مقدمه شرائع الأنبياء التى آلت إلينا واتضحت معالمها فى رسالتنا، وانتفى عنها كل خطأ وعوج، تقوم على أمرين جليلين: "أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه". وإقامة الدين تعنى دعم قواعده، وتوسعة سرادقه، مع إحصاء لشعب الإيمان كلها، وتنشئة الأجيال الحاضرة واللاحقة عليها.. أما النهى عن التفرق فيه، فإن الكيان الحى لا ينقسم على نفسه، بل ينتشر الحسن فى جميع أعضائه وأجزائه، فإذا اتجه إلى غرض اتجه كله بعزم واحد، لم ينشط البعض ويتخلف أو يفتر البعض الآخر.. " أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه" كيان واحد يلتف حول سياج واحد! ولم ذلك؟ لأن الأعداء متربصون به! هم به ضائقون، ومنه نافرون، وله كائدون...! إنهم يكرهون عقيدة التوحيد وما انبنى عليها، ويشمئزون منها، ويتجهمون لأصحابها "إنهم إن يظهروا عليكم يرجموكم أو يعيدوكم في ملتهم و لن تفلحوا إذا أبدا". من أجل ذلك لخص القرآن الكريم واجبات حملة الحق فى هاتين الجملتين "أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه". كلمتان ما أيسر النطق بهما، وما أصعب الحفاظ عليهما..
ص _006(1/1)
وقد نظرت إلى أمتى الإسلامية، واستشعرت عجبا من مواقفها! أنا وصاحبى نؤمن بجملة العقائد المطلوبة، وأنا وهو مشغولان بما يستنفد العمر وفاء بأعباء الحق وتكاليفه، ومع ذلك نهدر الكثير المتفق عليه، ونحتفى بالقليل الذى يطق فيه خلاف! أنا وهو مثلا نؤمن بأن الله حق، وأنه واحد، وأنه لاشريك له، وأنه لا يشبه المخلوقات "ليس كمثله شيء وهو السميع البصير" .. وتبعات هذا الإيمان المجمع عليه كثيرة فى ميادين الأخلاق والأعمال، والدعوة والجهاد، وشئون الحياة كلها.. ومع ذلك فقد يرد فى دين الله مثلا أن الله ينزل إلى السماء الدنيا فى ثلث الليل الأخير، فيغفر للمستغفرين، ويجيب السائلين.. إلخ فنقول جميعا: يستحيل أن يكون النزول على حقيقته المادية، يخلو منه المكان الذى تركه، ويشغل به المكان الذى قصده، ونتفق على أنه على كل شىء شهيد ومهيمن ومقتدر إلخ، ثم يقول بعضنا: المقصود بالنزول التجلى، ويقول الآخر: هو نزول يخالف ما نألف، ولا ندرى كنهه.. هل هذا التفاوت فى الفهم أو التعبير، فى هذه القضية وأشباهها، يجعل الأمة أحزابا متباغضة، وأقساما متنافرة، وفرقا يضرب بعضها بعضا، كى يهى صفنا كله أمام الكافرين بالله، الكارهين لوحدانيته وجلاله؟! لقد تدبرت هذه الحال ونتائجها، وتذكرت قول رسولنا: " ما ضل قوم بعد هدى كانوا عليه، إلا أوتوا الجدل " بل لقد ساءلت نفسى: هل المولعون بقضايا الخلاف، صغراها وكبراها، والذين يحشدون أفكارهم ومشاعرهم وأوقاتهم للانتصار فيها، والفرح نجذلان مخاليفهم، هل هم مخلصون للقضايا المتفق عليها؟ لماذا ننسى القواعد التى تجمعنا، ونهش للدروب التى نتفرق فيها . .؟ ص _007(1/2)
الحق أن هذا الاهتمام بالأمور الخلافية لون من الطفولة الفجة، والزيغ الفار بأهله من ميدان الحق، لأنه كثير التكاليف، إلى ميدان آخر لامشقة فيه ولا تزحمه واجبات ثقال.. وأترك الماضى وذكرياته المؤذية إلى الحاضر المحرج. أمة هى خمس العالم من ناحية التعداد، تبحث عنها فى حقول المعرفة فلا تجدها، فى ساحات الإنتاج فلا تحسها، فى نماذج الخلق الزاكى، والتعاون المؤثر، والحريات المصونة، والعدالة اليانعة... فتعود صفر اليدين!! بماذا شغلت نفسها؟ بمباحث نظرية شاحبة، وقضايا جزئية محقورة، وانقسامات ظاهرها الدين وباطنها الهوى.. واستغرقها هذا كله، فلم تعط عزائم الدين شيئا من جهدها الحار، وشعورها الصادق.. فكانت الثمرات المرة أن صرنا حضاريا وخلقيا واجتماعيا آخر أهل الأرض فى سلم الارتقاء البشرى!! حكومات فرعونية إقطاعية، وجماهير تبحث عن الطعام، وفن يدور حول اللذة وطرقها، ومتدينون مشتغلون بالقمامات الفكرية وحدها كأنما تخصصوا فى التفاهات.. أما العالم المتقدم فهو يعبد نفسه، ويسعى لجعل الشعوب المتخلفة- وأولها المسلمون- عبيدا له، وأرضهم مصادر للخامات التى يحتاج إليها، أو الأتباع الذين يستهلكون مايصنع.. ثم.. هناك بعيدا عن الأعين بنو إسرائيل يمكرون ليقيموا الهيكل، كى يحل الله فيه ويحكم بهم العالم، أو جماعة الكرادلة والكهان الذين يعملون لإقامة مملكة الرب، تمهيدا لنزول المسيح له المجد!! وأنا رجل مسلم امتن على الحق فعرفت دينى بعد دراسة نقية للوحى الأعلى. ولا بأس أن اذكر بعضى ما أعتمد عليه وأنا أتحرك هنا وهناك. أشعر أحيانا بفخر وأنا أقول لنفسى: إننى مع الملائكة أشهد لله بالوحدانية والعدالة، أليس يقول الله تبارك اسمه: "شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة ص _008(1/3)
وأولو العلم قائما بالقسط لا إله إلا هو العزيز الحكيم". إننى مع كل ذى معرفة شريفة نشارك الملأ الأعلى فى إعظام الله وإجلاله، والانسياق مع أسمائه الحسنى.. العلم عندنا يستحيل أن يخاصم الدين أو يخاصمه الدين، وقضية النزاع الموهوم بين العلم والدين لاصلة لها بالدين الصحيح، قد يقع النزاع بين العلم وبين البوذية أو البرهمية أو عقائد اقتبست منهما، أو متدينين انتسبوا إلى الله وأبو السير على طريقه المرسوم، فغضب عليهم لماكذبوا عليه.. أما العقل السليم فهو الأداة الوحيدة لفهم الوحى، والكون على سواء.. ومن ثم فما دمت مستقيما مع عقلى، فأنا متشبث بدينى، سائرعلى الفطرة، بعيد عن الانحراف! وأمرآخر لاغنى عنه، أشعر بالفخر وأنا أستحضره! أقول لنفسى: إننى وراء محمد- الإنسان الكامل- عندما يقول الله له: "قل هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني وسبحان الله وما أنا من المشركينن". نعم أنا من أتباع محمد فى الدعوة على بصيرة... وقد شاء الله أن يجرد سيرة نبيه الخاتم من كل شائبة للكهانة، وتجاوز للإنسانية المجردة.. فإذا عربى من أعماق الجزيرة المعزولة عن التاريخ يخرج على الناس بكتاب مبين، ومسلك فى بناء النفس والجماعة لم يعرف التاريخ ولن يعرف أزكى منه ولا أرقى.. درسنا فلسفة يونان، وآداب الفرس والهند والصين، ودرسنا سير الملوك الذين حكموا، والقادة الذين فتحوا، ووازنا بين تراث وتراث، وآثار وآثار، فا وجدنا بعد التمحيص والتدقيق إلا مايفيرد رسالة محمد بالصدق وقدره بالشرف. أنا لست من المسحورين بقادتهم، ولا المفتونين بتراثهم! وفى عقلى نافذة ص _009(1/4)
مفتوحة أبدا لتلقى الشبه والأسئلة والاعتراضات، والوقوف قليلا أو طويلا بإزائها.. ومع ذلك فعلى طول تلاوتى للقرآن لم أزدد إلا يقينا، وعلى طول تفرسى فى سيرة نبيه لم أزدد إلا إعجابا... وأحتقر من يثير الشكوك ليقال إنه ذكى، ومن يكتم إعجابه ليظهر بأنه مستقل لاتابع! ومعاذ الله أن أفقد الإنصاف مع من يتحدثون عنى بانحراف أو أستهين بالمواريث الأدبية والمادية التى جعلت أكثر البشر لايعرفون الإسلام ولا يدينون به وربما حقدوا على أهله وظنوا بهم الظنون سأبقى إلى الممات وفيا لمواثيق الفطرة التى أخذها الله على، ومقتفيا آثار النبيين الذين ربطوا حياتهم بواهب الحياة "أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده قل لا أسألكم عليه أجرا إن هو إلا ذكرى للعالمين". غير أنى أمقت الخداع والمين، وقد سمعت رجلا من شيوخ انجلترا أو أمريكا يقول لحكومته: لايجوز أن نرسل أولادنا ليموتوا فى معركة الخليج الأخيرة فى سبيل شيوخ النفط الذين سرقوا شعوبهم، وبددوا ما أخذوا على موائد القمار وفى علب الليل،. إن هذا القائل يعلم أن الجيوش التى جاءت من أوروبا وأمريكا إنما جاءت لتحمى موارد النفط الذى هوشريان الحياة الصناعية وتستبقى ضخها لمصالح شتى، آخرها مصلحة الشيوخ اللصوص الخونة الذين يتحدث عنهم هذا القائل.. وفى الحياة يكثرأن يختلط النفع والضر، والإثم والبر، وعلى أولى الألباب أن يتربثوا طويلا فى معالجتهم لبعض المشكلات... إن للنفط العردى قصة تبعث على الأسى والسخط، فإن مناجم هذا المعدن كثرت فى بلادنا، بيد أننا كنا مشغولين عنها بشئون أخرى جعلتنا نسرح بقطعان ص _010(1/5)
الضأن والمعز فوق هذه المناجم، دون فكر فى استثارتها أو ارتفاقها!! إن الذى كشف هذه المعادن هم " الخواجات " أما نحن فكنا نتنازع: هل حديث التوسل صحيح أم ضعيف؟ هل كرامات الأولياء حق أم وهم، هل الحكم لبنى هاشم أم لأسر أخرى؟... إن أهل القرآن خانوه خيانة فاجرة، واتخذوه مهجورا، فى الوقت الذى أنسوا فيه بباطل من القول، وسخف من الجدل.. وغرقوا فى غيبوبة عجيبة من المباحث التى ماعرفها السلف الأول، ولو عرفها ما أفلح أبدا، ولا افتتح قطرا، ولا أنشأ حضارة!! وعندما قام الأوربيون بتصنيع النفط وتلوين مشتقاته، ثم صنعوا الناقلات العملاقة فحملته إلى أرضهم، أعطونا ثمن السلعة التى ابتدعوها! فماذا صنعنا بهذا الثمن؟ ذهب أقله فى خيرنا، وذهب أكثره فى ضرنا... ولن أتحدث عن مخزاة السرف فى مواطن الشهوات، ولا المجازفات المجنونة بمال الله فى إرضاء الشيطان، ولا الأرصدة التى تعمر بنوك أوروبا وأمريكا، وتجمدها كلما حلا لها، ولا.. ولا.. فالحديث مهين لأمتنا كلها... إنما السؤال عن سر هذه المحنة من الجذور؟ ما الذى جرنا إلى هذا القاع السحيق؟ فجعلنا نأخذ ولا نعطى؟ وجعلنا نتحرك فى موضعنا أو إلى الخلف؟ وجعل بيننا وبين كتابنا بعد المشرقين..؟ إن هذا المؤلف " محاسبة نفسية " لموقفنا فى الحاضر والماضى، ولن يصلح لنا مستقبل إلا اذا دقفنا فى هذا الحساب، ووضعنا أيدينا على أسباب العوج.. وكل محاولة لاقتحام المستقبل بفكر عصور الانحطاط لن تزيدنا إلا خبالا... كنت أقرأ أسماء الأسلحة الحديثة فأشعر بهول مابلغه القوم من قوة، هذه صواريخ جو جو، وجو أرض، وأرض جو، وأرض أرض، وهذه طائرات قاذفة، وتلك مقاتلة، وهذه سبتية، وهذه مزودة بمدافع للهجوم، وهذه تفلت ص _011(1/6)
من شباك " الرادار " أما المقذوفات من شتى الأسلحة ففنون وجنون، هذه فخاخ ألغام، وهذه... إلخ... قلت: ما أروع ما أعد هؤلاء لنصرة معتقداتهم وقيمهم! فهل أعد المسلمون شيئا من هذا فى بلادهم بتفوقهم الصناعى ومهاراتهم الخاصة؟ كلا اللهم إلا مانشتريه منهم فيبيعون لنا مايستغنون عنه، ثم يمدوننا بذخائره بين الحين والحين!! ما أعرف فشلا فى نصرة الدين والشرف، والأرض والعرض أقبح من هذا الفشل! بم شغلنا عن مثل هذا الإنتاج؟ بالجدل المحموم فى غيبيات نهينا عن التقعر فيها، بتجسيم الخلاف الفقهى، وإيفاد الشرر منه، مع علمنا القاطع بأن وجهات النظركلها مأجورة من الله سبحانه، ولا لوم على مخطى، إن عرف خطؤه... بالانصراف عن شئون الدنيا مع نسيان حقيقى لخالق الدنيا والآخرة! إنه انصراف بلادة وغباء، وليس تجردا لتقوى، ولا ترفعا عن شهوة.. هل يشعر المسلمون بأن لهم رسالة كبرى تزحم البر والبحر وتشغل الإنس والجن؟ ما إخالهم يشعرون! إنهم يعيشون فى زوايا متواضعة متقاصرة من الأرض، ينظرون إلى التقدم الحضارى بعيون ناعسة، وينظر العالم كله إليهم نظرة استهانة! ربما أعطاهم شيئا من العون المادى الذى يسألون، وربما تصدق عليهم بشىء من العون الأدبى الذى إليه يرنون.. إننى أجزم بأن فلسفة الكون فى القرآن الكريم بعيدة جدا عن أفهام قرائه، وأن جمهرة المسلمين لاتسمع من هدير الآيات شيئا طائلا، فهم "كمثل الذى ينعق بما لايسمع إلا دعاء ونداء.. ". قرأت قوله تعالى: " اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَّكُمْ وَسَخَّرَ لَكُمُ الفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي البَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الأَنْهَارَ وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالقَمَرَ دَائِبَيْنِ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْل ص _012(1/7)
,والنهار" (1) سوره ة إبراهيم: 32 " 33. ثم قلت: إن ضميرالجمع للمخاطب تكرر خمس مرات فى هذه الكمات، كأن الله يقول للسامعين: هذا كله لكم، لكم أنتم، لكم وحدكم! ومن السامعون؟ أبناء آدم جميعا، أهل الأرض كلهم، كما قال فى موضع آخر " خلق لكم مافى الأرض جميعا.. " وقال: " هو الذى جعل لكم الأرض ذلولا... ". ومع هذا كله فقد سألت نفسى: هل العرب والمسلمون من بين جمهور الخاطبين؟ هل الكلام يتناولهم مع سائر الناس؟ أم هم مستثنون من الناس؟ إنهم غرباء بين الأرض والسماء! حتى الفلاحة وهى حرفة بدائية أجادها غيرهم، وأكثر ثمارها، وهم يحرزون أرغفتهم يشق الأنفس! وقد صور غيرهم الخيرات فى باطن الأرض، وشرع يستخرج السائل والجامد من معادنها، ونحن ننظر دهشين، وبعض شطارنا يفتى بأن التصوير حرام!! وسالت فوق ثبج البحار بوارج ومدمرات وشقت أعماءها غواصات تحمل الردى، وناقلات نفط عملاقة وغير عملاقة، ماصنع شىء من هذا كله فى موانينا الجميلة! إننا نرمقها معجبين بعد أن يتم غيرنا صنعها...! تساءلت: أين نحن من دنيا الناس؟ وتساءلت مرة أخرى: أين نحن من ديننا؟ وهل ننصفه أو نشرفه بهذا التخلف السحيق! بل هل نستطيع حمايته يوم تسكر القوة أصحابها- وها أكثر سكراتها فيتحركون للنيل منا والإجهاز على بقيتنا؟ إن المسلمين أقرب إلى الموت منهم إلى الحياة.. وقد تهز بعضهم غرائز الدنيا فيصيح ويسعى، لكنه لايفعل شيئا، ولا يبلغ هدفا! لأنه ما استفاد من النعمة التى يسرها الله له، أعنى أنه ما استفاد من الوحى الذى أغناه عن التجارب، ومهد له سبيل الكمال، وعلمه كيف يؤدى حق الله..! وكيف! يحتفظ بحق نفسه... ص _013(1/8)
هذا الكتاب لا غير تلقفه آباؤنا الأقدمون فصححوا به مسار الحياة، وأبدعو حضارة أرقى وأزكى مما عرف السابقون، فما بالنا نقرؤه دون وعى، ونحر على آياته صما وعميانا؟ رأيت يوما إحدى الصور التى أرسلتها مركبة الفضاء الأخيرة! ورأيت الشمس والأرض نقطا ضئيلة فى بحر الظلام الذى يسود الملكوت! لقد سبحت بحمد ربى، وتضاءلت فى ذاتى، وأحسست أن قيوم السماوات والأرض صاحب ملك لا يبلى على امتداد الأزل والأبد! إن مالا نبصر أضعاف أضعاف ما نبصر من هذا العالم الضخم الفخم...! وشعرت أن الجديد الذى انطبع فى نفسى صورة طبق الأصل للقديم الذى رسمه الوحى فى قلبى وعقلى، إن القرآن الكريم علمنى هذا من قبل!! لكن هل يعلم الناس هذا؟ من يعلمهم؟ وأهل القرآن نيام عنه، مشغولون بكلام ضيف الوزن "ولو أنهم آمنوا واتقوا لمثوبة من عند الله خير لو كانوا يعلمون". هل نعود مرة أخرى لتدبر كتابنا وبناء الحياة وفق دلالاته..؟ فى عصور مضت ربما كانت المسافة بين العلم بالإسلام والعمل له لا تتجاوز أشبارا أو أذرعا، أما فى الآونة الأخيرة فإن المسافة تبلغ أميالا طويلة.. ولا أتحدث هنا عن سياسة الحكم والمال! وإنما أتحدث عن الأخلاق والتقاليد والقدرات المطلوبة لإحسان أى عمل وإدارة أى جهاز. إننى رأيت أياما يؤدى العمال فيها ما عليهم دون أن يشعروا بأى حق لهم، لعلهم كانوا يطبقون الحديث المعروف "أدوا الذى عليكم وسلوا الله الذى لكم ". وهذا الحديث يأبى الظلم، ولكنه يحرس المجتمع من عواقب التفريط والإضراب عن العمل!! ص _014(1/9)
ثم جاء بعد ذلك جيل من العمال والفلاحين يطالبون بحقوق ليست لهم، وقلما يؤدون عملا أو يكملونه أو يتقنونه! وكثيرا ما أنظر فى أحوالنا فأرى الفوضى تسبق النظام فى أغلب الإدارات- وأرى أجهزة ضخمة وثمرات تافهة، وأرى نسيانا متعمدا لقوله تعالى: "لا تبخسوا الناس أشياءهم ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها". وقلما رأيت الجودة فى صناعاتنا، أو شارات الإحسان والتجويد فى إنتاجنا. إن الرياء والتزوير وموت الضمائر خلائق منتشرة لا يوجد لها نظير فى مجتمعات شيوعية أو علمانية مقطوعة عن الله. وقد يكثر المال فى أيد لا تعرف قدره، فيزداد الإقبال على المخدرات، والبحث عن المتالف، وربما نظرت إلى فئات فى المجتمع فتذكرت المثل المقول فى عبد السوء: إذا جاع سرق، وإذا شبع زنى!! وعلة هذا الهبوط واضحة، فقد تسللت مباذل المدنية الحديثة إلى بلادنا فى فترة ضعف شديد فى موروثاتنا الدينية، فلم نلق مقاومة تذكر... ومن هنا رأينا ألوف العمال والفلاحين يهاجرون طلبا لأدوات الحضارة الحديثة ومظاهرها، والأمل المسيطر هو الفيديو والتليفزيون الملون، والحرير والمذهبات، وصنوف الترف، ثم تنافست طبقات الأمة كلها فى استجلاب هذه المظاهر والعناصر... وشاء القدر أن يقع ذلك فى الوقت الذى نضج فيه التفكير لإقامة إسرائيل الكبرى، والتطويح بمستقبل الأمة الإسلامية كلها..!! لقد تحرك كل ذى دين لنصرة دينه، وطولب المسلمون وحدهم بنسيان دينهم، وعدم التجمع على شعائره أو شرائعه!! ولحظت أن فتيانا لا ينقصهم الإخلاص، يبتغون التجمع على دينهم ورفع أعلامه، لكنهم لا يدرون ما الطريق؟ بعض الأمراض الخبيثة تظهر لها أعراض على سطح الجلد، فيظن المعالج القاصر أن هذه البثور سطحية ويشتغل بمداواتها على هذا الأساس، وسيقضى ص _015(1/10)
عمره دون أن يصل إلى شىء..! ومن المشتغلين بالدعوة من لا تعدو عينه هذه السطوح، والأمر أخطر مما يتوهمون، وسيأتيهم أجلهم وهم فى أماكنهم لاينقصون ذرة من علل أمتنا... من أجل ذلك تعاونت مع أولى الألباب على تشخيص العلة وتحديد الدواء، باحثا فى الحاضر والماضى، مستقرئا مايظهر مايخفئ، فكان هذا الكتاب الذى تدور فكرته حول "المسار الفكرى فى تراثنا ". إنه مراجعة وتحقيق.. وقد قطعت نصف المرحلة الآن، ولاتتم الرحلة حتى أضع إن شاء الله بحثا آخر عن العلوم الإنسانية، آمل أن يدركنى فيه توفيق الله. محمد الغزالى ص _017
