظرون إليهن.(1/24)
فقال الشيخ: والذين ينظرون إليهن من المسلمين؟!
قالوا: نعم.
قال: لا حول ولا قوة إلا بالله.. هيا بنا إلى تلك المراقص ننصح الناس..
قالوا له: يا شيخ! أين أنت..؟! تعظ الناس وتنصحهم في المرقص؟!
قال: نعم.. حاولوا أن يثنوه عن عزمه، وأخبروه أنهم سيُواجَهون بالسخرية والاستهزاء، وسينالهم الأذى.. فقال: وهل نحن خير من محمد خ ؟! وأمسك الشيخ بيد أحد المصلين ليدله على المرقص، وعندما وصلوا إليه؛ سألهم صاحب المرقص: ماذا تريدون..؟!
قال الشيخ: نريد أن ننصح من في المرقص.
تعجب صاحب المرقص، وأخذ يمعن النظر فيهم، ورفض السماح لهم.. فأخذوا يساومونه ليأذن لهم، حتى دفعوا له مبلغًا من المال يعادل دخله اليومي!!
وافق صاحب المرقص، وطلب منهم أن يحضروا في الغد عند بدء العرض اليومي.
قال الشاب: فلما كان الغد كنت موجودًا في المرقص.. بدأ الرقص من إحدى الفتيات.. ولما انتهت أُسدل الستار، ثم فُتح فإذا بشيخ وقور يجلس على كرسي، فبدأ بالبسملة وحمد الله، وأثنى عليه، وصلى على رسول الله خ، ثم بدأ في وعظ الناس الذين أخذتهم الدهشة، وتملكهم العجب، وظنوا أن ما يرونه فقرة فكاهية.. فلما عرفوا أنهم أمام شيخ يعظهم أخذوا يسخرون منه، ويرفعون أصواتهم بالضحك والاستهزاء، وهو لا يبالي بهم.. واستمر فى نصحه ووعظه حتى قام أحد الحضور، وأمرهم بالسكوت والإنصات حتى يسمعوا ما يقوله الشيخ.(1/25)
قال: فبدأ السكون والهدوء يخيم على أنحاء المرقص حتى أصبحنا لا نسمع إلا صوت الشيخ، فقال كلامًا ما سمعناه من قبل؛ تلا علينا آيات من القرآن الكريم، وأحاديث نبوية، وقصصًا لتوبة بعض الصالحين، وكان مما قاله: " أيها الناس! إنكم عشتم طويلاً وعصيتم الله كثيرًا.. فأين ذهبت لذة المعصية؟ لقد ذهبت اللذة وبقيت الصحائف سوداء ستُسألون عنها يوم القيامة، وسيأتي يوم يهلك فيه كل شيء إلا الله سبحانه وتعالى.. أيها الناس! هل نظرتم إلى أعمالكم إلى أين ستؤدي بكم ؟ إنكم لا تتحملون نار الدنيا وهي جزء من سبعين جزءًا من نار جهنم، فكيف بنار جهنم..؟ بادروا بالتوبة قبل فوات الأوان.."
قال: فبكى الناس جميعًا، وخرج الشيخ من المرقص، وخرج الجميع وراءه، وكانت توبتهم على يده، حتى صاحب المرقص تاب وندم على ما كان منه. [العائدون إلى الله]
} - {
توبة أحد ضحايا المبشرين:
يقول عن نفسه: أنا شاب مصري من محافظة أسيوط، نشأت بين والدين مسلمين في سعادة غامرة، إلا أن سعادتي لم تدم طويلاً إذ شاء الله أن يطلق والدي والدتي، فقررنا -أنا وإخوتي- العيش مع والدتي؛ مما جعل والدي يقطع عنا المصروف لنعيش في حال لا يعلمها إلا الله.
كنت أعمل عملاً متواصلاً لتوفير لقمة العيش لي ولإخوتي، ولما ضاقت بي الحياة في بلدتي الصغيرة قررت السفر إلى القاهرة للبحث عن عمل أفضل، فوجدت عملاً في مقهى؛ وهنا تبدأ القصة..
فقد تعرفت من خلال عملي هذا على أصدقاء كثيرين؛ من بينهم عدد من النصارى.. كانوا يعاملونني معاملة خاصة وباهتمام شديد.. وكنت أقضي معهم معظم الأوقات، نضحك ونلهو.. ومع جهلي الشديد بديني كنت منهمكًا في البحث عن الشهوات، وتعاطي المخدرات أحيانًا على الرغم من سوء حالتي المادية.
وكان أصدقائي النصارى الخمسة يعملون في مصنع أحذية يملكه أحدهم، وشيئًا فشيئًا بدأوا يحدثونني عن المسيح، ويخوضون معي في حوارات دينية.(1/26)
وذات مرة دخلت عليهم في مصنعهم وهم يستمعون من شريط مسجل إلى ترانيم دينية عن المسيح وأمه العذراء، ولاحظوا عليَّ تأثرًا وانفعالاً فكانوا -من بعد- إذا علموا بقدومي أسمعوني شريطًا دينيًّا، ويعدونني بشريط آخر، وفي الوقت نفسه لا يردون لي طلبًا مها كان، وإذا أحضروا شيئًا من الطعام -كالجبن والسمك- حفظوا لي منه، في الوقت الذي أجد فيه معاملة قاسية من إخواني المسلمين؛ بل من أقرب الناس إليّ -والدي سامحه الله الذي كان يعمل على تجويعنا وتحطيم حياتنا- ثم بدأ هؤلاء النصارى يمنعون عني الأشرطة، فكنت أشتاق إليها لجهلي، وبدأت أتقرب إلى النصارى بشدة وكرهت المسلمين!!
وشيئًا فشيئًا بلغت بهم الجرأة إلى شتم الحبيب خ بشتائم أعجز عن ذكرها. ولفرط جهلي كنت أتغاضى عما يفعلون؛ أسأل الله أن يغفر لي.
وتمضي الأيام وأنا أزداد منهم قربًا ومن الإسلام بعدًا؛ حتى أصبحوا يسخرون من المسلمين جميعًا، ويشتمون الصحابة - رضي الله عنهم - وعلماء الإسلام كأبي حنيفة وغيره.. وأنا معهم في كل ما يقولون؛ أسأل الله أن يعفو عني ويغفر لي.
وكرهت ديني –الإسلام-، كما كرهت كل مسلم على وجه الأرض!! وشرع أحدهم يسألني لماذا لا تتنصر؟
قلت: إني أخاف أن يقتلني أهلي. قالوا: لا تخف.. فسوف ننقلك إلى بلد بعيد لا يتمكنون من الوصول إليه، وهناك سنعطيك ما تريد..! فقلت: أمهلوني إذن أسبوعًا واحدًا.
وفي هذا الأسبوع، وفي الأيام الأولى منه كنت أسبح في بحر من التفكير والهموم المتلاحقة، وقبل نهايته بيومين عزمتُ على الذهاب إليهم للتخلي عن إسلامي؛ الذي لم أكن أعرفه حق المعرفة.
وهنا أدعوكم أن تتأملوا معي لطف الله عز وجل؛ فبينما أنا ذاهب إليهم وقد تعلق قلبي بهم، مررت في طريقي بمسجد صغير؛ وكان الوقت ظهرًا، وجدت المسجد خاليًا من المصلين، فدلفت إليه وقلت لنفسي: سوف أرى الآن هل الإسلام حق أم باطل.(1/27)
فتوضأت وصليت ركعتين، ودعوت ربي، وتضرعت إليه أن يهديني إلي الدين الحق؛ فشعرت بإحساس غريب يسري في كياني ويهزني هزًّا عنيفًا.. أحسست بأني لست الرجل الذي سب دينه، وأراد أن يتخلى عنه من أجل حفنة من المال أو الطعام.. وخرجت من المسجد مندفعًا تسوقني أقدامي إلى ذلك المصنع.
دخلت عليهم دون تحية؛ فإذا بهم يهابونني على غير العادة! أحسست وكأن بداخلي بركانًا ثائرًا يريد أن يتفجر.. كنت أتكلم بقوة؛ وهم يستمعون إليّ والدهشة قد عقدت ألسنتهم.. وكانت آثار الوضوء لا زالت تتقاطر من وجهي، أحسست بأن الله ينصرني علي الباطل.
قلت لهم: أريد أن أسألكم سؤالاً واحدًا قبل أن أتنصر، إن أجبتم عليه تنصرت فورًا؛ وكنت واثقًا أنهم لن يجيبوا عليه؛ لنفرض أن المسيح هو الإله.. فكيف كان حال الكون والمسيح الرب -حسب زعمكم- موجود في بطن امرأة من خلقه؟! كيف كان حال الدنيا، ونظام الكون بأكمله؛ وقد قتل المسيح الإله –بزعمكم- وصلب؟ هل الإله يُقتل ويُصلب؟! وهل الإله تحمله امرأة في بطنها؟!
فرأيت الوجوم باديا على وجوههم.. قلت لهم متهكمًا: لنفرض أن المسيح إله، ولكن.. أليس الذي قتل المسيح وصلبه أقوى منه؟ فالأولى أن تعبدوا الأقوى الذي قتله وصلبه.. ولكن أين الذين قتلوه –بزعمكم-؟ لقد ماتوا جميعًا.. ومن الذي أماتهم؟ إنه الله الواحد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوًا أحد.
ولما لم يجيبوا وبُهتوا جميعًا، خرجت مسرعًا وكأني قد ملكت الدنيا بأسرها، وتمنيت لو أحتضن كل مسلم يمشي على وجه الأرض، وأطلب منه السماح بسبب ما ارتكبته في حقه.
لقد خنت ديني، وكدت أن أتخلى عنه، ولكني أحمد الله الذي هداني وأعادني إليه، ووالله إن ديني لخير من كل متاع الدنيا الزائل.(1/28)
ولم يتركني أهل الباطل، بل أرسلوا ورائي أحد الأشقياء بعد أن دفعوا له مبلغًا من المال لضربي وإيذائي، ولكني كنت مسرورًا لأني سأُضرب في سبيل الله بعد أن انتصرتُ لديني وعقيدتي. [العائدون إلى الله]
ولستُ أُبالي حينَ أُقتَلُ مسلمًا ... على أيِّ جنبٍ كان في اللهِ مَصرعي
وذلك في ذاتِ الإلهِ وإنْ يَشأْ ... يُبارِكْ على أوصالِ شِلْوٍ مُمَزَّعِ
الذنوب كبائر وصغائر
دل القرآن والسنة وإجماع الصحابة والتابعين بعدهم والأئمة على أن مِن الذنوب كبائر وصغائر، قال الله تعالى: { إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيمًا } [النساء:31]، وقال تعالى: { الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ } [النجم:32]، وفي الصحيح عنه خ أنه قال: "الصلواتُ الخمسُ، والجمعةُ إلى الجمعةِ، ورمضانُ إلى رمضانَ مُكَفِّراتٌ لما بينَهن إذا اجتُنِبَتِ الكبائرُ". [رواه مسلم عن أبي هريرة]
والأحاديث الصحاح في ذكر الكبائر خمسة:
الأول: حديث أبي هريرة ت أن النبي خ قال: "اجتنِبوا السبعَ الموبِقاتِ" قالوا: يا رسول الله! وما هن؟ قال: "الشركُ باللهِ، والسحرُ، وقتلُ النفسِ التي حرَّمَ اللهُ إلا بالحقِّ، وأكلُ الربا، وأكلُ مالِ اليتيمِ، والتولي يومَ الزحفِ، وقذفُ المحصَناتِ المؤمناتِ الغافلاتِ".(1/29)
الثاني: حديث عبد الله بن مسعود ت قال: قال رجل: يا رسول الله! أي الذنب أكبر عند الله؟ قال: "أنْ تجعلَ للهِ نِدًّا وهو خَلَقَك". قال: ثم أي؟ قال: "أنْ تقتلَ ولدَك خشيةَ أنْ يَطعمَ معك". قال: ثم أي؟ قال: "أنْ تزاني بحليلةِ جارِك". فأنزل الله عز وجل تصديقها: { وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آَخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا } [الفرقان: 68]
الثالث: حديث عبد الله بن عمرو ب أن النبي خ قال: "الكبائرُ: الإشراكُ باللهِ، وعقوقُ الوالدينِ، وقتلُ النفسِ، واليمينُ الغموسُ " .
الرابع: حديث أنس ت قال: ذكر رسول الله خ الكبائر، فقال: "الشركُ باللهِ، وعقوقُ الوالدينِ، وقتلُ النفسِ". وقال: "ألا أُنبِئُكُم بأكبرِ الكبائرِ؟ قولُ الزورِ" -أو قال: شهادةُ الزورِ-
الخامس: حديث أبي بكرة ت أن النبي خ ذُكرت عنده الكبائر، قال: "الإشراكُ باللهِ وعقوقُ الوالدينِ"، وكان متكئًا فجلس، فقال: "ألا وقولُ الزُّورِ، وشهادةُ الزُّورِ". فما زال يكررها حتى قلنا: ليته سكت!
والأحاديث في الكبائر لا تدل على حصرها فيها، ولعل الشارع قصد الإبهام ليكون الناس على وجل من الذنوب، لكن يُعرف من الأحاديث أجناس الكبائر، ويُعرف أيضًا أكبر الكبائر. واختلف السلف في الكبائر؛ هل لها عدد يحصرها؟ فربق قال بحصرها، ولكن اختلفوا في عددها. قال سعيد بن جبير: سأل رجل ابن عباس عن الكبائر: أسبع هن؟ قال: هن إلى السبعمائة أقرب، إلا أنه لا كبيرة مع الاستغفار، ولا صغيرة مع الإصرار.
وقال أبو طالب المكي: الكبائر سبع عشرة، جمعتها من أقوال الصحابة فوجدتها:
أربعة في القلب، وهي: الشرك بالله، والإصرار علي المعصية، والقنوط من رحمة الله، والأمن من مكر الله.
أربعة في اللسان: شهادة الزور، وقذف المحصنات، واليمين الغموس، والسحر.(1/30)
ثلاثة في البطن: شرب الخمر، وأكل مال اليتيم، وأكل الربا.
اثنتين في الفرج: الزنا واللواط.
اثنتين في اليدين: القتل، والسرقة.
واحدة في الرجلين: الفرار من الزحف.
واحدة في جميع البدن: عقوق الوالدين.
وقالت طائفة: ما اقترن بالنهي عنه وعيد من لعن، أو غضب، أو عقوبة؛ فهو كبيرة، وما لم يقترن به شيء من ذلك فهو صغيرة.
وقالت فرقة: الصغائر ما دون الْحَدَّينِ، والكبائر ما تعلق بها أحد الحدين، ومرادهم بالْحَدَّيْنِ: عقوبة الدنيا والآخرة. فكل ذنب عليه عقوبة مشروعة محدودة في الدنيا كالزنا، وشرب الخمر، والسرقة، والقذف؛ أوعليه وعيد في الآخرة، كأكل مال اليتيم، والشرب في آنية الفضة والذهب، وقتل الإنسان نفسه، وخيانته أمانته، ونحو ذلك فهو من الكبائر.
وقال ابن عبد السلام الشافعي: لم أقف للكبيرة على ضابط سالم من الاعتراض. والضابط الذي قاله شيخ الإسلام وغيره؛ من أنها ما فيها حَدٌّ، أو وعيد، أو لعن، أو تبرؤ، أو ليس منا، أو نفي إيمان؛ مِن أسلم الضوابط.
- - -
بيان ما تعظم به الصغائر من الذنوب
الصغيرة تكبر بأسباب منها:
الإصرار والمواظبة: فإن العفو عن كبيرة قد انقضت ولم يتبعها مثلها أرجى من العفو عن صغيرة يواظب عليها العبد. ومثال ذلك قطرات من الماء تقع على حجر متواليات؛ فإنها تؤثر فيه، ولو جُمعت تلك القطرات في جرة، وصُبَّت عليه لم تؤثر.
استصغار الذنب: فإن الذنب كلما استعظمه العبد صغر عند الله تعالى، وكلما استصغره العبد كبر عند الله تعالى؛ فإن استعظامه يصدر عن نفور القلب منه وكراهيته له، فقد يقترن بالصغيرة من قلة الحياء، وعدم المبالاة، وترك الخوف، والاستهانة بها؛ ما يُلحقها بالكبائر، بل يجعلها في أعلى رتبها.
قال ابن مسعود ت: إنَّ المؤمن يرى ذنوبه كأنه في أصل جبل يخاف أن يقع عليه، وإنَّ الفاجر يرى ذنوبه كذباب وقع على أنفه، فقال به هكذا؛ فطار.(1/31)
وكانت حياة الصحابة رضوان الله عليهم ترجمة عملية لهذا المعني الذي أشار إليه عبد الله بن مسعود.
وهذا أبو لبابة بن عبد المنذر بعثه رسول الله خ إلى بني قريظة استجابة لطلبهم -بعد أن خانوا العهد، ونقضوا الميثاق، وتآمروا على المسلمين- فلما رأوه قام إليه الرجال، وجهش إليه النساء والصبيان يبكون في وجهه؛ فرَقَّ لهم، وقالوا له: يا أبا لبابة! أترى أن ننزل على حكم محمد؟ قال: نعم، وأشار بيده إلى حلقه؛ أنه الذبح. قال أبو لبابة: فوالله مازالت قدماي من مكانهما حتى عرفت أني قد خنتُ الله ورسوله.
ثم انطلق أبو لبابة على وجهه ولم يأت رسول الله خ حتى ارتبط في المسجد إلى عمود من عمده، وقال: لا أبرح مكاني هذا حتى يتوب الله عليّ مما صنعتُ. وعاهد الله أنْ: "لا أطأ بني قريظة أبدًا، ولا أُرَى في بلد خنتُ الله ورسوله فيه أبدًا". فلما بلغ رسول الله خ خبره؛ وكان قد استبطأه، قال: أما إنه لو جاءني لاستغفرتُ له، فأما إذ قد فعل ما فعل؛ فما أنا بالذي أطلقه من مكانه حتى يتوب الله عليه.
قال ابن هشام: فأنزل الله تعالى في أبي لبابة فيما قال سفيان بن عيينة عن إسماعيل بن أبي خالد عن عبد الله بن أبي قتادة: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ } [الأنفال: 27](1/32)
وقد نزلت توبة أبي لبابة على رسول الله خ من السَّحَر؛ وهو في بيت أم سلمة ل. قالت أم سلمة: فسمعت رسول الله خ من السَّحَر وهو يضحك. قالت: فقلت: مم تضحك يا رسول الله؟ أضحك الله سنك! قال: "تيب على أبي لبابة". قالت: قلت: أفلا أبشره يا رسول الله؟ قال خ: "بلى إنْ شئتِ" فقامت على باب حجرتها؛ وذلك قبل أن يُضرب عليهن الحجاب، فقالت: يا أبا لبابة! أبشر؛ فقد تاب الله عليك. فثار الناس إليه ليطلقوه، فقال: لا والله؛ حتى يكون رسول الله خ هو الذي يطلقني بيده. فلما مر عليه رسول الله خ خارجًا إلى صلاة الصبح؛ أطلقه.
قال ابن هشام: أقام أبو لبابة مرتبطًا بالجذع ست ليالٍ؛ تأتيه امرأته في كل وقت صلاة، فتحله للصلاة، ثم يعود فيرتبط بالجذع. والآية التي نزلت في توبته قول الله عز وجل: { وَآَخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلًا صَالِحًا وَآَخَرَ سَيِّئًا عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ } [التوبة: 102]
وإنما يعظم الذنب في قلب المؤمن لعلمه بجلال الله تعالى، فإذا
نظر إلى عظمة مَن عصى رأى الصغيرة كبيرة:
عن عوف بن الطفيل -وهو ابن أخي أم المؤمنين عائشة لأمها- أن عائشة ل حَدَّثت أن عبد الله بن الزبير -وهو ابن أسماء أخت عائشة - رضي الله عنهم - قال في بيع أو عطاء أعطته عائشة: "والله لتنتهينَّ عائشة، أو لأحجرنَّ عليها"! فقالت: "أهو قال هذا"؟ قالوا: نعم. قالت: هو لله عليّ نذر أنْ لا أكلم ابن الزبير أبدًا. (1)
__________
(1) كانت عائشة رضي الله عنها لا تمسك شيئًا مما جاءها من رزق الله؛ تتصدق به جميعه. - أحجرن عليها: أمنعها من التصرف في مالها.(1/33)
فاستشفع ابن الزبير إليها حين طالت الهجرة، فقالت: لا والله لا أُشَفِّع فيه أحدًا، ولا أتحنث (1) إلى نذري. فلما طال ذلك على ابن الزبير؛ كلَّم المسور بن مخرمة، وعبد الرحمن بن الأسود بن عبد يغوث، وهما من بني زهرة، وقال لهما:
أنشدكما بالله لما أدخلتماني على عائشة؛ فإنها لا يحل لها أن تنذر قطيعتي.
فأقبل به المسور وعبد الرحمن مشتملين بأرديتهما؛ حتى استأذنا على عائشة فقالا: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، أندخل؟ قالت عائشة: ادخلوا. قالوا: كلنا؟ قالت: نعم.. ادخلوا كلكم؛ ولا تعلم أن معهما ابن الزبير. فلما دخلوا دخل ابن الزبير الحجاب فاعتنق عائشة، وطفق يناشدها ويبكي، وطفق المسور وعبد الرحمن يناشدانها إلا ما كلمته وقبلت منه، ويقولان: إن النبي خ نهى عما قد علمتِ من الهجرة؛ فإنه لا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث ليالٍ. فلما أكثروا على عائشة من التذكرة والتحريج؛ طفقت تذكرهما وتبكي، وتقول: إني نذرتُ، والنذر شديد.. فلم يزالا بها حتى كلمت ابن الزبير، وأعتقت في نذرها ذلك أربعين رقبة، وكانت تذكر نذرها بعد ذلك فتبكي حتى تبل دموعها خمارها. [رواه البخاري]
وفي البخاري من حديث أنس ت: إنكم لتعملون أعمالاً هي أدق في أعينكم من الشعر؛ إنْ كنا نُعدها على عهد رسول الله خ من الموبِقات.
ومن الأسباب التي تعظم بها الصغيرة:
__________
(1) أتحنث: لا أخلف يميني، ولا أكفِّر عنه.(1/34)
أن يفرح بها: كأن يقول: أما رأيتَني كيف مزقتُ عِرض فلان، وذكرت مساويه حتى أخجلته؟! أو يقول التاجر: أما رأيتَ كيف روجتُ عليه الزائف، وكيف خدعتُه وغبنتُه.. فهذا وأمثاله تكبر به الصغائر. وفي الصحيحين من حديث أبي هريرة ت أن النبي خ قال: "كلُّ أمتي مُعافَى إلا المجاهرين، وإنَّ مِن المجاهرةِ أنْ يعملَ الرجلُ العملَ بالليلِ ثم يُصبِحُ وقد سترَه اللهُ عليهِ فيقول: يا فلان! عملتُ البارحةَ كذا وكذا، وقد باتَ يسترُ اللهُ عليه، ويُصبِحُ يَكشِفُ سِترَ اللهِ عنه".
أن يتهاون بستر الله تعالى وحلمه عنه، وإمهاله إياه، ولا يدري أن ذلك قد يكون مقتًا ليزداد بالإمهال إثما.
أن يكون المذنب عالِمًا يُقتَدَى به، فإذا عُلم منه الذنب؛ كبر ذنبه، كلبسه الحرير، ودخوله على الظلمة مع ترك الإنكار عليهم، وإطلاق اللسان في الأعراض. فهذه ذنوب يتبع العالم عليها، فيموت ويبقى شره مستطيرًا في العالَم. فطوبى لمن إذا مات ماتت بعده ذنوبه.
فهذا إمام أهل السنة أحمد بن حنبل يدخل عليه أحد تلاميذه الحبس قبل أن يُضرب، فقال له في بعض كلامه: يا أبا عبد الله! عليك عيال، ولك صبيان، وأنت معذور -كأنه يسهل عليه الإجابة بخلق القرآن كما يرى الخليفة- فقال أحمد بن حنبل: إنْ كان هذا عقلك يا أبا سعيد؛ فقد استرحت! ولكن.. انظر إلى حملة الأقلام؛ كلهم ينتظر ماذا يقول ابن حنبل؛ لينطلقوا به إلى الأمصار.. أأنجو بنفسي وأضل هؤلاء؟
وهذا محمد بن نوح؛ رفيق الإمام أحمد بن حنبل في المحنة؛ يُذَكِّر الإمام باقتداء المسلمين به قائلاً: يا أبا عبد الله! الله.. الله.. إنك لستَ مثلي، أنتَ رجل يُقتَدَى بك، قد مَدَّ الخلق أعناقهم إليك؛ لما يكون منك؛ فاتقِ الله، واثبت لأمر الله.
- - -
مداخل المعاصي
أكثر ما تدخل المعاصي على العبد من أبواب أربعة هي: اللحَظَات، والخَطَرات، واللفظات، والخطوات.
أولا: فضول النظر(1/35)
أما اللحظات فهي رائد الشهوة ورسولها؛ لأن العين رائد القلب:
ألم ترَ أنَّ العينَ للقلبِ رائدٌ فما تألفُ العينانِ فالقلبُ آلِفُ
والنظر أصل عامة الحوادث التي تصيب الإنسان؛ فالنظرة تولد خطرة، ثم تولد الخطرة فكرة، ثم تولد الفكرة شهوة، ثم تولد الشهوة إرادة تقوى فتصير عزيمة جازمة، فيقع الفعل ولا بد؛ ما لم يمنع منه مانع. وفي هذا قيل: الصبر على غض البصر أيسر من الصبر على ألم ما بعده.
ومَن أطلق لحظاته دامت حسراته؛ فإن النظرة سهم مسموم من سهام إبليس. قال علي بن أبي طالب: العيون مصائد الشيطان.
وفي غض البصر عدة منافع؛ منها:
? أنه يورث القلب أنسًا بالله؛ فإن إطلاق البصر يفرق القلب، ويشتته، ويبعده من الله، ويورث الوحشة بين العبد وربه.
يقول أطباء القلوب: بين العين والقلب منفذ وطريق، فإذا خربت العين وفسدت خرب القلب وفسد، وصار محلاً للقاذورات؛ فلا يصلح لسكن معرفة الله ومحبته، والإنابة إليه، والأنس والسرور بقربه، وإنما يسكن فيه أضداد ذلك.
? أنه يُلبِس القلب نورًا، كما أن إطلاقه يُلبسه ظُلمة، ولهذا ذكر الله سبحانه وتعالى آية النور عقيب الأمر بغض البصر، قال تعالى: { قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ } [النور: 30]، ثم قال تعالى: { اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ } [النور: 35] أي مثل نوره في قلب عبده المؤمن؛ الذي امتثل أوامره واجتنب نواهيه.
وإذا استنار القلب أقبلت وفود الخيرات إليه من كل ناحية، كما أنه إذا أظلم أقبلت سحائب البلاء والشر عليه من كل مكان.
? أنه يورث فراسة صادقة يميز بها بين الحق والباطل، و الصادق والكاذب. كان "شجاع الكرماني" يقول: مَن عمَّر ظاهره باتباع السنه، وباطنه بدوام المراقبة، وغض بصره عن المحارم، وكف نفسه عن الشبهات، واغتذى بالحلال؛ لم تخطئ له فراسة. وكان شجاع هذا لا تخطئ له فراسة.(1/36)
ومَن ترك شيئًا لله عوضه الله خيرًا منه، فإذا غض العبد بصره عن محارم الله عوضه الله بأن يطلق نور بصيرته عوضًا عن حبس بصره لله، ويفتح عليه باب العلم والإيمان والمعرفة والفراسة الصادقة.
? أنه يفرغ القلب للتفكر في مصالحه والاشتغال بها. وإطلاق البصر ينسيه ذلك، ويحول بينه وبينه؛ فينفرط عليه أمره، ويقع في اتباع هواه، وفي الغفلة عن ذكر ربه.
سئل أحد المعاصرين لـ"عتبة الغلام": (1) أتعرف أحدًا يمشي في الطريق مشتغلاً بنفسه؟ قال: ما أعرف إلا رجلاً؛ الساعة يدخل عليكم. فلما دخل عتبة؛ وطريقه على السوق، قال: يا عتبة! مَن تَلَقَّاك في الطريق؟ قال: ما قابلتُ أحدًا..!
وكان الربيع بن خثيم من شدة غضه لبصره وإطراقه؛ يظن بعض الناس أنه أعمى! وكان يختلف إلى منزل ابن مسعود ت عشرين سنة، فإذا رأته جاريته قالت لابن مسعود: صديقك الأعمى قد جاء! فكان ابن مسعود ت يضحك من قولها. وكان ابن مسعود ت إذا نظر إليه يقول: وبشِّر المخبتين.. أما والله لو رآك محمد خ لفرح بك.
} - {
... ثانيا: الخواطر
أما الخطرات فشأنها أصعب؛ فإنها مبدأ الخير والشر، ومنها تتولد الإرادات والعزائم، فمَن راعى خطراته ملك زمام نفسه، وقهر هواه. ومَن غلبته خطراته فهواه ونفسه له أغلب. ومن استهان بالخطرات قادته قهرًا إلى الهلكات.
__________
(1) سمي بـ"الغلام" لجده واجتهاده في العبادة منذ صغره.(1/37)
وأخس الناس همة، وأوضعهم نفسًا مَن رضي بالأماني الكاذبة، وهي أضر شيء على الإنسان، ويتولد منها العجز والكسل، وتولد التفريط والحسرة والندم. والمتمني لما فاتته مباشرة الحقيقة بجسمه؛ حَوَّل صورتها في قلبه، فقنع بوصال صورة وهمية خيالية صوَّرها فكره، وذلك لا يجدي عليه شيئًا؛ وإنما مثله مثل الجائع والظمآن؛ يُصور في وهمه صورة الطعام والشراب؛ وهو لا يأكل ولا يشرب! والسكون إلى ذلك واستجلابه يدل على خساسة النفس ووضاعتها. وإنما شرف النفس وزكاؤها بأن ينفي عنها كل خطرة لا حقيقة لها، ولا يرضى أن يُخطرها بباله، ويأنف لنفسه منها.
واعلم أن ورود الخاطر لا يضر، وإنما يضر استدعاؤه ومحادثته، فالخاطر كالمار على الطريق، فإنْ تركتَه مَرَّ وانصرف عنك، وإن استدعيتَه سحرك بحديثه وخدعه وغروره، وهو أخف شيء على النفس الفارغة الباطلة، وأثقل شيء على القلب والنفس الشريفة السماوية المطمئنة.
واعلم أن القلب لوح فارغ، والخواطر نقوش تُنقَش فيه، فكيف يليق بالعاقل أن تكون نقوش لوحه ما بين كذب وغرور وخدع، وأماني باطلة، وسراب لا حقيقة له؟ فأي حكمة وعلم وهدى يُنتقَش مع هذه النقوش؟ وإذا أراد أن ينقش ذلك في لوح قلبه؛ كان بمنزلة كتابة العلم النافع في محل مشغول بكتابة ما لا منفعة فيه، فإنْ لم يُفرِّغ القلب من الخواطر الردية لم تستقر فيه الخواطر النافعة؛ فإنها لا تستقر إلا في محل فارغ. وكثير من أرباب السلوك بنوا سلوكهم على حفظ الخواطر، وأنْ لا يُمَكِّنوا خاطرًا يدخل قلوبهم، حتى تصير القلوب فارغة قابلة لظهور حقائق العلويات فيها.
واعلم أن الكمال في امتلاء القلب من الخواطر والإرادات والفكر في تحصيل مرضاة الرب تبارك وتعالى. كما أن أنقص الناس أكثرهم خواطر وفكر وإرادات لحظوظه وهواه أين كانت.
إذا اشتغلَ اللاهونَ عنكَ بشُغلِهِم
جعلتُ اشتغالي فيكَ -يا مُنيَتي- شُغلي
} - {
ثالثا: اللفظات(1/38)
اللسان من نعم الله العظيمة، ولطائف صنعه الغريبة؛ فإنه صغير جِرمه، عظيم طاعته وجُرمه. ومَن أطلق عذبة اللسان، وأهمله مرخي العَنان؛ سلك به الشيطان في كل ميدان، وساقه إلى شفا جرف هار، إلى أن يضطره إلى البوار. ولا يَكُبُّ الناسَ في النار على مناخرهم إلا حصائدُ ألسنتهم، ولا ينجو مِن شر اللسان إلا مَن قيده بلجام الشرع؛ فلا يطلقه إلا فيما ينفعه في الدنيا والآخرة، ويكفيه عن كل ما يخشى غائلته في عاجله وآجله.
وإذا أردتَ أنْ تستدل على ما في القلب، فاستدِل عليه بحركة اللسان؛ فإنه يُطلعك على ما في القلب، شاء صاحبه أم أبَى.
قال يحيى بن معاذ: القلوب كالقدور تغلي بما فيها، وألسنتها مغارفها.
إنَّ الكلامَ لفي الفؤادِ وإنما جُعِلَ اللسانُ على الفؤادِ دليلا
ومن جوامع كلم النبي خ: "مَن كان يؤمنُ باللهِ واليومِ الآخرِ فليَقُلْ خيرًا أو ليَصمُتْ" [رواه البخاري ومسلم]، فيه أمر بقول الخير، وبالصمت عما عداه. فالكلام إما أن يكون خيرًا؛ فيكون مأمورًا بقوله، وإما أنْ يكون غير ذلك؛ فيكون مأمورًا بالصمت عنه.
الصمتُ زَيْنٌ والسكوتُ سلامةٌ ... فإذا نطقتَ فلا تكنْ مِكثارا
ما أنْ نَدمتُ على سكوتٍ مرةً ... ولقد نَدمتُ على الكلامِ مرارا
قال عمر بن عبد العزيز: مَن لم يعد كلامه من عمله كثرت خطاياه.
ومن العجب أن الإنسان يهون عليه التحفظ والاحتراز من أكل الحرام، والظلم، والزنا، والسرقة، وشرب الخمر، ومن النظر المحرم، وغير ذلك.. ويصعب عليه التحفظ من حركة لسانه، حتى ترى الرجل يُشار إليه بالدين والزهد والعبادة؛ وهو يتكلم بالكلمات من سخط الله؛ لا يُلقي لها بالاً؛ ينزل بالكلمة الواحدة منها أبعد مما بين الشرق والمغرب. وكم ترى من رجل متورع عن الفواحش والظلم، ولسانه يَفري في أعراض الأحياء والأموات، ولا يبالي ما يقول!(1/39)
وفي الصحيحين من حديث أبي هريرة ت عن النبي خ: "إنَّ العبدَ لَيتكلَّمُ بالكلمةِ مِن رضوانِ اللهِ لا يُلقِي لها بالاً يَرفعُه اللهُ بها درجاتٍ، وإنَّ العبدَ لَيتكلَّمُ بالكلمةِ مِن سَخَطِ اللهِ لا يُلقي لها بالاً يَهوي بها في نارِ جهنمَ".
وفي جامع الترمذي من حديث أنس ت قال: تُوفي رجل من الصحابة، فقال رجل: أبشِر بالجنة. فقال رسول الله خ: "وما يدريك؟ فلعله تَكلمَ فيما لا يَعنيه، أو بَخل بما لا يَنقُصُه". [قال الألباني في صحيح الترغيب والترهيب: صحيح لغيره]
وكان الصديق ت يُمسك على لسانه، ويقول: هذا أوردني الموارد.
والكلام أسيرك، فإذا خرج من فيك صرتَ أنت أسيره.
قال سفيان الثوري يومًا لأصحابه: أخبروني لو كان معكم مَن يرفع الحديث إلى السلطان أكنتم تتكلمون بشيء؟ قالوا: لا.. قال: فإنَّ معكم مَن يرفع الحديث إلى الله عز وجل.
وعن أبي الدرداء ت قال: أنصِف أذنيك مِن فيك؛ فإنما جُعل لك أذنان وفم واحد؛ لتسمع أكثر مما تتكلم.
وإن العبد ليأتي يوم القيامة بحسنات أمثال الجبال؛ فيجد لسانه قد هدمها عليه كلها، ويأتي بسيئات أمثال الجبال؛ فيجد لسانه قد هدمها من كثرة ذكر الله وما اتصل به.
إنَّ القليلَ مِنَ الكلامِ بأهلِهِ ... حَسَنٌ وإنَّ كثيرَهُ مَمقوتُ
ما زَلَّ ذو صَمتٍ وما مِن مُكثِرٍ ... إلا يَزِلُّ وما يُعابُ صَموتُ
إنْ كانَ يَنطِقُ ناطِقٌ مِن فِضةٍ ... فالصمتُ دُرٌّ زَانَهُ الياقوتُ
فيا كثير الكلام؛ حسابك شديد.. يا ناطقًا بما لا يُجدي ولا يُفيد.. كلامك مكتوب، وقولك محسوب، وأنت يا هذا مطلوب، ولك ذنوب وما تتوب، وشمس الحياة قد أخذت في الغروب.. فما أقسى قلبك وقد أتاه ما يصدع الحديد: { مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ } [ق: 18]
} - {
رابعا: الخطوات(1/40)
وأما الخطوات فحفظها بأن لا ينقل قدمه إلا فيما يرجو ثوابه، فإنْ لم يكن في خطاه مزيد ثواب؛ فالقعود عنها خير له. ويمكنه أن يستخرج من كل مباح يخطو إليه قُربة ينويها لله تعالى.
حج سعيد بن وهب ماشيًا، فبلغ منه وجهد، فقال:
قدميَّ اعتَوِرَا رملَ الكَثيبِ ... اطرُقَا الآجِنَ مِن ماءِ القَليبِ
رُبَّ يومٍ رُحتُما فيهِ على ... زهرةِ الدنيا في وادٍ خَصيبِ
فاحسِبا ذاكَ بهذا واصبرا ... وخُذا مِن كلِّ فَنٍّ بنصيبِ
إنما أمشي لأني مُذنبٌ ... فلعلَّ اللهَ يَعفو عن ذنوبي (1)
وليحذر ناقل قدمه إلى ما يغضب الله أن يباغته الموت وهو على تلك الحال؛ فتكون حجابًا بينه وبين الخاتمة الحسنى؛ فيظفر به الشيطان عند تلك الصدمة، ويختطفه عند تلك الدهشة -والعياذ بالله-
يروى أنه كان بمصر رجل يلزم مسجدًا للأذان والصلاة، وعليه بهاء الطاعة وأنوار العبادة، فرقى يومًا المنارة على عادته للأذان، وكان تحت المنارة دار نصراني فاطلع فيها، فرأى ابنة صاحب الدار؛ فافتُتن بها، فترك الأذان، ونزل إليها، ودخل الدار عليها. فقالت له: ما شأنك؟ ما تريد؟ قال: أريدك! قالت: لماذا؟ قال: قد سبيتِ لُبي، وأخذتِ بمجامع قلبي. قالت: لا أجيبك إلى ريبة أبدًا. قال: أتزوجك! قالت: أنت مسلم، وأنا نصرانية، وأبي لا يزوجني منك. قال: أتنصر! قالت: إن فعلتَ أفعل. فتنصر الرجل ليتزوجها، وأقام معهم في الدار؛ فلما كان في ذلك اليوم رقى إلى سطح كان في الدار؛ فسقط منه؛ فمات. فلم يظفر بها، وفاته دينه.
فيا مطلقًا نفسه فيما يشتهي ويريد.. اذكر عند خطواتك المبدئ المعيد..
وخَف قُبح ما جرى فالملِك يرى والملَك شهيد:
{ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ } [ق: 16]
- - -
ما تحدثه المعاصي والآثام من الشرور والآلام
__________
(1) اعتوِرا: تداولا - الآجِن: الآسن المتغير - القليب: البئر(1/41)
جعل الله للسيئات والمعاصي آلامًا وآثارًا مكروهة، وحزازات تزيد على لذة تناولها بأضعاف مضاعفة. قال ابن عباس ب: إنَّ للحسنة نورًا في القلب، وضياءً في الوجه، وقوة في البدن، وزيادة في الرزق، ومحبة في قلوب الخلق. وإنَّ للسيئة سوادًا في الوجه، وظُلمة في القلب، ووهنًا في البدن، ونقصًا في الرزق، وبُغضًا في قلوب الخلق.
وهذا يعرفه صاحب البصيرة، ويشهده من نفسه ومن غيره. فما حصل للعبد حال مكروهة قط إلا بذنب. وما يعفو الله عنه أكثر. قال تعالى: { وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ } [الشورى:30]، وقال لخيار خلقه وأصحاب نبيه خ: { أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ } [آل عمران: 165] فكل نقص وبلاء وشر في الدنيا والآخرة فسببه الذنوب، ومخالفة أوامر الرب. فليس في العالم شر قط إلا الذنوب وموجباتها.
قال بعض الناس: إذا صدر مني ذنب ولم أبادره، ولم أتداركه بالتوبة انتظرت أثره السيئ. فإذا أصابني كما حسبت؛ أكثرت من قول: أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله. ويكون ذلك من شواهد الإيمان وأدلته؛ فإن الصادق متى أخبرك أنك إذا فعلت كذا وكذا؛ ترتب عليه من المكروه كذا وكذا. فجعلتَ كلما فعلتَ شيئًا من ذلك، وحصل لك ما قال من المكروه؛ لم تزدد إلا علمًا بصدقه وبصيرة فيه. وليس هذا لكل أحد، بل أكثر الناس ترين الذنوب على قلبه؛ فلا يشهد شيئًا من ذلك، ولا يشعر به ألبتة.(1/42)
وإنما يكون هذا لقلب فيه نور الإيمان؛ ورياح الذنوب والمعاصي تعصف فيه. فهو يشاهد هذا وهذا، ويرى حال مصباح إيمانه مع قوة تلك الرياح. فيرى نفسه كراكب البحر عند هيجان الرياح، وتقلب السفينة؛ ولا سيما إذا انكسرت به، وبقي على لوح تلعب به الرياح. فهكذا المؤمن يشاهد نفسه عند ارتكاب الذنوب؛ إذا أريد به الخير، وإنْ أُريد به غير ذلك فقلبه في وادٍ آخر.
فشهود العبد نقص حاله إذا عصى ربه، وتغير القلوب عليه، وانسداد الأبواب في وجهه، وتوعر المسالك عليه، وهوانه على أهل بيته وأولاده وزوجته وإخوانه، وتطلبه ذلك حتى يعلم من أين أُتي.. ووقوعه على السبب الموجب لذلك؛ مما يقوي إيمانه. فإن أقلع وباشر الأسباب التي تفضي به إلى ضد هذه الحال؛ رأى العز بعد الذل، والغنى بعد الفقر، والسرور بعد الحزن، والأمن بعد الخوف، والقوة في قلبه بعد ضعفه ووهنه؛ فيزداد إيمانًا مع إيمانه، وتقوى شواهد الإيمان في قلبه، وبراهينه وأدلته في حال معصيته وطاعته. فهذا من الذين قال الله فيهم: { لِيُكَفِّرَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ } [الزمر: 35]
وصاحب هذا المشهد متى تبصر فيه، وأعطاه حقه؛ صار من أطباء القلوب العالمين بدائها؛ فنفعه الله في نفسه، ونفع به مَن شاء مِن خلقه.
- - -
ومن الآثار المذمومة للمعاصي:
حرمان العلم: فإن العلم نور يقذفه الله في القلب، والمعصية تطفئ ذلك النور.(1/43)
جلس الإمام الشافعي وهو غلام صغير في مجلس الإمام مالك بالمدينة المنورة، وكان الإمام مالك يقرأ في درسه أحاديث الرسول خ في مسجده، وكانت عادته إذا ذكر الحديث أن يقول: عن فلان، عن فلان، عن صاحب هذا المقام، ثم يشير إلى قبر الرسول خ. فرأى وهو يشير إلى القبر الشافعي يعبث بثمرة من الحصير؛ بعد أن بلها بريقه فوق يده! فحزن الإمام مالك، ثم انتظر حتى أنهى درسه الذي قرأ فيه أربعين حديثًا، ثم ناداه، فأقبل وجلس بين يديه، فعاتبه قائلاً: لماذا كنت تعبث أثناء تلاوة حديث رسول الله خ؟ فقال: يا سيدي! ما كنتُ أعبث ولكني كنتُ أسجل بريقي ما تقول حتى لا أنسى؛ لأنني فقير، ولا أملك الدرهم الذي أشتري به القرطاس والقلم.
فتعجب الإمام مالك، وقال له: إذا كنتَ صادقًا فاقرأ ولو حديثًا واحدًا من الأربعين التي قرأتُها في درس الليلة. فجلس الشافعي كما كان يجلس أستاذه الإمام، وقال: عن فلان، عن فلان، عن صاحب هذا المقام؛ وأشار إليه كما أشار الإمام، ثم قرأ الأربعين حديثًا. فأعجب الإمام مالك بذكائه، وقال له: إني أرى الله قد ألقى في قلبك نورًا، فلا تُطفئه بظُلمة المعاصي.
وفي يوم رأى الإمام الشافعي أن ذكاءه لم يعد في الدرجة التي كان عليها من قبل، فذهب إلى أستاذه الإمام وكيع، وشكا له سوء حفظه، وقد أشار إلى هذا بقوله:
شكوتُ إلى وكيعٍ سُوءَ حِفظي ... فأرشدني إلى تركِ المعاصي
وأخبرني بأنَّ العلمَ نورٌ ... ونورُ اللهِ لا يُهدَى لعاصي
وحشة يجدها العاصي في قلبه بينه وبين الله: لا توازنها ولا تقارنها لذة أصلاً. ولو اجتمعت له لذات الدنيا بأسرها لم تَفِ بتلك الوحشة. وهذا أمر لا يحس به إلا مَن في قلبه حياة، وما لجرح بميت إيلام. فلو لم تُترَك الذنوب إلا حذرًا من وقوع تلك الوحشة؛ لكان العاقل حريًّا بتركها.
إذا كنتَ قد أوحشتْكَ الذنوبُ فَدَعْها إذا شئتَ واستأنِسِ(1/44)
وكلما اشتدت الذنوب اشتدت الوحشة، وأَمَرُّ العيش عيش المستوحشين الذين فرطوا في سعادتهم الأبدية، واستبدلوا بها أدنى ما يكون من لذة.
مِن كلِّ شيءٍ إذا ضَيَّعْتَه عِوَضُ وما مِنَ اللهِ إنْ ضَيَّعْتَهُ عِوَضُ
تعسير الأمور: فلا يتوجه لأمر إلا ويجده مغلقًا دونه أو متعسرًا عليه، وهذا كما أن مَن اتقى الله جعل له من أمره يسرًا؛ فمَن عطل التقوى جعل له من أمره عسرًا.
قال بعض السلف: إني لأعصي الله فأرى ذلك في خُلُق دابتي وامرأتي.
والطاعة حصن الله الأعظم؛ مَن دخله كان آمنًا مِن كل شيء، ومَن خرج عنه أحاطت به الشرور من كل جانب.
قال إبراهيم التيمي: لما حُبِستُ الحبسة المشهورة، أُدخِلتُ في السجن، فأُنزِلتُ على أناس في قيد واحد؛ لا يجد الرجل إلا موضع مجلسه؛ وفيه يأكلون، وفيه يتغوطون، وفيه يصلون. قال: فجيء برجل من أهل البحرين، فأُدخِل علينا، فلم يجد مكانًا؛ فجعلوا يتبرمون به. فقال: اصبروا؛ فإنما هي الليلة. فلما دخل الليل قام يصلي، فقال: يارب! الليلةَ.. الليلةَ؛ لا أُصبِحُ فيه.
فما أصبحنا حتى ضُرِبت أبواب السجن؛ أين البحراني؟ أين البحراني؟ فقال كل منا: ما دُعِي الساعة إلا ليُقتَل.
فخُلِّيَ سبيله؛ فجاء فقام على باب السجن، فسلم علينا، وقال: أطيعوا الله لا يضيعكم.
إذا المرءُ لم يَلبَسْ ثيابًا مِنَ التُّقَى ... تَقَلَّبَ عريانًا ولو كانَ كاسيَا
وخيرُ لباسِ المرءِ طاعةُ ربِّهِ ... ولا خيرَ فيمَن كان للهِ عاصيَا
حرمان الطاعة: فمِن عقوبة الذنب أنه يصد عن الطاعة، فكما أن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر؛ فكذلك الفحشاء تنهى عن سائر الخيرات. وهذا كرجل أكل أكلة أوجبت له مرضًا طويلاً منعه من عدة أكلات أطيب منها.
قال رجل للحسن: يا أبا سعيد! إني أبيتُ مُعافَى، وأحب قيام الليل، وأُعِد طَهوري.. فما بالي لا أقوم؟! فقال: ذنوبك قيدتك.(1/45)
وقال الثوري: حُرِمتُ قيام الليل خمسة أشهر بذنب أذنبته. قيل: وما ذاك الذنب؟ قال: رأيتُ رجلاً يبكي، فقلت في نفسي: هذا رياء.
وقال بعض السلف : دخلت على "كرز بن وبرة" وهو يبكي، فقلتُ: أتاك نعي بعض أهلك؟ فقال: أشد. فقلتُ: وجع يؤلمك؟ قال: أشد. قلتُ: فما ذاك؟ قال: بابي مُغلَق، وسِتري مُسبَل، فلم أقرأ حزبي البارحة؛ ما ذلك إلا بذنب أحدثته.
توالد المعاصي: فإن المعاصي تزرع أمثالها، ويولد بعضها بعضًا؛ حتي يعز على العبد مفارقتها والخروج منها، كما قال بعض السلف: إن من عقوبة السيئة السيئة بعدها، وإن من ثواب الحسنة الحسنة بعدها.
فإن الخير يدعو إلى الخير، والشر يدعو إلى الشر، والقليل من كل واحد منهما يجر إلى الكثير. ولا يزال العبد يعاني الطاعة، ويألفها، ويحبها، ويؤثرها؛ حتى يرسل الله سبحانه وتعالى برحمته الملائكة تحرضه عليها، وتزعجه عن فراشه ومجلسه إليها. ولا يزال يألف المعاصي، ويحبها، ويؤثرها؛ حتى يرسل الله عليه الشياطين؛ فتحركه إليها تحريكًا. فالأول قَوَّى جند الطاعة بالمدد؛ فصاروا من أكبر أعوانه، وهذا قَوَّى جند المعصية بالمدد؛ فكانوا أعوانًا عليه.
