تربية الأولاد في الإسلام النابلسي
للشيخ
محمد راتب النابلسي(/)
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيد الأنبياء والمرسلين ، وعلى آله وصحبه أجمعين ، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين .
أما بعد :
فتربية الأولاد جزء لا يتجزأ من المنهج الإسلامي ، وقد كتبت فيها كتب عديدة منها تربية الأولاد في الإسلام للشيخ عبد الله علوان وهو كتاب نافع ، وكتاب منهج تربية الطفل لمحمد نور سويد وهي رسالة ماستجير قيمة ، وفن تربية الأولاد لمحمد سعيد المرسي وهو كتاب نافع ، ومنها كتاب تربية الأولاد في الإسلام للداعية الإسلامي (( محمد راتب النابلسي ))
وقد عرفته منذ أكثر من ربع قرن ، وحضرت له بعض الدروس في جامع النابلسي في دمشق .
وأسلوبه يمتاز بالسهولة والإقناع والعذوبة
وهذا الكتاب من الكتب القيمة والنافعة ، وهو يحتوي على ثلاثة وخمسين محاضرة
وهي موجودة في كتاب إلكتروني ،بهذا الاسم ولكن كثيرا من ملفاته مضروبة ، ومن عيوبه أن الآيات والعناوين موضوعة على شكل صورة بحيث لو قمت بنسخها لا يظهر شيء ، وإنما يظهر فراغ فقط ، ولأهمية الكتاب فقد بحثت عن سائر نسخه على النت لأجعل منها نسخة سليمة من هذه العلل، وبعد لأيٍ تمَّ الأمر بعون الله تعالى ، فهذه النسخة كاملة ، والآيات بالرسم العادي ، ولا يوجد به نقص ، وقد حذفت منه مقدمات المحاضرات فقط ، ليكون الدخول في الموضوع مباشرة على شكل كتاب وليس محاضرات صوتية .
والكتاب موجود كملفات ورد وبيدي إف في موقع الشيخ نفسه
http://www.nabulsi.com/index_ar.php
وفي صفحتين :
http://www.nabulsi.com/text/07tarbia/3awlad/awlad1.php
وهذه عناوينها :
1- تمهيد ـ رعاية الأولاد واجب ديني.
2- أهمية تربية الأولاد.
3- التربية الإيمانية.
4- التربية الخلقية 1 - العلاقة الوثيقة بين الإيمان والخلق .
5- التربية الخلقية 2 - القدوة قبل الدعوة ، الكذب .
6- التربية الاجتماعية 1 ـ ظاهرة السرقة .
7- التربية الاجتماعية 2: " ظاهرة الكلام البذيء "
8 ـ التربية الصحية " العناية بصحة أولادنا "
9 ـ التربية الصحية المتعلقة بالغذاء
10 ـ مضار التدخين على الفرد والأسرة والمجتمع
11 ـ فضل التربية العقلية
12- التربية النفسية : عقدة الشعور بالنقص ( 2 )
13 ـ التربية العقلية 3 ـ قيمة العلم
14 ـ التربية العقلية 4 ـ طلب العلم فرض على كل مسلم
15 ـ التربية النفسية 1 ـ ظاهرة الخجل
16 ـ التربية النفسية 2 ـ ظاهرة الخوف
17 ـ التربية النفسية 3 ـ الحكمة في تربية الأبناء
18 ـ التربية النفسية 4 ـ ظاهرة الحسد :
19 ـ التربية النفسية 5 ـ سبب الأمراض النفسية عند الأطفال
20 ـ التربية الاجتماعية 1ـ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
21 ـ التربية الاجتماعية 2ـ الحوار بين الأب وابنه
22 ـ التربية الاجتماعية 3ـ فن الحديث
23 ـ التربية الاجتماعية 4 ـ أدب المزاح
24 ـ التربية الاجتماعية 5 ـ آداب الطعام
25 ـ التربية الاجتماعية 6 ـ آداب الطعام عند الصغار والكبار
26 ـ التربية الاجتماعية 7 ـ آداب الشراب ـ وأهمية الماء للإنسان
27 ـ التربية الاجتماعية 8 ـ الآداب العامة والخاصة عند المؤمن
28 ـ التربية الجنسية 1ـ أدب الاستئذان عند الأولاد
29 ـ التربية الجنسية 2: غضّ البصر
30- التربية الاجتماعية 9 : تأديب الصغار على معرفة حق الكبير
31 ـ التربية الاجتماعية 10: توقير الكبير ،" الحياء فضيلة أما الخجل نقيصة ـ سلوك الآباء ينطبع على الأبناء "
32- وسائل تربية الأولاد ( 2 ) : التربية بالقدوة ( 2 ) : توجيهات النبي صلى الله عليه وسلم في القدوة
33- وسائل تربية الأولاد ( 3 ) : التربية بالعادة ( 1 )
34- وسائل تربية الأولاد ( 4 ) : التربية بالعادة ( 2 )
35- وسائل تربية الأولاد ( 5 ) : التربية بالموعظة ( 1 )
36- وسائل تربية الأولاد ( 6 ) : التربية بالموعظة ( 2 )
37- وسائل تربية الأولاد ( 7 ) : التربية بالملاحظة ( 1 )
38- وسائل تربية الأولاد ( 8 ) : التربية بالملاحظة ( 2 )
39- وسائل تربية الأولاد ( 9 ) : التربية بالعقوبة ( 1 )
40- وسائل تربية الأولاد ( 10 ) : صفات المربي
41- وسائل تربية الأولاد ( 11 ) : القواعد الأساسية في التربية
42- وسائل تربية الأولاد ( 12 ) : القواعد الأساسية في التربية :قاعدة الربط ( 2 )
43- وسائل تربية الأولاد ( 13 ) : القواعد الأساسية في التربية :قاعدة الربط ( 3 )
44- وسائل تربية الأولاد ( 14 ) : القواعد الأساسية في التربية : قاعدة الربط ( 4 )
45- وسائل تربية الأولاد ( 15 ) : القواعد الأساسية في التربية : التربية بالتحذير ( 1 )
46- وسائل تربية الأولاد ( 16 ) : القواعد الأساسية في التربية : التربية بالتحذير ( 2 )
47- وسائل تربية الأولاد ( 17 ) : القواعد الأساسية في التربية : التربية بالتحذير ( 3 )
48- وسائل تربية الأولاد ( 18 ) : القواعد الأساسية في التربية : التربية بالتحذير ( 4 )
49- وسائل تربية الأولاد ( 19 ) : تشويق المتعلم إلى أشرف الكسب
50- وسائل تربية الأولاد ( 20 ) : مراعاة الفروق بين الصغار وأن يعيش الطفل سنه
51- وسائل تربية الأولاد ( 21 ) : التعاون بين المسجد والمدرسة والبيت
=================
وقد قمت بعمليات عدة حتى فهرستها على الشاملة 3 ،ووضعت تعريفاً مختصرا للشيخ حفظه الله .
وهو يعتمد بالدرجة الأولى على القرآن الكريم ، ثم على السنة النبوية ، ويذكر من أخرج الحديث دون ذكر مكانه ،وفيها الصحيح والحسن وما دون ذلك .
فإن تيسر لنا في وقت آخر فسوف نقوم بمراجعته وتحقيقه وتخريج أحاديثه ، وإن لم يتسر ذلك ،فلعل طالبا من طلاب العلم - المتمكنين - يقوم بذلك
نسأل الله تعالى أن ينفع به كاتبه وجامعه وقارئه وناشره والدال عليه في الدارين .
الباحث في القرآن والسنة
علي بن نايف الشحود
في 25 جمادى الآخرة 1430 هـ الموافق ل 19/6/2009 م(1/1)
سيرة الدكتور محمد راتب النابلسي الذاتية
لنبدأ و نعطي لمحة سريعة عن الدكتور راتب النابلسي
الدكتور محمد راتب النابلسي عمل في حقل التعليم الجامعي ، في كلية التربية بجامعة دمشق ، قرابة ثلاثين عاماً وهو يدرس مادة الإعجاز العلمي في القرآن والسنة في كليات الشريعة وأصول الدين ، ويشرف على مجلة ( نهج الإسلام ) التي تصدرها وزارة الأوقاف في الجمهورية العربية السورية .
ومثَّل سورية ، و شارك في عدد من المؤتمرات الإسلامية في أكثر من بلد عربي ، وغربي ، وشرقي ، ولبى دعوة الجاليات ، والجمعيات ، والجامعات الإسلامية ، في أمريكا الشمالية ، وفي أستراليا ، وفي تركيا ، وفي إيران ، وفي بعض الدول العربية ، وغيرها لإلقاء المحاضرات الدينية .
وله دروس وندوات تبثها أجهزة الإعلام المسموعة والمرئية ، السورية، والعربية، والإسلامية وغيرها في المناسبات الدينية ، وله برنامج ديني دوري تبثه الفضائية السورية كل أسبوعين وهو " الفقه الحضاري " .
وله مؤلفات عدة أبرزها، نظرات في الإسلام، وتأملات في الإسلام، وموسوعة أسماء الله الحسنى، وموسوعة الإعجاز العلمي في القرآن والسنة، وكتب أخرى .(1/1)
1- تمهيد ـ رعاية الأولاد واجب ديني.
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين ، اللهم أخرجنا من ظلمات الجهل والوهم ، إلى أنوار المعرفة والعلم ، ومن وحول الشهوات ، إلى جنات القربات .
أيها الأخوة الكرام ، مع الدرس الأول من دروس تربية الأولاد في الإسلام .
بادئ ذي بدء : الأطفال غراس الحياة ، قطوف الأمل ، قرة العين ، زهور الأمة ، براعم الأمة ، هم البشرى : * يَا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ * . ( سورة مريم الآية : 7 ) .
هم قرة العين : * رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَاماً * .( سورة الفرقان ) .
هم المحبة ، هم المودة والرحمة :* وَمِنْ آَيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً * .( سورة الروم الآية : 21 ) .
قال العلماء : المودة والرحمة هم الأولاد ، هم زينة الحياة الدنيا .* الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا * .( سورة الكهف الآية : 46 ) .
لذلك أيها الأخوة ، رعاية الأولاد واجب ديني ، محبتهم قربة إلى الله ، لأنه أحباب الله .
هناك قصة رمزية للتوضيح نبي كريم مرّ بامرأة تخبز على التنور ، وقد وضعت ابنها على إحدى طرفي التنور ، وكلما وضعت الرغيف في التنور ضمت هذا الصغير وشمته وقبلته ، تعجب هذا النبي ، قال : يا رب ما هذه الرحمة ! هي رحمة الله عز وجل ، والله عز وجل قال : سأنزعها ، فلما نزع الرحمة من قلب الأم بكى هذا الطفل فألقته في التنور .
لذلك محبة الآباء والأمهات لأولادهم هي محبة الله .* وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي * .( سورة طه الآية : 39 ) .
هذا كلام دقيق جداً ، الحب الذي يمتلئ به قلب الأم ، والذي يمتلئ به قلب الأب هي محبة الله لهذا الإنسان ، أودعها في قلب أمه وأبيه ، فلذلك الأطفال أحباب الله ، ومحبتهم قربة إلى الله ، ورعايتهم واجب ديني ، الآن الآية الكريمة :* لَا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ * وَأَنْتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ * وَوَالِدٍ وَمَا وَلَدَ * .( سورة البلد ) .
نظام الأبوة والبنوة أكبر مثال نتعرف من خلاله إلى الله ، كيف في إنسان همه الأول سعادة ابنه ، وهو ليس محتاجاً له أبداً ، همه الأول تفوق ابنه ، همه الأول صحة ابنه ، همه الأول سعادة ابنه ، كيف أن في بني البشر الأب والأم لا شيء عندهما أقرب إلى قلبيهما من الابن ، يبذلان من أجله الغالي والرخيص ، والنفس والنفيس ، تجوع الأم ليشبع ابنها ، تخاف ليطمئن .(1/2)
على كل نظام الكون من خلال الوالد والولد يعرفنا بالله عز وجل ، للتقريب : الأم كيف أنها لا تنام الليل من أجل ابنها ، وإذا مرض ابنها تكاد تموت قلقاً عليه ؟ هذه رحمة أودعها الله في قلب الأم ، فكيف بصاحب الرحمة ؟ دقق :* فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ * .( سورة آل عمران الآية : 159 )
* وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ * .( سورة الكهف الآية : 58 ) .
أرحم الخلق بالخلق رسول الله ، ومع ذلك جاءت الرحمة في الآية نكرة ، * فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ * ، * وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ * ، الآية الكريمة * لَا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ * وَأَنْتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ * وَوَالِدٍ وَمَا وَلَدَ * نظام الأبوة من البنوة .
أكبر تعريف برحمة الله ورعايته ، الآية الكريمة :* إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ * .( سورة هود الآية : 119 ) .
خلقهم ليرحمهم ، الآن الآية الثانية :* يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ * .( سورة النساء الآية : 11 ) .
نحن في القرآن الكريم الآية لها سياق ، ولها سباق ، ولها لحاق ، لكنك إذا نزعت الآية من سياقها تشير إلى حقيقة ثانية ، فوق الزمان والمكان .
* وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً * .( سورة الطلاق ) .
هذه الآية وردت في سورة الطلاق ، معناها السياقي أنه من يتق الله في تطليق امرأته طلقها طلقة واحدة ، * يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً * إلى إرجاعها ، من طلقها طلاقاً سنياً طلقة واحدة ، * يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً * إلى إرجاعها ، انزع هذه الآية من سياقها ، هي آية تشير إلى حقيقة ثابتة ، * وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ * في كسب ماله ، * يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً * من إتلافه ، * وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ * في تربية أولاده يجعل الله له مخرجاً من عقوقهم ، * وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ * في كسب ماله ، * يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً * في اختيار زوجته ، يمكن أن تكتب حول هذه الآية مجلدات .
نُزعت هذه الآية من سياقها فإذا هي قانون عام .
والآية هذه أتت في موضوع المواريث ، انزعها من سياقها : * يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ * ، خالق السماوات والأرض ، يوصينا بأولادنا .
والله أيها الأخوة ، كلمة لعلها مؤلمة لكن الحقيقة المرة أفضل ألف مرة من الوهم المريح ، لم يبقَ في أيدي المسلمين من ورقة رابحة إلا أولادهم ، ومهما جمعت من أموال ومهما ارتقيت إلى مناصب ، ومهما ارتقيت إلى مدارج الرقي ، إن لم يكن ابنك كما تتمنى فأنت أشقى الناس .
لذلك الآية الكريمة في قوله تعالى : * فَلَا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ * .( سورة طه الآية : 117 ) .
آدم وحواء ، * فَلَا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ * .* الْجَنَّةِ فَتَشْقَى * .( سورة طه ) .(1/3)
بحسب قواعد اللغة : فتشقيا ، * فَلَا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ * ، الآية * فَتَشْقَى * أما السياق فتشقيا ، ماذا قال علماء التفسير ؟ قال : هذا إيجاز بليغ ، لأن شقاء الرجل شقاء حكمي لزوجته ، * فَلَا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى * .
يقاس على ذلك الأب والأم يشقيان بشقاء أولادهما ، والله الذي لا إله إلا هو أحياناً يأتيني اتصال هاتفي الأم أو الأب يكادان يموتان من الألم لانحراف ولدهما .
أيها الأب : أيها أيتها الأم : إن رأيتِ ، أو إن أردت حالة نفسية لا توصف من شدة ما فيها من سعادة هي قرة العين ، الآية الكريمة : * رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَاماً * ، هذا العمل العظيم تربية الأولاد جزاؤه في الدنيا قبل الآخرة ، في الآخرة جزاء عظيم ما جزاؤه ؟
* وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ * .( سورة الطور الآية : 21 ) .
يعني أعمال ذريتهم ألحقناها بهم ، إن ربيت ولداً صالحاً كل أعماله الصالحة في صحيفتك ، الآن كل أعمال أولاده في صحيفتك ، كل أعمال أولاد أولاده في صحيفتك ، كل أعمال ذريته إلى يوم القيامة في صحيفتك ، لذلك :(( أفضل كسب الرجل ولده )) .[أخرجه الطبراني عن أبو بردة بن نيار ] .
أعظم أنواع الكسب أن تعتني بابنٍ يكون صالحاً من بعدك .
ذكرت لكم من قبل أن الإنسان مفطور على حبّ وجوده ، وعلى حبّ سلامة وجوده ، وعلى حبّ كمال وجوده ، وعلى حبّ استمرار وجوده ، سلامة وجودك بطاعة الله والطاعة دائماً في الأعم الأغلب سلبية ، أنا ما كذبت ، ما ، أنا ما اغتبت ، أنا ما قصرت الاستقامة طابعها سلبي ، تحقق السلامة ، ولكن العمل الصالح طابعه إيجابي ، يحقق السعادة الاستقامة تبدأ بما ، أما العمل الصالح يبدأ ، ببذلت ، أعطيت ، ضحيت ، خدمت ، أنفقت دللت ، أنت بالاستقامة تسلم ، وبالعمل الصالح تسعد ، وبتربية الأولاد يستمر وجودك .
والله مرة توفي عالم جليل ، وفي آخر أيام التعزية وقف ابنه وخطب خطبة رائعة فتأثرت تأثراً بالغاً وقلت : إذاً لم يمت ! ما دام ربى ابنه ليكون على شاكلته ، يكون داعية إلى الله إذاً لم يمت !.
أنت بالاستقامة تسلم ، وبالعمل الصالح تسعد ، وبتربية أولادك يستمر وجودك لذلك في الحديث الشريف :(( إن أولادَكُم مِنْ أطْيَبِ كَسْبِكُم ))[ أخرجه أبو داود.عن عبد الله بن عمرو بن العاص ]
لكن يحتاج إلى وقت ، يحتاج أن يكون ابنك معك ، أن تلزم ولدك ، أن توجهه ، العمل الذي يمتص كل وقتك هو خسارة ، ألغى أبوتك ، ألغى تربيتك لأولادك ، ألغى توجيهك لهم .
أكدت لكم كثيراً أن النجاح في الحياة لا يمكن أن يكون جزيئاً ، لا تعدّ ناجحاً في الحياة إذا حصّلت دخلاً كبيراً ، وأهملت أولادك ، لا تعدّ ناجحاً في الحياة إذا حصلت دخلاً كبيراً وأهملت عملك ، لا(1/4)
تعدّ ناجحاً إذا اعتنيت بأولادك وقصرت مع ربك ، النجاح في الحياة لابد من أن يكون شمولياً ، أن تنجح في علاقتك مع الله ، وعلاقتك مع زوجتك وأولادك ، وعلاقتك مع عملك ، وعلاقتك مع صحتك .
(( إن أولادَكُم مِنْ أطْيَبِ كَسْبِكُم )) .[ أخرجه أبو داود.عن عبد الله بن عمرو بن العاص ] .
والله لا أبالغ ، أعظم عمل تقوم به أن تربي ابنك تربية إيمانية أخلاقية ، علمية نفسية ، اجتماعية ، جسمية ، أن تربي ابنك هذه التربية إذاً هو قرة عينك .
والله مرة قلت لأب ابنه عندنا في المسجد لكن صالح جداً ، متفوق في دراسته ، أخلاقه عالية ، ويتابع القرآن الكريم وطلب العلم ، قلت له : والله هذا الابن بالمقياس المادي يسوى مئة مليار دولار ، لو معك مئة مليار هذا الابن أغنى من هذا المبلغ ، ولو كنت في الكفاف ، وعندك هذا الابن ما خسرت شيئاً .
إذاً * يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ * ، إله عظيم يقول :* يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ * .( سورة التحريم الآية : 6 ) .
تربية الأولاد بحسب هذه الآية فرض عين ، * قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ * ، ورد في بعض الآثار : أن البنت التي لا يربيها أبوها ، قد تتفلت ، وقد تستحق النار يوم القيامة ، تقف هذه البنت أمام رب العزة ، تقول له : يا رب لا أدخل النار حتى أدخل أبي قبلي ، لأنه كان سبب شقائي .
فبين أن ترقى إلى أعلى عليين ، وبين أن يسقط الإنسان في أسفل سافلين بتربية أولاده .
أيها الأخوة ، * يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ * ، * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ * ، وبالمقابل :* يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ * .( سورة المنافقون الآية : 9 ) .
هذه الآية تؤكد المعنى الشمولي ، * لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ * ، ينبغي أن تربي أولادك ، الله عز وجل يوصيك بهم ، وينبغي أن تعتني بإيمانك واستقامتك وعملك الصالح .
نحن إذا ذكرنا كلمة قتل يقفز إلى أذهاننا هو الذبح ، لا ، قال تعالى :* وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ * .( سورة البقرة الآية : 191 ) .
هذه البنت البريئة التي وئدت في الجاهلية ، ما مصيرها ؟ إلى الجنة ، مع أنها وئدت ، والله عز وجل يقول :* وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ * بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ * .( سورة التكوير ) .
واستناداً إلى قوله تعالى : * وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ * معنى ذلك إن لم تربِ ابنتك ، وتفلتت ، وعرضت مفاتنها ، ولم تكن منضبطة بمنهج الله ، أنت بهذا قتلتها والدليل : * وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ * ، لذلك الآية الكريمة :* وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ مِنْ إِمْلَاقٍ * .( سورة الأنعام الآية : 151 ) .(1/5)
الإملاق هو الفقر ، قد نفهم هذه الآية بالمعنى الواسع ، يعني من أجل تأمين دخل كبير لا تهتم بدينه ، لا تهتم بعقيدته ، قد ترسله إلى بلد يعود كافراً بدينه و بأمته ، من أجل أن يحصّل دخلاً كبيراً ، وهذا مزلق خطير يقع به الآباء من أجل دنيا أبنائهم ، قد يكون محل فيه فتنة ، فيه فساد ، فيه اختلاط ، فيه انحراف ، في بلد بعيد ، قد يأتي وقد ارتكب الفواحش ترى الأب لا يهتم بدين ابنه ، كما يهتم بدخله وعمله ، هذا مزلق خطير في حياة المسلمين ، قد يفهم هذا المعنى من قوله تعالى : * وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ مِنْ إِمْلَاقٍ * ، لأن : * وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ * ، فأنت حينما تهمل دينه ، وعقيدته ، وتهمل استقامته ، ولا يعنيك طهارته ، أو انحرافه كأنك قتلته ، * وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ * .
أيها الأخوة ، شيء آخر :(( إن أولادكم هبة الله لكم )) .[أخرجه الحاكم عن عائشة رضي الله تعالى عنها ] .
هبة الله ثمينة جداً ، أنا والله في الثلاثين عام الماضية ، ما أفتيت بإسقاط ، ولو كان ضمن الأربعين يوماً ، أقول هذا هدية من الله ، قد يكون هذا الابن مصلحاً كبيراً ، أو داعية كبيراً ، أو عالماً جليلاً ، الابن هدية من الله ، والهدية ينبغي أن يُعتنى بها .(( إن أولادكم هبة الله لكم )) .
الدليل :* وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ * .( سورة الأنعام الآية : 84 ) .
* وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى * .( سورة الأنبياء الآية : 90 ) .
* وَوَهَبْنَا لِدَاوُودَ سُلَيْمَانَ * .( سورة ص الآية : 30 ) .
الهبة فضل من الله عز وجل ، إذا أب عنده ابن صالح ، يقول لك : والله ما اعتنيت به كثيراً ، لكن هو صالح ، هو صاحب دين ، اسجد لله ، واشكر الله عز وجل أن وهب لك ولداً صالحاً ، فكم من إنسان منضبط ، وعالم ، وعامل ، ومتفوق ، له ابن ليس كما يريد ، * وَوَهَبْنَا لَهُ * هذا معنى آخر ، أي إذا ابنك صالح جداً لا تنسب صلاحه إليك انسب صلاحه إلى أن الله عز وجل تفضل عليك ، بهذا الابن الصالح .
والله أيها الأخوة ، لا أبالغ ما من شعور يغمر قلب الأب والأم لدرجة أنهما يسعدان بهذا الشعور كأن يرى الأب أو الأم ابنهما صالحاً .
والله امرأة في لوس أنجلوس كان في مؤتمر إسلامي كبير ألقيت كلمة ، ولما انتهت كلمتي اقتربت مني امرأة محجبة ، قالت لي : أنا أخت فلان ، فلان صديقي في الشام قلت : أهلاً وسهلاً ، فإذا هي تنفجر بالبكاء ، قلت : خير إن شاء الله ؟! قالت : ابنتي راقصة و ابني ملحد .
لذلك قد تجد في بلاد الغرب رخاء ، ودخلاً فلكياً ، وبلاداً جميلة ، لكن تخسر شيئاً واحداً ، تخسر أولادك .
أيها الأخوة ، النبي عليه الصلاة والسلام يقول :(( أَكْرِمُوا أَوْلَادَكُمْ وَأَحْسِنُوا أَدَبَهُمْ )) .[ أخرجه ابن ماجه عن أنس بن مالك ] .(1/6)
أيعقل أن ينزل النبي من على المنبر وهو يخطب ليحمل الحسن والحسين ، ويتابع الخطبة ؟ أيعقل أن النبي في أثناء السجود يرتحل الحسن ظهر النبي ، فيطيل السجود إكراماً له ؟ كان إذا دخل بيته بساماً ضحاكاً ، كان يقول :(( أَكْرِمُوا أَوْلَادَكُمْ وَأَحْسِنُوا أَدَبَهُمْ )) .[ أخرجه ابن ماجه عن أنس بن مالك ] .
(( من كان له صبي فليتصابَ له )) .[ من الجامع الصغير : عن " أبي معاوية " ]
سيد العالمين ، سيد المرسلين ، في البيت يلاعب أحفاده ، يمتطون ظهره ، هل رأيت أباً كهذا الأب ؟
من توجيهات النبي عليه الصلاة والسلام :(( اتقوا الله ، واعْدِلُوا في أولادكم )) .[أخرجه البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي عنى النعمان بن البشير ] .
والله أيها الأخوة ، ينبغي أن تعدل بين أولادك حتى في القبل ، حتى في الابتسامة أحياناً الأب دون أن يشعر يعتني بأحد أولاده ، يكون على ذكاء لا بأس به ، أو على وجه نير وقد يتجهم بولد آخر ، هل تدري أيها الأب أنك حطمت الثاني ، وأنك عقدته ، وأنك أصبته بأمراض ، وأنه يموت ولا ينسى هذا الموقف ؟ أنا أتمنى على الأب المؤمن أن يعدل بين أولاده حتى في القبل ، حتى في الابتسامة ، طبعاً باللبس ، والطعام ، والشراب ، والمال شيء بديهي وقطعي ، أما بالأشياء التي تظنها لا شيء ، في القبلة ، ابن حملته ، الثاني ما حملته ، ابن ضممته ، الثاني ما ضممته ، ابن ابتسمت له ، والثاني ما ابتسمت له ، لمَ هذه التفرقة ؟ .
(( واعْدِلُوا في أولادكم )) .[متفق عليه عن النعمان بن بشير]
ولو في القبل .
يا رسول الله ! اشهد أني نحلت ابني هذا شيئاً (حديقة) قال : ألك ولد آخر ؟ قال : نعم ، قال : هل نحلته مثل ما نحلت هذا ؟ قال : لا ، قال : أشهد غيري فإني لا أشهد على جور ، والله رُفعت إليّ مشكلة ، أن أباً توفاه الله عز وجل ، ترك ألف مليون ، أحد أولاده يعمل على شاحنة ، والثاني 80 محضر باسمه ، والله ! لكن الثاني صالح ، فأعطى أخاه حقه بالتمام والكمال .
(( إن الرجل ليعبد الله ستين عاماً ثم يضر في الوصية فتجب له النار )) .[ورد في الأثر]
(( اتقوا الله ، واعْدِلُوا في أولادكم )) .وفي حديث آخر :(( سووا بين أولادكم في العطية )) .
[ أخرجه الحارث عن عبد الله بن عباس ] .
لكن في حديث آخر ، يقول عليه الصلاة والسلام :(( أعينوا أولادكم على البر )) .[ أخرجه الطبراني عن أبي هريرة ] .
رحم الله والداً أعان ولده على بره ، يجعله يعمل معه في المحل التجاري ، ما في مانع ، بمصروفه ، يريد الزواج بحاجة إلى بيت ، إلى زواج ، بمصروفه ، أعطه أجر المثل ، ولو أنه ابنك ، في كلمة أقولها : في ثقافة المسلمين الأب محترم قطعاً ، في ثقافة المسلمين الأب محترم ، ولكن ما كل أب يحب ، بطولتك(1/7)
لا أن تنتزع احترامك من أولادك ، بطولتك أن يحبك أولادك ، مقياس المحبة ، كل أب محترم في ثقافة المسلمين ، لكن ما كل أب يحب .
(( أعينوا أولادكم على البر )) ، (( رحم الله والداً أعان ولده على بره )) .
في حديث آخر ، يقول عليه الصلاة والسلام :
(( أَكْرِمُوا أَوْلَادَكُمْ وَأَحْسِنُوا أَدَبَهُمْ )) .
ولسيدنا علي قول يقترب من هذا القول : أكرموا أولادكم ، وأحسنوا تربيتهم فإنهم خلقوا لزمن غير زمنكم .
في مشكلة ، الأب عاش بالخمسينات ، عاش على نمط معين ، الآن الابن بحاجة إلى كومبيوتر ، بحاجة إلى شيء مشروع ، غير محرم ، الأب لم يقنع به ، يجب أن تساير ما هو مستجد في حياة ابنك ، إنما هو وفق الشرع ، ما كل شيء أنت قانع فيه ، أو مالك قانع فيه يصلح لابنك ، لذلك فإنهم خلقوا لزمن غير زمنكم ، الأب الواعي يتماشى مع ابنه وفق الضوابط الشرعية طبعاً .
يوجد توجيه آخر : يقول عليه الصلاة والسلام :
(( كفى بالمرء إِثما أن يُضَيِّع مَن يقوتُ )) .
[أخرجه مسلم وأبو داود عن عبد الله بن عمرو بن العاص ] .
هو يطعمه ، ويسقيه ، ويكسوه ، ويعتني بصحته ، لكنه ضيّع له إيمانه ، ضيّع له استقامته ، لم يعبأ بترك صلاته ، ترك الصلاة ، يهمه تحصيله الدراسي فقط ، تهمه صحته فقط ، أكاد أقول وأرجو أن أكون على صواب : محبة الأبناء طبع ، وبر الأبناء بآبائهم تكليف ، الفرق كبير جداً .
تتصور يصدر قرار من رئاسة الوزراء بإلزام المواطنين بتناول طعام الفطور ؟ شيء مضحك ، مستحيل ، لأن الحاجة إلى الطعام طبع ، لا تحتاج إلى أمر أبداً .
والله عز وجل من أجل أن يربى الأولاد أودع في قلوب آبائهم المحبة ، فالأب المؤمن ، الغير المؤمن ، والمستقيم ، والغير المستقيم ، والمثقف ، والغير المثقف ، أكبر دليل اذهب إلى مستشفى الأطفال ، الأم المحجبة تبكي ، والسافرة تبكي ، والجاهلة تبكي والمتعلمة تبكي ، والبدوية تبكي ، الله عز وجل أودع في قلوب الآباء محبة الأولاد .
الآن كلام دقيق قليلاً : يمكن ما في أجر على محبتك لأولادك ، إذا شخص تناول طعام الإفطار يعمل عملاً عظيماً ؟ تقرب إلى الله ؟ يبكي بالصلاة بعد الأكل ؟ لا ، أكل بحاجة إلى أن يأكل ، يعني إذا شيء ضمن الطبع أكاد أقول ما في أجر ، لكن متى يؤجر الأب على تربية ابنه ؟ إذا اهتم بدينه ، اهتم بصلاته ، اهتم بعقيدته ، اهتم بأخلاقه ، اهتم بمستقبله الأخروي ، أما تهتم فقط بصحته ؟ تحصيله ؟ الناس جميعاً هكذا ، في الشرق والغرب ، لأن العناية بالأبناء طبع .
لذلك لا يوجد إلا آية واحدة يتيمة متعلقة بالمواريث : * يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ * .(1/8)
* مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ * .
( سورة النساء الآية : 11 ) .
أما بر الأبناء لآبائهم تكليف :
* وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا * .
( سورة الإسراء الآية : 33 ) .
بر الأبناء للآباء تكليف ، فالابن إذا برّ أباه له أجر عظيم ، لأنه من الممكن أن يهمل أباه ، ما في عنده حاجة فطرية إلى برّ أبيه ، ولا سيما في آخر الزمان ، ينسى أمه يقول لها : كل البلاء منك ، إذا اختلفت مع زوجته ، وببيت واحد ، هو شهوته مع زوجته ، مصلحته مع زوجته ، أمه عبء أصبحت عليه ، يتأفف منها أحياناً ، لذلك محبة الآباء لأولادهم طبع فيهم ، بينما بر الأبناء لآبائهم تكليف .
الابن البار له عند الله أجر كبير ، لكن إذا اعتنى بصحة ابنه فقط ، وبتحصيله فقط ، من دون ما يهتم بعقيدته ، باستقامته ، بإيمانه ، بصلاته ، جاء الأب مساءً الأولاد أكلوا ؟ قالت له : أكلوا ، كتبوا وظائفهم ؟ كتبوا ، انتهى ، وصلاتهم ؟ لذلك :
* وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا * .
( سورة طه الآية : 132 ) .
لا ترقى عند الله إلا إذا اعتنيت بدين أبنائك .
أخوانا الكرام :
(( لأنْ يُؤَدِّبَ الرجلُ وَلَدَه ، خيرٌ من أن يتصدق بصاع )) .
[أخرجه الترمذي عن جابر بن سمرة ] .
التربية عمل عظيم .
(( ما نَحَلَ وَالِدٌ وَلَداً من نَحْلٍ أفضل من أدبٍ حَسَنٍ )) .
[ أخرجه الترمذي عن مرسل سعيد بن العاص ] .
يقول لك : مؤدب ، ضابط لسانه ، الأب وراءه ، لذلك التي اشتكت إلى الله من فوق سبع سماوات ، وقد قال الله عز وجل :
* قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ * .
( سورة المجادلة الآية : 1 ) .
قالت : يا رسول الله ! إن زوجي تزوجني وأنا شابة ، ذات أهل ، ومال ، وجمال فلما كبرت سني ، ونثر بطني ، وتفرق أهلي ، وذهب مالي ، قال : أنتِ عليّ كظهر أمي ولي منه أولاد ، الآن دققوا :(1/9)
إن تركتهم إليه ضاعوا ، أنا أربيهم ، وإن ضممتهم إلي جاعوا ، هو يعمل ويكسب رزقاً ليطعمهم ، وأنا أربيهم .
فلذلك :
(( ما نَحَلَ وَالِدٌ وَلَداً من نَحْلٍ أفضل من أدبٍ حَسَنٍ )) .
[ أخرجه الترمذي عن سعيد بن العاص]
ثم يقول عليه الصلاة والسلام :
(( أدبوا أولادكم على ثلاث خصال )) .
[رواه الطبراني عن علي]
على حب نبيكم ، أنت تصدق أنه الحديث معناه أنه يا بني حب رسول الله ؟ كلام مضحك هذا ، اجلس معه ، من حين لآخر ، حدثه عن رسول الله ، عن محبته ، عن تواضعه عن رحمته ، عن محبته للصغار ، ذكره بمواقف النبي من الصغار .
إلى جانبه غلام ، جاءت الضيافة ، هو على يمين النبي ، قال له : أتأذن لي يا غلام أن أقدم هذا الشراب لأبي بكر ؟ قال له : لا والله لا آذن لك ، يحترم شخصيته النبي الكريم ، يعامل الصغير كالكبير .
أحياناً الأب يستشير ابنه الصغير ، يشعر الصغير بمكانة كبيرة ، ما قولك يا ولدي في هذا العمل ؟ أحياناً المشورة تعمل مودى بالغ جداً ، لو أن الأب استشار أولاده ، لو أنه شاركهم في صنع القرار ، أوامر ، أوامر ، أوامر ، وتعنيف ، اسأله ما رأيك يا بني ؟ .
أنا حدثني أب ، قال لي : أنا أضع في مكان مبلغاً من المال مفتوح ، وفي دفتر علّم أولاده ، خذ ما تشاء لكن سجل ، أعطاه مسؤولية ، المال موجود ، مبلغ معقول ، خذ حاجتك وسجل ، أنا أخذت مئة ليرة ، أخذت خمسين ، فصار الابن يشعر أن هذا المبلغ طوال الشهر ، هذا للشهر بأكمله ، في معي ثلاث أخوات ، فبدأ يأخذ باعتدال ، والأشياء الضرورية .
مرة حدثني أخ ، قال لي ، عنده ابن متفوق جداً ، قال له : يا بني في خطاط كبير هو على وشك الموت (أي تقدم به السن) وأنت بالنهاية طبيب ، فاعمل لوحة عند هذا الخطاط لوحة نحاسية كبيرة الدكتور ، هو كان بالصف الثامن ، وضع هذه اللوحة في غرفته هذا الصغير يستيقظ صباحاً الدكتور ، ينام الدكتور ، والآن دكتور من كبار الأطباء ، بهذه اللوحة .
التقيت بالحج برجل من كبار العلماء ، قال لي : أنا من قرية من قرى حمص له قريب أمي ، قال له : أنت بالتعبير الدارج حرام تكون أقل من دكتور ، قريب أمي بقرية من قرى حمص ، قال له : حرام تكون أقل من دكتور ، قال لي : والله هذه الكلمة بقيت أسعى من أجل تحقيقها طوال عمري .(1/10)
عليك أن تهتم بابنك ، تهتم بدراسته ، تهتم بأخلاقه ، تعرف من أصدقاؤه ؟ تعرف ماذا يشكو ؟ تتلطف معه ، يفصح لك عن سره ، اجعل ابنك صديقاً لك ، لا تجعل حاجزاً بينك وبين ابنك ، اجعله يبوح لك بكل شيء ، اجعله صديقاً لك .
لاعب ولدك سبعاً ، من واحد لسبعة ملاعبة ، ضرب لا يوجد ، وأدبه سبعاً ، معه حاجة ليست له ، نبهه ، إذا عادها مرة ثانية مرة ثالثة أدبه ، ترك الصلاة أدبه ، وراقبه سبعاً ثم اترك حبله على الغارم ، من واحد لسبعة ملاعبة ، من سبعة لـ14 تأديباً .
مرة كنا بمؤتمر ، دخلنا إلى غرفة أحد أعضاء المؤتمر ، عجيب ! مرتبة ترتيباً غير معقول و هو بالفندق ، إذا شخص بالفندق لا يهتم ، لأنه لا يوجد ضيوف ، قال لي : أنا أهلي من سن مبكر جداً علموني على طي ثيابي ، على تهيئة حاجاتي ، وعلى تنظيم غرفتي في عادات .
والله مرة التقيت مع شخص ، قلت له : متى أراك غداً ؟ قال : الساعة السادسة الفجر ، قلت له : أين ؟ قال : بالمكتب ، قلت السادسة ؟! قال : السادسة ، ما السبب ؟ قال لي : أنا لي أب كان يأخذني معه إلى صلاة الفجر كل يوم ، فهذه العادة ترسخت فيّ ، أنا قبل الفجر أستيقظ كل يوم ، أصلي وآتي إلى مكتبي .
أب صلى الفجر مع ابنه حاضراً ، نشأ ابنه على صلاة الفجر ، لا تستهين ، يمكن يأتيك ولد ينفع الناس من بعدك ، بسبب توجيهك .
كنت مرة بازرع بالجامع ، أمامي طلاب مدرسة ، إنسان همس بأذني قال لي : هذه ازرع بلد ابن قيم الجوزية ، قلت له : ما شاء الله ! أنا دُهشت ، ابن القيم كان طفلاً صغيراً ، من يخطر في باله أن هذا الطفل الصغير سيكون ابن القيم ؟ .
هناك الداراني بداريا ، النووي بنوى ، في علماء كبار من قرى ، رفعوا شأن الإسلام عالياً ، أنت توقع أن يكون ابنك إنسان عظيم ، توقع ابنك يكون مصلحاً كبيراً ، عالماً جليلاً ، داعية خطيراً ، متفوقاً ، طبيباً جراحاً ، مهندساً كبيراً ، هيئ نفسك ، كل أعماله في صحيفتك .
هذه الموضوعات التي ربما كانت محاور للدروس القادمة .
والحمد لله رب العالمين
=============
... ... ... ...(1/11)
2- أهمية تربية الأولاد.
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين ، اللهم أخرجنا من ظلمات الجهل والوهم إلى أنوار المعرفة والعلم ، ومن وحول الشهوات إلى جنات القربات .
أيها الأخوة الكرام ، مع الدرس الثاني من دروس تربية الأولاد في الإسلام .
الحقيقة أن الإنسان هو المخلوق الأول ، ينبغي أن نعلم هذه الحقيقة ، أنت حينما تعلم أنك المخلوق الأول ، أنك إذا آمنت بالله ، وحققت الهدف من وجودك ، فأنت المخلوق الأول الذي يمكن أن يسبق الملائكة ، لذلك قالوا :
أتحسب أنك جرم صغير ... ... وفيك انطوى العالم الأكبر
* * *
بل قالوا : من عرف نفسه عرف ربه ، الإنسان بحالات كثيرة يكون غافلاً عن حقيقته ، لذلك قالوا : من الناس من يدري ويدري أنه يدري ، فهذا عالم فاتبعوه ، منهم من يدري ولا يدري أنه يدري فهذا غافل فنبهوه ، ومنهم من لا يدري ويدري أنه لا يدري فهذا جاهل فعلموه ، ومنهم من لا يدري ولا يدري أنه لا يدري فهذا شيطان فاحذروه .
أنت حينما تعلم أنك المخلوق الأول ، وأن الله سبحانه وتعالى خلقك لجنة عرضها السماوات والأرض ، وأن الدنيا مهما امتدت في نظر الآخرة صفر ، لا قيمة لها إطلاقاً ، بل إن الله سبحانه وتعالى أبى أن تكون الدنيا مكافأة لأحد ، بل أن يكون الحرمان منها عقاباً لأحد هي أقل من أن تكون مكافأة ، أو أن تكون حرماناً .
أيها الأخوة ، لمجرد أن تنقل اهتمامك من الدنيا إلى الآخرة ، تكون قد وضعت قدمك على الطريق الصحيح نحو الآخرة .
أقول لكم كلمة دقيقة جداً : إن لم تنعكس مقاييسك بعد أن آمنت بالآخرة فإيمانك بالآخرة ليس صحيحاً ، إن لم تنعكس مقاييسك ، في مقاييس فُطر الإنسان عليها قبل أن يعرف الله .
بالمناسبة حيث ما قرأتم في قوله تعالى : إن الإنسان ، الإنسان جاءت معرفة بأل فتعني الإنسان قبل أن يعرف الله .
* إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعاً * إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً * وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً * إِلَّا الْمُصَلِّينَ * .
( سورة المعارج ) .
* وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفاً * .
( سورة النساء ) .
* وَكَانَ الْإِنْسَانُ عَجُولاً * .(1/12)
( سورة الإسراء ) .
حيث ما وردت كلمة الإنسان معرفة بأل فتعني الإنسان قبل أن يعرف الله ، لكن بعد أن يعرفه شيء آخر ، قبل أن يعرفه يفرح بالأخذ ، بعد أن يعرفه بفرح بالعطاء فالمقياس انعكس ، قبل أن يعرفه يرى من الذكاء أن يستغل جهود الآخرين ، بعد أن عرفه يصبح في خدمة الآخرين ، قبل أن يعرفه يرى أن المال كل شيء ، بعد أن يعرفه يرى أن المال ليس بشيء .
كلمة دقيقة : إن لم تنعكس مقاييسك بعد الإيمان بالآخرة فاعلم علم اليقين أن إيمانك بالآخرة ليس كاملاً يحتاج إلى إعادة نظر .
البطولة أن تنقل اهتماماتك إلى الآخرة ، إذا نقلتها إلى الآخرة تكتشف كم هي عظيمة تربية الأولاد ، أنت حينما تؤمن بالآخرة وأن الله سبحانه وتعالى حينما قال :
* وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ * .
( سورة الطور الآية : 21 ) .
إن آمنت بالآخرة ترى أن تربية الأولاد أعظم عمل على الإطلاق ، إن آمنت بالآخرة ترى أن ابنك امتداد له ، إن آمنت بالآخرة ترى أن ابنك وذريته ومن يأتي بعده إلى يوم القيامة وأعمالهم الصالحة في صحيفتك ، * وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ * .
هي البطولة أن تؤمن بالآخرة ، البطولة أن تعمل للآخرة ، البطولة أن تنقل اهتماماتك للآخرة ، البطولة أن تعرف لماذا أنت في الدنيا ؟ أي لماذا أنت في الدنيا ؟ يقال : من أجل أن تعمل ، من أجل أن تعرف الله ، ومن أجل أن تنضبط بمنهجه ، ومن أجل أن تحسن إلى خلقه ، لتكون المعرفة ، والانضباط ، والإحسان ثمن الجنة ، ثمن جنة عرضها السماوات والأرض فيها :
(( ما لا عين رأتْ ولا أذن سمعتْ ، ولا خطَر على قلبِ بَشَرْ )) .
[أخرجه البخاري ومسلم والترمذي عن أبي هريرة ] .
بصراحة من دون أن تؤمن بالآخرة الابن عبء ، تتمنى أن تبتعد عنه ، متعب جداً ، يحتاج إلى رعاية ، إلى اهتمام ، إلى تعليم ، إلى توجيه ، إلى صبر ، إلى نفس طويل ، إلى متابعة .
أنت في رحلة مع أصدقائك ، لو أخذت معك ابنك معك عبء ، يجب أن تلاحظه أين ذهب ؟ ماذا فعل ؟ أو توجهه ، لو أبقيته في البيت أفضل ، أكثر الآباء يشعر أن ابنه عبء عليه ، يهمله ، يكبر الابن يكتشف الأب حقيقة تسحقه أنه خسر ابنه ، حينما تركه التصق بأصدقائه ، والأب لا يعلم مَن أصدقائه ، علموه عادات ، علموه أشياء منحرفة ، علموه كلمات بذيئة ، علموه أشياء لا ترضي الله ، فالأب يكتشف أن ابنه ماشي خطأ ، له تفكير مغلوط ، سلوك خطأ ، يحاول أن يصلحه يكون فات الأوان .(1/13)
أنا لا أنسى كلمة قالها لنا أحد الأخوة الكرام الدعاة ، الذي تخصص بعلم القيادة : إن كل الصفات التي تتمناها من ابنك ، من انضباط ، من صدق ، من أمانة ، من نظافة ، من عناية بالملابس ، من عناية بالأغراض كل الصفات التي تتمناها بابنك تُغرس فيه من السنة الأولى وحتى السنة السابعة ، وقال هذا الداعية : وبعد السنة السابعة العوض بسلامتك .
ويكون معظم الآباء في أول حياتهم منشغلين عن أولادهم ، تجد أباً صالحاً لكن لم ينتبه لهذه الحقائق .
صدقوا أيها الأخوة ، ولا أبالغ إن الابن الصالح يدخل على قلب أبيه من السرور ، من الرضا ، من السعادة ، ما لا يوصف ، بل إن الابن الصالح لشدة خطورة تربية الأولاد ما جعل الله لك أيها الأب الصالح مكافأتك بالآخرة ؛ جعلها في الدنيا والآخرة ، ما المكافأة في الدنيا ؟ يجعل الله أولادك قرة عين لك ، هذا فحوى قوله تعالى :
* رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَاماً * .
( سورة الفرقان ) .
كمقدمة دقيقة جداً : لم تعرف قيمة تربية الأولاد إلا إذا آمنت بالآخرة ، إلا إذا رأيت ابنك استمراراً لك ، وكنت أقول دائماً : جُبل الإنسان على حبّ وجوده ، وعلى حبّ سلامة وجوده ، وعلى حبّ كمال وجوده ، وعلى حبّ استمرار وجوده ، سلامة وجودك بإتباع تعليمات الصانع ، صدقت ولم تكذب ، وكنت أميناً ولم تخن ، كنت رحيماً ولم تقسُ أعطيت كل ذي حق حقه ، بإتباع تعليمات الصانع تسلم فقط ، ولكن بالعمل الصالح تسعد .
* فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً * .
( سورة الكهف الآية : 110 ) .
أما استمرار وجودك ؛ بتربية أولادك يستمر وجودك .
والله لا أنسى أحد خطباء بني أمية ، قصة قديمة جداً يمكن من عشرين عاماً توفي رحمه الله تعالى ، أقيم العزاء له بالجامع الأموي ، وفي اليوم الثالث من العزاء ، قام ابنه وألقى خطبة أمامنا ، صدقوا أيها الأخوة ، دمعت عيناي ، وبكيت ، وقلت : إذاً هذا الخطيب لم يمت ، الابن استمرار .
بأعماق أعماق أعماقك تحب أن تعيش عمراً طويلاً ، هذه طبيعة الإنسان ، بل إن الذي يسعدك أنك إذا عرفت الله ، واستقمت على أمره كنت في الجنة إلى أبد الآبدين ، الحاجة للاستمرار تتأتى من إيمانك بالآخرة .
الآن الحاجة إلى الاستمرار تتأتى أيضاً من تربية أولادك ، يعني إنسان يتوفاه الله عز وجل ، له أولاد صالحون ، مؤمنون ، طيبون ، لهم أعمال صالحة ، يدهم في الخير طويلة ، كلما رآه الإنسان رحمة الله على الوالد ، هذا الأب لا يُنسى ذكره ما دام ابنه مستقيماً ، فأنت حينما جُبلت على حبّ استمرار وجودك ، استمرار الوجود سببه أولاً الإيمان بالآخرة ، وثانياً تربية الأولاد .(1/14)
إذاً لا يمكن أن نعرف قيمة تربية الأولاد إلا إذا آمنا بالآخرة ، و إلا إذا علمنا أن هذا الابن أعماله لك ، أفعاله الصارخة لك ، صدقاته في صحيفتك ، عباداته في صحيفتك ، ابنك وابن ابنك وابن ابن ابنك .
مرة كنت في مؤتمر في أمريكا فقام أحد الدعاة وقال : إن لم تضمن أن يكون ابن ابن ابنك مسلماً في تلك البلاد لا ينبغي أن تبقى فيها ، أنا أعجبتني هذه الكلمة رددتها كثيراً ، أقيم مؤتمر للأطباء في دمشق ، من ديترويت جاء مئة طبيب للشام لحضور هذا المؤتمر ، أحد الأطباء زوج ابنته في هذه الفترة ، ودعاني إلى عقد القران ، حضرت هذا العقد وألقيت كلمة ، دون أن أشعر ذكرت كلمة هذا العالم ، لأنه كلهم من أمريكا ، قلت : إن لم تضمن أن يكون ابن ابن ابنك مسلماً لا ينبغي أن تبقى في هذه البلاد ، والله بعد أن انتهت كلمتي ، وانتهى الحفل تقدم مني طبيب مقيم هناك ، والله الدمعة على خده ، قلت خير إن شاء الله ! قال لي : ألم تقل أنت إن لم تضمن أن يكون ابن ابن ابنك قال لي : أنا ابني ليس مسلماً ، ابني الذي من صلبي ليس مسلماً .
فلذلك كنت أقول لهم هناك ، وقتها كان كلينتون : لو بلغت منصباً ككلينتون ، وثرة كأوناسيس ، وعلماً كأنشتاين ، ولم يكن ابنك كما تتمنى فأنت أشقى الناس ، دققوا في هذه الكلمة ، والله ما من كلمة أقولها لكم إلا نابعة من أعماقي ، لو بلغت أعلى منصب ، لو جمعت أكبر ثروة ، إن لم تضمن ، إن لم يكن ابن ابن ابنك كما تتمنى فأنت أشقى الناس ابحث عن سعادتك ، ابحث عن سلامتك ، تربية أولادك ، لا تقل لست متفرغاً هذا العذر ليس عند الله مقبولاً ، إن لم تضمن أن يكون ابن ابن ابنك مسلماً ، أو لم يكن ابنك كما تتمنى فأنت أشقى الناس .
لذلك الإيمان بالآخرة يعطيك قيمة تربية الأولاد ، هذا الابن في صحيفتك ، زواجه في صحيفتك ، أولاده في صحيفتك ، أولاده الصالحون في صحيفتك ، أولاد أولاده الصالحين في صحيفتك .
أيها الأخوة ، لكن أريد أن أضع بين أيديكم هذه الحقيقة التي طالما ذكرتها في جميع الدروس ، طالما آمن بها كل شيء في كياني : أنه لا يمكن أن يكون النجاح جزئياً نجاح جزئي لا يوجد ، لا يسمى النجاح نجاحاً إلا إذا كان شمولياً .
أي إنسان برع في كسب المال ، وأولاده شردوا عن منهج الله ، ليس ناجحاً في حياته ، إنسان ذهب إلى بلد بعيد ، وجاء بأموال طائلة على حساب تربية أولاده ليس هذا نجاحاً ، هذه الفكرة أرددها كثيراً : لا يمكن أن يكون النجاح جزئياً ، لا يسمى النجاح نجاحاً إلا إذا كان شمولياً .
طبعاً بالنسبة إليك أربعة نجاحات في محطات كبيرة ، أول نجاح ، وأكبر نجاح ، وأعظم نجاح ، والنجاح الأول والأطول أمداً نجاحك في معرفة الله .
(( ابن آدم اطلبني تجدني فإذا وجدتني وجدت كل شيء ، وإن فتك فاتك كل شيء وأنا أحبك إليك من كل شيء )) .(1/15)
[ ورد في الأثر ] .
دقق : المرأة أحياناً نجاحها الأول والأخير أن ترزق بزوج صالح ، نقول الزواج في حق المرأة كل فصول حياتها ، لكن في حق الرجل بعض فصول حياته ، في عمله ، في دراساته ، الآن كل أنواع النجاح تعد نجاحاً ، إلا أن النجاح الأول الذي هو أصل كل نجاح أن تعرف الله .
تصور بيتاً ، فيه براد ، ثلاجة ، غسالة ، مكيف ، مروحة ، فيه جميع الأجهزة من دون استثناء ، لكن لا يوجد فيه كهرباء ، كل هذه الأجهزة لا قيمة لها .
كأن معرفة الله واحد ، الزواج صفر ، معرفة الله مع الزواج عشرة ، معرفة الله مع الأولاد مئة ، معرفة الأولاد مع النجاح بالعمل ألف ، اسحب هذا الواحد ما بقي إلا أصفار صفر ، لذلك الآية الدقيقة الدقيقة :
* قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً * الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً * .
( سورة الكهف ) .
إذاً أول نقطة في هذا اللقاء الطيب : إذا آمنت باليوم الآخر إيماناً حقيقياً لأنه :
* وَإِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآَخِرَةِ عَنِ الصِّرَاطِ لَنَاكِبُونَ * .
( سورة المؤمنون ) .
سآتيكم بآية دقيقة جداً في هذا الموضوع ، أرأيت إلى هؤلاء الناس ؟ لا في بلدنا في العالم العربي ، بل في العالم الإسلامي ، بل في القارات الخمس ، أرأيت إلى ستة آلاف مليون ؟ كم تقسيم أرضي لهم ؟ الآن في دول الشمال ودول الجنوب ، دول الشمال 20% من سكان الأرض ، ويملكون 80% من ثروات الأرض ، ودول الجنوب 80% من دول الأرض يملكون 20% من ثروات الأرض ، دول الشمال ودول الجنوب ، العرق الأصفر ، العرق الأبيض ، العرق الأسمر ، الآريون ، والساميون ، الأغنياء والفقراء ، الأقوياء والضعفاء ، المستغِلون والمستَغلون ، هناك تقسيمات لا تعد ولا تحصى ، كل هذه التقسيمات عند الله باطلة ، عند الله تقسيمان اثنان .
1 ـ الإنسان الذي عرف الله فانضبط بمنهجه و سعد :
بالدليل : التقسيم الأول الإنسان الذي عرف الله ، فانضبط بمنهجه ، وأحسن إلى خلقه ، فسلم ، وسعد في الدنيا والآخرة .
2 ـ الإنسان الذي غفل عن الله وتفلت من منهجه وشقي :
الإنسان الذي غفل عن الله وتفلت من منهجه وأساء إلى خلقه فهلك وشقي في الدنيا والآخرة .
لن تجد نموذجاً ثالثاً في القرآن ، دقق :
* فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى * وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى * .(1/16)
( سورة الليل ) .
لحكمة بالغة الترتيب معكوس ، * وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى * أي بالجنة .
* لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى * .
( سورة يونس الآية : 26 ) .
الجنة يعني ، صدق أنه مخلوق للجنة ، يبنى على هذا التصديق اتقى أن يعصي الله ، استقام ، يبنى على هذه الاستقامة بنى حياته على العطاء ، ثلاث كلمات ، صدق أنه مخلوق للجنة اتقى أن يعصي الله ، بنى حياته على العطاء ، النموذج الآخر :
* وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ * .
( سورة الليل الآية : 8 ) .
بنى حياته على الأخذ ، لأنه استغنى عن طاعة الله ، ولأنه كذب بالجنة نموذجين ، صدق بالحسنى ، اتقى أن يعصي الله ، بنى حياته على العطاء ، كذب بالحسنى استغنى عن طاعة الله ، بنى حياته على الأخذ .
لذلك البشر جميعاً إما أن يكونوا مع الأقوياء ، أو مع الأنبياء ، الأنبياء ملكوا القلوب ، الأقوياء ملكوا الرقاب ، الأنبياء أعطوا ولم يأخذوا ، الأقوياء أخذوا ولم يعطوا الأنبياء عاشوا للناس ، الأقوياء عاش الناس لهم .
لذلك أيها الأخوة ، لا يمكن أن نفهم قيمة تربية الأولاد في الإسلام ، وشأنها الكبير ، وعطاءها العظيم إلا إذا آمنا بالآخرة ، أما إذا آمنا بالدنيا صدقوا ولا أبالغ لست بحاجة أصلاً إلى الأولاد .
لي قريب مقيم بأمريكا ، فزاره أخوه ، إلى جانب بيت أخيه بيت لإنسان أمريكي بعد حين قاموا بزيارة له ، فسأله الضيف كم ولد عندك ؟ لأنه رأى ثياباً صغيرة أثناء النشر قال له : ما عندي أولاد عندي كلاب أنا ، الثياب الصغيرة ثياب كلاب .
إذا الإنسان كذب بالحسنى ما في داعي إطلاقاً ينجب أولاداً ، عبء ، في حالات بالعالم الغربي مخيفة جداً ، لأنه أم تركت أولادها حتى ماتوا في البيت ، فإذا إنسان آمن بالدنيا الابن عبء ، لا داعي إطلاقاً يكون عنده ولد .
أما من لوازم الإيمان بالآخرة أن هذا الابن يحقق استمرار وجودك ، أن هذا الابن تسعد به في الدنيا والآخرة .
في صحابي جليل له ابن رائع ، جميل جداً ، فمن شدة تعلقه به كان يضعه على كتفه ويمشي ، فإذا جلس أمام رسول الله ابنه على أكتافه ، النبي لطيف مع أصحابه جداً داعبه مرة ، قال له : يا فلان أتحبه ؟ قال له : أحبك الله كما أحبه ، بعد أيام افتقد النبي هذا الصحابي ، سأل عنه فقيل له : مات ابنه ، فاستدعاه وعزاه ، وقال له : يا فلان أتحب أن تمتع به عمرك أي يلازمك حتى الموت كظلك ؟(1/17)
ابن بار ، خادم مطيع ، محب ، معوان ، في حالات نادرة ، ابنه معك على طول ، حتى آخر لحظة بحياته .
بالمناسبة حدثنا أحد الأخوة المقيم بفرنسا ، أنه جاءت امرأة إلى مركز إسلامي امرأة فرنسية ، ومعها ابنتها ، قال : ممكن تقنعوها بالإسلام كي تسلم ؟ هم سألوها وأنت ؟ قالت : لا أنا لا أريد أن أسلم ، فقط ابنتي ، طلب عجيب إذا قانعة بالإسلام ، قالت : لا أنا أريد أن أسلم ، ما السبب ؟ قال : لأن لها جيران مسلمين ترى بأم عينها كيف أن البنات يعتنين بأمهم عناية تفوق حد الخيال ، ما امتد بها العمر ، فتمنت أن تكون ابتها مثل بنات هؤلاء المسلمين .
فقال له : أتحب أن تمتع به عمرك ، أو أن يسبقك إلى الجنة ، فأي أبوابها فتحها لك ؟ قال له : بل الثانية ، قال له : هي لك .
حتى إنسان لو مات ابنه في حياته وكان إنساناً صالحاً ، هذا الابن يسبقه إلى الجنة وسيفتح لأبيه أبواب الجنة .
الابن في ضوء الإيمان بالآخرة شيء ثمين جداً ، الابن في ضوء الإيمان بالآخرة أكبر سبب لسعادة الأب ، الأب في ضوء الإيمان بالآخرة يجمع لك أكبر عمل صالح ، كل أعماله في صحيفتك ، كل التزامه في صحيفتك ، كل صدقاته في صحيفتك ، أنت الذي ربيته.
حتى إن فقهاء الأحناف لهم رأي عجيب ، حجة البدل من شروطها الوصية لأن الله عز وجل يقول :
* وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى * .
( سورة النجم ) .
فإذا شخص ما كتب وصية بحجة البدل ما سعى لهذه الحجة ، لا بد من وصية إلا أنهم استثنوا الابن فقط ، إذا ابن حجّ عن أبيه حجة بدل من دون وصية مقبولة للأب ، لأن الأب رباه تربية صحيحة ، ولولا أنه رباه تربية صحيحة لما حجّ عنه حجة البدل ، فالابن له شأن كبير ، لكن في ضوء الإيمان بالآخرة ، أما في ضوء الإيمان بالدنيا يربي الإنسان كلاباً أفضل له ، بين أن تربي ابناً ، يكون امتداداً لك ، يحفظ اسمك ، يدعو الناس لك من ربيته يتزوج ، ينجب أولاداً ، لك أحفاد .
والله قال لي عالم من علماء القرآن : أنا عندي 38 حفيداً ، ثلاثة عشر واحداً طبيب منهم ، وثلاثة عشر واحداً حافظون لكتاب الله ، هذا زواج .
فإما أن تربي الأولاد تبتغي بهم وجه الله والدار الآخرة ، وإما أنك إذا ابتعدت عن الإيمان بالآخرة شيء متعب ، وعبء .
أيها الأخوة ، بقي شيء : التربية ، هناك تربية إيمانية ، هناك تربية أخلاقية ، هناك تربية نفسية ، هناك تربية اجتماعية ، هناك تربية جسمية ، هناك تربية علمية ، هناك تربية جنسية .
1 ـ أن تعرف الله :(1/18)
كما قلت لكم قبل قليل : النجاح لا يكون جزئياً يكون شمولياً ، وبدأت بأن أول محطة بالنجاح الشمولي أن تعرف الله .
2 ـ أن تكون على علاقة طيبة جداً بالأسرة بدوائرها الضيقة ودوائرها الواسعة :
المحطة الثانية أن تكون على علاقة طيبة جداً بزوجتك ، وأولادك ، والدوائر الاجتماعية التي تلي هذه الدائرة ، يعني بزوجتك وأولادك ، وإخوتك وأخواتك ، وعماتك وخالاتك ، أي أن تكون علاقتك بالأسرة بدوائرها الضيقة ، ودوائرها الواسعة ، هذه المحطة الثانية .
3 ـ أن تكون متقناً لعملك و منضبطاً به :
الثالثة بعملك ، متقن لعملك ، منضبط ، متفوق ، طورت عملك ، دخله جيد .
4 ـ أن تعتني بصحتك :
الرابعة بصحتك .
نصيحة أول علاقة يجب أن تكون محكمة هي بينك وبين الله .
* فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ * .
( سورة الأنفال الآية : 1 ) .
* ذَاتَ بَيْنِكُمْ * أي العلاقة ما بينك وبين الله ، هذا أول معنى ، و * ذَاتَ بَيْنِكُمْ * علاقتك مع من حولك ، هذه الثانية ، و * ذَاتَ بَيْنِكُمْ * أن تصلح أي علاقة بين اثنين ، بينك وبين الله أول محطة ، بينك وبين أهلك بالدوائر المتتابعة ، علاقة ثانية ، أي علاقة بين كل شخصين هذه الدائرة الثالثة ، فالأربع محطات الأساسية في نجاحك علاقتك بالله أولاً ، وعلاقتك بأهلك وأولادك ثانياً ، وعلاقتك بعملك ثالثاً ، وعلاقتك بصحتك رابعاً .
الآن : حتى تربية الأولاد قد ينجح في الشهادة العامة لكن لا يصلي ، إذاً لم تنجح في تربيته ، قد يكون متفوقاً وذكياً لكن ليس أخلاقياً ، لم تنجح في تربيته ، قد يكون أخلاقياً لكن مقصر في الدراسة ، لم تنجح في تربيته ، قد يكون أخلاقياً ومتفوقاً لكن هندامه سيء جداً وعنايته بجسمه سيئة جداً ، إذاً لم تنجح في تربيته .
كما أنك أن تحرص على نجاحك في كل المحطات الأساسية يجب أن أؤكد لك أنه لن تنجح بتربية ابنك إلا إذا كانت التربية شاملة .
العناوين الكبرى التي سوف نأخذها بدءاً من الدرس القادم هي التربية الإيمانية .
(( كفى بالمرء إِثما أن يُضَيِّع مَن يقوتُ )) .
[أخرجه مسلم وأبو داود عن عبد الله بن عمرو بن العاص ] .
هو يطعمه ، ويسقيه ، ويكسوه ، ويهتم بصحته ، ودراسته ، لكن ما اهتم بإيمانه ما اهتم بأعماله الصالحة ، ما اهتم بعباداته ، فأنت بحق هذا الابن آثم .(1/19)
(( كفى بالمرء إِثما أن يُضَيِّع مَن يقوتُ )) .
يصفه النبي بأنه يطعمه ، ويسقيه ، ويكسوه ، ويعتني بصحته ، وبدراسته ، لكن ما انتبه لصلاته ، ما انتبه لعقيدته ، له صديق ملحد ، فاستغرق معه إلى أن أنكر الدين كله والله الذي لا إله إلا هو أحياناً يأتيني أب يشكو أن ابنه ليس مؤمناً إطلاقاً يكاد يتقطع قلبه حتى في أب جاءني مرة ، وقال لي : ابني ترك دينه إلى دين آخر ، يكاد يموت الأب من الألم .
(( كفى بالمرء إِثما أن يُضَيِّع مَن يقوتُ )) .
فكر إن أردت أن تربي ابنك التربية الإيمانية أولاً ، أدبوا أولادكم وهذبوهم فإنهم خلقوا لزمن غير زمنكم ، أدبوا أولادكم على محبة نبيكم .
وعاء الماء بالسيارة تعرفونه ؟ وعاء ماء ، له فتحة من الأعلى ، له صنبور من الأسفل ، الذي تضعه من الأعلى تأخذه من الصنبور ، إذا الشاشة هي مصدر معلوماته فقط كلما تحرك يحكي اسم ممثل ، اسم لاعب كرة ، أين الصحابة ؟ ما تلقى هذه التغذية ، ما تلقى تغذية إيمانية ، فبين أن تهتم بأشخاص ليس لهم وزن في الحياة إطلاقاً ، فإذا أنت هذا الوعاء الماء ما غذيته تغذية إسلامية ، قرآن ، صحابة ، تابعين ، تغذى بالكرة فقط ، الأشياء الأخيرة ، فالمشكلة كبيرة جداً ، يجب أن تهتم بتغذيته التغذية الإيمانية ، هذا أول شيء .
عندنا التربية الأخلاقية ، في صدق ، في أمانة ، في أدب ، في تواضع ، في حياء ، في خجل .
(( فلا تمش أمامه ، ولا تجلس قبله ، ولا تدعه باسمه ، ولا تستسب له )) .
[أخرجه الطبراني عن عائشة أم المؤمنين ] .
لا تعمل عملاً تدفع الناس إلى أن يسبوا أباك ، انظر إلى الأدب النبوي .
(( فلا تمش أمامه ، ولا تجلس قبله ، ولا تدعه باسمه ، ولا تستسب له )) .
هناك تربية إيمانية ، تربية أخلاقية ، هناك تربية نفسية ، الصبر ، عدم الغضب الحلم ، التؤدة ، التريث ، التحقق ، هذه كلها تربية نفسية .
التربية الاجتماعية : أن تسلم ، أن تحترم ، أن تعتذر ، أن تتواضع ، أن تكون متعاوناً ، هذه تربية اجتماعية .
التربية الجسمية : أن يكون أكلك منتظم ، أن يكون لك هوايات رياضية لتقوية جسمك .
التربية العلمية : التحصيل ، دراسته ، متفوق باختصاصه .
التربية الجنسية : أحياناً أب ينحرج حرجاً لا حدود له ، إذا قال له ابنه : أنا بابا من أين جئت ؟ في أجوبة دقيقة جداً ، لطيفة جداً ، ادرسها ، لا تحرج هذا السؤال من حقه ، يضربه ، عيب هذا السؤال ، فأعطاه اهتماماً أكبر ، ما عاد عنده سؤال إلا هذا السؤال ، لما أنت قمعته ؟(1/20)
هناك تربية جنسية ، تربية علمية ، تربية جسمية ، تربية اجتماعية ، تربية نفسية ، وتربية أخلاقية ، وتربية إيمانية .
هذه الموضوعات التي ربما كانت محاور للدروس القادمة .
والحمد لله رب العالمين
===============
... ... ... ...(1/21)
3- التربية الإيمانية.
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين ، اللهم أخرجنا من ظلمات الجهل والوهم إلى أنوار المعرفة والعلم ، ومن وحول الشهوات إلى جنات القربات .
أيها الأخوة الكرام ، مع الدرس الثالث من دروس تربية الأولاد في الإسلام ومع التربية الإيمانية .
أيها الأخوة ، الله جل جلاله يقول :
* الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِيناً * .
( سورة المائدة الآية : 3 ) .
هذه الآية تؤكد أن عدد القضايا التي عالجها الدين تام عدداً ، وأن طريقة المعالجة كاملة نوعاً ، فالتمام عددي ، والكمال نوعي ، * الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِيناً * .
لذلك أولى الناس أن يعرف حقيقة هذا الدين ابنك ، لأنه امتداد لك ، لأنك تسعد إذا سعد ، وتشقى إذا شقي ، لأن ارتباط ابنك بك ارتباطاً لصيقاً جداً ، هو قدرك ، وأنت قدره .
من هنا كان النجاح في تربية الأولاد مسعداً ، وقد أكدت آية كريمة هذا المعنى حينما قال الله عز وجل :
* رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَاماً * .
( سورة الفرقان ) .
لكن الشيء الذي يتفطر له قلب الإنسان أن الأب الذي أنيطت به هذه المهمة المقدسة ، تربية أولاده ، تعريفهم بهذا الدين ، تعريفهم باركان الإيمان ، تعريفهم بأركان الإسلام ، تعريفهم بسنة النبي العدنان ، تعريفهم بالأحكام الشرعية ، الأب نفسه ليس في مستوى هذه الدعوة ، فاقد الشيء لا يعطيه .
وأنا أرى ولخبرات مديدة ، ولحقائق دقيقة ، أن معظم أخطاء الأولاد سببها أخطاء الآباء والأمهات ، الطفل كالعجينة ، الطفل كائن بريء ، إن كذبت أمامه علمته الكذب ، وإن أهملت الصلاة أمامه علمته التهاون بالصلاة ، وإن تكلمت كلمة قاسية أو بذيئة علمته هذا الكلام ، وأنا أعزو معظم أخطاء الطلاب في المدارس إلى المعلمين ، ومعظم أخطاء الأبناء في البيوت إلى الآباء والأمهات .
قبل أن تغضب ، وقبل أن تستشيط غضباً ، وقبل أن تضطرب ، وقبل أن تصب جام غضبك على ابنك انتبه قد تكون أنت السبب .
فلذلك الحقيقة الأولى : الأبوة مسؤولية كبيرة ، الأب قائد ، الأب قدوة ، الأب أسوة ، الأب معلم ، الأب قبلة أولاده .(1/22)
فلذلك حينما يكون الأولاد على غير ما ينبغي يتمزق قلب الأب ، وأحياناً نقول للأب و لات ساعة مندم .
أيها الأخوة ، أريد أن أؤكد على نقطة يتذرع بها معظم الآباء ، حينما لا يكون أولادهم كما يتمنون ، يقول لك : هذا سيدنا نوح ، هذه مغالطة كبيرة جداً ، سيدنا نوح نبي كريم ، حينما تبذل كل جهدك ، وكل طاقتك ، وكل وقتك ، وكل خبرتك لتربية ابنك ، ثم يكون له اختيار آخر ، في هذه الحالة النادرة التي لا توجد في المئة ألف حالة حالة مثلها ، في هذه الحالة النادرة أنت معذور ، لكن ما قدم علماً ، ولا قدم توجيهاً صحيحاً ، ولا قدم له قدوة ، ولا قدم له نصيحة ، ولا سأل عن أصدقائه .
إخوتنا الكرام ، هل تصدقون أن الأب ، والأم ، والمدرس ، والأخوة الكبار والأخوات الكبيرات ، وشيخ الجامع ، كلهم تأثيرهم لا يزيد عن أربعين بالمئة ، وأن الصديق السيئ تأثيره 60% ، فما لم تعرف من هو صديق ابنك ، ومن هي صديقة ابنتك ، إنك تمشي في متاهة ، أخطر كائن له تأثير على ابنك صديق السوء ، الآباء الموفقون يسألون بدقة ما بعدها دقة عن أصدقاء أولادهم ، والأمهات الموفقات يسألن بدقة بالغة عن صديقات بناتهم .
سيدنا نوح هذه حالة خاصة ، حالة نادرة جداً ، إنسان يبذل قصارى ما يستطيع وهذا الابن له اختيار خاص .
فيما يسمى في علوم أصول الفقه المفهوم المعاكس ، قال تعالى :
* إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلَا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِراً كَفَّاراً * .
( سورة نوح ) .
المعنى المعاكس هؤلاء المؤمنون ماذا يلدون ؟ مؤمناً تقياً ، الشيء الطبيعي بيت نظيف ، ما في كلمة نابية ، تؤدى الصلوات بأوقاتها ، الأب رحيم ، ورع ، يقيم الصلاة الزوجة محجبة ، ملهيات لا يوجد ، معصية لا يوجد ، بيت مبارك ، في روحانية ، في مجالس علم ، يأتي أصدقاء الأب قمة في الكمال ، تأتي صديقات الأم منضبطات ، محجبات ، هذا البيت الطاهر ماذا تتوقع أن ينجب ؟ أبناء مؤمنين ، اعتقد أيها الأب أن معظم أغلاط ابنك منك ، إما من سهوك عن توجيهه ، أو أنك لم تكن قدوة له ولا أسوة له ، والبطولة أن تهتم بابنك ، وتعلمت في الجامعة أن معظم أخطاء الطلاب سببها المدرس ، وأقيس على هذا ومعظم أخطاء الأبناء سببها الأب ، أو الأم .
إخوانا الكرام مرة موقع البي بي سي بالانترنيت عرض برنامج التحرش بالصغار مرة فتحته متوقع صفحة صفحتين ، حوالي 180 صفحة هذا البرنامج ، اعترافات من أطفال من تحرش بهم ، معظم المتحرشين أقرباؤهم ، في نزهة ، الأب غافل ، والأم غافلة ، والأولاد في البستان ، أو في أماكن معينة(1/23)
، معظم هذه الحالات سببها غفلة الآباء والأمهات والتحرش بالصغار له مضاعفات خطيرة جداً ، ومعظم انحرافات الشباب الجنسية عند الكبر سببها تحرش في الصغر ، الكلام طويل .
لكن أيها الأخوة ، والله ، والله ، ثم والله ، ثم والله لن تسعد إلا إذا كان ابنك كما تتمنى .
حدثني أب ، قال لي : والله إذا دُهس ابني لأقيمن مولداً فرحاً بموته ، من شدة البلاء ، هناك ولد يعدّ أكبر مسعد لوالديه ، وهناك ولد يعدّ أكبر سبب لشقاء والديه ، والذي تزرعه تحصده .
يعني أحياناً الأب يسأل ابنه صلى ؟ شيء رائع جداً ، لا يكفي الصلاة ، علمته الإيمان ؟ علمته أركان الإيمان ؟ جلست معه ؟ كلفت إنساناً يعلمه ؟ ألحقته بمعهد شرعي ؟ يعني متى يلحق الأب ابنه بمعهد شرعي ؟ هذه مأساة ، إذا كانت علاماته قليلة على الشريعة ، أما إذا كان متفوقاً ، على الطب ، لا يقبل أب من هؤلاء المسلمين الذين يتحسرون على ضياع الدين إن كان ابنه متفوقاً أن يلحقه بالتعليم الشرعي .
التقيت مع أب عاقل جداً ، قال لي : ابني الأول على محافظة بأكملها ، أكبر محافظة في الشمال ، قال لي : لأنه الأول اخترت له كلية الشريعة : فعاتبه أقرباؤه ، هذا مكانه الطبيعي بالطب ، قال كلمة مؤلمة جداً ، قال : والله لو كان ضعيف الذكاء لاخترت له أي فرع في الجامعة ، لأنه متفوق في ذكائه اخترت له كلية الشريعة فلعل الله يسعدني به داعية كبيراً .
عندنا شيء مؤلم بحياتنا ، الأذكياء ، طب دمشق ، أقل ذكاء ، طب حلب ، أقل ذكاء ، صيدلة ، أقل هندسة ، أقل معلوماتية ، هؤلاء الذين بقوا للشريعة من هم ؟ في الدرجة الدنيا ، لا تجد لمعة بالدعاة ، ذكاء ، سرعة بديهة ، قوة حجة ، طلاقة لسان ، بالأساس هؤلاء من الدرجة العاشرة ، أين هؤلاء الآباء الغيورون على الدين ؟ أي صعب تفرز ابناً من أبنائك المتفوقين الأذكياء ليكون علماً من أعلام الأمة ، يجب أن تقول ابني معه بورد ، لكن حينما يكون الإنسان في الدعوة إلى الله ويهتدي به الملايين المملينة كل هؤلاء الذين اهتدوا بهدي آبائهم في صحيفة الآباء .
* وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ * .
( سورة الطور الآية : 21 ) .
يا أخوان : الأب يفوته أشياء كثيرة ، الأب العاقل الذي فاته في حياته شيء يستكمله في أولاده ، الملاحظ إذا أب غير متعلم ، أو أم غير متعلمة يحرصان حرصاً لا حدود له على تعليم أبنائهم .
أنت أيها الأب ما دام ابنك استمراراً لك أي شيء فاتك في حياتك يمكن أن تستدركه عن طريق ابنك .
والله في بلد عربي ، جامعة من أرقى الجامعات ، أنا زرتها ، جلست بها يوماً بأكمله ، اطلعت على كلياتها ، وعلى قاعاتها ، وعلى مخابرها ، وعلى قاعات الكومبيوتر ، و تستقبل الطلاب والطالبات ،(1/24)
والطالبات محجبات ، صُعقت حينما علمت أن الذي أسسها ليس متعلماً ، من شدة ألمه أراد أن يعوض عن تقصيره في الثقافة بتعليم أبناء الأمة .
حدثني أحد علماء دمشق عن رجل في صعيد مصر ، أرسل ابنه إلى الأزهر وبعد خمس سنوات ، عاد إلى قريته في الصعيد خطيب المسجد ، وخطب أول خطبة أمام أبيه كاد الأب يموت من البكاء ، وكل الناس توهموا أن هذا البكاء هو فرح بأن ابنه أصبح عالماً لكن الحقيقة ليست كذلك ، هذا البكاء كان من شدة الألم ، تأسفاً على أنه عاش عمره جاهلاً عمر هذا الإنسان 55 سنة ، ما كان منه في اليوم التالي إلا أن ركب دابته واتجه إلى القاهرة والمسافة تقترب من ألف كم ، تحتاج إلى شهر ، وصل إلى القاهرة ، سأل أين الأزعر ؟ كيف أزعر ؟ هذا مكان تعلم ، قال له : الأزهر ، لا يعرف اسم هذه الجامعة ، والتحق ، وتعلم القراءة والكتابة في الخامسة و الخمسين ، ثم تعلم القرآن وعاش حتى السادسة و التسعين ، وما مات إلا شيخ الأزهر .
إن القرار الذي يتخذه الإنسان في شأن مصيره قلما تنقضه الأيام ، لا تقل أنا بالخمسين ، لا ، العلم وسام شرف لك ، ولو كنت بالستين .
جاءتنا دورات من بلاد متعددة ، والله في طلاب بالثمانين جاؤوا إلى الشام من بلاد متعددة .
ترك إنسان أموالاً طائلة ، لكنه أهمل أولاده ، ترك لهم أموالاً لا تأكلها النيران بعد أيام رأى صديق المتوفى ابن المتوفى ، قال له : إلى أين أنت ذاهب ؟ (أنا مضطر أروي لكم كلامه حرفياً) ، قال له : ذاهب أسكر على روح أبي ، هذه النتيجة ، هذه الأموال التي جمعها الأب بكده وعرق جبينه سوف تنفق في المعاصي والآثام .
أندم الناس الذي من دخل بماله النار ، ترك هذا المال لأولاد جهلة ، منحرفين ، شاردين عن الله عز وجل .
شركة عملاقة في الشام لها فرع في مصر ، ابن صاحب الشركة ذهب إلى القاهرة سأل صديق لي هناك ، قال له : أين قبر محمد ؟ بالضبط ، قبر محمد ! ظن أن النبي عليه الصلاة والسلام مدفون بالقاهرة ، هل هناك جهل أشد خزياً من هذا الجهل ؟ ابنك امتدادك .
التربية الإيمانية أيها الأخوة ، أن تربط ابنك بأصول الدين ، بأركان الإيمان ، بأركان الإسلام ، بحقائق النبوات ، بمنهج رسول الله ، بتفسير القرآن ، بسيرة الصحابة الكرام التربية الإيمانية أن تغرس فيه حقائق الإيمان ، إما أنت ، أو أمه ، أو معلم آخر ، أو معهد شرعي ، لأنه لو أمكن أن تعتقد ما تشاء وأن تكون ناجياً اعتقد ما تشاء ، ولكن ما من تصور غير صحيح إلا وينعكس سلوكاً خاطئاً ، يعني الإيمان بأسماء الله الحسنى ، وصفاته الفضلى ، الإيمان بالكتب المنزلة ، فهم كلام الله ، فهم القضاء والقدر ، خيره وشره من الله تعالى .(1/25)
إذاً لا بد من أن تعلمه ، أنت ، أو أمه ، أو مدرس ، أو معهد شرعي ، أو دورة صيفية ، أو صديق متفوق في العلوم الدينية ، لا بد من أن تهتم بإيمانه ، لذلك :
(( كفى بالمرء إِثما أن يُضَيِّع مَن يقوتُ )) .
[أخرجه مسلم وأبو داود عن عبد الله بن عمرو بن العاص ] .
هو يطعمه ، ويكسوه ، ويسقيه ، ويعالجه ، لكن لا يهتم بإيمانه .
إخوانا الكرام ، إن صحّ أن الإسلام هرم أول قسم العقائد ، وثاني قسم العبادات ، وثالث قسم المعاملات ، والرابع الآداب ، أخطر أقسام الإسلام العقائد ، إن صحت صحّ العمل ، وإن فسدت فسد العمل ، والخطأ في العقيدة كالخطأ في الميزان لا يصحح ، أما الخطأ في السلوك كالخطأ في الوزن لا يتكرر ، أفضل ألف مرة أن تخطئ في مفردات الشرع من أن تخطئ في العقيدة ، لذلك إذا صحت عقيدة الإنسان صح سلوكه ، كيف :
راكب مركبة ، تألق على صفحة البيانات ضوء أحمر ، التألق حصل رأيته بأم عينك ، لماذا تألق هذا الضوء ؟ إن فهمت التألق تألقاً تزينياً ، وتابعت السير احترق المحرك ، وتعطلت الرحلة ، وألغي الهدف ، ودفعت مبلغاً فلكياً لإصلاحه ، أما إذا فهمت هذا التألق تألقاً تحذيرياً أوقفت المركبة مباشرة أضفت الزيت ، تابعت السير ، حققت الهدف ، أين البطولة ؟ في فهم التألق .
فأنت حينما تربي ابنك على مبادئ الدين تأتيه مشكلة يفهمها رسالة من الله ينصاع إلى طاعة الله .
لذلك الإسلام : عقيدة ، وعبادة ، ومعاملة ، وخلق ، أخطر شيء العقيدة ، وأنا أقول لك : أخطر شيء تلقنه لابنك العقيدة السليمة ، تعلّم وعلّم .
صدقوا ولا أبالغ دروس تربية الأولاد في الإسلام أكبر شريحة انتفعت بها ، ليس الأولاد ، الآباء ، تعلموا وعلموا .
في أحد خطباء دمشق ، قال لي : مرة استيقظنا متأخرين أسرعت الأم إلى تهيئة شطيرة لابنها ، وقال له أبوه : يا بني كُلْها في الطريق لأنه لا يوجد وقت ، فوقف هذا الطفل الصغير بالحضانة ، قال له : يا أبتِ قال عليه الصلاة والسلام :
(( الأكل في السوق دناءة )) .
[أخرجه الطبراني عن أمامة الباهلي ] .
لأن الأكل في الطريق يجرح العدالة ، والمشي حافياً يجرح العدالة ، ومن علا صوته في البيت تجرح عدالته ، ومن أطلق لفرسه العنان تجرح عدالته ، السرعة الزائدة في السيارات ، ومن قاد جرذوناً تجرح عدالته ، ومن تنزه في الطرقات تجرح عدالته ، ومن كان حديثه عن النساء تجرح عدالته ، ومن طفف بتمرة تجرح عدالته ، ومن أكل لقمة من حرام تجرح عدالته ، قال له : يا أبتِ قال عليه الصلاة والسلام :(1/26)
(( الأكل في السوق دناءة )) .
أنت حينما يتأدب ابنك بأدب الإسلام ، والله أيها الأخوة ، حدثني أخ ، قال لي : هناك بقالية إلى جانب جامع ، ودخل للبقالية عدة طلاب من طلاب هذا المسجد ، قال لي : وقفتهم أديبة ، كلامهم أديب ، دخلت امرأة متفلتة غضّ هؤلاء بصرهم عنها ، قال لي صاحب البقالية : شيء واضح جداً هؤلاء الأولاد كتلة أدب ، يقول لك : ابن مربى ، أنت حينما ترى ابنك بخلق عال صدق ولا أبالغ يدخل على قلبك من السعادة ما لا يوصف هذا استمرارك ، هذا خليفتك .
أولاً الله عز وجل جعل هذا المنهج مطابقاً للفطرة ، فابنك حينما يطبق منهج الله عزّ وجل ترتاح نفسك ، تجده هادئاً ، من أغرب ما سمعت بالمحاضرات في بلد آخر ، وفي محاضرة لعالم نفس ، الأم التي تدخن في الأعم الأغلب بعض أنواع السموم الناتجة عن التدخين تصل إلى دم الجنين ، وهذا الجنين حينما يولد يميل إلى الأذى ، كل شيء يكسره ، كل شيء يخربه ، والأم التي تقرأ القرآن يأتي ابنها راغباً في القرآن ، بل إن الأم التي ترغب في هذا الحمل يكون حملها هيناً ، ولطيفاً ، والأم التي ندمت على هذا الحمل ، وسألت بعض الشيوخ لإسقاطه ، ثم منعت من إسقاطه ، وكان هذا الحمل عبئاً عليها مثل هذه الأم تعاني من ثقل في الحمل لا حدود له .
بدأ الآن يتألف كتب حول علم نفس الجنين ، التدخين له علاقة ، كراهية الحمل له علاقة ، وأشياء كثيرة لها علاقة .
لذلك كان النبي عليه الصلاة والسلام يؤذن في أذن المولود اليمنى ، ويقيم في الأذن اليسرى : لقنوا أولادكم لا إله إلا الله .
أحياناً بالحج والعمرة تجد طفلاً صغيراً لابساً ثياب الإحرام ، ويطوف ، شيء جميل جداً ، يكون ابنك معك في المسجد ، وبالحج معك ، وبالعمرة معك ، وبالعيد معك يسمع من أبيه كلمات رائعة ، يسمع من الآخرين كلام عن الله عز وجل .
يوجد بمدينة عربية عادة (أنا أقدسها هذه العادة) هذه المدينة لا تسمح لأولادها في العيد أن يذهبوا وحدهم إلا مع آبائهم ، قد يكون الأب وزيراً ، أبداً ، يأخذ ابنه معه ، لا يوجد كلمة نابية ، لا يوجد تحرش ، لا يوجد خطأ ، ابنك فلذة كبدك .
كان عليه الصلاة والسلام يؤذن في أذن المولود اليمنى ، ويقيم الصلاة في أذنه اليسرى ، في هذا السن يغلب على الطفل التقليد ، تلاحظ الأب إذا صلى الابن يقف جانبه الأم إذا تحجبت ابنتها تتحجب مثلها .
فلذلك يجب أن تستغل هذه النزعة إلى التقليد في سن الحياة المبكرة وتكون أمامه كاملاً .
الآن التوجيه ، ورد في بعض الأحاديث :
(( علموا ولا تعنفوا ، فإن المعلم خير من المعنف )) .(1/27)
[أخرجه الحارث عن أبي هريرة ] .
الآن الفرائض التي كلفنا الله إياها ، ينبغي أن يؤمر بها الصغار في سن مبكرة حتى يألفوها ، لذلك :
(( مروا أولادكم بالصلاة وهم أبناء سبع سنين ، واضربوهم عليها وهم أبناء عشر )) .
[ من الجامع الصغير عن عمرو بن شعيب ]
فإذا بلغ الـ13 سن التكليف هو يصلي من ست سنوات ، يقاس على ذلك البنت الصغيرة أخي هذه ليس لها عورة ، لا ، لها عورة ، ليست مكلفة أن تتستر ، لكن يجب أن تنشأ على آداب الإسلام ، أي ثيابها سابغة ، محشومة ، هي صغيرة ، يقال هذا أمر تأديبي لا تكليفي .
الآن من التربية الإيمانية فضلاً عن الإيمان ، وأركان الإسلام ، والأمر بالصلاة والأمر بالصوم للظهر مثلاً ، يوم صيام ، يوم إفطار ، التغاضي عن دقة الصيام ، لكن يتأدب بآداب هذه العبادة .
الآن يجب أن يؤدب الطفل على حبّ رسول الله صلى الله عليه وسلم ، يعني تصدق أن يقول أب لابنه يا بني أحب الله ؟ أحب رسول الله ؟ كلام ما له معنى إطلاقاً ، لكن متى تسلك هذا السلوك مع ابنك ؟ حينما تحدثه عن رسول الله ، كيف كان مع الصغار ، كيف كان يسابقهم أحياناً ، كيف يدعوهم لركوب ناقته أحياناً ، كيف إذا دخل بيته كان واحداً منهم بساماً ضحاكاً ، كيف كان الحسن والحسين يركبان على ظهره صلى الله عليه وسلم ، بين لهم أن النبي كان صديق الأطفال ، يحب الصغار ، هل يوجد الآن خطيب في الأرض وهو على المنبر وأمامه آلاف مؤلفة ، ويرى ابن ابنته يتعثر في مشيته ، فيوقف الخطبة وينزل ، ويحمله ويصعد إلى المنبر ويتابع الخطبة ، هكذا فعل النبي .
لذلك ينبغي أن نؤدب أولادنا على حب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وعلى حب آل بيته ، وعلى تلاوة القرآن .
في المغرب يعلمون القرآن بادئ ذي بدء ، أنا بالتدريس كنت أرى أن الطالب الذي اعتنى والداه بتعليمه القرآن لغته فصيحة ، بموضوع التعبير يكتب لك :
* حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا * .
( سورة محمد الآية : 4 ) .
تعبير قرآني ، أكثر الذين يحفظون كتاب الله يستخدمون العبارات القرآنية .
أنا ألفت كتاباً ، فكنت مضطراً أن أضبط الكلمات ، سبحان الله ! أكثر الكلمات أذكر آية فيها الكلمة أنا حافظ ضبطها ، كأن القرآن صار معجماً .
الآن يقول سيدنا سعد بن أبي وقاص : كنا نعلم أولادنا مغازي رسول الله صلى الله عليه وسلم كما نعلمهم السورة من القرآن ، والله عز وجل قال :
* لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ * .(1/28)
( سورة يوسف الآية : 111 ) .
الحقيقة الدقيقة : أن أفضل طريقة لتربية الصغار القصة ، والأب الذي يتقن القصة يكن أكبر مربٍ ، الآن أنت ائتِ بابنك إلى خطبة الجمعة ، ودعه يسمعها معك ، بعد الخطبة اسأله يا بني ماذا تذكرت ؟ الخطبة ثلثي الساعة ، ما تذكر إلا قصة ذكرها الخطيب القصة لها أثر عجيب ، ولها ثبات غريب ، فأنت كأب يمكن أن تجعل من القصة أسلوباً فريداً متميزاً في تلقين الأولاد .
من الأحاديث المتعلقة بتربية الأولاد ، قال عليه الصلاة والسلام :
(( كل مولود يولد على الفطرة )) .
[أخرجه الإمام أحمد عن جابر بن عبد الله ] .
الأطفال أحباب الله ، على الفطرة ، يعني الذي عنده أولاداً صغاراً يرى في صفاء ، في خجل ، في حياء ، في ذاتية ، في براءة ، ما في حقد ، أحياناً الأب يضطر أن يؤدب ابنه بعد دقيقة يلقي بنفسه على حضن أبيه ويبكي ، يعني يشعر الطفل أن الأب رحيم ، لذلك :
(( كل مولود يولد على الفطرة )) .
[أخرجه الإمام أحمد عن جابر بن عبد الله ] .
الحديث معروف عندكم ، فلا بد من تربية صحيحة معرفة بكتاب الله ، وبسنة رسول صلى الله عليه وسلم .
أنا أذكر مرة لي حاجة عند إنسان ، قلت له متى نلتقي ؟ قال لي : في مكتبي أي ساعة ؟ التاسعة ؟ قال : لا السادسة صباحاً ، أنا شيء غريب جداً ، موعد الساعة السادسة صباحاً ؟ قال لي : أنا كان والدي يأخذني لأصلي قيام الليل كل يوم إلى المسجد ، فأنا من أربعين خمسين سنة أستيقظ قبل الفجر بساعة ، أستيقظ وأصلي قيام الليل ، والفجر ، وأتوجه إلى مكتبي ، قلت : سبحان الله ! هذه السياسة التي سلكها الأب مع ابنه أصبحت عادة متمكنة .
وأكثر عادات الصغار تلقوها عن آبائهم وأمهاتهم في سنين مبكرة .
مرة قلت لكم فيما أذكر أن أحد العلماء علماء صناعة القادة يؤكدون أن كل العادات التي يرغبها الآباء في أبنائهم تترسخ فيهم من السنة الأولى وحتى السابعة ، الصدق الأمانة ، النظافة ، الترتيب ، العناية بالأسنان ، ألا يكون عنيفاً ، يعتذر ، يتأدب ، يكون هندامه حسن ، هذا كل في السنوات السبع الأولى ، فلذلك أخطر سن يحتاجه الصغير في السنوات الأولى .
وفي بعض البلاد كبار المربين يتولون مرحلة التعليم الابتدائي ، أما في البلاد النامية يكون إنسان معه كفاءة ، عنده إحباط بالحياة ، كلامه قاس جداً ، يده والضرب نسلمه فلذات أكبادنا ، هذه مشكلة .(1/29)
مرة سُئلت سؤالاً : أنه إذا كان قسط المدرسة مئة ألف ، هذا فوق طاقة معظم الناس ، أنا لي رأي كان لو كان دخلك مئتي ألف والقسط مئة ألف ، والقسط حقيقة خرّج ابناً بأعلى درجة من الثقافة من الأدب والعلم والإيمان أنت الرابح الأول لو دفعت نصف دخلك .
فلذلك أنا أًكبر الآباء الذي يهتمون بأولادهم اهتماماً كبيراً .
أيها الأخوة ، التربية الإيمانية تربية على أركان الإيمان ، وأركان الإسلام ، والصلاة ، والآداب الإسلامية ، والعادات الطيبة ، وهذا الإيمان يتنامى ، فإذا كان الابن عندما يكبر كما ينبغي كان قرة عين لوالديه .
والحمد لله رب العالمين
===============
... ... ... ...(1/30)
4- التربية الخلقية 1 - العلاقة الوثيقة بين الإيمان والخلق .
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين ، اللهم أخرجنا من ظلمات الجهل والوهم إلى أنوار المعرفة والعلم ، ومن وحول الشهوات إلى جنات القربات .
أيها الأخوة الكرام ، مع الدرس الرابع من دروس تربية الأولاد في الإسلام واليوم ننتقل إلى التربية الخلقية .
بادئ ذي بدء : الإيمان هو الخلق ، فمن زاد عليه في الخلق زاد عليك في الإيمان ، الإيمان بتعريف جامع مانع هو الخلق ، فمن زاد عليك في الخلق زاد عليك في الإيمان .
الآن أضعكم بين عدد من أصح الأحاديث ، مما اتفق عليه الشيخان البخاري ومسلم بتبيان علاقة الإيمان بالخلق ، يقول عليه الصلاة والسلام :
((أحسن الناس إسلاماً أحسنهم خُلقاً)) .
[ من الدر المنثور عن جابر بن سمرة ]
وأنَّ :
(( أكمل المؤمنين إيمانا أحسنهم خلقاً )) .
[ من الجامع لأحكام القرآن عن أبي جعفر ]
(( أحب عباد الله إلى الله تعالى ؟ قال : أحسنهم أخلاقاً )) .
[أخرجه الطبراني عن أسامة بن شريك ] .
(( وإن من أقرب المؤمنين مجلساً من رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم القيامة أحسنهم خلقاً )) .
(( خير ما أعطي الناس قال خلق حسن )) .
[ أخرجه الحاكم عن أسامة بن شريك مرداس الأسلمي ] .
(( مَا مِنْ شَيْءٍ أَثْقَلُ فِي مِيزانِ المؤمِنِ يَوْمَ الْقِيامَةِ مِنْ خُلُقٍ حَسَنٍ )) .
[ أخرجه أبو داود والترمذي عن أبي الدرداء ] .
(( إِنَّ المؤمنَ لَيُدْرِكُ بِحُسْنِ خُلُقهِ دَرَجَةَ الصَّائِمِ القَائِمِ )) .
[ أخرجه أبو داود عن عائشة أم المؤمنين ] .
(( إن العبد ليبلغ بحسن خلقه عظيم درجات الآخرة )) .
[أخرجه الطبراني عن أنس بن مالك ] .
(( الخلق الحسن يذيب الخطايا كما يذيب الماء الجليد ، والخلق السوء يفسد العمل كما يفسد الخل العسل )) .
[أخرجه الطبراني عن عبد الله بن عباس ] .(1/31)
جمعت لكم طائفة من أصحّ الأحاديث الشريفة في علاقة الإيمان بالخلق ، والله ما في مانع أن نعيد هذه الأحاديث مرة ثانية :
(( إن أحسن الإسلام إسلاماً )) ، يعني أعلى مسلم (( أحسنهم أخلاقاً )) .
(( وإن أكملهم إيماناً أكملهم خلقاً )) .
(( أحب عباد الله إلى الله تعالى ؟ قال : أحسنهم أخلاقاً )) .
(( وإن من أقرب المؤمنين مجلساً من رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم القيامة أحسنهم خلقاً )) .
(( خير ما أعطي الناس قال خلق حسن )) .
(( مَا مِنْ شَيْءٍ أَثْقَلُ فِي مِيزانِ المؤمِنِ يَوْمَ الْقِيامَةِ مِنْ خُلُقٍ حَسَنٍ )) .
(( إِنَّ المؤمنَ لَيُدْرِكُ بِحُسْنِ خُلُقهِ دَرَجَةَ الصَّائِمِ القَائِمِ )) .
(( إن العبد ليبلغ بحسن خلقه عظيم درجات الآخرة )) .
(( الخلق الحسن يذيب الخطايا كما يذيب الماء الجليد ، والخلق السوء يفسد العمل كما يفسد الخل العسل )) .
الآن النبي عليه الصلاة والسلام كان خطيباً ، وكان فصيحاً ، وكان متكلماً وبالتعبير المعاصر متحدثاً لبقاً ، وكان حكيماً ، وكان جميل الصورة ، وكان فصيح النطق ، وقد تمتع بخصائص لا تعد ولا تحصى ، فلما أراد الله أن يمدحه مدحه بخلق حسن .
قاضٍ ، وزعيم ، وقائد جيش ، وزعيم أمة ، ونبي ، ورسول ، وأفصح العرب وجميل الصورة .
* وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ * .
( سورة القلم ) .
وحينما تلغى الأخلاق يلغى الدين .
أخوانا الكرام ، لا أحد يُشد إلى الدين من عباداتك ، لا أحد يُشد إلى الدين من صيامك ، من صلاتك ، ولا من قيام الليل ، يُشد إلى الدين من الخلق الحسن .
أنا حدثني أخ كان بتركيا ، في أثناء الموسم السياحي ، في زحمة الموسم السياحي في إنسان يوناني ، يتجول في أجمل منطقة في تركيا ، يبدو الفنادق ممتلئة ، فنادق الأربع نجوم ممتلئة ، والثلاث نجوم ممتلئة ، النجمتان ممتلئة ، الذي ما في ولا نجمة ممتلئة ، أين ينام ؟ طرق أحد الأبواب ، يوناني غير مسلم ، فتح له رجل مسلم ، قال له : هل يوجد عندكم مكان أنام فيه ؟ قال له : عندي ، معه زوجته وأولاده ، أدخله إلى البيت ، هيأ له طعاماً ، قال له : أنا عندي بيت آخر ، تناول طعام العشاء وارتاح ، وهذه غرفة النوم ، وهذا المطبخ ، أنا عندي بيت آخر ، استيقظ هذا اليوناني صباحاً رأى صاحب البيت ينام تحت الشجرة هو وأهله ، ما عنده بيت آخر ، لكن لو قال له ما عندي ما رضي(1/32)
أن ينام عنده ، قال له : عندي بيت ثان ، و في الصباح أحضر له الطعام ، الآن حدثوني الآن أكبر داعية إسلامي هو نفسه ، أسلم .
ما شدّ هذا التركي إلى الدين بصلاته ، ولا بصيامه ، ولا بأذكاره ، ولا من حفظ القرآن ، شده إلى الدين هذه المعاملة الطيبة .
والله أيها الأخوة ، بالإمكان أن يدخل غير المسلمين في الإسلام أفواجاً بالمعاملة الطيبة ، ما الذي شَد الناس إلى رسول الله ؟ المعاملة الطيبة ، التواضع .
دخل أعرابي إلى مجلس النبي ، قال : أيكم محمد ؟ ولا ميزة ؟ ولا ثياب خاصة ؟ ولا مكان خاص جالس فيه ؟ واحد من أصحابه .
رحمته ، تواضعه ، حلمه ، وفاؤه ، أدبه ، ما هذا الأدب يا رسول الله ؟ أنا أتمنى أن أقول لكم هذه الحقيقة : والله ما لم نكن أخلاقيين بكل معاني الكلمة ، لا أحد يفكر أن يدخل في هذا الدين ، قسوة ، توزيع ألقاب ، وعنف " بالبر يستعبد الحر " والله يوجد قصص لا تعد ولا تحصى .
حدثني أخ : طفل دخل ليصلي في مسجد ، المصلون سبعة ، أين يصلي ؟ أول صف طبعاً ، لا يوجد صف ثان أساساً ، لا يوجد غير صف واحد ، إنسان عنيف سمع أن الأطفال في الصف الثاني فدفعه ، يقسم بالله العظيم أنه خرج من المسجد وترك الصلاة لخمسة و خمسين عاماً ، من هذا الموقف العنيف .
وحدثني أخ آخر : طفل دخل للمسجد ليصلي ، سُرق حذاءه والحذاء جديد ، بكى بكاءً مراً ، أخذه إلى محل أحذية ، رجل وقور محسن ، اشترى له حذاء جديداً أجمل من حذائه الذي سُرق ، يقسم بالله العظيم أن هذا الطفل ما فاته فرض صلاة في حياته ، موقفين .
الإيمان هو الخلق ، فمن زاد عليك في الخلق زاد عليك في الإيمان ، لا يوجد أب يستطيع أن يقنع أولاده بالصلاة إذا كان عنيفاً معهم ، ضرب ، وسُباب ، قم صلِ ، يصلي بلا وضوء ، طبعاً .
أتحب أن تكون داعية كبيراً من دون أن تكون عالماً ؟ أحسن إلى الناس ، الإنسان عبد الإحسان ، أحسن إلى الناس ، والله الذي لا إله إلا هو لو أن الجاليات الإسلامية في العالم الغربي طبقوا دينهم فقط لدخل الغربيون في دين الله أفواجاً .
الآن من أكبر الداعيات في بريطانيا ، هي نفسها الإسلاميات ، أنا الذي أراه طريقاً واضحاً ، كن صادقاً .
* وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآَنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى * .
( سورة المائدة الآية : 8 ) .(1/33)
إن عدلت مع عدوك يحترمك ، الكلام طويل ، أب تريد من ابنك أن يكون مصلياً ، متابعاً لأوامر الدين ؟ كن أخلاقياً أمامه فقط ، تريدي أيتها الأم من ابنتك أن تكون مسلمة طاهرة ، عفيفة ، محجبة ، كوني أخلاقية أمامها فقط .
لا يوجد طريق للتأثير بالناس كحسن الخلق ، كالتواضع ، كالإنصاف ، كالرحمة كالعدل ، طبعاً أنا أتكلم عن أصول هذا الموضوع ، التفاصيل لا تنتهي ، لكن كم حديث ؟ أكثر من تسعة أحاديث صحيحة ، من أصح الأحاديث يربط النبي صلى الله عليه وسلم الإيمان الصحيح بالخلق الحسن .
أما حينما نفهم الدين نصوص ، وأدلة ، وتحليلات ، وتوزيع ألقاب الكفر والشرك والابتداع على الناس يزداد الناس نفوراً من هذا الدين .
الآن نحن مهمتنا أن نحسن فهم هذا الدين ، وأن نحسن تطبيقه ، وأن نحسن عرضه على الطرف الآخر .
قال سهل بن عبد الله التستري : كنت ابن ثلاث سنين ، أقوم بالليل ، فأنظر إلى صلاة خالي محمد بن سوار ، قال لي يوماً : ألا تذكر الله الذي خلقك ؟ قلت : كيف أذكره ؟ قال : قل بقلبك عند تقلبك في فراشك ثلاث مرات من غير أن تحرك به لسانك : الله معي ، الله ناظر إلي ، الله شاهدي ، فقلت ذلك ليالٍ ، ثم أعلمته ، فقال : قل في كل ليلة سبع مرات ، فقلت ، ذلك ثم أعلمته ، فقال : قل في كل ليلة 11 مرة ، فقلته ، ففي الليلة الثالثة قال : وقع في قلبي حلاوة الذكر ، فلما كان بعد سنة قال لي خالي : احفظ ما علمتك ، وأدم عليه إلى أن تدخل القبر ، فإنه ينفعك في الدنيا والآخرة ، قال : فلم أزل على ذلك سنين فوجدت لذلك حلاوة في سري ، ثم قال لي خالي يوماً : يا سهل من كان الله معه ، ومن كان الله ناظراً إليه ، ومن كان الله شاهده ، أيعصيه ؟ إياك والمعصية .
تلطف ، الضرب ، والإهانة ، والدفع نحو الوضوء ، هذا السلوك العنيف لا يجذب الابن إليك ، انظر التلطف ، النعومة ، أول أيام ثلاثة قل في سرك ، دون أن تحرك شفتيك ، ثم قل بلسانك ، ثم اجعلها عشر مرات ، ثم قل الله ناظري ، هل يمكن أن أعصيه ؟
قال : في شاب له شيخ ، قال له شيخه : يا بني إن لكل سيئة عقاباً ، يبدو وقع في خطأ ، زلت قدمه في معصية ، بحسب كلام الشيخ انتظر العقاب ، انتظر أياماً ، أسبوعاً أسبوعين ، ثلاثة أسابيع ، أثناء الصلاة ناجى ربه ، قال : يا رب لقد عصيتك ولم تعاقبني قال وقع في قلبه أن يا عبدي لقد عاقبتك ولم تدرِ ، ألم أحرمك لذة مناجاتي ؟ .
بالتلطف ، بالنعومة ، بالرقة ، وبالحنان ، والعطف ، والطفل ينجذب ، بدل أن تقول له إن لم تصلّ الفجر في جماعة سأضربك ، لا ، إن صليت الفجر في جماعة سأكافئك فرق كبير ، دعك من العقوبات ، دعك من التعنيف .(1/34)
(( علموا ولا تعنفوا ، فإن المعلم خير من المعنف )) .
[أخرجه الحارث عن أبي هريرة ] .
كان النبي الكريم يصلي بأصحابه ، أحد الصحابة تأخر فلما رأى النبي قد نوى الركعة الأولى فأسرع في مشيه حتى أحدث جلبة في المسجد (ضجيجاً) ، وقد شوش على الصحابة صلاتهم ، والتحق ، وأدرك مع رسول الله هذه الركعة ، فلما انتهى النبي من صلاته ماذا قال له ؟ قال : يا أخي شوشت علينا صلاتنا ، قال له : زادك الله حرصاً ، ولا تعد أرأيت إلى هذا الأدب الرفيع ؟ .
أنا الذي أراه إن كنت أباً ، أو معلماً ، أو داعية ، أو كنتِ أماً ، أو آنسة ، أو داعية ، ما من سبيل لجذب الناس إلا بالتواضع ، والحلم ، والتلطف ، والأدب ، والرقة والعطف .
أيها الأخوة ، يجب أن تعلم أنه يمكن أن يضغط الدين كله بكلمة واحدة ، بالخلق الحسن ، وأصحاب رسول الله ما تركوا هذا الأثر الطيب في أنحاء المعمورة إلا بالخلق الحسن ، والمسلمون اليوم بقسوتهم ، أنا أقول لا نريد داعية ينطح ، ولا داعية يشطح ، بل نريد داعية ينصح ، لا يمدح ، ولا يفضح ، كأب ، كمعلم ، كجار ، كصديق ، لا تستخدم العنف ، الاستعلاء ، أنت مخالف ، أرأيتم إلى أدب القرآن الكريم ، لو شخص سألني ما أدب القرآن الكريم في الحوار ؟ والله شيء لا يصدق :
* وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ * .
( سورة سبأ ) .
يعني الحق كرة عندنا أو عندكم ، تعالوا نتحاور ، ما في استعلاء ، ليس أنا مؤمن وأنت كافر ، ليس أنا عالم وأنت جاهل ، هذا أدب القرآن الكريم ، وهل بعد هذا الأدب من أدب ؟ * وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ * ، هذا الذي علمنا إياه القرآن الكريم في أدب آخر :
* لَا تُسْأَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنَا وَلَا نُسْأَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ * .
( سورة سبأ ) .
ما قولك ؟ هذا كلام من ؟ كلام خالق السماوات والأرض ، علمنا القرآن فن الحوار ، * لَا تُسْأَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنَا وَلَا نُسْأَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ * ، الذي يحب أن يكون داعية يتلطف ، يكون رقيقاً .
* وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ * .
( سورة النحل الآية : 125 ) .
أحسن اسم تفضيل ، إذا كان هناك ألف عبارة حسنة ينبغي أن تختار العبارة الأحسن .
مرّ سيدنا عمر على أناس يقيدون ناراً ، فقال : السلام عليكم يا أهل الضوء ، ولم يقل السلام عليكم يا أهل النار ، في رقة .
هل أنت مريض ؟ قال له : لا عافاك الله ، هو يقصد لا ، العلماء قالوا : ينبغي أن تقول : لا ، وعافاك الله ، تضيف واواً ، لئلا تفهم لا عافاك الله ، لا وعافاك الله .(1/35)
الآن في ملاحظة مهمة جداً ، أحد أدباء الغربيين يقول : لمَ تشككون في الله فلولا الله لخانتني زوجتي ، ولولا الله لسرقني خادمي ، ماذا نفهم من هذا الكلام ؟ يعني الله أمرك أن تكون صادقاً ، جيد ، لكن أمر مليار و خمسمئة مليون مسلم أن يصدقوا معك ، أنت الرابح الأول ، أمرك أن تكون أميناً ، لكن أمر مليار وخمسمئة مليون مسلم إذا عاملوك أن يكونوا أمناء معك ، فأي قيد خلقي فأنت المنتفع الأول منه .
عفواً ، لو فرضنا أن شخصاً منا ذهب لعند أخ كريم ، صالح ، مستقيم ، من رواد المسجد ، يخاف الله عز وجل ، ألا تطمئن له ؟ ألا تشعر أنه لن يكذب عليك ؟ لن يغشك ؟ لن يأخذ ما ليس له ؟ فكما أن الله أمرك أن تكون حسن الخلق أمر مليار و خمسمئة مليون مسلم إذا عاملتهم أن يكونوا معك أخلاقهم حسنة .
هناك نقطة دقيقة : أن الأخلاق الرضية تحتاج إلى ثلاث نقاط ، وهذا الكلام دقيق تحتاج إلى أن تؤمن إلى أن الله موجود ، وأن هناك حياة بعد الموت ، وأن هناك حساباً دقيقاً بهذه الكلمات الثلاث تكون أخلاقياً ، الله موجود ، وسيحاسب ، وسيعاقب ، لا تصدق أن يتفلت الإنسان من منهج الله إلا إذا غفل عن هذه النقاط الثلاث .
وكنت أقول دائماً : أنت راكب سيارتك والإشارة حمراء ، والشرطي واقف وفي شرطي على دراجة نارية ، احتياط ، وفي سيارة فيها ضابط شرطة سير ، وأنت مواطن عادي ، أو من الدرجة الثانية ، ممكن تخالف ؟ مستحيل ! لماذا ؟ لأنه عندك شعور أن واضع قانون السير إنسان قوي ، وزير ، وفي مخالفات فيها سجن حتى السنة ، فإذا أنت ترى أن هذا الشرطي عين واضع القانون ، يعني علم واضع القانون يطولك من خلال هذا الشرطي ، وأن قدرته تطولك من خلال سلطته ، هل يمكن أن تعصيه ؟ مستحيل ! لو درت بلاد العالم مواطن عادي ، أمام إشارة حمراء ، في شرطي ، وشرطي على دراجة ، وسيارة فيها ضابط مرور وأنت مواطن من الدرجة الثانية ، لا يمكن أن تعصي ، لأنك تعتقد أن علم واضع القانون يطولك ، وأن قدرته تطولك ، اسمع الآية :
* اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْماً * .
( سورة الطلاق ) .
عندما تؤمن أن علم الله يطولك ، وأن قدرته تطولك ، مستحيل أن تعصيه .
إخوانا التجار المستوردين ، إذا كان في نسخة ذات لون أحمر من مستورداتك تذهب إلى المالية آلياً ، من الجمارك للمالية ، وأنت الآن تقدم حساباتك للمالية ، هل بإمكانك أن تغفل هذه الصفقة ؟ إن أغفلتها أهدرت حساباتك ، وكلفت أرقاماً فلكية ، بشكل بديهي لا يمكن أن تعمي على هذه الصفقة ، لأن علم وزارة المالية يصل إليها من خلال هذه الوثيقة .(1/36)
لاحظ نفسك ليس مع الواحد الديان ، مع إنسان عادي ، أقوى منك ، لاحظ نفسك ليس مع الله ، ليس مع خالق السماوات والأرض ، ليس مع الذي يعلم السر وأخفى ، مع إنسان مثلك ، لكنه أقوى منك ، إذا كان علمه يطولك ، وقدرته تطولك لا يمكن أن تعصيه .
أنا أقدم لكم أسباب التخلق بالخلق الحسن ، يوجد أسباب أخلاقية ، و أسباب مادية ، أنت حين تعلم أن الله موجود ، ويعلم ، وهناك حياة بعد الموت ، وسيحاسب ، وسيعاقب ، لا يمكن أن تعصيه ، موجود ، ويعلم ، وسيحاسب ، وسيعاقب ، لا يمكن أن تعصيه ، راقب نفسك .
هناك شيء آخر : لو شخص تأمل معاملة الله له ، كلما أخطأ جاء التأديب ، ألا يمكن أن يستنبط بعد حين أنه ما من معصية إلا ولها عقاب ، فلماذا أعصي الله ؟ الله عز وجل رب العالمين ، ليس القصد أن يحصي عليك أخطاءك ، القصد أن يربيك ، فكلما زلت قدمك ، كل خطأ ، كل انحراف ، يوجد درس من الله بليغ .
شخص جاء رمضان ، واستحقت عليه الزكاة ، قصة واقعية ، زكاة ماله 10750 زوجته ضغطت عليه ، أنه بحاجة إلى تجديد الأثاث ، بضغط شديد ، بإلحاح شديد فاستجاب لها ، وألغى دفع الزكاة ، ونفذ رغبتها .
بالمناسبة في صحابي جليل ، ضغطت عليه زوجته لحاجات تريدها ، لا يملك ثمنها ، فلما بالغت في الضغط عليه قال لها : أيتها المرأة إن في الجنة من الحور العين ما لو أطلت إحداهن على الأرض لغلب نور وجهها ضوء الشمس والقمر ، فلأن أضحي بك من أجلهن ، أهون من أضحي بهن من أجلك ، هذا موقف حاسم .
هذه ضغطت على زوجها ، وتمكنت أن تصرفه عن دفع الزكاة ، وأن ينفذ لها رغبتها في البيت ، يقسم لي بالله : سيارته وقع فيها حادث ، قال لي : ذهبت إلى الصواج ، ثم البخاخ ، ثم القطع المكسورة ، قال لي : بقدرة قادر مجموع النفقات 10750 ليرة ، درس من الله ، الله عز وجل يربينا .
هل أقول لكم من هو أسوأ إنسان في التعامل مع الله ؟ هو الذي لا يستفيد من تأديب الله له ، قالوا : من لم تحدث المصيبة فيه موعظة ، فمصيبته في نفسه أكبر .
إذاً أنت حينما تعلم أن الله موجود ، ويعلم ، وسيحاسب ، وسيعاقب ، وأن علمه يطولك ، وأن قدرته تطولك ، هذه أكبر دوافع كي تستقيم على أمره ، وكي تكون صادقاً وأميناً .
الآن شخص كأبي حنيفة النعمان ، من أعلم الفقهاء ، له جار مغنٍّ أقلقه لسنوات طويلة ، لا يحلو له الغناء إلا وقت النوم ، وقت نوم الناس ، وله أغنية مفضلة :
أضاعوني وأيَّ فتًى أضاعوا ... ... ... لِيَوم كريهةٍ وطِعانِ خلس
* * *(1/37)
مرة افتقد صوت المغني في إحدى الليالي ما الأمر ؟ معنى ذلك هو محبوس فذهب أبو حنيفة بمكانته العلية إلى صاحب الشرطة ، وصاحب الشرطة ما صدق أن يأتي أبو حنيفة إليه ، فأطلق هذا المغني ، وأطلق معه كل من اعتقل في ذلك اليوم ، إكراماً له ، أركبه على دابته ، قال له : يا فتى ، هل أضعناك ؟ تقول أنت : أضاعوني وأي فتىً أضاعوا ، قال له : وعهد الله عز وجل ألا أغني إكراماً لك .
لو أن الشاب المخطئ وجد قلباً كبيراً يستوعبه ، يعاونه ، يذوب خجلاً ، لا تكن عنيفاً ، أبو حنيفة النعمان بمكانته العلية ذهب بنفسه ليسهم في الإفراج عن هذا المغني الجار ، الجار له حق ، ولو لم يكن مسلماً ، ولو لم يكن مستقيماً .
يا أيها الأخوة ، أول تربية لأولادك التربية الخلقية ، تجد طالباً لطيفاً مؤدباً حيياً خجولاً ، زارنا شاب من تركيا ، لكن يتمتع بتربية عجيبة ، اتصل بوالده ، قام ووقف لا يمكن أن يتصل بوالده وهو قاعد ، هو في الشام ، والده في أضنة ، تعلم الأدب مع والده نحن لفت نظرنا قاعد يتصل ، لما فتح الخط وقف ، سألناه ، قال أنا غير معقول أكلم والدي وأنا جالس ، على الهاتف .
أيها الأخوة ، لا يوجد شيء أثمن من حسن الخلق ، لما تربي ابنك على الأدب والاعتذار ، النبي علمنا كيف يكون الابن مؤدباً مع أبيه .
(( فلا تمش أمامه ، ولا تجلس قبله ، ولا تدعه باسمه ، ولا تستسب له )) .
[أخرجه الطبراني عن عائشة أم المؤمنين ] .
مرة نفحص بيتاً دخلت أنا مع صاحب البيت إلى غرفة ، شاب مضجع على ظهره ، رجل فوق رجل يتابع فيلماً ، ولا تحرك ، مع التفلت في وقاحة ، مع التفلت في سوء أدب ، مع التفلت في عدم احترام الآخر .
فيا أيها الأخوة ، نحن بالتربية عنا التربية الخلقية ، والإيمانية ، والعلمية والنفسية ، والاجتماعية ، والجسمية ، والجنسية ، أول تربية التربية الخلقية .
1 ـ الإحسان إليه :
أيها الأخوة الأكارم ، بعض الأحاديث الشريفة التي تتحدث عن حسن الخلق ، في تربية الأب لابنه ، يقول عليه الصلاة والسلام :
(( ما نَحَلَ وَالِدٌ وَلَداً من نَحْلٍ أفضل من أدبٍ حَسَنٍ )) .
[ أخرجه الترمذي عن مرسل سعيد بن العاص ] .
حديث آخر :
(( أَكْرِمُوا أَوْلَادَكُمْ وَأَحْسِنُوا أَدَبَهُمْ )) .
[ أخرجه ابن ماجه عن أنس بن مالك ] .(1/38)
ولعل في الحديث ملمحاً دقيقاً ، لن تستطيع أن تحسن أدبهم إلا إذا أكرمتهم ، أي الإحسان قبل البيان ، أنت بالإحسان تفتح قلب ابنك .
2 ـ البيان له :
ثم بالبيان تفتح عقله ، ابدأ بالإحسان الإحسان قبل البيان ، يعني بصراحة بالثقافة الإسلامية كل أب يُحترم ، في ثقافة المسلمين ، في ثقافة هذه المنطقة ، لكن ما كل أب يُحب ، كل أب محترم لكن بطولتك لا أن تنتزع احترام أولادك ، البطولة أن تنتزع محبتهم ، لذلك :
(( أَكْرِمُوا أَوْلَادَكُمْ وَأَحْسِنُوا أَدَبَهُمْ )) .
[ أخرجه ابن ماجه عن أنس بن مالك ] .
أي لن تستطيع إحسان أدبهم إلا إذا أكرمتهم ، في ملمح يشابه هذا الملمح :
* قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ * .
( سورة النور الآية : 30 ) .
سبيل حفظ الفرج غض البصر ، لن تستطيع أن تمتنع ، أو أن تبتعد بعد الأرض عن السماء عن الزنا إلا إذا غضضت بصرك ، * قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ * ، هنا :
(( أَكْرِمُوا أَوْلَادَكُمْ وَأَحْسِنُوا أَدَبَهُمْ )) .
[ أخرجه ابن ماجه عن أنس بن مالك ] .
افتح قلب ابنك بالإحسان ثم افتح عقله بالبيان .
3 ـ التوجيه و المحاسبة ثم المعاتبة :
توجيه ثالث :
(( علموا ولا تعنفوا ، فإن المعلم خير من المعنف )) .
[الجامع الصغير عن أبي هريرة]
الأب أحياناً يغضب ، يريحه يضرب ضرباً مبرحاً ، لكن عندئذٍ ليس مربياً ، وفي حلّ آخر يسيب ، التسيب ليس حلاً ، والضرب المبرح ليس حلاً ، ولكن الحل أن توجهه وأن تحاسبه ، وأن تعاتبه ، وأن تُعرض عنه ، ومن أطاع عصاك فقد عصاك .
(( علموا ولا تعنفوا ، فإن المعلم خير من المعنف )) .
4 ـ تعليمه المنهج الصحيح ثم تأديبه :
التوجيه الرابع :
(( علموا أولادكم الخير وأدبوهم )) .
[ ابن ماجه عن أنس ](1/39)
علموهم ، يا بني هذا العمل لا يجوز نهى الله عنه في القرآن ، هذا العمل نهى عنه النبي ، علمه أولاً ثم حاسبه ، في آباء يحاسب قبل أن يعلم ، في ظلم ، الطفل ما عنده معلومات ، علمه أولا المنهج ، ثم أدبه ، هذا ملمح رابع .
(( إن من حق الولد على الوالد أن يحسن اسمه ، وأن يحسن أدبه )) .
[أخرجه البزار عن أبي هريرة ] .
هذه توجيهات النبي عليه الصلاة والسلام ، لذلك إذا أردت أن تكون مطبقاً لمنهج النبي طبق هذه التوجيهات .
والحمد لله رب العالمين
===============
... ... ... ...(1/40)
5- التربية الخلقية 2 - القدوة قبل الدعوة ، الكذب .
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين ، اللهم أخرجنا من ظلمات الجهل والوهم إلى أنوار المعرفة والعلم ، ومن وحول الشهوات إلى جنات القربات .
أيها الأخوة الكرام ، مع الدرس الخامس من دروس تربية الأولاد في الإسلام ولازلنا في التربية الأخلاقية .
بادئ ذي بدء : الإيمان هو الخلق ، فإذا ألغي الخلق ، ألغي الإيمان ، ألغي الدين أصبح الدين من دون خلق عادات وتقاليد ، أصبح ثقافة ، أصبح تراثاً ، أصبح فلكلوراً ، إذا ألغيت الأخلاق من الدين ألغيت الدين كله .
لأن أحد أكبر علماء المسلمين وهو ابن القيم رحمه الله تعالى يقول : الإيمان هو الخلق ، فمن زاد عليك في الخلق زاد عليك في الإيمان .
والنبي عليه الصلاة والسلام أوتي جوامع الكلم ، أوتي الجمال البشري ، أوتي الفصاحة ، أوتي الوحي ، أوتي المعجزات ، أوتي خصائص لا تعد ولا تحصى ، لكن حينما أراد الله أن يمدحه ، بماذا مدحه ؟ قال :
* وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ * .
( سورة القلم ) .
الآن ما الذي يشد الناس إليك ؟ الخلق ، لا ينشدون إليك لعباداتك ، ولا لحجمك المالي ، ولا لقوتك ، ولا لذكائك ، الناس يُشدون إليك بتواضعك ، بإنصافك ، بكرمك ، بشجاعتك ، فالذي ينشد الناس إليه ، صاحب الخلق .
لذلك إذا بدأنا بالتربية الأخلاقية نبدأ بأخطر شيء في الدين ، وأنا أقول لكم أيها الأخوة ، أنا أحتمل من الذين حولي كل خطأ ، والمؤمن مذنب تواب .
(( كُلُّ بَني آدمَ خطَّاءٌ وخيرُ الخَطَّائينَ التَّوابونَ )) .
[أخرجه الترمذي عن أنس بن مالك ] .
إلا الكذب ، لذلك ورد في بعض الأحاديث :
(( يطبع المؤمن على الخلال كلها إلا الخيانة والكذب )) .
[أخرجه الإمام عن أبو أمامة الباهلي ] .
هناك مؤمن أنيق يعتني بثيابه عناية فائقة ، هناك مؤمن أقل أناقة ، وهناك مؤمن يعتني ببيته عناية فائقة ، ويوجد مؤمن أقل عناية ، و مؤمن اجتماعي ، و مؤمن يميل إلى العزلة ، و مؤمن متفائل ، وهناك مؤمن يغلب عليه التشاؤم ، كل هذه الخصائص والطباع على العين والرأس .(1/41)
(( يطبع المؤمن على الخلال كلها إلا الخيانة والكذب )) .
فإذا كذب أو خان ليس مؤمناً ، من أبرز ما تقدمه لأولادك الصدق ، والحقيقة الدقيقة : أن الناس أيها الأخوة يتعلمون بعيونهم لا بآذانهم ، يعني مئة محاضرة في الصدق تلغى بأن تقول لابنك قل له : لست في البيت ، مئة محاضرة في الصدق تلغى بتصرف كاذب واحد ، لأن الناس يتعلمون بعيونهم لا بآذانهم ، هذا الحديث دقيق جداً :
(( يطبع المؤمن على الخلال كلها إلا الخيانة والكذب )) .
جميع الخلال والطباع على العين والرأس ، الآن عفواً ، في مؤمن مدني ، مؤمن ريفي ، كلاهما على العين والرأس ، في مؤمن غني ، مؤمن فقير ، كلاهما على العين والرأس ، في مؤمن يحمل شهادة عليا ، مؤمن لم يتعلم ، لكن صادق أمين على العين والرأس .
(( يطبع المؤمن على الخلال كلها )) .
الآن بعلم النفس ما يسمى بعلم الطباع ، في إنسان يميل إلى الحذر ، في إنسان يمنح الثقة لمن حوله كثيراً ، في إنسان يميل إلى المرح ، في إنسان يميل إلى العبوس .
(( يطبع المؤمن على الخلال كلها )) .
ليس هناك مشكلة .
((إلا الخيانة والكذب )) .
فإذ كذب أو خان ليس مؤمناً ، لأن النبي عليه الصلاة والسلام في بعض أحاديثه يقول :
(( المؤمن لا يكذب )) .
يعني الابن يخطئ ، يرتكب خطأ قد يكون كبيراً ، الأب يحتمل إلا أن يكذب فإذا كذب ، الكذب مؤشر خطير عند ابنك .
لذلك أيها الأخوة ، يقول عليه الصلاة والسلام :
(( أَربع مَنْ كُنّ فيه كان منافقاً خالصاً . وَمَنْ كانت فيه خَصْلَة منهن كانت فيه خَصْلَة مِنَ النِّفَاق ، حتى يَدَعَهَا : إِذا ائْتُمِن خَانَ ، وإِذا حَدّث كَذَبَ . وإِذا عَاهَدَ غَدَرَ . وإِذا خَاصَم فجر)) .
[ ... أخرجه البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي عن عبد الله بن عمرو بن العاص ] .
(( أَربع مَنْ كُنّ فيه كان منافقا خالصا )) ، من هذه الأربع إذا حدّث كذب ، البيت المسلم ما في كذب ، لا تكذب الزوجة على زوجها ، ولا الزوج على زوجته ، ولا الابن على أبيه ، ولا الأب على ابنه ، يكاد يكون موضوع الكذب أخطر ما في تربية الأولاد ، لا تكذب ، كن صادقاً ، لذلك :
(( أَربع مَنْ كُنّ فيه كان منافقا خالصا )) .(1/42)
يعني أحياناً يأتي سؤال ، ألم يسمح النبي صلى الله عليه وسلم للزوج أن يكذب على زوجته ؟ أنا أرى أن الأزواج فهموا هذا الحديث على غير ما أراده النبي عليه الصلاة والسلام ، فهموه اكذب عليها في كل شيء ، الأسعار مضاعفة ، حنى تهتم بهذا الشيء تزورها أختها تقول لها : أخذه بثمانية آلاف ، ما في شيء من هذا ! أربعة بالسوق ثمنه ، ظهر زوجها أنه كاذب ، سبحان الله لحكمة بالغة ما في كذبة تستمر ، والله أعلم الذي أفهمه من أن النبي صلى الله عليه وسلم سمح للزوج أن يكذب على زوجته في حالة واحدة ، لو أنها سألته : أتحبني ولم يكن يحبها كما تتمنى ، وقال لها : إني أحبك حباً جماً ، وقد كذب عليها ، هذا الذي يرأب الصدع في البيت ، هذا الذي يطمئن الزوجة .
لو أنه سألها أتحبينني ؟ ينبغي أن تكذب عليه ، وأن تعبر عن حبها له كي تتمتن العلاقة بينهما ، وكي يقطف الأولاد ثمار هذه العلاقة المتينة ، في هذا الموضوع فقط ، هذه العلاقة المتينة ، في هذا الموضوع فقط أما النبي له شأن آخر .
سألته السيدة عائشة كيف حبك لي ؟ قالت كعقدة الحبل ، هو في هذا صادق ، تسأله من حين لآخر : يا رسول الله كيف العقدة ؟ على حالها ، عقدة متينة ، هذا موضوع آخر ، هو في تعبيره عن محبته صادقاً .
أما أنه سمح للزوج أن يكذب على زوجته في كل شيء ؟ الكذب يكشف بعد حين فإذا كشف صار الزوج كذاباً ، فإياكم ثم إياكم أن تتوسعوا برخصة الكذب على الزوجة ، إلا أتحبني ؟ يقول لها إني أحبك ، طمأنتها ، جبرت قلبها ، ما كل زواج يبنى على حب ، هناك زواج يبنى على مصلحة ، عندك أولاد منها .
أيها الأخوة :
(( عليكم بالصدق فإنه يهدي إلى البر )) .
[رواه الطبراني عن معاوية بن أبي سفيان ] .
(( إن الصدق يهدي إلى البر وإن البر يهدي إلى الجنة وإن الكذب يهدي إلى الفجور وإن الفجور يهدي إلى النار أنه يقال للصادق صدق وبر ويقال للكاذب كذب وفجر وإن الرجل ليصدق حتى يكتب عند الله صديقا أو يكذب حتى يكتب عند الله كذابا )) .
[ أخرجه الحاكم عن عبد الله بن مسعود ] .
أيها الأخوة الكرام ، لما النجاشي سأل سيدنا جعفر ، قال له : حدثنا عن هذا الإسلام ، عن هذا الدين ، قال :
(( أيها الملك كنا قوماً أهل جاهلية ، نعبد الأصنام ، ونأكل الميتة ، ونأتي الفواحش ، ونقطع الأرحام ، ونسيء الجوار ، ويأكل القوي منا الضعيف ، فكنا على ذلك حتى بعث الله إلينا رسولاً منا نعرف نسبه وصدقه وأمانته وعفافه ، فدعانا إلى الله لتوحيده ولنعبده ، ونخلع ما كنا نعبد نحن وآباؤنا من(1/43)
دونه من الحجارة والأوثان ، وأمرنا بصدق الحديث ، وأداء الأمانة ، وصلة الرحم ، وحسن الجوار ، والكف عن المحارم والدماء )) .
[ أخرجه الإمام أحمد عن أم سلمة أم المؤمنين ] .
بربكم أليس هذا شرحاً للإسلام من صحابي جليل ؟ (( وأمرنا بصدق الحديث وأداء الأمانة ، وصلة الرحم ، وحسن الجوار ، والكف عن المحارم والدماء )) .
أنا أقول دائماً :
(( بُنِي الإسلامُ على خَمْسٍ )) .
[ أخرجه البخاري ومسلم والترمذي والنسائي عن عبد الله بن عمر ]
هل الإسلام بني على خمس ، على صلاة ، وصيام ، وحج ، وزكاة ، ونطق بالشهادة ؟ الإسلام شيء آخر ، الإسلام منهج أخلاقي ، الإسلام بناء أخلاقي .
مرة ثانية أيها الأخوة ، في اللحظة التي نعزل الأخلاق عن الدين انتهى الدين ، ولا وزن للمسلمين عند الله ، وكل وعود الله للمؤمنين معطلة ، ألم يقل الله عز وجل :
* وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي * .
( سورة النور الآية : 55 ) .
هذه الوعود إن لم نفهم الدين كلاً أخلاقياً فهي معطلة ، ألم يقل الله عز وجل :
* وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ * .
( سورة الصافات ) .
ألم يقل الله عز وجل :
* وَكَانَ حَقّاً عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ * .
( سورة الروم ) .
ألم يقل الله عز وجل :
* إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آَمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا * .
( سورة غافر الآية : 51 ) .
ألم يقل الله عز وجل :
* وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً * .
( سورة النساء ) .
كم وعد ؟ إن لم نكن أخلاقيين كل هذه الوعود معطلة ، وهذا حال المسلمين اليوم ، الإيمان هو الخلق ، فمن زاد عليك في الخلق زاد عليك في الإيمان .(1/44)
أخوانا الكرام ، البيت الذي فيه صدق بيت عظيم ، بيت مبارك ، بيت في تفاهم والله أيها الأخوة ، لو ألغي الكذب من حياتنا ، لكنا جميعاً بحال غير هذا الحال .
مرة كنت بجلسة كل ما قيل كذب بكذب ، قال لي شخص : أين كنت ؟ قلت والله بجلسة كذب ، كل إنسان يمدح نفسه بما ليس فيه ، يمدح بأولاده ، تمدح ببناتها ، كله كلام فارغ ، كن صادقاً .
البيت الذي في صدق بيت مقدس ، وتقريباً معظم المشكلات تأتي من الكذب ، المبالغة كذب ، والتقليل من الشأن كذب ، هناك كذب مبالغة ، و هناك كذب تقليل ، هناك كذب تعتيم ، وهناك كذب إبراز ، أنواع الكذب لا تعد ولا تحصى .
لذلك أكبر وسام شرف للمؤمن أنه لا يكذب ، وأكبر عطاء من الأب للابن أن تعلمه الصدق .
بالمناسبة إذا علمته أن يكون صادقاً وكسر آنية ، وقال لك أنا كسرتها ينبغي ألا تضربه .
والله أيها الأخوة ، عندي أخ أعتز فيه ، شاب ، فتح والده له معملاً بمصر ، هو مدير معمل لكنه شاب صغير ، يسوق مركبته (سأقول لكم كلاماً دقيقاً) مسّ سيارة أمامه فيها إنسان بالخامسة و التسعين ، مات ، مس خفيف ، فاتصل بمدير معمله ، قال له : اطمئن ، تعال الساعة الفلانية للقسم الفلاني ، جاء ، كل شيء منتهٍ ، ضبط بخلاف الواقع ، المركبة التي مسها هو جاء بالتقرير أنها هي التي اقتربت منه ، فقال له : لا أوقع ، قال له الضابط : معقول ؟ أنا ما مرّ معي شخص أنا خلصته يوقع حاله ، قال له : أنا من الله لا أخلص ، الذي حدث خلاف ذلك ، ورفض أن يوقع ، ووقع كما وقع ، وأعطى الدية لهذا الذي تسبب بموته وعيّن أولاده بالمعمل ، لو كنا كذلك ، هذا شاب طالب علم ، خاف من الله أن يكتب الضبط بخلاف الواقع .
فالمؤمن لا يكذب ، في قصة إخوانا الكرام ، عبد القادر الجيلاني ، هذا من كبار العلماء ، أعطته أمه أربعين ديناراً ذهبياً من أجل أن يتابع العلم في بغداد ، في الطريق اعترضت قافلته قطاع الطرق (اللصوص) ، من مجموعات مجموعات ، أول مجموعة كم معك يا غلام ؟ قال أربعون ديناراً ذهبياً ، لم يصدقوه ، المجموعة الثانية ، قال لهم : معي أربعون ديناراً ، فأخذه أحد أفراد العصابة إلى رئيس العصابة ، قال : يقول إن معه أربعين ديناراً ، قال له : معك ؟ قال له معي ، قال له : كيف أعلنت عن هذا المبلغ ؟ قال له : لأني عاهدت أمي على الصدق ، وحلفت عليّ إلا أكذب ، وأنا أخاف أن أخون عهدها ، رئيس العصابة قال له : أنت تخاف أن تخون عهد أمك ، وأنا لا أخاف أن أخون عهد الله عز وجل وبكى ، وتاب على يد هذا الغلام ، فإذا بأفراد العصابة جميعاً يتوبون كما يتوب رئيسهم طفل صادق .
والله أيها الأخوة ، يوجد قصص عن آثار الصدق ، الصدق منجاة ، والكذب مهواة ، لذلك :
(( عليكم بالصدق فإنه يهدي إلى البر )) . (( إن الصدق يهدي إلى البر وإن البر يهدي إلى الجنة وإن الكذب يهدي إلى الفجور )) .(1/45)
شخص سأل النبي عليه الصلاة والسلام سؤالاً ، قال له : يا رسول الله ، ماذا ينجي العبد من النار ؟ قال : إيمان بالله ، قال : مع الإيمان عمل ؟ قال : أن يعطي مما أعطاه الله ، قال : فإن كان لا يجد ، وضع له عقبة ، فقال عليه الصلاة والسلام : أن يأمر بالمعروف وأن ينهى عن المنكر ، قال : إن كان لا يستطيع ، قال له : فليعن الأخرق (أي يحاول الإنسان) ، قال له : إن كان لا يقدر ، قال له عليه الصلاة والسلام ، كأنه أخذه غضب شديد ، قال له : أو ما تريد أن تترك لصاحبك من خير ؟ ما له ولا ميزة ؟ لا يستطيع أن يعطي مما أعطاه الله ، ولا يستطيع أن يأمر بالمعروف ، ولا أن ينهى عن المنكر ، ولا أن يعين إنساناً ؟ ليمسك أذاه عن الناس ، قال له : وإن فعل هذا دخل الجنة ؟ اسمعوا الجواب الرائع ، قال عليه الصلاة والسلام :
(( ما من مؤمن يصنع خصلة من هذه الخصال إلا أخذت بيده حتى يدخل الجنة )) .
[ أخرجه ابن أبي شيبة عن أبو ذر الغفاري ] .
أي أنت حينما تصدق ولا تكذب هذا الصدق يأخذك إلى البر ، يا بني صليت العشاء ؟ الابن عاهد ربه على الصدق ، لا يا بابا ، تعال نصلي معاً ، صلى ، قال له صليت سكت الأب ، ما دام صدق (( الصدق يهدي إلى البر ، وإن البر يهدي إلى الجنة ، وإن الرجل ليصدق حتى يكتب عند الله صديقا )) .
لذلك أكبر عطاء يقدمه الأب لأولاده أن يعلمهم الصدق ، لكن المتابعة متعبة ، أين كنت ؟ عند رفيقي ، أفضل لك أن تقبل منه ، لكن أنت عندك إحساس هذه الرواية غير صحيحة من رفيقك ؟ اسمه ؟ أعطيني هاتفه ، اتصل به ، تحتاج إلى وقت و إلى جهد و إلى نفس طويل ، متعبة ، المتابعة متعبة ، أكثر الآباء يميلون إلى الراحة ، أي رواية تقدم لهم يصدقونها على أولادهم ، الابن وجد الأب ما حقق ، عوده على الكذب ، أما إذا حقق تحقيقاً دقيقاً ، ووصل إلى الخطأ ، وأدبه عليه ، أو لو لم يؤدبه ، مع الأب صعب جداً يقبل رواية غير صحيحة .
هذه الأبوة ، متابعة ، أين كنت يا ابنتي ؟ عند رفيقتي ، من بيت من ؟ قد تكون مع شاب كانت ، قالت له : عند رفيقتي ، تلفونها ، لا أعرف تلفونها ، قومي نسألهم ، ركبها بسيارته تفضلي ، أين بيتها ؟ ما كنت عندها ؟ لما الابن أو البنت تلاحظ في متابعة دقيقة ، أنا بالنسبة لي في نقطة دقيقة ، أي منصب قيادي ، إذا ما تابعت تنتهي .
مرة كنت بمؤسسة تعليمية كبيرة ، ما أعطيت أمراً إلا وسجلته عندي ، ثاني يوم أطلب الشخص ، ماذا فعلت ؟ أنا لما أعطي أمراً ما أكتب أمامه ، أعطي أمراً شفهياً ، يخرج من الإدارة ، أكتب عندي على المذكرة ، الأمر الذي أعطيته إياه ، ثاني يوم تابعه ، بعد أسبوع أو أسبوعين أو ثلاثة شعر كل من حولي لا يمكن أن أنسى شيئاً ، أنا أنسى لكني أكتبه أنا أقول للآباء أعطيت ابنك توجيهاً اكتبه(1/46)
عندك ، ثاني يوم طالبه فيه ، عاهد ابنك على شيء اكتبه عندك ، ثاني يوم طالبه فيه ، المتابعة تحتاج إلى جهد لكن ثمارها يانعة جداً .
لما الابن يقدم رواية غير صحيحة والأب ما تابعها ، الأب بعدم متابعته ، وعدم التدقيق والتحقيق ، وجد الكذب سهل ، أنا أميل إلى أن أعتقد والاعتقاد مؤلم أن كل أخطاء الأولاد بسبب أخطاء الآباء ، لا تقول أن ابني سيئاً ، لا يوجد ابن سيء ، لكن في تربية سيئة التربية السيئة أعطت ابناً سيئاً .
إخوانا الكرام ، الصدق أمانة ، والكذب خيانة ، الصدق أمانة والكذب خيانة لكن في حديث يقصم الظهر :
(( كبرت خيانة أن تحدث أخاك حديثاً هو لك مصدق أنت به كاذب )) .
[أخرجه الإمام أحمد عن نواس بن سمعان ] .
لا تحابي نفسك ، إن حدثت أخاك حديثاً وهو لك به مصدق ، وأنت له به كاذب فقد ارتكبت خيانة ، خيانة كبيرة جداً .
(( كبرت خيانة أن تحدث أخاك حديثاً هو لك مصدق أنت به كاذب )) .
[أخرجه الإمام أحمد عن نواس بن سمعان ] .
والكذب مهما يكن في توافه الأمور فهو كذب ، كان النبي صلى الله عليه وسلم في بيت أقربائه فيما يبدو ، فسمع امرأة تقول لابنها تعال هاك أي خذ ، فالنبي انتبه ، قال لها ماذا أردت أن تعطيه ؟ قالت : تمرة ، قال : أما إنه لو لم تفعلي لكتبت عليك كذبة ، تعال هاك.
لي قريب مقيم بأمريكا ، جاء في الصيف ، فابنه الصغير يبدو أنه نشيط نشاطاً زيادة عن الحدود الطبيعي ، فجدته قالت له : اهدأ ومساء سآخذك إلى مكان جميل ، فهدأ لأنه صدقها ، فارتاحت ، في المساء لم تأخذه ، وهي بالأساس لا تنوي أن تأخذه ، لكن بهذه الطريقة تسكته ، هو صغير جداً قال لجدته : أنت إنسانة كاذبة .
يا أخوان الأب قدوة ، إياك ، ثم إياك ، ثم إياك أن تكذب لا على أولادك ، ولا على زوجتك ، قل الحق ولو كان مراً ، الصادق عزيز النفس .
عفواً لو أنت ذهبت إلى بيروت ، وقال لك شخص : أرجو أن تأتي بهذه الحاجة وأنت نسيته ، فلما عدت سألك ، هل أتيت بها ؟ لو قلت له مفقودة ، هو ما عنده إمكانية يحقق ، سكت ، لكن أنت ألا تصغر أمام نفسك ؟ يصبح انهدام داخلي ، لو تجرأت وهو إنسان غالٍ عليك ، قلت له والله نسيت ، ينزعج منك ، لكن بعد الانزعاج تشعر بعزة الصدق ، تكلم ، قل نسيت ، لا تقل ما وجدتها .
يعني في حالات كثيرة جداً لا يستطيع الآخر أن يكتشف الآخر ما إن كان صادقاً أو كاذباً ، كن صادقاً ، وهييء نفسك لموقف صعب ، لكن الصدق منجاة ، والكذب مهواة .(1/47)
أي الأب ، الأم ، المعلم ، الأخ الأكبر ، مدير المحل ، مدير معمل ، مدير جامعة ، مدير مستشفى ، حاول أن تقول صادقاً .
هل تصدقون أن أحد رواة الحديث الشريف ، لأنه كذب على فرسه الذي أتى من المدينة إلى البصرة ليأخذ حديثاً عن هذا الراوي ، من المدينة للبصرة ، جاء ليأخذ حديثاً عن أحد الرواة ، قبل أن يصل إليه رآه يجمع ثوبه هكذا ، موهماً فرسه بأن فيها شعيراً ، فلما أقبلت عليه أمسك بزمامها ، لا يوجد شعير ، لم يقبل أن يأخذ عنه الحديث ، أي الذي يكذب على فرسه ليس مؤهلاً أن يؤخذ عنه حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم .
أيها الأخوة ، (( إن الصدق يهدي إلى البر وإن البر )) لما أنت تصدق مع الناس بعد حين تصدق مع نفسك ، وبعد حين تصدق مع ربك ، والله الذي لا إله إلا هو لو ألغي الكذب من حياتنا ، لكنا بحال آخر ، المرأة صادقة ، الزوج صادق ، المدير العام صادق الموظف صادق ، أما آلاف الحالات بإمكانك أن تكذب ، ولا أحد يكتشف أنك كاذب .
(( كبرت خيانة أن تحدث أخاك حديثاً هو لك مصدق أنت به كاذب )) .
[أخرجه الإمام أحمد عن نواس بن سمعان ] .
لذلك ورد في الأثر :
(( أحب ثلاثاً ، وحبي لثلاث أشد ، أحب الطائعين ، وحبي للشاب الطائع أشد))
يعني إنسان بالثمانين لا يعصي الله ، أما بالخامسة عشر ، بالسادسة عشر ، بالثامنة عشر كتلة اندفاعات ، كتلة شهوات ، لا يوجد شيء أحب إلى الله تعالى من شاب تائب.
(( إن الله يباهي الملائكة بالشاب التائب ، ويقول انظروا عبدي ترك شهوته من أجلي )) .
(( أحب ثلاثاً ، وحبي لثلاث أشد ، أحب الطائعين ، وحبي للشاب الطائع أشد ، أحب المتواضعين ، وحبي للغني المتواضع أشد )) .
والله أيها الأخوة ، لو التقيت بغني مؤمن تشتهي الغنى منه ، من تواضعه ، من سخائه ، من حبه للآخرين .
(( وأحب الكرماء ، وحبي للفقير الكريم أشد )) .
يحب الطائعين وحبه الشاب الطائع أشد ، يحب المتواضعين وحبه للغني المتواضع أشد ، يحب الكرماء وحبه للفقير الكريم أشد .
(( أبغض ثلاثاً ، وبغضي لثلاثٍ أشد ، أبغض العصاة ، وبغضي للشيخ العاصي أشد )) .
(( وأبغض المتكبرين وبغضي للفقير المتكبر أشد )) .
يكذب ، يدعي ما ليس له ، كيف يستطيع الفقير أن يتكبر ؟ بالكذب .
(( وأحب الكرماء ، وحبي للفقير الكريم أشد )) .(1/48)
أيها الأخوة ، لابد من أن نقف وقفة متأنية عند ما يجري في البيت ، هذا الطفل ما في داعي أن نعمل له محاضرات ، يكفي أن نكون قدوة له ، القدوة قبل الدعوة ، يكفي أن تكون أنت مثلاً أعلى لهم ، وأمه كذلك ، وأخوه الأكبر كذلك ، الأمر يستقيم ، أحياناً تقول التربية تحتاج إلى معلومات ، إلى دراسات ، لا ، لا ، عندنا قاعدة : الانتفاع بالشيء ليس أحد فروع العلم به ، كيف ؟
يأتي إنسان يحمل دكتوراه في التكييف ، جامعة كبيرة ، يشتري مكيفاً ، يضغط مفتاح التشغيل يأتيه الهواء البارد ، لكنه على علم بكل ما يجري بهذا الجهاز ، موضوع الغاز ، تحول الغاز إلى جو بارد ...إلخ .
لو جاء إنسان لا يقرأ ولا يكتب واشترى مكيفاً ، وضغط مفتاح التشغيل يأتيه الهواء البارد مع أنه لا يفقه شيئاً مما يجري في هذا الجهاز ، فقال العلماء : الانتفاع بالشيء ليس أحد فروع العلم به .
يعني أنت حينما يصدق ابنك ، من دون تعمق ، من دون تحليل ، من دون فلسفة ، يقطف كل ثمار الصدق ، وحينما يكذب الإنسان من دون تحليل ، من دون تعميق ، من دون يتحمل كل نتائج الكذب .
فعظمة هذا الدين ، منهج موضوعي ، هو أنت حللته تحليلاً عميقاً ، لو لم تحلل هذا المنهج يكفي أن تطبقه ، حتى تقطف كل ثماره .
لذلك هذا الموضوع موضوع الصدق يجب أن يكون شمولياً ، بدءاً من الأب وانتهاءً بالصغير ، حتى في دراسات الآن الطفل الرضيع أحياناً تنظفه ، وتطعمه ، ويبكي فإذا حملته عودته وهو في سن الشهر أنه لو كان قد أكل ، وارتوى ، وكان نظيفاً ، لكن يحب من يعتني به زيادة ، فيبكي تحمله ، أما في أب لا يحمله ، ما دام نظيفاً وآكل أكلاً جيداً ، لا يحمله ، ما عاد يبكي بلا سبب ، أنت عودته يبكي بلا سبب ، لما حملته عودته يبكي بلا سبب .
إخوانا الكرام ، أكثر ما يعاني الآباء من أبنائهم في سنوات متقدمة من حياتهم أخطاء مارسوها حينما كان الأطفال صغاراً .
والحمد لله رب العالمين
==============
... ... ... ...(1/49)
6- التربية الاجتماعية 1 ـ ظاهرة السرقة .
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين ، اللهم أخرجنا من ظلمات الجهل والوهم إلى أنوار المعرفة والعلم ، ومن وحول الشهوات إلى جنات القربات .
أيها الأخوة الكرام ، مع الدرس السادس من دروس تربية الأولاد في الإسلام ولا زلنا في التربية الاجتماعية .
لابدّ من مقدمة :
القاعدة الذهبية الرائعة : درهم وقاية خير من قنطار علاج ، فكلما كان الأب أعلى وعياً ، وفهماً ، وإدراكاً للمسؤولية ، كلما كان الأب عالماً برسالته تجاه أولاده ، كلما كان الأب متمثلاً المسؤولية التي حمله الله إياها ، سلك الوقاية قبل العلاج ، درهم وقاية خير من قنطار علاج .
مرة سيدنا معاوية سأل أحد أكبر دهاة العرب (عمرو بن العاص) ، قال له : يا عمرو ، ما بلغ من دهائك ؟ قال له : والله ما دخلت مدخلاً إلا أحسنت الخروج منه ، قال : يا عمرو لست بداهية ، أما أنا ، والله ما دخلت مدخلاً أحتاج أن أخرج منه ، أنا في الأساس لا أدخل .
فهناك مشكلات لا تعد ولا تحصى في الأسرة ، يجب أن نعلم جميعاً ، ومن دون خجل ، ومن دون تحفظ ، أن معظم أخطاء الأولاد بسبب الآباء ، الأبوة مسؤولية ، الأبوة أمانة ، الأبوة رسالة ، الأبوة المثالية طريق إلى سعادة الدنيا والآخرة ، الأبوة المثالية مكافأتها في الدنيا قبل الآخرة ، ما المكافأة في الدنيا ؟ أن يكون ابنك قرة عين لك ، المشاعر التي تنتاب الأب الذي اعتنى بأولاده ، ورآهم ملء السمع والبصر ، خلقاً ، وديناً ، واستقامة ، هذه المشاعر لا تقدر بثمن ، ولا توصف .
أيها الأب ، أيتها الأم ، أنت الرابح الأول ، وأنت الرابحة الأولى ، إذا اعتنيتما بالأولاد ، لأن النبي عليه الصلاة والسلام يقول :
(( أفضل كسب الرجل ولده )) .
[ أخرجه الطبراني في الكبير عن أبي برزة بن نيار ] .
أي أفضل كسب على الإطلاق ابنك ، لأنه امتداد لك ، لأنه به يستمر وجودك .
كنت أقول لكم دائماً : أنت باستقامتك على أمر الله تحقق سلامة وجودك ، وأنت بالعمل الصالح ، والبذل والتضحية ، والتقرب إلى الله تحقق كمال وجودك ، وبتربية أولادك تحقق استمرار وجودك .
صدقوا أيها الأخوة ، حينما يموت الأب ، ويخلف ولداً صالحاً أقول بملء فمي : الأب لم يمت ، ما دام هذا الابن خليفته يمشي على نهجه ، تأدب بآداب الإسلام ، الأب لم يمت .(1/50)
إذاً الحقيقة المرة لا توارب ، لا تتهرب ، معظم أخطاء الأولاد من الآباء ، معظم أخطاء الطلاب من المعلمين ، معظم أخطاء أفراد المجتمع من قياداته ، معظم أخطاء التلاميذ في المسجد من الذي لا يحسن بناء نفوسهم ، هذه الحقيقة المرة ، واعتمدوها دائماً ، وهي أفضل ألف مرة من الوهم المريح .
مثلاً : القسوة الشديدة من الأب تعلم ابنه الكذب ، إذا في اعتدال ، في هدوء ، في وعي ، في مسامحة ، يا بني تكلم ما الذي حصل ؟ أنا أبوك ، أنا أنصحك ، أنا أرشدك ، أما الضرب الشديد ، والسُباب ، يصبح الابن منخلع القلب من البوح لأبيه مما جرى ، ما لم يكن ابنك صديق لك ، وما لم تكن ابنتكِ صديقة لكٍ ، لن يبوح ، ولن تبوح لك ولها بما حصل .
إخوانا الكرام ، الذي يحصل دائماً الموقف المتطرف سهل ، أن تسيب عملية سهلة ، ألا تبالي ، ألا تأبه ، ألا تدقق ، ألا تحاسب ، ألا تراجع ، القضية سهلة ، أب مهمل .
وأنا والله يا أخوان من أعماق أعماقي أقول لكن بتعريف لليتيم لم يكن من قبل اليتيم : من يجد أماً تخلت ، أو أباً مشغولاً ، هذا اليتيم ، اليتم الحقيقي أب مشغول ، أم متفلتة ، أم همها مكانتها ، وزينتها ، والافتخار بزوجها ، ورحلاتها ، وولائمها ، وما في يدها من حلي ، والأب من نزهة إلى نزهة ، ومن صديق إلى صديق ، والأولاد ضاعوا ، من معاني اليتم الحقيقي أب مشغول ، وأم لا ترعى أولادها ، وقد ورد في بعض الأحاديث :
(( أيما امرأة قعدت على بيت أولادها فهي معي في الجنة )) .
[ من الجامع الصغير عن أنس ]
والحديث أذكره كثيراً ، في الأدب المفرد للبخاري :
(( أول من يمسك بحلق الجنة أنا ، فإذا امرأة تنازعني ، تريد أن تدخل الجنة قبلي ، قلت : من هذه يا جبريل ؟ قال : هي امرأة مات زوجها ، وترك لها أولاداً ، فأبت الزواج من أجلهم )) .
تربية الأولاد أعظم عمل على الإطلاق ، ولاسيما في هذه الأيام ، أيام التفلت ، أيام النساء الكاسيات العاريات ، المائلات المميلات ، في أيام الانترنيت ، في أيام الفضائيات ، في أيام المجلات ، في أيام رفقاء السوء ، في أيام المحمول وما فيه من أفلام وصور ، في مثل هذه الأيام يحتاج الأب إلى كم كبير جداً من العناية بأولاده حتى يكونوا قرة عين له التساهل سهل ، والتعنيف سهل ، الأب يغضب يضرب ضرباً مبرحاً ، يشفي غليله ، وما فعل شيئاً لكنه عقّد المشكلة ، وأقام حاجزاً بينه وبين ابنه ، والذي يحصل أنا أسميها حلقة مفرغة الأب يسيب ، لا يبالي ، لا يدقق ، لا يحاسب ، الابن يتفلت ، يرى أباه لا يحاسبه يزداد تفلتاً ، يرى أباه لا يبالي في مجيئه إلى البيت ينام خارج البيت ، ثم يكتشف الأب فجأة أنه خسر ابنه فيقسو قسوة غير طبيعية ، من تسيب غير مقبول ، وغير معقول ، إلى قسوة غير مقبولة وغير معقولة ، هذه مشكلة الأسر اليوم ، تسيب ، وقسوة ، التسيب تبعه تفلت ، والقسوة تبعها حاجز بين الأب وابنه ، هذا الواقع .(1/51)
أيها الأخوة ، لكن المتابعة صعبة ، وأنت هادئ ، ضابط أعصابك ، في مشكلة في البيت ، تعالجها بحكمة ، بهدوء ، بحلم ، بنصيحة ، بمتابعة ، بتوجيه ، بإلقاء حكمة ، بأن يكون ابنك معك ، بأن تعلمه ، بأن توجهه ، المتابعة صعبة ، بالتعبير الدقيق الثمن باهظ والنتائج رائعة .
شيء آخر : الناس أنت لهم ، وغيرك لهم ، أما أولادك من لهم غيرك ؟ من المسؤول عنهم غيرك ؟ من المحاسب عنهم غيرك ؟ من الذي سيتألم إذا انحرفوا غيرك ؟ دقق تمشي في الطريق لا سمح الله ، ولا قدر ، رأيت شباباً ثلاثة ، أحدهم ابنك ، والثاني ابن أخيك ، والثالث صديق ابن أخيك يدخنون ، أنت تصبح كالمرجل ، على من ؟ على ابنك ، لأنه لصيق بك ، لأنه امتداد لك ، لأنه قدرك ، ابن أخيك تعنفه ولكن بحدة أقل ، أما صديق ابن أخيك تقول له انصرف إلى البيت ، أما الألم والغليان على من ؟ على ابنك ، لأنه جزء منك ، لأنه امتداد لك ، لأنه قدرك ، لأنه مصيرك .
والله أيها الأخوة ، بحكم عملي في الدعوة إلى الله لثلاثة و خمسين عاماً مضت ، والله يتصل بي آباء يكاد يموتون ألماً من تفلت أبنائهم ، وضياعهم ، وسقوطهم ، وشقائهم في الدنيا والآخرة .
بالقرآن إشارات لطيفة جداً :
* وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ * .
( سورة النساء الآية : 34 ) .
النشوز لم يقع ، لكن له علامات مبكرة فالأب اليقظ ، والأب الحكيم ، والأب المربي ، والأب المؤمن ، ينتبه لهذه العلامات التي تؤشر على وقوع نشوز ، * وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ * أنا لا أدقق في معاني الآية هذه ، أدقق في فكرة واحدة أن الإنسان المربي يتنبه للشيء من بداياته ، دخلت إلى البيت فجأة ابنتك وضعت السماعة في مكانها كان في مكالمة ، وخافت حينما رأتك ، مع من ؟ أين كنت ؟ اضطربت ، اضطراب الابن في مشكلة ، لمن هذه الساعة ؟ صار في تلعثم ، التلعثم بداية ، أنت كأب بطولتك أن تعالج الأمر قبل أن يقع ، لمجرد وجود إشارات ، علامات بسيطة ، * وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ * ، أنا يعنيني من هذه الآية ليس معناها الدقيق ولكن التنبه إلى ظاهرة من بدايتها .
الآن حتى بالطب أي عرض لمرض إن تنبهت إليه في وقت مبكر العلاج سهل جداً ، أما بعد أن يستفحل المرض صار العلاج صعب جداً .
هذا الكلام لمن ؟ دقق ، للآباء ، للمعلمين ، للمربين ، للدعاة ، لكل منصب قيادي مدير مستشفى ، مدير جامعة ، مدير ثانوية ، مدير معمل ، أي منصب قيادي ، والأب والأم في الدرجة الأولى .
الآن هناك دراسة نفسية دقيقة تؤكد هذه الدراسة أن تأثير الأب ، والأم ، والأخ الأكبر ، والأخت الكبرى ، وخطيب المسجد ، والمعلم كل هؤلاء تأثيرهم 40% ، ورفيق السوء تأثيره 60% .
مدرس تربية إسلامية في محافظة نائية من محافظة بلدنا في الشمال الشرقي ، له ابن ، أدخله معهداً شرعياً ، له رفيق سوء ، هذا الرفيق دلّه على الدخان ، ثم انحرف به أخلاقياً ، ثم امتهن تجارة(1/52)
المخدرات ، ثم سافر إلى بلد شرقي بعيد ، ثم اتهم بالعمالة لجهة غربية ، ثم أُعدم ، قصة في الانترنيت ، رفيق السوء نقله من الدخان ، إلى الفاحشة ، إلى المخدرات ، إلى العمالة ، إلى الإعدام .
اسمعوا هذه الكلمة بالصوت العالي : لابدّ من أن تعرف من هو صديق ابن ، أو من هم أصدقاء ابنك ، ومن هم صديقات ابنتك ، في الدرجة الأولى ، وأنا أعني ما أقول الفضل لله عز وجل ، الذي أقوله لا آخذه من كتب آخذه من واقع .
كان عندي شاب بالمسجد ، تائب ، منيب ، صائم ، مصلي ، رائع ، اختفى ، سألت عنه ، كان مع رفقاء السوء سابقاً في عصابة سرقة ، ألقي القبض عليها ، وكان عضواً فيها ، وكانت مهمته مراقبة الطريق من بعيد لأصدقائه أثناء سرقتهم البيوت ، فلما قبض عليها أعطوا اسمه أثناء التحقيق ، أُلقي القبض عليه وأدخل السجن ، حُكم ست سنوات ، طبعاً أنا اعتنيت به كثيراً ، أرسلت له أخوة إلى السجن لكن وقع الذي وقع .
أيها الأخوة ، صدق ، ولا أبالغ يمكن أن تعيش في بيت متواضع جداً ، تأكل خشناً ، ترتدي ثياباً قديمة ، وبيتك منتظم ، وزوجتك وفية ، وابنك بار ، أنت ملك ، أساساً الملك سأل وزيره من الملك ؟ قال له : أنت ، قال له : لا ، الملك رجل لا نعرفه ولا يعرفنا ، له بيت يؤويه ، و زوجة ترضيه ، و رزق يكفيه .
بطولتك أن تضع يدك على أسباب السعادة ، السعادة في الطهارة ، في العفة ، في الاستقامة ، في الصدق ، في أسرة متماسكة ، بين أفرادها الحب ، والوداد ، أحياناً يموت الأب ، أنا أتابع بعد موت الأب ما الذي يحصل ؟ بعض الأسر ، سبحان الله ! الأسرة متماسكة متفاهمة ، متعاونة ، وما غابت إلا عين الأب ، وفي أسر يموت الأب ، يتنافسون على الميراث ، يتقاتلون ، يتناحرون ، يختصمون في المحاكم ، تصبح قصصهم حديث المجتمع .
أيها الأخوة ، هناك ملاحظة ، هذه الملاحظة قاعدة في قانون العقوبات ، لا معصية قبل التكليف ، من عادات الآباء يفاجئون في أخطاء أولادهم ، يضربونهم ، أنت بلغته أن هذا العمل لا يجوز ؟ بينت له ؟ وضحت له ؟ أرشدته ؟ نبهته ؟ أخبرته ؟ لا ، العمل أزعج الأب انهال عليه ضرباً ، هذه آثار التربية السيئة ، بيّن ، يا بني هكذا نفعل ، هكذا نعامل الناس ، هكذا نصادقهم ، هكذا نتعامل معهم .
إذاً إياك أن تعاقب قبل أن تنبه ، وإياك أن تعاقب قبل أن تنبه مرة ، ومرتين ، وثلاث مرات ، الإنسان قد ينسى ، اجعل هذا منهجاً .
لو سألتني (طبعاً في الدرس الماضي كان الدرس عن الكذب ، واليوم عن السرقة ، لكن أريد تمهيداً دقيقاً ) ما الوقاية من السرقة ؟ الوقاية أن تعتني بحرفتك ، أن تتقن عملك ، أن تكون مجتهداً فيه ، حتى تكسب مالاً حلالاً وفيراً تلبي حاجات أسرتك ، حينما تُؤمن الحاجات الأساسية يشد الابن إلى(1/53)
أبيه وأمه ، يشد إلى البيت ، البيت معقول ، لا أتكلم عن الفخامة أبداً ، أتكلم عن بيت معقول فيه الحد الأدنى من الشروط الأساسية ، طعام ، ثياب ، تدفئة ، مصروف معقول ، هذا ثمنه أنك أتقنت عملك ، ورد في بعض الآثار :
(( من أمسى كالاً من عمل يديه أمسى مغفوراً له )) .
[ أخرجه الطبراني عن عبد الله بن عباس ] .
أنا عملي ، أنت حينما تقوم بعملك ، معك حرفة ، تحمل شهادة عليا ، عندك عيادة ، مكتب هندسي ، تجارة متواضعة ، لك دخل ، دوام منضبط ، صنعة متقنة ، معاملة للناس طيبة ، لك رزق وفير ، هذا الرزق تنفقه على عيالك ، والله كلمة قالها صحابي جليل والله تكتب بماء الذهب ، قال : حبذا المال ، أصون به عرضي ، وأتقرب به إلى ربي .
طفل ثيابه جيدة ، معطف بالشتاء ، حاجاته الأساسية مؤمنة ، له غرفة بالبيت ، يأكل طعاماً جيداً ، له طموحات بكومبيوتر ، بجهاز وفره له أبوه ، هذا الابن الذي عمل أباه عملاً متقناً ، وكسب مالاً حلالاً ، أقسم لكم بالله الأب عمله في عبادة ، لأنه يحقق رسالة الأبوة .
اسمعوا هذا الكلام الدقيق : مهنتك ، حرفتك التي ترتزق منها ، إذا كانت في الأصل مشروعة ، تجارة أقمشة مشروعة ، تجارة أخشاب ، تأجير أفلام غير مشروعة ، مبيع دخان غير مشروع ، أحياناً مقهى انترنيت لو تتبعت هؤلاء الذين يجلسون حتى منتصف الليل يفتحون على مواقع لا ترضي الله عز وجل ، هناك آلاف المصالح لا ترضي الله ، أبداً ، أنا أقول عن حرفة هي في الأصل مشروعة ترضي الله ، وسلكت بها الطرق المشروعة صدق ، أمانة ، إخلاص ، إتقان ، سعر معتدل ، في المحل لا يوجد غمز ، ولا لمز ، ولا نظرة مريبة من شاب لفتاة ، تقام في هذا المحل الصلوات ، أو في المسجد ، هذا المحل التجاري منضبط ، إذا كانت حرفتك مشروعة ، وسلكت بها الطرق المشروعة ، وابتغيت منها كفاية نفسك ، وأهلك ، وخدمة المؤمنين ، أو الناس أجمعين ، ولم تشغلك عن واجب ، ولا عن فريضة ، ولا عن طلب علم ، ولا عن عمل صالح ، استمع إلى النتيجة ، انقلبت هذه الحرفة إلى عبادة ، قالوا : عادات المؤمن عبادات ، وعبادات المنافق سيئات .
إنسان (أقول لكم بكل دقة) أخذ أهله نزهة منضبطة ، أطعمهم طعاماً طيباً ، لاعب أولاده ، أُقسم لكم بالله هو في قمة العبادة ، لأنه أدخل على قلب أهله السرور ، كان أباً مثالياً ، بحثت طويلاً عن ثياب لابنك يحبها جميلة ، فرح بها ، اعتز بها .
اسمحوا لي بهذه الكلمة لا تعدوها قاسية : في عالمنا الإسلامي الأب محترم أكيد بثقافتنا الإسلامية ، لكن المطلوب لا أن تكون محترماً أن تكون محبوباً ، والأب لا يُحب إلا إذا كان محسناً ، بتقاليدنا ،(1/54)
بعاداتنا ، بثقافتنا ، بما نشأنا عليه الأب محترم جداً لكن أنا أقول لك : بطولتك لا أن تكون محترماً بل أن تكون محبوباً .
سؤال : أحياناً يشعر أهل البيت وكأنهم في عيد ، لكن متى ؟ إذا دخلت أم إذا خرجت ؟ هنا البطولة ، في بعض الآباء إذا خرجوا خلص الشر ، والصراخ ، والسُباب ، و الضرب ، صار العيد في البيت ، أنا والله حينما أرى أباً يدخل بيته فإذا الأهل يكادون يرقصون فرحاً أقول هذا أب ناجح ، يجب أن تجعل بيتك جنة ، يجب أن تجعل بيتك جنة بيدك ، تقول لي : دخلي محدود ، يمكن أن يأكل أولادك أخشن الطعام ، وأن يرتدوا ثياباً مستعملة سابقاً ، بأصغر بيت ، لكن في حب بالبيت ، في حب ، السعادة ما لها علاقة بالمال إطلاقاً ، علاقتها بالقيم الإنسانية ، علاقتها بالحب .
يا رسول الله كيف حبك لي ؟ قال لها : كعقدة الحبل ، تسأله من حين لآخر كيف العقدة ؟ يقول : على حالها .
والله بإمكان كل واحد منا ، ولا أستثني واحداً أن يجعل بيته جنة ، على ما هو عليه ، بيت صغير ، كبير ، أجرة ، ملك ، جنوبي ، شمالي ، فوق الأرض ، تحت الأرض ، دخل محدود ، دخل غير محدود لا يفرق ، بلطفك ، وإيمانك ، وعطفك ، ومحبتك لأولادك يصبح البيت جنة .
الآن إذا كنت مرتاحاً في البيت جهدك في الخارج يتضاعف ، مرتاح ، الزوجة محبة ، الابن بار ، في انضباط ، في حب .
لذلك الكلمة التي أتمنى أن تحفظوها : حبذا المال أصون به عرضي ، وأتقرب به إلى ربي ، والله أنا أحياناً أشاهد أباً مثالياً أثني عليه ، ما شاء الله ! أب من الطراز الأول ، حاجات أولاده مُؤمنة كلها ، ضابط أموره ، ضابط حركاته ، دراستهم ، أعمالهم .
والله التقيت بعالم ، قال لي : عندي 38 حفيداً ، 13 طبيب منهم ، وأكثرهم حفاظ لكتاب الله ، هذه أبوة .
إخوانا الكرام ، البيت أحد أسباب سعادتك ، ورد في بعض الأقوال : جنة المؤمن داره ، وبصراحة الأب الناجح المؤمن في البيت مرح جداً ، يروي طرف ، يلاعب أولاده ، كان النبي يمشي ويركب الحسن والحسين على ظهره وهو سيد الخلق وحبيب الحق ، هكذا النبي علمنا ، كلما وقعت عيني على طفل أقول : يا رب هذا هدية من الله لوالديه ، يمكن أن يكون سبب سعادتهما ، ويمكن أن يكون سبب شقائهما .
قال لي أب : والله إذا دُهس ابني لأقيمن مولداً فرحاً بموته ، والله ، يا لطيف يحكي لي قصص عنه بلاء من الله .
(( لا تقوم الساعة حتى يكون الولد غيظاً والمطر قيظاً ويفيض اللئام فيضاً ويغيض الكرام غيضاً )) .
[ أخرجه الطبراني عن عائشة أم المؤمنين ] .(1/55)
أنا أتكلم بشكل خلفي حول موضوع السرقة ، أتحدث عن الوقاية ، الوقاية أن تتقن عملك ، وأن تكسب مالاً حلالاً يغطي حاجات أولادك ، فإذا أولادك يلتصقون بك ، وهم بيدك أنت توجههم ، وبالمقابل المال الزائد الغير منضبط يفسد الأولاد .
بصراحة ، أنت مؤمن ، ودخلك كبير ، تعطي ابنك بالابتدائي خمسمئة ليرة ، الابن ما عنده كمال ، يقول لرفيقه معي خمسمئة ليرة ، كسرت قلب أصدقاء ابنك ، أو في أكلات غالية جداً ثمن القطعة مئتي ليرة أحياناً ، أربع خمس قطع في الحقيبة ، يفتخر أمام أصدقائه ، اسمعوا هذا الحديث بالأثر النبوي :
(( أتدرون ما حق الجار ؟ إن استعان بك أعنته ، وإن استنصرك نصرته ، وإن استقرضك أقرضته ، وإن افتقر عدت عليه ، وإن مرض عدته ، وإن مات تبعت جنازته ، وإن أصابه خير هنأته ، وإن أصابته مصيبة عزيته ، ولا تستعل عليه بالبناء فتحجب عنه الريح إلا بإذنه ، وإذا اشتريت فاكهة فاهدِ له ، فإن لم تفعل فأدخلها سرا ولا يخرج بها ولدك ليغيظ بها ولده ، ولا تؤذه بقتار قدرك إلا أن تغرف له منها )) .
[ من تخريج أحاديث الإحياء عن عمرو بن شعيب ]
أعطِ ابنك المبلغ الذي يستطيعه معظم الطلاب ، قطعة فاكهة يقدر عليها كل أولياء الطلاب ، شطيرة عادية ، أطعمه في البيت أطيب الطعام ، أما في المدرسة أعطيه شيئاً لا يسبب حرجاً لمن حوله .
أيها الأخوة الكرام ، أنا عالجت موضوع السرقة لكن بأسلوب غير مباشر ، أنت حينما تكفي أولادك يرتبطون بك ، بك وبقيمك ، بك وبدينك ، بك وبثقافتك .
وأرجو الله سبحانه وتعالى أن يكون هذا الدرس سبباً للتنبه لخطورة تربية الأولاد في الإسلام .
والحمد لله رب العالمين
==============
... ... ... ...(1/56)
7- التربية الاجتماعية 2: " ظاهرة الكلام البذيء "
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين ، اللهم أخرجنا من ظلمات الجهل والوهم إلى أنوار المعرفة والعلم ، ومن وحول الشهوات إلى جنات القربات .
أيها الأخوة الكرام ، مع الدرس السابع من دروس تربية الأولاد في الإسلام ، ولازلنا في التربية الاجتماعية .
سبق أن تحدثنا عن الكذب كظاهرة اجتماعية خطيرة جداً في الأسرة ، وكذلك السرقة ، وقد ذكرت في الدرس الماضي الأسباب البعيدة التي تدعو الطفل إلى أن يأخذ من أبيه وأمه دون أن يستأذنهم .
واليوم ننتقل إلى الكلام ، هناك كلام لا يليق بشاب يعتني أبواه به ، كلام بذيء ، كلمات ساقطة ، كلمات سوقية ، كلمات فيها لفظ العوارت ، كلمات فيها سُباب ، كلمات فيها لعن ، هذه الظاهرة ، ظاهرة الكلام البذيء ، الكلام الفاحش ، الكلام النابي ، الكلام الذي يجرح المشاعر .
بادئ ذي بدء : انطلاقاً من مقدمة ذكرتها لكم كثيراً ، أن الأب البطل يعزو أخطاء أولاده إليه ، والأم كذلك ، الكلام البذيء ، والكلام الساقط ، والكلام الفاحش ، يعود إلى جو الأسرة ، وجو الطريق ، وجو المدرسة .
تصور بيتاً الأب منضبط ، لا يوجد كلمة لا تليق ، لا يوجد كلمة فاحشة ، العورات لا تذكر إطلاقاً ، الطُرف الساقطة لا تذكر إطلاقاً ، ما دام هذا الابن نشأ في بيت منضبط ، منضبط بالكلام ، منضبط بالتعبير ، أنى لهذا الطفل أن يتلفظ كلمات بذيئة ؟.
جو البيت :
أيها الأخوة الكرام ، الحقيقة الأولى أن السبب هو جو البيت ، أب غضوب في ساعات الغضب يسب الدين أحياناً ، فالطفل يستمع إلى أب يسب الدين ، فإذا غضب يقلد أباه من السبب ؟ الأب ، في ساعة المزاح الرخيص يسمي العورة باسمها ، يستمع الطفل إلى حديث أبيه مع أصدقائه ، فإذا أراد أن يقلد أباه استخدم العبارات نفسها .
أقول لكم بمنتهى الصراحة : البيت المنضبط في الأعم الأغلب أن الأولاد ينضبط لسانهم ، وجزء كبير من الأخلاق ضبط اللسان ، يا رسول الله وهل نؤاخذ بما نقول ؟ فقال عليه الصلاة والسلام لسيدنا معاذ :
(( ثكلتك أمك ! وهل يكب الناس على مناخرهم في النار إلا حصائد ألسنتهم ؟ )) .
[أخرجه الطبراني عن معاذ بن جبل ] .
(( لا يستقيم إيمان عبد حتى يستقيم قلبه ولا يستقيم قلبه حتى يستقيم لسانه )) .
[أخرجه الإمام أحمد عن أنس بن مالك ] .(1/57)
والله الذي لا إله إلا هو أعرف أشخاصاُ لو تعاشرهم خمسين عاماً لا يمكن أن يصدر منهم كلمة بذيئة واحدة ، ولا فاحشة ، هذا الذي نتمناه أن يكون واضحاً لدى الأخوة الآباء والأمهات والمعلمين .
أيها الأخوة ، لو دخلنا في التفاصيل ، دخل النبي عليه الصلاة والسلام على ابنته فاطمة ، وكانت مريضة ، حمى أصابتها ، فقال لها : ما لك يا بنيتي ؟ قالت : حمى لعنها الله قال : لا تلعنيها ، فو الذي نفس محمد بيده لا تدع مؤمن وعليه من ذنب .
لا تعود نفسك تلعن أمام أولادك ، الله يلعن الساعة التي عرفته فيها ، هذه لعن الساعة ، و لعن الأشخاص ، ولعن الأولاد ، عود نفسك ألا تلعن .
(( ليس المؤمن بطعَّان ولا لعَّان ، ولا فاحش ولا بذيء )) .
[أخرجه الترمذي عن عبد الله بن مسعود ] .
كلامه ما فيه لعن ، لا تلعنيها ، فو الذي نفس محمد بيده لا تدع المؤمن وعليه من ذنب ، عود نفسك ألا تلعن شيئاً ، في عبارات مهذبة ، أين فلان ؟ في الحمام ، يجدد وضوءه وفي عبارات أخرى ، يقوم في البيت بثيابه الداخلية ، الثياب الداخلية مهذبة ، كلمة مهذبة ، وفي كلمات أخرى لا تليق .
إذاً ينبغي أن تستخدم العبارات المهذبة جداً حتى في الأماكن التي لا يصح أن نذكر اسمها بالتفصيل .
شيء آخر : لا يستخدم النبي كلمة تثير الشهوة ، أسماء دخلت عليه بثياب رقيقة فقال : يا بنيتي إن هذه الثياب تصف حجم عظامك ، كلمة عظم لا تثير الشهوة إطلاقاً ، أي كلمة أخرى ممكن أن تثير الشهوة ، يا بنيتي إن هذه الثياب تصف حجم عظامك فقط .
* أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ * .
( سورة النساء الآية : 43 ) .
هل من كلمة لطيفة معبرة دون أن تثير خيال طفل صغير ؟ * أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ * .
* فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً * .
( سورة النساء الآية : 43 ) .
* لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ * مفهومة ، لكن الصغار لا يفهمون منها شيئاً ، هذا قرآن .
* فَلَمَّا تَغَشَّاهَا حَمَلَتْ حَمْلاً خَفِيفاً * .
( سورة الأعراف الآية 189 ) .
كلمة * تَغَشَّاهَا * ، أو * أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ * .
* وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ * إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ * فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ * .(1/58)
( سورة المؤمنون ) .
كل أنواع الشذوذ ، والكلمات التي يذكرها معظم الناس بألفاظها القبيحة ، دخلت بكلمة * فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ * .
* فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ * .
( سورة المؤمنون ) .
امرأة تشكو زوجها (دقق في تهذيبها) ، قالت : يا أمير المؤمنين ، إن زوجي صوام قوام ، في النهار صائم ، وفي الليل قائم ، سيدنا عمر يبدو كان منشغلاً قام قال لها : بارك الله لكِ بزوجك ، قال له سيدنا علي : إنها تشكو زوجها ، إنها لا تمدحه ، تشكو زوجها ، انظر إن زوجي صوام قوام ، لا ينام معي مثلاً ، إن زوجي صوام قوام .
أيها الأخوة ، إحدى زوجات الصحابة دخلت على السيدة عائشة بثياب رثة ، فلما سألتها عن حالها ، قالت : إن زوجي صوام قوام ، موضوع ثانٍ ، فالنبي استدعى زوجها وأمره أن يعطيها حقها ، إن لزوجك عليك حقاً ، في اليوم التالي جاءت هذه المرأة ، ودخلت على السيدة عائشة ، الكلمتين الدقيقتين عطرة نضرة ، في نضارة ، وفي عطر ، قالت لها : ما الذي حصل ؟ استمعوا إلى أدب الصحابيات ، قالت : أصابنا ما أصاب الناس .
والله يمكن أن نتعلم من أقوال الصحابة الذين عاشوا قبل ألف و أربعمئة عام أعلى درجات الأدب الرفيع ، تكلموا عن كل شيء ، لكن بألفاظ لطيفة ، بكنايات لطيفة ، مؤدبة ، فإذا أنت كنت كأب ، وأنت أيتها الأم كل الكلمات التي تلقى في البيت منتقاة ، بأعلى درجات الأدب ، أغلب الظن الفتاة الصغيرة ، والابن الصغير لا يتعلم إلا الأدب .
أنا أقول لكم كلمة : مستوى الأب والأم لا في الشهادات التي يحملها بل مستواه في تربية أولاده ، أحياناً تجد طفلاً يلفت النظر .
أنا قبل مرحلة ليست بالبعيدة كنت أوزع عقب خطبة الجمعة لكل طفل أتى مع أبيه قطعة حلوى ، تشجيعاً له ، لكن من خلال هذا التوزيع وجدت الأطفال أصناف ، بعض هؤلاء الصغار يتأبى أن يأخذ هذه الحلوى ، عنده تأبي ، أو عنده اعتزاز ، لا شكراً ، أنا أجهد أن أعطيه هذه القطعة ، أطلب من أبيه أن يعينني على إقناعه بأخذها ، معناها تربى تربية عالية جداً في البيت ، شيء جميل ، طفل آخر يأخذها مني بسهولة ، لكنه يشكرني عليها شكراً أستاذ ، هذا نموذج ثانس ، طفل ثالث قبل خمسة أمتار عينه على القطعة ، لا ينظر لا إليّ ولا إلى أحد ، إلى أن يأخذها ويمشي ، هذا الثالث ، في قسم رابع يأتي مرتين ثالثة ، أما في قسم خامس أعاذنا الله من هؤلاء ، أطول مني بكثير لكن ما في شيء ، أين القطعة التي تخصني ؟ أما أول قسم يلفت النظر ، أدب ، وعفة ، وتأبي ، وقد يشتهيها مثل الآخرين ، لكنه تربى تربية عفيفة .(1/59)
إخوانا الكرام ، من أقوال النبي عليه الصلاة والسلام :
(( سِبابُ المسلم فُسُوق ، وقِتاله كُفْر )) .
[أخرجه البخاري ومسلم والترمذي والنسائي عن عبد الله بن مسعود ] .
أي ممكن أن تتحاور مع إنسان عشر ساعات ، وما تسمعه كلمة قاسية ، لا تفهم ، لا هذه الكلمة قاسية ، أرى خلاف ما ترى ، أنا لي رأي آخر ، ومعي له دليل ، يمكن أن تحاور أخاك حواراً طويلاً دون أن تجرحه ، أي أنت ممكن أن تحاور إنساناً عشر ساعات وتستخدم الكلام المهذب ، أرى بخلاف ذلك ، ومعي دليل ، ولعلك توهمت الحقيقة كذا ، أما لا تفهم ، لا يصح .
تعلموا من الإمام الشافعي ، حينما قال : أنا على حق ، وقد أكون مخطئاً والآخر على الباطل وقد يكون مصيباً .
ألا تريدون منهج النبي في ذلك ؟ الذي علمه القرآن قال :
* وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى * .
( سورة سبأ الآية : 24 ) .
يعني أنت حينما تحاور إنساناً إياك أن توهمه أنك أنت وحدك العالم و هو جاهل ينبغي أن تنزل إلى مستواه ، و ألا تميز نفسك عليه بكلمة ، * وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى * .
* أَوْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ * .
( سورة سبأ الآية : 24 ) .
يعني الحق كرة ، قد تكون عندي ، وقد تكون عندك ، سوف نتحاور ، أما أنا الذي أعرف ، أنت لا تعرف .
قال شخص تركي ، أحب أن يفسر القرآن ، قال :
* وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْحُبُكِ * .
( سورة الذاريات ) .
قال : السماء كل ما علاك فهو سماء ، هذا نعرفه نحن وأنتم ، أما * ذَاتِ * هذا شيء نعرفه نحن أما أنتم لا تعرفونه ، هذه * ذَاتِ * ، قال أما * الْحُبُكِ * هذا شيء لا نعرفه لا نحن ولا أنتم ، لا نحن العلماء فكيف أنتم الجهلاء ؟ .
هناك توجيهات قاسية جداً ، هناك تقييمات باطلة ، هناك استعلاء ، عود نفسك أن تجعل نفسك في مستوى مَنْ تُحاور ، قال تعالى :
* وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ * .
( سورة النحل الآية : 125 ) .
أي إذا كان هناك ألف عبارة حسنة ينبغي أن تختار من كل هذه العبارات ما هو أحسن .(1/60)
* ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ * .
( سورة النحل الآية : 125 ) .
أما في المجادلة * وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ * ، المجادلة في خصومة ، الأفكار مرتبطة بكرامة الإنسان فحاول أن تكون قرآنياً في هذا التوجيه ، * وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ * .
في آية أخرى :
* قُلْ لَا تُسْأَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنَا وَلَا نُسْأَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ * .
( سورة سبأ ) .
ما قولكم ؟ * لَا تُسْأَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنَا * ، هل دعوة النبي جريمة ؟ * وَلَا نُسْأَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ * ، الآية الأولى بمستوى واحد ، أما الثانية فيها تواضع بالغ ، هذا منهج القرآن في حوار الطرف الآخر ، أما الاستعلاء والسُباب ، والاتهام ، والكلمات القاسية ، هذه تثير فتناً لا تنتهي .
ألا تحبون أن تروا أدب القرآن الكريم ؟ سيدنا يوسف حينما قال :
* وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ * .
( سورة يوسف الآية : 100 ) .
أين كان ؟ كان في الجب ، وكان في السجن ، أيهما أكثر خطراً ؟ الجب ، الجب احتمال موته كبير جداً ، أما السجن الحياة مضمونة ، فقد حريته فقط ، قال :
* وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ * .
( سورة يوسف الآية : 100 ) .
لمَ لم يقل من الجب ؟ لأنه إذا قال من الجب ذكّر إخوته بعملهم السيئ ، أراد أن يتجاوز عن أعمالهم ، قال : * وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ * ، ما قال من بعد ما تآمروا على قتلي ، قال :
* مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي * .
( سورة يوسف الآية : 100 ) .
يعني جعلهم بريئين ، أما الذي أوقع بينه وبينهم الشيطان ، والحقيقة ليست كذلك لكن تعلموا أدب الحوار ، كلما الإنسان ارتقى تجد كلامه مهذباً جداً .
مرة أحد علماء مصر الكبار توفي رحمه الله ، سافر إلى بريطانيا لإجراء عملية في عينيه ، فجاءت رسائل بعشرات الألوف ، شيء يلفت النظر ، إذاعة لندن أجرت معه حواراً أنا سمعته ، سُئل عن هذه المكانة التي حباه الله بها ، فسكت ، اعتذر ، ضيع السؤال فلما ألح المذيع عليه ، قال : لأنني محسوب على الله ، عبارة مهذبة جداً ، أنا عالم ، لا هذه ثقيلة ، أنا طالب علم مهذبة ، طالب علم ، الإنسان كلما تواضع رفعه الله ، وكلما تكبر وضعه الله عز وجل .(1/61)
فسيدنا يوسف كان في أعلى درجات اللطف مع إخوته ، * مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي * .
(( إن من أكبر الكبائر، أن يلعن الرجل والديه )) .
[أخرجه البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي عن عبد الله بن عمرو بن العاص ] .
قَلّ ما تجد إنساناً يلعن والديه ، أما حينما تسيء إلى الناس تسبب لعن والديك لذلك من أدق الأحاديث الأخلاقية :
(( المسلمُ من سَلِمَ المسلمون من لسانه ويده )) .
[أخرجه الترمذي والنسائي عن أبي هريرة ] .
يعني سلمت سمعة المسلمين من لسانه ويده .
إخوانا الكرام ، هناك أحاديث تقصم الظهر .
(( إن الرجل ليتكلم بالكلمة لا يلقي لها بالاً يهوي بها في جنهم سبعين خريفاً )) .
[ الترمذي عن أبي هريرة ]
يعني أخ زار أخته بالعيد ، الأخت تحب زوجها ، وراضية عنه ، ومن أسعد الزوجات بزوجها ، البيت صغير ، ما هذا البيت ! لمَ تقول هذا ؟ هي راضية ، لمَ تثير حفيظتها ؟ تألمت ، انتبهت ، البيت صغير جداً ، أخواتها في بيوت أكبر بكثير ، فلما دخل زوجها إلى البيت كانت عابسة فسألها عن عبوسها سكتت فغضب وقعت مشكلة كبيرة ، قد تنتهي بالطلاق أحياناً ، هذا الذي تكلم بهذه الكلمة (( لا يلقي لها بالاً يهوي بها في جنهم سبعين خريفاً )) .
أنا أقول لكم أبلغ ، لو ذكرت امرأة أمامك .
(( إن قذف المحصنة يهدم عمل مائة سنة )) .
[أخرجه الطبراني والبزار عن حذيفة بن اليمان ] .
(( إن الرجل ليتكلم بالكلمة لا يلقي لها بالاً يهوي بها في جنهم سبعين خريفاً )) .
[ الترمذي عن أبي هريرة ]
بالجلسات ، بالسهرات ، يشرح الناس في هذه السهرة ، فلانة ليست جميلة ، مثلاً توصف بأردأ أوصافها ، فالسيدة عائشة قالت عن أختها صفية : إنها قصيرة ، قال : يا عائشة لقد قلت كلمة لو مزجت بمياه البحر لأفسدته ، ما قولكم ؟ لقد قلت كلمة لو مزجت بمياه البحر لأفسدته .
إخوانا الكرام ، يكون بالبيت عدة فتيات ، فتاة لها شكل معين ، فتاة لها شكل أقل من شكل أخوتها ، الحديث المستمر عن فلانة بارعة الجمال ، وفلانة ليست جميلة إطلاقاً هذا الحديث إذا زاد عن حدّه في البيت يصبح مقياس الفتاة جمال فقط ، فالتي هي أقل من أختها تصاب بعقدة نفسية ، أما الأب(1/62)
الصالح ، والأم الصالحة ما في حديث إلا على الكمال والأخلاق والدين ، والصلة بالله ، والموقف الحكيم ، الحديث الذي يُلقى في البيت حديث أساسه مكارم الأخلاق .
أنا أروي لكم نصاً عن أحد التابعين اسمه الأحنف بن قيس ، كان قصير القامة أسمر اللون ، مائل الذقن ، أحنف الرجل ، ناتئ الوجنتين ، غائر العينين ، ليس شيء من قبح المنظر إلا وهو آخذ منه بنصيب ، وكان مع ذلك سيد قومه ، إذا غضبَ غضب لغضبته مئة ألف سيف ، لا يسألونه فيما غضب ، وكان إذا علم أن الماء يفسد مروءته ما شربه .