الفصل الأولى إسلامية المعرفة أو المعرفة الإسلامية ما هو أول علم تلقاه آدم عن ربه؟ رفع به مكانته، ورجح كفته، وأقنع الملائكة بأنه أهل للحياة والخلافة فى الأرض والسيادة على أرجائها وأحيائها.. لقد قال سبحانه وتعالى: " وعلم آدم الأسماء كلها ثم عرضهم على الملائكة فقال أنبئوني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين * قالوا سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم * قال يا آدم أنبئهم بأسمائهم" ما هذه الأسماء؟ وما مسمياتها؟ لا أريد أن أذهب بعيدا، سأبقى مع السياق القرآنى وحده.، إن الله يقول للبشر قبل ذلك: " هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعا "). وهذه عبارة عامة مجملة، سبقتها فى النزول آيات فصلت الموضوع تفصيلا أوضح " ولقد مكناكم في الأرض وجعلنا لكم فيها معايش قليلا ما تشكرون * ولقد خلقناكم ثم صورناكم ثم قلنا للملائكة اسجدوا لآدم " ظاهر أن العلم الذى اختص به آدم يتصل بالأرض والحياة على ظهرها، واستثارتها واتصال عمرانها، واستكشاف قواها وأسرارها، ولن تكون الأرض وحدها مهاد الحياة البشرية فالأرض إحدى بنات الشمس، والمعيشة فوق ترابها ص _018(1/11)
مرتبطة بكواكب شتى فى السماء، فلابد أن تتسع المعرفة الآدمية لتشتمل على علوم الكون والحياة... ولانزعم أن آدم عرف الكيمياء والفيزياء والفلك! لكننا نزعم أنه عرف الأبجديات التى تتكون منها هذه العلوم مع إدمان البحث والتجربة، وأوتى عقلا جوابا فى الآفاق يقدر به على تسخيرعناصرالكون لنفسه، كما يقدر به على معرفة آيات الله فى الملكوت الكبير، ودلالة هذا العالم الضخم على عظمة بانية وبارئه.. وهل خلق الله الكون إلا لهذه الغاية؟ إنه يقول فى كتابه: " " الله الذي خلق سبع سماوات ومن الأرض مثلهن يتنزل الأمر بينهن لتعلموا أن الله على كل شيء قدير وأن الله قد أحاط بكل شيء علما إن الله خلق هذا العالم لنعرف نحن- من هذا الخلق- قدرته وإحاطته، فنقدره حق قدره، ثم نسبح بحمده ونهتف بمجده والرحلة من الجهل إلى المعرفة بعيدة الشقة، وقد تقطعها أجيال بعد أجيال، ليكن، فهذه رسالة آدم وبنيه على ظهر الأرض.. بها تميز على الملائكة، وبها استحق الخلافة.. وعجبى لأم تحيا على الثرى لاتدرى مافيه ولا ماتحته لأنها فى طفولة عقلية تحتاج معها إلى المرضع والكافل.. أم لم تمكن فى الأرض مع أنها أوتيت أسباب التمكين! ولم تجعل لنفسها معايش إلا ماتلتقطه الثعالب من فضلات الأسود لقد علم أبوهم آدم الأسماء كلها، فجهلوا هم هذه الأسماء كلا أو بعضا، وإنى أرمق المسلمين فى هذا العصر فأذكر ذا القرنين وقد مر على قوم يغار عليهم ولايغيرون، وينال منهم ولاينالون " حتى إذا بلغ بين السدين وجد من دونهما قوما لا يكادون يفقهون قولا.. " ص _019(1/12)
ماذا يطلب هؤلاء العجزة؟ يطلبون من يحميهم من عدوهم، ويبنى لهم حصونا يأمنون خلفها على أنفسهم! لأنهم لايستطيعون تشييد هذه الحصون! إن علمهم بالحياة ضحل، وحظهم من التمكين قليل. إن صلتهم العلمية بآدم واهية، وطالما شكوت من أن الجانب الإنسانى العام مثلوم فى الحياة الإسلامية المعاصرة! وقد يظهر هذا الضعف المخزى فى بعفر الأجيال التى تعمرالأرض، فيكون من عمل الأنبياء أن يعرفوا الناس كيف يحمون أنفسهم وكيف يحمون عقائدهم وشعائرهم، يقول الله فى نبيه داود: " و علمناه صنعة لبوس لكم لتحصنكم من بأسكم فهل أنتم شاكرون " . إن معرفة الحياة صنعة إنسانية عامة، والتمكين فى الأرض حق لبنى آدم كلهم، أما الجهل والعجزفعلل تعترى الآدمية تفقد بها شخصيتها وتقصربها عن رسالتها.. وما يكون الإنسان إنسانا إذا توقف عقله عن الفكر، وأشبهت حواسه وجوارحه حواس الدواب وجوارحها فى أكل ما تيسر، والعيش فى نطاق غرائزبدائية تنطلق بها الكلاب والذئاب.. ونعود إلى أبينا آدم، وكم أرقى لحاله وهو يهبط من جنته ليكدح كى يبقى! لقد كان فى رزق دار وعيش قار، وهاهو ذا يسعى جاهدا حتى لايجوع ويعرى! هذه عقبى ضعف الإرادة وغلبة النسيان، والخديعة بوساوس الشيطان.. إنه هبط على أية حال وهو مزود بمعرفة نظرية عن حياته الجديدة، وإن كان البون بعيدا بين العلم النظرى والمعاناة الواقعية لابد أن يعرق ويقلق، وقبل ذلك ومعه لابد أن يذكر ربه. ويحترم أمره مهما كانت المغريات والمثبطات. وقد قيل له وللشيطان الذى أغواه " قال اهبطا منها جميعا بعضكم لبعض عدو فإما يأتينكم مني هدى فمن اتبع هداي فلا يضل و لا يشقى * ومَن أَعرَضَ عَن ذكري فَإنَ لَه مَعيشَة ضَنكا وَ نَحشره يَومَ القيَامَة أَعمىَ" ص _020(1/13)
إن أبانا آدم- فى ماضيه الطيب- كان يتلقى العلم عن ربه، ويستمع إلى أمره ونيهه، فإيمانه به إيمان شهود، ثم كان الخطأ "ثم اجتباه ربه فتاب عليه و هدى". ثم شرع يستقبل حياته على ظهرالأرض، وهو موقن بأن من الله المبتدى وإليه المنتهى، وأن عليه وعلى نبيه من بعده استصحاب هذه الحقائق، فلا ينسى أحد من أين جاء وإلى أين يصير.. أمداد هذا الذكر الواجب، وينابيعه الدافقة، تتفجر من فجاج الأرض، وآفاق السماء على سواء.. إن هذا التراب الداكن عندما ينشق عن شماريخ البلح وعناقيد العنب إنما يتحدث عن ربه.. والرياح التى تسوق السحب من شرق الدنيا إلى غربها فتهمى بالحياة والمحاء إنما تحدث عن ربها.. وهذا الإنسان الذى يولد من ماء مهين، ويبدأ طفلا غامض المستقبل لاتدرى أيكون امرءا عبقريا أم جبارا شقيا؟ إن هذا الإنسان- طوعا أوكرها- يتحدث عن ربه، إنه ماخلق نفسه ولا خلقه أبواه، إنه ما خلقه إلا الله.. وإيمان الشهود عند آدم تحول فى أبنائه إلى إيمان تفكير إلى إيمان بالغيب، بيد أن ضمانات هذا الإيمان من الكثرة والوفرة بحيث لا يبقى لتجاوزها عذر.. أساسها أن آدم الذى استوعب علم الحياة عندما علم الأسماء كلها، عرف ربه، وعرف مما يدل عليه فى جنبات العالم الكبير الذى هبط إليه. كان مخلوقا يعرف خالقه، وتابعا يعرف سيده، ومارا بتجربة شاقة ينبغى عليه وعلى أولاده أن ينجحوا فيها.. مصدر العلم الانسانى : مصدر هذا العلم الذى علا به آدم على الملائكة، الكون! إن العلم بالكون هو صميم الإنسانية، والجهل به لا يعوض عنه شىء! وقد أبان لنا القرآن الكريم ثلاثة أسباب لهذا العم الكونى الواسع. ص _021(1/14)
الأول: دلالته على الله، وقد شرحنا ذلك فى أماكن أخرى، ونشير هنا إلى بعض أقسام القرآن التى ألمعت إلى عظمة الله المبثوثة فى مادة الكون ونظامه. نحن نعيش فى كون متحرك، القمر يجرى حول الأرض، والأرض تجرى حول الشمس، والشمس تجرى لمستقر لها، تنطلق معها توابعها التى اكتشفت كلها، والشمس وأسرتها، واحدة من مجرات فوق الحصر تجرى فى فضاء لم تكتشف آماده. ومع هذا الجرى الدءوب فى كل اتجاه فهو كالقافية المحبوكة الوزن المضبوطة الأداء لا يطرأ عليها خلل ولا تعتريها فوضى "والسماء ذات الحبك * إنكم لفي قول مختلف". نعم إن الحبكة الملحوظة فى نظام الأفلاك الدوارة لخير الدهشة! "فارجع البصر هل ترى من فطور * ثم ارجع البصر كرتين ينقلب إليك البصر خاسئا وهو حسير" وقد ينظر المرء ببلاهة بعيد الفجر وانغلاقه إلى الظلام ترق كثافته وتخف حدته، ويتلاشى أمام النهار المقبل من بعيد، إنه لا يدرى كيف تم هذا المخاض؟ وكيف تمت فى الفضاء الرحب ولادة يوم جديد؟ تدبر هذا القسم "فلا أقسم بالخنس * الجوار الكنس * و الليل إذا عسعس * و الصبح إذا تنفس". إن هذا المشهد يتنقل على خطوط الطول والعرض باستمرار، لا يتخلف ولا ينقطع، حتى يأذن الله للشمس أن تخلف موعدها وتطلع من مغربها، ويؤذن بانقضاء هذه الدنيا وانتهاء أيام الاختبار الإنسانى فى المضحك المبكى.. الثانى: ارتباط الحياة الإنسانية ضروراتها ومرفهاتها بهذا الكون! "والأرض بعد ذلك دحاها * أخرج منها ماءها و مرعاها * و الجبال أرساها * متاعا لكم و لأنعامكم". ص _022(1/15)
إن أغذيتنا وأدويتنا وألبستنا من هذه الأرض، والأرض كما علمت جزء محدود من عالم ممدود، بل إن ثقبا فى بعض الأغلفة الجوية قد يتهدد أرضنا بالفناء، كأن هذا الكون كله خلق من أجلنا " وسخر لكم الليل والنهار والشمس والقمر والنجوم مسخرات بأمره إن في ذلك لآيات لقوم يعقلون* وما ذرأَ لَكم في الأَرض مختَلفا أَلوَانه إنَ في ذَلكَ لآيَة لقَوم يَذَكَرونَ " أليس يدعو للكآبة أن المسلمين المعاصرين آخر من يعلم هذه الحقيقة؟ غيرهم نقب فى البلاد فاستخرج الغالى والرخيص وارتفقه وباع مايفضل عنه، ونحن نمشى فوق أراضي ملأى بالنفط والحديد والذهب، لاندرى ماحوت! حتى يحىء من يرى أن الأرض له ليثيرها فتعطى كنوزها ينفق منها كيف يشاء، ثم يرمى لنا الفضلات فى كبر وتأفف أيرضى بذلك أولو الألباب؟ إن فقه الكون والحياة فريضة أسبق من فرائض أخرى صنعها أصحاب الثقافات المغشوشة، زعموها دينا وهى أبعد ماتكون عن الدين.. الثالث: حماية الحقوق والحقائق، فالويل لنا يوم يكون أهل البيت مسلحين بالحجارة واللصوص مسلحون بقذائف قريبة المدى أو بعيدة المدى!! سينهب الحق وتطضس الحقيقة.. لقد وصف الله خواص الحديد ومنافعه المدنية والعسكرية فقال: " وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد ومنافع للناس وليعلم الله من ينصره ورسله بالغيب" فهل ينصرالله ورسله قوم لا علاقة لهم بحديد ولا خشب؟ فى هذا العصراتسعت ساحات الحروب حتى شملت البر والبحر والجو، ومن المستحيل أن ينجح فى هذه الميادين إلا ذوو الثقافات الغزيرة المستبحرة المستكشفة! ولا أزال أنظر بضيق وأسف لقوم يروون حديث " نحن أمة أمية " ليفهموا منه ص _023(1/16)
أن الأمية صفة أمتنا إلى آخر الدهر. فهم يرفضون الحساب الفلكى، وينكرون القواعد الرياضية التى قام عليها إرسال المركبات الفضائية وأمكن بها النزول إلى القمر..! ثم ينظرون إليك بتبجح قائلين: أتنكر السنة؟ إن هذا الوصف كان لواقع عربى متخلف نقضه القرآن الكريم من القواعد عندما قال: "هو الذي جعل الشمس ضياء والقمر نورا وقدره منازل لتعلموا عدد السنين والحساب ما خلق الله ذلك إلا بالحق يفصل الآيات لقوم يعلمون". هذا الحق لا يدركه إلا قوم يعلمون! وقد لاحظت أن الوصف بالعلم يجىء غالبا عند الكلام عن الكون وأسراره وقواه وحركاته. تدبر قوله تعالى: "فالق الإصباح وجعل الليل سكنا والشمس والقمر حسبانا ذلك تقدير العزيز العليم * وهو الذي جعل لكم النجوم لتهتدوا بها في ظلمات البر والبحر قد فصلنا الآيات يعلمون". وفى إلماعة إلى عظمة العالم وضآلة البشر يقول: "لخلق السماوات والأرض أكبر من خلق الناس ولكن أكثر الناس لا يعلمون". وفى بناء التوحيد على الفكر الباحث والنظر السديد يقول: "الذي جعل لكم الأرض فراشا والسماء بناء وأنزل من السماء ماء فأخرج به من الثمرات رزقا لكم فلا تجعلوا لله أندادا وأنتم تعلمون". ثم تجىء آيتان تكادان تحصران العلم المثمر المورث لليقين فى العلوم الكونية القارئة لآيات الله فى صفحات الأرض والسماء، وهى العلوم التى قلت حظوظنا فيها وصفرت أيدينا منها، فأمسينا فى الميدان الدولى كما قال الشاعر: ويقضى الأمر حين تغيب يتم ولا يستأمرون وهم شهود ! ص _024(1/17)
وأى قيمة لفارغ العقل واليد من علوم الكون والحياة؟ أما الآيتان فقوله تعالى: " ألم تر أن الله أنزل من السماء ماء فأخرجنا به ثمرات مختلفا ألوانها ومن الجبال جدد بيض وحمر مختلف ألوانها وغرابيب سود * ومن الناس والدواب والأنعام مختلف ألوانه كذلك إنما يخشى الله من عباده العلماء " ولا عجب فأصحاب العقل أو أولو الألباب كما عبرالقرآن الكريم هم مستخرجو الحق من ثنايا الكون الكبير "إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب * الذين يذكرون الله قياما وقعودا وعلى جنوبهم ويتفكرون في خلق السماوات والأرض ربنا ما خلقت هذا باطلا سبحانك فقنا عذاب النار" ومع ذلك كله فكلمة " نحن أمة أمية " تسرى كالخمر فى أبدان السكارى، مما جعل المسلمين يتسولون المعرفة من ألسنة أخرى، وأم أخرى لأن مصادرها فى العربية وبين العرب أدركها الجفاف... ولنشرإلى فروق بين العلم الدينى والعلم المدنى! الأول محدد، أساسه الاتباع، والآخر مطلق أساسه الاختراع والابتداع، فالصلاة مثلا والطهارة اللازمة لها لايتطلب تعليمها إلا ساعة من نهار، وعلى المسلم بعد هذه المعرفة تكرار ما أمر به سائرعمره ليفيد من هذا التكرار أدب النفس وسكينة الروح، وتماسك الجماعة وإقامة أمة متعارفة على منهاج وهدف.. أما علوم الدنيا فهى متجددة، وقد لاحظنا فى نصف القرن الأخيرأن المعارف الإنسانية زادت بما يساوى أو يفوق ماحققته الإنسانية طوال القرون الماضية، ودارسو العلوم الكونية ومتابعو التطور الحضارى يحسون هذه الحقيقة.. ومن المؤسف أن المسلمين لم يسهموا فى هذه الوثبة الرحبة، أعنى مسلمى القرون الأخيرة، أما آباؤهم الكبار فأياديهم على العالم لاينكرها إلا متعصب جاحد.. بم شغل المسلمون المتأخرون أنفسهم؟ بالكلام فى بعض الجوانب الدينية! فقد ص _025(1/18)
يستغرق شرح الصلاة شهرا! وقد يطول الحديث فى الوضوء والغسل قريبا من هذه المدة.. وبدية أن أفرق بين التخصص العلمى وبين الأنصبة التى تعم الجماهير... وأيا ماكان الأمر فإن المساحة الزمنية والعقلية التى لابد منها لعلوم الحياة ضاقت كل الضيق لحساب شئون أقرب إلى اللغو والثرثرة، ومن ثم لحقت بالإسلام هزائم مادية وأدبية شائنة.. إن المسلمين الأولين اخترعوا علوم المعاق والبيان والبديع، والنحو والصرف لخدمه الإعجاز البيانى فى القرآن الكريم.. وخدمه هذا الكتاب تحتاج إلى جانب ذلك حاجة ماسة إلى علوم الأحياء والفيزياء والكيمياء والفلك وطبقات الأرض إلخ. والجهالة بهذه العلوم خيانة مخزية للإسلام وكتابه الضخم.. وهى- مع كونها خيانة دينية- خيانة إنسانية عامة لرسالة أبينا آدم الذى ألهم الأسماء كلها، وجعلت له الأرض ذلولا، وساد فيها البر والبحر! لماذا يغوص غييرنا فى الماء، ويسبح فى الفضاء ونخن ننظرمشدوهين؟ لماذا يملك الإلحاد الكهرباء والذرة ولا نملك نحن إلا الهراوات؟ نهدد بها من يعترض أهواءنا..!! من عجائب دنيا المسلمين أليس عجيبا أن تكلف أمة ببناء إيمانها على دراسة الكون، ومع ذلك تحيا محجوبة عن الكون ونواميسه وأسراره وقواه؟ أهذه هى استجابتها لقول الله: "إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب * الذين يذكرون الله قياما وقعودا وعلى جنوبهم ويتفكرون في خلق السماوات والأرض ربنا ما خلقت هذا باطلا سبحانك.. ". لو كانت أمتنا حين تكاسلت واستنامت تعيش على ظهر الأرض وحدها لكان ص _026(1/19)
وزر تخلفها على رأسها، تعافى منه فى شئونها قلت أوكثرت!! لكن أمتنا فى سباق مع أمم أخرى لاتنام! أم لارسالة لها، أو لها رسالة مادية محدودة قوامها الباطل والهوى. ومع ذلك فإن المبطلين يسابقون الريح نشاطا وعزيمة، ونحن ممثلى الحق جاثمون على الثرى، ننظر ببرود أو بلاهة إلى الآخرين، ولا نعى من رسالتنا شيئا ذا بال.. الآدمية فى كتابنا علم عجزت عنه الملائكة، وظفر به آدم وحده، فاستحق الخلافة فى الأرض! والآدمية فى حياتنا طعام وسفاد، وتحاسد وتفاخر، أى هى الحيوانية الهابطة . الآخرون سيروا الأقمار الصناعية، وأرسلوا مركبات الفضاء تزودهم بمزيد من المعرفة.. وفى الوغى لهم أظافر تخنق وتذبح وتصعق، وتفعل المنكر بعدوها.. أما نحن فقد نتودد لهم مشترين من أسواقهم، أو متزودين من غنائمهم، أو مستعيرين من أسلحتم مانحتاج إلى تعلمه منهم، قبل أن نحسن استخدامه!! أنا ما أشك فى أن هناك عطبا أوكسرا أو تلفا فى كياننا الفكرى والنفسى، جعلنا فى هذا الوضع المهين، وما نصح أبدا إلا بذهاب هذه العاهات، وعندئذ نصنع كمايصنعون.. وقد أنظر إلى أنظمة الحكم هناك، فأجد القادة بلغوا فى ثقافتم أعلى شأو، وفى تجربتهم أعظم خبرة.. ومع اقتدارهم على الرأى السديد فهم يستشيرون أهل الخل والعقد فى بلادهم، ويستمعون بإخلاص إلى الرأى الآخر، وإلى النصح المجرد، وكأن على لسان كل منهم كلمة أبى بكر "وليت عليكم ولست نجيركم، إن رأيتم خيرا فأعينونى، وإن رأيتم شرا فقوموق ". أما نحن فقد وقعت أمورناء بين أيدى أقزام متعالمين متطاولين، لاندرى من أين جاءوا، ثم نسمع الواحد منهم يقول فى صلف ورهو: "ما اريكم إلا ص _027(1/20)
ما ارى، وما أهديكم إلا سبيل الرشاد "!! قائد الحق تجرى على لسانه صيحة فرعون- قبحه الله- وقائد الباطل تجرى على لسانه كلمة الصديق رضى الله عنه!! اس يرء ايه موازنة تلك، وما يكون المصير مع هذا البلاء، فى الاحوال السياسية والعمرانية التى تسود أرض الإسلام..؟ وشىء آخر ما نستحى من ذكره بعدما لفحنا دخانه وشروره. فقد كان لتعمق الأوربيين فى العلوم الكونية أثره فى انفتاح أبواب الغنى عليهم.. إن القوى والأسرار التى اكتشفوها كانت مفاتيح لخزائن السموات والأرض، فلا غرابة فى ارتفاع مستوى معيشتهم، ولاغرابة فى اتساع دائرة الرفاه والتنغم لديهم! انهم استثاروا الأرض وعمروها أكثر مما عمرها غيرهم، فخدمهم الرطب واليابس، والسائل والجامد، والحديد والذهب، والتراب والهواء، وتوشك أن تأخذ الأرض زخرفها، وتزدان وتتحول إلى خادم طمع لأطماع الإنسان..!! أى إنسان؟ الإنسان الذى عرف الخلق ولم يعرف الخالق، والذى يحسن أهواءه فى بدنه وفى دنياه، ولايدرى عن وحى الله شيئا له وزن، ولايقدم للآخرة شيئا يكون له ذخرا!! وما أشك فى أن المسلمين يحملون من هذا التناقض وزرا كبيرا، فهم ماتذوقوا الحق الذى اصطفاهم الله له، ولا حملوه إلى الناس كى ينفعوهم به.. ونشأ عن ذلك أن جماهير المسلمين فقيرة كسيرة الجانب.. والثراء الذى ناله بعضهم عارئة من الاتصال بالأجانب والعمل لهم أو معهم إ! ونشأ عن ذلك أيضا أن أمما كثيفة العدد تذلها الديون التى أخذتها وتكاد تنقض ظهرها، ومع الديون ربا مضاغف، ومعهما جميعا لادين ولا دنيا فى دنيا إلا مايظفر به ص _028(1/21)
