السيرة النبوية
إعداد
د. أحمد أبو زيد
تقديم
الدكتور عبد العزيز بن عثمان التويجري
المدير العام للمنظمة الإسلامية للتربية والعلوم والثقافة
---
سلسلة تصحيح ما ينشر عن الإسلام والمسلمين من معلومات خاطئة
تصحيح أخطاء الموسوعة الإسلامية الصادرة عن دار بريل في لايدن بهولاندا .
تقديم
مقدمة
طريقة المستشرقين في التعامل مع السيرة النبوية
طريقة المستشرقين في كتابة السيرة النبوية
كتابة السيرة النبوية بالعقلية الأوربية
مصادر السيرة النبوية
القسم الأول : المرحلة المكية
المبحث الأول : طفولة النبي صلى الله عليه و سلم
المبحث الثاني : من البعثة النبوية إلى الهجرة
المبحث الثالث : دعوى ظهور النبي بالتدريج
المبحث الرابع : التشكيك في أحداث السيرة قبل الهجرة
القسم الثاني : المرحلة المدنية
المبحث الأول : أخطاء الموسوعة في الحديث
المبحث الثاني : أخطاء في وصف سيرة النبي صلى الله عليه و سلم
المبحث الثالث : أخطاء في الحديث عن السرايا والغزوات
المبحث الرابع : تضخيم الآثار السياسية لحادثة الافك
المبحث الخامس : التشكيك في الرسائل النبوية إلى الملوك والحكام
المبحث السادس : مزاعم متنوعة
تصحيح أخطاء الموسوعة الإسلامية في مادة الحديث
قائمة المصادر والمراجع(1/1)
تقديم
تقوم المنظمة الإسلامية للتربية والعلوم والثقافة بعمل دؤوب لدعم الثقافة الإسلامية وحماية استقلال الفكر الإسلامي من عوامل الغزو الثقافي والتشويه، ويَتَكَامَلُ عملُها في هذا المجال، مع جهودها لتصحيح المعلومات والمفاهيم الخاطئة التي تنشر عن الإسلام والمسلمين في دوائر المعارف والموسوعات والمراجع المتداولة والمعتمدة. وتُعنى المنظمة الإسلامية على وجه الخصوص بتصحيح أخطاء الموسوعة الإسلامية الصادرة عن دار بريل في لايدن بهولندا، لما لهذه الموسوعة من أهمية ثقافية تستمدها من انتشارها الواسع في أوساط الباحثين والدارسين.
ولقد عُنيت المنظمة الإسلامية منذ سنوات، بالردّ على ما ورد في الموسوعة الإسلامية الآنفة الذكر من أخطاء وافتراءات تتعلق بالقرآن الكريم والعقيدة الإسلامية وتولت تفنيدها وقامت بدحضها بالأسلوب العلميّ الرصين، وبالمنهجية الجامعة بين أدوات البحث التاريخي المنزَّه، وبين أساليب الردّ الموضوعيّ الأمين، ونشرت ذلك في كتابين صدرا في ثلاث طبعات باللغات الثلاث : العربية والإنجليزية والفرنسية.
ويسير هذا الكتاب الذي تصدره المنظمة الإسلامية للتربية والعلوم والثقافة اليوم، وفق الخطة المنهجية التي اعتمدها الكتابان الأولان ؛ فهو يتناول بالردّ المنصف القائم على الحجة والبرهان والمستند إلى المنطق والدليل، ما ورد في هذه الموسوعة من أخطاء وافتراءات حول السيرة النبوية، مما لا يمتّ بأدنى صلة إلى حقائق التاريخ وأصول البحث العلمي الذي يقوم على الموضوعية والإنصاف والحياد الفكري، وذلك نتيجة الاعتماد على مصادر ضعيفة ومراجع مشبوهة، والإهمال المقصود لما صحَّ من المصادر التاريخية المنزَّهة عن الهوى والغرض.(1/2)
والمنظمة الإسلامية للتربية والعلوم والثقافة، وهي تقدم إلى جمهور الباحثين والدارسين والمتخصصّين، الكتاب الثالث ضمن هذه السلسلة، تودّ أن تنتهز المناسبة، لتشيد بالتعاون المثمر القائم بينها وبين الهيئة الخيرية الإسلامية العالمية في دولة الكويت، والذي من ثمراته إصدار هذا الكتاب في جهدٍ مشتركٍ يُراد به إظهارُ حقائق الإسلام ناصعةً وضَّاحةً، وإبطال الشبهات المضللة التي تنشر عن الدين الحنيف ادعاءً وافتراءً.
وإني لحريصٌ شديد الحرص على أن أُزجي الشكر جزيلاً وافراً، إلى أخي معالي الأستاذ يوسف جاسم الحجي رئيس الهيئة الخيرية الإسلامية العالمية، على تعاونه مع المنظمة الإسلامية للتربية والعلوم والثقافة، في إنجاز هذا المشروع الإسلامي العلمي الذي يخدم الثقافة الإسلامية، خدمةً جليلة القدر عظيمة النفع، إن شاء اللَّه تعالى.
وفقنا اللَّه إلى ما فيه الخيرُ لديننا، ولثقافتنا، ولحضارتنا، واللَّه المسؤول أن ينفع بعملنا هذا شداةَ الحق وطلابَ المعرفة، من الباحثين والدارسين.
الدكتور عبد العزيز بن عثمان التويجري
المدير العام للمنظمة الإسلامية
للتربية والعلوم والثقافة(1/3)
المقدمة
الحمد للَّه الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق، وجعله مبشراً ونذيراً، وهادياً وسراجاً منيراً، وصلى اللَّه وسلم على أكرم رسله وصفوته من خلقه، اصطفاه من الناس وحلاه بأكمل الأوصاف، وزينه بأفضل الأخلاق، وجعله قدوة حسنة للناس أجمعين.
وبعد :
فإن للسيرة النبوية العطرة فوائد جليلة، ومنافع عظيمة،فهي السجل الأمين لحياة النبي صلى الله عليه و سلم ، والمرآة الصافية لأخلاقه وأحواله وشمائله، والسراج المنير الذي أقامه اللَّه على الأرض ليضيء للبشرية طريقها القويم، على صفحاتها يطالع المسلم والناس أجمعين، المثل الأعلى للكمال البشري مشخصاً في حياة رجل يمشي على الأرض ويعيش حياته الواقعية بين الناس صلى الله عليه و سلم .
هذا من فضل اللَّه على الناس،لأن الإنسان ـ كما هو معلوم لدى علماء التربية والأخلاق ـ لا يتأثر ولا يسمو في سلوكه وأخلاقه،إذا قدمت إليه الفضائل الخلقية والمثل العليا في صورةٍ مثالية أو نظريات مجردة، وإنما يتأثر بها عندما يشاهدها مجسمة في صور واقعية ومواقف إنسانية.
من هنا كان للسيرة النبوية التي تعرض بين صفحاتها الواقعية العطرة، ومواقفها الإنسانية المضيئة، القدوة الحسنة، والإنموذج الأسنى للكمال البشري الذي يدعى الناس كافة إلى الارتقاء في مدارجه، فوائد جليلة، ومكانة عزيزة في حياة المسلمين.
لهذا عني المسلمون بتسجيل سيرة النبي صلى الله عليه و سلم ونقل كل ما شاهدوه من أحواله وأفعاله وأخلاقه، ونهض بذلك رجال عدول من الصحابة والتابعين، فنقلوا للناس بصدق وأمانة الصورة الحقيقية لحياته صلى الله عليه و سلم وشمائله الطيبة وأخلاقه وأوصافه السنية.
ثم جاء المستشرقون فأظهروا اهتماماً كبيراً بحياة النبي صلى اللَّه عليه وسلم وسيرته، وألفوا وكتبوا لأهداف متباينة، وكان منهم المنصفون،وهم قلة قليلة، والمتعسفون،وهم الكثرة الكثيرة.
ثم قامت الموسوعة الإسلامية التي نشرتها دار بريل التي يوجد مقرها في مدينة لايدن بهولاندا، باللغات الانجليزية والفرنسية والألمانية في أكثر من طبعة، منها طبعة عام 1993، لتقدم خلاصة ما انتهت إليه البحوث الاستشراقية في موضوع السيرة النبوية، مع ميل كبير إلى مواقف المتعسفين من أصحاب تلك البحوث.(1/4)
ونظراً لما لهذه الموسوعة في الأوساط العلمية في الغرب والشرق من أهمية، وما تتمتع به من الانتشار الواسع بين الباحثين في جميع فروع الثقافة والمعارف الإسلامية، فإن مراجعة موادها وتصحيح أخطائها المنكرة في السيرة النبوية وغيرها، أصبح أمراً ضرورياً وواجباً مفروضاً،ومسؤولية ملحة على المسلمين، دفاعاً عن النبي صلى الله عليه و سلم ، وإنصافاً لسيرته الطاهرة، وإظهاراً للحق وإزهاقاً للباطل.
والمواد المتعلقة بالسيرة النبوية متناثرة بين صفحات هذه الموسوعة، وبين موضوعاتها وموادها، والمادة الجامعة لموضوعات السيرة ومراحلها هي مادة : "محمد نبي الإسلام ". التي تشغل منها 27 صفحة، حشدت فيها الموسوعة الكثير من أخطاء المستشرقين ومزاعمهم الباطلة.
ووردت إشارات عابرة إلى جزئيات من أحداث السيرة النبوية في مواد أخرى من الموسوعة.
منها ما يتعلق بأسماء الأماكن التي عاش فيها النبي صلى اللَّه عليه وسلم جزءاً من حياته أو حل بها أو رحل إليها مثل : "مكة" والمدينة " و" الطائف ".
ومنها ما يتعلق بأسماء الغزوات وأماكن وقوعها مثل " بدر "، و"أحد "، و" الأحزاب " و" الحديبية " و" حنين" و" مؤتة، و" تبوك".
ومنها ما يتعلق بأسماء الطوائف والأحياء العربية أو اليهودية، مثل " الحنفاء"، و"الرهبان"، و"بني المصطلق"، و"بني سليم"، و"أهل نجران"، و"بني قينقاع"، و"بني النضير"، و"بني قريظة".
ومنها ما يتعلق بأسماء الصحابة رضي اللَّه عنهم، كأبي بكر وعمر وعثمان وعلي... وغيرهم، أو بأسماء أعدائه صلى الله عليه و سلم من الكفار كأبي لهب وأبي جهل.(1/5)
غير أن المادة الأولى ـ " محمد نبي الإسلام " هي المادة التي جمعت فيها الموسوعة الإسلامية باختصار وانتقاء، أحداث السيرة النبوية، وحشدت فيها معظم ما تردد في كتابات المستشرقين عن السيرة النبوية من أخطاء وافتراءات. وقدمت ذلك بأسلوب يقوم على المراوغة والالتواء حيناً، وعلى الكذب الصريح والطعن المتعمد حيناً آخر.
وحرصاً على الاختصار وتجنباً للتكرار اختصرتُ الأخطاء التي نثرتها الموسوعة الإسلامية في مختلف المواد المتصلة بالسيرة النبوية، بعبارة عربية واضحة من غير أن ألزم نفسي بالترجمة الحرفية، ثم قمت بتصحيحها اعتماداً على القرآن والحديث ومصادر السيرة والتفسير والتاريخ. والتزمت في ذلك بالموضوعية، وتجنبت التحامل والعبارات الجارحة، على قدر المستطاع. وباللَّه التوفيق.
د. أحمد أبو زيد(1/6)
طريقة المستشرقين في التعامل مع السيرة النبوية
أولا : نبذة عن منهجهم في الدراسات الإسلامية :
في البداية يجب الاعتراف بكل وضوح وصراحة بجهود المستشرقين في خدمة التراث العلمي الإسلامي. لقد كرسوا طاقاتهم لدراسة العلوم الإسلامية، وشغفوا بالبحث في كنوزها، وبذلوا في تحقيقها وتحليلها جهوداً ضخمة. ويكون من المكابرة والجحود إنكار فضلهم وجهودهم. فبفضل تلك الجهود برز كثير من كنوز التراث العلمي الإسلامي إلى الوجود، بعد قرون من الانزواء في المكتبات، وعرفت طريقها إلى النشر ومعانقة النور، فكم من مصادر علمية ووثائق تاريخية صدرت لأول مرة بفضل جهودهم وطاقاتهم.
ومع الاعتراف بفضلهم، يجب التأكيد بأن عدداً كبيراً منهم كان هدفه البحث عن مواضع الضعف في الحضارة الإسلامية والتاريخ الإسلامي واستغلالها لغايات سياسية أو دينية.
إن الأعمال العلمية التي أنجزها المستشرقون في شتى فروع الدراسات الإسلامية، بحر لا ساحل له، ولكن أكثر تلك الأعمال انتشاراً وتداولاً بين الباحثين من جميع المستويات، هي دائرة المعارف الإسلامية التي أصدرها وأشرف على تحريرها نخبة من المستشرقين، برعاية الاتحاد الدولي للمجامع العلمية. وجل موادها متعلقة بالإسلام والمسلمين، وفيها كثير من الآراء والمعلومات التي تحتاج إلى المراجعة والتصحيح.
وإذا عرفنا أن هذه الدائرة لها تأثير كبير في تقديم صورة غير صحيحة عن الإسلام، وأنها مليئة بالأباطيل، أدركنا كيف يدرس المستشرقون الإسلام، وكيف ينظرون إلى الحضارة الإسلامية، وأحسسنا بضرورة القيام بمراجعتها وتصحيح أخطائها، والتنبيه على ما فيها من معلومات وآراء تسيء إلى الإسلام والمسلمين.
ومع أن بعض المستشرقين المحدثين قد تطورت أفكارهم وأحكامهم، وتخلصت من كثير من مظاهر التحيز والتهجم الذي يمليه اختلاف الدين أو المصلحة، أو الذي يسببه قلة ما لديهم من المصادر وجهلهم باللغة العربية وسوء الترجمة القديمة، مع ذلك فإن بعض كتاباتهم عن الإسلام وتراثه العلمي والديني لا يزال ينطوي على أنواع من الدس والتشويه عن سوء النية حيناً، وعن سوء الفهم للحقائق التاريخية وخصائص التصور الإسلامي حيناً آخر.
لقد كان هؤلاء المستشرقون ولا يزالون بعيدين عن الكثير من الحقائق الخاصة بالثقافة الإسلامية، وسيبقون كذلك ماداموا يعيشون في محيط ثقافي وفكري غريب عن الثقافة الإسلامية، وماداموا ينظرون بمنظار مصبوغ بألوان بيئتهم وثقافتهم الأولى.(1/7)
ثم إن نشأتهم وانتماءهم إلى محيط فكري مادي سيجعلان فهم الروحانية التي امتازت بها الحضارة الإسلامية والتاريخ الإسلامي صعباً عليهم، لأن التفسير المادي والتاريخي وحده لا يصلح لتفسير أعمال المسلم وسلوكه، ولا لدراسة التاريخ الإسلامي وأحداثه. فمقصد المسلم من كل عمل ينجزه في حياته هو قبل كل شيء ابتغاء مرضاة اللَّه، ولذلك فنظرته للأشياء ومعاييره لتقدير قيمتها، تختلف جوهرياً عن نظرة الإنسان المادي ومعاييره { أَفَمَن كَانَ مُومِناً كَمَنْ كَانَ فَاسِقاً ؟ لاَ يَسْتَوُونَ}(1).
{ أَمْ نَجْعَلُ الذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالمُفْسِدِينَ فِي الأَرْضِ، أَمْ نَجْعَلُ المُتَّقِينَ كَالفُجَّارِ }(1).
مآخذ على منهج المستشرقين المحدثين :
كان المستشرقون القدماء يعلنون بصراحة عداوتهم للإسلام، ويمضون في قذفه بكل نقيصة، ورميه بكل مساءة، والتحامل عليه بالكذب والافتراء.
أما المحدثون منهم فقد غيروا أسلوبهم، وتخلوا عن الطعن المباشر، والعداوة المعلنة، وتظاهروا بالإنصاف والموضوعية، والخضوع لمقتضيات البحث العلمي، وقصدهم بذلك استهواء القارئ المسلم وكسب ثقته، فيعترفون بأخطاء أسلافهم، ويظهرون بعض محاسن الإسلام، ويدرجون في ثنايا الكلام ما يريدون من الدس والطعن.
والقارئ المسلم الحصيف يكشف تلك الدسائس التي تختفي وراء ستار التظاهر بالإنصاف والموضوعية، وقد بين بعض مفكري الإسلام المحدثين أن كتابات هؤلاء أشد خطراً على الإسلام من كتابات أولئك الذين يكاشفون بالعداء ويشحنون كتبهم بالكذب والطعن والافتراء، لأنها تفلح بأسلوبها المراوغ، في التأثير على القارئ غير الحصيف، فلا يكاد ينتهي من قراءتها حتى يميل مع أفكارها. ولهذا رأينا من المفيد أن نعرض هنا بعض المآخذ التي يؤاخذ بها هؤلاء المستشرقون المحدثون في المنهج الذي كتبوا به عن الإسلام.
.1 التستر بالموضوعية :(1/8)
كثير من هؤلاء يعلنون في دراساتهم أنهم موضوعيون ويتظاهرون بالحرص على تقديم معلومات صحيحة، ويتطوعون بذكر بعض الجوانب الإيجابية المتعلقة بالإسلام وحضارته، مما قد يعطي انطباعاً لدى القارئ بأن الباحث موضوعي ملتزم بالخضوع لما يفرضه المنهج العلمي الصحيح، لكن النظر الثاقب والقراءة المتفحصة لدراسات هؤلاء، تكشف عن كثير من الأوهام والأباطيل.
إن هؤلاء الذين تستروا تحت ستار الموضوعية والإنصاف لا يختلفون في واقع الأمر عن غيرهم من الذين كتبوا عن الإسلام إلا في شيء واحد، هو أنهم لم يظهروا تعصبهم وتحاملهم على هذا الدين بطريقة مكشوفة وحاولوا أن يقدموا آراءهم في صورة تجذب المسلمين.
غير أن الدارس المنصف لا ينكر أن مسيرة الاستشراق الحديث عرفت من بين المنخرطين فيها، مَن أبت عليه عقليته العلمية أن ينقاد بفكره لنزعات تنصيرية أو أطماع استعمارية، وحاول أن يكون موضوعياً صادقاً، يجهر بما يصل إليه من حقائق دون أن يعير أي اعتبار لمؤثرات خارجية، ومن بين هؤلاء من ارتضى الإسلام ديناً وأصبح من المدافعين عنه.
.2 وضع أهداف علمية مشبوهة :
من عادة المستشرقين أنهم يعينون لهم غاية وهدفاً علمياً مشبوهاً، ويقررون في أنفسهم تحقيقه بكل وسيلة، ثم يتصيدون له الأدلة، ولا يهمهم أن تكون أدلة صحيحة مستمدة من مصادر ومعلومات موثقة، لذلك تراهم يجمعون المعلومات من كل رطب ويابس، سواء من كتب الأدب والشعر أو من كتب القصص والمجون والفكاهة، ثم يقدمونها بعد التمويه بكل جرأة، ويبنون عليها أحكاماً عن الإسلام لا وجود لها إلا في نفوسهم وأذهانهم، وكثير من هؤلاء يدسون في كتاباتهم مقداراً من السم، يحترسون في ذلك فلا يزيدون على نسبة مقدرة كي لا يستوحش القارئ المسلم، ولا يثير ذلك عنده الحذر، ولا يضعف ثقته بالمؤلف.(1/9)
.3 رعاية الكنيسة للاستشراق منذ بدأ، ثم رعاية السياسة الاستعمارية له في العصر الحديث، جعلته في خدمة هذه الجهات، ومنعته من أن يكون عملاً علمياً خالصاً لوجه الحق والإنصاف.
.4 نهوض الرهبان والقساوسة بالدراسات الاستشراقية في أول نشأتها كان له تأثير عميق في توجيهها وجهة التعصب والعداوة للحضارة الإسلامية. ومن هنا لم يستطع الاستشراق الحديث أن يتخلى عن الأباطيل والسخافات التي كان يرددها أسلافه.
.5 مجافاة المنهج العلمي، وذلك بإهمال المبادئ الأولية لهذا المنهج، والانطلاق من مزاعم باطلة في دراسة الإسلام، مثل بشرية القرآن، وعدم صدق النبي صلى الله عليه و سلم في نبوته، والاعتماد في جمع المعلومات على مصادر غير علمية، وتجاهل المصادر الصحيحة، والاستدلال بالروايات الواهية الساقطة، وإغفال الروايات القوية الصحيحة.
.6 التمويه والتلبيس في البحث، وذلك بالخلط بين الحق والباطل، وزرع الشكوك بدعوى الالتزام بالمنهج التاريخي الاجتماعي، والاستدلال بالأدلة على غير ما تدل عليه، وتحليل أحداث التاريخ الإسلامي تحليلاً مراوغاً، يخدم الأغراض والأهداف المرسومة للدراسات الاستشراقية.(1/10)
ثانيا : طريقة المستشرقين في كتابة السيرة النبوية :
لقد ألف في السيرة النبوية الكثير من المستشرقين من كل جنس ولون، ومن هؤلاء المنصفون، وقليل ماهم، وغير المنصفين، وهم الكثيرون، ولا عجب فأغلبهم مبشرون بدياناتهم، ومعظمهم لا يزالون يحملون الحقد للإسلام وأهله، لذلك تراهم يبذلون جهوداً كبيرة في البحث والتنقيب بين ثنايا كتب التاريخ والسيرة لعلهم يجدون ثغرة أو منفذاً ينفذون منه لتأييد مزاعمهم وإيجاد أدلة تثبتها، فمن ثم لا يجدون ثغرة ينفثون منها أحقادهم إلا نفذوا منها، ولا رواية واهية منكرة أو مختلقة إلا أظهروها، واحتفوا بها، ولا عليهم في ذلك حتى ولو زيفوا الصحيح من الحقائق، ما دام ذلك يساعدهم ويوافق أهواءهم.
ومن عجيب أمرهم أنهم في سبيل إرضاء أهوائهم وأحقادهم الموروثة يصححون تلك الروايات المكذوبة والإسرائيليات المدسوسة، مادامت تساعدهم على باطلهم، على حين تجدهم يحكمون على الروايات الصحيحة بالوضع والاختلاق، لأنها لا توافق أهدافهم التي من أجلها اهتموا بالكتابة في سيرة النبي صلى الله عليه و سلم وحياته.
ولقد تحامل الكثير منهم على سيرته صلى الله عليه و سلم ورموه بأشنع الصفات التي يتنزه القلم هنا عن ذكرها، ولكن المنصفين منهم ـ وهم قليل ـ ردوا عليهم وأنصفوا النبي، صلى اللَّه عليه وسلم، بعض الإنصاف.
إن كتابات المستشرقين عن حياة النبي صلى اللَّه عليه وسلم وسيرته، في أوروبا وغيرها، كثيرة، منها الغث والسمين، والحق والباطل. ومن مؤلفيها المنصف والمتعسف، ولكن العصر الأخير في أوروبا أنصف النبي صلى الله عليه و سلم بالقياس إلى الأعصر التي سبقت، ولو كان المسلمون استيقظوا من سباتهم وقاموا بالدعوة المنظمة إلى الإسلام، وأنفقوا عليها عن سعة، لأمكنهم أن يصححوا أباطيل كثيرة، ويبددوا أوهاماً وشكوكاً كثيفة تتعلق بدينهم وتاريخهم وحضارتهم، وبسيرة النبي صلى الله عليه و سلم ونبوته وصدقه، ولاهتدى في أوروبا وغيرها إلى الإسلام، خلق كثير.(1/11)
كتابة السيرة النبوية بالعقلية الأوروبية :
كثير من المستشرقين نشأوا وشبوا على الثقافة الغربية وطرقها في التفكير والنظر للأمور وتشبعوا بروح الفكر المادي العلماني، وحين أخذوا في تحليل السيرة النبوية وتاريخ الإسلام، تأثروا بهذه العقلية فضلوا بذلك ضلالاً بعيداً، لأن منطق التفكير الأوروبي لا يمكن أن يأتي بنتائج صحيحة في تاريخ الأنبياء والرسالات الإلهية التي ظهرت في الشرق وكان تأثيرها الخاص في تاريخه وحضارته عميقاً. وأحسن انتقاد لهذه الطريقة هو الذي قدمه المستشرق الفرنسي المسلم اتيان دينية الذي ألف كتاباً يرد فيه على لامانسس اليسوعي وهو بعنوان :" إنك لفي واد وإننا لفي واد "، قال فيه : >إن هؤلاء المستشرقين الذين حاولوا نقد سيرة النبي صلى الله عليه و سلم بهذا الأسلوب الأوروبي البحت، لبثوا ثلاثة أرباع قرن يدققون ويمحصون بزعمهم، حتى يهدموا ما اتفق عليه الجمهور من المسلمين من سيرة نبيهم، وكان ينبغي لهم بعد هذه التدقيقات الطويلة العريضة العميقة أن يتمكنوا من هدم الآراء المقررة والروايات المشهورة من السيرة النبوية، فهل تسنى لهم شيء من ذلك ؟ الجواب. لم يتمكنوا من إثبات أقل شيء جديد<.
>.. بل إذا أمعنا النظر في الآراء الجديدة التي أتى بها هؤلاء المستشرقون، لا نجد إلا خلطاً وخبطاً، وإنك لترى كل واحد منهم يقرر ما نقضه غيره من هؤلاء المدققين ـ بزعمهم ـ أو ينقض ما قرره<.(1/12)
"... وإن أردنا استقصاء هذه التناقضات التي نجدها بين تمحيصات هؤلاء الممحصين ـ بزعمهم ـ فسيطول بنا الأمر، ولا نقدر أن نعرف أي حقيقة عن النبي صلى اللَّه عليه وسلم وحياته وسيرته. ولا يبقى أمامنا إلا أن نرجع إلى السيرة النبوية التي كتبها العرب<. "... فأما المؤلفون الذين زعموا أنهم يريدون ترجمة محمد صلى الله عليه و سلم بطريقة علمية شديدة التدقيق، فلم يتفقوا منها ولا على نقطة مهمة، وبرغم جميع ما نقبوه ونقروه، وحاولوا كشفه بزعمهم، فلم يصلوا ولن يصلوا إلا إلى تمثيل أشخاص في تلك السيرة ليسوا أعرق في الحقيقة الواقعية من أقاصيص فاترسكوت، واسكندر دوماس، فهؤلاء القصاصون تخيلوا أشخاصاً من أبناء جنسهم يقدرون أن يفهموهم، ولم يلحظوا إلا اختلاف الأدوار بينهم، أما أولئك المستشرقون فنسوا أنه كان عليهم قبل كل شيء أن يسدوا الهوة السحيقة التي تفصل بين عقليتهم الغربية وبين الأشخاص الشرقيين الذين يترجمونهم، وأنهم بدون هذه الملاحظة جديرون بأن يقعوا في الوهم في كل نقطة "(1).
إنكار نبوة محمد صلى اللَّه عليه وسلم :
ينكر جمهور المستشرقين أن يكون محمد صلى اللَّه عليه وسلم نبياً مرسلاً من عند اللَّه تعالى، تلقى رسالة اللَّه عن طريق الوحي، ويتخبطون في تفسير الوحي، فمنهم من يرجع ذلك إلى نوبة صرع، ومنهم من يفسره بمرض نفسي، ومنهم من يرجعه إلى تخيلات كانت تملأ ذهنه صلى اللَّه عليه وسلم، وهكذا كأن اللَّه تعالى لم يرسل نبياً قط، ولم يسمعوا قبل بأن الأنبياء يوحى إليهم. ولما كانوا كلهم ما بين يهودي ومسيحي يعترفون بأنبياء بني إسرائيل وبما أوحاه اللَّه إليهم كان إنكارهم نبوة محمد صلى اللَّه عليه وسلم تعنتاً ومكابرة مبعثها التعصب الديني.(1/13)
إنكار كون القرآن منزلا من عند اللَّه تعالى :
ويتبع إنكار النبوة إنكار أن يكون القرآن كتاباً منزلاً من عند اللَّه عز وجل، وحين يفحمهم ما ورد فيه من حقائق تاريخية عن الأمم السابقة مما يستحيل صدور مثله عن أمي مثل محمد صلى الله عليه و سلم ، يزعمون ما زعمه المشركون الجاهليون من قبل من أنه صلى الله عليه و سلم استمد هذه المعلومات من أشخاص كانوا يخبرونه بها، وحين يفحمهم ما جاء في القرآن من حقائق علمية لم تعرف ولم تكتشف إلا في هذا العصر، يردون ذلك إلى ذكاء النبي صلى الله عليه و سلم وعبقريته.
إنكار كون الإسلام دين اللَّه تعالى :
بعد إنكار نبوة النبي صلى اللَّه عليه وسلم، وإنكار كون القرآن كتاباً من عند اللَّه، أنكروا أن يكون الإسلام ديناً من عند اللَّه، ومضوا يزعمون أنه من وضع محمد صلى الله عليه و سلم ، وأنه ملفق من الديانتين اليهودية والمسيحية، ومن الوثنية العربية الجاهلية، وليس لهم في ذلك مستند يؤيده البحث العلمي الرصين، وإنما هي ادعاءات تستند إلى بعض نقط الالتقاء بين الإسلام والديانتين السابقتين، أو بينه وبين بعض التقاليد أو الطقوس الوثنية العربية القديمة.
ويمكن أن نختصر مساوئ طريقة المستشرقين في كتابة السيرة النبوية، على الشكل الآتي :
.1 الانتقائية في اختيار المصادر ونقل الروايات عنها، فلا يعتمدون منها إلا على ما يساير أهدافهم.
.2 التحيز السافر الذي ينم عن روح العداء والحقد المتأصل على الإسلام.
.3 تضخيم بعض الحوادث والمبالغة فيها، والتقليل من حوادث أخرى.
.4 إطلاق الأحكام الخطرة في حق النبي صلى الله عليه و سلم وأصحابه وفي حق الإسلام وشريعته وتاريخه وحضارته دون أي دليل.
.5 الإسراف في استخدام المنهج المادي ومعاييره في بحث حياة النبي صلى الله عليه و سلم والأحداث المتعلقة بها.
.6 تأويل الأحداث والوقائع وتحليلها بطريقة غير موضوعية
.7 الاعتماد على الروايات الضعيفة.(1/14)
.8 الجرأة على تفسير آيات القرآن بما يوافق الهوى، وتجاهل كتب التفسير.
مصادر السيرة النبوية :
أشار الكاتبان اللذان كتبا مادة السيرة النبوية في الموسوعة الإسلامية، إلى تعدد مصادر السيرة النبوية وتنوعها وكثرتها، ثم أوضحا أن القرآن الكريم يأتي في مقدمة تلك المصادر، وأنه يتجاوب دائماً بوضوح مع التحولات والظروف الواقعية في حياة النبي ـ صلى اللَّه عليه وسلم ـ وأنه يحتوي على ثروة من المعطيات والإشارات الخفية المتعلقة بوقائع السيرة النبوية، ثم ذكرا أن أوسع مصادر السيرة تداولاً، بالإضافة إلى القرآن، يعود تاريخ تأليفها إلى القرنين الثالث والرابع من الهجرة.
وفي حديثهما هذا، كتبا معلومات مفيدة عن مصادر السيرة، ولكن حديثهما يثير بعض المسائل التي تحتاج إلى التوضيح والمناقشة والمراجعة. وستتركز مناقشتهما على نقطتين :
.1 الأولى : اعتبار القرآن الكريم المصدر الأول للسيرة النبوية.
.2 الثانية : اعتبار القرنين الثالث والرابع تاريخاً لتأليف أشهر كتب السيرة.
فيما يتعلق بالنقطة الأولى، فالقرآن الكريم يعتبر بحق المصدر الأول للسيرة النبوية. هذه حقيقة لا سبيل إلى الجدال فيها. لكن الكاتبين تعاملا مع القرآن الكريم انطلاقاً من تصورهما أنه سجل تاريخي يسجل بالتفصيل أحداث حياة النبي صلى اللَّه عليه وسلم ووقائعها، ويعكس بوضوح شخصيته ومراحل تطورها الفكري والروحي والسياسي، على غرار ما تصوره الآثار الفكرية والأدبية الشخصية العلمية والفكرية لأي مفكر أو أديب أو زعيم. ...(1/15)
وهذه أفكار تحتاج إلى المناقشة لأنها تستند إلى الاعتقاد بأن القرآن من تأليف النبي صلى الله عليه و سلم ، صادر من ذاته متجاوب مع أحداث حياته، معبر عن تحولاتها، ونحن وإن كنا نوافق على كون القرآن يأتي في مقدمة مصادر السيرة، فإننا لا نوافق على أنه سجل تاريخي يقدم سرداً مفصلاً لحياة النبي صلى الله عليه و سلم ، وذلك لأن القرآن ليس كتاباً في التاريخ، بل هو كتاب هداية وتشريع، أنزله اللَّه لهداية الناس إلى ما يصلح حياتهم الفردية والاجتماعية، وإلى ما ينفعهم في معرفة الغاية من وجودهم، وفي إقامة نظام عادل يكفل لكل إنسان حياة كريمة ويحمي الجميع من الظلم والعدوان.