هوان العاصي على ربه: فإن المعصية سبب لهوان العبد على ربه وسقوطه من عينه. قال الحسن البصري: هانوا عليه فعصوه، ولو عزوا عليه لعصمهم.
وإذا هان العبد على الله لم يكرمه أحد، كما قال تعالى: { وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ } [الحج: 18]؛ وإن عظَّمهم الناس في الظاهر لحاجتهم إليهم، أو خوفًا من شرهم؛ فهم في قلوبهم أحقر شيء وأهونه؛ فالمعصية تورث الذل ولا بد. وإن العز؛ كل العز في طاعة الله تعالى، قال عز وجل: { مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا } [فاطر: 10] أي فليطلبها بطاعة الله، فإنه لا يجدها إلا في طاعة الله.
وكان من دعاء بعض السلف: اللهم أعزني بطاعتك، ولا تخذلني بمعصيتك.(1/46)
رأيتُ الذنوبَ تُمِيتُ القلوبَ ... وقد يُورِثُ الذلَّ إدمانُها
وتَرْكُ الذنوبِ حياةُ القلوبِ ... وخيرٌ لنفسِكَ عصيانُها
الذنوب تجلب الفساد في الأرض: قال تعالى: { ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ } [الروم:41] فالذنوب سبب الفساد الذي ظهر، أو إن الفساد الذي ظهر هو الذنوب نفسها، وعليه تكون اللام في قوله: (ليذيقهم بعض الذي عملوا) لام العاقبة والتعليل. والمراد بالفساد النقص والشر والآلام التي يُحدِثها الله في الأرض عند معاصي العباد؛ فكلما أحدثوا ذنبًا أحدث الله لهم عقوبة. والظاهر -والله أعلم- أن الفساد المراد به الذنوب وموجباتها، ويدل عليه قوله تعالى. فهذا حالنا، وإنما أذاقنا الشيء اليسير من أعمالنا، ولو أذاقنا كل أعمالنا ما ترك على ظهرها من دابة.
ذكر الإمام أحمد عن صفية قالت: زُلزِلت المدينة على عهد عمر ت، فقال: يا أيها الناس! ما هذا؟ ما أسرع ما أحدثتم! لئن عادت لا أساكنكم فيها.
وقال كعب: إنما تزلزل الأرض إذا عُمل فيها بالمعاصي، فترعد فَرَقًا من الرب جل جلاله أن يطلع عليها.
وقد مر رسول الله خ بالجيش في طريقه إلى تبوك ديار ثمود، فقال: "لا تدخلوا مساكن الذين ظلموا أنفسهم؛ أن يصيبكم ما أصابهم؛ إلا أن تكونوا باكين"، ثم قَنَّع رأسه، وأسرع بالسير حتى جاز الوادى. وكان المسلمون قد استقوا من بئرها، فنهاهم النبي خ عن شرب مائها والوضوء منه للصلاة، حتى أمر أن يُعلف العجين الذي عُجن بمياههم للإبل؛ لتأثير شؤم المعصية في الماء.
وكثير من الآفات أحدثها الله تعالى بما أحدث العباد من الذنوب.
يقول ابن القيم: أخبرني جماعة من شيوخ الصحراء أنهم كانوا يعهدون الثمار أكبر مما هي الآن، وكثير من الآفات التي تصيبها لم يكونوا يعرفونها، وإنما حدثت من قرب!(1/47)
وقد ذكر الإمام أحمد في مسنده أنه وُجِد في خزائن بني أمية حبة حِنطة بقدر نواة التمرة، وهي في صُرة مكتوب عليها: "هذا كان ينبت في زمن العدل"!
الذنوب تزيل النعم وتحل النقم: قال علي بن أبي طالب ت: ما نزل بلاء إلا بذنب، ولا رُفع إلا بتوبة.
قال تعالى: { ?(ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ } [الأنفال: 53] فأخبر الله تعالى أنه لا يغير نعمه التي أنعم بها على أحد؛ حتى يكون هو الذي يغير ما بنفسه؛ فيغير طاعة الله بمعصيته، وشكره بكفره، وأسباب رضاه بأسباب سخطه. فإذا غَيَّر غُيِّر عليه، جزاءً وفاقًا، وما ربك بظلام للعبيد، فإنْ غير المعصية بالطاعة؛ غير الله عليه العقوبة بالعافية، والذل بالعز.
إذا كنتَ في نعمةٍ فارعَها ... فإنَّ الذنوبَ تُزيلُ النعمْ
وحُطْها بطاعةِ ربِّ العباد ... فرَبُّ العبادِ سريعُ النِّقَمْ
المعاصي تضعف العبد أمام نفسه: فإن العبد إذا وقع في شدة، أو كُربة، أو بلية خانه قلبه ولسانه وجوارحه عما هو أنفع شيء له، فلا ينجذب قلبه للتوكل على الله تعالى، والإنابة إليه، والتضرع والتذلل والانكسار بين يديه، ولا يطاوعه لسانه لذكره، وإن ذكره بلسانه لم يجمع بين قلبه ولسانه، بل إنْ ذكر أو دعا؛ ذكر بقلب ساهٍ لاهٍ غافل، ولو أراد من جوارحه أن تعينه بطاعة تدفع عنه لم تطاوعه، كمن له جند يدفعون عنه الأعداء، فأهمل جنده وضيعهم وأضعفهم، وقطع أخبارهم، ثم أراد منهم عند هجوم العدو هذا.
وثَمَّ أمر أخوف من ذلك، وأدهى منه وأمر؛ وهو أن يخونه قلبه ولسانه عند الاحتضار، والانتقال إلى الله تعالى؛ فربما تعذر عليه النطق بالشهادة؛ لجرأته على المعاصي.(1/48)
يقول ابن القيم: أخبرني بعض التجار عن قرابة له أنه احتُضِر وهو عنده، وجعلوا يلقنونه: "لا إله إلا الله"؛ وهو يقول: هذه القطعة رخيصة، هذا مشتر جيد.. حتى قضى. وقيل لآخر: قل: لا إله إلا الله؛ فجعل يقول: الدار الفلانية أصلحوا فيها كذا، والبستان الفلاني افعلوا فيه كذا.. وكم شاهد الناس مِن هذا عِبَرًا. والذي يَخفى عليهم من أحوال المحتَضَرين أعظم وأعظم.
فإذا كان العبد في حال حضور ذهنه وقوته، وكمال إدراكه قد تمكن منه الشيطان، واستعمله فيما يريده من معاصي الله؛ فكيف الظن به عند سقوط قواه، واشتغال قلبه ونفسه بما هو فيه من ألم النزع؟ وقد جمع الشيطان له كل قوته، وحشد عليه بجميع ما يقدر عليه لينال منه فرصته؛ فإن ذلك آخر العمل، وأقوى ما يكون عليه شيطانه ذلك الوقت، وأضعف ما يكون هو في تلك الحال. فمَن ترى يسلم على ذلك؟
فهناك { يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآَخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ } [إبراهيم: 27]
وقد بكى سفيان الثوري ليلة إلى الصباح، فلما أصبح قيل له: كل هذا خوفًا من الذنوب؟ فقال: إنما أبكي من خوف سوء الخاتمة.
يقول ابن القيم: وهذا من أعظم الفقه؛ أن يخاف الرجل أن تخذله ذنوبه عند الموت، فتحول بينه وبين الخاتمة الحسنى. أعاذنا الله من سوء العاقبة وشؤم الخاتمة.
فيا عباد الله ..
طوبى لمن تنبه من رقاده، وبكى على ماضي فساده، وخرج من دائرة المعاصي إلى دائرة سداده.. عساه يمحو بصحيح اعترافه قبيح اقترافه:
جَنَحَتْ شمسُ حياتي وتَدَلَّتْ للغروبِ
وتَوَلَّى ليلُ رأسي وبَدَا فجرُ المَشيبِ
ربِّ خَلِّصني فقد لَجَجْتُ في بحرِ الذنوبِ
وأنلني العفوَ يا أقربَ مِن كلِّ قريبِ(1/49)
عن أنس بن مالك ت قال: سمعت رسول الله خ يقول: "قال الله تعالى: يا ابن آدم! إنك ما دعوتَني ورجوتَني غفرتُ لك على ما كان منك ولا أبالي. يا ابن آدم! لو بلغت ذنوبُك عَنانَ السماءِ ثم استغفرتَني غفرتُ لك ولا أبالي. يا ابن آدم! لو أتيتَني بقُرابِ الأرضِ خطايا ثم لقيتَني لا تُشرِكُ بي شيئًا لأتيتُك بقُرابِها مغفرةً". [رواه الترمذي، وصححه الألباني]
هذا الحديث يتضمن ثلاثة أسباب للمغفرة
السبب الأول: الدعاء مع الرجاء
فإن الدعاء مأمور به، وموعود عليه بالإجابة، كما قال تعالى: { وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ } [غافر:60]، وجعل الدعاء عبادة فقال: { إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ } [غافر:60]
وصح عن الرسول خ أنه قال: "الدعاءُ هو العبادةُ"، ثم قرأ: { وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ } . ولذلك كان عمر بن الخطاب ت يقول: أنا لا أحمل هم الإجابة، ولكن أحمل هم الدعاء؛ فمَن أُلهِم الدعاء فإن الإجابة معه.
وقال تعالى: { وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا إِنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ } [الأعراف: 56]. فما دام العبد يُلح في الدعاء، ويطمع في الإجابة من غير قطع الرجاء؛ فهو قريب من الإجابة. ومَن أدمن قرع الباب يُوشك أن يُفتَح له.
ومن أهم ما يسأل العبد ربه مغفرة ذنوبه، وما يستلزم ذلك كالنجاة من النار ودخول الجنة.
وفي صحيح الحاكم عن أبي سعيد الخدري ت عن النبي خ قال: "ما من مسلم يدعو بدعوةٍ ليس له فيها إثمٌ أو قطيعةُ رحمٍ إلا أعطاهُ اللهُ بها إحدى ثلاثٍ: إما أنْ يُعَجِّلَ له دعوتَه، وإما أنْ يَدَّخرَها له في الآخرةِ، وإما أنْ يَكشفَ عنه مِنَ السُّوءِ مثلَها". قالوا: إذًا نُكثِر؟ قال: "الله أكثر". [رواه أحمد والبزار وأبو يعلى، وصححه الألباني] فالإلحاح بالدعاء بالمغفرة، مع رجاء الله تعالى موجب للمغفرة.(1/50)
وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة ت عن النبي خ قال: "إذا دعا أحدُكم فلا يقل: اللهم اغفِرْ لي إنْ شئتَ، ولكن لِيَعزِمِ المسألةَ، ولْيُعَظِّمِ الرغبةَ فإنَّ اللهَ لا يَتعاظَمُه شيءٌ أعطاهُ".
فذنوب العبد وإن عظمت؛ فإن عفو الله ومغفرته أعظم منها وأعظم، فهي صغيرة في جنب عفو الله ومغفرته .
وفي صحيح الحاكم عن جابر أن رجلاً جاء إلى النبي خ وهو يقول: واذنوباه! مرتين أو ثلاثًا. فقال له النبي خ: "قُلْ: اللهم مغفرتُك أوسعُ من ذنوبي، ورحمتُك أرجَى عندي من عملي". فقالها، ثم قال له: "عُدْ"، فعاد، ثم قال له: "قُمْ، فقد غفرَ اللهُ لك". [ضعفه الألباني]
يا ربِّ إنْ عَظُمَتْ ذنوبي كثرةً ... فلقد عَلِمتُ بأنَّ عفوَكَ أعظمُ
إنْ كانَ لا يرجوكَ إلا محسنٌ ... فمَنِ الذي يدعو ويرجو المجرمُ
مالي إليكَ وسيلةٌ إلا الرَّجَا ... وجميلُ عفوِكَ ثم أني مسلمُ
} - {
شروط الدعاء المستجاب:
الأدعية والتعوذات بمنزلة السلاح، والسلاح بضاربه، لا بحده فقط. فمتى كان السلاح تامًّا لا آفة به، والساعد قوي، والمانع مفقود حصلت به النكاية. ومتى تخلف واحد من هذه الثلاثة تخلف التأثير.(1/51)
فإذا كان الدعاء في نفسه غير صالح لما فيه من العدوان، أو الداعي لم يجمع بين قلبه ولسانه في الدعاء؛ فإن الله لا يقبل دعاء من قلب غافل لاهٍ، فإن غفلة القلب تبطل قوته؛ فيكون بمنزلة القوس الرخو جدا. فإن السهم يخرج منه خروجًا ضعيفًا. أو كان ثَمَّ مانع من الإجابة؛ من أكل الحرام. ففي صحيح مسلم من حديث أبي هريرة ت قال: قال رسول الله خ: "أيها الناسُ! إنَّ اللهَ طيبٌ لا يَقبَلُ إلا طيبًا، وإنَّ اللهَ أمرَ المؤمنينَ بما أمرَ به المرسَلينَ فقالَ: { يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ } (1) وقالَ: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ } (2) ، ثم ذكرَ الرجلَ يُطيلُ السفرَ، أشعثَ أغبرَ يَمُدُّ يديهِ إلى السماءِ: يا ربِّ! يا ربِّ! ومَطعمُه حرامٌ، ومَشربُه حرامٌ، ومَلبسُه حرامٌ، وغُذِّيَ بالحرامِ، فأنَّى يُستَجابُ لذلك".
قال بعض السلف: لا تستبطئ الإجابة، وقد سددتَ طريقها بالمعاصي:
منعوكَ من نيلِ المودةِ والصفا ... لمَّا رأوك على الخيانةِ والجَفا
إنْ أنتَ أرسلتَ الدموعَ تندُّمًا ... جادوا عليكَ تكرُّمًا وتعطُّفا
حاشاهُمُ أن يظلموكَ وإنما ... جعلوا الوفَا منهم لأربابِ الوفا
} - {
آفات الدعاء:
من الآفات التي تمنع ترتب أثر الدعاء عليه أن يستعجل العبد ويستبطئ الاستجابة؛ فيستحسر ويدَع الدعاء. و هو بمنزلة مَن بذر بذرًا أو غرس غرسًا, فجعل يتعاهده ويسقيه, فلما استبطأ كماله وإدراكه تركه وأهمله.
وفي صحيح البخاري من حديث أبي هريرة ت أن رسول الله خ قال: "يُستجاب لأحدكم ما لم يعجل, يقول: دعوتُ فلم يُستجب لي".
آداب الدعاء:
__________
(1) المؤمنون:51 (2) البقرة:172(1/52)
إذا جمع الداعي مع الدعاء حضور القلب, وصادف وقتًا من أوقات ا?جابة (وهي الثلث الأخير من الليل, وعند الأذان, وبين الأذان وا?قامة, وأدبار الصلوات المكتوبات, ويوم الجمعة وليلتها, وفي السجود, وعند ختم القرآن, وعند صياح الديكة, وشهر رمضان, وليلة القدر, ويوم عرفة, وعند التحام الحرب، وعند شرب ماء زمزم, وعند اجتماع المسلمين في مجالس الذكر) وصادف خشوعًا في القلب, وانكسارًا بين يدي الرب, واستقبل القبلة, وكان علي طهارة, ورفع يديه, وبدأ بحمد الله والثناء عليه, ثم ثَنَّى بالصلاة علي النبي خ, ثم قدَّم بين يدي حاجته التوبة والاستغفار, ثم دخل علي الله وألَحَّ عليه في المسألة, وتملقه ودعاه رغبة ورهبة, وتوسل إليه بأسمائه وصفاته وتوحيده، وقدَّم بين يدي دعائه صدقة؛ فإن هذا الدعاء لا يُرد أبدًا.
} - {
اسم الله الأعظم:
يقول د. عمر الأشقر: [أخبرنا رسول الله خ في أكثر من حديث أن لله اسما أعظم له مميزات عن بقية أسمائه سبحانه وتعالي، فمن هذه الأحاديث:
ما رواه الترمذي وأبو داوود وابن حبان والحاكم بإسناد صحيح عن بريدة الأسلمي ت أن رسول الله خ سمع رجلا وهو يقول: "اللهم إني أسألك بأني أشهد أنك أنت الله لا إله إلا أنت الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوًا أحد". فقال خ: "والذي نفسي بيده, لقد سأل الله باسمه الأعظم الذي إذا دُعي به أجاب وإذا سُئل به أعطى".
روي الترمذي والنسائي وأبو داوود وابن حبان والحاكم بإسناد صحيح من حديث أنس ت أنه كان مع النبي خ جالسًا ورجل يصلي ثم دعا: "اللهم إني أسألك بأن لك الحمد, لا إله إلا أنت المنَّان, بديع السموات والأرض, يا ذا الجلال وا?كرام, يا حي يا قيوم". فقال النبي خ: "لقد دعا الله باسمه الأعظم الذي إذا دُعي به أجاب وإذا سُئل به أعطى".(1/53)
وفي سنن ابن ماجه ومستدرك الحاكم ومعجم الطبراني الكبير بإسناد صحيح عن أبي أمامة ت أن رسول الله خ قال: "اسم الله الأعظم الذي إذا دُعي به أجاب في ثلاث سور من القرآن: في البقرة, وآل عمران, وطه".
وقد ورد تحديد آيتي البقرة وآل عمران اللتين ورد فيهما اسم الله الأعظم, فقد روي الترمذي وأبو داوود وابن ماجه والدارمي بإسناد صحيح عن أسماء بنت يزيد ل أن النبي خ قال: "اسم الله الأعظم في هاتين الآيتين: { وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ } [البقرة:163]، وفاتحة آل عمران: { الم . اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ } [آل عمران:1-2]".
يا مَنْ يرى ما في الضميرِ ويسمعُ ... أنتَ المُعدُّ لكلِّ ما يُتوَقَّعُ
يا مَنْ يُرجَّي للشدائدِ كلِّها ... يا مَنْ إليهِ المُشتَكَى والمَفزَعُ
يا مَنْ خزائنُ رزقِهِ في قولِ: كُنْ ... امْنُنْ فإنَّ الخيرَ عندَكَ أجمعُ
مالي سوى فقري إليكَ وسيلةٌ ... فبالافتقارِ إليكَ فقريَ أدفعُ
مالي سوى قرعي لبابِكَ حيلةٌ ... فلئنْ رُدِدْتُ فأيَّ بابٍ أقرعُ
ومَنِ الذي أدعو وأهتِفُ باسمِهِ ... إنْ كان فضلُكَ عَن فقيرِكَ يُمنَعُ
حاشا لجودِكَ أنْ تُقنِّطَ عاصيًا ... الفضلُ أجزلُ والمواهبُ أوسعُ
ثُم الصلاةُ علي النبيِّ وآلِهِ ... خيرِ الأنامِ ومَن بهِ يُستشفَعُ
التوسل المشروع:
هو التوسل إلى الله بالوسيلة الصحيحة المشروعة، والطريق الصحيح لمعرفة ذلك هو الرجوع إلى الكتاب والسنة ومعرفة ما ورد فيهما عنها، فما دل الكتاب والسنة على أنه وسيلة مشروعة فهو من التوسل المشروع، وما سوى ذلك فإنه توسل ممنوع.
والتوسل المشروع يندرج تحته ثلاثة أنواع:
الأول: التوسل إلى الله تعالى باسم من أسمائه الحسنى أو صفة من صفاته العظيمة، كأن يقول المسلم في دعائه: اللهم إني أسألك بأنك الرحمن الرحيم أن تعافيني، أو يقول: أسألك برحمتك التي وسعت كل شيء أن تغفر لي وترحمني، ونحو ذلك.(1/54)
ودليل مشروعية هذا التوسل قوله تعالى: { وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا } [الأعراف:180]
الثاني: التوسل إلى الله تعالى بعمل صالح قام به العبد، كأن يقول: اللهم بإيماني بك، ومحبتي لك، واتباعي لرسولك خ اغفر لي.. أو يقول: اللهم إني أسألك بحبي لنبيك محمد خ وإيماني به أن تفرج عني.. أو أن يذكر الداعي عملا صالحا ذا بالٍ قام به فيتوسل به إلى ربه، كما في قصة أصحاب الغار الثلاثة. (1)
__________
(1) عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: انطلق ثلاثة نفر ممن كان قبلكم حتى آواهم المبيت إلى غار فدخلوا، فانحدرت صخرة من الجبل؛ فسدت عليهم الغار. فقالوا: إنه لا ينجيكم من هذه الصخرة إلا أن تدعوا الله بصالح أعمالكم. فقال رجل منهم: اللهم كان لي أبوان شيخان كبيران وكنت لا أغبق قبلهما أهلا ولا مالا، فنأى بي طلب الشجر يوما فلم أرح عليهما حتى ناما، فحلبت لهما غبوقهما فوجدتهما نائمين، فكرهت أن أغبق قبلهما أهلا أو مالا، فلبثت والقدح على يدي أنتظر استيقاظهما حتى برق الفجر.. -زاد بعض الرواة: والصبية يتضاغون عند قدمي فاستيقظا فشربا غبوقهما- اللهم إن كنتُ فعلتُ ذلك ابتغاء وجهك ففرِّج عنا ما نحن فيه من هذه الصخرة؛ فانفرجت شيئا لا يستطيعون الخروج منها. قال النبي صلى الله عليه وسلم: قال الآخر: اللهم كانت لي ابنة عم، كانت أحب الناس إليّ، فأردتها عن نفسها فامتنعت مني، حتى ألَمَّت بها سنة من السنين فجاءتني فأعطيتها عشرين ومائة دينار على أن تخلي بيني وبين نفسها ففعلت، حتى إذا قدرت عليها قالت: لا يحل لك أن تفض الخاتم إلا بحقه، فتحرجتُ من الوقوع عليها؛ فانصرفتُ عنها وهي أحب الناس إليَّ، وتركتُ الذهب الذي أعطيتُها.. اللهم إن كنتُ فعلتُ ذلك ابتغاء وجهك فافرج عنا ما نحن فيه.. فانفرجت الصخرة غير أنهم لا يستطيعون الخروج منها..قال النبي صلى الله عليه وسلم: وقال الثالث: اللهم إني استأجرتُ أجراء وأعطيتُهم أجرتهم غير رجل واحد ترك الذي له وذهب، فثمرتُ أجره حتى كثرت منه الأموال، فجاءني بعد حين فقال لي: يا عبد الله أدِّ إليَّ أجري. فقلتُ: كل ما ترى من أجرك؛ من الإبل والبقر والغنم والرقيق. فقال: يا عبد الله! لا تستهزئ بي. فقلتُ: إني لا أستهزئ بك. فأخذه كله فساقه فلم يترك منه شيئا.. اللهم إن كنتُ فعلتُ ذلك ابتغاء وجهك فافرج عنا ما نحن فيه.. فانفرجت الصخرة؛ فخرجوا يمشون. [رواه البخاري](1/55)
ويدل على مشروعيته قوله تعالى: { الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا إِنَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ } [آل عمران: 16]، وقوله تعالى: { رَبَّنَا آمَنَّا بِمَا أَنْزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ } [آل عمران: 53]
الثالث: التوسل إلى الله بدعاء الرجل الصالح الذي تُرجَى إجابة دعائه، كأن يذهب المسلم إلى رجل يرى فيه الصلاح والتقوى والمحافظة على طاعة الله، فيطلب منه أن يدعو له ربه ليفرج كربته وييسر أمره.
ومن ذلك حديث النبي خ: "إن رجلا يأتيكم مِنَ اليمنِ، يُقالُ له: أُوَيس، لا يَدَعُ باليمنِ غيرَ أمٍّ له، قد كان به بياضٌ فدعا اللهَ فأذهبه عنه إلا موضعَ الدينارِ أو الدرهمِ، فمَن لَقيَه منكم فليستغفِرْ لكم". [رواه مسلم عن عمر رضي الله عنه]
وهذا النوع من التوسل إنما يكون في حياة مَن يُطلَب منه الدعاء، أما بعد موته فلا يجوز؛ لأنه لا عمل له.
أما التوسل الممنوع: فهو التوسل إلى الله تعالى بما لم يثبت في الشريعة أنه وسيلة، وهو أنواع بعضها أشد خطورة من بعض، منها:
? التوسل إلى الله تعالى بدعاء الموتى والغائبين، والاستغاثة بهم، وسؤالهم قضاء الحاجات وتفريج الكربات، ونحو ذلك؛ فهذا من الشرك الأكبر الناقل من الملة.
? التوسل إلى الله بفعل العبادات عند القبور والأضرحة بدعاء الله عندها، والبناء عليها، ووضع القناديل والستور ونحو ذلك؛ وهذا من الشرك الأصغر المنافي لكمال التوحيد، وهو ذريعة مفضية إلى الشرك الأكبر.(1/56)
? التوسل إلى الله بجاه الأنبياء والصالحين ومكانتهم ومنزلتهم عند الله، وهذا محرم، بل هو من البدع المحدثة؛ لأنه توسل لم يشرعه الله ولم يأذن به. فإن جاه الصالحين ومكانتهم عند الله إنما تنفعهم هم، كما قال تعالى: { وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى } [النجم:39]، ولذا لم يكن هذا التوسل معروفا في عهد النبي خ وأصحابه - رضي الله عنهم - ، وقد نص على المنع منه وتحريمه غير واحد من أهل العلم؛ قال أبو حنيفة: "يكره أن يقول الداعي: أسألك بحق فلان، أو بحق أوليائك ورسلك، أو بحق البيت الحرام والمشعر الحرام". (1)
لا تسألَنَّ بُنيَّ آدمَ حاجةً ... وسلِ الذي أبوابُهُ لا تُحجَبُ
اللهُ يغضبُ إنْ تركتَ سؤالَهُ ... وإذا سألتَ بُنيَّ آدمَ يغضَبُ
} - {
الذين يستجيب الله دعاءهم:
المضطر والمظلوم والوالد علي ولده وا?مام العادل والولد البار بوالديه والمسافر والصائم ودعوة المسلم لأخيه بظهر الغيب ودعوة المسلم ما لم يدعُ بإثم أو قطيعة رحم.
قال أبو سعد البقال: كنت محبوسا في ديماس (2) الحجاج, ومعنا إبراهيم التيمي فبات في السجن, فأتى رجل فقال له: يا أبا إسحاق! في أي شيء حُبست؟ فقال: جاء العريف فتبرأ مني, وقال: إن هذا كثير الصوم والصلاة، وأخاف أن يرى رأي الخوارج..! فإنا لنتحدث مع مغيب الشمس، ومعنا إبراهيم التيمي إذ دخل علينا رجل السجن، فقلنا: يا عبد الله! ما قصتك وأمرك؟ فقال: لا أدري، ولكني أُخذت في رأي الخوارج, ووالله إنه لرأي ما رأيته قط, ولا أحببته ولا أحببت أهله. ادعوا لي بوضوء. فدعونا له به, ثم قام فصلى أربع ركعات، ثم قال:
__________
(1) باختصار من "أصول الإيمان في ضوء الكتاب والسنة" - وزارة الشئون الإسلامية والأوقاف بالمملكة السعودية
(2) سجن تحت الأرض(1/57)
اللهم إني كنتُ علي إساءتي وظلمي وإسرافي علي نفسي لم أجعل لك ولدا ولا شريكا ولا ندا ولا كفوا.. فإن تعذب فعدل، وإن تعفُ فإنك أنت العزيز الحكيم. اللهم إني أسألك يا مَن لا تغلطه المسائل, ولا يشغله سمع عن
سمع, ويا مَن لا يبرمه إلحاح الملحين أن تجعل لي في ساعتي هذه فرجا
ومخرجا مما أنا فيه, من حيث أرجو ومن حيث لا أرجو, وخذ لي
بقلب عبدك الحجاج وسمعه وبصره ويده ورجله حتي تخرجني
في ساعتي هذه؛ فإن قلبه وناصيته بيدك يارب.. يا رب..
قال: وأكثر.. فوالذي لا إله غيره ما انقطع دعاؤه حتي ضُرب باب السجن وقيل: أين فلان؟ فقام صاحبنا، فقال: يا هؤلاء.. إن تكن العافية فوالله لا أدعُ الدعاء لكم، وإن تكن الأخري فجمع الله بيننا وبينكم في جنته. قال: فبلغنا من الغد أنه خلي سبيله.
فيا طالب النجاة.. دُم علي قرع الباب, وزاحم أهل التقي أولي الألباب,
ولا تبرح وإن لم يفتح؛ فرُبَّ نجاح بعد اليأس، ورُبَّ غنى بعد الإفلاس
إليكَ إلهَ الخلقِ وجهي ووِجهتي ... وأنتَ الذي أدعوهُ في السرِّ والجهرِ
وأنتَ غِياثي عندَ كلِّ مُلِمَّةٍ ... وأنتَ مَلاذي في حياتي وفي قبري
} - { } - {
السبب الثاني للمغفرة: الاستغفار
الاستغفار هو طلب المغفرة, والمغفرة هي وقاية شر الذنوب مع سترها. وقد كثر في القرآن ذكر الاستغفار، قال تعالى: { وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا } [النساء:110]
وقول القائل: "اللهم اغفر لي" طلب منه للمغفرة، فيكون حكمه حكم سائر الدعاء؛ فإن شاء الله أجابه وغفر لصاحبه؛ لا سيما إذا خرج عن قلب منكسر بالذنوب أو صادف ساعة إجابة.
يروى عن لقمان أنه قال لابنه: يا بُني.. عوِّد لسانك: اللهم اغفر لي. فإن لله ساعات لا يرد فيها سائلا.
يا ربِّ.. عبدُك قد أتا يَكفيهِ منكَ حياؤه ... كَ وقد أساءَ وقد هَفَا
حملَ الذنوبَ على الذنو ... مِنْ سوءِ ما قد أسلفَا(1/58)
وقد استجارَ بذيل عَفْـ ... بِ المُوبِقاتِ وأسرفَا
يا ربِّ.. فاعفُ وعافِهِ ... وكَ مِن عقابِك مُلحِفَا
فلأنت أولى مَن عَفَا
وفي الصحيحين عن أبي هريرة ت عن النبي خ قال: "إن عبدا أذنب ذنبا فقال: ربِّ أذنبت ذنبا فاغفر لي. قال تعالي: علم عبدي أن له ربا يغفر الذنب ويأخذ بالذنب؛ قد غفرتُ لعبدي. ثم مكث ما شاء الله، ثم أذنب ذنبا آخر، فذكر مثل الأول مرتين أخريين". وفي رواية لمسلم أنه قال في الثالثة: "قد غفرتُ لعبدي فليفعل ما يشاء". والمعنى: ما دام على هذا الحال كلما أذنب استغفر. والظاهر أن مراده الاستغفار المقرون بعدم ا?صرار.
وفي الحديث دليل علي صحة التوبة بعد نقضها بمعاودة الذنب؛ لأن التوبة الأولى طاعة وقد انقضت وصحت. وهو محتاج بعد مواقعة الذنب الثاني إلي توبة أخرى مستأنفة. والعود إلي الذنب وإن كان أقبح من ابتدائه؛ لأنه أضاف إلى الذنب نقض التوبة, فالعود إلي التوبة أحسن من ابتدائها؛ لأنه أضاف إليها ملازمة ا?لحاح بباب الكريم، وأنه لا غافر للذنب سواه.
ويدل الحديث على عظم فائدة الاعتراف بالذنب والاستغفار منه. قال خ: "إن العبد إذا اعترف بذنبه ثم تاب إلي الله تاب الله عليه" [رواه البخاري]
قال بعض السلف: يستوجب العبد العفو إذا اعترف بما جنى من الذنوب واقترف.
أقرِرْ بذنبِكَ ثم اطلُبْ تجاوزَهُ إنَّ الجحودَ جحودَ الذنبِ ذنبانِ
قال الضحاك: لا يستجيب الله لرجل مقيم علي امرأة زنا كلما قضى منها شهوته قال: ربِّ اغفر لي ما أصبت من فلانة. فيقول الرب: تحول عنها وأغفر لك, وأما ما دمتَ مقيما فإني لا أغفر لك. ورجل عنده مال قوم يرى أهله فيقول: ربِّ اغفر لي ما آكل من فلان. فيقول تعالى: رد إليهم مالهم وأغفر لك, وأما ما لم ترد إليهم فلا أغفر لك.
فالاستغفار التام الموجب للمغفرة هو ما قارن عدم ا?صرار، كما مدح الله أهله ووعدهم بالمغفرة في قوله تعالي: { وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا(1/59)
أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ
وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ } [آل عمران:135]
وأفضل أنواع الاستغفار أن يبدأ العبد بالثناء على ربه، ثم يثني بالاعتراف بذنبه، ثم يسأل الله المغفرة، كما في حديث شداد بن أوس ت عن النبي خ قال: "سيد الاستغفار أن يقول العبد: اللهم أنت ربي لا إله إلا أنت خلقتني و أنا عبدك، وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت، أعوذ بك من شر ما صنعت, أبوء لك بنعمتك عليَّ، وأبوء بذنبي فاغفر لي؛ فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت. من قالها في النهار موقنًا بها فمات من يومه قبل أن يمسي؛ فهو من أهل الجنة. ومن قالها من الليل وهو موقن بها فمات قبل أن يصبح؛ فهو من أهل الجنة" [رواه البخاري]
وفي صحيح مسلم عن الأغر المزني ت أن النبي خ قال: "إنه ليغانُّ على قلبي، وإني لأستغفر الله في اليوم مائة مرة".
وقالت عائشة ل: طوبى لمن وجد في صحيفته استغفارا كثيرا.
وقال أبو المنهال: ما جاور عبد في قبره من جار أحب إليه من استغفار كثير.
وقال قتادة: إن هذا القرآن يدلكم علي دائكم ودوائكم, فأما داؤكم فالذنوب وأما دواؤكم فالاستغفار.
وعن بلال بن يسار بن زيد مولى النبي خ قال: سمعت أبي يحدثنيه عن جدي أنه سمع رسول الله خ يقول: "من قال: أستغفر الله الذي لا إله إلا هو الحي القيوم وأتوب إليه. غفرت ذنوبه وإن كان قد فر من الزحف". [رواه أبو داوود، وصححه الألباني](1/60)
وعن عبد الله بن عمر ب عن النبي خ أنه قال: "يا معشر النساء.. تصدقن وأكثرن الاستغفار فإني رأيتكن أكثر أهل النار". فقالت امرأة منهن جزلة: (1) وما لنا يا رسول الله أكثر أهل النار؟ قال: "تكثرن اللعن وتكفرن العشير، وما رأيت من ناقصات عقل ودين أغلب لذي لُب منكن". قالت: يا رسول الله! وما نقصان العقل والدين؟ قال: "أما نقصان العقل فشهادة امرأتين تعدل شهادة رجل فهذا نقصان العقل. وتمكث الليالي ما تصلي وتفطر في
رمضان؛ فهذا نقصان الدين". [رواه مسلم]
قال الحافظ ابن حجر: في هذا الحديث ا?غلاظ في النصح بما يكون سببا ?زالة الصفة التي تعاب.
وعن ابن عباس ب عن النبي خ قال: "من لزم الاستغفار جعل الله له من كل ضيق مخرجا, ومن كل هم فرجا, ورزقه من حيث لا يحتسب". [رواه أبو داوود، وابن ماجه، وضعفه الألباني]
وهذا نبي الله نوح ؛ يأمر قومه بالاستغفار لتتنزل عليهم بركات السماء: { فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا . يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا . وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا } [نوح:10–12]
__________
(1) جَزْلَة: ذات عقل ورأي. قال ابن دريد: الجزالة: العقل والوقار.(1/61)
قال ابن كثير: [أي: ارجعوا إليه وارجعوا عما أنتم فيه، وتوبوا إليه من قريب فإنه من تاب إليه تاب عليه؛ ولو كانت ذنوبه مهما كانت في الكفر والشرك". ولهذا قال: (فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا . يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا) أي: متواصلة الأمطار. ولهذا تُستحب قراءة هذه السورة في صلاة الاستسقاء لأجل هذه الآية. وهكذا روي عن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب ت أنه صعد المنبر ليستسقي فلم يزد علي الاستغفار وقراءة الآيات في الاستغفار، ومنها هذه الآية. ثم قال: لقد طلبت الغيث بمجاديح (1) السماء التي يُستنزَل بها المطر.
وقوله تعالي: (وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا) أي: إذا تبتم إلي الله واستغفرتموه وأطعتموه كثر الرزق عليكم، وأسقاكم من بركات السماء، و أنبت لكم من بركات الأرض، و أنبت لكم من الزرع، وأدر لكم الضرع، وأمدكم بأموال وبنين، أي: أعطاكم الأموال والأولاد وجعل لكم جنات فيها أنواع الثمار, وخللها بالأنهار الجارية بينها.] ا.هـ
فيا عباد الله
أين المعترف بما جناه, أين المعتذر إلي مولاه, أين التائب من خطاياه,
أين الآيب من سفر هواه.. نيران الاعتراف تأكل خطايا الاقتراف
ودموع الحسرات تغسل أنجاس الخطيئات..
أنا العبدُ الذي كسبَ الذنوبا ... وصدَّته المعاصي أن يتوبا
أنا العبدُ الذي أضحى حزينا ... على زلاتِه قَلِقًا كئيبا
أنا العبدُ المسيءُ عصيتُ سرًّا ... فمالي الآنَ لا أُبدي النحيبا
أنا العبدُ المُفرِّطُ ضاعَ عمري ... فلم أرعَ الشبيبةَ والمَشيبا
أنا العبدُ السقيمُ مِن الخطايا ... وقد أقبلتُ ألتمسُ الطبيبا
__________
(1) مجاديح السماء: أنواؤها. وقد جعل عمر رضي الله عنه (الاستعفار) استسقاء، وأراد إبطال (الأنواء) والتكذيب بها. وإنما جعل الاستغفار مشبها للأنواء مخاطبة لهم بما يعرفونه لا قولا بالأنواء. [تاج العروس](1/62)
أنا العبدُ الشريرُ ظلمتُ نفسي ... وقد وافيتُ بابَكم مُنيبا
أنا العبدُ الحقيرُ مددتُ كفي ... إليكم فادفعوا عني الخطوبا
أنا الغدارُ كم عاهدتُ عهدًا ... وكنتُ على الوفاءِ به كَذوبا
أنا المهجورُ هل لي من شفيعٍ ... يُكلِّمُ في الوصالِ ليَ الحبيبا
أنا المقطوعُ فارحمني وصِلني أنا المضطرُّ أرجو منك عفوًا ... ويَسِّرْ منكَ لي فرجًا قريبا
ومَن يرجو رضاكَ فلن يخيبا
} - { } - {
السبب الثالث من أسباب المغفرة : التوحيد
وهو السبب الأعظم، مَن فقده فقد المغفرة، ومَن جاء به فقد أتى بأعظم أسباب المغفرة. قال تعالي: { إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ } [النساء:48]
فمن جاء مع التوحيد بقُراب الأرض -وهو ملؤها أو ما يقارب ملأها- خطايا لقيه الله بقرابها مغفرة. لكن هذا مع مشيئة الله عز وجل، فإن شاء غفر له وإن شاء أخذه بذنوبه، ثم كان عاقبته أن لا يخلد في النار، بل يخرج منها ثم يدخل الجنة.
ومن تحقق بكلمة التوحيد قلبه أخرجت منه كل ما سوى الله؛ محبة وتعظيما وإجلالاً ومهابة وخشية ورجاء وتوكلاً.. وحينئذ تحرق ذنوبه وخطاياه كلها وإن كانت مثل زبد البحر، وربما قلبتها حسنات؛ فإن هذا التوحيد هو الأكسير الأعظم. فلو وضع منه ذرة علي جبال الذنوب والخطايا لقلبها حسنات، كما في المسند عن أم هانئ ل عن النبي خ قال: "لا إله إلا الله لا تترك ذنبا ولا يسبقها عمل".
(لا إله إلا الله) كلمة التوحيد، جمعت ا?يمان واحتوته, وهي عنوان
ا?سلام وأساسه, وبها يعصم العبد ماله ودمه ويصبح مسلما.
قالت طائفة مِن العلماء: "لا إله إلا الله" سبب لدخول الجنة والنجاة من النار، ومقتضى لذلك.. ولكن المقتضى لا يعمل عمله إلا باستجماع شروطه، وانتفاء موانعه؛ فقد يتخلف عنه مقتضاه لفوات شرط مِن شروطه، أو لوجود مانع.. وهذا قول الحسن ووهب بن منبه، وهو الأظهر. وشروطها هي الإتيان بالفرائض، وموانعها هي اجتناب الكبائر.(1/63)
قال الحسن البصري للفرزدق الشاعر المعروف وهو يدفن امرأته: ما أعددتَ لهذا اليوم؟ قال: شهادة أنْ لا إله إلا الله منذ سبعين سنة. قال الحسن: نِعم العُدَّة.. لكن لـ"لا إله إلا الله" شروطًا؛ فإياكَ وقذف المحصَنات.
وقيل للحسن البصري: إنَّ ناسًا يقولون: مَن قال: "لا إله إلا الله" دخل الجنة! فقال: مَن قال: لا إله إلا الله، فأدَّى حقها وفرضها؛ دخل الجنة.
وسئل وهب بن منبه: أليس "لا إله إلا الله" مفتاح الجنة؟ قال: بلى.. ولكن ما مِن مفتاح إلا وله أسنان، فإنْ جئت بمفتاح له أسنان فتح لك، وإلا لم يفتح لك.
وأسنان هذا المفتاح هي شروط "لا إله إلا الله"..
شروط (لا إله إلا الله):
الشرط الأول: العلم بمعناها المراد منها نفيا وإثباتا، المنافي للجهل بذلك. قال تعالى: { فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ } [محمد:19] ومعناها: لا معبود بحق إلا الله. وبذلك تنفي ا?لهية عما سوي الله، و تثبتها لله وحده.
وفي صحيح مسلم عن عثمان ت قال: قال رسول الله خ: "مَن ماتَ وهو يعلمُ أنهُ لا إلهَ إلا اللهُ دخلَ الجنةَ".
الشرط الثاني: اليقين المنافي للشك. ومعنى ذلك: أنْ يكون قائلها مستيقنًا بمدلول هذه الكلمة يقينا جازما؛ فإنَّ الإيمان لا يغني فيه إلا علم اليقين لا علم الظن قال تعالى: { إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آَمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا } [الحجرات:15] فاشترط في صدق إيمانهم كونهم لم يرتابوا، أي: لم يشكوا.
وفي الصحيح أن رسول الله خ أرسل أبا هريرة ت بنعليه قائلا له: "مَن لقيتَ مِن وراء هذا الحائط يشهد أن لا إله إلا الله مستيقنا بها قلبه فبشره بالجنة".
فلا يكفي مجرد التلفظ بالشهادتين، بل لا بد مِن استيقان القلب.(1/64)
الشرط الثالث: القبول لما اقتضته هذه الكلمة بقلبه ولسانه. وقد حدثنا القرآن أن الله عذب المكذبين من الأمم الذين رفضوا هذه الكلمة واستكبروا عنها: { إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ . وَيَقُولُونَ أَئِنَّا لَتَارِكُوا آَلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَجْنُونٍ } [الصافات:35-36] . فجعل الله علة تعذيبهم وسببه هو استكبارهم عن قول "لا إله إلا الله" وتكذيبهم مَن جاء بها.
الشرط الرابع: الانقياد لما دلت عليه، المنافي لترك ذلك. قال تعالى: { وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ } [الزمر:54]
وقال تعالى: { فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا } [النساء:65]
قال ابن كثير في تفسيرها: يقسم الله تعالى بنفسه الكريمة المقدسة أنه لا يؤمن أحد حتى يُحَكِّم الرسول خ في جميع الأمور. فما حَكَم به فهو الحق الذي يجب الانقياد له ظاهرا وباطنًا، ولهذا قال: (ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) أي: إذا حَكَّموك في بواطنهم فلا يجدون في أنفسهم حرجًا مما حكمتَ به، وينقادون له في الظاهر والباطن؛ فيسلمون لذلك تسليمًا كليًّا مِن غير ممانعة ولا مدافعة ولا منازعة كما ورد في الحديث: "والذي نفسي بيدِهِ لا يؤمنُ أحدُكُم حتى يكونَ هواهُ تبعًا لما جئتُ بِهِ" [ضعفه الألباني]
إن إبليس لم يجحد وجود الرب، ولا وجود القيامة والبعث، ولا جحد أمر الله بالسجود، بل أقرَّ به، ولكن اعترض عليه؛ وبهذا زال أصل الانقياد من قلبه فكفر.(1/65)
وقد عصى آدم ولم يكفر؛ إذ لم يزل الانقياد الباطن قائما بقلبه، وظهر هذا في قوله: { رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِين } [الأعراف: 23]
ولذا أجمع أهل السنة على أنه لا يكفر المسلم بالمعصية ما لم يستحلها، فإن استحلها كفر؛ إذ الاستحلال دليل على زوال الانقياد الباطن من قلبه، ولا يلزم أن يجحد شرعيتها، فجحد شرعيتها انتفاء لقول القلب، والاعتراض على الله في تشريعها انتفاء لعمله وانقياده. كمن يقر مثلا بأن الله حرم الزنا والربا، ولكنه يقول: إن الحرية الشخصية مقدمة على هذا التحريم، ويرى أن المصالح لا تقوم إلا بالربا، وأن تحريمه لا يتناسب مع الاقتصاد الحديث، وأن تحريمه عائق عن التقدم.
الشرط الخامس: الصدق المنافي للكذب، وهو أنْ يقولها صدقًا مِن قلبه، يواطئ قلبه لسانه. قال تعالى: { وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آَمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ . يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ . فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ } [البقرة: 8-10]
وفي الصحيحين عن معاذ بن جبل عن النبي خ: "ما مِن أحدٍ يشهدُ أنْ لا إلهَ إلا اللهُ وأنَّ محمدًا عبدُهُ ورسولُهُ صِدقًا مِن قلبِهِ إلا حَرَّمَهُ اللهُ على النارِ".
قال ابن القيم: [والتصديق بـ"لا إله إلا الله" يقتضي الإذعان والإقرار بحقوقها وهي شرائع الإسلام التي هي تفصيل هذه الكلمة. التصديق بجميع أخباره وامتثال أوامره واجتناب نواهيه. فالمصدق بها على الحقيقة هو الذي يأتي بذلك كله، ومعلوم أنَّ عصمة المال والدم على الإطلاق لم تحصل إلا بها وبالقيام بحقها، وكذلك النجاة مِن العذاب على الإطلاق لم تحصل إلا بها وبحقها.] ا.هـ(1/66)
وفي الحديث الذي أخرجه الحاكم في "المستدرك": قال رسول الله خ: "شفاعتي لمنْ شَهِدَ أنْ لا إلهَ إلا اللهُ مخلصًا يُصَدِّقُ قلبُهُ لسانَهُ ولسانُهُ قلبَهُ" [رواه أحمد، وقال الحاكم: صحيح الإسناد]
قال الحافظ ابن رجب: [ومَن دخل النار مِن أهل هذه الكلمة فلقلة صدقه في قولها؛ فإنَّ هذه الكلمة إذا صدقت طهرت القلب مِن كل ما سوى الله.. فمَن صدق في قول: "لا إله إلا الله" لم يحب سواه، ولم يرجُ إلا إياه، ولم يخشَ إلا الله، ولم يتوكل إلا على الله، ولم يبقَ له بقية مِن إيثار نفسه وهواه.. ومتى بقي في القلب أثر لسوى الله فمِن قلة الصدق في قولها!
ومَن قال: لا إله إلا الله بلسانه، ثم أطاع الشيطان وهواه في معصية الله ومخالفته فقد كذب فعلُه قولَه، ونقص من كمال توحيده بقدر معصية الله في طاعة الشيطان والهوى.] [جامع العلوم والحِكَم]
الشرط السادس: الإخلاص وهو تصفية العمل بصالح النية عن جميع شوائب الشرك. قال تعالى: { وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ } [البينة:5]
وفي صحيح مسلم عن عتبان بن مالك عن النبي خ قال: "إنَّ اللهَ حَرَّمَ على النارِ مَنْ قالَ: لا إلهَ إلا اللهُ يبتغي بذلكَ وجهَ اللهِ عزَّ وجلَّ".
وللنسائي في "اليوم والليلة" من حديث رجلين من الصحابة عن النبي خ قال: "مَن قال: لا إلهَ إلا اللهُ وحدَهُ لا شريكَ لهُ، لهُ الملكُ ولهُ الحمدُ وهوَ على كلِّ شيءٍ قديرٌ مخلِصًا بها قلبُهُ، يُصَدِّقُ بها لسانَهُ، إلا فَتَقَ اللهُ لها السماءَ فتقًا حتى ينظرَ إلى قائلِها مِن أهلِ الأرضِ، وحَقٌّ لعبدٍ نظرَ اللهُ إليهِ أنْ يُعطِيَهُ سؤالَهُ".
والإسلام لا بد فيه مِن الاستسلام لله وحده، وترك الاستسلام لما سواه. وهذا حقيقة "لا إله إلا الله". فمَن أسلم لله ولغير الله فهو مشرك، والله لا يغفر أن يشرك(1/67)
به، ومَن لم يستسلم له فهو مستكبر عن عبادته، وقد قال تعالى: { وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ } [غافر:60]
الشرط السابع: المحبة لهذه الكلمة، ولما اقتضته ودلت عليه، ولأهلها العاملين بها الملتزمين لشروطها، وبُغض ما ناقض ذلك. قال تعالى: { وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آَمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ } [البقرة:165]
فأخبر أنَّ عباده المؤمنين أشد حبًّا له؛ وذلك لأنهم لم يتخذوا مِن دونه أندادًا. والأنداد ما جذبك عن دين ا?سلام؛ من أهل, أو مسكن, أو عشيرة, أو مال.. فهو ند لله تعالي.
وعلامة حب العبد ربه تقديم محابه وإنْ خالفت هواه، وبُغض ما يبغض ربه وإنْ مال إليه هواه، وموالاة مَن والى الله ورسوله، ومعاداة مَن عاداه، واتباع رسول الله خ واقتفاء أثره وقبول هداه.