الأذناب من فضلات الأرباب... وتذكرت أحاديث كنا نتعلمها فى صغرنا وما انتفعنا بها فى كبرنا! تذكرت ما رواه أبو سعيد الخدرى قال: سمعت رسول الله يقول: أعوذ بالله من الكفر والدين!! فقال رجل: يا رسول الله، أتعدل الكفر بالدين؟ قال: نعم !! وفى حديث آخر: " لا تخيفوا أنفسكم بعد أمنها!! قالوا: وما ذاك يا رسول الله؟ قال: الدين ". وعن أبى موسى أن رسول الله قال: " إن أعظم الذنوب عند الله أن يلقاه، بعد الكبائر التى نهى الله عنها، أن يموت رجل وعليه دين لا يدع له قضاء ". وفى رواية " نفس المؤمن معلقة بدينه حتى يقضى عنه ". وهذه الأحاديث كلها فى الديون التى يأخذها الناس توسعا فى حقوق الآخرين، وإطاعة لرغبات وشهوات مجنونة، مع قلة اكتراث بالوفاء أو استعداد له. ومعروف أن الفقر نوعان: فقر صعلكة وكسل، وفقر سببه الجهاد والبذل، أو إيثار الحلال القليل على الحرام الكثير، أو الترفع عن قبول السحت والرشوة وهدايا السلطة المتاحة للمرء.. الأول معصية، والآخر محمدة، وحال الأفراد والجماعات فى أمتنا الكبرى يرجع إلى النوع الأول غالبا، ففقر المسلمين واستدانتهم، وقلة ذات اليد عندهم ترجع إلى عجز عن مكابدة الحياة، وجهالة بمفاتيح الخير، واستهلاك الأوقات فى البطالة والملذات! إن سعة المعرفة ذريعة إلى سعة الثروة، وإن الخبرة بالدنيا أقصر طريق لخدمة الدين! والمرء قد يمرض فيأسى على الصحة ويبحث عنها، ويعرف قيمة العافية ويحرص عليها، وقد تلحق به أزمة فيمد يده مقترضا أو سائلا، شاعرا بذل الحاجة، ضائقا بأيام الفقر. ص _029(1/22)
أما أن يتحول المرض والفقر إلى دين فذاك تفكير المجانين. وما أكثر الذين جنوا عندنا ثم زعموا- بعد فقدان العقل- أن الدين يكره المال، ويحب المسكنة، ويرتضى لأتباعه التخلف المدنى والعسكرى ، أو الهوان الممادى والأدبى، وأن يعيش المسلمون أذنابا، وأن يعيش غيرهم أربابا! ولعنة الله على العجز والكسل. كنت أسير فى الشارع فوجدت العمال يحفرونه على مدى بعيد، وبعمق كبير، ووجدت انابيب هائلة تمد بلباقة وقدرة، لتكون شبكة الصرف الصحى فى هذا الحى الكبير! وعرفت أن معونة انكليزية مشكورة قامت بالصناعة والتركيب..! ومددت يدى إلى إحدى الصحف كى أغالب السآمة التى تتسلل إلى أعصابى، فوجدت فى الصفحة الأولى خبرين: يقول أولهما: 150 مليون دولار منحة من إيطاليا إلى مصر.. ويقول الآخر : مساعدات غذائية أوربية لمصر قيمتها 10 ملايين دولار، لمناسبة عودة 400 ألف عامل فروا من العراق والكويت فى الأحداث الأخيرة... ومسلسل الأخذ لاينتهى! وستبقى الأكف مفتوحة لتلقى القروض والهبات حتى نستفيق من الغيبوبة التى رانت علينا...! إننا لم ننحرف عن رسالتنا الإسلامية فقط، بل نسينا انتماءنا إلى آدم الذى علمه الله الأسماء كلها، وأهبطه إلى الأرض كى يعمرها بذكائه ونشاطه، أو بكد يمينه وعرق جبينه!! فا المعرفة التى نحصلها- والحالة هذه- إذا كانت من الناحية الدينية مغشوشة.، ومن الناحية الإنسانية مضطربة؟؟ ألا يحتاج مسارنا الفكرى إلى مراجعة؟ ص _031(1/23)
الفصل الثانى أبعاد الوحى الأعلى توضيحا لرسالة المسلمين العالمية وتحديدا لموقفهم المتميز بين الناس، يقول الله تعالى لهم: " هو اجتباكم و ما جعل عليكم في الدين من حرج ملة أبيكم إبراهيم هو سماكم المسلمين من قبل وفي هذا ليكون الرسول شهيدا عليكم و تكونوا شهداء على الناس" وفى موضع آخريقول سبحانه: "وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا " ونلحظ أن شهادة المسلمين على الناس تقدمت فى نص وتأخرت فى نص آخر، وسواء تقدمت أم تأخرت فالمقصود ما قلته بإيجاز فى أحدكتبى: " إن الله ربى محمدا ليربى به العرب، وربى العرب بمحمد ليربى بهم الناس كافة ". ولا ريبة فى أن محمدا عليه الصلاة والسلام قام بما فرضه الله عليه، وأنه أنشأ من العرب المعزولين عن حضارات العالم أمة لانظير لها فى سناء المعرفة، وزكاة الأخلاق، وشرف الحضارة، وأن هذه الأمة التى صاغها محمد فى قالب جديد أضاءت المشارق والمغارب، وأعادت الحياة المادية والأدبية لجماهير من البشر! ظلت ترسف دهرا فى الجهالة والعبودية... ونحن نشهد بذلك بعد بضعة عشرقرنا من بعثته، كنا أصفارا ثم صرنا شيئا مذكورا! فهل يشهد لنا العالم بما نشهد به نحن لمحمد؟ أو بعبارة أخرى: هل وصلنا للناس القول كما وصله هو إلينا، ونقلناهم بالوحى كما نقلنا هو به؟ ص _032(1/24)
إن سلفنا الأول أدى ما استطاع من واجب البلاغ وعبء التعليم والتربية، ثم شرع الأخلاق ينطوون على أنفسهم أو يشتغلون بشئونهم وينسون أنهم شهداء على الناس.. وهذا التقصير بدأ ضئيلا ثم تنامى على مر الأيام.. والمسلمون الآن بين خمس العالم أو ربع، وأغلب سكان القارات لايدرى شيئا عن رسالة الحق، أو. يدرى عنها مالا يشرفها، مالا يغرى بالنظر فيها بله اتباعها.. إن المسلمين- والعرب خاصة- مسئولون أمام الله عن هذه الجهالة السائد ة... ويخيل إلى أن ناسا من استراليا وأمريكا عندما يوقفون أمام الله يوم القيامة ليسألهم: لماذا لم تعرفونى معرفة صحيحة وتعملوا لى عملا صالحا وتستعذوا لهذا اللقاء؟ ! فإنهم سيقولون لله: إن العرب الذين ورثوا دينك، حبسوا نوره، أو أطفؤوا مصابيحه، وتركونا، وتركوا أنفسهم فى ظلام!! وأترك الحديث عن قصور الدعوة وعطل أجهزتها إلى أمر آخر أخطر وأنكى... إن غشا واسعا تسلل إلى ثقافتنا الإسلامية ونال من جوهرها ومظهرها.. إن أكذوبة الغرانيق التى بسطها الطبرى فى صفحات، وأسهب فى الحديث عنها محمد بن إسحاق، والتى عدها السيوطى مما نسخ! ثم أثبتها فى" سيرته النبوية محمد بن عبد الوهاب، هذه الأكذوبة مثل لاضطرابات فكرية وسياسية مبتوتة العلاقة بالدين، نريد أن ننحيها عن ديننا كما ينحى القذى عن الوجه الجميل لتبقى له وسامته... والحمد لله أن القرآن الكريم مصون لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وأن السنة المطهرة يعرفها الحفاظ والفقهاء، وأنها- فى جملتها- تراث صادق لم يعرف التاريخ نظيرا له فى النقاء.. ونحن عندما نعرض الإسلام على الناس- إلى آخر الدهر- يعيننا على نشر ص _033(1/25)
عقائده وقواعده أمران مهمان: الأول: مواثيق الفطرة التى أخذها الله على الناس من ظهور بنى آدم، فنحن أصدقاء هذه الفطرة، نعتمد على سلامتها ونرد المنحرفين إليها "لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم". واحترامنا للعقل قائم، ونزولنا على منطقه حتم، وعدونا فى هذه الحياة التقليد البليد والتعصب الأعمى.. وسلاحنا العتيد: "قل هاتوا برهانكم" وفى كل معركة تشتجر فيها الأدلة لابد أن يخرج الإسلام منتصرا.. ومن ثم لا نشعر ونحن نخوضها بأى تلق... الأمر الآخر: لفت الإنسان بعد نفسه إلى ما حوله! "أولم ينظروا في ملكوت السماوات والأرض وما خلق الله من شيء". وفى المعارف الكونية والإنسانية ألف سائق إلى الله الحق.. وكل تقدم علمى هو دعم لرسالتنا مهما كانت البيئة التى ظهر فيها، قال تعالى: "سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق أو لم يكف بربك أنه على كل شيء شهيد". تجديد الإسلام : كيف ؟ وإن كنا يخامرنا الأسى لحال المسلمين فى القرون الأخيرة، ولمستواهم العلمى الهابط، ولغيابهم عن المجامع العلمية الناشطة، وقد كان من أثر هذا الغياب أن ألف بعض الأوربيين رسالة عن أثر " ألف ليلة وليلة فى التشريع الإسلامى ". والتعتيم على حقائق الإسلام تبذل فيه جهود هائلة، ويشارك فيها شياطين ص _034(1/26)
الشرق والغرب، حتى ليكاد الدين الصحيح يستخفى من دنيا الناس، فماذا نعمل للنهوض بأعباء المنصب الكبير الذى اصطفانا القدر له بعد ما أورثنا القرآن الكريم، كلفنا أن نتعلمه ونعلمه للآخرين؟ قبل الإجابة المفصلة عن هذا السؤال أود أن أقرر أمورا ذات بال! أولها: أن دار الإسلام لم تنصف الوحى الذى شرفت به، ولم تحسن القيام عليه! ثانيها: أن العالم- بعيدا عن ديار الوحى وفى غياب تعاليمه- لم يقف مكتوف الأيدى، بل خط لنفسه مناهج من عنده، اختلط فيها الصالح والطالح.. ثالثها: أنه منذ سقوط بيزنطة، وافتتاح المسلمين للقسطنطينية، اكتشف الأوربيون أمريكا، واستولوا على الأندلس، وبدأ عصر الإحياء، ووقعت طفرة علمية لم تعرف الدنيا شبيها لها منذ بدء الخليقة، كما استقرت نظم اجتماعية وسياسية كثر الحديث فيها عن حقوق الإنسان وكرامات الشعوب! وأخيرا كان الوجود الإسلامى خلال هذا التحول العالمى يتقلص ويتراجع حتى أمسى أطلالا بالية مع مرور القرن الرابع عشر للهجرة!! وقد اضطررت.- وأنا أتحدث إلى الأخلاق الحيارى- أن أضع عشرة تعاليم جديدة تنضاف إلى التعاليم العشرين التى وضعها الإمام حسن البنا، لترميم العالم الإسلامى وإصلاح فهمه وعمله به، والواقع أن الجهاد العلمى فى معركة البناء فريضة لازمة، وإذا لم ننتصر فيه فسيكون عقابنا شديدا.. إن تجديد الإسلام ليس نشاطا فى ميدان واحد بل فى ميادين شتى، وليس صمودا أمام عدو واحد، بل أعداء كثيرين، لعل أشدهم بأسا يكن فى داخل بلادنا! ولا بأس أن أعيد هنا المبادئ العشرة التى اقترحتها ترشيدا لمسيرة الإصلاح عندنا..! ص _035(1/27)
ا- النساء شقائق الرجال وطلب العلم فريضة على الجنسين كليهما، وكذلك الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر وللنساء- فى حدود الآداب الإسلامية- حق المشاركة فى بناء المجتمع وحمايته. 2- الأسرة أساس الكيان الخلقى والاجتماعى للأمة، والمحضن الطبيعى للأجيال الناشئة، وعلى الآباء والأمهات واجبات مشتركة لتهيئة الجو الصالح بينهما، والرجل هو رب الأسرة، ومسئوليته محدودة بما شرع الله لأفرادها جميعا. 3- للإنسان حقوق مادية وأدبية تناسب تكريم الله له، ومنزلته الرفيعة على ظهر الأرض، وقد شرح الإسلام هذه الحقوق ودعا إلى احترامها. 4- الحكام- ملوكا كانوا أم رؤساء- أجراء لدى شعوبهم، يرعون مصالحها الدينية والدنيوية، ووجودهم مستمد من هذه الرعاية المفروضة ومن رضا السواد الأعظم بها، وليس لأحد أن يفرض نفسه على الأمة كرها، أو يسوس أمورها استبدادا... 5- الشورى أساس الحكم، ولكل شعب أن يختار أسلوب تحقيقها وأشرف الأساليب ماتمحض لله، وابتعد عن الرياء والمكاثرة والغش وحب الدنيا. 6- الملكية الخاصة مصونة بشروطها وحقوقها التى قررها الإسلام، والأمة جسد واحد، لا يهمل منها عضو، ولاتزدرى فيها طائفة، والأخوة العامة هى القانون الذى ينتظم الجماعة كلها فردا فردا، وتخضع له شئونها المادية والأ دبية. 7- أسرة الدول الإسلامية مسئولة عن الدعوة الإسلامية، وذود المفتريات عنها، ودفع الأذى عن أتباعها حيث كانوا، وعليها أن تبذل الجهود لإحياء الخلافة فى الشكل اللائق بمكانتها الدينية. 8- اختلاف الدين ليس مصدر خصومة واستعداء، وإنما تنشب الحروب إذا وقع عدوان أو حدثت فتنة أو ظلمت فئات من الناس. 9- علاقة المسلمين بالأسرة الدولية تحكمها مواثيق الإخاء الإنسانى المجرد، والمسلمون دعاة لدينهم بالحجة والإقناع فحسب: ولا يضمرون شرا لعباد الله. ص _036(1/28)
10- يسهم المسلمون مع الأمم الأخرى- على اختلاف دينها ومذاهبها- فى كل ما يرقى ماديا ومعنويا بالجنس البشرى، وذلك من منطلق الفطرة الإسلامية والقيم التى توارثوها عن كبير الأنبياء، محمد عليه الصلاة والسلام. تلك هى المبادئ العشرة التى أقترح إضافتها، والتى أتقدم بها مع التعاليم العشرين لمجدد القرن الرابع عشر الإمام الشهيد حسن البنا، رضى الله عنه. ولمن شاء أن يقبل أو يرفض.. وآخر ما ندعو به: "واعف عنا واغفر لنا وارحمنا أنت مولانا فانصرنا على القوم الكافرين". خطورة الجهل بالآخرين من الأخطاء التاريخية التى أساءت إلينا طويلا جهلنا بغيرنا، وقصورنا عن إدراك أحوالهم العامة، وقد يكون هذا الغير خمما ضاغنا أو عدوا مزعجا.. وأكثر الغارات التى قوضت بيناننا الحضارى كانت تشبه الزلازل المباغتة لا يعرف لها وقت أو تتخذ لها أهبة!! وقد سقطت لنا عواصم، وضاعت من دار الإسلام أقطار، والمسلمون فى غفلات أول الليل التى يقول فيها الشاعر: يا نائم الليل مسرورا بأوله إن الحوادث قد يطرقن أسحارا كذلك طاحت الأندلس، وكذلك تطيح لنا اليوم أرضون فى آسيا وإفريقية وأوروبا.. كانت دراستنا للآخرين صفرا، مع أن الآخرين كانت تغلى مراجلهم ولا يفتئون يفكرون فى النيل منا والإتيان على ديننا من القواعد! أكنا نتدبر الآية الكريمة: "ولا يزالون يقاتلونكم حتى يردوكم عن دينكم إن استطاعوا.. " ص _037(1/29)
وإذ كنا نسينا هذا النذير الإلهى، فيكف ننسى أحداث تاريخ طويل، ترادفت مآسية علينا، ولا تزال تنذر بالويل والثبور؟ إننا جزء من عالم موار بالحركة، وقد تحولت خطاه إلى وثبات فسيحة فى هذا العصر، وأعداؤنا يصارحون بكراهيتهم العميقة للإسلام، وتخطيطهم للإتيان عليه. فحتى متى نجهل ماحولنا؟ يجب أن نندم على هذا الخطأ ونتحرز بعد من الوقوع فيه... - وأرى أن يتكون جهاز ذو نشاط مزدوج، كلاهما يضارع الآخر فى القدرة واليقظة.. ـ النشاط الأول يقوم على الأسس الآتية: (أ) سبر الارتقاء الثقافى والإحاطة بالآماد التى بلغها عرنا حتى نعرف من نخاطب؟ وماذا نقول؟ (ب) إدراك المستوى العمرانى والصناعى والحضارى الذى يسود العالم من حولنا، فإن من الهزل أن تعرض الإسلام أمم متخلفة، ينظر إليها غيرها شزرا، ولاتستطيع أن تساند حقها بدعائم مادية أو علمية. (جـ) دراسة التيارات السياسية والقوى العسكرية التى حظى بها غير المسلمين، وتقدير مانقدمه للأديان والمذاهب الأخرى من دعم، ووضع ذلك تحت أنظار المسئولين. ـ أما النشاط الثانى فهو داخلى يتحرك فى دار الإسلام ويقوم بما يأتى: (أ) محاربة الغش الثقافى والانحراف الفكرى اللذين أبعدا الأمة الإسلامية عن كتاب ربها وسنة نبيها، وجعلاها صورة مشوهة للدين الحق، وأعجزها عن نصرته.. (ب) إعادة بناء الأمة الإسلامية على أساس أن الوحى حياة، وأن فى دراسة الكون أهم ينابيع الإيمان، وأن حسن استغلاله سلاح اقتصادى وعسكرى خطير.. ص _038(1/30)
(جـ) كرر القرآن فى أربعة مواضع السمات الأولى لرسالة محمد صلى الله عليه وسم، وهى تلاوة آيات الله على أنها منهاج العمل، وتربية الأمة على الأخلاق المتينة والتقاليد الظاهرة- وهذه هى التزكية التى لانكاد نعى منها شيئا طائلا- وتعلم الكتاب والحكمة. ونحن للأسف بعيدون عن الحكمة فى أغلب شئوننا، ولانرتبط بمعانى الكتاب وأهدافه.. ولكى يكون انتماؤنا للإسلام واقعا ملموسا لابد من إبراز هذه السمات الثلاث ماديا وسنويا.. (د) غربلة التراث الإسلامى الذى آل إلينا فى هذا العصر لاستبقاء مايوافق الكتاب والسنة واستبعاد ماعداه، ونحن أصحاب وحى معصوم، وفى تاريخنا العلمى قمم وأئمة، قد تختلف أفهامهم فى الفروع الثانوية ولكنهم قلما يختلفون فى الأصول والغايات.. ومن الممكن جمع شتات العالم الإسلامى مع صدق النية وسعة الأفق. ذلك، والجهاز الذى أقترحه ينبغى أن يعمل بعيدا عن الأضواء مكتفيا بنظرالله إليه، كما ينبغى أن يكون مساعدا لجميع الأجهزة الإسلامية القائمة، مثل مجمع البحوث فى مصر ورابطة العالم الإسلامى فى السعودية.. إنه جهاز راصد كشاف، يرقب العالم الإسلامى والعالم كله.. وشغله الشاغل حراسة الرسالة الخاتمة وعلاج مايساورها من عطب، أو يتهددها من كيد، ثم لفت الأجهزة الإسلامية الكثيرة كى تؤدى واجبها.. للشيطان جهود قديمة فى صرف الناس عن الحقيقة، قد تظهر فى إبعادهم عنها أو تجريئهم عليها، وذلك بالعصيان السافر أو الخافت، أو بمنهج آخر أسوأ هو تشويه الحقيقة نفسها والأخذ من أطرافها أو من صميمها.. إن البدعة قد تكون أقبح من المعصية!! والدين منذآدم ونوح ومن بعدهما تعرض للنوعين معا، فالأصنام التى حاربها نوح شمالى الجزيرة العربية- فى أعلى العراق- عادت إلى الجزيرة نفسها، فكان ص _039(1/31)
من العرب من يتسمى: عبد "ود" وعبد "يغوث ".. وقد بنى إبراهيم الكعبة حصنا للتوحيد، ومثابة للركع السجود، وسرعان ماحولها العرب إلى موئل للأصنام تقصد من دون الله، أو معه!! وموسى الذى استنقذ قومه من حكم الفراعنة تحول قومه إلى فراعنة، وتحول التوحيد فى ديانته إلى تجسيد وخرافة، كما تحول فى ديانة عيسى إلى تثليث وقرابين، واختفت معالم الوحى النازل على إبراهيم وموسى وعيسى، فلا يعرف لها وجود... وفى الصحف المنسوبة إلى أولئك النبيين خلط هائل وشرود بعيد... ومع أن رسالة محمد نجت من هذا البلاء الماحق، ومع أن أصولها بقيت نقية محفوظة، إلا أن الشيطان لم ييأس من إلحاق قذى بها يظهر فى تفسيرات بعض القاصرين، وتطبيقات بعض ذوى الأهواء.. وقد رأيت من يستميت فى تقرير أن الإسلام توسع بالسيف، وأكره شعوبا على الدخول فيه بالقوة! وفى سبيل ذلك يلغى أو ينسخ أكثر من عشرين ومائة آية أولها قوله تعالى: لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي.. "". ورأيت من يجادل بغضب فى إقامة الحكم على الشورى، ويرى أن الشورى نافلة يرجع إليها الحاكم إذا شاء، وأن الإسلام لايكترث لأجهزتها ولا لضماناتها. وينظر إلينا ونحن نتحدث فى ذلك على أننا مسحورون بالأنظمة الغربية نريد نقلها إلى أرض الإسلام.. وغنى عن البيان أن هؤلاء أعوان الفرعونية الحاكمة، أو ممهدو الطريق أمامها... وهناك نفرمن الناس يتهمك بمحاربة السنة إذا قلت: إن للفلك حسابا محكما يمكن أن نعرف به مولد الهلال ومغيبة، وهو ينظر إلى قصة رواد القمر على أنها من الإسرائيليات الملفقة... ص _040(1/32)
وفى هذا العصر الذى شهد أزمة للإيمان، وانفصالا بين العلم والدين، والذى يتحرك فيه العلماء الراسخون بثبات لتعريف الناس بالله الأحد الفرد الصمد، بديع السماوات والأرض، ذى الجلال والإكرام، يجيئك شخص شاحب الفكر يقول لك: أفهمهم أن الله خلق آدم على صورته طوله ستون ذراعا "!! وقد يزيد على ذلك: وقل لهم إن له ساقا ورجلا..! إن العقيدة- فى المنطق الإسلامى- لا تثبت إلا من نص قطعى الدلالة والثبوت، وهذه المرويات الآحادية يقبلها من يقبلها، ويأباها من يأباها، ويؤولها من يؤولها، فما معنى استحيائها فى هذا العصر وشغل الأذهان بها؟ أهى فتنة للناس؟! من أجل ذلك نريد أن ننظر فى ثقافتنا الإسلامية المعاصرة لنعيدها إلى قواعدها الأولى!. وكتابنا معصوم جملة وتفصيلا، والسنة فى جملتها ثابتة، ضبطها الفقهاء والعلماء الثقات بما ينفى عنها الأوهام، ويجعلها ضميمة إلى القرآن الكريم، لا نند عنه.. ولا تبعد عن هداه.. ولا ريب أن للسنن المتواترة حكم القرآن نفسه.. ص _041(1/33)