لذلك ينبغي أن لا نتوقع من القرآن الكريم أن يعرض الأحداث التاريخية بالتفصيل، ولا أن يقدم سرداً مفصلاً لوقائع السيرة النبوية. بل إن القرآن نفسه لم تدون آياته وسوره في المصحف طبقاً للترتيب الزمني لنزولها. ثم هناك صعوبة في معرفة أسباب نزول كثير من الآيات، إما لعدم ورود روايات في ذلك، وإما لتضارب الروايات الواردة.
ومن ثم كان من غير المناسب أن نعتبر القرآن كتاباً تاريخياً، ولا سجلاً لحياة النبي صلى الله عليه و سلم . ولا مرآة لتطور شخصيته ومسيرته العملية، بالرغم مما تضمنه من الإشارات الخفية أو الواضحة إلى بعض الأحداث الواقعة في حياته صلى الله عليه و سلم .(1/16)
ومن ادعى " أن القرآن يمثل المسيرة الفكرية للرسول صلى الله عليه و سلم أو يصور النضج التدريجي لآرائه وأفكاره وتعاليمه، فهو ينسب إلى القرآن ما ليس فيه. إن القرآن وحي من عند اللَّه، أنزله على رسوله وكلفه بتلاوته وتبليغه والعمل به، وليس للنبي فيه إلا التلقي والتبليغ، لذلك لا يجوز اعتباره صورة لشخصيته، ولا تعبيراً عن حياته، وليس عند من كتبا عنه صلى الله عليه و سلم في الموسوعة الإسلامية، ولا عند غيرهما، من دليل تاريخي أو علمي يؤكد ما زعما من كون القرآن سجلاً للأحداث التاريخية ولسيرة الرسول صلى الله عليه و سلم ".
".. ومعلوم أن بعض النصوص الدينية نسب تأليفها إلى أصحابها أو الذين كتبوها، كما هو الشأن في مجاميع كونفشيوس وأناجيل متى ومرقس ولوقا ويوحنا، فعلى غرار هذه الكتب، زعم بعض المستشرقين والباحثين الغربيين، أن القرآن أيضاً من تأليف محمد صلى الله عليه و سلم ، وهذا زعم يمكن عده من قبيل الآراء الشخصية لبعض المستشرقين" المتأثرين بثقافاتهم الدينية التي نشأوا عليها، غير أنه لا ينطبق بتاتاً على القرآن، والأدلة العقلية والعلمية التي تثبت أن القرآن وحي من اللَّه العليم الخبير، وأنه لا يمكن أن يكون من تأليف عقل بشري، معروفة لا حاجة إلى الإطالة بذكرهاهنا.(1/17)
وبسبب اعتقاد الباحِثَيْن اللذين كتبا عن حياة النبي صلى الله عليه و سلم في الموسوعة الإسلامية أن القرآن سجل تاريخي لأحداث حياة الرسول صلى الله عليه و سلم ، فقد وقعا في أخطاء عديدة، منها أنهما نظرا إلى كثير من أحداث السيرة النبوية البارزة في المرحلة المكية نظرة شك، وذهبا إلى إنكار صحتها مع أنها ثابتة باتفاق علماء الحديث والسيرة والتاريخ، وسيأتي تفصيل الكلام فيها لاحقاً، ومنها تفسير بعض الآيات القرآنية تفسيراً غريباً مخالفاً لمافي كتب التفسير القديمة والحديثة معاً. ومنها قولهما إن دعوة النبي صلى الله عليه و سلم في مكة كانت محصورة في إنذار قومه العرب، ومنها أنه صلى الله عليه و سلم لم يكن في تلك المرحلة يفكر في تأسيس دين جديد... إلى غير ذلك من الأخطاء التي سيأتي تصحيحها لاحقاً إن شاء اللَّه. كل هذا بسبب أن القرآن لم يذكر تلك الأحداث أو لم يفصل تلك المعاني، أو بسبب تجاهل الآيات الأخرى التي تخالف ما يذهبان إليه.
تجاهل كتب الحديث :
مما يبعث على الاستغراب أن أحداً من الباحثَيْن اللذين كتبا عن حياة محمد في الموسوعة الإسلامية، لم يلتفت إلى كتب الحديث، ولم يرجع إليها لجمع المعطيات والروايا ت الصحيحة التي تقدم معلومات مفصلة عن حياة الرسول صلى الله عليه و سلم . وسيرته ومراحل دعوته، مع أنهما يشكوان من صعوبة الحصول على المعلومات التاريخية الموثوق بها. فما هو السبب الذي دعاهما إلى الإعراض التام عن كتب الحديث التي كانت قادرة على أن تزودهما بمعلومات صحيحة عن حياة النبي صلى الله عليه و سلم وسيرته والمضي في البحث عن تلك المعلومات في الإيماءات والإشارات القرآنية الخفية، ودلالاته الضمنية المقتضبة ؟ .(1/18)
وأغرب من هذا أنهما يتجاهلان كتب الحديث ويرجعان في البحث عن الأدلة التاريخية إلى الشعرالجاهلي أو الإسلامي. ومعلوم أن المنهج العلمي الصحيح يفرض على الباحث أن لا يعتمد في إثبات الأحداث التاريخية أو نفيها على الشعر مادامت تتوافر له مصادر أصح وأوثق، وطبقاً لهذه القاعدة كان ينبغي للباحثَيْن أن يعتمدا على كتب الحديث، لأن مادة السيرة الواردة في كتب الحديث موثقة، والقاعدة أن ما جاء في كتب الحديث الصحيحة من روايات في السيرة، مقدَّمٌ على ما جاء في كتب المغازي والسيرة والتاريخ، فما بالك بالشعر ! لأن ما جاء في كتب الحديث الصحيحة، ثمرة جهودٍ جبارة قدمها المحدثون عند تمحيص الحديث ونقده سنداً ومتناً، هذا النقد والتمحيص الذي حظيت به كتب الحديث لم تحظ به المصادر الأخرى.
من هنا نعلم أن الباحثَيْن خالفا قواعد المنهج العلمي الصحيح، إذ تجاهلا كتب الحديث وقدما عليها كتب المغازي والتاريخ ودواوين الشعر.
ولكن ينبغي التفطن إلى أن كتب الحديث بحكم تخصصها لا تقدم تفاصيل المغازي وأحداث السيرة، ومن ثم فإنها لا تعطي صورة كاملة لحياة النبي صلى الله عليه و سلم وسيرته، وينبغي إكمال الصورة من كتب السيرة المختصة.
وما ذكرناه عن قيمة كتب الحديث، لا يقلل من قيمة كتب المغازي والسيرة، فإن هذه تلي القرآن والحديث الصحيح من حيث القيمة العلمية والتاريخية.(1/19)
ومما يزيدها قيمة واعتباراً، أن جل الذين ألفوا في السيرة من التابعين ومن تلاهم كانوا من رجال الحديث الذين شهد لهم العلماء بالثقة والعدالة، منهم أبان بن عثمان بن عفان (ت 110 هـ )،وهو محدث ثقة من التابعين، وعروة بن الزبير بن العوام (ت 94 هـ ) وهو محدث ثقة من التابعين، وأحد الفقهاء المشهورين في المدينة، وعامربن شراحيل الشعبي (ت 103 هـ )، وهو محدث ثقة له كتاب المغازي، وعاصم بن عمر بن قتادة (ت 119 هـ)، وهو محدث ثقة، ومحمد بن مسلم بن شهاب الزهري (ت 124 هـ)، وهو من كبار المحدثين في عصره وَثَّقَهُ الجهابذة من علماء الجرح والتعديل، وموسى بن عقبة (ت 140 هـ) وهو محدث ثقة من تلاميذ الزهري، وقد أثنى الإمام مالك على كتابه في المغازي، فقال " إنه أصح المغازي ". وقال يحيى بن معين :" كتاب موسى بن عقبة عن الزهري من أصح هذه الكتب "، وقال الإمام الشافعي:" ليس في المغازي أصح من كتاب موسى بن عقبة مع صغره وخلوه من أكثر مما يذكر في كتب غيره، ومحمد بن إسحق ( ت 151 هـ ) من تلاميذ الزهري، إمام في المغازي، لكن مروياته لا ترقى كلها إلى درجة الصحيح، ولكن العلماء حكموا بأنها بلغت درجة الحسن، واشترطوا لذلك أن يصرح بالتحديث، وفي كتب علم الحديث شهادات كثيرة تؤكد صدقه وحسن رواياته في السيرة .
وهناك اتجاه خاطئ عند بعض المستشرقين، تابعهم فيه بعض المؤرخين من المسلمين يرفع من قيمة مغازي الواقدي، ويقدمها على سيرة ابن إسحق، والحق أن سيرة ابن إسحق أدق وأوثق، ومعلوماتها تتطابق مع معلومات كتب الحديث في كثير من الجوانب.
وأما الواقدي فقد حكم العلماء بتضعيفه في مروياته، وقالوا : لا يعتمد عليه، وبخاصة إذا انفرد بالخبر.
إن كتب المغازي والسير لها قيمتها العلمية التي تستدعي الاعتماد عليها والرجوع إليها، لكنها ليست في درجة واحدة من حيث الضبط والصحة.(1/20)
وفي ختام الحديث عن تعامل الباحِثَيْن اللذين كتبا عن سيرة النبي، صلى اللَّه عليه وسلم، في الموسوعة الإسلامية، يجب أن نتساءل كيف تجاهلا كتب الحديث ومصادر السيرة الموثوق بها، ورجعا إلى ما كتبه المبشرون والمستشرقون القدماء والمعاصرون عن السيرة النبوية وتاريخ الإسلام، مع أن هذه الكتابات كتبها باحثون ومفكرون معظمهم قليل المعرفة بوقائع السيرة، بعيد عن مصادرها وروحها، ولذلك كانت كتاباتهم فيها قليلة القيمة، ومنهم المنصف وغير المنصف، ومنهم من كتب ما كتب تحت تأثير التعصب والعداوة الصريحة، فكان ما كتبه بعيداً عن الروح العلمية والموضوعية.
ويلاحظ على الباحِثَيْن أنهما لا يميزان بين المنصف وغير المنصف من المستشرقين، بل يمكن أن يقال إنهما يتعمدان الأخذ عن غير المنصفين، ولا يخفى أن الأمانة العلمية تفرض على الباحث أن لا يعتمد في دراسة شخصية على ما ينقله عن أعدائها وخصومها.
ومن عجيب أمر المبشرين والمستشرقين أنهم يسلمون بالروايات المكذوبة، والإسرائيليات المدسوسة مادامت تسعفهم وتساعدهم على تقرير ما يريدون من مزاعم، على حين نجدهم يحكمون على روايات صحيحة، بل في أعلى درجات الصحة بالوضع والاختلاق، لأنها لا تؤيدهم فيما يفترون.
ثم إنهم وهم يعيشون في محيط مادي يصعب عليهم فهم الروح التي جاء بها الإسلام، ووجهت كثيراً من الأحداث والإنجازات في حياة المسلمين منذ العهد النبوي، فتلك الروح لا يتأتى فهمها بالقراءة والمراجعة، ولكنها تأتي من الإدراك العميق والشعور بروح الإسلام، ومدى تغلغلها في نفوس الذين بنوا تاريخه وحضارته.(1/21)
ومع أن بعض المستشرقين قد تطورت أفكارهم وأحكامهم في القرن العشرين، وامتازت كتاباتهم عن كتابات القدماء منهم التي كانت مليئة بالتحيز والتهجم، بحكم اختلاف الدين أو اختلاف المصلحة، أو بسبب قلة ما كان بأيديهم من المصادر وجهلهم باللغة العربية، وسوء الترجمة القديمة، فإنه لا يزال بعضها لا يخلو من الدس والتشويه، عن سوءنية حيناً، وحيناً آخر عن سوء فهم للحقائق التاريخية.
لهذه الاعتبارات المنهجية، ولاعتبارات أخرى لم نذكرها هنا، نرى أن الأمانة العلمية توجب على الباحث المنصف أن لا يعتمد على كل ما كتبه المستشرقون عن السيرة النبوية.
تاريخ كتابة أشهر كتب السيرة :
ذكر كاتب هذا المبحث من الموسوعة الإسلامية أن أكثر مصادر السيرة النبوية تداولاً يعود تأليفها إلى القرنين الثالث والرابع من الهجرة، وعبارته جاءت بأسلوب يوهم القارئ العادي، غير المختص، بأن السيرة النبوية لم تكتب ولم تسجل إلا بعد مضي ثلاثة قرون أو أكثر على وفاة النبي صلى الله عليه و سلم ، ولا يخفى ما قد يترك هذا الإيهام من الشك في صحة ما تناقلته كتب السيرة من أخبار وأحداث ووقائع.
وهنا يجب أن نلاحظ ضعف التحقيق والتدقيق، إن لم نقل انعدامه تماماً في كلام الباحث حول هذه النقطة ونص كلامه هو :" إن المصادرالتي يعتمد عليها كثيراً في دراسة حياة محمد صلى الله عليه و سلم إلى جانب القرآن، تعود إلى الفترة الممتدة ما بين القرنين الثالث والرابع من الهجرة، وأشهر هذه المصادر على الإطلاق سيرة ابن إسحق ( ت 151 هـ )، فتاريخ وفاة ابن إسحق الذي جاء ذكره في هذا المقطع من كلام الباحث، ينقض قوله، لأن وفاته في أواسط القرن الثاني يدل على أن سيرته ألفت قبل ذلك، فهي ليست من مصنفات القرن الثالث أو الرابع.(1/22)
والحقيقة أن التأليف في السيرة، وإنشاء كتب مستقلة بها، بدأ منذ النصف الثاني من القرن الأول، وقد رأينا في الفقرة السابقة أن رواد التأليف فيها كانوا من التابعين، كعروة بن الزبير بن العوام، وأبان بن عثمان بن عفان، والشعبي، والزهري، وموسى بن عقبة، وغيرهم ممن عاشوا في القرنين الأول والثاني.
ولأمر ما تجاهل الباحث المصادر التي ألفت في السيرة قبل القرن الثالث الهجري، مع أنها أصح و أوثق من غيرها، وأصحابها كما رأينا آنفا من علماء الحديث المعروفين بالضبط والتدقيق في رواية الأخبار، وشهد لهم نقاد علم الحديث بذلك. ومهما يكن فإن المصادر التي تجاهلها مُقَدَّمَةٌ عند علماء الحديث والسيرة على طبقات ابن سعد ( ت 230 هـ ) التي اعتمد عليها كثيراً، وابن سعد هذا يتحرى في كثير من رواياته كما يقول الخطيب البغدادي وابن حجر العسقلاني، لكنه ينقل عن الضعفاء مثل الواقدي الذي أكثر من النقل عنه حتى اتهمه ابن النديم بسرقة مصنفاته .(1/23)
القسم الأول : المرحلة المكيّة :
المبحث الأول : طفولة النبي صلى الله عليه و سلم ، وإرهاصات نبوته
.1 دعوى غموض طفولته :
زعم صاحب هذا المبحث أن تاريخ ميلاده صلى الله عليه و سلم غير معروف، وأنكر أن يكون قد ولد عام الفيل، وادعى أننا لا نملك معلومات تاريخية متسلسلة عن حياته صلى الله عليه و سلم في المرحلة المكية، وعمد إلى التقليل من شرف نسبه ومكانة والده، وزعم أن صلة نسبه بأهل المدينة غير واضحة، وأثار الشك حول اسمه، وأنكر صحة الأحداث البارزة في طفولته، مما يعد إرهاصات لنبوته صلى الله عليه و سلم . كشق صدره، ورحلاته التجارية إلى الشام، وهو طفل، رفقة عمه أبي طالب. كما أنكر مشاركته في بناء الكعبة، وتجاهل أحداثاً أخرى لها أهمية كبيرة، وهكذا يبدو أن كاتب هذه المباحث كان يتعمد أن ينشر ظلال الغموض حول طفولته صلى الله عليه و سلم وحول المراحل الأولى من حياته في مكة من جميع جوانبها. ومن أجل ذلك تجاهل الحقائق الثابتة، وأنكر الأخبار الصحيحة المتواترة، ولم يبال بما أجمعت عليه مصادر الحديث الصحيح وكتب السيرة والتاريخ. فكأنه انطلق من حكم مسبق ومضى على وجهه يبغي إثباته، أو من هدف مرسوم أصلاً، وانطلق يريد الوصول إليه لا يلتفت يميناً ولا شمالاً.
وفيما يلي مناقشة موجزة لآرائه ومزاعمه المتعلقة بهذه المرحلة من حياته صلى الله عليه و سلم .
.2 تاريخ ميلاده :
ثبت بالأحاديث الصحيحة أن ميلاده صلى اللَّه عليه وسلم كان في عام الفيل بعد حادث الفيل الشهير. وذهب ابن إسحق إلى أنه ولد لاثنتي عشرة ليلة خلت من شهر ربيع الأول من عام الفيل، وهي أوثق الروايات الواردة في تعيين الشهر واليوم الذي ولد فيه.
وثبت أن يوم ميلاده صلى الله عليه و سلم هو يوم الاثنين كما ثبت لدى الإمام مسلم في صحيحه، وأبي داود في سننه، والإمام أحمد في مسنده.(1/24)
ومن حديث ابن عباس رضي اللَّه عنهما : قال : " ولد رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم عام الفيل يوم الاثنين الثاني عشر من ربيع الأول، وفيه عرج به إلى السماء، وفيه هاجر، وفيه مات ". هذا هو المشهور عند الجمهور .
وذكر خليفة في تاريخه أن الروايات المخالفة كلها معلولة الأسانيد، وهي مقيدة.
وذهب معظم العلماء إلى أن مولده صلى اللَّه عليه وسلم كان عام الفيل، وأيدتهم الدراسات الحديثة التي قام بها باحثون مسلمون ومستشرقون، إذ وجدوا عام الفيل موافقاً لعام 571-570م.
أمام هذه الأحاديث وهذا الإجماع، لا يعتبر ما ذهب إليه كاتب مبحث حياة محمد صلى الله عليه و سلم في الموسوعة الإسلامية الذي أنكر أن يكون ميلاده عام الفيل، وأنكر وقوع حادث الفيل عام 570م، وزعم أنه " ينبغي أن يكون وقع قبل هذا التاريخ ".
ويجب أن يلاحظ أيضاً أن كاتب هذا المبحث يتخذ موقف الإنكار، ويصدر الأحكام من غير أن يكلف نفسه إثباتها بالدليل، وهذا سلوك يأباه المنهج العلمي الصحيح والعقل المتحررالسليم، وتأباه قواعد الفكر الوضعي الذي يؤمن به جل الكتاب الغربيين، ومنهم هذا الكاتب. وأما دعواه أننا لا نملك معلومات تاريخية متسلسلة عن المرحلة المكية من حياة النبي صلى الله عليه و سلم ، فليس لها أساس من الصحة. ويبدو أن كاتب هذا المبحث جعل القرآن المصدر الأساس لبحثه، وتجاهل كتب الحديث، واتخذ موقف الشك من مصادر السيرة، لذلك ذهب به الظن إلى هذا الرأي، وذلك لأنه لم يجد في القرآن سرداً مفصلاً لأحداث حياته صلى الله عليه و سلم في طفولته وفتوته.(1/25)
ومما يؤيد رأينا هنا في تعامل الكاتب مع مصادر السيرة ومبالغته في الاعتماد على القرآن، أنه أشار إلى سورة "الضحى" وما ورد فيها من ذكر لنشأته صلى الله عليه و سلم يتيماً فقيراً، وكرر هناك زعمه أن ما عرف عن المرحلة الأولى من حياته صلى الله عليه و سلم قليل جداً، وأضاف إلى ذلك قوله :" إن ما اشتملت عليه المصادر من أخبار عن هذه المرحلة ليست له قيمة كبيرة في معرفة صورة محمد صلى الله عليه و سلم التاريخية ).(1/26)
في هذا القول تعميم مضلل، لأن مصادر السيرة ـ كما ذكرنا من قبل ـ ليست كلها على درجة واحدة من حيث الصحة والضبط التاريخي، وكذلك المعلومات التي اشتملت عليها تلك المصادر ليست كلها ـ قليلة القيمة ـ كما زعم، ومع وجود بعض الروايات الضعيفة في بعض المصادر، فليس من الموضوعية والتحقيق العلمي تعميم هذا الحكم الجائر على مصادر السيرة، فمن بينها مصادر موثقة أثنى عليها العلماء وشهدوا لها بالصحة.في هذه المصادر نجد سرداً مفصلاً متسلسلاً لأهم الأحداث في حياته صلى الله عليه و سلم في مكة من طفولته إلى مبعثه ومن مبعثه إلى هجرته إلى المدينة، نجد فيها بياناً وافياً لنسبه الشريف ووالديه، والأحوال التي مرت فيها مرحلتا الحمل والوضع، وموت والده، ورضاعته ووفاة والدته، ونشأته يتيماً في كفالة جده عبد المطلب ثم عمه أبي طالب، وعمله راعياً لغنم عمه، وبعض القرشيين، ورحلته مع عمه أبي طالب إلى الشام للتجارة، ومشاركته في حلف الفضول ثم عمله في تجارة السيد ة خديجة بنت خويلد، وزواجه بها فيما بعد، وحياته معها في أسرة طيبة هنيئة أنجبت بنين وبنات. ومشاركته في بناء الكعبة، وتحاكم قبائل قريش إليه لوضع الحجر الأسود في مكانه بعد إعادة بناء الكعبة. وتحدثت تلك المصادر عن سيرته وأخلاقه وشهرته بين أهل مكة بالصدق والأمانة، فلقبوه الأمين، وتحدثت أيضاً عن تجنبه مشاركة أطفال مكة وشبابها في لهوهم وعبثهم، وتجنبه مشاركة قومه في عبادتهم ومعتقداتهم، وعن عادته في الاختلاء بنفسه في غار حراء للعبادة، بعيداً عن مشاغل الحياة اليومية.
ومن هنا نردُّ على الكاتب دعوى صعوبة الحصول على معلومات تاريخية متسلسلة عن حياة محمد صلى اللَّه عليه وسلم في المرحلة الأولى من حياته في مكة، لأنها دعوى لا أساس لها من الصحة.
التقليل من شرف نسب النبي صلى الله عليه و سلم :(1/27)
هنا أيضا تجاهل الكاتب مصادر السيرة النبوية الصحيحة واعتمد على إشارات عابرة وجدها في أبيات شعرية.
واستشهد بقوله تعالى : { وَقَالُوا لَولا نُزِّلَ هَذَا القُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ القَرْيَتَيْن عَظِيم }.
وحكم على عائلة بني هاشم بأنها لا تبلغ إلى أن تقارن في الشرف بالعائلات القرشية ذات الشرف العالي كبني أمية، وبني مخزوم.
وقال : إن والده صلى الله عليه و سلم شخصية مغمورة، وشك في أن يكون سمي باسم عبد اللَّه قبل الإسلام.
وقال : إن جده صلى الله عليه و سلم سمي باسمين : شيبة، وعبد المطلب، وقال : إن العلاقة بين هذين الاسمين غامضة كغموض علاقتهما بعائلتي بني شيبة وبني المطلب.
وقال : من جهة أمه كانت له علاقات غير واضحة وضوحاً تاماً بالمدينة ( يثرب ). وختم بقوله ونحن نعرف القليل جداً ـ مما هو موثق ـ عن نسبه، لأن أعظم ما روي من ذلك متأثر بالأساطير المتأخرة.
وأول ما يجب أن نلاحظه هنا. هو أن الكاتب استخدم أسلوباً تطغى عليه النزعة الشكوكية، وتعمد نشر ظلال الغموض على نسب النبي صلى الله عليه و سلم ، والغريب أنه اكتفى في تقرير انتمائه صلى الله عليه و سلم إلى بني هاشم على أبيات شعرية غير موثقة، وكأن تلك الأشعار هي كل ما يمكن أن يستدل به على هذه المسألة الخطرة، فإحالته على الشعر في هذه المسألة، دليل آخر على تجاهله لمصادر الحديث والسيرة النبوية وكتب التاريخ.(1/28)
وأما قوله تعالى :{ وَقَالُوا لَوْلاَ نُزِّلَ هَذَا القُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِن القَرْيَتَيْنِ عَظِيم } ، فهو إخبار عن قول كفار قريش الذين كفروا بنبوة محمد صلى الله عليه و سلم ثم أخذوا يتعللون بعلل مستمدة من معاييرهم الخاصة، ومنها أن محمداً صلى الله عليه و سلم لم يكن من عظماء القريتين، أي مكة والطائف. واقترحوا أن تنزل النبوة والرسالة على رجل عظيم من إحدى القريتين. هذا باختصار مقصود الآية الكريمة، أوضحناه بإيجاز لنبين أن الآية لا تتعلق بشرف النسب ـ كما ظن الكاتب ـ وإنما تتعلق بالمركز الاجتماعي والزعامة القبلية التي ترتكز عند الجاهليين على كثرة المال والسيادة في أوساط القبيلة.
وهذا الإصرار على التقليل من شرف نسبه صلى الله عليه و سلم مخالف للحقيقة والواقع، فبنوهاشم في الذروة من قريش نسباً وشرفاً. صدع أبو طالب بهذه الحقيقة في مجمع حافل بسادات قريش فما نازعه فيها منازع، وذلك في خطبة النكاح التي ألقاها في حفل إعلان زواج النبي صلى الله عليه و سلم من خديجة ـ رضي اللَّه عنها ـ إذ قال :" ثم إن ابن أخي هذا لا يوزن به رجل من قريش شرفاً و نبلاً وفضلاً إلاَّ رجح به، وهو إن كان في المال قل، فإن المال ظل زائل، وأمر حائل، وعارية مسترجعة، ومحمد من عرفتم قرابته ".
وأقر أبو سفيان أيضاً وكان من أعداء النبي صلى الله عليه و سلم بهذه الحقيقة، أي بعلوّ نسبه صلى الله عليه و سلم أمام امبراطور الروم، وذلك حين سأله هرقل :> كيف نسبه فيكم ؟ فأجاب أبو سفيان هوفينا ذو نسب. فقال هرقل : فكذلك الرسل تبعث في نسب قومها<.(1/29)
وفي صحيح البخاري، باب مبعث النبي صلى الله عليه و سلم سَرْدٌ لنسبه الشريف متصلاً إلى معد بن عدنان. وهذا الجزء من نسبه متفق عليه بين علماء الأنساب. واتفقوا كذلك على أن نسبه ينتهي إلى إسماعيل بن إبراهيم ـ عليهما السلام ـ فهو جده الأعلى، وإن كانوا مختلفين في الحلقات الواصلة بين معد بن عدنان وإسماعيل.
وفي صحيح مسلم أن النبي ـ صلى اللَّه عليه وسلم ـ قال : > إن اللَّه اصطفى كنانة من ولد إسماعيل ، واصطفى من كنانة قريشاً، واصطفى من قريش بني هاشم واصطفاني من بني هاشم<.
فبأي مقياس علمي سمح الكاتب لنفسه أن يتجاهل هذه النصوص الصحيحة والأدلة القوية الساطعة، على شرف نسبه صلى الله عليه و سلم ، وأن يصدر أحكاماً خطرة بلا دليل ولا حجة ؟ .
وأما دعواه بأن والده صلى الله عليه و سلم كان شخصية مغمورة، فليس لها أي تأثير سلبي على شرف نسبه ولا على نبوته.
ويبدو أن الكاتب كان يتصور أن النبوة شكل من أشكال الزعامة السياسية، وأن النبي ينبغي أن يكون من أسرة ذات زعامة ونفوذ سياسي. ثم إن والد النبي صلى الله عليه و سلم توفي وهو ابن خمس وعشرين سنة أي في المرحلة الأولى من شبابه، ولو امتد به العمر لكان من الممكن أن يحل محل والده في زعامة العائلة الهاشمية، وإذن لكان من سادات قريش وشيوخها من ذوي الشهرة الواسعة.
وأما شكه في أن يكون والده صلى الله عليه و سلم سمي عبد اللَّه، ودعواه أن هذا الاسم أطلق عليه بعد الإسلام، فلا أساس له، لأن مصادر الحديث والسيرة والتاريخ متفقة عليه، ولم يذكر عن أحد من علماء التاريخ والأنساب أنه تردد في ذلك أو أبدى أدنى شك فيه.(1/30)
وأما ما ذكره من الغموض في العلاقة بين الاسمين اللذين سمي بهما جد النبي صلى الله عليه و سلم ، وهما شيبة وعبد المطلب، فيرجع إلى قلة معلوماته. لأن الأمر في ذلك سهل واضح، وذلك أن الرجل سمي في أول حياته شيبة، وهو اسمه الأول، ثم لقب بعبد المطلب، وغلب عليه لقبه، والمؤرخون وكتاب السيرة يعلمون ذلك، ويعلمون أنه لا غموض فيه.
وأما دعواه بأن صلة نسبه صلى الله عليه و سلم ، من جهة أمه بالمدينة (يثرب) ليست واضحة، فترجع كذلك إلى قلة معلوماته، أو إلى تجاهل المعلومات المذكورة في كتب السيرة والتاريخ.
ولعله استند في رأيه هذا إلى ما وجده في كتب السيرة من إشارة إلى أن أخواله صلى الله عليه و سلم هم بنو النجار، أحد أحياء يثرب، وظن أن أمه لها علاقة عائلية مباشرة بالمدينة، وهذا غير صحيح. فأمه صلى الله عليه و سلم هي آمنة بنت وهب، من بني زهرة القرشيين، وتجتمع مع زوجها عبد اللَّه في جدهما الأعلى كلاب، فهي قرشية خالصة.
وأما صلة نسبه صلى الله عليه و سلم بالمدينة، فهي آتية من أم جده عبد المطلب، وهي سلمى بنت عمرو النجارية، التي تزوج بها هاشم بن عبد مناف، والد عبد المطلب. وكان هاشم رجلاً تاجراً كثير المال، يكثر من الأسفار بين مكة والشام. وفي سفر من أسفاره نزل بالمدينة، فرأى سلمى النجارية فأعجب بها فتزوجها، وولدت له عبد المطلب فسمته شيبة.
رأي الكاتِبَيْن في اسم النبي صلى الله عليه و سلم :(1/31)
بعد أن أشارإلى ما تناقلته مصادر السيرة عن شهرة النبي صلى الله عليه و سلم بلقب "الأمين" الذي لقب به اعترافاً وتأكيداً لما كان يتحلى به، قبل بعثته من الأخلاق الحميدة، وفي مقدمتها الصدق والأمانة، أراد صاحب هذا البحث أن يستبعد عنه صلى الله عليه و سلم هذه الفضيلة، وهذا الاعتراف، فصرف هذا اللقب المحمود إلى دلالة اسمية عارية من كل فضيلة، فزعم أن لقبه " الأمين" هو اسمه الذي كان سمي به أول الأمر، ودليله على هذه الدعوى هو أن لفظ الأمين يلتقي في الاشتقاق الصرفي مع لفظ " آمنة " اسم أمه صلى الله عليه و سلم ، فلفظ الأمين للمذكر، ولفظ آمنة للمؤنت، وقال : إن مثل هذا وجد في اللغة الحميرية. ففيها لفظ " محمدة " للمؤنث، ومحمد للمذكر.
إن مثل هذا الافتراض البعيد الذي لا يرتكز على أي دليل صحيح، لا يلجأ إليه إلا في حال انعدام المعلومات الصحيحة الثابتة. أما والأدلة القوية الثابتة متوفرة. فلا يجوز تجاهلها والاسترسال مع الظن والتخمين.
إن صاحب هذا المبحث تجاهل ما ثبت بنص القرآن والحديث الصحيح، وأنكر ماصح من حقائق التاريخ وأجمعت عليه كتب السيرة، وسلم به العدو والصديق، والقريب والبعيد.