يعني في البيت الحديث عن البطولة ، عن الاجتهاد ، عن التحصيل ، عن الأدب عن أداء الصلوات ، عن قيام الليل ، عن القرآن ، إذا الحديث هكذا في بنات بأشكال متنوعة كلهم يلتفون حول أمهم وأبيهم ، إذا الحديث عن الجمال فقط ، والتي أقل جمالاً من أختها يصبح عندها عقدة كبيرة جداً ، الأب ينتبه .
صدقوا أيها الأخوة ، بكل بيت هناك أولاد ، وقد يكون ابن أذكى من ابن ، وقد يكون ابن له وجه صبوح أكثر من أخيه ، الأب المؤمن ، والأم المؤمنة ، لا تميز ولا في النظرات ، نظرة بنظرة ، قبلة بقبلة ، احتضان باحتضان ، ما وجد الابن الأقل جمالاً أي معاملة أقل من أخيه ، فنحن أعناه على أن ينتصر على نفسه ، أما إذا في تفرقة ، الأول يُبتسم له في وجهه ، والثاني في عبوس ، مع مرور الأيام تنشأ عقدة تنفسية .
أنا مصر إلى آخر سلسلة من هذه الدروس أن أخطاء الأولاد ، وعقد الأولاد ، وتقصير الأولاد ، وانحراف الأولاد ، وأمراض الأولاد ، من أخطاء الآباء ، والأبوة مسؤولية وبإمكانك أن تكون أباً وأمامك أولاد يتفانون في طاعتك .
قال : اشهد يا رسول الله أنني نحلت ابني حديقة ، فسأله : ألك ابن غيره ؟ قال : نعم ، هل نحلته كما نحلت هذا ؟ قال له : لا ، قال : أشهد غيري فإني لا أشهد على جور .
العدل ، والمودة ، يجب أن تكون المودة لكل الأولاد بالتساوي ، الابتسامة أحياناً تُقبل ابناً وتنسى الثاني ، يتحطم الثاني ، أحياناً تحمل ابناً و تنسى الثاني ، أحياناً تبتسم في وجه ابن وتنسى الثاني ، هذا الذي ينتبه لهذه النقاط الدقيقة يكون موفقاً توفيقاً كبيراً .
لي كلمة خاصة بالمعلمين : أحياناً يكون هناك اسم يثير الضحك ، بعض المعلمين ينادون مثل هؤلاء الطلاب بألقابهم ، لا بأسمائهم ، هناك أسماء غير جميلة .
أحد الصحابة دخل على النبي الكريم ، قال له : ما اسمك ؟ قال له : زيد الخيل قال له : بل أنت زيد الخير .(1/63)
أعرف معلمين كثيرين ، يغيرون أسماء طلابهم بالعام الدراسي فقط ، في كلمات في كثير من البيوت لها أسماء غير مقبولة ، فأنت كمعلم غيّر هذه الأسماء إلى أسماء أخرى أو اكتفِ بالاسم الأول ، أو بالاسم الثاني .
فالنبي من شمائله أنه كان يغير أسماء صحابته ، ما اسمك ؟ قالت له : عاصية قال لها : بل طائعة ، أنت طائعة .
أيها الأخوة ، حينما تعد كلامك من عملك تنجو ، ما دام :
(( إن الرجل ليتكلم بالكلمة لا يلقي لها بالاً يهوي بها في جنهم سبعين خريفاً ))
[ الترمذي عن أبي هريرة ].
ينبغي أن تعد كلامك من عملك ، كلمة واحدة ، أحياناً يقول معلم لطالب أنت غبي بساعة غضب ، لكن هذه الكلمة سمعها الطفل ، قد تستمر معه عشر سنوات ، قد تضعف معنوياته ، قد تنشا عنده عقدة نفسية ، خطأ ، عود نفسك الكلام الجيد ، المنضبط ، وكلما ارتقى مستوى الكلام في البيت ارتقى مستوى الأولاد ، فإذا حرصت أن يكون رفقاء أولادك من المستوى الراقي المهذب ، وإذا ضمنت مدرسة لا يستمع بها الطفل إلى كلام بذيء تكون قد حققت نجاحاً كبيراً في تربية أولادك .
(( من هوي الكفر فهو مع الكفرة ، ولا ينفعه علمه شيئاً )) .
[أخرجه الطبراني عن جابر بن عبد الله ] .
هناك تعليقات لاذعة ، هناك حوار مكشوف ، هناك أدب رخيص ، هذا الأدب الرخيص والحوار المكشوف ، والتعبيرات اللاذعة ، وهناك طرف جنسية ، أنا والله لا أصدق أن بيتاً مؤمناً فيه طرفة جنسية إطلاقاً ، هذه الطرف الجنسية ليست للمؤمنين ، للمتفلتين ، للشاردين عن الله عز وجل ، حتى لو سمعت طرفة من هذا النوع ينبغي ألا تضحك ، إنك حينما لا تضحك تلقن من ألقى هذه الطرفة درساً لا ينسى .
والله مرة كنت بجلسة أي جلسة عمل ، أحد الحاضرين تكلم بكلمة سيئة جداً الكل ضحكوا ، أنا لم أضحك ، بل أخذت موقفاً ، فلما انتهى الاجتماع تبعني الذي ألقى الكلمة قال لي : أي خدمة ؟ قلت : شكراً ، لكن أنا لقنته درساً بهذه الطريقة ، إذا طرفة جنسية وضحكت ، معنى ذلك قبلتها .
ابنك لك ، تربيه تربية عالية على الكلام المهذب ، على الكلام المؤدب ، على الكلام الجاد ، على اختيار الكلمة اللطيفة ، اقرأ القرآن ، * أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ * ، اقرأ القرآن * فَلَمَّا تَغَشَّاهَا حَمَلَتْ حَمْلاً خَفِيفاً * اقرأ القرآن * فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ * ، اقرأ السنة ، يا بنيتي إن هذه الثياب تصف حجم عظامك ، ممكن تتكلم كلمات لكن كلها مهذبة ، ولا تجرح شعور الإنسان .(1/64)
الدرس الثالث في التربية الاجتماعية الكلمات التي ينطق بها الابن ، هي انعكاس لما يقوله الأب ، أي بشكل أو بآخر في أوعية توضع في المركبات للماء لها فتحة من الأعلى ولها صنبور من الأسفل ، الذي يوضع في أعلاها يؤخذ من الصنبور ، صح هذا الكلام ؟ الآن كل ابن كائن له وعاء ثقافته من أين ؟ من كلام أولاد الشوارع ، يتكلم كلاماً بذيئاً جداً في البيت ، ثقافته من رفقاء السوء في المدرسة يسمعونه كلمات بذيئة جداً يتكلم بها بالبيت ، إن سمع من أمه أو أبيه كلمات فيها طرف جنسية يرويها لأصدقائه ، فهذا الإنسان كالوعاء الذي يأخذه من أعلاه يعطيه من صنبوره الأسفل ، فلا تنتظر من ابن تغذيه أنت بالشاشة فقط وبمشاهد ليست ترضي الله عز وجل ، وبحوار فيه إشارات جنسية ، لا تنتظر من هذا الطفل أن يكون مهذباً أبداً .
الابن غالٍ ، والابن المربى لا يقدر بثمن ، فلذلك هذا اللقاء الثالث في التربية الاجتماعية متعلق بالكلام ، البيت لا يوجد فيه كذب ، ولا سرقة ، ولا كلام بذيء ، أبرز نقاط التربية الاجتماعية للصغار أن تعلمهم الصدق ، وأن تعلمهم الأمانة ، وأن تعلهم الكلام المنضبط .
(( أَيُّهَا الْمَلِكُ ، كُنَّا قَوْمًا أَهْلَ جَاهِلِيَّةٍ ، نَعْبُدُ الْأَصْنَامَ ، وَنَأْكُلُ الْمَيْتَةَ ، وَنَأْتِي الْفَوَاحِشَ ، وَنَقْطَعُ الْأَرْحَامَ ، وَنُسِيءُ الْجِوَارَ ، يَأْكُلُ الْقَوِيُّ مِنَّا الضَّعِيفَ ، فَكُنَّا عَلَى ذَلِكَ حَتَّى بَعَثَ اللَّهُ إِلَيْنَا رَسُولًا مِنَّا نَعْرِفُ نَسَبَهُ وَصِدْقَهُ ، وَأَمَانَتَهُ وَعَفَافَهُ ، فَدَعَانَا إِلَى اللَّهِ لِنُوَحِّدَهُ ، وَنَعْبُدَهُ ، وَنَخْلَعَ مَا كُنَّا نَعْبُدُ نَحْنُ وَآبَاؤُنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ الْحِجَارَةِ وَالْأَوْثَانِ ، وَأَمَرَنَا ، الآن الشاهد ، بِصِدْقِ الْحَدِيثِ ، وَأَدَاءِ الْأَمَانَةِ ، وَصِلَةِ الرَّحِمِ ، وَحُسْنِ الْجِوَارِ ، وَالْكَفِّ عَنْ الْمَحَارِمِ وَالدِّمَاءِ )) .
[ أخرجه الإمام أحمد عن أم سلمة أم المؤمنين ] .
إذاً أيها الأخوة الكرام ، يجب أن يكون واضحاً في أذهانكم أن الكلام الذي ينطق به الأب والأم ، في اللقاءات ، والسهرات ، والاحتفالات ، وفي الزيارات ، وفي النزهات هذا الكلام إذا كان منضبطاً أعطى الأولاد القدوة في الكلام المنضبط .
والحمد لله رب العالمين
==============
... ... ... ...(1/65)
8 ـ التربية الصحية " العناية بصحة أولادنا "
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين ، اللهم أخرجنا من ظلمات الجهل والوهم إلى أنوار المعرفة والعلم ، ومن وحول الشهوات إلى جنات القربات .
أيها الأخوة الكرام ، مع الدرس الثامن من دروس تربية الأولاد في الإسلام وننتقل اليوم إلى التربية الجسمية ، أو التربية الصحية .
بادئ ذي بدء : الإنسان عقل يدرك ، وقلب يحب ، وجسم يتحرك ، غذاء العقل العلم ، وغذاء القلب الحب ، وغذاء الجسم الطعام والشراب .
إذاً هناك جانب عقلي ، وجانب نفسي ، وجانب مادي ، وما لم تلبَ حاجات العقل والقلب والجسم معاً عندئذٍ يتطرف الإنسان ، أما إذا لبى حاجات عقله ، وحاجات قلبه ، وحاجات جسمه تفوق ، وفرق كبير بين التطرف وبين التفوق .
إذاً للتربية الجسمية جانب كبير من تربية الأولاد ، أو للتربية الصحية جانب كبير من تربية الأولاد ، لا بد من مقدمة أضع بين أيديكم حقائق مثيرة حول وجود وعي صحي في أمة ، أو انخفاض هذا الوعي الصحي في أمة أخرى ، لنأخذ على ذلك مثالين :
مرض السكر مرض شائع ، في بلد من بلاد المسلمين ، وفي عاصمة من عواصم المسلمين ، في خمسمئة و خمسين ألف مريض بالسكر ، هذا المرض أيها الأخوة ، يمكن أن تتعايش معه عن طريق ضبط الغذاء ، وضبط الوزن ، وضبط التحاليل بشكل مستمر ، ولا يؤثر في حياتك إطلاقاً ، الآن هذا المرض أحياناً يتفاقم ويؤدي إلى شلل ، أو فقد بصر ، أو فشل كلوي أو أشياء أخرى ، هناك بلاد تتمتع بوعي صحي أربعة بالمئة من مرضى السكر يتطور مرضهم إلى شلل ، أو إلى فشل ، أو إلى فقد بصر ، أو إلى خثرة دماغية .
في بلاد لا تتمتع بالوعي صحي 72% من هؤلاء المرضى مرضهم يتطور إما إلى شلل ، أو خثرة في الدماغ ، أو إلى فشل كلوي ، كم هي المسافة بين أمة تتمتع بوعي صحي ، وبين أمة تفتقد هذا الوعي الصحي .
لذلك أقول لكم : الإسلام هو الحياة ، يجب أن تعتني بعقلك ، وأن تغذيه بالعلم الصحيح ، وينبغي أن تعتني بقلبك ، وينبغي أن يُحبَ ما ينبغي أن يُحب ، وهو الله جل جلاله ، وينبغي أن تعتني بجسمك لأنه قوام عملك ، غلافك ، وعاؤك ، أداتك ، هذه الحقيقة الأولى 72% يتطور مرضهم إلى فشل كلوي ، أو إلى شلل ، أو إلى فقد بصر ، 4% في بلد يتمتع بوعي صحي يتطور المرض إلى هذه المضاعفات .(1/66)
مرض آخر يصيب الدم ، اسمه التليسما ، الإنسان إما أنه يحمل هذا المرض أو لا يحمل ، فإذا كان يحمل وتزوج امرأة لا تحمل هذا المرض يعيش حياة سليمة رائعة لا شيء فيها ، أما إذا كان إنسان يحمل هذا المرض ، وتزوج امرأة تحمل هذا المرض بحسب العلم الطبي حتماً عنده ابن مصاب بهذا المرض ، وابنان يحملان هذا المرض ، وابن لا يحمل هذا المرض ، ما معنى ابن مصاب بهذا المرض ؟ يعني يحتاج إلى تبديل دم كل أسبوعين ، كلفة معالجة الابن المصاب بهذا المرض أربعمئة ألف كل سنة ، إذا عاش عشرين سنة شيء فوق طاقة الآباء الأغنياء ، فضلاً عن أن هذا المرض يسبب شقاء في الأسرة .
الآن اسمعوا : بلد من بلاد المسلمين تعداده 20 مليوناً ، هناك ألفا حالة مرضية وبلد آخر يتمتع بوعي صحي سكانه 70 مليوناً ، في أربع حالات بسبعين مليوناً ، وألفي حالة بعشرين مليوناً ، معنى ذلك أن كلفة تبديل الدم بهذا البلد المتخلف صحياً يكلف مبالغ تفوق ألوف الملايين ، هذه المبالغ لو أنفقت لإنشاء المدارس ، والمستشفيات ، والمعاهد والجامعات ، والطرقات لكنا بحال آخر ، أنا أقدم لكم أرقام دقيقة ، الوعي الصحي مهم جداً .
هناك بلاد وعيها الصحي متخلف تستورد 8 أضعاف من الأدوية ما يستورده بلد يتمتع بوعي صحي ، أنا أرى أن من مهمة الدعاة تخصيص دروس كاملة للشؤون الصحية لأن صحتك قوام حياتك .
إن من أروع ما قاله النبي عليه الصلاة والسلام :
(( مَنْ أصبَحَ منكم آمِنا في سِرْبه )) .
[أخرجه الترمذي عن عبد الله بن محصن ] .
آمناً ، يتمتع بنعمة الأمن .
* أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآَمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ * .
( سورة قريش ) .
* فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ * الَّذِينَ آَمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ * .
( سورة الأنعام ) .
(( مَنْ أصبَحَ منكم آمِنا في سِرْبه )) .
آمناً : أمن الإيمان ، مطمئناً إلى رضا الرحمن ، مطمئناً إلى أنه على منهج الله ، مطمئناً إلى أن الله يحبه ، وهو راضٍ عنه ، مطمئناً إلى مستقبله الذي قال الله عنه :
* قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا * .
( سورة التوبة الآية : 51 ) .
مطمئناً إلى ما بعد الموت .(1/67)
* إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ * نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآَخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ * نُزُلاً مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ * .
( سورة فصلت ) .
(( مَنْ أصبَحَ منكم آمِنا في سِرْبه )) .
يتمتع بنعمة الأمن ، ونعمة الأمن لا يتمتع بها إلا المؤمن حصراً .
يقول لك هذا البرنامج حصرياً على هذه القناة ، ونعمة الأمن لا يتمتع بها إلا المؤمن ، والدليل : * فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ * الَّذِينَ آَمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ * .
يقابل الأمن ، القلق ، أنت من خوف المرض في مرض ، ومن خوف الفقر في فقر ، وتوقع المصيبة مصيبة أكبر منها ، لذلك أكبر نعمة من نعم الله أن الله سبحانه وتعالى يمنح عبده المؤمن نعمة الأمن .
(( مَنْ أصبَحَ منكم آمِنا في سِرْبه )) .
ليس أمن المال ، الغني يحس بالأمن أحياناً ، أنا أقصد أمن الإيمان ، أنت حينما تستقيم على أمر الله ، تشعر أن هموماً كالجبال انزاحت عن صدرك .
(( إذا رجع العبد إلى الله نادى منادٍ في السماوات والأرض أن هنؤوا فلاناً فقد اصطلح مع الله )) .
[ ورد في الأثر ]
(( إذا تاب العبد توبة نصوحة أنسى الله حافظيه ، والملائكة ، وبقاع الأرض كلها خطاياه وذنوبه )) .
[ ورد في الأثر ]
أنا أقصد أمن الإيمان .
(( مَنْ أصبَحَ منكم آمِنا في سِرْبه ، مُعافى في جَسَدِهِ )) .
[أخرجه الترمذي عن عبد الله بن محصن ] .
استيقظ ، سمعه ، بصره ، نطقه ، حركته ، أجهزته ، أمعاؤه ، قلبه ، رئتاه .
(( إذا أصبح أحدكم آمناً في سربه ، معافىً في جسمه ، عنده قوت يومه، فكأنما حيزت له الدنيا بحذافيرها )) .
[ من الجامع الصغير عن عبد الله بن محصن ]
وحينما سأل ملك جبار وزيره من الملك ؟ ماذا ينبغي أن يقول له ؟ قال له : أنت قال له : لا ، الملك رجل لا نعرفه ولا يعرفنا ، له بيت يؤويه ، وزوجة ترضيه ، ورزق يكفيه ، هذا ملك ، إنه إن عرفنا جهد في استرضائنا ، وإن عرفناه جهدنا في إحراجه .(1/68)
لذلك أيها الأخوة ، لا تستهن بالجانب الصحي بحياة الإنسان ، صحتك قوام حياتك ، صحتك وعاء عملك ، يعني أنا أقول لكم كلاماً دقيقاً واضحاً : لك عند الله عمر لا يزيد ولا ينقص ، افتراضاً لك عند الله 83 سنة ، وسبعة أشهر ، وثلاثة أسابيع ، وأربعة أيام ، وخمس ساعات ، وأربع دقائق ، وثلاث ثواني ، إذا كنت تتمتع بوعي صحي ، وعندك ثقافة صحية عالية جداً ، وتتبع توجيهات النبي ، هذا العمر 83 هكذا ، واقف ، متحرك ، نشيط .
أحد علماء دمشق الشيخ عيد السفرجلاني ، وصل إلى السادسة و التسعين ، قامته منتصبة ، حاد البصر ، مرهف السمع ، أسنانه في فمه ، حينما يُسأل يا سيدي ما هذه الصحة ؟ قال : يا بني حفظناها في الصغر فحفظها الله علينا في الكبر ، من عاش تقياً عاش قوياً .
والله أيها الأخوة ، زرت صديقي في العيد استقبلني والده ، إلى أن جاء صديقي حدثني والده بما يلي ، قال لي : أنا عمري ست وتسعون سنة ، والبارحة أجريت تحاليل كاملة ، قال لي : الفضل لله كله طبيعي ، ست وتسعون سنة ! ثم قال لي : والله ما عرفت الحرام في حياتي ، لا حرام المال ، ولا حرام النساء .
(( إذا أصبح أحدكم آمناً في سربه ، معافىً في جسمه ، عنده قوت يومه، فكأنما حيزت له الدنيا بحذافيرها )) .
[ من الجامع الصغير عن عبد الله بن محصن ]
إذاً الصحة جانب أساسي جداً ، وما كان من دعاء يكثر منه النبي عليه الصلاة والسلام كهذا الدعاء ، الدعاء :
(( اللهم ارزقنا العفو والعافية والمعافاة الدائمة في الدين والدنيا والآخرة )) .
[أخرجه أبو داود عن عبد الله بن عمر ] .
لذلك دققوا : العناية بالصحة جزء من الدين ، وأنت كأب (الآن دخلنا في الدرس) حينما تعتني بصحة أولادك تقدم لهم أكبر خدمة في حياتهم ، حينما تنشئهم على عادات صحية سليمة ، أحياناً لا يهتم الأب بنوع غذاء ابنه ، يأكل من الطريق دائماً ينشأ عنده أمراض في جهازه الهضمي ، وهناك أمراض تستمر وتنقلب إلى أمراض وعائية وقلبية ، الحديث طويل طبعاً ، التوجيهات الصحية كثيرة جداً ، لكن حسبنا أن النبي عليه الصلاة والسلام له توجيهات صحية دقيقة جداً ، هذه التوجيهات ليست من اجتهاده ، ولا من ثقافته ، ولا من تجربته ، ولا من معطيات عصره ، إنها توجيهات من عند الله جل جلاله ، فلو تتبعنا توجيهات النبي الصحية ، وأخذنا بها كنا بحال غير هذا الحال .
بعض البلاد النامية التي لا يتمتع أفرادها بوعي صحي قد يدفعون نصف دخلهم لمعالجة أمراضهم ، ومثل هذه البلاد تستورد كما قلت قبل قليل ثمانية أضعاف الأدوية التي تستوردها الدول الغنية .(1/69)
لذلك أنت كأب لك مهمة كبيرة ، مثلاً لو أنك وجهت أولادك توجيهاً دقيقاً إلى تنظيف أسنانهم ، معظم الناس في البلاد النامية يبدؤون بتبديل أسنانهم ، وزرع أسنان جديدة ومعالجة أسنان نخرة في سن مبكرة ، ويعانون من آلام الأسنان ما يعانون ، وأسباب هذه الأمراض التي تصيب الأسنان نقص في التنظيف .
هذه واحدة ، أحياناً نافذة بلا حاجز ، يسقط الابن ، ويموت ، تعيش هذه الأسرة مأساة لا تنتهي .
حدثني أخ عنده مزرعة وفيها مسبح ، بلا سور غرق ابنه ، قال لي : منذ أن غرق هذا الابن وقد هجرنا هذه المزرعة من ثلاث عشرة سنة ، ما عادوا يحتملون أن يأتوا إلى مكان غرق فيه ابنهم .
أنا كنت بفرنسا قبل أسبوع ، في الفندق مسبح محاط بأسوار زجاجية ، وباب دقيق ، أكبرت فيهم هذا ، من أجل الصغار ، هناك نوافذ تحتاج إلى حواجز ، أحياناً التيار 220 فولت ، ومكشوف أحياناً بالحمام ، لو إنسان مشى حافياً ، وأرض الحمام فيها ماء يموت فوراً لو مسّ هذا التيار ، لو ذهبت لأعدد لكم الأخطار التي يموت فيها الناس ، أو يصابون بها بأمراض وبيلة ، أو بعلل خطيرة من جراء الإهمال فقط لما انتهى الدرس ، ولا دروس انتهت ، أنا أرى العناية بصحتك ، وصحة أهلك ، وصحة أولادك جزء من دينك .
أحياناً نشتري مواد دسمة لا ندقق ، هذه المواد ممنوع استعمالها في بلد المنشأ لا تصلح كغذاء للبشر ، نشتري هذه الدسم المهدرجة التي تبقى عالقة في الدم ، هناك دسم مهدرجة ؛ هذه الدسم المهدرجة تبقى ذراتها عالقة في الدم ، وتسبب تضيق الشرايين والتضييق يعاني صاحبه ما يعاني ، يعني عمرك بعمر شرايينك ، تبديل شريان قريب من ثلاثمئة و خمسين ألفاً ، حينما تشتري سمن مهدرج رخيص لا تهتم بمستواه ، يعني بين أن تستخدم غذاء صحياً مدروساً إذاً أنت بحاجة إلى ثقافة غذائية ، معظم الأمراض تأتي من المعدة ، من سوء الطعام ، قد يكون الطعام لذيذ جداً ، لكنه سيء ، أنا أجلس مع إخوة أطباء قد تقدم لهم ضيافة من الحلويات الغالية جداً لا يأكلون .
مرة سأله أحدهم : قال له : والله أنا أحبها أكثر منكم ، لكن لكثرة ما أرى من الشرايين المسدودة أثناء العمل أكره هذا الطعام ، يعني أنا أتمنى أن ننتبه إلى طعامنا ، طعام بلادنا طيب جداً لكنه طعام يسبب متاعب صحية كبيرة جداً .
ذهبت إلى بلاد بعيدة ، طعامهم خضروات مسلوقة ، وقطع من اللحم قليلة وفواكه كثيرة ، وسلطات كثيرة ، يعني آن الأوان أن نعتني بصحتنا ، وآن الأوان أن ننشئ أولادنا على العناية بصحتهم ، الصحة ثلث حياة الإنسان ، أنت عقل ، وقلب ، وجسم صحتك ثلث حياتك .
أيها الأخوة ، الإمام علي رضي الله عنه ، يعد تسلسل النعم على الشكل التالي نعمة الهدى أولاً ، ونعمة الصحة ثانياً ، ونعمة الكفاية ثالثاً ، الهدى أولاً ، والصحة ثانياً والكفاية ثالثاً .(1/70)
إن أردتم أكثر من ذلك ، الصحة واحد ، المال أمامها صفر ، عشرة ، متزوج صفر ثان ، مئة ، عندك أولاد صفر ثالث ، احذف الواحد التي هي الصحة ، أصفار ، ما قيمة المال ؟.
والله مرة كنت عند طبيب ، جاءه اتصال هاتفي ، يبدو أن المريض معه مرض مستعصٍ ، قال له : أي مكان في العالم ، وأي مبلغ ، قال له : والله ما في أمل ، ما قيمة المال ؟ وأنت مصمم لو اعتنيت بصحتك أن تعيش حياة مديدة بأعلى درجات الصحة ، في طعام معين ، في شراب معين ، في حركة معينة ، في تمرينات معينة ، في مقبلات معينة ، أنا لا أستطيع بهذه العجالة أن أعطيكم خلاصة المعلومات الصحية ، لكن أنا أدعوكم إلى أن يكون في بيتكم كتاب صحي ، كتاب في الغذاء الصحي ، كتاب في خصائص المواد .
مرة طبيب قال أربع كلمات ، أنا وجدت في هذه الكلمات الطب كله ، قال : كُلْ كلّ شيء ، قد لا تنتبه إلى أن بعض الأطعمة هي الأطعمة الوحيدة التي ترمم الغشاء المخاطي في الجهاز الهضمي ، بعض الأطعمة غذاء للدماغ ، بعض الأطعمة تعين على نظم القلب ، بعض الأطعمة تعين على توسيع الشرايين ، بعض الأطعمة تعين على سيولة الدم ، لو أكلت كل شيء انتفعت من كل شيء ، وطن نفسك ، أي شيء تراه في السوق من خضروات اشتريها ، أحببتها أم لم تحبها ، كل كلّ شيء ، وكل باعتدال ، وابذل جهداً ، وكن موحداً لئلا تصاب بشدة نفسية .
صدقوا هذه الوصايا الأربع تجمع الطب كله ، كل كلّ شيء ، وأقلل من الطعام ، وابذل جهداً كبيراً ، ولا تحمل الأشياء فوق ما تستطيع .
(( خذ من الدنيا ما شئت ، وخذ بقدرها هَمّا )) .
[ رواه الطبراني عن أبي هريرة رضي الله عنه ] .
(( فإنه من أخذ منها فوق ما يكفيه أخذ من حتفه وهو لا يشعر )) .
[ أخرجه الديلمي في مسند الفردوس عن أنس ] .
بطولتك أن تعيش هذا العمر حياة مستقرة ، حياة سعيدة ، حياة نشيطة .
الآن الدعاء الشهير ، دعاء القنوت :
(( اللهم اهدنا فيمن هديت ، وعافنا فيمن عافيت )) .
[أخرجه أبو داود والترمذي والنسائي عن الحسن بن علي بن أبي طالب ]
شيء رائع جداً .
(( اللهم اهدنا فيمن هديت ، وعافنا فيمن عافيت ، وتولنا فيمن توليت ، وبارك لنا فيما أعطيت ، واقنا واصرف عنا شر ما قضيت ، فإنك تقضي بالحق ولا يقضى عليك )) .
[ صحيح عن الحسن بن علي]
والله هذا الدعاء جامع مانع ، (( اهدنا فيمن هديت ، وعافنا فيمن عافيت )) .(1/71)
الدعاء الثاني :
(( اللهم ارزقنا العفو والعافية ، والمعافاة الدائمة في الدين والدنيا والآخرة )) .
[أخرجه أبو داود عن عبد الله بن عمر ] .
الوعي الصحي أحياناً يدعوك أن تشتري لأولادك غذاء معيناً ينمي عظامهم ، يعطيهم حاجاتهم الأساسية ، وإلا تدفع مئة ضعف ثمن دواء ، إياك أن تظن أنك إذا لم تشترِ هذا الغذاء الذي يحتاجه أولادك ، توفر من إنفاقك ، لا ، دائماً عندنا شيء اسمه عقود إذعان يعني لا سمح الله ولا قدر ابن حرارته عالية جداً ، يوجد اشتباه بالتهاب السحايا ، يقول لك نريد تحليلاً ، تحلل ، ثمانية آلاف ، اعمل تحليلاً معيناً ، أو إيكو ، أو مرنان ، عقود إذعان كلها ، تدفع عشرة آلاف ، 30 ألف أحياناً باشتباه بمرض ، فلو كان في عناية صحية ، وغذاء متوازن .
فأنا أقول : إذا أردت الدنيا فعليك بالعلم ، وإذا أردت الآخرة فعليك بالعلم ، وإذا أردتهما معاً فعليك بالعلم ، والعلم لا يعطيك بعضه إلا إذا أعطيته كلك ، فإذا أعطيته بعضك لم يعطيك شيئاً ، طبعاً هذا واجب قرآني ، استمعوا إلى الدليل :
* وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ * .
( سورة البقرة الآية : 233 ) .
بعض البلاد تعاني من مجاعة نوعية ، لا مجاعة كمية ، في طعام يملأ المعدة ، في طعام ينمي العظام ، في طعام ينمي العضلات ، في طعام يقوي الذاكرة .
كنا في الجامعة ، حدثنا أستاذ علم النفس : أن أحدث أبحاث علم النفس أن هناك علاقة بين الذكاء والغذاء .
يعني الآن حينما تعمل عملاً متفوقاً ، ولك دخل معقول ، وتأتي بالطعام المناسب لأولادك ، فأنت في عبادة ، صدق ولا أبالغ ، أنت حينما تعمل عملاً متقناً ، العمل المتقن له دخل جيد ، هذا الدخل أتاح لك أن تشتري طعاماً مناسباً لأولادك ، ولأهل بيتك ، أنت في عبادة ، وأن تضع اللقمة في فم زوجتك هي لك صدقة ، وأن تضع اللقمة في فم زوجتك يقاس عليها وأولادك هي لك صدقة .
أيها الأخوة ، أتمنى عليكم أن نفهم هذه الحقيقة ، كل عمل المؤمن عبادة ، عادات المؤمن عبادات ، يعني إذا ذهب إلى السوق واشترى طعاماً لأهله ، فهو في عبادة ، هؤلاء الأولاد من لهم غير أبيهم ؟ الآخرون أنت لهم وغيرك لهم ، أما أولادك من لهم غيرك ؟ من لهم أن يعتني بصحتهم إلا أنت ؟ من يهتم بطعامهم وشرابهم وغذائهم ؟ .
لذلك الصحابي الجليل الذي قال : حبذا المال أصون به عرضي ، وأتقرب به إلى ربي .
أنت بالمال تصون عرضك ، واعتقد يقيناً أن حرفتك ، أو مهنتك ، أو وظيفتك ، أو عملك الذي ترتزق منه ، إذا كان في الأصل مشروعاً ، وسلكت به الطرق المشروعة ، وابتغيت منه كفاية نفسك(1/72)
وأهلك ، وخدمة المسلمين ، ولم يشغلك عن واجب ، ولا عن عبادة ولا عن فريضة ، ينقلب عملك إلى عبادة .
لكن ينبغي أن أهمس في آذانكم همسة : إياكم أن تظنوا أن الطعام المفيد طعام غالي الثمن ، أبداً ، لو درستم ما في هذه المواد الرخيصة من فوائد لاحترتم في فوائدها ، هناك كتب بالأسواق كل مادة غذائية مما ألفت ميزاتها ، استطباباتها ، حتى أنهم قالوا : خير الدواء ما كان غذاء ، وخير الغذاء ما كان دواء ، داوي نفسك بالطعام فقط ، في بعض الحشائش مثلاً هذه المواد تخفض الضغط ، وتوسع الشرايين ، وتقوي القلب ، وتميع الدم ، ما اسم هذا ؟ الزنجبيل ، أدوية القلب مجتمعة في الزنجبيل ، يقوي ضربات القلب ، ويوسع الشرايين ، ويخفض الضغط ، ويميع الدم ، لو أن إنساناً يقتني كتاب كل مادة ماذا تنفعه في جسمه لأقبل على الطعام إقبالاً علمياً ، هذا الطعام مفيد.
أنا أدعوكم في هذا اللقاء الطيب إلى ثقافة طبية ، تعينكم أنتم على دوام صحتكم ، وتعينكم على توجيه أولادكم ، وعلى اختيار طعامكم ، من الأنواع التي تنفع .
مرة ثانية ، وثالثة ، ورابعة أفضل أنواع الطعام هو أرخص أنواع الطعام ، يعني مثلاً ، هل تصدقون أن أفضل بروتين تأكله ليس اللحم ، الحمص والفول ، هذا أفضل بروتين نباتي ، وأن الدول الغنية جداً التي تُكثر من أكل اللحوم أمراض قلبها ثمانية أضعاف عن الدول الفقيرة ، أنا أعني ما أقول ، أنا لا أدعوكم إلى البذخ ، أو شراء طعام غالٍ .
هناك حديث الصحيح :
(( دِينار أنفقتَه في سبيل الله ، ودِينار أنفقتَهُ في رقبة ، ودينار تصدَّقْتَ به على مسكين ، ودِينار أنفقتَهُ على أهلك ، أعظَمُها أجراً الذي تنفقه على أهلك )) .
[ أخرجه مسلم عن أبي هريرة ] .
ما قولك ، من لهم غيرك ؟ أنت أبوهم ، صحتهم مسؤوليتك ، نموهم مسؤوليتك ، أي إنسان عنده بنت أسنانها متراكبة ، لم يهتم بها ، أصبح عندها مشكلة ، سببت لها عقدة وانصرف عنها الخطاب ، إن دفعت بضعة آلاف لتقويم أسنانها وجعلتها تتمتع بثقة بالنفس وجاء خاطب أعجبته ، ألست أباً صالحاً بهذه الطريقة ؟ أنتم تتوهمون أن الدين بالمسجد ، لا ، الدين بتربية الأولاد ، الدين بعملك ، بمكتبك ، الدين بإدارة عملك ، الدين في الطريق ، الدين في الإنفاق ، الدين في أصول الإنفاق ، الدين في اختيار الأعمال التي تسعد بها أولاً فأول .
أحياناً بالبيت طاولة لها حرف حاد طفل يمشي مسرعاً ، فاصطدمت جمجمته بهذه الزاوية الحادة ، أصيب بعاهة دائمة .(1/73)
كنت مرة ببلاد غربية ، الأعمدة لها شريط فولاذ مضفور ، مربوط في الأرض من أجل أن تثبت ، لو أن طفلاً يركض وارتطم بهذا السلك ، قد يسبب له مشكلة ، مغلفة بأنابيب مطاطية ثخينة جداً ، حفاظاُ على صحة الأطفال ، أنا أشاهد أشياء في العالم الغربي تدل على وعي الناس لسلامة الأطفال .
فأحياناً هناك طاولات لها زاويا حادة ، ومستواها منخفض بمستوى رأس الطفل أحياناً مندفع دون أن ينتبه ارتطم وجهه بهذه الزاوية الحادة ، فانكسرت جمجمته ، وتأثرت بها دماغه فأصبح مشلولاً .
فانتبه للأثاث ، للكهرباء ، للنوافذ ، للمصاعد ، أحياناً مصعد يفتح الباب لا شيء وراء الباب ، حالات الوفاة كثيرة جداً بهذه الطريقة .
على المؤمن أن يأخذ بالأسباب ، وبعدها يتوكل على رب الأرباب ، خذ بالأسباب وكأنها كل شيء ، وتوكل على الله وكأنها ليست بشيء ، الدين هو الحياة ، الدين أن تتمتع بصحة إلى نهاية عمرك ، والدين أن توجه أولادك إلى قواعد في الصحة ، في طعامهم ، وشرابهم ، ولباسهم ، وحركتهم ، والدين أن تعتني بمرافق البيت ، هناك مرافق خطيرة ، هناك مادة محترقة يجب أن تبعدها عن الأولاد ، هناك أدوية لو شربها الطفل لمات ، ينبغي أن تكون بعيدة ، هذا جزء من دينك ، أن تعتني بسلامة أولاد ، أن تعتني بصحتهم ، أن تعتني بمستقبلهم ، أن تعتني بقوامهم ، أن تعتني بأجسامهم ، هذا جزء من دينك .
وفي لقاء آخر إن شاء الله نتابع هذا الموضوع .
والحمد لله رب العالمين
=================
... ... ... ...(1/74)
9 ـ التربية الصحية المتعلقة بالغذاء
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين ، اللهم أخرجنا من ظلمات الجهل والوهم إلى أنوار المعرفة والعلم ، ومن وحول الشهوات إلى جنات القربات .
أيها الأخوة الكرام ، مع الدرس التاسع من دروس تربية الأولاد في الإسلام ، ولازلنا في التربية الصحية .
أيها الأخوة الكرام ، الحقيقة الأولى : أن الإسلام هو الحياة ، حياة الإنسان العقلية وحياته النفسية ، وحياته الجسمية ، وكما تعلمون غذاء العقل العلم ، وغذاء القلب الحب ، وغذاء الجسم الطعام والشراب ، ينبغي أن تلبى حاجات العقل ، والقلب ، والجسم معاً ، ونحن في حيز التربية الصحية .
النبي عليه الصلاة والسلام ، لاشك أن له توجيهات كثيرة متعلقة بالصحة ، قد يسأل سائل : هذه التوجيهات من عنده ؟ من اجتهاده ؟ من خبرته ؟ من بيئته ؟ من عصره الجواب : ليست من خبرته ، ولا من بيئته ، ولا من عصره ، ولا من اجتهاده ، ولكنها وحي يوحى .
* وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى * .
( سورة النجم ) .
أيها الأخوة الكرام ، بادئ ذي بدء : الإنسان قد يصاب بمشكلة ، هذه المشكلة لا تنقص من قدره ، ولكن بطولته في موقفه من هذه المشكلة ، بل إن النبي عليه الصلاة والسلام كما تعلمون أقواله تشريع ، وأفعاله تشريع ، وإقراره تشريع .
إذاً المشكلات التي حصلت والتي وقف منها الموقف الكامل ، وقال فيها حديثاً متعلقاً بعلاقتنا ، وبشؤون حياتنا ، هذا وحي يوحى من الله عز وجل .
لذلك سأحاول في هذا الدرس أن أبين توجيهات النبي عليه الصلاة والسلام المتعلقة بالصحة ، أولاً :
(( كفى بالمرء إِثما أن يُضَيِّع مَن يقوتُ )) .
[أخرجه مسلم وأبو داود عن عبد الله بن عمرو بن العاص ] .
أثبت الله لك أيها الأب أنك تطعم أولادك ، أثبت الله لك من خلال نبيه ، ومن خلال هذا الحديث أنك تطعم أولادك ، وهذا شأن أي أب في الأرض ، يجلب لهم الطعام والشراب ، يؤويهم في بيته ، يشتري لهم الكساء ، لكن الحديث الشريف فيه ملمح دقيق :
(( كفى بالمرء إِثما أن يُضَيِّع مَن يقوتُ )) .
هو يطعمه ، ويسقيه ، ويكسوه ، ويؤويه ، ولكن هل نظرت إلى دينه ؟ إلى إيمانه ؟ إلى أخلاقه ؟ فكأن هذا الحديث أكبر باعث لنا جميعاً ، على أن نهتم بتربية أولادنا التربية الإيمانية ، والتربية(1/75)
الأخلاقية ، والتربية النفسية ، والتربية الاجتماعية ، والتربية الجسمية ، الأبوة مسؤولية ، ومعنى مسؤولية أنه يمكن بالأبوة أن ترقى إلى أعلى عليين كما يمكن بالأبوة أن تهوي إلى أسفل سافلين .
1 ـ من السنة أن يشرب الإنسان كأس الماء على مراحل ثلاث :
أيها الأخوة الكرام ، من توجيهات النبي صلى الله عليه وسلم في شرب الماء يقول عليه الصلاة والسلام :
(( لا تشربوا واحدا كشُرب البعير ، ولكن اشربوا مَثنى وثُلاث )) .
[أخرجه الترمذي عن عبد الله بن عباس ] .
يعني من السنة أن تشرب الكأس على مراحل ثلاث .
(( لا تشربوا واحدا كشُرب البعير ، ولكن اشربوا مَثنى وثُلاث )) .
حدثني أحد الأطباء في عصب اسمه العصب الحائر ، وله اسم آخر اسمه العصب المبهم ، هذا العصب مرتبط بالقلب وبالمعدة ، عندما الإنسان يشرب الماء البارد دفعة واحدة وجسمه في الدرجة السابعة و الثلاثين ربما تنبه هذا العصب تنبهاً قاسياً فأودى بحياة الإنسان ، في أكثر من عشر حالات في العالم موت مفاجئ من شرب الماء دفعة واحدة ، ماء بارد ، وأنت في حر شديد دفعة واحد ، لذلك :
* إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ * .
( سورة البقرة الآية : 249 ) .
فالسنة إذاً مبنية على حقائق العلم ، اشرب الماء على مراحل ثلاث ، أول مرة والثانية ، والثالثة ، هذا أول توجيه من توجيهات النبي عليه الصلاة والسلام .
3 ـ البسملة قبل الطعام و الشراب :
الآن تتمة هذا الحديث :
(( وسَمُّوا الله إذا أنتم شَربتم ، واحْمدوا الله إذا رَفعتم )) .
أريد أن نفهم معاً ماذا تعني التسمية ، ماذا تعني التسمية بالعمق ؟ أولاً هذا الكأس من جعله عذباً فراتاً ؟ الله عز وجل ، هو من ماء البحر أصله ، من ماء :
* مِلْحٌ أُجَاجٌ * .
( سورة الفرقان الآية : 53 ) .
أحياناً تغرق السفينة وينجو بعضهم بقارب نجاة ، ويموتون واحداً واحداً من شدة العطش ، وهم فوق البحار ، كما قال بعض الشعراء :
كالعيس في الصحراء يقتلها الظمأ ... ... والماء فوق ظهورها محمول
وكم من قارب نجاة مات من فيه ... ... واحداً واحداً من شدة العطش(1/76)
* * *
وهم على سطح البحر .
1 ـ لفت النظر إلى أن هذه النعمة من عند الله والإنسان يستخدمها ويتنعم بها :
لذلك أيها الأخوة ، من جعل ماء البحر عن طريق التبخر ، والأمطار ، والينابيع ، ماءً عذباً فراتاً ؟ ما معنى بسم الله ؟ يعني أنا أشرب الماء الذي خلقه الله عذباً فراتاً ، الذي صنعه الله عذباً فراتاً ، الذي سخره الله لي عذباً فراتاً ، أنت في كل قضية تسمي الله عز وجل فيها ، يعني انتبه إلى هذه النعمة ، شخص دخل لبيته قال : بسم الله الرحمن الرحيم ، من أعطاك هذا المأوى ؟ شخص أكل طعاماً يحبه ، وجسمه يحتمل هذا الطعام وجسمه صحيح ، قال : بسم الله الرحمن الرحيم ، من خلق هذا الطعام ؟ عود نفسك أن البسملة تعني لفت نظر لهذه النعم ، دخلت إلى بيتك ، ركبت مركبتك أمسكت ابنك ، البسملة تعني لفت النظر إلى أن هذه النعمة من عند الله ، وأنت تستخدمها وتنعم بها بسم الله .
2 ـ استعمال البسملة وفق منهج الله عز وجل :
المعنى الثاني : الإله العظيم كيف أمرك أن تشرب عن طريق نبيه ؟ أن تشرب على مراحل ثلاث ، فكأن البسملة تعني شيئين ، تعني أن هذه نعمة ، وأن هذه النعمة ينبغي أن تستعملها وفق منهج الله ، هذا معنى البسملة ، بسم الله الرحمن الرحيم ، باسم فضله ، باسم كرمه ، باسم نعمه ، ووفق منهجه ، أشرب هذا الكأس .
فلذلك أول توجيه :
(( لا تشربوا واحدا ، كشُرب البعير ، ولكن اشربوا مَثنى وثُلاث ، وسَمُّوا الله إذا أنتم شَربتم ، واحْمدوا الله إذا رَفعتم )) .
[أخرجه الترمذي عن عبد الله بن عباس ] .
شخص سأل أمير المؤمنين ، قال : يا أمير المؤمنين ، بكم تشتري هذا الكأس لو منع منك ؟ قال : بنصف ملكي ، قال : لو منع إخراجه ؟ قال : بنصف ملكي الآخر .
أن تشرب والكليتان تعملان بنظام ، الأسبوع الماضي أخوين كريمين فجأة اكتشفا أن الكلية متعطلة ، ماذا يعني تصفية البول عن طريق كلية صناعية ؟ يعني ثماني ساعات وبالأسبوع ثلاث مرات ، أما هذه الكلية التي أودعها الله فينا بحجم البيضة ، تعمل بانتظام تصفي الدم ، إذاً : إذا شربتم فسموا ، وإذا رفعتم فاحمدوا ، هذا التوجيه .
بالمناسبة أيها الأخوة :(1/77)
(( إذا دخل الرجلُ مَنزِلَه فذكر اللَّه عند دخوله وعند طعامه ، قال الشيطان : لا مَبيتَ لكم ولا عَشاءَ ، وإن ذكر اللَّه عند دُخوله ، ولم يذكره عند عشائه ، يقولُ : أدركتم العَشاء ، ولا مَبيِتَ لكم ، وإذا لم يذكر اللَّه عند طعامه قال : أدركتم المبيتَ والعَشاءَ )) .
[ أخرجه مسلم وأبو داود عن جابر بن عبد الله ] .
3 ـ على الإنسان أن يشرب الماء مصاً :
أيها الأخوة ، من توجيهات النبي عليه الصلاة والسلام :
(( مصوا الماء مصاً ، ولا تعبوه عباً فإن الكباد من العب )) .
[أخرجه أبو منصور الديلمي في مسند الفردوس من حديث انس بالشطر الأول، ولأبي داود في المراسيل من رواية عطاء بن أبي رباح "إذا شربتم فاشربوا مصا]
إذاً أن نشرب ثلاثاً ، وأن نشرب مصاً ، وأن نشرب قعوداً ، إذا شربت فاجلس إلا أن ماء زمزم مستثنى من هذه القاعدة .
أنتم لاحظتم أن النبي عليه الصلاة والسلام في الصيام كان يفطر على تمرات ثلاث ، ثم يصلي المغرب ، ثم يجلس إلى الطعام ، ما الذي يحصل ؟.
إخوانا الكرام ، سكر الفواكه أسرع الفواكه امتصاصاً ، حتى إن العلماء يؤكدون أنك إذا أكلت تمرة يصل سكرها إلى مركز الشبع بعشر دقائق ، يعني أسرع سكر وصولاً إلى مركز الشبع في الدماغ سكر الفواكه ، فالإنسان إذا جاع ، وبدأ طعامه بفاكهة ، بتمرات ثلاث ، بتفاحة ، ببضع حبات من العنب ، ما الذي يحصل ؟ سكر الفاكهة يصل إلى الدم بعشر دقائق ويتأثر مركز الشبع .
الآن صلِ المغرب ، ثم اجلس إلى الطعام ، ترى نفسك تأكل باعتدال شديد ، تأكل ولست جائعاً جوعاً لا يحتمل ، هذا من توجيه النبي عليه الصلاة والسلام ، وبعضهم استنبط هذه الحقيقة من قوله تعالى :
* وَفَاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ * وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ * .
( سورة الواقعة ) .
تقديم الفاكهة على اللحم تقديم توجيه ، وأنا سمعت في بعض البلاد في أوربا يأكلون الفاكهة قبل الطعام ، ولو عودتم أنفسكم أن تأكلوا حبة من الفاكهة قبل الطعام الذي يحصل أن سكر الفاكهة يصل إلى مركز الشبع ، ويتنبأ ، ثم يأتي الطعام فتأكل باعتدال الإنسان متى يشبع ؟ يشبع في إحدى حالتين ، إذا امتلأت المعدة ، أو إذا تنبه مركز الشبع ، إن بدأت بالطعام بالدسم لن تشبع حتى تمتلئ المعدة ، أما إن بدأت بالسكريات الطبيعية ، سكريات الفواكه تشبع قبل أن تأكل ، فتأكل باعتدال ، هذا أيضاً من توجيهات القرآن ، ومن توجيهات النبي عليه الصلاة والسلام .(1/78)
أيها الأخوة ، عُقد مؤتمر في القاهرة للبحث في الحبة السوداء ، لأن فيها حديثاً محيراً ، يقول عليه الصلاة والسلام :
((عَلَيْكُمْ بِهَذِهِ الْحَبَّةِ السَّوْدَاءِ فَإِنَّ فِيهَا شِفَاءً مِنْ كُلِّ دَاءٍ )) .
[أخرجه ابن ماجه عن عبد الله بن عمر ] .
هذا كلام النبي عليه الصلاة والسلام ، * وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى * .
(( عَلَيْكُمْ بِهَذِهِ الْحَبَّةِ السَّوْدَاءِ فَإِنَّ فِيهَا شِفَاءً مِنْ كُلِّ دَاءٍ إِلَّا السَّامَ )) .
يعني مرض الموت ، مرت الموت يتفاقم لأنه بوابة الخروج ، ما سوى مرض الموت الأمراض لها دواء .
(( لكلِّ داء دواءً )) .
[أخرجه أبو داود عن أبي الدرداء ] .
هذا المؤتمر الذي عقد في القاهرة من أجل الحبة السوداء ، وصل إلى أن الحبة السوداء تقوي جهاز المناعة ، وجهاز المناعة مسؤول عن مكافحة الأمراض الإنتانية والجرثومية ، إذاً جاء كلام النبي مؤكداً بهذا المؤتمر الذي بحث في خصائص الحبة السوداء طبعاً كتعليق :
الحبة السوداء إن أكلت زيتها لا تؤدي مهمتها ، وإن أكلتها من دون أن تطحنها لا تؤدي وظيفتها ، لابدّ من أن تأكلها ، وأن تطحنها بأسنانك حتى تنتفع بها .
أيها الأخوة ، مرة ثانية كنت أتمنى على ربات البيوت الأخوات المؤمنات أن يطلعن على بعض خصائص الخضروات ، يعني أنت تدهش أن هذه المادة الغذائية ترمم الغشاء المخاطي في الجهاز الهضمي ، هذه المادة الغذائية تغذي الدماغ ، يعني من يصدق أن حبة القمح نحن ماذا نفعل ؟ في معظم البلاد ، بل في معظم بلاد العالم ، ننزع قشرها ونأكل لبها ، تجد خبزاً أبيضاً ناصعاً شهياً ، وهذا الخبز الأبيض الناصع الشهي ما هو إلا نشاء فقط وهذا النشاء كما يقولون غذاء جيد للمعدة ، لذاك قالوا : احذروا السموم الثلاثة ، السكر الأبيض ، والملح الأبيض ، والطحين الأبيض ، سموم ثلاثة ، قشرة القمح ، فيها ست فيتامينات ، فيها عشرة معادن ، الحديد والفوسفات والكالسيوم والمغنزيوم ، وإن شاء الله في لقاء قادم آتيكم بالتفاصيل .
لذلك أكبر خطأ يرتكبه الإنسان حينما يأكل الخبز الذي نُزع عن قمحه قشره ، وقشر القمح هو الذي ينظم حركة الأمعاء ، بل إن كل الأدوية التي تسهل الهضم مأخوذة من قشر القمح ، وهناك خمسين مرضاً يسببه الإمساك ، وأنك إذا أكلت الخبز الأسمر أي الخبز الذي بقي قشره أثناء الطحن ، نجوت من هذه الأمراض الخمسين التي يسببه الإمساك .
لذلك أيها الأخوة ، أول بدعه أبدعها المسلمون بعد وفاة رسول الله نخل الدقيق أول بدعة نخل الدقيق .
4 ـ على الإنسان أن يشرب و يبعد القدح عن فيه من أجل ألا يكون التنفس في الإناء :(1/79)
أيها الأخوة ، لو عدنا إلى موضوع الشرب يقول عليه الصلاة والسلام :
(( إذا شَرِبَ أحدُكم فلا يتنفَّس في الإناء )) .
[أخرجه البخاري ومسلم والترمذي والنسائي عن أبي قتادة ] .
الآن ثبت في الإسلام أن هناك عدوى يسببها الزفير ، بعض الأمراض قد تنتقل من إنسان إلى إنسان عن طريق الزفير ، فإذا تنفست في الإناء ، وشربت جزءاً من ماء الكأس وجاء إنسان وشرب البقية لعل في هذا الماء شيء من أسباب المرض .
لذلك النبي الكريم يقول :
(( فأبن القدح عن فيك )) .
[أخرجه أبو داود والترمذي عن أبي سعيد الخدري ] .
اشرب وأبعد القدح عن فيك من أجل ألا يكون التنفس في الإناء .
لفت نظري مره أن النبي عليه الصلاة والسلام حينما كان يأكل التمر ، لو أنه أمسك تمرة وأكلها بقي يخرج النواة من فمه ، أمسك النواة ووضعها على طرف المائدة ، ثم أمسك تمرة ثانيه وجدها قاسية فتركها ، ما الذي حصل ؟ أكل تمرة ، ثم أخرج نواتها بإصبعيه ، وضع النواة على طرف المائدة ، وتناول تمرة ثانية ، الثانية قاسية لم تعجبه فتركها ، واختار تمرة ثالثة ، ما الذي حصل ؟ انتقل لعابه إلى تمرة لم يأكلها ، فكأن عليه الصلاة والسلام إذا أكل التمر وضع النواة هنا ، أرأيتم إلى هذه الدقة في تناول الطعام ؟ لتبقى أطراف أصابعه جافه لا تنقل لعابه الشريف إلى تمره لم يأكلها .
5 ـ ألا يشرب الإنسان إلا و هو جالس :
وفي موضوع الشرب يقول عليه الصلاة والسلام :
(( لا يَشْرَبَنَّ أحد منكم قائما )) .
[أخرجه مسلم عن أبي هريرة ] .
توجيهات النبي في النوم ، يقولون إن الأغنياء ينامون على جنبيهم الأيسر ، وأن الملوك ينامون على ظهرهم ، وأن الشياطين ينامون على بطونهم ، وأن المؤمنون ينامون على شقهم الأيمن ، مره عثرت على بحث علمي عن فوائد النوم على الشق الأيمن ، فوائد كبيرة جداً ، لذلك يقول عليه الصلاة والسلام :
(( إذا أَتيتَ مَضْجعكَ فتوضَّأ وُضُوءك للصلاة ، ثم اضْطَجِعْ على شِقِّك الأيْمنِ فقل : اللَّهمَّ أسْلَمْتُ نَفْسي إليك ، ووجَّهْتُ وجهي إليك ، وفوَّضْتُ أمْري إليك ، وألجَأْتُ ظَهْري إليك ، رَغْبة ورَهْبة إليك ، لا مَلْجأ ، ولا مَنْجَا منك إلا إليك ، آمنتُ بكتابك الذي أنزلتَ ، وبنبيِّك الذي أرسلتَ ، فإنكَ إنْ مُتَّ في ليلتك مُتَّ على الفِطْرَةِ واجْعَلْهُنَّ آخرَ ما تقول )) .
[أخرجه البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي عن البراء بن عازب ] .(1/80)
المغزى من هذا الحديث أن تنام على شقك الأيمن ، وكان عليه الصلاة والسلام يضع كفه تحت خده إذا أوى إلى فراشه .
أيها الأخوة ، النبي عليه الصلاة والسلام أشار إلى العدوى فمن توجيهاته عليه الصلاة والسلام : أنك إذا علمت أن طاعون في بلدٍ ينبغي ألا تدخلها ، وإذا كنت في بلدٍ مصاب بطاعون ينبغي ألا تخرج من هذا البلد ، هذا أحدث مفهوم للعدوى ، هناك إنسان يحمل المرض وليس مريضاً ، هناك مريض وهناك حامل ، فإنسان أحياناً في طور من الأطوار يحمل هذا الجرثوم ، فالنبي عليه الصلاة والسلام يؤكد أن العدوى حق ، لكنه يقول : لا عدوى كيف نوفق ؟ إن كنت في بلدٍ ، وقد أصيب أهله بالطاعون ، فلا تخرج منه ؟ وإن علمت أن بلداً أصيب بالطاعون لا تدخل إليه ؟ النبي الكريم يؤكد العدوى ، ثم يقول : لا عدوى ، هنا العدوى ؛ أي أنت لا تحقد على أحد نُقل المرض منه إليك ، الله عز وجل قدر هذا المرض لئلا تحقد عليه ، فهو العدوى حاصلة ولكن لا ينبغي أن تسبب لك حقداً أو ألماً من إنسان نقل مرضه إليك .
وقال عليه الصلاة والسلام :
(( وفِرَ من الْمَجْذُومِ كما تَفِرُّ من الأسد )) .
[أخرجه البخاري ومسلم وأبو داود عن أبي هريرة ] .
إذا إنسان مجذوم ينبغي أن نبتعد عنه من دون أن نؤذيه ، أما الحديث الواضح :
(( لا يُورِدَنّ مُمْرِض على مُصِحّ )) .
[أخرجه البخاري ومسلم وأبو داود عن أبي هريرة ] .
قد يكون ليس مريضاً ممرض أي حامل للمرض .
بالمناسبة أيها الأخوة ، لعلي ذكرت هذا في لقاء سابق : عندنا مرض التليسيميا هذا المرض يصيب الدم ، المريض يحتاج تبديل دمه كل أسبوعين مرة ، إلى أن يموت ، وعندنا في هذا البلد الطيب ألفا حالة ، فإذا عاش المريض عشرين سنة كلفة تبديل الدم يقترب من مئه وستين ملياراً ، هذا المبلغ الضخم لو أن وفرناه لإنشاء مدارس ومستشفيات ، طرقات ، مشاريع إنتاجية ، نكون في حال غير هذا الحال .
ببلد آخر في سبعين مليون عندهم أربع حالات ، هذا المرض العضال التليسيميا ما سببه ؟ أن شاباً يتزوج ، الشاب حامل المرض ، فإذا تزوج فتاة حاملة للمرض يأتيه أولاد مصابون هذا المرض مئة بالمئة ، كم إنسان ببلدنا الطيب حامل هذا المرض ؟ مليونان ، مليونان من حاملي هذا المرض ، وألفا مصابان ، وألفا إنسان أصيبوا بهذا المرض ، ويكفي أنك إذا زوجت ابنتك أن تطلب من الخاطب شهادة صحية من هذا المرض ، فإذا ما كان حامل لا يوجد مشكلة ، لو أن أحدهما حامل لهذا المرض(1/81)
يعيشان عمراً مديداً بصحة تامة ، أما المشكلة أن يقترن حامل بحامله ، عندئذٍ لابد أن يكون في الذرية من أصيب بهذا المرض ، هذه مشكله كبيرة .
والله من أيام اطلعت على إحصاء آخر أدهشني ، عندنا ثلاثون ألف مصاب ببلدنا وليس ألفان ، الألفين يكلفان160 مليار عدا الضيق النفسي ، والشدة النفسية التي تصيب الأهل .
أيها الأخوة ، من أقوال النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال :
(( لكلِّ داء دواء )) .
ماذا يفعل هذا الحديث ؟ في نفس المريض ماذا يفعل ؟ (( لكلِّ داء دواءً )) يعطيه ثقة بالشفاء ، يعطيه أملاً ، الآن أحياناً تأتي أخبار طيبة جداً ، فيما سمعت الآن سرطان الدم له علاج ناجح ، (( لكلِّ داء دواء )) .
وهناك أمراض كثيرة جداً الآن اكتشف لها دواء ، هذا الحديث (( لكلِّ داء دواء )) يعطي المريض أمل ، ثقة ، وإذا قرأه الطبيب يعطيه حافزاً ليبحث ، (( لكلِّ داء دواء فإذا أُصِيبَ دواءُ الدَّاءِ )) مهمة الطبيب أن يحسن تشخيص المرض ، ومهمة الطبيب أن يحسن وصف الدواء ، ويبقى بعد ذلك توفيق الله عز وجل ، (( فإذا أُصِيبَ دواءُ الدَّاءِ بَرَأ بإذن الله )) .
في حديث آخر يقول عليه الصلاة والسلام :
(( تداووا عباد الله فإن الله تعالى لم ينزل داء إلا وقد أنزل له شفاء )) .
[أخرجه الحاكم عن أسامة بن شريك مرداس الأسلمي ] .
(( تداووا )) ، وكل أمر في القرآن والسنة يقتضي الوجوب ، تهمل نفسك وتقول الشافي الله ، الشافي الله ، لكن الله أمرك أن تأخذ بالأسباب ، والمؤمن الكامل يأخذ بالأسباب وكأنها كل شيء ، ثم يتوكل على الله وكأنها ليست بشيء ، هذا المؤمن ، أنا أرى لا سمح الله ولا قدر لو أن إنساناً مرض يبحث عن أفضل طبيب ، ويأخذ أفضل دواء ، ويأخذ الدواء بدقة بالغة ، ويتصدق ، ويدعو الله بالشفاء ، الدعاء بالشفاء , والصدقة :
(( داووا مرضاكم بالصدقة )) .
[ أخرجه الطبراني عن عبد الله بن مسعود ] .
وبالمعالجة المتقنة .
الآن هناك توجيه بتناول الفاكهة ، قال تعالى :
* كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ * .
( سورة الأنعام الآية : 141 ) .
معنى لابدّ من أن يكون الثمر يانعاً ، هناك أمراض كثيرة سببها أن تأكل الفاكهة قبل نضجها ، * كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ * .(1/82)
و هناك توجيهات أخرى :
(( من أكل الطين فكأنما أعان على قتل نفسه )) .
[أخرجه الطبراني عن سلمان ] .
من يأكل التراب ؟ يعني من أكل فاكهة دون أن يغسلها ، كأنه أكل التراب .
(( من أكل الطين فكأنما أعان على قتل نفسه )) .
ومن أجل النظافة التامة ورد في بعض الأحاديث عند الترمذي :
(( بركة الطعام الوُضُوء قبلَه ، والوضوء بعدَه )) .
[ عن سلمان الفارسي ] .
(( المؤمن القويُّ خيْر وأحبُّ إلى الله من المؤمن الضعيف )) .
[أخرجه مسلم عن أبي هريرة ] .
إخوانا الكرام ، هناك تعليق دقيق جداً : أنت تعبد الله ، تصلي ، تصوم ، تحج تزكي ، لكن جسمك له قوانين من يعرفها ؟ الطبيب ، أنا أرى أنه من متممات العبادة أن تتأدب مع قوانين الجسم ، تأكل ما يحلو لك بلا حساب ؟ بلا قاعدة ؟ بلا اهتمام ؟ والله الشافي ! أو تأكل فاكهة دون غسيل ؟ سمِ لا يضر مع اسمه شيء ، هذا موقف غير إسلامي وغير صحيح ، خذ بالأسباب وكأنها كل شيء ، ثم توكل على الله وكأنها ليست بشيء .
أيها الأخوة الكرام ، لا تنتظر أيها المؤمن أن تخرق لك النواميس ، هناك قوانين لهذا الجسم ، ما لم تتأدب مع هذه القوانين لن تكون عابداً لله عز وجل ، فلما الأب والأم يطبقان هذه القوانين يشيعان في البيت احترام هذه القوانين ، الأكل معتدل فرضاً ، الرياضة ، الحركة ، شرب الماء الكثير ، الآن أكثر حالات الفشل الكلوي أسبابها شرب الماء القليل الكلية الواحدة صيانتها الأولى بشرب الماء الكثير ، أنا أعرف أناساً كثيرون أصيبوا بهذا المرض بسبب عدم رغبتهم بشرب الماء ، مع أن الكلية صيانتها الوحيدة شرب الماء .
مرة طبيب قال : كُلْ كلّ شيء ، وكُلْ باعتدال ، وابذل جهداً ، ولا تقع تحت تأثير الشدة النفسية ، وكأن بهذه النصائح الأربع جمع الطب كله ، كل كلّ شيء ، كل شيء خلقه الله له فائدة في الجسم ، هناك أغذية تفيد الدماغ ، أغذية تفيد العظام ، أغذية تفيد العضلات ، أغذية تفيد الأغشية المعينة ، كل غذاء له فائدة متعلقة بنسيج معين ، أو بجهاز معين ، إذاً كل كلّ شيء ، وكل باعتدال .
* وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا * .
( سورة الأعراف الآية : 31 ) .
وابذل جهداً ، المؤمن يبذل جهداً ، مرة قلت لطبيب : الحد الأدنى من الرياضة الأدنى الأدنى ؟ طبيب قلب ، قال لي : من يخدم نفسه في البيت قام بالحد الأدنى الأدنى من الرياضة ، يعني قمت إلى المطبخ(1/83)
شربت كأس ماء وعدت إلى مكانك ، الحد الأدنى من الرياضة أن تخدم نفسك في البيت ، وكان عليه الصلاة والسلام يخدم نفسه ، يرفو ثوبه ، يعقد بعيره ، يحلب شاته ، يكنس داره ، وكان في مهنة أهله ، بذل الجهد رياضة .
أيها الأخوة ، هذه بعض توجيهات النبوية في شأن الطعام والشراب ، وشأن الصحة ، ومع الدرس الأول يتكاملان ، هناك حقائق عامة ، وحقائق تفصيلية .
والحمد لله رب العالمين
================
... ... ... ...(1/84)
10 ـ مضار التدخين على الفرد والأسرة والمجتمع
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين ، اللهم أخرجنا من ظلمات الجهل والوهم إلى أنوار المعرفة والعلم ، ومن وحول الشهوات إلى جنات القربات .
أيها الأخوة الكرام ، مع الدرس العاشر من دروس تربية الأولاد في الإسلام ، ولازلنا في التربية الصحية ، لأن صحة الإنسان وعاء عمله ، والصحة مطلوبة لغيرها ، لا لذاتها ، لأنك خلقت في الدنيا من أجل العمل الصالح ، والعمل الصالح يحتاج إلى صحة .
مرة إنسان قال لي : أليس الأجل محتوماً ومحدداً ، لا يزيد ولا ينقص ؟ قلت له : بلى ، ولكن بين أن تعيش سبعين عاماً واقفاً ، متحركاً ، نشيطاً ، وبين أن تعيش سنوات مديدة طريح الفراش ، الأجل لا يتغير ، بل إن النعمة الثانية بعد نعمة الهدى هي نعمة الصحة .
وهذا الموضوع دقيق وخطير ، ويلامس شغاف قلب كل إنسان .
في هذا الدرس اخترت لكم ظاهرة مرضية خطيرة منتشرة في العالم الإسلامي ، وهي ظاهرة التدخين ، بل إن العالم الإسلامي نسب المدخنين فيه أعلى نسب في العالم ، وهذا مع الأسف الشديد ، شركة دخان واحدة أرباحها في اليوم الواحد من مبيعاتها للعالم الإسلامي 110 ملايين دولار يومياً 12 ألف دولار يذهب لإسرائيل يومياً ، أعلى نسب المدخنين في العالم بين المسلمين ، وهذه والله وصمة عار بحق المسلمين ، والله عز وجل يقول :
* وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيماً * .
( سورة النساء) .
والله الدخينة قتل بطيء ، والرصاصة قتل سريع ، وقال تعالى :
* وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ * .
( سورة البقرة الآية : 195 ) .
وقال تعالى :
* وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ * .
( سورة الأعراف الآية : 157 ) .
بطولتك كإنسان عاقل أن تتعامل مع النص لا مع الواقع ، الآن أي إنسان لا سمح الله ولا قدر أصيب بورم خبيث في رئتيه بسبب التدخين قطعاً يقلع عن التدخين ، لكن متى ؟ بعد فوات الأوان ، أما الإنسان العاقل إما لحكم شرعي ، أو لبحث علمي يقلع عن التدخين ، والمثل الذي أردده كثيراً :
لك مبلغ كبير في حمص ، ركبت مركبتك ، وتوجهت إلى حمص في أحد أيام الشتاء ، وجدت لوحة في ظاهر دمشق كتب عليها : الطريق إلى حمص مقطوع بسبب تراكم الثلوج في النبك ، أنت إنسان(1/85)
عاقل ، من ظاهر دمشق تعود ، ما الذي جعلك تقود مركبة ضخمة وزنها ثلاثة طن أن ترجع ؟ أربع كلمات ، لأنك عاقل ، الطريق إلى حمص مغلقة أنت هدفك حمص والإغلاق في النبك ، لو أن دابة تمشي أين تقف ؟ عند الثلج ، ما الذي حكم الدابة ؟ الواقع ، ما الذي حكم العاقل ؟ النص .
الفرق بين العاقل وبين غير العاقل ، العاقل يحكمه النص ، يحكمه التحريم * وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ * ، وغير العاقل يحكمه الواقع ، يقلع عن التدخين قطعاً بعد أن يصاب بورم خبيث في رئتيه ، أو باحتشاء في قلبه ، أو بموات في قدميه أو ، أو ، هناك موضوعات لا تنتهي عن مضار التدخين .
لكن في مجلة بدمشق قدموا لي نسخة منها ، هذه المجلة عنوان المقالة فيها أن قرصاً مدمجاً حمل بائع دخان على ترك بيع الدخان ، وحمل أكبر موزع دخان في دمشق على الإقلاع عن هذه الحرفة بسبب مقالة ألقيتها في حفل إشهار جمعية مكافحة التدخين ، وأنا عضو مؤسس فيها .
أيها الأخوة ، هناك أدلة فطرية ، هل سمعتم في حياتكم أن مدخناً أمسك الدخينة وقال بسم الله الرحمن الرحيم ؟ أنت بالماء تسمي ، بتناول الطعام تسمي ، إلا بالتدخين لا تسمي ، فإذا انتهت هذه الدخينة هل تقول : يا رب لك الحمد ، يا رب أدم فضلك علينا مستحيل ، هل تجرؤ أن تدوس قطعة خبز بقدميك ؟ لا تجرؤ ، لكنك ببساطة تضع عقب الدخينة في الأرض وتسحقها بقدمك ، أليست هذه أدلة كافية ؟ .
هل تصدقون أيها الأخوة أن عالماً من علماء مصر ذهب إلى أمريكا ، ورأى بأم عينه كيف أن ورق التبغ ينقع في الخمر ، كيف تشتعل الدخينة إلى نهايتها دون أن تنطفئ ؟ لأنها منقوعة بالخمر ، هذا كلام علمي ، شركات الدخان عندي أسماؤها ، حتى في شركات بالمنطقة (بالشرق الأوسط) ، ينقع ورق التبغ بالخمر ، فإذا سمعت المعلن يقول : تعال إلى حيث النكهة ، إنها نكهة الخمر ، وهذا المعلن المشهور الذي يظهر ، ويرتدي ثياب الكوبوي ، ويدخن وكأنه بطل مات بسرطان الرئة ، وقال وهو على فراش الموت : كنت أكذب عليكم ، الدخان قتلني .
إخوانا الكرام ، هناك حقيقة أتمنى أن تكون واضحة لديكم ، نسبة الإدمان في الدخان 85% ، نسبة الإدمان في الخمر 15% ، كيف ؟ يعني مئة مدخن لا يستطيع أن يقلع عن التدخين منهم إلا 15% ، بينما مئة شارب خمر يستطيع 85% أن يقلعوا عن شرب الخمر ، شيء خطير جداً .
أيها الأخوة ، شركات التبغ تسمى بعالم الصحة شركات القتل ، أو شركات تتجر بالموت ، هذه الشركات تنتج دخينتين لكل إنسان في الأرض يومياً ، مجموع إنتاج هذه الشركات 12 مليار دخينة كل يوم ، ما في هذه الدخائن من سموم لو حقنت دفعة واحدة بأهل الأرض لماتوا جميعاً ، بالدخان يوجد ثلاثمئة مادة سامة ، طبعاً هذه المعلومات من أدق المصادر .(1/86)
قالوا : أثر هذه السموم في الجنس البشري أخطر من أثر قنبلة الذرة ، إن الذين يلقون حتفهم من أثر الدخان يفوق عدد الذين يموتون بسبب الطاعون ، والكوليرا ، والجدري والسل ، والجذام ، التيفوئيد مجتمعين .
هناك في بلد غربي ألف وفاة يومياً بسبب التدخين ، هذا العدد يزيد سبعة أضعاف عن الذين يلقون حتفهم بسبب حوادث السير ، وأعلى نسبة موت في العالم بسبب حوادث السير ، والمدخنون يموتون بسبعة أضعاف من حوادث السير ، * وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيماً * .
والله كلمة مؤلمة وقاسية جداً أتحرش أن أقولها دائماً : ما رأيت مدخناً عاقلاً إنسان ينتحر ؟ يقتل نفسه ؟ يعرض نفسه للجلطة ؟ لاحتشاء القلب ؟ لمرض الغر غرين الموات ؟.
إحصاء في بلد غربي بعيد ، إن إحصاء للذين يموتون بسبب التدخين في دولة واحدة في الغرب أربعمئة ألف إنسان ، الواقع ألف وفاة كل يوم ، بين كل ثلاثة مدخنين يلقى أحدهم حتفه بسبب الدخان .
الآن مجموع الأرباح التي تحققها شركات التبغ للدولة أقل بكثير من الإنفاق الحكومي على معالجة المدخنين ، طبعاً أخطر مادة في الدخان هي النيكوتين ، أما يقول لك : دخينة مفلترة ، الدخينة المفلترة لا تمنع النيكوتين تمنع القطران فقط ، مفلترة لأنها تمنع القطران ، أربع قطرات من النيكوتين ، أربع قطرات لو حقنت في حصان قتلته فوراً .
أخطر شيء عند المدخن أن سم الدخان ينسحب مع دم الكريات الحمراء فيعطل مفعولها ، وأخطر شيء بالجسم الكريات الحمراء عن طريقها يتم تبادل الأوكسجين ، وطرح غاز الفحم .
طبعاً في الدخان غازان سامان مسرطنان ، فيهما فحوم مسرطنة ، دراسة في بريطانيا أجريت على ثلاثة و ثمانين رجلاً مدخناً ، أكدت أن ثلاثة أشخاص من كل عشرة يلقون حتفهم بسبب التدخين .
1 ـ تأثير التدخين على دماغ الإنسان و ضعف ذكائه :
الآن سنبدأ بالتفاصيل ، هذا موجز ، تفاصيل الدماغ : سموم التدخين يتلقطها الدماغ بشره عجيب ، بقبول فائق ، لماذا ؟ لأنه تنشطه ، وتخدره ، يوجد بالتدخين مادة منشطة ومادة مخدرة ، هذا السم في الدماغ يصيب خلايا الدماغ بالالتهاب ، أجريت دراسة علمية على ستة آلاف و ثمانمئة حالة تدخين من نتائجها أن هناك علاقة صارخة وواضحة بين التدخين وضعف الذكاء ، في الأعم الأغلب المدخن إنسان أقل ذكاء من الذي لا يدخن ، هذا بالدماغ .
2 ـ إضعاف الدخان لجهاز التنفس و التهاب الأنف والبلعوم المزمنين :
جهاز التنفس : جهاز التنفس كعنقود العنب ، كل حبة سنخ رئوي ، هذه الأسناخ عبارة عن فراغ ، عنقود عنب لكن حباته فارغة ، في هذا الفراغ يتم تبادل الأوكسجين تأخذه الكريات ، ويطرح غاز الفحم في الزفير ، هذه الحوصلات لو مدت لكانت مساحتها مئتي متر قال : سموم الدخان تخرب هذه(1/87)
الأنسجة المبطنة للأسناخ الرئوية ، وتضعف وظائف التنفس وتؤدي إلى التهاب الأنف ، والبلعوم المزمنين ، والتهاب الحنجرة ، والقصبات الرئوية ، ونسبة سرطان الرئة عند المدخنين 8 أضعاف غير المدخنين .
فرضاً إذا بالمئة إنسان غير مدخن يصاب عشرة بسرطان الرئة ، المئة إنسان المدخنين 80% يصابون بسرطان الرئة ، هذه محاضرة كلفتني تقريباً عشرة أيام ، كلها من مراجع دقيقة جداً .
3 ـ أمراض القلب الوعائية من جلطات وغيرها بسبب التدخين :
القلب ، أقسم لي طبيب جراح قلب من أخواني ، أقسم لي بالله العظيم له في هذا البلد ثماني سنوات ، يجري تقريباً كل يوم عملية قلب ، أو بالأسبوع أربع عمليات ، يقسم بالله العظيم ما أجرى عملية قلب مفتوح إلا لمدخن ، حتى هناك طبيب صديقي متخصص بالحنجرة والبلعوم ، والأنف ، يأتيه مريض مصاب بورم خبيث في حنجرته ، قال لي : دون أن أشعر أضع يدي على صدره فإذا بجيبه علبة دخان ، يقول له : هذا من هذا .
يا أخوان نحن عقلاء ، الصحة غالية جداً ، الصحة تاج على رؤوس الأصحاء لا يراها إلا المرضى ، أكثر أمراض القلب الوعائية من جلطات بسبب التدخين ، 80% من مرضى القلب مدخنين .
طبعاً الآن بعد قليل ترون السبب ، السبب أن الإنسان إذا رأى ثعباناً ، وذكرت هذا من قبل ما الذي يحصل بجسمه ؟ يحصل تبدلات مدهشة ، صورة الثعبان تنطبع على شبكية العين ، تنتقل للدماغ ، والدماغ تقرأ الصورة ، الدماغ ملك الجهاز العصبي ، يدرك الخطر بملفات الثعبان ، يتوسط لدى ملكة الجهاز الهرموني ، زميلته الملكة الغدة النخامية الغدة النخامية وزنها نصف غرام ، تعطي أمراً للكظر ليواجه الخطر ، الآن الكظر يعطي أمراً للقلب يرفع النبض لمئة و ستين ، وأمر للرئتين يرفع الوجيب ، وأمر للكبد يطرح كمية سكر إضافية ، وأمر للأوعية المحيطة بالجلد لتضيق لمعتها ، وأمر إلى الكبد أيضاً لإفراز هرمون التجلط ، فالخائف دمه لزج ، وضغطه مرتفع ، ضاقت الأوعية ، ووجهه أصفر اللون ، ونبضه مرتفع ، ووجيب رئتيه مرتفع ، هذه حالة تحصل بالشهر مرة ، بالسنة مرة بالخمس سنوات مرة ، حالة خوف شديد ، المادة التي يفرزها الكظر وتُحدث كل هذه الآثار هي نفس المادة التي تحدثها سموم النيكوتين في الجسم ، المدخن دائماً أوعيته ضيقة ، ولونه أصفر ، المدخن دائماً ضغطه مرتفع ، المدخن دائماً دمه لزج ، لذلك احتمال الجلطة للمدخن كبيرة جداً .
أنا لي صديق طبيب ، أحد من يرتاد عيادته مدخن ، والله قال له أمامي ، قال له : أنت لا من باب علم الغيب ، لكن من باب القوانين ، أنت معرض لجلطة بوقت قريب والله بعد ستة أشهر أصيب بجلطة ، لأن هرمون التجلط يفرزه الكبد بحالات الخوف النيكوتين يحث هذا الهرمون على الإفراز ، فدم المدخن لزج .(1/88)
أيها الأخوة ، عندي شيء كثير عن مضار التدخين ، لكن حينما أرى إنساناً يعطل عقله ، أنا أخاطب الآباء الآن ، درس تربية الأولاد ، ظاهرة التدخين متفشية جداً بالمدارس والأب المدخن قدوة لابنه .
مرة إنسان مدخن وشاعر ، كتب هذه الأبيات قال :
أما أنا فاسمع بداية قصتي ... منذ التحقت بشلة الأقران
لم يعلم الأبوان أين تسكعي بحثاً عن الأعقاب والعيدان
لم تمضِ إلا أشهر حتى غدت ... سيجارة الشيطان طوع بناني
في العيد كانت فرصتي ذهبية الجيب مملوء أبي أعطاني
* * *
تابعت أفلام البطولة مغرماً ومشاهد التدخين كل ثواني
أيقنت أن التبغ شرط لازم كي أنتمي لفصيلة الشجعان
سيجارة الأستاذ في مدرستي ... كانت كوحي الجن والشيطان
* * *
الأستاذ يدخن ، لا تدخن يا بني ، أنت تدخن ، شيء مضحك ، بعد مرحلة من هذه الدروس ترون أن أفعل طريقة في تربية الأبناء أن تكون أنت قدوة له .
أذعنت للتدخين دون تردد ... ... وبدأت بعد السر بالإعلان
* * *
والله أتمنى ألا أكون قاسياً على المدخنين ، أحياناً ألتقي بإنسان ، يحتل مكانة رفيعة ، معه شهادات عالية ، أجلس معه أمتلئ احتراماً له ، فإذا بدأ يدخن والله يسقط من عيني ، ما رأيت مدخناً عاقلاً :
أذعنت بالتدخين دون تردد ... وبدأت بعد السر بالإعلان
فأبي يدخن والمعلم قدوتي ... وكلاهما بسلوكه أغواني
وطبيبنا في الحي كان مدخناً ... فجعلته ترساً لمن ينهاني
* * *
جاوزت مرحلة الشباب ... وبعدها مالت بصدري كفة الميزان
أصبحت ألهث إن مشيت بسرعة ... والقلب يخفق والسعال أتاني
أنفقت أموالي أهنت إرادتي ... ... كي لا يصاب التبغ بالخذلان
* * *
هذا اللدود جعلته لي صاحباً ... ... أردفته خلفي فباع حصاني
لم أتعظ مما جرى للسابقين ... وصمدت لكن خفت من خسراني(1/89)
هذه حكاية من يذوب ندامة ... فاحذر صديقي أن تكون الثاني
* * *
تهتز أنمله فتحسبها ورق الخريف أصيب بالبرد
ويمج أحياناً دماً ... فعلى منديله قطع من الكبد
قطع تقول تموت غداً وإذا ترق تقول بعد غد
* * *
مات الفتى فأقيم في جدث ... مستوحش الرجاء منفرد
كتبوا على حجراته بدم ... سطراً به عظة لذي رشدِ
هذا قتيل هوىً ببنت هوى ... فإذا مررت بأختها فحدِ
* * *
لماذا دروس العلم ضرورية ؟ كي تصحو من غفلتك ، كي تتحرك حركة صحيحة .
إخوانا الكرام ، الدخان يضيق الأوعية ، تضيق الأوعية أو تنسد ، يتحول الإنسان إلى مرض اسمه الذبحة الصدرية ، أو احتشاء القلب ، أو جلطة ، أو الغر غرين (الموات) تضيق الأوعية ، تضعف التروية ، تسود القدم ، لابدّ من بترها .
الآن اسمعوا نقص الوزن في المولود ، التشوهات الخلقية ، الوفاة في المهد ربو الأطفال ، الصمم ، يعزى كله إلى الأم المدخنة ، الأم المدخنة ترسل سموم دخانها عبر حليبها إلى رضيعها ، الآن المولود حديثاً في حليب أمه سموم الدخان ، الإقياءات المتكررة التشنجات ، تسرع قلب الوليد ، من آثار سموم الدخان .
الآن كثافة سموم الدخان في ثدي المرأة أحد أسباب سرطان الثدي .
الآن هذه الزوجة البريئة ، وهذا الطفل الوديع ، وهذه البنت الساحرة ، ما ذنبهم ؟ 38 % من أخطار الدخان تصيب غير المدخنين مما يلوذ بالمدخن ، يعني بالكلمة الصريحة القاسية : أنت أيها الأب المدخن مجرم بحق زوجتك وأولادك ، هذا اسمه التدخين السلبي .
إخوانا الكرام ، موضوع الدخان والخمر الدكتور عبد الصبور شاهين ، أحد كبار علماء مصر ، ألّف كتاباً عن نقع أوراق التبغ بالخمر ، والكتاب عندي ، واشتريته من معرض الكتاب من مكتبة الأسد في المعرض ، ذهب إلى أمريكا ، ورأى بعينه كيف تنقع أوراق التبغ بالخمر .
إخوانا الكرام ، شيء آخر مؤلم جداً : هل تصدق أن أسوأ أنواع التبغ تصدر في الشرق الأوسط ، أسوأ أنواع التبغ بالتعبير الدارج زبالة التبغ تصدر للشرق الأوسط ، نحن مع الأسف الشديد أعلى نسبة مدخنين في العالم ، وندخن أسوأ دخان في العالم ، والأسوأ من هذا أن نسب المدخنين ترتفع ، بينما نسب المدخنين في الغرب بهبوط مستمر .(1/90)
إلى متى أنت باللذات مشغول ... وأنت عن كل ما قدمت مسؤول
* * *
هذه حقائق ، أيها الأخوة ، تقول لي : لا أقدر ، أنا أقول لك حجة قاطعة ، كيف تقدر في رمضان ؟ أنت مسلم ، تصوم ، كيف أن الدخان ينزع من كل اهتماماتك في أثناء شهر رمضان ؟ إذاً تقدر ، وحقيقة دقيقة : الذي تتوهم أنك لا تستطيعه هو الذي لا تريد أن تفعله .
أنا أعرف أخاً يدخن في النهار خمس علب ، مدمن ، سمع شريطاً واحداً ، سورة يس ، أخذ قراراً ، وترك الدخان كلياً ، وأنا أبشر كل أخ يزمع على ترك الدخان يرى النتائج سريعة جداً .
الجسم نبيل ، لما أنت تأخذ احتياطات تجد رد الفعل للجسم عجيب ، تجد نفسك أصبحت خفيفاً ، نفسك صار هادئاً ، قلبك مرتاح ، ارتد لونك ، صار لجسمك لون مختلف تراه سريعاً .
لذلك : صدق الإرادة وقوتها في الإقلاع عن التدخين أمر دقيق جداً ، والذي ليس له إرادة ليس من بني البشر ، إن القرار الذي يتخذه الإنسان في شأن مصيره قلما تنقضه الأيام إذا كان صادقاً حقاً عن إرادة وإيمان .
بكل مجتمع يوجد مدخنون ، والله الذي لا إله إلا هو لما أرى إنساناً يلوذ بي وهو يدخن والله أتألم من أجله ألماً لا حدود له ، لكن لا أقول هذا عذر ، لكن أنا عندي معلومات دقيقة أن المدخن صار مصنفاً مع المرضى ، قد تكون قناعته أشد من قناعتي ، لكنه أدمن وكلما طال أمد التدخين صار الإقلاع عنه أصعب ، والوعي الصحي ، أنت إنسان الله أعطاك عقل ، والعقل أداة رائعة جداً ، في تحريم شرعي ، وفي بحث طبي ، يجب أن يكون البحث رادعاً ، والتحريم رادعاً ، مؤمن ؟ في تحريم ، علماني ؟ في بحث علمي .
لذلك : تعميق الوعي ، أنا أتمنى إذا كان ابنك دخن ليس موضوع ضرب موضوع إقناع ، أعطيه هذا الدرس ، أسمعه هذا الدرس ، من أجل صحتك يا بني ، من أجل مستقبلك ، من أجل زواجك .
بصراحة الآن في عدة اتجاهات رائعة جداً حينما تعلم المخطوبة أن خاطبها يدخن لا تقبل .
نحن نكافئ بعض المعامل المعمل الذي يمتنع عن توظف إنسان مدخن له تقدير عندنا ، ونثني عليه ، المعمل الذي يرفض قبول عامل مدخن له عندنا تقدير ، الآن في معامل تعطي تعويض خاص لكل عامل مدخن سابقاً يقلع عن التدخين .
حتى مرة زرت معمل لفت نظري غرفة من البلور لها مدخنة ، ممنوع أن تدخن إلا في هذه الغرفة ، انتظر دورك ، تدخل كأن الواحد جالس بغرفة إعدام ، يدخن السيكارة والدخان طالع بالبوري ، بعدها يخرج .
نحن نشجع المعامل ، طبعاً العالم الغربي كله ما ممكن بمكان عام فيه تدخين مستحيل ، لا بطائرة ، ولا بمجمع ، ولا بسوق ، أبداً .(1/91)
النصيحة الثالثة ، أول نصيحة أنت بحاجة إلى قوة إرادة ، النصيحة الثانية أنت بحاجة إلى تعميق الوعي .
إنسان يبيع الدخان في دمشق ، واحد قدم له شريط لهذه المحاضرة بالذات أعطاه الشريط سمعه ، المحل فيه شريكين ، الشريك الأول سمع الشريط تأثرَ تأثر بالغ ، أخذ قرار بإيقاف بيع الدخان ، شريكه ما وافق ، قال له : أنا شريك ، جمعوا الأرباح الناتجة عن بيع الدخان ، فكانت خمس وعشرون ألف فقال له الشريك التائب : أنا أعطيك أثنى عشر ألف وخمسمئة من ربحي ، قال له : إن كان هكذا انتهى ما في مشكلة ، يعني بالمنطق ما دام ربحت خمس وعشرون ألف تقريبي كل شهر ، أنا أريد إيقاف بيع التدخين ، وأنت شريك معي لك النصف ، أنا أتعهد لك أدفع لك أثنى عشر ألف وخمسمئة كل شهر ، فوافق ، أوقفوا بيع التدخين ، يأتي يوم السبت الموزع ، الموزع دافع خمسة ملايين تأمين عند شركات الدخان مثل العادة ، كم طلبكم هذا الأسبوع ؟ قال له : والله طلبنا أن تأخذ الذي عندنا ، نحن أقلعنا عن بيع الدخان ، ما السبب ؟ قال له : هذا الشريط ، خذ اسمعه ، هذا سمعه قنع ، ثاني يوم أخذ قرار بإيقاف توزيع الدخان على مئتي وخمسون محل بدمشق ، وحول شركته إلى شركة توزيع أغذية له سيارات ، واسترد خمسة ملايين تأمين ، وتحول إلى موزع مواد غذائية .
نحن نتمنى ، هذا الدرس أو أصل الدرس يكون في سيديات في هذا الجامع إذا طلبه نعطيه ، مجاناً هدية ، إذا عندك قريب مدخن أعطيه هذا الشريط يسمعه ، وهذا ينطبع من دون قيد أو شرط ، وحقوق الطبع غير محفوظة ، وهي حق لكل مسلم .
الآن : لا تفقد الأمل إن حاولت مرة ولم تفلح ، طبعاً هذه طرفة ، واحد قال :
واحد قال : من قال إن الإقلاع عن التدخين شيء صعب ؟ من قال هذا الكلام ؟ أنا أقلعت عنه عشرين مرة .
لا تخاف من زيادة الوزن ، إذا واحد ترك الدخان ، يأكل بنهم ، لا تقلع بالتدريج أخي أنا أدخن خمس علب ، هذا الشهر أربعة ، لا ، ما لها نهاية هذه ، تحتاج قرار حاسم ، لا تقلع بالتدريج بل أقلع نهائياً ، واستفد من خبرات الذين أقلعوا ، وأقلع ، وقل أنا أقلعت ، حتى تنحرج لو دخنت مرة ثانية ، تجد تعليقات كثيرة ، قل أنا أقلعت عن التدخين .
اسمعوا الآية :
* الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ * .
( سورة الأعراف الآية : 157 ) .
ألم يثبت بالدليل العلمي القطعي أن الدخان من الخبائث ؟ .(1/92)
أيها الإخوة ، طبعاً في بعض المحاضرات ذكرت الفتاوى التي صدرت بدءاً من شيخ الإسلام بالدولة العثمانية ، وحتى شيخ الأزهر ، وحتى مجلس الإفتاء الأعلى في سوريا وأنا عضو فيه ، أصدرنا فتوى رسمية وأذيعت وعممت بتحريم الدخان قطعياً .
أيضاً في لوحة كبيرة جداً تبين مضار التدخين لعل الله سبحانه وتعالى ينفع إخوتنا المؤمنين في هذا الموضوع ، وهذا من موضوعات تربية الأولاد في الإسلام ، ويجب الأب أن ينتبه إلى أولاده إذا سار الابن في هذا الطريف فالنهاية وخيمة .
والحمد لله رب العالمين
==============
... ... ... ...(1/93)
11 ـ فضل التربية العقلية
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين ، اللهم أخرجنا من ظلمات الجهل والوهم إلى أنوار المعرفة والعلم ، ومن وحول الشهوات إلى جنات القربات .
أيها الأخوة الكرام ، مع الدرس الحادي عشر من دروس تربية الأولاد في الإسلام وننتقل اليوم إلى التربية العقلية ، فالإنسان عقل يدرك ، وقلب يحب ، وجسم يتحرك ، غذاء العقل العلم ، وغذاء القلب الحب ، وغذاء الجسم الطعام والشراب .
إذاً جانب خطير وكبير من جوانب الإنسان الجانب العلمي ، والذي لا يبحث عن الحقيقة ولا يلبي القوة الإدراكية التي أودعها الله فينا ، فقد هبط عن مستوى إنسانيته إلى مستوىً لا يليق به .
لا تنسوا أن الجماد شيء ، له وزن ، وله أبعاد ثلاثة ، ويشغل حيزاً هذا الجماد .
النبات : شيء ، له وزن ، وله أبعاد ثلاثة ، ويشغل حيزاً ، لكنه ينمو ، تميز النبات عن الجماد بالنمو .
الحيوان : شيء له وزن ، ويشغل حيزاً ، وله أبعاد ثلاثة ، وينمو كالنبات ، لكنه يتميز عن الجماد والنبات بأنه يمشي ، يتحرك .
الإنسان : شيء ، له وزن ، وله أبعاد ثلاثة ، ويشغل حيزاً ، هذا كالجماد ، وينمو كالنبات ، ويتحرك كبقية المخلوقات ، بماذا يتميز ؟ بأنه يفكر .
أنت تتميز عن كل الكائنات لأنك تفكر ، أعطاك الله عقلاً ، فإذا عطلنا هذا الجانب إن عطلنا القوة الإدراكية ، إن لم نبحث عن الحقيقة هبطنا من مستوى إنسانيتنا إلى مستوى لا يليق بنا .
أنت حينما تطلب العلم ، تحضر درس علم ، تبحث عن الحقيقة ، تقرأ كتاباً ، تتابع ندوة ، تتابع مناظرة ، تحضر خطبة ، تسأل ، تستفهم ، تبحث ، تدرس ، تفكر ، تعقل ، أنت بهذا تؤكد أنك إنسان ، وما لم يكن الفرق عندك كبيراً ، العلم والجهل .
الناس ثلاثة ، عالم رباني ، ومتعلم على سبيل نجاة ، وهمج رعاع ، أتباع كل ناعق ، هذا يسمى الخط العريض في المجتمع ، يسمى أيضاً دهماء الناس ، سوقتهم ، وهمج رعاع ، أتباع كل ناعق ، لم يستضيؤوا بنور العلم ، ولم يلجؤوا إلى ركن وثيق فاحذر أن تكون منهم يا بني .
سمعت مرة نشيداً تأثرت له .
نسمات هواك لها أرجٌ ... ... تحيا وتعيش بها المهج
ما الناس سوى قوم عرفوك ... و غيرهم همجٌ همجُ
* * *(1/94)
هل يمكن أن يكون الإنسان همجياً وراكب مركبة غالية ؟ ممكن ، ويرتدي أغلى ثياب ، ويتعطر بأغلى العطور ، ممكن ، حينما لا يعرف الله فهو همجي ، حينما يبني حياته على أنقاض الناس فهو همجي ، حينما يبني أمنه على إخافتهم فهو همجي ، حينما يبني غناه على فقرهم فهو همجي ، حينما يبني عزهم على إذلالهم فهو همجي ، البشر إما أنه همجي ، أو إنساني ، المؤمن إنساني .
والله أيها الأخوة ، المشاعر التي يتمتع بها المؤمن الناتجة عن معرفته بربه ، وعن معرفته بمنهج ربه ، وعن طاعته لربه ، والله لا توصف .
ولو يعلم الملوك (أنا هذا القول أرويه كثيراً) إلا أنني من سنوات عدة دققت في الذي قاله ، من قاله ؟ قاله ملك (إبراهيم بن الأدهم) ، كان ملكاً فترك الملك ، وتعرف إلى الله وقال : (لو قاله غيره لما صدقته) لو يعلم الملوك ما نحن عليه لقاتلونا عليها بالسيوف.
والله يوجد بنفس المؤمن من السعادة والطمأنينة ، بأي وضع ، فقير ، غني ، صغير ، كبير ، مدني ، ريفي ، المؤمن يتمتع بسعادة لو وزعت على أهل بلد لكفتهم .
ما الإيمان ؟ الإيمان مرتبة كبيرة جداً ، الإيمان مرتبة علمية ، الإيمان مرتبة أخلاقية ، الإيمان مرتبة جمالية ، والله المؤمن يتمتع بأذواق ، بطعامه ، وشرابه ، وملبسه ونزهاته ، ولقاءاته لا يتمتع بها غيره ، اتصل بالله ، وذاق طعم القرب .
أيها الأخوة ، لذلك عقلك يحتاج إلى غذاء ، غذاؤه العلم ، فإذا أن تكون عالماً أو متعلماً ، أو مستمعاً نعمة ، أو محباً ، ولا تكن الخامسة فتهلك .
ما الناس سوى قوم عرفوك ... ... وغيرهم همجٌ همجُ
* * *
قد يكون إنسان همجي فقير ، وهناك همجي غني ، و همجي متعلم يتفنن بصنع أدوات الدمار ، الأسلحة الجرثومية ، الأسلحة الكيماوية ، الأسلحة الخارقة ، الحارقة الفتاكة ، القنبلة العنقودية ، القنبلة الانشطارية ، القنبلة التي تقتل البشر ، وتبقي الحجر ، أنواع منوعة من الأسلحة ، صنع من ؟ صنع علماء كبار أذكياء ، لذلك :
ما الناس سوى قوم عرفوك ... ... وغيرهم همجٌ همجُ
* * *
أيها الأخوة ، الدرس اليوم التربية العقلية ، لكن الموضوع الأول في هذا اللقاء الطيب أن أول كلمة في أول آية ، في أول سورة في القرآن الكريم :
* اقْرَأْ * .
( سورة العلق الآية : 1 ) .
أليس كذلك ؟ * اقْرَأْ * ، * اقْرَأْ * ماذا ؟ .(1/95)
أيها الأخوة ، الآيات التي تلي هذه الآية لها أبعاد رائعة جداً :
* اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ * .
( سورة العلق الآية : 1 ) .
يعني * اقْرَأْ* من أجل أن تعرف ربك ، * اقْرَأْ * من أجل أن تؤمن ، * اقْرَأْ * من أجل أن تقبل على الله ، * اقْرَأْ * من أجل أن تسلم ، * اقْرَأْ * من أجل أن تسعد ، * اقْرَأْ * يعني اطلب العلم ، * اقْرَأْ * تعلم ، * اقْرَأْ * لبِ حاجة عقلك ، * اقْرَأْ * كن مستمعاً ، * اقْرَأْ * كن عالماً ، * اقْرَأْ * كن متعلماً ، * اقْرَأْ * كن محباً ، * اقْرَأْ * لا يوجد قراءة غير هادفة ؟ .
مرة ركبت طائرة إلى بلد بعيد ، لفت نظري أن معظم الركاب يقرؤون ، والله بادئ ذي بدء أكبرتهم ، مثقفون ، ثم فوجئت أن كل هذه القراءات قصص ، وقد تكون ليست كما ينبغي .
* اقْرَأْ * من أجل أن تؤمن ، * اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ * .
* الَّذِي خَلَقَ * .
( سورة العلق ) .
هذه القراءة يمكن أن أسميها قراءة البحث والإيمان ، * اقْرَأْ * من أجل أن تؤمن وادعُ ابنك إلى أن يقرأ ، من أجل أن يؤمن .
1 ـ قراءة البحث و الإيمان :
مرة علمت أن بعض الأوقاف في بلد إسلامية أحد فروع هذا الوقف تحبيب القراءة للصغار ، يوزعون على الصغار قصصاً رائعة جداً ، هادفة ، أخلاقية ، قصص للصحابة الكرام ، بأحلى طباعة ، بأجمل صورة ، حتى يحب الصغار القراءة ، يعني أعلى هواية ، أعلى نشاط يتجاوز كسب الطعام والشراب أن تقرأ .
* اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * ، أول قراءة نسميها قراءة البحث والإيمان ، هل تفكرنا في خلق السماوات والأرض ؟ هل قرأنا القرآن الكريم ؟ هل قرأنا السنة المطهرة ؟ هل قرأنا ؟ * اقْرَأْ* أي تعلم ، هل بحياتك وقت لطلب العلم ؟ لحضور دروس العلم ؟ هل في برنامجك اليومي ساعة أو ساعتين لقراءة كتاب ؟ لقراءة بحث ؟ لمطالعة موضع ؟ للقاء مع إنسان تنتفع من علمه ؟
* اقْرَأْ* من أجل أن تؤمن ، القراءة الهادفة ، القراءة الإيمانية ، قراءة البحث والإيمان ، هذه قراءة .
* اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * ، أقرب آية إليك ، أقرب شيء تتعرف منه إلى الله جسمك ، * اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * :
* خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ * .
( سورة العلق ) .(1/96)
ممكن باللقاء الزوجي هناك ثلاثمئة مليون نطفة ، والبويضة حجمها كحبة الملح ضع على إصبعك شيئاً من لعابك ، ولا تضغط على كمية من الملح ، أقل مس ، وجيء بمكبر ، ترى ذرات الملح ، أقل ضغط ، طبقة واحدة من ذرات الملح ، مع المكبر ترى ذرة الملح ، البويضة في المرأة حجمها كحجم ذرة الملح ، هذه تحتاج إلى حوين ، الحوين لا يرى بالعين ، له رأس ، الرأس فيه مادة نبيلة ، وهذه المادة النبيلة مغلفة بغشاء رقيق إذا اصطدم هذا الحوين بالبويضة يتمزق الغشاء ، والمادة تذيب جدار البويضة ، ويدخل إليها .
* خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ * ، هذه البويضة الملقحة تنقسم عشرة آلاف قسم دون أن يزيد حجمها ، وهي تمشي في قناة فالوب ، ما الذي يحركها في هذه القناة ؟ قال :أَشعار تنقلها من المبيض إلى الرحم ، وهي تنقسم ، * خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ * .
* مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ * .
( سورة الحج الآية : 5 ) .
ثم تتشكل العظام ، ثم تكسى العظام لحماً ، ثم رأس ودماغ ، مئة و أربعون مليار خلية سمراء ، لم تُعرف وظيفتها بعد ، عينان ، بالشبكية يوجد مئة و ثلاثون عصية ومخروط ، العصب البصري تسعمئة ألف عصب ، ثلاثمئة ألف شعرة ، لكل شعرة وريد ، وشريان ، وعصب ، وعضلة ، وغدة دهنية ، وغدة صبغية ، بالمعدة هناك 35 مليون عصارة هاضمة ، القلب يضخ باليوم ثمانية أمتار مكعبة ، في عمر متوسط يضخ القلب من الدم ما يملأ أكبر ناطحة سحاب في العالم ، اللسان ، الأسنان ، المريء ، الأمعاء ، المعدة ، الكليتان ، الرئتان ، القلب .
* خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ * ، أقرب آية عظيمة دالة على عظمة الله جسمك ، أقرب شيء إليك جسمك ، ألم تفكر مرة لِمَ لم يكن في الشعر أعصاب حس ؟ لو في أعصاب حس تُسأل إلى أين أنت ذاهب ؟ والله إلى المستشفى ، لأجري عملية خلاقة ، إذا في أعصاب حس ، قص الشعرة تطير من الألم ، لكن لا يوجد أعصاب حس ، لو فكرت بشعرك ، بعينيك ، بأنفك ، بأذنيك ، الحديث طويل .
* اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * ، هذه قراءة إيمانية ، عود نفسك تفكر ، أحياناً الإنسان يسمع صوت مركبة ينزاح نحو اليسار ، كيف عرفت أن المركبة على اليمين ؟ هي وراءك ، قد يغيب عن ذهنك أن هناك جهاز بالإنسان يقيس تفاضل وصول الصوتين إلى الأذنين ، المركبة هنا ، الصوت الأول دخل إلى هنا ، والثاني دخل إلى هنا ، هذه أقرب إلى المركبة من هذه ، المسافة الزمنية واحد على ألف و ستمئة و عشرين جزءاً من الثانية ، من آيات الله الدالة على عظمته .
إذاً أول قراءة قراءةٌ إيمانية ، * اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ * .
الآن :(1/97)
* اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ * .
( سورة العلق ) .
هذه قراءة ثانية ، الله عز وجل منحك نعمة الإيجاد ، أنت موجود ، ومنحك نعمة الإمداد ، أمدك بالهواء ، بالماء ، بالطعام ، بالشراب ، بالزوجة ، بالأولاد ، بالسماء ، بالأرض ، بالبحار ، بالأنهار ، بالأسماك ، بالأطيار ، بالكواكب ، بالثمار ، هذه قراءة ثانية قراءة الشكر والعرفان .
* اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * ، أول قراءة ، قراءة البحث والإيمان ، وأقرب آية لك : * خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ * ، الثانية : * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ * ، منحك نعمة الإيجاد ومنحك نعمة الإمداد ، ومنحك نعمة الهدى والرشاد ، إيجاد ، إمداد ، هدى ورشاد .
مرة فكر بالكون ، مرة فكر بالنعم ، هذا الماء من جعله عذباً فراتاً وقد كان ملحاً أجاجاً ؟ من قنن قانون التبخر ؟ من قنن قانون أن الهواء يحمل بخار الماء ؟ من قنن قانون التقطير ؟ من قنن قانون التبخر ثم تحول البخار إلى سائل ؟ من ؟ من أودع الماء في الينابيع ؟
2 ـ قراءة الشكر و العرفان :
* اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ * ، جلست إلى الطعام ، هذا اللبن من أين ؟ من معمل لا في صوت ، ولا في ضجيج ، ولا في دخان ، ولا في مدخنة ، ولا في شيء ، بقرة تأكل الحشيش تعطيك الحليب ، هل هناك جهة بالأرض تستطيع أن تصنع من الحشيش حليباً ؟ الدجاجة تأكل كل شيء تعطيك البيض .
يقول بعض العلماء : شدة القرب حجاب ، فكر ، فكر بالبيضة ، بكأس الحليب .
* اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ * ، قراءة الشكر والعرفان ، مرة بالآيات الدالة على عظمته ومرة بنعمه .
الكليتان تفرزان كل عشرين ثانية قطرة بول ، قطرة بقطرة ، كل عشرين ثانية بالدقيقة ثلاث قطرات ، بالعشر دقائق ثلاثين قطرة ، النتيجة ، لو لم يكن هناك مثانة ، من الكليتين إلى الإفراز يحتاج الإنسان إلى فوط ساعتئذ ، فوط الرجل السعيد لا الطفل السعيد ، من جعل المثانة مستودعاً ؟ سبع ثماني ساعات يتجمع فيها البول ، كرامتك موفورة .
لو فكرت بجسمك أنت وجهاً لوجه أمام عظمة الله ، المثانة وحدها ، تصفية الدم آية ، جهاز الهضم آية ، البنكرياس آية ، الكبد يقوم بخمسة آلاف وظيفة آية ، الرئتان ، لو الأسناخ الرئوية مدت لكانت مساحتها مئتي متر مربع ، رئتان ، وقلب ، القلب بالقفص ، والدماغ بالجمجمة ، والنخاع الشوكي بالعمود الفقري ، والجنين بعظام الحوض ، وأخطر معمل بالجسم معامل كريات الدم الحمراء وسط العظام ، الأجهزة الخطيرة ، القلب ، العين ، الدماغ ، النخاع الشوكي ، الجنين ، معامل كريات الدم الحمراء ، أخطر الأجهزة في أماكن حصينة ، صنع من ؟ ، تقدير من ؟.
* اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * ، قراءة البحث والإيمان ، * خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ * ، * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ * قراءة الشكر والعرفان .(1/98)
3 ـ قراءة الوحي و الإذعان :
* الَّذِي َلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ * .
( سورة العلق ) .
هذا الوحي ، قراءة الوحي والإذعان ، كم قراءة عندنا ؟ ثلاثة ، قراءة البحث والإيمان ، قراءة الشكر والعرفان ، قراءة الوحي والإذعان ، أي شيء عجز فكرك عن إدراكه أخبرك الله به ، أخبرك أن الله هو الذي خلق السماوات والأرض ، أخبرك :
* إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعاً * إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً * وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً * إِلَّا الْمُصَلِّينَ *.
( سورة المعارج ) .
أخبرك أنه خلقك لجنة عرضها السماوات والأرض ، أخبرك أن هذه الدنيا دار التواء ، دار فانية ، حياة دنيا وليست عليا ، كل شيء عجز عقلك عن إدراكه أخبرك الله به القراءة الثالثة ما هي ؟ قراءة الوحي والإذعان .
أيها الأخوة الكرام ، هذه السورة أول سورة نزلت ، وأول آية ، وفيها أول كلمة اقرأ ، قراءة البحث والإيمان ، نوع من القراءة ، قراءة الشكر والعرفان ، التفكر بالنعم ، قراءة الوحي والإذعان ، قراءة القرآن والسنة ، القرآن فيه كليات ، والسنة فيها جزئيات ، أنت بين التفكر في خلق السماوات والأرض ، والتفكر في نعم الله ، وبين تدبر آيات القرآن الكريم ، وأحاديث المصطفى عليه أتمّ الصلاة والتسليم ، ثلاثة قراءات ، قراءة بحث وإيمان بالكون ، قراءة شكر وعرفان بالنعم ، قراءة وحي والإذعان بالقرآن والسنة .
4 ـ قراءة العدوان و الطغيان :
لكن العالم اليوم يئن من قراءة رابعة ، كم قراءة يوجد ؟ أربعة ، الأولى والثانية والثالثة قراءات رائعة ، واحدة بحث وإيمان ، الثانية شكر وعرفان ، والثالثة وحي وإذعان ، الرابعة قراءة العدوان والطغيان .
* كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى * أَنْ رَآَهُ اسْتَغْنَى * .
( سورة العلق ) .
يتقوى الإنسان ، يحمل شهادات عليا ، يخترع أسلحة فتاكة تدمر البشرية ، تقوى أمة بأسلحتها ، تفرض ثقافتها وإباحيتها على بقية الأمم ، لذلك العلم أحياناً يأخذ مساراً خطيراً جداً .
لكن يا ترى المسلمون بحاجة إلى هذا العلم الرابع ؟ بحاجة :
* وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ * .
( سورة الأنفال الآية : 60 ) .
بحاجة لهذا العلم الرابع لا من أجل العدوان ، بل من أجل الدفاع عن النفس .(1/99)
أنا حدثني أخ جاءنا من الهند ، قال لي : نحن 90 مليون مسلم بالهند ، قال لي : مضطهدون جداً ، تكلم أشياء غريبة جداً عن اضطهاد هؤلاء في الهند ، قال : عندما صنع الباكستان قنبلة نووية اختلفت المعاملة 180 درجة ، صار في دولة تحمل سلاحاً نووياً ونحن في أمس الحاجة إلى سلاح يردع ، والدليل :
* وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ * .
( سورة الأنفال الآية : 60 ) .
كل مشكلات الشرق الأوسط لمنع بلد من تصنيع سلاح نووي ، أليس كذلك ؟ هذه مشكلة ، يريدون السلاح معهم فقط ، ويطغون به العالم .
كذلك كلكم يعلم أن هناك جهاد النفس والهوى ، هذا الجهاد الأساسي ، هذا التعليم الأساسي ، وهناك جهاد دعوي :
* وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَاداً كَبِيراً * .
( سورة الفرقان ) .
وهناك جهاد بنائي * وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ * ، والحقيقة المؤلمة أنهم أعدوا لنا ولم نعد لهم ، لمئتي عام سبقت استفادوا من الاستقرار ، والرخاء الاقتصادي ، وصنعوا ، وتفوقوا ، واخترعوا أسلحة سيطروا بها على العالم ، وبعدها فرضوا علينا ثقافتهم هذه الصحون ثقافتهم ، وإباحيتهم ، وتفلتهم .
لذلك أيها الأخوة ، القضية خطيرة جداً ، لما الله عز وجل يأمرك أن تقرأ :
* اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ * ثم يقول الله عز وجل : * كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى * أَنْ رَآَهُ اسْتَغْنَى * .
الإنسان إذا قوي يستغني عن الله بحمقه ، ويغيب عنه أنه في قبضة الله دائماً هذه الأمم القوية التي استغنت ، فطغت ، وبغت ، من يمثلها ؟ يمثلها قوم عاد ، هؤلاء القوم مثال للأمم الطاغية التي استخدمت القراءة للعدوان والطغيان ، قوم عاد قال الله عنهم إنهم متفوقون في كل المجالات :
* أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ * إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ * الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلَادِ * .
( سورة الفجر ) .
تفوقوا في شتى المجالات ، وتفوقوا في العمران :
* أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آَيَةً تَعْبَثُونَ * وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ * وَإِذَا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ * .
( سورة الشعراء ) .
تفوق حضاري ، بنائي ، عمراني ، تفوق صناعي ، تفوق عسكري ، وتفوق علمي :
* وَكَانُوا مُسْتَبْصِرِينَ * .(1/100)
( سورة العنكبوت ) .
أربع أنواع بالتفوق ، * لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلَادِ * ، ومع التفوق الغطرسة والكبر ، والاستعلاء والدليل :
* وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً * .
( سورة فصلت الآية : 15 ) .
تفوق عمراني ، صناعي ، عسكري ، علمي ، وغطرسة ، * مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً * وهؤلاء القوم دققوا الآن : ما أهلك الله قوم إلا ذكر أنه أهلك من هو أشد منهم قوة ، إلا قوم عاد حينما أهلكهم قال :
* أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً * .
( سورة فصلت الآية : 15 ) .
أي ما كان فوق عاد إلا الله ، ماذا فعلت عاد ؟ قال : طغت في البلاد ، ما قال طغت في بلدها ، طغت في البلاد ، طغيان شمولي .
أحياناً تكون أطماع الدول العظمى لا في بلادها في كل البلاد ، يتدخلون بكل بلد ، يفرضون إرادتهم على كل شعب .
* الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلَادِ * .
( سورة الفجر ) .
بالقصف والأسلحة المدمرة .
* فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ * .
( سورة الفجر ) .
بالأفلام ، الطغيان بالقصف ، والإفساد بالأفلام .
* فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ * إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ * .
( سورة الفجر ) .
بماذا أهلكهم ؟
* بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ * سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُوماً فَتَرَى الْقَوْمَ فِيهَا صَرْعَى كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ * .
( سورة الفجر ) .
وقال :
* وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عَاداً الْأُولَى * .
( سورة النجم ) .(1/101)
ماذا يفهم من كلمة الأولى ؟ * وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عَاداً الْأُولَى * ، يعني في عاد ثانية أنا كنت مرة مسافراً إلى بلاد بعيدة ، فلما سُلت أين كنت ؟ قلت : في عاد الثانية .
أيها الأخوة الكرام ، هناك قراءة بحث وإيمان ، قراءة شكر وعرفان ، قراءة وحي وإذعان ، قراءة عدوان وطغيان ، نحن نحتاج إلى الرابعة لنكون أقوياء ، لنردع ، * تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ * السلاح من أجل ألا نستخدمه ، قد لا نستخدمه أبداً ، ولكن نريد سلاحاً قوياً عندنا هذا يجعل الطرف الآخر يهابنا ، توجيه قرأني .
لذلك المسلمون لن ينتصروا إلا إذا قدموا لله أسباب النصر ، أسباب النصر إيمان بالله يحملك على طاعته ، وإيمان باليوم الآخر ، يردعك أن تؤذي مخلوقاً ، وإعداد العدة المتاحة لا المكافئة ، الدليل : * وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ * .
والله الذي لا إله إلا هو لو طبقنا هذين الشرطين لكنا في حال غير هذا الحال إيمان يحملنا على طاعة الله ، وإعداد يؤهلنا كي ننتصر على أعدائنا .
أيها الأخوة ، العلم قيمة كبيرة جداً :
* هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ * .
( سورة الزمر الآية : 9 ) .
القرآن الكريم اعتمد قيم مرجحة ، الناس فيما بينهم يرجح بعضهم بعضاً بالمال أحياناً ، هذا غني ، أحياناً بالجمال ، وسيم ، أحياناً بمنصب رفيع ، أحياناً بالقوة ، أحياناً بالوجاهة ، أحياناً بالنسب ، اعتمد الناس قيماً عديدة للترجيح فيما بينهم ، لكن الله عز وجل في قرآنه الكريم بين دفتيه ما القيم التي اعتمدها ؟ اعتد قيمة العلم ، وقيمة العمل ، ليس غير .
كان تابعي جليل اسمه الأحنف بن قيس ، تروي الروايات أنه كان قصير القامة ، أسمر اللون ، أحنف الرجل ، مائل ، ضيق الكتفين ، ناتئ الوجنتين ، غائر العينين ، لم يكن شيء سلبي في صفات الإنسان إلا تمثل به ، وكان مع ذلك سيد قومه ، قال : إذا غضب غضبَ لغضبته مئة ألف سيف ، لا يسألونه فيما غضب ، وكان إذا علم أن الماء يفسد مروءته ما شربه ، وكان سيد قومه .
إذاً القرآن اعتمد قيمتين فقط ، قيمة العلم في قوله تعالى : * هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ * ، وقيمة العمل :
* وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا * .
( سورة الأحقاف الآية : 19 ) .
وأية أمة تريد أن تنهض ينبغي أن تعتمد قيمتين اثنتين لا ثالث لهما ، ينبغي أن يحترم من يطلب العلم ، وأن يحترم أيضاً من يعمل .
أيها الأخوة ، قضية العلم قضية واسعة جداً ، ولابدّ من أن نعتمده كطريق لنهضتنا وقوتنا .(1/102)
صلاح الدين الأيوبي حينما واجه أوربا بأكملها واجهها بشباب متعلمين ، فلذلك أمضى سنوات طويلة في تأسيس المدارس ، وفي الصالحية شارع اسمه المدارس هذا من نتائج عمل صلاح الدين الأيوبي .
إذاً الناس اعتمدوا قيماً عديدة للترجيح فيما بينهم ، لكن الله جلّ جلاله في قرآنه الكريم هناك قيمتان للترجيح بين خلقه قيمة العلم ، وقيمة العمل .
ونحن في تربية أولادنا حينما نكرم الابن المتفوق ، حينما نشجعه ، حينما نكافئه ، حينما نسأله ماذا تعلمت اليوم ؟ هناك أسر كثيرة في لقاء يومي بين الأب والأم والأولاد والحديث اللطيف ماذا تعلمت اليوم في المدرسة ؟ ماذا قال لك الأستاذ ؟ كم مادة عندك اليوم ؟ ماذا فهمت بالفيزياء مثلاً ؟ عندما يكون في البيت حوار علمي يغدو العلم ذا قيمة في البيت ، أما حوار يومي في الطعام والشراب ، والأخبار الطريفة والطرف من دون معالجة موضوعات علمية فالطفل ينصرف عن العلم ، وينبغي أن يكرم الطفل إذا تفوق في دراسته ، التشجيع مهم جداً .
أيها الأخوة الكرام ، للموضوع تتمة طبعاً ، التربية العقلية تحتاج إلى جلسات كثيرة كي تنهض هذه الأمة ، ما من طريق إلى التقدم والنهوض إلا بالعلم ، إذا أردت الدنيا فعليك بالعلم ، وإذا أردت الآخرة فعليك بالعلم ، وإذا أردتهما معاً فعليك بالعلم ، والعلم لا يعطيك بعضه إلا إذا أعطيته كلك ، فإذا أعطيته بعضك لم يعطك شيئاً ، ويظل المرء عالماً ما طلب العلم ، فإذا ظنّ أنه قد علم فقد جهل .
آخر كلمة : طالب العلم يؤثر الآخرة على الدنيا فيربحهما معاً ، بينما الجاهل يؤثر الدنيا على الآخرة فيخسرهما معاً .
والحمد لله رب العالمين
===================(1/103)
12- التربية النفسية : عقدة الشعور بالنقص ( 2 )
أيُّها الأخوة المؤمنون ، مع الدرس الثاني عشر من دروس تربية الأولاد في الإسلام ، وقد وصلنا في الدرس الماضي إلى مرضٍ نفسيٍ خطير يصيب الأطفال والأبناء ألا وهو الشعور بالنقص ، وقد بيّنا أنّه من أسباب هذا المرض الخطير التحقير والإهانة من قبل الأب والأمّ الجاهلين ، التحقيرُ و الإهانة من قبل الأب والأم الجاهلين أو الدلال المفرط وله تأثيرٌ لا يقلُّ خطورةً عن التحقير والإهانة .
في الدلال المفرط تضَعّف شخصيّة الصغير ، لا يقوى على مجابهة المجتمع ، يشعر دائماً بالنقص أمام أقرانه ، والمفاضلة بين الأولاد أيضاً من أسباب الشعور بالنقص ، والعاهات الجسديّة التي قدّر الله لحكمةٍ أرادها على هذا الطفل ، أيضاً هذه العاهات تسهم بشكلٍ أو بآخر بهذا المرض ، الشعور بالنقص ، واليتمُ أيضاً من أسباب هذا المرض ، والفقر من أسباب هذا المرض .
تحدّثنا في الدرس السابق عن العنصر الأوّل والثاني وها نحن ننتقل إلى العنصر الثالث .
1 ـ عدم المساواة في العطيّة بين الأولاد :
أيُّها الأخوة الكرام ، ليس من شأن المؤمن أن يظلم ، النبيُّ عليه الصلاة والسلام يقول :
((ساووا بين أولادكم في العطية )).
[ من الجامع الصغير عن ابن عباس ]
وأنا والله اطلعت على عشرات بل بضع عشرات من الحالات في هذا المسجد بالذات من أنَّ الآباء يفاضلون بين الأبناء ، يخصّون ابناً بالعطاء ببيت ، بتزويج ، ويهملون الباقي ، فإيّاك أن تدّعي أنّك تحبُّ رسول الله وأنت تخالف سُنّته ، إيّاك أن تدّعي أنّك تحبُّ الله لأنّ الله سبحانه وتعالى يقول :
* قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (31) *
( سورة آل عمران : آية " 31 " )
علامة حبّك لله عزَّ وجلّ اتّباع النبيّ في سنّته فقد قال عليه الصلاة و السلام :
((ساووا بين أولادكم في العطية )) .
[ من الجامع الصغير عن ابن عباس ]
أي إذا لم تتمكن من شراء بيتٍ لأحد أولادك ، فهذا البيت يكتب باسم الجميع ، ولعدم استطاعتك فاشتريت بيتاً للابن الأكبر ، فهذا البيت ليس ملكه وحده ، بل يسكنه مؤقّتاً لكنّه ملك الباقين بالتساوي ، فالمؤمن لا يحيد ، ولا يحيف ، ولا يُحابي ، ولا يظلم ، ولا يعين الشيطان على أولاده ، عليه أن يعين أولاده على الشيطان ، عن طريق المساواة في العطيّة .
والحديث الذي تعرفونه جميعاً وهو من أُصول الأحاديث :
(( رحم الله والداً أعان ابنه على بره)) .
[ من الجامع الصغير عن علي ](1/104)
أي إذا قلنا : رحم الله ولداً برّ أباه ، فنقول بالتالي : رحم الله والداً أعان ولده على برّه ، بعض الآباء لهم طباعٌ صعبةٌ ، فتجده قاسياً جداً ، أي مثلاً : فتاة مناسبة جدّاً وقد رآها هذا الشاب المؤمن مناسبةً له ، لا ، سوف أغضب عليك إن تزوّجتها ، الزواج ليس لك بل له وقد أعجبته .. أعجبه دينها وأعجبها حفظها لكتاب الله ، لكنّ الأب له طموحٌ آخر ، فهل الزواج لك أم لابنك ؟
هذا الذي يدفع ابنه إلى أن يعصيه يحمل ابنه على أن يخالف أمره ، ويحمل ابنه على أن يحتال في الإجابة ، فليس هذا الأب أباً أعان ولده على برّه ، إنّه أعان الشيطان على ابنه ، بمعنى أنّه قد حمله على أن يكذب أو على أن يحتال ، هذا الحديث : رحم الله والداً أعانه ولده على برّه .
إخواننا الكرام ، دائما توجد أحاديث متقابلة ، أي مثلاً .. السارق سارق ، ولكن هل تصدّقون أنّ الذي يتيح للسارق أن يسرق ليس أقلّ إثماً منه ، فإنّكم لا تصدِّقون هذا الكلام ، فهناك أحاديث بذلك .
فمثلاً المال بأحد الدروج ومفتاحه عليه وموجود بالمحل موظّفٌ ، وعندما وجد الدرج مفتوحاً وفيه رزماً من النقود ، وقد ذهب صاحب العمل للصلاة ، هذا الموظّف قد يكون مستقيماً في الأساس ولكنّك قد أغريته كثيراً ، وأنت قد حملته على أن يأخذ ما ليس له ، أمّا لو كنت قد قفلت الدرج فلا شيء .
فكما أنّه السارق آثم ، وكذلك الذي يعين السارق على السرقة ، الذي يضع المال معرّضاً للسرقة ليس أقلّ إثماً من السارق .
الابن عليه أن يبرّ والده فهذا شيء جميل ، لكن هذا الأب الذي يعدل بين الأولاد ، والذي يرحم أولاده ، الذي يعطي من ماله لأولاده ، الذي يعينهم على الزواج ، يهيّئ لهم .
فقد سمعت البارحة ، إنسان على فراش الموت قالت له ابنته: يا أبتِ .. حرمك الله الجنّة كما حرمتني نعمة الزواج .
كلّما جاءها خاطب يقول عنه ليس مناسباً ، إلى أن أصبحت عانساً ، فانحرمت الأمومة ، فلا أولاد عندها ، وأبوها على فراش الموت ، وتقول له : حرمك الله الجنّة كما حرمتني نعمة الأولاد.
فأيضاً التعنُّت في تزويج البنات ، فأنت مستقر ومرتاح وعندك زوجة وسائر أمورك ميسّرة ، والبنت تتقلّب وأنت تقول كلّما جاءها خاطب : هذا لم يعجبني ، هذا بيته له مدخل مزري ، فما تريد أنت من بيته ؟!! فتجد أسباباً مضحكة وسخيفة جدّاً حينما يتعنّت الآباء في تزويج بناتهم .
على كلٍ هذا الحديث كثير الّدقة :
(( رحم الله والداً أعان ابنه على بره)) .
[ من الجامع الصغير عن علي ](1/105)
بالعدالة ، بالرحمة ، والله يوجد آباء أبطال ، يكون ساكناً بالشام ببيت فخم ويقوم ببيعه ويشتري بيتاً في أطراف المدينة ومساحته مئة مترٍ ، ويأخذ لكل ابنٍ بيتاً ، هذه بطولة .. فالأُبوّة الكاملة يمكن أن تكون سبباً لدخول الجنّة ، الأولاد في ريعان الشباب وشهوتهم مّتقدة ، والطرقات فاسدة ، فلا يوجد أملٌ أن يتزوّج الابن ، فقام ببيع البيت واشترى لكل واحد من أولاده بيتاً في أطراف المدينة وسكن هو معهم ، فهذا بطل .
يوجد آباء أنانيّون ، لا يطلع من بيته ، يسكن في بيتٍ أربعمئة مترٍ هو وأمّ أولاده ، وثمن هذا البيت عشرون مليوناً ببيعه تحل مشكلة خمسة أبناء ، فلا يبيعه ولا بأي شكل أو حال من الأحوال ، فهو مستقر ، ويقول لأولاده : دبّروا أُموركم ، فأنا قد أنشأت نفسي بنفسي ، أنا عصامي . الآن لا يوجد عصامي فهذا في وقته والآن الوقت قد اختلف وقد توسع الهامش جداً فلا يستطيع أحد من الشباب أن يستقل بدون معونة .
وكذلك يوجد آباء أُثني عليهم ، فكما أن هذا ابنه فكذلك هذه ابنته وهو في بحبوحة ، فأمّن بيتاً لابنه كذلك يؤَمّن لابنته ، وإذا وجد شاباً مؤمناً راقياً يقول له : هذه ابنتي ومعها بيتٌ . فتجد لابنتك أحسن شاب ، أمّا غير مستعد أن يعطي شيئاً للغريب ، وحتّى لو قلت له : سجّله باسم ابنتك وبذلك تحل مشكلة هذه البنت وهذا الشّاب .. فإذا لم يعرف الإنسان الله يصبح أنانياً ، حريصاً وبخيلاً ، وشرُّ الناس من عاش فقيراً ليموت غنيّاً ، وأندمُ الناسُ رجلٌ دخل ورثته الجنّة بماله ، ودخل هو النار بماله .
فالحديث أيُّها الأخوة والله لا أشبع من تكراره :
(( رحم الله والداً أعان ابنه على بره))
[ من الجامع الصغير عن علي ]
((ساووا بين أولادكم في العطية ))
[ من الجامع الصغير عن ابن عباس ]
القصّة التي قرأتها عليكم في الدرس الماضي لمّا قال النعمان بن البشير: يا رسول الله .. إنّي نحلت ابني هذا ، (أعطيته بستاناً) ، فقال عليه الصلاة والسلام : أَكُلّ ولدِك نحلته مثل هذا ؟ قال : لا . قال : فأرجعه . وفي رواية : أفعلت هذا لأولادك جميعهم ؟ قال : لا . قال : عليه الصلاة والسلام : اتقوا الله واعدلوا بين أولادكم .. يا بشير ألك ولدٌ سوى هذا ؟ قال : نعم . قال : أكلُّهم وهبت لهم مثل هذا ؟ قال : لا . قال : فلا تشهدني ، فإنّي لا أشهد على جور ... ثمّ قال النبيُّ عليه الصلاة والسلام : أيَسُرُّك أن يكونوا لك في البرِّ سواء ؟ قال : بلى . قال : إذاً فلا تعطِ أحداً منهم دون الآخر .(1/106)
وقد ذكرت لكم في الدرس الماضي أنّ النبي عليه الصلاة والسلام كان عنده رجل ، فجاء ابن هذا الرجل فقبّله وأجلسه على فخذه وجاءت ابنته فأجلسها بين يديه . فقال عليه الصلاة والسلام : ألا سوّيت بينهما في القبلة .
أيُّها الأخوة ... والحديث الذي أختم به هذه الفقرة من الدرس : اتقوا الله واعدلوا بين أولادكم .
في كلّ شيء ، لا تعطِ ابناً أزيد من ابن ولو لم يكونوا في البرِّ سواء ، أنت إن عدلت بينهم أعنت الضعيف منهم ، أعنت البعيد منهم على برِّك ، أمّا إذا فرّقت في العطيّة بينهم أعنت البعيد بعداً على أن يزداد بعداً ، وحملته على أن يتمنّى شيئاً لا ترضاه أنت .
2ـ العاهات :
الآن .. يوجد كثير من البيوت فيها أطفال ، وهذا الطفل قد يكون محدود الإمكانيّات وأقل من أخوته ، أو لديه عاهةٌ أو ضعفٌ في التفكير ، أو دمامةٌ في الخلقة ، فهل هو الذي صنع نفسه ، أو خلق نفسه ؟ هنا تظهر الرحمة ، فالأب المؤمن الرحيم لا يميّز بين ذكيٍّ وغبي ، ولا بين وسيمٍ ودميم ، ولا بين صحيحٍ وذي عاهة أبداً ، في المعاملة ، في الابتسام ، في العناية ، في الترتيب ، في الاهتمام .
وبالطبع الإنسان بشرٌ ، ويحبُّ الأكمل ، ويحبُّ الأجمل ، والأذكى ، ويحبّ أكثرهم لباقة وهذا شيء طبيعيّ ، ولكن أين البطولة ؟؟ لو أنّ الإنسان قد انساق مع هوى نفسه وقرّب الأكثر وسامةً أو الأكثر ذكاءً فقد أبعد ذاك ، أمّا المؤمن الصادق لا يستجيب لهوى نفسه فيبذل عنايته التّامة بالأقل ، بالأقل وسامة ، بالأقل ذكاء ، بالأقل سلامة ، حتّى يرضى الله عنه .
لا تنسوا أيُّها الأخوة كلمة : الراحمون يرحمهم الله ، يوجد شخصٌ قد تبنّى طفلاً ليس له أب ولا أم وكان به تشوُّهٌ خلقي ، فأجرى له سبع عشرة عمليّةً جراحيّة إلى أن استطاع أن يمشي هذا الطفل ، وعندما آن الأوان أن يغادر إلى أقرباء له ، فأبى هذا الطفل أن يغادر حتّى يودّع هذا الإنسان الذي قد تبنّاه وأكرمه ، وعندما وجده أعطاه قطعةً من المسكة تعبيراً له عن شكره . طفل صغير أجريت له عدّة عمليّات ليبرأ من عاهات خلقيّة حتى استطاع أن يمشي فأبى أن يغادر قبل أن يودّع سيّد نعمته ، فلمّا رآه أقبل عليه من شدّة محبّته له تعثّر فوقع ، ثمّ وقف وأعطى هذا الإنسان قطعة مسكة تعبيراً عن مودّته ، وقد قال لي هذا الرجل : والله هذه القطعة من المسكة لا أبيعها ببناية .
القيم الإنسانيّة عندما تضعف تصبح الحياة موحشة لا معنى لها ، فعندما يكون الإنسان محسناً فيصبح أسعد الناس ، إذا أردْت أن تسعد فأسعد الآخرين ، فهنا النقطة الهامّة ، فالطفل الجميل محبوبٌ كثيراً ، الطفل الجميل ، الذكي ، و أنت أين بطولتك ؟ البطولة أن تعتني بالأقل ذكاء ، وبالأقل وسامة تكون عنايتك ولو كان عنده عاهة ، فهنا وفي هذه المواقف تكون البطولة العظيمة .. عناية واهتمام ، والمؤمن يصبر ، فالذي يرقى بك إلى الجنّة لا أن تعتني بالجميل والوسيم والذكي ، لا .. فقد سمعت(1/107)
كلمة من رجل أُجلُّه وقد توفّي رحمه الله قال لي : الجيّد لا يريدك ، الجيّد لنفسه ، المؤمن أين بطولته ؟ بطولته تظهر مع الأشخاص السيّئين ، بالرحمة وبالعناية وبالاهتمام .
إذاً يقول عليه الصلاة والسلام :
(( الراحمون يرحمهم الله ، الراحمون يرحمهم الرحمن ، ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء ))
[ ورد في الأثر]
ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء :
(( لا يؤمن أحدكم حتّى يُحبَّ لأخيه ما يحِبَّ لنفسه ))
[ أخرجه البخاري ومسلم عن أنس ]
(( أكمل المؤمنين إيماناً أحسنهم خُلُقاً .))
[ من الدر المنثور عن السيدة عائشة ]
أحياناً الإنسان يكون أمامه طفل فيه عاهة ، فلو ناداه بهذه العاهة ، فيا لطيف ، قال عليه الصلاة والسلام :
(( إنّ الرجل ليتكلّمَ بالكلمة لا يلقي لها بالاً ، يهوي بها في جهنّم سبعين خريفاً ))
[ الترمذي عن أبي هريرة ]
وإنَّ العبد ليتكلَّم بالكلمة ما يتبيّنُ ما فيها يزِلُّ إلى النار أبعد ما بين المشرق والمغرب ، وعندما قالت السيّدة عائشة عن أختها ، عن ضرّتها صفيّة : إنّها قصيرة . قال :
(( يا عائشة لقد قلت كلمةً لو مُزجت في مياه البحر لأفسدته. ))
[ أبو داود ]
فأين نحن نعيش ؟ تجد إذا عند الزيارات النسائيّة يقمن بتفنيد إحدى النساء تفنيداً بشعاً ، يكشفن ما خفى من العيوب ، ويتكلّمن بها ، ويفصّلنها أمام الرجال ، أمام زوجها وأمام أولادها ، هكذا طولها ، وهكذا عرضها ، و هكذا لونها ، وعندها حول قليل في عينها ، وعندها ... أين تمشين أنت ؟ قالت السيّدة عائشة فقط عن ضرّتها : قصيرة . قال : يا عائشة .. لقد قلت كلمة لو مزجت بمياه البحر لأفسدته .
على الإنسان أن يمسك لسانه ، فالإيمان شيء عظيم ، والمؤمن إنسان كامل ، أكثر شيء ضابط لسانه ، فلا يتكلّم بكلمةٍ خلافاً للشرع ، ولا يتأذّى من أحد إطلاقاً ، رحمته تسع كلّ الناس ، يوجد أشخاص يحبّون الذكي و يحبون الجريء ، أمّا الآخر فيكيل له الإهانات والإعراض والتهكُّم والسخرية ، فهذا الشخص وحشٌ .. أمّا المؤمن فغير ذلك .
أحياناً معلّمون إذا سأله أحد طلاّبه سؤالاً سخيفاً قليلاً فيقوم المعلّم بإهانته وبهدلته وغير ذلك من التسخيف ، فبالتالي لن يسألك أحدٌ من الطلاب بعد الآن أيّ سؤال فقد حطّمت الطلاب تحطيماً ،(1/108)
وبعد ذلك إن كان عند أحدهم سؤال وجيه فسيخاف ولن يسألك ، فيظلَّ الجاهل جاهلاً ، فأين بطولتك ؟ بطولة المعلّم أن يجيب على السؤال السخيف بكلّ اهتمام ، وإذا الطلاب ابتسموا.. فيقول لهم : معه الحق في أن يسأل ، فمفتاح العلم السؤال ، ليس العار أن تكون جاهلاً ، العار أن تبقى جاهلاً ، ارفع معنويّاته ، ولو كان سؤاله سخيفاً ، يظهر بذلك فضل المؤمن.. فالنفس الإنسانيّة كثيرة الحساسيّة والدّقة .
إنّ العبد ليتكلّم بالكلمة ما يتبيّن ما فيها يزَلُّ إلى النار أبعد ما بين المشرق والمغرب ، كما أنّه عندما يقع الإنسان بمصيبة تجد كثيراً من الأشخاص يتكلّمون بكلام أقسى من الصخر ، نصحتك ولم تنتصح ، كلمات في منتهى القسوة ، منتهى العنجهيّة .
النبيّ الكريم قال :
(( لا تظهر الشماتة لأخيك ، فيرحمه الله ويبتليك.))
[أخرجه الترمذي عن واثلة بن الأسقع ]
إيّاك ، فأحياناً الإنسان يغلط ويدفع لذلك ثمن خطئه ، فيجب عليك أنت أن تحتويَه ، أن ترحمه . فمثلاً : سيّدنا حنظلة جلس في الطريق يبكي ، فمرّ سيّدنا الصدّيق وسيدنا الصديق سيّد الصحابة وأعلاهم ، قال له: ما لك يا حنظلة تبكي ؟ فقال : نافق حنظلة (أي أنا منافق) فقال له: لمَ يا أخي ؟! فقال له : نكون مع رسول الله ونحن والجنّة كهاتين (أي نعيش معه بأحوال جميلة جدّاً) فإذا غادرنا إلى البيوت ننسى (هذه الأحوال) ، فقال له : أنا كذلك يا أخي فما هذا التواضع ؟ . فإذا شكا أحد الأشخاص لك زوجته ، فنقول له : لا .. الحمد لله أنا زوجتي ملاك . ، فلا يجوز هذا الكلام هذا الكلام ليس له طعم ، فقولك له : والله لا يوجد أحد مرتاحاً .. فبذلك تخفف عنه ، وإن كان عنده ولدٌ سيئ ، فيقول له : أنا ابني ما شاء الله ، الأوّل ، ملاك ، من السماء منزَّل. فهذا الكلام فيه وقاحة .
فإن كان عنده ابن سيّئ فخفف عنه قليلاً بلواه وقل له هذه بلوى عامّة ، وثلاثة أرباع الناس هكذا .. الطريق صعبةٌ والأصدقاء والرفقاء كذلك حتّى يشعر بالأنس فالله كان يؤانس رسول الله ويذكر له عن الأنبياء السابقين وكيف كُذِّبوا ولم يُصدَّقوا وأُوذوا حتى يرتاح.
إذاً لا تظهر الشماتة بأخيك فيرحمه الله ويبتليك ، وكلّكم تعرفون الآية الكريمة :
* يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَومٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلَا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ وَلَا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (11) *
( سورة الحجرات : آية " 11 " )(1/109)
والله أيُّها الأخوة ، قد يكون إنسانٌ بأعلى مرتبة ، وقد يكون الحاجب المعيّن لديه أرقى منه عند الله ! فأنت لا تعرف ، فقد يكون الحاجب المعين عندك أنت في أعلى مرتبة وهو في أدنى مرتبة !هذا في هذه الدنيا ، لكن عند الله توجد مقاييس أُخرى .
3 ـ اليتم :
أمّا إذا كان الطفل يتيماً فهو كذلك يشعر بالنقص لذلك قال عليه الصلاة والسلام : أنا وكافل اليتيم كهاتين .
(( أوَّل من يمسك بحلق الجنّة أنا ، فإذا امرأةٌ تنازعني تريد أن تدخُل الجنّة قبلي ، قلت من هذه يا جبريل ؟ قال : هي امرأةٌ مات زوجها وترك لها أولاداً فأبت الزواج من أجلهم ))
[ ورد في الأثر]
كم هذا اليتيم غالٍ على الله عزَّ وجلَّ ، فهذه المرأة الشّابة وعمرها مثلاً ثلاثٌ وعشرون سنة وقد حرمت نفسها حظَّ الزواج إلى ما شاء الله من أجل تربية أولادها . لذلك قال تعالى :
* فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ (9) *
( سورة الضحى : آية " 9 " )
ويقول عليه الصلاة والسلام :
(( أنا وكافل اليتيم في الجنّة ))
[ رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ عن أبي هريرة]
وفيما رواه الإمام أحمد وابن حبّان أنّه قال :
(( من وضع يده على رأس يتيمٍ ترحماً كانت له بكُلِّ شعرةٍ تمر عليها يده حسنة ))
[رواه الإمام أحمد وابن حبّان ]
تجد اليتيم مقهوراً ، فالأب عز ، فاليتيم ليس له أب والأخ غير الأب فمن عنده يتيم فليرعه وله حق يربيه وهذا هو المناسب ، سأل أحدهم النبي عن يتيم يربيه في بيته : أفَأضربه ؟ قال : نعم ، مما تضرب منه ولدك.
فإذا كان عندك هذا المقياس الدقيق ، لو أنَّ ابنك وهو فلذة كبدك فعل ذنباً ورأيت من الحكمة أن تضربه لك أن تضرب اليتيم ، لكن كما لو أنّه ابنك .
(( اللهم إنّي أُحرِّج حقَّ الضعيفين اليتيم والمرأة .))
[رواه أحمد عن أبي هريرة ]
أي أنّ أموال اليتامى ينبغي أن يحافظ عليها ، المرأة واليتيم ، يروى أنّ النبيّ عليه الصلاة والسلام رأى طفلاً يتيماً يبكي بأحد الأعياد ، فقال له : أما ترضى أن أكون لك أباً وأن تكون عائشة لك أُماً ؟ ففرح هذا اليتيم وصار يتباهى بهذا النسب الجديد .(1/110)
4 ـ الفقر :
الحقيقة موضوع الفقر أيضاً يسبب الشعور بالنقص وكما تعلمون أيُّها الأخوة عندما قال ربّنا عزَّ وجلَّ :
* خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (103) *
( سورة التوبة : آية " 103 " )
التطهير في الزكاة : فقد يطهر الفقير بالزكاة من الحقد ، لأن الحرمان يسبب حقداً ، وإذا أردتم تأكيداً لهذا المعنى ، فيمكن ما من عمل عنيف في العالم إلا وراءه الإحساس بالحرمان ، ممكن أن ترجع أكثر أعمال العنف في العالم إلى أنّ فئةً محرومةً من كلّ شيء ، لا تخسر شيئاً إذا فعلت أيّ شيء ، لذلك تفعل أيّ شيء ، وهذه قاعدة ، فإذا أردْت أن تطهر المجتمع من الحقد والضغينة وأعمال العنف ، أعطِ كُلّ ذي حقٍ حقّه ، فإذا فرضنا شخصاً دينه قليل ولكنّه منصف ، هذا ينصره الله على إنسان ينتمي إلى الدين انتماءً أشدّ ولكنّه غير منصف.
لن نذهب بعيداً ، فلو فرضنا محلاً تجارياً وصاحبه غير مسلمٍ ويعطي موظّفيه حقوقهم الكاملة ، ومحلاً ثانياً صاحبه مسلم وهو في بحبوحة كبيرة يعطي موظفيه أقلّ دخلٍ ممكن ، فيجوز أن تجد أنّ صاحب المحل غير المسلم الذي يعطي من حوله حقوقهم الكاملة أن الله يوفقه أكثر من الآخر المسلم .
حتّى قال أحد العلماء ذات مرة : إنّ الله ينصر الدولة الكافرة العادلة على الدولة المسلمة الظالمة .
الأساس أن يكون العدل موجوداً ، فلذلك الفقير عندما تدفع له الزكاة تطهّره من الحقد ، هذا هو التطهير ، والتزكية : النماء ، كيف ينمو الفقير ؟ حينما يشعر أنّ المجتمع لم ينسه ، حينما يشعر أنّ المجتمع مهتمٌ به ، فيحسّ بقيمته .
فلو فرضنا في أيّام العيد وطرق محسنٌ على باب الفقير وقدم له من الحلويّات واللحم والفواكه والألبسة ، فماذا يشعر هذا الفقير ؟ يشعر بعظم المجتمع المسلم ، وأن لم ينسه أحد ، والجماعة قد تذكّرتني ، فيحبّهم .
فالغنيّ دائماً بين أن يعيش بين محبّين إذا كان كريماً ، وبين أن يعيش بين أعداء إذا كان بخيلاً ، لأنّك إذا أكرمت من حولك أصبحوا لك حرساً ، وإذا بخلت عليهم أصبحوا لصوصاً ، بين أن يكون حارساً لك وبين أن يكون لصّاً تخافه ، البخل يقلب من حولك إلى لصوص ، والكرم يقلب من حولك إلى حرّاس .
وبعد ذلك أيُّها الأخوة فهذا الحديث الشريف يمكننا أن نتكلّم حوله درساً بكامله .. نفى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الإيمان كلِّيّاً :
(( ما آمن بي من بات شبعان وجاره جائعٌ إلى جنبه وهو يعلم به ))(1/111)
[روى البزّار والطبراني عن أنس ]
فمن تطبيقاتنا العمليّة لا أحد منا ليس له أبناء في المدرسة ، فإذا كان أحد منا في بحبوحة فليس له الحق في أن يعطي ابنه شيئاً ليس في متناول عامّة الأطفال .. طفلةٌ عمرها ستّ سنوات ذهبت إلى رحلة مع المدرسة للغوطة وأعطاها أبوها ألف ليرة ست سنوات بالابتدائي تعطيها ألف ليرة ، وهي في الصّف الأوّل وقامت بصرفها وتوزيعها توزيعاً ، فماذا تشعر زميلتها التي أعطاها أبوها خمساً وعشرين ليرة زائدين على أكلها وكلّ شيء معها ؟؟ فالبذخ الزائد على الأطفال ماذا يسبب ؟؟ يسبب الشعور بالفقر والحرمان من زملائهم .
عندك من الفواكه فأعطِها الفاكهة المألوفة ، تفّاحة صغيرة مثل سائر الناس ، فلو أعطيتها موزة !! فالموز الآن غالي السعر ، وكذلك يوجد بعض الحلوى الأجنبيّة وثمنها أكثر من أربعين ليرة أو خمسين ليرة فأعطها شيئاً بخمس ليرات مثلها مثل رفيقاتها ، وإذا أحببت أن تطعمها شيئاً ثميناً فأطعمها ذلك بالبيت .. والحديث معروف :
(( ولا يخرج بها ولدك ليغيظ بها ولده ، ولا تؤذه بقتار قدرك إلا أن تغرف له منها)) .
[ من تخريج أحاديث الإحياء عن عمرو بن شعيب ]
أيضاً حتّى لا يشعر الطالب أو الطفل بالمدرسة بالحرمان والفقر ، فلا ينبغي للموسرين أن يعطوا أبناءهم ما يميِّزهم عن بقيّة الأطفال .
توجد نقطةٌ ثانية مهمّة وهي في الحديث الشريف :
(( كاد الفقر أن يكون كُفراً ))
[رواه أحمدٌ والبيهقي عن علي]
أي أنّه إذا افتقرت أسرة فالذي أفقرها له عند الله حساب كبير ، أحياناً إنسان يتعنّت تعنُّتاً أو يعمل عملاً فيتسبب في فقر أُسرة ، كأن يصرف شخصاً من عمله هكذا لكي يغيظه ، ويصبح هذا الإنسان بلا عمل وهذه مشكلة ، فكاد الفقر أن يكون كفراً ، وكان عليه الصلاة والسلام يتعوّذ فيقول :
(( اللهمّ إنّي أعوذ بك من الكفر والفقر))
[ أخرجه أحمد عن مسلم بن أبي بكرة]
الكفر ، والفقر ، لكن الله عزَّ وجلَّ طيّب قلوب الفقراء بقول النبي صلى الله عليه وسلم :
(( إنّ الله لا ينظر إلى صوركم وأموالكم ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم))
[ أخرجه البخاري عن أبي هريرة]
أي أنّ أبسط لباس ، وأصغر بيت ، وأقلّ أثاث ، هذا عند الله ليس في الحساب إطلاقاً ، الحساب عند الله بالقلب الطاهر ، القلب السليم ، والنيّة الطيّبة ، إنّ الله لا ينظر لصوركم وأجسادكم ، ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم .(1/112)
الآن نروي حديثاً لسيّدنا الصدّيق له مغزى كبير ، روى الإمام مسلم أنَّ أبا سفيان أتى إلى سلمان الفارسي وصهيب وبلال الحبشي في نفر ، فقالوا : ما أخذت سيوف الله من عنق عدوِّ الله مأخذها . فقال أبو بكر : أتقولون هذا لشيخ قريشٍ وسيّدهم !! فأتى النبيّ صلّى الله عليه وسلّم فأخبره . فقال : يا أبا بكر لعلّك أغضبتهم ، لئن كنت أغضبتهم لقد أغضبت ربّك . فأتاهم سيّدنا الصدّيق فقال : يا إخوتي أغضبتكم ؟ قالوا: لا .. يغفر الله لك يا أخي .
سلمان الفارسي ، وصهيب الرومي ، وبلال الحبشي فقالوا : ما أخذت سيوف الله من عدوِّ الله مأخذها .. وأبو سفيان سيّد قريش وزعيم مكّة ، وهؤلاء يقولون عنه ما قالوا ، فسيِّدنا الصدّيق ما رأى في هذا القول حكمةً ، فقد فتحت مكّة وانتهى الأمر وأسلم أبو سفيان، وقال النبي : من دخل دار أبي سفيان فهو آمن ، وهؤلاء ذكّروه بعداوته القديمة فلم يرض الصديق أن يقولوا هذا عنه ، فقال لهم : أتقولون هذا لشيخ قريشٍ وسيّدهم !! كأنّه عنّفهم .. وقد استنبط العلماء من هذا الحديث : أنّ الفقير له عند الله شأن كبير .
إذا أغضبت فقيراً فكأنّما أغضبت ربّك ، فالله قد أفقره لحكمةٍ يريدها ولو شاء لجعله غنيّاً.. مرّة أحد إخواننا الكرام محسن وتبرّع ببيت بكامله ويبلغ ثمنه ستة أو سبعة ملايين لجمعيّة خيريّة وأُقيم له حفل تكريم على هذه المبادرة الطيّبة ، وقام أحد إخواننا الكرام بإلقاء كلمةٍ فاجأ بها الحضور ، قال في كلمته لهذا المحسن : أُشكر الله عزَّ وجلَّ أن جعلك غنيّاً وقدّمت هذا البيت ، والله سبحانه وتعالى قادرٌ على أن يجعلك أحد المنتفعين من جمعيَّتنا.
ممكن أن يحدث ذلك ، فالغني لا يقول أنا غنيّ فيوجد من هو أذكى منك وهو فقير ، فتركت هذه الكلمة في نفسه أثراً بالغاً ، فالغني الله أغناه والفقير على ذكائه قد يكون الفقر له حكمة ، فليس للغني الحق بأن يفتخر بغناه ، ولا الفقير يشعر بأنّه أقلّ من غيره لا فقد قال تعالى :
* فَأَمَّا الْإِنْسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ (15) وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ (16) كَلَّا بَل لَا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ *
( سورة الفجر )
كلا : ليس عطائي إكراماً ولا منعي حرماناً ، عطائي ابتلاء وحرماني دواء ، قال له : يا أبا بكر لعلّك أغضبتهم ، لئن كنت أغضبتهم لقد أغضبت ربّك . فأتاهم سيّدنا الصدّيق فقال : يا إخوتي أأغضبتكم ؟ قالوا: لا يغفر الله لك يا أخي . فاستأذنهم حتى لا يكون أغضبهم كذلك ، كلمة تكلّمها .. فانظروا كم لهؤلاء الفقراء عند النبيّ شأنٌ كبير .
لذلك قال العلماء لو كان هناك دعوة والمدعو لها عشرون شخصاً ، والموعد الساعة الثالثة ، وفي الثالثة والنصف أحد المدعوّين لم يأتِ ، يا ترى أنأكل أم ننتظره ، فماذا نفعل ؟ وما الحكم الشرعي ؟ وهذا يحدث مع كلّ الناس فما العمل ؟ نأكل أم ننتظر ؟(1/113)
والعلماء قالوا : الحكم الشرعي هو : إذا كان هذا المتأخّر فقيراً ينبغي أن ننتظره ، أمّا إذا كان غنياً فنأكل ولا ننتظر .
فإذا كان فقيراً وأكلنا قبله فسيشعر بنقص ، ويُجرح ، أمّا إذا كان شخصاً من مستوى الحضور يقولون له : فلماذا تأخّرت يا أخي فنحن أكلنا . وهذا هو الحكم الشرعي أورده الإمام الغزالي ، إذا كان المتأخّر فقيراً ينبغي أن ننتظره جبراً له.
والله عزَّ وجلَّ كما قال في كتابه العزيز :
* إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاِبْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (60) *
( سورة التوبة)
(( إن الله فرض على أغنياء المسلمين في أموالهم بالقدر الذي يسع فقراءهم ، ولن يجهد الفقراء إذا جاعوا إلا بما يصنع أغنياؤهم ، ألا وإن الله يحاسبهم حساباً شديدا ، ويعذبهم عذاباً أليما ))
[ من الدر المنثور عن علي ]
الله يسامح الناس في بعض البلاد ، يصنعون وليمة تكلّف مئة ألف ، لأمير مثلاً ، جمل مكتّف سنّه صغير - قاعود - وهذه أفخر الأكلات ، فيأكل الأمير منه أوقيّة من اللحم والباقي يلقى في المزابل ، والله سبحانه وتعالى كبير فقد قال الرسول عليه الصلاة والسلام : يا عائشة أكرمي جوار نعم الله ، فإنّ النعمة إذا نفرت قلّما تعود .
مرّةٍ حضرت عقد قران ومعه عشاء ، والعشاء لا أعتقد أن يكون قد أُكل منه خُمسَه ، وتكلّف كلّ مدعوٍ ألف ليرة وعدد المعزومين ثمانمئة شخصٍ ، وقال لي أحدهم : والله دفع ثمناً للعشاء مليوناً من الليرات بالتمام والكمال . فسألت : ما مصير هذا الطعام بعد أن انصرف المدعوّون ، وقد لاحظت أنه لا أحد أكل منه سوى الخمس بل أقل ؟ فقال صاحب الدعوة : والله ما ضاعت حبّة رزّ ، كل هذا الطعام أُخذ إلى ميتم ووضع في أكياس من البلاستيك في البرّادات ، وأكله هؤلاء الأيتام على فترة أسبوع أو عشرة أيّام ، لم تضع لقمة سُدى . فوالله قد سررت بذلك ، كما أنّ صاحب هذا الحفل جمع نفقات الحفل ودفع مثلها لتزويج الشباب غير القادرين ففي اليوم الثاني دفع مليون ليرة لتزويج بضعة شباب مقابلها .
فهذا شيء جميل وقد اطمأننت ، فالطعام إذا أُهمل ووضع في المهملات ، فهذه نعمةٌ كبيرةٌ جدّاً فالمؤمن لا يضيّع حبّةً من الأرز ، ولا يضيّع قطعة من الخبز ولو صغيرةً ، واضعاً كلَّ شيء بمحلّه ، فأعرف إخواناً كراماً يضعون الأكل الزائد فوق الأسطحة لتأكله الطيور بعض الفُتات والأكلات التي لا تُؤكل معه ولا يلقيها في سلّة المهملات ، بل يضعها على شرفة أو سطح فتأتي الطيور وتأكلها كلّها .(1/114)
إذاً إنَّ الله فرض على أغنياء المسلمين في أموالهم بالقدر الذي يسع فقراءهم ولن يجهد الفقراء إذا جاعوا ، إلا بما يصنع أغنياؤهم ، ألا وإنَّ الله يحاسبهم حساباً شديداً ويعذّبهم عذاباً أليماً.
الحديث الشريف :
(( أفضل الأعمال إدخالُ السرور على المؤمن ، كسوت عورته ، أو أشبعت جوعته ، أو قضيت له حاجته ))
[رواه الطبرانُّي في الأوسط عن عمر رضي الله عنه]
والنبيُّ عليه الصلاة والسلام يقول :
(( من كان عنده طعام اثنين فليذهب بثلاثة ومن كان عنده طعام أربعة فليذهب بخامسٍ ، بسادس))
[ أخرجه البخاري عن عبد الرحمن بن أبي بكر]
وتوجد بعض الأُسر الأب يأكل وحده ، وكذلك الابن ، والبنت ، فالساعة الثانية يُعدّون الطعام لأحدهم والثالثة يعدّونه للآخر وهكذا فتذهب البركة بالتالي ، أمّا إذا وضع الطعام واجتمعوا جميعاً حوله لكفاهم هذا الطعام .
استمعوا لهذه القصّة أيُّها الأخوة فهي من أدقّ القصص ، و والله تعدُّ هذه القصّة أحد المفاصل الأساسيّة في السُنّة وهي تعلّم أشياء كثيرة ، أوردها أبو داود والنسائي والترمذي ، قال: جاء رجل من الأنصار النبيّ صلّى الله عليه وسلّم يسأله عطاءً (يريد المساعدة) فقال له النبيُّ عليه الصلاة والسلام : أما في بيتك شيء ؟ قال : بلى .. يا رسول الله ، حلسٌ نلبس بعضه ونبسُطُ بعضه (أي قماش) ، وقعبٌ نشرب فيه الماء . قال : ائتني بهما . فأتاه بهما . فأخذهما عليه الصلاة والسلام وقال : من يشتري منّي هذين ؟ قال رجل : أنا آخُذُهما بدرهم . فقال عليه الصلاة والسلام : من يزيد على درهم ؟ - بالمزايدة - قال رجل : أنا آخُذهما بدرهمين . فأعطاهما إيّاه وأخذ الدرهمين وأعطاهما للأنصاري وقال : اشترِ بأحدهما طعاماً فانبذه إلى أهلك ، واشترِ بالآخر قُدّوماً و ائتني به . فأتاه به .. فشدّ فيه النبيُّ عليه الصلاة والسلام بيده الشريفة عوداً بيده (عمل النبي الكريم له يداً) وقال : اذهب واحتطب وبع ولا أرينّك خمسة عشَر يوماً . فجاء وقد أصاب عشرة دراهم فاشترى ببعضها طعاماً فقال عليه الصلاة والسلام : هذا خيرٌ لك من أن تجيء والمسألة نكتةٌ في وجهك يوم القيامة .
باع له الحلس وباع له القعب بدرهمين وقال له : ادفع لأهلك بدرهم طعاماً واشترِ بالآخر قدوماً ، وشدّ النبيُّ عليه الصلاة والسلام بيده الشريفة عليه عوداً ، وأعطى هذا الأنصاري القدّوم وقال احتطب به ولا أرينّك خمسة عشر يوماً ففعل .
رأيت مرّة أحد الأشخاص يسأل .. وهو شابٌ وقال : ليس عندي محلٌ ، فقلت له : ألا تستطيع أن تشتري كيساً من الفول وتبيعه على الرصيف . قال لي : بلى . فقلت له : اذهب و أحضر كيساً من(1/115)
الفول ، جعلته تاجراً ونمت معه الأمور . كيس من الفول اشتره وبعه ، الإنسان حينما يريد أن يعمل فالله ييسر له ، حينما يريد أن يحفظ ماء وجهه فالله ييسر له ، والله هو الكريم ، اجعل عطاءك من الله مباشرةً .
لا تسألنّ بُنيّ آدم حاجةً وسل الذي أبوابه لا تغلقُ
الله يغضب إن تركت سؤاله وبُنَيَّ آدم حين يُسأل يغضبُ
***
باع القعب والحلس واشترى طعاماً لأهلة وبالدرهم الآخر قدّوماً وذهب يحتطب وباع ما احتطبه وقال له الرسول : ولا أرينّك خمسة عشر يوماً . وبعدها جاء بعشرة دراهم ، وقال له هذا خيرٌ لك من أن تجيء والمسألة نكتةٌ في وجهك يوم القيامة .
سيّدنا عمر أعطى لكُلّ مولود تعويضاً عائليّاً .. وكلّكم تعرفون القصّة .. عندما حرس قافلةً مع سيّدنا عبد الرحمن بن عوف ، وطفلٌ وبكى ، فذهب لأُمّه وقال : أرضعيه . ثمّ بكى ، فقال : أرضعيه . وفي المرّة الثالثة بكى ، قال : يا أمة السوء .. أصلحي شأن ابنك . فقالت له : لقد أضجرتني - ماذا تريد منّي - إنني أفطمه . فقال : ولمَ ؟ قالت : لأنّ عمر لا يعطينا العطاء إلا بعد الفطام . فسيّدنا عمر يقال إنّه ضرب نفسه ، ضرب جبهته وقال : ويحك يا بن الخطّاب كم قتلت من أطفال المسلمين . وأصدر أمراً أن يكون العطاء منذ الولادة وليس مع الفطام ، وقف يصلّي ، من شدّة بكائه ما سمع أصحابه صوته في الصلاة .
ما فهموا قراءته في الصلاة ، وكان يقول : يا ربّ هل قبلت توبتي فأُهنّئ نفسي ، أم رددتها فأُعزّيها .
يروي محمّد بن إسحاق أنّ أُناساً من المدينة يعيشون ولا يدرون من أين يعيشون ومن يعطيهم .. يطرق الباب فيجدون من الخيرات ، والأرز ، واللحم ، ولم يعرفوا من الذي يأتي لهم بالطعام . فلمّا مات زين العابدين بن الحسين فقدوا ذلك فعرفوا أنّه هو الذي كان يأتيهم بالليل بما يأتيهم به .
الليث بن سعد كان ذا غلّةٍ سنويّةٍ تزيد عن سبعين ألف دينار ، يتصدّق بها كُلّها حتى قالوا : إنه لم تجب عليه الزكاة ، واشترى مرّةً داراً بيعت بالمزاد ، فذهب وكيله يتسلّمها فإذا فيها أيتام وأطفال صغار ، سألوه أن يترك لهم الدار ، فلمّا بلغ ذلك الليث أرسل إليهم : أنّ الدار لكم ، ومعها ما يصلحكم كُلّ يوم .
بذل المال عمل عظيم ، الإنسان المحتاج مجروح ، فإذا بذلت له المال رفعت من شأنه ، وحببته بربه ، وجعلته يثق بهذا المجتمع المسلم ، وإذا أهملته ، يكفر بهذا المجتمع .
ويروى أنّ عبد الله بن المبارك الإمام الكبير المحدّثَ كان كثير الصدقات ، كانت تبلغ صدقاته في السّنة أكثر من مئة ألف دينار ، خرج مرّةً إلى الحجّ مع أصحابه ، فاجتاز ببعض البلاد ، فمات طائرٌ معهم ، فأمر بإلقائه على مزبلةٍ هناك ، وسار أصحابه أمامه وتخلّف هو وراءهم ، فلمّا مرّ بالمزبلة ،(1/116)
إذا جارية (أي بنتٌ صغيرةٌ) قد خرجت من دارٍ قريبةٍ منها فأخذت ذلك الطائر الميّت ، وكما سألها ، كيف تأخذينه وهو ميت ؟ فأخبرته أنّها وأخاها فقيران لا يعلم بهما أحد ولا يجدان شيئاً يأكُلانه ، فأمر ابن المبارك بردِّ الأحمال وقال لوكيله : كم معك من النفقة؟ قال : ألف دينار . فقال عّدَّ منها عشرين ديناراً تكفينا عودتنا ، وأعطها الباقي فهذا أفضل من حجّنا هذا العام ، ثمّ رجع فلم يحُجّ .
أرأيت الفقه .. فقيه وجد أنّ إنقاذ هذه الأسرة الفقيرة أفضل من حَجِّه .. هو ابن المبارك ، وأحياناً تجد أباً أولاده يتحرّقون على الزواج ، ويقول لك : أنا حججت ثمانٍ وثلاثين حجّة ، يكفيك حجّةٌ واحدة وأنفق على أولادك ، زوّجهم ، فهذا هو الفقه .. أن تعلم ماذا ينبغي أن تفعل ، أن تفعل الشيء المناسب في الوقت المناسب ، مع الرجل المناسب .
نلخّص الموضوع : بأنّ من أخطر الأمراض التي تصيب الأولاد الشعور بالنقص ، هذا الشعور بالنقص أحد أسبابه تعنيف الآباء الجاهلين ، أو الدلال المفرط الدرس الماضي ، أو المفاضلة بين الأولاد ، أو اليتم ، أو العاهة ، أو الفقر .. هذه أسباب الشعور بالنقص ، والمؤمن الكامل لا يفرّق بين طفل وسيم الطلعة وطفل دميم ، بين طفل ذكي وطفل أقلّ ذكاء ، بين طفل اجتماعي وآخر انعزالي ، يرعى الكّل ولا يفرّق بين أولاده فلعلّ الله سبحانه وتعالى يكرمه ، والحياة دار امتحان ، والآخرة دار تشريف ، والحمد لله ربّ العالمين .. وسوف ننتقل في درسٍ قادم إلى ظاهرةٍ من أخطر الظواهر التي تصيب الأولاد وهي : الحسد والغيرة . هذه ظاهرة تعاني منها معظم الأُسر.
=====================
... ... ... ...(1/117)
13 ـ التربية العقلية 3 ـ قيمة العلم
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين ، اللهم أخرجنا من ظلمات الجهل والوهم إلى أنوار المعرفة والعلم ، ومن وحول الشهوات إلى جنات القربات .
أيها الأخوة الكرام ، مع الدرس الثالث عشر من دروس تربية الأولاد في الإسلام ولازلنا في التربية العقلية .
بادئ ذي بدء : الآيات التي تضمن التفكر ، والعقل ، والعلم ، في القرآن الكريم تقترب من ألف آية ، لأن الإنسان كرّمه الله بالقوة الإدراكية ، وحينما يبحث عن الحقيقة يؤكد حاجته العليا ، ويؤكد إنسانيته ، وأحياناً ، ومع أن الدرس يتجه إلى التربية ، إلى تربية الأولاد في الإسلام ، من حين إلى آخر يتجه إلى الكبار ، إلى الآباء كي يقتنعوا بقيمة العلم .
شريحة كبيرة جداً من المسلمين يرى أن العلم لا يجدي ، ولا يطعم خبزاً على حدّ تعبيره ، فإذا أبقى ابنه جاهلاً ، كلكم يعلم الآن إنسان لا يحمل أي مؤهل ، في أي معمل راتبه لا يزيد عن سبعة آلاف ، بينما أي إنسان يحمل شهادة عليا ذات اختصاص دقيق دخله يزيد عن مئتي ألف ، إلى متى نرى المسلم مستخدماً ؟ ضارب آلة كاتبة ؟ موظفاً بسيطاً ؟ يشكو الفقر ، هذه مشكلة ، المال قوام الحياة .
فأنت حينما تهيئ لابنك مستوىً تعليمياً راقياً أنت ترفع من سرية المسلمين ، تجعل المسلمين في المستوى الأعلى .
أنا أحياناً لابدّ من تبيين قيمة العلم ، أولاً المجمع عليه في القرآن والسنة أن القيم التي اعتمدها الناس للترجيح فيما بينهم قيم لم يعترف بها القرآن إطلاقاً ، لم يعترف بقيمة الغنى ، ولا قيمة الذكاء ، ولا قيمة الوسامة ، في القرآن الكريم اعتمد قيمتين ، لا ثالث لهما اعتمد قيمة العلم ، فقال :
* هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ * .
( سورة الزمر الآية : 9 ) .
وقال :
* يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ * .
( سورة المجادلة الآية : 11 ) .
فأعلى مرتبة عند الله مرتبة العلم ، بل الآية التي تلفت النظر :
* وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيماً * .
( سورة النساء ) .(1/118)
إله عظيم يقول فضله عليك عظيم إذا كنت عالماً ، * وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيماً * .
أخوتنا الكرام ، هذا يستدعي أن تُكتب لوحة في أقدم ثانوية في دمشق عندما تدخلها : رتبة العلم أعلى الرتب .
الذي أتمنى أن يكون واضحاً أن هناك علماً متعلقاً بكسب الرزق ، هذا لا يزيد عن حرفة ، لأن هناك علموزو آخر متعلقاً بالحلال والحرام ، هذا أصل في العبادة ، هناك علم بخلقه ، أصل في صلاح الدنيا ، وهناك علم بأمره أصل في العبادة ، وهناك علم به وهو العلم الذي أراده الله جلّ جلاله في القرآن ، وأراده النبي عليه الصلاة والسلام في السنة .
هناك علم ممتع غير نافع ، الذي عنده ميل أدبي إذا قرأ قصيدة الإلياذة ، والأوديسة لهوميروس ، قد يستمتع بها ، قصيدة طويلة جداً ، وفيها ذكر الآلهة ، وعقائد الإنسان القديم ، ومشكلات الإنسان القديم ، وهناك علم ممتع ، وليس نافعاً .
هناك اختصاص يدر على صاحبه أموالاً طائلة ، هذا علم ممتع نافع ، لكنك إذا عرفت الله ، وعرفت منهجه ، وتقربت إليه هذا علم ، ممتع ، نافع ، مسعد .
لذلك الكلمة الرائعة التي قالها الإمام علي كرم الله وجهه : يا بني العلم خير من المال ، لأن العلم يحرسك ، وأنت تحرس المال ، والمال تنقصه النفقة ، والعلو يزكو على الإنفاق .
إنسان ثري ذهب إلى إيطاليا ، وفي أثناء الليل طُرق بابه ، وفتح الباب ، وارتكب الفاحشة ، واستيقظ على كلمات كتبت على مرآة : مرحباً بك في نادي الإيدز فانتحر ، جاهل ظنها مغنماً ، فإذا هي مغرم كبير .
أي لو درست الأمر جلياً لا تجد مشكلة في الأرض من آدم إلى يوم القيامة إلا بسبب خروج عن تعليمات الصانع الخالق ، لو حللت كل مشكلة ، بسبب خروج عن منهج الله وما من خروج عن منهج الله إلا بسبب الجهل ، والجهل أعدى أعداء الإنسان .
والله أيها الأخوة ، نحن ألفنا في الثقافة المعاصرة أنه هناك أعداء تقليديون الاستعمار والصهيونية ، العدو الأول للأمة الإسلامية هو الجهل ، الجاهل يفعل في نفسه ما لا يستطيع عدوه أن يفعله به .
الآن لو درست المشكلات الزوجية ، من دون استثناء بسبب الجهل ، جهل الزوج أو الزوجة ، أو كليهما .
(( مَا تَوَادَّ اثْنَانِ فَفُرِّقَ بَيْنَهُمَا إِلَّا بِذَنْبٍ يُحْدِثُهُ أَحَدُهُمَا )) .
[رواه أحمد عن ابن عمر ، وإسناده حسن]
وأنت اسأل ، هل هناك من مشكلة مررت بها إلا بسبب أن الحكم الشرعي غاب عنك ؟ لم تأخذ إيصالاً ، الله قال لك :(1/119)
* فَاكْتُبُوهُ * .
( سورة البقرة الآية : 282 ) .
واثق ، توفي فجأة بحادث ، الابن ما اعترف راح لك مليون ، تتألم ، تندم ، الله عز وجل قال :
* يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ *
( سورة البقرة الآية : 282 ) .
لو إنسان في عنده وقت ، وعنده نفس طويل ، حلل أي مشكلة على الإطلاق في العالم بسبب خروج الإنسان عن تعليمات الصانع ، وما من خروج عن تعليمات الصانع إلا بسبب الجهل ، والجهل أعدى أعداء الإنسان ، والجاهل يفعل في نفسه ما لا يستطيع عدوه أن يفعله به ، وهل من عقاب أشد من أن يكون الإنسان في النار إلى أبد الآبدين ؟ .
* وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ * .
( سورة الملك ) .
يا أخي الكريم ألا تحب نفسك ؟ ألا تحب سلامتك ؟ ألا تحب سعادتك ؟ ألا تحب سلامة وجودك ؟ كمال وجودك ؟ استمرار وجودك ؟ اطلب العلم ، وعلم من حولك ، وأقرب الناس إليك أولادك .
أنا أرى أُناساً كثيرين يقنع أن ابنه إذا عمل بسن مبكرة يصبح شيئاً مذكوراً ، لابدّ من أن تطلب العلم ، لك ولأولادك .
الآية الأولى : * هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ * حتى أنه قد قيل : العالم شيخ ولو كان حدثاً ، والجاهل حدث ولو كان شيخاً .
أحياناً بالمؤسسات ، بالشركات ، تجد شاباً يحمل شهادة عليا عمره بالخامسة والعشرين ، بالثالثة والعشرين ، بالثمانية والعشرين ، تحت يده أشخاص بالسبعين ، بالستين ، بالخامسة والأربعين ، كلهم كبار في السن لكن لم يتعلموا ، أنا أرى أن هذا الدين دين العلم ، الدليل أن أول كلمة في أول آية ، في أول سورة :
* اقْرَأْ * .
( سورة العلق الآية : 1 ) .
تعلم ، في نقطة دقيقة جداً : أنت حينما تتعلم لا تنفق الوقت إنفاقاً استهلاكياً ، بل إنك تنفق الوقت إنفاقاً استثمارياً ، لأن التعلم يضمن لك نجاحات كبيرة في الحياة .
لذلك : أنا أرى أن الأب الذي يهمل تعليم أولاده ، يهمل تعليمهم التحصيلي ، وتعليمهم الديني ، وتعليمهم الأخلاقي ، نحن أحياناً الأب يهمه أن يأخذ ابنه شهادة فقط ، صلى ما صلى ، عرف الله ، لم يعرف الله ، أهم شيء أنه أخذ علامات دخل بها كلية الطب ، هذا خطأ كبير ، لما الإنسان لا يعرف الله يرتكب أخطاء فاحشة ، والأخطاء الفاحشة قد تهلكه في الدنيا قبل الآخرة .(1/120)
ومرة ثانية : ما من مشكلة تصيب الإنسان إلا بسبب جهل في طاعة الله عز وجل .
أيها الأخوة ، يعني لما الله عز وجل يقول :
* لَا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلَادِ * .
( سورة البلد ) .
الإنسان لو علا شأنه ، وذاع سيطه ، ولم يكن مستقيماً على أمر ربه ، أي لم يعرف ربه كي يستقيم على أمره ، هذا الارتفاع المفاجئ قد يعقبه انهيار سريع .
دائماً وأبداً خط المؤمن البياني خط صاعد صعوداً مستمراً ، والموت نقطة على هذا الخط ، والصعود مستمر بعد الموت ، بينما الإنسان حينما يتألق في الدنيا بماله ، أو بمنصبه ، قد يصعد صعوداً حاداً ، ويسقط سقوطاً مريعاً ، فالبطولة أن تستمر .
بالمناسبة : العطاء الإلهي عطاء مستمر يبدأ في الدنيا ، ويستمر إلى أبد الآبدين ولا يليق بكرم الله أن يعطيك عطاءً ينتهي عند الموت .
أيها الأخوة ، لذلك :
* مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ * .
( سورة النساء الآية : 77 ) .
الآن معظم الناس تعنيهم الدنيا فقط ، استقام ، لم يستقم ، عرف الله ، لم يعرف الله ، كان دخله حلالاً ، حراماً ، بنى مجده على أنقاض الآخرين ، بنى غناه على إفقارهم ، بنى قوته على ضعفهم ، مستقيم ، غير مستقيم ، معتدٍ ، غير معتدٍ ، المهم أن يصل إلى ثروة تجعل حياته مريحة ، وهذا الذي دخل الشاعر من أجله السجن ، ببيت قاله :
دع المكارم لا ترحل لبغيتها ... واقعد فإنك أنت الطاعم الكاسي
* * *
أيها الأخوة ، النقطة الدقيقة الآن : إذا أردت الدنيا فعليك بالعلم ، الذين يحكمون العالم من حولهم ؟ خبراء ، لا يتخذون القرار إلا باستشارة خبرائهم ، ففي النهاية الذي يحكم العالم هم العلماء ، الذين هم خبراء عند أصحاب القرار ، فإذا أردت الدنيا فعليك بالعلم ، وإذا أردت الآخرة فعليك بالعلم ، وإذا أردتهما معاً فعليك بالعلم ، والعلم لا يعطيك بعضه إلا إذا أعطيته كلك ، فإذا أعطيته بعضك لم يعطك شيئاً .
أنا مرة إنسان شكا إلي مشكلة في بيته خطيرة جداً ، هي خيانة زوجية ، وبكى سألته مع من ؟ قال لي : مع جارنا ، كيف عرفت الجار ؟ قال لي : كان جارنا في البيت يزورني ، قلت لزوجتي : تعالي واجلسي معنا ، مثل أخيكِ ، من هنا بدأت المشكلة ، قلت له : لو كنت تحضر دروس العلم ، وتعلمت أن الاختلاط محرم ما وقعت في هذه الورطة .(1/121)
دقق ما من مشكلة تقع في المجتمع إلا بسبب مخالفة لتعليمات الخالق ، وهذه المخالفة بسبب الجهل ، فأنت حينما تحضر درس علم ، وتعرف ما ينبغي ، وما لا ينبغي ، ما يجوز ، وما لا يجوز ، ما يصح ، وما لا يصح ، ما هو محرم ، وما هو محلل ، ما هو الخير ، وما هو الشر ، ما هو الجمال ، وما هو القبح ، عندئذٍ الثمرة الأولى أنك تسلم وتسعد .
لذلك : جامعة دمشق لها شعار ، تحت الشعار كُتب :
* وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً * .
( سورة طه ) .
لا أنسى هذه الآية التي ينبغي أن يخفق قلب المؤمن لها ، * وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيماً * ، حتى إن الله عز وجل حينما قال :
* الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَاباً وَخَيْرٌ أَمَلاً * .
( سورة الكهف ) .
بعض العلماء قال : * الْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ * ، سبحان الله ، والحمد لله ، ولا إله الله ، والله أكبر ، يعني إذا سبحته ، وإذا كبرته ، وحمدته ، ووحدته ، فقد عرفته ، وإن عرفته عرفت كل شيء ، وإن فاتتك معرفته فاتك كل شيء ، والله أحب إليك من كل شيء .
الآية الأولى : * هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ * ، القيمة الوحيدة التي اعتمدها القرآن للترجيح بين خلقه قيمة العلم .
الآية الثانية : * يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ * ، هذه الآية الثانية التي تؤكد أن القيمة الأولى في التفاضل بين الناس هي قيمة العلم .
عندنا قيمة ثانية ، أساس الترجيح وهي العمل ، قال تعالى :
* وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا * .
( سورة الأنعام الآية : 132 ) .
لكن بادئ ذي بدء : لا يمكن أن يكون العلم في الإسلام مقصوداً لذاته ، العلم ما عُمل به ، فإن لم يُعمل به كان الجهل أولى ، الذي تعلم أصبح العلم حجة عليه ، لا حجة له .
لذلك قالوا :
وعالم بعلمه لم يعملن معذب من قبل عباد الوثن
* * *
ما معنى قوله تعالى :
* غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ * .
( سورة الفاتحة ) .(1/122)
* الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ * هم الذي عرفوا وانحرفوا ، والضالون هم الذين لم يعرفوا وانحرفوا ، هناك إنسان ينحرف وقد علم ، و إنسان ينحرف ولم يعلم .
أيها الأخوة ، دققوا في هذا الحديث ، أنت جئت من مكان بعيد ، وتجشمت ركوب عدة مركبات ، وفي ازدحام ، وقد يستغرق الوقت لحضور هذا الدرس ساعة أو ساعتين يقول عليه الصلاة والسلام :
(( وَمَن سلكَ طريقا يَلْتَمِسُ فيه عِلْما سَهَّلَ اللهُ لهُ بِهِ طريقا إِلى الجنَّةِ )) .
[أخرجه مسلم وأبو داود والترمذي عن أبي هريرة ] .
يعني أنت جالس في البيت ، ومرتاح ، ولك مقعد وثير ، أمامك زوجتك ، أولادك ، كل حاجاتك مؤمنة ، فأنت قمت من هذا المكان المريح ، وارتديت الثياب ، وركب المركبات ووصلت إلى المسجد ، وجلست على الأرض ، وضيافة ما في ، وانتهى الدرس ، وعدت بساعة ثانية ، في ثلاث ساعات تقريباً ، لوجه الله ، هذا الوقت الذي تنفقه في طلب العلم ليس استهلاكاً للوقت ، ولكنه استثمار له ، أي إذا تركت شيئاً محرماً نجوت ، إذا عملت عملاً صالحاً فزت وتفوقت ، لذلك :
(( وَمَن سلكَ طريقا يَلْتَمِسُ فيه عِلْما سَهَّلَ اللهُ لهُ بِهِ طريقا إِلى الجنَّةِ )) .
[أخرجه مسلم وأبو داود والترمذي عن أبي هريرة ] .
أنت لاحظ بالمعاني المادية المحدودة ، إنسان دخل كلية الطب ، وعانى ما عانى في السنوات السبع ، مدرسون أشداء في الامتحانات ، كلفوا الطلاب بأعمال صعبة جداً ، يعني معاناة سبع سنوات مع الأساتذة ، والمدرسين ، وكتابة الأطروحات ، والامتحانات الشفهية ، والكتابية ، ثم نال شهادة طب ، وتابع دراسته ، وحصل على شهادة عليا ، وفتح عيادة ، دخله وفير ، هذا الدخل الوفير بالمعنى المادي ، هيأ له بيتاً مريحاً ، هيأ له مركبة مريحة ، هيأ له مكانة اجتماعية ، الآن كلما مرّ أمام الجامعة يشكر هذه الجامعة على أنها نقلته من إنسان عادي ، إلى إنسان ذو مكانة جيدة في المجتمع .
وأنت أيها المؤمن حينما تطلب العلم ، وتعرف الحلال والحرام ، وتحسن تربية أولادك ، وتنشئهم على طاعة الله ، وكانوا قرة عين لك ، تحمد هذه الأوقات المديدة التي أمضيتها في معرفة الله .
أي لا يوجد علم لذاته ، علم للعلم ، بالإسلام غير وارد ، العلم ما عُمل به ، فإن لم يُعمل به كان الجهل أولى ، يقول عليه الصلاة والسلام :
(( الدُّنيا مَلعْونَةٌ )) .
[أخرجه الترمذي عن أبي هريرة ] .
مرة ذكرت ببعض الأحاديث :
(( أحب البلاد إلى الله مساجدها و أبغض البلاد إلى الله أسواقها )) .
[صحيح عند ابن خزيمة عن أبي هريرة](1/123)
لأن المسجد ينقلك إلى الله ، إلى الدار الآخرة ، إلى طلب العلم ، إلى التوبة ، إلى الطاعة ، إلى السعادة ، الأسواق بضائع جميلة جداً ، وغالية جداً ، ولك دخل محدود ، فكنت أضرب هذا المثل مداعباً الأخوة الكرام ، يأتي مع امرأته إلى المسجد تسمع حقوق الزوج فتزداد طاعة لزوجها فيحبها ، ويسمع حقوق الزوجة فيزداد إكراماً لها فيحبها ، فالمجيء إلى المسجد متن علاقة الزوجين ، يذهب معها إلى السوق تطلب منه حاجة فوق دخله يتشاجروا .
(( أحب البلاد إلى الله مساجدها و أبغض البلاد إلى الله أسواقها )) .
[صحيح عند ابن خزيمة عن أبي هريرة]
لذلك :
(( الدُّنيا مَلعْونَةٌ ، مَلْعُون ما فيها ، إِلا ذكرُ الله ، وما والاهُ )) .
[أخرجه الترمذي عن أبي هريرة ] .
معنى ملعونة تبعدك عن الله ، تبعدك عن طريق الجنة .
هناك لقطتان رائعتان من سيرة النبي :
رأى النبي صلى الله عليه وسلم شاباً يتعبد الله في وقت العمل ، قام سأله من يطعمك ؟ قال : أخي ، فقال عليه الصلاة والسلام : أخوك أعبد منك ، الذي يعمل هو العابد أكثر ،الذي كانت يده هي العليا ، لم يكن عالة على أحد ، لم يتكفف الناس .
(( ولا فتح عبد بابَ مسألة ، إلا فتح الله عليه بها باب فقر )) .
[أخرجه الترمذي عن أبي كبشة الأنماري ] .
الآن مشهد آخر ، شريكان ، أحدهما طالب علم ، فالشريك الآخر الذي يعمل شكا للنبي شريكه الذي يقدم جهداً أقل من جهده ، باللقطة الأولى قال النبي الكريم : أخوك أعبد منك الذي يعمل ، ومن ينفق عليك أعبد منك ، الثاني شيء آخر ، قال : لعلك ترزق به ، اختلف الموضوع ، اختلف الحكم ، أو اختلف 180 درجة ، الأول كان عابداً ، الذي يعبد الله لنفسه ، أما الثاني كان طالب علم ، يطلب العلم لغيره ، فالنبي طمأن الشريك أن أحد أسباب رواج هذه الشركة ، وتقدمها ، هو أنك تسمح لشريكك أن يطلب العلم ، لعلك ترزق به .
المؤمن الذي عرف الله ، إذا توفاه الله ، ماذا قال الله في حقه ؟ قال في حق الكافر :
* فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ * .
( سورة الدخان الآية : 29 ) .
العلماء أكدوا أن هناك معنى مخالف معاكس ، المؤمن إذا مات ماذا يقول ؟ بكت عليه السماء والأرض ، فرق كبير بين أن يموت الإنسان ويستريح الناس منه ، وبين أن يكون الإنسان ويتألم الناس أشد الألم .(1/124)
لذلك رأى النبي صلى الله عليه وسلم جنازة فقال :
(( مستريح ، أو مُسْتَراح منه ، فقالوا : يا رسول الله ما المستريحُ ، وما المستَراح منه ؟ فقال : العبد المؤمنُ يستريح من نَصَب الدنيا ، والعبد الفاجرُ : يستريح منه العبادُ والبلادُ ، والشجر والدواب )) .
[أخرجه البخاري ومسلم والنسائي ومالك عن أبي قتادة ] .
هؤلاء الطغاة إذا ماتوا تستريح منهم البلاد ، والعباد ، والشجر ، والدواب .
الآن الأب الذي يُعلم أولاده ، لنرسل له هذا الحديث الشريف :
(( إنَّ الله وملائِكَتَه ، وأهْلَ السماوات والأرضِ ، حتى النَّملةَ في جُحْرِها والحيتان في البَحْرِ ، لَيُصَلُّون على مُعَلِّم الناس الخيرَ )) .
[أخرجه الترمذي عن أبي أمامة الباهلي ] .
يعني الأب حينما يعلم أولاده تصلي عليه الملائكة ، والنملة في جحرها ، والحيتان في البحر ، الأب المعلم أب عظيم ، أنا أقول دائماً : لك أب أنجبك ، هذا أبوك النسبي ، ولك أب زوجك ، هذا عمك ، ولك أب دلك على الله ، والبطولة أن تكون أيها الأب أباً أنجبته ، وأباً دللته على الله ، الأب المؤمن الذي ربى أولاده على طاعة الله أب مقدس .
إخوانا الكرام ، سامحوني بهذه الكلمة : الثقافة الإسلامية بثقافة بلادنا كل أب محترم ، هكذا العادات والتقاليد ، لكن ما كل أب يُحب ، إذا كنت محسناً ، إذا دللته على الله ، تكون أباً محترماً بحسب الثقافة العامة ، ومحبوباً بحسب توجيهك لهذا الابن .
أنا أقول دائماً : الأب البطل يكون العيد في بيته إذا دخل ، والأب المخفق يكون العيد في بيته إذا خرج ، فالعيد متى يكون ؟ بدخولك أم بخروجك ؟ .
شيء آخر يا إخوان : بعد أن تعرف الله ، علة وجودك العمل الصالح ، وأعظم عمل صالح بشكل مطلق من دون استثناء تربية أولادك لقول النبي صلى الله عليه وسلم :
(( أفضل كسب الرجل ولده )) .
[أخرجه الطبراني عن أبي بردة بن نيار ] .
خير اسم تفضيل ، (( أفضل كسب الرجل ولده )) .
لذلك :
(( إذا مات الإنسان انقطع عمله )) .
علة وجودك في الدنيا بعد أن تعرف الله العمل الصالح ، لأنه العمل الصالح ثمن الجنة ، وأنت في الأصل خلقت للجنة ، علة وجودك في الدنيا ، بعد معرفة الله العمل الصالح بل حجمك عند الله بحجم عملك الصالح ، وأعظم عمل صالح تربية أولادك ، لأنهم أقرب الناس إليك ، يعني الآخر أنت له ، وغير له ، أما أولادك من لهم غيرك ؟ .(1/125)
(( إِذَا مَاتَ الْإِنْسَانُ انْقَطَعَ عَنْهُ عَمَلُهُ إِلَّا مِنْ ثَلَاثَةٍ : إِلَّا مِنْ صَدَقَةٍ جَارِيَةٍ ، أَوْ عِلْمٍ يُنْتَفَعُ بِهِ ـ الشاهد ـ أَوْ وَلَدٍ صَالِحٍ يَدْعُو لَهُ )) .
[ مسلم عن أبي هريرة ]
والله الذي لا إله إلا هو كلما رأيت أباً ربى ابناً صالحاً ، ومات الأب ، أقول بأعماقي : الأب لم يمت ، لأنك في الأصل مفطور على حبّ وجودك ، وعلى حبّ سلامة وجودك ، وعلى حبّ كمال وجودك ، وعلى استمرار وجودك ، سلامة وجودك بطاعة الله ، وكمال وجودك بالعمل الصالح ، واستمرار وجودك بتربية أولادك .
هل تعتقد معي أيها الأب أنه في شعور أمتع ، وأشد إسعاداً للإنسان من أن ترى ابنك صالحاً ، ابنك يصلي ، سمعته طيبة ، ناجح في عمله ، ناجح في زواجه ، يربي أولاده .
(( أو ولد صالح يدعو له )) .
أيها الأخوة الكرام ، مرة ثانية : هناك علم به ، هو الأصل ، أن تعرف الله ، إنك إن عرفت الله ، ثم عرفت الأمر تفانيت في طاعة الآمر ، أما إذا لم تعرف الله ، وعرفت الأمر تفننت في التفلت من الأمر ، إنك إن عرفت الله ، فالعلم به أصل في الدين ، كيف ؟ في التفكر في خلق السماوات والأرض .
كلكم يعلم أنك إذا قرأت آية في كتاب الله تتحدث عن الجنة ، ما موقفك منها ؟ أن تسعى إلى الجنة ، وإن قرأت آية في كتاب الله تتحدث عن النار ، ما موقفك منها ؟ أن تفر منها ، وإذا قرأت آية فيها أمر إلهي ما موقفك منه ؟ أن تأتمر ، وإذا قرأت آية فيها نهي إلهي ما الموقف الكامل ؟ أن تنتهي ، وإذا قرأت قصة أقوام سابقين أهلكهم الله عز وجل ما الموقف من هذه الآية ؟ أن تتعظ ، وإذا كان بالقرآن آيات كثيرة جداً تقترب من ألف آية عن الكون ما الموقف منها ؟ أن تتفكر ، لأن طريق معرفة الله التفكر في خلق السماوات والأرض .
لذلك : كلما ازددت تفكراً في خلق السماوات والأرض ، ازددت مع التفكر معرفة بالله جلّ جلاله ، أصل الدين معرفة الله ، العلم به لا يكفي ، أنت حينما تعرف إنساناً وتتمنى أن تتقرب إليه ، تبحث عن أوامره ، يأتي علم الشريعة ، التفكر في خلق السماوات والأرض ، أو التفكر في أفعال الله ، في أفعاله التكوينية ، أو التفكر في كلامه ، أو التدبر هذا طريق معرفته .
الآن طريق التقرب منه بشيئين أن تستقيم على أمره أولاً ، وأن تعمل الأعمال الصالحة ثانياً هذا علم بأمر الله .
لكن حتى تكون مواطناً صالحاً ، وتملك مهنة راقية ، تدر عليك دخلاً معقولاً يجب أن تتعلم علماً متعلقاً بخلقه ، طبيب ، مهندس ، مدرس ، فروع الجامعة ، فيزياء ، كيمياء ، رياضيات ، في اختصاصات ، فأنت ينبغي أن تسعى إلى أن تتعلم وأن تُعلم أولادك ، علماً به ، وعلماً بأمره ، وعلماً بخلقه ، كي تجمع المجد من كل أطرافه .(1/126)
أحياناً تجد إنساناً يحمل أعلى شهادة لكن في الدين أُمي ، لا يفرق بين الحلال والحرام .
إنسان ذهب للحج ، لكن ضعيف في الثقافة الإسلامية ، ضعيف في الثقافة كثيراً ، قال لو عملوا الحج على خمس دورات ، ما كان في ازدحام ، بعيد عن روح الدين .