الفصل الثالث أغلفة تغطى الحقيقة العظمى يطيب لى أحيانا أن أقيس نفسى بسكان الأرض من البشر كما تقيس القطرة نفسها أحيانا بأمواج اليم! أقول: ما أنا؟ واحد من خمسة مليارات يطعمها قيم السموات والأرض! تنتشر بين المدائن والقرى! ما أقل شأنى. لكن القضية ليست قضية طعام ميسور أو مجهد، يحيا به هذا الجسد، إن لكل واحد منا عينين وأذنين يطل بهما على الوجود من حوله، والإبصار وظيفة معقدة تنقل صور الأشياء إلى المخ ليميز بعضها عن بعض ثم يتصرف. وكذلك الآذان فى أصداغ الناس كلهم، وقد تكون وظائفها أعقد وأصعب.. على- كى أستبين الحق أن أجيب على خمسة أسئلة فى هذه الآية: "قل من يرزقكم من السماء والأرض أم من يملك السمع والأبصار ومن يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي ومن يدبر الأمر... ". إن عشرين مليارا من الآذان والعيون تقوم بوظائفها فى هذه اللحظة تحت إشراف بالغ الدقة. وهناك أضعاف هذا العدد من الخلايا التى تولد والخلايا التى تفنى، فى كل كيان حى تظل فيه الحرارة، وتتجدد فيه الأنسجة إلى أن يأذن الله بقبضه إليه، ص _042(1/34)
فتخلو منه الدنيا بعد أن جاءها كما كانت خالية منه قبل أن يجيئها . من المشرف على هذه المواكب المتصلة؟ من يدبر أمرها كله؟ إننى فى دنيا الناس الآن- عندما أقيس نفسى بسكان الأرض- أهون من ذبابة فكيف إذا قست نفسى بجموع المستقدمين والمستأخرين من أزل الدنيا إلى أبدها؟ كم أساوى والحالة هذه؟ لقد تضاءلت كثيرا وهذا الخاطر يمز لى، وزاح عنى غرورى، وعرفت أن المحصورين فى أنفسهم يعيشون فى وهم كبير أو فى ظلمة دامسة . . ثم طفربى الفكر طفرة أخرى: ما يكون وزن الناس كلهم بعد ما أسمع هذا النبأ عن أبعاد الكون الذى نرمق ملكوته بقصور شديد؟ يقول الله تعالى: "لخلق السماوات والأرض أكبر من خلق الناس ولكن أكثر الناس لا يعلمون" إن الأرض إذا قيست بأمها الشمس هباءة طائرة، والشمس إذا قيست بالمجرات الأخرى هباءة شاحبة، والشموس والمجرات إذا قيست بملكوت الله حلقة فى فلاة.. وليس يبقى فى العالم الرحب شىء له قيمة تذكرإلا عقل ساجد لله جاث أمام عظمته يقول: "سبحان الله وبحمده سبحان الله العظيم ". إن الألسنة اللاهثة تنقطع وهى فى سباق مع ذرات الوجود قبل أن تحمى ما ينبغى لله من مجد، ومايستحقه من حمد. ولأقرر أن محمدا عليه الصلاة والسلام هو الذى ورث علوم الأنبياء، وقدم لنا فى كتابه ، الحق المصفى. إنه الإنسان الأول الذى أحسن تنزيه الله، وتوحيده، ومدحه والثناء عليه بما هو أهله. والحضارة التى أقامها على ظهر الأرض، أساسها الربانية الخالصة، وشعارها الفذ: الله أكبر. ص _043(1/35)
وجهادها الزاكى الباقى هو لحراسة الحقيقة الواحدة، وإخماد المناوشات التى تعاديها!... وقد لاحظت وأنا وزملائى ندرس العلوم الحديثة، كأن هناك مؤامرة طويلة الذيول لتجهل الناس بالله، وصرفهم عنه، وتعليقهم بأوهام ما أنزل الله بها من سلطان. اسمع هذه الكلمة إن الطبيعة زودت الأرحام بوسائد ينقلب فوقها الجنين فلاتضطرب له أجهزة، ولاتشوه له ملامح مهما كانت الاهتزازات التى تتعرض لها الأم!. ما الطبيعة التى قامت بهذه المهمة الصعبة؟ ذكر هى أم أنثى؟ جن هى أم ملك؟ كيف قامت بمهمتها هذه فى أرجاء القارات الخمس؟ ظاهر أن الكاتبين يتعمدون إسدال حجب خادعة على عمل القدرة العليا، ظاهر أن المراد إهالة التراب على اسم الله! أهذه معرفة إنسانية أم جهالة إنسانية؟ إن البيئة التى نشأ فيها العلم المادى كانت أبعد ما تكون عن احترام الدين لأن الدين الذى عرفته كان أبعد ما يكون عن احترام العقل، بيد أن الحقيقة لا يجوز أن تضيع فى هذه المتاهات الغريبة. واسمع هذا الكلام فى تفسير بدء الخلق: منذ 50 مليون سنة وقع انفجار عظيم فى الكون، انطلقت منه سحب هائلة من الغازات والذرات أخذت تدور هنا وهناك!! ثم تجمعت على مر السنين، فإذا هى تلك النجوم والشموس والعوالم العليا والدنيا التى تشرق وتغرب فى أرجاء السماوات!. انفجار نشأت عن أنقاضه المتناثرة هذه الكواكب الدوارة بحساب دقيق، "لا الشمس ينبغي لها أن تدرك القمر ولا الليل سابق النهار " ونشأت عن مصادفته العمياء أو العوراء أرضنا التى قال موسى فى وصفها ص _044(1/36)
لفرعون، أو فى عمل الله بهاكما عبر القرآن الكريم: " الذي جعل لكم الأرض مهدا و سلك لكم فيها سبلا و أنزل من السماء ماء فأخرجنا به أزواجا من نبات شتى* كلوا و ارعوا أنعامكم إن في ذلك لآيات لأولي النهى" أى انفجار هنا؟ من صاحبه؟ كيف تمخض تلقائيا عن هذه الأفلاك التى لايعوج لها مدار، والتى لايتخلف لها ميعاد فى شرق أو غروب؟؟ هذا هذر باسم العلم! هذا تجهيل متعمد للخالق الحق بديع السموات والأرض.. والذى يراه أولو الألباب أن العلم الحديث، يجب أن يبرأ من هذا التجهيل الكنود، وأن يترك "س " هذه التى ينطلق منها فى علوم الكيمياء والفيزياء والأحياء، وأن يتحدث بأدب وخشوع عن الخالق الكبير.. وهذا التصحيح هو عمل المسلمين الأول، وهو ألف باء الرسالة الإسلامية. والواقع أن علم التوحيد أو علم الكلام هو الذى ينهض بهذا العبء عندما ينسجم مع قواعده القرآنية، ويتخلص من أدران الفكر الإغريق القديم، ويتخلص فى الوقت نفسه من العوام الذين يقفون عند الظواهر القرآنية، ويتحدثون عن الله حديثا يشبه حديث الخرافيين من أهل الكتاب الأولين ويكادون يجسدونه لفرط سذاجتهم.. * * * الدين والمعرفة المظنون أن البلاد التى سعدت بالوحى أدنى إلى الرشد، وأحق بالاستقرار من البلاد التى حرمت منه، فقد تمهد لها الطريق، وانزاحت العقبات، ولعلها تجد فى مسيرتها ما يعرفها بالوجهة ويؤمنها من الأخطار.. لكن ملاحظة الماضى والحاضر تخلف هذا الظن، وتلقى فى أنفسنا أن جماهير ص _045(1/37)
غفيرة تحرم من بركات الدين لسببين: إما زيغ فى القلب أو أفن فى الرأى! وقد يلتقى السببان فى بعض الأفراد أو فى بعض الطوائف... والذى يتدبر القرآن الكريم يشعر بأنه أكثر الحديث عن أهل الكتاب السابقين كى يجنب أصحاب الرسالة الخاتمة قسوة القلب، وضعف الفكر، ويربطهم بالفكرة السليمة والعقل الواعى. وليتنا أبصرنا على أشعة الوحى الخاتم هذه الحقائق! فإن الإيمان يضيع أثره مع كل خلل يصيب العقل، ومع كل هوى يخالط القلب، أو بتعبير أصرح لن يكون للدين موضع يحتله ويعمل منه إذا اختفى الإنسان السوى ، وتعطلت مشاعره، وتعطل أسمى ما فيه وهو تفكيره وضميره! وقد أعجبنى كتاب الأستاذ عبد المنعم خلاف: " أومن بالإنسان " لهذا الملحظ!!. عندما يكون الدين مراسم لفكر سطحى فإنه يتحول إلى أشكال وترانيم، وعندما يكون ذكاء مع شح مطاع وهوى متبع فإنه يتحول إلى مصيدة للمغانم والمآرب.. وأخطأ سقراط عندما قال: الفضيلة المعرفة! ما قيمة المعرفة عند الذين تقودهم شهواتهم؟ "أفرأيت من اتخذ إلهه هواه وأضله الله على علم وختم على سمعه وقلبه وجعل على بصره غشاوة، فمن يهديه من بعد الله، أفلا تذكرون "؟ لابد- مع المعرفة الواسعة- من ضميمة أخرى، هى النية الشريفة، وإخلاص القلب لله..! وقد أفاض علماؤنا الأولون فى أن النجاة تعتمد على الفقه- وهو المعرفة الصحيحة للحكم- وعلى التجرد- وهو البراءة من المآرب الشخصية والتمحّض لله سبحانه- ويظهر أن الجمع بين الأمرين يحتاج إلى جهود مضنية.. هل كان الخوارج مخلصين؟ يرى الكثيرون أنهم أُتُوا من بلادة الفقه وقصر النظر مع حسن نيتهم . ورأيى أن رفضهم السماع من أولى الألباب وأهل الذكر هو لون من العناد ص _046(1/38)
يقدح فى إخلاصهم للحق! ويخرجهم من دائرة الاجتهاد المحترم. الفضيلة هى المعرفة حقا عندما تكون المعرفة باعثة على إرضاء الله وفعل الخير، ونصرة الحق، ومحق الباطل، وتحسين الحسن، وتقبيح القبيح، وما أحوج العالم الاسلامى إلى عارفين من هذا النوع الشريف.. إن البيئات المتدينة فى أرجاء شتى من العالم الإسلامى تتسمم بالقصور والجمود، وتشدها إد التراب طبائع معتفة، والجو الذى تحيا فيه يخالف مخالفة تامة جو القرآن الكريم الملىء بالصحو والضوء والتألق والانطلاق.. لقد شرح لنا الوحى الخاتم علاقتنا بربنا، وعلاقتنا بالناس، فعرفنا أن الله واحد، وأن ما عداه خلق يعنو له، ويهلك إن فقد إيجاده وإمداده، وأننا عائدون إليه البتة؟ بعد انقضاء آجالنا هنا، وأننا محاسبون على الطريقة التى قضينا بها أيامنا على ظهر الأرض.. شرح القرآن ذلك بوضوح لم يعهد فى فلسفة سابقة، ولا فى دين مضى...!. فالإله كما صوره أرسطو يحيا فى غيبوبة خاصة لا يدرى ما يفعله غيره، ولا يعنيه، وهو بتعبير "ويل ديورانت " يملك ولا يحكم مثل ملكة إنجلترا..! ولعل العالم صدر عنه بطريق التفاعلات الكيماوية! إنها ألوهية سخيفة!. أما الإله الثالوث فشأنه لا يقل عجبا، إن إدخال جبل فى قارورة أيسرمن إدخال فكرة التثليث والتوحيد فى دماغ بشر، وكذلك فكرة الخطيئة والفداء... من أجل ذلك انفصل العلم عن الدين، واتخذ لكل منهما وجهة خاصة به، على نحوما قيل: سارت ممشرقة وست مغربا شتان بين مشرق ومغرب أما الوحى الخاتم- وما نحسب فى الدنيا الآن وحيا غيره- فهو يقود البشرمن بصائرهم إلى كون يدل على الله، أو إله تنجلى عظمته فى ملكوته، وتنضح الآفاق بوحدانيته وامتداد سلطانه!! "الله الذي جعل لكم الأرض قرارا والسماء بناء وصوركم فأحسن صوركم ورزقكم من الطيبات ذلكم الله ص _047(1/39)
ربكم فتبارك الله رب العالمين * هو الحي لا إله إلا هو فادعوه مخلصين له الدين الحمد لله رب العالمين ". ومن عجائب الدنيا أن أمة لديها هذا الوحى لا تحسن صحبته، ولا تستضىء بسناه، ولا تتعرف منه على حقوق الله وحقوق الناس!! بل ينظر الناظرون إليها فيجدونها متخلفة عن الركب الإنسانى السائر، يجود عليها هذا بآلة، وذاك برغيف، أو يمتن هذا عليها بدواء تعالج به عللها، أو سلاح ترد به العادين عليها.. أما إنتاجها لنفسها ودينها فصفر. إن الهزائم النفسية والعلمية أنكى فى نظرى من الهزائم السياسية والعسكرية، ويغلب أن تكون هذه نتيجة لتلك.. وقد رمقت الصنم الذى هوى فى أوروبا الشرقية، وكيف تدافعت الشعوب إلى الخروج من سجن الشيوعية، وكيف تعالت صيحاتها وهى تطارد حكام الأمس الدابر، وتستنزل عليهم اللعنات!!. وكنت أحسب الشيوعيين العرب سوف يتوارون خجلا بعدما انكشفت عوراتهم هناك! لكن الذى حدث أنهم تماسكوا ونظموا فى الجزائر مظاهرة نسوية لإلغاء قوانين الأسرة الإسلامية!.. قال لى صديق: لماذا أراك دهشا؟ إن هذا ما صنعه الإسلاميون بأنفسهم! أتريد صورة للإسلام الذى يقدمونه؟ تخيل معرض سيارات فاخرة أحسن الصناع جوهرها ومظهرها، وتطلعت العيون معجبة إلى روائها، فإذا عارض كثير الصياح يقدم بدلها، وفى زحامها دابة نشيطة أو كسولا، عارية أو مسرحة، ماذا يفعل النظارة بها؟ إنهم يسخرون منه ومنها، ويتركونه ودابته! هكذا قدم الإسلاميون الإسلام!!. إن هؤلاء الدعاة يصلحون للعمل فى أسواق الماشية، ولا يجوز أبدا أن يتحدثوا عن إسلام لم يفهموه، ولم يرتفعوا إلى مستواه... ص _048(1/40)
أثر الدعاة على الدعوة: ما الذى دعا الشيوعيات إلى التصايح ضد قانون الأسرة فى الجزائر والمطالبة بإلغائه؟ الذى دعا إلى ذلك خطباء ودعاة إسلاميون، تحدثوا عن موقف الإسلام من المرأة حديثا استفز أولى الألباب، وبعث فى النفوس الوجل من مستقبل يستولى فيه أولئك الإسلاميون على الحكم!. يقول أحدهم: الإسلام يرى أن المرأة إنما خلقت لتلد الرجال!! ويقول ثان: مقار النساء البيوت، ما يخرجن منها إلا إلى الزوج أو إلى القبر! ويقول ثالث: يجب أن تظل الفتاة أمية لا تكتب ولا تحسب! ويرفق رابع بها فيقول: حسبها إتمام المرحلة الابتدائية فى التعليم، وما وراء ذلك لا داعى إليه..!. وبلغنى أن طالبة ساذجة فى أحد المعاهد قالت لأمها: أما يوجد دين آخر أرفق بنا من هذا الإسلام؟؟ لقد شعرت أننى أطعن فى فؤادى عندما سمعت مقال هذه الطالبة!. إن الدين الذى كرم الإنسان ذكزا كان أو أنثى أمسى على ألسنة بعض الفتانين الجهال هوانا بنصف الإنسانية وتحقيرا لها..!. لقد مكثنا بضع سنين فى الجزائر نوكد صدق العلامة ابن باديس عندما أيقظ الإسلام فى صدور الرجال والنساء جميعا، مؤكدا أن الأمة لا تستطيع التحليق إلا بجناحيها، من الرجال والنساء، وواقفا عند قول الرسول الكريم "النساء شقائق الرجال " وقول الله سبحانه: "لا أضيع عمل عامل منكم من ذكر أو أنثى، بعضكم من بعض"... إن غلماناً سفهاء يحملون علما مغشوشا أو جهلا مركبا هجموا على الصحوة الإسلامية، وكادوا يقفون مسيرتها بما ينشرون من ضلالات، ويشيعون عن الإسلام من إفك.. استغل الشيوعيون هوسهم الدينى فقادوا مظاهرة إلى المجلس التشريعى منادين باحترام حقوق الإنسان وحفظ كرامة المرأة.. ص _0 ص(1/41)
ونحن المسلمين أعرف الناس بذلك كله، ولكن سفهاءنا غلبونا على الرأى، وليس أغيظ لنفسى من الدعاة الجهلة عندما ينفرون الناس من الإسلام بسوء تصورهم وتصويرهم له... ولعل هذا ما دفع توفيق الحكيم إلى الخطأ عندما سئل: هل يمكن لدولة عصرية الاعتماد على الإسلام نظاما للحكم؟ لقد أجاب إجابة عشوائية تحتاج إلى تصحيح! قال: ممكن.. ولكن لابد من تفسيرات جديدة للإسلام تتفق والمفاهيم العصرية، فمن المؤسف تبنى البعض تفسيرات القرون الوسطى للنصوص الدينية ". فى هذا الكلام تخليط ظاهر، فالمطلوب هو تفسير الإسلام التفسير الصحيح.. وعندما تعرف حقائق الإسلام فإنها ستكون الدواء الناجع والتقويم الصحيح للأعصار كلها قديمها وحديثها... والدولة الإسلامية التى ظهرت فى القرون الوسطى، قدمت للناس مفاهيم دقيقة صلحت بها أوضاعهم، ولا تزال صلاحيتها للتطبيق قائمة، المهم أن نذود عنها ذوى العقول المختلة أيام دولة النبوة كان رباط المرأة بالعلم والعبادة وثيقا، وكذلك أيام دولة الحلافة الراشدة.. فإذا نبت فى عصرنا من ينكر ذلك لم يحتج الإسلام إلى تفسير عصرى، بل إلى تفسير سلفى، على ألا يقوم بهذا التفسير مغفل جرىء.. تدبر ـ أيها القارئ الكريم ـ ما نقوله لك، وتدبر معه قول الدكتور "لويس عوض " عندما سئل: هل يحافظ الإسلام ـ حتى يومنا هذا ـ على شمول دعوته؟ قال: كلا.. وإذا كان الإسلام قد استطاع التغلب على " بيزنطة " قديما، فلأنه كان ديناً "علمانيا" (!) أكثر من المسيحية فى القرن السابع، وكان معنيا بالأمور الحيوية عنايته بالنواحى الروحية، على حين كان البيزنطيون لا يهتمون إلا بشئون الآخرة، ص _050(1/42)
ثم قال: ويبدو أن ما تحلم به الجماعات الإسلامية المعاصرة هو إسلام بيرنطى!!. نقول: "وهذا الكلام على ما فيه من تشويش بم صائب فى جوانب عديدة... إن أشرف ما تزين به العمانية دعواها هو تطلعها إلى إنسانية سليمة تنمو مواهبها فى جو ضاح من الحريات المصونة، تحرسها عدالة اجتماعية وسياسية ممتدة، وينعم فيها الرجال والنساء، والصغار والكبار بحقوق لا يعكرها افتيات طبقى أو عرقى، وينفتح الناس فيها على الحياة، فيستغلون قوى الكون باقتدار مادى وعلمى لا حدود له..!. إن حضارتنا الأولى كفلت هذا كله وضمت إليه أمرا آخر لا تعرفه الحضارة المعاصرة، هو الإيمان بالله، والتزام هداه، والإعداد للقائه، والشعور بأن هذه الحياة الدنيا جسر إلى ما بعدها من خلود!. ذاك تاريخ سلفنا العظيم، بيد أن الخلوف التى ورثت هذه الحضارة أشبهت أجيال اليهود والنصارى بعد ما قست قلوبهم وخمد فكرهم.. ولا يكون الإنسان سلفيا بعمامة على رأس متحجر، وفكر طفولى، ولا تكون المرأة سلفية بنقاب يشوه ملامح الإنسانية ويطمسها، قبل أن يستر ملامح الوجه وسيئا كان أو دميما. والمفاهيم العصرية التى يتمناها توفيق الحكيم هى هى حقائق الإسلام الذى جاء به الوحى قبل أن يتجرأ عليه أدعياء السلفية، ويقدموه للناس شرابا مرا، يورث المرض والتخلف والهزائم.. والواقع أن أعداء الإسلام- كما رأيت- يفتحون الأبواب للسلفية الحديثة، حتى إذا أدرك الناس فحواها ثارت على الإسلام ثائرتهم، وقرروا الابتعاد عنه، وفضلوا عليه كل نحلة أخرى.. لقد علمت بعد دراسة طويلة أن الملك عبد العزيز كان على حق عندما أدب ص _051
الغلاة من الإخوان الذين تمردوا عليه، ورأوا إعلان الحرب على سياسته الخارجية دون وعى ولا قوة!.
كان الملك- وهو قائد سياسى وعسكرى- أبصر بحقائق الدين من محترفى الفقه، وكان يمكن القضاء على الدولة كلها لو نجح هؤلاء الغلاة فى فرض أنفسهم..
الواقفون أمام الفكر الصحيح(1/43)
إننا فى هذه الأيام كى ننتصر على الإلحاد، وعلى الأعداء المتربصين بالكتاب والسنة، يجب أن نقلم أظافر هؤلاء الواقفين أمام الفقه الصحيح، والعمل الجاد المثمر... إنهم عند البصر الدقيق حرب على الإسلام..
عندما أسقط المرتدون الخلافة الإسلامية فى تركيا؟ أقاموا نظاما "علمانيا" ظاهره الانفلات من الأديان كلها، وباطنه مخاصمة الإسلام وحده، ومتابعة أوروبا فى مظاهر حضارتها المنتصرة..
وكان النظام الجديد عسكريا صارما، بدأ عهده بقتل عدد كبير من رجال الدين الذين قاوموه، والحق أن الشعب كله كان كارفا له، مؤثرا الإسلام فى شئون حياته كلها، بيد أنه فشل فى مقاومة الارتداد المسلح، فاستكان على مضض، وإلى حين، منتهزا كل فرصة لإظهار ولائه الإسلامى وحنينه إلى أن يعود الإسلام المستبعد..
وبديه أن تكون شئون الأسرة والعلاقات بين الجنسين هى فى مقدمة ميادين الصراع بين العلمانية والإسلام.. كان الحكام حراصا على نقل الاختلاط الأوروبى الماجن إلى الشرق الإسلامى كله، وإذا كانوا قد تركوا القرآن خلف ظهورهم، فما الذى كان يرجى منهم؟ "من يتبع خطوات الشيطان فإنه يأمر بالفحشاء والمنكر".