ففي القرآن الكريم :{ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّه والذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُم }.
وفيه كذلك : { وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ }.(1/32)
ولا نحتاج إلى الإطالة بعرض الأدلة من القرآن والحديث على قضية لا تحتاج إلى إثبات، ولكننا نحب أن نذكر الكاتب بما في التواراة والإنجيل من أدلة واضحة. لقد بشر كل من سيدنا موسى وسيدنا عيسى، عليهما السلام، ببعثة محمد صلى الله عليه و سلم ووقع التحريف في نسخ التوراة والإنجيل وحذف منهما اسم " محمد "، إلا توراة السامرة وإنجيل برنابا الذي كان موجوداً قبل الإسلام، وحرم تداوله من آخر القرن الخامس الميلادي. وقد أيدته المخطوطات التي عثر عليها في منطقة البحر الميت حديثاً.
فقد جاء في إنجيل برنابا العبارات المصرحة باسم ـ النبي ـ محمد ـ مثل ما جاء في الإصحاح الواحد والأربعين منه. ونص العبارة :" فاحتجب اللَّه وطردهما الملك ميخائيل من الفردوس، فلما التفت آدم رأى مكتوباً فوق الباب :" لا إله إلا اللَّه محمد رسول اللَّه".
وفي موضع آخر منه هذه العبارة : " أجاب التلاميذ : يامعلم، من عسى أن يكون ذلك الرجل الذي تتكلم عنه الذي سيأتي إلى العالم ؟ أجاب يسوع بابتهاج قلب : إنه محمد رسول اللَّه" .
أمام هذه الأدلة الواضحة التي تجاهلها كاتبا مادة "محمد نبي الإسلام" في الموسوعة الإسلامية. نستطيع أن نقول : إن الكاتبين كتبا هذه المادة تحت تأثير رغبة قوية في نشر ظلال الشك والغموض على حياة النبي صلى الله عليه و سلم من جميع الجوانب، لذلك لم يسلم حتى اسمه من شكوكهما. وإذا جاريناهما في شكوكهما، فإننا ننتهي إلى أن شيئاً من حياة النبي صلى الله عليه و سلم غير صحيح، وأنها حياة يلفها الغموض من كل جانب. وهذا موقف غير سليم.
إنكار أحداث الإرهاص بالنبوة :(1/33)
وقعت للنبي صلى الله عليه و سلم أحداث فريدة في طفولته، فهمت على أنها تمهيد وإعداد لأمر عظيم سيكون له في مستقبل حياته، منها : شق صدره، صلى الله عليه و سلم عندما كان رضيعاً في بادية بني سعد، ومنها لقاؤه ببحيرا الراهب الذي أخبره بنبوته المنتظرة، ومنها مشاركته في بناء الكعبة، وما وقع أثناءها عندما وضع إزاره على كتفه فانكشفت عورته، فسقط مغمى عليه، وكان كشف العورة في الجاهلية أمراً مألوفاً. هذه الأحداث المشهورة التي تناقلتها كتب السيرة والتاريخ والحديث، وقف منها صاحبا مبحث " محمد نبي الإسلام " في الموسوعة الإسلامية موقف الإنكار التام.
إنكار شق الصدر :
أما شق صدره صلى الله عليه و سلم فقد أنكراه بدعوى أنه من غرائب الطبيعة، وأنه غير ممكن في العادة.وقالا : إن من الحكمة تنحية قصة شق الصدر جانباً، واستندا في موقفهما على رأي مستشرق آخر اسمه (بيركلاند) ذهب فيه إلى أن هذه القصة ما هي إلا تجسيد وتشخيص لمعنى قوله تعالى { أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ }.
هكذا أبى الكاتبان، ومعهما جماعة من المستشرقين، إلا أن يزنوا كل أحداث حياة النبي صلى الله عليه و سلم بميزان الواقع البشري المألوف، أو بعبارة أخرى بميزان الفكر المادي الوضعي الذي لا يقبل أي صلة بالغيبيات والروحانيات، حتى ولو كان الأمر يتعلق بحياة الأنبياء، ولا يدري هؤلاء أن استخدام هذا الميزان يبطل معجزات الأنبياء جميعاً، بما فيهم موسى وعيسى عليهما السلام.
والحق أن حادث شق الصدر من الخوارق ،ولكن خرق العادة وقوانين الطبيعة، موجود متكرر في سير الأنبياء يجريه اللَّه على أيديهم لحكمة يريدها. ولقد كانت ولادة عيسى وطفولته وسيرته ستاراً لأمور خارقة، فهو مولود بلا أب، وتكلم في المهد صبياً، ووقعت لموسى في طفولته أمور غريبة كذلك، فليس من التحقيق العلمي أن توزن أحداث حياة الأنبياء بمقاييس الفكر المادي الوضعي وحدها.(1/34)
ومن قال من المستشرقين إن قصة شق الصدر تشخيص من المفسرين لقوله تعالى :{ أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ } فقد أخطأ، لأن شرح الصدر غير شقه، ثم إن المفسرين لم يربطوا بين المعنيين.
وبالرجوع إلى كتب الحديث النبوي الشريف، نجد أن حديث شق الصدر جاء بأسانيد صحيحة. فقد رواه أبو نعيم في دلائل النبوة، وأخرجه مسلم في صحيحه، والإمام أحمد في مسنده، وابن سعد في طبقات الصحابة، عن أنس رضي اللَّه عنه، أن النبي صلى الله عليه و سلم أتاه جبريل وهو يلعب مع الغلمان فأخذه فصرعه، فشق عن قلبه واستخرج منه علقة. فقال : هذا حظ الشيطان منك، ثم غسله في طست من ذهب بماء زمزم، ثم لأَمَهُ، ثم أعاده إلى مكانه. وجاء الغلمان يسعون إلى أمه، يعني مرضعته، أن محمداً قد قتل، فاستقبلوه وهو منتقع اللون ".
وللحديث شواهد كثيرة، فقد أخرجه الحاكم في المستدرك، وصححه، ووافقه الذهبي.
قال الحافظ بن حجر، بعد أن عرض لذكر الروايات الدالة على شق الصدر وتكرره :" وجميع ما ورد من شق الصدر، واستخراج القلب، وغير ذلك من الأمور الخارقة للعادة، مما يجب التسليم به دون التعرض لصرفه عن حقيقته، لصلاحية القدرة الإلهية، فلا يستحيل شيء من ذلك."
ولا شك أن التطهير من حظ الشيطان إرهاص مبكر بالنبوة. وإعداد للعصمة من الشر ومن عبادة غير اللَّه. وقد دلت أحداث صباه صلى الله عليه و سلم ، على تحقق ذلك، فلم يرتكب إثماً، ولم يسجد لصنم بالرغم من شيوع ذلك في قومه.
إن نفي المعجزات الحسية الثابتة بالنقل الصحيح، إنما هو في الحقيقة خضوع وانصياع للفكر المادي والفلسفات الوضعية. وسير الأنبياء ووقائع حياتهم وخصائصهم وروابطهم لا توزن بميزان الفكر المادي وحده.
إنكار رحلاته صلى الله عليه و سلم التجارية :(1/35)
ذهب الكاتبان في الموسوعة الإسلامية، إلى أن من الحكمة كذلك تنحية رحلات النبي صلى الله عليه و سلم التجارية ( المزعومة) إلى الشام، وعمَّمَا حكمهما على رحلته الأولى حين كان طفلاً في كفالة عمه أبي طالب، وعلى رحلاته حين كان يعمل في تجارة زوجه خديجة ـ رضي اللَّه عنها ـ واستند الكاتبان في موقفهما إلى أن محور تلك الرحلات هو إخبار راهبين نصرانيين بأن محمداً صلى الله عليه و سلم سيبعث نبياً.
واستنكرا موقف بعض الكتاب الغربيين المعاصرين الذين سلموا بصحة تلك الرحلات وانتقدا رأيهم.
... ولم يقدم الكاتبان أي دليل على موقفهما، ومن المعلوم الثابت بالعقل والمنطق، أن الإنكار حكم لا يصح إلا بالدليل، تماماً كالإثبات. والكاتبان لم يقدما أي دليل، وكل ما استندا إليه هو كون أخبار الرحلتين أو الرحلات، تدور على محور واحد هو التنبؤ بنبوة محمد صلى الله عليه و سلم .
والواقع أن أسس الحكم على هذه الرحلات، وعلى غيرها من أحداث السيرة النبوية، بالإثبات أو الإنكار، لا ينبني على مجرد الشك والظن، وإنما ينبني على التحقّق من طرق روايتها أولاً، فإن صحت روايتها عند المحققين من علماء الحديث وعلماء التاريخ والسيرة، ثبتت صحتها.(1/36)
وبالرجوع إلى كتب الحديث، نجد أن قصة سفره صلى الله عليه و سلم مع عمه أبي طالب، وهو صغير السن ولقائه بالراهب النصراني بحيرا، ثابتة في حديث أبي موسى الأشعري، قال : >خرج أبو طالب وخرج معه النبي صلى اللَّه عليه وسلم في أشياخ من قريش، فلما أشرفوا على الراهب هبطوا فحلوا رحالهم، فخرج إليهم الراهب، وكانوا قبل ذلك يسيرون فلا يخرج إليهم ولا يلتفت، قال : فهم يحلون رحالهم، فجعل يتخللهم الراهب حتى جاء فأخذ بيد رسول اللَّه صلى الله عليه و سلم . قال : هذا سيد العالمين، هذا رسول رب العالمين يبعثه اللَّه رحمة للعالمين. فقال له أشياخ قريش : ما علمك؟ فقال : إنكم حين أشرفتم من العقبة لم يبق حجر ولا شجر إلاَّ خَرَّ ساجداً، ولا يسجد إلا لنبي، وإني أعرفه بخاتم النبوة، أسفل من غضروف كتفه مثل التفاحة...<.
والحديث طويل، وقد أخرجه الترمذي في المناقب : باب ما جاء في بدء النبوة، وقال حسن غريب. وأخرجه الحاكم في المستدرك، وقال : صحيح على شرط الشيخين، وأخرجه ابن أبي شيبة في المصنف. والماوردي في أعلام النبوة، وأبو نعيم في دلائل النبوة، والطبري في تاريخه. وقال ابن حجر في الإصابة : رجاله ثقات.
وأخرجه الذهبي في السيرة النبوية، وقال أظنه موضوعاً وبعضه باطل. والعلة التي جعلت الذهبي يذهب إلى هذا الظن هي ذكر بلال مؤذن رسول اللَّه وأبي بكر في آخر متن الحديث.
وحل العلماء هذا الإشكال بقولهم إن ذكر هذين الصحابِيَّيْنِ في الحديث وَهْمٌ وقع فيه بعض الرواة. ذكر ذلك الحافظ بن حجر وأيده ابن قيم الجوزية في زاد المعاد. وصححه في العصر الحديث الشيخ الألباني.
والخلاصة أن سند الحديث صحيح ورجاله ثقات. وذكر أبي بكر وبلال فيه غلط واضح.
إنكار مشاركة النبي صلى الله عليه و سلم في إعادة بناء الكعبة :(1/37)
زعم الكاتبان أن من الواجب أن ينظر إلى خبر مشاركته صلى الله عليه و سلم في إعادة بناء الكعبة بالقليل من الثقة، لكنهما لم يذكرا أي سبب أو علة للشك في هذا الحدث. ولعلهما هنا أيضا أحبا أن ينكرا الخبر، أو على الأقل، أن ينشرا عليه ظلال الشك،لأنه خبر اشتمل ـ كما سترى في الحديث ــ على ذكر معلومات، يستفاد منها أن محمداً صلى الله عليه و سلم كان ـ قبل البعثة ـ محاطاً بعناية ربانية خاصة تحفظه من سلوك الجاهليين المذموم.
وحديث مشاركته صلى الله عليه و سلم في بناء الكعبة أخرجه الطبراني في الكبير بطوله، وأخرج الإمام أحمد طرفاً منه في مسنده، من طريق ابن الطفيل. جاء في المقطع الأخير من الحديث.." فبينما النبي صلى الله عليه و سلم يحمل حجارة من أجناد، وعليه نمرة، فضاقت عليه النمرة، فذهب يضع النمرة على عاتقه فترى عورته من صغر النمرة، فنودي : يا محمد : خمر عورتك، فلم ير عرياناً بعد ذلك، وكان بين بناء الكعبة وبين ما أنزل عليه، خمس سنين."
وفي رواية عن جابر بن عبد اللَّه ـ رضي اللَّه عنه ـ أن رسول اللَّه صلى الله عليه و سلم كان ينقل معهم الحجارة للكعبة، وعليه إزاره، فقال له العباس عمه : يا ابن أخي لو حللت إزارك فجعلته على منكبك دون الحجارة، قال فحله فجعله على منكبه. قال فسقط مغشياً عليه، فما رؤي بعد ذلك عرياناً.
إذا علمنا صحة الحديث المتعلق بخبر مشاركته صلى الله عليه و سلم في بناء الكعبة، ظهر جلياً أنه لا وزن لإنكار المنكرين، ولا قيمة لشكوكهم، لأن الشك الذي لا يقوم على أسباب واضحة لا يلتفت إليه.(1/38)
والسبب الظاهر الذي جعل الكاتبين يشكان في الأحداث التي وقعت في حياة محمد صلى الله عليه و سلم قبل البعثة : مثل شق الصدر، ورحلاته التجارية التي التقى فيها برهبان أكدوا صدق نبوته، ومشاركته في إعادة بناء الكعبة، هو أن تلك الأحداث كان فيها إرهاص وتمهيد لنبوته، فغلب على ظن الكاتبين أن هذه الأخبار وضعت واخترعت لدعم دعوى النبوة.
وهذا ظن لا يثبت أمام الأحاديث الصحيحة والروايات التاريخية المتواترة. ويجب أن نتساءل مرة أخرى، لماذا تجاهل الكاتبان مصادر الحديث النبوي التي تضم الكثير من المعلومات الموثقة حول حياة النبي صلى الله عليه و سلم وسيرته ؟(1/39)
المبحث الثاني
من البعثة النبوية إلى الهجرة
بدأ الكاتبان حديثهما عن هذه المرحلة من حياة النبي صلى الله عليه و سلم بدعوى وجود أسئلة عويصة، تصعب الإجابة عنها، تتعلق بظهور محمد صلى الله عليه و سلم مصلحاً دينياً، وأشارا إلى أن مصادر السيرة، بسبب التعقيدات التي تنشأ عن تفسيرها، لا تعين على إيجاد الإجابة عن تلك الأسئلة.
لكنهما لم يوضحا تلك الأسئلة بالتعبير عنها. وانطلاقاً من المنهج التاريخي المادي الذي بنيا عليه دراسة السيرة وتحليل موضوعاتها، يمكن أن نفترض الأسئلة التي أشارا إليها : كيف استطاع محمد صلى الله عليه و سلم أن يخرج عن قوانين التأثر بالمحيط الاجتماعي والبيئة الفكرية والثقافية والدينية ؟ وكيف استطاع أن يأتي بتعاليم دينية ومبادئ أخلاقية وأنظمة اجتماعية جديدة ؟ ومن أين أتى بها ؟ وكيف استطاع أن يغير المعتقدات والتقاليد القديمة المتأصلة في نفوس العرب ؟، وما هو السر في قوة التأثير التي كان يملكها ؟
هذا النوع من الأسئلة هو الذي يطرحه عادة أصحاب الفكر التاريخي المادي، والكاتبان يريدان أن يطبقا هذا المنهج حرفياً على حياة النبي صلى الله عليه و سلم .
ومن طبيعة الحال أن يجدا الصعوبة في الإجابة عن تلك الأسئلة، لأنهما يريدان أن يفسرا حقيقة النبوة تفسيراً مادياً آلياً. وذلك غير ممكن، لأن حياة الأنبياء ليست حياة بشرية عادية. هم بشر ولا شك، لكن حياتهم غير عادية، لأنها حياة تتداخل فيها عوالم الغيب والشهادة والمادة والروح والدين والدنيا. إن زمن البعثة النبوية مرحلة فريدة في تاريخ البشرية، فيها تستقبل الأرض الوحي الإلهي والرسالات الإلهية والرسل والأنبياء الذين يسيرون على الأرض في ظل العناية الإلهية المباشرة لتبليغ الرسالة وإنقاذ البشرية وهدايتها، في هذه المرحلة تحدث الخوارق والمعجزات لتأييد الرسل وتوجيه الأحداث.
إن حياة الأنبياء والرسل وسيرتهم ليست حياة بشرية عادية، لذلك لا يصح إرغامها على الدخول في قوالب الفكر المادي المحدودة.
دعوى تأثّر النبي صلى الله عليه و سلم بالوثنية الجاهلية :
بناء على أصول الفكر المادي الوضعي ومقرراته الجاهزة، مضى الباحثان اللذان كتبا عن السيرة النبوية في الموسوعة الإسلامية يحاولان بإصرار أن يثبتا دعواهما بأن النبي صلى الله عليه و سلم بقي بعد بعثته متأثراً بالمعتقدات والتصورات الوثنية الجاهلية، وانطلقا من كون تأثرالإنسان بالمحيط الفكري والثقافي الذي يعيش فيه، هو أكثر المسلمات واقعيةً بجميع الاعتبارات.
دعوى ضلاله قبل البعثة :
ولإثبات هذه الدعوى المتهافتة، قدما مزاعم باطلة، منها قوله تعالى : { وَوَجَدَكَ ضَالاًّ فَهَدَى } وفسراه بما يحلو لهما. ومنها أن النبي صلى الله عليه و سلم سمى أحد أبنائه باسْمٍ وثَنِيٍّ، ومنها كونه صلى الله عليه و سلم زوج اثنتين من بناته لولدَيْ عمه أبي لهب، وهو أكبر المدافعين عن الوثنية، ومنها حديثه عن الجن كما ورد في القرآن الكريم.(1/40)
وأورد الكاتبان قول اللَّه تعالى عن النبي صلى اللَّه عليه وسلم : { ووجدك ضالاّ فهدى }، وغرضهما أن يقررا أن القرآن نفسه وصف محمداً صلى الله عليه و سلم بالضلال، وأن هذا الوصف دليل على تأثره بالمعتقدات الوثنية الجاهلية. وهذا تفسير لا أساس له من الصحة، وإنما هو تفسير بالهوى. والمعنى المقصود بهذا الوصف على ما حرره المفسرون : " أن النبي قبل البعثة كان في حيرة من حال أهل الشرك من قومه، وكان يتطلع إلى معرفة الحق، فألهمه اللَّه أن ما كان يدين به قومه من الشرك باطل، وليس المراد بالضلال هنا اتباع الباطل، فإن الأنبياء معصومون من الشرك قبل النبوة باتفاق العلماء.
ولم يختلف علماء أهل السنة حول أن نبينا محمداً صلى الله عليه و سلم لم يصدر منه ما ينافي أصول الدين قبل بعثته، ولم يزالوا يجعلون ما تواتر من حال استقامته ونزاهته عن الرذائل قبل نبوته، دليلاً من جملة الأدلة على نبوته، بل إن القرآن واجه الكافرين بهذا المعنى. قال اللَّه عز وجل : { قُلْ لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلاَ أَدْرَاكُمْ بِهِ، فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُراً مِنْ قَبْلِهِ أَفَلاَ تَعْقِلُون } وقال : { أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ فَهُمْ لَهُ مُنْكِرُون }. ولأنه لم يذكر قط أن المشركين أفحموا النبي صلى الله عليه و سلم ، فيما أنكر عليهم من مساوئ أعمالهم، بأن يقولوا له : فقد كنت تفعل ذلك معنا.(1/41)
وأورد الكاتبان قوله تعالى :{ مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الكِتَابُ وَلاَ الإيمانُ }(3)، وفسراه بما يوافق دعواهما، وفهما منه أن نفي معرفة الكتاب والإيمان عن النبي صلى الله عليه و سلم ، معناه أنه كان ضالاً، وهذا غير صحيح لأن الآية ليست في ذلك المعنى لا من قريب ولا من بعيد، فهي في حقيقتها تَحَدٍّ للكفار الذين جحدوا نبوة محمد صلى الله عليه و سلم ليتأملوا في حال الرسول صلى الله عليه و سلم ، فيعلموا أن ما أوتيه من الشريعة والهداية الدينية والخلقية، لا يجوز أن يكون من عنده، وإنما هو من عند اللَّه، لأنه لم يسبق له مزاولة شيء من ذلك، ومعنى عدم دراية الكتاب والإيمان، عدم تعلق علمه صلى الله عليه و سلم بقراءة الكتب وفهمها، وعدم علمه بما تحتوي حقيقة الإيمان الشرعي من صفات اللَّه وأصول الدين. وهذا المعنى لا يقتضي أن رسول اللَّه لم يكن مؤمناً بوجود اللَّه ووحدانيته قبل نزول الوحي عليه، إذ الأنبياء والرسل معصومون من الشرك قبل النبوة، ولكنهم لا يعلمون تفاصيل الإيمان .
دعوى تسمية أحد أبنائه باسْمٍ وَثَنِيٍّ :
وأما ما ذكراه عن تسمية النبي صلى الله عليه و سلم أحد أولاده عبد مناف، وجعلهما ذلك دليلاً على مشاركته في المعتقدات الوثنية، فلست أدري من أي مصدر استمدا هذا الخبر، لأن المحققين من كتاب السيرة الذين ذكروا أسماء أولاده صلى الله عليه و سلم لم يذكروا هذا الاسم بتاتاً، وإنما ذكروا اسم عبد اللَّه، وهو الذي كان يلقب بالطاهر والطيب.
حديثه عن الجن من رواسب الوثنية :(1/42)
وأما دعواهما كون حديثه صلى الله عليه و سلم عن الجن من مظاهر تأثره بالمعتقدات الوثنية الجاهلية، فإنها دعوى عجيبة، ويبدو أنهما استندا فيها إلى الفكر المادي الذي ينكر وجود كل ما ليس محسوساً. ولا نحتاج إلى الإطالة بمناقشة هذا المبدأ الفكري، ولا بإثبات وجود الجن، ويكفي أن أذكر الباحثين بأن الحديث عن الجن لم يكن أصلاً صادراً عن النبي صلى الله عليه و سلم ، وإنما هو وحي من اللَّه. فقد ورد ذكر الجن في القرآن الكريم في مواضع، وفيه سورة كاملة سميت سورة الجن(1) وفيه ذكر استماع نفر منهم للقرآن، وإيمانهم ودعوة قومهم إلى الإيمان.
ويجب أن نتساءل عن المقياس العلمي الذي تعامل به الباحثان مع القرآن الكريم، وكيف يقبلان بل يستدلان بآياته حيناً، ويرفضان بعض آياته حيناً آخر. لقد اعترفا في بداية حديثهما عن مصادر السيرة النبوية، بأن القرآن هو المصدر الأول، ومر بنا قبل قليل استدلالهما بالقرآن على تأثر النبي صلى الله عليه و سلم بالتصورات الوثنية الجاهلية، فكيف ينكران صحة وجود الجن ويذهبان إلى اعتبار حديثه صلى الله عليه و سلم عنهم من مظاهر تأثره بالمعتقدات الجاهلية ؟ !.
وتمادى الباحثان في الادعاء المتهافت، فزعما أن من مظاهر تأثر النبي صلى الله عليه و سلم بالفكر الوثني السائد بين قومه، تقديس الكعبة قبل أن يربط القرآن بينها وبين إبراهيم عليه السلام، ومنها مشاركته صلى الله عليه و سلم في أكل لحوم الذبائح التي تذبح على الأصنام، ومنها مشاركة المؤمنين في مناسك الحج التي كان يزاولها المشركون.(1/43)
أما تقديس الكعبة فهو سنة قديمة ورثها العرب عن إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام، كان العرب يحتفظون بها في وعيهم ووجدانهم الديني والتاريخي، وتراثهم الأدبي في خطبهم وأشعارهم يتضمن الدليل الواضح على قوة إحساسهم بهذا الانتماء، واتصال اعتزازهم به، ويكفي أن نستشهد هنا بما جاء في مقدمة الخطبة التي ألقاها أبو طالب، عم النبي صلى الله عليه و سلم في حفل عقد نكاحه صلى الله عليه و سلم على خديجة رضي اللَّه عنها حيث قال : >الحمد لله الذي جعلنا من ذرية إبراهيم وزرع إسماعيل، وجعلنا حضنة بيته وسُوَّاس حرمه، وجعل لنا بيتاً محجوجاً وحرماً آمناً..<
وقول الباحثَيْن :" إن محمداً كان يقدس الكعبة قبل أن يربط القرآن بينها وبين إبراهيم "، يوهم أن الارتباط بينها وبين إبراهيم عليه السلام منقطع، أو مجهول حتى نزل القرآن فأحدثه، ويوهم كذلك أن تقديس الكعبة قبل الإسلام كان تقليداً وثنياً، وأن محمداً صلى الله عليه و سلم كان يشارك فيه قومه.
والواقع خلاف ذلك، فالنبي صلى الله عليه و سلم كان يقدس الكعبة بلا شك ولكن تقديسه كان على إرث إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام، والدليل على ذلك ما دل عليه الحديث الصحيح أن النبي صلى الله عليه و سلم كان يطوف بالبيت العتيق قبل فتح مكة، وطاف معه مولاه زيد بن حارثة، فلمس زيد بعض الأصنام، فنهاه رسول اللَّه صلى الله عليه و سلم ثم عاد زيد للمسها ليتأكد من الأمر، فنهاه ثانية فانتهى، حتى كانت البعثة، وقد حلف زيد بأن رسول اللَّه صلى الله عليه و سلم ما مس منها صنماً حتى " أكرمه اللَّه بالبعثة<.
ففي هذا الحديث دليل على أن النبي صلى الله عليه و سلم كان يقدس الكعبة، على طريقة غير طريقة المشركين.
قبول اللحوم المذبوحة على الأصنام :(1/44)
وأما دعوى قبوله صلى الله عليه و سلم ما يقدم إليه من لحوم الذبائح التي تذبح للأصنام، والاستدلال عليها بقوله تعالى : { فَصَلِّ لِرَبِّكَ وانْحَرْ } فدعوى بعيدة عن الواقع، والآية التي استدلا بها لا علاقة لها بهذه المسألة.
ويظهر أن الباحثَيْن بنيا على أساس القطع بكون الآية مكية وذلك غير مسلم، لأن السورة لم يقع الإجماع على كونها مكية، وذهب بعض المفسرين إلى ترجيح كونها مدنية. وعلى هذا فسر سعيد بن جبير من التابعين، الآية المذكورة بأنها أُمِرَ بأن يصلي وينحر هديهُ في الحديبية، وإن كانت السورة مكية، فلعل الرسول حين اقترب وقت الحج، وكان يحج كل عام قبل البعثة، وبعدها، تردد في نحر هداياه في الحج بعد بعثته، وهو يود أن يطعم مساكين أهل مكة، ويتحرج من أن يشارك أهل الشرك أعمالهم، فأمره اللَّه أن ينحر الهدي ويطعم المساكين، أي لا يمنعك نحرهم للأصنام أن تنحر أنت لربك...
ودل الحديث الصحيح كذلك على بطلان دعوى الكاتبَيْن، فقد روى البخاري في مناقب الأنصار أن النبي صلى الله عليه و سلم التقى بزيد بن عمرو بن نفيل بأسفل بلدح قبل البعثة. فقدمت له صلى الله عليه و سلم سُفْرة، فأبى أن يأكل منها. ثم قال زيد : إني لست آكل مما تذبحون على أنصابكم، ولا آكل إلا ما ذكر اسم اللَّه عليه.
وزعم الباحثان أن المؤمنين شاركوا في شعائر الحج على الطريقة الجاهلية، قبل أن يفرض الحج الشرعي، واستدلا على زعمهما بقوله تعالى : { إِنَّ الصَّفَا والمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ البَيْتَ أَوْ اعْتَمَرَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوفَ بِهِمَا} ، وفهما من هذه الآية أنها أجازت للمؤمنين القيام بأداء السعي القديم قبل أن يكتسب أي معنى شرعي إسلامي.(1/45)
وهذا كله باطل وقول بغير علم، فالآية نزلت بسبب تردد بعض المسلمين في أمر السعي بين الصفا والمروة، كما في حديث عائشة ـ رضي اللَّه عنها ـ، قالت : إنما أنزلت هذه الآية في الأنصار، كانوا يهلون لمناة ( اسم صنم لهم) وكانت مناة حذو قديد، وكانوا يتحرجون أن يطوفوا بين الصفا والمروة، فلما جاء الإسلام سألوا رسول صلى الله عليه و سلم عن ذلك فأنزل اللَّه { إن الصفا والمروة }.
وفي البخاري عن أنس، كنا نرى أنهما من أمر الجاهلية، فلما جاء الإسلام أمسكنا عنهما، فأنزل اللَّه، إن الصفا والمروة.
هذا بإيجاز معنى الآية ومقصودها، وفيه كفاية لإبطال مزاعم الباحِثَيْن هنا.
ويجب أن نعود في ختام هذا المبحث إلى تأكيد بطلان كل ما تقدم من ادعاءات على أن النبي صلى الله عليه و سلم " تأثر في سيرته وتعاليمه وعقيدته بالتصورات والمعتقدات الوثنية الجاهلية، وإلى تقرير الحقيقة التي لا تقبل الجدال، وهي أن الأنبياء معصومون مما يخالف أصول الدين، وأن نبينا محمداً صلى الله عليه و سلم نشأ سليم العقيدة، فلم يعرف عنه أنه سجد لصنم أو تمسح به، أو أنه ذهب إلى عراف أو كاهن، أو شارك المشركين في شيء من معتقداتهم.
ويجب أن ننبه كذلك على أن كل هذه المزاعم ما هي إلا محاولة لإثارة الشبهات حول نبوة محمد صلى الله عليه و سلم ، وذلك عن طريق الإيهام بأن تعاليم الإسلام امتداد لتصورات وطقوس وثنية جاهلية.
والفهم الصحيح للإسلام يؤكد أن هذا الدين جاء نقيضاً للواقع الفكري والاجتماعي في الحقبة التي ظهر فيها، وليس امتداداً لتصورات وثنية سابقة. وما هدمه من الواقع الجاهلي أعظم بكثير مما استبقاه.
وإن مراد البَاحِثَيْن من إثارة هذه الادعاءات هو الوصول إلى أن الإسلام امتداد وتطور وانعكاس لبيئة فكرية واجتماعية بمكة، وإلى تقرير بشرية القرآن وإنكار النبوة والوحي.(1/46)
المبحث الثالث
دعوى ظهور النبي بالتدريج من مراحل التأمل والتفكير
نقل الباحثان عن المستشرق كيتاني رأيه في أن " ظهور محمد صلى الله عليه و سلم مصلحاً دينياً تدرج في مراحل طويلة من التأمل والتفكير"، وأيداه فيه، وأشارا إلى أن ما ذكر في السيرة النبوية وعبر عنه " بالتحنث" يؤيد ذلك الرأي.
وأنكرا كل الأحاديث والروايات الصحيحة التي تدل على أنه صلى الله عليه و سلم تلقى الوحي والنبوة من اللَّه تعالى بصورة مفاجئة، في لحظات محددة من حياته.
وزعما أن الآيات التي ذكر فيها نزول القرآن في ليلة القدر، وفي شهر رمضان غامضة، وأنها لا تحتوي على أي إشارة واضحة إلى بداية الوحي.
وذهبا إلى أن الأحاديث التي ذكر فيها أن سورة العلق، وسورة المدثر أول ما أنزل من القرآن مشكوك فيها جداً، وأنكرا حادث فتور الوحي.
وادعيا أن أوائل سورة المدثر وأوائل سورة المزمل، تشير إلى الإعداد لتلقي الوحي على طريقة الكهان.
وصرحا بالميل إلى تصديق ما كان يردده أعداء النبي صلى الله عليه و سلم من اتهامه بأنه مجنون أو ساحر أو كاهن.