حتى جيء للمملكة بخبراء من أجل تنظيم السير ، فدرسوا الأمور دراسة مستفيضة ، وقدموا تقريراً ينصحون بأن يكون الحج على خمس دورات ، كل شهرين في موسم حج حتى يخف الازدحام .
فيكون الإنسان بعيد عن حقيقة الدين ، عن العبادات ، عن المعاملات .
لابد من أن تعرف الله عز وجل من خلال خلقه ، ومن خلال كلامه ، ومن خلال أفعاله ، هذا العلم به ولابدّ من أن تعرف منهجه من خلال أمره ونهيه ، ولابدّ من أن تتعلم علماً كونياً يرقى بك إلى خدمة نفسك وأمتك ، فاجهد أيها الأب أن تعلمه علماً متعلقاً بالذات الإلهية ، وعلماً متعلقاً بالأمر والنهي ، وعلماً متعلقاً بشؤون الدنيا ، حتى يجمع الإنسان بين مصالحه في الدنيا وبين مصالحه في الآخرة ، لأن النبي صلى الله عليه وسلم من أدعيته :
(( اللهم أصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا ، وأصلح لنا دنيانا التي فيها معاشنا ، وأصلح لنا آخرتنا التي إلينا مردنا ، واجعل الحياة زاداً لنا من كل خير ، واجعل الموت راحة لنا من كل شر )) .
أيها الأخوة الكرام ، لازلنا في تربية الأولاد في الإسلام ، ولازلنا في التربية العقلية ، لأن الإنسان عقل يدرك ، وقلب يحب ، وغذاء العقل العلم ، وغذاء القلب الحب .
والحمد لله رب العالمين
================
... ... ... ...(1/127)
14 ـ التربية العقلية 4 ـ طلب العلم فرض على كل مسلم
.
أيها الأخوة الكرام ، مع الدرس الرابع عشر من دروس تربية الأولاد في الإسلام ولازلنا في التربية العقلية ، ولابدّ من مقدمة من موضوع من أدق الموضوعات في التربية العقلية .
هذه المقدمة : لو أن رجل دين ، في أعلى المستويات ، أعطيته تخطيط قلب لا يفهم منه شيئاً ، نقول هذا الرجل رجل الدين ، المتبحر ، المتعمق ، أُمّي في قراءة هذا التخطيط ، أليس كذلك ؟ مهما كان متبحراً ، مهما كان متفوقاًَ ، هو في هذا الموضوع أُمّي انظر إلى تخطيط قلب ، ترى خطوط بزوايا حادة ، لكن الطبيب حينما يطلع عليه يكتشف أشياء كثيرة ، في خوارج انقباض ، في تسرع اشتدادي ، أكثر أمراض القلب تظهر في التخطيط ، لكن رجل الدين مهما كان متفوقاً في هذا الموضوع أُمّي ، هذا تمهيد .
وأي إنسان آخر يحمل أعلى شهادة ، الطب بورد ، بأمريكا بورد ، في بريطانيا ( إف آر إس ) ، بفرنسا ( أك ري جي ) ، عندنا بورد عربي والحمد لله .
فأعلى طبيب قد يكون في الدين أُمياً ، فأنت إذا قلت علم ، العلم مطلق ، فطلب العلم فريضة على كل مسلم ، العلم الشرعي فريضة ، طبيب ، مهندس ، طيار ، معك اختصاص نادر ، معك دكتوراه بالفيزياء النووية ، أنت في الدين إن لم تطلب العلم فأنت أمي في الدين .
لذلك : إذا قلنا التربية العقلية ، العقل جهاز ، مضمونه قد يكون معلومات بعيدة عن الدين ، من هنا قيل : ما كل ذكي بعاقل ، إنسان يتمتع بدرجة عالية جداً من الذكاء ويأتي بأعلى شهادة في العالم باختصاص نادر ، وهذه الشهادة تدر عليه دخلاً فلكياً ، ومعنى ذلك هو في الدين أُمّي ، وليس بعاقل ، لأنه ما عرف الله ، ولا عرف سرّ وجوده ، ولا عرف غاية وجوده .
أنا أريد من هذه المقدمة ألا يشعر المثقف أنا طبيب ، أنا مهندس ، أنا معي معلوماتية ، دكتوراه في المعلوماتية ، أنا اختصاصي نادر ، هذه علوم أرضية ، هي حرف راقية ، أما الدين فرض عين على كل مسلم ، لأن الدين متعلق بسلامتك وسعادتك ، ومستقبلك الأخروي .
مرة رجل يحتل منصباً رفيعاً جداً في دولة عربية ، فذهب إلى الحج ، في طريق العودة يقول لصاحبه إلى جواره بالطائرة ، قال له : والله لو كان الحج على خمس دورات على مدار السنة ، والله أريح ، لا يعرف ما هو الحج ، لو كان على مدار السنة أفضل وأريح ما كان في ازدحام .
فتجد أحياناً إنسان يحمل شهادات عالية ، هذه المقدمة ملخصها أنه لو حرصت على أن يكون ابنك في أفضل مدرسة ، يقول لك : ثلاث لغات ، فرنسي ، إنكليزي ، عربي ، كمبيوتر ، معلوماتية ، ترجمة ، مناشط ، لكن ما فيه دين إطلاقاً ، ما كل ذكي بعاقل ، العقل شمولي ، والذكاء جزئي ، أي(1/128)
إنسان أوتي فكراً متألقاً ، قدرات عامة ، قد ينال أعلى شهادة ويبقى في الدين أُمّياً ، يرتكب المبيقات ، يرتكب المعاصي والآثام .
فلذلك الأب الذي يتصور إذا علّم ابنه ، وأخذ دكتوراه ، وتعب عليه ، ووضع له مدرسين خاصين ، وضعه بأفضل مدرسة ، أتقن عدة لغات ، أخذ اختصاصاً نادراً ، إدارة أعمال ، معلوماتية ، حاسوب ، يظن الأب أنه قدّم واجبه ، لم تقدم له شيئاً ، قدم له شيئاً متعلق بآخرته .
أنا أقول لابدّ من أن تتعلم ، هذا العلم الآن من أجل أن تكون بعمل فيه بعض الراحة ، وفيه دخل معقول .
أحياناً سمعت عن طبيب في بلد عربي مجاور ، أجرى عملية زرع كلية ، أخذ مليوني ليرة ، في ساعتين الساعة بمليون ، يأتي إنسان غير متعلم ، يعمل ثماني ساعات بثلاثمئة ليرة ، أربعمئة ، خمسمئة ، ثماني ساعات بخمسمئة ليرة ، وساعة بمليون ، فإنسان يأخذ دكتوراه بالطب ، بالهندسة ، بالمعلوماتية ، هذه شهادات تدر عليه دخلاً كبيراً ، هذه حرفة من الحرف ، فلان تاجر ، مهندس ، محامي ، طبيب ، حرف راقية ، راقية أي فيها جهد معقول ، وفيها دخل كبير ، هذه معنى راقية .
لكن عندما يكون الإنسان بعيداً عن الله عز وجل قد يرتكب المعاصي والآثام وهو لا يدري .
أنا من هذه المقدمة أريد أنت حينما تعتني بدراسة ابنك ، هذا يسمونه الذكاء التحصيلي ، هناك ذكاء فطري ، و ذكاء تحصيلي ، و ذكاء عاطفي ، هناك إنسان علاقاته الاجتماعية في أعلى درجة من النجاح ، نقول يتمتع بذكاء عاطفي ، يحترم الناس ، يرضيهم ، لا يستفزهم ، يحتويهم ، يتكيف معهم ، يتلاءم معهم ، يلتفون حوله ، هذا يتمتع بذكاء عاطفي وهناك إنسان عنده ذكاء مجرد ، يصلح للرياضيات ، علوم بحتة ، رياضيات ، فلك مثلاً ، الذي يتمتع بذكاء مجرد يصلح لفروع فيها علوم بحتة ، وهناك إنسان عنده ذكاء عملي ، يبدع بتفكيك آلة ، بتعديل آلة ، هذا الذكاء العملي ، والذكاء النظري ، والذكاء العاطفي ، وهناك ذكاء تحصيلي ، إنسان درس ، الدراسة ضرورية بسبب .
سمعت تعليقاً أعجبني أنه : يعد أينشتاين أعلى علماء الأرض في الفيزياء ، جاء بالنظرية النسبية التي قلبت مفاهيم الفيزياء ، الآن يرى بعض العلماء أن دماغ أنيشتاين يحتاج إلى دراسة ، يعني يتمتع بذكاء يفوق حدّ الخيال ، لو أنيشتاين ولد من أب بالبادية ، ما في مدارس ، في جمل ، في خيمة ، وفي صحراء ، ماذا يكون أينشتاين ؟ يكون بدوياً ، ذكياً قليلاً أعطاه أبوه الغنم ليرعاها مثلاً ، يعرف كم غنمة بالضبط ، يعرف كل غنمة وضعها الصحي تماماً ، لكن يبقى راعي غنم فقط ، أما أنيشتاين الذي أعطاه التفوق دراساته أيضاً .
أنا مضطر أن أقول لكم : إن لم تضع ابنك في المدرسة لينال شهادة عليا سأقول كلمة قاسية : أنت في حقه مجرم ، لأنه عطلت عليه كل منجزات العصر ، لكن هذا من أجل كسب رزقه فقط ، أما(1/129)
آخرته لابدّ من أن يكون جزء من تربيتك أن تربيه إيماناً ، أن تعطيه حقائق دقيقة عن الكون ، عن القرآن ، عن النبي العدنان ، عن سيرة الصحابة الكرام ، عن العلماء الكبار ، أن تجعله ينتمي لأمته ، أن تجعله يعتز بدينه ، أن تجعله يفرق بين الإسلام والمسلمين .
عندنا مشكلة هذه المشكلة مؤلمة جداً ، تجد معظم المثقفين ما عنده إمكان أن يفرق بين إسلام عظيم ، منهج حكيم ، من عند رب العالمين ، وبين مسلم مقصر ، يرى الإسلام من خلال المسلمين ، فيزهد في الإسلام ، هذا خطأ كبير ، مهمة الأب أن يكون وراء ابنه ، هذا الموقف من هذا الإنسان الذي له مظهر ديني غير صحيح ، لا يمثل الدين ، الدين منهج آخر .
لذلك بعض العلماء قال : من دعا إلى الله بمضمون سطحي ، مضمون غير متماسك ، بمضمون ساذج ، هناك دعوة أكثرها منامات ، ومقامات ، وشطحات ، وقصص الدين منهج عظيم ، قال من دعا إلى الله بمضمون سطحي غير متماسك ، ليس فيه عمق وبأسلوب غير علمي ، وغير تربوي ، هذا المدعو بهذا المضمون ، وبهذا الأسلوب لا يعد مبلغاً عند الله ، وفي أعماق الإنسان الدين شيء عظيم .
عفواً ، هذا الدين من عند من ؟ من عند خالق السماوات والأرض ، يجب أن يكون هناك تناسب بين عظمة الله عز وجل ، وعظمة منهجه ، التناسب يجب أن توضحه لابنك بين عظمة الخالق ، وبين عظمة دينه ، فلو رأيت موقفاً في غيبية ، موقف في شطحة ، موقف في كرامة غير منطقية ، غير واقعية .
مثلاً : لما أنت تقرأ كتاباً قديماً أن فلان الفلاني ، أبو حنيفة النعمان رحمه الله تعالى صلى الفجر بوضوء العشاء أربعين عاماً ، هذه قصة ، أنت بذهنك تثني على أبي حنيفة تقدمه لمن تُعلمه على أنه إنسان عظيم ، لكن النبي كان ينام ، قال :
(( ......أَمَا وَاللَّهِ إِنِّي لَأَخْشَاكُمْ لِلَّهِ ، وَأَتْقَاكُمْ لَهُ ، لَكِنِّي أَصُومُ وَأُفْطِرُ ، وَأُصَلِّي وَأَرْقُدُ ، وَأَتَزَوَّجُ النِّسَاءَ ، فَمَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي فَلَيْسَ مِنِّي )) .
[ البخاري عن أنس بن مالك ]
هذه قصة أنه أربعين سنة صلى الفجر بوضوء العشاء غير معقولة ، صار الدين شيء غير واقعي ، خيالي ، من يستطيع ألا ينام يومين وراء بعضهم ؟ من يستطيع ؟ جربوا ، النوم أساسي .
* وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاساً * .
( سورة النبأ ) .
لا تجعل المؤمن سوبر مان ، لا إنسان عادي ، يأكل ، ويشرب ، وينام ، يحتاج إلى زوجة ، إلى أولاد ، إلى بيت ، يعمل بالتجارة ، بالصناعة ، مدرس ، مهندس ، طبيب ، اجعل الإسلام واقعي ، تفوق وأنت واقعي ، الأنبياء عاشوا في أبراج عاجية أخلاقية ، لكن عاشوا مع الناس .(1/130)
كان عليه الصلاة والسلام يصغي لمحدثه ، صغيراً كان أو كبيراً ، كان يضحك مما يضحك منه أصحابه ، عايش الحياة ، عايش الظروف ، عايش المعطيات ، عايش الضغوط ، عايش المغريات ، عايش الصوارف ، عايش العقبات .
أتمنى أن تربي ابنك ليكون واقعياً ، يدرس ، يأخذ شهادة عليا ، لكن وفق منهج الله ، يتعلم دينه ، يتعلم قرآنه ، يتعلم سنة نبيه ، ينتمي لأمته ، لا تكتفي أيها الأب وأنت تربي ابنك تربية عقلانية أن تعتقد أنه مادام معه شهادة عليا ، انتهى ، أنا علمته ، لا ، ما علمتهُ علمته حرفة راقية ، علمته اختصاصاً يدر عليه دخلاً كبيراً ، لكن ما علمته الخوف من الله ، ما علمته أن هناك آخرة ، ما علمته أن هناك إله عظيم ، ما علمته أن هناك منهج قويم ، ما علمته أن هناك نبي كريم ، هو قدوتنا .
فلذلك الذي أتمناه أنك إذا أردت أن تتوهم أنك حينما تعلم ابنك في جامعة راقية باختصاص نادر ، طبيب من الناحية العلمية أديت واجبك ، لم ينتهِ شيء ، لابد من أن تضيف إلى اختصاصه الدنيوي معرفة بالله عز وجل ، معرفة بنبيه ، معرفة بآل بيت نبيه ، ومعرفة بصحابته الكرام ، هؤلاء أعلام .
الآن الشباب في سن المراهقة ، الشاب يتعلق بمثل أعلى ، يكون المثل الأعلى لاعب كرة ، أو ممثل ، الآن أو يكون صحابي كبير ، فالطاقة هذه ، والتوجه إلى مثل أعلى يجب أن تستغل هذا التوجه إلى أن تجعل أمامه مثل عليا .
والله بالمناسبة : يمكن درست كتاباً مرات ثلاث ، في جامع النابلسي ، ثلاث مرات ، صور من حياة الصحابة ، رجل توفي رحمه الله أوتي قلماً رائعاً جداً ، أسلوب أدبي رائع ، و تدقيق بالتفاصيل ، ولا يوجد أشياء لا يقبلها العقل ، فابنك عندما يقرأ عن الصحابة صحابة شباب ، صحابة كبار في السن ، صحابة صغار ، أطفالهم ، نساؤهم ، يختار الصحابة قدوة له ، يعني مسافة كبيرة جداً بين أن يكون قدوة الشاب ممثلاً ، أو لاعب كرة ، وقد يكون منحرفاً أخلاقياً ، في لاعبين كرة معهم انحراف أخلاقي ، وضبطوا بحالات ، وعوقبوا وحوكموا ، وبينما أن يكون المثل الأعلى لابنك صحابي جليل ، شاب نشأ في طاعة الله .
إذاً أريد بهذه المقدمة أن أؤكد لكم : لا تعفى أبداً من مسؤولية التربية العقلية إذا اكتفيت بتحصيل شهادة عليا تدر عليه دخلاً كبيراً ، لابدّ من أن تعلمه أمور دينه ، لذلك :
(( أدبوا أولادكم على ثلاث خصال : حب نبيكم ، وحب آل بيته ، وتلاوة القرآن))
[رواه الطبراني عن علي]
أيها الأخوة ، مرة ثانية : نحن عندنا بالمصطلحات الشرعية ، فرض عين وفرض كفاية ، فرض الكفاية إذا قام به البعض سقط عن الكل ، من فروض الكفاية أن يكون في الأمة علماء كبار ، علماء متعمقون ، علماء متفرغون ، علماء متبحرون ، علماء يستطيعون أن يردوا على كل شبهة تطرح في الساحة العامة ، يستطيعون أن يقدموا الأدلة الناصعة القوية على وجود الله ، ووحدانيته ، وكماله ،(1/131)
وعلى أحقية هذا الوحي ، وعلى أحقية هذا القرآن ، وعلى عصمة النبي العدنان ، هؤلاء العلماء المتبحرون ، المتفرغون ، المتعمقون ، وجودهم فرض كفاية ، إذا قام به البعض ، سقط عن الكل .
لكن طلب العلم فرض عين على كل مسلم ، وجود عالم متبحر فرض كفاية ، أما طلب العلم فرض عين على كل مسلم ، من أي اختصاص ، معه اختصاص أدبي ، علمي ، طب ، هندسة ، لابد من أن يعرف دينه فطلب العلم واجب على كل مسلم .
الآن هذا الدين مما يتألف ؟ طبعاً في ملايين ، ملايين المؤلفات الإسلامية ، لكن لو أردت أن أجمعها في مخطط ، هذا الدين يبدأ بالعقيدة ، والعقيدة أخطر ما في الدين ، إن صحت العقيدة صحّ العمل ، وإن لم تصح لم يصح العمل .
كيف أن الطيار إذا أخطأ في تحديد الهدف بميلي في جهاز الطائرة ، هذا الميلي في جهاز الطائرة ينعكس في الأرض كيلو متر ، الميلي بتحديد الهدف بجهاز الرادار الذي في الطائرة ينقلب على الأرض واحد كيلو متر .
وكذلك الإنسان بالعقيدة ، إذا في خطأ بالعقيدة يكون في خطأ بالسلوك مئة ضعف تقريباً ، يعني يكفي أن تتوهم مفهوم الشفاعة بشكل ساذج ، أن النبي يشفع لأمته يوم القيامة ، فلا يوجد أي داعٍ لاستقامة الإنسان ، هذه الفكرة الساذجة الغير الصحيحة تدعوه إلى عدم الاستقامة ، لذلك : أي إنسان يغش في البيع والشراء يتلق بهذا الحديث ، يقول لك :
(( شفاعتي لأهل الكبائر مِنّ أمَّتي )) .
[ أخرجه أبو داود والترمذي عن أنس بن مالك ] .
إذاً أعمل كم كبيرة ، هذا خطأ كبير ، أنا أقول لكم كلمة : لو كان ممكناً أن تعتقد شيئاً دون أن ينعكس هذا الاعتقاد سلوكاً اعتقد ما شئت ، لكن لأنني متأكد مئة بالمئة ما من شيء تعتقده إلا وينعكس سلوكاً على صاحبه .
مثلاً : في عالم الطلاب ، لو طالب توهم أن هذا الأستاذ قبل الامتحان بيومين يطرق بابه ، يقدم له هدية ثمينة ، والده غني ، هذا المعلم يعطيه الأسئلة ، هذه الفكرة هل تجعله يدرس أثناء العام الدراسي ؟ فكرة خطيرة جداً ، هي فكرة ، سمع من طالب أن هذا الأستاذ بهدية ثمينة يعطيه السؤال ، لا داعي لئن يدرس ، كل يوم في وظائف ، وفي مطالعة ، وفي مراجعة ، وفي قراءة ، أمضى العام الدراسي كله باللعب مع أصدقائه ، في حضور بعض الأفلام ، في الطرقات يتسكع ، يتابع الفتيات ، ارتاح ، لأنه لا يوجد عنده دراسة ، الأستاذ يعطي السؤال ، قبل الامتحان بيومين طرق باب المعلم ، وقدم له الهدية ، وطلب منه الأسئلة ، فتلقى صفعتين على خديه أنسته والديه ، فهذه الفترة كانت سبب هلاكه .(1/132)
أقسم لكم بالله هناك آلاف الأفكار تطرح في الحقل الديني ليس لها أصل ، وتسبب شللاً ، ما في داعي يستقيم ، يعني :
(( إن أحدكم ليعمل بعمل أهل النار ، حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب ، فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها )) .
[متفق عليه عن عبد الله بن مسعود]
جيد أقضي حياتي كلها بالمعصية ، يأتي حديث :
(( لو لم تكونوا تذنبون لخشيت عليكم ما هو أكبر منه )) .
[ أخرجه البزار عن أنس بن مالك ] .
(( لو لم تذنبوا لذهب الله بكم ولجاء بقوم يذنبون فيستغفرون الله فيغفر لهم )) .
[ أخرجه البزار عن أبي سعيد الخدري ] .
جيد لحق حالك بكم ذنب ، هناك نصوص إذا فهمتها خطأ تنشل حركتك ، يكفي أن تعتقد أن الله أجبر عباده على أعمالهم .
ألقاه في اليم مكتوفاً وقال له ... إياك إياك أن تبتل بالماء
* * *
انتهيت ، أي فكرة منعكس سلوكي ، لو لم يكن هناك منعكس سلوكي للأفكار يقول لك اعتقد ما شئت ، لكن لا يمكن أن تتوهم شيئاً إلا وأن ينعكس على سلوكك سلوكاً منحرفاً من هنا كان أخطر شيء في الدين العقيدة ، إن صحت العقيدة صح العمل ، إذا في مثلث مقسم إلى أربعة أقسام القسم العلوي هو العقيدة ، إن صحت صح العمل ، لذلك الآية الكريمة :
* فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ * .
( سورة محمد الآية : 19 ) .
* فَاعْلَمْ ـ ما قال فقل قال ـ فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ * ، أكد العلماء أن العقيدة لا تقبل عند الله إلا تحقيقاً ، لا تقليداً ، لا تقبل العقيدة تقليداً ولو أنها صحيحة ، لو أن الله قبل اعتقاداً تقليداً لكانت كل الفرق الضالة ناجية عند الله ، وأنهم سمعوا ممن يعلمهم كلاماً فرددوه تقليداً ، العقيدة لا تقبل عند الله إلا تحقيقاً ، * فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ * .
عندي مثلث أول قسم العقيدة ، القسم الثاني العبادات ، أركان الإسلام ، الصلاة ، يعني ممكن هذا الإله العظيم الذي خلق السماوات والأرض يطلب منك أن تغسل أعضاءك ، وتقف ، وتقرأ الفاتحة ، وشيء من القرآن ، وتركع ، وتسجد ، وأنت تعمل حساب الصندوق الذي يخصك ؟ هناك فرق ثمانية آلاف أين ذهبوا ؟ ولا الضالين ، تجد شخصاً صلاته كلها خواطر متعلقة بدنياه ، بمشاكله ، بامتحانه ، بتجارته ، بمستودعاته ، وهو بالصلاة .(1/133)
قال له : أنت صليت المغرب ركعتين ، قال له : أبداً ثلاثة ، متأكد ، قال له : ما الدليل ؟ أنا عندي ثلاثة صناديق ، فيهم مشاكل حللت في كل ركعة صندوق ، ثلاثة صلى .
ممكن الإله العظيم يطلب منك الصلاة هذه الشكلية ؟ تتناسب مع عظمته ؟ .
مدير مؤسسة يقول لك اذهب إلى حمص وقف بالساحة ربع ساعة وارجع إلى الشام فقط ، ما هذا الأمر ؟! تقبلها أنت من مدير عام ؟.
قبلت من الله عز وجل تكون الصلاة هكذا بهذا الشكل الساذج ؟ يجب أن تعرف أن الصلاة اتصال .
* إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ * .
( سورة العنكبوت الآية : 45 ) .
أنت في الصلاة تذكره ، والله عز وجل إذا أقبلت عليه يذكرك ، يا الله ! ذكر الله لك أكبر من ذكرك له ، إنك إن ذكرته أديت واجب العبودية ، لكن إذا ذكرك الله منحك الحكمة ، منحك الأمن ، منحك الرضا ، منحك التوفيق ، منحك سداد الرأي ، منحك صواب القول ، أودع في قلب الناس محبتك ، ثمار مذهلة من الصلاة ، فلذلك :
(( الصلاة عماد الدين فمن أقامها فقد أقام الدين ومن هدمها فقد هدم الدين )) .
[ رواه الطبراني عن معاذ ] .
أول شيء العقيدة ، الله موجود ، واحد ، كامل ، بعض الأمثلة :
بأوربا فكرة شائعة جداً ومريحة ، بالمناسبة : ما كل شيء صحيح مريح قد يكون الغلط هو المريح ، فكل شخص معه شذوذ متوهم بأوربا أن عنده جينات شاذة ، أنه هو إنسان سوي ، يستحق أن يكون له مكانة اجتماعية ، فالآن ببعض البلاد مسموح الزواج المثلي ، لذلك يكون بمنصب رفيع ، وزير مثلاً ، سفير معه شريك ، ما معه زوجة ، المنطلق الغير صحيح أن جيناته خاصة ، لكن إيماناً أنت تقبل إله عظيم يخلق جينات خاصة تدعو صاحبها للشذوذ ثم يحاسبه في جهنم ؟ أنت تتوازن بهذه الفكرة ؟ الفكرة ما لها أصل .
لما كلينتون بآخر أيامه في رئاسته أعلن (أنا أسميها قنبلة علمية) ، أعلن الخارطة الجينية ، أهم شيء في هذه الخارطة لا علاقة بين السلوك والجينات إطلاقاً ، هذا شيء مذهل .
أحياناً الإنسان يعتقد أشياء مريحة لكن غير صحيحة ، كمثل أوضح :
إذا شخص رغب أن يشتري سيارة و لم يشترِ ، وله صديق رغب أن يشتري واشترى ، بعد فترة سمع الاثنان إشاعة : هناك تخفيض للرسوم بالـ%50 ، الذي اشترى يكذب الإشاعة من دون تحقيق ، لأنه إذا كذبها يرتاح ، والذي لم يشترِ يكذبها من دون تحقيق.
فأنت بحالات كثيرة تصدق شيئاً غير صحيح ، لكن يريحك ، وتكذب شيئاً صحيحاً لكن يزعجك ، فالإنسان يميل لحديث أنه :(1/134)
(( شفاعتي لأهل الكبائر مِنّ أمَّتي )) .
[ الترمذي و أبو داود عن أنس بن مالك]
هذا مريح الحديث ، وافعل ما تشاء ، وغش الناس ، واكذب عليهم ، ابتز أموالهم ، والنبي يشفع لك ، الخطأ بالعقيدة ، انقلبت سلوكاً منحرفاً ، أو أنه :
(( لو لم تذنبوا لذهب الله بكم ولجاء بقوم يذنبون )) .
[ رَوَاهُ مُسلِمٌ عن أبي أيوب خالد بن يزيد] .
معناها الذنب شيء من خصائص الإنسان ، اختلاط ، مصافحة ، يملأ عينيه من محاسن المرأة ، يأكل مالاً حراماً ، يكذب ، يغش ، لأنه هكذا سمع .
والوفاء بالوعد ، وإنجاز العهد ، والرحمة ، والإنصاف ، ماذا قال سيدنا جعفر للنجاشي ؟ قال له أيها الملك :
(( كنا قوماً أهل جاهلية ، نعبد الأصنام ، ونأكل الميتة ، ونأتي الفواحش ونقطع الأرحام ، ونسيء الجوار ، ويأكل القوي منا الضعيف ، فكنا على ذلك ، حتى بعث الله إلينا رسولاً منا نعرف نسبه ، وصدقه ، وأمانته ، وعفافه ، فدعانا إلى الله لتوحيده ، ولنعبده ، ونخلع ما كنا نعبد نحن وآباؤنا من دونه من الحجارة والأوثان ، وأمرنا بصدق الحديث ، وأداء الأمانة ، وصلة الرحم ، وحسن الجوار ، والكف عن المحارم والدماء )) .
[أخرجه الإمام أحمد عن أم سلمة أم المؤمنين ] .
هذا الإسلام منهج أخلاقي .
عندنا العبادات ، والمعاملات ، والحقيقة التي ألح عليها كثيراً : ما لم تصح العبادات التعاملية من صدق ، وأمانة ، وإنصاف ، وعفة ، لا تقبل ولا تصح العبادات الشعائرية ، صار في عقيدة ، عبادات ، معاملات .
آخر شيء الآداب ، آداب الضيافة ، آداب السفر ، آداب الزوج ، آداب الزوجة ، آداب الابن ، آداب الأب ، بحث الآداب بحث رائع جداً ، تجد المسلم كاملاً ، لطيفاً ، صادقاً ، أميناً ، عفيفاً ، متواضعاً ، منصفاً ، يحب الخير .
والله أيها الأخوة ، للتقريب أحياناً ، تموت غنمة في طرق السفر أحياناً ، و لا أحد يزيلها من مكانها ، بعد فترة تنشأ رائحة لخمسين أو مئة متر من هذه الجيفة ، الإنسان يخرج من جلده منها ، والعياذ بالله رائحة اللحم المتفسخ ، رائحة الجيف لا تقابل ، هذا لحم ، وأحياناً تكون جائعاً جداً وتأكل لحماً طازجاً مشوياً تقول أكلت أكلة لا أنسها مدى الحياة ، هذا لحم وذاك لحم .(1/135)
الإنسان الذي لم يعرف الله عز وجل يصبح مثل الجيفة ، نتن ، كلامه بذيء ، مزحه سيء ، مزحه قاسٍ ، لئيم ، أناني ، يحب ذاته ، شهواني ، كذاب ، دجال ، منافق ، تجد كتلة أخطاء ، شيء لا يحتمل ، يدعو للقرف .
المؤمن إن لم تعشقه فليس مؤمناً ، من تواضعه ، من إنصافه ، منصف ، من محبته للناس ، من استقامته ، من صدقه ، من أمانته ، إن لم تعشقه فليس مؤمناً .
بالعقيدة الصحيحة ، والعبادات الصحيحة ، والمعاملات الصحيحة ، والآداب ، هذا الإسلام شَكّل إنساناً راقياً جداً .
نحن نريد في التربية العقلية ألا تتوهم إذا ابنك صار طبيباً انتهى ، ما انتهى شيء.
والله أيها الأخوة ، الإنسان إذا ما عرف الله ، يفعل أشياء يندى لها الجبين ، تصدق يكون هناك دواء للورم الخبيث ، يعطى في المستشفيات العامة مجاناً للفقراء ، يقدم للفقير ماء مقطر على أنه دواء السرطان ، وهذا الدواء يؤخذ إلى عيادة خاصة ويباع بمئة ألف ، تصور إنساناً يفعل هذا ؟ ممكن ، ومعه أعلى شهادة ، ممكن .
الإنسان إذا ما عرف الله وحش ، أناني ، يريد أن يعيش وحده ، أن يجمع أموالاً طائلة ، والله هناك قصص يندى لها الجبين تظهر من مثقفين ، فإذا أنت ما تربيت تربية إيمانية ، عقيدتك سليمة ، عباداتك صحيحة ، معاملاتك منضبطة ، تطبق آداب الإسلام ، لا تقبل عند الله عز وجل .
الذي أريد في هذا الدرس الأخير من التربية العقلية : إياك أن تظن أن ابنك إذا علمته أخذ شهادة عليا ، طبيب ، مهندس ، درس ببريطانيا ، ما معك شهادة ؟ والله ( إف آر إس ) ، لا يتكلم العربية ، بورد ، ما انتهى شيء ، قد يكون طبيباً ومعه بورد وليس مستقيماً طبعاً ، تريد أن تصل لله عز وجل ، وتؤدي واجبك تجاه هذا الدين العظيم ؟ هل تكتفي أن يحصل ابنك علماً كونياً يعد الآن ؟ أحد وسائل كسب الرزق الراقية ، أضف إلى اختصاصه الجامعي أن يعرف الله ، يكون له مرجع ديني ، يكون له مسجد ، يكون له درس علم ، هذه دروس العلم ، ماذا يوجد في الجامعة ؟ مُحاضر ، وكلام يلقى ، دروس المساجد دروس علم ، وعلم عميق ، ومتين ، وله أصول ، ومسجل الدرس وممكن أن تراجعه .
لذلك ما لم تلحق ابنك بمسجد تثق بخطيبه ، بمدرسه ، مسجد نظيف ، عقيدة سليمة ، علاقات واضحة ، نظيفة ، لا تطمع أن يكون ابنك يكون صاحب دين إذا ما له مرجع
أنت تصدق إنساناً ينام يستيقظ معه دكتوراه بالطب ، يقول لك أنا 33 سنة درست و تعبت حتى أخذت الشهادة ، يحتاج إيمان وجنة من دون درس علم ، من أين يأتي العلم ؟ تجد خرافات الناس مذهلة ، ما في علم ، لا يعرف الحلال والحرام إطلاقاً .(1/136)
على كلٍ نحن بحاجة ماسة إلى أن نعطي الابن العلم الديني الصحيح ، إذا أنت عالم دين أيها الأب بارك الله بك أنت علّمه ، لك ثقة بمسجد ، تعرف الدعوة واضحة تماماً مؤصلة ، مدللة بالأدلة الصحيحة ، ما في شطح ، ما في انحراف ، ما في اهتزاز ، تعرف مسجداً فيه خطيب ممتاز ، فيه مدرس ممتاز ضعه فيه ، يكون له أصدقاء مؤمنين ، أما يهمك شهادته ، يهمك معه ليسانس ، معه دكتوراه ، فقط ، لا يتعلم .
بصراحة الذين معهم ثقافة عالية يستطيعون أن ينحرفوا مليون ضعف عن أناس لا يحملون هذه الشهادة ، إذا أنت مثلاً زرت طبيباً لا يعرف الله أبداً ، كتب لك اثني عشر تحليلاً ، وأنت بحاجة إلى واحد ، متفق مع مخبر ، أول واحد تحلله ، والباقي اكتب أجوبة خلبية ، الربح بيننا أنا وأنت ، هل تستطيع أن تكشفه أنت كمريض ؟ لا تستطيع ، لا يستطيع إنسان أن يكشف طبيب قلب يضع دساماً صينياً ثمنه 35 ألفاً ، وكتب بالفاتورة أمريكي ثمنه 65 ألفاً بعدما العملية انتهت ، والدسام صار داخل القلب ، وخيطه فيك هل تستطيع أن تكشف الحقيقة أنت ؟ .
أحياناً الذي معه شهادة عليا يستطيع أن ينحرف انحرافاً مذهلاً ، ولا أحد يكشفه أبداً لا يكفي أن يكون معك دكتوراه ، وأنت بحاجة أن تعرف الله ، أن تستقيم على أمره ، أن تكون وقافاً عند حدود الله .
===============
... ... ... ...(1/137)
15 ـ التربية النفسية 1 ـ ظاهرة الخجل
أيها الأخوة الكرام ، مع الدرس الخامس عشر من دروس تربية الأولاد في الإسلام .
واليوم ندخل في التربية النفسية ، وهذه التربية النفسية واسعة جداً ، ونكتفي في هذا اللقاء من التربية النفسية بظاهرة هي ( الخجل ) ، الخجل نقيصة ، والحياء فضيلة ، وفرق كبير بين الخجل وبين الحياء ، الحياء من الإيمان ، أما الخجل من تربية قاسية ، من تربية كلها شتائم ، ضرب ، وإهانة ، هذه التربية القاسية التي يسلكها الآباء مع أبنائهم ، من نتائجها الوبيلة أن هذا الطفل ضعيف الشخصية ، يخجل أن يتكلم ، وقد يصاب بحبسة في نطقه ، التأتأة من خوفه ، فالأب القاسي الذي يسارع في ضرب ابنه ، وشتمه أمام إخوته أو أصدقائه هذا الطفل يتحطم ، فلذلك لا يستطيع أن يقول كلمة ، أحياناً يجبن عن أن يطالب بحقه ، يجبن عن أن يدافع عن نفسه .
فالأب الذي لا يعرف أصول التربية ، والأبوة كما تعلمون مسؤولية ، قد يسبب لابنه متاعب كبيرة جداً حينما يكبر .
* إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآَثَارَهُمْ * .
( سورة يس الآية 12 ) .
أثر التربية القاسية في الطفل قد تستمر نتائجها إلى سن متأخرة جداً ، فضعف شخصية الطفل ، خوفه من العقاب ، أحياناً يكذب ، والكذب من نتائج القسوة ، أحياناً يركن إلى أصدقائه وأصدقائه أكبر خطر عليه ، لأن تأثير الصديق على صديقه يزيد عن تأثير الأب ، والأم ، والأخوة الكبار ، والأخوات الكبار ، والمعلم ، والشيخ ، تأثير صديق على صديقه يزيد عن تأثير كل هؤلاء مجتمعين .
فيا أيها الأخوة ، ساعة غضب ، ضرب مبرح ، إهانة ، شتيمة ، دائماً يشتم الأب ابنه ، أنت غبي ، وقد يكون ذكياً جداً ، لكن كلمة غبي حطمت معنوياته .
التقيت بعالم كبير في بلد إسلامي ، يحمل أعلى شهادة ، وله إنتاج كتابي ودعوي كبير جداً ، أقسم لي بالله أن سرّ تفوقه ، وهو في قرية من قرى حمص ، سرّ تفوقه أن له قريباً غير متعلم ، قال له مرة وهو صغير ، قال له : أنت يا بني سوف تكون عالماً كبيراً ، كلمة ، كلمة ملأت نفسية هذا الصغير ثقة بنفسه .
حدثني طبيب ، له ابن ، فمن أجل أن يحثه على أن يكون طبيباً ، قال له : الخطاط الفلاني من كبار خطاطي سوريا تقدمت به السن ، وأخاف أن يتوفاه الله دون أن يكتب لك لوحة الطبيب فلان ، وهو في الصف السابع ذهب إلى الخطاط ، وكتب لوحة الطبيب فلان الفلاني ، وضعها في غرفة ابنه ، فهذا الطفل الصغير يستيقظ فإذا اسمه الدكتور فلان ، والآن من كبار أطباء دمشق ، مختص بالعمود الفقري .(1/138)
كلمة تشجيع ، كلمة ثقة ترفع معنويات ابنك ، لا تنسوا أن الفضيلة وسط بين رذيلتين ، في خجل ، وفي وقاحة ، فالجرأة ، وقوة الشخصية بين الخجل كنقيصة ، وبين الوقاحة كنقيصة .
سيدنا عمر يمشي في الطريق ، رأى غلماناً يلعبون ، له هيبة كبيرة ، لما رأوه تفرقوا ، إلا واحداً منهم ، بقي واقفاً بأدب ، لفت نظره ، قال له : يا فلان لِمَ لم تهرب مع من هرب ؟ قال له : أيها الأمير ! لست ظالماً فأخشى ظلمك ، ولست مذنباً فأخشى عقابك والطريق يسعني ويسعك ، أرأيت إلى هذه الجرأة ، وهذا الأدب .
لذلك : قوة شخصية الابن بين الوقاحة والتطاول وعدم الأدب ، وبين الخجل والتطامن المرضي ، هذه بسبب حسن تربية الأب .
والله أيها الأخوة ، لو تأملتم الأخطاء التي يرتكبها الآباء بحق أولادهم ، وكيف سيحاسبون عليها في المستقبل ، الأبوة مسؤولية ، قبل أن تتزوج ، وقبل أن تنجب اطلب العلم لأن الإنسان بنيان الله ، وملعون من هدم بنيان الله ، طفل بريء له كرامته ، له مشاعره ، نمي له مشاعره ، نمي له كرامته ، أعطه حماساً ، أعطه حناناً ، أعطيه محبة ، أعطه عطفاً ، أخطأ ، ممكن يخطئ ، سامحه ، دعه يصدق ، إن ضربته لن يصدق مرة ثانية ، دعه يصدق.
والله أنا لست مبالغاً لكنني أؤمن أن معظم أخطاء الطلاب من المعلمين ، وأن معظم أخطاء الصغار من آبائهم وأمهاتهم ، بيوت فيها قسوة ، فيها ضرب ، فيها شتائم ، خصومات بين الأب والأم ، هذه الخصومات تنعكس على الصغار .
فلذلك : الإنسان بنيان الله ، وملعون من هدم بنيان الله ، هذا ابنك ، هذا سيكون رجلاً ، علمه الأدب ، علمه الحياء ، علمه أن يقف عند حده ، ألا يتجاوز حده .
1 ـ أن يعالج الأب ابنه على انفراد :
أنا أول ملاحظة : أتمنى على كل أب ، وعلى كل أم ، أن يعالج الأب ابنه على انفراد ، بينه وبينه ، ومهما كان قاسياً إذا تمت هذه المعالجة بين الأب وابنه على انفراد كرامة الصغير محفوظة ، والصغير لا يتألم من أبيه لو قسا عليه لأنه أبوه ، لأنه يتألم أشد الألم حينما يصغره أمام أصدقائه .
كنت مرة في أمريكا ، وحدثني طبيب هناك ، له ابن ، هذا الابن في المدرسة دعا زنجياً إلى البيت (صديقه في المدرسة) ، الذي حصل كشأن أي أسرة مسلمة تحب أولادها فالأم هيأت طعاماً لصديقه ، رأى هذا الصديق الزنجي ، رأى ابن يحترم أمه وأباه احتراماً بالغاً ، ورأى الأم تعتني بصديق ابنها ، هيأت له طعاماً ، في عناية بالغة ، هذا الطفل الزنجي لما رأى هذه الأسرة المتماسكة كان سبب إسلامه ، كانت مواقف هذه الأسرة من ابنها سبب إسلامه والله شيء جميل !.
عفواً ، نحن في بلادنا من فضل الله هناك أسر تعتني بأولادها عناية بالغة ، وتعتني بأصدقائهم ، صديق الابن إذا كان من أسرة مربى تربية عالية محترم جداً .(1/139)
فيا أيها الأخوة ، أول بند في التربية النفسية ينبغي أن تعالج ابنك فيما بينك وبينه من أجل أن تحفظ له كرامته ، ألا تخدش بين أصدقائه ، أو أمام إخوته .
2 ـ أن يكون قدوة له :
النقطة الثانية : ما في طريقة للتأثير في الصغير كأن تكون قدوة له ، يعني لو أن الأب قال لابنه : قل له : أنا لست في البيت ، هذا الكذب العملي يلغي ألف محاضرة في الصدق ، عود نفسك أن تكون صادقاً أمام ابن ينظر إليك هكذا ، الأب يكذب ! الأب يدخن ! الأب يرفع صوته في البيت ! حتى رفع الصوت في البيت حتى يسمع من في الطريق هذا الصوت هذا مما يجرح العدالة ، طبعاً أشياء كثيرة تجرح العدالة ، منها :
من مشى في الطريق حافياً ، منها تطفيف بتمرة ، منها أكل لقمة من حرام ، منها من تنزه في الطرقات ، منها من كان حديثه عن النساء ، منها من أكل في الطريق ، منها من قاد جرذوناً ، منها من أطلق لفرسه العنان ، ومنها من علا صوته في البيت .
البيت المؤمن بيت هادئ ، صوت عالٍ لا يوجد ، هناك ود ، محبة ، تسامح ، معالجة الأمور بالكلام ، لا بخبط الأبواب ، و بتكسير الأواني ، و بالسُباب ، بالشتائم ، البيت الهادئ ، الأولاد ينشؤون على الهدوء .
الملخص : إن كنت مع الله هداك الله إلى الطريق المستقيم .
التربية النفسية تربية على الفضائل ، ينبغي أن تربي ابنك على الصدق ، وأن تعلمه أنه إذا كان صادقاً لن تعاقبه ، ينبغي أن تربيه أن يكون صديقك ، يبوح لك بكل شيء ، وأنت إذا أخطأ يا بني هذا خطأ ، هذا الخطأ يسبب لك سمعة سيئة ، هذا الخطأ قد ينعكس على مستقبلك انعكاساً سلبياً .
ملخص التربية النفسية : أن تنشئ ابنك على الفضائل ، على الصدق ، والأمانة والعفة ، والاستقامة ، واحترام الآخر ، وإنجاز الوعد ، والوفاء بالعهد ، هكذا الإسلام .
(( أيها الملك كنا قوماً أهل جاهلية ، نعبد الأصنام ، ونأكل الميتة ، ونأتي الفواحش ، ونقطع الأرحام ، ونسيء الجوار ، حتى بعث الله إلينا رسولاً منا نعرف نسبه ، وصدقه ، وأمانته ، وعفافه ، فدعانا إلى الله لتوحيده ، ولنعبده ، ونخلع ما كنا نعبد نحن وآباؤنا من دونه من الحجارة والأوثان ، وأمرنا بصدق الحديث ، وأداء الأمانة ، وصلة الرحم ، وحسن الجوار ، والكف عن المحارم والدماء )) .
[أخرجه الإمام أحمد عن أم سلمة أم المؤمنين ] .
الإسلام بنيان أخلاقي ، الإسلام منظومة قيم أخلاقية ، فبطولة الأب أن يربي أولاده على هذه القيم ، أن ينتبه لحديثهم ، هل هو صادق أم كاذب ، أن ينتبه لأمانتهم ، أن ينتبه لوعودهم .
طبعاً مرة ثانية : التربية النفسية تعني أن تربي ابنك على الفضائل الأخلاقية لأن الإيمان هو الخلق فمن زاد عليه في الخلق زاد عليك في الإيمان ، ولأن النبي عليه أتمّ الصلاة والسلام قال :(1/140)
(( وإنما بعثت معلماً )) .
[أخرجه الحارث عن عبد الله بن عمرو بن العاص ] .
(( إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق )) .
[أخرجه البزار في مسنده والإمام أحمد عن أبي هريرة ] .
فلذلك محور التربية النفسية التي بدأناها في هذا الدرس أن تربي ابنك على مكارم الأخلاق ، من هذه النقاط النفسية الضعيفة في حياة الابن ( الخجل ) .
فهذا اللقاء مخصص لموضوع الخجل ، وكما تعلمون الخجل ظاهرة مرضية ويقابله الحياء ، والحياء من الإيمان ، الحياء أن تستحي أن تقترف معصية ، أن تستحي أن تتطاول على من هو فوقك ، الحياء أن تستحي أن تأخذ ما ليس لك ، الحياء أن تستحي من الله .
(( اسْتحْيُوا مَنَ اللَّهِ حَقَّ الْحَياءِ ، قُلنا : إنَّا لَنسْتَحيي من اللَّه يا رسولَ اللَّه والحمدُ للَّه ، قال : لَيس ذَلِكَ ، ولكنَّ الاسْتِحياءَ مِنَ اللَّهِ حَقَّ الْحَياءِ : أنْ تَحْفَظ الرَّأْسَ ومَا وَعى )) .
[أخرجه الترمذي عن عبد الله بن مسعود] .
في نظر ، هل تغض البصر ؟ في أذن ، هل تمتنع عن سماع مالا يرضي الله ؟ في يد .
(( أنْ تَحْفَظ الرَّأْسَ ومَا وَعى ، والْبَطْنَ ومَا حَوى )) .
[أخرجه الترمذي عن عبد الله بن مسعود] .
هل تأكل طعاماً ثمنه مال حرام ؟ هل تقودك قدماك إلى معصية ؟ هل تبطش بيدك ؟ هذا حق الحياء ، وأعلى حياء أن تستحي من الله ، لأن الله حيي :
(( يَستَحي من عبده إذا رَفَعَ إليه يديه أنْ يَرُدَّهُما صِفْرا خَائِبَتَيْنِ )) .
[أخرجه أبو داود والترمذي عن سلمان الفارسي ] .
(( عبدي كبرت سنك ، وضعف بصرك ، وانحنى ظهرك ، وشاب شعرك ، فاستحي مني فأنا أستحي منك )) .
[ ورد في الأثر ] .
الحياء فضيلة فيجب أن تربي ابنك على الحياء ، الحياء يتمثل في أن الطفل ينبغي ألا يخلع ثيابه أمام إخوته ، أو أمه وأبيه ، والله في أسر ما شاء الله ! موضوع خلع الثياب يتم على انفراد ، في غرفتها ، وهناك أسر غير منضبطة ، طفل يقوم بثيابه الداخلية أمام أخواته البنات ، والنبت تقوم بثياب شفافة أمام إخوتها الذكور ، والأبواب مفتوحة ، وما في انضباط ، هناك ظواهر و انحرافات خطيرة جداً بين أفراد الأسرة سببها الأول هذا التفلت .
مرة وجه النبي أصحابه إلى أن يستأذن الرجل على أمه إذا دخل عليها ، فصحابي جليل قال : إنها أمي ! قال له : أتحب أن تراها عريانة ؟ .(1/141)
من البديهيات ألا تدخل على ابنتك قبل أن تستأذن ، لعلها نائمة ، لعلها متكشفة في أثناء النوم ، يدخل أخ على أخته من دون استئذان ممنوع ، يدخل الأب على ابنته من دون استئذان ممنوع ، حينما تحفظ العوارات في البيت يكون في حياء ، أما إذا في تفلت ، في إهمال ، في ثياب متبذلة ، يرتديها الشباب والشابات في البيت أمام أمهم وأبيهم ، وأمام بعضهم بعضاً ، هذا الوضع المتفلت قد يؤدي إلى انحراف لا تحمد عقباه .
إذاً أولاً : أن نربي الابن على ألا يظهر عورته أمام إخوته ، ولا أمام أمه وأبيه .
أيها الأخوة ، الآن الكلمات ، هناك كلام يسمعه الصغير من الطريق ، يجب أن ينبه هذه كلمة بذيئة ، البيت المنضبط يعيش الابن مع أمه وأبيه سنوات طويلة ، لا يستمع ولا إلى كلمة بذيئة واحدة ، ولا إلى ذكر العورات ، ولا إلى سُباب فاحش ، فكلما سعيت إلى أن يكون سمع ابنك منزهاً عن كل كلمة بذيئة فهذا من فضل الله عليك .
الآن خلع الثياب أمام الكبار والصغار ، من دون تحفظ ، واستخدام كلمات ليست تليق بالإنسان ، البيت المنضبط .
(( لا يستقيم إيمان عبد حتى يستقيم قلبه ولا يستقيم قلبه حتى يستقيم لسانه )) .
[أخرجه الإمام أحمد عن أنس بن مالك] .
والمؤمن ليس بفاحش ولا متفحش ، منضبط الكلام .
أيها الأخوة ، هناك حديث شريف قد يفهمه الناس خطأ ، الحديث :
(( إذا لم تَسْتحِ فَافْعلْ مَا شِئْتَ )) .
[أخرجه البخاري وأبو داود عن أبي مسعود الأنصاري ] .
من أدق معاني هذا الحديث ، يعني إذا لم تستحِ من الله فافعل ما تشاء ، ولا تعبأ هذا يعطيك قوة شخصية ، نحن تحدثنا قبل قليل عن أن قوة شخصية الابن ناتجة من حسن تربية أبيه ، فبين أن يكون الأب قاسياً فينشأ على الخجل ، وهو نقيصة ، وبين أن يعلو صياح الابن فالأهل يفرحون ، يتكلم بكلمة بذيئة يضحكون ، يتطاول على ضيف يهللون ، تعلّم على الوقاحة ، يتطاول على ضيف ، يضرب الضيف ، وإن كان صغيراً ، يتكلم كلمة بذيئة ، والكل يضحكون ، معنى ذلك أنت السبب أيها الأب في أن يتعلم الوقاحة والتطاول ، فلابد من أن يكون التوجيه متوازناً بين أن يكون خجولاً ، وبين أن يكون وقحاً ، فالحياء فضيلة بين رذيلتين ، بين رذيلة الوقاحة ، ورذيلة الخجل .
(( إذا لم تَسْتحِ فَافْعلْ مَا شِئْتَ )) .
[أخرجه البخاري وأبو داود عن أبي مسعود الأنصاري ] .(1/142)
ما دمت واثقاً أن هذا العمل وفق منهج الله ، ويرضي الله ، لا تعبا بكلام الناس وأحد أسباب ضعف الشخصية الخوف من كلام الناس ، وأحد أسباب قوة الشخصية الأمر واضح ، الهدف واضح ، الوسيلة مشروعة ، امضِ بما أردت ولا تعبأ بكلام الناس ، ومن عرف نفسه ما ضرته مقالة الناس به .
موضوع الحياء من الله : مرة استنصحني موظف في التموين ، التقى بي صدفة ، قال لي : انصحني ، أنا أردت أن استفزه ، قلت له : اكتب الضبوط ، وأودع الناس في السجن ، قال لي : ما هذا الكلام ؟! قلت له : إذا كنت بطلاً هيئ لأي شيء تفعله جواباً لربك ، لا لمن هو فوقك ، هذا هو الحياء ، أنا سوف أحاسب عن هذا العمل ، هل موقفي أمام ربي سليم ؟ هل معي جواب يا رب أنا فعلت هذا ابتغاء مرضاتك .
أي أحد أسباب قوة الشخصية هذا الإنسان ينطلق من مبادئ ، من قيم يؤمن بها ، لكن أحياناً المجتمع يرفض بعض القيم ، يرفض قيم النصيحة أضرب مثلاً على هذا :
تأتي ابنة أخيك إلى البيت لزيارة عمها ، وهي ترتدي ثياباً فاضحة ، ثيابها تصف كل خطوط جسمها ، والعم يرحب بها أشد الترحيب ، ويثني على دراستها ، وذكائها وجمالها ، أين النصيحة ؟ لأنه لو نصحها تنزعج ، وإذا نصحها قد لا تعود ثانية لزيارته .
* كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ * .
( سورة المائدة الآية : 79 ) .
فأحياناً توجه نصيحة لابنة أخيك ، وهي متألقة ، متشوفة بشخصيتها ، ترتدي ثياباً فاضحة ، أهلها لا يهتمون بمظهرها ، وتبقى ساكتاً أنت ؟! إذا لم تستحِ من الله في توجيه هذه النصيحة فافعلها .
والله مرة دخلت إلى إنسان ، محسوب على المسلمين ، عنده موظفة بوضع لا يرضي الله عز وجل نصحته ، قال لي : والله جاءني مئات الأشخاص ما أحد نصحني هذه النصيحة ، هي واجب ، والأمر تلافاه ، إن لم تنصح أين قيمتك ؟.
* كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ * .
( سورة آل عمران الآية : 110 ) .
إن لم ننهَ عن المنكر ، وإن لم نأمر بالمعروف ، فقدنا خيريتنا ، وأصبحنا أمة كأية أمة لا فضل لها على أحد .
الآن الحياء والخجل ، قال تعالى :
* وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ * .
( سورة الشورى ) .
عنده قوة شخصية ، إنسان تطاول عليك ، إنسان يقود مركبة قيادة رعناء ، أنا أخجل أن أحاسبه ، حسبي الله ، لا ، يجب أن تقف موقفاً حازماً من تفلته من قواعد السير ، وإلا لست مؤمناً * وَالَّذِينَ(1/143)
إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ * ، الناس آخذون فكرة أن المؤمن تأخذ حقه فيسكت ، تتطاول عليه فيسكت ، تسحقه فيسكت ، مؤمن ! يعني درويش ، يعني أجدب ، لا .
يقول سيدنا عمر : لست بالخب ولا الخبُ يخدعني ، لست من السذاجة أن أجبن ولست من الخبث أن أخدع ، لا أَخدع ، ولا أُخدع ، المؤمن كيس ، فطن ، حذر ، فإذا في تطاول ينبغي أن توقفه عن حده ، * وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ * .
شاب يقود مركبته قيادة رعناء ، وسبب حادثاً لطفل ، لكن الحمد لله الطفل لم يمت ، لكن في رضوض ، وفي كسور ، يصطفل ، له رب يحاسبه ، لا ، كلما فعلنا معه هذا تطاول أكثر ، لابدّ من أن تأخذ بحقك منه .
لكن أحياناً يكون سائق المركبة رجل وقور يمشي بسرعة معتدلة جداً ، فالطفل يقفز أمامه ، صار مسؤولاً ، مع أن الحق على الطفل ، لكن مسؤول ، فإذا عفوت عنه قربته إلى الله ، * وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ * .
* وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا * .
( سورة الشورى الآية : 40 ) .
فإذا غلب على ظنك أن عفوك عنه يصلحه فاعفُ عنه .
* فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ * .
( سورة الشورى الآية : 40 ) .
أي أصلحه بعفوه :
* فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ * .
( سورة الشورى الآية : 40 ) .
أحياناً يُتهم في المدرسة ظلماً يسكت ، إن ربيته تربية قاسية يسكت ، لا يرفع إصبعه ، لم أفعل هذا أنا ، فلما الطفل يدافع عن نفسه بأدب ، بجرأة ، تكون قد ربيته تربية بين الخنوع والخجل ، وبين الوقاحة والتطاول .
بعض الأمثلة : هل تصدقون أن يجلس النبي عليه الصلاة والسلام بين أصحابه وعن يساره أشياخ كبار ، كأبي بكر ، وعمر ، وعثمان ، وعن يمينه طفل صغير ، جاء شراب بحسب السنة ينبغي أن يبدؤوا برسول الله ثم من على يمين رسول الله ، وطفل صغير قال له : يا غلام أتأذن لي أن يشرب الأشياخ ؟ قال له : لا والله ، لا آذن لك ، لا آذن لأحد بحقي أن أشرب بعده ، اعتبره حقاً مكتسباً .
أرأيتم إلى هذا التوجيه ؟ كيف أنه استأذن طفلاً ، بالاستئذان أعطيته شخصيته ، أعطيته حقه ، والنبي الكريم سمح له أن يشرب قبل الأشياخ ، وما اعتبرها تطاولاً ، اعتبرها شرفاً له أن يكون دوره في الشرب بعد رسول الله .(1/144)
كيف علمنا ؟ أنت لما تستشير ابنك أيضاً شيء كبير جداً ، يا بابا نريد أن نفعل كذا ما قولك ؟ يا لطيف ! يشعر بقيمته ، بمكانته ، أبي يستشيرني ، وقد تستمع إليه برأي حصيف وهو صغير .
يروى أن أبا حنيفة النعمان يمشي في الطريق رأى طفلاً أمامه حفرة ، قال له : إياك يا غلام أن تسقط ، قال له : بل إياك يا إمام أن تسقط ، إني إن سقطتُ سقطت وحدي ، وإنك إن سقطت سقط معك العالم ، أنا سقوطي لا شيء ، أما الإنسان القدوة إذا سقط سقطَ معه العالم .
سيدنا عمر بن عبد العزيز ، دخل عليه وفد المهنئين ، تقدمهم صبي صغير انزعج ، قال له : أيها الغلام اجلس ، وليقم من هو أكبر منك سناً ، غلام فصيح متكلم فقال : أصلح الله الأمير ، المرء بأصغريه قلبه ولسانه ، فإذا وهب الله عبداً لساناً ذاكراً ، وقلباً حافظاً ، فقد استحق الكلام ، ولو أن الأمر كما تقول لكان في الأمة من أحقّ منك بهذا المجلس ، أُعجب به .
موقف آخر ، عبد الملك بن مروان دخل عليه وفد المهنئين ، يتقدمهم صبي صغير ، فانزعج أيضاً ، قال لحاجبه : ما شاء أحد أن يدخل عليّ حتى دخل ؟ حتى الصبية ؟ فقام هذا الصبي الصغير وقال : أيها الأمير ! إن دخولي عليك لم ينقص من قدرك ولكنه شرفني ، أصابتنا سنة أذابت الشحم ، وسنة أكلت اللحم ، وسنة دقت العظم ، يبدو في جفاف فأصبحوا على شفا الموت جوعاً ، ومعكم فضول أموال ، فإن كانت هذه الأموال لله فنحن عباده ، تصدقوا بها علينا ، وإن كانت لكم أيضاً تصدقوا بها علينا ، وإن كانت لنا فعلامَ تحبسوها عنا ؟ فقال هذا الخليفة : والله ما ترك هذا الغلام لنا في واحدة عذراً .
مرة شاب يلقي درساً في مسجد ، شاب ناشئ ، تحلق الناس حوله وأحبوه كثيراً ، هذا أثار حفيظة كبار العلماء ، التقليل يُهين ، فجاء أحدهم كي يُصغره ، فجلس في مجلسه فلما انتهى الدرس قام هذا العالم المشهور ، وقال : يا هذا ، هذا الذي قلته ما سمعناه ، فالشاب أديب جداً ، قال له : سيدي وهل حصّلت كل العلم ؟ إذا قال نعم يكون أخطأ خطأ كبيراً ، قال له : لا ، قال له : كم حصلت منه ؟ قال له : شطره ، قال له : هذا الذي قلته من الشطر الذي لا تعرفه .
أحياناً الإنسان أديب لكن يجيب إجابة رائعة ، هذا من الشطر الذي لا تعرفه .
هناك شاب صغير يقوم بعمل (يقوم به الكبار عادة) ، فرجل أراد أن يُصغره ، فقال له : يا غلام ، كم عمرك ؟ قال له : عمري كعمر سيدنا أسامة بن زيد الذي قاد الجيش ، وفيهم أبو بكر ، وعمر ، وعثمان .
لذلك أيها الأخوة الكرام ، الأدب رائع جداً ، سيدنا يوسف قال :
* وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ * .
( سورة يوسف الآية : 100 ) .(1/145)
أيهما أخطر السجن أم الجب ؟ الجب أخطر ، الجب احتمال الموت مئة بالمئة أما السجن الحياة مضمونة ، لكن لو قال وقد أحسن بي إذ أخرجني من الجب ذكر إخوته بخطئهم الكبير .
لذلك ورد في بعض الآثار :
(( لا تحمروا الوجوه )) .
لا تخجل إنساناً ، تجاوز موضوع الجب ، وشكر الله على أنه خرج من السجن .
في آخر الزمان والعياذ بالله كما ورد في الحديث الصحيح :
(( وإذا كانت أمراؤُكم شِرارَكم ، وأغنياؤُكم بُخَلاءَكم ، وأُمورُك إلى نسائكم فبطنُ الأَرض خير لكم من ظهرها ، إذا كانَت أُمراؤُكم خيارَكم ، وأغنياؤُكم سُمحاءَكم وأمورُكم شورَى بينكم ، فَظَهْرُ الأَرضِ خَير لكم من بطنها )) .
[أخرجه الترمذي عن أبي هريرة ]
يعني بشكل أو بآخر أنت حينما تربي ابنك أن يكون جريئاً ، أن يكون صادقاً ، أن يكون أميناً ، أن يكون واضحاً ، أن يطالب بحقه ، ألا يقبل الذل ، ألا يرضى أن يكون مهاناً هذه التربية تنمي شخصيته ، وتجعله بين الخجل المذموم وبين الوقاحة التي لا تحتمل .
الآن الذي يُرى إما من شدة الضرب والشتائم الطفل خجول ، ضعيف الشخصية ، يخجل أن يطالب بحقه ، أو من شدة الإعجاب به على خطئه ، وعلى بذاءة لسانه ، وعلى تطاوله يصبح وقحاً لا يحتمل .
يروى أن شخصاً أراد أن يكسب رهاناً على حلم معاوية ، فدفع غلاماً إلى أن يغمزه من مؤخرته حينما يصعد المنبر ، فكان سيدنا معاوية ذكي جداً ، حينما غمزه هذا الطفل علم أن هناك مراهنة فقال : اكسب الرهن يا غلام ، يعني الذي راهن على حلمه نال هذا الرهن ، هذا الطفل ألف أن يفعل هذا مع غير معاوية ، فعلها مع آخر فقتله ، فقالوا : حلم معاوية قتل الغلام .
لما طفل يتطاول تبقى ساكتاً له ، يفعلها مع إنسان ظالم يسحقه ، فلما تقف موقف الناصح ، المستنكر لموقف لا يرضي الله عز وجلّ هذا موقف حكيم .
لذلك تربية الأولاد فيما يتعلق بظاهرة الخجل تجعلهم أصحاب شخصية قوية بين الخجل كنقيصة ، وبين الوقاحة كرذيلة ، والحياء كما قال عليه الصلاة والسلام :
(( الحياءَ من الإيمانِ )) .
[ أخرجه البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي ومالك عن عبد الله بن عمر ] .
(( الإيمان بضع وسبعون شُعبة ، وأفضلها قول : لا إله إلا الله ، والحياءُ شُعْبَةٌ من الإيمان )) .
[ أخرجه البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي عن أبي هريرة ] .
فنربي أولادنا على الحياء ، لأن الله سبحانه وتعالى يحب الحياء .
===============(1/146)
16 ـ التربية النفسية 2 ـ ظاهرة الخوف
كان الموضوع في الدرس السابق ظاهرة الخجل ، وهو مرض يصيب عدداً كبيراً من الصغار بسبب قسوة والديهم ، وتعنيفهم .
واليوم ننتقل إلى ظاهرة الخوف ، والخوف أيضاً حينما تخوف الأم ابنها بمخلوقات لا معنى لها ، الغول ، تقول له : جاء الغول يأكلك ، بالبعبع ، كلمات ما لها معنى تُنشئ عند الطفل أوهاماً ، وخيالات ، يصبح يخاف من الظلام ، يخاف من أن يبقى وحده ولو دقيقة ، يخاف من بيت فارغ ، مجموعة مخاوف تنشأ عند الطفل من جهل الآباء والأمهات حينما يريدون أن يحسموا مشكلة بالتخويف .
إخوانا الكرام ، مع الشيء المؤلم جداً أن بعض المخاوف تصاحب الإنسان حتى الموت ،.
والحقيقة والأكثر خطورة وهي حقيقة متفق عليها أن كل الأمراض النفسية ، وأن كل المشكلات الاجتماعية ، وأن كل التصورات الغير صحيحة ، إنما تترسخ في الطفل من السنة الأولى حتى السابعة ، وفي هذه السنوات في عالمنا الإسلامي الطفل مهمل ، في هذه السنوات قد يترك لمعلم غير ناضج ، قد يترك لخادمة في البيت ، من أجل أن ترتاح تخيفه بشيء وهمي ، فالأب لا يعلم الخطر الذي ينتظر ابنه في المستقبل ، حينما يوكل تربيته لخادمة ، أو حينما يوكل تربيته لإنسان جاهل ، أو حينما يتولى معلم الصف تربية أطفال كالبراعم صغار ، يعاملهم بقسوة بالغة ، ويخيفهم ، ويتوعدهم ، هناك أمراض نفسية لا تعد ولا تحصى تنشأ من هذه الحالة .
أخوتنا الكرام ، أريد أن أعالج موضوع الخوف بشكل أصلي للكبار حتى هذا الكبير ، الأب الناضج يعلم ابنه ما الخوف .
أولاً أيها الأخوة ، الله عز وجل يقول :
* إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعاً * .
( سورة المعارج ) .
في أصل خلقه ، هلوع ، يعني الله عز وجل تفضّل علينا ، فخلقنا ضِعافاً نحاف من أجل أن نفتقر في ضعفنا ، فنسعد بافتقارنا ، الذي خلقنا ضعافاً .
* وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفاً * .
( سورة النساء ) .
من أجل أن نفتقر بضعفنا فنسعد بافتقارنا .
لو أن الله سبحانه وتعالى خلق الإنسان قوياً لاستغنى بقوته فشقي باستغنائه ، في أصل الخلق هناك نقطة ضعف عند الإنسان ، ما الذي يؤكدها في القرآن الكريم ؟ * إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعاً * .
* إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً * وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً * إِلَّا الْمُصَلِّينَ * .
( سورة المعارج ) .(1/148)
معنى ذلك الإنسان حينما يعرف الله عز وجل ، ويتصل به يتلافى هذا الضعف البشري ، * إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعاً * إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً * وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً * إِلَّا الْمُصَلِّينَ * .
الحقيقة : هذه نقطة الضعف الهلع ، وهي الخوف الشديد لمصلحة الإنسان تشبه تماماً آلة ضعيفة جداً ، إذا جاء التيار قوياً بدل أن يحرق الآلة تسيح هذه الوصلة فينقطع التيار ، فتسلم الآلة ، يسميها البعض الفيوز ، الفيوز نقطة وصل ضعيفة جداً ، أي تيار كهربائي عالٍ تسيح هذه الوصلة ، وينقطع التيار ، وتسلم الآلة .
لذلك الله عز وجل جعل الإنسان ضعيفاً ، لو لم يجعله كذلك ما تاب إنسان ، ما خاف إنسان ، ما ارتعدت فرائص إنسان ، ما استسلم لله إنسان ، ما ندم إنسان ، هو الإنسان أحياناً يقوى ، ويغتني فينسى الله .
* كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى * أَنْ رَآَهُ اسْتَغْنَى * .
( سورة العلق ) .
أنا أعالج الخوف بادئ ذي بدء للكبار ، أنت كائن ، الإنسان يخاف على صحته ، يخاف على دخله ، يخاف على وظيفته ، يخاف على زوجته ، يخاف على أولاده ، يخاف على مستقبله ، يقول : الأخبار كانت فيها تهديدات ، فيها حصار ، فيها مقاطعة ، فيها عدوان ، فيها هجوم ، فيها توعد ، يخاف من حرب أهلية ، يخاف من نقص المواد ، يخاف من رفع الأسعار ، * إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعاً * ، هذا أصل تركيبه ، ولصالحه ، حقيقة ، نقطة ضعف في خلق الإنسان .
الإنسان ضعيف * وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفاً * ، هكذا خلق ، والضعف هو الخوف يخاف ، يخاف على رزقه ، على صحته ، على حياته ، على أهله ، على أولاده ، على تجارته ، على عمله ، على مستقبله ، وعلى بلده أيضاً يخاف ، * إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعاً إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً * ، شديد الجزع ، * وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً * ، يبخل ، * إِلَّا الْمُصَلِّينَ * .
معنى أنت حينما تربي ابنك على أن يتصل بالله ، الله عز وجل يمنحك نعمة لا تمنح إلا للمؤمن ، هذه النعمة اسمها نعمة الأمن ، قال تعالى :
* فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ * الَّذِينَ آَمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ * .
( سورة الأنعام ) .
* أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ * ، لهم وحدهم ، لم يقل الله عز وجل أولئك الأمن لهم الأمن لهم ولغيرهم أما * أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ * لهم وحدهم .
إذاً أكبر نعمة يتفضل الله بها على المؤمنين أنه منحهم هذه النعمة التي ينفردون بها ، من بين كل الخلق ، لذلك الله عز وجل قال :(1/149)
* سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا * .
( سورة آل عمران الآية : 151 ) .
لو كنت أقوى الأقوياء ، ومتلبس بالشرك فأنت خائف ، ولو كنت أغنى الأغنياء ومتلبس بالشرك فأنت خائف ، * سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا * .
لذلك المؤمن يتمتع بحالة أمن عجيبة ، أقسم لكم بالله أن هذه الحالة لو وزعت على أهل بلد لكفتهم ، قد يكون المؤمن ضعيفاً ، قد يكون فقيراً ، قد يكون دخله محدوداً ، لكن الله سبحانه وتعالى ألقى في قلبه نعمة الأمن .
لا تتصورا المؤمن شخص عادي ، شخصية فذة لأنها عرفت ربها ، شخصية تتمتع بصفات ثلاثة ، تتمتع بالعلم ، عرف الحقيقة العظمى ، عرف خالق السماوات والأرض تتمتع بصفة الخُلق ، المؤمن أخلاقي ، تتمتع بصفة الجمال ، أذواقه عالية جداً ، أذواقه في بيته ، في علاقاته ، في نزهاته ، في حلّه ، في ترحاله عالية جداً ، شخصية جمالية ، شخصية أخلاقية ، شخصية علمية .
لذلك هذه النعمة يتمتع بها المؤمن وحده ، * فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ * الَّذِينَ آَمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ * .
بل إن من أجلّ النعم على الإنسان نعمة الشبع ، ونعمة الأمن ، والدليل أن الله تفضل على قريش وقال لها :
* أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآَمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ * .
( سورة قريش ) .
إذا أراد الله أن يعاقب جماعة ، أو قوماً ، أو بلداً ، قال :
* وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آَمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَداً مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ * .
( سورة النحل ) .
والنعمتان الكبيرتان الأمن والشبع .
إذاً أنت حينما تعرف هذه الحقيقة تعلمها لابنك يا بني لا تخاف ، أنت إذا كنت متصلاً بالله فالله سبحانه وتعالى يلقي في قلبك الطمأنينة ، يلقي في قلبك الراحة ، التفاؤل ، المؤمن سعيد ، سعيد حقيقة ، هذه أول حقيقة بالأمن ، الخوف يقابله الأمن ، فالذي يقع في بعد عن الله ، يقع في الشرك ، يقع في المعصية ، يُحجب عن الله ، أول صفة يخاف ظلّه .
الآن في أمراض قلب سببها الخوف من أمراض القلب ، إنسان معه ورم خبيث قال له الطبيب : معك أربعة أشهر ، بحسب علمه أربعة أشهر ، صفي علاقاتك ، مات ثاني يوم ، ما تحمل أربعة أشهر ، الإنسان ضعيف ، ضعيف جداً .(1/150)
لذلك أيها الأخوة ، أنت حينما تصطلح مع الله ، وحينما تتصل به ، وحينما تخطب ودّه ، وحينما تطيعه ، يعطيك عطاء قد لا تنتبه إليه ، يعطيك نعمة الأمن ، لا تخاف ، أنت مع الإله ، أنت مع القوي ، أنت مع من بيده ملكوت كل شيء ، أنت مع الذي من هو أقوى منك ، ومن هو أضعف منك ، ومن هو أقرب إليك من حبل الوريد ، أنت مع القوي ، إذاً قوي أنت .
الآن المؤمن كيف يخاف ويقرأ قوله تعالى :
* إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ * نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآَخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ * .
( سورة فصلت ) .
إله عظيم ، يطمئنك أنك لا تخاف مما سيأتي في المستقبل ، ولا تندم على ما فات * أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا * ، غطى لك الماضي والمستقبل ، أنت الآن هنا ، غطى لك المستقبل * أَلَّا تَخَافُوا * ، وغطى الماضي * وَلَا تَحْزَنُوا * .
شيء آخر : الله عز وجل طمأنك ، قال :
* قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا * .
( سورة التوبة الآية : 51 ) .
فالأب المؤمن ، المستقيم يتمتع بهذه النعمة ، الآن يبلغ ابنه ، أنت يا بني حينما تتصل بالله عز وجل ، يلقي في قلبك الأمن ، الثقة ، لا تخاف ، كل مخلوقات الله بيد الله حتى إنسان نام بالبرية ، العقرب بيد الله ، والأفعى بيد الله ، في حالة أمن عجيبة عند المؤمن فالأمن قضية معقدة ، الأمن لا يتأتى من كلمة تقولها ، يتأتى من قناعات متراكمة ، تبثها في نفوس أولادك ، قناعات متراكمة .
إخوانا الكرام ، الإنسان عنده هلع غير طبيعي ، يخاف من كل شيء ، يخاف من تهديد ، يخاف من وعيد ، يخاف من خبر سيء ، يخاف من شبح مصيبة ، يخاف من شبح ورم ، هذا الخوف المرضي بسبب البعد عن الله ، لما الإنسان يصلي الله عز وجل يلقي في قلبه الأمن .
فلذلك ، ابنك : يا بابا إذا عملت عملاً صالحاً الله يحفظك ، إذا أنقذت حيواناً من أن يُدهس الله يحفظك ، إذا أطعمت هرة الله يحفظك ، اربط له العمل الصالح بالحفظ الإلهي ، اربط له الطاعة بالحفظ الإلهي ، اربط له أداء العبادة بالحفظ الإلهي .
هل تصدقون أنه في حديث شريف أقسم لكم بالله لو تأملتموه تأملاً دقيقاً لألقي في القلب أمن لو وزع على أهل بلد لكفاهم ، النبي الكريم ، أردف وراءه سيدنا معاذ :(1/151)
(( قال له : يا معاذ ! ما حق الله على عباده ؟ قال : الله ورسوله أعلم ، سأله ثانية وثالثة ، ثم أجابه عليه الصلاة والسلام ، قال : يا معاذ حق الله على عباده أن يعبدوه ، وألا يشركوا به شيئاً ، سأله يا معاذ : ما حق العباد على الله إذا هم عبدوه ؟ )) .
[متفق عليه عن معاذ بن جبل]
يعني هذا الإله العظيم أنشأ لك حقاً عليه ، لك عليّ حق يا عبدي .
(( قال : الله ورسوله أعلم ، أجابه ، قال له : يا معاذ ! حق الله على العباد إذا هم عبدوه ألا يعذبهم )) .
لك حق عنده ، في أمراض وبيلة ، في شلل ، في حادث سير ، في ورم خبيث ، في احتشاء ، في فشل كلوي ، في تشمع كبد ، في فقر ، في سجن .
(( حق الله على العباد إذا هم عبدوه ألا يعذبهم )) .
اسمع الآيات :
* أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كَانَ فَاسِقاً لَا يَسْتَوُونَ * .
( سورة السجدة ) .
* أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ * مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ * .
( سورة القلم ) .
* أَفَمَنْ وَعَدْنَاهُ وَعْداً حَسَناً فَهُوَ لَاقِيهِ كَمَنْ مَتَّعْنَاهُ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ * .
( سورة القصص ) .
أدق آية :
* أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ * .
( سورة الجاثية ) .
بربكم هذه الآيات ألا تلقي في النفس الأمن ؟ أنت من ؟ أنت مؤمن لك على الله حقوق ، أنت مؤمن الله يحفظك ، الله يدافع عنك ، الله يعينك ، الله ينصرك ، الله يؤيدك ، هذه المعاني إذا عرفها الأب والأم بسهرة ، أثناء الطعام ، بنزهة ، يا بني أنت إذا أطعت الله حماك من كل سوء ، أنت إذا أطعت الله متعك بالصحة ، أنت إذا أطعت الله ألقى محبتك في قلوب الخلق ، أنت إذا أطعت الله ، اربط له الطاعة بالأمن ، اربط له الطاعة بالثقة بالله عز وجل ، اربط له الطاعة بالحفظ ، اربط له الطاعة بالتأييد ، بالنصر ، يقابل النصر الخوف ، والفزع والتشاؤم ، والسوداوية ، والإحباط ، والارتباك ، والسأم ، والضجر ، هذه كلها مشاعر مؤلمة جداً .(1/152)
لذلك أيها الأخوة ، الشيء المؤلم جداً :
* وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ * .
( سورة يوسف ) .
الحقيقة عندنا آية دقيقة جداً ، أنا أجعلها منهجاً لكل شاب ، قال تعالى :
* مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً * .
( سورة النحل الآية : 97 ) .
إله ، هذه الحياة الطيبة فوق الظروف ، فوق المعطيات ، فوق الظروف الدولية الصعبة ، فوق التهديدات ، فوق الفقر ، فوق نقص المواد ، فوق انعدام فرص العمل ، فوق غلاء البيوت ، إله يقول : * مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً * .
والله أيها الأخوة ، والله الذي لا إله إلا هو يكفي أن تقرأ القرآن كل يوم حتى يلقي الله في قلبك أمناً لا يزعزعه تهديدات أهل الأرض ، مؤمن أنت ، بالتعبير الدارج غالٍ على الله .
أيها الأخوة ، الآية هذه : * مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً * .
كان لي أستاذ (قديماً توفي رحمه الله) من عادته إن رأى شاباً مستقيماً يؤدي الصلوات ، يغص بصره ، يضبط لسانه ، يبر والديه ، يقول له : لا تخاف ، الله مهيئ لك زواجاً ناجحاً إن شاء الله ، وسكناً مريحاً ، ودخلاً جيداً ، غالٍ على الله أنت .
والله مرة شخص ضيفته قطعة كاتو ، عمره تسعون سنة ، قطع أول لقمة ، وقبل أن يأكلها قال : سبحان من قسم لنا هذا ، ولا ينسى من فضله أحد .
والله يا أخوان أتمنى كل شاب يتفاعل مع هذا الدعاء ، ولا ينسى من فضله أحد لا ينساك ، أنت عليك أن تطيعه فقط ، دقق في هذه الآية :
* بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ * .
( سورة الزمر ) .
سوف تأتيك الخيرات من كل جانب ، والدليل :
(( استقيموا ولن تُحْصُوا )) .
[أخرجه الحاكم عن ثوبان ] .
* بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ * ، أنت مهمتك أن تعبده ، وانتهت مهمتك ، الله يهيئ لك مكاناً معيناً ، دخلاً معيناً ، زوجة معينة ، بيتاً معيناً ، هذه المعاني أنا الحقيقة أنا حينما أردت أن أعالج موضوع الخوف عند الصغار أردت أن أنتزع الخوف من الكبار ، وجدت لابدّ من أن أنتزع الخوف من الأهل ، الأب مقطوع قلبه ، الأب خائف ، والأم كذلك هذا الخوف بسبب الشرك الخفي ، *(1/153)
سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا * * مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً * .
إخوانا الكرام ، المؤمن متفائل ، تقول لي الظروف صعبة ، تهديدات ، ارتفاع أسعار ، نقص مواد ، شح بالمياه ، حصار ، تهديد ، حروب ، حروب أهلية ، إذا كان الله معك فمن عليك ، وإذا كان عليك فمن معك .
أنا أضرب مثلين ، وكل مثل وحده كافٍ ، هناك مصائب كثيرة ، المصائب لا تعد ولا تحصى ، هي سبب الخوف ، واسمعوا هذه القاعدة : توقع المصيبة مصيبة أكبر منها توقع المصيبة هو في حدّ ذاته مصيبة أكبر منها .
شخص انطلق بمركبته من دمشق إلى حمص ، العجلة الاحتياط فاسدة ، يقضي ساعتين بقلق شديد ، لو صار معه فساد بالعجلة ، إذاً هو وصل إلى حمص سالماً ، لكن فقد الأمن ، لو كان ابنه أصلح العجلة وما أبلغه ، لا يوجد عنده أسباب القلق لكنه عاش القلق ، الفكرة دقيقة ؟ راكب مركبته متوهم أن العجلة الاحتياط غير صالحة ، لكن انطلق الساعة الخامسة صباحاً ، المحلات كلها مغلقة ، يقضي ساعتين بقلق شديد ، لو أن إحدى العجلات أصابها خلل .
حالة ثانية : لو شخص انطلق إلى حمص ، وعنده وهم أن العجلة الاحتياط جيدة هي بالحقيقة لم تكن جيدة ، تمتع بنعمة الأمن من دون أسباب موجبة ، الأمن حالة بالنفس .
قد تكون فقيراً وعندك أمن ، شخص عنده ملايين مملينة وخائف .
لذلك احفظوا هذه الآية : * فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ * الَّذِينَ آَمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ * .
هناك لقطة بسيطة : أحد الصحابة الكرام قيل له : احترق محلك ، قام وقال : ما كان الله ليفعل ، يبدو أنه واثق من الله ، يؤدي زكاة ماله ، والنبي قال :
(( ما تلف مال في بر ولا بحر إلا بحبس الزكاة )) .
[أخرجه الطبراني عن أبي هريرة ] .
احترق محلك ، قام وقال : ما كان الله ليفعل ، فلما ذهب إلى المحل وجد أن محل جاره قد احترق ، أنت كمؤمن عندك يقين أن هناك مصائب كبيرة جداً ، أنت معافى منها .
في لقطة من السيرة : أن النبي عليه الصلاة والسلام أعطي دواء ذات الجنب قبل أن يتوفاه الله ، فغضب ، قال : ذلك مرض ما كان الله ليصيبني به .
الملخص : أنك إذا كنت مع الله ألقى الله في قلبك الأمن ، فإذا الأب واثق من عطاء الله ، واثق من حفظ الله ، واثق أن الطاعة لها ثمار يانعة نفسية ، واثق بأن الاستقامة تنعكس شعوراً بالأمن ، الآن(1/154)
الأب تمتع بالأمن ، ممكن أن يقنع ابنه الصغير أنه لا تقلق يا بني كن مع الله ولا تبالي ، إذا كان الله معك فمن عليك ، تغرز في نفس ابنك الأمن ، لا تقلق ، الله عز وجل موجود .
المثل الصارخ : أكبر مصيبة لا ترقى إلى مستوى أن تجد نفسك فجأة في بطن حوت ، الحوت وجبته المعتدلة بين الوجبتين هذه عصرونية ، أربعة طن ، فلإنسان وزنه 80 لقمة واحدة ، الحوت وزنه 150 طناً ، في خمسين طن عظم ، وخمسين طن لحم ، وخمسين طن دهن ، ويستخرج منه 90 برميل زيت ، وجبته المعتدلة أربعة طن ، يرضع وليده ثلاثمئة كيلو كل رضعة ، ثلاث رضعات طن حليب يومياً ، نبي كريم وجد نفسه في بطن حوت ، هل هناك من مصيبة أشد من هذه المصيبة ؟ الأمل صفر ، هو في ظلمة بطن الحوت ، وفي ظلمة الليل ، وفي ظلمة البحر ، في ظلمات ثلاث :
* فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ * فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ * .
( سورة الأنبياء ) .
في كل زمان ، في كل مكان ، في كل عصر ، في كل مصر ، في كل ظرف ، في كل بيئة ، في بلاد الشرق ، وفي بلاد الغرب ، وتحت البحر ، وفوق البحر .
إنسان راكب طائرة تطير فوق جبال الألب ، وانفجرت ، انظر إلى الحكمة انشطرت عند مقعده ، هو ارتكب مخالفة لم يضع حزام الأمان ، فوق من الطائرة ، وقع من أربعين ألف قدم ، نزل فوق غابة من غابات جبال الألب ، فوق الشجر في خمسة أمتار ثلج والأغصان ماصة الصدمة ، نزل واقفاً .
وإذا العناية لاحظتك جفونها ... نم فالمخاوف كلهن آمان
* * * ...
والله أيها الأخوة ، هناك حالات إنقاذ إلهي العقل لا يصدقها ، إذا الله حفظك يحفظك من كل مكروه .
درسنا اليوم مرض الخوف الذي يصيب الصغار لسوء تربية الكبار لهم ، هذا موضوع البعبع ، وموضوع الغول ، وجاء الحرامي يأكلك ، هذه كلها موضوعات ما لها معنى إطلاقاً ، هذه تسبب الخوف ، أنا قلت قبل أن أعالج الخوف عند الصغار ، سأعالجه عند الكبار ، الأب يخاف لأنه ما عرف الله ، أما إذا عرف الله وأدى ما عليه ألقى في قلبه الأمن .
هناك مصائب معقولة ، لكن في مصائب ماحقة ، مصائب مدمرة ، لأنه يمشي وفق منهج الله هو بعيد عن هذه المصائب .
أيها الأخوة ، هذه آية واحدة ، الآن المعيشة الضنك معيشة الخوف والقلق ، أنت من خوف الفقر في فقر ، وأنت من خوف المرض في مرض ، وتوقع المصيبة مصيبة أكبر منها .(1/155)
بالمناسبة : ما الفرق بين الأمن والسلامة ؟ السلامة عدم حصول الخطر ، أما الأمن عدم توقع الخطر ، المؤمن يتمتع بالسلامة ، وفوق السلامة الأمن .
فأنت هذه المعاني الدقيقة التي تعرفها عن الله ، إذا بسّطها لأولادك ، الطفل يثق بالله عز وجل ، بابا ادفع صدقة ، والله أيها الأخوة ، أُشهد الله ، ما في أخ من إخواني استرضى الله بصدقة وخيب الله ظنه ، الله يسترضى .
(( صدقة السر تطفئ غضب الرب )) .
[أخرجه الطبراني عن معاوية بن حيدة ] .
(( باكروا بالصدقة فإن البلاء لا يتخطاها )) .
[أخرجه الطبراني عن علي بن أبي طالب ] .
عود ابنك يدفع صدقة ، من دخله المحدود ، هذه الصدقة يأخذها الله بيمينه ويحفظه بها .
أنا أتمنى الطفل اربطه بالله عز وجل ، دعه يخاف منه ، دعه يتقرب منه ، دعه يطمع بعفوه ، يطمع بحفظه ، تشعر أن الله معك ، هو وليك ، يدافع عنك ، يوفقك ، يدعمك يؤيدك ، ينصرك ، يحفظك ، يرزقك .
أب قال لابنه : خذ هذه المئة ليرة وادفعها لفلان كصدقة ، قال له : الله عز وجل يجازي على الصدقة بعشرة أمثالها ، طفل صغير ، أخذ المئة ليرة ودفعها للفقير ، قال له : أين الألف بابا ؟ قال له : أي ألف ؟ قال له : دفعنا مئة ، قلت عشرة أضعاف ، نريد ألفاً ، قال له : هذه المئة لي وليست لك ، طفل صغير قال له أبوه : الصدقة بعشرة أمثالها ، يقسم بالله الأب ماشي مع ابنه ، التقى بصديقه ، فالتفت إلى الصغير فأحبه ، قبّله أعطاه ألف ليرة .
إله عظيم ، أراد أن يشجع هذا الصغير ، أبوه قال له : الصدقة بعشرة أمثالها القصة مؤثرة جداً ، الله عز وجل ، لما الطفل سأل والده أين الألف بحسب ما قلت لي ؟ الله ما خيب ظنه .
فأنت يجب أن تربط ابنك بالله عز وجل ، أن الله يحفظ ، الله يوفق ، الله يعطي ، ما عاد يخاف من تهديد ، ما عاد يخاف من وعيد ، ما عاد يخاف بالطريق من شخص عمل له كميناً ، هدده ، رفيق كبير بالسن ، قوي ، يبدو أنه استفزه بالمدرسة قال له : الآن بفرجيك يشعر الطفل بالأمن .
أنا أتمنى مشاعر الكبار الإيمانية ، التي تعطيك حالة الأمن تبثها في الصغار ، دع ابنك لا يخاف من الظلام ، لا يخاف من الليل ، لا يخاف أن يكون وحده بالبيت ، لا يخاف من كلام ما له معنى إطلاقاً ، ساعة بعبع ، وساعة غول .
فالأمهات الجاهلات يرتكبن حماقات لا تنتهي ، ينشأ عند الابن عقدة خوف ترافقه طول حياته .
أيها الأخوة ، الآن إذا الله عز وجل قال :
* وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً * .(1/156)
( سورة طه الآية : 124 ) .
الآن عندنا أحد أكبر أسباب الخوف الإعراض عن ذكر الله .
والله أيها الأخوة ، الذي أعلمه أن قلق الناس على صحتهم يفوق حدّ الخيال ، في خوف ، يقول لك كل سبع نساء الثامنة معها سرطان ثدي ، هذه الفكرة ينخلع لها قلب المرأة دائماً في قلق ، أما إذا امرأة محجبة ، مستقيمة ، صائمة ، مصلية ، ومطيعة لزوجها ، وترعى أولادها لها ثقة بالله عز وجل ، أن الله يحفظها من هذا المرض ، والله عز وجل حيي كريم .
(( يَستَحي من عبده إذا رَفَعَ إليه يديه أنْ يَرُدَّهُما صِفْرا خَائِبَتَيْنِ )) .
[أخرجه أبو داود والترمذي عن سلمان الفارسي ] .
لذلك يجب أن نناجي الله عز وجل ، ونطلب منه ، ونعتذر أحياناً ، نستغفر ، نتوب ، نعاهده ، افتح خطاً ساخناً مع الله ، تجد مؤمناً يشبه هاتف ما في ونة ، جيد وغالٍ لكن ما في خط ، وفي مؤمن آخر الهاتف متواضع جداً ، لكن في خط ، يرفع السماعة في ونة ، يجب أن يكون لك خط ساخن مع الله ، تحدث خط ساخن مع الله ، بالدعاء ، بالاستغفار ، بالمناجاة ، بتلاوة القرآن ، أتحب أن يحدثك الله عز وجل ؟ اقرأ القرآن ، أتحب أن تحدث الله ادعُه ، ناجِه ، تحدثه بالدعاء ، ويحدثك بتلاوة القرآن ، جوهر الدين هذا الاتصال بالله عز وجل ، ما دمت متصلاً به ألقى في قلبك الأمن .
فلذلك مرة أخيرة : الله عز وجل يلقي في قلب المؤمن من الأمن ما لو وزع على أهل بلد لكفاهم.
وآخر شيء ، وأدق شيء : * فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ * الَّذِينَ آَمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ * .
===============
... ... ... ...(1/157)
17 ـ التربية النفسية 3 ـ الحكمة في تربية الأبناء
أيها الأخوة الكرام ، مع الدرس السابع عشر من دروس تربية الأولاد في الإسلام ولازلنا في التربية النفسية .
بادئ ذي بدء : هذه الحكمة التي وعد الله بها المؤمن وحده ، في قوله تعالى :
* وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً * .
( سورة البقرة الآية : 269 ) .
لأن الإنسان إذا اتصل بالله عز وجل امتنّ الله عليه الحكمة ، الحكمة تؤتى ولا تؤخذ ، قد تكون أذكى الأذكياء ترتكب حماقة ما بعدها حماقة ، لأن الحكمة حُجبت عنك ، فالمؤمن باتصاله بالله عز وجل يقذف الله في قلبه النور ، يرى به الحق حقاً ، والباطل باطلاً ، يرى به الخير خيراً ، والشر شراً أضرب مثلاً بسيطاً :
قصة سمعتها ، إنسان تزوج امرأة ، بعد خمسة أشهر كانت على وشك الولادة إذاً هذا الجنين ليس منه قطعاً ، بإمكانه أن يطلقها ، والناس جميعاً معه ، والشرع معه ، وأهلها معه ، لكن الله سبحانه وتعالى ألهمه الحكمة ، تمنى على الله أن يحملها على توبة نصوح فأخذ هذا الجنين ووضعه تحت عباءته ، وانتظر أمام جامع الورد في سوق ساروجة ، إلى أن نوى الإمام الفريضة ، ودخل وضعه في طرف المسجد ، والتحق بالمصلين ، بعد انتهاء الصلاة بكى هذا الوليد ، فتحلق المصلون حوله ، تأخر عنهم كثيراً ، إلى أن اجتمع كل من في المسجد حول هذا الوليد الذي ألقي في طرف المسجد ، تقدم منهم وسأل ما الخبر ؟ قال : تعال انظر ، وليد ! قال : أنا أكفله ، أعطوني إياه ، فأخذه وردّه إلى أمه وتابت على يده توبة نصوحة .
القصة أولها : هناك إمام مسجد له جار بقال ، رأى النبي عليه الصلاة والسلام في رؤيا صالحة ، قال له (لهذا الإمام خطيب المسجد) : قل لجارك فلان إنه رفيقي في الجنة ، كسب رضاء الله ، وأنقذ امرأة من الزلل ، وربت ابنها عنده .
أخوانا الكرام ، صدقوا ولا أبالغ ، أنت حينما تتصل بالله عز وجل ، وتتقن صلواتك مع الله يقذف الله في قلبك نوراً ، ترى به الحق حقاً ، والباطل باطلاً ، الخير خيراً ، والشر شراً ، والجميل جميلاً ، والقبيح قبيحاً .
لذلك أنت بالحكمة تسعد بزوجة من الدرجة الخامسة ، ومن دون حكمة تشقى بزوجة من الدرجة الأولى ، أنت بالحكمة تجعل أبناءك أبراراً ، ومن دون حكمة تجعل أولادك عاقين ، أنت بالحكمة تعيش بدخل محدود ، ومن دون حكمة تبدد الدخل الغير المحدود .
صدقوا ولا أبالغ إذا سمح الله أن تكون حكيماً أنت أسعد الناس في بيتك ، أنت أسعد الناس مع زوجتك ، أنت أسعد الناس مع أولادك ، أنت أسعد الناس في عملك ، أنت أسعد الناس في صحتك(1/158)
، أسعد الناس في علاقاتك ، أسعد الناس في حلك وفي ترحالك * وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً * ، هذه الحكمة تتأتى من الاتصال بالله عز وجل .
لذلك نحن في تربية الأولاد النفسية ، الأب في أمس الحاجة إلى الحكمة ، لذلك أكبر قرار حكيم في تربية أولادك ، والله ما عرفه العالم أبداً ، يبدأ قبل ولادة الطفل ، يبدأ من اختيار أمه ، النبي عليه الصلاة والسلام يقول لك :
(( خذ ذات الدين والخلق تربت يمينك )) .
[ أخرجه أبو يعلى وابن حبان عن أبي سعيد الخدري ] .
هذه أم أولادك ، هذه سوف تربيهم ، تربيهم على الصدق ، على الأمانة ، على العفة .
درسنا سابقاً أن طفلاً صغيراً سرق بيضة وجاء بها إلى أمه ، فقبلته ، وباركت عمله ، ثم بدأ يزداد في انحرافه إلى أن استحق الإعدام ، وهو قبل أن يُشنق طلب أن يرى أمه جاؤوا له بأمه ، قال : يا أمي مدي لسانك كي أقبله ، فلما مدت لسانها قطعه ، وقال : لو لم يكن هذا اللسان مشجعاً لي في الجرائم ما فقدت حياتي .
أم أولادك هل أحسنت اختيارها ؟ الآن هناك ظاهرة عجيبة ، الشاب يريد جمالاً فقط ويريد صفات قلّما تتوافر في خمسة بالمئة من الفتيات ، يريد الزواج للمتعة ، وينسى أن هذه التي سيتزوجها هي أم أولاده ، هي التي تربيهم ، تعلمهم على الصدق والأمانة ، والعفة والاستقامة .
لذلك أنا أقول أخاطب الأمهات : أعلى شهادة تحملينها أولادك ، أعلى من الدكتوراه ، شهادة الأم أولادها ، إن ربتهم على الفضيلة والاستقامة دفعت بهؤلاء الأولاد إلى المجتمع .
1 ـ حسن اختيار الأم :
لذلك من أجل أن تحسن تربية أولادك يجب أن تتعامل معك امرأتك ، والله أيها الأخوة ، كم من أب يبني وزوجته تهدم ، يا بني قم فصلِ ، تعبان اتركه ، كلما وجّه ابنه توجيهاً تأتي الزوجة لتبطل هذا التوجيه ، لأنه ما أحسن اختيارها ، أما الأم المؤمنة ، الطاهرة لذلك أنا أخاطب الشباب :
(( خذ ذات الدين والخلق تربت يمينك )) .
[ أخرجه أبو يعلى وابن حبان عن أبي سعيد الخدري ] .
هي أم أولادك ، تعيش معهم ، تربيهم ، من أجل أن تفلح في تربيتهم لابدّ من أن تتعاون معك امرأتك ، وتعاونها معك بسبب دينها ، وحرصها على طاعة ربها ، وحرصها على تربية أولادها .
لذلك يكاد يكون أول بند من التربية النفسية أن تحسن اختيار الأم .
2 ـ عدم محاسبة الطفل قبل تكليفه :(1/159)
شيء آخر : يا أخوان عندنا قاعدة ، لا محاسبة قبل التكليف ، آباء كثيرون يرون من أولادهم تصرفاً يغضبهم فيضربونهم ، اسأل نفسك ، حاسب نفسك ، هل بلغت ابنك مرة أن هذا العمل لا يعجبك ؟ ما بلغته ، هو بريء ، الطفل لا يعلم ، لا تضطر تضربه ، ولا توبخه ، ولا تشتمه ، ولا تحقره أمام أخوته ، أنت يا بني أنت لك عندي خمس فرص في هذا العام استنفذت فرصة فقط ، وأنت هادئ ، ومرتاح ، هو ينتبه ، اخطأ مرة ثانية ، انظر يا بني أصبحوا اثنتان ، بقي ثلاث ، لأنهم قالوا : من أطاع عصاك فقد عصاك ، يده والضرب ، يده والسُباب والشتائم ، صار البيت مكان موحش .
3 ـ الابتعاد عن العنف في المنزل :
اسمعوا هذا الكلام أعيده كثيراً : لابدّ أن يكون عيد في بيتك ، لكن بينما يكون العيد حينما تخرج ، وبينما يكون العيد حينما تدخل ، بشكل أو بآخر ، الأب العنيف يضرب ، ويشتم ، ويسب ، وابنه الأكبر عنيف مع الابن الأصغر ، والبنت الكبرى عنيفة مع الصغرى والأصغر عنيف مع الأصغر ، وأصغر ولد عنيف مع القطة ، بيت كله عنف ، كله صياح ، كله سُباب ، كله تكسير ، هذا بيت فيه شيطان .
* وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا * .
( سورة طه الآية : 132 ) .
يا أخوان في بيوت هادئة جداً ، فيها روح التعاون ، فيها محبة ، والله كلما رأيت إنساناً ببيته متماسك ، في ود بالغ ، والله أُكبر تصرفه ، أُكبر حكمته ، أُكبر عقله ، أُكبر ذكاؤه يجب أن يكون البيت جنة .
إذاً بدل الضرب والشتم ، سجل ، طرق التربية متعبة ، تحتاج إلى نفس طويل أما الضرب أريح ، معظم الآباء يرى أنه أخطأ يضربه ضرباً مبرحاً حتى يرتاح ، لكن ما أدبه بهذه الطريقة ، لم يؤدبه إطلاقاً ، بالعكس فصله عنه ، انعتق الابن عن أبيه ، هذه نقطة ثالثة .
4 ـ عدم محاسبة الأبناء أمام أصدقائهم أو أقربائهم أو أخواتهم :
النقطة الرابعة : أتمنى عليكم جميعاً ألا تحاسبوا أبناءكم أمام أصدقائهم ، ولا أمام أقربائهم ، ولا أمام أخواتهم ، بينك وبينه ، بينك وبينه يحتمل ابنك أقسى ملاحظة ، لأنه يوقن أن هذه الملاحظة خارجة من محبة ، أنت ما فضحته ، لكن نصحته ، عنفته عن محبة ، أما أمام أخواته البنات ، أمام أصدقائه ، أمام أخوته الذكور أنا لا أنصح بهذا أبداً ، وهذا تشهير وفضيحة وليست نصيحة .
تعلموا أيها الأخوة ، من رسول الله ، تصور سيد الخلق وحبيب الحق ، وسيد ولد آدم ، جاءه شاب بكل بساطة ، ولعلها بكل وقاحة ، قال له : ائذن لي بالزنا ، ما ضربه ، ولا شتمه ، ولا قال له أنت كافر ، يا كافر ، يا خبيث ، لا ، الصحابة ضجروا ، هاجوا وماجوا ، منتهى الوقاحة ، قال له :(1/160)
تعال يا عبد الله ، انظر المناقشة ! أتحبه لأمك ؟ شاب تصور والدته تزني ، فغلى الدم في عروقه ، قال له : لا ، قال له : ولا الناس يحبونه لأمهاتهم ، أتحبه لأختك ؟ قال له : لا ، قال له : ولا الناس يحبونه لأخواتهم ، أتحبه لابنتك ؟ قال : لا ، يقول هذا الشاب : دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم وما شيء أحب إلي من الزنا وخرجت من عنده وما شيء أبغض إلي من الزنا .
يا أخي ناقشه ، بيّن له الأخطار ، بيّن له مصلحته تتهدم ، بيّن له مستقبله ، بيّن له مكانته ، سمعته ، بيّن هذا فيه إغضاب لله عز وجل ، ناقشه ، لا تعنف ، علم ولا تعنف يقول عليه الصلاة والسلام :
(( علموا ولا تعنفوا ، فإن المعلم خير من المعنف )) .
[أخرجه الحارث عن أبي هريرة ] .
الكبير ينبغي أن يستوعب الصغير ، مرة كنا في مؤتمر على المائدة معنا قارئ كبير توفي رحمه الله ، و طالب من البوسنة ، هذا القارئ له مكانة كبيرة عنده ، أراد أن يتقرب إليه ، يمكن ضعيف باللغة العربية ، فهناك بيت قاله الشافعي :
أحب الصالحين ولستُ منهم ... لعلي أن أنال بهم شفاعة
وأكره من بضاعته المعاصي ولو كنا سواء في البضاعة
* * *
من باب التواضع ، هذا الطالب البوسني قال له : أحب الصالحين ولستَ منهم يا لطيف هذا القارئ غضب غضباً شديداً ، وعنفه تعنيفاً شديداً ، مسكين هذا الشاب يكاد يموت خجلاً ، هو بحسب تصوره أنه تقرب إليه بهذا البيت ، لكن هي فرق حركة واحدة ، أُحب الصالحين ، هي ولستُ منهم ، قال له : ولستَ منهم .
لغتنا دقيقة جداً ، نحن لغتنا العربية يا أخوان بحركة واحد ينتقل الإنسان من الجنة إلى النار .
ولستُ أبالي حين أًقتل مسلماً ، إلى جهنم ، على أي جنب كان في الله مصرعي ، أما هو البيت :
ولستُ أبالي حين أُقتل مسلماً ... على أي جنب كان في الله مصرعي
* * *
الابن يرتكب حماقة عن غير قصد ، يجب أن تستوعبه .
أنا بصراحة لو أن أباً سألني ، أو أم سألتني بالهاتف أنه أخذ مالاً من دون إذننا ، يسرق ، لا ، لا تقول سرقة ، لا تقولي يسرق ، السرقة موضوع ثانٍ ، هذا بيت أبيه وأمه ولا يعرف حدوده ، حتى أنا لي رأي ما الذي يمنع أن تربي ابنك تربية قائمة على الثقة ؟ تضع مبلغاً من المال بالدرج ليأخذ كل حاجته ، أنت حينما تمنح ثقتك لابنك ينضبط ، بابا هناك مبلغ خمسمئة ليرة ، ويوجد ورقة وقال ، خذ واكتب فقط ، والله طبقوها أناس نجحت معهم نجاحاً كبيراً ، الطفل يستحي من والده ، يأخذ حاجته ، المال بين يديه ، ما في شيء ممنوع عنه ، يأخذ ويسجل ، يكتب ماذا اشترى فيه ؟ عود(1/161)
ابنك تتفاهم معه تفاهماً ، ابتعد عن القمع ، وعن الضرب ، وعن السب ، وعن الشتم ، هذه أساليب بادت ولم تفد إطلاقاً .
اللهم صلِ عليه روى لنا حديثاً : هذا الذي ركب ناقته ، وعليها طعامه وشرابه ، أراد أن يقطع بها الصحراء ، هذا الأعرابي أصابه التعب جلس ليستريح ، أخذته سنة من النوم ، استيقظ فلم يجد الناقة ، فبكى ، وبكى ، وبكى لأنه أيقن بالموت ، ثم أخذته سنة من النوم ، فاستيقظ فرأى الناقة أمامه ، من شدة الفرح قال : يا رب أنا ربك وأنت عبدي ، النبي ما علق ، هذه كلمة الكفر ، لكن قال بعض العلماء الكبار : ما كل من وقع في الكفر وقع الكفر عليه ، النبي ما علق أبداً ، ما قصد معناها ، من شدة الفرح قال : يا رب أنا ربك وأنت عبدي .
أحياناً الابن يتكلم كلمة قاسية ، كن أوسع ، أبو حنيفة النعمان له جار أقلقه إقلاقاً لا يُحتمل ، طوال الليل يغني ، (له جار شاب مغنٍّ معه طنبور عود ، وأغنيته المفضلة : أضاعوني وأي فتىً أضاعوا ، فمرة فقد هذا الصوت ، معنى جاره في مشكلة ، سأل عنه ، قالوا له : إنه مسجون ، أبو حنيفة النعمان بمكانته ، ومقامه الكبير ، وعلمه الغزير توجه إلى صاحب الشرطة ، متوسطاً أن يطلق سراحه ، صاحب الشرطة أطلق سراحه ، أركبه أبو حنيفة وراءه على الدابة ، قال له : يا غلام هل أضعناك ؟ فقال : هذا المغنى الشاب قال : عهداً لله ألا أعود للغناء ، أبو حنيفة النعمان على علو مقامه استوعب هذا الجار المغني .
استوعبه ، ابنك ، استوعبه ، أما العنف ، والضرب ، والسُباب ، والشتائم هذا لا يربي شاباً .
يا إخوان ، أحياناً الطفل يسأل سؤالاً ، أو الابن ، وقد يكون السؤال سخيفاً ، سخيفاً جداً ، إياك ، ثم إياك ، ثم إياك أن تسخر من سؤاله ، إنك إن سخرت من سؤاله لن يسألك بعد اليوم أبداً ، وهذه النصيحة أقدمها للمعلمين ، سؤال سخيف ، اجلس ، أنت أحمق ، أنت لا تفهم شيئاً ، لا ، لن يسألك بعد اليوم ، لا ، أجب عن سؤاله بأدب ، رفيقكم معه حق ، نقطة غير واضحة بذهنه ، أنا سأجيبه عنها ، شجع الناس يسألوك ، شجع الحوار ، شجع التعامل مع الآخر تعاملاً هادئاً .
والله أعرف معلمين إذا أخطأ الطالب ، أنت غبي ، أنت كذا ، أنت كذا ، يحمل هذه الفكرة لعشرين سنة قادمة ، عقدته ، الإنسان بنيان الله ، وملعون من هدم بنيان الله ، والأطفال أحباب الله ، على الفطرة .
فالرد العنيف ، السخرية الكبيرة ، مرة كنا في الجامعة ، وطالبة كان سؤالها سخيفاً ، و كان عميد الكلية عندنا قاسياً جداً ، سخر منها سخرية حطمتها ، فقالت له : دكتور رفقاً بالقوارير ، هكذا قال النبي ، فهي صحتها مليحة ، قال لها : قال رفقاً بالقوارير ، ولم يقل رفقاً بالبراميل ، أساء إساءة ثانية ، إنسان أمامك ، احترمه ، قالت : رفقاً بالقوارير ، قال لها : صح ، ولم يقل رفقاً بالبراميل ، حطمها ، أنا هكذا أقول هذا الإنسان بنيان الله ، وملعون من هدم بنيان الله .(1/162)
لا تحرجه ، كان عليه الصلاة والسلام من شمائله أنه كان لا يحمر الوجوه ، لا تخجله ، لا تضعه بزاوية ضيقة ، تغافل ، تغافل ولا تكن غافلاً ، الرد العنيف يمنع السؤال الرد العنيف يمنع انتشار العلم ، الرد العنف يقيم بينك وبين المتعلم حاجزاً .
أنا أذكر هناك أناس جهلاء ، أعتقد جامع في صلاة العصر و هناك سبعة أشخاص بينهم طفل صغير ، هذا المصلي متعلم غلط ، أن هذا الطفل يجب أن يرجع للصف الخلفي ما في صف خلفي ، سبعة ، فريضة ، فدفعه من صدره إلى الوراء ، يقسم بالله العظيم أنه ترك الصلاة خمسة و خمسين عاماً ، بعد هذه الدفعة أقام حاجزاً بينه وبين المسجد .
بالمقابل حدثني أخ ، قال لي : دخل إلى مسجد عقب أحد الأعياد ، فطفل والده اشترى له حذاء جديداً ، وهو فرح به ، فسُرق ، بكى بكاء مُراً ، هذا الرجل أخذ هذا الطفل إلى محل أحذية ، واشترى له حذاء أغلى ، يقسم بالله هذا الطفل قال : على أثر هذا الموقف حافظت على الصلاة طوال حياتي ، لا تكن منفراً ، كن مقرباً .
(( يَسِّرُوا ولا تُعَسِّرُوا )) .
[أخرجه البخاري ومسلم عن أنس بن مالك ] .
(( سَدِّدُوا وقاربُوا )) .
[أخرجه البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي عن عائشة أم المؤمنين ] .
(( بَشِّرُوا ولا تُنَفِّرُوا )) .
[أخرجه البخاري ومسلم عن أبي موسى الأشعري ] .
هناك شخص منفر ، الرد العنيف ، السخرية ، السُباب يقيم حاجزاً بينك وبين ابنك ، وبينك أيها المعلم وبين تلميذك .
مرة سمعت عن أحد الملوك دعا رؤساء القبائل ليراهم ، واضع فواكه ، في وعاء لغسيل العنب ، أحد شيوخ القبائل لم يعرف ، فظنه للشرب ، فشرب هذا الماء من هذا الوعاء ، فكل الشيوخ الآخرين ابتسموا سخرية من هذا الشيخ ، هو شيخ قبيلة ، فالملك بذكائه وحنكته وحكمته تناول الوعاء وشرب منه ، كله جمد .
قدر ما تستطيع لا تحرج إنساناً ، كن معه ، برر عمله ، أحياناً هذا الكلام يملك القلوب .
بالمناسبة : أنا أقول لكل أخ له منصب قيادي ، من ؟ الأب ، الأب قائد بالبيت المعلم ، المدرس ، صاحب المحل التجاري عنده ثلاثة موظفين ، هو قيادي ، رئيس الجامعة ، مدير مستشفى ، وزير ، أي منصب قيادي ، من أجل أن ينصاع كل الذي حولك لابدّ من أن يلتفوا حولك ، إذا التفوا حولك أعانوك ، وكانوا حراساً لك ، ونفذوا لوح قراراتك ، ما هو قانون الالتفاف والانفضاض ؟ هذه الآية :(1/163)
* فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ * .
( سورة آل عمران الآية : 159 ) .
يعني بسبب رحمة استقرت في قلبك يا محمد كنت ليناً لهم ، هذه الرحمة انعكست ليناً في المعاملة .
* وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ * .
( سورة آل عمران الآية : 159 ) .
ولو كنت منقطعاً عنا ، لامتلأ القلب قسوة ، و لانعكست القسوة غلظة ، فانفضوا من حولك ، معادلة رياضية ، اتصال ، رحمة ، لين ، التفاف ، و انقطاع ، قسوة ، غلظة ، انفضاض ، الأب بحاجة إلى هذه الآية ، والأم ، والأخ الأكبر ، والمعلم ، وصاحب المتجر ، وكل إنسان له منصب قيادي .
* فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ * .
( سورة آل عمران الآية : 159 ) .
أعرابي ، قال للنبي الكريم : أعطني من هذا المال ، فهو ليس مالك ولا مال أبيك ، قال له : صدقت إنه مال الله .
أيها الأخوة ، أنا أذكر قصة مؤلمة جداً ، إنسان اشترى أثاثاً جديداً ، غرفة ضيوف ، ابنه معه شفرة عمل هكذا ، فتح القماش ، لعبة جميلة ، خلال دقائق ، أفسد الطقم كله ، أبوه عنيف ما تحمل ، وضع يداه على الطاولة وضربه بالمسطرة ، حتى ازرقت يداه ضربه بحرف المسطرة ، ثم تفاقم الأمر ، واسودت كفاه ، أخذه إلى الطبيب لابد من قطعهما فقال له : بابا ممكن ألا يقطعوا يداي ؟ فالأب ما تحمل ، معه مسدس انتحر .
لا تكن عنيفاً ، أنا لا أدعيك للتساهل ، لا أبداً ، لكن ابنك أغلى من الطقم ، فخطأ كبير ، لكن هدئ من حالك .
(( علموا ولا تعنفوا ، فإن المعلم خير من المعنف )) .
[أخرجه البيهقي في شعب الإيمان عن أبي هريرة ، وابن عدي في الكامل]
أعرابي بال بالمسجد ، قال عليه الصلاة والسلام : لا تزرموا عليه بوله دعه يكمل ، غير معقول ! بالمسجد ، لا تزرموا عليه بوله .
أعرابي أثناء الصلاة عطس ، قال له شخص : يرحمك الله ، حديث عهد بالإسلام فالصحابة ضربوا على أرجلهم ، قام وخاف ، أمامه توبيخ بعدما ينتهوا ، النبي قال له : اقترب يا عبد الله ، إن هذا الكلام لا يكون في الصلاة ، قال له : اللهم ارحمني ومحمداً ولا ترحم معنا أحداً ، من شدة فرحه أنه لا أحد قتله .(1/164)
كن مصدر رحمة ، مصدر حب ، مصدر طمأنينة ، مصدر أمن .
(( إِنَّ اللهَ رَفيقٌ يُحِبُّ الرِّفْقَ ويُعطي على الرِّفْقِ ما لا يُعْطي على العنفِ )) .
[أخرجه مسلم وأبو داود عن عائشة أم المؤمنين ] .
ماذا قال سيدنا معاوية ؟ مرة جاءته رسالة من مواطن ، هو أمير المؤمنين حاكم بلاد لا يعلمها إلا الله ، شرقاً قريب من الصين ، وغرباً ، قال له هذا المواطن : أما بعد فيا معاوية ( باسمه ، لا في أمير مؤمنين ، ولا في أحد ) ، إن رجالك قد دخلوا أرضي فانهاهم عن ذلك ، وإلا كان لي ولك شأن والسلام ، عنده ابنه يزيد ، قال له : ماذا نفعل ؟ غلى الدم في عروقه ، قال له : أرى أن ترسل له جيشاً أوله عنده وآخره عندك يأتوك برأسه ، قال له : غير هذا أفضل ، جاء بالكاتب قال له : اكتب ، أما بعد : فقد وقفت على كتاب ولدي حواري رسول الله ، هو عبد الله بن الزبير ، ولقد ساءني ما ساءه ، والدنيا كلها هينة جنب رضاه ، لقد نزلت له عن الأرض ومن فيها ، يأتي الجواب ، اسمعوا الجواب ، أما بعد : فيا أمير المؤمنين ، اختلف الوضع ، أطال الله بقاؤك ، ولا أعدمك الرأي الذي أحلك من قومك هذا المحل ، فجاء بابنه يزيد وقال له : اقرأ الجواب ، أردت أن تبعث له جيشاً ، أوله عنده ، وآخره عندي ليأتوا برأسه ، قال له : يا بني من عفا ساد ، ومن حلم عظُم ، ومن تجاوز استمال إليه القلوب .
لي صديق وصل والده للثامنة و التسعين ، يخدمه خدمة تفوق حدّ الخيال ، ينام إلى جانبه طوال الليل ، يجلب له كأس العصير ، كأس الماء ، شيء عجيب ، محبته لوالده غير معقولة إطلاقاً سببها ، استعار سيارة والده وعمل فيها حادثاً كبيراً ، وهرب ، توقع أن يقتله والده ، الأب ما فعل شيئاً ، لما رآه بعد ثلاثة أيام ، قال له : أنا بابا السيارة بعتها لا تأكل هم ، الحادث وقع ووقع ، يقول لي : لا أنسى هذا الموقف ، يعني للثامنة و التسعين يخدمه ، معقول ! ما فعل شيئاً معه ، أنا لا أقول لكم افعلوا هكذا ، لا ، لكن شيء وقع وانتهى ، يتم ابنك ثروة ، خليه من طرفك ، عاتبه ، لكن هذا الموقف العنيف ، يقول لي والله لا أنسى هذا الفضل .
إخوانا الكرام اسمحوا لي بكلمة دقيقة : الثقافة الإسلامية بثقافة بلادنا ، كل أب محترم ، لكن ما كل أب يحب ، بطولتك لا أن تحترم ، أن تحب ، فرق دقيق ، بالثقافة الدينية ثقافة هذه البلاد الأب مقدس ، فلو أساء يسكت الابن ، هذه ثقافتنا ، لكن بطولتك كأب لا أن تُحترم من قبل أولادك ، أن تُحب ، أن يحبك أولادك ، هذه بطولة .
هناك ملاحظة أخيرة : النبي قال :
(( اخشوشنوا ، وتمعددوا فإن النعم لا تدوم )) .
[ من كشف الخفاء عن عمر ](1/165)
أنت ميسور بحبوحة ، لكن علم أولادك أنه في أُسر ما عندهم فواكه ، لا تحضر الفواكه يومين ثلاثة لا يحصل شيئاً ، كأس شاي ، وطن نفسك أنه في أُسر ما عندها أنه كل يوم يوجد طبخة درجة أولى ، اعمل يوماً أكلة بسيطة جداً معكرونة فقط ما في غيرها ، خلي ابنك متواضعاً ، يعرف أن هناك أسر فقيرة .
والله أنا أعرف شخصاً الحمد لله في بحبوحة ، اليوم ما في مصروف بابا ، من أجل أن تشعر بشعور رفاقك الفقراء ، تأدب ، اليوم ما في فواكه ، أما كلما طلب تعطيه صار لا يحتمل ، يوجد شخص بالتعبير الدمشقي : يَقرف ويُقرف ، كل شيء مُؤَمَّن ، ما عاد يقبل شيئاً دون طموحه ، وبهذا الكبر الناس انفضوا عنه .
(( اخشوشنوا )) .
ولو كنت غنياً ، (( اخشوشنوا ، وتمعددوا فإن النعم لا تدوم )) .
أيضاً الأب الحكيم ، مرة أكلة درجة أولى ، مرة أكلة وسط ، مرة أكلة بسيطة جداً ، مرة في فواكه ، مرة ما في فواكه ، وأنت مليونير ، دع ابنك يحس أن الحياة فيها فقر ، فيها حرمان ، ولا تعطي ابنك على المدرسة أكلة غالية كثير ، لا ، يأكلها في البيت ، أما في المدرسة مثل أفقر طالب ، تفاحة ، أو أشياء خفيفة فقط ، أحياناً هناك أكلات ثمنها مئتي ليرة ومعه خمسمئة بالحضانة ، لا يصح ، تعمل فساداً بالمدرسة .
هذا جزء من التربية النفسية لابنك .
أيها الأخوة ، أنت حينما تبيّن ، لا تحرمه من البيان ، بيّن ، اليوم لا يوجد خرجية ، أو لا يوجد مبلغ من المال مقابل أن تشعر بشعور صديق لك أبوه ما أعطاه شيئاً ، يُُعاش من دون هذا المبلغ من المال يومياً ، يعاش من دون فواكه بعد الأكل .
(( اخشوشنوا ، وتمعددوا فإن النعم لا تدوم )) .
[ من كشف الخفاء عن عمر ]
=================
... ... ... ...(1/166)
18 ـ التربية النفسية 4 ـ ظاهرة الحسد :
" التفرقة بالتعامل مع الأبناء تورث الحسد بينهم وتربي عقداً نفسية لدى الطفل "
أيها الأخوة ، مشكلة كبيرة جداً تصيب الصغار حينما لا تكون معاملة الأب والأم عادلة بينهم ، التفرقة في المعاملة تصيب الصغار بما يسمى بالحسد ، والحسد قد يدفع إلى العنف ، فالإنسان على سجيته يحب الطفل الأصغر ، والطفل الأجمل ، والطفل الأذكى ، يحب الذكي ، والصغير ، والجميل ، من دون عمل إرادي اهتمامه ، وابتسامته ، ومداعبته ، لهذا الصغير ، أو لهذا الأذكى ، أو الأجمل .
الآخر قد يكون أقل ذكاء ، أو أقل جمالاً ، أو أقل وداً ، يغرس الأب في نفس ابنه عقداً قد تستمر طوال حياته .
مرة ثانية : الأبوة مسؤولية كبيرة جداً ، بل إن النبي عليه الصلاة والسلام يقول :
(( إن الله تعالى يحب أن تعدلوا بين أولادكم ، حتى في القبل )) .
[ ابن النجار عن النعمان بن بشير تصحيح السيوطي : ضعيف ] .
مرة طُرح موضوع التعدد ، وقد نصّ الفقهاء على أنه لابدّ من عدل تام ، ماذا يعني العدل التام ؟ يعني السكن متساوي ، الوقت ليلة بليلة ، ليلتان بليلتين ، أسبوع بأسبوع الوقت متساوي ، والسكن في مستوى واحد ، والإنفاق واحد ، والله أنا اجتهدت فأضفت بنداً رابعاً ، في المودة ، عند القديمة متجهم ، عابس ، كلامه قاسٍ ، عند الجديدة في أعلى درجة من الود ، لماذا كره الناس التعدد ؟ لأنهم ما رأوا تعدداً رائعاً أبداً ، رأوا التعدد الظالم ، رأوا انحياز الزوج بكليته إلى الجديدة ، وأم أولاده الزوجة الوفية ، الأولى ، التي أفنت حياتها من أجل زوجها مهملة ، مع أولادها .
لذلك الناس حينما يساء تطبيق الإسلام ينفر الناس من الإسلام ، أنا يمكن أن أقول : هناك محبب ، وهناك منفر ، هناك إنسان مسلم ، وله زي إسلامي ، ويؤدي الصلوات الخمس ، ومع ذلك فهو منفر من الدين ، فأنا أضفت إلى العدل التام بين الزوجتين مستوى السكن ، مستوى الإنفاق ، الزمن ، والود ، ابتسامة بابتسامة ، كلام معسول بكلام معسول ، أما عدل القلب لا أحد يملكه ولا النبي يملكه ، قال عليه الصلاة والسلام :
(( اللهم هذا قَسْمي فيما أملك . فلا تَلُمني فيما تَملك ولا أَملك )) .
[أخرجه أبو داود والترمذي والنسائي عن عائشة أم المؤمنين ] .
وأنت مع أولادك ، الأذكى ، الأجمل ، الأصغر محبب ، أنت مؤمن يجب ألا تفرق أبداً بين الصغير والكبير ، والذكي والأقل ذكاء ، والجميل والأقل جمال .
كان عليه الصلاة والسلام يضع الحسن في حضنه ، ويضع أسامة بن زيد ، وكان أسود اللون ، أفطس الأنف ، ويضمهما معاً ، ويشمهما .(1/167)
بطولتك أيها الأب ألا تفرق ولا بقبلة ، ولا بابتسامة ، الكلام موحد ، الابتسامة موحدة ، الاهتمام موحد ، الهدايا موحدة ، في نزهة بالقرعة ، ما في شيء يُطمئن الإنسان كالعدل ، في آباء كل نزهة ، أو كل سفرة يختار أحد أولاده بالقرعة ، ما في واحد معه دائماً والثاني مهمل .
مرة ثانية ، وثالثة ، ورابعة : بالثقافة الإسلامية ، بثقافة بلادنا ، الأب محترم لكن ما كل أب محبوب ، وبطولتك لا أن تكون محترماً ، أن تكون محبوباً ، هذه بطولتك .
لذلك ينشأ عند الصغار حالة نفسية خطيرة جداً ، الحسد ، الحسد قد يدعوه إلى العنف ، إلى الإيذاء ، إلى جريمة أحياناً ، أكبر دليل أخوة يوسف ، وضعوه في غيابت الجب أرادوا أن يموت ، ليس هذا الكلام يعني أن سيدنا يعقوب كان ظالماً ، لا ، حاشا لله ، لكن أريكم ماذا يفعل الحسد ، في آباء لكن هم قلة .
أيها الأخوة الأكارم ، تأتيني مئات الاتصالات ، من فتاة منبوذة عند أهلها ، لها أخت لعلها أجمل ، لعل زوجها أغنى ، تجد الاحتفال ، والترحيب ، والتكريم ، والموائد لزوجها لأنه غني ، والأخت الثانية مهملة هي وزوجها .
والله حدثني أخ زوجته لها أب من أهل اليسار في هذا البلد ، وساكن في أرقى أحياء دمشق ، وله سكن في المصيف ، في صبيحة أيام العيد توجهت ابنته إلى بيت أبيها هناك أخوة لها من أم جديدة ، من زوجة جديدة ، أعطى ابنته من الأم القديمة مبلغاً بسيطاً قال لها : حاجة انصرفي ، إرضاء لزوجته الجديدة ، فالمائدة العامرة ، والاحتفال ، والتكريم ، والترحيب ببنات الزوجة الجديدة ، والعبوس والجفاء والأمر بالانصراف لابنته من الزوجة القديمة ، أقسم لكم بالله بلغني أن سنوات وسنوات تبكي هذه البنت بكاء مراً من ظلم أبيها .
إن أردت أن تسترسل مع مصالحك ، ومع عواطفك ، ومع الأذكى ، ومع الأجمل ، ومع الأصغر ، ترتكب خطأ قد يستمر مع أولادك إلى سنوات وسنوات ، وقد يسبب لهم عقدة كبيرة ، بطولتك أيها الأب أن تعدل .
(( يا رسول الله إني نحلت ابني حديقة ، فاشهد على ذلك ، فقال عليه الصلاة والسلام : ألك ولد غيره ؟ قال : نعم ، قال : أنحلته مثل ما نحلته ؟ قال : لا ، قال : أشهد غيري فإني لا أشهد على جور )) .
[متفق عليه عن النعمان بن بشير]
والله مع الأسف الشديد هناك أُسر تسمى عريقة في هذه البلدة تحرم البنات ، يأخذ الأخ الأكبر وكالة ، وكالة عامة من أخوته البنات ، ولا يعطيهم شيئاً ، عندنا جاهلية أيها الأخوة ، جاهلية في صفوف المسلمين ، في صفوف رواد المساجد ، لا يتمنى أن يعطي البنت شيئاً ، هذا المال للذكور ، ليبقى المال في الأرومة الذكورية لهذه الأسرة ، أما البنات ! ابنتك من صلبك .(1/168)
أيها الأخوة ، عدم العدل بين الأولاد إن في الصغر ، بالابتسامة ، والقبلة ، والضم ، والشم ، والاهتمام ، وإن في الكبر ، أقول لكم هذه الكلمة : أنت تظن الطفل فقط بحاجة إلى الطعام والشراب ، والله الذي لا إله إلا هو ، هو بحاجة إلى أن يضمه أبوه ، وأن يقبله ، وأن يشمه ، وأن يداعبه ، وأن يضاحكه كما هو محتاج إلى الطعام والشراب .
والدليل عليه الصلاة والسلام ، كان يرتحله الحسن والحسين ، يركبان على ظهره وهو يصلي بالمسلمين ، فيطيل السجود ، فيقلق المسلمون ، ثم يفاجؤون أن الحسن والحسين ارتحلا رسول الله صلى الله عليه وسلم .
فالابن يتحاج رحمة ، يحتاج محبة ، يحتاج ابتسامة ، يجب أن تضمه ، وتشمه ، وتدلله ، حتى يُشد لك ، حتى يحب البيت ، البيت جنة ، أما الظلم ، ابن مهمل ، وابن مرحب به ، ابن له أفضل غرفة ، وابن مع ثلاثة أُخر ، ابن يأخذه أبوه معه ، وابن يتركه بالبيت .
أخجل أن أقول بعض الكلمات القاسية : مثل هذا الأب مجرم في حق ابنه حطمه ، عن غير قصد ، الأذكى ، الأجمل ، الأصغر ، محبوب ، معزز ، مكرم ، يداعبه أبوه ، يبتسم له ، والكلمة القاسية والتجهم ، مع ابنه الآخر .
هذا يسبب عقداً وأمراضاً قد تنتهي بإيذاء الأخوة ، وقد تنتهي بإيقاع أذى كبير من هذا المقهور من الابن المدلل .
1 ـ تمني زوال النعمة عن الآخر كي تنصرف إليك :
أيها الأخوة ، هو الحسد مع الصغار والكبار ثلاث مستويات ، أول مستوى تمني ـ تمني فقط ـ زوال النعمة عن الآخر كي تنصرف إليك ، هذا حسد ، هذا مستوى .
2 ـ تمني زوال النعمة عن الآخر دون أن تصل إليك :
هناك مستوى أعلى ، تمني زوال النعمة عن الآخر دون أن تصل إليك ، لمجرد أن يُدمر هذا الإنسان ، لذلك في آية قرآنية دقيقة جداً :
* إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آَمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ * .
( سورة النور الآية : 19 ) .
ما فعل شيئاً ، ما تكلم ، ما غمز ، ما لمز ، ما اغتاب ، ما تكلم ولا كلمة ، لكن حينما يُدمر مؤمن يرتاح ، راحة الإنسان حينما يُدمر المؤمن أي أحب أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا ، أحب أن يسقط المؤمن مئة بالمئة حتماً كان في خندق المنافقين .
* إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا * .
( سورة آل عمران الآية : 120 ) .(1/169)
فأنت حينما تتمنى أن يقع أخوك ، أن يُدمر أخوك ، فأنت في صف المنافقين قولاً واحداً ، لأن علامة الإيمان أن تفرح لأخيك بنعمة ساقها الله إليه ، وتكون في صف المنافقين إذا آلمك أن ينال نعمة من الله عز وجل .
أول مستوى تمني زوال النعمة عن أخيك ، وأن تصل إليك ، المستوى الأسوأ تمنى زوال النعمة عن أخيك دون أن تصل إليك ، المهم أن يُدمر .
3 ـ أن تسعى كي تحطم أخاك :
المستوى الأسوأ والأسوأ أن تكتب تقرير ، أن تسعى كي تحطم أخاك ، ثلاث مستويات .
فهذا الموضوع ينطبق على الصغار والكبار ، أحياناً طفل عمره سنة ونصف تنجب أمه طفلاً صغيراً ، الاهتمام ، والزيارات ، والحمل ، والتقبيل ، هذا الصغير أصبح درجة ثانية ، يتألم ، فأنا أتمنى على الآباء أن يكونوا عقلاء ، إذا في حمل ، في مولود جديد الأول نبقى على محبته ، ومودته ، وضمه ، وشمّه ، وملاعبته ، ومداعبته ، حتى لا يشعر بالتفرقة .
أنا يمكن بتاريخ الدعوة كلها لا أروي أي منام ، ليس من خصائص دعوتي المنامات ، ولا الكرامات ، ولا الشطحات ، لكن اسمح لنفسي مرة واحدة أروي هذا المنام سمعته من أخ ، له عمة ، توفيت ، يراها في المنام تلتهب ، مرة ، اثنتين ، ثلاثة ، خلال سنوات ثمانية ، شاعلة ، وتقول كلمة واحدة : الحليبات ، هذه الكلمة دفعته إلى التحقق ، ثم فهم أن لها أولاداً ، وأن لها أولاداً من زوجها ، فإذا سقت أولادها الحليب كان الكأس حليباً كامل الدسم ، أما إن سقت أولاد زوجها الحليب نصف الكأس حليب ممزوج بنصفه ماءً لأولاد زوجها ، أما أولادها حليب كامل .
الظلم ظلمات يوم القيامة ، الإنسان حينما يفرق بين أولاده ، أو بين أولاد زوجته الجديدة والقديمة ، هؤلاء المودة والمحبة ، وهؤلاء التجهم والقسوة ، وقع هذا الأب في شر عمله .
مرة ثانية أيها الأخوة ، الإنسان من دون جهد يميل إلى الأذكى ، للأجمل ، للأصغر ، أما بجهد إيماني يضبط مشاعره ، يحاول ألا يفرق أبداً بين طفلين .
وهناك قضية أخرى متعلقة بالبنات ، قد تكون بنت أجمل من بنت ، فإذا كان الأب سمح لبقية أولاده أن يصفوا الأخت الأقل جمالاً بصفات تعقدها ، وتزعجها ، أقول هذا الأب ليس أباً إطلاقاً ، يعني هناك خطوط حمراء أن أب يغمز ، ويلمز بجمال أختهم الأقل جمالاً مثلاً هذا شيء من أخطاء الأسر الكبيرة جداً ، فالبنت الأقل جمالاً تتعقد ، ينشأ عندها عقدة ، أما لما نعمل مقاييس التفوق في الأسرة هي الصلاة ، حفظ القرآن ، نعمل وسائل موضوعية للتفرقة بين الأولاد بالترجيح ، بقدر الطاعة لله ، بقدر الحفظ لكتاب الله ، ما لم يكن هناك محفزات لتفوق موضوعي ما له علاقة بالخلق .(1/170)
يعني بصراحة من منا مسؤول عن شكله ؟ هكذا الله خلقه ، أنت لما تعير إنساناً بشكله يكون هذا المعيار في حضيض الجهل ، هذا الذي أعطاه الله قواماً حسناً والثاني أعطاه قواماً أقل حسناً الثاني ما له علاقة .
يقولون : إنه كان أحد التابعين الأحنف بن قيس ، كان قصير القامة ، أسمر اللون ، أحنف الرجل ، فيه عرجة ، كان ناتئ الوجنتين ، غائر العينين ، مائل الذقن ، ليس شيء من قبح المنظر إلا وهو آخذ منه بنصيب ، وكان مع ذلك سيد قومه ، إذا غضبَ غضب لغضبته مئة ألف سيف لا يسألونه فيما غضب ، وكان إذا علم أن الماء يفسد مروءته ما شربه ، وكان سيد قومه .
بل إن معاوية بن أبي سفيان دعا علية القوم ، ليبايعوا يزيداً ، فكلهم أثنى على يزيد إلا الأحنف بقي ساكتاً ، سكوته أحرج المجلس ، قال : تكلم يا أحنف ، قال : أخاف الله إن كذبت ، وأخافكم إن صدقت ، قالوا : كان التلميح أبلغ من التصريح .
أيها الأخوة ، مثلما قلنا ، الأب على سجيته ، على رغباته يميل لطفل دون طفل ، الذي أهمله أبوه يعاني ما يعاني ، أما الذي اهتم به أبوه اهتمام كامل هذا أب مؤمن ، ناجح في تربيته ، يتمتع أولاده بصحة نفسية ، هذه الصحة النفسية لا تقدر بثمن .
بصراحة الإنسان قيمته بمعنوياته ، شخص معنوياته عالية ، واثق من محبة والده له ، من محبة والدته له ، واثق من نجاحه .
هناك نقطة دقيقة : لما أنت تكون عادلاً تعمل محفزات لأولادك ، هناك شيء اسمه التألق ، التألق سببه العدل ، ما في شعور بالظلم أبداً ، ولا بالحرمان ، ولا بالإهمال ، له مكانة ، للابن مكانة كبيرة جداً ، هو وأخوته سواء ، ذكور وإناث ، والله في تفرقة في بلادنا بين الذكور والإناث لا يعلمها إلا الله ، هذه التفرقة سببت نفور البنات بما يسمى بمنهج الله إساءة استعمال المسلمين لمنهج الله عز وجل ينفر الناس من هذا المنهج ، من سوء التطبيق ، لما الله عز وجل يقول :
* فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ * .
( سورة الزلزلة ) .
يعني ابتسامة ، مثقال ذرة من خير ، إنكم لن تسعوا الناس بأموالكم فسعوهم بأخلاقكم .
(( تَبَسُّمُكَ في وجه أخيك صدقة )) .
[أخرجه الترمذي عن أبي ذر الغفاري ] .
الترحيب الحار صدقة ، ولما تحمل ابنك وتضمه وتشمه أيضاً صدقة ، ولما تداعبه وأنت شخص كبير .(1/171)
مرة كنت عند شخص ، يحتل منصباً رفيعاً جداً ، قال لي : الأفندي اتصل بي قال له : بابا تعال أوصلني لعند رفيقي ، ابنه عمره سنتان أو ثلاث ، بالحضانة ، هو يتمتع بمكانة كبيرة جداً ، الابن يشعر أن أباه يحبه ، هذا شعور صحي ، تتنامى فيه قدراته .
أرجو الله سبحانه وتعالى أن نرزق الحكمة في معاملة أولادنا ، ابنك جزء منك ، امتداد لك ، أعظم عمل على الإطلاق تربية الأولاد .
(( أفضل كسب الرجل ولده )) .
[أخرجه الطبراني عن أبي بردة بن نيار ] .
خير كسب .
* رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَاماً * .
( سورة الفرقان ) .
الآن ممنوع أن توازن بين ولدين ، أخوك أذكى منك ، الذكاء بيده ؟ يعني أنت غبي ، ممنوع أن توازن بين أخوين ، إلا بما يتاح له ، في أشياء موضوعية ، يعني أخوه تفوق ، إن شاء الله أنت العام القادم تأخذ درجة أعلى منه ، تعمل له محفزاً ، أخوك جمع المجموع الفلاني ، أنا أعرف أنك لا تقل عن أخيك لكن جاءتك ظروف استثنائية حالت بينك وبين المجموع المرتفع ، يعني حاول أن تعطيه شعوراً أن مكانتهم واحدة .
أخوانا الكرام ، هناك كلمة أرددها كثيراً : الآخرون أنت لهم ، وغيرك لهم ، أما أولادك من لهم غيرك ؟.
فلذلك الطفل لما تثق به ، تعطيه معنويات عالية ، أغلب الظن يصعب أن يخيب ظنك ، في سر ، أنت حينما تمنح إنسان الثقة ، ولو كان صغيراً ، يمكن يفاجئك بانضباط ما كنت تتوقعه منه .
أعرف جماعة عندهم بنت يعني مستوى جمالها دون الثلاثين ، بكل قلة فهم ، هذه البنت تركناها لكبرتنا ، أي خادمة ، أخوتها تزوجوا ، ببيوت ، عندهم أولاد ، وأزواج وبيت ، واستقبال ، وغرف نوم ، وضيوف ، ولائم ، أما هذه البنت الأخيرة تركناها لكبرتنا والله في كل كلمة من إنسانة جاهلة أنا أراها كالجريمة تماماً .
(( إن الرجل ليتكلم بالكلمة لا يلقي لها بالاً يهوي بها في جهنم سبعين خريفاً )) .
[ الترمذي عن أبي هريرة ]
أنا حدثني أخ ، يبدو من أقربائه في رجل عنده أخت تسكن عنده ، يعني أخته فاتها قطار الزواج فهي عانس ما لها أحد إلا أخوها ، عنده زوجة لئيمة ، وقاسية جداً مع أخته ، تعمل هذه الأخت ليلاً نهاراً كي تتقي شر أخيها وزوجة أخيها ، في مرة جالس الأخ وأخته جالسة على الأرض ركلها بقدمه ، قال لها : هاتِ لي كأس ماء ، وزوجته شابة جالسة إلى جانبه ، وركل أخته بقدمه ، ائتني(1/172)
بكأس ماء ، هذا القريب يقسم بالله العظيم ثاني يوم عنده سفرة إلى حلب ، صار في حادث فقطعت رجله اليمنى من أعلى الفخذ ، قطعت هذه الرجل التي ركل بها أخته ، من أعلى الفخذ قطعت .
الإنسان أحياناً لا يعرف ماذا يفعل ، فيحتاج إلى إيمان ، الإيمان يعطي أفقاً واسعاً ، يعطي نفساً رضية ، يعطي حلماً ، يعطي حكمة ، لأن الله عز وجل قال :
* وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً * .
( سورة البقرة الآية : 269 ) .
بالحكمة ، بالحكمة تؤلف بين أولادك ، تجعلهم جميعاً بالبر لك سواء ، بالحكمة تحفز هممهم ، بالحكمة تدفعهم إلى التفوق ، بالحكمة تجعلهم يتحاببون بعد موتك ، أنا ألاحظ كثيراً أب توفي إذا في تفرقة بحياته الأولاد بالمحاكم ، والله في أسر وما أكثرها ، الخلافات بين الأولاد إلى درجة المقاطعة التامة ، ودعاوى ، ومحاكم ، حتى من حوالي سنة أب أعطى كل ما يملك لابن من أبنائه ، وحرم الباقين ، الباقون حقدوا عليه ، وورطوه بإخباريات بالمالية لدرجة أنهم إلى درجة أنهم دفعوه إلى أن ينتحر ، وانتحر ، أحقاد .
جاء شاب إليّ ، قال لي : أبي ترك ألف مليون ، تسعمئة مليون باسم واحد من أولاده ، وعنده أخ يعمل على سيارة شاحنة ، يأكل من عمل يده فقط ، واحد معه ثمانمئة مليون وواحد يعمل على سيارة شاحنة ، لكن هذا الأخ الذي معه ثمانمئة مليون ابن جوامع ، ماذا فعل ؟ قسم كل شيء بحوزته على أخوته بالتساوي ، نظرت إلى الإيمان ؟ وأنقذ أباه .
إخواني الكرام ، أنا لا أنطلق من هواء ، أنطلق من واقع ، أنا أعاني في عملي بالدعوة من اتصالات من شباب ، من شابات يتألمون أشد الألم ، يبكون على الهاتف ، من معاملة والديهم القاسية لهم ، بلا مبرر ، هكذا تمشي مع نزواته ، قاسٍ مع واحد يرحب بالآخر ، بنت زوجها غني لها معاملة خاصة ، بنت زوجها موظف فقير لها معاملة خاصة .
فيا أيها الأخوة ، ليس الإيمان أن تصلي ، الإيمان بالسلوك اليومي ، بالمعاملة الراقية ، بأن تكون محبوباً عند كل أولادك ، وعند كل بناتك ، وعند كل أصهارك ، عدل في معاملة الأصهار ، عدل في معاملة الأولاد ، عدل في معاملة الصغار .
أيها الأخوة ، هناك حالة ثانية : ابن لو أخطأ في تسامح ، الابن الثاني لو قال لا إله إلا الله عليه نقد ، وأحياناً يلتزم ابن بجامع ، التعتيم عليه ، وكل المديح لغير الملتزم يكون بيت غير ملتزم ، ينحازوا إلى الذي على شاكلتهم ، يأتي الساعة الثانية ما في انتقاد أبداً ، له صواحب ، له صاحبات ، اتصالات ، علاقات مشبوهة ، معزز ، مكرم ، محترم ، مبجل والملتزم المستقيم مهمل ، أي خطأ يُبكر ، وتضاعف له الانتقادات ، هذا موقف خطير جداً .(1/173)
بصراحة الآباء والأمهات بشر يرتكبون أخطاء فاحشة جداً ، بحق أولادهم أنا لي رأي وأصرّ عليه ، أنا أرى أن معظم أخطاء الأولاد من آبائهم وأمهاتهم ، وأن معظم أخطاء التلاميذ من معلميهم ، كن جريئاً وقل أنا أخطأت بحق أولادي ، كان من الممكن أن يكون الأولاد في وضع آخر .
يعني ممكن أن نستنبط أن أعقل الآباء هم الذين يبالغون بالعدل بين أولادهم ، حتى إنه في رأي فقهي : إذا الإنسان أعطى أولاده بحياته يعطيهم بالتساوي بين الذكور والإناث ، كل واحد بيت ، البنت بيت ، والذكر بيت ، عندنا هبة ، وعندنا مواريث ، المواريث وفق أحكام الشريعة .
* لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ * .
( سورة البقرة الآية : 11 ) .
أما الهبة بالتساوي ، البنت كالذكر تماماً بالهبات ، أحياناً يكون عند الأب بنتان بنت يزوجها بإنفاق ، وعناية بالحفلات ، والهدايا الثمينة ، وبنت يزوجها بتقشف ما بعده تقشف ، تقول لك : البنت الثانية عندها عقدة حتى الموت من أبيها .
ورد في بعض الآثار أن البنت حينما تتأذى من أبيها تأذياً شديداً قد تقول يوم القيامة يا رب لا أدخل النار حتى أدخل أبي قبلي .
والله سمعت بأذني بنت يبدو موظفة ، ولها دخل جيد ، وأهلها يأخذون أموالها فكلما جاءها خاطب صرفوه ، افتعلوا عيباً فيه ، هو بعقلهم الباطن ينبغي أن تكون عندهم ليأخذوا راتبها ، وتخدمهم ، فكل خاطب يصرفونه ، إلى أن أصابتها العنوسة ، لذلك قالت كلمة ، أنا والله أترفع عن أن أقولها على لسان بنت تجاه أبيها ، حقدت عليه حقداً لا حدود له ، عضل الفتاة عمل كبير جداً ، لذلك الآية الكريمة المدهشة :
* وَلَا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ * .
( سورة النور الآية : 33 ) .
بربكم هل يوجد بالأرض أب مسلم يجبر ابنته على الزنا ؟ ما في ، شيء ما دخل ببرنامجنا إطلاقاً ، والآية هكذا ، * وَلَا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ * ، قال علماء التفسير : حينما يأتي الخاطب فلا تقبله ، كلما جاء خاطب بحثت عن عيب فيه ، ثم رفضته إلى أن دخلت البنت في مرحلة العنوسة ، وأصبحت بلا زوج ، وبلا أولاد ، حينما تزل قدمها بعد ذلك تكون أيها الأب أنت السبب ، وكأنك أكرهتها على الزنا بهذه الطريقة ، * وَلَا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ * .
* إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً * .
( سورة النور الآية : 33 ) .
هذه البنت التي تقول أمها دائماً : هذه لكبرتي ، الله بعث لها زوجاً ، وتزوجها من أخوانا ، وأحبها محبة كبيرة ، وهو أفضل من كل أزواج أخواتها ، هي دون الثلاثين ، الله كريم ، والله جبار الخواطر .(1/174)
الإنسان بقدر ما يستطيع يتأدب مع الله عز وجل ، ولا يتكلم كلمة .
مرة ثانية :
(( إن الرجل ليتكلم بالكلمة لا يلقي لها بالاً يهوي بها في جهنم سبعين خريفاً )) .
[ الترمذي عن أبي هريرة ]
كلمة تجرح ، كلمة تحطم ، كلمة تنشئ عقداً كبيرة عند البنت أو الابن ، الأب يجب أن يكون عالماً ، كل واحد منا أب ، اطلب العلم ، كيف عامل النبي بناته ؟ كيف عامل أصهاره ؟ كيف عامل أخوانه ؟ كيف عامل جيرانه ؟ الإيمان هو الخلق ، فمن زاد عليك في الخلق زاد عليك في الإيمان .
مرة ثانية ، وثالثة : أنا لا أسمي النجاح نجاحاً إلا إذا كان شمولياً ، نجحت في تجارتك وأخفقت في بيتك ، لست ناجحاً ، نجحت في تجارتك ولم تنجح مع ربك ، لسن ناجحاً ، نجحت في تجارتك ونجحت مع ربك ، ولم تنجح مع صحتك ، لست ناجحاً ، أربع محطات ، علاقتك بالله عز وجل ، وعلاقتك بأهلك وأولادك ، وعلاقتك بعملك ، وعلاقتك بصحتك ، هذه نجاحات متكاملة ، لن تكون ناجحاً إلا إذا نجحت بها جميعاً ، على نسق واحد فهناك ساعة لله عز وجل ، وساعة لأهلك ، وساعة لعملك ، وساعة لقضاء حاجاتك .
أيها الأخوة ، درس اليوم في تربية الأولاد في الإسلام متعلق بالحسد بين الصغار والكبار ، بين الشباب والشابات ، في حياة الأب والأم ، وبعد حياة الأب والأم ، هذا الحسد سببه التفرقة ، وعدم العدل ، والعدل بين الأولاد له نصوص كثيرة جداً ، والله عز وجل لا يقبل ولا يرضى أن لا تكون عادلاً بين أولادك ، وأقرب الناس لك أولادك ، الآخرون أنت لهم وغيرك لهم ، أما أولادك من لهم غيرك ؟ .
أيها الأخوة الكرام ، لازلنا في التربية النفسية ، وسوف ترون معي أنه من أخطر أنواع التربية : التربية النفسية ، إنسان تكون معنوياته عالية ، متكامل ، جريء ، شجاع ، أمين ، صادق ، عادل ، ورع ، عفيف ، أخلاقي ، لأن الأب اعتنى بتربيته .
بالمناسبة : فاقد الشيء لا يعطيه ، معنى ذلك أنك أيها الأب ينبغي أن تطلب العلم حتى تمنحه لأولادك .
==============
... ... ... ...(1/175)
19 ـ التربية النفسية 5 ـ سبب الأمراض النفسية عند الأطفال
أيها الأخوة الأكارم مع الدرس التاسع عشر من دروس تربية الأولاد في الإسلام ، ولا زلنا في التربية النفسية ، وقد بينت لكم أن الشعور بالنقص ، والعقد النفسية ، وما إلى ذلك من أمراض نفسية تنشأ عند الصغار هي بسبب التفرقة بين الأولاد ، وعدم العدل بينهم ، فقد قال عليه الصلاة والسلام :
(( سووا بين أولادكم في العطية )) .
[أخرجه الطبراني عن عبد الله بن عباس ] .
(( رجل كان عند النبي صلى الله عليه وسلم فجاء ابن له فقبله وأجلسه على فخذه ، وجاءته بنت له فأجلسها بين يديه ـ الابن في حجره ، والبنت بين يديه ـ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ألا سويت بينهم )) .
[أخرجه البزار عن أنس بن مالك ] .
إذا أجلست ابنك على فخذك الأيمن فأجلس ابنتك على فخذك الأيسر ، إن ضممت ابنك ضمّ ابنتك ، إن قبلت ابنك قبل ابنتك ، هلا سويت بينهم ، حتى في القبل ، حتى في الابتسامة ، حتى في الضم ، حتى في الشم ، أنت حينما تعدل بين أولادك تعينهم على برك ، وعندما لا تعدل بينهم تعين الشيطان عليهم بالعقوق ، إن عدلت بينهم أعنتهم على الشيطان وإن لم تعدل بينهم أعنت الشيطان عليهم في العقوق .
لذلك من أروع الأحاديث الشريفة :
(( رحم الله والداً أعان ولده على بره )) .
[أبو الشيخ عن علي وابن عمر] .
أي سوى بين أولاده ، لم يفرق واحداً عن واحد ، عدل بينهم فأعانهم على بره :
(( رحم الله والداً أعان ولده على بره )) .
[أبو الشيخ عن علي وابن عمر] .
لذلك أنت حينما لا تعدل بين أولادك تخلق فيهم الحسد ، الحسد الشديد الذي قد يؤدي إلى الأذى ، وقد يؤدي إلى الجريمة .
فلذلك يقول عليه الصلاة والسلام :
(( إيَّاكْم والحَسدَ ، فَإنَّ الحَسَدَ يَأُكُلُ الْحسنَاتِ كما تأُكُلُ النَّارُ الْحَطَب )) .
[أخرجه أبو داود عن أبي هريرة ] .
وقد بينت لكم أيضاً ، هذا ملخص الدرس الماضي ، أن الحسد مستويات ثلاث إما أن تتمنى زوال نعمة عن أخيك كي تتحول إليك ، هذا مستوى ، هناك مستوى أسوأ ، أن تتمنى زوال نعمة عن أخيك دون أن تتحول إليك ، الأسوأ والأسوأ أن تكتب تقريراً ، أو أن تفسد ، أو أن تتحرك لسلب(1/176)
نعمة عن أخيك ، هذه أصبحت جريمة ، الحسد ذنب كبير ، أما أن تتحرك ، أن تشي به ، أن تعطي خبراً كاذباً عنه ، كي يغلق محله ، هذه جريمة ، الحسد يأتي من التفرقة .
أذكركم ببعض كتب الحديث ، تأتي الأحاديث مرتبة وفق الترتيب الهجائي .
من أدق الأحاديث مجموعة لا بأس بها من أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم تبدأ بكلمة ليس منا ، كلمة ليس منا ما سيأتي بعدها يُعد من الكبائر ، نفى انتساب هذا الإنسان إلى النبي ليس منا .
(( ليس منا من غَشَّ )) .
[أخرجه مسلم وأبو داود والترمذي عن أبي هريرة ] .
فالغش كبيرة ، من غشّ مطلقاً .
(( لَيْسَ مِنا مَن لم يَرحَمْ صغيرَنا ، ويُوِّقرْ كَبيرنا ـ ولم يعرف لعالمنا حقه ـ )) .
[أخرجه الترمذي عن أنس بن مالك ] .
(( ليس منا من لطم الخدود ، وشق الجيوب ، ودعا بدعوى الجاهلية )) .
[البخاري عن ابن مسعود] .
(( لَيسَ مِنَّا مَنْ دَعا إِلى عَصبيَّة ، وليس منا من قاتل عصبيَّة ، وليس منا من مات على عصبيَّة )) .
[أخرجه أبو داود عن خبير بن مطعم ] .
(( لَيْسَ مِنَّا مَنْ خَبَّبَ امرأة على زوجها )) .
[أخرجه أبو داود عن أبي هريرة ] .
أفسدها ، ليس منا من فرق بين أخ وأخيه ، بين أخت وأخيها ، بين شريك وشريك ، بين أم وولدها ، بين أب وولده ، ليس منا من فرق ، وليس مني إلا عالم أو متعلم ، وليس مني اللعان ولا الطعان ، كل إنسان يتهمه باتهام ، لا يحلو له إلا أن يلقي تهمة ظالمة على إنسان تألق ، ليس مني لا اللعان ، ولا الطعان .
(( ما آمن بي من بات شبعان وجاره جائع إلى جنبه وهو يعلم به )) .
[أخرجه الطبراني عن أنس بن مالك ] .
هذه مجموعة أحاديث تبدأ بـ ليس منا ، أما الحديث الذي يقصم الظهر :
(( ليس مني ذو حسد )) .
[أخرجه الطبراني عن عبد الله بن يسر ] .
الذي يحسد ليس منا .
ألا قل لمن بات لي حاسداً ... أتدري على من أسأت الأدب
أسأت على الله في فعله ... كَأَنَّك لَمْ تَرْضَ لِي مَا وَهَبْ
ملك الملوك إذا وهب ... لا تسألن عن السبب(1/177)
* * *
خطأ :
ملك الملوك إذا وهب ... لا تسألن عن السبب
* * *
لأن الله عادل :
الله يعطي من يشاء فقف على حِّد الأدب
* * *
لذلك أيها الأخوة التفرقة بين الأولاد تسبب حسداً شديداً قد ينتهي بأذى أو بقتل أريد أن أبين حقيقة هي مقياس دقيق :
لك صديق مؤمن ، لك أخ من أمك وأبيك ، لك شريك ، لك جار ، لك ابن عم ، لك قريب ، لك زميل بالعمل ، هؤلاء جميعاً لو أن واحداً اشترى بيتاً ، أو اشترى مركبة ، أو نال شهادة ، أو أسس عملاً ونجح في عمله ، إن كنت مؤمناً وكان مؤمناً إن لم تفرح بهذا العطاء لأخيك فالعلم والكلمة قاسية جداً أنك على ثلمة من ثلم النفاق ، لأن من شان المنافق :
* إِنْ تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ * .
( سورة التوبة الآية : 50 ) .
أقسم لك بالله لك أخ نال الدكتوراه ، إن فرحت له من أعماق قلبك فأنت مؤمن ورب الكعبة ، أنت حينما فرحت بهذه الشهادة التي نالها ، أو بهذا الزواج الذي أكرمه الله به ، أو بهذا البيت الذي اشتراه ، أو بهذا المحل الذي عمل به ، أو بهذه الوظيفة اللطيفة التي قُبل بها ، إن فرحت هذه علامة إيمانك .
(( ليس مني ذو حسد )) .
[أخرجه الطبراني عن عبد الله بن يسر ] .
ما بعد ليس مني من الكبائر ، لكن الأب الذي يعين ولده على بره و ذلك بالعدل بين أولاده ينطبق عليه الحديث الشريف :
(( رحم الله والداً أعان ولده على بره )) .
[أبو الشيخ عن علي وابن عمر] .
والأب الذي يفرق بين أولاده هو يعين الشيطان على عقوق أولاده ، أقسم لكم بالله زارني شاب مؤمن ، يملك والده (وقد توفي من أيام) ألف مليون ، باسم هذا الشاب ما يقترب من ثمانمئة مليون ، محاضر ، وله ابن يعمل على سيارة أجرة ، يأكل كل يوم من جهده وعرق جبينه ، أما هذا الابن(1/178)
الأول الذي باسمه ثمانمئة مليون وزع ما باسمه على إخوته وعلى الورثة بحسب الحكم الشرعي ، فكان بطلاً .
لذلك فرحك بنعمة ساقها الله لأخيك علامة إيمانك ، وحسدك لنعمة ساقها الله إلى أخيك تتمنى أن تزول عنه وتأتي إليك ، أو تتمنى أن تزول عنه دون أن تأتي إليك ، أو توقع به ، هذه علامة النفاق ، هذه كلها علامات ، النبي عليه الصلاة والسلام قال :
(( من حمل سلعته فقد برئ من الكبر )) .
[ القضاعي والديلمي عن أبي أمامة] .
(( برئ من الشح من أدى زكاة ماله )) .
[أخرجه الطبراني عن جابر بن عبد الله ] .
(( من أكثر من ذكر الله فقد برئ من النفاق ))
[ ابن شاهين في الترغيب في الذكر عن أبي هريرة] .
أنا أتصور أن مجتمع المؤمنين الكل لواحد ، والواحد للكل ، هذا مجتمع المؤمنين ، يقول عليه الصلاة والسلام :
(( لا يزال الناس بخير ما لم يتحاسدوا )) .
[أخرجه الطبراني عن ضمرة بن ثعلبة ] .
والله هناك عداوة ، وأحقاد بين الأسر ، وبين أفراد الأسرة الواحدة ، وبين أفراد الأسرة الكبيرة ، وبين أبناء قرية ، وبين أبناء مصلحة .
والله أعرف رجلاً مستقيماً في عمله ، لكن ناجح جداً ، يؤدي زكاة ماله ، يستقيم على أمر الله تماماً ، مبيعاته ارتفعت إلى مستوى عالٍ جداً ، جاره يصلي في المسجد علم أن عنده مخالفة بالبناء قدم شكوى ضده ، والآن قريب على أن يدفع مليون ليرة ، حتى يعيق نجاحه بالتجارة ، هذا إيمان ؟ لا والله .
(( ليس مني ذو حسد )) .
[أخرجه الطبراني عن عبد الله بن يسر ] .
والأب الذي يعدل بين أولاده يعين أولاده على بره ، والأب الذي لا يعدل بين أولاده يعين الشيطان كي يقوى على أولاده في العقوق .
درسنا اليوم عندنا ظاهرة ، ظاهرة الغضب ، ولد غضوب ، ردود فعله قاسية جداً ، ينفجر لأتفه الأسباب ، يعلو صوته على أمه وأبيه ، قد يضرب أخوته الصغار ضرباً مبرحاً ، قد يسب ، قد يشتم ، هذه الظاهرة ، ظاهرة الغضب ، ما أسبابها ؟ لا يوجد شيء ليس له سبب .(1/179)
أيها الأخوة ، هذه الحالة العدوانية الانفجار ، الغضب الشديد ، الصوت المرتفع ، الضرب المتسرع ، هناك أطفال بالبيت هكذا ، عندهم حاجات أساسية لم تلبَ ، الأب مدعو إلى طعام مع الأم ، والبيت لا يوجد فيه أكل ، ماما دبروا حالكم ، لا يوجد شيء بالبيت ، وجاء جوعان ، لا يوجد أكل ، الأب والأم ما عندهم مشكلة هم بدعوة ، والابن ؟.
أنا لي كلام عندكم ، اطلعت على بحث حول المطاعم في بلاد بعيدة ، يعني مطاعم خمس نجوم ، صار في تفتيش مفاجئ للمستودعات ، كلام دقيق جداً عُرض بتحقيق رسمي ، جرذان ، صراصير ، أكل المطاعم ليس كطعام البيت ، أنا أعتبر من نجاح الأسرة أن يكون فيها أكل منتظم ، أنا لا أقول أكل مرتفع ثمنه أقول أكل منتظم ، بمواعيد محددة ، طفل وجد حاجته من الطعام أكل ، سُر بالأكل ، أحد أسباب هدوء الطفل تكون حاجته الغذائية مؤمنة ، أما أحياناً لا يوجد طعام ، يرى الطعام لا يحبه ، علامة المؤمن أنه يأكل بشهوة أهله بينما الأب المتكبر يجبر من حوله أن يأكلوا بشهوته ، اسأل أهلك ماذا تحبون أن تأكلوا ؟.
والله أعرف آباء لا يوجد طعام يأكله دعوة ، أو وليمة ، أو في مطعم عند الضرورة، أو عنده ضيف بالتجارة هيأ له طعاماً ، هذا الطعام الذي أكله مع ضيفه يأتي به مساءً إلى البيت ، ليأكل أهله كما أكل .
كلما شعر أهلك أنك جزء منهم ، وأنك تحب لهم ما تحب لنفسك ، وتشتهي لهم ما تشتهي لنفسك ، وأن الأكلة التي طربت لها ينبغي أن تأتي بها إلى البيت ليأكلوا معك ، يعني أنا أريد أسرة متماسكة ، فيها حب ، فيها تضحية ، فيها إكرام ، وهناك أسر كل واحد بجهة فالأب العاقل الواعي يجمع أولاده ، أنا أقول لكم هذه نصيحة ثلاث وجبات منتظمة بالبيت نظيفة من صنع الأم ، هذه أم صالحة ، أضرب مثلاً يمكن أعدته مئة مرة :
أم تحب الله كثيراً ، تصلي قيام الليل ، الساعة الخامسة تعبت تعباً شديداً ، فآوت إلى الفراش وطلبت من أبنائها أن يدبروا أنفسهم ، الوقت شتاء ، والغرفة باردة ، الغرفة باردة جداً ، والطعام غير جاهز ، هذا أكل من الثلاجة مباشرة ، هذا وضع طعام فيه زيت من دون كيس نايلون ، انتقل الزيت للكتب والدفاتر ، هذا صدريته وسخة ، حذاؤه غير نظيف ، الزر مقطوع ، ولم يكتب وظيفته ، الخمسة أولاد كلهم تلقوا ضرباً مبرحاً من أستاذهم ، وهذا وظيفته لم يكتبها ، وثيابه غير نظيفة ، الشطيرة في محفظته نقلت الزيت إلى بقية الكتب ، أنا أرى وهذا اجتهاد مني إن أصبت فمن توفيق الله ، وإن أخطأت فمن تقصيري ، أنا أرى أن هذه الأم التي صلت عشر ركعات قيام الليل ، وبكت وسحت في البكاء ، لو أنها استيقظت قبل الشمس بنصف ساعة ، وصلت الفجر بوقته ، ودفأت الغرفة ، وهيأت طعاماً مرتباً ، طعام الصباح مع شاي ، تفقدت وظائف أولادها ، تفقدت ثيابهم ،(1/180)
نقلتهم إلى مجيء السيارة ثم ذهبت ونامت ، أنا أرى أن هذه الأم أقرب إلى الله مليون مرة من التي صلت قيام الليل ، ونسيت واجبها تجاه أولادها .
الأم المؤمنة تعبد الله فيما أقامها ، أقامك أماً ؟ ينبغي أن تكوني أماً صالحة .
أنا أرى أن الجنة بحاجة إلى عمل ، هذا العمل ، الأم الصالحة في طريق سالك من بيتها إلى الجنة .
أنا صيدلي من الصيدلية للجنة ، دواء ثمنه ألف و مئتا ليرة وانتهى مفعوله ، تحك تاريخ الصلاحية ، أنت ألغيت صلاتك ، تحك بشفرة تاريخ الصلاحية ، يأتي إنسان يطلب الدواء يعطيه إياه بألف و مئتي ليرة ، هو انتهى مفعوله ، وأنا كنت أتوهم أن الدواء الذي انتهى مفعوله لا يؤذي ، ثبت العكس ، الدواء الذي انتهى مفعوله يؤذي لأنه تفتت .
فهناك أعمال تلغي بها صلاتك ، وصيامك ، وحجك ، وزكاتك ، الناس فهموا الدين فهم طقوسي ، جئنا إلى الجامع صلينا ، وسمعنا خطبة ، أما في غش بالبضاعة ، في مادة محرمة ، في مادة مبيضة ، لكنها مسرطنة ، في هرمونات مسرطنة ، في إعلان كاذب ، البضاعة ألمانية وهي شغل الصين ، يظن الدين ما له علاقة ، الدين في عملك ، في بيتك ، في عيادتك ، في صيدليتك .
مرة زرت معملاً يبيع مادة غذائية أقسم لي بالله صاحب المعمل ـ أظنه صالحاً ولا أزكي على الله أحداً ـ يضعون بهذه المادة الغذائية مادة مسرطنة ، تستخدم في الدهانات تبيض هذه المادة ، إذا ابيضت ارتفع سعرها ، وفلاحون يضعون هرمونات على النباتات تأتي الحبة كبيرة وقاسية وذات وزن ، ويربح أرباحاً طائلة ، والهرمون محرم دولياً ممنوع بيعه ، وأي صيدلية تبيعه تُغلق فوراً ، أنا أرى الدين بالحقل ، والدين بالعيادة ، والدين بمكتب المحاماة ، والدين بقاعات التدريس ، والدين بالبيع والشراء ، الدين بالوظيفة ، عندما أقول الدين خمسمئة ألف بند لا أبالغ ، تبدأ أحكام الدين من أشد العلاقات خصوصية ، من فراش الزوجية وتنتهي بالعلاقات الدولية .
أحد أسباب غضب الطفل إذا حاجاته الأساسية غير جاهزة ، الوقت برد شديد يحتاج لمعطف ، ما في معطف ، إذا في فقر موضوع ثانٍ ، لكن لما الابن يرى من أبيه العناية ، ثيابه جيدة ، طعامه جيد .
لذلك العمل عبادة أنا أعني ما أقول ولا أبالغ ، إذا كان عملك في الأصل مشروعاً وسلكت به الطرق المشروعة ، وابتغيت منها كفاية نفسك وأهلك ، وخدمة المؤمنين ، والناس جميعاً ، ولم يشغلك عن واجب ، ولا عن فريضة ، ولا عن طاعة ، انقلب عملك إلى عبادة ، في عملك أنت في عبادة ، نصحت المسلمين ما غششتهم ، ما أوهمتهم ، ما احتكرت بضاعتهم ، ما دلست عليهم ، في تدليس ، يوهمك أن هذه البضاعة من منشأ معين ، وهي ليست كذلك ، لو صار تدقيق تجد نفسك مع الله دائماً ، تدقيق في المعاملة ما في كلمة خطأ ، ما في نظرة خطأ ، ما في قرش تأخذه حراماً ، إذا استقمت كما أراد الله انفتحت أبواب السماء ، جاء التوفيق ، جاء الدعم الإلهي ، جاء التأييد ، جاء النصر ، جاء التفوق ، جاءت السعادة ، جاءت السكينة .(1/181)
(( استقيموا ولن تُحْصُوا )) .
[أخرجه ابن ماجه عن ثوبان] .
النبي عليه الصلاة والسلام علمنا أن نغضب لله ، أما لأنفسنا في تسامح ، يعني زوجته بالشرفة بثياب فاضحة ، والشرفة على الطريق لا تتحرك شعرة فيه ، أما إذا الطعام ما كان جاهزاً تقوم الدنيا ولا تقعد ، لا ، أنت الآن تغضب لغير الله ، تغضب لمصلحة لك ، أما حينما تنتهك هذه الزوجة حرمات الله ولا تبالي هذه حالة مرضية ، أما المؤمن يغضب ، يغضب إذا انتهكت حرمات الله عز وجل ، أما لنفسه في تسامح ، هكذا علمنا النبي عليه الصلاة والسلام ، لذلك هناك حديث مختصر جداً :
(( لا تَغْضَبْ )) .
[أخرجه البخاري والترمذي ومالك عن أبي هريرة ] .
أي لا تضع نفسك في أسباب الغضب .
(( وإياك وما يعتذر منه )) .
[أخرجه الطبراني عن عبد الله بن عمر ] .
عمل يسبب لك إحراجاً شديداً مع مدير المدرسة ، تأخرت نصف ساعة ، فقسا عليك بالمعاملة أمام الطلاب ، تبقى شهراً مزعوجاً ، تغضب ، تحاول تنتقم ، أنت السبب وضعت نفسك في موضع تستحق اللوم ، فلما جاءك اللوم لم تحتمل .
(( وإياك وما يعتذر منه )) .
[أخرجه الطبراني عن عبد الله بن عمر ] .
أخوانا الكرام ، لا أعتقد واحداً منكم يغفل عن هذه الحقيقة ، الآن وراء معظم أمراض الإنسان وراء معظم أمراض الإنسان ، الشدة النفسية تسبب قرحة ، تسبب التهاب أعصاب ، أمراض لا تنتهي ، ضيق شرايين ، عندنا تضيق اختلاجي ، عندنا تضيق وعائي ، الشدة النفسية تضيق شرايين القلب ، تصبح أعراض الذبحة القلبية ، الشريان ما فيه شيء ، لكن مع التشنج ضاقت لمعته ، هذا تضيق تشنجي ، هناك تضيق وعائي ، الشدة النفسية قد تجعل الشرايين تتقلص ، صداع ، آلام ، قرحة ، أمراض لا تعد ولا تحصى ، تأتي من الشدة النفسية ، والشدة النفسية أساسها ضيق في البيوت ، الأب الهادئ ، الذي يعمل عملاً جيداً ، يكسب مالاً حلالاً ، يحل مشكلات أولاده ، مشكلات بناته ، مشكلات زوجته ، هذا إنسان في أعلى درجة من العبادة .
طبعاً هذه حالة نادرة ، أن هناك صحابي سُرقت بعض حاجاته ، لكن هدوءه عجيب قال : يا رب هذا الذي سرقها إن أخذها عن حاجة فبارك له فيها ، أنا أسامحه ، وإن أخذها بطراً فاجعلها آخر ذنوبه ، ما هذا الهدوء ! تجد المؤمن هادئاً ، جبلاً راسخاً ، لا يوجد شيء يزلزله .(1/182)
صحابي آخر ، قالوا له : احترق دكانك ، قال لهم : لا لم يحترق ، يا أخي احترق ، قال لهم : ما كان الله ليفعل ، واثق ، مؤدي زكاة ماله ، فلما ذهبوا إلى الدكان وجدوا المحترقة دكان جاره ، قال لهم : ما كان الله ليفعل .
أنت أيضاً غالٍ على الله ، صعب الله يدمر بلا سبب ، أنت في رعاية الله ، وفي عين الله .
* فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا * .
( سورة الطور الآية : 48 ) .
أخوانا الكرام والله هذا الشعور أنه أنت غالٍ على الله ، والله عز وجل ما كان ليفعل معك ذلك ، هناك مصائب ماحقة ، هناك إنسان يُستدعى ليستلم ابنته من قسم الشرطة ، وقد ضبطت في دار دعارة ، مثلاً ، هناك إنسان يستدعى ليأخذ ابنه من مركز شرطة متلبس بجريمة ، هذه مصيبة ، أما البيت الذي فيه تقوى ، فيه صلاة ، فيه قرآن ، فيه هدوء ، بيت سعيد ، نحن عندنا توهم أن البيت السعيد الكبير ، لا ، ليس شرطاً ، الدخل ، ليس شرطاً ، بأرقى أحياء دمشق ، ليس شرطاً ، البيت السعيد بيت فيه طاعة لله .
والله مرة أذكر زرت صديقاً يسكن بالجادة الأولى لكن من الشمال ، أي عاشر جادة ، حتى وصلت بشق الأنفس ، البيت متواضع جداً ، لا يوجد به بلاط فقط إسمنت والأثاث أشد تواضعاً ، أقسم لكم بالله شعرت هذا البيت أنه قطعة من الجنة ، فيه تقوى ، فيه حب ، فيه أب يحب الله ورسوله ، زوجة صالحة ، أولاد أبرار ، صغار ، بيت متواضع ، البيت الذي فيه طاعة جنة ، وهناك بيوت يقول لك : مئة و ثمانون مليوناً ، لا يوجد به سعادة ، ليس فيه طاعة لله .
* وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا * .
( سورة طه الآية : 132 ) .
لذلك من أين يأتي الهدوء ؟ من معرفة الله ، من التوحيد ، من الخضوع لله عز وجل .
أيها الأخوة ، بالمناسبة أكثر المعاصي أسبابها الغضب ، المعصية يتوهمها الغضوب أنها تخفف توتره ، النبي سأل عليه الصلاة والسلام :
(( ما تَعُدُّون الصُّرَعَةَ فيكم ؟ ـ الشدة ، والقوة ، البطولة ـ قالوا : الذي لا يصرعُه الرجال ، قال عليه الصلاة والسلام : لا ، ولكنَّه الذي يملك نفسه عند الغضب )) .
[أخرجه أبو داود عن عبد الله بن مسعود ] .
لكن هناك حالات أخرى ، حالات دم بارد ، قال : دخل إنسان بريطاني على جسر وحيد الاتجاه ، ودخل إنسان فرنسي على جسر والتقيا بمنتصف الجسر ، كل واحد أبى أن يرجع ، فالفرنسي أراد أن يغيظ البريطاني ، فتح قاموس لاروس ، هكذا سماكته ، الثاني قال له : عندما تنتهي أعرني إياه .(1/183)
أما في حلم ، الحليم ، قال : كاد الحليم أن يكون نبياً ، الحلم سيد الأخلاق ، تجد أباً هادئاً بالبيت ، كله هادئ ، لا يوجد كلمة قاسية ، لا يوجد صوت مرتفع ، يقول لك الجار : كأنه لا يوجد أحد بالبيت ، كلامه بصوت منخفض ، كل قضية تحل بشكل سلمي لطيف ، بملاحظة ، بعتاب بسيط ، أما بيت سُباب ، وشتائم ، وخبط أبواب ، ومسبات دين ، كلما كنت مع الله كان البيت فيه تجلٍّ ، فيه رحمات ، بيت مرحوم .
أنا أتكلم كلاماً دقيقاً ، هناك بيوت فيها غضب شديد ، ضرب ، سُباب ، صوت مرتفع ، الإنسان عندما يكون عاصياً لله يختل توازنه ، أحد ظوهر اختلال توازنه ردود فعل قاسية جداً ، الروح المرحة من الإيمان ، أنت تمشي بشكل صحيح ، وعندك إحساس ، والله يحبك ، والأمر بيده كله ، وأنت عليك أن تطيعه ، وتطيعه ، هذه المعاني تعمل لك هدوءاً ، استقراراً ، سكينة ، تجلياً ، سعادة ، رضا ، إذا الأب بهذه الحال ، البيت كذلك ، الزوجة كذلك ، لا يوجد كلمة اعتذار ، يوجد حب ، يوجد حياء ، يوجد خجل ، يوجد أدب ، لذلك قال تعالى:
* فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ * .
( سورة آل عمران الآية : 159 ) .
قال لك قانون ، معادلة رياضية ، * فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ * يعني بسبب رحمة استقرت في قلبك يا محمد كنت ليناً لهم ، فلما كنت ليناً لهم التفوا حولك .
* وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ * .
( سورة آل عمران الآية : 159 ) .
أنت ، أنت نبي ورسول ، ويوحى إليك ، ومعك القرآن ، والوحي ، معك معجزات ، وسيد الخلق ، وحبيب الحق ، وسيد ولد آدم ، وفصيح ، قال له أنت ، أنت مع كل هذه الخصائص * وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ * فكيف إذا شخص ما هو نبي ، ولا رسول ، ولا يوحى إليه ، ولا معه القرآن ، ولا فصيح اللسان ، ولا جميل الصورة وغليظ ، لماذا هذه ؟ * وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ * .
والله يا أخوان لي ملاحظة ، أنا أتصور في ثقافة المسلمين ذكرتها سابقاً ، بثقافة المسلمين الأب محترم ، لكن بطولتك أيها الأب لا أن تكون محترماً فقط ، أن تكون محبوباً والله هناك أب يدخل للبيت عيد بالبيت ، الأولاد يتحلقون حوله ، يُقبّلونه ، ما حصل ؟ أب ، أب رحيم ، أب محب ، أب حريص ، أنا أرى أحد أكبر أسباب السعادة تكون أباً ناجحاً ، تجمع الأسرة .
حدثني قريب ، قل لي : أنا منذ خمس و ثلاثين سنة الغداء الساعة الثانية ، وكل أفراد الأسرة على الطاولة ، يجب أن تصر على وجبة طعام الكل يحضرها ، و لتكن ساعة طعام وحديث ، بابا أنت اليوم ماذا تكلم الأستاذ ؟ حدثنا ، تجلس مع أولادك ، تسمع منهم ، يقال : أحد أسباب نجاح(1/184)
الزواج أن تصغي لامرأتك أقل شيء عشرين دقيقة ، ماسك الجريدة ، لا أترك الجريدة ، اترك المجلة ، اترك كل شيء وأصغ لها نصف ساعة ، هذه النصف ساعة تمتن العلاقة بينك وبينها .
لذلك النبي الكريم على علو شأنه ، وعلو مقامه ، كان يستمع للسيدة عائشة بحديث طويل ، مرة حدثته عن أبي زرع ، وعن أم زرع ، القصة طويلة ، كان أبو زرع شجاعاً ، وكريماً ، وشهماً ، لكن تأسفت في نهاية القصة لأنه طلقها ، فقال عليه الصلاة والسلام : أنا لك كأبي زرع لأم زرع ولكني لا أطلقك .
أصغِ ، تدخل للبيت اجلس مع أولادك ، مع زوجتك ، تعبانة بالبيت ، الله يعطيك العافية ، ويخلي لنا إياك ، نحن بدونكِ لا نساوي شيئاً ، ماذا تكلفك هذه ؟ تعمل لها تألقاً ، تعمل لها اندفاعاً لخدمتك ، كلمة لطيفة ، الله قال :
* وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً * .
( سورة البقرة الآية : 83 ) .
هذه زوجتك ، أم أولادك ، البيت نظيف ، الأولاد مرتبون ، كل شيء أحسنه ، أين الأكل ؟ طول بالك ، قل السلام عليكم ، الله يعطيك العافية ، الأب الناجح ، كلام لطيف ، الأسرة التم شملها .
من أين يأتي الغضب ؟ من أب غضوب ، من أين تأتي أمراض الصغار ؟ الأمراض النفسية ؟ من أب قاسٍ ، من أب يسرع بالسُباب ، والشتائم ، والضرب ، وهناك أب قناص ، يتغافل عن كل ميزات أولاده ، إذا أخطأ شخص تقوم الدنيا ولا تقعد ، هذا ليس أباً ، انظر إلى الآية ما أدقها :
* وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ * .
( سورة الحجر ) .
وهناك آية :
* وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ * .
( سورة الشعراء ) .
خفض الجناح تواضع ، إذا أنت مكلف أن تتواضع لمؤمن ، والأمر للنبي موجه * وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ * ، * وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ * فكيف بأهلك ؟ كان عليه الصلاة والسلام إذا دخل إلى بيته واحداً من أهل البيت ، يقول :
(( فإنهن المؤنسات الغاليات )) .
[أخرجه الطبراني عن عقبة بن عامر ] .
أكرموا النساء فوالله ما أكرمهن إلا كريم ، وما أهانهن إلا لئيم ، يغلبن كل كريم ويغلبهن لئيم ، وأنا أحب أن أكون كريماً مغلوباً ، من أن أكون لئيماً غالباً .
أنا أقول لكم بصراحة علامات نجاحك في الحياة نجاحك في البيت أولاً ، قول النبي الكريم :(1/185)
(( خيرُكُم خيرُكُم لأهْلِهِ ، وأنا خيرُكُم لأهْلِي )) .
[أخرجه الترمذي عن عائشة أم المؤمنين ] .
فالأب الحليم البيت هادئ ، سُباب لا يوجد ، شتم لا يوجد ، إغلاق الباب بعنف لا يوجد ، هناك كلمة طيبة ، ابتسامة ، شكر ، تسامح ، اعتذار ، تجد الجو روحاني ، الكل تجدهم بهدوء ، بخضوع ، ممكن إذا في خطأ بالبيت ، الابن الصالح يصحح هذا الخطأ .
أيها الأخوة ، أردت بهذا اللقاء الطيب أن أبين أن أخطاء الآباء لها منعكسات عند الأبناء ، فهناك بيت كله اعتذار ، لطف ، مودة ، أنا أقول لكم كل واحد منكم يريد أن يعمل بيته جنة ، كل واحد منكم ، يدخل يسلم على والدته ، إذا كان في عنده طرفة سمعها يحكيها ، يضحكهم ، النبي كان يمزح ، ولا يمزح إلا حقاً ، لا تكن كهنوتياً ، عبوساً ، قمطريراً ، كن مرحاً ، وكان عليه الصلاة والسلام يمزح مع أصحابه .
====================
... ... ... ...(1/186)
20 ـ التربية الاجتماعية 1ـ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
أيها الأخوة الكرام ، مع درس جديد من دروس تربية الأولاد في الإسلام ، والموضوع اليوم موضوع يمكن أن تلحقه بشتى الموضوعات السابقة واللاحقة ، موضوع الحوار بين الأب وابنه ، ذلك لأن معظم الآباء إما لغفلة ، أو لعدم تقدير ، أو لضعف في خبراته التربوية ، يعطي الأوامر لأولاده ويعنفهم ، وهذا شأنه في أكثر أوقات حياته مع أولاده.
ولكن لو كشف الأب أو الأم قيمة الحوار مع الأبناء ، لوجدوا أن القائد الناجح لا الذي يأمر ، بل الذي يُقنع ، إنك إن أقنعت أولادك بشيء تبنوا هذا الشيء ، وطبقوه نصاً وروحاً ، أما إذا أمليته عليهم ، وكنت قاسياً طبقوه شكلاً في وجودك ، فإذا غبت عنهم لا يطبقوه أبداً .
لذلك أول نقطة ، اجلس مع ابنك ، أي أنا أتمنى على كل أب وعلى كل أم أن يخصصا وقتاً للجلوس مع أولادهم ، عندك مواعيد ، عندك لقاءات ، عندك محاضرة ، في مهمة ، أن تجلس مع أولادك هي أكبر مهمة ، لأنهم جزء منك ، لأن شقاءهم يشقيك ، ولأن سلامتهم تسعدك ، فالوقت الذي تجلس به مع أولادك هو وقت ثمين ، وقت موظف لمستقبلك ومستقبلهم .
وقد أكدت لكم كثيراً أن الله عز وجل حينما قال :
* فَلَا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى * .
( سورة طه ) .
ولم يقل فتشقيا ، مع أن الصياغة اللغوية تقتضي أن تكون فتشقيا ، لكن العلماء قالوا : شقاء الأزواج شقاء حكمي لزوجاتهم ، ويقاس على ذلك أن شقاء الأولاد شقاء حكمي لآبائهم وأمهاتهم .
لذلك لو أن الإنسان خصص وقتاً في أسبوع جلسة ، كل بضعة أيام جلسة ، على الطعام ما في مانع ، لابدّ من أن تجلس مع أولادك كي تحاورهم ، وأنت لا تعلم كم يسعد الابن حينما يرى أباه الإنسان العظيم ، يسأله عن دراسته ، عن أحواله ، من أصدقاؤه ؟ كيف يمضي الوقت معهم ؟ بماذا يشعر في المدرسة ؟ أي أستاذ تأثرت به يا بني ؟ ماذا قال لك ؟ هذا الحوار موضوع هذا اللقاء الطيب .
أول شيء اجلس معه ، لكن لا ينبغي أن تكون واقفاً ، وهو دون بكثير ، تملي عليه الأوامر ، ولا أن يكون هو واقفاً وأنت مضطجع ، ينبغي أن تجلس معه ، أن يكون إلى جانبك ، أو أن يكون تجاهك ، نوع الجلسة يختلف ، لا تكون أعلى منه ، ولا أعلى منك ، اجلس معه إما إلى جانبك ، أو باتجاهك .
الجلسة الودية أهم شيء أن لا تكون سريعة ، قبل الدوام بعشر دقائق ، قبل الطعام ، قبل اللقاء ، قبل مجيء الضيوف ، الجلسة السريعة لا تثمر ، اجلس معه وأنت تشعر أن الوقت بعد هذا اللقاء ممتد ، لعل الحديث يكون ذا شجون ، لعلك ترى ابنك قد تأثر تأثراً بالغاً ، اجلس معه في جلسة مفتوحة ،(1/187)
مفتوحة لساعة مثلاً ، أما لدقائق ، قبل المغرب ، قبل الصلاة ، قبل الطعام ، قبل الموعد ، قبل مجيء الضيوف ، لا ، اجلس معه في وقت مفتوح وحاول أن تحاوره ، وحاول أن تأخذ منه ، وأن تعطيه ، وأقول لك بكل دقة حاول أن تجعله صديقك .
أعرف آباء كثيرين أُلهموا هذه الطريقة بالمعاملة ، فكان أبناؤهم أقرب الناس إليهم وكانوا معهم ، وكانوا ظلهم .
أين تجلس معه ؟ المكان ، الهيئة ، لا تكن أنت واقفاً ، أو هو واقف ، اجلس معه وجهاً لوجه ، أو جنباً إلى جنب ، لكن أين تجلس في مكان مألوف ، مثلاً غرفة الجلوس فيها صخب ، الأولاد صغار يضحكون ، يتراكضون ، هذا الجو ليس جواً صالحاً للحوار ، اجلس معه في غرفته ، أو في غرفتك ، أو في غرفة خاصة ، لعله أراد أن يقول لك شيئاً ، لن يقوله أمام أمه ، لعله أراد أن يقول شيئاً لن يقوله أمام إخوته ، هيئ مكاناً على انفراد بينك وبينه ، دائماً وأبداً النصيحة من الأب على انفراد مقبولة ، النصيحة من الأب ولو مع التأديب على انفراد مقبولة ، أما أمام إخوته الإناث تثور كرامته ، أمام أصدقائه ، لا ، حاول أن يكون هذا اللقاء بينك وبينه ، وفي غرفة مريحة ، والوقت مفتوح ، وإذا أمكن أفضل مكان خارج البيت ، في مكان جميل ، في جلسة مريحة ، لا أقول نزهة لكن شبه نزهة ، أحياناً في مكان منضبط لا يوجد ولا مشكلة ، قد يكون مطعم مثلاً خذه ، يشعر له شأن كبير عندك ، هو غالٍ عليك ، أنت حريص على أن تجلس معه ، أنت لا تعلم كم هي الثمرة حينما تجلس مع ابنك ، ويعلم ابنك علم اليقين أنك مشغول ، وعندك مهمات ، لكن هناك عتب دائماً أنه : يا أبتِ أنت لنا ، عملياً الأب ليس لأولاده للغريب ، يتألمون ، ويعتبون ، نحن الأصل ، غيرنا أنت لهم وغيرك لهم ، أما نحن من لنا غيرك ؟ أنت تظن أنه أنا أمنت الطعام والشراب ، أمنت الكساء ، هذا شيء لابدّ منه ، لكن هناك حاجة عند الطفل ، أو عند الشاب إلى اهتمامك ، كيف أن الابن بحاجة إلى الغذاء هو بحاجة إلى عطف أبيه ، إلى اهتمام أبيه ، إلى مودة أبيه ، إلى وقت يجلسه مع أبيه ، دائماً تسبه وتلعنه ، دائماً تشهر به ، وبين أن يكون كظلك ، معك دائماً ، بخدمتك ، يدك اليمنى ، فرق كبير ، تتخذه صديقاً ولابدّ من جلسة حوار معه .
لابد من أن تجالسه على هيئة معينة ، وفي مكان مريح ، والوقت مفتوح ، ولابدّ من أن تجالسه في وقت ليس هو مشغول فيه .
أحياناً تُدعى إلى نزهة ، وعندك عمل مهم جداً ، لابدّ من أن تنجزه ، لن تسر بهذه النزهة ما دام في عمل ، حينما تختار وقتاً مناسباً ، مكاناً مناسباً ، هيئة مناسبة ، وقتاً مفتوحاً وتحاوره ، تكون قد قطعت معه مراحل كثيرة .
هناك ملاحظة أحياناً أعد أخاً في الصباح ، صباحاً الإنسان نشيط ، استيقظ من النوم جسمه نشيط ، أحياناً الموعد عقب يوم مليء بالمتاعب ، تجد ما عندك إمكانية أن تحاور ، ما عندك إمكانية أن تتابع(1/188)
الأمر متابعة دقيقة ، ما عندك إمكانية التركيز ، طبعاً الموضوع عام ، إن أردت أن تلتقي بإنسان ، والإنسان مهم طبق هذه الشروط نفسها ، الحوار له شروط .
أولاً :
(( علموا ولا تعنفوا )) .
[أخرجه البيهقي عن أبي هريرة ] .
أي أسلوب الزجر ، والشتيمة ، والنقد ، هذا مع الأسف الشديد أكثر الاتصالات الهاتفية تؤكد هذا الموقف من الأب ، ما عنده إلا السُباب ، ما عنده إلا التشدد ، ما عنده إلا اللوم ، ما عنده إلا الدعاء على أولاده ، البيت مكروه صار عند الابن ، تجد الابن دائماً خارج البيت مع أصدقائه ، لا يحتمل النقد ، والتعنيف ، والسُباب ، والتجريح ، إضعاف الثقة بالنفس ، من لم يعرف الله عز وجل يكن أسوأ أب .
أخوانا الكرام ، هناك حقيقة سأقولها لكم ولكن مع التأكيد عليها ، ثقافة الشرق أوسطية إن صحّ التعبير ، الثقافة الإسلامية الآن محترمة ، لكن ما كل أب محترم محبوب أنا أخاطب الآباء أحياناً ، بطولتك أيها الأب لا أن تكون محترماً من أولادك ، أن تكون محبوباً عندهم ، فالحب يحتاج إلى بذل جهد ، يحتاج إلى وقت ، يحتاج إلى مال ، يحتاج إلى أن يرى هذا الشاب أن أباه شيء مهم جداً بالنسبة إليه .
انطلاقاً من هذه الحقيقة أقول لكم : العمل عبادة ، أنت حينما تتقن عملك ، وتكسب مالاً معقولاً ، وتنفقه على أولادك تشدهم إليك ، الأب الذي ينفق على أولاده بالمعقول محترم جداً و محبوب ، أولاده له ، أما مقصر في عمله مع التقصير يوجد دخل ضعيف ، مع الدخل الضعيف كل شيء طلبه ابني ما معي إياه ، دائماً ما معك ؟ يقول لك : لماذا أنجبتنا إذاً يوجد سؤال كبير .
فأنا من هذا المنطلق أرى أن العمل عبادة ، أنت بالعمل الزوجة والأولاد إليك ، أجمل كلمة قالها صحابي جليل : حبذا المال أصون به عرضي ، وأتقرب به إلى ربي ، حينما أقول حبذا المال لا أقصد به البذخ ، لا أقصد الإتراف ، التبذير ، إطلاقاً ، لكن جاء الشتاء الابن عنده معطف ؟ عنده كومبيوتر صغير ؟ يوجد أشياء بسيطة مؤمنة ، حاجاته الأساسية مؤمنة ، إذاً الابن مشدود إلى أمه وأبيه ، إذاً لا تزجره .
(( علموا ولا تعنفوا فإن المعلم خير من المعنف )) .
[أخرجه البيهقي عن أبي هريرة ] .
أنا أذكر مُدرسة قالت لطالبة عندها : أنت غبية ، هذه الكلمة سارت معها عشرين عاماً ، عقدتها ، يقسم بالله شاب ، أو طفل أصح ، دخل إلى المسجد وصلى بالصف الأول ، هم كانوا سبعة ، لكن الذي كان إلى جانب الطفل ما انتبه أنهم سبعة أشخاص ، فدفعه نحو الخلف ، هذا الطفل الذي دُفع(1/189)
نحو الخلف ترك المساجد لخمسة و خمسين سنة ، يقول : من هذا الدفع لم أتجه إلى المسجد ، طفل ، الأطفال أحباب الله .
والله أيها الأخوة ، أقول وقلبي يعتصر : لم يبقَ في أيدي المسلمين من ورقة رابحة إلا أولادهم ، والأولاد يعني المستقبل ، لا تعنف ، لا تسب ، لا تزجر ، لا تضرب ، هذه كلها أساليب لا تجدي ، هذه الأساليب تجعل شرخاً كبيراً بينك وبين ابنك ، هذه الأساليب تجعل ابنك ينافق لك ، يقول لك ما يرضيك ، وله أفكار أخرى ، أما حينما يحبك يصارحك ، هكذا قال لي صديقي ، بابا ما قولك ؟ حينما تفلح أن يكون ابنك صديقك فأنت أب مثالي ، أحياناً يكون نبرة صوت حادة ، كلام لطيف ، كلام رقيق ، يعني الكلمة الطيبة صدقة ، الابتسامة صدقة ، أن تربت على كتفه شيء مسعد ، حديث لطيف مع ود ، الوقت مفتوح ، مرتاح أنت وهو ، هذا اللقاء قد يكون له آثار كبيرة جداً .