ص _052(1/44)
وقاومت طالبات الجامعة والمعاهد هذا الزحف المنحل، وأصررن على ارتداء الحجاب الإسلامى! إنه سمة الفضيلة"والتحفظ! تبقى المرأة ظاهرة الملامح، ويبقى جسمها مصونا عن الأعين المتلصصة بيد أن هذا الاحتشام أحفظ الملاحدة، فاستصدر قائد الجيش قرارا من المحكة العليا بأن هذا الاتجاه الإسلامى يخالف الثورة الكمالية العلمانية! ومن ثم يجب منعه وقد لاحظنا أن المحكة الدستورية العليا فى فرنسا أقرت. الحجاب الإسلامى ولم تر فيه تناقضا مع النظام العام السائد، وهو حكم معقول، لكن التابع الأحمق قد يكون ملكيا أكثر من الملك! أفكان النظام التركى قادرا على منع الراهبات المسيحيات من ارتداء ملابسهن، وهى أقرب ما تكون إلى الحجاب الإسلامى؟ إنه استأسد على الغافلات المحصنات من طالبات الجامعات وحدهن وليس فيما قلته جديد يستحق التكرار، الذى يستحق التكرار والإنكار أن بعض المنقبات كن يشتمن الطالبات المحجبات ويقدحن فى أعراضهن ويزدن الطين بلة وعندما كنت أدرس فى جامعة الجزائر الإسلامية، كان الطلاب عن يمينى فى المدرج والطالبات عن يسارى ولاحظت أن الوجوم يخيم على البنات بعد أيام قلائل كن يسألننى فيها على استحياء!. وعلمت أن الطلاب الذكور هددوهن إذا سألن فإن صوت المرأة عورة ورددت على ذلك بمنع الأسئلة الشفوية من الجنسين، وقبول الأسنلة المكتوبة وحدها وأكدت ما قررته مرارا أنه لاعورة فى صوت المرأة ولافى وجهها ثم شعرت بأن مستقبل الإسلام فى مهب الرياح إذا بقى الفكر العفن يحتل آفاق الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية على النحو الذى ينشره بعض العلماء. إن الإسلام سيحكم عليه بالطرد من كل ميدان، إذا بقى مصوروه يبرزونه فى ص _053(1/45)
تلك المعالم القبيحة التى لايعرف غيرها الدهماء من المنتسبين إلى الإسلام.. أقول مع أولى الألباب وأهل الذكر: الحرية الدينية حق! فيجىء مغموص جهول يقول: " لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي) آية منسوخة، بطل حكمها..!!. أقول لدعاة السلام فى العالم: نحن قبلكم ندعو إلى السلام، ونكره إراقة الدماء، وما نخوض حربا إلا دفاعا عن عقيدتنا وتأمينا لدعوتنا، فإذا غلام طائش يقول: كلا إن نبينا قال: "بعثت بالسيف بين يدى الساعة، وجعل رزقى تحت ظل رمحى.. "!.. هذا الغلام ما تدبر القرآن، ولا عرف مواضع السيف، إنه يعرف منطق العصابات!. نقول: الأمر شورى، ولا يملك أحد الإفتيات على الجماهير، فيقول: لاشورى، الفرعون الحاكم لاتلزمه الشورى، فهى له معلمة لاملزمة..!!. نقول: يجب احترام حقوق الإنسان فيقول: أى إنسان؟ هذا التعبير بدعة!. نقول: إذا تكونت هيئة الأمم على ما يشبه حلف الفضول انتسبنا إليها؟ لنضبط سيرها، ونحدد وجهتها، ونعلى سيرتها، يقول: هذه دار حرب وحسب..! إلخ. إن هذه العقليات أنزل رتبة من أن تؤتمن على مستقبل شركة مساهمة، فكيف يتاح لها التحدث عن دين كبير ورسالة أورثت الإنسانية أرقى حضاراتها..؟ لكننا نحن المسلمين نعانى من فوضى علمية مخيفة! ولعل غياب الأزهر عن ميادين الثقافة الإسلامية بعض الأسباب فى انتشار هذه الفوضى.. ثم هناك جراءة على شتم رجالاتنا الكبار، حتى كادت أذكى مدرسة فى العصر الحديث تختفى تحت وطأة الإنكار والجحود، أعنى مدرسة "المنار " التى صالحت بين السلف والخلف، والعقل والنقل، والاجتهاد والتقليد، ورسمت أهدافا واضحة للنهوض بالعقل الإسلامى، والطب لأمة عليلة!!. ص _054(1/46)
وإنى- رهبة من مستقبل مقلق- أمد يدى لكل من يخالفوننى فى الرأى، حتى نتعاون على حماية الإسلام من الأخطار الأدبية والمادية التى تتهدده.. ليست القصة انتصار مذهب على مذهب من مذاهب الإسلاميين! إنما القصة حماية الإسلام من عداوات لم يخمد الزمان نارها، عداوات أهل الكتاب من جانب، والملاحدة والوثنيين من جانب آخر.. إن هؤلاء وأولئك امتلكوا من وسائل الإعلام ومن حظوظ المعرفة المادية ما جرأهم علينا! وأعانتهم على ذلك أخطاؤنا، وما أكثرها، وتهاوننا وما أسوأه..!. فى علم الكلام كان فكرى سارحا فى شئون مهمة، وكنت أدعو ربى هامس الصوت عالى الرجاء، وكنت على يقين من أن الله يسمعنى! بل كنت أشعرأنه لوكان هناك على بعد مليارسنة ضوئية شخص آخريصنع صنيعى فإن الله سامعه معى. إن امتداد الزمان والمكان لا يعنى شيئا بالنسبة له تبارك اسمه، فما يغيب عنه شىء فى الأرض ولا فى السماء.. "إن ربى قريب مجيب " سورة هود: 61. وفجأة تحرك داخل نفسى سؤال متطفل: أهو قريب بذاته أم بصفاته؟ إن هذا السؤال المتطاول هو أثر دراسات وقراءات كثيرة تعرضت لها فى حياتى وتعرض لها أمثالى! وهو سؤال قد يكون وليد شره؟ عقلى جامح، وقد يكون حديث نفسي طلعه إلى المزيد من المعرفة. على أية حال لم أرحب بالسؤال، وتذكرت مثلا ضربته عن قدرات البشر العقلية فى مقال قديم: قلت: إن ذبابة تطن قريبا منى وأنا أكتب! ترى أتعرف هذه الذبابة شيئا عن الكتاب الذى أؤلفه؟ بداهة لا.. ما لها وله؟ كذلك علمى وعلم أمثالى بكنه بديع السماوات والأرض!!. ص _055(1/47)
حسبى أن أعرف أن الله واسع عليم، إن أجهزتى العصبية والعقلية لا طاقة لها على ماوراء ذلك. إننى لا أعرف كيف يتحول الخبز الذى أطعمه إلى خلية حية تحس داخل بدنى، قد تكون جزءا من السمع والبصر. وقررت أن أهمل السؤال المطروح! إننى وآبائى من سلف وخلف مجمعون على إعظام الله، وعلى استحقاقه كل كمال "الله لا الة إلا هو له الأعاء الحسنى". وما ثارت شبهة فى نفس أحد حول هذه الحقيقة، فما الذى حدث؟ الذى حدث أن البعض! نظر إلى آيات الصفات، فأجاب عن السؤال الذى عرض لى بإحدى إجابتين: فإذا قال الله سبحانه: "الرحمن على العرش استوى". قال: هذا تعبير مجازى عن انفراد الله بالسلطان المطلق فى ملكوته، !و الغالب على أمره، والقاهر فوق عباده، وليس التربع على العرش كما يسبق إلى الأذهان عادة.. ويقول آخر: كلا، الآية على ظاهرها الحقيقى، وهو الجلوس، ولكنه ليس على ما يفهم الناس، إنه استواء اختص به الخالق الذى ليس كمثله شىء... وكان يمكن أن يقف الخلاف عند مراحله القريبة، وينصرف الفريقان كلاهما إلى ساحة البناء الأخلاقى والاجتماعى والسياسى.. فإن سلفنا الأول من صحابة وتابعين أعرض عن هذه المقولات، ولم يفكر فيها، وخلص للتعليم والدعوة فى نطاق الآيات المحكات.. لكن أمورا- لا نفصلها هنا- جعلت كلا الفريقين يمضى على وجهه إلى نهاية الطريق. فإذا القائلون بالمجاز ينتهون إلى ما يشبه التجريد والتعطيل، وإذا القائلون بالحقيقة يكادون يقعون فيما فزوا منه، من تشبيه..!. ص _056(1/48)
وأمامى كتاب جيد الطبع ردىء المعانى عنوانه: " عقيدة أهل الإيمان فى خفق آدم على صورة الرحمن ". لقد تساءلت: فما معنى قوله تعالى: " وليس كمثله شىء " إذاكان آدم على صورة ربه!. كلا الفريقين ابتعد عن سلف الأمة، منطقا ومسلكا، ولو أن أمتنا شغلت نفسها بهذا اللون من المعرفة أول تاريخها لبقى الإسلام محصورا داخل جزيرة العرب... ولو سمحنا لهذا الفكرأن ينتعش وتتسع مباحثه فسيقضى على الإسلام فى أنحاء العالم، ويتعرض لهزائم ماحقة.. لقد لاحظت أن غلبة الحس على بعض الناس تجعله يتخيل أن الله يغادر عرشه هابطا إلى السماء الدنيا كى يرحم المسترحمين، ثم يعود مرة ثانية إلى استوائه، وهذه سذاجة لايعرفها سلف ولاخلف.. وإنما دفع إليها ما يحشده البعض من آثار موهمة، لا صلة لها بالعقائد- ولو صحت- لأن العقائد مبناها على النصوص القطعية المتواترة... وقد أنعمت النظر فى الخلاف القديم بين فكر السلف والخلف فوجدته أدنى إلى الخلاف اللفظى. إذ الإجماع منعقد على توحيد الله وتحميد وتمجيده، ونفى أى شائبة من نقص عن ذاته الأقدس. وهناك ملحظ ذكرته فى بعض كتبى، أن اللغات من وضع البشر، اخترعوها للدلالة على ما يألفون من أشياء وأشخاص ومعان مأنوسة لديهم. فإذا نقلنا ألفاظ اللغة للدلالة على ما وراء المادة؟ وقع تفاوت يجعل الألفاظ أقرب إلى الرمز والمجاز، وذاك سر- القول بأنه لا يوجد فى الجنة من أحوال الدنيا إلا الأسماء، لأن فيها ما لاعين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر.. ص _057(1/49)
فإذا تحدث الناس بألسنتهم عن الله، أو حدثوا عنه، ففى نطاق ما أوتوا من قدرات مادية ومعنوية، والله أكبر، وهو أجل وأعلى!. إن عامة المسلمين وخاصتهم متفقون على أن ربهم "ليس كمثله شىء وهو السميع البصير". ومتفقون على أن الملائكة والجن والبشر، والنبات والجماد وكل موجود مخلوق له، نال كينونته لأن الله قال له كن. ويتلاشى لفوره عندما يأفل شعاع الإيجاد والإمداد!! ما يمسكه أحد. كنت فى المرحلة الثانوية من تعليمى أسمع شيخى يقول: نفى المعتزلة الرؤية، لأنها تدل على الجهة، والجهة تدل على التحيز، والتحيز يدل على الجسمية، والجسمية تدل على الحدوث، والله منزه عن ذلك كله.. قال شيخى: وهذا كلام لا يلزمنا، فإن الرؤية التى أثبتها القرآن للمؤمنين شىء آخر لا يستتبع كل هذه المحاذير.. إن عالم ما وراء المادة، أو عالم الغيب له سنن أخرى غير ما نألف فوق هذا التراب.. فالقياس باطل!!. أى أن الخلاف لا معنى له، فما يثبته هذا غير ما ينفيه ذاك، وقد جاء الأشاعرة يحاولون فض هذا الأشتباك، وكان لهم فكر يصيب ويخطى، وليس ما وقعوا فيه من أخطاء أثقل مما وقع فيه غلاة الحنابلة من أوهام رفضها أولو النهى.. وتوجد اليوم عصابة من المتعالمين تريد أن تسعر النار، وأن تصب الزيت فى الفرن الذى خمد لتعيد اشتعاله.. وتقع هذه المحاولات المجنونة فى سنوات عجاف، يأكل فيها المسلم رغيفه من علم الغرب وعمله، والمضحك المبكى أن هؤلاء المتعالمين يصنعون المعارك على قضايا الغيوب، وهم يتسولون فتات المعارف الأرضية ممن غلبوهم على أرضهم، وانفردوا بزمام الحضارة وحدهم.. إنهم يقاتلون لإثبات أن الله خلق آدم على صورته، فإذا غلغلت البصر فى ص _058(1/50)
شئونهم وجدت أن انتسابهم لآدم هو من ناحية الجسد!!. أما من ناحية أن الله علم آدم الأسماء كلها؟ فالقوم يسمعون عن غزو الفضاء وتسخير الذرة، فلا يعرفون قبيلامن دبير، وإنما ينادون من مكان بعيد!!. إن الصحوة الإسلامية منتهية إلى الفشل يقينا إذا بقى لهؤلاء الناس صوت يسمع!! ص _059
الفصل الرابع توضيح الصور؟ ومنع الغش أحيانا يكون الجهاد العلمى أسبق عند الله، وأجدى على الناس من الجهاد العسكرى، فإن تصحيح المعرفة ينصف الحقيقة، ويحصن النفوس، ويضبط مسار الأمم إلى أهدافها. وفى عصرنا هذا راقبت معاهدات ثقافية بين الدول الكبرى والصغرى فشعرت كأن الأم الغالبة تريد إحكام قبضتها على الأمم المغلوبة بفرض سيطرتها المعنوية على الدراسة والأدب وأنواع العلوم والفنون، وهى إن أفلحت فى ذلك كتبت هزيمة الأبد على الأم المغلوبة... من أجل ذلك دققت النظر فى المعارف الشائعة بيننا، والتى تكون شخصيتنا الفردية والاجتماعية؟ فإذا لم أجد لأى قضية شاهدين من الكتاب والسنة، فقدت قيمتها، وقد أبحث بعد ذلك عن الطريقة التى تسللت بها إلى معارفنا، فربما وجدت إسرائيليات أو يونانيات، أو جاهليات عربية قديمة!. وقد ينخدع رجال كبار بهذا الدخل ويتورطون فى إقراره! كما ذكر بعضهم أن عمركان ينهى عن تعليم النساء الخط (!)، وهذا أثر منكر، وقدكانت حفصة ابنته رضى الله عنها كاتبة، فلم علمها، أو تركها تتعلم الخط؟ إذا كان ذلك لايسوغ؟. ولم يبق إلا أن يقول أحمق: تعلمت الكتابة فى الجاهلية، فما جاء الإسلام نهى عن ذلك لأن الأمية جزء من غاياته ورسالاته!! ص _060(1/51)
إننى ألفت النظر إلى أن المواريث الشائعة بيننا تتضمن أمورا هى الكفر بعينه.. لقد اطلعت على مقتطفات من الفتوحات المكية لابن عربى! فقلت: كان ينبغى أن تسمى الفتوحات الرومية! فإن الفاتيكان لا يطمع أن يدسى بيننا أكثرشرا من هذا اللغو... يقول ابن عربى فى الباب 333 بعد تمهيد طويل: " إن الاصل السارى فى بروز أعيان الممكنات هو التثليث! والاحد لا يكون عنه شىء البتة! وأول الاعداد الاثنان، ولا يكون عن الاثنين شىء أصلا، ما لم يكن ثالث يربط بعضهما ببعض فحينئذ يتكون عنها ما يتكون، فالايجاد عن الثلاثة والثلاثة أول الافراد.. ". لم أقرأ فى حياتى أقبح من هذا السخف، ولا ريب أن الكلام تسويغ ممجوج لفكرة الثالوث المسيحى، وابن عربى مع عصابات الباطنية والحشاشين الذين بذرتهم أوروبا فى دار الاسلام أيام الحروب الصليبية الاولى، كانوا طلائع هذا الغزو الخسيس.. من قال: إن الواحد لا يكون منه شىء أصلا؟ "الله خالق كل شيء وهو على كل شيء وكيل * له مقاليد السماوات والأرض.. " وفى دنيا الناس يسأل كل واحد عما يفعل ويترك، ويتفاوت آحاد البشر فى قدراتهم وخبراتهم حتى يقول ابن دريد: والناس ألف منهم كواحد وواحد كالألف إن أمر عنى! ومن قال: إن أول العدد الاثنان؟ وهل تكون الاثنان إلا من ازدواج الواحد؟! ثم من قال: إن الاثنين لا يكون عنهما شىء أصلا؟ وإذا كان هو لم ينشأ من أمه وأبيه معا فمم نشأ؟ !! ولكن ابن عربى يمضى فى سخافاته فيقول- عن عقيدة التثليث-: من العابدين من يجمع هذا كله فى صورة عبادته وصورة عمله، فيسرى التثليث فى جميع الأمور لوجوده فى الاصل!. ص _061(1/52)
ويبلغ ابن عربى قمة التغفيل عندما يقول: إن الله سمى القائل بالتثليث كافرا أى ساترا بيان حقيقة الأمر فقال: "لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة". فالقائل بالتثليث ستر ما ينبغى أن يكشف صورته، ولو بين لقال هذا الذى قلناه.. " واكتفى الأحمق بذكر الجملة الأولى من الآية، ولم يردفها بالجملة التالية: "وما من اله إلا إله واحد" وذلك للتلبيس المقصود. هذا الكلام المقبوح موجود فما يسمى بالتصوف الإسلامى! وعوام المسلمين وخواصهم يشعرون بالمصدر النصرانى الواضح لهذا الكلام.. ومما يلفت النظر أن معهد الدراسات الإسلامية بجامعة السوربون قد اتفق مع إحدى العواصم العربية على طبع الفتوحات وإخراجها فى بضعة وثلاثين جزءا . لحساب من يتم هذا العمل فى هذه الأيام العصيبة؟ على أية حال نحن نريد العودة بأمتنا إلى ينابيعها العلمية الوثيقة، ونناشدها ألا تقبل من التوجيهات إلا ما اعتمد على الوحى الصادق، ولدينا ولله الحمد كتاب لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وسنة توافر الحفاظ والفقهاء على ضبطها على نحو لم يقع نظيره لتراث بشر.. إنه مع مطالع القرن الخامس عشر تحاول خرافات الكتابيين كما تحاول خرافات الوثنيين أن تشيع بيننا مقالات وأحكاما تزرى بحضارتنا ورسالتنا، وتضلل الصحوة الإسلامية التى تريد رفع مستوى الجماهير، ووصل حاضرهم بماضيهم الأول.. ونحن بالمرصاد لهذه المحاولات ايا كان مصدرها، بيد أننا نلفت الأنظار إلى قصة الدبة التى قتلت صاحبها، فكم يعاق ديننا من ذريات هذا الدب المخلص الجهول..! كم نعانى من أنصاف متعلمين لا يتقون الله فى النصف الذى عرفوا ص _062(1/53)
ولا فى افصف الذى جهلوا! يريدون بقاء الأمة فى ظلام التخفف والهوان. * * * الغش الثقافى وباء تعرضت له الأمة الإسلامية قديما وحديثا، ثم يتصدى له الراسخون فى العلم فيكسرون شوكته ويكشفون حقيقته، فإما قطعوا دابره ونجت الأمة منه! وإما بقيت له ذيول تختفى هنا وهناك؟ لتنفث شرها بين أولى الغفلة حتى يتيقظ لها العلماء العدول فيتم القضاء عليها ويستريح المسلمون منها.. وتختلف أنواع الغش باختلاف العصور، ولكنها تصدر عن علة واحدة، الذهول عن الكتاب الكريم، والعجز عن تدبره والإحاطة بأحكامه ودلالاته.. قديما قال ابن عربى: إن فرعون تاب وقبل الله توبته، فمات طاهرا وذهب إلى الله مسلما!. فهل يقول هذا الكلام رجل قرأ قوله تعالى عن فرعون: "يقدم قومه يوم القيامة فأوردهم النار وبئس الورد المورود. وأتبعوا فى هذه لعنة ويوم القيامة بئس الرفد المرفود!!. هل يتقدم قومه ليسلمهم إلى مالك خازن النار، ثم يعود مكرما ليدخل الجنة؟! إن مياه البحر الأحمر والأبيض والأسود لن تطهر فرعون أبدا مهما قال: "آمنت أنه لا إله إلا الذي آمنت به بنو إسرائيل... " وابن عربى عابث كذوب... ولنترك هذا النموذج القديم للغش العلمى، ولنضرب مثلا بغش جديد، رجل يتزعم حركة إسلامية كثيرة الصياح يقول: إن الإسلام يقوم على الحرب الهجومية، ويعتمد على التوسع العسكرى، ويجعل السيف أساس علاقاته بالآخرين، ثم يستدل على رأيه الغريب بأن الرسول خرج ص _063(1/54)
من المدينة مغيرا على قافلة قريش وكان يقيم بها آمنا وما أخرجه إلا التعرض العسكرى للعدو وهذا كلام فى غاية الغثاثة والبطلان، فالمسلمون فى المدينة اخرجوا من ديارهم وأموالهم وصودرت عقائدهم وعباداتهم، واستبيح إخوانهم فى الدين وأهدرت حقوقهم. فكيف يوصف تعرضهم لأعداء الله الذين فعلوا ذلك كله بأنه حرب هجومية؟! لم يبق إلا وصفهم بأنهم إرهابيون كما يتهم اليهود الآن العرب! بعد ماطردوهم من أرضهم المصيبة أن بعض المتحدثين فى الإسلام لديهم مقدار هائل من قصرالنظر وقلة الوعى والأدهى من ذلك أن يتحول هذا الفكرالسقيم إلى مبدأ تؤلف فيه كتب وتنبنى عليه مواقف أكثر هؤلاء لايعرفون مكانة الأسرة فى المجتمع، ولا مكانة المرأة فى دعم الأسرة، والشائعة الكبرى التى يطلقونها عن الإسلام أنه يحتقر الأنوثة، ويضن عليها بالحقوق الطبيعية للإنسان السوى، حتى شاع فى أرجاء الدنيا أن الإسلام عدو المرأة وظالمها وواضع العقبات فى طريقها إن أرادت ارتقاء ونساء العالم يشعرن كأن الإسلام يكن لهن البغضاء، ويرى الموت أستر لهن من الحياة إن محمدا أرسل رحمة للعالمين، ونصيب المرأة من هذه الرحمة العامة أن تنال من العلم ما يرفع مستواها الإنسانى، وأن يكون لها فى المسجد ما يرفع مستواها الروحى، وأن يكون لها من الوعى الاجتماعى ما يعينها على الأمر بالمعروف والنهى عن المنكركما افترض ذلك القرآن الكريم أما أن تنشأ فى الحلية كى تكون محظية فحل وحسب! فذلك منطق حيوانى ما عرفه سلفنا الأول، وإن نادى به أناس يدعون السلفية زورا فى كتابنا الكريم ما يضع العلاقات الإنسانية على دعامة ثابتة من التآخى والتراحم. ومع أنى فى هذا العصر أكره زواج المسلم من غير مسلمة إلا أنى ص _064(1/55)