وهكذا مضى الباحثان يطبقان قواعد الفكر المادي الوضعي على البعثة النبوية، تلك القواعد التي تأبى أن تسلم بأن يكون ظهور النبي صلى الله عليه و سلم بدعوته الدينية وبتعاليمه المحكمة في العقيدة والشريعة وفضائل الأخلاق، وفي تنظيم حياة الإنسان الفردية والجماعية، حدث بصورة مفاجئة، دون سابق استعداد وبحث وتأمل وتفكير طويل، لأن ذلك مخالف لما قرره الماديون عن تطوير الفكر البشري.(1/47)
ومن أجل إثبات هذا الرأي استغل الباحثان ما ذكر في كتب الحديث والسيرة عن اختلاء النبي صلى الله عليه و سلم للعبادة والتحنث. وهذا الاستغلال ضرب من تلبيس الحق بالباطل. لأن تحنثه صلى الله عليه و سلم وتعبده، وكذا تأمله وتفكيره أثناء اختلائه في غار حراء صحيح، لكن قول الباحثَيْن إن ذلك دليل على التدرج في البحث عن تعاليمه الدينية الإصلاحية، قول باطل. وأول ما يدل على بطلانه الواقع والتاريخ، فليس هناك أي دليل من واقع حياته صلى الله عليه و سلم قبل بعثته، يدل على أنه كان يبحث ويفكر في الإتيان بدين جديد أو بكتاب في التشريع أو على أنه كان يهيء نفسه لتلقي النبوة، فالنبوة لا تنال بالتمرين والاستعداد الشخصي، وإنما هي فضل من اللَّه يؤتيه من يشاء.
إنكار الوحي :
وغرض الباحثَيْن من فكرة التدرج هذه هي إنكار الوحي، وإنكار نبوة محمد صلى الله عليه و سلم . لأنها تؤدي إلى أنه صلى الله عليه و سلم لم يتلق الوحي من عند اللَّه، ولم ينزل عليه الملك بشيء. وهذا الوحي الذي أخبر به إنما هو إلهام كان يفيض من نفسه ووجدانه نتيجة التأمل والتفكير الطويل.
وقولهما إن الآيات التي تذكر أن نزول القرآن كان في وقت محدد : في ليلة مباركة، هي ليلة القدر، غامضة، ليس عليه دليل، فمعناها ومقصودها واضح، وزادته الأحاديث النبوية الصحيحة وضوحاً كما سنرى.
ويجب أن نوضح هنا أن ظاهرة الوحي معجزة خارقة لسنن الطبيعة، ولا صلة لها بالإلهام أو التأمل الباطني أو الاستعداد النفسي. إن الوحي كان يأتي من خارج الذات المحمدية، وموقفه صلى الله عليه و سلم هو موقف المتلقي الذي لم يكن له أي دخل لا في المعاني ولا في الصياغة.(1/48)
إن ظاهرة الوحي ظلت تواجه المستشرقين والماديين فلم يسلموا بها، ولم يتمكنوا من إعطاء تفسير مادي أو نفسي لها، ومع ذلك فهم ماضون في تخبطهم وتهافتهم، ولا شك في أن التهرب من الاعتراف بالنبوة والوحي الإلهي، هو الذي حملهم على ذلك التخبط، فلم يستطيعوا طوال القرنين التاسع عشر والعشرين أن يستقروا فيها على رأي، وكل ما ذكروه عن تدرج النبي صلى الله عليه و سلم في مراحل طويلة من التأمل والتفكير قبل دعوته وبعثته، يدحضه ما دل عليه الحديث الصحيح الذي نص على أن الوحي نزل على النبي صلى الله عليه و سلم بصورة مفاجئة، وأنه صلى اللَّه عليه وسلم فزع فزعاً شديداً، وهذا دليل على أنه لم يكن يتوقعه.
نعم يشير حديث الصحيحين البخاري ومسلم إلى أن أول مابدئ به صلى الله عليه و سلم الرؤيا الصادقة، ثم حبب إليه الخلاء والتحنث في غار حراء، وفي نهاية يوم الاثنين من شهر رمضان جاء جبريل بغتة لأول مرة، وفي رواية البخاري أنه صلى الله عليه و سلم ظل يتعبد ويتحنث حتى جاءه الحق وهو في غار حراء. قال ابن حجر." وفي التفسير، حتى فَجِئَهُ الحق، بكسر الجيم أي بغته.
شهادة عالم مسيحي :
لسنا بحاجة إلى الدخول في مناقشة منكري الوحي والنبوة من المستشرقين والماديين، ولكن أحب أن أقدم لهم شهادة عالم مسيحي منصف هو بشري زخارى ميخائيل، قدم فيها لأبناء ملته أدلة ساطعة على أن القرآن وحي من عند اللَّه، وذلك في كتابه :" محمد رسول اللَّه.. هكذا بشرت الأناجيل ". ومن تلك الأدلة :
.1 أن القرآن يتضمن ما جاءت به الكتب السماوية المنزلة من قبل. وهذا الدليل هو الذي استدل به النجاشي ملك الحبشة حين قرأ عليه جعفر بن أبي طالب القرآن، فقال : واللَّه إن هذا الذي تقرؤه والذي أنزل على عيسى بن مريم ليخرجان من مشكاة واحدة، والاستدلال بالتشابه في الملامح الرئيسَة برهان علمي.(1/49)
.2 لو كان القرآن من عند محمد صلى الله عليه و سلم لما رفع المسيح أو موسى إلى منزلة عالية، بل لكان أقل ما يجب هو الصمت عن معجزات موسى وعيسى وغيرهما كي لا يضع في يد الخصم سلاحاً ماضياً.
.3 لوكان محمد صاحب هذا القرآن، ونسب هذا النظام العظيم إلى اللَّه، أو إلى أي جهة أخرى، لكان ظالماً لنفسه أشد الظلم لأنه يحرم نفسه ذلك المجد الذي يؤهلها له هذا الكتاب العظيم الذي يتحدى الإنس والجن أن يأتوا بمثله، ولكان من حق من يصدر عنه هذا الكتابُ المعجز القاهر أن يكون فوق العالمين، ولذا كان القرآن إلهيَ المصدر.
هذه الأدلة، على بساطتها، تكفي هنا، لأنها مناسبة للطريقة التي يفكر بها منكرو نبوة محمد صلى الله عليه و سلم ، ولأنها شهادة عدو ومنصف، والحق ما شهدت به الأعداء.
ولا نحتاج كذلك إلى الإطالة في الرد على الشك الذي أبداه الباحثان حول كون سورة العلق أول ما نزل من القرآن الكريم، وكون سورة المدثر أول ما نزل بعد فتور الوحي، لأن أحاديث صحيح البخاري تبدد كل الشكوك التي لا تقوم على أسباب واقعية.
وكذلك مسألة فتور الوحي، حقيقة ثابتة بالحديث الصحيح وبإجماع علماء السيرة والمؤرخين.
واختلفت الروايات في مدة فتور الوحي، والراجح أنها أربعون يوماً، والحكمة منه أن يسترد النبي صلى الله عليه و سلم أنفاسه بعد اللقاء الأول بينه وبين ملك الوحي، وأن يحصل له الشوق إلى لقائه مرة أخرى، وإلى استقبال الوحي.
وقول الباحِثَيْن : إن الفتور المزعوم بقي لغزاً، قول غير صحيح، وكذلك قولهما : إنه ناشئ من عمل كُتَّاب السيرة الهادف إلى تركيب صورة تاريخية متسلسلة لحياة محمد صلى الله عليه و سلم ، لأن هذه الأقوال تخيّلات وظنون لا أساس لها، والأحاديث النبوية الصحيحة وإجماع علماء المسلمين، حجة دامغة تزيفها وتبطلها.
دعوى الإعداد لتلقي الوحي على طريقة الكهان :(1/50)
هذا نوع آخر من تلبيس الحق بالباطل، لأن الباحِثَيْن وجدا في أوائل سورة المدثر توجيهات تربوية قصد بها تأديب النبي صلى الله عليه و سلم لتحمل أعباء الرسالة، كما في قوله تعالى :{ يَا أَيُّهَا المُدَّثِّر قُمْ فَأَنْذِرْ، وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ، وثِيَابَكَ فَطَهِّرْ، والرُّجْزَ فَاهْجُرْ، وَلاَ تَمنُنْ تَسْتَكْثِرْ، وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ }.
وكما في قوله تعالى في سورة المزمل :{ يَا أَيُّهَا المزَّمِّلْ قُمْ اللَّيْلَ إلاَّ قَلِيلاً نِصْفَهُ أَوْ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً، أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ القُرْآنَ تَرْتِيلاً، إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً }.
وقول البَاحِثَيْن إن هذا التأديب الرباني وهذه التوجيهات التربوية الإلهية، إعداد لتلقي الوحي على طريقة الكهان، افتراء واضح. فأين هذا من الأساليب الشيطانية الغامضة التي يمارسها الكهان ! أين توحيد اللَّه تعالى بالذكر، وتطهير النفس والسلوك والأفعال. وأين قيام الليل وإحياؤه بالعبادة وترتيل القرآن من أساليب الكهان ؟ ! إنهما طريقان متباينان متباعدان ليس بينهما أي تشابه.
ثم إن تأديب النبي صلى الله عليه و سلم هو تأديب إلهي، وليس استعداداً ذاتياً أو تمريناً شخصياً أو رياضة نفسية لتلقي النبوة، وإنما هو تأديب إلهي لتحمل أعباء الرسالة، لأنها أعباء ثقيلة تستدعي التحلي بصفات خلقية كثيرة من أهمها العزم والصبر. وهناك فرق كبير بين التأديب والتربية لحمل الرسالة، وبين الاستعداد الشخصي لتلقي النبوة أو الإلهام، كما هو معروف عند الكهان والشعراء، وهذا الفرق ليس خفياً على المستشرقين، وإنما يتجاهلون ويتعمدون أن يلبسوا الحق بالباطل، لأنه أخطر طرق محاربة الحق في القديم والحديث.
الإيهام بكون الوحي من الإغماء الجنوني :(1/51)
هذه دعوى رددها كثير من المستشرقين، والباحثان لم يصرحا بها في حديثهما عن الوحي في الموسوعة الإسلامية، ولكن وصفهما حال النبي صلى الله عليه و سلم في لحظات نزول الوحي عليه، بكونه تنتابه نوبات وانفعالات عجيبة وبأن هذه النوبات كانت تنتابه قبل أن يدعي النبوة، يوهم القارئ بأن ما يحدث له صلى الله عليه و سلم أثناء نزول الوحي هو من الإغماء أو الصرع الجنوني.
وهذا ادعاء باطل، لأن الحالة التي تعتريه صلى الله عليه و سلم في تلك اللحظات مخالفة تماماً للإغماء.
وهناك أدلة كثيرة تدحض هذا الادعاء.
.1 إن النبي صلى الله عليه و سلم بشهادة الأعداء قبل غيرهم كان يتمتع ببنية جسمانية قوية، وأوصافه التي تناقلها الرواة تدل على البطولة الجسمانية. والمصاب بالصرع لا يكون على هذه القوة.
.2 إن المريض بالصرع يصاب بآلام حادة في كافة أعضاء جسمه، يحس بها عندما تنتهي نوبة الصرع، ويظل حزيناً كاسف البال. وكثيراً ما يحاول مرضى الصرع الانتحار من قسوة ما يعانون من الآلام. فلو كان ما يعتري النبي صلى الله عليه و سلم عند الوحي صرعاً، لحزن لوقوعه ولسعد بانقطاعه، ولكن الأمر بخلاف ذلك.
.3 إن الثابت علمياً أن المصروع أثناء الصرع يتعطل تفكيره وإدراكه تعطلا تاماً. فلا يدري المريض في نوبته شيئاً عما يدور حوله، ولا ما يجيش في نفسه، كما أنه يغيب عن صوابه. والنبي صلى الله عليه و سلم بخلاف هذا كله كان يتلو على الناس، بعد انتهاء لحظات نزول الوحي، آيات بينات وعظات بليغات، وتشريعاً محكماً، وأخلاقاً عالية، وكلاماً بلغ الغاية في الفصاحة والبلاغة، فهل يعقل أن يأتي المصروع بشيء من هذا، اللَّهم إن هذا لا يجوز إلا في حكم من لا يميز بين الأبيض والأسود، والليل والنهار.(1/52)
.4 لما تقدمت وسائل الطب واستخدمت الأجهزة والكهرباء في التشخيص والعلاج، ثبت بالدليل الذي لا ينقض، أن ما كان يعتري النبي صلى الله عليه و سلم ، ليس من الصرع، وأن كل ما ردده المستشرقون من مزاعم باطل.
حقاً، إن الوحي ظاهرة لم يعرف العلم تفسيرها حتى الآن، ولكن لا عيب على العلم في هذا.
.5 ولا يخفى أن المتشبثين بفرية الصرع هذه لا ينالون من نبوة صلى الله عليه و سلم وحده، وإنما ينالون من جميع أنبياء اللَّه ورسله الذين كانت لهم كتب أو صحف أوحي بها من عند اللَّه. فهل يقولون عن نبيَّي اللَّه موسى وعيسى ما يقولون في خاتم الأنبياء، إن هذا الادعاء لا ينطق به إلا أحد رجلين : رجل مادي حبس نفسه بين أسوار العالم المادي المحسوس، أو رجل مخرب يريد هدم الأديان كلها.
تعليل الجهر بالدعوة تعليلاً نفسانياً:
في سياق إنكار الوحي، ذهب الباحثان إلى أن " من المحتمل أن النبي صلى الله عليه و سلم ، بعد مدة امتدت عدة سنوات، بدأ عالم جديد من الأفكار يغمر نفسه، وبلغ درجة من الاتساع حتى صار مضطراً بدافع قوة لا تقاوم إلى إعلان تلك الأفكار".(1/53)
هذه العبارة صيغت بطريقة مراوغة لتلقي في وهم القارئ أن المعاني والأحكام والحِكَم السامية، والتشريعات والتعاليم الدينية المحكمة في العقيدة والتصور، وفي نظم الحياة الإنسانية، وفي الوجود والكون والإنسان، وفي الخالق وصفاته وحكمته وكماله، كل ذلك مما تضمنه القرآن والحديث والسيرة النبوية، ما هو إلا أفكار فاضت عليه صلى الله عليه و سلم وغمرت نفسه ووجدانه بعد مدة طويلة من التفكير والتأمل، وأن الجهر بتلك الأفكار كان بدافع قوة ذاتية لا تقاوم. هذه التصورات قد تكون مقبولة لتفسير سلوك إنساني عادي، لكنها لا تصلح لتفسير سلوك الأنبياء، فالأنبياء إنما ينهضون برسالة الدعوة والإنذار والتبليغ امتثالاً لأمر اللَّه، وخضوعاً لإرادته التي لا خيار معها، ولو كانت تؤدي إلى التضحية بالنفس، أو تحمل المتاعب الكثيرة.
ونبينا محمد صلى الله عليه و سلم لم يجهر بدعوته بدافع قوة نفسية أو خفية كما يوهم كلام الباحثَيْن، وإنما قام بدعوته جهاراً عندما أنزل عليه قول اللَّه تعالى : { فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنْ المُشْرِكِينَ }، إلى غير ذلك من الآيات القرآنية التى جاء فيها الأمر بالدعوة والتبليغ والجهر بذلك أمراً صريحاً.
وهذه الآيات دليل واضح يبطل مزاعم الباحثين هنا، ويثبت أن جهر محمد صلى الله عليه و سلم بالدعوة كان امتثالاً لهذه الأوامر الإلهية التي كانت تصدر إليه من اللَّه تعالى بصيغة الأمر الصارم فيتلقاه عبده ورسوله المطيع بالجدية اللائقة به، فينهض للتنفيذ على الفور. وكفاح الأنبياء في محاربة الجهل والضلال، وجهادهم الطويل في سبيل هداية البشرية وإنقاذها، وما يلاقون لأجل ذلك كله من عناء ومشقة، ومن ألوان الأذى والعدوان، لا يمكن أن يفسر هذا التفسير النفسي المادي الذي يُسقط من حسابه الوحيَ، والأمرَ الإلهيَّ الذي يأتي من مصدر خارج عن ذات النبي ودوافعها النفسية.(1/54)
الأجزاء الأولى من القرآن ليست قائمة على عقيدة التوحيد :
ذهب الباحثان إلى أن المقاطع الأولى من القرآن لم تكن قائمة على مفهوم عقيدة التوحيد، وإنما ارتكزت على دعوى دينية وأخلاقية قوية مرتبطة على كل حال بظروف حياة محمد في مكة.
وأهم موضوعات هذه الأجزاء من القرآن على زعم الباحثَيْن المسؤولية الأخلاقية، والحكم الأخير في يوم الحساب، ومشاهد أهل النار، وأهل النعيم، وآيات اللَّه في الكون.
هذا ملخص كلام الباحِثَيْن هنا. وهو كلام فيه خلط بين الحق والباطل. فهذه الموضوعات موجودة في الأجزاء الأولى من القرآن، لكن قولهما إن هذه الأجزاء لم تكن قائمة على مفهوم عقيدة التوحيد باطل، ودعوى بلا دليل. وأول ما يبطلها القرآن نفسه، والأجزاء الأولى منه بذاتها. فمفهوم عقيدة التوحيد هو محور الكلمات الإلهية الأولى التي نزل بها جبريل عليه السلام على محمد صلى الله عليه و سلم في غار حراء، وهي قوله تعالى :{ اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الذِي خَلَقَ، خَلَقَ الإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ، اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ الذِي عَلَّمَ بِالقَلَمِ }، فماذا يمكن أن يقول الباحثان المحترمان عن هذه الآيات ؟ فالأمر الأول من القرآن نزل على رسول اللَّه صلى الله عليه و سلم مقروناً بإذن ربه. ومعنى ذلك أن القراءة التي أمر بها، والمعرفة أو العلم الذي أمر بتلقيه، هو العلم الذي يكون في مرضاة اللَّه. هذا الأمر صادر إليه من ربه الذي خلق، خلق الإنسان من علق. وهذه أفعال وصفات إلهية هي جوهر التوحيد. ولو ذهبنا نحلل الصفات الإلهية المنضوية في هذه الكلمات، لطال بنا الحديث، لأن الخالق الذي خلق كل شيء، يجب عقلاً أن يكون حياً مريداً عالماً قادراً حكيماً خبيراً بصيراً فرداً صمداً.
وهنا نجد أنفسنا أمام أمرين : إما أن تكون معلومات الباحثَيْن قليلة، وقدرتهما على فهم القرآن ضعيفة، وإما أن يكونا يتجاهلان الحقيقة، ويتعمدان إخفاءها.(1/55)
ولننظر في الآيات الأولى من سورة المدثر، وهي التي نزلت بعد الآيات السابقة الذكر، قال اللَّه عز وجل :{ يَا أَيُّهَا المُدَّثِّرُ، قُمْ فَأَنْذِرْ، وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ... }(1) فبعد النداء والأمر بالقيام والإنذار، أمر النبي صلى الله عليه و سلم بأن يفرد اللَّه تعالى بالعبادة والتكبير، وهذا أيضاً من صميم عقيدة التوحيد، ومن يعرف أسرار تركيب الجمل في اللغة العربية ـ لغة القرآن ـ يعلم أن تقديم المفعول وتأخير الفعل من قوله تعالى : { وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ } يدل على معنى التخصيص، أي تخصيص اللَّه تعالى بالتكبير لأنه هو اللَّه الواحد المعبود بحق.
هذه هي الأجزاء الأولى من القرآن، ولو قلنا إن القرآن المكي كله يدور حول محور عقيدة التوحيد لما خالفنا الصواب.وكذلك السيرة النبوية وتعاليمه صلى اللَّه عليه وسلم الأولى، كان محورها هو التوحيد. فأول شيء دعا إليه قومه وعشيرته الأقربين، هي كلمة لا إله إلا اللَّه. والمبدأ الإيماني الأول الذي علمه للمؤمنين الذين سبقوا إلى الإيمان، هو توحيد اللَّه تعالى، وتنزيهه عن الشرك. ومما يشهد لرسوخ هذه العقيدة في نفوسهم منذ المرحلة الأولى من عمر الدعوة الإسلامية في مكة، أن بعضهم كان يلاقي التعذيب الشديد على يد كفار قريش ومع ذلك لا تهتز هذه العقيدة من قلبه، ويردد تحت آلام التعذيب كلمة التوحيد : أحد، أحد، أحد. وفي هذا ما يكفي ويغني.
تعليل نفسي لسر قوة النبي صلى الله عليه و سلم :
زعم الباحثان أن قوة محمد صلى الله عليه و سلم تكمن في وعيه بأنه يعيش في عالم فكري أسمى من تفكير المشركين وأنه يدعو إلى أفكار لو اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثلها لا يأتون بها ولو كان بعضهم لبعض ظهيراً.(1/56)
وهذا تفسير نفسي مادي، يسقط الصلة الروحية بين محمد صلى الله عليه و سلم وربه الذي أيده وثبته بتأييده وكلماته، وينطلق من تصور مادي، هو أن القوة المعنوية التي كان يتمتع بها النبي صلى الله عليه و سلم وجعلته يصمد أمام التحديات الكبرى، ويواصل دعوته بإصرار وثبات بالرغم من شراسة أعدائه، وشدة بطشهم ومكرهم، ترجع إلى شعوره الذاتي، واعتقاده الشخصي في نفسه وأفكاره.
والواقع أن النبي صلى اللَّه عليه وسلم يتحلى بصفات ذاتية حميدة كالشجاعة والعزم والصبر ورباطة الجأش، ولكن هذه وحدها لا تفسر سر قوته، فهناك جانب آخر من هذا السر مستمد من صلته القوية بربه ووعيه برسالته، والذي يثبت هذا أنه صلى الله عليه و سلم في مواقف الضعف البشري أمام حالات الشدة والابتلاء الشديد، يتوجه إلى ربه بالعبادة والدعاء سائلاً العون والتأييد والنصر، ولو كانت قوته ذاتية أو شعورية، لكان له سلوك آخر غير هذا، وأدعيته صلى الله عليه و سلم كثيرة محفوظة، ولا حاجة إلى الإطالة بذكرها.
والغريب أن يتجاهل الباحثان كل هذا، ويتجاهلان ما كتبه مستشرقون آخرون في سر عظمة النبي صلى الله عليه و سلم ، ويحسن في هذا المقام أن نقدم مقاطع دالة مما كتبوه عن هذه المسألة، قال الشاعر الفرنسي الشهير الفونس لا مارتن، وهو خبير في الدراسات الشرقية الإسلامية :" إذا كانت قوة الصعود والرمي في علم الطبيعة هي المقياس الصحيح لقوة المصدر الذي تصدر عنه الرمية والقذيفة، فإن العمل الذي يحدثه المحدث في علم التاريخ، وسجل الخلود وكتاب الإنسانية، هو المقياس الصحيح لمقدار الوحي وقوة القلب والوجدان والفكرة السامية التي تنفذ إلى مكان بعيد، وتدوم زمناً طويلاً، وهي لا ريب فكرة قوية صدرت من وجدان قوي".(1/57)
" ولا ريب أن ذلك ينطبق على محمد وجهاده ووثبته على خرافات أمته، وجاهلية شعبه، وبأسه في لقاء ما لقيه من عبدة الأوثان وإيمانه بالظفر وإعلاء كلمته، ورباطة جأشه لتثبيت أركان العقيدة الإسلامية، إن كل ذلك دليل على أنه نبي لم يكن يعيش على باطل ".
وقال توماس كارليل في كتابه " الأبطال " : " لقد أصبح من أكبر العار على أي فرد متمدن من أبناء هذا العصر أن يصغي إلى تلك الاتهامات التي وجهت إلى الإسلام وإلى نبيه. وواجبنا أن نحارب ما يشاع من مثل هذه الأقوال السخيفة المخجلة، فإن الرسالة التي أداها ذلك الرسول الكريم مازالت السراج المنير لملايين من الناس. والرجل العظيم في نظري مخلوق من فؤاد الدنيا وأحشاء الكون، فهو جزء من الحقائق الجوهرية للأشياء، ومحمد كذلك، وكان فوق ذلك الرجل العظيم الذي علمه اللَّه العلم والحكمة، وما كلمته إلا صوت صادق صادر من السموات العلا".
إن سر قوة محمد صلى الله عليه و سلم مستمد من عالم الغيب، من قوة الواحد القهار الذي أيده بنصره وبالمؤمنين، والقرآن الكريم والسيرة النبوية حافلان بالشواهد الدالة على أن اللَّه عز وجل معه بتأييده وتثبيته في كل موقف وفي كل خطوة.
دعوة الإسلام محصورة فى إنذار العرب :
زعم الباحثان أن النبي صلى الله عليه و سلم لم تكن لديه طوال المرحلة المكية من دعوته فكرة تأسيس دين جديد، وأن مهمته كانت تنحصر في إنذار العرب الذين لم يبعث فيهم نبي من قبل، وساقا آيات من القرآن ورد فيها الأمر بالإنذار، وأعطىا تفسيراً مستبعداً للفظ "الأمي" الذي وصف به النبي صلى الله عليه و سلم في القرآن، وجعلا ذلك دليلاً على دعواهما، وهو في الواقع ليس دليلاً مقنعاً.(1/58)
أما الآيات القرآنية التي استدلا بها، فمنها على وجه الاختصار : قوله تعالى :{ يَا أَيُّهَا المُدَّثِّرُ، قُمْ فَأَنْذِرْ }(1)، وقوله عز وجل :{ إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشَاهَا }(2)، وقوله سبحانه: {وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الطُّورِ إِذْ نَادَيْنَاوَلَكِنْ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْماً مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذيرٍ مِنْ قَبْلِكَ }(3)، وقوله تعالى: { أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ بَلْ هُوَ الحَقُّ مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْماً مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ }.
هذه الآيات الكريمات قدمها الباحثان بقصد إثبات دعواهما أن مهمة الرسول في المرحلة المكية ودعوته، كانت محصورة في إنذار العرب، وأنه لم يكن يفكر في تأسيس دين جديد. ولسنا بحاجة إلى الوقوف هنا طويلاً لعرض أقوال المفسرين في الآيات التي استدلا بها، فليس منهم أحد ذهب إلى مثل هذا التفسير، ويكفي أن أقتبس فقرة من كلام أحد المفسرين المحدثين، عند تفسير الآية الأخيرة، قال : "والمقصود تذكيرهم (كفار العرب) بأنهم أحوج الأقوام إلى نذير، إذ لم يكونوا على بقية من هدى. وهذا التعليل في قوله تعالى : { لتنذر قوما...} لا يقتضي اقتصار الرسالة الإسلامية على هؤلاء القوم، ولا ينافي عموم الرسالة لمن أتاهم نذير من غير العرب، ودلائل عموم الرسالة متواترة من القرآن والسنة ومن عموم الدعوة".(1/59)
ويجب هنا أن نوضح أن الآيات التي تدل على عموم الرسالة وعالمية الإسلام نزلت في المرحلة المكية نفسها، ومن تلك الآيات قوله تعالى : { تَبَارَكَ الذِي نَزَّلَ الفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمينَ نَذيراً } وقوله : { وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ كافَّةً لّلِنَّاسِ بَشِيراً وَنَذيراً وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ }(2)، وقوله تعالى : { قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَميعاً }، وقوله سبحانه : { وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا القُرْآنُ لأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ }. وقوله : { وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ }.
وفي الحديث الذي رواه البخاري في صحيحه، عن النبي صلى اللَّه عليه وسلم قال :" أعطيت خمساً لم يعطهن أحد من قبلي...، ومن الخمسة كان كل نبي يبعث إلى قومه خاصة، وبعثت إلى الناس كافة ".
وإذا كنا قد عرضنا هذه الآيات القرآنية لنبين عالمية الإسلام، ونؤكد عموم الرسالة الإسلامية مجاراةً للباحِثَيْن اللذين تجاهلا هذه الآيات، وسلكا في بحثهما الطريقة الانتقائية المنافية لقواعد البحث العلمي، فإننا نحب هنا أن نقدم شهادات لمفكرين غربيين، شهدوا شهادة الحق في دين الإسلام، ومن هؤلاء الكاتب الإنجليزي برناردشو الذي قال : " لقد وضعت دائماً دين محمد موضع الاعتبار السامي بسبب حيويته المدهشة، فهو الدين الوحيد الذي يلوح لي أنه حائز أهلية الهضم لأطوار الحياة المختلفة بحيث يستطيع أن يكون جذاباً لكل جيل من الناس، ولقد تنبأت بأن دين محمد سيكون مقبولاً لدى أوروبا غداً، وقد بدأ يجد قبولاً لديها اليوم".(1/60)
وقال رينان :" لم أدخل مسجداً قط إلا شعرت بانفعالات نفسية وأسف بالغ حين أذكر أنني لست مسلماً، وإنني لعلى يقين من أن في أوروبا وأمريكا آلافاً يتمنون مخلصين أن يعتنقوا الإسلام، ولكن تعوزهم الشجاعة ليعلنوا ما يخفون، وإني لأقولها كلمةَ حقٍّ مدويةً بأنني ارتضيت الإسلام دينا".
والحقيقة أن الإسلام اختص بمزايا تجعله جذاباً منها :
.1 تجاوبه مع الفطرة الإنسانية ووفاؤه بحاجات العقول والقلوب.
.2 نشر روح الأخوة بين أتباعه.
.3 روح التسامح التي ينشرها بين الطوائف كافة.
وفي ختام هذه الفقرة أشعر بواجب العودة إلى عبارة الباحِثَيْن التي قالا فيها :" إن محمداً لم يكن يفكر في تأسيس دين جديد"، لأنها عبارة مراوغة ملغومة إذا صح التعبير، فهي من جهة توهم أن محمداً صلى اللَّه عليه وسلم كان مفكراً مصلحاً، ولم يكن نبياً، وأن دعوته تتغير بتغير الظروف والأوضاع المحيطة بها، لذلك بدأت دعوة إصلاحية محلية محدودة، ولمَّا وجد النبي صلى الله عليه و سلم الآفاق ممهدة أمامه تحول إلى التفكير في تأسيس دين جديد.
وكل هذه تخيّلات وأوهام سطرها الباحثان باسم الفكر التاريخي الوضعي، ولو أخلصا لمبادئ هذا الفكر لوجدا في تلك المعارضة القوية والعداوة الشديدة التي قابل بها أهل مكة وما حولها دعوة الإسلام، أوضح الأدلة على وعيهم بأن الإسلام دين جديد في عقيدته وشريعته وأخلاقه، وموقفهم من عقيدة التوحيد التي عبروا
عن استغرابهم واندهاشهم الشديد حين سمعوها كما أخبر اللَّه عنهم في القرآن بقوله : { أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهاً وَاحِداً إِنَّ هَذَا لَشَيءٌ عُجَابٌ وانْطَلَقَ المَلأُ مِنْهُمْ أَنْ امْشُوا واصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ مَا سَمِعْنَا بِهَذاَ فِي الملة الآخرة، إِنْ هَذَا إلا اختلاق }.(1/61)
وكذلك الإنكار الشديد الذي قابلوا به مبدأ البعث بعد الموت، كما أخبر اللَّه عنهم في قوله :{ بَلْ عَجِبُوا أَنْ جاَءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ فقال الكَافِرُونَ هَذَا شَيْءٌ عَجِيبٌ، أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ }.
وفي قوله سبحانه :{ هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلَى رَجٌلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذَا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ أَفْتَرى عَلَى اللَّه كَذِباً أمْ بِهِ جِنَّةٌ }(3).
فهذا الدين منذ ظهوره أحدث انقلاباً جذرياً في حياة الفرد والجماعة، بحيث تغيّر سلوك الأفراد اليومي وعاداتهم المتأصلة تغيّراً كلياً، كما تغيرت مقاييسهم وأحكامهم ونظرتهم إلى الكون والحياة والإنسان، وكذلك تغيّرت بنية المجتمع بصورة واضحة.
ففي عالم العقيدة نقل الإسلام العربيَّ والوثنيين كافة، من عبادة الأشياء المحسوسة، إلى عبادة اللَّه الواحد الذي ليس كمثله شيء، وفي سلوك الإنسان أحدث الإسلام تغييراً جذرياً. فلم يعد العربيُّ كما كان متفلتاً من ضوابط القانون في معاملاته وعلاقاته الاجتماعية، بل صار منضبطاً بضوابط الشريعة في جزئيات حياته من أخلاق وعادات.
