تسلية اهل المصائب أبي عبد الله الحنبلي
____________________
(1/1)
فصل
وكلمة نافذة من غير زاجر شرعي يزجرها تمردت وسعت في الارض فسادا مع علمهم بما فعل بمن قبلهم فكيف لو حصل لهم مع ذلك إهمال ولكن الله سبحانه وتعالى إذا أراد بعبده خيرا سقاه دواء من الابتلاء والامتحان على قدر حاله يستفرغ منه الادواء المهلكة حتى اذا هذبه ونقاه وصفاه أهله لأشرف مراتب الدنيا وهي عبوديته ورقاه أرفع ثواب الآخرة وهي رؤيته فصل
قد يحصل للعابد الجاهل بمصيبته من الجزع ما يسوء الناظر إليه والسامع عنه من الاعتراض على الأقدار وما ذاك الا لإدلاله بعبادته فإنه قد شوهد أن خلقا كثيرا من أهل الدين والخير عند موت أحبابهم جرى منهم أمور ينكرها العقال من الناس فمنهم من خرق ثيابه ومنهم من لطم خده ومنهم من
____________________
(1/25)
اعترض على القضاء والقدر
قال ابن الجوزي رأيت رجلا كبيرا أعرفه قد قارب الثمانين وهو من أهل الدين المحافظين على الجماعة فمات ولد لابنته فقال ما ينبغي لأحد أن يدعو فإنه ما يستجيب له ثم قال إن عاندنا فما يترك لنا ولدا فعلمت أن صلاته وفعله للخير عادة لا أنه ينشأ عن معرفة إيمان وهؤلاء الذين يعبدون الله على حرف
ثم قال ابن الجوزي وحدثني خالي لعمي محمد بن عثمان قال كنت مشدا بقربة التل فسمعت عن شيخ قد جاوز الثمانين ولا يصلي وقد كان قبل ذلك كثير الصلاة مع الجماعة وفعل الخير ثم ترك ذلك فدعوته وقلت يا شيخ لم لا تصلي فقال و كيف أصلي وكان لي أولاد فماتوا وكان لي غنم ففنوا فأنا ما بقيت اصلي له ولا ركعة فضربته وطفت به البلد فكان بعد ذلك يواظب على الجامع انتهى ما ذكره فلا شيء انفع من العلم لأن العالم لو حصل له هلع شديد في مصيبته يعلم أنها زلة منه فيدري كيف يتنفس والعابد الجاهل كلما غاص الى أسفل يظن أنه صاعدا إلى فوق فإذا امتحن الشخص ينبغي له أن يتداوي بالادوية الشرعية فإنه يقال عند الامتحان يكرم الشخص أو يهان أما علم أنه لابد من الفرقة وقد روى داود عن الحسن بن جعفر عن أبي الزبير عن جابر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم قال جبريل يا محمد عش ما عشت فإنك ميت وأحبب من شئت فانك مفارقه واعمل ما شئت فانك ملاقيه فنعوذ بالله من عدم الصبر عند المحنة ونسأله الثبات في الأمر فإنه والعياذ بالله يخاف على الشخص من سوء الخاتمة إذا سخط الأقدار ونازع القضاء والقدر أهله فنسأل الله تعالى حسن الخاتمة
____________________
(1/26)
فصل
ينبغي للمصاب بنفسه أو بولده أو بغيرهما أن يجعل في المرض مكان الأنين ذكره الله تعالى والاستغفار والتعبد فإن السلف رحمهم الله تعالى كانوا يكرهون الشكوى إلى الخلق وهي وان كان فيها راحة إلا أنها تدل على ضعف وخور والصبر عنها دليل قوة وعز وهي إشاعة سر الله تعالى عند العبد وهي تؤثر شماتة الأعداء ورحمة الاصدقاء قال الشاعر % لاتشكون إلى صديق حالة % تأتيك في السراء والضراء % % فلرحمة المتوجعين مرارة % في القلب مثل شماتة الاعداء %
وذكر ابن أبي الدنيا بإسناده إلى إسماعيل بن عمرو قال دخلنا على ورقاء ابن عمر وهو في الموت فجعل يهلل ويكبر ويذكر الله عز وجل وجعل الناس يدخلون عليه ويسلمون عليه فيرد عليهم السلام فلما كثروا عليه أقبل على ابنه فقال يا بني اكفني رد السلام على هؤلاء لا يشغلوني عن ذكر ربي عز وجل
وعن أبي محمد الحريري قال حضرت عند االجنيد قبل وفاته بساعتين فلم يزل تاليا وساجدا فقلت له يا أبا القاسم قد بلغ بك ما أرى من الجهد فقال يا أبا محمد أحوج ما كنت اليه هذه الساعة فلم يزل كذلك حتى فارق الدنيا
وقد روي في حديث أن إبليس لا يكون في حال أشد منه على ابن آدم عند الموت يقول لأعوانه دونكموه فإنه إن فاتكم اليوم لم تلحقوه
واعلم رحمك الله أن الأعمال بخواتيمها فإنه ربما امنله في اعتقاده وربما حيل بينه وبين التوبة وغير ذلك مما هو محتاج إليه وربما وقع منه الاعتراض على القضاء والقدر فينبغي للمصاب بنفسه او بغيره أن يعلم أو يعلم لغيره أنها صبر ساعة فيتجلد ويحارب العدو جهد طاقته فبصدقه تحصل له عليه الإعانة من الله ويعلم أيضا ان التشديد عليه أو على غيره في النزع هو في الغالب من كرامة العبد على الله عز وجل فان أشد الناس بلاء الأنبياء ثم الصالحون ثم الأمثل
____________________
(1/27)
فالأمثل وقوله صلى الله عليه وسلم ما أشد مرارة الموت وقول ابي عبيدة اخنق خنقك فوعزتك انك تعلم أن قلبي يحبك
وقد روى الامام أحمد عن الوليد بن مسلم الاوزاعي عن عمر بن عبد العزيز أنه قال ما أحب أن يهون على سكرات الموت أنه آخر ما يكفر عن المرء المسلم
وقال عبد الله بن الإمام أحمد حدثني معمر حدثني شريك عن إبراهيم بن مهاجر عن إبراهيم النخعي قال كانوا يستحبون للمريض أن يجهد عند الموت وبإسناده عن ابن عباس قال آخر شدة يلقاها المؤمن عند الموت
كانت عائشة رضي الله عنها تقول مات فلان ولم يعالج قال الحافظ ابن ناصر يعني انه لم يعالج أنه لم يحصل له في مرضه وعند موته ما يكون كفارة لذنوبه
وعن ثابت عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل على شاب وهو في النزع فقل كيف تجدك قال أرجو الله واخاف ذنوبي فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يجتمعان في قلب عبد في مثل هذا الموطن إلا أعطاه الله ما يرضى أو أمنه مما يخاف فمن خاف الله وحفظه في صحته حفظه في مرضه ومن راقب الله في خطر حرسه الله في حركاته وسكناته
وفي حديث ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال احفظ الله يحفظك احفظ الله تجده أمامك تعرف الى الله في الرخاء يعرفك في الشدة
وكما في قصة يونس عليه السلام لما تقدم له عمل صالح قال { فلولا أنه كان من المسبحين للبث في بطنه إلى يوم يبعثون } ولما لم يكن لفرعون عمل خير قط لم يجد وقت الشدة متعلقا فقيل له { آلآن وقد عصيت قبل وكنت من المفسدين } فمن ضيع الله في صحته فإنه يضيع في مرضه والله أعلم
____________________
(1/28)
فصل
وليعلم المصاب أن الجزع لا يرد المصيبة بل يضاعفها وهو في الحقيقة يزيد في مصيبته بل يعلم المصاب أن الجزع يشمت عدوه ويسوء صديقه ويغضب ربه ويسر شيطانه ويحبط أجره ويضعف نفسه وإذا صبر واحتسب أخزى شيطانه وأرضى ربه وسر صديقه وساء عدوه وحمل عن إخوانه وعزاهم هو قبل ان يعزوه فهذا هو الثبات في الامر الديني قال النبي صلى الله عليه وسلم اللهم إنا نسألك الثبات في الامر فهذا هو الكمال الأعظم لا لطم الخدود وشق الجيوب والدعاء بالويل والثبور والتسخط على المقدور
قال بعض الحكماء العاقل يفعل في أول يوم من المصيبة ما يفعله الجاهل بعد أيام ومن لم يصبر صبر الكرام سلا سلو البهائم يريد بذلك ما ثبت في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال إنما الصبر عند الصدمة الاولى وقال الأشعث بن قيس إنك إن صبرت إيمانا واحتسابا وإلا سلوت كما تسلو البهائم بل يعلم المصاب ان ما يعقبه الصبر والاحتساب من اللذة والمسرة أضعاف ما يحصل له ببقاء ما أصيب به لوبقي عليه ويكفيه من ذلك بيت الحمد الذي يبنى له في الجنة على حمده لربه واسترجاعه على مصيبته فلينظر أي المصيبتين أعظم مصيبته العاجلة بفوات محبوبه أو مصيبته بفوات بيت الحمد في جنة الخلد
وفي الترمذي مرفوعا يود ناس لو ان جلودهم كانت تقرض بالمقاريض في الدنيا لما يرون من ثواب أهل البلاء
وليعلم المصاب الجازع وإن بلغ به الجزع غايته ونهايته فآخر أمره الى صبر الاضطرار وهو غير محمود ولا مثاب عليه فإنه استسلم للصبر وانقاد إليه على
____________________
(1/29)
رغم أنفه قال يحيى بن معاذ ابن آدم مالك تأسف على مفقود لا يرده عليك الفوت ومالك تفرح بموجود لا يتركه في يديك الموت فإذا علم الجازع على المصيبة ان الجزع لا يرد ما فات وأنه يسر الشامت فأي عقل لمن لم يتفكر في العاقبة ويذكر مآله الى مصيبة أصابت غيره أنها تصيبه في نفسه وأنه أمر لابد منه فليستعد له
وكانت امرأة من العابدات بالبصرة تصاب بالمصائب فلا تجزع فذكروا لها ذلك فقالت ما أصاب بمصيبة فأذكر معها النار الا صارت في عيني أصغر من الذباب
ومما يسلي العبد قول بعض الحكماء قد مات كل نبي ومات كل نبيه ولبيب وفقيه وعالم فلا تجزع ولا يوحشنك طريق الخلائق فيها
وقال بعض السلف وقد سأله رجل فقال عظني فقال انظر منك الى آدم هل ترى منهم عين تطرف فقال حسبك فصل
ومما يسلي أهل المصائب أن المصاب إذا صبر واحتسب وركن إلى كريم رجاء أن يخلف الله تعالى عليه ويعوضه عن مصابه فإن الله تعالى لا يخيبه بل يعوضه فإنه من كل شيء عوض الا الله تعالى فما منه عوض كما قيل % من كل شيء إذا ضيعته عوض % وما من الله إن ضيعته عوض %
بل يعلم أن حظه من المصيبه ما يحدثه له فمن رضي فله الرضى ومن سخط فله السخط فاختر لنفسك خير الحظوظ او شرها فان احدثت له سخطا وكفرا كنت في ديوان الهالكين وإن أحدثت له جزعا وتفريطا في ترك واجب او فعل محرم كنت في ديوان المفرطين وإن أحدثت له شكاية وعدم صبر
____________________
(1/30)
ورضى كنت في ديوان المغبونين وإن أحدثت له اعتراضا عليه وقدحا في حكمته ومجادلة في الاقدار فقد قرعت باب الزندقة وفتح لك وولجته فاحذر عذاب الله يحل بك فانه لمن خالفه بالمرصاد وإن أحدثت له صبرا وثباتا لله كنت في ديوان الصابرين وإن أحدثت له رضى بالله ورضى عن الله وفرحا بقضائه كنت في ديوان الراضين وإن أحدثت له حمدا وشكرا كنت في ديوان الشاكرين الحامدين وإن أحدثت له محبة واشتياقا الى لقائه كنت في ديوان المحبين المخلصين
وفي مسند الإمام احمد والترمذي من حديث محمود بن لبيد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال إن الله إذا أحب قوما ابتلاهم فمن رضي فله الرضى ومن سخط فله السخط زاد الإمام أحمد ومن جزع فله الجزع فأنفع الادوية للمصاب موافقة ربه وإلهه فيما أحبه ورضيه له وإن خاصية المحبة وسرها موافقة المحبوب فمن ادعى محبة محبوب ثم سخط ما يحبه واحب ما يسخطه فقد شهد على نفسه بكذبه وأسخط عليه محبوبه قال أبو الدرداء رضي الله عنه إن الله إذا قضى قضاء أحب أن يرضى به
وكان عمران بن حصين رضي الله عنه يقول في مرضه أحبه الي أحبه اليه وقال بعده أبو العالية وهذا دواء المحبين وعلاجهم لأنفسهم ولا يمكن كل أحد ان يتعالج به فانظر هذه الطرائق واختر وفقنا الله وإياك لما يحب فصل نافع لمن نظر فيه وارد فيمن يفرح بالمصائب ويطلبها نظرا الى ثوابها
روى ابن ابي حاتم بإسناده في تفسيره عن خالد بن يزيد عن عياض عن عقبة أنه مات له ابن يقال له يحيى فلما نزل في قبره قال له رجل والله إن كان لسيد الجيش فاحتسبه فقال والده وما يمنعني أن أحتسبه وكان من زينة الحياة الدنيا وهو اليوم من الباقيات الصالحات فهذا رجل صابر راض محتسب ما أحسن فهمه وحسن تعزيته لنفسه وثقته بما أعطاه الله من ثواب الصابرين
____________________
(1/31)
وعن ثابت قال مات عبد الله بن مطرف فخرج أبوه مطرف على قومه في ثياب حسنة وقد ادهن فغضبوا فقالوا يموت عبد الله وتخرج في مثل هذه مدهنا قال أفأستكين لها وقد وعدني ربي تبارك وتعالى عليها خصالا كل خصلة منها أحب الي من الدنيا كلها قال تعالى { الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة وأولئك هم المهتدون } أفأستكين لها بعد ذلك ثم قال ثابت قال مطرف ما شيء أعطى به في الآخرة قدر كوز من ماء الا وددت أنه أخذ مني في الدنيا رواه الامام أحمد في كتاب الزهد
وعن محمد بن خلف قال كان لإبراهيم الحربي ابن كان له إحدى عشرة سنة حفظ القرآن ولقنه من الفقه جانبا كبيرا قال فمات فجئت أعزية فقال كنت أشتهى موت ابني هذا قال فقلت له يا ابا إسحاق أنت عالم الدنيا تقول مثل هذا في صبي قد أنجب ولقنته الحديث والفقه قال نعم رأيت في منامي كأن القيامة قد قامت وكأن صبيانا بأيديهم قلال فيها ماء يستقبلون الناس فيسقونهم وكان اليوم يوما حارا شديدا حره قال فقلت لاحدهم اسقني من هذا الماء قال فنظر الي وقال ليس أنت ابي قلت فأي شيء أنتم قال فقال لي نحن الصبيان الذين متنا في دار الدنيا وخلفنا آباؤنا فنستقبلهم فنسقيهم الماء قال فلهذا تمنيت موته
وروى البيهقي بإسناده عن ابن شوذب ان رجلا كان له ابن لم يبلغ الحلم قال فأرسل الى قومه إن لي حاجة قالوا نعم وما هي قال إني أريد أن أدعو على ابني هذا أن يقبضه الله تعالى وتؤمنون على دعائي فسألوه ذلك فأخبرهم أنه رأي في منامه كأن الناس جمعوا ليوم القيامة فأصاب الناس عطش شديد فإذا الولدان قد خرجوا من الجنة معهم الاباريق فأبصرت ابن أخ لي فقلت يا فلان اسقني قال يا عم إنا لا نسقي إلا الآباء قال فأحببت
____________________
(1/32)
ان يجعل الله ولدي هذا فرطا لي فدعا فأمنو على دعائه فلم يلبث الغلام إلا يسيرا حتى مات
وقدروى ابن عساكر بإسناده عن سهيل بن الحنظلية الانصاري وكان لا يولد له فقال لأن يولد لي ولو سقط فاحتسبه أحب الي من أن يكون لي الدنيا بأجمعها وكان ابن الحنظلية ممن بايع تحت الشجرة
وذكر ابن عساكر أيضا عن الليث بن سعد قال حدثني يزيد بن ابي حبيب أن ابنا لعياض بن عقبة حضرته الوفاة وكان عياض غائبا فقالت أم الغلام لو كان أبو وهب حاضرا لقرت عينه فلما حضرت وفاة عياض بن عقبة قال لاخيه ابي عبيد يهنئك الظفر قد كنت أرجو أن تكون قبلي فأحتسبك
وقال ابو مسلم الخولاني رحمه الله لان يولد لي مولود يحسن الله نباته حتى إذا استوى على شبابه وكان أعجب ما يكون إلي قبضه الله تعالي مني أحب الي من ان تكون الدنيا وما فيها لي
وروى عن الامام القفال قال كان في جواري رجل يأبى التزوج فلما كان في بعض الليالي استيقظ من نومه في الليل ونادى زوجوني زوجوني فسئل عن ذلك فقال لعل الله يرزقني ولدا يقبضه قبل البلوغ وقبل موتي قيل وكيف ذلك قال رأيت في المنام كأن القيامه قد قامت والخلق في الموقف وأنا معهم وقد كظني العطش وإذا قد ظهر أطفال بايديهم أباريق من فضة مغطاة بمناديل من نور يتخللون الجمع ويسقون واحدا بعد واحد فمددت يدي إليهم وقلت لبعضهم اسقني فقد أجهدني العطش فنظر الي شزرا وقال ليس لك فينا ولد وإنما نسقي آباءنا وأمهاتنا فقلت من انتم قالوا أطفال المسلمين
وقال ابو الحسن المدائني دخل عمر بن عبد العزيز على ابنه في وجعه فقال يا بني كيف تجدك قال تجدني في الحق قال يا بني لان تكون في ميزاني أحب إلي من أن أكون في ميزانك فقال يا أبه لان يكون ما تحب أحب إلي من أن يكون ما أحبه
____________________
(1/33)
وروى ابن ابي شيبة بإسناده عن ثابت البناني ان صلة بن اشيم كان في غزاة له ومعه ابن له فقال له اي بني تقدم فقاتل حتى أحتسبك فحمل فقاتل حتى قتل ثم تقدم أبوه فقتل فاجتمعت النساء فقامت امرأته معاذة العذرية فقالت للنساء مرحبا إن كنتن جئتن لتهنئنني مرحبا بكن وإن كنتن جئتن لغير ذلك فارجعن
وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال قلت يا رسول الله أي الناس أشد بلاء قال الانبياء قلت ثم من قال الصالحون إن كان أحدهم ليبتلى بالفقر حتى ما يجد إلا العباءة يحتويها و إن كان أحدهم ليفرح بالبلاء كما يفرح أحدكم بالرخاء رواه ابن حاجه من حديث طويل
وروى الإمام احمد في كتاب الزهد وابن ماجه في سننه عن أبي ذر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ليس الزهادة في الدنيا بتحريم الحلال ولا بإضاعة المال ولكن الزهادة في الدنيا أن تكون بما في يد الله أوثق منك بما في يدك وان تكون في ثواب المصيبة إذا أصبت فيها ارغب منك فيها لو أنها بقيت لك وقال ابن الجوزي ثنا ابن ناصر انبأ جعفر بن أحمد ثنا أبى ثنا هاشم عن ابن المبارك عن الحسن ثنا أبو الاحوص قال دخلنا على ابن مسعود رضي الله عنه وعنده بنون له ثلاثة غلمان كأنهم الدنانير فجعلنا نتعجب من حسنهم فقال كأنهم يغبطونني قلنا إي والله لبمثل هؤلاء يغبط المسلم فرفع رأسه إلى سقف البيت وقد عشش فيه خطاف وباض فقال والذي نفسي بيده لأن أكون قد نفضت يدي من تراب قبورهم أحب إلي من أن يسقط عش هذا الخطاف وينكسر بيضه ثم قال ما أصبحت على حال فتمنيت إني على سواها
وروى هناد بن السري في الزهد عن كثير بن تميم الداري قال كنت جالسا مع سعيد بن جبير فطلع عليه ابنه عبد الله بن سعيد وكان به من الفقه فقال إني لأعلم خير حالاته فقالوا وما هو قال ان يموت فأحتسبه
____________________
(1/34)
وروى ابن أبي الدنيا بإسناده عن سفيان قال سمعت سفيان يقول ما في الارض احب الي من سعيد وما في الارض أحد يموت أحب الي منه فمات فرأيته يبكي قال قد كنت تمنى موته قال أذكر قوله آه جنبي
وفي تاريخ الرقة للحراني ثنا أحمد بن بديع ثنا أبي قال سمعت عمر بن ميمون بن مهران يقول كنت مع ابي ونحن نطوف بالكعبة فلقي ابي شيخا فعانقه أبي ومع الشيخ فتى قريبا مني فقال له أبي من هذا قال إبني فقال كيف رضاك عنه قال ما بقيت خصلة يا أبا أيوب من خصال الخير إلا وقد رأيتها فيه إلا واحدة قال وما هي قال كنت أحب أن يموت وأوجر فيه قال ثم فارقه أبي قال فقلت لأبي من هذا الشيخ قال هذا مكحول
والمقصود أن هذا المقام عظيم شريف لمن يطلب المصيبة ويفرح بها نظرا الى ثوابها وما يفعل ذلك احد حتى يعلم من نفسه القوة والصبر والجلد والركون الى دعوى النفس وما أكثر ما تخلف الوعد وتنقض العهد فإن الغالب متى ما أظهرت الدعوى وكلت إليها وطولبت بتصحيح دعواها فتقصر عند الحقيقة وتميل عن تقويم الطريقة
كان سحنون رحمه الله يقول قد رضيت بكل ما تقتضيه فابتليني بما شئت فابتلاه الله بحصار البول فما صبر فكان يدور على الصبيان ويقول ادعوا لعمكم الكذاب فالطريقة الكاملة قوله صلى الله عليه وسلم لا تتمنوا لقاء العدو وسلوا الله العافية وأعلم أن النية في طلب الولد وفقده وقصد بقائه إذا صحت النية حصل الثواب الجزيل على النيتين جميعا لأن الاعمال بالنيات فإنه ثبت عن عمر ابن الخطاب رضي الله عنه أنه قال ما من أهل ولا مال ولا ولد إلا وأنا أحب أن أقول عليه إنا لله وإنا اليه راجعون إلا عبد لله بن عمر فإني أحب ان يبقى في الناس يؤيد ذلك ما ثبت في صحيح مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال إذا مات الإنسان انقطع عمله إلا من ثلاث من صدقة جارية أو علم ينتفع به أو ولد صالح يدعو له وفي حديث أنس مرفوعا سبع يجري أجرها للعبد بعد موته
____________________
(1/35)
فذكر منها أو ترك ولدا يستغفر له بعد موته وهذا عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قد سماه النبي صلى الله عليه وسلم الرجل الصالح أو العبد الصالح ولا شك أن العبد إذا حصل له أجر مستمر بعد موته هو أ ولى من حصول أجر في حياته ثم ينقطع بالموت فإن العبد من أحوج الناس بعد موته إلى الحسنات وبموته قد انقطع عمله إلا ما أخبر به الصادق المصدوق في هذا الحديث المتقدم فطلب الولد وبقاؤه انفع للعبد فيما فهمت ولكن أولئك لما خالط قلوبهم قوة الإيمان والتصديق بالقضاء والقدر والرضاء به برزوا بالقول وقل من يصبر على تحمل البلوى عند الحقيقة والله أعلم
____________________
(1/36)
& الباب الثاني في البكاء على المصيبة وما ذكر العلماء في ذلك
البكى أصله بكوى على فعول قال الجوهري البكاء يمد ويقصر فإذا مددت أردت الصوت الذي يكون مع البكاء وإن قصرت أردت الدموع وخروجها وبكيت الرجل وبكيته إذا بكيت عليه قال الشاعر % بكت عيني وحق لها بكاها % وما يغني البكاء ولا العويل % هذا من جهة اللغة وهو رقة ورحمة في قلوب عباد الله فالبكاء على الميت في مذهب الإمام أحمد وأبي حنيفة جوازه قبل الموت وبعده واختاره ابو إسحاق الشيرازي وكرهه الشافعي وكثير من أصحابه بعد الموت ورخصوا فيه قبل خروج الروح واحتجوا بحديث جابر بن عتيك رضي الله عنه ان رسول الله صلى الله عليه وسلم جاء يعود عبد الله بن ثابت فوجده قد غلب فصاح به رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يجبه فاسترجع وقال غلبنا عليك يا أبا الربيع فصاح النسوة وبكين فجعل ابن عتيك يسكتهن فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم دعهن فإذا وجب فلا تبكين باكية قالوا وما الوجوب يا رسول الله قال الموت رواه الامام أحمد وابو داود وهذا لفظه والنسائي وابن ماجه قالوا وفي الصحيحين من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال إن الميت ليعذب ببكاء أهله عليه وهذا إنما هو بعد الموت وأما قبله فلا يسمى ميتا
وعن ابن عمر أيضا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما قدم من أحد سمع نساء من بني عبد الأشهل على هلكاهن يبكين فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لكن حمزة لا بواكي له فجئن نساء الانصار فبكين على حمزة عنده فاستيقظ رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال
____________________
(1/37)
ويحهن إنهن هاهنا يبكين ما أثقلهن مروهن فليرجعن ولا يبكين على هالك بعد اليوم رواه الامام احمد وابن ماجه
وهذا صريح في نسخ الإباحة المتقدمة والفرق بين ما قبل الموت وبعده أنه قبل الموت يرجى فيكون البكاء عليه حذرا فإذا مات انقطع الرجاء وأبرم القضاء فلا ينفع البكاء
احتج أصحابنا ومن قال بقولهم فمن جوز البكاء قبل الموت وبعده قال جابر بن عبد الله أصيب ابي يوم أحد فجعلت أكشف الثوب عن وجهه وأبكي فجلعوا ينهوني ورسول الله صلى الله عليه وسلم لا ينهاني فجعلت عمتي فاطمة تبكي فقال النبي صلى الله عليه وسلم تبكين أو لا تبكين ما زالت الملائكة تظله بأجنحتها حتى رفعتموه متفق عليه
وعن ابن عمر قال اشتكى سعد بن عبادة شكوى له فأتاه النبي صلى الله عليه وسلم يعوده مع عبد الرحمن بن عوف وسعد بن ابي وقاص وعبدالله بن مسعود فلما دخل عليه فوجده في غاشية فقال قد قضى قالوا لا يا رسول الله فبكى النبي صلى الله عليه وسلم فلما رأى القوم بكاء رسول الله صلى الله عليه وسلم بكوا فقال ألا تسمعون إن الله لا يعذب بدمع العين ولا بحزن القلب ولكن يعذب بهذا وأشار بهذا واشار إلى لسانه أو يرحم رواه البخاري وهذا لفظه ومسلم وعنده وجده في غشية فقال اقد قضى قالوا لا يا رسول الله 000 الحديث وهو من رواية يونس بن عبد الأعلى
وعن اسامة بن زيد قال كنا عند النبي صلى الله عليه وسلم فأرسلت إليه إحدى بناته تدعوه وتخبره أن صبيا أو ابنا لها في الموت فقال للرسول إرجع إليها فأخبرها أن الله عز وجل ما أخذ وله ما اعطى وكل شيء عنده بأجل مسمى فمرها فلتصبر ولتحتسب فعاد الرسول فقال إنها قد أقسمت لتأتينها قال فقام النبي صلى الله عليه وسلم وقام معه سعد بن عبادة ومعاذ بن جبل وأبي بن كعب وزيد بن ثابت
____________________
(1/38)
وإنطلقت معهم فرفع إليه الصبي ونفسه تقعقع كأنها في شنة ففاضت عيناه فقال له سعد بن عبادة ما هذا يا رسول الله قال هذه رحمة جعلها الله في قلوب عباده وإنما يرحم الله من عباده الرحماء رواه البخاري ومسلم
وعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال شهدنا بنتا لرسول الله صلى الله عليه وسلم
قال ورسول الله صلى الله عليه وسلم جالس على القبر قال فرأيت عيناه تدمعان قال فقال هل منكم من رجل لم يقارف الليلة فقال أبو طلحة أنا قال فأنزل في قبرها رواه البخاري
وعن أنس أيضا قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ولد لي غلام فسميته باسم أبي إبراهيم 000 فذكر الحديث ثم دخلنا عليه بعد ذلك وإبراهيم يجود بنفسه فجعلت عينا رسول الله صلى الله عليه وسلم تذرفان وفي لفظ فأخذه فوضعه في حجره وقال يا بني لا أملك لك من الله شيئا فقال عبد الرحمن بن عوف وأنس يا رسول الله أتبكي وتنهي عن البكاء فقال يا ابن عوف إنها رحمة ومن لا يرحم لا يرحم ثم أتبعهما بأخرى فقال إن العين تدمع والقلب يحزن ولا نقول إلا ما يرضى ربنا وإنا لفراقك يا ابراهيم لمحزونون رواه البخاري ومسلم بدون زيادة الألفاظ وفيه دليل على البكاء قبل الموت
وعن أنس أيضا رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذ الراية زيد فأصيب ثم أخذها عبد الله بن رواحة فأصيب ثم أخذها جعفر فأصيب وإن عيني رسول الله صلى الله عليه وسلم لتذرفان ثم اخذها خالد بن الوليد من غير أمره ففتح له رواه البخاري وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال ماتت زينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم فبكت النساء فجعل عمر يضربهن بسوطه فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده وقال مهلا يا عمر ثم إياكن ونعيق الشيطان ثم قال إنه مهما كان من العين والقلب فمن الله عز وجل ومن الرحمة وما كان من اليد واللسان فمن
____________________
(1/39)
الشيطان رواه الإمام أحمد
وعن عائشة رضي الله عنها أن سعد بن معاذ لما مات حضره رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وعمر رضي الله عنهما قالت فوالذي نفسي بيده إني لأعرف بكاء أبي بكر من بكاء عمر وأنا في حجرتي رواه الامام أحمد
وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان في جنازة فرأي عمر امرأة فصاح بها فقال النبي صلى الله عليه وسلم دعها يا عمر فإن العين دامعة والنفس مصابة والعهد قريب رواه ابن ماجة
وعن أسماء بنت يزيد قالت لما توفي ابن رسول الله صلى الله عليه وسلم إبراهيم بكى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال إما أبو بكر وإما عمر أنت أحق من عظم لله حقه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم تدمع العين ويحزن القلب ولا نقول ما يسخط الرب لولا أنه وعد صادق موعود جامع وأن الآخر تابع للأول لوجدنا عليك يا إبراهيم أفضل ما وجدنا وإنا بك لمحزنون رواه ابن ماجة وفي لفظ أتبكي أو ما نهيتنا عن البكاء قال ليس عن البكاء نهيت ولكن نهيت عن صوتين أحمقين فاجرين صوت عند نغمة لهو ولعب ورنة شيطان وصوت عند مصيبة لطم وجوه وشق جيوب ورنة شيطان وهذه رحمة ومن لا يرحم لا يرحم يا إبراهيم لولا أنه أمر حق ووعد صادق وسبيل لابد نأتيه وإن آخرنا سوف يلحق بأولنا لحزنا عليك حزنا هو أشد من هذا وإنا بك لمحزونون
وقال الإمام أحمد حدثنا يزيد ثنا حماد بن سلمة عن علي بن زيد عن يوسف ابن مهران عن ابن عباس رضي الله عنهما قال ماتت زينب ابنة رسول الله صلى الله عليه وسلم فبكت النساء فجعل عمر يضربهن بسوطه فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده ثم قال مهلا يا عمر ثم قال ابكين وإياكن ونعيق الشيطان ثم إنه مهما كان من العين والقلب فمن الله عز وجل وذكر تمام الحديث وقد تقدم
وروى الإمام أحمد أيضا بسنده عن ابن عباس رضي الله عنهما قال ماتت رقية بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال الحقي سلفنا الخير عثمان بن مظعون وبكت
____________________
(1/40)
النساء فجعل عمر يضربهن بسوطه فقال النبي صلى الله عليه وسلم لعمر دعهن يبكين وإياكن ونعيق الشيطان ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم مهما يكن من القلب والعين فمن الله والرحمة ومهما كان من اليد واللسان فمن الشيطان وقعد رسول الله صلى الله عليه وسلم على شفير القبر وفاطمة الى جنبه تبكي فجعل النبي صلى الله عليه وسلم يمسح عين فاطمة بثوبه رحمه لها
فقد ثبت في حديث زينب ورقية بنتي رسول الله صلى الله عليه وسلم البكاء بعد الموت وقد جاء في آثار جمة أنه صلى الله عليه وسلم زار قبر امه فبكى وابكى من حوله
وصح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قبل عثمان بن مظعون حتى سالت دموعه على وجهه وتقدم قصة جعفر وعبد الله بن رواحة وأصحابهما
وكذلك صح عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه انه قبل النبي صلى الله عليه وسلم وهو ميت وبكى وأبكى وكذلك بكى علي على النبي صلى الله عليه وسلم فهذه الأحاديث كلها دالة على جواز البكاء قبل الموت وبعده من غير كراهة وما ذكره أصحاب الشافعي ومن قال بقولهم من الكراهة بعد الموت مستدلين بما تقدم من أحاديث النهي فكلها محمولة على البكاء الذي معه ندب ونياحة ويؤيد ذلك ما يأتي ذكره إن الميت ليعذب ببكاء اهله عليه وفي لفظ يعذب بما نيح عليه
وأما من ادعى النسخ في حديث حمزة فلا يصح أن معناه لا تبكين على هالك بعد اليوم من قتلى أحد ويدل على ذلك أن نصوص الإباحة أكثرها متأخرة عن غزوة أحد منها حديث أبي هريرة لأن اسلامه وصحبته كانا في السنة السابعة ومنها البكاء على جعفر وأصحابه وكان استشهادهم في السنة الثامنة وكذلك البكاء على زينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم كان في الثامنة أيضا والبكاء على قبر امه صلى الله عليه وسلم كان عام الفتح وأما قولهم إنما جاز البكاء قبل الموت حذرا بخلاف ما بعد الموت جوابه إن الباكي قبل الموت يبكي حزنا وحزنه بعد الموت أشد لأنه قبل الموت ربما يرتجى وبعده قد فقدت الرجوى فبكى لفراق لا عودة بعده في
____________________
(1/41)
الدنيا وهذا معنى قوله صلى الله عليه وسلم إن العين لتدمع وإن القلب ليحزن ولا نقول ما يسخط الرب ومنها قال البخاري قال عمر دعهن يبكين على أبي سلمان ما لم يكن نقع أو لقلقه والنقع التراب على الرأس واللقلقة الصوت
حدثنا إسحاق بن منصور عن أبي رجاء عبد الله بن واقد عن محمد بن مالك عن البراء بن عازب قال كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في جنازة فلما انتهينا إلى القبر فاستدرت فاستقبلته فإذا هو يبكي حتى بل الثرى ثم قال إخواني لمثل هذا اليوم فأعدوا رواه الإمام أحمد
وقد ذكر بعض العلماء ان البكاء الذي روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه فعله وأباحه أو أمر به للاستحباب هو البكى الذي هو دمع العين ورقة القلب ورحمته والذي نهى النبي صلى الله عليه وسلم عنه هو البكاء بالمد الذي يستلزم الصراخ والندب والعويل يشهد لهذا قوله ما كان من العين والقلب فمن الله عز وجل وما كان من اليد واللسان فمن الشيطان ونهى عن رنة الشيطان وهو رفع الصوت عند المصيبة
قلت هذا وإن كان حسنا يعكر عليه ما حكيناه عن الجوهري أن البكاء يمد ويقصر فهو لغتان فلا فرق فيه بين المد والقصر والله أعلم فصل
وليحذر العبد كل الحذر أن يتكلم في حال مصيبته وبكائه بشيء يحبط به أجره ويسخط به ربه مما يشبه التظلم فإن الله تعالى عدل لا يجور وعالم لا يضل ولا يجهل وحكيم أفعاله كلها حكم ومصالح ما يفعل شيئا إلا لحكمة فإنه سبحانه له ما أعطى وله ما أخذ لا يسأل عما يفعل وهم يسألون وهو الفعال لما يريد القادر على ما يشاء له الخلق والامر بل إنما يتكلم بكلام يرضي به ربه ويكثر به أجره ويرفع الله به قدره
وقد روى ابن أبي الدنيا بإسناده قال حدثني يونس بن محمد المكي قال زرع رجل من أهل الطائف زرعا فلما بلغ أصابته آفة فاحترق فدخلنا عليه لنسليه
____________________
(1/42)
عنه فبكى وقال والله ما عليه أبكي ولكن سمعت الله تعالي يقول { كمثل ريح فيها صر أصابت حرث قوم ظلموا أنفسهم فأهلكته } فأخاف ان أكون من أهل هذه الصفة فذلك الذي أبكاني
قال أبو العرب لما أمر عبد الله بن زياد بالبلجاء أن يمثل بها جاؤوا ومعهم الحديد والحبال فقالت إليك أتكلم بكلام يحفظه عني من سمعه قال فحمدت الله وأثنت عليه ثم قالت هذا آخر يومي من الدنيا وهو غير مأسوف عليه وأرجو أن يكون أول أيامي من الآخرة وهو اليوم المرغوب فيه ثم قالت والله إن علمي بفنائها هو الذي زهدني في البقاء فيها وسهل علي بلواءها فما أحب تعجيل ما اخر الله ولا تأخير ما عجل الله والحمد لله على السراء والضراء وعلى العافية وعلى البلاء ثم قالت كنت أؤمل في الله ما هو أكثر من هذا قال ثم إنهم قطعوا يديها ورجليها فجعل الدم لا يرقأ فقالت حياة كريمة وميتة طيبة لأني نلت ما أملت يا نفس من جزيل ثواب الله فقد نلت سرورا دائما لا يضرك معه كدر وهي حين قطعوا يديها ورجليها فلم تتكلم فقيل لها ذلك فقالت شغلني هول المطلع عن الم حديدكم هذا ثم أتوا بالنار لتكوي بها فلما رأتها صرخت فقيل لها لقطع اليدين والرجلين لم تنطقي فلما رأيت النار صرخت فقالت والله ليس من ناركم صرخت ولا على دنياكم أسفت ولكنني ذكرت بها النار الكبرى فكان الذي رأيتم من ذلك قال فأمر بها فسملت عيناها فقالت اللهم قد طال في الدنيا حزني فأقر في الآخرة عيني ثم قالت لئن كنت على بصيرة من أمري إن هذا لقليل في جنب ما أطلب من ثواب الله قال فما تكلمت بغيرها حتى ماتت رحمها الله تعالى
وكانت البلجاء من شيعة علي رضي الله عنهم وكان قد بلغ الحسن بن علي أن ابن زياد يتتبع شيعة علي فيقتلهم فقال اللهم اقتله وأمته حتف أنفه والإسناد قال أبو العرب حدثنا عبد الله بن الوليد عن جابر بن خداش بن
____________________
(1/43)
عجلان ثنا سالم بن عمير عن سالم الهلالي فذكره
وليحذر العبد أيضا أن يدعو على نفسه فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال لما مات أبو سلمة لا تدعوا على أنفسكم إلا بخير فإن الملائكة يؤمنون على ما تقولون
وليعلم أيضا أن البكاء يضر الحي والميت فإن الحي يخاف على عينيه كما قال الله تعالى في قصة يعقوب عليه السلام { وابيضت عيناه من الحزن } والميت لا يستريح به فقد ذكر الحافظ أبو شجاع شيرويه الديلمي بإسناده عن علي بن الحسين قال بينا داود الطائي جالسا مع أصحابه يوما إذ غفا وهو معهم ثم انتبه فقال أتدرون ما رأيت في نومتي هذه دخلت الجنة فرأيت فيها صبيانا يلهون بالتفاح يناول بعضهم بعضا وصبي ناحية عنهم جالس حزين يرى الانكسار عليه بين فقلت ما بال ذلك الصبي لا يلهو معكم كما تلهون قالوا ذاك حديث عهد بالدنيا وأمه تكثر البكاء عليه فانكساره لكثرة بكاء أمه عليه قال فقلت أين منزلهم قالوا في قبيلة آل فلان قال فقلت من أبويه قالوا فلان وفلانة قلت فما اسمه قالوا فلان فقال داود لاصحابه فانطلقوا قال فانطلقوا فأتوا القبيلة فسألوا عن أبويه فلقيهما او لقي أحدهما فقال لهم ما رأى في منامه فجعلت الام على نفسها أن لا تبكي عليه أبدا فصل
والبكاء والأسف على من فرط في جنب الله أو من خلط عملا صالحا وآخر سيئا وهو داخل تحت المشيئة وعنده من الندامة كأمثال الجبال ومن الحسرات كعدد الرمال فإن الصحة لايعرف مقدارها على الحقيقة إلا المرضى كما ان العافية لا يعرف مقدارها إلا المبتلي فكذلك الحياة لا يعرف مقدارها إلا الموتى لأنهم قد ظهرت لهم الأمور وانكشفت لهم الحقائق وعلموا مقدار الاعمال الصالحة إذ ليس ينفق هنالك إلا عمل زكي ولا يرتفع هنالك إلا
____________________
(1/44)
عبد تقي فالمقصر يود لو أنه رد فاستدرك ما فات ونظر فيما فيه فرط والمهمل العمل بالجملة يكون تمنيه الرجوع أكثر وحرصه على العودة أشد فالواجب اغتنام الصحة والفراغ المغبون فيهما كثير من الناس وإنما يحصل للشخص الحزن والبكاء على من أصيب به لذهوله عما بين يديه من سكرات الموت وغصصه والانفراد في القبر وحيدا ذليلا مستوحشا ثم مساءلة منكر ونكير عليهما السلام وطول مكثه تحت الثرى إما منعما وإما معذبا ثم من بعد ذلك خروجه من قبره وقيامه لرب العالمين ثم وقوفه الطويل في المحشر وما يرى من أهوال يوم القيامة ثم حسابه بين يدي الله تعالى ووزن أعماله وتطاير الصحف والمحاسبة على مثاقيل الذر وأنه وجد ما عمل محصيا محررا في كتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها وأنه بين رجاء وخوف إما لذات اليمين أو لذات الشمال فلو استشعر المصاب هذه المصائب العظيمة التي بين يديه وهو غافل عنها غير مستعد لها لشغلته عن مصابه بأحبابه ولرجع الى الصبر والرضا بما قدره وأمضاه فإن قدر على نفع نفع ميته به وإلا فلا يؤذيه بما نهى الشرع عنه من الندب والنياحة ولطم الخدود وشق الجيوب وغير ذلك من الأفعال والأقوال المكروهة التي ذمها السلف والخلف كما سنبينه بعد إن شاء الله نسأل الله تعالى العافية في الدنيا والآخرة فصل
والحزن لم يأمر الله تعالى به ولا رسوله لا في المصيبة ولا في غيرها بل قد نهى الله عنه في كتابه وإن تعلق بأمر الدين لكن منه محمود ومذموم كقوله تعالى { ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون } وقوله { ولا تحزن عليهم } وقوله تعالي في حق نبيه محمد صلى الله عليه وسلم وأبى بكر { إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا } وقوله تعالى { فلا يحزنك قولهم } الآية ونحو ذلك من
____________________
(1/45)
الآيات كثير في القرآن وما ذاك إلا لان الحزن لا يجلب منفعة ولا يدفع مضرة فلا فائدة فيه وما لا فائدة فيه لا يأمر الله به لكن لا يأثم به صاحبه إذا لم يقترن بحزنه محرم كما تقدم ذكره من قول أو فعل كما قال النبي صلى الله عليه وسلم إن الله لايؤاخذ بدمع العين ولا بحزن القلب ولكن يؤاخذ بهذا واشار بيده الى لسانه أو يرحم فدل على أنه لا يأثم إلا إذا اقترن به ما يجلب الإثم ويؤيده أيضا قوله صلى الله عليه وسلم تدمع العين ويحزن القلب ولا نقول إلا ما يرضى الرب قال مالك بن دينار القلب إذا لم يكن فيه حزن خرب كما أن البيت إذا لم يسكن خرب وقال عبد الله بن أحمد حدثني علي بن مسلم ثنا بشار ثنا جعفر ثنا إبراهيم بن عيسى قال ما رأيت أطول حزنا من الحسن وما رأيته إلا حسبته حديث عهد بمصيبة ثم ذكر بسنده عن مالك قال بقدر ما تحزن للدنيا كذلك يخرج هم الآخرة من قلبك ومنه قوله تعالى { وقال يا أسفى على يوسف وابيضت عيناه من الحزن } فكل هذه الأدلة تدل على أنه لا يأثم به صاحبه فالبكاء والحزن على الميت على وجه الرحمة والرقة حسن ولا ينافي الرضا والصبر بخلاف البكاء عليه والحزن لفوت حظ الحي منه فاذا اقترن بالحزن ما يثاب صاحبه عليه ويحمد عليه فيكون محمودا من تلك الجهة لا من جهة الحزن فالحزين على مصيبة في دينه وعلى مصائب المسلمين عموما فهذا يثاب على ما في قلبه من حب الخير وبغض الشر وتوابع ذلك ولكن الحزن على ذلك إذا أفضى الى ترك مأمور من الصبر والجهاد وجلب منفعة ودفع مضرة نهى عنه وكان حسب صاحبه الإثم عنه من جهة الحزن وأما إن افضى الى ضعف القلب واشتغاله به عن فعل ما أمر الله به ورسوله كان مذموما عليه من تلك الجهة وان كان محمودا من جهة أخرى فإنه إن كان المحزون عليه لا يمكن استدراكه لم ينفع الحزن فالعاقل يدفعه عن نفسه ولا يضم الى مصيبته اخرى وليعلم انه سيسلو بعد حين والله أعلم
____________________
(1/46)
& الباب الثالث في تحريم الندب والنياحة وشق الثياب
الندب اسم للبكاء على الميت وتعداد محاسنه قاله الجوهري والاسم الندبة بالضم وقيل تعداد شمائل الميت فيقال واكريماه واجبلاه والهفاه والنوح قال القاضي عياض هو اجتماع النساء للبكاء على الميت متقابلات وذكر في المغني أنه تعداد محاسن الميت بلفظ النداء إلا أنه يكون بلفظ الواو وربما زيد فيه الألف والهاء مثل قولهم وارجلاه واجبلاه وانقطاع ظهراه ونحوه وقال غيره قال أهل اللغة النياحة اسم لاجتماع النساء للبكاء على الميت متقابلات كما ذكرالقاضي عياض والتناوح التقابل ثم استعمل في صفة بكائهن بصوت ورنة وندبة واعلم رحمك الله ان المطلوب في المصيبة السكون والصبر والرضاء بقضاء الله تعالى والحمد والاسترجاع والصدقة عن المصاب به والدعاء له وأما الندب والنياحة وشق الجيوب ولطم الخدود وقول المنكر كل هذا ينافي ما ذكر
وقد نص الإمام أحمد رحمه الله على تحريم الندب والنياحة قال في رواية حنبل النياحة معصية وقال أصحاب الشافعي وغيرهم النوح حرام
وقال أبو عمر بن عبد البر أجمع العلماء على أن النياحة لا تجوز للرجال ولا للنساء
وقال أبو الخطاب رحمه الله في الهداية ويكره الندب والنياحة وخمش الوجوه وشق الجيوب والتحفي وهذا قول ضعيف مصادم لما ورد من السنة
____________________
(1/47)
وذكر الشيخ في المغني قال ونقل حرب عن أحمد كلاما فيه احتمال إباحة النوح والندب قال واختاره الخلال وصاحبه لان واثلة بن الاسقع وأبا وائل كانا يسمعان النوح ويبكيان ثم قال وظاهر الأخبار تدل على التحريم انتهى كلامه واستنادهم في ذلك لآثار مروية عن بعض الصحابة والسلف لا ترد ما ورد في الصحاح والمسانيد فإنهم قالوا قد روى حرب عن واثلة بن الأسقع وابي وائل إنما كانا يسمعان النوح ويبكيان قالوا وقد ورد في الصحيح من حديث أم عطية قالت لما أنزلت هذه الآية { يا أيها النبي إذا جاءك المؤمنات يبايعنك على أن لا يشركن بالله شيئا ولا يسرقن ولا يزنين } الى قوله { ولا يعصينك في معروف } كان منه النياحة فنهانا عن النياحة فقبضت امرأة منا يدها فقالت فلانة أسعدتني فإنما اريد ان اجزيها قال فما قال لها شيئا فذهبت فانطلقت ثم رجعت فبايعها وفي لفظ في الصحيح قالت أم عطية يا رسول الله الا ال فلان فانهم اسعدوني في الجاهلية فلا بد لي ان اسعدهم فقال إلا آل فلان والجواب عن ذلك أن المرأة التي سكت عنها أن ذلك خاص بها لوجهين أحدهما أنها حديثة عهد بالاسلام فربما كان فيه تنفير لها عنه الثاني أنه قال لغيرها لما سألته ذلك قال لا إسعاد في الإسلام فإطلاقه لها وحجره على غيرها يدل على الخصوص وعلى الرواية الاولى أن امرأة قبضت يدها ولم تبايع إلا بعد الاسعاد فلا إشكال وقد حكى بعض المبايعات القصة ولم تستثن أحدا فما ورد في سنن ابي داود من حديث أسيد بن أبي أسيد عن إمرأه من المبايعات قالت كان فيما أخذ علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم في المعروف الذي أخذ علينا أن لا نعصيه فيه أن لا نخمش وجها ولا ندعو ويلا ولا نشق جيبا ولا ننبش شعرا
____________________
(1/48)
فصل فيما ورد من تحريم ذلك ( الندب والنياحة ) وما ورد من الوعيد عليه عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ليس منا من ضرب الخدود وشق الجيوب ودعا بدعوى االجاهلية رواه البخاري ومسلم وعن أبي بردة عن أبي موسى قال وجع أبو موسى وجعا فغشي عليه ورأسه في حجر امرأة من أهله فأقبلت تصيح برنة فلم يستطع أن يرد عليها شيئا فلما أفاق قال إني بريء ممن برىء منه محمد صلى الله عليه وسلم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم برىء من الصالقة والحالقة والشاقة رواه البخاري ومسلم عن الحكم بن موسى إلا أن البخاري لم يذكر أنه حدثه به بل قال وقال الحكم بن موسى فهو عنده معلق
قوله الصالقة يعني التي ترفع صوتها عند المصيبة والحالقة التي تحلق شعرها والشاقة التي تشق ثوبها
وعن أم عطية قالت أخذ علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم عند البيعة أن لاننوح فما وفت منا امرأة غير خمس نسوة أم سليم وأم العلاء وابنة أبي سبرة امرأة معاذ وامرأتان أو ابنة سبرة وامرأة معاذ وامرأة أخرى رواه البخاري وهذا لفظه ومسلم وعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال أخذ النبي صلى الله عليه وسلم على النساء حين بايعهن أن لا ينحن فقلن يا رسول الله إن نساء أسعدننا في الجاهلية افنسعدهن في الاسلام فقال لا إسعاد في الإسلام رواه الإمام أحمد
وعن أبي مالك الأشعري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال أربع في أمتي من أمر الجاهلية لا يتركونهن الفخر في الاحساب والطعن في الانساب والاستسقاء بالنجوم والنياحة وقال النائحة إذا لم تتب قبل موتها تقام يوم القيامة وعليها سربال من قطران ودرع من جرب انفرد باخراجه مسلم
____________________
(1/49)
وفي حديث جابر في قصة إبراهيم ابن النبي صلى الله عليه وسلم وقد تقدم وفيه الم تنه عن البكاء قال لا ولكن نهيت عن صوتين أحمقين فاجرين صوت عند مصيبة خمش وجوه وشق جيوب ورنة شيطان 000 الحديث رواه الترمذي
وكذلك تقدمت قصة قتل زيد بن حارثة وأصحابه من حديث عائشة قالت لما جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم قتل زيد بن حارثة وجعفر بن ابي طالب وعبد الله بن رواحة جلس رسول الله صلى الله عليه وسلم يعرف في وجهه الحزن قالت عائشة وأنا انظر من صابر الباب ( شق الباب ) فأتى رجل فقال يا رسول الله إن نساء جعفر وذكر بكاءهن فأمره يذهب فينهاهن فذهب فأتاه فذكر انهن لم يطعنه فأمره الثانية أن ينهاهن فذهب ثم أتاه فقال والله لقد غلبننا يا رسول الله قالت فزعمت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال إذهب فاحث في أفواههن من التراب قالت عائشة فقلت أرغم انفك والله ما تفعل ما أمرك رسول الله صلى الله عليه وسلم وما تركت رسول الله صلى الله عليه وسلم من العناء رواه البخاري ومسلم وهذا لفظه
وعن عبيد بن عمير عن أم سلمة قالت لما مات أبو سلمة قلت غريب وفي أرض غريبة لأبكينه بكاء يتحدث عنه فكنت قد تهيأت للبكاء عليه إذ اقبلت امرأة من الصعيد تريد ان تسعدني فاستقبلها رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال أتريدين أن يدخل الشيطان بيتا أخرجه الله منه مرتين فكففت عن البكاء فلم ابك انفرد بإخراجه مسلم
وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم النياحة على الميت من أمر الجاهلية فإن النائحة إذا لم تتب قبل أن تموت فإنها تبعث يوم القيامة عليها سربال من قطران ثم يعلى عليها بدرع من لهب النار رواه ابن ماجة من رواية عمر بن راشد الهمامي وقد ضعفه غير واحد وقد روي في صحيح مسلم بأتم من هذا وأبين
وعن أبي أمامة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لعن الخامشة وجهها والشاقة ثوبها والداعية
____________________
(1/50)
بالويل والثبور رواه ابن ماجة والثبور الهلاك ومنه قوله تعالي { دعوا هنالك ثبورا } أي صاحوا واهلاكاه
وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم النائحة والمستمعة رواه ابو داود من رواية عطية العوفي وقد تكلم فيه فصل فيما ورد من عذاب الميت بالنياحة
عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال الميت يعذب في قبره بما نيح عليه وفي رواية يعذب بما نيح عليه ولم يذكر في قبره رواه البخاري ومسلم
وعن المغيرة بن شعبة قال بعث النبي صلى الله عليه وسلم يقول إنه من ينح عليه يعذب بما نيح عليه رواه البخاري ومسلم
وعن أسيد بن ابي أسيد عن موسى بن ابي موسى ان النبي صلى الله عليه وسلم قال الميت يعذب ببكاء الحي إذا قالت النائحة واعضداه واناصراه والحاسباه جبذ الميت وقيل له أنت عضدها أنت ناصرها أنت كاسبها فقلت سبحان الله يقول الله تعالي { ولا تزر وازرة وزر أخرى } فقال أحدثك عن أبي موسى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وتقول هذا فإينا كذب فوالله ما كذبت على أبي موسى ولا كذب ابو موسى على رسول الله صلى الله عليه وسلم رواه الامام أحمد وعن المغيرة بن شعبة رضي الله عنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول إن كذبا علي ليس ككذب على أحد من كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعده من النار سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول من ينح عليه يعذب بما نيح عليه رواه البخاري وهذا لفظه ومسلم
____________________
(1/51)
وعن النعمان بن بشير قال أغمي على عبد الله بن رواحة فجعلت أخته عمرة تبكي وتقول واجبلاه واكذا واكذا تعدد عليه فقال حين أفاق ما قلت شيئا إلا وقد قيل لي أنت كذلك فلما مات لم تبك عليه رواه البخاري