لا أستطيع إنكار حكم ثابت فى دينى ينشى علاقة حب ومودة بين مسلم وكتابية تعيش بين أحضانه وليس هنا مكان للإطالة فى فهم هذه القضية، كل ما أريد شرحه أن الله خلقنا شعوبا وقبائل لنتعارف لا لنتشاكس، وعندما يقترب بعضنا من بعض نرى الآخرين من شمائلنا ما يحببنا إليهم، وما يقفهم على كنوز الرحمة والسماحة التى زخر بها ديننا. وذلك ما يزيل السدود أمام إقبالهم عليه وإعجابهم به والواقع أن فضائل الصحابة والتابعين هى التى أغرت الشعوب باعتناق الإسلام، بعد ما انكسر الاستعمار الرومانى الجاثم على صدورها نعم إن سلفنا فتح البلاد بأخلاقه الدميثة، ومسالكه الزاكية، ولم ير فى الفاتحين إلا محررين نجدوا إخوانهم المظلومين وكسروا قيودهم وردوا إليهم حرياتهم المسروقة هؤلاء هم سلفنا الذين أغرت أحوالهم بدخول الإسلام أما اليوم فاذا ترى؟ جهال يهددون العلماء! وأصحاب عقد يتوعدون أصحاب الفطر السليمة، وعوام سيوفهم خشبية يخيفون من فجروا الذزة، رأميون ربما قدروا على فك الخط يهددون نساء يحملن أعلى الإجازات الدراسية.. أعرف أن حضارة أوروبا وأمريكا تحتوى على مباذل شائنة، إن مؤرخا إنكليزبا مثل "توينبى" حذر قومه من التفسخ والهلاك بهذه المباذل التى تشيع! ما لنا ولهذه الهنات؟ إننا نحاربها بداهة، لكننا لا نستبدل جاهلية عربية بجاهلية أوروبية كلتاهما شر، وإنما ننشد الإسلام وحده لنضع الطيب مكان الخبيث. والإسلام لا يعرفه قوم محبوسون فى سجن التخلف الذى أودعوا فيه من أيام هزائمنا الثقافية والسياسية إلى اليوم ولن أسأم تكرار هذه الجملة الواعية "دين الله أشرف من أن يؤخذ عن أفواه الحمقى " ص _065(1/56)
شرود عن الصواب ضرام الشهوات البادى فى الحضارة الغربية لا علاقة له بدين المسيح، ولا سيرة الحواريين! إن الأنبياء كلهم- وليس المسيح وحده- دعاة إلى التسامى والاستعفاف، ويستحيل أن يقبلوا الرذيلة أو يهادنوها وما روى من تراخى المسيح فى رجم امرأة متهمة، فهمه قصار النظر على غير وجهه. إنه ليس إقرارا للجريمة، ولا استهانة بها، إنه رحمة بالضعف البشرى، وإعطاء فرصة للتوبة، وهو ازدراء لمسالك اليهود الذين ينطوون على أمراض نفسية عفنة، ثم يتظاهرون بالغيرة على صور التدين، والنقمة على أخطاء العاثرين... من أجل ذلك قال للكهنة المرائين: "من كان منكم بلا خطيئة فليتقدم لرجمها.. "!!. إن كلمة عيسى تنبجس من نفس الينبوع الذى جعل نبينا عليه الصلاة والسلام يراجع المقر بخطيئته، ويلقنه العودة عن إقراره!!. والحق أن هناك جماهير من المتدينين على حظ كبير من تحجر العاطفة والرغبة فى البطش، والشماتة فى المخطئين، وهذاكله ناشى عن اضطراب الصلة بالله، والفقه فى دينه... وعند النظر فى أسباب الفساد الجنسى الذى يسود الغرب، لا نرى إلا المواريث اليونانية والرومانية التى سادت أوروبا ثم اتسعت دائرتها فى العصور الحديثة. لقد كان فلاسفة اليونان نماذج محقورة للانحلال والفسوق، وكان جبل الأولمب الذى تسكنه آلهتهم المزعومة مشحونا بأنواع الغرام الحرام والمطاردات الهابطة، ولم يكن الرومان أشرف حالا، بل معروف أن الرومان لما تنصروا لم ينتقلوا إلى الدين السماوى المعروف يومئذ، بل نقلوا هم المسيحية إلى مجتمعهم وصبوها فى قوالبهم القديمة، فلم يصلحوا هم بها بل أفسدوا تعاليمها... وعندما ملكت الحضارة الحديثة العالم، وأعانها تفوقها الصناعى والإدارى ص _066(1/57)
على الانفراد بزمام الدنيا، نشرت مسالكها الجنسية بين الناس، وجعلت جاهلية روما وأثينا تسود الأرض.. وهكذا شاع الدنس، ورأينا عروضا منكرة للجسد البشرى، وفنونا من التبرج تتجدد مع اختلاف الليل والنهار، بل كادت الصلاة الحرام تكون مسالك عادية يعترف بها ويستغرب اعتراضها.. وأعان على قبول هذه الأوضاع أمران: أولهما التفوق العلمى الباهر الذى صاحب حضارة الغرب، والآخر فقدان بديل عملى محترم تطبقه البلاد الإسلامية! بديل يتفق مع فطرة. الله فى الأنفس، ووحيه الصادق فى تنظيم المجتمع البشرى وتزكيته... بل إن البعض وجد الصورة الغربية أجدر بالبقاء من الصورة الإسلامية وهذا شرود هائل عن الصواب يشترك فى وزره المقلدون للغرب الجاهلون بفهم الإسلام من كتاب الله وسنة رسوله. إن الصورة التى حسبت إسلاما وما هى بإسلام أن المرأة كائن ناقص متهم، يحبس فى البيت محروما من العلم والارتقاء، ومن كل نشاط اجتماعى أو سياسى يمس حاضر الإسلام ومستقبله.. لا ترى أحدا ولا يراها أحد، لاتعرف طريقا إلى مسجد أو مدرسة، لايسمح لها بعمل ذكى جاد فى أى أفق من آفاق الحياة، لامجال لها فى أمر بمعروف أو نهى عن منكر أو جهاد عن الإسلام حين يغار عليه!. لا يسمع شهادتها فى الدماء والأعراض! ولا تقبل لها ولاية فى أمر من الأمور!!. وعند الزواج لا يسمع لها رأى، وقد تبلغ مرحلة العنوسة ثم سن اليأس وأولياؤها يرون أن الكفء- فى نظرهم- لم يتقدم لها، فتشيخ وتموت عذراء!!. وعند التأمل نرى تقاليد الرياء تجعل الزواج محنة قاصمة للظهر- والرياء شرك- وقد استقرت هذه التقاليد الجائرة فى أرض الإسلام شرقا وغربا فجعلت ص _067(1/58)
الشباب لايستطيع الحلال إلا بشق الأنفس... ولذلك عندما يذهب هؤلاء الشبان إلى أوروبا وأمريكا يتحولون إلى ذئاب مسعورة وراء الشهوات الميسرة، ومادام باب الحلال قد أحكم رتاجه، فقد تمهد إلى الحرام ألف طريق!. ويظهر أن المرأة- وفق هذه التقاليد الجائرة- يستحيل أن تكون مشرفة على أولادها من ناحية الواجبات المدرسية، أو مشيرة عليهم برأى سديد! كيف؟ والقصور العقلى مفروض عليها!. كما يستحيل أن تدرى شيئا عن قضايا أمتها مع الصهيونية والصليبية، فإذا كانت جاهلة بشئون أمتها المحلية فكيف تدرك شئونها العالمية؟ كأن سعة الأفق وحسن التصرف أمسيا وقفا على نساء العالم كله عدا المسلمات المحصورات!!. النساء فى الحضارة الجديدة يغزون الفضاء، ونحن نفتى بأن صلاتها فى بيتها أفضل من الصلاة فى مسجد رسول الله، ولا بأس أن تختار المكان البعيد عن الأضواء!. كان يجب على أهل الذكر أن يصحوا من رقادهم بسرعة، ويواجهوا الحضارة الحديثة بالبديل الإسلامى الصحيح، حتى يقفوا الفتنة الهاجمة، وهى فتنة لا يقفها إلا الإسلام المطبق فى عهد رسول الله وصحابته لا الإسلام الخارج من أجواف لاتعى، ولا تحسن الأسوة الحسنة... لقد كافأ رسول الله صلى الله عليه وسلم نسوة خرجن رراء الجيش للقيام بخدمات طبية ومدنية.. وبايع نساء تحت الشجرة، ومن قبل فى العقبة الكبرى، وسره أن بعضهن قاتل الكفار.. فلماذا يحرض بعض الشيوخ على تصوير الإسلام سجاناً للمرأة وحسب؟ الأزمة الموجودة الآن فى الأمة الإسلامية أن البعض يريد تخييرها بين أمرين: ص _068(1/59)
إما حبس المرأة فى البيت، وإما إطلاقها فى الشارع، وهو تخيير بين أمرين أحلاهما مر! لماذا لا يعرض البديل الإسلامى، لا من عصور الانحراف، ولكن من عصر النبوة والخلافة الراشدة؟؟ إن الإسلام مهدد بهزائم مخوفة العواقب أمام الغزو الثقافى والغزو العسكرى، ولن يغنى عنه كتاب يقعون على الكتاب والسنة كما يقع الذباب على العسل فتعافه النفوس.. إن هناك دعاة سوء يحشرون يوم القيامة فتانين لأنهم يؤذون الله ورسوله بسوء تصويرهم للإسلام فى هذه الأيام كأن وظيفتهم الصد عن سبيل الله. * * * محنة عبادة الذات قد يغضب المرء ويشتد غضبه لأنه لا يعرف الحقيقة، فإذا عرفها هدأ ولان كلامه! إن الجهل يكن وراء كثير من مساوئ الأخلاق، وعوج المسالك وانتقاص الآخرين!. وعلاج الخلل هنا سهل، لأنه لا يتطلب إلا تعريف الجاهل وكشف النقاب أمامه عما لا يراه.. المشكلة المحيرة أن يتمدى المرء فى خطئه بعد أن استبان له الصواب! كأنه لم يستفد شيئا من العلم الذى أتاه..!. يظهر أن بعض الناس يعانى من داء دفين فيه، لا يشفيه العلم مهما كثر، بل ربما أضراه، وزاده انطلاقا إلى ما يهواه، ولعل هذا يفسر ما نقروه أحيانا من إسفاف لقوم ينتمون إلى أوساط علمية كبيرة. فى مقال للدكتور عوض منصور طالعت أخبارا مستغربة لأناس مرموقين ثبتت عليهم جرائم علمية لا تليق، قال: "ومن المؤلم جدا أن أحد هؤلاء المزورين شاب عربى من الأردن، واسمه ص _069
الدكتور إلياس السبتى (27 عاما)، والذى ذكرت عنه مجلة "ساينس" فى عددها الصادر فى حزيران 1980، أنه "سطا كالقرصان على سبعة بحوث لغيره ونقلها كلمة كلمة، ثم نشرها باسمه فى مجلات علمية مختلفة"!.(1/60)
والدكتور السبتى طبيب غادر الأردن عام 1977 إلى أمريكا، وحصل على الدكتوراه من جامعة فرجينيا، وقد تمكن من نشر 60 بحثا فى 1979 وحدها، وعندما اكتشف أمر بحوثه السبعة المزورة طرد من جامعة فرجينيا، وطلب إليه الاستقالة من برنامج كان مشرفا عليه فى كلية الطب بجامعة بوسطن. واعترفت أشهر كليتين للطب فى أمريكا وهما (جون هوبكنز وهارفارد) بوقوع تزوير لكثير من نتائج الدراسات الطبية التى قام بها أحد العلماء العاملين فيها.
تمكن أحد الأساتذة المميزين من نشر 40 بحثا تحت اسمه، مع أن جميع هذه البحوث قام بها زملاؤه فى العمل، لدرجة أنه نشر فى إحدى المرات مقالا باسمه وحده قبل أن ينشر مؤلفه الأصلى!
من قديم قرر المحققون أنه لا تلازم بين المعرفة والفضيلة، وإن كان العجب لا ينقضى من تورط العارفين فى خطايا لا تتوقع منهم.
عندما انتقل المسلمون من مكة إلى المدينة انتظروا من بنى إسرائيل شيئا من البشاشة والسماح، فهم أهل كتاب، وإذا ضنوا بمحبتهم فلن يضنوا بمهادنتهم! ولكن اليهود كانوا عند أسوأ الظنون، وكان كيدهم للمسلمين أشد من كيد المشركين لهم.. ونزل القرآن الكريم يصحح للمسلمين مشاعرهم الساذجة "أفتطمعون أن يؤمنوا لكم وقد كان فريق منهم يسمعون كلام الله ثم يحرفونه من بعد ما عقلوه وهم يعلمون".
عندما تتحرك النفس الإنسانية بالحقد وتدور على محور هواها فلن يحجزها شىء...
ص _070(1/61)
كان إبليس يعرف الكثير، ورأيه فى نفسه أنه أحق بالاختيار أو الاستخلاف من آدم. كان يرى معدنه أصلب، وطاقته أوسع، وأنه فى أى نزال مع آدم وذريته سوف ينتصر بمكره ودهائه.. ولذلك قال لله: "قال أرأيتك هذا الذي كرمت على لئن أخرتن إلى يوم القيامة لأحتنكن ذريته إلا قليلا" . وقد ضحك من آد م وأخرجه من الجنة! ولا يزال يستغفل الكثير من أبنائه ويسد عليهم طرق النجاة.. ونسى إبليس الحقيقة الأولى فى علاقة الكائنات كلها برب العزة! نسى أن الله يقدم عبدا منكسرا يرنو إليه بأمل، على عبد شامخ ينظر إلى نفسه بإعجاب!. نسى أن عاصيا يتوب أحب إلى الله من طائع متكبر... إن كلمات آدم وزوجته أمام الله "ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين". أكسبتهما الرضوان الأعلى، أما كلمة إبليس "قال أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين". فقد هوت به إلى أسفل سافلين.. لا قيمة للعلم الواسع إذا لم تصحبه عبودية تامة لله.. أما عبادة الذات فقد تكون شر أنواع الشرك، ولذلك أجمع علماؤنا على أن معاصى القلوب شرمن معاصى الجوارح. على أن منطق إبليس من أوله إلى آخره ملىء بالإفك والغباء! إن معدنه ليس أشرف من معدن آدم، فآدم أوتى علما عجزت عنه الملائكة، وهو دون ذلك كثيرا، وآدم يبنى وينشى، أما هو فيهدم ويدمر، وليس الذى يبنى كمن شأنه الهدم.. ص _071(1/62)
ربما مكث الفلاح عدة شهور فى حقله حتى يجعله مهتزا بسنابل القمح، وقد يجىء فاتك يشعل النار فى الثمار فيأتى فى بضع دقائق على الأخضرواليابس فأى الرجلين أشرف؟ وشىء آخر لابد من تقريره، من الذى ألهم الذكى ذكاءه، والعبقرى عبقريته؟ إنه الله! فكيف يقف الآخذ المتلقى متحديا للمعطى ولى النعمة؟؟ " إن الفضل بيد الله يؤتيه من يشاء والله واسع عليم * يختص برحمته من يشاء والله ذو الفضل العظيم ". وقد هدى ابن عطاء الله السكندرى إلى هذا المعنى عندما قال: " من مدحك فإنما مدح مواهب الله عندك، فالفضل لمن منحك لا لمن مدحك ". إن ولدا لآدم عرف الحقيقة التى تاه عنها المتكبر الطائش، وقد استكبرإبليس على آدم ثم اشتغل بعد قوادا لبعض ذريته! فما أحقر المصيرالقريب والبعيد!. ومن عجب أن "عبادة الذات " انتقلت من الشيطان الأكبر إلى بعض المتدينين الذين يدورون حول أنفسهم، وبدلا من أن يمكنوا الدين من إصلاح عيوبهم يفسدون هم العبادات بالرياء وإرضاء النفس، وقد جاء فى السنة أن هؤلاء أول من تسعر بهم النار يوم القيامة، ونعوذ بالله من علم لاينفع.. رأيت بعض أدعياء التدين فوجدت فى ملامحهم جهامة، وهبت من شمائلهم ريح منفرة واستطالة على الناس بغيرشىء... الدين تواضع لله، ودماثة فى الأخلاق، واستغفار للفرد والجماعة، وافتقار ظاهر وباطن إلى رحمة الله، وهؤلاء بقليل من العلم وكثير من الدعوى قطعوا تسعة أعشار المسافة إلى الجنة، ثم نظروا للآخرين شزرا.. إن وجدوا خيرا تجاوزوه، وإن وجدوا شرا ضاعفوه، أو هم كما قال الشاعر: إن يسمعوا ريبة طاروا بها فرحا عنى وما سمعوا من صالح دفنوا ص _072(1/63)
هل هم مستكبرون بعلم؟ نظرت فى علمهم فرأيت عقولهم صفرامن علوم الكون والحياة، وصفرا كذلك من جملة العلوم الإنسانية، أما علوم الدين فربما برعوا فى زاوية ضيقة من زوايا الفروع الفقهية التى لاترجح كفة يوم الحساب.. وما وراء ذلك خواء تعصف فيه ريح الوحشة... ما أشد بلاء أمتنا بهؤلاء الناس. * * * مكتبة الإسكندرية والغزو الثقافى فى هذه الأيام يستغل الغزو الثقافى الأقمار الصناعية لتسميم أفكارنا وتدويخ أمتنا، وكان يجب أن تتضافر الجهود لتقوية الدفاع وإحباط الهجوم، وإذا ماجن مغرور يقول لك: يجب إعلان الحرب على الجهمية! ! لقد تغير العدو، وتغير الميدان، وتغيرت الأساليب، وأضحت خدمة القرآن والسنة بحاجة إلى فكر معاصر ونظر أبعد!. لكن داء أهل الكتاب الأولين تسلل إلى نفر من الناس يجمعون بين ضحالة العقل وقساوة القلب، فلاتسمع منهم إلا هجرا ولاترى إلاكبرا!. كنت مع صديق لى أغشى مجلس علم، فإذا أحد هؤلاء يقول لى: ألا تزالون فى الأزهر تدرسون الأديان الثلاثة؟ يعنى مذاهب الفقهاء أبى حنيفة ومالك والشافعى!! فتأملت وجهه وتألمت لحال الأمة... إن الصحوة المعاصرة يجب أن تخلو من هؤلاء حتى تستطيع الانطلاق. الجامعات الأوروبية والأمريكية تدرس الإسلام دراسة بالغة السوء، مناهج محورها الجهل المركب، وأساتذة إما يهود رسب فى أفئدتهم حقد القرون، وإما ملاحدة يحاربون الوجود الإلهى الحق، كأنما يدافعون عن حياتهم، وإما صليبيون بينهم وبين محمد ثأر لايطفئه إلا الدم... أما البحث الحرالمحايد النزيه فلا وجود له! وفى هذه الأيام يوجد تعاون بين قسم الدراسات الإسلامية بالسوربون، وبين المسئولين عن العلوم والآداب ص _073(1/64)
والفنون عندنا على إخراج كتاب الفتوحات المكية فى بضعة وثلاثين سفرا فى نسخ أنيقة فاخرة، لتيسير تداولها بين الناس، ولنشر فكر ابن عربى الذى تحتاج إليه أوروبا فى هذه الأيام . ورئيس قسم الدراسات الإسلامية فى باريس رجل أعيانا ولاؤه للغرب وكرهه للكتاب والسنة، ونشاطه المحموم ضد العرب والمسلمين!. وقد كشفنا خبيئة الدكتور أركون فى كل ت سابقة، فضحنا فيها مواقه ضد الإسلام جملة وتفصيلا. والسعى لإحياء أفكار ابن عربى جزء من تضليل أمتنا، وتعتيم الرؤية أمامها، أو هو عرض لدين مائع يسوى بين المتناقضات، إذ قلب ابن عربى - كما وصف نفسه- دير لرهبان، وبيت لنيران، وكعبة أوثان، إنه تثليث وتوحيد ونفى وإثبات... وماذا تقول فى رجل يفسر قوله تعالى: "إن الذين كفروا سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون". بأن المقصود هم الأولياء الخلص، ومعنى كفروا ستروا محبتهم لله وختم الله على قلوبهم فلا يدخلها غيره، وعلى سمعهم فلا يسمعون إلا منه، وعلى أبصارهم فلا يرون إلا نوره، ولا يؤمنون بك يا محمد". هذا الكلام الغث هو قرة عين الصليبيين وأمثالهم، وهو ما يراد الآن نشر على أو مع نطاق بتعاون بين القاهرة وباريس!!. إننى أسأل: ما علاقة المجلس الأعلى للعلوم والفنون بكتاب هذا موضوعه؟ ولماذا لم يقل لرجال السربون: اتصلوا بالأزهر ليرى رأيه؟!!. إن علماء الأزهر فى العصر الأيوبى أنكروا تفكير هذا الرجل، وحكموا ص _074(1/65)
بكفره، وأودع السجن ليلقى جزاءه، ولكن أصدقاءه نجحوا فى تهريبه... والذى أذعره أن الملك الكامل- وموقفه من الصليبيين يشبه موقف السادات من الصهيونية- هو الذى أعان على إطلاق سراحه ليبقى مع غيره من زعماء الباطنية يفتتون الجبهة الداخلية، وينشمرون الخرافات القاتلة لعقائدنا وأخلاقنا، ويعجزوننا عن مقاومة الغارات السياسية والعسكرية المترادفة علينا... واليوم- مع اشتداد وطأة الغزو الثقافى- يراد إحياء ابن عربى، وليكن هذه المرة عن طريق المؤسسات العربية بالقاهرة. إن فرنسا تمكر بنا، وإن الدور التبشيرى لجامعاتها مستمر وإن بدا فى صور شتى، وقد بلغنى أن ساستها الجدد- وإن كانوا اشتراكيين- قالوا: إن ما أعطاه "ديجول " للعرب عقب هزيمته فى الجزائر، سوف نسترده بطريق الغزو الثقافى اللين الخادع!. فهل نستيقظ قبل فوات الأوان لمواجهة هذا الغزو فى كل ميدان..؟ إن تتابع هزائمنا الثقافية يجعلنى أتشاءم من نتائج المعركة الدائرة الآن بين الإسلام والهاجمين عليه والمشوهين لسمعته! فدوائر المعارف المؤلفة فى الغرب تنسج الأكاذيب عن تاريخنا ونبينا، وعقائدنا وتعاليمنا.. ولايزال نفر من علماء الدين غرقى فى خلافاتهم التافهة لايتيقظون للدفاع عن دينهم المهدد وسمعته المجرحة... ماذا تقول إذا قرأت فى دائرة المعارف الفرنسية للعلامة "لاروس ": "إن محمد ا كان كاردينا لا يطمح إلى تولى منصب الباباوية، فما عجز عن تحقيق رغبته اختلق ديئا جديدا يشبع به أطماعه فى الرياسة.. "؟!. إذا كان هذا كلام علمائهم فماذا تنتظر من الجهال؟ من أجل ذلك اعترانى تفكير عميق عندما علمت أن الجهود دائبة لإعادة بناء مكتبة الإسكندرية.. إننى- من معرفتى بدينى- أحترم مصادر المعرفة، وأرحب ببناء المكتبات، وأسعى إلى حراستها وتخليدها، وأقدر الجهود التى تبذل فى ذلك. ص _075(1/66)
وليس يعنينى طراز المبانى ونوع الهندسة إن الذى أهتم به هو الكتب التى ستعرض على القارئين، لقد سمعت أن المكتبة سوف تصور الثقافة السائدة فى البحر المتوسط.. حسنا، فى شمال هذا البحر اليونان والرومان، واللاتين في فرنسا وإسبانيا، وفى جنوبه المغرب الكبير ومصر، وفى شرقه فلسطين المحتلة ولبنان الختل، والشام وتركيا العلمنيتان... ولقد قامت المكتبة القديمة وبادت ولا صلة لها بيهودية ولا نصرانية ولا إسلام، كانت تمثل الفكر السائد فى عصرها الأول، فهل ستكون المكتبة الحديثة إنسانية عامة تعرض علوم الكون والحياة، والتقدم الباهر الذى بلغه عصرنا الحاضر فى الكشوف المعجبة لأسرار هذا العالم وقواه؟ ليكن..! ولعل ذلك يرضينا جميعا. إن الذى أحذر منه أن تكون المكتبة جسرا لفلسفات بالية، وتعصما وضيعا لماض كان الأوروبيون فيه لا يمثلون شيئا ذا بال من خصائص الإنسانية الرفيعة، ويريدون اليوم أن يستأنفوا جحودهم لنا واجتراءهم علينا.. وما سمعته عن أجنحة المكتبة المقترحة يثير شكوكا كثيرة.. إن الإسلام اليوم دين جريح، تنتمى إليه شعوب أغلبها من العالم الثالث، ولا يساوى تخلفها المادى إلا تخلفها المعنوى، وإذا كانت الأسفار التى تملأ الدواليب والرفوف من أنواع دوائر المعارف الأوروبية الحالية، فمن الخير ألا تقوم هذه المكمبة اعلم مقدما ما سيقال عن ثمانية قرون من تاريخ الإسلام فى الأندلس، وأعلم مقدما ما سيقال عن تاريخ الإسلام فى وادى النيل والشمال الإفريقى كله، وأعلم أن هناك جهودا رهيبة لإحياء حزازات عرقية ضد رسالة محمد ، والكثرة الكبرى من السكان الذين اعتنقوها.. ومن ثم فإننى أطالب بأن يكون تمثيل الإسلام عادلا وواضحا عند تأسيس مكتبة تصور ثقافة البحر المتوسط على اختلاف العصور، إننا يستحيل أن نهادن الغزو الثقافى فى أية صورة يبدو فيها. ص _076(1/67)