تفسير مستبعد لمعنى " النبي الأمي "
في سياق البحث عن الأدلة لإثبات محلية الدعوة الإسلامية في المرحلة المكية، لم يجد الباحثان سوى لفظ الأمي الذي وصف به النبي صلى الله عليه و سلم في القرآن، كما في قوله تعالى : { النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ والإِنْجِيلِ }، ففسراه تفسيراً مستبعداً ، وقالا فيه : " في هذا السياق، أي محلية الدعوة الإسلامية في المرحلة المكية، يفهم جيداً معنى وصف الأمي الذي وصف به النبي صلى الله عليه و سلم في سورة الأعراف، ومعناه الذين لم ينزل فيهم كتاب من عند الله وهو نقيض أهل الكتاب".(1/62)
واستبعدا أن يكون النبي صلى الله عليه و سلم يجهل القراءة والكتابة، وأن عمله في التجارة يفرض عليه أن تكون له معرفة بالقراءة والكتابة، بالعربية.
وزعما أن هذا اللفظ يحتمل أن تكون له دلالة على أن النبي صلى الله عليه و سلم لم تكن له قدرة على قراءة كتب اليهود والنصارى.
وهكذا ذهبا إلى تفسير الأمي بمعنى الجهل بالدين ليصلا إلى أن معنى النبي الأمي هو النبي المرسل إلى الأميين خاصة ، وهم العرب الذين لم ينزل إليهم كتاب من عند الله.
وهذا تفسير غير معروف ، وفيه اعتداء على الحقيقة، لأن القرآن أكد بصريح العبارة أن النبي صلى الله عليه و سلم كان أُميّاً لا يقرأ ولا يكتب، وذلك في قوله تعالى : { ومَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلاَ تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لارْتَابَ المُبْطِلُون}.
والأمية في حقه صلى الله عليه و سلم ، وصف كمال، خصه الله به إتماماً للإعجاز العلمي والعقلي ولدلائل نبوته. لأن الكتاب العظيم الذي جاء به، اشتمل من علوم الدين والدنيا والكون والآخرة، ومن علوم الشريعة والأخلاق وسير الأمم وقصص الأنبياء، ما يستحيل أن يأتي به رجل أمي، بل أن يأتي به عقل بشري مهما تبحر في العلوم. والتقدم العلمي الحديث بعد أن قطع خطوات كبيرة في اكتشاف حقائق الكون والكائنات، لم يزد هذا الدليل إلا قوة وصلابة.(1/63)
والتدبّر في معاني الآية السابقة، يوضح توضيحاً أكثر، تهافتَ رأي الباحِثَيْن، فقوله تعالى : {وما كنت تتلو من قبله من كتاب..} نَفَى نفياً قاطعاً أي قدر من معرفة القراءة، لأن"ما" تستعمل لتأكيد النفي، وإدخال (من) على النكرة الواقعة في سياق النفي يفيد الاستغراق، أي ليست له معرفة بقراءة أي كتاب سواء بالعربية أو بغيرها، وقوله تعالى : { ولا تخطه بيمينك } فيه نفيٌ صريحٌ لمعرفة الكتابة، وقوله : { بيمينك }، قَطَعَ كلَّ احتمال، فكانت الآية دقيقة في عبارتها، بحيث لم تترك مجالاً لأي تأويل.(1/64)
المبحث الرابع
التشكيك في أحداث السيرة قبل الهجرة
نشر الباحثان ظلال الشك على أهم أحداث السيرة النبوية قبل الهجرة، فمالا إلى إنكار صحة أخبار الأذى والمضايقة والعدوان والعداوة الشديدة التي قابل بها كفار قريش دعوة النبي صلى الله عليه و سلم وضروب التعذيب الذي ألحقوه بالمؤمنين الأوائل، ومالا كذلك إلى إنكار الهجرة إلى الحبشة وحصار بني هاشم في شعبهم بمكة، وكل ما قدما من أدلة على ذلك هو أن الروايات التي تناقلتها كتب السيرة عن تلك الأحداث غامضة، وأن القرآن سكت عنها.
محاربة الدعوة الإسلامية :
وإن الباحث المنصف ليعجب من تعامل الباحثَيْن مع هذه الأحداث، وإنكارهما ماهو معروف متواتر في كتب التاريخ والسيرة. بل ما تكرر ذكره في القرآن الكريم، فقد نص القرآن على عداوة كفار قريش للنبي صلى الله عليه و سلم في آيات كثيرة، فتحدث عن سخريتهم واستهزائهم، وتوعد بالعذاب أعداءه مثل عمه أبي لهب والوليد بن المغيرة وأبي جهل. وسكوت القرآن عن تفصيلات تلك العداوة والخصومة الثابتة، ليس ذريعة للشك في صحتها، لأن القرآن ليس كتاباً في تاريخ حياة محمد صلى الله عليه و سلم كما يدعي المستشرقون.
وفي كل من البخاري ومسلم باب خاص بما لقي النبي صلى الله عليه و سلم من الأذى على يد المشركين ولسنا بحاجة إلى الإطالة بذكر الأحاديث.
وإذا ساغ لإنسان أن يشك في مثل هذه الأحداث التاريخية المتواترة، جاز له أن يشك في أشهر الأحداث التاريخية العالمية، وحينئذ لا يصح في أذهان الناس شيء من الحقائق.
الهجرة إلى الحبشة :
ومع تزايد الابتلاء والأذى والتعذيب على المسلمين بمكة، أذن لهم النبي صلى الله عليه و سلم في الهجرة إلى الحبشة، وورد في كتب السيرة أنه قال لهم : لو خرجتم إلى أرض الحبشة، فإن بها ملكاً لا يظلم عنده أحد، فخرج عند ذلك المسلمون إلى أرض الحبشة فراراً بدينهم.
ولا شك في أن هجرة الوطن تصعب على الإنسان، ولا يلجأ إليها إلا مضطراً، فلولا الأذى والابتلاء الشديد الذي بلغ بالمسلمين في مكة مبلغاً لا يطاق. ما هجروا وطنهم، وحملوا أنفسهم على العيش في وسط غريب يخالفهم في الدين واللغة.
وخبر هذه الهجرة صحيح متواتر، ثبت بالأحاديث النبوية الصحيحة وبالروايات التاريخية الثابتة. ويبدو أن الباحثَيْن أحسا بأن إنكار مثل هذا الحدث يصادم الحقيقة التاريخية، فنقلا عن مستشرق آخر افتراضات باطلة، ادعى فيها بأن نوعاً من الانقسام وقع داخل الجماعة المسلمة فكان سبباً في الهجرة إلى الحبشة، أو أن بعض المهاجرين هاجروا لأغراض تجارية، وهذه ادعاءات ومجازفات لا أساس لها، وإنما هي أوهام أريد بها إلغاء الدافع الديني الروحي الذي كان وراء تلك الهجرة، لأن الباحث المؤمن بالفلسفة المادية، لا يستطيع أن يصدق أن سلوك المسلم له دوافع مثالية لا يفسر إلا بها.
تفسير مغرض لقصة الغرانيق :(1/65)
يرتبط بالهجرة إلى الحبشة في بعض كتب السيرة والتفسير القرآني، قصة تعرف بقصة الغرانيق، وملخصها ـ كما في تفسير ابن جرير الطبري ـ "أن النبي صلى الله عليه و سلم قرأ سورة "النجم" في الحرم المكي بحضور المسلمين وبعض كفار قريش، فلما بلغ قوله تعالى :{ أَفَرَأَيْتُمْ اللاَّت والعُزَّى ومَنَاةَ الثَّالِثَةَ الأُخْرَى }، ألقى الشيطان على لسانه كلمات هي: تلك الغرانيق العلى وإن شفاعتهن لترتجى فقال المشركون : ما ذكر آلهتنا بخير قبل اليوم فسجد النبي صلى الله عليه و سلم وسجد معه الحاضرون بمن فيهم من المشركين.
وذكر البخاري في صحيحه هذه القصة فاقتصر على الجزء الصحيح منها، وهو قراءته صلى الله عليه و سلم سورة النجم، وسجوده في ختامها، وسجود مَن خلفه معه.
فأما سجود المسلمين، فامتثالاً لأمر اللَّه واقتداء برسوله صلى الله عليه و سلم ، وأما سجود المشركين فَلِمَا سمعوا من أسرار البلاغة الفائقة وعيون الكلام الفصيح، وليس لأن الرسول صلى الله عليه و سلم ذكر آلهتهم بخير، وإنما دُسَّ ذلك في القصة افتراء.
وسبب ذلك الافتراء والدس أن الذين سجدوا مع النبي صلى الله عليه و سلم من المشركين توالى عليهم اللوم من أهل الشرك الذين لم يحضروا، فعند ذلك كذبوا على رسول اللَّه، وافتروا عليه أنه عطف على أصنامهم بكلمة تقدير، ليعتذروا بذلك عن سجودهم.
هذا ملخص القصة ورأي المحققين فيها، ومعظم كتاب السيرة النبوية من الأوروبيين، قبلوها بجميع تفصيلاتها، واستغلوها للطعن والتشكيك.(1/66)
أما الكاتبان اللذان كتبا عن مادة محمد نبي الإسلام في الموسوعة الإسلامية، فقد استغلا القصة استغلالاً أسوأ وأشد مكراً، فأنكرا في البداية أن تكون قصة واقعية. لكنهما استدركا بعد ذلك لتقرير وجود بذور واقعية وراءها، وجعلا منها مثالاً آخر لتأثر النبي صلى الله عليه و سلم بالتصوّرات الوثنية ومشاركته مع كفار قريش في بعض معتقداتهم، وذكرا أن إلقاء مسؤولية الانحراف عن عقيدة التوحيد على الشيطان ـ كما رأينا في ملخص القصة ـ هو نوع من اختزال أحداث السيرة، ويريدان باختزال أحداث السيرة أن وجود مظاهر الوثنية في حياة النبي وسيرته دامت مدة طويلة، فاختزلها كتاب السيرة في قصة كهذه.
وقد فصلنا الكلام في المباحث السابقة عن عصمة النبي صلى الله عليه و سلم من الشرك، وكل ما ينافي التوحيد قبل البعثة وبعدها، فلا حاجة إلى إعادته، وبيّنا كذلك أن ذكر الأصنام إنما دس في القصة، فهو باطل، وما بني على الباطل فهو باطل.
إنكار حصاربني هاشم ومقاطعتهم :
ذكرت كتب السيرة والحديث أن قريشاً لما رأت أصحاب رسول اللَّه قد كثروا وعزوا بعد إسلام حمزة بن عبد المطلب وعمر بن الخطاب، وأن المهاجرين إلى الحبشة قد نزلوا أرضاً أصابوا فيها أمناً وقراراً، أجمعوا أن يقتلوا النبي صلى الله عليه و سلم ، فبلغ ذلك أبا طالب فجمع بني هاشم وبني المطلب فأمرهم فأدخلوا رسول اللَّه ـ صلى اللَّه عليه وسلم ـ شعبهم، ومنعوه ممن أرادوا قتله.
وهذا الحدث صحيح، ثبت بالأحاديث الصحيحة التي أخرجها أصحاب الكتب الصحاح كالبخاري ومسلم.
ومع ذلك تجرأ الباحثان فادعيا صعوبة تصديق الحادث وتوضيحه، وزعما أن كل ما يتعلق به من روايات مبالغ فيه، وليس لديهما من دليل سوى سكوت القرآن عن ذكره.(1/67)
وعلى الرغم من الاختلاف في رواية تفاصيل هذا الحادث، فإن أصله ثابت من حديث أبي هريرة رضي اللَّه عنه الذي أخرجه البخاري(1)، قال : قال لنا رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم، ونحن بمنى :" نحن نازلون غداً بخيف بني كنانة حيث تقاسموا على الكفر"، وذلك أن قريشاً وبني مخزوم تحالفت على بني هاشم وبني المطلب أن لا يناكحوهم ولا يبايعوهم حتى يسلموا إليهم رسول اللَّه.
وإنكارالباحثين أو تشكيكهما في هذا الحادث يدخل في سياق التقليل من مقاومة قريش للدعوة الإسلامية في المرحلة المكية، وهو رأي بَيَّنَّا بطلانه سابقاً.
القسم الثاني
المرحلة المدنية من سيرة النبي صلَّى اللَّه عليه وسلم
المبحث الأول
أخطاء الموسوعة في الحديث عن الهجرة النبوية
.1 أهداف أهل المدينة سياسية :
ذكرت الموسوعة الإسلامية أن أهل المدينة لم يكونوا يرغبون في استمالة واعظٍ مُلْهَمٍ إلى مدينتهم، بقدر ماكانوا يرغبون في كسب زعيم سياسي قادر على إصلاح علاقاتهم التي فسدت بسبب الحروب القبلية التي بلغت ذروتها في موقعة بعاث.
وفي بداية مناقشة هذه النقطة، يجب أن نوضح أن الغاية التي أرادت الموسوعة بلوغها، هي الإيحاء بأن الدوافع التي دفعت أهل المدينة إلى قبول دعوة الإسلام والإيمان برسول اللَّه صلى الله عليه و سلم ، والاستعداد لاستقباله في مدينتهم واحتضان دعوته، وحمايته من أعدائه، هي دوافع سياسية دنيوية صرف، لا مكان بينها للأهداف الدينية، ولا للدوافع الإيمانية.(1/68)
مثل هذا التحليل المادي الوضعي الذي يسقط من حسابه الدوافع الروحية، وابتغاء وجه اللَّه ومرضاته، والدار الآخرة، وما أعد اللَّه فيها من الثواب، لا يصلح لتفسير أعمال المؤمنين وسير الأنبياء، وعلى هذا فإن أهداف أهل المدينة من الموافقة على هجرة الرسول صلى الله عليه و سلم إلى المدينة المنورة، يصح أن تكون أهدافاً دينية ودنيوية معاً. ولعل الأوضاع السياسية التي كانت عليها المدينة في ذلك الوقت كانت سبباً هيأه اللَّه تعالى لإسلامهم، ولتمهيد الهجرة النبوية إليهم.
وقبل هذه الأسباب والدوافع كلها، هناك إرادة اللَّه تعالى وتدبيره الحكيم، ورعايته لرسوله الكريم، والمراد من هذا أن الهجرة النبوية، أولا وقبل كل شيء، كانت بإذن اللَّه تعالى، كما دل على ذلك الحديث النبوي الصحيح الذي رواه الشيخان البخاري ومسلم، وفيه أن النبي صلى الله عليه و سلم قال : "أُريت في المنام أني أهاجر من مكة إلى أرض بها نخل، فذهب وهلي إلى أنها اليمامة، فإذا هي المدينة (يثرب)".
غير أن هذا السبب الغيبي المتعلق بإرادة اللَّه تعالى لا يتنافى مع وجود أسباب موضوعية ناشئة عن أحوال أهل المدينة الذين أنهكتهم الصراعات القبلية، وأقلقتهم التوقعات المسستقبلية.
وقد أوضح ابن إسحاق جانباً من هذه الأسباب الموضوعية في كلام طويل هذا ملخصه : وكان من أسباب مسارعتهم إلى قبول دعوة الإسلام، أن يهوداً كانوا يساكنوهم في المدينة، وكانوا أهل كتاب وعلم، وكانوا هم أهل شرك وأصحاب أوثان، وكانت تقع بين اليهود والأوس والخزرج وقائع وحروب، وكانت الغلبة تكون للعرب، وكان اليهود يقولون لهم : إن نبياً مبعوثاً قد أظل زمانه سنتبعه ونقتلكم معه قتل عاد وإرم. فلما كلم رسول اللَّه صلى الله عليه و سلم أولئك النفر ودعاهم إلى اللَّه، تساهموا وقال بعضهم لبعض : تعلمون واللَّه أنه النبي الذي توعدكم به يهود، فلا يسبقنكم إليه.(1/69)
"وقالوا له : إنا تركنا قومنا ولا قوم بينهم من العداوة والشر ما بينهم، وعسى أن يجمعهم اللَّه بك، فإن يجمعهم اللَّه عليك فلا رجل أعز منك".
إن هذه الأسباب التي ذكرها ابن إسحاق أسباب موضوعية قائمة بدون شك، لكن الاطلاع على الأحاديث التي ورد فيها كلام أهل المدينة في ساعة مبايعة رسول اللَّه صلى الله عليه و سلم في العقبة الثانية، يدل على أن هناك دوافع إيمانية قوية، لقد ورد أنهم سألوا النبي صلى الله عليه و سلم على ماذا يبايعونه. فقال :" تبايعوني على السمع والطاعة في المنشط والكسل وعلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأن تقولوا لله، لا تخافون في اللَّه لومة لائم، وعلى أن تنصروني فتمنعوني، إذا قدمت عليكم، مما تمنعون منه أنفسكم وأزواجكم وأبناءكم ولكم الجنة." فبايعوه.
" وأخذ بيده أسعد بن زرارة، وهو أصغرهم، فقال : رويداً يا أهل يثرب، فإنا لم نضرب إليه أكباد الإبل إلا ونحن نعلم أنه رسول اللَّه، وأن إخراجه اليوم مفارقة العرب كافة، وقتل خياركم، وأن تعضكم السيوف، إما أنتم قوم تصبرون على ذلك وأجركم على اللَّه، وإما أنتم تخافون من أنفسكم خبيئة فتبينوا ذلك فهو أعذر لكم عند اللَّه، قالوا : أمط عنا ياسعد، فواللَّه لا ندع هذه البيعة أبداً ولا نسلبها أبداً، فبايعناه فأخذ علينا وشرط، ويعطينا على ذلك الجنة ".
فالبيعة كانت إيمانية بالدرجة الأولى، دافعها الإيمان واليقين بأن محمداً رسول اللَّه، تجب طاعته في المنشط والمكره، وعبارات أسعد بن زرارة طافحة بروح الإيمان، نابعة من الوعي التام بما يلزم عنها من تبعات وتضحيات جسام، لقد بايعوه لأنهم يعلمون أنه رسول اللَّه، لا لأنهم رأوا فيه مخايل الزعامة السياسية الذكية، كما زعمت الموسوعة الإسلامية.
.1 أهل مكة لم يمنعوا النبي صلى الله عليه و سلم من الهجرة :(1/70)
هذا ما زعمته الموسوعة الإسلامية، وعللت زعمها بأن المكيين كانوا لا يرون فيه صلى الله عليه و سلم تهديداً حقيقياً، سواء أَكان في مكة أم في المدينة.
وهذا زعم باطل، لأنه يخالف ما ثبت بالأدلة الصحيحة. لقد ثبت أن قريشاً سعت بشتى الطرق إلى عرقلة الهجرة إلى المدينة، وذلك بإثارة المشاكل ووضع العراقل أمام المهاجرين، مرة بحجز أموالهم ومنعهم من حملها، ومرة بحجز زوجاتهم وأطفالهم، وثالثة بالاحتيال لإعادتهم إلى مكة.
ويجب أن أوضح أن الموسوعة الإسلامية تجاهلت الأحاديث النبوية الصحيحة، والروايات التاريخية الثابتة، وسلكت الطريقة الانتقائية المنافية لقواعدالبحث العلمي. فلم تذكر شيئا من الأخبار التي تدل على أن النبي صلى الله عليه و سلم كان يحيط أخبار الهجرة بالسرية التامة، وأن المهاجرين كانوا يتسللون فرادى، أو مجموعات صغيرة، ولم تذكر شيئاً عما تعرض له بعض المهاجرين الذي انكشف أمر هجرتهم قبل أن يتمكنوا من مغادرة مكة من الإساءة والأذى. ولم تذكر تآمر قريش على قتل النبي صلى الله عليه و سلم في الليلة التي هاجر فيها، ولم تذكر ما ملأ نفوس القرشيين من حنق وسعار بعد أن انكشف لهم أنه صلى الله عليه و سلم غادر مكة، وما قاموا به من سعي وما بذلوه من مكافأة مالية كبيرة لمن يلحق به أو يدلهم عليه.
تجاهلت الموسوعة الإسلامية هذه كلَّ هذه الوقائع، وقررت بكل بساطة أن قريشاً لم تعر أي اهتمام لهجرة النبي صلى الله عليه و سلم وأصحابه، وذلك مخالف لما نصَّ عليه القرآن الكريم من التآمر على قتله صلى الله عليه و سلم ، وذلك في قوله :{ وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ واللَّهُ خَيْرُ المَاكِرِينَ }.(1/71)
وعن ابن عباس ـ رضي اللَّه عنهما ـ قال في تفسير هذه الآية : تشاورت قريش ليلة بمكة، فقال بعضهم : وإذا أصبح فأثبتوه بالوثاق يريدون النبي صلى الله عليه و سلم ، وقال بعضهم : بل اقتلوه، وقال بعضهم بل أخرجوه، فأطلع اللَّه تعالى نبيه على ذلك، فبات عليٌّ على فراش النبي صلى الله عليه و سلم تلك الليلة، وخرج النبي صلى الله عليه و سلم حتى لحق بالغار، وبات المشركون يحرسون علياً، يحسبونه النبي صلى الله عليه و سلم .
"فلما أصبحوا ثاروا إليه، فلما رأوه عليّاً رد اللَّه مكرهم فقالوا : أين صاحبك هذا ؟ فقال : لا أدري فاقتصوا أثره، فلما بلغوا الجبل خلط عليهم، فصعدوا في الجبل، فمروا بالغار فرأوا على بابه نسج العنكبوت، فقالوا : لو دخل ههنا لم يكن نسج العنكبوت على بابه فمكث فيه ثلاث ليال".
.2 التشكيك في اختفاء النبي صلى الله عليه و سلم في الغار :
ومن مزاعم الموسوعة الإسلامية المتصلة بحادث الهجرة النبوية قولها : إن القصة المروية التي زينت بالتفصيلات الأسطورية المتأخرة، قصة مكوث النبي وأبي بكر بمكة حتى غادرها جميع المسلمين بسلام، واختفائهما في غار ثور، قصة ليست واقعية، وإنما هي تشخيص متأخر لمعنى الآية التي ذكر فيها ما يدل على الاختفاء في ذلك الغار، وهي قول اللَّه عز وجل : { إِلا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الذِينَ كَفَرُوا ثَانِي اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الغَارِ }.
هذا التشكيك لا وزن له بإزاء شهادة القرآن الكريمة الصريحة، فالآية صريحة واضحة، لا غموض فيها كما تدعي الموسوعة الإسلامية، ثم إن الأحاديث النبوية الصحيحة والروايات التاريخية المتواترة، أدلة حاسمة لا تدع مجالا لأي شك.(1/72)
المبحث الثاني
أخطاء في وصف سيرة النبي صلى الله عليه و سلم مع يهود المدينة
.1 التشكيك في تاريخ كتابة المعاهدة معهم :
بعد أن ذكرت الموسوعة ما ينطوي عليه عقد تلك المعاهدة من سياسة نبوية حكيمة، وبعد أن أشارت إلى أن ابن إسحق حفظ نص تلك المعاهدة، قالت : هذا النص يبدو أنه لا يرجع في تاريخ كتابته إلى السنة الأولى من الهجرة، لأنه يعكس العلاقات المتوترة بين النبي صلى الله عليه و سلم واليهود.
كانت المدينة المنورة، حين حلَّ بها النبي صلى الله عليه و سلم تضم فصائل اجتماعية متنوعة، تشمل الأنصار والمهاجرين والمنافقين والمشركين، وجماعات كبيرة من يهود، فقام النبي صلى الله عليه و سلم بتنظيم العلاقات بين هذه الفصائل، فكتب كتاباً بين المهاجرين والأنصار، وكتب كتاباً ثانياً بين المسلمين واليهود، وهذه الوثيقة سميت في المصادر القديمة بالكتاب أو الصحيفة، وأطلقت عليها البحوث الحديثة اسم دستور المدينة، لأنها اشتملت على بيان التزامات جميع الأطراف داخل المدينة، وعينت الحقوق والواجبات.
ـ تاريخ كتابة وثيقة المعاهدة مع اليهود :
رجَّح أحد الدارسين المعاصرين أن الوثيقة في الأصل وثيقتان، ثم جمع المؤرخون بينهما : إحداهما تتناول موادعة الرسول صلى الله عليه و سلم لليهود، كتبت قبل موقعة بدر الكبرى، والثانية توضح التزامات المسلمين من مهاجرين وأنصار وحقوقهم وواجباتهم.
وقال :" ويترجَّح عندي أن وثيقة موادعة اليهود كتبت قبل موقعة بدر الكبرى، أما الوثيقة الثانية فكتبت بعدها".
وقد صرحت المصادر القديمة بما يؤيد هذا الترجيح، قال أبو عبيد القاسم بن سلام :" إن الوثيقة كتبت حدثان مقدم النبي صلى الله عليه و سلم المدينة، قبل أن يظهر الإسلام ويقوى، وقبل أن يؤمر بأخذ الجزية من أهل الكتاب".(1/73)
ويقول البلاذري :" وكان رسول اللَّه صلى الله عليه و سلم عند قدومه المدينة وَادَعَ اليهود، وكتب بينه وبينهم كتاباً واشترط عليهم أن لا يمالئوا عدوه، وأن ينصروه على من دهمه، وأن لا يقاتل عن أهل الذمة، فلم يحارب أحداً ولم يهجه، ولم يبعث سرية حتى أنزل اللَّه عز وجل : { أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ الذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حقٍّ }".
وبذلك يوضح البلاذري أن وثيقة موادعة اليهود كتبت قبل إرسال السرايا الأولى. ومن المعلوم أن سرية حمزة كانت في رمضان من السنة الأولى للهجرة، أي قبل غزوة بدر بسنة وأيام، وكان لواء حمزة أول لواء عقده النبي صلى الله عليه و سلم .
ويقول البلاذري في موضع آخر، وهو يتحدث عن غزوة بني قينقاع : "وكان سببها أن رسول اللَّه صلى الله عليه و سلم لما قدم المدينة وَادَعَ يهودها، وكتب بينه وبينها كتاباً، فلما أصاب أصحاب بدر وقدم المدينة غانماً موفوراً، بغت وقطعت العهد. "وهكذا جزم البلاذري بأن موادعة اليهود كانت قبل بدر.
ويقول الطبري : "ثم أقام رسول اللَّه صلى الله عليه و سلم بالمدينة منصرفه من بدر، وكان قد وَادَعَ حين قدم المدينة يهودها على أن لا يعينوا عليه أحداً، وأنه إن داهمه بها عدو نصروه، فلما قتل رسول اللَّه صلى الله عليه و سلم من قتل ببدر من مشركي قريش أظهروا له الحسد والبغي، وأظهروا نقض العهد".
في هذه الشهادات المتواترة ما يكفي للترجيح بأن وثيقة موادعة اليهود كتبت في السنة الأولى من الهجرة، ثم إن تحليل بنودها ونصوصها دل على أنها لا تعكس أي توتر في علاقة النبي صلى الله عليه و سلم مع اليهود، وبهذا كله تسقط دعوى الموسوعة الإسلامية، وينقض شكها.(1/74)
.2 تبني شعائر اليهود لاستمالتهم :
زعمت الموسوعة الإسلامية أن حكمة النبي صلى الله عليه و سلم السياسة الحقيقية وعزمه على تمكين نفوذه، ظهرت في محاولاته الأولى لاستمالة يهود المدينة، وذلك عن طريق تبني بعض شعائرهم الدينية وبعض عاداتهم، مثل صيام يوم عاشوراء، وإضافة الصلاة الوسطى، وإقامة صلاة الجمعة، واستقبال بيت المقدس في الصلاة.
ومضت الموسوعة تقول : كل هذه الأعمال كانت جزءاً من حملته من أجل كسب يهود المدينة إلى الإسلام، وكانوا يمثلون طائفة نشطة ذات مركز اقتصادي هام.
وفي بداية تصحيح هذه الأخطاء الكبيرة، يجب أن نؤكد أن النبي صلى الله عليه و سلم كان يحرص على إسلام يهود المدينة، كما كان يحرص على إسلام جميع الطوائف الأخرى في المدينة وغيرها، ولا مانع أن يكون قد اتخذ إجراءات وتدابير لاستمالتهم وتحبيب الإسلام إليهم، لكن لشدة جحودهم وحسدهم لم تنفع فيهم تلك التدابير، وأما أن يقال إن النبي صلى الله عليه و سلم تبنى شعائر اليهود وعاداتهم الدينية لهذا الغرض، فذلك غير صحيح.
أما صيام عاشوراء، وهو اليوم العاشر من شهر محرم، فكان عادة دينية جارية بين يهود المدينة، ولما حل بها النبي صلى الله عليه و سلم ووجدهم يصومونه، سألهم عن سبب صيامه، فقالوا : هذا يوم نجى اللَّه فيه موسى وقومه، فصامه شكراً للَّه، فقال النبي صلى الله عليه و سلم : نحن أولى بموسى منكم فصامه، وأمر المسلمين بصيامه، فلما فرض اللَّه تعالى صيام شهر رمضان، صار صيام عاشوراء غير واجب على المسلمين، من شاء صامه ومن شاء تركه.
فصيام هذا اليوم كان اقتداء بموسى عليه السلام، والنبي صلى الله عليه و سلم يؤمن بموسى عليه السلام، ويؤكد أن المسلمين أولى به من اليهود، وذلك واضح من قوله صلى الله عليه و سلم في الحديث : "نحن أولى بموسى منكم"، فَعَمَلُهُ ظاهرياً موافقٌ لعادة اليهود، ولكنه في حقيقته اقتداء بموسى عليه السلام.(1/75)
وأما قول الموسوعة الإسلامية : "إن وجود ثلاث صلوات في اليوم عند اليهود كان عاملاً في إضافة صلاة الظهر إلى صلاة المسلمين التي كانت قبل تقام مرتين مرة في الصباح ومرة في المساء"، فهو اختلاق وكذب صريح، لا يحتاج إلى مناقشة، لأن الصلوات الخمس التي فرضها الإسلام، فرضت قبل الهجرة بسنة على الأرجح، وذلك ليلة الإسراء والمعراج، وهذا ثابث بالحديث الصحيح وبالسيرة النبوية وعمل المسلمين.
وقبل الإسراء والمعراج، كانت الصلاة تقام مرتين مرة قبل طلوع الشمس ومرة قبل غروبها.
ولا نعتقد أن حديث الإسراء والمعراج، واقتران فرض الصلوات الخمس به، كان أمراً خفياً، فكتب الحديث والسيرة والتاريخ والتفسير تناقلته وروت خبره بالتفصيل، لذلك لا نستطيع أن نعتذر للموسوعة الإسلامية بالجهل وقلة المعلومات.
ومن الادعاء الباطل كذلك قول الموسوعة: إن صلاة الجمعة التي أقيمت بالمدينة أول مرة، قبل هجرة النبي صلى الله عليه و سلم تأثرت تأثراً غير مباشر بيوم الاستعداد المعروف في التقاليد اليهودية الدينية، وهو يوم الجمعة الذي كانوا يستعدون فيه ليوم السبت عند الغروب.
وقد ثبت في الحديث الصحيح الذي رواه البخاري ومسلم، أن الله تعالى أكرم المسلمين بهدايتهم إلى يوم الجمعة وإقامة الصلاة فيه، بعد أن ضلت عنه اليهود والنصارى، ففي صحيح البخاري أن النبي صلى الله عليه و سلم قال : " نحن الآخرون الأولون السابقون يوم القيامة، بيد أنهم أوتوا الكتاب من قبلنا، ثم هذا يومهم الذي فرض الله عليهم فاختلفوا فيه، فهدانا الله له، والناس لنا فيه تبع، اليهود غداً والنصارى بعد غد".(1/76)
وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة وحذيفة رضي الله عنهما قالا : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم :" أضل الله عن الجمعة من كان قبلنا، فكان لليهود يوم السبت، وكان للنصارى يوم الأحد، فجاء الله بنا، فهدانا ليوم الجمعة، فجعل الجمعة والسبت والأحد، وكذلك هم تبع لنا يوم القيامة، نحن الآخرون من أهل الدنيا، والأولون يوم القيامة، المقضي لهم قبل الخلائق" .
إن صلاة الجمعة من آكد فروض الإسلام، ومن أعظم مجامع المسلمين، وهي أعظم من كل مجمع يجتمعون فيه وأفرضه، سوى مجمع عرفة، ولهذا لا يصح بأي حال أن يقال إن المسلمين أقاموا صلاة الجمعة متأثرين بيوم الاستعداد اليهودي.
صحيح أن أول صلاة جمعة أقيمت بالمدينة قبل هجرة الرسول صلى الله عليه و سلم . وذلك لأن صلاة الجمعة تستلزم أن يجتمع لها المسلمون في مكان جامع، وأن تكون لهم حرية إظهار شعائر دينهم، وهذا شيء لم يكن ميسراً في مكة، حيث كان المؤمنون قلة مضطهدة، محرومة من حرية إقامة دينها وإظهار شعائره.