وروى الترمذي في جامعة عن أبي موسى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ما من ميت يموت فيقوم باكيهم فيقول واجبلاه واسيداه أو نحو ذلك إلا وكل به ملكان يلهزانه أهكذا كنت قال الترمذي حديث حسن غريب قوله يلهزانه اللهز الدفع بجميع اليد في الصدر فصل
وليعلم أن البكاء لمجرد ليس فيه منفعة للميت البتة وإنما ينفعه عمله كما في صحيح البخاري ومسلم من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال يتبع الميت ثلاث اهله وماله وعمله فيرجع إثنان ويبقى واحد يرجع أهله وماله ويبقى عمله
وفي الصحيح إذا مات بن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث صدقة جارية أو علم ينتفع به من بعده او ولد صالح يدعو له فلا منفعة للميت بالبكاء والانزعاج قال ابو الفرج بن الجوزي اما بعد فإني رايت عموم الناس ينزعجون لنزول البلاء إنزعاجا يزيد على الحد كأنهم ما علموا أن الدنيا على ذا وضعت وهل ينتظر الصحيح إلا السقم والكبير إلا الهرم والموجود سوى العدم كما قيل % على ذا مضى الناس اجتماع وفرقة % وميت ومولود وبشر وأحزان % وما أحسن ما روي عن بعض السلف أن رجلا جاءه وهو يأكل طعاما فقال له قد مات أخوك اعظم الله أجرك فيه فقال اقعد وكل فقد علمت
____________________
(1/52)
ذلك فقال من أعلمك وما سبقني اليك احد قال قوله تعالي { كل نفس ذائقة الموت }
ولعمري إن أصل الانزعاج لا ينكر اذ الطبع مجبول على الجزع من حلول المنايا وإنما ينكر الافراط فيه والتكليف كمن يخرق ثيابه ويلبس الثياب المرذولة عند موت قريبه ويلطم وجهه ويعترض على القدر وهذا ومثله وأكثر منه لا يرد فائتا لكنه يدل على خور الجازع ويوجب العقوبة مع ما يفوته من الاجر والثواب قال بعض الحكماء اذا كان الصبر محمودا عند المصائب ومرغوبا فيه عند حلول النوائب فالجزع مذموم بكل مقال وصاحبه ملوم في كل حال فتعجل المحمود عند العقلاء أحسن وتجنب المذموم من الخصال أزين فصل
وفي بعض ما تقدم من أحاديث النهي هذه كفاية لمن تدبرها وكيف لا تكون هذه الخصال القبيحة منهي عنها وهي مشتملة على التسخط على الرب عز وجل الفعال لما يشاء الحاكم بما يريد المتصرف في عبيده بما يختار من موت وغرق وحرق وغير ذلك مما قضاه وقدره وامضاه لا يسأل عما يفعل وهم يسألون بل فعل النوح وشق الثياب ولطم الخدود وخمش الوجوه ونبش الشعر ونتفه والتحفي وتسويد الوجه والبدن والدعاء بالويل والثبور وغير ذلك من الاقوال والافعال المنكرة التي ورد الشرع بالنهي عنها وذم فاعلها وأن فاعلها شرع في الدين ما لم يأذن به الله ولا رسوله هو مناف للرضا والصبر ويضر بالنفس والبدن ولا يرد من قضاء الله وقدره شيئا وقد بلغني عن أناس أعرفهم أصيبوا بمصيبة ازعجوا أنفسهم لاجل مصابهم ببعض ما ذكر فأورثهم ذلك مرضا وحمى فاذا استسلم المصاب وانقاد ووكل الامر لمن بيده الخلق والامر وعلم أن سعادة العباد في معاشهم ومعادهم باتباع الرسل فتبع الرسول
____________________
(1/53)
صلى الله عليه وسلم فيما أمره به وفيما نهاه عنه وكان مما جاء به تحريم هذه الافعال والاقوال المنكره التي تقدم ذكراها بل العين تدمع والقلب يحزن ولا نقول ما يسخط ربنا فاذا سمع المصاب ذلك فأطاع وانقاد حصلت له السعادة الابدية باتباعه الرسول في أقواله وافعاله لقوله تعالي { وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا } الآية فصل
والذي ينبغي اولا لمن غلب على الظن أنه يصاب بالموت في مرضه أن يعامل بأحسن المعاملات بما ينفعه في قبره ويوم معاده فيذكره الآخرة ويأمره بالوصية والتوبة ويلقنه شهادة أن لا إله إلا الله لتكون آخر كلامه ويكون قبل ذلك قد نهى عن لطم الخدود وشق الثياب وتمزيقها ونتف الشعر ورفع الصوت بالندب والنياحة وغير ذلك من قول وفعل منكر ويكون مع ذلك في هذه الحالة رجاؤه بالله أكثر من خوفه وهو كثير الحمد والاسترجاع والرضا عن الله عز وجل
وقد روى ابن ابي الدنيا بإسناده عن محمد بن مسلمة قال بلغني أن رجلا جاء الى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله أوصني ولا تكثر علي قال لا تتهم الله عز وجل في شيء قضاه لك وروي أيضا بإسناده قال لعائشة رضي الله عنها ما كان اكثر كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيته اذا خلا قالت كان أكثر كلامه إذا خلا في بيته ما يقضى من أمر يكن
فهذا رسول رب العالمين يقول هذه المقالة وهو أعرف الخلق وأعلمهم بالله فإذا وطن العبد نفسه على أن ما يقضى من امر يكن لا محالة فاتعاب النفس والبدن فيما لا يجدي شئيا ليس من حصافة العقل ويعلم ان الدنيا موضوعة على الكدر فالبناء الى نقض والجمع إلى التفريق ومن رام بقاء ما لا يبقى كان
____________________
(1/54)
& كمن رام وجود ما لا يوجد فلا ينبغي أن يطلب من الدنيا ما لم توضع له فصل
وأما قوله صلى الله عليه وسلم إن الميت ليعذب ببكاء أهله عليه وإن الميت يعذب بالنياحة عليه وقد تقدمت هذه الأحاديث فاختلف السلف والخلف في ذلك فقالت طائفة الله يتصرف في خلقه بما يشاء وأفعال الله لا تعلل ولا فرق بين التعذيب بالنوح عليه والتعذيب بما هو منسوب إليه لان لله تعالى خالق الجميع والله تعالي يؤلم الأطفال والبهائم والمجانين بغير عمل عملوه وقالت طائفة أخري هذا الأحاديث لا تصح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد أنكرتها عائشة رضي الله عنها واحتجت بقوله تعالى { ولا تزر وازرة وزر أخرى } ثم أحاديث لم نذكرها بعد وهي مما استدلت بها عائشة رضي الله عنها ومنها عن عروة قال ذكر عند عائشة أن ابن عمر رضي الله عنهما يرفع ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم إن الميت يعذب في قبره ببكاء أهله فقالت وهل إنما قال النبي صلى الله عليه وسلم إنه ليعذب بخطيئته أو بذنبه وإن أهله ليبكون عليه الآن وذلك مثل قول النبي صلى الله عليه وسلم قام على القليب يوم بدر وفيه قتلى بعض المشركين فقال ما قال إنهم ليسمعون ما اقول وقد ذهل إنما قال إنهم ليعلمون أن ما كنت اقول لهم حق ثم قرأ { إن الله يسمع من يشاء وما أنت بمسمع من في القبور } يقول تبوؤا مقاعدهم من النار رواه البخاري ومسلم وهذا لفظه هكذا ساقه بطوله الحافظ الضياء
وعن عبد الله بن عبيد الله بن أبي مليكة قال توفيت بنت لعثمان بمكة وجئنا لنشهدها وحضر ابن عمر وابن عباس وإني لجالس بينهما او قال جلست إلى أحدهما ثم جاء الأخير فجلس إلى جنبي فقال عبد الله بن عمر لابن عباس ألا تنهي عن البكاء فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال إن الميت ليعذب ببكاء
____________________
(1/55)
أهله عليه فقال ابن عباس قد كان عمر يقول بعض ذلك ثم حدث قال صدرت مع عمر من مكة حتى إذا كنا بالبيداء إذا هو بركب حتى أتى ظل سمرة قال اذهب فانظر من هؤلاء الركب فنظرت فاذا صهيب فأخبرته فقال ادعه لي فرجعت الى صهيب فقلت له ارتحل فالحق أمير المؤمنين فلما أصيب عمر دخل صهيب يبكي يقول واأخاه واصاحباه فقال عمر يا صهيب أتبكي علي وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن الميت يعذب ببعض بكاء اهله عليه قال ابن عباس فلما مات عمر ذكرت ذلك لعائشة فقالت يرحم الله عمر والله ما حدث رسول الله صلى الله عليه وسلم إن الله ليعذب المؤمن ببكاء اهله عليه ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال إن الله ليزيد الكافر عذابا ببكاء أهله عليه وقالت حسبكم القرآن { ولا تزر وازرة وزر أخرى } قال ابن عباس رضي الله عنهما عند ذلك { وأنه هو أضحك وأبكى } قال ابن ابي مليكة والله ما قال ابن عمر شيئا رواه البخاري وهذا لفظه ومسلم
وفي صحيحي البخاري ومسلم ان عائشة رضي الله عنها ذكر لها أن عمر وابنه عبد الله يقول إن الميت ليعذب ببكاء الحي قالت إنكم لتحدثوني عن غير كاذبين ولا متهمين ولكن السمع يخطىء وفي لفظ قالت يغفر الله لابي عبد الرحمن أما إنه لم يكذب ولكنه نسي وأخطأ إنما مر رسول الله صلى الله عليه وسلم على يهودية يبكى عليها فقال إنهم ليبكون عليها وإنها لتعذب في قبرها
وقالت طائفة أخرى قوله إن الميت ليعذب بنوح أهله محمول على من اوصى به أو كانت من عادتهم ذلك ولم ينههم يعني يوصي قبل موته ان لا يحدثوا قولا ولا فعلا منكرا وهذا كان مشهورا عند العرب وهو كثير في أشعارهم كقول طرفة % إذا مت فانعيني بما انا اهله % وشقي على الجيب يا إبنة معبد %
____________________
(1/56)
وقال لبيد % فقوما فقولا بالذي قد علمتما % ولا تخمشا وجها ولا تحلقا شعر % % وقولا هو المرء الذي لا حليفه % أضاع ولا خان الصديق ولا غدر %
وقالت طائفة أخرى وهو محمول على سنته وسنة قومه البكاء والنوح وقد اشتهر أن هذا معروف منهم فاذا لم ينههم دخل في الوعيد لان ترك نهيه عن البكاء دليل على رضائه به منهم وهذا قول عبد الله بن المبارك وهذا القول والذي قبله هو قول واحد وقد حكى بعض أهل العلم أن هذين القولين متباينين ولم يظهر لي ذلك والله أعلم وقال ابو البركات ابن تيمية رحمه الله هذا القول هو أصح الاقوال كلها وأرجحها لأنه إذا غلب على ظنه فعلهم له ولم يوصهم بتركه فقد رضي به وصار كمن ترك النهي عن المنكر مع القدرة عليه فأما إذا أوصاهم بتركه فخالفوه فالله أكرم من أن يعذبه بذلك
وقال العلامة ابن القيم رحمه الله وقد حصل بهذا القول إجراء الخبر على عمومه في أكثر الموارد وإنكار عائشة رضي الله عنها لذلك بعد رواية الثقات لا يعول عليه فإنهم قد يحضرون ما لا تحضره ويشهدون ما تغيب عنه واحتمال السهو والغلط بعيد جدا خصوصا في حق خمسة من أكابر الصحابة وقد تقدم ذكره عن أكثر من خمسة من الصحابة وقوله في اليهود لا يمنع أن يكون قد قال ما رواه عنه هؤلاء الصحابة في أوقات أخر ثم هي محجوجة بروايتها عنه أنه قال إن الله يزيد الكافر عذابا ببكاء أهله عليه فإذا لم يمتنع زيادة الكافر عذابا بفعل غيره مع كونه مخالفا لظاهر الآية لم يمتنع ذلك في حق المسلم أن الله سبحانه كما لا يظلم عبده المسلم لا يظلم الكافر والله تعالى أعلم فصل
واعلم رحمك الله أن هذه الاحاديث لا تحتاج الى شيء من هذه التعسفات وليس فيها بحمد الله إشكال ولا مخالفة لظاهر القرآن ولا لقاعدة من قواعد
____________________
(1/57)
الشرع ولا تتضمن عقوبة الإنسان بذنب غيره فان النبي صلى الله عليه وسلم لم يقل إن الميت ليعاقب ببكاء أهله عليه أو بنوح أهله عليه وإنما قال إنه ليعذب بذلك ولا ريب أن ذلك يؤلمه ويعذبه والعذاب هو الألم الذي يحصل له وهو اعم من العقاب والأعم لا يستلزم الأخص وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم السفر قطعة من العذاب وهذا العذاب يحصل للمؤمن والكافر ويحصل للميت الألم في قبره بمجاورة أهل البدع والفسق والعصيان ويتأذى بذلك كما يتأذى الإنسان في الدنيا بما يشاهده من عقوبة جاره
ونص الإمام أحمد على أن الموتى بتأذون بفعل المعصية عندهم فإذا بكى أهل الميت عليه البكاء المحرم من لطم الخدود وتمزيق الثياب وخمش الوجوه وتسويدها وقطع الشعر ونتفه ودعا بدعوى الجاهلية وكل هذا موجود في غالب جهال أهل زماننا فإذا وجدت هذه الأفعال والأقوال على هذا الوجه حصل للميت الألم في قبره بذلك فهذا التألم هو عذابه بالبكاء عليه وهذا معنى ما ذهب إليه شيخ الاسلام ابن تيمية فصل
قد يستحوذ الشيطان على المريض فيوسوس له بأنك ستفارق المحبوبات وتخرج من الدنيا إلى مكان فظيع موحش وتلقى بين أطباق الثرى وكيف يؤلمك فربما أسخطه على ربه وكرهه لقاء الله عز وجل وربما انطقه بكلام يتضمن نوع اعراض وتسخط ثم يوسوس لأقاربه بأنه لابد آن يفوتكم من بره وإحسانه ما يزيد عن الوصف أو أنه كان قد نشا منشأ حسنا وقد بدأ يترقى الى المناصب العالية فيهيج هؤلاء على البكاء المحرم وفعل ما ليجوز فعله ويهيج المريض على الحزن على فراق الدنيا فينبغي لكلا الطائفتين أن يتداووا بالأدوية الشرعية وقد تقدم في الباب الأول ما فيه كفاية من الأدوية الالهية فلا حاجة إلى تكرارها ولكن يجاب عن هذ بجوابين أحدهما أن الاغلب فيمن يفارقه أنه يؤثر فراقه خصوصا إن كان شيخا
____________________
(1/58)
كبيرا أو انه شاب أو كهل يحجر على من ذكرته من قرابة أو ولد ونحوه أو له خلق شديد وأخص منه إن كان ذا مال وقد رأيت في زماننا من كان من أصحاب الأموال وهو محسن لأهله وأقاربه فمرض فأوصى بوصايا لأقاربه لمن ليس بوارث في الحال فلما مات خلف مالا جزيلا فاشتغل الوارث وغيره بالمال عن الحزن عليه فأخذوا في الخصام عليه وتفرقته فهذا وهو محسن إليهم بماله وما أخذوه فهو سريع الذهاب وأما بره إليهم لو بقي حصل لهم أضعاف ذلك فلا ينبغي للعبد أن يحزن لفراق من لا يحزن لفراقه وذكر أبو القاسم بن عساكر قال أنشدني محمد بن الأشعث لنفسه في ذم الحزن من حيث هو % قلم القضاء جرى بكل مكون % يا صاحب الأحزان ماذا تحزن % % إن كان سخطك ليس يجلب راحة % فرضاك بالبلوى أحق وأحسن %
والثاني الرجاء لملاقاة من هو أحب إليه منه وما من مؤمن يموت فيؤثر الرجوع الى الدنيا ولو أنها جميعها له إلا الشهيد فإنه يحب الرجوع ليقاتل مرة أخرى لما يرى من عظم أجر الشهادة كما سيأتي ذكره بعد وقد روى الامام احمد في مسنده أن النبي صلى الله عليه وسلم قال ما من نفس مؤمنة مسلمة يقبضها ربها عز وجل تحب أن تعود إليكم وأن لها الدنيا وما فيها فصل فيما ذكر في النعي
وهو إعلام الناس بموت الشخص على ما يفعله اهل زماننا بالكبير أو بالمشهور ويرسلون مناديا يعلم الناس به قال العلامة ابن القيم في الهدى وكان من هديه صلى الله عليه وسلم ترك نعي الميت بل كان ينهي عنه ويقول هو من عمل الجاهلية انتهي كلامه
وقال الحافظ ضياء الدين رحمه الله في أحكامه باب كراهة النعي وساق في الباب ثلاثة أحاديث منها عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه عن النبي
____________________
(1/59)
صلى الله عليه وسلم قال اياكم والنعي فان النعي من عمل الجاهلية قال عبد الله أذان بالميت رواه الترمذي وقال حديث حسن غريب وعن حذيفة قال إذا مت فلا تؤذنوا بي أححا إني أخاف أن يكون نعيا فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهى عن النعي رواه الإمام أحمد وابن ماجة والترمذي وهذا لفظه وحسنه
وعند ابن ماجة كان حذيفة إذا مات له الميت قال لا تؤذنوا به أحدا إني أخاف ان يكون نعيا اني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم بأذني هاتين ينهي عن النعي وروى أحمد ايضا هذه الزيادة كما رواها ابن ماجة لكن لم يقل بأذني هاتين
وقال سعيد بن منصور حدثنا إسماعيل بن إبراهيم أخبرنا ابن عون قال قلت لابراهيم اكان النعي يكره قال نعم قال إبراهيم إذا توفي الرجل يركب رجل دابته ثم صاح في الناس انعي فلانا
وبإسناده الى ابن عون قال سمعت بالكوفة ان شريحا كان لا يؤذن بجنازة احد فذكرت ذلك لمحمد بن سيرين فقال إن شريحا كان مكيا ما أعلم به بأسا أن يؤذن الرجل صديقه ويؤذن الرجل جمعه
وذكر بإسناده حدثنا حماد عن إبراهيم أنه قال لا بأس إذا مات الرجل ان يؤذن صديقه وأصحابه إنما يكره أن يطاف في المجالس فيقال أنعي فلانا فعل الجاهلية
وقد روى الترمذي عن ابي موسى الاشعري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ما من ميت يموت فيقوم باكيهم فيقول واجبلاه واسنداه او نحو ذلك إلا وكل الله به ملكان يلمزانه أهكذا كنت قال الترمذي حديث حسن
والمقصود ان هذه الاحاديث دالة على النهي وأنه من فعل الجاهلية لكن الاحاديث التي ذكرناها منها ما يدل على أن النعي إعلام الناس بأن فلانا قد
____________________
(1/60)
مات ومنها ما يدل على أن النعي هو تعداد صفات الميت فالظاهر أن كلاهما نعي والله أعلم وما يفعله الناس اليوم في زماننا من إعلام الناس بالميت والمناداة له فهو من البدع المنهي عنها كما ورد في الحديث فإنه مفض إلى تأخير الميت لأجل اجتماع الناس له تأخيرا زائدا عن الحد ويتركون السنة التي من شأنها الإسراع بالجنازة كما ثبت في سنن أبى داود أن أبا طلحة بن البراء مرض فأتاه النبي صلى الله عليه وسلم يعوده فقال إني أرى طلحة قد حدث فيه الموت فأذنوني به وعجلوا فإنه لا ينبغي لجيفة مسلم أن تحبس بين ظهراني أهله
وإن كان المراد النعي بالذي هو تعداد صفات الميت فيقال الذي ينبغي أن يقال لا بأس بالكلمات اليسيرة اذا كانت صدقا لا على وجه النوح والتسخط فلا يحرم ولا ينافي الصبر ولا يكون من النهي عنه بل قد نص الإمام احمد رحمه الله أن الكلمات اليسيرة من الصدق لا تنافي الصبر الواجب يؤيد ذلك ما ثبت في صحيح البخاري من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه قال لما ثقل رسول الله صلى الله عليه وسلم جعل يتغشاه الكرب فقالت فاطمة واكرب ابتاه فقال ليس على أبيك كرب بعد اليوم فلما مات قالت يا أبتاه أجاب ربا دعاه يا أبتاه جنة الفردوس مأواه يا أبتاه إلى جبريل أنعاه فلما دفن رسول الله صلى الله عليه وسلم قالت فاطمة أطابت أنفسكم أن تحثوا التراب على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعن أنس أيضا أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه دخل على النبي صلى الله عليه وسلم بعد وفاته فوضع فمه بين عينيه ووضع يده على صدغيه وقال وانبياه واخليلاه واصفياه رواه الإمام أحمد
وعن أبى هريره رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نعي النجاشي في اليوم الذي مات فيه وخرج بهم إلى المصلى فصف بهم وكبر عليه أربع تكبيرات رواه البخاري ومسلم وفي لفظ لهما فقال استغفروا لأخيكم وقد تقدم قول النبي صلى الله عليه وسلم وإنا بك يا إبراهيم لمحزونون
وهذا ونحوه من الأقاويل التي تقدمت ليس فيها تسخط على الرب تبارك وتعالى بما قضاه وقدره ولا ينافي الصبر الواجب ولا يأثم به قائله والله أعلم
____________________
(1/61)
& الباب الرابع & فيمن أصيب بفقد ثلاثة من الولد فأكثر قال البخاري باب فضل من مات له ولد فاحتسب وقوله تعالى { وبشر الصابرين }
حدثنا أبو معمر حدثنا عبد الوراث ثنا عبد العزيز عن انس رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ما من مسلم من الناس يتوفى له ثلاثة لم يبلغوا الحنث إلا أدخله الله الجنة بفضل رحمته اياهم ورواه مسلم من وجه آخر عن انس قوله لم يبلغوا الحنث أي لم يبلغوا سن التكليف الذي يكتب فيه الحنث
وروى البخاري من حديث سعيد بن المسيب عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال لا يموت لمسلم ثلاثة من الولد فيلج النار إلا تحلة القسم ورواه مسلم من هذه الطريق أيضا قال العلماء تحلة القسم ما ينحل به القسم وهو اليمين وجاء مفسرا في الحديث أن المراد به قوله تعالى { وإن منكم إلا واردها } وبهذا قال أبو عبيد وجمهور العلماء والقسم مقدر أي والله إن منكم إلا واردها وقيل المراد قوله تعالة { فوربك لنحشرنهم والشياطين } وقال ابن قتيبة معناه تقليل مدة ورودها قال وتحلة القسم في هذا في كلام العرب وقيل تقديره ولا تحلة القسم اي لا تحلة اصلا ولا قدرا
____________________
(1/62)
يسيرا تحلة القسم والمراد بقوله تعالى { وإن منكم إلا واردها } المرور على الصراط وهو على جهنم وقيل الوقوف عندها أعاذنا الله وإياكم منها
وروى مسلم أيضا هذا الحديث معنى تحلة القسم عن أبي بكر بن أبي شيبة وعمرو بن الناقد وزهير بن حرب ثلاثتهم عن سفيان بن عيينة به ورواه أيضا من حديث عبد الرزاق عن معمر عن الزهري به ورواه أيضا حدثنا يحيى بن يحيى قرأت على مالك عن شهاب عن ابن المسيب عن أبى هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لا يموت لأحد من المسلمين ثلاثة من الولد فتمسه النار إلا تحلة القسم
ورواه الترمذي من حديث مالك به وقال حسن صحيح قال الترمذي في الباب عن معاذ وعمر وكعب بن مالك وعتبة بن عبيد وأم سليم وعائشة وانس وأبى ذر وابن مسعود وأبي ثعلبة الاشجعي وابن عباس وعتبة بن عامر وأبي سعد وقره بن إياس
وقال الإمام احمد حدثنا إسحاق أخبرنا عوف عن محمد بن سيرين عن أبى هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ما من مسلمين يموت لهما ثلاثة أولاد لم يبلغوا الحنث إلا أدخلهم الله الجنة وآباءهم بفضل رحمته قال يقال لهم ادخلوا الجنة قال يقولون حتى يجيء ابوانا قال ثلاث مرات فيقولون مثل ذلك قال فيقال لهم ادخلوا الجنة أنتم وآباؤكم وروى البخاري من حديث ذكوان عن أبي سعيد أن النساء قلن للنبي صلى الله عليه وسلم اجعل لنا منك يوما فوعظهن وقال ايما امرأة مات لها ثلاثة من الولد كن لها حجابا من ا لنار قالت امرأة واثنان قال واثنان وقال شريك عن ابن الاصبهاني ثنا أبو صالح عن أبي سعيد وأبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال أبو هريرة لم يبلغوا الحنث وقد روى الحديث محمد بن سيرين وابو رزين وأبو سلمة بن عبد الرحمن عن ابي هريرة 0
وأخرج مسلم حديث أبي سعيد من حديث شعبة به وعنده فقالت امرأة واثنين واثنين واثنين يا رسول الله فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم
____________________
(1/63)
واثنين واثنين واثنين وهذا الذي علقه البخاري عن شريك عن ا بن الاصبهاني قد رواه هو ومسلم من حديث غندر عن شعبة عن ابن الاصبهاني عن أبي حازم عن أبي هريرة وقال فيه لم يبلغوا الحنث وقال عثمان بن ابراهيم المؤذن حدثنا عوف عن ابن سيرين عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ما من مسلمين يموت لهما ثلاثة من الولد لم يبلغوا الحنث الا ادخلهم الله وأبويهم الجنة قال يكونون على باب من ابواب الجنة فيقال ادخلوا الجنة أنتم وآباؤكم ورواه النسائي من حديث إسحاق بن يوسف الازرق عن عوف الاعرابي
وروى مسلم في صحيحه عن ابي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لنسوة من الانصار لا يموت لاحداكن ثلاثة من الولد فنحتسبه إلا دخلت الجنة فقالت امرأة منهن أو اثنين يا رسول الله قال أو اثنين
وروى الامام احمد في مسنده عن ابي وائل عن ابن مسعود رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خطب النساء فقال ما منكن امرأة يموت لها ثلاثة إلا أدخلها الله الجنة فقالت اجلهن امرأة يا رسول الله وصاحبة الاثنين فقال وصاحبة الاثنين في الجنة
وروى أحمد أيضا من حديث أم سليم بنت ملحان وهي أم أنس بن مالك قالت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ما من مسلمين يموت لهما ثلاثة أولاد لم يبلغوا الحنث إلا أدخلهم الله الجنة بفضل رحمته قالها ثلاثا قلت يا رسول الله واثنان قال وإثنان وروى المثنى عن عمرو بن شعيب عن سعيد بن المسيب عن أم مبشر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال من هلك له ثلاثة من الولد فصبر واحتسب أدخل الجنة فقلت يا رسول الله وإثنان قال وإثنان
وروى مسلم في صحيحه من حديث طلق بن معاوية عن أبي زرعة عن أبي هريرة رضي الله عنه قال أتت امرأة بصبي لها فقالت يا نبي الله ادع الله فلقد دفنت ثلاثة فقال دفنت ثلاثة قالت نعم قال لقد احتظرت بحظار شديد
____________________
(1/64)
من النار وقال البخاري في تاريخه قال علي بن هاشم حدثني نصر بن عمر بن يزيد بن قبيصة قال حدثني ابي عن قبيصة بن برمة قال كنت عند النبي صلى الله عليه وسلم جالسا اذ اتته امرأة فقالت يا رسول الله أدع الله لي فإنه ليس يعيش لي ولد قال وكم مات لك قالت ثلاثة قال لقد احتظرت من النار بحظار شديد
وقال سعيد بن منصور حدثنا عبيد لله بن زياد ثنا أبي عن زهير بن أبي علقمة قال جاءت امرأة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في ابن لها مات وكان القوم عنفوها فقالت يا رسول الله قد مات لي إبنان منذ دخلت في الاسلام سوى هذا قال لقد احتظرت من النار حظارا شديدا قال جماعة من الحفاظ إسناد صحيح لكن لا صحبة لزهير هذا فيكون مرسلا
أما قوله صلى الله عليه وسلم لقد احتظرت بحظار شديد من النار اي امتنعت بمانع وثيق وأصل الحظر المنع واصل الحظار بكسر الحاء وفتحها ما يجعل حول البستان وغيره من القضبان وغيرها كالحائط
وفي هذه الأحاديث دليل على كون أطفال المسلمين في الجنة وقد نقل جماعة من العلماء إجماع المسلمين على ذلك قال الماوردي أما أولاد الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم فالإجماع محقق في الأطفال على أنهم في الجنة واما أطفال من سواهم من المسلمين فجماهير العلماء على القطع لهم بالجنة قالوا ويدل عليه قوله تعالى { والذين آمنوا واتبعتهم ذريتهم بإيمان ألحقنا بهم ذريتهم } وتوقف بعض المتكلمين منهم وأشار أنه لا يقطع لهم كالمكلفين هوه خطأ ولكنهم مستندين إلى حديث عائشة رضي الله عنها في الصحيح توفي صبي من الأنصار فقالت عائشة طوبى له عصفور من عصافير الجنة لم يعمل السوء ولم يدركه فقال أو غير ذلك يا عائشة إن الله خلق للجنة أهلا خلقهم لها وهم في أصلاب آبائهم وخلق للنار أهلا خلقهم لها وهم في اصلاب آبائهم وفي
____________________
(1/65)
الحديث الاخر إن الغلام الذي قتله الخضر طبع يوم طبع كافر أجاب العلماء عن ذلك بأن النبي صلى الله عليه وسلم إنما نهى عائشة عن المسارعة الى القطع من غير أن يكون عندها دليل قاطع كما أنكر على سعد بن أبي وقاص في قوله أعطه إني لاراه مؤمنا قال أو مسلما قال النووي رحمه الله في شرح مسلم فيحتمل أنه صلى الله عليه وسلم قال هذا قبل أن يعلم أن أطفال المسلمين في الجنة فلما علم قال ذلك في قوله صلى الله عليه وسلم ما من مسلم يموت له ثلاث من الولد لم يبلغوا الحنث الا أدخله الله الجنة بفضل رحمته إياهم وغير ذلك انتهى كلامه
وقد تقدم عدة من الاحاديث تدل على ذلك كما سيأتي ما هو أتم من ذلك وأبين وما ورد من الاحاديث في الثلاثة من الولد ثم سئل عن الاثنين فقال واثنين فمحمول على أنه أوحي اليه عند سؤال الاثنين وكذلك عند سؤال الواحد في بعض الالفاظ والله تعالى أعلم
وروى الامام أحمد بإسناده عن شرحبيل بن سفعة قال سمعت عتبة بن عبد السلمي قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ما من رجل مسلم يتوفى له ثلاثة من الولد لم يبلغوا الحنث الا تلقوه من أبواب الجنة الثمانية من ايها شاء دخل ورواه ابن ماجة من حديث جرين بن عثمان الحمصي به
وروى أحمد من حديث المغيره ثنا جرير ثنا شرحبيل بن شفعة عن بعض الصحابة أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول يقال للولدان يوم القيامة ادخلوا الجنة فيقولون يا ربنا حتى يدخل آباؤنا وامهاتنا قال فيقول الله تعالة مالي أراكم محنبطين ادخلوا الجنة أنتم وآباؤكم
وروى الامام أحمد ايضا عن يزيد بن هارون عن هشام عن ابن سيرين بينا امرأة كانت تأتينا يقال لها مارية كانت ترزأ في ولدها فلقيت عبد الله بن معمر القرشي ومعه رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فحدث ذلك الرجل أن امرأة اتت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت ادع الله أن يبقيه لي فقد مات لي قبله ثلاثة فقال منذ اسلمت قالت نعم فقال جنة حصينة وروى أيضا منفردا به لكنه من
____________________
(1/66)
حديث ابن لهيعة عن ابي عسانة أنه سمع عقبة بن عامر يقول عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال من اثكل ثلاثة من صلبه فاحتسبهم على الله وجبت له الجنة وروى أيضا في مسنده من حديث صعصعة بن معاوية قال أتينا أبا ذر قلت ما لك قال لي عملي قلت حدثني قال نعم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ما من مسلمين يموت بينهما ثلاثة من أولادهما لم يبلغوا الحنث إلا غفر لهما ورواه النسائي عن إسماعيل بن مسعود عن بشر بن المفضل عن يونس بن عبيد عن الحسن عن صعصعة
وثم طريق أخرى عن أبي ذر حدثنا عبد الملك بن عمرو ثنا قرة عن الحسن عن صعصعة بن معاوية قال لقيت أبا ذر بالربذه فقال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول من انفق زوجين من ماله في سبيل الله ابتدره حجبة الجنة وقال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ما من مسلمين يموت لهما ثلاثة من الولد لم يبلغوا حنثا إلا أدخلهم الله الجنة بفضل رحمته إياهم فصل & فيمن أصيب بفقد الأربعة من الولد قال عبد الله بن الإمام أحمد في مسند أبيه حدثني محمد بن أبي بكر المقدمي حدثني بشر بن المفضل عن داود بن أبي هند عن عبد الله بن قيس عن الحارث ابن أقيس قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ما من مسلمين يموت بينهما أربعة أولاد إلا أدخلهم الله الجنة قالوا يا رسول الله وثلاثة قال وثلاثة قالوا يا رسول الله واثنان قال واثنان وإن من أمتي لمن يعظم للنار حتى يكون أحد زواياها وإن من أمتي لمن يدخل بشفاعته الجنة اكثر من بمصر وروى ابن ماجة منه وإن من أمتي الخ عن أبي بكر بن أبي شيبة عن عبد الرحيم بن سليمان عن داود بن أبى هند به
____________________
(1/67)
وروى داود بن أبي هند عن عبد الله بن قيس الاسدي عن الحارث بن أقيس قال كنا عند أبى بردة ليلة فحدث ليلته عن النبي صلى الله عليه وسلم يقول ما من مسلمين يموت لهما أربعة افراط إلا أدخلهما الله الجنة بفضل رحمته قالوا يا رسول الله وثلاثة قال وثلاثة قالوا إثنان قال واثنان وذكر تمام الحديث وقد ذكر بعضهم أنه رواه الإمام أحمد ولكني لم أره
وروى النسائي من حديث عبد الله بن وهب عن عمرو بن الحارث عن بكير ابن الاشج حدثني عمران بن نافع عن حفص بن عبيد الله عن جده أنس بن مالك رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال من احتسب ثلاثة من صلبه دخل الجنة وروى الهيثم بن جميل عن الاحوص عن عاصم الاحول عن أنس قال توفي للزبير ولد فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله سخ انفسنا عن أولادنا فقال من مات له ثلاثة من الولد لم يبلغوا الحنث كانوا له حجابا من النار
وروى عبد الحكيم بن منصور عن يونس علي ابن سيرين عن عبيدة السلماني عن الزبير بن العوام عن النبي صلى الله عليه وسلم قال من مات له ثلاثة من الاولاد لم يبلغوا الحنث كانوا له حجابا من النار
وروى الإمام أحمد من حديث لقمان بن عامر عن ابي أمامة عن عمرو بن عنبسة قال قلت له حدثنا حديثا سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم ليس فيه انتقاص ولا زيادة قال سمعته يقول من ولد له ثلاثة أولاد في الاسلام فماتوا قبل ان يبلغوا الحنث أدخله الله الجنة بفضل رحمته إياهم ومن شاب شيبة في الاسلام كانت له نورا يوم القيامة ومن رمى بسهم في سبيل الله بلغ به العدو اصاب أو اخطأ كان له بعدل رقبة ومن أعتق رقبة مؤمنة أعتق الله بكل عضو منه عضوا منه من النار ومن أنفق زوجين في سبيل الله فإن للجنة ثمانية أبواب يدخله الله من أي باب شاء منها وكذا رواه عبد الحميد بن بهرام عن شهر عن أنس عن ابي طيبة عن عمرو بن عنبسة السلمي فذكر نحوه ورواه الوضين عن عطاء عن محفوظ بن علقمة عن ابن عائد عن عمرو بن عنبسه به
____________________
(1/68)
وقال عبد الرزاق سمعت هشام بن حسان عن ابن سيرين عن يزيد بن أبي بكرة حدثتني حبيبة يعني بنت سهل ويقال بنت أبي سفيان أنها كانت عند عائشة رضي الله عنها فجاء النبي صلى الله عليه وسلم فقال ما من مسلمين يموت لهما ثلاثة من الولد إلا أدخلهم الله الجنة بفضل رحمته إياهم وكذا روى محمد بن عبد الله الانصاري عن ابان بن صمغة عن محمد بن سيرين عن يزيد بن أبي بكره عن حبيبة أنها كانت في بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فجاء فجلس فقال ما من مسلمين يموت لهما ثلاثة اطفال لم يبلغوا الحنث إلا جيء بهم يوم القيامة حتى يوقفوا على باب الجنة فيقال ادخلوا الجنة فيقولون حتى يدخل آباؤنا قال ابن سيرين فلا أدري في الثانية أو الثالثة فيقال لهم ادخلوا أنتم وآباؤكم فقالت عائشة أسمعت قالت نعم
وقال الترمذي وروى ألابار قلت هو أبو حفص اسمه عمر بن عبد الرحمن عن الأعمش عن ذر عن سعيد بن عبد الرحمن بن أبي أبزي عن أبيه عن محمد بن وهب أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لامرأة هل لك من فرط قالت ثلاثة قال جنة حصينة
وروى عبد الرحمن بن إسحاق أبو شيبة عن يزيد بن الحكم عن عثمان بن ابي العاص أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لقد استجن بجنة حصينة من النار رجل سلف بين يديه ثلاثة من صلبه في الإسلام
وعن أم ذر قالت لما حضرت أبا ذر الوفاة بكيت فقال أبشري ولا تبكي فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لا يموت بين إمرأين مسلمين ولدان أو ثلاثة فيصبران ويحتسبان فيريان النار أبدا وقد مات لنا ثلاثة من الولد رواه الحافظ أبو موسى المديني
وقال مالك في الموطأ عن محمد بن أبي بكر عن أبيه عن أبي النضر السلمي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لا يموت لأحد من المسلمين ثلاثة من الولد فيحتسبهم إلا كانوا له جنة من النار فقالت امرأة منهن يا رسول الله أو إثنان قال أو
____________________
(1/69)
إثنان قال أبو عمر بن عبد البر هكذا رواه القعنبي ويحيى بن يحيى عن مالك وقال الآخرون عن مالك بإسناده عن أبي النضر قال وهذا مجهول في الصحابة والتابعين انتهي كلامه
قلت كذا قال ابن عبد البر وليس بمجهول كما قال فإن مسلم رحمه الله قال في كتاب الكنى والأسامي أبو النضر عبد الأعلى بن هلال السلمي عن عرباض بن سارية وروى عنه عامر بن خصيف فهو تابعي
وروى إسماعيل بن يحيى التيمي عن موسى الجهني عن مجاهد عن عائشة رضي الله عنها قالت قال النبي صلى الله عليه وسلم من قدم ثلاثة من ولده صابرا محتسبا حجبوه بإذن الله من النار
وروى البخاري في تاريخه من طريق أبان بن صمغة عن أبن سيرين حدثتنا حبيبة خادمة عائشة انها كانت في بيت عائشة قاعده فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال ما من مسلمين يموت لهما ثلاثة أطفال إلا أدخلهما الله الجنة وفي الأربعين لنصر بن عبد الرزاق ذكر عن علي بن زيد بن جدعان عن سعيد بن المسيب عن عبد الرحمن بن سمرة قال خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال إني رأيت البارحة عجبا رأيت رجلا من أمتي قد احتوشته ملائكة فجاءه وضوءه فاستنقذه ورأيت رجلا من أمتي خف ميزانه فجاءه أفراطه فثقلوا ميزانه وهو مقتطع من حديث طويل يأتي
وعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من دفن من صلبه ثلاثة من الولد كنت أنا وهو في الجنة كهاتين رواه بسنده الحافظ ابن عساكر
قلت وهذه الأحاديث على اختلاف ألفاظها واتفاق معانيها غالبا وسيأتي بعد ذلك ماهو مثلها وما هو أتم وأبين إن شاء الله كلها تدل على أنها وقعت من النبي صلى الله عليه وسلم في مجالس متعددة ويدل على اهتمامه واعتنائه ورحمته وشفقته بأمته اذ كل حديث من هذه الأحاديث فيه تسلية للأمة عن أولادها
____________________
(1/70)
بل تدل بفحوى الخطاب على أن الشارع صلى الله عليه وسلم أراد تسلية الوالدين عن أولادهما بما أعد الله لهما من الثواب الجزيل على المصيبة والصبر عليها فإن اتفق مع ذلك الرضى بها وكتمانها عن الخلق وطلبها وتلقيها بالقبول كان ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم 0
____________________
(1/71)
& الباب الخامس فيمن أصيب بفقد ولدين
قال مسلم في صحيحه حدثنا المعتمر بن سليمان عن أبيه أبي السليل بن نفير عن أبي حسان وهو خالد بن علان قال قلت لأبي هريرة رضي الله عنه إنه قد مات لي ابنان فما أنت محدثي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بحديث يطيب أنفسنا عن موتانا قال نعم قال صغارهم دعاميص الجنة فيلقى أحدهم أباه أو قال أبويه بثوبه أو قال بيده كما آخذ أنا بصنفة ثوبك هذا فلا يتناهي أو قال ينتهي حتى يدخله وإياه الجنة ورواه الإمام أحمد
أما قوله صلى الله عليه وسلم صغارهم دعاميص الجنة هو بالدال والعين والصاد المهملات واحدهم دعموص بضم الدال اي صغار أهل الجنة قال الشاعر % إذا التقى البحران عم الدعموص % نفى أن يسبح او يغوص %
وأصل الدعموص دويبة تكون في الماء لا تفارقه أي هذا الصغير في الجنة لا يفارقها وأما قوله صنفة ثوبك هي بفتح الصاد وكسر النون وهي طرفة ويقال لها أيضا صنيفة وأما قوله فلا يتناهي أو قال ينتهي حتى يدخله الله وإياه الجنة يتناهى و ينتهي بمعنى واحد أي لا يتركه والله تعالى أعلم وقال أبو يعلى الموصلي حدثنا أبو هشام الرفاعي ثنا ابن فضيل ثنا بشير بن مهاجر عن ابن بريدة عن أبيه قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأتي الأنصار ويعودهم ويسأل عنهم فبلغه أن امرأة من الأنصار مات ابن لها فجزعت عليه فأتاها فأمرها رسول الله صلى الله عليه وسلم بتقوى الله عز وجل والصبر قالت يا رسول الله إني امرأة رقوب لا ألد ولم يكن ولد غيره فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم الرقوب التي يبقى ولدها ثم قال ما من امرىء مسلم ولا امرأة مسلمة يموت لها ثلاثة من
____________________
(1/72)
الولد إلا أدخلها الله عز وجل الجنة فقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه بأبي انت وأمي يا رسول الله وإثنان قال وإثنان ورواه البزار في مسنده عن أحمد ابن عمر عن جعفر بن عون عن بشير بن المهاجر عن عبد الله بن بريدة عن أبيه به وعنده فقالت يا رسول الله كيف لا أجزع وأنا رقوب لا يعيش لي ولد فقال إنما الرقوب التي يعيش ولدها وعنده فقال عمر وهو على يمين رسول الله صلى الله عليه وسلم وإثنان قال وإثنان وهو على شرط مسلم
وقال الإمام أحمد ثنا عفان ثنا وهيب ثنا عبدالله بن عثمان عن مجاهد عن إبراهيم بن الأشتر أن أبا ذر رضي الله عنه حضره الموت وهو بالربذة فبكت امرأته فقال ما يبكيك قالت أبكي أنه لايد لي بنعشك وليس عندي ثوب يسع لك كفنا فقال لاتبكي فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم وأنا عنده في نفر يقول ليموتن رجل منكم مسلم بفلاة من الأرض يشهده عصبة من المؤمنين وكل من كان في ذلك المجلس مات في جماعة وقرية ولم يبق منهم غيري وقد أصبحت بالفلاة أموت فراقبي الطريق فإنك سوف ترين ما أقول فإني والله ما كذبت ولا كذبت قالت وأنى ذلك وقد انقطع الحاج قال راقبي الطريق فبينما هي كذلك إذ هي بقوم تجذبهم رواحلهم كأنهم الرخم فأقبل القوم حتى وقفوا عليها فقالوا ما لك قالت امرأ من المسلمين تكفنوه وتؤجرون فيه قالوا من هو قالت أبو ذر ففدوه بآبائهم وأمهاتهم ووضعوا أسياطهم في نحورها يبتدرونه فقال أبشروا أنتم النفر الذي قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيكم ما قال أبشروا سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ما من امرأين مسلمين هلك بينهما ولدان أو ثلاثة فاحتسبا وصبرا فيريان النار أبدا ثم قال قد اصبحت اليوم وحيث ترون ولو أن ثوبا من ثيابي يسعني لم أكفن إلا فيه فانشدكم لا يكفيني رجل منكم كان أميرا أو عريفا او بريدا فكل القوم كان قد نال من ذلك شيئا إلا فتى من الأنصار كان مع القوم قال أنا صاحبك ثوبان في عيبتي من غزل أمي وأحد ثوبي هذين اللذين علي قال أنت صاحبي فكفني تفرد به أحمد
____________________
(1/73)
وقال أحمد ثنا حماد بن مسعدة ثنا جريج عن أبي الزبير عن عمرو بن نبهان عن أبي ثعلبة الاشجعي قال قلت مات لي يا رسول الله ولدان في الإسلام قال من مات له ولدان في الإسلام أدخله الله الجنة بفضل رحمته إياهما قال فلما كان بعد ذلك لقيني أبو هريرة فقال أنت الذي قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم في الولدين ما قال قلت نعم قال لأن يكون ماقاله لي أحب إلي مما غلقت عليه حمص وفلسطين
وروى الإمام أحمد أيضا في مسنده عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خطب النساء فقال لهن ما منكن امرأة يموت لها ثلاثة إلا أدخلها الله عز وجل الجنة فقالت أجلهن امرأة يا رسول الله وصاحبة الاثنين في الجنة قال وصاحبة الاثنين في الجنة
وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال جاءت امرأة الى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت يا رسول الله ذهب الرجال بحديثك فاجعل لنا من نفسك يوما نأتيك فيه تعلمنا مما علمك الله قال اجتمعن في يوم كذا وكذا فاجتمعن فأتاهن رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلمهن مما علمه الله ثم قال ما منكن من امرأة تقدم بين يديها من ولدها ثلاثة إلا كانوا لها حجابا من النار فقالت امرأة واثنين واثنين واثنين فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم واثنين واثنين واثنين رواه البخاري ومسلم ولفظه لمسلم
وعن معاذ بن جبل رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال أوجب الثلاثة قال معاذ وذو الاثنين يا رسول الله قال وذو الاثنين رواه الإمام أحمد
عن ذكوان عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه إن النساء قلن غلبنا عليك الرجال يا رسول الله فاجعل لنا يوما نأتيك فيه فواعدهن ميعادا فأمرهن ووعظهن وقال ما منكن امرأة يموت لها ثلاثة من الولد إلا كانوا لها حجابا من النار فقالت امرأة واثنين فإنه مات لي إثنان فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم وإثنين هذا لفظ البخاري وقد تقدم لفظ مسلم ورواه الإمام أحمد من حديث ابي هريرة وإبن مسعود وقد تقدم
____________________
(1/74)
الولد إلا أدخلها الله عز وجل الجنة فقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه بأبي انت وأمي يا رسول الله وإثنان قال وإثنان ورواه البزار في مسنده عن أحمد ابن عمر عن جعفر بن عون عن بشير بن المهاجر عن عبد الله بن بريدة عن أبيه به وعنده فقالت يا رسول الله كيف لا أجزع وأنا رقوب لا يعيش لي ولد فقال إنما الرقوب التي يعيش ولدها وعنده فقال عمر وهو على يمين رسول الله صلى الله عليه وسلم وإثنان قال وإثنان وهو على شرط مسلم
وقال الإمام أحمد ثنا عفان ثنا وهيب ثنا عبدالله بن عثمان عن مجاهد عن إبراهيم بن الأشتر أن أبا ذر رضي الله عنه حضره الموت وهو بالربذة فبكت امرأته فقال ما يبكيك قالت أبكي أنه لايد لي بنعشك وليس عندي ثوب يسع لك كفنا فقال لاتبكي فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم وأنا عنده في نفر يقول ليموتن رجل منكم مسلم بفلاة من الأرض يشهده عصبة من المؤمنين وكل من كان في ذلك المجلس مات في جماعة وقرية ولم يبق منهم غيري وقد أصبحت بالفلاة أموت فراقبي الطريق فإنك سوف ترين ما أقول فإني والله ما كذبت ولا كذبت قالت وأنى ذلك وقد انقطع الحاج قال راقبي الطريق فبينما هي كذلك إذ هي بقوم تجذبهم رواحلهم كأنهم الرخم فأقبل القوم حتى وقفوا عليها فقالوا ما لك قالت امرأ من المسلمين تكفنوه وتؤجرون فيه قالوا من هو قالت أبو ذر ففدوه بآبائهم وأمهاتهم ووضعوا أسياطهم في نحورها يبتدرونه فقال أبشروا أنتم النفر الذي قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيكم ما قال أبشروا سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ما من امرأين مسلمين هلك بينهما ولدان أو ثلاثة فاحتسبا وصبرا فيريان النار أبدا ثم قال قد اصبحت اليوم وحيث ترون ولو أن ثوبا من ثيابي يسعني لم أكفن إلا فيه فانشدكم لا يكفيني رجل منكم كان أميرا أو عريفا او بريدا فكل القوم كان قد نال من ذلك شيئا إلا فتى من الأنصار كان مع القوم قال أنا صاحبك ثوبان في عيبتي من غزل أمي وأحد ثوبي هذين اللذين علي قال أنت صاحبي فكفني تفرد به أحمد
____________________
(1/75)
الترمذي وقال غريب وابن ماجه جميعا عن نصر بن علي عن إسحاق بن يوسف عن العوام بن حوشب عن أبي محمد مولى عمر بن الخطاب عن أبي عبيدة عن أبيه عبد الله بن مسعود مرفوعا فذكره وأبو عبيدة لم يسمع من أبيه
وقال الإمام أحمد في مسنده حدثنا أبو معاوية ثنا الأعمش عن إبراهيم التيمي عن الحارث بن سويد عن ابن مسعود قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ما تعدون فيكم الرقوب قلنا الذي لا ولد له قال لا ولكن الرقوب الذي يقدم من ولده شيئا ورواه مسلم من حديث الأعمش ورواه البيهقي ولفظه أن امراة قالت انا رقوب لا يعيش لي ولد فقال إنما الرقوب التي يعيش ولدها أما تحبين أن ترينه على باب الجنة وهو يدعوك إليها قالت بلى قال فإنه كذلك
وقال الإمام أحمد حدثنا وكيع ثنا شعبة عن معاوية بن قرة عن أبيه أن رجلا كان يأتي النبي صلى الله عليه وسلم ومعه ابن له فقال له النبي صلى الله عليه وسلم أتحبه فقال يا رسول الله أحبك الله كما أحبه ففقده النبي صلى الله عليه وسلم فقال ما فعل ابن فلان قالوا يا رسول الله مات فقال النبي صلى الله عليه وسلم لأبيه أما تحب أن لا تأتي بابا من أبواب الجنة إلا وجدته ينتظرك فقال رجل يا رسول الله أله خاصة أو لكلنا قال بل لكلكم ورواه النسائي من حديث شعبة بمثله
وفي رواية أخرى من حديث هلال بن زيد بن ابي الزرقاء عن أبيه عن خالد ابن ميسرة عن معاوية بن قرة عن أبيه قال كان نبي الله صلى الله عليه وسلم إذا جلس جلس إليه نفر من أصحابه ومنهم رجل له ابن صغير يأتيه من خلف ظهره فيقعده بين يديه فهلك فامتنع الرجل أن يحضر الحلقة بذكر ابنه فحزن عليه ففقده النبي صلى الله عليه وسلم فقال ما لي لا أرى فلانا فقالوا يا رسول الله بنيه الذي رأيته هلك فلقيه النبي صلى الله عليه وسلم فسأله عن بنيه فأخبره بأنه هلك فعزاه عليه ثم قال يا فلان أيما كان أحب إليك أن تمتع به عمرك أو لا تاتي غدا إلى باب من
____________________
(1/76)
أبواب الجنة إلا وجدته قد سبقك إليه يفتحه لك قال يا رسول الله بل يسبقني الى باب الجنة يفتحها لي أحب إلي قال فذلك لك رواه النسائي وهذا لفظه ورواه الإمام أحمد والبيهقي وزادا فقال رجل يا رسول الله أله خاصة أم لكلنا قال بل لكلكم فذكر مثل الذي قبله
ورواه البيهقي من طريق أخرى وفيه فقام رجل من الأنصار فقال يا نبي الله جعلني الله فداك أهذا لهذا خاصة أو من هلك له طفل من المسلمين كان ذلك له قال بل من هلك له طفل من المسلمين كان ذلك له
وقال الإمام أحمد حدثنا يحيى بن إسحاق من كتابه أنبأنا ابن لهيعة عن عبد الله بن هبيرة عن حسان بن كريب أن غلاما منهم توفي فوجد عليه أبوه أشد الوجد فقال حوشب صاحب النبي صلى الله عليه وسلم ألا أخبرك بما سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في مثل ابنك إن رجلا من الصحابة كان له ابن قد دب أو أدرك وكان يأتي مع أبيه الى النبي صلى الله عليه وسلم ثم توفي فوجد عليه أبوه قريبا من ستة أيام لا يأتي النبي صلى الله عليه وسلم فقال النبي صلى الله عليه وسلم لا أرى فلانا فقالوا يارسول الله إن ابنه توفي فوجد عليه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم يا فلان أتحب لو أن ابنك عندك الان كأنشط الصبيان نشاطا أتحب ان ابنك عندك أجرى الغلمان جريه أتحب ان ابنك عندك كهلا كأفضل الكهول أو يقال لك ادخل الجنة ثواب ما أخذ منك وقد ورد هذا الحديث بعدة طرق عن أنس بن مالك وبريدة بن الخصيب الأسلمي وغيرهما