فمَن أحب شيئًا مما يكرهه الله، أو كره شيئًا مما يحبه الله؛ لم يكمل توحيده وصدقه في قول "لا إله إلا الله"، وكان فيه مِن الشرك الخفي بحسب ما كرهه مما يحبه الله، وما أحبه مما يكرهه الله..
وقال الحسن: اعلم أنك لن تحب الله حتى تحب طاعته.
وسئل ذو النون: متى أحب ربي؟ قال: إذا كان ما يبغضه عندك أَمَرَّ مِن الصبر.
وقال يحيى بن معاذ: ليس بصادق مَن ادعى محبة الله، ولم يحفظ حدوده.
وقال رويم: المحبة الموافقة في جميع الأحوال، وأنشد:
لو قلتَ لي: مُتْ، قلتُ: سمعًا وطاعةً وقلتُ لداعي الموتِ: أهلا ومرحبا(1/68)
وفي الصحيحين قال رسول الله خ: "ثلاثٌ مَن كُنَّ فيهِ وجدَ بِهِنَّ حلاوةَ الإيمانِ: أنْ يكونَ اللهُ ورسولُهُ أحبَّ إليهِ مما سواهما، وأنْ يُحِبَّ المرءَ لا يُحِبُّهُ إلا للهِ، وأنْ يكرهَ أنْ يعودَ في الكفرِ بعد أنْ أنقذَهُ اللهُ منهُ كما يَكرَهُ أنْ يُقذَفَ في النارِ". (1)
فيا عباد الله..
هذه الشروط ليست شروطًا في قبول الإسلام الظاهر في الدنيا، بل في نفع صاحبه في الآخرة. ولا يلزم المسلم حفظ هذه الشروط؛ فـ[معنى
استكمالها: اجتماعها في العبد، والتزامه إياها دون مناقضة لشيء
منها. وليس المراد مِن ذلك عَدَّ ألفاظها وحفظها..
فكم مِن عاميّ اجتمعت فيه والتزمها، ولو قيل له:
اعددها؛ لم يحسن ذلك! وكم حافظ لألفاظها
يجري فيها كالسهم، وتراه يقع كثيرًا فيما
يناقضها. والتوفيق بيد الله.] (2)
هذي شروطٌ مُسعِدَاتٌ للذي ... قد نالَها والفضلُ للمَنَّانِ
فإذا هيَ اجتمعَتْ لنفسٍ حُرَّةٍ ... بَلَغَتْ مِنَ العلياءِ كُلَّ مكانِ
للهِ ذَيَّاكَ الفريقُ فإنَّهُمْ ... خُصُّوا بخالِصَةٍ مِنَ الرحمنِ
شُدَّتْ رَكائبُهُم إلى مَعبودِهِم ... ورسولِهِ.. يا خَيْبَةَ الكسلانِ
- - -
الشرك
الشرك ينافي التوحيد ويضاده. يقال: شركته في الأمر إذا صرت له شريكا. ومنه قوله تعالى: { وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي } [طه:32] أي اجعله شريكي فيه.
وما من ريب أن في معرفة المسلم للشرك وأسبابه ووسائله وأنواعه فوائد عظيمة، إذا عرفها معرفة يَقصد من ورائها السلامة من هذه الشرور والنجاة من تلك الآفات. والله سبحانه يُحب أن تُعرف سبيل الحق لتُحَب وتُسلَك، ويُحب أن تُعرف سُبل الباطل لتُجتَنب وتُبغَض. والمسلم كما أنه مطالَب بمعرفة سبيل الخير ليطبقها، فهو كذلك مطالَب بمعرفة سبل الشر ليحذرها.
__________
(1) العبادة في الإسلام للقرضاوي – الولاء والبراء في الإسلام للقحطاني
(2) معارج القبول(1/69)
والشرك أعظم ذنب عصي الله به، ولهذا رتب عليه من عقوبات الدنيا والآخرة ما لم يرتبه على ذنب سواه؛ من إباحة دماء أهله وأموالهم، وسبي نسائهم وأولادهم، وعدم مغفرته من بين الذنوب إلا بالتوبة منه.
والشرك نوعان:
الأول: الشرك الأكبر:
والمشرك شركا أكبر هو الذي يجعل مع الله ربا آخر كشرك النصاري الذين جعلوه ثلاثة, وشرك المجوس القائلين بإسناد حوادث الخير إلي النور وحوادث الشر إلي الظلمة, وكشرك الصابئة الذين ينسبون إلي الكواكب تدبير أمر العالم. ومثل هؤلاء كثير من عباد القبور الذين يزعمون أن أرواح الأولياء تتصرف بعد الموت؛ فيقضون الحاجات، ويفرجون الكربات, وينصرون من دعاهم, ويحفظون من التجأ إليهم ولاذ بحماهم..!!
ومن الشرك الأكبر أن يجعل مع الله إلها آخر؛ ملَكا، أو رسولا, أو وليا، أو شمسا وقمرا، أو حجرا، أو بشرا؛ يُعبد كما يُعبد الله؛ وذلك بدعائه، والاستعانة به, والذبح له، و النذر له، وغير ذلك من أنواع العبادة.
ولا يشترط أن يساوي المشرك في شركه مع الله غيره من كل وجه, بل يسمى مشركا في الشرع بإثباته شريكا لله؛ ولو جعله دونه في القدرة والعلم مثلا.
والشرك الأكبر يحبط العمل، كما قال تعالى: { وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ } [الأنعام:88]. وصاحبه خالد مخلد في نار جهنم، لا يغفر الله له, قد حرم الله عليه الجنة: { إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ } [المائدة:72].
وفي صحيح البخاري عن عبد الله بن مسعود ت قال: سألت رسول الله خ: أي الذنب أعظم عند الله؟ قال: "أن تجعل لله ندا وهو خلقك".
الثاني: الشرك الأصغر:(1/70)
والشرك الأصغر كيسير الرياء, والتصنع للمخلوق, وعدم ا?خلاص لله تعالى في العبادة, بل يعمل لحظ نفسه تارة, ولطلب الدنيا تارة, ولطلب المنزلة والجاه تارة. فلله من عمله نصيب, ولغيره منه نصيب.
وهذا النوع من الشرك وإن كان لا يُخرج من الملة؛ فإن صاحبه على خطر عظيم, ينقص من أجره شيء كثير, وقد يحبط منه العمل.. ففي مسند ا?مام أحمد أن رسول الله خ قال: "إن أخوف ما أخاف عليكم الشرك الأصغر". قالوا: وما الشرك الأصغر يا رسول الله؟ قال: "الرياء. يقول الله يوم القيامة إذا جزى الناس بأعمالهم: اذهبوا إلي الذين كنتم تراءون في الدنيا فانظروا هل تجدون عندهم جزاء".
وقد ضرب العلماء على ذلك مثلا فقالوا: مثل الذي يعمل للرياء والسمعة كمثل رجل يخرج إلى السوق وقد ملأ كيسه بقطع من الحصى، فأخذ الناس يقولون: ما أملأ كيس هذا الرجل! ولكنه إذا أراد أن يشتري شيئا لا يُعطى به شيئا. وكذلك الذي يعمل للرياء والسمعة لا منفعة له سوى مقالة الناس، ولا ثواب له في الآخرة.
فإذا رأيت المرء يحب غير الله أكثر مما يحب الله, ويخاف العبد أكثر مما يخاف الرب, ويتعلق قلبه بالناس أكثر مما يتعلق برب الناس, ويصدر عمله ابتغاء رضاهم أكثر مما يطلب ثواب الآخرة؛ فإذا نزلت به نكبة كان تفكيره في فلان قبل تفكيره في الله..! وإذا أصابه خير كان حمده لفلان أسبق من شكره لله.. فاعلم أن هذا الشخص قد أشرك.
قال ابن القيم /: وأما الشرك في الإرادات والنيات فذلك البحر الذي لا ساحل له. وقَلَّ مَن ينجو منه. فمن أراد بعمله غير وجه الله، ونوى شيئًا غير التقرب إليه، وطلب الجزاء منه؛ فقد أشرك في نيته وإرادته. ا.هـ
وعلاجه ما ذكره أبو موسى الأشعري ت عن النبي خ أنه قال: "أيُّها الناسُ اتَّقُوا الشِّركَ فإنهُ أخفَى مِن دَبِيبِ النَّملِ، قالوا: وكيفَ نَتَّقِيهِ يا رسولَ اللهِ؟ قالَ: قولوا: اللهمَّ إنَّا نَعُوذُ بِكَ مِن أنْ نُشْرِكَ بِكَ شَيئًا نَعلَمُهُ(1/71)
ونستغفِرُكَ لِمَا لا نعلمُهُ". [قال الألباني في "صحيح الترغيب": حسن لغيره]
ويتبع هذا النوع الشرك بالله في الألفاظ، كالحلف بغير الله. فالحلف تعظيم وتقديس للمحلوف به, ولا ينبغي أن يكون التعظيم والتقديس إلا للخالق جل وعلا. وقد ثبت عن النبي خ أنه قال: "من حلف بغير الله فقد أشرك" [رواه أبو داود والترمذي وصححه الألباني].
وإنما كان الحلف بغير الله شركا؛ لأن حقيقة اليمين ومقتضاه أن الحالف يؤكد صدق خبره بأنه لو كان كاذبا ينتقم منه المحلوف به انتقاما لا يقدر هو ولا أحد من البشر أن يدفعه؛ لأن المحلوف به يقدر أن يوصل انتقامه وبطشه من طريق فوق قدرة البشر وطاقتهم. وهذا لا يكون إلا لله القوي المتين ذي البطش الشديد الفعال لما يريد.
ومثل هذا النوع من الشرك قول الرجل للرجل: "ما شاء الله وشئت". و"هذا من الله ومنك". و"أنا بالله وبك". و"مالي إلا الله وأنت". و"أنا متوكل على الله وعليك". و"لولا أنت لم يكن كذا وكذا".. وقد يكون هذا شركا أكبر بحسب حال قائله ومقصده. وصح عن النبي خ أنه قال لرجل قال له: ما شاء الله وشئتَ: "أجعلتني لله ندا؟ قل: ما شاء الله وحده". وهذا اللفظ أخف من غيره من الألفاظ.
والنذر لغير الله شرك وهو أعظم من الحلف بغير الله. فإذا كان من حلف بغير الله فقد أشرك فكيف بمن نذر لغير الله؟ فإن الناذر لغير الله لا يبذل من ماله شيئا إلا معتقدا لجلب نفع أكثر منه أو دفع ضرر؛ وهذا اعتقاد باطل. ولو عرف الناذر بطلان ما أراده ما أخرج درهما؛ فإن الأموال عزيزة عند أهلها, وإن ما يخرجه لا يجلب له نفعا ولا يدفع عنه ضرا. روي مسلم في صحيحه عن أبي هريرة أن رسول الله خ قال: "لا تنذروا؛ فإن النذر لا يغني من القدر شيئا، وإنما يُستخرج به من البخيل".(1/72)
والذين يذهبون بنذورهم لضريح السيد البدوي يدَّعون أنه لله عن طريق السيد البدوي. وأكثر أولئك الآثمين يقول: نحن نعرف الله جيدا، ونعرف أن أولياءه عبيده, وإنما نحن نتقرب بهم إليه؛ فهم أطهر منا نفسا.
وهذا كلام مردود علي قائله؛ فإن الله سبحانه وتعالي لم يطلب منا أن نجيء معنا بالآخرين ليستغفروا لنا زلاتنا. أليس من المضحك أن نستنجد بمن يطلب لنفسه النجدة، وأن نتوسل بمن يطلب كل وسيلة ليستفيد خيرا أو يستدفع شرا ؟!
وقد حرم ا?سلام علي المسلم أن يذبح لغير الله، ففي صحيح مسلم عن النبي خ: "لعن الله من ذبح لغير الله". وقد جعل من الأطعمة المحرمة ما أهل لغير الله به، أي: رُفع الصوت عند ذبحه باسم غير الله.
وإذا ثبت أن الذبح لله من أجَلِّ العبادات وأكبر الطاعات، فالذبح لغير الله شرك أكبر مخرج عن دائرة الإسلام.
قال ابن تيمية في قوله تعالى: { وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللهِ } [البقرة:173]: ظاهره أنه ما ذُبح لغير الله، مثل أن يقول: هذه الذبيحة لكذا، وإذا كان هذا هو المقصود؛ فسواء لفظ به أو لم يلفظ.
وقال الشيخ حامد الفقي: أصل الإهلال رفع الصوت والإعلان. فالمقصود بما أُهل به لغير الله ما أُعلن عنه أنه منذور به لغير الله؛ سواء كان هذا الإهلال والإعلان قبل الذبح؛ كأن يُقال: هذه شاة السيدة فلانة أو السيد فلان؛ فيعرف الناس ذلك، وأنها مُهَلٌّ بها لغير الله. ولو سمى الذابح باسم الله؛ فإن هذه التسمية اللفظية لاغية، والعبرة بالإهلال الحقيقي؛ بما انطوى عليه مِن قصد التقرب به لغير الله.
} - {
سد الذرائع المفضية إلي الشرك:
وقد احتاط ا?سلام كل الاحتياط؛ فسد كل ذريعة
تفضي إلي الشرك أو مشابهة المشركين.(1/73)
? فنجد النبي خ يرفض في شدة وصراحة كل مبالغة في تعظيمه تظهره في غير مظهر العبودية لله؛ التي لا يفخر بغيرها. فيقول خ لأصحابه: "لا تطروني كما أطرت النصارى عيسى بن مريم, وقولوا: عبد الله ورسوله". [متفق عليه] (الإطراء: هو مجاوزة الحد في المدح، والكذب فيه)
وروي الطبراني أنه كان في زمن النبي خ منافق يؤذي المؤمنين، فقال بعضهم: قوموا بنا نستغيث برسول الله خ من هذا المنافق. فقال النبي خ: "إنه لا يُستغاث بي, وإنما يُستغاث بالله". وهكذا علمهم النبي خ أن يعطوا كل ذي حق حقه. فالعبد عبد، والرب رب.
? إن الغلو في تعظيم الصالحين في حياتهم, والتبرك بآثارهم وقبورهم بعد مماتهم هما أوسع أبواب الشرك بالله, وقد سدهما النبي خ سدا منيعا, فلم يُقر أحدا على الغلو في تعظيمه حيا أو تعظيم قبره ميتا, بل دعا ربه فقال خ: "اللهم لا تجعل قبري وثنا يُعبد. اشتد غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد" [رواه مالك في الموطأ]. وفي الصحيح عن عائشة لأن أم سلمة ل ذكرت لرسول الله خ كنيسة رأتها بأرض الحبشة وما فيها من الصور. فقال خ: "أولئك إذا مات فيهم الرجل الصالح أو العبد الصالح بنوا علي قبره مسجدا وصوروا فيه تلك الصور, أولئك شرار الخلق عند الله". وروي الشيخان عن عائشة لأن النبي خ وهو في اللحظات الأخيرة له يودع الدنيا ويستقبل الآخرة كان يقول: "لعنة الله على اليهود والنصاري؛ اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد".
وكل هذا احتاط من النبي خ لأمته؛ فالقليل يجر
إلى الكثير, والصغير يدفع إلى الكبير.
إنَّ الأمورَ صغيرَها مما يَهيجُ له العظيم
وربما تدرج بهم الأمر إلى تلك القبور فعظموها مع الله, وأصبحت شبيهة بالأصنام تبركا وتمسحا بها, وطوافا حولها, وتقبيلا لجوانبها, والتماسا للبركات عندها أو منها, كما يفعل ذلك اليوم بعض الضالين من المسلمين، ويعتذر لهم بعض الخادعين أو المخدوعين..!(1/74)
وقد أنكر أصحاب الرسول خ كل ما يُشتم منه رائحة التقديس لمكان أو شيء من مخلوقات الله. فعن المعرور بن سويد قال: صليت مع عمر بن الخطاب ت في طريق مكة صلاة الصبح. ثم رأي الناس يذهبون مذاهب، فقال: أين يذهب هؤلاء؟ فقيل: يا أمير المؤمنين! مسجد صلى فيه النبي خ فهم يصلون فيه. فقال: إنما هلك من كان قبلكم بمثل هذا؛ كانوا يتبعون آثار أنبيائهم ويتخذونها كنائس وبيعا, فمَن أدركته الصلاة منكم في هذه المساجد فليصلِّ, ومَن لا؛ فليمضِ ولا يتعمدها. وكذلك أرسل عمر ت فقطع الشجرة التي بايع تحتها أصحاب رسول الله خ.
وهكذا حمى ا?سلام جناب التوحيد، وسد منافذ الشرك.
} - {
أوثان جديدة يجب الحذر منها:
إن بعض السطحيين من المتدينين أنفسهم يحصرون الشرك وعبادة غير الله في صورة واحدة هي الوثنية التقليدية؛ التي تتمثل في عبادة إله أو آلهة مجسمة أو منظورة؛ تُقدم الصلوات والقرابين إليها، وتُلتمس المنافع والبركات من بين يديها. ونسي هؤلاء أن الشرك مراتب وأنواع، وأن الأصنام منها ما يُرى، ومنها ما لا يُرى. فمن الأوثان ما يعبده أناس ويقدمون له الولاء؛ وإن لم يسموه وثنا أو إلها أو ربا، ولم يسموا ما يقدمونه إليه عبادة. ولكن العبرة بالمقاصد لا بالألفاظ، وبالمسميات لا بالأسماء.
و القرآن الكريم يلفتنا إلي (وثن) أو (إله) خطير, يتعبد له الملايين وهم لا يشعرون؛ وذلك هو (الهوى). يقول تعالى: { أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ } [الجاثية:23]، ويقول تعالى: { أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا } [الفرقان:43](1/75)
وفي عصرنا هذا ظهرت أوثان ومعبودات شتى؛ أصبحت تمتلك قلوب الناس ومشاعرهم وولاءهم؛ باسمها يقسمون, وفي سبيلها يجاهدون ويستشهدون..! تلك هي أوثان (الوطنية) و(القومية) وما شاكلها. فالجهاد يكون في سبيل الوطن أو العروبة, فمن يُقتل فهو شهيد الوطن أو العروبة!
وهذا هو أخطر أنواع الشرك التي دخلت على المسلمين من حيث لا يشعرون، وسجلها الدارسون الأيقاظ بوصفها ظاهرة جديدة في حياة المسلمين.
يقول المستشرق برنارد لويس: "كل باحث في التاريخ ا?سلامي يعرف قصة ا?سلام الرائعة في محاربته لعبادة الأوثان منذ بدء دعوة النبي، وكيف انتصر النبي وصحبه وأقاموا عبادة ا?له الواحد التي حلت محل الديانات الوثنية لعرب الجاهلية. وفي أيامنا هذه تقوم معركة مماثلة أخرى، ولكنها ليست ضد (اللات) و(العُزى) وبقية آلهة الجاهلية, بل ضد مجموعة جديدة من الأصنام اسمها: (الدولة) و(العنصر) و(القومية). وفي هذه المرة يظهر أن النصر حتي الآن حليف الأصنام!! فإدخال هرطقة القومية العلمانية أو عبادة (الذات الجماعية) كان أرسخ المظالم التي أوقعها الغرب علي الشرق الأوسط.
وا?سلام يوم حارب اللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى؛ لم يحاربها لذواتها, ولم تكن بينه وبينها عداوة شخصية. إنما حاربها لأنها احتلت من قلوب الملتفين بها مكانة السيد المتصرف من عبيده الأذلين. فكل ما يصرف القلوب مثلها عن الله فهو صنم. وكل مَن تكون في قلبه منزلة لشيء ما غير الله, مثل منزلة هذه الأصنام في قلوب المشركين القدامى؛ فهو -ولا كرامة- مثلهم؛ يُحسب منهم، ويُحشر معهم. (1)
ياباغيَ ا?حسانِ يطلبُ ربَّهُ ... ليفوزَ منهُ بغايةِ الآمالِ
انظرْ إلى هَدْيِ الصحابةِ والذي ... كانوا عليهِ في الزمانِ الخالي
تاللهِ ما اختاروا لأنفُسِهِمْ سوى ... سُبلِ الهدي في القولِ والأفعالِ
__________
(1) العبادة في الإسلام: د. القرضاوي – عقيدة المسلم: الشيخ/ محمد الغزالي(1/76)
درجوا علي نهجِ الرسولِ وهديِهِ ... وبهِ اقتدَوْا في سائرِ الأحوالِ
عمِلوا بما علموا ولم يتكلفوا ... فلذاكَ ما شابوا الهدى بضلالِ
الصلاة هي المرتكز الأساسي لصلة ا?نسان بالله وإحياء معاني الإيمان في قلبه. وهي من أسباب المغفرة التي تتجدد في اليوم الواحد خمس مرات.
قال تعالى: { وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ } [هود:114]
والمراد بالحسنات هنا الصلوات الخمس, والمراد بالسيئات الصغائر من الذنوب. وقد نزلت الآية في رجل من الأنصار خلا بامرأة فأصاب منها قبلة، فأتى النبي خ فسأله عن كفارتها؛ فنزلت الآية. فقال الرجل: ألي هذه يا رسول الله؟ قال: "لك ولمن عمل بها من أمتي". [رواه الترمذي، وصححه الألباني]
والصغائر يكفرها الصلوات الخمس، والجمعة إلى الجمعة، بدليل قوله خ: "الصلوات الخمس والجمعة إلى الجمعة كفارة لما بينهن ما لم تُغشَ الكبائر". [رواه مسلم].
وقد شبه النبي خ الصلوات الخمس في محوها للذنوب بنهر جارٍ, يغتسل منه المسلم في اليوم والليلة خمس مرات؛ فيتطهر بها من غفلات قلبه وأدران خطاياه قال خ: "أرأيتم لو أن نهرا بباب أحدكم يغتسل فيه كل يوم خمس مرات, هل يبقى من درنه شيء؟"، قالوا: لا يبقى من درنه شيء. قال: "كذلك الصلوات الخمس يمحو الله بهن الخطايا" [رواه البخاري ومسلم]
قال ابن العربي: وجه التمثيل أن المرء كما يتدنس بالأقذار المحسوسة في بدنه وثيابه، ويطهره الماء الكثير؛ فكذلك الصلوات تطهر العبد من أقذار الذنوب حتى لا تبقي له ذنبا إلا أسقطته.(1/77)
[وأي إنسان يمر عليه يوم من غير خطايا وهفوات؟ لقد خلق الله ا?نسان خلقا عجيبا؛ فيه من الملَك روحانيته, ومن البهيمة شهوتها, ومن السباع حميتها. وكثيرا ما تغلبه الشهوة, ويستفزه الغضب, ويجذبه تراب الأرض الذي خلق منه, فيقع في الأخطاء. وليس العيب أن يخطئ ا?نسان فكل بني آدم خطاء, ولكن العيب أن يتمادى ا?نسان في الخطأ, ويستمر في الانحدار، حتى يصير كالأنعام أو أضل سبيلا!
وفي الصلوات الخمس فرصة يثوب فيها المخطئ إلى رشده، ويفيق المغرور مِن سُباته، ويرجع الإنسان إلى ربه، ويطفئ هذا السعار المادي الذي أججته المطامع والشهوات ونسيان الله والدار الآخرة.] [العبادة في الإسلام]
فـ[ما بين الصلاتين تحدث للعبد الغفلة والجفوة والقسوة، والإعراض والزَّلات والخطايا؛ فيبعده ذلك عن ربه، وينحّيه عن قُربه؛ فيصير بذلك كأنه أجنبي من عبوديته، ليس من جملة العبيد. وربما ألقى بيده إلى أسر العدو له؛ فأسره، وغلَّه، وقيَّده، وحبسه في سجن نفسه وهواه.. فحظُّه ضيق الصدر، ومعالجة الهموم والغموم، والأحزان والحسرات؛ ولا يدري السبب في ذلك.. فاقتضت رحمة ربه الرحيم الودود أن جعل له مِن عبوديته عبودية جامعة، مختلفة الأجزاء والحالات بحسب اختلاف الأحداث التي كانت من العبد، وبحسب شدَّة حاجته إلى نصيبه من كل خير من أجزاء تلك العبودية.
فبالوضوء يتطَّهر من الأقذار، ويُقدِم على ربِّه متطهرًا، والوضوء له ظاهر وباطن: فظاهره طهارة البدن وأعضاء العبادة. وباطنه وسره طهارة القلب مِن الذنوب والمعاصي وأدرانه بالتوبة. ولهذا يقرن تعالى بين التوبة والطهارة في قوله تعالى: { إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ } [البقرة:222] وشرع النبي خ للمتطهِّر أن يقول بعد فراغه من الوضوء: "أشهد أنْ لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله.. اللهم اجعلني من التوّابين، واجعلني من المتطهرين".(1/78)
فكمَّل له مراتب العبودية والطهارة باطنًا وظاهرًا. فإنه بالشهادة يتطهر من الشرك، وبالتوبة يتطهر من الذنوب، وبالماء يتطهر من الدرن الظاهر.
فشرع له أكمل مراتب الطهارة قبل الدخول على الله عز وجل، والوقوف بين يديه، فلما طهر ظاهرًا وباطنًا، أذن له بالدخول عليه بالقيام بين يديه، وبذلك يخلص من الإباق.. وبمجيئه إلى داره، ومحل عبوديته يصير من جملة خدمه، ولهذا كان المجيء إلى المسجد من تمام عبودية الصلاة الواجبة عند قوم، والمستحبة عند آخرين.
والعبد في حال غفلته كالآبق من ربه، قد عطّل جوارحه وقلبه عن الخدمة التي خُلق لها، فإذا جاء إليه فقد رجع من إباقه، فإذا وقف بين يديه موقف التذلل والانكسار فقد استدعى عطف سيِّده عليه، و إقباله عليه بعد الإعراض عنه.
وعن عثمان بن عفان ت قال: سمعت رسول الله خ يقول: "ما من امرئ تحضره صلاة مكتوبة, فيحسن وضوءها وخشوعها وركوعها إلا كانت كفارة لما قبلها من الذنوب, ما لم تُؤتَ كبيرة, وذلك الدهر كله". [رواه مسلم]
وعن عبد الله بن مسعود ت قال: قال رسول الله خ: "تحترقون تحترقون.. فإذا صليتُمُ الصبحَ غسلتْها، ثم تحترقون تحترقون.. فإذا صليتُمُ الظهرَ غسلتْها، ثم تحترقون تحترقون.. فإذا صليتُمُ العصرَ غسلتْها، ثم تحترقون تحترقون.. فإذا صليتُمُ المغربَ غسلتْها، ثم تحترقون تحترقون.. فإذا صليتُمُ العشاءَ غسلتْها، ثم تنامون فلا يُكتَبُ عليكمْ حتى تستيقظوا". [رواه الطبراني، وصححه الألباني في "صحيح الترغيب"](1/79)
وعن أبي عثمان قال:كنتُ مع سلمان ت تحت شجرة، فأخذ غصنًا منها يابسًا فهزَّه حتى تحاتَّ ورقُه، ثم قال: يا أبا عثمان! ألا تسألني لِمَ أفعل هذا؟ قلت: ولِمَ تفعله؟ قال: هكذا فعل بي رسول الله خ وأنا معه تحت شجرة، وأخذ منها غصنًا يابسًا فهزَّه حتى تحاتَّ ورقُه، فقال: يا سلمان! ألا تسألني لِمَ أفعل هذا؟ قلت: ولِمَ تفعله؟ قال: "إنَّ المسلمَ إذا توضأَ فأحسنَ الوضوءَ، ثم صلَّى الصلواتِ الخمسِ تحاتَّتْ خطاياهُ كما تحاتَّ هذا الورقُ". وقال: { وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ } [هود:114] [رواه أحمد والنسائي والطبراني، وقال الألباني: حسن لغيره]
قال أبو هريرة ت: مَن توضأ فأحسن وضوءه، ثم خرج عامدًا إلى الصلاة؛ فإنه في صلاة ما كان يعمد إلى الصلاة، وأنه يُكتَب له بإحدى خطوتيه حسنة، وتُمحَى عنه بالأخرى سيئة. فإذا سمع أحدكم الإقامة فلا ينبغي له أنْ يتأخر؛ فإن أعظمكم أجرًا أبعدكم دارًا. قالوا: لِمَ يا أبا هريرة؟ قال: مِن أجل كثرة الخُطا. (1)
وإذا كانت الصلاة سببًا لتكفير الذنوب الحاصلة فعلاً؛ فإنها كذلك تمنع
العبد مِن مقارفة الآثام، وتحول بينه وبين فعل الفواحش:
قال تعالى: { اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ } [العنكبوت:45]
__________
(1) العبادة في الإسلام للقرضاوي – أسرار الصلاة لابن القيم – تفسير الشعراوي – زهرة التفاسير – مختصر منهاج القاصدين – الوابل الصيب – التذكرة لابن الجوزي.(1/80)
[يأمر تعالى بتلاوة وحيه وتنزيله، وهو هذا الكتاب العظيم. ومعنى تلاوته اتباعه بامتثال ما يأمر به، واجتناب ما ينهى عنه، والاهتداء بهداه، وتصديق أخباره، وتدبر معانيه، وتلاوة ألفاظه، فصار تلاوة لفظه جزء المعنى وبعضه.
وإذا كان هذا معنى تلاوة الكتاب؛ عُلم أن إقامة الدين كلها داخلة في تلاوة الكتاب. فيكون قوله: (وَأَقِمِ الصَّلَاةَ) من باب عطف الخاص على العام ، لفضل الصلاة وشرفها، وآثارها الجميلة؛ وهي: (إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ) فالفحشاء كل ما استُعظِم واستُفحِش مِن المعاصي التي تشتهيها النفوس. والمنكر كل معصية تنكرها العقول والفِطَر.
ووجه كون الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر أن العبد المقيم لها، المتمم لأركانها وشروطها وخشوعها؛ يستنير قلبه، ويتطهر فؤاده، ويزداد إيمانه، وتقوى رغبته في الخير، وتقل أو تنعدم رغبته في الشر. فبالضرورة؛ مداومتها والمحافظة عليها على هذا الوجه تنهى عن الفحشاء والمنكر.
فهذا من أعظم مقاصد الصلاة وثمراتها. وثَم في الصلاة مقصود أعظم مِن هذا وأكبر، وهو ما اشتملت عليه من ذكر الله بالقلب، واللسان، والبدن. فإن الله تعالى إنما خلق العباد لعبادته، وأفضل عبادة تقع منهم الصلاة. وفيها من عبوديات الجوارح كلها ما ليس في غيرها، ولهذا قال: (وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ).
ويحتمل أنه لما أمر بالصلاة ومَدَحَها، أخبر أن ذكره تعالى خارج الصلاة أكبر مِن الصلاة -كما هو قول جمهور المفسرين-. لكن الأول أولى؛ لأن الصلاة أفضل من الذكر خارجها، ولأنها بنفسها من أكبر الذكر.] [تيسير الكريم الرحمن](1/81)
و[قيل: مَن كان مراعيًا للصلاة جَرَّه ذلك إلى أن ينتهي عن السيئات يومًا ما. فقد رُويَ أنه قيل يومًا لرسول الله خ: إن فلانًا يُصلي بالنهار، ويسرق بالليل! فقال: "إن صلاته لتردعه". ورُويَ أنّ فتى مِن الأنصار كان يُصلي معه الصلوات، ولا يدع شيئًا مِن الفواحش إلا ركبه، فوصف له، فقال: "إنّ صلاته ستنهاه". فلم يلبث أنْ تاب.
وقال ابن عوف: إن الصلاة تنهى إذا كنت فيها؛ فأنت في معروف وطاعة، وقد حجزتك عن الفحشاء والمنكر. وعن الحسن: مَن لم تنهه صلاته عن الفحشاء والمنكر؛ فليست صلاته بصلاة، وهي وبال عليه!
(وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ): أي الصلاة أكبر من غيرها من الطاعات. وإنما قال: (ولذكر الله) ليستقل بالتعليل، كأنه قال: (والصلاة أكبر) لأنها ذكر الله.
وعن ابن عباس ب: ولذكر الله إياكم برحمته أكبر من ذكركم إياه بطاعته. وقال ابن عطاء: ذكر الله لكم أكبر مِن ذكركم له؛ لأن ذكره بلا علة، وذكركم مشوب بالعلل والأماني. ولأنَّ ذكره لا يفنى، وذكركم لا يَبقى.
أو ذكر الله أكبر مِن أنْ تحويه أفهاكم وعقولكم. أو ذكر الله أكبر مِن أنْ تلقى معه معصية. أو ذكر الله أكبر في النهي عن الفحشاء والمنكر مِن غيره.] [تفسير النسفي]
والصلاة عمود الدين, ومفتاح الجنة, وخير الأعمال, وأول ما يحاسب عليه المسلم يوم القيامة.
ويؤكد القرآن المحافظة عليها في الحضر والسفر, والأمن والخوف, والسلم والحرب. قال تعالى: { حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ . فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا } [البقرة:238-239] أي: فصلوا في حالة الخوف والحرب مشاة أو راكبين كيف استطعتم, بغير ركوع ولا سجود, بل با?شارة وا?يماء، وبدون اشتراط القبلة للضرورة هنا.
وينذر الله بالويل والهلاك مَن يسهو عنها حتى يضيع وقتها: { فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ . الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ } [الماعون:4-5](1/82)
وذكر رسول الله خ الصلاة يوما فقال: "من حافظ عليها كانت له نورا وبرهانا ونجاة يوم القيامة, ومن لم يحافظ عليها لم يكن له نور ولا برهان ولا نجاة, وكان يوم القيامة مع قارون وفرعون وهامان وأُبي بن خلف" [رواه أحمد وابن حبان في صحيحه]
قال العلماء في توجيه هذا الحديث: فمن شغله عن الصلاة مالُه فهو مع قارون, ومن شغله عنها ملكه فهو مع فرعون, ومن شغله عنها رياسته ووزارته فهو مع هامان, ومن شغله عنها تجارته فهو مع أُبي بن خلف.
تلك هي مكانة الصلاة في ا?سلام, ولهذه المكانة كانت أول عبادة فرضت علي المسلمين, فقد فرضت في مكة قبل الهجرة بنحو ثلاث سنوات، وكانت طريقة فرضيتها دليلا آخر علي عناية الله بها؛ إذ فرضت العبادات كلها في الأرض, وفرضت الصلاة وحدها في السماء ليلة ا?سراء والمعراج بخطاب مباشر من رب العالمين إلي خاتم المرسلين.
إن الحكومات تستدعي سفراءها في الأمور الهامة الحاسمة التي لا تغني فيها المراسلة عن المشافهة, ومحمد خ سفير الله إلى خلقه, فإذا استدعاه الله سبحانه، وعرج به إلى السماوات العلى؛ ليخاطبه بفرض الصلوات؛ كان ذلك برهانا ناطقا على سمو منزلة الصلاة وأهميتها عند الله.
} - {
حظ العبد من صلاته:
جعل الله الصلاة على المؤمنين كتابا موقوتا؛ أمرهم بإقامتها حين يمسون وحين يصبحون, وعشيا وحين يظهرون. فإنها للحظات مباركة تلك المرات الخمس التي ينتزع ا?نسان فيها نفسه كل يوم من دنياه؛ دنيا الطين والحمأ المسنون؛ دنيا الأحقاد والصراع؛ ليقف بين يدي مولاه لحظات خاشعة يخفف بها من غلواء الحياة وضغط الطين والمادة الكثيف على القلوب والأرواح.(1/83)
إنها تقوم بتغذية ذلك الجزء العلوي ا?لهي في كيان ا?نسان, وهو المشار إليه بقوله تعالى: { وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي } [الحجر:29]؛ ذلك الكائن الروحي الذي يعيش بين جوانح ا?نسان, لا يكفي لتغذيته علم العلماء، ولا أدب الأدباء, ولا فلسفة المتفلسفين, ولا يغذيه إلا معرفة الله وحسن الصلة به. ففي هذه الصلوات الخمس مناجاة العبد لربه, وهي شحنة روحية تنير قلبه وتشرح صدره, وتأخذ بيده من الأرض إلي السماء, وتدخله إلى الله بلا باب, وتقفه بين يديه بلا حجاب, فيكلمه بلا ترجمان, ويناجيه فيناجي قريبا غير بعيد, ويستعين به فيستعين بعزيز غير ذليل, ويسأله فيسأل غنيا غير بخيل.. يستحضر قول الله عز وجل: "قسمت الصلاة بيني وبين عبدي قسمين، ولعبدي ما سأل. فإذا قال العبد: (الحمد لله رب العالمين). قال الله عز وجل: حمدني عبدي. فإذا قال: (الرحمن الرحيم). قال الله: أثنى عليّ عبدي. فإذا قال: (مالك يوم الدين). قال: مجدني عبدي. فإذا قال: (إياك نعبد وإياك نستعين). قال الله: هذا بيني وبين عبدي ولعبدي ما سأل. فإذا قال: (اهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين). قال الله: هذا لعبدي ولعبدي ما سأل" [رواه مسلم]
فيا لذة القلب، وقرة العين، وسرور النفس بقول الرب: (عبدي) ثلاث مرات فوالله لولا ما على القلوب من دخان الشهوات وغم النفوس؛ لاستطيرت
فرحا وسرورا بقول ربها وفاطرها ومعبودها: (حمدني عبدي)
و(أثنى عليّ عبدي) و(مجدني عبدي)..
عن سلمان الفارسي ت قال: الصلاة مكيال, فمن وفى مكياله وُفي له, ومَن طفف فقد علمتم ما قاله الله في المطففين.
ويقول ابن القيم / في "الفوائد": للعبد بين يدي الله موقفان: موقف بين يديه في الصلاة. وموقف بين يديه يوم لقائه. فمَن قام بحق الموقف الأول هون عليه الموقف الآخر. ومَن استهان بهذا الموقف ولم يوفه حقه شدد عليه ذلك الموقف.(1/84)
وعن أبي أيوب قال: جاء رجل إلى النبي خ فقال: يا رسول الله.. عَلِّمني وأوجز! قال: "إذا قمتَ في صلاتِك فصَلِّ صلاةَ مُوَدِّع.." [رواه ابن ماجه، وحسنه الألباني] أي مودع لنفسه، مودع لهواه، مودع لعُمره، سائر إلى مولاه، كما قال تعالى: { يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ } [الانشقاق:6] وقال:
{ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلَاقُوهُ } [البقرة:223]
فالصلاة التي يريدها ا?سلام ليست مجرد أقوال يلوكها اللسان, وحركات تؤيدها الجوارح بلا تدبر من عقل, ولا خشوع من قلب. ليست تلك التي ينقرها صاحبها نقر الديكة, ويخطفها خطف الغراب, ويلتفت فيها التفات الثعلب.. كلا.. فالصلاة المقبولة هي التي تلأخذ حقها من التأمل والخشية واستحضار عظمة المعبود جل جلاله.
ذلك أن القصد الأول من الصلاة -بل من العبادات كافة- هو تذكير ا?نسان بربه الأعلى, الذي خلق فسوى, والذي قدر فهدى. قال تعالى: { وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي } [طه:14]
فالصلاة كلها ذكر لله تعالى، وقد شرعت لتمتلئ القلوب بالله، ولتكون مطمئنة لذكر الله تعالى. وذكر الله تعالى هو الذى ينقي القلوب من أدران الهوى. والقلوب التي تذكر الله تعالى لا يدخلها الشيطان، ولا يسكن الشيطان إلا القلوب الفارغة من ذكر الله تعالى.
والصلاة هي العبادة الدائمة التي لا تنحلّ عن المؤمن ما دام فيه نَفَس. فالزكاة مثلاً تسقط عن الفقير، والصيام يسقط عن المريض، والحج يسقط عن غير المستطيع، أما الصلاة فلا عذر أبدا يبيح تركها، فتصلي قائما أو قاعدا أو مضطجعا، فإنْ لم تستطع تصلي ولو إيماءً برأسك أو بجفونك، فإنْ لم تستطع فحَسْبُك أن تخطرها على قلبك ما دام لك وَعْي؛ فهي لا تسقط عنك بحال.
كذلك الصلاة عبادة مُتكرِّرة خمس مرات في اليوم والليلة؛ لتذكرك باستمرار إنْ أنستْك مشاغل الحياة رب هذه الحياة، وتعرض نفسك على ربك وخالقك خمس مرات كل يوم.(1/85)
(وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي) أي: لتذكرني؛ لأن دوام ورتابة النعمة قد تُنسيك المنعم، فحين تسمع نداء (الله أكبر)، وترى الناس تُهرَع إلى بيوت الله لا يشغلهم عنها شاغل؛ تتذكر إنْ كنتَ ناسيا، وينتبه قلبك إنْ كنتَ غافلاً.
وحظ كل واحد من صلاته بقدر خوفه وخشوعه وتعظيمه؛
فإن موقع نظر الله سبحانه القلوب.
فينبغي للمصلي إذا سمع نداء المؤذن أن يحضر في قلبه هول النداء يوم القيامة, ويشمر بظاهره وباطنه للإجابة والمسارعة؛ فإن المسارعين إلي هذا النداء هم الذين ينادون باللطف يوم اللعرض الأكبر. فأعرض قلبك على هذا النداء، فإن وجدته مملوءًا بالفرح والاستبشار، مشحونا بالرغبة إلى الابتداء؛ فاعلم أنه يأتيك النداء بالبشرى والفوز يوم القضاء. ولذلك كان خ يتلهف عليها قائلا لبلال: "أرحنا بها".. وما أعظم الفرق بين من يقوم إلى صلاته وهو يقول: أرحنا بها، وبين من يقوم إليها وهو يقول: أرحنا منها!
وأما ستر العورة فإن معناه تغطية مقابح البدن عن أبصار الخلق؛ فإن ظاهر البدن موقع لنظر الخلق، فما بالك في عورات الباطن وفضائح السرائر التي لا يطلع عليها إلا الرب عز وجل؟ فينبغي للمصلي أن يحضر تلك الفضائح بباله، ويطالب نفسه بسترها؛ فإنه لا يستر عن عين الله عز وجل ساتر. وإنما يغفرها الندم والحياء والخوف.. فيقوم بين يدي الله قيام العبد المسيء الآبق, الذي ندم فرجع إلى مولاه ناكسا رأسه من الحياء والخوف.
وأما استقبال القبلة فإن المصلي يصرف وجهه عن الجهات إلى جهة بيت الله تعالى, فصرف قلبه إلى الله تعالى أولى من ذلك, فكما أنه لا يتوجه إلى جهة البيت إلا بالانصراف عن غيرها، كذلك القلب لا ينصرف إلى الله تعالى إلا بالانصراف عما سواه.
وإذا كبرت أيها المصلي فلا يكذبن قلبُك لسانَك؛ لأنه إذا كان في قلبك شيء أكبر من الله تعالى فقد كذبت. فاحذر أن يكون الهوى عندك أكبر بدليل إيثارك موافقته علي طاعة الله تعالى.(1/86)
فإذا استعذت فاعلم أن الاستعاذة هي التجاء إلى الله سبحانه, فإذا لم تلجأ بقلبك كان كلامك لغوا. وتفهَّم معنى ما تتلو, وأحضر التفهم بقلبك عند قولك: (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ). فهو سبحانه المستحق لجميع المحامد. واستحضر لطفه عند قولك: (الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ). وعظمته عند قولك: (مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ). وكذلك في جميع ما تتلو.
واستشعر في ركوعك التواضع, وفي سجودك زيادة الذل, وتذكر عندهما كبرياء الله تعالى, وسبح ربك, واشهد له بالعظمة وأنه أعظم من كل عظيم. ثم أشعر قلبك الوجل والحياء من التقصير في الصلاة, وخف ألا تُقبل صلاتك، أو أن تكون ممقوتا بذنب ظاهر أو باطن؛ فتُرد صلاتك في وجهك, وترجو مع ذلك أن يقبلها الكريم بكرمه وفضله.
وباستحضار هذه المعاني وأمثالها يتحقق جلاء القلب من الصدأ,
ويتم حصول الأنوار فيه التي بها تتلمح عظمة المعبود.
وتتمثل هذه المعاني فيما روي عن حاتم الأصم وقد سئل: كيف تقيم صلاتك؟ فقال: أتوضأ فأسبغ الوضوء, ثم آتي موضع الصلاة بسكينة ووقار، فأكبر تكبيرا بتوقير, وأقرأ قراءة بترتيل, وأركع ركوعا بتخشع, وأسجد سجودا بتذلل, وأتمثل الجنة عن يميني والنار عن شمالي, والصراط تحت قدميّ, والكعبة بين حاجبيّ, وملَك الموت على رأسي, وذنوبي محيطة بي, وعين الله ناظرة إليّ, وأعتبرها آخر صلاة لي, وأُتبعها ا?خلاص ما استطعت، ثم أسلم وأنا لا أدري: أيقبلها الله مني أم يردها عليّ؟
وكان عامر بن عبد الله من خاشعي المصلين, فقيل له ذات يوم: هل تحدثك نفسك في الصلاة بشيء؟ قال: نعم.. بوقوفي بين يدي الله عز وجل, ومنصرفي إلى إحدى الدارين. قيل: فهل تجد شيئا مما نجد من أمور الدنيا؟ قال: لأن تختلف الأسنة فيّ أحب إليّ من أن أجد في صلاتي ما تجدون.(1/87)
وكان مسلم بن يسار لا يلتفت في صلاته، ولقد انهدمت ناحية من المسجد ففزع لها أهل السوق فما التفت. وكان إذا دخل منزله سكت أهل بيته, فإذا قام يصلي تكلموا أو ضحكوا علما منهم بأن قلبه مشغول عنهم. وكان يقول: إلهي! متى ألقاك وأنت عني راضٍ..؟
قال حاتم الأصم: فاتتني صلاة الجمعة مرة فعزاني أبو إسحاق البخاري وحده, ولو مات لي ولد لعزاني أكثر من عشرة آلاف؛ لأن مصيبة الدين عندهم أهون من مصيبة الدنيا.
وقيل عن محمد بن نصر المروزي: ما رأيت أحسن صلاة منه، وبلغني أن زنبورًا قعد على جبهته فسال الدم على وجهه ولم يتحرك! ولقد كنا نتعجب من حسن صلاته وخشوعه وهيئته للصلاة.. كان يضع ذقنه على صدره فينتصب كأنه خشبة منصوبة.
وقال سفيان الثوري: لو رأيتَ منصور بن المعتمر يصلي لقلتَ: يموت الساعة! وقال أبو بكر بن عياش: رأيتُ حبيب ابن أبي ثابت يصلي وكأنه ميت! -يعني من خوفه وخشوعه- لأن القوم قد ملأ الخشوع قلوبهم فسكنت جوارحهم.
وقال جندب بن عبد الله ت: إذا وقفتم بين يدي ربكم للصلاة فاجعلوا الجنة والنار بين أيديكم، والميزان والصراط حولكم كأنكم تقولون: { رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا إِنَّا مُوقِنُونَ } [السجدة:12]
فلله درهم.. عرفوا طريق النجاة؛ فوقفوا على قدم الأدب في المناجاة
فنال كل منهم ما رجاه, فلهم عند ربهم أعظم قدر وجاه.
وقد نهي رسول الله خ عن الالتفات في الصلاة قائلا: "فإذا صليتم فلا تلتفتوا؛ فإن الله ينصب وجهه لوجه عبده في صلاته ما لم يلتفت". [رواه أحمد والترمذي، وصححه الألباني]
والالتفات المنهي عنه في الصلاة قسمان: أحدهما: التفات القلب عن الله عز وجل إلى غير الله تعالي. والثاني: التفات البصر. وكلاهما منهي عنه.(1/88)
ولا يزال الله مقبلا علي عبده مادام العبد مقبلا علي صلاته, فإذا التفت بقلبه أو بصره أعرض الله تعالي عنه. وقد سئل رسول الله عن التفات الرجل في صلاته فقال: "هو اختلاس يختلسه الشيطان من صلاة العبد" [رواه البخاري]
ومثل مَن يلتفت في صلاته ببصره أو بقلبه، كمثل رجل قد استدعاه السلطان, فأوقفه بين يديه, وأقبل يناديه ويخاطبه, وهو في خلال ذلك يلتفت عن السلطان يمينا وشمالا؛ وقد انصرف قلبه عن السلطان؛ فلا يفهم ما يخاطبه به؛ لأن قلبه ليس حاضرا معه. فما ظن هذا الرجل أن يفعل به السلطان؟ أفليس أقل المراتب في حقه أن ينصرف من بين يديه ممقوتا مبعدا قد سقط من عينيه؟
فهذا المصلي لا يستوي والحاضر القلب المقبل على الله تعالى في صلاته؛ الذي قد أشعر قلبه عظمة من هو واقف بين يديه. وبين صلاتيهما كما قال حسان بن عطية: إن الرجلين ليكونان في الصلاة الواحدة, وإن ما بينهما في الفضل كما بين السماء والأرض. ذلك أن أحدهما مقبل بقلبه على الله عز وجل, والآخر ساهٍ غافل.
فإذا أقبل العبد على مخلوق مثله وبينه حجاب لم يكن إقبالاً ولا تقريبًا؛ فما الظن بالخالق عز وجل؟ وإذا أقبل على الخالق عز وجل وبينه وبينه حجاب الشهوات والوساوس، والنفس مشغوفة بها، ملأى منها؛ فكيف يكون ذلك إقبالاً وقد ألهته الوساوس والأفكار، وذهبت به كل مذهب؟(1/89)
والعبد إذا قام في الصلاة غار الشيطان منه؛ فإنه قد قام في أعظم مقام وأقربه، وأغيظه للشيطان، وأشده عليه. فهو يحرص ويجتهد أن لا يقيمه فيه، بل لايزال به يعده ويمنيه وينسيه، ويجلب عليه بخيله ورَجِله حتى يُهوِّن عليه شأن الصلاة، فيتهاون بها فيتركها. فإن عجز عن ذلك منه، وعصاه العبد، وقام في ذلك المقام أقبل عدو الله تعالى حتى يخطر بينه وبين نفسه، ويحول بينه وبين قلبه؛ فيُذكِّره في الصلاة مالم يذكر قبل دخوله فيها، حتى ربما كان قد نسي الحاجة وأيس منها، فيُذَكِّره إياها في الصلاة ليشغل قلبه بها، ويأخذه عن الله عز وجل؛ فيقوم فيها بلا قلب؛ فلا ينال من إقبال الله تعالى وكرامته وقربه ما يناله المقبل على ربه عز وجل الحاضر بقلبه في صلاته. فينصرف من صلاته مثل ما دخل فيها بخطاياه وذنوبه وأثقاله؛ لم تَخِفّ عنه بالصلاة.