وأما قول الموسوعة إن استقبال المسلمين بيت المقدس في الصلاة طوال السنة الأولى من الهجرة كان جزءاً من حملة النبي صلى الله عليه و سلم من أجل كسب اليهود، فقول يحتاج إلى توضيح ومناقشة.
وقبل كل شيء، فإن توجه المسلمين إلى بيت المقدس كان بأمر الله تعالى. وكان النبي صلى الله عليه و سلم يحب أن يتوجه إلى الكعبة المشرفة، كما صرح بذلك القرآن الكريم :{ قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا...} .
ولسنا نعرف بالتفصيل الحكمة الإلهية من أمره بالتوجّه إلى بيت المقدس طوال السنة الأولى من الهجرة، ولا يبعد أن يكون من الحكمة في ذلك تأليف اليهود وتقريبهم إلى الإسلام، أو كفّ أذاهم عن المسلمين في المدينة حتى يتم لهم الاستقرار، وينظموا أحوالهم.(1/77)
هذا، وإن توجّه النبي صلى الله عليه و سلم إلى بيت المقدس في الصلاة، لم يكن حدثاً طارئاً بعد الهجرة، ليقال إن العلة في ذلك هي استمالة اليهود، وإنما هو عمل كان داوم عليه قبل الهجرة في مكة ـ كما ثبت في حديث كعب بن مالك، وفيه "أن رجلاً من المسلمين الذين خرجوا من المدينة للحج قبل الهجرة، وهو البراء ابن معرور، كان يصلي، وهو في الطريق، مستقبلاً الكعبة المشرفة، على خلاف من كان معه من المسلمين، إذ كانوا يصلون إلى بيت المقدس، فلما قدموا مكة قصدوا رسول الله صلى الله عليه و سلم فسألوه عما فعل البراء بن معرور، فقال له النبي صلى الله عليه و سلم قد كنت على قبلة لو صبرت عليها، قال فرجع البراء إلى قبلة رسول اللَّه صلى الله عليه و سلم فصلى معنا إلى الشام".
بهذا الحديث الصحيح، يثبت أن توجّه المسلمين إلى بيت المقدس بعد الهجرة كان امتداداً لعمل كانوا عليه قبلها، وبه تسقط أيضاً دعوى الموسوعة الإسلامية بأنه جزء من حملة النبي صلى الله عليه و سلم لاستمالة اليهود.
.2 إقامة المسجد النبوي تقليد للكنيس اليهودي :
ذكرت الموسوعة الإسلامية، نقلاً عن بعض الكتاب، دون أن تسميهم، أن المسجد الذي بادر النبي صلى الله عليه و سلم إلى تأسيسه عندما حل بالمدينة، هو تقليد للكنيس اليهودي.
ثم مضت الموسوعة تنتقص من مكانة المسجد النبوي وقداسته، فنقلت عن مستشرق آخر أنه استعمل لأغراض دنيوية، وأنه في الحقيقة لم يكن سوى دارٍ لمحمد صلى الله عليه و سلم وأهله، بينما صلاة الجماعة كانت تقام في المصلى.
وكل هذا خلط وتزييف، فالإسلام فرض صلاة الجماعة على المسلمين، وجعل اجتماعهم لإقامتها خمس مرات في اليوم من التشريعات التي توطد أركان وحدة الجماعة، وتقوي روح الإخاء والألفة بين أفرادها، ولا بد من تأسيس المسجد لإقامة هذه الشعيرة الواجبة، وليست هنا حاجة تذكر إلى التقليد في مثل هذا الأمر.(1/78)
غير أن الموسوعة الإسلامية تناولت هذا الموضوع بطريقة ملتوية غامضة، بقصد إثارة البلبلة والاضطراب.
وهناك خلط بين المسجد النبوي وحجراته التي كانت نساؤه يسْكُنَّ فيها، ولم تكن الصلاة ـ كما زعمت الموسوعة ـ تقام في المصلى، وإنما كانت تقام في المسجد.
والمسجد في الإسلام معروف، وهو بيت الله، الذي تقام فيه الصلاة، والمصلى كل مكان عين للصلاة، سواء في البيت أو في الفضاء.
ويبدو جلياً أن الموسوعة الإسلامية انطلقت في حديثها عن المسجد النبوي ورسالة المسجد في الإسلام عموماً، من تصوّرات دينية وثقافية غير إسلامية، ومن ثم اعتقدت أن المسجد النبوي قد أهدرت قداسته بإدخال أعمال دنيوية ضمن أنشطته ورسالته.
وهذا تصوّر غير صحيح، ولا قيمة لكل هذا النقاش حول ما إذا كان المسجد ذا طبيعة دنيوية أو دينية في المنظور الإسلامي الذي لا يفصل بين الدين والدنيا، كما فعلت الأديان الأخرى. وعلى هذا الأساس فإن المسجد في الإسلام مؤسسة دينية وعلمية واجتماعية، تقام فيه الصلاة، ويجتمع فيه الناس للتعلّم والمذاكرة في أمور الدين وفي القضايا الاجتماعية التي تهم حياة الجماعة، وليس في هذه الأعمال شيءٌ مما يقلل من قداسته.(1/79)
ومما يدل على أن الموسوعة الإسلامية لم تلتزم بمبدأ الموضوعية والإنصاف في حديثها عن المسجد النبوي، أنها ذهبت إلى تفضيل المسجد الذي أسسه المنافقون في المدينة لتفريق وحدة المؤمنين التي احتضنها المسجد النبوي، وحافظ عليها وسماه القرآن مسجداً ضراراً، وفي هذا تجاهل كبير لما جاء في القرآن الكريم وما تواتر في كتب الحديث والسيرة النبوية وكتب التاريخ، ويكفي أن نذكّر هنا بما جاء في القرآن الكريم، قال الله عز وجل : { الَّذِىنَ اتَّخَذُوا مَسْجِداً ضِرَاراً وَكُفْراً وَتَفْرِيقاً بَيْنَ المُوْمِنِينَ وَإِرْصَاداً لِّمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلا الحُسْنَى وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ، لاَ تَقُمْ فِيهِ أَبَداً لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ، فِيْهِ رِجَالٌ يُّحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ المُطَّهِرِينَ }.
.3 اتهام النبي صلى الله عليه و سلم بالخطأ في الفهم :(1/80)
ذكرت الموسوعة الإسلامية أن النبي صلى الله عليه و سلم وقع في موقف حرج عندما ظهر عدم الاتفاق بين ما يتلوه على أنه كتاب الله، وبين الكتاب الذي أنزل على موسى من قبل، بعد أن صرح من قبل بأنهما متطابقان، فأثار بذلك سخرية اليهود، ولم تكن مكانته تسمح له بالاعتراف بالخطأ، فحلَّ هذا الإشكال بإعلان أن اليهود لم يؤتوا إلا نصيباً من الكتاب، واتهمهم بإخفاء أجزاء من كتابهم، بل باختلاق آيات وادعاء أنها من الكتاب. واستدلت الموسوعة على كل هذا الافتراء والتزييف بآيات من القرآن الكريم، كقوله تعالى :{ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُؤتُوا نَصيباً مّنَ الكِتَابِ يُدْعَوْنَ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِِّنْهُمْ وَهُمْ مُّعرضون}، وقوله تعالى: { أَلَمْ تَرَ إِلَى الذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِّنَ الكِتَابِ يَشْتَرُونَ الضَّلاَلَةَ وَيُرِيدُونَ أَنْ تَضِلُّوا السَّبِيل }.(1/81)
وقول الموسوعة : إن محمداً صلى الله عليه و سلم وقع في موقف حرج وخطأ في فهم ما في التوراة وإنه وقع التضارب في القرآن بين ما ذكر فيه أولاً من التطابق مع ما في التوراة، وما جاء فيه لاحقاً من التباين والاختلاف بينهما، كلام زائف لا دليل عليه، فليس في القرآن تضارب، ومكانته من التوراة والإنجيل وغيرهما منصوص عليها في كثير من الآيات. لقد جعل الإيمان بكتب الله التي نزلت قبله واجباً على المسلمين، وكثيراً ما يقرن الله تعالى بين التوراة والقرآن في الفضل. قال تعالى :{ قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الكِتَابَ الذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نُوراً وهُدىً للِّنّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَراطِيْسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيراً.. الآية } ثم قال تعالى عن القرآن : { وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ مُّصَدِّقُ الذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلِتُنْذِرَ أُمَّ القُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا }، وقال تعالى : { ثُّمَّ آتَيْنَا مُوسَى الكِتَابَ تَمَاماً عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ وَتَفْصِيلاً لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدَىً وَرَحْمَةً لَّعَلَّهُمْ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ يُومِنُونَ... }، ثم قال عن القرآن في السياق نفسه : { وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ }.
قال الحافظ ابن كثير : " وقد علم بالضرورة لذوي الألباب أن الله تعالى : لم ينزل كتاباً من السماء أكمل ولا أشرف ولا أشمل ولا أفصح ولا أعظم من الكتاب الذي أنزل على محمد صلى الله عليه و سلم ، وهو القرآن، وبعده في الشرف والعظمة الكتابُ الذي أنزله على موسى عليه السلام، وهو الذي قال الله فيه :{ إنَّا أنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدىً وَنُور }. والإنجيل إنما أنزل متمماً للتوراة، ومحللاً بعض ما حرم على بني إسرائيل".(1/82)
فالقرآن الكريم أنزل مصدقاً لما بين يديه من كتب الله تعالى وشاهداً على ما وقع فيها من تحريف، قال الله عز وجل { وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الكِتَابَ بِالحَقِّ مُصَدِّقاً لّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الكِتَابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ }.
هذه هي مكانة القرآن من التوراة، وليس هناك تضارب في كلامه عنها، وليس من التضارب أن يتحدث القرآن عن فعل اليهود الذين يحرفون الكلم عن مواضعه { وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَريقاً يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُم ِبالكِتَابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنَ الكِتاَبِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ}. فالتطابق في أصول الدين ثابت بين القرآن والتوراة في صورتها الأصلية لا في صورتها التي آلت إليها بعد الزيادة والتحريف. ولم يكن هنا حرج في موقف الرسول ولا خطأ في الفهم، ولو كان هناك، ولو شيء قليل من هذا، لأشاعه أعداء الإسلام في كل عصر وما أكثرهم، ولا يجوز أن يبقى هذا أمراً خفياً حتى تأتي الموسوعة الإسلامية في القرن العشرين فتظهره للناس، ولم يكن قوله تعالى عن اليهود : { أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِىنَ أُوتُوا نَصِيباً مِّنَ الكِتَابِ } حيلةً لجأ إليها محمد صلى الله عليه و سلم للخروج من موقف حرج أو للتخلص من سخرية اليهود.
فالمراد بالنصيب في الآية هو الحظ المعين، وحظ اليهود من كتب الله هو التوراة الذي أنزل على موسى عليه السلام وفيها علم وهدى ونور. ولكن اليهود لم ينتفعوا بشيء من ذلك. هذا هو المراد بالآية الكريمة، وليس فيها دليل على ما ذهبت إليه الموسوعة الإسلامية.(1/83)
ويجب أن نشير باختصار إلى أن كلام الموسوعة الإسلامية في هذه النقطة فيه تزييف متعمد، وجرأة كبيرة على تأويل الآيات القرآنية وحملها على مالا تدل عليه، ويجب كذلك أن نذكر بأن الاسترسال مع هذا التزييف والتحريف يؤدي إلى نتيجة مرسومة، هي أن القرآن من تأليف محمد صلى الله عليه و سلم يتغير بتغير الظروف والأوضاع المحيطة به، فيقرر ما يدل على التطابق بينه وبين ما في كتاب اليهود، في وقت من الأوقات، ويقرر خلاف ذلك في وقت آخر، وعندما يقع في موقف حرج يحل الأشكال بتقرير ما يصلح للموقف.
ويجب أن نلاحظ كذلك أن الموسوعة الإسلامية استخدمت هنا سياسة :" الهجوم أحسن وسيلة للدفاع " وذلك لدفع تهمةٍ التحريف والزيادة في نصوص التوراة، التي ثبتت بنص القرآن. وبدلا من اتخاذ موقف الدفاع اتخذت موقف الهجوم، فوضعت النبي صلى الله عليه و سلم في موقع الحرج والسخرية، واتهمته بالتناقض، لتبني على ذلك كله أن تهمة اليهود بالتحريف غير صحيحة، وأنها إنما جاءت في سياق البحث عن مخرج من الحرج والتخلص من السخرية، وهذه سياسة معروفة يلجأ إليها عادة من لا يملك حججاً لنفي التهمة عن نفسه.
.4 تأثير معارضة اليهود في رسم مستقبل الإسلام :
ذكرت الموسوعة الإسلامية أن الجماعة الإسلامية الناشئة في المدينة أخذت، بتأثير تلك المعارضة، أو الرفض الذي قابل به اليهود دعوة الإسلام، طابعاً قومياً معلناً، وذلك بإدخال عدد من الشعائر الدينية العربية القديمة في الإسلام، وأوضحت أن هذا التحول الحاسم بدأ في السنة الثانية للهجرة. وكان تحويل القبلة من بيت المقدس إلى بيت الله الحرام، إعلاناً ببدايته، فأصبحت مكة مركز الدين الجديد، وتحرر محمد صلى الله عليه و سلم من سخرية الجماعات اليهودية، وظهر هذا التحول في إعلان محمد صلى الله عليه و سلم أن دعوته متصلة بدعوة إبراهيم عليه السلام.(1/84)
وتساءلت الموسوعة عما إذا كان معروفاً أن إبراهيم عليه السلام هو أبو عقيدة التوحيد، أم أن ذلك كان وليد الخصومة بين محمد صلى الله عليه و سلم ويهود المدينة، وأثارت غبار الشك بهذا التساؤل، ثم مضت نحو هدفها المرسوم فاستبعدت جداً أن يكون النبي صلى الله عليه و سلم على علم بالارتباط بين إبراهيم عليه السلام وبين الكعبة المشرفة قبل الهجرة إلى المدينة، لأن هذه العلاقة على زعم الموسوعة الإسلامية، لم يرد ذكرها في أي جزء من أجزاء القرآن المكي.
هذا ما ورد في الموسوعة الإسلامية، اختصرتُه من عدة فقرات، وفيه أخطاء كثيرة وادعاءات خطرة تمس نبوة محمد صلى الله عليه و سلم والقرآن والإسلام والمسلمين في صميم عقيدتهم. ومن تلك الأخطاء ماهو صريح، ومنها ما يفهم من الكلام بالإيحاء والتلميح.
وأول تلك الأخطاء الادعاء بأن معارضة يهود المدينة أثرت في رسم مستقبل الإسلام، وتحوله من العالمية إلى القومية، فهذا الادعاء ينطلق من منطلق فاسد هو أن الإسلام دين أرضي وضعه محمد صلى الله عليه و سلم ومن ثم كان يتأثر بالظروف والأوضاع الطارئة والمتغيرة، فيغير مبادئه وأصوله حسبما يلاقيه في طريقه من معارضة وعراقيل أو مساندة وتأييد. وسيرة النبي صلى الله عليه و سلم في إعلان دعوته، والجهر بمبادئها، على العكس من هذا تماماً. فلم يكن صلى الله عليه و سلم يهتم بموقف معارضيه وأعدائه، ولم يكن يتردد في تبليغ كلام الله وإعلان الحقيقة كما أنزلت، ولو كانت تثير غضب المخاطبين. لم يكن صلى الله عليه و سلم يملك أن يفعل هذا وهو في مكة حين كان في حاجة إلى من ينصر دين الله، فكيف يفعله وهو في المدينة، وحوله قوة الأنصار والمهاجرين.
ثم إن الإسلام دين الله تعالى وشريعته وأمره أنزله الله من عنده ليغير أوضاع الناس على الأرض وليصلحها، لا يتأثر في أهدافه ومبادئه ومقاصده بأوضاع الناس الأرضية ولا بالظروف والمؤثرات المحيطة به.(1/85)
نعم إن أساليب الدعوة ووسائل نشرها قد تتغير بتغير الظروف والأحوال، لكن الدعوة في جوهرها ومبادئها لا تتغير، ولا يملك الرسول صلى الله عليه و سلم الحق في إدخال أي تعديل عليها لإرضاء أحد من الناس، أو بتأثير معارضته وعداوته.
ولو استرسلنا مع الموسوعة الإسلامية في مزاعمها، لما وسعنا المجال قبل الانتهاء من قراءة ما كتبته عن السيرة النبوية، لأنها قررت في فقرات أخرى مرت قبل قليل أن محمداً صلى الله عليه و سلم تبنى عدداً من الشعائر اليهودية في السنة الأولى من الهجرة، وفي السنة الثانية منها تحوّل إلى تبني الشعائر الدينية العربية القديمة.
وبالاسترسال مع هذه الادعاءات والمجازفات، يخيل لقارئ الموسوعة الإسلامية أن هذا النبي لم يكن له مبدأ ثابت ولا هدف قار، ولا تصوّر واضح، ولذلك تراه يتقلب ويغيّر مواقفه وأهداف دعوته بتقلب الأوضاع وتغير الأحوال، ويخيل إليه نتيجة لذلك، أن الإسلام ليس بدين اللَّه القيم وشرعه ومنهاجه الحكيم، وهذا ما أرادت الموسوعة الإسلامية إلقاءه في أوهام الناس بطريق غير مباشر.
وأما ادعاء الموسوعة بأن الإسلام أخذ طابعاً قومياً بإعلان تحويل القبلة إلى بيت اللَّه الحرام، فهو باطل، فلم يرد في القرآن ولا في الحديث، لا بالإشارة ولا بالنص، أن دعوة الإسلام أخذت في أي وقت أو مرحلة طابعاً قومياً، وتخلت عن طابعها العالمي الإنساني، بل الذي صرح به القرآن والحديث هو الدعوة إلى نبذ القوميات والعصبيات والانخراط في رابطة الأخوة الإيمانية.
وقد قدمنا في القسم الأول من هذه الدراسة، أدلة كثيرة على عالمية الإسلام، عند مناقشة مزاعم الموسوعة الإسلامية التي ادعت فيها أن النبي صلى الله عليه و سلم كان طوال المرحلة المكية مكلفاً بإنذار قومه فقط، فلا حاجة إلى إعادتها هنا.(1/86)
ويكفي أن نقول إن واقع سيرة النبي صلى الله عليه و سلم وسيرة خلفائه الراشدين يبطل هذه الدعوى، فلم يكن تحويل القبلة صارفاً عن توجيه الدعوة إلى يهود المدينة وإلى نصارى الجزيرة العربية، ولا إلى الروم والفرس والحبشة والناس أجمعين في أي وقت من الأوقات. وكما وجه النبي صلى الله عليه و سلم جيوش المسلمين لدعوة المشركين من العرب، وجهها كذلك لدعوة اليهود والنصارى، ورسائله صلى الله عليه و سلم إلى الملوك والحكام في شتى الأقطار المعروفة، دليل على وعيه بعالمية رسالته، ومعلوم أن هذه الرسائل أرسلت بعد صلح الحديبية، ولم يكن ذلك بخاف على الموسوعة الإسلامية.وأما ادعاء الموسوعة الإسلامية أن الربط بين الإسلام وبين ملة إبراهيم عليه السلام كان وليد الخصومة مع اليهود في المدينة واستدلالها على ذلك بأن القرآن المكي لم يرد فيه ما يدل على ذلك، فهو ادعاء لا يستحق المناقشة، لأنه يتجاهل التاريخ ونصوص القرآن الصريحة.
فكيف يجهل النبي صلى الله عليه و سلم هذا، والحال أن أهل مكة كلهم ـ على وثنيتهم ـ كانوا يعتزون بالانتساب إلى إبراهيم عليه السلام.
والقرآن الذي نقرأه ونعرفه يؤيد في آياته التي نزلت بمكة هذا الارتباط. وأوضح الآيات في هذا قوله تعالى في سورة إبراهيم، وهي مكية بلا خلاف :{ وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا البَلَدَ آمِناً واجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الأَصْنَامَ، رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِّنَ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ، رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِيَّتِي بَوادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ المُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مّنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وارزُقْهُمْ مِّنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ}.(1/87)
هذه الأباطيل التي سودت بها صفحات الموسوعة الإسلامية في القرن العشرين، عصر التحقيق العلمي والتقدم في وسائل الاتصال وجمع المعلومات من مصادرها الصحيحة يُعدُّ عاراً على مراكز البحث الأكاديمي.
المبحث الثالث
أخطاء في الحديث عن السرايا والغزوات
.1 دوافع بعث السرايا والغزوات :
تحدثت الموسوعة الإسلامية عن الدوافع التي دفعت النبي صلى اللَّه عليه وسلم إلى بعث السرايا والغزوات، لتجوب المناطق المحيطة بالمدينة المنورة منذ أن نزل بها، فذكرت منها بصورة اجمالية الدوافع النفسية والشخصية والسياسية، وأسقطت نهائيا الدوافع الدينية.
ومن الدوافع النفسية أو الشخصية التي ذكرتها :" أن الرسول صلى الله عليه و سلم كان له حساب يريد تصفيته مع المكيين، ذلك أنهم بإخراجه من مكة، حققوا انتصاراً عليه في أعين الناس "، وربطت الموسوعة بين بعث السرايا وبين الإذن في القتال، وهذا خلط، لأن بعث السرايا في السنة الأولى من الهجرة كان قبل أن يؤذن للمؤمنين في القتال، وقبل أن يشرع الجهاد في الإسلام، والدليل على ذلك أن الأعداد التي كانت ترسل في تلك السرايا الأولى لم تكن متكافئة مع أعداد المشركين، ولم يكن معها إذن من النبي صلى الله عليه و سلم في القتال، وإنما كانت تبعث لأهداف أخرى اقتصادية واستراتيجية. ودليل آخر على ذلك هو ما حدث في سرية عبد اللَّه بن جحش التي وقع فيها القتال في شهر رجب، وهو من الأشهر الحرم، فقد تلقى المشاركون في هذه السرية اللوم الشديد من النبي صلى الله عليه و سلم ومن إخوانهم المؤمنين، واستغل الكفار ذلك الحادث في نشر الإشاعات المغرضة، وحدث الخلط بين المفاهيم، فنزل القرآن بما أزال ذلك الخلط وأوضح مراتب القيم : قال تعالى : { يَسأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الحَرَامِ قِتَال فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ، وَصَدّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وكُفْرٌ بِهِ والمَسْجِدِ الحَرَامِ وإخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ، وَالفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ القَتْلِ }.
ولا يصح أن يقال إن بعث السرايا كان بدافع تصفية حساب شخصي مع المكيين، لأن سيرة النبي صلى الله عليه و سلم في معاملة أهل مكة، بعد أن مكنه اللَّه منهم يوم الفتح الأكبر، يكذب هذا الادعاء، فقد شملهم بعفوه وبره وسماحته، وأعطى المثل الأعلى للإنسانية كلها في العفو والسماحة، ولو كان له حساب شخصي معهم، أو رغبة في الانتقام، لكان له معهم سلوك آخر.(1/89)
ومع هذا كله، فإننا لا ننكر أن وراء السرايا النبوية الأولى، قبل الإذن في القتال، دوافع استراتيجية ودينية متداخلة، يمكن إجمالها في أمرين :
أولهما : إشعار مشركي يثرب ويهودها وأعراب البادية الضاربين حولها، بأن المسلمين أقوياء وأنهم تخلصوا من ضعفهم القديم، ذلك الضعف الذي مكن قريشاً في مكة من مصادرة عقيدتهم وحريتهم واغتصاب دورهم وأموالهم، ومن حق المسلمين أن يعنوا بهذه المظاهرات العسكرية، على ضآلة شأنها، فإن المتربصين بالإسلام في المدينة كثر، ولن يصدهم عن النيل منه إلا الخوف وحده، وهذا تفسير قوله تعالى :{ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكمْ وآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لاَ تَعْلَمُونَهُمْ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ }.
وثانيهما : إنذار قريش عاقبة طيشها، فقد حاربت الإسلام ولا تزال تحاربه، ونكلت بالمسلمين في مكة، ثم ظلت ماضية في غيها، لا تسمح لأحد من أهل مكة أن يدخل في دين اللَّه، ولا تسمح لهذا الدين أن يجد له قراراً في أي بقعة أخرى من الأرض، فأحب رسول اللَّه صلى الله عليه و سلم أن يشعر قادة مكة بأن هذه الخطة الجائرة ستلحق بهم الأضرار الفادحة وأنه قد مضى إلى غير رجعة ذلك العهد الذي كانوا فيه يعتدون على المؤمنين، وهم بمأمن من القصاص.
.2 تزييف المواقف وتحريف الحقائق :
أشارت الموسوعة الإسلامية إلى موقف الأنصار من السرايا والغزوات بما يوهم أنهم رافضون، لأنهم تعهدوا بأن يدافعوا عن النبي صلى الله عليه و سلم في حال واحدة، هي عند تعرضه للهجوم.
وذكرت أن تجار مكة كانوا لا يميلون إلى المبادرة بالعداوة، وأن المهاجرين لم يبايعوا على القتال، لأنه يسير في اتجاه مضاد لشعورهم نحو أقربائهم المكيين.
ثم تساءلت الموسوعة إلى أي حد أغضبت مقاومة الأنصار والمهاجرين النبي صلى الله عليه و سلم ، ثم أشارت إلى أن الإجابة عن ذلك يمكن أن تعرف من القرآن حيث ورد توبيخ شديد للصحابة.(1/90)
هذا ملخص ما ذكرته الموسوعة الإسلامية هنا وهو كذب على الصحابة وتزييف لحقيقة مواقفهم، ومن يقرأ هذه الفقرات، ويسلم بما فيها، سينتهي إلى نتيجة واحدة هي أن النبي صلى الله عليه و سلم هو وحده الذي كان يريد الحرب، ويرغب في القتال. وأن الأطراف الأخرى ـ بما فيهم كفار قريش ـ إنما دفعوا إليه كرهاً.
أما موقف كفار قريش فلم يكن موقفاً مسالماً ـ كما زعمت الموسوعة الإسلامية ـ فالمكيون الذين ذكر القرآن والحديث أنهم تآمروا على قتل النبي صلى الله عليه و سلم ليلة خروجه من مكة مهاجراً، وأنهم تعقبوا أثره بحنق شديد، فلم يفلت من أيديهم إلا بمعجزة، لم تهدأ نيران عداوتهم. ولا شك أن النبي صلى الله عليه و سلم كان يتوقع منهم ومن حلفائهم من مشركي العرب أن يلاحقوه ويحاربوه في المدينة أو في أي مكان آخر.
فقرائن الأحوال وطبيعة الصراع تؤذن بأن القتال لا بد أن يكون، فما كانت قريش لتدع الإسلام الذي حاربته سنوات طوالاً، ينتشر في أرجاء الجزيرة العربية.
والنبي صلى الله عليه و سلم ومعه المسلمون كانوا يعلمون ذلك، فكان خروج الصحابة في مجموعات صغيرة من المقاتلين، في تحركات عسكرية متتابعة حول المدينة، سميت بالسرايا، خروجاً من أجل إشعار الأعداء بقوة المسلمين.
وأما اعتراض طريق تجارة القرشيين وتهديد قوافلها، فهو عمل مشروع، بالنظر إلى المهاجرين، لأن تلك القوافل وما تحمله من أموال وبضائع هي في ملك أولئك المكيين الذين أخرجوهم من ديارهم واغتصبوا أموالهم.(1/91)
وفي القرآن الكريم والحديث النبوي الشريف، وكتب السيرة والتاريخ، نصوص كثيرة تدل على أن الصحابة الذين بايعوا رسول اللَّه صلى الله عليه و سلم على السمع والطاعة في المنشط والمكره واليسر والعسر ما وقفوا من الغزوات والجهاد قط موقف المعارضة، بل أظهروا الاستجابة الكاملة والاستعداد التام، وقدموا في ذلك أموالهم وأنفسهم وتنافسوا بحماسة صادقة. وأخبارهم حافلة بالأمثلة العالية في الإقبال على الجهاد والحرص على الشهادة في سبيل إعلاء كلمة اللَّه، حتى الضعفاء والفقراء الذين لا يجدون ما ينفقون ولا ما يركبون، أظهروا الحرص الشديد على المشاركة في الغزوات، فنزل القرآن يرفع عنهم الحرج، قال تعالى : { لَيْسَ عَلى الضُّعَفَاءِ وَلاَ عَلَى المَرْضَى وَلاَ عَلى الذِينَ لاَ يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نصَحُوا للَّهِ وَرَسُولِهِ مَا عَلَى المُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ واللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ، وَلاَ عَلَى الذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لاَ أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَناً أَلاَّ يَجِدُوا مَا يُنْفِقُونَ }.
فكيف سمحت الموسوعة الإسلامية لنفسها بتجاهل حقائق التاريخ كلها، فادعت أن الصحابة وقفوا من الغزوات والقتال في سبيل اللَّه موقف المقاومة والمعارضة.
ثم إن الآيتين الكريمتين اللتين أحالت الموسوعة عليهما، لإثبات دعواها، وزعمت أنهما نزلتا لتوبيخ الصحابة على موقفهم المعارض من الغزوات، بعيدتان كل البعد عن ذلك المعنى، بل معناهما على النقيض تماماً مما ذهبت إليه الموسوعة.(1/92)
فأما الآية الأولى، وهي قوله تعالى : { يَسأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالمَسْجِدِ الحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْه أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ والفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ القَتْلِ }(2)، فالمراد بها بيان عذرأصحاب سرية عبد اللَّه بن جحش التي بادر فيها بعض الصحابة إلى قتال كفار مكة بغير إذن من رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم، فلما علم بأنهم قاتلوهم في شهر رجب، قال ما أمرتكم بقتال في الشهر الحرام، فندم رجال السرية، وعنفهم إخوانهم المسلمون، واتخذ المشركون مما حدث وسيلة للطعن في المسلمين وفي النبي صلى الله عليه و سلم ، وقالوا : قد استحل محمد وأصحابه الشهر الحرام، وسفكوا فيه الدم.
وفي هذه الغمرة من الندم والعتاب والحرج نزل الوحي من السماء بعذرأصحاب هذه السرية. فالآية تدل على نقيض ما فهمت الموسوعة الإسلامية تماماً، فليست في شيء من توبيخ الصحابة على رفض الخروج للغزوات في قليل ولا كثير، بل هي في بيان عذر الذين خرجوا وبادروا إلى قتال الكفار، ورفع اللوم والتوبيخ عنهم.
وأما الآية الثانية، وهي قوله تعالى: { وَلَوْلاَ دِفَعُ اللَّهِ الناسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَّهُدِمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِهَا اسْمُ اللَّهِ كثيراً وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لقويّ عَزِيزٌ }. فلست أدري كيف فهمت منها الموسوعة الإسلامية ما ذهبت إليه، بل هي في سياق الآية التي نزلت بالإذن للمسلمين في قتال الذين ظلموهم من كفار قريش : والآية التي قبلها هي قول اللَّه تعالى : { أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ الذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلاَّ أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّه.}.(1/93)
فهذا إِذْنٌ من اللَّه تعالى في القتال للدفاع عن النفس ورد الاعتداء والظلم، وهذا أيضاً تحريض للمؤمنين على القتال، وليس ـ كما زعمت الموسوعة ـ توبيخاً لهم على ذلك.
والموسوعة هنا بين أمرين : إما أن تكون أسندت كتابة هذه المادة إلى كتاب معلوماتهم عن الإسلام والسيرة النبوية قليلة، وإما أنها تعمدت تزييف المواقف وتحريف الحقائق من أجل أغراض غير معلنة.
.3 تحيز واضح وتجاهل للحقائق :
تحدثت الموسوعة الإسلامية عن غزوات النبي صلى الله عليه و سلم لمعاقبة اليهود في المدينة وخيبر بأسلوب ظهر فيه التحيز الكبير لليهود، والرغبة الشديدة في إظهارهم في صورة البريء المظلوم، وإظهار المسلمين في صورة المعتدي الظلوم، فانتقت من وقائع تلك الغزوات ما يخدم غرضها وتجاهلت غيره.
تجاهل أسباب إجلاء بني قينقاع :
بعد أن تحدثت الموسوعة عن المكاسب الهامة التي حققها المسلمون بعد الانتصار في غزوة بدر الكبرى، انتقلت إلى الحديث عن حصارهم لبني قينقاع بأسلوب يوحي بأن المسلمين أعجبوا بقوتهم فذهبوا ليستعرضوها على هذا الحي من اليهود.