وروى الطبراني في معجمه من حديث إبراهيم بن عبيد بن رفاعة الزرقي عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن رجلا من الأنصار كان له ابن يروح إذا راح إلى النبي صلى الله عليه وسلم فسأله عنه فقال أتحبه فقال يا بني الله نعم أحبك الله كما أحبه فقال إن الله أشد لي حبا منك له فلم يلبث أن مات ابنه ذاك فراح الى نبي الله وقد أقبل بثه فقال له نبي الله أجزعت قال نعم
____________________
(1/77)
قال أو ما ترضى أن يكون ابنك مع ابني إبراهيم يلاعبه تحت ظل العرش قال بلى يا رسول الله هذا حديث غريب
وروى أبو يعلى الموصلي في مسنده من حديث ابن بريدة عن أبيه رضي الله عنه قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتعاهد الأنصار ويعودهم ويسأل عنهم فبلغه ان امرأة من الأنصار مات ابن لها فجزعت عليه فأتاها فامرها صلى الله عليه وسلم بتقوى الله عز وجل والصبر فقالت يا رسول الله إني امرأة رقوب لا ألد ولم يكن لي لي ولد غيره فقال يا رسول الله صلى الله عليه وسلم والرقوب التي يبقى ولدها ثم قال ما من امرىء مسلم ولا امرأة مسلمة يموت لها ثلاثة من الولد إلا أدخلهما الله عز وجل الجنة فقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه بأبي أنت وأمي يا رسول الله وإثنان قال وإثنان
ورواه البزار في مسنده ولفظه فقالت يا رسول الله كيف لا أجزع وأنا رقوب لا يعيش لي ولد فقال إنما الرقوب التي يعيش ولدها وذكر تمام الحديث
ورواه أحمد من حديث معاذ بن جبل وفيه قال وإثنان قال وإثنان قالوا وواحد قال وواحد وقد تقدم
وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال قال الله عز وجل ما لعبدي المؤمن جزاء إذا قبضت صفيه من المال والولد فصبر إلا أن أدخله الجنة رواه ابن عساكر وإسناده فيه ابن لهيعة والكلام فيه معروف
وروى أيضا من حديث المنهال بن خليفة عن ثابت عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن رجلا من أهل الأساطين معروفا بذلك ففقده النبي صلى الله عليه وسلم فقال ما فعل فلان فقالوا ابنه شكى وهو يمرضه فأرسل إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم يسأله عن ابنه فوجده قد مضى وجاء الرجل مع رسول رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى رسول الله
____________________
(1/78)
صلى الله عليه وسلم فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم ما حبسك عنا قال إني كنت أمرضه حتى مضى فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أتحبه قال نعم قال أجزعت عليه قال نعم شديدا قال فما يسرك أن يكون باركا على باب من أبواب الجنة يقول يا أبه أنا ذا فأتني قال بلى يا نبي الله فقال المسلمون عند ذلك يا رسول الله فمن أصابه منا مصيبة كان ذلك له قال نعم إذا صبر واحتسب
وروى ابن أبي الدنيا في كتاب الأمراض والكفارات عن محمد بن خالد بن السلمي عن أبيه عن جده وكانت لجده صحبة قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول إذا سبقت للعبد من الله عز وجل منزلة لم يبلغها بعمله ابتلاه الله في جسده أو في ولده أو في ماله ثم صبره حتى يبلغه المنزلة التي سبقت له من الله عز وجل
وروى أيضا بإسناده عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يزال البلاء بالمؤمن والمؤمنة في جسده وماله وولده حتى يلقى الله وما عليه خطيئة ورواه الترمذي ومالك في الموطأ
وعن أنس بن مالك قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم قال الله تعالى إذا وجهت إلى عبدي مصيبة في بدنه أو ماله أو ولده ثم استقبل ذلك بصبر جميل استحييت منه يوم القيامة أن أنصب له ميزانا أو أنشر له ديوانا رواه ابن عدي في الكامل فصل
قال ابن أبي الدنيا حدثني محمد بن الحسين ثنا داود بن المحبر ثنا سوادة بن الأسود قال سمعت أبا خليفة العبدي قال مات ابن لي صغير فوجدت عليه وجدا شديدا وارتفع عني النوم فوالله إني لذات ليلة في بيتي على سريري وليس في البيت أحد غيري وإني لمفكر في إبني إذ ناداني مناد من ناحية البيت السلام عليكم ورحمة الله يا أبا خليفة فقلت وعليكم السلام ورحمة الله 0 قال
____________________
(1/79)
ورعبت رعبا شديدا قال فتعوذ ثم قرأ آيات من آخر سورة آل عمران حتى انتهى إلى هذه الآية { وما عند الله خير للأبرار } قال يا أبا خليفة قلت لبيك قال ماذا تريد تريد ان تخص بالحياة في ولدك دون الناس أنت أكرم على الله أم محمد صلى الله عليه وسلم وقد مات ابنه إبراهيم وقال تدمع العين ويحزن القلب ولا نقول ما يسخط الرب أم ماذا تريد تريد أن يرتفع الموت عن ولدك وقد كتب على جميع الخلق أم ماذا تريد تريد أن تسخط الله في تدبير خلقه والله لولا الموت ما وسعتهم الارض ولولا التأسي ما انتفع المخلوقون بعيش ثم قال ألك حاجة قلت من أنت رحمك الله قال امرؤ من جيرانك من الجن
قال الحافظ أبو نعيم حدثنا سليمان بن أحمد ثنا محمد بن عبدوس ثنا أبو هاشم ثنا محمد بن كاسة قال لما مات ذر بن عمر بن ذر وكان موته فجأة أتاه أهل بيته يبكونه فقال ما لكم إنا والله ما ظلمنا ولا قهرنا ولا ذهب لنا بحق ولا أخطىء بنا ولا أريد غيرنا وما لنا على الله معتب فلما وضعه أبوه في قبره قال رحمك الله يا بني لقد كنت بي بارا ولقد كنت عليك حدبا وما بي إليك من وحشة ولا إلى أحد بعد الله فاقة ولا ذهبت لنا بعز ولا ابقيت علينا من ذل وقد شغلني الحزن لك عن الحزن عليك يا ذر لولا هول المطلع ومحشره لتمنيت ما صرت إليه فليت شعري يا ذر ماذا قيل لك وماذا قلت ثم قال اللهم وعدتني الثواب بالصبر على ذر اللهم فعلى ذر صلواتك ورحمتك اللهم إني قد وهبت ما جعلت لي من أجر على ذر صلة مني فلا تعرنه قبيحا وتجاوز عنه فإنك أرحم به مني اللهم إني قد وهبت إساءته الي فهب له إساءته إليك فإنك أجود مني وأكرم فلما ذهب لينصرف قال انصرفنا وتركناك ولو أقمنا ما نفعناك
ورواها من وجه أن ذر لما مات قال أصحابه الآن يضيع الشيخ يعني والده فإنه كان بارا به فسمعها الشيخ فبقي متعجبا ثم التفت إليهم وقال
____________________
(1/80)
أضيع والله حي لا يموت ثم سكت حتى دفن فلما واروه في التراب وقف على قبره ليسمعهم فقال رحمك الله ياذر ما علينا بعدك من خصاصة وما بنا إلى أحد مع الله حاجة وما يسرني أن أكون المقدم قبلك ولولا هول المطلع لتمنيت ان أكون مكانك ثم رفع رأسه وقال اللهم قد وهبت حقي فيما بيني وبينه له اللهم فهب حقك فيما بينك وبينه له وساق نحوا من القصة الأولى فبقي القوم متعجبين مما جاء منهم ومما جاء منه من الرضا والتسليم
وعن الحسن البصري رحمه الله أن رجلا جزع على ولده وشكى ذلك إلى الحسن فقال له كان ابنك يغيب عنك قال نعم كانت غيبته أكثر من حضوره قال فأنزله غائبا فإنه لم يغب عنك غيبة خير لك فيها نفعا أعظم من هذه قال يا أبا سعيد هونت علي وجدي على ابني
وعن سلمة قال لما مات ابن عمر بن عبد العزيز كشف أبوه عن وجهه وقال رحمك الله يا بني فقد سررت بك يوم بشرت بك ولقد عمرت مسرورا بك وما أتت علي ساعة أنا فيها أسر من ساعتي هذه أما والله إن كنت لتدعو أباك الى الجنة
وقال ابو الفرج بن الجوزي قال أبو الوفاء بن عقيل مات ولدي عقيل وكان قد تفقه وناظر وجمع أدبا حسنا فتعزيت بقصة عمرو بن عبدود الذي قتله علي بن أبي طالب فقالت أمه ترثيه % لو كان قاتل عمرو غير قاتله % مازلت أبكي عليه دائم الأبد % % لكن قاتله من لايقاد له % من كان يدعى ابوه بيضة البلد %
فأسلاها وعزاها جلالة القاتل فنظرت إلى أن قاتل ولدي الحكيم المالك فهان القتل والمقتول لجلالة القاتل وعظمه
____________________
(1/81)
فصل
وهذه الأحاديث والآثار أكثر ورودها في الولد الذي لم يبلغ الحنث ولكن الولد الصالح البالغ أشد مصيبة على والديه وأكثر حزنا وجزعا منهما على الولد الصغير خصوصا إذا كان قد برز في العلم أو له بر وإحسان إلى والديه وأقاربه وأصحابه أو له صفات جميلة وأفعال حميدة وأين يقع الولد الصغير موقع الكبير في النفع لوالديه ولغيرهما إذا كان متصفا بما ذكر فهل يستريب عاقل أن الحزن عليه أشد فكذلك أجره وثوابه أعظم وأكثر
فإن قيل البالغ قد جرى عليه القلم وهو من المكلفين فنهايته يخلص نفسه يعتقها أويوبقها
قيل الجزاء على الكبير إنما يحصل على الصبر على المصيبة والاسترجاع والحمدلة بل هو داخل في قول النبي صلى الله عليه وسلم أدخل الجنة ثواب ما قد أخذ منك
وروى ابن منده من حديث ابن لهيعة عن عبد الله بن هبيرة النسائي عن حسان بن كريب أن غلاما منهم توفي بحمص فوجد عليه أبوه فقال له حوشب صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم الا أخبرك سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في مثل ابنك إن رجلا من الصحابة كان له ابن قد أدرك وكان يأتي مع أبيه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم توفي فوجد عليه قريبا من ستة ايام الحديث وهذا الحديث ذكر فيه أنه أدرك وذكر فيه دخول الجنة ثواب ما أخذ منه وقد تقدم من رواية الإمام أحمد لكن لم يذكر في روايته أنه أدرك
وقد روى الحافظ أبو القاسم بن عساكر بإسناده عن إبراهيم عن علقمة عن عبد الله قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من مات له ابن أو ولد سلم أو لم يسلم رضي أو لم يرض لم يكن له ثواب دون الجنة وفي لفظ آخر من مات له ابن صبر أو لم يصبر احتسب أو لم يحتسب لم يكن له ثواب إلا الجنة وقد روى ابن
____________________
(1/82)
عساكر هذا الحديث بعدة طرق وإن كان قد تكلم في بعضها أو في أكثرها ففيها بشارة عظيمة لأكثر الناس في زماننا هذا لان بموت الولد في غالب أهل زماننا يحصل لوالديه جزع وهلع وعدم تصبر وما ذاك إلا لقلة الزواجر الشرعية فإن الوعد والوعيد يحصل للعبد به تسلية عظمية فنسأل الله تعالى أن لا يمتحنا وإن امتحننا ان يثبتنا
وقال أبو القاسم بن عساكر أخبرنا أبو العز أحمد بن عبد الله العكبري ببغداد أنبأنا أبو محمد الحسن بن علي الجوهري أنبأ أبو الحسن علي بن محمد الوراق أنبا أبو حفص عمر بن أيوب السقطي ثنا أبو الوليد بشر بن الوليد القاضي ثنا الفرج بن فضالة ثنا هلال ابو جبلة عن سعيد بن المسيب عن عبد الرحمن بن سمرة قال خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما ونحن في صفة بالمدينة فقام علينا فقال إني رايت البارحة عجبا رأيت رجلا من أمتي أتاه ملك الموت ليقبض روحه فجاءه بره بوالديه فرد ملك الموت عنه ورأيت رجلا من أمتي قد بسط عليه عذاب القبر فجاءه وضوؤه فاستنقذه من ذلك ورأيت رجلا من أمتي قد احتوشته الشياطين فجاءه ذكر الله عز وجل فطرد الشياطين عنه ورأيت رجلا من امتي قد احتوشته ملائكة العذاب فجاءته صلاته فاستنقذته من أيديهم ورأيت رجلا من أمتي يلتهب عطشا كلما دنا من حوض منع منه وطرد فجاءه صيامه شهر رمضان فأسقاه وأرواه ورأيت رجلا من أمتي ورأيت النبيين حلقا حلقا كلما دنا إلى حلقة طرد فجاءه غسله من الجنابة فأخذ بيده فأقعده إلى جنبي ورايت رجلا من أمتي من بين يديه ظلمة وعن يمينه ظلمة وعن شماله ظلمة ومن فوقه ظلمة وهو متحير فجاءه حجه وعمرته فاستخرجاه من الظلمة وأدخلاه في النور ورأيت رجلا من أمتي يتقي بيده ووجهه وهج النار وشررها فجاءته صدقته فصارت سترة بينه وبين النار وظلا على رأسه ورأيت رجلا من أمتي يكلم المؤمنين ولا يكلمونه فجاءته صلته لرحمه فقالت يا معشر المؤمنين إنه كان وصولا لرحمه فكلموه فكلمه المؤمنون وصافحوه وصار فيهم ورأيت رجلا من أمتي قد احتوشته الزبانية فجاءه أمره بالمعروف ونهيه عن المنكر
____________________
(1/83)
فاستنفذه من أيديهم وادخله في ملائكة الرحمة ورأيت رجلا من أمتي جاثيا على ركبتيه وبينه وبين الله عز وجل حجاب فجاءه حسن خلقه فأخذ بيده فأدخله على الله عز وجل ورأيت رجلا من أمتي قد هوت صحيفته من قبل شماله فجاءه خوفه من الله عز وجل فأخذ صحيفته فوضعها في يمينه ورأيت رجلا من أمتي خف ميزانه فجاءه أفراطه فثقلوا ميزانه ورأيت رجلا من أمتي قائم على شفير جهنم فجاءه رجاؤه من الله عز وجل وجل فاستنقذه من ذلك ومضى ورأيت رجلا من أمتي قد هوى في النار فجاءته دمعته التي بكى من خشية الله عز وجل فاستنقذته من ذلك ورأيت رجلا من أمتي كما ترعد السعفة في ريح عاصف فجاءه حسن ظنه بالله عز وجل فسكن رعدته ومضى ورأيت رجلا من أمتي يزحف على الصرط ويحبو أحيانا ويتعلق أحيانا فجاءته صلاته علي فأنقذته واقامته على قدميه ورأيت رجلا من أمتي انتهي الى أبواب الجنة فغلقت الابواب دونه فجاءته شهادة أن لا إله إلا الله ففتحت له أبواب الجنة وأدخلته الجنة
هذا الحديث قد ذكر جماعة من الحفاظ أن لوائح الصحة ظاهرة عليه وأن القلب يركن إلى متنه وقد أومأت إليه فيما تقدم وبكل حال في هذا الحديث بشارة عظيمة للأمة عامة وفيه تطيب خاطر الوالدين على الأطفال خاصة سواء كان الطفل ولد قبل إسلام والده أو بعده فإنه صلى الله عليه وسلم قال رأيت رجلا من أمتي خف ميزانه فجاءته أفراطه فثقلوا ميزانه ويؤيد ذلك ما ثبت ان النبي صلى الله عليه وسلم قال كل مولود يولد على الفطره قال تعالى { فطرة الله التي فطر الناس عليها } فالولدان الذين يتوفون على ما فطرهم الله عليه من التوحيد هم من السعداء الذين يدخلون الجنة بلا عمل عملوه ولا خير قدموه بل برحمة الله لهم ومنته عليهم بل أعظم من هذا أنهم يشفعون في آبائهم ولهذا يكونون في البرزخ في كفالة أبيهم إبراهيم الخليل عليه السلام
____________________
(1/84)
كما ثبت في الصحيح في صحيح في حديث المنام الطويل من حديث سمرة بن جندب أن النبي صلى الله عليه وسلم جاءه جبريل وميكائيل فأنطلقا به فأراه عجائب وفيه والشيخ في أصل الشجرة إبراهيم والصبيان حوله أولاد الناس وفي لفظ البخاري والولدان حوله فكل مولود يولد على الفطرة فقيل يا رسول الله وأولاد المشركين قال وأولاد المشركين قال شيخ الاسلام ابن تيمية وفطرة الله أضافها إليه إضافة مدح لا إضافة ذم فعلم أنها فطرة محمودة لا مذمومة يبين ذلك { فأقم وجهك للدين حنيفا فطرة الله التي فطر الناس } ولهذا نصب على المصدر الذي دل عليه الفعل الاول عند سيبويه وأصحابه فدل على ان إقامة الوجه للدين حنيفا هو فطرة الله التي فطر الناس عليها كما في نظائره مثل وقوله تعالى { كتاب الله عليكم } و { سنة الله التي قد خلت } فهو عندهم مصدر منصوب بفعل مضمر لازم إضماره دل عليه الفعل المتقدم كأنه قال كتب الله عليكم ذلك وسن الله ذلك لكم انتهي كلامه
وقد تكلمنا على الاطفال وأشبعنا الكلام فيهم في كتاب مفرد فمن رام كشفه فليطلبه ولكن لا يليق التطويل بما ليس نحن بصدده بأكثر من هذا فهذا تنبيه على الأطفال أنهم ولدوا على الفطرة وقد ذكرنا في الفطرة نحوا من عشرة أقوال في المصنف المشار إليه والله أعلم فصل في التأسي ببعض ما كان يفعله الصحابة والتابعون إذا نزلت بهم المصائب
فقد ثبت في صحيح البخاري عن أنس قال اشتكى ابن لابي طلحة قال فمات وأبوه ابو طلحة خارج فلما رأت امرأته أنه قد مات هيأت شيئا وجعلت
____________________
(1/85)
ابنها في جانب البيت فلما جاء ابو طلحة قال كيف الغلام قالت قد هدأت نفسه وأرجو أن يكون قد استراح وظن أبو طلحة أنها صادقة قال فبات فلما اصبح اغتسل فلما أراد أن يخرج أعلمته أنه قد مات فصلى مع النبي صلى الله عليه وسلم ثم أخبره بما كان منها فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعل الله ان يبارك لهما في ليلتهما فقال رجل من الانصار فرأيت لهما تسعة أولاد كلهم قد قرأ الفرآن وفي لفظ أنها قالت لاهلها لما مات ولدها لا يكلم أبي طلحة أحد قبلي فلما دخل سأل عن الصبي فقالت إنه قد هدأ مما كان وقدمت له طعاما فأكل ثم تصنعت له حتى واقعها ثم قالت يا أبا طلحة أرايت قوما أودعوا قوما وديعة ثم طلبوها منهم أفما يجب ان يؤدوها إليهم قال بلى قالت فاحتسب ابنك فغضب لما صنعت به فلما كان الصباح ذهب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يشكوها إليه فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى الله عليه وسلم وقال بارك الله لكما في غابر ليلتكما فجاءت بغلام حنكه رسول الله وسماه عبد الله وهو الذي كان من سلالته الاخوة القراء والاول هو أو عميرة الذي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يداعبه ويقول له يا عمير ما فعل النغير اي ما فعل عصفورك فهذه امرأة قد تصبرت ورضيت وتثبتت واحتسبت فأخلف الله لها خيرا من الذي أصيبت به فإذا نظر من أصيب بمصيبة إلى امرأة قد فعلت عند المصيبة أمرا لا يكون إلا عند السرور والافراح فليتأس الشخص وليتعلم أوصاف السابقين الاولين ويعلم أن الرجال اولى بهذا الصنيع والصبر من النساء ولم تصب امرأة في الوجود بما أصيبت به فاطمة رضي الله عنها التي هي سيدة نساء أهل الجنة فأنها أصيبت بموت أبيها رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم تقل في هذه الحال العظيمة الا قولا صدقا محفوظا عنها فإنها قالت يا ابتاه من ربه ما أدناه يا أبتاه إلى جبريل أنعاه يا ابتاه أجاب ربا دعاه يا أبتاه جنة الفردوس مأواه فالذي ينبغي لنا التأسي بسادات المسلمين من الرجال والنساء
مات لرجل من السلف ولد فعزاه سفيان بن عيينة ومسلم بن خالد وآخرون وهو في حزن شديد حتى جاءه الفضيل بن عياض فقال يا هذا
____________________
(1/86)
أرأيت لو كنت في سجن وابنك فأفرج عن ابنك قبلك أما كنت تفرح قال بلى قال فإن ابنك خرج من سجن الدنيا قبلك قال فسري عن الرجل وقال تعزيت رواه الحافظ ابن عساكر
وقال مالك إنه بلغه عن سعيد بن يسار عن ابي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ما يزال المؤمن يصاب في ولده وخاصته حتى يلقى الله وليست عليه خطيئة
وقد تقدم ما رواه الامام أحمد والترمذي من حديث أبي موسى الاشعري والمقصود أن من سمع بهذا الحديث وكان قد أصيب بمصيبة حصل له تسلية
ومن التأسي بمن أصيب في نفسه فصبر وعزى نفسه وتكلم بما حفظ عنه لما حضرت معاوية الوفاة قال أقعدوني فأقعدوه فجعل يذكر الله ويسبحه ثم قال الآن تذكر ربك يا معاوية بعد الانحطام والأنهزام ألا كان ذلك وغصن الشباب ريان وبكى حتى علا بكاؤه ثم قال منشدا % هو الموت لا منجا من الموت والذي % أحاذر بعد الموت أدهى وأفظع %
ثم قال اللهم يا رب ارحم الشيخ العاصي والقلب القاسي اللهم أقل العثرة واغفر الزلة وجد بحلمك على من لا يرجو غيرك ولا يثق بأحد سواك ثم قال لابنه يا بني اذا وافاني أجلي فاعمد الى المنديل الذي في الخزانة فإن فيها ثوابا من أثواب رسول الله صلى الله عليه وسلم وقراضة من شعره وأظفاره فاجعل الثوب مما يلي جسدي واجعل أكفاني فوقه واجعل القراضة في فمي وأنفي وعيني فإن نفعني شيء فهذا فإذا وضعتموني في قبري فخلوا معاوية وأرحم الراحمين
ولما حضرت أبا هريرة رضي الله عنه الوفاة بكى فقيل له ما يبكيك فقال يبكيني بعد السفر وقلة الزاد وضعف اليقين والعقبة الكؤود التي المهبط منها إما إلى الجنة وإما الى النار ولما حضرت عمر بن عبد العزيز الوفاة قال اجلسوني فأجلسوه فقال اللهم أنا الذي أمرتني فقصرت ونهيتني فعصيت
____________________
(1/87)
فإن غفرت فقد مننت وإن عاقبت فما ظلمت لا إله إلا أنت وقال سليمان التيمي دخلت على بعض أصحابنا وهو في النزع فرأيت من جزعه ما ساءني فقلت له هذا الجزع كله لماذا وقد كنت بحمد الله على حالة صالحة فقال وما لي لا أجزع ومن أحق مني بالجزع والله لو أتتني المغفرة من الله عز وجل لأهمني الحياء منه مما أفضيت به إليه
ولما حضرت عبد الملك بن مروان الوفاة جعل يقول والله لوددت أني عبد لرجل من تهامة أرعى غنيمات في جبالها ولم ألي وذكر محمد الطائي الهمذاني في إرشاد السائرين إلى منازل المتقين ذكر بإسناده إلى المزني قال دخلت على الشافعي رحمه الله في مرضه الذي مات فيه فقلت كيف أصبحت قال أصبحت من الدنيا راحلا ولاخواني مفارقا ولسوء فعلي ملاقيا وبكأس المنية شاربا وعلى الله عز وجل واردا فوالله ما أدري أروحي تسير الى الجنة فأهنيها أم الى النار فأعزيها ثم بكى وأنشد % فلما قسا قلبي وضاقت مذاهبي % جعلت رجائي نحو عفوك سلما % % تعاظمني ذنبي فلما قرنته % بعفوك ربي كان عفوك أعظما % فما زلت ذا عفو من الذنب لم تزل % تجود وتعفو منه وتكرما % فلولاك لم يقو بإبليس عالم % وكيف وقد أغوى ضعيفك آدما %
وقال بعض الصالحين لخادمه وقد حضرته الوفاة يا غلام شد كتافي وعفر خدي في التراب ففعل الغلام به ذلك ثم قال دنا الرحيل ثم قال اللهم لا براءة لي من ذنب ولا عذر أعتذر به ولا قوة فأنتصر بها ثم قال أنت لي أنت لي ثم صاح صيحة فمات فسمعوا صوتا يقول اشتكى العبد لمولاه فقبله فصل
ومن المطالب العالية والبشارات الهائلة لمن أصيب بمصيبة وقد تقدم غالبه ثم نذكر من لم يقدم من ولده شيئا
____________________
(1/88)
قال الامام أحمد ثنا بهز ثنا حماد بن سلمة ثنا يعلي بن عطاء عن شيخ من أهل دمشق عن ابي أمامة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم خمس بخ بخ سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر والولد الصالح يموت للرجل فيحتسبه وقد روى هذا الحديث بعدة طرق عن سفينة مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الحشحاش العنبري وهو صحابي بنحو من هذا لكن لفظ بخ بخ لخمس ما أثقلهن في الميزان ورواه ابن سعد في الطبقات من حديث سلام الاسود ولفظه كما تقدم وفيه والولد الصالح يتوفى للمرء المسلم فيحتسبه ورواه ابن أبي عاصم
وقال أبو القاسم بن عساكر قرأت على أبي محمد عبد الكريم بن حمزة السلمي عن أبي بكر أحمد بن علي الحافظ أنبأ الحسن بن أبي بكر أنبأ أبو الحسين أحمد بن عثمان ثنا ابن أبي العوام ثنا أبي إسماعيل بن يحيى بن سلمة بن كهيل حدثني أبي عن أبيه كهبل عن هانىء ابن بنت الحضرمي ثنا عبد الله بن عباس قال توفي ابن لصفية ابنة عبد المطلب فبكت عليه فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم تبكين يا عمة من توفي له ولد في الاسلام كان له بيت في الجنة فسكتت
وفي صحيح البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال يقول الله عز وجل ما لعبدي المؤمن عندي جزاء إذا قبضت صفيه من أهل الدنيا ثم احتسبه إلا الجنة
وقال الترمذي في جامعة حدثنا نصر بن علي الجهضمي وأبو الخطاب زياد بن يحيى البصري قالا ثنا عبد ربه بن بارق قال سمعت جدي أبا سماك بن الوليد يحدث أنه سمع عبد الله بن عباس رضي الله عنهما أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول من كان له فرطان من أمتي أدخله الله بهما الجنة فقالت عائشة رضي الله عنها فمن كان له فرط من أمتك قال ومن كان له فرط يا موفقة قالت فمن لم يكن له فرط من أمتك قال فأنا فرط أمتي لن يصابوا بمثلي قال الترمذي هذا حديث غريب لا نعرفة إلا من حديث عبد ربه بن بارق
____________________
(1/89)
وقد روى عنه غير واحد من الائمة قال الحافظ الضياء عبد ربه بن بارق تكلم فيه يحيى بن معين وقال الامام أحمد ما به بأس
وقد روينا في جزء ابن عرفة مرفوعا الموت كفاره لكل مسلم
والمقصود أن من لم يصب في أولاده أو لم يكن له أولاد فالنبي صلى الله عليه وسلم فرطه لكن أهل المصائب أيضا يشاركونهم في النبي صلى الله عليه وسلم فيحصل لهم أجر من جهتين وقد يحصل للشخص أجر من جهات عديدة من موت وحريق ونهب وغير ذلك مما يكفر الله به السيئات ويرفع به الدرجات
____________________
(1/90)
الباب السابع & في ذكر السقط وثوابه وزياره القبور قال الامام احمد حدثنا عفان ثنا خالد الطحان ثنا يحيى التيمي عن عبد الله ابن مسلم عن معاذ رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم والذي نفسي بيده إن السقط ليجر أمه بسرره الى الجنة إذا احتسبته ورواه ابن ماجه أيضا والدارمي من حديث يحيى بن عبد الله التيمي به
وعن علي بن ابي طالب رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن السقط ليراغم ربه عز وجل إذا أدخل أبويه النار فيقال ايها السقط المراغم ربه أدخل ابويك الجنة رواه ابن ماجه
وروى ابن ماجه أيضا من حديث يزيد بن رومان عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لسقط أقدمه بين يدي أحب إلي من فارس اخلفه خلفي ورواه عبد الله بن الامام أحمد
وعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا كان يوم القيامة نودي في أطفال المسملين أن اخرجوا من قبوركم فيخرجون من قبورهم ثم ينادى ان امضوا إلى الجنة زمرا فيقولون ربنا ووالدانا معنا فينادي فيهم الثانية أن امضوا إلى الجنة زمرا فيقولون يا ربنا ووالدانا معنا قال فيتبسم الرب جل وعلا في الرابعة فيقول ووالداكم معكم فيثب كل طفل إلى أبويه فيأخذون بأيديهم فيدخلونهم الجنة لهم أعرف بآبائهم وأمهاتهم يومئذ من أولادكم الذين في بيوتكم رواه ابن شاهين والحافظ ابن عساكر في ذكر ثواب السقط
____________________
(1/91)
وروي عن عبد الرحمن بن ابي حاتم ثنا محمد بن الوزير ثنا خلاد بن منصور الواسطي ثنا داود بن ابي هند قال رأيت في المنام كأن القيامة قد قامت وكأن الناس يدعون إلى الحساب قال فقربت إلى الميزان فوضعت حسناتي في كفة وسيئاتي في كفة فرجحت السيئات على الحسنات فبينا أنا كذلك مغموم إذ أتيت بشىء كالمنديل أو كالخرقة البيضاء فوضعت مع حسناتي فرجحت على السيئات فقيل تدري ما هذه قلت لا قال سقط كان لك قلت فإنه قد مات لي صبية ابنة لي فقيل لي تيك ليست لك لانك كنت تتمنى موتها وروى يزيد بن أبي مريم عن ابيه عن سهل بن الحنظلية الانصاري وكان ممن بايع تحت الشجرة وكان لا يولد له أنه قال لأن يولد لي ولو سقط فأحتسبه أحب إلي من الدنيا جميعا فصل & في زياره القبور
زيارتها مستحبة وهي تذكر الآخرة وتفرح الموتى بما يحصل لهم من الاحياء من قراءة واستغفار ودعاء وصدقة ونحو ذلك فزياره القبور فيها نفع للاحياء والاموات فالحي يذكر الاخرة والموت الذي ما ذكر في قليل من متاع الاخرة إلا كثرة ولا في كثير من متاع الدنيا إلا قلله ويقرأ على نفسه آيات الصبر وقصر الامل مثل قوله تعالى { ألم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله وما نزل من الحق } الآية وقوله تعالى { أفحسبتم أنما خلقناكم عبثا وأنكم إلينا لا ترجعون } وفي صحيح البخاري من حديث ابن عمر رضي الله عنهما قال اخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بمنكبي فقال كن في الدنيا كأنك غريب او عابر سبيل وكان ابن عمر يقول إذا أمسيت فلا تنتظر الصباح وإذا أصبحت فلا تنتظر المساء وخذ من صحتك لمرضك ومن حياتك لموتك
____________________
(1/92)
فإذا تذكر ذلك حصل له الخشوع والاقلاع وتذكر من سلف من الاهل والاقارب هذا في الزياره النافعة لا كما يفعل في زماننا هذا من البدع في الزياره يوم الخميس والسبت فتتزين النساء ويتبهرجن ويجلسن على القبور وقد نهى في سنن أبي داود من حديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لان يجلس أحدكم على جمره فتحرق ثيابه فتخلص إلى جلده خير له من أن يجلس على قبر وقال لا تجلسوا على القبور ولا تصلوا إليها لكن اختلف العلماء في الجلوس ما هو فأكثر العلماء على أنه الجلوس المعروف وقال مالك هو التغوط عليها وروى في الموطأ أن عليا كان يتوسد القبور ويضطجع عليها وأن ابن عمر كان يجلس على القبور وأن عثمان بن حكيم قال أخذ خارجة بن زيد بيدي فأجلسني على قبر وأخبرني عن عمه يزيد بن ثابت أنه قال إنما كره ذلك لمن أحدث عليها
والمقصود أن النساء يخرجن إلى المقابر وتحضر الشباب الفسقة فيجلسون على سكك المقابر ويختلطون بهم في الغالب وربما تصعد السوقة بملاذر المأكل وغيرها للبيع والشراء وربما تحدثوا بما لا يليق فهؤلاء قبحهم الله تعالى وأبعدهم عن بابه وختم على قلوبهم وسمعهم وأبصارهم لانهم يشاهدون منازل الاخرة يعني المقابر وهم معرضون عما يراد بهم وقد نص الامام أحمد رحمه الله على أن الموتى يتأذون بفعل المعصية عندهم وفي زماننا هذا نفعل المعاصي في الترب فيحصل للموتى الأذي بذلك كما نص أحمد على ذلك لانهم رحمهم الله تعالى قد تيقنوا شؤم عاقبة الذنب وعاينوا عين اليقين نسأل الله العافية في الدنيا والاخرة
ونص الامام احمد على أن الزيارة للقبور يوم الجمعة قبل طلوع الشمس فأن الاموات يرون زائرهم وقال الغزالي في إحياء علوم الدين الزياره تكون يوم الجمعة ويوم السبت قبل طلوع الشمس
____________________
(1/93)
ويستحب الاكثار من ذكر الموت كما ثبت في الترمذي وحسنه من حديث ابي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم أكثر ذكر هاذم اللذات يعني الموت
ويستحب للشخص إذا دخل المقابر أن يسلم على أهل المقابر كما ثبت في صحيح مسلم عن عائشة رضي الله عنها قالت كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يخرج من آخر الليل إلى البقيع فيقول السلام عليكم دار قوم مؤمنين أتاكم ما توعدون غدا مؤجلون وإنا إن شاء الله بكم لاحقون للهم أغفر لاهل بقيع الغرقد
وفي مسلم أيضا من حديث سليمان بن بريدة عن أبيه قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلمهم إذا خرجوا إلى المقابر فكان قائلهم يقول السلام عليكم أهل الديار من المؤمنين والمسلمين وإنا إن شاء الله بكم للاحقون نسأل الله لنا ولكم العافية
وفي صحيح مسلم أيضا من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج الى المقبره فقال السلام عليكم دار قوم مؤمنين 00 الحديث
وروى الأمام احمد عن أبن عباس رضي الله عنهما قال مر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقبور المدينة فأقبل عليهم بوجهه فقال السلام عليكم أهل القبور يغفر الله لنا ولكم أنتم سلفنا ونحن بالاثر ورواه الترمذي وهذا لفظه وقال حديث حسن غريب
ورواه ابن ماجه من حديث عائشة رضي الله عنها ولفظه السلام عليكم دار قوم مؤمنين أنتم لنا فرط وإنا بكم لاحقون اللهم لا تحرمنا أجرهم ولا تفتنا بعدهم
وعن عبد الله بن بريدة عن أبيه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم نهيتكم عن زياره القبور فزوروها ونهيتكم عن لحوم الاضاحي فوق ثلاث فأمسكوا ما بدا لكم ونهيتكم عن النبيذ إلا في سقاء فاشربوا في الاسقية كلها ولا تشربوا مسكرا رواه مسلم
____________________
(1/94)
وللامام أحمد والنسائي نهيتكم عن زياره القبور فمن أراد أن يزور فليزر ولا يقول هجرا
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم أستأذنت ربي أن أستغفر لامي فلم يأذن لي واستأذنته أن أزور قبرها فأذن لي رواه مسلم وفي لفظ له زار قبرها فبكى وأبكى من حوله فقال استأذنت ربي أن استغفر لها فلم يأذن لي واستأذنته في أن أزور قبرها فأذن لي فزوروا القبور فإنها تذكر الموت
وعن علي رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال كنت نهيتكم عن زياره القبور فزوروها فإنها تذكركم الآخرة رواه الامام أحمد ورواه ابن ماجه من حديث ابن مسعود وفيه فزوروها فإنها تزهد في الدنيا وتذكر الآخرة ورواه أحمد أيضا من حديث ابي سعيد مرفوعا وفيه فزوروها فإن فيها عبره وفيه دليل لمن جوز زياره القبور للنساء
وللعلماء فيها ثلاثة اقوال أحدها ترحيمها عليهن لحديث لعن الله زوارات القبور الثاني يكره والثالث يباح لما تقدم فالنساء لا يدخلن في خطاب الرجال على الصحيح عند الاصوليين
وعن عائشة رضي الله عنها قالت ألا أحدثكم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وعني قلنا بلى قالت لما كانت ليلتي التي كان رسول الله صلى الله عليه و سلم فيها عندي وضع رداءه وخلع نعليه فوضعهما عند رجليه وبسط طرف إزاره على فراشه فاضطجع فلم يلبث إلا ريثما ظن ان قد رقدت فأخذ رداءه رويدا وانتعل رويدا وفتح الباب فخرج ثم أجافه رويدا وجعلت درعي في رأسي واختمرت وتقنعت إزاري
____________________
(1/95)
ثم انطلقت على أثره حتى اتى البقيع فقام فأطال القيام ثم رفع يديه ثلاث مرات ثم انحرف فانحرفت فأسرع فأسرعت فهرول فهرولت فأحضر فأحضرت فسبقته فدخلت فليس إلا أن اضطجعت فدخل فقال ما لك يا عائش حشيا رابية قلت لا شيء قال لتخبريني أو ليخبرني اللطيف الخبير قالت قلت يا رسول الله بأبي أنت وأمي فأخبرته قال فأنت السواد الذي رأيت أمامي قلت نعم فلهزني في صدري لهزة أوجعتني ثم قال أظننت أن يحيف الله عليك ورسوله قالت مهما يكتم الناس يعلمه الله نعم قال فإن جبريل أتاني حين رايت فنادني فأخفاه منك فأجبته فأخفيته منك ولم يكن يدخل عليك وقد وضعت ثيابك وطننت أن قد رقدت فكرهت أن أوقظك وخشيت أن تستوحشي فقال إن ربك يأمرك أن تأتي أهل البقيع فتستغفر لهم قالت قلت كيف أقول يا رسول الله قال قولي السلام على أهل الديار من المسلمين والمؤمنين يرحم الله المستقدمين منا والمستأخرين وإنا إن شاء الله للاحقون رواه مسلم
____________________
(1/96)
& الباب الثامن في تطييب خاطر الوالدين على الاولاد قال الله تعالى { والذين آمنوا واتبعتهم ذريتهم بإيمان ألحقنا بهم ذريتهم } وقد ذكر البغوي في تفسيره بإسناده عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن الله يرفع ذرية المؤمن في درجته وإن كانوا دونه في العمل لتقر بهم عينه ثم قرأ النبي صلى الله عليه وسلم { والذين آمنوا واتبعتهم ذريتهم بإيمان ألحقنا بهم ذريتهم } الآية ففي هذه الآية والحديث دليل على تطييب خاطر الوالدين على أطفالهم وهذا الذي ينبغي ان يطيبوا أنفسهم ويقروا أعينهم فإنهم وإن كانوا كبارا فهم من أهل التوحيد والاسلام وإن كانوا صغارا فهم ممن لا خوف عليهم ولا هم يحزنون لانهم ماتوا على الفطره السليمة وهم من السعداء الذين يدخلون الجنة بلا عمل عملوه ولا خير قدموه بل برحمة الله ومنته عليهم ولهذا يكونون في برزخهم في كفالة أبيهم إبراهيم الخليل عليه السلام إمام الحنفاء كما في دعاء الميت إذا كان صغيرا واجعله في كفالة إبراهيم وكما ثبت في صحيح البخاري من حديث سمرة بن جندب وقد تقدم عن النبي صلى الله عليه وسلم في حديث المنام قال فيه فأما الرجل الطويل الذي في الروضة فإبراهيم عليه السلام وأما الولدان حوله فكل مولود يولد على الفطرة فقيل يا رسول الله وأولاد المشركين قال وأولاد المشركين وفي رواية للبخاري أيضا والشيخ في أصل الشجره إبراهيم عليه السلام والصبيان حوله أولاد الناس وعن ابي هريرة رضي الله عنه قال قال
____________________
(1/97)
الله تبارك وتعالى رضي الله عنهن الرب عز وجل رسول الله صلى الله عليه وسلم ما من مولود يولد إلا على الفطره فأبواه يهودانه او ينصرانه أو يمجسانه كما تنتج البهيمة جمعاء هل تحسون فيها من جدع ثم يقول أبو هريرة اقرأوا إن شئتم { فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم } الحديث رواه البخاري ومسلم ولفظه للبخاري وقال أبو بكر القطيعي حدثنا بشر بن موسى ثنا ابن خليفة ثنا عون عن خنساء قالت حدثتني عمتي قالت قلت يا رسول الله من في الجنة قال النبي في الجنة والشهيد في الجنة والمولود في الجنة والوئيد في الجنة وكذلك رواه بندار عن غندر عن عوف فذكر مثله وقال الفراء في كتاب معاني القرآن عند قوله تعالى { كل نفس بما كسبت رهينة إلا أصحاب اليمين } قال علي رضي الله عنه هم الولدان قال الفراء وهو شبيه بالصواب لان الولدان لم يكتسبوا ما يرتهنون به وفي قوله تعالي { يتساءلون عن المجرمين } ما يقوي أنهم الولدان لانهم لم يعرفوا الذنوب فلهذا يقولون { ما سلككم في سقر } الآية ولكن روى العقيلي بإسناده عن علي رضي الله عنه في قوله تعالي { إلا أصحاب اليمين }
قال هم أطفال المسلمين فظاهر هذه الرواية التخصيص بهذه الامة والرواية الاولى عامة في كل مولود وقال البغوي في تفسيره { إلا أصحاب اليمين } اختلفوا فيهم فعن علي أنهم أطفال المسملين وهذا يوافق ما رواه العقيلي عنه ولم يحك عنه خلافه ثم قال وعن ابن عباس رضي الله عنهما أنهم الملائكه وقال مقاتل هم الذين كانوا على يمين آدم يوم الميثاق وعنه أيضا هم الذين
____________________
(1/98)
أعطوا كتبهم بأيمانهم وعنه أيضا هم الذين كانوا ميامين على أنفسهم وقال الحسن هم المسلمون المخلصون
وحكى القرطبي في تفسيره في هذه الاية الكريمة أقوالا كثيره ولم يذكر أنهم لا أطفال المسلمين ولا المشركين إلا أنه ذكر في آخر كلامه عن الفراء أنه قال هم الولدان لانهم لا يعرفون الذنوب وقد حكيت قول الفراء قريبا وأنه أسنده إلى علي رضي الله عنه لكن حكى القرطبي في غير هذا الموضع أن الاطفال إن ماتوا صغارا فهم في الجنة أعني جميع الاطفال لان الله تعالى لما أخرج ذرية آدم من صلبه في صوره الذر أقروا له بالربوبية وهو قوله تعالى { وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى شهدنا } الاية ثم أعادهم في صلب آدم بعد أن أقروا له بالربوبية ثم يكتب العبد في بطن أمه شقيا او سعيدا على الكتاب الاول فصل & في معنى الفطرة التي نشأ عليها كل مولود من بني آدم من ذكر وأنثى
قال الله تعالى { فطرة الله التي فطر الناس عليها } الاية وقال صلى الله عليه وسلم كل مولود يولد على الفطره وقد تقدم في ذلك كلاما مختصرا ولكن نبين معنى الفطرة لغة وإعرابا قال أبو البقاء في إعرابه فطرة الله اي إلزموا واتبعوا دين الله الذي خلق الناس عليها انتهى كلامه
وقال الطبري فطره الله مصدر معنى فأقم وجهك لان معنى ذلك فطر الله الناس على ذلك
وقال النحاس سميت الفطره دينا لان الناس يخلقون له وفطر الناس عليها أي لها
____________________
(1/99)
وكذلك معنى قول الزجاج
وقال شيخ الاسلام ابن تيمية { فطرة الله } أضافها إليه على الوجه الممدوح لهذا نصبت على المصدر الذي دل عليه الفعل عند سيبويه وقد تقدم كلامه رحمه الله قريبا
وقال ابو عمر بن عبد البر في التمهيد الفطره في كلام العرب البداءة انتهي فصل & وقد اختلف بعض العلماء والمفسرون في المعنى المراد بالفطره على أ قوال
( أحدها ) أن المراد بالفطره الإسلام قاله ابو هريرة وابن شهاب وغيرهما وهي إحدى الروايات عن الامام أحمد ولما ذكر ابن عبد البر النزاع في هذه المسألة في التمهيد قال وقال آخرون الفطره هاهنا الاسلام قال وهو المعروف عند عامة السلف وأهل التأويل ثم قال وأما قوله تعالى { فطرة الله التي فطر الناس عليها } فقد أجمعوا على أن قالوا دين الاسلام وليس كما قال فإن القرطبي وغيره من المفسرين ذكروا في الاية أقوالا كثيره
قال القرطبي وفي معنى الفطرة أقوال متعدده منها دين الاسلام وهو المعروف عند عامة السلف ثم قال ومعنى هذا أن الطفل خلق سليما من الكفر على الميثاق الذي أخذه الله على ذرية آدم حين أخرجهم من صلبه وانهم إذا ماتوا قبل أن يدركوا فهم في الجنة اولاد مسلمين كانوا أو أولاد كفار
وقال النقاش في تفسيره وقد اختلف أهل التأويل والاخبار في الفطره فقيل على ملة إبراهيم ثم ذكر قريبا مما ذكره القرطبي وقد احتج من نصر هذا القول بحديث أبي هريرة مرفوعا ما من مولود يولد إلا على الفطره واستدلال أبي
____________________
(1/100)
هريرة بالاية في تمام الحديث وبحديث عياض بن حماد المجاشعي مرفوعا يقول خلقت عبادي حنفاء وفي بعض ألفاظه حنفاء مسلمين ويؤيد هذا ما في الصحيحين خمس من الفطره وفي صحيح مسلم عشر من الفطره ورواه الامام احمد وابو داود من حديث عمار بن ياسر خمس من سنن الاسلام وفي لفظ عشر من سنن الاسلام
الثاني ان المراد بالفطره البداءة التي بدأهم الله عليها من أنه ابتدأهم للحياة والموت والسعادة والشقاوه وقد تقدم حكاية هذا القول وأنه حكاه أبو عمر ابن عبد البر
الثالث ليس المراد بالفطره عموم الناس إنما المراد بقوله { فطر الناس } المؤمنون إذ لو فطر الجميع على الاسلام لما كفر أحد وقد ثبت أنه خلق أقواما للنار كقوله تعالى { ولقد ذرأنا لجهنم كثيرا من الجن والإنس } الاية
الرابع أن المراد بالفطره الخلقة التي خلق عليها المولود في المعرفة بربه فكأنه قال كل مولود يولد على خلقه يعرف بها ربه إذا بلغ مبلغ المعرفة يريد خلقة مخالفة لخلقة البهائم واحتج من قال بهذا القول بقوله تعالى { وما لي لا أعبد الذي فطرني وإليه ترجعون } وقد تقدم ان بسط هذا الكلام له موضع آخر وأنه في كتاب مفرد على الكلام في أطفال المشركين
والمقصود ان الولدان يتوفون على ما فطرهم الله عليه من التوحيد والاسلام فهم من سعداء الاخرة الذين استحقوا دخول الجنة بلا عمل عملوه ولا خير قدموه بل برحمة الله عليهم ولطفه بهم { ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم }
____________________
(1/101)
& الباب التاسع فيمن مات له طفل رضيع انه يكمل رضاعه في الجنة قال الامام أحمد ثنا اسود بن عامر ثنا إسرائيل عن جابر عن عامر عن البراء بن عازب رضي الله عنه قال صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم على ابنه إبراهيم ومات وهو ابن ستة عشر شهرا وقال إن له في الجنة من يتم رضاعه وهو صديق ورواه أبو يعلى الموصلي وجابر الجعفي ضعيف
وقال البخاري حدثنا ابو الوليد حدثنا شعبة حدثنا عدي بن ثابت أنه سمع البراء أنه قال لما توفي إبراهيم يعني ابن النبي صلى الله عليه وسلم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن له مرضعا في الجنة انفرد به البخاري وإنما كان كذلك لانه مات وهو مرضع ابن سبعة عشر شهرا او ستة عشر وقيل أكثر من ذلك وقيل اقل فالله تعالى أعلم بالصواب
وفي بعض الروايات إن ابني مات في الثدي وإن له مرضعا في الجنة فأن كان هذا خاصا به عليه السلام فلا كلام والاصل عدم الاختصاص إلا أن يقوم دليل عليه ولم نجده وإن كان عاما في حق أولاد المؤمنين كما ذكر في بعض الاثار ولا يحضرني الان ولكن متنه إن في الجنة شجره تحمل الثدي يرتضع منها الولدان فهي بشاره عظيمة للمؤمنين في ولدانهم وفيه تطييب خاطر الوالدين والله تعالى أعلم فصل
وقد روى المعافى بن الحسين في كتاب أنس المنقطعين له في الاطفال الرضع أن النبي صلى الله عليه وسلم قال يجيء أطفال المسلمين يوم القيامة عند عرض
____________________
(1/102)
الخلائق للحساب فيقول الله عز وجل لجبريل اذهب بهؤلاء الى الجنة فيقفون على ابواب الجنة ويسألون عن آبائهم وأمهاتهم فيقال آباؤكم وأمهاتكم ليسوا بأمثالكم لهم ذنوب وسيئات يطالبون بها فيصيحون صيحة واحدة عظيمة باكين فيقول الله سبحانه وتعالى وهو اعلم يا جبريل ما هذه الصيحة فيقول إلهي أنت أعلم بهم هؤلاء أطفال المسلمين يقولون لا ندخل الجنة حتى يدخل آباؤنا فيقول الله عز وجل يا جبريل تخلل الجمع وخذ آباءهم وأمهاتهم واجعلهم معهم في الجنة
____________________
(1/103)
& الباب العاشر في أنه يصلى على كل مولود مسلم ويدعى لوالديه
وهذا باب عظيم لان فيه بشاره عظيمة لكل من أصيب في أولاده أو في واحد منهم لانه أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ان نصلي عليهم وأن ندعو لوالديهم كما سنذكره إن شاء الله تعالى وجمهور العلماء على أنه يصلى على الطفل الصغير وإن كان سقطا قد نفخ فيه الروح وذهب بعض السلف إلى أنه لا يصلي على الصغير ما لم يحتلم وسنذكر ما يدفع هذا القول ويضعفه
قال البخاري حدثنا ابو اليمان ثنا شعبة قال ابن شهاب يصلي على كل مولود يتوفى وإن لغية من أجل أنه ولد على فطرة الاسلام يدعي أبواه الاسلام أو أبوه خاصة وإن كانت أمه على غير دين الاسلام إذا استهل صارخا صلي عليه ولا يصلى على من لم يستهل من أجل أنه سقط وابو هريرة كان يحدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال وما من مولود إلا يولد على الفطره الحديث
وروى أبو داود عن عائشة رضي الله عنها قالت مات إبراهيم ابن النبي صلى الله عليه وسلم وهو ابن ثمانية عشر شهرا فلم يصل عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم في إسناده محمد ابن اسحاق والكلام فيه معروف وهو يعضد من قال من السلف بعدم الصلاة على الاطفال لكن الحديث فيه كلام وقد روى أبو داود أيضا ضد هذه الرواية من حديث البهي قال لما مات إبراهيم ابن النبي صلى الله عليه وسلم صلى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم في المقاعد هذا مرسل والبهي هذا اسمه عبد الله بن بشار مولى مصعب بن الزبير تابعي يعد من الكوفيين وقد تقدم ما رواه الامام احمد من
____________________
(1/104)
حديث البراء بن عازب رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم على ابنه إبراهيم الحديث
وقال الامام أحمد أيضا حدثنا هاشم بن القاسم ثنا المبارك أخبرني زياد بن خير عن المغيره بن شعبة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال الراكب يسير خلف الجنازه والماشي أمامها قريبا منها عن يمينها أو عن يسارها والسقط يصلى عليه ويدعى لوالديه بالمغفرة والرحمة ورواه أبو داود والنسائي والترمذي وقال حسن صحيح ورواه ابن ماجه مرفوعا ولفظه قال الراكب يسير خلف الجنازة والماشي يمشي خلفها وأمامها وعن يمينها وعن يسارها والطفل يصلى عليه ويدعى لوالديه بالمغفرة والرحمة فذكر ابن ماجه بدل السقط الطفل
وروى ابن ماجه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم صلوا على اطفالكم فإنهم من افراطكم
وعن جابر بن عبد الله عن النبي صلى الله عليه وسلم قال الطفل لا يصلى عليه ولا يورث ولا يرث حتى يستهل رواه الترمذي من رواية إسماعيل بن مسلم المكي قال الترمذي هذا حديث قد اضطرب الناس فيه فروي مرفوعا وروي موقوفا وهو أصح من المرفوع قال الحافظ الضياء إسماعيل بن مسلم المكي قد تكلم فيه غير واحد من الائمة
وروى ابن ماجه عن جابر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا استهل الصبي صلي عليه وورث الاستهلال هو رفع الصوت حين خروجه من الأحشاء والله أعلم وهو من رواية الربيع بن يزيد وقد ضعفه غير واحد من الأئمه قال الحافظ الضياء وقيل يصلى على الطفل إذا نفخ فيه الروح استهل أو لم يستهل قلت وهو ظاهر مذهب الامام أحمد أنه يصلى عليه إذا نفخ فيه الروح وهو أن يستكمل أربعة أشهر وقال شيخ الاسلام ابن تيميه الصلاة على السقط ما لم ينفخ فيه الروح مبنية على بعثه وللعلماء فيه قولان فإن
____________________
(1/105)
قلنا انه يبعث صلي عليه وإلا لم يصل عليه والله أعلم انتهى كلامه
قال أحمد بن ابي عبدة سألت أبا عبد الله أحمد بن حنبل متى يجب أن يصلى على السقط قال إذا أتى عليه أربعة أشهر لأنه قد نفخ فيه الروح ولكن حديث المغيره بن شعبة المتقدم الذي رواه احمد والنسائي والترمذي وصححه والسقط يصلى عليه وفي رواية ابن ماجه والطفل يصلى عليه ولم يفرق بين أن يكون له اربعة اشهر او اقل او اكثر لكن لم اعلم أن احدا ذهب الى الصلاة على السقط مطلقا إلا سعيد بن المسيب وهو ظاهر الحديث لكن قيل ان السقط ليس بميت لانه لم ينفخ فيه الروح يؤيد ذلك ما ثبت في الصحيحين من حديث ابن مسعود قال حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو الصادق المصدوق إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوما ثم يكون في ذلك علقة مثل ذلك ثم يكون في ذلك مضغه مثل ذلك ثم يرسل الملك فينفخ فيه الروح الحديث فإذا نفخ فيه الروح وجبت الصلاة عليه وبعث يوم القيامة وقد اختلف الناس في هذه الاثار فمنهم من اثبت الصلاة عليه ومنع صحة حديث عائشة وغيره من الاحاديث كما قال الامام احمد وغيره وهذه المراسيل من حديث البراء يشد بعضها بعضا ومنهم من ضعف حديث البراء لاجل جابر الجعفي وضعف هذه المراسيل قال حديث ابن اسحاق اصح منها