فإن الصلاة إنما تكفر سيئات مَن أدى حقها، وأكمل خشوعها، ووقف بين يدي الله تعالى بقلبه وقالبه. فهذا إذا انصرف منها وجد خفة مِن نفسه، وأحسَّ بأثقال قد وُضعَت عنه؛ فوجد نشاطًا وراحة وروحًا حتى يتمنى أنه لم يكن خرج منها؛ لأنها قرة عينه، ونعيم روحه، وجنة قلبه، ومستراحه في الدنيا.. فلا يزال كأنه في سجن وضيق حتى يدخل فيها؛ فيستريح بها لا منها.. فالمحبون يقولون: نصلي فنستريح بصلاتنا، كما قال إمامهم وقدوتهم ونبيهم - صلى الله عليه وسلم - : "يا بلال! أرحنا بالصلاة". وقال - صلى الله عليه وسلم - : "جعلت قرة عيني في الصلاة". فمَن جُعلَت قرة عينه في الصلاة كيف تقر عينه بدونها؟ وكيف يطيق الصبر عنها؟
جاء مملوك إلي سيده فقال: ضاعت مخلاة الفرس. فقام السيد يصلي, فلما
فرغ من الصلاة قال: هي في موضع كذا. فقال الغلام: يا سيدي..
أعد الصلاة؛ فإنك كنت تفتش عن المخلاة..!
فيا غائب القلب في صلاته, يا شتيت الهم في جهاته, يا مشغولا بآفاته
عن ذكر وفاته, يا قليل الزاد مع قرب مماته..(1/90)
يا من يرحل عن الدنيا في كل لحظة مرحلة.. وكتابه قد حوى حتى مقدار خردلة.. وما ينتفع بنذير والنُّذُر متصلة.. نور الهدى قد يُرى وما رآه
ولا تأمله.. ويُحضر بدنه في الصلاة أما القلب فأهمله.. كن
كيف شئت فبين يديك الحساب والزلزلة..
بادر ما بقي من العمر واستدرك أوله.. (1)
} - {
إن قرآن الفجر كان مشهودا:
قال تعالى: { وَالْفَجْرِ . وَلَيَالٍ عَشْرٍ } [الفجر:1-2]
قال العلامة السعدي في تفسيره: [الظاهر أن المقسَم عليه هو المقسَم به، وذلك جائز مستعمل إذا كان أمرًا ظاهرًا مهمًّا، وهو كذلك في هذا الموضع. فأقسم تعالى بالفجر الذي هو آخر الليل، ومقدمة النهار؛ لما في إدبار الليل وإقبال النهار مِن الآيات الدالة على كمال قدرة الله تعالى، وأنه تعالى هو المدبر لجميع الأمور، الذي لا تنبغي العبادة إلا له. ويقع في الفجر صلاة فاضلة معظمة، يحسن أن يقسم الله بها. ولهذا أقسم بعده بالليالي العشر، وهي على الصحيح: ليالي عشر رمضان، أو عشر ذي الحجة؛ فإنها ليالٍ مشتملة على أيام فاضلة، ويقع فيها من العبادات والقربات ما لا يقع في غيرها. وفي ليالي عشر رمضان ليلة القدر، التي هي خير من ألف شهر، وفي نهارها صيام آخر رمضان الذي هو أحد أركان الإسلام العظام. وفي أيام عشر ذي الحجة الوقوف بعرفة، الذي يغفر الله فيه لعباده مغفرة يحزن لها الشيطان؛ فإنه ما رئي الشيطان أحقر ولا أدحر منه في يوم عرفة، لما يرى من تنزل الأملاك والرحمة من الله على عباده. ويقع فيها كثير من أفعال الحج والعمرة. وهذه
أشياء معظمة، مُستحِقَّة أنْ يُقسِم الله بها .] ا.هـ
وقال تعالى: { أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآَنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآَنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا } [الإسراء:78]
__________
(1) العبادة في الإسلام - تفسير الشعراوي – زهرة التفاسير – مختصر منهاج القاصدين – الوابل الصيب – التذكرة لابن الجوزي.(1/91)
أضاف الله تبارك وتعالى [(القرآن) إلى (الفجر)، والتقدير: أقم قرآن الفجر، فوجب أن تتعلق القراءة بحصول الفجر، وفي أول طلوع الصبح قد حصل الفجر؛ لأن الفجر سُمي فجرًا لانفجار ظلمة الليل عن نور الصباح.
وقد بين الفقهاء أن السُّنة أن تكون القراءة في هذه الصلاة أطول من القراءة في سائر الصلوات، فالمقصود من قوله: (وقرآن الفجر) الحث على تطويل القراءة في هذه الصلاة؛ لأن التخصيص بالذكر يدل على كونه أكمل من غيره.
وقد وصف قرآن الفجر بكونه مشهودًا. قال الجمهور: معناه أن ملائكة الليل وملائكة النهار يجتمعون في صلاة الصبح خلف الإمام؛ تنزل ملائكة النهار عليهم وهم في صلاة الغداة، وقبل أن تعرج ملائكة الليل، فإذا فرغ الإمام من صلاته عرجت ملائكة الليل، ومكثت ملائكة النهار، ثم إن ملائكة الليل إذا صعدت قالت: يا رب.. إنا تركنا عبادك يصلون لك، وتقول ملائكة النهار: ربنا.. أتينا عبادك وهم يصلون. فيقول الله تعالى للملائكة: اشهدوا أني قد غفرت لهم.
وأقول: هذا أيضًا دليل قوي في أن التغليس أفضل من التنوير؛ لأن الإنسان إذا شرع فيها من أول الصبح ففي ذلك الوقت الظلمة باقية، فتكون ملائكة الليل حاضرين، ثم إذا امتدت الصلاة بسبب ترتيل القراءة وتكثيرها زالت الظلمة وظهر الضوء وحضرت ملائكة النهار؛ فبهذا الطريق تحضر في هذه الصلاة ملائكة الليل وملائكة النهار. أما إذا ابتدأ بهذه الصلاة في وقت التنوير؛ فهناك ما بقيت الظلمة، فلم يبق في ذلك الوقت أحد من ملائكة الليل؛ فلا يحصل المعنى المذكور. فثبت أن قوله تعالى: (إنه كان مَشهودًا) دليل قوي على أن التغليس أفضل.(1/92)
وعندي في تفسير قوله تعالى: (إنه كان مَشهُودًا) احتمال آخر؛ وذلك لأنه كلما كانت الحوادث الحادثة أعظم وأكمل كان الاستدلال بها على كمال قدرة الله تعالى أكمل. فالإنسان إذا شرع في أداء صلاة الصبح من أول هذا الوقت كانت الظلمة القوية باقية في العالم، فإذا امتدت القراءة في أثناء هذا الوقت ينقلب العالم من الظلمة إلى الضوء، والظلمة مناسبة للموت والعدم، والضوء مناسب للحياة والوجود. وعلى هذا التقدير فالإنسان لما قام من منامه فكأنه انتقل من الموت إلى الحياة، ومن العدم إلى الوجود. ثم إنه مع ذلك يشاهد في أثناء صلاته انقلاب كلية هذا العالم من الظلمة إلى الضوء، ومن الموت إلى الحياة، ومن السكون إلى الحركة، ومن العدم إلى الوجود.
وهذه الحالة حالة عجيبة تشهد العقول والأرواح بأنه لا يقدر على هذا التقليب والتحويل والتبديل إلا الخالق المدبر بالحكمة البالغة والقوة الغير المتناهية وحينئذ يستنير العقل بنور هذه المعرفة، وينفتح على العقل والروح أبواب المكاشفات الروحانية الإلهية؛ فتصير الصلاة التي هي عبارة عن أعمال الجوارح مشهودًا عليها بهذه المكاشفات الإلهية المقدسة، ولذلك فكل مَن له ذوق سليم وطبع مستقيم إذا قام من منامه وأدى صلاة الصبح في أول الوقت، واعتبر اختلاف أحوال العالم من الظلمة الحاصلة إلى النور، ومن السكون إلى الحركة؛ فإنه يجد في قلبه روحًا وراحة ومزيدًا في نور المعرفة وقوة اليقين؛ فهذا هو المراد من قوله: (إن قرآن الفجر كان مشهودًا) وظهر أن هذا الاعتبار لا يحصل إلا عند أداء صلاة الفجر على سبيل التغليس فهذا ما خطر بالبال، والله أعلم بمراده.
وفي الآية احتمال ثالث، وهو أن يكون المراد من قوله: (إن قرآن الفجر كان مشهودًا) الترغيب في أن تُؤدَّى هذه الصلاة بالجماعة، ويكون المعنى كونه مشهودًا بالجماعة الكثيرة.(1/93)
ومزيد التحقيق فيه أنا بينا أن تأثير هذه الصلاة في تصفية القلب وفي تنويره أكثر من تأثير سائر الصلوات، فإذا حضر جمع من المسلمين في المسجد لأداء هذه العبادة استنار قلب كل واحد منهم بسبب ذلك الاجتماع؛ كأنه ينعكس نور معرفة الله تعالى ونور طاعته في ذلك الوقت من قلب كل واحد إلى قلب الآخر فتصير أرواحهم كالمرايا المشرقة المتقابلة إذا وقعت عليها أنوار الشمس؛ فإنه ينعكس النور من كل واحدة من تلك المرايا إلى الأخرى؛ فكذا في هذه الصورة ولهذا السبب فإن كل مَن له ذوق سليم، وأدى هذه الصلاة في هذا الوقت بالجماعة وجد من قلبه فسحة ونورًا وراحة.
ويحتمل أن يكون السبب في كونه مشهودًا هو أن الإنسان لما نام طول الليل فصار كالغافل في هذه المدة عن مراقبة أحوال الدنيا؛ فزالت صورة الحوادث الجسمانية عن لوح خياله وفكره وعقله، وصارت هذه الألواح كألواح سُطرت فيها نقوش فاسدة، ثم غُسلت وأُزيلت تلك النقوش عنها، ففي أول وقت القيام من المنام صارت ألواح عقله وفكره وخياله مطهرة عن النقوش الفاسدة الباطلة. فإذا تسارع الإنسان في ذلك الوقت إلى عبادة الله تعالى، وقراءة الكلمات الدالة على تنزيهه، والإقدام على الأفعال الدالة على تعظيم الله تعالى؛ انتقش في لوح عقله وفكره وخياله هذه النقوش الطاهرة المقدسة. ثم إن حصول هذه النقوش يمنع من استحكام النقوش الفاسدة؛ وهي النقوش المتولدة من الميل إلى الدنيا وشهواتها. فبهذا الطريق يترشح الميل إلى معرفة الله تعالى ومحبته وطاعته، ويضعف الميل إلى الدنيا وشهواتها.
إذا عرفت هذا فنقول: هذه الحكمة إنما تحصل إذا شرع الإنسان في الصلاة من أول قيامه من النوم عند التغليس. وذلك يدل على المقصود.(1/94)
واعلم أن أكثر الخلق وقعوا في أمراض القلوب؛ وهي حب الدنيا والحرص والحسد، والتفاخر والتكاثر.. وهذه الدنيا مثل دار المرضى إذا كانت مملوءة من المرضى، والأنبياء كالأطباء الحاذقين، والمريض ربما قد قوي مرضه فلا يعود إلى الصحة إلا بمعالجات قوية، وربما كان المريض جاهلاً فلا ينقاد للطبيب ويخالفه في أكثر الأمر، إلا أن الطبيب إذا كان مشفقًا حاذقًا؛ فإنه يسعى في إزالة ذلك المرض بكل طريق يقدر عليه، فإن لم يقدر على إزالته فإنه يسعى في تقليله وتخفيفه.
إذا عرفت هذا فنقول: مرض حب الدنيا مستولٍ على الخلق ولا علاج له إلا بالدعوة إلى معرفة الله تعالى وخدمته وطاعته؛ وهذا علاج شاق على النفوس، وقَلَّ مَن يَقْبَله وينقاد له. ولا جرم أن الأنبياء اجتهدوا في تقليل هذا المرض، وحمل الخلق على الشروع في الطاعة والعبودية من أول وقت القيام من النوم؛ مما ينفع في إزالة هذا المرض من الوجه الذي قررناه، فوجب أن يكون مشروعًا، والله أعلم بأسرار كلامه.] [مفاتيح الغيب للرازي]
وقد خص الله عز وجل المؤمنين الذين يحرصون على
صلاة الفجر بجملة من المنح والعطايا؛ منها:
( صلاة الفجر وقاية من النار.. عن زهير بن عمارة بن رويبة ت قال: سمعت رسول الله خ يقول: "لن يَلِجَ النارَ أحدٌ صلَّى قبلَ طلوعِ الشمسِ وقبلَ غروبِها". يعني الفجر والعصر [رواه مسلم] فمن حافظ على صلاتي الفجر والعصر لن يدخل النار ببركة المداومة عليهما.
( صلاة الفجر تفتح أبواب الجنات.. عن أبي موسى ت أن رسول الله خ قال: "مَن صلَّى البَرْدَينِ دخلَ الجنةَ". [متفق عليه] البردان الصبح والعصر.
قال ابن حجر في "فتح الباري": [قوله: (مَن صلى البَردين) بفتح الباء وسكون الراء تثنية "برد"، والمراد صلاة الفجر والعصر. وسميتا "بردين" لأنهما تصليان في بردي النهار وهما طرفاه، حين يطيب الهواء، وتذهب سَوْرَة الحر.(1/95)
و(مَن) في الحديث شرطية،.وقوله: (دخل) جواب الشرط، وعدل عن الأصل وهو فعل المضارع كأن يقول: (يدخل الجنة) إرادة للتأكيد في وقوعه بجعل ما سيقع كالواقع.] ا.هـ
( صلاة الفجر حماية ربانية.. عن جندب بن سفيان ت قال: قال رسول الله خ: "مَن صلَّى الصبحَ فهو في ذمةِ اللهِ، فانظرْ يا ابنَ آدمَ لا يطلبنَّكَ اللهُ مِن ذمتِهِ بشيءٍ". [رواه مسلم]
[إنها حصانة إلهية، وحماية ربانية تكون بها -إذا صليت الفجر- في ذمة الله أي في حفظه، يصرف عنك الشرور، ويبعد عنك الأذى، ويسلمك من مهاوي الردى.. إنه حفظ عظيم فريد، وإنه لشرف كبير أن تكون أيها العبد الضعيف في حماية الملك العظيم رب الأرباب، وملك الملوك، وجبار السماوات والأرض سبحانه وتعالى.
إن الله يدافع عنك، ويُحَذِّر مَن يتعرض لك بالأذى؛ فأنت في ذمة الله، أي في أمان الله وفي جواره؛ فمَن صلى الفجر فقد استجار بالله تعالى، والله تعالى قد أجاره، فلا ينبغي لأحد أن يتعرض له بضر أو أذى، فمَن فعل ذلك فالله يطلب بحقه، ومَن يطلبه لم يجد له مفرًّا ولا ملجأ، وهذا وعيد شديد لمن يتعرض للمصلين.
ومن جهة أخرى: في الحديث تنبيه مهم لا بد من العناية به والانتباه له؛ فإن صلاة الفجر هي سبب ذلك الأمان والجوار؛ فإنْ تركتها لم يكن أمان ولا جوار؛ والمعنى الضمني في الحديث: لا تتركوا صلاة الصبح فينتقض العهد الذي بينكم وبين الله عز وجل.] (1)
( صلاة الفجر شهادة الملائكة لك بالعبودية.. عن أبي هريرة ت قال: قال رسول الله خ: "يتعاقبونَ فيكم ملائكةٌ بالليلِ وملائكةٌ بالنهارِ، ويجتمعونَ في صلاةِ الصبحِ وصلاةِ العصرِ، ثم يَعرُجُ الذينَ باتوا فيكم فيسألُهم اللهُ وهوَ أعلمُ بهم: كيفَ تركتُم عبادي؟ فيقولونَ: تركناهم وهم يُصلُّون، وأتيناهم وهم يُصلُّون". [متفق عليه]
__________
(1) د. علي بن عمر بادحدح في كتابه القيِّم: "الغنائم.. أيها النائم" / موقع "إسلاميات".(1/96)
قال الألوسي في تفسيره: ولا يخفى ما في هذه الجملة من الترغيب والحث على الاعتناء بأمر صلاة الفجر؛ لأن العبد في ذلك الوقت يُشَيِّع كرامًا، ويتلقى كرامًا، فينبغي أن يكون على أحسن حال يتحدث به الراحل، ويرتاح إليه النازل. ا.هـ
وقال ابن حجر في "فتح الباري": [قوله: (يتعاقبون) أي تأتي طائفة عقب طائفة، ثم تعود الأولى عقب الثانية.
قال ابن عبد البر: وإنما يكون التعاقب بين طائفتين أو رَجُلَين بأنْ يأتي هذا مرة ويعقبه هذا، ومنه تعقيب الجيوش أن يجهز الأمير بعثًا إلى مدة، ثم يأذن لهم في الرجوع بعد أن يجهز غيرهم إلى مدة، ثم يأذن لهم في الرجوع بعد أن يجهز الأولين.
قوله: (فيكم) أي المصلين أو مطلق المؤمنين.
قوله: (ملائكة) قيل: هم الحفظة. وقال القرطبي: الأظهر عندي أنهم غيرهم، ويقويه أنه لم يُنقَل أن الحفظة يفارقون العبد، ولا أن حفظة الليل غير حفظة النهار، وبأنهم لو كانوا هم الحفظة لم يقع الاكتفاء في السؤال منهم عن حالة الترك دون غيرها في قوله: (كيف تركتم عبادي؟).
قوله: (ثم يعرجُ الذينَ باتوا فيكم فيسألُهم..) قيل: يحتمل أن يكون العروج إنما يقع عند صلاة الفجر خاصة، وأما النزول فيقع في الصلاتين معا، وفيه التعاقب، وصورته أن تنزل طائفة عند العصر وتبيت، ثم تنزل طائفة ثانية عند الفجر، فيجتمع الطائفتان في صلاة الفجر، ثم يعرج الذين باتوا فقط ويستمر الذين نزلوا وقت الفجر إلى العصر فتنزل الطائفة الأخرى، وحصل اجتماعهم عند العصر أيضًا، ولا يصعد منهم أحد، بل تبيت الطائفتان أيضًا، ثم تعرج إحدى الطائفتين، ويستمر ذلك فتصح صورة التعاقب مع اختصاص النزول بالعصر والعروج بالفجر، فلهذا
خص السؤال بالذين باتوا، والله أعلم.(1/97)
قوله: (فيسألهم) قيل: الحكمة فيه استدعاء شهادتهم لبني آدم بالخير، واستنطاقهم بما يقتضي التعطف عليهم، وذلك لإظهار الحكمة في خلق نوع الإنسان في مقابلة مَن قال مِن الملائكة: { أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ } [البقرة:30] أي وقد وُجد فيهم مَن يُسَبِّح ويُقَدِّس مثلكم بنص شهادتكم.
وقال عياض: هذا السؤال على سبيل التعبد للملائكة كما أمروا أن يكتبوا أعمال بني آدم، وهو سبحانه وتعالى أعلم من الجميع بالجميع.
قوله: (كيف تركتم عبادي؟) قال ابن أبي جمرة:.وقع السؤال عن آخر الأعمال لأن الأعمال بخواتيمها. قال: والعباد المسئول عنهم هم المذكورون في قوله
تعالى: { إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ } [الحجر:42]
قوله: (تركناهم وهم يصلون وأتيناهم وهم يصلون) قال ابن أبي جمرة: أجابت الملائكة بأكثر مما سئلوا عنه؛ لأنهم علموا أنه سؤال يستدعى التعطف على بني آدم فزادوا في موجب ذلك.
ويستفاد منه أن الصلاة أعلى العبادات؛ لأنه عنها وقع السؤال والجواب، وفيه الإشارة إلى عظم هاتين الصلاتين لكونهما تجتمع فيهما الطائفتان وفي غيرهما طائفة واحدة، والإشارة إلى شرف الوقتين المذكورين، وقد ورد أن الرزق يقسم بعد صلاة الصبح، وأن الأعمال ترفع آخر النهار، فمن كان حينئذ في طاعة بورك في رزقه وفي عمله، والله أعلم.
ويترتب عليه حكمة الأمر بالمحافظة عليهما والاهتمام بهما، وفيه تشريف هذه الأمة على غيرها، ويستلزم تشريف نبيها على غيره. وفيه الإخبار بالغيوب، ويترتب عليه زيادة الإيمان. وفيه الإخبار بما نحن فيه من ضبط أحوالنا حتى نتيقظ ونتحفظ في الأوامر والنواهي ونفرح في هذه الأوقات بقدوم رسل ربنا وسؤال ربنا عنا. وفيه إعلامنا بحب ملائكة الله لنا لنزداد فيهم حبًّا ونتقرب إلى الله بذلك.(1/98)
وفيه كلام الله تعالى مع ملائكته. وغير ذلك من الفوائد والله أعلم.] ا.هـ (بتصرف)
( صلاة الفجر تبلغك الغاية برؤية الله عز وجل.. عن جرير بن عبد الله البجلي ت قال: كنا عند النبي خ فنظر إلى القمر ليلة البدر، فقال: "إنكم سترونَ ربَّكم كما ترونَ هذا القمرَ لا تُضامونَ في رؤيتِهِ، فإنِ استطعتُمْ أنْ لا تُغلَبوا على صلاةٍ قبلَ طلوعِ الشمسِ وقبلَ غروبِها فافعلوا". [متفق عليه]
قال ابن حجر في "فتح الباري": [قوله (لا تُضامون) بضم أوله مخففًا، أي لا يحصل لكم ضيم حينئذ، ورُويَ بفتح أوله والتشديد من الضم (تَضامُّون)، والمراد نفي الازدحام.
قوله: (فإن استطعتم أن لا تغلبوا) فيه إشارة إلى قطع أسباب الغلبة المنافية للاستطاعة كالنوم والشغل ومقاومة ذلك بالاستعداد له.
وقوله: (فافعلوا) أي عدم الغلبة، وهو كناية عما ذكر من الاستعداد.
وقال ابن بطال: قال المهلب: قوله: (فإن استطعتم أن لا تغلبوا عن صلاة) أي في الجماعة.
قال: وخص هذين الوقتين لاجتماع الملائكة فيهما، ورفعهم أعمال العباد لئلا يفوتهم هذا الفضل العظيم.
قوله: (فافعلوا) قال الخطابي: هذا يدل على أن الرؤية قد يُرجَى نيلها بالمحافظة على هاتين الصلاتين.
قال العلماء: ووجه مناسبة ذكر هاتين الصلاتين عند ذكر الرؤية أن الصلاة أفضل الطاعات، وقد ثبت لهاتين الصلاتين من الفضل على غيرهما ما ذكر من اجتماع الملائكة فيهما ورفع الأعمال وغير ذلك، فهما أفضل الصلوات، فناسب أن يُجازَى المحافظ عليهما بأفضل العطايا؛ وهو النظر إلى الله تعالى.] ا.هـ (باختصار)(1/99)
( صلاة الفجر في جماعة تعدل قيام نصف الليل.. عن عثمان بن عفان ت قال: سمعت رسول الله خ يقول: "مَن صلَّى العشاءَ في جماعةٍ فكأنما قامَ نصفَ الليلِ، ومَن صلَّى الصبحَ في جماعةٍ فكأنما صلَّى الليلَ كلَّه". [رواه مسلم] وفي رواية الترمذي عن عثمان بن عفان ت قال: قال رسول الله خ: "مَن شهدَ العشاءَ في جماعةٍ كان له قيامُ نصفِ ليلةٍ، ومَن صلَّى العشاءَ والفجرَ في جماعةٍ كان له كقيامِ ليلةٍ". [قال الترمذي: حديث حسن صحيح]
( صلاة الفجر في المسجد تمنحك النور التام يوم القيامة.. عن سهل بن سعد الساعدي ت قال: قال رسول الله خ: "بَشِّرِ المشَّائينَ في الظُّلَمِ إلى المساجدِ بالنورِ التامِّ يومَ القيامةِ". [رواه ابن ماجه، وابن خزيمة في صحيحه، والحاكم واللفظ له، وقال الألباني: صحيح لغيره]
فـ[الجزاء من جنس العمل، والحق جل وعلا يقول: { هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ } [الرحمن:60]، وأنت عندما خرجت لصلاة الفجر، والظلام مازال يلف الكون، والدنيا مازالت في الغَلَس؛ فإن جزاءك ومكافأتك نور تام يوم القيامة؛ لأنك خرجت لطاعة ربك، وأقبلت على مولاك، وطلبت النور لقلبك وروحك.
تأمل معي لفظ الحديث: "بشر المشائين.." أي مَن تكرر منه المشي إلى إقامة الجماعة، "في الظُّلَم.." أي ظلمة الليل، والبشرى هي "النور التام يوم القيامة"؛ لأنهم لما قاسوا مشقة ملازمة المشي في ظلمة الليل إلى الطاعة جوزوا بنور يضيء لهم يوم القيامة، وهو النور المضمون لكل مشَّاء إلى الجماعة في الظُّلَم.
ولماذا وصف النور بالتام؟ الجواب: أن أصل النور يُعطَى لكل مَن تلفظ بالشهادتين مِن مؤمن أو منافق لظاهر حرمة الكلمة، ثم يُقطَع نور المنافقين.
الله أكبر..متى يأتيك النور؟ إنه يقدم لك في موقف عصيب، وهول رهيب، إنه يسطع بين يديك في وقت أحوج ما تكون إليه يوم القيامة.] [الغنائم أيها النائم](1/100)
وعن أبي موسى ت قال: قال النبي خ: "أعظمُ الناسِ أجرًا في الصلاةِ أبعدُهم فأبعدُهم مَمشَى، والذي ينتظرُ الصلاةَ حتى يُصليها مع الإمامِ أعظمُ أجرًا مِنَ الذي يُصلي ثم ينامُ".
وقد دل على أن السبب في زيادة الأجر وجود المشقة بالمشي إلى الصلاة، وإذا كان كذلك فالمشي إلى صلاة الفجر في جماعة أشق من غيرها، لأنها وإن شاركتها العشاء في المشي في الظلمة فإنها تزيد عليها بمفارقة النوم المشتهى طبعًا.
( صلاة ركعتين قبل الفجر خير من الدنيا.. عن عائشة ل عن النبي خ قال: "ركعتا الفجرِ خيرٌ مِنَ الدنيا وما فيها". [رواه مسلم] وفي وراية: "لهما أحبُّ إليَّ مِنَ الدنيا جميعًا".
وعنها ل قالت: "لم يكن النبي خ على شيء من النوافل أشد تعاهدًا منه على ركعتي الفجر". [متفق عليه]
وذكر ابن حجر في "فتح الباري": [لم يُحفَظ عنه خ أنه صلى سُنَّة الصلاة قبلها ولا بعدها في السفر إلا ما كان مِن سُنَّة الفجر.]
ولهذا كان خ إذا فات موعدها قبل الصلاة صلاها بعد صلاة الصبح.. وكل هذا التعظيم لهذه النافلة يعطيك التفخيم والتعظيم للفرض (وهو صلاة الفجر)؛ فإذا كانت النافلة خيرٌ من الدنيا وما فيها فما تقول في الفرض؟
[خير بلا حد، وفضل بلا سد، وحسنات بلا عد، عطاء يفوق الوصف، وهبات تزيد على الضعف، لا تقل: إنها مبالغات؛ كلا..! فهذا جُود رَبِّ الأرض والسماوات، إنه الذي لا تنفذ خزائنه، ولا ينقص ملكه؛ وإنْ أعطى كل سائل
مسألته { وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا } .[المائدة: 18]] [الغنائم أيها النائم]
( صلاة الفجر في جماعة أمان من النفاق.. عن أبي هريرة ت قال: قال رسول الله خ: "ليس صلاةٌ أثقلَ على المنافقينَ مِن صلاةِ الفجرِ والعشاءِ، ولو يعلمون ما فيهِما لأَتَوْهُما ولو حَبْوًا". [متفق عليه](1/101)
( بصلاة الفجر تُكتَب مِن الأبرار ومِن وفد الرحمن.. عن أبي أُمامة ت أن النبي خ قال: "مَن توضأَ في بيتِهِ ثم أتى المسجدَ فصلَّى ركعتينِ قبلَ الفجرِ، ثم جلسَ حتى يصليَ الفجرَ، ثم خرجَ مِنَ المسجدِ كُتبَتْ صلاتُهُ يومئذٍ في صلاةِ الأبرارِ وكُتبَ في وفدِ الرحمنِ". [أخرجه الطبراني بسندٍ حسن، وحسنه الألباني]
فيا عبد الله.. [أفبعد كل هذا هل ترضى أن تكون من الغافلين؟ وهل تحب أن تكون من المحرومين؟ ألا ترى آثار ترك صلاة الفجر وتأخيرها؟ ألا تراها في محق البركة وخبث النفس وثقل البدن؟ ألا تشعر بجفاف الروح وقسوة القلب؟ أين أنت من نداء الأذان يشق صمت الليل بكلمة التوحيد والدعوة للفلاح؟ وأين أنت من قرآن الفجر يصب في سمع الزمان آيات الله في كل مكان؟ وأين أنت من أفواج الملائكة بالآلاف المؤلفة وهي نازلة صاعدة؟ ألا يوقظك كل هذا ويحرك مشاعرك؟ ألا يهيجك لتترك مضجعك، وتفارق مرقدك، وتهب إلى الصلاة، وتبادر إلى الفلاح؛ لتكتب في الذاكرين، وتكون من العابدين، وتنال البشريات وتحظى بالأعطيات؟
إنني أدعوك إلى الخير الذي تحبه، والأجر الذي تنشده؛ فلا تكن مِن الغافلين النائمين.. ويحك أيها النائم! إن جوائز الدنيا، وأعطيات أهلها رغم أنها لا تعدل شيئًا مقارنة بما مَرَّ بك مِن غنائم الفجر؛ فإنها مع ذلك لا تكون إلا نادرًا، ولا تتكرر إلا الفترة والفترة.. ومع ذلك؛ فإنني أعلم أنك تستعد لها في كل مرة، وتفرغ لها نفسك، وتبذل لأجلها جهدك.. ألست إذا كان عندك مهمة في العمل لها أثرها في مرتبك ومرتبتك سهرت لأجلها الليل الطويل؟ أو ذهبت إليها في منتصف الليل أو آخره؟ وذلك لكي تنال منفعة عارضة لمرة واحدة.. فما بالك تترك المنافع العظيمة مع كل انبثاق فجر باستمرار لا انقطاع معه، وكرم وعطاء لا يتبدل ولا يتغير؟!] [الغنائم أيها النائم]
أما الفوائد الصحية التى يجنيها الإنسان
بيقظة الفجر فهي كثيرة، منها:(1/102)
- تكون أعلى نسبة لغاز الأوزون في الجو عند الفجر، وتقل تدريجيًّا حتى تضمحل عند طلوع الشمس، ولهذا الغاز تأثير مفيد للجهاز العصبي، ومنشط للعمل الفكري والعضلى.
- نسبة الأشعة فوق البنفسجية تكون أعلى ما يمكن عند الفجر، وهذه الأشعة تحرض الجلد على صنع فيتامين (د)، كما أن للون الأحمر تأثيرًا باعثًا على اليقظة.
- نسبة "الكورتيزون" تكون في الدم أعلى ما يمكن وقت الصباح وأقل ما يمكن وقت المساء.
اللهُ أكبرُ.. وانتهَى نَصَبِي وزالت شِقوَتي
اللهُ أكبرُ.. وارتَمَى قلبِي ببابِ الرّحمَةِ
حَلَّقتُ في أفُقِ الخُشُوعِ وقَد شرَقتُ بدمعَتِي
ونَفَضتُ عَن قلبِي جِبَالاً مِن ذنوبِ الغَفلةِ
وتركتُ أوصالي يجُول بِهَا ارتِعَادُ الخَشيَةِ
فوَجَدتُ في المِحراب أُنسِي بَعد طُول الوَحشةِ
قال تعالى: { إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئَاتِكُمْ } [البقرة:271] ، فدل علي أن البذل الواسع عن إخلاص ورحمة يغسل الذنوب ويمحو الخطايا.
الصدقة تطفئ الخطيئة:
خرج الإمام أحمد والترمذي من حديث كعب بن عجرة ت عن النبي خ قال: "الصوم جنة حصينة, والصدقة تطفئ الخطيئة كما يطفئ الماء النار". وعن أبي أمامة ت أن النبي خ قال: "صنائع المعروف تقي مصارع السوء, وصدقة السر تطفئ غضب الرب" [رواه الطبراني، وحسنه الألباني لغيره]
وروي عن علي بن الحسين ت أنه كان يحمل الخبز على ظهره؛ يتتبع به المساكين في ظلمة الليل، ويقول: إن الصدقة في ظلام الليل (أي الصدقة الخفية) تطفئ غضب الرب عز وجل.
فإذا انزلق المسلم إلي ذنب، وشعر أنه باعد بينه وبين ربه؛ فإن الطهور الذي يعيد إليه نقاءه، ويرد إليه ضياءه، ويلفه في ستار الغفران والرضا؛ أن
يجنح إلى مال عزيز عليه؛ فينخلع عنه للفقراء والمساكين
زلفى يتقرب بها إلى أرحم الراحمين.(1/103)
وفي صحيح مسلم عن أبي مالك الحارث بن عاصم الأشعري ت قال: قال رسول الله خ: "الطهور شطر ا?يمان, والحمد لله تملأ الميزان, والحمد لله وسبحان الله تملآن (أو تملأ) ما بين السماء والأرض, والصلاة نور, والصدقة برهان, والصبر ضياء, والقرآن حجة لك أو حجة عليك" .
والبرهان هو الشعاع الذي يلي وجه الشمس. ومنه سميت الحُجة القاطعة (برهان) لوضوح دلالتها علي ما دلت عليه, فكذلك الصدقة برهان علي صحة ا?يمان؛ لأن المال تحبه النفوس وتبخل به, فإذا سمحت بإخراجه لله عز وجل دل ذلك على صحة إيمانها بالله ووعده ووعيده.
} - {
الصدقة حجاب من النار :
إن قليل الصدقة -ولو كان يعدل نصف تمرة- سبب للنجاة من النار: عن عدي بن حاتم قال: قال رسول الله خ: "ما منكم من أحد إلا سيكلمه الله ليس بينه وبينه ترجمان. فينظر أيمن منه فلا يرى إلا ما قدم. وينظر أشأم منه فلا يرى إلا ما قدم. وينظر بين يديه فلا يرى إلا النار تلقاء وجهه. فاتقوا النار ولو بشق تمرة". [رواه مسلم]
} - {
الصدقة طريق السعة وسبب النماء:
فإن من يجعل يديه ممرا لعطاء الله يظل مبسوط اليد بالنعمة. قال تعالى: { وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ } [سبأ:39]
وفي صحيح مسلم قال رسول الله خ: "ما من يوم يصبح العباد فيه إلا ملكان ينزلان فيقول أحدهما: اللهم أعط منفقا خلفا، ويقول الآخر: اللهم أعط ممسكا تلفا".
كان عبد الله بن جعفر لا يرد سائلا يقصده في حاجة قط. ولما قيل له في ذلك قال: إن الله عودني عادة وعودت عباده عادة؛ عودني أن يعطيني, وعودت عباده أن أعطيهم. وأخشى إذا قطعت عادتي عنهم يقطع عادته عني.(1/104)
وقد خرج عبد الله يوما إلي ضيعة له فنزل على حائط به نخيل لقوم, وفيه غلام أسود يقوم عليه, فأتى بقوته ثلاثة أقراص, فدخل كلب فدنا من الغلام؛ فرمى إليه بقرص فأكله, ثم رمى إليه بالثاني والثالث فأكلهما, وعبد الله ينظر إليه!! فقال: يا غلام! كم قوتك كل يوم؟ قال: ما رأيت. قال: فلِمَ آثرت هذا الكلب؟ قال: أرضنا ماهي بأرض كلاب، وإنه جاء من مسافة بعيدة جائعا, فكرهت أن أرده. قال فما أنت بصانع اليوم؟ قال: أطوي يومي هذا. فقال عبد الله بن جعفر: أأُلام علي السخاء؛ وإن هذا لأسخي مني؟! فاشترى الحائط بما فيه من النخيل والآلات، واشترى الغلام ثم أعتقه، ووهبه الحائط بما فيه من النخيل والآلات. فقال الغلام: إن كان ذلك لي فهو في سبيل الله تعالى.. فاستعظم عبد الله ذلك منه، وقال: يجود هذا وأبخل أنا؟! لا كان ذلك أبدا.
ولينظر المتصدق إلى المحتاجين الذين يقصدونه نظرته إلى أسباب التجارة الرابحة:
فإنَّكَ لا تدري إذا جاءَ سائلٌ ... أأنتَ بما تُعطيهِ أم هُوَ أسعدُ
عَسى سائلٌ ذو حاجةٍ إنْ منعتَهُ ... مِنَ اليومِ سُؤلاً أنْ يكونَ لهُ غدُ
} - {
أفضل الصدقة:
عن أبي هريرة ت قال أتى رسول الله خ رجل فقال: يا رسول الله! أي الصدقة أعظم؟ فقال: "أن تصدق وأنت صحيح شحيح تخشى الفقر وتأمل الغنى، ولا تمهل حتى إذا لغت الحلقوم قلت: لفلان كذا، ولفلان كذا" [رواه مسلم]
والشح أعم من البخل، وهو غالب في حال الصحة, فإذا سمح فيها وتصدق كان أصدق في نيته وأعظم لأجره؛ بخلاف مَن أشرف على الموت وأيس من الحياة ورأى مصير المال لغيره؛ فإن صدقته حينئذ ناقصة بالنسبة إلى حالة الصحة والشح رجاء البقاء وخوف الفقر.(1/105)
وما من شئ أشق على الشيطان وأبطل لكيده, وأقتل لوساوسه من إخراج الصدقات؛ ولذلك يقذف في النفوس الوهن حتى يثبطها عن البذل, ويعلقها بالحطام الفاني. قال تعالى: { الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلًا وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ } [البقرة:268]
وفي الحديث: "لا يخرج رجل شيئا من الصدقة حتى يفك عنها لحيي (1) سبعين شيطانا". [رواه أحمد]
وروي عن عائشة أنهم ذبحوا شاة فقال النبي : "ما بقي منها؟"، قالت: ما بقي إلا كتفها. قال: "بقي كلها إلا كتفها". [رواه الترمذي] وكانوا قد تصدقوا بها ما عدا كتفها.
لا يَألَفُ الدرهمُ المضروبُ صرَّتَهمْ ... لكنْ يمرُّ عليها وهو يَستبِقُ
} - {
من أخرج لله شيئا فليكن من أطيب ماله وليوقن بالمضاعفة:
عن أبي هريرة ت قال: قال رسول الله خ: "من تصدق بعدل تمرة من كسب طيب -ولا يصعد إلى الله إلا طيب- فإن الله يتقبلها بيمينه ثم يربيها لصاحبها كما يربي أحدكم فلوه حتى تكون مثل الجبل". [متفق عليه]
وفي صحيح مسلم عن سعيد بن يسار أنه سمع أبا هريرة ت يقول: قال رسول الله خ: "ما تصدق أحد بصدقة من طيب -ولا يقبل الله إلا الطيب- إلا أخذها الرحمن بيمينه، وإن كانت تمرة فتربو في كف الرحمن حتى تكون أعظم من الجبل، كما يربي أحدكم فَلوَّه أو فصيلَه".
قال الإمام النووي: [قوله خ: (ولا يقبل الله إلا الطيب): المراد بالطيب هنا الحلال.
__________
(1) اللِّحْيان: حائطا الفم، وهما العظمان اللذان فيهما الأَسنان من داخل الفم من كل ذي لَحْي.(1/106)
وقوله خ: (إلا أخذها الرحمن بيمينه وإن كانت تمرة فتربو في كف الرحمن حتى تكون أعظم من الجبل): قيل: عبر باليمين هنا عن جهة القبول والرضا؛ إذ الشمال بضده في هذا. وقيل في تربية الصدقة وتعظيمها حتى تكون أعظم من الجبل؛ أن المراد بذلك تعظيم أجرها وتضعيف ثوابها. ويصح أن يكون على ظاهره، وأن تعظم ذاتها، ويبارك الله تعالى فيها ويزيدها من فضله حتى تثقل في الميزان. وهذا الحديث نحو قول الله تعالى: { يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ } [البقرة:276]
وقوله خ: (كما يربي أحدكم فلوه أو فصيله): قال أهل اللغة: (الفَلُو) المُهر سمي بذلك؛ لأنه فلي عن أمه، أي: فُصل وعُزل. والفصيل: ولد الناقة إذا فُصل من إرضاع أمه. وفي (الفلو) لغتان فصيحتان أفصحهما وأشهرهما: فتح الفاء وضم اللام وتشديد الواو (الفَلُوّ)، والثانية: كسر الفاء وإسكان اللام وتخفيف اللام (الفِلْو).] [شرح النووي على صحيح مسلم-باختصار]
قال عبد العزيز بن عمير: الصلاة تبلغك نصف الطريق، والصيام يبلغك باب الملك، والصدقة تدخلك عليه.
} - {
الصدقة على الأقارب صدقتان:
فإن أقرباء المسلم أجدر الناس با?فادة من فضول ماله, ومن حقهم أن ينصرف إليهم أي عطاء تجود به يده.
عن سلمان بن عامر ت عن النبي خ قال: "الصدقة على المسكين صدقة وعلى ذوي الرحم ثنتان: صدقة وصلة". [رواه النسائي والترمذي وابن خزيمة وابن حبان والحاكم، وقال الألباني: حسن صحيح](1/107)
وعن زينب الثقفية امرأة عبد الله بن مسعود ب قالت: قال رسول الله خ: "تصدقن يا معشر النساء ولو من حليكن". قالت: فرجعت إلي عبد الله بن مسعود فقلت له: إنك رجل خفيف ذات اليد, وإن رسول الله خ قد أمرنا بالصدقة، فأتِه فسله؛ فإن كان ذلك يجزي عني وإلا صرفتها إلى غيركم. فقال عبد الله: بل ائتِه أنت! قالت: فانطلقت فإذا امرأة من الانصار؛ حاجتها حاجتي, وكان رسول الله خ قد أُلقيت عليه المهابة, فخرج علينا بلال، فقلت له: ائتِ رسول الله خ فأخبره أن امرأتين بالباب يسألانك: أتجزي الصدقة عنهما على أزواجهما وعلى أيتام في حجورهما؟ ولا تخبره من نحن.
قالت: فدخل بلال على رسول الله خ فسأله. فقال رسول الله خ: "من هما؟"، فقال: امرأة من الأنصار وزينب. فقال رسول الله خ: "أي الزيانب؟" قال: امرأة عبد الله بن مسعود. فقال خ: "لهما أجر القرابة وأجر الصلة".[رواه البخاري]
والصدقة إذا وقعت في الأقارب تكون صدقة وصلة رحم, وفي صلة الرحم من الثواب ما لا يُحصى.
قال علي ت: لَأن أصل أخا من إخواني بدرهم أحب إليّ من أن أتصدق بعشرين درهما. ولَأن أصله بعشرين درهم أحب إليّ من أن أتصدق بمائة درهم. ولَأن أصله بمائة درهم أحب إليّ من أن أعتق رقبة
} - {
التسابق في إرساء قواعد السعادة والطمأنينة في المجتمع المسلم:
إنه لعزيز على النفس أن ترى شخصا مشقوق الثياب, أو حافي القدمين, أو جوعان يمد عينيه إلى شتي الأطعمة ثم يرده الحرمان وهو حسير.
والذين يرون هذه الصورة الفاحشة ثم لا يكترثون بها ليسوا بشرا .
ولقد حدث أن رأى رسول الله خ أحد هذه المناظر الحزينة فشق عليه مرآها, فجمع المسلمين ثم خطبهم, فذكرهم بحق المسلم على المسلم, وخوفهم بالله
واليوم الآخر, ومازال بهم حتي جمعوا ما أغنى وستر.(1/108)
عن المنذر بن جرير عن أبيه قال: كنا عند رسول الله خ في صدر النهار. قال: فجاءه قوم حُفاة عُراة، مجتابي النمار أو العباء، متقلدي السيوف، عامتهم من مُضَر بل كلهم من مُضَر؛ فتمعر وجه رسول الله لما رأى بهم من الفاقة. فدخل ثم خرج فأمر بلالا فأذن وأقام فصلى ثم خطب فقال: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا)، والآية التي في الحشر: (اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ).. تصدق رجل من ديناره.. من درهمه.. من ثوبه.. من صاع بُره.. من صاع تمره.. حتى قال: ولو بشق تمرة. قال: فجاء رجل من الأنصار بصُرة كادت كفه تعجز عنها، بل قد عجزت. قال: ثم تتابع الناس حتى رأيت كومين من طعام وثياب، حتى رأيت وجه رسول الله يتهلل كأنه مذهبة. فقال رسول الله : "من سن في الإسلام سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها بعده من غير أن ينقص من أجورهم شيء. ومن سن في الإسلام سنة سيئة كان عليه وزرها ووزر من عمل بها من بعده من غير أن ينقص من أوزارهم شيء". (1) [رواه مسلم]
__________
(1) مجتابين: مرتدين - النمار: جلود النُّمور، وهي السِّباع المعروفة، واحِدُها: نَمِر. والنمار أيضا: كلُّ شَمْلَةٍ مُخَطَّطة من مَآزِر وسراويل الأعراب فهي نَمِرة، وجمعُها: نِمار - العباء: كساء مشقوق واسع بلا كمين يُلبس فوق الثياب - الفاقة: الفقر والحاجة - الصاع: مكيال المدينة تقدر به الحبوب وسعته أربعة أمداد، والمد هو ما يملأ الكفين - البُر: القمح - الصرة: ما يجمع فيه الشيء ويُشدُّ - تهلل وجهه: استنار وظهرت عليه أمارات السرور - المذهب: المطلي بالذهب، يقصد صفاء الوجه وجماله.(1/109)
قال تعالى: { لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ } [آل عمران:92]
أي لن تنالوا البر الكامل. وبعض المفسرين يقولون: المراد بالبر ها هنا الجنة, ولن يُدرَك الفضل الكامل إلا ببذل محبوب النفس.
وعن أنس بن مالك ت قال: كان أبو طلحة أكثر أنصاري بالمدينة مالا من نخل، وكان أحب أمواله "بيرحاء"، وكانت مستقبلة المسجد, وكان رسول الله خ يدخلها ويشرب من ماء فيها طيب. قال أنس: فلما نزلت هذه الآية قام أبو طلحة فقال: يا رسول الله! إن الله تعالى يقول: (لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ)؛ وإن أحب أموالي إلي "بيرحاء". وإنها صدقة لله أرجو برها وذخرها عند الله. فضعها يا رسول الله حيث شئت. فقال رسول الله خ: "بخٍ (1) ذلك مال رابح.. ذلك مال رابح.. قد سمعتُ ما قلتَ فيها، وإني أري أن تجعلها في الأقربين". فقسمها أبو طلحة في أقاربه وبني عمه. [متفق عليه]
وقال ابن عمر ب: خطرت هذه الآية ببالي: (لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ)؛ ففكرت فيما أعطاني الله عز وجل؛ فما وجدت شيئا أحب إليّ من جاريتي رميثة.. فقلت: هي حرة لوجه الله. فلولا أني لا أعود في شيء جعلته لله لنكحتها.
وكان ابن عمر ب إذا اشتد إعجابه بشيء من ماله قربه لربه عز وجل. قال نافع: كان بعض رقيقه قد عرفوا ذلك منه, فربما شمر أحدهم فلزم المسجد. فإذا رآه ابن عمر على تلك الحالة الحسنة أعتقه. فيقول له أصحابه: يا أبا عبد الرحمن! والله ما بهم إلا أن يخدعوك.. فيقول ابن عمر: من خدعنا بالله انخدعنا له.
__________
(1) كلمة تقال إذا حُمد الفعل، أو عند الإعجاب. و"بَيْرُحاء": اسم حديقة لأبي طلحة.(1/110)
وفي صحيح البخاري عن ابن عباس ب قال: شهدت الفطر مع النبي خ وأبي بكر وعمر وعثمان - رضي الله عنهم - يصلونها قبل الخطبة ثم يُخطَب بعدُ. خرج النبي خ كأني أنظر إليه حين يُجلِّس بيده، ثم أقبل يشقهم حتى جاء النساء؛ معه بلال. فقال: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَنْ لَا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا وَلَا يَسْرِقْنَ وَلَا يَزْنِينَ وَلَا يَقْتُلْنَ أَوْلَادَهُنَّ وَلَا يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ وَلَا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ فَبَايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) ثم قال: "آنتن على ذلك؟"، قالت امرأة واحدة منهن لم يجبه غيرها: نعم.. قال: "فتصدقن". فبسط بلال ثوبه، ثم قال: هلم لكن فداء أبي وأمي. فيلقين الفتخ والخواتيم في ثوب بلال. قال عبد الرزاق: الفتخ: الخواتيم العظام كانت في الجاهلية.
قال الحافظ ابن حجر: وفي مبادرة تلك النسوة إلى الصدقة بما يعز عليهن مع ضيق الحال في ذلك الوقت دلالة على رفيع مقامهن في الدين، وحرصهن على امتثال أمر الرسول خ ورضا الله عنهن.
وكان عروة بن الزبير إذا كان أيام الرطب فتح في سور بستانه فتحة؛ فيدخل الناس يأكلون ويحملون.