مثلاً هذا الإله العظيم الذي خلقنا له أن يأمرنا ، طبعاً ، أن يأمرنا وكفى ، من دون تعليق ، من دون تعليل ، من دون حكمة ، قال لنا :
* خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا * .
( سورة التوبة الآية : 103 ) .
إله ، يأتي الأمر مشفوعاً بالتعليل ، بالحكمة ، أراد أن يقنعك بهذا الأمر لا أن يأمرك .
* خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ * .
( سورة التوبة الآية : 103 ) .
مثل آخر :
* يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ * .
( سورة البقرة ) .
* وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ * .
( سورة العنكبوت الآية : 45 ) .
* تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ * ، إله ، كن فيكون ، زل فيزول ، أعطاك الأمر ، أعطاك التعليل ، فإذا أنت كلما أمرت ابنك أمراً قل له يا بني هذا الأمر لصالحك ، من أجل مستقبلك ، من أجل مكانتك ، من أجل سمعتك ، من أجل نجاحك في العمل ، إله كن فيكون ، زل فيزول ، أعطانا الأمر مع التعليل ، فأنت من باب أولى أنت أب أن تعطي الأمر مع التعليل ، لأن التعليل احترام له .
أنا مرة كنت بمنصب قيادي ، مدير ثانوية ، عندي مئة و ثلاثة عشر مدرساً ، وعندي موجهون ، وعندي أمين سر ، وعندي ، فأجمع كل فئة على حدة ، أقول لهم : نحن جميعاً فريق عمل ، في موضوع ، في عندنا مشكلة ، ما الحلول عندكم ؟ إما أن أقنعكم بما عندي من حلّ ، أو أن تقنعوني ، هذا الحوار يعمل وداً ، يعمل تألقاً ، يعمل انتماءً ، يعمل تطبيقاً .(1/190)
أخوانا الكرام ، هناك نقطة مهمة ، لما غلط ضربته ، أي خطأ جاءه الكف ، انتهى ، لا يأمنك أبداً ، بدأ يكذب عليك بكل شيء ، صار في موقفين ، أنت بشدتك علمته النفاق ، بشدتك علمته الكذب ، بشدتك علمته أن يكون هو بوادٍ وأنت في وادٍ ، أما بالود والحوار تجعله صديقك ، أنا أعرف أمهات كثيرات من قريباتي ، البنات صديقاتها ، ما الذي حدث في المدرسة يُبلغ للأم ، والأم توجه ، ماذا قيل لك ؟ أين ذهبت ؟ ما الذي حصل معك؟.
أيها الأخوة ، أنا أحياناً ألتقي بأخ كريم ، في ود بالغ ، في سلام بمنتهى الأدب ، في ابتسامة ، ومع ذلك يحضر عندي عشر سنوات أقول لا أعرفه ، لماذا لا أعرفه ؟ ما سمعت منه كلمة ، لما يتكلم أعرف مستوى وعيه ، مستوى إدراكه ، لغته ، نصوصه ، محاكمته ، مهما إنسان داوم بجامع لسنوات تلوى السنوات ما دام ما تكلم ما احتككت فيه ، أحياناً اُسأل عن أخ من أجل الزواج ، أقول والله لا أعرف شيئاً ، عندي من ثمان سنوات لكن ولا مرة زارني بالبيت ، ولا مرة جلست معه وحدثته ، ولا حدثني ، لا أعرف شيئاً عنه ، إلا أنه لطيف ، وسلامه حار ، ومبتسم فقط .
عندما ابنك يحكي لك ، ترى لغته ، تفكيره ، قيمه ، مبادئه ، ما الشيء الذي لفت نظره ؟ لماذا حفظ هذه القصة ولم يحفظ تلك ؟ لما يحكي الابن تكشف كل شيء ، دائماً الابن يتلقى تعليمات منك ، وساكت ، تعليمات وساكت ، لا تعرف شيئاً عنه ، لما تعطيه مجال يحكي ، يشرح ، يبين ، يؤكد لك بعض الأشياء تنتبه أنت .
إذاً لن تعرف ابنك إلا إذا حاورته ، طريقة تفكيره ، ملاحظته ، ذاكرته ، لغته ، نصوصه ، مثلاً ممكن يكون موضوع الحوار مشكلة ، أحياناً يكون كلاماً مفتوحاً ، لا يوجد قاعدة ، لا يوجد محور ، لا يوجد بنود ، لقاء عفوي ، من قصة إلى قصة إلى قصة .
مرة قال لي أخ كريم : حضرت خطبة عند إنسان فتح 28 موضوعاً ، ما أغلق ولا واحد ، خواطر ، خواطر ، خواطر .
أحياناً اللقاء إذا لم يكن مُعَداً ، خواطر عشوائية ، أما لو فرضنا أنا جلست معه أحاوره في موضوع دراسته ، موضوع الدراسة ، هل هناك مواد صعبة عليك ؟ هل هناك مواد تحتاج إلى مدرس خاص ؟ أي مادة تعلقت بها ؟ تعرف أن هناك مواد تفوق بها ، مواد لم يتفوق بها ، أما أنه لا أعرف شيئاً عنه ، اجعل باللقاء موضوع واحد ، موضوع محدد ، أو في مشكلة في البيت التأخر مثلاً صباحاً ، كيف تعالج هذه المشكلة ؟ يعني دائماً المدرسة تشكو لأولياء الصغار تأخرهم عن المدرسة ، هذه مشكلة كيف تعالج ؟.
أنا أقدم لكم موضوعاً عن الحوار بشكل عام ، ممكن تحاور زوجتك ، أولادك أصدقاءك .
إذاً حبذا لو كان في موضوع محدد للحوار ، ودائماً الموضوع عرض المشكلة ، طرح حلول ، مناقشة هذه الحلول ، أو عرض البديل لهذه الحلول ، أحياناً هناك إنسان دون أن يشعر عنده رغبة بتصيد(1/191)
الأخطاء ، هذا نموذج موجود ، إذا الأب هدفه الأول يتصيد أخطاء أولاده هذه مشكلة كبيرة ، الحوار لا ينجح ، ممكن يغلط بكلمة ، ممكن يعطي رقماً غير صحيح ، أنت تناسى سبعة ثمانية أخطاء ، وحاسبه على واحدة ، أما هذه غلط ، هذه غلط ، قام أسكته ، انتهى ، أنا أقول : الحوار قضية أن أنهض به لا أن أحاسبه .
سيد الخلق وحبيب الحق ، هذا الإنسان العظيم كان مستمعاً من الطراز الأول ، أكثر الأشخاص المثقفين اللسان طليق ، لكن بطولتك كإنسان أن تتقن فن الاستماع ، وتراه يصغي للحديث بسمعه وبقلبه ، ولعله أدرى به ، كان عليه الصلاة والسلام حينما يأتي إلى البيت قد تحدثه السيدة عائشة حديثاً طويلاً ، مرة حدثته عن أبي زرع وأم زرع ، قصة طويلة ، ووقت طويل استغرق لروايتها ، وهو يصغي لها ، حدثته عن شجاعته ، وعن كرمه ، وعن محبته لزوجته ، ثم إنها في النهاية قالت له : غير أنه طلقها ، النبي علق على هذه القصة قال : وأنا كأبي زرع لأم زرع غير أني لا أطلقك .
أنت قد تكون عالماً كبيراً ، مثقفاً ثقافة واسعة ، الإصغاء للآخر بطولة وذكاء وأخلاق عالية .
إذاً ابتعد عن تصيد الأخطاء ، وابتعد عن المقاطعة ، كن مستمعاً لبقاً له ، أحياناً أخطأت ، ارتكبت خطأ كبيراً ، أنا أسأله ما قولك بهذا العمل يا بني ؟ هل تعتقد أنه صواب أم خطأ ؟ اجعله هو ينطق أنه خطأ ، القصة كلها ممن يملي على الآخرين ، أو ممن يحاورهم ليصل معهم إلى النتائج ، يوجد بالقرآن أساليب كثيرة ، فيها حوار مع الطرف الآخر كي يوصلهم ربهم إلى نتيجة كان من الممكن أن تفرض عليهم ، هذه القواعد في الحوار تصلح مع كل الأطراف ، مع زوجتك ، حتى مع رئيسك في الدائرة ، عود نفسك النفس الطويل بالحوار.
أحياناً في نظر حاد ، وفي نظر لطيف ، لا تشد نظرك إلى الآخر ، نظر رفيق ، أحياناً العين تنتقل يمنة ويسرة ، علواً ، وسفلاً ، أما أحياناً التحديق المستمر بشخص هذا شيء يبتعد عن اللباقة في اللقاء ، يجب أن يشعر وأنت تحاوره أنه في أمان ، وأنه بالإمكان أن يدلي بآرائه ، ولو أنها لا تعجبك ، يعني أحياناً في مدرس ديانة في سؤال من طالب ما عنده جواب له ، لكن محرج مثلاً ، يصب عليه نقمته ، وغضبه ، ويتهمه بالكفر ؟ لا .
قال له : ائذن لي بالزنا (والله لا يوجد أوقح من هذا السؤال) شاب قال للنبي الكريم ائذن لي بالزنا ، الصحابة ضجروا ، قال لهم : دعوه ، تعال يا عبد الله ، اقترب اِقترب ، قال له : أتحبه لأمك ؟ قال : لا ، قال : ولا الناس يحبونهم لأمهاتهم ، لأختك ؟ لخالتك ؟ لعمتك ؟ لابنتك ؟ يقول هذا الشاب : دخلت على النبي صلى الله عليه وسلم وما من شيء أحب إليّ من الزنا ، وخرجت من عنده وما من شيء أبغض إلي من الزنا .
هذا حوار أيضاً .(1/192)
لو أن هناك مشكلة لها مجموعة طرق (حلول عديدة) ، حاول أن تعينه أن يميز بين الحلول ، ما قولك في الحل الأول ؟ الثاني ؟ الثالث ؟ أيهما أفضل ؟ أنت تنمي له فكره ، تعلمه أنه قد يكون للمشكلة حلّ ، وقد يكون لها أكثر من حل ، فالآن المهمة أن توازن بين الحلول ، هذا أيضاً شيء مهم في الحوار .
هناك ثانوية ، في بكل صف قائمة بالأخطاء المألوفة ، التأخر ، عدم إحضار الكتاب ، التكلم من دون إذن فرضاً ......، فكل خطأ إلى جانبه رقم 10 ، وباليسار التفوق ، حصل على علامة تامة بمادة الرياضيات مثلاً ، مذاكرته الشفهية كانت بعلامة تامة ، إلى جانب هذا البند 20 ، ففي بطاقة فيها مئة نقطة فكلما أصاب يضاف إلى هذه النقط نقاط ، وكلما أخطأ يحذف منها نقاط ، فتجد الانضباط بهذه المدرسة شيء لا يصدق ، أن هذه البطاقة في آخر العام جمع ألف نقطة ، أو ألفي نقطة ، يستطيع أن يأخذ مقابل الألفي نقطة كومبيوتر محمول ، صار الخطأ محسوب ، الخطأ يخسره نقاطاً ، والصواب يضيف له نقاطاً ، في أساليب لا تضطر تضرب ، ولا تزعج صوتك ، ولا تبلغ أهله .
دائماً التربية علم قائم بذاته ، التربية علم ، حبذا لو أتقن الآباء والأمهات قواعد التربية ، تجد البيت انتظم بلطف ، وبلا صخب ، وبلا ضجيج ، وبلا رفع أصوات ، في بيوت فيها اضطراب شديد ، في بيوت من حكمة الأب والأم وإتقانهما لقواعد التربية تجد البيت الحركة فيه تتم بسلاسة .
بعد ذلك دائماً وأبداً إذا كل عمل مكافأة ، وكل عمل سيء له ثمن ، لا أقول ضرباً لكن هناك ثمن ، مادام الأعمال مقيّمة ومبرمجة ، مكافآت ، وفي عمل آخر له عقوبات ، صار في انضباط ، إذا أنت مدرس أعطيت وظيفة تفقدت من كتب أو من لم يكتب ، اليوم الثالث لا أحد يكتب الوظيفة ، ما دام في متابعة ، عود نفسك المتابعة ، إذا ابنك وعدك بشيء سجلها عندك ، بعد يومين هل فعلت هذا ؟ أبي لا ينسى ، إذا وعدك بشيء سجله عندك ، حاول أن تتابع الأمر ، المتابعة جزء من التربية ، بنهاية الحوار وعدك بشيء ، أنت نسيت تسأله أول مرة نسيت تسأله ، والمرة الثانية نسيت تسأله ، يقول أبي لا يتذكر شيء ، التغى الحوار ، إذا اتفقت مع ابنك على خطوة يفعلها وسجلتها عندك ، وبعد يومين طالبته بها على عدة مرات يقول لك : أبي لا ينسى أبداً ، هذه نقطة مهمة تعينك بعملك مع الموظفين ، مع أي إنسان لو تعطي أمراً ولا تتابعه تلتغى مكانة أمرك كلياً .
أحياناً يكون العقاب أن تحرمه من شيء تحبه كثيراً ، يعني في نزهة يوم الجمعة فرضاً ، فإذا في خطأ تقول له أنت محروم من النزهة ، ليس هناك داعٍ للتعنيف ، الشيء المحبب له ممكن أن يكون وسيلة لتأديبه ، له مبلغ كل يوم ، إذا أخطأ ، ليس هناك داع لأن تضربه ، أو ترفع صوتك ، اليوم القادم ما في مبلغ مقابل الخطأ الذي ارتكبته ، أصبح الخطأ له ثمن ، الأب الناجح يعطي فرصة لابنه أن يتوب ، فإذا تاب كأنه لم يفعل هذا الذنب إطلاقاً ، عندما يشعر الابن أن كل خطأ ارتكبه وتركه انتهى لم يعد يحاسب عليه سيشعر بالراحة .(1/193)
أعطِ فرصة للتائب أن يتوب ، بلغني ببعض البلاد المتقدمة طبعاً مادياً ، لكل مواطن صحيفة اجتماعية ، فإذا أخطأ ولو مخالفة سير تسجل ، إذا مضى سنتان دون أن تكرر تمحى المخالفة آلياً .
أعطِ فرصة لابنك إذا أخطأ أعطيه فرصة ، يقول لك : أنا لم أعد أعيدها ، وإذا ما عادها ارجع معه تماماً كما كنت من قبل ، هذه نقطة مهمة جداً ، في مجتمعات لا ترحم إذا إنسان أخطأ هذا الخطأ دائماً يُذكر به ، أما إذا في خطأ وفي عودة إلى الصواب ينبغي ألا يذكره بخطئه إطلاقاً .
أحياناً الأب يدعو لأولاده ، الله يوفقك يا بني ، إن شاء الله أراك في المستقبل من ألمع الأشخاص ، كلمات لها أثر كبير ، أنت لن تصبح إنساناً ، كل يوم ، كل يوم ، يتحطم يكون الابن ذكياً لكن الأب عصبي ، كل كلمتين أنت مالك مصير ، بعد ذلك سيصدق .
الآن نحن كمسلمين من كثرة ما قالوا عنا إرهابيين ، إرهابيين ، صدقنا ، اتهامات يومية ، صار الواحد يشك بنفسه ، كمثل ، لكن مثل كبير جداً .
فكلما كان تعنيفك للابن كثيراً ، أضعفت ثقته بنفسه ، أنا أحياناً أجد طالباً ضعيفاً في مادة ، أنا أعطيه سؤالاً سهلاً جداً ، يجيب عنه إجابة تامة أثني عليه ، هذا الثناء يعمل له معنوية عالية ، رأساً يذهب للبيت يكتب الوظيفة ، يحاول أن يتابع ، فإذا وجدت من ابنك تفوقاً بسيطاً أثني عليه ، وتكلم لأمه أمامه ، اليوم هكذا فعل فلان ، لأخوته ، دعه يشعر أنه تفوق ، هناك شخص همه أن يحطم أولاده عن غير قصد ، لكن تربية سيئة جداً يحطمهم ، يحطمهم ، أنا أرى أن الابن قدم شيئاً جيداً أثني عليه ، وأذكر هذا الشيء مرات عديدة لأخوته ، لأقاربه ، جاء أقرباؤه ذكر لهم هذا الشيء ، فيشعر بالاعتزاز .
الحقيقة التربية فن ، والتربية بطولة ، وأرجو الله سبحانه وتعالى أن نطبق هذا الموضوع في الحوار مع من نحب .
والآن الحديث في العالم كله عن الحوار ، والأولى الحوار مع الأولاد ، مع الزوجة ، مع الأقارب ، مع الأصحاب .
==================
... ... ... ...(1/194)
21 ـ التربية الاجتماعية 2ـ الحوار بين الأب وابنه
أيها الأخوة الكرام ، مع درس جديد من دروس تربية الأولاد في الإسلام ، والموضوع اليوم موضوع يمكن أن تلحقه بشتى الموضوعات السابقة واللاحقة ، موضوع الحوار بين الأب وابنه ، ذلك لأن معظم الآباء إما لغفلة ، أو لعدم تقدير ، أو لضعف في خبراته التربوية ، يعطي الأوامر لأولاده ويعنفهم ، وهذا شأنه في أكثر أوقات حياته مع أولاده.
ولكن لو كشف الأب أو الأم قيمة الحوار مع الأبناء ، لوجدوا أن القائد الناجح لا الذي يأمر ، بل الذي يُقنع ، إنك إن أقنعت أولادك بشيء تبنوا هذا الشيء ، وطبقوه نصاً وروحاً ، أما إذا أمليته عليهم ، وكنت قاسياً طبقوه شكلاً في وجودك ، فإذا غبت عنهم لا يطبقوه أبداً .
لذلك أول نقطة ، اجلس مع ابنك ، أي أنا أتمنى على كل أب وعلى كل أم أن يخصصا وقتاً للجلوس مع أولادهم ، عندك مواعيد ، عندك لقاءات ، عندك محاضرة ، في مهمة ، أن تجلس مع أولادك هي أكبر مهمة ، لأنهم جزء منك ، لأن شقاءهم يشقيك ، ولأن سلامتهم تسعدك ، فالوقت الذي تجلس به مع أولادك هو وقت ثمين ، وقت موظف لمستقبلك ومستقبلهم .
وقد أكدت لكم كثيراً أن الله عز وجل حينما قال :
* فَلَا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى * .
( سورة طه ) .
ولم يقل فتشقيا ، مع أن الصياغة اللغوية تقتضي أن تكون فتشقيا ، لكن العلماء قالوا : شقاء الأزواج شقاء حكمي لزوجاتهم ، ويقاس على ذلك أن شقاء الأولاد شقاء حكمي لآبائهم وأمهاتهم .
لذلك لو أن الإنسان خصص وقتاً في أسبوع جلسة ، كل بضعة أيام جلسة ، على الطعام ما في مانع ، لابدّ من أن تجلس مع أولادك كي تحاورهم ، وأنت لا تعلم كم يسعد الابن حينما يرى أباه الإنسان العظيم ، يسأله عن دراسته ، عن أحواله ، من أصدقاؤه ؟ كيف يمضي الوقت معهم ؟ بماذا يشعر في المدرسة ؟ أي أستاذ تأثرت به يا بني ؟ ماذا قال لك ؟ هذا الحوار موضوع هذا اللقاء الطيب .
أول شيء اجلس معه ، لكن لا ينبغي أن تكون واقفاً ، وهو دون بكثير ، تملي عليه الأوامر ، ولا أن يكون هو واقفاً وأنت مضطجع ، ينبغي أن تجلس معه ، أن يكون إلى جانبك ، أو أن يكون تجاهك ، نوع الجلسة يختلف ، لا تكون أعلى منه ، ولا أعلى منك ، اجلس معه إما إلى جانبك ، أو باتجاهك .
الجلسة الودية أهم شيء أن لا تكون سريعة ، قبل الدوام بعشر دقائق ، قبل الطعام ، قبل اللقاء ، قبل مجيء الضيوف ، الجلسة السريعة لا تثمر ، اجلس معه وأنت تشعر أن الوقت بعد هذا اللقاء ممتد ، لعل الحديث يكون ذا شجون ، لعلك ترى ابنك قد تأثر تأثراً بالغاً ، اجلس معه في جلسة مفتوحة ،(1/195)
مفتوحة لساعة مثلاً ، أما لدقائق ، قبل المغرب ، قبل الصلاة ، قبل الطعام ، قبل الموعد ، قبل مجيء الضيوف ، لا ، اجلس معه في وقت مفتوح وحاول أن تحاوره ، وحاول أن تأخذ منه ، وأن تعطيه ، وأقول لك بكل دقة حاول أن تجعله صديقك .
أعرف آباء كثيرين أُلهموا هذه الطريقة بالمعاملة ، فكان أبناؤهم أقرب الناس إليهم وكانوا معهم ، وكانوا ظلهم .
أين تجلس معه ؟ المكان ، الهيئة ، لا تكن أنت واقفاً ، أو هو واقف ، اجلس معه وجهاً لوجه ، أو جنباً إلى جنب ، لكن أين تجلس في مكان مألوف ، مثلاً غرفة الجلوس فيها صخب ، الأولاد صغار يضحكون ، يتراكضون ، هذا الجو ليس جواً صالحاً للحوار ، اجلس معه في غرفته ، أو في غرفتك ، أو في غرفة خاصة ، لعله أراد أن يقول لك شيئاً ، لن يقوله أمام أمه ، لعله أراد أن يقول شيئاً لن يقوله أمام إخوته ، هيئ مكاناً على انفراد بينك وبينه ، دائماً وأبداً النصيحة من الأب على انفراد مقبولة ، النصيحة من الأب ولو مع التأديب على انفراد مقبولة ، أما أمام إخوته الإناث تثور كرامته ، أمام أصدقائه ، لا ، حاول أن يكون هذا اللقاء بينك وبينه ، وفي غرفة مريحة ، والوقت مفتوح ، وإذا أمكن أفضل مكان خارج البيت ، في مكان جميل ، في جلسة مريحة ، لا أقول نزهة لكن شبه نزهة ، أحياناً في مكان منضبط لا يوجد ولا مشكلة ، قد يكون مطعم مثلاً خذه ، يشعر له شأن كبير عندك ، هو غالٍ عليك ، أنت حريص على أن تجلس معه ، أنت لا تعلم كم هي الثمرة حينما تجلس مع ابنك ، ويعلم ابنك علم اليقين أنك مشغول ، وعندك مهمات ، لكن هناك عتب دائماً أنه : يا أبتِ أنت لنا ، عملياً الأب ليس لأولاده للغريب ، يتألمون ، ويعتبون ، نحن الأصل ، غيرنا أنت لهم وغيرك لهم ، أما نحن من لنا غيرك ؟ أنت تظن أنه أنا أمنت الطعام والشراب ، أمنت الكساء ، هذا شيء لابدّ منه ، لكن هناك حاجة عند الطفل ، أو عند الشاب إلى اهتمامك ، كيف أن الابن بحاجة إلى الغذاء هو بحاجة إلى عطف أبيه ، إلى اهتمام أبيه ، إلى مودة أبيه ، إلى وقت يجلسه مع أبيه ، دائماً تسبه وتلعنه ، دائماً تشهر به ، وبين أن يكون كظلك ، معك دائماً ، بخدمتك ، يدك اليمنى ، فرق كبير ، تتخذه صديقاً ولابدّ من جلسة حوار معه .
لابد من أن تجالسه على هيئة معينة ، وفي مكان مريح ، والوقت مفتوح ، ولابدّ من أن تجالسه في وقت ليس هو مشغول فيه .
أحياناً تُدعى إلى نزهة ، وعندك عمل مهم جداً ، لابدّ من أن تنجزه ، لن تسر بهذه النزهة ما دام في عمل ، حينما تختار وقتاً مناسباً ، مكاناً مناسباً ، هيئة مناسبة ، وقتاً مفتوحاً وتحاوره ، تكون قد قطعت معه مراحل كثيرة .
هناك ملاحظة أحياناً أعد أخاً في الصباح ، صباحاً الإنسان نشيط ، استيقظ من النوم جسمه نشيط ، أحياناً الموعد عقب يوم مليء بالمتاعب ، تجد ما عندك إمكانية أن تحاور ، ما عندك إمكانية أن تتابع(1/196)
الأمر متابعة دقيقة ، ما عندك إمكانية التركيز ، طبعاً الموضوع عام ، إن أردت أن تلتقي بإنسان ، والإنسان مهم طبق هذه الشروط نفسها ، الحوار له شروط .
أولاً :
(( علموا ولا تعنفوا )) .
[أخرجه البيهقي عن أبي هريرة ] .
أي أسلوب الزجر ، والشتيمة ، والنقد ، هذا مع الأسف الشديد أكثر الاتصالات الهاتفية تؤكد هذا الموقف من الأب ، ما عنده إلا السُباب ، ما عنده إلا التشدد ، ما عنده إلا اللوم ، ما عنده إلا الدعاء على أولاده ، البيت مكروه صار عند الابن ، تجد الابن دائماً خارج البيت مع أصدقائه ، لا يحتمل النقد ، والتعنيف ، والسُباب ، والتجريح ، إضعاف الثقة بالنفس ، من لم يعرف الله عز وجل يكن أسوأ أب .
أخوانا الكرام ، هناك حقيقة سأقولها لكم ولكن مع التأكيد عليها ، ثقافة الشرق أوسطية إن صحّ التعبير ، الثقافة الإسلامية الآن محترمة ، لكن ما كل أب محترم محبوب أنا أخاطب الآباء أحياناً ، بطولتك أيها الأب لا أن تكون محترماً من أولادك ، أن تكون محبوباً عندهم ، فالحب يحتاج إلى بذل جهد ، يحتاج إلى وقت ، يحتاج إلى مال ، يحتاج إلى أن يرى هذا الشاب أن أباه شيء مهم جداً بالنسبة إليه .
انطلاقاً من هذه الحقيقة أقول لكم : العمل عبادة ، أنت حينما تتقن عملك ، وتكسب مالاً معقولاً ، وتنفقه على أولادك تشدهم إليك ، الأب الذي ينفق على أولاده بالمعقول محترم جداً و محبوب ، أولاده له ، أما مقصر في عمله مع التقصير يوجد دخل ضعيف ، مع الدخل الضعيف كل شيء طلبه ابني ما معي إياه ، دائماً ما معك ؟ يقول لك : لماذا أنجبتنا إذاً يوجد سؤال كبير .
فأنا من هذا المنطلق أرى أن العمل عبادة ، أنت بالعمل الزوجة والأولاد إليك ، أجمل كلمة قالها صحابي جليل : حبذا المال أصون به عرضي ، وأتقرب به إلى ربي ، حينما أقول حبذا المال لا أقصد به البذخ ، لا أقصد الإتراف ، التبذير ، إطلاقاً ، لكن جاء الشتاء الابن عنده معطف ؟ عنده كومبيوتر صغير ؟ يوجد أشياء بسيطة مؤمنة ، حاجاته الأساسية مؤمنة ، إذاً الابن مشدود إلى أمه وأبيه ، إذاً لا تزجره .
(( علموا ولا تعنفوا فإن المعلم خير من المعنف )) .
[أخرجه البيهقي عن أبي هريرة ] .
أنا أذكر مُدرسة قالت لطالبة عندها : أنت غبية ، هذه الكلمة سارت معها عشرين عاماً ، عقدتها ، يقسم بالله شاب ، أو طفل أصح ، دخل إلى المسجد وصلى بالصف الأول ، هم كانوا سبعة ، لكن الذي كان إلى جانب الطفل ما انتبه أنهم سبعة أشخاص ، فدفعه نحو الخلف ، هذا الطفل الذي دُفع(1/197)
نحو الخلف ترك المساجد لخمسة و خمسين سنة ، يقول : من هذا الدفع لم أتجه إلى المسجد ، طفل ، الأطفال أحباب الله .
والله أيها الأخوة ، أقول وقلبي يعتصر : لم يبقَ في أيدي المسلمين من ورقة رابحة إلا أولادهم ، والأولاد يعني المستقبل ، لا تعنف ، لا تسب ، لا تزجر ، لا تضرب ، هذه كلها أساليب لا تجدي ، هذه الأساليب تجعل شرخاً كبيراً بينك وبين ابنك ، هذه الأساليب تجعل ابنك ينافق لك ، يقول لك ما يرضيك ، وله أفكار أخرى ، أما حينما يحبك يصارحك ، هكذا قال لي صديقي ، بابا ما قولك ؟ حينما تفلح أن يكون ابنك صديقك فأنت أب مثالي ، أحياناً يكون نبرة صوت حادة ، كلام لطيف ، كلام رقيق ، يعني الكلمة الطيبة صدقة ، الابتسامة صدقة ، أن تربت على كتفه شيء مسعد ، حديث لطيف مع ود ، الوقت مفتوح ، مرتاح أنت وهو ، هذا اللقاء قد يكون له آثار كبيرة جداً .
مثلاً هذا الإله العظيم الذي خلقنا له أن يأمرنا ، طبعاً ، أن يأمرنا وكفى ، من دون تعليق ، من دون تعليل ، من دون حكمة ، قال لنا :
* خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا * .
( سورة التوبة الآية : 103 ) .
إله ، يأتي الأمر مشفوعاً بالتعليل ، بالحكمة ، أراد أن يقنعك بهذا الأمر لا أن يأمرك .
* خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ * .
( سورة التوبة الآية : 103 ) .
مثل آخر :
* يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ * .
( سورة البقرة ) .
* وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ * .
( سورة العنكبوت الآية : 45 ) .
* تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ * ، إله ، كن فيكون ، زل فيزول ، أعطاك الأمر ، أعطاك التعليل ، فإذا أنت كلما أمرت ابنك أمراً قل له يا بني هذا الأمر لصالحك ، من أجل مستقبلك ، من أجل مكانتك ، من أجل سمعتك ، من أجل نجاحك في العمل ، إله كن فيكون ، زل فيزول ، أعطانا الأمر مع التعليل ، فأنت من باب أولى أنت أب أن تعطي الأمر مع التعليل ، لأن التعليل احترام له .
أنا مرة كنت بمنصب قيادي ، مدير ثانوية ، عندي مئة و ثلاثة عشر مدرساً ، وعندي موجهون ، وعندي أمين سر ، وعندي ، فأجمع كل فئة على حدة ، أقول لهم : نحن جميعاً فريق عمل ، في موضوع ، في عندنا مشكلة ، ما الحلول عندكم ؟ إما أن أقنعكم بما عندي من حلّ ، أو أن تقنعوني ، هذا الحوار يعمل وداً ، يعمل تألقاً ، يعمل انتماءً ، يعمل تطبيقاً .(1/198)
أخوانا الكرام ، هناك نقطة مهمة ، لما غلط ضربته ، أي خطأ جاءه الكف ، انتهى ، لا يأمنك أبداً ، بدأ يكذب عليك بكل شيء ، صار في موقفين ، أنت بشدتك علمته النفاق ، بشدتك علمته الكذب ، بشدتك علمته أن يكون هو بوادٍ وأنت في وادٍ ، أما بالود والحوار تجعله صديقك ، أنا أعرف أمهات كثيرات من قريباتي ، البنات صديقاتها ، ما الذي حدث في المدرسة يُبلغ للأم ، والأم توجه ، ماذا قيل لك ؟ أين ذهبت ؟ ما الذي حصل معك؟.
أيها الأخوة ، أنا أحياناً ألتقي بأخ كريم ، في ود بالغ ، في سلام بمنتهى الأدب ، في ابتسامة ، ومع ذلك يحضر عندي عشر سنوات أقول لا أعرفه ، لماذا لا أعرفه ؟ ما سمعت منه كلمة ، لما يتكلم أعرف مستوى وعيه ، مستوى إدراكه ، لغته ، نصوصه ، محاكمته ، مهما إنسان داوم بجامع لسنوات تلوى السنوات ما دام ما تكلم ما احتككت فيه ، أحياناً اُسأل عن أخ من أجل الزواج ، أقول والله لا أعرف شيئاً ، عندي من ثمان سنوات لكن ولا مرة زارني بالبيت ، ولا مرة جلست معه وحدثته ، ولا حدثني ، لا أعرف شيئاً عنه ، إلا أنه لطيف ، وسلامه حار ، ومبتسم فقط .
عندما ابنك يحكي لك ، ترى لغته ، تفكيره ، قيمه ، مبادئه ، ما الشيء الذي لفت نظره ؟ لماذا حفظ هذه القصة ولم يحفظ تلك ؟ لما يحكي الابن تكشف كل شيء ، دائماً الابن يتلقى تعليمات منك ، وساكت ، تعليمات وساكت ، لا تعرف شيئاً عنه ، لما تعطيه مجال يحكي ، يشرح ، يبين ، يؤكد لك بعض الأشياء تنتبه أنت .
إذاً لن تعرف ابنك إلا إذا حاورته ، طريقة تفكيره ، ملاحظته ، ذاكرته ، لغته ، نصوصه ، مثلاً ممكن يكون موضوع الحوار مشكلة ، أحياناً يكون كلاماً مفتوحاً ، لا يوجد قاعدة ، لا يوجد محور ، لا يوجد بنود ، لقاء عفوي ، من قصة إلى قصة إلى قصة .
مرة قال لي أخ كريم : حضرت خطبة عند إنسان فتح 28 موضوعاً ، ما أغلق ولا واحد ، خواطر ، خواطر ، خواطر .
أحياناً اللقاء إذا لم يكن مُعَداً ، خواطر عشوائية ، أما لو فرضنا أنا جلست معه أحاوره في موضوع دراسته ، موضوع الدراسة ، هل هناك مواد صعبة عليك ؟ هل هناك مواد تحتاج إلى مدرس خاص ؟ أي مادة تعلقت بها ؟ تعرف أن هناك مواد تفوق بها ، مواد لم يتفوق بها ، أما أنه لا أعرف شيئاً عنه ، اجعل باللقاء موضوع واحد ، موضوع محدد ، أو في مشكلة في البيت التأخر مثلاً صباحاً ، كيف تعالج هذه المشكلة ؟ يعني دائماً المدرسة تشكو لأولياء الصغار تأخرهم عن المدرسة ، هذه مشكلة كيف تعالج ؟.
أنا أقدم لكم موضوعاً عن الحوار بشكل عام ، ممكن تحاور زوجتك ، أولادك أصدقاءك .
إذاً حبذا لو كان في موضوع محدد للحوار ، ودائماً الموضوع عرض المشكلة ، طرح حلول ، مناقشة هذه الحلول ، أو عرض البديل لهذه الحلول ، أحياناً هناك إنسان دون أن يشعر عنده رغبة بتصيد(1/199)
الأخطاء ، هذا نموذج موجود ، إذا الأب هدفه الأول يتصيد أخطاء أولاده هذه مشكلة كبيرة ، الحوار لا ينجح ، ممكن يغلط بكلمة ، ممكن يعطي رقماً غير صحيح ، أنت تناسى سبعة ثمانية أخطاء ، وحاسبه على واحدة ، أما هذه غلط ، هذه غلط ، قام أسكته ، انتهى ، أنا أقول : الحوار قضية أن أنهض به لا أن أحاسبه .
سيد الخلق وحبيب الحق ، هذا الإنسان العظيم كان مستمعاً من الطراز الأول ، أكثر الأشخاص المثقفين اللسان طليق ، لكن بطولتك كإنسان أن تتقن فن الاستماع ، وتراه يصغي للحديث بسمعه وبقلبه ، ولعله أدرى به ، كان عليه الصلاة والسلام حينما يأتي إلى البيت قد تحدثه السيدة عائشة حديثاً طويلاً ، مرة حدثته عن أبي زرع وأم زرع ، قصة طويلة ، ووقت طويل استغرق لروايتها ، وهو يصغي لها ، حدثته عن شجاعته ، وعن كرمه ، وعن محبته لزوجته ، ثم إنها في النهاية قالت له : غير أنه طلقها ، النبي علق على هذه القصة قال : وأنا كأبي زرع لأم زرع غير أني لا أطلقك .
أنت قد تكون عالماً كبيراً ، مثقفاً ثقافة واسعة ، الإصغاء للآخر بطولة وذكاء وأخلاق عالية .
إذاً ابتعد عن تصيد الأخطاء ، وابتعد عن المقاطعة ، كن مستمعاً لبقاً له ، أحياناً أخطأت ، ارتكبت خطأ كبيراً ، أنا أسأله ما قولك بهذا العمل يا بني ؟ هل تعتقد أنه صواب أم خطأ ؟ اجعله هو ينطق أنه خطأ ، القصة كلها ممن يملي على الآخرين ، أو ممن يحاورهم ليصل معهم إلى النتائج ، يوجد بالقرآن أساليب كثيرة ، فيها حوار مع الطرف الآخر كي يوصلهم ربهم إلى نتيجة كان من الممكن أن تفرض عليهم ، هذه القواعد في الحوار تصلح مع كل الأطراف ، مع زوجتك ، حتى مع رئيسك في الدائرة ، عود نفسك النفس الطويل بالحوار.
أحياناً في نظر حاد ، وفي نظر لطيف ، لا تشد نظرك إلى الآخر ، نظر رفيق ، أحياناً العين تنتقل يمنة ويسرة ، علواً ، وسفلاً ، أما أحياناً التحديق المستمر بشخص هذا شيء يبتعد عن اللباقة في اللقاء ، يجب أن يشعر وأنت تحاوره أنه في أمان ، وأنه بالإمكان أن يدلي بآرائه ، ولو أنها لا تعجبك ، يعني أحياناً في مدرس ديانة في سؤال من طالب ما عنده جواب له ، لكن محرج مثلاً ، يصب عليه نقمته ، وغضبه ، ويتهمه بالكفر ؟ لا .
قال له : ائذن لي بالزنا (والله لا يوجد أوقح من هذا السؤال) شاب قال للنبي الكريم ائذن لي بالزنا ، الصحابة ضجروا ، قال لهم : دعوه ، تعال يا عبد الله ، اقترب اِقترب ، قال له : أتحبه لأمك ؟ قال : لا ، قال : ولا الناس يحبونهم لأمهاتهم ، لأختك ؟ لخالتك ؟ لعمتك ؟ لابنتك ؟ يقول هذا الشاب : دخلت على النبي صلى الله عليه وسلم وما من شيء أحب إليّ من الزنا ، وخرجت من عنده وما من شيء أبغض إلي من الزنا .
هذا حوار أيضاً .(1/200)
لو أن هناك مشكلة لها مجموعة طرق (حلول عديدة) ، حاول أن تعينه أن يميز بين الحلول ، ما قولك في الحل الأول ؟ الثاني ؟ الثالث ؟ أيهما أفضل ؟ أنت تنمي له فكره ، تعلمه أنه قد يكون للمشكلة حلّ ، وقد يكون لها أكثر من حل ، فالآن المهمة أن توازن بين الحلول ، هذا أيضاً شيء مهم في الحوار .
هناك ثانوية ، في بكل صف قائمة بالأخطاء المألوفة ، التأخر ، عدم إحضار الكتاب ، التكلم من دون إذن فرضاً ......، فكل خطأ إلى جانبه رقم 10 ، وباليسار التفوق ، حصل على علامة تامة بمادة الرياضيات مثلاً ، مذاكرته الشفهية كانت بعلامة تامة ، إلى جانب هذا البند 20 ، ففي بطاقة فيها مئة نقطة فكلما أصاب يضاف إلى هذه النقط نقاط ، وكلما أخطأ يحذف منها نقاط ، فتجد الانضباط بهذه المدرسة شيء لا يصدق ، أن هذه البطاقة في آخر العام جمع ألف نقطة ، أو ألفي نقطة ، يستطيع أن يأخذ مقابل الألفي نقطة كومبيوتر محمول ، صار الخطأ محسوب ، الخطأ يخسره نقاطاً ، والصواب يضيف له نقاطاً ، في أساليب لا تضطر تضرب ، ولا تزعج صوتك ، ولا تبلغ أهله .
دائماً التربية علم قائم بذاته ، التربية علم ، حبذا لو أتقن الآباء والأمهات قواعد التربية ، تجد البيت انتظم بلطف ، وبلا صخب ، وبلا ضجيج ، وبلا رفع أصوات ، في بيوت فيها اضطراب شديد ، في بيوت من حكمة الأب والأم وإتقانهما لقواعد التربية تجد البيت الحركة فيه تتم بسلاسة .
بعد ذلك دائماً وأبداً إذا كل عمل مكافأة ، وكل عمل سيء له ثمن ، لا أقول ضرباً لكن هناك ثمن ، مادام الأعمال مقيّمة ومبرمجة ، مكافآت ، وفي عمل آخر له عقوبات ، صار في انضباط ، إذا أنت مدرس أعطيت وظيفة تفقدت من كتب أو من لم يكتب ، اليوم الثالث لا أحد يكتب الوظيفة ، ما دام في متابعة ، عود نفسك المتابعة ، إذا ابنك وعدك بشيء سجلها عندك ، بعد يومين هل فعلت هذا ؟ أبي لا ينسى ، إذا وعدك بشيء سجله عندك ، حاول أن تتابع الأمر ، المتابعة جزء من التربية ، بنهاية الحوار وعدك بشيء ، أنت نسيت تسأله أول مرة نسيت تسأله ، والمرة الثانية نسيت تسأله ، يقول أبي لا يتذكر شيء ، التغى الحوار ، إذا اتفقت مع ابنك على خطوة يفعلها وسجلتها عندك ، وبعد يومين طالبته بها على عدة مرات يقول لك : أبي لا ينسى أبداً ، هذه نقطة مهمة تعينك بعملك مع الموظفين ، مع أي إنسان لو تعطي أمراً ولا تتابعه تلتغى مكانة أمرك كلياً .
أحياناً يكون العقاب أن تحرمه من شيء تحبه كثيراً ، يعني في نزهة يوم الجمعة فرضاً ، فإذا في خطأ تقول له أنت محروم من النزهة ، ليس هناك داعٍ للتعنيف ، الشيء المحبب له ممكن أن يكون وسيلة لتأديبه ، له مبلغ كل يوم ، إذا أخطأ ، ليس هناك داع لأن تضربه ، أو ترفع صوتك ، اليوم القادم ما في مبلغ مقابل الخطأ الذي ارتكبته ، أصبح الخطأ له ثمن ، الأب الناجح يعطي فرصة لابنه أن يتوب ، فإذا تاب كأنه لم يفعل هذا الذنب إطلاقاً ، عندما يشعر الابن أن كل خطأ ارتكبه وتركه انتهى لم يعد يحاسب عليه سيشعر بالراحة .(1/201)
أعطِ فرصة للتائب أن يتوب ، بلغني ببعض البلاد المتقدمة طبعاً مادياً ، لكل مواطن صحيفة اجتماعية ، فإذا أخطأ ولو مخالفة سير تسجل ، إذا مضى سنتان دون أن تكرر تمحى المخالفة آلياً .
أعطِ فرصة لابنك إذا أخطأ أعطيه فرصة ، يقول لك : أنا لم أعد أعيدها ، وإذا ما عادها ارجع معه تماماً كما كنت من قبل ، هذه نقطة مهمة جداً ، في مجتمعات لا ترحم إذا إنسان أخطأ هذا الخطأ دائماً يُذكر به ، أما إذا في خطأ وفي عودة إلى الصواب ينبغي ألا يذكره بخطئه إطلاقاً .
أحياناً الأب يدعو لأولاده ، الله يوفقك يا بني ، إن شاء الله أراك في المستقبل من ألمع الأشخاص ، كلمات لها أثر كبير ، أنت لن تصبح إنساناً ، كل يوم ، كل يوم ، يتحطم يكون الابن ذكياً لكن الأب عصبي ، كل كلمتين أنت مالك مصير ، بعد ذلك سيصدق .
الآن نحن كمسلمين من كثرة ما قالوا عنا إرهابيين ، إرهابيين ، صدقنا ، اتهامات يومية ، صار الواحد يشك بنفسه ، كمثل ، لكن مثل كبير جداً .
فكلما كان تعنيفك للابن كثيراً ، أضعفت ثقته بنفسه ، أنا أحياناً أجد طالباً ضعيفاً في مادة ، أنا أعطيه سؤالاً سهلاً جداً ، يجيب عنه إجابة تامة أثني عليه ، هذا الثناء يعمل له معنوية عالية ، رأساً يذهب للبيت يكتب الوظيفة ، يحاول أن يتابع ، فإذا وجدت من ابنك تفوقاً بسيطاً أثني عليه ، وتكلم لأمه أمامه ، اليوم هكذا فعل فلان ، لأخوته ، دعه يشعر أنه تفوق ، هناك شخص همه أن يحطم أولاده عن غير قصد ، لكن تربية سيئة جداً يحطمهم ، يحطمهم ، أنا أرى أن الابن قدم شيئاً جيداً أثني عليه ، وأذكر هذا الشيء مرات عديدة لأخوته ، لأقاربه ، جاء أقرباؤه ذكر لهم هذا الشيء ، فيشعر بالاعتزاز .
الحقيقة التربية فن ، والتربية بطولة ، وأرجو الله سبحانه وتعالى أن نطبق هذا الموضوع في الحوار مع من نحب .
والآن الحديث في العالم كله عن الحوار ، والأولى الحوار مع الأولاد ، مع الزوجة ، مع الأقارب ، مع الأصحاب . ==================
... ... ... ...(1/202)
22 ـ التربية الاجتماعية 3ـ فن الحديث
أيها الأخوة الكرام ، مع الدرس الثاني والعشرين من دروس تربية الأولاد في الإسلام ، ولا زلنا في التربية الاجتماعية ، ومن أبرز موضوعات التربية الاجتماعية أن تُعلّم ابنك فن الحديث ، لأن الإنسان كرمه الله بنعمة البيان ، حينما قال الله عز وجل :
* الرَّحْمَنُ * عَلَّمَ الْقُرْآَنَ * خَلَقَ الْإِنْسَانَ * عَلَّمَهُ الْبَيَانَ * .
( سورة الرحمن ) .
والذي يلفت النظر أنه في دولة عظمى ، في أقصى الغرب ، في كل جامعاتها (عندها بضع آلاف من الجامعات ) مادة الخطابة تدرس في كل الفروع ، وفي كل الكليات ، وفي كل المستويات ، وفي كل السنوات ، فلما سألت إنساناً درس هناك ، قال : هم ينطلقون من أن كل إنسان يدرس ويتعلم لابدّ من أن يلقي هذا العلم .
إذاً فن الإلقاء جزء من العلم ، فأحياناً تجد شاباً أكرمه الله بالذكاء ، والذاكرة القوية ، لكن لا يستطيع أن يقول كلمة .
لذلك من ألوان التربية الاجتماعية أن تعلم ابنك فن الحديث ، كيف يتكلم ؟ كيف يعبر عن آرائه ؟ كيف يتصرف ؟ وقد قال سيدنا عمر رضي الله عنه : تعلموا العربية فإنها من الدين .
يعني أنا أعجب أشد العجب من شاب يحمل شهادة عليا ، إجازة ، أو بكالوريوس ، أو لسانس ، لا يستطيع أن يقرأ صفحة من كتاب الله ، من دون عشرات الأخطاء .
كما يقولون : جمال الرجل فصاحته ، والفصاحة من خصائص الإنسان المثقف ، فلذلك حينما يهمل الأب أولاده من حيث لغتهم ، وتعبيرهم ، يستخدمون كلمات عامية ، أو كلمات لا تليق ، أو تعبيراً خشناً ، أو أسلوباً قاسياً ، أو أسلوباً عامياً ، هذا الشاب فقد اعتباره من بين المثقفين ، فلذلك الأب المؤمن و لأن القرآن عربي يعتني بلغته ولغة أولاده .
الموضوع اليوم : كيف توجه ابنك إلى حسن إلقاء الكلام ؟ نحن طبعاً هناك لغة عربية فصحى بسيطة ، وهناك لغة عربية متقعرة ، أنا أرفض أن تستخدم اللغة العربية المتقعرة ، إنسان وقع من على دابته ، فتحلق الأطفال حوله ، فقال لهم : ما لكم تكأكأتم عليّ كتكأكؤكم على ذي جِنَّة افرنقعوا عني ، هذه لغة متقعرة .
هناك لغة عامية ممجوجة ، مرفوضة ، وهناك لغة فصحة متقعرة مرفوضة ، أنا حينما أتحدث أتحدث عن لغة فصيحة بسيطة وواضحة نستخدمها في حياتنا .
ضرب له تلفون ! لا ، اتصل بي هاتفياً ، هناك كلمات لا تحتمل موغلة في العامية ، فالإنسان مهما كان مثقفاً حينما تضعف لغته كثيراً يهبط مستوى ثقافته .(1/203)
إذاً لابدّ من أن أرشد أولادي ، أو طلابي إلى استخدم لغة عربية بسيطة غير متقعرة وليست عامية هذه الحقيقة الأولى .
لكن هناك قاعدة في الكلام البليغ ، الكلام الفصيح البليغ يراعي مقتضى الحال أوضح مثل :
أنت حينما تكلف طفلاً صغيراً أن يشتري طابعاً بريدياً ، وأن يضعه فوق رسالة ، ويضعه في صدوق البريد ، تقول له : اذهب إلى المكان الفلاني ، واشترِ بليرة وربع طابعاً بريدياً ، وبله بلعابك ، وضعه فوق الظرف ، واضغط عليه جيداً ، واذهب به إلى صندوق البريد ، وتأكد من إسقاطه في اللوحة ، الآن تكلف إنساناً راشداً تعطيه الرسالة مع المبلغ تقول هذه من فضلك ، الراشد لا يحتاج إلى هذه التفاصيل .
أساس الخطاب ينبغي أن تراعي مقتضى الحال ، إنسان سألك ما الساعة ؟ تقول له : والله العظيم الساعة الثامنة ، هو ما كذبك أساساً ، حينما تراه يكذبك تقسم بالله العظيم ، فاستخدام القسم ، استخدام التأكيد ، التفصيل الممل ، الإيجاز المخل ، هذه كلها من عيوب الكلام ، الإنسان أحياناً يتكلم عن تفاصيل لا قيمة لها إطلاقاً ، قال لك : أنا قابلت الوزير انتظرت ساعتين ، وجلست بغرفة الانتظار ، وفلان تكلم كذا ، أنا يعنيني حينما دخلت عليه ماذا قلت له ؟ يتكلم دقائق طويلة عن تفاصيل ليس لها علاقة بالموضوع إطلاقاً .
نحن الأب الواعي المثقف حينما يسمع حديث أولاده ، يرشدهم ، يا بني اختصر ، هذه التفاصيل عبء على الموضوع ، استخدم هذه الكلمة ، يعني هناك أخطاء شائعة كثيرة جداً ، مثلاً يقول لك أنا مولّع بكذا ، ما معنى مولّع ؟ قال : الثور الأحمر ، ينبغي أن يقول مُولَع الفرق كبير جداً بين مولع وبين مولّع .
يقول لك مثلاً : أنا عندي تجارُب ، التجارُب : العدوى بالجرب فقط ، ينبغي أن يقول عندي تجارِب ، يقول أخي طبيب أخصائي ، يعطيها رنة ، أخصائي يعني يخصي ينبغي أن يقول اختصاصي .
فهناك أخطاء شائعة كثيرة ، اللغة العربية لغة القرآن ، لغة الإسلام ، لغة هذه الأمة التي اختارها الله وسطاً بينه وبين عباده .
مرة ثانية سيدنا عمر يقول : تعلموا العربية فإنها من الدين ، قد يقول أحدهم أنا لست أستاذ لغة عربية ، ومن قال لك إنك أستاذ لغة عربية ؟ أنت مسلم ، مؤمن ، يجب أن تتقن العربية .
فأنا أتمنى أن يكون في كل بيت بعض الكتب في الأدب ، في النحو ، يهتم الأب بلغة أولاده ، الفصاحة ترفع قيمة المثقف .
لكن مقتضى الحال كلام لطيف جداً ، يوجد حوله بحوث في البلاغة كثيرة ، أحياناً تجلس مع أشخاص بسطاء ، هؤلاء لا يستطيعون أن يفهموا عليك قضية فكرية معقدة ، يفهمون عليك قصة(1/204)
بسيطة ، فأنت بإمكانك أن تعبر عن أفكارك من خلال قصة ، وهناك قصص لها تأثير كبير جداً ، فأحياناً يستخدم المتكلم أسلوب القصة ، وأحياناً يستخدم أسلوب المثل .
أنا أقول النبي عليه الصلاة والسلام قال :
(( لا صغيرة مع الإصرار ، ولا كبيرة مع الاستغفار )) .
[ رواه ابن المنذر والديلمي عن ابن عباس ]
أنا أقول لأخوتي الكرام طريق عريض جداً ، عن يمينه وادٍ سحيق ، وعن يساره وادٍ سحيق ، وأنت تركب مركبة على هذا الطريق ، الصغيرة أن تحرف المقود سنتيمتر واحد لو ثبت هذا الانحراف لابدّ من أن تقع في الوادي ، مع أنه سنتيمتر واحد ، هذا السنتيمتر ينقل المركبة خلال دقائق من منتصف هذا الطريق ، إلى قسمه الأيمن ، إلى الوادي ، أما لو حركت المقود تسعين درجة فجأة بإمكانك أن تعيده ، وتبقى المركبة على الطريق ، هذا مثل يوضح قول النبي الكريم :
(( لا صغيرة مع الإصرار ، ولا كبيرة مع الاستغفار )) .
[ رواه ابن المنذر والديلمي عن ابن عباس ]
مرة حدثني أخ ، قال لي : امرأة تزوجت (طبعاً زوجها من الصالحين) ، ففي الشهر الخامس كان حملها في التاسع ، معنى ذلك أنها أخطأت ، بإمكانه أن يفضحها ، بإمكانه أن يسحقها ، بإمكانه أن يطلقها لأن القانون معه ، والشرع معه ، والمجتمع معه ، وأهلها معه ، لكن هذا الإنسان الصالح أراد أن يحملها على التوبة ، فجاء لها بقابلة ، وولدها ، وأخذ الغلام ، ووضعه تحت العباءة ، ودخل المسجد بعد أن نوى الإمام الفرض ، وضع الغلام وراء الباب والتحق بالمصلين ، بعد انتهاء الصلاة ، بكى الغلام ، توجه المصلون حوله ، وتحلقوا حوله ودهشوا من وضعه هنا ؟ هو تأخر حتى وصل إليهم ، قال : ما القضية ؟! قالوا : غلام ، قال : أنا أكفله أعطِني إياه ، أخذه أمام أهل الحي على أنه لقيط ، وتكفل بتربيته ، ودفعه إلى أمه ، هو بقال ، تتمة القصة أن خطيب هذا المسجد رأى النبي عليه الصلاة والسلام بالرؤيا ، قال له النبي الكريم : قل لجارك فلان إنه رفيقي في الجنة .
أنا أي إنسان يشكو لي شكه بزوجته ، أسوق له هذه القصة .
أحياناً القصة بليغة جداً ، في مثل ، في قصة ، في حكمة ، في قول مأثور ، في أبيات من الشعر ، في سرد ، في حكاية ، فالإنسان إذا أتاه الله قوة بيان يستخدم ألوان التعبير بدءاً من حكمة ، إلى قصة ، إلى مثل ، إلى دليل ، إلى شاهد ، إلى حكاية ، يستخدمها كإطار لكلامه .
أنا أتمنى عليكم أن تعتنوا باللغة ولو كنت مهندساً ، ولو كنت طبيباً ، هذه اللغة لغة القرآن ، لغة العبادة ، إنسان في هذه اللغة العظيمة أخطأ بحركة واحد ينتقل من الجنة إلى النار ، قال بعض الصحابة قبل أن يقتل (خُبيب بن عدي) : ولست أُبالي حين أُقتل مسلماً على أي جنب كان في الله(1/205)
مصرعي ، لو شخص قرأ هذا البيت خطأ ، ولست أُبالي حين أَقتل مسلماً ، إلى جهنم وبئس المصير ، حركة واحدة في اللغة تنقل الإنسان من الجنة إلى النار .
والله أيها الأخوة ، نحن أكرمنا الله بلغة فيها عجائب ، مثلاً ، فعل نظر واضح لكن حدج : نظر مع المحبة ، يضاف إلى النظر المحبة ، قال عليه الصلاة والسلام :
(( حدث القوم ما حدجوك بأبصارهم )) .
[ فقه اللغة عن ابن مسعود]
رنا : نظر إلى بحر ، إلى سهل أخضر ، رنا يعني نظر مع المتعة ، استمتع بهذا المنظر الجميل ، شخص : نظر مع الخوف .
* فَإِذَا هِيَ شَاخِصَةٌ أَبْصَارُ الَّذِينَ كَفَرُوا * .
( سورة الأنبياء الآية : 97 ) .
الآن حدج ، نظر ، رنا ، شخص ، الآن لاح ، لاح : السماء فيها غيوم وبين الغيمتين لاحت طائرة ، لاح : شيء ظهر واختفى ، أما لمح : إنسان يمشي في الطريق ، هناك باب مفتوح نظر فإذا امرأة غير محجبة ، مؤمن غضّ بصره ، نقول لمح ، لاح لها معنى ولمح لها معنى ، نظر مع التمطي ، يراقب بقاعة امتحان هناك طالب خفض من رأسه يبدو معه ورقة فالمراقب تمطى ، النظر مع التمطي اسمه استشرف ، أعطيت إنساناً قميصاً ، قال لك : هذا صوف طبيعي ، هذه استشف .
هناك استشف ، وهناك استشرف ، وهناك لاح ، و لمح ، و حدج ، و رنا ، و نظر ، الآن حدق : نظر باهتمام بالغ حتى اتسعت حدقة العين ، أما حملق : نظر بدهشة بالغة حتى بدا باطن العين ، باطن العين أحمر اللون ، أي ظهر حملاق عينه ، وهناك رأى ، رؤية قلبية ، رأيت العلم نافعاً ، رؤية قلبية ، صار في رأى ، و نظر ، و بحلق ، و حملق ، و حدج ، و رنا ، و شخص ، هذه اللغة لغة القرآن ، لغة سيد الأنام ، يليق بكل مسلم أن يتقن هذه اللغة .
أنا أعجب الإنسان بوقت فراغه ماذا يفعل ؟ يطالع كتاباً في اللغة ، في الأدب ، لو أصغى للغة الفصحى ، لو قرأ القرآن بصوت مرتفع ضبط حركات الكلمات ، أمامه نشاط كبير يرقى بلغته .
وحينما ترى شاباً فصيح اللسان ، سيدنا عمر بن عبد العزيز دخل عليه وفد الحجازيين ، تقدمهم غلام صغير فانزعج ، قال له : أيها الغلام اجلس ، وليقم من هو أكبر منك سناً (طفل صغير) ، فقال هذا الغلام الصغير : أصلح الله الأمير ، المرء بأصغريه قلبه ولسانه ، فإذا وهب الله العبد لساناً لافظاً ، وقلباً حافظاً ، فقد استحق الكلام ، ولو أن الأمر كما تقول لكان في الأمة من أحق منك بهذا المجلس ، فدُهش سيدنا عمر من فصاحته .
دخل على عبد الملك بن مروان وفد آخر ، تقدمهم غلام فغضب أيضاً ، وقال لحاجبه : ما شاء أحد أن يدخل علينا إلا دخل حتى دخل الصبيان ؟ فقال هذا الصبي الصغير الذي تقدم الوفد : أيها الأمير(1/206)
إن دخولي عليك لم ينقص من قدرك ، ولكنه شرفني ، قال له : أصابتنا سنة أذابت الشحم ، وسنة أكلت اللحم ، وسنة دقت العظم ، على الآخر ، ومعكم فضول أموال ، أنتم معكم أموال طائلة ، فإن كانت لله تصدقوا بها علينا ، فإن الله يجزي المتصدقين ، وإن كانت لنا فعلامَ تحبسوها عنا ، وإن كانت لكم أعطونا إياها ، يقول هذا الخليفة : والله هذا الغلام ما ترك لنا في واحدة عذراً .
سيدنا عمر يمشي في الطريق ، وجد بضعة غلمان يلعبون ، لما رأوه تفرقوا من هيبته إلا واحداً بقي واقفاً بأدب ، فقال له عمر : أيها الغلام لمَ لم تهرب مع من هرب ؟ قال له : أيها الأمير لست ظالماً فأخشى ظلمك ، ولست مذنباً فأخشى عقابك ، والطريق يسعني ويسعك .
أنت حينما ترى ابنك فصيح اللسان ، قوي الحجة ، متكلم ، تعتز به أيما اعتزاز لكن يحتاج إلى أن يتقن هذه اللغة .
أنت مثلاً مراعاة مقتضى الحال ، تخاطب إنساناً غير مسلم ، تقول له قال الله تعالى ، وقال عليه الصلاة والسلام ، هو القرآن كله ليس مؤمناً به ، إنسان غير مسلم لكنه مثقف مراعاة مقتضى الحال أن تسوق له أدلة علمية فقط ، أما إنسان مسلم تسوق له أدلة قرآنية ونبوية ، هذا أيضاً من مقتضى الحال .
مرة أنا تصفحت كتاباً للصف السابع ، لفت نظري أن فيه قصيدة رائعة جداً في رثاء زوجة ، يا ترى طالب الصف السابع هل يعلم ما شعور الزوج تجاه زوجته ؟ لا ، لأنه ما تزوج ، لو رثاء أم ممكن ، رثاء أخ ممكن ، أم رثاء زوجة ؟ هذا الموضوع جملة وتفصيلاً لا يعنيه إطلاقاً ، لأنه ما تزوج ، مثل هذه القصيدة في هذا الكتاب لم يراعِ المؤلف مقتضى الحال ، أنت تخاطب طفلاً في الصف السابع ، يعرف أمه ، أخته ، أخاه ، والده ، لكن ما تزوج ليعرف شعور الزوج تجاه زوجته .
أحياناً لا تكون الكلمات مناسبة للجو العام ، مرة مرّ معنا بالجامعة أبيات من الشعر تعني في خطأ باختيار الكلمات ، قال الشاعر :
إن سلمى خُلقت من قصب ... ... قصب السكر لا عظم الجمل
وإذا أدنيت منها بصلاً ... غلب المسك على ريح البصل
* * *
هذا غزل مطبخي ، في بصل ، وفي عظم جمل ، قالوا : هذه الكلمات لا تناسب مقتضى الحال .
أنا أتمنى أن تتنامى أذواق الناس في اللغة ، يعني يقرأ بيت شعر ، يعجب به ، يسجله عنده ، يقرأ حكمة ، يقرأ عبارة رائعة ، الإنسان ما لم يقرأ النصوص قراءة أسلوبية يختار منها بعض العبارات ، بعض الشواهد ، بعض الأشعار ، بعض الحكم ، بعض التعليقات بعض الكلمات الرائعة ، لا تنمو لغته .(1/207)
أيها الأخوة ، بالكلام يوجد كلام يسمى حشواً ، كلام تفهمه لو لم تذكره ، وأي كلام يفهم من دون أن يذكر ينبغي ألا تذكره ، دققوا في هذه الآيات :
* وَقَالَ الْمَلِكُ إِنِّي أَرَى سَبْعَ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعَ سُنْبُلَاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي رُؤْيَايَ إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ * .
( سورة يوسف الآية : 43 ) .
قال أحدهم :
* أَنَا أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِ * .
( سورة يوسف ) .
فالملك أرسله ، وهذا الرسول وصل إلى السجن ، ودخل على السجناء ، والتقى بسيدنا يوسف ، هذا كلام لو لم تذكره مفهوم ، * أَنَا أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِ * :
* يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ أَفْتِنَا * .
( سورة يوسف الآية : 46 ) .
كل الكلام بين العبارتين حشو ، القرآن أغفله ، وأنت بحديثك أحياناً تستخدم كلمات كثيرة مفهومة ، لذلك أي كلام يفهم دون أن تذكره ينبغي ألا تذكره .
لذلك ورد عن سيدنا الصديق رضي الله عنه أنه قال : نضر الله وجه من أوجز في كلامه ، واقتصر على حاجته .
هناك كلام حشو ، ممل ، تفصيل ممل ، وهناك إيجاز مخل ، والبلاغة بين التفصيل الممل ، وبين الإيجاز المخل .
مرة سألوا رئيس دولة عظمى ، كم تعد لخطاب يستغرق خمس دقائق ؟ قال : أياماً ثلاثة ، فلما سُئل كم تعد لخطاب يستغرق ساعة ، قال ساعة ، قال : كم تعد لخطاب يستغرق ثلاث ساعات ؟ قال لا أعد له أبداً ، ثلاث ساعات خواطر .
دخل شخص على مسجد يوم الجمعة ، أقسم لي بالله أن الخطيب طرح تسعة و عشرين عنواناً كتبهم عنده ، ما عالج ولا موضوع لأنه غير محضر ، أي خاطر يأتيه يذكره ، لكن لم يعالج ولا موضوع .
فالإنسان من دون تحضير ، ولو كان فصيحاً ، من دون تحضير ، من دون أفكار متسلسلة ، من دون مقدمات ، عرض فقرات ، أفكار ، شواهد متسلسلة تسلسلاً تاريخياً أو تسلسلاً موضوعياً ، أو تسلسلاً شخصياً ، أحياناً ينتقل من شعر لشاعر ، أو من فترة لفترة ، أو من موضوع لموضوع ، في محور انتقال واضح ، محور تاريخي ، محور شخصي ، محور موضوعي ، المقدمة ، وعرض الفكرة ، والتأكيد عليها بشاهد ، وربطها بالفكرة القادمة ، والانتقال وفق موضوعات معينة ، أو أشخاص معينين ، أو تسلسل تاريخي معين .(1/208)
هذا كلام منظم ، لذلك يُحفظ ، هذه أشياء دقيقة جداً في التعبير .
أحياناً الطالب يقرأ كثيراً ، بالامتحان يأخذ علامات قليلة ، السبب ما تدرب على الكتابة أثناء العام الدراسي ، معه كم كبير من الكلمات ، يعرفها إذا رآها ، لكن لا يستطيع أن يستخدمها ، أو أن يستحضرها إذا غابت عنه ، فتجد ذخيرته بالكلمات التعرفية كبير جداً ، أما ذخيرته بالكلمات الاسترجاعية قليل جداً ، أما التدريب هذا يعين على قوة الأسلوب ، الأسلوب يحتاج إلى كلمات كثيرة .
أنت تصور أعطيتك أبيض وأسود ، وأنت أمام منظر جميل فيه نبات أخضر ، فيه ورد أحمر ، فيه بيت رائع ، قرميد أخضر ، فيه ساقية زرقاء ، معك لونين فقط ، مهما كنت ذواقاً اللونان لا يكفيان لنقل هذه الصورة الجميلة ، إذا معك مئة لون ، في عندك أخضر فاتح ، أخضر غامق ، هذا يقاس على الكلمات ، كلما كثرت كلماتك دقّ أسلوبك .
لذلك وضعوا مسجلة بعنق إنسان غير متعلم ، وضعوها تقريباً أسبوع ، وفرغوها على ورق ، وألغو الكلمات المتكررة ، فالنتيجة كانت ثلاثمئة كلمة فقط ، يعيش إنسان أيام عمره كله على ثلاثمئة كلمة ، وضعوها بصدر إنسان مثقف يحمل دكتوراه وجدوهم 2500 كلمة ، يستخدم في حياته اليومية مع زوجته ، مع أولاده ، في حركته ، في إلقاء كلماته عدد كبير .
كلما كثرت الكلمات التي تستخدمها دقّ أسلوبك ، شخص سأل النبي عليه الصلاة والسلام ، قال له : يا رسول الله عظني ولا تطل ، فتلا عليه النبي صلى الله عليه وسلم قوله تعالى :
* فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ * .
( سورة الزلزلة ) .
فقال : كُُفيت ، فقال عليه الصلاة والسلام : فقه الرجل ، أصبح فقيهاً .
يوجد كلام موجز ، لأنك مثلاً إذا قرأت قوله تعالى :
* إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً * .
( سورة النساء ) .
تكفي هذه الآية .
* إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ * .
( سورة الفجر ) .
هناك آيات لو لم يكن في كتاب الله إلا آية واحدة لكفت ، واتفقنا قبل قليل أن الكلام البليغ بين الإيجاز المخل ، وبين الإطناب الممل ، هناك إيجاز مخل ، وهناك إطناب مخل ، وهناك إيجاز بليغ جداً ، مثلاً :
* إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى * .(1/209)
( سورة النجم ) .
هناك إيجاز غني ، يغشاها من التجليات ، من الأنوار ، من السكينة ، من الطمأنينة ، من السعادة ، * إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى * :
* مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى * .
( سورة النجم ) .
وكان ابن مسعود رضي الله عنه يقول بعض الصحابة في الصحيحين : يذكرنا كل خميس ، فقال له رجل : يا أبا عبد الرحمن لوددنا أنك تذكرنا كل يوم ، فقال : أما إنه يمنعني من ذلك أني أكره أن تملون .
لذلك كان عليه الصلاة والسلام يتخول أصحابه بالموعظة ، دع كلامك معتدل ، كثرة النصائح ، وكثرة الكلام تدعو إلى الملل والضجر ، وقلة الكلام مشكلة كبيرة ، فالإنسان ينبغي أن يعتدل .
مرة حدثني أخ قال لي : جاءني خاطب لابنتي خاطب ممتاز ، قال لي : اتصاله الهاتفي ثلاث عشرة ساعة مع خطيبته ، بعد سنتين تسحب منه الكلمة سحباً ، بين الإيجاز المخل والسكوت ، وبين الإطناب الملل .
لذلك اجلس إلى الطعام وأنت تشتهيه ، وقم عنه وأنت تشتهيه ، تكلم إذا كان الناس مشتاقون إلى كلامك ، واسكت والناس مشتاقون إلى متابعة الحديث ، هذه بطولة ، إن كان أباً ، إن كان أماً ، إن كان معلماً ، تكلم والناس مشتاقون لحديثك ، واصمت والناس أيضاً مشتاقون إلى حديثك .
وقال بعضهم : أنت كأب ، مواعظ ، مواعظ ، مواعظ ، توجيهات ، بعد ذلك الأطفال يضجرون ، المواعظ كالملح في الطعام ، إذا زاد انقلب إلى ضده .
سيدنا علي يقول : إن القلوب تمل كما تمل الأبدان ، فابتغوا لها من الطرائف .
لذلك صدقوني الأب الناجح جداً في البيت مرح ، يدلي بطرف جميلة ، يضحك أولاده ، زوجته ، المرح من صفات العظماء .
وهناك طرف رائعة جداً ، والطرفة أحياناً كالكاريكاتير ، أي رسم رائع تستهلكه في ثوانٍ ، وقد يعبر عنه بمئتي كلمة .
مرة دخل ملك على بستان رأى حصاناً قد عصب صاحبه عينيه ، وفي عنقه جلجل (جرس) ، يدور حول بئر ، لسحب الماء ، هذا الملك عاقل وذكي ، سأل صاحب البستان لِمَ عصبت عينيه ؟ قال له : لئلا يصاب بالدوار (أي يدوخ) ، قال له : وهذا الجلجل لماذا ، قال له : إذا وقف أعلم أنه وقف ، مادام في طنطنة معناها يدور ، فالملك ذكي جداً ، قال له : فإذا وقف هذا الحصان وهزّ رأسه ؟ قال له : وهل له عقل كعقلك ؟ .(1/210)
أحياناً شخص يريد صانعاً ، يحتاجه ذكياً ، وحكيماً ، وثقافته عالية ، ويعطيه خمسة آلاف ، أنا أقول له : لو كان بالمستوى المطلوب كان فتح معملاً مثلك ، فلا تطلب كل الناس أن يكونوا مثلك .
شخص فقير خطب فتاة ، بيته أجرة ، أو مع أهله ، لما كبر وصار معه مال ، يأتي خاطب لابنته يريد بيتاً في الشام ، طول بالك ، أنت لما زوجوك أعطوك لبيت أهلك ، لم يكن عندك بيت ، بعد ما أصبحت قوياً وصار عندك مال لم تعد تقبل من الخاطب إلا بيتاً مستقلاً بالشام .
كان عليه الصلاة والسلام يمزح ولا يقول إلا حقاً .
مرة عبرت عن أسفي أحياناً لوجود أخوة في المساجد لا ينتبهون للدرس ، فمرة داعية يحدث أخوانه عن فساد المجتمع ، قال : البنت تأتي الساعة الثانية بالليل ، أين كانت ؟ عند الحبيب ، الكل صلوا على الحبيب ، معناها لم يفهم القصة إطلاقاً ، أين كانت ؟ عند الحبيب ، عند عشيقها ، فالكل صلى على الحبيب .
أحياناً طرفة تجدد النشاط ، أنت ببيتك ، أنا أخاطب الأب الآن والأم ، البيت كله قهر ، ومشاجرة ، وصخب ، وشتائم ، وأنت حمار ، وأنت لا تفهم ، ما هذا الكلام ادخل للبيت ، تكلم مع أولادك ، ضاحكهم ، داعبهم ، دع دخولك للبيت عيداً ، أما في آباء خروجه عيد ، العيد عند خروجه ، لا عند دخوله ، والأمر بيدكم يا أخوان ، خلِّ بيتك جنة ، خلِّ الأولاد ينتظرون مجيئك بفارغ الصبر ، الأمر بيدك .
الموضوع طويل إن شاء الله نتابعه في درس قادم .
===============(1/211)
23 ـ التربية الاجتماعية 4 ـ أدب المزاح
أيها الأخوة الكرام ، لازلنا في التربية الاجتماعية ، وموضوع التربية اليوم أدب المزاح ، يعني الأب في بيته ، سيطرة وقمع ، وعبوس قمطرير ، وتوجيهات ، وتعقيبات ، ولوم ، وتقريع ، هذا البيت لا يجذب الأولاد إليه ، ينفرون منه إلى الطريق ، إلى أصدقائهم ، أما بيت فيه جو مرح ، جو لطيف ، فيه مداعبة ، فيه مزاح ، لكن الشروط دقيقة جداً .
كان عليه الصلاة والسلام يمزح ، ولا يمزح إلا حقاً .
ونحن في الجامعة درسنا مادة في كلية التربية اسمها الفكاهة في التعليم ، ومعظم العظماء في مجالسهم دعابة ، وكان عليه الصلاة والسلام مرة ثانية يمزح ، ولا يمزح إلا حقاً .
إذا دخل إلى بيته ألقى طرفة لطيفة ، ضحك أولاده ، أنسوا به ، شعروا أنهم قريبون منه ، داعبهم ، لاعبهم ، مازحهم ، لكن محور هذا الدرس ليس مشروعية المزاح لكن شروط المزاح ، فأنا أتمنى على كل معلم ، وعلى كل أب ، وعلى كل إنسان يحتل منصباً قيادياً ، الأب قائد ، قائد الأسرة ، والأم كذلك ، والمعلم كذلك ، وصاحب المحل التجاري ، ومدير المستشفى والجامعة ، أي منصب قيادي بدءاً من الأب ، وانتهاءً بالوزير الدعابة ، والمزاح ، والجو المرح ، ينشط من حوله ، ويعطيهم طاقة .
1 ـ أن يكون قليلاً كالملح في الطعام :
أنا أحياناً طرفة في درس تجد النشاط تجدد ، أول شرط : القسوة ، والقمع ، والمتابعة ، والسيطرة ، واللوم ، والتقريع ، والتعنيف ؟ لا ، هذا البيت ليس بيتاً يجذب الأولاد إليه ، أنت لاحظ البيت الذي فيه عنف الأولاد في الطريق ، مع أصدقائهم ، البيت عندهم فندق ، يأتون إليه ليأكلوا ويناموا فقط ، أما ابن يجلس مع أبيه ساعات طويلة ، يستمتع بحديث والده ، والده لطيف ، ابتسامته على وجهه ، يداعب أولاده ، يمازح أولاده ، هكذا كان النبي عليه الصلاة والسلام .
كان إذا دخل بيته بساماً ضحاكاً ، يقول عن بناته :
(( فإنهن المؤنسات الغاليات )) .
[أخرجه الطبراني عن عقبة بن عامر ] .
أنا لا أدعوكم أن تكون الجلسة كلها مزاح ، مستحيل هذا الكلام ، لكن أنت بالبيت أعلى مصدر ، فهذا المصدر إذا كان كلامه لطيفاً فيه دعابة و ابتسامة .
مرة يقول شخص أنا ما رأيت شيخاً يبتسم ، لمَ لا تبتسم أيها الشيخ ؟ ابتسم ، اضحك ، داعب من حولك ، يقتربون منك ، أقول لكم نص أدهشني ، يقول الإمام الشافعي :
الوقار في البستان من قلة المروءة ، بنزهة لا ابتسامة ، لا ضحك ، هيمنة ، وكهنوت ، وهيبة ، هذه ليست نزهة ، الوقار في البستان من قلة المروءة .(1/212)
وفي نص آخر : المبالغة بالذوق من قلة الذوق ، أنا أدعو إلى أن يكون البيت جنة ، ولن يكون جنة إلا بأب مبتسم ، أب مرح ، أب لطيف ، أب رحيم ، فهذه الصفات هي التي تجذب الأولاد إلى البيت ، تجعلهم يتحلقون حول أبيهم .
المقولة الدقيقة في هذا اللقاء الطيب : المزاح في البيت كالملح في الطعام ، إذا زاد عن حده انقلب إلى ضده .
الآن المزاح الكثير يضعف الهيبة ، الذي يمزح كثيراً يستخف به ، لا يبالى بتوجيهاته ، يُتساهل بتعليماته ، من حوله يتركون أعمالهم ، هذا الإكثار من المزاح ، أنا أقول كالملح في الطعام إذا زاد عن حده انقلب إلى ضده ، بالساعة طرفة ، بالسهرة طرفتان أو ثلاثة فقط ، أما طرفة وراء طرفة وراء طرفة ، ما عاد في إمكان للتوجيه إطلاقاً ، ما عاد في إمكان للكلام الجاد ، ما عاد في إمكان للانتفاع من حديث الأب .
أحياناً في بعض السهرات ينتح باب المزاح طرفة ، وراء طرفة ، وراء طرفة كل واحد يستعرض مخزونه من الطرف ، ويعرضهم على إخوانه ، جلسة ما فيها بركة ، ولا فيها خشوع ، ولا فيها فائدة ، ولا فيها اتعاظ .
أولاً المزاح كالملح في الطعام إذا زاد عن حدّه انقلب إلى ضده ، يقول عليه الصلاة والسلام في الأدب المفرد للبخاري :
(( لست من دد ، ولا دد مني )) .
[أخرجه الطبراني و البخاري عن أنس بن مالك ] .
دد أي لست من أهل اللعب واللهو ، مجلسه وقور ، مجلسه مبارك ، فيه موعظة ، فيه توجيه ، فيه حقائق ، لكن فيه مرح ، وهناك من حين إلى آخر طرفة .
2 ـ ألا يمس المزاح حرفة أو فئة أو جهة أو طائفة أو مذهباً :
تصور المؤمن في حياته الدنيا كأنه يمشي في الصحراء ، حر ، ورمال ، وأحياناً غبار ، بعد مسير طويل ، ومشقة بالغة ، وجد هذا المؤمن واحة ، نخلة مع بركة ماء ، استظل بظل النخلة ، وشرب من الماء ، وأكل تمرة ، هذه اسمها استراحة ، فاجعل في درسك استراحات ، الاستراحة هي طرفة ، وأحياناً تستمع إلى خمسين طرفة ، لا يصلح من الطرف للإلقاء إلا واحدة أحياناً .
بالمناسبة هناك طرفة تمس مهنة لا يجوز ، أنت معلم ، أنت أب ، لو فرضنا في طرفة قاسية جداً على حرفة من الحرف ، سمعها ابنك طرب لها ، بالمدرسة قالها لبعض رفاقه أحد الرفاق والده يمتهن هذه المهنة ، يتقاتلون ، أولاً : ممنوع في إلقاء المزاح أو الطرف أن تمس إنساناً ، أو أن تمس فئة ، أو أن تمس حرفة ، أو أن تمس جهة .(1/213)
أقول لك مرة ثانية : بالمئة طرفة لا يمكن أن تلقي على أولادك إلا واحدة من مئة ، حيادية ، لا تمس إنساناً ، ولا طائفة ، ولا مذهباً ، ولا لوناً ، ولا فئة ، ولا جهة ، ولا حرفة ، ولا مدينة .
أيها الأخوة ، النبي عليه الصلاة والسلام مع أنه حمل أكبر دعوة في تاريخ البشرية ، كان إذا دخل بيته بساماً ضحاكاً ، كان إذا دخل بيته يعد واحداً من أهل البيت ، كان يكنس داره ، ويرفو ثوبه ، ويصغي الإناء للهرة ، ويخصف نعله ، وكان في مهنة أهله وكان بساماً ضحاكاً ، وكان الحسن والحسين يركبان على ظهره ، هكذا النبي في بيته ، كان عليه الصلاة والسلام كما تقول السيدة عائشة يحدثنا ونحدثه ، فإذا دخلت الصلاة فكأنه لا يعرفنا ولا نعرفه .
إذاً أول شرط من شروط المزاح أن يكون قليلاً ، كالملح في الطعام ، إذا زاد عن حده انقلب إلى ضده ، الشرط الثاني يعني ألا يمس حرفة ، فئة ، جهة ، طائفة ، مذهباً ، أي ألا يمس أحداً .
مرة ذكرت طرفة أن ملكاً في أثناء تجوله في مملكته دخل إلى بستان ، وجد حصاناً قد عصبت عيناه ، و في رأسه جلجل ، يدور حول الراحة لاستخراج الماء ، فهذا الملك سأل صاحب البستان : لِمَ عصبت عيناه ؟ فقال له : لئلا يصاب بالدوار ، جواب مقنع ، ولِمَ هذا الجلجل ؟ قال له ؟ إذا وقف أعلم أنه وقف ، فكر الملك ، فقال له : إذا وقف و هزّ رأسه ، فقال للملك : وهل له عقلك كعقلك ؟.
أحيانا الإنسان يطالب يفترض المستحيل ، هذا الافتراض ذكرني أن أحد أصحاب رسول الله :
سئل عليه الصلاة والسلام ماذا ينجي العبد من النار ؟ فقال النبي : إيمان بالله قال : أمع الإيمان عمل ؟ قال : أن يعطي مما رزقه الله ، قال : فإن كان لا يجد ما يعطي فقير ، قال : يأمر بالمعروف ، وينهى عن المنكر ، قال : فإن كان لا يحسن ، قال له : فليعن الأخرق ، قال له : فإن كان أخرقاً ؟ كل ما يعطيه النبي الكريم يغلقه ، قال له النبي الكريم : أو ما تريد أن تدع لصاحبك من خير ؟ ما له ولا ميزة ، ليمسك أذاه عن الناس ، فجاء السؤال الدقيق : قال له : وإن فعل هذا دخل الجنة ؟ فقال عليه الصلاة والسلام : ما من عبد مسلم يصيب خصلة من هذه الخصال إلا أخذت بيده حتى تدخله الجنة .
معنى لك أن العمل الصالح حركي ، ينمو ، والعمل السيئ ينمو ، من معصية لأكبر ، وبالجانب الإيجابي من طاعة لأكبر ، أحياناً هناك كلام حكيم جداً .
لي قريب أمه وقعت في مرض عضال ، فجاء لها بالطبيب ، وضعها النفسي منهار ، فهذا الطبيب صبّ جام غضبه على ابنها ، قال له : حالة عادية جداً ، تستدعيني من البيت ، وتكلفني ، وتتعبني ، والحالة عادية ، هو يخاطب ابنها ، اطمأنت ، فكان قديماً اسمه حكيم ، لأنه يتكلم كلاماً يعطي راحة للمريض ، الآن الطريقة الأمريكية يقول له معك سرطان ، معك أربعة أشهر ، فمات ثاني يوم ، ما(1/214)
تحمل الأربعة أشهر ، بالكلمة الكبيرة ينهار ، الطريقة الأمريكية هكذا ، يقول له معك سرطان ، وستعيش أربعة أشهر ، هذه قصة وقعت بالشام ، ثاني يوم مات ، ما تحمل الخبر .
الآن هناك نقطة دقيقة جداً : دائماً التطرف سهل ، والتوسط صعب ، يعني سهل جداً أن تكون قمعياً ، تكلم كلمة ضربته ، كلمة ثانية سبيته ، كلمة ثالثة رفسته برجلك ، هذا أسلوب قمعي ، وأيضاً سهل جداً أن تسيب الأمور ، تطاول على أمه سكتت ، ضرب أخاه سكتت ، التطرف سهل ، أن تأخذ الجانب المتطرف يمنة أو يسرة سهل جداً ، أما أن يكون ابنك في حيرة يحبك بقدر ما يخافك ، أو يخافك بقدر ما يحبك ، أنت مربٍّ ، أنت أب عظيم ، لأن الله عز وجل وصف الأنبياء أنهم يعبدونه :
* رَغَباً وَرَهَباً * .
( سورة الأنبياء الآية : 90 ) .
والمؤمنين :
* خَوْفاً وَطَمَعاً * .
( سورة السجدة الآية : 16 ) .
فأنت جو مكفهر ، قمعي ، تقريع ، لوم ، سُباب ، سهل ، لكن خسرت أولادك تساهل ، تساهل .
مرة كنا في بيت ، غرفة الضيوف مجللة بقماش أبيض مكوي مثل الثلج ، أحد الضيوف ابنه جلس بحذائه القذر فوق الكنبة ، أنا غليت غلياً ، تسيب ، شيء لا يحتمل ، وهناك آباء يتساهلون مع أولادهم لدرجة أن أحداً ممن حولهم لا يحبهم ، لتجاوزاته ، كلما أدبت ابنك أصبح محبوباً ، وكلما أهملته أصبح مكروهاً .
إذاً التطرف سهل ، التسيب سهل ، والقمع سهل ، لكن أن يحبك ابنك بقدر ما يخافك ، أو أن يخافك بقدر ما يحبك ، وهذا معنى الآية الكريمة يعبدونه * رَغَباً وَرَهَباً * الأنبياء والمؤمنون يعبدون الله * خَوْفاً وَطَمَعاً * ، لا تكن قاسياً فتكسر ، ولا ليناً فتعصر .
نحن في اللغة أقوى الحركات الكسر ، قبلها الضم ، قبلها الفتح ، قبلها السكون ، حتى يتعلموا الطلاب هذه القاعدة قل لهم قضيب إن تركته ساكن لا تحتاج إلى أي جهد ، أما إذا كان منثنياً فتحه سهل ، إذا كان مفتوحاً ثنيته أصعب ، أما كسره أصعب وأصعب ، فأقوى حركة الكسر ، أقل منها الضم ، الفتح ، السكون .
بعض الأدباء يقول : لي صديق كان من أعظم الناس في عيني ، وكان رأس ما عظمه في عيني صغر الدنيا من عينيه ، كان خارجاً عن سلطان بطنه ، فلا يشتهي مالا يجد ، ولا يكثر إذا وجد ، وكان خارجاً عن سلطان الجهالة ، فلا يتكلم بما لا يعلم ، ولا يماري فيما علم ، وكان أكثر دهره صامتاً ، فإذا تكلم بذّ القائلين ، وكان يُرى ضعيفاً مستضعفاً ، فإذا جد الجد فهو الليث عادياً .(1/215)
سيدنا عمر يقول : من كثر ضحكه قلّت هيبته ، ومن كثر مزاحه استخف به ، الحالة المبالغ بها ، أريد أن أضرب مثلاً :
أنت أيها الأب بطولتك أن يكون وجودك في البيت عيداً ، الوجود ، والأب القاسي العيد بعدم وجوده ، يبدأ العيد بعد أن يخرج من البيت ، والأب الناجح يكون العيد بعد الدخول إلى البيت .
هناك مدرسة ناجحة جداً ، حدثني أحد الأخوة الكرام ، قال لي : انبي يبكي بكاء مراً يوم الجمعة ، لأنه لا يوجد مدرسة ، يحب معلمه كثيراً ، فاليوم الذي لا يرى معلمه يتألم ، عندك إمكان أن تكون كهذا المعلم ، ليس صعباً ، لكن بحاجة إلى ضبط ، ولا كلمة قاسية ، مودة ، ملاحظة ، تربية ، تعليم .
الآن عندنا مقياس آخر ، المقياس الأول أن بطولة الأب أو المعلم أن يكون الفرح بوجوده لا بغيبته ، الآن بطولة ثانية كل إنسان قمعي يمدح بحضرته ، لكن الإنسان الأخلاقي يمدح في غيبته ، فأنت متى تمدح ؟ في حضرتك أم في غيبتك ؟ البطولة أن تمدح في غيبتك ، الأقوياء يمدحون في حضرتهم ، أما الأنبياء يمدحون في غيبتهم ، البطولة ما الذي يقال في غيابك ؟ أما في حضرتك القضية سهلة جداً ، إن كنت قوياً الكل يمدحونك اتقاء شرك ، أو طمعاً بنولك ، إما اتقاء شر ، أو طمع بالنوال ، هذا في حضرة القوي ، والأب قد يكون قوياً ، فالبطولة أن الابن يحدث صديقه عن أبيه ، لي أب أحبه كثير ، البطولة أن يحدث ابنك صديقه عنك في غيبتك ، أما في حضرتك ، هناك أطفال أذكياء ويمثلون دور الابن البار ، اتقاء لشر أبيهم .
أيها الأخوة ، الآية الأصل في هذا الموضوع :
* يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ * .
( سورة الحجرات الآية : 13 ) .
(( رُبَّ أَشْعَثَ مَدْفُوعٍ بالأبواب لو أقْسَمَ عَلَى اللهِ لأَبَرَّهُ )) .
[أخرجه مسلم عن أبي هريرة ] .
هناك حقيقة ؛ أخطر مزاح ، وأشد أنواع المزاح معصية لله أن تسخر من شكله ، من هيئته ، من قصره ، قالت له : قصيرة ، السيدة عائشة عن أختها صفية ، قال لها : يا عائشة لقد قلت كلمة لو مزجت بمياه البحر لأفسدته .
فالإنسان شكله ليس بيده ، طوله ، جمال وجهه ، كان عليه الصلاة والسلام إذا نظر بالمرآة يقول :
(( الحمد لله الذي حسن خلقي وخلقي )) .
[أخرجه أبو يعلى عن عبد الله بن عباس ] .(1/216)
الواحد منا إذا الله عز وجل تفضل عليه بشكل كامل هذه من نعم الله الكبرى ، لكن أنت مالك حق تطعن بشكل إنسان ، هذا الشكل من صنعه ؟ لا .
طبعاً الأحنف بن قيس كان قصير القامة ، غائر العينين ـ صغار وإلى الداخل ـ غائر العينين ، ناتئ الوجنتين ، أحنف الرجل ، أسمر اللون ، ليس شيء من قبح المنظر إلا وهو آخذ منه بنصيب ، وكان مع ذلك سيد قومه ، إذا غضبَ غضب لغضبته مئة ألف سيف ، لا يسألونه فيما غضب ، وكان إذا علم أن الماء يفسد مروءته ما شربه ، كان سيد قومه إذا غضبَ غضب لغضبته مئة ألف سيف .
بالمناسبة أيها الأخوة ، أية أمة تعتمد قيمتين أقرهما القرآن الكريم تتفوق ، وأية أمة أخرى تعتمد قيماً أخرى تتخلف ، القيمتان اللتان اعتمدهما القرآن الكريم للترجيح بين البشر قيمة العلم وقيمة العمل فقط ، قال :
* هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ * .
( سورة الزمر الآية : 9 ) .
وقال :
* يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ * .
( سورة المجادلة الآية : 11 ) .
وقال :
* وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا * .
( سورة الأنعام الآية : 132 ) .
العلم والعمل .
أما هناك مقياس للذكاء ، والوسامة ، والغنى ، والقوة ، هذه القيم ما اعتمدها القرآن الكريم ، أما أحياناً نعتمد قيمة الغنى ، قال عليه الصلاة والسلام :
(( من جلس إلى غني فتضعضع له ذهب ثلثا دينه )) .
[البيهقي في شعب الإيمان عن ابن مسعود]
ويقاس عليه القوي ، من جلس إلى غني وقوي فتضعضع له ، أي تمسكن له ذهب ثلثا دينه ، والقول النبوي :
(( ابتغوا الحوائج بعزة الأنفس فإن الأمور تجري بالمقادير ، ولا ينبغي للمؤمن أن يذل نفسه )) .
[ ابن عساكر عن عبد الله بن بسر بسند ضعيف]
ورد في بعض الآثار القدسية :
(( أنا مالك الملوك وملك الملوك ، قلوب الملوك بيدي ، وإن العباد إذا أطاعوني حولت قلوب ملوكهم عليهم بالرأفة والرحمة ، وإن العباد إذا عصوني حولت قلوب ملوكهم عليهم بالسخط(1/217)
والنقمة فساموهم سوء العذاب ، فلا تشغلوا أنفسكم بالدعاء على الملوك ، ولكن اشغلوا أنفسكم بالذكر والتضرع ، أكفكم ملوككم )) .
[أخرجه الطبراني عن أبي الدرداء ] .
حدثني مرة صديق كان ببلد نفطي مدرساً معاراً ، قال لي : هناك خادم اسمه ( عندنا في الشام آذن) فراش ، يكنس الأرض ، قال لي : مرة صببت كأساً من الشاي في الفرصة فإذا بالجرس يُقرع ، والمدير دقيق جداً ، لا يحتمل أن يتأخر المدرس عن الصف ولا دقيقة ، فصب كأس الشاي فقرع الجرس ، فقام قدمه للفراش ، هذا الفراش ثاني يوم ، قال له : أنا لي هنا في هذه الثانوية سنتان ، لم يسلم عليّ أحد ، أنت لماذا قدمت لي هذا الكأس ؟ طبعاً هو لماذا قدمه له ؟ قُرع الجرس ، قال له : أردت أن أكرمك به ، ما أعطاه السبب الحقيقي صار في ود ، فإذا بهذا الفراش يفاجئ هذا المدرس أنه يحمل بكالوريوس بالعلوم ، هو من بلاد بعيدة و فقير جداً ما وجد عملاً ، فجاء عرض لدولة نفطية فقبل أن يعمل فراشاً ، قال لي : ما صدقته ، دعوته إلى البيت وعندي موسوعة باللغة الإنكليزية ، قرأ فأجاد القراءة وشرح ، طبعاً هو ليس مسلماً ، بعد حين جمع أصدقاءه حوالي عشرة ، وعملوا جلسة أسبوعية ، وانتهت هذه الجلسات بإسلامهم جميعاً ، ماذا كلفته ؟ كأس شاي قدمه لهذا الفراش .
لا تحقرن من المعروف شيئاً ، يقسم بالله أنه سعد بهم لعام أو عامين أيما سعادة ، الله مكنه أن يقنع أناساً ليسوا مسلمين ، بل يدينون بدين وضعي (أعتقد كانوا بوذيين) ، بكأس شاي قدمه يعني تكريم لهذا الفراش ، وهذا الفراش ظهر مستواه الثقافي عالٍ جداً ، قصة غريبة جداً لكنها وقعت مع أحد أقربائي .
أنت أحياناً الكلمة الطيبة صدقة ، الابتسامة صدقة ، مرة حدثني أخ بعدما انتهى الدرس و سلم عليّ ثم قال لي : هذا ابن خالتي ، فأنا سبحان الله بمودة بالغة سلمت عليه ، صافحته ، وشددت على يده ، قلت له عينك على ابن خالتك ، إن شاء الله الدرس أعجبك يا بني ؟ قال لي : والله أعجبني جداً ، لما أنا صافحته بمودة ، ابتسمت بوجهه ، وسألته عن الدرس أعجبك ، وقلت لابن خالته عينك على ابن خالتك قال له : والله هذه المودة من الشيخ دعتني آتي إلى الدروس دائماً .
الابتسامة صدقة يا أخوان ، المصافحة صدقة ، كان عليه الصلاة والسلام إذا صافح كان آخر من يسحب يده إذا صافح ، فأنت بابتسامتك ، ولطفك ، وتواضعك ، تجذب قلوب كثيرة .
شيء آخر : تعلم لا تعمم ، قالوا : التعميم من العمى ، لا يعمم إلا أعمى ، وإذا قرأت القرآن الكريم يتضح ، الله عز وجل يقول :
* مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ * .
( سورة آل عمران الآية : 113 ) .(1/218)
القرآن :
* وَإِنَّ كَثِيرًا مِّنْ الْخُلَطَاء لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ * .
( سورة ص الآية : 24 ) .
لم يقل جميع الخلطاء ، فالإنسان تتبدى ثقافته الراقية من عدم التعميم ، أو الموضوعية قيمة أخلاقية ، وفي الوقت نفسه قيمة علمية ، فأنت عالم إذا كنت موضوعياً ، وأخلاقي إذا كنت أخلاقياً ، الموضوعية أن تعطي حكماً حيادياً ، أن تصف الشيء كما هو عليه ، أساساً تعريف العلم وصف الشيء على ما هو عليه مع الدليل .
فلذلك تلقي طرفة ، تقول كل أهل هذا البلد هكذا ، هذا خطأ كبير جداً ، لذلك احفظوا هذه القاعدة ، التعميم من العمى ، والقرآن لا يعمم ، * وَإِنَّ كَثِيرًا مِّنْ الْخُلَطَاء لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ * ، * مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ * .
الآن يا أخوان أن مضطر أن أنهي هذا الدرس بموضوع مؤلم ، المزاح القاسي أي تخفي لإنسان حاجة أساسية ، هو عصبي المزاج ، يمكن أن يضطرب فيلقي كلمة قاسية ، فإخفاء حاجة ، إبلاغه بخبر سيء ، أحياناً خبر سيء يعمل أزمة قلبية ، يموت أحياناً ، والدليل قوله تعالى :
* مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ * .
( سورة آل عمران الآية : 119 ) .
الغيظ يقتل ، خبر سيء ، أو تهديد ، أو وعيد ، أو إخفاء حاجة مهمة ، جندي مزح معه صديقه وأخفى بندقيته ، أصيب بجلطة ، عندهم قائد بالثكنة قاسٍ جداً فيها سجن لشهرين أو ثلاثة ، مزح معه أنه أخفى له البندقية أصيب بجلطة .
أخوانا الكرام المزاح القاسي ، الذي فيه خطر ، خبر كاذب ، تهديد كاذب ، إخفاء شيء مهم جداً هذا المزاح يعد من أكبر المعاصي .
لذلك قال عليه الصلاة والسلام :
(( لا يحلُّ لمسلم أن يُروِّعَ مُسلما )) .
[أخرجه أبو داود عن بعض الصحابة ] .
من أكبر ما قاله النبي :
(( لا تحمروا الوجوه )) .
[ورد في الأثر] .
يكفي أن تضعه بموقف حرج تخجله ، (( لا تحمروا الوجوه )) .
حديث آخر :
(( لا تروعوا المسلم فإن روعة المسلم ظلم عظيم )) .(1/219)
[أخرجه الطبراني عن عامر بن ربيعة ] .
المزاح يجب أن يكون حقيقة لا كذباً ، كان عليه الصلاة والسلام يمزح ولا يمزح إلا حقاً .
هناك نوع من المزاح يقول عليه الصلاة والسلام :
(( ويل للذِي يُحدِّثُ بالحديث ليُضْحِكَ به القوم ، فيَكذِبُ ، ويل له ، ويل له )) .
[أخرجه أبو داود والترمذي عن معاوية بن حيدة ] .
(( كبُرتْ خيَانة تحدِّثَ أخاكَ حديثاً هوَ لك بُه مُصدِّق ، وأنتَ له به كاذبُ )) .
[أخرجه أبو داود عن سفيان بن أسيد الحضرمي ] .
آخر حديث :
(( يطبع المؤمن على الخلال كلها إلا الخيانة والكذب )) .
[أخرجه الإمام عن أبي أمامة الباهلي ] .
ولا في المزاح إطلاقاً ، كان يمزح ، ولا يمزح إلا حقاً .
أحياناً يطبعون نعوة كنوع من المزاح ، يسبب مشكلات كبيرة جداً ، أنا أطلع على أنواع من المزاح تعد معصية كبيرة ، فيها إيذاء ، فيها إرباك ، فيها إحباط .
(( ثلاثة جِدُّهُنَّ جِدُّ ، وَهَزْلُهُنَّ جدّ : النَّكاحُ ، والطَّلاقُ ، والرَّجْعَةُ )) .
[أخرجه أبو داود والترمذي عن أبي هريرة ] .
يعني يأتي إلى عندك صانع ، تقول له : أنت ستصبح شريكي في المستقبل ، صدقك عاش بأحلام حكى لوالده ، وأنت تمزح معه ، هذا ليس مزاحاً ، أن تعد موظفاً عندك أن يكون شريكاً لك مزاح ، أعوذ بالله ، أنوي أن أخطب فلانة ، بلغوها ، فرحت مسكينة ، تنتظر عاشت بأحلام بسعادة ، هو يمزح .
صدقوا أيها الأخوة هناك أنواع من المزاح تغضب الله عز وجل ، موضوع زواج ، موضوع خطبة ، موضوع شركة ، موضوع سفر ، موضوع وظيفة ، ما له جاد إطلاقاً ، هذه الموضوعات محرم أن تمزح بها ، الزواج ، والطلاق ، والعتاق ، جدهن جدّ ، وهزلهن جدّ ، يقول عليه الصلاة والسلام :
(( لا يؤمن العبد الإيمان كله حتى يترك الكذب في المزاح والمراء وإن كان صادقاً )) .
[أخرجه أحمد عن أبي هريرة ] .
المزاح لا يمكن أن يكون كذباً ، إلا أن يكون صادقاً .
النبي الكريم من لطفه أحد أصحابه من البادية ، مرة وضع يديه على عينيه وقال : من يشتري هذا ؟ فلما فتح عينيه رأى رسول الله ، فقال : أنا كاسد تبيعني ؟ قال له : أنت عند الله لست بكاسد ، شيء لطيف أن نبياً عظيماً يفعل هذا .(1/220)
وله كلمة لصديقه في البادية اسمه زاهر ، قال : زاهر باديتنا ، ونحن حاضروه ، أحياناً إنسان من بلدة يأتي لك بوعاء فيه تين ، أنت أعطيه علبة حلو ، بالمدينة يوجد حلويات ، بالبلد يوجد فواكه ، إذا إنسان جاء بشيء من البادية أنت قدم شيئاً من المدينة ، قال : زاهر باديتنا ، ونحن حاضروه .
أيها الأخوة الكرام ، أنا أتمنى كما قلت أن يكون الأب مرحاً ، المعلم ، الأم ، مدير الشركة ، لكن باعتدال دون أن تمس طرائفه إنساناً ، أو حرفة ، أو جهة ، أو ملة ، أو طائفة ، هناك أنواع من المزاح رائعة جداً لا تمس أحداً .
===================
... ... ... ...(1/221)
24 ـ التربية الاجتماعية 5 ـ آداب الطعام
أيها الأخوة الكرام ، مع الدرس الرابع والعشرين من دروس تربية الأولاد في الإسلام ، ولا زلنا في التربية الاجتماعية ، وننتقل اليوم إلى آداب الطعام .
بادئ ذي بدء : إن صحّ أن الإسلام هرم مقسم إلى أربعة أقسام ، القسم العلوي العقيدة ، وأخطر شيء في الدين العقيدة ، إن صحت صحّ العمل ، وإن فسدت فسد العمل ، إن صحّ العمل سلم الإنسان وسعد في الدنيا والآخرة .
القسم الثاني : قسم العبادات ، لأن الإنسان كما قال الله عز وجل :
* وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ * .
( سورة الذاريات ) .
لأن الإنسان مخلوق لعبادة الله ، فالصلاة عماد الدين ، والصوم والحج والزكاة .
والقسم الثالث : قسم المعاملات ، البيع ، والشراء ، والزواج ، والطلاق والكفالة ، والحوالة .
الأول العقيدة ، الثاني العبادات ، الثالث المعاملات ، الرابع الآداب : والآداب شيء متميز في الإسلام ، أقول لكم هذه الحقيقة : المؤمن لا يُعرف من صلاته ، وحجه ، وزكاته ، يُعرف من آدابه ، الشيء الصارخ ، المتميز ، إذا أكل ، إذا جلس ، إذا تكلم ، إذا سار ، إذا ألقى كلمة يُعرف بالأدب ، فالأدب أصل من أصول الدين .
لذلك حينما سُئل عليه الصلاة والسلام عن هذا الأدب الرفيع قال :
(( أدبني ربي فأحسن تأديبي )) .
[ ابن السمعاني في أدب الإملاء عن ابن مسعود] .
أيها الأخوة ، لكن سوف أوضح لكم حقيقتين دقيقتين ، الحقيقة الأولى : أن الآداب تُعرف بالتعليم ، وتُعرف بالصبغة ، كيف ؟ تقول لابنك الصغير : يا بني كُل بيمينك ، تعليم كما قال عليه الصلاة والسلام لأحد الأطفال :
(( سَمّ اللَّه ، وكلْ بيمينك ، وكلْ مما يلَيك )) .
[أخرجه البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي ومالك عن عمر بن أبي سلمة ] .
تُعرف بالتعليم ، لكن الآن لو ارتقينا إلى درجة أرقى ، الإنسان حينما يتصل بالله ورد أن مكارم الأخلاق مخزونة عند الله تعالى ، فإذا أحب الله عبداً منحه خلقاً حسناً كيف ؟ للتوضيح :
لو أن إنساناً قبل أن يتوب مدمن على سماع الأغاني ، وهناك بعض الأغنيات متعلق بها تعلقاً مذهلاً ، فلما تاب إلى الله ، الشرع يأمره أن يمتنع عن سماع الأغاني ، لم يسمع الأغاني ، لكن لو هذه الأغنية المفضلة عنده استمع إليها عرضاً عن غير قصد هناك فرق بين سمع واستمع ، سمع : استمعها في(1/222)
معصية ، أي جلس واستمع ، لكن راكب سيارة ظهرت هذه الأغنية في السيارة يطرب لها ، مع أنه تائب ، لكن بعد حين بعد أن ترتقي نفسه إلى مستوى الشرع ، يمقتها .
هناك حالة هو تائب ، يعلم أن سماع الأغنيات حرام ، فامتنع هذه حالة ، لكن بعد أن اتصل بالله عز وجل ، شرُف قلبه بمعرفة الله ، انتقل إلى حالة أرقى .
فالبطولة أن ترتقي بنفسك إلى مستوى الشرع ، ورد :
(( نعم العبد صهيب ، لو لم يخف الله لم يعصِه )) .
[ السخاوي في المقاصد الحسنة ص/449] .
أحياناً باتصالك بالله ، وإقبالك عليه ، تصطبغ بالكمال ، وهذا الكلام يسوقني إلى كلام دقيق ، هناك فطرة ، وهناك صبغة ، كل مولود يولد على الفطرة ، أي مولود على الفطرة ، الفطرة تعني أن تحب الكمال .
نحن جميعاً ، والمسلمون جميعاً ، وأهل الأرض جميعاً من آدم إلى يوم القيامة مفطورون على الكمال ، ولولا هذه الفطرة لما كان هناك عذاب نفسي إطلاقاً ، الآن أكبر مرض منتشر بالعالم الكآبة ، ما الكآبة ؟ خروج عن مبادئ الفطرة ، لا في دين ، ولا في رادع ، ولا في مبادئ ، ولا في قيم ، لكن في فطرة .
لذلك هذا الفندق في ألمانيا كتب على السرير : إن لم تنم هذه الليلة فالعلة ليس بفراشنا إنها وثيرة ، ولكن العلة في ذنوبك إنها كثيرة .
الإنسان حينما يتجاوز مبادئ فطرته يُعذب ، تسمي العذاب كآبة ؟ ، تسميه انهياراً داخلياً ؟ ممكن ، تسميه شعوراً بالنقص ؟ ممكن ، تسميه ضيقاً ؟ ممكن ، الإنسان حينما يخرج عن مبادئ فطرته يُعذب .
بالمقابل حينما يتصل بالله عز وجل ، تصطبغ نفسه بالكمال ، الفطرة أن تحب الكمال لا أن تكون كاملاً ، والدليل :
أن اللصوص إذا سرقوا مالاً يقتسموه بالعدل بينهم ، لأن العدل فطرة ، بعدها يا رب تستر .
الإنسان لو انحرف عنده فطرة ، أحياناً المنحرف أشد الانحراف عند الزواج يبحث عن فتاة شريفة ، أحياناً يكون موقع الإنسان مكافحة الدين يبحث لابنته عن مدرسة إسلامية ، هناك تناقض شديد جداً ، الموقف الثاني فطرة ، كل مولود يولد على الفطرة ، لولا أنك تحب الخير لما تعذبت من فعل الشر ، لولا أنك تحب العدل لما شعرت بضيق إذا ظلمت ، لولا أنك تحب الرحمة لما تضايقت إذا قسوت أبداً ، الأمراض النفسية خروج عن مبدأ الفطرة .
لكن الذي أتمنى أن يكون واضحاً ما من أمر أمرنا الله به بشكل مطلق إلا ركز في فطرتنا محبته .(1/223)
لذلك لمجرد أن تتوب إلى الله ، وأن تصطلح معه ، وأن تقيم أمره ، تشعر براحة لا توصف ، كأن أثقالاً كالجبال أزيحت عن كاهلك ، لأنك اصطلحت مع فطرتك ، حتى العوام يقول لك : ارتحت وزعت التركة بالعدل ، ارتحت ، ارتاح ، وحينما يظلم ، يغلي .
فالإنسان إذا كان أنانياً بالتعبير الشائع إذا أطاع الله ارتاحت نفسه ، انظر إلى الصادق يتمتع بصدقه ، المنصف يتمتع بإنصافه ، الكامل يتمتع بكماله .
والله حتى أقول لكم : لو لم يكن هناك يوم جزاء الذي استقام على أمر الله يكافأ في الدنيا بالراحة النفسية ، لذلك إن الله يعطي الصحة ، والذكاء ، والمال ، والجمال ، للكثيرين من خلقه ، ولكنه يعطي السكينة بقدر لأصفيائه المؤمنين .
والله أيها الأخوة ، بقلب المؤمن من الأمن ، والسلامة ، والراحة ، والسعادة ، والسكينة ، والتوازن ، والاطمئنان ما لو وزع على أهل بلد لكفاهم ، يعني الإيمان مرتبة عالية جداً للتقريب :
مركبة أحدث موديل 2008 ، أغلى مركبة ، من أرقى معمل ، إن مشيت بها على طريق وعرة ، صخور ، وأكمات ، وحفر ، ونتوءات ، تسمع أصواتاً ، تسمع تعثراً بالمشي ، أصوات اصطدام بالأحجار ، تخرج من جلدك ، سِرْ بها على طريق معبد ، انسياب بالحركة ، سرعة ، أصوات لا يوجد أبداً ، لأن هذه المركبة صممت للطريق المعبد .
تزوجت تجلس مع زوجتك ، وقد أكرمك الله بها ، وفق المنهج ، تصلي قيام الليل ، هذه وفق المنهج ، أما لو أدرت حديثاً مع امرأة لا تحل لك ، ولم تكن مطبقاً لمنهج الله في هذا الحديث ، تشعر بضيق ، أنت عندما تملك حساسية بالتعبير الجديد : شفافية ، تشعر عندما تغلط أن هناك حجاب بينك وبين الله ، لأنك أنت مبرمج ، بتعبير آخر مولف ، بتعبير آخر مفطور ، بتعبير آخر مجبول ، مفطور ، مجبول ، مولف ، مبرمج على طاعة الله ، فإذا أطعته اصطلحت مع فطرتك ، وسعدت في الدنيا والآخرة ، وإذا عصيت الله يقع انهدام داخلي ، شعور بالنقص ، شعور بالظلم ، الذي يظلم إحدى زوجتيه له صفات عجيبة ، يصبح قاسٍ جداً ، يضرب سريعاً ، يختل توازنه من الداخل ، هذه الفطرة .
فالآداب تتوافق مع الفطرة ، والأعمال المنافية للآداب تتناقض مع الفطرة ، أما الصبغة ، الفطرة تحب الرحيم ، أما الصبغة تصبح رحيماً ، الصبغة إيجابية ، الفطرة محبة فقط ، أن تحب الكمال شيء ، وأن تكون كاملاً شيء آخر .
هذه الآداب آداب الطعام ، آداب الشراب ، آداب العيادة ، آداب الزيارة ، آداب قيادة المركبة ، آداب إطلاق البوق الساعة الثانية بالليل ، وزوجتك بالطابق الرابع ، وأتيت لتأخذها من بيت أهلها لا تتنازل تخبرهم ، تطلق ببوق المركبة ؟! .
كان عليه الصلاة والسلام إذا دخل بيته لفّ ثوبه ، لئلا يوقظ حفيف ثوبه زوجته هذه الفطرة .(1/224)
الفطرة مشتركة ، نحن جميعاً ، ولأننا جميع مفطورون على الكمال إذا أخطأنا نشعر بضيق نفسي ، هذا جواب الفطرة ، إذا أخطأنا نشعر بضيق ، أما الصبغة تكمل باتصالك بالله ، المتصل عنده حياء ، عنده أدب ، عنده رحمة ، عنده إنصاف ، المتصل .
فالكمال إما أن يأتي عن طريق التعليم ، أو الذكاء ، أو الاتصال بالله ، إذا إنسان بعيد عن الله لكن ذكي جداً ، حتى ينتزع إعجاب الآخرين ، ويحقق مصالحه ، يكون متأدباً بأدب تجاري هدفه تحقيق مصالحه ، هذا شيء شائع جداً ، هذا الإنسان الذي تأدب بأدب تجاري حينما يُستفز ، أو حينما تهدد مصالحه ، ينقلب كالوحش ، مثلاً :
طفل ببلد أوربي أشار إلى سيارة فلم تقف له ، أقام والده دعوى على الشركة الناقلة ، وأخذ مبلغاً فلكياً ، لو لم تأتِ مركبة ثانية ، هذا الطفل تشرد ، ولم يستطع أن يصل إلى بيت أهله ، شعوب تموت بأكملها تموت .
قتل امرئ في بلدة جريمة لا تغتفر ... وقتل شعب مسلم مسألة فيها نظر
* * *
مليون قتيل بالعراق ، مليون معاق ، خمسة ملايين مشرد ، وجاء هذا المجرم لينتزع ثناء الناس فتلقى صفعة بالحذاء .
المشكلة الإنسان أحياناً بذكائه ينتزع إعجاب الآخرين ، أما حينما تهدد مصالحه ، حينما يشعر بالخطر ينقلب إلى وحش كاسر ، وكأن الله جلّ جلاله أراد ألا تنطوي حيل أعداء الله على الأمم ، مثلاً :
قبل الحادي عشر من أيلول الغرب حضارة ، حقوق الإنسان ، تكافؤ الفرص ، حق المقاضاة ، العولمة ، احترام جميع الأديان ، أي قيم ، ومبادئ ، والإنسان مكرم أعظم تكريم ، بعد الحادي عشر من أيلول انقلب الغرب إلى وحش .
فلذلك الله عز وجل متكفل أن الذي يتخلق بذكاء فقط من أجل مصالحه لابد من أن يكشفه الله عز وجل .
* مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ * .
الآية :
* الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ * .
( سورة آل عمران الآية : 179 ) .
الآية لو وسعناها لا يرضى الله لأمة أن تهيمن على بقية الأمم بدعوى كاذبة يكشفها على حقيقتها .
النقطة الدقيقة بالآداب ؛ عندنا آداب أساسها التعليم ، آداب أساسها الصبغة ، الاتصال بالله ، آداب أساسها الذكاء ، أحياناً الإنسان لو سافر لبلاد الغرب يجد احتراماً ، دقة بالمواعيد ، بالمعاملات ،(1/225)
شيء رائع جداً ، لكن هذا لا يمنع أن بلاد الغرب تقيم حضارتها على أنقاض الشعوب ، تقيم ثراءها على إفقار الشعوب ، تقيم عزها على إذلال الشعوب ، تقيم حريتها على قهر الشعوب ، تقيم حياتها على قتل الشعوب ، هذا شيء واضح تماماً ، هذه الأخلاق أتمنى ألا يعتد بها إطلاقاً ، ذكاء فقط ، ذكاء نابع من مصالح ، هذه خارج حساباتنا ، أما المؤمن أخلاقه إما أنه تلقاها قبل الصبغة عن طريق التعليم ، أو أصبحت جزءاً من طبيعته بعد الاتصال بالله ، هذه الحقيقة الأولى بالآداب ، مثلاً الله عز وجل قال :
* مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى * .
( سورة النجم ) .
أنت دخلت لبيت ضيف ، سمعت حركة ، وجدت كتاباً ، وجدت كمبيوتراً ، لا يصح أن تقوم بشيء ، كل شيء يحتاج إلى إذن ، ممنوع تفتح كتاباً ليس لك ، أي تحتاج إلى إذن ، المتصل بالله عنده ذوق ، ذوق آتٍ من الصبغة ، والذي حضر درس علم بالآداب عنده معلومات ، عنده تعليمات ، لكن الأولى مقبولة ، آداب التعلم مقبولة ، وآداب الصبغة أرقى شيء ، أما المرفوض آداب المصالح .
أيها الأخوة ، الدليل على أن الآداب الراقية من عند الله :
(( أدبني ربي فأحسن تأديبي )) .
[ ابن السمعاني في أدب الإملاء عن ابن مسعود] .
والله أيها الأخوة يمكن أن تُجاري الشخص ثلاثين عاماً لا تسمع منه كلمة نابية أبداً ولا مزاحاً رخيصاً .
والله بأقوال النبي شيء مذهل ! فتاة ترتدي ثياباً رقيقة ، فقال : يا بنيتي إن هذه الثياب تصف ، انظر أي كلمة ثانية محرجة ؟ تصف حجم عظامك ، العظم لا يثير الشهوة إطلاقاً ، هناك كلمات أخرى تثير الشهوة ، إن هذه الثياب تصف حجم عظامك .
صحابية جليلة تشكو زوجها ، قالت لسيدنا عمر : إنه صوام قوام ، لم ينتبه ، قال لها : بارك الله لك بزوجك ، قال له سيدنا علي : إنها تشكو زوجها ، صائم في النهار قائم في الليل أهملها ، انظر إلى الأدب .
امرأة رأتها السيدة عائشة بهذا الوضع المؤلم ، فشكت لها زوجها أنه صوام قوام ، النبي استدعاه ، وأمره أن يعطي حق زوجته ، أعطاها حقها ، في اليوم التالي جاءت إلى السيدة عائشة نضرة عطرة ، قالت لها : ما الذي حصل ؟ قالت لها : أصابنا ما أصاب الناس ، ما هذا الأدب ؟! .
تعلم الأدب من القرآن الكريم .
* فَلَمَّا تَغَشَّاهَا * .(1/226)
( سورة الأعراف الآية : 189 ) .
لا تجرح الحياء هذه الكلمة .
* أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ * .
( سورة النساء الآية : 43 ) .
تفهم .
* وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ * إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ * .
دقق :
* فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ * .
( سورة المؤمنون ) .
وراء ذلك جميع الانحرافات الجنسية في هذه الكلمة ، فيقول لك : لا حياء في الدين ، لا والله الدين كله حياء ، وتعلم الحياء من كتاب الله ، الدين كله حياء .
الآن هناك دليل ذاتي ، دليل قوي جداً ، قال تعالى :
* فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ * .
( سورة آل عمران الآية : 159 ) .
يعني يا محمد بسبب رحمة استقرت في قلبك عن طريق اتصالك بنا لنت لهم .
* وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ * .
( سورة آل عمران الآية : 159 ) .
لو كنت منقطعاً عنا هذا الانقطاع سبب قسوة في القلب ، وهذه القسوة في القلب ترجمت إلى غلظة وفظاظة .
* لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ * .
( سورة آل عمران الآية : 159 ) .
هذا دليل آخر .
(( إن هذه الأخلاق من الله فمن أراد الله به خيراً منحه خلقاً حسناً )) .
[أخرجه الطبراني عن أبي هريرة ] .
هذه أخلاق الصبغة ، هذه الأخلاق الأصيلة ، لا تتأثر لا بمصالح ، ولا بظروف ، ولا بعداوات ، هذه الأخلاق الأصيلة ، ليس لها علاقة بالفقر ، ولا بالغنى ، ولا قبل الزواج ، ولا بعد الزواج ، ولا مع الصحة ، ولا مع المرض ، أخلاق ثابتة .
أما إنسان يكون بالرخاء لابأس بحاله ، بالشدة ينقلب وحشاً كاسراً ، هذا الكلام يدفعني اذكر مصطلحين : هناك موقف أخلاقي ، وهناك إنسان أخلاقي .(1/227)
طبيب راكب مركبته وجد حادثاً ، فيه ثلاثة جرحى ، والدماء تسيل ، والذين حول الجرحى يعرفونه طبيباً انحرج ، فاضطر أن يقف ويأخذ بعض الجرحى في سيارته ، هذا موقف أخلاقي ، لكن قد يكون الطبيب يتمنى أن لا يعرفه ولا يقف ، هذا فرق ، أن تقف بدافع إنسان أخلاقي ، بدافع التقرب من الله عز وجل ، بدافع رحمتك ، قد أُنقذ هذا المريض ، وقد تقف حفاظاً على سمعتك ، هذا الفرق بين أخلاق الأذكياء ، وبين أخلاق الصبغة ، أنا أُلح على أخلاق الصبغة ، بطولتك أن تكون أخلاقياً صبغة ، لا تتأثر لو فعلت خيراً وقابلوا هذا الخير بالنقد ، لا تعبأ .
* إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُوراً * .
( سورة الإنسان ) .
فهذا الفرق بين الموقف الأخلاقي من إنسان أخلاقي ، يعني أنت عليك سند بمئة ألف أنا أديته ، لأنه سند ، وهناك محكمة ، وصاحب السند إنسان تخاف منه ، وله أساليب عجيبة في استرداد الدين ، ويحجز على محلك ، ويدخلك المحكمة .
أما شخص أقسم بالله معه عشرون مليون ليرة استثمار من إنسان ، ما أخذ وصلاً منه مات بحادث ، أقسم لي بالله لا أحد على وجه الأرض يعلم بهذا المبلغ ، عشرون مليون ليرة ، إنسان حريص جداً ، كتوم جداً ، يخاف ، فما أخذ منه وصلاً ، إذا كان الوصل كان عنده بالبيت في مشكلة ، وله ثقة بهذا الإنسان ، ما أخذ وصلاً ، مات بحادث ، ذهب إلى أهله وقدم لهم هذا المبلغ .
متى تكون أميناً بأعلى درجة ؟ حينما لا تكون مداناً في الأرض ، ما أحد معه دليل عليك .
لذلك مثلاً عندنا غض البصر ، غض البصر لا يوجد قانون في الأرض يمنعك أن تنظر ، هذا الأمر ينفرد به الدين ، الآن شخص ببيته ، والغرفة مظلمة ، وفي البناء المجاور ظهرت الجارة بثياب فاضحة إلى الشرفة ، هي لا تراه إطلاقاً ، لكنه يراها ، هل هناك بالأرض جهة تضبطه ؟ أبداً ، فإذا غض بصره هذا دليل خشيته من الله عز وجل ، الله عز وجل قال :
* يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ * .
( سورة غافر ) .
مريضة عند طبيب تشكو من مكان ، فاختلس النظر إلى مكان آخر ، لا تشكو منه من يعلم هذه النظرة ؟ الله عز وجل ، * يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ * .
لذلك أخلاق الصبغة هذه أخلاق أصيلة ، هذه آداب أصيلة ، هذه أخلاق ترقى بالإنسان إلى أعلى عليين ، أخلاق الصبغة ، وهناك أخلاق التعليم ، و أخلاق الذكاء التجارة ، الغرب بارع بهذه الأخلاق ، يعني مثلاً :
أحياناً حقوق الحيوان مقدمة على حقوق الإنسان ، وهناك خبر مزعج أن ما يأكله الكلاب في بعض الدول الأجنبية ، لا يأكله الشعب الهندي بأكمله ، ما يأكله الكلاب من اللحوم .(1/228)
أنا كنت بأمريكا هناك عملية زرع مفصل للكلب ، عملية زرع أسنان ، السن يكلف مئتي و خمسين ألفاً ، زرع سن ، زرع مفصل ، هناك أطباء نفسيون للكلاب ، وفي مجاعات بأفريقيا ، ترى الوحشية ؟ الآن وقود الطائرات يصنع من الذُرة ، من فول الصويا ، من أجل أن تركب طائرة من وقود نباتي أسعار المواد الغذائية ارتفعت عشرة أضعاف ، قرأت مقالاً قبل يومين حول هذا الموضوع شيء مخيف ، قوت الشعوب ، قوت الفقراء ، ارتفع عشرة أضعاف ، فول الصويا ، الذُرة ، والشعير ، والقمح أحياناً ، هذا طعام الفقراء ، طعام الشعوب صار وقود طائرات ، بالبرازيل ، بأمريكا ، بكندا ، بعدة بلاد ، حتى من قصب السكر ، السكر صار وقود طائرات ، لأنه لا يوجد رحمة ، هم يهتمون بحقوق الحيوان والإنسان مكرم عند الله عز وجل .
بأستراليا تمّ إعدام عشرين مليون رأس غنم قبل أعوام ، ودفنت تحت الأرض من أجل الحفاظ على أسعار اللحوم المرتفعة ، شعوب تموت من الجوع ، مجاعات بإفريقيا .
والله يا أخوان أحياناً الإنسان يخجل أن ينتمي إلى الجنس البشري ، وحوش البشر لا في رحمة ، ولا في حياء ، ولا في خجل ، ولا في مبادئ ، ولا في قيم ، ولا في أخلاق ، ولا في وطنية ، ولا في قومية ، ولا في إنسانية ، في وحشية فقط ، تحت سمعك وبصرك موت كعقاص الغنم لا يدري القاتل لِمَ يقتل ، ولا المقتول فيمَ قُتل ، يومياً في مئة قتيل بالعراق ما السبب ؟ ما في سبب ، بتاريخ البشرية القاتل يُقتل ، أما يمشي بالطريق صار في تفجير مات الإنسان ، يوم يذوب قلب المؤمن في جوفه مما يرى ، ولا يستطيع أن يغير .
أيها الأخوة الكرام ، أردت بهذه المقدمة أن أوضح لكم أن الإسلام عقيدة ، إن صحت صحّ العمل ، أخطر شيء بالإسلام العقيدة ، الإسلام عبادات ، قوام الدين ، عماد الدين ، الإسلام معاملات ، أما أوسع بهذا الهرم الآداب ، موضوع واسع جداً آداب الزيارة ، آداب عيادة المريض ، آداب الجلوس ، آداب النوم ، آداب الطعام .
مرة قال لي إنسان : شخص دعا مجموعة من الناس للطعام وصنع أكلة تصنع في الشام لحم مع بندورة "كباب هندي" ، وواحد مع ابنه ، الابن يأكل اللحم فقط ، أكل نصف الصينية لوحده والأب لم ينتبه ، هكذا علمت ابنك ؟ أقسم بالله قال لي : كدت أتمزق ، لم يبقَ أكل للحاضرين ، حاف ، واحدة ، الثانية ، الثالثة ، الرابعة ، بقي هندي لم يعد في كباب ، أين الأدب ؟ والله أحياناً الطفل تعطيه قطعة حلويات لا يقبل أن يخذها ، عنده عفة ، وراءه أسرة علمته الأدب ، لا يقبل .
(( سَمّ اللَّه ، وكلْ بيمينك ، وكلْ مما يلَيك )) .
[أخرجه البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي ومالك عن عمر بن أبي سلمة ] .(1/229)
عندي قصص عن سوء أدب الصغار بالأكل ، لا ينتبه ، يريد أن يأكل كما يحلو له ، قد يكون أهله وضعهم المادي ميسور ، لكن الآن هناك وليمة ، وهناك عدد محدود ، و أكل محدود ، لا ينتبه ، أنا أتمنى أن يكون الأب يقظاً جداً إذا كان معه ابنه أين جلس ؟ .
مرة كنا بمكان ؛ غرفة الضيوف مجللة بقماش أبيض ناصع كالثلج ، ابن أحد الضيوف كان بالطريق ، يمشي بالوحل ، وصعد إلى الكنبة بحذائه ، والأب مرتاح ، أين الأدب ؟ الابن الراقي وراءه أب راقٍ ، أم راقية ، تربية الأولاد بطولة .
أيها الأخوة ، نحن هذا الدرس بالأساس في أدب الطعام ، لكن لابدّ من حديث دقيق وتمهيدي عن موضوع الآداب وعلاقتها بالتعليم ، وعلاقتها بالصبغة ، وعلاقتها بالذكاء ، هناك آداب الآن آداب الغرب آداب ذكاء ، أما حينما تنقطع المصالح يصبح الغرب متوحشاً هذه خارج كل حساباتنا ، أما آداب الصبغة هي أرقى الحسابات ، آداب التعليم لابدّ منها ، يعني يمشي الابن أمام أبيه ، امشِ وراءه ، لا تجلس قبله ، لا تناديه باسمه .
مرة دخلنا لنرى بيتاً طفل عمره عشر سنوات ، مضجع ، ورجل فوق رجل يتابع مسلسلاً ، دخل أبوه هو والضيوف وما تحرك .
روي أن سيدنا أبا حنيفة النعمان رحمه الله تعالى كان معه آلام برجله فمد رجله ، طبعاً المعذور لا يوجد عليه إشكال إطلاقاً ، أما النبي الكريم ما رؤي ماداً رجليه قط إطلاقاً ، أما هو معذور ، فدخل إنسان طويل القامة ، عريض المنكبين ، يرتدي عمامة ، فاستحيا أبو حنيفة فرفع رجله إكراماً له ، فالدرس كان عن صلاة الفجر ، درس طويل ، فلما انتهى الدرس سألوا هذا العالم الجليل كيف نصلي الصبح إذا طلعت الشمس قبل الفجر ؟ قال له : عندئذٍ يمد أبو حنيفة رجله .
أحياناً سؤال غير مدروس ، سؤال محرج ، سؤال وقح ، سؤال في جهل كبير وأحياناً جلسة غير لائقة .
مرة حدثني أخ قال لي : كان بجامع شخص جالس على الحائط مرتاح لا يوجد مشكلة ، بعدها أصبح مضطجعاً ، درس علم ، بعدها نام .
في آداب المساجد ، آداب البيوت ، آداب الجلوس ، آداب اللباس ، بعض الأسر سامحهم الله تجد الشاب بالألبسة الداخلية أمام أخوته البنات ، والبنت بثياب نوم شفافة أمام أخوها ، لا ، هذا شيء لا يجوز إطلاقاً .
لذلك الآداب جزء من الإسلام كبير جداً ، الطفل المؤدب واضح من كلامه ، من أدبه ، من استئذانه ، لا يدخل فوراً ، لا يستخدم شيئاً من دون إذن .
فأرجو الله سبحانه وتعالى أن نبدأ في الدرس القادم الحديث عن آداب الطعام لأن الطعام يومي ، في اليوم ثلاث وجبات ، إذا في اهتمام ، أكل مما يليه ، أكل بيمينه ، سمى الله ، حمد الله ، معنى البسملة(1/230)
، كيف أن يبقي لأخيه طعاماً، كيف يختار الفاكهة الأقل ، أحياناً تنازع بين الصغار على أخذ الفاكهة الأكبر ، لا ، بالعكس نعمل تنازع على الموآثرة ، في موضوعات لطيفة جداً إن شاء الله في الدرس القادم نتحدث عنها .
================== ... ... ... ...(1/231)
25 ـ التربية الاجتماعية 6 ـ آداب الطعام عند الصغار والكبار
أيها الأخوة الكرام ، مع الدرس الخامس والعشرين من دروس تربية الأولاد في الإسلام ، ولا زلنا في التربية الاجتماعية .
وقد تحدثت في درس سابق عن آداب الطعام ، وسأتابع هذا الموضوع في هذا الدرس إن شاء الله .
أولاً مما هو ثابت أن الإسلام عقيدة ، وعبادة ، ومعاملات ، وآداب ، إن صحت العقيدة صحت العبادات ، وصحت المعاملات ، ولابدّ من آداب تزين هذه العبادة ، أي موضوع في الدين يصنف مع العقائد ، أو مع العبادات ، أو مع المعاملات ، أو مع الآداب ، ونحن في آداب الطعام مع القسم الرابع من أبواب هذا الدين العظيم .
1 ـ غسل اليدين والفم قبل الطعام و بعده :
ورد في بعض الأحاديث أن :
(( بركة الطعام الوُضُوء قبلَه ، والوضوء بعدَه )) .
[أخرجه أبو داود والترمذي عن سلمان الفارسي ] .
وقد أشار شُراح الحديث إلى أن الوضوء هنا لا يعني وضوء الصلاة ، ولكن يعني غسل اليدين والفم قبل الطعام ، فالإنسان يمسك بيده شيئاً ملوثاً ، قد يمسك بيده حذاءه أحياناً ، قد يضع يده على شيء غير طاهر فيه غبار ، فحينما يغسل يديه قبل الطعام معنى ذلك أنه ضمن ألا تنتقل بعض الجراثيم إلى طعامه .
ولا تنسوا أيها الأخوة أن أمراض القذارة في الأرض ضحاياها يزيدون عن ثلاثمئة مليون ، هذا إحصاء منظمة الصحة العالمية ، ثلاثمئة مليون في الأرض مصابون بأمراض القذارة ، وهذا الدين العظيم أمرنا أن نغسل أيدينا جيداً ، وفمنا جيداً ، الإنسان يمشي في الطريق هناك غبار ، هناك دخان عوادم سيارات ، يمسك شيئاً غير طاهر ، يصافح إنساناً يده ملوثة فرضاً ، يستخدم حذاءه ، يمسك حذاءه ، فهذه اليد أمسكت أشياء كثيرة ، فمن أجل ألا يدخل إلى جوف الإنسان الجراثيم ينبغي أن يغسل يديه قبل الطعام ، وبعد الطعام ، قبل الطعام ضماناً لعدم انتقال الجراثيم ، وبعد الطعام تنقية لليد من آثار الطعام والفم كذلك ، هذا من توجيهات النبي عليه الصلاة والسلام .
وهناك حديث آخر :
(( مَنْ أَحَبَّ أَنْ يُكْثِرَ اللَّهُ خَيْرَ بَيْتِهِ فَلْيَتَوَضَّأْ إِذَا حَضَرَ غَدَاؤُهُ وَإِذَا رُفِعَ )) .
[ أخرجه ابن ماجه عن أنس بن مالك ] .
لذلك بفضل هذا الدين العظيم أمراض كثيرة جداً العالم الإسلامي معافى منها بفضل آداب الإسلام .
2 ـ ذكر اسم الله عز وجل على الطعام قبل أكله :
يوجد شيء آخر :(1/232)
(( فإذا أكل أحدكم طعاماً فليذكر اسم الله عليه )) .
[أخرجه أبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه والدرامي وابن حبان عن عائشة أم المؤمنين ] .
لماذا ؟ قبل أن تأكل تقول بسم الله الرحمن الرحيم ، هذا الطعام من صنعه ؟ هذا الحليب فضل من ؟
* وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ * .
( سورة النحل الآية 5 ) .
الحليب ، ومشتقاته الحليب ، والألبان ، والأجبان ، والسمون ، هذه المادة الأساسية الأولى ، هذه البقرة من خلقها ؟ معمل صامت ، مذللة ، فإذا جنت البقرة تُقتل فوراً ، قال تعالى :
* وَذَلَّلْنَاهَا لَهُمْ * .
( سورة يس الآية : 72 ) .
أعرف أخاً عنده بقرة في ريف دمشق أصابها الجنون ، قتلت أول إنسان وكادت تقتل الثاني ، فما كان منه إلا أن أطلق عليها النار ، من ذللها ؟ هذه الغدة الثدية في البقرة تأخذ من الأوعية الدموية التي تجول فوقها مواد دقيقة جداً ، بروتين ، وشحوم ، وسكريات ، ومعادن وأشباه معادن ، يرشح من هذه الخلية الحليب ، وحتى هذه الساعة لا أحدة يعلم آلية صنع الحليب ، إلا أن الثابت أن كل أربعمئة حجم من الدم يصنعوا حجم حليب واحد ، يعني لتر الحليب يقابله أربعمئة لتر من الدم يجري فوق الغدد الثدية في البقرة ، غذاء كامل ، الذي خلق الإنسان ، وخلق أجهزته ، هو الذي خلق الأنعام ، * وَذَلَّلْنَاهَا لَهُمْ * ، * وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ * ، فإذا قلت بسم الله الرحمن الرحيم أكلت خبزاً ، أيضاً القمح غذاء كامل ، أكلت من مشتقات الألبان ، أكلت لحماً ، كلما تفكرت في هذا الطعام ، وكيف أنك لم تدفع ثمنه أبداً ماذا دفعت ؟ دفعت ثمن خدمته فقط ، كل شيء تشتريه من السوق هو ثمن خدمته ، أما لو أن أهل الأرض اجتمعوا على أن يصنعوا تفاحة لا يستطيعون ، شجرة تسقيها أنت وتسمدها وانتهى الأمر ، هناك بعض الأشجار تعطي خمسين لستين صندوق تفاح ، شكل ، ولون وطعم ، ورائحة ، وقوام ، وجمال ، وفائدة ، تصميم من ؟.
1 ـ أن تذكر أن هذه النعمة من صنع الله عز وجل :
فأنت إذا أكلت وقلت بسم الله ، أي أن هذا الطعام الذي آكله هو من صنع الله ، من فضل الله ، من كرم الله ، من عطاء الله ، من تفضل الله علينا .
المعنى الثاني للبسملة البسملة فيها معنيان ، الأول : أن تذكر هذه النعمة التي تأكلها ، وأن أموال الأرض لا تكفي لصنع تفاحة واحدة ، تجد جبالاً بأسواق الخضراوات ، جبال من الفواكه ، من الحمضيات ، من البطاطا ، من الخضراوات ، من صممها ؟ من صمم أن البذرة تنبت الثمرة ؟ لو ما في بزار تزرع الشيء مرة واحدة وانتهى الأمر ، فكرة البذرة من صممها ؟ الله جلّ جلاله ، البندورة(1/233)
: خمس غرامات من البزار تعطي في بلادنا خمسة طن و تعطي في البلاد الأخرى خمسة و عشرين طناً ، كم ضعف ؟ هذا من فضل الله علينا .
فالبسملة أن تفكر من صمم هذه الخضراوات ؟ هذه الفواكه ؟ مشتقات الألبان ؟ اللحوم ؟ القمح ؟ الشعير ؟ الحمص ؟ العدس ؟ بسم الله الرحمن الرحيم ، يا رب لك الحمد .
2 ـ الأكل وفق توجيهات النبي الكريم :
المعنى الآخر للبسملة أن تأكل وفق توجيهات النبي ، فأي شيء تبدأه بالبسملة يعني أن تلتفت إلى المنعم ، وأن تطبق منهج المنعم في استعمال هذه النعمة ، هذه البسملة .
أيها الأخوة ، كما قال عليه الصلاة والسلام :
(( فإذا أكل أحدكم طعاماً فليذكر اسم الله عليه فإن نسي في أوله فليقل بسم الله أوله وآخره )) .
[أخرجه أبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه والدرامي وابن حبان عن عائشة أم المؤمنين ] .
فالبسملة أن تلتفت إلى المنعم ، أو أن تنتقل من النعمة التي أمامك إلى المنعم ، والبسملة أن تستخدم هذه النعمة وفق توجيهات المنعم .
(( بِحَسْب ابن آدم لُقَيْمَات يُقِمنَ صُلْبَه )) .
[ أخرجه الترمذي عن المقدام بن معد يكرب ] .
3 ـ من آداب الطعام أيضاً حمد الله عز وجل على نعمه :
إلى آخر التوجيهات النبوية في تناول الطعام والشراب ، أكلت وشبعت ، وشربت فارتويت ، كان عليه الصلاة والسلام إذا أكل أو شرب يقول :
(( الحمد لله الذي أطعَمنا فأشبعنا ، وسقانا فأروانا )) .
[ شعب الإيمان عن أنس بن مالك] .
كأس الماء لا تعرف قيمته إلا إذا فقدته ، مرة خليفة طلب كأساً من الماء فقال له وزيره : يا أمير المؤمنين بكم تشتري هذا الكأس إذا منع منك ؟ قال : بنصف ملكي قال : فإذا منع إخراجه ؟ قال : بنصف ملكي الآخر .
فأنت مفتقر إلى كأس الماء ، فلذلك من آداب المسلم أن هذه النعمة يحفظها الوضوء قبل الطعام أي غسل اليدين والفم ، والوضوء بعد الطعام أي غسل اليدين والفم ، وأن تبدأ طعامك بالتسمية ، ومعنى التسمية أن تلتفت إلى المنعم ، وأن تستخدم هذه النعمة وفق توجيهات المنعم ، فإذا انتهيت من الطعام فقل الحمد لله الذي أطعمنا وسقانا ، أو الحمد لله الذي أطعمنا فأشبعنا ، وسقانا وأروانا ، وجعلنا مسلمين .
لذلك ورد أن الأكل في الطريق دناءة ، عندنا موضوع متعلق بالمروءة ، يقول عليه الصلاة والسلام :(1/234)
(( من عامل الناس فلم يظلمهم ، وحدثهم فلم يكذبهم ، ووعدهم فلم يخلفهم فهو ممن كملت مروءته ، وظهرت عدالته ، ووجبت أخوته ، وحرمت غيبته )) .
[ مسند الشهاب عن الحسين بن علي ] .
أما إذا عاملهم فظلمهم ، وحدثهم فكذبهم ، ووعدهم فاخلفهم ، سقطت مروءته ، لكن هناك حالة أخرى ، أكل في الطريق ، جُرحت عدالته لم تسقط لكنها جُرحت ، تنزه في الطرقات ، ورأى الكاسيات العاريات ، جُرحت عدالته ، أكل لقمة من حرام ، لا ينوي أن يشتري ، أخذ حبة من الفاكهة بنية أن يتذوقها ليشتري ، أكلها وسار ، أكل لقمة من حرام جُرحت عدالته ، طفف بتمرة ، لم يقدم الوزن الدقيق جُرحت عدالته ، علا صياحه في البيت جُرحت عدالته ، كان حديثه عن النساء ، هذه جميلة ، وهذه غير جميلة ، جُرحت عدالته ، قاد جرذوناً ، يعني كلب عقور ، أو حيوان مخيف يخيف الصغار به جُرحت عدالته ، أطلق لفرسه العنان ، أسرع بالسيارة سرعة غير معقولة ، جُرحت عدالته ، موضوع طويل عد الفقهاء ثلاثة و ثلاثين سلوكاً يجرح العدالة .
لذلك الأكل في الطريق يجرح العدالة ، والبول في الطريق يجرح العدالة ، وأن تمشي حافياً يجرح العدالة ، وأن تصحب الأراذل تجرح عدالتك .
4 ـ عدم ذم الطعام أو مدحه :
من آداب الطعام ألا تذم الطعام ، في أشخاص ، الملح زائد ، لابد من أن يعلق تعليقاً سلبياً على الطعام ، ليظهر خبرته في تذوق الطعام ، هذا ليس من الأدب ، إنسان دعاك إلى طعام قدم لك أحسن ما عنده ، أما أن تنتقد الطعام هذا من سوء الأدب ، كان عليه الصلاة والسلام إذا أحب طعاماً أكله ، وإذا ما يحبه تركه ، ما عاب طعاماً قط ، إذا اشتهاه أكله ، وإذا كرهه تركه ، انتهى الأمر .
في صفة أخرى من صفات النبي ما عاب طعاماً ، ولا مدحه ، هناك أشخاص أكلت أكلة ما أكلت مثلها بحياتي ، يعني هؤلاء الحاضرون ما علاقتهم بهذا الذي حدث أكلتها لوحدك ، لو أطعمتهم منها معقول أن تمدحها ، لذلك ما عاب طعاماً قط ، ولا مدحه .
لكن بالمناسبة لو شخص دعاك إلى طعام قال لك : إن شاء الله سررت ؟ يجب أن تمدح الطعام ، أدباً مع المُضيف ، شخص سألك عن مستوى الطعام يجب أن تمدحه جبراً لخاطره ، أما من دون سبب أن تمدح الطعام ، أو أن تذمه هذا ليس من آداب النبي عليه الصلاة والسلام .
لذلك قالوا : تعس عبد البطن ، تعس عبد الفرج ، تعس عبد الخميصة ، عبد بطنه يمدح الطعام ويذمه ، وعبد الخميصة عبد ثيابه ، وعبد فرجه عبد الجنس ، تعس عبد البطن ، تعس عبد الفرج ، تعس عبد الخميصة ، وتعس عبد الدرهم والدينار ، هؤلاء عبيد .
الآن الآباء والأمهات لهم مهمة كبيرة جداً في آداب الطعام ، تصور طفل طائش ما تلقى توجيهات من أهله ، دُعي إلى طعام مع أهله ، في أكلات فيها قطع لحم ، وفيها شيء آخر ، أكل اللحم فقط ،(1/235)
أكل نصف اللحم الذي في الطبق وحده ، ووالده ليس منتبهاً ، أنا أعد هذا خطأ فاحشاً ، يا بني كل مما يليك ، كُلْ الخبز مع الطعام ، كُلْ باعتدال ، يجب أن يرى الناس الأدب في ابنك ، هذا من تأديبك له .
فلذلك النبي عليه الصلاة والسلام قال :
(( كنتُ غُلاما في حجْرِ رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وكانت يَدي تطيشُ في الصحفَة ، فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم : ياغلامُ ، سَمَّ اللَّه ، وكلْ بيمينك ، وكلْ مما يلَيك )) .
[مسلم عن عمر بن أبي سلمة] .
هذا من توجيهات النبي صلى الله عليه وسلم :
(( ياغلامُ ، سَمَّ اللَّه ، وكلْ بيمينك ، وكلْ مما يلَيك )) .
5 ـ ألا تأكل متكئاً :
ومن آداب الطعام ألا تأكل متكئاً ، الاتكاء فيه كبر ، وبعضهم قال : فيه ضرر صحي ، وقد ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم :
(( أمَّا أنا فلا آكل مُتَّكئا )) .
[أخرجه البخاري وأبو داود والترمذي عن أبي جحيفة ] .
هناك رجل في عهد النبي صلى الله عليه وسلم اسمه زيد الخير ، كان اسمه زيد الخيل ، كان من أجمل العرب ، دخل على النبي صلى الله عليه وسلم فلفت نظره جميل جداً فلما انتهى من خطبته قال من أنت ؟ قال : أنا زيد الخيل ، فقال عليه الصلاة والسلام : بل زيد الخير ، وأخذه إلى بيته تكريماً له ، وقال له : يا زيد ما وصف لي رجل فرأيته إلا رأيته دون ما وصف إلا أنت يا زيد ، رآه فوق ما وصف له ، النتيجة وهو جالس في بيت النبي عليه الصلاة والسلام ، قدم له وسادة ليتكئ عليها ، هو حديث عهد في الإسلام فقال هذا الإنسان العظيم ، قال : والله يا رسول الله لا أتكئ في حضرتك .
الاتكاء في حضرة النبي من سوء الأدب ، والله يا رسول الله لا أتكئ في حضرتك ، فقال عليه الصلاة والسلام : لله درك ، أي رجل أنت ؟! والقصة طويلة ، مكث عنده أياماً ثلاثة ثم غادر إلى أهله وافته المنية في الطريق ، يعني إسلامه بضعة أيام ، وكان عليه الصلاة والسلام معجباً به .
6 ـ الحديث أثناء الطعام :
الآن من آداب الطعام ، الحديث أثناء الطعام ، أنا أتمنى على الأخ الكريم أن يجمع أولاده وزوجته على وجبة طعام واحدة الحد الأدنى ، وجلسة طعام جلسة حديث ، جلسة مسامرة ، جلسة تأليف قلب ، ابنك أمامك اسأله عن مدرسته ، ماذا قال لكم الأستاذ اليوم ؟ زوجتك أمامك اسألها عن بعض المشكلات ، كنتِ عند بيت أهلي إن شاء الله سُررت بالذهاب ؟ هذا الحديث الممتع أثناء الطعام من لوازم آداب الطعام ، هذا شيء أنا أسميه حضارة ، يأكل ويقوم ، أما في إنسان يجلس يسمي الله عز(1/236)
وجل ، يتبسم ، يحادث أهله ، فهذه الوجبة ينبغي أن تكون وجبة أساسية ، الطعام ثلاث وجبات ، أو وجبتان ، أما لابدّ من وجبة أساسية يكون فيها حديث .
أنا سافرت لبلاد كثيرة أكثر شيء بألمانيا الوجبة ثلاث ساعات عندهم الطعام اجتماع ، حديث ، الطعام قليل جداً والحديث طويل .
على كلٍ لا بد من حديث ، تأليف قلوب ، طرفة ، مداعبة ، ابتسامة ، مزاح لطيف مع الطعام ، بعض العلماء قال : هذا يعين على الهضم .
وقد روى مسلم عن جابر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم :
(( سألَ أهلَه الإدامَ ؟ فقالوا : ما عندنا إلا اَلخلُّ ، فدعا به ، فجعل يأكل به ويقول : نِعْمَ الإدامُ الخلُّ )) .
[مسلم عن جابر] .
قد تفهمون هذا النص على أنه من آداب النبي ، تواضعه ، لكن بعض العلماء قال : بالخل فوائد لا يعلمها إلا الله ، يُحمل هذا النص على معنى آخر ، أن الخل أعلى مادة مذيبة ، فأخطر شيء يصيب الإنسان الكولسترول ، تصلب الشرايين ، تضيق الشرايين ، فالخل إذا استخدمته يومياً ولا سيما خل التفاح هذا أكبر علاج إلى تضخم الشرايين وانسدادها ، وتصلبها ، ينصح باستخدام الخل بشكل يومي ، هذا من قول النبي الكريم : نِعْمَ الإدامُ الخلُّ .
وقد صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه كان يتحدث إلى أصحابه وهو يأكل على المائدة في أكثر من مناسبة ، هذا من أدب النبي عليه الصلاة والسلام .
7 ـ استئذان صاحب البيت إن دعوت إنساناً إلى الطعام :
ومن آداب النبي الكريم إنسان دعاك إلى طعام معك شخص يمشي معك فكان عليه الصلاة والسلام يقول : هذا تبعنا ، إن شئت دخل ، وإن شئت رجع ، إنسان عزم ثمانية أشخاص عنده غرفة طعام فيها 8 كراسي فقط ، التاسع ليس له محل ، فمن الأدب إذا معك إنسان لم يُدعَ إلى الطعام أن تستأذن له صاحب البيت ، فإذا اعتذر لا حياء في الدين ، وإذا قبل شيء جيد .
8 ـ الدعوة لصاحب البيت :
لذلك من آداب الطعام إذا كنت في دعوة أن تدعو لصاحب البيت ، تقول : أكل طعامكم الأبرار ، وصلت عليكم الملائكة الأخيار ، وأفطر عندكم الصائمون ، وذكركم الله فيمن عنده ، اللهم أطعم من أطعمنا ، واسقِ من سقانا ، وأكرم من أكرمنا ، الله أكرم أهل هذا البيت ، احفظ لهم إيمانهم ، احفظ لهم صحتهم ، احفظ لهم أولادهم ، وأهلهم ...
مرة عالم من العلماء دُعي إلى طعام ودعا بهذا الدعاء النبوي الشريف ، شاب أفقه ضيق جداً قال له : يا سيدي آخر فقرة في الدعاء لم تصح عن رسول الله ، وذكركم الله فيمن عنده ، فالشيخ ذكي جداً(1/237)
، قال له : بارك الله بك يا بني ، إذاً نعيد الدعاء ، قال : أكل طعامكم الأبرار ، وصلت عليكم الملائكة الأخيار ، وأفطر عندكم الصائمون ، ولولا شيخه لذكركم الله فيمن عنده .
إذاً من الآداب أن تدعو لصاحب الطعام ، حتى إن النبي عليه الصلاة والسلام يقول : يشترك في أجر المأدُبة ثلاثة صاحب البيت ، وأهله ، وأولاده ، صاحب البيت الذي دفع ثمن الطعام ، والأولاد جلبوا الطعام ، ووضعوا الخوان ، والأهل طبخوا الطعام ، ما نسي النبي أحداً صاحب البيت ، وأهله ، وأولاده .
9 ـ اجتماع الجميع على الطعام :
الآن من آداب الطعام ، طلاب مع أستاذهم ، أولاد مع والدهم ، ينبغي ألا يأكل أحد الأولاد قبل أن يأكل الأب ، لما الأب يبدأ الأولاد يأكلون ، هذا من آداب الطعام .
أحياناً في النزهات ، في الرحلات ، الذي يحصل إنسان يكلف ببعض الأطباق ، إنسان كلف بجلب الخبز ، يوضع الطعام ، ويجلس غير المكلفين ويأكلون ، وعدد كبير لم يأتِ بعد ، أنا أتمنى في أي دعوة ، برحلة ، بسفر ، لا يأكل أحد الطعام قبل أن يجتمع الجميع على المائدة ، أعرف هذا جيداً من بعض النزهات ، ممنوع أحد يأكل ، حتى يجلس كل من في هذه النزهة ويأخذ مكانه نقول : بسم الله ، هذا أيضاً من آداب الطعام .
10 ـ غسل اليدين جيداً قبل الطعام :
أيها الأخوة ، الحقيقة الطعام نشاط يومي ، كل يوم فيه ثلاث وجبات ، آداب الطعام من أوسع الآداب يمكن أن نتعلم منها الشيء الكثير ، والنبي عليه الصلاة والسلام حينما سُئل ما هذا الأدب يا رسول الله ؟ قال :
(( أدبني ربي فأحسن تأديبي )) .
[ابن السمعانى فى أدب الإملاء عن ابن مسعود] .
طبعاً آدابه كلها من توفيق الله عز وجل .
وكان عليه الصلاة والسلام إذا أكل طعاماً لعق أصابعه الثلاث ، يعني الإنسان متى يسمح لنفسه أن يضع إصبعه في فمه ؟ إذا كانت مغسولة جيداً قبل الطعام ، عفواً بالوضوء من الحكم الاستنشاق ، والاستنثار ، والمضمضة ، هذا الماء الذي سوف تتوضأ منه هل تستسيغ أن تضعه في فمك ، أو في أنفك ؟ لو أنه ماء فاسد له طعم ، له لون ، له رائحة ، لا تستطيع أن تضعه في فمك ، ولا في أنفك ، وكأن استنشاق الماء قبل الوضوء والمضمضة تأكيد على سلامة الماء من أن يكون فاسداً ، كذلك لما النبي الكريم يلعق أصابعه الثلاث بعد الطعام معنى ذلك أنت متأكد أنك غسلت يديك جيداً قبل الطعام .
11 ـ عدم إلقاء الطعام و العناية به :(1/238)
أيها الأخوة :
(( إذا سقطت لُقمةُ أحدِكم فليُمِطْ عنها الأذى ، وليأكلْها ، ولا يدْعها للشيطان )) .
[أخرجه مسلم وأبو داود والترمذي عن أنس بن مالك ] .
وهذا من أدب الشيطان أيضاً ، والله يا أخوان أنا التقيت في عدة مناسبات الطعام كثير جداً ، والمدعوون لم يأكلوا خمسه ، في اليوم التالي علمت أن صاحب هذه الوليمة وضع هذا الطعام في علب بشكل جيد ، وأعطي لبعض المياتم ، وأكل الأيتام هذا الطعام لعشرة أيام ، فأنت ما في مانع كن كريماً ، لكن أنا لا أسمح أن تهمل لقمة واحدة ، أنا الآن أسعد بهذه الأخبار ، صار عندنا جمعيات تبلغها أنه عندي وليمة ، يأتون بعد الوليمة يأخذون بقايا الطعام ، يصلحونها باللحم ، وما شاكل ذلك ، توضع في علب فردية ، أو ثنائية ، أو جماعية تقدم للفقراء ، يا عائشة :
(( أحسنوا جوار نعم الله لا تنفروها ، فقلما زالت عن قوم فعادت إليهم )) .
[أخرجه أبو يعلى عن أنس بن مالك ] .
أما هذا الذي يلقي بالطعام في القمامة هذا عمل فيه استهتار واستخفاف بنعمة الله عز وجل .
أنا أتمنى ، أحياناً يكون هناك طعام زائد ، والنفس تعافه ، والله أعرف أناساً يوضع في نافذة المطبخ ، تأتي الطيور وتأكله بنهم ، العبرة ألا تذهب ذرة طعام واحدة سُدى ، في أسطحة أحياناً أي طعام زاد عن حاجة الأهل يوضع على السطح تأكله الطيور لا يبقَ منه شيء ، هناك من يستمتع في إطعام الطيور ، هذه النعمة التي أنعم الله بها علينا ينبغي أن نعتني بها عناية فائقة ، ثم إن الطعام :
(( بِحَسْب ابن آدم لُقَيْمَات يُقِمنَ صُلْبَه ، فإن كان لا مَحَالةَ : فَثُلُث لطَعَامِه ، وثُلث لشرابِهِ ، وثُلُث لنَفَسِه )) .[ أخرجه الترمذي المقدام بن معد يكرب ] .
(( ما ملأ آدمي وعاء شراً من بطنه )) .[أخرجه الحاكم عن المقدام بن معد يكرب ] .
والبطنة تذهب الفطنة .
أيها الأخوة ، كنت أتمنى أن أتابع هذا الدرس ، وفي درس آخر إن شاء الله ننتقل إلى آداب الشراب ، هذا نشاط يومي ، هو لنا ولأولادنا نتعلم ونعلم ونوجه ، أحياناً تجد ابناً تربيته عالية جداً إذا دُعي إلى طعام جلس بأدب ، جلس قائماً ، أكل مما يليه ، سمى الله ، حمد الله ، شيء جميل جداً ، المؤمن شخصية فذة ، مؤدب جداً ، والأدب تماماً كيف البناء على الهيكل الأدب كسوة لهذا البناء ، تجد صار في رخام ، طلاء ، ثريات ، أثاث ، شيء جميل جداً البناء بعد الكسوة ، وبعد التأثيث ، فالآداب تأتي على شكل الزينة لهذا البيت .
================= ... ... ... ...(1/239)
26 ـ التربية الاجتماعية 7 ـ آداب الشراب ـ وأهمية الماء للإنسان
أيها الأخوة الكرام ، مع الدرس السادس والعشرين من دروس تربية الأولاد في الإسلام ، ولا زلنا في التربية الاجتماعية ، بل ولا زلنا في آداب الطعام والشراب .
ننتقل اليوم إلى آداب الشراب ، وقبل الحديث عن آداب الشراب ينبغي أن نعلم علم اليقين أن الحياة على وجه الأرض حياة الإنسان وحياة الحيوان وحياة النبات قوامها الماء.
* وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ * .
( سورة الأنبياء الآية : 30 ) .
الماء هو الوسيط الوحيد الذي يحمل الأملاح والمواد الغذائية المنحلة فيه إلى الكائن الحي ، الماء وسيط ، هل تصدقون أنه يهطل على سطح الأرض كل ثانية ستة عشر مليون طن من الماء ، بكل ثانية على مدار العام .
والنبي عليه الصلاة والسلام من أدلة نبوته أنه قال :
(( ما من عام أمطر من عام )) .
[أخرجه الحاكم عن عبد الله بن عباس ] .
مجموع التهطال على مستوى الأرض ثابت لا يتغير ، لكنه يوزع كل عام توزيعاً خاصاً ، ففي بعض الأعوام يعاني الشرق الأوسط من الجفاف ، وفي بعض الأعوام تعاني إفريقية من الجفاف ، في أعوام أوربة ، لكن :
(( ما من عام أمطر من عام )) .
بعد أن قاسوا كمية الأمطار على مستوى الأقطار تبين أن التهطال السنوي ثابت لا يتغير ، والماء يشكل 70% من مساحة اليابسة و70 % من وزن الإنسان .
أيها الأخوة ، الماء له دور خطير بتغيير سطح الأرض من البنية الصخرية إلى البنية الترابية ، لأن الماء إذا تغلغل في باطن الأرض ثم تجمد لا يوجد قوة في الأرض تقف أمام تمدده ، فإذا تمدد فتت الصخور ، وكل هذه الترب في الأرض التي نزرعها أساسها صخر ، لكن الماء بتجمده وتمدده فتت الصخور .
أخوانا الكرام ، هل تصدقون أن حياتنا جميعاً من آدم إلى يوم القيامة ، وأن حياة الحيوانات جميعاً ، وحياة النباتات جميعاً ، متوقفة على خصيصة من خصائص الماء ، الماء ينفرد بخاصة لا يشبهه بهذه الخاصة أي عنصر في الأرض ، أي شيء في الكون إذا سخناه تمدد ، حتى الصخور ، وإذا بردناه تقلص .
لماذا يضعون فواصل تمدد ؟ في جميع الأبنية يضعون فراغات تسمى فواصل تمدد ، لأن الحجر في الصيف يتمدد ، وكل شيء في الأرض إذا بردناه يتقلص ، إلا الماء ، شأنه شأن أي عنصر ، لتر ماء حرارته 40 ، بردناه إلى خمس و ثلاثين ، انكمش ، 30 ـ 25 ـ 20 ـ 15 ـ 10 ـ 5 ـ 4(1/240)
ـ تنعكس الآية ، يتمدد ، ينفرد الماء من بين كل عناصر الأرض أنه في الدرجة زائد أربعة ، تنعكس آليته من التقلص إلى التمدد ، لو أنه تابع التقلص لقلّ حجمه وزاد وزنه ، أي زادت كثافته ، أي قطع الثلج غاصت إلى أعماق البحر ، وفي كل عام تغوص كتل كبيرة ، بعد حين تتجمد البحار ، ينعدم التبخر ، تنعدم الأمطار ، يموت النبات ، يموت الحيوان ، يموت الإنسان ، حياتنا جميعاً متوقفة على هذه الخاصة في الماء .
* وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ * ، * وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ * بوجوده ، * وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ * بخصائصه ، لا لون له ، ولا طعم له ، ولا رائحة ، يتبخر في الدرجة 14 ، ويتمدد .
لو أن محركاً للسيارة مصنوع من خلائط معدنية قاسية جداً ، وفي ماء في الشتاء إن لم يكن مع الماء مادة مضادة للتجمد يشق المحرك .
لذلك أحدث طريقة لاقتلاع الرخام حفر ثقوب طويلة ، إملاؤها بالماء ، تبريد الماء تجد مكعباً مساحته متر بمتر ، أزيح من الجبل عن طريق تبريد الماء .
فكل أنواع الترب أساسها الماء ، * وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ * .
شيء آخر : عدد مرات كلمة الماء في القرآن 33 مرة ، واليابسة عدد يساوي خمس هذا العدد ، كمساحة اليابسة من البحر ، موضوع الماء موضوع طويل ، لكن أتمنى على الأخوة الكرام أن يجعلوا من هذا الموضوع أداة للتفكر .
الآيات الكونية التي يمكن أن نتفكر بها لا تعد ولا تحصى ، ولكن الله جل جلاله ذكر ألف و ثلاثمئة موضوع بالقرآن كونيات ، أنا أرى هذه الموضوعات الكونية هي منهج لنا للتفكر ، الماء أحد أكبر موضوعات التفكر ، وأنت بإمكانك أن تصل إلى الله من خلال التفكر في آيات التفكر بالله .
نحن تحدثنا سابقاً أن الإسلام عقيدة ، وعبادة ، ومعاملة ، وآداب ، عقائد وعبادات ، ومعاملات ، وآداب ، فهذه الدروس تربية الأولاد في الإسلام ، ولا سيما التربية الاجتماعية تنضوي تحت القسم الرابع من الآداب .
1 ـ التسمية قبل الشرب و حمد الله على هذه النعمة :
الآن يستحب أن تسمي قبل أن تشرب ، وقد ذكرت في اللقاء السابق أن معنى التسمية أن هذا الماء الذي أشربه من الذي جعله عذباً فراتاً بعد أن كان ملحاً أجاجاً ؟ .
في بعض البلاد النفطية يحلون الماء عن طريق معامل عملاقة ، معامل تحلية ، هل تصدقون أن كلفة تحلية اللتر من الماء أغلى من ثمن البنزين الآن ؟ كلفة تحلية اللتر من الماء المالح حتى يغدو ماءً عذباً ، يكلف أكثر من ثمن لتر البنزين ، وأسعار البنزين عالية جداً ، وهذا الماء المحلى لا يصلح للشرب ، لأنه ماء مقطر ما فيه معادن أبداً ، لا بد من خلطه بمياه الآبار ، مياه الآبار فيها معادن .(1/241)
إذاً إذا قلت بسم الله الرحمن الرحيم هذا الماء الذي كان ملحاً أجاجاً ، من جعله عذباً فراتاً ؟ بسم الله الرحمن الرحيم .
المعنى الآخر للتسمية ، ينبغي أن تشرب وفق منهج الله .
أن تشرب قاعداً لا واقفاً إلا في حالات خاصة ، في أثناء الطواف ، ازدحام شديد ، مستثنى الحاج أن يشرب واقفاً ، وأن تشرب على دفعات ثلاث ، سنأتي على آداب الشرب ، لكن كلمة بسم الله تعني أن تذكر نعمة الله عليك في هذا الماء .
والمعنى الآخر ، أن تذكر منهج الله استحباب التسمية ، وبعد التسمية الحمد لله .
يا أمير المؤمنين بكم تشتري هذا الكأس من الماء إذا منع منك ؟ قال : بنصف ملكي ، قال : فإذا منع إخراجه ؟ قال : بنصف ملكي الآخر .
المؤمن يخترق النعمة إلى المنعم ، يعني أيضاً في هذا البلد الطيب تفتح الصنبور ماء عذب فرات صالح للشرب ، معظم بلاد العالم مياه الصنابير ليست صالحة للشرب ، لابد من أن تشتري الماء ، هذه نعمة تنفرد بها هذه المدينة الطيبة .
التسمية والحمد ، والشرب ثلاثاً ، يعني يبدو أن هناك عصباً اسمه العصب الحائر أو العصب المبهم ، هذا العصب بين المعدة والقلب ، ففي حالات كثيرة ، أنا قرأت عن عشر حالات في العالم إنسان شرب الماء دفعة واحدة ، وكان الماء بارداً فمات من فوره ، لأن حرارته 37 والماء البارد واحد أو اثنان ، البرد المفاجئ الذي أصاب المعدة نبه هذا العصب الحائر أو المبهم المرتبط بالقلب ، في حالات سكتة قلبية عقب شرب الماء . لذلك الحديث :
(( مصوا الماء مصاً ، ولا تعبوه عباً فإن الكباد من العب )) .
[أخرجه أبو منصور الديلمي في مسند الفردوس من حديث انس بالشطر الأول ولأبي داود في المراسيل من رواية عطاء بن أبي رباح "إذا شربتم فاشربوا مصا"]
مص الماء مصاً ، اشربه على دفعات ثلاث ، بين الدفعتين أبن القدح عن فيك لأنه ثبت أن في الزفير قد تنتقل بعض الأمراض من إنسان إلى إنسان ، أن تبعد الكأس عن فمك بين الشربتين ، أن تسمي ، ومعنى التسمية ، أن تذكر نعمة الله عليك ، ومع التسمية أن تذكر منهج الله في الشرب ، ثم أن تحمد الله على هذا الكأس من الماء ، ثم أن تمص الماء مصاً ، وألا تعبه عباً ، ثم أن تشرب قاعداً ، ثم أن تبعد القدح عن فيك .
وقد قال عليه الصلاة والسلام :
(( لا تشربوا واحدا ، كشُرب البعير ، ولكن اشربوا مَثنى وثُلاث ، وسَمُّوا الله إذا أنتم شَربتم ، واحْمدوا الله إذا رَفعتم )) .
[أخرجه الترمذي عن عبد الله بن عباس ] .(1/242)
أريت إلى هذا الأدب ؟ كأس ماء ، بسم الله الرحمن الرحيم ، الحمد لله الذي سقانا فأروانا ، تسمية ، وحمد ، وقعود ، والشرب مثنى مثنى ، مثنى وثلاث ، وأبن القدح عن فيك ، من أجل ألا تنتقل بعض الأمراض من إنسان على آخر .
2 ـ عدم الشرب من القرب مباشرة :
ونهى النبي صلى الله عليه وسلم أن يشرب من السقاء أو القرب مباشرة ، أحياناً يكون هناك وعاء ماء ، يضعه على فمه ويشرب ، لعله وضع في هذا الإناء شيء مؤذٍ ، أما إذا صببت الماء في كأس ، الكأس ترى كل شيء فيه .
وليس من السنة أن تشرب مباشرة من القربة ، أو من السقاء ، والآن من الإبريق ، ليس من السنة أن تشرب مباشرة من السقاء ، أو القرب ، أو من وعاء الماء ، صب الماء في كأس ، هذا من السنة أيضاً .
3ـ كراهية النفخ في الشراب :
الأدب الثالث : كراهية النفخ في الشراب ، يشرب ويتنفس ، نفس طويل بالماء نفسه ، أبن القدح عن فيك ، كما قال عليه الصلاة والسلام :
(( فأبنِ القدحَ عن فيك )) .
[ أخرجه أبو داود والترمذي ومالك عن أبي سعيد الخدري ] .
والمعنى ألا يتنفس الإنسان في الإناء .
4 ـ استحباب الشرب والأكل في حال الجلوس :
الأدب الرابع : استحباب الشرب والأكل في حال الجلوس ، كل هذه التوجيهات فيما أذكر هناك أبحاث علمية تؤكد صوابها ، يعني الإنسان هو جالس هناك خصائص لشرب الماء ولتناول الطعام يبدو أن هذه الخصائص تكون أفضل للشارب والآكل مما لو كان واقفاً .
الآن في بعض المجتمعات المخملية ، يقول لك طعام مفتوح على الواقف ، هذا خلاف السنة ، كله واقف ماسك الصحن ويتمشى ، من السنة أن تأكل جالساً ، وأن تشرب جالساً .
لكن كتعليق ، مرة كنت في دعوة في بلاد بعيدة في أمريكا ، الأخ داعي أعتقد ثلاثين شخصاً على طعام ، والغرفة صغيرة ، في طاولة ، الطعام على الطاولة ، أنا عجبت كيف سنأكل ؟ الحياة بسيطة ، كل واحد أخذ صحن ملأه مما يشتهي ، وعاد إلى مكان جلوسه السابق .
نحن لما نعقد الحياة ، أنا أذكر مرة دُعيت إلى مدينة اسمها إنديانا في أمريكا بمركز إسلامي ، وجدت على الطاولة قريب من سبعين نوعاً من الطعام ، طعام من الطراز الأول ، و من رواد المركز الإسلامي يوجد رجال وزوجاتهم ، في صالون كبير للرجال وصالون كبير للنساء ، ومكان الطعام في الوسط ، كل شخص حمل صحنه ووضع فيه ما يشتهي وعاد إلى مكانه ، والنساء كذلك ، وبعد نهاية هذه(1/243)
الوليمة الرائعة تبين أن كل أخ كريم جاء بطبخة من بيته ، فلما انتهى الطعام أعاد الوعاء إلى المركبة ، ما أحد دفع قرشاً ، سبعون شخصاً تبرع كل واحد بنوع من الطعام ، طعام رائع ، والنساء أكلن مع بعضهن ، والرجال مع بعضهم ، وكل الأدوات بلاستيك ما في شيء اسمه غسيل ، ولا في دفع ، في أيام أشياء لطيفة جداً ، إنسان عمل طبخة واحدة وجاء بها ، أُكل خمسها ، أعادها إلى السيارة ، وأعادها إلى البيت .
أحياناً في أشياء لطيفة عند الآخرين أنا أحب أن أقتبسها منهم ، الإنسان عقله مفتوح .
نهى عليه الصلاة والسلام أن يشرب الرجل قائماً ، قال قتادة : قلنا لأنس : والأكل ! قال : ذلك أشر ، يعني إذا كان ممكن في حالات نادرة أن تشرب واقفاً الأكل ينبغي أن يكون قاعداً .
قال بعضهم : إذا كان النهي عن الشرب واقفاً فالنهي عن الأكل واقفاً أشد من الأول .
في رواية لمسلم :
(( لا يَشْرَبَنَّ أحد منكم قائما )) .
[ رواه مسلم عن أبي هريرة ] .
يعني كاستثناء النبي عليه الصلاة والسلام في بعض الحالات شرب قائماً ، في طريق ، في ازدحام ، في مكان مستحيل تجلس فيه أحياناً ، في مثل هذه الحالات الشرع مرن .
5 ـ النهي عن الشرب في آنية الذهب والفضة :
الأدب الخامس : النهي عن الشرب في آنية الذهب والفضة ، نريد أن نفرق بين آنية الذهب والفضة ، وبين الإناء المذهب و المفضض ، الفرق بينهما بالسعر ، لو أن الإناء من الذهب سعره يمكن ألف ضعف عن إناء مذهب ، يعني مطلي بطبقة رقية جداً من الذهب ، المذهب ما في حرج ، أما من الذهب الخالص فيه نهي قطعي ، النهي عن الشرب في آنية الذهب والفضة .
مرة قال لي شخص : والله في صنبور بثمن بيت ، صنبور ثمنه يعادل ثمن بيت صغير طبعاً ، في الأثر :
(( إنَّ الذي يشرب في آنية الذهب والفضة إنمَّا يُجَرْجِر في بطنه نار جهنم )) .
[أخرجه أبو يعلى عن عبد الله بن عباس ] .
يعني ليس ممنوعاً أن تأكل وأن تشرب ، وأن يكون بيتك أنيقاً ، وأن تكون أدواتك جميلة ، شيء طبيعي ، الله عز وجل جميل يحب الجمال ، وأنا أتمنى أن يكون مسحة جمالية في كل بيت ، ليس هذا ممنوعاً ، أما الترف ممنوع ، المترفون ورد ذكرهم في القرآن في ثماني آيات حصراً ، والمترفون في الآيات الثمانية كفار .
* وَكَذَّبُوا بِلِقَاءِ الْآَخِرَةِ وَأَتْرَفْنَاهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا * .
( سورة المؤمنون الآية : 33 ) .(1/244)
في الآيات الثمانية حصراً المترفون كفار ، كلْ واشرب ، واسكن بيتاً أنيقاً ، وجمل هذا البيت من دون مخيلة ، ومن دون إسراف .
لذلك قالوا : من دخل على الأغنياء ـ طبعاً غير المؤمنين ـ خرج من عندهم وهو على الله ساخط ، ما عنده شيء أمامهم .
(( يا عائشة إن أردت اللحوق بي فليكفك من الدنيا كزاد الراكب لا تستخلقي ثوباً حتى ترقعيه وإياك ومجالسة الأغنياء )) .
[أخرجه الحاكم عن عائشة أم المؤمنين ] .
إذا قلت الأغنياء في هذين الحديثين أعني بهما الأغنياء غير المؤمنين ، أما الغني المؤمن والله تشتهي الغنى منه من تواضعه ، من أدبه ، من كرمه ، من سخائه ، من خدمته للناس ، المال قوة ، المال قوة كبيرة ، وبإمكانك بالمال أن تصل إلى أعلى عليين ، بإنفاقه على الفقراء والمساكين ، وطلاب العالم ، ونشر الكتب المفيدة ، وتحقيق المصالح .
6 ـ النهي عن امتلاء المعدة بالأكل والشرب :
الأدب السادس : النهي عن امتلاء المعدة بالأكل والشرب ، بما روى الإمام أحمد والترمذي وغيرهما عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال :
(( ما ملأ آدمي وعاء شراً من بطنه حسب ابن آدم ثلاث أكلات يقمن صلبه فإن كان لا محالة فثلث لطعامه وثلث لشرابه وثلث لنفسه )) .
[ أحمد و الترمذي عن المقدام بن معدي كرب] .
طرفة لكن لها أساس علمي : لو شخص وَزَنَ الطعام الذي يأكله ، وجبة الصباح لها وزن ، والظهر وزن ، والمساء وزن ، الطعام ، والخضراوات ، والفواكه ، كل شيء ، أخذ الأوزان الثلاثة ، بشكل وسطي ، ضربها بثلاثين (بشهر) ، باثنتي عشرة (بسنة) ، لو فرضنا سيعيش ستين سنة ضرب وزن الوجبات الثلاث بما يساوي ستين عاماً ، بخرج رقم أنا ما حسبته 30 طن ، 40 طن ، تأكل قليل يطول عمرك ، تستهلكهم بسرعة يقصر عمرك ، هي طرفة لكن لها أساس علمي .
فالإنسان كلما كان معتدلاً في طعامه صحته تكون أعلى في الأعم الأغلب يكون عمره أطول ، أطول ليس معنى أن اعتداله في الطعام طوّل عمره ، لا العمر ثابت ، لكن الذي عمره طويل تجده يهتم بالطعام القليل ، والذي عمره قصير يأكل كثيراً .
أيها الأخوة ، الحقيقة هناك نقطة دقيقة أن هذا الإنسان له مستوى ، مستوى نفسي أحياناً يرقى مستواه إلى مستوى الشرع ، أحياناً يتباعد عنه ، أضرب بعض الأمثلة :
أحياناً إنسان قبل أن يتوب إلى الله يحب أغنية معينة ، بعد أن تاب إلى الله امتنع كلياً عن سماع هذه الأغنية ، ركب سيارة عامة ، والسائق واضع هذه الأغنية ، يطرب لها لكنه غير مؤاخذ ، والحديث :(1/245)
(( من استمتع إلى قينة )) .
[ ابن عساكر عن أنس ] .
الاستماع غير السماع ، تركب في سيارة إلى حلب ، أحياناً يفتحون المذياع على أغاني ، الراكب غير مؤاخذ ، هنا لم يكن مستمعاً بل سامعاً ، من استمع يعني جاء بمسجلة وضع الشريط وجلس يسمع ، أما سمع : يمشي بالطريق ، في محل تجاري ، يصدر منه غناء فهذا الذي تاب إلى الله توبة نصوحة ، وتاب عن سماع هذه الأغنية خوفاً من الله عز وجل لو ركب مركبة عامة وهذا الغناء ظهر قد يطرب ، لكن ليس مؤاخذاً ، صدقوا ولا أبالغ بعد حين ، بعد أن ترقى نفسه إلى الله عز وجل ، لو سمع هذه الأغنية مرة ثانية لخرج من جلده تقززاً ، ما الذي حصل ؟ دقق هنا ، ارتقت نفسه من مستوى الامتناع عن المعصية خوفاً من الله إلى مستوى السمو الذي يرقى به إلى مستوى الشرع .
لذلك ورد في بعض الآثار :
(( نعم العبد صهيب لو لم يخف الله لم يعصه )) .
حينما تتوافق النفس مع منهج الله ، قد يقول أحدكم : أضعف الجهاد ، طبعاً الجهاد ليس دائماً ، بالمرحلة الأولى بعد حين تسمو النفس ، يدع المعاصي تقززاً ، واشمئزازاً ، واحتقاراً ، لا خوفاً فقط ، هذه نقطة دقيقة جداً ، حتى الآداب ، ممكن أن تقوم بالآداب تقليداً لكن بعد حين يصبح الأدب جزءاً منك ، من دون وعي تكون أديباً ، في الطعام ، في الشراب ، في الاستئذان ، في اللقاء ، في الحديث ، في الزيارة ، في العيادة ، أنا أتمنى أن تشعر أنك ترقى ، دائماً المؤمن يتابع الترقي ، أما غير المؤمن يدافع التدني ، هو في صعود ، في مرحلة تدع المعاصي خوفاً من الله ، لكنها محببة إلى نفسك ، هناك حالات الإنسان بعد أن يتابع جهداً إيمانياً عالياً إذا نام يرى في المنام أنه في مكة المكرمة ، أو أمام قبر النبي مثلاً ، أو يعمل عملاً صالحاً ، أو يلتقي بعالم جليل ، يصبح عقله الباطن كعقله الظاهر .
لا سمح الله ولا قدر أحياناً الإنسان يرى في المنام أنه يرتكب معصية كبيرة جداً طبعاً لا يحاسب ، لكن هذا عقله الباطن لم يسمُ إلى مستوى الشرع ، عقله الباطن .
فهذه الآداب آداب نظرية لكن يمكن بعد حين ، بعد متابعة جهد إيماني ، وبعد اتصال بالله عميق أن ننتقل من معلومات نحفظها إلى سلوك ثابت نمارسه .
أخوانا الكرام ، هناك شيء دقيق ، لما الإنسان يعود نفسه يفكر فيما حوله ، الحديث عن الماء والطعام والشراب ، يعني ممكن يأكل الإنسان كما تأكل البهائم ، المؤمن يفكر في رغيف الخبز ، من صمم القمح ؟ كأس الماء ، كأس الحليب ، هذه البقرة معمل ، معمل حليب صامت ، الله قال :
* وَذَلَّلْنَاهَا لَهُمْ * .
( سورة يس الآية : 72 ) .(1/246)
الغدة الثدية بالبقرة كالقبة فوقها ، والغدة الثدية يجري فوقها الدم ، وتأخذ من الدم ما تحتاجه ، وحتى هذه الساعة لا يعلم أحد من علماء الطبيعيات والفيزيولوجيا كيف تتم صناعة الحليب في الغدة الثديية في البقرة ، أما الشيء الثابت أن أربعمئة حجم من الدم ينتج عنها حجماً من الحليب ، يعني كل لتر حليب ساهم في صنعه أربعمئة لتر من الدم ، الغدة الثدية كالقبة ، تقطر من داخلها قطرات الحليب ، ضرع البقرة فيه جدارين متعامدين ، لأن أربعين كيلو غرام يتمزق الضرع ، في جدار بالنصف ، وجدار متعامد معه ، وهناك أربع حلمات ، وكل حلمة تعطي ربع الكمية بالضبط ، والبقرة مذللة الله قال : * وَذَلَّلْنَاهَا لَهُمْ * .
يعني عقرب صغير يقفز الإنسان من جلده إن رآه ، أما بقرة كبيرة يقترب منها وديعة ، يعني تصور مشتقات الحليب صباحاً ، في صحن لبن ، في جبنة ، في سمن ، في زبدة ، مشتقات الحليب شيء مهم جداً .
* وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ * .
( سورة النحل الآية : 5 ) .
لكم خصيصاً ، أنت أحياناً تدعو إنساناً إلى طعام اسمه الآن ضيف الشرف ، يطرق الباب يأتي ضيف تدعوه إلى الطعام ، لكن هذا الطعام ليس لهذا الطارئ ، هذا الطعام لضيف الشرف ، هذا معنى كلمة * وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ * .
أنت حينما ترى أن البقرة مسخرة لك أيها الإنسان ، والدجاجة مسخرة لك ، والتفاح مسخر لك ، تأكد يقيناً أن أثمان الطعام والشراب إنما هي قيمة خدمتها فقط ، إنك لا تدفع ثمنها أبداً ، التفاحة ، حجم مناسب ، لو كانت كبيرة ؟! وجبة طعام صغيرة ، لون مناسب ، لون أصفر مع خد أحمر ، قوام يتناسب مع أسنانك ، لا كالصخر ، طعم سكري ، في فوائد ، في حديد ، في مواد ، في فيتامينات ، في سكريات ، قوام ، وغذاء ، وشكل ، وطعم ، ورائحة ، وقشرة ، فكر .
أثناء الطعام فكر ، أثناء الشرب فكر ، رأيت خضراوات فكر ، هذا التفكر ينقلك إلى معرفة الله .
(( أحِبُّوا الله لما يَغْذوكم من نعمه )) .
[أخرجه الترمذي عن عبد الله بن عباس ] .
في بعض الآثار قال :
(( يا رب أي عبادك أحب أليك حتى أحبه بحبك ؟ قال : أحب عبادي إلي تقي القلب ، نقي اليدين ، لا يمشي إلى أحد بسوء أحبني ، وأحب من أحبني ، وحببني إلى خلقي قال : يا رب إنك تعلم أني أحبك ، وأحب من يحبك ، فكيف أحببك إلى خلقك ؟ قال : ذكرهم بآلائي ، ونعمائي ، وبلائي ، ذكرهم بآلائي كي يعظموني ، وذكرهم بنعمائي كي يحبوني وذكرهم ببلائي كي يخافوني ))
[من الدر المنثور عن ابن عباس ].(1/247)
فلابد من أن يجتمع في قلب المؤمن تعظيم لله عن طريق التفكر في آيات الله ، ومحبة لله عن طريق التفكر في نعم الله ، وخوف من الله عن طريق التفكر في البلاء الذي يسوقه الله لبعض الأشخاص
=================
... ... ... ...(1/248)
27 ـ التربية الاجتماعية 8 ـ الآداب العامة والخاصة عند المؤمن
مع درس جديد من دروس تربية الأولاد في الإسلام ، وهذا الدرس يأخذ طابعاً عاماً متعلقاً بحقيقة الأدب .
ذكرت لكم من قبل أن الإسلام عقائد ، وعبادات ، ومعاملات ، وآداب ، أما الشيء البارز ، والواضح ، والصارخ في المؤمن أدبه ، وهذا ما يشير إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ قال :
(( أدبني ربي فأحسن تأديبي )) .
[ابن السمعانى فى أدب الإملاء عن ابن مسعود] .
إذاًَ هذا الأدب ما تحليله ؟ وما طبيعته ؟ الحقيقة الأدب له طريقان ، طريق تعليمي وطريق إشراقي ، فأنت حينما تطلب العلم يقال لك : إذا دخلت فسلم ، إذا أكلت فسمِّ ، إذا عطس أخوك فشمته ، هذه معلومات نتلقاها بالتعليم ، آداب الطعام ، آداب الزيارة ، آداب عيادة المريض ، آداب السفر ، آداب الزواج ، آداب ... إلخ .
في كل نشاطات المؤمن معنا ملحقات متعلقة بالآداب ، تزور مريضاً ، العيادة فواق ناقة ، آداب أن تزور أخاك ، ينبغي ألا تقف أمام الباب هكذا ، أن تعطي ظهرك للباب لعل امرأة فتحت الباب فجأة ، هناك تفاصيل كثيرة جداً عن موضوعات كثيرة جداً متعلقة بالآداب .
فهذا الجانب من الآداب جانب تعليمي ، لذلك الأب الكامل كلما رأى ابنه تجاوز حدّه ، جلس جلسة غير مؤدبة ، يا بني اجلس هكذا ، أكل الطعام بشكل غير مؤدب ، طاشت يده في صفيحة الطعام فقال :
(( كل بيمينك وكل مما يليك )) .
[أخرجه الطبراني عن حمزة بن عمرو الأسلمي ] .
لو أنك تتبعت أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم المتعلقة بالآداب لوجدت كل أحاديث رسول الله هي توجيه لطيف لإنسان أخطأ أمامه ، طبعاً لأنه مشرع ، لو سكت عن شيء أصبح هذا الشيء صحيحاً ، النبي وحده كلامه سنة ، وفعله سنة ، وإقراره سنة ، شاب مشى أمام أبيه ، أنت قد تنصحه ، وقد لا تنصحه ، لكن النبي قال :
(( فلا تمش أمامه ، ولا تجلس قبله ، ولا تدعه باسمه ، ولا تستسب له )) .
[أخرجه الطبراني عن عائشة أم المؤمنين ] .
والله أيها الأخوة ، لو تتبعتم شمائل النبي أي الآداب التي تحلى بها ، أو لو تتبعتم التوجيهات النبوية لصحابته الكرام من كل المجالات من زاوية الأدب لوجدت أن المؤمن هو الإنسان الأول في الأرض الكامل ، في زواجه ، في علاقته بأمه ، بأولاده ، بالكبير ، بالصغير ، بالقوي ، بالضعيف ، في صحته ، في مرضه ، في حله ، في ترحاله ، في أفراحه في أحزانه .(1/249)
هذه الآداب ربع الدين ، والآداب الشيء الظاهر للمؤمن ، صلاته بينه وبين ربه ، صدقته بينه وبين ربه ، قيامه بالليل بينه وبين ربه ، أما الذي بينه وبين الناس هو الأدب يعني الصفة الصارخة في المؤمن أنه مؤدب ، مؤدب بجلسته ، مؤدب في بيته ، مؤدب في ثيابه ، مؤدب في كلامه ، مؤدب عند غضبه ، مؤدب عند رضاه ، مؤدب في أفراحه ، مؤدب في أتراحه ، الآداب ربع هذا الدين .
لذلك الآداب لها طريقان ، طريق تعليمي ، أنت كأب ، كمعلم ، كموجه ، كمرشد ، كقائد ، كخطيب ، كمدير دائرة ، يجب أن توجه من حولك إلى الموقف الأديب .
شخص جالس عند صديقه ، هناك دفتر يفتحه ، هذا من سوء الأدب ، لماذا تفتح هذا الدفتر ؟ هذا من خصوصيات صديقك ، هل سمح لك أن تفتحه ؟ يفتح الدرج ، كيف تفتح الدرج ؟ .
فلذلك كلما ارتقيت تكون أديباً أكثر ، دخلت إلى بيت لا تجلس مقابل باب الغرفة وهو مفتوح ، فإذا مرت امرأة لا تدري أن عند زوجها ضيفاً تراها كما هي ، وقد تكون في بيتها متبذلة في ثيابها ، اجلس باتجاه الحائط ، أنا أضرب لكم بعض الأمثلة .
والله لا أبالغ لو تتبعت توجيهات النبي عليه الصلاة والسلام التي تتعلق بالآداب لوجدتها بعشرات الألوف ، بحيث أن هذا المؤمن ملك ، ثيابه محشومة ، كلامه محشوم ، لا يتكلم بكلمة فاحشة ، ولا بذيئة ، ليس بالفاحش ولا المتفحش ، لا يوجد عنده طرفة جنسية ، لا يذكر العورة باسمها أبداً ، بعض الآداب .
فتاة ترتدي ثياباً شفافة ، قال لها : يا بنيتي إن هذه الثياب تصف حجم أي كلمة من أعضاء المرأة تثير الشهوة ، إن هذه الثياب تصف حجم عظامك ، كلمة عظام لا تثير الشهوة أبداً ، انظر إلى الأدب .
القرآن علمنا الأدب ، قال :
* لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ * .
( سورة النساء الآية : 43 ) .
قد يفهم الطفل لامس النساء وضع يده فوق يد زوجته ، لها معنى آخر بالقرآن الكريم .
* فَلَمَّا تَغَشَّاهَا حَمَلَتْ حَمْلاً خَفِيفاً * .
( سورة الأعراف الآية : 189 ) .
حتى الصحابيات كن على مستوى من الأدب مذهل ، يا أمير المؤمنين ، نعم قالت له : إن زوجي صوام قوام ، ما انتبه ، قال لها : بارك الله لك بزوجك ، قال له سيدنا علي : إنها تشكو زوجها ، صائم في النهار ، قائم في الليل .
انظر إلى الأدب ، مرة امرأة متبذلة في هيئتها ، رأتها السيدة عائشة ، قالت لها : ما قصتك ؟ قالت : إن زوجي صوام قوام ، فالنبي دعا زوجها ، وقال له : أليس لك بي أسوة ؟ أعطاه توجيهاً معيناً ،(1/250)
فجاءت في اليوم التالي إلى السيدة عائشة نضرة عطرة ، قالت لها : ما الذي حدث ؟ تبدل الأمر ، اسمع الجواب ، قالت : أصابنا ما أصاب الناس .
والله أحياناً أتتبع أقوال الصحابة أجد أدباً مذهلاً .
سيدنا يوسف قال :
* وَقَدْ أَحْسَنَ بِي * .
( سورة يوسف الآية : 100 ) .
أمام إخوته ، الذين وضعوه في غيابت الجب ليموت .
* وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ * .
( سورة يوسف الآية : 100 ) .
ما ذكر الجب ، أيهما أخطر السجن أم الجب ؟ الجب ، الجب مظنة موت ، أما السجن فقدت حريتك فقط ، لكن تأكل وتشرب وأنت آمن .
أنا الذي أراه أن الذي يبدو من المؤمن هو أدبه ، أدبه مع الله ، أدبه في بيوت الله ، أدبه مع كتاب الله ، أدبه في بيته ، في ثيابه ، لا أعتقد أن مؤمناً يخلع ثيابه أمام أولاده أبداً ، لا أعتقد أن مؤمناً يرتدي ثيابه أمام أولاده يضطر أن يخلع الثياب الأولى ليرتدي ثياباً ثانية إلا وقد أغلق الباب .
مرة حدثني أخ قال لي : جاءت أختي لعندنا ، ودخل ابنها إلى غرفة النوم قال لي أنا سأخلع القسم العلوي من ثيابي ، هذا الطفل من شدة أدبه ، من كثرة ما تلقى توجيهات رائعة ، فخرج من الغرفة فوراً ، لأنه رأى خاله يخلع ثيابه العلوية مبدئياً ، و تحتها قميص كامل ، لكن الأدب جميل جداً .
أنا أخاطب الآباء ، الأمهات ، أحياناً الطفل يأكل بشكل عشوائي ، يأكل بشكل يدعو إلى الاشمئزاز .
فيا أيها الأخوة ، بطولة الأب أن يؤدب أولاده .
(( لأنْ يُؤَدِّبَ الرجلُ وَلَدَه ، خيرٌ من أن يتصدق بصاع )) .
[أخرجه الترمذي عن جابر بن سمرة ] .
من أعظم الأعمال تأديب الأولاد ، هذه الكلمة ينبغي ألا تقولها ، هذا الموقف ينبغي ألا تقفه ، هذه الجلسة ينبغي ألا تجلسها ، هذه النظرة ينبغي ألا تستخدمها ، دفع الباب بعنف هذا سوء أدب من الإنسان .
هذا الأدب الكسبي ، الأدب التعليمي ، الأدب على أثر توجيه ، من معلم ، من أب ، من أم ، من مدير دائرة ، من خطيب مسجد ، من داعية ، من مرشد ... إلخ .
لكن هناك أدب من نوع آخر ، أنت حينما تتصل بالله اتصالاً حقيقياً ، حينما تقبل على الله إقبالاً حقيقياً ، لابدّ من أن تشتق من الله مكارم الأخلاق ، الأدب الأصيل الحقيقي الذي لا يتأثر لا برخاء(1/251)
، ولا بشدة ، ولا بعداوة ، ولا ببغضاء ، ولا بفقر ، ولا بغنى ، يعني أغلب الظن إذا الإنسان ببحبوحة ، ودخله جيد ما عنده مشكلة ، تجده لطيفاً ، ناعماً ، أما حينما تهدد مصالحه ، يغدو وحشاً ، والله عز وجل أرانا من هو الغرب ، الغرب بلد القيم سابقاً ، الحرية ، الديمقراطية ، حقوق الإنسان ، فلما مُست مصالح الغرب انقلب إلى وحش كاسر .