قال أبو يعلى الموصلي حدثنا عقبة بن مكرم ثنا بشر بن أبي بكر ثنا محمد عبيد الله الفزاري عن عطاء عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى على ابنه إبراهيم فكبر عليه أربعا
وقال محمد بن سعد كاتب الواقدي حدثنا محمد بن عمر يعني الواقدي قال حدثني أسامة بن زيد الليثي عن المنذر بن عبيد عن عبد الرحمن بن حسان اب ثابت عن أمه سيرين قالت حضرت موت إبراهيم ابن رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما صحت أنا وأختي ما ينهانا فلما مات نهانا عن الصياح وغسله الفضل بن عباس ورسول الله صلى الله عليه وسلم كإنسان ثم حمل فرأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم على شفه القبر
____________________
(1/106)
والعباس الى جنبه وترك في حفرته الفضل وأسامة بن زيد وأنا أبكي عند قبره ما ينهاني احد وخسفت الشمس ذلك اليوم فقال الناس لموت إبراهيم فقال النبي صلى الله عليه وسلم إنها لا تخسف لموت أحد ولا لحياته ورأى رسول الله صلى الله عليه وسلم فرجة في اللبن فأمر بها أن تسد فقيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال أما إنها لا تضر ولا تنفع ولكن تقرعين الحي وإن العبد إذا عمل عملا أحب الله أن يتقنه ومات يوم الثلاثاء لعشر ليال خلون من شهر بيع الاول سنة عشر وهكذا رواه الحافظ ابن عساكر في ترجمة عبد الرحمن بن حسان بن ثابت عن أبيه ثم قال هذا حديث غريب ثم ساقه من طرق أخرى من حديث الزبير بن بكار حدثني محمد بن طلحة عن إسحاق بن إبراهيم بن عبد الله بن حارثة عن عبد الرحمن بن حسان فذكر نحوه وفيه مدرج يوم وفاته وشهره وسنته والظاهر والله أعلم أنه من كلام الواقدي ولكن قيل إن في بعض طرق هذا الحديث أنه صلى عليه ولكن لم أره في هذين الطريقين فالله تعالى أعلم بذلك
وقال الحافظ أبو يعلى الموصلي حدثنا إبراهيم الشامي ثنا حماد عن ثمامة بن عبد الله عن انس بن مالك رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى على صبي او صبية وقال لو نجا أحد من ضمة القبر لنجا هذا الصبي
وقد روى أبو داود مرسلا عن عطاء بن أبي رباح أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى على ابنه إبراهيم وهو ابن سبعين ليلة قال البيهقي بعد أن ذكر مرسل البهي وقد تقدم ذكره ومرسل عطاء هذا وغيرهما من أحاديث الصلاة على الاطفال قال فهذه الاثار وإن كانت مراسيل فبعضها يشد بعضنا وقد اثبتوا صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم على ابنه إبراهيم وذلك اولى من رواية من روى انه لم يصل يعني حديث عائشة المتقدم المتصل وقد روي متصلا انه صلى عليه من حديث البراء بن عازب وقد تقدم لكنه حديث لا يثبت لانه من رواية الجعد ولا يحتج بحديثه وقال الخطابي وغيره اختلف في السبب الذي لاجله لم يصل فقال بعضهم إنما ترك الصلاة على ابنه لانه قد استغنى ببنوة رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الصلاة عليه التي هي شفاعة له كما استغنى الشهيد بشهادته عن الصلاة عليه
____________________
(1/107)
وقال غيره إنما لم يصل عليه لأنه يوم مات إبراهيم عليه السلام كسفت الشمس فاشتغل بصلاة الكسوف عن الصلاة عليه والله أعلم
رجعنا إلى كلام الخطابي ثم إنه ذكر مرسل عطاء وقال هذا أولى الأمرين وإن كان حديث عائشة أحسن اتصالا وقد اعتل من لم ير الصلاة على الاطفال بترك صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم الصلاة على ابنه واشتغاله بنفل صلاة الكسوف والجواب والله أعلم عن ذلك ان صلاة الكسوف كانت واجبه في حقه لانه لو لم يصلها لم نعلمها نحن وايضا ولو لم يقع ذلك لم نعلم كيفية صلاة الكسوف فصلاته صلاة الكسوف على هذه الصفة دليل على أن الله أوحى إليه أن يشرعها لنا على هذه الصفة ويجب ان يبين كل ما أنزل اليه من ربه لقوله تعالى يا أيها الرسول بلغ ما أنزل اليك من ربك الاية
____________________
(1/108)
& الباب الحادي عشر في استحباب اصطناع الطعام لأهل المصيبة وهذا الفعل من أحاسن الشريعة التي جاء بها النبي صلى الله عليه وسلم ان أهل الميت لا يتكلفون طبخ طعام لأحد من الناس بل أمره صلى الله عليه وسلم للناس أن يصنعوا طعاما لأهل الميت ويرسلونه اليهم هذا من أعظم مكارم الاخلاق والشيم والحمل عن اهل الميت اعانة لهم وجبرا لقلوبهم لانهم في شغل بمصابهم عن اصلاح طعام لانفسهم فكيف للناس والاهتمام بأمرهم فاذا صنع الناس لهم الطعام المعروف وحملوه اليهم حصلت الراحة لاهل الميت من وجهين
أحدهما شغلهم بمصابهم ثم بتجهيزه وغسله وتكفينه والصلاة عليه وحمله ومواراته في حفرته ثم من بعد ذلك اذا تفرغوا من هذه الامور وحصل لهم سكون ودعة فإن هذه كافية لهم عن شغلهم بالناس
الثاني عدم الخساره فان عدمها فيها تسلية لاهل الميت فان في زماننا هذه ما يتوارى الميت في حفرته حتى يخسر عليه دراهم كثيره فلأن لا يجتمع عليه خسارتان أولى
وقد وردت السنة بصنع الطعام لاهل الميت سواء فقد ميتهم في السفر أو في الحضر وسواء حصلت عليهم خساره او لم تحصل فقد حصلت البشاره لمن صنع لهم طعاما وحمله اليهم انه اتبع سنه رسول الله صلى الله عليه وسلم وامتثل أمره فقد روى الامام احمد في مسنده عن عبد الله بن جعفر رضي الله عنه قال جاء نعي جعفر رضي الله عنه حين قتل قال النبي صلى الله عليه وسلم اصنعوا لآل جعفر طعاما فقد أتاهم ما يشغلهم ورواه أبو داود والترمذي وابن ماجه
____________________
(1/109)
وعن أسماء بنت عميس قالت لما أصيب جعفر رضي الله عنه رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم الى أهله فقال ان آل جعفر قد شغلوا بشأن ميتهم فاصنعوا لهم طعاما رواه الامام احمد وابن ماجه وهذا لفظه
وروي عن عبد الله بن ابي بكر انه قال مازالت السنة فينا حتى تركها من تركها
____________________
(1/110)
& الباب الثاني عشر في الذبح عند القبور وكراهه صنع الطعام من أهل المصيبة عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا عقر في الإسلام رواه الإمام أحمد في حديث طويل هذا منه وأبو داود وروى الترمذي نحوه وقال حديث حسن صحيح غريب ورواه ابن حبان البستي وفي رواية عبد الرزاق كانوا يعقرون عند القبر بقرة أو شئيا أما العقر عند القبور هو الذبح عندها وهذا الفعل عندها فإنه من فعل الجاهلية وهو فعل محرم على هذه الامة
وقوله عليه الصلاة والسلام لا عقر في الإسلام قال الخطابي هو ما كان عليه أهل الجاهلية من عقر الإبل على قبور الموتى كانوا إذا مات الشريف الجواد عقروا عند قبره وكانوا يقولون إن صاحب القبر كان يعقرها للاضياف يقريهم أيام حياته فيكافأ عليه بمثل صنيعه انتهى كلامه وقال قوم كانوا يعقرون الابل عند القبور لتطعمها السباع والطير عند قبر الميت فيدعى مطعما حيا وميتا وقيل بل كان مذهبهم أن صدى الميت يصيب من ذلك الطعام فجاء الاسلام فمحا ذلك كله
وأما هذه البدعة الخبيثة فهي موجود قريب منها في غالب قرى البر وهو أن الشخص اذا توفي في بلده فان اهل القرى التي حوله يأتون لاجل العزاء فيذبحون لهم من مال الميت المنتقل الى ورثته من أيتام صغار وغيرهما بل قد يذبحون البقرة او نحوها من بهيمة الانعام لا يكون للايتام غيرها على ما شاهدته وبلغني فنسأل الله ان يقيض لهذه البدعة من ولاة أمور المسلمين من يبطلها
حدثنا ابن هاشم ثنا الدبري عن عبد الرزاق عن معمر عن ثابت عن أنس
____________________
(1/111)
رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لا إسعاد ولا عقر في الإسلام قد تقدم الكلام على العقر في الإسلام وقوله لا إسعاد فهو من إسعاد النساء في المناحات وهو أن تقوم المرأة في المأتم وتقوم معها أخرى فيقال قد أسعدتها فهي مسعد ويروي في حديث آخر أن امرأة أتت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت يا رسول الله إن فلانة أسعدتني أفأسعدها فقال لا ونهى عن النياحة بالإسعاد وقال إنها مأخوذه من وضع الرجل يده على ساعد صاحبه اذا تماشيا في حاجه وأما صنع اهل الميت طعاما للناس فمكروه لان فيه زياده على مصيبتهم وشغلا لهم إلى شغلهم وتشبيها بصنع أهل الجاهلية فإنهم يتكلفون طبخ الطعام كما يفعله أهل البر في زماننا وقد تقدم فهذا من النياحة التي نهى عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم لما ثبت في مسند الامام أحمد من حديث جرير بن عبد الله البجلي رضي الله عنه قال كنا نعد الاجتماع الى أهل الميت وصنعه الطعام بعد دفنه من النياحة رواه ابن ماجه ورواه سعيد بن منصور في سننه ولفظه إن جريرا وفد على عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال هل يناح على ميتكم قال لا قال فهل تجتمعون عند أهل الميت وتجعلون الطعام قال نعم قال ذاك النوح وقال الشيخ موفق الدين رحمه الله في المغني وإن دعت الحاجة الى ذلك جاز فإنهم ربما جاءهم من يحضر ميتهم من القرى والاماكن البعيدة ويبيت عندهم فلا يمكنهم الا أن يضيفوه انتهى كلامه قلت وإذا دعت الحاجة الى صنع الطعام من أهل الميت لمن يفد من القرى ونحوها إنما ذاك بشرط أن لا يكون من مال الايتام خصوصا اذا لم يكن لليتيم سوى ذلك الحيوان فأما وفود أهل البادية على أهل الميت في قريتهم فالضيافة على أهل القرية إما واجبه او مستحبة وليست على أيتام الميت والله تعالى اعلم
____________________
(1/112)
& الباب الثالث عشر في الثناءالحسن على الميت وذكر محاسنه والسكوت عن مساويه
واعلم ان من أطلق الله السنة الناس فيه بالخير والثناء الحسن والذكر الصالح وغير ذلك من الاقوال الصالحة غلب على الظن انه من اهل الخير وغير مستنكر اذا احب الله عبدا ان يلقي على السنة المسلمين الثناء الحسن عليه وفي قلوبهم المحبة له قال الله تعالى { إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات سيجعل لهم الرحمن ودا } وثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم قال إن الله إذا أحب عبدا دعا جبريل فقال إن الله يحب فلانا فأحبه قال فيحبه جبريل ثم ينادي في السماء ان الله يحب فلانا فاحبوه قال فيحبه أهل السماء ثم يوضع له القبول في الارض وذكر في البغضاء مثل ذلك رواه البخاري ومسلم
وقد شاهدنا في عصرنا هذا وبلغنا عن عصر غيرنا أن أقواما من العلماء وأهل الحديث والتجار والسوقة كثر الثناء عليهم وصرفت قلوب الناس إليهم وحصلت الحفلة العظيمة في جنائزهم من كثرة المشيعين لها وحضرها الالوف من الناس وربما كثر الله الخلق في تشييع هؤلاء من الجن والملائكة وربما سمع ضجة عظيمة من جهة السماء في حال حضور الناس في الجنازة ولقد أخبرني شيخنا العلامة شمس الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن محمد الخطيب المقدسي بالجامع المظفري تغمده الله تعالى برحمته قال لي سمعت هذه الضجة من السماء مرارا لبعض الاموات كهيئة البشائر ثم قال وحدثني بها جماعة من أصحابنا أنهم سمعوا ذلك في بعض جنائز المتهمين بالصلاح والله تعالى أعلم بذلك
ذكر قاسم بن اصبغ قال حدثنا احمد بن زهير ثنا محمد بن يزيد الرفاعي
____________________
(1/113)
قال مات عمرو بن قيس الملائي في ناحية فارس فاجتمع لجنازته من الخلق ما لا يحصى كثرة فلما دفن نظروا فلم يروا أحدا
وعن انس بن مالك رضي الله عنه قال مر بجنازه فأثنوا عليها خيرا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم وجبت ومر بجنازة فأثنوا عليها شرا فقال نبي الله صلى الله عليه وسلم وجبت فقال عمر رضي الله عنه فداك أبي وأمي يا رسول الله مر بجنازة فأثنوا عليها خيرا فقلت وجبت ومر بجنازه فأثنوا عليها شرا فقلت وجبت فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم من أثنيتم عليه خيراوجبت له الجنة ومن أثنيتم عليه شرا وجبت له النار أنتم شهداء الله في الارض أنتم شهداء الله في الارض ثلاثا وفي لفظ وجبت وجبت ثلاثا رواه البخاري ومسلم وفي رواية للبخاري فقيل يا رسول الله قلت لهذا وجبت ولهذا وجبت قال شهادة القوم المؤمنين شهداء الله في الارض
ولما مات الامام احمد بن حنبل قال الهيثم بن خلف دفنا احمد بن حنبل يوم الجمعة بعد العصر سنة احدى واربعين ومائتين وما رأيت جمعا قط اكثر من ذلك وقال ابن ابي صالح القنطري شهدت اربعين عاما ما رايت جمعا قط مثل هذا ثم قال عبد الوهاب الوراق ما بلغنا أن جمعا في جاهلية ولا اسلام مثل الجمع في جنازة احمد حتى بلغنا ان الموضع مسح وحزر على الصحيح فاذا هو نحو من الف ألف وأما النساء فهو من ستين الف امرأة وكلهم يشهدون له بالصلاح والولاية ويرجون بالصلاة عليه البركة ويثنون عليه بأنواع الخير رحمة الله عليه فصل
وفي الصحيح ان النبي صلى الله عليه وسلم قال إذا رايت الرجل يعمل العمل من الخير ويحمده الناس عليه قال تلك عاجل بشرى المؤمن وفي رواية ويحبه الناس عليه قال العلماء معناه هذه البشرى المعجلة له بالخير هي دليل للبشرى المؤخرة الى الاخرة لقوله تعالى { بشراكم اليوم جنات } وهذه البشرى
____________________
(1/114)
المعجلة دليل على رضى الله تعالى عنه ومحبته له ومحبته الى الخلق
وعن أبي سعيد رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال إذا رأيتم الرجل يعتاد المسجد فاشهدوا له بالايمان وفي لفظ فاشهدوا له بالخير قال الله تعالى { إنما يعمر مساجد الله من آمن بالله واليوم الآخر وأقام الصلاة وآتى الزكاة ولم يخش إلا الله فعسى أولئك } الاية رواه الترمذي وقال حديث حسن وشهاده الناس له بعد الموت بالخير هي الشهادة التي كانوا يشهدون له بها في حال الحياة والله تعالى أعلم فصل & في الكف عن ذكر مساوي الاموات
عن عائشة رضي الله عنها قالت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تسبوا الاموات فإنهم قد أفضوا الى ما قدموا رواه الامام احمد والبخاري والنسائي
وعن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لا تسبوا موتانا فتؤذوا أحياءنا رواه أحمد
وعن ابي رافع أسلم مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال من غسل ميتا فكتم عليه غفر الله له أربعين مرة رواه الحاكم وقال صحيح على شرط مسلم
قال ابن السماك إنما سيفك بين لحييك تأكل به كل مر عليك قد أذيت أهل الدور في الدور حتى تعاطيت أهل القبور أما أهل القبور فما ترى لهم وقد جرى البلاء على وجوههم وأنت هاهنا تنبشهم ويحك ما عندك من نبشهم إلا أخذ الخرق عنهم إذا ذكرت مساويهم فقد نبشتهم إنه لينبغي لك ان تترك القول في اخيك لخلال ثلاث أما الاولى فلعلك تذكره بأمر هو فيك والثانية
____________________
(1/115)
لعلك تذكره بأمر قد عافاك الله منه فهذا جزاؤه إذ عافاك أما تسمع إذ يقال ارحم أخاك واحمد الذي عافاك
وفي أبي داود في الادب والترمذي في الجنائز من حديث معاوية بن هاشم عن عمران بن أنس المكي عن عطاء عن ابن عمر مرفوعا اذكروا محاسن موتاكم وكفوا عن مساويهم
وقد روى أبو داود مرفوعا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال من عير أخاه بذنب قد تاب منه لم يمت حتى يفعله وأما من جهه الاموات فقد روى ابن أبي الدنيا بإسناده ان النبي صلى الله عليه وسلم قال لا تذكروا موتاكم إلا بخير إن يكونوا من أهل الجنة تأثموا وإن يكونوا من أهل النار فحسبهم ما هم فيه
____________________
(1/116)
& الباب الرابع عشر في فرح العبد وتسليته بكونه من أمة محمد صلى الله عليه وسلم إعلم أن لله علينا من النعم ما لايحصيها إلا الله تعالى الذي هدانا للاسلام وجعلنا من أمه خير الانام فإن كل نبي من الانبياء صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين فضل بشيء فنبينا فضل به وزاد عليه وهو أول من تنشق عنه الأرض وأول شافع وأول مشفع وأول من يقرع باب الجنة وقد ثبت في صحيح مسلم عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم أنا أول الناس مشفع في الجنة وأنا أكثر الانبياء تبعا
وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال يأتي معي من أمتي يوم القيامة مثل السيل والليل فيحطم الناس فتقول الملائكه لما جاء مع محمد أكثر مما جاء مع سائر الانبياء رواه البزار
وعن بريدة بن الحصيب رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عيه وسلم اهل الجنة عشرون ومائه صف ثمانون منها من هذه الامه وأربعون من سائر الامم رواه الترمذي عن الطفيل بن أبي عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال إذا كان يوم القيامة كنت أمام النبيين وخطيبهم وصاحب شفاعتهم غير فخر رواه الترمذي وعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يدخل الجنة من أمتي سبعون ألفا بغير حساب مع كل واحد من السبعين الفا سبعون الفا رواه مسلم
وعن حذيفة بن اليمان رضي الله عنه قال غاب عنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما فلم يخرج حتى ظننا ان لن يخرج فلما خرج سجد سجده طننا أن نفسه قد قبضت فلما رفع قال إن ربي عز وجل استشارني في أمتي ماذا أفعل بهم قلت ما شئت يا رب هم خلقك وعبادك فاستشارني الثانية فقلت له كذلك ثم استشارني
____________________
(1/117)
الثالثة فقلت له كذلك فقال إني لم اخزك في امتك وبشرني ان أول من يدخل الجنة زمرا من أمتي سبعون الفا مع كل الف سبعون الفا ليس عليهم حساب ثم ارسل إلي ربي عز وجل ادع تجب وسل تعطه فقلت لرسوله او معطني ربي عز وجل سؤلي قال ما أرسل إليك إلا ليعطيك وقد اعطاني ربي غير فخر أنه غفر لي من ذنبي ما تقدم وتأخر وشرح صدري واعطاني ان لا تجوع أمتي ولا تغلب وأنه أعطاني الكوثر نهر في الجنة يسيل من حوضي وأنه أعطاني العزة والنصرة والرغب وأنه اعطاني بأني أول الانبياء دخولا إلي الجنة وطيب لي ولامتي الغنيمة وأحل لنا كثيرا مما شدد على من قبلنا ولم يجعل علينا في الدين من حرج فلم أجد شكرا إلا هذه السجدة رواه أبو بكر الشافعي
وقوله ولا تجوع أمتي أي لا تجوع كلها فإن جاعت في ارض شبعت في أخرى وكذلك لا تغلب اي كلها فإن غلبت في موضع غلبت في موضع آخر والله اعلم
____________________
(1/118)
& الباب الخامس عشر في استحباب التعزية لاهل المصيبة والدعاء لميتهم
يقال عزى الرجل عزاء إذا صبر على ما نابه والتعزيه التصبر وعزيته أمرته بالصبر والعزاء بالمد اسم اقيم مقام التعزيه ذكره النووي وقال الازهري اصل التعزيه التصبر لمن اصيب بمن يعزى عليه وقال غيره التعزيه التسلية وهو أن يقال له عز بعزاء الله وعزاء الله قوله تعالى { الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون } الايه ومعنى قوله تعزى بعزاء الله أي تصبر بالتعزية التي عزاك الله بها كما في كتابه أو يقال لك اسوة في فلان فقد مضى حميمه وأليفه فحسن صبره وأصل العزاء الصبر والله أعلم
عن عبد الله بن ابي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم عن أبيه عن جده عن النبي صلى الله عليه وسلم قال ما من مؤمن يعزي اخاه بمصيبه إلا كساه الله عز وجل من حلل الكرامة يوم القيامة رواه ابن ماجه وصححه الشيخ وقال رواته كلهم ثقات
وعن ابن مسعود رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال من عزى مصابا فله مثل أجره رواه ابن ماجه والترمذي وقال لا نعرفه مرفوعا إلا من حديث علي ابن عاصم وذكر أنه روي موقوفا وعلي بن عاصم ضعف
وعن ابي برزة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من عزى ثكلى كسي بردا في الجنة قال الترمذي إسناد هذا الحديث ليس بالقوي
____________________
(1/119)
والمقصود من التعزيه تسلية اهل المصيبه وقضاء حقوقهم والتقرب إليهم بقضائها قبيل الدفن وبعده لشغلهم بمصابهم
ويستحب تعزيه أهل الميت وهي مسأله متفق عليها ولم أعلم ان أحدا خالف فيه إلا سفيان الثوري رحمه الله قال لا تستحب التعزيه بعد الدفن لانها خاتمه امره والمعروف المستقر عند أهل العلم استحباب التعزيه قبل الدفن وبعده لما تقدم من الاحاديث قريبا مثل عموم قوله عليه السلام من عزى مصابا فله مثل أجره من عزى ثكلي كسي بردا في الجنة فكل هذه عمومات تدل على الاستحباب مطلقا
ويستحب تعزية جميع أهل المصيبة كبارهم وصغارهم ويخص خيارهم والمنظور إليهم من بينهم ليستن به غيره وذا الضعف منهم عن تحمل المصيبة لحاجته إليها ولا يعزى الرجل الاجنبي شواب النساء مخافة الفتنة ويجوز للمرأة البرزة ونحوها
وثبت أن عائشه رضي الله عنها نهت عن الضحك في المصيبة لان فيه إشماتا بالمسلم وكسرا لقلبه ولهذا رأى الامام أحمد رجلا يضحك في جنازه فهجره وقال اي موعظه اتعظ هذا أو نحوه فصل فيما يفعله غالب أهل زماننا من الجلوس عند القبر يوم الدفن للتعزيه وكذلك في اليوم الثاني والثالث
قال ابو الخطاب يكره الجلوس للتعزيه وقال ابن عقيل يكره الاجتماع بعد خروج الروح لان فيه تهييجا للحزن وقال الالامام احمد رحمه الله يكره التعزيه عند القبر إلا لمن يعزي فيعزي اذا دفن الميت او قبل ان يدفن وقال أحمد إن شئت أخذت بيد الرجل في التعزية وإن شئت لم تأخذ وإذا رأى الرجل قد شق ثوبه على المصيبة عزاه ولم يترك حقا لباطل وإن نهاه فحسنن قلت إن كان الاجتماع فيه موعظه للمعزي بالصبر والرضاء وحصل له من الهيئه الاجتماعيه
____________________
(1/120)
تسلية بتذاكرهم آيات الصبر وأحاديث الصبر والرضاء فلا بأس بالاجتماع على هذا الصفة فإن التعزيه سنه سنها رسول لله صلى الله عليه وسلم لكن على غير الصفة التي تفعل في زماننا من الجلوس على الهيئة المعروفة اليوم لقراءه القران تاره عند القبر في الغالب وتاره في بيت الميت وتاره في المجامع الكبار فهذا بدعة محدثة كرهه السلف كما تقدم لكن فيه تسلية لهم وإشغال لهم عن الحزن والله أعلم فصل
واما قول أصحابنا وغيرهم من الفقهاء ففي غالب كتبهم يذكرون أنه لا بأس أن يجعل المصاب على رأسه ثوبا يعرف به وبعض أصحابنا المقادسه يرخي عذبة من غير عادة قالوا لان التعزيه سنة وفي ذلك تيسير لمعرفته حال التعزيه وأنكر هذا الفعل شيخ الاسلام ابن تيمية وقال لا ريب أن السلف لم يكونوا يفعلون شيئا من ذلك ولا نقل هذا عن أحد من الصحابة والتابعين وثم آثار صريحة تاتي فيما بعد إن شاء الله تعالى تقوي هذا القول وقد كره إسحاق بن راهوية أن يترك لبس ماعادته لبسه والله أعلم فصل وقد ذكر الشيخ موفق الدين وغيره من أصحابنا في غالب الكتب أن التعزية تجوز قبل الدفن وبعده وأنه يقول في تعزية المسلم بالمسلم اعظم الله أجرك وأحسن عزاءك ورحم ميتك وفي تعزيته بكافر أعظم الله أجرك وأحسن عزاءك وتوقف أحمد رحمه الله عن تعزيه أهل الذمة وهي تخرج على عيادتهم في أمراضهم وفيها روايتان ( إحداهما ) يعودهم لانه روي أن غلاما من اليهود كان يخدم النبي صلى الله عليه وسلم فأتاه النبي صلى الله عليه وسلم يعوده فقعد عند راسه فقال له أسلم فنظر إلى أبيه وهو عند راسه فقال أطع اباك ابا القاسم فاسلم فقام النبي صلى الله عليه وسلم وهو يقول الحمد الله الذي انقذه من النار رواه البخاري ولكن
____________________
(1/121)
الحكمة في العيادة منتفية في التعزيه وهو رجاء إسلامه والله تعالى أعلم والرواية الثانية لا يجوز لان النبي صلى الله عليه وسلم قال لا تبدؤوهم بالسلام قال يجوز تعزيتهم عن مسلم يقال له أحسن الله عزاءك وغفر لميتك وعن كافر أخلف الله عليك ولا نقص عددك ويقصد زيادة عددهم لتكثر جزيتهم وقال أبو عبد الله بن بطة لا باس ان يقول في تعزية الكافر أعطاك الله على مصيبتك افضل ما أعطي أحد من أهل ملتك وقد روى أبو عبد الله المرزباني بإسناده عن الحسن نحوا مما قال ابن بطه ولكن لفظه جزاك الله على مصيبتك بأعظم مما جازى به أحدا من أهل ملتك وروى أبو موسى المديني بإسناده عن عبد الله ابن عمر رضي الله عنهما قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا دعوتم لاحد من اليهود او النصارى فقولوا اكثر الله مالك وولدك فصل
ولم يرد في التعزيه شيء محدود إلا أنه يروى ان النبي صلى الله عليه وسلم عزى رجلا فقال رحمك الله وآجرك رواه الامام أحمد وعزى أحمد أبا طالب فوقف على باب المسجد فقال أعظم الله أجرك وأحسن عزاءك
وعن جعفر بن محمد عن أبيه عن جده قال لما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وجاءت التعزيه سمعوا قائلا يقول إن في الله عزاء من كل مصيبة وخلفا من كل هالك ودركا من كل ما فات فبالله فثقوا وإياه فارجو فإن المصاب من حرم الثواب رواه الشافعي في مسنده
وروى الحاكم في مستدركه وقال صحيح الاسناد من حديث انس بن مالك رضي الله عنه قال لما قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم أحدق به اصحابه فبكوا حوله واجتمعوا فدخل رجل اشهب اللحية جسيم صبيح فتخطى رقابهم فبكى ثم التفت إلى اصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال إن في الله عزاء من كل مصيبة
____________________
(1/122)
وعوضا من كل فائت وخلفا من كل هالك فالى الله فأنيبوا وإليه فارغبوا ونظره إليكم في البلاء فانظروا فإنما المصاب من لم يجبر وانصرف فقال بعضهم لبعض تعرفون الرجل قال أبو بكر وعلي نعم هذا أخو رسول الله صلى الله عليه وسلم الخضر عليه السلام
وروى الحاكم من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما لما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم جاءتهم الملائكة يسمعون الحس ولا يرون الشخص قالت السلام عليكم ورحمة الله وبركاته إن في الله عزاء من كل مصيبة وخلفا من كل فائت فبالله فثقوا وإياه فارجوا فإنما المحروم من حرم الثواب والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته وحسنه الحاكم
وسيأتي كلام السلف رحمهم الله في التعازي بألفاظ مختلفة فتاره مطولة وتاره وجيزه بليغة كما سأذكره قريبا إن شاء الله فصل
ومن بلغه وفاة أحد من المؤمنين فليحسن الاسترجاع والتثبت فقد روى الطبراني بإسناده عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما قال قال النبي صلى الله عليه وسلم إن للموت فزعا فإذا اتى أحدكم وفاة أخيه فليقل إنا لله وإنا إليه راجعون وإنا إلى ربنا لمنقلبون اللهم اكتبه في المحسنين واجعل كتابه في عليين واخلف عقبه في الآخرين اللهم لا تحرمنا أجره ولا تفتنا بعده
وفي حديث أبي سلمة لما مات شق بصره فأغمضه النبي صلى الله عليه وسلم ثم قال إن الروح إذا قبض تبعه البصر فصاح ناس من أهله فقال لاتدعوا على أنفسكم إلا بخير فإن الملائكة يؤمنون على ما تقولون ثم قال اللهم اغفر لأبي سلمة وارفع درجته في المهديين واخلفه في عقبه في الغابرين واغفر لنا وله يا رب العالمين وافسح له في قبره ونور له فيه رواه مسلم
وروي عن علي بن ابي طالب رضي الله عنه لما بلغه وفاة ابي بكر رضي الله
____________________
(1/123)
عنه قال رضينا عن الله قضاه وسلمنا له أمره إنا لله وإنا اليه راجعون
قال سعيد بن منصور في سننه حدثنا يوسف بن عطيه الصفار قال جلست إلى عطاء بن ابي ميمونة وهو يعزي رجلا فقال حدثنا أنس بن مالك أن رجلا كان يجيء بصبي له معه الى رسول الله صلى الله عليه وسلم وإن الغلام مات فاحتبس أبوه عن النبي صلى الله عليه وسلم فسأل عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا مات صبيه الذي رأيت معه فقال افلا آذنتموني فقوموا إلى اخينا تعزيه فلما دخل عليه إذا الرجل حزين وبه كآبه فعزاه فقال يا رسول الله كنت أرجوه لكبر سني وضعفي فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أما يسرك أن يكون يوم القيامة بإزائك يقال له ادخل الجنة فيقول رب وابواي ولا يزال يشفع حتى يشفعه الله عز وجل فيكم ويدخلكم جميعا الجنة فصل فيما نقل إلينا من الفاظ التعزية عن السلف والخلف
فقد روى الطبراني في كتاب الدعاء بإسناده ععن محمود بن لبيد عن معاذ بن جبل رضي الله عنه أنه مات ابن له فكتب إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم يعزيه بابنه فكتب إليه بسم الله الرحمن الرحيم من محمد رسول الله إلى معاذ بن جبل سلام عليك فإني أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو ( أما بعد ) فأعظم الله لك الاجر وإلهمك الصبر ورزقنا وإياك الشكر فإن انفسنا واموالنا وأهلينا وأولادنا من مواهب الله الهنية وعواريه المستودعة متعك الله به في غبطة وسرور وقبضه منك بأجر كثير الصلاة والرحمة والهدى إن احتسبته بالصبر ولا يحبط جزعك أجرك فتندم على ما فاتك من ثواب مصيبتك فإنك لو اطلعت على ثواب مصيبتك لعرفت أن المصيبة قد قصرت عن الثواب وهذه الزياده في بعض طرقه ثم قال وما هو نازل بك فكأن قد والسلام ورواه الحاكم في المستدرك وقال غريب حسن ورواه الحافظ أبو بكر بن مردويه في كتاب الادعية وعنده فليذهب اسفك ما هو نازل بك ولفظ الحاكم فإن أنفسنا واموالنا وأهلينا
____________________
(1/124)
وأولادنا من مواهب الله الهنية وعواريه المستودعة نمتع به الى اجل معدود ويقبضها لوقت معلوم ثم افترض علينا الشكر إذا اعطى والصبر إذا ابتلى وباقي الحديث كما ساقه الطبراني والله أعلم
ورأيت في جزء لا أعرف مؤلفه وليس له اول قال زيد بن اسلم مات ابن لداود عليه السلام فجزع عليه فعزوه فيه فقيل له ما كان يعدل عندك قال كان أحب الي من ملء الارض ذهبا فقيل له فإن لك من الاجر على قدر ذلك وفي الاسرائيليات ان سليمان بن داود عليهما السلام مات له ولد فجزع عليه حتى عرف ذلك في مصابه فتحاكم إليه ملكان في صورة رجلين فقال أحدهما إن هذا بذر بذرا في طريق الناس فمررت فأفسدته فقال سليمان للاخر لم بذرت في الطريق أما علمت أنه لابد للناس من ممر فقال ولم تحزن أنت على ابنك وهذا طريق الناس الى الاخرة
وعن اسامة بن زيد رضي الله عنهما قال أرسلت ابن النبي صلى الله عليه وسلم إليه إن ابنا لي قد قبض فأتنا فأرسل يقرىء السلام ويقول إن لله ما أخذ وله ما أعطى وكل شيء عنده بأجل مسمى فلتصبر ولتحتسب رواه مسلم وابو داود والنسائي وابن ماجه
وقال وهب بن منبه قرأت في بعض كتب الله تعالى يقول لولا أني جعلت الميت ينتن على أهله ما دفن ميت ولولا اني جعلت الطعام يفسد لاحتجبه الملوك ولولا أني آتي بالعزاء بعد المصيبة ما عمرت الدنيا وقال الحسن البصري رحمه الله ما من جزعتين أحب إلى الله من جزعة مصيبة موجعة محرقة ردها صاحبها بحسن عزاء وصبر وجزعة غيظ ردها صاحبها بحلم
وقد روي عن شمر أنه كان إذا عزى مصابا قال اصبر لما حكم ربك وقال ابن أبي الدنيا حدثني عبد الله بن محمد بن إسماعيل التيمي أن رجلا عزى رجلا على ابنه فقال إنما يستوجب على الله وعده من صبر لله بحقه فلا تجمع إلى ما أصبت به من المصيبة الفجيعة بالاجر فإنها أعظم مصيبتين عليك والسلام
____________________
(1/125)
وعزى ابن السماك رجلا فقال عليك بالصبر فيه يعمل من احتسب وإليه يصير من جزع
وقال عمر بن دينار قال عبيد بن عمير ليس الجزع ان تدمع العين ويحزن القلب ولكن الجزع القول السيء والظن السيء
وقال خالد بن أبي عثمان القرشي كان سعيد بن جبير يعزيني على أبي فرآني أطوف بالبيت متقنعا فكشف القناع عن راسي وقال الاستتارر من الجزع
وروى البيهقي بإسناده في مناقب الشافعي رحمه الله ان عبد الرحمن بن مهدي مات له ابن فجزع عليه جزعا شديدا فبعث إليه الشافعي يقول له يا أخي عز نفسك بما تعزي به غيرك واستقبح من فعلك ما تستقبحه من غيرك واعلم أن امض المصائب فقد سرور وحرمان أجر فكيف إذا إجتمعا مع اكتساب وزر فتناول حظك يا أخي إذا قرب منك قبل أن تطلبه وقد تناءى عنك ألهمك الله عند المصائب صبراوأحرز لنا ولك بالصبر أجرا ثم أنشده % إني معزيك لا إني على ثقة % من الخلود ولكن سنة الدين % % فلا المعزي بباق بعد ميته % ولا المعزي ولو عاشا إلى حين %
ومات ابن للشافعي رحمه الله فجاءوا يعزونه فأنشد % وما الدهر إلا هكذا فاصطبر له % رزيه مال أو فراق حبيب %
دخل بعض الاعراب على بعض ملوك بني العباس وقد توفي له ولد اسمه العباس فعزاه فيه فقال % اصبر نكن بك صابرين فإنما % صبر الرعية عند صبر الراس % % وخير من العباس أجرك بعده % والله خير منك للعباس %
وذكر أبو علي الحسن بن أحمد بن البنا بإسناده أن شخصا من الحكماء أنشده % إذا دام ذا الدهر لم يحزن على أحد % ممن يموت ولم يفرح بمولود %
____________________
(1/126)
وقال ابن أبي الدنيا حدثنا الحسين ثنا عبد الله ثنا محمد بن مسلمة القاسمي وكان قد قارب المائة قال وعظ عابد جبارا فأمر به فقطعت يداه ورجلاه وحمل الى متعبده فجاء إخوانه يعزونه فقال لا تعزوني ولكن هنوني بما ساق الله إلي ثم قال إلهي أصبحت في منزله الرغائب أنظر الى العجائب إلهي أنت تتودد بنعمتك إلى من يؤذيك فكيف لا تتودد الى من يؤذي فيك
وذكر عن سليمان بن حبيب قال لما مات عبد الملك بن عمر بن عمر بن عبد العزيز دخل عليه هشام فعزاه عنه فقال عمر وانا أعوذ بالله أن يكون لي محبة في شيء من الامور تخالف محبة الله عز وجل فإن ذلك لا يصلح لي في بلائه عندي وإحسانه إلي وفي رواية أخرى قال لما مات ابنه عبد الملك وأخوه سهل ومزاحم مولى عمر بن عبد العزيز في أيام متتابعة دخل عليه الربيع بن سبرة فقال أعظم الله أجرك يا أمير المؤمنين فما رأيت أحدا أصيب بأعظم من مصيبتك في أيام متتابعة والله ما رأيت مثل ابنك ابنا ولا مثل أخيك أخا ولا مثل مولاك مولى قط فطأطأ رأسه فقال لي رجل معه على الوساد لقد هيجت عليه قال ثم رفع رأسه فقال كيف قلت فأعدت عليه ما قلت فقال لا والذي قضى عليهم بالموت ما أحب أن شيئا من ذلك لم يكن
وعن بشر بن عبد الله قال قام عمر بن عبد العزيز على قبر ابنه عبد الملك فقال رحمك الله يا بني فقد كنت سارا مولودا وبارا ناشئا وما أحب أني دعوتك فاجبتني
ولما توفيت الياقوته بنت المهدي جزع عليها جزعا لم يسمع بمثله فجلس للناس يعزونه وامر أن لا يحجب عنه أحد فأكثر الناس في التعازي واجتهدوا في البلاغة فأجمعوا أنهم لم يسمعوا تعزيه أوجز ولا أبلغ من تعزيه شبيب بن شبة فإنه قال أعطاك الله يا امير المؤمنين على ما رزئت أجرا وأعقبك خيرا ولا أجهد بلاءك بنقمة ولا نزع منك نعمة ثواب الله خير لك منها ورحمة الله خير لها منك وأحق ما صبر عليه ما لا سبيل الى رده وفي رواية قال يا أمير
____________________
(1/127)
المؤمنين الله خير لك منها وأنا أسأل الله أن لا يحزنك ولا يفتنك
وقد روى مالك في الموطأ عن يحيى بن سعيد عن القاسم قال هلكت امرأة لي فأتاني محمد بن كعب القرظي يعزيني بها فقال إنه كان في بني إسرائيل رجل فقيه عالم عابد مجتهد وكانت له امرأة وكان بها معجبا ولها محبا فماتت فوجد عليها وجدا شديدا وتأسف عليها تأسفا شديدا حتى خلا في بيت وأغلق علي نفسه واحتجب وإن امرأة سمعت به فجاءته فقالت إن لي إليه حاجة أستفتيه فيها ليس يجزيني إلا مشافهته فذهب الناس ولزمت بابه وقالت ما لي منه بد فقال له قائل إن هاهنا امرأة ارادت أن تستفتيك قال ائذنوا لها فدخلت فقالت إني استعرت من جاره لي حليا وكنت ألبسه وأعيره فلبث عندي زمانا ثم إنهم ارسلوا الي فيه افأرده إليهم قال نعم والإله قالت أنه مكث عندي زمانا قال فذاك أحق لردك أياه إليهم قالت افتتأسف على ما أعارك الله ثم أخذه منك وهو أحق به منك فأبصر ما هو فيه ونفعه الله تعالى بقولها
وعزى عمرو بن عبيد ليونس بن عبيد على ولد له مات فقال إن أباك كان أصلك وإن ابنك كان فرعك وإن امرءا ذهب أصله وفرعه لحري بأن يقل بقاؤه
وعزى صالح المري رجلا قد مات ولده فقال إن كانت مصيبتك أحدثت لك عظة في نفسك فنعم المصيبة مصيبتك وإن كانت لم تحدث لك عظة في نفسك فمصيبتك بنفسك أعظم من مصيبتك بابنك رضي الله عنهم كرم الله وجهه الله تبارك وتعالى الله سبحانه صلوات الله عليهم صلى الله عليه وسلم الله تبارك وتعالى الرب عز وجل صلى الله عليه وسلم الرب عز وجل الرب تبارك وتعالى الله تبارك وتعالى
وعزى رجل رجلا فقال يا أخي العاقل يصنع ف يأول يوم ما يفعله الجاهل بعد عام وعزى رجل رجلا فقال عليك بتقوى اللهوالصبر فيه فأنه يأخذ المحتسب وإليه يرجع الجازع وعزى رجل رجلا فقال إن من كان لك في الآخرة أجرا خير ممن كان
____________________
(1/128)
لك في الدنيا سرورا
وعن ابن جريج قال من لم يتعز عند مصيبته بالاجر والاحتساب سلا كما تسلو البهائم
قال بعض السلف وقد عزى مصابا إن صبرت فهي مصيبة واحدة وإن لم تصبر فهما مصيبتان
وذكر ابن أبي الدنيا بإسناده عن ميمون بن مهران قال عزى رجل عمر ابن عبد العزيز رحمة الله عليه على ابنه عبد الملك فقال عمر الأمر الذي نزل بعبد الملك أمر كنا نعرفه فلما وقع لم ننكره
وروى ابن أبي الدنيا بإسناده قال مات ابن رجل فحضره عمر بن عبد العزيز فكان الرجل حسن العزاء فقال رجل من القوم هذا والله الرضا فقال عمر بن عبد العزيز أو الصبر قال سليمان الصبر دون الرضا الرضا ان يكون الرجل قبل نزول المصيبة راض بأي ذلك كان والصبر أن يكون بعد نزول المصيبة فيصبر
وذكر الحافظ ابن عساكر قال إبراهيم بن خالد كتب محمد بن إدريس الشافعي إلى رجل من إخوانه من قريش يعزيه بابن أصيب به اعلم يا أخي أن كل مصيبة لا يجبر صاحبها ثوابها فهي المصيبة العظمى فكيف رضيت يا أخي بابنك فتنة ولم ترض به نعمة وكيف رضيت به مفارقا ولم ترض به خالدا وكيف رضيته على التعريض من الفساد ولم ترض به على اليقين من الصلاح بل كيف لك بمقت منعم ولم تعرف له نعمة يريك ما تحب ويرى منك ما يكره ارجع الى الله عز وجل وتعز برسول الله صلى الله عليه وسلم وتمسك بدينك والسلام
وذكر أيضا بإسناده قال كتب رجل إلى أخ له يعزيه بابنه أما بعد فإن الله تعالى وهب لك موهبة جعل عليك رزقه ومؤنته وأن تخشى فتنته فاشتد لذلك فرحك فلما قبض موهبته وكفاك مؤنته اشتد لذلك حزنك أقسم بالله إن كنت تقيأ لهنئت على ما عزيت عليه ولعزيت على ما هنئت عليه فاذا أتاك
____________________
(1/129)
كتابي هذا فاصبر نفسك عن الامر الذي لا صبر لك على عقباه واصبر نفسك عن الامر الذي لا غنى بك عن ثوابه واعلم أن كل مصيبة لم يذهب فرح ثوابها حزنها فذلك الحزن الدائم والسلام
عن عبد الله بن صالح العجلي قال كتب ابن السماك الى رجل يعزيه عن مولود له مات أما بعد فإن استطعت أن يكون شكرك حين قبضه الله عز وجل منك أكثر منه حين وهبه لك فافعل فقد أحرز لك هبته حيث قبضه ولو بقي لم تسلم من فتنته أرايت حزنك على فراقه وتلهفك على ذهابه أرضيت الدار لنفسك فترضاها لابنك أما هو فقد خلص من الكدر وبقيت أنت معلقا بالخطر والمصيبة إن جزعت فهي واحدة إن صبرت ومصيبتان إن لم تصبر فلا تجمع الامرين على نفسك والسلام
وكتب رجل الى بعض اخوانه يعزيه بابنه اما بعد فإن الولد على والده ما عاش حزن وفتنه فإذا قدمه فصلاة ورحمة فلا تجزع على ما فاتك من حزنه وفتنته ولا تضيع ما عوضك الله من صلاته ورحمته
وقال موسى بن المهدي لإبراهيم بن مسلم وعزاه بابنه اسرك وهو بلية وفتنة وأحزنك وهو صلوات ورحمة
وقد روي عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه دفن ابنا له فضحك عند قبره فقيل له أتضحك عند القبر قال أردت أن أرغم الشيطان
ومات للحافظ ابن عساكر ولد لم يحتلم وكان ولدا حسنا قال الحافظ فحمدت الله ولم أظهر لموته جزعا ولا قلقا ولم أحالف لذهابه هلعا ولا أرقا ولم أترك لحزنه مجلس التحديث ولم أمتنع لأجله من الانبساط والحديث وما كان ذلك الا بتوفيق الله وإعانته وحسن عصمته من الجزع وصيانته فله الحمد إذ لم يحبط أجري فيه بجزعي ولم يذهب صبري عنه بهلعي لان المحروم من حرم عظيم الثواب والملوم من جزع لأليم المصاب وأعجب من تصبري لما عزاني بعض اخواني حضني على الصبر وقال لي مررت بك يوم ثانية وأنت
____________________
(1/130)
تحدث الجماعة فتعجبت من انشراح صدرك للتحديث تلك الساعة فقلت له إن الجزع لا يرد فائتا ولا ذاهبا والحزن لا يرجع هالكا ولا عاطبا والبكاء لا يجدي صرفا لمسلم ولا نفعا والقلق لا يفيد دركا لخطب ولا دفعا والاحتيال لا يوجب لها ضرا ولا نفعا وإذا كان الامر بهذه الصفة والحال هكذا عند أهل المترفة فالصبر أحمى بذوي الحجى وأليق بأولي الدين والنهي
____________________
(1/131)
& الباب السادس عشر في وجوب الصبر على المصيبة قال الله تعالى { يا أيها الذين آمنوا اصبروا وصابروا ورابطوا واتقوا الله لعلكم تفلحون } وقال تعالى { يا أيها الذين آمنوا استعينوا بالصبر والصلاة إن الله مع الصابرين } وقال تعالى { ولنبلونكم حتى نعلم المجاهدين منكم والصابرين ونبلو أخباركم } والآيات التي فيها الأمر بالصبر كثيرة جدا معروفة
قال الامام احمد ذكر الله سبحانه وتعالي الصبر في القرآن في تسعين موضعا أعلم أن حقيقة الصبر عند أرباب التصوف خلق فاضل من أخلاق النفس يمنع به من فعل ما لا يحسن ولا يجمل وهو قوة من قوى النفس التي بها صلاح شأنها وقوام أمرها
قال سعيد بن جبير الصبر اعتراف العبد لله بما أصابه منه واحتسابه عند الله ورجاء ثوابه وقد يجزع الرجل وهو متجلد لا يرى منه إلا الصبر وقد تقدم حديث ابي زيد اسامة بن زيد بن حارثة مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم وإرسال بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم إن ابني قد احتضر فاشهد فأرسل يقرىء السلام ويقول إن لله ما أخذ وله ما أعطى وكل شيء عنده بأجل مسمى فلتصبر ولتحتسب الحديث أمرها بالصبر
وعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال مر النبي صلى الله عليه وسلم بامرأة تبكي عند قبر فقال اتق الله واصبري فقالت إليك عني فإنك لم تصب بمصيبتي ولم
____________________
(1/132)
تعرفه فقيل لها إنه النبي صلى الله عليه وسلم فأتت باب النبي صلى الله عليه وسلم فلم تجد عنده بوابين فقالت لم أعرفك فقال إنما الصبر عند الصدمة الاولى رواه البخاري ومسلم وفي رواية تبكي على صبي لها فقال إنما الصبر عند أول صدمة وهذا يشبه قوله عليه الصلاة والسلام ليس الشديد بالصرعة إنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب فإن مفاجأة المصيبة بغتة لها روعة تزعزع القلب وتزعجه بصدمها فإن صبر للصدمة الاولى انكسرت حدتها وضعفت قوتها فهان عليه استدامة الصبر كذلك الغضب
وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال يقول الله عز وجل ما لعبدي المؤمن عندي جزاء إذا قبضت صفيه من أهل الدنيا ثم احتسبه إلا الجنة رواه البخاري
وعن عائشة رضي الله عنها أنها سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الطاعون فأخبرها أنه كان عذابا يبعثه الله تعالى على من يشاء فجعله الله رحمة للمؤمنين فليس من عبد يقع الطاعون فيمكث في بلده صابرا محتسبا يعلم أنه لا يصيبه إلا ما كتب الله له إلا كان له مثل أجر الشهيد رواه البخاري ورواه الإمام أحمد من حديث عائشة أيضا بلفظه
قال شيخ الإسلام ابن تيمية الصبر على المصائب واجب باتفاق أئمة الدين وإنما اختلفوا في وجوب الرضا انتهى كلامه
فالصبر واجب من حيث الجملة ولكنه يتأكد بحسب الأوقات فهو في زمن الطاعون آكد منه في غيره فإنه إذا صبر على الاقامة في البلد الذي وقع فيه الطاعون وصبر عند موت أولاده أو أقاربه أو أصحابه وصبر أيضا عند مصيبته بنفسه وعلم يقينا أن الآجال لا تقديم فيها ولا تأخير وأن الله تعالى كتب الآجال في بطون الأمهات كما ثبت في الصحاح كتب رزقه وأجله وشقي هو أو
____________________
(1/133)
سعيد فلا زيادة ولا نقص إلا في صلة الارحام ففيها خلاف معروف بين أهل العلم فإذا صبر واحتسب لم يكن لها ثواب دون الجنة وإذا جزع ولم يصبر أثم وأتعب نفسه ولم يرد من قضاء الله شيئا ولقد ضمن الوافي الصادق الناطق في محكم كتابه حيث قال عن الصابرين انهم يوفون أجرهم بغير حساب وأخبر أنه معهم بهدايته ونصره العزيز وفتحه المبين فقال تعالى { إن الله مع الصابرين } فذهب الصابرون بهذه المعية التي هي خير الدنيا والآخرة وشارك بعض الانبياء في قوله { إنني معكما أسمع وأرى } وأخبر تعالى أن الصبر خير لأهله خبرا مؤكدا فقال تعالى { ولئن صبرتم لهو خير للصابرين } واخبر أن الصبر مع التقوى لا يضر معه كيد الاعداء أبدا فقال { وإن تصبروا وتتقوا لا يضركم كيدهم شيئا إن الله بما يعملون محيط }
____________________
(1/134)
& الباب السابع عشر فيما ورد في الصبر على المصيبة قال الله تعالى { وبشر الصابرين الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة وأولئك هم المهتدون } وقال تعالى { ولمن صبر وغفر إن ذلك لمن عزم الأمور } وقال تعالى { ولنبلونكم حتى نعلم المجاهدين منكم والصابرين ونبلو أخباركم }
وهذا باب متسع جدا في الآيات والأحاديث وإنما نذكر منه ما يوقظ الساهي وينبه الغافل وقد تقدم حديث أم سلمة من غير وجه من رواية الامام أحمد ومسلم وغيرهما
وعن أبي مالك الحارث بن عاصم الاشعري رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم الطهور شطر الايمان والحمد لله تملأ الميزان وسبحان الله والحمد لله تملآن ما بين السموات والارض والصلاة نور والصدقة برهان والصبر ضياء القرآن حجة لك أو عليك الحديث رواه مسلم
ورواه أبو داود من طريق اخرى بلفظ غريب أن أم سلمة قالت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا اصابت أحدكم مصيبة فليلقل إنا لله وإنا إليه راجعون اللهم عندك احتسبت مصيبتي فأجرني بها وابدلني خيرا منها فلما احتضر أبو سلمة قال اللهم اخلفني في أهلي خيرا مني فلما قبض قالت أم سلمة إنا لله
____________________
(1/135)
وإنا إليه راجعون عند الله احتسبت مصيبتي فاجرني فيها فانظر رحمك الله إلى ما آلت إليه حين احتسبت وصبرت ورضيت وركنت واتبعت السنة وقد تقدم نحو ذلك
وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن ناسا من الأنصار سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فأعطاهم ثم سألوه فأعطاهم حتى نفذ ما عنده فقال لهم حين أنفق كل شيء بيده ما يكون عندي من خير فلن أدخره عنكم ومن يستعف يعفه الله ومن يستغن يغنه الله ومن يتصبر بصبرة الله وما أعطى أحد عطاء خيرا واوسع من الصبر رواه البخاري ومسلم
وعن صهيب بن سنان رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم عجبا لأمر المؤمن إن أمره كله له خير وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن إن أصابته سراء شكر فكان خيرا له وإن أصابته ضراء صبر فكان خيرا له رواه مسلم
وعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول إن الله عز وجل قال إذا ابتليت عبدي بحبيبتيه فصبر عوضته منهما الجنة يريد عينيه رواه البخاري