جاء في الموسوعة الإسلامية "أن محمداً صلى الله عليه و سلم بعد أن أنهى الإجراءات المتعلقة بفداء أسرى بدر، بدأ في حصار يهود بني قينقاع في حصونهم، وترك المنافقون مساندتهم، وتخلت عنهم المجموعات اليهودية الأخرى، ومن ثم أجبروا على مغادرة مساكنهم في المدينة".(1/94)
بهذا الأسلوب تجاهلت الموسوعة الإسلامية أسباب هذا الحصار، وهي أسباب معروفة تناقلتها كتب السيرة والتاريخ، ومن تلك الأسباب أنهم نقضوا العهد، وأظهروا الحسد والعداوة للمسلمين بعد انتصارهم على كفار مكة في بدرٍ. قال ابن عباس، رضي اللَّه عنهما " : كان من حديث بني قينقاع أن رسول اللَّه صلى الله عليه و سلم جمعهم بسوق بني قينقاع ثم قال : يا معشر يهود احذروا من اللَّه مثل ما نزل بقريش وأَسلِموا، فإنكم قد عرفتم أني نبي مرسل، تجدون ذلك في كتابكم وعهد اللَّه إليكم، قالوا يا محمد : إنك ترى أنا قومك لا يغرنك أنك لقيت قوماً لا علم لهم بالحرب، فأصبت منهم فرصة، إنا واللَّه لئن حاربناك لتعلمن أنا نحن الناس".
ولا نريد بإيراد هذا الحديث أن سبب إجلاء بني قينقاع من المدينة يعود إلى رفضهم الإسلام، ففي هذه المرحلة كان الإسلام يقبل التعايش السلمي معهم، بل إن نصوص المعاهدة التي عقدها النبي صلى الله عليه و سلم معهم، تؤكد أنهم كانوا يتمتعون بحريتهم الدينية. وإنما يعود سبب الجلاء إلى ما أظهروه للمسلمين من روح عدائية انتهت إلى الإخلال بالأمن في المدينة والاعتداء على حرمات المسلمين.
فقد تناقلت مصادر السيرة النبوية الصحيحة أن بعض سفهائهم اعتدوا على امرأة مسلمة، واحتالوا على كشف عورتها حينما كانت تقضي بعض حاجاتها في السوق، فاستغاثت بالمسلمين، فوثب رجل منهم على يهودي فقتله، واجتمعت اليهود على المسلم فقتلوه، ولهذا لم يجد النبي صلى اللَّه عليه وسلم بداً من غزوهم بعد أن نقضوا العهد بهذا الاعتداء الشنيع على امرأة مؤمنة. فحاصرهم المسلمون خمسة عشر يوماً حتى نزلوا على حكم اللَّه ورسوله، وهو الجلاء.
هذا هو السبب وقد تجاهلته الموسوعة الإسلامية. وبهذا قابل اليهود سماحة الإسلام بالغدر والأذى.(1/95)
وكان المشركون و اليهود في المدينة يؤذون المسلمين كثيراً فأمرهم اللَّه تعالى بالصبر والعفو عنهم، وفي ذلك أنزل اللَّه تعالى قوله : { لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذىً كَثِيراً وَإِنْ تَصْبِِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ }.
تجاهل سبب إجلاء بني النضير :
بعد أن تحدثت الموسوعة الإسلامية عن غزوة أحد وما أصاب المسلمين فيها، ذكرت أن بعض يهود المدينة لم يخفوا فرحهم بهذه المصيبة. وكان ذلك كافياً لإعطاء المسلمين الحجة والذريعة لما قاموا به ضدهم. وذكرت أيضاً أن الروايات والأخبار تنسب إليهم كل أنواع الجرائم، لكن يصعب تحديد الإساءة التي ارتكبوها. والقرآن لم يذكر سوى أنهم " شاقوا اللَّه ورسوله".
هذا ملخص ما جاء في الموسوعة الإسلامية، وفيه تجاهل للأسباب الحقيقية لغزو هذه الفرقة من يهود المدينة. لقد كان بنو النضير ممن عاهدهم النبي صلى الله عليه و سلم عندما حل بالمدينة لكنهم لم يلتزموا بالعهد، وهموا بقتله مرتين، روى ابن إسحق، وتَابَعَهُ معظم كتاب السيرة، أن النبي صلى الله عليه و سلم ذهب إلى بني النضير ليستعين بهم على دفع دية رجلين قتلهما أحد المسلمين خطأ فجلس إلى جدار لهم، فهموا بإلقاء حجر عليه وقتله، فأخبره الوحي بغدرهم، فانصرف مسرعاً إلى المدينة، ثم أمر بحصارهم.(1/96)
وذكرت كتب الحديث والسيرة محاولة ثانية قام بها بنو النضير لقتل النبي صلى الله عليه و سلم روت أن قريشاً كتبت إليهم تحرضهم على قتله، وتهددهم بالحرب إن لم يفعلوا، فاستجاب لهم بنوا النضير وعزموا على الغدر، فأرسلوا إلى النبي صلى الله عليه و سلم أن يخرج إليهم ليكلمهم في دين الإسلام فإن صدقوه آمنت اليهود كلها، فأجابهم إلى ما سألوا، فخرج إليه ثلاثة من أحبارهم وأخفوا خناجرهم. لكن امرأة منهم أفشت خبرهم لمسلم فأخبر النبي صلى الله عليه و سلم فرجع ولم يقابلهم، ثم حاصرهم وقاتلهم حتى نزلوا على الحكم بالجلاء، وعلى أن لهم ما حملت الإبل من المال والمتاع إلا السلاح.
وليس هذا كل ما ارتكبه بنو النضير في حق المسلمين، فقد سجل عليهم التاريخ أنهم حرضوا المشركين على قتال المسلمين في أُحد وأعانوا أبا سفيان على غزو أطراف المدينة، وأشعار شاعرهم كعب بن الأشرف في الإساءة إلى النبي صلى الله عليه و سلم وتحريض المشركين على حرب المسلمين، معروفة.
تجاهل أسباب غزوة بني قريظة :
بعد أن ذكرت الموسوعة الإسلامية أحداث غزوة الأحزاب قالت : إن هذه الغزوة التي انتهت بدون قتال تحولت إلى مأساة دامية في حق بني قريظة. وقالت : ما كاد المكيون ينسحبون حتى أعلن محمد صلى الله عليه و سلم الحرب على آخر حي يهودي بالمدينة.
بهذه العبارة المختارة طوت الموسوعة حديث أسباب ما أسمته بالمأساة الدامية، وتجاهلتها كلية.
ويرجع سببها، مرة أخرى إلى نقض العهد، وكان غدرهم في وقت حرج وخطر على المسلمين الذين كان يحاصرهم عشرة آلاف مقاتل من الأحزاب. وكان غدرهم بتحريض حيي بن أخطب اليهودي النضري.(1/97)
وخروج المسلمين إلى هذه الغزوة كان بأمر مباشر من اللَّه تعالى. ذكرت كتب السيرة والحديث "أن النبي صلى الله عليه و سلم لما عاد من غزوة الأحزاب ووضع سلاحه، جاءه جبريل عليه السلام فقال : أَوَضَعْتَ السلاح يا رسول اللَّه ؟ قال : نعم، قال جبريل : ما وضعنا السلاح، وإن اللَّه يأ مرك بالمسير إلى بني قريظة، فإني عامد إليهم فمزلزل بهم. فأمر النبي صلى الله عليه و سلم مناديا ينادي في الناس : ألا لا يصلين أحد العصر إلا في بني قريظة، فحاصرهم المسلمون حتى استسلموا فجعل إليهم النبي صلى الله عليه و سلم اختيار من يحكم عليهم فاختاروا سعد بن معاذ سيد الأوس الذين كانوا حلفاءهم، فحكم عليهم بقتل الرجال وسبي النساء والذرية ".
وهنا أصرت الموسوعة الإسلامية على إلقاء المسؤولية على النبي صلى الله عليه و سلم . والحقيقة أنه كان عليها أن تحملها لحيي بن أخطب، إذ هو الذي حملهم على نقض العهد والغدر بالمسلمين في أشد ساعات الخطر.
وكان حكم سعد بن معاذ عليهم في غاية العدل والإنصاف، فإنهم بالإضافة إلى ما ارتكبوه من الغدر الشنيع، كانوا قد جمعوا لإبادة المسلمين كميات كبيرة من السلاح، حصل عليها المسلمون بعد فتح ديارهم.
وتجاهلت الموسوعة الإسلامية أسباب غزوة يهود خيبر كذلك، وطوتها بطريقة توحي ببراءتهم، كما فعلت في الغزوات السابقة، ولا حاجة إلى الإطالة بذكرها، ويكفي أن نشير إلى أن خيبر صارت، بعد أن نزل بها بنو النضير مصدر خطر حقيقي على المسلمين، فكتب إليهم النبي صلى الله عليه و سلم يدعوهم إلى الإسلام فلم يستجيبوا، فكان لا بد من غزوهم لدرء الخطر عن الإسلام.(1/98)
المبحث الرابع
تضخيم الآثار السياسية لحادثة الإفك
تحدثت الموسوعة الإسلامية عن هذا الحادث بعبارات توهم أن عائشة، أم المؤمنين ـ رضي اللَّه عنها ـ وقعت في الإثم، ثم ذكرت الآثار السياسية التي نتجت عن الحادث بأسلوب فيه كثير من المبالغة والتضخيم.
وعبارة الموسوعة هي كما يلي : في رحلة العودة من غزوة بني المصطلق وقعت المغامرة التي تورطت فيها عائشة، والأكثر أهمية فيما يتعلق بأوائل تاريخ الإسلام، هو أن أمر عائشة أثار صراعاً كبيراً في صفوف زعماء المهاجرين أنفسهم، وأحدث انقساماً بين المهاجرين والأنصار استمر إلى ما بعد وفاة النبي صلى الله عليه و سلم .
ومن الواضح أن الموسوعة الإسلامية تتعامل مع وقائع السيرة النبوية ومصادرها بالطريقة الانتقائية، فتأخذ منها ما تحب، وتتجاهل ما لا تحب. ويبدو هذا جلياً في تجاهلها كل ما ورد في القرآن الكريم عن قضية الإفك من الآيات البينات التي نزلت ببراءة عائشة رضي اللَّه عنها من السماء. وتجاهلت أيضاً نصوص الحديث وصحيح الأخبار التاريخية، وليس هناك ما يدعو إلى الإطالة بعرض تلك النصوص والأخبار، لأن براءة عائشة ثابتة بالقرآن الكريم.
وأما ما ذكرته الموسوعة الإسلامية من الآثار السياسية لهذا الحادث، فقد ذهبت بعيداً في تضخيمه والمبالغة فيه.(1/99)
وما حدث ببساطة هو جدال حاد بين رجلين من الأنصار في المسجد النبوي، بمحضر النبي صلى الله عليه و سلم . ففي الحديث، أن النبي صلى الله عليه و سلم قال وهو على المنبر : " يامعشر المسلمين من يعذرني من رجل قد بلغ أذاه في أهل بيتي، فواللَّه ما علمت على أهلي إلا خيراً، ولقد ذكروا رجلاً ما علمت عليه إلا خيراً، وما كان يدخل على أهلي إلا معي، فقام سعد بن معاذ الأنصاري فقال : أنا أعذرك منه يا رسول اللَّه، إن كان من الأوس ضربنا عنقه، وإن كان من إخواننا الخزرج أمرتنا ففعلنا أمرك، فقام سعد بن عبادة، وهو سيد الخزرج، وكان رجلاً صالحاً، ولكن اجتهلته الحمية فقال لسعد بن معاذ : كذبت لعمر اللَّه لا تقتله، ولا تقدر على قتله، فقام أسيد بن حضير وهو ابن عم سعد بن معاذ، فقال لسعد بن عبادة : كذبت لعمر اللَّه لنقتلنه، فإنك منافق تجادل عن المنافقين، فثار الحيان الأوس والخزرج حتى هموا أن يقتتلوا ورسول اللَّه قائم على المنبر، فلم يزل يخفضهم حتى سكنوا وسكت".
هذا ما ذكرته كتب الحديث والسيرة النبوية الصحيحة، وهو في الواقع من الآثار السيئة لحادث الإفك، فقد كادت تشتعل نار العصبية، وتنبعث من جديد بين الأوس والخزرج، وتهدم وحدة المسلمين، ولكن اللَّه سلم، وأفلح رسول اللَّه صلى الله عليه و سلم في تهدئة الموقف والحفاظ على وحدة المسلمين، وبذلك أفشل مكايد المنافقين الذين كانوا السبب في هذا كله.
فأين هذا الجدال الذي ثار بين رجلين من الأوس والخزرج في لحظة من لحظات الانفعال والغضب من المبالغة العريضة التي وصفت بها الموسوعة الإسلامية هذا الحادث، فالجدال كان منحصراً بين الأوس والخزرج، والموسوعة الإسلامية جعلت منه صراعاً كبيراً بين زعماء المهاجرين وانقساماً بين المهاجرين والأنصار، وتطوعت بإخبارنا بأن هذا الصراع وهذا الانقسام، استمر إلى ما بعد وفاة النبي صلى الله عليه و سلم .(1/100)
والحقيقة أن المهاجرين لم تكن لهم مشاركة تذكر في ذلك الجدال، ولم يحدث بين زعمائهم ولا بينهم وبين الأنصار صراع ولا انقسام. ولكن الموسوعة الإسلامية أحبت أن تضخم المشكل، فأرسلت الكلام جزافاً من غير سند أو دليل.
المبحث الخامس
التشكيك في الرسائل النبوية إلى الملوك والحكام
ذكرت الموسوعة الإسلامية رسائله صلى الله عليه و سلم إلى كل من المقوقس حاكم مصر، والنجاشي حاكم الحبشة، وهرقل إمبراطور بيزنطة، وملك الفرس، وعدد آخر من الحكام، يدعوهم فيها إلى الإسلام، ثم قالت : إن هذه الرسائل، بالشكل الذي وصلتنا به، لا يمكن أن تقبل على أنها حقيقية أصلية، لأنها تحتوي على تفصيلات تعكس مرحلة متأخرة من ظهور الإسلام وقوته، إن مادتها لا تستحق الثقة التي وضعها الناس فيها.
وقالت : >إنه من الغريب جداً أن يدخل سياسي وديبلوماسي رزين مثل محمد في مغامرة متهورة قبل فتح مكة<.
من هذه الفقرات يبدو واضحاً أن الموسوعة الإسلامية استندت في شكها في أصالة الرسائل النبوية إلى معيارين :
الأول : أن مضمونها يعكس مرحلة قوة الإسلام، والحال أن تاريخ كتابتها يرجع إلى ما قبل فتح مكة.
الثاني : أن حكمة النبي صلى الله عليه و سلم ورزانته تتنافيان مع أي عمل متهوّر.
والحقيقة أن هذين المعيارين يرجعان إلى النقد الداخلي لنصوص تلك الرسائل، وإلى الخصائص الشخصية لكاتبها، وهذا أساس معتمد عند العلماء، لكنه ليس الأساس الوحيد ولا الطريق الأول لتحقيق النصوص، إن الطريق الأول لمعرفة صحة مثل هذه الوثائق التاريخية هو الرواية والنقل الصحيح، فإذا صحت الرواية زال الشك. وهذه الرسالة ثابتة بنصوص الحديث النبوي الصحيح، وبإجماع المؤرخين.
بل إن أصحاب أمهات كتب الحديث، عقدوا لها أبواباً خاصة بها كما في صحيحي البخاري ومسلم، فالبخاري أخرج كتابه صلى الله عليه و سلم إلى هرقل بنصه في صحيحه في كتاب بدء الوحي باب حديث أبي سفيان عند هرقل.(1/101)
وفي صحيح مسلم " باب كتب النبي صلى الله عليه و سلم إلى ملوك الكفار يدعوهم إلى اللَّه عز وجل "، أورد فيه حديث أنس بن مالك ـ رضي اللَّه عنه ـ " أن النبي صلى الله عليه و سلم كتب إلى كسرى وإلى قيصر وإلى النجاشي وإلى كل جبار يدعوهم إلى اللَّه تعالى، وليس النجاشي الذي صلى عليه النبي صلى الله عليه و سلم ".
وكتابه صلى الله عليه و سلم إلى كسرى ملك الفرس، أخرجه أبو عبيد القاسم بن سلام في كتاب الأموال مُرْسَلاً من طريق سعيد بن المسيّب، وقد اتفقت كلمة العلماء على أن جميع مراسيل ابن المسيّب صحيحة.
وكتابه صلى الله عليه و سلم إلى المقوقس حاكم مصر، ذكره ابن هشام، عن ابن إسحق، وقد صرح فيه ابن إسحق بالتحديث، وما صرح فيه بالتحديث فهو، عند العلماء بالحديث، صحيح.
وهكذا يتأكد أن هذه الرسائل نقلت نقلاً صحيحاً وأجمع على صحتها علماء الحديث والسيرة والتاريخ. وما أجمع العلماء على صحته لا يؤثر فيه شك المستشرقين.
ثم إن ما ذكرته الموسوعة الإسلامية من أسباب للشك، ليست مسَّلمة، لأن إرسال الرسائل إلى الملوك لا يستدعي وجود قوة عسكرية ضخمة، فهي رسائل لتبليغ الدعوة لا غير، هذا وإن المسلمين ما كانوا قط يعتمدون على القوة العسكرية وحدها في نشر الإسلام، وإنما يعتمدون على تقوى اللَّه وقوة الإيمان بالدرجة الأولى، ولو طبقنا هذا المعيار على الغزوات والفتوحات الإسلامية، لأنكرنا الكثير منها، لأن قوة المسلمين العسكرية لم تكن مكافئة لقوة الكفار.
ثم إن النبي صلى الله عليه و سلم لم يبعث هذه الرسائل إلا بعد صلح الحديبية، وهذا الصلح هو الفتح الأكبر، وفيه نزلت سورة الفتح، التي افتتحت بقوله تعالى : { إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُّبِيناً }. وهذا دليل على أن المسلمين صارت لهم قوة وهيبة.(1/102)
وإذا علمنا هذا كلَّه اتضح لنا أن عمل النبي صلى الله عليه و سلم ، حين بعث هذه الرسائل، لم يخرج عن الحكمة والرزانة وحسن السياسة، وأنه بعيد عن وصف التهور والمغامرة الذي أطلقته الموسوعة الإسلامية بتهور ومجازفة.
ولتؤكد الموسوعة الإسلامية موقفها المتشكك من هذه الرسائل، سحبت ظلال الشك على مسألتين هامتين هما :
.1 عالمية الدعوة الإسلامية.
.2 دعوة اليهود والنصارى إلى الإسلام.
فيما يتعلق بالمسألة الأولى، قالت الموسوعة الإسلامية : >بالرغم من أن آيات قرآنية مدنية ذهبت أبعد من التصور بأن محمداً نبي للعرب فقط، فإن هذه الآيات التي تقدم دائما على أنها دليل على عالمية الإسلام لم تفسر بتمحيص، وتحتاج إلى تفسير أوسع من معناها الجزئي، فمن المشكوك فيه جداً أن يكون محمد فكر قط في الجماعة الدينية التي أسسها في المدينة على أنها دين عالمي<.
وفيما يتعلق بالمسألة الثانية، ادعت الموسوعة أن النبي صلى الله عليه و سلم حتى وهو في قمة نفوذه، لم يوجه قط الدعوة الإسلامية إلى اليهود والنصارى المقيمين في الجزيرة العربية.
وادعت أن النتيجة الصحيحة لهذا كله، هي أن نرفض الروايات التي تقول إن محمداً كان يسعى لإدخال الإمبراطورين البيزنطي والفارسي وغيرهما من كبار الحكام خارج الجزيرة العربية، إلى الإسلام. هذا ملخص ما جاء في الموسوعة الإسلامية. والنتيجة التي انتهت إليها في هذه النقطة نتيجة باطلة، لأنها بكل بساطة مبنية على مقدمات وأدلة باطلة، وما بني على الباطل فهو باطل.
والادعاء بأن النبي صلى الله عليه و سلم لم يفكر قط في كون رسالته عالمية، ادعاء باطل ؛ فالآيات القرآنية والأحاديث النبوية الصحيحة وتاريخ الدعوة الإسلامية تؤكد بطلانه. وقد فصلت الحديث عن هذه الأدلة في القسم الأول من هذه الدراسة، فلا نطيل بإعادتها هنا.(1/103)
وفيما يتعلق بإنكار توجيه الدعوة الإسلامية لليهود المقيمين في الجزيرة العربية، فقول باطل وحكم بلا دليل، لسبب بدهي واضح، هو أن دعوة الإسلام موجهة إلى الناس كافة، وفي القرآن والحديث والسيرة النبوية، وسيرة الفاتحين من قادة المسلمين، أدلة وافرة تؤكد توجيه الدعوة إلى اليهود والنصارى في الجزيرة العربية وخارجها.
وما كان يتمتع به أهل الكتاب من حق الحرية الدينية في ظل الحكم الإسلامي، لا ينفي أن الدعوة كانت موجهة إليهم باستمرار. ومما يدل على دعوتهم إلى الإسلام والتصديق بنبوة النبي صلى الله عليه و سلم من القرآن، قوله تعالى : { يَا أَيُّهَا الذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ آمِنُوا بِمَا نَزَّلْنَا مُصَدِّقاً لّمَا مَعَكُمْ مّنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهاً فَنَرُدَّهَا عَلَى أَدْبَارِهَا أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَمَا لَعَنَّا أَصْحَابَ السَّبْتِ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولاً }.
وقوله تعالى : { وَإِذَا قيلَ لَهُمْ آمِنُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا نُومِنُ بِمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَيَكْفُرُونَ بِمَا وَرَاءَهُ وَهُوَ الحَقُّ مُصَدِّقاً لِمَا مَعَهُمْ }.
وقوله تعالى: { قُلْ يَا أَهْلَ الكِتَابِ تَعَالَوا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللَّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أرْبَاباً مِّنْ دُونِ اللَّهِ، فَإنْ تَوَلَّوا فَقُولُوا اشْهَدُوا بأنَّا مُسْلِمُونَ }.
قال الحافظ ابن كثير في تفسيره : هذا الخطاب يعم أهل الكتاب من اليهود والنصارى ومن جرى مجراهم.(1/104)
ولوضوح دلالة هذه الآية على هذا المعنى، ضَمَّنَها رسول اللَّه صلى الله عليه و سلم كتابَه إلى هرقل عظيم الروم، فقد جاء فيه : >أما بعد ؛ أسلم تسلم، وأسلم يؤتك اللَّه أجرك مرتين، فإن توليت، فإنما عليك إثم الأرسيين، ويَا أهْلَ الكِتَابَ تَعَالُوا إلى كَلِمَةِ سَّوَاءِ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ ألا نَعْبُدُ إلا اللَّه... الآية<.
ودعا رسول اللَّه صلى الله عليه و سلم جماعات من اليهود والنصارى دعوة خاصة في ظروف خاصة ؛ دعا صلى الله عليه و سلم يهود بني قينقاع إلى الإسلام في ظروف خاصة، كما صح في حديث ابن عباس رضي اللَّه عنهما قال : >كان من حديث بني قينقاع أن رسول اللَّه صلى الله عليه و سلم جمعهم، ثم قال : يا معشر يهود، احذروا من اللَّه مثل ما نزل بقريش من النقمة وأسلموا، فإنكم قد عرفتم أني نبي مرسل، تجدون ذلك في كتابكم وعهد اللَّه إليكم<.
ودعا صلى الله عليه و سلم أهل خيبر إلى الإسلام، وأمر عليّاً بن أبي طالب، كرم اللَّه وجهه، بدعوتهم حين أعطاه الإذن بالهجوم على حصونهم، قال : >أنفذ إليهم ثم ادعهم إلى الإسلام، وأخبرهم بما يجب عليهم من حق اللَّه تعالى، فواللَّه لأن يهدي اللَّه بك رجلاً واحداً خير لك من حمر النعم<، ودعا صلى الله عليه و سلم نصارى نجران إلى الإسلام حين قدم عليه وفدهم، ففي التفسير" أن الوفد ندب لمحاورة رسول اللَّه صلى الله عليه و سلم حَبْرَيْن، فلما كلماه، قال لهما : أسلما، قالا : قد أسلمنا. قال إنكما لم تسلما فأسلما، قالا : بلى قد أسلمنا قبلك، قال : كذبتما، يمنعكما من الإسلام ادعاؤكما لله ولداً، وعبادتكما الصليب، وأكلكما الخنزير.."(1/105)
.. ولما امتنعوا من الإسلام وارتضوا البقاء على دينهم أقرهم النبي صلى الله عليه و سلم على ذلك، وبعث معهم أبا عبيدة بن الجراح ليحكم بينهم في ما اختلفوا فيه، تلبية لطلبهم، وكتب لهم كتاب أمان، واستمر العمل بهذا الكتاب طوال عهد الخلفاء الراشدين.
وبهذا يثبت أن الدعوة إلى الدخول في الإسلام كانت تشمل اليهود والنصارى، والأدلة على ذلك من القرآن والحديث والسيرة وافرة، توضح أن دعوى الموسوعة الإسلامية لا قيمة لها.
ومن ثم فإن رسائل النبي صلى الله عليه و سلم إلى الملوك والحكام، ثابتة لا شك فيها، وهي دليل عملي على عالمية الإسلام وشمولية رسالة النبي صلى الله عليه و سلم ، وسنته في الجهاد والفتوحات تؤكد ذلك وتوضحه، فأول ما يبدأ به هو الدعوة إلى الإسلام، فإن أبى أهل البلد، دعاهم إلى قبول أداء الجزية إن كانوا من أهل الكتاب، فإن أبوا قاتلهم لتكون كلمة اللَّه هي العليا، ولتحرير الناس من العبودية لغير اللَّه.
المبحث السادس
مزاعم متنوعة
وصف النبي صلى الله عليه و سلم : بالعبقري والمصلح الديني :
أكثرت الموسوعة الإسلامية من استخدام هذه النعوت في وصف النبي صلى الله عليه و سلم . ولم تستخدم وصف النبي أو الرسول في حقه إلا نادراً، ولا يخفى على ذي عقل غرض الموسوعة الإسلامية ومن كتبوا فيها من قصد وسعي إلى تثبيت أوصاف العبقري أو المصلح الديني على صورة النبي صلى الله عليه و سلم في ذاكرة التاريخ وعقول الأجيال.
وهذه خطة جرى عليها المستشرقون منذ قرون، يصفون النبي صلى الله عليه و سلم بهذه الألقاب، ليظهروه في مظهر المفكر العبقري الذي استطاع بعبقريته وقوة فكره أن يبتكر هذا الدين، وأن يقوم بإصلاح أوضاع المجتمعات العربية ويخرجها من الجهل والوثنية، ويثبت أسس الحضارة العربية الإسلامية الشامخة التي أثرت في الحضارة الإنسانية تأثيراً بارزاً.(1/106)
وتَابَعَ المستشرقين في هذه الخطة، عن جهل أو عمد أو غفلةٍ وسوء فهم لدلالة هذه الأوصاف، بعضُ الكتاب المسلمين في العصر الحديث، فكتبوا عن عبقرية الرسول صلى الله عليه و سلم ، تماما كما كتبوا عن عبقرية أبي بكر الصديق، وعبقرية عمر بن الخطاب، وعبقريات أخرى. وهذا حيف كبير في حق نبي اللَّه ورسوله.
إن النبي صلى الله عليه و سلم فوق أي عبقري، وأجلُّ من أي زعيم وأعظم من أي مصلح، لقد جمع من صفات هؤلاء خيرها وأفضلها وأعدلها، ولكنه فوقهم جميعاً، إنه نبيٌّ يوحى إليه، ورسول يبلغ عن ربه، وهذا ما لا يدرك ولا ينال، لا بالعبقرية ولا بالفكر ولا بالإلهام، هناك فرق كبير بين العبقري المصلح، وبين النبي المرسل.
ولقد سبق كتَّابنا المعاصرين إلى إدراك هذا الفرق، العباس عم النبي صلى الله عليه و سلم ، رضي اللَّه عنه. ذلك أنه لما أسلم أبو سفيان بن حرب ليلة فتح مكة، وكان العباس قد سبقه إلى الإسلام، قال النبي صلى الله عليه و سلم للعباس : خذ أبا سفيان وقف به عند خطم الجبل، وذلك ليرى جيش الفتح، فمرت به كتائب اللَّه، وفيها الكتيبة الخضراء، كتيبة رسول اللَّه صلى الله عليه و سلم ، فلم يملك أبو سفيان نفسه أن قال :لقد أصبح ملك ابن أخيك عظيماً، فقال له العباس : إنها النبوة يا أبا سفيان. قال : نعم، واللَّه إنها النبوة.
والذين كتبوا عن حياة النبي صلى الله عليه و سلم وسيرته من غير المسلمين، لا يؤمنون بنبوته، فمن ثم كتبوا عنه بوصفه عظيماً أو عبقرياً أو مصلحاً أو ملهماً، ولا يجوز للكتاب المسلمين أن يجاروهم فيما وصفوا به النبي صلى الله عليه و سلم من الأوصاف والألقاب التي فيها إخلال بمقام النبوة. وعليهم أن يقتدوا بالقرآن الكريم وبسيرة الصحابة وسلف الأمة الصالح.(1/107)
فالقرآن الكريم لم يصفه لا بالمصلح ولا بالعبقري، وإنما وصفه في كل المواضع التي ذكر فيها وما أكثرها، بالنبي أو الرسول ولا حاجة إلى عرض الآيات هنا، حتى إذا ذَكَرَهُ باسمه قَرَنَ به وصفَ الرسالة، كما في قوله تعالى :{ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ. }(1) وقوله : { وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ }.
وكذلك الصحابة رضي اللَّه عنهم، ما كانوا أبداً ينادونه أو يصفونه بأي وصف أو لقب غير وصف النبوة والرسالة، ولم يرد في كتب السيرة ولا في غيرها، شيء من هذه الأوصاف التي يستخدمها المستشرقون ومن تابعهم من الكتاب المسلمين، لأن كل مؤمن يدرك أن النبوة فوق كل وصف وكل شارة أو لقب.
ومن الواضح أن غرض المستشرقين هو إنكار نبوة محمد صلى الله عليه و سلم ، وإظهاره في مظهر المصلح أو العبقري، لأن هؤلاء تنتهي معهم أفكارهم، ويمكن أن يأتي مفكر أو مصلح آخر بما هو خير منها. ولذلك فهم ليسوا جديرين بالخلود، وأفكارهم ليست جديرة بأن يستمسك بها الناس بعدهم، كما يستمسكون برسالات الأنبياء.
ومن غريب الأمور أن يصر المستشرقون على وصف النبي صلى اللَّه عليه وسلم بهذه الأوصاف، مع أنه كان يتبرأ منها ويجرد نفسه من كل قوة أو مزايا أرضية كما بينه القرآن الكريم في قوله : { قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعاً مِّنَ الرُّسُلِ وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلاَ بِكُمْ إِنْ أَتَّبِعُ إِلا مَا يُوحَى إِلَيَّ وَمَا أَنَا إِلاَّ نَذِيرٌ مُبِينٌ }.
وفي قوله :{ قُلْ لاَ أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلاَ أَعْلَمُ الغَيْبَ وَلاَ أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ، إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَيَّ }.(1/108)
ومن المعلوم أن العبقري والمصلح والبطل ـ بل وكل الناس ـ لا يرضى أن يأتي بالأعمال الجليلة ثم ينسب فضلها إلى غيره، فهذا شيء يتنافى مع طبائع البشر، فلو أن محمداً صلى الله عليه و سلم ابتكر هذا الدين، وأتى بهذا المنهج القويم، وقام بهذه الأعمال الجليلة التي غيرت مجرى التاريخ وأنقذت البشرية من الجهل والضلال بعبقريته وقوة شخصيته، لما خالف هذه السنة البشرية، ولكان سعيداً بأن ينسب ذلك الفضل وذلك الشرف إلى نفسه، ولكنه صلى الله عليه و سلم عرف مقامه حق المعرفة، فنسب كل ذلك إلى ربه.