فهذا الأدب الكسبي أساسه التعلم ، والمتعلم قد يطبق ، وقد لا يطبق ، الأدب الإشراقي أساسه الاتصال بالله ، هذا هو الأدب الحقيقي ، هذا لا يتأثر ، ولا يتبدل ، ولا يزيد ولا ينقص ، لا يتأثر لا بالغنى ، ولا بالفقر ، ولا بالقوة ، ولا بالضعف ، ولا بالزواج ، ولا بعد الزوج ، ولا قبل الزواج ، ولا في الصغر ، ولا في الكبر ، آداب أصيلة .
* وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ * .
( سورة القلم ) .
متمكن من هذه الأخلاق ، يعني المؤمن يشبه سفينة عملاقة ، لا تؤثر فيها الأمواج ، وغير المؤمن يعني استفزاز بسيط يسب الدين أحياناً ، غير المؤمن .
أخوانا الكرام ، الطريق الذوقي أساسه الاتصال بالله ، والدليل : إن مكارم الأخلاق مخزونة عند الله تعالى ، فإذا أحبّ الله قوماً منحهم مكارم الأخلاق ، هذه الأخلاق الأصيلة هي التي تنفع المؤمن في الدنيا والآخرة .
لكن هناك أخلاق رقم ثلاثة ، هذه أخلاق لا علاقة لنا بها إطلاقاً في هذا الدرس أخلاق الأذكياء ، ذكي جداً فإذا تواضع ينتزع إعجاب الآخرين ، وحقق مصالحه معهم ، إذا وفى بوعده يستطيع أن يبيع أكثر ، إذا أتقن عمله يربح أكثر ، الأخلاق الناتجة عن ذكاء الإنسان ، والتي تصب في مصالحه هي أخلاق الأذكياء ، هذه ليست محل بحثنا إطلاقاً .
أنتم تسمعون أحياناً أنه فعل هذا النائب كذا لينجح في الانتخابات ، الكمال وحده من أجل الانتخابات ، شنّ هذا العدوان من أجل الانتخابات ، فالإنسان حينما لا يعرف الله يعبد ذاته ، أي شيء يرفعه ، يمنحه منصباً رفيعاً ، يمنحه كرسياً في المجلس ، فيبذل الغالي والرخيص ، ويقيم ولائم ، وعزائم ، ويتواضع من أجل أن يصل إلى الكرسي في هذه النقابة ، أو في هذه الغرفة ، أو في هذا المجلس ، حتى في مصالح كثيرة تحقق عن طريقها .
فموضوع أن تكون صادقاً ، أو أميناً ، محققاً لبعض الكمالات البشرية من أجل أن تنتزع إعجاب الآخرين ، وأن تحقق مصالحك معهم ، هذا الأدب ليس متعلقاً بدرسنا أبداً ، هذا أدب الأذكياء ، أدب تجاري ، والغرب برع به براعة مذهلة ، تجد حقوق الحيوان ، يبيدوا شعوب بأكملها ، يراعي حق حيوان ، حق كلب أحياناً ، شعب بأكمله يباد ، ويرعون حق كلب .(1/252)
أخلاق الأذكياء أخلاق المصالح ، أخلاق الانتخابات ، هذه أخلاق ساقطة عند الله لا تقدم ولا تؤخر ، سلوك ذكي ، هدفه تحقيق مصلحة .
الآن الآداب التي أساسها الذوق تأتي من أين ؟ من الصلاة ، نحن أحياناً لا نقدر قيمة الصلاة ، الله عز وجل قال :
* وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي * .
( سورة طه ) .
هل تستطيع أن تقبل أن إلهاً عظيماً أمرك أن تؤدي كل يوم خمس مرات الصلوات ، من أجل أن تقف وأنت ساه أو لاه ، تقرأ قراءة شكلية ، وتركع وتسجد ، وخيالك يسوح ، ويبحث عن مشكلاته ، ثم تسلم ، هذا العمل هل تقبله عبادة لله عز وجل ؟ الله عز وجل قال : * وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي * ، هل تذكره في الصلاة ؟ قال :
* وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ * .
( سورة العلق ) .
هل تحس بالقرب من الله في الصلاة ؟ قال كما ورد في بعض الآثار :
(( ليس للمرء من صلاته إلا ما عقل منها )) .
[ورد في الأثر] .
والآية التي نسخت :
* لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ * .
( سورة النساء الآية : 43 ) .
فالإنسان إذا صلى لا يعلم ما قرأ كأنه سكران ، هذه العبادة الأولى التي لا تسقط بحال ، هذه العبادة من أجل أن تشتق من الله الكمال .
فلذلك لما قال الله عز وجل :
* إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ * .
( سورة العنكبوت الآية : 45 ) .
قال بعض العلماء : ذكر الله لك وأنت في الصلاة أكبر من ذكرك له ، إنه إن ذكرك منحك الكمال ، منحك الحلم ، منحك الحكمة ، منحك الرضا ، منحك العفاف .
يعني بصراحة الفرق بين إنسان أميّ ، وإنسان معه دكتوراه ، قلم بالجيبة يوضع هذا هو الفرق فقط ؟ شيء مضحك ، هذا درس خمس و ثلاثين سنة ، معه ابتدائي ، وإعدادي ، وثانوي ، ولسانس ، ودبلوم عامة ، ودبلوم خاصة ، وماجستير ، ودكتوراه ، دراسة 35 سنة ، ودراسة ليلاً نهاراً ، وتحقيق ، وتأليف ، ومتابعة ، ومراجعة ، وحفظ ، وأداء امتحانات ، حتى وضع إلى جانب اسمه : د(1/253)
. هذه الدال يقابلها قلم حبر بالجيبة ؟ أحياناً إذا شخص ليس متعلماً يحب أن يضع كم قلم بجيبته ، أحياناً يضع ستة أقلام ، ويضع بمكتبه الكتاب بالعكس .
الأخلاق شيء آخر ، قال ذكر الله لك وأنت تصلي أكبر من ذكرك له ، إنه إن ذكرك منحك الحكمة .
* وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً * .
( سورة البقرة الآية : 269 ) .
إنه إن ذكرك منحك الحلم ، كاد الحليم أن يكون نبياً ، إنه إن ذكرك منحك الرضا ، إنه إن ذكرك منحك الكرم ، الشجاعة ، محاسن الأخلاق ، مكارم الأخلاق مخزونة عند الله تعالى ، فإذا أحبّ الله عبداً منحه خلقاً حسناً ، بصراحة إذا ما كانت أخلاقك صارخة ما علامة إيمانك ؟ هذه الأخلاق ، المؤمن :
* أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كَانَ فَاسِقاً لَا يَسْتَوُونَ * .
( سورة السجدة ) .
* أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ * مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ * .
( سورة القلم ) .
إذاً أيها الأخوة ، الأخلاق الإشراقية الأصيلة التي ينبغي أن تتخلق بها هي أخلاق الصلاة ، المتصل بالله اشتق من الله الكرم ، الحلم .
الآن فكرة مهمة جداً ، الله عز وجل قال :
* وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا * .
( سورة الأعراف الآية : 180 ) .
الله عز وجل أسماؤه حسنى ، يعني كريم ، يعني حليم ، يعني عفو ، يعني رؤوف ، عليم ، غني ، قوي ، فأنت حينما تشتق كمالاً منه وتعامل عباده بهذا الكمال تتقرب إليه .
إذاً الله عز وجل لا يتقرب إليه إلا بكمال مشتق منه من خلال الصلاة ، هذا الكمال تعامل به من حولك من الناس ، يقبلك الله عز وجل ، الكريم يحب الكريم ، والحليم يحب الحليم ، والوفي يحب الوفي .
فهذه الآداب التي يسعى إليها الأب ، والأم ، والمعلم ، والموجه ، والمدرس والخطيب ، والداعية ، والمدير ، هذه أخلاق الاتصال بالله ، أخلاق القرب ، أخلاق الحب .
أخوانا الكرام ، الأخلاق التعليمية ، تقرأ الآداب ، تقرأ شمائل النبي ، تقرأ أي كتاب في الآداب ، بحوث ، وأدلة ، وآيات ، وأحاديث ، وقصص ، ومواقف ، شيء رائع جداً هذه تعلم تتعلم ، إما أن(1/254)
تطبق ما تعلمت ، أو أن تنسى ، إما أن تطبق ما تعلمت أو في حين الغضب تنسى كل الذي فعلته ، فإذا أردنا أن نؤكد على خلق معين فهو الخلق المتعلق بالإشراق من خلال الاتصال بالله عز وجل .
ممكن أعطيكم فكرة دقيقة جداً ؟ لو فرضنا أن إنساناً هناك حكم شرعي ما تعلمه لكنه موصول بالله صلة قوية جداً ، صدقوا ولا أبالغ يطبق هذا الحكم الشرعي دون أن يعرفه ذوقاً ، هناك نهي شديد جداً أن يخلو رجل بامرأة لا تحل له طبعاً ، لو أن إنساناً هذا التوجيه ما قرأه إطلاقاً ، لكن له صلة بالله قوية جداً ، دخل إلى بيت أحد أقربائه ، بيت ابن عمه قالت له الزوجة : تفضل ، توهم أنه في البيت ، ثم علم أنه خارج البيت ، ينسحب فوراً ، ذوقه العام لا يسمح له أن يكون مع امرأة لا تحل له في البيت .
فأنا متأكد أن الإنسان حينما يتصل بالله عز وجل قد يصل إلى مستوى من الذوق يحمله على تطبيق منهج لم يطلع عليه ، يقول عمر رضي الله عنه : نعم العبد صهيب لو لم يخف الله لم يعصه .
هناك أشياء كثيرة أملاها عليك الذوق ثم وجدت أن الحكم الشرعي كما فعلت ، هذا شيء مؤكد ، أشياء كثيرة أملاها عليك الذوق ، بعد حين قرأت حكماً شرعياً .
أذكر مرة أنه كنت في سفر ، أردت أن أصلي فإذا خلفي عشرين شخصاً ، في بلدة متطرفة في الشمال ، أنا غلب على ظني أنهم لا يعرفون ما معنى أن المسافر يصلي الظهر ركعتين ، فإذا سلم يقول أتموا صلاتكم فإني مسافر ، خشيت أن يضطربوا ، فأتممت الصلاة حتى ما يكون في خطأ ، أثناء مطالعتي لبعض الأحكام الفقهية وجدت أنه إذا غلب على ظنك أن الذي خلفك قد يضطرب ينبغي أن تتم الصلاة .
أشياء كثيرة تأتيك ذوقاً ، تجد هناك حكم شرعي ، يعني مثلاً في بعض الأحكام الفقهية الإنسان لا ينبغي أن يخلو بكنته الشابة إذا كان زوجها غير موجود ، هذه بابن عابدين موجودة ، أنا أعرف أناساً إذا دخل لبيت ابنه ، وابنه غير موجود يقول لها : آتي مرة ثانية لعل ذلك لأنها شابة ، وهو له وضع معين ، حتى لا يكون في أي إشكال ، فلا يسمح لنفسه أن يخلو يعني هذه يحل له أن يخلو بها ، هي زوجة ابنه ، لكن الأولى أن يكون ابنه في البيت ، هذا عبر الاجتهادات .
النقطة التي ذكرتها الآن ، يعني أنت أحياناً ممكن أن تستنبط حكماً شرعياً ذوقاً ثم تفاجأ أن هذا الذي فعلته ورد في بعض الشمائل النبوية ، لذلك هناك آية قرآنية تؤكد هذا المعنى :
* يَفْرَحُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ * .
( سورة الرعد ) .
الصحابي الكريم بعد اتصاله الشديد بالله ، يرتقى مستواه ، فإذا جاء حكم فقهي في القرآن وفق ما ارتقى إليه يفرح ، * يَفْرَحُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ * .(1/255)
طبعاً القرآن الآية حينما تنزعها من سياقها لها معنى مستقل ، وقد يكون لها في السياق معنى آخر ، مثلاً :
* وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً * .
( سورة الطلاق ) .
هذه الآية سياقها في موضوع الطلاق ، يعني من يتقِ الله في تطليق زوجته فيطلقها طلقة أولى ، ثم ثانية ، ثم ثالثة ، يجعل الله له مخرجاً إلى إرجاعها ، أما الذي يطلق طلاقاً بدعياً هذا خالف منهج رسول الله في الطلاق ، فعندئذٍ في بعض المذاهب لا سبيل إلى إرجاعها ، * وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً * ، انزع هذه الآية من سياقها يكتب عليها مجلدات ، من يتقِ الله في تربية أولاده يجعل الله له مخرجاً من عقوقهم ، من يتق الله في كسب ماله يجعل الله له مخرجاً من إتلاف المال ، وهكذا .
فأحياناً الآية في سياقها لها معنى ، فإذا نزعت من سياقها لها معنى آخر * يَفْرَحُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ * ارتقت نفسه ، فجاء القرآن جاء موافقاً لما في نفسه .
أيها الأخوة ، الإنسان فيه نزعة فردية ، ونزعة اجتماعية ، النزعة الفردية يحب أن يؤكد ذاته ، يعني الله عز وجل أمرك أن تستيقظ لتصلي صلاة الفجر ، وجعل طبعك محباً للنوم ، الطبع هو النوم ، والاستيقاظ تكليف ، هناك طبع وهناك تكليف ، الطبع أن تأخذ المال والتكليف أن تنفقه ، الطبع أن تخوض في فضائح الناس ، والتكليف أن تصمت ، الطبع أن تملأ عينيك من محاسن المرأة الأجنبية ، والتكليف أن تغض البصر ، هذا التناقض بين الطبع والتكليف هو ثمن الجنة .
* وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى * .
( سورة النازعات ) .
الآن الطبع فردي ، والتكليف تعاوني ، الإنسان بين الفردية وبين الاجتماعية ، عندك نزعة فردية ونزعة اجتماعية ، تحب أن تنجح لوحدك ، وكل من حولك يرسب تشعر بنشوة مثل الطاووس ، لكن النزعة الراقية أن تفرح لنجاح كل من حولك ، هذه نزعة أرقى .
الإنسان عنده حاجة إلى الحب ، وأي إنسان لا يشعر بحاجة إلى أن يُحِب أو إلى أن يُحَب ليس من بني البشر ، فالحاجة إلى الحب حاجة أساسية ، لكن المؤمن بطل عرف من ينبغي أن يُحِب ، كلمة عيد الحب كلمة تعني شيئاً لا يرضي الله إطلاقاً ، قد تكون علاقة محرمة ، قد تكون زنا باسم الحب ، أما المؤمن يحب الله .
* وَالَّذِينَ آَمَنُوا أَشَدُّ حُبّاً لِلَّهِ * .
( سورة البقرة الآية : 165 ) .
أي لا يوجد موضوع متأصل في المؤمن كالحب ، الحب في دمه يمشي ، يحب الله ، يحب رسول الله ، يحب أصحاب رسول الله ، يحب التابعين ، يحب المؤمنين ، يحب العلماء ، يحب بيوت الله ، يحب(1/256)
القرآن ، يحب الأعمال الصالحة ، يحب التواضع ، كل شيء كامل يحبه ، فالحب أصل في الدين ، والذي لا يجد نفسه بحاجة إلى أن يُحِب ، أو إلى أن يُحَب ليس من بني البشر أصلاً ، لكن هذا الحب الراقي مسخ إلى حب محرم يحتفل به العالم كل يوم ، في حاجة إلى التقدير ، إلى تأكيد الذات ، تكون محترماً ، لك قيمتك ، لك بصمة ، يشار لك بالبنان ، فلان ! تحتل منصباً رفيعاً ، هذه حاجة بالإنسان ، حاجة إلى التقدير ، إلى تأكيد الذات .
عندك حاجة إلى الأنس ، مهما كان البيت فخماً ، وحدك ، يقول لك : أريد أن أجلس مع واحد ، الأنس حاجة اجتماعية أساسية ، أحياناً الإنسان يأنس بأهل بيته ، بأولاده ، بأقربائه ، بأصدقائه ، بزملائه بالعمل ، يحب أن يجلس مع الناس .
عندك حاجة لأن يكون لك سند قوي ، لك ابن عم ، معك رقم هاتفه ، يحتل منصباً رفيعاً ، تحس بطمأنينة ، أنت بحاجة إلى من تتقوى به ، وأن تحتمي به ، ليلبيك عند الطلب .
أنت بحاجة إلى الأمن ، هذه كلها حاجات اجتماعية ، وبحاجة إلى أن تأخذ من غيرك أفكار ، خبرات ، علوم ، بحاجة إلى تحقيق إنجاز ... إلخ .
وعندك حاجة فردية ، فالذي يحصل الإنسان ما دامت الحاجة الفردية محققة والحاجة الاجتماعية محققة في تناسق وتناغم بينهما ، لكن أحياناً لا سمح الله ولا قدر لك سمعتك أعارك صديقك بيته ، بأزمات الإيجار السابقة ، وقت كان القانون يحمي المستأجر كائناً من كان ، فأعارك بيته شهراً ، وأنت بعد ثماني سنوات قلت له : هذه المحاكم أمامك ، أنا مستأجر ، ضحيت بسمعتك ، وبمكانتك ، وبعلاقاتك ، وبهيبتك ، وبأوصافك الكاملة سابقاً من أجل هذا البيت ، بيت رائع ، وأجرة رمزية .
لذلك الإنسان حينما تتضارب حاجاته الاجتماعية مع حاجاته الفردية قد يؤثر مصالحه الشخصية على سمعته ، وهذه مشكلة العالم اليوم ، العالم المتحضر الراقي سابقاً طبعاً ، العالم الذي يؤمن بحقوق الإنسان وحقوق المرأة والطفل ، ما تكلم كلمة حينما قتل خمسمئة طفل بغزة ، ما تكلم كلمة ، لأن مصالحه مع العدو .
فأحياناً تتضارب المصالح الشخصية مع المكانة الاجتماعية ، انظر إلى عظمة هذا الدين ، سما بالحاجة الاجتماعية إلى مستوى العبادة ، فأنت كمؤمن حينما تكون صادقاً مع أخيك ترقى عند الله ، حينما تزور أخاك ترقى عند الله ، حينما تعود مريضاً ترقى عند الله ، حينما تلبي حاجة أخيك ترقى عند الله ، فكأن عظمة هذا الدين سما بالحاجة الاجتماعية من حاجة تلبى إلى عبادة تؤدى ، هكذا المؤمن .
لذلك المؤمن يُحَب ، هو ما يقصد أن يُحَب ، لأنه مطبق لمنهج الله عز وجل ما فيه يكذب ، دُعي يلبي ، سُئل يجيب ، سُئل عن قضية ينصف .(1/257)
سيدنا رسول الله مرّ أمامه الأسرى ، أحدهم صهره أبو العاص ، جاء ليقاتله مع المشركين وقع أسيراً ، لكن هو كان صهراً جيداً جداً ، فقال عليه الصلاة والسلام : والله ما ذممناه صهراً ، انظر إلى الوفاء ، انظر إلى الإنصاف ، ما ذممناه صهراً .
لذلك أعظم ما في الإيمان أن حاجاتك الاجتماعية سمت إلى مستوى العبادة ، فأنت تؤدي الحاجات الاجتماعية ، أنت تصدق ، وتلبي الدعوة ، وتتواضع ، وتعود المريض ، وتطعم الجائع ، وتكسو العاري ، وتزور المريض ، هذه كلها نشاطات اجتماعي لكن كل هذه النشاطات عند الله أعمال صالحة .
فلذلك يصعب في حياة المؤمن أن يضحي بمكانته الاجتماعية لأن هذه المكانة ليست مكانة ، هي عبادة ، هناك فرق بين أن تكون مكانة يضحي بها الإنسان ، إذا في مبلغ ضخم يحل كل مشكلاتك يقول لك خير إن شاء الله ، يضحي بسمعته من أجل مصالحه ، أما المؤمن نشاطه الاجتماعي عبادات ، فلذلك محصن من أن يؤثر المصلحة الشخصية على المكانة الاجتماعية .
أيها الأخوة ، شيء ثان ، وهذا أروع ما في الإيمان أن النشاط الاجتماعي عند المؤمن له قنوات نظيفة ، لا يوجد حفلة سهرة غنائية يرصد ريعها للأيتام ، لا يوجد يانصيب خيري ، لا يوجد رحلة مختلطة من أجل الإطلاع على موضوع معين ، فهو منضبط بقنوات نظيفة ، فكل نشاطاته الاجتماعية تنضبط بقنوات نظيفة .
أيها الأخوة ، أنا أتمنى أن أؤكد لكم أن النشاط الاجتماعي نشاط عبادي فأنت تنتزع إعجاب من حولك دون أن تشعر لأنك مطبق لمنهج الله .
أذكر أخاً من إخوانا عمّر بناء ، وتأخر تسجيل البناء بأسماء أصحابه لأسباب خارجة عن إرادته ، فالذين اشتروا البيت من سنوات طويلة بثمن قليل جداًً ارتفع سعره عشرين ضعفاً تقريباً ، عرضوا عليه مبلغاً ليسجل لهم البيت ، قال : لا والله ، أنا بعتكم وقتها ، وربحت عليكم ، وقبضت الثمن ، ليس لي عندكم شيء ، هو بدافع من طاعته لله ما أخذ منهم شيئاً ، أكبروه إكباراً .
أنت لمجرد أن تطيع الله في علاقات الاجتماعية ترقى عند الله ، وعند الناس هذا هو المنهج .
فلذلك القنوات الاجتماعية عند المؤمن نظيفة وطاهرة ، ومظهرك الصارخ هو الآداب ، علاقة الآداب بالدرس في تربية الأولاد بطولتك أن تؤدب ولدك .
(( لأنْ يُؤَدِّبَ الرجلُ وَلَدَه ، خيرٌ من أن يتصدق بصاع )) .
[أخرجه الترمذي عن جابر بن سمرة ] .
هناك كلمة لا تقال ، هناك جلسة غير مؤدبة ، هناك حركة غير مؤدبة ، هناك ثياب غير مؤدبة ، والله هناك قيادة مركبة غير مؤدبة يجلس جنابي ، شيء يقرف ، وهناك قيادة مركبة بأدب ، هناك جلسة غير مؤدبة ، هناك تعليق غير مؤدب ، المؤمن مؤدب ، أدبه ربه بأدب الإسلام .
================
... ... ... ...(1/258)
28 ـ التربية الجنسية 1ـ أدب الاستئذان عند الأولاد
أيها الأخوة الكرام ، مع الدرس الثامن والعشرين من دروس تربية الأولاد في الإسلام ، ومع موضوع جديد عنوانه التربية الجنسية .
الحقيقة أن الله سبحانه وتعالى أودع في الإنسان حاجات ثلاث ، أودع فيه حاجة إلى الطعام والشراب حفاظاً على بقاء الفرد ، وأودع فيه حاجة إلى الجنس حفاظاً على بقاء النوع ، وأودع فيه حاجة إلى تأكيد الذات حفاظاً على بقاء الذكر .
فالحاجة إلى الجنس حاجة أساسية ، ولكن شاءت حكمة الله أن الإنسان مكلف ومخير ، ولأنه مكلف ومخير فكل الشهوات التي أودعها الله فيه حيادية ، يمكن أن تكون سلماً نرقى بها إلى أعلى عليين ، أو دركات نهوي بها إلى أسفل سافلين .
يعني الإنسان يتزوج زوجة صالحة ، ينجب أولاداً يملؤون البيت سعادة ، الأولاد يكبرون ، أولاد أبرار نزوجهم من كنائن صالحات ، وعندهم بنات وفيات ، يزوجهن من أزواج صالحين ، تجد أسرة فيها البنات والشباب ، والكنائن والأصهار ، والأحفاد ، كتلة واحدة ، مودة ، تعاون ، شيء مؤنس ، هذا الزواج الميمون الكريم أساسه علاقة جنسية ، وبأي بيت دعارة فيه علاقة جنسية ، شهوة تهوي بها إلى أسفل سافلين ، وشهوة ترقى بها إلى أعلى عليين ، وما من شهوة أودعها الله في الإنسان إلا وجعل لها قناة نظيفة تسري خلالها ، بالإسلام لا يوجد حرمان ، أخاطب الشباب ، بالإسلام لا يوجد حرمان إطلاقاً .
مرة ثانية وثالثة : ما من شهوة أودعها الله بالإنسان و إلا وجعل لها قناة نظيفة تسري خلالها .
1 ـ أدب الاستئذان :
الحديث اليوم عن التربية الجنسية ، وهذا الموضوع قلّما يعرض ، لأن هناك أسئلة محرجة جداً تأتي من الصغار ، والأب لا يسعه إلا أن يضرب ابنه ، عيب ، لكن ما حل مشكلة ، سأله سؤالاً كبيراً أنا من أين أتيت ؟ ما حلّ مشكلة ، يا ترى كيف نربي أولادنا تربية جنسية ؟ الموضوع يحتاج إلى عدة لقاءات .
لكن اليوم اللقاء التربية الأولى الجنسية تبدأ بأدب الاستئذان ، معلوماتي الدقيقة والثابتة أن الشباب قد ينحرفون لا سمح الله ولا قدر ، ويكون انحرافهم شاذاً ، ومن دراسات دقيقة وعديدة تبين أن هذا الطفل الصغير دخل إلى غرفة نوم أمه وأبيه فجأة فرأهما في وضع لا يعرفه .
لذلك في القرآن الكريم جاءت هذه الآية لتؤكد أدب الاستئذان ، أنا قرأت كثيراً عن انحرافات خطيرة عند الشباب ، انطلقت أنه في سن مبكرة جداً دخل على أمه وأبيه فجأة فرأهما في وضع ما فهمه ، بدأ تفكيره ينصرف إلى هذا الموضوع ، وانتهى به الأمر إلى الانحراف ، انحراف وفق الإطار(1/260)
الذي فطرنا الله عليه يعني الزنا ، أو انحراف شاذ اللواط ، والمطلق رؤية أبيه وأمه في وضع فهمه بادئ ذي بدء .
لذلك من المفروض أن الأولاد كيف ما تحركوا في البيت هناك آية تحكم هذه الحركة ، قال تعالى :
* يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ * .
الأطفال .
* ثَلَاثَ مَرَّاتٍ مِنْ قَبْلِ صَلَاةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ وَمِنْ بَعْدِ صَلَاةِ الْعِشَاءِ ثَلَاثُ عَوْرَاتٍ لَكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلَا عَلَيْهِمْ جُنَاحٌ بَعْدَهُنَّ طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآَيَاتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ * وَإِذَا بَلَغَ الْأَطْفَالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آَيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ * .
( سورة النور ) .
وقلت أنا : الأولى أن يكون لغرفة النوم قفل ثابت ، ففي هذه الأوقات الثلاثة لو دخل الطفل خطأ الباب مقفل ، يألف أن هذا الباب مقفل دائماً ، مقفل في أوقات معينة ، هذا من أدب القرآن الكريم ، فأي شاب تزوج وجاءه مولود ، بعد أن أصبح يتحرك في البيت ينبغي ألا يرى ما ينبغي ألا يعرفه إلا بعد عشرين عاماً ، هناك حكم بالغة جداً أن الله عز وجل لما الطفل ينتبه لهذه القضايا ينتبه إلى الأعضاء التي عنده ، هذه الأعضاء لها مضاعفات خطيرة جداً ، تصور قرآننا كتاب الله ، هناك آية متعلقة بالاستئذان .
أنا أعلم كثيراً عن أناس مؤمنين لا يمكن أن يخلعوا ثيابهم أمام أولادهم ، كلما كان التستر في البيت كان التصون والبعد عن الانحراف .
طبعاً الموضوع دقيق وسوف نفصل فيه ، لكن هذه الآية أصل في التربية الجنسية ، آداب الاستئذان قبل صلاة الفجر ، وحين يضع الإنسان ثيابه من الظهيرة ، ومن بعد صلاة العشاء ، غرف النوم ينبغي أن تكون مقفلة ، إن لم يكن هناك قفل يجب أن يربى الابن تربية دقيقة مركزة على أنه لا يمكن أن يدخل على أمه وأبيه إلا إذا استأذن .
حتى ينبغي أن تستأذن على بناتك ، عجيب ! عندك شابة في ريعان الصبا ، لو دخلت إلى غرفة نومها وكانت نائمة ، ولم تكن مهتمة بالستر ، تكشفت أثناء النوم ، هل لك أن تراها وأنت أبوها بوضع لا يرضي ؟ مستحيل ! .
فالاستئذان على الأم والبنات من بديهيات الآداب الإسلامية ضمن البيت ، أن يقوم الشاب بثياب داخلية أمام أخواته الشابات هذا محرم ، أن تقوم الفتاة بثياب شفافة أمام أخوتها شيء محرم ، إن أردت الصون لهذا البيت ينبغي أن تأخذ بأسبابه ، أسباب الصون ألا تظهر العورات ، فعندنا بحث طويل عن العورات ، لكن هذا كلام شرعي بديهي متفق عليه .(1/261)
الطفل صفحة بيضاء ، بريء ، طاهر ، أما حينما يرى وضع لا يعرفه ، سوف يتقصاه ، وسوف يسأل بعض أصدقائه ، وقد يكون أحد الأصدقاء منحرفاً ، يعطيه معلومات خاطئة ، وقد يتجه إلى شيء ينبغي ألا يفعله إطلاقاً .
فهذا هو الأدب الأول ، أدب الاستئذان على الأم والأب ، في أوقات ثلاثة ، الأولى أن يعلم الاستئذان بشكل مركز ، والأولى من ذلك أن يكون لهذا الباب ارتاج بحيث لو اندفع الطفل خطأ ليدخل على أبيه وأمه وقد نسي التوجيهات ، يرى الباب موصداً ، هذه من بديهيات التربية الجنسية ، ألا يرى الابن ما ينبغي ألا يراه إلا أن يعلمه بعد ثلاثين عاماً عند زواجه ، الأمر يعد وضعاً طبيعياً جداً .
2 ـ أدب النظر :
الآن الأدب الثاني من التربية الجنسية : هو أدب النظر ، نحن عندنا محارم ، والمحارم على أصناف ثلاثة ، واحدة منهن هي الزوجة لا يوجد قيد أو شرط في النظر إليها لكن ليس هناك من تحريم في العلاقات الزوجية إلا أن يبتعد الزوج عن الحيض ، وعن مكان ليس للإنجاب ، وما سوى ذلك الأمور كلها مباحة ، هذا الصنف الأول .
الصنف الثاني من المحارم محارم النسب ، أي البنت ، الأخت ، الأم ، العمة ، الخالة ، بنت الابن ، بنت البنت ، هذه محارم النسب ، محارم النسب ينبغي أن تظهر في البيت بثياب الخدمة ، ما ثياب الخدمة ؟ يعني قبة مرتفعة ، والكم حتى المرفق ، والثوب تحت الركبة ، بالضبط ، هذه الثياب اسمها ثياب الخدمة ، ثياب ليست شفافة ، وليست ضيقة ، فقط قبة مرتفعة ، صدر مرتفع ، والكم إلى المرفق ، والثوب تحت الركبة ، هذه الثياب اسمها ثياب الخدمة ، بهذه الثياب ترى أمك ، وأختك ، وبنتك ، وعمتك ، وخالتك ، وابنة أخيك ، وابنة أختك ، وابنة ابنك ، وابنة ابنتك ، ثياب الخدمة هذا الصنف الثاني .
الصنف الثالث : محارم المصاهرة ، يعني زوجة الأب ، أب توفيت زوجته وتزوج ، فزوجة الأب من محارم الشاب ، زوجة الابن ، أنت أب ولك زوجة ابن ، في كتب الفقه هناك حالات كثيرة لا يجوز الخلوة (في كتاب ابن عابدين الفقه الحنفي) بالصهرة الشابة ، شاب وزوجة أبيه شابة ، والأب كبير بالسن ، أو عم وزوجة ابنه شابة ، في كتب الفقه لا يجوز الخلوة بالصهرة الشابة ، طبعاً الثياب ثياب الخدمة عادي ، أما الخلوة بهن عليها إشكال.
1 ـ الزوجة :
إذاً عندنا ثلاثة أنواع من المحارم ، الزوجة ما في قيد ولا شرط ، لكن يتقي الزوج في علاقته المكان الذي ليس للإنجاب ، ويتقي وقت الحيض .(1/262)
* وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ * .
( سورة البقرة الآية : 22 ) .
لا حياء في الدين ، * فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ * .
هذا أدب النظر .
2 ـ محارم النسب :
طبعاً :
* حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالَاتُكُمْ وَبَنَاتُ الْأَخِ وَبَنَاتُ الْأُخْتِ *
( سورة النساء الآية : 23 ) .
هذه محارم النسب .
3 ـ محارم المصاهرة :
* وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آَبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ * .
( سورة النساء الآية : 22 ) .
زوجة الأب .
* قَدْ سَلَفَ إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتاً وَسَاءَ سَبِيلاً * .
( سورة النساء ) .
* وَحَلَائِلُ أَبْنَائِكُمُ * .
( سورة النساء الآية : 23 ) .
الصهرة ، زوجة الابن .
* الَّذِينَ مِنْ أَصْلَابِكُمْ وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُوراً رَحِيماً * .
( سورة النساء ) .
* وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ * .
( سورة النساء الآية : 32 ) .
أم زوجته من محارمه ، وبنت الزوجة .
* وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ * .
( سورة النساء الآية : 23 ) .
تزوج امرأة لها بنت ، هذه البنت ربيبته ، هذا الصنف الثالث محارم المصاهرة ، الأول الزوجة ، والثاني محارم النسب ، والثالث محارم المصاهرة .(1/263)
أيها الأخوة ، مرة ثانية الشيطان من أكبر مهماته نزع الثياب ، فالتعرية من صفات العصاة ، والتستر من صفات المؤمنين ، وأقول لكم هذه الكلمة الدقيقة : الرجال لهم جهاد في المعارك ، هذه عبادة خاصة بالرجال ، لو الواحد سألني هل للنساء عبادة خاصة بالنساء ؟ أنا أسميها إن صحّ التعبير عبادة إعفاف الشباب ، حينما تستر الفتاة مفاتنها عمن لا ينبغي أن يرى مفاتنها ، تقوم بعبادة اسمها عبادة إعفاف الشباب ، لا يعلم إلا الله كم من الأجر ترقى إليه الفتاة التي ترتدي ثياباً فضفاضة ، سابغة ، سميكة لا تشف عن بشرتها ، ولا عن أعضائها .
نحن عندنا بالحجاب ، من خصائص الحجاب ثوب فضفاض ، لا يصف حجم أعضائها ، كما هي الحالة في هذه الأيام ، وثوب سميك لا يشف عن لون بشرتها ، وأن النبي عليه الصلاة والسلام وصف النساء في أيام الفسق والفجور :
(( كاسيات عاريات )) .
[أخرجه مسلم ومالك عن أبي هريرة ] .
ترتدي ثياباً لكن هذه الثياب إما أن تصف لون بشرتها ، أو أن تصف حجم أعضائها ، هذه ثياب محرمة ، الثوب الذي يصف حجم العضو في المرأة ، أو الثوب الذي يشف عن لون البشرة هذا ثوب محرم في الإسلام ، فالشيطان :
* يَنْزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا * .
( سورة الأعراف الآية : 27 ) .
والإيمان يقتضي أن تستر هذه المفاتن .
أيها الأخوة ، صدقوا ولا أبالغ أنه ما من انحراف داخل البيت إلا بسبب عدم مراعاة هذه الأحكام ، الحقيقة المرة أفضل ألف مرة من الوهم المريح ، هناك انحرافات خطيرة في البيت ، سببها عدم التقيد بهذه الأحكام الشرعية التي هي من صلب تربية الأولاد تربية جنسية .
1 ـ غض بصر الإنسان عن النساء الأجنبيات اللواتي لا يحللن له :
إذاً أول أدب من آداب التربية الجنسية أدب الاستئذان ، والأدب الثاني أدب غض البصر ، ومع هذا الأدب تفاصيل ، قال تعالى :
* قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ * .
( سورة النور الآية : 30 ) .
هذه من ماذا تعني ؟ هذه المن للتبعيض ، * يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ * ، أي يغضوا بعض أبصارهم ، يعني المؤمن يغض بصره عن أي امرأة لا أجنبية لا تحل له ، ويغض بصره عن محارمه بمعنى لا يدقق في التفاصيل ، أحياناً إنسان في بيت أخته ممكن أن ينظر إلى خطوط جسمها إذا قامت ، أو قعدت ، أو صعدت درجاً ، أو استلقت على سرير ، يمكن أن ينظر نظرة دقيقة إلى تفاصيل الجسم ، هذا ممنوع(1/264)
أيضاً ، * يَغُضُّوا * ، إلى محارمهم ، * مِنْ أَبْصَارِهِمْ * ، نظرة شمولية ، والشيء أعتقد واضح جداً ، ممكن أن يكون النظر عاماً ، ويكمن أن تدقق في التفاصيل ، في الخطوط قامت أو قعدت ، صعدت درجاً ممكن أن يظهر شيء من جسمها ، ينبغي ألا تراه ، وهي عن براءة ، هي غير متعمدة أن تفعل هذا ، لكن أنت أيضاً كأخ ، فالمحارم أيضاً هناك غض بصر بمعنى عدم التدقيق في التفاصيل ، وفي الخطوط .
* قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ * ، أول غض تغض بصرك عن النساء الأجنبيات اللواتي لا يحللن لك ، هذا أول معنى ، لك أن تنظر إلى زوجتك ، وإلى محارمك من النسب والمصاهرة ، وينبغي أن تغض البصر عن ما سوى ذلك ، هذا أول معنى .
2 ـ النظر إلى المحارم نسباً أو مصاهرة نظرة شمولية دون تتبع التفاصيل :
المعنى الثاني : إذا نظرت إلى محارمك نسباً ، أو مصاهرة ينبغي أن تنظر نظرة شمولية ، من دون تدقيق ، من دون تتبع التفاصيل ، يعني أثناء حركة معينة ينبغي ألا تنظر بهذه الحركة قد يبدو شيء من جسمها ، هذا من أدب المؤمن .
ذكرت لكم من قبل أن هناك في الإسلام عقائد ، وعبادات ، ومعاملات ، وآداب ، وكأن موضوع هذه الدروس متعلق بالآداب .
3 ـ غض البصر لأن النظرة الأولى لا شيء عليها فالمحاسبة على النظرة الثانية :
أيها الأخوة ، هناك معنى ثالث : تمشي بالطريق في منعطف ، وصلت إلى المنعطف فإذا امرأة أمامك كما خلقها الله ، غير محجبة ، لا شك أن هذه النظرة الأولى انطبعت في ذهنك ، هذه معفو عنها ، لكن ليست ربع ساعة النظرة أي النظر الفجائي ، أحياناً تظهر أمامك امرأة من دون حجاب ، وبثياب متبذلة ، الأولى لك والثانية عليك ، كم معنى صار ؟ ثلاثة ، تنظر إلى المحارم نسباً أو مصاهرة ، وتغض البصر عما سواهن من النساء الأجنبيات اللواتي لا يحللن لك ، أول معنى .
المعنى الثاني : إذا نظرت إلى المحارم ينبغي أن تكون النظرة شمولية من دون تدقيق ، وأيام ببعض الحركات ينبغي أن تغض البصر .
المعنى الثالث : قد تفاجأ بامرأة في منعطف تراها وجهاً لوجه ، الأولى لك والثانية عليك ، كل هذه المعاني تنطوي تحت قوله تعالى : * قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ * .
قال :
* وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ * .
( سورة النور الآية : 30 ) .
لو قال من فروجهم ما قولك ؟ ماذا يفهم لو أن الآية كذلك ؟ كما أن بعض النظر مباح ، لو قال من فروجهم ، بعض الزنا مباح ، هذه مستحيلة ، * وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ * ، من لا يوجد هنا .(1/265)
إلا أنه هناك ملمح ثالث بالآية أما طريق حفظ الفرج غض البصر ، لما جاء حفظ الفرج بعد آية غض البصر * قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ * :
* ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ * .
( سورة النور الآية : 30 ) .
وغض البصر بالقرآن ورد ، يعني القرآن محدود الصفحات ، فإذا احتلت آية مكان في القرآن معنى ذلك شيء مهم جداً ، للتقريب :
محطة وقود في مكان لإعلان كبير ، ممكن تكتب بالإعلان : رأس الحكمة مخافة الله ، ممكن تكتب الحسود لا يسود ، لكن بهذه المحطة بالذات أخطر عنوان ممنوع التدخين ، و إلا تحترق المحطة كلها ، فإذا وجدت مكاناً لإعلان واحد في محطة وقود أقوى إعلان ، وأخر إعلان منع التدخين ، هناك بخار للبنزين أحياناً قد يشتعل .
للتقريب طبعاً : كتاب مقدس ، ستمئة صفحة آية غض البصر تحتل مكاناً في القرآن معنى ذلك الموضوع خطير جداً ، ليس موضوعاً ثانوياً ، ليس موضوعاً يمكن أن يكون في حديث عادي ، لا ، بآية قرآنية .
إذاً جعل الله حفظ الفرج بسبب غض البصر ، سبحان الله بموضوع الشهوة الجنسية حقيقة دقيقة : أنه شيء يشبه صخرة على قمة جبل ، لو أردت أن تدفعها باتجاه الوادي ، وتمنيت أن تقف بعد مترين ، لن تقف إلا في قعر الوادي ، هذه من خصائص الشهوة .
لذلك لم ترد آية وحدة في تحريم الزنا ، بل وردت آية في النهي عن الاقتراب من الزنا ، الزنا له مقدمات ، فالخلوة مقدمة .
(( ما خلا رجل بامرأة إلا دخل الشيطان بينهما )) .
[أخرجه الطبراني عن أبي أمامة الباهلي ] .
إطلاق البصر ، دخلت بالمنطقة المحرمة ، يعني أنا أشبه هذا بنهر عميق له شاطئ مائل زلق ، وشاطئ جاف مستوٍ ، فهذه المنطقة منطقة خطرة ، لو وقف في هذه المنطقة الخطرة المائلة هناك احتمال كبير أن يقع في النهر .
لذلك الشريف هو الذي يهرب من أسباب الخطيئة ، لذلك أمر غض البصر وحينما نهى عن الزنا قال :
* وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا * .
( سورة الإسراء الآية : 32 ) .
لا تقرب ، ابتعد عن أسبابه ، من أسبابه : صحبة الأراذل ، الحديث عن النساء ، من أسبابه إطلاق البصر ، من أسبابه التنزه في الطرقات ، طبعاً بالطريق هناك نساء كاسيات عاريات ، من أسبابه(1/266)
الجلوس على مقاهي الرصيف ، الآن هناك مقاهٍ على الرصيف ، يجلس الجالسون ليتأملون الغاديات والرائحات ، هذه كلها من أسباب الوقوع في هذه المعصية الكبيرة قال تعالى : * وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا * .
تماماً كخط تيار عالي التوتر ، خطير ، يضع وزير الكهرباء لوحة : لا تقترب من التيار ، هناك هامش أمان ، إذا دخلت فيه جذبك التيار ، وجعل المقترب منه قطعة فحم سوداء .
لذلك لابدّ من أن تدع بينك وبين هذه المعصية هامش أمان ، هذا هامش الأمان يبدأ بغض البصر ، بعد ذلك عدم الخلوة ، عدم صحبة الأرذل ، عدم القراءة التي تثير الشهوات ، عدم متابعة الأفلام التي تثير الشهوات ، عدم متابعة المواقع الإباحية ، هذه كلها من أسباب البعد عن هذه الفاحشة ، أما الذي يخترق هذه المنطقة الحرجة ، هذه المنطقة القريبة هناك احتمال قريب يقع في الفاحشة ، وهذا طبعاً معنى قول الله تعالى :
* وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلاً * .
( سورة الإسراء ) .
أيها الأخوة ، آداب تربية الأولاد تربية جنسية يبدأ بالتعليم المركز في أدب الاستئذان ، والتعبير المركز ، والأدب المركز ، وفي التعبير المركز أسباب هذه المعصية الكبيرة ، هذا كله من وسائل التربية الجنسية للأطفال .
الحقيقة مثل بسيط ، طبعاً هو موقعه في وقت آخر لكن قال عليه الصلاة والسلام :
(( إِذا خَطَبَ إِليكم من تَرضَون دينه وخُلُقَه فزوجّوه )) .
[أخرجه الترمذي عن أبي هريرة ] .
واضح المعنى ، لكن هناك ملمح خطير :
* إِلَّا تَفْعَلُوهُ * .
( سورة الأنفال الآية : 73 ) .
لو وضعتم عقبات أمام الزواج ، لو غاليتم في المهور ، لو طلبتم طلبات مستحيلة من الشباب ، هذه العلاقة بين الذكر والأنثى لا تقف ، لكن تكون بقناة غير شرعية .
* إِلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ * .
( سورة الأنفال ) .
أنا ألقيت محاضرة عن المراهقة ، وأكدت بالدليل القطعي لو وجد انضباط حقيقي في المجتمع الإسلامي لا يوجد مراهقة أبداً ، لكن تأتي المراهقة من مثيرات كبيرة جداً في الطرقات ، وفي الصحف ، وفي المجلات ، وفي الانترنيت ، وفي الفضائيات ، وفي الأفلام إثارة عالية الدرجة ، وبين الشاب وبين الزواج عشر سنوات ، أو عشرين سنة هذه مشكلة كبيرة جداً ، ولا أحد يفكر فيها .(1/267)
أنا أقول دائماً : الشباب عماد الأمة ، رجال المستقبل ، الأمل معقود عليهم ، ولكن هؤلاء الشباب يحتاجون إلى أشياء ثلاثة ، ما لم يهتم أولو الأمر ، يعني الآباء والأمهات والمسؤولون بقضايا ثلاثة متعلقة بالشباب ، بتزويج الشباب ، وتأمين فرص عمل لهم ، وتأمين بيوت لهم ، فهناك مشكلة كبيرة جداً قد تنحرف بالشباب .
أنت حينما تفهم حقيقة الإنسان هذا الدافع عميق جداً ، وحينما تقيم العقبات أمامه يسلك سلوكاً منحرفاً ، وبقدر عدم وجود صعوبات أمام الزواج بقدر عدم وجود بيوت دعارة ، في مغالاة في المهور ، شروط غير معقولة تعجيزية ، فحينما توضع العقبات أمام الزواج تنشأ طرق غير مشروعة في العلاقة بين الذكر والأنثى ، هذا قاله النبي عليه الصلاة والسلام .
بصراحة القضية الجنسية قضية أساسية في حياة المؤمن ، المؤمن يتمتع بغض البصر ، وغض البصر أبعده عن كل إثارة ، يبتعد عن أي خلوة بأجنبية ، يبتعد عن أي صديق يحدثه عن مغامراته الجنسية ، لا يصحب الأراذل ، ولا يتحدث عن النساء ، ولا يمشي في طريق محفوفة بالكاسيات العاريات ، ويبتعد عن كل اختلاط ، وعن كل كشف للعورات ، هذه الأسباب إذا فعلها حصنه الله من الوقوع في هذه الفاحشة التي دمرت الشعوب .
هناك بلاد بآسيا يصرح رئيس وزارة أنه لا يوجد عنده ولا فتاة عذراء ، يفتخر ، بلد سياحي من الطراز الأول .
زرت مرة الجزائر ، أعلموني أن الجزائر ساحلها طوله ألف و خمسمئة كيلو متر ، جبال خضراء ، أماكن جميلة جداً ، ولم يهتموا بالسياحة إطلاقاً ، لأن السياحة تعني انتهاك أعراض الفتيات في كل بلد .
لذلك هناك مواقف مشرفة أنهم رفضوا ترويج السياحة هناك ، أما في البلاد الأخرى السياحية فيها مجال كبير للفواحش والآثام التي لا ترضي الله عز وجل .
أخوانا الكرام ، موضوع التربية الجنسية موضوع دقيق جداً ، طبعاً موضوع يحتاج إلى عدة لقاءات ، هذا اللقاء الأول أدب الاستئذان ، والمحارم وأنواعها ، ثم غض البصر هذه يحتاجها الكبار والصغار ، يحتاجها الأب ، والأم ، وأولادهم ، فإذا كان عند أحدكم أطفال يربون على هذا الأدب ، وإذا كان الشاب شاباً يجب أن يوجه أخوته الصغار إلى هذا الأدب ، والإسلام كما تعرفون عقائد ، وعبادات ، ومعاملات ، وآداب ، وهذا الدرس من الآداب لكنه مستند إلى أحكام شرعية قطعية الدلالة والثبوت .
================== ... ...
... ...(1/268)
29 ـ التربية الجنسية 2: غضّ البصر
أيها الأخوة الكرام ، مع الدرس التاسع والعشرين من دروس تربية الأولاد في الإسلام ، ومع موضوع التربية الاجتماعية ، ولا زلنا في موضوع يتصل اتصالاً وثيقاً بالتربية الاجتماعية ألا وهي التربية الجنسية .
وقد بدأنا هذا الموضوع في الدرس الماضي ، وسوف نتابع هذا الموضوع في هذا الدرس وفي الدرس الذي يليه إن شاء الله تعالى .
أيها الأخوة الكرام ، أودع الله فينا الشهوات لنرقى فيها إلى رب الأرض والسماوات ، و ما أودع الله فينا الشهوات إلا لنرقى بها إلى رب الأرض والسماوات ، لأن الشهوة تمثل الحركة ، الشهوة تمثل المحرك في السيارة ، إذا كان هناك مقود ، وكان هناك وعي ، وكان هناك طريق معبد ، فمهمة المحرك أن ينطلق بالسيارة ، ومهمة المقود أن يبقيها على الطريق ، ومهمة الطريق أن يكون مكاناً مناسباً لهذه السيارة .
فالطريق هو الشرع ، والمقود هو العقل ، والمحرك هو الشهوة ، فالشهوة أودعها الله فينا وهي حيادية ، سلم نرقى بها أو دركات نهوي بها ، وقد يصل الإنسان من خلال الشهوة إلى أعلى الدرجات ، وقد يهوي بها إلى أسفل الدركات .
فلذلك الحديث عن التربية الجنسية لولا الجنس لما كان البشر إلى الآن ، الطعام والشراب من أجل بقاء الفرد ، والجنس من أجل بقاء النوع ، وتأكيد الذات من أجل بقاء الذكر فأنت بين حاجة إلى بقاء شخصك عن طريق الطعام والشراب ، وأنت بحاجة إلى بقاء جنسك ، أو نوعك عن طريق الجنس ، وأنت بحاجة إلى بقاء ذكرك عن طريق تأكيد الذات .
بدأنا بالتربية الجنسية حينما تحدثنا عن الاستئذان ، استئذان الأطفال على أمهم وأبيهم في غرفهم ، وتحدثت ملياً عن أخطار عدم الاستئذان ، وعن أن يشاهد الطفل ما لا ينبغي أن يشاهده ، ثم بينت أيضاً أحكام العورة التي ينبغي أن تحدد في المحارم ، المحارم أنواع ثلاثة الزوجة نوع ، ومحارم النسب نوع ، ومحارم المصاهرة نوع ثالث ، وتابعنا الموضوع ووصلنا إلى موضوع الزواج والنظر إلى المخطوبة .
الآن دقق ، عن المغيرة بن شعبة ، أنه خطب امرأة ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم :
(( انظُرْ إِليها )) .
[أخرجه الترمذي والنسائي عن المغيرة بن شعبة ] .
نظر الشاب إلى مخطوبته التي هي حتى الآن أجنبية مباح ، نظر الشاب إلى مخطوبته نظر مباح ، فقال عليه الصلاة والسلام :
(( انظُرْ إِليها . فإنه أَحْرَى أن يُؤْدَمَ بينكما )) .(1/269)
[أخرجه الترمذي والنسائي عن المغيرة بن شعبة ] .
أحياناً شاب في ثورة إيمانية يقول : أنا أريد فتاةً مؤمنة فقط ، ولا يعنيني جمالها إطلاقاً ، هذا كلام غير واقعي بعد حين يندب حظه ، أقول لك : طبق منهج النبي ، قال لك :
(( انظُرْ إِليها . فإنه أَحْرَى أن يُؤْدَمَ بينكما )) .
هناك حاجة عند كل شاب إلى فتاة جميلة ، لا أقول الجمال المطلق ، لكن لابد من أن تحصنه ، الزواج يحصن الشاب ، فلذلك من توجيهات النبي :
(( انظُرْ إِليها . فإنه أَحْرَى أن يُؤْدَمَ بينكما )) .
أن يكون هناك توافق وتجاوب بينكما .
عند الجمهور ينبغي أن يرى من مخطوبته وجهها وكفيها بعد أن يعزم على الزواج منها ، موضوع السفر لم يبحث ، يريدها لسفر ، وأهلها لا يقبلون خاطباً إلى سفر فقبل أن تقول أريد أن أنظر إليها ، هل بحثت موضوع السفر ؟ أهلها لا يقبلون إلا ببيت مستقل وأنت تريد أن تسكنها مع أهلك ، فقبل أن تقول أريد أن أنظر إليها ، هل حللت هذه المشكلة ؟ النظر يكون آخر مرحلة ، صار هناك اتفاق على المكان ، والزمان ، والمهر ، والبيت ، وكل التفاصيل التي يرغبها أهل الفتاة ، وصار في عرض لواقع الفتاة ، فإذا كان هناك توافق بين الأسرتين الآن نقول نريد أن ننظر إليها ، واضح ؟.
أما الآن قبل البحث في أي موضوع ، قبل البحث في المهر ، وفي السكن ، وفي السفر ، أو الإقامة ، وفي حرفة الشاب يريد أن ينظر إليها ، هذا نظر فضولي .
فلذلك رأي الجمهور أنه يجوز أن ينظر الخاطب إلى مخطوبته ، أن ينظر إلى وجهها وكفيها بعد أن يعزم على الزواج منها .
وقال العلماء : ويجوز تكرار النظر إذا دعت الحاجة ، يعني أغلب الظن الشاب المؤمن عنده حياء ، فحينما يدخل على مخطوبته ليراها يستحي ، ويضع نظره في الأرض ويقول : والله إني ما رأيتها ، خجلت أن أحدق فيها ، ففي مثل هذه الحالة يمكن أن يعيد النظر مرات كي يستوعب هذه الفتاة التي سوف تكون شريكة حياته .
لكن بالمناسبة حينما يريد الخاطب أن ينظر إلى مخطوبته ، لا ينبغي أن يخلو بها هنا يوجد مشكلة ، لا ينبغي أن يخلو بها ، ممكن أن تكون معه أمه لقول النبي صلى الله عليه وسلم :
(( لَا يَخْلُوَنَّ رَجُلٌ بِامْرَأَةٍ وَلَا تُسَافِرَنَّ امْرَأَةٌ إِلَّا وَمَعَهَا مَحْرَمٌ )) .
[ البخاري عن ابن عباس] .
أما الذي يحصل عند المتفلتين يدخل خاطباً ، ويدخل مرات عديدة ، ويأخذها إلى مكان يتنزه ، ليمتحن أخلاقها ، وتطول الخطبة ، ويقع المحذور ، ثم يختفي الخطيب ، هذه القصة سمعت عنها مئات المرات ، في تساهل ساذج ، في جهل فاضح ، هذا الفتى هو أجنبي عن ابنتك ، له أن يراها في بيتك(1/270)
مرات عديدة ، وأن يحاورها ، وأن يسألها ، أما أن يأخذها بداعي الخطبة المديدة ، أكثر الناس الغير منضبطين تدوم الخطبة أشهراً عديدة ، وقد تصل إلى السنة ، لا في عقد ولا في شيء ، ويأخذها خارج البيت إلى أماكن متعددة ، وقد يقع المحذور ، وعندئذٍ تقع الطامة الكبرى ، قال تعالى :
* سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ * .
( سورة محمد ) .
الإنسان ما دام وفق الشرع عنده راحة نفسية ، ليس عنده مفاجآت ، ليس عنده خبر صاعق ، ليس عنده موقف يكاد يذوب من الخجل ، لأنه طبق الشرع فهو في ظل رحمة الله عز وجل .
يعني أحياناً يقول لك : عمري سبعون سنة ما دخلت لمخفر ، أموره كلها شرعية ، ليس عنده مخالفات ، فالإنسان حينما يستقيم يسلم ، وحينما يحسن يسعد ، وحينما يربي ابنه يستمر وجوده .
هناك حقيقة خطيرة وهي : أنه ما من مأساة على وجه الأرض من آدم إلى يوم القيامة إلا بسبب خروج عن منهج الله ، وما من خروج عن منهج الله إلا بسبب والجهل أعدى أعداء الإنسان ، والجاهل يفعل في نفسه ما لا يستطيع عدوه أن يفعله به ، وأزمة أهل النار في النار أزمة جهل .
* وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ * .
( سورة الملك ) .
لذلك قال عليه الصلاة والسلام :
(( النظرة سهم مسموم من سهام إبليس )) .
[ أخرجه الطبراني عن عبد الله بن مسعود ] .
أصابه سهم ، لابدّ من جرح ، أما إذا كان السهم مسموماً هذا السم سرى في جسم الإنسان كله ، فلذلك من تشبيهات النبي الرائعة أن النظرة إلى المرأة الأجنبية التي لا تحل لك هي سهم مسموم من سهام إبليس .
بالمناسبة إذا في محطة وقود ، وهناك مكان لإعلان ، ويمكن أن نضع في هذا المكان آلاف الاحتمالات ، الصبر جميل ، رأس الحكمة مخافة الله ، مثلاً ، لكن ما دام محطة الوقود فيها سائل ينفجر ويشتعل أهم إعلان يوضع في هذا المكان ممنوع التدخين ، لأن البنزين له بخار و حينما تأتي شرارة تحرق المحطة كلها ، فلذلك أفضل إعلان : ممنوع التدخين ، لِمَ سقت هذا المثل ؟ حينما يكون في القرآن الكريم ، في هذا الكتاب المعجز ، بكلام رب العالمين ، مكان محجوز لغض البصر فمعنى ذلك أن غض البصر شيء أساسي جداً في حياة المؤمن .
* قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ * .
( سورة النور الآية : 30 ) .(1/271)
إذاً :
(( النظرة سهم مسموم من سهام إبليس من تركها من مخافتي أبدلته إيماناً يجد له حلاوته في قلبه )) .
[ أخرجه الطبراني عن عبد الله بن مسعود ] .
يعني إن صحّ التعبير هناك متعة تتأتى من النظر إلى محاسن امرأة جميلة ، وهناك سعادة تتأتى من غض البصر عن هذه المرأة الجميلة .
بالمناسبة : يمكن أن نستخدم هذين المصطلحين ، مصطلح اللذة والسعادة ، اللذة حسية ، تتأتى من خارج الإنسان ، اللذة تتأتى من طعام طيب ، أو من بيت مريح ، أو من منظر خلاب ، أو من وجه صبوح ، مصادر اللذة خارج الإنسان ، وهذه اللذة ليست مستمرة بل متناقصة .
يعني إنسان يقتني مركبة ، أول أيام الاقتناء لا ينام الليل من فرحه ، لكن بعد سنة قد يدعها أياماً طويلة ولا يخطر في باله أن يركبها ، فالمركبة متعتها محدودة ، والبيت كذلك ، والزواج كذلك ، وأي شيء يناله في الدنيا لابدّ أن يناله بلذة مستمرة ، أو متنامية ، بل هذا الشيء يمده بلذة ليست متنامية ، بل ليست مستقرة ، لكنها متدنية ، يعني بعد حين الذي حصّل أموالاً طائلة ، وسكن بأجمل بيت ، واقتنى أجمل مركبة ، وسافر تجده يحس بألم ، وسأم وضجر ، لأن الله أبى أن تمد الدنيا الإنسان بسعادة متنامية ، ولا بسعادة مستقرة ، بل بلذة متدنية ، وتنتهي بالكآبة أحياناً إن كانت هذه اللذة محرمة .
اللذة أيها الأخوة ، لها مشكلة أنها تحتاج إلى صحة ، وإلى مال ، وإلى وقت ، ودائماً هناك عنصر مفقود في حياة الإنسان ، هو شاب الصحة طيبة ، والوقت واسع ، لكن لا يوجد مال ، في نصف العمر هناك مال ، وهناك صحة لكن لا يوجد وقت ، بخريف العمر يوجد وقت و مال ، لكن لا يوجد صحة ، هذه اللذة ، أما السعادة تنبع من الداخل ، ليست متعلقة بشيء خارجي إطلاقاً ، حينما تستقيم على أمر الله ، تشعر بالسعادة ، حينما تخطب ود الله تشعر بالسعادة ، والسعادة التي من الداخل متنامية تزداد ، من هنا قال الله عز وجل :
* إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ * نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآَخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ نُزُلاً مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ * .
( سورة فصلت ) .
لذلك ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم أيضاً أنه قال :
(( ما من مسلم ينظر إلى محاسن امرأة ثم يغض بصره إلا أحدث الله له عبادة يجد حلاوتها ـ في قلبه ـ )) .
[ أخرجه الطبراني عن أبي أمامة الباهلي ] .(1/272)
الإنسان بالنهار يصلي خمس صلوات ، أما كلما غض بصره عن امرأة لا تحل له يرقى إلى الله عز وجل .
أيها الأخوة الكرام ، الآلية لا أعرفها ، أما النتيجة ثابتة ، أي زوج غض بصره عن محارم الله ، أعطاه الله حباً بينه وبين زوجته ، وسعادة ثابتة ومتنامية ، و لا يوجد مشكلة في الليل إلا بسبب معصية ، دققوا في هذا القول :
(( ما تواد اثنان في الله فيفرق بينهما إلا بذنب يحدثه أحدهما )) .
[البخاري في الأدب عن أنس] .
هذا الذنب منه أو منها تنشأ الجفوة ، ينشأ التباعد .
أيها الأخوة ، حينما يطلق الإنسان بصره في محارم الله يدفع الثمن باهظاً في حياته الزوجية ، لذلك قال عليه الصلاة والسلام :
(( اضمنوا لي ستاً من أنفسكم أضمن لكم الجنة )) .
[أخرجه أحمد عن عبادة بن الصامت ] .
و لك أن تقول : اضمنوا لي ستاً من أنفسكم أضمن لكم الجنة :
(( اصْدُقُوا إِذَا حَدَّثْتُمْ ، وَأَوْفُوا إِذَا وَعَدْتُمْ ، وَأَدُّوا إِذَا اؤْتُمِنْتُمْ ، وَاحْفَظُوا فُرُوجَكُمْ ، وَغُضُّوا أَبْصَارَكُمْ ، وَكُفُّوا أَيْدِيَكُمْ )) .
[أخرجه أحمد عن عبادة بن الصامت ] .
إذاً غض البصر من صفات المؤمن ، وفي بعض الأحاديث :
(( الْعينانِ تزنيان وزِنَاهُما النَّظَرُ ، والأُذُنَانِ تزنيان وزناهُمَا الاستماعُ ، واللِّسانُ يزني وزِناه الْكلامُ ، والْيَدُ تزني وزِناها البْطَشُ ، والرِّجْل تزني و زِناها الخُطَا ، والْقَلْبُ يزني ويَهوى ويَتمنَّى ، ويُصَدِّقُ ذلك الْفَرْجُ أو يُكَذِّبُهُ )) .
[أخرجه البخاري ومسلم وأبو داود عن أبي هريرة ] .
هذه أنواع المتعلقة بالزنا ، والمعاصي متعلقة بالجوارح طبعاً ، ولما سُئل النبي صلى الله عليه وسلم عن نظر الفجاءة فقال عليه الصلاة والسلام :
(( اصْرِفْ بَصَرَكَ )) .
[أخرجه مسلم وأبو داود والترمذي عن جرير بن عبد الله البجلي ] .
وفي حديث دقيق جداً يقول عليه الصلاة والسلام :
(( ثلاثة لا ترى أعينهم النار : عين حرست في سبيل الله ، وعين بكت من خشية الله ، وعين كفت عن محارم الله )) .
[أخرجه الطبراني عن معاوية بن حيدة ] .(1/273)
العين التي تكف عن محارم الله ، هذه العين لا ترى النار ، عين بكت من خشية الله ، هذه لا ترى النار ، عين حرست في سبيل الله ، هذه العين لا ترى النار .
كل إنسان ، وبكل عمر له صفة مميزة ، فالشاب في مقتبل حياته أجمل صفة فيه العفة ، والفتاة في مقتبل حياتها أجمل صفة فيها الحياء .
لذلك قيل : التوبة حسن لكن في الشباب أحسن ، والحياء حسن لكن في النساء أحسن ، والعدل حسن لكن في الأمراء أحسن ، والسخاء حسن لكن في الأغنياء أحسن ، والصبر حسن لكن في الفقراء أحسن ، والحياء حسن لكن في النساء أحسن .
من علامات آخر الزمان أن النخوة تنزع من رؤوس الرجال ، والحياء ينزع من وجوه النساء ، والرحمة تنزع من قلوب الأمراء .
أيها الأخوة الكرام : لو دخلنا في التفاصيل ، لا يجوز أن ينظر الرجل إلى الرجل فيما بين سرته إلى ركبته ، بالرياضة لا يجوز ، الفخذ عورة ، فلا يجوز أن ينظر الرجل إلى الرجل فيما بين سرته إلى ركبته ، سواء أكان هذا الرجل المنظور قريباً أم بعيداً ، مسلماً أو غير مسلم ، لأن الفخذ في النص الصحيح عورة ، وفي بعض الأحاديث :
(( لا ينظر الرجل إلى عورة الرجل ، ولا تنظر المرأة إلى عورة المرأة )) .
[ أخرجه مسلم وابن خزيمة عن أبي سعيد الخدري ] .
(( مَا بَيْنَ السُّرَّةِ وَالرُّكْبَةِ عَوْرَةٌ )) .
[ الطبراني في الأوسط عن عبد الله بن جعفر] .
(( غط فخذك فإن الفخذ عورة )) .
[أخرجه الإمام أحمد عن جرهد ] .
هذا من تعليمات وتوجيهات النبي عليه الصلاة والسلام .
بالسباحة الثياب تحت الركبة و الرياضة كذلك ، أنا أعرف هذه القصة : لاعب كرة من أشهر لاعبي مصر ، اعتزل اللعب في مباراة دولية ، والدولة حريصة حرصاً لا حدود له على النجاح في هذه المباراة ، فعندما اعتزل اللعب زاره وزير الشباب وأقنعه أن يشترك في المباراة ، فاشترط عليه الثياب السابغة فوافقه على ذلك ، وسرى هذا الترتيب عند لاعبي الكرة أحياناً ، ممكن أن تكون الثياب تحت الركبة ، والسباحة كذلك .
لا يوجد انحراف جنسي إلا يسبقه مخالفة شرعية ، المخالفات الشرعية من نتائجها انحرافات جنسية ، من علامات قيام الساعة ، اكتفاء الرجال بالرجال ، والنساء بالنساء.
زرت مدينة في أمريكا تعد أجمل مدن العالم ، خمسة و سبعون بالمئة من سكانها يكتفي الرجال بالرجال ، والنساء بالنساء ، وهذا يبدأ من إظهار العورات في البيوت .(1/274)
الآن هل هناك من سماح للنظر من امرأة أجنبية ؟ العلماء قالوا : يجوز للطبيب أن ينظر إلى مريضته ، في مكان المرض بالذات ، أنا أحياناً أعجب بالطبيب المسلم الذي ربي على أدب الإسلام .
هناك طبيب عظمية أعرفه معه ملاءة كبيرة جداً بيضاء فيها فتحة صغيرة ، يضع الفتحة مكان الألم في المرأة ، لا يرى منها إلا مكان الألم ، وهناك أطباء يسارعون إلى أن يطلبوا من المريضة خلع ثيابها ، فكلما كان المؤمن أقرب إلى الله كان أقرب إلى التستر ، لأن الشيطان :
* يَنْزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا * .
( سورة الأعراف الآية : 27 ) .
لكن بالحكم الشرعي المرأة المريضة إذا وجدت طبيبة مسلمة ، الأولى أن تعالج عندها ، فإن لم يكن فطبيب مسلم ، الطبيب يغض بصره ، ويعتني بالمريضة بحيث لا يحرجها ، وعند الضرورة لابدّ من أي طبيب .
شخص يقول لي : أنا أغار على زوجتي لا أعالجها عند طبيب ، و لا يوجد طبيبة ، هذا يجهل الأحكام الشرعية ، عن سيدنا عمر ورد :
" أنه ليس بكم من عرف الخير ، ولا من عرف الشر ، ولكن من عرف الشرين وفرق بينهما ، واختار أهونهما " .
المرض يستدعي معالجة من طبيب ، أي طبيب ، الأولى أن نبدأ بالطبيبة ، ثم بالطبيب ، ثم بالطبيب المسلم ، ثم بأي طبيب .
إذاً النظر بقصد المعالجة جائز للطبيب .
لكن الآية الكريمة :
* يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ* .
( سورة غافر ) .
يعني هذا الطبيب لو استرق النظر إلى مكان لا تشكو منه المريضة ، من يعلم ذلك ؟ الله وحده ، لو استرق الطبيب الذي يعالج امرأة النظر إلى مكان لا تشكو منه ، الله وحده الذي يكشف هذه المخالفة لقوله تعالى : * يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ * .
ولك أن ترى مخطوبتك كما مر بنا سابقاً بقصد الخطبة ، والقاضي له أن ينظر إلى المرأة التي تشتكي ، أو يُشتكى عليها ، والشاهد كذلك ، القاضي ، والشاهد ، والخاطب ، والطبيب ، هذه حالات يجوز لأصحابها أن ينظر إلى امرأة أجنبية .
أيها الأخوة الكرام ، كما قلت قبل قليل : من علامات قيام الساعة أن تُنزع المروءة من رؤوس الرجال ، وأن يذهب الحياء من وجوه النساء ، وأن تنزع الرحمة من قلوب الأمراء .
ليس صعباً أن يطبق هذا المنهج العظيم في أي عصر لأن الله عز وجل يقول :(1/275)
* لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا * .
( سورة البقرة الآية : 286 ) .
فلا يمكن أن نكلف بأمر من الأوامر إلا إذا كان هذا متاحاً لنا ، ومقدوراً عليه .
الآن من لوازم التربية الجنسية : أن يجنب الآباء أولادهم الإثارة الجنسية .
كنت مرة في ماليزيا ، هذا الصحن غرامته مليون ليرة ، صحن مفتوح على محطات (بعضها إباحي) ، موجود في البيت ، هناك إثارات تفوق حدّ الخيال ، فالأب المؤمن الذي يحرص على تربية أولاده يجب أن يجنب أولاده كل جهاز في البيت يقدم إثارة جنسية عالية جداً .
والله حتى في أمريكا ، شريط الأفلام أول نوع يراه الأطفال ، الأربعة يحتاج إلى رقم سري ، هم على بعدهم عن الدين خافوا على أولادهم ، هذا الذي ترونه في بعض البلاد النامية محطات لا تعد ولا تحصى ، أنا كنت أقول دائماً كلما اتسعت الصحون على السطوح ضاقت صحون المائدة ، وكلما قلّ الحياء قلّ ماء السماء ، وكلما رخص لحم النساء غلى لحم الضأن .
تقريباً الأحكام الشرعية 90% منها متعلق بالمرأة ، والمال ، والفضائح ، بتاريخ البشرية فضائح مالية أو جنسية ، والتوجيهات القرآنية والنبوية متعلقة بعلاقتك بكسب المال وعلاقتك بالمرأة ، فحينما تُسد هاتان الثغرتان في حياة المؤمن يكون متفوقاً وموفقاً .
أيها الأخوة ، من كلام النبي عليه الصلاة والسلام في آخر الزمان :
(( لو دخلوا ـ الكفار ـ جحر ضب لدخلتموه )) .
[أخرجه الحاكم عن أبي هريرة ] .
نساء المسلمين العفيفات ، الطاهرات من يتحكم بنوع ثيابهن ؟ مصمم أزياء فرنسي مثلاً ، هو قرر أن تكون الثياب على هذا النحو ، أصبحت الثياب فاضحة ، تصف حجم العورة أو تشف عن لونها ، أو تكون ذات لون يلفت النظر ، فما دام هذا النمط جاء في هذا العام عن طريق المجلات الخاصة ، فلابد من أن يقتدي هؤلاء بمثل هذا النوع من الثياب ، هذا خطأ كبير ، الإنسان المؤمن يقول كلمة لا بملء فيه ، ولا تأخذه في الله لومة لائم .
أيها الأخوة ، مرة ثانية : قضية المال ، وقضية المرأة ، منفذان خطيران للمعاصي ، فعندما يسد الإنسان هذه الثغرة بغض البصر ، ويسد ثغرة المال بالعمل المشروع ، فقد حصن دينه ، والناس يؤخذون إما من كسب أموالهم ، أو من علاقتهم بالمرأة .
المجتمع المسلم صدقوا ولا أبالغ ليس فيه مراهقة لوجود الانضباط فيه ، أحياناً الإنسان يذهب إلى العمرة ، هناك الحجاب إلزامي ، يعني يبقى أياماً عديدة ومديدة لا يشعر بأي بشيء يثيره ، المرأة بالثياب الكاملة ، الساترة ، السابغة ، الفضفاضة ، السميكة ، أما حينما تعرض مفاتن المرأة في الطريق ، هناك مشكلة كبيرة .(1/276)
فيا أيها الأخوة الكرام ، من لوازم المؤمنين العفة ، و حينما سأل النجاشي سيدنا جعفر عن الإسلام ، ماذا قال سيدنا جعفر ؟ قال :
(( أيها الملك كنا قوماً أهل جاهلية ، نعبد الأصنام ، ونأكل الميتة ، ونأتي الفواحش ، ونقطع الأرحام ، ونسيء الجوار ـ هذه الجاهلية ـ حتى بعث الله إلينا رسولاً منا نعرف نسبه ، وصدقه ، وأمانته ، وعفافه ، فدعانا إلى الله لنوحده ، ونعبده ، ونخلع ما كنا نعبد نحن وآباؤنا من دونه من الحجارة والأوثان ، وأمرنا بصدق الحديث ، وأداء الأمانة ، وصلة الرحم ، وحسن الجوار ، والكف عن المحارم والدماء )) .
[أخرجه ابن خزيمة عن جعفر بن أبي طالب ] .
هذا الدين دين أخلاق .
* وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ * .
( سورة القلم ) .
والعبادات الشعائرية لا تقبل ولا تصح إلا إذا صحت العبادات التعاملية .
وفي درس آخر إن شاء الله نتابع هذه التربية الجنسية ، والمجتمع اليوم مع هذا التفلت في أمس الحاجة إلى هذا النوع من التربية .
================= ... ... ... ...(1/277)
30- التربية الاجتماعية 9 : تأديب الصغار على معرفة حق الكبير
أيها الأخوة الكرام ، مع الدرس الثلاثين من دروس تربية الأولاد في الإسلام ، وهو تابع للتربية الاجتماعية تأديب الصغار على معرفة حق الكبير .
أيها الأخوة الكرام ، ما من عمل يقترفه طفل صغير أشد من أن يتطاول على الكبير ، لذلك يقول عليه الصلاة والسلام :
(( ليس منا من لم يوقر الكبير ، ويرحم الصغير ، ويعرف لعالمنا حقه )) .
[أخرجه البزار عن عبد الله بن عباس ] .
(( ليس منا )) نفى عن هذا الإنسان الانتماء إلى الإسلام ، (( ليس منا )) وبالمناسبة هذه الصيغة تؤكد على عظم هذا العمل ، هناك أحاديث كثيرة جداً .
(( لَيْسَ مِنَّا مَنْ خَبَّبَ امرأة على زوجها )) .
[أخرجه أبو داود عن أبي هريرة ] .
(( لَيْسَ مِنَّا من دعا بدعوى الجاهلية )) .
[أخرجه البخاري ومسلم والترمذي والنسائي عن عبد الله بن مسعود] .
(( لَيسَ مِنَّا مَنْ دَعا إِلى عَصبيَّة )) .
[أخرجه أبو داود عن جبير بن مطعم ] .
أحاديث كثيرة تبدأ بقوله صلى الله عليه وسلم (( لَيْسَ مِنَّا )) ، وما يأتي بعد ليس منا سيء كبير جداً .
(( ليس منا من لم يوقر كبيرنا )) .
[أخرجه أبو يعلى عن أنس بن مالك ] .
أي يتمتع المسلمون بآداب رفيعة جداً منها تكريم الكبار ، ورحمة الصغار ، وأن يعلم الإنسان للعلماء حقهم .
أيها الأخوة من هو الكبير ؟ ، لابدّ من معرفة الكبير .
بادئ ذي بدء : الكبير الكبير في السن ، الكبير في السن ينبغي أن يُحترم ، لذلك ورد في بعض الأحاديث :
(( ما أكرم شاب شيخا لِسنِّه إِلا قيَّضَ اللهُ لهُ مَن يُكرمهُ عندَ سِنِّه )) .
[أخرجه الترمذي عن أنس بن مالك ] .
(( ليس منا من لم يوقر كبيرنا ويرحم صغيرنا )) .
[أخرجه أبو يعلى عن أنس بن مالك ] .(1/278)
والعالم كبير ، أنت حينما توقر أهل العلم هذا جزء من إيمانك ، سمعت في بلد أوربي قديماً أن العالم يحتل مرتبة تكاد تكون أعلى مرتبة في المجتمع ، وهذا من دوافع إقبال الناس على العلم ، أما حينما لا يُقدر المعلم مثلاً يزهد الناس في هذه الحرفة .
قم للمعلم وفه التبجيلا ... كاد المعلم أن يكون رسولا
* * *
أنا لا أبالغ أن مقياس انضباط الأمة الأخلاقي من توقير الكبار ، علماء كانوا ، أو معلمين ، أو كانوا كباراً في السن .
لذلك قالوا : العالم شيخ ولو كان حدثاً ، ولو كان شاباً صغيراً ، ما دام طلب العلم فهو كالشيخ ، والجاهل حدثاً ولو كان شيخاً .
أي أحياناً يكون هناك مهندس يحمل شهادة عليا في دائرة ، وحوله مساعدين وكلهم كبار في السن ، تجد هذا المساعد بالستين يقول له : سيدي ، هو بعمر ابنه ، لكن لأنه طلب العلم فاستحق هذا المكان والتكريم .
إذاً الأمة التي تكرم الكبار في السن أنا أرى أن أعظم تكريم للكبير في السن لا أن يوضع في المصحات ، أو في دور العجزة ، هذا أكبر إهانة لمن تقدمت به السن ، وعنده أولاد ، وعنده بنات ، يوضع في مأوى عجزة ، وهناك مأوى عجزة من مستوى خمس نجوم لكن المتقدم في السن لا يريد مكاناً في خدمات خمس نجوم ، ولكن يريد أن يرى أولاده ، وأحفاده أمامه .
من فضل الله علينا في بلاد المسلمين أن المتقدم في السن يبقى بين أولاده يرعونه ، ويقدمون له كل الخدمات .
إنسان أخذ والده إلى بلاد بعيدة ليعالجه ، فقال له الطبيب : لا يوجد أمل قضية أيام ، سافرْ ، فلما رآه بعد حين لمْ يسافرْ قال له : لِمَ لم تسافر ؟ قال له : لا يمكن أن أسافر ، فانتبه هذا الطبيب إلى تلك القيم التي يتمتع بها أبناء المسلمين .
فمن فضل الله في بلادنا الإسلامية الأب محترم ، والأم محترمة ، وأصعب شيء في المجتمع أن يفقد الكبير احترامه ، أو توقيره ، وليس هناك من كلام أبلغ من أن يقول النبي الكريم :
(( ليس منا من لم يوقر كبيرنا )) .
[أخرجه أبو يعلى عن أنس بن مالك ] .
1 ـ المتقدم في السن :
وأنا أعطيكم أقل معنى من معاني الكبير المتقدم في السن .
(( ليس منا من لم يوقر كبيرنا )) .
[أخرجه أبو يعلى عن أنس بن مالك ] .(1/279)
أحياناً يكون هناك مركبة عامة ، والمحلات محدودة ، وشاب صغير يجلس على مقعد ، يصعد إنسان كبير في السن يقوم له ، شيء رائع جداً ، فكلما ربيت ابنك على احترام الكبير كلما كان محبوباً أكثر .
يروى مرة أن سيدنا علي كان إلى جانب النبي عليه الصلاة والسلام ، فجاء سيدنا الصديق ، فقام له ، وأجلسه مكانه ، فقال عليه الصلاة والسلام :
(( لا يعرف الفضل لأهل الفضل إلا أهل الفضل )) .
2 ـ العالم :
من معاني الكبير : العالم .
3 ـ من كان من أهل السلطة :
من معاني الكبير إمام عالم ، قرية ، أو ناحية ، هناك مدير ناحية ، هناك مدير مستقيم يسعى لخدمة هذه البلدة ، يقيم العدل بين أفرادها ، يلبي حاجاتها ، يحرص على سلامتها وأمنها ، فهذا الإنسان مدير الناحية يجب أن يُحترم ، يجب أن يُقدر ، فصار الكبير من تقدمت سنه ، ومن كان من أهل العلم ، ومن كان من أهل السلطة ، إذا كان إنساناً محسناً كريماً لابدّ من تكريمه أيضاً .
لو إنسان دخل على محافظ يجب أن يحترمه ، لأن في الأصل رعاية هذه المحافظة عليه ، المؤمن أديب ، ينزل الناس منزلهم ، هذه الوقاحة والتطاول ليست من صفات المؤمن .
هل من كلام أبلغ من أن النبي عليه الصلاة والسلام أرسل كتاباً إلى قيصر ، ماذا قال ؟ من محمد بن عبد الله إلى عظيم الروم ، هل هو عند رسول الله عظيم ؟ لكن هذه كياسة ، وسياسة ، وذكاء ، وأدب ، وأخلاق عالية .
إنسان له منصب نحترمه ، يشغل منصباً إدارياً ، علمياً ، دينياً ، نحترمه ، أي احترام الكبير سواء أكان متقدماً بالسن ، هذا الحد الأدنى ، أو كان يشغل منصباً ما عُرف عنه أن يؤذي الناس ، له سمعة طيبة .
أنا ما عرفت في حياتي قيمة الدولة إلا بعد سقوط بغداد ، تذكرون ما الذي حصل ؟ نُهب كل شيء ، نعمة الأمن لا تعدلها نعمة .
الله عز وجل ربط الأمن بالقائمين على أمن البلد ، فالإنسان إذا كان له سمعة طيبة ، مستقيم ، يحتل منصباً معيناً ، مدير ناحية يجب أن يُحترم ، هذا من واجبات المؤمن وعندما يكون في احترام هو مقابل هذا الاحترام يحاول أن يقدم كل الخدمات الجيدة ، أن يسهر على مصالح هذه الناحية ، ما دام محترماً ، أما إن كان هناك تطاول ، أو استخفاف ، أو إيذاء فيقابله هذا انتقام ، هذه سلسلة الحياة ، ما دام في آداب معينة ولا تنسوا أن الإسلام هو عقائد ، وعبادات ومعاملات ، وآداب .
وسلسلة هذه الدروس في الأعمّ الأغلب متخصصة في الآداب .(1/280)
صدقوا أنا مأخوذ بالأدب الجم الذي عند الصحابة ، سيدنا العباس هو عم رسول الله ، وأكبر من رسول الله سناً ، سُئل سؤالاً مادياً ، أيكما أكبر أنت أم رسول الله ؟ قال : هو أكبر مني وأنا ولدت قبله .
كنت مرة في مدينة بدولة مجاورة ، عالم جليل توفاه الله عز وجل ، ترك عدداً من الأولاد ، أحد أولاده طالب علم ، أخوته الأكبر منه سلموه خلافة أبيهم ، في التدريس ، وفي الخطابة ، وفي الأعمال الدينية ، أنا سألت أحد أخوته الكبار متجاهلاً أيكما أكبر أنت أم أخوك ؟ قال لي : هو أكبر مني ، وأنا ولدت قبله ، الأدب جميل جداً .
مثلاً الشيء بالشيء يذكر : امرأة تشكو زوجها ، أنه يصوم في النهار ، ويقوم في الليل ، ولا يلتفت إليها إطلاقاً ، فجاءت سيدنا عمر فقالت له : يا أمير المؤمنين إن زوجي صوام قوام ، ما انتبه ، قال : بارك الله لك بزوجك ، سيدنا علي قال له : إنها تشكو زوجها هل رأيت شكوى ألطف من هذه الشكوى ؟ صوام قوام .
صدق أيها الأخ الكريم أنا يلفت نظري بالمؤمن ، تعيش معه ثلاثين سنة ، لا يوجد عنده كلمة نابية ، أو كلمة بذيئة ، لا يوجد كلمة متعلقة بالعورات ، لا يوجد مزاح جنسي أبداً ، لا يوجد كلمات ملغومة ، لا يوجد ضمير غائب يشير إلى معنى ساقط أبداً ، والله أكاد أقول من سمات المؤمن ضبط اللسان .
احفظ لسانَك أيُّها الإِنسانُ لا يلدغنَّك إنه ثُعبانُ
كم في المقابرِ من قتيلِ لسانِه كانت تهابَ لقاءَه الشجعانُ
***
أحياناً كلمة غير مناسبة تلغي حياته ، وقد تنهي عمله ، وقد تنهي وظيفته ، هناك رواية لها موعظة كبيرة :
كان معاوية بن أبي سفيان أمير مؤمنين ، فكان حليماً ، فتراهن اثنان على أن يغيّرا صدر طفل عليه فيغمز الخليفة من قفاه ، فغمزه ، قال له : يا غلام خذ الرهن ، كان لماحاً ، لأن هناك مراهنة ، فلما غمزه هذا الغلام ، قال له : يا غلام خذ الرهن ، هذا الغلام فعلها مع إنسان آخر فقطع رأسه ، فقالوا : حلم معاوية قتل الغلام .
فإذا شخص تجاوز حده معك أنت إذا سكت أوقعته في حرج كبير ، لو أعادها مع إنسان آخر لا يرحم أنهاه ، فإذا تجاوز طفل حدّه يجب أن توقفه عند حدّه .
بصراحة لا يوجد شيء يحبب الطفل إليك كأدبه ، ولا يوجد شيء يجعل هذا الطفل مقيتاً كسوء أدبه ، طفل لا يحترم أحداً ، يجلس جلسة ليس فيها أدب ، يرفع صوته أمام الضيف ، يتطاول أحياناً ، فهذا الإنسان رب البيت لا يرعى هذا الطفل .(1/281)
إذاً نحن بتربية الأولاد نهتم بشكل واضح بالآداب التي ينبغي أن يتحلى بها الطفل والحديث الذي قلته قبل قليل :
(( ما أكرم شاب شيخاً لِسنِّه إِلا قيَّضَ اللهُ لهُ مَن يُكرمهُ عندَ سِنِّه )) .
[أخرجه الترمذي عن أنس بن مالك ] .
أي الطفل المؤدب لا يمشي أمام والده ، ولا يناديه باسمه ، ولا يجلس قبله ، هناك معنى آخر أنه :
(( ما أكرم شاب شيخاً )) .
شابٌ عليها تنوين ، ما التنوين ؟ ضمة مضاعفة ، التنوين علامات التنكير ، أي أيُّ شاب ، وشيخاً أيضاً منونة ، والتنوين علامة التنكير ، أي شيخ ، لا يهم قد لا يكون الشيخ مسلماً ، هناك إنسان سنه متقدمة ، وجدته يحمل حاجة ، وأنت معك مركبة ، فدعوته إلى ركوب المركبة ، وحمل هذه الحاجة عنه ، لك أجر كبير .
(( ما أكرم شابٌ شيخاً )) .
أي شاب ، وأي شيخ ، أي ما أكرم الشاب ، صارت أل العهد ، أي الشاب المؤمن فقط .
(( ما أكرم شابُ )) .
مطلقة ، شيخاً مطلقة ، الشيخ مسلم أو غير مسلم ، تعرفه أو لا تعرفه ، عالم أو غير عالم لا يهم ، متقدم في السن حد أدنى ، عالم معنى آخر يحتل منصباً ، وهو مستقيم على هذا المنصب ، مثلاً مدير الناحية ، أنت في ناحية ، أي قرية كبيرة لها مدير ناحية ، الأصل أن تحترمه ، حينما يرعى مصالح هذه البلدة ، ويرى تقديراً من الناس يزداد حرصاً على مصالحها ، فإذا استخف به ينتقل دون أن يشعر بعقله الباطن .
هناك استنباط أنا لست موافقاً عليه مئة بالمئة لكن من باب التفاؤل ، إذا أكرمت إنساناً في الثمانين لعل الله عز وجل يوصلك إلى سن الثمانين حتى يسخر لك شاباً يكرمك في هذه السن .
(( ما أكرم شاب شيخاً لِسنِّه إِلا قيَّضَ اللهُ لهُ مَن يُكرمهُ عندَ سِنِّه )) .
[أخرجه الترمذي عن أنس بن مالك ] .
فالعمل الصالح يطيل العمر ، عندنا معنى معاكس : وما تطاول شاب على شيخ استخفافاً به إلا قيض الله له من يستخف به ويتطاول عليه عند سنه .
كان هناك قطار في دمشق يذهب إلى الزبداني ، حدثني أخ ، قال لي : والله كنا في المحطة وصعد شيخ إلى عربة ، يبدو أن هناك شباباً غير منضبطين فطردوه فلما أصر ضربوه ، إنسان كبير بالسن ، فنزل يبكي ، هناك أخ واساه ، قال له : والله في هذا المكان بالذات تطاولت على أبي ، قبل ثلاثين سنة ، تطاول على أبيه هيأ الله له من يتطاول عليه في هذه السن .
لذلك كما تدين تدان .(1/282)
(( فإن الخير لا يَبلى ، والشَرَ لا يُنْسَى ، والدَّيان لا يموت )) .
[أخرجه زيادات رزين عن عبد الله بن مسعود ] .
اعمل كما شئت وكما تدين تدان .
سبحان الله لي صديق في مصر ، له أقارب كُثر ، قال لي : قريب من أقربائنا تقدمت به السن وأصيب بالشلل ، قال لي : لا يوجد في خبراتي السابقة إنسان تلقى عناية من أولاده كما تلقى هذا الإنسان العناية ، أما الشيء الذي يلفت النظر أن هذا الرجل الذي أصيب بفالج إنسان عادي جداً ، وأب عادي جداً ، وخدماته لأولاده عادية جداً ، بل أقل مما ينبغي ، والأولاد ليسوا متدينين ، قال لي : قصة عجيبة ، الرجل أقل من عادي ـ أي أحياناً يكون هناك أب يكون متميزاً ، أب فذ ، أب رحيم ، أب كريم ، أب عادي ـ والأولاد ليسوا متدينين من هذا المجتمع ، تلقى عناية حينما أصيب بالشلل تفوق حدّ الخيال ، قال لي : والله بقيت أشهراً مديدة أبحث عن السبب ، ما مرّ معي إنسان يتلقى هذه العناية ، وهذا الاهتمام ، وهذه الرعاية ، قال لي : بعدها اكتشفنا أن أمه أصيبت بفالج فأقعدها هذا الفالج في الفراش ، فخدمها خدمة في أعلى مستوى ، هيأ الله له من يكرمه عند سنه .
والنبي عليه الصلاة والسلام يقول :
(( ليسَ مِنا مَن لم يَرحمْ صغيرَنا ، ويَعْرِف شَرف كبيرنا )) .
[أخرجه أبو داود والترمذي عن عبد الله بن عمرو بن العاص ] .
أحياناً الإنسان يتفوق ، وقد يسبق والده ، حدثني أخ ( القصة قديمة جداً ) ، قال لي : في قلعة دمشق هناك قطعة عسكرية ، فمن لوازم النظام أن يقدم مساعد في هذه القطعة الصف إلى ضابط شاب ، المساعد متقدم في السن ، وهذا الضابط الشاب ابنه ، هكذا النظام فهذا المساعد هناك إجراءات معينة بالنظام المنضم ، يصطف الجنود بشكل منتظم استرح استعد ، يقدم هذا الشيخ هذا الصف لابنه الشاب الضابط ، فيأتي هذا الشاب الضابط فيقبل يد أبيه أمام كل الناس احتراماً له .
تكون أغنى من والدك ، تحمل دكتوراه ، عندما ترتكب حماقة مع والدك ومعك دكتوراه ما عدت دكتوراً تقيم الدال والكاف ، أفضل .
الإنسان قيمته بأدبه ولو كان متعلماً ، و لو كان بأعلى منصب ، و لو كان يحمل أعلى شهادة ، هذا الأب كان سبب وجودك ، وهذه الأم أيضاً .
والله كنت بأمريكا ، حدثني طبيب من ألمع الأطباء هناك ، هو من دمشق ، قال لي : نحن عندنا بيت بالمخيم ، والقصة قديمة جداً ، عقب النزوح ، المخيم كان عبارة عن خيام ، والطريق من خيمتهم إلى الطريق العام في الشتاء كله وحل ، سماكته تقدر بثلاثين سنتيمتراً ، هو طالب جامعة فأمه تحمل إبريق الماء ، وجوارب هذا الشاب ، وتخوض في الطين إلى الطريق العام لتغسل له قدميه ، و تلبسه جواربه ، يأخذ حذاءه ويذهب إلى الجامعة ، تنتظره كي تعيد الكرة ، ذكر أمه أمامي و بكى بكاء شديداً ،(1/283)
اضطر لكتاب مرة ، قال لي : باعت أساورها ، قدمت لي الكتاب ، صار ابنها طبيباً ، قال لي : لكن ما تمكنت أن تراني طبيباً ، وافتها المنية قبل أن يكون ابنها طبيباً ، هذه الأم المضحية احترامها وتقديرها جزء أساسي من حياة الإنسان .
مرة أخ يعمل بعمل صعب ، قال لي : والله أنا أنفق على أخي في كلية الطب ، قلت : هذا أخوه سيصبح طبيباً ، فلولا الأخ الذي يعمل ليلاً نهاراً ما استطاع أن يكون طبيباً ، فهذا الطبيب إذا تنكر لأخيه الذي أنفق عليه يكون مجرماً .
الحياة علاقات ، الحياة مكارم ، فضائل ، هذا الطبيب في أمريكا والله أبكاني حدثني عن أمه كيف سعت ليكون ابنها طبيباً ، قال لي : الطريق كله وحل سماكته تقدر بثلاثين سنتيمتر بأيام المطر ، وعنده بذلة واحدة ، وهناك فقر شديد ، فيمشي بالوحل هو وأمه بآخر الطريق تغسل له رجليه ، ويلبس جواربه ، ويأخذ حذاءه ويذهب إلى الجامعة ، يعود بوقت تنتظره على الطريق أيضاً ، ليس هناك إمكانية أن يخوض بالوحل ، فمثل هذه الأم يجب أن تُكرم .
وكل قيمتك بتكريم والديك ، بتكريم كبار السن بشكل مطلق ، بتكريم أهل العلم ، بتكريم إنسان يحتل منصباً ومستقيماً ، لِمَ لا تحترمه ؟ .
قلت لكم قيل قليل : إن صيغة ليس منا من أدق الصيغ :
(( لَيسَ مِنَّا مَنْ دَعا إِلى عَصبيَّة و لَيسَ مِنَّا مَنْ قاتل على عَصبيَّة )) .
[أخرجه أبو داود عن جبير بن مطعم ] .
(( لَيسَ مِنَّا مَنْ نهب ولا من اغتصب )) .
[ورد في الأثر] .
(( لَيْسَ مِنَّا مَنْ خَبَّبَ امرأة على زوجها )) .
[أخرجه أبو داود عن أبي هريرة ] .
أحياناً الأخ يزور أخته في العيد ، ما هذا البيت ؟ لا يسكن ، لماذا رضيت ؟ رضيت لأنها تحب زوجها ، زوجها دخله محدود ، أنت خببت أختك على زوجها ، كل إنسان يشوه سمعة الزوج أمام الزوجة كأنه خبب هذه المرأة على زوجها ، أو يخبب عبد على سيده ، الآن موظف ، ماذا تأخذ من راتب ؟ لابأس ، الدخل لهذا المحل قليل ، وهذا الموظف راضٍ عن سيده ، يجب أن تبتعد عن تفكك العلاقات .
(( من فرق فليس منا )) .
[أخرجه الطبراني عن معقل بن يسار ] .
أنت مهمتك أن تجمع لا أن تفرق ، أن تصل لا أن تقطع .
(( ليس منا من خبب امرأة على زوجها وليس منا من خبب عبداً على سيده )) .(1/284)
[أخرجه الطبراني عن عبد الله بن عباس ] .
الآن لماذا قلنا الكبير هو المتقدم في السن ؟ هناك شاهد :
(( إِنَّ من إِجلالِ اللهِ : إِكرامَ ذي الشَّيْبَة المسلم )) .
[أخرجه أبو داود عن أبي موسى الأشعري ] .
فقط متقدم في السن .
(( وحاملِ القرآنِ غيرِ الغالي فيه ، ولا الجافي عَنهُ ، وإِكرامَ ذي السلطانِ المُقْسِط )) .
[أخرجه أبو داود عن أبي موسى الأشعري ] .
(( إِنَّ من إِجلالِ اللهِ : إِكرامَ ذي الشَّيْبَة المسلم ، وحاملِ القرآنِ غيرِ الغالي فيه ولا الجافي عَنهُ ، وإِكرامَ ذي السلطانِ المُقْسِط )) .
كما تحدثت قبل قليل : المتقدم في السن ، أو عالم ويحتل منصباً وهو مستقيم على أمر الله .
لذلك قالوا : العدل حسن لكن في الأمراء أحسن ، والورع حسن لكن في العلماء أحسن ، والصبر حسن لكن في الفقراء حسن ، والسخاء حسن لكن في الأغنياء أحسن ، والحياء حسن لكن في النساء أحسن ، والتوبة حسن لكن في الشباب أحسن .
شاب أبرز صفاته التوبة ، الاستقامة ، امرأة أبرز صفاتها الحياء ، من علامات آخر الزمان أن الحياء ينزع من وجوه النساء ، والنخوة ترفع من رؤوس الرجال ، والرحمة تنزع من قلوب الأمراء .
دقق في قوله تعالى :
* فَجَاءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ * .
( سورة القصص الآية : 25 ) .
في حياء ، والله لا أبالغ أجمل ما في المرأة حياؤها ، يعبر عن هذا بالأنوثة ، فلانة امرأة واضح ، لكن هناك امرأة تتمتع بأنوثة عالية جداً ، أي أجمل ما في المرأة أنوثتها ، معنى أنوثتها أي حياؤها .
* فَجَاءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ قَالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا فَلَمَّا جَاءَهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ قَالَ لَا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ * .
( سورة القصص ) .
أخواننا الكرام ، ورد أن النبي صلى الله عليه وسلم ، قدم عليه وفد عبد قيس وهم يقولون : قدمنا على النبي صلى الله عليه وسلم فاشتد فرحه ، فلما انتهينا إلى القوم أوسعوا لنا فقعدنا ، فرحب بنا النبي صلى الله عليه وسلم ودعانا ، ثم نظر إلينا فقال :
(( من سيدكم وزعيمكم ؟ فأشرنا جميعاً إلى المنذر بن عائذ ، فلما دنا المنذر أوسع القوم له حتى انتهى من النبي صلى الله عليه وسلم ، فقعد عن يمين رسول الله صلى الله عليه وسلم فرحب به وألطفه ، وسأل عن بلادهم )) .(1/285)
[ أخرجه الإمام أحمد عن بعض وفد عبد القيس ] .
انظروا إلى الصحابة وسعوا لهؤلاء الضيوف ، ووسعوا لزعيم القوم ، هذه الآداب التي ينبغي أن تتمتع بها .
قال : الكبير من تكريمه أن يقدم للصلاة في الجماعة ، وفي التحدث إلى الناس ، أي نتمنى عليه أن يحدث الناس .
وفي الأخذ والعطاء ، أحياناً يكون هناك حفل توزيع جوائز ، يختارون أكبر ضيف في الحفل ليقدم هو الجوائز ، هذه من لوازم تكريم الكبير .
روى الإمام مسلم عن أبي مسعود قال :
(( كان رسولُ الله صلى الله عليه وسلم يمسح مناكبنا في الصلاة ويقول : استووا ، ولا تختلفوا فتختلف قلوبكم )) .
[ أخرجه مسلم وأبو داود والنسائي عن أبي مسعود الأنصاري ] .
كان عليه الصلاة والسلام إذا استقبل القوم يكرمهم أشد التكريم ، وهذا من أدب المصطفى صلى الله عليه وسلم ، من أكبر الأخطاء أن يهزأ الصغير بالكبير .
الآن بصراحة في التعليم إذا كان هناك استهزاء بالمعلم أو تطاول عليه فالمعلم لا يُعلم ، أما إن كان هناك احترام ، و إنصاف فالمعلم يبذل قصارى جهده ليقدم كل علمه للصغار .
أنا أحياناً لا أصدق ولا أتصور أن تتضعضع مكانة المعلم في الصف ، أنت كأب غير مسموح لك أبداً أن تنتقد معلم ابنك أمام ابنك ، هذا قدوة له ، معلمك لا يفهم ، لا يصح أن تتكلم هذا الكلام ؟ أنت اذهب إليه وحاوره في المدرسة ، أما تبلغ ابنك أن المعلم أخطأ ، هذه مشكلة كبيرة .
يقول عليه الصلاة والسلام :
(( إن الحياء خير كله )) .
[ أحمد عن عمران بن حصين ] .
طبعاً لا يغيب عن أذهانكم أن فرقاً كبيراً بين الحياء والخجل ، الحياء أدب رفيع أما الخجل مرض نفسي ، الخجول يخجل أن يطالب بحقه ، أما الحياء يستحي أن يعصي الله عز وجل ، هناك فرق ، الخجل نقيصة بالإنسان ، أما الحياء فضيلة .
يقول النبي الكريم :
(( يا عائشة لو كان الحياء رجلاً كان رجلاً صالحاً )) .
[ أخرجه الطبراني عن عائشة أم المؤمنين ] .
(( إن الفحش لو كان رجلاً لكان رجل سوء )) .
[ أخرجه أبو داود الطيالسي عن عائشة أم المؤمنين ] .(1/286)
إنسان أنيق جداً يرتدي أجمل الثياب ، ويتكلم كلاماً بذيئاً ، قال له أحدهم : إما أن ترتدي ثياباً ككلامك ، أو تتكلم وفق ثيابه ، لكن الشيء الدقيق جداً :
(( ليس المؤمن باللعان و لا الطعان و لا الفاحش ولا البذيء )) .
[أخرجه ابن حبان عن عبد الله بن مسعود ] .
مثلاً طرف جنسية ، ذكر عورات ، كلام ملغوم ، هذا يتناقض مع إيمان المؤمن ، النبي الكريم رأى أسماء ترتدي ثياباً رقيقة ، قال لها : يا بنيتي إن هذه الثياب تصف حجم عظامك ، كلمة عظام لا تثير ، أما أي كلمة أخرى تثير ، انظر إلى القرآن :
* وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ * إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ * .
( سورة المعارج ) .
دقق الآن :
* فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ * .
( سورة المعارج الآية : 31 ) .
دخل كل أنواع الانحرافات الجنسية ، لكن القرآن ترفع عن ذكر أسمائها وتفاصيلها * فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ * .
* أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ * .
( سورة النساء الآية : 43 ) .
قد يفهمها الطفل لامستم النساء هكذا .
* فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً * .
( سورة النساء الآية : 43 ) .
* فَلَمَّا تَغَشَّاهَا حَمَلَتْ حَمْلاً خَفِيفاً * .
( سورة الأعراف الآية : 189 ) .
ما هذا القرآن الكريم ؟ يعلمك الأدب ، * تَغَشَّاهَا * ، * لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ * ، * فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ * .
أيها الأخوة ، ما كان الفحش في شيء إلا شانه ، وما كان الحياء في شيء إلا زانه .
(( إنَّ لِكُلَّ دينِ خُلُقا ، وخُلُقُ الإسلام الْحياءُ )) .
[أخرجه مالك عن مرسل زيد بن طلحة ] .
والحياء كما تعلمون شعبة من الإيمان ، فلذلك أنت حينما تربي ابنك على الحياء والأدب يحبه كل الناس ، فإذا لم تنتبه لقلة أدبه ولتطاوله كرهه كل الناس ، لاحظوا الطفل المؤدب محبوب من الكل ،(1/287)
إذا كان هناك طفل غير مربى ، غير مؤدب يمقته الجميع ، فأنت حينما تؤدب ابنك تسهم في إشاعة محبته بين الناس .
أيها الأخوة ، تربية الأطفال على احترام الكبير هذا شيء أساسي جداً ، أي الابن يحترم والده ، يحترم عمه ، يحترم خالة ، يحترم أقرباءه المتقدمين في السن ، هذا من موضوعات هذا اللقاء الطيب . ...
================
... ... ...(1/288)
31 ـ التربية الاجتماعية 10: توقير الكبير ،" الحياء فضيلة أما الخجل نقيصة ـ سلوك الآباء ينطبع على الأبناء "
أيها الأخوة الكرام ، لا زلنا في تربية الأولاد ، وفي التربية الاجتماعية ، وفي موضوع توقير الكبير .
ولكن في هذا اللقاء الطيب الحديث عن السبب الكبير الذي يحمل أبناءنا على توقير الكبير .
أكبر سبب يحمل أولادنا على توقير الكبير أن ننمي فيهم الحياء .
(( الحياءَ من الإيمانِ )) .
[ أخرجه البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي ومالك عن عبد الله بن عمر ] .
توقير الكبير من لوازمه الحياء ، وأجمل ما في الشاب ، بل أجمل ما في الطفل حياؤه .
(( الحياءَ من الإيمانِ )) .
(( الإيمان بضع وستون ، أو بضع وسبعون شعبة ، أفضلها قول لا إله إلا الله ، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق ، والحياءُ شُعْبَةٌ من الإيمان )) .
[أخرجه البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي عن أبي هريرة ] .
الحياء فضيلة ، أما الخجل نقيصة ، الخجل أن تخجل أن تطالب بحقك ، هذا خجل ، الخجل أن تتهيب أن تدلي برأيك ، الخجل أن تستحي بأن تقول : لا ، علامة المؤمن أنه يقول : لا بملء فمه .
بحياة المؤمن نعم ولا ، إذا كان هناك شيء يغضب الله ، لا يرضي الله ، يخالف الحكم الشرعي ، يقول : لا بملء فمه ، وكل إنسان يقول نعم دائماً هذا الذي يستطيع أن يرضي الناس كلهم فهو منافق ، لا يوجد إنسان صاحب مبدأ إلا ويستخدم كلمة لا ، عود نفسك أن تقول لا لشيء يتناقض مع مبادئك ، يتناقض مع قيمك ، مع أخلاقك ، عود نفسك أن تربي ابنك على أن يقول لا حينما يدعى إلى معصية ، لا .
لذلك الحياء فضيلة والخجل نقيصة ، النبي الكريم يقول :
(( يا عائشة لو كان الحياء رجلاً لكان رجلاً صالحاً )) .
[ أخرجه الطبراني عن عائشة أم المؤمنين ] .
(( إن الفحش لو كان رجلاً لكان رجل سوء )) .
[ أخرجه أبو داود الطيالسي عن عائشة أم المؤمنين ] .
والله أحياناًٍ ألتقي بأطفال ربوا تربية عالية ، لا تسمع منهم كلمة نابية ، ولا إشارة نابية ، ولا حركة نابية ، ولا تعليق نابٍ ، وأحياناً ترى طفل رُبي على المزاح المنحرف ، ربي على أن يغش الكلمات ، لا يحتمل .
بالمناسبة : كلما ربيت ابنك تربية عالية كان محبوباً ، وكلما أهملت تربيته كان ممقوتاً .(1/289)
من الحياء ألا تذكر العورات ، أنا أعد هذا مؤشراً ، أن تذكر العورة باسمها هذا شيء من الوقاحة ، والفحش ، والبذاءة ، تعلم من القرآن الكريم .
* وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ * إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ * فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ * .
( سورة المعارج ) .
كل أنواع الانحراف الجنسي دخل في قوله تعالى : * فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ * ، عبّر الله عن لقاء الذكر بالأنثى في قوله :
* أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً * .
( سورة النساء الآية : 43 ) .
عبّر عن اللقاء الزوج بزوجته :
* فَلَمَّا تَغَشَّاهَا حَمَلَتْ حَمْلاً خَفِيفاً * .
( سورة الأعراف الآية : 189 ) .
النبي عليه الصلاة والسلام رأى فتاةً ترتدي ثياباً شفافة ، قال : يا بنيتي إن هذه الثياب تصف حجم عظامك ، كلمة عظم تثير الشهوة ؟ لا ، أما أي كلمة أخرى من أعضاء المرأة تثير الشهوة ، دقق في هذا الأدب .
هناك امرأة تشكو زوجها فتقول : إن زوجي صوام قوام ، ما هذه الشكوى الراقية ، زوجي صوام قوام ، هذه شكوى ، يصوم النهار ويقوم الليل ، ولا يلتفت إليّ ، فلما وجهه النبي الكريم أن يلتفت إلى زوجته جاءت في اليوم التالي كما تقول السيدة عائشة : عطرة نضرة ، قالت : ما الذي حصل ؟ قالت : أصابنا ما أصاب الناس .
والله حينما أطالع قول الصحابيات ، أو أقوال أصحاب رسول الله أرى أدباً ما بعده أدب ، ممكن ألا يراك ابنك أبداً تخلع ثيابك ؟ يخلع الأب ثيابه في غرفة النوم ، والباب مغلق ، ويعلم أولاده أنهم إذا بدلوا ثيابهم أن يبدلوها من دون أن يراهم أحد في غرفتهم ، تجد البيت فيه انضباط ، ثياب سابغة ، وبيت ليس فيه انضباط .
إذاً هناك انضباط في الثياب ، و انضباط بالكلام ، وهذه ثمرة كبيرة من ثمار تربية الأولاد ، أن يعرف حق الكبير ، وحق الكبير يكتسبه بخلق الحياء .
(( إنَّ لِكُلَّ دينِ خُلُقا ، وخُلُقُ الإسلام الْحياءُ )) .
[أخرجه مالك عن مرسل زيد بن طلحة ] .
المؤمن يستحي ، بل إن الله يستحي منك إذا سألته شيئاً أن يردك خائباً .
(( إِنَّ رَبَّكُمْ حَيِيٌّ كَرِيمٌ ، يَستَحي من عبده إذا رَفَعَ إليه يديه أنْ يَرُدَّهُما صِفْرا خَائِبَتَيْنِ )) .(1/290)
[أخرجه أبو داود والترمذي عن سلمان الفارسي ] .
* يَا بَنِي آَدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاساً يُوَارِي سَوْآَتِكُمْ وَرِيشاً وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ ذَلِكَ مِنْ آَيَاتِ اللَّهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ * .
( سورة الأعراف ) .
أي الشيطان يخلع عنهما لباسهما والملائكة تأمر بالستر ، علامة الإيمان ثيابه تستره ، علامة الطغيان ، والانحراف ، والفسق ، والفجور التعري ، وهذا العصر عصر تعرٍّ أو عصر ثياب تصف خطوط الجسم .
حينما تُعلّم ابنك أن يكون حيياً أنت بهذا حملته على توقير الكبير ، سيدنا علي كان شاباً ، دخل سيدنا الصديق فقام له ، وأجلسه مكانه إلى جانب رسول الله ، فالنبي عليه الصلاة والسلام تأثر كثيراً بهذا الموقف ، فقال :
(( لا يعرف الفضل لأهل الفضل إلا أهل الفضل )) .
أحياناً تجد طفلاً جالساً بسيارة عامة ، يصعد رجل كبير بالسن يحمل أغراضاً ، الطفل ما تلقى توجيهات من أهله أن يقوم لهذا الشيخ الكبير ، وقد قال عليه الصلاة والسلام :
(( ما أكرم شاب شيخاً لِسنِّه إِلا قيَّضَ اللهُ لهُ مَن يُكرمهُ عندَ سِنِّه )) .
[أخرجه الترمذي عن أنس بن مالك ] .
يروي الشيخان عن أبي سعيد رضي الله عنه أنه قال :
(( لقد كنتُ على عهدِ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم غُلاماً ، والنبي يسأل سؤالاً ، والغلام يعرف الجواب ، لكنه يخجل ويستحي من أن يتكلم لوجود من هو أسن منه )) .
[الشيخان عن أبي سعيد] .
والله شيء جميل ! أحياناً تجد طفلاً بالتعبير الدارج يتكلم دون أن يطلب منه ، في مجلس فيه كبراء ، فيه شيوخ ، فيه متكلمون ، لكن لو الأب طلب من ابنه أن يتكلم ، أنا أيضاً بالمقابل أحب أن تظهر شخصية الطفل ، دعه يتكلم ، وأصغِ له ، يقول عليه الصلاة والسلام :
(( من كان له صبي فليتصابَ له )) .
[ من الجامع الصغير عن أبي معاوية ] .
احترام الطفل من وسائل التربية الناجحة ، لكن عوده أن يتكلم بعد أن يستأذن ، وعوده أن يتكلم بكلام ضمن معلوماته الدقيقة ، لا أن يقول كلاماً لا يعرفه .
يروى عن السيدة عائشة رضي الله عنه أنها قالت :(1/291)
(( ما رأيت أحداً أشبه سمتاً وهدياً برسول الله صلى الله عليه وسلم من فاطمة ، بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم في قيامها وقعودها ، قالت : وكانت إذا دخلت على النبي صلى الله عليه وسلم قام إليها )) .
[ أخرجه الحاكم عن عائشة أم المؤمنين ] .
أي الأب يقوم لابنته ؟ والبنت غالية جداً ، هي أقرب الناس إليه ، بسمتها ، وهيئتها ، وتواضعها ، ومحبتها لله .
(( وكانت إذا دخلت على النبي صلى الله عليه وسلم قام إليها فقبلها ، وأجلسها في مجلسه ، وكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا دخل عليها قامت من مجلسها فقبلته وأجلسته في مجلسها ، ما رأيت أحداً أشبه سمتاً وهدياً برسول الله صلى الله عليه وسلم من فاطمة )) .
[ أخرجه الحاكم عن عائشة أم المؤمنين ] .
أما السؤال اللطيف يا رسول الله ما هذا الأدب الذي أدبك الله به ؟ فكان يقول :
(( أدبني ربي فأحسن تأديبي )) .
[ من الجامع الصغير عن ابن مسعود ] .
صدقوا أيها الأخوة ، إذا كنت مؤمناً ، مؤمن صادق إن لم تتكلم ، الجلسة فيها أدب ، النظرة فيها أدب ، لا تنظر إلى كتاب أخيك ، هناك إنسان يزور صديقه بمكتبه ، يقرأ الورقة ، يفتح الكتاب ، غير معقول ! هذه كلها أسراره ، ابتعد عن مكتبه ، اجلس على كرسي آخر ، لا يجلس إلا مكانه ، ويقلب بأوراقه ، ويفتح الدرج أحياناً ، هذا ليس من الأدب ، من نظر إلى كتاب أخيه من غير إذنه ، هناك نهي كبير من النبي الكريم ، أن ينظر المرء إلى كتاب أخيه من غير إذنه .
ما الذي يميز المؤمن ؟ الآن مؤمن وفاسق كلاهما له عينان ، وأذنان ، وأنف ، وفم ، ويتكلمان ، ويدان ، ورجلان ، ما الذي يميز المؤمن بشكل صارخ ؟ أدبه ، حياؤه ، كلماته ، حركاته ، سكناته ، هذه كلها يلفها الأدب ، ودائماً الأب الراقي يربي ابنه على الأدب .
الآن كيف أن الصغير عليه أن يوقر الكبير ؟ أصحاب النبي الكريم وقروا نبيهم توقيراً كبيراً ، كانوا إذا جلسوا في مجلسه كأن على رؤوسهم الطير ، دائماً وأبداً طالب العلم يحتاج إلى الأدب .
بعض اللقطات من أدب النبي عليه الصلاة والسلام ، حيث كان جالساً :
(( فأقبل أبوه من الرَّضاعة ، فوضع له بعضَ ثَوْبِهِ ، فقعد عليه ، ثم أقبلت أمُّه من الرَّضاعة ـ حليمة السعدية ـ فوضع لها شقَّ ثوبه من جانبه الآخر ، فجلَسَتْ عليه ، ثم أقبل أخوه من الرضاعة ، فقام النبي صلى الله عليه وسلم ، فأجْلَسَهُ بَيْنَ يَدَيْه )) .
[أخرجه أبو داود عن مرسل عمر بن السائب ] .
أرأيت إلى هذا الأدب ! أبوه من الرضاعة ، وأمه من الرضاعة ، وأخوه من الرضاعة .(1/292)
سيدنا سعد بن معاذ كان سيد قومه ، فلما دخل على النبي صلى الله عليه وسلم قال لقومه الأنصار :
(( قوموا إِلى سيّدِكم - أو قال : خيرِكم )) .
[أخرجه البخاري ومسلم وأبو داود عن أبي سعيد الخدري ] .
أن تستقبل الإنسان المحترم استقبالاً لطيفاً ، أن تخاطبه بكلام مؤدب ، هذا من الأدب .
دائماً وأبداً الأب قد لا يشعر ، إذا كان الأب مؤدباً فالابن مؤدب ، وهذا البيت فيه أدب ، فيه حياء ، فيه خجل ، فيه توقير الكبير ، فيه توقير القريب المتقدم بالسن .
هناك نقطة دقيقة جداً أنه : صلى الله عليه وسلم كان شمساً ، ومع ذلك أظهر الصحابة من حوله ، فمثلاً عمر قال النبي عنه :
(( لو كانَ بعدي نبيّ لكانَ عمرَ بن الخطاب )) .
[أخرجه الترمذي عن عقبة بن عامر ] .
الصديق ؟ قال عنه : ما ساءني قط ، و :
(( لو كنت متخذاً من العباد خليلاً لكان أبو بكر خليلي ))
[ابن إسحاق عن بعض آل أبي سعيد بن المعلى ] .
علي ؟ قال عنه :
(( أنا مدينة العلم وعلي بابها )) .
[أخرجه الطبراني في الكبير عن ابن عباس] .
أبو عبيدة ؟ قال عنه :
(( أمين هذه الأمة )) .
[أخرجه ابن حبان عن عبد الله بن مسعود ] .
خالد ؟ قال عنه :
(( سيف من سيوف الله )) .
[أخرجه الترمذي عن أبي هريرة ] .
كما أن أصحابه يوقرونه ، يعظمونه ، يتأدبون أمامه ، هو يعرف قدرهم .
بالمناسبة : عندما أنت تؤدب ابنك ، تؤدبه أدباً رفيعاً أيضاً من لوازم هذا الأدب أن يعرف قدرك ، لذلك النبي عليه الصلاة والسلام رأى شاباً مع أبيه فقال :
(( فلا تمش أمامه ، ولا تجلس قبله ، ولا تدعه باسمه ، ولا تستسب له )) .
[أخرجه الطبراني عن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها ] .
مثلاً : من أدبه مع أصحابه كان إذا دخل سعد بن أبي وقاص يقول :
(( هذا خالي فليرني امرؤ خاله )) .(1/293)
[أخرجه الترمذي عن جابر بن عبد الله ] .
ما فدى أحداً من أصحابه إلا سعد بن أبي وقاص .
(( ارْمِ سَعْدٌ فِدَاكَ أَبِي وَأُمّي )) .
[ أخرجه الشيخان عن علي بن أبي طالب ] .
فهذه الألقاب اللطيفة التي خلعها النبي على أصحابه وهو شمس ، ومع الشمس لا ترى النجوم .
مرة قرأت كلمة : إنها لمضنية مؤلمة تلك الجهود التي تبذلها النجوم لتضيء في حضرة الشموس ، فالنبي عليه الصلاة والسلام سمح للنجوم أن تضيء من حوله ، أن يتألقوا في وجوده ، هذا من أدبه العالي .
أريد أن أعطيكم نبذة عن سيدنا كعب بن مالك حينما قصّ علينا خبر تخلفه في تبوك ، عندما تخلف عن أن يلتحق برسول الله ، وحمل هماً كبيراً كيف يواجه النبي عليه الصلاة والسلام ، لكن عندما قفل النبي راجعاً ، اشتد همه ، ماذا يقول له ؟ الذي حصل أن المنافقين يزيدون عن ثمانين منافقاً جاؤوا إلى النبي واعتذروا ، قدموا أعذاراً ذكية جداً ، والنبي قَبِل عذرهم ، فلما جاء كعب فقال في نفسه : والله لقد أوتيت جدلاً ـ أنا أملك قوة إقناع كبيرة جداً ـ ولو أردت أن أخرج من سخطه لخرجت ، أي أستطيع أن أهيأ حجة محكمة تماماً ، وأنجو من سخطه ، لكنه قال : لو أنني خرجت من سخطه ، انظر إلى التوحيد ، ليوشكن الله أن يسخطه علي .
أيها الأخوة ، أؤكد لكم ثانية أن الآباء والأمهات إذا تخلقوا بالأدب فإن أولادهم بالتالي سوف يكونون مؤدبين قطعاً ، انظروا إلى هذا المشهد :
أخرج ابن عساكر عن أبي عمار أن زيداً بن ثابت قُربت له دابة ليركبها ، فأخذ ابن عباس رضي الله عنهما بركابها ، فقال زيد : تنحى يا بن عم رسول الله ، ابن عباس ابن عم رسول الله ، زيد بن ثابت صحابي ، ولكنه عالم ، فقال ابن عباس : هكذا أُمرنا أن نفعل بكبرائنا وعلمائنا ، فقال زيد بن ثابت : أرني يدك ، فأخرج يده فقبلها ، فقال : هكذا أمرنا أن نفعل بأهل بيت نبينا ، هو قرب له ركاب الدابة ، والثاني قبّل يده .
أنت حينما ترى الكبراء يتأدبون تتعلم الأدب من أفعالهم قبل أن تتعلمه من أقوالهم ، هذه نصيحة لكل أب ، أنت كن مستقيماً ، كن مهذباً ، كن أديباً ، تجد البيت كله فيه مسحة أدب ، ومسحة احترام .
أخواننا الكرام ، نحن اتفقنا أن الكبير من هو ؟ كبير السن ، نحن عندنا عادات في إسلامنا صدقوا لا تجدونها في أي مكان في العالم ، الإنسان مهما تقدمت سنه يبقى عند أولاده ، أما في العالم الغربي لمجرد أن تضعف حركته يؤخذ إلى مأوى العجزة ، هذا الجد لا شيء يسعده كأن يكون بين أولاده ، وبناته ، وأحفاده ، لو أُخذ إلى مأوى عجزة من فئة الخمس نجوم يحس أنه مهان .(1/294)
لذلك من توقير الكبراء أن تعتني بأبيك وأمك إلى آخر لحظة ، وإذا وفق الله عز وجل الواحد منا أن يكون باراً بأمه وأبيه إلى نهاية الحياة فهذا من سعادة الدنيا .
أيها الأخوة ، لا يوجد مانع إنسان ذو منصب ، اتفقنا أن الكبير كبير السن ، والكبير كبير العلم ، والكبير كبير المنصب .
ببلدة ما هناك ناحية ، وهناك مدير لهذه الناحية ، شاب لكنه لطيف ، ويحب المصلحة العامة ، ويخدم كل الناس ، يجب أن يُوقر ، أن يُحترم ، أن تنزاح له في المسجد ، الأدب شيء رائع جداً ، نحن مجتمع المسلمين مجتمع مؤدب ، مجتمع منضبط ، مجتمع الصغير يوقر الكبير ، مجتمع الكبير يعطف على الصغير ، مجتمع متماسك .
زارني أخ يقيم بأمريكا ، قال لي : أنتم كيف تعيشون ؟ هناك متاعب كثيرة في حياة الناس ، لكنكم تحبون بعضكم بعضاً ، وتوقرون بعضكم بعضاً .
أنا سافرت لبلاد كثيرة بعض البلاد الإسلامية العالم محترم احتراماً يفوق حدّ الخيال ، والكبير محترم احتراماً يفوق حدّ الخيال .
انظروا إلى آبائنا ، أو آباء الآباء الآن يكون الأب ساكناً بالمدينة ، بحي راقٍ ، لكن بيته غالٍ جداً ، يبيع البيت يشتري ما يقابله أربعة بيوت في الريف ويزوج أولاده ، هذا بطل .
مرة حدثني أخ كان بفرنسا ، قال لي : شاهدت شاباً واقفاً على نهر السن في باريس ، أحببت أن أحدثه ، سألته : بمَ تفكر ؟ والله ! قال له : أفكر بقتل أبي ، قال له : لِمَ ؟ قال له : أُحب فتاةً فأخذها مني .
نحن الأب همه أن يزوج أولاده ، أنا حينما أحضر عقود قران أشعر أن الأب عنده عيد ، زوج ابنه ، زوج ابنته ، الأبوة شيء ثمين جداً .
يحدثني أخ كان بأمريكا ، قال لي : زارنا صديق ابني ، فابنه شاب لطيف صديقه زنجي ، فمرة دعا الزنجي لزيارته ، لما دخل الابن للبيت قبّل يد والده ووالدته ، هذا الزنجي وجد أدباً عالياً ، الأم من محبتها لابنها هيأت لهم طعاماً ، وجد هذا الزنجي ابناً يقبل يد والده ووالدته ، والأم احتفلت بصديق ابنها ، وهيأت لهم طعاماً ، يقول بالنهاية : أسلم هذا الشاب ، ما هذا الإسلام ؟ والله نحن عندنا آداب كبيرة جداً .
أريد أن أقول لكم ملاحظة ، إن الأب بالثقافة الإسلامية محترم جداً ، لكن أنا أخاطب الآباء الآن ، أخاطب الأمهات أيضاً : كل أب محترم ، بالثقافة ، بثقافتنا ، بديننا ، ببيئتنا ، وكل أم محترمة ، لكن بطولة الأب لا أن يكون محترماً أن يكون محبوباً ، وبطولة الأم لا أن تكون محترمة بل أن تكون محبوبة ، الأب الصالح أولاده يتمنون بقاءه .(1/295)
أنا أسمع قصصاً كثيرة ، إذا كان الأب بخيلاً ، وقاسياً على أولاده ، وحارماً أولاده كل شيء ، لو أصابته وعكة صغيرة ، وجاء الطبيب ، وقال : القضية سهلة ، ينزعجون كثيراً ، كيف سهلة ؟ يتمنونها القاضية كيف تقول سهلة ؟.
أما إذا أب كريم ، أولاده في بحبوحة في حياته ، يتمنون حياته ، أنا أقول لكم هذه الكلمة : بطولتك أيها الأب أن يتمنى أولادك حياتك ، لا أن يتمنون مماتك ، الأب المحسن محترم ومحبوب ، ويتمنى أولاده حياته ، والأب القاسي والبخيل محترم لكنه غير محبوب ، ويتمنى أولاده مماته .
الآن أنت إذا احترمت الكبير في السن ، أو في العلم الديني ، أو في المنصب ، كبير في المنصب ، أو في السن ، أو كبير في العلم ، هذا من أدب الإسلام .
النبي خاطب قيصر ملك الروم ، ماذا قال ؟ إلى عظيم الروم ، هو ليس عظيماً عند رسول الله ، هكذا تقتضي اللباقة ، والكياسة ، والسياسة .
كان عليه الصلاة والسلام يسلم على الصبيان ، ويداعبهم ، ويجري معهم ، ويدعوهم إلى ركوب الجمل ، فالصبي حينما يرى هذا النبي الكريم بهذه الأخلاق يحبه ، أي أتمنى أن يحبك أولادك حباً جماً ، يتأدبون معك ساعتئذٍ .
الإنسان بالأدب يرقى ، وقلت لكم قبل قليل : لما سُئل النبي عن هذا الأدب قال :
(( أدبني ربي فأحسن تأديبي )) .
[ من الجامع الصغير عن ابن مسعود ] .
وبينت لكم أيضاً أن الإسلام عقيدة ، وعبادة ، ومعاملات ، وآداب ، فالآداب ربع هذا الدين .
لو استعرضنا الأدب الرفيع الذي تأدب به النبي عليه الصلاة والسلام ، كلما رأى صحابياً عنده ثغرة كان يوجهه ، يا بني اجلس هكذا .
أحياناً الإنسان يجلس ويباعد بين رجليه ، المنظر قبيح ، يا بني ضم رجليك إلى بعضهما ، اقعد بأدب ، يجلس جلسة وقورة ، الجلسة فيها وضع لا يرضي ، كلما لاحظت ابنك وقف وقفةً ، أو مشى مشية ، أو جلس جلسة ليست لبقة ، ينبغي أن توجهه إليها ، فالأدب أصل في التربية ، دخل ، قل : يا بني السلام عليكم .
مرة عمير بن وهب كان جالساً مع صفوان بن أمية ، قال لي : والله يا صفوان لولا ديون لزمتني ما أطيق سدادها ، ولولا أولاد صغار أخشى عليهم العنت من بعدي ، لذهبت وقتلت محمداً وأرحتكم منه ، فقال له صفوان : أما أولادك فهم أولادي ما امتد بهم العمر ، وأما ديونك فهي عليّ بلغت ما بلغت ، فاذهب لما أردت ، فهذا عمير بن وهب سقى سيفه سماً ، وضع يده على عاتقه ، وركب ناقته ، وتوجه إلى المدينة ليقتل محمداً ، لأن ذهابه إلى هناك له مبرر ، ابنه أسير ، فإذا سُئل لماذا أنت هنا ؟ أجاب : من أجل أن أفدي ابني الأسير ، وصل إلى المدينة رآه سيدنا عمر بن الخطاب ، رآه(1/296)
يريد شراً فقال : هذا عمير جاء يريد شراً ، ماذا فعل عمر ؟ أخذ منه سيفه ، وقيده بحمالة سيفه ، وساقه إلى النبي ، أدخله على النبي صلى الله عليه وسلم ، وقال : يا رسول الله هذا عمير جاء يريد شراً ، انظر إلى النبوة ، قال له : يا عمر أطلقه ، فأطلقه ، قال له : يا عمر ابتعد عنه ، فابتعد عنه ، قال : يا عمير ادنُ مني ، فدنا منه ، قال له : ما الذي جاء بك إلينا ؟ قال له : جئت أفدي ابني ، قال له : وهذه السيف التي على عاتقك لماذا جئت بها ؟ قال له : قاتلها الله من سيوف ، وهل نفعتنا يوم بدر ؟ قال له : ألم تقل لصفوان لولا ديون لزمتني ما أطيق سدادها ، ولولا أولاد صغار أخشى عليهم العنت من بعدي لذهبت وقتلت محمداً وأرحتكم منه ؟ طبعاً جاءه الوحي ، يقول راوي القصة : وقف عمير بن وهب وقال : أشهد أنك رسول الله ، الذي حصل بيني وبين صفوان لا يعلمه أحد إلا الله وأنت رسول الله إذاً ، وأسلم .
فصفوان بن أمية كان يخرج كل يوم إلى ظاهر مكة ليتلقى الركبان ومعهم الأخبار السارة بقتل محمد ، بعد أيام جاء بعض الركبان وأخبره أن عميراً أسلم ، الشاهد يقول سيدنا عمر : دخل عمير على رسول الله والخنزير أحبّ إليّ منه ، وخرج من عنده وهو أحبّ إليّ من بعض أولادي .
فنحن ليس عندنا عداوة مستمرة ، أنت تكره عمله لكن لا تكرهه ، فلما أسلم قال : دخل عمير على رسول الله والخنزير أحب إليّ منه ، وخرج من عنده وهو أحب إليّ من بعض أولادي .
صحابي جليل سُئل قبل أن يعدم بعد أن ألقي القبض عليه و أراد كفار قريش أن يقتلوه ، بل أن يصلبوه صلباً ، فقبيل أن يصلب سأله أبو سفيان : يا خبيب أتحب أن محمداً عندنا بمقامك ؟ ـ سؤال محرج ، والله أنا حينما أروي إجابة خبيب لا أملك إلا أن أتأثر تأثراً بالغاً جداً ـ قال له : والله ما أحب أن أكون في أهلي وفي ولدي ، وعندي عافية الدنيا ونعيمها ، ويصاب رسول الله بشوكة ، يقول أبو سفيان : ما رأيت أحداً يحب أحداً كحب أصحاب محمد محمداً .
فالتوقير والحب والتعظيم يجعل هذا المجتمع مؤدباً جداً .
والملاحظ بحياة المسلمين أن الأب له قيمة ، الأم لها قيمة ، الأخ له قيمة ، الأخ الأكبر كأنه والد ، العم له قيمة ، هذه العلاقات الأسرية النامية أساساً العالم الغربي يشكو من تفكك الأسرة ، يشكو من شيوع الانحرافات الأخلاقية ، أتمنى عليكم لا تنسوا أن الله سبحانه وتعالى حبانا بأشياء ثمينة .
أنا مرة كنت بأستراليا رئيس الجالية الإسلامية هناك أثناء الوداع بكى والله وقال : أبلغ أخوتنا في الشام أن مزابل الشام خير من جنات أستراليا ، قلت له : لِمَ ؟ قال لي : أنتم في الشام ابنك لك ، وابنك على شاكلتك ، وأنت مسلم وابنك مسلم ، فلو وجد بعض التقصير لكن الإسلام كبير عندكم ، أما نحن احتمال الابن أن يكون غير مسلم ، أو أن يكون ملحداً ، واحتمال أن يأتي وفي أذنه حلقة ، وباليمين لها معنى ، وباليسار لها معنى أسوأ ، وبكلتي الأذنين معنى أسوأ وأسوأ .(1/297)
إذاً : نحن نعيش في علاقات أسرية متينة هذا من فضل الله علينا ، الإنسان عندما يسافر يعرف إيجابيات مجتمعه ، وسلبيات مجتمعه ، نحن عندنا إيجابيات كثيرة جداً ، أسأل الله سبحانه وتعالى أن يرزقنا معرفة هذا الدين العظيم ، ومعرفة الآداب التي يتمتع بها المؤمنون .
الصحابة الكرام مؤدبون جداً ، وأهم شيء عندما سألوا عم النبي الكريم : أيكما أكبر أنت أم رسول الله ؟ قال : هو أكبر مني ، لكنني ولدت قبله .
أعرف أناساً ، آباء محسنون لأولادهم والله أولادهم يتمتعون باحترام لوالدهم يفوق حدّ الخيال ، الإحسان يساوي أدب ، والكمال يساوي أدب ، الآن أخاطب الآباء ، إحسانك لأولادك ، وكمالك ، واستقامتك ، وصدقك ، وأمانتك ، هذه الصفات الراقية تحمل أولادك على احترامك ، كلما نمت العلاقات يصير إعراض الأب عن ابنه أكبر عقاب ، إعراضه فقط لا يحتاج لا إلى أن يضربه ، ولا إلى أن يؤدبه ، إعراضه عنه يعد أكبر عقاب له .
أرجو الله سبحانه وتعالى أن تترجم هذه الحقائق إلى سلوك في بيوتنا ، إلى آداب يتمتع بها أولادنا حتى يكون الابن نشأ في طاعة الله ، وعلى أدب الإسلام .
=================
... ...(1/298)
32- وسائل تربية الأولاد ( 2 ) : التربية بالقدوة ( 2 ) : توجيهات النبي صلى الله عليه وسلم في القدوة . ...
أيها الأخوة ، عدت إلى سلسلة أخرى من سلسلة دروس تربية الأولاد في الإسلام نظراً لأهمية هذا الموضوع وانطلاقاً من أن أولادنا بالتعبير الحديث هم الورقة الرابحة الوحيدة التي في أيدينا .
إن أولادنا هم المستقبل فإن أردنا مستقبلاً يتميز عن حاضرنا فلنعتنِ بأولادنا ، لأن هذا الموضوع ـ والفضل لله وحده ـ راج رواجاً كبيراً وتناقلته أكثر من جهة بالقبول ، فأردت أن أتابع هذه السلسلة ، فأنا في سلسلة ثانية من سلسلة تربية الأولاد في الإسلام .
أعيد وأذكر أن السلسلة الأولى هي أهداف التربية لابدّ من أن نربي أولادنا تربيةً إيمانية وتربيةً أخلاقية وتربية عقلية وتربيةً جسمية وتربيةً اجتماعية وتربية جنسية هذا مضمون السلسلة الأولى من تربية الأولاد في الإسلام .
والله لا أقول هذا إلا للبيان عدد من الإذاعات في العالم العربي والإسلامي أذاعت هذه السلسة عشرات المرات ، وتلقاه الناس بالقبول ، وهذا من فضل الله علينا جميعاً .
السلسلة الثانية أيها الأخوة وسائل التربية ، أول وسيلة أن تكون أنت قدوةً ، وأقول بملء فمي لا تطمح أن يكون ابنك صالحاً إن لم تكن صالحاً ، لا تطمح أن يكون ابنك صادقاً إن لم تكن صادقاً ، لا تطمح أن يكون ابنك عفيفاً إن لم تكن عفيفاً ، لا تطمح أن يكون ابنك أميناً إن لم تكن أميناً ، تكاد هذه الوسيلة تكون أخطر وسيلة ، أن تكون أنت قدوةً لأن الأطفال يتعلمون بعيونهم لا بآذانهم ، موقف فيه كذب يلغي ألف محاضرة ، موقف فيه خيانة يلغي ألف محاضرة في الأمانة هذه المشكلة .
كأن الحياة والحركة في الحياة أقوى من أي فكر نظري ، فيكفي أن يدرك الابن أن في دخل والده حراماً ، وأن في بيعه كذباً ، وأن في معاملاته انحرافاً ، وهو والده ، إذاً إذا انحرف الابن أصبح مغطى .
في الدرس الماضي أيها الأخوة ، بينت لكم كيف أن النبي عليه الصلاة والسلام كان قدوةً ، تحدثت عن سيرة النبي العملية ، الآن في موضوع القدوة توجيهات النبي في القدوة ، الدرس الماضي سلوك النبي في القدوة ، كان قدوةً في عبادته ، وفي رحمته ، وفي عدله ، وفي علمه ، وفي حسن معاشرته لمن حوله ، أما اليوم هديه في أن نكون قدوةً لمن حولنا .
(( دَعَتْنِي أُمِّي يَوْماً وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَاعِدٌ فِي بَيْتِنَا فَقَالَتْ : هَا تَعَالَ أُعْطِيكَ ، فَقَالَ لَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : وَمَا أَرَدْتِ أَنْ تُعْطِيهِ ؟ قَالَتْ : أُعْطِيهِ تَمْراً ، فَقَالَ لَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : أَمَا إِنَّكِ لَوْ لَمْ تُعْطِهِ شَيْئاً كُتِبَتْ عَلَيْكِ كِذْبَةٌ )).
[أحمد وأبو داود عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَامِرٍ](1/299)
لي قريبة توفيت رحمها الله جاءها ابنها من أمريكا ومعه أولاده ، أحد أولاده أحدث جلبةً وضجيجاً كثيراً ، قالت له : اسكت وفي المساء سآخذك إلى مكان جميل ، فسكت وفي المساء لم تأخذه ، طفل صغير قال لجدته : أنت كاذبة .
طفل يدرك فيا أيها الأخوة عد إلى المليون قبل أن تكذب أمام ابنك ، وعد إلى المليار قبل أن تكذب أمام الله ، لكن لن تطمح أن يكون ابنك صادقاً إذا كان في الحديث كذب ، والإنسان أحياناً يكون ابنه معه في المحل التجاري ، وهذه مشكلة ، والابن يراقب ، يعرف كيف اشتريت هذه البضاعة ، وكم رأسمالها ؟ فحتى يبيع الأب هذه البضاعة يقوم بحلف الأيمان الكاذبة أمام ابنه ، سقط الأب من عين ابنه .
والله أيها الأخوة ، لأن يسقط أحدنا من السماء إلى الأرض فتتحطم أضلاعه أهون من أن يسقط من عين الله ، لا تكذب ، الله عز وجل هو الرزاق ذو القوة المتين ، يرزقك وأنت صادق لا تكذب .
أحد أخواننا الكرام يبيع قطع سيارات ، قال لي : إحدى هذه القطع بقيت عندي سبع سنوات ، وثمنها كبير ، وأنا أرحلها من ميزانية إلى ميزانية ، ضقت ذرعاً بها ، جاءني من يطلبها ، وأنا على السلم لآتيه بها قال لي : أصلية ـ وهي ليست أصلية ـ قلت : لا والله قال : سآخذها .
كلمة لا والله أصبح البيع شرعياً ، حديث آخر :
(( عَنْ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ أَنَّ أَبَاهُ أَتَى بِهِ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَقَالَ : إِنِّي نَحَلْتُ ابْنِي هَذَا غُلَاماً ، فَقَالَ : أَكُلَّ وَلَدِكَ نَحَلْتَ مِثْلَهُ ؟ قَالَ : لَا ، قَالَ : فَارْجِعْهُ)).
[البخاري ومسلم عَنْ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ]
في رواية قال عليه الصلاة والسلام :
(( أفعلت هذا بولدك كلهم ؟ قال : لا ، قال : اتقوا الله واعدلوا في أولادكم )).
[البخاري ومسلم عَنْ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ]
قد يتوهم الأب أنه إذا أعطى البار أكثر كافأه على بره ، إن أعطيت البار أكثر زدت العاق عقوقاً ، أما إن عدلت بينهما قربت العاق إليك ، بر ابنك اجعل جزاءه عند الله وأنت اعدل بين أولادك لا تفرق بين بار وغير بار ، اتقوا الله واعدلوا في أولادكم ، وفي رواية قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
(( يا بشير ألك ولد سوى هذا ؟ قال : نعم ، قال : أكلهم وهبت له مثل ذلك ؟ قال : لا ، قال : فلا تشهدني إذاً فإني لا أشهد على جور )).
[مسلم عَنْ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ]
وفي رواية :(1/300)
(( أشهد على هذا غيري ، ثم قال عليه الصلاة والسلام : أَيَسُرُّكَ أَنْ يَكُونُوا إِلَيْكَ فِي الْبِرِّ سَوَاءً ؟ قَالَ : بَلَى ، قَالَ : فَلَا إِذاً )).
[مسلم عَنْ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ]
أنت حينما تعدل ترسخ مفهوم العدل عند أولادك ، وأنت حينما ترحم ترسخ مفهوم الرحمة عند أولادك ، وأنت حينما تصدق ترسخ مفهوم الصدق عند أولادك .
(( قَبَّلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْحَسَنَ بْنَ عَلِيٍّ وَعِنْدَهُ الْأَقْرَعُ بْنُ حَابِسٍ التَّمِيمِيُّ جَالِساً فَقَالَ الْأَقْرَعُ إِنَّ لِي عَشَرَةً مِنْ الْوَلَدِ مَا قَبَّلْتُ مِنْهُمْ أَحَداً فَنَظَرَ إِلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ قَالَ مَنْ لَا يَرْحَمُ لَا يُرْحَمُ )).
[ متفق عليه عن أَبي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ]
صدقوا أيها الأخوة أن الابن الذي تربى بين أبوين رحيمين ، أشرباه الرحمة مع الحليب ، هذا الابن إذا كبر لا يقسو أبداً ، تجد أناساً ليسوا ملتزمين بأوامر الله ، لكنهم شربوا الرحمة مع حليب أمهاتهم ، تجد البيت كله رحمة ، مودة ، عطفاً ، بذلاً ، تضحية ، إيثاراً ، هذا البيت فيه رحمة ، الأم رحمت والأب رحم وكل شيء فيه عنف يبغضه الله عز وجل .
(( يَا عَائِشَةُ إِنَّ اللَّهَ رَفِيقٌ يُحِبُّ الرِّفْقَ وَيُعْطِي عَلَى الرِّفْقِ مَا لَا يُعْطِي عَلَى الْعُنْفِ وَمَا لَا يُعْطِي عَلَى مَا سِوَاهُ )).
[ متفق عليه عَنْ عَائِشَةَ ]
إذا وجدت رحمة في البيت لا يوجد قسوة ، لا يوجد ضرب ، لا يوجد صوت مرتفع ، لا يوجد إذلال ، البيت الذي فيه رحمة الأولاد ينشؤون على الرحمة ، هذا شيء واضح في الحياة العملية ، تجد إنساناً لا يرحم أبداً يتلذذ في أن يوقع أشد الأذى في الناس ، تجد إنساناً آخراً لا يستطيع أن يؤذي أحداً هذا نشأ في بيت فيه رحمة لذلك قال عليه الصلاة والسلام :
(( من لا يرحم لا يُرحم . ))
[البخاري ومسلم عَنْ أبي هريرة]
وقال :
(( جَاءَ أَعْرَابِيٌّ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : تُقَبِّلُونَ الصِّبْيَانَ فَمَا نُقَبِّلُهُمْ ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : أَوَ أَمْلِكُ لَكَ أَنْ نَزَعَ اللَّهُ مِنْ قَلْبِكَ الرَّحْمَةَ )).
[ متفق عليه عَنْ عَائِشَةَ ]
يعني ماذا أملك لك إن نزع الله الرحمة من قلبك ؟ مرة ثانية أحد أكبر علامات إيمانك الرحمة في قلبك وأحد أكبر مؤشرات النفاق قسوة القلب دائماً المنافق والكافر قلبه قاسٍ كالحجر لا يرحم .(1/301)
قبل أن أقرأ الحديث ابنك حينما يرى أنك تحبه وترحمه وتعطف عليه يلتصق بك ، وحينما يرى منك قسوةً ونفوراً وإبعاداً له عنك ينفر منك ، فلذلك لأن تخسر الدنيا وتربح إنساناً أفضل عند الله من أن تربح الدنيا وتخسر إنساناً ، الأب العاقل الموفق يربح أولاده ، لا يربح أولاده بمحاضرة يلقيها بل يربح أولاده بقلب مفعم بالرحمة ، حينما يرحمهم ، حينما يسدي لهم كل ما يحتاجونه ، حينما يجهد في العمل كي يكرمهم .
والله أعرف أحد أخواننا الكرام أولاده يقفون أمامه والله كجندي أمام أعلى رتبة من شدة إحسانه إليهم ، أنا أقول لك دائماً : الآخرون أنت لهم وغيرك لهم ، أما أولادك من لهم غيرك ؟ من لهم غيرك يطعمهم ما يشتهون ؟ من لهم غيرك يلبسهم ما يحبون ؟ من لهم غيرك يأخذهم إلى نزهة ؟ فأنت حينما تؤمن بالله الإيمان الحقيقي كل أفعالك مكتوبة عند الله أعمالاً صالحة .
(( كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَخْطُبُ فَجَاءَ الْحَسَنُ وَالْحُسَيْنُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا وَعَلَيْهِمَا قَمِيصَانِ أَحْمَرَانِ يَعْثُرَانِ فِيهِمَا ، فَنَزَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَطَعَ كَلَامَهُ فَحَمَلَهُمَا ثُمَّ عَادَ إِلَى الْمِنْبَرِ ، ثُمَّ قَالَ : صَدَقَ اللَّهُ إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ ، رَأَيْتُ هَذَيْنِ يَعْثُرَانِ فِي قَمِيصَيْهِمَا فَلَمْ أَصْبِرْ حَتَّى قَطَعْتُ كَلَامِي فَحَمَلْتُهُمَا )).
[رواه الترمذي عن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بُرَيْدَةَ عَنْ أَبِيهِ]
أحياناً بعض الأشخاص الأقوياء يقومون بفعل تمثيلي ، أما هذا حقيقي ، يعني رحمة حقيقية .
(( بينما كان عليه الصلاة والسلام يصلي بالناس إذ جاءه الحسين فركب عنقه وهو ساجد ، فأطال السجود بالناس حتى ظنوا أنه قد حدث أمر ، فلما قضى صلاته قالوا : لقد أطلت يا رسول الله السجود حتى ظننا أنه قد حدث أمر ؟ فقال : إن ابني قد ارتحلني ـ أي جعلني راحلة ـ فركب على ظهري فكرهت أن أعجله حتى يقضي حاجته)).
[النسائي والحاكم عن عبد الله بن شداد]
المؤمن إذا دخل بيته صدقوني أيها الأخوة وأنا لكم ناصح أمين إذا دخلت البيت ولم يكن عند دخولك عيد فأنت لست أباً ناجحاً ، عيد إذا دخلت البيت ، يجب أن يرقص الأطفال من الفرح ، ويوجد آباء ـ والعياذ بالله ـ إذا خرج الأب الحمد لله تنفَّس أهله الصعداء ، متعب ، قاسي ، كلام ، سباب ، ضرب ، إهانة .
إذا كنت أباً ناجحاً إذا دخلت إلى البيت يجب أن يكون في بيتك عيد ، لأنك واحد من أهل البيت ، كان يكنس داره ، ويرفو ثوبه ، ويخسف نعله ، ويصغي الإناء للهرة ، وكان يحلب شاته ، وكان في مهنة أهله .
لك عمل ، لك رتبة عالية ، لك منصب رفيع ، أما في البيت أنت واحد منهم .(1/302)
(( دخلت على النبي صلى الله عليه وسلم وهو يمشى على أربع ، وعلى ظهره الحسن والحسين وهو يقول : نعم الجمل جملكما ونعم العدلان أنتما )).
[ابن عدي وابن عساكر عن جابر رضي الله عنه]
يعني إنسان سيد الخلق وحبيب الحق ، يدير أكبر دعوة في العالم ، يجابه ملوك الأرض ، يجابه قريش ، يغزو ، يحل مشكلات ، إذا دخل بيته يمشي على يديه وركبتيه ويدعو الحسن والحسين ليركبا على ظهره ، ويقول وهو يمشي :
(( نعم الجمل جملكما ونعم العدلان أنتما )).
[ابن عدي وابن عساكر عن جابر رضي الله عنه]
قلدوا رسول الله :
(( من كان له صبي فليتصاب له )).
[ ابن عساكر عن معاوية ]
هناك باب في الجنة لمن يدخل السرور على الأطفال ، الأطفال أحباب الله ، هذا الطفل بريء وذاتي وصافٍ حينما يشرب الحنان والعطف والمودة والحب منك ، إذا كبر هذا الطفل وصار إنساناً عظيماً في صحيفتك ، قال تعالى :
* وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ (21)*
( سورة الطور)
يعني كل أعمال أولادك بعد موتك في صحيفتك .
قال عليه الصلاة والسلام :
(( إِنِّي لَأَقُومُ فِي الصَّلَاةِ أُرِيدُ أَنْ أُطَوِّلَ فِيهَا فَأَسْمَعُ بُكَاءَ الصَّبِيِّ فَأَتَجَوَّزُ فِي صَلَاتِي كَرَاهِيَةَ أَنْ أَشُقَّ عَلَى أُمِّهِ)).
[ متفق عليه عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي قَتَادَةَ ]
وفي بعض الأحاديث الصحيحة :
(( مَرَّ عَلَى صِبْيَانٍ فَسَلَّمَ عَلَيْهِمْ وَقَالَ : كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَفْعَلُهُ)).
[متفق عليه عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ]
كان عليه الصلاة والسلام يقول : مرحباً ، السلام عليكم يا صبيان ، من تواضعه الشديد ، نحن في العيد نستقبل أخوتنا الكرام في القاعة وكل أب معه ابنه له هدايا وحلوى ، جاء طفل صغير وحده ، قلت له : أنت وحدك أم مع أبيك ؟ قال : وحدي ، قلت له : من هو أستاذك ؟ وهو يمشي في الطريق علم أن هنا هدايا وحلوى فدخل ، قلت له : من أستاذك ؟ قال : الشيخ راتب أستاذي .(1/303)
طفل يحب الإحسان لا شك ، يوجد طالب آخر جاء مع أبيه أيضاً أكرمته ، قال لي والده أنه حدث أمه بعد أن وصلا إلى البيت ، قال لها : لقد أحببت هذا الشيخ يا أمي .
الطفل تملك قلبه بهدية ، تملك قلبه بابتسامة ، تملك قلبه بقبلة أحياناً ، إنسان أحياناً لا ينتبه يقبل ولداً ولا يقبل الثاني وقع في الظلم ، أحياناً يبش لولد ويقطب للثاني وقع في الظلم اعدل حتى في القبل ، اعدل حتى في الابتسامة ، اعدل حتى في الضم ، من المهم جداً أن يضم الإنسان ابنه إلى صدره ، تعدها شيئاً سهلاً ، يوجد آباء لا يفعلون هذا ، يشتهي الطفل أن يضمه أي إنسان ـ انتبه إلى هذه النقطة وفهمك كفاية ـ لما الابن يجلس في حضن والده ويقبله ويضمه ويشمه يحقق له حاجة أساسية ، حاجة إلى قلب يحبه ، حاجة إلى إنسان يحتويه فإذا كان الأب قاسي القلب وابتعد عن أولاده أنا لا أظن السوء بل أخشى أن هذا الطفل يشعر بحاجة دائماً إلى من يعطف عليه ، فيرمي نفسه في أحضان إنسان منحرف .
والله أيها الأخوة ، أنا حينما أستمع من بعض الأخوة الكرام إلى قصص عن تماسك الأسرة والله أقدر هذه الأسرة ، يوجد أسر متماسكة فيها حب ، فيها ود ، فيها عطف ، فيها تضحية ، ويوجد أسر ـ والعياذ بالله ـ متعادية ، خصومات ، ومشاكسات ، وقطيعة ، وسباب ، فأنت بطولتك أن تجعل من بيتك جنة ولو كان الأكل متواضعاً ، ولو كان البيت صغيراً قد يغدو جنة وأنت لا تشعر ، من محبة النبي للصغار :
(( أَنَّهُ قَالَ : كَانَ النَّاسُ إِذَا رَأَوْا أَوَّلَ الثَّمَرِ جَاءُوا بِهِ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِذَا أَخَذَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : اللَّهُمَّ بَارِكْ لَنَا فِي ثَمَرِنَا ، وَبَارِكْ لَنَا فِي مَدِينَتِنَا ، وَبَارِكْ لَنَا فِي صَاعِنَا ، وَبَارِكْ لَنَا فِي مُدِّنَا ، اللَّهُمَّ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ عَبْدُكَ وَخَلِيلُكَ وَنَبِيُّكَ وَإِنِّي عَبْدُكَ وَنَبِيُّكَ ، وَإِنَّهُ دَعَاكَ لِمَكَّةَ وَإِنِّي أَدْعُوكَ لِلْمَدِينَةِ بِمِثْلِ مَا دَعَاكَ لِمَكَّةَ وَمِثْلِهِ مَعَهُ ، قَالَ ثُمَّ يَدْعُو أَصْغَرَ وَلِيدٍ لَهُ فَيُعْطِيهِ ذَلِكَ الثَّمَرَ)).
[مسلم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ]
أنت كبير قد تصبر عن الفاكهة أسبوعاً أما الطفل متعلق بالفاكهة ، فأنت حينما تأتي له بفاكهة أنت كأب رحيم كأنك أنت الذي أكلت ، وأنت كأم كأنك أنتِ التي أكلتِ ، فكان عليه الصلاة والسلام ـ وهذا من توجيهه ـ يعطي الفاكهة لأصغر طفل في المجلس ولا يأكلها .
(( أُتِيَ بِشَرَابٍ فَشَرِبَ مِنْهُ وَعَنْ يَمِينِهِ غُلَامٌ وَعَنْ يَسَارِهِ الْأَشْيَاخُ ، فَقَالَ لِلْغُلَامِ : أَتَأْذَنُ لِي أَنْ أُعْطِيَ هَؤُلَاءِ ؟ فَقَالَ الْغُلَامُ : لَا وَاللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ لَا أُوثِرُ بِنَصِيبِي مِنْكَ أَحَداً ، قَالَ فَتَلَّهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي يَدِهِ )).
[مسلم عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ السَّاعِدِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ](1/304)
الإسلام فيه نظام ، أنا جالس إلى يمينك من حقي أن أشرب بعدك قبل الأشياخ أرأيت إلى هذا النظام ؟
النظام رائع ، بالدخول ، بالتيمن ، دخل إلى المسجد دخل برجله اليمنى ، أثناء توزيع الضيافة بدأ من اليمين ، هذا النظام مريح .
أيها الأخوة ، النبي عليه الصلاة والسلام قال :
(( أدبوا أولادكم على ثلاث خصال : حب نبيكم وحب آل بيته وقراءة القرآن..)).
[أبو نصر عبد الكريم الشيرازي وابن النجار عن علي]
هذا توجيه نبوي ، الآن أطفالنا وأطفال المسلمين من هم قدوتهم ؟ لاعبو الكرة ، الفنانون قدوتهم ، قدوتهم الرسوم المتحركة ، قدوتهم هذه التماثيل الصغيرة التي تأتينا صورها من اليابان أو من أمريكا ، لكن ألا يليق بالمسلمين أن يكون هؤلاء الصحابة الشباب قدوةً لأولادنا ، من يعلمهم ذلك ؟ كم أباً من بين مئة أب يجلس مع أولاده ليعلمهم سير أصحاب رسول الله ، أو ليقرأ معهم قصة صحابي جليل ؟ الطفل في سن مبكرة يتعلق بمثل شئت أم أبيت ، يتعلق بمثل ، فالمفروض أن تعلم أنت ابنك حب رسول الله ، الآن قد يفهم الحديث فهماً مضحكاً يا بني أحبَّ رسول الله ، لا ليس هذا الموضع ، أن تذكر له شمائله ، أخلاقه ، محبته لأمته ، نظافته ، صدقه ، أمانته ، عفافه ، ينبغي أن تذكر له شمائل النبي حتى يحب النبي وينبغي أن تذكر قصص أصحابه الكرام .
أنا درست كتاباً عدة مرات " صور من حياة الصحابة " ، المؤلف رحمه الله ألَّف هذا الكتاب وهو في أعلى مستوى ، حتى أنه كتاب مقرر في عدد من البلاد الإسلامية للتعليم الإعدادي والثانوي ، فإذا كان في البيت " صور من حياة الصحابة " وكل يوم قرأ قصة صحابي وهو سبعة أجزاء أنت بهذا تكون قد نفذت وصية رسول الله .
(( أدبوا أولادكم على ثلاث خصال : حب نبيكم وحب آل بيته وقراءة القرآن..)).
[أبو نصر عبد الكريم الشيرازي وابن النجار عن علي]
قال سعد بن أبي وقاص : كنا نعلم أولادنا مغازي رسول الله صلى الله عليه وسلم كما نعلمهم السورة من القرآن .
مرة ذكرت في خطبة أن النبي عليه الصلاة والسلام عائد من غزوة ذات الرقاع ، من شدة المشقة التي ألمت بالمسلمين ، ومن شدة الآلام والدماء التي سالت منهم ، لفوا أرجلهم بالرقاع فسميت غزوة ذات الرقاع ، في طريق العودة كان النبي عليه الصلاة والسلام في مؤخرة الركب ليطمئن على جيشه ، التقى بشاب فقير جداً اسمه سيدنا جابر ، توفي أبوه في معركة أحد وترك له أخوات عدة ، فالنبي عليه الصلاة والسلام رأى جمله ضعيفاً لذلك كان في مؤخرة الركب فسأله عن جمله ، قال : هو ضعيف يا رسول الله ، فقال : انزل عنه أناخه ثم وخزه النبي عليه الصلاة والسلام بقضيب كان معه ،(1/305)
فعاد جملاً نشيطاً لعله من أنشط الجمال ، في أثناء السير النبي عليه الصلاة والسلام سأل سيدنا جابراً قال : يا جابر أتبيعني هذا الجمل ؟ قال : بل أهبه لك يا رسول الله ، قال : لا بعني إياه ، قال : أبيعك إياه ، قال : كم تريد ؟ قال : كم تدفع به ؟ قال له : أدفع درهماً ، قال : إذاً يغبنني رسول الله ـ فمن غير المعقول أن يدفع به درهماً ـ قال له : درهمان ، ومازال يرفع السعر حتى اشتراه منه بأوقية ذهب ، وتم البيع واشترط سيدنا جابر أن ينتفع بالجمل إلى المدينة .
انظر قواعد البيع صار في مجلس بيع ، وانتهى بسعر معين ، واشترط أن يكون قبض المبلغ في المدينة وتسليم الجمل .
قال : يا جابر أأنت متزوج ؟ قال : نعم ، قال : بكراً تزوجت أم ثيباً ؟ قال : بل ثيباً ، قال : هلا تزوجت بكراً ؟ قال : توفي والدي وترك لي سبع أخوات أردت أن أتزوج امرأةً تجمعهم ـ يعني امرأة ناضجة همها إدارة منزلها ورعاية أخوات زوجها ـ قال : نِعْمَ ما فعلت .
حديث طويل لطيف ، سيد الخلق وحبيب الحق النبي عليه الصلاة والسلام يحاور شاباً فقيراً ، قال له : الآن حينما نعود إلى المدينة تكون زوجتك قد نفضت نمارقها ودهنت أطفالها ، قال له : يا رسول الله ليس عندي نمارق ، قال : سيكون لك إن شاء الله نمارق .
كان من عادة النبي إذا كان في غزوة أن يقيم يوماً قبل الدخول إلى المدينة لتستعد كل امرأة كي تستقبل زوجها .
أيها الأخوة الكرام ، لو لم يكن هناك كتاب ولا سنة لكانت سيرة النبي عليه الصلاة والسلام وحدها بما يشبه الكتاب والسنة لأنها منهج ، طبعاً أية أمة تعتني بسيرة عظمائها لكن عظيمنا هو رسول الله ، سيد الخلق وحبيب الحق ، وهو القدوة والمثل ، فلذلك حينما نقرأ سيرة النبي عليه الصلاة والسلام نتعلم منه الشيء الكثير ، مثلاً من منا يعمل في منصب قيادي ؟ مدير مؤسسة ، مدير مدرسة ، مدير مستشفى وعنده موظفون ، لو أن واحداً منهم أساء ماذا يفعل ؟ النبي ماذا فعل عندما أساء بعض المصلين ؟
دخل إلى المسجد وأحدث جلبة وضجيجياً فلما انتهى النبي عليه الصلاة والسلام من صلاته قال له :
(( زادك الله حرصاً ولا تعد .))
[عبد الرزاق وأحمد والبخاري وأبو داود والنسائي وابن حبان عن أبى بكرة]
كيف وجهه ؟ ذكر بعض إيجابياته ثم ذكر خطأه هذا منهجه ، حينما تريد أن تعالج إنساناً يعمل معك وقد ارتكب خطأً ينبغي أن تذكر ميزاته حتى يطمئن إلى عدلك ، هذا الموظف أمين لكنه يتأخر إن أردت أن تعالج تأخره ينبغي أن تذكر له أنه أمين وأنا معجب بأمانتك لكن التأخر مشكلة ، عندما سمع أنك معجب بأمانته اطمأن وشعر أنك منصف لذلك يمكن أن يستجيب إلى توجيهك ، أما إذا أنكرت كل ميزاته فلن يستمع إليك عندها .(1/306)
أبناء كثيرون يشتكون إلي أن له مليون ميزة ، الأب لا يتكلم إلا عن سيئاته ويتعامى عن كل ميزاته ، هذا أكبر خطأ في تربية الأولاد ، ابنك عفيف ، حصّل علامات عالية ، صادق ، ارتكب خطأ وهو صادق ذكره أنه صادق ، ذكره أنه متفوق ، ذكره أنه يحب أخوته ، فكل ميزة من ميزات ابنك يجب أن تذكرها له مسبقاً فإذا جاء التوجيه السلبي قبل منك هذا التوجيه .
الحقيقة أخواننا الكرام سهل جداً أن تتطرف ، أن تكون قاسياً جداً ، أو أن تكون ليناً أيضاً القضية سهلة ، المواقف المتطرفة سهلة لا تحتاج إلى تفكير ، غضبت ضربته ضرباً مبرحاً هؤلاء هم الجهلة ، أرخيت له الحبل ، هذه أسوأ تربية ، أما حينما تضبط أعصابك فإذا أخطأ أعرض عنه ، ينبغي أن يكون إعراضك عنه أكبر عقاب له ، لذلك قالوا : من أطاع عصاك فقد عصاك ، الذي يخاف أن تضربه هو لا يحبك ، ينبغي أن يخاف أن تعرض عنه ، مقياس مكانتك عند ابنك ليس أن يخاف أن تضربه ، يجب أن يخاف أن تعرض عنه ، وكلما المودة والمحبة والمكانة والهيبة كانت عند الأب موجودة يكفي أن يعرض عنه حتى يحترق وحتى يبكي بكاءً شديداً ، فلذلك لا تُعوّد أولادك أن تضربهم ، عوّد أولادك أن أشد عقاب تعاقبهم به هو إعراضك عنهم ، بل إن الله سبحانه وتعالى ذكر هذا قال تعالى :
* كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ (15) *
( سورة المطففين : الآية 15)
أكبر عقاب هو الحجاب أحياناً الله كيف يعاقب المؤمن ؟ يبقى في مكانته الاجتماعية ، بصحته وأولاده في البيت ، ليس عنده مشكلة لكن الله يعاقبه ، يعاقبه بأن حجبه عنه ، المؤمن الصادق أكبر عقاب له أن يحجب عن الله عز وجل .
تروي بعض الكتب أن شاباً له شيخ أنبأه أنه يا بني لكل سيئة عقاب ، يبدو أنه ارتكب خطأً وغلبته نفسه مرة فارتكب معصية ، فبحسب كلام شيخه إذاً لا بد من عقاب أليم ، هو ينتظر العقاب الأليم مضى يومان وثلاثة وأربعة لا يوجد شيء ، ففي صلاته ناجى ربه قائلاً : يا رب لقد عصيتك ولم تعاقبني ، فقال بعض علماء القلوب ـ هكذا يروون ـ وقع في قلبه أن : يا عبدي لقد عاقبتك ولم تدرِ ، ألم أحرمك لذة مناجاتي ؟
إذا عندك حساسية ولك عند الله مكانة يمكن أكبر عقاب تعاقب به أن يحجبك عنه ، وأكبر عقاب يعاقب الأب ابنه المقصر أن يعرض عنه فقط ، أكبر عقاب نزل بالصحابة الثلاثة الذين خلفوا هو القطيعة ، قال تعالى :
* وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لَا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ (118) *
( سورة التوبة : الآية 118)(1/307)
عندما تربي ابنك تربية عالية أكبر عقاب أن تعرض عنه ، أما إذا كنت دائماً تضربه هذا الضرب كسر بالتعبير العامي ، لم يعد لك هيبة ، أَلِفَ الضرب وتعوَّد عليه :
من يهن يسهل الهوان عليه ما لجرح بميت إيلام
***
يوجد آباء يقولون لك والله بحياتي ما ضربت ابناً ولا بنتاً أبداً ، عنده حكمة ، وله هيبته ، وله مركزه في البيت ، ومحسن ، ومنصف ، ويربي أولاده ، لا يحتاج إلى ضربهم إطلاقاً .
أخواننا الكرام أنا لا أنكر أن المجتمع فاسد والطفل يتعلم في المدرسة أشياء سيئة جداً أحياناً ، وفي الطريق يستمع إلى كلمات بذيئة جداً ، وأينما التفت هناك معصية ، والآن الجهد ينبغي أن يكون كبيراً جداً في تربية الأولاد ، لكن حينما يرى الطفل بيته جنة ، يوجد ود ومحبة ، يوجد عطف ، يوجد طعام يؤكل ، يوجد أم تعتني بأولادها ، الأم التي تعتني بأولادها هي قريبة من الله عز وجل لأنها تعبد الله فيما أقامها ، يوجد بيوت فيها إهمال شديد ، فالطفل يلتصق بصديق غني ، لا يوجد طعام جاهز في الصباح ، الأم نائمة لا ترغب أن تستيقظ لتعتني بأولادها ، فالبيت مقفر ، أحياناً في أيام الشتاء الباردة لا يوجد مدفأة معدة البيت بارد جداً ، يريد أن يتوضأ ويصلي ويأكل ويلبس وأمه نائمة ، أما إذا كانت الأم تعتني بأولادها ، المدفأة قد اشتعلت ، والبيت دافئ ، والطعام جاهز ، والثياب جاهزة ونظيفة ، هذا الابن عندها يلتصق بأمه وأبيه .
أنا أقول لكم أحياناً تعطي محاضرات لا قيمة لها تقول له : أنا أمك ، وأنا أبوك ، أنت أبوه فعلاً بحسب قيد النفوس فلان بن فلان ، أما حينما يرى عطف الأب ورحمته وحلمه وعطاءه وكذلك الأم يلتصق هذا الابن بأمه وأبيه ، سبحان الله الجنة أبوابها تبدأ من البيت ، ممكن أن تسلك طريق الجنة وأنت في البيت ، كل إنسان له بيت وزوجة وأولاد ، فعليه أن يأخذ بيد أولاده إلى الله ، أن يكون قدوةً لهم ، أن يصلي معهم فرضاً ، أن يشعر أن هذا البيت بيت مسلم ، الطفل يحب هذا ، لاحظ الأطفال الصغار قبل الوعي يقلدون آباءهم وأمهاتهم في الصلاة ، يقلدون آباءهم وأمهاتهم في الحجاب ، أحياناً تجد خاطب جديد دخل وجلس مع أخته الطفل لا يحتمل ذلك بحسب البرمجة أن هذا كيف نظر إلى أخته ؟ طفل حينما ينشأ في بيت فيه عفة ، فيه صلاة ، فيه ذكر ، فيه قرآن ، فيه صدق ، فيه عطف ، يكون وضعه مختلف .
أخواننا الكرام ، تتميماً لموضوع القدوة هناك عدة أشخاص ينبغي أن يكونوا قدوة في حياة الطفل كالمعلم ، الحديث عن الأب والأم الآن أما المعلم له دور خطير ، فإذا كان المعلم يرتكب أخطاء كثيرة أو يعلو صوته أو يسب الطلاب أو يدخن أو يمزح مع أصدقائه مزاحاً رخيصاً على مسمع من الطلاب هنا يوجد مشكلة كبيرة جداً .(1/308)
كما أن الأب ينبغي أن يكون قدوةً المعلم ينبغي أن يكون قدوةً ، من أروع ما ذكر في هذا المقام أن سيدنا عمر رضي الله عنه كان إذا أراد إنفاذ أمر جمع أهله وخاصته وقال : إني قد أمرت الناس بكذا ونهيتهم عن كذا ، والناس كالطير إن رأوكم وقعتم وقعوا ، وأيم الله لا أوتين في واحد وقع فيما نهيت الناس عنه إلا ضاعفت له العقوبة لمكانه مني ، فصارت القرابة من عمر مصيبة ، يعني أكبر مصيبة أن تكون قريباً لعمر لأن العقاب مضاعف .
ماذا نستنبط من هذه القصة ؟ أهم ولد عندك الكبير ، الكبير حينما يستقيم يَستقيم أخوته الصغار ، أما الكبير إذا انحرف والأب أهمل الكبير يتعلم الصغار من الكبير كل شيء سيئ ، يجب أن تحسن تربية الكبير لأنه قدوة للصغار ، فالمعلم قدوة ، ينبغي أن تختار المدرسة الأصلح التي فيها معلم أجود وأكمل .
المعلم حينما لا يكون قدوة يسيء إلى الطلاب إساءة كبيرة جداً ، والأخ الأكبر حينما لا يكون قدوةً ، والأخت الكبرى حينما تكون متفلتة لا تستطيع الأم أن تربي بناتها الصغار على الآداب الإسلامية .
إذاً الآن مهمة الأب الأولى أن يعتني بتربية الكبير وتربية الكبيرة ، وأن يختار لابنه المعلم الجيد ، والشيء الذي يؤلم أشد الألم ما رواه البخاري ومسلم :
(( يُجَاءُ بِالرَّجُلِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَيُلْقَى فِي النَّارِ ، فَتَنْدَلِقُ أَقْتَابُهُ فِي النَّارِ فَيَدُورُ كَمَا يَدُورُ الْحِمَارُ بِرَحَاهُ ، فَيَجْتَمِعُ أَهْلُ النَّارِ عَلَيْهِ فَيَقُولُونَ : أَيْ فُلَانُ مَا شَأْنُكَ ؟ أَلَيْسَ كُنْتَ تَأْمُرُنَا بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَانَا عَنْ الْمُنْكَرِ ؟ قَالَ : كُنْتُ آمُرُكُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَلَا آتِيهِ ، وَأَنْهَاكُمْ عَنْ الْمُنْكَرِ وَآتِيهِ )).
[متفق عليه عن أسامة بن زيد رضي الله عنه]
الأقتاب : الأمعاء .
(( مَرَرْتُ لَيْلَةَ أُسْرِيَ بِي عَلَى قَوْمٍ تُقْرَضُ شِفَاهُهُمْ بِمَقَارِيضَ مِنْ نَارٍ قُلْتُ : مَا هَؤُلَاءِ ؟ قَالَ : هَؤُلَاءِ خُطَبَاءُ أُمَّتِكَ مِنْ أَهْلِ الدُّنْيَا كَانُوا يَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَيَنْسَوْنَ أَنْفُسَهُمْ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلَا يَعْقِلُونَ )).
[ أحمد عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه]
قال تعالى :
* كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ (3) *
( سورة الصف : الآية 3 )
القضية قضية صدق مع الذات ، أنت أب قدوة ، أنت مُمَكن في هذه الأسرة فينبغي أن تكون في موضع كامل من الصدق والأمانة والعفاف ، أما إذا كان في إطلاق بصر ، تعليقات غير معقولة ، تهجم ، مزاح سيئ ، كلام فيه كذب أمام الصغار ، أعود وأقول الذي بدأته في هذا الدرس لا تطمح أن يكون ابنك صالحاً إن لم تكن صالحاً ، لا تطمح أن يكون ابنك عفيفاً إن لم تكن عفيفاً ، لا(1/309)
تطمح أن يكون ابنك أميناً إن لم تكن أنت أميناً ، هذه الحقيقة الأساسية وأرجو الله سبحانه وتعالى أن يترجَم هذا الدرس إلى سلوك ، وكل واحد منا إما أخ أكبر لإخوته الصغار ، وإما أب ، وإما سيغدو أباً إن شاء الله ، فلا بد من أن تكون في أعلى مستوى من القدوة الحسنة حتى تكون تربيتك لأولادك تربية فعالة ناجحة .
أنت لاحظ أكثر الناس إن تحدثوا عن آبائهم والله أنا أحياناً أترنم ، يقول لك : أنا والدي رحمه الله كان يصلي الفجر ، والدي رحمه الله ما كان يكذب أبداً ، كان يعطف علينا ، كان يوفق بين المتشاكسين ، فتجد الابن لخمسين عاماً بعد وفاة أبيه يتحدث عن أبيه .
أنا التقيت في ماليزيا بعريف المؤتمر ، يتكلم اللغة الفصحى بشكل رائع وهو ماليزي ، فالتقيت به وهو أستاذ في الجامعة قال لي : كان طموح والدي أن أتقن لغة القرآن ، طموح والده الأول أن يتقن لغة القرآن والحقيقة كأنه مولود في بلاد عربية ، كان عريف مؤتمر بأعلى درجة من الفصاحة والذكاء والبديهة ، قال : رحمه الله كان يطمح أن أتقن لغة القرآن .
الابن حينما يرى من أبيه الكمال تجده طوال حياته يحدث عن أبيه ، والعياذ بالله يوجد أطفال أو شباب يتحدثون عن آبائهم أسوأ حديث ، الأب ليس صالحاً ، منذ يومين أهمل زوجته وبناته وأولاده وبحث عن واحدة في عمر بناته لكن بشكل سيئ جداً ، غير منضبطة ، وثيابها فاضحة ، هذا سقط أمام أولاده وبناته وزوجته ومن حوله ، البطولة أن تكون أنت قدوةً لابنك ، نحن في طريق مجموعة وسائل فعالة في تربية الأولاد لكن لا أكتمكم أن أكبر وسيلة فعالة في هذه السلسلة هو أن تكون قدوةً لأولادك .
================ ... ... ...(1/310)
33- وسائل تربية الأولاد ( 3 ) : التربية بالعادة ( 1 ) :
منهج العادة عند الكبار . ... - ... أيها الأخوة تحدثنا عن أهداف التربية الإسلامية ، تربية الأولاد في الإسلام ، وبينت أن مضامين التربية الإسلامية التربية الأخلاقية والإيمانية والجسمية والعقلية والنفسية والاجتماعية والجنسية ، وبدأنا قبل درسين في سلسلة جديدة حول وسائل التربية فتحدثت في درس سابق عن توجيهات النبي عليه الصلاة والسلام في شأن القدوة وكنت قبلها قد ذكرت أنماطاً من قدوة النبي عليه الصلاة والسلام .
اليوم ننتقل إلى وسيلة فعالة من وسائل تربية الأولاد في الإسلام إنها التربية بالعادة ، العادات مهمة جداً ، لأن الله سبحانه وتعالى يقول :
* فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ (30) *
( سورة الروم )
أكبر معين لأي أب ولأي معلم أن فطرة الإنسان متوافقة تماماً مع منهج الله ، أي أنت لا ترتاح إلا إذا أطعت الله ، ولا ترتاح إلا إذا كنت صادقاً ، لا ترتاح إلا إذا كنت أميناً ، لا ترتاح إلا إذا كنت محسناً ، لا ترتاح إلا إذا كنت منصفاً ، فطرة الإنسان ، جبلته ، برمجته، توليفه ، خصائصه متوافقة تماماً مع منهج الله ، الإنسان حينما يتوب إلى الله يجد نفسه ، ينسجم مع نفسه ، ينسجم مع الكون ، ينسجم مع كل المخلوقات :
* فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا (30) *
( سورة الروم )
طبعاً قبل هذه الكلمات :
* فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً (30) *
( سورة الروم )
أي أن تقيم وجهك للدين حنيفاً : أن تشد بكل طاقاتك إلى الله ، هذا العمل يتوافق مع فطرتك ومع جبلتك ومع خصائصك ومع فطرتك ، لذلك قال عليه الصلاة والسلام :
(( كُلُّ مَوْلُودٍ يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ )).
[متفق عليه عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ]
هكذا مصمم تحب العدل ، الصبغة أن تكون عادلاً أما الفطرة أن تحب العدل ، أن تحب العدل شيء وأن تكون عادلاً شيء آخر ، أن تحب الرحيم شيء وأن تكون رحيماً شيء آخر، حينما تتصل بالله تكون رحيماً أما حينما تولد تُولد على حب الرحمة ، لذلك اجمع ألف إنسان من شتى المشارب والمذاهب والاتجاهات والالتزام أسمعهم قصة فيها رحمة كلهم يتأثرون ، كلهم يحبون هذا الكلام ،(1/311)
لذلك كل مولود يولد على الفطرة صفحة بيضاء لا خير فيها ولا شر ، إلا أنها مبرمجة على حب الخير ، على حب العدل ، على حب الرحمة ، على حب الإنصاف .
لذلك الإنسان حينما لا ينصف يشعر بكآبة ، حينما لا يرحم يشعر بصغر ، وأكبر مرض في العالم الآن مرض الكآبة لأن الناس خرجوا عن فطرتهم ، خرجوا عن مبادئ فطرتهم ، عذبتهم أنفسهم ، ائت بأرقى سيارة مصنوعة في أرقى بلد في العالم ، أحدث موديل وأعلى مواصفات ، الآن يوجد مركبات سعرها تقريباً يصل إلى أكثر من عشرين مليوناً ، امش بها في طريق وعر لا تحتمل تفقد كل ميزاتها لأنها مصممة للطريق المعبد ، ارتفاع هيكل السيارة عن الأرض ، طبيعة الضواغط ، طبيعة المكابح ، طبيعة المحرك ، كلها مصممة لطريق معبد ، فإن سرت بها في طريق معبد قطفت كل ثمارها وميزاتها ، أما إذا سرت فيها في طريق وعر كسرتها ولم تفلح لا في سرعة ولا في راحة ولا في هدوء بال ، أما الوعر يحتاج إلى مدرعة ، أي يحتاج إلى مجنزرة ، فأنت مصمم أن تؤمن بالله ، مصمم أن تكون صادقاً ، أميناً ، عفيفاً ، نافعاً ، منصفاً ، هذا تمهيد أيها الأب أو أيها المعلم ، أنت حينما تلفت نظر ابنك إلى قواعد الدين تلفته إلى طبيعته ، تلفته إلى خصائصه ، تلفته إلى برمجته ، تلفته إلى توليفه ، لذلك الراحة النفسية التي يجدها المؤمن بعد أن يصطلح مع الله لا توصف ، لماذا لا توصف ؟ لأنه انسجم مع نفسه ، تصور أنك تريد أن تفتح باباً بالمطرقة ، تحتاج إلى جهد كبير ومضن وأصوات وإقلاق وإزعاج ، أما هذا الباب مصمم أن يفتح بمفتاح صغير ، إن كان معك هذا المفتاح بنعومة ، بيسر ، بلا صوت ، بلا ضجيج ، بلا شكوى الجيران تفتح الباب وتدخل ، فأنت حينما تعود إلى دينك تعود إلى فطرتك ، حينما تعود إلى دينك تعود إلى طبيعتك ، إلى ما فطرك الله عليه ، إذاً أكبر عامل يعين المعلم والأب على تربية ابنه أن الإنسان في أصل فطرته حينما يولد يُولد على الفطرة .
يقول عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح :
(( لَأَنْ يُؤَدِّبَ الرَّجُلُ وَلَدَهُ خَيْرٌ مِنْ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِصَاعٍ )).
[الترمذي عَنْ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ]
كل يوم لو تصدق بصاع من بر :
(( لَأَنْ يُؤَدِّبَ الرَّجُلُ وَلَدَهُ خَيْرٌ مِنْ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِصَاعٍ )).
[الترمذي عَنْ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ]
لأن تأديب الابن يقطف ثماره المجتمع كله .
قبل فترة جاء طفل من طرف إنسان يحمل ألبسة أعطيته الحساب ، بعد دقيقة طرق الباب ثانية وقال لي : يوجد خطأ المبلغ يزيد أربعمئة ليرة ، يوجد خمسمئة ظننتها مئة ، أكبرته إكباراً ، أكرمته إكراماً ، هذا شيء جميل أنه طفل ، يوجد خطأ بأربعمئة ليرة عاد وطرق الباب ودفع الباقي ، فأنت عندما تربي ابنك على الأمانة والصدق تكون قدمت خدمة للمجتمع بأكمله ، هؤلاء الذين يسرقون يسببون(1/312)
متاعبَ في المجتمع ، هؤلاء الذين ينحرفون ، هؤلاء الذين يعتدون يسببون متاعبَ لمجموع الناس ، أما حينما تربي ابناً صالحاً لعل أي إنسان عامله يقول جزى الله أباه على هذه التربية ، لذلك يقول عليه الصلاة والسلام أيضاً :
(( مَا نَحَلَ وَالِدٌ وَلَداً أَفْضَلَ مِنْ أَدَبٍ حَسَنٍ )).
[ الترمذي عَنْ أَيُّوبُ بْنُ مُوسَى عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ ]
أكبر شيء تقدمه لابنك أن خلقه كبير ، عنده حياء ، عنده رحمة ، عنده إنصاف ، وفي حديث ثالث يقول عليه الصلاة والسلام :
((علموا أولادكم وأهليكم الخير وأدبوهم )).
[ابن المنذر والحاكم عن علي كرم الله وجهه]
هذا يحتاج إلى جهد ، يحتاج إلى وقت ، يحتاج إلى علم ، ينبغي أن يكون الأب متعلماً ، ينبغي أن يكون الأب مؤمناً ، ينبغي أن يكون الأب مستقيماً ، ينبغي أن يكون الأب متفرغاً ، ينبغي أن يقتطع من وقته الثمين وقتاً لتربية أولاده ، والله كنت البارحة في عقد قران العريس سافر إلى أمريكا ليتابع تعليمه في الطب أثنى عليه أكثر الخطباء ، هو من أخواننا الكرام ، فقلت لهم في كلمة ألقيتها : حينما كنت في أمريكا قلت لإخوتنا المغتربين لو جمعت أكبر ثروة في الأرض ، وبلغت أعلى منصب ، ونلت أعلى درجة علمية ، ولم يكن ابنك كما تتمنى فأنت أشقى الناس .
المشكلة الأولى للأخوة المغتربين أولادهم ، نقلت لهم كلمة قالها بعض العلماء في مؤتمر عقد هناك في ديتروي قال : إن لم تضمن أن يكون ابن ابْن ابنك مسلماً لا يجوز أن تبقى في هذه البلاد ، فقال لي أحدهم بعد أن انتهى الحفل : أولادنا ليسوا مسلمين الآن ، أنت تقول إن لم تضمن أن يكون ابن ابْن ابنك ، الابن الحالي ليس ملتزماً ولا قانعاً ولا معتزاً بأمته ولا بدينه ولا بوطنه :
(( أدبوا أولادكم على ثلاث خصال : حب نبيكم وحب آل بيته وقراءة القرآن..)).
[أبو نصر عبد الكريم الشيرازي وابن النجار عن علي]
إذاً التربية بالعادة أنت معك يسمونها بالعادة سرعة ابتدائية ، يوجد معك دعم من الله عز وجل ، أن هذا الطفل الذي بين يديك فطرته سليمة وفطرته تتوافق مع الدين ، فطرته تتوافق مع خوفه من الله ، أنت ليس عليك إلا أن تصقل هذه الفطرة ، أن تشحذ هذه الموهبة ، أن تفجر هذه الطاقة ، النقطة الدقيقة جداً أخواننا وقد لا تصدق ، العامل المؤثر الأول في حياة ابنك لست أنت وليست الأم وليس الأخ إنه الصديق ، فقبل أن تشرع في تربية أولادك يجب أن تعلم من هو صديق ابنك ، في بعض التجارب أو الإحصاءات تبين أن الذي يتعلمه الابن من صديقه يزيد عن ستين بالمئة من مجموع ما يتعلمه ، الأب والأم والأخوة الأربعين بالمئة أما الصديق ستين بالمئة ، لذلك كيف عرف النبي هذه الحقيقة ؟ يقول عليه الصلاة والسلام فيما رواه الإمام الترمذي :(1/313)
(( الرَّجُلُ عَلَى دِينِ خَلِيلِهِ فَلْيَنْظُرْ أَحَدُكُمْ مَنْ يُخَالِل )).
[ الترمذي عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ]
يجب أن تبحث عن أصدقاء ابنك كما تبحث عن ابنك ، لأن أكبر مغذٍ في العادات والقيم والسلوك هو صديق ابنك ، وحينما توفق إلى صديق لابنك في مستوى رفيع فقد ضمنت لابنك الاستقامة والسداد .
قضية البيئة مهمة جداً وللبيئة يوجد حديث :
((كَانَ فِيمَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ رَجُلٌ قَتَلَ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ نَفْساً فَسَأَلَ عَنْ أَعْلَمِ أَهْلِ الْأَرْضِ فَدُلَّ عَلَى رَاهِبٍ ـ أي عابد ـ فَأَتَاهُ فَقَالَ : إِنَّهُ قَتَلَ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ نَفْساً فَهَلْ لَهُ مِنْ تَوْبَةٍ ؟ فَقَالَ : لَا ، فَقَتَلَهُ فَكَمَّلَ بِهِ مئة ، ثُمَّ سَأَلَ عَنْ أَعْلَمِ أَهْلِ الْأَرْضِ فَدُلَّ عَلَى رَجُلٍ عَالِمٍ ، فَقَالَ : إِنَّهُ قَتَلَ مئة نَفْسٍ فَهَلْ لَهُ مِنْ تَوْبَةٍ ؟ فَقَالَ : نَعَمْ وَمَنْ يَحُولُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ التَّوْبَةِ ، انْطَلِقْ إِلَى أَرْضِ كَذَا وَكَذَا فَإِنَّ بِهَا أُنَاساً يَعْبُدُونَ اللَّهَ فَاعْبُدْ اللَّهَ مَعَهُمْ ، وَلَا تَرْجِعْ إِلَى أَرْضِكَ فَإِنَّهَا أَرْضُ سَوْءٍ )).
[البخاري عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ]
معنى هذا وهذا كلام دقيق والحديث صحيح ومن أصح الصحيح في الصحاح ، معنى ذلك أنك لن تستطيع أن تعبد الله إلا إذا كنت مع المتقين :
* يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ (119) *
( سورة التوبة )
أخطر شيء على الابن البيئة ، أحياناً تجد ابناً أخلاقه عالية جداً لأن أهله وبيته وبيت عمه وبيت خالته أسرة منضبطة حتى بفروعها ، فأينما ذهب لا يوجد كلمة سيئة ، لا يوجد عمل فاحش ، لا يوجد تعليقات جنسية منحرفة ، كل الكلام منضبط ويوجد أدب وحياء ولا يوجد اختلاط ، وقد تجد طفلاً آخرَ عجيباً أي يفعل المنكرات القبيحة وكأنه لا يفعل شيئاً لأنه هكذا نشأ في بيئته ، لذلك قال له :
(( انْطَلِقْ إِلَى أَرْضِ كَذَا وَكَذَا فَإِنَّ بِهَا أُنَاساً يَعْبُدُونَ اللَّهَ فَاعْبُدْ اللَّهَ مَعَهُمْ وَلَا تَرْجِعْ إِلَى أَرْضِكَ فَإِنَّهَا أَرْضُ سَوْءٍ )).
[البخاري عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ]
للحديث الطويل تتمة مغزاه هكذا ؛ أي ما لم تكن مع المؤمنين ، ما لم تكن من رواد بيوت الله الحرام ، ما لم يكن أصدقاؤك مؤمنين ، ما لم يكن الذين تسهر معهم من أهل الصلاح ، ما لم تكن نزهاتك مع المؤمنين ، ما لم تكن مجالسك مع المؤمنين ، الإنسان الفاسق الفاجر تماماً كالفاكهة الفاسدة ، دع تفاحة فاسدة في كم كبير من التفاح هذه التفاحة الواحدة الفاسدة يمكن أن تفسد كل من حولها .(1/314)
الجاحظ من كبار الأدباء ، له كتاب يذكر في هذا الكتاب نصيحة عقبة بن أبي سفيان لما دفع ولده إلى المؤدب ـ إلى المعلم ـ قال : ليكن أول ما تبدأ به من إصلاح بنيّ إصلاح نفسك ، ليكن إصلاح نفسك أولاً أو ليكن أول ما تبدأ به إصلاح نفسك ، قال : فإن عيونهم معقودة بعينك ، فالحسن عندهم ما استحسنت والقبيح عندهم ما استقبحت ، وعلمهم سير الحكماء وأخلاق الأدباء وتهددهم بي ، الأم و الأب الموفقان في تربية أولادهما الأم دائماً تخوف أولادها بالأب ، تجعل له هيبة ، الأم الحمقاء تتطاول على زوجها أمام أولادها ، لم يبق في البيت من يهاب ، أما الأم العاقلة و لو يوجد خطأ من قبل زوجها تتهيب زوجها كثيراً أمام أولادها كي تحتمي و كي تتوعدهم به ، أما إذا تطاولت عليه في حضرة أبنائه فقد وقعت مشكلة كبيرة ، أتمنى والله أيها الأخوة أن لا يكون هناك مشاحنة بين الزوجين أمام الأولاد ، ولا يكون هناك مهاترات ، ولا يكون هناك نوع من التطاول ، لأن هذا يفقد دور الأب والأم معاً ، فكلما كان الانسجام بين الأبوين أمام الأولاد رائعاً كانت سلطة الأم والأب على أولادهما رائعة ، بالمناسبة أيضاً يوجد آباء لا ينتبهون ، قد يعنف ابنه أمام أخواته البنات فيهزؤون به طوال الأسبوع ، والأشد من هذا أن يعنف ابنه أمام أصدقائه ، إنك تسحقه دون أن تدري ، فالأولى ألا تعنفه لا أمام أخواته البنات ولا أمام أصدقائه ، مهما يكن تعنيفك شديداً إن كان فيما بينك وبينه يقبله منك ، أحد العلماء سأل
إنساناً قضى في السجن سنوات طويلة فقال له : ما أشد ما مر بكم في هذا السجن ؟ فقال : ما فقدناه من تربية أبنائنا ، والله أعلم قصصاً كثيرة أيها الأخوة عن أناس دخلوا السجون ، أي أخطؤوا فدخلوا السجون فخرجوا من السجون وأولادهم في أشد أنواع الانحراف ، الأم وحدها لا تستطيع أن تضبط أولادها لأنها في البيت لذلك لما سئلوا : ما أشد ما مر بكم في هذا السجن ؟ فقالوا : ما فقدناه من تربية أبنائنا .
من وصية ابن سيناء في تربية الولد أن يكون مع الصبي في مكتبه صبية حسنة آدابهم ، مرضية عاداتهم ، لأن الصبي عن الصبي ألقن ، وهو عنه آخذ وبه آنس ، أخطر جهة في حياة ابنك صديقه ، أخطر منك ، أخطر جهة في حياة ابنتك صديقتها ، أخطر من أمها ، أخطر جهة يمكن أن تفعل فعلاً لا يوصف في حياة الطفل صديقه لذلك إذا كان هناك صديق صالح وزار ابنك يجب أن يُستقبل وأن يُرحب به وأن يفسح له المجال ليجلس معه ، لا تتبرم بأصدقاء ابنك ، الصداقة لا بد منها ، يوجد أمهات والعياذ بالله اطرده ، مباشرةً تطرد صديق ابنها وبقسوة ، إذا جئت مرة ثانية سأكسر قدمك ، أم حمقاء تحطم ابنها وتفضحه أمام صديقه ، والآن حر أن يختار أي صديق آخر لكن طبعاً أصبح بالتهريب ، صديق تهريب وليس صديقاً نظامياً ، أنت ابحث عن صديق صحيح أخلاقه عالية له أب ، له أم ، له بيت علم واسمح لابنك أن يجلس معه ، واسمح لابنك أن يختلط معه ، لأنه لا بد من صديق شئت أم أبيت .(1/315)
أيها الأخوة النقطة الدقيقة أن الإنسان يمكن أن يلقن كل خير ، هذا كلام العوام "أن الإتاية عوجاء" ، هذه آية أم حديث ؟ لا آية ولا حديث هذا كلام الشيطان ، هذا كلام التيئيس ، هذا كلام إبليس ، هذا كلام الجاهل ، هذا كلام الكسول ، لا يوجد أمل ، يوجد أمل كبير ، و الله أناس في أشد حالات الانحراف الآن أولياء لله ، لو لم يكن هناك من أمل في إصلاح الابن لا يوجد هناك داع للتربية ، لا يوجد داع للتعليم ، لا داع ، أكبر ميزانية بمعظم البلدان ميزانية وزارة التربية ، أكبر عدد موظفين في أي دولة إما الجيش أو التربية ، لأن تربية الجيل من أجل إصلاحه ، لماذا أنزل الله الكتب ؟ لإصلاح الناس ، لماذا بعث الله الأنبياء ؟ لإصلاح الناس ، فأنت حينما تقول لا يوجد أمل ، عندما تيئس الناس من إصلاح الصغار معنى ذلك أنت تتناقض مع نصوص القرآن والسنة .