شعاع من عظمة الله مصنع السيارات فى أوروبا وأمريكا يخرج السيارة قوية الآلات أنيقة المظهر، ثم تنقطع صلته بها بعد بيعها، فليس يدرى من راكبها؟ ولاكم ميلا قطعت؟ ولا أين تنطلق أو تتوقف؟ لقد صنعها وغابت عنه وغاب عنها... هل العالم كله- وهو صنع الله الذى أتقن كل شىء- يسير على هذا الغرار؟ اكتسب وجوده من خالقه ثم سار وحده مستقلا بنفسه؟ كلا كلا!. إن الإشراف الأعلى يكتنف حركاته وسكناته من جميع جهاته، وقد اتفق المؤمنون على أن الكون يستمد بقاءه ونظامه لحظة فلحظة من رب العالمين. فالقمر يدور حول الأرض ليست له عيون يبصر بها المسار، ولا به خزانات وقود يقطع بها الطريق، إنما يشرق ويغرب بهداية خالقه.. والأرض التى نحيا فوقها مهاد جدير بالدراسة بدءا من قشرتها اليابسة إلى مركزها الحافل بالمواد المصهورة والسوائل الحارقة، إن العلم الإلهى يخترق أعماءها ويضبط كل ذرة فيها لو شاء زلزلها فهلكنا، أو ثبتها فبقينا.. وفى القشرة الأرضية ألوف من أنواع النبات بين أزهار وحشائش وحبوب، كل نبتة فيها تحت سمع الخالق وبصره منذ وضعت البذرة إلى أن تم الحصاد، وكذلك سائر الأحياء.. وإلى هذا يشير القرآن الكريم "إليه يرد علم الساعة وما تخرج من ثمرات من أكمامها وما تحمل من أنثى ولا تضع إلا بعلمه ويوم يناديهم أين شركائي قالوا آذناك ما منا من شهيد " إن بيوتنا تضاء من تيار كهربى يجىء من خارجها، وقد قرر العلماء أن وجود العالم ليس من ذاته، وإنما هو مفاض عليه من البديع الأعلى، "إن الله يمسك السماوات والأرض أن تزولا ولئن زالتا إن أمسكهما من أحد من بعده إنه كان حليما غفورا ص _077(1/68)
أعرف أنه ليس فى هذا الكلام جديد، وما أحسب مسلما يمارى فيه! لكن بعض الناس تساءل: كيف يدير الله العالم؟ كيف يدبر أمره؟ كيف يضحك ويبكى ويميت ويحيى؟ كيف تتعلق صفاته بالمجرات الكبيرة فى الوقت نفسه الذى تتعلق فيه بالذرات التى لا تكاد تبين؟ إنه من الممكن أن أحيا دون الاشتغال بهذه الأسئلة! فأنا أحيا دون أن أعرف سر الروح السارية فى أوصالى، وأحيا دون أن أعرف سر الضوء الذى يغمر الآفاق! هذه أسئلة يدفع إليها الفضول والتطاول.. والذين اشتغلوا بها وبنوا عليها نتائج مهمة انتهوا إلى متناقضات، فمفنهم من دان بوحدة الوجود، وظن علاقة الله بالكون كعلاقة الروح بالجسد وهذا جنون وقع فيه بعض المتصوفة.. ومنهم من ألغى قانون السببية، وظن أن الإيمان لا يصح أو لا يتم إلا إذا قلت فى كل شىء الفاعل هو الله. فإن أفهمته أن هناك شبكة من الأسباب ينتظم بها الوجود، قد تكون غطاء للقدرة العليا، ولكن القادر الأعلى قد ناط بها الحياة والموت، والحركة والسكون، ظن بك الظنون... إن القرآن الكريم تحدث عن الأسباب التى تكن وراء ما نرى وما لا نرى من الموجودات! يقول تعالى: "وأنزلنا من المعصرات ماء ثجاجا، لنخرج به حبا ونباتا، وجنات ألفافا". ويقول: "هو الذي أنزل من السماء ماء لكم منه شراب ومنه شجر فيه تسيمون ". وقد تقرر فى تجاربنا أن الماء يروى، وأن النار تحرق، وأن السكين يقطع وأنه أشاب الصغير وأفنى الكبير كر الغداة ومر العشى!. وقد نسب القرآن الكريم الأعمال الإلهية إلى الأشياء التى لا تعى، "كلتا الجنتين آتت أكلها و لم تظلم منه شيئا.. " وقال العلماء: إن هذا على سبيل المجاز والفاعل الحقيقى هو الله سبحانه، والأسباب كثيرة ومعقدة ومتراكبة، ونحن ننسب النتائج إليها من باب الإلف والحس، فلابد فى الذرية من زواج، ولكن ص _078(1/69)
ما يصنع الزوجان؟ إنهما عند التأمل لا يخلقان شيئا! وهل التراب والماء حول بذرة القمح يصنعان السكر والنشا والعناصر الأخرى فى حبة القمح؟ إنه فى ذراع من الأرض تنبت شجيرات متجاورة للورد والنعاع والقرنفل والجرجير! ما الذى هدى التراب إلى التفاعل مع كل شجيرة حتى تنضج وفق خصائصها وطعومها وروائحها؟ الواقع أن غشاء الأسباب قد يرفد جدا أمام بعض العيون فلا ترى إلا الصفات الإلهية، وقد يغلظ أمام عيون أخرى فلا ترى إلا الأسباب الحسية… وبعد أن تؤمن بأن الله خالق كل شىء عمر عما ترى بما تريد فلا حرج.. وقد تمهلت كثيرا فى تصديق ناظم العقائد عندنا-: ومن يقل بالطبع أو بالعلة فذاك كفر عند أهل الملة ومن يقل بالقوة المودعة فذاك بدعى فلا تلتفت وربما قال بعضهم: إن الجاذبية الأرضية بطبيعتها تضم الأشخاص والأشياء إلى هذا الكوكب! وتسترد ما يحاول الإفلات منه فتسقطه!. لا حرج عليك أن تقول هذا مادمت مؤمنا بقوله تعالى: "ألم نجعل الأرض كفاتا * أحياء وأمواتا.." ؟ هذا الكفت وهو الجذب والضم من صنع الله وحده، وقانون الجاذبية تصوير له، فإذا نسبت إليه ما يقع فلا حرج والتعبير مجازى.. وقانون الأجسام الطافية ثابت، إنه معرفة لبعض خصائص الماء فى حمل الأوزان والأحجام، وهو من دلائل القدرة العليا " ومن آياته الجوار فى البحر كالأعلام " تستطيع أن تنسب سبح السفن إلى السبب أو إلى خالق السبب، متنقلا بين الحقيقة والمجاز، والمهم اليقين بعمل الله "الذي خلق فسوى * والذي قدر فهدى". قال لى أحد التلامذة: لا مجاز فى القرآن! قلت له: أين الأغلال فى أعناق الكافرين الذين قال القرآن عنهم: "إنا جعلنا في أعناقهم أغلالا فهي إلى الأذقان فهم مقمحون " ص _079(1/70)
.. وأين السدود التى تحيط بهم من خلف ومن أمام فى قوله سبحانه: "وجعلنا من بين أيديهم سدا ومن خلفهم سدا فأغشيناهم فهم لا يبصرون" يا بنى إن المجاز موجود فى الكتاب والسنة وآداب العرب، بل موجود فى ألسنة الناس كلهم من عجم وعرب.. الغريب أن الطالب شرع يقاوم بما لا يفهم فانصرفت عنه حتى لا يتهمنى بالكفر، ومما أيسرذلك على بعض الناس. إن عمل القدرة العليا متنوع وراء صنوف الخلق، إن هذه القدرة وراء العقل المفكر، ووراء الغريزة المهتاجة، ووراء النبات الذى يشق التربة صعدا، ووراء الجماد الذى لا يتحرك إلا أن يحركه الآخرون.. وبعض الناس يقول: مادامت القدرة وراء الشجر والحجر فهما سواء!! ومادامت وراء البشر والبقر فهما- فى فقدان الإرادة المستقلة- سواء!!. وهذا فكر مردود... فإن الله وزع الخصائص على صنوف الخلق، وهدى كل نوع إلى أداء وظيفته، وجعل الإنسان مسئولا برأسه عن نفسه، ولم يجعل الحيوان كذلك. والإنسان بطبيعته طلعة إلى استكشاف المجهول، ويود لو يعرف كيف تتفاوت القدرة، وتتفاوت الأقدار وراء أنواع المخلوقات، فهل جهازه العقلى يقدر على اكتناه ذلك؟ لقد حاول إبراهيم عليه السلام أن يعرف شيئا من ذلك عندما قال لله: "رب أرني كيف تحيي الموتى"؟ فبم أجيب؟ لقد رأى بالفعل أن الله أحيى الموتى؟ إذ عادت الطيور المذبوحة إلى الحياة مرة ثانية! فهل عرف: كيف؟ إن ذلك فوق طاقتنا. ص _080(1/71)
إننا نحن البشر خلقنا لأداء رسالة كبيرة على ظهر الأرض، ومنحنا حرية الحركة يمنة ويسره، وقيل لكل امرئ أنت صانع مستقبلك، إما إلى جنة وإما إلى نار، فهل يستطيع نابغة أو بليد أن يعرف كيف يتم التنسيق بين عملنا المستقل، وإشراف الله على حياتنا؟ وإدارته لأجهزتنا؟ ما يستطيع اكتناه ذلك بشر وإن كان حقا، وعجزنا عن ذلك لا يعنى أن الحجر والبشر سواء فى الوجود والوظيفة والغاية المرسومة.. وفى ذلك يقول أبو حنيفة رضى الله عنه: "هذه مسألة قد استعصت على الناس فأنى يطيقونها؟ هذه مسألة مقفلة قد ضل مفتاحها، فإن وجد مفتاحها علم ما فيها! ولن يفتح إلا بمخبر من الله يأتى بما عنده. ويأتى ببينة وبرهان. وقد قال القوم من أهل الجدل فى هذه المسألة: أما علمتم أن الناظر فى القدر كالناظر فى شعاع الشمس كلما ازداد نظرا ازداد حيرة!!". ويقول أستاذنا الشيخ محمد أبو زهرة: لقد اندفع العلماء فى هذه الحومة من الجدل، وتباينت أقوالهم، واختلفوا، وكان اختلافهم فى أمر فيه متسع للخلاف، ولم يكن فى أمر معروف من الدين بالضرورة، إنما كان خلافا فلسفيا على هامش الاعتقاد وليس فى لبه، وهو على أى حال اختلاف يضل السارى فيه، ولايجد علما من أعلام الهداية ينتهى عنده. ولقد أمر النبى صلى الله عليه وسلم بالإيمان بالقدر خيره وشره، وقال عليه الصلاة والسلام فيما رواه البخارى: " كل شىء بقضاء وقدر حتى العجز والكيس ". وكان الصحابة يؤمنون بقدرة الله تعالى، وبأنه خالق كل شىء، ويؤمنون بالقدر ولا يخوضون فيه، بل إذا جاء القدر أمسكوا، ولكن الذين يريدون أن يثيروا الحيرة الفكرية بين المسلمين كانوا ولا يزالون يثيرون الكلام فى القضاء والقدر، وصلته بالتكاليف والثواب والعقاب، ولقد سأل بعض الناس الإمام ص _081(1/72)
على بن أبى طالب رضى الله عنه: عن القضاء والقدر وصلته بالجزاء، فأجابه على بما يزيل الشبهة، من غيرخوض، ثم ختم كلامه بقوله: "إن الله أمر تخييرا، ونهى تحذيرا، وكلف تيسيرا، ولم يعص مغلوبا، ولم يرسل الرسل إلى خلقه عبثا، ولم يخلق السموات والأرض وما بينهما باطلا، ذلك ظن الذين كفروا، فويل للذين كفروا من النار". وإن الذى يستخلص من كلام الإمام على بن أبى طالب الذى نقلناه آنفا: أن علينا أن نطيع الله تعالى فيما أمرنا به، وأن نجتنب ما نهانا عنه، وحسبنا فى ذلك أننا نعلم ونحس ونشعر بأننا مختارون فيما نفعل، وأننا فى استطاعتنا أن نفعل، ولا نفعل، وأنه يكفى ذلك لنشعر بما يجب علينا وما لا يصح لنا، إن الاشتغال عن ذلك بتعرف أمر مغلق، قد ضاع مفتاحه لايجدى فتيلا. ولقد قال فى ذلك الإمام الصادق رضى الله عنه: "إن الله تعالى أراد بنا شيئا، وأراد منا شيئا، فما أراده بنا طواه عنا، وما أراده منا أظهره لنا، فما بالنا نشتغل بما أراده بنا عما أراده منا"؟ فهو رضى الله عنه يندد بالذين ينصرفون عن التكليف إلى الكلام فيما كتبه الله علينا من خير أو شر، وإن العصاة هم الذين يبررون عصيانهم بما كتبه الله تعالى، ومنهم الذين يثيرون هذه القضية، ليضعفوا العزائم عن العمل… لقد صور الأشعرى المسئولية الإنسانية عن العمل بكلمة "الكسب والاكتساب " وصورها المعتزلة بكلمة "خلق الأفعال ". ويقول المشير أحمد عزت فى كتابه "الدين والعلم ": إن هذه العناوين الكلامية تختلف ألفاظها، وتتقارب دلالتها، ولا معنى للانقسام حولها والتنابز بالألقاب.. والرجل صادق فى حسه، وماكان ينبغى أن تتألف فرق لخلافات شكلية فى أغلبها... وإن كنا نلحظ أن الأشاعرة أكثر مع الله أدبا، فهم يثبتون له وصف الحكمة، ولايقولون يجب عليه فعل الصلاح والأصلح، ويفردونه بصفة ص _082(1/73)
الخلق، ولا يقولون عن الإنسان إنه خالق أفعاله، وإن كان مسئولا عنها... ويظهر أن تأثر المعتزلة بفلسفة الإغريق وراء هذا الشطط، وليت المسلمين ما قرؤوا هذه الفلسفة ولا صححوا لها ترجمة، إن إثمها أكبر من نفعها.. ومن الخير أن نعود إلى ينبوع القرآن نستقي منه ونستفيد، فذاك أولى وأصح.. ليس الذى يبنى كمن شأنه الهدم ذخرى يوم الحساب أن الله ورسوله أحب إلى مما سواهما لقد تسلل شعاع من عظمة الله إلى نفسى، فأبصرت قصدى، وأوتيت رشدى، ورجوت غفران الله لخطئى وعمدى!. إن هناك سؤالا لابد أن يواجه كل إنسان! أيكون محياه لنفسه أم لربه؟ فمن أسلم وجهه لله وهو محسن فقد استمسك بالعروة الوثقى، ومن قرر أن يكرس عمره لإشباع لباناته وإدراك مآربه فقد خاب وخسر... إن إمام الأنبياء استقبل هذا التوجيه الالهى وعمل به، وهو "قل: "قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين * لا شريك له وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين". ومن أجل ذلك أخبرنا عليه الصلاة والسلام أن أول ثلاثة تسعر بهم النار- ونعوذ بالله من الخذلان- قارئ ومجاهد ومتصدق- وهم بعللهم الخفية يعكرون رونق الدين ويضللون سيرته.. ودورانهم حول أنفسهم يزين يلهم ظنون السوء بالآخرين، والطعن فى أحوالهم وأعمالهم.. ومن رءوس هؤلاء قتلة عمر وعثمان وعلى رضى الله عنهم، فقد اتهموهم بما هم منه براء ثم استباحوا دماءهم، وكانت جراءتهم عليهم بالغة، ما احترموا شيخوخة ولا سابقة ولا علما، ولهم فى ذلك سلف سيىء الجهول الذى قال لرسول الله: اعدل فهذه قسمة ما أريد بها وجه الله ! يريد أن يعلم إمام الخليقة، فكيف يقسم ولا يظلم!. ص _083(1/74)
الإسلام معرفة حسنة لله وانقياد تام لأحكامه، وافتقار حقيقى لعطائه وتوفيقه، وانسلاخ عن الأثرة والكبر، ونظر منصف عطوف إلى عباد الله فلا قسوة ولا جبروت. وقد عشت بين المتدينين من هواة ومحترفين، فرأيت عددا منهم ينسى الأصول ويبالغ فى الفروع، ويخفى وراء كلمة الإسلام صلفا يثير الدهشة، وهو يرى القشة عند غيره ويذهل عن الخشبة فى عينه..!!. كان ابن ملجم يرى عليا جديرا بالقتل! أما هو فمن أهل الفردوس الأعلى!!. وفى تدبرى للقرآن الكريم والسنة الشريفة رأيت الإسلام يبنى الشخصية الإنسانية على سلامة الفطرة وأصالة الفكر، فمن فسدت فطرته وغامت فكرته هبطت عبادته، فما تساوى عند الله شيئا، "وما يذكر إلا أولو الألباب" وعلى هذه الأسس يقوم الإصلاح الحقيقى للنفس البشرية. أنا لا أنتمى إلى فرقة من الفرق ولا أتعصب لمذهب من المذاهب، وإنما أنظر بأدب وتواضع إلى المذاهب الإسلامية كلها، مدارس المفسرين والمحدثين والفقهاء والأصوليين والفلاسفة والمتكلمين والمتصوفين... وأبحث عن الحق بتجرد.، وفى مجال إصلاح النفس انتفعت برجلين من مشارب مختلفة، أولهما ابن قيم الجوزية، والآخر ابن عطاء الله السكندرى، وما ألزم أحدا برأيى، فإن الجامع الأول والأخير بين المسلمين أجمعين هو كتاب الله تعالى.. ثم من استبطن هذا القرآن خلقا له، وبلغ الأوج فى هداية الناس به وتربيتهم بحكمته.. المثل الكامل لسائر البشر محمد بن عبد الله.. وعصرنا الحاضر أحوج العصور إلى الحكمة القرآنية والسيرة النبوية فى التهذيب وجهاد النفس والهجرة إلى الله من عالم الشهوات الجلية والخفية... ألا فلنعلم أن من عمى عن وجه الله، واستيقظ من نومه ليتحرك حول نفسه وأهوائه ليس للآخرة فى وعيه حساب فهو هالك، "إن الذين لا يرجون لقاءنا ص _084(1/75)
ورضوا بالحياة الدنيا واطمأنوا بها، والذين هم عن آياتنا غافلون. أولئك مأواهم النار بما كانوا يكسبون ". وذكر الله أكبر من أن يكون حركة شفتين، إنه يقظة قلب ورؤية آيات، ونصح خالص وهضم للنفسى وإعظام لله وحده... من وثق بما فى ايدى الناس وارتاب فيما بيد الله كيف يكون مؤمنا؟ من أحب أحدا أكثر من حبه لله كيف يكون مؤمنا؟ "ومن الناس من يتخذ من دون الله أندادا يحبونهم كحب الله والذين آمنوا أشد حبا لله". من لم يخامر قلبه وجل من الله، وإنما يخاف فقط فوت منفعة أو وقوع ضرر كيف يكون مؤمنا؟ ألا يدرى قوله تعالى: "واعلموا أن الله يعلم ما في أنفسكم فاحذروه" وقوله: "وإياي فارهبون" إن الإسلام ينشعب شعبتين: إحداهما تمس القلب لتنشىء فيه مشاعر الرغبة والرهبة، والصبر والشكر والتوكل والحب، إلى آخر ما أفاض المتصوفة فى شرحه، وامتلأت كتبهم به، وفى طليعتها كتابات ابن عطاء الله وابن القيم وغيرهما من السابقين واللاحقين... والشعبة الأخرى تتصل بالعقل لتغرس فيه عقائد وأحكاما شتى، وقد غصت كتب الفقهاء والمتكلمين بهذا النوع من المعارف المهمة.. وما تغنى شعبة عن أخرى. بيد أنى لاحظت أن العوام لهم اهتمات مثيرة، فهم يكترثون لوضع اليد فى الصلاة، أتكون تحت العنق أم فوق الصدر أم على السرة!. أكثر مما يكترثون لفريضة الخشوع، أو لضرورة تدبر ما يتلى من قرآن... إن المراسم الظاهرة تعنيهم، وقد يتطاولون على الأئمة لاختلافهم فى هذه الهيآت، وهذا داء قديم حاول ابن تيمية علاجه فى كتابه، "رفع الملام عن الأئمة الأعلام "، كما حاول أبو حامد الغزالى ذلك فى كتابه: " فيصل التفرقة بين الإيمان والزندقة ". إن التدين الصورى وراءه أمداد دافقة من القصور العقلى والغرور الأعمى، ص _085(1/76)
وقد يدفع إلى اقتراف رذائل منكرة، وقد جاءنى أحد تلامذتى بشكوى جديرة بالتأمل، قال لى: إنه كتب دفاعا عن كتابى الأخير "السنة النبوية " ونشره، ففصلته المؤسسة التى يعمل فيها.. وقرأت الدفاع فوجدت الرجل يقول لخصومى: إذا كان قد ساءكم هذا الكتاب، فهناك عشرات من مؤلفاته تستدعى الرضا، على نحو ما قال أبو الطيب: فإن يكن الفعل الذى ساء واحدا فأفعاله اللاتى سررن ألوف لقد التحق الموظف المفصول بعمل آخراتصل به رزقه!. وتحدثت مع صديق لى فى القضية كلها فكانت إجابته: لقد نفيت أن وجه المرأة وصوتها عورة، وأبحت لها ولاية الأعمال الإدارية والسياسية، فأنت جدير بالنفى من الأرض على الأقل.. قلت: أهذا دين؟ قال: سيتحالفون مع الشيطان ضدك!!. قلت مرة أخرى: أهذا هو الدين؟!. كانت نبؤة الرجل صادقة، وكنت أيضا صادقا عندما ساءت ظنونى بعبيد المراسم والأشكال.. ص _087(1/77)
الفصل الخامس حقائق فى التربية هل حدة الذكاء وسعة العلم تغنيان عن طيب النفس وشرف الخلق؟ كلا، إننا نمقت الذكى الشرير، ونوجل من معاملته! ونعتقد أن النفس الصغيرة لا تزيدها المعرفة الكبيرة إلا قدرة على الأذى، وطاقة على الإساءة! ومن الخطأ أن نحسب الدين معرفة نظرية أو قراءة طويلة! إذا لم يكن الدين كبحا للهوى، وامتلاكا للطبع فلا خير فيه ولا جدوى منه. وقد أكد القرآن الكريم أن تزكية النفس الإنسانية هى الغاية من شتى التكاليف والتزكية المنشودة هى التربية الصحيحة، هى تصفية المعدن الإنسانى من شوائبه، وجعل الغرائز كلها تحت رقابة العقل المؤمن فلا تطغى ولا تجمح.. والناظر فى الحضارة الحديثة يراها ارتقت كثيرا فى ميادين الكشوف الكونية، واستغلت المطابع فى نشر ألوف الألوف من الكتب والصحف، واستغلت الكهرباء فى إنشاء دور الإذاعة المختلفة، وفى تسخير الأقمار الصناعية لمزيد من الاطلاع والتعليم- فهل كان ذلك تقدما إنسانيا حقا؟ إن الأثرة الفردية والجماعية ضربت مع هذا التقدم وتفاحشت الشهوات والمظالم، وظهر الفساد فى البر والبحر.. واتسعت دائرة الإلحاد والتدين الجاهل، مما يجعلنا نقرأ الآية الكريمة: "أفرأيت من اتخذ إلهه هواه وأضله الله على علم وختم على سمعه وقلبه وجعل على بصره غشاوة فمن يهديه من بعد الله أفلا تذكرون". ص _088(1/78)