إذا كنتَ ذا مالٍ ولم تكُ ذا ندى فأنتَ إذا والمُقتِرون سواءُ
} - {
إصلاح النية وابتغاء ما عند الله عز وجل شرط القبول:
ينبغي للمتصدق أن يقصد بصدقته وجه الله عز وجل، كالذي حكاه أبو بكرة عن عمر بن الخطاب ت أن أعرابيا أتاه فقال:
يا عمرَ الخيرِ جُزيتَ الجنهْ ... أكسُ بنياتي وأمَّهُنَّهْ
وكُنْ لنا منَ الزمانِ جُنَّهْ ... أقسمُ باللهِ لتفعلنَّهْ
فقال عمر ت: فإن لم أفعل يكون ماذا؟ فقال :
يكونُ عن حالي لتُسألَنَّه ... يومَ تكونُ الأُعطياتُ هَنَّهْ (1)
وموقفُ المسئولِ بينهنَّهْ ... إمَّا إلى نارٍ وإما جَنَّهْ
__________
(1) هنة: شيء يسير(1/111)
فبكي عمر ت حتى اخضلت لحيته, ثم قال: يا غلام! أعطِه قميصي هذا لذلك اليوم لا لشعره. أما والله لا أملك غيره.
قال تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى } [البقرة:264] واختُلِفَ في حقيقة المن والأذى، فقيل: المن أن يذكرها، والأذي أن يظهرها. وقال سفيان: مَنْ مَنَّ فسدت صدقته. فقيل له: كيف المن؟ فقال: أن يذكره ويتحدث به.
وقيل: المن أن يستخدمه بالعطاء، والأذي أن يعيره بالفقر. وقيل: المن أن يتكبر عليه لأجل عطائه, والأذي أن ينتهره ويوبخه بالمسألة.
وكانت عائشة وأم سلمة ب إذا أرسلتا معروفا إلى فقير قالتا للرسول: احفظ ما يدعو به، ثم كانتا تردان عليه مثل قوله, وتقولان: هذا بذاك حتى تخلص لنا صدقتنا.
وسمع ابن سيرين رجلاً يقول لرجل: فعلت إليك وفعلت.. فقال ابن سيرين: اسكت؛ فلا خير في المعروف إذا أُحصي.
ولله در القائل:
أفسدتَ بالمَنِّ ما أسديتَ مِنْ حَسَنٍ ليسَ الكريمُ إذا أسدى بمنَّانِ
} - {
استصغار العطية يعظمها عند الله:
فإن المتصدق إن استعظم عطيته أُعجب بها, والعُجْب من المهلكات، وهو محبط للأعمال.
قال العباس بن المطلب ت: لا يتم المعروف إلا بثلاثة أمور: تعجيله وتصغيره وستره.
فيا عباد الله..
إلى متى تجمعون ما لا تأكلون, وتبنون ما لا تسكنون, وَيْحَكم..!
السير حثيث, ولا منجد ولا مغيث, فبادروا بالصدقة المواريث..
ويُظهرُ عيبَ المرءِ في الناسِ بخلُه ... ويسترُه عنهم جميعًا سخاؤه
تغَطَّ بأثوابِ السخاءِ فإنني ... أرى كلَّ عيبٍ والسخاءُ غطاؤه
} - { } - {
قبسات من أخبار المتصدقين
مع رسول الله صلى الله عليه وسلم:
كان كرم رسول الله خ لا يجارى و لا يبارى. و قد جعل الله خُمس الغنائم إليه, وكانت حصته من هذا الخمس الخمس.(1/112)
وقد غنم المسلمون غنائم كثيرة. ولو أراد رسول الله خ أن يجمع مالاً لكان أكثر الخلق مالاً. إن خُمس غنائم حُنين كان ثمانية آلاف من الغنم, وأربعة آلاف وثمانمائة من الجمال, وثمانية آلاف أوقية من الفضة، وألف ومائتين من السبي. فكم نتصور غنى الرسول خ لو أراد أن يجمع مالاً من غزواته كلها؛ من خيبر الغنية، وقريظة، وبني النضير..؟!
فإذا علمنا أن رسول الله خ مات و درعه مرهونة عند يهودي، وأنه أمر أن يوزع ميراثه -إن كان- على المسلمين، وأنه ليس لأقاربه من ميراثه شيء, وأنه ما كان يلبس إلا الخشن، وأنه كان يجوع الأيام.. إذا علمنا هذا كله أدركنا أنها النبوة، وأن غير النبوة لا تجود بهذا الجود وترضى حياة الجهد والمشقة والفاقة؛ مع هذا المُلك العريض والسلطان الكبير والواردات الكثيرة.
عُرضَتْ عليهِ الدنيا فأعرضَ زاهدا ... يبغي مِنَ الأخرى المكانَ الأرفعا
ما جرَّ أثوابَ الحريرِ ولا مشى ... بالتاجِ مْن فوقِ الجبينِ مُرَصَّعا
وهو الذي ألبسَ الدنيا السعادةَ ... حُلَّةً فضفَاضَةً لبس القميص مُرقَّعا
وهو الذي لو شاءَ نالت كفُّهُ ... كلَّ الذي فوقَ البسيطة أجمعا
وفي صحيح مسلم عن أنس ت قال: ما سئل رسول الله خ على الإسلام شيئا إلا أعطاه. قال: فجاءه رجل فأعطاه غنما بين جبلين. فرجع إلى قومه فقال: يا قوم أسلموا؛ فإن محمدا يعطي عطاء لا يخشى الفاقة.
وهذا هو خ قبل أن يسلم الروح يسأل أم المؤمنين عائشة عن مقدار المال في بيت النبوة، فتخبره ل أنه ليس عندهم إلا سبعة دنانير، فيأمرها خ أن تتصدق بهن.
يا خيرَ مَنْ دُفِنَتْ بالقاعِ أعْظُمُهُ ... فطابَ مِنْ طِيبِهِنَّ القاعُ والأكَمُ
نفسي تتوقُ لقبرٍ أنتَ ساكنُهُ ... فيه العفافُ وفيه الطهْرُ والكَرمُ
} - {
مع أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها:(1/113)
عن محمد بن المنكدر عن أم ذرة -وكانت تخدم عائشة- قالت: بعث ابن الزبير إلى خالته عائشة ل ثمانين ومائة ألف درهم. فدعت بطبق وهي يومئذ صائمة، فجلست تقسمه بين الناس، فأمست وما عندها من ذلك درهم. فلما أمست قالت: يا جارية! هلمي فطوري.. فجاءتها بخبز وزيت، وقالت: أما استطعت فيما قسمتِ اليوم أن تشتري لنا بدرهم لحما نفطر عليه؟ فقالت لها: لا تعنفيني.. لو ذكرتِني لفعلتُ!
وعن عروة بن الزبير قال: لقد رأيت عائشة تقسم سبعين ألفا؛ وهي ترقع دِرعها.
} - {
مع أم المؤمنين زينب بنت جحش رضي الله عنها:
عن برزة ابنة رافع قالت: لما جاء العطاء بعث عمر ت إلى زينب بنت جحش بالذي لها. فلما دخل عليها قالت: غفر الله لعمر, لَغيري من أخواتي كان أقوى على قسم هذا مني. قالوا: هذا كله لك. قالت: سبحان الله! واستترت دونه بثوب، وقالت: صبوه، واطرحوا عليه ثوبا. فصبوه وطرحوا عليه ثوبا. فقالت لي: أدخلي يدك فاقبضي منه قبضة، فاذهبي إلي آل فلان وآل فلان؛ من أيتامها وذوي رحمها. فقسمته حتى بقيت منه بقية، فقالت لها برزة: غفر الله لك, والله لقد كان لنا في هذا حظ. قالت: فلكم ما تحت الثوب. قالت: فرفعنا الثوب فوجدنا تحته خمسة وثمانين درهما. ثم رفعت يديها فقالت: اللهم لا يدركني عطاء لعمر بعد عامي هذا. قالت: فماتت ل.
وعن عائشة ل قالت: قال رسول الله خ لأزواجه: "أسرعكن لحوقا بي أطولكن يدا". قالت عائشة: فكنا إذا اجتمعنا بعد موت النبي خ نمد أيدينا في الحائط. فلم نزل نفعل ذلك حتى توفيت زينب بنت جحش, وكانت امرأة قصيرة، ولم تكن أطولنا يدا؛ فعرفنا أن النبي خ أراد بطول اليد الصدقة. وكانت زينب امرأة صناعًا تعمل بيدها وتتصدق به في سبيل الله عز وجل.
} - {
مع عثمان بن عفان رضي الله عنه:(1/114)
كان اليهود قبل ا?سلام يسيطرون على المدينة, وقد استبدوا بتجارتها وأسواقها وزروعها ومياهها استبدادا هائلا, وقد يسر لهم ذلك الخلاف بين الأوس والخزرج. فلما أرسى رسول الله خ قواعد ا?خاء بين المهاجرين والأنصار على أساس من ا?يمان العميق والحب المتبادل والتفاني في الله؛ خفت حدة التسلط اليهودي, إلا أنها لم تنتهِ.
وفي أحد الأعوام انحبس المطر وشحت المياه، فوجد أحد يهود المدينة الفرصة سانحة للإضرار بالمسلمين والتضييق عليهم, وكان يملك بئرا غزيرة المياه في أرض له تسمي بئر (رومة).
فأقبل الناس على رسول الله خ يشكون له سوء الحال؛ وقد أجهدهم العطش، وأرهقهم الظمأ، وتهددت زروعهم.. وكان عثمان بن عفان ت حاضرا مجلس رسول الله خ. وما أن سمع النبي خ يبشر بالجنة مَن يشتري بئر (رومة) حتى أسرع في ذلك, وجعلها وقفا للمسلمين.
وفي غزوة تبوك رغب رسول الله خ في بذل الصدقات وإنفاق كرائم الأموال في سبيل الله. وكان عثمان بن عفان ت قد جهز عيرا للشام؛ مائتي بعير بأقتابها وأحلاسها (1) ، ومائتي أوقية. فتصدق بها, ثم تصدق بمائة بعير بأحلاسها وأقتابها, ثم جاء بألف دينار فنثرها في حِجر النبي خ. فكان النبي خ يقلبها ويقول: ما ضر عثمان ما فعل بعد اليوم! ثم تصدق وتصدق حتى بلغ مقدار صدقته تسعمائة بعير ومائة فرس سوى النقود.
وعن شرحبيل بن مسلم أن عثمان ت كان يطعم الناس طعام ا?مارة, ويدخل بيته فيأكل الخل والزيت.
} - {
مع سعيد بن عامر الجمحي رضي الله عنه: والي حِمص في خلافة عمر بن الخطاب ت
وفد على أمير المؤمنين بعض من يثق بهم من أهل حِمص، فقال لهم: اكتبوا لي أسماء فقرائكم حتى أسد حاجتهم. فرفعوا كتابا فإذا فيه: فلان، وفلان، وسعيد بن عامر.. فقال عمر: ومَن سعيد بن عامر؟
قالوا: أميرنا.
__________
(1) العير: الإبل التي تحمل الطعام – أقتابها: جمع قتب، وهو البرذعة على قدر سنام البعير – أحلاسها: جمع حلس، وهو كساء على ظهر البعير تحت البرذعة.(1/115)
قال: أميركم فقير؟!
قالوا: نعم, والله إنه لتمر عليه الأيام الطوال ولا يوقد في بيته نار.
فبكي عمر حتى بللت دموعه لحيته, ثم عمد إلى ألف دينار فجعلها في صرة، وقال: اقرأوا عليه مني السلام, وقولوا له: بعث إليك أمير المؤمنين بهذا المال لتستعين به على قضاء حاجاتك.
جاء الوفد لسعيد بالصرة، فنظر إليها فإذا هي دنانير، فجعل يبعدها عنه وهو يقول: إنا لله وإنا إليه راجعون. فهبت زوجته مذعورة وقالت: ما شأنك يا سعيد؟
قال: دخلت عليّ الدنيا لتفسد آخرتي.
قالت: تخلص منها -وهي لا تدري من أمر الدنانير شيئا- قال: أو تعينيني على ذلك؟ قالت: نعم. فأخذ الدنانير، فجعلها في صرر، ثم وزعها على فقراء المسلمين.
ولم يمضِ على ذلك طويل وقت حتى أتى عمر إلى الشام يتفقد أحوالها, فلما نزل بحِمص أدرك ما عليه سعيد من رقة حال؛ فبعث إليه بألف دينار يستعين بها على حاجته. فلما رأتها زوجته قالت له: اشترِ لنا مؤنة، واستأجر لنا خادما.
فقال لها: وهل لك فيما هو خير من ذلك؟
قالت: وما ذاك؟!
قال: ندفعها إلى مَن يأتينا بها ونحن أحوج ما نكون إليها؛ نقرضها الله قرضا حسنا.
قالت: نعم وجزيت خيرا.
فما أن غادر مجلسه الذي هو فيه حتى جعل الدنانير في صرر، وقال لواحد من أهله: انطلق بها إلى أرملة فلان, وإلى أيتام فلان, وإلى مساكين آل فلان, وإلى معوزي آل فلان. [صور من حياة الصحابة]
همُ الرجالُ وعيبٌ أنْ يُقالَ لِمَن لم يكن مثلَهم رجلُ!
} - {
مع أحمد بن مسكين الفقيه البغدادي:(1/116)
حدَّث (1) عن نفسه قائلا: امتُحنت بالفقر في سنة تسع عشرة ومائتين, وانحسمت مادتي، وقحط منزلي قحطا شديدا جمع عليّ الحاجة والضر والمسكنة, فلو انكمشت الصحراء المجدبة فصغرت ثم صغرت حتى ترجع أذرعا في أذرع؛ لكانت هي داري يومئذ في محلة باب البصرة من بغداد. وجاء يوم صحراوي كأنما طلعت شمسه من بين الرمل لا من بين السحب, ولم يكن عندنا شيء يسيغه حلق آدمي؛ إذ لم يكن في الدار إلا ترابها وحجارتها. ولي امرأة ولي منها طفل صغير, وقد طوينا على جوع يخسف بالجوف خسفا, فلتمنيت حينئذ لو كنا جرذانا نقرض الخشب! وكان جوع الصبي يزيد المرأة ألما إلى جوعها، وكنت بهما كالجائع بثلاثة بطون خاوية.
فقلت في نفسي: إذا لم نأكل الخشب والحجارة فلنأكل بثمنها. وجمعت نيتي على بيع الدار والتحول عنها؛ وإن كان خروجي منها كالخروج من جلدي؛ لا يُسمى إلا سلخا وموتا..! وبت ليلتي وأنا كالمثخن حُمل من معركة فما يتقلب إلا على جراح.
ثم خرجت بغلس لصلاة الصبح, ولما قُضيت الصلاة رفع الناس أكفهم يدعون الله سبحانه وتعالى, وجرى لساني بهذا الدعاء: اللهم بك أعوذ أن يكون فقري في ديني.. أسألك النفع الذي يصلحني بطاعتك.. وأسألك بركة الرضا بقضائك..
وأسألك القوة على الطاعة والرضا يا أرحم الراحمين..
__________
(1) قصة أحمد بن مسكين صاغها المبدع مصطفى صادق الرافعي بأسلوبه الماتع في "وحي القلم".(1/117)
ثم جلست أتأمل شأني حتى إذا ارتفع الضحى؛ خرجت أتسبب لبيع الدار, وانبعثت و ما أدري أين أذهب, فما سرت غير بعيد حتي لقيني "أبو نصر الصياد" وكنت أعرفه قديما. فقلت: يا أبا نصر! أنا على بيع الدار؛ فقد ساءت الحال وأحوجت الخصاصة.. فأقرضني شيئا يمسكني على يومي هذا بالقوام من العيش حتي أبيع الدار وأوفيك. فقال: يا سيدي! خذ هذا المنديل إلى عيالك, وأنا على أثرك لاحق بك إلى المنزل. ثم ناولني منديلا فيه رقاقتان بينهما حلوى, وقال: إنهما والله بركة الشيخ.. قلت: من الشيخ؟ وما القصة؟(1/118)
قال: وقفت أمس على باب هذا المسجد وقد انصرف الناس من صلاة الجمعة, فمر بي أبو نصر بشر الحافي، (1) فقال: مالي أراك في هذا الوقت؟ قلت: ما في البيت دقيق ولا خبز ولا درهم ولا شيء يباع. فقال: الله المستعان.. احمل شبكتك وتعالَ إلى الخندق. فحملتها وذهبت معه, فلما انتهينا إلى الخندق قال لي: توضأ وصلِّ ركعتين. ففعلت, فقال: سمِّ الله تعالى، وألقِ الشبكة. فسميت وألقيتها, فوقع فيها شيء ثقيل، فجعلت أجره فشق عليَّ, فقلت: ساعدني فإني أخاف أن تنقطع الشبكة. فجاء وجرها معي, فخرجت سمكة عظيمة لم أرَ مثلها سمنا وعظما وفراهة. فقال: خذها وبعها، واشترِ بثمنها ما يصلح لعيالك. فحملتها فاستقبلني رجل اشتراها؛ فابتعت لأهلي ما يحتاجون إليه, فلما أكلت وأكلوا ذكرت الشيخ فقلت: أهدي له شيئا. فأخذت هاتين الرقاقتين وجعلت بينهما هذه الحلوى, وأتيت إليه فطرقت الباب, فقال: من؟ قلت: أبو نصر.. قال: افتح، وضع ما معك في الدهليز وادخل..! فدخلت وحدثته بما صنعت، فقال: الحمد له على ذلك. فقلت: إني هيأت للبيت شيئا وقد أكلوا وأكلتُ.. ومعي رقاقتان فيهما حلوى. قال: يا أبا نصر! لو أطعمنا أنفسنا هذا ما خرجت السمكة..! اذهب كل أنت وعيالك.
قال أحمد بن مسكين: وكنت من الجوع بحيث لو أصبت رغيفا لحسبته مائدة أنزلت من السماء, ولكن كلمة الشيخ عن السمكة أشبعتني بمعانيها شبعا ليس من هذه الدنيا؛ كأنما طعمت ثمرة من ثمار الجنة.. وأخذت الرقاقتين، وقلت: على بركة الله، ومضيت إلى داري.. فلما كنت في الطريق لقيتني امرأة معها صبي, فنظرت إلى المنديل, وقالت: يا سيدي! هذا طفل يتيم جائع، ولا صبر له علي الجوع؛ فأطعمه شيئا يرحمك الله. ونظر إليّ الطفل نظرة لا أنساها..
__________
(1) هو الزاهد "بشر بن الحارث". توفي سنة 227هـ . وكان واحد الدنيا في الورع. وقيل له: "الحافي" لأنه كان في حداثته يمشي إلى طلب العلم حافيا إجلالا لحديث النبي صلى الله عليه وسلم.(1/119)
وخُيِّل إليَّ حينئذ أن الجنة نزلت تعرض نفسها على مَن يُشبع هذا الطفل وأمه, والناس عُمي لا يبصرونها, وكأنهم يمرون بها في هذا الموطن مرور الحمير
بقصر الملك؛ لو سئلت فضَّلت عليه الاسطبل الذي هي فيه..!
وذكرت امرأتي وابنها وهما جائعان مذ أمس, غير أني لم أجد لهما في قلبي معنى الزوجة والولد. بل معنى هذه المرأة المحتاجة وطفلها. فأسقطتهما عن قلبي, ودفعت ما في يدي للمرأة، وقلت لها: خذي وأطعمي ابنك، ووالله ما أملك بيضاء ولا صفراء, وإن في داري مَن هو أحوج لهذا الطعام، ولولا هذه الخلة بي لتقدمت فيما يصلحك. فدمعت عيناها, وأشرق وجه الصبي, وقلت في نفسي: أما أنا فأطوي إن لم أصب طعاما.. فقد كان أبو بكر يطوي، وكان ابن عمر يطوي, وكان فلان وفلان ممن حفظنا أسماءهم وروينا أخبارهم.. ولكن من للمرأة وابنها بمثل عقدي ونيتي؟
ومشيت وأنا منكسر منقبض.. وذكرت كلمة الشيخ: "لو أطعمنا أنفسنا هذا ما خرجت السمكة"..! فصرفت خاطري إليها، وشغلت نفسي بتدبرها، وملت ناحية وجلست إلى حائط أفكر في بيع الدار.. وبينما أنا كذلك إذ مر عليّ أبو نصر الصياد وكأنه مستطار فرحا.. فقال: يا أبا محمد! ما يجلسك ههنا وفي دارك الخير والغنى؟ فقلت: سبحان الله..! من أين خرجت السمكة يا أبا نصر..؟!
قال: إني لفي الطريق إلى منزلك ومعي ضرورة من القوت أخذتها لعيالك, ودراهم استدنتها لك؛ إذا رجل يستدل الناس على أبيك أو أحد من أهله؛ ومعه أثقال وأحمال.. فقلت له: أنا أدلك.. ومشيت معه أسأله عن خبره وشأنه عند أبيك، فقال: أنا تاجر من البصرة, وقد كان أبوك أودعه مالا من ثلاثين سنة, فأفلس وانكسر المال, ثم ترك البصرة إلى خراسان؛ فصلح أمره على التجارة هناك وأيسر بعد المحنة, واستظهر بعد الخذلان.. فعاد إلى البصرة, وأراد أن يتحلل, فجاءك بالمال وعليه ما كان يربحه في هذه الثلاثين سنة, وإلى ذلك طرائف وهدايا!(1/120)
قال أحمد بن مسكين: وأنقلب إلى داري؛ فإذا مال جم وحال جميلة! فقلت: صدق الشيخ.. "لو أطعمنا أنفسنا هذا ما خرجت السمكة".. وآليتُ ليعلمنَّ الله شكري هذه النعمة؛ فلم تكن لي همة إلا البحث عن المرأة المحتاجة وابنها؛ فكفيتهما وأجريت عليهما رزقا, ثم اتجرت في المال, وجعلت أرُبُّه بالمعروف والصنيعة وا?حسان؛ وهو مقبل يزداد ولا ينقص, حتى تمولت وتأثلت (1) .
وكأني قد أعجبتني نفسي, وسرني أني قد ملأت سجلات الملائكة بحسناتي، ورجوت أن أكون قد كتبت عند الله في الصالحين.. فنمت ليلة فرأيتني في يوم القيامة والخلق يموج بعضهم في بعض.. وقيل: وضعت الموازين.. وجيء بي لوزن أعمالي؛ فجُعلت السيئات في كفة، وأُلقيت سجلات حسناتي في الأخرى؛ فطاشت السجلات ورجحت السيئات؛ كأنما وزنوا الجبل الصخري الضخم بلفافة من القطن.. ثم جعلوا يلقون الحسنة بعد الحسنة مما كنت أصنعه؛ فإذا تحت كل حسنة شهوة خفية من شهوات النفس، كالرياء والغرور وحب المحمدة عند الناس، وغيرها.. فلم يسلم لي شيء, وهلكت عني حُجتي؛ إذ الحُجَّة ما يبينه الميزان,
والميزان لم يدل إلا على أني فارغ!
وسمعت الصوت: ألم يبقَ له شيء؟ فقيل: بقي هذا.. وأنظر لأرى ما هذا الذي بقي؛ فإذا الرقاقتان اللتان أحسنت بهما على المراة وابنها! فأيقنت أني هالك؛ فلقد كنت أحسن بمائة دينار ضربة واحدة فما أغنت عني.
__________
(1) أربه: أزيده وأنميه – تمولت وتأثلت: اغتنيت.(1/121)
ووُضعت الرقاقتان، وسمعت القائل: لقد طار نصف ثوابهما في ميزان أبي نصر الصياد.. فانخذلت انخذالا شديدا؛ حتى لو انكسرت نصفين لكان أخف عليّ وأهون. بَيْدَ أني نظرت فرأيت كفة الحسنات قد نزلت منزلة ورجحت بعض الرجحان. وسمعت الصوت: ألم يبقَ له شيء؟ فقيل: بقي هذا.. وأنظر ما هذا الذي بقي؛ فإذا جوع امرأتي وولدي في هذا اليوم! وإذا هو شيء يوضع في الميزان، وإذا هو ينزل بكفة ويرتفع بالأخرى حتى اعتدلتا بالسوية، وثبت الميزان على ذلك؛ فكنت بين الهلاك والنجاة.
وأسمع الصوت: ألم يبقَ له شيء؟ فقيل: بقي هذا.. ونظرت؛ فإذا دموع تلك المرأة المسكينة حين بكت من أثر المعروف في نفسها, ومن إيثاري إياها وابنها على أهلي.. ووُضعت غرغرة عينيها في الميزان؛ ففارت فطمت كأنها لُجَّة (1) , من تحت اللجة بحر.. وإذا بسمكة هائلة قد خرجت من اللجة؛ وقع في نفسي أنها روح تلك الدموع.. فجعلت تعظم ولا تزال تعظم, والكفة ترجح ولا تزال ترجح.. حتي سمعت الصوت يقول: قد نجا..!
وصحت صيحة انتبهت لها؛ فإذا بي أقول: "لو أطعمنا أنفسنا هذا ما خرجت السمكة". [وحي القلم (باختصار)]
فَتشَبَّّهوا إن لم تكونوا مِثلَهمْ إنََّ التشبهَ بالكرامِ فلاحُ
} - { } - {
كل معروف صدقة
عن أبي ذر ت أن ناسا من أصحاب النبي خ قالوا: يا رسول الله! ذهب أهل الدثور (2) بالأجور. يصلون كما نصلي، ويصومون كما نصوم، ويتصدقون بفضول أموالهم. قال: "أو ليس قد جعل الله لكم ما تصدقون به؟ إن بكل تسبيحة صدقة، وكل تكبيرة صدقة, وكل تحميدة صدقة، وكل تهليلة صدقة، وأمر بالمعروف صدقة، ونهي عن منكر صدقة، وفي بُضع أحدكم صدقة". قالوا: يا رسول الله! أيأتي أحدنا شهوته ويكون له فيها أجر؟ قال: "أرأيتم لو وضعها في حرام أكان عليه وزر؟ فكذلك إذا وضعها في الحلال كان له أجر". [رواه مسلم]
__________
(1) طمَّت كأنها لُجة: علت كأنها بحر.
(2) الدثور: الأجور.(1/122)
وهذا من تمام رحمة الله على عباده؛ يثيبهم على ما فيه قضاء شهواتهم إذا نووا قضاء حق الزوجة وإحصان الفرج.
وقد كان الصحابة - رضي الله عنهم - لشدة حرصهم على الأعمال الصالحة، وقوة رغبتهم في الخير؛ يحزنون على ما يتعذر عليهم فعله من الخير مما يقدر عليه غيرهم. فكان الفقراء يحزنون على فوات الصدقة بالأموال التي يقدر عليها الأغنياء. وقد ظنوا أن لا صدقة إلا بالمال -وهم عاجزون عن ذلك- فأخبرهم النبي خ أن جميع أنواع المعروف وا?حسان صدقة.
وفي صحيح البخاري عن جابر بن عبد الله ب عن النبي خ قال: "كل معروف صدقة". أي كل عمل من أعمال الخير والمعروف له حكم الصدقة في الثواب. فلا يحتقر العبد شيئا من المعروف، وينبغي ألا يبخل به.
وعن أبي هريرة ت أن رسول الله خ قال: "يا نساء المسلمات.. لا تحقرن جارة لجارتها ولو فِرسِن (1) شاه". [متفق عليه]
أي: لا تمتنع جارة من الصدقة والهدية لجارتها لاستقلالها واحتقارها الموجود عندها, بل تجود بما تيسر وإن كان قليلا كفرسن شاه، وهو خير من العدم. وقد قال تعالى: { فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ } [الزلزلة:7]
وعن أبي هريرة ت قال: قال رسول الله خ: "كل سُلاَمى من الناس عليه صدقة كل يوم تطلع فيه الشمس: تعدل بين الاثنين صدقة, وتعين الرجل في دابته فتحمله عليها أو ترفع له عليها متاعه صدقة, والكلمة الطيبة صدقة، وبكل خطوة تمشيها إلى الصلاة صدقة، وتميط الأذى عن الطريق صدقة" [رواه البخاري ومسلم]
قال أبو عبيد: السُّلامَى في الأصل عظم يكون في فرسن البعير (أي ظلف البعير) فكأن معنى الحديث: على كل عظم من عظام ابن آدم صدقة. فالسلامى اسم لبعض العظام الصغار التي في ا?بل, ثم عبر بها عن العظام في الجملة بالنسبة إلى الآدمي .
__________
(1) الفرسن: هو الظلف، وأصله في الإبل، وهو فيها مثل القدم في الإنسان.(1/123)
وقد ذكر علماء الطب أن جميع عظام البدن مائتان وثمانية وأربعون عظما تسمي السمسمانيات. وبعضهم يقول: هي ثلاثمائة وستون عظما، يظهر منها للحس مائتان وخمسة وستون عظما، والباقية صغار لا تظهر، وتسمى السمسمانية. ولعل السُّلامَى عبر بها عن هذه العظام الصغار, كما أنها في الأصل اسم لأصغر ما في البعير من العظام.
ومعني الحديث: أن تركيب هذه العظام وسلامتها من أعظم نعم الله على عبده, فيحتاج كل عظم منها إلى صدقة يتصدق بها ابن آدم عنه ليكون ذلك شكرا
لهذه النعمة.
والعدل بين الناس إما في الحكم بينهم أو في إصلاح ذات البين. فعن عبد الله بن عمرو ب قال قال رسول الله خ: "أفضل الصدقة إصلاح ذات البين". [رواه الطبراني، وصححه الألباني لغيره]
وهذه الأنواع التي أشار إليها النبي خ من الصدقة؛ منها ما نفعه متعدٍ كا?صلاح بين الناس، وإعانة الرجل على رفع متاعه، والكلمة الطيبة. ويدخل فيها: السلام، وتشميت العاطس، وإزالة الأذى عن الطريق، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ودفن النخاعة في المسجد، وإعانة ذي الحاجة الملهوف، وإسماع الأصم، وتبصير المنقوص بصره، وهداية الأعمى أو غيره الطريق.. ومنها -من الصدقة- ما هو قاصر النفع علي نفس العامل، كالتسبيح والتهليل، والمشي إلى الصلاة، وصلاة ركعتي الضحى.
وفي المسند عن ابن مسعود ت عن النبي خ قال: "أتدرون أي الصدقة أفضل؟" قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: "المنحة, تمنح أخاك الدراهم أو ظهر الدابة أو لبن الشاة أو البقرة أو تمنحه بقرة أو شاة يشرب لبنها ثم يعيدها إليك".
وخرج ا?مام أحمد والترمذي من حديث البراء بن عازب ت عن النبي خ قال: "من منح منحة لبن أو وَرِق، أو هَدى زقاقا كان له مثل عتق رقبة". قال الترمذي: معنى قوله: "من منح منحة لبن أو ورق" إنما يعني به قرض الدراهم. وقوله: "أو هدى زقاقا" إنما يعني به هداية الطريق, وهو إرشاد السبيل.
} - {
نفقة الرجل على أهله صدقة:(1/124)
ففي الصحيحين عن أبي مسعود الأنصاري ت عن النبي خ قال: "نفقة الرجل على أهله صدقة". وهذا مقيد بابتغاء وجه الله، كما في حديث سعد ابن أبي وقاص ت عن النبي قال: "إنك لن تُنفق نفقة تبتغي بها وجه الله إلا أُجِرت عليها حتى اللقمة ترفعها إلى فيِّ امرأتك". [متفق عليه]
وعن ثوبان ت عن النبي خ قال: "أفضل دينار دينار ينفقه الرجل على عياله, ودينار ينفقه الرجل على دابته في سبيل الله, ودينار ينفقه الرجل على أصحابه في سبيل الله". [رواه الترمذي، وابن ماجه، وصححه الألباني]
قال أبو قلابة عند رواية هذا الحديث: بدأ بالعيال، وأي رجل أعظم أجرا من رجل ينفق على عيال له صغار يعفهم الله به، ويغنيهم الله به.
وفي صحيح مسلم عن جابر ت عن النبي خ قال: "ما من مسلم يغرس غرسا إلا كان ما أُكل منه له صدقة, وما سُرق منه له صدقة, وما أكل السبع منه فهو له صدقة، وما أكلت الطيور فهو له صدقة، ولا يرزأه أحد إلا كان له صدقة".
} - {
كف الأذى عن الناس باليد واللسان صدقة:
كما في الصحيحين عن أبي ذر ت قال: قلت يا رسول الله! أي الأعمال أفضل؟ قال: "ا?يمان بالله والجهاد في سبيل الله". قلت: أي الرقاب أفضل؟ قال: "أنفَسُها عند أهلها وأكثرها ثمنا". قلت: فإن لم أفعل؟ قال: "تعين صانعا أو تصنع لأخرق". قلت: أرأيت إن ضعفت عن بعض العمل؟ قال: "تكف شرك عن الناس فإنها صدقة منك على نفسك".
} - {
المشي بحقوق الآدميين الواجبة اليهم صدقة:
قال ابن عباس ب: مَن مشى بحق أخيه إليه ليقضيه فله بكل خطوة صدقة.
وحقوق المسلم على المسلم ذكرها مسلم في صحيحه عن أبي هريرة ت عن النبي خ قال: "للمسلم على المسلم ست". قيل: ما هن يا رسول الله؟ قال: "إذا لقيته تسلم عليه, وإذا دعاك فأجبه, وإذا استنصحك فانصح له, وإذا عطس فحمد الله فشمته, وإذا مرض فعده, وإذا مات فاتبعه".
} - {
إنظار المعسر صدقة:(1/125)
أي إمهال الذي لا يملك ما يقضي به دَينه. ففي المسند وسنن ابن ماجه عن بريدة مرفوعا: "مَن أنظر معسرا فله كل يوم صدقة قبل أن يحل الدَّين, فإذا حل الدَّين فأنظره بعد ذلك فله كل يوم مثليه صدقة".
قال تعالى: { وَإِن كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَن تَصَدَّقُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ } [البقرة:280]
أي: إذا أُعسر المقترض فأمهلوه حتى ييسر الله له السداد، وإن أسقطتم بعض حقكم عنه فهذا أجمل وأحسن إذا علمتم أن الله سوف يجازي المحسن بإحسانه فيتجاوز عنه كما تجاوز عن المعسر.
وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة ت عن النبي خ قال: "ومَن يسر على معسر يسر الله عليه في الدنيا و الآخرة.."
والتيسير على المعسر في الدنيا من جهة المال يكون بأحد أمرين: إما بإنظاره إلى الميسرة، أو بالوضع عنه إن كان غريما، وإلا فبإعطائه ما يزول به إعساره. وكلا الأمرين له فضل عظيم.
وفي الصحيحين عن أبي هريرة ت عن النبي خ قال: " كان تاجر يداين الناس, فإذا رأى معسرا قال لصبيانه: تجاوزوا عنه لعل الله يتجاوز عنا, فتجاوز الله عنه".
وخرج مسلم من حديث أبي قتادة عن النبي خ قال: "من سره أن ينجيه الله من كرب يوم القيامة فلينفس عن معسر أو يضع عنه".
} - {
فائدة:
الصدقة التي تتعدى منفعتها إلى الغير أفضل من التي يكون نفعها قاصرا على صاحبها. ولهذا كان فضل العالم على العابد كفضل القمر على سائر الكواكب. وقد قال رسول الله خ: "مَن دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور مَن تبعه مِن غير أن ينقص مِن أجورهم شيء".
وإن صاحب الصدقة التي نفعها قاصر عليه إذا مات انقطع عمله. أما صاحب الصدقة التي يتعدى نفعها؛ فلا ينقطع عمله مادام نفعه الذي نُسب إليه.
فيا وحيدا عما قليل في رمسه.. يا مستوحشا في قبره
بعد طول أنسه.. لو قدم خيرا نفعه في حبسه..
لا تدخلنكَ ضجرةٌ من سائلٍ ... ... فلخيرُ دهرِكَ أنْ تُرى مسئولا(1/126)
لا تجبهنْ بالردِّ وجهَ مُؤمِّلٍ ... ... فبقاءُ عزِّكَ أنْ تُرى مأمولا
تلقى الكريم فتستدلَّ ببِشرِه ... وترى العبوسَ على اللئيمِ دليلا
واعلم بأنكَ عن قليلٍ صائرٌ ... ... خبرًا فكن خبرًا يروقُ جميلا
مجالس الذكر تغفر الذنوب:
عن أبي هريرة ت قال: قال رسول الله خ: "إن لله ملائكة يطوفون في الطرق يلتمسون أهل الذكر، فإذا وجدوا قوما يذكرون الله تنادوا: هلموا إلى حاجتكم. قال: فيحفونهم بأجنحتهم إلى السماء الدنيا. قال: فيسألهم ربهم وهو أعلم منهم: ما يقول عبادي؟ قالوا: يقولون: يسبحونك ويكبرونك ويحمدونك ويمجدونك. قال: فيقول: هل رأوني؟ قال: فيقولون: لا والله ما رأوك. قال: فيقول: وكيف لو رأوني؟ قال: يقولون: لو رأوك كانوا أشد لك عبادة، وأشد لك تمجيدا وتحميدا، وأكثر لك تسبيحا. قال: يقول: فما يسألوني؟ قال: يسألونك الجنة. قال: يقول: وهل رأوها؟ قال: يقولون: لا والله يا رب ما رأوها. قال: يقول: فكيف لو أنهم رأوها؟ قال: يقولون: لو أنهم رأوها كانوا أشد عليها حرصا، وأشد لها طلبا، وأعظم فيها رغبة. قال: فمم يتعوذون؟ قال: يقولون: من النار. قال: يقول: وهل رأوها؟ قال: يقولون: لا والله يا رب ما رأوها. قال: يقول: فكيف لو رأوها؟ قال: يقولون: لو رأوها كانوا أشد منها فرارا، وأشد لها مخافة. قال: فيقول: فأشهدكم أني قد غفرت لهم. قال: يقول ملك من الملائكة: فيهم فلان ليس منهم، إنما جاء لحاجة. قال: هم الجلساء لا يشقى بهم جليسهم". [رواه البخاري]
قال عطاء: مجالس الذكر هي مجالس الحلال والحرام؛ كيف تشتري وتبيع, وتصلي وتصوم, وتنكح وتطلق وتحج..
وقال القرطبي: مجلس ذكر يعني مجلس علم وتذكير. وهي المجالس التي يُذكر فيها كلام الله وسنة رسوله، وأخبار السلف الصالحين وكلام الأئمة الزهاد المتقدمين.
وقال عمر ت: إن الرجل ليخرج من منزله وعليه من الذنوب مثل جبال تهامة, فإذا سمع العلم خاف الله واسترجع من ذنوبه؛ فينصرف إلى منزله(1/127)
وليس عليه ذنب. فلا تفارقوا مجالس العلم؛ فإن الله لم يخلق
على وجه الأرض أكرم من مجالسهم.
وفي مسند ا?مام أحمد عن أنس ت عن النبي خ أنه قال: "ما من قوم اجتمعوا يذكرون الله لا يريدون بذلك إلا وجه الله؛ إلا ناداهم منادٍ من السماء: قوموا مغفورا لكم قد بُدلت سيئاتُكم حسنات".
وقال تعالى في الحديث القدسي: "أنا عند ظن عبدي بي، (1) وأنا معه حين يذكرني, فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي, وإن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منه, وإن تقرب إليَّ شبرا تقربت إليه ذراعا, وإن تقرب إليَّ ذراعا تقربت إليه باعا, وإن أتاني يمشي أتيته هرولة" (2) [رواه البخاري ومسلم]
قال عمر بن الخطاب: أفضل مِن ذكر الله باللسان ذكر الله عند أمره ونهيه، وهو الذي في قوله تعالى: { وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ } [آل عمران:135]
فدخل فيه التوبة، ودخل فيها الارتداع عن المظالم كلها؛ من القتل وأخذ
أموال الناس، والحِرابة، والإِضرار بالناس في المعاملات.
قال المناوي في "فيض القدير": [ذكر الله شفاء القلوب مما يلحقها من ظُلمة الذنوب، ويدنسها من درن الغفلة؛ ولهذا كان المصطفى خ أكمل الناس ذكرًا، بل كان كلامه كله في ذكر الله وما والاه؛ أمره ونهيه، وتشريعه، وإخباره عن أسماء الرب وصفاته وأحكامه وأفعاله، ووعده ووعيده، وتمجيده وتسبيحه وتحميده، ورغبته ورهبته؛ ذكرًا منه بلسانه وصمته، وذكرًا منه بقلبه في كل أحيانه.
__________
(1) أي: إن ظن أن الله يقبل دعاءه وهو يدعوه قبله, ومن استغفر وظن أن الله يغفر له غفر الله له.
(2) أي أنه كلما زاد إقبال العبد على ربه كان الله له بكل خير أسرع.(1/128)
قال الراغب: ذكر الله تارة يكون لعظمته؛ فيتولد منه الهيبة والإجلال. وتارة لقدرته؛ فيتولد منه الخوف والحزن. وتارة لفضله ورحمته؛ فيتولد منه الرجاء. وتارة لنعمته؛ فيتولد منه العز. فحق المؤمن أن لا ينفك أبدًا عن ذكره على أحد هذه الوجوه.] ا.هـ
} - {
رياض الجنة:
أخرج البيهقي والطبراني والبزار والحاكم في "المستدرك" من حديث جابر بن عبد الله بقال: خرج علينا رسول الله خ فقال: "أيها الناس! إن لله سرايا من الملائكة, تحل وتقف على مجالس الذكر في الأرض, فارتعوا في رياض الجنة". قالوا: وأين رياض الجنة؟ قال: "مجالس الذكر. فاغدوا وروحوا في ذكر الله, وذكِّروا أنفسكم. من كان يريد أن يعلم منزلته عند الله فلينظر كيف منزلة الله عنده؛ فإن الله ينزل العبد منه حيث أنزله من نفسه". [ضعفه الألباني]
فإن جماعة المشتغلين بذكر الله عز وجل, والمشتغلين بالعلم النافع؛ وهو
علم الكتاب والسنة وما يتوصل به إليهما؛ يرتعون في رياض الجنة.
مجالسُهُم مثلُ الرياضِ أنيقةٌ ...
لقد طابَ منها الريحُ واللونُ والطعمُ
هذه مجالس المؤمنين, لا تعرف لها هدفا إلا زيادة ا?يمان. وقد كان ابن رواحة يأخذ بيد أبي الدرداء ويقول: "تعالَ نؤمن ساعة".. فيتذكران أمر ا?يمان, ويتعرفان على مسالك التوبة, ويتآمران بصدقة أو معروف أو إصلاح بين الناس.
} - {
مجالس الذكر تغشاها الرحمة:
أخرج مسلم في صحيحه عن أبي هريرة ت عن النبي خ قال: "ما جلس قوم في بيت من بيوت الله، يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده". (1)
__________
(1) (نزلت عليهم السكينة) أي الطمأنينة والوقار - (وغشيتهم الرحمة) أي غطتهم الرحمة - (وحفتهم الملائكة) أي أحاطت بهم الملائكة الذين يطوفون في الطريق يلتمسون أهل الذكر - (وذكرهم الله فيمن عنده) أي ذكرهم الله مباهاة وافتخارا بهم بالثناء الجميل عليهم وبوعد الجزاء الجزيل لهم.(1/129)
وإنه ما من عبد يذهب إلى مجلس ذكر إلا أكرمه الله بكرامات: فإنه لا يزال محبوسا عن الذنوب والخطايا مادام في المجلس. وتُكتب له الحسنات
ما دام مستمعا. وكل قدم يرفعها ويضعها تكون كفارة
للذنوب, ورفعا للدرجات, وزيادة في الحسنات.
وينال فضل طلب العلم.
} - {
فضل طالب العلم:
عن أبي هريرة ت قال: قال رسول الله خ: ".. ومن سلك طريقا يلتمس فيه علما سهل الله له طريقا إلى الجنة.." [رواه مسلم]
فإن الله ييسر لطالب العلم إذا قصد بطلبه وجه الله تعالى والانتفاع به والعمل بمقتضاه؛ فيكون سببا لهدايته ولدخول الجنة بذلك.
فإن العلم يدل على الله من أقرب الطرق إليه. فلا طريق إلى معرفة الله، وإلى الوصول إلى رضوانه والفوز بقربه ومجاورته في الآخرة؛ إلا بالعلم النافع الذي بعث الله به رسله، وأنزل به كتبه.
وعن صفوان بن عسال ت قال: أتيت النبي خ وهو في المسجد متكئ على بُرد له أحمر. فقلت: يا رسول الله! إني جئت أطلب العلم. قال: "مرحبا بطالب العلم. إن طالب العلم لتحف به الملائكة وتظله بأجنحتها؛ فيركب بعضها بعضا حتى تبلغ السماء الدنيا؛ من حبهم لما يطلب". [رواه أحمد والطبراني وحسنه الألباني]
وقال ا?مام أحمد: الناس محتاجون إلى العلم أكثر من حاجتهم إلى الطعام والشراب؛ لأن الطعام والشراب يُحتاج إليه في اليوم مرة أو مرتين، والعلم يُحتاج إليه بعدد الأنفاس.
ففُزْ بعلمٍ تعشْ حيًّا به أبدا الناسُ موتى وأهلُ العلمِ أحياءُ
} - {
الله تعالى يباهي الملائكة بالمجتمعين في مجالس الذكر:(1/130)
عن أبي سعيد الخدري قال: خرج معاوية على حلقة في المسجد، فقال: ما أجلسكم؟ قالوا: جلسنا نذكر الله. قال: آلله ما أجلسكم إلا ذاك؟ قالوا: والله ما أجلسنا إلا ذاك. قال أما إني لم أستحلفكم تهمة لكم، وما كان أحد بمنزلتي من رسول الله خ أقل عنه حديثا مني، وإن رسول الله خ خرج على حلقة من أصحابه فقال: "ما أجلسكم؟" قالوا: جلسنا نذكر الله ونحمده على ما هدانا للإسلام ومنَّ به علينا. قال: "آلله ما أجلسكم إلا ذاك؟" قالوا: والله ما أجلسنا إلا ذاك. قال: "أما إني لم أستحلفكم تهمة لكم، ولكنه أتاني جبريل فأخبرني أن الله عز وجل يباهي بكم الملائكة". [رواه مسلم]
لو يعلم الناسُ ما في الذكرِ من شرفٍ ... لم يُلههم عنه تجميعُ الدنانيرِ
ولم يبالوا بأوراقٍ و لا ذهبٍ ... ولو تجمَّعَ آلافُ القناطيرِ
ِ } - {
الذكر عبودية القلب واللسان:
أنواع الذكر ثلاثة: ثناء، ودعاء، ورعاية (مراقبة).
فأما ذكر الثناء فنحو: سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر. ففي الصحيحين من حديث أبي هريرة ت عن النبي خ أنه قال: "من قال: (لا إله إلا الله وحده لا شريك له, له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير) في كل يوم مائة مرة؛ كانت له عدل عشر رقاب، وكُتبت له مائة حسنة، ومُحيت عنه مائة سيئة، وكانت له حرزا من الشيطان يومه ذلك حتى يمسي، ولم يأتِ أحد بأفضل مما جاء به إلا أحد عمل أكثر من ذلك".
وفي الصحيحين أيضا عن النبي خ: "مَن قال في يوم وليلة: سبحان الله وبحمده مائة مرة؛ حُطت خطاياه وإن كانت مثل زبد البحر".
وأما ذكر الدعاء فنحو: { رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ } [الأعراف:23]، ومثل: "يا حي يا قيوم برحمتك أستغيث".(1/131)
وأما ذكر الرعاية: فمثل قول الذاكر: الله معي, الله ناظر إليّ, الله شاهدي.. ونحو ذلك مما يُستعمل لتقوية المراقبة. وفيه رعاية لمصلحة القلب, ولحفظ الأدب مع الله, والتحرز من الغفلة, والاعتصام من الشيطان والنفس.
ودوام الذكر تكثير لشهود العبد يوم القيامة, وسبب لاشتغال العبد عن الكلام الباطل من الغيبة والنميمة وغير ذلك. فإما لسان ذاكر، وإما لسان لاغٍ..
فـ[منزلة الذكر هي منزلة القوم الكبرى التي منها يتزودون، وفيها يتجرون، وإليها دائما يترددون.. والذكر منشور الولاية الذي مَن أُعطيه اتصل، ومَن مُنعه عُزل.. وهو قوت قلوب القوم؛ الذي متى فارقها صارت الأجساد لها قبورًا. وعمارة ديارهم التي إذا تعطلت عنه صارت بورًا.. وهو سلاحهم الذي يقاتلون به قطاع الطريق، وماؤهم الذي يطفئون به التهاب الطريق، ودواء أسقامهم الذي متى فارقهم انتكست منهم القلوب، والسبب الواصل والعلاقة التي كانت بينهم وبين علام الغيوب..
إذا مَرضنا تَداوينا بذِكرِكُمُ ونَتركُ الذكرَ أحيانًا فننتَكِسُ
به يستدفعون الآفات، ويستكشفون الكربات، وتهون عليهم به المصيبات.. إذا أظلمهم البلاء فإليه ملجؤهم، وإذا نزلت بهم النوازل فإليه مفزعهم.. فهو رياض جنتهم التي فيها يتقلبون، ورءوس أموال سعادتهم التي بها يتجرون.. يدع القلب الحزين ضاحكًا مسرورًا، ويوصل الذاكر إلى المذكور بل يدع الذاكر مذكورًا..(1/132)
وفي كل جارحة من الجوارح عبودية مؤقتة. والذكر عبودية القلب واللسان؛ وهي غير مؤقتة. بل هم يأمرون بذكر معبودهم ومحبوبهم في كل حال؛ قيامًا وقعودًا وعلى جنوبهم.. فكما أن الجنة قيعان وهو غراسها، فكذلك القلوب بور وخراب وهو عمارتها وأساسها، وهو جلاء القلوب وصقالها ودواؤها إذا غشيها اعتلالها.. وكلما ازداد الذاكر في ذكره استغراقا؛ ازداد المذكور محبة إلى لقائه واشتياقًا.. وإذا واطأ في ذكره قلبه للسانه؛ نسي في جنب ذكره كل شيء، وحفظ الله عليه كل شيء، وكان له عوضًا من كل شيء..
به يزول الوقر عن الأسماع، والبكم عن الألسن، وتنقشع الظلمة عن الأبصار.. زين الله به ألسنة الذاكرين، كما زين بالنور أبصار الناظرين؛ فاللسان الغافل كالعين العمياء والأذن الصماء واليد الشلاء.. وهو باب الله الأعظم؛ المفتوح بينه وبين عبده ما لم يغلقه العبد بغفلته..