يقول أحد العلماء : الصبي أمانة عند والديه ، وقلبه الطاهر جوهرة نفيسة ، فإن عُوِّدَ الشر ، وأُهمِل إهمال البهائم شقي وهلك ، وصيانته بأن يؤدبه ويهذبه ويعلمه محاسن الأخلاق ، أحياناً يتعثر طالب بدراسته وخلال شهر والده بغير حكمة يخرجه من المدرسة ، دعه يعمل عملاً بمحل تجاري ، أعرف إنسانة توفيت لها ابن رسب في الشهادة الثانوية أول سنة ، هي مصرة أن يكون طبيباً ، رسب مرة ثانية ، مصرة أن يكون طبيباً ، رسب مرة ثالثة ، ومصرة أن يكون طبيباً ، رسب مرة رابعة ، وهي مصرة أن يكون طبيباً ، نجح في المرة الخامسة وهو الآن طبيب أسنان ، أربع سنوات ولم تيئس ، نحن إذا أخذ عدداً من الأصفار وشكوى من المدرسة يخرجونه ، يوجد ظاهرة اسمها التسريب نصف الطلاب يخرجون من المدارس إلى أعمال حرة ، طبعاً كدخل لا يوجد دخل من العلم ، ولكن العلم له فائدة كبيرة جداً غير الدخل ، نحن الآن أمام أداة فعالة من أدوات تربية الأولاد في الإسلام هي أداة العادة ، لكن الحقيقة العادة لها خصائص عند الكبار ولها خصائص عند الصغار ، ابنك بالحادي عشر ، بكالوريا ، سنة أولى جامعة له ترتيب ثان ، ابنك بالحضانة والابتدائي له ترتيب آخر ، سوف نقتصر في هذا الدرس عن منهج العادة عند الكبار .
1ـ يجب ربط العادات والتقاليد بالعقيدة وبالأمر والنهي :
أولاً : الربط بالعقيدة ، يجب أن تربط العادات والتقاليد بالعقيدة ، مثلاً لماذا لم يوافق الأب على عرس مختلط ؟ يجب أن تجيبه ، هذه عادات تتناقض مع منهج الله ، هذه الآية ، هذا الحديث ، لماذا فرضاً لا يخطب الإنسان فتاة سنة أو سنتان يألفها وتألفه ، يخرج معها وتخرج معه ثم بعد ذلك يكون العقد ؟ هناك عادات الآن سيئة جداً فيجب أن تبين له علاقة هذه العادة بمنهج الله عز وجل ، فالشاب لا يقنع أن هذا حرام ، هذا الحرام من دون تعليل عقلي ، من دون تعليل علمي ، من دون تعليل واقعي ، من دون تعليل فطري ، من دون تعليل نقلي لا تعمل ، كلما كان الأب أقدر على إقناع ابنه بالعادات الإسلامية ، مثلاً يوجد وليمة مكانين أحدهما للنساء والآخر للرجال ، لِمَ لا يكونون معاً هم أقرباء ؟ يجب أن تبين له الحمو الموت ، يوجد تعليلات رائعة جداً ، الشاب أن تقول(1/316)
له حرام وكفى ، وهذه لا أفعلها وكفى هذا لا يكفي ، فلا بد من ربط العادات التي تعوده عليها بالعقيدة ، بالأمر ، بالنهي ، بالقرآن ، بالسنة ، فكلما تمكنت أن هذه حرام ، أذكر مرة قال لي أخ أنه اشترى سمكاً من مسمكة مباشرة ، الذي باعه إياها شرع في تنظيف السمك ، والسمك لا يزال يتحرك ، فالأب نهاه بقسوة ، قال له البائع : لا يتوقفون عن الحركة قبل ساعة ونصف ، قال له : أنتظر ساعة ونصفاً ، لأنه يوجد توجيه إلهي :
* فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا (36) *
( سورة الحج )
نهى عن تعذيب الحيوان ، هذه السمكة لا يزال فيها حياة تفتح لها بطنها ، تنزع أحشاءها ، كل موقف يكون له تعليل ، دليل ، توجيه قرآني ، توجيه نبوي ، فالأب الذي آتاه الله إيماناً وعلماً فكلما فعل شيئاً أنكره أولاده ينبغي أن يبين لهم ، فلا بد من ربط هذه العادات التي تفعلها ، أو التي تلزمه أن يفعلها ، أو التي ينكرها الابن ، ينبغي أن تربطها بالعقيدة وبالأمر وبالنهي ، يقول الله عز وجل :
* وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (50) *
( سورة المائدة)
من أحسن حكماً لقوم يوقنون ؟
أيها الأخوة ، إذاً استخدام تلقين العادات مع الكبار يحتاج إلى ربطها بالعقائد وبالأمر والنهي ، وأكبر دليل :
* وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (50) *
( سورة المائدة)
وقال :
* وَمَا آَتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا (7) *
( سورة الحشر )
وقال :
* فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً (65) *
( سورة النساء)
2ـ لابدّ من تعرية الباطل :
الشيء الثاني : لا بد من تعرية الباطل ، الباطل بيده وسائل نشر كبيرة جداً ، الباطل بيده صحف ، بيده مجلات ، بيده إعلان ، بيده أحياناً محطات فضائية ، فالطفل أحياناً يؤخذ بما يقال ، هناك دعوة إلى التفلت ، دعوة إلى التحلل ، دعوة إلى اعتبار الدين شيئاً من التراث ، ولا يعد منهجاً صالحاً لكل(1/317)
زمان ، فأنت ما لم تعر الباطل أمام ابنك ، ما لم تظهر الأخطاء الجسيمة في الاعتقاد ، الأخطاء الجسيمة في السلوك ، لن تستطيع أن تصرفه عن أهل الباطل ، في عصر الباطل قوى قوية جداً ، قوى البغي كلها مع الباطل أو تأتمر بأمر الباطل ، والذين عندهم الحق ضعفاء في هذا العصر ، الباطل معه وسائل كبيرة جداً ، معه وسائل فعالة ، الآن أخطر شيء في العالم هو الإعلام ، انتبهت الدول العظمى للإعلام ، ممكن أن تغسل عقول شعوب بأكملها عن طريق الإعلام ، وتلاحظون كيف تزور الحقائق وكيف تتكلم بالباطل ، فأنت تكون سلبياً ، هو يسمع كما تسمع ، ويرى كما ترى ، ويلتقي مع أصدقائه ، فلا بد من توعيته بخطورة الباطل وأكبر دليل على ذلك :
* فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى (256) *
( سورة البقرة )
أي مستحيل أن تؤمن بالله قبل أن تكفر بالطاغوت ، الأب الواعي يا بابا يوجد اختلاط ، يوجد سهرات مختلطة ، يوجد نوادٍ ، يوجد رحلات فيها سباحة مع كشف العورات ، يوجد سباحة مختلطة يعدها الشاب مظهر حضاري ، شيء طبيعي جداً ، فالأب ما لم يبين له أن هذا له أخطار قد تدمر أسَراً بأكملها ، قد تشتت أسَراً ، قد تُطلَّق نساء من خلال الاختلاط ، لا بد من تعرية الباطل ، بالمناسبة الأجانب لهم الفضل في شيء واحد أنهم أعانونا على أن نكفر بهم ، قبل الأحداث الأخيرة الباطل خطف أبصار العالم كله ، بكلمات براقة جميلة ، حقوق الإنسان ، الديمقراطية ، الحرية ، الرفق بالحيوان ، فالناس مأخوذون ، فلما استُفِزوا انقلبوا إلى وحوش ، إذاً هم أعانونا على أن نكفر بهم ، لأنه قبل أن نكفر بهم لا يمكن أن نؤمن بالله ، فالأب الواعي مع ابنه الشاب يجب أن يعري الباطل أمامه ، ليس هناك سعادة هناك حياة مادية محضة ، والإنسان يلهث أمام هدف متحرك لا يستقر على حال ، وأن الإنسان الذي بني وربي في بيوت الانحراف إنسان بلا هدف ، إنسان ليس فيه خير لا لوطنه ولا لأمته ولا لدينه ، طبعاً فهمكم كفاية ولكن لا بد من تعرية الباطل .
3ـ لابدّ من أن تحمله على تغيير بيئته :
الشيء الثالث و الأخير في تربية الأولاد عن طريق العادة : أولاً أن تربطها بالعقيدة والأمر والنهي ، وثانياً : أن تعري الباطل ، وثالثاً : أن تحمله على تغيير بيئته .
الابن مادام في بيئة سيئة مع رفقاء سوء لا يوجد أمل بالهداية أبداً ، فينبغي أن تغير له البيئة ، وأن تهيئ له أصدقاء مؤمنين موثوقاً بدينهم ، موثوقاً بأمانتهم ، موثوقاً بصلاحهم ، هؤلاء يحرصون على أن يكون ابنك معهم في أعلى مستوى .
أيها الأخوة الكرام ، إن شاء الله في درس قادم سأتحدث عن العادة مع الصغار ، العادة مع الصغار تحتاج إلى تلقين وإلى تعويد فقط ، الكبير يحتاج إلى ربط بالعقيدة والمنهج والكتاب والسنة ، وإلى تعرية الباطل ، وإلى تغيير البيئة ، أما الصغير يحتاج إلى تلقين وتعويد ، والتلقين والتعويد مع الصغار(1/318)
وسيلة فعالة جداً لترسيخ الحق ، وهذا كله تجني ثماره حينما ترى ابنك يصلي قيام الليل ، وحينما ترى ابنك يغض بصره عن محارم الله ، وحينما تأتي الأخبار من كل حدب وصوب تثني على ابنك ، وعلى شهامته ، وعلى ورعه ، وعلى دعوته إلى الله ، حينما ترى ابنك عالماً جليلاً يدخل على قلبك من السعادة ما تنسى به كل جهد بذلته ، والله البارحة كنت بعقد قران ، يوجد عالِمان جليلان هما ابنان لعالم جليل توفي في هذه البلدة الطيبة ، والله ما رأيت عملاً أعظم ، لأن هذا العالم الذي توفي ترك هذين العالمين ، شيء عظيم جداً أن يكون اسمك مستمراً من بعد موتك ، فأنت حينما ترى ابنك صالحاً ، ورعاً ، مستقيماً ، منصفاً ، محباً ، متفوقاً في عمله ، يدخل على قلبك من السعادة والله ما لا يوصف .
والله مرة قلت لأحد الآباء يشكو أن ابنه يكثر المجيء إلى المسجد قلت له : والله لو تعلم كم هو الخير الذي سيأتيك من ابنك هذا لفعلت الشيء الذي لا يوصف ، ابنك صالح ، ابنك من رواد المسجد ، ابنك ورع ، ابنك أمين ، صادق ، فيا أيها الأب إن أردت أن تسعد حقيقة اهتم بابنك صغيراً ، يحتاج إلى وقت وإلى جهد وإلى إنفاق مال وإلى حلم وإلى صبر لكن بعد أن ترى ابنك صالحاً يصلي ، يصوم ، يحسن لله ، هو استمرار لك تنسى كل تعبك
=============== ... ...(1/319)
34- وسائل تربية الأولاد ( 4 ) : التربية بالعادة ( 2 ) :
منهج العادة عند الصغار . ... - أيها الأخوة ، لازلنا في دروس تربية الأولاد في الإسلام وفي السلسلة الثانية المتعلقة بوسائل التربية الفعالة .
تحدثنا من قبل عن وسيلة القدوة من خلال أن النبي عليه الصلاة والسلام كان قدوةً لأصحابه وأسوةً لهم ، ومن خلال توجيهاته الشريفة في أن يكون كل أب أو كل معلم أو كل أم قدوةً لابنه .
ثم انتقلنا في الدرس الذي بعده إلى أداة العادة ، التربية بالعادة ، وقد فرقنا بين تربية الصغار وتربية الكبار ، تربية الكبار تحدثت عن أن التلقين والتعويد ينبغي أن يرتبط بالعقيدة ، الحقيقة أن الإنسان حينما تصح عقيدته مليون جزئية في حياته ترتبط بعقيدته ، العقيدة كلية والجزئيات لا تعد ولا تحصى ، ميزة المؤمن أن عقيدته الواضحة إيمانه بالله ، إيمانه بالملائكة ، إيمانه بالكتب ، إيمانه بالرسل ، إيمانه باليوم الآخر ، إيمانه بالقضاء والقدر خيره وشره من الله تعالى ، هذه كليات العقيدة يمكن أن ترتبط بالآلاف بل بمئات الألوف من جزئيات حياته ، لذلك الشاب نمى عقله .
العقل أيها الأخوة ، أثمن شيء أودعه الله في الإنسان ، انظر إلى منجزاته المادية ستمئة راكب يركبون طائرة يأكلون ويشربون ويتابعون الأخبار ويأخذون من الشراب ويرتاحون وينامون وهم في الجو ، ما تقطعه الطائرة في الساعة لا يقطعه الإنسان قبل مئات السنين في أشهر ، إذاً الطائرة من إنجاز العقل البشري ، الإنجازات لا تعد ولا تحصى هذا العقل حينما توجه إلى صنع آلات تريح صاحبه قدم إنجازات لا تصدق ، من منا يصدق أنك عن طريق الفاكس يمكن أن ترسل رسالة إلى طرف الدنيا في ثانية واحدة ، عن طريق هذا الجهاز المحمول يمكن أن تتصل بالعالم ، هذا من إنجاز العقل ، لو أن العقل توجه إلى الدار الآخرة كيف يكون ؟ والعقل البشري فيه من الطاقات ما لا يصدق والعباقرة لم يستخدموا من عقولهم إلا النذر اليسير .
أن تتجاهل العقل هذا شيء مستحيل ، والشيء الثابت أيها الأخوة أن الحق فيما يبدو هو دائرة تتقاطع فيها خطوط العقل والنقل ، والفطرة والواقع ، ولكن سأضيف لكل كلمة صفة ، دائرة تتقاطع فيها خطوط النقل الصحيح والعقل الصريح والفطرة السليمة والواقع الموضوعي ، مبدئياً لا بد من توافق العقل مع النقل ، لابد لأن النقل وحي الله عز وجل ولأن العقل جهاز أودعه الله في الإنسان وما دام العقل والنقل فرعين لأصل واحد فلا بد من أن يكونا متشابهين متطابقين ، لذلك لا تخشى أن يأتي في الشرع حكم شرعي والعقل لا يؤيده ، لا تخشى ذلك بل إن بعض العلماء يرى أن تطابق العقل مع النقل أمر حتمي ، بل إن أعظم ما في الدين الإسلامي هذا التناغم والانسجام بين العقل والنقل ، لماذا في بعض الأديان الأخرى يقولون الإيمان فوق العقل ؟ لأن المقولات التي بين أيديهم ليست معقولة إطلاقاً فكيف حلوا هذه المشكلة ؟ حلوها بأن فصلوا العقل عن النقل .(1/320)
بل إن كل العلماء الذين حاربوا الكنيسة في العصور الوسطى حاربوها من أجل أن يتحرر عقلهم من ضغطها ، الإسلام ليس كذلك ، مواءمة العقل والنقل في الإسلام شيء رائع جداً ، مواءمة العقل مع النقل .
بالمناسبة أنت يمكن أن يكون إيمانك بالله قوي جداً لدرجة أنك لا تحتاج إلى تعليل لأمر الله ، أعلى درجة في الإيمان أن تستسلم لأمر الله ، حينما حرَّم الله الخنزير أنت لأنك آمنت بالله إيماناً من مستوى رفيع لا تحتاج إلى تعليل لهذا التحريم ، أنت لاحظ نفسك مع طبيب متفوق جداً ، يحمل أعلى الشهادات ، هناك من يثني عليه في كل وسط ، إن دخلت إليه وقال : لا تأكل الملح ، تستسلم مباشرةً ، وقد لا تسأله لماذا ؟ أنت مع إنسان تثق بعلمه لا تسأله ، فلو أن إيمانك بالله الإيمان الصحيح المتين المبني على بحث وتأمل في الكون ، لو أنك آمنت بعلمه المطلق وحكمته المطلقة ورحمته المطلقة ثم أمرك أن تجتنب هذا الشيء ، لذلك قال بعض العلماء : علة أي أمر أنه أمر ، علة الأمر لماذا حرمه الله ؟ الجواب لأن الله حرمه فقط . ولم أجد أروع من كلمة قالها عالم أمريكي التقى بعالم مسلم ، طرح موضوع لحم الخنزير فهذا المسلم ـ جزاه الله خيراً ـ أفاض بالحديث عن مضار لحم الخنزير ، بعد ساعة من الزمن قال له الأمريكي : يا دكتور كان يكفيك أن تقول لي إن الله حرمه ، نحن عبيد لله هذا التحريم من خالق الأكوان ، من الواحد الديان ، من العليم ، من الخبير ، من الحكيم ، من القوي ، نحن حينما ندعو إلى الله نحتاج إلى أن نعلل ، نحتاج إلى أن نأتي ببرهان ، والدليل والحكمة هذه يحتاجها الدعاة لكن العباد لا يحتاجونها .
أيها الأخوة ، كلما اتضحت حكمة الأمر الإلهي ضعف فيه التعبد ، وكلما غابت عنا حكمة الأمر الإلهي ارتفعت فيه نسبة التعبد ، حينما يأمرنا النبي عليه الصلاة والسلام ألا نسرف في طعامنا وشرابنا ، هذه الحقيقة يعلمها الأذكياء جميعاً والذين يحرصون على صحتهم والذين يحرصون على سلامة أجهزتهم ، لذلك تجد إنساناً لا ينتمي إلى الدين بصلة ومع ذلك يأكل باعتدال ، الأمر بعدم الإسراف واضح جداً ، حكمته واضحة جداً ، لذلك نصيب التعبد فيه ضعيف ، أما حينما تكلف أن تطوف حول البيت سبعة أشواط والازدحام لا يحتمل وفي وقت واحد ، وأن تذهب إلى عرفات في وقت واحد ، هذه أوامر تعبدية العقل لا يستطيع تفسيرها ، هنا يرتفع مستوى التعبد في أمر شعائري ، في الأوامر الشعائرية يرتفع مستوى التعبد في الأوامر التعاملية الواضحة ينخفض مستوى التعبد .
لذلك شيء طبيعي جداً أن تجد أحياناً تناقضاً بين مصلحتك وبين الأحكام الشرعية، إنسان أخذ قرضاً ، اشترى بيتاً ، ووفى الأقساط على أنها من ثمن البيت ، يقول لك : أين المشكلة ؟ قلت له : على مستوى فردي لا يوجد مشكلة ، بالعكس أنت حللت مشكلتك عن طريق القرض الربوي ، أما على مستوى أمة حينما نسمح للمال أن يلد المال ، ارتفعت الأسعار ، وتجمعت الأموال بأيدٍ قليلة ، وحرمت منها الكثرة الكثيرة ، لذلك قد لا تصدق أن كل ما يعانيه أهل الأرض الآن من التفاوت(1/321)
الطبقي ، واحد يملك مليوناً ، ومليون لا يملكون واحداً ، واحد يكاد يموت من التخمة ، وواحد يكاد يموت من الفقر ، واحد يسكن في بيت ثمنه مئات الملايين ، بالقاهرة أشير إلى بيت نظرت إليه قال : ثمنه ألف مليون ليرة سورية ، عشرين مليون دولار تسكنه راقصة ، ومئات الألوف من الشباب لا يجدون غرفةً يتزوجون بها .
يا أيها الأخوة ، الإنسان ينبغي أن يستسلم لله ، أما كداعية أنت بحاجة إلى تعليل كي تقنع الناس ، بحاجة إلى تفسير ، بحاجة إلى بيان الحكمة ، هذا الشاب الذي تفتح عقله ونمت نفسه لا بد من أن تقنعه ، وهنا تكمن بطولة الداعية في أن يقنع الشباب ، مرة سألني أحدهم سؤالاً قال : يقول عليه الصلاة والسلام فيما معناه : أن الشياطين تقيد في رمضان ، قال لي : لِمَ قيدها الله في رمضان ثم أطلقها بعد رمضان ؟ ليته قيدها طوال العام ، كلام منطقي قلت له : من قال أن الله قيدها ؟ قال : الحديث ، قلت له : معنى الحديث ليس كذلك ، معنى الحديث أن المؤمن حينما يستقيم في رمضان يبطل عمل الشياطين ، وكأنها مقيدة تقييداً حكمياً ، لو أن محلاً فتح فيه ملهيات ولم يدخله إنسان ، المحل بحكم المغلق ، ما كان لله عز وجل أن يضل عباده ، لكن استقامة المؤمن في رمضان تقيد الشيطان ، حينما تأتي بالدليل يقول لك أحدهم :
(( وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْ لَمْ تُذْنِبُوا لَذَهَبَ اللَّهُ بِكُمْ وَلَجَاءَ بِقَوْمٍ يُذْنِبُونَ فَيَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ فَيَغْفِرُ لَهُمْ )).
[مسلم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ]
ظاهر الحديث ارتكب أي ذنب وإلا أنت هالك ، ليس هذا معنى الحديث ، معنى الحديث أن الإنسان حينما يذنب ولا يشعر أنه أذنب فهو ميت ، لو لم تذنبوا بمعنى لو لم تحسوا بذنوبكم ، أنت ملتهٍ تأكل المال الحرام ، تطلق بصرك في النظر إلى المحرمات ، تتكلم كما تشاء ، تغتاب كما تشاء ، تجلس في أي مكان تملأ عينيك من محاسن النساء ، غيبة ونميمة ، تقول : ماذا فعلت ؟ أنا مستقيم ، حينما تذنب ولا تشعر أنك مذنب فأنت ميت ، لو لم تذنبوا لذهب الله بكم وأتى بقوم يذنبون فيستغفرون فيستغفر الله لهم .
علامة المؤمن أنه إذا أذنب لا ينام الليل من شدة قلقه ، من شدة خوفه من الله عز وجل ، فالكبار أيها الأخوة يحتاجون إلى أن تربط الأمور الدينية بالمنطق السليم ، بالعقل السليم ، بالحكمة الراجحة ، فكلمة (هكذا) من مربي ليس هذا من الحكمة إطلاقاً ، هناك دعاة منفرون هكذا جاء في النص ، مرة كنت في أمريكا ، في مؤتمر في درس ديني جاءتني رسالة من امرأة تقول لي : أنا قرأت أن النبي عليه الصلاة والسلام قد حرَّم المصافحة ، لكني في حرج شديد ، وأنا أعمل طبيبة في مستشفى ، والأطباء يأتون لا يعرفون أمر الدين ، يمدون أيديهم لأصافحهم فلا أصافحهم ، فتنشأ مشكلة ، ما حكم المصافحة في الإسلام ؟ طبعاً يوجد جواب شرعي ، كلمة واحدة المصافحة محرمة شرعاً لقول النبي عليه الصلاة والسلام :(1/322)
(( إني لا أصافح النساء .))
[أحمد والترمذي والنسائي وابن سعد والطبراني والبيهقي عن أميمة بنت رقيقة]
وانتهى الأمر ، يوجد جواب آخر مقنع قلت لها : المرأة في الإسلام كالملكة ، كيف أن ملكة بريطانية لا يصافحها إلا سبعة رجال بحكم القانون البريطاني لعلو مقامها ، سبعة رجال يسمح لهم أن يصافحوها ، والباقي سلام من بعيد ، وكذلك المرأة المسلمة لعلو مقامها لا يسمح أن يصافحها إلا سبعة رجال هم محارمها في القرآن الكريم ، شعرت بنشوة أن المرأة المسلمة شيء مهم جداً ، وهكذا ذكرت هذه التفاصيل كي أذكركم بأن ربط الجزئيات في العقيدة مهم جداً لا أفعل هذا لأن الله عز وجل حرم هذا .
أكثر الناس يستثمر ماله بنسب ثابتة ، يأكل الربا دون أن يشعر ، مادام النسبة ثابتة لا يوجد حسابات ، ولا يوجد جرد ولا أرباح ، على الألف مبلغ كذا في الشهر هذا ربا .
1ـ ربط الجزئيات في العقيدة :
حينما تتعرف إلى الشرع ، إلى العقيدة السليمة والمنهج السليم ، كل جزئيات حياتك تربطها بهذه العقيدة وهذا المنهج ، عندما تكون عقيدتك سليمة لا تسمح لنفسك أبداً أن تقرأ في المجلة حظك هذا الأسبوع ، مجرد قراءتها فيه إثم كبير .
(( مَنْ أَتَى كَاهِناً أَوْ عَرَّافاً فَصَدَّقَهُ بِمَا يَقُولُ فَقَدْ كَفَرَ بِمَا أُنْزِلَ عَلَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ )) .
[ مسلم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ]
أما من كانت عقيدته سيئة جداً يمكن أن يدفع ثمناً باهظاً لضعفه في العقيدة ، فتاة من أسرة غنية عندها سائق ، رآها متعلقة بالأبراج ، فذهب إلى المجلة ودفع لها مبلغاً كبيراً حتى كتبت في برج هذه الفتاة أن في حياتها سائقاً إذا تزوجته كانت أسعد النساء ، ضحك عليها وتزوجها بهذه الطريقة ، أما حينما تكون العقيدة سليمة لا تقبل أن تقرأ حظك هذا الأسبوع ، ولا تقبل أن تقرأ شيئاً يخالف صحة العقيدة .
2ـ تعرية المنكر :
إذاً ربط الجزئيات في العقيدة منهج أساسي في توجيه الكبار ، ثم تعرية المنكر ، المنكر يجب أن يتعرى ، مادام هناك منكر له شأن ، وله مقام ، ويخطف أبصار الناس ، فالطريق إلى الله ليس سالكاً هذه قاعدة .
من فضل الله بعد أحداث الحادي عشر من أيلول الغرب تعرى ، صار وحشاً في نظر كل الشعوب ، وحشيته ظهرت ، ظلمه ظهر ، كيله بمليون مكيال ظهر ، كل شيء واضح لذلك قال تعالى :
* فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لَا انْفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (256) *(1/323)
( سورة البقرة )
إذاً الشاب حينما تتفتح مداركه يرى منجزات الغرب ، الغرب له أساليب في غسل العقول والأدمغة عجيبة ، لا بد من أن تعري هذا الغرب ، لا بد من أن تعري هذه الحضارة المادية التي لا ترحم ، قلة قليلة يستمتعون بمنجزات الحضارة والكثرة الكثيرة شقية بها .
3ـ تغيير البيئة الاجتماعية للشاب اليافع :
الشيء الآخر لا بد من تغيير البيئة الاجتماعية للشاب اليافع ، أخطر شيء على الشاب اليافع أصدقاؤه ، الأب الموفق في تربية أولاده يحرص على معرفة أصدقاء ابنه حرصاً لا حدود له ، لأن الابن يستقي من أصدقائه الشيء الكثير دون أن يشعر .
الآن ننتقل إلى منهج التلقين والتعويد للصغار ، الصغار لا يحتاجون إلى ربط في العقيدة ولا يحتاجون إلى تعرية المنكر ولا يحتاجون إلى تغيير البيئة ، بيئتهم ليس بمقدورهم تغييرها ، الصغار يربون بالتلقين ، لذلك النبي عليه الصلاة والسلام أمر المربين أن يلقنوا أولادهم كلمة لا إله إلا الله بما روى الحاكم عن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال :
(( افتحوا على صبيانكم أول كلمة بلا إله إلا الله .))
[الحاكم عن ابن عباس رضي الله عنهما]
الطفل حينما ينشأ في جو أغانٍ ، جو تمثيليات ، جو موبقات ، الطفل ليس عنده إدراك ليميز الخير من الشر ، الطفل يقلد ، لذلك أبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه ، الطفل الصغير لا يفهم الأفكار بل يقلد ما يرى ، لذلك أخطر شيء عند الصغير الصورة ، والعالم الغربي كشف هذه الحقيقة ، أنا قد أحطم الدين أمام الطفل بمنظر امرأة مسلمة لكنها تهمل أولادها ، ومنظر آخر لامرأة متفلتة تعتني بأولادها انتهى الدين عنده ، لا تحتاج إلى مناقشة .
مرة استمعت إلى قصة فيها كلمة واحدة لكن هذه الكلمة كالسم في الدسم ، أن امرأة وقعت في الفاحشة ، والذي ارتكب معها الفاحشة وعدها بالزواج ، فلما لم يفِ بوعده طالبته بتنفيذ وعده ، فقال لها : ليس معي مال لأطلبكِ للزواج ، أعطني مفتاح صندوق الحديد لوالدكِ حتى آخذ منه مئتي ألف أقدمه مهراً لكِ ، هذا الوحش أراد أن يضيف إلى الفاحشة التي ارتكبها السرقة ، حتى الآن لا يوجد مشكلة في القصة ، أعطته مفتاح من تحت الملاية فقط هذه الكلمة ، كلمة واحدة في القصة ماذا تشعر ؟ أن هذه ترتدي زياً إسلامياً ، هكذا أخلاقها وهكذا خيانتها لأبيها ، طبعاً قصة باطلة ، لكن أحياناً الطفل من كلمة من صورة يأخذ فكرة .
أيها الأخوة ، الطفل يتعلم بالصورة ، معلمه إذا دخن أمامه حالاً الدخان مشروع بطولة ، معلمه قدوة له ، أبوه إذا ارتدى ثياباً مبتذلة في البيت هذا هو الأصل ، لم يعد هناك داعٍ للمناقشة ، حينما يتجول الأب في بيته بثياب مبتذلة جداً ، بثياب داخلية مبتذلة ، عند ابنه الصغير هذا هو الصواب ،(1/324)
لذلك القرآن الكريم نبه أن الأطفال لا ينبغي أن يدخلوا على آبائهم وأمهاتهم وقت الظهيرة وبعد صلاة العشاء إلا بالاستئذان ، لئلا يقع الطفل في مشكلة ، والآباء الذين لا ينتبهون لما يجري بينهم وبين زوجاتهم ربما ترك هذا أثراً سيئاً جداً في مستقبل الابن الصغير .
إذاً أول شيء التلقين والتعويد ، التلقين قد تلقنه بكلمة ، وقد تلقنه بصورة ، والصور من التلقين ، قد تلقنه بكلمة مسموعة ، وقد تلقنه بصورة مرئية ، يفهم كل شيء من دون حوار ، من دون مناقشة لذلك قال عليه الصلاة والسلام :
(( افتحوا على صبيانكم أول كلمة بلا إله إلا الله .))
[الحاكم عن ابن عباس رضي الله عنهما]
لمجرد أن يرى الابن أباه يصلي في البيت خمس صلوات هذا من التلقين ، أنا أوسِّع معنى التلقين ، لا تفهموا التلقين يا ابني قل كذا ، لا ، قد يلقن كلاماً ، وقد يلقن صورةً ، الأب يصلي ، الأم تصلي ، حينما تتحجب الأم عن أصدقاء زوجها هذا تلقين رأى ، يوجد قصص لطيفة أنه حينما يخطب شاب بنتاً في بيت ، حينما تجلس معه على مرأى من أخواتها الصغار ، أو أخوتها الصغار يحتجون كيف تجلس أختنا فلانة مع فلان ، لأنه يعرف أنه يوجد حجاب في البيت ، هذا حادث طارئ ، شاب ليس من أهل البيت يجلس مع أخته معنى التلقين نجح .
يكفي أن يكون بيتك مسلماً ، يكفي أن تصلي أمام ابنك ، يكفي أن تتحجب زوجتك عن الغريب ، يكفي أن يذكر الله في البيت ، يكفي أن يرى تلقيناً صوراً وأفكاراً وكلمات إسلامية ، هذا الذي يكلف الأب به .
الآن التعويد ، يقول عليه الصلاة والسلام :
(( مُرُوا أَوْلَادَكُمْ بِالصَّلَاةِ وَهُمْ أَبْنَاءُ سَبْعِ سِنِينَ وَاضْرِبُوهُمْ عَلَيْهَا وَهُمْ أَبْنَاءُ عَشْرٍ وَفَرِّقُوا بَيْنَهُمْ فِي الْمَضَاجِعِ )).
[أحمد عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ ]
دائماً عندنا قاعدة أن الأحكام الشرعية يكلف بها الشاب والشابة بعد البلوغ ، لكن لا يعقل أن تسمح لابنتك أو ابنك أن يفطر ، وفي رمضان السنة السادسة عشرة تأمرها بالصيام مستحيل ، لا بد من أن تعود أولادك على أداء العبادات في وقت مبكر ، قبل خمس سنوات من التكليف ، سماه العلماء التكليف التأديبي لا التكليف الشرعي ، طفلة صغيرة جداً حينما ترتدي ثياباً فاضحةً هي ليست بعورة ، عمرها سنتان أو ثلاث أو أربع سنوات جسمها ليس بعورة ، أما حينما تألف أن ترتدي ثياباً فاضحة كأنك تلقنها أن هذه الثياب لا شيء فيها ، وهي في سن صغيرة ينبغي أن ترتدي الثياب الكاملة التي إذا كبرت ترى أن هذه الثياب الكاملة ، الأمور دقيقة جداً .(1/325)
ثياب ابنتك تلقين لها حينما تصلي وهي صغيرة جداً لم تبلغ الخامسة من عمرها هذا تلقين ، الصلاة تلقن بها ، التلقين جانب نظري ، أنت ما تكلمت لكن أريتها صورة إسلامية ، والتعويد جانب عملي ، ما الذي يمنع الأب أن لا يصلي إلا ومعه أولاده ، عودهم خمس سنوات ، عودهم الصلاة تلقيناً :
(( مُرُوا أَوْلَادَكُمْ بِالصَّلَاةِ وَهُمْ أَبْنَاءُ سَبْعِ سِنِينَ وَاضْرِبُوهُمْ عَلَيْهَا وَهُمْ أَبْنَاءُ عَشْرٍ وَفَرِّقُوا بَيْنَهُمْ فِي الْمَضَاجِعِ )).
[أحمد عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ ]
الآن الحلال والحرام ، الطفل يرى مع رفيقه لعبة يحبها ، يأخذها ويضعها في جيبه ، لا تسميه سارقاً أنت ، هو ما سرق لكن لا يعرف ما هو الحلال والحرام ، أعجبته هذه اللعبة ، وضعها في جيبه ، وجاء إلى البيت ، أنت رأيتها معه ، الآن يجب أن تلقنه أن هذا الشيء الذي ليس لك حرام أن تأخذه ، لأن الله حرم ذلك ، أتحب أن يفعل معك رفيقك هذا ؟ تحتاج إلى جهد لذلك قال عليه الصلاة والسلام :
(( مروا أولادكم بامتثال الأوامر واجتناب النواهي فذلك وقاية لهم ولكم من النار )).
[عن ابن عباس رضي الله عنهما]
أحياناً طفل يأكل من رأس القصعة يجب أن تنبهه كُلْ مما يليك ، نهى النبي على أن يأكل الطفل من رأس القصعة ، رأى النبي طفلاً تطيش يده في القصعة فنهاه .
أنا أتعجب هناك أطفال يرتكبون أخطاء كبيرة جداً ، من ينزعج منهم ؟ إذا كنت مع أولادك في بيت ، أنت ضيف ، يحطمون الحاجات ، يتلفون الأشياء ، يضعون بقايا الطعام في أماكن غير مناسبة ، فصاحب البيت يضجر ، هذا من تقصير الأب والأم ، يجب أن تعوده كيف تضع الأوساخ في سلة المهملات ، أن تعوده أن لا يصعد بحذائه على الكراسي الفخمة الطفل لا يعلم ، فالابن يحتاج إلى تلقين ، وإلى تعويد ، التلقين نظري والتعويد عملي ، أذن المؤذن يجب أن تقول له حينما يؤذن المؤذن : هناك أذكار علمنا النبي أن نقولها ، حينما تقولها أنت لقنته ، حينما تطالبه أن يقولها عودته وهكذا ، وفي بعض الأحاديث يقول عليه الصلاة والسلام :
(( أدبوا أولادكم على ثلاث خصال : حب نبيكم وحب آل بيته وقراءة القرآن..)).
[أبو نصر عبد الكريم الشيرازي وابن النجار عن علي]
أخواننا الكرام ، الطفل في سن معين لا يرى إلا الذي أمامه ، فالذي أمامه أبوه وأمه ، أو أخوته الكبار إذا حدثوه عن رسول الله ، إذا حدثوه عن رحمته ، إذا حدثوه عن حبه للصغار ، إذا حدثوه عن رعايته لهم ، فالنبي يقول :
(( أدبوا أولادكم على ثلاث خصال : حب نبيكم...)).(1/326)
[أبو نصر عبد الكريم الشيرازي وابن النجار عن علي]
عندنا حقيقة كبرى هي الله عز وجل ، عندنا حقيقة بشرية كبرى هي رسول الله لذلك كلمتا الإسلام لا إله إلا الله محمد رسول الله ، لا إله إلا الله كلمة التوحيد ، محمد رسول الله شهادة الرسالة ، في إنسان واحد كامل الكمال البشري الذي ينتظر الله أن نجعله قدوة لنا لذلك قال تعالى :
* لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآَخِرَ (21) *
( سورة الأحزاب)
أنا أقول لك دائماً من هو الشخص العظيم في نظرك أقل لك من أنت ؟ المؤمن الصادق الشخصية العظيمة التي يتصورها دائماً ، والتي يسعى أن يقلدها دائماً ، والتي يسعى أن يمشي على منهجها هي رسول الله ، إن كنت ترجو الله واليوم الآخر لك برسول الله أسوة حسنة .
يجب بحسب ما أرى أن كلمة رسول الله في اليوم ترددها مئات المرات لأولادك ، النبي فعل كذا يا بني ، النبي كان حليماً ، النبي دخل إلى البيت ففعل كذا ، نام على جنبه الأيمن ، استيقظ فسبح الله عز وجل ، دخل إلى الخلاء فقال هذا الدعاء ، هكذا يحب النبي ، في كتاب الأذكار للنووي أذكار النبي عليه الصلاة والسلام ، لكن تحتاج إلى وقت ، مشكلة المسلمين دنياهم أخذتهم ، مشكلاتهم سحقتهم ، أعمالهم استغرقت أوقاتهم ، والعمل الذي يستغرق كل وقتك خسارة كبيرة ، والله أحياناً أعجب بإخوة جاءهم عرض راتب ضخم جداً في بلد بعيد ، نظر أولاده بلا أب ، زوجته بلا زوج ، فآثر أن يبقى إلى جانب زوجته وأولاده على دخل كبير ، يشترطون عدم حضور الزوجة والأولاد ، هؤلاء لا يقبلون مسلماً مع زوجته وأولاده ، يحرمونه زوجته وأولاده سنتين بأكملهما ، فلذلك الإنسان حينما يؤثر أن يبقى مع أهله وأولاده هذا دليل عقله ودليل إيمانه ودليل توفيقه .
(( أدبوا أولادكم على ثلاث خصال : حب نبيكم وحب آل بيته وقراءة القرآن..)).
[أبو نصر عبد الكريم الشيرازي وابن النجار عن علي]
أتمنى على كل أب أن يقتني كتاباً عن الصحابة الكرام ، ويوجد كتب رائعة جميلة جداً ، ما الذي يمنع أن تقرأ على أولادك قصة كل يوم ؟ تقرأ بنصف ساعة لكن فيها معاني من الكمال والسمو والبطولة ، الطفل يحب البطولة ، وكل صحابي يمثل نموذجاً ، فأنت إذا قرأت على أولادك كل يوم قصة صحابي هؤلاء قدوته .
(( أدبوا أولادكم على ثلاث خصال : حب نبيكم وحب آل بيته وقراءة القرآن..)).
[أبو نصر عبد الكريم الشيرازي وابن النجار عن علي]
مرة كنا في الجامعة دخل علينا أستاذ من كبار الأساتذة لا علاقة له بالدين إطلاقاً ولا بالقرآن إطلاقاً ، ولكنه أستاذ لغة ، قال : إن أردتم للغتكم أن تقوى فاقرؤوا كل يوم عشر صفحات من القرآن قراءة جهرية ، لا يوجد إنسان يقرأ القرآن إلا ويستقيم لسانه دون أن يشعر ، لأن القرآن الكريم(1/327)
أفصح كلام على الإطلاق ، أفصح كلام في اللغة العربية على الإطلاق ، ويأتي بعد فصاحته فصاحة النبي عليه الصلاة والسلام ، فكل مسلم حينما يقرأ القرآن وحينما يقرأ سنة النبي تتراكم عنده العبارات البليغة الأدبية .
أحياناً ترى إنساناً عادياً يقرأ القرآن ، انتهت حرب في مكان معين يقول لك : في السودان وضعت الحرب أوزارها ، جاء بعبارة القرآن ، هناك الكثير من العبارات القرآنية التي يستخدمها الناس دون أن يشعروا ، وجئت على قَدَر يا موسى ، إذا كان من غير ميعاد ، فأنت حينما تقرأ القرآن تتراكم عندك عبارات فصيحة حينما تستخدمها ، لذلك أنا أنصح الأخوة الكرام الذين يتمنون أن يقوى أسلوبهم أن يقرؤوا القرآن ، وكل عبارة في القرآن يمكن أن يستخدمها في خطابه أو في كتابته يجب أن يختزنها ، القرآن أفصح كلام على الإطلاق لأنه كلام الله عز وجل قال الله تعالى :
* بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ (195) *
( سورة الشعراء )
لذلك الطفل الذي يقرأ القرآن ضمنت له أسلوباً رائعاً ، يوجد كلمات عامية موغلة في العامية موغلة أين القلم بابا ؟ (شحوكة) ، ما هذه (شحوكة) ؟ كلمات ليس لها معنى ، مزعجة ، قبيحة ، أحياناً بابا فلان ضربلك تلفون ، (ضربلك) ما هذه ؟ اتصل بك ، بين (ضربلك) وبين (اتصل بك) يوجد فرق كبير ، أنا أقول حتى الأب والأم إذا تكلما في اللغة لا أقول فصحى ، بل الفصحى الميسرة ، يوجد لغة فصحى ميسرة إذا الأب مثقف والأم مثقفة وتكلما بلغة فصحى ميسرة يكونان عوناً لأولادهما في تعلم اللغة الفصحى .
الآن يوجد مشكلة ، تأتي بطالب يحمل ليسانس أو دبلوم أو ماجستير لا يستطيع أن يقرأ صفحة من القرآن بلا أخطاء أبداً ، مع أنه كلام الله عز وجل ويوجد أخطاء فاحشة ، مذيع سورة يس وهي سورة ياسين ، الضعف في القرآن مخيف رجل أحب أن يتفاصح قال :
ولست أبالي حين أَقتُلُ مسلماً على أي جنب ألقى بالله مصرعي
***
إلى جهنم ذهب ، أما هو البيت في فرق حركة واحدة .
ولست أبالي حين أُقتَلُ مسلماً على أي جنب ألقى بالله مصرعي
***
ذهب إلى الجنة ، اللغة دقيقة جداً .
يقول لك أنا ـ من باب التفاصح ـ تَجَارُب ، ما التَجَارُب ؟ العدوى بالجرب ، صوابها التَجَارِب ، إذا قلت التَجَارُب أي العدوى بالجرب ، طبيب يقول لك : أنا أَخِصائي في أمراض الدم ، الأَخصائي(1/328)
هو الذي يخصي فقط ، ينبغي أن يقول اختصاصي ، اللغة العربية دقيقة جداً ، يقول : أنا مُوَلع ، المولع هو الثور الأحمر ، ينبغي أن يقول : مُوْلَع لا مُوَلَّع .
هناك أخطاء شائعة كثيرة جداً يقع فيها معظم الناس دون أن يشعروا ، أنا أقول لكم أيها الأخوة قضية تربية الصغار أعظم عمل على الإطلاق ، أكبر شهادة يحملها الأب أن يكون أولاده صالحين لذلك :
((إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث : صدقة جارية ، أو علم ينتفع به ، أو ولد صالح يدعو له .))
[مسلم عن أبي هريرة]
من هذه الثلاثة ولد صالح يدعو له ، الولد الصالح استمرار ، مرة توفي رحمه الله خطيب الجامع الأموي ، رجل صالح وجريء ومستقيم ، ولا أزكي على الله أحداً ، فالتعزية أقيمت في الجامع الأموي ، وجاء الناس إلى هذا المسجد زرافات ووحدانا ، في اليوم الثالث كنت حاضراً ، بعد أن انتهت التعزية أسمعونا إحدى خطبه مسجلة ، ثم قام ابنه وألقى خطبةً رائعة جداً ، أكبرته إكباراً عالياً لأنه ترك خطيباً ، ترك ابناً عالماً ، وهذه علامة طيبة أن ترى ابن العالم عالماً ، لأن هذه رأى نوعان ؛ رأى قلبية ، ونظرية ، رأيت الشمس ساطعةً ، ما إعراب (ساطعةً) ؟ حال ، رأيت العلم نافعاً ، (نافعاً) مفعول به ثان ، رأى القلبية تنصب مفعولين به ، بينما رأى البصرية تنصب مفعول به واحد ، فإذا كان في اسم منصوب ثان صار حالاً .
روت كتب التاريخ والأدب أن المفضل بن زيد رأى مرةً ابن امرأة من الأعراب فأعجب لمنظره ، فسألها عنه فقالت : إذا أتم خمس سنوات أسلمته إلى المؤدب ، فحفظ القرآن فتلاه ، وعلمه الشعر فرواه ، ورغب في مفاخر قومه ، ولقن مآثر آبائه وأجداده ، فلما بلغ الحلم حملته على أعناق الخيل فتمرس وتفرس ولبس السلاح ومشى بين بيوت الحي وأصغى إلى صوت الصارخ .
التربية الإسلامية تصنع أبطالاً ، كان الشباب قديماً في كفهم حفنة من الطحين ، ويركبون جواداً ، ويحملون سيفاً إلى ساحة الجهاد ، سيدنا أسامة كان قائد جيش تحت إمرته كبار الصحابة وهو لا يزيد عن ثمانية عشر عاماً ، الآن ترى الشاب يحمل البيبسي والهمبرغر وذاهب إلى الملعب ، هذه عوض عن هذه ، اختلف الأمر بين أن يربى الشاب على الفتوة والفروسية والنجدة والمروءة والشجاعة والقيم .
أرجو الله سبحانه وتعالى أن يلهم الآباء أن يعتنوا بأولادهم ، أنا أقول لعل هذه السلسلة باعثها كلمة بدأت بها الدرس الأول في هذه السلسلة ، أنني فيما أعتقد أن الورقة الرابحة الوحيدة التي بقيت في أيدينا هي أولادنا ، وأولادنا يعنون المستقبل ، فإن أدبناهم وهذبناهم ملكنا المستقبل ، وإن تركناهم على ما هم عليه وعلى التأثر بما يحيط بهم أوردناهم موارد التهلكة .(1/329)
إذاً الصغير أيها الأخوة الأكارم تلقين وتعويد ، التلقين نظري والتعويد عملي ، لا تتوهم أن التلقين كلام فقط ، ثياب الأب المحتشمة في البيت تلقين ، صلاته تلقين ، ذكره تلقين، تلاوته لكتاب الله تلقين ، غضه البصر عن امرأة زائرة في البيت تلقين ، حجاب زوجته عن أصدقائه تلقين ، التعويد عملي قم صلِّ معي يا بني ، التعويد عملي والتلقين نظري ، والطفل الصغير يلقَّن ويعوَّد ، وحينما ترى ملامح الصلاح على ابنك الصغير يدخل على قلبك من السعادة ما لا يعلمه إلا الله .
شيء أخير أن التشجيع أفضل من الترهيب ، هناك آباء تعطي تعليمات ، وكل مخالفة يوجد ضرب ، لا بالعكس اعمل تعليمات إيجابية ، وكل تطبيق لهذه التعليمات يوجد مكافأة ، وشتان بين المكافأة والضرب ، اسلك أسلوب التشجيع لا التعنيف يقول عليه الصلاة والسلام : (( علموا ، ولا تعنفوا ، فإن المعلم خير من المعنف )) .[ الجامع الصغير بسند ضعيف عن أبي هريرة ]
================ ... ... ...(1/330)
35- وسائل تربية الأولاد ( 5 ) : التربية بالموعظة ( 1 ) .
أيها الأخوة الكرام ، لازلنا في سلسلة من دروس تربية الأولاد في الإسلام ، بل لازلنا في السلسة الثانية التي تتعلق بالوسائل الفعالة التي يمكن أن تربي بها ابنك إن كنت أباً أو تلميذك إن كنت معلماً .
تحدثنا عن التربية بالقدوة ، ثم تحدثنا عن التربية بالتلقين والتعويد ، وها نحن أولاء ننتقل إلى أسلوب ثالث هو التربية بالموعظة ، ولكن قبل أن أتابع الحديث لا بد من وقفة عند كلمة الموعظة .
أيها الأخوة ، لا تبدو هذه الكلمة محببة إلى الناس أحياناً مع أنها جاءت في القرآن الكريم قال تعالى :
* وَعِظْهُمْ وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلاً بَلِيغاً (63) *
( سورة النساء : الآية 63)
وقال :
* وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ (13) *
( سورة لقمان)
ما الذي جعل هذه الكلمة تفقد بريقها في هذا العصر ؟ ولماذا كانت كلمةً رائعةً جداً في نصوص القرآن الكريم وفي السنة المطهرة ؟ السبب بسيط .
أيها الأخوة ، الأنبياء جاؤوا بالكلمة الصادقة ، الطغاة جاؤوا بطائرات وصواريخ وقنابل نووية وأقمار صناعية وحاملات طائرات ومدمرات ، الطغاة جاؤوا بأسلحة فتاكة فرضوا بها إرادتهم على بقية الشعوب ، الأنبياء بماذا جاؤوا ؟ بشكل مختصر جاؤوا بمخترعات ؟ لا ، جاؤوا بالكلمة لكن بالكلمة الصادقة ، بالكلمة التي تعبر عن واقع ، بالكلمة التي تعبر عن معاناة ، بالكلمة التي تعبر عن تجربة ، جاؤوا بكلمة مفعمة بالصدق ، جاؤوا بكلمة مفعمة بالصدق والإخلاص ، جاؤوا بكلمة ليس بينها وبين واقع المتكلم أية مسافة ، المسافة منعدمة بين كلمة الواعظ وبين واقع الواعظ ، لذلك كان لهذه الكلمة شأن كبير ، والله عز وجل يقول :
* مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ (24) تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا (25) *
( سورة إبراهيم)
بالمقابل يقول عليه الصلاة والسلام :
(( إِنَّ الْعَبْدَ لَيَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ مِنْ رِضْوَانِ اللَّهِ لَا يُلْقِي لَهَا بَالاً يَرْفَعُهُ اللَّهُ بِهَا دَرَجَاتٍ وَإِنَّ الْعَبْدَ لَيَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ مِنْ سَخَطِ اللَّهِ لَا يُلْقِي لَهَا بَالاً يَهْوِي بِهَا فِي جَهَنَّمَ )).
[البخاري عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ]
حينما قالت السيدة عائشة عن أختها صفية وكانت قصيرةً إنها قصيرة ، قال :
(( لقد قلت كلمةً لو مزجت بمياه البحر لمزجته . ))(1/331)
[أبو داود عن عائشة رضي الله عنها]
الأنبياء جاؤوا بالكلمة فقط ، ولكن هذه الكلمة مشحونة بكم هائل من الصدق ، من الإخلاص ، من الواقعية ، لذلك بالكلمة قلبوا وجه التاريخ ، بالكلمة غيروا المفهومات في العالم ، بالكلمة نشروا الفضيلة في شتى بقاع الأرض ، الآن لعل الناس كفروا بالكلمة أصلاً لأنه يوجد حالات جديدة ، الكلام عكس الواقع ، الكلام في واد والواقع في واد ، الذي يعظ لا يتعظ ، والذي يلقي مواعظه لا يتأثر بها ، والذي يأمر لا يأتمر ، والذي ينهى لا ينتهي ، نشأت حالة يمكن أن نسميها انفصال شخصية ، في موقف معلن وموقف حقيقي ، في شيء تفعله في خلوتك لا تفعله في جلوتك ، في شيء تكنه في مكنونك لا تبوح به في كلامك ، هذه الازدواجية سقطت معها الموعظة ، لذلك أي متكلم في أي مكان ، في الجامعة ، في المسجد ، في درس ، في محاضرة ، يقول لك : أنا لا أعظ ، وكأنه يستحي بأن يعظ ، أنا لا أعظكم أنا أتكلم بالواقع ، أنا أتكلم بتفكير مفتوح ، أنا أتكلم بتفكير مسموع .
لأن كلمة الموعظة فقدت مدلولها ، طبعاً هذه حقيقة ، في اللغة الكلمة كالكائن الحي تولد وتنمو وتترعرع وتشيخ وتموت ، وقد تولد في حالة وتنتقل إلى حالة ، من منكم يطرب لكلمة استعمار ؟ لا أحد ، لأن كلمة استعمار معناها أن قوة غاشمة احتلت أرضاً ونهبت الثروات وقهرت الأمة وأذلتها وجعلت أعزة أهلها أذلة ، هذا معنى كلمة استعمار ، لكن الله عز وجل قال :
* وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا (61) *
( سورة هود)
الاستعمار يعني إعمار الأرض ، أرض فيها منشآت ، فيها مستشفيات ، فيها معاهد ، فيها جامعات ، فيها طرق ، فيها أبنية سكنية جميلة ، فيها حدائق ، فيها متنزهات ، هذا معنى الاستعمار لغوياً ، لكن هذه الكلمة ولدت رائعة ، ثم أخذت مفهومات أخرى فأصبحت منفرة كذلك كلمة عصابة ، النبي عليه الصلاة والسلام في معركة بدر رفع يديه إلى السماء داعياً ربه قال :
(( اللَّهُمَّ إِنْ تُهْلِكْ هَذِهِ الْعِصَابَةَ مِنْ أَهْلِ الْإِسْلَامِ لَا تُعْبَدُ فِي الْأَرْضِ )).
[مسلم عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه]
العصابة في أصل اللغة جماعة الخير ، أما هي الآن جماعة اللصوص ، اختلف المعنى ، ما معنى كلمة جرثومة ؟ أصل الشيء ، شاعر كبير يمدح خليفة عظيماً يقول له : أنت جرثومة الدين والإسلام والحسب ، لو أن الخليفة فهم معناها كما نفهمها اليوم لقطع رأسه فقبلها كمديح ، الجرثومة أصل الشيء .
الكلمة أحياناً تولد وتنمو وتترعرع ثم تهرم وتشيخ وتموت ، أنا فيما أرى ـ مع التحفظ ـ كلمة الموعظة كلمة قرآنية ونبوية ورائعة وعظيمة ، وهي التي جاء بها الأنبياء ، ولكن لأن الناس في هذا(1/332)
العصر ، في عصر النفاق والازدواجية والكذب والتزوير فقدت الموعظة مدلولها القرآني ، لذلك ينبغي أن نعود إلى المدلول القرآني .
أنا أقول لكم أشياء كثيرة ، كلمة (إن شاء الله) فقدت مدلولها القرآني ، يعني أنت حينما تريد أن لا تأتي تقول إن شاء الله ، وحينما تريد أن لا تدفع ما عليك تقول تعال الخميس أدفع لك إن شاء الله ، لكن معناه القرآني ليس كذلك ، أنت حينما تكون جازماً في تلبية الدعوة أو في دفع ما عليك تقول إن شاء الله لأن الإنسان لا يملك الغيب ، قيل من عد غداً من أجله فقد أساء صحبة الموت ، هذه مقدمة لا بد منها لموضوع الموعظة .
الحقيقة الله عز وجل يقول :
* وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ (13) *
( سورة لقمان)
أنا أستمع إلى أخوة كرام يعتزون بآبائهم يقول لي : أبي وعظني مرةً يا بني إياك أن تفعل هذا ، الموعظة كلمة لكنها مشحونة بطاقة من الإخلاص والحب ، لذلك الموعظة يجب أن نعيد لها ألقها ، أن نعيد لها حيويتها ، عن طريق الصدق المطابق بين الأقوال والأفعال ، النبي عليه الصلاة والسلام يقول :
* قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ (46) *
( سورة سبأ)
وقال :
* قَالُوا يَا نُوحُ قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (32) قَالَ إِنَّمَا يَأْتِيكُمْ بِهِ اللَّهُ إِنْ شَاءَ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ (33) وَلَا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ (34) *
( سورة هود)
إذاً الموعظة يقابلها كلمة النصح ، والدين النصيحة ، قيل : لمن يا رسول الله ؟
(( الدِّينُ النَّصِيحَةُ قُلْنَا لِمَنْ قَالَ لِلَّهِ وَلِكِتَابِهِ وَلِرَسُولِهِ وَلِأَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ وَعَامَّتِهِمْ)).
[متفق عليه عَنْ تَمِيمٍ الدَّارِيِّ]
كلمة مضغوطة ، جمع الدين في كلمة واحدة النصيحة ، تنصح إذا بعت ، تنصح إذا اشتريت ، تنصح إذا تكلمت ، تنصح إذا تحركت ، في كل حركاتك وسكناتك أنت ناصح أمين ، إني لكم ناصح أمين هذه صفة الأنبياء ، لذلك من الأسماء المتداولة نصوح صيغة مبالغة لاسم الفاعل نصح ، ناصح نصوح .(1/333)
* وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُوداً قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلَا تَتَّقُونَ (65) قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي سَفَاهَةٍ وَإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكَاذِبِينَ (66) قَالَ يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي سَفَاهَةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (67) أُبَلِّغُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَأَنَا لَكُمْ نَاصِحٌ أَمِينٌ (68) *
( سورة الأعراف)
القدوة أن تفعل شيئاً مطابقاً لقولك هذا أول درس ، التلقين أن تلقن الصغير وأن تعوده على طاعة الله ، أما الموعظة إلقاء كلام يسمى نصيحة ، يسمى توجيهاً ، يسمى إرشاداً، يسمى موعظة ، تقدم حقائق أو خبرات أو حِكماً إلى من حولك ، الله عز وجل يقول :
* إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ (37) *
( سورة ق)
لذلك يوم القيامة أهل النار وهم في النار يقولون :
* لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ (10) *
( سورة الملك)
مرة أخ من أخواننا قبل أن يهتدي إلى الله جاء به قريبه إلى درس علم ، إلى هذا الدرس في جامع الحاجبية ، قصة قديمة جداً ، أقسم لي بالله بعد أن اهتدى إلى الله أنه حضر الدرس ولم يسمع منه كلمة واحدة ، الدرس في واد وهو في واد آخر .
* إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ (37) *
( سورة ق)
إلقاء السمع طريق الهداية أحياناً ، لا تزهد بالموعظة لعلها تفت الصخر ، لعلها تقلب إنساناً رأساً على عقب ، يروى أن بشر الحافي أحد العارفين بالله كان تائهاً وشارداً ، وكان قاطع طريق ، وكان سارقاً ، سبب هدايته رجل طرق بابه ، فتح غلامه ، قال له : قل لسيدك إن كان سيداً فليفعل ما يشاء ، وإن كان عبداً فما هكذا تفعل العبيد ، قال له : يا سيدي بالباب رجل يقول لك كذا ، خرج فلم يجده فتبعه حافياً وكانت هدايته على يده .
أحياناً كلمة تغير مجرى حياة إنسان لكن كلمة صادقة ، والله عندي عشرات القصص حول إنسان سبب هدايته نصيحة صادقة ، أمام الناس فضيحة ، لكن بينك وبينه نصيحة ، إذا تكلمت بكلام صادق مخلص واضح مدلل بالأدلة من قلب حاضر بإخلاص شديد ربما فعلت هذه النصيحة فعلها الكبير لذلك قال تعالى :
* إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ (37) *
( سورة ق)
وقال :(1/334)
* وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ (55) *
( سورة الذاريات)
لذلك هذه الأمة لماذا فقدت خيريتها ؟ هي بقناعتي أمة كأية أمة ، وليس لها أي ميزة ، لأن هؤلاء الذين قالوا نحن أبناء الله وأحباؤه بماذا أجابهم الله ؟ قال :
* فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ (18) *
( سورة المائدة)
نحن إذا عذبنا بذنوبنا إذاً نحن أمة كأية أمة شاردة عن الله عز وجل لذلك قال تعالى :
* وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ (55) *
( سورة الذاريات)
لذلك هذه الأمة خيريتها من قوله تعالى :
* كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ (110) *
( سورة آل عمران)
العلماء قالوا : علة خيريتها الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والإيمان بالله ، فإذا آمن الإنسان بالدنيا ولم يؤمن بالآخرة ، وإذا آمن الإنسان بزيد أو عبيد ولم يؤمن بالله رب العالمين ، وثم لم يأمر بالمعروف ولم ينهَ عن المنكر ، علة الخيرية انتهت ، علة الخيرية أخذت ، إذاً فقدنا خيريتنا ، شيء جميل أن نعتز بهذه الآية ، هناك آيتان كبيرتان :
* كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ(110) *
( سورة آل عمران)
وأيضاً :
* وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْل الله جميعاً (103) *
( سورة آل عمران)
معنى ذلك فقدنا خيريتنا لأننا تركنا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر .
قسم العلماء أمة محمد عليه أتم الصلاة والتسليم إلى أمتين أمة التبليغ وأمة الاستجابة ، الأمة التي استجابت هي خير أمة أخرجت للناس والأمة التي لم تستجب تبلغ ، فإما أن تستجيب وإما أن لا تستجيب ، قال تعالى :
* وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ (55) *
( سورة الذاريات)
وقال :
* وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى (3) أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرَى (4) *(1/335)
( سورة عبس)
وقال أيضاً :
* تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ (8) *
( سورة ق)
وقال :
* ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ (114) *
( سورة هود)
قال تعالى :
* ذَلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ مِنْكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ (232) *
( سورة البقرة)
كيف تتعظ ؟ ما سبب اتعاظك ؟ إذا كنت مؤمناً بالله واليوم الآخر ، لذلك الذي لا يتعظ ، ولا يتأثر ، ولا يتحرك ، ولا يعبأ ، ولا يبالي ، لأنه لم يؤمن بالله ولا باليوم الآخر ، آمَنَ بالدنيا ، وآمن بالأشخاص ، وآمن بالشركاء ، وهذه الصفة الجامعة المانعة لأهل الفساد ، لم يؤمن بالله لكنه آمن بأشخاص أقوياء ، لم يؤمن بالآخرة ولكنه آمن بالدنيا فقط .
لا تستغرب أن أباً يجلس مع أولاده ويقدم لهم حقائق ، كنت سأقول مواعظ بدلتها بحقائق لأنني أشعر أن هذه الكلمة الآن ضعيف تأثيرها ، أما حينما تجلس إلى إنسان وتحدثه بحقيقة ، وقد يتوقف على فهم الحقيقة سعادته ، ونجاحه ، وسلامته ، إذاً ينبغي أن تعظ لا تسكت ، لذلك قالوا : الساكت عن الحق شيطان أخرس .
يروى أن أحد حكام مصر خديوي كان دخل في حرب مع دولة ، أظنها السودان ، قصة قديمة قبل خمسين أو ستين عاماً ، والحرب اشتدت ، بلغه أنه إذا قُرئ كتاب ( صحيح البخاري) ينتصر ، فاستدعى شيخ الأزهر وقال له : ماذا نفعل ؟ قال : لا بد من قراءة كتاب ( صحيح البخاري) ، فاختار شيخ الأزهر عشرة علماء كبار ليقرؤوا (صحيح البخاري) فلعل الله سبحانه وتعالى ينصر المسلمين ، قُرئ (صحيح البخاري) ، والمعارك تزداد سوءاً ، والخطر يزداد اقتراباً ، فجاء الخديوي إلى الأزهر غاضباً فقال : إما أن هذا الكتاب الذي بين أيديكم ليس (صحيح البخاري) وإما أنكم لستم علماء ، فقال له أحد الأشخاص : أنت السبب ، ما سبق أن إنساناً تجرأ وقال للخديوي أنت السبب ، فاضطرب الخديوي وخرج من الأزهر إلى قصره ، هؤلاء العلماء الذين سمعوا ما قاله هذا الشخص أقاموا عليه النكير ، بمعنى أنك أهلكتنا بهذه الكلمة ، ماذا عليك لو بقيت ساكتاً ، بعد ساعتين استدعي هذا الذي تكلم ، وودعوه على أنه ميت مقتول ، فلما استدعاه الخديوي قال له : أعد علي(1/336)
ما قلت ، قال له : أنت السبب ، قال : ولمَ ؟ قال : لأن النبي عليه الصلاة والسلام في صحيح البخاري يقول : إن لم تأمروا بالمعروف وتنهوا عن المنكر يدعُ صلحاؤكم فلا يستجاب لكم .
ذكره بالحديث ، قال له : ماذا أفعل ؟ قال : أغلق أماكن اللهو ، أغلق حوانيت بيع الخمر ، أغلق الملاهي ، قال له : هكذا تريد أوروبا ، قال له : ما ذنب علماء الأزهر وما ذنب صحيح البخاري إذاً ؟ المنكرات قائمة ، لذلك يروى أنه استجاب له .
1ـ أول أسلوب في الموعظة أسلوب فيه مودة واسمه النداء الإقناعي أو التحذيري :
أنت لا تعرف أحياناً كلمة بأدب ، صالحة ، صادقة ، قد تفعل المستحيل ، أول شيء بالموعظة يوجد أسلوب فيه مودة اسمه النداء الإقناعي أو التحذيري :
* وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ (13) *
( سورة لقمان)
لا تقلل من كلمة يا بُنَيَّ ، يا أخي ، يا حبيبي ، يا بَنِيَّ ، يا ابنتي ، يا زوجتي ، إذا بدأت بالنداء النداء يقرب القلب ، لذلك الله استخدم النداء في آيات كثيرة جداً ، قال تعالى :
* يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ (53) *
( سورة الزمر)
وقال :
* يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ آَمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ (56) *
( سورة العنكبوت)
وقال أيضاً :
* يَا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنَا وَلَا تَكُنْ مَعَ الْكَافِرِينَ (42) *
( سورة هود)
وقال تعالى :
* يَا بُنَيَّ لَا تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْداً (5) *
( سورة يوسف)
وقال :
* يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (132) *
( سورة البقرة)
أرأيت إلى أسلوب الموعظة أن يبدأ بالنداء إما تحذيراً أو إقناعاً ، يا بني إن الله اصطفى لكم الدين إقناع ، يا بني لا تقصص رؤياك على أخوتك ، يا بني اركب معنا ، يا بني لا تشرك بالله . لذلك الواعظ ، الأب ، المعلم ، الموجه ، إن استخدم كلمات النداء المحببة يدخل إلى قلوب المستمعين ، الآن(1/337)
أكثر الدعاة أيها الأخوة الأحباب ، أيها الأخوة الأكارم ، أيها الأخوة المؤمنون ، هذا الكلام يسهل دخول الموعظة إلى النفس ، سوف نسميه النداء الإقناعي أو التحذيري .
* يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ (42) *
( سورة آل عمران)
وقال :
* يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلاً مَعْرُوفاً (32) *
( سورة الأحزاب )
أنت لاحظ الأب الشكور يكثر من النداءات نداء إقناعي أو نداء تحذيري ، بالقرآن في نداء للأقوام ، قال تعالى :
* يَا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ (54) *
( سورة البقرة)
وقال :
* يَا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ (20) *
( سورة المائدة)
وقال :
* يَا قَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشَادِ (38) *
( سورة غافر)
يوجد نداء فردي ونداء جماعي .
* يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَاباً أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ (30) *
( سورة الأحقاف)
الجن حينما خاطب صلحاؤهم عامتهم .
الآن الله سبحانه وتعالى خاطب المؤمنين بثلاثمئة آية :
* يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ (153)*
( سورة البقرة)
وقال :
* يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ (102) *
( سورة آل عمران)
وقال :(1/338)
* يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ (24) *
( سورة الأنفال)
القرآن فيه نداء إلى أهل الكتاب :
* يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ (64) *
( سورة آل عمران)
وقال :
* يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيراً مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ (15) *
( سورة المائدة )
وقال :
* يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ (68) *
( سورة المائدة )
خاطب الناس أجمعين :
* يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (21) *
( سورة البقرة)
وقال :
* يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُوراً مُبِيناً (174)*
( سورة النساء)
وقال :
* يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ (1) *
( سورة الحج)
هذا أسلوب النداء الإقناعي أو النداء التحذيري ، هذا النداء الإقناعي أو التحذيري يجعل مودة بين المتكلم والمستمع ، والأب ينبغي أن يكثر من النداء الأبوي يا بني ، يا ابنتي ، ويخاطب أيضاً زوجته .
لكن لو لاحظتم لم يخاطب الكفار ولا بآية في القرآن الكريم ، خاطب المؤمنين بثلاثمئة آية ، خاطب أهل الكتاب ، خاطب الناس عامةً ، خاطب الأقوام ، خاطب الأفراد ، خاطب الأنبياء ، لكن القرآن الكريم لم يخاطب الكفار إطلاقاً إلا في آية واحدة يوم القيامة :
* يَا أَيُّهَا الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَعْتَذِرُوا الْيَوْمَ (7) *
( سورة التحريم)(1/339)
لأنهم ليسوا أهلاً أن يخاطبهم الله عز وجل ، قياساً على هذه الحقيقة يوجد شخص مجرم لمجرد أن تخاطبه فأنت تحترمه ، هو أقل من أن تخاطبه ، هو أحقر من أن تخاطبه ، والدليل على ذلك قول الله عز وجل :
* الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ (65) *
( سورة يس)
الكذاب الدجال لا يخاطَب ، يعاقب فقط .
2ـ الأسلوب الثاني في الموعظة هو الأسلوب القصصي :
بالموعظة عندنا أسلوب آخر هو الأسلوب القصصي ، والله أيها الأخوة ، أنا ما وجدت أسلوباً أفعل في النفس كأسلوب القصة ، أنا أذكر أن إنساناً اتصل بي من مدينة اسمها لوس أنجلوس في أمريكا لا أعرفه قال لي : أنا اسمي فلان ، قال : أنا لي عمل لا يرضي الله عز وجل من أشد الأعمال سوءاً ، قلت : ما هو ؟ كان يعمل في تصنيع الأفلام الإباحية ، قال لي : لكن تبت بسبب شريط لك استمعت إليه خمسين مرة ، لما ذهبت إلى هناك بعد عام التقيت به في واشنطن ، قلت له : ما هي النقطة في الشريط التي فعلت فيك فعل التوبة ؟ قال لي : قصة رويتها لنا .
القصة لها تأثير أيها الأخوة لأن القصة تتغلغل في خطوط دفاع الإنسان ، كل إنسان يوجد عنده قناعات ، وعنده أفكار ، وعنده تصورات ، وهذه الأفكار والقناعات والتصورات عبارة عن سدود لا يسمح لإنسان أن يخترقها ، إلا القصة تستطيع أن تخترق هذه السدود وهذه الحدود اختراق تسلل ، لذلك كما أنها أفعل أسلوب في التأثير فهي أيضاً أفعل أسلوب في الإفساد ، أنت ممكن أن توصل إلى إنسان معين فكرة لا يمكن أن يقبلها مباشرةً أبداً ، مستحيل أن يقبلها ، أما من خلال قصة يقبلها .
الإنسان إذا قرأ القصة وتأثر بها ، تسلسلت وراء خطوط دفاعه ، لذلك يمكن أن تصلح إنساناً بقصة ويمكن أن تفسده بقصة ، الله عز وجل خالق الأكوان المربي الحكيم قال :
* نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآَنَ (3) *
( سورة يس)
معنى أحسن القصص بالمقابل في أسوأ القصص ، كما أن هناك قصصاً جيدة هناك قصص سيئة ، قال تعالى :
* تِلْكَ الْقُرَى نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَائِهَا (101) *
( سورة الأعراف)
وقال :
* وَكُلّاً نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ (120) *(1/340)
( سورة هود)
سيد الخلق إذا قص الله عليه قصة نبي دونه يزداد قلبه ثبوتاً .
* فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (176) *
( سورة الأعراف)
وقال :
* وَهَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى (9) *
( سورة طه)
وقال :
* هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ الْمُكْرَمِينَ (24) *
( سورة الذاريات)
وقال :
* هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْجُنُودِ (17) فِرْعَوْنَ وَثَمُودَ (18) *
( سورة البروج)
إذاً القصة أيها الأخوة ـ أنا مضطر أن أقول هذه الكلمة ـ هناك آلاف القصص تعرفها لكنك تعرف القصة الأخيرة منها ، وهذا خطأ كبير أن ترويها لأنها غير متناسبة ، لا تروِ قصة إلا إذا عرفتها من بدايتها حتى نهايتها ، تجد عظمة الله ، عدل الله ، رحمة الله ، حكمة الله عز وجل .
مرة استوقفني إنسان وقال لي : يوجد رجل نزل إلى محله التجاري ، تراشق اثنان بالرصاص ، جاءته رصاصة طائشة ، فدخلت في عموده الفقري فشلته فوراً ، قال لي : ما ذنبه ؟ هذه قصة من آخر فصل ، قال لي : جاء ليرتزق ، جاء ليفتح محله التجاري ، عنده أولاد ، لكني لا أعلم الجواب أنا مؤمن بعدل الله ، مؤمن بحكمة الله ، مؤمن برحمة الله ، أما هذه القصة لا أملك تفسيرها ، أخ كريم يسكن تحت هذا الرجل الذي أصابته رصاصة وشلته ، بعد عشرين يوماً من حديث إلى حديث قال لي : والله لنا جار مغتصب بيت أولاد أخيه ، وما تركوا طريقاً ليستميلوه كي يرجع لهم البيت ولم يقبل ، حتى وسطوا أحد علماء دمشق ، توفي رحمه الله ، استدعاه وقال له : يا بني هذا البيت لأولاد أخيك وهم أيتام ، وهم في أمس الحاجة إليه ، رفض أن يعطيه إياهم بتعنت ، يقول لهم الشيخ : يا بني هذا عمكم لا تشتكوا عليه في القضاء ، اشكوه إلى الله ، هو نفسه في اليوم التالي نزل إلى محله التجاري في الساعة التاسعة تقريباً ، استمع إلى إطلاق رصاص ، مد رأسه ليرى فجاءت رصاصة طائشة شلته فوراً .
ألم يقل لهم اشكوه إلى الله عز وجل ، هذه القصة عرفنا بدايتها ونهايتها ، هذه عندما تُروَى تظهر عدل الله عز وجل .(1/341)
سمعت قصة من أخ رجوته أن يرويها لي لكن لم تأتِني بعد ، لكن يمكن أن أدلي لكم بمختصرها :
رجل على شيء من المال تبرع بمليون ليرة واشترى أرضاً ليقام عليها مسجد ودفع مليون ثاني ، له زوجة ، وله بنتان وثلاثة أولاد ، اتفقوا جميعاً على أن يقيموا عليه دعوى في القضاء على أنه سفيه ، ورتبوا شهادات كلها كاذبة ، زوجته ادعت أنه فقير وأنه لا يعطيها ، والابن ادعى والبنت ، فالقاضي صدق هؤلاء ، كلها شهادات متوافقة ، فأصدر قراراً باسترداد المبلغين ، القصة وقعت قريباً لا تصدق ، كل ما عدا الأب خلال أربعة أشهر كانوا تحت التراب بين حادث سيارة وبين مرض خبيث وعاد المال له .
أحياناً الله يبطش ، قال تعالى :
* إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ (12) *
( سورة البروج)
رجوته أن يأتيني بها بالتفصيل ، فإذا جاءتني أرويها لكم بشكل مفصل ، شيء لا يصدق ، شباب في مقتبل العمر له ابن طبيب والثاني مهندس والأم والبنات تآمروا جميعاً على اتهامه بالسفه ، والقاضي رأى الروايات كلها متقاربة فحكم باسترداد المبلغين ، والله سبحانه وتعالى دمرهم جميعاً .
* إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ (12) *
( سورة البروج)
على كل أنا أتمنى على كل أخ له دعوة إلى الله في قصص أحياناً تفعل فعل السحر ، اكتبها واروها بشكل دقيق .
والله جاءني اتصال هاتفي من ألمانيا قبل أيام إنسان قاتل استطاع بشكل عجيب أن ينجو من عقوبة القتل بألمانيا ، لا يوجد دليل ، لكن كل من حوله يعلمون أنه قتل زوجته ، انتقل إلى بيت جديد ، في البيت يوجد شجرة يبدو أنها تعيق حركة أهل البيت ، في البيت صحن مثل فتحة سماوية ، جاء بمنشار كهربائي ، داخل في الشجرة رصاصة من الحرب العالمية الثانية ، المنشار الكهربائي دفع الرصاصة بعنف إلى صدره ودخلت في قلبه فقتلته فوراً ، الرصاصة استقرت في هذه الشجرة منذ عام ألف وتسعمئة وأربعين ، كل من حوله يعلم أنه هو الذي قتل زوجته لكن لا يوجد دليل قوي ، ظنوا أنه موت طبيعي وهو ظن أنه نجا ، انتقل إلى بيت والبيت فيه شجرة فيها رصاصة مستقرة منذ الحرب العالمية الثانية :
* إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ (12) *
( سورة البروج)
الإنسان ينبغي أن يتعظ ، والله أيها الأخوة لو لم يكن هناك كتاب ولا سنة لكانت أفعال الله ، لو تتبعتها في هدوء وبتقصٍ وتأمل لوجدتها كتاباً وسنة .(1/342)
3ـ الأسلوب الثالث الوصايا :
الأسلوب الثالث الوصايا أن تقدم وصية ، يعني أنا أَلِفت أن أقرأ لكبار العلماء وصية لبناته أو وصية لأولاده ، فيمكن النداء الإقناعي والتحذيري ، والقصة ، والوصايا والتوجيهات التي يمكن أن تكون حقائق ثابتة من بعدك .
أيها الأخوة ، كلما ارتقى الإنسان ينبغي أن تأتي مع مواعظه أدلة مقنعة قطعية عقلية واقعية نقلية فطرية ، يوجد أدلة فطرية ، يوجد أدلة واقعية ، يوجد أدلة نقلية ، يوجد أدلة عقلية ، كلما أكثرت من الأدلة النقلية والعقلية والواقعية والفطرية كلما كانت موعظتك أقوى ، وكلما ابتعدت عن الخرافة والتهويل والتضخيم والمبالغة تكون الموعظة أقوى ، وكلما وافقت بين مخاطبة العقل ومخاطبة القلب كانت الموعظة أولى ، ينبغي أن تخاطب العقل تارةً والقلب تارةً أخرى لكن الله سبحانه وتعالى في آية واحدة خاطب القلب والعقل معاً بقوله :
* يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ (6) الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ (7) *
( سورة الانفطار)
ما غرك بربك الكريم خاطب قلبه ، الذي خلق فسواك فعدلك خاطب عقله ، الإنسان عقل يدرك ، وقلب يحب ، ولا يعقل أن تكتفي بمخاطبة عقله ، كما أنه لا يعقل أن تكتفي بمخاطبة قلبه ، لا بد من أن تجمع بين مخاطبة العقل ومخاطبة القلب ، إذاً من أساليب الموعظة أن تستخدم النداء الإقناعي أو النداء التحذيري ، وأن تستخدم القصة بكل فصولها ، وأن تكون واقعية ، ثم أن تستخدم أسلوب الوصية ، ومع كل هذه الأساليب ينبغي أن تعتمد الدليل والتعليل ، وكلما كان الدليل أقوى ومتنوعاً من نقلي إلى عقلي إلى فطري إلى واقعي كان التأثير أقوى ، وأن تعتمد التنوع بين مخاطبة القلب والعقل أو الجمع بينهما في نص واحد كما فعل القرآن الكريم .
================== ... ... ...(1/343)
36- وسائل تربية الأولاد ( 6 ) : التربية بالموعظة ( 2 ) .
أيها الأخوة الكرام ، لا زلنا في سلسلة تربية الأولاد في الإسلام ، ولا زلنا في القسم الثاني وهو الوسائل الفعالة في تربية الأولاد .
بدأنا هذه الوسائل بالقدوة ، ثم بالتلقين والتعويد ، ثم بالموعظة ، وكان الدرس الأول في الموعظة النداء الإقناعي ، والنداء التحذيري ، ونداء الأفراد ، ونداء الجماعات ، ونداء الرجال ، ونداء النساء ، ونداء الناس عامة ، ثم تحدثنا عن أسلوب القصة ، وكيف أن القصة من أفعل وسائل التربية ، ذلك أنها تعرض قضية الإنسان في ارتفاعه ، وانحطاطه ، وتماسك المجتمع في تألقه ، وتخلفه ، وتبين حقيقة النفس البشرية من خلال تفاعلها مع الأحداث ، وكيف أن القصة من أنجع الأساليب التربوية في إقناع الإنسان بشيء ما ، كما أنها من أخطر الوسائل التي يستخدمها أهل الكفر والإعراض ، ببث الرزيلة والانحراف والعقيدة السيئة بين الناس ، ذلك أن الإنسان أمام القصة تسقط خطوط دفاعه ، فأفكار القصة تتسلل إلى الإنسان من دون أن يشعر ، وقيم القصة تتسلل إلى القارئ من دون أن يشعر ، فإذا أردت أن تهدم مبدأ فدع مهاجمته مباشرةً واسلك سبيل قصة تعرض نماذج سيئةً جداً في أصحاب هذا المبدأ ، إذاً هي سلاح فعال ، وسلاح خطير ، وللقصة تأثير متعاكس ، ويكفي أن الله سبحانه وتعالى يقول :
* لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثاً يُفْتَرَى (111) *
( سورة يوسف )
يكفي أن الله سبحانه وتعالى بين أن سيد الخلق وحبيب الحق يزداد قلبه ثبوتاً بسماع قصة نبي دونه ، حيث يقول :
* وَكُلّاً نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ (120) *
( سورة هود)
أيها الأخوة الكرام لا زلنا في الأساليب التي بيَّنها الله سبحانه وتعالى في الموعظة الآن ننطلق إلى موضوع الدرس الجديد ، التوجيه القرآني المصحوب بأدوات التوكيد ، أنت حينما تؤكد إنك حريص شديداً على أن تقنع المستمع .
* إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (67) *
( سورة النحل)
وقال :
* إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (69) *
( سورة النحل)
ماذا تفيد (إن) ؟ تفيد التوكيد .(1/344)
* وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ (69) *
( سورة العنكبوت)
وقال :
* إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنْفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ (36) *
( سورة الأنفال)
(إن) تفيد التوكيد ، الله عز وجل غني عن أن يؤكد لنا ، القوي لا يحتاج إلى توكيد يبطش ، يسحق ، يدمر ، لكن الرحيم يقنع ويؤكد ، أنت حينما تحرص على ابنك حرصاً لا حدود له تقنعه بالفضيلة ، تقنعه بالحق وتؤكد له ذلك .
* إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ (52) *
( سورة الزمر)
أيها الأخوة الكرام قضية التوكيد أحد أساليب القرآن الكريم ، الآن الاستفهام الإنكاري .
* أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ (30) قُلْ تَرَبَّصُوا فَإِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُتَرَبِّصِينَ (31) أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلَامُهُمْ بِهَذَا أَمْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ (32) أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ بَلْ لَا يُؤْمِنُونَ (33) فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ (34) أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ (35) أَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بَل لَا يُوقِنُونَ (36) أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَبِّكَ أَمْ هُمُ الْمُسَيْطِرُونَ (37) أَمْ لَهُمْ سُلَّمٌ يَسْتَمِعُونَ فِيهِ فَلْيَأْتِ مُسْتَمِعُهُمْ بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ (38) أَمْ لَهُ الْبَنَاتُ وَلَكُمُ الْبَنُونَ (39) *
( سورة الطور)
أحد أساليب التأثير الاستفهام الإنكاري ، لو قلت لواحد محترم جداً هل سرقت هذه الساعة ، ماذا ينبغي أن يقول ؟ لا ، أيعقل أن أسرقها ! أتعتقد أني سرقتها ! أيليق بي أن آخذها ! من شدة التأثر لا تقبل أن تقول لا ، لا بد من أن تستخدم أسلوب الاستفهام الإنكاري ، لو قرأتم آيات القرآن الكريم لوجدتم كيف أن الله وهو خالق الإنسان يخاطب هذا الإنسان ، مرةً بنداء .
* يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا (8) *
( سورة التحريم)
وقال :
* يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ (21) *
( سورة البقرة)
وقال :
* يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ (6) *(1/345)
( سورة الانفطار)
مرةً عن طريق القصة ، ومرة عن طريق الوصية والموعظة ، ومرة عن طريق النداء ، وعن طريق التوكيد ، وعن طريق الاستفهام الإنكاري ، أنت قد لا تنتبه ، الذي يلقي المواعظ بشكل رهيب من دون تنوع ، من دون تطوير ، من دون أساليب بلاغية لا يؤثر .
* أَمْ تَسْأَلُهُمْ أَجْراً فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ (40) أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ (41) أَمْ يُرِيدُونَ كَيْداً فَالَّذِينَ كَفَرُوا هُمُ الْمَكِيدُونَ (42) أَمْ لَهُمْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ (43) *
( سورة الطور)
هذه أساليب القرآن الكريم في الموعظة ، أسلوب الاستفهام الإنكاري هناك أسلوب آخر أسلوب الإقناع ، بالدليل العقلي ، يقول الله عز وجل :
* إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآَيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ (190) الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (191) *
( سورة آل عمران)
أنت ينبغي أن تخاطب القلب تارةً ، وينبغي أن تخاطب العقل تارةً أخرى ، والأعظم من ذلك أن تخاطب القلب والعقل معاً ، فالله تعالى يخاطب القلب بقوله :
* يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ (6) *
( سورة الانفطار)
ويخاطب العقل بقوله :
* الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ (7) *
( سورة الانفطار)
أية دعوة أيها الأخوة تخاطب القلب وحده فهي دعوة عرجاء ، وأية دعوة تخاطب العقل وحدة فهي دعوة عرجاء ، لأن الإنسان عقل يدرك وقلب يحب ، ولن تستطيع أن تحدث فيه تأثيراً إلا إذا اتجهت إلى عقله تارةً وإلى قلبه تارةً أخرى ، والدعوة لا تنجح إلا أن تخاطب الإنسان بكل جوانبه ، الإنسان مادة ، الإنسان جسم ، ينبغي أن يأكل ، حينما تتجاهل حاجاته المادية لا يمشي معك إلى الله ، ينبغي ألا تتجاهل حاجاته المادية إلى الطعام ، إلى الشراب ، إلى الزواج ، إلى الكساء ، إلى المأوى ، لذلك حينما تبني الإنسان ينبغي أن تبنيه بناء متوازناً ، أن يسعى لإصلاح دنياه وأن يعمل لآخرته ، لماذا النبي عليه الصلاة والسلام لم يقبل إلا من واحد أن يأخذ ماله كله ، من الصديق رضي الله عنه ، لم يقبل من عمر ، لأن المال قوام الحياة ، فحينما لا تهتم بالمال إطلاقاً تصاب بأزمة قد لا تنجو منها ، فالنبي قال : "لكن عافيتك أوسع لي ".(1/346)
* لَوْ كَانَ فِيهِمَا آَلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا (22) *
( سورة الأنبياء)
الآن يخاطب عقلنا بالدليل .
* لَوْ كَانَ فِيهِمَا آَلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ (22) *
( سورة الأنبياء)
وقال :
* وَفِي الْأَرْضِ آَيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ (20) وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ (21) *
( سورة الذاريات)
هل فكرتم مرةً أن المحاصيل تنضج في يوم واحد ، لو أن المحاصيل تنضج كالفواكه على ثلاثة أشهر ماذا يحدث ؟ عندك خمسين دونم قمح ، يجب أن تتجه إلى سنبلةٍ سنبلة تجثها إن نضجت تقطعها ، إن لم تنضج تتركها هذا شيء مستحيل ، رأيت إلى رحمة الله ، المحاصيل القمح الشعير الحمص العدس ينضج في وقت واحد ، ويحصد مرة واحدة ، أما البطيخ ، حقل البطيخ يستمر إنتاجه تسعين يوماً طول الصيف ، هذا البطيخ لو دخلت إلى حقل بطيخ لوجدت كل الثمار في لون واحد ، أين التي تقطعها ؟ يعني حسب الطريقة التقليدية يجب أن تنبطح إلى جانبها وأن تحملها ، هذا مستحيل ، جعل الله لك علامة للبطيخ ، حلزون بعد مأخذها بخمسة سنتيمتر يمسكه الفلاح ويضغطه فإذا انكسر البطيخة ناضجة إذا لم ينكسر فالبطيخة لم تنضج بعد ، الله قال :
* وَعَلَامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ (16) *
( سورة النحل)
الفواكه كالتفاح الدراق الإجاص الكرز التوت ينضج تباعاً خلال شهر أو شهرين ، شيء آخر هذه الفواكه مبرمجة تبدأ بالكرز ، بعده اللوز ، بعده الإجاص ، بعده الدراق ، بعده التفاح ، بعده العنب ، على مدار الصيف الفواكه مبرمجة ونضجها مبرمج ، تدخل إلى حقل بندورة ، أو ليس حقلاً ، تدخل إلى بيت محمي تجد آلاف الثمرات الخضراء ، أما الحمراء كأنها تقول لك أنا نضجت تعال خذني ، فكل صاحب بيت محمي يملأ تقريباً صندوقين باليوم من هذا الحقل بسهولة ، هي لونها حمراء تناديك أنني جاهزة للقطاف ، والباقي أخضر .
الله تعالى قال :
* وَفِي الْأَرْضِ آَيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ (20) *
( سورة الذاريات)
تذهب إلى فنلندا الحرارة سبعين تحت الصفر ، ترتدي قفازات ، ترتدي جوارب صوف ، ترتدي أجهزة داخلية صوفية ، ترتدي معطفاً ثقيلاً ، ترتدي قطعة قماش صوفية ، ترتدي قبعة صوفية ، ماذا(1/347)
تفعل بعينيك ؟ إنهم على تماس مع سبعين تحت الصفر ، وفي العين ماء لا بد من أن يتجمد هذا الماء فيفقد الإنسان البصر ، من وضع في ماء العين مادة مضادة للتجمد ؟ من ؟ الله جل جلاله ، لكن الشيء بالشيء يذكر سمعت قصة لها دلالة كبيرة جداً ، قال : رياضي من أبطال كرة القدم يجول بلاد العالم ويشترك في مباريات دولية ، لكن هذا الرياضي لا يمكن أن ينام صيفاً أو شتاءً أو ربيعاً أو خريفاً إلا في غرفة مفتوحة النوافذ ، لا يستطيع ، لا يمكن أن تغمض له عين في غرفة مغلقة نوافذها ، في مباراة في فنلندا ودرجة الحرارة 69 تحت الصفر ، والفنادق هناك نوافذها لا تفتح يسمونها نوافذ بلور ، فجاء هذا اللاعب لا يمكن أن ينام ، الفندق ليس عنده حل ، برد شديد ، ففكر أنه لا بد من أن أكسر هذا الزجاج حتى أنام ، وفي الصباح أدفع ثمن البلور ، ليس عنده حل ثاني ، فجاء بحذائه وضرب به النافذة فانكسر البلور ، ونام نوماً عميقاً كعادته ، فلما استيقظ وجد أن النافذة فيها لوحان من البلور ، فكسر واحداً منهما ، معنى ذلك أن الوهم أحياناً يفعل فعله بالإنسان ، هو لما كسر البلور توهم أن النافذة مفتوحة فنام ، أما عملياً كسر القسم الأول ، القسم الثاني لم يكسر ، إذاً الجو ما تغير ، ومعظم ما نعيش به متعلق بالوهم .
إذاً التوجيه القرآني المصحوب بالإقناع بالأدلة :
* وَفِي الْأَرْضِ آَيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ (20) *
( سورة الذاريات)
الإنسان عاقل ، والإنسان كائن مفكر ، تتجاهل العقل ؟ لا ، هناك توجيه قرآني في الموعظة أساسه شمولية الإسلام .
* لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آَمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآَتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآَتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ (177) *
( سورة البقرة)
يعني الإسلام شامل ، التقى بي إنسان قبل يومين أو ثلاثة ، قال لي : أنا من الجهة الفلانية هل أنا مخطئ في أنني ولدت في هذا المكان ؟ قلت له : لا ، الانتماء التاريخي لا قيمة له عند الله إطلاقاً ، القضية وما فيها أن الله خلقنا وهذا الكون يدل عليه ، ويشير إليه ، هذا الكون يؤكد أن له خالقاً مربياً مسيراً ، إلهاً موجوداً وواحداً وكاملاً ، هذا الكون يدعوك أن تؤمن أن لهذا الكون إلهاً ، أما كتاب الله يدعوك إلى أن تعرف إرادة الله ، ماذا يريد منك ؟ المنهج في القرآن ، والدليل في الكون ، تؤمن بالله عن طريق خلقه وتعبده عن طريق قرآنه ، فأي إنسان تعرف على الله واستقام على أمره(1/348)
يبلغ أعلى مرتبة عنده ، بصرف النظر عن انتمائه التاريخي أو عن مكان ولادته ، هذه كلها جاهلية ، عنعنات جاهلية .
الآن هناك توجيه قرآني تصاحبه قواعد التشريع ، في توجيه قرآني تصاحبه أدلة عقلية ، في توجيه قرآني تصاحبه عموميات الإسلام ، عالمية الإسلام ، في توجيه قرآني تصاحبه أحكام شرعية ، يقول الله عز وجل :
* وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعاً بَصِيراً (58) *
( سورة النساء)
وقال :
* فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ (159) *
( سورة آل عمران)
في خطاب قرآني يشعرنا بالمساواة :
* فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ (159) *
( سورة الحجرات )
أيها الأخوة الكرام إذاً القرآن فيه تنويع ، فيه نداء والنداء فيه مودة * يا بني * ، * يا أيها الذين أمنوا * ، * يا أيها الناس اعبدوا ربكم * في نداء ، القرآن فيه وصايا :
* وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ (13) *
( سورة لقمان)
القرآن فيه توجيه معين ، القرآن فيه استفهام إنكاري ، فيه توكيد ، فيه بيان تشريعي ، فيه بيان شمولية ، أساليب القرآن متعددة ، والذي يوفق في توجيه الناس ينبغي أن يستخدم هذه الأساليب ، أما توجيه النبي عليه الصلاة والسلام قال :
(( الدِّينُ النَّصِيحَةُ )) .
[ مسلم عن تميم الداري ]
ورد في صحيح مسلم عن تميم بن أوس الداري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :
((الدِّينُ النَّصِيحَةُ ، قُلْنَا : لِمَنْ ؟ قَالَ : لِلَّهِ وَلِكِتَابِهِ وَلِرَسُولِهِ وَلِأَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ وَعَامَّتِهِمْ .))
[ مسلم عن تميم الداري ](1/349)
أيعقل أن يعرف الدين بكلمة واحدة ، الدين النصيحة ، إن لم تنصح فلست ديناً ، الشاردون عن الله ينصح لمصلحتهم ، يعني قصة أرويها دائماً للطرفة أردت أن أشتري ستارة لغرفة في البيت ، دخلت إلى أحد المحلات وقد دُللت عليه ، قلت له : أريد ستارة من أجل غرفة الضيوف ، قال لي : لا تكون الستارة رائعة إلا أن يكون عرضها ضعف عرض الغرفة مع زيادة متر ، كلام مقنع ، حتى تأتي جميلة متداخلة ، حتى تشعر بالجمال يجب أن يكون عرض الستارة ضعف عرض الغرفة زائد متر ، أعجبني ثوب على الرف قلت : أريد من هذا الثوب ، فقاسه فإذا هو أقل من الضعف بمتر ، الغرفة ثلاثة أمتار ، والثوب الذي اخترته خمسة أمتار ، قال لي هذا المطرز على الفرد يأتي أجمل ، رأساً فبرك قاعدة جديدة ، الإنسان ينطق عن الهوى دائماً مصلحته ، ينبغي أن يبيع هذا الثوب ، بعد ما عمل محاضرة ماذا ينبغي أن تكون عليه الستارة ، ضعف عرض الغرفة زائد متر فالثوب الذي اخترته أقل من الضعف بمتر ، ففي قاعدة جديدة فبركها فوراً ، قال لي هذا المطرز على الفرد يأتي أجمل .
إذاً : الدين النصيحة ، اسأل إنساناً يبيع أقمشة أو ألبسة ، قل له : أنت اختر لي اللون المناسب ، يختار لك اللون الكاسد عنده ، إذاً ليس النصيحة ، على هذا المستوى ليس النصيحة ، الدين النصيحة ، إن لم تنصح المسلمين فلست مؤمناً ، الدين النصيحة لله ، يعني انصح الناس أن يتبعوا منهج الله ، ولكتابه ، وانصح الناس أن يطبقوا القرآن ، ولرسوله ، وانصح الناس أن يتبعوا سنة النبي العدنان ، ولأئمة المسلمين ، انصح أئمة المسلمين ، ليس الشرط أن تنصحهم بغلظة ، قال أحدهم لأحد الأمراء : سأعظك بغلظة ، قال له : ولمَ الغلظة يا أخي ؟ لقد أرسل الله من هو خير منك إلى من هو شر مني ، أرسل موسى إلى فرعون ، لا أنت موسى ولا أنا فرعون ، فقال له :
* فَقُولَا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى(44) *
( سورة طه )
ولمَ الغلظة ؟ من قال لك أن النصيحة ينبغي أن تكون قاسية ، من قال لك أن النصيحة ينبغي أن تكون فيها غلظة ، سيد الخلق وحبيب الحق رسول الله صلى الله عليه وسلم كان أكمل الخلق قاطبة ، وأرحمهم ، وأكرمهم ، وأحلمهم ، وأعدلهم ، وأنصفهم ، وأجملهم ، وأفصحهم ، خلقت مبرأ من كل عيب كأنك قد خلقت كما تشاء ، ويوحى إليه وهو سيد الخلق ، وسيد ولد آدم ، وأوتي القرآن ، وبلغ سدرة المنتهى ، وأقسم الله بعمره ، ولم يخاطبه باسمه إطلاقاً ، لا يوجد يا محمد بالقرآن ، يوجد يا موسى ، يا عيسى ، يا زكريا ، لا يوجد يا محمد ، تجد يا أيها النبي ، يا أيها الرسول ، ومع كل هذه الميزات قال له :
* وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ (159) *
( سورة آل عمران)(1/350)
إن كان شخص لا هو نبي ولا رسول ، ولا يوحى إليه ، ولم يؤت قرآناً ، ولم يؤت معجزة ، ولم يؤت فصاحةً ، ولا كمالاً ، ولا جمالاً ، وغليظ ، ما هذه ؟
(( من أمر بمعروف فليكن أمره بمعروف .))
[الديلمي عن ابن عمرو]
((عليك بالرفق إن الرفق لا يكون في شي إلا زانه ولا يُنْزَع من شي إلا شانه.))
[رواه مسلم عن عائشة رضي الله عنها]
إنسان دخل بستان أنصاري ليأكل ، هذا الأنصاري ألقى عليه القبض وقيده وساقه إلى النبي وقد أحرز إنجازاً كبيراً ، ألقى القبض عليه وساقه إلى النبي ، هذا دخل بستاني من دون إذن ، وأكل من فاكهة بستاني فهو سارق ، قال له النبي :
(( ما علمته إذ كان جاهلاً ولا أطعمته إذا كان ساغباً ـ أي جائعاً ـ .))
[أبو داود والنسائي وابن ماجة عن عباد بن شرحبيل]
والله هذه القصة تفعل فعل السحر في نفسي ، علمنا النبي أن نعالج القضية من أسبابها لا من نتائجها ، وقف عمر بن الخطاب رضي الله عنه يودع أحد نوابه على بعض أقاليم الدولة فقال له : "ماذا تفعل إذا جاءك الناس بسارق أو ناهب ؟ قال : أقطع يده ـ هذا هو الشرع ـ قال إذاً : إن جاءني من رعيتك من هو جائع أو عاطل فسأقطع يدك ، إن الله قد استخلفنا عن خلقه لنسد جوعتهم ونستر عورتهم ، ونوفر لهم حرفتهم ، فإن وفينا لهم ذلك تقاضيناهم شكرها ، إن هذه الأيدي خلقت لتعمل فإذا لم تجد في الطاعة عملاً التمست في المعصية أعمالاً ، اشغلها بالطاعة قبل أن تشغلك بالمعصية ".
ما أروع هذا الكلام ، النبي يعالج المشكلة من أسبابها لا من نتائجها ، يقول لك أبٌ ابني يسرق مني ، طبعاً هذا عمل سيئ جداً ، لكن يجب أن يفكر الأب لماذا ! لعلي مقصر في تأمين حاجاته ، أنا لا أقول لك يُسمح للابن أن يأخذ من أبيه من دون علمه ، مستحيل ، لكن دائماً فكر بأسباب المشكلة ولا تفكر بمعالجتها من نتائجها ، قال عليه الصلاة والسلام :
((الدِّينُ النَّصِيحَةُ ، قُلْنَا : لِمَنْ ؟ قَالَ : لِلَّهِ وَلِكِتَابِهِ وَلِرَسُولِهِ وَلِأَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ وَعَامَّتِهِمْ .))
[ مسلم عن تميم الداري ]
روى الشيخان قال :
(( بايعت رسول صلى الله عليه وسلم على إقامة الصلاة ، وإيتاء الزكاة والنصح لكل مسلم )) .
[ متفق عليه عن الجليل بن عبد الله رضي الله عنه ]
ثم إن النبي عليه الصلاة والسلام يقول :
(( من دل على خير فله مثل أجر فاعله )) .
[مسلم عن أبي مسعود الأنصاري](1/351)
والله شيء جميل ، الذي فعله ينال أجراً ، والذي دله على الخير ينال مثل أجره ، يعني إن لم تملك مالاً لكن دللت غنياً على مساعدة فقير فلك مثل أجر الغني ، إن لم تملك علماً فدللت طالب علم على عالم مخلص ورع فلك أجر مثل هذا الطالب ، إن لم تكن طبيباً ودللت مريضاً على طبيبٍ مؤمن لك مثل أجر الطبيب ، حديث آخر :
(( من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه لا ينقص ذلك من أجورهم شيئاً )) .
[ مسلم عن أبي هريرة]
أيها الأخوة ، هذا كله من توجيهات النبي عليه الصلاة والسلام .
الآن نأتي على بعض الأمثلة لهذه القواعد في الموعظة ، القصص في القرآن كثيرة جداً ، وأطول قصة في القرآن هي قصة يوسف عليه السلام ، ومن براعة القصة أو من إحكامها أن الله ذكر مغزاها صراحة ذكر فقال :
* وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ(21) *
( سورة يوسف )
الآن في أسلوب اتبعه النبي عليه الصلاة والسلام في الموعظة أسلوب الحوار ، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول :
(( أتدرون من المسلم قالوا : الله ورسوله أعلم ، قال المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده، ثم قال : أتدرون من المؤمن ، قالوا الله ورسوله أعلم قال : المؤمن من أمنه المؤمنون على أنفسهم وأموالهم ، أتدرون من المهاجر ؟ قالوا : الله ورسوله أعلم ، قال المهاجر من هجر السوء فاجتنبه )) .
[أحمد عن عبد الله بن عمرو بن العاص]
سؤال وجواب ، ببعض الجلسات الخاصة الحوار ممتع ، الحوار يجذب القلوب ، إياك أن تكون المتكلم الوحيد ، الكلام مناوبة لا مناهبة فإذا كنت في مجلس ، في سهرة ، في ندوة ، في لقاء ، في وليمة ، في مناسبة ، اجعل الكلام حوراً بين الحاضرين ، الحوار يجمع القلوب ، أما التفرد بإلقاء الكلمة يدفع إلى السقم .
يقول عليه الصلاة والسلام من أساليب الحوار :
(( أرأيتم لو أن نهراً بباب أحدكم يغتسل فيه كل يوم خمس مرات ، هل يبقى من درنه شيء ؟ قالوا : لا . قال : فكذلك مثل الصلوات الخمس ، يمحو الله بهن الخطايا )) .
[البخاري عن أبي هريرة]
حوار آخر :
(( أتَدْرُونَ ما المُفْلِسُ ؟ قالوا : المفْلسُ فينا من لا درهم له ولا متاع . قال : إن المفْلسَ مَنْ يأتي يوم القيامة بصلاة وصيام وزكاة ، ويأتي قد شَتَمَ هذا ، وقذفَ هذا وأكل مال هذا ، وسفك دم هذا ،(1/352)
وضرب هذا ، فيُعطَى هذا من حسناته ، وهذا من حسناته ، فإن فَنيَتْ حَسَناتُهُ قبل أن يُقْضى ما عليه ، أُخِذَ من خطاياهم فطُرِحَتْ عليه ، ثم يُطْرَحُ في النار )) .
[ مسلم والترمذي عن أبي هريرة ]
الآن في موعظة بالقسم أحياناً يكون في مشكلة كبيرة يقول : والذي نفس محمد بيده ، والله الذي لا إله إلا هو ، القسم فيه تعظيم للموضوع .
(( والذي نفسي بيده ، لا تَدْخُلُوا الجَنَّةَ حتَّى تُؤْمِنُوا ، وَلا تُؤْمِنُوا حتَّى تحابُّوا ، أوْلا أدُلُّكُمْ على شَيْءٍ إِذَا فَعَلْتُمُوهُ تَحابَبْتُمْ؟ أفْشُوا السَّلامَ بَيْنَكُمْ )) .
[مسلم عن أبي هريرة ]
(( والله لا يؤمن ، والله لا يؤمن ، والله لا يؤمن ! ـ قسم وتكرار ـ قيل : من يا رَسُول اللَّهِ؟ قال: الذي لا يأمن جاره بوائقه ؛ أي شروره )) .
[متفق عليه عن أبي هريرة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ]
أحياناً كان عليه الصلاة والسلام يستخدم الدعابة في موعظته يعني :
(( روِّحوا القلوبَ ساعة ، فإنّها إذا أُكرِهت عمِيت )) .
[الخطيب والسمعاني عن علي]
المؤمن ظله خفيف ، عنده روح دعابة ، حديثه لبق ومحبب ، يحبه الناس ويحبون استماع حديثه ، لا تكن ثقيلاً ، إن وعظت فاقتصد في الموعظة ، يقال اجلس إلى الطعام وأنت تشتهيه ، وقم عنه وأنت تشتهيه ، وأنا أقول للدعاة ابدؤوا بالموعظة والناس يشتهون موعظتكم وقفوا والناس يشتهون أن تتابعوا ، إذاً كان عليه الصلاة والسلام يستخدم الدعابة أحياناً .
(( إن رجلاً جاء إلى رسول الله صلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يستحمله بعيراً من الصدقة ليحمل عليه متاع بيته ، فقال عليه الصلاة والسلام : إني حاملك على ولد الناقة ، فقال الرجل : يا رسول الله ماذا أصنع بولد الناقة ، فقال عليه الصلاة والسلام : وهل تلد الإبل إلا النوق ؟))
[ أبو داود والترمذي عن أنس رضي الله ]
مهما كان الجمل كبيراً هو ولد الناقة ، يعني أفهمه النبي الكريم عن طريق هذه المداعبة أن الجمل مهما كان كبيراً هو في الأصل ولد الناقة ، يعني في حديث والله أنا ما قرأته على أخوتي في أحد الخطب مخافة ألا يصدقوه مع أنه في الصحاح ، سيدنا ابن مسعود دخل على رسول الله في المسجد فرآه يصلي فاقتدى به ، طبعاً يصلي النبي وحده ، افتتح بالبقرة ، يقول أنه مئة آية ويركع بعدها ، وكمل إلى أن انتهت البقرة ، قال الآن يركع بدأ بآل عمران ، إلى أن انتهت آل عمران ، الآن يركع ، بدأ بالنساء إلى أن انتهت النساء ثم ركع ، فبقي بالركوع بقدر ما قرأ في القيام ، ثم في السجود حتى انسحب قبل أن يسلم ما تحمل ، هذا إذا صلى وحده كان هكذا ، أما إذا صلى بأصحابه :(1/353)
(( كان أخف الناس صلاةً في تمام .))
[مسلم عن أنس رضي الله عنه]
كنت أصلي مع النبي صلى الله عليه وسلم فكانت صلاته قصداً ، وحده صل ما شئت ، في أعلى درجات السعادة ، في قمة السرور ، أما مع الناس فيهم الضعيف ، فيهم المريض ، فيهم الصغير ، فيهم المرأة ، فيهم الشيخ الكبير كان إذا صلى بالناس كان أخف الناس صلاةً في تمام ، أما إذا صلى وحده البقرة وآل عمران والنساء ويركع ويسجد بمقدار ما وقف وركع .
(( كان رسولُ الله صلى الله عليه وسلم يتخوَّلنا بالموعظة مخافةَ السآمة علينا .))
[الترمذي والبخاري عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه]
كان إذا جلس مع أصحابه تحدث بحديثهم ، تجد أحياناً شخص يُظهر هيمنة وهيبة لا يتكلم إلا بالدين ، قالوا : والله في موجة فيضانات ، قال : هذا شيء لا يعنيني ، في ارتفاع حرارة مفاجئ ، في أسعار مرتفعة ، كان عليه الصلاة والسلام يتحدث عن هموم الناس ، إذا أنت كنت داعية موفقاً وهناك مشكلة تقض مضاجع الناس ينبغي أن تستمع إليهم ، وأن تدلي بدلوك في هذا الموضوع ، كان عليه الصلاة والسلام يتخولنا بالموعظة مخافة السآمة ، وكان إذا وعظ عليه الصلاة والسلام مهيمناً في موعظته ، طبعاً لصدقه وإخلاصه وغزارة أفكاره وتركيز أفكاره .
قال وعظنا النبي عليه الصلاة والسلام موعظة احترقت منها الجلود ، وذرفت منها العيون ، ووجلت منها القلوب ، فقلنا هذه موعظة مودع يا رسول الله فماذا تعهد إلينا ، قال :
((أوصيكم بتقوى الله والسمع والطاعة وإن تأمر عليكم عبد ، وإنه من يعش منكم بعدي فسيرى اختلافاً كثيراً فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين عضوا عليها بالنواجذ وإياكم ومحدثات الأمور فإن كل بدعة ضلالة))
[أحمد والترمذي وأبو داود من حديث العرباض بن سارية رضي الله عنه]
(( إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ هذه الآية ذات يوم على المنبر :
* وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (67) *
( سورة الزمر )
(( ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول هكذا بيده يحركها يقبل بها ويدبر ، يمجد الرب نفسه ، أنا الجبار ، أنا المتكبر ، أنا الملك ، أنا العزيز ،أنا الكريم ، فرجف برسول الله صلى الله عليه وسلم المنبر حتى قلنا إنه ساقط به وهو رسول الله صلى الله عليه وسلم )).
[أحمد ومسلم عن ابن عمر رضي الله عنهما]
من صدقه وانفعاله وحرصه وإخلاصه كان إذا تكلم ملك زمام الحاضرين .(1/354)
قال عمر بن ذر لأبيه : يا أبتِ مالك إذا تكلمت أبكيت الناس ، وإذا تكلم غيرك لم يبكهم ، فقال : يا بني ليست النائحة الثكلى مثل النائحة المستأجرة .
كلام دقيق ، أحياناً تكون نائحة مستأجَرة ، الآن امرأة فقدت زوجها ، وتحبه حباً جماً ، تَبكي بكاءً يُبكي كل من حضر ، أما إذا امرأة ليس لها علاقة بالموضوع إطلاقاً لكن يجب أن تتباكى أمامها ذوقاً ، أو مستأجرة ، فبكاء هذه غير بكاء هذه .
قال له : يا بني ليست النائحة الثكلى مثل النائحة المستأجرة .
(( مَنْ تَعَلّمَ صَرْفَ الْكَلاَمِ لِيَسِبِيَ بِهِ قُلَوبَ الرّجَالِ أو النّاسِ لَمْ يَقْبَلِ الله مِنْهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ صَرْفاً وَلا عَدْلاً )).
[أبو داود عن أي هريرة ]
إذا الهدف أن تنتزع إعجاب الحاضرين أنت لست بمؤمن ولا داعية إذا كان هذا هو الهدف ، الموعظة بضرب المثل :
(( مَثَلُ المُؤْمِنِ الّذِي يَقْرَأُ الْقُرْآنَ مَثَلُ الأتْرَجّةِ رِيحُهَا طَيّبٌ وَطَعْمُهَا طَيّبٌ ، وَمَثَلُ المُؤْمِنِ الّذِي لا يَقْرَأُ الْقُرْآنَ مَثَلُ التّمْرَةِ طَعْمُهَا طَيّبٌ وَلا رِيحَ لَهَا ، وَمَثَلُ الْفَاجِرِ الّذِي يَقْرَأُ القُرْآنَ كَمَثَلِ الرّيْحَانَةِ رِبْحُهَا طَيّبٌ وَطَعْمُهَا مُرّ ، وَمَثَلُ الْفَاجِرِ الّذِي لا يَقْرَأُ القُرْآنَ كَمَثَلِ الْحَنْظَلةِ طعْمُهَا مُرّ وَلا رِيحَ لَها ، وَمَثَلُ جَلِيسِ الصّالِحِ كَمَثَلِ صَاحِبِ المِسْكِ أَنْ لَمْ يُصِبْكَ مِنْهُ شَيْء أَصَابَكَ مِنْ رِيحِهِ ، وَمَثَلُ جَلِيسِ السّوءِ كَمَثَلِ صَاحِب الكِبرِ إِنْ لَمْ يُصِبُكَ مِنْ سَوَادِهِ أَصَابَكَ مِنْ دُخَانِهِ )).
[أبو داود عن أنس رضي الله عنه ]
الموعظة بالمثل ، الموعظة بتحريك اليد ، أحياناً الحديث الناجح في معه حركات يد ، وحركات رائعة فيها تمثيل رائع .
(( كافل اليتيم له أو لغيره ، أنا وهو كهاتين في الجنة )).
[مسلم عن أبي هريرة ]
هناك أحاديث كثيرة فيها إشارة :
(( يا رسول الله حدثني بأمر أعتصم به ، قال : قل ربي الله ثم استقم ، قال : يا رسول الله ما أخوف ما تخاف عليّ ؟ فأخذ عليه الصلاة والسلام بلسان نفسه وقال هذا )).
[الترمذي عن سفيان بن عبد الله البجلي رضي الله عنه]
(( إن الرجل ليتكلم بالكلمة من سخط الله لا يرى بها بأسا فيهوي بها في نار جهنم سبعين خريفاً )).
[(الترمذي وابن ماجه والحاكم عن أبى هريرة](1/355)
هناك موعظة بالرسم ، رسم النبي مستطيلاً وقال : هذا أجل الإنسان ورسم خطاً خارجاً عنه وقال : هذا أمله ، ورسم خطوطاً عرضية قال : هذه حوادث الدهر ، حوادث الدنيا ، في موعظة بالفعل التطبيقي .
(( جاء رجل إلى النبي عليه الصلاة والسلام قال : يا رسول الله كيف الطهور ؟ ـ الوضوء ـ فدعا النبي بماء في إناء فغسل كفيه ثلاثاً حتى استوفى ثم قال : فمن زاد على هذا أو نقص فقد تعدى وظلم .))
[أبو داود من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده]
ومرة توضأ أمام أصحابه ، قال :
((من توضأ مثل وضوئي هذا ثم قام فصلى ركعتين لا يحدث فيهما نفسه بشيء غفر له ما تقدم من ذنبه.))
[عبد الرزاق ، والنسائي عن عثمان]
الآن الموعظة بانتهاز المناسبة : مرّ النبي بشاة ميتة فقال لأصحابه :
(( أترون هذه هينة على صاحبها ؟ فو الذي نفسي بيده للدنيا أهون على الله من هذه على صاحبها .))
[ابن ماجة عن سهل بن سعد]
ما لها قيمة إطلاقاً ، مرةً رأى امرأةً تقبل ابنها وهي تخبز على التنور ، قال :
(( أترون هذه طارحةً ولدها في النار لَلَّهُ أرحمُ من عباده من هذه بولدها .))
[البخاري ومسلم عن عمر]
هذه موعظة مع المناسبة ، في موعظة مع الالتفات للأهم .
(( رجلاً سأل النبي صلى الله عليه وسلم متى الساعة يا رسول الله ؟ ـ هذا اسمه أن ترد الإحراج بإحراج مثله ـ قال : وماذا أعددت لها ؟ .))
[البخاري عن أنس]
يروى أن أبا حنيفة النعمان رحمه الله تعالى دخل على المنصور وكان عنده قاضٍ من أعدائه ، فالقاضي انتهزها مناسبةً كي يوقع بين المنصور وبين أبي حنيفة ، قال : يا إمام جئتنا ، إذا أمرني الخليفة بقتل امرئ أأقتله أم أتريث ـ الخليفة جالس ، إن قال له : لا ترد على الخليفة ، يقطع رأسه ، وإن قال له : اقتله ، سقط من عين الله ـ قال له : الخليفة على الحق أم على الباطل ؟ قال له : على الحق ، قال له : كن مع الحق ، فلما خرج قال : أراد أن يقيدني فربطته ، هذا أسلوب ، قال له : متى الساعة ، أثناء الخطبة ، قال له : وماذا أعددت لها ؟ هذا أسلوب .
هناك موعظة بأن تظهر الشيء المحرم :(1/356)
(( أَخَذَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم ذَهَبًا بِيَمِينِهِ وَحَرِيرًا بِشِمَالِهِ ، فَقَالَ : هَذَانِ حَرَامٌ عَلَى ذُكُورِ أُمَّتِي حِلٌ لإِنَاثِهَا.))
[مسند البزار عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه]
هذه بعض أساليب النبي عليه الصلاة والسلام في الموعظة ، منوعة جداً ، إن أردت أن تعظ ، وأن تؤثر ، وأن تشكل موقفاً ، وأن تحمل على فعل ، وأن تبعد عن فعل ، فاستخدم الأساليب التي اتبعها النبي عليه الصلاة والسلام ، أنا أسميها أيها الأخوة سنة النبي الدعوية ، النبي له سنة افعل ولا تفعل ، له سنة في الدعوة إلى الله هكذا كان يفعل ، وما من داعية ، وما من أب ، وما من معلم يقلد النبي في سنته الدعوية إلا ينجح ويتألق ، وما من داعية ، أو معلم ، أو أب يخالف منهج النبي بالدعوة إلى الله إلا ويثير حوله جدلاً كبيراً .
=================== ... ...(1/357)
37- وسائل تربية الأولاد ( 7 ) : التربية بالملاحظة ( 1 ) .
أيها الأخوة الكرام ، لازلنا في تربية الأولاد في الإسلام ، ولا زلنا في السلسلة الثانية ، وفي الوسائل الفعالة في تحقيق أهداف التربية .
تحدثنا في دروس سابقة عن التربية بالقدوة ، وعن التربية بالتلقين والعادة ، وعن التربية بالموعظة ، وها نحن ننتقل إلى التربية بالملاحظة ، قد لا أبالغ إذا قلت إن الملاحظة من أخطر وسائل التربية ، فالأب الغافل عن حالة ابنه ، عما يقرأ ابنه ، عمن يصاحب ابنه ، عن ذهاب ابنه وإيابه ، الغافل عن أحوال ابنه قد تنتهي به الأمور إلى ضياع الولد ، والذي يضبط هذا الموضوع أن الله سبحانه وتعالى يقول :
* يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ (6) *
(سورة التحريم )
بالمناسبة أولاد الإنسان هم قدره ، شاء أم أبى ، رضي أم لم يرضَ ، أعجبه أم لم يعجبه ، هم قدره ، فإما أن يسعد بهم وإما أن يشقى بهم ، أشياء كثيرة في حياة الإنسان يتخلى عنها ، يلغيها من حياته ، أتعبته فألغاها ، أزعجته فألغى وجودها ، وابنك يبقى ابنك ، ماذا تعمل ؟ فإما أن تربيه فتسعد به ، وإما أن تهمله فيكون سبب شقاء والديه ، وهذه الآية تنطلق من هذا المعنى :
* يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ (6) *
(سورة التحريم )
الآن سيدنا علي بن أبي طالب ماذا فهم من هذه الآية ؟ قال :
* آَمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً (6) *
أي أدبوهم وعلموهم .
قال سيدنا عمر رضي الله عنه : " أي تَنْهَونهم عما نهاكم الله عنه ، وتأمرونهم بما أمركم الله به ، فيكون بذلك وقاية بينهم وبين النار ."
أتيتكم بفهم سيدنا علي وفهم سيدنا عمر ، أي أن تربيهم وفق منهج الله ، الآن حينما يقول الله عز وجل :
* وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا (132) *
(سورة طه)
معنى ذلك أنه قد يُفهم أن هناك تقصيراً في أداء الصلوات ، وأن سيدنا عمر حينما طعن قبل أن يتوفاه الله عز وجل من قبل هذا العدو (ابن ملجم) وغاب عن الوعي ، ثم صحا ، قال رضي الله عنه : هل صلى المسلمون الفجر ؟ ما الذي أقلقه ؟ صلاة المسلمين !! وأنا دائماً أتساءل قد يأتي الأب إلى البيت(1/358)
مساءً يسأل زوجته : هل تناول الأولاد طعام العشاء ؟ تقول له : نعم . هل كتبوا وظائفهم ؟ تقول له : نعم . أكلوا وأدوا واجباتهم المدرسية ، كم أباً من مئة أب يسأل زوجته : هل صلى الأولاد العشاء قبل أن يناموا ؟ هنا المشكلة !!
قال تعالى :
* وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا (132) *
(سورة طه)
لم يقل واصطبر عليهم ، أي واصطبر حتى تكون صلاتهم مقبولة عند الله ، واصطبر على الصلاة حتى تصبح صلاة حقيقية ، واصطبر على الصلاة حتى تؤدى كما أمر الله ، واصطبر على الصلاة حتى تكون أداة اتصال بينهم وبين الله :
* وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا (132) *
(سورة طه)
يوجد بالآية ملمح قد يغفل عنه معظم الناس :
* وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لَا نَسْأَلُكَ رِزْقاً نَحْنُ نَرْزُقُكَ (132) *
(سورة طه)
أي بيت يصلي فيه أفراد الأسرة هذا بيت مرزوق ، البيت إما أن يكون قبراً ، وإما أن يكون مسجداً ، إما أن يذكر الله فيه ، وإما أنه سيذكر الشيطان فيه ، بيت فيه أدوات اللهو ، فيه مسلسلات ، وتمثيليات ، وفضائيات وما إلى ذلك ، وليس فيه ذكر لله ، احرص على أن يكون بيتك بيتاً تؤدى فيه العبادات ، هذا الكلام أتمناه لكل واحد منكم ، وأتمناه لنفسي ، من حين لآخر ما الذي يمنع أن تؤدى الصلاة جماعة في البيت ؟ أن يستيقظ أهل البيت جميعاً ليؤدوا الصلاة ، هذا هو الكمال ، فكلما أديت الصلاة في البيت كان هذا البيت أقرب إلى الله ، وكان هذا البيت مشمولاً برعاية الله ، محفوفاً بعناية الله ، بيت مرزوق ، بين قوسين الإنسان يتمنى الرزق الوفير ، فمرة سألني أخ : كيف أرفع مستوى رزقي ؟ قلت له : بأن تؤدَّى الصلوات في البيت ! طبعاً صلوات الفرض تؤدى في المسجد ، أما النوافل فتؤدى في البيت ، ويؤدى السنن والوتر ، أن تصل رحمك يزيد الله في رزقك ، أن تكون أميناً فالأمانة غنىً ، أن تكثر الاستغفار فالاستغفار يزيد في الرزق ، أن تكثر الصدقة فالصدقة تزيد في الرزق .
هناك أسباب كثيرة تزيد في الرزق :
* وَأَنْ لَوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقاً (16) *
(سورة الجن)
الاستقامة تزيد في الرزق :(1/359)
* وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آَمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ (96) *
(سورة الأعراف)
تقوى الله والوقوف عند حدود الله يزيد في الرزق :
* فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً (10) يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَاراً (11) وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَاراً (12) *
(سورة نوح)
الاستغفار يزيد في الرزق ، والصدقة تزيد في الرزق ، صلة الرحم تزيد في الرزق ، إتقان العمل يزيد في الرزق ، أداء الصلوات في البيت يزيد في الرزق :
* وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لَا نَسْأَلُكَ رِزْقاً نَحْنُ نَرْزُقُكَ (132) *
(سورة طه)
أيها الأخوة يقول عليه الصلاة والسلام فيما رواه البخاري ومسلم عن ابن عمر رضي الله عنهما من حديث طويل من هذا الحديث :
(( والرجلُ راعٍ في أهلِهِ وهو مسؤول عن رعيته ، والمرأة راعية في بيت زوجها ومسؤولة عن رعيتها )) .
[ متفق عليه عن ابن عمر رضي الله عنهما ]
مداخلة طريفة : أحياناً يترنم الإنسان بكلمة مسؤول كبير ، لو دقق في معناها لانخلع قلبه خوفاً ، لو دقق في معناها لارتعدت فرائصه ، مسؤول كبير أي سوف تسأل سؤالاً كبيراً ، سوف تسأل عن كل شيء :
((لا تزول قدما عبد حتى يُسأل عن أربع : عن عمره فيم أفناه ، وعن علمه ما فعل فيه ، وعن ماله من أين اكتسبه وفيم أنفقه ، وعن جسمه فيم أبلاه )) .
[الترمذي عن أبي برزة الأسلمي رضي الله عنه]
هذه أسئلة لا بد منها ، من هذه الأحاديث أيضاً :
(( قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : مُرُوا أَبْنَاءَكُمْ بِالصَّلَاةِ لِسَبْعِ سِنِينَ وَاضْرِبُوهُمْ عَلَيْهَا لِعَشْرِ سِنِينَ )) .
[أحمد عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ]
لدينا أمر تكليفي وأمر تأديبي ، الأمر التأديبي أن تأمر ابنك بالصلاة لسبع سنين ، حتى إذا كلف بها كان قد ألفها ، أن تأمر ابنتك بالحجاب قبل أن تكلف بالحجاب ، هذه سماها العلماء عبادة تأديبية ، تؤدب أولادك على الصلاة والصيام ، وتؤدب بناتك على الحجاب قبل سن التكليف ، فإذا جاء سن(1/360)
التكليف كان الأولاد متقبلين لهذا الذي أمر الله به ، وهذا الدرس ، أيضاً من قول النبي عليه الصلاة والسلام :
(( لَأَنْ يُؤَدِّبَ الرَّجُلُ وَلَدَهُ خَيْرٌ مِنْ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِصَاعٍ )) .
[الترمذي عَنْ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ]
لا زلنا في الأحاديث الشريفة التي تدعو إلى التربية ، يقول عليه الصلاة والسلام :
((أدبوا أولادكم على ثلاث خصال ، حب نبيكم ، وحب آل بيته ، وتلاوة القرآن .))
[الطبراني عن علي]
لعل معاهد تحفيظ القرآن التي أكرمنا الله بها تنطلق من هذا الحديث :
((أدبوا أولادكم على ثلاث خصال ، حب نبيكم ، وحب آل بيته ، وتلاوة القرآن .))
[الطبراني عن علي]
آل بيته أولئك الذين كانوا حول النبي من قرابته ومن صحابته ، كيف كانت أخلاقهم ، لا بد من أن تقص على أولادك سير أصحاب رسول الله ، وسير أهل بيت رسول الله ، لأنهم فعلاً أبطال ، هناك كتب كثيرة حول أصحاب رسول الله ، لا أقبل بيت مسلم ليس فيه كتاب من سير صحابة رسول الله ، كتاب السيرة يبعث في النفس القدوة ، الطفل أيها الأخوة في سن معينة يبحث عن مثل أعلى ، فإن لم تقدم له أصحاب رسول كمثل عليا ، تلقف ما على الشاشة من مثل ليست عليا ولكنها دنيا ، قد يجعل لاعب كرة مثله الأعلى ، قد يجعل ممثل أو ممثلة قدوته الكبرى ، هذه مشكلة كبيرة ، تعلق الصغار بمثل عليا شيء حتمي ، هذا قدر الصغار ، حتى بعض الأمثلة في الجاهلية (كل فتاة بأبيها معجبة ) طبيعة الطفل يتعلق بمثل أعلى ، فأنت إن قدمت له مثلاً أعلى تعلق به فكان قدوته ، وإن أهملت أن تقدم له المثل الأعلى هو يختار عشوائياً مثلاً أعلى ، ما من خطر على الطفل يفوق صاحباً سيئاً ، هذا الصاحب السيئ مدمر ، ليس للابن وحده بل للأسرة كلها ، فإما أن تقدم له مثلاً أعلى وإما أن يتعلق هو عشوائياً بمثل أعلى .
مرة التقيت مع أخ في مكان معه ابنه وصديقا ابنه ، فسألته عن ذلك فقال : أنا اخترت له صديقيه لأنه لا بد من صديق ، أنا أحسنت اختيار صديق ابني ، حتى يتلقف ابنه من صديقه الكمال ، انتقى صديقين منضبطين من تربية أسرية جيدة ، فجعلهما صديقي ابنه ، لذلك أهم شيء عند الأب أن يختار هو صديق ابنه ، الطفل يحتاج إلى صديق ، الطفل يحتاج إلى رفيق ، الطفل يحتاج إلى مثل أعلى ، لذلك حينما يكون في المناهج قصص بطولات في التعليم الإعدادي لا تصدق كم هي تؤثر في الطفل ، أن هناك مثلاً أعلى أمامه يقتدي به ، والحقيقة علامة إيمان المؤمن أن مثله الأعلى رسول الله ، والدليل :(1/361)
* لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآَخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً (21) *
(سورة الأحزاب )
أنا أقول دائماً الإنسان له شخصية يحبها ، ويتمنى أن يكونها ، وفي حياته شخصية يكرهها ، ويكره أن يكونها ، وفي حياته شخصية يكونها ، أي هو نفسه ، أنت لك شخصية ، وهناك نموذج من الشخصيات تتمنى أن تكونها ، وهناك نموذج من الشخصيات تشمئز أن تكونها ، البطولة أن تسأل ابنك ماذا تتمنى أن تكون ؟ بالتعليم الابتدائي دائماً الموجه التربوي إذا زار مدرسة ودخل إلى أحد الصفوف هناك سؤال تقليدي منذ خمسين سنة ، يوقف أحد الصغار ويسأله : يا بني ماذا تتمنى أن تكون ؟ بحسب قيم المجتمع يقول له : طبيب ، أستاذ ، أو طيار . مرة زار موجه تربوي مدرسة قريبة من الحدود ، وأوقف طالباً وسأله : ماذا تتمنى أن تكون ؟ فقال له : مهِّرب يا أستاذ ، هذا مثله الأعلى ، أخطر شيء المثل الأعلى ، هذا معنى حديث رسول الله :
((أدبوا أولادكم على ثلاث خصال ، حب نبيكم ، وحب آل بيته ، وتلاوة القرآن .))
[الطبراني عن علي]
من الأحاديث أيضاً ما رواه الإمام البخاري في الأدب المفرد :
(( أتينا النبي صلى الله عليه وسلم ونحن شببة (أي شبيبة أي شباب ) متقاربون فأقمنا عنده عشرين ليلة ، (كان عليه الصلاة والسلام مضيافاً ) فظن أننا اشتهينا أهلينا )) .
[البخاري عن أبي سليمان مالك بن الحويرث ]
أدرك كيف أن النبي واقعي ، أتاه شاب وأقام عنده عشرين يوماً لا شك أنه حنَّ إلى أهله .
(( فسألنا عمن تركنا في أهلينا فأخبرناه )) .
[البخاري عن أبي سليمان مالك بن الحويرث ]
قال له : مثلاً هل أنت متزوج يا بني ؟ قال نعم . قال له : كم ولداً عندك ؟ فالإنسان كما قال عليه الصلاة والسلام :
(( المرء حيث أهله ، والمرء حيث رحله )) .
[البخاري عن أبي سليمان مالك بن الحويرث ]
أي معلق بأهله ومعلق بماله ، إن كان ماله بالميناء تجده مشوشاً ، يا ترى البضاعة سليمة ؟ هل عليها من خطر مثلاً ؟ لم يستطع تخليصها عنده مشكلة أيضاً :
(( المرء حيث أهله ، والمرء حيث رحله ، فظن أننا اشتهينا أهلينا فسألنا عمن تركنا في أهلينا فأخبرناه ، وكان رفيقاً رحيماً ، فقال : ارجعوا إلى أهليكم فعلموهم ومروهم وصلوا كما رأيتموني أصلي ، فإذا حضرت الصلاة فليؤذن أحدكم وليؤمكم أكبركم )) .(1/362)
[البخاري عن أبي سليمان مالك بن الحويرث ]
هذا توجيه النبي .
الحقيقة النبي عليه الصلاة والسلام كماله في أعلى درجة ، النبي الكريم يسع الكبار والصغار ، وهذا من جوانب عظمة شخصيته عليه الصلاة والسلام ، ما دنا منه أحد إلا ظن أنه أقرب الناس إليه ، أنت لا تستطيع أن تفعلها ، كلما التقيت بإنسان يظن هذا الإنسان أنه أقرب الناس إليك ، بل إن من جوانب عظمة رسول الله أن الطفل إذا جلس معه النبي الكريم تنازل إليه ، النبي كان يمشي في الطريق يرى صبيان يقول السلام عليكم يا صبيان ، كان إذا أطفال يلعبون دخل معهم في اللعب ، جرى معهم ، كان يدعو الصبيان إلى ركوب ناقته ، هذا أمر عجيب ، الشخصية العظيمة التي قادت أمة كانت ترعى الغنم فأصبحت تقود الأمم ، هذا الشخص العظيم كان مؤنساً للصغار ، لقد أخبرنا أنه في الجنة باب يدخله من يفرح الصبيان ، لأن الصبيان يعنون المستقبل ، فلذلك :
(( صلوا كما رأيتموني أصلي ، فإذا حضرت الصلاة فليؤذن أحدكم وليؤمكم أكبركم )) .
[البخاري عن أبي سليمان مالك بن الحويرث ]
هكذا وجههم ، الأب في هذا الدرس ينبغي أن يكون دقيقاً في ملاحظته لابنه ، يلاحظ ذهابه وإيابه ، في التأخر ، أين كنت ؟ تحدث الابن رواية يجب أن يتحقق صدقها ، ولو كلفه التحقيق أن يذهب إلى مكان معين ، وجد مع ابنه قلماً من أين هذا القلم ؟ أعطاني صديقي إياه ينبغي أن يتصل الأب بوالد صديق ابنه ، هل ابنك أعطى ابني هذا القلم أم أخذه خلسة ؟ الإنسان إن لم يحقق تقدم له روايات مقبولة ، والأطفال يكونون أحياناً أذكياء ، يعرف نمط أبيه فيقدم له روايات مقبولة دائماً ، يتعلم الكذب والأب يقبل لأنه لا همة له كي يحقق !!
التربية تحتاج إلى جهد ، لو وجدت مع ابنك خمس ليرات وأنت لم تعطه إياها ، وقدم لك فجأة رواية ، فإذا حققت والتحقيق كلفك أن تذهب إلى مدرسته ، وتسأل أستاذه أو زميله ، فهذا يحتاج إلى جهد ، أما إذا قبلت هذه الرواية فعندها سيألف الكذب ويعتاد عليه ، لا بد من التحقيق ، الابن إذا علم أن أية رواية تقدم لأبيه لا بد من أن يحقق فيها ساعة إذاً سوف يعد للمئة قبل أن يكذب على أبيه ، هذه هي الملاحظة ، يجب عليك أنت أن تكون أعيناً !! أن تكون أعيناً وآذاناً ، وأن تستشف ماذا يخبئ ابنك .
أحياناً تذهب البنت إلى المدرسة ، أنا أقول كلاماً يعتصر له القلب ، وتعود ظهراً ، لو أن الأب ذهب إلى المدرسة لاكتشف أن البنت لم تداوم منذ خمسة أيام ، الآن يوجد مشكلة كبيرة جداً ، يوجد تسيب ، يوجد إهمال ، يجب أن يكون هناك اتصال مستمر بين البيت والمدرسة ، ينبغي أن يكون هناك ملاحظة ، جاء ولم يأكل إطلاقاً ، لماذا لم يأكل ؟ معنى هذا أنه أكل بالطريق ، من أطعمه ؟ مع من ذهب ؟ من دفع ثمن الطعام ؟ من هو صديقه ؟ أو جاء متعباً !! أو الشمس أثرت في وجهه ، مع(1/363)
أنه كان في المدرسة ، معنى هذا أنه لم يكن في المدرسة بل كان في ملعب ؟ لو لم أكن أعلم أن هناك آلافاً بل عشرات الآلاف من حالات الانحراف الخطير عند الأبناء والآباء في غفلة ، أساساً لا انحراف في أسرة إلا بسبب غفلة الآباء ، لا يوجد انحراف ضمن الأسرة إلا بسبب غفلة الآباء ، لا يوجد انحراف مالي أو أخلاقي أو جنسي إلا بسبب غفلة الآباء ، والله أيها الأخوة في هذه الأيام يحتاج الأب إلى دقة تفوق أية دقة ، يقلب المحطات فظهرت محطة فالأب فوراً قلبها إلى محطة ثانية ، الطفل جالس !! بعد الثانية عشرة أوى الأب إلى فراشه والأم كذلك ، هناك من استيقظ وفتح وقلَّب ووصل إلى هذه المحطة ، ثم انتهى الأمر إلى فاحشة في البيت ، هذا بسبب غفلة الآباء ، طبيب يعالج مريضاً أصابته أزمة قلبية ، رأى الساعة الواحدة ، معنى هذا أن أولاده عادوا إلى البيت ، وفي غرفة النوم فيلم لا يرضي الله فضرب نفسه من شدة القلق ، فذهب فوجد الفاحشة في البيت .
أنا لا أقول لكم كلاماً من فراغ ، من قصص عرضت علي ، من اتصالات هاتفية وصلتني ، قد يكون هناك انحراف خطير جداً والأب غافل ، والأم غافلة ، فلا بد من دقة بالغة ، لا بد من حرص شديد ، لا بد من متابعة .
الآن من ملاحظات النبي في التربية الاجتماعية ، يقول عليه الصلاة والسلام :
(( إِيَّاكُمْ وَالْجُلُوسَ فِي الطُّرُقَاتِ . قَالُوا : يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا لَنَا مِنْ مَجَالِسِنَا بُدٌّ نَتَحَدَّثُ فِيهَا . قَالَ : فَأَمَّا إِذَا أَبَيْتُمْ إِلا الْمَجْلِسَ فَأَعْطُوا الطَّرِيقَ حَقَّهُ ، قَالُوا : يَا رَسُولَ اللَّهِ فَمَا حَقُّ الطَّرِيقِ ؟ قَالَ : غَضُّ الْبَصَرِ وَكَفُّ الْأَذَى وَرَدُّ السَّلامِ وَالأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيُ عَنِ الْمُنْكَرِ )).
[أحمد عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ]
هذا توجيه اجتماعي ، إن وجدت ابنك يطرق باباً ويقف أمامه هكذا أي مواجهة ، قل له : لا يا بني ليس هذا من أدب رسول الله ، ضع يدك على المنبه وأعطِ ظهرك للبيت ، لو فتحت امرأة الباب فجأة لا ترى إلا ظهر رجل أو ظهر شاب ، أنت مع ابنك ، أكل بشماله نبهه ، أحياناً يوم الجمعة يأتي الأطفال مع آبائهم ، يأتي طفل بثياب قصيرة ، هذا شيء مخالف :
(( الْفَخِذُ عَوْرَةٌ )) .
[البخاري عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَجَرْهَدٍ وَمُحَمَّدِ بْنِ جَحْشٍ]
أحياناً تأتي بنت بثياب غير محتشمة ، لكنها صغيرة جداً ، لا بد من أن تؤدبها بأدب الإسلام ، وإن كانت صغيرة يجب أن تتكلم لا أن تسكت ، أحياناً تطيش يد الغلام في الطبق فالنبي عليه الصلاة والسلام ينهى عن ذلك وسيأتي هذا بعد قليل ، النبي عليه الصلاة والسلام رأى خاتماً في يد رجل فنزعه فطرحه :
(( أن رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَأَى خَاتَماً مِنْ ذَهَبٍ فِي يَدِ رَجُلٍ فَنَزَعَهُ فَطَرَحَهُ وَقَالَ : يَعْمِدُ أَحَدُكُمْ إِلَى جَمْرَةٍ مِنْ نَارٍ فَيَجْعَلُهَا فِي يَدِهِ ، فَقِيلَ لِلرَّجُلِ بَعْدَ مَا ذَهَبَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ(1/364)
وَسَلَّمَ : خُذْ خَاتِمَكَ انْتَفِعْ بِهِ ، قَالَ : لَا وَاللَّهِ لَا آخُذُهُ أَبَداً وَقَدْ طَرَحَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ )) .
[مسلم عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ]
انظر إلى هذا الأدب والورع ، لما انتقده النبي نزع الخاتم وألقاه في الأرض ، يوجد ملاحظة ، تجد الشخص جالساً وبنت أخيه تلبس الثياب الضيقة !! كيف حالك يا عماه ؟ كيف حال أبيكِ ؟ يتحدث معها مطولاً ، أما الثياب الضيقة فلا مشكلة بها أبداً ، لا يوجد ملاحظة أبداً ، ولا حديث ولا نصح ، لا يا عماه فأنتِ ابنة أخي وهذا الشيء خلاف الشرع ، هذا الأمر غير مناسب ، وأنتِ الآن آثمة لأن الله عز وجل قد أمرك بالحجاب ، لما تكف الأمة عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر تستحق غضب الله :
لما أرسل الله ملائكة لإهلاك قرية قالوا : يا ربنا إن فيها رجلاً صالحاً قال : به فابدؤوا !! قالوا : ولمَ ؟ قال : لأن وجهه لا يتمعر إذا رأى منكراً .
حينما نكف عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ننتهي عند الله .
أخواننا الكرام أريد أن ننتبه لمعنى التربية بالملاحظة ، أي أن تكون يقظاً متنبهاً تلاحظ كل شيء على ابنك ، وأن تقدم له الملاحظات ، والتوجيهات ، أن تلاحظ ، وأن تقدم له ملاحظات ، أن تنتبه ، وأن تقدم لفت نظر ، أن تكون يقظاً وأن توقظ ابنك ، أن تتلقى معلومات عن ابنك ، وأن تقدم له معلومات ، هذا معنى التربية بالملاحظة ، نشاط مزدوج ، تراقب فتقع على شيء ، تقدم له العلاج والتوجيه والنصح ، هناك أكثر من ذلك !! ثم تتابع هل استجاب أم لم يستجب ؟ ثم تكافئ إذا استجاب ، أو تؤدب إذ لم يستجب ، محور الدرس أن تتلقى معلومات ، وأن تقدم توجيهات ، وتتابع الأمر فتكافئ أو تعاقب ، هذا محور الدرس .
((سَمِعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عُمَرَ ابْنَ أَبِي سَلَمَةَ يَقُولُ : كُنْتُ غُلاماً فِي حَجْرِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَانَتْ يَدِي تَطِيشُ فِي الصَّحْفَةِ (أي في وعاء الطعام ، كأن يكون هناك قطعة لحم مثلاً فيأخذها ويأكلها ) فَقَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : يَا غُلَامُ سَمِّ اللَّهَ ، وَكُلْ بِيَمِينِكَ ، وَكُلْ مِمَّا يَلِيكَ فَمَا زَالَتْ تِلْكَ طِعْمَتِي بَعْدُ )) .
[البخاري عن وَهْبَ بْنَ كَيْسَانَ ]
مرة كنا في دعوة ، ابن غير منضبط ، والأب غافل ، واضعين أكلة اسمها كباب هندي ، فهذا الابن لقطهم جميعاً وأكلهم ، كم هو الأب محاسب ؟ وكيف أن الابن لا يتلقى أي توجيه ؟ صاحب البيت يكاد يذوب ، طعام الضيوف ، القضية سهلة أكلهم واحدة تلو الأخرى :
(( وَكَانَتْ يَدِي تَطِيشُ فِي الصَّحْفَةِ ، فَقَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : يَا غُلَامُ سَمِّ اللَّهَ وَكُلْ بِيَمِينِكَ وَكُلْ مِمَّا يَلِيكَ )) .(1/365)
[البخاري عن وَهْبَ بْنَ كَيْسَانَ ]
النبي وجهه ولم يكن غافلاً .
قد يكون طفل مثلاً ذاهباً إلى بيت فيه النظافة بالغة ، وقد يكون أثاث هذا البيت فاتحاً ، يصعد إلى الأثاث بحذائه غير النظيف ، صاحب البيت يفور ويتمزق والأب غافل ، يجب أن تلاحظ ويجب أن تقدم ملاحظة ، يجب أن تنتبه وأن تلفت النظر ، أن تَعلَم وأن تُعلِّم ، وفي حديث آخر :
(( أَنَّهُ قَالَ دَعَتْنِي أُمِّي يَوْماً وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَاعِدٌ فِي بَيْتِنَا فَقَالَتْ : هَا تَعَالَ أُعْطِيكَ ، فَقَالَ لَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : وَمَا أَرَدْتِ أَنْ تُعْطِيهِ ؟ قَالَتْ : أُعْطِيهِ تَمْراً ، فَقَالَ لَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : أَمَا إِنَّكِ لَوْ لَمْ تُعْطِهِ شَيْئاً كُتِبَتْ عَلَيْكِ كِذْبَةٌ )) .
[أبي داود عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَامِرٍ]
معنى هذا أن النبي واعٍ ، يقظ ، يتابع كل شيء ، والله سمعت قصة مؤثرة جداً ، لعلي قلتها لكم ، سائق سيارة على خط الشام يريد أن يذهب إلى الشام ، جاءه شاب وشابة ركبا معه وقالا له : انتظر قليلاً ستأتينا حقيبة ، انتظر هذا السائق ، بعد حين جاء رجل رث الهيئة يحمل حقيبة كبيرة على رأسه ، فالشاب ضربه على صدره !! لأنه قد تأخر قليلاً ، لماذا تأخرت ؟ فأخذ الحقيبة ووضعها ثم انطلقوا ، بعد حين ربما في عاليه قالت له الشابة : (ربما زوجته ) كيف ضربت أباك ؟ فأوقف السائق السيارة وقال له : يا ولد هذا أبوك ؟ انزل هذا مالك ، لربما يحدث معنا حادث ، انظر إلى هذا الإنسان ، انظر إلى هذا الإنسان على بساطته وقف موقفاً رائعاً .
مرة كنت في فندق في رحلة عمل ، فجاء رجل مع فتاة يريد أن يحجز فقال له : من هذه ؟ فارتبك ، قال له : معي . قال له : ما معنى معك ؟ أين دفتر العائلة ؟ والله هذا شيء جميل ، لو كان كل الناس بهذه الدقة ، كل الناس ينضبطون ، كل الناس يحاسبون ، نكون بخير ، لما قال الله عز وجل :
* كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ (110) *
(سورة آل عمران)
سبب خيريتنا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، فإذا ارتكبت المعاصي في وضح النهار ، وعلى قارعة الطريق ولا أحد يتكلم ، ترتكب المعاصي في وضح النهار وهذا من علامات آخر الزمان ، على قارعة الطريق ولا أحد يتكلم ، إذاً فقد فقدت الأمة خيريتها ، وأصبحت أمة كأي أمة لا وزن لها عند الله ، وأوضح دليل قوله تعالى :
* وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ (18) *
(سورة المائدة )
إذا قال المسلمون على شاكلة ما قال أهل الكتاب نحن أمة محمد فالجواب :(1/366)
* قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ (18) *
(سورة المائدة )
أيضاً روى البخاري :
(( أَنَّ رَجُلاً ذُكِرَ عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَثْنَى عَلَيْهِ رَجُلٌ خَيْراً ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : وَيْحَكَ قَطَعْتَ عُنُقَ صَاحِبِكَ يَقُولُهُ مِرَاراً ، إِنْ كَانَ أَحَدُكُمْ مَادِحاً لا مَحَالَةَ فَلْيَقُلْ أَحْسِبُ كَذَا وَكَذَا إِنْ كَانَ يُرَى أَنَّهُ كَذَلِكَ وَحَسِيبُهُ اللَّهُ ، وَلا يُزَكِّي عَلَى اللَّهِ أَحَداً قَالَ وُهَيْبٌ عَنْ خَالِدٍ وَيْلَكَ )) .
[البخاري عَنْ عَبْد ِالرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي بَكْرَةَ عَنْ أَبِيهِ]
أحياناً تحضر عقد قران يقوم أحد المتكلمين فيثني على هاتين الأسرتين التقيتين الورعتين العريقتين ، وهو لا يعلم عنها شيئاً ، هذا عقد قران عقد في دمشق ، عقد الرجال في مكان ما ، فتكلم المتكلمون عن هاتين الأسرتين العريقتين الدمشقيتين ، عرس النساء كان في فندق ، وزعت فيه الخمور ، وأُتي بالراقصات ، وجاء المصورون ، وصوروا الناس شبه عرايا ، والصور نشرت في بيروت ، هاتين الأسرتين العريقتين التقيتين ، لا تمدح يا أخي إن لم تعرف فلا تمدح ، والله مرة كنت في عقد قران أثنى فيه المتكلم على العريس ثناء يفوق حد الخيال ، وأنا بحكم قرابتي أعرف أنه يزني ، وله انحراف خطير جداً ، أين تضع مكانتك الدينية وتمدح شخصاً لا تعرف عنه شيئاً إطلاقاً ؟
(( وَيْحَكَ قَطَعْتَ عُنُقَ صَاحِبِكَ يَقُولُهُ مِرَاراً إِنْ كَانَ أَحَدُكُمْ مَادِحاً لا مَحَالَةَ فَلْيَقُلْ أَحْسِبُ كَذَا وَكَذَا إِنْ كَانَ يُرَى أَنَّهُ كَذَلِكَ وَحَسِيبُهُ اللَّهُ وَلا يُزَكِّي عَلَى اللَّهِ أَحَداً )) .
[البخاري عَنْ عَبْد ِالرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي بَكْرَةَ عَنْ أَبِيهِ]
إن كان أحدكم مادحاً لا محالة لو مدحت إنساناً ملَكاً ، تقياً وورعاً وصاحب دين ، أحسبه صالحاً ولا أزكي على الله أحداً ، سيدنا الصديق لما استخلف سيدنا عمر جاء من يخوفه بالله عز وجل : كيف تولي علينا رجلاً شديداً قاسياً ؟ قال : أتخوفونني بالله ؟ إن سألني الله عز وجل أقل : يا رب وليت عليهم أرحمهم ، هذا علمي به فإن غير وبدل فلا علم لي بالغيب .
والله أنا أُسأل كثيراً بأمور الزواج ، أقول له أخ يحضر في المسجد ، لا يوجد عندي خبر سيئ عنه أبداً ، هذا علمي به ، أنا لا علم قطعي لي ، من خلال علاقتي معه لهذه السنوات لا خبر سيئ له عندي ، أحسبه صالحاً ولا أزكي على الله أحداً ، بل يريد أبلغ من ذلك ، لا يوجد عندي أبلغ من ذلك ، فإذا مدحت فقل هكذا . أيضاً ما روى الإمام أحمد في مسنده :
(( قَالَ : حَمَلَنِي أَبِي بَشِيرُ بْنُ سَعْدٍ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ اشْهَدْ أَنِّي قَدْ نَحَلْتُ النُّعْمَانَ كَذَا وَكَذَا شَيْئاً سَمَّاهُ ، قَالَ : فَقَالَ : أَكُلَّ وَلَدِكَ نَحَلْتَ مِثْلَ الَّذِي نَحَلْتَ النُّعْمَانَ ؟(1/367)
قَالَ : لَا ، قَالَ : فَأَشْهِدْ غَيْرِي ، ثُمَّ قَالَ : أَلَيْسَ يَسُرُّكَ أَنْ يَكُونُوا إِلَيْكَ فِي الْبِرِّ سَوَاءً ، قَالَ : بَلَى ، قَالَ : فَلَا إِذاً )) .
[أحمد عَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ]
النبي لم يسكت ، نحن لا نتكلم أي كلمة ، مجاملات ، ومجاملات ، يأتي إنسان ويحرم البنات : والله نعم ما فعلت ، ما هذا الكلام ؟ أنت خالفت السنة ، خالفت منهج الله عز وجل ، خالفت منهج المواريث .
(( لَا تَشْرَبُوا وَاحِداً كَشُرْبِ الْبَعِيرِ وَلَكِنِ اشْرَبُوا مَثْنَى وَثُلَاثَ وَسَمُّوا إِذَا أَنْتُمْ شَرِبْتُمْ وَاحْمَدُوا إِذَا أَنْتُمْ رَفَعْتُمْ )) .
[الترمذي عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ]
اشرب في الإناء ثلاث مرات ، في جلسة كانت الأدوات قليلة فوضعوا شراب الليمون في وعاء كبير ، فجاء أحدهم وشربهم كلهم وحده ، فقالوا له : أين السنة ؟ ثلاث دفعات !! فقال لهم : أعطوني اثنتين أخريين فيصبحوا ثلاثاً ، فالنبي لاحظ أن الشرب دفعة واحدة كالبعير تماماً ، هل تلاحظون كيف أن النبي يلاحظ ؟ يلاحظ ويوجِّه ، درسنا تلقٍّ وإلقاء، أخذ معلومات وإعطاء معلومات ، ملاحظة دقيقة وإبداء ملاحظة ، هذه تربية فعالة جداً مع أولادك ، ومع من حولك من أخوانك ، مع أصحابك وأصدقائك ، من ملاحظاته في التربية الدعوية وأخذ الناس بالرفق :
(( قَالَ كُنْتُ أَمْشِي مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَلَيْهِ بُرْدٌ نَجْرَانِيٌّ غَلِيظُ الْحَاشِيَةِ فَأَدْرَكَهُ أَعْرَابِيٌّ فَجَذَبَهُ جَذْبَةً شَدِيدَةً حَتَّى نَظَرْتُ إِلَى صَفْحَةِ عَاتِقِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ أَثَّرَتْ بِهِ حَاشِيَةُ الرِّدَاءِ مِنْ شِدَّةِ جَذْبَتِهِ ثُمَّ قَالَ : مُرْ لِي مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي عِنْدَكَ فَالْتَفَتَ إِلَيْهِ فَضَحِكَ ثُمَّ أَمَرَ لَهُ بِعَطَاءٍ )) .
[البخاري عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِي اللَّه عَنْهم]
هل رأيتم الرفق ، وفي رواية (فإنه ليس مالك ولا مال أبيك ) فالنبي قال : حق فإنه مال الله .
الحلم :
(( أَنَّ فَتَاةً دَخَلَتْ عَلَى عائشة فَقَالَتْ : إِنَّ أَبِي زَوَّجَنِي ابْنَ أَخِيهِ لِيَرْفَعَ بِي خَسِيسَتَهُ وَأَنَا كَارِهَةٌ ، قَالَتِ : اجْلِسِي حَتَّى يَأْتِيَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَجَاءَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخْبَرَتْهُ ، فَأَرْسَلَ إِلَى أَبِيهَا فَدَعَاهُ فَجَعَلَ الْأَمْرَ إِلَيْهَا ، فَقَالَتْ : يَا رَسُولَ اللَّهِ قَدْ أَجَزْتُ مَا صَنَعَ أَبِي وَلَكِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَعْلَمَ الِنِّسَاءِ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ )) .
[ابن ماجه عَنْ عَائِشَةَ]
سيد الخلق وحبيب الحق لما زوج فاطمة سألها فإن لم توافق لا ينعقد زواج ، أرأيت إلى حقوق المرأة في الإسلام ، أنتم تحضرون عقود قران ، ماذا يفعل كاتب المحكمة ؟ ينتقل إلى غرفة أخرى ليسأل(1/368)
الفتاة ، هل أنت راضية عن هذا الزوج وهذا المهر ، فإن قالت : لا ، لا يتم هذا الزواج ، فهذه أدبت أبيها :
(( ... قَدْ أَجَزْتُ مَا صَنَعَ أَبِي وَلَكِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَعْلَمَ الِنِّسَاءِ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ )) .
[ابن ماجه عَنْ عَائِشَةَ]
إن لم تقل نعم لا ينعقد العقد :
(( أَنَّ امْرَأَةَ ثَابِتِ بْنِ قَيْسٍ أَتَتِ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَتْ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ثَابِتُ بْنُ قَيْسٍ مَا أَعْتِبُ عَلَيْهِ فِي خُلُقٍ وَلَا دِينٍ وَلَكِنِّي أَكْرَهُ الْكُفْرَ فِي الْإِسْلَامِ ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : أَتَرُدِّينَ عَلَيْهِ حَدِيقَتَهُ ؟ قَالَتْ : نَعَمْ ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : اقْبَلِ الْحَدِيقَةَ وَطَلِّقْهَا تَطْلِيقَةً)) .
[البخاري عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ]
مما ورد في الأثر أن :
(( امرأة أخرى جاءت النبي عليه الصلاة والسلام قالت : أنا وافدة النساء إليك ، هذا الجهاد كتبه الله على الرجال فإن أصيبوا أثيبوا ، وإن قتلوا كانوا أحياء عند ربهم يرزقون ، ونحن معشر النساء نقوم عليهم فما لنا من ذلك الأجر ، فقال عليه الصلاة والسلام : أبلغي من لقيت من النساء أن طاعة الزوج والاعتراف بحقه يعدل ذلك .))
[البزار والطبراني عن أسماء بنت يزيد الأنصارية]
أي يعدل أجر المجاهدين في سبيل الله ، وقليل منكن من تفعله .
أيها الأخوة الكرام هذا بعض ما ورد في السنة النبوية الصحيحة من أسلوب في التربية ، الملاحظة ، يلاحظ ويقدم ملاحظة ، وهذا شأن الأب وشأن الأم وشأن المربي ، قد تجد طفلاً صدقوني عندما أوزع يوم الجمعة هذه الحلوى على الصغار أشاهد العجب ، طفل تأبى نفسه ، عفيف لا يأخذها ، ألح عليه ، أدعوه وقد يذهب ، فأكلف من يتبعه ليعطيه هذه القطعة ، هذا نموذج ، طفل ثان ٍيأخذها ويبتسم ويشكرني ، أيضاً مؤدب يشكرني ، طفل ثالث عينه بها لا يرى أحداً يأخذها ويمشي ، طفل رابع لا يهتم للشخص بل يريد فقط أن يأكلها ، طفل خامس يأتي مرتين أو ثلاثاً ، هذه هي التربية ، الفرق كبير جداً ، الفرق صارخ ، طفل مربى على العفة ، والله عندما أجد طفلاً يأبى أن يأخذ هدية أو يأخذ شيئاً أتأكد أن له أماً وأباً صارمين ، وقويين ، وربوه تربية عالية ، أما من حقه أن يتأبى ولكن إن أخذ فلا شيء عليه ، وطفل ثان ٍلطيف رقيق يثني ثناء طيباً ، شكراً يا أستاذ سلمت يداك ، الثالث عينه بالأكلة لا يرى أحداً ، الرابع محتال ، والله لقد مر قبل الآن ، أحياناً يأتي ثلاث مرات ، هل ترون الفرق بين التربيتين ؟ فهذا الطفل مرآة أهله ، الحقيقة أن الطفل سفير أهله حتى لباسه ،(1/369)
حتى انتقاء ألوان ثيابه ، حتى نظافته ، حتى سلوكه ، حتى أدبه ، فهو مرآة أهله ، فأنا أقول هنيئاً لأسرة تربي أبنائها ، والله أيها الأخوة ليس على وجه الأرض شيء أثمن من طفل مربى :
(( إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ لَيَعْجَبُ مِنْ الشَّابِّ لَيْسَتْ لَهُ صَبْوَةٌ .))
[أحمد عن عقبة بن عامر]
ما من شيء أحب إلى الله من شاب نشأ في طاعة الله ، مرة دخل أحد أخواننا إلى بقالية قرب الجامع ، وقد وقف طفلان من طلاب المعهد والله إن وقفتهم وأدبهم واضح جداً ، وطفلان آخران كلام وضحك وحركات غير معقولة ، يمد يده على البضاعة ، قال لي : الفرق واضح جداً بين طفل منضبط وطفل غير منضبط ، والله أحياناً بالمعهد نجد أمّاً تسأل عن ابنها وقد توصله بنفسها ، وتنتظره ساعتين أو ثلاثاً على الباب لتعيده إلى البيت بإشرافها ، هذه أم مثالية ، وهناك أمهات والله يلفتن النظر بحرصهن على أولادهن ، فأرجو الله سبحانه وتعالى أن يكون في هذا الدرس النفع لكل المؤمنين .
في الدرس القادم نتابع ماذا على المربي أن يفعل كي يلاحظ وكي يقدم الملاحظة ؟ وهذا الدرس عنوانه التربية بالملاحظة .
=================== ...(1/370)
38- وسائل تربية الأولاد ( 8 ) : التربية بالملاحظة ( 2 )
أيها الأخوة الكرام ، لا زلنا في سلسلة دروس تربية الأولاد في الإسلام ، ولا زلنا في السلسلة الثانية التي تتحدث عن الوسائل الفعالة في تربية الأولاد .
سبق أن تحدثنا عن التربية بالقدوة ، وعن التربية بالتلقين والتعويد ، وعن التربية بالوعظ ، وعن التربية بالملاحظة ، ولا زلنا في الملاحظة .
1ـ مهمة الأب الأولى ملاحظة الجانب الإيماني في الولد وأن يصحح له عقيدته :
أيها الأخوة الكرام مهمة الأب أو المربي الأولى ملاحظة الجانب الإيماني في الولد ، ماذا يتلقى هذا الولد ، أو هذا الطفل ، أو هذا الابن ، أو هذا الطالب ، من الأفكار والمبادئ والتصورات والاعتقادات ؟ أخطر شيء في حياة الإنسان فلسفته ، أو عقيدته ، فإما أن يتلقاها من مصادر صحيحة :
(( ابن عمر ، دينك دِينك ، إنه لحمك ودمك ، خذ عن الذين استقاموا ، ولا تأخذ عن الذين مالوا )) .
[ كنز العمال عن ابن عمر ]
وإما أن يتلقاها من مصادر مشبوهة ، أو منحرفة ، أو ضالة ، أو مضللة ، وهذا جانب خطير جداً في حياة الابن ، فهذا الأب الغافل عن ابنه قد يستقي فكراً إلحادياً ، وقد يستقي فكراً فيه إنكار لجوانب الدين الأساسية ، وقد يستقي فكراً أساسه التفلت من منهج الله عز وجل ، فلا بد من أن يجلس الأب مع ابنه وأن يحاوره ، ليرى كيف يفكر ؟ كيف يحكم ؟ ما المبادئ التي ينطلق منها ؟ ما القيم التي تتحكم فيه ؟ من أين استقى هذه الفكرة ؟ من خالط حتى كانت هذه أفكاره ؟ ما المؤثر الثقافي ؟ ما المورد الفكري ؟ ما التغذية العقائدية التي تغذيه ؟ يعني الإنسان حينما يعتقد خطأ يتصرف خطأ ، هكذا سمعت عن إنسان أنكر السنة ، فلما أنكر السنة خالف كل توجيهات النبي لأنه لم يعتقد أنها صحيحة ، لأن السنة فيها أحاديث ضعيفة فأنكر السنة بأكملها ، وسلك سلوكاً غير صحيح ، لا بد من أن تلاحظ عقيدة ابنك ، جانبه الإيماني ، هل هو مؤمن بأن الله كامل ، واحد ، موجود ، عدل ، حكيم ، أم أن له اعتراضاً على الذات الإلهية ، قد يرى إنسان بنظر قاصر أن هناك مجاعات في الأرض ، وأن هذه الدول الإسلامية فقيرة جداً ، ومقهورة ، وذليلة ، وثرواتها منهوبة ، مع أنها مسلمة ، وأن الطرف الآخر غني ، قوي ، متعجرف مع أنه كافر ، قد يختل توازنه .
أنا أنصح الأخوة الآباء والأخوة المربين أن يجلسوا مع أولادهم وأن يحاوروهم ، فلعل عقائد زائغة تسربت إليهم ، لعل تصورات خاطئة اعتقدوها ، لعل فكراً هجيناً على الإسلام صدقوه ، لعل ضلالاً براقاً مزيناً اعتقدوه ، هذه مهمة الأب الأولى أن يصحح عقيدة ابنه ، الحقيقة أن الأب أب ، لكن في مصادر تغذية كثيرة في حياة الابن ، المدرسة ، الأصدقاء ، المعلم أحياناً ، المعلم التائه ، أحياناً وسائل(1/371)
الإعلام ، أحياناً المجلات والصحف ، أدوات النشر ، أدوات نقل المعرفة ، هذه كلها ربما تضلل ، ربما تقلل من قيمة الدين ، ربما تعظم الانحراف ، ربما تطرح أطروحات لا علاقة لها بمنهج الله عز وجل ، يكفي أن يعتقد الابن أن الاختلاط ضروري ، هذه مشكلة كبيرة ، يكفي أن يعتقد الابن أن إطلاق البصر في الفتيات لا شيء فيه ، إنسانة أين أذهب ببصري ؟ حينما ترى أن ابنك يعتقد شيئاً ليس في الكتاب ولا في السنة فهذه بادرة خطيرة ، ربما تلقاها من صديق ، من معلم ، من مجلة ، من مقالة ، من فيلم أحياناً ، من مسلسل ، قد تستقي فكراً أو عقيدة دون أن تشعر ، إذاً مهمة الأب الأولى أن يلاحظ ما المبادئ والأفكار التي يعتنقها ابنه ؟ ما الكتب والمجلات والنشرات التي يقرؤها ابنه ؟ ما الرفقاء والقرناء الذين يصاحبهم ؟ هل ينتمي إلى جماعة معينة ، أو إلى فئة ضالة ، أو إلى أصدقاء لهم فكر شاذ ؟ يجب أن تلاحظ عقيدته ، أن تلاحظ كتبه ، أن تلاحظ انتماءاته ، وأن تلاحظ أصدقاءه ، وهذه هي التربية بالملاحظة ، يعني ينبغي أن يكون للأب عشر أعين ، أن يكون للأب عيوناً يلاحظ بها ابنه ، هذا الذي لا بد من أن يكون في هذا الدرس .
الآن فضلاً عن أن يلاحظ عقيدة ابنه ، مبادئ الابن ، التصورات ، الأصدقاء ، الكتب ، المجلات ، النشرات ، الجماعات التي ينتمي إليها ، مع من يجلس ، مع من يعتقد ، قد يكون الأب في غفلة عن ابنه صدقوني فإذا هو ينتقل من دين إلى دين ، وهذا حدث ، وقد يكون في غفلة عن ابنه فإذا هو ينتقل من جهة إسلامية صحيحة إلى جهة إسلامية أخرى منحرفة أثناء الغفلة فلا بد من أن تلاحظ ، أول شيء ينبغي أن تلاحظ الجانب الإيماني ، العقيدة ، هل ظنه بالله ظن حسن ؟ هل يعتقد بالآخرة ؟ هل يعتقد أن الدنيا دار ابتلاء أم دار جزاء ؟ هل يرى الغني هو السعيد أم يرى المؤمن هو السعيد ؟
2ـ ملاحظة الجانب الأخلاقي عند ابنه :
الشيء الثاني أيها الأخوة ينبغي أن يلاحظ الجانب الأخلاقي ، هل يكذب الابن ؟ هل يدلس ؟ هل يلف ويدور ؟ هل يحتال ؟ ماذا يفعل ؟ هل هو صادق وواضح أم يسير سيراً منكسراً ؟ واضح أم يكذب ؟ واضح أم يبالغ ؟ واضح أم يتملق ؟ أيضاً ينبغي أن تلاحظ الجانب الأخلاقي ، ولاسيما الصدق ، ثم ينبغي أن تلاحظ الجانب الأخلاقي ولاسيما الأمانة ، الأمانة أيها الأخوة لا تتجزأ ، يعني أعطيته مبلغاً من المال ليشتري شيئاً ينبغي أن يرد لك الباقي مهما يكون صغيراً ، هذه الأمانة ، تعطيه أنت المبلغ الذي تريد ، لكن إذا كلفته بعمل ينبغي أن يأتي بالحساب الدقيق وبالبقية الباقية ، هل وجدته يصرف مصروفاً لم تعطه إياه ، قد يشتري حاجة ثمينة غالية ، قد يأتي كل يوم من المدرسة ولا يأكل ، حسناً أين تأكل إذاً ؟ تناول الطعام في مطعم ، أنت لم تعطه المبلغ الذي يتيح له أن يأكل كل يوم في مطعم ، معنى هذا عنده دخل آخر ، هو طالب من أين هذا الدخل ؟ هذه مهمة الأب ، أن يلاحظ أنه كل يوم يأتي ليأكل وهو جائع جداً ، له أيام ثلاثة لا يأكل في البيت ، بقي لأيام ثلاثة يتأخر ، اسأل المدرسة هل داوم ؟ لعله لم يداوم ، هذا الذي أتمناه ، يجب أن تلاحظ الجانب الإيماني ،(1/372)
عقيدته ، أفكاره ، تصوراته ، حسن ظنه بالله ، ينبغي أن تلاحظ الكتب التي يستقي منها ، الأشخاص الذين يأخذ منهم ، الجمعيات التي ينتمي إليها ، هذا الفكر الذي لم يعجبك من أين استقاه ؟ من غذاه به ؟ هذا الجانب الإيماني ، ثم الجانب الأخلاقي أن تلاحظ صدقه ، وأن تلاحظ أمانته ، هل يأخذ ما ليس له .
3ـ ملاحظة ضبطه للسانه :
الشيء الثالث : ينبغي أن تلاحظ ضبطه للسانه ، لو عنده صديق هل في كلامه انحراف ؟ هل في كلامه كلمات بذيئة ؟ هل في كلامه مزاح رخيص ؟ هل إذا كان يتحدث مع أخوته له كلمات لا تستعملها هذه الأسرة ؟ يعني هل هو منضبط في لسانه ؟ ينبغي أن تلاحظ أمانته ، وصدقه ، وضبط لسانه .
4ـ ملاحظة الجانب الإرادي لابنه :
الآن ينبغي أن تلاحظ إرادة ابنك ، هل يستطيع ، أو هل يملك إرادة قوية تعينه على تطبيق ما يتعلم ؟ أم أنه يجاملك ويتملق إليك و يثني على توجيهاتك ولا يطبقها ؟ والحقيقة مع الأسف الشديد النفاق فيما مضى كان يظهر عند الراشدين ، أما الغريب الآن بدأ النفاق يظهر عند الصغار ، وجدت هذا في بلاد بعيدة جداً ، الابن يعرف نمط أبيه ، أبوه متدين ، إذاً يوهمه أنه يقرأ القرآن ، يوهمه أنه يستقي فكراً إسلامياً من صديق له ، وهو عكس ذلك ، بدأ النفاق يتسرب إلى الصغار ، يتملق أباه ، يثني على أبيه ، يصلي أمامه فقط ، يوهمه أنه يحب الله ، متدين ، وهو على النقيض من ذلك .
والله أخ أطلعني على دراسة أجراها في جالية إسلامية بعيدة جداً ، التقى مع الصغار وبطريقة ذكية جداً وصل إلى خبايا نفوسهم ، ثم كشف أن نسباً متفاوتةً بينهم بعضهم ينحرف ، بعضهم يشرب الخمر ، بعضهم يدخن ، بعضهم يتلقى المخدرات أحياناً ، والآباء في غفلة ولا يعلمون شيئاً ، لم أجد أباً أو معلماً أضعف من هذا الذي ينحرف ابنه وهو لا يدري .
والله مرة سافرت إلى الخليج ، وأب كريم من أصدقائي المخلصين أوصاني أن أتفقد ابنه هناك ، والله وصلت إلى هناك ، وشاهدت الذي لا يسر أبداً ، غارق في المخدرات ، لا يعمل إطلاقاً ، له صويحبات ، والله لو علم الأب حال ابنه لمات من توه من شدة حرصه عليه ، في غفلة .
أنا أقول لكم أيها الأخوة كلاماً والله لن تسعدوا ، ولن تستقروا ، ولن تقر أعينكم إلا إن كان أولادكم كما تتمنون ، وأسباب الانحراف كثيرة وواسعة جداً ، أسباب الانحراف في كل مكان ، أقول لكم هذه الكلمة لا يمكن أن يضبط الإنسان من خارجه الآن ، أينما تحرك هناك الفساد والانحراف ، لابدّ من أن يضبط من داخله ، لابدّ من أن تقوي إيمانه ، لابدّ من أن تقوي خشيته من الله ، لابدّ من أن تقوي عقيدته ، أنه كلما استقام على أمر الله ارتقى عند الله ، وحفظ الله له صحته ومستقبله وشبابه وعمله وما إلى ذلك .(1/373)
هل يضعف أمام الشهوة ؟ هل تضعف إرادته أمام معصية أو شهوة يعني تسره ؟ بعد أن لاحظ جانبه الإيماني ، وبعد أن لاحظ جانبه الخلقي ، ولاسيما الصدق والكذب وضبط العين والجوارح ، لا بد من أن يلاحظ الجانب الإرادي ، هل يفعل ما يعتقد ؟ هل عنده إرادة على أن يطبق الذي سمعه ؟ ما الذي يمنع ، وأقول لكم هذا بصراحة أن تدخل إلى غرفة ابنك وأن تتفقد حاجاته ، أنت أب لك مطلق الصلاحية ماذا يقرأ ؟ ماذا تحت الفراش من مجلات ؟ وجدت عنده قرصاً مدمجاً شاهد هذا القرص ، وجدت له دفتراً انظر ما كتب ، من يراسل ؟ ماذا يقرأ قبل أن ينام ؟ يعني لا بد من أن تتفقد أحواله ، كتبه ، دفاتره ، محفظته ، خزانته ، مقتنياته ، يعني والله في هذين الأسبوعين عدة آباء شكوا إلى بعض المعاهد أنهم يجدون في ثنايا حاجيات أولادهم أشياء لا تسر أبداً أخذوها من أصدقائهم ، أين الأب ؟ يجب أن تكون يقظاً ، واعياً ، مدققاً ، محققاً ، لا ينبغي أن تخفى عليك خافية من أحوال ابنك ، لأنه ابنك ينبغي أن تلاحظ أيضاً تحصيله العلمي ، أن تتصل بالمدرسة ، علامات المذاكرات ، في أي مادة مقصر ، لا بد من أستاذ خاص أحياناً ، أما أن تنسى أن تتابع أموره التحصيلية إلى نهاية العام حتى يقول لك المدرس والله رسب ، وما في أمل أبداً بالنجاح ، ومن الصعب أن تتلافى هذا الخطأ ، ينبغي أن تتابع تحصيله من أول العام ، لا بد من زيارات كل شهر مرة إلى المدرسة على الأقل ، لا بد من أن تتصل بها الهاتف يحل مشكلة كبيرة ، اسأل المدير ليعطيك مستوى الطالب عند معلميه ولو بالهاتف ، يجب أن يشعر الطالب أنه مراقب من أهله .
والله حدثني شخص له أخ يدرس في ألمانيا ، تأتي الرسائل أنه نجح إلى الصف الثالث والرابع والخامس ، ثم فاجئهم أنه حصل على الشهادة العليا ، يعني له أخ على شيء من الحكمة والذكاء ، فتح الإنترنت على نتائج هذه الجامعة فإذا أخاه لم ينجح إطلاقاً ، كل هذه الرسائل غير صحيحة ، كلها كذب ، الأب يفرح ويبلغ أقرباءه ابني نجح الحمد لله ، وهو في سذاجة وسعادة فارغة ، فعن طريق المعلوماتية الإنترنيت وجد أن ابنه لم ينجح ، الآن القضية سهلة جداً ، تفتح موقع الجامعة ، قسم الطلاب ، أسماء الناجحين ، قد تجد أن هذا الذي أوهم أهله أنه ناجح لم ينجح ، وفي آباء سذج يصدقون كل ما يقال لهم ، ثم يذيعون ، ثم يبالغون ، والابن غارق في المعاصي والآثام هناك ، ويبتز أموال أبيه وحقوق أخوته دون أن يشعر ، لا تكن ساذجاً ، يجب أن تدقق ، وأن تحقق ، وأن تراقب ، وأن تتابع .
موضوع هذا الدرس الملاحظة ، يجب أن تلاحظ ثم أن تقدم ملاحظة ، أن تلاحظ أحوال ابنك الإيمانية ، أحوال ابنك الخلقية ، أحوال ابنك الإرادية ، أحوال ابنك العلمية ، ثم أن توجه ، يعني أحياناً يعطيك الابن معلومات كلها مغلوطة عن وضعه في المدرسة ، واليوم الأستاذ أثنى علي كثيراً ، وسألني من أبوك ؟ كله كذب ، واليوم أخذت علامة تامة ، واليوم صفقوا لي مثلاً ، والأب في سذاجة يصدق ويفرح ويتحدث للناس ، لو أن الأب انتقل إلى المدرسة فجأةً وسأل عن علامات ابنه(1/374)
يجده أخذ أصفاراً ، أنا الذي ألاحظه أن الحقيقة تأتيهم بعد فوات الأوان ، خلال سنة بأكملها لم يخطر في بال الأب أن يزور مدرسة ابنه ، ولا أن يسأل ، ما الذي يمنع أن تأخذ هاتف أستاذ ابنك ، الآن الحياة معقدة جداً ، لكن الهاتف يحل مشكلات كثيرة ، ما الذي يمنع أن تأخذ هاتف أستاذ ابنك ، بكل لطف تسأله من حين لآخر عن أحواله ؟ كيف انضباطه ؟ كيف أخلاقه ؟ كيف دراسته ؟ كيف وظائفه ؟ كيف تحصيله ؟ كيف تسميعه ؟ كيف مذاكراته ؟ عندما يشعر الطفل أن الأب يتابع ، في معهدنا ـ والفضل لله عز وجل ـ نرسل استمارة للأب ، هذه الاستمارة فيها جدول الصلاة ، يجب أن يملأ الأب الأوقات التي صلاها ابنه ، الأب مضطر أن يراقب ابنه هل صلى الفجر ؟ هل صلى العشاء ؟ هذه السبعة أيام كل يوم في خمس فراغات ، ثم يسأل كيف يعامل أمه وأباه ؟ ثم يسأل كيف يعامل أخوته وأخواته ؟ ثم يسأل هل يقدم خدمات لأسرته ؟ ثم يسأل ما الأعمال الصالحة التي فعلها هذا الأسبوع ؟ هذه الاستمارة ينبغي أن تكون متبادلة بين الأهل وبين المعلم ، ليس هناك من عمل أعظم من أن تقدم لهذه الأمة شباباً مؤمنين ، صادقين ، متفوقين .
وبعاداته الخاصة ، وبعلاقاته الحميمة .
طفل صغير لا أذكر في اللاذقية أم في إدلب أم في بيروت قال لي : أنا يا أستاذ لا أحتمل ما أشاهد في الأخبار ، ماذا أفعل ؟ يا الله طفل عمره إما ست أو سبع سنوات ، لا يحتمل ما يشاهد ، من قهر ، ومن قتل ، ومن ضرب ، قال : ماذا أفعل ؟ قلت له : إن أعداءنا تعلموا فغلبوا وأنت اجتهد وخذ الدرجة الأولى كي تكون قوياً تنتصر أمتك على أعداءها ، كل إنسان له مهمة بالحياة ، فالأعداء اعتمدوا على العلم ، وعلى التعاون ، وعلى القوة ، فأملوا إرادتهم على الضعفاء ، ونحن ما لم نعتمد على الإيمان أولاً ، أنا أتكلم مع طفل صغير ، أقول له اجتهد وخذ الدرجة الأولى كي تكون متفوقاً ، كي تسهم في بناء هذه الأمة .
5ـ الانتباه لعادات ولده الخاصة ولعلاقاته الحميمة :
أيها الأخوة ينبغي أيضاً أن تلاحظ كل شيء ، يعني يجب أن تتعاون مع زوجتك على ملاحظة ما يفعله الابن وحده في الغرفة ، في غرف لها نوافذ والبلور شفاف هذا شيء له هدف تربوي ، كنت مرة في تركيا ، في مبيت طلاب ضخم جداً ، ما في باب يمكن أن يقفل أبداً بكل البناء ، يعني أي باب يفتح بأي لحظة ، هذه لها معنى ، يعني أحياناً في بعض الصفوف بالمدارس لها نوافذ بلور شفاف ، يعني أي إنسان يمر أمام الصف يرى ما بداخل الصف هل يوجد فوضى ؟ هل الأستاذ يدرس أم لا يدرس ؟ يعني أيضاً يجب أن يكون وضع الطفل تحت المراقبة ، أما أن يكون له غرفة ويقفل الباب قبل أن ينام ، ماذا يفعل بالليل ؟ أنا أقول لكم أشياء دقيقة جداً من أجل أن تكون يقظاً ، يجب أن تلاحظ أن ابنك هو ثمرة فؤادك ، أن ابنك هو استمرارك ، أن ابنك هو خليفتك ، أن ابنك هو ثروتك ، أن ابنك هو جنتك ونارك أحياناً قد يسبب شقاء الأسرة بأكملها ، والله تأتيني اتصالات(1/375)
من بعض الأمهات يعني طفل منحرف أربك الأسرة بأكملها ، طفل منحرف أشقى أسرة بأكملها ، منحرف ، ولا ينصاع ، ويأتي بعد منتصف الليل ، ويتطاول على أمه وأبيه ، ويضرب أخوته ، ولا يصلي ، ولا يداوم في المدرسة ، والعياذ بالله ، هذا هو البلاء الأكبر ، كيف قلت لكم في دروس سابقة ينبغي أن تكتشف الانحراف قبل أن يتفاقم ، لكن الأب الساذج متى ينتبه ؟ بعد أن تقع الطامة الكبرى ، بعد أن يخسر ابنه ، وبعد أن ينحرف ابنه انحرافاً شديداً عندها يصيح ، ويستجير ، ويدعو .
6ـ الاهتمام بالجانب الصحي لابنه :
أيها الأخوة قال لي أخ : ابني شرب كأس عصير أو كأس حليب مع أطعمة أخرى قال لي : ذهب إلى المستشفى فوراً ، قد يكون في محلات بضاعتها سيئة في بيض فاسد ، في طعام غير جيد ، فينبغي أن تلاحظ أيضاً وضع ابنك الصحي ، يجب أن ترشده إلى أن يأكل في البيت ، طعام البيت لا يعلو عليه طعام ، طعام البيت نظيف ، والله في معلومات ، والله لو اطلعتم عليها ماذا يجري في المطاعم ، مثلاً يكفي أن موظفاً في مطعم يحمل فيروس التهاب الكبد الوبائي ، هذا مرض مميت ، وحتى الآن ما له دواء ، وهذا الإنسان بالمطعم ليس مصاباً بهذا المرض ولكن يحمل هذا الجرثوم ، ويكفي أن يذهب إلى دورة المياه ، ثم لا ينظف يديه تماماً وتبقى آثار فضلاته تحت أظافره ، ويكفي أن يقدم الطعام لرواد المطعم يمكن أن يصاب ثلاثمئة إنسان من رواد هذا المطعم لوجود جرثوم يحمله هذا الموظف الذي لا يعتني بنظافة يديه ، يعني أحياناً تجد الابن يزداد وزنه بشكل غير معقول في سن مبكرة ، قد يلتهم من الطعام ما يؤذيه ، قد يتعود أن يأكل في الطريق دائماً ، وطعام الطريق فيه مشكلات كثيرة جداً ، يعني الأب الناجح يهيئ لأولاده الطعام الذي يحبونه في البيت ويأكل مع أفراد أسرته ، والله حدثني أخ توفي رحمه الله ، قال لي : لمدة عشرين أو ثلاثين سنة مع دقات ساعة الإذاعة البريطانية يتناولون طعام الغداء مجتمعين ، شيء جميل جداً أن يكون الاجتماع على مائدة الطعام ، والنبي عليه الصلاة والسلام يقول :
(( أذيبوا طعامكم بذكر الله )) .
[ شعب الإيمان باب في المطاعم والمشارب عن عائشة رضي الله عنها ]
من أروع ما يكون في الأسرة أن يجتمع أفراد الأسرة على طعام على وجبة واحدة الحد الأدنى ، هي الظهر أو المساء ، يتبادلون أطراف الحديث ، يسأل الأب ابنه عن أحواله ، عن دارسته ، عما رأى في المدرسة ، يستمع إلى أولاده ، إلى زوجته ، يأكلون بهدوء ، يعني هذه الحياة المعقدة كل شيء سريع هذا مزعج ، أنا أتمنى أن يكون هناك وعي صحي ، يعني مثلاً في شراب كيميائي ، وفي كأس لبن ، وفي شيء طبيعي ، يمكن أن تستبدل كل شيء كيميائي بشيء طبيعي ، أن تشرب الشراب الطبيعي ، والأسعار متقاربة ، يمكن أن تستبدل كل شيء محفوظ بالعلب بشيء طازج ، ينبغي أن تهتم ماذا تأكل ، في مأكولات مؤذية ، في مأكولات مسرطنة ، في أطعمة تدعو إلى السمن بشكل غير معقول(1/376)
، فلا بد من توعية صحية في البيت ، والوعي الصحي لا يحتاج إلى طعام غالٍ ، لكن يحتاج إلى طعام مدروس ، أيضاً الأب مهمته أن يعتني بصحة أولاده ، أكثر الأمراض الذي يعاني منها الإنسان في مستقبل أيامه بدأت معه في سن مبكرة من أخطاء في التغذية ، في أطفال لا يهتمون بالرياضة إطلاقاً والرياضة لها أثر كبير في صحة الإنسان ، كنت أقول دائماً ينبغي أن تعتني بإيمانه ، وبعقله ، وبنفسه ، وبعلاقاته الاجتماعية ، وبإرادته ، وبتحصيله العلمي ، وبصحته ، وبعاداته الخاصة ، وبعلاقاته الحميمة .
7ـ الاهتمام بالجانب النفسي لابنه :
الجانب النفسي هل عنده خجل ؟ الخجل مرض ، الحياء فضيلة ، لكن الخجل مرض ، الخجول لا يستطيع أن يعبر عن حاجاته ، ولا عن أفكاره يضطرب ، لكن الحياء ، قد يستحي الإنسان من معصية ، يستحي أن يراه أحد في شيء لا يرضي الله عز وجل ، فالحياء من الإيمان ، لكن الخجل من الشيطان ، هل يخاف ؟ هذا الأب وهذه الأم ، يعني أقول سامحها الله تخيف ابنها إما من المجهول ، أو من عفاريت ، أو من شياطين ، أو من بعبع ، هذا كله كلام لا أصل له ، فينشأ الطفل يخاف من الظلام ، أحياناً تسجنه في الحمام يخاف من كل شيء مغلق ، فأساليب الأم الجاهلة في التخويف بأشياء موهومة هذه تورث الخوف العام ، إذاً ينبغي أن تنتبه الأم إلى أنها حينما تخيف ابنها بأشياء موهومة قد تغرس فيه عقدة الخوف ، أحياناً الطفل عنده شعور بالنقص ، لا يستطيع أن يتكلم ، لأنه كلما تكلم يقول له أبوه اخرس ، اخرس أنت لا تفهم ، على مرتين ثلاث لا يستطيع أن يتكلم ولا بكلمة ، أياماً المعلم يقول له أنت غبي مثلاً ، أنت لا تفهم ، هذه الكلمات تحطم ، فالتوجيه الخاطئ ، والقمع ، والكلام السيئ ، والوصف الشنيع للطفل يجعله يتحطم ، الطفل يحتاج إلى تشجيع ، تكلم كلمة لا مانع هذا الصواب ، أنا عندي قاعدة بالتربية ليس العار أن تكون جاهلاً العار أن تبقى جاهلاً ، ليس العار أن تخطئ العار أن تبقى مخطئاً ، فأنت حينما تقمع وتقسو بالكلام ، تتهم بالغباء ، تقمعه أمام أخوته البنات ، أمام أقربائه ، أمام أمه أحياناً ، فالطفل ينشأ على الشعور بالنقص ، ليس واثقاً من نفسه أبداً ، دائماً خائف .
في أخطاء كثيرة جداً يرتكبها المربي أحياناً ، الأم والأب والمعلم ، أكثر الصفات التي تبغضها في الابن أحياناً بسبب الأب ، في أب قمعي ويقسو بالكلام ولا يعبأ بكرامة ابنه ، ولا بشخصيته ، قد يقسو عليه أمام أخوته ، أمام أخواته البنات ، قد يضربه ضرباً مبرحاً أمام أخواته ، فبعد أن ينتهي الضرب يشمتون به ، يتألم أشد الألم ، من الخطأ الشنيع أن تؤدب ابنك أمام أحد ، فيما بينك وبينه ، وقد يقبل الابن أن يؤدب فيما بينه وبين أبيه ، فالشعور بالنقص سبب القمع ، التحقير والإهانة ، أو الدلال المفرط كل شيء يأتيه إلى الفراش لا يفعل شيئاً ، ينشأ اتكالياً ، قد يتلقى خدمات من أمه وأبيه لكن بعد أن يكبر تعود أن يتلقى خدمات باستمرار ، لا أحد يخدمه ، يصبح اتكالياً ، عبئاً على(1/377)
الناس ، فيجب أن تربيه تربية استقلاليةً يعتمد على نفسه ، أحياناً الدلال المفرط يسبب شعوراً بالكسل والقعود ، أحياناً اليتم ، فقد الأب فقد الدعم ، أو يتم الأم ، أحياناً الفقر الشديد ، الفقر قدر ، لكن في فقر كسل بصراحة ، فقر القدر أنا أحترم هذا الفقر ، فقر الكسل ، لما الأب يتقن عمله تماماً ويربح ويطعم أولاده ، ويلبسهم ويلبي حاجاتهم يكون قد رفع معنوياتهم ، وأحياناً الطفل يسلك سلوك غضب شديد جداً بسبب الضغط ، الإنسان كلما ضغط ينفجر في النهاية .
8ـ الاهتمام بالجانب الاجتماعي لابنه :
ثم إن هناك جانباً اجتماعياً ، يعني علاقته مع الآخرين طيبة ، مواعيده صحيحة ، صادق معهم ، مؤنس أم انعزالي ، اجتماعي ، لطيف ، يراعي شعور الآخرين ويحترم مشاعرهم أم لا يعبأ بأحد ، يجب أن تلاحظ الجانب الاجتماعي .
9 ـ الاهتمام بالجانب الروحي لابنه :
ثم يجب أن تلاحظ الجانب الروحي ، له خشية من الله ، هل يصلي بخشوع ؟ هل يقرأ القرآن ؟ جوانب لا تعد ولا تحصى ، جانب الخشوع ، جانب الإرادة ، والجانب النفسي ، والجانب الاجتماعي ، وجانب الدين ، وجانب الخلق ، وجانب التحصيل العلمي ، هذه هي الملاحظة ، يعني الأب كله أعين ، كله إدراك ، كله متابعة ، ويعطي التوجيهات ، وعلى الله الباقي ، أدِّ الذي عليك واطلب من الله الذي لك .
أيها الأخوة ، يعني أنا والله أحياناً أتألم ، يأتينا طفل إلى المعهد بأخلاق سيئة جداً يكذب ، ويضرب ، ويؤذي ، أين أمه وأبوه ؟ ما في اهتمام ، عاداته سيئة جداً ، يعني قد يرتكب أخطاء فاحشة جداً عند الآخرين ، ولا يعبأ ، قد يلقي بحاجاته الخاصة جداً في مكان عام ، أو في بيت كان في ضيافته ، فأين الأب والأم ؟ أين التوجيه المستمر ؟ أين المتابعة ؟ أين الملاحظة ؟ فضلاً عن كل ذلك ينبغي أن تلاحظ عبادته ، صلواته ، صيامه ، قد تكتشف أنه لم يصم برمضان ، لم يكن جائعاً ، والصيام طويل ، معنى ذلك أنه غير صائم ، هل تابعت السبب ؟ ناقشته ، بينت له حكم الشرع ، الصيام فريضة ، الله عز وجل يثيب الصائم ، يغفر له ذنوبه ، يعني أرجو الله سبحانه وتعالى أن يترجم هذا الدرس إلى واقع ، ينبغي أن تلاحظ عقيدته ، كتبه ، مجلاته ، أصدقاءه ، مصادره الثقافية ، مصادر التغذية عنده ، ينبغي أن تلاحظ أيضاً أخلاقه ، صدقه ، أمانته ، ضبطه لعلاقاته ، ينبغي أن تلاحظ إرادته ، ينبغي أن تلاحظ تحصيله العلمي ، ينبغي أن تلاحظ واقعه الاجتماعي مع الآخرين ، ينبغي أن تلاحظ نفسيته ، عنده شعور بالنقص ، عنده كآبة ، عنده عدم ثقة بنفسه ، ينبغي أن تلاحظ صحته ، عبادته ، كل شؤون حياته .
كلما ارتقى الأب في جانب المعرفة كان أقدر على الملاحظة ، يعني لو فرضنا مثلاً للتوضيح أن أباً ضعيفاً جداً في اللغة قال لابنه : اقرأ لي هذه الصفحة ، قد يرتكب الابن عشر أخطاء والأب لا(1/378)
يعرف أنه أخطأ ، فكلما ارتقت ثقافة الأب العلمية ، والدينية ، والأخلاقية ، والاجتماعية ، صار مربياً ، هذا الكلام موجه للمعلم والأب معاً .
سمعت عن أم بكندا أعطت ابنها قطعة سكاكر ، بعد ثلاثمئة متر سألته : أين الورقة ؟ قال : رميتها ، فعادت معه ثلاثمئة متر ، إذا كل عمودين في خمسين متر كم عمود قطعت ؟ ستة عواميد ، قالت له : خذها وضعها في سلة المهملات .
والله دخلت بيتاً في أستراليا يعني شيء لا يصدق ، الحذاء على الطاولة ، شيء العقل لا يصدقه ، أشياء غير معقولة إطلاقاً لا يوجد تربية ، ولا نظام ، ولا ترتيب للثياب ، ولا ترتيب للحاجات ، قد يكون إهمال من الأب والأم ، فهذه العادات السيئة تزعج جداً ، البيت المضطرب يوتر الأعصاب ، الحاجات الكثيرة بالبيت توتر الأعصاب ، الفوضى بالبيت توتر الأعصاب ، دائماً في ضغط نفسي ، في ضجر ، أما البيت المرتب مريح جداً ، البيت النظيف مريح ، الحاجات المتناسقة مريحة جداً .
أيها الأخوة أرجو الله سبحانه وتعالى أن يكون هذا الدرس معبراً عن حاجة أساسية لنا جميعاً في تربية أولادنا ، لا حظ كل شيء ، واضبط كل شيء ، وفاجئ ابنك في أي حين وتابع كتبه ، ورسائله ، وحاجاته الأساسية ، ومقتنياته ، استمع إليه أحياناً ، ماذا يقول على الهاتف ؟ كيف يحادث أصدقاءه على الهاتف ؟ هذا كله أنت مطالب به لأنك أب ، ولأن الله سبحانه وتعالى منحك سلطة على ابنك ليس فوقها سلطة .