وعن عطاء بن أبي رباح قال قال لي ابن عباس رضي الله عنهما ألا أريك امرأة من أهل الجنة فقلت بلى قال هذه المرأة السوداء أتت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت أني أصرع وإني أتكشف فادع الله تعالى لي فقال إن شئت صبرت ولك الجنة وإن شئت دعوت الله ان يعافيك فقالت أصبر ثم قالت إني أتكشف فادع الله أن لا أتكشف فدعا لها رواه البخاري ومسلم
وعن أبي سعيد وأبي هريرة رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال ما يصيب المسلم من نصب ولا وصب ولاهم ولاحزن ولا أذى ولا غم حتى الشوكة يشاكها إلا كفر الله بها من خطاياه رواه البخاري ومسلم الهم على المستقبل والحزن على الماضي والنصب التعب والوصب المرض
____________________
(1/136)
وروي من حديث أبي موسى الأشعري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لا يصيب العبد نكبة فما فوقها أو دونها إلا بذنب وما يعفو الله عنه أكثر قال وقرأ { وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفو عن كثير } وروي من حديث عمرو بن العاص أن النبي صلى الله عليه وسلم قال المسلم الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم خير من الذي لا يخالط الناس ولا يصبر على أذاهم
وعن ابي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من يرد الله به خيرا يصب منه رواه البخاري قوله يصب بفتح الصاد وكسرها وفي الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قسم مالا فقال بعض الناس هذه قسمة ما أريد بها وجه الله فأخبر بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال رحم الله أخي موسى لقد أوذي بأكثر من هذا فصبر
وقال عبد الرزاق حدثنا السوري عن سفيان العصفوري عن سعيد بن جبير أنه قال في قوله تعالى { يا أيها الذين آمنوا استعينوا بالصبر والصلاة إن الله مع الصابرين } قال لم يعط أحد غير هذه الأمة الصبر ألا تسمعون إلى قول يعقوب عليه السلام يا أسفي على يوسف
وروي سعيد بن منصور في سننه حدثنا إسماعيل بن إبراهيم ثنا عيينة بن عبد الرحمن عن ابيه أن ابن عباس رضي الله عنهما نعي إليه أخوه قثم وهو في سفر فاسترجع ثم تنحى عن الطريق فأناخ ثم صلى ركعتين فأطال فيهما الجلوس ثم قام يمشي الى راحلته وهو يقول { واستعينوا بالصبر والصلاة وإنها لكبيرة إلا على الخاشعين }
____________________
(1/137)
وقال هشيم حدثنا خالد بن صفوان قال حدثني زيد بن علي ان ابن عباس كان في مسير له فنعي اليه ابن له فنزل فصلى ركعتين ثم استرجع وقال فعلنا كما أمرنا الله { واستعينوا بالصبر والصلاة } وقال أبو الفرج بن الحوزي روي عن أم كلثوم وكانت من المهاجرات أنه لما غشي على زوجها عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه خرجت الى المسجد تستعين بما أمرت به من الصبر والصلاة 0
وحكى سعيد بن منصور عن الحجاج عن ابن جريج { واستعينوا بالصبر والصلاة } قال إنهما معونتان على رحمة الله وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال دخلت على النبي صلى الله عليه وسلم وهو يوعك فقلت يا رسول الله إنك توعك وعكا شديدا قال أجل إني أوعك كما يوعك الرجلان منكم قلت ذلك ان لك أجرين قال أجل ذلك كذلك ما من مسلم يصيبه أذى شوكة فما فوقه إلا كفر الله بها سيئاته كما تحط الشجرة ورقها رواه البخاري ومسلم والوعك مغث الحمى وقيل الحمى
وعن خباب بن الأرت رضي الله عنه قال شكونا الى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو متوسد بردة له في ظل الكعبة فقلنا ألا تستنصر لنا ألا تدعو لنا فقال قد كان من قبلكم يؤخذ الرجل فيحفر له في الأرض فيجعل فيها ثم يؤتى بالمنشار فتوضع على رأسه فيجعل نصفين ويمشط بأمشاط الحديد ما دون لحمه وعظمه ما يصده ذلك عن دينه والله ليتمن الله هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء الى حضرموت لا يخاف إلا الله والذئب على غنمه ولكنكم تستعجلون رواه البخاري
وفي الترمذي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال إن عظم الجزاء مع عظم البلاء وإن الله إذا أحب قوما ابتلاهم فمن رضي فله الرضى ومن سخط فله السخط قال الترمذي حديث حسن
وعن أنس رضي الله عنه قال كان ابن لابي طلحة رضي الله عنه يشتكي
____________________
(1/138)
فخرج ابو طلحة فقبض الصبي فلما رجع ابو طلحة قال ما فعل ابني قالت أم سليم وهي أم الصبي هو أسكن ما كان فقدمت له العشاء فتعشى ثم أصاب منها فلما فرغ منها قالت واروا الصبي فلما أصبح ابو طلحة أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره فقال أعرستم الليلة قال نعم قال اللهم بارك لهما فولدت غلاما فقال لي أبو طلحة أحمله حتى تأتي به النبي صلى الله عليه وسلم وبعث معه تمرات فقال أمعه شيء قال نعم تمرات فأخذها النبي صلى الله عليه وسلم فمضعها ثم اخذها من فيه فجعلها في في الصبي وحنكه وسماه عبد الله رواه البخاري ومسلم وفي روايه البخاري قال ابن عيينه فقال رجل من الانصار فرأيت تسعة أولاد كلهم قد قرأ القرآن يعني من أولاد عبد الله
وفي رواية لمسلم مات ابن لأبي طلحة من أم سليم فقالت لأهلها لا تحدثوا أبا طلحة بابنه حتى أكون أنا أحدثه فجاء فقربت إليه عشاء فأكل وشرب ثم تصنعت له أحسن ما كانت تصنع قبل ذلك فوقع بها فلما رأت أنه قد شبع وأصاب منها قالت يا أبا طلحة أرأيت لو ان قوما أعاروا عاريتهم أهل بيت فطلبوا عاريتهم ألهم أن يمنعوهم قال لا فقالت احتسب ابنك فغضب ثم قال تركتيني حتى إذا تلطخت ثم أخبرتيني فانطلق حتى أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره بما كان فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم بارك الله لكما في ليلتكما قال فحملت وذكر تمام الحديث وقد تقد وقد تقدم وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يزال البلاء بالمؤمن والمؤمنة في نفسه وولده وماله حتى يلقى الله تعالى وما عليه خطيئة رواه الترمذي وقال حديث حسن صحيح
وعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم تنصب الموازين يوم القيامة فيؤتى بأهل الصلاة فيوفون أجورهم بالموازين ويؤتى بأهل الصيام فيوفون أجورهم بالموازين ويؤتى بأهل الصدقة فيوفون أجورهم بالموازين ويؤتى بأهل الحج فيوفون أجورهم بالموازين ويؤتى بأهل البلاء فلا ينصب لهم ميزان ولا ينشر لهم ديوان ويصب عليهم الأجر صبا بغير حساب ثم قرأ
____________________
(1/139)
{ إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب } حتى يتمنى أهل العافية في الدنيا أن أجسادهم تقرض بالمقاريض مما يذهب به أهل البلاء من الفضل رواه منجويه في تفسيره
وروى مالك بن أنس في الموطأ من حديث عطاء بن يسار أن النبي صلى الله عليه وسلم قال إذا مرض العبد بعث الله إليه ملكين فقال انظرا ماذا يقول لعواده فإن هو إذا جاؤوه حمد الله وأثنى عليه رفعا ذلك الى الله وهو اعلم فيقول لعبدي علي إن توفيته أن أدخله الجنة وإن أنا شفيته أن أبدله لحما خيرا من لحمه ودما خيرا من دمه وأن أكفر عنه سيئاته فصل في كلام السلف في الصبر
قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه الصبر ثلاثة صبر على المصيبة وصبر على الطاعة وصبر عن المعصية فمن صبر على المعصية حتى يردها بحسن عزائها كتب له ثلاثمائة درجة ومن صبر على الطاعة كتبت له ستمائة درجة ومن صبر عن المعصية كتبت له تسعمائة درجة
وقال ميمون بن مهران الصبر صبران فالصبر على المصيبة حسن وأفضل منه الصبر عن المعصية
وقال الجنيد وقد سئل عن الصبر فقال هو تجرع المرارة من غير تعبس
وقال الفضيل بن عياض في قوله تعالى { سلام عليكم بما صبرتم فنعم عقبى الدار } ثم قال صبروا على ما أمروا به وصبروا عما نهوا عنه انتهى كلامه فكأنه رحمه الله جعل الصبر عن المعصية داخلا قسم المأمور به
قال الإمام أحمد حدثنا وكيع عن مالك بن مغول عن أبي السفر قال مرض أبو بكر فعادوه فقالوا الا ندعو لك الطبيب فقال قد رآني الطبيب
____________________
(1/140)
قالوا فأي شيء قال لك قال إني فعال لما أريد
قال أحمد ثنا أبو معاوية ثنا الاعمش عن مجاهد قال قال عمر بن الخطاب وجدنا خير عيشنا بالصبر وفي رواية أفضل عيش ادركناه بالصبر ولو ان الصبر كان من الرجال كان كريما
وقال علي بن ابي طالب الا إن الصبر من الايمان بمنزلة الرأس من الجسد فإذا قطع الرأس بار الجسد ثم رفع صوته فقال إلا إنه لا إيمان لمن لا صبر له
وقال الحسن الصبر كنز من كنوز الخير لا يعطيه الله إلا لعبد كريم عنده
وقال عمر بن عبد العزيز ما أنعم الله على عبد نعمة فانتزعها منه فعاضها مكانها الصبر إلا كان ما عوضه خيرا مما انتزعه منه
وقال بعض العارفين في رقعة يخرجها كل وقت فينظر فيها وفيها مكتوب { واصبر لحكم ربك فإنك بأعيننا }
وقال مجاهد في قوله تعالى { فصبر جميل } في غير جزع وقال عمرو بن قيس فصبر جميل قال الرضا بالمصيبة والتسليم
وقال حسان فصبر جميل لا شكوى فيه وقال همام عن قتادة في قول الله تعالى { وابيضت عيناه من الحزن فهو كظيم } قال كظيم على الحزن فلم يقل إلا خيرا وقال الحسن الكظيم الصبور وقال الضحاك كظيم الحزن
وقال عبد الله بن المبارك أخبرنا عبد الله بن لهيعة عن عطاء بن دينار أن سعيد بن جبير قال الصبر اعتراف العبد لله بما أصاب منه واحتسابه عند الله
____________________
(1/141)
وقال يونس بن زيد سألت ربيعة بن أبي عبد الرحمن ما منتهى الصبر قال أن يكون يوم تصيبه المصيبة مثله قبل أن تصيبه
وقال قيس بن الحجاج في قوله تعالى فاصبر صبرا جميلا قال أن يكون صاحب المصيبة في القوم لا يعرف من هو
وذكر أبو الفرج بن الجوزي في عيون الحكايات قال الاصمعي خرجت أنا وصديق لي الى البادية فضللنا الطريق فإذا نحن بخيمة عن يمين الطريق فقصدناها فسلمنا فإذا امرأة ترد علينا السلام قالت ما أنتم قلنا قوم ضالون عن الطريق أتيناكم فأنسنا بكم فقالت يا هؤلاء ولوا وجوهكم عني حتى اقضي من حقكم ما أنتم له اهل ففعلنا فالقت لنا مسحا فقالت اجلسوا عليه الى أن يأتي ابني ثم جعلت ترفع طرف الخيمة وتردها إلى أن دفعهتا فقالت أسأل الله بركة المقبل أما البعير فبعير ابني وأما الراكب فليس بابني فوقف الراكب عليها فقال يا أم عقيل أعظم الله أجرك في عقيل قالت ويحك مات ابني قال نعم قالت وما سبب موته قال ازدحمت عليه الابل فرمت به في البئر فقالت انزل فاقض ذمام القوم ودفعت إليه كبشا فذبحه واصلحه وقرب إلينا الطعام فجعلنا نأكل ونتعجب من صبرها فلما فرغنا خرجت إلينا وقد تكورت فقالت يا هؤلاء هل فيكم من أحد يحسن من كتاب الله شيئا قلت نعم قالت إقرأ علي من كتاب الله آيات أتعزى بها قلت يقول الله عز وجل في كتابه { وبشر الصابرين الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة وأولئك هم المهتدون } قالت الله إنها لفي كتاب الله كذلك قلت آلله إنها لفي كتاب الله هكذا قالت السلام عليكم ثم صفت قدميها وصلت ركعات ثم قالت { إنا لله وإنا إليه راجعون } عند الله أحتسب عقيلا تقول ذلك ثلاثا اللهم إني فعلت ما أمرتني به فأنجز لي ما وعدتني
____________________
(1/142)
الباب الثامن عشر في أن الشخص لا يستغني عن الصبر لا في المصيبة ولا في غيرها
اعلم رحمك الله أن الشخص البالغ العاقل المسلم ما دام في دار التكليف والأقلام جارية عليه لا يستغني عن الصبر في حالة من الأحوال فإنه بين أمر يجب عليه امتثاله والصبر لابد له منه قولا وفعلا وبين نهي يجب عليه اجتنابه وتركه والصبر لابد له منه وبين قضاء وقد يجب عليه الصبر فيهما وبين نعمة يجب عليه شكر المنعم عليها والصبر عليه وإذا كانت هذه الاحوال لا تفارقه فالصبر لازم له الى الممات فإن قيل النعم يجب الصبر عليها
قيل نعم لأنها من الابتلاء كما قال تعالى { فأما الإنسان إذا ما ابتلاه ربه فأكرمه ونعمه فيقول ربي أكرمن } وقال تعالى { ولنبلونكم حتى نعلم المجاهدين منكم والصابرين ونبلو أخباركم } وفي الآية الأخرى { وأما إذا ما ابتلاه فقدر عليه رزقه فيقول ربي أهانن كلا } أي ليس الأمر كذلك وإنما الله تعالى يبتلي عباده بالغنى والفقر فينظر من هو المجاهد الشاكر الصابر على ما ابتلاه به كما يبتلي عباده بالمصائب والأسقام تطهيرا لهم من الذنوب والآثام فصل
ويحتاج العبد الى الصبر في ثلاثة أحوال
____________________
(1/143)
أحدهما قبل الشروع في العبادات بتصحيح النية والإخلاص وعقد العزم على توفيه المأمور به وتجنب دواعي الرياء والسمعة
والحالة الثانية الصبر حال العمل فيلازم الصبر عند دواعي التقصير في والتفريط ويلازم على استصحاب ذكر النية وحضور القلب بين يدي المعبود وهو محتاج الى الصبر في توفيه اركانها وشروطها وواجباتها وسننها
والحالة الثالثة الصبر بعد الفراغ من العمل فيحذر من الاتيان بما يبطله كما قال تعالى { لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى } فالصبر على محافظتها بعد الفراغ أنفع ما للعبد هذا معنى ما ذكره شيخ الاسلام ابن تيمية
وقال العلامة ابن القيم وكل ما يلقى العبد في هذه الدار لا يخلو من نوعين
أحدهما موافق هواه ومراده
والثاني يخالفه وهو محتاج الى الصبر في كل منهما
أما النوع الموافق لغرضه فكالصحة والسلامة والجاه والمال وأنواع الملاذ المباحة وهو أحوج شيء الى الصبر فيها من وجوه أحدها أن لا يركن إليها ولا يغتر بهاولا يحمله عليه البطر والاشر والفرح المذموم الذي لا يحب الله أهله
الثاني أن لاينهمك في نيلها ولا يبالغ في استقصائها فإنها تنقلب إلى أضدادها فمن يبالغ في الأكل والشرب والجماع انقلب ذلك ضده وحرم الأكل والشرب والجماع
الثالث أن يصبر على أداء حق الله فيها ولا يضعه فيسلبها
الرابع أن يصبر عن صرفها في الحرام فلا يمكن نفسه من كل ما تريده منها فإنها توقعه في الحرام فإذا احترز أوقعته في المكروه ولا يصبر على السراء إلا الصديقون
____________________
(1/144)
قال بعض السلف البلاء يصبر عليه المؤمن والكافر ولا يصبر على العافية إلا صديق
وأما النوع الثاني فأما الطاعة فالعبد يحتاج الى الصبر عليها لأن النفس بطبعها تنفر عن كثير من العبادات إلا من وفقه الله وتبين ذلك بالصلاة طبع النفس فيها الكسل وإيثار الراحة والزكاة فطبع النفس فيها الشح والبخل وأما الصوم فطبع النفس بمحبة الفطر وعدم الجوع وعلى هذا فقس فهو محتاج إلى الصبر في جميع ذلك والله أعلم ومن هذا الباب قول عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه ابتلينا بالضراء فصبرنا وابتلينا بالسراء فلم نصبر فصل
وإنما كان الصبر على السراء شديد مشق على النفس لأنه مقرون بالقدره على ما تشتهيه النفس وتميل إليه لأن الجائع عند عدم الطعام اقدر منه على الصبر عند حضوره وكذلك الشبق عند غير المرأة اصبر منه عند حضورها وكذلك العطشان الشديد العطش عند عدم الماء أصبر منه عند وجوده فصل
وقد حذر الله سبحانه وتعالى عباده المؤمنين في كتابه العزيز من فتنة المال ومن فتنة الازواج ومن فتنة الاولاد فقال تعالى { يا أيها الذين آمنوا لا تلهكم أموالكم ولا أولادكم عن ذكر الله } وقال تعالى { أنما أموالكم وأولادكم فتنة } وقال تعالى { يا أيها الذين آمنوا إن من أزواجكم وأولادكم عدوا لكم فاحذروهم } وليس المراد من هذه العداوة ما يفهمه كثير من الناس أنها
____________________
(1/145)
عداوة البغضاء والمجادلة بل عداوة المحبة الصادة للآباء عن الهجرة والجهاد وتعليم العلم وغير ذلك من أعمال البر هذا معنى ما ذكره العلامة ابن القيم
فالمقصود أنه من صبر في السراء عن المعصية فقد أمن فتنة المال فإنه قادر على فعل المعصية وبذل المال فلهذا كان له الثواب الجزيل والفضل العظيم وكذلك من صبر على تربية الاولاد وأذى بعض الزوجات كان له الدرجات العاليات فإنه ليس كل زوجة وولد منهم إذا
قال شيخ الاسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى يا أيها الذين آمنوا إن من أزواجكم وأولادكم عدوا لكم فاحذروهم فإن من هنا للتبعيض باتفاق الناس والمعنى إن من الازواح والاولاد عدوا ليس المراد أن كل زوج وولد عدو فإن هذا ليس هو مدلول اللفظ وهو باطل في نفسه فإنه سبحانه وتعالى قد قال عن عباد الرحمن أنهم يقولون { ربنا هب لنا من أزواجنا وذرياتنا قرة أعين } فسألوا الله أن يهب لهم من أزواجهم واولادهم قرة اعين فلو كان كل زوج وولد عدوا لم يكن فيهم قرة اعين فإن العدو لا يكون قرة عين بل سخنة عين وأيضا فإنه من المعلوم أن إسماعيل وإسحاق ابني إبراهيم ويحيى بن زكريا وأمثالهم لبسوا أعداء وقول من قال إنها زائده غلط لوجوه
أحدها أن مذهب سيبويه وجمهور أئمة النجاة أنها لاتزاد في الاثبات وإنما تزاد في النفي تحقيقا لعموم النفي لقوله تعالى { وما من إله إلا الله } { وما من إله إلا إله واحد } { وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها } ونحو ذلك فإنه لولا من لكان الكلام ظاهرا في العموم فإنه يجوز ان يقول ما رأيت رجلا بل رأيت رجلين فإذا أدخلت من فقلت ما رأيت من رجل كان نعتا في العموم فلا يجوز ان يقال ما رأيت من رجل بل رجلين مع أن النكرة في سياق النفي للعموم مطلقا لكن قد يكون نصا وقد
____________________
(1/146)
يكون ظاهرا فإذا كانت ظاهرا احتملت نفي الواحد من الجنس بخلاف النص وهذا الموضع إثبات لا نفي فلا تزاد فيه
الثاني أن من جوز زيادتها في الإثبات كالأخفش لا يجوزه إلا إذا كان في الكلام ما يدل عليه وإلا فلو قال قائل إن من هؤلاء القوم مسلمين وأراد ان جميعهم مسلمون لم يجز ذلك بالاتفاق
الثالث إذا قيل بزيادتها كان المعنى باطلا
الرابع الزيادة على خلاف الاصل فلا يجوز ادعاؤها بغير دليل انتهي كلامه وهذه فائده عارضه ذكرتها على سبيل التنبيه لوقوع ناس كثير فيها والمقصود إن العبد لا يستغني عن الصبر في حالة من الاحوال ويكفي من فضل الصبر أن الله تعالى وصف نفسه به كما في حديث ابي موسى أن النبي صلى الله عليه وسلم قال ليس احد او ليس شيء أصبر على أذى أسمعه من الله تعالى إنهم يدعون له ولدا وإنه ليعافيهم ويرزقهم رواه البخاري
قال القرطبي في تفسيره وصف الله تعالى بالصبر إنما هو بمعنى الحلم ومعنى وصفه تعالى بالحلم هو تأخير العقوبة عن المستحقين لها ووصفه تعالى بالصبر لم يرد في التنزيل وإنما ورد في الحديث وتأوله أهل السنة على تأويل الحلم قاله ابن فورك انتهى كلامه وذكر عند قوله تعالى { يا أيها الذين آمنوا استعينوا بالصبر والصلاة } قلت وقد جاء في اسمائه الحسنى الصبور وجاء في أسمائه الحليم فلو كان الصبور بمعنى الحليم كان الاسمين الشريفين مترادفين والأصل في الأسماء التغاير والله أعلم
____________________
(1/147)
الباب التاسع عشر في أن الصبر من اشق الاشياء على النفوس
هذا الباب ينقسم فيه الصبر الى قسمين أحدهما بحسب قوة الداعي الى الفعل الثاني بسهولته على العبد فإذا اجتمع في الفعل هذان الامران كان الصبر عنه اشق وإن فقدا معا يعني قوة الداعي وسهولته سهل الصبر عنه وإن وجد أحدهما وفقد الآخر سهل الصبر من وجه دون آخر فمن لا داعي له الى قتل النفس والسرقة وشرب الخمر وأكل الحشيشة وأنواع الفواحش ولا هو سهل عليه فصبره عنه من أيسر شىء واسهله ومن اشتد داعيه الى ذلك وسهل عليه فعله فصبره عنه أشق شيء عليه ولهذا كان صبر السلطان عن الظلم وصبر الشباب عن الفاحشة وصبر الغني عن تناول اللذات والشهوات منزلتهم عند الله منزلة عظيمة عالية منيعة لا يصل اليها إلا من صبر مثل صبرهم وكذلك من صبر على موت أولاده وابويه واقاربه وأصحابه ونحوهم وهو مع ذلك صابر محتسب يأمر أهله بالصبر وينهاهم عن لطم الخدود وشق الجيوب وعن كلام مالا يجوز لهم شرعا فهذا له من الثواب الجزيل والأجر العظيم ما لا يعلمه إلا الله فالعبد إذا ذاق لذه المعصية ثم تاب وصبر عنها كانت توبته توبة صادقة ولقد بلغني عمن أعرفه أنه تاب عن الخمر وحلف بالطلاق لا يشربه ثم أنه خالع وشرب
ولقد رأيت جماعة منهم ممن حلف بالطلاق الثلاث لا يلعب بالشطرنج وتاب منه ومع ذلك يعلم أن أكثر العلماء قالوا بتحريمه وأنه يصد عن ذكر الله وعن الصلاة وأنه يحصل عليه من الحلف الكاذبة والفحش ما هو معروف مشهور
____________________
(1/148)
ومع ذلك منهم من خالع ولعب ومنهم من لعب ووقع عليه الطلاق الثلاث بعد التوبة والحلف فالصبر المستمر مع القدرة من غير خوف على جاهه أو ماله أوعرضه صبر على المعاصي ومواظبته على ما أمره الله تعالى به صبر على الطاعات فإذا فعل ذلك ابتغاء وجه الله تعالى ثوابه ان يوفي أجره بغير حساب
ولهذا روى الامام أحمد في مسنده أن النبي صلى الله عليه وسلم قال عجب ربك من شاب ليست له صبوة وفي الصحيح من حديث ابي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال سبعة يظلهم الله في ظل عرشه يوم لا ظل إلا ظله إمام عادل وشاب نشأ في عبادة الله ورجل قلبه معلق بالمساجد ورجلان تحابا في الله اجتمعا عليه وتفرقا عليه ورجل دعته امرأة ذات منصب وجمال فقال إني أخاف الله رب العالمين ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما أنفقت يمينه ورجل ذكر الله خاليا ففاضت عيناه
ولذلك استحق هؤلاء السبعة ان يظلهم في ظله لكمال صبرهم ومشقته على نفوسهم فصبر الملك على العدل مع قدرته على الظلم والانتقام من رعيته وصبر الشاب على عبادة الله ومخالفة هواه وصبر الرجل على ملازمة المسجد وصبر المتصدق على إخفاء الصدقة حتى عن شماله مع قدرته على الرياء وصبر المدعو إلى الفاحشة مع جمال الداعي وصبر المتحابين في الله في اجتماعهما وانفرادهما وصبر الباكي من خشية الله على كتمان ذلك عن الناس فهذه الأمور فيها مشقة على النفوس فالصبر عليها بتوفيق الله وفضله وإحسانه صبر جميل عظيم فصل
ولما كان الداعي في حق الناس ضعيف ولم يصبروا مع تمكنهم من الصبر كان عقوبتهم عند الله تعالى أشد من عقوبة غيرهم كالشيخ الزاني والملك الكذاب والفقير المختال وإنما كانوا أشد عقوبة من غيرهم لسهولة التصبر عن هذه المحرمات عليهم ولضعف دواعيها في حقهم فكان تركهم الصبر عنها دليلا على تمردهم على الله تعالى وعتوهم عليه ولهذا كان الصبر على معاصي اللسان
____________________
(1/149)
والفرج من أشق أنواع الصبر لشدة الداعي إليهما وسهولتهما فإن معاصي اللسان فاكهة الانسان لسرعة حركته وسهولة إطلاقه وثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم قال وهل يكب الناس في النار على وجوههم أو على مناخرهم إلا حصائد السنتهم فيجب لجامه بلجام الشرع ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم من كان يؤمن بالله واليوم الاخر فليقل خيرا أو ليصمت فإن اللسان رحب الميدان في الخير والشر فمن أطلقه ولم يضبطه بالشرع سلك به الشيطان في المهالك وكبه في النار عند مالك فالكمال إمساكه مطلقا عن فضول الكلام إلا في خير وما لابد منه فإن اللسان لا تؤمن غائلته وخطره عظيم ولسهولة حركته وسرعة إطلاقه قد بلى أكثر الناس في زماننا بآفاته التي هي فاكهتهم وسرور مجالسهم كالغيبة والنميمة والكذب والمراء والجدال والخوض في الباطل والخصومات وفضول الكلام والتحريف والزيادة والنقصان وتزكية النفس تفريجا وتعريضا وحكاية كلام الناس والطعن على من يبغضه وتزكية من يحبه وهتك المستورات ونحو ذلك فيتفق قوة الداعي وسرعة حركة اللسان فيضعف الصبر ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم لمعاذ أمسك عليك لسانك وقد تقدم الحديث فإذا صارت هذه الآفات التي ذكرناها للسان عادة وسجية فإنه يشق على العبد الصبر عنها إلا من عصمه الله فآفات اللسان مهلكة ولها حلاوة في القلب وعليها بواعث من الطبع نسأل الله السلامة منها لهذا نجد كثيرا من المتفقهه وغيرهم ممن ينتسب الى الورع يتورع من استناده الى مخدة من الحرير أو من قعوده على بساط حرير أو من شربه من قدح زجاج مموه بالذهب أو الجلوس لحظه واحدة في فرح وغيره مع ما فيه من الخلاف ولا يتورع من إطلاق لسانه في الكبائر من الذنوب كالغيبة والنميمة والتغلة في أعراض الخلق وكذا إذا وقع الكلام في تفسير كلام الله أو في مسند رسول الله أطلق لسانه فيهما بغير علم مع علمه بقوله تعالى { ولا تقف ما ليس لك به علم إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسؤولا } ثم أيضا ممن يتورع عن الحبة من الحرام بل عن الفلس المحرم وعن القطرة من
____________________
(1/150)
الخمر ويتحرز عن مثل رأس الابرة من النجاسة ولا يبالي بارتكاب الفرج المحرم سواء كان صبيا أو امرأة كما يحكى أن رجلا خلا بامرأة أجنبية فلما أراد جماعها قال يا هذه غطي وجهك فإن النظر إلى وجه الاجنبية حرام
والمقصود أن الصبر عن الاشياء التي اعتادها الانسان وورد الشرع بذمتها من أشق الاشياء على النفوس إلا من وفقه الله لذلك فصل
ومن علامة الصبر وعدم مشقته على النفس عند ورود المصائب وكف الكف عن تمزيق الثياب ولطم الخدود وحبس اللسان عن الاعتراض على المقادير والتسخط والامتناع من كل شيء يوجب إظهاره حتى إن السلف كرهوا الأنين قالت الحكماء العاقل يفعل أول يوم ما يفعله الجاهل بعد خمسة ايام وقد قال عليه الصلاة والسلام للأشعث بن قيس إنك إن صبرت إيمانا واحتسابا وإلا سلوت كما تسلو البهائم
____________________
(1/151)
& الباب العشرون في الرضا بالمصيبة
إعلم رحمك الله أن الرضاء بالمصائب أشق على النفوس من الصبر وقد تقدم أن الصبر من أشق الاشياء على النفوس وفي جامع الترمذي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال إذا أحب الله قوما ابتلاهم فمن رضي فله الرضاء ومن سخط فله السخط
وقد تنازع العلماء والمشايخ من أصحاب الامام احمد وغيرهم في الرضاء بالقضاء هل هو واجب أو مستحب على قولين فعلى الاول يكون من أعمال المقتصدين وعلى الثاني يكون من أعمال المقربين ذكره شيخ الاسلام ابن تيمية فالعبد قد يصبر على المصيبة ولا يرضى بها فالرضاء أعلى من مقام الصبر لكن الصبر اتفقوا على وجوبه والرجاء اختلفوا في وجوبه والشكر أعلى من مقام الرضاء فإنه يشهد المصيبة نعمة فيشكر المبلى عليها قال عمر بن عبد العزيز أما الرضاء فمنزلة عزيزة أو منيعة ولكن قد جعل الله في الصبر معولا حسنا 0
وقال محمد بن إدريس الشافعي حدثنا زهير بن عباد عن السري بن حيان قال قال عبد الواحد بن زيد الرضا باب الله الاعظم وجنة الدنيا وسراج العابدين
وروي ابن أبي الدنيا بإسناده عن أبي موسى الاشعري رضي الله عنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول الصبر رضاء فهذا الحديث فيه بشارة عظيمة لأهل المصائب إذ سمي الصبر رضاء
وبإسناده أيضا إلى أبي مسلم قال أبو مسلم دخلت على أبي الدرداء في اليوم
____________________
(1/152)
الذي قبض فيه وكان عندهم في العز كأنفسهم فجعل أبو مسلم يكبر فقال أبو الدرداء أجل فهكذا فقولوا فإن الله إذا قضى بقضاء أحب أن يرضى به
وذكر ابن أبي الدنيا في قوله تعالى { ومن يؤمن بالله يهد قلبه } قال علقمة بن أبي وقاص هي المصيبة تصيب الرجل فيعلم أنها من عند الله فيسلم لها ويرضى وقال حدثنا الحسين ثنا عبد الله ثنا علي بن الحسن العامري ثنا أبوه بدر ثنا عمر بن ذر قال بلغنا ان أم الدرداء كانت تقول إن الراضين بقضاء الله الذين ما قضى الله لهم رضوا به لهم في الجنة منازل يغبطهم بها الشهداء يوم القيامة وبهذا الاسناد عن سليمان بن المغيرة قال كان فيما أوحى الله تعالى إلى داود عليه السلام إنك لن تلقاني بعمل هو أرضى لي عنك ولا أحط لوزرك من الرضاء بقضائي ولن تلقاني بعمل هو أعظم لوزرك ولا أشد لسخطي عليك من البطر فإياك يا داود والبطر
وقال الشافعي سمعت ابن أبي الحواري يقول سمعت أبا سليمان الداراني يقول أرجو أن أكون قد رزقت من الرضاء طرفا لو أدخلني النار لكنت بذلك راضيا وقال ابن زيد نظر علي بن أبي طالب رضي الله عنه الى عدي بن حاتم كئيبا فقال يا عدي ما لي أراك كئيبا حزينا قال وما يمنعني وقد قتل أبنائي وفقئت عيني فقال يا عدي من رضي بقضاء الله كان له أجر ومن لم يرض بقضاء الله حبط عمله ذكره ابن أبي الدنيا
وقال أبو عبد الله البرائي من وهب له الرضاء فقد بلغ أقصى الدرجات
فإن قيل غالب الناس يصبرون ولا يرضون فكيف يتصور الرضى بالمكروه يقال إن نفور الطبع عن المصائب لا ينافي رضا القلب بالمقدور فإنا نرضى القضاء وإن كرهنا المقضى
قيل لبعض الصالحين قتل ولدك في سبيل الله فبكى فقيل له أتبكي وقد
____________________
(1/153)
استشهد فقال إنما أبكي كيف كان رضاه عن الله عز وجل حين أخذته السيوف
وذكر أبو الفرج بن الجوزي بسنده عن عمار بن ياسر رضي الله عنه أنه قال اللهم لو أعلم أنه ارضى لك ان أوقد نارا عظيمة فأقع فيها لفعلت ولو أعلم أنه أرضى لك عني أن ألقي نفسي في الماء فأغرق لفعلت
وعن مصعب بن ماهان عن سفيان الثوري قال في قوله تعالى { وبشر المخبتين } قال المطمئنين الراضين بقضائه المستسلمين له فصل وقد أطنب الناس من السلف والخلف في الرضا وبسطوا القول فيه واعتنوا به وهذا يدل على علو منزلته قال عمرو بن أسلم العابد سمعت أبا معاوية الاسود يقول في قوله تعالى فلنحيينه حياة طيبة قال الرضاء والقناعة
وذكر ابن أبي الدنيا باسناده رفعه الى النبي صلى الله عليه وسلم قال جلساء الرحمن تبارك وتعالى يوم القيامة الخائفون الراضون المتواضعون الشاكرون الذاكرون
وبإسناده الى محمد بن كعب رفعه أنه قال أي رب اي خلقك أعظم ذنبا قال الذي يتهمني قال رب وهل يتهمك أحد قال نعم الذي يستجيرني ولا يرضى بقضائي
قال مالك بن أنس بلغني ان أبا الدرداء دخل على رجل وهو يموت وهو يحمد الله تعالى فقال أبو الدرداء اصبت إن الله تعالى إذا قضى أحب أن يرضى به
وروى ابن أبي الدنيا بإسناده عن ابن عون أنه قال ارض بقضاء الله على ما كان من عسر ويسر فإن ذلك اقل لغمك وابلغ فيما تطلب من أمر آخرتك
____________________
(1/154)
واعلم أن العبد لن يصيب حقيقة الرضا حتى يكون رضاؤه عند الفقر والبلاء كرضائه عند الغناء والرخاء كيف تستقضي الله في أمرك ثم تتسخط إن رأيت قضاءه مخالفا لهواك ولعل ما هويت من ذلك لو وفق لك لكان فيه هلكك وترضى قضاءه إذا وافق هواك وذلك لقلة علمك بالغيب وكيف تستقضيه إن كنت كذلك ما أنصفت من نفسك ولا اصبت باب الرضا
وروى أبو بكر بن أبي الدنيا ايضا قال حدثنا الحسين ثنا عبد الله حدثني المروزي قال قال حفص بن حميد كنت عند عبد الله بن المبارك بالكوفة حين ماتت امرأته فسألته ما الرضاء قال الرضاء أن لا يتمنى خلاف حاله فجاء ابو بكر بن عياش فعزى ابن المبارك قال حفص ولم اعرفه فقال عبد الله سله عما كنا فيه فسألته فقال من لم يتكلم بغير الرضاء فهو راض قال حفص وسألت الفضيل بن عياض فقال ذاك للخواص ثم قال قادم الديلمي العابد قال قلت للفضيل بن عياض من الراضي عن الله قال الذي لا يحب أن يكون على غير منزلته التي جعل فيها وقال أبو عبد الله البرائي لم يرد الآخرة أرفع درجات من الراضين عن الله عز وجل على كل حال وقال سيار دخلت على أبي العالية في مرضه الذي مات فيه فقال إن أحبه إلي احبه إلى الله عز وجل وقال عمرو ابن اسلم العابد سمعت أبا معاوية الاسود يقول في قوله تعالى فلنحيينه حياة طيبة قال الرضا والقناعة ذكرهن ابن ابي الدنيا في كتاب الرضا ثم ذكر عن مصعب بن ماهان عن سفيان الثوري قال في قوله تعالى { وبشر المخبتين } قال المطمئنين الراضين بقضائه المستسلمين له
وعن وهب بن منبه قال وجدت في زبور داود صلى الله عليه وسلم يا داود هل تدري اي الفقراء أفضل الذين يرضون بحلمي وبقسمي ويحمدوني على ما أنعمت عليهم هل تدري يا داود اي المؤمنين أعظم عندي منزلة الذي هو بما أعطي
____________________
(1/155)
أشد فرحا بما حبس
وروى الامام أحمد في كتاب الزهد عن زياد بن حسان أنه شهد عمر بن عبد العزيز رحمة الله عليه حين دفن ابنه عبد الملك استوى قائما وأحاط به الناس فقال والله بني لقد كنت بارا بأبيك والله ما زلت منذ وهبك الله لي مسرورا بك ولا والله ماكنت قط أشد سرورا ولا ارجى لحظي من الله فيك منذ وضعك الله في المنزل الذي صيرك اليه فرحمك الله وغفر لك ذنبك وجزاك بأحسن عملك ورحم كل شافع يشفع لك بخير شاهد وغائب رضينا بقضاء الله وسلمنا لأمره والحمد لله رب العالمين ثم انصرف
وقال سفيان الثوري قال عمر بن عبد العزيز لابنه كيف تجدك قال في الموت قال لأن تكون في ميزاني أحب إلي من ان أكون في ميزانك فقال والله يا أبه لأن يكون ما تحب أحب إلي من أن يكون ما احب وروي الامام احمد في الزهد بإسناده عن الحسن قال حدثني الاحوص قال دخلنا على ابن مسعود رضي الله عنه وعنده بنون له ثلاثة كأنهم الدنانير حسنا فجعلنا نتعجب من حسنهم فقال لنا كأنكم تغبطونني بهم قلنا إي والله لمثل هؤلاء يغبط المسلم فرفع رأسه إلى سقف بيت له صغير قد عشش فيه خطاف وباض فقال والذي نفسي بيده لأن أكون نفضت يدي عن تراب قبورهم أحب إلي من أن يسقط عش هذا الخطاف وينكسر بيضه
وبإسناده عن علي بن ابي طالب رضي الله عنه أنه قال يوم مات أبو بكر الصديق رضي الله عنه رضينا عن الله قضاءه وسلمناله أمره إنا لله وإنا اليه راجعون فصل
قد تقدم ما سنه رسول الله صلى الله عليه وسلم لأهل المصيبة وما نهى عنه ومما سنه الخشوع والبكاء الذي لا صوت معه وحزن القلب وكان يفعل ذلك ويقول
____________________
(1/156)
تدمع العين ويحزن القلب ولا نقول إلا ما يرضي الرب وكذلك الحمد والاسترجاع وقد تقدم ومن سنته الرضاء عن الله في المصيبة وغيرها ولم يكن ذلك منافيا لدمع العين وحزن القلب واشد الناس حرصا على رضى مولاهم الانبياء فقد روى ابن ابي الدنيا بإسناده عن أبي هريرة رضي الله عنه ان النبي صلى الله عليه وسلم قال إنا معاشر الانبياء يضاعف علينا البلاء تضعيفا قال فقلنا سبحان الله قال أفعجبتم إن أشد الناس بلاء الانبياء والصالحون الامثل فالأمثل قلنا سبحان الله قال أفعجبتم إن كان النبي من الانبياء ليتدرع العباءة من الحاجة لا يحد غيرها قلنا سبحان الله قال أفعجبتم إن كانوا ليفرحون بالبلاء كما تفرحون بالرخاء ولهذا كان أرضاهم وارضى الخلق عن الله نبينا محمد صلى الله عليه وسلم في قضائه وقدره واعظمهم له حمدا ولم يمكني أحصر ما وقع له في ذلك لكثرته وشهرته ومع ذلك بكى يوم مات ابنه إبراهيم عليه السلام رأفه ورحمة منه للولد ورقة عليه وقلبه صلى الله عليه وسلم ممتلىء بالرضا عن الله تعالى وشكره له واللسان مشتغل بحمده وذكره
ولما ضاق هذا المشهد والجمع بين الامرين يعني رحمة الولد والرقة عليه والرضاء عن الله تعالى على ان بعض العارفين من السلف يوم مات ولده جعل يضحك فقيل له تضحك في مثل هذه الحال فقال إن الله تعالى قضى فأحببت أن أرضى بقضائه فأشكل هذا على جماعة من العلماء وارباب الاحوال والتصوف وقالوا كيف يبكي رسول رب العالمين صلى الله عليه وسلم يوم مات ولده وهو أرضى الخلق عن الله ويبلغ الرضا بهذا العارف إلى أن ضحك يوم مات ولده قال شيخ الاسلام ابن تيمية هدى نبينا صلى الله عليه وسلم أكمل من هدي هذا العارف فإنه صلى الله عليه وسلم أعطى العبودية حقها فاتسع قلبه للرضا عن الله ورحمة الولد والرقة عليه فحمد الله ورضي عنه في قضائه وبكى رحمة ورقة فحملته الرحمة على البكاء وعبوديته لله ومحبته له على الرضا والحمد وهذا العارف ضاق قلبه عن
____________________
(1/157)
اجتماع الامرين ولم يتسع بطانه لشهودهما والقيام بهما فشغلته عبودية الرضاء عن عبودية الرحمة والرقة والله تعالى أعلم انتهى
( قلت ) ومما يؤيد ما ذكره الشيخ رحمه الله قصة نبي الله يعقوب إسرائيل الله عليه السلام إذ حكى الله تعالى عنه أنه ابيضت عيناه من الحزن وقال { فصبر جميل } { إنما أشكو بثي وحزني إلى الله } واستعمل الرقة والرحمة عند { وابيضت عيناه من الحزن } فطريقة يعقوب عليه السلام افضل من طريقة هذا العارف مع كثرة أولاد يعقوب وهذه رحمته ورقته وأما هذا العارف على ما قيل لم يكن له ولد سواه
وروى الامام احمد في كتاب الزهد بإسناده عن ثابت البناني أن صلة بن أشيم كان في مغزى له ومعه ابنه فقال له اي بني تقدم فقاتل حتى أحتسبك فجاء فقاتل حتى قتل ثم تقدم أبوه فقتل فاجتمعت النساء عند أمه معاذة العدوية فقالت مرحبا إن كنتن جئتن لتهنئنني مرحبا بكن وإن كنتن جئتن لغير ذلك فارجعن
وذكر أبو الفرج بن الجوزي قال أبو جحيفة إنا لمتوجهون إلى همذان ومعنا رجل من الأزد فجعل يبكي فقلت أجزع هذا قال لا ولكن تركت ابني في الرحل فلوددت أنه كان معي فدخلنا الجنة جميعا فصل
الرضا من اعمال القلوب لكن وإن كان من أعمال القلوب فكماله هو الحمد حتى إن بعضهم فسر الحمد بالرضا ولهذا جاء في الكتاب والسنة حمد الله على كل حال وذلك يتضمن الرضا بقضائه وفي الحديث أول من يدعى إلى الجنة الحمادون الذين يحمدون الله في السراء والضراء وفي الحديث مرفوعا أن النبي
____________________
(1/158)
صلى الله عليه وسلم كان إذا أتاه أمر يسره قال الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات وإذا أتاه امر يسؤه قال الحمد لله على كل حال وقد تقدم في مسند الامام أحمد من حديث أبي موسى الاشعري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال إذا قبض الله ولد العبد يقول الله لملائكته اقبضتم ولد عبدي فيقولون نعم فيقول ماذا قال فيقولون حمدك واسترجع فيقول الله عز وجل ابنوا لعبدي بيتا في الجنة وسموه بيت الحمد
ومحمد نبينا صلى الله عليه وسلم هو صاحب لواء الحمد وأمته هم الحمادون الذين يحمدون الله على السراء والضراء والرضاء والحمد على الرضاء له مشهدان أحدهما علم العبد بأن الله سبحانه مستوجب لذلك مستحق له لنفسه احسن كل شيء خلقه واتقن كل شيء وهو العليم الحكيم ( الثاني ) ان يعلم ان اختيار الله لعبده المؤمن خير من اختياره لنفسه كما روى مسلم في صحيحة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال والذي نفسي بيده لا يقضي الله للمؤمن قضاء إلا كان خيرا وليس ذلك إلا للمؤمن إن اصابته سراء شكره فكان خيرا له وإن أصابته ضراء صبر فكان خيرا له فأخبر صلى الله عليه وسلم ان كل قضاء يقضيه الله للمؤمن الذي يصبر على البلاء ويشكر على الرخاء فهو خير له كما قال تعالى { إن في ذلك لآيات لكل صبار شكور } فمن لا يصبر على البلاء ولا يشكر على الرخاء فلا يلزم أن يكون القضاء خيرا له ولهذا أجيب من أورد على هذا بما يقضي على المؤمن من المعاصي بجوابين أحدهما أن هذا إنما يتناول ما اصاب العبد لا ما يفعله كما في قوله تعالى { ما أصابك من حسنة فمن الله وما أصابك من سيئة فمن نفسك } وكقوله تعالى أيضا { وبلوناهم بالحسنات والسيئات لعلهم يرجعون } أي بالسراء والضراء ( الثاني ) أن هذا في حق المؤمن الصابر
____________________
(1/159)
الشاكر والذنوب تنقص الإيمان فإذا تاب العبد أحبه الله وقد ترتفع درجته بالتوبة 0
قال بعض السلف كان داود عليه السلام بعد التوبه خيرا منه قبل الخطيئة فمن قضى له التوبة كان كما قال سعيد بن جبير إن العبد ليعمل الحسنة فيدخل بها النار وإن العبد ليعمل السيئة فيدخل بها الجنة وذلك أنه يعمل الحسنة فتكون نصب عينيه ويعجب بها ويعمل السيئة فتكون نصب عينيه فيستغفر الله ويتوب إليه منها
وثبت في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال الاعمال بالخواتيم والمؤمن إذا فعل سيئة فإن عقوبتها تندفع بعشرة اسباب أحدها ان يتوب توبة نصوحا ليتوب الله عليه فإن التائب من الذنب كمن لا ذنب له الثاني أن يستغفر الله فيغفر الله تعالى له الثالث أن يعمل حسنات يمحوها لقوله إن الحسنات يذهبن السيئات الرابع أن يدعو له إخوانه المؤمنون ويشفعون له حيا وميتا الخامس أن يهدي له إخوانه المؤمنون من ثواب أعمالهم ما ينفعه الله به السادس أن يشفع فيه نبينا محمد صلى الله عليه وسلم السابع أن يبتليه الله في الدنيا بمصائب في نفسه وماله وأولاده وأقاربه ومن يحب ونحو ذلك الثامن أن يبتليه في البرزخ بالفتنة والضغطة وهي عصر القبر فيكفر بها عنه التاسع أن يبتليه الله في عرصات القيامة من أهوالها بما يكفر عنه
____________________
(1/160)
العاشر أن يرحمه أرحم الراحمين فمن أخطأته هذه العشرة فلا يلومن إلا نفسه كما قال تعالى في الاحاديث الالهيات إنما هي أعمالكم ترد عليكم فمن وجد خيرا فليحمد الله ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه ذكره شيخ الاسلام ابن تيمية
والمقصود أن المؤمن إذا كان يعلم أن القضاء خير له فيرضى عن الله بما قسم له كان قد رضي بما هو خير له وفي الحديث عن علي بن ابي طالب رضي الله عنه قال إن الله يقضي بالقضاء فمن رضي فله الرضاء ومن سخط فله السخط
____________________
(1/161)
& الباب الحادي والعشرون فيما يقدح في الصبر والرضاء وينافيهما
قد تقم أن الصبر اعتراف العبد لله بما أصابه منه واحتسابه عند الله وأنه حبس النفس عما لا يحسن فعله ولا يجمل وحبس اللسان عما لايحسن وقوله فاذا كان معنى هذه المقالة أن الصبر حبس اللسان عن الشكوى إلى غير الله والقلب عن التسخط والجوارح عن لطم الخدود وخمش الوجوه وشق الثياب ونحو ذلك وأن العبد يرضى عن الله فيما يفعله به مما يحب وقوعه ومما يكره وقوعه فإذا وقع من العبد عكس ما ذكرته كان متلبسا بالنقائص والرذائل فمن شكا به إلى مخلوق مثله كان قد شكا ربه إلى بعض مخلوقاته فمثله كمثل من شكا من يرحمه ويلطف به ويعافيه وبيده ضره ونفعه الى من لا يرحمه وليس بيده نفعا ولا ضرا فهذا من عدم المعرفة وضعف الايمان شكاية الضار النافع الذي بيده أزمه الامور إلى من لا يضر ولا ينفع قال شقيق البلخي من شكا مصيبة نزلت به الى غير الله لم يجد في قلبه لطاعة الله حلاوة أبدا
وأما إخبار المخلوق بحاله لا على وجه الشكوى فإن كان للإستعانة بأن يرشده أو يعاونه أو يوصله الى زوال ضره بما ينفعه مما هو أخبر منه به كالحجام يحجمه ويقلع ضرسه أو رجل صالح يدعو له فهذه الأمور على هذا الوجه لم تقدح في صبره لأن هذا كإخبار المريض الطبيب بحاله وإخبار المبتلي في جسده ببلائه لمن يرجو أن يكون فرجه على يديه وكذلك كإخبار المظلوم لمن ينتصر به وإخبار المبتلي في دينه لمن هو مسترشد الهداية ليبين له طرق الهداية إن وفق لها
وقد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا دخل على المريض سأله عن حاله ويقول
____________________
(1/162)
كيف تجدك وهو استخبار منه واستعلام بحاله
وأما الأنين فهل يقدح في الصبر فيه روايتان عن الامام احمد قال القاضي أبو الحسين اصح الروايتين الكراهة لما روي عن طاووس أنه كان يكره الانين في المرض
وقال مجاهد يكتب على ابن آدم مما سطر به حتى أنينه في مرضه انتهى وقال جماعة من العلماء الانين شكوى بلسان الحال فينافي الصبر وقال عبد الله بن الامام احمد قال لي ابي في مرضه الذي توفي فيه أخرج الي كتاب عبد الله بن ادريس فأخرجت الكتاب فقال أخرج أحاديث ليث بن أبي سليم فأخرجت أحاديث ليث بن ابي سليم فقال إقرأ علي أحاديث الليث قال قلت لطلحة إن طاووسا كان يكره الانين في المرض فما سمع له أنين حتى مات فما سمعت أبي أن في مرضه ذلك إلى أن توفي
والرواية الثانية أنه لايكره ولا يقدح في الصبر بل قد يقدح في الرضا قال بكر بن محمد عن ابيه سئل الامام احمد عن المريض يشكو ما يجد من الوجع فقال يعرف فيه شيئا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال نعم حديث عائشة وارأساه وجعل يستحسنه
وقال المروزي دخلت على أبي عبد الله أحمد بن حنبل وهو مريض فسألته فتغرغرت عينه وجعل يخبرني ما مر به في ليلته من العلة
قال العلامة ابن القيم رحمه الله اعلم أن الانين على قسمين أنين شكوى فيكره وأنين استراحة وتفريج فلا يكره والله أعلم فصل
ومما ينافي الصبر والرضاء ما يفعله أكثر الناس في زماننا عند المصيبة من شق
____________________
(1/163)
ثيابهم ولطم خدودهم وخمش وجوهم ونتف شعورهم والتصفيق بإحدى اليدين على الأخرى ورفع أصواتهم عند المصيبة ولقد حضرت عند شخص حين فارق الدنيا وهو من الجند فحين خرجت روحه أتوا بجعبة نشاب فكسروها بمجموعها واحدة بعد واحدة عليه وأتوا أيضا بعدة الحرب فرموها عليه وأنا مع ذلك أعظهم واقول لهم هذا حرام نهى الله ورسوله عن ذلك وهذا فيه إضاعة مال فقال بعضهم لي لم يصبك ما أصابنا فخرجت عنهم ثم إنهم بعد ذلك ندموا على ما فعلوا من إتلاف ما اتلفوه ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم إنما الصبر عند الصدمة الأولى لأن في تلك الحالة هيجان الحزن واستغراق الذهن وذهول العقل بما دهمه وتمكن الشيطان منه فإن الشيطان لعنه الله دائما يتمكن من بني آدم عند ذهول عقلهم إما بسكر كما وقع في قصة هاروت وماروت وهي مشهورة حين دعتهما المرأة الى قتل الولد أو السجود للصنم أو شرب القدح من الخمر مرارا وأنهما شربا القدح من المسكر فلما شربا سكرا فأتيا كل ما أمرتهما به وكذلك ذهول العقل عند العشق وعند الولاية وعند كثرة المال وعند المصيبة فكل هذه الامور العارضه للعبد في الغالب يحصل له بها ذهول العقل فيتمكن الشيطان بها منه نسأل الله العافيه ودوام العافية والثبات في الامر والعزيمة على الرشد فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان يسأل الله في دعائه اللهم إني أسألك الثبات في الامر الدعاء المشهور وكان يقول اللهم يا مثبت القلوب ثبت قلبي على دينك فالثبات في الامور مطلوب شرعا كما أن العبد منهي عن الامور المذمومة من اللجاج والطيش والعجلة والحدة وافتقاد الحزن وغير ذلك من الامور المذمومة التي لا أحصيها عددا ويحا لمن يقدم على الله تعالى مع هذه الامور المذمومة التي نهى الشرع عنها غير تائب منها معتمدا على صومه وصلاته وحجة وعبادته وهو مع ذلك فرح مستبشر كأنه قد جاز الصراط وأعطي البراءة وجاءه البشير من الله تعالى بالفوز والخلاص ويحا لمن يغتر بأعماله الظاهرة وباطنه مثل المزابل نسأل الله تعالى حسن التوفيق
____________________
(1/164)
فصل وأما البكاء والحزن من غير صوت ولا كلام محرم فهو لا ينافي الصبر والرضاء وقد تقدم لنا قريبا من ذلك قال تعالى حكاية عن يعقوب عليه السلام { وابيضت عيناه من الحزن فهو كظيم } قال قتادة كظيم على الحزن فلم يقل إلا خيرا مع قوله تعالى { إنما أشكو بثي وحزني إلى الله } وقوله تعالى عنه في أول السوره { فصبر جميل } وقد جاء في اثر مرفوع الى النبي صلى الله عليه وسلم من بث لم يصبر لكن يعقوب عليه السلام ابيضت عيناه من البكاء ولم يناف حزنه وبكاؤه صبره فإنه عليه السلام ما شكا بثه وحزنه الى مخلوق وإنما شكاه الى الله
وروى حماد بن سلمة عن علي بن زيد عن يوسف بن مهران عن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال ما كان من العين ومن القلب فمن الله والرحمة وما كان من اليد واللسان فمن الشيطان قال خالد بن أبي عثمان مات ابن لي فرآني سعيد بن جبير مقنعا فقال لي إياك والتقنع فإنه من الاستكانة