دعوى فرار النبي صلى الله عليه و سلم في غزوة أحد :
دارت الدائرة على المسلمين في معركة أحد، بعد أن كادوا يفوزون بالنصر التام فيها، فتفرقت صفوفهم واستشهد منهم الكثير، ونفذ المقاتلون المشركون إلى أماكن قريبة من رسول اللَّه صلى الله عليه و سلم ، فرماه أحدهم بحجر فكسر رباعيته وشَجَّهُ في وجهه، وذب الهلع في صفوف المسلمين واضطربت أحوالهم، وتولى بعضهم هارباً، إلا أن الرسول صلى الله عليه و سلم بقي ثابتاً، وجعل يصيح بالمسلمين. ويقول : "إليّ عباد اللَّه. إليَّ عباد اللَّه. فاجتمع إليه ثلاثون رجلاً، ووقف ثلة من الصحابة يدافعون عن رسول اللَّه صلى الله عليه و سلم وقتل بين يديه عدد كثير منهم. وقد أشار القرآن الكريم إلى ثبات رسول اللَّه صلى الله عليه و سلم في هذه المعركة حين اضطربت أحوال المقاتلين المسلمين، قال تعالى : { إِذْ تُصْعِدُونَ وَلاَ تَلْوُونَ عَلَى أَحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ. }.(1/109)
وروى مسلم في صحيحه أن رسول اللَّه صلى الله عليه و سلم أفرد يوم أحد في سبعة من الأنصار ورجلين من قريش، فلما أرهقه المشركون، قال من يردهم عني وله الجنة، فتقدم رجل من الأنصار فقاتل حتى قتل، ثم أرهقوه فقال : من يردهم عني وله الجنة، فلم يزل كذلك حتى قتل السبعة، فقال : ما أنصفنا أصحابنا، يعني الذين فروا وتركوه..".
وأخرج البخاري في صحيحه حديث أبي عثمان النهدي قال : لم يبق مع النبي صلى الله عليه و سلم في تلك الأيام غير طلحة وسعد، يعني ابن أبي وقاص.
وأخرج البخاري أيضاً من حديث أنس بن مالك رضي اللَّه عنه قال : > لما كان يوم أحد انهزم الناس عن النبي صلى الله عليه و سلم . وأبو طلحة بين يديه مجوفاً عليه بحجفة، وكان رامياً شديد النزع، كسر يومئذ قوسين أو ثلاثة، وكان الرجل يمر عليه ومعه الجعبة من النبل فيقول رسول اللَّه صلى الله عليه و سلم : انثرها لأبي طلحة، ثم يشرف النبي صلى الله عليه و سلم إلى القوم : (في ميدان المعركة)، فيقول أبو طلحة : بأبي أنت وأمي لا تشرف يُصِبْكَ سهم. نحري دون نحرك.
تدل هذه النصوص من القرآن والحديث على أن النبي صلى الله عليه و سلم لم يفر في معركة أحد بالرغم من انهزام المسلمين عنه، وإرهاق المشركين له، بل ثبت كالجبل الأشم، وهو ينادي : إليَّ عباد اللَّه، إليَّ عباد اللَّه، وبفضل ثباته عادت صفوف المسلمين إلى الالتئام من جديد، فدافعوا عنه ببسالة كبيرة وتضحيات نادرة. وبهذه الأدلة القوية تسقط دعوى الموسوعة الإسلامية التي ادعت فيها أنه صلى الله عليه و سلم فرَّ هارباً في بعض شعاب جبل أحد، فإنه صلى الله عليه و سلم لم يفر، وما كان لنبي اللَّه أن يفعل، وقد عصمه اللَّه من الناس. ودليل آخر، وهو أن هذه المعركة لم تنته بانتصار حاسم للمشركين، بل إنهم يئسوا من إنهاء المعركة، وتعبوا من طولها ومن جلادة المسلمين، فكفوا عن مطاردتهم وغادروا الميدان.(1/110)
ولما غادرت قريش المكان أمر رسول اللَّه صلى الله عليه و سلم بدفن الشهداء، وكانوا سبعين شهيداً، ولم يؤسر أحد من المسلمين.
ازدواج الشخصية :
بعد أن أشارت الموسوعة الإسلامية إلى المسوؤليات السياسية والعسكرية والاجتماعية والتنظيمية التي تنتظر النبي صلى الله عليه و سلم ، بعد الهجرة قالت : >وبهذا نواجه بواحدة من أعظم المشكلات في كتابة حياة محمد، إنها ازدواجية الشخصية، ذلك الإنسان المتدين الملهم الذي تركزت أفكاره حول يوم الحساب الآخر، وتحمل كل الأذى والعدوان، دون أن يبدي إمكان المقاومة الفعلية إلا على استحياء، ويفضل أن يترك كل شيء لمشيئة اللَّه تعالى، ذلك الإنسان دخل الآن، بعد الهجرة إلى المدينة مرحلة ( علمانية ) وبدفعة واحدة أظهر نفسه بمظهر السياسي البارع<.
هذا مجمل ما جاء في الموسوعة الإسلامية، حول هذه النقطة وفيه اتهام صريح للنبي صلى الله عليه و سلم بازدواج الشخصية، وهو اتهام مبنيٌّ على سوء فهم شخصيته، وسوء فهم الإسلام عموماً.
إن من أهمّ خصائص الإسلام التي امتاز بها، أنه لا يقسم حياة الإنسان إلى منطقتين منفصلتين أو جزءين متباينين ؛ واحد للمادة ، والآخر للروح، أو واحد للدنيا والآخر للدين، ولكن ينظر إلى حياة الإنسانية على أنها وحدة متماسكة يتلاءم فيها الدين مع الدنيا، وتتآلف المادة مع الروح، إن الإسلام لا يدعو إلى التنكر للحياة الدنيا، وإنما يدعو إلى الانخراط فيها. الإسلام لا يؤمن بالرهبانية، ولا يأمر الإنسان بهجر المتاع المادي، بل إنه يؤكد أن السموَّ الروحي المنشود، لا يتحقق إلا عن طريق مواجهة الحياة بشدائدها ورخائها بالاستقامة والتقوى، ويتلخص هذا التصوّر في قوله تعالى : { رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ}.(1/111)
الإسلام يسعى إلى إقرار التوازن بين هذين العنصرين : الدين والدنيا، المادة والروح في حياة الإنسان، يقول : إن كل شيء في الكون المادي خلق للإنسان، لمتاعه ولتلبية حاجاته، والإنسان خلق لله تعالى، وظيفته في الحياة تنفيذ إرادة خالقه وامتثال أمره، كما جاء في الحديث القدسي :" ابنَ آدم : خلقتك لنفسي، وخلقت كل شيء لك، فبحقي عليك لا يشغلنك ما خلقته لك عما خلقتك له ".
وتعاليم الإسلام ترعى حاجات الإنسان الروحية والجسدية على حد سواء، وبتوجيهه إلى إيجاد علاقة مرضية بينه وبين خالقه تعينه كذلك على تحقيق تكامل وتعاون بين قواه الظاهرية والباطنية، وتدربه على سلوك يسود فيه الروح على المادة والدين على الدنيا، ويكون العنصر الديني هو الضابط الذي يضبط به كل أعماله وتصرفاته.
هذا هو الإنسان في التصوّر الإسلامي. أما المسيحية فتهتم بالجانب الروحي من الحياة، وتعلم نوعاً من الحب يضع على كل مسيحي عبئا ثقيلاً من المسؤولية، وهذا الحب المثالي لا يلبي أشواق الإنسان الروحية والنفسية، لأنه منافٍ للطبيعة البشرية، مناقض للعقل والإدراك السليم.
والذين اتهموا النبي صلى الله عليه و سلم بازدواج الشخصية كانوا ـ بقصد أو بغيره ـ متأثرين بالثقافة المشبعة بمبادئ المسيحية، ولذلك استقر في أذهانهم أن محمداً صلى الله عليه و سلم رسول مثالي بنى دعوته على الدعوة إلى الإعراض عن الدنيا والانقطاع عن شؤون الحياة، وحمل النفس على الزهد في متاعها، والصبر على المكاره وتحمل الأذى، وتفويض كل شيء لإرادة اللَّه وقضائه في المرحلة المكية، وفي المرحلة المدنية انقلب إلى رجل عملي يؤسس جماعة ويعنى بشؤونها السياسية والعسكرية والاجتماعية، ويحارب أعداءه، ويخطط لمستقبل الأمة، ويعد القوة المادية لحمايتها.(1/112)
والحقيقة أن هذا اتهام باطل، لأن العمل الدنيوي المادي في الإسلام عبادة، بل قد يكون أفضل العبادات، فالجهاد في سبيل اللَّه من أفضل العبادات، والسعي على الأولاد والأسرة من أفضل العبادات، واللَّه تعالى يرشد إلى الاقتصار على قدر مما تيسر من العبادة وقيام الليل، تخفيفاً على الناس، ويجعل الضرب في الأرض من أجل ابتغاء الرزق علة لذلك التخفيف. يقول تعالى : { إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِنْ ثُلُثَي اللَّيلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطَائِفَةٌ مِنَ الذِينَ مَعَكَ وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ والنَّهَارَ عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ فاقْرَأُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ القُرْآنِ عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضَى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ في الأَرْضَ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، فَاقْرَأُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ }.
ليس في حياة النبي صلى الله عليه و سلم ولا في شخصيته ازدواجية كما زعمت الموسوعة الإسلامية، وإذا كان في المرحلة المكية لم يقم بالتنظيم الاجتماعي والسياسي للجماعة الإسلامية، فلأنه كان في وضع لا يسمح بذلك، وإذا كان يتحمل الأذى بصبر، ويأمر أصحابه بالصبر كذلك، فلأن اللَّه تعالى أمره بذلك، وهو سبحانه يعلم ما كان فيه من الحكمة البليغة.
وإذا جاز أن يتهم النبي صلى اللَّه عليه وسلم بالازدواجية في شخصيته لهذه العلة، فإن كل عاقل أو حكيم من القادة والزعماء والمصلحين الذين يؤخرون بعض الأعمال إلى أن تتهيأ لها الظروف المواتية، ويتخذون في كل مرحلة من المواقف ما يناسب أوضاعهم، إن كل واحد من هؤلاء يصح أن يتهم بازدواج الشخصية، وهذا محال.(1/113)
تصحيح أخطاء الموسوعة الإسلامية في مادة الحديث
أسند تحرير المادة المتعلقة بالحديث النبوي في الموسوعة الإسلامية التي نحن بصدد تصحيح ما ورد فيها من أخطاء ومغالطات، إلى المستشرق الإنجليزي روبسون المعروف بكتاباته في تاريخ علوم الحديث.
ونظراً لما بين السيرة والسنة النبوية من صلات وثيقة، وإتماماً للفائدة، ارتأينا أن نقوم بتصحيح أخطاء الموسوعة الإسلامية في هذه المادة.
تَتَبَّع كاتب هذه المادة مراحل تطور علم الحديث، وأثار في ثنايا كلامه بعض القضايا المهمة في هذا العلم، ومال فيها إلى وجهة نظر أسلافه من المستشرقين، وأهم تلك القضايا
.1 مكانة الحديث في الشريعة الإسلامية.
.2 كتابة الحديث وتدوينه.
.3 قيمة علم نقد الحديث.
والأسلوب الذي عالج به الكاتب هذه القضايا هوأسلوب المستشرقين المعهود الذي يغلب عليه إصدار الأحكام الخطيرة بلا دليل، والمراوغة والالتواء في الكلام وتجاهل الحقائق الثابتة.
واعتمد كاتب هذا المقال على ما كتبه المستشرقون في الموضوع، وسايرهم في آرائهم ومواقفهم غير المنصفة، فأكثر من الإشارات المغرضة التي تنشر ظلال الشك حول الحديث النبوي ومكانته وصحته وقيمة علومه، فجاء المقال مشتملاً على أخطاء كبيرة تستلزم التوضيح والتصحيح.
أولا : التشكيك في مكانة السنة في الشريعة الإسلامية :
أشار الكاتب في مستهل مقاله إلى أن الحديث هو المصدر الثاني للشريعة الإسلامية، لكنه استدرك قائلا : " لكن هذا كان نتيجة تدبير طويل "، ثم أشار إلى سرعة انتشار الإسلام وشدة حاجة الناس إلى الحديث ثم قال : " في هذا الوقت لم تكن هناك أي فكرة عن أن الحديث هو المصدر الثاني ـ بعد القرآن ـ للشريعة الإسلامية، لأنه لم تكن هناك أي مادة مدونة من الحديث، وبعد وفاة النبي صلى الله عليه و سلم ظل القرآن مصدر الهداية، ثم بدأ إحساس الناس بالحاجة إلى مصدر ثان يظهر بقدر ما يحدث من المشاكل الجديدة ".(1/114)
تنطوي عبارات الكاتب في هذه الفقرات على خطأ كبير ومغالطة مكشوفة هي أن السنة النبوية لم تكن تعتبر مصدراً للشريعة الإسلامية إلا بعد وفاة النبي صلى الله عليه و سلم وبعد حدوث مشاكل جديدة. والأدلة التي تكشف هذه المغالطة وزيفها وبطلانها كثيرة منها :
.1 أن الصحابة أخذوا من السنة النبوية في حياته صلى الله عليه و سلم كثيراً من الأحكام الشرعية وتفصيلاتها في العبادات والمعاملات والآداب، فكثير من أحكام الطهارة والصلاة والزكاة والصيام والحج أخذت من السنة، وكثير من أحكام المعاملات التي لم ترد مفصلة في القرآن أخذت من السنة، وفي القرآن الكريم آيات كثيرة تحث على طاعة رسول اللَّه واتباع أمره وسنته كقوله تعالى : { وَمَا آتَاكُمْ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا }. وقوله تعالى :{ قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمْ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ }.
وهناك أحاديث تحث على وجوب العمل بسنة رسول اللَّه صلى الله عليه و سلم منها ما رواه الحاكم وابن عبد البر عن كثير بن عبد اللَّه بن عمرو عن أبيه عن جده، أن رسول اللَّه صلى الله عليه و سلم قال : >تركت فيكم أمرين لن تضلوا ما تمسكتم بهما : كتاب اللَّه وسنتي <.
وأخرج ابن عبد البر عن عرباص بن سارية قال : صلى بنا رسول اللَّه صلاة الصبح فوعظنا موعظة بليغة ذرفت منها العيون، ووجلت منها القلوب، فقيل يارسول اللَّه كأنها موعظة مودع فأوصنا، فقال : عليكم بالسمع والطاعة وإن كان عبداً حبشياً، فإنه من يعش منكم فسيرى اختلافاً كثيراً، فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين عَضُّو عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور فإن كل بدعة ضلالة ".(1/115)
فلا يعقل أن يحث القرآن و الحديث على طاعة رسول اللَّه صلى الله عليه و سلم واتباع سنته ولا يمتثله الصحابة والتابعون، بجعل السنة من مصادر التشريع، هذا بعيد جداً يكذبه العقل والواقع.
وثبت في الحديث النبوي الصحيح ما يؤكد أن العمل بالسنة والرجوع إليها لطلب الأحكام الشرعية، حقيقة استقرت في عقيدة الصحابة ورسخت في عملهم والنبي صلى الله عليه و سلم بينهم. من ذلك حديث معاذ بن جبل المشهور الذي أخرجه أبو داوود والترمذي، وفيه أن النبي صلى الله عليه و سلم سأله حين عزم أن يبعثه قاضياً إلى اليمن، وقال : بم تقضي إذاعرض لك قضاء، فقال : أقضي بكتاب اللَّه، قال : فإن لم يكن في كتاب اللَّه، قال :فبسنة رسول اللَّه، قال : فإن لم يكن في سنة رسول اللَّه، قال : أجتهد رأيي ولا آلو، فضرب رسول اللَّه على صدره، وقال : الحمد لله الذي وفق رسول رسول اللَّه لما يرضي رأي رسول اللَّه.
ومما كتبه عمر بن الخطاب رضي اللَّه عنه إلى شريح القاضي : "إذا أتاك أمر فاقض بما في كتاب اللَّه، فإن أتاك بما ليس في كتاب اللَّه، فاقض بِمَا سَنَّ فيه رسول اللَّه صلى الله عليه و سلم ". ويروى عن ابن مسعود مثل ذلك.
وعمل الخليفة أبو بكر بهذا الأمر في مسألة الجدة التي جاءته تلتمس أن يبين لها نصيبها من الميراث، فقال رضي اللَّه عنه ما أجد لك في كتاب اللَّه شيئاً، وما علمت أن النبي صلى الله عليه و سلم ذكر لك شيئاً، فقام المغيرة فقال : حضرت رسول اللَّه صلى الله عليه و سلم يعطيها السدس، فقال له هل معك أحد، فشهد محمد بن مسلمة بمثل ذلك فأنفذه لها، وهناك أحاديث كثيرة في هذا المعنى تدل على أن مغالطة كاتب المقال زائفة متهافتة لا تستحق أن يشغل الوقت بالرد عليها لولا أن هذه الموسوعة واسعة الانتشار يرجع إليها الباحثون من سائر الأجناس والبلدان، ويطالعها أهل الاختصاص وغيرهم.(1/116)
ثانيا : التشكيك في كتابة الحديث قبل نهاية القرن الثاني :
تقدم في حديث الكاتب قوله ، وهو يشكك في كون السنة مصدراً للشريعة في عهد النبوة والصحابة :" لأنه لم تكن هناك أي مادة مدونة من الحديث "، وتحت عنوان فرعي خاص بجمع الحديث، ذهب صاحب المقال إلى أن هناك من يتمسك بالنظرية القائلة : إن الحديث النبوي ينقل بالرواية والسماع، بل هناك أحاديث تؤيد هذا الرأي، وأشار إلى أن بعض الصحابة صنعوا لهم مذكرات كتبوا فيها شيئاً من الحديث للاستعمال الشخصي. ثم قال : "ومع ما يقال من أن مادة الحديث جمعت منذ القرن الأول، فإن الكتب ألفت أساساً ابتداءً من القرن الثالث فصاعداً.". وأشار إلى أن العرب مشهورون بعلم الأنساب ثم قال : >ولهذا لا يمكن لأحد أن يسلم ـ بدون سبب أو دليل ـ بأن المادة الحديثية التي تنسب إلى المراحل الأولى كانت متوفرة معروضة لمن يريدها<.
واضح أن الكاتب في هذه الفقرات يستخدم عبارات عائمة لكنها ملغومة، يمكن أن تنطلي على القارئ غير المتخصص. أما أهل الاختصاص الذين اطلعوا على ماكتبه العلماء قديماً وحديثاً عن قضية تدوين الحديث، وعرفوا موقف المستشرقين منها، فإنهم يدركون ما وراء عبارات الكاتب ويفطنون إلى أنه يريد أن يتسلل من بين هذه العبارات ليقرر أن تدوين الحديث في الكتب الجامعة، قد تأخر إلى القرن الثالث، وأنه لذلك تعرض للضياع والاضطراب.
وهذه دعوى لا أساس لها، فإن كتابة الحديث بدأت منذ عهد الرسول صلى الله عليه و سلم ، والروايات التي تثبت ذلك كثيرة، وصلت بالأسانيد الموثوقة، على أن هذا لا يعني أن الحديث دون تدويناً كاملاً وبالمعنى والمبنى اللذين وصلنا بهما في عهده صلى الله عليه و سلم ، كما دون القرآن، وذلك لأسباب وحكم لا مجال لذكرها هنا.(1/117)
ووردت أحاديث كثيرة عن عدد من الصحابة تؤكد وقوع كتابة الحديث في العهد النبوي، مما يدل على أنها كانت مباحة، كما ثبت أن عدداً من الصحابة اتخذوا لهم صحائف خاصة كتبوا فيها قدراً من الحديث، و أهم تلك الصحائف :
.1 صحيفة عبد اللَّه بن عمرو وهي المعروفة بالصحيفة الصادقة.
.2 صحيفة علي بن أبي طالب.
.3صحيفة سعد بن عبادة.
يضاف إليها كتبه صلى الله عليه و سلم إلى عماله في بيان أحكام الدين، مثل كتاب الزكاة والديات، وكتابه لعامله على اليمن وفيه أصول الإسلام، وعقوده ومعاهداته التي أبرمها مع الكفار وأمره بكتابة خطبته يوم الفتح لأبي شاة اليمني.في الحديث الذي أخرجه البخاري في اللقطة باب" إذا وجدتموه في الطريق "، أن رجلاً من الصحابة يقال له أبو شاهٍ " قام فقال : اكتبوا لي، فقال النبي صلى الله عليه و سلم اكتبوا لأبي شاهٍ يريد خطبته يوم فتح مكة".
وهذا كاف لإثبات أن كتابة الحديث بدأت منذ عهده صلى الله عليه و سلم ، ولإثبات أن ما كتب آنئذ تناول قسماً كبيراً منه.
وعَارَضَ الأحاديث التي تدل على إباحة الكتابة ووقوعها، الحديثُ الذي أخرجه الإمامان مسلم وأحمد بن حنبل عن أبي سعيد الخدري، أن النبي صلى الله عليه و سلم قال : لا تكتبوا عني شيئا ومن كتب عني شيئا غير القرآن فليمحه ".
وتعددت آراء العلماءفي إزالة هذا التعارض، فذهب الأكثرون إلى أن هذا الحديث منسوخ بأحاديث الإذن والإباحة. وذهب آخرون إلى أن النهي خاص بمن لا يؤمن عليه الغلط والخلط بين القرآن والسنة، وأن الإذن خاص بمن أمن عليه ذلك.(1/118)
وذهب بعض الدارسين المحدثين إلى أن العلة في النهي عن كتابة الحديث هي الخوف من أن يكون الانشغال به والانكباب عليه صارفاً عن القرآن، واستدل على ذلك بأدلة علمية قوية، وانتهى إلى استخلاص أن الكتابة التي أذن فيها النبي صلى الله عليه و سلم ، هي التي لا تتخذ طابع التدوين، أي لا تتخد مرجعا يتداول بين الصحابة، ولذلك لم يأمر صلى الله عليه و سلم أحداً من الصحابة بكتابة الحديث.
إن تدوين الحديث بدأ منذ العهد الأول، وشمل قسما كبيراً منه. وفيما قدمناه ما يبطل قول المستشرق روبسون" لم تكن هناك أي مادة مدونة من الحديث ".
ثم إن تدوين الحديث وتصنيفه على الأبواب في المصنفات والجوامع لم يتأخر، كما ادعى، إلى القرن الثالث من الهجرة، وإنما بدأ قبل المائتين بدليل ما قرره عدد من العلماء أمثال أبي طالب المكي من القدماء، وفؤاد سزكين من المحدثين. وبالدليل الواقعي الملموس الذي يدل على أن هناك جملة من هذه الكتب مات مؤلفوها قبل منتصف المائة الثانية من الهجرة، مثل جامع معمر بن راشد (ت 154هـ )، وجامع سفيان الثوري (ت161هـ)، وهشام بن حسان (ت 148 هـ)، وابن جريج ( ت 150هـ)، وغيرهم كثر، أما تقييد العلم في عهد عمر بن عبد العزيز، فلا يعني أنه لم يكتب من قبل، وإنما هو انتقال إلى مرحلة التدوين الكامل.
وقد وصل العلماء إلى العثور على جامع معمر بن راشد، وطبع ونشر، وهو وحده يكفي لاكتساح مزاعم المستشرقين، وتأكيد أن الحديث النبوي الشريف نقل بالطرق السليمة.
ثالثا : التقليل من جهود العلماء في نقد الحديث :(1/119)
بعد أن أثنى كاتب مادة الحديث في الموسوعة الإسلامية على جهود العلماء المسلمين في نقد الحديث، استدرك قائلاً :" لكن علماء الغرب يرون أن هذا النقد لم يذهب بعيداً في تصفية الحديث :" ثم نقل رأي المستشرق المجري اليهودي جولد زيهر الذي شكك في الأحاديث النبوية التي ذكرت فيها بعض المدن أو الأماكن البعيدة عن الجزيرة العربية، والتي ذكرت فيها الفرق الإسلامية التي ظهرت بعد وفاة النبي صلى الله عليه و سلم ، والتي ذكرت فيها معجزاته صلى الله عليه و سلم ، والتي ذكر فيها قيام الساعة وما يصاحبه أو يسبقه من الأحداث، والتي ذكر فيها الأمويون والعباسيون، نقل هذا الرأي لهذا المستشرق وسائر أصحابه في التشكيك في هذه الأحاديث جملةً بدعوى أن العقل الغربي لا يقبلها. ثم ختم هذه الفقرة بقوله : "إن من الواضح أن الكثير من الحديث الذي وصل عن المرحلة المتأخرة موضوع، نسب إلى النبي، الأمر الذي يجعل إيجاد معيار صحيح، يقاس به ما كان صحيحاً من الصعوبة بمكان".
في هذه الفقرة تلخيص مراوغ لآراء المستشرقين الذين نقل عنهم روبسون في علم نقد الحديث، وجهود علمائه، وهي آراء تتجه إلى التقليل من قيمة هذا العلم، وذلك بدعوى أنه نقد شكلي أو خارجي لا يصلح أن يكون معياراً لتمييز الصحيح من غيره.
والحقيقة أن كل من نظر بعين الإنصاف والنزاهة العلمية في علم نقد الحديث وجهود المسلمين في دراسة السند ونقد رجاله، لا يستطيع إلا أن يعترف بأن الجهد الذي بذلوه في ذلك لا مثيل له في أي حضارة أو ثقافة أخرى، وأن الطرق التي سلكوها هي أقوم الطرق العلمية للنقد والتحقيق والتمحيص.
لكن هؤلاء المستشرقين الذين حادوا عن الإنصاف أصروا على قلب حسنات المسلمين مساوئ ظلماً ومكراً.(1/120)
من هنا نعلم أن قول كاتب المقال : "إن هذا النقد لم يذهب بعيداً في تصفية الحديث" دعوى ساقطة يكذبها ما تضمه مكتبة علوم الحديث من المجلدات الكثيرة في نقد رجال الحديث وتمييز مراتبهم، ومن المجلدات الواسعة في الأحاديث الموضوعة والضعيفة، ومن الجوامع الصحيحة التي أفنوا أعمارهم في تأليفها، فهذه جملة من ثمرات ذلك النقد الصارم، والجهد الصادق.
وأما نقله عن جولد زيهر ففيه تعميم ومغالطة، إذ خلط فيه بين الأحاديث التي صحت بالطرق السليمة كأحاديث المعجزات النبوية، وأحاديث الأهوال والأحداث التي تقع يوم القيامة، وبين الأحاديث الموضوعة كأحاديث فضائل الأمويين والعباسيين.
والحق أن أنباء الغيب الماضي والمستقبل التي نقلت عن النبي صلى الله عليه و سلم بالأسانيد الصحيحة كثيرة تفوق درجة التواتر في جملتها كالأحاديث الواردة في ظهور المسيح الدجال اليهودي، وفي نزول المسيح عيسى ابن مريم عليه السلام، وكذا أحاديث الملاحم والفتن التي تحدث قبل قيام الساعة، مما لا يسع أحداً إنكاره إلا أن ينكر عقله والمعايير العلمية.
على أ ن المسلمين لم يتلقوا تلك الأحاديث جزافاً من غير تمييز، بل فحصوها فحصاً دقيقاً، وهاهي ذي الأحاديث الكثيرة في ذم الأمويين ومدحهم تملأ بطون الكتب الخاصة بالحديث الموضوع، وها هي ذي الأحاديث الساقطة في مدح العباسيين والتنبؤ بدولتهم قد دونت كذلك مع الموضوعات.
وأما ما ذكره الكاتب من كون العقل الغربي لا يقبل تلك الأحاديث، فلا قيمة له في مجال علوم الحديث، لأن المعيار الذي وضعه علماء الحديث للتصحيح والتضعيف والقبول والرد، إنما هو النقل بالطرق الصحيحة والسند المتصل والعدالة في الرواة والسلامة في المتن، فإذا توفرت هذه الشروط صح الحديث، سواء تعلق بالغيب أو الشهادة، وسواء كان موافقاً للعادة أو خارقاً لها.(1/121)
وأما حكمه المجازف بأن الحديث الذي وصل عن المرحلة المتأخرة موضوعٌ، فلا قيمة له ولا دليل عليه، بعد أن بينا أن كتابة الحديث بدأت منذ عهد النبي صلى الله عليه و سلم وأن المجامع الكبيرة صنفت قبل منتصف القرن الثاني للهجرة، فكل هذا دليل ساطع يفند آراء المستشرقين ويبدد مزاعمهم.
تلك كانت أهم الأخطاء التي وقع فيها كاتب مادة الحديث من الموسوعة الإسلامية، قد كشفنا عنها وصححناها بقدر الإمكان، والتزمنا في مناقشة الكاتب بالمنهج العلمي والجدال بالتي هي أحسن، ونسأل اللَّه تعالى أن يهيء لهذه التصحيحات السبيل لإظهار الحق وإنصاف أهله.(1/122)
قائمة المصادر والمراجع
ـ القرآن الكريم.
ـ الاستشراق والمستشرقون، ما لهم وما عليهم، د. مصطفى السباعي، ط 3، بيروت، 1985م.
ـ أنساب الأشراف، البلاذري، تحقيق محمد حميد الله، دار المعارف بمصر.
ـ الأموال، أبو عبيد القاسم بن سلام، تحقيق خليل هراس، ط 2، دار الفكر، القاهرة 1395هـ.
ـ تاريخ الرسل والملوك للطبري، نشر دار المعارف بمصر، 1969-1960م.
ـ تاريخ خليفة بن خياط، تحقيق أكرم ضياء العمري، ط 2، مؤسسة الرسالة، بيروت، 1397هـ.
ـ تاريخ التراث العربي، فؤاد سزكين.
ـ تفسير التحرير والتنوير للطاهر بن عاشور.
ـ دلائل النبوة، تحقيق عبد المعطي قلعجي، دار الكتب العلمية، بيروت، 1985م.
ـ الروض الأنف للسهيلي، تحقيق عبد الرحمن الوكيل، دار الكتب الحديثة، القاهرة.
ـ السنة ومكانتها في التشريع الإسلامي، د. مصطفى السباعي، ط 2، بيروت، المكتب الإسلامي.
ـ السنن الكبرى للبيهقي، دار المعارف العثمانية، الهند، 1344هـ.
ـ سنن أبي داود، ط 1، نشر دار الحديث، بيروت، 1969م.
ـ السيرة النبوية لابن هشام، تحقيق السقا والأبياري وشلبي، ط البابي الحلبي، 1375هـ.
ـ السيرة النبوية لابن كثير، تحقيق د. مصطفى عبد الواحد، وهي قطعة من البداية والنهاية.
ـ السيرة النبوية وأوهام المستشرقين، عبد المتعال محمد الجبري، مكتبة وهبة 1988م.
ـ السيرة النبوية الصحيحة، د. أكرم ضياء العمري، مكتبة العلوم والحكم، المدينة المنورة.
ـ السيرة النبوية وكيف حرفها المستشرقون، محمد عبد العظيم علي، دار الدعوة بمصر.
ـ صحيح البخاري، المكتبة الإسلامية باستنبول، وأيضا بواسطة فتح الباري.
ـ صحيح مسلم، تحقيق محمد فؤاد عبد الباقي، دار إحياء الكتب العربية، 1375-1374هـ.
ـ صحيح السيرة النبوية، إبراهيم العلى، دار النفائس، ط 2، 1996م.
ـ فقه السيرة، محمد الغزالي، دار الكتب الحديثة، الطبعة 7، القاهرة، 1976م.
ـ مختصر تفسير ابن كثير، محمد علي الصابوني، دار القرآن الكريم، بيروت.
ـ المستدرك للحاكم النيسابوري، طبعة إسلام آباد، 1341هـ.
ـ مسند الإمام أحمد، نشر المكتب الإسلامي، بيروت.
ـ المصنف لعبد الرزاق، تحقيق حبيب الرحمن الأعظم، دار القلم، بيروت، 1390هـ.
ـ مصنف أبي شيبة عبد الخالق الأفغاني، الدار السلفية، 1979م.
ـ المعجم الكبير للطبراني، تحقيق حمدي عبد المجيد السلفي، نشر وزارة الأوقاف، بغداد.
ـ منهج النقد في علوم الحديث، د. نور الدين عتر، دار الفكر المعاصر، بيروت، ودار الفكر، دمشق، ط 3، 1992م.
ـ مجلة "الإسلام اليوم"، تصدر عن المنظمة الإسلامية للتربية والعلوم والثقافة، عدد 14، مراجعة مادة (محمد) في الموسوعة الإسلامية.
- Muhammad : His Life Based on the Earliest Sources : Martin lings.(1/123)