=================== ... ...(1/379)
39- وسائل تربية الأولاد ( 9 ) : التربية بالعقوبة ( 1 )
أيها الأخوة المؤمنون لا زلنا في سلسلة دروس تربية الأولاد في الإسلام ، ولا زلنا في الجزء الثاني وهي الوسائل الفعالة في تربية الأولاد .
تحدثت عن التربية بالقدوة وعن التربية بالتعويد والتلقين وعن التربية بالموعظة والملاحظة ، واليوم ننتقل إلى التربية بالعقوبة .
أيها الأخوة الكرام من الثابت أن جزءاً من بني البشر لا يمكن أن يرتدع إلا بالعقوبة ، ولأن الله خالق البشر وهو الخبير بهم قال في كتابه الكريم :
* وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ (179) *
(سورة البقرة)
الأصل أن تكون ليناً وتتخذ من الموعظة والقدوة والملاينة والملاطفة والإقناع والتوجيه ولفت النظر الوسائل التي تحمل المربى على أن يستجيب لك ، أما حينما لا يستجيب بهذه الوسائل عندئذ لا بد من العقاب .
أيها الأخوة الكرام من خلال تعاملي مع الناس هناك نمط لا يمكن أن يستجيب إلا بدافع الخوف من العقاب ، ألم يقل الله عز وجل :
* وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ (60) *
(سورة الأنفال)
قد تحوز سلاحاً ولا تستخدمه ، لكن لمجرد أنه معك سلاح فتّاك الذين حولك يهابونك ، لا بد في بعض الأحيان ومع بعض الأشخاص من أن تستخدم أسلوب العقاب .
هل تتصورون في الأرض قانوناً يصدر من دون رادع ؟ هل يصدر قانون للسير من دون عقوبات ؟ لا قيمة له إطلاقاً .
أيها الأخوة ، في الغرب رأوا أن العقاب شيء تقليدي أو غير حضاري أو همجي ووحشي فألغوا عقوبة الإعدام ، واضطرت معظم الدول إلى أن تعود إليه مقهورة لأن الجريمة استشرت ، والقتل استحل ، والتجاوزات شاعت ، ولا يمكن أن ينضبط الإنسان إلا حينما يخاف من الواحد الديان ، لذلك في القرآن الكريم وهو كلام الله عز وجل ومنهج خلق البشر شرّع العقوبات ، نبهنا إلى أن الرحمة في موضع إقامة الحد خطأ كبير .
* وَلَا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ (2) *
(سورة النور)
سابقاً وليس الآن بلد بعيد بعد الأرض عن السماء عن أساليب الحضارة ، لمجرد أن يطبق قانون السرقة ترى فيه العجب العجاب ، الذي يبيع النقد يذهب ليصلي وصندوق النقد مفتوح تحت أعين(1/380)
الناس وأيديهم ، ولا أحد يجرؤ أن يمد يده إلى شيء ، في بلد بعيد عن التحضر بمقياس العصر ، ومع ذلك حين أقيم حد السرقة ترى فيه العجب العجاب ، وبلد آخر هو قمة في الحضارة المادية ، في كل ثلاثين ثانية ترتكب جريمة قتل ، أو جريمة سرقة ، أو جريمة اغتصاب ، وهذا الإحصاء عام خمسة وستين ! كل ثلاثين ثانية ، جُمعت جرائم القتل والسرقة والاغتصاب وقسمت على ثواني العام فكان كل ثلاثين ثانية لا بد من جريمة قتل أو سرقة أو اغتصاب !!
أن يكون هناك رادع يمنع الإنسان من أن يرتكب إثماً هذا الشيء لا بد منه ، المدرسة الناجحة والمؤسسة والجامعة والمستشفى وأي عمل ناجح لا بد من أن يكون العقاب رادعاً للموظفين حتى لا يتجاوزوا حدودهم .
أخواننا الكرام عندنا خمسة مقاصد للشريعة أساسية في حياة المسلمين ، المقاصد هي الحفاظ على الدين وعلى الحياة وعلى العِرض وعلى العقل وعلى المال ، أن يسلم دينك وحياتك وعقلك وعرضك ومالك هذه مقاصد الشريعة الكلية ، ولكل مقصد من هذه المقاصد حد رادع ، فالذي يعتدي على دين الأمة ، أن يكفر فيما بينه وبين نفسه لا شيء عليه ! لأن الإنسان حر ولا إكراه في الدين ، وله أن يعتقد ما يشاء ، أما حينما تريد أن تسفه دين الأمة بلسانك أو بقلمك أو بأعمالك الفنية أو بقصصك فلا بد من عقاب رادع وهو القتل ، حد القتل ، لكن هذا الذي يرتدّ عن دينه من السذاجة أن تظن أنه يحاسب فوراً ، لا بد من أن يستتاب ويجلس معه عالم كبير ويقنعه إلى أمد طويل ، فإذا أقيمت عليه الحجة ولم يرتدع ويسكت وبقي يطعن في دين الأمة ومقدساتها هذا إنسان يخرب عقائد الناس ومقدساتهم .
الاعتداء على دين الأمة له حد ولكن لا يطبق فوراً بل بعد الإصرار والإقناع وبعد إقامة الحجة ، والعدوان على حياة الناس حده القتل .
* وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ (179) *
(سورة البقرة)
المؤمن حينما يرى أنه إذا قتل نفساً لا بد من أن يُقتَل لا يَقتُل وفر لهذا الإنسان حياته ووفر له حياته ، فضمنَّا حياة المقتول والقاتل حينما نضع للقتل حداً ، لذلك العرب في الجاهلية قالت : القتل أنفى للقتل ، لكن القرآن يقول :
* وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ (179) *
(سورة البقرة)
نعمة الأمن لا تعدلها نعمة على الإطلاق ، أقول لكم هذا : لي صديق جاء من أمستردام إلى دمشق على طائرة هولندية ـ قصة قديمة ولا تزال قائمة ـ فألقيت رسالة باللغة الإنكليزية للركاب ، هذه الرسالة كما يلي : أنتم راكبون إلى أأمن بلد في العالم ، بمعنى أنه بإمكانك أن تتجول أنت وزوجتك(1/381)
إلى ساعة متأخرة من الليل دون أن تخشى شيئاً ، هذه نعمة لا يعرفها إلا من فقدها ، لا تستطيع في معظم الدول بعد غياب الشمس أن تتجول بحريَّة لأن هناك من يعتدي على حياتك وزوجتك .
ليس هذا كلاماً عاماً ، هناك أماكن كثيرة وفي مراكز المدن الإنسان ليس آمناً على نفسه ، لكن نعمة الأمن التي يوفرها الدين هذه نعمة لا تقدر بثمن ، بل إن الإقامة ببلد لست آمناً فيها محرمة ! لأن الأمن قوام الحياة ، رأيتم فيما مضى في بلاد تجاورنا الإنسان ثمنه رصاصة ، ولا شيء يدفعه القاتل إذا قتل قتيلاً حتى لخلافات بسيطة ولديون بسيطة ، كان الإنسان يقتل غريمه وينتهي الأمر .
من أكبر النعم نعمة الأمن قال تعالى :
* الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآَمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ (4) *
(سورة قريش)
حد الاعتداء على الدين والحياة واضح جداً ، هناك حد الاعتداء على العرض ، يكفي أن تقذف امرأة محصنة لا بد من أن تجلد ثمانين جلدة ولا تقبل لك بعدها شهادة أبداً ، لأن قذف محصنة يهدم عمل مئة سنة .
أيضاً سمعة الإنسان شيء مهم جداً سماه العرب في الجاهلية العِرض ، نحن إذا قلنا عرض فلانة نتصور أن ينتهك عرضها ، لكن العِرض سمعة الإنسان وموطن المدح والذم في الإنسان ، وكما أن المرأة إذا اعتدي على سمعتها يستحق الذي يقذف المرأة ثمانين جلدة كذلك إذا اعتديت على سمعة رجل بالباطل الحكم الشرعي نفسه يجلد ثمانين جلدة ، فلان حرامي أو زاني بلا دليل لا بد من أن يُرجَم الذي يقذف المحصن والمحصنة ثمانين جلدة .
العدوان على الدين والحياة والعرض والعقل بشرب الخمر لكل منهم حد ، حدثني أخ كان بسفر دعي إلى طعام ، هو يعمل في مجال التربية ، وحضر الطعام نخبة من كبار رجال التربية في تلك المحافظة ، وموجهون تربويون ومدرسون قدماء لكن شربوا الخمر ، فسمع منهم كلاماً لا يمكن أن يقوله الذي قاله في صحوته مستحيل ! وصل لمناطق حميمة جداً ولذكر أسماء ولعلاقات شائنة لا يمكن أن يقولها إذا كان في صحوته قالها في سكرته ، فلذلك الذي يشرب الخمر يعتدي على عقله .
تروي بعض القصص : إنسان خُيّرَ بين أن يزني بامرأة وبين أن يقتل طفلاً وبين أن يشرب خمراً ، فتوهم هذا الإنسان أن أهون شيء شرب الخمر ، فشرب الخمر فزنى بالمرأة وقتل الغلام ، لذلك ورد أن الشر كله جمع في بيت ثم أرتج عليه فكان مفتاحه شرب الخمر ، فحد الارتداد والقتل والقذف وحد فقد العقل بالخمر وحد السرقة بقطع اليد .
والله أيها الأخوة لي أقرباء كثر كانوا في بلد إسلامي يقام فيه حد السرقة والله سمعت قصصاً ولا يمكن أن تكون بالخيال ، حتى سمعت من برنامج من إذاعة بعيدة جداً في أقصى الغرب عن هذا البلد الذي يقيم حد السرقة ، إنسان يحمل كيساً فيه ملايين ليشتري حاجات على ظهره ، رواتب موظفين(1/382)
محافظة بعيدة جداً تبعد ألفين كيلو متر توضع في شاحنة ورق ، في أوروبا قطارات مصفحة ومسلحة ومع ذلك تسرق ، فحينما يقام حد السرقة في بلد يصبح الناس آمنين على أموالهم ، أما حينما يكتفي بالسجن فقط ، وقد يخرج بكفالة وقد وقَد وقد... يوجد ألف حل ، أما حينما يوقن الذي سيسرق أن يده سوف يفقدها ، بلد فيها عشرون مليوناً لو أقيم حد السرقة لا تقطع إلا عدة أيادي في السنة كلها ! لكن ضمنّا بقاء الأموال لأصحابها ، فالمال قوام الحياة ، هذه العقوبات شرعية مئة بالمئة لأن خالق الإنسان والخبير والعليم هو الذي شرعها .
حد الارتداد وحد القتل وشرب الخمر والسرقة والقذف ، لكن في الإسلام عقوبات أخرى اسمها التعزيرات تبدأ بالتوبيخ وقد تتطور إلى الضرب والسجن ، لكن لا يجوز أن تصل إلى الحد الذي رسمه الشرع .
ولي أمر المسلمين قد يضع لكل مخالفة عقاباً لها ، من هذا العقاب السجن أو كتاب توبيخ أو ضرب ، فهذه تعزيرات إن لم تكن حدوداً ، حرية حركة بها يرى من المناسب أن يفعل كذا وكذا .
يوجد حد سادس هو حد الإفساد في الأرض .
* إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَاداً أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآَخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (33) *
(سورة المائدة)
لا أريد أن أطيل عليكم ، لكن البلاد التي قللت من العقوبات تعاني ما تعاني من الويلات ، كل حين نسمع عن إنسان دخل وقتل ثمانية ، خمسة عشر ، أو أكثر ، بلبنان قبل شهر دخل إنسان قتل ثمانية ، حينما نهون من قيمة العقاب تنشأ مشكلات ليس لها حلول .
أقول لكم مرة ثانية بدأت بعض الدول التي منعت عقوبة الإعدام بإعادة هذه العقوبة كرادع كبير للمجتمع من أن تشيع فيه الجريمة .
مرة سمعت تصريحاً لرئيس من رؤساء أميركا السابقين أن أمريكا مهددة بأربع مشكلات خطيرة ! فقبل أن يتابع كلامه تصورت أن هذه المشكلات هي الصين أو التجمع الأوروبي أو اليابان أو ما شاكل ذلك ، ثم فوجئت بشيوع الجريمة وتفكك الأسرة وانتشار المخدرات .
سيدنا عمر مرة قيل له : يا أمير المؤمنين إن الناس هابوا شدتك فبكى وقال : والله لو يعلم الناس ما في قلبي من الرحمة لأخذوا عباءتي هذه ، ولكن هذا الأمر لا يناسبه إلا كما ترى ، أيها الناس : كنت خادم رسول الله وجلواده وسيفه المسلول ، وتوفي وهو راض عني ، والحمد لله على هذا كثيراً وأنا به أسعد ، ثم كنت خادم أبي بكر وسيفه المسلول وجلواده ، وتوفي وهو عني راض والحمد لله على هذا كثيراً وأنا به أسعد ، ثم آلت الأمور إلي فاعلموا أيها الناس أن تلك الشدة قد أضعفت ، وإنما(1/383)
تكون على أهل المعصية والفجور ، أما أهل التقوى والصلاح فأنا ألين لهم من أنفسهم ، وسأضع خدي على الأرض ليدوسوه بأقدامهم ، أيها الناس : لكم علي خمس خصال خذوني بهن : لكم علي أن لا آخذ من أموالكم شيئاً إلا بحقه ، وألا أنفقه إلا بحقه ، ولكم علي أن أزيد عطاياكم إن شاء الله تعالى ، ولكم علي ألا أجمركم في البعوث ، وإذا غبتم في البعوث فأنا أبو العيال حتى ترجعوا .
لا بد من الشدة ، هل تصدقون أن سيدنا عمر كان وزير عدل في عهد سيدنا أبي بكر الصديق ؟! وجلس في مجلس القضاء سنتين دون أن يختصم إليه اثنان !
الآن ستون ألف دعوة بقسم وثلاثون ألفاً بقسم وأربعون ألفاً بقسم ، عدد الدعاوى التي ترفع إلى محاكم المسلمين فلكي ، وأكثرها كيدي ، وأكثرها أساسه العدوان على الحقوق والأموال والأعراض والعلاقات الشخصية ، المشكلة كلما طبق المسلمون منهج الله عز وجل قلت الخصومات ، الأصل أن الله حينما شرع لك منهجاً من أجل أن تتفرغ لعبادته ، لو دخل اثنان القضاء الأسرتان ومن حولهما تتوتر أعصابهما وتضطرب حياتهما لسنوات عديدة ، أما البطولة ألا تدخل إلى القضاء .
سيدنا عمرو بن العاص سأله معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه : يا عمر ما بلغ من دهائك ؟ قال : والله ما دخلت مدخلاً إلا أحسنت الخروج منه ، قال : لست بداهية يا عمرو ، أما أنا والله ما دخلت مدخلاً أحتاج أن أخرج منه !
البطولة اكتب إيصالاً فهو يلغي دخولك القضاء ، اكتب عقداً وصدِّقه بمحكمة البداية ، اربط أخاك بعقد فإنك بهذا تمنع عنه الشيطان ، أما إن لم يكن عقد بينكما فالشيطان جاهز ، وكم من اغتصاب شركة وبيت بسبب تسيب الأمور بلا عقد ، أكثر المنازعات اليوم اشترى بيتاً من ثلاثين سنة ولم يسجله في السجل العقاري بسبب كسله كان ثمنه ثلاثين ألفاً الآن ثمنه ثلاثة عشر مليوناً ، مالك البيت هل يعقل أن يسجله بالسجل العقاري ؟ لا يسجله لأنه يريد فرق مئتي ألف أو نصف مليون أو مليون ، المال الحرام ، لو سجلته في ذلك الوقت لما وصلت لما وصلت إليه ، أكثر المنازعات سببها طمع ، والطمع سببه لا يوجد قيد ، فإذا كل قرض بإيصال وبشاهدين ، وكل اتفاق بعقد ، وكل عقد بيع كبير بعقد مكتوب فيه كل الشروط لا نصل إلى القضاء .
أحياناً تسمع إنساناً يمدح نفسه قائلاً : أنا لا أعرف المخفر والقضاء وقصر العدل لو أنصف الناس لاستراح القاضي وبات كل عن أخيه راضٍ ، لذلك ورد :
(( عج حجر إلى الله تعالى فقال : إلهي وسيدي عبدتك كذا وكذا سنة ثم جعلتني في أس كنيف فقال : أو ما ترضى أن عدلت بك عن مجالس القضاة .))
[ رواه تمام وابن عساكر عن أبي هريرة ]
لأن يكون هذا الحجر في أس كنيف أشرف له ألف مرة من أن يكون في مجلس قاض ظالم .(1/384)
يروى أنه عقب الحرب العالمية الثانية زعيم بريطانية سأل وزراءه واحداً وَاحداً فسأل وزير الصناعة : كيف الصناعة عندك يا مستر فلان ؟ قال : المعامل كلها مدمرة ، سأل وزير الزراعة : كيف الزراعة عندك يا مستر فلان ؟ قال : الحقول كلها محروقة ، سأل وزير الخزانة : كيف الخزانة عندك يا مستر فلان ؟ قال : خاوية على عروشها ، سأل وزير العدل : كيف العدل عندك يا مستر فلان ؟ قال : العدل بخير ، فقال هذا الزعيم : كلنا إذاً بخير ، أنت حينما تجلس في مجتمع بإمكانك أن تقاضي أي إنسان وتنال حقك فأنت في مجتمع الخير والعدل أساس الملك .
* وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ (58) *
(سورة النساء)
في محكمة الجنايات لوحتان رائعتان ، لوحة فوق رأس القاضي يراها المتهمون في قفص الاتهام كُتِب عليها :
* وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ (179) *
(سورة البقرة)
هذه الآية القرآنية يقرؤها المذنبون ، وكتب فوق رأس المذنبين آية قرآنية يقرأها القاضي :
* وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ (58) *
(سورة النساء)
سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول :
(( لَوْ أَنَّ فَاطِمَةَ بِنْتَ مُحَمَّدٍ سَرَقَتْ لَقَطَعْتُ يَدَهَا .))
[البخاري عن عائشة رضي الله عنها]
(( أَتَشْفَعُ فِي حَدٍّ مِنْ حُدُودِ اللَّهِ ، ثُمَّ قَامَ فَاخْتَطَبَ ثُمَّ قَالَ : إِنَّمَا أَهْلَكَ الَّذِينَ قَبْلَكُمْ أَنَّهُمْ كَانُوا إِذَا سَرَقَ فِيهِمُ الشَّرِيفُ تَرَكُوهُ ، وَإِذَا سَرَقَ فِيهِمُ الضَّعِيفُ أَقَامُوا عَلَيْهِ الْحَدَّ ، وأيم اللَّهِ لَوْ أَنَّ فَاطِمَةَ بِنْتَ مُحَمَّدٍ سَرَقَتْ لَقَطَعْتُ يَدَهَا )) .
[البخاري عَنْ عَائِشَةَ رَضِي اللَّه عَنْهَا]
كمقدمة للتربية بالعقوبة قلنا : العقوبة لا بد منها لأن الشرع قررها ، والشرع قرر حدوداً متعلقة بمقاصد الشريعة الخمسة ، وقرر تعزيرات تركت لولي المسلمين ، عقوبات تبدأ بالتوبيخ وتنتهي بالسجن ، لكن ينبغي أن تكون دون الحدود التي شُرِّعت في القرآن الكريم .
مرة ثانية أيها الأخوة الأصل اللين واللّطف والتوجيه والتعليم .
(( علموا ولا تعنفوا فإن المعلم خير من المعنف )) .
[الحارث والطيالسي وابن عدي والبيهقي عن أبي هريرة]
(( إن الله رفيق يحب الرفق )) .(1/385)
[أخرجه البخاري ومسلم وأبو داود والدارمي وابن ماجة عن أبي هريرة]
(( عليك بالرفق إن الرفق لا يكون في شي إلا زانه ولا يُنْزَع من شي إلا شانه)) .
[رواه مسلم عن عائشة رضي الله عنها]
هذا الأصل ، ولأن معظم النفوس تستجيب للتوجيه والإرشاد ، أنت كأب أو كأخ كبير أو كمعلم نبِّه ووضِّح بلطف ، هذا الشيء حرام ويُغضِب الله ويُفسِد حياتك ويُسِيء إلى سمعتك ويكون عقبة أمام نجاحك بيِّن ، وضِّح ، فَصِّل ، ائتِ بالدليل العقلي والواقعي والفطري والطبيعي والعاطفي فالأصل :
(( علموا ولا تعنفوا )) .
[الحارث والطيالسي وابن عدي والبيهقي عن أبي هريرة]
(( عليك بالرفق )) .
[رواه مسلم عن عائشة رضي الله عنها]
(( يسرا ولا تعسرا )) .
[متفق عليه عن أبي موسى ومعاذ ]
لكن أحياناً آخر الطب الكي ، فقد لا يجدي الرفق ولا التوجيه ولا الإرشاد ولا الموعظة لا بد من العقاب .
يوجد طفل مزاجه لطيف ومسالم ، هذا الطفل إذا ضربته تحطمه ، أنا أستخدم كلمة قاسية جداً ، الطفل الذي له مزاج لطيف وعنده رقة وحياء هذا لو ضربته أنت في حقه مجرم ! وتجد طفلاً ـ والعياذ بالله ـ لا يمكن أن يرتدع إلا بالضرب ، فالبطولة أن تعرف الفروق الفردية بين الصغار ، يوجد طفل إذا أعرضت عنه فقط يحترق ، لو صرفت وجهك عنه .
أيها الأخوة الحقيقة من أطاع عصاك فقد عصاك ، هذا الذي يخاف من ضربك لا يحبك وأنت لست ناجحاً معه ، ومرة ثانية من السهولة بمكان أن تكون عنيفاً ، ومن السهولة أن تكون ليناً ، لا تكن ليناً فتعصر ولا تكن قاسياً فتكسر ، البطولة أن تحيِّر الذي تربيه ، بينما أنت في أعلى درجات الرحمة أنت في أعلى درجات الشدة ، هذا معنى الآية الكريمة :
* رَغَباً وَرَهَباً (90) *
(سورة الأنبياء)
رجاء وخوفاً .
أخواننا الكرام هناك حقيقتان خطيرتان في هذا الدرس ؛ أول حقيقة أنت أب أو معلم أو أخ أكبر إذا قدمت شيئاً ثميناً لابنك ، قدمت له حاجاته ومتطلباته ووفرت له كرامته ، وكنت لطيفاً معه ، ويوجد ود بينك وبينه ، فالابن أو التلميذ يعد للمليون قبل أن يزعجك في شيء ثمين أخذه منك ، أما(1/386)
إذا كانت حاجاته كلها غير مؤمنة وقسوة بالغة ، فلم يعد هناك رغبة عند المتعلم أن يرعى رغبات المعلم ، فعندما تقدم شيئاً ثميناً مثلاً لو فرضنا موظف يتلقى من محل تجاري مبلغاً أقل بكثير من حاجته ، وفي قسوة ، ولا يوجد معاملة طيبة ورحمة ، لا تجد هذا الموظف حريصاً على تنفيذ تعليمات صاحب المحل ، أما إذا كان الراتب مجزياً ، والمعاملة طيبة ، والمكافئات كثيرة فهذا الموظف يعد للمليون قبل أن يزعج صاحب العمل .
معلم بصف عندما يعلم بإخلاص ، ونفسه لطيفة ، ومرح مع الطلاب ، وهو أخ أكبر لهم أو أب ، فهذه المعاملة الطيبة ، والعلم الغزير ، والتوجيه الرقيق ، والقيم الأخلاقية العالية هذه تجعل الطالب حريصاً على طاعة المعلم ، والأب كذلك ، فالأب المثالي قلما يجرؤ ابنه على التطاول عليه ، لا يجرؤ لأنه أخذ حقه ، والله أعرف أخاً من أخواننا عنده أولاد أكرمهم إكراماً بالغاً ، زوَّجهم وهيأ لهم عملاً واشترى لهم بيتاً ضمن إمكانيته ، فكلما زرته والله أرى احترام أولاده له يفوق الخيال ، بعض الآباء يقولون دبر حالك أنا رُبِّيت عصامياً ، دبر حالك ، لا يساعده أبداً ، ولا يوجد كلام طيب ، ولا إنصاف ، ولا أي شيء آخر أحياناً يتطاول ، فهذه النقطة مهمة جداً حينما تقدم شيئاً ثمينا جداً لمن تعلمه أباً كنت أو معلماً فهذا الذي يتعلم منك حريص حرصاً ليس له حدود على إرضائك وعلى طاعتك ، لا تحتاج لعقوبة بعدها ، أما إذا كان لا شيء منك غير القسوة والكلام القاسي والسباب والشتائم والقهر والإذلال ولم تقدم شيئاً لمن تعلمه ، طبعاً لا قيمة لك عنده ولا يهمه غضبك أو رضاك ، فبقدر ما تقدم تكتسب هيبة وبقدر ما تكتسب هيبة لا تحتاج إلى العقوبة ، أقسم لي أحد الآباء أنه ربى كل أولاده لم يسبهم مرة ، ولا كلمة قاسية ، ولم يضرب أحداً ، الحاجات مؤمنة في توجيه سديد ، الأب مثالي حريص على تقديم كل شيء لأولاده ، فبالتربية قاعدة تقول : خطأ الابن سببه الأب ، فإذا قدمت الشيء الجيد قلما تحتاج لاستخدام عقوبة .
شيء آخر لو تصورنا أسرة فيها قسوة ، الأب يقسو ويسب الأم أمام الأولاد وقد يضربها ، والأخ الأكبر يتلقى الإهانة تلو الإهانة من الأب ، هذا الجو جو عنف ، فتجد الأخ الأكبر ضرب الأخ الأصغر وسبَّه سباباً قاسياً ، إذا كان رأس البيت قاسياً أفراد البيت يتمثلون هذه القسوة بأبشع صورها ، تجد البيت هادئاً قلما يعلو صوت ، كله ابتسامة ، واعتذار ، ومؤاثرة ، والله أكاد أبلغ درجة من الإعجاب ببعض البيوت من شدة الانضباط الذي فيها ، فيها مؤاثرة وتضحية وكلام لطيف وصون للحقوق .
عندما جاءت لسيدنا عمر كنوز كسرى كان إلى جانبه سيدنا علي ، فقال سيدنا عمر : يا سبحان الله ، سبَّح الله على هذه الأمانة ، شخص أتاه بكل هذه الملايين وتاج كسرى لو ذهب إلى أنطاكية والقسطنطينية وباع التاج واشترى بيوتاً وأراضي وقصوراً لعاش برفاهية إلى آخر حياته ، فجاء بكل(1/387)
هذه الكنوز لأمير المؤمنين ولم يأخذ منها شيئاً ، فقال سيدنا عمر : يا سبحان الله ، فقال سيدنا علي : يا أمير المؤمنين أعجبت من أمانته ؟ لقد عففت فعفوا ولو وقعت لوقعوا .
إذا كان الأب مثالياً هذا يكفي ، وأن يكون أخلاقياً وورعاً وعفيفاً وصادقاً ، تجد الابن صادقاً ويصلي ، بيت تقام فيه الصلوات الخمس الأولاد يصلون بشكل طبيعي ، فالقدوة سلاح فعال في التربية لا يقدر بثمن ، أحد كبار المربين المسلمين ابن خلدون يقول : إن من يعامَل بالقهر يصبح حملاً على غيره .
الابن إذا قسوت عليه قسوة شديدة يفقد ثقته بنفسه ، فيصبح عبئاً عليك ولا يحسن شيئاً ، أضعفت له ثقته بنفسه ، إذا تكلم تقول له أن يصمت ، أراد مساعدتك تخبره بعدم معرفته ، لم يعد يفعل شيئاً أبداً ، ضعيف الثقة بنفسه مهزوز الشخصية ، إذا جلس بمكان لا يستطيع أن يتكلم كلمة ، وبعض أمراض الكلام تتأتى من قسوة الأب مثل التأتأة والفأفأة والحبسة ، أمراض الكلام مخيفة أسبابها نفسية فقط ، معظم أمراض الكلام نفسية تأتي من قسوة الأب أو المعلم .
أخ كريم زوج ابنته لزوج قاس ٍجداً ، فالبنت تركت بيت زوجها وجاءت لبيت أبيها ، وفي هذا البيت جاء الزوج غاضباً وطرق الباب ودخل وهجم على زوجته أمام طفل صغير فأصيب فوراً بالحبسة من خوفه ، وعانى منها حوالي اثنتي عشرة سنة ، تذكروا هذا الحديث :
(( عليك بالرفق إن الرفق لا يكون في شي إلا زانه ولا يُنْزَع من شي إلا شانه)) .
[رواه مسلم عن عائشة رضي الله عنها]
البيت الذي فيه رفق ، ولا يوجد فيه صياح ، ولا ضرب ، ولا قتل ، ولا تخبيط أبواب ، ولا كسر بلور ، ولا أعمال عنف ، هذا البيت فيه ملائكة وراحة نفسية ، فبقدر ما تكون هادئاً بقدر ما يكون الذين معك هادئين ، الحلم سيد الأخلاق وكاد الحليم أن يكون نبياً .
يقول ابن خلدون : إن من يعامل بالقهر يصبح حملاً على غيره ، إذ هو يصبح عاجزاً عن الذود عن شرفه وأسرته لخلوه من الحماسة والحمية .
إذا بنت مهانة في بيتها ، أمها تشتمها ، وأبوها كذلك ، ودائماً محتقرة ، هذه تصبح لينة مع أي أجنبي ، من تسمع منه كلاماً معسولاً تلين معه ، لأنها فقدت العطف من بيتها ، أنا لا أعطي مبرراً ، لكن البنت لا تُضرَب فلها مكانة كبيرة ، والنبي عليه الصلاة والسلام كان يقف لفاطمة وهذا شيء غريب جداً ، لما جاءته قال :
(( ريحانة أضمها وعلى الله رزقها )) .
[ ورد في الأثر ]
لا يوجد أقرب من البنت لأبيها ، فالذي تسول له نفسه أن يضرب ابنته مشكلة كبيرة ، البنت أساسها الحياء والخجل ، ومحبة الأب والأم ، فالأب والأم القاسيان على ابنتهم دائماً كلام قاسي(1/388)
وتوبيخ ، لو فرضنا تكلم إنسان غريب على الهاتف كلاماً لطيفاً تجدها مالت هذه مشكلة كبيرة جداً ، فعندما تعطي أولادك العطف الكافي تكسب ودهم ، والله حدثنا أساتذة في التربية أنهم عملوا تجربة أم أرضعت ابنها بقسوة ـ عندهم التجارب تستمر ثلاثين سنة ـ وأم أرضعتهم بلين اختلفت طباع الطفلين ، كيف الإنسان يحب ؟ يتغذى من حنان أمه وأبيه ، الحنان غذاء غير الطعام والشراب ، أحياناً الخادمة تقدم للطفل كل شيء لكن لا يوجد عندها حنان ، أو بنت تربى عند زوجة أبيها لا يوجد رحمة ، تنشأ عندها صفات غريبة جداً .
أيها الأخوة البيت الذي فيه رحمة وحب وهدوء وحلم ورفق هذا البيت كل أفراده يطبعون بهذا الطابع ، الموضوع عن العقوبة لكن نعتبر التوجيه والرفق والملاطفة والملاينة .
إن شاء الله في درس قادم ننتقل إلى تفاصيل كيف تستخدم العقوبات ؟ يوجد إنسان يستخدم أقصى عقوبة أول شيء ، يجب أن تبدأ بأخف عقوبة ثم تضاعف العقوبة بالتدريج ، فالموضوع التدرج في المعالجة من الأخف إلى الأشد ، ممكن أن تبدأ بالتوجيه وبالملاطفة وكله فيه إشارات من النبي عليه الصلاة والسلام ، ممكن بالإشارة أو بالتوبيخ أو بالهجر أو بالضرب ، هذا كله إن شاء الله سنقف عنده في الدرس القادم بالتفصيل ، وسنذكر الأساليب التي علمنا إياها النبي عليه الصلاة والسلام .
أيها الأخوة أرجو الله عز وجل لمن عندهم أولاد ولمن يعملون في حقل التربية والتعليم ولمن هم مقدمون على الزواج أن يرعوا هذه الأساليب ، لا يوجد أسعد من بيت يسوده الود والتفاهم والوئام ================
... ... ...(1/389)
40- وسائل تربية الأولاد ( 10 ) : صفات المربي .
أيها الأخوة الكرام لازلنا في سلسة تربية الأولاد في الإسلام ، ولا زلنا في القسم الثاني منها ، ولقد أنهينا في الدروس السابقة بفضل الله عز وجل الوسائل الفعالة في تربية الأولاد من القدوة الصالحة ، إلى التعويد والتلقين ، إلى الملاحظة ، إلى العقوبة ، إلى الوعظ والإرشاد .
ها نحن ننتقل إلى صفات المربي ، ننطلق من قاعدة تربوية أساسية أن فاقد الشيء لا يعطيه ، لا تنتظر أن يكون المتعلم على خلق إن لم يكن هذا الخلق موجوداً عند المعلم ، لذلك نبدأ بصفات المربي الأب ، أو المعلم ، أو من تصدى لتربية الأجيال ، ينبغي أن يعلم علم اليقين أن نجاحه في عمله لا يتحقق إلا إذا كان متصفاً بصفات أساسية ، منها الإخلاص .
حينما يخلص المعلم أو الأب في تربية ابنه أو تلميذه فالله سبحانه وتعالى يلهمه الأساليب الفعالة ، يجب أن تعتقد دائماً أن الإنسان ضعيف ، وفقير ، وجاهل ، لكن إذا استعان بالله ألهمه الله رشده وصوابه ، ما من إنسان نجح في تربية أولاده ، وما من معلم نجح في تربية تلاميذه ، وما من شيخ نجح في تربية أخوانه إلا لأنه أخلص في خدمتهم ، ثمن إخلاصه أن الله يلهمه الصواب .
الله عز وجل قد يؤتي الحكمة ، وقد يعلمك كيف تؤثر بمن حولك ، وقد يعطي لكلامك قوة تأثير لا يعلم سببها ، نحن أحياناً نجد إنساناً لا يملك وسائل تربية ، لكن تقواه وصلاحه وإخلاصه لله ألهمه الله رشده .
ثمة قصة لا أستطيع أن أذكر تفاصيلها ، لكن إنساناً يعمل في أقل عمل تتصوره ، ينقل الرمل والأسمنت على ظهره ، وهو غير متعلم ، مر أمام مسجد ، وسمع درس علم ، فطرب له ، تمنى أن يحوز شريطاً لهذا الدرس ، فلما حاز هذا الشريط كأنه ملك الدنيا ، بدأ يسمعه ، ثم حاز بعض الأشرطة ، هو يعمل حيناً في لبنان ، ثم ينتقل إلى بلده في أقصى الشمال الشرقي من بلدنا ، بدأ يدعو إلى الله بحسب ما سمع ، واستمر في الدعوة ، فإذا لفيف كبير حوله ، وإذا به يُلهم أساليب ناجحة جداً في تربية من حوله ، ثم بدأ يقطف ثمار هذه الدعوة ، طبعاً على مدى سنوات عديدة ، قد تقترب من عشر سنوات ، مرة التقيت به ، وأصغيت إلى قوله ، وإلى أساليبه في الدعوة ، والله الشيء الذي لا يكاد يصدق أن الأساليب التي ألهمها يفتقر إليها كبار الدعاة ، ثم طلب العلم ، وطلب العلم ، وهو الآن على مشارف التخرج من مدرسة تعلم العلم الشرعي .
أنت حينما تخلص تأتيك طاقات كبيرة جداً ، في الأساس لا تملكها ، لكن هذه الطاقات التي مكنك الله منها ، والتي زودك الله بها هي إكرام إلهي لإخلاصك الشديد ، لذلك أول صفة من صفات المربي أن يخلص ، القاضي إذا أخلص يلهم الصواب ، المعلم إذا أخلص يلهم الصواب ، الطبيب إذا أخلص يلهم تشخيص الداء التشخيص الصحيح ، ثم وصف الدواء الجيد ، المحامي إذا أخلص ، أخذ الحق من الظالم ، يُلهم المرافعة التي تقنع القاضي ، هذه قاعدة من أجلّ القواعد ، أنك إذا أخلصت كان الله(1/390)
معك ، إذا أخلصت ألهمك رشدك ، إذا أخلصت منحك الحكمة ، إذا أخلصت أعطاك الوسائل الفعالة لتحقيق أهدافك ، هذا كلام عام ، إذا أخلصت في الكسب الحلال يلهمك الله الأساليب الفعالة في كسب المال الحلال ، إذا أخلصت في أن تحصن نفسك من الحرام ألهمك الله أساليب كسب المال ، وأساليب اختيار الزوجة ، فإذا أنت بعد حين حققت المراد الذي كنت تسعى إليه .
أيها الأخوة قال تعالى :
* وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ (5) *
( سورة البينة الآية : 5 )
بالمناسبة أحد كبار العلماء يقول : " العمل لا يقبل إلا إذا كان خالصاً وصواباً ، خالصاً ما ابتغي به الله ، وصواباً ما وافق السنة " ، وكلاهما شرط لازم غير كافٍ ، يعني أنت لا يمكن أن يقبل عملك إلا إذا جاء وفق السنة كما إنه لا يقبل عملك إلا إذا كان مخلصاً ، إن أخلصت ولم يكن عملك وفق السنة لم يقبل العمل ، وإن جاء عملك وفق السنة ولم تكن مخلصاً لم يقبل العمل ، لذلك قال تعالى في بعض أدعية القرآن الكريم :
* وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحاً تَرْضَاهُ *
( سورة النمل الآية : 19 )
العمل الصالح الذي طلبه النبي الكريم مقيد بأن يرضى الله عنه .
* فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً (110) *
( سورة الكهف )
أيها الأخوة الإخلاص هذا بينك وبين الله ، لا يطلع عليه أحد من أهل الأرض ، لكن العمل إذا رافقه الإخلاص يقبل كثيره وقليله ، والعمل إن لم يرافقه الإخلاص لا يقبل لا قليله ولا كثيره ، درهم أنفق في إخلاص خير من مئة ألف درهم أنفق في رياء .
سمعت أن إنساناً صلى أربعين عاماً في الصف الأول في صلاة الفجر وراء الإمام ، وفي يوم سها ، فتألم ألماً شديداً ، وقال : ماذا يقول الناس عني ؟ انتبه ، ماذا يقول الناس عني ؟ معنى ذلك أن هذه الصلوات في المسجد ليس فيها إخلاص ، الهدف أن يكسب مكانة فيمن حوله .
1ـ أول علامات الإخلاص أن يكون عملك في السر كما في العلانية :
ليس غريباً أن تعلموا أن علامة الإخلاص ألا يختلف عملك في السر والعلانية ، عملك في خلوتك كعملك في جلوتك ، إتقان عبادتك في خلوتك كإتقان عبادتك في جلوتك .
من علامة الإخلاص أن العمل الذي تعمله لا يزداد بالمدح ، كما أنه لا ينقص بالذم ، إذا كنت مخلصاً فلا يزداد العمل الصالح بالمدح ، كما أنه لا ينقص بالذم ، المدح والذم لا يؤثران في عملك لأنك تبتغي وجه الله ، ولا يختلف العمل لا في الخلوة ولا في الجلوة ، يبقى كما هو .(1/391)
2ـ عدم ازدياد العمل بالثناء وعدم نقصانه بالذم :
العلامة الأولى عملك في السر كما في العلانية ، في العلانية كما في السر ، لا يختلف العمل بين السر والعلانية ، بين الجلوة والخلوة ، كما أن العمل لا يتأثر بالمديح ، ولا يتأثر بالذنب ، إذاً أنت مخلص .
3ـ حينما تكون مخلصاً فعملك الذي يرفع إلى الله يعود من الله ثوابه سكينة في قلبك :
الشيء الآخر أنك إذا كنت مخلصاً حقيقةً ، فهذا الإخلاص يتيح لك أن تقبل على الله ، إقبالك على الله يعني أن الله سيتجلى عليك ، لذلك المخلص كأنه قبض أجرته ، سعيد ، أما الذي يعمل أعمالاً صالحة ويقول : يا أخي الناس لا يتأثرون ، الناس ما فيهم خير ، لا يشكرون ، معنى ذلك أنك تنتظر شكرهم ، وتنتظر ثناءهم ومديحهم ، كما قلت : حينما تكون مخلصاً فعملك الذي يرفع إلى الله يعود من الله ثوابه ، والثواب : من ثاب أي رجع ، ماذا يرجع من الله إذا رفع العمل إليه ؟ يرجع سكينة في قلبك ، هذه علامة الإخلاص .
إذاً عدم تأثر العمل بين السر والعلانية ، عدم ازدياد العمل بالثناء ، وعدم نقصانه بالذم ، شعور الإنسان المخلص أنه قبض أجرته من الله ، لذلك لا ينتظر ثناء أحد ، ولا مديح أحد ، ولا يعلق كبير أهمية على ذم الناس له ، فمن عرف نفسه ما ضرته مقالة الناس به .
الحقيقة الصفة الثانية : التقوى أي طاعة الله ، إخلاص وطاعة ، كما يقول العلماء الربانيون : ألا يراك الله حيث نهاك ، وألا يفتقدك حيث أمرك ، أنت عند الأمر والنهي ، أنت وقاف عند كتاب الله .
يروى أن حواراً جرى بين سيدنا عمر بن الخطاب وأبي بن كعب عن التقوى ، فقال له : أما سلكت طريقاً ذا شوك ؟ قال : بلى ، قال : فما عملت ؟ قال : شمرت ، واجتهدت ، قال : كذلك التقوى .
من توهم أن الطريق إلى الله طريق مفروش بالرياحين والزهور فهو مخطئ ، الطريق إلى الله طريق محفوف بالمكاره ، طريق القمم طريق صعبة .
(( أَلَا إِنَّ عَمَلَ الْجَنَّةِ حَزْنٌ بِرَبْوَةٍ ، ثَلَاثاً ، أَلَا إِنَّ عَمَلَ النَّارِ سَهْلٌ بِسَهْوَةٍ )).
[أحمد عن ابن عباس]
سميت طاعة الله تكليفاً ، لأن التكليف ذو كلفة :
((أَلَا إِنَّ عَمَلَ الْجَنَّةِ حَزْنٌ بِرَبْوَةٍ ، ثَلَاثاً ، أَلَا إِنَّ عَمَلَ النَّارِ سَهْلٌ بِسَهْوَةٍ )) .
الاسترخاء ، وأن تعطي نفسك ما تريد وما تشتهي ، هو طريق النار ، عمل النار سهل بسهوة ، وعمل الجنة حزن بربوة ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ :
(( إِنَّ الدُّنْيَا حُلْوَةٌ خَضِرَةٌ ، وَإِنَّ اللَّهَ مُسْتَخْلِفُكُمْ فِيهَا فَيَنْظُرُ كَيْفَ تَعْمَلُونَ ، فَاتَّقُوا الدُّنْيَا وَاتَّقُوا النِّسَاءَ ، فَإِنَّ أَوَّلَ فِتْنَةِ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَانَتْ فِي النِّسَاءِ )).(1/392)
[ مسلم عن أبي سعيد ]
مرة افتتح مسجد في بعض أطراف دمشق ، ودعي إليه علماء دمشق ، وألقوا كلمات رائعة في هذا الحفل ، وتناولوا الطعام ، وخرجنا من هذا ، في الضفة الثانية من الطريق ملهى ـ والعياذ بالله ـ فيه كل أنواع الموبقات ، مسجد في طرف ، وملهى في طرف ، الذي أسس الملهى مات بعد أسبوع من افتتاحه ، والذي أسس المسجد استقبل هؤلاء المدعوين ووجهه كله بشر ، أنا خرجت من الحفل قلت : سبحان الله ! لو وقف هذان الرجلان أمام الله عز وجل ، الأول أراد إفساد الناس وحملهم على الزنا والخمر والموبقات ، والثاني أراد تعريف الناس بالله من خلال هذا البيت العظيم الذي بناه لله .
أحيانا تجد قارئ قرآن توفي وقراءته تملأ الخافقين ، ومغنِّياً توفي وأغانيه تملأ الخافقين ، وكلاهما ميت ، فلذلك :
(( إِذَا مَاتَ الْإِنْسَانُ انْقَطَعَ عَنْهُ عَمَلُهُ إِلَّا مِنْ ثَلَاثَةٍ ؛ إِلَّا مِنْ صَدَقَةٍ جَارِيَةٍ ، أَوْ عِلْمٍ يُنْتَفَعُ بِهِ ، أَوْ وَلَدٍ صَالِحٍ يَدْعُو لَهُ )).
[ أخرجه مسلم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ]
هذا الذي له عمل صالح عند الموت ينقطع عمله فما قولكم بالذي ليس له عمل إطلاقاً ؟ سبحان الله ! في القرآن الكريم آيات دقيقة قال تعالى :
* الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ (2) *
( سورة الملك )
أحياناً نجري امتحاناً من أجل أن نعرف الناجحين من الراسبين ، هناك رسوب ونجاح ، لكن لو أن الطلاب جميعاً ناجحون ، الامتحان مهمته أن نعرف المتفوقين ، أن نعرف التفوق ، فدائماً وأبداً ينبغي أن يكون التفوق هو الأصل ، كل هذا الكون مخلوق من أجل الإنسان ، فما خلق الله هذا الكون من أجل أن ترسب أو تنجح ، من أجل أن تتفوق .
بالمناسبة لأنك إنسان أنت متفوق ، والدليل حينما قال الله عز وجل :
* إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ *
( سورة الأحزاب الآية : 72 )
أيْ إن الإنسان قبل حمل الأمانة ، إذاً ميزه الله ، فلما قبل حمل الأمانة سخر الله له السماوات والأرض ، لماذا الإنسان متفوق ؟ لأنه بإمكانه أن يعصي الله فلم يعصه ، لماذا يثاب الصادق ؟ لأنه بإمكانه أن يكذب فلم يكذب ، لماذا يثاب الأمين ؟ لأنه بإمكانه أن يخون فلم يخن ، لماذا يثاب العفيف ؟ لأنه بإمكانه أن يزني فلم يزنِ ينقلنا هذا إلى موضوع الأمانة .(1/393)
إذا وضعت مئة ألف عند إنسان ، وكتب لك إيصالاً دقيقاً ، هذا المبلغ ليس أمانة ، هذا إيداع ، لأن الذي أعطاك هذا الإيصال يمكن أن تقاضيه ، لو شاهدت عليه شاهدين ، أما حينما يعطيك مئة ألف ، ولا يأخذ منك إيصالاً ، وأنت بإمكانك أن تعطيه أو لا تعطيه ، فأعطيته ، أنت إذاً أمين ، هذه الأمانة ، أنت مخير ، الآن بإمكانك أن تأتي إلى ملهى أو إلى مسجد ، بإمكانك أن تصلي أو لا تصلي ، بإمكانك أن تغض البصر أو أن تطلق البصر ، بإمكانك أن تطلب العلم أو تطلب الجهل :
(( سُئِلَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم عَنْ أَكْثَرَ مَا يُدْخِلُ النّاسَ الْجَنّةَ ، قالَ : تَقْوَى الله ، وَحُسْنُ الْخُلُقِ )).
[ رواه الترمذي عن أَبِي هُرَيْرَةَ]
أكبر سببٍ لدخول الجنة طاعة الله وحسن الخلق ، قالَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم :
(( إذَا خَطَبَ إلَيْكُمْ مَنْ تَرْضَوْنَ دِينَهُ وَخُلُقَهُ ، فَزَوّجُوهُ )).
[ رواه الترمذي عن أَبِي هُرَيْرَةَ]
طاعة الله وحسن الخلق ، والحديث الصحيح عن أبي ذرّ ومعاذ رضي اللّه عنهما عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال :
(( اتَّقِ اللَّهَ حَيْثُما كُنْتَ ، وأتْبعِ السَّيِّئَةَ الحَسَنَة تَمْحُها ، وخَالِقِ النَّاسَ بِخُلُقٍ حَسَنٍ )).
[ رواه الترمذي عن أبي ذرّ ومعاذ رضي اللّه عنهما]
إذاً تقوى الله هي معين المعلم ، الأب المستقيم هو أب مربٍّ ناجح ، لأن استقامته دعوة ، المعلم المستقيم استقامته دعوة ، معه وسائل النجاح ، إذاً الإخلاص والاستقامة ، هذان الشيئان الأساسيان في نجاح العلمية التعليمية والتربوية .
قال عليه الصلاة والسلام :
(( اتقوا الله ، واعدلوا بين أولادكم كما تحبون أن يبروكم )).
[ رواه الطبراني عن النعمان بن البشير رضي الله عنه]
الأب العادل له مكانة ، أما إذا انحاز إلى أحد أولاده ، أو انحاز إلى ولد من زوجة دون ولد من زوجة أخرى سقطت مكانته ، العدل أساس الملك .
رئيس جمهورية فرنسا حينما انتخب ، خطب أقصر خطاب في تاريخ فرنسا ، قال : أنا أشكر من انتخبني ، وأحترم من لم ينتخبني ، وأنا لكل الفرنسيين ، دقق في هذه الكلمة ، هو أب لكل الناس .
أنت كمعلم أنت لكل الطلاب ، فإذا انحزت إلى مجموعة طلاب معينة ، لعلاقات معينة ، لانتماءات معينة ، لأسباب معينة ، للطلاب الأغنياء فرضاً ، للطلاب الأذكياء ، إذا انحزت لهم أنت فقدت العدالة ، وحينما تفقدها تفقد قوة التأثير ، أما حينما ترعى كل الأولاد وكل الطلاب ، بصرف النظر(1/394)
عن مستوياتهم الاجتماعية ، وعن مستوياتهم الاقتصادية ، وعن انتماءاتهم ، وعن اتجاهاتهم ، ترعاهم جميعاً لك مكانة كبيرة .
يروى أن النبي الكريم وقف في جنازة ، فقيل : هو يهودي يا رسول الله ، قال : أليس إنساناً ؟ معنى ذلك أن الإنسان أي إنسان ينبغي أن تحترمه .
دخلنا في التفاصيل : معلم مع طلاب متفوقين ، عينه عليهم ، اهتمامه لهم ، ابتسامته لهم ، يقرأ وظائفهم ، يثني عليهم ، يهش لهم ، يبش لهم ، والطلاب الضعاف مهملون يُعرِض عنهم ، عنيف معهم ، قاسٍ عليهم ، هذا ليس مربياً ، هو الطالب الجيد لا يحتاج إلى كبير عناية ، من هذا الذي يحتاج إلى كبير عناية الطالب السيئ ، الابن الناجح لا يحتاج إلى عناية بالغة ، بطولة الأب والمعلم لا في الابن الناجح ، بل في الابن المقصر .
أيها الأخوة الكرام الصفة الأولى هي الإخلاص ، الصفة الثانية التقوى والصلاح والاستقامة والعدل والإنصاف والرحمة واللطف وغيرها .
الصفة الثالثة هي العلم ، أنت حينما لا تكون متمكناً من العلم ، إن تكلمت خطأً ، والذين تحدثهم أقل منك علماً ضحكت عليهم ، وإن كانوا أكثر يقظة ضحكوا عليك ، إن لم تكن متمكناً من العلم لا تنجح في تربية من حولك .
أيها الأخوة الكرام التمكن من العلم أساسي جداً ، يروى أن بعض العارفين أخطأ في كلمة في درس ، فغاب سبع سنين حتى تمكن من العلم الذي أخطأ فيه ، العلم ما فيه حل وسط ، العلم لا يعطيك بعضه إلا إذا أعطيته كلك ، فإذا أعطيته بعضك لم يعطك شيئاً ، لا يعطيك بعضه إلا إذا أعطيته كلك ، فإذا أعطيته بعضك لم يعطك شيئاً ، بالتعليم ، الأب غير متعلم ، أحياناً الابن يكذب عليه ، أما الأب المتعلم واليقظ الابن يخشى أن يكذب عليه .
حدثني إنسان عن ابن يدرس في أوروبا ، فبعث إلى أهله أنه نجح بتفوق ، فرحوا وهنأ بعضهم بعضاً ، عنده أخ له إمكانيات كشف الكذب ، فتح موقع الجامعة بالإنترنت ، وطلب الكلية ، وطلب أسماء الناجين فلم يكن أخوه مع الناجحين ، فالطالب يكذب ، إذا كان في الإنسان سذاجة أو بساطة ، والذي يتولى أمره كذب عليه ، ضعفت مكانته ، أما كلام سيدنا عمر رائع : " لست بالخبّ ، ولا الخبُّ يخدعني " .
المعلم ينبغي ألا يكون من الخبث حيث يَخدع ، وألا يكون من السذاجة حيث يُخدع ، الأب كذلك والمعلم كذلك ، والآية الكريمة :
* يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ *
( سورة المجادلة الآية : 11 )
أخواننا الكرام عليكم بالإخلاص والتقوى والعلم ، قالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم :(1/395)
(( مَنْ سَلَكَ طَرِيقاً يَلْتَمسُ فِيِه عِلْماً سَهّلَ الله لَهُ طَرِيقاً إِلَى الْجَنّةِ ، وَإِنّ المَلاَئِكَةَ لتَضَعُ أَجْنَحِتَهَا رِضًى لِطَالِبِ العِلْمِ )).
[ رواه الترمذي عن أَبي هُرَيْرَةَ]
الشيء المألوف أن تتعلم وأن تعلم ، وهذه فريضة عين على كل إنسان ، قالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم :
(( بَلّغُوا عَنّي وَلَوْ آيَةً )).
[ رواه الترمذي عن عَبْدِ الله بنِ عَمْرٍو]
تعلمت شيئاً من درس علمه لمن حولك ، لأن هذا الوهم أنني لا أستطيع أن أتكلم كلمة حتى أتقن العلم ، لا ، إذا سمعت معنى آية ، أو معنى حديث ، أو قضية إشراقية في الإسلام واستوعبتها وفهمتها انقلها إلى الآخرين ، اطلب العلم وتعلم ، ودائماً الإنسان يتعلم ويعلم .
(( ألاَ إِنّ الدّنْيَا مَلْعُونَةٌ ، مَلْعُونٌ مَا فِيهَا ، إِلاّ ذِكْرُ الله ، وَمَا وَالاَهُ ، وَعَالِمٌ ، أَو مُتَعَلّمٌ )).
[ رواه الترمذي عن أَبي هُرَيْرَةَ]
(( مَنْ خَرَجَ في طَلَبِ الْعِلْمِ كان في سَبِيلِ الله حَتّى يَرْجِعَ )).
[ رواه الترمذي عن أَنَسِ بنِ مَالِكٍ]
(( طَلَبُ الْعِلْمِ فَرِيضَةٌ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ )).
[أخرجه ابن ماجه عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ]
أيها الأخوة الكرام مع الإخلاص ، ومع التقوى ، ومع العلم يوجد الحلم ، وكاد الحليم أن يكون نبياً ، المربي والمعلم والأب إذا كان غضوباً وقاسياً في كلماته لا يستطيع أن يربي أولاده ، كما لا يستطيع المعلم أن يربي تلاميذه ، قال تعالى :
* وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (134) *
( سورة آل عمران )
قال تعالى :
* خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ (199) *
(سورة الأعراف)
وقال أيضاً :
* ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ (34) *
( سورة فصلت )
(( إِنَّ فِيكَ خَصْلَتَيْنِ يُحِبُّهُمَا اللَّهُ : الْحِلْمُ وَالْأَنَاةُ )).
[الترمذي عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ](1/396)
أوصى النبي بعض أصحابه ألا نغضب :
(( لَيْسَ الشَّدِيدُ بِالصُّرَعَةِ ، إِنَّمَا الشَّدِيدُ الَّذِي يَمْلِكُ نَفْسَهُ عِنْدَ الْغَضَبِ )).
[متفق عليه عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ]
(( يَسِّرُوا ، وَلَا تُعَسِّرُوا، وَبَشِّرُوا ، وَلَا تُنَفِّرُوا )).
[متفق عليه وعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ]
(( يَا عَائِشَةُ ، إِنَّ اللَّهَ رَفِيقٌ يُحِبُّ الرِّفْقَ ، وَيُعْطِي عَلَى الرِّفْقِ مَا لَا يُعْطِي عَلَى الْعُنْفِ، وَمَا لَا يُعْطِي عَلَى مَا سِوَاهُ )).
[مسلم عَنْ عَائِشَةَ]
(( إِنَّ الرِّفْقَ لَا يَكُونُ فِي شَيْءٍ إِلَّا زَانَهُ ، وَلَا يُنْزَعُ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا شَانَهُ )).
[مسلم عَنْ عَائِشَةَ]
كاد الحليم أن يكون نبياً ، والحلم سيد الأخلاق ، والصبر عند الصدمة الأولى .
آخر شيء من صفات المربي فضلاً عن إخلاصه ، وفضلاً عن طاعته لله ، وفضلاً عن علمه ، وفضلاً عن حلمه ، ينبغي أن يشعر بالمسؤولية ، لأن الله سوف يسأله عن هؤلاء الصغار ، يقول عليه الصلاة والسلام :
(( ... وَالرَّجُلُ رَاعٍ فِي أَهْلِهِ وَهُوَ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ وَالْمَرْأَةُ رَاعِيَةٌ فِي بَيْتِ زَوْجِهَا وَمَسْئُولَةٌ عَنْ رَعِيَّتِهَا ... )).
[ البخاري عن عبد الله بن عمر ]
يقول علي رضي الله عنه : "علموا أولادكم وأهليكم الخير وأدبوهم ."
(( ما نَحَلَ وَالِدٌ وَلَدًا من نَحْلٍ أفضل من أدبٍ حَسَنٍ )).
[الترمذي عن سعيد بن العاص]
(( إن الله سائل كل راعٍ عما استرعاه : حفظ أم ضيع ؟ حتى يسأل الرجل عن أهل بيته .))
[ابن حبان عن أنس رضي الله عنه]
إذا لم يلقح الأب ابنه وأصاب ابنه مرض عضال سوف يسأل ، الأبوة مسؤولية ، تلقيح الأولاد ، العناية بصحتهم ، أخذهم إلى طبيب مثلاً ، متابعة العلاج ، هذا من مهمات الأب .
أيها الأخوة الكرام فاقد الشيء لا يعطيه ، إن أردت أن تكون أباً ناجحاً ، أو معلماً ناجحاً ، أو موجهاً ناجحاً لا بد من أن تجمع الإخلاص ، والطاعة لله ، والعلم ، والحلم ، واستشعار المسؤولية ، هذه صفات تؤهل المربي ، وتؤهل المعلم ، والأب ، ومن يدعو إلى الله عز وجل ، كي يدع بصمات واضحة في نفوس أخوانه وتلاميذه وأولاده وأصحابه .
==================(1/397)
41- وسائل تربية الأولاد ( 11 ) : القواعد الأساسية في التربية :
قاعدة الربط ( 1 ) .
أيها الأخوة الكرام لا زلنا في سلسلة تربية الأولاد في الإسلام ، ولا زلنا في قواعد هذه التربية الأساسية .
موضوع اليوم القواعد الأساسية في التربية تتركز في قاعدتين ؛ الأولى قاعدة الربط ، والثانية قاعدة التحذير .
أيها الأخوة لأوضح لكم معنى الربط ، كيف أن بعض الناس اليوم مربوطون بالشاشة فرضاً أو بالرياضة أو بالسياسة ، هواجسهم واهتماماتهم متابعة الأخبار أو متابعة أخبار الرياضة أو متابعة الشاشة ، هذا ربط .
الحقيقة أن قاعدة التربية الإسلامية تقوم على ربط الإنسان بدينه وبقرآنه وبصلاته وبالعبادات الشعائرية والعبادات التعاملية ، قضية الربط تحتاج لجهد كبير ، قد تؤدى بعض الشعائر ، لكن الارتباط العام ليس بالدين بل بالدنيا وبجمع المال وبالتجارة ، فكما قال الله عز وجل :
* رِجَالٌ لَّا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللَّهِ *
( سورة النور الآية : 37 )
هم يتاجرون ويكسبون أموالهم ويتصدقون ، ولكن أن يكون العمل صارفاً لهم عن ذكر الله هذا مستحيل ، فالبطولة في تربية الأبناء أن تربطهم بالله وبالعقيدة الصحيحة وبالعبادة الصحيحة وبمعناها الواسع وبالقرآن وبالعمل الصالح وبالذكر وبالنوافل ، فالارتباط يحتاج لجهد كبير ، قد تقيم علاقة عابرة ، أما الارتباط علاقة مستمرة ، قد تقيم علاقة عابرة بالمسجد ، معظم المسلمين يأتون للمسجد يوم الجمعة ، لكن يأتي وارتباطه العام بغير المسجد، توجهه العام لغير المسجد ، نشاطه العام في غير ما يمليه عليه المسجد ، فيأتي وقد يتابع الخطبة أو لا يتابعها ، وقد يصلي ركعتين وينصرف ، هذا لا يسمى مرتبطاً بالمسجد هذه علاقة عابرة ، أما حينما تريد لجيل أن ينهض بأمة ، وتريد لولدك أن يكون صالحاً ، ينبغي أن يرتبط بالمسجد ارتباطاً كلياً .
أيها الأخوة أول ارتباط لا ينبغي أن أفصِّل فيه لأنه معلوم عندكم ، الارتباط بالعقيدة الصحيحة ، الله عز وجل خالق مربٍّ ومسير ، وموجود وواحد وكامل ، وأسماؤه حسنى ، وصفاته فضلى ، وخلق الإنسان ليسعده ، الدنيا عابرة وهي دار ممر وليست دار مقر ، الآخرة هي الأصل ، الإيمان بالله واليوم الآخر والملائكة والكتب والرسل والقدر خيره وشره من الله تعالى ، هذا يحتاج لتلقين في الصغر وتعليم في الكبر وربط كل شيء بهذه العقيدة .
كلمة الربط دقيقة جداً ، تقع أحداث هناك من يربطها ربطاً أرضياً ، أما المؤمن يربطها ربطاً توحيدياً ، المؤمن لا يفهم ما يجري بعيداً عن الله عز وجل ، لا يفهم الأحداث الكبرى على أنها وقعت(1/399)
بإرادات أرضية ، لا يفهمها إلا على أنها وقعت بإرادات علوية ، يرى يد الله تعمل في الخفاء ، فالربط العقائدي هذا العمل الذي حصل بقضاء من الله وقدر ، حكمة الله سمحت به ، علم الله وعدله سمح به ، فأنت ممكن من خلال حديثك مع أولادك أو حديث المعلم مع طلابه يمكن أن يربط كل حدث بالعقيدة الصحيحة ، يمكن أن يربط الحدث بالتوحيد ، ويمكن أن يربط الأحداث بقوى الشر في الأرض ، وأن تنسى الله عز وجل ، فالربط الإيماني ربط المتعلم بالعقيدة الصحيحة يحتاج لمتابعة ومثابرة وتكرار ، كي يعرف المتعلم أن ما يجري في الكون يجري بحكمة بالغة وبعدل وبعلم وبرحمة قد ندركها وقد لا ندركها .
مثلاً يكون هناك موجة جفاف ببلد تأتي الأمطار ، الإنسان المشرك بالشرك الخفي يربطها بالمنخفضات وبنشرة الأخبار وأن هناك خطوط مطر ، هذا كله صحيح ، لكن المؤمن يربط الأمطار برحمة الله وبفضله ويراها إمداداً من الله عز وجل ، فشتان بين من يربط الأمور ربطاً أرضياً وبين من يربطها ربطاً توحيدياً ، الربط دائماً كل شيء مربوط بشيء ، والمربي الناجح والأب الناجح كل الجزئيات يربطها بالكليات ، صار في منظومة وفهم عميق لما يجري في الكون ، أما المربي غير الناجح يربط الأحداث بمن يسببها أرضياً فيضيع الإنسان ، يجد قوى متعددة تتنازع وتتنافس على بلد معين ، فأنت لا تدري ماذا يحدث ؟ الربط الاعتقادي ، تربط الأشياء بفعل الله وبعلمه وقدرته ورحمته وعدله وبالقضاء والقدر وبأن هذه الدنيا دار التواء لا دار استواء .
لو أن إنساناً أصابته في الأرض مصيبة لو ربطها ربطاً أرضياً يقول إنسان يموت من التخمة وإنسان يموت من الجوع ، هذا كلام يعطي معنى الاعتراض ، وأن الله ليس فعالاً ، هو خلاق وليس فعالاً ، أما حينما تعلم أن هناك آخرة وأن هذا العطاء ابتلاء ، وأن الابتلاء قد ينجح فيه الإنسان أو لا ينجح ، هذا فهم آخر .
العبرة أن تفهم كل الأحداث فهماً مرتبطاً بالعقيدة الصحيحة ، هذا لا يتم بجلسة واحدة ، هذا يتم بمحادثة مستمرة بينك وبين أولادك ، هذا الذي وقع أراده الله ، إرادة الله متعلقة بالحكمة المطلقة ، حكمته المطلقة متعلقة بالخير المطلق ، وهو في السماء إله وفي الأرض إله .
بحسب الشيء المنظور أن دولة قوية طاغية أرادت أن تتحكم بالعالم كله وتخضعه لسيطرتها وتنهب ثرواته ، هذا الفهم فهم القهر ، لكن فهم التسليط ليس كذلك بل أن الله سبحانه وتعالى سمح لهذه القوة الغاشمة أن تسيطر تأديباً لمن يعرفه ثم يحيد عن طاعته .
هذا الفهم فهم السيطرة ، وفهم التسليط فهم فيه أمل كبير ، أنت حينما تعود لله عز وجل يفرج عنك الله ، القضية أعقد من أن تلقي على ابنك كلمة ، القضية أن كل شيء نسمعه في الأخبار وكل الأحداث التي تصل لأسماعنا ينبغي أن نحللها تحليلاً إسلامياً وتوحيدياً وقرآنياً ، هذا هو الربط ، لذلك ورد في بعض الأحاديث :(1/400)
(( ما من عثرة ، ولا اختلاج عرق ، ولا خدش عود إلا بما قدمت أيديكم ، وما يغفر الله أكثر )).
[ أخرجه ابن عساكر عن البراء ]
الآن نحتاج إلى ربط من نوع آخر : ربط بالعبادة .
* وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ *
(سورة الذاريات)
الإنسان مهمته الأولى العبادة ، بل إن علة وجود الإنسان على وجه الأرض أن يعبد الله ! فلذلك الأصل هو العبادة ، يوجد إنسان يؤدي العبادات من فضلة وقته ، بعد أن يؤدي كل شيء يؤديها أو لا ، على شروطها أو على غير شروطها ، يؤديها بما يرضي الله أو بما لا يرضي الله ، أما إذا ربط الإنسان بالعبادة ، الأصل الصلاة أن نصلي الصلاة التي أمرنا الله بها ، الأصل أن نغض البصر ونكون صادقين ، فارتباط الإنسان يجب أن يكون بالعبادة الشعائرية التي هي شحنات لهذا الإنسان .
التقيت مع إنسان قبل حين يغيب عن الدروس طويلاً ، قلت له : ألا تملك هاتفاً محمولاً ؟ قال : نعم ، قلت : هذا الهاتف ما حاله إن لم تحشنه ؟ قال : يسكت ، قلت : وكذلك أنت ، لا بد من شحن ، من دون شحن ينتهي الإنسان ، فالصلاة شحنة روحية ، صلاة الجمعة شحنة أسبوعية ، صوم رمضان شحنة سنوية ، الحج شحنة العمر ، يوجد شحنات صغيرة كالأدعية والأذكار وتلاوة القرآن ، هذه كلها شحنات روحية ، الإنسان بالشحنة الروحية يقوى ويصمد أمام الأخطار ويتماسك أمام الزلازل ، وتصح رؤيته أمام الضباب ، الآن يوجد رؤية ضبابية ! لا أحد يعلم ما سيكون ، يا ترى يعتدون أو لا يعتدون ، يقسمون لا يقسمون ، الناس في متاهة ، وكل شيء مجمد ، في الضباب يرى رؤية صائبة ، في الخوف تتماسك نفسه ، في اليأس يشرق في نفسه نور الأمل ، هذا المصلي ، والدليل :
* إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعاً (19) إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً (20) وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً (21) إِلَّا الْمُصَلِّينَ (22) *
(سورة المعارج)
المصلي لا يتأثر بالأمراض النفسية ، فالشح مرض نفسي وشدة الحرص والهلع والجزع والحرص على ما في يديك والقلق والتردد هذا كله مرض نفسي ، قال تعالى :
* إِلَّا الْمُصَلِّينَ (22) *
(سورة المعارج)
المصلي متصل بالقوة المطلقة في الكون ، للتقريب قد يكون سائق عند ملك ، والملك بيده مقاليد البلاد ، وهذا السائق في موقع قوي عند الملك يحبه ويعطف عليه ، هذا السائق تراه أنت سائقاً ، أما(1/401)
هو أقوى من أكبر موظف في المملكة ، له اتصال مباشر مع من بيده مقاليد المملكة ، فقد تراه سائقاً لكن عند من يفهم له مركز كبير جداً .
أنت لو كنت مؤمناً مرتبط مع خالق الكون ومع القوة المطلقة ، لذلك المؤمن معه سلاح قوي هو الدعاء ، الدعاء سلاح المؤمن ، لذلك قال عليه الصلاة والسلام :
(( مُرُوا أَوْلَادَكُمْ بِالصَّلَاةِ وَهُمْ أَبْنَاءُ سَبْعِ سِنِينَ وَاضْرِبُوهُمْ عَلَيْهَا وَهُمْ أَبْنَاءُ عَشْرٍ وَفَرِّقُوا بَيْنَهُمْ فِي الْمَضَاجِعِ )).
[سنن أبي داود عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ]
الصلاة شيء أساسي في البيت :
* وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لَا نَسْأَلُكَ رِزْقاً (132) *
(سورة طه)
استنبط بعض العلماء أن البيت الذي يصلي أهله بيت مرزوق .
* وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لَا نَسْأَلُكَ رِزْقاً نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى (132) *
(سورة طه)
يقاس على الصلاة أن تأمرهم بالصوم وبالصدقة وتأخذهم معك للعمرة والحج ، هذه أركان الإسلام ينبغي أن تربطهم بها ، لو ارتبط إنسان بالغرب لا يعبأ بالحج أو العمرة ، يرى بلاداً حارة ومتخلفة يذهب لأوروبا هذا المرتبط بالغرب ، أما الذي تربطه العبادات العمرة عنده شيء ثمين جداً والحج شيء أثمن ، وإذا أردت أن توسع مفهوم العبادة ، فالاستقامة من العبادة ، والعمل الصالح من العبادة ، وبذل المال من العبادة ، ومساعدة الفقير من العبادة ، ومعاونة الضعيف من العبادة ، وعيادة المريض من العبادة ، والصدق في الأقوال من العبادة ، والصدق في الأعمال من العبادة ، قد نضيق العبادة فنجعلها العبادة الشعائرية ونوسعها فنجعلها العبادة التعاملية .
شيء آخر لا بد من ربط الطفل بالقرآن الكريم ، يقول عليه الصلاة والسلام :
(( أدبوا أولادكم على ثلاث خصال : حب نبيكم ، وحب أهل بيته ، وقراءة القرآن فإن حملة القرآن في ظل الله يوم لا ظل إلا ظله مع أنبيائه وأصفيائه)).
[الديلمي وابن النجار عن علي]
لذلك بالعالم الإسلامي ـ وهذا برأي كبار المربين ـ أن أفضل شيء للطفل أن تعلمه القرآن وتحمله على حفظه ، ففي هذا تقويم للسانه وتقوية لإيمانه ، والعلم في الصغر كالنقش على الحجر ، والعلم في الكبر كالكتابة على الماء ، فالطفل الصغير عنده قدرة عجيبة على التلقي ، قدرة على التلقي قد لا نصدقها ، ينبغي أن نستغل هذه القدرة في تعليمه القرآن ، لذلك قال عليه الصلاة والسلام :(1/402)
(( أدبوا أولادكم على ثلاث خصال : حب نبيكم ، وحب أهل بيته ، وقراءة القرآن فإن حملة القرآن في ظل الله يوم لا ظل إلا ظله مع أنبيائه وأصفيائه)).
[الديلمي وابن النجار عن علي]
العالم الاجتماعي الكبير ابن خلدون صاحب أول كتاب في علم الاجتماع يرى أن تعليم القرآن الكريم للصغار أساسه جميع المناهج التربوية ، وأنا أعلم أنه في المغرب العربي الطفل يعلم القرآن أولاً لأنه أساس العلم ، وابن سينا الفيلسوف الكبير يرى أيضاً أنه ينبغي أن يعلم الطفل القرآن في صغره ، والحمد لله معاهد تحفيظ القرآن في بلدنا الطيب كثيرة جداً ، وصار قناعة عند الأولياء أنه لا بد من أن يدفع ابنه إلى معهد من هذه المعاهد ليحفظ كتاب الله وليتقن تلاوته وفهم معانيه وأحكامه ، والإمام الغزالي كذلك حضّ على تعليم الطفل القرآن الكريم وأحاديث الأخبار وحكايات الأبرار ثم بعض الأحكام الدينية .
أيها الأخوة كان السلف الصالح ينصحون بتعليم أولادهم القرآن الكريم وتحفيظهم إياه حتى تتقوم ألسنتهم وتسمو أرواحهم وتخشع قلوبهم وتدمع عيونهم ويترسخ الإيمان والإسلام في نفوسهم وبالتالي لا يعرفون سوى القرآن والإسلام دستوراً ومنهجاً وتشريعاً .
أيها الأخوة أنتم حينما تقرؤون قول الإمام مالك رحمه الله : " لا يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها " ، بماذا صلح به أولها ؟ بتعليم القرآن تلاوة وعملاً وتطبيقاً وبالاعتزاز بالإسلام فكراً وسلوكاً ومنهجاً ، وآخر هذه الأمة لا يصلح حالها إلا بما صلح به أولها .
لا زلنا في الربط ، ربط الابن بقواعد الإيمان ثم بالعبادات الشعائرية ثم بالعبادات التعاملية ثم بالقرآن ، لا بد من أن تربطه ببيوت الله .
المؤمن ابن المسجد ، هو في المسجد كالسمك في الماء ! المسجد جزء أساسي من حياته ، الآخرون ابن ملهى أو مقهى أو مقصف ، ابن الطريق ، ابن منتديات الرصيف ، ابن الأفلام والشاشة غير المؤمن ، المؤمن ابن المسجد وأماكن العبادة .
(( إِذَا رَأَيْتُمُ الرَّجُلَ يَعْتَادُ الْمَسْجِدَ فَاشْهَدُوا لَهُ بِالْإِيمَانِ )).
[سنن الترمذي عَنْ أَبِي سَعِيدٍ]
أحياناً يدخل إنسان ضعيف الإيمان للمسجد يتضايق ويطول عليه الوقت ويتأفف ويبحث عن نقطة ضعف وسلوك غير جيد ويكبره ، فيما أعلم قد يأتي الإنسان بأهله لدرس من دروس العلم أو قد يأتي بأصدقائه أو بأولاده ، فإذا كانوا على غير ما يرضي الله لا يفهمون كلمة ألقيت في المسجد ، بل يتأملون الذين في المسجد وهمهم أن ينتقدوا ما رأوا ، همه الأول الانتقاد لأنه انزعج ، فهو يمضي الوقت في تأمل الثغرات ونقاط الضعف ويكبرها ويحدث الناس بها .(1/403)
أحد الأخوة الكرام جاء بزوجته للمسجد لتحضر الدرس مع النساء ، في اليوم التالي فاجأني بنقد لمجلس النساء لا يعقل ، وأنا متأكد أن الذي قالته زوجته ليس له أصل ، ليس هناك من شيء إطلاقاً ، كل شيء مريح ، والصوت واضح ، والمكان نظيف ، والمرافق العامة جيدة ، والموجودات بمستوى راقٍ ، هكذا سمعت بمن يلوذ بي ، لكن هذه الزوجة أرادت أن تشوه صورة المسجد لأنها تضايقت ، فالمؤمن في المسجد كالسمك في الماء ، وغير المؤمن كالعصفور في القفص ، أنا أرفض هذه العبارة ! يجب أن نختار عبارة غير العصفور ، يتضايق فينتقد نقداً لاذعاً دون أن يشعر وبشكل غير موضوعي .
(( إِذَا رَأَيْتُمُ الرَّجُلَ يَعْتَادُ الْمَسْجِدَ فَاشْهَدُوا لَهُ بِالْإِيمَانِ )).
[سنن الترمذي عَنْ أَبِي سَعِيدٍ]
من باب الطرفة أقول أن المؤمن يفضِّل البقاء في البيت ، والكافر يحب الطريق ، المؤمن جنته بيته ، أهله اهتمامه ، مكانه الأساسي بيته ، فقد يعتني ببيته ، أما غير المؤمن ابن مقاهٍ ودور سينما ومقاصف ونوادٍ ، بيته كالفندق يأتيه بعد منتصف الليل ويغادره صباحاً ، والله عز وجل يقول :
* إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آَمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ (18) *
(سورة التوبة)
أين يلقى العلم ؟ في المسجد ، أين تلقى التوجيهات ؟ في المسجد ، أين نتعلم أحكام الشرع ؟ في المسجد ، أين نأخذ قصص السلف الصالح ؟ في المسجد ، أين نفهم أحكام القرآن ؟ في المسجد ، لا يوجد كيان من دون أرض ، ولا دعوة من دون مكان ، مكانه الإسلامي هو المسجد ، لذلك قالوا : خير البلاد مساجدها وشرها أسواقها .
أيضاً من باب الطرفة يأتي الرجل بزوجته للمسجد فيستمع لحقوق الزوجة فيحاول أن يطبق التوجيهات ، وتأتي الأخت للمسجد وتستمع لحقوق الزوج فتحاول أن تطبق هذه التوجيهات ، فهذا المسجد جمع بينهم على خير ، قرب بينهما ، أما إذا ذهبت للسوق ورأت شيئاً لا يستطيعه ، دخل زوجها فطلبته منه فاعتذر نشأت مشكلة ! خير البلاد مساجدها وشرها أسواقها .
(( إِذَا مَرَرْتُمْ بِرِيَاضِ الْجَنَّةِ فَارْتَعُوا ، قَالُوا : وَمَا رِيَاضُ الْجَنَّةِ ؟ قَالَ : حِلَقُ الذِّكْرِ )).
[سنن الترمذي عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ]
أنت هنا تذكر الله ، إما أن تستمع لكتاب الله ، أو لسنة رسول الله ، أو لأحكام الشرع ، أو لسير الصحابة والتابعين ودلائل الإيمان على الله عز وجل ، هنا حلق الذكر ، وإما أن نكون في حلق الشهوات .
(( إِذَا مَرَرْتُمْ بِرِيَاضِ الْجَنَّةِ فَارْتَعُوا ، قَالُوا : وَمَا رِيَاضُ الْجَنَّةِ ؟ قَالَ : حِلَقُ الذِّكْرِ )).
[سنن الترمذي عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ]
الحديث المشهور :(1/404)
(( مَا مِنْ قَوْمٍ يَجْتَمِعُونَ فِي بَيْتٍ مِنْ بُيُوتِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ يَقْرَءُونَ وَيَتَعَلَّمُونَ كِتَابَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ يَتَدَارَسُونَهُ بَيْنَهُمْ إِلَّا حَفَّتْ بِهِمُ الْمَلَائِكَةُ وَغَشِيَتْهُمُ الرَّحْمَةُ وَذَكَرَهُمُ اللَّهُ فِيمَنْ عِنْدَهُ )).
[مسند الإمام أحمد عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ]
يوجد نقطة أتمنى أن أوضحها لكم ، أنت حينما تأتي بيت الله عز وجل ، هذا المكان ليس مكاناً عادياً هذا بيت الله ، والذي يحدث في بيت الله قد لا تصدقه ! دخلت لمكان وجلست من إكرام الله لك في هذا المكان أنه يملأ قلبك طمأنينة وسعادة ورضا ، ليس إنساناً عادياً دخل لبيت عادي ، هذا بيت الله فيه تجلٍّ وسكينة ورضا وشعور بالأمل .
أحياناً إنسان يقول : عجيب دخلت للمسجد فارتاحت نفسي واطمأنت ، شعرت بالتفاؤل والتماسك ، هذا من إكرام الله لك ، ما من إنسان يدخل بيت الله إلا والله عز وجل يكرمه ، لا يكرمه بطعام أو شراب بل بالسكينة والحكمة والتوازن .
(( مَا مِنْ قَوْمٍ يَجْتَمِعُونَ فِي بَيْتٍ مِنْ بُيُوتِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ يَقْرَءُونَ وَيَتَعَلَّمُونَ كِتَابَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ يَتَدَارَسُونَهُ بَيْنَهُمْ إِلَّا حَفَّتْ بِهِمُ الْمَلَائِكَةُ وَغَشِيَتْهُمُ الرَّحْمَةُ وَذَكَرَهُمُ اللَّهُ فِيمَنْ عِنْدَهُ )).
يقول مرتاح الحمد لله ، ما الذي حصل ؟ أن الله أنزل على قلبك السكينة فأنت في سعادة كبيرة .
(( حَفَّتْ بِهِمُ الْمَلَائِكَةُ وَغَشِيَتْهُمُ الرَّحْمَةُ وَذَكَرَهُمُ اللَّهُ فِيمَنْ عِنْدَهُ )).
(( أَلَا أَدُلُّكُمْ عَلَى مَا يَمْحُو اللَّهُ بِهِ الْخَطَايَا وَيَرْفَعُ بِهِ الدَّرَجَاتِ ، قَالُوا : بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ ، قَالَ : إِسْبَاغُ الْوُضُوءِ عَلَى الْمَكَارِهِ ، وَكَثْرَةُ الْخُطَا إِلَى الْمَسَاجِدِ ، وَانْتِظَارُ الصَّلَاةِ بَعْدَ الصَّلَاةِ ، فَذَلِكُمُ الرِّبَاطُ )).
[صحيح مسلم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ]
الحديث الذي تسمعونه كثيراً :
((إن بيوتي في أرضي المساجد وإن زواري فيها عمارها فطوبى لعبد تطهر في بيته ثم زارني في بيتي فحق على المزور أن يكرم زائره . ))
[أخرجه أبو نعيم من حديث أبي سعيد بسند ضعيف]
أنا لا أصدق ولا أقبل أن تأتي بيت الله طائعاً ثم لا يكرمك الله عز وجل ، إكرام الله عجيب فهو مستمر مدى الحياة .
(( بَشِّرِ الْمَشَّائِينَ فِي الظُّلَمِ إِلَى الْمَسَاجِدِ بِالنُّورِ التَّامِّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ )).
[سنن الترمذي عَنْ بُرَيْدَةَ الْأَسْلَمِيِّ]
ينبغي أن تربط ابنك أو تلميذك بعقيدة التوحيد الأولى ، وبمفردات العقيدة الصحيحة ، وينبغي أن تربطه أيضاً بالعبادة الشعائرية ، والعبادة التعاملية ، وبالقرآن الكريم تلاوة وحفظاً وتجويداً وفهماً وعملاً ، وينبغي أن تربطه بالمسجد وبذكر الله عز وجل :(1/405)
* فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ (152) *
(سورة البقرة)
أيها الأخوة لا بد من ربط هذا المتعلم طالباً كان أو ابناً بذكر الله مطلقاً لأن الله سبحانه وتعالى يقول :
* فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ (152) *
(سورة البقرة)
وقال :
* وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً (42) *
(سورة الأحزاب)
وقال أيضاً :
فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلَاةَ فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِكُمْ (103) *
(سورة النساء)
وقال تعالى :
* فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ (152) *
(سورة البقرة)
مثل الذي يذكر ربه والذي لا يذكر الله مثل الحي والميت :
* أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ (21) *
(سورة النحل)
قال :
* إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً (44) *
(سورة الفرقان)
وقال :
* كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ (4) *
(سورة المنافقون)
وقال :
* حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ (50) فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ (51) *
(سورة المدثر)(1/406)
(( ليبعثن الله أقواماً يوم القيامة في وجوههم النور على منابر اللؤلؤ يغبطهم الناس ، ليسوا بأنبياء ولا شهداء ، فجثا أعرابي على ركبتيه فقال : يا رسول الله جلهم لنا نعرفهم ، قال : هم المتحابون في الله من قبائل شتى وبلاد شتى يجتمعون على ذكر الله يذكرونه )).
[ الطبراني عن أبي الدرداء ]
يقول الله عز وجل في الحديث القدسي الصحيح :
(( أنا عند ظن عبدي بي ، وأنا معه إذا ذكرني ، فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي ، وإن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خيرٍ منهم ، وإن تقرب مني شبراً تقربت إليه ذراعاً، وإن تقرب إلي ذراعاً تقربت منه باعاً ، وإن أتاني يمشي أتيته هرولة )).
[متفق عليه عن أبي هريرة]
الذكر استحضار عظمة الله عز وجل في جميع الأحوال التي يكون عليها المؤمن استحضار ذهني وقلبي ونفسي ولساني وفعلي ، في القيام والقعود والاضطجاع والسعي في مناكب الأرض ، أو في تدبر آيات القرآن ، أو سماع الموعظة ، أو الاحتكام إلى شريعة الله ، أو ابتغاء عمل يقصد به وجه الله ، هذا معنى الذكر .
* رِجَالٌ لَّا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللَّهِ *
( سورة النور الآية : 37 )
وقال :
* الَّذِينَ آَمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ (28) *
(سورة الرعد)
(( .. أَنَّ رَجُلاً قَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ شَرَائِعَ الْإِسْلَامِ قَدْ كَثُرَتْ عَلَيَّ فَأَخْبِرْنِي بِشَيْءٍ أَتَشَبَّثُ بِهِ ، قَالَ : لَا يَزَالُ لِسَانُكَ رَطْباً مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ )).
[سنن الترمذي عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بُسْرٍ]
وفي الحديث القدسي :
((أنا مع عبدي ما ذكرني و تحركت بي شفتاه )).
[السيوطي عن أبي هريرة ]
الذكر باب واسع جداً ، فيمكن أن تذكره دعاءً واستغفاراً وتسبيحاً وحمداً وثناءً وتهليلاً وتوحيداً وتكبيراً ، ذكر الله عز وجل ينبغي أن يدور مع الإنسان حيث ما دار .
* يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ (9) *
(سورة الجمعة)
صلاة الجمعة ذكر .(1/407)
* وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي (14) *
(سورة طه)
وقال :
* وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ (45) *
(سورة العنكبوت)
ينبغي أن تربط الطفل بالعقيدة الصحيحة وبالعبادة الشعائرية والتعاملية وبالقرآن الكريم وبالمسجد وبذكر الله عز وجل وبالنوافل مثل صلاة الضحى ، والأوابين ، وقيام الليل ، والتهجد ، وتحية المسجد ، وصلاة ركعتي سنة الوضوء ، فضلاً عن صلاة التراويح في رمضان ، وصلاة الاستخارة ، وصلاة الحاجة ، كان عليه الصلاة والسلام إذا ألمت به نازلة فزع إلى الصلاة .
(( قَالَ رَجُلٌ : قَالَ مِسْعَرٌ : أُرَاهُ مِنْ خُزَاعَةَ لَيْتَنِي صَلَّيْتُ فَاسْتَرَحْتُ فَكَأَنَّهُمْ عَابُوا عَلَيْهِ ذَلِكَ فَقَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ يَا بِلَالُ أَقِمِ الصَّلَاةَ أَرِحْنَا بِهَا )).
[سنن أبي داود عَنْ سَالِمِ بْنِ أَبِي الْجَعْدِ]
ينبغي أن تربط الطفل بنوافل الصوم ، يوم عرفة ويوم عاشوراء وثلاثة الأيام البيض وصيام الاثنين والخميس ، وينبغي أن تربطه بمراقبة الله تعالى الذي يراك حين تقوم وتقلبك في الساجدين ، فالله تعالى معكم أينما كنتم :
* إِنَّ اللَّهَ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ (5) *
(سورة آل عمران)
(( اتَّقِ اللَّهِ حَيْثُمَا كُنْتَ وَأَتْبِعِ السَّيِّئَةَ الْحَسَنَةَ تَمْحُهَا وَخَالِقِ النَّاسَ بِخُلُقٍ حَسَنٍ )).
[سنن الترمذي عَنْ أَبِي ذَرٍّ]
(( يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا الْإِحْسَانُ ؟ قَالَ : الْإِحْسَانُ أَنْ تَعْبُدَ اللَّهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ فَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ فَإِنَّهُ يَرَاكَ )).
[صحيح البخاري عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِي اللَّه عَنْهم]
هذه أيها الأخوة بعض ما ينبغي أن نربط أبناءنا به ، كلام سهل وسماعه سهل وفهمه سهل لكن تطبيقه صعب يحتاج لهمة عالية .
من أجل أن يكون ابنك قرة عين لك ينبغي أن تربطه بأصول الدين وفروعه وقيم الدين وبطولاته ، أما الآن صدقوني ولا أقول مبالغاً الشباب مربوطون بغير الدين ، مربوطون بلاعبي الكرة ، والشابات مربوطات بالممثلات ، هذا كلام مؤلم جداً ، مربوطون بالشاشة والأفلام وبالإعلام والقصص والمسرحيات والتمثيليات ، هذا هو الربط ، لذلك ماذا تنتظر من إنسان يعمل كل يوم أعمالاً لا ترضي الله ، هذا إذا تكلم وتحرك لا يفعل إلا بالباطل والمعصية بحسب التغذية ، فأنت لا تفاجأ إن رأيت من الابن شيئاً لا يحتمل ، انظر للتغذية اليومية ، بِمَ تغذيه كل يوم ؟ التغذية الشائعة بين الناس(1/408)
تغذية لا تبنى على إيمان بل تبنى على أن تغفل عن وجود الله إن لم أقل أن تلحد بالله ، ما يسمعه الإنسان وما يراه عبر الوسائل المألوفة والفضائيات ، الغفلة عن الله والابتعاد عن قضايا الإيمان والالتصاق بقضايا الدنيا ، أما السلوك فلا ضابط له وليس فيه حرام أو حلال ولا ممنوع ولا عار ولا فحشاء ، تفعل ما تشاء ، وهذا الذي يراه الناس كل يوم لا يؤكد لا عقيدة صحيحة ولا انضباط ، فلذلك سلوك الناس يتناسب مع التغذية التي يتلقونها ، فإن أردت لابنك إيماناً وعلماً واستقامة ينبغي أن تربطه بقواعد الدين وبسلوك سيد المرسلين وببطولات الصحابة والتابعين وتربطه بالقرآن وبذكر الله وبالنوافل والمسجد ، هذا الربط هو الذي يؤكد أن يكون ابنك قرة عين لك .
================ ... ... ...(1/409)
42- وسائل تربية الأولاد ( 12 ) : القواعد الأساسية في التربية :قاعدة الربط ( 2 ) .
أيها الأخوة المؤمنون ، لا زلنا في دروس تربية الأولاد في الإسلام ، ولا زلنا في القسم الثاني في الوسائل الفعالة في تربية الأولاد ، وكان موضوع الدرس الماضي ربط المربى ، الطفل الناشئ ، طالب العلم ، بالإيمان ، بالقرآن ، بالإسلام ، بالسنة .
ننتقل اليوم إلى ربط آخر هو الربط الفكري ، الحقيقة في ساحة الفكر تطرح أطروحات كثيرة جداً ، معظمها ما أنزل الله بها من سلطان ، هذه الأطروحات إن لم تدرس ، وإن لم تصنف ، وإن لم يستبعد منها ما كان مُخالفاً للكتاب والسنة فنحن في مشكلة كبيرة .
يعني مثلاً لو أن معلماً أو لو أن أباً يغلب عليه التشاؤم ، ويغلب عليه ضعف الإيمان ، ويغلب عليه جهله بما في القرآن الكريم ، وهو كلام خالق البشر ، وهو كلام لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ، حينما يغلب عليه التشاؤم فيقول انتهى المسلمون ، كلمة (انتهى المسلمون) تلفظها ولا تعني مدلولها البعيد ، لكن إن سمعها منك ابنك ، أو سمعها منك تلميذك ربما ثُبِّطت عزائمه ، ربما خارت قواه ، لذلك الله قال :
* وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ *
( سورة آل عمران )
كلام رائع ، إذا كنت مؤمناً لا تشعر بالهوان ولا بالحزن فأنت الأعلى ، وهذا كلام خالق الكون ، أنا أحياناً أشعر أن الإنسان بحاجة ماسة إلى أن يثق بعظمة هذا الدين ، ما من مثلين صارخين يؤكدان ثقة رسول الله صلى الله عليه وسلم بنصر الله كهذين المثلين .
لما كان في الطائف ، كذبته قريش ، وحاربته ، وعزلته ، وسخرت منه ، فعلق الأمل على أهل الطائف ، فلما ذهب إلى هناك مشياً على قدميه لقيه أهل الطائف بالتكذيب وبالسخرية وبالإيذاء ، فعاد إلى مكة ، قال له سيدنا زيد وكان رفيقه في هذا السفر : كيف تعود إلى مكة وقد أخرجتك ؟ فقال عليه الصلاة والسلام : إن الله ناصر نبيه ، هذه ثقته بنصر الله عز وجل .
حينما تبعه سراقة ليقتله ، وليأخذ المئة ناقة جائزة من يأتي به حياً أو ميتاً ، قال له : يا سراقة كيف بك إذا لبست سواري كسرى .
قد تقرأ هذه الجملة ولا تقف عند مدلولاتها العميقة ، إنسان مهدور دمه ، أي إنسان يقبض عليه يأخذ مئة ناقة ، الناقة تقريباً تساوي مئتي ألف ، يعني مئة ناقة تساوي مئة مئتي ألف ، يعني مليوني ليرة تقريباً ، أكثر من عشرين مليوناً الآن ، عشرين مليون ليرة ، قال له : كيف بك يا سراقة إذا لبست سواري كسرى .(1/410)
يعني أنا ذاهب إلى المدينة بحفظ الله ، وسوف أنشئ دولةً ، وسوف أحارب أكبر دولتين في العالم ، وسوف أنتصر عليهما ، وسوف تأتي إلى المدينة كنوز كسرى ويا سراقة سوف تلبس سواري كسرى ، هذا حصل في عهد عمر ، إذاً أرأيت إلى ثقة النبي بنصر الله .
أيها الأخوة الكرام أنا أشعر أن معظم المسلمين كادوا أن يقعوا في اليأس ، يرون قوة وعظمة لا سبيل إلى أحد أن يجابهها ، وهو متمكن من أطراف الدنيا ، متمكن من الأرض كلها رصداً ، وقصفاً ، وإفساداً ، وكذباً .
رجل من جلدتهم ، من ثقافتهم ، من جبلتهم ، يقنص الأبرياء ، وهذا عمل لا يقره إنسان ، وأول رسالة كتبها يعني بها أنا إله ، ثم ظهر أن هذا الشخص مسلم ، اسمه جون إيلي محمد ، ألغوا جون ، وألغوا إيلي ، وبقي اسمه محمد ، محمد فعل ، محمد قنص ، انظر إلى كيدهم !
* وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وَعِنْدَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ (46) *
( سورة إبراهيم )
يأتي المؤمن يرى القوة بيدهم ، والإعلام بيدهم ، والرأي العالمي بيدهم وفي أي مكان ، فمن ضعف إيمانه تخور قواه ، فالمربي حينما ينطق بلسانه لتلاميذه ، أو الأب حينما يتحدث أمام أولاده أن المسلمين انتهوا ، ولن تقوم لهم قائمة بعد اليوم ، هذا كلام يعد في نظام التربية جريمة ينبغي أن تربطه بالحقائق ، لا بالرأي العام السائد المستنبط من إعلام موجه ، أو من إعلام مزور ، أو من إعلام يقبع على رؤوسه أعداء الدين .
من كان يظن أن تقوم للمسلمين قائمة وقد استولى الفرنجة على معظم بلاد المسلمين ، واستولوا على المسجد الأقصى ما يقارب مئة عام وبعدئذٍ هذه الجيوش الجرارة سبعة وعشرين جيشاً من الفرنجة اكتسحوا الشرق الأوسط وأقاموا فيها مئة عام ، ثم أزيحوا وعاد المجد للمسلمين على يد صلاح الدين رحمه الله تعالى .
من كان يظن أن تقوم للمسلمين قائمة لما خرب المغول والتتار العالم الإسلامي من أقصاه إلى أقصاه ، نحن في دمشق نستمع إلى أحياء قد لا ننتبه إلى معناها ، يقول لك برج الروس ، معنى برج الروس أن هولاكو أمر بذبح خمسين ألف إنسان ، وضعت جماجمهم على شكل برج ، وجاء وتكلم وقال ساخراً : استغفروا لنا فقد كنا سبب استشهادكم .
من كان يظن أنه بعد هولاكو وتيمورلنك والتتار تقوم للمسلمين قائمة ، وقد أزيح التتار والمغول على يد الظاهر بيبرس ، فاليأس نوع من الجهل ، هذا الإسلام لأنه دين الله ، لأنه يمثل وحي السماء ، لأنه يمثل الحق يحارب ، لأن المعركة بين الحق والباطل معركة أزلية أبدية ، فأي شيء تسمعه أو تراه يندرج تحت هذه المعركة .
1ـ ينبغي أن تربط أولادك أو طلابك بالحقائق الناصعة المستنبطة من الكتاب والسنة :(1/411)
يا أيها الأخوة الشيء الأول الذي ينبغي أن نلاحظه أن هذا الطفل ، وأن هذا الطالب ، وأن هذا الابن ، وأن هذا المريد إن صح التعبير يعيش قيماً ، ويعيش تاريخاً ، فإذا شوهت تاريخه ، أو شوهت قيمه ، أو أظهرت له العدو على أنه عدو لا يقهر فهذه ليست تربية ولكنها تسليط وتشويه ، فينبغي أن تربط هذا الطالب بالحقائق الناصعة المستنبطة من الكتاب والسنة :
* وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ *
( سورة آل عمران )
وقال :
* لَا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلَادِ (196) مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ (197) *
( سورة آل عمران )
وقال :
*وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ (42) *
( سورة إبراهيم )
الآن ينبغي أن تربط ابنك ، أو أن تربط تلميذك بمنابع أصيلة للإسلام ، في منابع أصيلة ، في منابع صافية ، في تغذية صحيحة ، وفي منابع عكرة ، في منابع مياهها ليست كما يتمنى الإنسان ، فأن تبحث عن مسجد تثق بنظافته ، وتثق بإخلاص القائمين عليه ، وتثق بالعلم الذي يطرح فيه ، هذه مهمة الأب ، فحينما ينسى الأب أن يختار لابنه المسجد المناسب ، والأصدقاء المناسبين ، والأصحاب المناسبين أيضاً يكون قد ربطهم بجهات ليست كما ينبغي ، حينما يقول عليه الصلاة والسلام :
(( بلغوا عني ولو آية .))
[البخاري عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما]
كل مؤمن ينبغي أن يختار مسجداً يثق بالقائمين عليه ، يثق بالعلم ، ويثق بالإخلاص ، ويثق بالصحة والصواب ، فإذا لزمت هذا المسجد ينبغي أن تنقل ما تسمعه من حق إلى من حولك ، هذه هي الدعوة إلى الله التي هي فرض عين ، لأن الله عز وجل يقول :
* قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي (108) *
( سورة يوسف )
من لم يدعُ إلى الله على بصيرة لا يكن متبعاً لرسول الله إطلاقاً ، والذي لا يتبع رسول الله لا يمكن أن يكون محباً لله لقوله تعالى :
*قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (31) *
( سورة آل عمران )(1/412)
يعني أنا من باب الطرفة أعرف صديقاً يوم الجمعة يحب أن يشتري الفول من مكان من طرف المدينة الجنوبية ، وهو يسكن في طرفها الشمالي ، وفي أيام الشتاء الباردة يهيئ مركبته وينطلق بها من طرف المدينة الشمالي إلى طرفها الجنوبي ليأتي بطبق من الفول ليأكله مع أولاده صباحاً ، قد يكلفه هذا ساعتين أو أكثر ، أما حينما يريد أن يصلي الجمعة يختار أقرب مسجد دون أن يعبأ لا بخطيبه ، ولا بطريقة خطبته ، ولا بدعوته ، يعني عليه أن يركع هاتين الركعتين ليقول صلينا الجمعة والحمد لله ، وسقط عنه الوجوب وانتهى ، أنا أقول لهذا الإنسان أطبق من الفول أغلى عليك من دينك ؟!!
ينبغي أن تبحث لابنك عن مسجد يرتاح له ، يقنع بخطيبه ، يقنع بمدرسيه ، يقنع بمعهده ، أما أن نلحقه بأي مكان ، بأي مسجد ، بأي معهد ، من دون الدراسة والتحقق ، هذا أيضاً ليس من أساليب تربية الأولاد الناجحة ، ولا من أساليب تربية الأولاد المثمرة .
تكلمنا في الدرس الماضي عن الربط الإيماني ، الإيمان بالقرآن والإسلام والسنة والتاريخ الإسلامي والسيرة ، الآن إلى الربط الفكري ، يعني الآن يطرح فكر في المكتبات ، في الأسواق ، ما كل كتاب يقرأ ، ولا كل دار نشر يشترى منها ، هناك دور نشر تبث السم في الدسم ، لأنه أحياناً كلمة تهز أعماق الإنسان ، لو أنها تمكنت منه دون أن يستطيع أن يردها بدليل تفعل فعلاً خبيثاً في نفسه .
أحياناً قصة تقرؤها ، قد لا تشعر ماذا فعلت ؟ قرأت قصة من عدة أيام أن فتاة متفلتة لا يضبطها شيء ، استغلت جمالها للحصول على كل مآربها ، سواء في الدراسة ، أو في التجارة ، أو في المناصب ، وحصلت على ما تريد ، فتاة زميلتها لأنها ملتزمة ، ولأنها تخاف الله ، وهي محجبة ، بقيت من دون أن تتزوج ، ثم جاءها زوج فقير جداً بالغ في إهانتها ، وبعد عشرين عاماً وازنت بين نفسها وبين هذه التي وصلت إلى أعلى مقام ، وأعلى ثروة ، وأعلى مكانة ، فأيقنت أنها كانت مخطئة أشد الخطأ حينما التزمت منهج الله عز وجل فانتكست ، هذه القصة بمثابة سم يدس في الدسم ، هل تعتقد أنت أن فتاة تؤمن بالله ، وتخشى الله ، وترجو رحمة الله ، وهي وقافة عند حدود الله ، وهي تخشى أن تسخط الله ، هذه تعامل كما تعامل الفاسقة ، إنك إن ظننت ذلك فإنك لا تقرأ القرآن الكريم .
قال تعالى :
* أًمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أّن نَّجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاء مَّحْيَاهُم وَمَمَاتُهُمْ سَاء مَا يَحْكُمُونَ *
( سورة الجاثية )
هذا الحكم سيسوءهم ، وهذا الحكم سيدمرهم ، وهذا الحكم سيثبط عزيمتهم ، وهذا الحكم سيصرفهم عن الحق ، والله أيها الأخوة زوال الكون أهون على الله من أن يعامل مسيئاً كما يعامل المحسن ، أو أن يعامل محسناً كما يعامل المسيء ، المطروح أحياناً في بعض الحلقات أن الله عز وجل طليق الإرادة ، هذا الكلام صحيح ، يمكن أن يضع هذا الذي عبده طوال حياته وأفنى عمره في(1/413)
طاعته في النار ، ويمكن أن يضع هذا الذي ناصبه العداء وغرق في المعاصي والآثام في الجنة أتستطيع أن تسأله لماذا ؟ لا ، لأن الله عز وجل يقول :
* لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ (23) *
( سورة الأنبياء )
لأننا جميعاً ملكه إذاً يفعل بنا ما يشاء ، هذا الكلام ليس دعوة إلى الله ، هذا الكلام إبعاداً عن الله ، الله عز وجل قال :
* أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كَانَ فَاسِقاً لَا يَسْتَوُونَ (18) *
( سورة السجدة )
الله عز وجل يقول :
* إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (56) *
( سورة هود )
الله عز وجل ألزم نفسه بالاستقامة إلزاماً ذاتياً ، قال :
(( يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرماً فلا تظالموا .))
[مسلم عن أبي ذر]
قال :
* أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ (35) مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (36) *
( سورة القلم )
قال :
* فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ (7) وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ (8)*
( سورة الزلزلة )
قال :
* وَهَلْ نُجَازِي إِلَّا الْكَفُورَ (17) *
( سورة سبأ )
قال :
* وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ (47) *
( سورة الأنبياء )
هذا قرآن ، أن تقول له إن الله لا يسأل عما يفعل ، قد نفهم هذه الآية فهماً راقياً جداً ، حينما يكون عدله مطلقاً لا يسأل عما يفعل ، يعني ـ تقريباً ولله المثل الأعلى ـ لو أجريت مذاكرة(1/414)
وكتبت على السبورة السلم ، وكيف وزعت العلامات وفق هذا السلم ، وأنت قد صححت الأوراق بدقة بالغة ، وأعطيت كل ذي حق حقه ، ثم وزعت الأوراق على الطلاب ، ثم سألتهم هل من سؤال ؟ هل من اعتراض ؟ فلزم الجميع الصمت ، ماذا يعني صمتهم ؟ أنك عدلت معهم ، ماذا يعني عدم اعتراضهم ؟ أنك كنت عادلاً معهم ، لمَ لا تفهم قوله تعالى لا يسأل عما يفعل من هذا القبيل ؟ لمَ لا تقول مع بعض العلماء عدله يسكت الألسنة ؟ شيء آخر ، ضربت مثلاً أن أباً لا ينجب ، بعد سنوات عشر أنجب طفلاً وتعلق به تعلقاً يفوق حدّ الخيال ، يخاف عليه من الهواء ، هذا الأب من حيث القدرة ألا يستطيع أن يذبحه ، من حيث القدرة فقط ، أليس عنده عضلات وسكين حادة ؟ من حيث القدرة هل بإمكانه أن يذبحه ؟ تقول : نعم ، سؤال ثانٍ : أيفعلها ؟ تقول : لا مستحيل ، مستحيل وألف ألفُ مستحيل أن يفعلها ، فإذا قلنا لا يسأل عما يفعل من حيث القدرة لا من حيث الرحمة :
* إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (56) *
( سورة هود )
أنت حينما تبث في نفوس الطلاب ونفوس الأبناء الأفكار التي تثبط العزائم ، مرة قرأت قصة في كتاب مدرسة للصف الثامن أن موظفاً مستقيماً لا يأكل مالاً حراماً ، راتبه لا يكفي ، دخلنا إلى بيته لا وقود عنده ، ولا زيت ، ولا سكر ، ولا يوجد شيء في البيت ، بيته قطعة من الشقاء ، حسناً هذا الذي يقرأ هذه القصة بماذا يشعر ؟ ماذا تعني الاستقامة ؟ الفقر المدقع هكذا قال الله عز وجل ؟! الله عز وجل قال :
* إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (30) *
( سورة فصلت )
يعني أحياناً يكون عند المعلمين أو الأساتذة أو الآباء فكر مشوه ، أو ضعف في فهم كتاب الله ، أو تشاؤم ، أو سوداوية ، فإذا بثوا أفكاراً لا تنهض بنفوس الطلاب ، فقد تصنف تربيتهم بأنها تربية مدمرةٌ وليست بناءة .
2ـ ينبغي أن تربط أولادك أو طلابك بالفكر الصحيح المستنبط من الكتاب والسنة :
إذاً الربط الثاني ينبغي أن تربط أولادك أو طلابك بالفكر الصحيح المستنبط من الوحيين الكتاب والسنة ، لا أن تربطه بأطروحات وتساؤلات وتصورات ما أنزل الله بها من سلطان ، حدثني أخ أنه سمع في بعض المحطات من دكتورة مختصة في التغذية ترى أن أسباب الحروب في العالم كلها تعزى إلى أكل اللحم ، الإنسان إذا أكل اللحم يصبح متوحشاً ، أما إذا أكل النبات يصبح مسالماً ، القضية سهلة جداً نوقف أكل اللحوم ونأكل خضراوات ، ما كل شيء يطرح في الساحة صحيح .(1/415)
الآن ننتقل إلى الربط الاجتماعي ، الإنسان كائن اجتماعي ، الإنسان لا يعيش وحده ، هذه حقيقة ثابتة في الإنسان ، وأساساً الله عز وجل قهر الإنسان أن يكون في مجتمع ، السبب يعني مكَّنك أن تتقن حاجة ، أن تتقن عملاً واحداً أو عملين ، أنت بحاجة إلى مليار حاجة ، تحتاج إلى زر هذا له معامل وله خبراء ، تحتاج إلى خيوط لتثبيت هذا الزر في القميص ، تحتاج إلى خياط ، تحتاج إلى معلم ، تحتاج إلى حلاق ، تحتاج إلى خباز ، تحتاج إلى شواء ، تحتاج إلى مكتبة ، يعني حاجات الإنسان لا تعد ولا تحصى ، لأن الله سمح لك أن تتقن حاجة واحدة ، فهو قهرك أن تكون في جماعة ، أنت تشتري الخبز صباحاً من الفرن فهل تعرف كيف صار هذا الخبز رغيفاً ؟ بدأنا بحرث الأرض ، وتسميدها ، وتعقيمها ، ثم بزرعها ، وسقايتها ، والعناية بها ، وتعشيبها ، ثم بمتابعتها ، ثم بمكافحة الأوبئة فيها ، ثم بحصاد القمح ، ثم بدراسته ، ثم بسلقه ، ثم بتيبيسه ، ثم بطحنه ، يعني لو أنك مكلف أن تأكل الخبز من صنعك من أول مرحلة شيء فوق طاقة البشر ، لو أنك مكلف أن تعلم ابنك الرياضيات وأنت لا تقرأ ولا تكتب هذا شيء مستحيل ، إذاً سمح لك أن تتقن حاجة وأنت محتاج إلى مليار حاجة ، إذاً أنت مقهور أن تكون في مجتمع والمجتمع مجال للعمل الصالح ، هل يمكن أن يكون لك عمل صالح من دون مجتمع ؟ إطلاقاً .
الآن إذا شخص سكن في قمة جبل ماذا يفعل ؟ يخاطب من ؟ يطعم من ؟ يحل مشكلة من ، لما الله عز وجل قال :
* سَابِقُواْ (21) *
( سورة الحديد )
سابقوا هذا معنى المسابقة ، هل سمعت في الدنيا أن سباقاً يكون فردياً ، والله عملت سباقاً رائعاً كنت الأول ، مع من ؟ مع نفسي ، هذا مستحيل ، لا يستطيع أن يتسابق لوحده ، سابقوا في مجموعة ، إذاً الإنسان كائن اجتماعي ، مقهور بأن يكون اجتماعياً .
الإنسان بحاجة إلى مجتمعه ، بل في الدرجة الأولى هو بحاجة إلى مجتمع ليعمل العمل الصالح الذي هو علة وجوده في الأرض بدليل أن الإنسان حينما يقارب الموت يقول :
* رَبِّ ارْجِعُونِ (99) لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحاً (100) *
( سورة المؤمنون )
كأن أعظم شيء تفعله في الدنيا أن تعمل صالحاً ، والعمل الصالح يحتاج إلى جماعة ، ويد الله مع الجماعة :
(( ومن شذَّ شذ في النار . ))
[الترمذي عن ابن عمر]
((عليكم بالجماعة وإياكم والفرقة فإن الشيطان مع الواحد ، وهو من الاثنين أبعد)) .(1/416)
[الترمذي عن ابن عمر]
(( عليكم بالجماعة فإنما يأكل الذئب من الغنم القاصية .))
[أبو داود عن أبي الدرداء]
أول شيء اجتماعياً الطالب أو الابن يحتاج إلى مرجعية دينية ، يعني لا يوجد إنسان إلا وله موجه ، فإما أن يكون الموجه شيطاناً أو ملاكاً ، إما أن يوجهه إنسان من أهل الدنيا ينصحه بالمعاصي والآثام ، أو إنسان من أهل الآخرة ، فأنت تحتاج إلى من يوجهك ، إلى من يرشدك ، إلى من يدلك على الطريق ، إلى من يحذرك ، إلى من يشجعك ، إلى من يأخذ بيدك ، فالطالب يحتاج إلى مرجع ديني ليسأله أحياناً ما حكم هذا الشيء ؟ فأنت دون أن تشعر في البيت تنتقد الدعاة إلى الله ، وقد تسخر أحياناً ، أنت ماذا تفعل ؟ حطمت المثل العليا في حياة الصغير ، أو أنت حينما تنتقد معلم ابنك ماذا تفعل ؟ حطمت مثله الأعلى ، فمن الخطأ الكبير أن تنطلق في البيت تتحدث بشكل صحيح أو غير صحيح عن هؤلاء الذين هم في نظر الناس قدوة ، فالذي يحصل الآن ما من مجلس إلا وينهش في أعراض الدعاة لماذا ؟ في سبب عميق ، هذا السبب يقبع في العقل الباطن .
أخواننا الكرام الإنسان حينما يعصي الله يختل توازنه ، إنسان مستقيم لما قبض أول مبلغ حرام اختل توازنه ، دون أن يشعر لا يصدق أن أحداً أمين ، أنت قبل أن تأكل المال الحرام كنت تعتقد أن هناك أناساً طيبين ، نزيهين ، صادقين ، أمناء ، تثني عليهم وتعتز بهم ، لماذا بعد أن أكلت المال الحرام أنكرت أن يكون إنسان مستقيماً ، صار في عقلك الباطن اختلال توازن ، هذا الاختلال في التوازن لا بد من أن يصحح ، لا بد من أن يستعيد توازنه .
يستعيد المنحرف توازنه بإحدى طرائق ثلاث : أول طريقة أن يتوب إلى الله هذا أفضل شيء ، أن يرجع إلى الله ، أن يعقد مع الله الصلح ، لكن حينما لا يرجع إلى الله وقد شذ ، وعصا ، وانتهك حرمات الله ، وخرق استقامته ، الآن يحاول أن يعيد توازنه عن طريقين فاسدين ؛ إما أن يبحث عن فتاوى ضعيفة تغطي انحرافه ويتمسك بها ، ويثني على من أفتى بها ، ويتهم من لم يُفتِ بها أنه متزمت ، لأن هذه الفتاوى تغطيه ، أو أن يتهم كل الصالحين بأنهم سيئون ، فهناك شيء شائع الآن أينما جلست هناك من ينتقد ، أنا لا أقول هؤلاء معصومون ، أما أن يكون الضغط عليهم وحدهم ، وكل هؤلاء المنحرفين ، والزناة ، وشاربي الخمر ، والمنافقين ، والكذابين كلهم في منجاة من لسان المتكلم ، أما لسانه يخوض في أعراض هؤلاء الذين توخوا الحقيقة ودعوا إلى الله ، هذا خطأ كبير ، فإذاً نقد الصالحين هو عملية غير ناجحة لاستعادة التوازن الذي ينشأ من خلل سببه معصية الله عز وجل ، والدليل أنت حينما تستقيم تحب أهل الدين وتثني عليهم ، أقوى دليل في عهد النبي ، السيدة عائشة روج بعض الناس أنها زنت ، الخبر سار في الناس كالنار في الهشيم ، ماذا قال الله عن المؤمنين ؟ قال : هؤلاء يظنون بأنفسهم خيراً ، وقالوا : معاذ الله هذا بهتان عظيم ، أما الذي ليس مستقيماً أعجبه(1/417)
الخبر ، الخبر غطاه ، قال هؤلاء المنحرفون : نحن من ؟ زوجة رسول الله وقعت في الحرام ، نحن من ؟ فكلما سمع خبراً فيه انحراف ، من يصدقه ؟ المنحرف ، من يأباه ؟ المستقيم ، فحينما يعصي الإنسان ربه يختل توازنه ، الأولى أن يستعيده بطاعة الله ، بالاستقامة على أمر الله ، لكنه يفعل أحياناً على خلاف ذلك ، يستعيده بالطعن بصالحنا ، ويستعيده أحياناً بالتعلق بفتاوى ضعيفة شاذة تغطيه .
إذاً الربط الاجتماعي يحتاج إلى مرجعية لك ، مثل أعلى ، طبعاً أنا لا أقول أن هناك إنسان معصوم إلا النبي ، لكن العلماء قالوا : الأنبياء معصومون والأولياء محفظون ، ومعنى محفوظون أن معصيتهم لا تضرهم ، بمعنى أنها ليست كبيرة ، كما أنها ليست عن قصد وتصميم ، يعني سريعاً ما يتوبون ، سريعاً ما يرجعون ، إذاً هم محفوظون وليسوا معصومين ، والمعصوم هو سيد الخلق وحبيب الحق .
الآن الربط الاجتماعي يحتاج إلى أصدقاء صالحين ، إذاً الأب والمعلم ينبغي أن يختار لتلميذه ولابنه أصدقاء صالحين ، لا بد من صداقة ، ينبغي أن تربطه بالصديق الناصح، بالصديق المؤمن ، بالصديق الذي يصلي ، بالصديق الذي تربى في بيت مسلم ، أما إذا ربطته بصديق تربى في بيت غير مسلم يذهب إلى بيت صديقه يرى اختلاطاً وأفلاماً وتفلتاً تعجبه هذه الطريقة ، يكره بيته ، لا يعجبه بيته ، فأنت ينبغي أن تربطه بمرجع ديني ، أو بمرشد ورع ، عالم ورع ، وينبغي أن تربطه بأصدقاء صالحين تربوا في بيئة صالحة ، ثم ينبغي أن تربطه بزملاء في العمل ، قد تكون موظفاً يعني أنت قد تكون عاملاً ، أنت بحاجة إلى أصدقاء وزملاء ، الصديق قد لا يكون من جنسك ، لكن بكل دائرة ، بكل معمل ، بكل مؤسسة ، بكل مدرسة ، بكل جامعة تجد أناساً صالحين ، فينبغي أن تربط له صديقاً من جواره أو مدرسته ، وصديقاً من عمله ، فلا بد من مرجعية ، ولا بد من أصدقاء صالحين ، هؤلاء هم الربط الاجتماعي للإنسان .
أنا أحياناً تأتيني بعض المشكلات ، أجد أن إنساناً هو وزوجته وأولاده على استقامة رائعة ، لكن كل أعمام هذا الغلام ليسوا على منهج أبيه ، فإذا زار هذا الغلام أعمامه وقع في إشكال كبير ، الأمور غير منضبطة ، والكلام ليس منضبطاً ، والأجهزة ليست منضبطة ، لكن لو تخيلنا أن خمسة أعمام على منهج واحد ، ومن جامع واحد مثلاً ، والبيوت كلها منضبطة سواء في الحجاب ، أو في الكلام ، لو هذا الابن زار أي بيت من بيوت أعمامه لا يتأثر إطلاقاً ، لأن الجو موحد ، عندما يأتي الأخ بأخيه إلى المسجد أصبح هناك اثنين في الأسرة ، لو حاول أن يأتي بالأخ الثالث أصبحوا ثلاثة ، لو جاء بالأخ الرابع أصبحوا أربعة ، يعني أصبحوا أكثرية في البيت منضبطين بالشرع ، فصار الأول استقامته أسهل بكثير لأن هناك من يسانده ، هناك من يدعمه ، هناك من يدافع عنه ، أما إذا كان فريداً وحده يعني في دعوة مختلطة ، هذا الشاب الملتزم أكل لوحده يأتيه التقريع والاستهزاء والسخرية ، أما إذا كل أخواته ملتزمون مثله اختلف الأمر .(1/418)
إذاً الربط الاجتماعي أن تربطه بمسجد ، أن تربطه بمرشد ، بإنسان صالح يعد مرجعاً له ومثلاً أعلى ، وأن تربطه بأخوة في المسجد ، وأن تربطه بأصدقاء في الحي ، وبأصدقاء في المدرسة ، وأصدقاء في العمل ، يريد في العمل صديقاً ، بالمدرسة صديقاً ، بالحي صديقاً ، بالمسجد صديقاً ، براعة الأب تتأتّى من اختيار الأصدقاء الصالحين لابنه ، أو المعلم لطلابه .
================ ... ... ...(1/419)
43- وسائل تربية الأولاد ( 13 ) : القواعد الأساسية في التربية :قاعدة الربط ( 3 ) .
لا زلنا في سلسلة دروس تربية الأولاد في الإسلام ، ولا زلنا في القسم الثاني في الوسائل الفعالة في تربية الأولاد ، وقبل رمضان كنا في موضوع الربط ، ربط الطفل بدينه ، ربطه بقرآنه ، ربطه بالمسجد ، ربطه بالمرشد الرباني ، ربطه بالصحبة الصالحة ، واليوم ننتقل إلى ربط الولد بالدعوة والداعية .
أيها الأخوة الكرام من أجل أن ترى جيلاً يحمل همَّ المسلمين ، من أجل أن ترى جيلاً يحمل همَّ أمته ، من أجل أن ترى جيلاً يخرج من ذاته إلى الخلق ، هناك نموذج معاصر هو إفراز تراكمات كثيرة ، النموذج المعاصر تراه صارخاً في الغرب ، وموجوداً في الشرق ، الإنسان همه شهوته ، همه دخله ، همه مصلحته ، ولا يعبأ بأحد ، هذا الإنسان لا يمكن أن ينصر أمته ، ولا أن ينهض بمجتمعه ، ولا أن يحمل همَّ المسلمين ، ولا أن يكون عنصراً فعالاً في رقي أمته ، إفرازات التربية السيئة ، إفرازات التربية التي لا تعتني بالقيم الإسلامية ، إفرازات التربية العلمانية ، إفرازات التربية التي ألفها أهل الكفر ، هذه التربية تفرز إنساناً لا ينتمي إلا لنفسه ، لا ينتمي لأحد إطلاقاً ، هذا النموذج كما قلت قبل قليل تجده صارخاً في الغرب .
أضرب لك مثلاً : إنسان مضطجع تحت شجرة تفاح ، والمثل تركيبي ، رأى تفاحة زاهية اللون في أعلى الشجرة ، وبيده منشار كهربائي فمن أجل أن يأكل هذه التفاحة قطع جذع الشجرة وأخذ التفاحة وأكلها ، همه هذه التفاحة ، أما قطع الشجرة وإلغاء خيرها فهذا لا يهمه .
الإنسان إذا ربي تربية علمانية ، أو ربي تربية مادية ، أو ربي تربية على نمط أهل الغرب لا يهمه إلا ذاته ، لا يهتم بأحد ، هذا الشعار رفعه من ؟ رفعه نيرون ، قال : من بعدي الطوفان ، والذي همه نفسه ، وهمه دخله ، وهمه مصلحته ، لا يمكن أن تقوم أمة على هذا النموذج ، لذلك يقول عليه الصلاة والسلام :
(( من كانت الدنيا همه جعل الله فقره بين عينيه وفرق عليه شمله ولم يأته من الدنيا إلا ما قدر له )).
[الترمذي عن أنس والطبراني عن ابن عباس]
إن أردت لهذا الجيل أن ينهض بهذه الأمة ، إن أردت أن تستمع الأخبار السارة للمسلمين لا بد من أن تبدأ بالصغار ، وأعود وأكرر الأطفال أطفالنا هم الورقة الرابحة الوحيدة التي في أيدينا ، إنهم المستقبل ، المتقدمون في السن هم الماضي ، والكهول هم الحاضر ، والصغار هم المستقبل ، فمن أجل أن تنجح تربية الأولاد في الإسلام لا بد من أن تربط الطفل مع الدعوة الإسلامية .
الحقيقة أول شيء يجب أن تعري هذه الحضارة المادية ، يجب أن تبين سلبياتها لئلا يتعلق الطفل بها ، قد يتعلق الطفل بها فينسى دينه ، الطفل همه السيارة ، والمركبات ، والطائرات ، والآلات ،(1/420)
والكمبيوتر ، وآلات التصوير ، يعني كيان الطفل كله هذه المخترعات ، أما حينما تربيه تربية دعوية ، تربيه أن يلتفت إلى الكون ، وما فيه من آيات باهرات ، تربيه أن يلتفت إلى القرآن وما فيه من منهج قويم ، إلى سنة النبي عليه أتم الصلاة والتسليم ، حينما تربط هذا الطفل بالدعوة العامة ، الدعوة العامة فيها هدم وفيها بناء ، ولن يقوم بناء إلا على هدم ، يعني مثلاً : أنت حينما تسمح أن يشاهد ابنك عملاً فنياً فيه بطل إيجابي ، هذا البطل يشرب الخمر ، ويختلط مع النساء ، وزوجته تمشي بلا حشمة إطلاقاً ، وهو البطل الأول في القصة ، فالطفل ماذا يصنع ؟ يعظمه على ما به من انحراف ، فالحقيقة أن مناهج التعليم ينبغي أن تكون مدروسة ، الأعمال الفنية ينبغي أن تكون مدروسة ، لأن الطفل أحياناً يتغذى بها ، فإن أردت جيلاً ينهض بأمته ، يحمل همَّ أمته ، يسعى للنهوض بأمته لا بد من أن تربطه بالدعوة الإسلامية ، فالدعوة أحد أكبر وسائلها تعرية الكفر ، تعرية العلمانية ، تعرية العولمة ، تعرية الغرب ، طبعاً في إيجابيات ، والخمر فيها إيجابيات .
* يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا (219) *
( سورة البقرة)
ما في إنجاز حضاري سيئ إلا وفيه إيجابيات ، نحن نبتعد عن الشيء إذا غلب شره على خيره .
الآن بعد أن تعري مجتمع الكفر ، مجتمع النفاق ، مجتمع المادة ، مجتمع القسوة ، مجتمع الكذب ، مجتمع الإباحية ، مجتمع الاختلاط ، مجتمع ترك العبادات ، مجتمع تعظيم الغرب :
(( كل نفس تحشر على هواها فمن هوى الكفرة فهو مع الكفرة و لا ينفعه من عمله شيئاً .))
[أخرجه السيوطي عن جابر]
بعد أن تعري هذا المجتمع لا بد من أن تبث الأمل ، أخطر مرض يصيب الأمة اليأس .
بربكم الفرنجة أقاموا في الشرق قرابة كم سنة ؟ تسعين عاماً واحتلوا القدس ، واحتلوا أنطاكية ، وحمص ، وحلب ، والشام ، ولو أننا أيقظنا أناساً من قبورهم عاشوا هذا الاحتلال ، وهذا القهر ، وهذا الطغيان ماذا يقول ؟ انتهى المسلمون ، لم يعد في أمل ، فلو علموا أن هؤلاء الفرنجة رحلوا معناها في أمل ، والآن الأعداء احتلوا ، كم مضى على احتلالهم ؟ ستون عاماً تقريباً ، خمسة وستون عاماً ، الفرنجة جلسوا تسعين عاماً وانتهوا ، التتار اقتحموا هذه البلاد ، يقول لك : برج الروس ، هل أنت منتبه لمعنى الاسم ؟ هولاكو بنى برجاً من الجماجم خمسين ألف جمجمة كانت على شكل هرم ، هذا هو برج الروس في منطقة القصاع ، جاء على هذه البلاد طغاة ، تيمورلنك ، هولاكو ، التتار ، الفرنجة ، الفرنسيون ، ورحلوا في النهاية ، والإسلام باقٍ ، والإسلام شامخ ، أهم شيء ألا ننهزم من الداخل ، الله له امتحانات عديدة ، من أصعب امتحاناته حينما يقوي الكافر ، يفعل ما يريد ، يملي إرادته على كل الشعوب ، معه قوة كبيرة جداً ، يملي عولمته ، يملي إباحيته ، يملي ثقافته ، يمنع الثقافات الدينية ، حينما يقوي الله الكافر لحكمة يريدها ، يقول ضعيف الإيمان أين الله ؟ هذا(1/421)
امتحان صعب جداً ، ففي مثل هذا الامتحان الصعب ينبغي أن يكون جزء من الدعوة إلى الله بث الأمل في النفوس ، يعني بعد تسعين سنة صعد الخطيب المسلم منبر المسجد الأقصى ، وألقى خطبة اهتزت لها رمال البيض ، بدأ بخطبته :
* فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (45) *
(سورة الأنعام )
نرجو الله سبحانه وتعالى أن يقطع دابر هؤلاء مرة ثانية .
اليأس دليل الكفر ، اليأس دليل الجهل ، اليأس هو يأس من رحمة الله .
* وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (139) *
( سورة آل عمران )
وقال :
* إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ (140) *
( سورة آل عمران)
لمَ لم يجعل الله المؤمنين أقوياء على مدى التاريخ ؟ قال تعالى :
* وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ (140) *
( سورة آل عمران)
لو كان الأمر كذلك لأصبح أهل الأرض منافين للمؤمنين ، لكن في وقت إن أعلنت إسلامك تحاسَبْ ومع ذلك أنت مسلم ، هناك علماء يقولون : الإنسان يتدين عند الفقر فقط ، أو عند المرض ، أو عند القهر ، هناك أناس أقوياء متدينون ، هناك أناس أصحاء متدينون ، هناك أناس أغنياء متدينون ، فالله عز وجل يجعل الأيام دولة بين الناس :
* وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ *
( سورة آل عمران الآية : 140 )
في عهد النبي عليه الصلاة والسلام لم ينتصر في أحد ، ولم ينتصر في حنين ، فمن سنة الله الكونية أنه ينصر المؤمنين تارةً والكفار تارةً أخرى ، نحن جاء ترتيبنا في الحياة الكفار أقوياء جداً ، لذلك الأخبار من دون إيمان باليوم الآخر تسبب جلطة ، يموت الواحد سريعاً من دون إيمان باليوم الآخر ، الأخبار مزعجة جداً ، لكن أنا مهمتي كداعية ، مهمتي كمعلم ، مهمتي كأب أن أبث روح التفاؤل والثقة بالله عز وجل ، الأمر بيد الله وحده .
* وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ (123) *
( سورة هود الآية : 123 )(1/422)
هذا الطفل ينبغي أن يعتز بدينه ، أن يرى أن الأمر بيد الله لا بيد زيد أو عبيد ، الأمر بيد الله لا بيد وحيد القرن ، بيد الله وحده ، والله عز وجل حينما خلقني لم يسلمني إلى أحد ، لماذا يأمرني أن أعبده ، لماذا يقول لي :
* وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الأَمْرُ كُلُّهُ َاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ *
( سورة هود الآية : 123 )
لأن أمري بيده فقط لا بيد سواه ، لو ذهبنا إلى بلد إسلامي ، يعني أراد بعض من كان على سدة الحكم أن ينهي الإسلام كلياً ، هل انتهى الإسلام ؟ لا ، لم ينتهِ الإسلام لأن الله عز وجل يقول :
* يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ (32) *
( سورة التوبة )
أنت إذا رأيت إنساناً يحاول إطفاء الشمس بنفخة من فمه ، بماذا تتهمه ؟ الشمس ! إذا كان من سابع المستحيلات ، ولا واحد بالمليار ، ولا واحد بمليار مليار مليَار مليار يمكن أن يطفئ الشمس ، فكيف بإنسان يريد أن يطفئ نور الله عز وجل ، الإسلام باقٍ ، والإسلام يتنامى ، وعظمة هذا الدين أنه كلما قمعته ازداد قوة .
والله حدثني أخ قال لي : والله جاءتنا كمية مصاحف ، كمية غير معقولة ، وجاهزة ، محل كبير جداً بمركز إسلامي بأمريكا ، وفي عندنا مشكلة ، نحن في أمس الحاجة إلى مكان ، هذه المصاحف ليس عليها طلب بالمرة ، بعد أحداث أيلول لو عندنا عشرة أضعاف لم يبقوا ، لو عندنا مئة لم يبقوا ، إقبال على كتاب الله وعلى كتاب إسلامي بشيء لا يصدق .
الآن أخواننا الكرام في الظاهر الإسلام يحارب في كل مكان ، أما في الحقيقة الإسلام يتنامى في كل مكان ، الآن أسرع دين في النمو في العالم هو الإسلام ، كنت أستمع قبل يومين لإذاعة وأنا بمركبتي ، أن الإسلام في فرنسا ثاني دين ، ثلاثة وزراء مسلمين ، خمسة أعضاء بالمجلس ، بالبرلمان ، والعالم الفلاني مسلم ، والعالم الفلاني مسلم ، والله شيء جميل ، لكن هذا الذي يتكلم قال : وراقصة الباليه الفلانية مسلمة أيضاً ، يعني يتباهى أنها مسلمة ، لم ينتبه إلى ما يقول ، بفرنسا الدين الثاني ، بأمريكا في عشرة ملايين مسلم يتزايدون ، لا يوجد دين ينمو بسرعة كالإسلام ، يقدم لك صورة دقيقة متناسقة عن الكون والحياة والإنسان ، يعطيك منهجاً موضوعياً ، منهجاً لا يقوم على التعصب ، منهج الإسلام إنساني ، ليس عنصرياً ، يعني أحياناً أنت تؤخذ بدولة تعتني بشعبها عناية تفوق حد الخيال ، لكنها تذبح الشعوب ، هل تحترمها ؟ لا والله ، هذه دولة عنصرية ، يزرع للكلب مفصل ، الآن عندنا زراعة مفصل شيء غالٍ جداً ، يعني بمئات الألوف ، المفصل ثمنه مئة ألف ، يزرع للكلب مفصل ، يزرع للكلب سن ، يبدل شريان لقلب كلب ، للكلب طبيب نفسي لأن معه كآبة .(1/423)
دخل واحد إلى سوق ، سوق فخم جداً ، لم يصدق هذه المعلبات الفخمة ، فملأ سلته من هذه المعلبات ، وهو يحاسب ، سألته الموظفة : أعندك كلب ؟ قال : لا ، قالت : أرجعه هذا كله طعام للكلاب .
في تفوق كبير ، فينبغي أن تبث في روح أولادك إن كنت أباً ، وروح طلابك إن كنت معلماً ، وروح أخوانك إن كنت داعية أن هذا الإسلام هو دين الله ، وأن الله لا يتخلى عنه أبداً ، وأنه ينصره بطريقة عجيبة .
لابدّ من أن تربط ابنك ربطاً دعوياً .
1ـ يجب أن تعري هذه الحضارة الإباحية التي أساسها المال والجنس :
أولاً : يجب أن تعري هذه الحضارة ، يعني مثلاً أنا قرأت في الانترنت أن سفير دولة عظمى هي قطب العالم الأول ، سفيرها في بوخارست لا بد من أن يقام له حفل لوداعه وإعطائه أوراق الاعتماد ليقدمها للدولة التي هو فيها سفير ، والعادة أن هذا الحفل مختلط ، يعني المدعو مع زوجته ، فالمفاجأة أن هذا السفير لدولة عظمى معه شريكه الجنسي ، رجل شاذ ، فهذا ينبغي أن يعرى ، لا بد من أن تقول : الوزير الفلاني يقول عن نفسه أنه شاذ جنسياً ، لا بد من أن تعري هذه الحضارة ، حضارة إباحية ، حضارة أساسها المال والجنس ، يعبدون المال والجنس من دون الله ، هذه الحضارة ، هذه الحضارة صالحة للدنيا فقط ، عند الأغنياء من الناس ، لا عند الضعفاء والفقراء ، لكن الذي يفعل فعلهم سوف يلقى حساباً عسيراً يوم القيامة .
شيء ثانٍ : ماذا يعني أن تربط هذا الطفل إن كان طالباً في المدرسة ، أو كان ابناً في البيت ، أو كان طالب علم في المسجد ، ماذا يعني أن تربطه بالدعوة ، يعني لا بد من قدوة ، لا بد من مرجعية ، لذلك أحد أساليب كيد الشيطان تحطيم المثل كلها ، يعني في محطات فضائية بالنهاية ما في إنسان إلا خائن ، ما في إنسان إلا عميل ، هذه المحطة تُمَوَّل بمال الموساد من أجل تحطيم المثل ، لا يبقَ مثل أعلى ، لا بالحقل السياسي ولا بالديني ولا أبداً ، كله سلسلة فضائح ، فما لم يكن للمجتمع رأس مرجعية ، قدوة .
أنا أضرب مثلاً من واقع الحياة ، أب جالس فجاء ابنه الصغير وقال له : بابا هكذا قالت المعلمة ، فقال الأب : معلمتك لا تفهم ، أنا أقول أن الأب قد أجرم بحق الابن فهي معلمته ، الطفل يشاهد معلمته كبيرة جداً ، الأب لم ينتبه ، هذه القصص كثيراً ما تحدث ، لا ينتبه يسب فلاناً ، يسب فلاناً والأب مرتاح ، أنت حطمت مُثلاً ، أنا لا أقول لك المعلمة معصومة ، لا ، ولا المعلم معصوم ، أحياناً قد يكون شاباً طائشاً شارداً غارقاً بالمعاصي والآثام ، الله يهديه لجامع ، أي جامع أنتم ؟ الجامع الفلاني لا يفهمون شيئاً ، هؤلاء كلهم مجانين ، هكذا حطمه ، والله في آباء يتكلمون كلمات والله هي كلمات الشيطان دون أن يشعروا ، أنا لا أضرب أمثلة كثيرة لكن فهمكم كفاية ، تحطيم(1/424)
المثل كلها من عمل الشيطان ، في أناس صالحون ، في أناس مخلصون ، وفي أناس كرماء ، وفي أناس ورعون ، وفي أناس منضبطون ، تقول لا أحد جيد ؟ هذا كلام فارغ ، كلام الشيطان ، أنا بهذا لا أدافع ولا أمدح لكني لا أصدق أن تخلو الأرض من صالح ، ولا تخلو الأرض من جهة مخلصة ، ولا تخلو الأرض من جهة مضحية ، بكل زمان من قال : هلك الناس فهو أهلكهم ، هو أشدهم هلاكاً ، هم ليسوا هالكين ، لكن أهلكهم هو .
يا أيها الأخوة ربط الطالب في المدرسة ، والابن في البيت ، وطالب العلم في المسجد ، ربطه أولاً بالدعوة الإسلامية ، هذه الدعوة تقوم على تعرية الطرف الآخر ، لا بد من هدم قبل البناء والدليل :
* فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لَا انْفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (256) *
( سورة البقرة )
أساساً ما جرى من أحداث جسام في هاتين السنتين من أجل أن نكفر بالطاغوت ، لأن الطاغوت كان بيننا وبين الله ، كان حجاباً بيننا وبين الله ، لقد أعانونا على أن نكفر بهم ، وهذا أكبر إنجاز ، أعانونا على أن نكفر بهم ، لقد سقطوا في الوحل ، هذا أول شيء أن تعري الطرف الآخر الطرف الكافر .
2ـ يجب أن تبث روح الأمل :
الشيء الثاني : أن تبث روح الأمل ، التتار دحروا ، والفرنجة دحروا ، والفرنسيون دحروا ، وكل طاغية له بضعة أيام وتنتهي ، والكتلة الشرقية انتهت ، بمعجزة انتهت ، ونرجو الله سبحانه وتعالى أن تتبعها هذه الجهة الغربية أيضاً لتكون عبرة للناس ، يعني الله عز وجل لا يسمح لأحد أن يتأله ، لا يسمح لأحد أن يقول :
* أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى (24) *
( سورة النازعات )
لا يسمح لأحد أن يقول :
* مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي (38) *
( سورة القصص)
في جهة بشرق آسيا عندها سلاح نووي ، طردت المفتشين ونزعت الكاميرات ، وقالت : عندي سلاح نووي ، ولن ألغيه وافعلوا ما شئتم ، انضمت إليها دولة عظمى فأصبحت في وضع محرج الآن ، يعني ما في إنسان يتأله الله كبير .
فيا أيها الأخوة بث روح الأمل ، الله عز وجل :
* وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً (49) *(1/425)
( سورة الكهف )
وقال :
*وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ (42) *
( سورة إبراهيم )
وقال :
* لَا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلَادِ (196) مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ (197) *
( سورة آل عمران )
الشيء الثاني : التعرية ، وبث روح التفاؤل ، ثم الربط بمرجعية معينة ، الإنسان له مرجع ، الأخطاء الفاحشة من أين تأتي ؟ من اجتهاد شخصي .
(( الجماعة رحمة ، والفرقة عذاب )).
[ رواه الإمام أحمد والطبراني عن النعمان بن بشير]
(( عليكم بالجماعة وإياكم والفرقة ، فإن الشيطان مع الواحد وهو من الاثنين أبعد )).
[أخرجه أحمد والترمذي والحاكم عن عمر ]
(( فإنما يأكل الذئب من الغنم القاصية )).
[رواه أبو داود عن أبي الدرداء ]
ليس من صالحك أيها الأب أن تحطم المثل أمام ابنك ، لو في خطأ من المعلم اجعله بينك وبينه ، اذهب إليه ، والتمس منه أن لا يفعل هذا مع ابنك ، أما كلما بلغك عن معلم ، أو عن داعية ، أو عن مرشد شيء ما راق لك ، أو نقل لك خطأ ، أو لم تستوعبه ، ألقيت عليه حمماً من السباب والشتائم ، أنت ماذا فعلت ؟ أنت حطمت المرجعية ، حطمت المثل الأعلى ، أنا لا أدافع عن هؤلاء الذين يخطئون ، أنا دقيق جداً ، لا أدافع عنهم لكن لا أرضى عن هذا السلوك ، كلما نقل لي خبر ما راق لي أصب جام غضبي على هذا الإنسان .
شيء آخر مثلاً الطبيب يظهر أنه إنسان أولاً ، دخل الجامعة بمجموع عالٍ جداً ، معناها على مستوى عالٍ من الذكاء ، ودخله كبير ، ويسمح له دخله أنه يكون بيته فخماً ، ومركبته جيدة وله مكانة ، ودكتور ودَكتور ، فكلما سألت طفلاً بالحضانة : ماذا تتمنى أن تكون في المستقبل ؟ يقول لك : دكتور ، المجتمع يقدِّر هذه المهنة .
مرة موجه تعليم ابتدائي ذهب إلى بلدة حدودية ، فحسب السؤال التقليدي سأل أحد الطلاب قائلاً : يا بني أنت ماذا تحب أن تكون حينما تكبر ؟ قال له : مهرب يا أستاذ ، يبدو المهرب هناك ذو شأن كبير .(1/426)
هذا الطفل ما الذي يطمح إليه ؟ أنت حينما تربطه بالدعوة ربما قال لك : أحب أن أكون داعية يا أستاذ ، إذا ربطته بالدعوة ورأى الدعاة شخصيات فذة ، شخصيات نزيهة ، واعية جداً ، مطبقة جداً ، مخلصة ، بعيدين عن الدنيا ، همهم نشر هذا الدين ، حمل هم المسلمين ، في أناقة ، في ثقافة عصرية ، في فهم ، في لطف ، يعني أنا أقول لكم هذه الكلمة سيد الخلق ، حبيب الحق ، سيد ولد آدم ، سيد الرسل ، يوحى إليه ، معه المعجزات ، خاتم الأنبياء والمرسلين ، أجمل خلق الله أجمعين ، أفصح خلق الله أجمعين ، أشدهم خشية لله ، أشدهم رحمة لله ، وهو على كل هذه الخصائص والميزات والفضائل قال له : يا محمد :
* وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ (159) *
( سورة آل عمران)
على كل هذه الخصائص ، فإذا كان واحد لا هو نبي ، ولا رسول ، ولا معه وحي ، ولا معه معجزات ، ولا هو فصيح ، ولا هو جميل ، ما عنده رحمة ، وغليظ ، لمَ هذه الغلظة ؟!! ذلك أن أنصاف الدعاة تختلط عندهم أخلاق الدعوة مع أخلاق الجهاد في سبيل الله .
الله عز وجل قال :
* يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ (73) *
( سورة التوبة الآية : 73 )
هذه أين ؟ في ساحة المعركة ، في ساحة المعركة ما في عفواً أكون قد أزعجتك للعدو ، أرجو أن تسامحني ، في قتل ، ساحة المعركة * جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ * هذا في ساحة المعركة فقط ، أما في الحياة المدنية :
* فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ (34) *
[سورة فصلت]
(( من أمر بمعروف فليكن أمره بمعروف )).
[ أخرجه البيهقي عن ابن عمرو ]
قال تعالى :
* وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ (159) *
( سورة آل عمران)
قال تعالى :
* اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى (24) *
( سورة طه )
فرعون وما أدراكن ما فرعون ، الذي قتل أبناء بني إسرائيل ، الذي استحيا نساءهم ، الذي قال :(1/427)
* أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى (24) *
( سورة النازعات )
الذي قال :
* مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي (38) *
( سورة القصص الآية : 38 )
قال تعالى :
* اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى (43) فَقُولَا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى (44) *
( سورة طه )
قال تعالى :
* وَلَا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ (22) *
( سورة النور)
ثم يقول الله عز وجل :
* أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ (22) *
( سورة النور)
أخلاق الدعوة غاية اللطف ، غاية الود ، غاية التواضع .
* وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (24) *
( سورة سبأ )
الآن مع الطرف الآخر ، دققوا :
* فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ *
( سورة التوبة الآية : 7 )
الطرف الآخر ينبغي أن تزوره ، أن تقدم له هدية ، أن تهنئه بالمولود ، أن تعاونه ، فإن كان غير مسلم ! هكذا القرآن :
* فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ *
( سورة التوبة الآية : 7 )
قال تعالى :
* لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (8) *
( سورة الممتحنة )
هذه آية ثانية :(1/428)
* وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآَنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى (8) *
( سورة المائدة )
هذه أخلاق الدعوة ، الداعي كله لطف وأدب وتواضع وموضوعية ومسامحة وعفو ، فينبغي أن تظهر فضيلة الدعوة إلى الله ، ينبغي أن تعلم أبناءك ، وأن تعلم طلابك ، وأن تعلم أخوانك ، أنه ما من إنسان أعظم عند الله على الإطلاق :
* وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحاً وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ (33) *
( سورة فصلت )
والدليل آية : * وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً * أي ليس في الأرض من هو أفضل عند الله : * مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحاً وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ * .
(( فَوَ اللَّهِ لأَنْ يَهْدِيَ اللَّهُ بِكَ رَجُلاً وَاحِداً خَيْرٌ لَكَ مِنْ حُمْرِ النَّعَمِ )).
[ أخرجه البخاري ومسلم عن سهيل بن سعد رضي الله عنه ]
(( لأن يهدي الله على يديك رجلا خير لك مما طلعت عليه الشمس وغربت )).
[ أخرجه الطبراني عن أبي رافع ]
ينبغي أن تبين لهذا الطفل حتى لا يقول : أريد أن أصبح مهرّباً ، بل يقول : سأصبح داعية ، يجب أن تبين له عظم هذه المهمة .
أخواننا الكرام ، بشكل دقيق جداً هذا أهم ما في الدرس ، الحقيقة هناك دعاة إلى الله متفرغون ومتعمقون ومتبحرون ، هؤلاء تحت قوله تعالى :
* وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ (104) *
( سورة آل عمران الآية : 104 )
لكن هناك دعاة ليسوا متفرغين ولا متعمقين ولا متمكنين ، هؤلاء طلاب العلم ، هؤلاء يجب أن يكونوا دعاة إلى الله ولكن في حدود ما يعلمون ومع من يعرفون ، هذه الدعوة إلى الله هي فرض عين على كل مسلم ، الدليل :
* وَالْعَصْرِ (1) إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ (2) إِلَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ (3) *
( سورة العصر )
التواصي بالحق أحد أركان النجاة .
(( بلغوا عني ولو آية )).
[ أخرجه أحمد والبخاري والترمذي عن ابن عمرو ](1/429)
إذاً ينبغي أن تبين لابنك أو لطالبك أو لأخيك في المسجد ، لن تكون مسلماً حقاً إلا إذا دعوت إلى الله " بلغوا عني ولو آية " في حدود ما تعلم ومع من تعرف .
إذا حضر أحدكم خطبة وتأثر فيها لو جعل لقاءاته مع أقربائه مع أصدقائه مع جيرانه في هذا الأسبوع موضوع اللقاء هذه الخطبة ، نشر الحق ، كلما نمت دوائر الحق ضيَّقتْ على دوائر الباطل ، وكلما نمت دوائر الباطل ضيقت على دوائر الحق .
لكن أيها الأخوة ، والله هذه كلمات مهمة جداً ، لا يمكن أن تكون داعية جاهلاً ، ما لك متمكن ، قال له طلعوا على الشمس ، كلهم يتكلمون بالعلم ، وأنا أحكي بالعلم ، قال له طالب : سيدي الشمس لسان اللهب طوله مليون كم ، كيف طلعوا على الشمس ؟ قال له : بالليل طلعوا .
يجب أن تكون متمكناً من العلم الذي تلقيه ، بالعلم ما في حل وسط يجب أن تكون متمكناً من العلوم الدينية والعصرية ، أما طالب متفوق يقول لك عما يخبص ، كل أرقامه غلط ، ما له فهمان الموضوع ، انتهيت عنده أنت ، لو كنت ولياً انتهيت عنده ، فكل داعية ينبغي أن يكون عالماً لكن ما كل عالم بداعية ، الدعوة فن ، لكن موادها الأساسية العلم ، الدعوة كسوة بناء ، قد يكون رخاماً ، قد يكون بلوراً ، قد يكون ، أما الأساس هيكلها الأسمنتي ، هذا هو العلم ، ممكن العلم ينقل بأسلوب أدبي ، بقصة ، بفكرة بحكمة ، بتسلسل معين ، بلغة فصيحة ، بعبارات أدبية ممكن ، الدعوة يمكن أن تلبس ثوباً أدبياً جميلاً ، أما لا بد للداعية من أن يكون عالماً .
الشيء الثاني ، لا بد للداعية بعد أن يكون عالماً أن يكون مطبقاً لعلمه ، حدثني طالب علم شرعي سمع درساً عن التواضع ، يعني شيء رائع جداً ، تسلسل الموضوع والآيات والأحاديث والسيرة ، وشيء من أفعال الصحابة ، وشيء من العلماء ، محاضرة قيِّمة جداً ، بعدما انتهت المحاضرة ، الذي ألقى المحاضرة جلس جلسة كبر ، هذه المحاضرة سقطت ، لأن الذي تحدث عن التواضع لم يكن متواضعاً ، فلا بد من أن تكون عالماً ، وأن تكون مع العلم عاملاً ، عالماً عاملاً .
* يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ (2) كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ (3) *
( سورة الصف )
وقال :
* أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ (44) *
( سورة البقرة الآية : 44 )
قال له : أثناء الأذان شربت ، قال له : لقد فطرت ، عليك إعادة صوم هذا اليوم ، فلمحه وهو يشرب أثناء الأذان ، قال له : في فتوى ، يجب أن تأخذ بالعزائم وأن تفتي بالرخص ، ليس العكس ، ليست الرخص لك والعزائم للناس ، يجب أن تأخذ بالعزائم وأن تفتي بالرخص .(1/430)
الآن أن يكون المنكر مجمعاً على إنكاره ، يعني أنت مثلاً تعتقد أن مس يد المرأة يفسد الوضوء ، عند أختك مثلاً قام صهرك ليصلي مس يد زوجته وهي تناوله شيئاً ما ، تقول له : صهري عليك إعادة الوضوء ، أنت شافعي هو ليس شافعياً ، لا تنكر إلا ما أجمع العلماء على إنكاره ، إذا في أراء مختلفة ، قضية خلافية لا ينبغي أن تنكرها ، هذا خطأ كبير جداً ، هو يعتقد أن هذا الشيء سنة مؤكدة ، بغير مذاهب سنة عادية ، فإذا رأى إنساناً ليس على شاكلته ينكر عليه أشد الإنكار ، ضيق أفق ، تفرقة بين المؤمنين .
قال تعالى :
* إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعاً لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ (159) *
( سورة الأنعام الآية : 159 )
لا تنكر إلا ما أجمع المسلون على إنكاره ، أما قضية خلافية ينبغي ألا تنكرها ، وأن يكون الداعية إلى الله لطيفاً ، رقيقاً ، رقيق الحاشية ، لطيف المعشر ، يألف ويؤلف :
(( ولا خير فيمن لا يألف ولا يؤلف )).
[الحاكم والبيهقي والخطيب عن أبي هريرة]
يعني مثلاً وهو يتعلم التجويد الغنة لم يعرف كيف يلفظها جيداً فإذا بمن يعلمه يضربه ، هذا لا يجوز ، لا يجوز أن تستخدم العقاب الجسدي إذا لم تتقن حكماً بالتجويد :
(( علموا ، ولا تعنفوا ، فإن المعلم خير من المعنف )).
[ أخرجه الحرث ابن عدي والبيهقي عن أبي هريرة ]
هذا الداعية أيضاً يجب أن يصبر على الأذى ، للإنسان حقوق ، أحياناً يجب على الداعية أن يسكت عن بعض حقوقه حفاظاً على الدعوة .
أيها الأخوة أعيد وأكرر إن أردت لهذه الأمة أن ترتقي ، إن أردت لهذه الأمة أن تنهض يجب أن تربط هذا الجيل لا بلاعبي الكرة ، ولا بالممثلين ولا الممثلات الأحياء منهم والأموات ، يجب أن تربطه بالدعاة ، وبأصحاب رسول الله ، وبالعلماء العاملين ، وأبطال الأمة الميامين ، هذا هو الربط ، فيجب أن تربط ابنك بالدعوة حتى إذا كبر أو حتى إذا أصبح رجلاً يطمح أن يكون داعية .
إن شاء الله في اللقاء القادم والدرس القادم نتحدث عن ربط الطفل بقواعد الرياضة وقواعد الصحة العامة لأنها أساس الجسم السليم الذي هو وعاء للعقل السليم .
============= ... ... ...(1/431)
44- وسائل تربية الأولاد ( 14 ) : القواعد الأساسية في التربية : قاعدة الربط ( 4 ) .
أيها الأخوة الكرام ، لا زلنا في تربية الأولاد في الإسلام ، ولا زلنا في السلسلة الثانية في الوسائل الفعالة في تربية الأولاد في الإسلام .
تحدثنا عن أسلوب القدوة ، وأسلوب التلقين والتعويد ، وأسلوب الموعظة ، وأسلوب العقاب ، وأسلوب الملاحظة ، ثم وصلنا إلى أسلوب الربط ، واليوم حديثنا عن الربط الرياضي .
الشيء المؤلم أشد الألم أن تجد إنساناً منحرفاً ، فاسداً ، غارقاً في المعاصي والآثام لكنه يعتني بجسمه أشد العناية ، يعتني بلياقته ، يعتني بأعضائه ، يعتني بصحته ، وأن تجد إنساناً آخر مسلماً ، يحمل رسالة كبيرة ، أمامه مهمات جسيمة ، حياته ثمينة جداً ، مع كل هذه الخصائص التي مكنه الله بها مهمل لجسمه ، فهذا الابن الذي ينشأ في أسرة لا تعتني بصحتها ، تأكل ما يحلو لها ، لا تأكل ما ينبغي أن يؤكل ، لا شك بأنه سيصاب بأمراض وبيلة ، والشيء المؤلم أشد الألم أن القسم النسائي أشد خطراً ، تجد المرأة غير المؤمنة بأعلى لياقة جسمية ، بينما المرأة المؤمنة مقصِّرة ، مترهلة ، لا تعتني بصحتها ، لا تقيم للتدريب أي قيمة ، فالأمراض تتسارع إليها ، والوهن ، والعجز ، فأنا أرى أن العقل السليم في الجسم السليم ، أعلم علم اليقين أن هناك أمراضاً وبيلة ، مزمنة ، خطيرة ، أسبابها من عادات سيئة في الطفولة ، هناك أمراض مدمرة أسبابها الإرضاع الصناعي ، وجد أن أعلى نسبة ذكاء في العالم في جزر الباسيفيك ، هذه الجزر لا تعرف الإرضاع الصناعي إطلاقاً ، إذاً أحد أكبر أسباب التفوق الإرضاع الطبيعي ، لأن حليب الأم لا يعدله حليب آخر ، لأن حليب الأم متناسب كماً ونوعاً وتدريجاً مع حاجة الطفل ، بل إن الحليب الذي لا يشربه الأطفال من أمهاتهم فيه خمسة أضعاف حموض أمينية لا تقوى أجهزة الطفل على هضمها ، وهذه تسبب له أمراضاً وعائية مستقبلية ، تكاد ـ بحسب البحوث العلمية الحديثة ـ تكون أكثر الأمراض الوبيلة أسبابها تعود إلى سوء تربية الطفل ، وإلى عادات غذائية ليست نافعة إطلاقاً ، فأنت حينما تربي ابناً على طاعة الله ، وعلى محبته ، وعلى الإقبال عليه ، وعلى خدمة الناس ، ينبغي أن تربي جسمه أن يكون وعاءً قوياً لهذه النفس السامية ، لذلك تجد أنه عليه الصلاة والسلام كان بأعلى لياقة صحية ، تقول السيدة عائشة رضي الله عنها : "سابقني رسول الله فسبقته "
، قال بعض شراح الحديث أنه جبراً لها مكَّنها أن تسبقه ، قالت : " فلما ركبني اللحم سبقني " .
معنى ذلك أن لياقته عالية جداً ، وأنه ما ركبه اللحم أبداً ، فهذا يعود إلى عادات جيدة جداً في تناول الطعام والشراب .
أخوتنا الكرام ، تكاد الأمراض الوبيلة تعود في أسبابها الأولى إلى سوء التغذية ، أو إلى تناول طعام عشوائي وفق المزاج والرغبة والشهوة لا وفق الأسس الصحية ، لذلك هذا الشاب الذي تعلمه ، إن كان ابناً ، أو كان تلميذاً ، أو كان أخاً في المسجد ، لا بد من أن تعلمه بعض القواعد الصحية ،(1/432)
الناس الآن ضحية الإعلام الغذائي ، أكثر الطعام معلبات ، أكثر الشراب شراب غازي ، أكثر ما نُشّدُّ إليه ليس طعاماً صحياً ، فلذلك أنا أتمنى أن يكون في كل مسجد ثقافة صحية عالية جداً ، وإن شاء الله إذا انتهينا من هذه السلسلة هناك سلسلة محاضرات عن الوسائل الناجحة في التغذية ، وفي اللياقة ، على كلٍ هذا الذي تربيه إن كان ابناً أو كان طالباً ينبغي أن تعتني بصحته .
أولاً عند الطفل أو عند الشاب فراغ كبير ، هذا الفراغ ينبغي أن يملأ إذا ملئ بتدريبات رياضية ، وبألعاب رياضية نظيفة ، وبريئة ، ومشروعة ، هذا سبيل لملء فراغه أولاً وتقوية جسمه ثانياً ، والغريب أن الذي يألف الرياضة في وقت مبكر يتابعها لآخر حياته والذي لا يألفها في وقت مبكر يبغضها ويعاديها إلى آخر حياته ، على كلٍ الجسم القوي يحبه رسول الله صلى الله عليه وسلم .
(( المُؤْمِنُ القَوِيُّ خَيْرٌ وَأحَبُّ إلى اللَّهِ تَعالى مِنَ المُؤْمِنِ الضَّعِيفِ )) .
[ رواه مسلم عن أبي هريرة ]
رجل في بعض المعارك قال : أين محمد ؟ ـ من أعداء المسلمين ـ لا نجوت إن نجا ، فأمسك النبي رمحه ووكزه فيه ، فولّى هارباً ، قيل له : لماذا فررت ؟ قال : والله لو بصق علي لقتلني ، من شدة قوته صلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
((كل شيء ليس من ذكر الله عز وجل فهو لهو أو سهو ، إلا أربع خصال : مشي الرجل بين الغرضين ـ انتقاله من هدف إلى هدف في أثناء الرمي ـ وتأديبه فرسه ، وملاعبته أهله ، وتعليم السباحة )) .
[ رواه الطبراني عن عبد الله بن أبي رباح ]
هذه ليست من اللهو ولا من السهو ، أن يتعلم السباحة ، أن يؤدب فرسه ، أن يؤنس أهله ، أن يمشي بين الغرضين أي الهدفين في الرمي .
(( ألا إن القوة الرمي ؛ ألا إن القوة الرمي ؛ ألا إن القوة الرمي )) .
[ رواه مسلم عن أبي هريرة ]
قوة السلاح في دقة رميه ، وهذه قيمة ثابتة حتى الآن ، يعني أشد الأسلحة فتكاً هي الأسلحة التي تأتي إصابتها دقيقة جداً ، وهذه صفة الأسلحة المتفوقة جداً .
(( ألا إن القوة الرمي ؛ ألا إن القوة الرمي ؛ ألا إن القوة الرمي )) .
سيدنا عمر كتب إلى الولاة : " أما بعد ، فعلموا أولادكم الرماية والسباحة وركوب الخيل " ، هذه القيم الرياضية التي كانت في عصر سيدنا عمر ، علموا أولادكم الرماية والسباحة وركوب الخيل .
(( مر النبي صلى الله عليه وسلم على نفر من أسلم ينتضلون بالقوس ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : ارموا بني إسماعيل ، فإن أباكم كان رامياً ، ارموا وأنا مع بني فلان )) .
[البخاري عن سلمة بن الأكوع](1/433)
انضم النبي عليه الصلاة والسلام إلى فريق يتنافس مع فريق في الرمي ، فأمسك الفريقان عن الرمي ، لأن النبي أصبح طرفاً .
" فأمسك أحد الفريقين بأيديهم ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ما لكم لا ترمون ؟ فقالوا : كيف نرمي وأنت معهم ؟ فقال : ارموا وأنا معكم كلكم " .
[البخاري عن سلمة بن الأكوع]
الطرف الثاني هل يعقل أن يرموا والنبي في الطرف الثاني ؟ فقال عليه الصلاة والسلام : (( ارموا وأنا معكم كلكم )) .
أنا معكم جميعاً ، يعني أقرهم على التنافس في الرمي ، وتروي كتب السيرة أن ركانا كان مصارعاً من أشد المصارعين في عهد النبي عليه الصلاة والسلام ، علَّق إيمانه بالنبي على أن ينتصر النبي عليه في مصارعة ، فقد روى أبو داود عن محمد بن علي بن ركانا ، أن ركانا صارع النبي صلى الله عليه وسلم فصرعه النبي ، وفي رواية مرة ومرتين وثلاثاً ، والله عز وجل وصف أحد الأنبياء فقال :
* وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ (247) *
(سورة البقرة)
أفضل شيء ينشغل به الطفل بعد حفظ القرآن الكريم ، طبعاً بعد أداء واجباته المدرسية ، وبعد أداء خدمات لأهله ، حفظ كتاب الله أولاً ، والتدريب الرياضي ثانياً .
(( ارموا واركبوا وأن ترموا خير من أن تركبوا )) .
[البخاري وأحمد عن عقبة بن عامر]
يعني الذي يحسن ركوب الخيل شيء ، والذي يحسن إصابة الهدف شيء أكبر ، وللنبي عليه الصلاة والسلام ناقة تسمى العضباء ، وكانت هذه الناقة لا تُسبَق أبداً ، يعني من الطراز الأول ، فجاء أعرابي على قعود له ، قعود يعني ناقة فتية ، فسبقها ، فاشتد ذلك على المسلمين ، كيف تسبق هذه الناقة القعود ناقة رسول الله العضباء ، فقال عليه الصلاة والسلام دققوا في هذا الحديث :
(( إن حقاً على الله تعالى أن لا يرتفع شيء من أمر الدنيا إلا وضعه )) .
[البخاري عن أنس]
يعني إذا الناس عظموا شيئاً ، واحتفلوا بشيء ، وكرَّموا شيئاً ، ومجدوا شيئاً حتى بالغوا في ذلك ، الله عز وجل يضعه ، قال عليه الصلاة والسلام : إن حقاً على الله تعالى أن لا يرتفع شيء من أمر الدنيا ، أما من الآخرة معاذ الله ، إذا كنت متعلقاً بالآخرة ، وسمت نفسك ، حق على الله أن يزيدك هدى ، وأن يزيدك قوة .
* إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آَمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى (13) *
( سورة الكهف)(1/434)
أما إذا عظَّم الناس شيئاً من الدنيا هذا الشيء ربما ، يعني بلد إسلامي أنشؤوا مسجداً فوق البحر كلف مليار دولار ، ألف مليون ، استوحيت فكرته أنك وأنت في الحرم تصلي ينبغي أن ترى الموج ، وكان عرشه على الماء ، هكذا قرأت خبراً قبل أيام ، أن الأمواج بدأت تَحِتُّ في أساساته ، وظهرت بعض التصدعات ، لمَ يكون فوق البحر ؟ لمً لا يكون على صخر ؟ الألف مليون ينبغي أن تكون على الصخر ، هذا بيت من بيوت الله ، فالناس إذا عظموا شيئاً وضعه الله عز وجل ، هذه قاعدة ، يعني في حدود البيئة التي عاش فيها أصحاب النبي ، في حدود معطيات البيئة ، في حدود الأجواء التي عاشها النبي وأصحابه هذه نصوص كافية كي تؤكد أن هؤلاء الشباب الذين نعلمهم ونربيهم ينبغي أن نعتني بأجسامهم ، والعناية بالجسم لا تتناقض مع التدين ، لا أدري من أين جاءتنا هذه المفهومات البالية ، يعني أن هذا ولي مهمل لجسمه ، مهمل لأناقته ، مهمل لنظافته ، لا يعتني بصحته ، لا يأكل أكلاً جيداً ، أكلاً متوازناً ، ليس هناك نظام بعاداته إطلاقاً ، هل هذا هو المؤمن ؟ أيعقل أن يكون أهل الدنيا أكثر انضباطاً ، وأكثر عناية بصحتهم من المؤمن ، ومرة ثانية الصحة للمؤمن لها دور خطير لأن جسمه وعاء نفسه ، ونفسه طموحة إلى عمل صالح ، إلى دعوة ، إلى خدمة ، ونفسه وجسمه ملك أمته وملك أهله ، فالذي لا يعتني بصحته لا يعبأ بقوانين الله عز وجل .
بالمناسبة أيها الأخوة في قاعدة مهمة جداً أنك إن أنكرت قانوناً ، أو سخرت منه ، أو استهزأت به ، لن تستطيع أن توقف عمله ، العمل نافذ فيك ولو لم تؤمن به ، يعني راكب طائرة عسكرية لم يعبأ بقانون السقوط ، السقوط له قانون يتناسب مع الوزن ، مع المسافة ، ومع الضغط وغير ذلك ، لذلك تصمم المظلات بحسب وزن المظلي ، وبحسب مقاومة الهواء ومساحتها مدروسة ، والمساحة متناسبة مع جسم المظلي ، والحبال مدروسة ، وأشياء دقيقة جداً ، يعني المظلة متوافقة تماماً مع قوانين السقوط ، لو أن إنساناً يركب طائرة عسكرية ، بمعنى أنه يمكن أن يلقي بنفسه منها بمظلة ، ولم يعبأ بقوانين السقوط ، ولم يكترث بها ، بل سخر منها ، وألقى بنفسه من دون مظلة ، هل يستطيع أن يمنع نفوذ هذه القوانين فيه ؟ ينزل ميتاً ، إذاً إن لم تهتم بقوانين الصحة لن تستطيع إيقاف عملها ، إنها تعمل .
من تمام الأدب مع الله عز وجل أن تحترم هذه القوانين وأن تطبقها تطبيقاً دقيقاً ، بعد أن بينت لكم أن النبي صلى الله عليه وسلم ربط هذا الطفل ، أو هذا الشاب ، أو هذا الطالب ، أو هذا الابن ، أو هذا طالب العلم الشرعي ، ربطه بالتدريبات الرياضية ، بركوب الخيل ، بالسباحة ، بالرماية ، ربطه بالإعداد الجسمي ، هناك ملاحظات .
أول ملاحظة الرياضة ضرورية جداً ، لكن لا يمكن أن تكون بديلاً للدين ، أما إذا اتخذت ديناً كل مشاعرنا ، وكل حماسنا ، وكل هياجنا ، وكل فرحنا بدخول كرة في مكان ، أصبحت ديناً ، كنت مرةً بين مكة والمدينة في بعض العمر ، فالسائق سمعته يتحمس إلى فريق رياضي حماساً لدرجة تفوق(1/435)
حد الخيال ، عجبت وقلت : والله أصبحت هذه ديناً جديداً ، لما أحد خطباء مصر افتقد المصلين يوم الجمعة : أين هم ؟ قال : والله في لاعب كبير ، في مباراة الآن وقت صلاة الجمعة آخر مباراة له ، لأنه اعتزل اللعب ، فزحفت القاهرة كلها لحضور هذه المباراة ، من هذا اللاعب ؟ قال : اسمه زيزو ، فقال : اللهم اجعلنا في بركات زيزو ، اللهم احشرنا مع زيزو ، ماذا فعل زيزو ؟ حرر فلسطين ؟ قالوا : لا ، أعاد القدس ؟ قالوا : لا ، هو يتساءل ماذا فعل زيزو الذي ترك الناس الصلاة من أجله ؟!! والله في مشاهد أراها وأستمع إليها ليست معقولة إطلاقاً ، أصبحت الرياضة ديناً ، دين ، وهذا خطأ كبير ، لذلك إذا حضضنا على الرياضة لا بد من التوازن ، يعني جانب من جوانب حياتنا لتقوية أجسامنا ، لا لنعبدها من دون الله ، المثل العليا الصحابة الكرام وليسوا لاعبي الكرة ، الحماس الشديد لخير أصاب المسلمين لا لكرة دخلت في مكان ، يعني دولة متخلفة ، متعسرة ، أمرها ليس بيدها ، تعاني الأمرين ، تعاني من ضعف الثروات ، تعاني من ضعف التقدم العام ، وهي الأولى في كرة القدم ، والناس جميعاً يعظمونها ، لا بد من مقاييس حقيقية للتقدم .
1ـ أن تضع الرياضة في حجمها الحقيقي لا أن تكبرها حتى تمتص كل وقتك :
أولاً : لابدّ من التوازن ، يعني أن تضع الرياضة في حجمها الحقيقي ، وسيلة لتدريب الجسم وتقويته ، ليس غير ، تحتاج إلى اعتدال ، إلى توازن ، سمعت عن رئيس دولة قام رقص عندما نجح فريقه أمام الناس ، لا يصح هذا ، هذا أعلى مقام في الأمة ، أن يختل توازنه إذا الفريق فاز ، هذا غير معقول .
(( إن لربك عليك حقاً ، وإن لنفسك عليك حقا ً، وإن لأهلك عليك حقاً ، فأعط كل ذي حق حقه )) .
[البخاري والترمذي والدار قطني عن أبي جحيفة]
جسمك يحتاج إلى تدريبات ، إلى نوم كافٍ ، إلى غذاء متوازن ، أعطِ كل ذي حق حقه ، أول تحفُّظ أن تضع الرياضة في حجمها الحقيقي لا أن تكبرها حتى تمتص كل وقتك ، كم من طالب رسب لأنه توافقت أوقات مشاهدة المباريات الدولية مع الامتحانات ؟ فآثر متابعة هذه المباريات على مذاكرة دروسه ، إذاً ما أعطاها حقها ، أعطاها فوق حقها ، كم من طالب أعجب بلاعب إلى درجة تفوق حد الخيال ، وهذا اللاعب منحرف أخلاقياً ، هناك لاعبون يتعاطون المخدرات أحياناً ، لاعبون شاذون أحياناً ، هو لا ينتبه إلى هذا الانحراف الخطير ينتبه إلى أنه لاعب ، ودخله فلكي مثلاً ، وانتقل من فريق لفريق ، ومن دولة إلى دولة ، ودخله بملايين الدولارات ، معجب به ، مثل زيزو يعني .
2ـ لا يمكن أن نعتني بالرياضة إلا ونراعي حدود الله :
التحفظ الثاني أيها الأخوة ، لا يمكن أن نعتني بالرياضة إلا ونراعي حدود الله ، كشف العورات ، يقول عليه الصلاة والسلام :(1/436)
(( الفخذ عورة )) .
[الترمذي عن ابن عباس وجَرْهَد بن خويلد]
كشف العورات محرم ، يقول عليه الصلاة والسلام :
(( ما فوق الركبتين من العورة ، وما أسفل السرة من العورة )) .
[أخرجه البيهقي عن أبي أيوب ]
يجب أن يكون اللباس الرياضي فوق السرة إلى تحت الركبة ، إذا عندك ابن بالمدرسة يجب أن تجعل لباسه الرياضي هكذا ، وأنت معك الحق ، ولا أحد يستطيع أن يسائلك ، أما إذا قال المعلم : ارتدوا ثياباً قصيرة جداً هذا اجتهاده ، أما أنا ابني أرسله بثياب تحت الركبة .
سمعت قصة أن لاعب كرة متفوق جداً في مصر اعتزل اللعب ، والتزم بالشرع تماماً ، فاضطروا إليه لمباراة دولية مهمة جداً ، فطلب منه أن يشترك فاعتذر ، فلما أصروا عليه قال : أنا أرتدي الثياب الشرعية ، فسمح له أن يرتدي الثياب الشرعية في أثناء اللعب فأصبح قدوة لغيره ، وصار في عدة فرق رياضية ترتدي الثياب الشرعية ، الآن بالسباحة أيضاً ارتدِ ثياباً شرعية بالسباحة ، السباحة مطلوبة ، لكن الفخذ عورة ، في حديث آخر :
(( ما بين السرة والركبة عورة )) .
[ أخرجه الحاكم عن عبد الله بن جعفر ]
وفي حديث ثالث :
(( لا تبرز فخذيك ، ولا تنظر إلى فخذ حي ولا ميت )) .
[ أخرجه أبو داود عن علي ]
إذاً الرياضة مطلوبة ، والإسلام حض عليها بشرط أن يلتزم الطالب أو اللاعب حدود منهج الله عز وجل ، والآن والحمد لله معظم اللباس الرياضي لباس شرعي ، هكذا أرى أكثر البدلات الرياضية بدلات شرعية سابغة ، وإذا كان هذا يجب أن يراعيه الذكور فالإناث في المدارس يجب أن تراعيه أكثر وأبلغ ، يعني قضية دقيقة ، هذه ابنتك لا تسمح لها بارتداء ثياب إلا سابغة في درس الرياضة ، ولا أحد يستطيع أن يكرهها على ذلك ، هذا كلام دقيق ، موضوع عالجناه من سنتين ، التوجه الجيد والحمد لله ، كما أن الفتاة حرة في أن تتعرى ، حرة في أن تتحجب ، هذا التوجه الجديد ، وهذه نعمة كبيرة جداً ، لا أحد يستطيع أن يلزم ابنتك أن تتعرى بالمدرسة بداعي درس رياضة ، يعني إذا قلنا رياضة ضرورية للذكور والإناث معاً ، ضرورية وفق منهج الله ، وفق هذه الحدود ، الفخذ عورة ، يعني التعري من الشيطان ، والتستر من الرحمن ، فالإنسان كلما اقترب من الشيطان يظهر أجزاء من جسمه ، وكلما اقترب من الرحمن يتستر ، فالتعري سلوك شيطاني ، والتستر سلوك رحماني ، التعري له أخطار كبيرة جداً ، وقد ينتهي بالفاحشة .(1/437)
قال تعالى :
* يَا بَنِي آَدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاساً يُوَارِي سَوْآَتِكُمْ وَرِيشاً (26) *
(سورة الأعراف)
يعني أكمل شيء أن ترتدي ثياباً سابغة ، لكن :
* وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ (26) *
(سورة الأعراف)
في ثياب أخرى ترتديها ثياب العفة ، ثوب الأمانة ، ثوب الصدق ، ثوب الإخلاص ، هذه ثياب أخلاقية ، هذه أفضل ، يجب أن تجمع بين نوعين من الثياب .
* ذَلِكَ مِنْ آَيَاتِ اللَّهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (26) *
(سورة الأعراف)
الآن دقق :
* يَا بَنِي آَدَمَ لَا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ يَنْزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْآَتِهِمَا إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لَا تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ (27) *
( سورة الأعراف )
معنى ذلك مهمة الشيطان الأولى أن ينزع عن المؤمن ثيابه ، بحجة حر ، بحجة ثياب خفيفة أجمل ، بحجة مثل أختي ، هي ليست أخته ، ففي حجج اجتماعية وصحية وطقسية ومناخية * يَنْزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا * ، ومع نزع الثياب تبدأ الفتن ، وتبدأ المعاصي ، وتنتهي بالفواحش ، مئة حالة فاحشة أنا متأكد 90 % من هذه الحالات حينما بدأت لم يكن يخطر في بال من فعل الفاحشة أن يفعلها ، ولكن التعري هو الذي ساقه إليها ، فالتعري سلوك شيطاني ، والتستر سلوك رحماني : * يَنْزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا * .
أول تحفظ أن توضع الرياضة في مكانها الصحيح ، نشاط من أنشطتنا ، سلوك من أجل صحتنا وقوتنا ، ولياقة أجسامنا ، وتدريبنا ، والإعداد لعدونا ، وليست ديناً يتبع ، وليست إلهاً يعبد من دون الله ، وليس أبطالها مُثلاً عليا ، هكذا .
التحفظ الثاني أن تراعى بالرياضة حدود الشرع ، لا كشف عورات ، ولا سماع أغنيات ، ولا اختلاط محرم ، ولا سباحة مختلطة ، رياضة ! رياضة لكن ما في اختلاط بالمسبح ، رياضة لكن في تستر ، رياضة لكن في أداء صلوات .
3ـ ألا تكون هذه التدريبات في أماكن مشبوهة :
التحفظ الثالث أن لا تكون هذه التدريبات في أماكن مشبوهة ، يعني أحياناً في نوادي فيها اختلاط ، مسابح فيها اختلاط ، هذه أماكن مشبوهة ، أنت إذا ارتديت ثياباً كاملة شرعية لكن في مكان لا(1/438)
يرتدي من حولك ثياباً شرعية فأنت آثم ، يقاس على هذا البحر في أيام الصيف ، أخي أنا أرتدي لباساً شرعياً ، والآخرون ؟! والآخرون يرتدون ثياباً غير شرعية ، إذاً المعصية ليست من عندك ، بل من الذي أمامك ، فأنت آثم إذا كنت معه في هذا المكان ، لذلك قال عليه الصلاة والسلام :
(( الحلال بين ، والحرام بين ، وبينهما أمور مشتبهات لا يعلمها كثير من الناس فمن اتقى المشبهات فقد استبرأ لعرضه ودينه ، ومن وقع في المشبهات وقع في الحرام )) .
[ متفق عليه عن الشعبي عن النعمان بن بشير]
لا ترتد أماكن مشبوهة ، وعن علي رضي الله عنه : "إياك وما يسبق إلى القلوب إنكاره وإن كان عندك اعتذاره " ، تقول السيدة عائشة رضي الله عنها :
(( من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يقفن مواقف التهم )) .
[ رواه أبو داود وصححه الحاكم عن عائشة]
إذاً التحفظات حول الرياضة أن توضع في مكانها الصحيح من دون مبالغة ، من دون أن تكون ديناً يعبد من دون الله ، من دون أن يكون أبطالها مثلاً عليا لنا ، من دون أن تكون الرياضة إلهاً يعبد من دون الله ، هذا كله محرم في مكانها الصحيح .
الشيء الثاني مراعاة منهج الله ، بحرمة كشف العورات ، وحرمة ارتياد الأماكن المشبوهة ، مسابح مختلطة ، مسابح فيها كشف عورات ، ساحل بحر بالصيف بداعي الرياضة والسباحة هذا كله محرم .
4ـ أن تحرر النية من هذا اللعب :
شيء آخر أن تحرر النية من هذا اللعب ، أنت إذا نويت التقوي على طاعة الله فلك أجر ، إذا نويت أن تكون قوي الجسم لك أجر ، لأن النبي عليه الصلاة والسلام يحب الجسم السليم والعقل السليم ، لأن الله عز وجل أثنى على بعض أنبيائه أنه زاده بسطة بالعلم والجسم ، ولا شك أن تقوية الجسم ينطوي تحت قوله تعالى :
* وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ (60) *
( سورة الأنفال)
يعني أنا أعلم أنه بالتدريب العسكري في مصارعة أحياناً ، في فرق الكومندس ، فرق المغاوير ، هذه تتقن المصارعة والملاكمة ، يعني الأعمال الرياضية العالية جداً ، إذاً هذا من الدين ، أنا حينما أقوي جسمي لأكون قوياً أمام أعدائي فهذا من الدين .
النية أن يكون هذا المؤمن قوياً حتى يستطيع أن يقوم بالمهمة التي أوكلت له ، أتمنى والله أن يكون في درس آخر متعلق بالتغذية ، دائماً الرياضة تحتاج إلى نظام غذائي معين ، والغذاء الجيد ليس هو الغذاء الغالي أطمئنكم ، الغذاء الجيد قد يكون أرخص غذاء ، لكن يحتاج إلى دراسة وإلى وعي ، يعني(1/439)
أحياناً هناك غذاء كله فيتامينات ، كله سيليلوز ، يملأ الأمعاء ، يحركها ، ينشطها ، يمتص الكولسترول ، يعطيه طاقة ، تشعر بخفة ونشاط وفي طعام .
أجنبي جاء كخبير فدعي إلى طعام دمشقي ثمين جداً ، أكل كبب حتى شبع ، لم يعد قادراً على الوقوف ، في اليوم الثاني في فتح طريق يحتاج إلى ديناميت ، وضعوا الديناميت فلم ينفجر ، قال : ضعوا كبة ، يبدو أنه كاد ينفجر بعدما أكل ، يوجد الكثير من الطعام الطيب لكنه مؤذي ، كذلك يوجد طعام خفيف يبقيك نشيطاً ، فإذا أنت علمت أسرتك أن تأكل أكلاً خفيفاً خضار مثلاً ، سلطات ، طعام غير مرهق ، أما الطعام الدسم تجد أن كل الأسرة مترهلة ، وكلها كسولة ، وكلها تريد النوم ، وكلها تريد شرب الماء ، يريدون الراحة فقط ولا يستطيعون العمل أبداً .
أنا ألاحظ أشخاصاً يريدون الذهاب لشراء بعض الأشياء على بعد خمسين متراً ، يذهب بالسيارة ، خمسين متراً ولا يستطيع أن يمشي ، تعلم على الراحة ، هذه الراحة لها مضاعفات في القلب خطيرة جداً ، لها مضاعفات في الرئتين ، مضاعفات في الجسم ، يعني هذه الأمراض الوبيلة لها أسباب ، قضية منظمة حينما تعلم أسباب الأمراض يجب أن تتقيها ، أنا أتمنى على كل إنسان أن يعمق ثقافته الرياضية ، ثقافته الغذائية ، ثقافته الصحية ، يعكسها على أولاده وبيته ، يجب ألا نبقى على عادات وتقاليد قديمة ، والله في أطعمة تسبب المرض يأكل حفاتي وسجق وكبب وكبة مشوية ، كلها دهون ، طبعاً هذا طعام لذيذ ، لكن مشكلته أنه مؤذٍ جداً ، فإذا كان نمط الغذاء لطيف ، خضار مثلاً ، أكل يعطي طاقة ، طبيب له نصيحة يراها جامعة مانعة يقول : كُلْ كُلَّ شيء ، لا شيء خلقه الله إلا وله دور كبير :
أولاً : يجب أن تأكل كل شيء .
ثانياً : أن تأكل باعتدال .
ثالثاً : أن تبذل جهداً .
رابعاً : أن تكون مرتاح النفس ، فالشدة النفسية أخطر من المرض .
أحد أخواننا ـ قصة طريفة ـ التقى مع طبيب قلب متفوق جداً ، يبدو أنهم اشتهوا طعاماً كله دهن ، لحمة شرحات وعليها دهن ، فالطبيب أكل الكثير من الدهن ، طبيب القلب ، دهش صديقه ، فقال له الطبيب : هذه الدهون أخف من ضغط نفسي بسيط ، ولا هزة بدن تعادلهم .
إذا وحد الإنسان يرتاح ، إذا استقام يرتاح ، إذا صدق يرتاح ، ليس عنده مواقف حرج أبداً ، فأحياناً الضغوط النفسية تأتي من الكذب والنفاق والاحتيال والسرقة ، هناك ضغوط نفسية تحطم ، فأفضل وضع هو الراحة النفسية مع بذل جهد ، الحد الأدنى من الرياضة أن تخدم نفسك في البيت ، تخدم نفسك يعني ذهبت إلى المطبخ وعدت ، وضعت حاجتك في مكانها الصحيح ، رتبت بيتك ، كل شيء رتبته هذه حركة ، هذا حد أدنى من الرياضة ، بعدها المشي ، سألني أحد الأشخاص : هل(1/440)
للرياضة علاقة مع العمر ؟ قلت له : أبداً ، العمر ثابت ، الرياضة تجعلك تعيش عمرك وأنت بخير دون أمراض ، العمر لا يتغير ، فقط يتغير وضع الإنسان بهذه الحياة ، إما أن يعيش عبئاً على الناس ، كل من حوله يتمنى موته ، أو يكون نشيطاً ، يعيش بقوته وكرامته ، فالرياضة مهمة جداً .
والله أتمنى أن أستطيع ذكر تفصيلات بالرياضة والتدريبات والمشي لأن الصحة والله كبيرة جداً ، نحتاج لدرس أهم وهو كيف تأكل الوجبات ؟ النبي الكريم قال :
(( أذيبوا طعامكم بذكر الله والصلاة ، ولا تناموا عليه فتقسو قلوبكم )) .
[ أخرجه الطبراني وابن عدي وابن السني وأبو نعيم والبيهقي عن عائشة رضي الله عنها ]
الآن معظم الناس تأكل عشاء دسماً ، ويذهب وينام بسرعة :
(( ولا تناموا عليه فتقسو قلوبكم )) .
قرأت مقالة أن أفضل طعام أن تأكل نصفه صباحاً ، و35% منه ظهراً ، و15% مساء ، الطعام يجب أن يتناسب مع الجهد بعده ، ما دام في 8 ساعات جهد بعد الصباح ، تأكل وجبة دسمة في الصباح ، وأنواع الغذاء ، يوجد غذاء مفيد جداً ، وهناك غذاء كله مواد حافظة ، مواد مسرطنة ، وهناك أشياء مزعجة ، هناك أطعمة لذيذة لكنها غير نافعة ، هناك أشياء نافعة لكنها ليست ذات طعم عالٍ ، لا بد من ثقافة .
أنا عندي كتاب مؤلفه أمريكي ، مكتوب فيه الغذاء يصنع المعجزات ، يمكن أن تعالج نفسك بالغذاء .
سأقول لكم كلمة أخيرة ، في حياة الإنسان ثلاثة أشياء ، في علاقته بربه ، هذه مهمة جداً ، إذا هذه العلاقة اضطربت تنعكس على جسمه وعلى عمله ، في علاقته بربه وفي عمله وفي صحته ، وأي خلل في واحدة من هذه الثلاث ينعكس على الاثنتين ، إذا في مشكلة بصحتك تنعكس على دينك وعلى عملك ، وإذا في بعلمك مشكلة تنعكس على دينك وعلى صحتك ، وإذا في بدينك مشكلة تنعكس على صحتك وعلى عملك ، دينك وعملك وصحتك ، ثلاثة يجب أن تعتني بها إلى أعلى درجة ، إنها إن صحت صَحَّت الجوانب الأخرى ، أتمنى مرة ثانية أن يكون للأخ ثقافة صحية ، ثقافة غذائية ، ثقافة رياضية ، وأن ينشأ على عادات جيدة حتى يتمتع بصحته ، وحتى تكون صحته في خدمة أهدافه ، والصحة تأتي بعد نعمة الإيمان .
(( من أصبح منكم آمناً في سربه ، معافى في جسده ، عنده قوت يومه ، فكأنما حيزت له الدنيا بحذافيرها )) .
[ أخرجه البخاري والترمذي وابن ماجة عن عبد الله بن محصن ]
================== ... ... ...(1/441)
45- وسائل تربية الأولاد ( 15 ) : القواعد الأساسية في التربية :
التربية بالتحذير ( 1 ) .
أيها الأخوة الكرام ، لازلنا في تربية الأولاد في الإسلام ، لازلنا في الجزء الثاني في الوسائل الفعالة لهذه التربية ، من تعويد وتلقين ، إلى موعظة ، إلى ملاحظة ، إلى عقاب ، إلى ربط ، إلى تحذير .
محور الدرس اليوم التحذير ، كوسيلة فعالة من وسائل التربية في الإسلام .
أيها الأخوة ، هناك أب يصمت ، لا يحذر ، لا يبين ، لا يوضح ، يأتي يأكل ويشرب وينام ، أما هذا الابن لم يسمع من أبيه كلمة واحدة أن هذا الشيء يا بني مؤذٍ ، أن هذا الشيء حرام ، وأن هذا الشيء مدمر ، وأن هذا الشيء يخدش سمعتك ، وهذا الشيء يغضب ربك ، فالمربي ينبغي أن يحذر ، والمعلم ينبغي أن يحذر ، والأب ينبغي أن يحذر ، والداعية ينبغي أن يحذر ، ينبغي أن تنطق ، أن تنبه ، لأن الإنسان يحتاج لمن يعلمه ، ومفتاح العلم السؤال ، وأن هذا الابن لم يسألك ، لم ينتبه إلى هذا الشيء أنه حرام ، هذا ميسر مثلاً ، يلعب مع رفاقه بالميسر دون أن يشعر ، على شيء بسيط ، لكن هذا الشيء ينمو ! وصف أحدهم داء القمار قال :
هو الداء الذي لا برء منه وليس لذنب صاحبه اغتفار
تشاد له المنازل شاهقات وفي تشييد ساحتها الدمار
نصيب النازلين بها سهاد وإفلاس فيأس فانتحار
***
يبدأ القمار من لعب الشدة على مبلغ معين ، ويكبر ، فإن لم يتلقَ الابن تحذيراً من والده ، لم ينبهه ، هذه الجلسة لا تليق بك يا بني ، المؤمن الكامل لا يجلس هذه الجلسة ، هذه النظرة ، السير بهذه الطريقة ، فالأب المؤمن دائماً وأبداً يحذر ابنه من شيء لا يرضي الله عز وجل ، الحقيقة مرة كنت في بلد بعيد باستراليا فالتقى بي إنسان مقيم هناك ، والله أيها الأخوة يكاد يذوب قلبه ألماً وكمداً من ابنه ، يا بني هذا حرام ، فيقول له : why حرام ؟ لأنه غفل عنه لفترة طويلة ، فلما بدأ يبين له كان قد تجاوز حد التربية ، إلى عادات ألفها وأصبحت جزءاً من حياته ، فالأولى من الأب أو الداعية أو المرشد أن يكون عنده تحذير دائم لمن حوله ، من أشياء هي محرمة ، مؤذية ، مؤلمة ، لا تليق ، لا تجوز ، ليست مقبولة .
لكن دائماً إذا قلت له هذا حرام ! أنا أرى أنه لا يكفي أن تقول حرام ، حرام لأن الله نهى عنه ، هذا دليل نقلي ، وقد يحتاج إلى دليل عقلي ، أنت لاحظ النبي عليه الصلاة والسلام :
(( إِنَّ فَتًى شَابّاً أَتَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ائْذَنْ لِي بِالزِّنَا ، فَأَقْبَلَ الْقَوْمُ عَلَيْهِ فَزَجَرُوهُ ، قَالُوا : مَهْ مَهْ ، فَقَالَ : ادْنُهْ ، فَدَنَا مِنْهُ قَرِيباً ، قَالَ : فَجَلَسَ ، قَالَ : أَتُحِبُّهُ لِأُمِّكَ ؟ قَالَ : لَا وَاللَّهِ جَعَلَنِي اللَّهُ فِدَاءَكَ ، قَالَ : وَلَا النَّاسُ يُحِبُّونَهُ لِأُمَّهَاتِهِمْ ، قَالَ : أَفَتُحِبُّهُ لِابْنَتِكَ ؟ قَالَ : لَا وَاللَّهِ(1/442)
يَا رَسُولَ اللَّهِ جَعَلَنِي اللَّهُ فِدَاءَكَ ، قَالَ : وَلَا النَّاسُ يُحِبُّونَهُ لِبَنَاتِهِمْ ، قَالَ : أَفَتُحِبُّهُ لِأُخْتِكَ ؟ قَالَ : لَا وَاللَّهِ جَعَلَنِي اللَّهُ فِدَاءَكَ ، قَالَ : وَلَا النَّاسُ يُحِبُّونَهُ لِأَخَوَاتِهِمْ ، قَالَ : أَفَتُحِبُّهُ لِعَمَّتِكَ ؟ قَالَ : لَا وَاللَّهِ جَعَلَنِي اللَّهُ فِدَاءَكَ ، قَالَ : وَلَا النَّاسُ يُحِبُّونَهُ لِعَمَّاتِهِمْ ، قَالَ : أَفَتُحِبُّهُ لِخَالَتِكَ ؟ قَالَ : لَا وَاللَّهِ جَعَلَنِي اللَّهُ فِدَاءَكَ ، قَالَ : وَلَا النَّاسُ يُحِبُّونَهُ لِخَالَاتِهِمْ ، قَالَ : فَوَضَعَ يَدَهُ عَلَيْهِ وَقَالَ : اللَّهُمَّ اغْفِرْ ذَنْبَهُ ، وَطَهِّرْ قَلْبَهُ ، وَحَصِّنْ فَرْجَهُ ، فَلَمْ يَكُنْ بَعْدُ ذَلِكَ الْفَتَى يَلْتَفِتُ إِلَى شَيْءٍ )) .
[أحمد عَنْ أَبِي أُمَامَةَ]
إن كان الله في عليائه يُعَلِّم ، يقول مثلاً :
* خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ (103) *
(سورة التوبة )
الإله يقول :
* يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (183) *
(سورة البقرة )
الذي من شأنه أن نعبده فقط ، ومن شأنه أن يأمر ، ومع ذلك يعلل لنا أحكامه ، فأنت حينما تحذر ينبغي أن تأتي بالدليل ، والدليل فيه احترام للشخص ، فإن لم يكفِ الدليل النقلي بالنسبة لهذا الذي تربيه ادعمه بالدليل العقلي ، والدليل الواقعي ، والدليل الفطري ، فكلما أكثرت من الأدلة تحترم هذا الإنسان ، تحترم عقله ، تحترم فطرته ، تحترم إمكاناته ، لذلك الدليل والتعليل مهم جداً في شأن التربية .