وقال بكر بن عبد الله المزني كان يقال من الاستكانة الجلوس في البيت بعد المصيبة
وقال عبيد بن عمير ليس الجزع أن تدمع العين ويحزن القلب ولكن الجزع القول السيء والظن السيء
ومات ابن لبعض قضاة البصرة فاجتمع اليه العلماء والفقهاء فتذكروا ما يتبين به جزع الرجل من صبره فأجمعوا أنه إذا ترك شيئا مما كان يصنعه فقد جزع
وقال ابن عبد العزيز مات ابن لي نفيس فقلت لأمه اتق الله واحتسبيه عند الله واصبري فقالت مصيبتي به أعظم من ان أفسدها بالجزع
____________________
(1/165)
وقال عبد الله بن المبارك رحمه الله اتى رجل يزيد بن يزيد وهو يصلي وابنه في الموت فقال ابنك يقضي وأنت تصلي فقال إن الرجل إذا كان له عمل يعمله فتركه يوما واحدا كان ذلك خللا في عمله
وقال ثابت اصيب عبد الله بن مطرف بمصيبة فرأيته أحسن شيء شاره وأطيبه فصل
ولابد أن يعلم المصاب أن الذي ابتلاه بمصيبته أنه أحكم الحاكمين وأرحم الراحمين وأنه سبحانه لم يرسل البلاء ليهلكه به ولا ليعذبه ولا ليجتاحه وإنما افتقده به ليمتحن صبره ورضاءه عنه وإيمانه وليسمع تضرعه وابتهاله وليراه طريحا على بابه لائذا بجنابه مكسور القلب بين يديه رافعا قصص الشكوى اليه
قال الشيخ الامام العالم العارف المكاشف عبد القادر الكيلاني رحمة الله عليه لابنه يا بني إن المصيبة ماجاءت لتهلكك وإنما جاءت لتمتحن صبرك وإيمانك يا بني القدر سبع والسبع لا يأكل الميتة انتهى كلامه
والمقصود ان المصيبة كير العبد الذي يسبك بها حاصله فإما أن يخرج ذهبا أحمر وإما أن يخرج خبثا كله كما قيل % سبكناه ونحسبه لجينا % فأبدي الكير عن خبث الحديد %
فإن لم ينفعه هذا الكير في الدنيا فبين يديه الكير الاعظم فإذا علم العبد أن إدخاله كير الدنيا ومسبكها خير له من ذلك الكير والمسبك وأنه لابد من أحد الكيرين فليعلم قدر نعمة الله عليه في الكير العاجل فالعبد إذا امتحنه الله بمصيبة فصبر عند الصدمة الاولى كما ورد في حديث أنس بن مالك رضي الله عنه قال مر النبي صلى الله عليه وسلم بامرأة عند قبر وهي تبكي فقال لها اتق الله واصبري فقالت إليك عني فإنك لم تصب بمصيبتي ولم تعرفه فقيل لها
____________________
(1/166)
إنه النبي صلى الله عليه وسلم فأتت باب النبي صلى الله عليه وسلم فلم تجد عنده بوابين فقالت لم أعرفك يا رسول الله قال إنما الصبر عند الصدمة الاولى رواه البخاري ولفظ مسلم أتى على امرأة تبكي على صبي لها فقال لها اتق الله واصبري فقالت وما تبالي بمصيبتي فلما ذهب قيل لها إنه رسول الله فأخذها مثل الموت فأتت بابه فلم تجد على بابه بوابين وذكر تمام الحديث فصل
ومما يقدح في الصبر والرضاء وينافيهما إظهار المصيبة والتحدث بها واشاعتها سواء كان الكلام بها بين الاصحاب او غيرهم اللهم إلا أن يقول لأصحابه أو لأقاربه مات فلان يعني والده أو ولده ونحو ذلك وما يريد به إظهار المصيبة وإنما يريد إعلامهم لأجل الصلاة عليه وتشييعه ونحو ذلك مما هو من فروض الكفايات ويحصل لهم بذلك القراريط من الأجر وقد تقدم أن الاعلام بالميت هل هو نعي أم لا والمقصود أن كتمان المصيبة رأس الصبر
قال الحسن بن الصباح في مسنده حدثنا خلف بن تميم ثنا زفر ببن سليمان عن عبد العزيز بن ابي رواد عن نافع عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من البر كتمان المصائب والامراض والصدقة وذكر أنه من بث لم يصبر
وروى من وجه آخر من حديث أنس رضي الله عنه رفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم قال من كنوز البر كتمان المصائب وما صبر من بث ولما نزل في إحدى عيني عطاء الماء مكث عشرين سنة لا يعلم به اهله حتى جاء ابنه يوما من قبل عينه التي أصيب فيها فلم يشعر به فعلم أن الشيخ قد أصيب
ودخل رجل على داود الطائي في فراشه فرآه يزحف فقال إنا لله وإنا إليه راجعون فقال مه لا تعلم بهذا أحدا وقد اقعد قب لذلك بأربعة أشهر لم يعلم بذلك أحد
____________________
(1/167)
وشكا الاحنف الى عمه وجع ضرسه فكرر ذلك عليه فقال ما تكرر علي لقد ذهبت عيني منذ أربعين سنة فما شكوتها الى احد
ومن المنافاه للصبر والرضاء الهلع عند ورود المصيبة وهو الجزع قال الله تعالى { إن الإنسان خلق هلوعا إذا مسه الشر جزوعا وإذا مسه الخير منوعا } قال الجوهري الهلع أفحش الجزع وقد هلع بالكسر فهو هلع وهلوع
وفي الحديث شر ما في العبد شح هالع وجبن خالع قال العلامة ابن القيم رحمه الله هنا في هذا الحديث أمران أمر لفظي وأمر معنوي فأما اللفظي فإنه وصف الشح بكونه هالعا والهالع صاحبه وأكثر ما يسمى هلوعا ولا يقال هالع له فإنه لا يتعدى وفيه وجهان
أحدهما أنه على النسب كقولهم ليل نائم وشر قائم ونهار صائم ويوم عاصف كله عند سيبويه على النسب اي ذو كذا
والثاني أن اللفظة غيرت عن بابها للإزدواج مع خالع وله نظائر وأما المعنوي فإن الشح والجبن أردي صفتين في العبد ولا سيما إذا كان شحه هالعا أي ملولة في الهلع وجبنه خالعا أي قد خلع قلبه من مكانه فلا سماحة ولا شجاعة كما يقال لا يطرد ولا يثرد انتهى كلامه
وروى سعيد بن منصور في سننه حدثنا إسماعيل بن عياش عن سليمان بن سليم عن يحيى بن جابر أن رجلا أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال ما يحبط الأجر في المصيبة قال تصفيق الرجل بيمينه على شماله والصبرعند الصدمة الاولى فمن رضي فله الرضى ومن سخط فعليه السخط وذكر بإسناده أيضا رفعه الى النبي صلى الله عليه وسلم قال إن القوم ليصابون بالمصيبة فيجزعون ويهلعون فما يكون لهم من أجرها شيء فيمر بهم الرجل من المسلمين فيسترجع فيكتب الله عز وجل له
____________________
(1/168)
أجر ما أعطاهم من تلك المصيبة وقال ابن أبي الدنيا حدثني أحمد بن عبد الاعلى حدثني شيخ من آل ميمون بن مهران ان الحجاج اصيب بابن له فاشتد جزعه عليه فدخل فغير ثيابه ومس شيئا من طيب وجلس وأذن للناس فلم يتكلموا فقال حسبي ثواب الله من كل نكبة وحسبي بقاء الله من كل هالك تحدثوا فصل
والله تبارك وتعالى يبتلي عبده ليسمع شكواه وتضرعه ودعاءه وصبره ورضاءه بما قضاه عليه فهو سبحانه وتعالى يرى عباده إذا نزل بهم ما يختبرهم به من المصائب وغيرها ويعلم خائنه أعينهم وما تخفي صدورهم فيثيب كل عبد على قصده ونيته وقد ذم الله تعالى من لم يتضرع إليه ولم يستكن له وقت البلاء كما قال تعالى { ولقد أخذناهم بالعذاب فما استكانوا لربهم وما يتضرعون } والعبد اضعف من ان يتجلد على ربه ولا يشكو إليه حاله فإنه إذا كان سادات الخلائق وهم الانبياء المعصومون صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين قد اثنى الله تعالى عليهم حيث شكوا ما بهم الى الله تعالى فقال تعالى عن بعضهم { وذا النون إذ ذهب مغاضبا فظن أن لن نقدر عليه فنادى في الظلمات أن لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين } وأثني على أيوب بقوله { أني مسني الضر وأنت أرحم الراحمين } وعلى يعقوب { إنما أشكو بثي وحزني إلى الله } وعلى موسى بقوله { إني لما أنزلت إلي من خير فقير } وقد شكا إليه خاتم انبيائه ورسله بقوله اللهم إني أشكو إليك ضعف قوتي وقلة حيلتي وهواني على الناس أنت ارحم الراحمين أنت رب المستضعفين الحديث المشهور في دعاء الطائف وهو دعاء عظيم فالشكوى إلى الله تعالى لا تنافي الصبر ولا الرضاء بل إعراض العبد عن الشكوى الى غيره من جهله بخالقه وعدم
____________________
(1/169)
رضائه وصبره بما ابتلاه الله تعالى به والله تعالى يمقت من يشكوه الى خلقه ويحب من يشكو ما به إليه
قيل لبعضهم كيف تشتكي الى من لا تخفى عليه خافيه في الارض ولا في السماء فقال % قالوا أتشكو إليه % ما ليس يخفى عليه % % فقلت ربي يرضى % ذل العبيد لديه %
وذكر ابن أبي الدنيا علي بن الحسن قال قال رجل لامتحنن أهل البلاء قال فدخلت على رجل بطرسوس وقد أكلت الاكلة أطرافه فقلت له كيف أصبحت قال أصبحت والله وكل عرق وكل عضو يألم على حدته من الوجع وان ذلك لبعين الله أحبه إلي أحبه إلى الله عز وجل وددت إن ربي قطع مني الاعضاء التي اكتسبت بها الاثم وانه لم يبق مني إلا لساني يكون له ذاكرا قال فقال له رجل متى بدأت هذه العلة قال أما كفاك الخلق كلهم عبيد الله وعياله فإذا نزلت بالعباد علة فالشكوى إلى الله ليس يشكى الله إلى العباد
____________________
(1/170)
& الباب الثاني والعشرون هل المصائب مكفرات أو مثيبات
وقد اختلف العلماء في هذا الباب اختلافا كثيرا وتباينوا فيه تباينا شديدا فذهب بعض العلماء إلى أنه يثاب على كل مصيبة وذهب طائفه أخرى من العلماء إلى أنه لا يثاب على المصائب مطلقا وإنما يثاب على الصبر عليها حتى قطع به ابن عبد السلام في قواعده وذهب شيخ الاسلام ابن تيمية وجماعه من العلماء إلى أن إطلاق القول بالثواب وإطلاقه بعدم الثواب كلاهما يرد عليه ما يدفعه وأن ثم فرقا مؤثرا نذكره فيما بعد إن شاء الله
وقد احتجت كل طائفة بظواهر مرجحة لما ذهبت إليه كما سنذكره بعد
احتجت طائفة من العلماء إلى أنه يثاب على كل معصية بقوله تعالى { ذلك بأنهم لا يصيبهم ظمأ ولا نصب ولا مخمصة في سبيل الله ولا يطؤون موطئا يغيظ الكفار ولا ينالون من عدو نيلا إلا كتب لهم به عمل صالح } الاية وفي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم قال ما يصيب المؤمن من وصب ولا نصب ولا هم ولا حزن ولاغم ولا أذى حتى الشوكة يشاكها إلا كفر الله بها من خطاياه الوصب الوجع اللازم ومنه قوله تعالى { ولهم عذاب واصب } اي لازم ثابت والنصب التعب
وروى الحاكم في المستدرك أن النبي صلى الله عليه وسلم قال المصاب من حرم الثواب وروى ابن ماجه من حديث ابي ذر رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ليس الزهادة في الدنيا بتحريم الحلال ولا بإضاعته ولكن الزهادة في الدنيا أن
____________________
(1/171)
تكون بما في يد الله أوثق منك بما في يدك وأن تكون في ثواب المصيبة إذا اصبت بها أرغب منك فيها لو أنها بقيت لك ورواه الامام أحمد موقوفا على ابي مسلم الخولاني
وفي صحيح البخاري ان النبي صلى الله عليه وسلم قال ما من مسلم يموت له ثلاثة من الولد لم يبلغوا الحنث إلا أدخله الله الجنة بفضل رحمته إياهم ورواه أحمد والنسائي ما من مسلمين يموت لهما ثلاثة من الولد لم يبلغوا الحنث إلا غفر لهما وغير ذلك من الأحاديث مما اختصرته قال النووي رحمه الله في شرح مسلم عند قوله صلى الله عليه وسلم ما مسلم يشاك بشوكة فما فوقها إلا كتبت له بها درجة ومحيت عنه بها خطيئة وفي رواية إلا رفعه الله بها درجة أو حط عنه بها خطيئة وفي بعض النسخ وحط بها عنه خطيئة بغير الف وفي رواية إلا كتب له بها حسنة او حطت عنه لها خطيئة قال وفي هذه الأحاديث بشاره عظيمة للمسلمين فانه قل ان ينفك الواحد منهم ساعة من شيء من هذه الامور وفيه تكفير الخطايا بالامراض والاسقام ومصائب الدنيا وهمومها وإن قلت مشقتها وفيه رفع الدرجات بهذا الامور وزياده الحسنات وهذا هو الصحيح الذي عليه جماهير العلماء وحكى القاضي عياض عن بعض العلماء أنها تكفر الخطايا فقط ولم يبلغهم هذه الاحاديث الصحيحة الصريحة برفع الدرجات وكتب الحسنات انتهى كلامه ويؤيد ذلك قول عائشة رضي الله عنها ما رأيت رجلا اشتد عليه الوجع من رسول الله صلى الله عليه وسلم وقوله صلى الله عليه وسلم إني لأوعك مثل رجلين منكم وإنك لتوعك وعكا شديدا وقوله صلى الله عليه وسلم أشد الناس بلاء الانبياء ثم الصالحين ثم الامثل فالأمثل قال جماعة من العلماء والحكمة في كون الانبياء أشد بلاء ثم الامثل فالامثل أنهم مخصوصون بكمال الصبر وصحة الاحتساب والانبياء معصومون من الخطايا فتعين الثواب والله أعلم
وفي حديث المرأة التي كانت تصرع دليل على أن الصرع يثاب عليه أكمل ثواب
وفي مسلم قالت امرأة يا رسول الله دفنت ثلاثة من الولد قال
____________________
(1/172)
احتظرت بحظار من النار قال بعض السلف فقد الثواب على المصيبة أعظم من المصيبة فإنه ثبت ان النبي صلى الله عليه وسلم قال المصاب من حرم الثواب وقد تقدم
وتقدم في أثناء الكتاب أحاديث تشهد لهذا القول والله أعلم
احتجت الطائقة الاخرى من العلماء ممن أطلق القول بأن المصائب لا يثاب عليها وإنما يثاب على الصبر عليها بقوله تعالى { إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب } قال ابن عبد السلام في قواعده الثواب إنما يكون على فعل العبد لا على فعل الله فيه قال تعالى { الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة وأولئك هم المهتدون } فما حصل لهم من صلاة الله عليهم ورحمته لهم وهدايته إياهم بقولهم { إنا لله وإنا إليه راجعون } فالاسترجاع هو سبب في حصول ما ذكر وكذلك حديث ابي موسى الاشعري رضي الله عنه أنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول الله عز وجل لملك الموت يا ملك الموت قبضت ولد عبدي قبضت قرة عينه وثمرة فؤاده قال نعم قال فما قال قال حمدك واسترجع قال ابنوا له بيتا في الجنة وسموه بيت الحمد فحمده واسترجاعه هو سبب بناء البيت له في الجنة وتسمية البيت كافية
قال القاضي عياض وقد روي عن عبد الله بن مسعود أنه قال الوجع لا يكتب به أجر إنما يكفر الخطايا فقط فصل في سياق كلام شيخ الاسلام ابن تيمية رحمه الله
أما ما يحدثه الله من المصائب فتارة بغير فعل الخلائق كالامراض ونحوها وتاره بفعلهم وفصل الخطاب أن المصائب تولدت عن عمل صالح كما تتولد عن
____________________
(1/173)
الجهاد والامر بالمعروف والنهي عن المنكر ونحوه فهذا يثاب عليه فإن الانسان يثيبه الله على عمله وعلى ما يتولد عن عمله إذا اقدم على احتماله فإن المجاهد قد أقدم على الجهاد وهو يعلم أنه يؤذي في الله عز وجل وقد يناله ضرر في جهاده فتموت فرسه او يؤخذ ماله أو يضرب أو يشتم ونحو ذلك كما قال تعالى { ذلك بأنهم لا يصيبهم ظمأ ولا نصب ولا مخمصة في سبيل الله ولا يطؤون موطئا يغيظ الكفار ولا ينالون من عدو نيلا إلا كتب لهم به عمل صالح } فأخبر تعالى انه يكتب لهم عمل صالح بما يصيبهم من التعب والجوع والعطش ونحو ذلك الذي حصل لهم بسبب الجهاد في سبيل الله عز وجل فهذه الامور يغفر الله بها خطاياه ويؤجر على هذه المصائب لأنها حصلت بسبب جهاده فهي مما تولد عن عمله وما تولد عن عمله الصالح من المصائب يثاب عليها وأما الجوع والعطش والتعب الذي يحصل بدون ذلك فلا يثاب إلا على الصبر عليه فإنه ليس من عمله ولا متولدا عن عمل صالح لكن هو من المصائب التي يكفر الله بها خطاياه وأما المصيبة بالولد فالولد تولد عن جماعه الذي صان نفسه به عن الزنا وقصد به النسل وتكثير الامة وغض البصر عن المحارم فإذا حصل له ذلك ثم مات الولد فقد اثيب عليه من جهة وكفر الله به خطاياه من جهة لأنه تولد عن عمله وأما الاعراض والاسقام فهي تكفر الخطايا
وقد روي أن أبا عبيده بن الجراح لما عادوه وقالوا له أجر فقال ليس لي من الاجر مثل هذه ولكن المرض حطة يمحط الله به الخطايا فهذا الذي ذكرته هو الفرق بين المصائب التي يثاب عليها والمصائب التي لا يثاب عليها فإن بعض الناس يظن أنه يثاب على كل مصيبة ومن العلماء من يطلق القول بأن المصائب لا يثاب عليها وإنما يثاب على الصبر عليها ثم قال بعد ذلك بكلام كثير فمن فعل فعلا صالحا باختياره فأوذي واحتسب ذلك الاذى كان ذلك الاذى من
____________________
(1/174)
عمله الصالح الذي يثاب عليه كالصائم إذا احتسب جوعه وعطشه وقد قال صلى الله عليه وسلم لخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك والخلوف تولد عن صومه بغير اختياره ولكن تولد عن عمل صالح وكذلك القائم بالليل إذا احتسب تعبه وسهره فإن الاذى الذي يحصل باختيارك في طاعة الله أنت جلبته على نفسك باختيارك طاعة الله فليس هو كمن أوذي بغير اختياره فإن ذلك أذاه مصيبة محضة لكن هي حق له على الظالم وقال الشيخ رحمه الله في قول النبي صلى الله عليه وسلم لا يقضي الله للمؤمن قضاء إلا كان خيرا له وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن إن اصابته سراء شكر فكان خيرا له وإن اصابته ضراء صبر فكان خيرا له وهي نفسها تكفر خطاياه ويؤجر على الصبر عليها ففيها له مغفره من جهة ما يكفره من الخطايا وله فيها رحمة من جهة ما يؤجر على الصبر عليها لا سيما اذا اقترن بها توبة وإنابة الى الله وتوكل عليه وتوحيد له وإخلاص الدين له فإنها تكون من أعظم النعم ومصيبة تقبل بها على الله خير لك من نعمة تنسك ذكر الله وقال بعض السلف يا ابن آدم لقد بورك لك في حاجة اكثرت فيها قرع باب سيدك وفي الحديث إذا قالوا للمريض اللهم ارحمه يقول الله عز وجل كيف أرحمه من شيء به ارحمه وفي الاثر يا ابن آدم البلاء يجمع بيني وبينك والعافيه تجمع بينك وبين نفسك انتهى والمقصود من كلام الشيخ رحمه الله أن كل ما تولد عن عمله الصالح من المصائب اثيب عليه بخلاف المصائب التي لم تتولد عن عمله فإنها مكفرات لا مثيبات فصل
قال الشيخ رحمه الله وكثير من الناس لا يعرف النعمة إلا ما يلتذ به في دنياه كما قال بعض السلف من لم يعرف نعمة الله إلا في مطعمه ومشربه فقد قل علمه وحضر عذابه فمن الناس من يرى النعمة في بدنه فقط بالأكل
____________________
(1/175)
والشرب والنكاح ومنهم من يرى النعمة بالرئاسة والجاه ونفاذ الامر والنهي وقهر الاعداء ومنهم من يرى النعمة في جمع الاموال والقناطير المقنطرة وهؤلاء من جنس الكفار يرون هذه نعما وأعلى من هؤلاء من يرى النعمة في الايمان والعمل الصالح لكن لا يرى الأمر بذلك والجهاد عليه نعمة بل يرى فيه من المضار ما يوجب تركه والذين يرون هذه النعمة منهم من لا يراه نعمة إلا مع السلامة والغنيمة فإن جرح او قتل بعض أولاده أو اخذ ماله عد ذلك مصيبه لا نعمة وحجة هؤلاء كلهم ان النعمة مايتنعم به العبد وهذه الامور تؤلم النفس فلا تكون من النعم بل من المصائب ولا ريب أنها من المصائب باعتبار ما يحصل فيها من الألم ولهذا امر بالصبر عليها لكن لا منافاة بين كون الشيء مصيبة باعتبار ونعمة باعتبار فباعتبار ما يحصل به من الاذي هو مصيبة وباعتبار ما حصل به من الرحمة نعمة وهذا لأنه إذا قيل هذا يكفر به الخطايا ويؤجر عليها ويؤجر على الصبر عليها كانت نعمة وهذا بمنزله شرب المريض الدواء الكريه هو مصيبة باعتبار مرارته وهو نعمة باعتبار إزالته للمرض الذي هو أشد ضررا فيه وأدنى الشرين إذا زال أعظمهما كان نعمة ومن استعمل نعمة الله في المعاصي كانت شرا في حقه لأنها جرته الى العذاب الذي هو أعظم من تلك اللذة كمن أكل عسلا فيه سم فإن ضرر السم أعظم من حلاوة العسل والله أعلم انتهى كلامه
____________________
(1/176)
الباب الثالث والعشرون في الصدقة عن المصاب به وافعال البر عنه
وهذا الباب مما يطيب قلوب أهل المصائب على مصابهم فإنهم إذا بدلوا بدل الحزن والبكاء ولطم الخدود وشق الثياب والنياحة الصدقة والدعاء والاستغفار وقراءة القرآن والصلاة والصيام ونحو ذلك من افعال القرب وعلموا وصولها الى موتاهم وانه يحصل لهم بذلك إما تكفير سيئات أو رفع درجات أو كلاهما حصل لهم السرور بذلك والفرح الزائد وهذا الباب منعقد على إهداء القرب الى الموتى والاحياء فنذكر اختلاف العلماء في وصول ثواب ذلك إليهم فمن أنواع القرب قرب لم يختلف العلماء في وصول ثوابها الى الموتى وثم قرب اختلف العلماء في وصول ثوابها اختلافا كثيرا فنذكر ما يسره الله تعالى في ذلك فإن ذكر الاختلاف والبسط سبيل ذلك الكتب المطولة فصل في ذكر اختلاف الناس في وصول ثواب إهداء القرب الى الموتى
أما الدعاء والاستغفار والصدقة وقضاء الدين وأداء الواجبات فلا أعلم خلافا في وصولها حكاها غير واحد من العلماء ومن العلماء من يشرط في الوصول إذا كانت الواجبات مما يدخله النيابة قال الله تعالى { والذين جاؤوا من بعدهم يقولون ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلا للذين آمنوا } الآية وقال تعالى { واستغفر لذنبك وللمؤمنين والمؤمنات } ودعاء النبي صلى الله عليه وسلم لأبي سلمة حين مات أبو سلمة
____________________
(1/177)
ودعاء النبي صلى الله عليه وسلم للميت الذي صلى عليه وشرع الله ذلك له وشرعه لكل من صلى على ميت بقوله اللهم اغفر لحينا وميتنا وكذلك اللهم اغفر له وارحمه وعافه واعف عنه الدعاء المشهور المعروف واما وصول العبادات المالية المحضة كالعتق والصدقة ونحوهما فجمهور العلماء من أهل السنة والجماعة على وصول ثوابها الى الموتى كما يصل إليهم الدعاء والاستغفار واما وصول ثواب الاعمال البدنية كالصوم والصلاة والقراءة ونحو ذلك فالصحيح الوصول وهو مذهب الامام احمد وابي حنيفة وطائفة من أصحاب مالك والشافعي لما يأتي من الاحاديث بعد إن شاء الله فصل في الآيات والاحاديث الوارده في هذا الباب
قد تقدم قوله تعالى { والذين جاؤوا من بعدهم يقولون ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان } الآية وقال تعالى { واستغفر لذنبك وللمؤمنين والمؤمنات } وقال تعالى { الذين يحملون العرش ومن حوله يسبحون بحمد ربهم ويؤمنون به ويستغفرون للذين آمنوا ربنا وسعت كل شيء رحمة وعلما فاغفر للذين تابوا واتبعوا سبيلك وقهم عذاب الجحيم } فلو لم ينفعهم ذلك لم يخبر الله تعالى به ترغيبا وأما الاحاديث فمنها ماروى الامام احمد من حديث الحسن بن سعد بن عبادة أن أمه ماتت فقال يا رسول الله إن امي ماتت أفأتصدق عنها قال نعم قال قلت فأي الصدقة افضل قال سقي الماء قال الحسن فتلك سقاية آل سعد بالمدينة ورواه النسائي ايضا
ومنها عن معقل بن يسار قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إقرأوا يس على موتاكم رواه ابو داود وابن ماجه ورواه الامام أحمد ولفظه يس قلب
____________________
(1/178)
القرآن لا يقرأها رجل يريد الله تبارك وتعالى والدار الآخرة إلا غفر له واقرأوها على موتاكم وفيه دليل على وصول القراءة الى الميت فإنه صلى الله عليه وسلم أمرنا ان نقرأها على موتانا وأمره في هذا المكان امر إرشاد لا يجوز ان يعرى عن فائدة ولا فائدة للعبد بعد موته اعظم من الثواب فإنا نعلم يقينا ان الميت من أحوج الناس الى ما يقربه من رحمة الله ويباعده من عذاب الله وقد امتنع عليه ذلك بعد موته بفعل نفسه فما بقي يحصل له ذلك إلا بفعل غيره والحصول هو الثواب المترتب على القراء والله أعلم
فإن قيل قد فسر جماعة من العلماء أن المراد بقراءة يس عند الاحتضار للمسلم الذي سيموت وقد ذهب الى هذه جماعة من العلماء حتى الشيخ مجد الدين بن تيمية الحراني بوب عليه في كتابه المنتقى
وقيل هذا خلاف الحقيقة فإنه إذا حمل على من سيموت يكون حمل اللفظ على مجازه ومعلوم أن حمل اللفظ على حقيقته اولى من حمله على مجازه فان سلم أنه أريد به المحتضر فهو حجة على المخالف المانع من وصول ثواب القراءة الى الميت فإن قول المخالف في أن الحي لا ينتفع بعمل الغير اشد من قوله في الميت
فإن قيل إنما يحصل له به راحة وسرور كالتذاذه به في الدنيا
قلنا هذه دعوى تفتقر الى دليل والاصل عدمه بل نقول اي راحة وسرور أعظم من ثواب يحصل للميت يرفع درجاته او يحط عنه سيئاته وقد افردت لهذا الكلام جزءا وسميته الدر المنتخب في إهداء القرب فمن رام كشف ذلك فليطلبه من محله وما نذكره هنا على سبيل التنبيه
ومنها ما روي عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن العاص بن وائل نذر أن ينحر في الجاهلية مائة بدنة وأن هشام بن العاص نحر حصته خمسين وأن عمرا سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك فقال أما أبوك فلو اقر بالتوحيد فصمت عنه وتصدقت عنه نفعه ذلك رواه الامام احمد وهو دليل على وصول أفعال الخير الى الميت
____________________
(1/179)
ومنها عن ابي هريرة رضي الله عنه أن رجلا سأل النبي صلى الله عليه وسلم إن ابي مات ولم يوص افينفعه ان اتصدق عنه قال نعم رواه مسلم والامام أحمد والنسائي وابن ماجه
ومنها عن عائشة رضي الله عنها أن رجلا قال للنبي صلى الله عليه وسلم إن أمي افتلتت نفسها وأراها لو تكلمت تصدقت فهل لها أجر إن تصدقت عنها قال نعم رواه البخاري ومسلم والامام احمد
وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن النبي صلى الله عليه وسلم قال ما على أحدكم إذا أراد أن يتصدق بصدقة تطوعا أن يجعلها عن والديه إذا كانا مسلمين فيكون لوالديه أجرها وله مثل أجورهما من غير أن ينقص من أجورهما شيئا رواه حرب في مسائلة بسنده
وروى ابن المنذر بإسناده عن عائشة رضي الله عنها أنها أعتقت عن أخيها عبد الرحمن عبدا بعد موته
وروى الدارقطني وغيره عن عطاء بن ابي رباح مرسلا أن رجلا قال يا رسول الله إن أبي مات أفأعتق عنه قال نعم
وروى الدارقطني ايضا عن الحسن والحسين رضي الله عنهما أنهما كانا يعتقان عن أبيهما علي بن أبي طالب رضي الله عنه بعد موته
عن ابن أسيد مالك بن ربيعة الساعدي قال بينا نحن عند رسول الله صلى الله عليه وسلم اذ جاءه رجل من بني سلمة فقال يا رسول الله هل بقي من بر أبوي شي أبرهما به بعد موتهما قال نعم الصلاة عليهما والاستغفار لهما وافتقاد عهدهما بعدهما وصلة الرحم التي لا توصل إلا بهما وإكرام صديقهما رواه ابو داود وهذا لفظه وابن ماجه فصل
____________________
(1/180)
ومن الادلة المستحسنة قوله صلى الله عليه وسلم في الاضحية لما ضحى بكبشين فلما ذبح أحدهما قال بسم الله والله أكبر اللهم هذا عن محمد وآل محمد ولما ذبح الثاني قال اللهم هذا عني وعمن لم يضح من أمتي وفي رواية ابن ماجه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما ضحى بكبشين عظيمين سمينين أقرنين املحين موسومين فذبح أحدهما عن محمد وآل محمد وذبح الآخر عن أمته وعمن شهد له بالبلاغ ففيه دليل على ان النفع قد نال الاحياء والاموات من امته بأضحيته صلى الله عليه وسلم وإلا لم يكن في ذلك فائده فإنه صلى الله عليه وسلم ما ينطق عن الهوى وقال للذي قضى الدين عن الميت الآن بردت عليه جلدته
وحديث ابن عباس ان النبي صلى الله عليه وسلم مر بقبرين فقال انهما ليعذبان وما يعذبان في كبير أما أحدهما فكان لا يستتر من البول وفي لفظ لا يستنزه من البول وأما الآخر فكان يمشي بالنميمة ثم دعا بجريدة رطبة فشقها نصفين ثم غرس على كل قبر واحد وقال إنه ليخفف عنهما ما لم ييبسا قال الخطابي هذا عند أهل العلم محمول على أن الاشياء ما دامت على اصل خلقتها أو خضرتها وطراوتها فإنها تسبح الله عز وجل حتى تجف رطوبتها أو تحول خضرتها أو تقطع من أصلها فاذا خفف عن الميت بوضعه صلى الله عليه وسلم الجريدة على قبره لكونها تسبح الله فبطريق الاولى والاخرى أن تخفف القرب على اختلاف أسبابها وإن أعظم القرب كلام رب العالمين الذي نزل به الروح الامين على قلب اشرف المرسلين وقد أوصى بريدة رضي الله عنه أن يجعل جريدة على قبره ذكره البخاري
وقد استحب ذلك جماعة من العلماء من أصحابنا وغيرهم وأنكره آخرون
وقال الشيخ محي الدين النووي في شرح مسلم ذكر أن العلماء استحبوا القراءة لخبر الجريدة لانه إذا رجي التخفيف لتسبيحها فالقراءة أولى انتهى كلامه
____________________
(1/181)
فصل في قوله تعالى { وأن ليس للإنسان إلا ما سعى }
وأما احتجاج بعض من خالف من أصحاب الشافعي ومالك بهذه الاية على أن الميت لا ينتفع بثواب من سعي غيره لان النبيء صلى الله عليه وسلم قال إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث صدقة جارية أو علم ينتفع به من بعده أو ولد صالح يدعو له قالوا ولان نفع العبادة لا يتعدى فاعلها فيقال لهم قد ثبت بالسنة المتواترة وإجماع الامة أن الميت يصلى عليه ويدعى له ويستغفر له وهذا من سعي غيره وكذلك ما وافقوا عليه وسلموه من أنه ينتفع بالصدقه والعتق وهو من سعي غيره فما كان جوابهم عن مورد الاجماع فهو جواب الباقين عن محل النزاع وللناس في ذلك أجوبة متعددة سبيلها الكتب المطوله ولكن تحقيق ذلك أن يقال إن الله تعالى لم يقل إن الانسان لا ينتفع إلا بسعي نفسه وإنما قال { وأن ليس للإنسان إلا ما سعى } وهو لا يملك إلا سعيه ولا يستحق غير ذلك وإنما سعي غيره فهو له كما أن الانسان لا يملك إلا مال نفسه ويملك نفع نفسه بمال غيره وقد روي عن ابن عباس أن الاية منسوخة بقوله تعالى { والذين آمنوا واتبعتهم ذريتهم بإيمان ألحقنا بهم ذريتهم } فأدخل الابناء الجنة بصلاح الاباء ولا يصح هذا لان لفظ الآيتين لفظ خبر والاخبار لا تنسخ
قال شيخ الاسلام ابن تيمية اللفظ المنقول عن ابن عباس هو من تفسير علي ابن طلحة الوالبي عنه وقد قيل إنه لم يسمعه من ابن عباس وقال عكرمة هي خاصة بقوم إبراهيم وموسى دون هذه الامة وشرع من قبلنا ليس بشرع لنا وأما هذه الامة فلهم ما سعوا وسعي لهم قال الشيخ وهذا ضعيف لان الله إنما ذكر هذا ليخبر به هذه الامة وليعلموا أن هذا حكم شامل ولو كان هذا
____________________
(1/182)
مخصوصا بأمة موسى وإبراهيم لم يقم به حجة على أن من أرسل إليه النبي صلى الله عليه وسلم وجميع المسلمين بما في هذا لقوله { ولا تزر وازرة وزر أخرى } وأيضا فمن اين لهم أن تلك الامة لم تكن تنفعهم الصدقة عنهم بعد الموت والدعاء لهم وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم أنا إذا قلنا السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين اصابت كل عبد لله في السماء والار ض ونحن إذا ذكرنا الصالحين من الامم وترحمنا عليهم وصل ذلك إليهم وليس هو من سعيهم وإبراهيم قد دعا لاولاده بنص القرآن وليس ذلك من سعيهم
وقال الربيع بن انس المراد بالانسان الكافر وهذا ليس بشيء لان سياق الآية يناقضه بقوله { ثم يجزاه الجزاء الأوفى } وهذا يتناول المؤمن قطعا فلو عكس كان اولى مع أن حكم العدل لا فرق فيه بين مؤمن وكافر
قال الحسن بن الفضل ليس للانسان إلا ما سعى من طريق العدل فأما من طريق الفضل فجائز أن يريده الله ما شاء قال شيخ الاسلام ابن تيمية وهذا القول أمثل من غيره ومعناه صحيح لكنه لم يفسر لفظ الآية فإن قوله { ليس للإنسان } نفي عام فليس له إلا ذلك وهذا هو العدل ثم إن الله قد ينفعه ويرحمه بغير سعيه من جهة فضله وإحسانه وإن كان ذلك ليس له ثم قال الشيخ وقال ابن الزاغوني إنه ليس له إلا سعيه غير أن الاسباب مختلفة فتارة يكون سعيه في تحصيل الشيء نفسه وتارة يكون في تحصيل سببه مثل سعيه في تحصيل قرابة أو نكاح ليحصل له ولد صالح يدعو له او صديق صالح وتارة يسعى في خدمة أهل الدين والعبادة فيكتسب محبتهم بسبب سعيه في ذلك قال الشيخ رحمه الله وهذا أمثل من غيره وقد استحسنه ورجحه أبو البركات وهو ضعيف فإنه قد ينتفع بعمل غيره من لم يحصل سببا وبسط القول على هذا وعلله بأمور وذكر عن ابن الزاغوني قولا آخر قال وأن ليس
____________________
(1/183)
للإنسان بمعنى وأن ليس عليه إلا ما سعى قال الشيخ وهذا من أرذل الاقوال فإنه قلب لمعنى الآية فإنه ليس للانسان إلا ما سعى وتمامها { وأن سعيه سوف يرى ثم يجزاه الجزاء الأوفى } أفترى السعي الصالح لم يدخل في هذه وبسط القول على هذا وبين فساده وقد ذكرنا هذه الاقوال ورتبناها مبسوطة في إهداء القرب فصل
ومما يستأنس به في وصول الثواب أنه يستحب الدفن عند الصالحين ليناله بركتهم ونص الامام أحمد على أن الميت يتأذى بالمنكر عنده
وقد روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال جنبوا الميت جار السوء
وقالت عائشة رضي الله عنها الميت يؤذيه في قبره ما يؤذيه في بيته
لكن هذان الاثران وإن كان فيهما ضعف ففيهما دلالة على المسألة فإن الميت إذا تأذى بالمنكر انتفع بالخير بطريق الاولى
وقد ثبت في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال إن الميت ليعذب ببكاء أهله عليه فالله تعالى أحكم وأعدل من أن يوصل عقوبة المعصية إليه ويحجب عنه المثوبة والله تعالى أعلم فصل تستحب القراءة عند القبر
لانه قد صح عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه أوصى إذا دفن أن يقرأ عنده بفاتحة البقرة وخاتمتها
والمشهور عن الامام أحمد أن القراءة في المقبرة وعند القبر لا تكره اختاره أبو
____________________
(1/184)
بكر عبد العزيز والقاضي وجماعة من أصحابنا وذكره بعض أصحابنا وعليه عمل الناس في زماننا هذا
قال في المستوعب ولا تكره القراءة على القبر وكان أحمد رحمه الله يكرهها ثم رجع رجوعا ابان به عن نفسه وقال يقرأ بعد ان نهى عن ذلك ومن أصحابنا من يتمسك بكراهته أولا ويجعل المسألة على روايتين ثم قال بعد ذلك فإن أهدى إليه الثواب نفعه انتهى كلامه وهذا مذهب الحنفية لكن اختلف اصحابهم هل تستحب القراءة أم تباح وجهان لهم
وروي عن الامام أحمد أن القراءة لا تكره حال الدفن دون غيره وروي عنه الكراهة مطلقا اختارها الامام عبد الوهاب الوراق وابو حفص العكبري
قال شيخ الاسلام ابن تيمية الكراهة نقلها الجماعة عن الامام احمد وهي قول جمهور السلف وعليها قدماء أصحابه كالمروزي وغيره
وقال ابن عقيل وابن المنجي تعليلا الراوية الكراهة بأنها مدفن النجاسة كالحش ونحوه انتهى كلامهما
وذكر بعض اصحابنا عن الخلال أنه قال المذهب رواية واحدة أن القراءة عند القبر لا تكره انتهى
لكن القراءة على القبر ليست من فعل النبي صلى الله عليه وسلم ولا اصحابه والله أعلم فصل استحباب الدعاء للميت عقب ذنبه
نص الامام احمد علي انه يستحب الدعاء للميت عقب دفنه ثم قال أحمد قد فعله علي بن أبي طالب والاحنف بن قيس ويروى عن عثمان بن عفان أنه قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا فرغ من دفن الميت وقف عليه وقال استغفروا لاخيكم وسلوا له التثبيت فإنه الآن يسأل رواه أبو داود
____________________
(1/185)
وروى الطبراني من حديث ابن مسعود رضي الله عنه قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقف على القبر بعد ما يسوي عليه التراب فيقول اللهم نزل بك صاحبنا وخلف الدنيا خلف ظهره اللهم ثبت عند المساءلة منطقه ولا تبتله في قبره بما لا طاقة له به
ويروى أن عليا رضي الله عنه كان يقول إذا سوي على الميت التراب عند شفير القبر بعدما يدفن اللهم عبدك وولد عبدك نزل بك وأنت خير منزول به اللهم أوسع له مدخله واغفر له ذنبه فإنا لا نعلم إلا خيرا وأنت أعلم به رواه حرب الكرماني في مسائله
وكان أنس رضي الله عنه إذا سوى على الميت قبره قام عليه فقال عبدك ونزل بك فارأف به وارحمه اللهم جاف الارض عن جنبيه وافتح أبواب السماء لروحه وتقبل منه بقبول حسن اللهم إن كان محسنا فضاعف له الحسنات أو قال فزد له في إحسانه وإن كان مسيئا فتجاوز عنه رواه الامام احمد والطبراني وغيرهما
وذهب الشافعي ايضا الى استحباب الدعاء عقيب الدفن
وقال أكثر المفسرين في قوله عز وجل في حق المنافقين { ولا تقم على قبره } معناه الدعاء والاستغفار بعد الفراغ من دفنه وكذلك ذكر جماعة من المفسرين لما هم النبي صلى الله عليه وسلم بالاستغفار لعمه أبي طالب لما مات وهم بعض الصحابة وبالاستغفار لابويه أنزل الله تعالى { ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين ولو كانوا أولي قربى } الاية فلولا أن ذلك نافع للمؤمنين كما تقدم لم يكن لذلك معنى بل لما نهى عنه للمشركين دل على وقوعه للمؤمنين ونفعه لهم
وقال محمد بن حبيب التمار كنت مع أحمد بن حنبل في جنازه فأخذ بيدي
____________________
(1/186)
وقمنا ناحية فلما فرغ الناس من دفنه جئنا الى القبر فجلس ووضع يده على القبر وقال اللهم إنك قلت في كتابك { فأما إن كان من المقربين } فقرأ الى آخر السورة اللهم وإنا نشهد أن هذا فلان بن فلان ما كذب بك ولقد كان يؤمن بك وبرسولك اللهم فاقبل شهادتنا له ودعا له ثم انصرف فصل هل يصح إهداء ثواب نوافل العبادات للمسلم الحي
وهذه مسالة لا تكاد تظفر بها في كتاب مشهور لغرابتها فذكر ابن تميم في كتابه فذكر وصول الثواب الى الميت قال وفي الحي وجهان
وذكر لي بعض فضلاء الحنفية أن وصول القرب الى الحي مذهبهم والدليل على الوصول قوله تعالى { فاعف عنهم واستغفر لهم } وأيضا فإن الرسول صلى الله عليه وسلم والمسلمون مازال يدعو بعضهم لبعض عموما وخصوصا لاحيائهم وأمواتهم من غير نكير ولانه مشروع في دعاء الميت الى يوم القيامة في قوله اللهم اغفر لحينا وميتنا
قال القاضي أبو يعلى وليس يعرف عن الامام احمد رواية في الفرق بين الحي والميت بل ظاهر قوله بعمهما وقد دل عليه الكتاب والسنة في الدعاء والاستغفار للتساوي فلا فرق
وقال الشيخ شمس الدين بن عبد القوي في مجمع البحرين هذا ليس له نكير فهو إجماع ولا شبهة لمن قال بعدم الجواز انتهى كلامه
وقال ابن عقيل في المفردات إن القراءة ونحوها لا تصل إلى الحي فإنه يفتح مفسدة عظيمة فإن الاغنياء يتكلون عن الاعمال ببذل الاموال التي تسهل لمن ينوب عنهم فيفوتهم أسباب الثواب بالاتكال على الثواب وتخرج اعمال
____________________
(1/187)
الطاعات عن بابها الى المعاوضات انتهى كلامه
فلو قال قائل نحن نلتزم ذلك لوروده في الكتب والسنة ونقول ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم
____________________
(1/188)
& الباب الرابع والعشرون في ذكر عمارة القبور
وقد اشتغل بعض أهل زماننا ممن أصيب بموت اقاربه ببناء قبورهم وتبليطها وتجصيصها وبناء التربة المحتوية على القبور وتحسينها وتزويقها ويزرعونها أنواع الرياحين ويصعدون أليها في الغالب كل يوم خميس بالاهل والاقارب وملاذ الاطعمة وأنواعها ويظنون ان ذلك قربة وطاعة الى الله عز وجل وربما يقولون في هذه الامور تسلية لنا عن الموتى وما علموا أن هذه الامور من البدع والمكروهة المنهي عنها وأن من البدع تعظيم القبور وتبليطها وتجصيصها وبناء القباب عليها كل هذا من البدع الذي كرهه السلف والعلماء وهو مخالف لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم
وقد روى ابو داود والترمذي من حديث جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن يجصص القبر وأن يبنى عليه زاد الترمذي وأن يكتب عليه وأن يوطأ وحسنه وصححه ولفظ أبي داود ان يقعد عليه
وقد بعث النبي صلى الله عليه وسلم علي بن ابي طالب رضي الله عنه ان لا يدع تمثالا إلاطمسه ولا قبرا مشرفا إلا سواه وعن ابي الهياج الاسدي قال قال لي علي ألا ابعثك على ما بعثني عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم إذهب فلا تدع تمثالا إلا طمسته ولا قبرا مشرفا إلا سويته رواه ابو داود والترمذي فالسنة تسوية هذه القبور المشرفة المحجرة المطينة المجصصة
وكذلك نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم ان يكتب عليها ونهى عن اتخاذها مساجد وإيقاد السرج عليها واشتد نهيه صلى الله عليه وسلم حتى لعن فاعل ذلك ونهى عن الصلاة الى القبور حتى نهى امته ان يتخذوا قبره مسجدا او عيدا
____________________
(1/189)
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعظ الناس عند القبور كما ثبت ذلك في صحيح البخاري ومسلم من حديث علي رضي الله عنه قال كنا في جنازة في بقيع الغرقد فأتانا رسول الله صلى الله عليه وسلم فجلس وجلسنا حوله ومعه مخصرة فنكس وجعل ينكت بمخصرته وقال ما منكم من أحد إلا قد كتب مقعده من النار ومقعده من الجنة فقالوا يا رسول الله افلا نتكل على كتابنا فقال اعملوا وسددوا وقاربوا وكل ميسر لما خلق له اما من كان من أهل السعادة فسييسر لعمل أهل السعادة واما من كان من أهل الشقاوة فسييسر لعمل أهل الشقاوة ثم قرأ هذه الآية { فأما من أعطى واتقى وصدق بالحسنى فسنيسره لليسرى وأما من بخل واستغنى وكذب بالحسنى فسنيسره للعسرى }
وفي الصحيح ايضا انه كان يقف عند الدفن ويقول استغفروا لأخيكم واسألوا له التثبيت فإنه الآن يسأل فصل
وليعلم أن عمارة الأحياء والأموات ليست من خارج فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال إن الله لا ينظر الى صوركم ولا إلى لباسكم ولكن ينظر الى قلوبكم فعمارة القلب هي العمارة النافعة والميت في قبرة كذلك ليست بزخرفة القبر ولا التربة ولا تزويقها وإنما العمارة بالصدقة عن ساكنها وأفعال القرب عنه وقد تقدم هذا في الباب الذي قبله اما علم أن القبر الذي يزخرف ظاهره فإن باطنه مظلم ضيق وقد طرح فيه من هو من أحب اقاربه إليه فريدا وحيدا مستوحشا من غير وسادة ولا تمهيد وقد باشر الثرى وواجه البلى وترك دنياه بالورى ونبذ منها ما كان بيده بالعرا مع حبيب تركه وقرين اسلمه فكل ما ذكرته لك يا أخي يفطم النفوس عن الشهوات وتعلم أن عماره البواطن اولى من عماره الظواهر وهي العمارة النافعة في يوم القارعة فإذا بحثت عن الحقيقة ونظرت
____________________
(1/190)
بعين البصيرة علمت أنك عن قريب صائر الى ما صار إليه وقادم على ما قدم عليه فإن العبد بينما هو يمرح في امنيته غافلا عن يوم مصرعه إذا هجمت عليه المنية فهتكت أستاره وكسفت أنواره وطمست أعلامه وآثاره فأخرجته من قصر مشيد وبيت حميد مزخرف نضيد الى حفرة من الارض كحفرة اخيه او ولده او غيرهما مظلمة ضيقة الجوانب مملوءة من الرعب والفزع فأما هي روضة من رياض الجنة أو حفرة من حفر النار أعاذنا الله منها قيل لبعض الزهاد ما ابلغ الموعظة قال النظر في محلة الاموات
فإذا كانت القبور النظر إليها موعظة وهي أول منازل الاخرى وعبرة لاهل الدنيا فلا ينبغي التزين ولا التزخرف ولا ما يفعله غالب الاغنياء من الأمراء والتجار وغيرهم من ضرب الخام والخيام وغيرهما في الترب ووضع البسط والفرش تحت ذلك وينامون عليها وإخوانهم تحت ذلك على التراب في حفرة ضيقة مظلمة فأي موعظة اتعظ هؤلاء بموتاهم بل هذه غفلة نسأل الله تعالى السلامة منها فصل
وكان عثمان رضي الله عنه إذا وقف على قبر بكى حتى يبل لحيته فقيل له تذكر الجنة والنار ولا تبكي وتبكي من هذا فقال إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال إن القبر أول منازل الآخرة فإن نجا منه فما بعده أيسر منه وإن لم ينج منه فما بعده أشد منه
وروى الترمذي في جامعه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال ما رأيت منظرا إلا والقبر أفظع منه
وروى الترمذي أيضا من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم مصلاه فرأى ناسا كأنهم بكتشرون فقال أما إنكم لو
____________________
(1/191)
أكثرتم ذكر هاذم اللذات يعني الموت لشغلكم عما أرى فأكثروا ذكر هاذم اللذات الموت فإنه لم يأت على القبر يوم يوم الا تكلم فيه فيقول أنا بيت الغربة وأنا بيت الوحدة وأنا بيت التراب وأنا بيت الدود فإذا دفن العبد المؤمن قال له القبر مرحبا وأهلا أما إن كنت لاحب من مشى على ظهري إلي فإذ وليتك اليوم وصرت الي فسترى صنيعي بك قال فيتسع له مد بصره ويفتح له باب الى الجنة وإذا دفن العبد الفاجر أو الكافر قال له القبر لا مرحبا ولا أهلا أما إن كنت لأبغض من يمشي على ظهري إلي فإذ وليتك اليوم فسترى صنيعي بك فيلتئم عليه حتى يلتقي عليه وتختلف أضلاعه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم باصابعه فادخل بعضها في بعض قال ويقيض له سبعون تنينا لو ان واحدا منها نفخ في الارض ما انبتت شيئا ما بقيت الدنيا فينهشنه ويخدشنه حتى يفضى به إلى الحساب قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما القبر روضة من رياض الجنة أو حفرة من حفر النار
وروى الحاكم في كتاب الكنى والقاسم بن اصبغ من حديث أبي الحجاج الثمالي قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول القبر للميت إذا وضع فيه ويحك يا ابن آدم ما غرك بي الم تعلم أني بيت الفتنة وبيت الظلمة وبيت الوحدة وبيت الدود ما غرك بي يا ابن آدم فإن كان مصلحا أجاب عنه مجيب القبر فيقول ارايت إن كان يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر فيقول القبر إني أعود عليه خضرا ويعود جسمه نورا وتصعد روحه الى رب العالمين
وقال مجاهد أول ما يكلم ابن آدم حفرته تقول انا بيت الدود وبيت الوحدة وبيت الوحشة وبيت الظلمة وبيت الغربة هذا ما أعددت لك يا ابن آدم فما أعددت لي
وقال أبو الدرداء رضي الله عنه ألا أخبركم بيوم فقري يوم أدخل قبري
وكان جعفر الصادق رضي الله عنه يأتي القبور ليلا ويقول يا أهل القبور مالي إذا دعوتكم لا تجيبون ثم يقول حيل والله بينهم وبين الجواب وكأني
____________________
(1/192)
أكون مثلهم وأدخل في جملتهم ثم يستقبل القبلة حتى طلوع الفجر
وقال عمر بن عبد العزيز رحمة الله عليه لبعض جلسائه يا فلان لقد ارقت البارحة تفكر في القبر وساكنه إنك لو رأيت الميت بعد ثلاث ليالي في قبره لاستوحشت منه بعد طول الانس به ولرأيت بيتا تجول الهوام فيه ويجري فيه الصديد وتخرقه الديدان مع تغير الريح وتقطع الاكفان وكان ذلك بعد حسن الهيئة وطيب الريح ونقاء الثوب ثم شهق شهقة خر مغشيا عليه
وقال بعض الحكماء أربعة أبحر لاربع الموت بحر الحياة والنفس بحر الشهوات والقبر بحر الندامات وعفو الله بحر الخطيئات فنسأل الله العظيم أن يجعل الله القبر خير بيت نعمره ونسكنه فصل
واعلم أنه لو دخل شخص الى المقابر المزخرفة ليميز السعيد من الشقي ما علم هذا من هذا وما يعلمه إلا علام الغيوب بل قد يكون قبرا من القبور قد درست أعلامه وقد بقي ممشى للدواب وصاحبه في أعلى الجنان وقد يكون قبرا مزخرفا وقد عليت عليه القباب والبشخانات الحرير وصاحبه نار جهنم بل نقول لو دخل شخص المقابر لم يميز قبر الذكر من الانثى ولا الشيخ من الشاب ولا الحر من العبد فإذا كان هذا التمييز الذي يمكن الشخص العاقل أن يميز بين هؤلاء في الحياة الدنيا قد ابهم علينا بعد الموت فكيف نميز السعيد من الشقي
ويشبه هذا ما روي ان الاسكندر مر بمدينة قد ملكها عدة ملوك وبادوا فقال الاسكندر هل بقي من نسل أولئك الملوك أحد فقيل له ما بقي منهم إلا رجل واحد يأوي المقابر فدعا به فلما أحضره قال له ما حملك على لزوم المقابر قال أردت ان اميز عظام الملوك من عظام عبيدهم فوجدت الكل سواء قال له الاسكندر هل لك ان تتبعني فأجيز لك بشرف آبائك إن كانت
____________________
(1/193)
لك همة عظيمة فقال إن لي همة عظيمة بشرط إن كانت بغيتي عندك تبعتك قال وما بغيتك قال حياة لا موت فيها وشباب ليس معه هرم وغناء ليس معه فقر وسرور ليس معه حزن قال الاسكندر ليس ذلك عندي ولا بيدي فقال أي خير ارجوه عندك إن لم يكن عندك هذه الاشياء فامض لشأنك ودعني أطلب ذلك ممن يملكه وهو عنده ثم عاد الى مكانه ولم يلتفت الى الاسكندر
وكان عطاء السليمي رحمه الله إذا جن الليل خرج الى المقابر فيقول يا أهل القبور متم فواموتاه وعاينتم أعمالكم فواعملاه ثم يقول غدا يكون عطاء في القبور فلا يزال ذلك دأبه حتى يصبح
وقال سفيان الثوري من أكثر من ذكر القبر وجده روضة من رياض الجنة ومن غفل عن ذكره وجده حفرة من حفر النار