قال الحسن البصري: تفقدوا الحلاوة في ثلاثة أشياء: في الصلاة، وفي الذكر، وقراءة القرآن. فإن وجدتم، وإلا فاعلموا أن الباب مغلق!
وبالذكر يصرع العبد الشيطان، كما يصرع الشيطان أهل الغفلة والنسيان.. قال بعض السلف: إذا تمكن الذكر من القلب، فإن دنا منه الشيطان صرعه كما يُصرع الإنسان إذا دنا منه الشيطان، فيجتمع عليه الشياطين فيقولون: ما لهذا؟ فيقال: قد مسه الإنسي!
وهو روح الأعمال الصالحة، فإذا خلا العمل عن الذكر كان كالجسد الذي لا روح فيه..] [مدارج السالكين]
فسبحان من قضى على الغافلين كسلا وقعودا.. ورفع المتقين علوا وصعودا.. ومنحهم من إنعامه فوزا وسعودا.. أنعم عليهم فأعطاهم.. واستخلصهم واصطفاهم.. اشتغل الناس بدنياهم؛ واشتغلوا بذكر محبوبهم؛ فهم
{ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ } [آل عمران:191]
فأكثِرْ ذكرَه في الأرضِ دأبًا ... لتُذكرَ في السماءِ إذا ذكرتا
ولازِمْ بابَه قَرعًا عساهُ ... سيُفتَحُ بابُه لك إنْ قَرعتا
...(1/133)
عن ابن عمر ب قال: أتى النبي خ رجل فقال: إني أذنبت ذنبا عظيما؛ فهل لي من توبة؟ فقال: "هل لك من أم؟". قال: لا. قال: "فهل لك من خالة؟". قال: نعم. قال: "فبرها". [رواه الترمذي، وصححه الألباني]
والبر اسم جامع للخير، وهو ضد العقوق. ومعناه الصلة وفعل الخير، والتوسع فيه، واللطف والطاعة.
وقد أوجب الله طاعة الوالدين, وكتب على الولد برهما وا?حسان إليهما؛ حتى قرن ذلك بحقه الواجب له من عبادته وحده، فقال عز وجل: { وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا . وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا } [الإسراء:23-24]
ففي قوله تعالى: (وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ) أمر بتوحيد المعبود. وهو أمر حتمي حتمية القضاء. والرابطة الأولى بعد رابطة العقيدة هي رابطة الأسرة, ومِن ثَم يربط السياق بر الوالدين بعبادة الله إعلانا لقيمة هذا البر عند الله: (وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا . وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا).
بهذه العبارات الندية, والصور الموحية؛ يستجيش القرآن الكريم وجدان البر والرحمة في قلوب الأبناء.(1/134)
ذلك أن الحياة وهي مندفعة في طريقها بالأحياء توجه اهتمامهم القوي إلى الأمام: إلى الذرية.. إلى الناشئة الجديدة.. إلى الجيل المقبل. وقلما توجه اهتمامهم إلى الوراء: إلى الأبوة.. إلى الحياة المولية.. إلى الجيل الذاهب! ومِن ثَم تحتاج البنوة إلى استجاشة وجدانها بقوة لتنعطف إلى الخلف, وتتلفت إلى الآباء والأمهات.
إن الوالدين يندفعان بالفطرة إلى رعاية الأولاد. إلى التضحية بكل شيء حتى بالذات. وكما تمتص النابتة الخضراء كل غذاء في الحبة فإذا هي فتات، ويمتص الفرخ كل غذاء في البيضة فإذا هي قشر؛ كذلك يمتص الأولاد كل رحيق وعافية، وكل جهد وكل اهتمام من الوالدين؛ فإذا هما شيخوخة فانية, وهما مع ذلك سعيدان!
فأما الأولاد فسرعان ما ينسون هذا كله, ويندفعون بدورهم إلى الأمام: إلى الزوجات والذرية.. ومِن ثَم لا يحتاج الآباء إلى توصية بالأبناء, إنما يحتاج هؤلاء إلى استجاشة وجدانهم بقوة ليذكروا واجب الجيل الذي أنفق رحيقه كله حتى أدركه الجفاف!
وهنا يجيء الأمر با?حسان إلى الوالدين في صورة قضاء من الله يحمل معنى الأمر المؤكد؛ بعد الأمر المؤكد بعبادة الله.
(إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا): والكبر له جلاله, وضعف الكبر له إيحاؤه. وكلمة (عندك) تصور معنى الالتجاء والاحتماء في حالة ضعف الكبر..(1/135)
ولما كان طول المكث يوجب الاستثقال للمرء عادة, ويحصل الملل, ويكثر الضجر؛ فيُظهر الابن غضبه على أبويه, وتنتفخ لهما أوداجه, وأقل المكروه ما يظهره بتنفسه المتردد من الضجر؛ وقد أُمر أن يقابلهما بالقول الموصوف بالكرامة, وهو السالم من كل عيب، فقال تعالى: (فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا) وقد صارت كلمة (أفٍّ) للأبوين أردأ شيء؛ لأنها كلمة تقال لكل شيء مرفوض, كما قال إبراهيم ؛ لقومه: { أُفٍّ لَكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ } [الأنبياء:67]. أي: رفض لكم ولهذه الصنام معكم.
وإن كانت هذه الكلمة أدنى مراتب القول السيء؛ فهي للأبوين كفر للنعمة، وجحد للتربية, ورد الوصية التي أوصى الله بها في التنزيل.
وقوله: (وَلَا تَنْهَرْهُمَا) النهر هو الزجر والغلظة. و قوله: (وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا) أي: لينا لطيفا مثل: يا أبتاه, ويا أماه. من غير أن يسميهما أو يكنيهما.
قال ابن الهداج التحبيبي: قلت لسعيد بن المسيب: كل ما في القرآن من بر الوالدين عرفته إلا قوله: (وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا)، ما هذا القول الكريم؟ قال ابن المسيب: قول العبد المذنب للسيد الفظ الغليظ.
(وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ): هذه استعارة في الشفقة والرحمة بهما والتذلل لهما تذلل الرعية للأمير والعبيد للسادة. فينبغي بحكم هذه الآية أن يجعل ا?نسان نفسه مع أبويه في خير ذلة في أقواله وسكناته ونظره. فلا يُحِد إليهما النظر، فقد ورد في الأثر: "ما بر أباه مَن سدد إليه الطرف بالغضب".(1/136)
(وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا): ذكرى الطفولة الضعيفة يرعاها الوالدان, وهما اليوم في مثلها من الضعف والحاجة إلى الرعاية والحنان. وتوجه إلى الله أن يرحمهما. فرحمة الله أوسع، ورعاية الله أشمل, وجناب الله أرحب، وهو أقدر على جزائهما بما بذلا مما لا يقدر على جزائه الأبناء.
عن أبي هريرة ت قال: قال رسول الله خ: "لا يجزي ولد والده إلا أن يجده مملوكا فيشتريه فيعتقه". [رواه مسلم وأبو داود]
وكان أبو هريرة ت إذا أراد أن يخرج من بيته وقف على باب أمه، فقال: السلام عليك يا أماه ورحمة الله وبركاته. فتقول: وعليك السلام ورحمة الله وبركاته. فيقول: رحمك الله كما ربيتني صغيرا. فتقول: رحمك الله كما بررتني كبيرة. وإذا أراد أن يخرج صنع مثل ذلك.
} - {
الإحسان إلى الوالدين واحتساب برهما عند الله يجعل للعبد طريقا مفتوحا إلى الجنة:
روي البخاري في (الأدب المفرد) عن ابن عباس ب قال: ما من مسلم له والدان مسلمان يصبح إليهما محتسبا إلا فتح الله له بابين -يعني من الجنة- وإن كان واحدًا فواحد. وإن غضب أحدهما لم يرضَ الله عنه حتى يرضى عنه. قيل: وإن ظلماه؟ قال: وإن ظلماه.
وقد ورد في الأثر: رضا الله في رضا الوالدين, وسخط الله في سخط الوالدين.
عن عائشة ل قالت: قال رسول الله خ: "نمت فرأيتني في الجنة. فسمعت صوت قارئ يقرأ، فقلت: مَن هذا؟ قالوا: هذا حارثة بن النعمان". فقال لها رسول الله : "كذاك البر.. كذاك البر". وكان أبر الناس بأمه. [رواه أحمد]
وقد ربى السلف الصالح أبناءهم على هذا المعنى فعاشوا حياتهم حريصين على رضا الله عز وجل ورضا آبائهم.
رأى عمر بن عبد العزيز ولدا له في يوم عيد وعليه ثوب خَلَق؛ فدمعت عيناه, فرآه ولده, فقال: ما يبكيك يا أمير المؤمنين؟ قال: يا بني! أخشى أن ينكسر قلبك إذا رآك الصبيان بهذا الثوب الخلق.
قال: يا أمير المؤمنين! إنما ينكسر قلب مَن أعدمه الله رضاه, أو عقَّ أمه(1/137)
وأباه. وإني لأرجو أن يكون الله تعالى راضيا عني برضاك.
} - {
تقديم الأم في البر:
قال ابن حجر: جاء ما يدل على تقديم الأمر في البر مطلقا. وهو ما أخرجه أحمد والنسائي، وصححه الحاكم والبزار بإسناد حسن من حديث عائشة ل: سألت النبي خ: أي الناس أعظم حقا على المرأة؟ قال: "زوجها". قلت: فعلى الرجل؟ قال: "أمه".
وفي صحيح البخاري عن أبي هريرة ت قال: جاء رجل إلى رسول الله خ فقال: يا رسول الله! من أحق الناس بحسن صحابتي؟ قال: "أمك". قال: ثم من؟ قال: "أمك". قال: ثم من؟ قال: "أمك". قال: ثم من؟ قال: "أبوك".
وقد أخرج البخاري في (الأدب المفرد): إن الله يوصيكم بأمهاتكم، ثم يوصيكم بأمهاتكم، ثم يوصيكم بأمهاتكم، ثم يوصيكم بآبائكم، ثم يوصيكم بالأقرب فالأقرب.
رأى ابن عمر ب رجلا قد حمل أمه على رقبته وهو يطوف بها حول الكعبة، فقال: يا ابن عمر! أتراني جازيتها؟ قال: لا.. ولا بطلقة من طلقاتها، ولكن قد أحسنتَ، والله يثيبك على القليل كثيرا.
وقالت عائشة ل: كان رجلان من أصحاب رسول الله خ أبر مَن كان في هذه الأمة بأمهما: عثمان بن عفان، وحارثة بن النعمان ب. أما عثمان فإنه قال: ما قدرت يوما أتأمل وجه أمي منذ أسلمت. وأما حارثة فكان يطعمها بيده، ولم يستفهمها كلاما قط تأمره به حتى يسأل مَن عندها بعد أن يخرج: ماذا قالت أمي؟
وقيل لعلي بن الحسين ب: إنك من أبر الناس, ولا تأكل مع أمك في صحفة؟! فقال: أخاف أن تسبق يدي يدها إلى ما تسبق عيناها إليه فأكون قد عققتها.
وكان ظبيان بن عليّ من أبر الناس بأمه, فباتت ليلة وفي صدرها عليه شيء، فقام على رجليه واقفا يكره أن يوقظها, ويكره أن يقعد, حتى إذا ضعف جاء غلامان من غلمانه؛ فما زال يعتمد عليهما حتى استيقظت من قِبَل نفسها. وكان يسافر بها إلى مكة، فإذا كان يوم حار حفر بئرا، ثم جاء بنطع فصب فيه الماء، ثم يقول لها: ادخلي تبردي في هذا الماء.(1/138)
وقال ابن المنكدر: بت أغمز (1) رِجْلَ أمي, وبات أخي عمر يصلي. وما سرني أن ليلتي بليلته!
وعن ابن عون أن أمه نادته فأجابها, فعلا صوته على صوتها فأعتق رقبتين.
وعن ابن سيرين، قال: بلغت النخلة ألف درهم، فنقرت نخلة من جُمارها. فقيل لي: عقرت نخلة تبلغ كذا، وجماره بدرهمين؟ قلت: قد سألتني أمي، ولو سألتني أكثر من ذلك لفعلت.
وعن سفيان الثوري، قال: كان ابن الحنفية يغسل رأس أمه بالخطمي ويمشطها ويخضبها.
وعن هشام، قال: كانت حفصة تترحم على هذيل، وتقول: كان يعمد إلى القصب فيقشره ويجففه في الصيف لئلا يكون له دخان. فإذا كان الشتاء جاء حتى قعد خلفي وأنا أصلي، فيوقد وقودا رفيقا ينالني حره ولا يؤذيني دخانه. وكنت أقول له: يا بني! الليلة اذهب إلى أهلك. فيقول: يا أماه! أنا أعلم ما يريدون. فأدعه فربما كان ذلك حتى يصبح. وكان يبعث إليّ بحلبة الغداة، فأقول: يا بني! تعلم أني لا أشرب نهارا. فيقول: أطيب اللبن ما بات في الضرع، فلا أحب أن أؤثر عليك، فابعثي به إلى من أحببت.
لأمِّكَ حقٌّ لو علمتَ كثيرُ ... كثيرُكَ يا هذا لديهِ يسيرُ
فكم ليلةٍ باتتْ بثقَلِكَ تشتكي ... لها مِن جَوَّاها أنَّةٌ وزفيرُ
وفي الوضعِ لو تدري عليها مشقةٌ ... فمِن غُصَصٍ منها الفؤادُ يطيرُ
وكم غسلَتْ عنكَ الأذي بيمينِها وتفديكَ مما تشتكيهِ بنفسِها ... وما حِجرُها إلا لديكَ سريرُ
وكم مرةٍ جاعتْ وأعطتْكَ قُوتَها ... ومِن ثديِها شربٌ لديكَ نميرُ
فدونَكَ فارغب في عميمِ دعائها ... حنانًا وإشفاقًا وأنتَ صغيرُ
فأنتَ لما تدعو إليهِ فقيرُ
- - -
حقوق الأبوين
الإنفاق عليهما:
قال تعالى: { وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا } [الإسراء:23]. وليس من ا?حسان أن يعيشا في فاقة وابنهما موسر.
عن جابر ت أن رجلا جاء إلى النبي خ فقال: يا رسول الله! إن أبي يريد أن يجتاح مالي. فقال خ: "أنت ومالك لأبيك". [صححه الألباني في صحيح الجامع]
__________
(1) أي يدلكها من مرض ألَمَّ بها.(1/139)
ا?كثار من الدعاء والاستغفار لهما:
قال تعالى: (وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا) فهذا أمر من الله بالترحم على الوالدين والدعاء لهما.
قال سفيان الثوري في قوله تعالى: (أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ): مَن صلى الصلوات الخمس فقد شكر الله تعالى, ومَن دعا لوالديه في أدبار الصلوات فقد شكرهما.
وقيل: الشكر لله على نعمة ا?يمان، وللوالدين على نعمة التربية.
قال ابن عباس ب: ثلاث آيات نزلت مقرونة بثلاث؛ لا تقبل منها واحدة بغير قرينتها: (الأولى): قول الله تعالى: (أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ) فمن أطاع الله ولم يطع الرسول لم يُقبل منه. (الثانية): قول الله تعالى: (وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآَتُوا الزَّكَاةَ) فمَن صلى ولم يزكِّ لم يُقبل منه. (الثالثة): قول الله تعالى: (أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ) فمَن شكر الله ولم يشكر والديه لم يُقبل منه.
ورُوي عن بعض السلف أنه قال: ترك الدعاء للوالدين يضيق العيش على الولد.
توقيرهما و احترامهما:
روي البخاري في (الأدب المفرد) أن أبا هريرة أبصر رجلين فقال لأحدهما: ما هذا منك؟ فقال: أبي. فقال: لا تسمه باسمه، ولا تمشِ أمامه, ولا تجلس قبله.
وقيل لعمر بن زيد: كيف بر ابنك بك؟ قال: ما مشيت نهارا قط إلا وهو خلفي، ولا ليلا إلا مشى أمامي, ولا رقى سطحا وأنا تحته.
ومن توقيرهما: النهوض لهما إذا دخلا عليه, ومخاطبتهما بأدب ولطف, وتقبيل يديهما, وعدم رفع الصوت أثناء الحديث معهما, وعدم مقاطعتهما أثناء الكلام, وعدم الخروج من الدار إذا لم يأذنا, وعدم لومهما إذا عملا عملا لا يعجبه, وعدم مد اليد إلى الطعام قبلهما, وعدم مد الرجلين أمامهما, وتلبية ندائهما بسرعة في حال النداء.
العمل على ما يسرهما من غير أن يأمرا به:(1/140)
قال المأمون: لم أرَ أحدًا أبر بأبيه من الفضل بن يحيي؛ بلغ من بره أن يحيي كان لا يتوضأ إلا بماء مسخن وهما في السجن, فمنعهما السجان من إدخال الحطب في ليلة باردة, فقام الفضل -حيث أخذ أبوه يحيي مضجعه- إلى قمقم كان يسخن فيه الماء, فملأه ثم أدناه من نار المصباح, فلم يزل قائما وهو في يده حتى أصبح. فعل هذا برًّا بأبيه ليتوضأ بالماء الساخن.
وهذا النوع من البر عون للعبد على تفريج الكروب في الدنيا. ففي حديث الغار الذي رواه البخاري عن ابن عمر ب عن النبي خ أن أحد الثلاثة الذين كادوا أن يهلكوا في الغار بعدما سُد عليهم بصخرة انحدرت من الجبل؛ جعل يدعو الله بصالح عمله قائلا: "اللهم كان لي أبوان شيخان كبيران, وكنت لا أغبق قبلهما أهلاً ولا مالاً, فنأى بي طلب الشجر يوما فلم أرح عليهما حتى ناما, فحلبت لهما غبوقهما فوجدتهما نائمين, فكرهت أن أوقظهما وأن أغبق قبلهما أهلاً أو مالاً, فلبثت والقدح على يدي أنتظر استيقاظهما حتى برق الفجر؛ والصبية يتضاغون عند قدمي, فاستيقظا فشربا غبوقهما. اللهم إن كنت فعلت ذلك ابتغاء وجهك ففرج عنا ما نحن فيه من هذه الصخرة؛ فانفرجت شيئا لا يستطيعون الخروج منه.."
برهما بعد وفاتهما:
روي أبو داود وابن ماجه والحاكم عن مالك بن ربيعة قال: بينما نحن عند رسول الله خ إذ جاءه رجل من بني سلمة, فقال: يا رسول الله! هل بقي عليّ من بر أبويّ شيء أبرهما به بعد وفاتهما؟ قال: "نعم.. الصلاة عليهما (1) , والاستغفار لهما, وإنفاذ عهدهما, وإكرام صديقهما, وصلة الرحم التي لا توصل إلا بهما".
وروي البخاري في (الأدب المفرد) عن أبي هريرة ت قال: تُرفع للميت بعد موته درجته فيقول: أي ربي.. أي شيء هذا؟ فيقول له: ولدك استغفر لك.
__________
(1) الدعاء لهما بالرحمة.(1/141)
وروي مسلم في صحيحه عن عبد الله بن دينار أن عبد الله بن عمر ب لقيه رجل بطريق مكة، فسلم عليه عبد الله, وحمله على حمار كان يركبه, وأعطاه عمامة كانت على رأسه. قال ابن دينار: فقلنا له: أصلحك الله! إنهم الأعراب, وإنهم يرضون باليسير. فقال عبد الله: إن أبا هذا كان ودًّا لعمر بن الخطاب, وإني سمعت رسول الله يقول: "إن أبر البر صلة الرجل أهل ود أبيه".
ومن برهما بعد وفاتهما: قضاء دينهما, والحج عنهما, والوفاء بنذرهما.
يقول د. القرضاوي: [من مات وعليه صيام تبرأ ذمته بأحد أمرين:
(1) إما بصيام وليه عنه, لحديث عائشة ل في الصحيحين مرفوعا: "من مات وعليه صيام صام عنه وليُّه". فصيام الولي عن الميت من باب البر به لا الوجوب عليه. ويؤيد ذلك ما رواه الشيخان عن ابن عباس ب قال: جاء رجل إلى النبي خ فقال: يا رسول الله! إن أمي ماتت وعليها صوم شهر, أما أقضيه عنها؟ قال: "نعم.. فدَيْنُ الله أحقُّ أن يُقضَى".
ومن المعلوم أن ا?نسان ليس مطالَبا بقضاء دَيْن غيره إلا من باب البر والصلة؛ لأن الأصل براءة الذمم, وأن المكلف غير ملزم بأداء ما يثبت في ذمة غيره. فالصحيح جواز الصيام عن الميت لا وجوبه, وبه تبرأ ذمة الميت.
(2) وإما با?طعام عنه, أي بإخراج طعام مسكين من تركته وجوبا عن كل يوم فاته؛ لأنه دَين الله تعلق بتركته, ودَيْنُ الله أحق أن يُقضَى.
واشترط بعض الفقهاء أن يكون قد أوصى بذلك, وإلا لم يخرج من تركته شيء؛ لأنها حق الورثة.
والصحيح أن حق الورثة من بعد وصية يُوصِي بها أو دَيْن؛ وهذا دَيْن لأنه حق المساكين في ماله. والله أعلم.] [فقه الصيام](1/142)
وعن عبد الله بن بريدة عن أبيه قال: بينما أنا جالس عند رسول الله خ إذ أتته امرأة فقالت: إني تصدقت على أمي بجارية، وإنها ماتت. فقال خ: "وجب أجرك، وردها عليك الميراث". قالت: يا رسول الله! إنه كان عليها صوم شهر؛ أفأصوم عنها؟ قال: "صومي عنها". قالت: إنها لم تحج قط؛ أفأحج عنها؟ قال: "حجي عنها". [رواه مسلم]
} - {
الاختلاف في العقيدة لا يسقط حق الوالدين في
المعاملة الطيبة والصحبة الكريمة
قال تعالى: { وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا وَإِنْ جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ } [العنكبوت:8]
إن الصلة في الله هي الصلة الأولى, والرابطة في الله هي العروة الوثقى. فإن كان الوالدان مشركين فلهما ا?حسان والرعاية, لا الطاعة ولا الاتباع.
روى الترمذي عند تفسير هذه الآية أنها نزلت في سعد بن أبي وقاص ت وأمه حمنة بنت أبي سفيان. وكان بارا بأمه. فقالت له: ما هذا الدين الذي أحدثت؟ والله لا آكل أو أشرب حتى ترجع إلى ما كنت عليه أو أموت؛ فتُعَيَّر بذلك أبد الدهر؛ يقال: يا قاتل أمه! ثم إنها مكثت يوما وليلة لم تأكل ولم تشرب فجاء سعد وقال: يا أماه! لو كانت لك مائة نَفْس فخرجت نَفْسا نَفْسا ما تركتُ ديني.. فكلي إن شئتِ, وإن شئت فلا تأكلي. فلما أيست منه أكلت وشربت. فأنزل الله هذه الآية آمرا بالبر بالوالدين وا?حسان إليهما, وعدم طاعتهما في الشرك.
فالاختلاف في العقيدة لا يُسقط حق الوالدين في المعاملة الطيبة والصحية الكريمة. قال تعالى: { وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا } [لقمان:15](1/143)
وروى البخاري ومسلم عن أسماء بنت أبي بكر ل قالت: قدمت عليّ أمي وهي مشركة في عهد رسول الله خ، فاستفتيتُ رسول الله خ قلتُ: إن أمي قدمت عليّ وهي راغبة؛ (1) أفأصِلُ أمي؟ قال: "نعم.. صلي أمك".
- - -
اتق دعوة الوالدين فإنها مستجابة:
عن أبي هريرة ت قال: قال رسول الله خ: "ثلاث دعواتٍ مستجاباتٌ لا شك فيهن: دعوة المظلوم, ودعوة المسافر, ودعوة الوالد على ولده". [رواه الترمذي، وحسنه الألباني]
وروي مسلم في صحيحه عن أبي هريرة ت عن النبي خ قال: "لم يتكلم في المهد إلا ثلاثة: عيسى بن مريم, وصاحب جُريج, وكان جريج رجلا عابدا فاتخذ صومعة فأتته أمه وهو يصلي فقالت: يا جريج! فقال: أي ربِّ.. أمي وصلاتي. فأقبل على صلاته. فقالت: اللهم لا تمته حتى ينظر إلى وجوه المومسات. فتذاكر بنو إسرائيل جريجا وعبادته, وكانت امرأة بغي يُتمثَّل بحسنها فقالت: إن شئتم لأفتننه لكم. قال: فتعرضت له فلم يلتفت إليها، فأتت راعيا كان يأوي إلى صومعته، فأمكنته من نفسها فوقع عليها فحملت. فلما ولدت قالت: هو من جريج. فأتوه فاستنزلوه وهدموا صومعته وجعلوا يضربونه. فقال: ما شأنكم؟ قالوا: زنيتَ بهذه البغي؛ فولدت منك! فقال: أين الصبي؟ فجاءوا به، فقال: دعوني حتى أصلي؛ فصلى. فلما انصرف أتى الصبي، فطعن في بطنه، وقال: يا غلام! مَن أبوك؟ قال: فلان الراعي. فأقبلوا على جريج يقبلونه ويتمسحون به, وقالوا: نبني لك صومعتك من ذهب. قال: لا.. أعيدوها من طين كما كانت. ففعلوا..".
قال ا?مام النووي في شرح مسلم تعليقا على هذا الحديث ما ملخصه: قال العلماء: استجابة الله لدعاء أم جريج عليه دليل على أنه كان الصواب في حقه إجابتها؛ لأنه كان في صلاة نفل والاستمرار فيها تطوع لا واجب,
وإجابة الأم وبرها واجب، وعقوقها حرام. وكان يمكنه
أن يخفف الصلاة ويجيبها ثم يعود إلى صلاته.
} - {
احذر العقوق فإن عقوبته عاجلة:
__________
(1) أي راغبة في أن أبرها وأعطيها وهي على شركها.(1/144)
العقوق مشتق من العق, وهو القطع. والمراد به صدور ما يتأذى به الوالد من ولده من قول أو فعل. وهو عصيان ومخالفة وعدم أداء الحقوق.
عن عبد الرحمن بن أبي بكرة عن أبيه قال: قال رسول الله خ: "ألا أنبئكم بأكبر الكبائر؟" (ثلاثا) قلنا: بلي يا رسول الله. قال: "ا?شراك بالله وعقوق الوالدين". وكان متكئا فجلس فقال: "ألا وقول الزور وشهادة الزور". فما زال يكررها حتى قلنا: ليته سكت! [رواه البخاري ومسلم]
فانظر كيف قرن ا?ساءة إليهما وعدم البر وا?حسان با?شراك,
وعدَّ العقوق من أكبر الكبائر بعد الشرك.
وعن ابن عمر ب عن النبي خ قال: " ثلاثة لا ينظر الله إليهم يوم القيامة: العاق لوالديه، ومدمن الخمر، والمنان عطاءه". [رواه ابن حبان، وحسنه الألباني]
وقال كعب الأحبار: إن الله يعجل هلاك العبد إذا كان عاقا لوالديه ليعجل له العذاب.
وعن عمرو بن مرة الجهني قال: جاء رجل إلى رسول الله خ فقال: يا رسول الله! أرأيتَ إذا صليتُ الصلوات الخمس, وصمتُ رمضان, وأديتُ الزكاة, وحججتُ البيت؛ فماذا لي؟ فقال رسول الله: "من فعل ذلك كان مع النبيين والشهداء والصالحين إلا أن يعق والديه". [رواه أحمد والطبراني]
ومن العقوق:
? أن ينظر الولد إلى والديه شزرا عند الغضب.
? أن يستحوذ الغرور على الولد فيستحيي أن يُعرَّف بأبيه؛ لا سيما إذا كان الولد في مركز اجتماعي مرموق.
? أن يتعاظم الولد عن تقبيل يدي والديه, أو لا ينهض لهما احتراما وإجلالا.
? أن يتأفف الولد من أبويه ويتضجر منهما ويعلو صوته عليهما, ويقرعهما بكلمات مؤذية جارحة, ويجلب ا?هانة لهما والمسبة لشخصهما.
? ألا يقوم الولد بحق النفقة على أبويه الفقيرين.
غذوتُكَ مولودًا وصنتُكَ يافعًا ... تُعَلُّ بما أحنو عليك وتنهلُ (1)
إذا ليلةٌ نابَتْكَ بالسُّقمِ لم أبِتْ ... لسُقمِكَ إلا ساهرًا أتململُ
__________
(1) تُعَل: من عله يَعله، أي سقاه ثانية – تنهل: من أنهله، أي سقاه أول سقية.(1/145)
كأني أنا المطروقُ دونكَ بالذي ... طُرقتَ بهِ دوني فعينيَ تَهمُلُ
تخافُ الرَّدى نفسي عليكَ وإنها ... لتعلمُ أنَّ الموتَ حتمٌ مؤجَّلُ
فلما بلغتَ السنَّ والغايةَ التي ... إليها مدى ما كنتُ فيهِ أؤملُ
جعلتَ جزائي غِلظةً و فظاظةً ... كأنَّك أنتَ المنعِمُ المتفضِّلُ
فليتَكَ إذ لم تَرعَ حَقَّ أبُوَّتي ... فعلتَ كما الجارُ المجاورُ يفعلُ
فأوليتني حقَّ الجوارِ ولم تكن ... عليّ بمالٍ دونَ مالِكَ تبخلُ
} - {
نصيحة لكل زوجة: الجزاء من جنس العمل:
اعلمي أيتها الزوجة المؤمنة الموفقة أن: من أهم أسباب السعادة في الدنيا والآخرة أن يحب المسلم للناس ما يحب لنفسه, وأن يأتيهم ما يحب أن يؤتوه.
ومن أهم واجبات الزوجة نحو زوجها وأعظم حقوقه عليها؛ أن تعينه على أمر دينه، وأداء فرائض الله عليه وحقوق الناس عنده.
والزوج مأمور شرعا ببر والديه؛ وخاصة أمه. وهو فرض عليه. وعلى الزوجة الصالحة أن تعينه، بل تحضه وتذكره.
فاحذري غضب الله الذي يلحق المفرطين ويلحق أبناءهم إذا كان الزوج عاقا لوالديه أو مسخطا لهما.
أخرج مسلم عن أبي هريرة عن النبي خ قال: "رَغِمَ أنفُه، ثم رَغِمَ أنفُه، ثم رَغِمَ أنفُه". (1) قيل: مَن يا رسول الله؟ قال: "من أدرك والديه عند الكبر أو أحدهما ثم لم يدخل الجنة".
والمرأة المؤمنة لا تحير زوجها وتضعه بين شقي الرحى؛ فتضطره أن يرضيها ويسخط والديه أو ربه؛ فتحرم عليه الجنة.
عن عبد الله بن عمرو بن العاص ب أن رسول الله خ قال: "ثلاثة حرم الله تبارك وتعالى عليهم الجنة: مدمن الخمر، والعاق، والديوث الذي يقر في أهله الخبث". [رواه أحمد، وقال الألباني: حسن لغيره]
__________
(1) رغم أنفه: أي لصق بالرغام وهو التراب. وهو كناية عن الذلة والمهانة.(1/146)
وكل زوجة تود من قلبها أن يهبها الله أبناء صالحين مطيعين لله ثم لها ولزوجها. والسبيل إلى ذلك بجانب بذل الجهد في التربية والرعاية والعناية والدعاء هو العلم بالسبب الذي لا يقدر عليه إلا الله عز و جل: عن ابن عمر ب قال: قال رسول الله خ: "بروا آباءكم تبركم أبناؤكم, وعفوا تعف نساؤكم". [رواه الطبراني، وضعفه الألباني]. فمن بر والديه بره ولده, ومن عق والديه عقه ولده.
عن ثابت البناني / قال: روي أن رجلا كان يضرب أباه في موضع, فقيل له: ما هذا؟ فقال الأب: خلوا عنه؛ فإني كنت أضرب أبي في هذا الموضع, فابتُليت بابني في هذا الموضع. هذا بذاك ولا لوم عليه.
وقال بعض الحكماء: من عصى والديه لم ير السرور من ولده.
أيتها الزوجة المؤمنة الموفقة.. إذا كنتِ تحثين زوجك على بر والديه؛ فهنيئا لكما بركة العمر وزيادة الرزق. فعن أنس بن مالك ت قال: قال رسول الله خ: "مَن سره أن يُمَد لهُ في عمره و يُزاد له في رزقهِ فليبر والديه وليصل رحمه". [رواه أحمد، وقال الألباني: حسن لغيره]
قال تعالى: { وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ } [التغابن:14]
وفي المسند من حديث عبد الله بن عمرو ب عن النبي خ قال: "ارحموا ترحموا، واغفروا يُغفر لكم, ويل لأقماع القول, (1) ويل للمصرين الذين يصرون على ما فعلوا وهم يعلمون". [صححه الألباني]
وهذا حث من الله تبارك وتعالى، ومن النبي أن يعامل العبد بني جنسه في إساءتهم إليه وزلاتهم معه بما يحب أن يعامله الله به في إساءته وزلاته وذنوبه؛ فإن
الجزاء من جنس العمل. فمن عفا عفا الله عنه, ومن سامح أخاه
في إساءته إليه سامحه الله في سيئاته, ومن أغضى وتجاوز
تجاوز الله عنه, و من استقصى استقصى عليه..
__________
(1) أقماع القول: من له أذنان كالقمع لما سمع من الحكمة والموعظة الحسنة، فإذا دخل شيء من ذلك في أذنه خرج من الأخرى، ولم ينتفع بشيء مما سمع.(1/147)
فالله عز وجل يعامل العبد في ذنوبه بمثل
ما يعامل به العبد الناس في ذنوبهم.
معني العفو:
ومعنى العفو أن يستحق العبد حقا فيسقطه ويبرئ عنه؛ من قصاص أو غرامة. وهو غير الحلم وكظم الغيظ.
قال تعالى: { وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى } [البقرة:237]. فالعفو عن الناس هو التجافي عن ذنب المذنب منهم وترك مؤاخذته مع القدرة عليه. وتلك مرتبة في ضبط النفس وكرم المعاملة قلَّ مَن يتبوأها.
فالعفو مرتبة أعلى من كظم الغيظ؛ إذ ربما يكظم المرء غيظه على حقد وضغينة.
وفي الصحيح عن النبي خ قال: "ما زاد الله عبدا بعفو إلا عزا".
ففي الصفح والعفو والحلم من الحلاوة والطمأنينة والسكينة وشرف النفس وعزها ورفعتها عن تشفيها بالانتقام ما ليس شيء منه في المقابلة والانتقام.
} - {
رسول الله صلى الله عليه وسلم وخلق العفو:
كان خ أحلم الناس وأرغبهم في العفو مع القدرة. ومن قصص العفو التي لا مثيل لها بين الناس عفوه خ عن زعيم المنافقين عبد الله بن أبي بن سلول.
فإن عبد الله كان عدوا لدودا للمسلمين يتربص بهم الدوائر، ويحالف عليهم الشيطان, ويحيك لهم المؤامرات, ولا يجد لهم فرصة للطعن عليهم والنيل من نبيهم إلا انتهزها. وهو الذي أشاع قالة السوء على أم المؤمنين عائشة ل، وجعل المرجفين يتهامسون با?فك من حولها.
وقد كان حز الألم قاسيا في نفس رسول الله خ وأصحابه, حتى نزلت الآيات آخر الأمر تكشف مكر المنافقين, وتفضح ما اجترحوا, وتنوه بطهر أم المؤمنين ل ونقاء صفحتها: { إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ } [النور:11](1/148)
وكتب الله الفوز لرسوله وجنده واكتسح ا?سلامُ مخلفات الجاهلية, وانحصر أعداؤه في حدود أنفسهم, وانكمش ابن أُبيّ ثم مرض ومات؛ بعدما ملأت رائحة نفاقه كل فج. وجاء ولده إلى رسول الله خ يطلب منه الصفح عن أبيه فصفح.. ثم طلب منه أن يُكفَّن في قميصه فمنحه إياه! ثم طلب منه أن يصلي عليه ويستغفر له؛ فلم يرد الرسول خ هذا السؤال؛ بل وقف أمام جثمان الطاعن في عِرضه بالأمس يستدر له المغفرة!
لكن العدالة العليا حسمت الأمر كله، فنزل قوله تعالى: { اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لَا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ } [التوبة:80]
وفي صحيح البخاري عن جابر ت: كنا مع النبي خ بذات الرقاع فإذا أتينا على شجرة ظليلة تركناها للنبي خ. فنزل رسول الله خ وتفرق الناس في العِضاه (1) يستظلون بالشجر, ونزل رسول الله خ تحت شجرة فعلق بها سيفه. قال جابر: فنمنا نومة فجاء رجل من المشركين, فاخترط سيف رسول الله خ فقال: أتخافني؟ قال خ: لا.. قال: فمن يمنعك مني؟ قال خ: الله. قال جابر: فإذا رسول الله خ يدعونا, فجئنا فإذا عنده أعرابي جالس, فقال رسول الله خ: "إن هذا اخترط سيفي وأنا نائم فاستيقظت وهو في يده صلتا، فقال لي: من يمنعك مني؟ قلت: الله. فها هو ذا جالس". ثم لم يعاتبه رسول الله خ. وفي رواية أبي عوانة: "فسقط السيف من يده فأخذه رسول الله خ فقال: من يمنعك مني؟ فقال: كن خير آخذ. قال: أتشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله؟ فقال: لا.. غير أني لا أقاتلك, ولا أكون مع قوم يقاتلونك. فخلى سبيله. فجاء إلى قومه فقال: جئتكم من عند خير الناس.
__________
(1) العِضاه: الشجر الذي له شوك.(1/149)
وعن أنس ت أن يهودية أتت النبي خ بشاة مسمومة ليأكل منها. فجئ بها إلى النبي خ فسألها عن ذلك، فقالت: أردت قتلك! فقال: "ما كان الله ليسلطك على ذلك". فقالوا: أفلا نقتلها؟ فقال خ: "لا ". [رواه مسلم]
وعن عبد الله بن مسعود ت: قسم رسول الله خ قسمة، فقال رجل من الأنصار: هذه قسمة ما أُريد بها وجه الله. فذُكر ذلك للنبي خ فاحمر وجهه وقال: "رحم الله أخي موسى قد أوذي بأكثر من هذا فصبر" [متفق عليه]
أمينٌ مصطفى بالخيرِ يدعو كضوءِ البدرِ زايلَهُ الظلامُ(1/150)
روى البخاري ومسلم وابن إسحاق عن أبي هريرة ت أن رسول الله خ بعث خيلاً قِبَل نجد فجاءت برجل من بني حنيفة يقال له "ثُمامة بن أُثال" سيد أهل اليمامة، ولا يشعرون مَن هو، حتى أتوا به رسول الله خ، فقال: أتدرون من أخذتم؟ هذا ثمامة بن أثال الحنفي؛ فأحسنوا أساره. فربطوه بسارية من سواري المسجد. فخرج إليه رسول الله خ فقال: "ماذا عندك يا ثمامة؟" فقال: عندي يا محمد خير.. إن تقتل تقتل ذا دم، وإن تُنعم تُنعم على شاكر، وإن كنت تريد المال فسَلْ تُعطَ منه ما شئت. فتركه رسول الله خ حتى كان بعد الغد فقال: "ما عندك يا ثمامة؟" قال: ما قلت لك.. إن تنعم تنعم على شاكر، وإن تقتل تقتل ذا دم، وإن كنت تريد المال فسل تعط منه ما شئت. فتركه رسول الله خ حتى كان من الغد فقال: "ماذا عندك يا ثمامة؟" فقال: عندي ما قلت لك.. إن تنعم تنعم على شاكر، وإن تقتل تقتل ذا دم، وإن كنت تريد المال فسل تعط منه ما شئت. فقال رسول الله خ: "أطلقوا ثمامة". فانطلق إلى نخل قريب من المسجد فاغتسل، ثم دخل المسجد فقال: أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله.. يا محمد! والله ما كان على الأرض وجه أبغض إليَّ من وجهك؛ فقد أصبح وجهك أحب الوجوه كلها إليّ. والله ما كان من دين أبغض إليّ من دينك؛ فأصبح دينك أحب الدين كله إليّ. والله ما كان من بلد أبغض إليّ من بلدك؛ فأصبح بلدك أحب البلاد كلها إليّ. وإن خيلك أخذتني وأنا أريد العمرة؛ فماذا ترى؟ فبشره رسول الله خ، وأمره أن يعتمر. فلما قدم مكة قال له قائل: أصبوت؟ فقال: لا.. ولكني أسلمت مع رسول الله خ؛ ولا والله لا يأتيكم من اليمامة حبة حِنطة حتى يأذن فيها رسول الله خ.
وروى البيهقي عن ابن إسحاق أن ثمامة كان رسول مسيلمة إلى رسول الله خ قبل ذلك وأراد اغتياله, فدعا رسول الله خ ربه تبارك وتعالى أن يمكنه منه.
هكذا كانت سجيته خ: العفو أحب إليه من الانتقام,
والفضل أحب إليه من العدل.(1/151)
فيا سيد العقلاء يا خير الوري:
زانتك في الخلُقِ العظيمِ شمائلٌ ... ... يُغرَى بهِن ويُولَعُ الكرماءُ
فاذا سخوتَ بلغتَ بالجودِ المدى ... وفعلتَ ما لا تفعلُ الأنواءُ
وإذا عفوتَ فقادرًا ومُقدرًا ... لا يستهينُ بعفوِكَ الجهلاءُ
عرشُ القيامةِ أنتَ تحتَ لوائهِ ... ... والحوضُ أنتَ حيالَهُ السقَّاءُ
} - {
ينهى الله تعالى المحسنين عن الامتناع عن ا?حسان إلى مَن أساء
إليهم؛ مهما حلفوا على ذلك الامتناع:
قال تعالى: { وَلَا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ } [النور:22]
وذلك أن أبا بكر ت كان ينفق على ابن خالته مسطح بن أثاثة لأنه فقير, فلما خاض مسطح في حديث ا?فك متهما أم المؤمنين عائشة ل حلف أبو بكر ألا ينفع مسطح بن أثاثة بنافعة أبدا. وفي الآية نهي لأبي بكر وأمثاله من أصحاب الفضل في الدين والسعة في المال عن الامتناع عن ا?حسان إلى من أساء إليهم.
وفي الآية أمران هما: الأمر بالعفو عما فرَط من المخطئين من خطأ.
والأمر بالصفح أي ا?غضاء وتناسي الخطأ.
والأمران موجهان لأبي بكر وإلى أمثاله إذا وجدوا أنفسهم في موقف مماثل لموقفه ت في أي زمان ومكان.
قال المفسرون في هذه الآية: نزلت في أبي بكر الصديق ت حيث حلف ألا ينفق على مسطح؛ وهو ابن خالة أبي بكر، وكان يتيما في حِجره, وكان ينفق عليه وعلى قرابته. فلما وقعت حادثة ا?فك قال أبو بكر: قوموا فلستم مني, ولست منكم, ولا يدخل عليّ أحد منكم. فقال مسطح: أنشدك الله وا?سلام, وأنشدك القرابة والرحم ألا تحوجنا إلى أحد؛ فما كان لنا في أول الأمر ذنب.
قال أبو بكر: إن لم تتكلم فقد ضحكت. فقال: قد كان ذلك تعجبا من قول حسان!(1/152)
فلم يقبل أبو بكر عذره وقال: انطلقوا أيها القوم؛ فإن الله لم يجعل لكم عذرا ولا فرجا. فخرجوا لا يدرون أين يذهبون، ولا أين يتجهون من الأرض.
فبعث رسول الله خ لأبي بكر ت يخبره بأن الله أنزل عليّ كتابا ينهاك فيه أن تُخرجهم؛ فكبر أبو بكر وسرَّه. وقرأ رسول الله خ عليه, فلما وصل إلى قوله تعالى: (أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ) قال: بلى ياربِّ إني أحب أن يُغفر لي، وقد تجاوزتُ عما كان.
ذهب أبو بكر إلى بيته، وأرسل إلى مسطح وأصحابه, وقال: قبلتُ ما أنزل الله على الرأس و العين, وإنما فعلتُ بكم ما فعلت إذ سخط الله عليكم, أما إذ
عفا عنكم فمرحبا بكم.. وجعل لمسطح مثلي ما كان له قبل ذلك اليوم.
عن ابن عمر عن أبي بكر - رضي الله عنهم - أنه قال: بلغنا أن الله تعالى يأمر مناديا يوم القيامة فينادي: مَن كان له عند الله شيء فليقم, فيقوم أهل العفو فيكافئهم الله بما كان من عفوهم عن الناس.
وقال معاوية ت: عليكم بالحلم والاحتمال حتى تمكنكم الفرصة, فإذا أمكنتكم فعليكم بالصفح وا?فضال.
كان لعبد الله بن الزبير ت أرض, وكان له عبيد يعملون فيها, وإلى جانبها أرض لمعاوية ت وفيها أيضا عبيد يعملون فيها, فدخل عبيد معاوية في أرض عبد الله بن الزبير. فكتب عبد الله بن الزبير كتابا إلى معاوية يقول له فيه: أما بعد, يا معاوية! إن عبيدك قد دخلوا في أرضي, فانههم عن ذلك, وإلا كان لي ولك شأن، والسلام.
فلما وقف معاوية على كتابه وقرأه، دفع به إلى ولده يزيد، فلما قرأه قال له معاوية: يا بني! ما ترى؟ قال: أرى أن تبعث له جيش يكون أوله عندك وآخره عنده يأتوك برأسه! فقال: بل غير ذلك خير مني يا بني! ثم أخذ ورقة وكتب فيها جواب كتاب عبد الله بن الزبير، يقول فيه:
أما بعد، فقد وقفت على كتاب ولد حواري رسول الله خ، وساءني ما ساءه, والدنيا بأسرها هينة عندي في جنب رضاه.. نزلتُ عن أرضي؛(1/153)
فأضفها إلى أرضك بما فيها من العبيد والأموال.. والسلام.
فلما وقف عبد الله بن الزبير على كتاب معاوية كتب إليه: قد وقفتُ على كتاب أمير المؤمنين أطال الله بقاءه، ولا أعدمه الرأي الذي أحله من قريش هذا المحل.. والسلام!
فلما وقف معاوية على كتاب عبد الله بن الزبير وقرأه رمى به إلى ابنه يزيد، فلما قرأه تهلل وجهه وأسفر، فقال له أبوه:
يا بُني.. مَن عفا ساد, ومَن حلم عظم, ومَن تجاوز استمال إليه القلوب..
فإذا ابتُليت بشيء من هذه الأدواء؛ فداوها بمثل هذا الدواء.
قال أحد الحكماء: ليس الحليم من ظُلم فحلم حتى إذا قدر انتقم, ولكن الحليم مَن ظُلم فحلم حتى إذا قدر عفا.
شتم رجل الشعبي فقال: إن كنتُ كما قلتَ فغفر الله لي, وإن لم أكن كما قلتَ فغفر الله لك.
وحكي عن الأحنف بن قيس أنه قال: ما عاداني أحد قط إلا أخذت في أمره بإحدي ثلاث خصال: إن كان أعلى مني عرفت له قدره, وإن كان دوني رفعت قدري عنه, وإن كان نظيري تفضلت عليه.
سألزِمُ نفسي الصفحَ عن كلِّ مُذنبٍ ... وإنْ كثُرتْ منهُ إليّ الجرائمُ
فما الناسُ إلا واحدٌ من ثلاثةٍ ... شريفٌ ومشروفٌ ومِثلٌ مقاومُ
فأما الذي فوقي فأعرفُ قَدرَهُ وأما الذي دوني فأحلُمُ دائبًا ... وأتبعُ فيهِ الحقَّ والحقُّ لازمُ
وأما الذي مِثلي فإنْ زلَّ أو هَفا ... أصونُ بهِ عِرضي وإنْ لامَ لائمُ
تفضلتُ؛ إنَّ الفضلَ بالفخرِ حاكمُ
قال إبراهيم التيمي: إن الرجل ليظلمني فأرحمه.
وهذا إحسان وراء العفو؛ لأنه يشتغل قلبه بتعرض الظالم لمعصية الله تعالى بالظلم, وأنه يُطالَب يوم القيامة فلا يكون له جواب.(1/154)
جلس ابن مسعود ت في السوق يبتاع طعاما, فابتاع ثم طلب الدراهم وكانت في عمامته؛ فوجدها قد حُلت فقال: لقد جلستُ وإنها لمعي. فجعلوا يدعون على مَن أخذها، ويقولون: اللهم اقطع يد السارق الذي أخذها.. اللهم افعل به كذا وكذا.. فقال عبد الله: اللهم إن كان حمله على أخذها حاجة فبارك له فيها, وإن كان حملته جراءة على الذنب فاجعله آخر ذنوبه.
وقال الفضيل: ما رأيت أزهد من رجل من أهل خراسان، جلس إليّ في المسجد الحرام, ثم قام ليطوف فسُرقت دنانير كانت معه؛ فجعل يبكي! فقلتُ: أعلى الدنانير تبكي؟! قال: لا.. ولكني مثلتني وإياه بين يدي الله عز وجل فأشرف عقلي على إدحاض حجته, فبكائي رحمة له.
قال مالك بن دينار: أتينا منزل الحكم بن أيوب ليلا؛ وهو علي البصرة أمير. وجاء الحسن وهو خائف، فدخلنا معه عليه، فما كنا مع الحسن إلا بمنزلة الفراريج. فذكر الحسن قصة يوسف ؛ وما صنع به إخوته؛ من بيعهم إياه وطرحهم له في الجب.. فقال: باعوا أخاهم، وأحزنوا أباهم.. وذكر ما لقي من كيد النساء ومن الحبس. ثم قال: أيها الأمير! ماذا صنع الله به؟ أداله منهم، ورفع ذكره، وأعلى كلمته، وجعله على خزائن الأرض.. فماذا صنع حين أكمل له أمره وجمع أهله؟ قال: { لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ } [يوسف:92]
والحسن يُعرِّض بالعفو عن أصحابه. قال الحكم: فأنا أقول: لا تثريب عليكم اليوم, ولو لم أجد إلا ثوبي هذا لواريتكم تحته.(1/155)
قال الحافظ ابن كثير في "البداية والنهاية": أخبرني القاضي جمال بن القلانس, أن السلطان محمد بن الملك المنصور قلاوون استفتى الشيخ ابن تيمية في قتل بعض القضاة بسبب ما كانوا تكلموا فيه, وأخرج له فتاوى بعضهم بعزله من الملك ومبايعة الجاشنكير, وأنهم قاموا عليك وآذوك أنت أيضا. وأخذ يحثه بذلك على أن يفتيه في قتل بعضهم. وإنما كان حنقه عليهم بسبب ما كانوا سعوا فيه من عزله, ومبايعة الجاشنكير. ففهم الشيخ مراد السلطان؛ فأخذ في تعظيم القضاة والعلماء, وينكر أن ينال أحدًا منهم بسوء. وقال له: إذا قتلت هؤلاء لا تجد بعدهم مثلهم.