أيها الأخوة ، التحذير مع التعليل ، التحذير مع الدليل ، التحذير مع تنوع الدليل ، أحياناً أقول لك هذا السلوك محرم بدليل قول الله عز وجل ، بدليل قول النبي عليه الصلاة والسلام ، بدليل أن الفطرة تأباه ، أضرب لكم مثلاً ، بدليل أن العقل يرفضه ، بدليل أن الذي يفعل هذا يسقط من عين الناس ، فلذلك الأبوة مسؤولية ، والتعليم مسؤولية ، والمدرس مسؤول ، والموجه مسؤول ، وكل راعٍ مسؤول عن رعيته ، هناك من يتفلسف ويقول : يا أخي منهج التربية الحديث يقوم على التحذير ، من قال لك ذلك ؟ القرآن كله يقوم على التحذير قال تعالى :
* لَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آَخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُوماً مَخْذُولاً (22) *
(سورة الإسراء )
وقال :
* وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَحْسُوراً (29) *
(سورة الإسراء )
وقال :(1/443)
* وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ إِنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئاً كَبِيراً (31) وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلاً (32) وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ *
(سورة الإسراء )
قال تعالى :
* وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ (34) *
وقال :
* وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ (36) *
(سورة الإسراء )
هذا تحذير ، النهي تحذير ، مثلاً بشكل مبسط جداً إذا وجد تيار عالي التوتر من واجب الدولة أن تكتب : ممنوع الاقتراب من التيار ، خطر الموت ، يرسمون جمجمة وعظمتين ، هذا الشيء طبيعي ، أحياناً يقول لك منعطف خطر ، تقاطع خطر ، يوجد مئات التحذيرات في الطرقات العامة ، هذه رحمة ، والمربي رحيم أيضاً ، كما أن الدولة تحذر المواطنين من تقاطع خطر ، من منحدر خطر ، احذر انزلاق مثلاً راجع المكابح ، بالنشرات الجوية احذروا الصقيع ، انتبه إلى مسَّاحات الزجاج ، هذه كلها تحذيرات ، الدنيا كلها تقوم على التحذير ، حتى في الآلات ، مثلاً آلة 110 فولت يكتب عليها تنبيه : انتبه 110 فولت ، لئلا تحرقها مثلاً ، لذلك التحذير منهج قرآني :
* وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولاً(37) *
(سورة الإسراء )
سيدنا أَبَا بَكْرٍ رَضِي اللَّه عَنْه يَقُولُ : " يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِيَّاكُمْ وَالْكَذِبَ فَإِنَّ الْكَذِبَ مُجَانِبٌ لِلْإِيمَانِ ".
والنبي عليه الصلاة والسلام في سنته المطهرة يقول :
(( إِيَّاكُمْ وَكَثْرَةَ الْحَلِفِ فِي الْبَيْعِ فَإِنَّهُ يُنَفِّقُ ثُمَّ يَمْحَقُ )) .
[مسلم عَنْ أَبِي قَتَادَةَ الْأَنْصَارِيِّ]
(( يَأْثُرُ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ : إِيَّاكُمْ وَالظَّنَّ ، فَإِنَّ الظَّنَّ أَكْذَبُ الْحَدِيثِ ، وَلَا تَجَسَّسُوا ، وَلَا تَحَسَّسُوا ، وَلَا تَبَاغَضُوا ، وَكُونُوا أخواناً ، وَلَا يَخْطُبُ الرَّجُلُ عَلَى خِطْبَةِ أَخِيهِ حَتَّى يَنْكِحَ أَوْ يَتْرُكَ)) .
[البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه ]
وعن عمر رضي الله عنه أنه قال : " إياكم وزي الأعاجم ."
وقد ورد أيضاً :
(( إياك وقرين السوء فإنك به تعرف )) .
[رواه ابن عساكر عن أنس](1/444)
(( اتَّقُوا الظُّلْمَ فَإِنَّ الظُّلْمَ ظُلُمَاتٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ، وَاتَّقُوا الشُّحَّ فَإِنَّ الشُّحَّ أَهْلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ حَمَلَهُمْ عَلَى أَنْ سَفَكُوا دِمَاءَهُمْ وَاسْتَحَلُّوا مَحَارِمَهُمْ )) .
[أحمد عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ]
إذاً منهج الله عز وجل في قرآنه ، ومنهج النبي صلى الله عليه وسلم في سنته قائم على التحذير ، ولكن أنت حينما لا تأتمر بما تأمر ، ولا تنتهي عما تنهى ، لا وزن لتحذيرك ولا لتوجيهك ، لسان حال من يقول لك احذر يقول لك : يا طبيب طب لنفسك ، حالات كثيرة الطفل يراها ، الطفل يرى أباه يكذب ثم ينهاه عن الكذب ، يرى أباه يدخن ثم ينهاه أن يمسك هذه اللفافة ، يرى أباه ينظر ملء عينه لامرأة لا تحل له ثم يأمر زوجته أن تغض بصرها ، التناقض يراه الابن ، وإذا تناقض الإنسان سقط من عين من يربيه ، سقوط الإنسان من عين الناس شيء كبير ، لكن سقوط الإنسان من عين الله شيء أكبر ، لأن يسقط الإنسان من السماء إلى الأرض فتتحطم أضلاعه خيرٌ له من أن يسقط من عين الله ، إذاً القرآن مفعم بألوان وعدد كبير جداً من التحذيرات ، إذا كان هذا منهج الله في معاملة عباده فأنت أيها الأب وأنت أيها المعلم وأنت أيها الداعي ينبغي أن تحذر ، أي إنسان أتى بموظفة مثلاً والموظفة متفلتة ، وهي راغبة في أن تلفت نظر من حولها إلى مفاتنها ، وعندك شباب ، وجاءك إنسان محب ينبغي أن يحذرك من هذا ، هذه مظنة ، فتنة كبيرة في المعمل ، أو في المكتب ، فإذا بقي ساكتاً فهو شيطان أخرس .
يجب أن تأمر بالمعروف لكن بلطف ، من دون فضيحة ، بينك وبينه ، على انفراد بيِّن له مضاعفات هذا العمل ، أديت الذي عليك وبقي لك الذي عند الله ، أديت الذي عليك سواء استجاب أم لم يستجب ، ارعوى أم لم يرعوِ ، أنت أديت الذي عليك ، لك ابن وجهه ، بيِّن له بأدب ، بلطف ، بترفق ، لكن إن لم يستجب هذه مشكلته .
لنبدأ بأول قضية تحذيرية هي تعد من أول مقومات هذا الدرس ، التحذير من الردة والعياذ بالله ، كلمة الردة كلمة كبيرة جداً ، تقابل الهلاك ، لكن يوجد أنواع مخففة لا تعد ولا تحصى كلها ارتداد عن الدين ، دون أن تشعر ، وأنت صائم مُصلٍّ ، وأنت ترتاد المساجد ، لأن الله عز وجل قال :
* وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ (106) *
(سورة يوسف)
هذا الشرك الخفي ، وأخطر شيء الشرك الخفي ، أخطر مرض الذي لا أعراض له ، أما أي مرض له أعراض تتنبه بوقت مبكر جداً ، أما المرض الذي ليس له أعراض فهذا أخطر الأمراض ، فلذلك الردة بالمعنى الضيق توجب عقاباً أليماً عند الله ، بل إن الردة بمعناها الواسع تشمل أشياء كثيرة ، مثلاً المناداة بأفكار ومبادئ تصرف المسلم عن أن يكون الله سبحانه وتعالى هو مقصوده ومعبوده ، يقول لك : التنمية ، أصبحت التنمية إلهاً يعبد من دون الله ، العمل العَمل ، قضية صلى أم لم يصلِّ ، ضبط(1/445)
أموره ، أكل حراماً ، أودع ماله ببنك ربوي ، أخذ فائدة ، عمل اختلاطاً ، عمل إعلانات فاضحة على الشاشة ، المهم أن يعمل لأن العمل عبادة ، أنت الآن طرحت ديناًَ جديداً ، بدل أن تعبد الله تعبد كسب المال ، تعبد التنمية ، تعبد العصرنة مثلاً ، أشياء لم تكن من قبل ، فحينما تنادي بقيم جديدة ، وشعارات جديدة ، ومبادئ جديدة تصرف الإنسان عن أن يكون عبداً لله ، وعن أن يكون الله مقصوده ورضاه مطلوبه ، فهذا نوع من الارتداد المخفف ، أصبح هناك هموماً أخرى غير همّ أن تكون مؤمناً ، صار هناك همّ كسب المال ، لو أن همّ كسب الله فقط وفق منهج الله لا شيء عليه ، المال قوام الحياة ، لكن كسب المال دون أن تنتبه إلى منهج الله إطلاقاً ، يقول لك : لا تدقق ، العبرة أن ننجح ، ذكرت منذ يومين فكرة أرجو أن تكون واضحة اليوم ، أنا أقول الطرف الآخر كعبارة ملطفة عن الكافر ، الطرف الآخر لا منهج له ، ولا يوجد عنده حرام ، ولا
يوجد عنده لا يجوز ، فلذلك مناورته واسعة جداً ، ومناورته واسعة جداً حتى أنه يبدو أقوى من المؤمن ، وهذه القوة ليست وسام شرف له بل وصمة عار عليه ، أي أنت ممكن أن تغش الناس جميعاً من أجل أن تربح ، الغش عنده ليس بمشكلة ، يغشهم ، ممكن أن تكذب لتربح ، الكذب ممكن أن يكون في سبيل الربح ، ولا سيما من يؤمن أن الغاية تبرر الوسيلة ، المؤمن لا يطرح فكرة ، لا يضع هموماً غير الهموم التي جاءت في القرآن والسنة .
الآن إذا طرحنا أفكاراً ليست إسلامية ، مبنية على التعصب ، على الإقليمية ، مبنية على قيم أخرى لم تكن من قبل ، هذه الشعارات ، وهذه المبادئ ينبغي أن تكون من جو القرآن الكريم ، من جو السنة النبوية ، حينما تطرح مثلاً موضوعاً آخر ، مرة أحد الشعراء قال :
سلام على كفر يوحد بيننا وأهلاً وسهلاً بعده بجهنم
***
هذا قد أصبح فكراً آخر ، والدين لا قيمة له ، في مطلع عصر النهضة الناس مأخوذون بالغرب ، منبهرون به ، إلى درجة أنهم نسوا دينهم ، ونسوا قيمهم ، إذاً من مظاهر الارتداد غير الصارخ المعلن أن يكون لك همّ آخر ، ومبدأ آخر ، وقيم أخرى بعيدة عن جو الإسلام ، أحياناً تكون هناك مبادئ براقة جداً ، الإنسانية مبدأ براق جداً ، لكن هذا المبدأ قد يصرفك عن شؤون دينك ، أنا إنساني ، لكن مؤمن إنساني أم فاسق إنساني !! لا يوجد عنده شيء اسمه حلال أو حرام ، والآن يوجد فكرة عجيبة ، يقول لك : إيمانه بقلبه ، والله من أيام حدث أن رأيت امرأة ترتدي أشد أنواع الثياب فضحاً ولا يفوتها فرض صلاة ، حتى أن التي ترقص تقول : الله وفقني بهذه الرقصة ، يوجد تناقضات عجيبة جداً ، أشياء تدعي أنها إنسانية وهي ليست كذلك ، والله سمعت خبراً من أغرب الأخبار ، أنه بدولة إسلامية قريبة من العراق قواعد تابعة لدولة كبرى ، يستعد من فيها ويعملون ليلاً نهاراً استعداداً لضربة قاسمة ، النساء نشأ عندهن وقت فراغ كبير فأردن أن يشغلنه بعمل إنساني ، أنا كلمة(1/446)
إنساني استوقفتني ما هذا العمل الإنساني الذي أرادت النساء أن تستهدفه ؟ إنه تعلم الرقص الشرقي ، هذا هو العمل الإنساني الذي أرادت النساء أن يملأن به أوقات فراغهن لأن أزواجهن مشغولون في الإعداد لضربة قادمة .
الشعار سهل جداً ، أي لا يوجد إنسان مجرم في الأرض إلا ويرفع كلام مقبول ، قال :
* مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ (29) *
(سورة غافر)
الإنسان منطقي ممكن أن يعبر عن أسوأ نواياه ، وعن أكبر جرائمه بغطاءٍ ثانٍ ، فالعبرة ليست لما يقوله الإنسان بل لما يفعله ، لو أن الصياد وهو يذبح العصفور سقطت من عينه دمعة فيقول الإنسان : ما شاء الله ما هذه الرحمة ؟!! عينه على الدمعة ، انظر إلى السكين !! لا تنظر إلى دمعة عينه بل انظر إلى السكين التي يقطع بها أضلاع هذا الطائر ، هذا أول شيء ، أي أن تطرح فكراً آخر ، أساساً يوجد آية دقيقة جداً :
* وَإِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ وَإِذاً لَاتَّخَذُوكَ خَلِيلاً (73) *
(سورة الإسراء )
إذاً كل جهد الطرف الآخر هو لشيء آخر غير ما جاء الله به ، هذا التقييد غير معقول ، لا بد من إعطاء الوقت قيمة في الربح ، كلام منطقي ، لا بد من التفريق بين الربا الاستغلالي ، والربا الاستثماري ، الله عز وجل لم يفرق :
* يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا (276) *
(سورة البقرة )
مادام لم يفرق فيوجد تحريم مطلق ، لأنه لو جاء بالتحريم مع علة فالتحريم يدور مع العلة ، فإن وجدت وجد ، وإن اختفت اختفى ، تحريم مطلق ، إذاً هذا أول نوع من أنواع الارتداد ، هذا يحتاج إلى توجيه ، قال لي أحدهم اليوم : أنا لا أؤذي أحداً ، هو في جامعة ونجح ، قلت له : بربك لو أمضيت أربع سنوات في الجامعة ولم تؤذِ أحداً حولك هل تنجح ؟ القضية ليست سلبية ، لا أؤذي أحداً ، ولكن لا بد من إيجابيات ، أنت معد لمهمة ، فإن أنت من دون مهمة وهدف وقلت لا أؤذي أحداً يكفي ، ولكن طالما أن لك هدفاً ومهمة وأنا لا أؤذي أحداً هذا غير كافٍ .
الآن هنالك شيئان ، أنا لا أؤذي أحداً وإيماني بقلبي افعل ما تشاء ، طبعاً نحن في عصر الدبلوماسية ، عصر اللطف ، عصر الاعتذار ، ابتسامة صفراء ، مصافحة حارة وفي الداخل يوجد كيد ، عصر نفاق ، عصر ازدواجية ، يبتسم لك ويكيد لك ، يراوغ كما يراوغ الثعلب ، يصافحك بحرارة وقد يعانقك ، ويدبر لك خطة مدمرة ، فلا يكفي أن تقول : لا أؤذي أحداً ، أنت بمهمة ، أنت بمدرسة ، لا يكفي أن لا تؤذي رفاقك ، لا بد من أن تدرس .(1/447)
الآن من مظاهر الارتداد إعطاء الولاء والمحبة والطاعة لغير الله ، الولاء أي الإتباع ، الولاء يعني حباً ، الولاء يعني الاسترشاد ، الولاء يعني اهتداء ، من هو وليك ؟ من تراه كبيراً ؟ من تراه مفلحاً ؟ أهل الدنيا ؟ الغرب ؟ بإباحيتهم ، بشذوذهم ، بانحرافهم ، بأكلهم الربا ، بعدوانهم على الشعوب ، هؤلاء عندك كبار ؟ لا والله ليسوا كباراً أبداً ، هم صغار لأنهم عبء على البشرية وليسوا في خدمتها ، فالولاء الحب ، الولاء الإتباع ، الولاء التقدير :
(( من هوى الكفرة فهو مع الكفرة و لا ينفعه من عمله شيئاً )) .
[السيوطي عن جابر]
إعطاء الولاء والمحبة والطاعة لغير الله ، لكن حتى أكون دقيقاً معكم لا بد من استثناء واحد ، لو إنسان غير مسلم أحسن إليك ، أو كان منصفاً معك ، أو خدمك ، فأنت بحكم إنسانيتك ، وبحكم فطرتك تحبه ، أنا أطمئنك أن هذا الحب لا علاقة له بالولاء والبراء ، هذا حب فطري ، وفي الحديث القدسي الوارد في الأثر :
(( يا داود ذكر عبادي بإحساني إليهم لأن النفوس جبلت على حب من أحسن إليها ، وبغض من أساء إليها .))
[ورد في الأثر]
لو أن لك قضية عند قاضٍ غير مسلم وكان حكمه عادلاً ، وكان خصمك قوياً جداً وغنياً جداً ، وأغراه بأشياء كثيرة ، وحكم بالعدل ، أنت تحبه قطعاً وإذا أحببته لست مخطئاً ، إنك تحب الكمال الذي فيه ، تحب عدله ، تحب إنصافه ، تحبه لأنه رفض الإغراءات ، هو له مواقف معينة ، هو يرى ذلك ، هو قاضٍ ، فإن جاءك خير من إنسان غير مسلم وبغير قصد فتنك ، أي بريء .
أحياناً يكون هناك مطب أو طُعم ، إذا كان هذا الخير طعماً أو مطباً هذا موضوع آخر ، أما إن كان خيراً عادياً مبنياً على كرم الأخلاق فلا مانع ، إن الله يحب معالي الأمور .
شيء آخر :
* ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ (18) *
(سورة الجاثية)
وقال :
* يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا آَبَاءَكُمْ وَإخوانكُمْ أَوْلِيَاءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الْإِيمَانِ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (23) *
(سورة التوبة)
وقال :
* لَا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ (22) *(1/448)
(سورة المجادلة)
أخواننا الكرام عندي موضوع أرجو الله أن أوفق إلى توضيحه ، أول شيء الولاء والبراء ، إن كنت موالياً للمؤمنين ولأهل الحق ، وجاءتك شبهة كبيرة لأنك توالي أهل الحق ، توالي القرآن ، تراجع نفسك لعل هذه التهمة غير صحيحة ، لعلها افتراء ، لعلها كيدية لا تقبلها فوراً ، من كان ولاؤه للطرف الآخر يقبل أية شبهة ، يقبل أي تهمة ، يقبلها من دون دليل ، فالدليل على ولائك للدين أنك لا ترضى أن يكون هناك سلبيات في الدين ، تبحث عنها وتحاول أن تزيلها ، تحاول أن ترد عليها ، تحاول أن تحقق في الأمر ، رجل قيل عن والده أنه مخطئ ، والابن بار ، فيتأكد ، يطلب الدليل ، يسأل والده ، أما قبل عن والده تهمة كبيرة ولم يسأل ولم ينفيها عنه ، فرح ، فهذا معناه أنه ليس ابنه ، معنى هذا أنك لست ابنه ، رجل اتهم والدك بالسرقة ، ووالدك محترم جداً ، وأنت لم تُبال ِ ، يجب أن تخرج من جلدك ، تدافع عنه ، تحقق ، تطلب الدليل ، تسأل والدك ، هذا هو الولاء ، لكن لا يوجد ولاء أبداً ، أي تهمة ألصقت بالدين تقبلها ببساطة ، إذاً لا يوجد ولاء ، من مظاهر الارتداد الموسعة أن تعلن أنك لست مسلماً ، لكن من مظاهر الارتداد المخفف كراهية شيء في الإسلام ، أنا أكره الحجاب ، هذا ارتداد ، لكن موسع ، أنا أكره نظام الزكاة ، أنا أكره صلاة الفجر ، يا أخي صعبة ، رجل ينام في منتصف الليل استيقِظ وتوضأ وصلّ ، هناك من يقول ذلك ، أنا أكره غض البصر ، أنا أكره الحج ، كثير من الناس قد حجوا فيقول لك : والله لو مدوا لي السجاد فلن أعيدها ، هذا ارتداد لكن مخفف ، أن تكره شيئاً في الإسلام :
* وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْساً لَهُمْ وَأَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ (8) ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ (9) *
(سورة محمد)
أخواننا الكرام هذا الدرس تحذيري ، تكره شيئاً في الإسلام ؟! يا أخي ما هذه الأسرة ؟ متزمتة ، مكان مخصص للرجال وآخر للنساء ، هل سنأكل له زوجته لو جلست معنا !؟ يكره أن يكون هناك فصل ، يريد أن يجلس مع الكل ، يريد أن يمزح مع الكل ، يريد أن يملأ عينيه من محاسن كل النساء ، إذا كنت تكره شيئاً في الإسلام ، تكره الحجاب ، تكره غض البصر ، تكره صلاة الفجر ، تكره الحج مثلاً ، مشكلة ، هذا نوع من الارتداد :
* وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْساً لَهُمْ وَأَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ (8) ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ (9) *
(سورة محمد)
أخواننا الكرام أيضاً من مظاهر الارتداد الاستهزاء بشيء من الدين ، أو بشعيرة من شعائر المسلمين ، هناك من يحاكي عباده محاكاة شكلية ، هناك من يستهزئ بإنسان ورع بغض بصره ، هنالك الكثير(1/449)
من حالات الاستهزاء ، رجل ورع فيفاجئونه مثلاً ، فأي استهزاء أو استخفاف بمظهر إسلامي ، أو بعبادة إسلامية ، أو بشعيرة إسلامية ، أو بشيء إسلامي ، هذا دليل الارتداد :
* يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِمْ قُلِ اسْتَهْزِئُوا إِنَّ اللَّهَ مُخْرِجٌ مَا تَحْذَرُونَ (64) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآَيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ (65) لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ إِنْ نَعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طَائِفَةً بِأَنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ (66) *
(سورة التوبة )
عدَّ إلى المليار قبل أن تستهزئ بعبادة أو بشعيرة ، هذا دين الله عز وجل ، هذه شعائر الله :
* ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ (32) *
(سورة الحج)
أحياناً أشخاص كثيرون لا يحلو لهم المزاح إلا على أهل الدين ، يقلدونهم في صلاتهم ، وفي سلامهم ، وفي ورعهم ، وفي غض بصرهم ، وفي ضبطهم لألسنتهم ، يقلدونهم ويستهزئون ، يقول الله عز وجل :
* فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آَمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ (34) *
(سورة المطففين)
من مظاهر الارتداد عن الدين ، تحريم ما أحل الله ، وتحليل ما حرم الله :
* وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ (116) *
(سورة النحل)
من مظاهر الارتداد عن الدين أن تؤمن ببعض هذا الدين وأن تكفر ببعضه الآخر هذه غير معقولة ، لا تقنعني ، من أنت ؟! هل أنت مشرِّع ؟ هل أنت مخير بالقبول أو بالرفض ؟ يأخذ ما يطرب له ، قضايا العبادات تعجبه ، أما قضايا ترك الربا لا تعجبه ، العبادات تعجبه ، أما قضايا عدم الاختلاط لا تعجبه ، فلذلك هذا الذي يأخذ ما يعجبه ، يأخذ ما كان هيناً عليه ، يأخذ ما كان سهلاً ، ويرفض ما كان صعباً ، هذا نوع من الارتداد المخفف عن الدين ، قال تعالى :
* أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ (85) *
(سورة البقرة)
يوجد عندنا الآن مظهر خطير جداً لا أدري كيف ينتشر الآن ، بشكل مخيف ، هذا المظهر الاقتصار بالإيمان بالقرآن الكريم وحده ، وجحود السنة النبوية ، بدعوى أن هناك أحاديث موضوعة ، حسناً(1/450)
إن وجدت أحاديث موضوعة ، ووجدت أحاديث ضعيفة هل هذا مبرر أن تنكر السنة ؟ ألم يقل الله عز وجل :
* وَمَا آَتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا (7) *
(سورة الحشر)
ألم يقل الله عز وجل :
* مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ (80) *
(سورة النساء)
هذا الذي يقتصر على القرآن الكريم يخالف القرآن الكريم دون أن يشعر ، هذا الاتجاه بدأ ينتشر ، يسمون الآن القرآنيين ، القرآن فقط لا يوجد سنة ، حسناً ، كيف تصلي من دون سنة ؟ كيف تدفع الزكاة ، أنصبة الزكاة ، أعطيك ألف سؤال لا جواب له إلا في السنة ، يوجد حالات بالفقه النبي حرمها ، النبي حرمها والنبي مشرِّع عليه الصلاة والسلام ، فالله عز وجل قال :
* وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ (23) *
(سورة النساء )
ماذا قال النبي عليه الصلاة والسلام ؟
(( قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِي بِنْتِ حَمْزَةَ : لَا تَحِلُّ لِي ، يَحْرُمُ مِنَ الرَّضَاعِ مَا يَحْرُمُ مِنَ النَّسَبِ ، هِيَ بِنْتُ أَخِي مِنَ الرَّضَاعَةِ )) .
[البخاري عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِي اللَّه عَنْهمَا]
معنى هذا أن العمة من الرضاعة لا تجوز ، والخالة من الرضاعة لا تجوز ، وبنت الأخ من الرضاعة لا تجوز ، فيحرم من الرضاع ما يحرم من النسب ، هذا تشريع النبي عليه الصلاة والسلام .
يقول الله عز وجل :
* فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً (65) *
(سورة النساء)
القرآن قال :
* وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ (23) *
(سورة النساء)
(( لَا تُنْكَحُ الْمَرْأَةُ عَلَى عَمَّتِهَا وَلا عَلَى خَالَتِهَا )) .
[مسلم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ](1/451)
النبي نهاك عن أن تجمع بين البنت وخالتها ، والبنت وعمتها ، هذا من تشريع النبي عليه الصلاة والسلام ، كلام النبي مصدر تشريعي ، والله عز وجل يقول :
* فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا (7) *
(سورة الحشر)
يقول عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح :
(( أَلَا هَلْ عَسَى رَجُلٌ يَبْلُغُهُ الْحَدِيثُ عَنِّي وَهُوَ مُتَّكِئٌ عَلَى أَرِيكَتِهِ فَيَقُولُ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ كِتَابُ اللَّهِ فَمَا وَجَدْنَا فِيهِ حَلَالاً اسْتَحْلَلْنَاهُ وَمَا وَجَدْنَا فِيهِ حَرَاماً حَرَّمْنَاهُ وَإِنَّ مَا حَرَّمَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَمَا حَرَّمَ اللَّهُ )) .
[الترمذي عَنِ الْمِقْدَامِ بْنِ مَعْدِي كَرِبَ]
هذا كلام النبي ، وفي كلام آخر قاله النبي عليه الصلاة والسلام :
(( أَلا إِنِّي أُوتِيتُ الْكِتَابَ وَمِثْلَهُ مَعَهُ ، أَلَا إِنِّي أُوتِيتُ الْقُرْآنَ وَمِثْلَهُ مَعَهُ ، لَا يُوشِكُ رَجُلٌ يَنْثَنِي شَبْعَاناً عَلَى أَرِيكَتِهِ يَقُولُ : عَلَيْكُمْ بِالْقُرْآنِ فَمَا وَجَدْتُمْ فِيهِ مِنْ حَلَالٍ فَأَحِلُّوهُ وَمَا وَجَدْتُمْ فِيهِ مِنْ حَرَامٍ فَحَرِّمُوا )) .
[أحمد عَنِ الْمِقْدَامِ بْنِ مَعْدِي كَرِبَ الْكِنْدِيِّ]
مثله معه السنة المطهرة ، مثله معه الحديث ، لأنه لا ينطق عن الهوى :
* إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى (4) *
(سورة النجم)
من مظاهر الارتداد والاستهزاء الغمز بفعل من أفعال النبي صلى الله عليه وسلم ، كأن يقول لك : لا يمكن أن يأخذ السيدة عائشة التي عمرها تسع سنوات ، هناك من قال لي ذلك !! من قال لك أنه دخل بها في التاسعة ؟ قال هذا أعداء الدين ، حينما تفكر أن تنتقص من قيمة النبي عليه الصلاة والسلام ، حينما تفكر أن تنتقض بعض أفعاله ، فهذا باب فتح على صاحبه من أبواب الارتداد ، اسأل يا أخي ، يوجد موقف أثار شكوكك ، اختل توازنك معه ، اسأل يا أخي ، لعل الحديث لا أصل له ، كثير من قصص باطلة ليس لها أصل إطلاقاً ، كقصة أن النبي عليه الصلاة والسلام مر فرأى باباً مفتوحاً ، ورأى امرأة تغتسل ، وهي عارية ، وهي جميلة جداً ، وقعت في قلبه وقال : سبحان الله ، فجاء الأمر الإلهي بتطليقها ليتزوجها النبي ، هذه قصة من وضع الزنادقة ، ولا أصل لها إطلاقاً ، والله مئات القصص أيها الأخوة ، لا أصل لها إطلاقاً ، اسأل ما صحة هذه القصة ؟
إذاً من مظاهر الارتداد الاستهزاء والغمز بفعل من أفعال النبي عليه الصلاة والسلام ، كأمثال من يغمز على النبي في تعدد زوجاته ، وقال تعالى :(1/452)
* يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ (2) *
(سورة الحجرات)
من مظاهر الارتداد أيضاً أن تدعي أن للقرآن باطناً وظاهراً ، والباطن يخالف الظاهر ، الذي أمره واضح وصريح ، الله عز وجل لا يريد هذا من هذه الآية بل يريد شيئاً آخر ، هل من المعقول أن تقول لإنسان ائتني بكأس ماء ، فجاءك بكأس ماء ، وهو بريء ومطيع ، فتقول له : ليس قصدي أن تأتي بالماء أصلحك الله ، ماذا قلت لي أنت يا سيدي ؟ قلت لي كأس ماء ، لا أنا أقصد شيئاً آخر ، أنت لم تفهم ، هذا الشيء فوق طاقة البشر ، أن يقول الله كلاماً له معنىً آخر ، له معنىً يخالف ظاهره ، لا هذا كلام مرفوض ، المطلق على إطلاقه ، والظاهر على ظاهره ، إلا إذا كان هناك قرينة مانعة من المعنى الحقيقي ، أقول في بيتنا زهرة ، ليس هذا قصده ، بل قصده أن في البيت عالماً يزوره مثل الوردة يا أخي ، لا قال لك : في بيتنا زهرة ، لو قال لك : في بيتنا زهرة تلعب ، معنى هذا الطفل ، لأن الزهرة لا تلعب ، ( تلعب ) قرينة تمنع ورود المعنى الحقيقي ، فإذا كان الكلام له ظاهر واضح نأخذه على ظاهره ، لا نأخذه على باطنه ، أو على باطن تدعيه أنت ، وليس للقرآن الكريم باطن ، يقول عليه الصلاة والسلام :
(( وَعَظَنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَوْعِظَةً ذَرَفَتْ مِنْهَا الْعُيُونُ ، وَوَجِلَتْ مِنْهَا الْقُلُوبُ ، فَقُلْنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ : إِنَّ هَذِهِ لَمَوْعِظَةُ مُوَدِّعٍ فَمَاذَا تَعْهَدُ إِلَيْنَا ؟ قَالَ : قَدْ تَرَكْتُكُمْ عَلَى الْبَيْضَاءِ لَيْلُهَا كَنَهَارِهَا لَا يَزِيغُ عَنْهَا بَعْدِي إِلَّا هَالِكٌ )) .
[ابن ماجة عَنْ الْعِرْبَاضَ بْنَ سَارِيَةَ]
أخواننا الكرام من يبتغي الفتنة فهو نوع من الارتداد ، يرتاح إذا أشاع الفاحشة في الذين آمنوا ، روج قصصاً لا أصل لها ، هذا استنساخ ! وكأنه منتصر ، ماذا حدث ؟ هذا استنساخ ، ها قد ولد طفل من دون أب ، كأن الدين قد انتقض ، الله قد سمح بذلك ، وإذا سمح بشيء على خلاف تصميمه ليكون هذا السماح تأكيداً لتمام تصميمه ، إذا سمح بشيء على خلاف تصميمه يثبت بعد حين كمال تصميمه ، الله عز وجل حفظ كتابه ، وليس معنى حفظ كتابه أنه لا تجري محاولة لتغييره ، جرت آلاف المحاولات ، ولكن لم تنجح ، إذاً عدم نجاحها تأكيد لحفظ الله لكتابه ، قرأت خبراً عن بعض البلاد العربية أن تسعة ملايين شاب في الخامسة والثلاثين لا يستطيعون الزواج ، بلد فقير ، وتعداد سكانه كبير جداً ، ويوجد ستة ملايين فتاة تجاوزن الخامسة والثلاثين ولم يتزوجن ، أما طفل الاستنساخ ، يوجد مقال لأحد الأطباء ـ وأظنه صادقاً فيما يقول ـ أنه يكلف مئتي ألف دولار ، يوجد الكثير من البنات والشباب يريدون الزواج ولا إمكانيات لديهم ، ونريد أن ندفع مئتي ألف دولار من أجل طفل بالاستنساخ ، وأنا مع ذلك أتمنى بالأخوة الدعاة جميعاً أن يتريثوا ، لا تتسرعوا(1/453)
بإصدار الأحكام ، أي أن هذا الشيء سوف يكشف خلله بذاته ، لا تتسرعوا بإصدار الأحكام ، لكن أنا أتألم حينما أرى إنساناً مؤمناً تزلزل إيمانه بالاستنساخ :
* وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ (255) *
(سورة البقرة)
وقال :
* إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعاً بَصِيراً (2) *
(سورة الإنسان)
يوجد تمازج بين الجينات المذكرة والجينات المؤنثة ، بين جينات الحوين وجينات البويضة ، وحينما تمتزج الجينات المذكرة والمؤنثة يكون الجنين قد جمع أقوى الصفات :
(( اغتربوا لا تضووا )) .
[قال ابن الصلاح: لم أجد له أصلا معتمدا. قلت: إنما يعرف من قول عمر أنه قال لآل السائب "قد أضويتم فأنكحوا في النوابغ" رواه إبراهيم الحربي في غريب الحديث، وقال معناه تزوجوا الغرائب قال: ويقال: اغربوا لا تضووا]
أما إذا أخذنا من ثدي المرأة السحاقية من دون مواربة قطعة من ثديها وزرعناه في رحمها هذه التي ولدت ليست ابنتها إنها أختها ، وكل الصفات السلبية الموجودة في الأم تزداد في أختها ، لأنهم يغيرون خلق الله عز وجل ، طبعاً حرمه المسلمون وغير المسلمين والأنظمة العلمانية .
هناك أخطار لا يعلمها إلا الله ، لكن قضية تحدٍّ ، فابتغاء الفتنة ، يا أخي تقول : أنه يعلم ما في الأرحام ، ها قد عرفوا الآن على الإيكو ذكر أم أنثى ، الله قال :
* وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ (34) *
(سورة لقمان)
لم يقل من في الأرحام ، يوجد ألف صفة في الخارطة الجينية لا يعلمها إلا الله ، مرة قال لي أحدهم : يعرفون ماذا في الجنين ، ذكر أم أنثى ؟ قلت له : أنا أعرف . قال : ما هذا الكلام ؟ قلت له : والله أنا أعرف . قال : كيف ؟ قلت له : إما ذكر أو أنثى .
من مظاهر هذا الارتداد أيها الأخوة ـ وهذا آخر بند وقد أطلت عليكم ـ عدم معرفة الله المعرفة الصحيحة ، أن تعرف أسماءه الحسنى ، وصفاته الفضلى ، أن تعرف ما يليق به وما لا يليق به ، أن تعرف شيئاً عن كمالاته ، شيئاً عن كمالات الأنبياء ، معك تفاصيل ، أحياناً الإنسان يترضى عن عنترة أحياناً ، كم هو جاهل حينما يترضى عن عنترة ، لو قال : عنترة العبسي رضي الله عنه !! هل هو متعمق بالدين ؟ يوجد أشخاص هكذا ، رجل أدى فريضة الحج ، وهو راجع في الطائرة وهو ذو مكانة مرموقة في بلده قال : والله شيء ممتاز يوجد خدمات رائعة ، ولكن لو فعلوه ـ أي الحج ـ(1/454)
على خمسة دورات لكان أكثر راحة ، أي كل شهرين موسم ، هل هذا متعمق بالدين ؟ وهل يعرف أحكام الحج ، وأحكام فرضية الحج ، وأحكام مناسك الحج ، مثلاً :
* لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا وَقَتْلَهُمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ (181) *
(سورة آل عمران )
هناك من يقول ذلك ، قالها اليهود :
* إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ (181) *
(سورة آل عمران )
فهم ضيق :
* مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً (11) *
(سورة البقرة)
ظن أن الله فقير يطلب منا القرض الحسن ، فإن كان الإنسان غير متبحر ، أو ضعيف الإدراك ، يرى وجود متناقضات كثيرة جداً ، فأيها الأخوة هذه أشياء ينبغي أن نُحذِّّر منها طلابنا ، وأن نحذر منها من نعلمهم ، وأولادنا ، فالأب ينبغي أن لا يسكت لأن الساكت عن الحق شيطان أخرس ، ناقش ابنك ، اسأله ، أما إن تركته فوعاؤه فارغ يملأ بالباطل ، ملئ بالضلال ، ثم تفاجأ أن ابنك ليس على ما ينبغي أن يكون ، أو تلميذك ليس على ما ينبغي أن يكون ، لا تحذره إطلاقاً ، فالتحذير يقابل الربط ، كما أنني في الدرس السابق دعوت إلى أن تربطه بالدعوة والدعاة ، أن تربطه بشيء يشغله وينفعه ، أن تربطه بالدين والقرآن ، الآن أن تحذره من أكبر شيء يهدد هذا الدين هو الارتداد .
================== ... ... ...(1/455)
46- وسائل تربية الأولاد ( 16 ) : القواعد الأساسية في التربية :
التربية بالتحذير ( 2 ) . ...
أيها الأخوة الكرام ، لازلنا مع سلسلة تربية الأولاد في الإسلام ، و لازلنا في القسم الثاني أي في الوسائل الفعالة في تربية الأولاد ، وقد تحدثنا عن التربية بالقدوة والملاحظة والتلقين والتعويد والعقاب والربط ، وتحدثنا عن أنواع من الربط وها نحن ننتقل إلى نوع من أنواع التربية ألا وهو التحذير .
بادئ ذي بدء الإنسان يتحرك وفق تصوراته وقناعاته ، فإذا تسربت إلى نفس الابن أو الطالب عقيدة غير صحيحة ، عقيدة تتناقض مع القرآن الكريم ، الذي يحصل أن هذا الطالب أو أن هذا الابن عن وعي أو عن غير وعي يتصرف وفق ما يتصور ، لو فرضاً لم تكن هناك من علاقة بين ما يعتقده الشاب وبين ما يفعله ليعتقد ما شاء ، وليكن في أي مدرسة وفي أي مجتمع ومع أي إنسان ، ولكن لمجرد أن تتسرب إليه عقيدة زائغة هذه العقيدة الزائغة تنعكس على سلوكه بشكل قطعي ، الحقيقة المعركة التي بين الحق والباطل معركة أزلية أبدية هكذا شاءت حكمة الله لأن الله عز وجل يقول :
* وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّاً شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ (112) *
(سورة الأنعام)
أي لو تصورنا أنه ليس هناك باطل ، وليس هناك مكر للباطل ، وليس هناك قوة للباطل ، كيف يدفع المؤمن ثمن الجنة ؟ نحن في دار ابتلاء ، نحن في دار فيها صراع والمؤمن يملك أسباب النصر ، يملك كل أسباب النصر ، فإذا قصر في معرفة دينه ، وفي الدفاع عن دينه ، كانت النتيجة ما ترون وما تسمعون ، نتيجة لا ترضي ولا نغبط عليها ولا نقبلها لخصومنا ، أن يكون أمرنا ليس بيدنا ، وأن نغذى ثقافياً وفكرياً ، وأن نغزَى غزواً مادياً وهذا الذي حصل .
يا أيها الأخوة أنا أقول وأكرر ما من قضية أخطر في حياة الأمة الإسلامية من تربية أولادها ، لأن الأولاد هم الورقة الرابحة الأخيرة التي بيد المسلمين ، لا نملك إلا أولادنا فإذا قنع هذا الابن في مدرسته ومن خلال كتاب العلوم أن الحياة تطور بلا خالق ، تطور غازات ، كتل ، مياه ، أمواج ، حت ، ذرة مادية بطفرة معينة أصبحت خلية حية ، هذه الخلية الحية تطورت من متحول زحاري ومرت بعدة أطوار إلى أن أصبحت إنساناً ، هذا يدرَّس في الجامعات ، يدرَّس في التعليم الثانوي ، هذا كلام يتناقض مع القرآن ، يتناقض مع وحي السماء ، فضلاً عن أنه لا يقبله عقل على الإطلاق .
أنا أقول لك كلمة ، أيهما أكثر تعقيداً كتاب مؤلف من مئتي صفحة فيه موضوعات متسلسلة ، يوجد فيها فهرس ، يوجد مراجع ، يوجد مصادر ، يوجد ترقيم صفحات ، فيه مقدمة ، فيه خاتمة ، هل تقبل أن انفجاراً وقع في مطبعة ، والمطبعة فيها ورق ، ويوجد بها حبر ، وفيها حروف ، فكان من نتيجة هذا الانفجار هذا الكتاب ؟ لا يمكن أن تقبله ، كيف تقبل إنساناً بدماغه يوجد أربعة عشر مليار خلية قشرية سمراء تجري فيها نشاطات الفكر من استقراء واستنتاج ومحاكمة وتصور وتذكر ،(1/456)
وهذه الخلايا التي تزيد عن أربعة عشر ملياراً مركبة على مئة وأربعين مليار خلية ، وأن عصب العين يزيد عن خمسمئة ألف عصب ، وأن شبكية العين يوجد بها مئة وثلاثون مليون عصية ومخروط ، وأن في رأس الإنسان ثلاثمئة ألف شعرة لكل شعرة وريد وشريان وعضلة وعصب وغدة دهنية وغدد صبغية ، وأن هذه العين فيها مطابقة والمطابقة أعقد ما يمكن أن تفهمه في الحياة ، جسم بلوري له محرق هي الشبكية ، ولا ينطبع على الشبكية إلا جسم يقف أمام العدسة بمسافة ثابتة ، أنت كيف ترى كرة القدم تنتقل من لاعب إلى لاعب وتراها على الشبكية بشكل دقيق بالغ ؟ عملية المطابقة يعجز عن أن يفعلها أكبر عالم فيزياء في العالم ، لو العدسة قطرها متر المطابقة ، التفكر ، التذكر ، الاستنباط ، يعجز الأطباء عن أن يزرعوا رئتين لاستحالة توصيل الأعصاب بحيث أن من له رئة مزروعة لا يستطيع أن يسعل ، والسعال عملية حيوية بالغة الدقة ، لاستحالة أن يعود السعال كما كان يستحيل أن تزرع الرئة ، والقلب الذي يضخ ثمانية أمتار مكعبة باليوم ، أما كم يضخ في عمر متوسط إنسان عاش ستين سنة ، كم يضخ من الدم ؟ قد تعجبون ، يضخ القلب الذي يعيش صاحبه عمراً متوسطاً ما يملأ مركز التجارة العالمي الذي دمر في الحادي عشر من أيلول ، القلب الذي يضخ ثمانية أمتار مكعبة في اليوم يملأ أكبر ناطحة سحاب في العالم ، هذا القلب بلا كلل وبلا ملل .
الآن العظام ، المعدة بكل سنتمتر مربع خمسة وثلاثين ألف عصارة ، الرئتان الكليتان مليون نيفروناً ، طول النيفرونات مع بعضها بعضاً مئة كيلو متراً يقطعها الدم في اليوم خمس مرات وأنت لا تشعر ، أي شيء في جسمك آية ، هكذا تطور ، من دون خالق :
* أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ (35) *
(سورة الطور)
هذه الآية أصل في العقيدة ، فكيف يدرس الطلاب تقليداً للغرب ؟ وتقليداً للغرب الملحد أن الحياة تطور ، والله أيها الأخوة لو لم تنشئ ابنك على التفكر في خلق السماوات والأرض ، لو لم تحذره من عقائد زائغة لخسرته ، أنت حينما تعتقد أن هذا الإنسان مخلوق صدفة ، هل تصدقون أيها الأخوة ـ والله أنا لا أصدق ـ أن ذرة من الحمض الريبي النووي الموجود في كل خلية حية بدءاً من أبسط مخلوق وهو المتحول إلى أعقد مخلوق هو الإنسان الحمض الريبي النووي فيه ثلاثة وعشرون مورثاً أو ستة وأربعون ، وفيه تقريباً خارطة جينية تقترب من مئة ، وفيه تقريباً خمسة آلاف مليون معلومة مبرمجة ، مبرمجة كيف ؟ أي هذا الشاب في الثامنة عشرة من عمره يخشن صوته ، من خَشَّن له صوته ؟ يوجد بالمورثات معلومة مبرمجة بوقت معين ، أنت أحياناً تعجب أن هذا الجهاز يعمل ذاتياً بوقت معين ، يوجد ساعة والساعة مرتبطة بالتشغيل ، فممكن أن تشغل أي جهاز على توقيت معين ، أما الإنسان مبرمج لعشرين أو ثلاثين سنة ، هذه المعلومات تتغير في الوقت المناسب ، فأنا أقول كلاماً دقيقاً الآن أي أنت من السذاجة بمكان أن تظن الطرف الآخر طرفاً بسيطاً له كيد كبير ، بل إن كيد(1/457)
هؤلاء شبهوا في القرآن الكريم بإزاحة جبل عن مكانه ، كما أنه يستحيل استحالة مطلقة أن ينقل أصغر جبل في العالم مثل جبل قاسيون إلى درعا ، هل ينقل ؟ لو جئنا بجيوش الأرض ، بأقوى الدول في العالم ، هل بالإمكان أن يزاح هذا الجبل بكامله من شمال دمشق إلى درعا ؟ الله عز وجل قال :
* وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وَعِنْدَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ (46) *
(سورة إبراهيم)
الأب الغافل عن تربية أولاده ، ذهبوا إلى المدرسة ، علموا أن داروين صاحب نظرية النشوء والارتقاء ، أن الكون أصله غازات ، والغازات تحولت إلى كتل بفعل الضغط ، ومن الضغط نشأت الكواكب ، والكواكب أصبح فيها ماء ، والماء سبَّب حتّاً ، والحت صنع خلايا ، وبعد ذلك أصبح هناك نبات ، وبعد ذلك حيوان في البحر ، وبعد ذلك انتقل إلى البر ، والله شيء مضحك ، وبعد ذلك تحول السمك إلى دلفين وحوت ، والحوت إلى تمساح ، والتمساح إلى مخلوق آخر وهكذا حتى أصبح قرداً ، وبعد ذلك إنساناً وهكذا ، هذه قصة آدم ليس صحيحة ، قصة آدم وحواء الحقيقة أنها ألغيت .
أنا أقول لكم كلاماً أيها الأخوة ، نحن محاطون بنظريات كافرة ، بنظريات ألطف اسم تنعت به أنها علمانية ، وهي نظريات جهلانية أساسها الجهل ، أساسها إلغاء وجود الله عز وجل ، فإذا اقتنع الابن أنه لا يوجد دين فهذه قضية ، الدين نحن اخترعناه لضعف الإنسان أو لإحباطه ، يقولون لك أن الإنسان حينما يفتقر يأتي إلى المساجد ، من فقره ، من إحباطه ، خبثاء جداً ، يشهد العالم الآن صحوة عند الأغنياء يملكون ملايين كثيرة ويأتون إلى المساجد ، ويتعرفون إلى الله ، وقد تجد تديناً في صفوف علية القوم لا يقل عن ضعفاء القوم .
قصدي من هذا الدرس المتعلق بالتحذير أنه لا يوجد أب يسعد بابنه إلا بعد أن يراقبه ، يناقشه ، ويحاوره ، حدثني أخ له أخ جاء من بلاد بعيدة ، ويعتقد اعتقادات كلها تتناقض مع القرآن الكريم ، قال لي : أربعة أسابيع سيغير مجرى الأسرة كلها لو لم يكن له أخ إيمانه قوي ، جلس معه ، وحاوره ، وأقام عليه الحجة ، وتأثر الأخ الذي جاء من هذه البلاد ، وعاد إلى صوابه ، مشكلة كبيرة ، قد نكون في غفلة إذا لم يوجد تغذية دينية من قبل الأب أو الأم أو الأخ الأكبر أو الجامع أو الشيخ أو المرشد ، إذا لم نجد تغذية دينية علمية .
أقول لكم هذه الكلمة أيها الأخوة ، من دعا إلى الله بمضمون سطحي ، غير متماسك ، متناقض ، وبأسلوب غير علمي ، وبطريقة غير تربوية ، أو دعا إلى الله بأسلوب عميق ، وبمضمون عميق ، وبأسلوب علمي ، لكن اكتشف المدعو بأن الذي يدعوه ليس عنده مصداقية ، أي لا يفعل ما يقول ، فهذا المدعو بهذه الطريقة وبهذا الأسلوب وبهذا المضمون لا يكون عند الله مبلغاً ، ويقع إثم تفلته من الدين على من دعاه بهذه الطريقة .(1/458)
أيها الأخوة لا يوجد إسلام سكوني ، لا يوجد إسلام أساسه إعجاب سلبي ، ما في أب يدخل إلى البيت يأكل وينام ، أولاده ممن تعلموا ؟ ماذا تعلموا ؟ ماذا يعتقدون ؟ بماذا يفكرون ؟ كيف يقيِّمون الدين ؟ كيف يقيِّمون سيد المرسلين ؟ هل يقرؤون القرآن ؟ هل يظنون أنه كلام الله ؟ هذا كله خارج اهتمامهم ، يكتشف الأب فجأةً أن ابنه لا يعرف شيئاً عن الدين ، والمعصية والطاعة عنده سواء ، بل لا ينتمي لهذه الأمة إطلاقاً ، هذا الاكتشاف مرعب ، هذا الاكتشاف صاعق ، والسبب هو التقصير ، فأنت حينما تأتي إلى مجلس علم ، وحينما تطلب العلم ، وحينما تقرأ القرآن ، ألا ينبغي أن تتنبه إلى حال ابنك ؟ ألا تذكرون أنه توجد طريقة فعالة من طرق التربية هي الملاحظة ، أن تلاحظ عليه فكراً غير صحيح ، طرحاً غير صحيح ، تعليماً غير صحيح ، انتماء غير صحيح ، فالتحذير من الطرف الآخر بثقافته الإلحادية ، وبثقافته الإباحية ، كلمتان تعبران عن الغزو الثقافي على خطورته ، أن هذا الغزو الثقافي أساسه الإلحاد والإباحة ، الاعتقاد إلحاد ، والسلوك إباحة ، وهذا الفساد في العقيدة وفي السلوك عمَّ الأرض ، لذلك لا نحتاج إلى شيء كما نحتاج إلى واحة إيمان نكون فيها الآن ، لا شيء يؤثر أو يعد فعالاً في سلامة الإنسان وأولاده وزوجته من أن يأوي إلى الكهف ، قال تعالى :
* فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ (16) *
(سورة الكهف)
الكهف بيتك والكهف مسجدك :
* فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرفَقاً (16) *
(سورة الكهف)
قال تعالى :
* ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ (41) *
(سورة الروم)
بما كسبت أيدي الناس ، فساد في العقيدة ، فساد في السلوك ، فساد في التعامل ، فساد في البيئة ، فساد في الهواء ، فساد في الماء ، فساد في الغذاء ، فساد في الخضراوات ، فساد في كل شيء .
* ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (41) *
(سورة الروم)
أخواننا الكرام ، أخطر شيء في الدين العقيدة ، إن صحت صح العمل ، وإن فسدت فسد العمل ، وأخطر شيء عند ابنك عقيدته ، لكن المشكلة أيها الأخوة أن الابن لا يتعامل بالفكر بل يتعامل بالصور ، والغرب عرف كيف يفسد هذا الطفل ، الغرب لا يطرح على الصغار أفكاراً بكتاب ،(1/459)
يطرح عليه أفلام كرتون لو دققت فيها لوجدتها مبنيةً على فكرتين فكرة الإلحاد والإباحية ، فما لم يتحرك المسلمون لإنقاذ أولادهم من الغزو الثقافي الغربي والشرقي ، من طرح قصص تشف عن قيم إباحية ، أو عن قيم إلحادية ، فالأمر خطير جداً ، لا تظن الأمر سهلاً ، لا تظن أن إنساناً يكتشف أن ابنه لا يؤمن بالدين وهو سعيد ، مثل هذا الإنسان انتهى أمام نفسه ، لأن ابنه استمرار له ، هذه السلسلة سلسلة تربية الأولاد في الإسلام مهمتها أن نكون يقظين من أن تتسرب إلى عقول أبنائنا عقيدة تتناقض مع القرآن .
حينما قال الله عز وجل :
* يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ (88) إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ (89) *
(سورة الشعراء)
القلب السليم هو القلب الذي سلم من شهوة لا ترضي الله ، وسلم من تصديق خبر يتناقض مع وحي الله ، وسلم من احتكام لغير الله ، وسلم من عبادة غير الله ، هم يتحدثون عن الماضي السحيق السحِيق ، يقول لك : قبل خمسين مليار سنة ، تاريخ البشر لا يزيد عن عشرة آلاف سنة ، السيد المسيح ولد قبل ألفي عام ، وقبل الميلاد يوجد ستة قرون أو سبعة ، يقول لك : قبل خمسين مليار سنة ، الله ماذا قال ؟
* مَا أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ (51) *
(سورة الكهف)
أضرب مثلاً للتقريب ، رجل تاجر كبير في السن ، عنده شاب ، جالس مع أخوانه في جلسة بسهرة ، قال لهم : أنا أخذت محلاً تجارياً عام ثلاثة وثلاثين بخمسة آلاف ليرة ، ابنه ولد في عام خمسة وأربعين ، قال له : لا يا أبي ليس بخمسة ، نظر إليه الأب وقال : وهل كنت وقتها ؟ لم يكن موجوداً ، هذا مثل بسيط ، إله قال : بدأ الله خلق البشر بآدم وحواء فهذا الذي يقول : قبل خمسين مليار سنة كان في مياه ، وصخور ، وحت ، والحت جعل خلية حية ، والخلية الحية عاشت في الماء بعد هذا إلى أن أصبحت إنساناً ، هذا الكلام كلام تكهن من إنسان لم يكن موجوداً وقتها ، ولكن عمل سلسلة منطقية مفادها أن الله عز وجل غير موجود ، أم أن كتاباً فيه مليون ملْيون دليل قطعي على أنه كلام الله ، يخبرنا أن الله بدأ الخليقة بآدم وحواء .
أيها الأخوة ، قصة أرويها لكن أرويها على حذر ، أخ كريم من أخواننا سابقاً منع ابنه أن يكون له علاقة مع أي إنسان من البيت إلى المدرسة ، نشأ هذا الابن بتعتيم كامل وبقطيعة لكل من حوله ، الأب اضطر أن يسافر إلى أمريكا سفرة طارئة ، والابن كبر واستلم محله في المعمل ، لكن الأب لم يعلمه ، قمعه ، هذا الابن بغياب والده انحرف انحرافاً شديداً وتقريباً أنفق معظم ما يدخره والده من مال على فتاة ساقطة .(1/460)
هذا الكلام ما مؤداه ؟ أنت لو حاصرت ابنك ، وبقي بحجرك ، لكن بعد ذلك كبر وما علمته ، وما بينت له ، يمكن أن ينحرف انحرافاً لا تقوى على سماع أخباره ، أما إذا نورته بأن تقول له : هذه الفكرة غير صحيحة يا بني ، هذه الفكرة ينقضها القرآن ، ينقضها الميزان الصحيح ، ينقضها العقل ، ينقضها الواقع ، البديل هذه الفكرة وهذا دليلها ، في حالات كثيرة جداً في قمع ومنع بسن معين ، فلما شب عن الطوق انحرف انحرافاً لا حدود له .
إذاً أيها الأخوة ، هذا الدرس المتعلق بالتحذير أنا أعلق عليه أهمية كبيرة ، يعني ما الذي يمنع أن تمسك كتاب العلوم للصف الثامن أو التاسع أو العاشر وتقرأ فقرات منه ، هذا الكتاب يدرسه ابنه ، هل فيه نظرية تتناقض مع القرآن ، ألا تملك أيها الأب حجة قوية لنقض هذه النظرية ، أم أن الأمور سائبة ، العالم الغربي هكذا يعتقد ، افتح أي موسوعة علمية ، افتح أي موسوعة من دون استثناء ، الإنسان الحجري ، والإنسان الذي كان يشبه الغوريلا ، والإنسان الذي يشبه الشمبانزي ، والإنسان الذي قبل والذي بعد ، محصلة الموسوعات كلها أن الخليقة ما بدأت بآدم وحواء بدأت بهذا التسلسل العشوائي التطوري ، فأين أنت أيها الأب ؟ أين حجتك ؟ أين قوله تعالى :
* وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آَتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ (83) *
(سورة الأنعام)
في ردود قوية جِداً جداً ، ناصعة جِداً جداً ينبغي أن تعرفها ، وأن تقنع ابنك بها ، أنا لا أتمنى أن يكون في انفصام شخصية ، يعني طفل يتعلم في المسجد شيء وفي المدرسة شيء آخر ، يتمزق أيهما أصح ؟ الصحيح ما تعلمه في المدرسة ، أم ما تعلمه في المسجد ؟ أم أن هذا الطفل ينبغي أن يكون منافقاً ، إذا التقى بأهل الدين أرضاهم باعتقاده السليم ، وإذا التقى بهؤلاء أساطين الكفر والشرك أرضاهم بكلام يقنعهم ، أنت إما أن تعمل انفصام شخصية عند ابنك ، أو تعمل صراعاً مريراً ، وهذا الصراع إذا استمر ينتقل إلى اللامبالاة ، تجد شخصاً لا يبالي إطلاقاً ، أحد أسباب اللامبالاة أنه في صراعات مستمرة مزمنة بين جهة وأخرى .
أعلم علم اليقين خطورة هذا الدرس ، تتسرب إلى عقول أبنائنا عقائد تتناقض مع القرآن ، مثلاً يقول لك : شعوب الهند متوسط أعمارهم أربعون سنة ، الشعوب المتقدمة مادياً والتي عندها وعي صحي عمرها المتوسط ثمانون سنة ، خمسة وسبعون للرجال ، وخمسة وثمانون للنساء ، معنى هذا أن العمر ليس بيد الله ، وليس ثابتاً ، بحسب الوعي الصحي ونوع الطعام يتغير العمر ، هذه الفكرة تتناقض مع القرآن الكريم ، كيف توفق بينها وبين القرآن الكريم ؟ إحصاءات أيضاً ، فالأمر الآن لا يتم بسهولة ، اعتقاداً بسيطاً ، ساذجاً ، سطحياً ، هكذا قال الشيخ ، تجد نفسك أمام مقالات ، ندوات ، أمام محاضرات ، أمام كتب ، أمام أشرطة كلها تناقض القرآن ، ماذا تفعل أنت ؟ الآن الباطل قوي ، الباطل قوي جداً ، فإن لم تحصن أولادك من هذه العقائد الزائغة في خطورة كبيرة ، وأنا أقول دائماً(1/461)
كعادتي أن المجتمعات القديمة تشبه حديقة حيوان تقليدية ، الوحوش في الأقفاص ، والزوار طلقاء ، بؤر الفساد الفكري والسلوكي كان محصوراً ، أما الوضع العام جيد ، حينما كنا في الخمسينات هكذا كان الوضع ، الآن وضع المجتمع الإسلامي يشبه حديقة حيوان حديثة جداً ، إفريقية ، الوحوش طلقاء ، والزوار إن لم يلجؤوا إلى مركبة مصفحة يؤكلون ، لا تقدر الآن إلا أن تحصن ابنك تحصيناً ذاتياً داخلياً ، توعيه ، تبين له مكر الشرك ، مكر الكفر ، هذه النظريات ليس لها أساس من الصحة ، صممت لضرب دين يحارب العلم في غير بلادنا ، هذه مصممة لغير الإسلام ، مصممة لدين يحارب العلم أشد المحاربة .
نحن حينما نوقن أن هذه العقائد إذا تسربت إلى عقول أولادنا نشأ عنا خطورة كبيرة جداً ، ينبغي أن نبادر إلى الحوار والسؤال والجواب دائماً ، المؤمن له من كل آية متعلقة بنبي نصيب ، حينما قال الله عز وجل :
* وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آَتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ (83) *
(سورة الأنعام)
حينما نفعل هذا نكون قد حصَّنّا أولادنا ، أما شاب متردد بين ما في القرآن وبين ما في الكتب ، بين ما يلقيه عليه الشيخ في درس علم وبين ما يلقيه عليه أستاذه في الصف ، هذا التناقض في تفسير نشأة الخليقة ، هذا التناقض يسبب إما حالة لامبالاة صار في صراع مرير مستمر ، أو انفصام شخصية ، إما نفاق أو كفر ، طبعاً هذا الدرس أيضاً درساً تحذيرياً أي أنا أعلم علم اليقين أن معظم أخواننا الكرام على عقيدة سليمة ومتينة ، وأولادهم إن شاء الله على شاكلتهم ، ولكن قال تعالى :
* وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ (55) *
(سورة الذاريات)
الحقيقة المسلم بتقصيره في فهم دينه لا يعلم ما هي أسس العقيدة الصحيحة ، فقد يلتقي بإنسان ، قد يقرأ مقالة ، قد يقرأ كتاباً ، قد يستمع إلى ندوة ، فتتسرب إليه أفكار يظنها أنها من الدين و الدين منها بريء .
إذاً حوارك مع أولادك ، سؤالك عن عقيدتهم ، عن تصوراتهم ، والأجوبة تعلم ابنك أن لا يقبل شيئاً إلا بالدليل العلمي ، ولا يرفض شيئاً إلا بالدليل ، وتعرفه بمصداقية القرآن ، وبأدلته الناصعة ، وبإعجازه ، وبأن هذا الكلام كلام الله ، وما هو الوحي ؟ وكيف جاء الوحي ؟ وعصمة النبي عليه الصلاة و السلام ، هذه بديهيات يجب أن تعلم أولادك إياها وإلا الطرف الآخر جاهز ، يغزو عقول أبنائنا غزواً فكرياً ، إن في المدارس أو في الشاشة ، هذه الشاشة الآن ليست تابعة لمكان معين ، بهذا التنوع الكبير في المحطات الفضائية أصبح هناك خلاط ، كيف خلاط الفواكه ، الكل يختلط في هذا الخلاط ، وهذا التواصل الإعلامي ، تنوع الفضائيات سبب عملية خلط ، فكل الشبهات التي في(1/462)
الغرب انتقلت إلينا ، وكل أنواع الفساد المنتشر في الأرض انتقل إلينا ، فما لم نحصن أولادنا من هذا الغزو الثقافي ، الآن أخوانا الكرام يوجد شيء لخطورته لا يصدق ، خطورة الغزو الثقافي أخطر بكثير من الغزو العسكري ، لأن الغزو الثقافي زعزع لك ثقتك بدينك ، زلزلك ، جعلك إنساناً حائراً ، إنساناً مشككاً ، إنساناً ضائعاً ، إنساناً شارداً ، فالأب الحريص على سلامة أبنائه ، وسلامة عقيدة بناته ، والمعلم الحريص على عقيدة طلابه ، ينبغي أن يكون حذراً إلى درجة عالية جداً من أن ينزلق مع هذه الأفكار التي تبث بشكل مركز جداً من قبل الطرف الآخر لتفسد عقيدتنا وثقتنا بإسلامنا .
أنت ممكن أن تستمع إلى أفكار كثيرة جداً ، أي مثلاً النظام الاقتصادي العالمي هذا المهيمن ، أي بنوك ربوية ، استثمار المال عن طريق الفائدة ، المكان الآمن الوحيد هو البنك ، وحتى المال لا يتجمد يجب أن تأخذ ربحاً ، أي أكبر معصية في القرآن والتي تَوَعَد الله مرتكبها بالحرب ، هي بديهية جداً ، في التعامل المالي في العالم الإسلامي ، وفي كل بلاد المسلمين بنوك ربوية وإيداع بالبنوك وفوائد ، أين :
* يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ (276) *
(سورة البقرة)
أين :
* فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ (279) *
(سورة البقرة)
أين الآيات كلها ؟
شيء آخر ؛ نحن أحياناً بفعل هذه العقائد الزائغة نخلط بين التعايش وبين التوافق ، التعايش مطلوب ، الطرف الآخر الله عز وجل قال :
* فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ (7) *
(سورة التوبة)
وقال :
* لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ (8) *
(سورة الممتحنة)
وقال أيضاً :
* وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآَنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى (8) *
(سورة المائدة)(1/463)
هذا تعايش ، ممكن أن تزوره ، وتقدم له هدية ، وتعود مريضه ، وتعاونه ، وتكون لطيفاً معه ، هذا اسمه تعايش لا يسمى توافقاً ، يوجد فرق كبير جداً بين العقائد ، كذلك مفهوم اختلاط التعايش مع التوافق هذا أيضاً إحدى مشكلات العصر ، أو بالطرف الآخر الله عز وجل قال :
* فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ (34) *
(سورة فصلت)
هذه أخلاق الدعوة تختلط أحياناً مع أخلاق الجهاد :
* يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ (9) *
(سورة التحريم)
أخلاق المعركة شيء وأخلاق الحياة المدنية شيء آخر ، فكل هذه المعطيات تتداخل حينما يكون هناك غزو ثقافي كبير.
أي مثلاً من لوازم التفكير العلماني الإلحادي الإباحي أن يظهر الإنسان هذا العلماني الإباحي بعاطفة عجيبة ، أي هل يعقل أن تقطع يد السارق ؟ هذا توحش ، ضعه في السجن ، من قال لك أنه لو طبق هذا الحد لما احتاج المسلمون إلا ليد أو يدين في العام ، في أكبر بلد إسلامي ما الذي يحصل ؟ كم جريمة سرقة انقلبت إلى جريمة قتل ؟ اسأل الإحصاءات ؟ هل تصدق والله عندي إحصاء في أمريكا عن عام خمسة وستين ، في كل ثلاثين ثانية ترتكب جريمة قتل أو سرقة أو اغتصاب ، كل ثلاثين ثانية ، أي قسموا جرائم القتل والسرقة والاغتصاب على مجموع الشعب وعلى أيام السنة وعلى ثواني السنة فكان كل ثلاثين ثانية جريمة :
يد بخمس مئين عسجد وديت ما بالها قطعت في ربع دينار
***
فقال الإمام الشافعي :
عز الأمانة أغلاها و أرخصها ذل الخيانة فافهم حكمة الباري
***
عندما كانت أمينة كانت ثمينة فلما خانت هانت .
مرة قرأت تحقيقاً صحفياً عن بلد إسلامي يطبق قطع اليد ـ شيء لا يصدق سابقاً ليس الآن ـ الآن تساهلوا في قطع اليد فغزتهم الجرائم والسرقات ، أي ترسل رواتب أقصى محافظة بالجنوب بسيارة شاحنة مكشوفة ، وفيها أكياس الأموال الطائلة ، وتقطع عشرات ومئات الكيلومترات دون أن تخشى شيئاً ، هذا نظام إلهي ، فلمجرد أن تعقد ندوة بمحطة فضائية ويقال هذا قطع اليد ينبغي أن يستبدل بردع آخر ، كأن الله عز وجل حكمه غير صحيح ، هذه من نتائج العلمانية رفض هذا الحكم ، رفض تحريم المصافحة ، معقول ، يقول لك المرأة نصف المجتمع ، الاختلاط ، فحينما تطرح أساليبَ(1/464)
للحياة ، وأنماطاً لكسب المال ، وأنماطاً لاستثمار المال ، وأنماطاً للعلاقات الاجتماعية بخلاف ما جاء في القرآن والسنة فأنت قد غُزيت فكرياً وأنت لا تشعر ، غُزيت فكرياً وشوهت عقيدياً وسلوكياً وأنت لا تشعر ، الكبار إذا كانوا كذلك فكيف الصغار ؟!!
الآن يوجد اتجاه قوي جداً في العالم كله من أجل تعميم العولمة ـ على وزن حيونة ـ اعتمدت الصورة لا الفكرة ، لأن الصورة لها قوة تعبير ألف كلمة ، والصورة لا تحتاج إلى شخص يقرأ ويكتب ، لو نشرنا كتاباً من يقرؤه ؟ المثقفون ، أما غير المثقفين لا يقرؤونه ، أما إذا اعتمدنا الصورة نستطيع أن نصل إلى كل إنسان ، وأخطر شريحة تتأثر بالصورة الطفل ، أنت أطلع الطفل على بيت فخم جداً ، جميل جداً ، نظيف جداً ، والأم بأعلى درجة من الأناقة واللطف ، والبيت فيه بار ، وفيه اختلاط ، وفيه كل وسائل الرفاهية ، وكل وسائل المعصية والفجور ، وبيت إسلامي صغير ، غير مرتب ، الأب غضوب ، والزوجة مهملة لأولادها ، أولادها في الطريق فقط ، أنت لم تهاجم الدين أبداً ، ولكن أعطيت صورة مشرقة مع الإباحية والخمر ، وصورة قاتمة جداً مع التدين والتزمت ، انتهى الطفل ، الفتاة انتهت ، تشمئز من هذا النموذج وتحب هذا النموذج ، هذا الذي يحدث ، هذا التوجيه ، المكر الغربي هكذا ، قال تعالى :
* وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وَعِنْدَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ (46) *
(سورة إبراهيم)
أي إذا أنت كنت أنيقاً ونظيفاً وهناك نظافة وترتيب ، وهناك مسحات جمالية بالبيت ، وهناك صلاة وذكر وورع وعفة وأم تعتني بأولادها ويوجد أب صادق وفي ، ويوجد تفاهم زوجي ، هذا الذي يغير نمط الأطفال ، فأنا بنفسي كلام كبير جداً بهذا الموضوع ما كل ما يعلم يقال ولكن فهمكم كفاية ، نحن الآن أمام غزو ثقافي غربي خطير جداً يستهدف أبناءنا، بالنسبة لهم الكبار انتهوا ، الأولاد هم المستهدفون ، فلذلك عندما يكون الأب واعياً جداً وحريصاً جداً وورعاً جداً ومثقفاً جداً ويرعى أولاده يكون قد قدم عملاً للأمة لا يقدر بثمن ، أي أكبر عمل تقدمه لهذه الأمة أن تخرج من بيتك أولاداً أبطالاً ، أولاداً صادقين ، أولاداً عقيدتهم سليمة ، فكرهم سليم ، تصورهم صحيح ، عندهم قيم أخلاقية تحكمهم وهو المطلوب .
أيها الأخوة الكرام ، لا أحب أن أطيل عليكم ولكن الأب الذي يغفل عن تربية أولاده يغفل عن عقيدتهم ، عن تصوراتهم ، يجهل التغذية الخطرة التي يغذى بها الطفل وهو لا يشعر ، مصيره أنه خسر ابنه خسارة نهائية ، وصار هذا الأب حزيناً دائماً على أن هذا الابن لم يكن استمراراً له بل كان شارداً وضائعاً .
=============== ... ...(1/465)
47- وسائل تربية الأولاد ( 17 ) : القواعد الأساسية في التربية :
التربية بالتحذير ( 3 ) .
أيها الأخوة الكرام ، لا زلنا في تربية الأولاد في الإسلام ، ولا زلنا في القسم الثاني أي في الوسائل الفعالة لتربية الأولاد ، ولا زلنا في قسم التحذيرات .
موضوع درس اليوم التحذير من اللهو المحرم ، وكلمة لهو محرم تعني أن هناك لهواً بريئاً مباحاً ، فكان عليه الصلاة والسلام يمزح ولا يمزح إلا حقاً ، جو المؤمن مرح ، المؤمن يحب الدعابة أحياناً ، هذا من منهج الله عز وجل .
(( روحوا القلوب ساعة وساعة فإنها إن كلت عميت )) .
[ رواه الديلمي عن أنس ]
ألوان لا تعد ولا تحصى من اللهو المباح ، أن يجلس الإنسان مع أهله ومع أولاده ويتجاذبون أطراف الحديث هذا من اللهو المباح ، أن تكون هناك مسابقة علمية أدبية ودينية ، وفي القرآن الكريم ، وفي الحديث الشريف ، أن تكون هناك مسابقات في شؤون العلم هذا كله لهو مباح ، أن يمارس الإنسان ألوان الرياضة ، مباحة لتقوية جسمه ما من شيء حرمه الله عز وجل ، وأقول كلاماً دقيقاً ، ما من شيء حرمه الله عز وجل إلا وله بديل ، الحقيقة الدقيقة أنه ليس في الإسلام حرمان إطلاقاً ، في الإسلام نظافة ، في الإسلام نظام ، في الإسلام رقي ، في الإسلام حياة للقلب ، وحياة للروح ، وحياة للعقل ، وحياة للجسم ، أما الذين قصروا اهتمامهم على الجسم فقط هؤلاء ضلوا سواء السبيل ، العالم الغربي لا يحفل إلا بالعناية بالجسد ، أمَّن له كل ما يريحه ، ولكن غفل عن نفسه ، فكانت أعلى نسبة انتحار في العالم في أعلى بلد يتمتع بأعلى دخلٍ لمواطنيه ، الدنيا تغر وتضر وتمر .
الحقيقة موضوع درس اليوم التحذير من اللهو الحرام ، وقد تشتد الحاجة إلى هذا الدرس في آخر الزمان ، لأن معظم اللهو حرام ، لأن معظم اللهو قائم على المرأة التي لا تحل لك ، لأن معظم اللهو قائم على لعب حرمه النبي عليه الصلاة والسلام ، لأن معظم اللهو قائم على جلسات فيها غيبة ونميمة ولا ترضي الله عز وجل ، مثلاً من اللهو المحرم اللعب بالنرد ، وقد تجد أسراً إسلامية وترتاد بيوت الله عز وجل ويمضون الساعات الطوال وقد يبقون يلعبون إلى منتصف الليل بالنرد ، وقد قال عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح :
(( مَنْ لَعِبَ بِالنّرْدَشِيرِ ـ أي بالزهر ـ فَكَأَنّمَا صَبَغَ يَدَهُ فِي لَحْمِ خِنْزِيرٍ وَدَمِهِ )).
[ مسلمٌ عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ بُرَيْدَةَ ]
هناك فكره دقيقة جداً متعلقة باللعب ، يعني إنسان عنده مكتبة غنية جداً ، وعنده امتحان بعد يومين ، وفي هذه المكتبة الكتاب المقرر ، ويبنى على امتحانه نجاحه ، وعلى نجاحه تعينه في وظيفة عالية الدخل ، وفي تعينه في وظيفة عالية الدخل زواجه ، فهل يعقل أن يمسك كتاباً غير الكتاب المقرر ؟(1/466)
مستحيل ، لو قرأ كتاباً علمياً غير الكتاب المقرر يعد مخطئاً ، لو قرأ قصة أدبية غير الكتاب المقرر يعد مخطئاً ، لو فعل أي شيء في هذا الوقت الحرج ولم يقرأ الكتاب المقرر يعد مخطئاً ، فكيف إذا فعل شيئاً سيئاً ؟ لو قرأ كتاباً أدبياً ، لو قرأ قصة ، مسرحية ، ديوان شعر لو قرأ كتاباً في العلوم ولم يقرأ الكتاب المقرر يعد مخطئاً ، فكيف إذا فعل شيئاً يحاسب عليه ، ويعاقب عليه ، ويحجب عن الله به ؟!!
أيها الأخوة ، قضية اللعب ، هذا الذي غفل عن سر وجوده وغاية وجوده ، غفل لماذا خلقه الله عز وجل ، سبحان الله من أعجب العجب أن تجد إنساناً ما عنده شيء يفعله .
مر أحد علماء الشام الكبار بمقهى فرأى رواده يلعبون النرد فقال : يا سبحان الله ، لو أن الوقت يُشتَرى من هؤلاء لاشتريناه منهم ، الوقت هو أنت ، كلما انقضى يوم انقضى بضع منك ، الوقت هو رأس مالك الوحيد ، الوقت هو أثمن شيء تملكه ، وجه التحريم في هذا اللهو أنه يستهلك الوقت من دون فائدة ، أرأيت إلى الذين نالوا الدرجات الأولى في الامتحانات ، لو سألتهم لوجدت أهم صفة من صفاتهم أنهم حافظوا على أوقاتهم ، وأهم صفة من صفات المؤمن أنه يحافظ على وقته ، وأشهد الله أن المؤمن الصادق يشعر أنه بحاجة أن يكون النهار سبعين ساعة ، ليحقق ما في ذهنه من أعمال ، هذا هو الوقت ، فاللعب بالنرد فضلاً عن أنه يثير الشحناء والبغضاء ، وقد ينقلب إلى قمار أول ما فيه استهلاك تافه للوقت .
كنت أضرب مثلاً في طرفة ، طالب امتحانه الساعة الثامنة صباحاً والمادة رياضيات ، ويحتاج إلى أن يستغل كل دقيقة ، لو اشتهى أن يأكل شطيرة طعام في طرف المدينة الآخر ، وركب أول سيارة ، وثاني سيارة ، وانتظر في الدور حوالي ربع ساعة أو نصف ساعة ، وعاد في نصف ساعة ، ضيَّع ساعتين ، بميزان الشرع ما فعل شيئاً ، اشترى طعاماً وأكله ، والطعام حلال بمال حلال ، لكن لأنه استهلك ساعتين وهو في أمس الحاجة إلى دقيقة يعد هذا العمل خطأ كبيراً .
قضية اللهو ، عندما تعرف لماذا أنت موجود في الدنيا تحافظ على وقتك ، لذلك مرةً ألقيت خطبة إذاعية عنوانها إدارة الوقت ، يعني ما في بالمئة شخص واحد يحسن إدارة وقته ، يحسن استغلال وقته ، إدارة الوقت علم ، سمعت عن برنامج كمبيوتري للمهندسين ، إن أردت أن تنشئ بناء ، الأمور مرتبة بالبرنامج ترتيباً بأنه لا تضيع منك ساعة ، محسوب مدة جفاف الأسمنت ، في أثناء الجفاف ماذا يمكنك أن تفعل بالبناء ؟ مبرمج الأمر بدرجة أنه تستطيع أن تستغل كل دقيقة لإنشاء البناء ، هذا برنامج ، لذلك إدارة الوقت مهمة جداً ، لأنك وقت ، ولأن الوقت يستهلكك ، ولأنك خاسر لا محالة إن لم تستثمر الوقت ، الوقت يُستَهلك ويُستَثمر ، فاللعب بالنرد يقاس عليه اللعب بالشدة ، يقاس عليه اللعب بالبرسيس ، يقاس عليه أي لعب فيه حظ ، يوجد فتوى ليست قوية للإمام الشافعي حول الشطرنج لكن الأولى ألا تستهلك الوقت إلا فيما خلقت له ، كلامي لا يعني أن تبتعد عن كل ما هو ممتع ، هناك أصناف من اللهو محللة ، والله أيها الأخوة أنا برأيي الشخصي لا أجد أجمل من(1/467)
جلسة مع أخ مؤمن في مذاكرة للعلم ، مذاكرة العلم ممتعة جداً ، هواية ، ما من هواية أجمل منها ، مذاكرة العلم ، أخ تحبه ويحبك تجلس معه ، تنتفع بأفكاره وينتفع بأفكارك ، مع شيء من الطرفة ، مع شيء من المزاح الحق ، شيء من الوداعة ، شيء من الابتسامة ، طبعاً الأصل في هذا أن النبي عليه الصلاة والسلام يقول :
(( اغتنم خمساً قبل خمس ؛ شبابك قبل هرمك ، وصحتك قبل سقمك ، وغناك قبل فقرك ، وفراغك قبل شغلك ، وحياتك قبل موتك )) .
[متفق عليه عن ابن عباس ]
من باب التحذيرات أن توجه ابنك أو طالبك أو أخاك الذي في المسجد ، أنا أتوجه بكلامي إلى الأب لأنه المربي الأول ، أو إلى المعلم ، أو إلى المرشد في المسجد ، يعني أماكن التعليم البيت والمدرسة والمسجد هذه مظنة التعليم الديني ، يقول عليه الصلاة والسلام :
(( كل ميسر لما خلق له )) .
[ متفق عليه عن عمران بن الحصين]
أنت هل تعلم لماذا خلقت ؟ يعني تصور إنساناً في باريس أمامه خيارات أن يفعل مليون عمل ، قد يذهب إلى السينما ، أو إلى مسرح ، أو إلى دار لهو ، أو إلى نادٍ ليلي ، أو إلى مكتبة ، أو إلى جامعة ، أو إلى صديق ، أو إلى نزهة بحرية ، أو إلى نزهة في الغابة ، لو كان أمامه مئة خيار في خيار واحد يتوافق مع سر وجوده في باريس ، إن كان طالب علم في عنده خيار واحد أن يذهب إلى الجامعة ، أو إلى المكتبة ، أو أن يجلس مع صديق يتقن اللغة الفرنسية كي يتدرب في الحديث معه على التمكن من هذه اللغة .
الاستماع إلى الأغاني والموسيقا قال هذا يثير كوامن الغريزة والشهوة ، طبعاً أكثر الغناء فيه وصف للمرأة ، وصف للعلاقة بين العاشق والمعشوق ، فيه إثارة للغرائز والشهوات ، يقول عليه الصلاة والسلام :
(( إذا فعلت أمتي خمس عشرة خصلة حل بها البلاء )) .
[ أخرجه الترمذي عن علي ]
ألستم بحاجة إلى تحليل ما نحن فيه ، التحليل مهم جداً ، ما نحن فيه لا يخفى على أحد ، ما نحن فيه من مشكلات ، من أوضاع مؤلمة جداً لا يخفى على أحد لكن أين بطولتك ؟ في التحليل ، يقول عليه الصلاة والسلام :
(( إذا فعلت أمتي خمس عشرة خصلة حل بها البلاء : إذا كان المغنم دولاً ، والأمانة مغنماً ، والزكاة مغرماً ، وأطاع الرجل زوجته ، وعق أمه ، وبر صديقه ، وجفا أباه ، وارتفعت الأصوات في المساجد ، وكان زعيم القوم أرذلهم ، وأكرم الرجل مخافة شره ، وشربت الخمور ، ولبس الحرير ، واتخذت(1/468)
القينات ـ المغنيات ـ والمعازف ، ولعن آخر هذه الأمة أولها ؛ فليرتقبوا عند ذلك ريحاً حمراء ، أو خسفاً ، أو مسخاً )) .
[ أخرجه الترمذي عن علي ]
لست في معرض شرح هذا الحديث ، إلا في فقرة واحدة منه " واتخذت القينات والمعازف " أحد أسباب أن يحيق بالأمة غضب الله عز وجل " واتخذت القينات والمعازف " وسوق المغنين رائجة جداً الآن ، ما من مقصف إلا ويحتاج إلى مغنٍّ وراقصة ، ما من مقصف تحت سمع الناس وبصرهم ، مع الإعلانات الصارخة عند مداخل هذه الدور ، أو هذه الأماكن .
كلما قل ماء الحياء قل ماء السماء ، ويقول عليه الصلاة والسلام :
(( يمسخ قوم من أمتي في آخر الزمان قردة وخنازير ، قيل : يا رسول الله ! ويشهدون أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله ويصومون ؟ قال : نعم ، قيل : فما بالهم يا رسول الله ؟ قال : يتخذون المعازف والقينات والدفوف ويشربون الأشربة ، فباتوا على شربهم ولهوهم فأصبحوا وقد مسخوا قردة وخنازير )) .
[ أخرجه أبي نعيم في الحلية عن أبي هريرة ]
يعني إن أردت أن تفهم هذا الحديث فهماً واقعياً ، يقول لك واحد فلان وجهه كالقرد ، شهواني ، مادي ، لئيم ، قاسٍ ، حاقد ، آماله كلها في طعامه وشرابه ، فقد يمسخ الإنسان قرداً حقيقةً ، وقد يمسخ قرداً مجازاً بمعنى أن طباعه طباع قرد ، طبعاً حديثان يقسمان الظهر ، حينما ترى مؤمناً يستمع إلى الغناء ويطرب له ، وله أغنياته المفضلة ، فهذا خلل كبير في إيمانه .
(( ليس منا من لم يتغن بالقرآن )) .
[البخاري عن أبي هريرة ]
مستحيل وألف ألف مستحيل أن يجمع في جوف الرجل قرآن وغناء ، يجب أن تختار ، والله الذي لا إله إلا هو ولا أحنث بيميني أن أشد الناس في الدنيا استمتاعاً بالأغاني لا يرقون إلى طرب مؤمن بكتاب الله ، هذا الكتاب كلام خالق الكون ، كلام معجز ، قراءته عبادة ، فإذا سمح الله لك أن يلقي عليك السكينة في أثناء قراءته تشعر أنك في حال غير حال الناس ، يعني لو أن المرأة أذنت لحرم عليها ذلك لأن صوتها عورة ، أذنت لم تقل أحبك وتحبني ، لا ، لو لم تقل أحبك ، لو أنها أذنت لكان أذانها محرماً لأن صوتها عورة ، لكن لها أن تشتري من إنسان ، كلام عادي بكم هذه السلعة ؟ بكذا ، أعطني إياها وخذ الثمن ، هذا كلام ليس محرماً ، أما حينما تُحَسِّن المرأة صوتها لتنتزع إعجاب الناس فهذا شيء محرماً قولاً واحداً ، لأن الصوت ينقلك إلى شيء آخر .
هناك ملاحظة ينبغي أن تكون واضحة لديكم ، ليس هناك ما يحرم أن تستمتع بمنظر وردة أبداً ، لو أنك تأملتها ملياً ساعات وساعات ، لو أنك نظرت إلى جبل أخضر ، أو إلى ساحل بحر ، أو إلى باقة(1/469)
ورد ، أو إلى وجه صبي صغير ، يعني ليس هناك ما يحرم أن تنظر إلى مسحة جمال أودعها الله في شيء ، إلا أنك إذا نظرت إلى امرأة في شيء آخر يحدث تبدل في كيمياء دمك ، هذا التبدل يدفعك إلى شيء ، والشيء إلى شيء ، وقد تنتهي هذه الأشياء بالفاحشة ، النظر إلى المرأة فيه قوة جذب ، وقد ركب فيك حب المرأة :
* زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ (14) *
(سورة آل عمران)
معنى ذلك أن الله الذي ركب محبة المرأة في قلوب الرجال هو الذي أمرهم بغض البصر ، هو الذي أمرهم بالابتعاد عن أسباب الزنى ، هو الذي أمرهم أن يدعوا بينهم وبين المحرمات هامش أمان كبير ، فلذلك صوت المرأة في الغناء عورة ، وهذا الصوت قد يعطي تصوراً لصاحبة الصوت على غير ما هي عليه ، أحياناً في أسماء جمالية تعطي الإنسان رغبة أن يرى صاحبة هذا الاسم ، وقد تكون دميمة ، لكن في كلمات "سحر" مثلاً ، هناك كلمات جمالية لو أنك تأملتها لتصورت أن صاحبتها تسحر الناس ، هي تنفرهم أحياناً ، فالأسماء لها أثر أحياناً ، والصوت له أثر ، في أحد الشعراء وصف مغنياً لكنه مغنّ سيئ جداً ، قال :
عواء كلب على أوتار مندفة في قبح قرد وفي استكبار هامان
وتحسب العين فكيه إذا اختلافا عند التنغم فكي بغل طحان
***
أحد الأخوة الدعاة ـ كنا في الحج مرة وقد ركب إلى جانبي ـ قال لي : هناك منشد لا ينشد إلا بدرهم ، ولا يسكت إلا بدينار .
الآن لو أن رجلاً مدح رسول الله ، لا شيء عليه ، وكان شجي الصوت ، هذا مباح ، لو أن رجلاً ابتهل إلى الله بأنغام عذبة لا شيء عليه أبداً ، لو أن قارئ قرآنٍ أشجاك صوته بتلاوته وأعطاك من أداء القرآن ما يلفت النظر ، لا يوجد مشكلة أبداً .
المشكلة أن المرأة صوتها محرم ، الرجل بموضوع يثير الغرائز محرم ، رجل بموضوع يثير القسم الأعلى من الإنسان مباح ، في كلمة لبعض الأدباء أنه إذا حركت القصة أو القصيدة مشاعرك العليا حب الفضيلة ، حب التضحية ، حب البطولة ، الرغبة في معرفة الحقيقة ، يعني خدمة المجتمع ، أحياناً تقرأ قصة أو تقرأ قصيدة تشعر أنك تحب أن تكون بطلاً ، تقول هذا الأدب حرك مشاعرك العليا وتفكيرك المرتفع أنت إذاً أمام فن رفيع ، أما إذا لم يحرك إلا المبتذل من مشاعرك ، والتافه من تفكيرك ، فأنت أمام فن رخيص ، وقد أعجبني قول بعضهم أن الأديب أو الشاعر من حقه أن يصور الرذيلة ، ممكن ، لكن يمكن أن يصورها على نحو نشمئز منها ، أما إذا صورها على نحو نعجب بها فإن مجتمعاً بأكمله يسقط ، هذا كلام أيضاً دقيق جداً ، حينما تكون الأفلام كلها ، والأعمال الفنية(1/470)
كلها ، والمسارح كلها تركز على تحريك الجانب الأسفل في الإنسان ، إثارة غرائزه وتفكيره السطحي المادي فإن مجتمعاً بأكمله يسقط ، أما إذا حركت القصة أو القصيدة مشاعرك العليا وتفكيرك المرتفع فأنت أمام فن عظيم ، فلذلك الآن الأعمال الفنية هدفها إثارة الغرائز ، بل الحقيقة لا تروج إلا بالإثارة .
حدثني أخ كريم يعمل بالإعلام قال لي : إن لم يكن الفلم مثيراً لا يلقى قبولاً ، الإثارة مطلوبة وغاية من كل عمل فني ، الإثارة يعني إثارة الغرائز التي تؤدي إلى المعاصي والآثام ، يعني مثلاً هذا افتراض ونرجو أن يحقق ذلك لو كنت في مجتمع منضبط ، وأنت شاب في مقتبل حياتك ، أمامك بناء لمستقبلك ، وكان هناك انضباط في الطريق ، وانضباط في المجلات ، وانضباط في الشاشة ، وانضباط في كل شيء ، هذه الشهوة لا تثار إلا خارجياً كيف ؟ يعني أنت بغرفة لا تشتهي الشهوة المحرمة أبداً ، أما إن كنت بغرفة ولم تأكل لو ما في أي رائحة لطعام ، ولا أي صورة لطعام تجوع ، يعني أثر الجوع يأتي من الداخل ، الإحساس بالجوع يبدأ من الداخل ، أما إثارة الشهوة الجنسية من أين يبدأ ؟ من الخارج لذلك :
* قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ (30) *
(سورة النور)
وقال :
* وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ (31) *
(سورة النور)
قال عليه الصلاة والسلام تأكيداً على تحريم المعازف والأغاني :
(( إن الله بعثني رحمة وهدى للعالمين ، وأمرني أن أمحق المزامير والكنارات والمعازف والأوثان التي كانت تعبد في الجاهلية )) .
[ أخرجه أحمد عن أبي أمامة ]
والله أحياناً تحس أن أمةً تلهو بأكملها ، أمةٌ يحركها الطرب ، وتحركها المسلسلات ، وهي جالسة تتلقى هذه الموبقات ، تلقيت حسناً ماذا فعلت ؟ ماذا قدمت ؟ أحياناً تطور هذه الأجهزة ـ وأسميها أجهزة اللهو ـ هذا التطور الشديد يمكن أن يمتص كل وقتك ، ويمكن أن يمنعك أن تفعل شيئاً ، لذلك يعني ما من طريقة مثلى في إضعاف أمة ، ما من طريقة مثلى في تجميد أمة ، ما من قوة مثلى في تعطيل طاقات أمة من أن تغريها باللهو ، وأعداء المسلمين أول شيء يروجونه أن يشغلوا الناس بالغرائز ، ومرةً قلت في خطبة إذاعية أن الطرف الآخر فيما مضى كانوا يجبروننا بالقوة المسلحة على أن نفعل ما يريدون ، أما الآن فلا ، الآن يجبروننا بالقوة الناعمة بالمرأة على أن نريد ما يريدون ، يعني إنسان من أشد الناس مقاومة للمخدرات ، لو بدأ بشم المخدرات بعد أن يألفها قليلاً هو يلهث(1/471)
وراءها تماماً ، فالخطورة أن تذيقه طعمها من أجل أن يألفها وأن يلهث وراءها ، وهذه خطة خبيثة ماكرة .
أنتم تعلمون بالأربعينات من وعى ذلك الوقت ، إذا شاب ارتاد دار سينما وعلم أبوه بذلك لأقام الدنيا ولم يقعدها ، فكيف إذا كان أصبح كل بيت ملهىً ليلياً ، كل بيت والدليل على السطح ، اصعد إلى جبل قاسيون وانظر إلى بيوت الشام ، أنا أختصر وما كل ما يعلم يقال وفهمكم كفاية ، الإنسان حينما يتبع شهوته انتهى ، لا يقوى على مقاومة نملة ، كالخرقة ، طبعاً الحديث طويل ومنوع لكن محوره واحد ، أية شهوة محرمة إذا سمحت بها ينتهي ابنك وتنتهي ابنتك ، وتنتهي القيم ، وينتهي التدين ، وتنتهي قوة الأمة ، وتصبح ضعيفة وأشلاء ليست قادرة على أن تفعل شيئاً ، وهذا كيد الشيطان ، يعني أي مكان إما مجلة ، أو الشاشة ، أو الانترنيت ، أو جريدة ، أو لقاء ، أو حديث ماجن كله واحد ، المؤدى واحد ، أو قرص ليزري ، كل شيء يثير غريزة الإنسان هذا ينبغي أن ينتبه الآباء والمربون والموجهون بالمساجد من التساهل فيه ، لأن الإنسان فيه غرائز ، يعني فيه كمية بارود ، الإنسان يحتاج إلى شعلة نار كي ينفجر البارود ، طبعاً أغبى الناس وأحقر الناس بإمكانه إشعال هذه المتفجرات ، لا تحتاج إلى ذكاء ، عمل تخريبي ليس عملاً بنائياً ، يعني لو فرضنا أنه في أشياء إباحية ، في مجلة ، أو في شريط ، أو في قرص مدمج ، أو في شاشة ، أو في انترنيت يعني أي إنسان مهما كان وضيعاً ، مهما كان دنيئاً بإمكانه أن يثير الغرائز ، كما أنه أي إنسان بإمكانه أن يفجر البارود ، البارود في طبيعته الانفجار ، يحتاج إلى شرارة ، فالغرب كله معني بمحاربة العالم الثالث لا عن طريق القوة المسلحة ، بل عن طريق المرأة ، في واحد افتتح ملهى ما من موبقة ، وما من معصية صارخة ، وما من عمل شائن إلا وكان في هذا الملهى ، بعد مضي سبعة أيام من افتتاحه مات الذي أسسه ، وكل ما يجري فيه الآن من موبقات في صحيفته إلى يوم القيامة ، هذه صدقة جارية بالمعنى المعاكس .
أخواننا الكرام ، أعظم عمل صالح ما كان مستمراً بعد وفاة صاحبه ، رجل أسس معهداً شرعياً ، ومضى على وفاته عشرون عاماً والمعهد قائم ، رجل أسس مسجداً ، رجل أسس جامعة ، أسس دار أيتام ، رجل ألَّف كتاباً نافعاً جداً ، أعظم عمل ما استمر بعد موت صاحبه ، هذه الصدقة الجارية ، وأخطر عمل ما استمر بعد موت صاحبه .
كنت مرة في لبنان في إذاعة إسلامية فتحت ، فإذا في درس تفسير لعالم جليل توفي من سنة ، قلت : سبحان الله يمكن أن تبث دروسه لمئة عام قادمة ، وينتفع الناس بها ، ويرقون إلى الله عز وجل وهو ميت في قبره ، وفي مغنون توفوا أيضاً وأغنياتهم تلهب الغرائز وهي يستمع إليها لمئة عام قادمة .
مرة افتتح مسجد وكان إلى جانبي مدير أوقاف ، فقلت له : أشكر الله عز وجل على أن مكنك أن تستفتح مسجداً وأن تعين خطيباً بينما هناك أناس يفتتحون ملهى ويعينون راقصة ، فرق كبير ، إذا(1/472)
أردت أن تعرف مقامك فانظر فيما استعملك ، أجمل كلمة إذا أردت أن تعرف مقامك فانظر فيما استعملك ، أحياناً يكون الإنسان عمله مشروع كأن يبيع أغذية للناس ، يبيع أقمشة ، يعلم ، يبني بيوتاً ، يعالج مرضى ، في مهن راقية جداً وشريفة ، أساسها خدمة الناس ، في مهن أساسها إفساد الناس ، أساسها تبنى على إفساد الناس ، كملاهٍ ، دور اللهو والسينما والمجلات الداعرة ، هذه كلها مبنية على إفساد الناس ، المواقع الإباحية في الانترنيت أساسها إفساد الناس ، فهنيئاً ثم هنيئاً ثم هنيئاً لمن كان عمله في مرضاة الله ، بالمناسبة لو فرضنا أننا تمكنا من إذاعة برنامج ديني على الشاشة ، وهذا البرنامج يراه الملايين ، ما في مانع أبداً ، يعني ليس الجهاز حراماً بل ما يعرض فيه هو الحرام ، المضمون ، إنه إذا غلب عليه أنه يفسد الأخلاق ففي مشكلة الآن ، أما نحن لسنا ضد جهاز ، في قفزة نوعية في عالم العلم ليس هذا القصد ، القصد المضمون ، يعني أنا ذكرت من أيام أن العولمة اعتمدت الصورة ، مثلاً دولة فيها مئة مليون الذين يقرؤون ويكتبون ثلاثون مليوناً فرضاً ، والذين يعنون بمطالعة الكتب من ثلاثين مليوناً عشرة ملايين ، والذين يعنون بمطالعة كتب مفيدة مليونان ، بلد فيه مئة مليون إذا اعتبرنا التوجيه عن طريق الكلمة المقروءة يستفيد من هذا البلد مليون واحد ، أما الصورة بإمكان أي إنسان يراها ، متعلم ، غير متعلم ، رجل ، امرأة ، كبير في السن ، شاب صغير ، هذه الصورة لكل الناس ، والصورة فيها قوة تعبير ألف كلمة ، الآن يمكن أن نطرح قيماً وأن نحطم قيماً عن طريق الصورة ، ذكرت هذا في درس سابق يمكن أن ندعم قيماً وأن نحطم قيماً عن طريق الصورة ، فالصورة خطيرة جداً ، لو أنها
استغلت لتركيز القيم الدينية والأخلاقية لكان فعلها فعل السحر ، أما إذا استغلت من قبل الطرف الآخر لتحطيم القيم الدينية فلها فعل كفعل المتفجرات ، طبعاً الفقرة الثانية في الدرس .
الفقرة الأولى من الدرس عن النرد وما يشبهه ، أي لعب مبني على الحظ هذا محرم ، مضيعة للوقت أولاً ، وقد يسبب متاعب ، مشاحنات ، عداوات ، وأهم شيء أنه يستهلك الوقت استهلاكاً سخيفاً .
الفقرة الثانية متعلقة بالمرأة إن كانت في ملهى ، أو في دار سينما ، أو في قرص مدمج ، أو في انترنيت ، أو في مجلة ، أو في الطريق ، أو في بيت ، أو في أي مكان ، المرأة التي تبرز مفاتنها من أجل لفت النظر إليها هذا اسمه بالمصطلح الجديد تحرش المرأة بالرجل .
والله حدثني أخ هو عندي صادق ، أنه رأى ندوة بمحطة فضائية ، شاب في مقتبل العمر طبعاً كان يغتصب الفتيات ويقتل الفتاة بعد اغتصابها ، أي عدد كبير يزيد عن عشرين فتاة قتلها ، طبعاً قبض عليه وحكم بالإعدام وكان السجن بالقاهرة ، فهناك صحفية ملتزمة طلبت من مدير النيابة أن تلتقي به ، فكانت هذه المقابلة التي بثتها محطة فضائية ، فالذي حدثني عن هذا اللقاء أنها سألته : هل أنت مسلم ؟ قال لها : نعم ، قالت : هل تصلي ؟ قال لها : لا ، قالت له : لماذا لا تصلي ؟ قال لها : لا(1/473)
أعرف الصلاة ، ما علمني أحد كيف أصلي ، هل تقرأ القرآن ؟ قال : لا ، لماذا ؟ قال : أنا لا أقرأ ولا أكتب أميّ ، هل تشهد أنه لا إله إلا الله ؟ قال : ماذا لا إله إلا الله شهادة ! قال : أعيديها ، يقسم من شاهد هذه الحلقة أنه حتى أتقن لفظها حوالي الخمس دقائق ، كلمة كلِمة ، قالت له : لا إله إلا ، قال لها : واحدة وَاحدة ، حتى أتقنها إله ، سُقْت هذا التفصيل لأجل أن تعلموا أن هذا الشاب جهل مطبق ، لا يقرأ ولا يكتب ، ولا يصلي ، ولا يعلم ما الشهادة ، فلما سألته : كيف تغتصب هذه الفتيات وتقتلها ؟ فكان جوابه : هن السبب ، من ثيابهن ، إذاً هن تحرشن بالشباب ، قالت له هذه الصحفية : لو أنك رأيت فتاة محجبة ماذا تفعل ؟ قال : والله لو أن أحداً كلمها لقتلته ، انظر إلى الفطرة ، كتلة جهل ، هي السبب ، ثيابها تدعوني إليها ، أما المحجبة لو أن أحداً كلمها لقتلته ، لأنها مقدسة ، يعني أجهل الجهلاء ، جاهل مجرم ، بالفطرة أدرك أن هذه الفتاة بثيابها الفاضحة ، وبإغرائها لسان حالها يدعو الناس إلى التحرش بها ، فصار التحرش بالرجال عن طريق الثياب ، والتحرش بالنساء عن طريق الكلام ، تحرش بتحرش .
لا بد من أن ننتقل إلى ما يسمى اللعب بالميسر ، قال : هو كل لعب بين فريقين تتحقق الخسارة من فريق والربح من فريق على سبيل المصادفة والحظ .
* يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (90) *
(سورة المائدة)
قرأت مرة خبراً أن رجلاً مسلماً من بلد مجاور كان بأمريكة ، يملك اثنين ونصف مليون دولار ، دخل إلى دار قمار ولعب في ليلة واحدة خسرها كلها ، فعاد إلى البيت وأطلق النار على زوجته وخمسة أولاد له ، وقال ليغفر الله لي وقتل نفسه .
هو الداء الذي لا برء منه وليس لذنب صاحبه اغتفار
تشاد له المنازل شاهقات وفي تشييد ساحتها الدمار
نصيب النازلين بها سهاد وإفلاس فيأس فانتحار
***
الميسر أيضاً يلعبون على خمس ليرات ، تبدأ بخمس ليرات ، هكذا بداية القمار ، بخمس ليرات ، ثم يصبح مُقامراً كبيراً ، ولا يخفى عليكم بعض أثرياء العالم يخسرون في ليلة واحدة في مونت كارلو أحياناً ملايين الدولارات ، خمسين مليون دولار ، مئة مليون بليلة واحدة .
القمار يهدم البيوت العامرة ، ويفرغ الجيوب الممتلئة ، به تفتقر الأسر الغنية ، وتذل النفوس العزيزة ، القمار يورث العداوة والبغضاء بين المتلاعبين ، لأنهم أكلوا أموالهم بالباطل ، القمار يصد عن ذكر الله وعن الصلاة ، النبي عليه الصلاة والسلام :(1/474)
(( مرَّ رسولُ اللّه صلى اللّه عليه وسلم بقوم يلعبون بالنرد ، فقال : قلوب لاهية وأيدٍ عاملة وألْسِنة لاغية )) .
[ابن أبي الدنيا عن يحيى بن أبي كثير]
القمار آية الإثم ، تلتهم الوقت والجهد ، وتعَوِّد على الخمول والكسل ، حدثني أخ أن البقالية في بعض البلاد الغربية إن لم يكن فيها آلة قمار لا تبيع ، بقالية عادية وقمار مع نفسه الإنسان ، حدث أحد أصحاب البقاليات في أمريكة أنه جاء رجل ليشتري حليباً لأولاده فلعب القمار فخسر كل أمواله فعاد من دون حليب ، جاء ليشتري حليباً طعام أولاده ، الآن يضعون بكل بقالية آلة قمار صغيرة ، يعني الآن القمار ليس أن اثنين يلعبون ، آلة فردية تضع أرقاماً تغير مفاتيح تربح أو تخسر ، فشيء مغرٍ ، ما في مقامر إلا ونيته أن يربح ، ومعظمهم يخسرون ، هواية آثمة تلتهم الوقت والجهد .
القمار يدفع صاحبه إلى الإجرام ، شيء غير معقول أن واحداً يخسر ثروته بليلة واحدة بلا سبب ، يسمونها المائدة الخضراء ، والله كلمة خضراء تضيع بهم ، مائدة خضراء ، أي خضراء هذه ؟
القمار أيضاً يعني اليانصيب ، نحن بالإسلام عندنا قاعدة عميقة جداً ، أي علاقة مالية بين شخصين فيها منفعة متبادلة فهو مشروع ، قاعدة أساسية ، وأي منفعة بنيت على مضرة فهو محرم ، واحد دفع ما أخذ وواحد أخذ ما دفع ، أو أخذ مبلغاً كبيراً دفع شيئاً قليلاً ، إذا ما في تعويض أو مكافأة في العلاقة المالية فالعلاقة محرمة ، إلا أن المسابقات العلمية والعسكرية هذه مسموح بها ، مسابقة ، نرصد جائزة لمن يجيب عن هذه الأسئلة ، قد تكون في القرآن الكريم ، قد تكون في العلم ، بالفقه ، قد تكون بعلوم الدنيا المفيدة ، قد تكون بأمور عسكرية ، فالمراهنة من جهة ثالثة مشجعة ولتكن هي الدولة هذا لا شيء فيه ، أي ليسا اثنين يربح واحد ويخسر واحد ، جهة ثالثة ، دولة ، مركز بحوث فرضاً ، جهة علمية ، وزارة دفاع ، تقيم مسابقة من أجل تنشيط الخبرة العسكرية ، مسابقة في الرمي مثلاً ، مسابقة في الجري ، مسابقة رياضية هذه لا شيء فيها ما دام الدافع جهة ثالثة ، أما لو كان اثنين تراهنوا على شيء وأحدهما خسر هذه محرمة ، مسابقات الجري هذه مشروعة ، المصارعة لتقوية العضلات وإظهار القوة العضلية أيضاً مشروعة .
(( النبي عليه الصلاة والسلام صارع أبا ركانة فصرعه النبي أكثر من مرة ، وفي رواية أن النبي عليه الصلاة والسلام صارعه وكان شديداً فقال له : شاة بشاة فصرعه النبي ، قال له : عادوني بأخرى فصرعه النبي ، قال : عاودني ، فصرعه النبي ثالثة ، فقال ركانة : شاة أكلها الذئب ، وشاة نشزت ـ أي هربت ـ فماذا أقول بالثالثة ؟ فقال النبي عليه الصلاة والسلام : ما كنا لنجمع عليك أن نصرعك ونغرمك ، خذ غنمك )) .
[أبو داود والترمذي عن عبد الله بن الحارث]
حتى بالمصارعة كان النبي رقم واحد .(1/475)
مرة قال أحدهم : أين محمد لا نجوت إن نجا ، بالقتال ، فالصحابة دعوه إلى القتال ، قال : لا محالة غلبني ، أمسك رمحاً ووكزه فولا هارباً يولول ، قال : والله لو بصق علي لقتلني .
ألعاب السهام والحراب والفروسية أيضاً مشروعة فقد قال عليه الصلاة والسلام :
(( كل شيء ليس من ذكر الله عز وجل فهو لهو أو سهو إلا أربع خصال : مشي الرجل بين الغرضين ، وتأديبه فرسه وملاعبته أهله ـ يعني أولاده ـ وتعليم السباحة )) .
[ رواه الطبراني عن عبد الله بن أبي رباح ]
أثر عن عمر رضي الله عنه : "علموا أولادكم السباحة والرماية وأمروهم فليثبوا على ركوب الخيل وثباً ".
أيها الأخوة الكرام ، هذا درس متعلق بتربية الأولاد يحتاج المعلم والآباء والدعاة إلى الله عز وجل ، وأعود وأكرر ليس في الإسلام حرمان ، الإسلام نظيف يلبي حاجات الإنسان كلها المادية والمعنوية ، ولكن الطرف الآخر يريد أن يدنس الإنسان ويغرقه في المعاصي والآثام .
وأرجو الله سبحانه وتعالى أن تنقلب هذه التوجيهات إلى حقائق يعيشها أبناؤنا ، والأبناء كما أقول دائماً هم الورقة الوحيدة الرابحة في أيدينا .
في أخ جزاه الله خيراً ذكرني أنه بالمسابقات الرياضية والألعاب الرياضية المباحة هناك محظور أن تكشف العورات لأن الفخذ عورة ، سمعت عن لاعب كرة من الطراز الأول في مصر اعتزل اللعب وأراد أن يمضي حياته في عمل آخر ، في مباراة دولية هم في أمس الحاجة إليه هو اصطلح مع الله أيضاً ، فلما جاء وزير الشباب إلى بيته ليحمله على أن يعود إلى المباراة أصر على الرفض فلما ألح عليه ، قال له : أنا لا ألعب إلا بثياب إسلامية طويلة فوافق ، فصار هذا تقليداً ، ممكن أن تلعب كرة والعورة مستورة ، أما مكشوفة في معصية ، فالأخ جزاه الله خيراً ذكرني وقد نسيت أن أوضح ذلك
=================
... ...(1/476)
48- وسائل تربية الأولاد ( 18 ) : القواعد الأساسية في التربية : التربية بالتحذير ( 4 ) .
أيها الأخوة الكرام ، لا زلنا في دروس تربية الأولاد في الإسلام في القسم الثاني منها وهو الوسائل الفعالة في التربية ، وكانت من وسائل التربية الفعالة أسلوب التحذير .
التحذير أنواع كثيرة وننتقل اليوم لبعض أنواع التحذير ، أولاً من أكبر الآفات الاجتماعية التي تسبب ضياع الأمة التقليد الأعمى للأقوياء والأغنياء ، التقليد الأعمى قد ينسي الإنسان هويته كما ترون ، نحن أمة خصها الله بوحي السماء ، نحن أمة معنا منهج ، وأمة قال الله عنا :
* كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ (110) *
(سورة آل عمران)
أي أصبحتم خير أمة حينما اختص الله هذه الأمة ببعثة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ومع ذلك تجد الناس يلهثون وراء التقليد ، مصمم أزياء رئيسي في غرب أوروبا هو الذي سيحدد ما ينبغي أن تبديه المرأة وما تخفيه من جسمها ، أما منهج الله عز وجل وتوجيهات رسول الله هذه تأتي في المرتبة الثانية ، آفة المجتمع هي التقليد الأعمى ، لذلك التقليد الأعمى دليل انهيار القيم الدينية في المجتمع ، ودليل ضعف العقيدة ، وعدم وضوح الهدف ، والجهل بالمنهج ، فهذا التقليد الأعمى ربما ساق الإنسان فرداً وساق المجتمع إلى الويلات ، أنا أؤكد لكم أنه كم من بيت تهدم من التقليد الأعمى ، وكم من امرأة طلقت بسبب التقليد الأعمى ، وكم من أولاد تربوا مشردين بسبب التقليد الأعمى ، فلذلك المربي معلماً كان أو أباً أو مرشداً ينبغي أن يحذر .
الآن بحياتنا المدنية يوجد تحذير يقال : تقاطع طرق ، أكثر الحوادث المروعة بسبب تقاطع الطرق ، انتبه تقاطع طرق أو انتبه منعطف خطر أو جليد ، فبحياتنا اليومية باستعمال الطرق ، والأدوية ، ضع هذا الدواء بعيداً عن أيدي الأطفال سام ، تيار كهربائي احذر خطر الموت ، حياتنا اليومية بنظام السير أو الكهرباء أو الأدوية فيه آلاف التحذيرات ، والتحذير دليل رقي .
وجدت في مركبة حديثة مكتوب باللغة العربية على المرآة أن هذه المرآة لا تعطيك الأبعاد الحقيقية مقعرة ! فالذي يقود المركبة قد يظن أن المسافة كبيرة بينه وبين المركبة التي قبله يراها في المرآة ، يأتي التحذير انتبه ، هذه المسافة ليست صحيحة ، حتى تأتي الصورة واضحة وواسعة قد لا تكون المرآة مستقيمة ، قد تأتي مقعرة أو منحنية ، هذا التقعر أو الانحناء يبعدها عن الحقيقة ، لو أن حادثاً وقع ولم تكتب الشركة على المرآة هذا التحذير قد يقام عليها قضية ، وقد تربح القضية .
لاحظ حياتنا المدنية في الطرقات وفي المطارات وفي توزيع الأدوية وفي مجالات عديدة جداً هناك تحذيرات ، من باب أولى الإنسان يتلقى تحذيرات من الله عز وجل ، أساساً كل المنهيات في الدين تحذيرات ، الأمر الإلهي نوعان أمر تكليفي وأمر تكويني ، الأمر التكويني فعله ، أما التكليفي أمره ونهيه ، فالله عز وجل يأمر وينهى ، والنهي تحذير ، فإذا كان الله جل جلاله هو الذي يحذر ، والنبي(1/477)
إياكم كذا وإياكم كذا ، إياك وما يعتذر منه ، ولا تقربوا مال اليتيم ، ولا تقربوا الزنى ، فكل منهيات القرآن والسنة تحذير ، فالمربي من باب أولى أن يسلك أسلوب التحذير مع من يربيه ، والحقيقة التحذير في معنى الرحمة والحكمة والعلم ، الذي يحذر عالم .
مثلاً الإنسان يشعر كأن معه بوادر مرض إنتاني يشتري دواء ليكافح الإنتان ، هذا الدواء تسعة وتسعون بالمئة من الناس عندما يشعر أنه تحسن يوقف الدواء ، هذا الدواء إذا أوقفه ، الجرثوم الذي دخل لجسمه بكميات الدواء القليلة يصنع مضاداً ، يصبح هذا الجرثوم ممتنعاً عن أن يعالج ، يقول لك الطبيب استعمل هذه الحبوب حتى نهايتها ولو شعرت بالتحسن من الحبة الثانية ، حتى يقضي الدواء على الجرثوم قضاء مبرماً ، أما إذا أعطيته جرعة مخففة الجرثوم يبقى حياً ، ويصنع مصلاً مضاداً فعندئذ لا تستطيع أن تصنع مصلاً مضاداً في المستقبل ، باب التحذير باب رائع جداً ، الإله ، والنبي ، وكل إنسان ، عالم ، وحكيم ، ورحيم كل حياته تحذيرات لمن حوله ، فلذلك أولى بالمربي وبالمدرس وبالمعلم وبالموجه وبالأب وبالأم أن يحذروا .
الحقيقة موضوع الدرس أول شيء ينبغي أن نحذر من حولنا ممن نعلمهم التقليد الأعمى ، الإنسان المقلد أحمق ، وهناك أحاديث كثيرة تتحدث عن التقليد الأعمى :
(( لَيْسَ مِنَّا مَنْ تَشَبَّهَ بِغَيْرِنَا لَا تَشَبَّهُوا بِالْيَهُودِ وَلَا بِالنَّصَارَى فَإِنَّ تَسْلِيمَ الْيَهُودِ الْإِشَارَةُ بِالْأَصَابِعِ وَتَسْلِيمَ النَّصَارَى الْإِشَارَةُ بِالْأَكُفِّ )) .
[الترمذي عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ ]
عندنا قاعدة التشبه بالغير تقليد أعمى ، ليس المُقلِّد كالمُقلَّد ، لمجرد أنك سلكت سلوك التقليد العمى فأنت دون من تقلد ، لماذا قنعت أن تكون دونه ؟ الطاقات التي أودعها الله في الإنسان طاقات مفتوحة وليست مغلقة ، فالذي يقلد لمجرد أنه يقلد وضع سقفاً فوق رأسه وارتضى أن يكون محدوداً ، ولن يستطيع مقلد أن يقلد تقليداً تاماً ، وضع سقفاً وهو دون هذا السقف ، لذلك الذين تفوقوا في الحياة ما قلدوا ولكنهم ابتدعوا ، بالمعنى اللغوي لا بالمعنى الشرعي ، بحثوا عن شيء جديد وأسلوب جديد في الحياة ، بحثوا عن حرفة نادرة ، لكن بلاء الناس حتى في التقليد في التجارة ، أي حرفة تنجح تقلد تقليداً غير معقول إلى أن تصبح حرفة غير مربحة ، من كثرة التقليد والمنافسة ، لذلك ما من مشروع نجح نجاحاً كبيراً إلا لأنه كان رائداً ، ولأن الذين قاموا عليه ما قلدوا ولكنهم بحثوا عن شيء جديد .
لذلك من الزاوية الدينية والدنيوية الذي يفكر بأسلوب جديد يربح ، إذا أردت الدنيا فعليك بالعلم ، وإذا أردت الآخرة فعليك بالعلم ، وإذا أردتهما معاً فعليك بالعلم .
(( لَيْسَ مِنَّا مَنْ تَشَبَّهَ بِغَيْرِنَا )) .
[الترمذي عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ ](1/478)
أنت لك هوية وتاريخ ، مرة كنت بقارة ، هذه قارة بجنوب شرق آسيا ، قارة أستراليا ، قالوا لي : هذه القارة ليس لها تاريخ ! قلت : كيف ؟ قالوا : هذه القارة أول من سكنها من غير سكانها الأصليين العتاة والمجرمون الذين أبعدوا من بريطانيا إلى أستراليا ، فأجداد هذه الأمة مجرمون ، أنت لك أجداد عظام وأبطال ، أنت من أمة راقية واصطفاها الله لتكون بينه وبين الخلق ، أنت لك تاريخ ، هذا الإنسان له تاريخ ، له منهج ، معه هدف ، لماذا يقلد ؟ أبسط شيء (باي) ! ما هذه ؟ السلام عليكم ، هذا سلام المسلم ، عوِّد نفسك أن تكون إسلامياً حتى في كلامك وفي عباراتك اليومية .
أول بند في هذا اللقاء الطيب يجب أن تحذر من تربيه من طلابك أو من أبنائك أن تحذرهم من التقليد الأعمى الذي يلغي شخصية الإنسان وهويته وطموحه ، ويدل على ضعف فيه ، غير الإلغاء قد ينقله للفساد والهلاك .
مثلاً تجد أسرة فيها تفاهم وود لأن المرأة تريد أن تقلد جارتها أو قريبتها أو أختها التي تزوجت من غني تصبح حياة الأسرة جحيماً ، تريد أن تظهر بمظهر لا تملك ثمنه ، مع أن زوجها جيد ، والدخل يغطي المصاريف الأساسية ، والأمور جيدة ، لكن لمجرد أن تقلد هذه الأسرة دخلت في متاهة .
(( لَيْسَ مِنَّا مَنْ تَشَبَّهَ بِغَيْرِنَا )) .
[الترمذي عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ ]
(( لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه )) .
[ البخاري عن أبي هريرة]
أحياناً تحتار أن هذه الأزياء غير مقبولة ، وغير معقولة ، وغير منطقية ، لأن الأقوياء الذين نعظمهم ارتدوا هذه الثياب ينبغي أن نفعل مثلهم .
مرة اشتكى لي أحد أصحاب معامل الجوارب أن صرعة انتشرت بين الناس وهي عدم ارتداء الجوارب في الصيف ، شكا لي همه ! أننا عبيد لما يأتينا من الغرب .
حدثني أخ تاجر يعمل في الكلف النسائية قال : يكون عندنا بضاعة بالملايين ، بعد شهر أو شهرين تأتي في مجلات الأزياء أنماط جديدة ، كل هذه البضاعة لا تباع ولا بعشر قيمتها ، المسلمون يلهثون وراء ما يستحدث في الغرب .
طبعاً هذا يستهلك طاقات ، الإنسان حينما يلهث وراء أحدث الصرعات في الحياة لا يعجبه شيء وهو بالمقابل لا يعجب أحداً ! الحديث الأول فيه تشديد كبير :
(( لَيْسَ مِنَّا مَنْ تَشَبَّهَ بِغَيْرِنَا )) .
[الترمذي عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ ]
الحديث الثاني فيه وعيد :
(( مَنْ تَشَبَّهَ بِقَوْمٍ فَهُوَ مِنْهُمْ )) .(1/479)
[أبي داود عَنِ ابْنِ عُمَرَ]
لفت نظري مرة في بلاد على المستوى الرسمي الخمر ممنوعة ، ولأن بعض الشاردين معجبون بالخمر يضعون على الطاولة زجاجات التفاح ، لكن تشبه زجاجات الخمر تماماً ، لون الشراب والقارورة مشابه تماماً ، أليس هذا مرضاً في الإنسان ؟ إذا كان محرماً عليه الخمر يجب عليه أن يضع على الطاولة قارورة تشبه الخمور حتى الكؤوس ، فكلما كان إيمانك قوياً تبتعد عن هذه المظاهر التي تجدها عند الطرف الآخر ، (ليس منا) هذا وعيد كبير جداً ، والوعيد الثاني :
(( مَنْ تَشَبَّهَ بِقَوْمٍ فَهُوَ مِنْهُمْ )) .
[أبي داود عَنِ ابْنِ عُمَرَ]
والحديث الثالث :
(( لَعَنَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمُخَنَّثِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالْمُتَرَجِّلَاتِ مِنَ النِّسَاءِ)).
[البخاري عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِي اللَّه عَنْهمَا]
يوجد تقليد لجنس آخر ، قد يقلد المؤمن غير المؤمن ، الآن التقليد ضمن المسلمين لكن الرجل يتشبه بالمرأة في حركاتها وسكناتها ونعومتها وكلامها الرقيق وكأنه امرأة ، ويوجد امرأة كالرجال يعلو صوتها وتحد نظرتها في الآخرين ولا تستحي لذلك :
(( لَعَنَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمُخَنَّثِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالْمُتَرَجِّلَاتِ مِنَ النِّسَاءِ)).
[البخاري عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِي اللَّه عَنْهمَا]
أنا أقول هذه الكلمة المرأة حينما تقلد الرجال تفقد أثمن ما تملك ، هي تبقى امرأة وفي هويتها أنثى ، لكنها تفقد أنوثتها وأجمل ما في المرأة أنوثتها وحياؤها لذلك :
((ورد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه في آخر الزمان يرفع الحياء من وجوه النساء ....)) .
[ورد في الأثر ]
تحد النظر إليك ، وتدخن ، وقد يعلو صوتها :
(( وتنزع النخوة من عقول الرجال ، وتنزع الرحمة من قلوب الأمراء )) .
[ورد في الأثر ]
لا رحمة في قلب الأمير ، ولا نخوة في رأس الرجل ، ولا حياء في وجه المرأة وهذه علامات من علامات آخر الزمان .
قال النبي الكريم :
(( لَا تَكُونُوا إِمَّعَةً تَقُولُونَ إِنْ أَحْسَنَ النَّاسُ أَحْسَنَّا وَإِنْ ظَلَمُوا ظَلَمْنَا ، وَلَكِنْ وَطِّنُوا أَنْفُسَكُمْ إِنْ أَحْسَنَ النَّاسُ أَنْ تُحْسِنُوا وَإِنْ أَسَاءُوا فَلَا تَظْلِمُوا )) .
[الترمذي عَنْ حُذَيْفَةَ](1/480)
الناس يقولون مثل هذا القول ، أنت مع الناس ماذا يقولون ماذا أفعل بلوى عامة :
(( لَا تَكُونُوا إِمَّعَةً تَقُولُونَ إِنْ أَحْسَنَ النَّاسُ أَحْسَنَّا وَإِنْ ظَلَمُوا ظَلَمْنَا ، وَلَكِنْ وَطِّنُوا أَنْفُسَكُمْ إِنْ أَحْسَنَ النَّاسُ أَنْ تُحْسِنُوا وَإِنْ أَسَاءُوا فَلَا تَظْلِمُوا )) .
حينما أشعر أن إنساناً يقابل السيئة بالسيئة يسقط من عين المجتمع لماذا ؟ لك جار أساء لك إساءة بالغة ، أنت إذا أسأت له إساءة بالغة من نوع إساءته أنت مثله وليس لك فضل عليه أبداً ، لذلك قالوا :
(( لَا ضرر وَلَا ضرار )) .
[رواه ابن ماجة عن عبادة بن الصامت]
أي أن الضرر لا يزال بضرر مثله ،إن فعلت كما فُعل بك ، أنت مثل الذي فُعل بك ، مرة ثانية :
(( لَا تَكُونُوا إِمَّعَةً تَقُولُونَ إِنْ أَحْسَنَ النَّاسُ أَحْسَنَّا وَإِنْ ظَلَمُوا ظَلَمْنَا وَلَكِنْ وَطِّنُوا أَنْفُسَكُمْ إِنْ أَحْسَنَ النَّاسُ أَنْ تُحْسِنُوا وَإِنْ أَسَاءُوا فَلَا تَظْلِمُوا )) .
معاذ الله ، لكن يوجد استثناء من هذه القاعدة ، لكن لو قلدت الأجانب بشيء من النظام مثلاً رائع ، لو قلدتهم بدقة مواعيدهم أروع ، لو قلدتهم بإتقان صنعتهم أروع وأروع ، المؤمن منفتح يمكن أن يقتبس من كافر أسلوباً جيداً في التعامل أو في الصناعة ممكن .
قال بعض الأدباء : ثقافة أية أمة ملك البشرية جمعاء لأنها بمثابة عسل استُخلص من زهرات مختلف الشعوب على مر الأجيال .
هل يعقل إذا لدغتنا جماعة من النحل أن نقاطع عسلها ؟ يوجد حديث كبير عن مقاطعة البضائع التي تأتينا من بلاد تدعم أعداءنا ، نحن جميعاً مع المقاطعة ، لكن مع مقاطعة ماذا ؟ مقاطعة البضائع الاستهلاكية أو الضارة كالدخان أو المركبات ، لكن لسنا مع مقاطعة البرامج أو مقاطعة الأدوات الطبية العالية جداً ، هذه تنفع المسلمين ، لكنهم من لؤمهم يحظّرون علينا ما ينفعنا ويبذلون لنا ما يضرنا ، فلذلك قضية تقليد الأجنبي بدقة المواعيد فرضاً ، بإتقان الصنعة ، وبالنظام ، يوجد في النظام شيء رائع جداً ، هذا شيء ينبغي أن نقلدهم فيه ، ولأن هذه الثقافة ربما كانت من عندنا في الأساس !
دخلت لمتحف في شيكاغو ، متحف علمي كبير جداً ، تقريباً ثلثه متعلق بالعالم الإسلامي ، علماء المسلمين وعلماء الجغرافية وعلماء الفلك والرياضيات ، إنتاجهم ، أشكالهم وأشكال بحوثهم ومخترعاتهم كلها موجودة وباللغة العربية ! إذا أعجبك شيء من الأجانب قد يكون أصله من عندنا .
أعيد وأكرر ثقافة أية أمة ملك البشرية جمعاء لأنها بمثابة عسل استخلص من زهرات مختلف الشعوب على مر الأجيال ، فكل شيء جيد من عند هؤلاء ينبغي أن نأخذه ، أحد الأدباء سئل : ماذا نأخذ وماذا ندع من الغرب ؟ قال : نأخذ ما في رؤوسهم وندع ما في نفوسهم ، بعضهم قال : أوروبا(1/481)
عقلها من ذهب وقلبها من حديد ، قاسية قسوة الحديد ، لكن إنتاجها ينم عن ذكاء وتفوق علمي كبير ، فحينما نهاجم التقليد الأعمى لا نمنع أن تقلد ما هو جيد ووفق منهج المسلمين ومتوافق مع منهج القرآن والسنة لا مانع .
مرة كنت في مصر ، عندهم تقليد رائع ، شاب مقدم على الزواج له أصحاب ، نحن ماذا نفعل ؟ نأتي بقطعة للبيت قد يأتيه مثلها عشر قطع لا يحتاجها ! هو يضع عند صديق حاجاته ، وكل واحد يريد أن يقدم هدية لهذا الشاب يسأل هذا الذي اعتمده والذي سيهدى عليه ، فيتعاونوا على تأمين حاجاته التي رتبها وصممها ، فتأتي الهدايا كلها متوافقة مع حاجاته ، إذاً يوجد تنسيق ، أنت ينبغي أن تدفع له ألف ليرة ، ويلزمه شيء بخمسة آلاف وأنتم خمسة لو تعاونتم على شراء هذه الحاجة حلت مشكلته ! والله شيء جميل !
من باب الأشياء اللطيفة دعيت مرة لإلقاء محاضرة في بلدة جنوب شيكاغو اسمها أنديانا مدينة كبيرة ، فالذي دعاني طبيب متفوق ، المسجد عندهم رائع جداً ، أما الطابق الأرضي ثلاثة أبهاء متساوية ، يقطع هذه الأبهاء أبواب أكورديون ، فإذا أغلقت هذه الأبواب أصبح هناك ثلاثة أبهاء كاملة ، فطبعاً الدعوة لإلقاء محاضرة ، وكان هناك حفل عشاء ، الطاولة في البهو الأوسط ، وعليه من الطعام مالا يصدق ، حوالي أربعين خمسين ستين نوع من الطعام وكله من الدرجة الأولى ، من طبخ هذا الطعام ؟ من أي مطعم جاءوا به ؟ إكرام منقطع النظير ، ثم جاء الرجال كل واحد معه صحن أخذ من هذا الطعام ما يكفيه ، وجاء للبهو الأول ، ثم جاءت النساء وأخذت من الطعام ما يكفي كل واحدة واتجهت للبهو الثالث ، فالرجال والنساء أكلوا معاً ، والطعام نفيس وبكميات كبيرة جداً ، لفت نظري بعد الانتهاء من الطعام كل امرأة جمعت حاجتها لسيارتها ، مع العلم أنه لم يشترِ أحد هذا الطعام ، كل أسرة جاءت بنوع من أنواع الطعام ! سبعين أسرة سبعين طبخة ، استهلك من الطبخة واحد بالعشرة جاءت ربة البيت أخذت هذه العبوة لمركبتها ، لم يدفع أحد قرشاً وقدموا طعاماً نفيساً جداً وسيأكلونه بعد يومين من الوليمة ، والصحون والأدوات كلها كرتون أو بلاستيك .
وجدت وليمة فخمة جداً ، الطعام طيب وثمين ، والجميع أكل بوقت واحد ، وفي النهاية لا يوجد جهد ولا دفع !
حضرت درساً صباحياً بمنطقة اسمها ديترويت ، عندهم تقليد أن الدرس الصباحي يوم الأحد ، وعقب الدرس عندهم فطور ، من أحضر الطعام ؟ كل واحد يحضر شيئاً ، تجد مائدة بما لذّ وطاب ، صار في درس وطعام محبب وشيء يجذب .
يوجد أشياء تعجب بقضية الطعام والنظام ، فإذا اطلع الإنسان على نماذج لطيفة في العلاقات العامة لا مانع من أن يقلدها ، أنت لست ضد كل شيء ، أنت ضد المعصية والانحراف ، التقليد بكل شيء(1/482)
محرم فهو محرم ، وكل شيء غير محرم لكنه يشير إلى الطرف الآخر ، التقليد يعني محبة وولاء للطرف الآخر :
(( فمن هوي الكفرة فهو مع الكفرة ولا ينفعه من عمله شيئاً .))
[السيوطي عن جابر]
الإنسان ينبغي أن يعتز بدينه لقد قال الله عز وجل :
* وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحاً وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ (33) *
(سورة فصلت)
في حياتنا تجد لكي تستطيع أن تحل مشكلة بعد الساعة الحادية عشرة ، إن كان بمحل تجاري صاحب المحل لا يأتي حتى الحادية عشرة أو الثانية عشرة ، وفي بعض الدوائر لا تحل قضية قبل الحادية عشرة ، الساعة الثانية انصراف ! يأكلون وينامون ويعودون للعمل وينتهون في الساعة العاشرة من العمل ، العالم الغربي كله وفي تركية الساعة الخامسة فجراً تجد الطرق مزدحمة ، ينطلقون لأعمالهم باكراً ، الساعة الثانية عشرة عندهم راحة نصف ساعة ، ثم يتابعون للساعة السادسة ، تجد الجميع في المنازل ! الغذاء الساعة السادسة ، ويجلس الزوج مع زوجته وأولاده ، لاحظ النمط الحالي السهرة بالمحل التجاري ، الزوجة وأولادها بعيدون عن الزوج ، ووقت الظهيرة مستهلك ، وشيء ثان ٍ يوجد استهلاك مواصلات وازدحام ، عندهم ذهاب وإياب ، ذهاب للعمل وعمل جاد ، ثماني ساعات من الثامنة حتى السادسة ويوجد نصف ساعة راحة الظهر ، المسلم يصلي ويأكل شطيرة ، أولاً لم نستهلك المواصلات ، وثانياً كل إنسان جاء لبيته وجلس مع أولاده وزوجته ، إذا قلدنا النظام هل هذا خطأ ؟ نحن مستهلكون بالمواصلات ذاهبون وعائدون وازدحام ، ووقت الظهر عندهم الوجبة الأساسية مساء الساعة السادسة ، بينها وبين النوم مرحلة كبيرة ، نحن نأكل الساعة الثانية عشرة ونذهب للنوم فوراً !!
إذا تكلمنا عن التقليد لا نقلد الشيء الحرام ، ولا الشيء الذي فيه اعتزاز بالطرف الآخر ، أما الشيء الجيد نقلده ، هذا تعليق على موضوع التقليد .
حتى بعلاقاتنا الاجتماعية يوجد عشرات العادات والتقاليد ليست من الدين في شيء مثلاً : يتوفى للمرأة أخوها لا تعرف سنة ، سنتين ، ثلاثة ترتدي الأسود ، وكل أربعاء تأتي النساء لمواساتها ، كما تأتي النساء لمواساتها بعد مرور أربعين يوماً على موته ، وكذلك الحال عند مرور سنة ، تجد هذا الحزن مشى وانتهى .
(( قَالَتْ لَمَّا جَاءَ نَعْيُ أَبِي سُفْيَانَ مِنَ الشَّأْمِ دَعَتْ أُمُّ حَبِيبَةَ رَضِي اللَّه عَنْهَا بِصُفْرَةٍ فِي الْيَوْمِ الثَّالِثِ ، فَمَسَحَتْ عَارِضَيْهَا وَذِرَاعَيْهَا ، وَقَالَتْ : إِنِّي كُنْتُ عَنْ هَذَا لَغَنِيَّةً لَوْلَا أَنِّي سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّه(1/483)
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ : لَا يَحِلُّ لِامْرَأَةٍ تُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ تُحِدَّ عَلَى مَيِّتٍ فَوْقَ ثَلَاثٍ إِلَّا عَلَى زَوْجٍ فَإِنَّهَا تُحِدُّ عَلَيْهِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً )) .
[البخاري عَنْ زَيْنَبَ بِنْتِ أَبِي سَلَمَةَ]
هذه كلها عادات ليست من الدين ، المتوفى وفاته فجيعة ، وأهل البيت في مصاب كبير ، وفوق مصابهم وحزنهم وألمهم يأتون بالطعام ليطعموا الذين شاركوهم في العزاء وفي تشييع الجنازة .
سمعت عن شابة توفي زوجها في شبابه ، فلما جاء الطعام للبيت كي يأكل من اشترك في العزاء والجنازة طردتهم من شدة ألمها . لَمَّا جَاءَ نَعْيُ جَعْفَرٍ قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم :
(( اصْنَعُوا لِأَهْلِ جَعْفَرٍ طَعَاماً فَإِنَّهُ قَدْ جَاءَهُمْ مَا يَشْغَلُهُمْ )) .
[الترمذي عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بنِ جَعْفَرٍ]
في الإسلام ممنوع الأكل عند الميت ، أنت مكلف أن تأتي له بالطعام ، أما في تقاليدنا فوق المصيبة والفاجعة والموت يجب أن تأتي بطعام يليق بمقام البيت ، وتأتي بالذين شاركوا بالجنازة كي يأكلوا ، والله أعتذر دائماً عن تناول الطعام بمناسبة وفاة ، هذا مخالف للسنة ، هذه عادات ، والأفراح أيضاً العادات لا بد من أن يجلس العريس والعروس على المنصة وأمامه النساء الكاسيات العاريات وهذا كله محرم في ديننا ، فإذا امتنع شاب لأنه مؤمن هذا يعني أنه أعور عنده مشكلة ، فوراً يتهم أن عنده عيباً خلقياً كبيراً ، إذا امتنع أن يجلس جانب زوجته في العرس .
من التقاليد التصوير ، هذا فيلم ينطبع عليه مئات النسخ ، والنساء كلهن كاسيات عاريات ! فإذا رأى زوج إحدى المدعوات هذا الشريط وسأل زوجته عن كل واحدة وهي في الطريق محجبة وضمن الحفلة متبذلة ، وهذا الفيلم صورها ، وهذا من أشد أنواع التحريم ومن تقاليد المجتمع .
حدثني أخ قال : لا أقوى على منع التصوير ، هو في آخر حياته ، ومكانته في أسرته ضعيفة ، وزوجته قوية جداً ، وحفلة ، جاء للمصورة وسألها : كم تأخذين على الفيلم ؟ قالت : ألفين ، قال : خذي فوقهم ألفين لكن لا تضعي فيلماً بالآلة ! استطاع بهذه الطريقة أن يمنع التصوير ، وعندما عرفوا بهذا الأمر أقاموا عليها النكير لكن لم يحصل التصوير !
هذه من تقاليدنا وعاداتنا ، التصوير ، والعريس ، ما أنزل الله بها من سلطان ، وحزن على الميت بعد مرور أربعين يوماً ، وبعد سنة ، وكل أربعاء ، حتى يمل الزوج منها بسبب حزنها الطويل على أخيها ، الخنساء عندما مات أخوها ملأت الدنيا بكاء ، لما أسلمت وماتوا أربعة أولاد لها ما زادت عن أن قالت : الحمد لله الذي شرفني باستشهادهم ! كلمة واحدة فقط !
أخواننا الكرام الدرس حول التقليد الأعمى ، ولاسيما تقليد الطرف الآخر في المعاصي والآثام ، أو فيما يدل عن الولاء لهم ومحبتهم :
(( فمن هوي الكفرة فهو مع الكفرة ولا ينفعه من عمله شيئاً .))(1/484)
[السيوطي عن جابر]
أما أن تقلد ما هو جيد ونافع ، وما هو وفق منهج الله لا مانع ، حينما تقف مركبة المدرسة في بلاد الغرب ويرفع السائق إشارة ممنوع السير قبل ثلاثين متراً يقف ، طفل ينطلق بالاتجاه الآخر نزل من الباب الأيمن بيته بالجهة اليسرى حتى ينتقل من الجهة اليسرى مطمئن لا تستطيع مركبة أن تمشي ولا متر ، ثلاثين متراً قبل الباص وثلاثين متراً بعده ، نحن كم طفلاً يموت ؟ يكون مندفعاً للطرف الآخر تمشي سيارة تدهسه ؟! هذا جيد أن تعتني بسلامة الصغار ، أمور كثيرة ينبغي أن نأخذها ، وأمور كثيرة ندعها ، لكن المصيبة نأخذ ما يفسدنا وندع ما ينفعنا ، فلما سئل هذا الأديب : ماذا نأخذ وماذا ندع ؟ قال : نأخذ ما في رؤوسهم وندع ما في نفوسهم .
أخواننا الكرام : يجب أن نحذر من رفقاء السوء ، لا أرى خطراً يهدد أولادك كرفيق السوء ، ولا أرى رجلاً أعقل ممن اختار هو لأولاده رفقاء صالحين ، الطفل يحتاج لرفيق شئت أم أبيت ، فإما أن يختار هو رفيقاً صدفة سيئاً ، وإما أن تختار له أنت الرفيق ، وهذا الرفيق ينبغي أن يكون رفيقاً ويأتي للبيت ويجلس مع ابنك ، لا ترفض ما هو كائن حقيقة ولا ترفض ما لا بد أن يكون ، وإذا قبلت أنه لا بد من رفيق اختر أنت لأبنائك رفقاء صالحين فالكذب قد يتعلمه الطفل من الرفيق السوء ، والسرقة يتعلمها الطفل من الرفيق السوء ، وبذاءة اللسان والانحلال والتدخين والعادات السيئة جداً حينما تثور شهوته ، حتى الانحراف الخطير كله من رفيق السوء ، الطفل يتعلم من رفيقه ستين بالمئة ، وأبوه وأمه وإخوته وأساتذته أربعين بالمئة ، يعني تأثير رفيق السوء كبير جداً ، والآباء والأمهات العاقلون والعاقلات يتخذون أبناءهم أصدقاء وصديقات حتى يشعر أن الأب مع ابنه ، والأب يستشار ويباح له ببعض الأسرار والأم كذلك ، فكلما اقتربت من ابنك وكنت قريباً منه ويمكن أن يتكلم لك عن أسراره ويأخذ رأيك ويستنصحك تكون أقدر على توجيهه ، بينما الحاجز الكبير بين الأب وابنه والعنف الشديد ، هناك أمراض كثيرة حتى في النطق يوجد حبسة لسان وتأتأة وفأفأة هذه أمراض اللسان سببها قسوة الأب فيجب أن يكون الأب وديعاً ولطيفاً .
قاعدة : علامة نجاح أبوتك أنك إذا دخلت للبيت كان عندهم عيد ، وعلامة إخفاقك في تربية أولادك إذا دخلت للبيت كان البلاء الأعظم ، يتمنون ألا تكون بينهم ، أما الأب الصالح يتمنى الأولاد أن يكون أبوهم معهم ليأنسوا به ، فعلامة نجاح أبوتك أن يفرح أهلك بدخولك عليهم ، وفي درس آخر إن شاء الله نتابع هذا الموضوع .
=============== ... ... ...(1/485)
49- وسائل تربية الأولاد ( 19 ) : تشويق المتعلم إلى أشرف الكسب
أيها الأخوة الكرام ، مازلنا في تربية الأولاد في الإسلام ولازلنا في الوسائل الفعالة التي تعد القسم الثاني من هذه السلسلة التي نسأل الله سبحانه وتعالى أن ينفعنا بها وينفع المسلمين بها .
موضوع الدرس اليوم تشويق الطفل أو المتعلم إلى أشرف الكسب ، لا بد من مقدمة أبين فيها أن هناك تطرفاً وأن هناك تفوقاً ، فالتفوق يعني أن تتحرك في الخطوط الأساسية معاً ؛ فأنت عقل يدرك والعقل يحتاج إلى غذاء ، وأنت قلب يحب والقلب يحب وأنت تحتاج إلى محبوب ، وجسم يتحرك والجسم يحتاج إلى غذاء وإلى رياضة وما إلى ذلك .
حينما تعتني بعقلك تغذيه بالعلم والحقائق والعقيدة الصحيحة والتصور الصحيح ، وحينما تعتني بقلبك تختار له محبوباً لا يفنى ولا يزول وهو الله عز وجل ، وحينما تعتني بجسمك تجعله قوام حياتك وتجعله أداة عملك الصالح فتتفوق ، أما إذا نما العقل على حساب القلب ، أو نما القلب على حساب العقل ، أو نما الجسم على حساب القلب والعقل معاً ، فهذا اسمه تطرف ، التطرف شيء والتفوق شيء آخر .
هناك دعوات إلى الله عز وجل ، يهتمون أن يمتلئ عقل طالب العلم بالمعلومات ، أما كسب حرفته ؟ كيف يؤمِّن حياته ؟ كيف يكسب رزقه ؟ كيف يبني أسرته ؟ هذا لا يهمهم ، فلذلك الإنسان حينما يمتلئ عقله بالحقائق ويغفل عن كسب الرزق يختل توازنه .
أقول لكم هذه الحقيقة وأرجو من الله أن تكون واضحةً لديكم يوجد بحياتك مرتكزات ثلاثة ؛ علاقتك بالله ، وعلاقتك بعملك ، وعلاقتك بجسمك ، أي خلل في أحد هذه المرتكزات ينعكس خللاً على المرتكزين الباقيين شئت أم أبيت ، إنسان بلا دخل راقٍ جداً ، إيمانه قوي جداً لكنه جائع ، لكنه لا يجد ما يستر عورته ، أصبح عالةً على الناس ، أصبح متذللاً لهم :
(( من دخل على غني فتضعضع له ذهب ثلثا دينه .))
[الخطيب عن ابن مسعود]
اكسب رزقك حلالاً وارفع رأسك يا أخي ، لماذا الكسل ؟ لماذا لا تعمل ؟ مهما يكن إيمانك كبيراً إن لم يكن لديك عمل تحفظ به ماء وجهك فأنت لا بد من أن تضع نفسك في موضوع مذلة وإهانة شئت أم أبيت ، فعملك أحد مقومات شخصيتك ، وعلاقتك بالله الطيبة أحد مقومات شخصيتك ، وعلاقتك بجسمك ، جسم عليل فيه إهمال شديد في قواعد الصحة وقواعد الغذاء ، دائماً تميل إلى الراحة ، إلى النوم ، دائماً تسوف ، تؤجل ، هذا الجسم العليل لا يمكن أن يحمل قضية ولا أن ينهض برسالة ، فلذلك التطرف أن ينمو جانب على حساب جانب ، والتفوق أن تغذي الجوانب الثلاثة تغذية جيدة معقولة فتتفوق .(1/486)
الآن لفت نظري أن معهداً شرعياً في بلد إسلامي مؤلف من عشرة طوابق ، قيل أن الطوابق الثلاثة الأولى لتعليم طلاب العلم حرفاً راقيةً يحفظون بها ماء وجوههم ، في توازن ، تعلم طالب علم ليس له دخل أبداً ، فدون أن يشعر بعقله الباطن ينافق للأغنياء ، ويمدح الأغنياء ، ويستجدي منهم العطاء ، أين ماء وجهه ؟ أين كرامة العلم وعزته ؟ فهذا المعهد لفت نظري أن فيه طوابق ثلاثة لتعليم طلاب العلم حرفاً يحفظون بها ماء وجوههم .
أخواننا الكرام هذا درس في التربية ، يجب أن تربي ابنك على كسب الرزق ، أن يكون له عمل يرفع رأسه ، يكون له عمل يجعل يده هي العليا ، يكون له عمل يستغني عن أن يتضعضع أمام غني ، وأن يستذل أمامه ، وأن يخنع .
لذلك أيها الأخوة درس اليوم متعلق أن المربي الموفق ، والمعلم الموفق ، والمرشد الموفق هو الذي يبني نفوس الذين يعلمهم تربيةً متوازنة ، يعني لا بد من أن تكون دنياك صالحة لأنه فيها معاشك ، دققوا في هذا الدعاء : " اللهم أصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا وأصلح لنا دنيانا التي فيها معاشنا ."
إنسان له دخل ـ أنا أتحدث عن الحد الأدنى ـ يسكن في مأوى صغير ، له زوجة ، حقق مقومات الحياة ، لا يهم مستوى طعامه لكنه يأكل ، لا يهم مستوى ثيابه ، لا يهم مستوى بيته سواء أكان بعيداً أم قريباً ، جيداً أو غير جيد ، واسعاً ، صغيراً ، هذا بيت ، مأوى ، أنا من باب الدعابة أقول له : معك مفتاح بيت عالٍ ، قبو ، أرضي ، ملك ، أجرة ، كبير ، صغير ، معك مأوى : " الحمد لله الذي آواني وكم ممن لا مأوى له " ، عندك قوت يومك ؟ طعام خشن لكن طعام يملأ المعدة ، ويقيم الأود ، عندك ثوب تلبسه انتهى الأمر ، فكلما حققت الشروط الأساسية تفرغت إلى الله عز وجل ، فالمربي الصادق هو الذي يضع في نفوس الذين يربيهم رغبة الكسب الحلال ، النبي عليه الصلاة والسلام أمسك يد ابن مسعود وكانت خشنة من العمل رفعها وقال : هذه اليد يحبها الله ورسوله .
الآن سأسمعكم بعض النصوص القرآنية والنبوية التي تحض على العمل ، أنا لا أقول لكم إنني أُكْبر الذين لهم أعمال إلا من زاوية واحدة أنهم رفعوا اسم المسلمين ، يعني مثلاً أجد مسلماً ملتزماً ، قائماً بالعبادات ، وقّافاً عند حدود الله ، وصناعياً كبيراً ، أجد مسلماً آخر متفوقاً في اختصاصه ، طبيباً لامعاً ، مهندساً متفوقاً ، فرضاً مدرس أول ، هذا الإنسان إذا تفوق في عمله أولاً حفظ ماء وجهه ، ثانياً أعطى ولم يأخذ ، ثالثاً اتسعت أمامه أبواب الخير .
أخواننا بشكل دقيق يوجد ثلاث قوى في الحياة ؛ قوة العلم ، وقوة المال ، وقوة المنصب ، هؤلاء الأقوياء الثلاثة سواء بعلمهم أو بمنصبهم أو بمالهم هؤلاء فرص العمل الصالح أمامهم كبيرة جداً ، لماذا أنت في الدنيا ؟ من أجل أن تعمل صالحاً ، من هنا قال عليه الصلاة والسلام :
(( المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف .))
[مسلم عن أبي هريرة](1/487)
المؤمن الغني الذي بإمكانه أن يحل مشكلات مئات المؤمنين ، هذا حجمه عند الله أكبر ، كَسب المال الحلال وكفى أهله ، دققوا في هذا الكلام والله لا أبالغ حرفتك التي ترتزق منها إن كانت في الأصل مشروعةً ، وسلكت بها الطرق المشروعة ، لا كذب ، ولا تدليس ، ولا غش ، ولا احتكار ، ولا إيهام ، ولا أي شيء آخر ، سلكت بحرفتك الطرق المشروعة ، ما غششت ، ولا حابيت ، ولا كذبت ، مشروعة ، والتحرك من خلالها مشروع ، ونويت كفاية نفسك وأهلك ، ونويت خدمة المسلمين ، عندك ابن يحتاج إلى معطف في الشتاء وليس معك نقود يحترق قلبك ، لكن معك ثمن معطف ، معك ثمن طعام ، معك ثمن كساء ، معك ثمن تدفئة ، فهذا الطفل نشأ في رعاية أبيه ، التصق بأبيه لأن أباه أمَّن له حاجاته .
أيها الأخوة كلام دقيق أقوله ، أنت حينما تعمل وحينما تجهد لتأمين حاجات أسرتك أنت في جهاد ، لذلك حرفتك التي ترتزق منها إن كانت في الأصل مشروعة ، وسلكت بها الطرق المشروعة ، ونويت بها كفاية نفسك وأهلك وخدمة المسلمين ، ولم تشغلك عن مجلس علم ، ولا عن فريضة ، ولا عن عمل صالح انقلبت إلى عبادة ، وأنت في حرفتك تعبد الله ، والحياة تحتاج إلى مال ، وإلى علم ، وإلى قوة ، فلذلك إذا كنت أباً ، أو إذا كنت معلماً ، أو إذا كنت مرشداً ينبغي أن تحض طلابك على أن يكسبوا أرزاقهم بعزة نفس ، وقد قال عليه الصلاة والسلام :
(( ابتغوا الحوائج بعزة النفس فإن الأمور تجري بالمقادير . ))
[تمام وابن عساكر عن عبد الله بن بسر المازني]
كنت أقول وهذا مثل دقيق أن هذه التفاحة في الغصن الرابع ، في الفرع الأول ، في الشجرة الخامسة ، في البستان الفلاني ، في المنطقة الفلانية هي لفلان ، يمكن أن يأكلها ـ لا سمح الله ولا قدر ـ سرقةً ، ويمكن أن يأكلها تسولاً ، ويمكن أن يأكلها ضيافةً ، ويمكن أن يأكلها شراءً ، يمكن أن يأكلها هديةً ، طريقة انتقال رزقك إليك باختيارك ، أما التفاحة فهي لك لذلك قال عليه الصلاة والسلام :
(( إن الروح الأمين نفث في روعي أنه ليس من نفس تموت حتى تستوفي رزقها فاتقوا الله وأجملوا في الطلب .))
[ابن أبي شيبة عن عبد الله بن مسعود]
اختر حرفة راقية ، أنا حينما أتوجه إلى شاب في مقتبل حياته أقول له : اهتم بصحتك ، واهتم بحرفتك ، واهتم بدينك ، أشياء ثلاثة تقوم عليها حياتك ، أما إذا اعتنيت بجهة على حساب جهة عرجت ، وأي خلل في بعض الجهات ينعكس على الجهتين الثانيتين .
الآن إلى النصوص ، درس اليوم أيها المعلم وأيها الأب وأيها المرشد في المسجد يجب أن تحض أخوانك أو طلابك على الكسب الحلال ، أنا أقول لكم هذه الكلمة ولا تطالبوني بالدليل : الآن في هذا(1/488)
العصر إن لم تتفوق في دنياك لا يُحتَرم دينك ، جراح الأعصاب الأول بينما المريض مضطجع في غرفة العمليات ـ وهذا الجراح الأول الذي أجرى عشرات ألوف العمليات الناجحة في الدماغ ـ يصلي ركعتين ويسجد أمام المريض ، ويقول : يا رب وفقني لإنجاح هذه العملية ، أول طبيب ، وأول مهندس ، وأول معلم ، أنت حينما تستعين بالله تمتلك قوى غير محدودة ، وأنا أقول دائماً : إما أن تقول الله فيتولاك ، وإما أن تقول أنا فيتخلى الله عنك ، لا تقل : أنا ، حتى في العبادة ، قال تعالى :
* إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (5) *
(سورة الفاتحة)
وقال :
* قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ (33) *
(سورة يوسف)
استعن بطاعة الله ، استعن بالله على طاعة الله ، عوِّد نفسك أن تستعين بالله في عملك .
والله أخ زارني البارحة يتكلم كلاماً لفت نظري ، قال لي : أنا أعمل بالتجارة ، ولي محل تجاري ، وعملي أصبح رتيباً ، نفتح المحل صباحاً ، نبيع ، نشتري ، للساعة السابعة نأتي إلى البيت نأكل وننام ، أنا لماذا مخلوق ؟ أخذ قراراً أن يطلب العلم ، والتزم بمسجد ، التزم بجامعة ، قال لي : سبحان الله قسمت اليوم إلى نصفين ؛ من الصباح وحتى الرابعة للدنيا ، ومن الرابعة حتى ساعة متأخرة من الليل لطلب العلم ، أقسم لي ـ وهو صادق ـ أن غلته تضاعفت ، قال لي : كنت أملك دراجةً أما الآن فأنا أملك سيارةً ، وبحسب حركة الحياة يجب أن ينخفض الدخل إلى النصف ، ولكن وكما ورد في بعض الأحاديث أنه :
(( من طلب العلم تكفل الله له برزقه .))
[الخطيب والديلمي وابن عساكر عن زياد بن الحارث الصدائي]
أخواننا الكرام دققوا ، أنت تأتي من بيتك ، وقد يكون بيتك في الغوطة ، أي الطريق من الغوطة إلى هذا المسجد ساعة ، وساعة للعودة ، وساعة للدرس ، ثلاث ساعات اقتطعتها من وقت فراغك ، من وقت راحتك ، كان من الممكن أن تكون في البيت بين أهلك جالساً على كنبة وثيرة بمكان مريح ، وأهلك حولك ، وأولادك حولك ، لكن آثرت أن تطلب العلم :
(( ومن سلك طريقاً يلتمس به علماً سهل الله له طريقاً إلى الجنة .))
[الترمذي عن أبي هريرة]
عندما تتوجه إلى بيت من بيوت الله لتطلب العلم هذا الطريق يوصلك إلى الجنة :(1/489)
(( إن الملائكة لتضع أجنحتها لطالب العلم رضا بما يصنع .))
[أحمد وأبو داود والترمذي وابن ماجه وابن حبان والبيهقي عن أبي الدرداء]
أنت حينما تطلب العلم ـ والذي يطمئنك هو رسول الله ـ تكفل الله لك برزقك ، أي يلهمك عملاً مريحاً ومعقولاً ومجزياً .
درس اليوم يجب أن تحض أخوانك إن كنت مرشداً ، وأن تحض أولادك إن كنت أباً ، وأن تحض تلاميذك إن كنت معلماً على أن يتقنوا حرفتهم ، والله الفضائل التي تتأتى من إتقان حرفة لا تعد ولا تحصى ، أولاً امتلأ وقتك الذي كان من الممكن لا سمح الله ولا قدر أن يمتلئ بالغفلة عن الله ، شيء آخر النجاح بالعمل مريح جداً ، والنجاح يقود إلى النجاح ، ولا شيء يعين على النجاح كالنجاح ، ونجاح الإنسان بعمله إنجاز كبير ، أولاً كوَّن شخصية ، ثانياً أصبح محترماً ، ثالثاً يده هي العليا ، رابعاً حفظ ماء وجهه ، خامساً شد أولاده إليه وربطهم به ، فالأب الذي يعمل وله دخل معقول وينفق على أولاده وزوجته أب محترم ، وكلمته نافذة ، ومحبوب ، أما الأب الذي يقول دائماً : ليس معي نقود ، عندما يسأل ابنه : أين كنت ؟ يقول له الابن : في أي مكان أشاء ، لا يكلمه ، الابن يصبح متفلتاً .
إذا أنت ما عندك إمكان أن تغطي حاجات الأسرة المعقولة ، أنا لا أقول غير المعقولة ، مثلاً بحاجة إلى لباس ، إلى طعام ، إلى شراب ، هذه الأشياء بحاجة إلى مال ، والمال بحاجة إلى عمل ، فحينما تعمل من أجل أن تشد أهلك إلى الله ، وأن تربطهم بك ارتباطاً وثيقاً فأنت في عبادة ، لا نريد مسلماً بمهن يزدريها الناس ، النبي الكريم صلى الله عليه وسلم طلب النخبة ، قال : " اللهم أعز الإسلام بأحد العمرين " ، ما الذي يمنع أن يكون مسلم في المسجد صناعياً ؟ تاجراً لامعاً صالحاً يتقي الله ، والتاجر الصدوق مع النبيين يوم القيامة ، ما الذي يمنع أن تكون أستاذاً متخصصاً باختصاص نادر ، مهندساً بارعاً ، طبيباً حاذقاً مثلاً ، لماذا ترضى أن تكون في الدرجة السفلى ؟ لماذا هذه الدونية ؟ لماذا هذا الموقف الضعيف ؟ لماذا أعداء الله في القمم قوةً وعلماً وجامعاتٍ وسيطرةً ؟ لماذا نحن في الحضيض؟ هذا سوء فهم للمسلمين .
سيدنا عمر سأل أناساً شاردين : " من أنتم ؟ " قالوا : " نحن المتوكلون على الله " قال : " كذبتم ، المتوكل على الله من ألقى حبةً في الأرض ثم توكل على الله " .
" لِمَ جملك أجرب يا أخا العرب ، ماذا عملت من أجله ؟ " قال : " أدعو الله أن يشفيه " ، قال : " هلا جعلت مع الدعاء قطراناً ".
أخواننا الكرام شيء يدمى له القلب ، في الحضيض ، هذا الكلام لمليار ومئتي مليون مسلم ـ والله شيء مؤلم ـ ليس أمرهم بيدهم ، وليست كلمتهم هي العليا ، وللكفار عليهم ألف سبيل وسبيل ،(1/490)
وهان أمر الله عليهم فهانوا على الله ، تسمعون وترون لا تحتاجون إلى أدلة أكثر من ذلك ، لأننا قعدنا ، وتواكلنا ، وتنازعنا ، وتنافسنا ، وكان بأسنا بيننا ، هذه أمراض المسلمين .
أيها المعلم ، أيها المرشد ، أيها الأب يجب أن تخطط لأولادك أعمالاً تحفظ لهم ماء وجوههم ، أن توفر لهم أعمالاً ترفع ذكرهم في المجتمع ، ذات مرة كنت أودع قريباً لي في المطار ، فقال : هذا الطيار ابني ، نظرت فشاهدت طائرة أكبر قياس ( جامبو ) ، متوجهة إلى الخليج في الليل ، وشاب صغير وزنه خمسة وثلاثون كيلو سوف يقلع ليلاً بالطائرة ، كم ينطوي على علم ؟ طائرة عملاقة ، وأربعمئة راكب ، وبالليل سوف يصعد على المدرج ، ويحلق ، ويمشي على خطوط ، العلم شيء ثمين جداً ، لماذا ترضى أن تكون هملاً من سَقْطِ المتاع ؟ لمَ لا تكون علماً في الدنيا ؟ لمَ لا تكون علماً في الدين ؟ مالك شركة (مايكروسوفت) يدفع ثمانية مليارات لأطفال أفريقيا ، أنى له أن يدفع هذا المبلغ ؟! الله أعلم بنيته ، أنى له أن يدفع هذا المبلغ الضخم من أجل صحة أولاد أفريقيا المعذبين ؟ حينما تكون ناجحاً في عملك تنفق ، أنت كمسلم أولى بك أن تفعل هذا .
الأنبياء العظام وهم قمم البشر عملوا أعمالاً حرة قال تعالى :
* وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا (37) *
(سورة هود)
اصنع الفلك ، نحن كل حاجاتنا مستوردة :
* وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا وَلَا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ (37) *
(سورة هود)
وقال :
* وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ قَالَ إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ (38) *
(سورة هود)
سيدنا داود قال تعالى :
* وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ فَهَلْ أَنْتُمْ شَاكِرُونَ (80) *
(سورة الأنبياء)
وقال أيضاً :
* وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ (10) أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ وَاعْمَلُوا صَالِحاً إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (11) *
(سورة سبأ)
سيدنا موسى :(1/491)
* قَالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْراً فَمِنْ عِنْدِكَ (27) *
(سورة القصص)
نبي كريم كان يرعى الغنم :
(( مَا بَعَثَ اللَّهُ نَبِيّاً إِلَّا رَعَى الْغَنَمَ ، فَقَالَ أَصْحَابُهُ : وَأَنْتَ ؟ فَقَالَ : نَعَمْ كُنْتُ أَرْعَاهَا عَلَى قَرَارِيطَ لِأَهْلِ مَكَّةَ )) .
[البخاري عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ]
هذا سيد الخلق وحبيب الحق والذي أنقذ البشرية كان يعمل راعياً لغنم ، أنا لا أعتقد أنه يوجد الآن عملاً أقل شأناً من راعي غنم ، هل يوجد إنسان يكتب على بطاقة راعي غنم ؟ يكون دكتور ومعه بورد ، ما هذه راعي غنم ؟ سيد الخلق وحبيب الحق كان راعي غنم فالعمل شرف يا أخوان .
مرة زرت مركز صيانة سيارات ، رأيت أخاً يرتدي ثياباً زرقاء يتقن عمله ، مساءً هو يُدَرِّس القرآن الكريم فيرتدي ثياباً أنيقة ، والله لفت نظري ، هذا العمل يحتاج إلى هذه الثياب ، بعد الظهر مدرِّس في معهد يرتدي ثياباً أنيقة ، ويدرِّس القرآن الكريم ، ما الذي يمنع أن يكون لك عمل تقتات منه ، وترفع رأسك ، وتجعل يدك هي العليا ، وتحفظ ماء وجهك ، ولا تتضعضع أمام أحد ؟ سبحان الله ، الصحابة كان أحدهم يقول : تعال يا أخي خذ نصف مالي ، عندي بيتان خذ أحدهما ، عندي حانوتان خذ أحدهما ، الرد : بارك الله لك في مالك ولكن دلني على السوق .
الآن إذا أُعطيت ميزة إلى الفقراء يأخذها الأغنياء ، إذا في تسهيلات طبية من ينتفع منها بالدرجة الأولى ؟ الأغنياء ، بينما كان الصحابة بأعلى درجة من البذل ، وبأعلى درجة من التعفف في وقت واحد .
النبي عليه الصلاة والسلام أول شريك مضارب في الإسلام تاجر بمال السيدة خديجة على حصة له من الربح ، شريك مضارب ، كان عليه الصلاة والسلام يقول :
(( إن أفضل الكسب عمل الرجل بيده )) .
[الطبراني عن أبى بردة بن نيار]
مرة كنت في محل تصليح سيارات ، أصلحه الله صاحب المحل ، يريد أن يضع من قيمة أخ يعمل عنده ويحمل ليسانس ، فلان معه ليسانس وعنده ، قلت له : أليس فلان يحمل ليسانس ويعمل عندك ، نبي كريم كان يأكل من عمل يده وهذا شرف ، هذا شرف عند أهل الشرف ، نبي كريم كان يأكل من عمل يده :
(( نبي الله داود عليه السلام كان يأكل من عمل يده )) .
[البخاري عن أبي هريرة](1/492)
(( إن أفضل الكسب عمل الرجل بيده )) .
[الطبراني عن أبى بردة بن نيار]
(( إن الله يحب العبد المحترف )) .
[ابن أبي الدنيا عن ابن عباس]
أجدادنا لهم كلمة شهيرة : "صنعة في اليد أمان من الفقر ".
(( وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَأَنْ يَأْخُذَ أَحَدُكُمْ حَبْلَهُ فَيَحْتَطِبَ عَلَى ظَهْرِهِ خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَنْ يَأْتِيَ رَجُلاً فَيَسْأَلَهُ أَعْطَاهُ أَوْ مَنَعَهُ )) .
[البخاري عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ]
اذهب واحتطب ، بل إن الكسب الحلال فريضة بعد الفريضة ، أنا أدعوك أن تتقن عملك ، في أيام الرواج مهما كان العمل غير متقن فهناك بيع ، أين المشكلة ؟ المشكلة في أيام الكساد ، المتقن لا يقف أبداً ، الذي يتقن عمله لا يقف عن العمل أبداً مهما كان الكساد مستشرياً ، أما في أيام الرواج كل شيء يباع ، إذا أتقنت عملك إتقاناً دقيقاً ضمنت دوام العمل، سيدنا عمر رضي الله عنه يقول : " لا يقعدن أحدكم عن طلب الرزق " ، ويقول : " اللهم ارزقني ـ وقد علم أن السماء لا تمطر ذهباً ولا فضة ـ ويا معشر الفقراء استبقوا الخيرات ولا تكونوا عيالاً على المسلمين " .
أنت في عملك ، وأنت في دكانك ، وأنت في مكتبك ، وأنت في عيادتك ، وأنت تعمل عملاً يومياً ، تبيع أشياء على الرصيف ، أنت في شرف وفي عبادة لأنك تبتغي من هذا كسب الرزق الحلال ، وكفاية أهلك ونفسك ، وهذا عبادة ، كان الشافعي يقول : " لنقل الصخر من قمم الجبال أحب إلي من منن الرجال ، يقول الناس : كسب فيه عار ، فقلت : العار في ذل السؤال ".
ألم يقل سيدنا علي : " وَالله والله مرتين لحفر بئرين بإبرتين ونقل بحرين بمنخلين وكنس أرض الحجاز بريشتين وغسل عبدين أسودين حتى يصيرا أبيضين أهون علي من طلب حاجة من لئيم لوفاء دين " .
هل من الممكن أن تغسل إنساناً أسود حتى يصبح أبيض ؟ هذا مستحيل ، هل من الممكن أن تنقل بحراً بمنخل ؟ هل من الممكن أن تكنس أرض الحجاز بريشة ؟ مستحيل ، هل من الممكن أن تحفر بئراً بإبرة ؟!!
أيها الأخوة ، الذي أتمناه عليكم إن كنتم آباء أو معلمين أو دعاة إلى الله أن تحضوا من تعلمونهم على الكسب الحلال ، وعلى العزة ، وعلى طلب الحوائج بعزة الأنفس ، وأن تبلغوهم أنه لا ينبغي للمؤمن أن يذل نفسه ، وما من إنسان يسأل الله من فضله إلا استجاب له إن عاجلاً أو آجلاً .
مرة زارني أخ متقدم بالسن في التسعين من العمر ، فقدمت له ضيافة ، أول لقمة دعا دعاء والله أعرفه ، لكن أصابتني هزة نفسية ، قال : سبحان من قسم لنا هذا ولا ينسى من فضله أحداً . والله دمعت عيني ، لا ينسى من فضله أحداً ، أنت عبد لك حق عليه ، لكن ابتغِ الحوائج بعزة الأنفس ، اطرق(1/493)
البيوت من أبوابها ، لا تستعجل طلب الرزق ، من طلب الشيء قبل أوانه عوقب بحرمانه ، فكن هادئاً ، لا ينسى الله من فضله أحداً ، اعمل تسكن في بيت وتتزوج ويأتيك الأولاد ، كن مع الله ، عبدي كن لي كما أريد ، ولا تعلمني بما يصلحك ، كن لي كما أريد أكن لك كما تريد ، أنت تريد وأنا أريد ، فإذا سلمتني فيما أريد كفيتك ما تريد ، وإن لم تسلم لي فيما أريد أتعبتك فيما تريد ثم لا يكون إلا ما أريد .
هذا الدرس أتمنى على كل واحد منكم أن يستوعبه شاباً كان أو أباً أو داعيةً إلى الله ، ابنِ نفوس أخوانك على الكسب الحلال .
حدثني أخ ، إنسان له درس بجامع في الغوطة ، هو عنده بقالية ، صادق لدرجة غير معقولة ، لو قال له إنسان : هذه الحاجة طازجة ؟ قال : لا ، والله من ثلاثة أيام ، أما جاري عنده طازج ، لا يكذب أبداً ، قوة تأثيره في الدرس عجيبة ، قوة تأثيره من استقامته .
أرجو الله تعالى أن ينفعنا بما علمنا ، طلب الحلال فريضة بعد الفريضة ، مفروض عليك أن تصلي ، ومفروض عليك أن تطلب الحلال وبعزة الأنفس ، واختر حرفة راقية ترضي الله عز وجل ، إياك ثم إياك ثم إياك أن يكون عملك في معصية ، ماذا تعمل ؟ أبيع أشرطة تسجيل ، ما نوعها ؟ أغانٍ كلها ، هذا عمله ، وهذا يصلح تلفزيونات وهذا ... انظر إلى عملك هل فيه معاونة على فسق ، على معصية ، قال تعالى :
* وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ (2) *
(سورة المائدة)
والله مرة جاءني اتصال من بلد بعيد جداً قال لي : أنا يا أستاذ عملي أقذر عمل ـ أخذ رقم هاتفي من أخيه من أمريكا من لوس أنجلس ـ ماذا عملك ؟ قال : والله أستحي أن أقول لك ، قال : مونتاج للأفلام الإباحية ، قلت له : الله يعطيك العافية ، قال لي : سمعت شريطاً لك ، سمعته خمسين مرة وتبت ، والآن أعمل عملاً شريفاً ، قلت له : أي شريط بعد أن التقيت به في واشنطن ، وأية آية ؟ قال : إن بطش ربك لشديد ، خاف .
أنت أولاً ابحث عن عمل ، عمل بخمسة آلاف مشروع ، عمل بخمسين ألفاً غير مشروع ، اركله بقدمك لأن الخمسة آلاف يبارك الله لك فيها والخمسون ألفاً تخسرها وتخسر دينك وآخرتك ، سبحان الله لحكمة بالغة الحلال صعب والحرام سهل ، يعني أبسط مثال : تعمل إنسانة في بيت ثماني ساعات بثلاثمئة ليرة ، هذه الثلاثمئة ليرة تأخذهم مومس بخمس دقائق ، تنقل كيلو حشيش تأخذ عليه مئة ألف ليرة ، تشتغل سنة بمئة ألف ليلاً ونهاراً وتحصيلاً وبيعاً ، لكن لحكمة بالغة العمل الحلال صعب ودخله قليل والحرام سهل ودخله كبير لماذا ؟ لو كان الحلال سهلاً لأقبل الناس على الحلال ، لا حباً بالله ، ولا طلباً للآخرة ، ولكن لأنه أهون ، لأن الحلال صعب والإنسان يخاف من الله ،(1/494)
فاختر عملاً حلالاً ، صعباً ، شاقاً ، متعباً ، بدخل قليل ، لكنك تنام قرير العين ، تنام مالك الدنيا ، تنام والله راض عنك ، ابحث عن عمل مشروع .
هناك أعمال أساسها إيذاء الناس ، أو إلقاء الرعب في قلوبهم ، أو ابتزاز أموالهم ، أو إفساد أخلاقهم ، وما أكثرها ، وهذه أروج الأعمال الآن .
حدثني أخ اشتغل بمقصف فيه خمور ومغنون وراقصات قال : ثمانية ملايين ربح بخمسة وأربعين يوماً .
تبني عملك على إفساد الأخلاق ، العمل رائج جداً ، الآن تبني عملك على تهريب مادة محرمة كالمخدرات بالمليارات ، أساساً أغنى الأشخاص في العالم تجار المخدرات .
أنا أضرب مثلاً لكن الحقيقة فيه مفارقة كبيرة ، مطعم بقرية في حمص ، كم نجمة هذا ؟ ولا نجمة ، دخله لا يكفي صاحب المطعم خمسة أيام ، لكن لو فرضنا صاحب المطعم صائم ، مصلٍّ ، ورع ، مستقيم ، قائم بعباداته ، عقيدته سليمة ، الآن مطعم خمس نجوم يبيع الخمر غلته في اليوم مليون ليرة أحياناً ، خمسمئة ألف ، ثمانمئة ألف ، من أربح ؟ بالدنيا هذا أربح ، لكن عندما يأتي الموت يكون صاحب المطعم في حمص أذكى بكثير ، لأنه في طاعة الله ، أنت لا يهمك حجم العمل ، العمل يكون في طاعة الله ، التعليم أشرف مهنة ، ما في عمل أشرف منه ، وما في عمل دخله أقل من دخله ، ماذا تأخذ ؟ طبشورة تضعها في جيبك ؟ لا شيء في تعليم صغار .
دائماً ابحث عن عمل تسمو نفسك به ، الله يبارك لك في صحتك ورزقك وشبابك وأهلك ، وهناك أعمال دخلها كبير جداً اركلها بقدمك ولا تعبأ بها أبداً .
=============== ...(1/495)
50- وسائل تربية الأولاد ( 20 ) : مراعاة الفروق بين الصغار وأن يعيش الطفل سنه
. ... - أيها الأخوة الكرام ، لازلنا في سلسلة تربية الأولاد في الإسلام ولازلنا في القسم الثاني وهو الوسائل الفعالة في تربية الأولاد .
وصلنا إلى بعض التوجيهات في شأن تربية الأولاد من هذه التوجيهات مراعاة الفروق الفردية بين الصغار .
الأب أيها الأخوة يتمنى أن يكون ابنه على شاكلة معينة ، فيحمله عليها ، ويضغط عليه ، ويقسو عليه ولا يفلح ، لو أن هذا الأب حاول أن يكتشف خصائص ابنه ، من الثابت أن الصغار يمكن أن يفرزوا إلى زمر ، يوجد طفل عنده استعداد للعلوم المجردة ؛ رياضيات، فيزياء ، كيمياء ، طب ، هندسة ، علوم مجردة أي يستمتع إذا قرأ ، ويستوعب ، ويحفظ ، ويبتدع ، يوجد طفل آخر ذكاؤه عملي ، يفكك آلة ويركبها ، ويوجد طفل ثالث محدود الذكاء هذا شيء مسلَّم به ، يوجد طفل يتمتع بذكاء نظري ، ويوجد طفل يتمتع بذكاء عملي ، ويوجد طفل محدود الذكاء ، فالذي يتمتع بذكاء نظري ينبغي أن توجهه إلى كليات جامعية للدراسة النظرية ، وقد تكون مجرماً في حقه لو دفعته إلى حرفة ، لا يصلح أبداً ، لا يصلح إلا بالتفوق في العلوم النظرية ، ويوجد إنسان يتمتع بذكاء عال جداً في الأمور العملية ، فلو وجهته لفرع نظري لا يفلح .
أنا أعلم علم اليقين أن هناك إخفاقات كبيرة جداً ، وتسبب دماراً للأسر ، بسبب عدم معرفة الأب لهذه الحقيقة ، يريد ابنه طبيباً وقد يفلح ابنه في عمل يدوي ، ويجمع ثروة أضعاف ما يجمعها الطبيب ، فإذا أجبرته على أن يكون طبيباً لا تُفلِح ولا يُفلِح ولا يَنفع ولا يتفوق ، طبعاً هذا الكلام في بعض البلاد حلّ على الشكل التالي ؛ الطفل في سن معينة تفحص إمكاناته عن طريق دورات عالية المستوى ، فيصنفوا الطلاب إلى : قسم متفوق نظرياً ، وقسم متفوق عملياً ، وقسم ضعيف التفكير ، هؤلاء الضعاف لهم مناهج بسيطة لا تتعبهم ولا يتعبونك ، مناهج بسيطة لطيفة ، معلومات بالحد الأدنى ، ويُعطَى شهادة ويسمى مثقفاً ، لكن بشكل يتناسب مع إمكاناته ، لا أرهقناه ، ولا ضغطنا عليه ، ولا حطمناه ، ولا شعر بالإخفاق هذه حالة .
الحالة الثانية ابن يتفوق بالعمل ، أعطهِ حدّاً أدنى من الثقافة النظرية وادفعه إلى العمل ، وطفل آخر يتفوق بالنواحي النظرية ، فما لم يكتشف الأب خصائص ابنه ، واستعدادات ابنه ، وفروق ابنه الفردية عن بقية الأولاد لا يفلح في تربيته ، الحقيقة أن النبي عليه الصلاة والسلام يقول :
(( كُنَّا جُلُوساً عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : .. اعْمَلُوا فَكُلٌّ مُيَسَّرٌ ، ثُمَّ قَرَأَ فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى إِلَى قَوْلِهِ فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى ))
[متفق عليه عَنْ عَلِيٍّ](1/496)
نحن جميعاً خلقنا للجنة ـ وأنا مضطر أن أذكر هذا المثل ـ نحن جميعاً خلقنا للجنة والدليل قوله تعالى :
* إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ (119) *
(سورة هود)
خلقهم ليرحمهم ، خلقهم ليسعدهم ، ولكن الجنة التي خلقنا من أجلها لها طرائق بعدد أنفاس الخلائق ، فقد تدخل الجنة بدعوة إلى الله ، أو بتأليف ، أو بخدمة ، أو بطب تبتغي به وجه الله ، أو بهندسة تبتغي بها وجه الله ، أو بتعليم تبتغي به وجه الله ، أو بحرفة تبتغي بها وجه الله ، تصميم المجتمع المسلم أيها الأخوة رائع ، كل حرفة إذا كانت في الأصل مشروعة ، وسلك صاحبها الطرق المشروعة ، وابتغى بها كفاية نفسه وأهله وخدمة المسلمين والتخفيف عنهم ، ولم تشغله عن طاعة ، ولا عن فريضة ، ولا عن عبادة ، ولا عن عمل صالح انقلبت إلى عبادة ، فيمكن أن تصل إلى الجنة من أي طريق ، فالذي يتفوق بالأمور العملية ينبغي أن يطلق إلى أمر عملي ، والذي يتفوق في الأمور النظرية ينبغي أن يدفع إلى اختصاص نظري ، والذي نجد به ضعفاً عاماً ينبغي أن لا نزعجه ولا نتعبه في ضعفه وفي تقصيره ، المقصر نزعجه ، أما إذا كانت الإمكانيات ضعيفة جداً لا ينبغي أن نحمله ما لا يطيق وهذا من الرحمة .
أيها الأخوة ، لا نفلح في تربية أولادنا ، ولا في تربية طلابنا ، ولا في تربية طلاب العلم في المسجد إلا إذا عُرِفت الفروق الفردية ، هناك ملمح دقيق في السنة ، النبي عليه الصلاة والسلام أراد أن يكلف صحابياً بعمل فعرضوا عليه اسم أحد الصحابة ، فقال عليه الصلاة والسلام : ليس هناك ـ أي لا يصلح لهذا العمل ـ وكأن النبي المربي الخبير يعرف إمكانيات كل صحابي ، مثلاً هناك إنسان عنده ذكاء اجتماعي هذا إذا أرسلته بمهمة اجتماعية يفلح ، لطيف ، لبق ، مرن ، يعتذر ، يرضي من حوله ، لا يزعجهم ، يوجد إنسان عنده تفوق مالي هذا ينفق وذاك يفاوض ، هناك إنسان عنده خبرة عملية هذا نستعين بخبرته ، إنسان عنده وجاهة نستعين بوجاهته ، إنسان عنده مال نستعين بماله ، فكل إنسان يُمكِّنُه الله من شيء ، وهذا الشيء يمكن أن يُبتغى به وجه الله عز وجل .
لذلك أن تكتشف ميول ابنك في وقت مبكر ، أو أن تكتشف إما مباشرةً ، أو عن طريق اختصاصيين أن هذا الابن ما بنيته الفكرية ؟ ما بنيته النفسية ؟ ما قدراته الخاصة ؟ هناك قدرات خاصة عالية جداً ، درسنا في الجامعة مئة قدرة خاصة بالإنسان ، تجد شخصاً عنده قوة إقناع عجيبة يقلب الحق باطلاً والباطل حقاً ، هذه قدرة .
مرة أب جاء ابنه من بلاد الغرب وقد حمل شهادة عليا في الفلسفة ، فالأب مع الأم جالسان على مائدة وعليها فروجان ، فقال ابنهما : يا أبت أنا أستطيع أن أقنعك بالدليل أن هذين الفروجين هم(1/497)
ثلاثة ، فقال له الأب : أنا سآكل واحداً ، وستأكل أمك واحداً ، وكل أنت الثالث .
هناك إنسان عنده قوة إقناع ، وآخر عنده ذكاء اجتماعي ، وثالث عنده قوة بلاغية ، أحياناً تجد طفلاً صغيراً يلقي كلمة بشكل ارتجالي صحيح ، هذه قدرة خاصة بيان القدرة ، وحسن التصرف قدرة ، وحسن التخلص قدرة ، هناك إنسان يستطيع أن يظهر بحجم أكبر من حجمه بكثير ، فقير جداً ويسكن في الحجر الأسود ، قال له شخص : أين تسكن ؟ قال : في بلاك ستون سيتي .
أنا أتمنى أن تكشف قدرات ابنك ، ابنك له قدرات ، له فوارق ، له خصائص ، طبعاً ينبغي أن تكون هذه الخصائص كلها وفق منهج الله هذا حديثنا ، أتكلم مع أب مؤمن ومع أولاد مؤمنين ، لكن لا تطمع أن يكون ابنك طبيباً دائماً ، من قال إن الطبيب أعلى حرفة ، هكذا الناس يتوهمون ، هناك حرف أرقى منها بكثير وأريح وأربح ، فلذلك لا تحاول أن يكون ابنك كما تريد ينبغي أن يكون كما يريد ، إذا كانت إرادته وفق منهج الله عز وجل هذه نقطة ، اعملوا فكل ميسر لما خلق له .
أحياناً تجد إنساناً يتمتع بذاكرة عجيبة جداً ، إنساناً يتمتع بطلاقة لسان عجيبة جداً ، إنساناً يتمتع بحسن التخلص ، إنساناً يتمتع بقوة إقناع ، إنساناً يتمتع بأن يبدو بحجم أكبر من حجمه ، فكل إنسان مكنه الله من شيء ، هذا الشيء إذا كان في الأصل مشروعاً ، مقبول شرعاً ، فينبغي أن نوجهه إلى التفوق في هذا الشيء .
أنا أذكر قصة رجل من رجال الأدب في مصر اسمه توفيق الحكيم ، كان أبوه قاضياً ، وأراد الأب أن يكون ابنه قاضياً مثله ، وحمله على أن يكون قاضياً ، فدرس الحقوق في فرنسا ، وعاد إلى مصر ليكون قاضياً ، ولكن هواية هذا الابن لا علاقة لها بالقضاء إطلاقاً ، هو يحب الأدب ، فعلى الرغم من أنه لم يدرس الأدب ، ولم يدرس اللغة ، صار قبل أن يموت عميد الأدب العربي في مصر ، ميله أدبي .
أحياناً الطاقات الكامنة في نفس الطفل قد لا تظهر ، أو قد تحتاج إلى بيئة عالية المستوى كي تظهر ، مثلاً من يصدق أن أينشتاين أكبر عالم فيزياء كانت علاماته في التعليم الثانوي في مادة الفيزياء قليلة جداً ، إنسان قد يخفق في دراسته ، وينجح في جانب آخر ويكون الأول ، أنا أؤمن أن الإنسان عنده طاقات مخبوءة ، فالبيئة أو الأب أو المدرسة إما أن تفجرها ، وإما تقمعها ، مهمة المربي أن يكتشف الطاقات الكامنة عند ابنه أو عند تلميذه ، وهذه الطاقات قد تظهر ، وقد يكون منها الخير الكثير .
يقول ابن سينا : " ليس كل صناعة يرومها الصبي ممكنة له مواتية ، ولكن ما شاكل طبعه وناسبه " ، وإنه لو كانت الآداب والصناعات تجيب وتنقاد بالطلب والمرامي دون المشاكلة والملاءمة ما كان أحد غفلاً من الأدب ".(1/498)
مرة كنا بجلسة علمية ، وكان أحد الحاضرين شاعراً ، وكانت الضيافة حلويات ، فأحد الحاضرين داعبه وقدم له قطعة من هذه الحلويات ، وقال له : مبرومة بالفستق .
فأجابه الشاعر :
مبرومة بالفستق تصيح أين نلتقي
في حلب لذيذة وحلوة في جلق
غرب إذا أكلتها في نشوة وشرق
مبرومة كأنها سوارة الخورنق
***
أي على البديهة جاء بأربعة أبيات ، هذه شاعرية ، شيء فطري ، أحياناً القصة أيضاً ميل فطري ، تجد إنساناً يتكلم بقصة بشكل رائع ، يأتي إنسان آخر يعيدها فلا تجد لها أي جمال ، يشوهها إذا أعادها ، إنسان يصنع من قصة تافهة قصة رائعة ، هذه كلها قدرات ، فإن أردت أن تربي ابنك يجب أن تكتشف قدراته التي أودعها الله فيه ، وأن تنميها ، يفلح وينجح ويتفوق ، أما أن تحمله قسراً على اختصاص لا يحبه ، أو على حرفة لا يحبها ، هذا من سلوك المجتمعات المتخلفة .
أنا أقول ـ ونحن في مسجد أنا أتحدث عن القدرات المشروعة ـ لا تقل لي : رقص باليه مثلاً ، أتحدث عن القدرات المشروعة التي يقرها الدين والشرع ، هذه القدرات حاول أن تنميها ، حتى التعليم الثانوي مهمته الأولى اكتشاف طاقات الطلاب ، وقد تبدو هذه الطاقات في التعليم .
أحياناً في احتفالات معاهد القرآن الكريم ـ قد لا تصدق ـ طفل عمره خمس سنوات قبل أن يدخل المدرسة يحفظ كتاب الله ، كله طاقة هائلة جداً ، والحقيقة يحتاج إلى توافق ميول ، التفوق يحتاج إلى أن تختار لابنك اختصاصاً ، أو دراسةً ، أو حرفةً تتوافق مع ميوله عندئذ يتفوق ، وفي الحديث الشريف يقول عليه الصلاة والسلام :
(( أعينوا أولادكم على البر )) .
[ أخرجه الطبراني عن أبي هريرة ]
(( رحم الله والداً أعان ولده على بره )) .
[ أبو الشيخ عن علي وابن عمر]
أحياناً تجد أباً يضع ابنه معه في المحل التجاري ويمنعه أن يدرس وعنده رغبة جامحة إلى الدراسة ، أنا أقول هذا الأب مجرم في حق ابنه ، وكم من ابن يتوق إلى العمل وأجبره أبوه على اختصاص مجرد فأتعبه وتعب الأب كثيراً ، فالعبرة أن تكتشف ميولك طبعاً ضمن الحدود الإسلامية ، نحن عندنا عبارة في الأخبار المياه الإقليمية والأجواء الإقليمية ، فأنت تسبح بالمياه الإقليمية الإسلامية ، مادمت(1/499)
في هذه المياه نختار لك أي حرفة ، أما أن تسبح بمياه غير إسلامية مرفوض هذا أصلاً ، تقريباً في مثل ذكره النبي ؛ أحياناً نربط حصاناً بحبل طويل ، والحبل مغروس في الأرض بوتد ، فهذا الحصان بإمكانه أن يتحرك ، لو أن الحبل طوله خمسون متراً بإمكانه أن يتحرك بدائرة قطرها مئة متر ، وهو آمن هكذا ، في الإسلام المئة متر هي المنهج الإلهي ، فخلِّ الابن يتحرك بالمئة متر كما يريد حتى يتفوق ، لكن نصف القطر خمسون متراً ، خمسون شرقاً ، خمسون غرباً ، خمسون شمالاً ، وخمسون جنوباً ، لا يستطيع أن يتجاوز ، قال تعالى :
* تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَعْتَدُوهَا (229) *
(سورة البقرة)
لو كان يميل إلى شيء فيه معصية مرفوض ولو صار في مشادة ، لأن أمر الله أحق أن يتبع .
(( أعينوا أولادكم على البر )) .
[ أخرجه الطبراني عن أبي هريرة ]
(( رحم الله والداً أعان ولده على بره )) .
[ أبو الشيخ عن علي وابن عمر]
أحياناً يتعلق شاب بجامع ، والجامع نظيف ، منهجه قويم ، والأخوة مؤمنون ، فالأب هكذا من أجل دراسته يمانع ، أنا أؤمن أن المتفوق في دينه متفوق في دراسته ، والفضل لله عز وجل أننا أقمنا حفلاً تكريمياً للمتفوقين في الشهادتين الثانوية والإعدادية ، كان عدد المتفوقين في الثانوية الفرع العلمي الذين حصلوا على علامات فوق المئتين والثلاثين حوالي عشرة طلاب ، هذه نسبة عالية جداً من طلاب المعهد ، فالمتفوق في دينه ماذا يشبه ؟ بالضبط إذا أتيت بورقة ووضعتها في الشمس ، هل يمكن أن تحترق هذه الورقة في الشمس ؟ مستحيل ، ولكن بإمكانك أن تحرقها عن طريق أشعة الشمس فقط بعدسة ، ماذا تفعل هذه العدسة ؟ تجمع الأشعة في بؤرة واحدة هي المحرق فتحترق ، القضية سهلة جداً ، ائتِ بعدسة ، وقف في مكان فيه شمس ، ضع العدسة إلى أن يأتي محرقها على الورقة فتحترق الورقة ، فالمؤمن كل طاقاته مجمعة في الدراسة ، لا يوجد عنده انحرافات ، أما غير المؤمن مبعثر الطاقات ، مشتت ، غير مجموع ، وفي حديث شريف يقول عليه الصلاة والسلام :
(( مَنْ كَانَتْ الْآخِرَةُ هَمَّهُ جَعَلَ اللَّهُ غِنَاهُ فِي قَلْبِهِ ، وَجَمَعَ لَهُ شَمْلَهُ ، وَأَتَتْهُ الدُّنْيَا وَهِيَ رَاغِمَةٌ ، وَمَنْ كَانَتْ الدُّنْيَا هَمَّهُ جَعَلَ اللَّهُ فَقْرَهُ بَيْنَ عَيْنَيْهِ ، وَفَرَّقَ عَلَيْهِ شَمْلَهُ ، وَلَمْ يَأْتِهِ مِنْ الدُّنْيَا إِلَّا مَا قُدِّرَ لَهُ )) .
[ الترمذي أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ]
(( أعينوا أولادكم على البر )) .
[ أخرجه الطبراني عن أبي هريرة ]
(( رحم الله والداً أعان ولده على بره )) .(1/500)
[ أبو الشيخ عن علي وابن عمر]
سمعت في بعض البلاد أن التعليم عندهم تعليم مزدوج ؛ تعليم نظري ، وتعليم عملي ، حتى يكتشف الطفل ميوله هناك تعليم نظري وهناك عشر حرف يمر عليها الطالب جميعاً ، في أية حرفة تعلق بها وانغمس فيها وأتقنها يكون هذا ميله ، هذا التعليم يسمى التعليم العشري ومهمته اكتشاف ميول الطفل .
هناك إنسان يحب الزراعة ، رغبته أن يعيش في الفلاة ، أن يزرع نبتة ، أن يتابع نموها ، أن يعتني بها ، إنسان يحب الصناعة ، إنسان يحب التجارة ، إنسان يحب الدراسة ، إنسان يحب الشيء الجميل ، قد يكون خطاطاً ، قد يكون بحرفة لها طابع جمالي ، على كل هذا التوجيه ضمن تربية الأولاد وضمن تربية طلاب العلم في المسجد ، طالب يحب المعلوماتية ، طالب يحب الطب ، طالب يحب الهندسة ، طالب يحب أن يكون في الزراعة ، مرة التقيت بطالب من طلابي مجموعه مئتان وأربعون ، طبعاً سوف يختار الطب ، قال : لا اخترت الزراعة ، أنا أحب الزراعة ، فأنا ثمنت عمله لأنه اختار فرعاً يحبه حتى يبدع فيه .
هذا جانب في الدرس أيها الأخوة ، هناك جانب ثانٍ أيها الأخوة ، الجانب الثاني أن يعيش الطفل سنه لأن اللعب من خصائص الطفل ، البيت القاسي ، ممنوع اللعب ، ممنوع الضحك ، ممنوع التسلية ، كله ممنوع ، هذا بيت بالنسبة للطفل الصغير كالقبر تماماً ، أعيد وأكرر أنا أخاطب المؤمنين ، يختار الطفل معصية ممنوع ، أنت في بيت مسلم ومعك منهج ولا طاعة لمخلوق في معصية الخالق ، أنا حينما أتحدث عن المرونة ، وأن تتماشى مع رغبات الطفل ، وأن تكتشف ميول الطفل ، أنا أقصد مادامت هذه الرغبات وتلك الميول وفق منهج الله فقط ، أما إذا كانت تبنى على معصية ـ والعياذ بالله ـ مرفوضة أشد الرفض ، وعلى الأب أن يكون واعياً ، وحازماً ، وقوياً ، وعليه أن ينصح أولاده بالإقناع ، والإقناع أولى من القمع ، لكن أنا حينما أقول ينبغي أن تتماشى مع ابنك لا أقصد إلا في ميوله المشروعة .
مرة سمعت أن هناك وقفاً في بعض البلاد الإسلامية ، هذا الوقف مهمته تحبيب المطالعة للصغار ، والمطالعة من أرقى الهوايات لأنك تشتري عقل إنسان بدريهمات ، تشتري كتاباً هذا الكتاب فيه عقل المؤلف ، خبرته ، تجاربه ، مبادئه ، هذا الوقف يطبع قصصاً إسلامية ، هادفة ، ممتعة ، لطيفة ، بطباعة أنيقة جداً ، ويوزعها على البيوت مجاناً ، فإذا قرأها الصغار وأعجبوا بها سألوا عنها في الهاتف بعد حين ، حب المطالعة يسري في نفوس الصغار عن طريق هذا الوقف ، بيت بلا مكتبة مشكلة كبيرة جداً ، البيت يحتاج إلى مكتبة فيها كتب علمية ، موسوعات ضمن الإمكانيات ، الآن العلم ميسر جداً .(1/501)