ومر علي بن ابي طالب رضي الله عنه بالمقابر فوقف عليها قليلا فقال السلام عليكم أهل الديار الموحشة والمحال المقفرة أنتم لنا سلف ونحن لكم تبع وبكم عما قليل لاحقون اللهم اغفر لنا ولهم وتجاوز عنا وعنهم طوبى لمن ذكر المعاد وعمل للحساب وقنع بالكفاف ورضي في جميع أحواله عن الله تعالى ثم قال يا أهل القبور أما الزوجات فقد نكحت وأما الديار فقد سكنت وأما الاموال فقد قسمت هذا خبر ما عندنا فما خبر ماعندكم ثم التفت إلى أصحابه فقال أما إنهم لو تكلموا لقالوا وجدنا خير الزاد التقوى ويروى أن رجلا دخل على عمر بن عبد العزيز رحمه الله فرآه قد تغير من كثرة العبادة فجعل يتعجب من تغير لونه واستحاله صفته فقال له عمر يا ابن أخي وما تعجبك مني فكيف لو رأيتني بعد دخولي قبري بثلاث وقد خرجت الحدقتان فسالتا على الخدين وتقطعت الشفتان وتقلصت عن الاسنان وخرج الصديد والدود من المنخرين والفم وانتفخ البطن فعلا على الصدر لو رأيت إذ ذاك مني فهو أعجب مما رأيته الآن
____________________
(1/194)
واعلم رحمك الله أنه من علم مصيره الى هذه الحفرة المظلمة الموحشة لم يبالغ في تحسين ظاهرها مع علمه بما يؤول صاحبها إليه مع ترافة جسمه وحسن منظره ولين بدنه فإنه عن قريب سيطرح في حفرة تتقطع فيها اوصاله وتتغير فيها أحواله ثم ينتن بعد ذلك ويفر من رائحته من كان عنده من أحب الناس إليه إذا اطلع عليها 0
فإذا نظر العبد بعين بصره وبصيرته الى قبور المترفين من اهل الدنيا كأنهم لم يشاركوا أهل الدنيا ابدا في لذاتهم وطيب عيشهم هم والله صرعى قد حلت بهم المثلات واستحكم فيهم البلاء واصابت الهوام في أجسادهم فأطيبهم وأنعمهم من قد أمن من عذاب الله عز وجل
قال ثابت البناني دخلت المقابر فلما أردت الخروج منها إذا أنا بصوت يقول يا ثابت لا يغرنك صموت اهلها فكم من نفس معذبه فيها
____________________
(1/195)
& الباب الخامس والعشرون في أن الله يثبت الذين آمنوا عند المساءلة
قال الله تعالى { يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة } قال أكثر المفسرين هي كلمة التوحيد وهي قول لا إله إلا الله في الحياة الدنيا يعني قبل الموت وفي الآخرة يعني في القبر وذهب بعض المفسرين إلى ان قال في الحياة الدنيا في القبر عند السؤال وفي الآخرة عند البعث والاول أصح
عن البراء بن عازب رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال المسلم إذا سئل في قبره فشهد ان لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله فذلك قول الله تعالى { يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة } وفي لفظ نزلت في عذاب القبر يقال له من ربك فيقول ربي الله ونبيي محمد وذلك قول الله { يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت } الآية رواه البخاري ومسلم ورواه الامام احمد مطولا واهل السنن والمسانيد
ورواه الامام أبو داود في سننه بأتم من هذا من حديث البراء أيضا ولفظه قال خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في جنازة رجل من الأنصار فانتهينا إلى القبر ولم يلحده فجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم وجلسنا حوله كأنما على رؤوسنا الطير وفي يده عود ينكت به الارض فرفع راسه وقال استعيذوا بالله من عذاب القبر مرتين أو ثلاثا وذكر صفة قبض الروح وعروجها الى السماء ثم عودها إليه إلى أن قال وإنه ليسمع خفق نعالهم إذا ولوا مدبرين حين يقال له يا هذا من ربك وما دينك ومن نبيك وفي لفظ فيأتيه ملكان فيجلسانه ويقولان له
____________________
(1/196)
ما دينك فيقول ديني الاسلام فيقولان ماهذا الرجل الذي بعث فيكم قال فيقول هو رسول الله فيقولان وما يدريك فيقول قرأت كتاب الله وآمنت به وصدقت فذلك قوله { يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة } قال فينادي مناد من السماء أن صدق عبدي فافرشوه من الجنة وألبسوه من الجنة وافتحوا له بابا الى الجنة قال فيأتيه من روحها وطيبها قال ويفسح له مد بصره قال وإن الكافر فذكر موته قال وتعاد روحه الى جسده فيأتيه ملكان فيجلسانه يقولان له من ربك فيقول هاه هاه لا أدري فيقولان له ما دينك فيقول هاه هاه لا أدري فينادي مناد من السماء أن كذب عبدي فافرشوه من النار والبسوه من النار وافتحوا له بابا الى النار فيأتيه من حرها وسمومها قال ويضيق عليه قبره حتى تختلف عليه أضلاعه قال ثم يقيض له أعمى أبكم معه مرزبه من حديد لو ضرب بها جبل لصار ترابا قال فيضربه بها ضربة يسمعها ما بين المشرق والمغرب إلا الثقلين فيصير ترابا ثم تعاد فيه الروح ورواه الطبراني بأتم من هذا فقد اشتمل هذا الحديث على فوائد منها التثبيت لاهل الاسلام والايمان الذين آمنوا بالله وما جاء من عند الله وصدقوا به وآمنوا برسوله واتبعوه ومنها الإيمان بعذاب القبر وإعادة الروح الى الجسد وغير ذلك من الامور التي لا تحضرني كما سأذكره مفصلا بعد إن شاء الله
وعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن العبد إذا وضع في قبره وتولى عنه أصحابه إنه ليسمع قرع نعالهم إذا انصرفوا قال يأتيه ملكان فيقعدانه فيقولان له ما كنت تقول في هذا الرجل فأما المؤمن فيقول اشهد انه عبد الله ورسوله قال فيقال له انظر الى مقعدك من النار قد ابدلك الله به مقعدا من الجنة قال نبي الله صلى الله عليه وسلم فيراهما جميعا وذكر لنا أنه يفسح له في قبره سبعون ذراعا يملأ عليه خضرا إلى يوم يبعثون واما المنافق أو الكافر فيقول لا أدري كنت اقول ما تقول الناس فيه فيقال لا
____________________
(1/197)
دريت ولا تليت ثم يضرب بمطرقة من حديد ضربة بين أذنيه فيصيح صيحة يسمعها من يليه إلا الثقلين رواه البخاري ومسلم
وقد روي مثل حديث البراء وحديث انس في قبض الروح والمساءلة ونعيم صاحب القبر وعذابه عن أبي هريرة وحذيفة بن اليمان وغيرهما
فرواه الامام احمد في مسنده وابن حبان في صحيحه من حديث ابي هريرة ولفظه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال إن الميت إذا وضع في قبره إنه ليسمع خفق نعالهم حين يولون عنه فإن كان مؤمنا كانت الصلاة عند رأسه وكان الصيام عن يمينه وكانت الزكاة عن شماله وكان فعل الخيرات والصدقة والصلة والمعروف والاحسان عند رجليه فيأتيان من قبل رأسه فتقول الصلاة ما قبلي مدخل ثم يؤتى من عن يمينه فيقول الصيام ما قبلي مدخل ثم يؤتى من قبل شماله فتقول الزكاة ما قبلي مدخل ثم يؤتى من قبل رجليه فيقول فعل الخيرات من الصدقة والصلة والمعروف والاحسان ما قبلي مدخل فيقال اجلس فيجلس قد مثلت له الشمس قد اضاءت الغروب فيقال له هذا الرجل الذي كان فيكم ما تقول فيه وماذا تشهد به عليه فيقول دعوني حتى اصلي فيقال إنك ستصلي أخبرنا عما نسألك عنه أرايتك هذا الرجل الذي كان فيكم ما تقول فيه وماتشهد به عليه قال فيقول محمد أشهد أنه رسول الله جاء بالحق من عند الله فيقال له على ذلك حييت وعلى ذلك تموت وعلى ذلك تبعث إن شاء الله ثم يفتح له باب من أبواب الجنة فيقال له هذا مقعدك وما أعد الله لك فيها فيزداد غبطة وسرورا ثم يفسح في قبره سبعون ذراعا وينور له فيه ويعاد الجسد لما بدا منه فيجعل نسمة في النسيم الطيب وهي طير يعلق من شجر الجنة قال فذلك قوله تعالى { يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة } وذكر في الكافر ضد ذلك إلى ان قال يضيق عليه قبره إلى أن تختلف اضلاعه فتلك المعيشة الضنكى التي قال الله تعالى { فإن له معيشة ضنكا ونحشره يوم القيامة أعمى } وهذا مختصر من الحديث
____________________
(1/198)
ورواه مسلم في صحيحة من حديث ابي هريرة أيضا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال إذا خرجت روح المؤمن تلقاها ملكان يصعدانها فذكر من ريح طيبها وذكر المسك قال فيقول أهل السماء روح طيبة جاءت من قبل الارض صلى الله عليك وعلى جسد كنت تعمرينه فينطلق به الى ربه ثم يقول انطلقوا به الى آخر الأجل قال وإن الكافر إذا خرجت روحه وذكر من نتنها وذكر اللعن فيقول أهل السماء روح جاءت من قبل الارض فيقال انطلقوا به إلى آخر الاجل قال أبو هريرة فرد رسول الله صلى الله عليه وسلم ريطة كانت عليه على أنفه هكذا وفي رواية اخرى فيقول عبدك فلان يعني مؤمن فيقول أرجعوه فإني منها خلقتهم وفيها أعيدهم ومنها أخرجهم تارة أخرى قال فإنه يسمع خفق نعال أصحابه إذا ولوا عنه فيأتيه آت وفي لفظ فيأتيه ملكان اسودان أزرقان يقال لاحدهما المنكر وللاخر النكير ففي الترمذي فيقولان وفي غيره فيقول من ربك ما دينك من نبيك فيقول ربي الله وديني الاسلام ونبيي محمد صلى الله عليه وسلم فينتهره فيقول من ربك ما دينك من نبيك وهي آخر فتنة تعرض على المؤمن فذلك حين يقول { يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت } الآية فيقول كما قال فيقول له صدقت ثم يأتيه آت حسن الوجه طيب الريح حسن الثياب فيقول له صدقت ثم يأتيه آت حسن الوجه طيب الريح حسن الثياب فيقول أبشر بكرامة من الله ونعيم مقيم فيقول وأنت فبشرك الله بخير من أنت فيقول أنا علملك الصالح كنت والله سريعا في طاعة الله بطيا عن معصية الله فجزاك الله خيرا ثم يفتح له باب من الجنة وباب من النار فيقول هذا منزلك لو عصيت الله أبدلك به هذا فإذا رأي ما في الجنة قال رب عجل قيام الساعة كيما ارجع إلى أهلي ومالي فيقال له اسكن وفي لفظ فيقال له نم كنومة العروس الذي لا يوقظه إلا أحب أهله إليه حتى يبعثه الله من مضجعه وإن الكافر إذا كان في انقطاع من الدنيا وإقبال من الآخرة نزلت عليه ملائكة غلاظ شداد فانتزعوا روحه كما ينتزع السفود الكثير الشعب من الصوف المبتل وينزع نفسه مع العروق فيلعنه كل ملك بين السماء والارض وكل
____________________
(1/199)
ملك في السماء وتغلق أبواب السماء ليس من أهل باب إلا وهم يدعون الله أن لا يعرج بروحه من قبلهم فإذا عرج بروحه قالوا رب فلان عبدك قال أرجعوه فاني عهدت إليهم أني منها خلقتهم وفيها أعيدهم ومنها أخرجهم تارة أخرى فإنه ليسمع خفق نعال أصحابه إذا ولو عنه قال فيأتيه آت فيقول ما دينك فيقول لا ادري فيقال لا دريت ولا تليت فيأتيه آت قبيح الوجه قبيح الثياب منتن الريح فيقول ابشر بهوان من الله وعذاب مقيم فيقول وأنت فبشرك الله بالشر من أنت فيقول أنا عملك الخبيث كنت بطيا عن طاعة الله سريعا في معصية الله فجزاك الله شرا ثم يقيض له أعمى أصم أبكم في يده مرزبة لو ضرب بهاجبل كان ترابا فيضربه ضربة فيصير ترابا ثم يعيده الله كما كان فيضربه ضربة أخرى فيصيح صيحة يسمعه كل شيء إلا الثقلين قال البراء ثم فتح له باب من النار ويمهد له من فرش النار ورواه الامام احمد
وروى أحمد والحافظ ابن منده بإسناد حسن من حديث البراء أيضا بأتم مما تقدم من حديث أبي هريرة والبراء قال خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في جنازه فانتهينا الى القبر فجلس فجلسنا كأن على اكتفافنا فلق الصخر وعلى رؤوسنا الطير فأرم قليلا والارمام السكوت فلما رفع رأسه قال إن المؤمن إذا كان في قبل من الآخرة ودبر من الدنيا وحضره ملك الموت فجلس عند رأسه ونزلت عليه ملائكة معهم كفن من الجنة وحنوط من الجنة فجلسوا منه مد البصر ثم يقول يعني ملك الموت اخرجي ايتها النفس الطيبة وفي رواية ايتها النفس المطمئنة الى مغفرة من الله ورضوان قال فتخرج نفسه كما تسيل القطرة من في السقاء فإذا خرجت نفسه صلى عليه كل ملك بين السماء والارض إلا الثقلين فيأخذها وفي رواية فإذا أخذها يعني ملك الموت لم يدعوها في يده طرفة عين حتى يأخذوها في ذلك الكفن وذلك الحنوط ويخرج منها كأطيب نفحة مسك وجدت على وجه الارض قال فيصعدون بها الى السماء فيفتح له السماء ويشيعه مقربوها إلى السماء الثانية وفي لفظ فلا يمرون بها على ملاء من
____________________
(1/200)
الملائكة إلا قالوا ماهذا الروح الطيب فيقولون فلان بن فلان بأحسن أسمائه التي كان يسمونه بها في الدنيا فيشيعه من كل سماء مقربوها حتى ينتهي به الى السماء السابعة الى العرش فاذا انتهى الى العرش قال الله عز وجل اكتبوا كتاب عبدي في عليين وأعيدوه الى الارض وفي لفظ الى مضجعه فأني وعدتهم أني منها خلقتهم وفيها أعيدهم ومنها اخرجهم تارة أخرى فتعاد روحه الى جسده فيأتيه منكر ونكير يثيران الارض بأنيابهما ويفحصان الارض بأشفارهما فيجلسانه ثم يقال له يا هذا من ربك فيقول ربي الله فيقولان صدقت ثم يقال له ما دينك فيقول ديني الاسلام فيقولان صدقت ثم يقال من نبيك فيقول محمد رسول الله فيقولان صدقت ثم يفسح له في قبره مد بصره ويأتيه رجل حسن الوجه طيب الريح حسن الثياب فيقول جزاك الله خيرا وفي لفظ فيقول أبشر بالذي يسرك هذا يومك الذي كنت توعد فيقول من أنت فوجهك الوجه الذي يجيء بالخير فيقول أنا عملك الصالح فيقول رب اقم الساعة حتى ارجع الى أهلي ومالي ثم يفتح له باب الى الجنة فينظر الى مقعده ومنزله منها حتى تقوم الساعة وإن العبد الكافر إذا كان في دبر من الدنيا وقبل من الآخرة وحضره الموت نزلت عليه من السماء ملائكة معهم كفن من نار وفي لفظ ملائكة سود الوجود معهم المسوح قال فيجلسون منه مد بصره وجاء ملك الموت فجلس عند رأسه فيقول اخرجي ايتها النفس الخبيثة اخرجي الى غضب الله وسخطه فتتفرق روحه في جسده كراهية أن تخرج لما ترى وتعاين فذكر خروجها كما تقدم ونتن ريحها ووضعها في تلك المسوح ولعن الملائكة لها وغلق أبواب السماء دونها ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم { لا تفتح لهم أبواب السماء ولا يدخلون الجنة حتى يلج الجمل في سم الخياط } فيقول عز وجل اكتبوا كتاب عبدي في سجين في الارض السفلى فتطرح روحه طرحا ثم قرأ { ومن يشرك بالله فكأنما خر من السماء فتخطفه الطير أو تهوي به الريح في مكان سحيق } فيأتيه منكر ونكير يثيران الارض بأنيابهما ويفحصان
____________________
(1/201)
الأرض باشفارهما اصواتهما كالرعد القاصف وأبصارهما كالبرق الخاطف فيجلسانه ثم يقولان يا هذا من ربك فيقول لا أدري فينادى من جانب القبر لا دريت فيضربانه بمرزبة من حديد لو اجتمع عليها من بين الخفافقين لم تقل ويضيق عليه قبره حتى تختلف اضلاعه فلا يزال معذبا حتى يبعثه الله من مضجعه ذلك وذكر تمام الحديث كما تقدم
ورواه أبو داود ايضا بطوله بنحو هذه الرواية وابو حاتم وابن حبان في صحيحه وروى النسائي وابن ماجه أوله ورواه ابو عوانة يعقوب بن إسحاق الاسفرايني في صحيحه وأما ابن منده فرواه في كتاب الايمان بطوله وقال هذا إسناد متصل مشهور ولم أذكر سنده للاختلاف فيه قال أبو عوانة قال زادان الكندي سمعت البراء وقال غيره لم يسمعه من البراء والله أعلم
وفي صحيح البخاري ومسلم عن مالك عن نافع عن ابن عمر رضي الله عنهما قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن أحدكم إذا مات عرض عليه مقعده بالغذاة والعشي إن كان من أهل الجنة فمن أهل الجنة وإن كان من أهل النار فمن أهل النار فيقال هذا مقعدك حتى يبعثك الله إليه يوم القيامة ورواه الامام احمد أيضا في مسنده فصل
وليعلم أن النار والخضرة التي ورد ذكرهما في القبر كما تقدم ليست من نار الدنيا ولا الخضرة زرع الدنيا وإنما هي من نار الآخرة ومن خضرها وهما أبلغ وأشد من نار الدنيا وخضرها فإن من قضى الله بعذابه فإنه يحمى عليه ذلك التراب وتلك الحجاره التي فوقه وتحته أو اللبن حتى يكون أعظم حرا من جمر الدنيا ولو مسها أهل الدنيا لم يحسوا بذلك ولم يروا إلا ترابا وحجارة ولبنا بل قد يدفن شخصان أحدهما الى جنب صاحبه هذا في حفره من حفر النار وهذا في روضة من رياض الجنة لا حر هذا يصل الى هذا ولا نعيم هذا يصل الى هذا وقدرة الرب عز وجل أوسع وأبلغ وأعجب من ذلك وكل
____________________
(1/202)
ذلك حتى يحصل للمؤمنين اجتهاد وخوف من الله تعالى ومراقبته في السر والعلانية فينتج من ذلك مضاعفة الاجر العظيم والثواب الجزيل لان ما ذكرناه هو من الايمان بالغيب ويعلم المؤمن ان أمامه أهوال وعقبات نسأل الله السلامة وما ذكرته وإن كان من المغيبات قد يطلع الله بعض خلقه على ما يشاء من عجائب قدرته كما في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لولا أن لا تدافنوا لدعوت الله أن يسمعكم من عذاب القبر ما اسمع وفي الصحيح أيضا أن النبي صلى الله عليه وسلم مر بقبرين وقال إنهما ليعذبان وما يعذبان في كبير الحديث المشهور قال العلامة ابن القيم رحمه الله في كتاب الروح له حدثني صاحبنا أبو عبد الله محمد بن الوزير الحراني أنه خرج من داره بعد العصر بآمد الى بستان قال فلما كان قبل غروب الشمس توسطت القبور فإذا بقبر منها وهو جمرة نار مثل كور الزجاج والميت في وسطه فجعلت امسح عيني وأقول انا نائم أم يقظان ثم التفت فإذا سور المدينة قلت والله ما أنا نائم ثم ذهبت الى أهلي وإنا مدهوش فأتوني بطعام فلم أستطع أن آكل ثم دخلت البلد فسألت عن صاحب ذلك القبر فقالوا رجل مكاس توفي فإذا به توفي ذلك اليوم انتهى ما ذكره
وقد ذكر ابن أبي الدنيا في كتاب القبور وكتاب المنامات من هذا النوع شيئا كثيرا عن النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة والتابعين في الخير والشر فمن رام المطالعة فليطلب ذلك من وضعه
ومما ذكر مرفوعا أن رجلا قال للنبي صلى الله عليه وسلم مررت ببدر فرايت رجلا يخرج من الارض فيضربه رجل بمقمع حتى يغيب في الارض ثم يخرج فيفعل به ذلك فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ذاك أبو جهل بن هشام يعذب الى يوم القيامة
____________________
(1/203)
فصل في البرزخ
قال الله تعالى { ومن ورائهم برزخ إلى يوم يبعثون } فالبرزخ اسم لما بين الدنيا والآخرة وهذه الآية دالة عليه وهذا البرزخ يشرف أهله فيه على الدنيا والآخرة وعذاب القبر ونعيمه اسم لعذاب البرزخ ونعيمه فجعل الله سبحانه وتعالى الدور ثلاثة دار الدنيا ودار البرزخ ودار القرار وجعل لكل دار أحكاما تختص بها وركب هذا الانسان من بدن ونفس وجعل أحكام الدنيا على الابدان والارواح تبع لها ولهذا جعل الله تعالى الاحكام الشرعية على ما يظهر من حركات الانسان والجوارح وإن كان في النفس خلاف ما ظهر منها وجعل أحكام البرزخ على الارواح والابدان تبع لها فكما تبعت الارواح الابدان في أحكام الدنيا في نعيمها وعذابها تبعت الابدان الارواح في نعيمها وعذابها فالارواح في البرزخ هي المباشرة للنعيم والعذاب ثم يسري إلى ابدانها كما تجرى أحكام الدنيا على الأبدان فتسري إلى أرواحها فالأبدان في الدنيا ظاهرة والأبدان خفية وإذا أردت أن تعلم ذلك فخذ في نوم الشخص في الدنيا فإنه ينعم في حال نومه أو يعذب فهو يجري على روحه اصلا والبدن تبع لها وقد يقوي التأثير في البدن النوم حتى يشاهد وهذا والله أعلم غالب الناس يشاهد هذا في منامه ولقد أخبرني الشيخ نصير المقدسي وكان من صلحاء أهل مدرسة شيخ الاسلام ابي عمر قال لي ثلاث ليال ارى في النوم كأن أناسا يستعملونني بالفاعل وأخاف منهم خوفا شديدا فأعمل ثم أصبح في هذه الايام وأنا تعبان في غاية التعب ثم قال لي إنظر الى يدي فنظرت وإذا بكفيه شلافيط كبار فكان ينزل الفجر يقرىء الناس فامتنع من النزول في تلك الايام ثم إني أرشدته إلى ذكر يقوله عند النوم لعله أن يصرف عنه ما يجد وربما قص علي منامات لبعض الناس يرى أنه
____________________
(1/204)
يأكل أو يشرب فيستيقظ وهو يجد اثر الطعام والشراب في فيه واعجب من ذلك أنك ترى النائم يقوم في حال نومه ويبطش ويضرب في الهواء أو يدافع عن نفسه وربما صرح بأعلى صوته كأنه يقظان وهو لا شعور له بشيء من ذلك لان الروح استعانت بالبدن ولو دخلت فيه لاستيقظ وإنما مثلت لك ذلك حتى تعلم صحة ما ذكرته لك في أول هذا الفصل والله أعلم فصل
وينبغي للعبد إذا تفكر بعين بصيرته وعلم مآله إلى هذه الحفرة وما أعد له فيها أن يجتهد في العبادة ويكثر من الاعمال الصالحة ويعلم أن عمله يعرض على أقاربه من الأموات كما ورد في الخبر من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن أعمالكم تعرض على أقاربكم وعشائركم من الأموات فإن كان خيرا استبشروا وإن كان غير ذلك قالوا اللهم لا تمتهم حتى تهديهم كما هديتنا رواه الامام احمد في مسنده
وروى ابن أبي شيبة بإسناده عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تفضحوا موتاكم بسيئات أعمالكم فإنها تعرض على أوليائكم من اهل القبور فكان أبو الدرداء يقول اللهم أعوذ بك ان أعمل عملا أخزى به عند عبد الله بن رواحة فنعوذ بالله من الافتضاح بين الأقارب الصلحاء أهل طاعة الله تعالى ثم نعوذ بالله من الافتضاح غذا بين يدي أحكم الحاكمين على رؤوس الخلائق بل نسأل الله تعالى التوفيق بما يحبه ويرضاه قال مجاهد إنه ليبشر المؤمن بصلاح ولده من بعده لتقر بذلك عينه فصل
وأما تلقين الصغار فقد قال الإمام ابو عمرو بن الصلاح أما تلقين الطفل الرضيع فما له مستند يعتمد عليه ولا نراه والله أعلم
وقال النووي رحمه الله الصواب أنه لا يلقن الصغير سواء كان رضيعا أو أكبر منه ما لم يبلغ إذ يصير مكلفا والله أعلم
____________________
(1/205)
وقال العلامة موفق الدين في المغني التلقين بعد الدفن لم أجد فيه عن أحمد شيئا ولا أعلم فيه للائمة قولا سوى ما رواه الاثرم قال قلت لأبي عبد الله فهذا الذي يصنعون إذا دفن الميت يقف الرجل ويقول يا فلان بن فلانه الحديث المعروف قال ما رايت أحدا يفعل هذا إلا أهل الشام حين مات أبو المغيره جاء إنسان فقال ذلك ثم قال بعد كلام وقال القاضي ابو الخطاب يستحب ذلك ورويا فيه عن ابي أمامة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال إذا مات أحدكم فسويتم عليه التراب فليقم أحدكم عند رأس قبره ثم ليقل يا فلان بن فلانة فإنه يسمع ولا يجيب ثم ليقل يا فلان بن فلانه الثانية فيستوي قاعدا ثم ليقل يا فلان بن فلانة فإنه يقول ارشدنا يرحمك الله ولكن لا تسمعون فيقول اذكر ما خرجت عليه من الدنيا شهادة أن لا إله إلا الله وان محمدا عبده ورسوله وأنك رضيت بالله ربا وبالاسلام دينا وبمحمد نبيا وبالقرآن إماما فإن منكرا ونكيرا يتأخر كل واحد منهما فيقول انطلق فما يقعدنا عند هذا وقد لقن حجته ويكون الله حجيجه دونهما فقال رجل يا رسول الله فإن لم يعرف اسم أمه قال فلينسب إلى حواء رواه ابن ماجه ايضا في ( كتاب ذكر الموت ) فصل
ومن الغرائب ما ذكره أبو محمد بن حزم في كتابه في الملل والنحل قال وأما من ظن ان الميت يحيا في قبره قبل يوم القيامة فخطأ لأن الآيات التي ذكرناها تمنع من ذلك وكان قد ذكر قبل ذلك قوله تعالى { قالوا ربنا أمتنا اثنتين وأحييتنا اثنتين } وقوله تعاللى { كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتا فأحياكم ثم يميتكم ثم يحييكم } ثم قال ولو كان الميت يحيا في قبره لكان تعالى اماتنا ثلاثا وهذا باطل وخلاف القرآن إلا من أحياه الله آية لنبي من الأنبياء فصح بنص القرآن ان أرواح سائر من ذكرنا لا ترجع إلى أجسادها إلا إلى أجل
____________________
(1/206)
مسمى وهو يوم القيامة وأخبر يوم بدر إذا خاطب الموتى أنهم قد سمعوا قوله قبل أن يكون لهم قبور ولم ينكر على الصحابة قولهم قد جيفوا واعلم أنهم سامعون قوله مع ذلك فصح أن الخطاب والسماع لارواحهم فقط بلا شك وأما الجسد فلا حس له وقد قال تعالى { وما أنت بمسمع من في القبور } فنفي السمع عمن في القبور وهي أجساد ولم يأت قط عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك خبر صحيح أن أرواح الموتى ترد إلى أجسادهم عند المساءلة ولو صح ذلك عنه لقلنا به وإنما هذه رواية شاذة عن المنهال بن عمرو وحده وليس بالقوي تركه شعبة وغيره وقال جماعة من الحفاظ ما جازت للمنهال شهادة في الاسلام قط انتهى كلامه
فهذا مضمون ما ذكره ومن اطلع على ما قدمته من الاحاديث وآمن بها وصدقها فليحمد الله تعالى على التوفيق لذلك فإنه لو لم تكن هذه الاحاديث كان إجماع الناس من أمة محمد صلى الله عليه وسلم على إعادة الروح في الجسد لاجل المساءلة كيف وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم بل قد كفانا الرسول صلى الله عليه وسلم أمر هذه المسألة وأغنانا عن اقوال الناس حيث صرح بإعادة الروح اليه وما كان يليق بأبي محمد ابن حزم ان يجازف هذه المجازفة وأن يقول القول بهذا خطأ فجوابه مردود بالنصوص الصريحة المتقدم ذكرها وهو قوله صلى الله عليه وسلم فتعاد روحه في جسده بل قيل إن هذا إجماع الامة على هذا وأنهم تلقوه بالقبول وأنهم مجمعون على من رد ذلك وأنكره أنه مخطىء وان تصديق ذلك من الايمان بالبعث ولكن إن أراد ابن حزم ان الميت لا يحيى في قبره الحياة المعهودة في الدنيا التي يقوم فيها الروح بالبدن وتدبره وتصرفه ويحتاج معها الى الطعام والشراب واللباس فهذا صحيح يشهد العقل بصحة ذلك وإن أراد به حياة أخرى غير هذه الحياة بل تعاد الروح إليه غير الاعادة المؤلوفة في الدنيا لأجل المساءلة والامتحان كما وردت بذلك النصوص الصحيحة فهذا حق ونفيه خطأ بين بل نفيه باطل قادح فيمن نفاه بل قد ورد في سنن أبي داود مرفوعا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال ما
____________________
(1/207)
من رجل يمر بقبر أخيه كان يعرفه في الدنيا فسلم إلا رد الله عليه روحه حتى يرد عليه السلام فهذه إعادة الروح الى الجسد ايضا غير الاعادة المألوفة في الدنيا لاجل رد السلام بل لو سلم على الميت في الليل والنهار مرارا عديدة عادت روحه لرد السلام ولا يلزم من ذلك أن يحيى الحياة المعروفة وقوله الحديث لا يصح لتفرد المنهال بن عمرو به فهذه مجازفة فإن المنهال بن عمرو الاسدي يروي عن ابن حبيش قال يحيى بن معين هو ثقة ونهاية ما قيل فيه قال أحمد تركه شعبة هذا مضمون ما ذكره أبو الفرج بن الجوزي في الكلام على الرجال ولم يذكر أن أحد رد شهادته والحديث صحيح لا شك فيه وقد رواه عن البراء بن عازب جماعة غير المنهال منهم عدي بن ثابت ومحمد بن عقبة ومجاهد وغيرهم
قال العلامة ابن القيم رحمه الله الروح لها بالبدن خمسة انواع من التعلق متغايرة الاحكام احدها تعلقها به في بطن الام الثاني تعلقها به بعد خروجه الى وجه الارض الثالث تعلقها به في حال النوم فلها به تعلق من وجه ومفارقة من وجه الرابع تعلقها به في البرزخ فأنها وإن فارقته وتجردت عنه فإنها لم تفارقه فراقا كليا بحيث لا يبقى لها التفات إليه بل تعاد إليه وقت المساءلة وترد إليه ايضا وقت سلام المسلم وهذا الرد إعادة خاصة لا يوجب إعادة البدن قبل يوم القيامة الخامس تعلقها به يوم بعث الاجساد وهو أكمل تعلقها به ولا نسبة لما قبله من أنواع التعلق البتة إذ هو تعلق لايقبل البدن موتا ولا نوما ولا فسادا والله أعلم انتهى كلامه
فهذا العلامة ابن القيم رحمة الله قد كفانا مؤنة الرد بلا تكلف
____________________
(1/208)
قال شيخ الاسلام ابن تيمية الاحاديث الصحيحة المتواترة تدل على عود الروح الى البدن وقت السؤال وسؤال البدن بلا روح قول طائفة من الناس وانكره الجمهور وقابلهم آخرون فقالوا السؤال للروح بلا بدن وهذا قاله ابن مسرة وابن حزم وكلا غلط والاحاديث الصحيحة تردة والله أعلم انتهى كلامه
____________________
(1/209)
& الباب السادس والعشرون في اجتماع الارواح وهيآتها واين محلها والخلاف في ذلك
قال الله تعالى { ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي } وقال الله تعالى { ونفخت فيه من روحي } وقوله { فنفخنا فيه من روحنا } وقوله صلى الله عليه وسلم ثم يرسل الملك فينفخ فيه الروح وأما قوله تعالى فارسلنا إليها روحنا و { يقوم الروح والملائكة صفا } فهل هو جبريل أو ملك آخر فيه خلاف للمفسرين وأما كلام العلماء في هذا الباب فقد الف الناس فيه شيئا كثيرا لكن على غير هذا الترتيب فنذكر نبذة يسيرة جامعة لكلام غالب العلماء في مستقر الارواح بعد الموت إلى ان تقوم الساعة هل هي في السماء أم في الارض وهل هي في الجنة أم في النار وهل تنعم في أجسادها وتعذب ام تودع في أجساد غير أجسادها أم تكون مجردة أو تعدم بالكلية فلا يبقى لها وجود أصلا فقد نقل عن العلماء في ذلك اختلافا كثيرا متباينا ذهب كل طائفة إلى قول نصرته ورجحته على غيره وهدى الله الذين آمنوا لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه وهذه المسألة إنما تعرف من جهة الشرع بالسمع فمن العلماء من ذهب الى أن أرواح المؤمنين والشهداء في الجنة بشرط أن لا يحبسهم عنها ذنب عظيم كمظالم العباد ونحوها فإذا كانوا خالين من ذلك تلقاهم ربهم بالعفو والرحمة قال الله تعالى { ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون } وممن ذهب الى هذا القول ابو هريرة وعبد الله بن عمر وجماعات من السلف قال الامام احمد في رواية ابنه عبد الله إن أرواح المؤمنين
____________________
(1/210)
في الجنة وأرواح الكفار في النار وذهبت طائفة الى أن ارواح المسلمين على أبواب الجنة يأتيهم من روحها ونعيمها ورزقها
وقال أبو عبد الله بن منده وقالت طائفة من العلماء من الصحابة والتابعين أرواح المؤمنين عند الله عز وجل ولم يزيدوا على ذلك ثم قال وقد روي عن جماعة من الصحابة والتابعين ان أرواح المؤمنين بالجابية وارواح الكفار في بئر برهوت بئر بحضرموت
وقال أبو عمر بن عبد البر أرواح الشهداء في الجنة وأرواح عامة المؤمنين على افنيه قبورهم
وحكى ابن المبارك عن ابن جريج فيما قرأ عليه عن مجاهد قال أرواح المؤمنين في الجنة يأكلون من ثمارها ويجدون ريحها
وقال مالك بلغني ان الروح مرسلة تذهب حيث شاءت
وقال صفوان بن عمر سألت عامر بن عبد الله هل لأنفس المؤمنين مجتمع قال إن الارض التي يقول الله { ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر أن الأرض يرثها عبادي الصالحون } قال هي الارض التي تجتمع إليها ارواح المؤمنين حتى يكون البعث وقال هي الارض التي يورثها الله المؤمنين في الدنيا وقال كعب الاحبار أرواح المؤمنين في عليين في السماء السابعة وارواح الكفار في سجين في الارض السابعة
وروي عن ابي هريرة رضي الله عنه أنه قال أرواح الابرار في عليين وأرواح الفجار في سجين وعن عبد الله بن عمر نحوه
وذهب طائفة من العلماء الى أن ارواح المؤمنين في بئر زمزم ولم أطلع على دليل يدل على هذا القول ثم قال ارباب هذا القول وارواح الكفار في بئر برهوت
____________________
(1/211)
وقال سلمان الفارسي أرواح المؤمنين تذهب حيث شاءت كما قال مالك وقد تقدم وارواح الكفار في سجين
وقال ابن قتيبة ذهب جماعة من العلماء إلى إن أرواح المؤمنين على أفنية قبورهم ومنهم من ذهب من أهل السنة والجماعة إلى ان أرواح المؤمنين والكفار في القبور وان الروح تنعم وتعذب في القبر الى يوم القيامة كما أخبر بذلك الصادق المصدوق وان القبر روضة من رياض الجنة أو حفرة من حفر النار ولهذا نهى عن الجلوس على القبروأمر بالسلام عليهم وقال إذا مات أحدكم عرض عليه مقعده بالغداه والعشي إن كان من أهل الجنة فمن أهل الجنة وإن كان من أهل النار فمن أهل النار يقال له هذا مقعدك حتى يبعثك الله إليه يوم القيامة
وذهب جماعة من العلماء إلى أن محل الأرواح ومستقرها في سماء الدنيا كما أخبر بذلك الرسول صلى الله عليه وسلم ليلة الاسراء أنه رأى ليلة اسري به في السماء الدنيا آدم عليه السلام وعن يمينه ارواح أهل السعادة وعن شماله أرواح أهل الشقاوة
ومن هذا الباب ما ثبت في صحيح البخاري من حديث سمرة بن جندب رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث الرؤيا الى أن قال فيه فأما الرجل الطويل الذي في الروضة فإبراهيم عليه السلام وأما الولدان حوله فكل مولود يولد على الفطرة فقيل يا رسول الله واولاد المشركين قال وأولاد المشركين وفي رواية له والشيخ في أصل الشجرة إبراهيم والصبيان حوله أولاد الناس فهذا الحديث ليس هو عام في جميع الأرواح وإنما هو خاص بأرواح الصغار وما رأيت أحدا ذهب إلى التفرقة بين ارواح الصغار والكبار لهذا الحديث ولا أعلم أحدا قال به والله أعلم
____________________
(1/212)
فصل في الاشارة الى الدليل
وقد أشرنا الى بعضه فيما تقدم ولو ذكرنا كل قول وحجج من نصرة وذهب إليه لطال الكتاب وخرج عن موضوعه ولكن نذكر مايسره الله تعالى من الاحاديث فمنها ما ثبت في الصحيح من حديث عبد الله بن مسعود كذا وقع في نسخ معتمد عليها ووقع في بعض النسخ عبد الله فقط فمن الحفاظ من يقول عبد الله بن عمرو ومنهم من يقول ابن مسعود والله أعلم بالصواب أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في الشهداء ارواحهم في جوف طير خضر لها قناديل معلقة بالعرش تسرح من الجنة حيث شاءت ثم تاوي الى تلك القناديل وفي حديث قتادة لفظ غريب قال ارواح المؤمنين في صورة طير بيض قال القاضي عياض في هذا الحديث ذكر أرواح الشهداء وفي حديث مالك إنما نسمة المؤمن لم يذكر الشهداء والنسمة تطلق على ذات الانسان جسما وروحا وتطلق على الروح مفردة وهو المراد بها في هذا الحديث والله أعلم وفي الحديث دلالة على أن المراد بها الروح قطعا فإنه قال حتى يرجعه الله الى جسده يوم القيامة ولكن تاره في هذا الحديث ذكر نسمة المؤمن وفي اللفظ الاخرى أوراح الشهداء وقد ورد في حديث ابن عمر أن غير الشهداء إنما يعرض عليه مقعده بالغداه والعشي كما ورد في النظر في قوله تعالى في حق آل فرعون { النار يعرضون عليها غدوا وعشيا } قال القاضي عياض ايضا في موضع آخر وقيل المراد جميع أرواح المؤمنين الذين يدخلون الجنة بغير عذاب فيدخلونها الان بدليل عموم الحديث كذا ذكره النووي في شرح مسلم وقد ورد بلفظ آخر في صحيح مسلم أرواح الشهداء في حواصل طير خضر ترد أنهار الجنة وتأكل من ثمارها ليس فيه ذكر أجواف طير وهذا إخبار منه صلى الله عليه وسلم عن الشهداء المؤمنين
وذكر ابن منده بإسنداه عن إسماعيل بن طلحة بن عبد الله عن ابنيه قال
____________________
(1/213)
أردت مالي بالغابة فأدركني الليل فآويت الى قبر عبد الله بن عمرو بن حزم فسمعت قراءة من القبر ما سمعت أحسن منها فجئت الى رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكرت ذلك له فقال ذاك عبد الله الم تعلم أن الله قبض أرواحهم فجعلها في قناديل من زبرجد وياقوت وعلقها وسط الجنة فإذا كان الليل ردت إليهم ارواحهم فلا تزال كذلك حتى إذا طلع الفجر ردت أرواحهم الى مكانهم التي كانت واخبر سبحانه وتعالى عن ارواح قوم فرعون انها تعرض على النار غدوا وعشيا قبل يوم القيامة وليس للعقول في هذا مجال فإنه سبحانه وتعالى يتصرف فيها كيف شاء وغير مستحيل أن يصور هذا الجزء طائرا أو يجعل في جوف طائر أو في حواصل طير أو في قناديل معلقة بالعرش قال العلامة ابن القيم وهذا حياة ارواحهم ورزقها والأبدان قد تمزقت وقد فسر رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الحياة بأن أرواحهم في جوف طير خضر لها قناديل معلقة بالعرش تسرح من الجنة حيث شاءت ثم تأوي الى تلك القناديل فاطلع عليهم ربهم اطلاعه فقال هل تشتهون شيئا قالوا اي شيء نشتهي ونحن نسرح من الجنة حيث شئنا يفعل ذلك بهم ثلاث مرات فلما راوا انهم لن يتركوا من ان يسألوا قالوا نريد ان ترد أرواحنا في أجسادنا حتى نقتل في سبيلك مرة أخرى وصح عنه صلى الله عليه وسلم الحديث من غير وجه وفي بعض الالفاظ تعلق من ثمر الجنة وتعلق بضم اللام تأكل العلقة
وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لما اصيب إخوانكم بأحد جعل الله ارواحهم في أجواف طير خضر ترد انهار الجنة وتأكل من ثمارها وتأوي الى قناديل من ذهب في ظل العرش فلما وجدوا طيب مشربهم وماكلهم وحسن مقيلهم قالوا يا ليت إخواننا يعلمون ما صنع الله لنا لئلا يزهدوا في الجهاد ولا ينكلوا عن الحرب فقال الله أنا أبلغهم عنكم فأنزل الله على رسوله { ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون } رواه الامام احمد
____________________
(1/214)
ولا أعلم أحدا ذهب الى أن هذا النعيم المذكور مختص بالذين قتلوا في أحد والله أعلم فصل
وذهب ابن حزم وجماعات الى ان مستقر لارواح حيث كانت قبل خلق اجسادها قال ابن حزم وهذا الذي اخبر الله تعالى به ونبيه صلى الله عليه وسلم لا يتعداه وهو البرهان الواضح قال الله تعالى { وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى شهدنا أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين } وقال تعالى { ولقد خلقناكم ثم صورناكم ثم قلنا للملائكة اسجدوا لآدم } فصح أن الأرواح خلقها الله تعالى جملة وكذلك اخبر صلى الله عليه وسلم إن الارواح جنود مجندة فما تعارف منها ائتلف وما تناكر منها اختلف وأخذ الله وشهادتها له بالربوبية وهي مخلوقة مصورة عاقلة قبل أن يامر الملائكة بالسجود لادم وقبل أن يدخلها في الاجساد والاجساد يومئد تراب وماء ثم أخرها حيث شاء وهو البرزخ ثم لا يزال يبعث منها الجملة بعد الجملة فينفخها في الاجساد المتولدة من المنى الى ان قال ابن حزم فصح أن الارواح اجساد كاملة لاعراضها من التعارف والتناكر وأنها عارفة مميزة فاذا توفاها الله تعالى رجعت الى البرزخ الذي رآها فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة اسري به عند سماء الدنيا أرواح أهل السعادة عن يمين آدم وأرواح أهل الشقاوة عن يساره وذلك عند منقطع العناصر وتعجل أرواح الانبياء والشهداء الى الجنة قم قال وقد ذكر محمد بن نصر المروزي عن إسحاق بن راهوية هذا الذي ذكرنا بعينه ثم قال وعلى هذا أجمع أهل العلم انتهى كلامه وذكر الادلة على ذلك ولم يذكر خلافا وقد تقدم ذكر الخلاف على ذلك وما ذكره أبو محمد بن حزم فهو يبنى على أصل وهو أن الارواح هل خلقت قبل الاجساد او الاجساد
____________________
(1/215)
خلقت قبل الأرواح فهذه المسالة للناس فيها قولان حكاهما شيخ الاسلام ابن تيمية وغيره أحدهما ما حكاه واختاره ابن حزم ومحمد بن نصر المروزي وقد تقدم وذكرنا ما استدل به والقول الثاني وعليه عامة السلف والخلف ان الاجساد خلقها متقدم على الارواح والادلة متظاهرة من وجوه عديدة ليس هذا محل ذكرها فخلق ابي البشر الذي هو اصل الناس هكذا فإنه سبحانه وتعالى أرسل جبريل فقبض قبضة من الارض ثم خمرها حتى صارت طينا ثم صورة ثم نفخ فيه الروح بعد تصويره وهذه قصة مشهورة قد وردت من عدة طرق تدل على أن الله سبحانه نفخ فيه من روحه بعد أن خلق جسده وفي الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه اربعين يوما ثم يكون علقة مثل ذلك ثم يكون مضغة مثل ذلك ثم يرسل إليه الملك فينفخ فيه الروح الحديث المشهور فنفخ الملك فيه الروح هو سبب حدوث الروح فيه ولو كان للروح وجود قبل البدن وهي حية عالمة ناطقة لكانت ذاكرة في هذا العالم شاعرة به ولو بوجه ما ومن الممتنع أن تكون حية عالمة ناطقة عارفة بربها وهي بين ملأ من الأرواح تنتقل الى هذا البدن ولا تشعر بحالها الاول وإذا كانت بعد المفارقة تشعر بحالها وهي في البدن على التفصيل وتعلم ما كانت عليه هاهنا مع أنها التشبث بالبدن أمورا عاقها عن كثير من حالها فلأن تشعر بحالها الأول وهي غير معقوقة هناك بطريق الأولى والله أعلم فصل
في قوله صلى الله عليه وسلم الأرواح جنود مجندة ما تعارف منها ائتلف وما تناكر منها اختلف فمن العلماء كابن حزم وابن نصر المروزي وغيرهما يقول الارواح مجموعة او مجتمعة وأنواع مختلفة فهي خلقت مجتمعة ثم فرقت في أجسادها فمن وافقه نسيمة الفة ومن باعده نافرة وخالفة وقال الخطابي وغيره هو ما
____________________
(1/216)
خلقها الله عليه من السعادة والشقاوة في المبتدأ فالأرواح قسمين متقابلين فإذا تلاقت الأجساد في الدنيا ائتلفت واختلفت بحسب ما خلقت عليه فيميل الاخيار الى الاخيار والاشرار الى الاشرار انتهى كلامه ومن هذا الباب ما احتج آدم وموسى قال الحسن معناه التقت أرواحهما في السماء فوقع الحجاج بينهما قال القاضي عياض ويحتمل أنه على ظاهره وأنهما اجتمعا بأشخاصهما وقد ثبت في حديث الاسراء ان النبي صلى الله عليه وسلم اجتمع بالانبياء صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين في السموات وفي بيت المقدس وصلى بهم قال فلا يبعد أن الله أحياهم قال ويحتمل أن قصة موسى جرت في حياة موسى وانه سأل أن يريه آدم فحاجه والله أعلم فصل
وهل الارواح مخلوقة محدثة كائنة بعد أن لم تكن أم قديمة وهي من أمر الله ولا يكون أمر الله مخلوقا ولا محدثا وقد أخبر انه نفخ في آدم من روحة فهذه الاضافة إليه هل تدل على أنها قديمة أم لا وما حقيقة هذه الاضافة قال العلامة ابن القيم وهذه المسألة زل فيها عالم وضل فيها طوائف من بني آدم وهدى الله اتباع رسوله فيها الحق المبين فأجمعت الرسل صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين على أن الروح محدثة مخلوقة مصنوعة مربوبة مدبرة هذا معلوم بالاضطرار من دين الاسلام ان العالم حادث وان معاد الأبدان واقع وان الله وحده الخالق و كل ما سواه مخلوق له حتى نبعت نابعة فمن قصر فهمه في الكتاب والسنة فزعم أنها قديمة غير مخلوقة واحتج بأنها من أمر الله وامره غير مخلوق وبأنها اضافها إليه كما اضاف إليه علمه وحياته وقدرته وتوقف في ذلك آخرون فقالوا لا نقول مخلوقة ولا غير مخلوقة انتهى كلامه
وقال الحافظ ابن منده لما سئل عن الأرواح هل هي مخلوقة أم لا فقال إن الناس اختلفوا في معرفة الارواح ومحلها من النفس فقال بعضهم الارواح كلها مخلوقة وهذا مذهب أهل الجماعة والاثر واحتجت بقوله صلى الله عليه وسلم الارواح
____________________
(1/217)
جنود مجندة فما تعارف منها ائتلف الحديث والجنود المجندة لا تكون إلا مخلوقة وقال بعضهم الارواح من أمر الله أخفى الله حقيقتها وعلمها عن الخلق واحتجت بقوله { قل الروح من أمر ربي } وقال بعضهم الارواح نور من نور الله تعالى وحياة من حياته واحتجت بقوله صلى الله عليه وسلم إن الله خلق خلقه في ظلمة والقى عليهم من نوره انتهى كلامه
وقال محمد بن نصر المروزي تاول صنف من الزنادقة ومن الروافض في روح آدم ما تأولته النصارى في روح عيسى وما تاوله قوم من أن الروح انفصل من ذات الله فصار في المؤمن فقال صنف من الزنادقة وصنف من الروافض إن روح آدم غير مخلوق وتأولوا قوله تعالى { ونفخت فيه من روحي } وقوله { ثم سواه ونفخ فيه من روحه } ثم قال بعد كلام طويل ولا خلاف بين المسلمين أن الأرواح التي في آدم وبنيه وعيسى ومن سواه من بني آدم كلها مخلوقة لله خلقها وأنشأها وكونها واخترعها انتهى كلامه
وقال شيخ الاسلام ابن تيمية روح الادمي مخلوقة مبدعة باتفاق سلف الامة وأئمتها وسائر أهل السنة وقد حكى إجماع العلماء على أنها مخلوقة غير واحد من أئمة المسلمين مثل محمد بن نصر المروزي وأبو محمد بن قتيبة وغيرهما وذكر كلاما طويلا وبحثا كثيرا يطول ذكره والله أعلم فصل مهم نافع
من استدل بإضافة الروح الى الله تعالى بقوله { ونفخت فيه من روحي } فينبغي أن يعلم أن المضاف إلى الله سبحانه وتعالى نوعان أحدهما صفات لا تقوم بأنفسها كالعلم والقدره والكلام والسمع والبصر فهذه إضافة صفة الى موصوفها صفات له غير مخلوقة وكذلك وجهه ويده سبحانه وتعالى
____________________
(1/218)
الثاني إضافة أعين منفصلة عنه كبيت الله وناقة الله وعبد الله ورسول الله وروح الله فهذه إضافة مخلوق الى خالقه ومصنوع الى صانعه لكنها إضافة تقتضي تخصيصا وتشريفا يتميز به المضاف اليه عن غيره كبيت الله وإن كانت البيوت كلها ملكا لله وكذلك ناقة الله والنوق كلها ملكه وخلقه ولكن هذه إضافة إلى إلاهيته تقتضي محبته لها وتشريفه بخلاف الاضافة العامة الى ربوبيته حيث تقتضي خلقه وإيجاده هذا خلق الله فالعامة تقتضي الخلق والايجاد والخاصة تقتضي الاختيار والله يخلق ما يشاء ويختار وإضافة الروح إليه من هذه الاضافة الخاصة لا من العامة ولا من باب إضافة الصفات فتأمل هذا الموضع فإنه ينفعك من التخلص من البدع فقد ضل فيه خلق كثير نسال الله العصمة فصل
وهل الارواح تموت أم الموت للابدان خاصة فقد اضطربت مقالات الناس في هذا الباب فقالت طائفة تموت وتذوق الموت لانها نفس وكل نفس ذائقة الموت قالوا وقد دل القرآن عليه بقوله { كل من عليها فان ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام } وقوله تعالى { كل شيء هالك إلا وجهه } و { كل نفس ذائقة الموت } قالوا وإذا كانت الملائكة تموت فالنفوس البشرية أولى بالموت وقال تعالى في حق اهل النار { قالوا ربنا أمتنا اثنتين وأحييتنا اثنتين } فالموته الأولى هذه المشهودة فهي للبدن والاخرى للروح وقال آخرون لا تموت الأرواح فإنها حلقت للبقاء وإنما تموت الأبدان قالوا وقد دل على هذا الأحاديث الدالة على نعيم الأرواح وعذابها بعد المفارقة إلى أن يرجعها الله في أجسادها ولو ماتت الأرواح لانقطع عنها النعيم والعذاب وقال
____________________
(1/219)
تعالى { ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون فرحين } الاية هذا مع القطع بأن أرواحهم قد فارقت أجسادهم وذاقت الموت
قال العلامة ابن القيم والصواب أن يقال موت النفوس هو مفارقتها لاجسادها وخروجها منها فإن اريد بموتها هذا القدر فهي ذائقة الموت وإن اريد أنها تعدم وتضمحل وتصير عدما محضا فهي لا تموت بل هي باقية بعد خلقها في نعيم او عذاب كما صرح به في النصوص حتى يردها الله في أجسادها ثم ساق بعد ذلك النصوص الوارده في هذا المحل انتهى كلامه فصل وهل عذاب القبر على الروح والبدن أو على الروح دون البدن أو على البدن دون الروح وهل يشارك البدن النفس في النعيم والعذاب أم لا قال شيخ الإسلام ابن تيمية بعد أن سئل عن هذه المسالة فأجاب بل العذاب والنعيم على النفس والبدن جميعا باتفاق أهل السنة والجماعة تنعم النفس وتعذب منفردة عن اليدين وتنقيم وتعذب متصلة بالبدن والبدن متصل بها فيكون النعيم والعذاب عليهما في هذه الحال مجتمعين كما تكون الروح منفردة عن البدن منعمة أو معذبة وهل يكون العذاب والنعيم للبدن بدون الروح هذا فيه قولان مشهوران لأهل الحديث والسنة وأهل الكلام وفي المسالة اقوال شاذة ليست من اقوال أهل السنة والحديث
قول من يقول إن النعيم والعذاب لا يكون إلا على الروح وأن البدن لا ينعم ولا يعذب وهذا يقوله الفلاسفة المنكرون لمعاد الابدان وهؤلاء كفار بأجماع المسلمين ويقوله كثير من أهل الكلام من المعتزلة وغيرهم الذين يقرون بمعاد الابدان ولكن يقولون لا يكون ذلك في البرزخ وإنما يكون عند القيام من
____________________
(1/220)
القبور لكن هؤلاء ينكرون عذاب الابدان في البرزخ فقط ويقولون إن الارواح هي المنعمة أو المعذبة في البرزخ فإذا كان يوم القيامة عذبت الروح والبدن معا وهذا القول قاله طوائف من المسلمين من أهل الكلام وأهل الحديث وغيرهم وهو اختيار ابن حزم وابن مسرة فهذا القول ليس من الاقوال الثلاثة الشاذة بل هو مضاف الى قول من يقر بعذاب القبر ويقر بالقيامة ويثبت معاد الابدان والارواح لكن هؤلاء لهم في عذاب القبر ثلاثة أقوال أحدها أنه على الروح فقط والثاني أنه عليها وعلى البدن بواسطتها الثالث أنه على البدن فقط وقد يضم الى ذلك قول من يثبت عذاب القبر ويجعل الروح هي الحياة ويجعل الفساد قول منكر عذاب الابدان مطلقا وقول من ينكر عذاب البرزخ مطلقا والفلاسفة الالهيون يقرون بذلك لكن ينكرون معاد الابدان فهؤلاء يقرون بمعاد الابدان لكن ينكرون معاد الارواح ونعيمها وعذابها بدون الابدان وكلا القولين خطأ وضلال لكن قول الفلاسفة أبعد من اقوال أهل الاسلام وإن كان قد يوافقهم عليه من هو متمسك بدين الاسلام بل من يظن أنه من أهل المعرفة والتصوف