فقال السلطان: إنهم قد آذوك وأرادوا قتلك.
فقال الشيخ: من آذاني فهو في حِل. ومن آذى الله ورسوله فالله ينتقم منه. وأنا لا أنتصر لنفسي.. وما زال به حتى حلم عنهم السلطان وصفح.
قال: وكان قاضي المالكية ابن مخلوف يقول: ما رأينا مثل ابن تيمية: حرضنا عليه فلم نقدر عليه, وقدر علينا فصفح عنا, وحاجج عنا.
قال أيوب السختياني: لا ينبل الرجل حتى يكون فيه خصلتان: العفة عن أموال الناس, والتجاوز عنهم.
وهذا ابن السماك واعظ هارون الرشيد قال له أحد إخوانه: الميعاد بيني وبينك غدا نتعاتب, فقال ابن السماك: بل بيني وبينك غدا نتغافر.
وهو جواب يأخذ بمجامع القلوب, ملؤه فقه وواقعية, يشير إلى وجود قلب وراء هذا اللسان تؤلمه أسباب الفرقة.. فإن التغافر أطهر وأبرد للقلب..
وعبوس التعاتب تعكير تصطاد الفتن فيه كيف تشاء:
تعالَوا نخلِّ العُتبَ عنا ونصطلِحْ ... ... وعودوا بنا للوصلِ والعودُ أحمدُ
ولا تخدشوا بالعُتبِ وجهَ محبةٍ ... ... لهُ بهجةٌ أنوارُها تتوقدُ
} - {
تكفير الخطايا بالمحن نعمة:(1/156)
وللعبد فيما يصيبه من أذي الخلق وجنايتهم عليه أن يشهد نعمة الله عليه في أن جعله مظلوما يترقب النصر، ولم يجعله ظالما يترقب المقت والأخذ. فلو خُير العاقل بين الحالتين -ولابد من إحداهما- لاختار أن يكون مظلوما ويشهد نعمة الله في التكفير بذلك عن خطاياه. فإنه ما أصاب المؤمن هم ولا غم ولا أذى إلا كفر الله به من خطاياه. فذلك في الحقيقة دواء يُستخرج به منه داء الخطايا والذنوب.
ومَن رضي أن يلقى الله بأدوائه كلها وأسقامه, ولم يداوه في الدنيا بدواء يوجب له الشفاء؛ فهو مغبون سفيه. فأذى الخلق لك كالدواء الكريه من الطبيب المشفق عليك؛ فلا تنظر إلى مرارة الدواء وكراهته ومَن كان على يديه، وانظر لشفقة الطبيب الذي ركبه لك, وبعثه إليك على يدي مَن نفعك بمضرته.
وإن للعبد ليشتد فرحه يوم القيامة بما له قِبَل الناس من الحقوق في المال
والنفس والعِرض. فالعاقل يُعد هذا ذخرا ليوم الفقر والفاقة,
ولا يبطله بالانتقام الذي لا يجدي عليه شيئا.
ولله در القائل: إذا أراد الله أن يتحف عبدا قيَّض له مَن يظلمه!
إني شكرتُ لظالمي ظلمي ... وغفرتُ ذاكَ له على علمي
ورأيتُهُ أسدَى إليّ يدًا ... لما أبانَ بجهلِهِ حلمي
فغدوتُ ذا أجرٍ ومحمدةٍ ... وغدَا بكسبِ الظلمِ وا?ثمِ
ما زالَ يظلمُني وأرحمُهُ ... حتى بكيتُ له من الظلمِ
المصائب هي كل ما يؤذي المؤمن ويصيبه؛ من آلام النفس، وأسقام البدن, وفقدان الأحبة, وخسران المال, وإيذاء الناس, ومتاعب العيش, ومفاجآت الدهر.
عن عائشة ل قالت: قال رسول الله خ: "ما من مصيبة تصيب المسلم إلا كفر الله عز و جل بها عنه, حتى الشوكة يُشاكُّها". [رواه البخاري]
وفي صحيح البخاري أيضا عن النبي خ قال: "ما يصيب المسلم من وصب ولا نصب ولا هَم ولا حزن ولا أذى ولا غم, حتى الشوكة يُشاكها, إلا كفر الله بها من خطاياه".(1/157)
وعن سعد بن أبي وقاص قال: قلت: يا رسول الله, أي الناس أشد بلاء؟ قال: "الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل. فيُبتلَى الرجل على حسب دينه، فإنْ كان دينه صلبا اشتد بلاؤه، وإن كان في دينه رقة ابتُلي على حسب دينه. فما يبرح البلاء بالعبد حتى يتركه يمشي على الأرض ما عليه خطيئة". [رواه الترمذي، وقال الألباني: حسن صحيح]
وفي صحيح مسلم من حديث جابر بن عبد الله ب أن رسول الله خ دخل على أم السائب (أو أم المسيب)، فقال: "مالك تُزَفزِفين؟" (1) قالت: الحُمى لا بارك الله فيها! فقال: "لا تسبي الحمى؛ فإنها تُذهب خطايا بني آدم كما يُذهب الكير خبث الحديد".
وعن عبد الله بن مسعود ت قال: دخلت علي النبي خ وهو يُوعَك وَعكًا شديدا، فمسستُه بيدي، فقلت: يا رسول الله! إنك لتُوعَك وَعْكًا شديدا. فقال رسول الله خ: "أجل إني أُوعَكُ كما يُوعَكُ رجلانِ منكم". فقلت: ذلك أن لك أجرين؟ فقال رسول الله : "أجل". ثم قال رسول الله : "ما من مسلم يصيبه أذى؛ مرض فما سواه إلا حطَّ الله له سيئاتِه كما تحط الشجرةُ ورقَها". [رواه البخاري]
قال تعالى: { وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ } [الشورى:30]. في الآية يتجلى عدل الله, وتتجلى رحمته بهذا ا?نسان الضعيف. فكل مصيبة تصيبه لها سبب مما كسبت يداه، ولكن الله لا يؤاخذه بكل ما يقترف. وهو يعلم ضعفه وما رُكب في فطرته من دوافع تغلبه في أكثر الأحيان؛ فيعفو عن كثير رحمة منه وسماحة.
قال مطرف: ما نزل بي مكروه قط فاستعظمته إلا ذكرت ذنوبي فاستصغرته.
__________
(1) تزفزفين: بضم التاء وفتحها، أي: تتحركين حركة شديدة أو ترعدين.(1/158)
وفي جامع الترمذي عن شيخ من بني مُرة قال: قدمت الكوفة فأُخبرت عن بلال بن أبي بردة, فقلت: إن فيه لمعتبر, فأتيته وهو محبوس في داره، وإذا كل شيء منه قد تغير؛ من العذاب والضرب. وإذا هو في قُشاش! (1) فقلت له: الحمد لله يا بلال! لقد رأيتك تمر بنا وأنت تمسك أنفك من غير غبار؛ وأنت في حالتك هذه فكيف صبرك اليوم؟! فقال: فمن أنت؟ قلت: مِن بني مرة بن عباد. قال: ألا أحدثك حديثا عسى أن ينفعك الله به؟ قلت: هات.. قال: حدثني أبو بردة عن أبي موسى أن رسول الله خ قال: "لا يصيب عبدا نكبةٌ فما فوقها أو دونها إلا بذنب, و ما يعفو الله عنه أكثر". قال: وقرأ: { وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ } [الشورى:30]
} - {
ما يجب على المصاب من مراعاة الآداب التي
تحفظ عليه الأجر وتزيد في الثواب
أولا: الصبر:
قال تعالى: { وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ } [البقرة:45]
الصبر لغة هو المنع والحبس. وشرعا: هو حبس النفس عن الجزع، واللسان عن التشكي, والجوارح عن لطم الخدود وشق الجيوب.
قال ذو النون المصري: هو التباعد عن المخالفات, والسكون عند تجرع غصص البلية, وإظهار الغنى مع حلول الفقر بساحات المعيشة.
وسئل الجنيد عن الصبر فقال: تجرع المرارة من غير تعبس.
وقيل: الصبر هو الوقوف مع البلاء بحسن الأدب.
وقيل: هو الغنى في البلوى بلا ظهور الشكوى.
ورأى أحد الصالحين رجلا يشتكي إلى أخيه فقال له: يا هذا! والله ما زدتَ على أن شكوتَ مَن يرحمك إلى من لا يرحمك.
وإذا عَرَتْكَ بليَّةٌ فاصبِرْ لها ... ... صبرَ الكريمِ فإنهُ بكَ أعلمُ
وإذا شكوتَ إلى ابنِ آدمَ إنما ... ... تشكو الرحيمَ إلى الذي لا يرحمُ
__________
(1) والتقَشش تطَلُّب الأكل من هنا وهنا ولَفُّ ما يُقْدر عليه. والقَشِيش والقُشَاش ما اقْتَشَشْته. [لسان العرب](1/159)
والشكوى نوعان: شكوى إلى الله عز وجل. وهذه لا تنافي الصبر، كقول يعقوب ؛: { إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ } [يوسف:86]
والنوع الثاني: شكوى المبتلى بلسان الحال أو المقال. فهذه لا تجامع الصبر، بل تضاده وتبطله.
عن أنس بن مالك ت أن رسول الله خ أتى على امرأة تبكي على صبي لها, فقال: "اتقي الله واصبري". فقالت: إليك عني فإنك لم تُصَب بمصيبتي؟! ولم تعرفه. فقيل لها: إنه النبي خ, فأتت بابه فلم تجد عنده بوابين, فقالت: يا رسول الله! لم أعرفك.. فقال: "إنما الصبر عند الصدمة الأولى". [رواه البخاري]
فإن مفاجآت المصيبة لها روعة تزعزع القلب وتزعجه بصدمتها, فإن صبر للصدمة الأولى انكسر حدها وضعفت قوتها؛ فهان عليه استدامة الصبر.
قال أبو عبيد : إن كل ذي رزية فإن قصاراه الصبر, ولكنه إنما يُحمد على صبره عند حدة المصيبة وحرارتها.
وقال إبراهيم بن أدهم: ليس الصبر بالتجلد، وإنما هو حبس القلب عن التسخط على المقدور، ورد اللسان عن الشكوى. فمن تجلد وقلبه ساخط على القدر فليس بصابر.
وكان بعض العارفين في جيبه رقعة يخرجها كل وقت ينظر فيها، وفيها: { وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا } [الطور:48]
ولعل اسم أيوب هو أشهر الأسماء التي تقترن بالصبر كلما ذكرت,
حتى ضرب الناس به المثل فقالوا:
صبر أيوب:
وصبر أيوب ؛ كان على ما أصابه من ضر في بدنه, وعلى فقده أهله, وإن لم يصل حد المرض الذي أصابه إلى ما حكته ا?سرائيليات والروايات المكذوبة, وتلقفه الخيال الشعبي فأضاف إليه وزاد فيه؛ من بدن مقروح يتناثر منه الدود, وجسم عليل يكاد يشبه الرمة البالية, إلى غير ذلك مما يستحيل على رسل الله أن يصابوا به؛ حتى لا ينفر منهم الناس الذين يدعونهم إلى الله.(1/160)
قال تعالى: { وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ . فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَآَتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ } [الأنبياء:83-84]
وقال تعالى مخاطبا رسوله خ: { وَاذْكُرْ عَبْدَنَا أَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ . ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هَذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ . وَوَهَبْنَا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنَّا وَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ . وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا فَاضْرِبْ بِهِ وَلَا تَحْنَثْ إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ } [ص:41-44]
وفي هذه الآيات تكريم وأي تكريم, وتشريف أي تشريف من الله تعالى لأيوب ؛. حيث بدأ القصة بخطاب رسوله محمد خ بقوله: (وَاذْكُرْ..) وهذه العبارة تحمل معنى التخليد للمذكور بعدها في أعظم كتب الله, وجعله موضع الاقتداء والتأسي فيما اختُص به من فضيلة؛ لأعظم رسل الله.
فهذه كلمة مباهاة؛ باهى بأيوب عند رسوله المصطفى خ, وشرفه
وفضله بقوله: (وَاذْكُرْ..) فأمره بذكره والاقتداء به، كقوله تعالى:
{ فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ } [الأحقاف:35]
وشرف الله أيوب ؛ مرة أخرى بقوله: (عَبْدَنَا) فأضافه إليه إضافة تخصيص وتقريب, ولم يدخل بينه وبينه لام الملك, فيقول: عبدا لنا.
وشرفه مرة ثالثة حين استجاب له نداءه، ورد عليه عافيته, ووهب له أهله ومثلهم معهم؛ رحمة منه وذكرى لأولي الألباب.
ومرة رابعة حين جعل له مخرجا من يمين حلفه على امرأته؛ وهو في مرضه تخليصا له من مأزق الحنث, وتكريما له على جميل صبره.(1/161)
وتوج هذا كله بهذا التذييل الكريم بهذه العبارة الندية: (إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ).. فهذا التذييل يحمل أسباب التشريف السابق؛ وهو في ذاته تشريف جديد. وحسبك أن يسجل الله له فضيلة الصبر بقوله: (إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا). ثم قال: (نِعْمَ الْعَبْدُ). وليس هناك أشرف من وصف ا?نسان بالعبودية لله تعالى, فكيف بمن قيل فيه: نعم العبد؟! ثم قال: (إِنَّهُ أَوَّابٌ). والأواب هو المبالغ في أوبته ورجوعه إلى الله تعالى.
} - {
الصبر منحة ربانية:
في الصحيحين من حديث أبي سعيد ت عن النبي خ قال: "ما أُعطي أحدٌ عطاء خيرا وأوسع من الصبر".
وقال الحسن: الصبر كنز من كنوز الخير, لا يعطيه الله عز وجل إلا لعبد كريم عنده.
وقال عمر بن عبد العزيز: ما أنعم الله على عبد نعمة فانتزعها منه، فعاضه مكانها الصبر؛ إلا كان ما عوضه خيرا مما انتزعه.
} - {
البكاء لا ينافي الصبر:
في الصحيحين عن ابن عمر ب قال: اشتكى سعد بن عبادة شكوى له, فأتاه النبي خ يعوده مع عبد الرحمن بن عوف وسعد بن أبي وقاص وعبد الله بن مسعود. فلما دخل عليه وجده في غشية, فقال: "قد قضى؟" قالوا: لا يا رسول الله! فبكى رسول الله خ. فلما رأى القوم بكاءه بكوا, فقال: "ألا تسمعون؟ إن الله لا يعذب بدمع العين ولا بحزن القلب، ولكن يعذب بهذا أو يرحم" وأشار إلى لسانه.
وفي الصحيحين أيضا من حديث أسامة بن زيد ب أن رسول الله خ انطلق إلى إحدى بناته؛ ولها صبي في الموت. فرفع إليه الصبي ونفسه تَقَعقَع كأنها في شنة (1) ففاضت عيناه. فقال سعد: ما هذا يا رسول الله؟ قال: "هذه رحمة جعلها
الله في قلوب عباده, وإنما يرحم الله من عباده الرحماء".
__________
(1) الشَّنَّة: الْقِرْبَة البالِيَة. ومعناه: لها صوت وحَشْرَجَة كصوت الماء إذا أُلقِيَ في القِربَة البَالية.(1/162)
وعن جابر بن عبد الله ب قال: أخذ النبي خ بيد عبد الرحمن بن عوف, فانطلق إلى ابنه إبراهيم فوجده يجود بنفسه, فأخذه النبي خ فوضعه على حجره فبكى, فقال له عبد الرحمن: أتبكي؟ أو لم تكن نهيت عن البكاء؟ قال: "لا.. ولكن نهيت عن صوتين أحمقين فاجرين: صوت عند مصيبة؛ خمش الوجه وشق الجيوب, ورنة شيطان". [رواه الترمذي، وحسنه الألباني]
وقد صح عنه خ أنه زار قبر أمه فبكى وأبكى مَن حوله.
} - {
رأس الصبر كتمان المصائب:
مما يقدح في الصبر إظهار المصيبة والتحدث بها. وكتمانها رأس الصبر.
عن الحسن: من البر كتمان المصائب, وما صبر مَن بَث.
وقد نزل الماء في إحدى عيني عطاء, فمكث عشرين سنة لا يعلم به أهله حتى جاء ابنه يوما من قِبَل عينه؛ فعلم أن الشيخ قد أُصيب.
ودخل رجل على داود الطائي في فراشه فرآه يزحف, فقال: إنا لله وإنا إليه راجعون. فقال: مه! لا تُعلم بهذا أحدا. وقد أُقعد قبل أربعة أشهر لا يعلم بذلك أحد.
وقال مغيرة: شكا الأحنف إلى عمه وجع ضرسه، وكرر ذلك عليه, فقال: ما تكرر عليّ! لقد ذهبت عيني منذ أربعين سنة فما شكوتها إلى أحد.
محنُ الفتى يُخبرنَ عن فضلِ الفتى ... كالنارِ مُخبرةٌ بفضلِ العنبرِ
} - { } - {
ثانيا: اليقين بحسن الجزاء عند الله
إن يقين ا?نسان بحسن الجزاء وعظم الأجر عند الله على البلية يخفف مرارتها علي النفس, ويهون من شدة وقعها على القلب. وكلما قوي اليقين ضعف ا?حساس بألم المصيبة.(1/163)
عن أم سلمة ل قالت: سمعت رسول الله خ يقول: "ما من مسلم تصيبه مصيبة فيقول ما أمره الله: إنا لله وإنا إليه راجعون, اللهم أجُرْني في مصيبتي وأخلِف لي خيرا منها؛ إلا أخلف الله له خيرا منها". قالت: فلما مات أبو سلمة قلت: أي المسلمين خير من أبي سلمة؟ أول بيت هاجر إلى رسول الله خ. ثم إني قلتها فأخلف الله لي رسوله خ, فأرسل إليّ رسول الله خ حاطب بن أبي بلتعة يخطبني له, فقلت: إن لي بنتا وأنا غيور. فقال: "أما بنتها فأدعو الله أن يغنيها عنها, و أدعو أن يذهب الله بالغيرة". فتزوجت رسول الله خ. [رواه مسلم]
وعن أبي موسى الأشعري قال: قال رسول الله خ: "إذا مات ولد العبد قال الله لملائكته: قبضتم ولد عبدي؟ فيقولون: نعم. فيقول: قبضتم ثمرة فؤاده؟ فيقولون: نعم. فيقول: ماذا قال عبدي؟ فيقولون: حمدك واسترجع. فيقول الله: ابنوا لعبدي بيتا في الجنة وسموه بيت الحمد". [رواه الترمذي، وحسنه الألباني]
وفي صحيح البخاري من حديث أنس ت أن رسول الله خ قال: "يقول الله عز وجل: إذا ابتليت عبدي بحبيبتيه ثم صبر عوضته عنهما الجنة".
وعن معاوية بن إياس عن أبيه ت عن النبي خ أنه فقد رجلا من أصحابه، فسأل عنه فقالوا: يا رسول الله! ابنه الذي رأيته هلك. فلقيه النبي خ فسأله عن ابنه فأخبره أنه هلك, فعزاه عليه ثم قال: "يا فلان! أيما كان أحب إليك: أن تمتع به عمرك أو لا تأتي غذا بابا من أبواب الجنة إلا وجدته قد سبقك إليه يفتحه لك؟" فقال: يا نبي الله يسبقني إلى باب الجنة يفتحها لي، وهو أحب إليّ. قال: "فذلك لك". فقيل: يا رسول الله! هذا له خاصة أم للمسلمين عامة؟ قال: "بل للمسلمين عامة". [رواه النسائي وصححه الألباني](1/164)
وفي صحيح البخاري عن عطاء بن أبي رباح قال: قال لي ابن عباس: ألا أريك امرأة من أهل الجنة؟ قلت: بلي. قال: هذه المرأة السوداء؛ أتت النبي خ فقالت: يا رسول الله! إني أُصرع وإني أتكشف؛ فادع الله لي. قال: "إن شئت صبرت ولك الجنة, وإن شئت دعوت الله تعالى أن يعافيك". فقالت: أصبر. فقالت: إني أتكشف فادعُ الله أن لا أتكشف. فدعا لها.
وعن عطاء بن يسار أن رسول الله قال: "إذا مرض العبد بعث الله إليه ملكين فقال: انظروا ما يقول لعواده؟ فإن هو إذا جاءوه حمد الله وأثنى عليه رفعا ذلك إلى الله وهو أعلم، فيقول: لعبدي عليَّ إن توفيتُه أن أدخله الجنة، وإن أنا شفيتُه أن أبدله لحما خيرا من لحمه، ودما خيرا من دمه، وأن أكفر عنه سيئاته". [قال الألباني: حسن لغيره]
وقد جمع الله للصابرين على ما يصيبهم ثلاثة أمور لم يجمعها لغيرهم، وهي: الصلاة منه عليهم, ورحمته لهم, وهدايته إياهم: قال تعالى: { وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ . الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ . أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ } [البقرة:155-157]
قال بعض السلف وقد عُزِّي على مصيبة نالته: مالي لا أصبر وقد وعدني الله على الصبر ثلاث خصال؛ كل خصلة منها خير من الدنيا وما عليها.
وروى ابن أبي حاتم عن خالد بن يزيد، عن عياض بن عقبة أنه مات له ابن يقال له: يحيي, فلما نزل في قبره قال له رجل: وإن كان لسيد الجيش فاحتسبه. فقال والده: وما يمنعني أن أحتسبه وكان من زينة الحياة الدنيا, وهو اليوم من الباقيات الصالحات.(1/165)
وذُكر عن عبد الله بن عباس ب أنه نُعي إليه ابنة له وهو في سفر؛ فاسترجع ثم قال: عورة سترها الله، ومؤنة كفاها الله, وأجر قد ساقه الله إلي. ثم نزل فصلى ركعتين. ثم قال: قد صنعنا ما أمرنا الله تعالى به: { اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ } [البقرة:153]
وكتب رجل إلى بعض إخوانه يعزيه بابنه: أما بعد.. فإن الولد على والده ما عاش حزن وفتنة, فإذا قدمه فصلاة ورحمة. فلا تحزن على ما فاتك من حزن وفتنة, ولا تضيع ما عوضك الله تعالى من صلاته ورحمته.
المرءُ بينَ مصائبٍ لا تنقضي ... ... حتى يُوارَى جسمُهُ في رَمْسِه
فمُؤجَّلٌ يَلقَى الردَى في أهلِه ... ... ومُعجَّلٌ يَلقَى الردَى في نفسِه
وفي صحيح مسلم عن أنس ت قال: مات ابن لأبي طلحة من أم سليم, فقالت لأهلها: لا تحدثوا أبا طلحة حتى أكون أنا أحدثه. فجاء أبو طلحة فقربت إليه عشاء فأكل وشرب. ثم تصنعت له أحسن ما كانت تصنَّع قبل ذلك فوقع بها. فلما رأت أنه قد شبع وأصاب منها قالت: يا أبا طلحة! أرأيت لو أن قوما أعاروا عاريتهم أهل بيت فطلبوا عاريتهم؛ ألهم أن يمنعوهم؟ قال: لا.. قال أم سليم: فاحتسب ابنك. قال: فغضب أبو طلحة فقال: تركتني حتى إذا تلطخت أخبرتني بابني؟ والله لا تغلبيني على الصبر. فانطلق حتى أتى رسول الله خ فأخبره بما كان. فقال رسول الله خ: "بارك الله لكما في غابر ليلتكما". قال رجل من الأنصار: فرأيت لهما تسعة أولاد كلهم قد حفظوا القرآن. وفي بعض الروايات أنها جاءت بغلام حنكه رسول الله خ، وسماه: عبد الله. وهو الذي كان من سلالته القراء.
وعثرت امرأة فتح الموصلي فانقطع ظفرها. وفي هذا من الألم ما فيه. ولكنها حمدت الله وضحكت! فقيل لها: أما تجدين الوجع؟ فقالت: إن لذة ثوابه أزالت عن قلبي مرارة وجعه.
وفي المعجم الكبير للطبراني عن ابن مسعود ت قال: يود أهل البلاء يوم القيامة حين يعاينون الثواب لو أن جلودهم كانت تُقرض بالمقاريض.(1/166)
وقال بعض السلف: لولا مصائب الدنيا لوردنا الآخرة من المفاليس.
وقال عمر ت: ما أُصبت ببلاء إلا كان لله عليّ فيه أربع نعم: أنه لم يكن في ديني, وأنه لم يكن أكبر منه, وأني لم أُحرم الرضا به, وأني أرجو ثواب الله عليه.
وقال ابن القيم /: مَن خلقه الله للجنة لم تزل هداياها تأتيه من المكاره,
ومَن خلقه للنار لم تزل هداياها تأتيه من الشهوات.
وما الدهرُ إلا هكذا فاصطبرْ لهُ ... رَزِيةُ مالٍ أو فراقُ حبيبٍ
} - { } - {
ثالثا: التسليم لقدر الله و الرضا به
إذا كانت مقادير الله نافذة؛ رضي ا?نسان أم سخط, صبر أم جزع؛ فإن العاقل ينبغي أن يسلم لها ويرضى حتى لا يُحرم المثوبة, وإلا فإنه سينتهي رغما عنه إلى صبر الاضطرار, وهو غير محمود. قال تعالى: { مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ } [التغابن:11]
قال علقمة: هي المصيبة تصيب الرجل فيعلم أنها من عند الله؛ فيسلم لها ويرضى.
نظر علي بن أبي طالب إلى عدي بن حاتم كئيبا فقال: يا عدي! مالي أراك كئيبا حزينا؟ فقال: وما يمنعني؟ فقد قُتل ابناي وفُقئت عيني. فقال:
يا عدي! مَن رضي بقضاء الله جرى عليه وكان له أجر.
ومَن لم يرضَ بقضاء الله جرى عليه وحبط عمله.
وروي عن ابن المبارك أنه مات له ابن، فمر به مجوسي يعزيه فقال له: ينبغي للعاقل أن يفعل اليوم ما يفعله الجاهل بعد خمسة أيام. فقال ابن المبارك: اكتبوا هذا.
وقال عبد الواحد بن زيد: الرضا باب الله الأعظم, وجنة الدنيا, ومستراح العابدين.
وأصبح أعرابي وقد مات له أباعر كثيرة فقال:
لا والذي أنا عبدٌ في عبادتِهِ ... ... لولا شماتةُ أعداءٌٍ ذَوِي إحَنِ
ما سرَّني أنَّ إبلي في مبارِكِها ... ... وأنَّ شيئًا قضاهُ اللهُ لم يكنِ
وليعلم العبد أن الله لم يقدر عليه المصائب ليهلكه بها, ولا ليعذبه. وإنما ابتلاه ليمتحن صبره ورضاه عنه. وليسمع تضرعه وابتهاله. وليراه طريحا ببابه،(1/167)
لائذا بجنابه، مكسور القلب بين يديه.. فمَن وُفق لذلك
ربح ربحا عظيما, ومَن خُذل خسر خسرانا مبينا.
قال تعالى: { وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ } [البقرة:216]
قال عمر بن الخطاب ت: لا أبالي أصبحت على ما أحب أو على ما أكره؛ لأني لا أدري الخير فيما أحب أو فيما أكره.
وقال عبد الله بن مسعود ت: لأن ألحس جمرة أحرقت ما أحرقت وأبقت ما أبقت؛ أحب إليّ من أن أقول لشيء كان: ليته لم يكن, أو لشيء لم يكن: ليته كان.
وقال الحسن: لا تكرهوا البلايا الواقعة والنقمات الحادثة؛ فلرُبَّ أمر تكرهه فيه نجاتك, ولرُبَّ أمر تؤثره فيه عطبك.
ونظر رجل إلى قرحة في رِجل محمد بن واسع, فقال: إني لأرحمك من هذه القرحة. فقال: إني لأشكرها منذ أن خرجت؛ إذ لم تخرج من عيني.
وليس من شرط الرضا ألا يشعر المصاب بالألم, بل ألا يعترض على الحكم ولا يتسخطه. وليعلم العبد أن رضاه عن ربه في جميع الحالات يثمر رضا ربه عنه. فإذا رضي عنه بالقليل من الرزق؛ رضي ربه عنه بالقليل من العمل.
والسخط باب الهم والغم والحزن, وشتات القلب، وكسف البال, وسوء الحال, والظن بالله خلاف ما هو أهله. والرضا يخلصه من ذلك كله، ويفتح له باب جنة الدنيا قبل جنة الآخرة.
فالرضا ينزل عليه السكينة التي لا أنفع له منها, ومتى نزلت عليه السكينة استقام وصلحت أحواله, وصلح باله. والسخط يبعده منها بحسب
قلته وكثرته. وإذا ترحلت عنه السكينة ترحَّل عنه السرور
والأمن والدعة والراحة وطيب العيش. فمِن أعظم نعم الله
على عبده تنزل السكينة عليه. ومن أعظم أسبابها
الرضا عنه في جميع الحالات.(1/168)
اجتمع ذات يوم وهيب بن الورد وسفيان الثوري ويوسف بن أسباط، فقال الثوري: كنت أكره موت الفجأة قبل اليوم, واليوم وددت أني مت. فقال له يوسف: لم؟ قال: لما أتخوف من الفتنة. فقال يوسف: لكني لا أكره طول البقاء. فقال سفيان: لم؟ قال: لعلي أصادف يوما أتوب فيه وأعمل صالحا. فقيل لوهيب: وماذا تقول أنت؟ فقال: أنا لا أختار شيئا، أحبُّ ذلك إليَّ أحبه إلى الله تعالى. فقبله الثوري بين عينيه وقال: روحانية ورب الكعبة.
} - {
مَن رضي فله الرضا:
عن أنس بن مالك ت عن رسول الله خ أنه قال: "عِظَم الجزاء مع عِظَم البلاء، وإن الله إذا أحب قوما ابتلاهم؛ فمن رضي فله الرضا، ومن سخط فله السخط". [رواه الترمذي وابن ماجه، وحسنه الألباني]
وليعلم العبد أن حظه من المصيبة ما تُحدثه له. فإن أحدثت له سخطا وكفرا كُتب في ديوان الهالكين. وإن أحدثت له جزعا وتفريطا في ترك واجب أو فعل محرم كُتب في ديوان المفرطين. وإن أحدثت له شكاية وعدم صبر كتب في ديوان المغبونين. وإن أحدثت له اعتراضا على الله وقدحا في حكمته؛ فقد قرع باب الزندقة. وإن أحدثت له صبرا وثباتا لله كُتب في ديوان الصابرين. وإن أحدثت له الرضا عن الله كُتب في ديوان الراضين. وإن أحدثت له الحمد والشكر كُتب في ديوان الشاكرين، وكان تحت لواء الحمد مع الحمَّادين. وإن أحدثت له محبة واشتياقا إلى لقاء ربه كُتب في ديوان المحبين المخلصين.
فسبحان مَن ينعم ببلائه ويبتلي بنعمائه:
قدْ يُنعمُ اللهُ بالبلوَى وإنْ عَظُمَتْ ... ويبتلي اللهُ بعضَ القومِ بالنعمِ
} - { } - {
رابعا: الاستعانة بالله عز وجل(1/169)
لعل حاجة المصاب إلى الاستعانة بالله والتوكل عليه هي بعض أسرار اقتران الصبر بالتوكل على الله في كثير من الآيات. قال تعالى: { الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ } [النحل:42]. وقال تعالى على ألسنة الرسل: { وَلَنَصْبِرَنَّ عَلَى مَا آَذَيْتُمُونَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ } [إبراهيم:12]
ومما يعين المبتلى على تحمل البلايا أن يستعين بالله تعالى, ويلجأ إلى حماه, فيشعر بمعيته سبحانه, وأنه في حمايته ورعايته. ومَن كان في حمى ربه فلن يضام.
وفي الترمذي من حديث عبد الله بن عباس عن النبي خ: ".. وإذا استعنت فاستعن بالله..".
فإن العبد عاجز عن الاستقلال بجلب مصالحه ودفع مضاره. ولا معين له على مصالح دينه ودنياه إلا الله عز وجل. فمَن أعانه الله فهو المعان, ومَن خذله فهو المخذول. وهذا تحقيق معنى قول: لا حول ولا قوة إلا بالله. فإن المعنى: لا تحول للعبد من حال إلى حال، ولا قوة له على ذلك إلا بالله. وهذه كلمة عظيمة، وهي كنز من كنوز الجنة. فالعبد محتاج إلى الاستعانة بالله في الصبر على المقدورات كلها في الدنيا وعند الموت وبعده من أهوال البرزخ ويوم القيامة. ولا يقدر على ا?عانة على ذلك إلا الله عز وجل. فمن حقق الاستعانة به أعانه.
وفي الحديث الصحيح عن النبي خ قال: "احرص على ما ينفعك، واستعن بالله ولا تعجز". [حسنه الألباني في صحيح الجامع]
وذكر أن عثمان بن عفان ت لما ضُرب جعل يقول -والدماء تسيل على لحيته-: لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين, اللهم إني أستعين بك عليهم, وأستعينك على جميع أموري, وأسألك الصبر على ما ابتليتني.(1/170)
والاستعانة تجمع أصلين: الثقة بالله, والاعتماد عليه. فإن العبد قد يثق بالواحد من الناس؛ ولا يعتمد عليه في أموره -مع ثقته به- لاستغنائه عنه. وقد يعتمد عليه -مع عدم ثقته به- لحاجته إليه, ولعدم من يقوم مقامه؛ فيحتاج إلى اعتماده عليه مع أنه غير واثق به.
ومعنى الاستعانة: حال للقلب تنشأ عن معرفته بالله، وا?يمان بتفرده بالخلق والتدبير، والضرر والنفع, والعطاء والمنع, وأنه ما شاءكان وإن لم يشأ الناس, وما لم يشأ لم يكن وإن شاء الناس. فيوجب له هذا اعتمادا عليه، وتفويضا إليه, وطمأنينة به, وثقة به، ويقينا بكفايته لما استعان به عليه, وأنه لا يكون إلا بمشيئته؛ شاءه الناس أم أبَوْه.
الاستعانة بالله تذهب الهم والحزن:
عن ابن مسعود ت عن النبي خ قال: "ما أصاب عبدا هم ولا حزن, فقال: اللهم إني عبدك ابن عبدك ابن أمتك, ناصيتي بيدك, ماضٍ فيّ حكمك, عدل فيّ قضاؤك, أسألك بكل اسم هو لك سميت به نفسك أو أنزلته في كتابك أو علمته أحدا من خلقك أو استأثرت به في علم الغيب عندك؛ أن تجعل القرآن العظيم ربيع قلبي, ونور صدري وجلاء حزني وذهاب همي؛ إلا أذهب الله حزنه وهمه، وأبدله مكانه فرحا". [رواه أحمد، وصححه الألباني](1/171)
قال ابن القيم / في شرح هذا الحديث ما ملخصه: [استوعب هذا الحديث الصحيح أقسام المكروه الواردة على القلب. فالهم يكون على مكروه يُتوقع في المستقبل يهتم به القلب. والحزن يكون على مكروه ماضٍ من فوات محبوب أو حصول مكروه؛ إذا تذكره أحدث له حزنا. والغم يكون على مكروه حاصل في الحال؛ ويوجب لصاحبه الغم. فهذه المكروهات من أعظم أمراض القلب وأدوائه. وقد تنوع الناس في طرق أدويتها والخلاص منها. وأكثر الطرق والأدوية التي يستعملها الناس في الخلاص منها لا يزيدها إلا شدة, كمن يتداوى منها بالمعاصي على اختلافها من أكبر كبائرها إلى أصغرها, وكمن يتداوى منها باللهو واللعب والغناء. وكلهم قد أخطأ الطريق، إلا مَن سعى في إزالتها بالدواء الذي وصفه الله ?زالتها؛ وهو دواء مركب من مجموع أمور؛ متى نقص منها جزء نقص من الشفاء بقدره. وأعظم أجزاء هذا الدواء: التوحيد والاستغفار, قال تعالى: { فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ } [محمد:19]
فالتوحيد يُدخل العبد على الله, والاستغفار والتوبة يرفع المانع ويزيل الحجاب الذي يحجب القلب عن الوصول إليه. فإذا وصل القلب إليه زال همه وغمه وحزنه, وإذا انقطع عنه حضرته الهموم والغموم والأحزان, وأتته من كل طريق, ودخلت عليه من كل باب.
وقوله: (ناصيتي بيدك) اعتراف بأن العبد لا يملك لنفسه من دون الله نفعا ولا ضرا، ولا موتا ولا حياة ولا نشورا؛ لأن مَن ناصيته بيد غيره فليس إليه شيء من أمره, بل هو ذليل تحت سلطان قهره.
وقوله: (ماضٍ فيّ حُكْمُك، عدل فيّ قضاؤك) متضمن لأصلين عظيمين عليهما مدار التوحيد؛ أحدهما: إثبات القدر، وأن أحكام الرب تعالى نافذة في عبده، ماضية فيه، لا انفكاك له عنها، ولا حيلة له في دفعها.(1/172)
والثاني: أنه سبحانه عدل في هذه الأحكام، غير ظالم لعبده، بل لا يخرج فيها عن موجب العدل وا?حسان. فإن الظلم سببه حاجة الظالم أو جهله أو سفهه؛ فيستحيل صدوره ممن هو بكل شيء عليم، ومَن هو غني عن كل شيء, وكل شيء فقير إليه, ومَن هو أحكم الحاكمين. فلا تخرج ذرة من مقدوراته عن حكمته كما لم تخرج عن قدرته ومشيئته.
ثم توسل إلى ربه بأسمائه التي سمى بها نفسه؛ ما علم العباد منها وما لم يعلموا, ومنها ما استأثره في علم الغيب عنده؛ فلم يُطلع عليه ملَكا مقربا ولا نبيا مرسلا. وهذه الوسيلة أعظم الوسائل وأحبها إلى الله وأقربها تحصيلا للمطلوب.
ثم سأله أن يجعل القرآن لقلبه كالربيع الذي يرتع فيه الحيوان؛ وكذلك القرآن ربيع القلوب. وأن يجعله شفاء همه وغمه؛ فيكون له بمنزلة الدواء الذي يستأصل الداء، ويعيد البدن إلى صحته واعتداله، وأن يجعله لحزنه كالجلاء الذي يجلو الأصدية. فأحرى بهذا العلاج إذا صدق العليل في استعماله أن يزيل عنه داءه، ويعقبه شفاء تام وصحة وعافية.] ا.هـ
إليكَ إلهي لا إلي الناسِ أفزعُ ... إذا ما أصابَ النفسَ هَمٌّ مُروِّعُ
ألملِمُ أشتاتي وأدنو وأنحني ... أتمتِمُ أعذاري وأجثو وأركعُ
وأسجدُ إيمانًا وحبًّا وخشيةً ... وقلبي إلى ربي يتوبُ ويخشعُ
وبينَ يدي مولايَ أُلقي حمولتي ... فتصعدُ آهاتٌ وتنسابُ أدمُعُ
إذا ضاقتِ الأنفاسُ في الصدرِ لم أجِدْ ... حَوالَيَّ إلا اللهَ يحنو ويسمعُ
تضاءلَتِ الأبوابُ رغمَ اتساعِها ... بعيني, فبابُ اللهِ أدنى وأوسعُ
لكَ المُلكُ ياربَّ السماء وإنني ... ببابِكَ في الضراءِ أدعو وأضرعُ
} - { } - {
خامسا: انتظار روح الفرج
اليقين بالفرج يبدد ظلمة القلق من النفس, ويطرد شبح اليأس من القلب, ويضئ الصدر بالأمل في الله. وهذا كسب نفسي كبير؛ فإن الأمل قوة محركة وشحنة دافعة إلى الأمام.(1/173)
وقد وعد الله أصحاب البلايا بالسعة بعد الضيق, وبالعافية بعد البلاء, وبالرضا بعد الشدة، وباليسر بعد العسر. قال تعالى: { سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا } [الطلاق:7]
وقال تعالى: { فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا . إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا } [الشرح:5-6]، فلم يجعل الله اليسر بعد العسر أو عقبه, بل معه, وذلك لينبه على أمرين:
الأول: قرب تحقق اليسر بعد العسر حتى كأنه معه ومتصل به.
الثاني: أن مع العسر يسرا لا ريب فيه, قد يكون ظاهرا ملموسا, وقد يكون خفيا مكنونا. وذلك ما نسميه اللطف. ففي كل قدر لطف, وفي كل بلاء نعمة. وفي هذا يقول ابن عطاء السكندري: من ظن انفكاك لطفه عن قدره فذلك لقصور نظره. { إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِمَا يَشَاءُ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ } [يوسف:100]
وكم قص سبحانه وتعالى من قصص تفريج كربات أنبيائه عند تناهي الكرب, كإنجاء نوح ومن معه في الفلك, وإنجاء إبراهيم من النار، وفدائه لولده الذي أُمر بذبحه, وإنجاء موسى وقومه من اليم وإغراق عدوهم, وقصة أيوب ويونس وقصص محمد خ مع أعدائه وإنجائه منهم، كقصته في الغار ويوم بدر ويوم الأحزاب ويوم حنين.. قال تعالى: { حَتَّى إِذَا اسْتَيْئَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ وَلَا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ } [يوسف:110]
ومن لطائف أسرار اقتران الفرج بالكرب واليسر بالعسر؛ أن الكرب إذا اشتد وعظم وتناهى، وحصل للعبد اليأس من كشفه من جهة المخلوقين؛ تعلق قلبه بالله وحده. وهذه هي حقيقة التوكل على الله, وهو من أعظم الأسباب التي تُطلب بها الحوائج؛ فإن الله يكفي مَن توكل عليه, كما قال تعالى: { وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ } [الطلاق:3](1/174)
عن أسلم أن أبا عبيدة ت حُصر بالشام، ونال منه العدو، فكتب إليه عمر بن الخطاب ت يقول: مهما ينزل بأمرك شدة يجعل الله بعدها فرجا، وإنه لن يغلب عسر يسرين، وإنه يقول: { اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } [آل عمران:200]
وروى ابن أبي الدنيا عن أيوب بن معمر، قال: حاصر هارون أمير المؤمنين حصنا، فإذا سهم قد جاء ليس له نصل حتى وقع بين يديه، مكتوب عليه:
إذا شاب الغرابُ أتيتُ أهلي وصار القارُ كاللبنِ الحليبِ
فقال أمير المؤمنين هارون الرشيد: اكتبوا عليه وردوه:
عسى الكربُ الذي أمسيتَ فيه يكونُ وراءه فرجٌ قريبُ
قال: فافتتح الحصن بعد ذلك بيومين أو ثلاثة، فكان الرجل صاحب السهم ممن تخلص، وكان مأسورا محبوسا فيه سنتين.
فعند تناهي الشدة تنزل الرحمة. والموفق من رزقه الله صبرا وأجرا, والشقي من ساق إليه القدر جزعا ووزرا.
إذا اشتملت على اليأسِ القلوبُ ... وضاقَ لما بهِ الصدرُ الرحيبُ
وأوطنتِ المكارهُ وأطمأنت ... وأرست في مكامنِها الخطوبُ
ولم تَرَ لانكشافِ الضرِّ وجهًا ... ولا أغنى بحيلتِهِ الأريبُ
أتاكَ على قنوطٍ منكَ غَوثٌ ... يَمُنُّ بهِ اللطيفُ المستجيبُ
وكلُّ الحادثاتِ إذا تناهَتْ ... فموصولٌ بها الفرجُ القريبُ
قال وهب بن منبه: لا يكون الرجل فقيها كامل الفقه حتى يعد البلاء نعمة ويعد الرخاء مصيبة؛ وذلك أن صاحب البلاء ينتظر الرخاء، وصاحب الرخاء ينتظر البلاء.(1/175)
لما وجه سليمان بن عبد الملك محمد بن يزيد إلى العراق ليطلق أهل السجون, ويقسم الأموال؛ ضيق على يزيد بن أبي مسلم. فلما وُلي يزيد بن عبد الملك الخلافة وَلَّى يزيد بن أبي مسلم أفريقية؛ وكان محمد بن يزيد واليا عليها؛ فاستخفي محمد بن يزيد. فطلبه يزيد بن أبي مسلم وشدد في طلبه, فأُتي به إليه في شهر رمضان عند المغرب؛ وكان في يد يزيد بن أبي مسلم عنقود عنب، فقال لمحمد ابن يزيد حين رآه: يا محمد بن يزيد! قال: نعم.. قال: طالما سألت الله أن يمكنني منك. فقال: وأنا والله طالما سألت الله أن يجيرني منك. فقال: والله ما أجارك ولا أعاذك، وإن سبقني ملك الموت إلى قبض روحك سبقته! والله لا آكل هذه الحبة العنب حتى أقتلك. ثم أمر به فكُتف, ووُضع في النِّطع وقام السياف؛ فأقيمت الصلاة. فوضع يزيد العنقود من يده، وتقدم ليصلي. وكان أهل أفريقية قد أجمعوا على قتله. فلما رفع رأسه ضربه رجل بعمود على رأسه فقتله. وقيل لمحمد بن يزيد: اذهب حيث شئت؛ فسبحان مَن قتل الأمير وفك الأسير.
قال الرياشي: ما اعتراني هم فأنشدت قول أبي العتاهية:
هيَ الأيامُ والغير ... ... وأمرُ اللهِ يُنتَظَر
أتيأسُ أن ترى فرجًا ... ... فأينَ اللهُ والقدَر
إلا سُري عني وهبت ريح الفرج.
} - { } - {
سادسا: الاقتداء بأهل الصبر والعزائم
التأمل في سير الصابرين وما لاقوه من صنوف البلاء وأنواع الشدائد؛ وبخاصة أصحاب الدعوات وحملة الرسالات؛ من أنبياء الله ورسله المصطفين الأخيار؛ الذين جعل الله من حياتهم وجهادهم دروسا بليغة لمن بعدهم؛ ليتخذوا منها أسوة، ويتعزوا بها عما يصيبهم من متاعب الحياة وأذى الناس.
ومن هنا حرص القرآن -المكي خاصة- على ذكر قصص الأنبياء, بل تكرار الكثير منها في العديد من سوره؛ تسلية للنبي خ وللمؤمنين معه، وتثبيتا لقلبه في مواجهة أعداء دعوته؛ وما أكثرهم وأعتاهم!(1/176)
وفي هذا المعنى نقرأ في خواتيم سورة هود. وقد قص الله عليه فيها قصص عدد من إخوانه المرسلين: { وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءَكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ } [هود:120]
مع صاحب الصبر الجميل:
من أهل الصبر على البلاء نبي الله يعقوب ؛ الذي وصفه الله -مع أبويه إبراهيم وإسحاق- بأنه من عباده { أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصَارِ } [ص:45]، أي القوة في دين الله والبصر بدينه.
وقد امتُحِنَ يعقوب ؛ بفراق أحب أبنائه إليه: يوسف, ومِن بعده شقيقه الأصغر. ولم يكن صبر يعقوب على يوسف بالأمر الهين أو الخطب اليسير؛ إذ لم يكن يوسف ابنا عاديا بالنسبة إلى أبيه:
إنه الصغير الذي ينال عادة من قلب أبيه ما لا يناله الكبير.
وإنه اليتيم الذي منحه أبوه من عاطفته ما يعوضه ما فقده من حب الأم.
وإنه الجميل الذي ضُربت بحسنه الأمثال, ومن طبيعة الجمال أن يُحَبْ.
وإنه النابه الذي تبدو عليه مخايل النجابة منذ نعومة أظفاره، وتوسم فيه أبوه من رؤياه التي قصها عليه أنه سيكون له شأن؛ أي شأن.
كل هذا جعل الأب يزداد تعلقا بابنه؛ فلا عجب أن يكون الابتلاء بفراقه في هذه السن من أمرِّ ما يذوقه ا?نسان من شدائد الحياة.
ولم يكن فراق يوسف كأي فراق آخر بين حبيبين يعرف كلاهما أين يقيم صاحبه, ويرجو أن ينتهي الفراق يوما بلقاء قريب. وإنما كان فراقا بعد مؤامرة ادُّعي فيها موت الصغير مقتولا، وانتهى إلى انقطاع كلي بين الابن وأبيه؛ حيث لا يُعرف للابن مقر ولا مصير.
ولم تكن هذه المؤامرة أو هذا الكيد من غرباء موتورين, أو أعداء متربصين. فقد يهون الكيد على النفس إذا جاء من عدو, وإنما كان الكيد من إخوة لأخيهم, وكان الكذب من أبناء على أبيهم. وقد قيل: إن طعنة العدو تجرح الجسم، أما طعنة الصديق فتجرح صميم القلب. فكيف بطعنة الأخ لأخيه، والابن لأبيه؟!(1/177)
ومع هذا تجمل يعقوب بالصبر أولا، وبالصبر آخر! وقال بعد فراق الولد الأول: { فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ } [يوسف:18]
وقال بعد فراق الثاني: { فَصَبْرٌ جَمِيلٌ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ } [يوسف:83]
فهو ليس صبر البائس القنوط, إنما هو صبر الآمل الراجي في فضل الله, الواثق بأن بعد العسر يسرا, وبعد الفرقة اجتماعا: (عَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعًا).