والقول الثالث الشاذ قول من يقول إن البرزخ ليس فيه نعيم ولا عذاب بل لا يكون ذلك حتى تقوم الساعة الكبرى كما يقول ذلك من يقوله من المعتزلة ونحوهم ممن ينكر عذاب القبر ونعيمه فجميع هؤلاء الطوائف ضلال في أمر البرزخ لكنهم خير من الفلاسفة فإنهم مقرون بالقيامة الكبرى واما الأحاديث الدالة على نعيم القبر وعذابه فهي كثيرة جدا بل لو قيل إنها بلغت التواتر في المبالغة لم يبعد ذلك فمنها ما تقدم من أحاديث مساءلة منكر ونكير وفيها كفاية ومنها ما لم أحط به ولم أطلع عليه ومنها ما اطلعت عليه واختصرته للتطويل ومنها ما أذكره للتنبيه فقد ثبت في الصحيحين من حديث ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم مر بقبرين فقال إنهما ليعذبان وما يعذبان
____________________
(1/221)
في كبير أما أحدهما فكان لا يستتر من البول واما الاخر فكان يمشي بالنميمة ثم دعا بجريدة رطبة فشقها نصفين فقال لعله أن يخفف عنهما ما لم ييبسا
ورواه أبو داود الطيالسي لكن قال فيه أما أحدهما فكان يأكل لحوم الناس وباقيه كما ذكرته
وثبت في صحيح مسلم في حديث طويل قال إن هذه الامة تبتلى في قبورها فلولا ان لاتدافنوا لدعوت الله أن يسمعكم من عذاب القبر الذي أسمع منه ثم قال تعوذوا بالله من عذاب القبر قالوا نعوذ بالله من عذاب القبر قال تعوذوا بالله من عذاب القبر قالوا نعوذ بالله من عذاب القبر قال تعوذوا بالله من الفتن ما ظهر منهاوما بطن الحديث
وفي مسلم ايضا وجميع السنن عن ابي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال إذا فرغ احدكم من التشهد الأخير فليتعوذ بالله من اربع من عذاب جهنم ومن عذاب القبر ومن فتنة المحيا والممات ومن فتنة المسيح الدجال
وفي الصحيحين عن ابي ايوب قال خرج النبي صلى الله عليه وسلم وقد وجبت الشمس فسمع صوتا فقال يهود تعذب في قبورها
وفي صحيح البخاري ومسلم عن عائشة قالت دخلت على عجوز من يهود المدينة فقالت إن أهل القبور يعذبون في قبورهم قالت فكذبتها ولم انعم أن أصدقها فخرجت ودخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت يا رسول الله صلى الله عليه وسلم إن عجوزا من عجائز يهود اهل المدينة دخلت فزعمت ان أهل القبور يعذبون في قبورهم فقال صدقت إنهم يعذبون عذابا يسمعه البهائم كلها قالت فبما رأيته بعد في صلاته إلا يتعوذ من عذاب القبر
قال بعض أهل العلم ولهذا السبب يذهب الناس بالخيل إذا مغلت إلى قبور اليهود والنصاري فإذا سمعت الخيل عذاب القبر أحدث لها ذلك فزعا وحرارة تذهب بالمغل 223
____________________
(1/222)
والاحاديث كثيرة جدا في هذه الباب وقد تقدم في أحاديث المساءلة ما هو أبلغ من ذلك في قوله فلا يزال معذبا حتى يبعثه الله من مضجعه ذلك وهذا صريح في أن البدن بعذب في القبر
وروى النسائي من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال هذا الذي تحرك له العرش وفتحت له ابواب السماء وشهد له سبعون الفا من الملائكة لقد ضم ضمة ثم فرج عنه قال النسائي يعني سعد بن معاذ وفي حديث عائشة قالت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم للقبر ضغطة لو نجا منها أحد لنجا منها سعد بن معاذ قال نافع بلغني أنه شهد جنازته سبعون ألف ملك لم ينزلوا إلى الارض قط وفي لفظ منديل من مناديل سعد خير من الدنيا وما فيها فصل
قال المروزي قال الامام أحمد عذاب القبر حق لا ينكره إلا ضال مضل وقال حنبل قلت لأبي عبد الله في عذاب القبر فقال هذه أحاديث صحاح نؤمن بها ونقر بها كلما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم إسناد جيد اقررنا به إذا لم نقر بما جاء به الرسول ودفعناه ورددناه رددنا على الله أمره قال تعالى { وما آتاكم الرسول فخذوه } قلت له وعذاب القبر حق قال حق يعذبون في القبور قال وسمعت أبا عبد الله يقول نؤمن بعذاب القبر وبمنكر ونكير وان العبد يسأل في قبره فيثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة في القبر
وقال احمد بن القاسم قلت يا ابا عبد الله نقر بمنكر ونكير وبما يروي من عذاب القبر فقال سبحان الله نعم نقر بذلك ونقول به
قال العلامة ابن القيم ومما ينبغي أن يعلم ان عذاب القبر هو عذاب البرزخ
____________________
(1/223)
فكل من مات وهو مستحق العذاب ناله نصيبه منه قبر او لم قبر فلو أكلته السباع أو أحرق حتى صار رمادا ونسف في الهواء او صلب أو غرق في البحر وصل الى روحه وبدنه من العذاب ما يصل الى القبور انتهى كلامه فصل
ومما ينبغي أن يعلم أن البلى يختص هذا البدن المشاهد المركب فإن هذا البدن ليس بشىء إنما هو آلة والنظر إلى ما يؤذي الروح وينفعها
وقد روى أبو الفرج بن الجوزي رحمه الله بإسناده قال دخل عبد الله بن عمر رضي الله عنهما المسجد وقد قتل عبدالله بن الزبير فمال إلى أسماء ام ابن الزبير فقال لها اصبري فإن هذه الجثث ليست بشيء وإنما الأرواح عند الله تعالى ثم قال وروينا عن ابن الزبير أنه قال لأمه أسماء قبل قتله يا أماه إن قتلت فإنما أنا لحم لا يضر ما صنع بي
وروى خالد بن معدان قال لما قتل هشام بن العاص يوم أجنادين وقع على ثلمة فسدها ولم يكن ثم طريق غيره فلما انتهى المسلمون إليه هابوه أن يوطئوه الخيل فقال عمرو بن العاص ايهاالناس إن الله قد استشهده ورفع روحه وإنما هو جثة فأوطئوه الخيل ثم أوطأه هو وتبعه الناس حتى قطعوه وإذا ثبت هذا فإن الله تعالى إذا اتلف هذا البدن الترابي المعرض للآفات وأبلاه فإنه سيعيده بدنا لا يبلى في حياة لا تنفذ أبدا وتبدل صعوبات التكليف بحسن الجزاء ويعطيهم أجورا باقية عن أعمال منقطعة كما لا يبقى لمرارات الشعث والتكليف في أيام الإحرام طعم عند أيام التشريق والله تعالى الموفق
____________________
(1/224)
& الباب السابع والعشرون في عد الشهداء وفضلهم وانهم ارفع درجات من الصالحين
قال تعالى { ومن يطع الله والرسول فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين }
قال قتادة قال بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كيف يكون الحال في الجنة وأنت في الدرجات العلي ونحن أسفل منك فكيف نراك فأنزل الله تعالى هذه الآية { ومن يطع الله } في اداء الفرائض { والرسول } في السنن { فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين } اي لا تفوتهم رؤية الانبياء ومجالستهم فأعلى درجات بني آدم الأنبياء ثم الصديقون ثم الشهداء ثم الصالحون وهذا ترتيب لاشك فيه لان الله تعالى رتبهم في الذكر قدم الانبياء ثم الامثل فالامثل في المراتب والمنازل
وعن أنس بن مالك رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال ما من نفس تموت لها عند الله خير أنها ترجع الى الدنيا ولا أن لها الدنيا وما فيها إلا الشهيد الحديث هذا من صرائح الادلة في عظم فضل الشهادة
وعن سهل بن حنيف رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال من سال الله الشهادة بصدق بلغه الله منازل الشهداء وإن مات على فراشه رواه مسلم في صحيحه
وفي مسلم ايضا من حديث أنس ان النبي صلى الله عليه وسلم من طلب الشهادة صادقا أعطيها ولو لم تصبه
____________________
(1/225)
ورواه الترمذي وصححه من حديث معاذ مرفوعا ولفظه من سإل القتل في سبيله صادقا من قلبه اعطاه الله أجر الشهيد ورواه الامام أحمد بهذا اللفظ
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ما تعدون الشهيد فيكم قالوا يا رسول الله من قتل في سبيل الله فهو شهيد قال إن شهداء أمتي إذا لقليل قالوا فمن هم يا رسول الله قال من قتل في سبيل الله فهو شهيد ومن مات في سبيل الله فهو شهيد ومن مات في الطاعون فهو شهيد ومن مات في البطن فهو شهيد والغريق شهيد وفي رواية وصاحب الهدم شهيد
وعن جابر بن عتيك رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال الشهداء سبع سوى القتل في سبيل الله عز وجل المطعون شهيد والغريق شهيد والمبطون شهيد وصاحب ذات الجنب شهيد والذي يموت تحت الهدم شهيد وصاحب الحريق شهيد والمرأة تموت بجمع شهيد رواه الامام أحمد وابو داود والنسائي وروى ابن ماجه بعضه قوله بجمع بضم الجيم وإسكان الميم وهي التي تموت حاملا أو نفساء كذا ذكره غير واحد من أهل العلم والله أعلم
وروى الامام أحمد والنسائي من حديث صفوان بن أمية عن النبي صلى الله عليه وسلم قال الطاعون شهادة والغرق شهادة والبطن شهادة
وروى النسائي أيضا من حديث عقبة بن عامر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال خمس من قبض على شيء منهن فهو شهيد المقتول في سبيل الله شهيد والغريق في سبيل الله شهيد والمطعون في سبيل الله شهيد والفناء في سبيل الله شهيد
وروى مالك في الموطأ عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما في قصة ان النبي صلى الله عليه وسلم قال ما تعدون الشهادة فيكم قالوا القتل في سبيل الله قال رسول الله صلى الله عليه وسلم الشهادة سبع سوى القتل في سبيل الله ثم ذكر نحو ما تقدم في السنن من حديث جابر بن عتيك
____________________
(1/226)
وروى البخاري ومسلم من حديث ابي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال الشهداء خمس المطعون والمبطون والغريق وصاحب الهدم والشهيد في سبيل الله قال العلامة إسماعيل التيمي الاصبهاني مفسرا لهذا الحديث قال المطعون الذي اصابه الطاعون والمبطون الذي اصابه علة البطن انتهى
وقال غيره من العلماء للناس في تفسير علة البطن ثلاثة اقوال أحدها أنه الذي يموت بالاستسقاء والثاني الذي يموت بالمغص الشديد وهو الذي يسمونه القولنج وهو مرض معروف والثالث الذي يموت بالاسهال انتهى كلامه قلت والقول الثالث هو الراجح عند أكثر أهل العلم وبعضهم لم يحك غيره ويحتمل والله أعلم أن الشهادة تعم الثلاثة اصناف المذكوره وهو ابلغ في الكرم وسعة الفضل والله أعلم ومما يؤيد هذا الاحتمال ما روى ابن حبان في صحيحه من حديث سليمان بن مراد وخالد بن عرفة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال من قتله بطنه لم يعذب في قبره
وعن عبد الله بن عمرو قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من قتل دون ماله فهو شهيد رواه البخاري وروى أبو داود والترمذي والنسائي واللفظ له من حديث سعيد بن زيد رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من قتل دون ماله فهو شهيد ومن قتل دون دينه فهو شهيد ومن قتل دون أهله فهو شهيد
وروى النسائي مفردا من حديث سويد بن مقرن رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عيه وسلم من قتل دون مظلمته فهو شهيد
وروى الامام احمد من حديث ابن لهيعة عن خالد بن ابي زيد عن سعيد بن ابي هلال عن إبراهيم بن عبد الله بن رفاعة أن أبا محمد اخبره وكان من أصحاب ابن مسعود حدثه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم انه ذكر عنده الشهداء قال إن أكثر شهداء أمتي أصحاب الفرش ورب قتيل بين الصفين الله أعلم بنيته
وروينا في خبر ابن عرفة مرفوعا الموت كفارة لكل مسلم
____________________
(1/227)
فصل
ومما ينبغي أن يعلم أن العبد إذا نظر او سمع ما تقدم في هذا الباب من تنوع الشهادة وذكر تعدادها حصل له تسلية بموت محبوبة فإنه في الغالب لابد أن يكون ناله نصيب منها مع أني لم أحط بكل ما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم في تسمية الشهداء وقد روي مرفوعا موت الغريب شهادة وقد استقصينا في عد الشهداء في كتاب احكام الطاعون ويكفي في البشارة ما تقدم قريبا من رواية الامام احمد مرفوعا إن أكثر شهداء امتي أصحاب الفرش وتقدم ما أعد الله للشهداء من حين الموت وما لهم عند الله وأن أرواحهم في حواصل طير خضر تاكل وتشرب في الجنة وتسرح حديث شاءت وكل هذا في دار البرزخ فإذا دخلوا الجنة يوم القيامة بأجسادهم انتقلوا الى نعيم أعلى من ذلك وأكثر منه قال ابو بكر القطيعي حدثنا بشر بن موسى ثنا ابن خليفة ثنا عوف عن خنساء قالت حدثتني عمتي قالت قلت يا رسول الله من في الجنة قال النبي في الجنة والشهيد في الجنة والموؤودة في الجنة والموءوة في الجنة وكذلك رواه بندار عن غندر عن عوف فذكر مثله فانتقال العبد الى الله وما عند الله هو خير لعباده من هذه الدنيا التي خلقهم فيها فينظر كيف يعملون ويبتليهم بالمحن والمصائب والشهادات حتى يعلم الصابر منهم والجازع ليجازي كل شخص بحسبه فمنهم من يجازيه بالجنان ومنهم من يجازيه بالنيران وكل ذلك عدل منه سبحانه وتعالى لا يظلم مثقال ذرة بل إن أدخل العبد الجنة فبرحمته وفضله وإن أدخله النار فبعدله وسلطانه { لا يسأل عما يفعل وهم يسألون } فله الحمد دائما على كل حال فصل
والشهادة المطلوبة شهادة المعركة على ما تقدم وكذلك شهادة الطاعون فإنه قد ورد فيها أحاديث وآثار في تمني الطاعون كما وقع في قصة المغيره بن شعبة أنه قال اللهم ارفع عنا الرجز يعني الطاعون فقال أبو موسى الأشعري رضي
____________________
(1/228)
الله عنه أما أنا فلا اقول هذا ولكن أقول كما قال العبد الصالح أبو بكر الصديق رضي الله عنه اللهم طعنا وطاعونا في مرضاتك وقام أبو عبيدة خطيبا فقال يا ايها الناس إن هذا الوجع رحمة ربكم ودعوة نبيكم وموت الصالحين قبلكم وان أبا عبيدة يسأل الله العظيم ان يقسم له من حظه قال فطعن فمات وثبت في مسند الامام أحمد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال اللهم اجعل فناء أمتي بالطعن والطاعون وغير ذلك من الاحاديث والآثار التي لا تحضرني وقد قررت ذلك في كتابنا المعروف بأحكام الطاعون ولكنه لم يكن عندي حين ألفت هذا الكتاب فإن قيل الشهادة المطلوبة شهادة المعركة وكذلك شهادة الطاعون كما تقدم وقد ورد في بعض الاحاديث أن النبي صلى الله عليه وسلم استعاذ من بعض ما عدة شهادة ففي مسند الامام أحمد مرفوعا استعاذ من سبع موتات من موت الفجأة ومن لدغ الحية ومن السبع ومن الغرق ق ومن الحرق ومن ان يخر على شيء أو يخر عليه شيء ومن الفرار من الزحف وفي المسند ايضا مرفوعا اللهم إني أعوذ بك ان أموت هما أو غما أو أن أموت غرقا وان يتخبطني الشيطان عند الموت ورواه النسائي ولفظه اللهم إني أعوذ بك من الهدم والتردي والهم والغم والغرق والحق وأعوذ بك أن يتخبطني الشيطان عند الموت وأعوذ بك أن أموت في سبيلك مدبرا وأعوذ بك أن أموت لديغا وغير ذلك من الاحاديث يقال لم يقل أحد من العلماء أن كل شهادة مطلوبة بل من وقع له أو لمحبوبه أو لغيره شيء مما عده النبي صلى الله عليه وسلم شهاده فهو شهيد والشهيد ثلاثة اقسام أحدها شهيد في الدنيا والآخرة وهو المقتول في المعركة مخلصا والثاني شهيد في الدنيا فقط وهو المقتول في المعركة مرائيا والثالث الشهيد في الآخرة فقط وهو من اثبت له الشارع الشهادة ولم يجر عليه أحكامها في الدنيا كالغريق والحريق ومن به ذات الجنب ونحوه كما تقدم فإن قيل لم سمي الشهيد شهيدا قيل قد اختلف العلماء في ذلك على أقوال
____________________
(1/229)
أحدها لانه حي كما قال تعالى { ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون } الثاني لأن الله تعالى وملائكته شهدوا له بالجنة الثالث لأن الملائكة تشهده الرابع لقيامه بشهادة الحق حتى قتل الخامس لانه يشهد ما أعد الله له من الكرامة بالقتل السادس لانه شهد لله بالوجود والالهية بالفعل لما شهد غيره بالقول السابع لسقوطه بالارض وهي الشاهد له الثامن لانه شهد له بوجوب الجنة التاسع من أجل شاهده وهو دمه العاشر لانه شهد له بالايمان وحسن الخاتمة فهذه عشرة اقول من أماكن متفرقة جمعت إليك رخيصة الاثمان فهذه الاقوال في المخلص الذي قصد بجهاده وجه الله تعالى والدار الاخرة فإنه سبحانه وتعالى إذا علم قصد العبد واخلاصه أعانه واغاثه قال تعالى { إنا لا نضيع أجر من أحسن عملا } وقد ذكر ابو الفرج بن الجوزي في جزء الثبات عند الممات في هذا المعني عن علي بن الموفق قال سمعت حاتم الاصم يقول لقينا الترك وكان بيننا جولة فرماني تركي بسهم فقلبني عن فرسي فنزل عن دابته فقعد على صدري وأخذ بلحيتي وأخرج من خفه سكينا ليذبحني فوحق سيدي ما كان قلبي عنده ولا عند سكينة إنما كان قلبي عند سيدي انظر ماذا ينزل به القضاء منه فقلت سيدي قضيت على أن يذبحنى هذا فعلى الرأس والعين إنما أنا لك وملكك فبينما أنا كذلك وهو قاعد على صدري إذ رماه بعض المسلمين بسهم
____________________
(1/230)
الله تبارك وتعالى رضي الله عنهن الرب عز وجل فما أخطأ حلقه فسقط عني فقمت إليه وأخذت السكين من يده فذبحته بها فما هو إلا أن تكون قلوبكم عند مليككم حتى تروا من عجائب لطفه ما لا تروا من الاباء والامهات
____________________
(1/231)
& الباب الثامن والعشرون في ذكر الصراط ودرجات الناس في المرور عليه
أما الصراط فهو جسر منصوب على متن جهنم وهو أحد من السيف وأدق من الشعرة ثبتنا الله وإياكم على المرور عليه
وقد روى مسلم في صحيحه من حديث ابي هريرة وحذيفة رضي الله عنهما قالا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يجمع الله تبارك وتعالى الناس فيقوم المؤمنون تزلف لهم الجنة فيأتون آدم فيقولون يا ابانا استفتح لنا الجنة فيقول وهل أخرجكم من الجنة إلا خطيئة أبيكم آدم لست بصاحب ذلك اذهبوا إلى ابني إبراهيم خليل الله قال فيأتون إبراهيم فيقول ابراهيم عليه السلام لست بصاحب ذلك إنما كنت خليلا من وراء وراء اعمدوا الى موسى كلمه الله تكليما فيأتون موسى فيقول لست بصاحب ذلك اذهبوا الى عيسى كلمة الله وروحه فيقول عيسى لست بصاحب ذلك اذهبوا الى محمد قال فيأتون محمدا صلى الله عليه وسلم ويؤذن له ويرسل الامانة والرحم فيقومان جنبي الصراط يمينا وشمالا فيمر أولكم كالبرق يمر ويرجع في طرفة عين ثم كمر الريح ثم كمر الطير وشد الرجال تجري بهم أعمالهم ونبيكم صلى الله عليه وسلم قائم على الصراط يقول رب سلم رب سلم حتى تعجز اعمال العباد وحتى يجىء الرجل فلا يستطيع السير إلا زحفا قال وفي حافتي الصراط كلاليب معلقة مأمورة تأخذ من أمرت به فمخدوش ناج ومكدوش في النار والذي نفس أبي هريرة بيده إن قعر جهنم لسبعون خريفا
وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم وذكر الصراط ومرور الناس عليه قال فيمر المؤمنون كطرف العين وكالبرق وكالريح وكالطير وكأجاويد الخيل والركاب فناج مسلم ومخدوش مرسل ومكدوش في نار جهنم
____________________
(1/232)
رواه مسلم وعن ابي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وذكر حديث الشفاعة ويضرب الصراط بين ظهراني جهنم فأكون أنا وأمتي أول من يجيز ولا يتكلم يؤمئذ إلا الرسل ودعاء الرسل يومئذ اللهم سلم اللهم سلم وفي جهنم كلاليب مثل شوك السعدان هل رأيتم شوك السعدان ثم قال وإنها مثل شوك السعدان غير أنه لا يعلم قدر عظمها إلا الله تعالى تخطف الناس بأعمالهم الحديث فصل
قد سمعت رحمك الله فانظر إلى هذه الطريق الحرج والمسلك الشاق والقنطرة المضطربة والعقبة الكؤود التي لا تثبت عليها الاقدام ولا تجوزها الاوهام ولا يثبت عليه إلا من ثبته الله بالقول الثابت وثبت قدماه يوم تزل الاقدام ولعل من عنده تساهل وعدم توفيق يسمع بالصراط فيظن ان طريقه بشبه طرق الدنيا التي هي صعبة المسلك وعرة ذات صعود ونزول هيهات وما علم والله إنه أحد من السيف وأدق من الشعرة وعلى يمينه وشماله كلاليب وخطاطيف فإذا كلفت المرور عليه وهو بهذه المثابة وأعظم من ذلك أن جهنم تحتك وقد أرعب قلبك من هول منظرها وملأت أذنيك زفيرها فهل تستطيع المرور أو النهوض أو الزحف فإنه إذا اضطرب بك الصراط والتهب السعير من تحتك التهابا ولم تجد الى النجاة سبيلا ولا الى الخلاص مقيلا فلا ينفعك في تلك الحال إلا سعي صالح مشكور أو توبة نصوحا من ذنب مغفور فتخير الان اي الاعمال أنجى لك وأي الطرق معينة لك على سعيك لما ينفعك وقد روى ابن أبي الدنيا بإسناده عن وهب بن منبه قال وجدت في زبور داود عليه السلام يا داود هل تدري من اسرع الناس ممرا على الصراط الذين يرضون بحكمي وألسنتهم رطبة من ذكري
____________________
(1/233)
& الباب التاسع والعشرون في ذكر سعة رحمة الله ومن مات على التوحيد
قال الله تعالى { ورحمتي وسعت كل شيء } وفي الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال يجيء يوم القيامة ناس من المسلمين بذنوب أمثال الجبال فيغفرها الله لهم ويضعها على اليهود والنصارى وقد تقدم في حديث أبي هريرة لكل أحد منزل في الجنة ومنزل في النار فالمؤمن إذا دخل الجنة خلفه الكافر في النار لاستحقاقه ذلك بكفره كما ورد في الصحيح هذا فكاكك من النار وهذه بشارة عظيمة للمسلمين أجمعين حتى قال الشافعي وعمر بن عبد العزيز رضي الله عنهما هذا الحديث أرجى حديث للمسلمين لما فيه من التصريح بفداء كل مسلم وفي الصحيحين من حديث أبي سعيد مرفوعا إلى أن قال فيه فيقال أخرجوا من عرفتم يعني من النار فتحرم صورهم على النار فيخرجون خلقا كثيرا وقد أخذت النار إلى نصف ساقيه والى ركبتيه فيقولون ربنا ما بقي فيها أحد ممن أمرتنا به فيقول ارجعوا فمن وجدتم في قلبه مثقال ذرة من خير فأخرجوه فيخرجون خلقا كثيرا إلى أن قال ثم يقال ارجعوا فمن وجدتم في قلبه مثقال ذرة من خير فأخرجوه فيخرجون خلقا كثيرا وكان ابو سعيد الخدري يقول إن لم تصدقوني بهذا الحديث فاقرأوا إن شئتم { إن الله لا يظلم مثقال ذرة وإن تك حسنة يضاعفها } الاية فيقول الله شفعت الملائكة وشفع النبيون وشفع المؤمنون ولم يبق إلا أرحم الراحمين فيقبض قبضة من النار فيخرج منها قوما لم يعملوا خيرا قط قد عادوا حمما فيلقيهم في نهر في أفواه الجنة يقال له نهر الحياة فيخرجون كما تخرج الحبة في حميل السيل قال فيخرجون كاللؤلؤ
____________________
(1/234)
في رقابهم الخواتم يعرفهم أهل الجنة هؤلاء عتقاء الله الذين أدخلهم الجنة بغير عمل عملوه ولا خير قدموه ثم يقول ادخلوا الجنة فما رأيتموه فهو لكم فيقولون ربنا أعطيتنا ما لم تعط لاحد من العالمين فيقول لكم عندي افضل من هذا فيقولون ربنا وأي شيء افضل من هذا فيقول رضائي فلا اسخط عليكم بعده أبدا
وفي حديث أنس بن مالك ذكر فيه الشفاعة مرة بعد مرة وأنه صلى الله عليه وسلم قال في الآخرة فأقول رب اي رب ائذن لي فيمن قال لا إله إلا الله فيقول الله وعزتي وجلالي وعظمتي وكبريائي لأخرجن منها من قال لا إله إلا الله وفي رواية مسلم ليس ذلك لك أو إليك الحديث فصل
وقد اخبر تعالى أن رحمته وسعت كل شيء وانه كتب على نفسه الرحمة وقال سبقت رحمتي غضبي وغلبت رحمتي غضبي فالجنة دار رحمته والنار دار غضبه فثبت أن الجنة ينشىء لها خلقا في الآخرة ويدخلها ايضا من دخل النار أولا ويدخلها الاولاد بعمل الآباء فثبت أن الجنة يدخلها من لم يعمل خيرا قط وثبت أن النار لا يعذب أحد فيها بغير ذنب فرحمته واسعة حتى ان جماعة من المفسرين ذكروا قصة فرعون قال جبريل يا محمد لو رايتني وأنا أدس الطين في في فرعون مخافة أن يقول فرعون كلمة يرحمه الله بها فهذا جبريل من أعظم رسل الملائكة قد علم سعة رحمة الله ففعل ذلك مخافة إدراك الرحمة له مع أنه قال أنا ربكم الأعلى فصل
ومما ينبغي ان يعلم أن مذهب أهل السنة والجماعة من السلف والخلف أن من مات موحدا أدخل الجنة قطعا على كل حال فإن كان سالما من المعاصي كالصغير والمجنون الذي اتصل جنونه بالبلوغ والتائب توبة نصوحا صحيحة
____________________
(1/235)
من الشرك أو غيره من المعاصي إذا لم يحدث معصية بعد توبته ومن نشأ في عبادة الله ولم يقارف معصية اصلا كل هؤلاء يدخلون الجنة ولا يدخلون النار لكنهم يردونها على الخلاف المعروف في الورود والصحيح إن شاء الله تعالى على ما ذكره جماعة من العلماء أن المراد بالورود المرور على الصراط وهو منصوب على ظهر جهنم أجارنا الله من حرها وبردها
واما من مات من أهل المعاصي او له معصية كبيرة ولم يتب منها فهو داخل تحت مشيئة الله إن شاء عذبه بمقدار ذنبه او القدر الذي يريده ثم يدخله الجنة وإن شاء عفا عنه مطلقا فلا يخلد أحد في النار مات على التوحيد ولو عمل من المعاصي ما عمل وهذا من احسن ما يتسلى به من مات له قريب أو صاحب من أهل المعاصي ومات وما يعلم هل تاب من المعاصي أم لا قال ابو زكريا النواوي رحمه الله وقد تظاهرت الادلة من الكتاب والسنة وإجماع من يعتد به على هذه القاعدة وتواترت بذلك نصوص تحصل العلم القطعي بذلك انتهى كلامه
ويؤيد ذلك بما ثبت في الصحيح من حديث عثمان رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من مات وهو يعلم أن لا إله إلا الله دخل الجنة قال القاضي عياض اختلف الناس فيمن عصى الله تعالى من أهل الشهادتين فقالت المرجئة لا تضره المعصية مع الايمان وقالت الخوارج تضره ويكفر بها وقالت المعتزلة يخلد في النار إذا كانت كبيرة ولا يوصف بأنه مؤمن ولا كافر لكنه فاسق وقالت جماعة من العلماء بل هو مؤمن وإن لم يغفر له وإن عذب فلا بد من أخراجه من النار وإدخاله الجنة قال وهذا الحديث حجة على الخوارج والمعتزلة واما المرجئة فإن احتجت بظاهره قلنا نحمله على أنه غفر له وأخرج من النار بالشفاعة ثم أدخل الجنة ويكون معنى قوله عليه السلام دخل الجنة اي دخلها بعد مجازاته بالعذاب وهذا لابد من تأويله لما جاء في ظواهر كثيرة من عذاب بعض العصاة انتهى كلامه
ومن هذا الباب ما ثبت في الصحيح أن أبا الأسود الديلمي حدثه ابا ذر
____________________
(1/236)
قال اتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو نائم على قميص ابيض ثم اتيته فإذا هو نائم ثم أتيته وقد استيقظ فجلست إليه فقال ما من عبد قال لا إله إلا الله ثم مات على ذلك إلا دخل الجنة قلت وإن زنى وإن سرق قال وإن زنى وإن سرق قلت وإن زنى وإن سرق قال وإن زنى وإن سرق ثلاث مرات ثم قال في الرابعة على رغم أنف أبي ذر قال فخرج أبو ذر وهو يقول وإن رغم أنف ابي ذر وفيه رد على الخوارج وعلى المعتزلة بتخليد أهل الكبائر في النار
وفي رواية للبخاري ان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال أتاني جبريل فقال من مات من أمتك لا يشرك بالله شيئا دخل الجنة قلت وإن زنى وإن سرق قال وإن زنى وإن سرق وهو من حديث ابي ذر وفي الصحيح من حديث جابر ان النبي صلى الله عليه وسلم قال من مات لا يشرك بالله شيئا دخل الجنة ومن مات يشرك بالله شيئا دخل النار وفي لفظ من لقي الله لا يشرك بالله شيئا دخل الجنة وفي رواية من قال لا إله إلا الله دخل الجنة وفي لفظ من شهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله دخل الجنة وفي حديث معاذ بن جبل رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال من كان آخر كلامه لا إله إلا الله دخل الجنة وعنه أيضا مرفوعا من لقي الله لا يشرك به شيئا دخل الجنة وفي رواية ما من عبد يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله إلا حرمه الله على النار وزاد في صحيح البخاري ومسلم من حديث عبادة بن الصامت على ما كان من عمل
وفي صحيح البخاري ومسلم من حديث أنس ان نبي الله صلى الله عليه وسلم ومعاذ بن جبل رديفه على الرحل قال يا معاذ قال لبيك وسعديك يا رسول الله قال يا معاذ قال لبيك وسعديك يا رسول الله قال يا معاذ قال لبيك وسعديك يا رسول الله قال ما من عبد يشهد ان لا إله إلا الله وان محمدا عبده ورسوله إلا حرمه الله على النار قال أولا اخبر بها الناس فيستبشروا قال إذا يتكلوا فأخبر بها عند موته تأثما يعني مخافة الاثم وفي لفظ مسلم من حديث
____________________
(1/237)
عبادة انه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول من شهد ان لا إله إلا الله وان محمدا رسول الله حرم الله عليه النار
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال قلت يا رسول الله من اسعد الناس بشفاعتك فذكره قال أسعد الناس بشفاعتي من قال لا إله إلا الله خالصا من قبل نفسه رواه البخاري
وعن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لكل نبي دعوة مستجابة فتعجل كل نبي دعوته وإني اختبأت دعوتي شفاعة لأمتي يوم القيامة فهي نائلة إن شاء الله من مات من أمتي لا يشرك بالله شيئا رواه مسلم وفي لفظ له حرم الله على النار من قال لا إله إلا الله
وقد ورد في ذلك عدة أحاديث وغالب هذه الأحاديث سردها مسلم في صحيحه في باب واحد في باب الدليل على صحة إسلام من حضره الموت لكن قال سعيد بن المسيب عند سماعه هذه الأحاديث إن هذا قبل نزول الفرائض والأمر والنهي وهذا القول عن سعيد بن المسيب رحمه الله ليس بشىء وقال بعض العلماء هو خطأ لأن راوي أحد هذه الألفاظ أبو هريرة وهو متأخر الاسلام أسلم عام خيبر سنة سبع بالاتفاق وكانت أحكام الشريعة مستقرة كالصلاة والزكاة والصيام ونحوها فعلم ضعف هذا القول والله تعالى أعلم وقال بعض العلماء هي مجملة تحتاج إلى شرح ومعناه من قال الكلمة وأدى حقها وفريضتها وهذا قول الحسن البصري وقيل إن ذلك لمن قالها عند الندم والتوبة ومات على ذلك وهذا قول البخاري وقد تقدم في أول الباب حملها على ظاهرها وإن مذهب السلف والخلف من الفقهاء واهل الحديث على أن من مات موحدا دخل الجنة وإن كان من أهل المعاصي وأنه داخل تحت المشيئة والله تعالى أعلم وعن أبي جعفر قال لما حضر أبا زرعة الموت وعنده أبو حاتم ومحمد بن مسلم والمنذر بن شاذان وجماعة من العلماء هابوا أن يلقنوه الشهادة فقال بعضهم
____________________
(1/238)
لبعض تعالوا نذكر الحديث فقال محمد بن مسلم حدثنا الضحاك عن عبد الحميد بن جعفر عن صالح ولم يجاوز وقال أبو حاتم حدثنا بندار عن أبي عاصم عن عبد الحميد بن جعفر عن صالح ولم يجاوز والباقون سكوت فقال ابو زرعة ثنا بندار عن ابي عاصم عن عبد الحميد بن جعفر عن أبي غريب عن كثير بن قرة الحضرمي عن معاذ بن جبل رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من كان آخر كلامه لا إله إلا الله دخل الجنة ثم توفي من ساعته رحمة الله عليه
وعن عبيد بن عياش قال لما ماتت النوار امرأة الفرزدق شهدها الحسن البصري فلما سوى عليها التراب وثب الفرزدق لينصرف فقال للحسن يا أبا سعيد أما تسمع ما يقول الناس قال وما يقول الناس قال يقولون اجتمع في هذه الجنازة خير الناس وشر الناس يعنونك ويعنونني فقال الحسن ما أنا بخيرهم وما أنت بشرهم ولكن ما أعددت لهذا اليوم فقال يا أبا سعيد شهادة ان لا إله إلا الله فبكى الحسن ثم التزم الفرزدق فقال لقد كنت من أبغض الناس إلي وإنك اليوم من أحب الناس إلي
____________________
(1/239)
الباب الثلاثون في فضل الزهد في الدنيا والتسلية عنها والرغبة في الآخرة
قال الله تعالى { قل متاع الدنيا قليل والآخرة خير لمن اتقى ولا تظلمون فتيلا } فالاستمتاع بالدنيا قليل ومتعتك بها قليل من قليل وثواب الآخرة خير وافضل لمن اتقى المعاصي واقبل على الطاعات
ومما ينبغي أن يعلم أن هذا الباب من أنفع الأبواب لمن تدبره فإن الدنيا دار قلعة وزوال ومنزل نقلة وارتحال ومحل نائبة وامتحان ومتاع غرور وافتتان فلا يأس على ما فات منها ولا يفرح على ما وجد منها ولا يجزع على ولد أو نفس تموت ولا يحزن على أمر يفوت
عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال اخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بمنكبي فقال كن في الدنيا كأنك غريب أوعابر سبيل وكان ابن عمر يقول إذا أمسيت فلا تنتظرالصباح وإذا أصبحت فلا تنتظر المساء وخذ من صحتك لمرضك ومن حياتك لموتك رواه البخاري قال جماعة من العلماء في تفسير هذا الحديث لا تركن الى الدنيا ولا تتخذها وطنا ولا تحدث نفسك بطول البقاء فيها ولا بالاعتناء بها ولا تعتز بها فإنها غرارة خداعة ولا تتعلق منها بما لا يتعلق به الغريب في غير وطنه ولا تشتغل فيها بما لا يشتغل به الغريب الذي يريد الذهاب الى أهله وبالله فاستعن
وعن سهل بن سعد الساعدي قال جاء رجل الى النبي صلى الله عليه وسلم فقال يارسول الله دلني على عمل إذا عملته أحبني الله وأجني الناس فقال ازهد في الدنيا
____________________
(1/240)
يحبك الله وازهد فيما عند الناس يحبك الناس رواه ابن ماجه وغيره بإسناد جيد ولوائح الصحة ظاهرة عليه
وعنه ايضا رفعه الى النبي صلى الله عليه وسلم قال لو أن الدنيا تعدل عند الله جناح بعوضة ما سقى كافرا منها شربه ماء رواه الترمذي وقال حديث صحيح
وعن ابي هريرة قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ألا إن الدنيا ملعونة ملعون ما فيها إلا ذكر الله وما والاه وعالما ومتعلما رواه الترمذي وقال حديث حسن وروى الترمذي ايضا عن كعب بن عياض قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لكل أمة فتنة وفتنة أمتي المال قال الترمذي حديث حسن صحيح
وروى الترمذي وحسنه وصححه عن عثمان أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ليس لابن آدم حق في سوى هذه الخصال بيت يسكنه وثوب يواري عورته وجلف الخبز والماء قال ابن فارس في مجمله وعاء الشيء جلفة قال الترمذي سمعت أبا داود يقول سمعت النضر بن شميل يقول الجلفة الخبز ليس معه إدام وقال غيره هو غليظ الخبز وقال الهروي والمراد به هنا وعاء الخبز كالجوالق والخرج ونحوه والله أعلم
وفي صحيح مسلم عن عبد الله بن الشخير قال أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يقرا { ألهاكم التكاثر } قال يقول ابن آدم مالي مالي وهل لك يا ابن آدم من مالك إلا ما أكلت فأفنيت او لبست فابليت او تصدقت فأمضيت
وفي صحيح البخاري ومسلم من حديث أبي سعيد قال جلس رسول الله صلى الله عليه وسلم على المنبر وجلسنا حوله فقال إنما مما أخاف عليكم بعدي ما يفتح عليكم من زهرة الدنيا وزينتها
وفي صحيح مسلم عنه أيضا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال إن الدنيا حلوة خضرة
____________________
(1/241)
وإن الله مستخلفكم فيها فينظر كيف تعملون فاتقوا الدنيا واتقوا النساء
وفي مسلم أيضا عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يؤتى بأنعم أهل الدنيا من أهل النار يوم القيامة فيصبغ في النار صبغة ثم يقال يا ابن آدم هل رأيت خيرا قط هل مر بك نعيم قط فيقول لا والله يا رب ويؤتى بأشد الناس بؤسا في الدنيا من أهل الجنة فيصبغ في الجنة صبغة فيقال له يا ابن آدم هل رأيت بؤسا قط هل مر بك شدة قط فيقول لا والله ما مر بي بؤس قط ولا رايت شدة قط
وفي مسلم ايضا من حديث جابر بن عبد الله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مر بالسوق والناس كنفتيه فمر بجدي أسك ميت فتناوله فأخذ بأذنه فقال ايكم يحب ان هذا له بدرهم فقالوا مانحب أنه لنا بشيء وما نصنع به قال تحبون أنه لكم قالوا والله لو كان حيا كان عيبا أنه اسك فكيف وهو ميت فقال والله للدنيا أهون على الله من هذا عليكم قوله كنفتيه أي من جانبيه والاسك الصغير الاذن
وعن شهر بن حوشب عن عبادة بن الصامت قال اراه رفعه الى النبي صلى الله عليه وسلم قال يجاء بالدنيا يوم القيامة فيقال ميزوا ما كان منها لله عز وجل وألقوا سائرها في النار رواه ابن أبي الدنيا
وروي ايضا عن عبادة بن العوام عن هشام أو عوف عن الحسن مرسلا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال حب الدنيا رأس كل خطيئة
واعلم أنه من حب دنياه أضر بآخرته ومن أحب آخرته اضر بدنياه فآثروا ما يبقى على ما يفنى
وعن الحسن مرسلا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له يا رسول الله من خيرنا قال أزهدكم في الدنيا وارغبكم في الآخرة وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم من زهد في الدنيا اسكن الله الحكمة قلبه وأطلق بها لسانه وبصره عيوب الدنيا داءها ودواءها واخرجه منها سالما مسلما الى دار السلام رواه ابن ابي الدنيا
____________________
(1/242)
فصل
ومن العجب كل العجب أن العبد يصدق بدار الخلود وهو يسعى لدار الغرور فمن أحبه الله حماه عن الدنيا كما يحمى احدكم مريضه عن الماء وقد ورد في الحديث مرفوعا إن الله لم يخلق خلقا ابغض إليه من الدنيا وانه منذ خلقها لم ينظر إليها
وروى ابن أبي الدنيا في ذم الدنيا قال مالك بن دينار قالوا لعلي رضي الله عنه يا أبا الحسن صف لنا الدنيا قال أطيل أم أقصر قالوا بل اقصر قال حلالها حساب وحرامها النار وعنه أيضا قالوا يا أمير المؤمنين صف لنا الدنيا قال وما اصف لكم من دار من صح فيها أمن ومن سقم فيها ندم ومن افتقر فيها حزن ومن استغنى فيها فتن في حلالها الحساب وفي حرامها النار
وروى عن يونس بن عبيد قال ما شبهت الدنيا إلا كرجل نائم فرأي في منامه ما يكره وما يحب فينما هو كذلك إذ انتبه
وقال الحسن بن على الدنيا ظل زائل
وقال أبو سليمان الداراني إذا كانت الآخرة في القلب جاءت الدنيا تزحمها وإذا كانت الدنيا في القلب لم تزحمها الآخرة لان الآخرة كريمة والدنيا لئيمة
وقال الاوزاعي سمعت بلال بن سعيد يقول والله لكفى به ذنبا أن الله عز وجل يزهد في الدنيا ونحن نرغب فيها فزاهدكم راغب ومجتهدكم مقصر وعالمكم جاهل فصل
واعلم أن شرور الدنيا كاحلام نوم او كظل زائل وإن أضحكت قليلا ابكت كثيرا وإن سرت يوما أو اياما ساءت اشهرا أو أعواما وإن متعت
____________________
(1/243)
قليلا منعت طويلا وما حصل للعبد فيها سرور إلا خبأت له اضعاف ذلك شرورا
قال ابن مسعود لكل فرحة ترحة وما ملىء بيت فرحا إلا ملىء ترحا قال ابن سيرين ما من ضحك إلا يكون بعده بكاء وقالت هند بنت النعمان لقد رأيتنا ونحن من أعز الناس وأشدهم ملكا ثم لم تغب الشمس حتى رأيتنا ونحن أذل الناس وانه حق على الله عز وجل ان لا يملأ دارا حبرة إلا ملأها عبرة وسالها رجل أن تحدثه عن أمرها فقالت أصبحنا ذات صباح وما في العرب أحد إلا يرجونا ثم أمسينا وما في العرب أحد إلا يرحمنا وبكت أختها حرقة بنت النعمان يوما وهي في عزها فقيل لها ما يبكيك فذكر انها قالت رايت كثرة اهلي وسرورهم وقلما امتلات دار سرورا إلا امتلات حزنا قال إسحاق بن طلحة دخلت عليها يوما فقلت لها كيف رايت عبرات الملوك فقالت ما نحن فيه اليوم خير مما كنا فيه بالأمس إنا نجد في الكتب أنه ليس من أهل بيت يعيشون في حبرة إلا سيعقبون بعدها عبرة وان الدهر لم يظهر لقوم بيوم يحبونه إلا بطن لهم بيوم يكرهونه ثم قالت % فبينا نسوس الناس والأمر أمرنا % إذا نحن فيهم سوقة نتنصف % % فأف لدنيا لا يدوم نعيمها % تقلب تارات بنا أو تصرف %
وفي الحدث مرفوعا ما مثلي ومثل الدنيا إلا كراكب سار في يوم صائف فاستظل تحت شجرة ساعة من نهار ثم راح وتركها رواه ابن ابي الدنيا
وروى ايضا قال عيسى عليه السلام ويل لصاحب الدنيا كيف يموت ويتركها يأمنها وتغرة ويثق بها وتخذله ويل للمغترين كيف أزفهم ما يكرهون وفارقهم ما يحبون وجاءهم ما يوعدون ويل لمن الدنيا همته والخطايا عمله كيف يفتضح غذا بذنبه
وروى ابن أبي الدنيا بإسناده عن وهب بن منبه قال عيسى عليه السلام بحق اقول لكم كما ينظر المريض إلى طيب الطعام ولا يلتذ من شدة الوجع كذلك
____________________
(1/244)
صاحب الدنيا لا يلتذ بالعبادة ولا يجد حلاوتها مع ما يجد من حب الدنيا إن الدابه إذا لم تركب وتمتهن تصعبت وتغير خلقها كذلك القلوب إذا لم ترق بذكر الموت ودأب العبادة تقسو وتغلظ فصل وثبت في الصحيح مرفوعا اللهم اجعل رزق آل محمد قوتا قال أهل اللغة القوت مايسد الرمق وفيه دلالة على فضيلة التقليل من الدنيا والاقتصار على القوت منها والدعاء بذلك والله أعلم فإن الدخول في الدنيا والميل إليها على خطر عظيم كما تقدم في الصحيح مرفوعا إن مما أخاف عليكم بعدي ما يفتح عليكم منزهرة الدنيا قال العلماء فيه التحذير من الاغترار بالدنيا والنظر إليها والمفاخرة بها فالدنيا وإن اقبلت على الشخص من وجه حل يخاف عليه الفتنة والاشتغال بها عن كمال الاقبال على الاخرة فإن وفق لاعطاء المسكين واليتيم وابن السبيل وصرفه في وجوه البركان من الفائزين وإلا كان من الهالكين
وقد ثبت في صحيح مسلم عن المستورد بن شداد النهري أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ما الدنيا في الآخرة إلا مثل ما يجعل أحدكم اصبعه في اليم فلينظر بما ترجع إليه
وقال معاوية سمعت على هذا المنبر رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول إنما بقي من الدنيا بلاء وفتنة وإنما مثل عمل أحدكم فمثل الوعاء إذا طاب أعلاه طاب أسفله وإذا خبث أعلاه خبث اسفله
وقال علي بن ابي طالب رضي الله عنه من زهد في الدنيا هانت عليه المصائب ومن ارتقب الموت سارع في الخيرات
وقال الحسن البصري والذي نفسي بيده لقد ادركت اقواما كانت الدنيا أهون عليهم من التراب الذي تمشون عليه
ثم علامة الشقاء قسوة القلب وجمود العين وطول الأمل والحرص على
____________________
(1/245)
الدنيا وقال الفضيل بن عياض علامة السعادة اليقين في القلب والورع في الدين والزهد في الدنيا والحياء والعلم
وقال الفضيل أيضا لو أن الدنيا بحذافيرها عرضت علي حلالا لا أحاسب بها في الآخرة لكنت أتجنبها كما يتجنب أحدكم الجيفة إذا مر بها أن تصيب ثوبه
وقال أبو هاشم الزاهد خلق الله الداء والدواء فالداء الدنيا والدواء تركها فصل منه
حضر بعض الرؤساء صلاة الجمعة وبه مرض لا يحتمل معه تطويل الخطبة فصعد الخطيب المنبر فقال الحمد لله رب العالمين وصلواته على اشرف الانبياء والمرسلين أما بعد فإن الدنيا دار ممر والآخرة دار مقر فخذوا لمقركم من ممركم ولا تهتكوا استاركم عند من لاتخفى عليه أسراركم واخرجوا الدنيا من قلوبكم قبل أن تخرج منها ابدانكم اقول قولي هذا واستغفر الله لي ولكم فما أبلغ هذه الخطبة وافصحها واوجزها فعمر الدنيا والله قصير وأغنى غني فيها فقير وكأني بك في عرصة الموت وقد استنشقت ريح الغربة قبل الرحيل ورأيت اثر اليتم في الولد قبل الفراق فتيقظ إذن من رقدة الغفلة وانتبه من السكرة واقلع حب الدنيا من قلبك فإن العبد إذا أغمض عينه وتولى تمنى الإقالة فقيل كلا
قال أبو عمران الجوني مر سليمان بن داود عليهما السلام في موكبه والطير تظله والجن والانس عن يمينه وشماله قال فمر عابد من عباد بني إسرائيل فقال والله يا ابن داود لقد آتاك الله ملكا عظيما قال فسمع سليمان كلمته فقال تسبيحة في صحيفة مؤمن خير مما أعطي ابن داود ما أعطي ابن داود يذهب والتسبيحة تبقى
____________________
(1/246)
فصل
من بذل وسعه في التفكر التام علم أن هذه الدار رحلة فجمع للسفر رحله ويعلم أن مبدأ السفر من ظهور الآباء إلى بطون الأمهات ثم إلى الدنيا ثم إلى القبر ثم إلى الحشر ثم إلى دار الإقامة الأبدية فدار الاقامة هي دار السلام من جميع الآفات وهي دار الخلود والعدو سبانا الى دار الدنيا فنجتهد في فكاك أسرنا ثم في حث السير إلى الوصول الى دارنا الأولى وفي مثل هذا قيل % فحي على جنات عدن فإنها % منازلك الاولى وفيها المخيم % % لكننا سبي العدو فهل ترى % نعود إلى أوطاننا ونسلم %
وليعلم أن مقدار السير في الدنيا يسير يقطع بالانفاس ويسير بالانسان سير السفينة لا يحس بسيرها وهو جالس فيها كما قيل % إنما هذه الحياة متاع % فالغوي الشقي من يصطفيها % % ما مضى فات والمؤمل غيب % ولك الساعة التي أنت فيها
ولابد له في سفره من زاد ولا زاد إلى الآخرة إلا التقوى فلا بد من تعب الشخص والتصبر على مرارة التقوى لئلا يقول وقت السير ارجعون فيقال كلا فليتنبه الغافل من كسل مسيره فإن الله تعالى يريه في قطع مسافة سفره آيات يرسلها تخويفا لعباده لئلا يميلوا عن طريقهم المستقيم ونهجهم القويم فمن مالت به راحلته عن طريق الاستقامة فرأي ما يخاف منه فليرغب الى الله بالرجوع اليه عما ارتكبه من السبل فيتوب من معصيته ويبكي من قسوته فاذا انتبه من رقده كسله علم أن الدنيا دار غرور طبعت على كدر كما روى ابن أبي الدنيا قال أنشدني الحسن بن السكن % حياتك بالهم مقرونة % فما تقطع العيش إلا بهم %
____________________
(1/247)
% لذاذات دنياك مسمومة % فما تأكل الشهد إلا بسم % % إذا تم أمر بدا نقصه % توقع زوالا إذا قيل تم % وكما قيل في المعنى % حكم المنية في البرية جاري % ما هذه الدنيا بدار قرار % % بينا يرى الانسان فيها مخبرا % حتى يرى خبرا من الأخبار % % طبعت على كدر وأنت تريدها % صفوا من الاقذاء والأكدار %
قال بعض السلف احذروا دار الدنيا فإنها اسحر من هاروت وماروت فإنهما يفرقان بين المرء وزوجه والدنيا تفرق بين العبد وربه
وذكر ابن أبي الدنيا هذا الأثر مرفوعا قال جعفر بن سليمان سمعت مالكا يقول إتقوا السحارة فإنها تسحر قلوب العلماء يعني الدنيا وذكر ابن أبي الدنيا بإسناده إلى الحسن البصري أنه كتب إلى عمر بن عبد العزيز أما بعد فإن الدنيا دار ظعن ليست بدار إقامة وإنما انزل آدم إليها عقوبة فاحذرها يا أمير المؤمنين فإن الزاد منها تركها والغنى منها فقرها لها في كل حين قتيل تذل من أعزها وتفقر من جمعها هي كالسم يأكله من لا يعرفه وهو حتفه فكن فيها كالمداوي جراحته يحتمي قليلا مخافة ما يكره طويلا ويصبر على شدة الدواء مخافة طول البلاء فاحذر هذه الدار الغرارة الحيالة الخداعة التي زينت بخدعها وفتنت بغرورها وختلت بآمالها وتشرفت لخطابها فأصبحت كالعروس المجلية فالعيون إليها ناظرة والقلوب عليها والهة والنفوس لها عاشقة وهي لأزواجها كلهم قاتلة فلا الباقي بالماضي معتبر ولا الآخر على الأول مزدجر ولا العارف بالله عز وجل حين اخبرعنها مدكر فعاشق لها قد ظفر منها بجاجته فاغتر وطغى ونسي المعاد فشغل فيها لبه حتى زالت عنها قدمه فعظمت ندامته وكثرت حسرته فخرج بغير زاد وقدم على غير مهاد فاحذرها يا أمير المؤمنين وكن اسر ما تكون فيها أحذر ما تكون لها فإن صاحب الدنيا كلما أطمأن منها إلى سرور اشخصه إلى مكروه قد وصل
____________________
(1/248)
الرخاء منها بالبلاء وجعل البقاء فيها الى فناء فسرورها مشوب بالحزن لا يرجع منها ما ولي فأدبر ولا يدري ماهو آت فينتظر أمانيها كاذبة وآمالها باطلة وصفوها كدر وعيشها نكد وبابن آدم فيها على خطر ولقد عرضتعلى نبيك محمد صلى الله عليه وسلم بمفاتيحها وخزائنها فأبي ان يقبلها كره أن يحب ما ابغض خالقه أو يرفع ما وضع مليكه فزواها عن الصالحين اختبارا وبسطها لاعدائه اغترارا جاءت الرواية أنه تبارك وتعالى قال لموسى عليه السلام إذا رأيت الغني مقبلا فقل ذنب عجلت عقوبته وإذا رأيت الفقر مقبلا فقل مرحبا بشعار الصالحين
والحمد لله رب العالمين وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم تسليما كثيرا
تم والحمد لله
____________________
(1/249)