ومع وعد يعقوب بالصبر الجميل؛ لم يلبث أن هاج فراق ولده الثاني ذكرى ولده الأول -والأسى يبعث الأسى- فثار به الشوق والحنين والحزن؛ فتولى عن أبنائه وقال: { يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ . قَالُوا تَاللَّهِ تَفْتَأُ تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضًا أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهَالِكِينَ . قَالَ إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ } [يوسف:84-86]
ومن رحمة الله أنه قدر للبشرية طبيعتها وضعفها, فلم يلم يعقوب على ما أبداه من أسف على يوسف, ومن حزن ابيضت منه عيناه, ولم ينزله بذلك عن درجة (أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصَارِ). ومن هنا قال العلماء: لا يُخرج العبد من الصبر وجدان المرارة والألم, بل يكون مع ذلك صابرا؛ لأن هذا وصف البشرية لما ينافي طبعها.
ولما لاموا يعقوب ؛ في استمرار ذكر يوسف رغم مضي السنوات الطوال على فقده, وتأثير ذلك على صحته قال: { إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ } [يوسف:86]
وهنا نعلم أن الصبر الجميل الذي وعد به يعقوب -والنبي إذا وعد لم يخلف- لا ينافي الشكوى إلى الله تعالى, إنما ينافي الشكوى من الله تعالى بإظهار الجزع, والتبرم والسخط على القضاء, والدعاء بدعوى الجاهلية.(1/178)
مع يوسف الصديق:
ومن النماذج القرآنية المرموقة في عالم الصبر والصابرين يوسف بن يعقوب عليهما السلام. فقد كانت حياته سلسلة متلاحقة من البلاء, لا يفرغ من محنة إلا ليدخل في محنة مثلها أو أشد منها. فرغ من محنة إخوته وكيدهم له, ليدخل في محنة امرأة العزيز وكيدها العظيم, ويفرغ من كيد امرأة العزيز, ليواجه محنة السجن ويلبث فيه بضع سنين؛ بلا جرم جناه, أو سبب قدمته يداه. ويفرغ من هذه ليلقى محنة السراء والعافية, فيبتلَى بالمنصب والوزارة, ويتولَى مسئولية الزراعة والمالية والتموين في زمن أزمة طاحنة؛ كادت تودي بمصر وما حولها من البلدان. وهو إلى جوار هذه المحن كلها يعاني محنة الغربة. والبعد عن الأهل والوطن والعشيرة كريه؛ وخاصة مع الوحدة, وطول الزمن, وانقطاع الأخبار.
محن عديدة متوالية, ولكنها لم تلن له قناة, ولم تحن له ظهرا, ولم تفلح في زحزحته عن التمسك بالصبر.
ولا عجب أن مكن الله له في الأرض يتبوأ منها حيث يشاء، وجعله على خزائنها سيدا متصرفا؛ جزاء صبره وتقواه.
وقد سئل ا?مام الشافعي يوما: أيهما أفضل للمؤمن: أن يبتلَى أم أن يمكن؟ فقال: وهل يكون تمكين إلا بعد ابتلاء؟ إن الله ابتلى يوسف ثم مكن له، فقال: { وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاءُ نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَنْ نَشَاءُ وَلَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ } [يوسف:56]
والحق أن مفتاح قصة يوسف ونجاحه في حياته رغم ما اعترضه من عقبات ومعوقات تُقصَم فيها ظهور، وتندق فيها أعناق؛ إنما هو في هذا التعقيب الموجز الذي حكاه القرآن على لسان يوسف نفسه؛ بعد أن كشف ?خوته اللثام عن شخصيته: { قَالَ أَنَا يُوسُفُ وَهَذَا أَخِي قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ } [يوسف:90](1/179)
إنها التقوى والصبر إذن.. ولا شيء غيرهما؛ هما اللذان ارتفعا بيوسف إلى أرفع المقامات. والتقوى معنى جامع لكل خير, والصبر معنى داخل في كل بر.
فإذا اجتمعا ?نسان كان من المحسنين, والله لا يضيع أجر المحسنين.
إن الكريم ابن الكريم ابن الكريم ابن الكريم: يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم؛ النبي ابن النبي ابن النبي ابن النبي؛ لم يغنِ عنه كرم أصله وعراقته في النبوة، إنما أغناه ونفعه التقوى والصبر. ولا سيما صبره علي الاستجابة إلى امرأة العزيز, برغم أن كل الظروف من حوله تيسر له طريق ا?غراء, وتدفع إليه دفعا. ولكنه رفض بشمم, واستعلى بإيمان, وقال لها وقد خرجت بالتصريح عن التلميح؛ بعد أن هيأت الأسباب وغلقت الأبواب: { مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ } [يوسف:23]
فماذا كان موقف يوسف إزاء الإغراء والتهديد المغري؟! لقد وجد نفسه مخيرا بين محنتين: محنة في دينه: أن يزني ويكون من الفاسقين.. ومحنة في دنياه: أن يُسجن ويكون من الصاغرين. فاختار الثانية على الأولى, وضحى بدنياه من أجل دينه, وبحريته من أجل عقيدته, وقال قولته المعروفة يناجي بها ربه: { رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ } [يوسف:33](1/180)
وعن صبر يوسف يقول شيخ ا?سلام ابن تيمية: كان صبر يوسف على مطاوعة امرأة العزيز على شأنها أكمل من صبره على إلقاء إخوته له في الجب، وبيعه, وتفريقهم بينه وبين أبيه. فإن هذه أمور جرت عليه بغير اختياره؛ لا كسب له فيها؛ ليس للعبد فيها حيلة غير الصبر. وأما صبره عن المعصية؛ فصبر اختيار ورضا, ومحاربة للنفس؛ ولا سيما مع الأسباب التي تقوى معها دواعي الموافقة: فإنه كان شابا؛ وداعية الشباب إليها قوية. وعزبا؛ ليس معه ما يعوضه ويرد شهوته. وغريبا؛ والغريب لا يستحيي في بلد غربته مما يستحيي منه بين أصحابه ومعارفه وأهله. ومملوكا؛ والمملوك ليس وازعه كوازع الحر.. والمرأة جميلة ذات منصب, وهي سيدته, وقد غاب الرقيب, وهي الداعية له إلى نفسها, والحريصة على ذلك أشد الحرص. ومع ذلك توعدته -إن لم يفعل- بالسجن والصغار.. ومع هذه الدواعي كلها صبر اختيارا وإيثارا لما عند الله. وأين هذا من صبره في الجب على ما ليس من كسبه؟! ا.هـ(1/181)
ومما ينبغي أن يذكر من صبر يوسف الصديق ؛؛ موقفه عندما جاء الأمر الملكي با?فراج عنه, واستدعائه لمقابلة الملك بشخصه. فلم يطر لبه لهذا النبأ, ولم يفقد ثباته؛ رغم مرور السنين الطوال عليه؛ وهو يعاني ظلم السجن وظلامه, بل طلب -قبل كل شيء- التحقيق فيما نُسب إليه زورا وبهتانا؛ لتظهر للناس براءة ساحته, ونصاعة صفحته. وهذا ما حدث بالفعل, كما تحكيه لنا آيات قصته من القرآن المجيد: { وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ فَلَمَّا جَاءَهُ الرَّسُولُ قَالَ ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ . قَالَ مَا خَطْبُكُنَّ إِذْ رَاوَدْتُنَّ يُوسُفَ عَنْ نَفْسِهِ قُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ قَالَتِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ الْآَنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ } [يوسف:50-51]
وهكذا لم يبرح سجنه حتى ثبتت براءته, وعادت إليه كرامته، وازداد الملك إعجابا به وتقديرا له. وكانت النتيجة ما قصه القرآن: { وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي } [يوسف:54]
فقبل التحقيق قال: (ائْتُونِي بِهِ) فحسب. أما الآن فهو يقول: (ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي) مما يدل على زيادة اهتمام أو تكريم.. { فَلَمَّا كَلَّمَهُ قَالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِينٌ } [يوسف:54]
سلامٌ من الرحمنِ نحوَ جنابِهم فإنَّ سلامي لا يليقُ ببابِهم
} - {
مع سيد الصابرين صلى الله عليه وسلم:
لا يُعلم أحد مرَّ به من المصائب والمصاعب والمشاق والأزمات كما مرّ به خ، وهو صابر محتسب { وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ } [النحل:127](1/182)
صبر على اليتم والفقر والعوز والجوع والحاجة والتعب والحسد والشماتة وغلبة العدو أحيانا، وصبر على الطرد من الوطن والإخراج من الدار والإبعاد عن الأهل، وصبر على قتل القرابة والفتك بالأصحاب وتشريد الأتباع وتكالب الأعداء وتحزّب الخصوم واجتماع المحاربين وصلف المغرضين وكبر الجبارين وجهل الأعراب وجفاء البادية ومكر اليهود وعتو النصارى وخبث المنافقين وضرواة المحاربين، وصبر على تجهّم القريب وتكالب البعيد، وصولة الباطل وطغيان المكذبين..
صبر على الدنيا بزينتها وزخرفها وذهبها وفضتها، فلم يتعلق منها بشيء، وصبر على إغراء الولاية وبريق المنصب وشهوة الرئاسة، فصدف عن ذلك كله طلبا لمرضاة ربه، فهو خ الصابر المحتسب في كل شأن من شئون حياته، فالصبر درعه وترسه وصاحبه وحليفه، كلما أزعجه كلام أعدائه تذكّر: { فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ } [طه:130]، وكلما بلغ به الحال أشدّه والأمر أضيقه تذكّر: { فَصَبْرٌ جَمِيلٌ } [يوسف:18]، وكلما راعه هول العدو وأقضّ مضجعه تخطيط الكفار تذكّر: { فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ } [الأحقاف:35].
وصبره خ صبر الواثق بنصر الله، المطمئن إلى وعد الله، الراكن إلى مولاه، المحتسب الثواب من ربه جلَّ في علاه. وصبره صبر من علم أن الله سوف ينصره لا محالة، وأن العاقبة له، وأن الله معه، وأن الله حسبه وكافيه. يصبر خ على الكلمة النابية فلا تهزه، وعلى اللفظة الجارحة فلا تزعجه، وعلى الإيذاء المتعمَّد فلا ينال منه.
مات عمه فصبر، وماتت زوجته فصبر، وقُتل حمزة فصبر، وأُبعد من مكة فصبر، وتُوفي ابنه فصبر، ورُميت زوجته الطاهرة فصبر، وكُذّب فصبر، قالوا له شاعر كاهن ساحر مجنون كاذب مفتر فصبر، أخرجوه، آذوه، شتموه، سبّوه، حاربوه، سجنوه.. فصبر.
وهل يُتعلَّم الصبر إلا منه؟ وهل يُقتدى بأحد في الصبر إلا به؟ فهو مضرب
المثل في سعة الصدر وجليل الصبر وعظيم التجمل وثبات القلب،(1/183)
وهو إمام الصابرين وقدوة الشاكرين صلى الله عليه وسلم. (1)
وإذا ذكرنا أن ما تعرض له خ من إيذاء وسخرية واضطهاد وإهانات في فترة استغرقت ثلاثة عشر عاما؛ أدركنا مقدار الصبر الذي تمتع به رسول الله خ وليس هذا فحسب، بل كل ما أصيب به هو أُصيب به أتباعه، والأذى الذي لحق به لحق بأقاربه؛ وهو الشريف. وكل هذا يجرح نفس ا?نسان ويحطم أعصابه, ومع ذلك فما أبه خ لهذا كله, بل تحمله بصبر جميل إلى أن أظفره الله عليهم وحكَّمه فيهم؛ وهم لا يَشُكُّون في استئصال شأفتهم وإبادة خضرائهم؛ فما زاد على أن عنا وصفح..
قال القاضي عياض: كل حليم قد عُرفت منه زلة وحُفظت عنه هفوة، وهو خ لا يزيد مع كثرة الأذى إلا صبرا وعلى إسراف الجاهل إلا حلما..
يا صاحبَ الدينِ الحنيفِ تحية ... ... تُجزَى بها آلاؤك الغراءُ
لما حملتَ البيناتِ تلألأتْ ... ... في الخافقين من الهوى أضواءُ
يا سيدي حنَّت إليكَ جوانحي ... وتدلهت في حبِّكَ الأحناءُ (2)
__________
(1) محمد صلى الله عليه وسلم كأنك تراه: د. عائض القرني
(2) الأحناء: مفردها: حنو، وهو كل ما فيه اعوجاج من البدن.(1/184)
قال ابن هشام: اجتمع نفر من قريش إلى الوليد بن المغيرة, وكان ذا سن فيهم، وقد حضر الموسم، فقال لهم: يا معشر قريش! إنه قد حضر هذا الموسم، وإن وفود العرب ستقدم عليكم فيه, وقد سمعوا بأمر صاحبكم هذا فأجمعوا فيه رأيا واحدا، ولا تختلفوا فيكذب بعضكم بعضا, ويرد قولكم بعضه بعضا.. قالوا: فأنت يا أبا عبد شمس؛ فقل وأقم لنا رأيا نقول به. قال: بل أنتم فقولوا أسمع.. قالوا: نقول كاهن. قال: لا والله ما هو بكاهن, لقد رأينا الكهان فما هو بزمزمة الكاهن ولا بسجعه.. قالوا: فنقول مجنون. قال: ما هو بمجنون, لقد رأينا الجنون وعرفناه فما هو بخنقه ولا تخالجه ولا وسوسته.. قالوا: فنقول شاعر. قال: ما هو بشاعر, لقد عرفنا الشعر كله: رجزه وهزجه وقريضه ومقبوضه ومبسوطه, فما هو بالشعر.. قالوا: فنقول ساحر. قال: ما هو بساحر, لقد رأينا السحار وسحرهم فما هو بنفثهم ولا عقدهم.. قالوا: فما نقول يا أبا عبد شمس؟! قال: والله إن لقوله لحلاوة وإن أصله لعذق, وإن فرعه لجناة, وما أنتم بقائلين من هذا شيئا إلا عُرف أنه باطل, وإن أقرب القول فيه لأن تقولوا: ساحر جاء بقول هو سحر يفرق بين المرء وأبيه, وبين المرء وأخيه, وبين المرء وزوجه, وبين المرء وعشيرته؛ فتفرقوا عنه بذلك.. فجعلوا يجلسون بسبل الناس حين قدموا الموسم لا يمر بهم أحد إلا حذروه إياه و ذكروا لهم أمره.
هذه حرب الدعاية التي لجأوا إليها وهم قريش موطن ثقة العرب, والذين تأتيهم العرب سنويا للحج. وهم يشوهون اسمه عاما بعد عام, ويحاولون أن يحاربوه بكل سلاح من أسلحة القول. والعربي نفسه لا تسمح أبدا أن يقف موقف المتهم..
ومع ذلك بقي رسول الله خ صابرا على هذه الحرب الدعائية هذه المدة الطويلة! ثلاثة عشر عاما ما ونى ولا كَل؛ وهو يقوم بعملية التبليغ المستقيمة.
إن استمرار الداعية في مثل هذا الجو المحموم وحده دليل على
صدقه فيما يدعو إليه, وأنه يبلغ مأمورا من الله عز وجل.(1/185)
يا أيها الأميُّ يا نورَ الورَى ... بكَ تستعِزُّ على السما الغبراءُ
ضوأتَ ليلَ الكونِ وهو مُحيَّرٌ ... تشكو إليكَ جروحُهُ البكماءُ
} - {
مع بنت الصديق رضي الله عنهما:
إذا نسي التاريخ لأسماء بنت أبي بكر مواقفها كلها؛ فإنه لن ينسى لها رجاحة عقلها, وشدة حزمها, وقوة إيمانها؛ وهي تلقى ولدها عبد الله اللقاء الأخير. وذلك أن ابنها عبد الله بن الزبير بويع له بالخلافة بعد موت يزيد بن معاوية, ودانت له الحجاز ومصر والعراق وخراسان وأكثر بلاد الشام.
لكن بني أمية ما لبثوا أن سيروا لحربه جيشا جرارا بقيادة الحجاج بن يوسف الثقفي؛ فدارت بين الفريقين معارك طاحنة؛ أظهر فيها ابن الزبير من ضروب البطولة ما يليق بفارس كمي مثله. غير أن أنصاره جعلوا ينفَضُّون عنه شيئا فشيئا, فلجأ إلى بيت الله الحرام؛ فاحتمى هو ومَن معه في حمى الكعبة المعظمة.
وقبيل مصرعه بساعات دخل على أمه أسماء -وكانت عجوزا فانية قد كُف بصرها- فقال: السلام عليك يا أمه ورحمة الله وبركاته.
فقالت: وعليك السلام يا عبد الله.. ما الذي أقدمك في هذه الساعة؛ والصخور التي تقذفها منجنيقات الحجاج على جنودك في الحرم تهز دور مكة هزا؟!
قال: جئت لأستشيرك.
قالت: تستشيرني في ماذا؟!
قال: لقد خذلني الناس، وانحازوا عني رهبة من الحجاج أو رغبة فيما عنده؛ حتى أولادي وأهلي انفضوا عني, ولم يبقَ معي إلا نفر قليل من رجالي, وهم مهما عظم جلَدهم فلن يصبروا إلا ساعة أو ساعتين. ورسل بني أمية يفاوضونني على أن يعطوني ما شئت من الدنيا إذا أنا ألقيت السلاح وبايعت عبد الملك بن مروان.. فما ترين؟ فعلا صوتها، وقالت: الشأن شأنك يا عبد الله, وأنت أعلم بنفسك.. فإن كنت تعتقد أنك على حق, وتدعو إلى حق؛ فاصبر وجالد كما صبر أصحابك الذين قُتلوا تحت رايتك.. وإن كنت إنما أردت الدنيا فلبئس العبد أنت؛ أهلكت نفسك وأهلكت رجالك.
قال: ولكني مقتول اليوم لا محالة.(1/186)
قالت: ذلك خير لك من أن تسلم نفسك للحجاج مختارا؛ فيلعب برأسك غلمان بني أمية.
قال: لست أخشى القتل, وإنما أخاف أن يمثلوا بي.
قالت: ليس بعد القتل ما يخافه المرء. فالشاة المذبوحة لا يؤلمها السلخ.
فأشرقت أسارير وجهه، وقال: بوركت من أم, وبوركت مناقبك الجليلة.. فأنا ما جئت إليك في هذه الساعة إلا لأسمع منك ما سمعت.. والله يعلم أنني ما وهنت ولا ضعفت؛ وهو الشهيد على أنني ما قمت بما قمت به حبا بالدنيا وزينتها, وإنما غضبا لله أن تُستباح محارمه.. وها أنذا ماضٍ إلى ما تحبين.. فإذا أنا قُتلت فلا تحزني عليّ، وسلمي أمرك لله.
قالت: إنما أحزن عليك لو قُتلت في باطل.
قال: كوني على ثقة بأن ابنك لم يتعمد إتيان منكر قط, ولا عمل بفاحشة قط, ولم يَجُر في حكم الله, ولم يغدر في أمان, ولم يتعمد ظلم مسلم ولا معاهد, ولم يكن شيء عنده آثر من رضا الله عز وجل.. لا أقول ذلك تزكية لنفسي؛ فالله أعلم مني بي, وإنما قلته لأدخل العزاء على قلبك.
قالت: الحمد لله الذي جعلك على ما يحب وأحب.. اقترِب مني يا بني لأتشمم رائحتك وألمس جسدك؛ فقد يكون هذا آخر العهد بك.
فأكب عبد الله على يديها ورِجليها يوسعهما لثما, وأجالت هي أنفها في رأسه ووجهه وعنقه تتشممه وتقبله, وأطلقت يديها تتلمس جسده, ثم ما لبثت أن ردتهما عنه وهي تقول: ما هذا الذي تلبسه يا عبد الله؟!
قال: درعي.
قالت: ما هذا يا بُني لباس مَن يريد الشهادة.
قال: إنما لبستها لأطيب خاطرك وأسكن قلبك.
قالت: انزعها عنك؛ فذلك أشد لحميتك، وأقوى لوثبتك، وأخف لحركتك.. ولكن البس بدلا منها سراويل مضاعفة؛ حتى إذا صُرعت لم تتكشف عورتك.
نزع عبد الله بن الزبير درعه, وشد عليه سراويله, ومضى إلى الحرم لمواصلة القتال وهو يقول: لا تفتري عن الدعاء لي يا أمه.(1/187)
فرفعت كفيها إلى السماء وهي تقول: اللهم ارحم طول قيامه وشدة نحيبه في سواد الليل والناس نيام.. اللهم ارحم جوعه وظمأه في هواجر المدينة ومكة وهو صائم.. اللهم ارحم بره بأبيه وأمه.. اللهم إني قد سلمته لأمرك, ورضيت بما قضيتَ له؛ فأثبني عليه ثواب الصابرين.
لم تغرب شمس ذلك اليوم إلا كان عبد الله بن الزبير قد لحق بجوار ربه. ولم يمضِ على مصرعه غير بضعة عشر يوما إلا كانت أمه أسماء بنت أبي بكر قد لحقت به؛ وقد بلغت من العمر مائة عام؛ ولم يسقط لها سن ولا ضرس, ولم يغب من عقلها شيء.
فلو كان النساءُ كمثلِ هذي ... ... لفُضِّلَتِ النساءُ على الرجالِ
فما التأنيثُ لاسمِ الشمسِ عيبٌ ... ... ولا التذكيرُ فخرٌ للهلالِ
} - {
مع عروة بن الزبير :
خرج عروة بن الزبير إلى الوليد بن يزيد فوطأ عظما, فما بلغ إلى دمشق حتى بلغ به كل مذهب. فجمع له الوليد الأطباء, فأجمع رأيهم على قطع رجله. فعرضوا عليه أن يشرب مُرقِّدا (مخدرا) فرفض وقال: إنما ابتلاني ليرى صبري, وما أحب أن أغفل عن ذكر الله تعالى. فأُحمي له المنشار، وقُطعت رجله وقال: { لَقَدْ لَقِينَا مِنْ سَفَرِنَا هَذَا نَصَبًا } [الكهف:62]. وتمثل بهذه الأبيات:
لعمري ما أهويتُ كفي لريبةٍ ... ... ولا نقلتني نحوَ فاحشةٍ رِجلي
ولا قادني سمعي ولا بصري لها ... ولا دلني رأيي عليها ولا عقلي
وأعلم أني لم تصبني مصيبةٌ ... ... من الدهرِ إلا قد أصابت فتًى قبلي
فبينما هو كذلك إذ أتاه خبر ولده أنه اطلع من سطح على دواب الوليد فسقط بينها فمات. فقال:
اللهم إن كنتَ قد ابتليتَ فقد عافيتَ, وإن كنتَ أخذتَ فقد أبقيتَ..
أخذتَ عضوا وأبقيتَ أعضاء, وأخذتَ ابنا وأبقيت أبناء..
وما ترك ورده تلك الليلة.(1/188)
وقدم على الوليد وفد من عبس؛ فيهم شيخ ضرير. فسأله عن حاله وسبب ذهاب بصره, فقال: خرجت مع رفقة مسافرين؛ ومعي مالي وعيالي. ولا أعلم عبسيا يزيد ماله على مالي. فعرسنا في بطن وادٍ، فطرقنا سيل؛ فذهب ما كان لي من أهل ومال وولد؛ غير صبي صغير وبعير. فشرد البعير, فوضعت الصغير على الأرض, ومضيت لآخذ البعير؛ فسمعت صيحة الصغير، فرجعت إليه؛ فإذا رأس الذئب في بطنه؛ وهو يأكل فيه! فرجعت إلى البعير؛ فحطم وجهي برجليه؛ فذهبت عيناي؛ فأصبحت بلا عينين ولا ولد ولا مال ولا أهل..
فقال الوليد: اذهبوا به إلى عروة ليعلم أن في الدنيا مَن هو أعظم مصيبة منه.
} - {
مع الإمام الممتحن أحمد بن حنبل ومسألة خلق القرآن:
يعتقد المعتزلة أن الله سبحانه وتعالى يخلق الكلام كما يخلق كل شيء. وعلي هذا الاعتقاد بنوا دعواهم أن القرآن مخلوق لله سبحانه وتعالى. ولقد خاض المعتزلة في حديث خلق القرآن خوضا شديدا في العصر العباسي, وشاركهم بعض قليل من الفقهاء.
وابتدأ خوض المعتزلة يشتد في عهد الرشيد, فأخذوا يدعون الناس إلى ذلك, ولكن الرشيد لم يكن من الذين يشجعون الخوض في العقائد والجدل فيها على ضوء أقوال الفلاسفة؛ ولذلك لم يشجع المعتزلة على ذلك الخوض, بل يُروى أنه حبس طائفة من المجادلين من هؤلاء المعتزلة.
فلما جاء المأمون أحاط به المعتزلة, وكان جل حاشيته من رجالهم, وأدناهم هو إليه, وأكرمهم أبلغ الإكرام.
ولما أحس المعتزلة بهذه المنزلة؛ زينوا له إعلان قوله في خلق القرآن؛ نشرا لمذهبهم. وصادف ذلك هوى في نفسه؛ فأعلن ذلك سنة 212 هـ، وناظر من يغشى مجلس مناظرته في هذا الشأن, وأدلى فيها بحجته وأدلته, وترك الناس أحرارا في عقائدهم؛ لا يُحملون على فكرة لا يرونها.(1/189)
وفي سنة 218 هـ وهي السنة التي تُوفي فيها؛ بدا له أن يدعو الناس بقوة السلطان إلى اعتناق فكرة خلق القرآن. فأراد أن يحملهم على ذلك قهرا, وابتدأ ذلك بإرسال كتبه وهو بـ"الرقة" إلى إسحاق بن إبراهيم نائبه في بغداد بامتحان الفقهاء والمحدثين؛ ليحملهم على أن يقولوا: إن القرآن مخلوق.
وقد سارع إسحاق بن إبراهيم إلى تنفيذ رغبته؛ فأحضر المحدثين والفقهاء والمفتين؛ وفيهم أحمد بن حنبل, وأنذرهم بالعقوبة الصارمة والعذاب العتيد إن لم يقروا بما يُطلَب منهم, وينطقوا بما سئلوا أن ينطقوا به, ويحكموا بالحكم الذي ارتآه المأمون من غير تردد أو مراجعة.. فنطقوا جميعا بما طُلب منهم, وأعلنوا اعتناق ذلك المذهب.
ولكن أربعة ربط الله على قلوبهم, واطمأنوا إلى حكم الله, وآثروا الباقية على الفانية؛ فأصروا على موقفهم إصرارا جريئا؛ وهم: أحمد بن حنبل, ومحمد بن نوح, والقواريري, وسجادة.. فشُدوا في الوثاق, وكُبلوا بالحديد, وباتوا ليلتهم مصفدين في الأغلال. فلما كان الغد أجاب سجادة فيما دُعي إليه؛ فخلوا عنه وفكوا قيوده، واستمر الباقون على حالهم.
وفي اليوم التالي أعيد السؤال عليهم, وطُلب الجواب إليهم؛ فخارت نفس القواريري، وأجابهم إلى ما طلبوا؛ ففكوا قيوده. وبقي اثنان؛ الله معهما.. فسيقا في الحديد؛ ليلتقيا بالمأمون في طرطوس. وقد استشهد ابن نوح في الطريق.
وبينما هم في الطريق نعى الناعي المأمون. ولكنه لم يودع هذه الدنيا من غير أن يوصي أخاه المعتصم بالاستمساك بمذهبه في القرآن, ودعوة الناس إليه بقوة السلطان.. وجاء في الوصية: "يا أبا إسحاق! ادنُ مني, واتعظ بما ترى, وخذ بسيرة أخيك في خلق القرآن".(1/190)
ولهذه الوصية لم تنقطع المحنة بوفاة المأمون, بل اتسع نطاقها, وزادت ويلاتها, وكانت شرا مستطيرا على المتوقفين من الزهاد والعلماء والفقهاء والمحدثين؛ وعلى رأسهم أحمد بن حنبل. فقد بلغ البلاء أشده, والمحنة أقصاها في عهد المعتصم, ثم في عهد الواثق.
تبين أن أحمد بن حنبل كان مقيدا مسوقا عندما مات المأمون, فأعيد إلى السجن ببغداد حتى يصدر في شأنه أمر. ثم سيق إلى المعتصم, واتخذت معه ذرائع ا?غراء وا?رهاب؛ فما أجدى في حمله ترغيب ولا ترهيب. فلما لم يُجدِ القول رغبا ولا رهبا نفذوا الوعيد؛ فأخذوا يضربونه بالسياط المرة بعد الأخرى.. ولم يُترك في كل مرة حتى يُغمى عليه, ويُنخس بالسيف فلا يحس! وتكرر ذلك مع حبسه نحوا من ثمانية وعشرين شهرا.. فلما استيأسوا منه, وثارت في نفوسهم بعض نوازع الرحمة أطلقوا سراحه, وأعادوه إلى بيته؛ وقد أثخنته الجراح, وأثقله الضرب المبرح المتوالي, وا?لقاء في غيابات السجن.
عن محمد بن إسماعيل بن أبي سمينة قال: سمعت شاباص النائب يقول: لقد ضربتُ أحمد بن حنبل ثمانين سوطا؛ لو ضربته فيلا لهدته!
وعن ميمون بن الأصبغ قال: كنت ببغداد فسمعت ضجة، فقلت: ما هذا؟ فقالوا: أحمد بن حنبل يُمتَحن! فدخلت.. فلما ضُرب سوطا قال: بسم الله.. فلما ضُرب الثاني قال: لا حول ولا قوة إلا بالله.. فلما ضُرب الثالث قال: القرآن كلام الله غير مخلوق.. فلما ضُرب الرابع قال: (قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا).. فضُرب تسعة وعشرين سوطا. وكانت تكة أحمد حاشية ثوب فانقطعت؛ فنزل السروال إلى عانته؛ فرمى أحمد طرفه إلى السماء وحرك شفتيه؛ فما كان بأسرع أن بقي السروال لم ينزل.. فدخلت إليه بعد سبعة أيام فقلت: يا أبا عبد الرحمن! رأيتك تحرك شفتيك؛ فأي شيء قلت؟ قال: قلت:
اللهم إني أسألك باسمك الذي ملأت به العرش؛ إن كنت
تعلم أني على الصواب فلا تهتك لي سترا..(1/191)
وقال عبد الله بن أحمد بن حنبل: كنت كثيرا أسمع والدي يقول: رحم الله أبا الهيثم! غفر الله لأبي الهيثم! عفا الله عن أبي الهيثم! فقلت: يا أبه.. مَن أبو الهيثم؟ فقال: لما أُخرجت للسياط إذا أنا بشاب يجذب ثوبي من ورائي ويقول لي: تعرفني؟ قلت: لا.. قال: أنا أبو الهيثم العيار اللص الطرار, مكتوب في ديوان أمير المؤمنين أني ضُربت ثمانية عشر ألف سوط وصبرت في ذلك على طاعة الشيطان لأجل الدنيا؛ فاصبر أنت في طاعة الرحمن لأجل الدين.
استقر أحمد بن حنبل في بيته بعد أن عاد إليه لا يقوى على السير, واستمر منقطعا عن الدرس والتحديث ريثما التأمت جراحه. فلما رُد إليه ثوب العافية مكث يُحدِّث ويدرس بالمسجد حتى مات المعتصم. فلما تولى الواثق أعاد المحنة على أحمد, ولكنه لم يتناول السوط، ولم يضرب ابن حنبل كما فعل المعتصم -إذ رأى أن ذلك زاده منزلة عند الناس- بل منعه من الاجتماع بالناس, وقال الواثق له: لا تجمعن إليك أحدا، ولاتساكني في بلد أنا فيه. فأقام ا?مام مختفيا؛ لا يخرج إلى صلاة ولا غيرها؛ حتى مات الواثق.
وبذلك انقطع أحمد عن الدراسة مدة تزيد على خمس سنوات إلى سنة 232هـ. وبعدها عاد إلى الدرس والتحديث مكرما؛ ترفعه عزة التقى وجلال السن والقناعة والزهادة وحسن البلاء؛ بعد أن عكر حياته ذلك الامتحان الخطير الذي دام نحوا من أربع عشرة سنة؛ تراخى عنه العذاب والتنكيل والاضطهاد في نصفها، واستمر في سائرها.
وإن من الحق أن نذكر أن صفة الصبر التي امتاز بها أحمد هي من نوع الصبر الذي جاء ذكره في القرآن الكريم, ودعا إليه يعقوب بنيه فيما حكى الله سبحانه وتعالى عنه بقوله: { فَصَبْرٌ جَمِيلٌ } [يوسف:18].
والصبر الجميل هو الصبر من غير أنين ولا شكوى ولا ضجر. وكذلك كان أحمد بن حنبل. فلقد نزل به الأذى ما نزل فما أنَّ, وما ضج بالشكوى، وكان فيه صاحب الجنان الثابت الذي لا يطيش.(1/192)
ومما يدل على قوة جنانه وثباته أنه أُدخل على الخليفة في أيام المحنة؛ وقد هولوا عليه لينطق بما ينجيه ويرضيهم, وقد ضُرب عنق رجلين في حضرته.. ولكنه في وسط ذلك المنظر المروع وقع نظره أيضا على بعض أصحاب الشافعي؛ فسأله: وأي شيء تحفظ عن الشافعي في المسح على الخفين؟! فأثار ذلك دهشة الحاضرين, وراعهم ذلك الجنان الثابت الذي ربط الله على قلب صاحبه؛ حتى لقد قال خصمه أحمد بن أبي دؤاد متعجبا: انظروا لرجل هو ذا يُقدم لضرب عنقه فيناظر في الفقه!
وقد يتساءل القارئ عن سر هذه القوة التي جعلته يحتمل ما احتمل, ويعلو على الشدائد.. والسر في ذلك أن هذا الرجل قد اعتز بالله وحده, وتوكل عليه تعالى وحده, ولم يحس بعظمة أحد سواه.. ولامتلاء نفسه بهذا الوجدان العظيم استهان بكل شيء: استهان بالشدائد, واستهان بمفاخر الحياة وزينتها, ورضي من متاعها بالقليل, ولم يقنع من العمل لله بغير الكثير الوفير, وقد أعطاه ذلك الاعتزاز علوا عن سفاسف الأمور.
هانت عليه نفسه في الله تعالى فبذلها, كما هانت على بلال نفسه.
وإنما تهون أنفسهم عليهم لتلمحهم العواقب؛ فعيون
البصائر ناظرة إلى المآل لا إلى الحال..
أجدرُ الناسِ بالكرامةِ عبدٌ ... تلفت نفسُه ليسلمَ دينُه
} - {
وفي القرن الثامن سطع نور العالم الرباني شيخ الإسلام ابن تيمية يوضح معالم ا?سلام ويرد عنه الشُّبَه, ويدفع عن الأمة كلها البلاء؛ فيكافأ العالم العامل بالسجن!
قضى شيخ الإسلام ابن تيمية معظم حياته في محن وابتلاءات متتالية، يدخل المعتقل ثم يخرج منه، في الشام وفي مصر، دخول وخروج، حتى جاءت اللحظة التي دخل فيها بجسده ثم خرج بروحه الطيبة، وذلك عندما اعتقلوه لآخر مرة سنة 726هـ بسجن القلعة بدمشق.(1/193)
ظل في هذا السجن لأكثر من عامين، وقد ضيقوا عليه بشدة، ولكنه / لم يكف عن إعمال عقله وفكره وتدوين علمه، وقد حول سجنه من محنة لحريته وجسده إلى منحة لسياحاته الفكرية وإبداعاته العقلية والعلمية لخدمة مشروعه الإصلاحي الكبير لنهضة الأمة.
ولما رأى خصومه فيوضات عقله النير تخرج من خلف الجدران والأسوار ممثلة في رسائله ومؤلفاته الفائقة، أرادوا أن يسكتوا صوت الحق، ويطفئوا نور العلم، فصادروا أقلامه وأوراقه لمنعه من الكتابة، حتى إنه اضطر لأن يكتب الرسائل لأهله وتلاميذه خارج السجن بالفحم على الرسائل التي أرسلوها إليه أولاً بعد أن يغسلها بالماء ويجففها.. فما كان من أعدائه إلا أن بالغوا في أذيته، ونقلوه إلى زنزانة مظلمة فأضرت ببصره فلم يستطع أن يكتب بالفحم، وذلك قبل وفاته بخمسة أشهر.
ظن خصوم ابن تيمية أنهم بجرائمهم تلك قد نالوا من معنوياته وروحه العالية ولكن هيهات هيهات، أنَّى للريح العاتية أن تنال من الجبال الراسية؟! فلقد انتهز ابن تيمية الأمر وأقبل على كتاب الله عز وجل قراءة وتدبرًا ودعاءً وتبتلاً وصلاة ومناجاة، وهو في أسعد عيش وأطيب قلب..
وظل ا?مام في سجن القلعة في دمشق صابرا محتسبا يقول: "نحن ولله الحمد والشكر في نعم متزايدة متوافرة, وجميع ما يفعله الله فيه خير ا?سلام. وهو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله وكفى بالله شهيدا. فإن الشيطان استعمل حزبه في إفساد دين الله الذي بعث به رسله وأنزل عليهم كتبه, ومن سنة الله أنه إذا أراد إظهار دينه أقام مَن يعارضه فيحق الحق بكلماته, ويقذف الحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق".
ومن كلماته النيرات أيضا وهو في السجن: "ماذا يفعل أعدائي بي؟ أنا جنتي في صدري، أنى رحت فهي معي، أنا حبسي خلوة، ونفيي سياحة، وقتلي شهادة".
وقد ختم / خلال الشهور الأخيرة من حياته القرآن أكثر من ثمانين مرة.(1/194)
وفي 20 من ذي القعدة سنة 728هـ آن للروح الطيبة أن تصعد لبارئها، وآن للراكب أن يترجل، وللمسافر أن يستقر، وللمبتلى والممتحن أن يستريح. وكان نبأ وفاته شديد الوقع على الناس، وكانت آخر كلماته قبل الرحيل مخبرة عن حالته ونهايته /، حيث قرأ قوله عز وجل: { إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ . فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ } [القمر:54-55].
وقد تنادى المؤذنون على منارات الجوامع بنبأ وفاته، فأقبل الناس بعشرات الآلاف لشهود الجنازة في تحدٍ صريح لسلطة الدولة التي حبسته ظلمًا وعدوانًا، حتى أن أهل دمشق كلهم رجالاً ونساءً تقريبًا قد شهدوا الجنازة، وقد أخرجت صباحًا، ولم يوضع الجسد في اللحد إلا في المغرب، وقد تأسف الناس كلهم محبوه وخصومه على رحيله. (1)
لم يكن ا?مام ابن تيمية وحده في الميدان، بل سبقه كثيرون حملوا الراية. وتظل مشاعل الحق تجد على مدار التاريخ رجالا يحبون أن يتطهروا, ويرغبون
في ربط حاضرهم وماضيهم ومستقبلهم با?سلام؛ فهم معه على
كل أحواله. إنهم يعيشون كما عاش أسلافهم على طريق
النبوة؛ يتحملون في سبيل الله كل ما ينزل بهم..
خاتمة
الآن الآن.. قبل أن لا يكون آن..
البدار البدار.. ما دمتَ في نفس من العمر..
قال تعالى: { وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ } [آل عمران:133]
قال وهيب بن الورد: إن استطعت أن لا يسبقك إلى الله أحد فافعل.
__________
(1) سلسلة ترويض المحن: شريف عبد العزيز – مفكرة الإسلام (بتصرف)(1/195)
وقال ابن القيم: هلم إلى الدخول على الله ومجاورته في دار السلام بلا نصب ولا تعب ولا عناء, بل من أقرب الطرق وأسهلها, وذلك أنك في وقت بين وقتين, وهو في الحقيقة عمرك, وهو وقتك الحاضر بين ما مضى وما يُستقبل. فالذي مضى تصلحه بالتوبة والندم والاستغفار, وذلك شيء لا تعب عليك فيه ولا نصب ولا معاناة عمل شاق, إنما هو عمل قلب. وتمتنع فيما يُستقبل من الذنوب. وامتناعك ترك وراحة، ليس هو عملا بالجوارح يشق عليك معاناته, وإنما هو عزم ونية جازمة تريح بدنك وقلبك وسرك. فما مضى تُصلحه بالتوبة, وما يُستقبل تصلحه بالامتناع والعزم والنية. وليس للجوارح في هذين نصب ولا تعب. ولكن الشأن في عمرك؛ وهو وقتك الذي بين الوقتين, فإن أضعته أضعت سعادتك ونجاتك, وإن حفظته مع إصلاح الوقتين اللذين قبله وبعده بما ذكرت؛ نجوت وفزت بالراحة واللذة والنعيم. (1)
قال الحسن البصري: المبادرة.. المبادرة.. فإنما هي الأنفاس، لو حُبست انقطعت عنكم أعمالكم التي تتقربون بها إلى الله عز وجل
رحم الله امرءا نظر إلى نفسه وبكى على عدد ذنوبه
ثم قرأ: (إِنَّمَا نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا).. يعني الأنفاس
آخر العدد خروج نفسك..
آخر العدد فراق أهلك..
آخر العدد دخولك في قبرك..
فنادِ إذا سجدتَ لهُ اعترافًا ... ... بما ناداه ذو النونِ ابنُ متى
ونفسَكَ ذُمَّ لا تَذمُمْ سواها ... فلو بكتِ الدما عيناكَ خوفًا ... ومَن لكَ بالأمانِ وأنتَ عبدٌ ... ... بعيبٍ فهي أجدرُ مَن ذممتا
ثَقُلْتَ مِنَ الذنوبِ ولستَ ... ... لذنبِكَ لم أقُلْ لكَ قد أمنتا
فلا تضحكْ مع السفهاِء لهوًا ... ولا تقل الصِّبا فيهِ مجالٌ ... ... أُمرتَ فما ائتمرتَ ولا أطعتا
تَفُتُّ فؤادَكَ الأيامُ فَتًّا ... ... تخشى لجهلِكَ أنْ تخفَّ إذا وُزنتا
وتدعوكَ المنونُ دعاءَ صدقٍ ... ... فإنكَ سوف تبكي إنْ ضحكتا
وفكِّر كم صبيٍّ قد دفنتا
وتَنحَتُ جسمَكَ الساعاتُ نحتا
ألا يا صاحِ: أنتَ أريدُ أنتا
__________
(1) الفوائد(1/196)
سبحانك اللهم وبحمدك, أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك.
المصادر والمراجع
1- ابن حنبل - حياته وعصره - آراؤه وفقهه: محمد أبو زهرة.
2- إحياء علوم الدين: أبو حامد الغزالي.
3- أدب الدنيا والدين: الماوردي.
4- إغاثة اللهفان: ابن القيم.
5- البحر الرائق: أحمد فريد.
6- بر الوالدين: ابن الجوزي.
7- التبصرة: ابن الجوزي
8- تحرير المرأة في عصر الرسالة: عبد الحليم أبو شقة.
9- تربية الأولاد في ا?سلام: عبد الله ناصح علوان.
10- التربية ا?سلامية في سورة النور: د. على عبد الحليم.
11- الترغيب و الترهيب: المنذري.
12- تسلية المصاب: أحمد فريد.
13- تفسير القرآن العظيم: ابن كثير.
14- تطهير الاعتقاد من أدران ا?لحاد: محمد بن إسماعيل الصنعاني.
15- تنبيه الغافلين: السمرقندي.
16- تهذيب مدارج السالكين: ابن القيم.
17- كتاب التوابين: ابن قدامة المقدسي.
18- جامع العلوم والحكم: ابن رجب الحنبلي.
19- الجامع لأحكام القرآن: القرطبي.
20- الجواب الكافي: ابن القيم.
21- جواهر الأدب: السيد الهاشمي.
22- خلق المسلم: محمد الغزالي.
23- الرحيق المختوم: المباركفوري.
24- رياض الصالحين: النووي.
25- زاد المعاد: ابن القيم.
26- السيرة النبوية: ابن هشام.
27- شرح أشرف حديث لأهل الشام: سعيد عبد العظيم.
28- الصبر في القرآن: د. يوسف القرضاوي.
29- صحيح مسلم بشرح النووي: النووي.
30- صفة الصفوة: ابن الجوزي
31- صور من حياة الصحابة: د. عبد الرحمن رأفت الباشا.
32- صيد الخاطر: ابن الجوزي.
33- الظل الوراف: ابن رجب الحنبلي.
34- عالم الجن والشياطين: د. عمر سليمان الأشقر.
35- العائدون إلى الله: محمد بن عبد العزيز المسند.
36- العبادة في ا?سلام: د. يوسف القرضاوي.
37- عدة الصابرين: ابن القيم.
38- العشرة الطيبة: محمد حسين عيسى.
39- عقيدة المسلم: محمد الغزالي.
40- العقيدة في الله: د. عمر سليمان الأشقر.
41- علو الهمة: محمد إسماعيل المقدم.(1/197)
42- الغنائم أيها النائم: د. علي بن عمر بادحدح.
43- الفرج بعد الشدة: ابن أبي الدنيا.
44- فقه الصيام: د. يوسف القرضاوي.
45- الفوائد: ابن القيم.
46- في ظلال القرآن: سيد قطب.
47- القاموس المحيط: الفيروزآبادي.
48- الكبائر: الذهبي.
49- لباب الآداب: أسامة بن منقذ.
50- محمد صلى الله عليه وسلم كأنك تراه: د. عائض القرني
51- الوابل الصيب: ابن القيم.
الفهرس
الموضوع ... الصفحة
مقدمة الطبعة الأولى ... 3
مقدمة فضيلة الشيخ/ أحمد المحلاوي ... 5
الباب الأول: التوبة ... 7
لعلكم تفلحون ... 8
الله تعالى يفرح بتوبة عبده المؤمن ... 9
التوبة واجبة على الدوام ... 10
شروط التوبة ... 11
أقسام الناس في التوبة ... 13
علامات صحة التوبة ... 15
التوبة منحة ربانية ... 16
توبة الخواص ... 17
قبسات من أخبار التائبين ... 20
الباب الثاني: تحذير الأنام من الذنوب والآثام ... 35
الذنوب كبائر وصغائر ... 36
بيان ما تعظم به الصغائر من الذنوب ... 38
مداخل المعاصي ... 43
أولا: فضول النظر ... 43
ثانيا: الخواطر ... 45
ثالثا: اللفظات ... 46
رابعا: الخطوات ... 49
ما تحدثه المعاصي والآثام من الشرور والآلام ... 50
الباب الثالث: مكفرات الذنوب وأسباب المغفرة ... 59
أولا: الدعاء والاستغفار والتوحيد ... 60
السبب الأول: الدعاء مع الرجاء ... 61
شروط الدعاء المستجاب ... 62
آفات الدعاء ... 63
آداب الدعاء ... 63
اسم الله الأعظم ... 64
التوسل المشروع ... 66
الذين يستجيب الله دعاءهم ... 68
السبب الثاني: الاستغفار ... 70
السبب الثالث: التوحيد ... 75
شروط (لا إله إلا الله) ... 76
الشرك ... 82
سد الذرائع المفضية إلي الشرك ... 86
أوثان جديدة يجب الحذر منها ... 88
ثانيا: الصلاة ... 91
حظ العبد من صلاته ... 98
إن قرآن الفجر كان مشهودا ... 106
ثالثا: الصدقة ... 119
الصدقة تطفئ الخطيئة ... 120
الصدقة حجاب من النار ... 121
الصدقة طريق السعة وسبب النماء ... 121
أفضل الصدقة ... 122
من أخرج لله شيئا فليكن من أطيب ماله وليوقن بالمضاعفة ... 123
الصدقة على الأقارب صدقتان ... 124(1/198)
التسابق في إرساء قواعد السعادة والطمأنينة في المجتمع المسلم ... 125
إصلاح النية وابتغاء ما عند الله عز وجل شرط القبول ... 128
استصغار العطية يعظمها عند الله ... 129
قبسات من أخبار المتصدقين ... 130
كل معروف صدقة ... 140
نفقة الرجل على أهله صدقة ... 143
كف الأذى عن الناس باليد واللسان صدقة ... 143
المشي بحقوق الآدميين الواجبة اليهم صدقة ... 144
إنظار المعسر صدقة ... 144
فائدة ... 145
رابعا: مجالس الذكر ... 146
مجالس الذكر تغفر الذنوب ... 147
رياض الجنة ... 149
مجالس الذكر تغشاها الرحمة ... 150
فضل طالب العلم ... 150
الله تعالى يباهي الملائكة بالمجتمعين في مجالس الذكر ... 151
الذكر عبودية القلب واللسان ... 152
خامسا: بر الوالدين ... 155
الإحسان إلى الوالدين يجعل للعبد طريقا مفتوحا إلى الجنة ... 159
تقديم الأم في البر ... 160
حقوق الأبوين ... 162
الاختلاف في العقيدة لا يسقط حق الوالدين في المعاملة الطيبة ... 166
اتق دعوة الوالدين فإنها مستجابة ... 167
احذر العقوق فإن عقوبته عاجلة ... 168
نصيحة لكل زوجة: الجزاء من جنس العمل ... 170
سادسا: العفو والصفح والتغافر ... 172
معنى العفو ... 173
رسول الله صلى الله عليه وسلم وخلق العفو ... 174
تكفير الخطايا بالمحن نعمة ... 182
سابعا: المصائب والمحن ... 184
ما يجب على المصاب من مراعاة الآداب التي تحفظ عليه الأجر ... 187
أولا: الصبر ... 187
صبر أيوب ... 188
الصبر منحة ربانية ... 190
البكاء لا ينافي الصبر ... 190
رأس الصبر كتمان المصائب ... 191
ثانيا: اليقين بحسن الجزاء عند الله ... 192
ثالثا: التسليم لقدر الله و الرضا به ... 196
مَن رضي فله الرضا ... 198
رابعا: الاستعانة بالله عز وجل ... 199
الاستعانة بالله تذهب الهم والحزن ... 200
خامسا: انتظار روح الفرج ... 203
سادسا: الاقتداء بأهل الصبر والعزائم ... 206
مع صاحب الصبر الجميل ... 206
مع يوسف الصديق ... 208
مع سيد الصابرين صلى الله عليه وسلم ... 211
مع بنت الصديق رضي الله عنهما ... 215
مع عروة بن الزبير ... 217
مع الإمام الممتحن أحمد بن حنبل ومسألة خلق القرآن ... 218(1/199)
شيخ الإسلام ابن تيمية ... 223
خاتمة ... 226
المصادر والمراجع ... 228
تم بحمد الله(1/200)