إنه لابد من عمل يقوم به المرء داخل نفسه حتى تصلح! عمل مرهق جاد ؟ يكسرالرغبة الجامحة، ويخصع الإنسان لوصايا الرحمن " فأما من طغى * و آثر الحياة الدنيا * فإن الجحيم هي المأوى * وأما من خاف مقام ربه و نهى النفس عن الهوى * فإن الجنة هي المأوى " .وأشكال العبادات لاتصنع ذلك التغيير الحاسم.. إذا لم تمح الصلوات الحسد والحقد من نفسك، فلا صلاة لك، السجود الحقيقى ليس انطواء الجسم أمام الله بل هو انقياد القلب لهداياته ووصاياه. الخيط المعقد لاينحل ويسترسل إلا بفك عقده عقدة عقدة، ولا تفيد فى ذلك تغطية ولا تحلية، والنفس المعقدة لا تعود لفطرتها ولا تستقيم مع سجيتها إلا بعد ذهاب عللها، وعودة العافية إليها... فإذا كانت العبادات استعانة بالله على بلوغ هذا الهدف، وإذا قبلها الله، وأعان الضارع فى ساحته فأصلح نفسه، وأقام عوجه، فالعبادة صحيحة مقبولة، وإلا.. فالوضع لم يتغير.. إننى أراقب نفسى وأراقب من حولى فأرى أن بيننا وبين الصلاح الحق بعدا، سببه أننا قد نعرف الدواء ولانحسن التداوى ولانصبر على مطالبه. وهناك من يجهل أنه مريض، ويقاوم من يطلبون له الشفاء بل قد يزعم أنه هوالطبيب الخبيربكل شىء! فلنعد مرارا إلى فهم الآيات الكريمة " ونفس وماسواها، فألهمها فجورها وتقواها، قد أفلح من زكاها، وقد خاب من دساها" إننى لا أستطيع الفصل بين تقوى الله وحسن الخلق! ربما عاملنى شخص ما بلطف، ونظر إلى بوجه طليق، وهذا شىء أحمده له.. لكن ما العمل إذا كان هذا الشخص لايذكر لله عهدا، ولايشكر له نعمة، ولايدين له بولاء؟ هل أعد هذا الشخص فاضلا لأنه أحسن معاملتى على حين أساء معاملة ربه؟ ص _089(1/79)
أعرف أن الحضارة الحديثة أغفلت الجانب الإلهى وأسقطته من كل حساب، لكن هذا المسلك من أوزارها لا من مناقبها.. الإنسان الخيرلا ينقسم على نفسه فيكون طيبا هنا وخبيثا هناك بل تسود خلاله صبغة واحدة ووجهة ثابتة.. نحن نعد أعداء المجتمع البشرى مجرمين لأنهم يعتدون وينحرفون والقرآن الكريم يثبت الصفة نفسها على من يخاصم الله ويلحد فى دينه " ومن أظلم ممن ذكر بآيات ربه ثم أعرض عنها إنا من المجرمين منتقمون " . وعندما نسمع نصح لقمان لابنه، نراه يمزج بين حسن معاملة الله وحسن معاملة الناس " يا بني أقم الصلاة وأمر بالمعروف وانه عن المنكر واصبر على ما أصابك إن ذلك من عزم الأمور * ولا تصعر خدك للناس ولا تمش في الأرض مرحا إن الله لا يحب كل مختال فخور" . إنها سفالة بعيدة القرار أن يكفر امرؤ بالله ويعالن بحربه، ثم ينتظر من الناس التقديرلأنه ابتسم لهم بعدما تجهم لسيده! مايقبل ذلك أحد! ومعنى الإيمان بالله أن أكون أهلا لمعرفته وجدير بالانتماء إليه، ولايصلح لذلك إلا من هذب نفسه، وصان مسلكه، إنك لا ترشح نفسك لصحبة كبير إلا إذا أصلحت هيئتك، وزكيت سيرتك، فكيف ينتمى إلى الله مسف فى أحواله، مسىء فى أعماله، مريب فى خلاله؟! الواقع أن بعض المنتسبين إلى الدين ينفرون منه بما يلاحظ عليهم من انحلال وهبوط.. والتدين الفاسد عدوان مضاعف على الدين الحق، وهو جريمة ارتكبتها أمتنا فى العصر الأخير. لابد من جهاد دائم للنفس حتى تبرأ من رذائل الأثرة والهوى والعدوان.. وأى دين يبقى مع بقاء هذه الآفات؟! يقول الله تعالى: " وأحضرت الأنفس الشح " ص _090(1/80)
مصالحه، أما أن يخرج من بيته كما يخرج السبع من غابه، لاهم له إلا أن يفترس ويغتال فهذه وحشية، الحيوان لايفكر إلا فى نفسه وأولاده، وبعض الناس ينطلقون فى الشوارع لاتملكهم إلا هذه الفكرة، فهم ينتقلون من منحدر إلى منحدر.. وبعض آخر مشغول بهدم الآخرين، والبحث عن عيوبهم، والتسلى بآلامهم.. ولا أدرى لماذا يتخيل بعض الناس أنه لايبنى نفسه إلا إذا هدم غيره؟ ! وهناك باحثون عن اللذة، يمدون أعينهم إلى المكشوف والمستور من العورات، وقد حسبوا أن من حقهم إشباع شهواتهم لأن الكبت لايجوز، وحبس الرغبة المحرمة من وصايا الأديان البالية! وهناك متملقون يقبعون تحت أقدام السادة معلنين الطاعة ومنتظرين الأوامر ليمدحوا هذا ويشتموا ذاك. إن فقدان التربية السليمة، والتدين الحق جعل الدنيا جحيما، وجعل العلاقات البشرية فى الحضيض.. والحل الفذ أن نعود إلى حقيقة الدين، فنوثق علاقاتنا بربنا، ونحسن الصلاة له والخشوع بين يديه، ونجعل علاقاتنا بالناس محكومة بمعالم التقوى وخشية الله والتأهب للقائه.. إن الدين فى الغرب نهج لخدمة الرجل الأبيض، واستغلال ثروات الأرض، ونسيان الدار الآخرة، وقد لفحتنا ألسنة من هذه النار المندلعة، فلنعد بالدين إلى حقيقته، ولنجعله ربانية طاهرة، وأخوة مواسية، وصالحات مبرورة "ومن يسلم وجهه إلى الله وهو محسن فقد استمسك بالعروة الوثقى وإلى الله عاقبة الأمور". وهناك أمر أجدنى مسوقا إليه وأنا أتأفف لما عرا امتنا، وهو أمر قد يبدو ص _091(1/81)
علميا، ولكنه عندى من صميم الأخلاق، ودعائم التربية.. * * * الحضارة لا تبنى بخصام الكون يستحيل أن تقوم حضارة إسلامية تخاصم الكون وتجهل مفاتحه، أو تخاصم الإنسان وتجافى فطرته، لأن القرآن الكريم يبنى الإيمان على فهم الكون ودراسة الإنسان. ورجال محمد عندما بنوا لكتابهم دولة، كانوا يسبحون في بحر الحياة، ويتعاملون بذكاء مع تياراته ومده وجزره، أو بتعبير الدكتور " لويس عوض " كانوا علمانيين خبراء بالمادة والمجتمع وشئون الحياة كلها. سئل الدكتور لويس: هل يحافظ الإسلام حتى يومنا هذا على دعوته الشاملة؟ فأجاب: كلا، وإذا كان الإسلام قديما قد استطاع التغلب على بيزنطة فلأنه كان دينا علمانيا أكثر من الدين المسيحى فى القرن السابع، كان دينا معنيا بأمور الحياة، كما كان معنيا بالغيبيات والروحانيات! على حين كان نظام بيزنطة روحانيا مغرقا فى الغيبيات.. ثم قال الدكتور: ويبدو أن ما تحلم به الجماعات الإسلامية هو الإسلام البيزنطى ولست بصدد التعليق الموسع على كلام لويس عوض، وإنما يهمنى الإشارة إلى أن التربية الإسلامية الصحيحة تقوم على فقه واسع فى الحياة والأحياء، فى الأرض والسماء، فى كل مايؤثر فينا ونؤثر فيه، حتى لكأن ذلك كله ديننا ودنيانا، وأولانا وأخرانا.. ثم تسخير مابلغناه بعد ذلك لإرضاء ربنا وكسب آخرتنا، وفق الآية المعروفة " تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علوا في الأرض ولا فسادا والعاقبة للمتقين " ص _092(1/82)
يستحيل أن يكون الجهل بالحياة دينا، أو أن يكون الفشل فيها تقوى! املك الدنيا بذكاء واقتدار ثم وجهها لإعلاء كلمة الله، وإعزاز الإيمان ورفع رايته.. إن من يملك صفرا فى شئون الدنيا لن يكون إلا صفرا فى شئون الآخرة، وقد رأيت أقواما لاقدم لهم فى آفاق المعرفة يريدون الحديث عن الله ودينه، فاستغربت جراءتهم وقلت: "الرحمن فاسأل به خبيرا ". كيف يعرف الله أو يعرف الناس به جاهل بالعالم ومافيه، وبالتاريخ ومباهجه ومآسيه.. إن القرآن كتاب لايرتفع إلى مستواه رجل عادى، ومحمد لايستطيع التأسى به إلا إنسان فى عقله نور وفى قلبه نور. لايمكن بناء قاعدة للتربية حتى نحدد أولا موقفنا من الدنيا. أنعيش لها أم للدار التى بعدها؟ أم للاثنتين معا؟ إن الحضارة الحديثة انطلقت من قاعدة مهدها عصر الإحياء من خمسة قرون، قاعدة بشرية عقلانية، تدرس السموات والأرض وما بينهما، وتستكشف أسرار المادة، ثم تجعل ثمرات الدرس والكشف لخدمة الإنسان! هل للدين موضع فى هذه الدراسات الجاده الدءوب؟ كلا، لقد وقعت عداوة دامية خسيسة بين العلم والكنيسة. جعلت العلماء يعتقدون أن الدين مرادف للجهالة والجمود، وأن رجاله أوثان حية رديئة ينبغى الخلاص منها.. فأين الاسلام عندئذ؟ لقد انتحر المسلمون فى الأندلس، وقضى عليهم العفن السياسى والترف الاجتماعى وانشغال العلماء بقضايا جزئية ومسائل جدلية! لم يكن الأندلسيون فى النصف الثانى من تاريخهم نماذج مقبولة للإسلام، بل كانوا ينفرون منه، وفقدوا فقدانا تاما خصائص الدعوة والدعاة.. وهذا البلاء انتقل من الشرق الإسلامى إلى المغرب، فإن فساد السياسة ص _093(1/83)
والاقتصاد والعمران تكاثرت جراثيمه، وتنامت نتائحه حتى قضى التتار على الخلافة المعتلة، ثم قضى الصليبيون من بعد على الدويلات الإسلامية فى الأندلس، والتى كان شغلها الشاغل التنازع على السلطة والثروة.. صحيح أن الأتراك رفعوا راية الخلافة، واستطاعوا فى زحف باهر أن يخترقوا شرق أوربا حتى النمسا، لكن الأتراك كانوا قوة عسكرية، ولم يكونوا فجرا ثقافيا جديدا، ولو صحبهم جهاز للتربية والتعليم، والبلاغ المبين لكان لهم فى الأقطار المفتوحة شأن آخر!! إنهم رفضوا أن يتعربوا كما رفض العرب أن يؤثروا على أنفسهم، وأن يتركوا السلطان لغيرهم، فكان التوسع الإسلامى خاليا من بذور الحضارة الأولى، ومن أسباب الحياة الصحيحة، فسرعان ما انهار، وانهار العالم الإسلامى بعده، وأصبح أثرا بعد عين! أما الأوربيون، فبعيدا عن الدين قرروا حرياتهم السياسية، ووضعوا " الماجناكارتا " بعد قتل الملك المستبد- حدث ذلك فى انجلترا- واشتعلت الثورة الفرنسية، وكانت هى الأخرى كافرة بالدين، ووضعت لأصحابها نظاما آخر، وكانت ثورة تتسم بالبطش وتسرف فى الفتك.. ثم جاءت الثورة الحمراء مصحوبة بسيول من الدماء، وألوان من الوحشية، وقد هدمت الكنائس بعدما فرغت من أهلها، أما المساجد فقد دفنت أهلها فيها، ومصاب الإسلام فى الاتحاد السوفيتى يحتاج إلى دراسات واسعة!! المهم بعد هذه النظرة الخاطفة أن حضارة الغرب قامت من قرون على الكفر بالله، وإن كانت قد انتفعت ببعض المخلفات الإسلامية والإنسانية فى نهوضها.. بيد أن شيئا مثيرا قد حدث مع بدايات القرن الأخير، فإن الصليبية لعقت جراحها، وأخذت تقترب من المنتصر، تتود إليه، وتعرض عونها عليه، وكذلك فعلت الصهيونية، واصطلح الجميع على إحراج الرسالة الخاتمة، والاستيلاء على ميراثها الضخم، وقد بدأ لكل عين أنه ميراث لاصاحب له، أو بتعبير آخر لاحارس له!! ص _094(1/84)
وشعر أتباع محمد بحرب الإبادة تقترب منهم، ونيات الغدر والفتك تلفح كيانهم.. واستيقظت نوازع الحياة فى الأمة المنكوبة، وشرع المدافعون فى ميادين العلم والتربية، والاقتصاد والعمران، يتنادون لإنقاذ الرسالة التى أحدق بها العدو من كل ناحية... إن البلاء شديد، ولكن طريق الخلاص منه واضح، وبقدر ما نثوب إلى رشدنا ونستمسك بكتابنا تقوى الحصون، ويتراجع العادون.. والأساس تربية صالحة على نحو ما فعل سلفنا الأولون، فما معالم هذه التربية؟ التكليف حتى قيام الساعة: التربية عمل يستغرق العمر كله، منذ بدء التكليف إلى انتهاء الأجل، ومن الخطأ تصور أنها بناء يتطلب بضعة شهور أو بضع سنين يعقبه استجمام واسترخاء. المؤمن مع نفسه كقائد السيارة يظل يقظا طول الطريق، وإلا فقد يهلك فى ساعة إغفاء.. وقد ألفنا فى حياتنا أن نجعل طلب العلم مراحل، وأن نمنح الدارسين إجازات أوشهادات تدل على مانالوا منه... فهل التربية كذلك؟ لا! إن الأقساط التى ننالها من الاكتمال النفسى لم توضع لها سلالم واضحة، ولم ترصد لها علامات، يبدو لأن علم ذلك- عند الله وحده أولا، ولأن التربية ليست مناهج موقوتة، يقاس تحصيلنا فيها حينا بعد حين.. إن المرء يجاهد نفسه بالغدو والآصال، سائرا إلى ربه بثبات، والسائر إلى الله يترضاه بفعل ما أمر وترك مانهى، ولايزال سائرا يطوى مراحل حياته، حتى إذا قارب النهاية قيل فيه: " الذين تتوفاهم الملائكة طيبين يقولون سلام عليكم ادخلوا الجنة بما كنتم تعملون ". لقد طابت نفسه كما يطيب الثمرعلى أغصانه، ثم يجىء الحصاد فى إبانه، ص _095(1/85)
فإذا نفس تهيأت لسماع النداء الأخير "يا أيتها النفس المطمئنة * ارجعي إلى ربك راضية مرضية * فادخلي في عبادي * وادخلي جنتي". وتتناول التربية الإنسان من عدة نواح: الأولى شعوره بنفسه- أعنى عبادة الذات- فالشعور الإيجابى بالذات يكاد يكون حجر الزاوية عند بعض الناس، وهو أساس الفخر والكبر وحب الظهور، وطلب الثناء والانسياق مع مطالب الرياء، وهو مصدر الحقد والحسد والعداوات الممتدة ظاهرة وباطنه.. والواقع أن الإنسان عندما يدور حول نفسه وحدها، لا يصلح لشىء ولا يصلح به شىء، ولعل ذلك سر اتفاق العلماء على أن أعمال القلوب أهم من أعمال الجوارح. وأن معاصى القلوب أخطر من أنواع العوج الأخرى.. ولن ينجو المرء من هذا الداء إلا إذا وثق روابطه بالله، وصفى نيته معه، وحرص على ابتغاء وجهه وانتظار ما عنده.. وجعل هضم النفس، واحتقار العاجلة أغلب على سيرته، وأوضح فى شتى معاملاته.. ويختلف حب الناس للشهوات اختلافا واسعا، نعم إنهم متفقون على إجابة غرائزهم البدنية، بيد أنى لاحظت أن هناك من يحب الطعام، وهناك من يحب النساء، وهناك من يحب المال، وهناك من يحب الشهرة، وقد يضحى بشهوة فى سبيل أخرى آثر لديه! والتربية الصحيحة تستبقى من الشهوات القدر الذى تقوم به الحياة، وتراقب بحذر ما فوق ذلك. وفى تراثنا الدينى معالم مشرقة لهذا المنهاج الذى ينشى النفوس إنشاء على مكارم الأخلاق ومحاسن الشيم.. وتد تأملت فى التراث الإنسانى الخصب، الجامع بين الدين والفلسفة والأدب، فلم أجد أغنى ولا أدق ولا أرق من الثروة التربوية التى تركها محمد عليه الصلاة والسلام. هناك عدة آلاف من الأحاديث المقبولة، وهناك معالم سيرة إنسانية طهور، ص _096(1/86)
تسبح فى فلك لا يسف أبدا، قد يهوى النجم ولكن محمدا يستحيل أن يهوى... وطريق الاكتمال والتسامى هو التزام هذه الأسوة، والاستمداد الدائم منها، ويتطلب ذلك نوعا من المعاناة والمجاهدة، يعجز عنها إلا من عصم الله.. إن التربية ليست وضع البذور فى أرض على رجا مطر يحبىء أو لا يحبىء، ولا جهد وراء ذلك، كلا، إنها بذر وسقئ وتعهد، ومطاردة للحشرات والأوبئة، ومتابعة صاحية حتى أوان النضج.. والمربون هم البيت- وأساسه المرأة- والمدرسة والمسجد، والشارع والدولة، بما ملكته فى العصور الأخيرة من قدرات اقتصادية وثقافية وإعلامية.. والحق أن الصحابة والتابعين كانوا نتاج تربية نبوية مباشرة، جعلت منهم الجيل الذى حول الحضارة الإنسانية من حال إلى حال.. وأشعر اليوم بشىء من الأسى واليأس لأننا لا نجمع من عناصر التربية ما يجعل أمتنا تنبت فى مغارسها، وتجدى على رسالتها.. ذاك فى وقت تعربد فيه شياطين الإنس والجن، ويكاد الهوى ينفرد بزمام العالم أجمع.. لا بأس أن أقسم الأخلاق إلى قسمين: أخلاق ربانية وأخلاق إنسانية، ولأرجىء الحديث الآن فى القسم الثانى مع أن كليهما ضرورى لصدق الإيمان واكتماله. المؤمن الناضج الاعتقاد يتجاوب مع قول الرجل الصالح: "وأفوض أمري إلى الله إن الله بصير بالعباد". فن نضب فؤاده من التفويض إلى الله فقد الأخلاق الربانية.. والمؤمن الناضج الاعتقاد يتبع هودا وهو يقول لقومه: "إني توكلت على الله ربي وربكم ما من دابة إلا هو آخذ بناصيتها". فمن خلا قلبه من هذا التوكل فقد فقد دعامة من معالم الربانية، وانطلق فى الحياة محصورا داخل نفسه..! والمؤمن الناضج الاعتقاد يقتنع بقول الله له: "وإن يمسسك الله بضر فلا ص _097(1/87)
كاشف له إلا هو وإن يمسسك بخير فهو على كل شيء قدير". فمن حسب أن أحدا يكشف ضره بعيدا عن الله، أو أن ذا سلطان يسوق إليه الخير بعيدا عن الله، فقد تجرد من الأخلاق الربانية! والمؤمن يكتفى بنظر الله إليه، ورقابته عليه، ويعى بعمق قول الله : "قل إنما أنا بشر مثلكم يوحى إلي أنما إلهكم إله واحد فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملا صالحا و لا يشرك بعبادة ربه أحدا". فمن رمق وجها آخر، وأمل الخير عنده فقد عرى عمله عن الإخلاص، وفقد الأخلاق الربانية... وعلماء القلوب شحنوا كتبهم بهذه المعانى، لأنهم موقنون بأن معاصى القلوب أخطر من معاصى الجوارح، فهذه المعاصى القلبية سرطان يأتى على الإيمان من القواعد. الخلاف الفقهى ليس معصية: ولقد لاحظت- واستغفر ربى وأستعيذ به- أن عددا من قادة الثقافة ورجال السياسة، مبتلون بهذا السرطان، وأن عبادة الذات والتقوقع فى مطامعها يسيطران عليهم.. ويشاركهم فى هذا البلاء أذناب يظنون حول مآربهم ومجالسهم طنين الذباب.. أمراض القلوب لا الخلاف الفقهى أخطر شىء على الدنيا والدين معاً. ما الخلاف الفقهى؟ إنه كالخلاف بين المحافظين والعمال فى انجلترا، أو كالخلاف بين الجمهوريين والديمقراطيين فى أميركا.. هؤلاء الناس متفقون على الأصول الرئيسية والأهداف العامة، وربما وتفاوتت أنظارهم فى الترتيبات الداخلية لنظام البيت.. ص _098(1/88)
أما فى أمتنا فقد رأيت الرعاع يبنون العلالى على هذا الخلاف، ويخرجون منه بنتائج مدمرة.. لنفرض أن رجلا يتبع أبا حنيفة ولا يتبع ابن حزم، أو بالعكس! ما علاقة . هذا بالقرب من الله أو البعد عنه؟ وما صلة هذا بالفسوق أو التقوى؟ هذا خلاف يحكم فيه بالخطأ أو الصواب، إنه خلاف عقلى فى نطاق محدد، ومن السفه ربطه بحقيقة الدين أو وحدة الأمة.. فلو تصورت أن مخالفا لابن حزم- أيام سلطانه- وشى به إلى الصليبيين كى يبطشوا به، فأنا أعد الواشى مرتدا، أو هو من سلالة أبى لؤلوة أو ابن ملجم.. ومثله فى الزيغ من يفضلون أن تحكم أفغانستان الشيوعية ولايحكمها أبو حنيفة، أو من يسؤون بين الشيوعيين والأحناف.. ويوجد متدينون فى عصرنا ينحدرون إلى هذا الدرك من الغباء أو الحقد، وقد آذوا الله ورسوله بهذا الفكر الوضيع، وذاك سرحملتى عليهم وضيقى بهم.. إن الخلاف الفقهى فى ديننا- إذا استوفى شرائطه العلمية والخلقية- لايسمى معصية أبدا، بل كل مجتهد مأجور بإجماع الأمة... والذين يتذرعون بالخلاف فى الفروع للغمز واللمز، والتمزيق والتفريق جديرون بالتأديب.. ولا أصدق أن رجلا مؤمنا استجمع الأخلاق الربانية يسف إلى هذا المستوى... ونتحدث الآن عن الأخلاق الإنسانية كالصدق والأمانة والوفاء والشرف..إلخ وإنما سميتها كذلك لأنها عامه تشمل المسلمين وغيرهم. وأضداد هذه الأخلاق هى أركان النفاق، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أربع من كن فيه كان منافقا خالصا، ومن كانت فيه خصلة منهن، كانت فيه خصلة من خصال النفاق حتى يدعها: إذا اؤتمن خان، وإذا حدث كذب، وإذا عاهد غدر، وإذا خاصم فجر". والغريب أن الفجور فى الخصومة، والعبث بالعقود والعهود، والاستهانة ص _099(1/89)
بالكلمة، والإضاعة للأمانات، كلها تكاد تكون عادات مألوفة بين الكثيرين، وإن المسلمين لايلتزمون بما ورثوا من دين فى ميادين الأخلاق عامة إلا من عصم الله.. على حين نجد أتباع ملل أخرى يتحرون فى معاملاتهم ومسالكهم مكارم الأخلاق، ويترفعون عن الفوضى والإسفاف والتسبب! وقد قلت: إننى نظرت فى تراث العظماء، فم أجد أغنى ولا أزكى ولا أوسع، ولا أرفع مما تركه محمد فى ميدان الأخلاق، فما الذى باعد الأمة عن تراثها وزحزحها عن قواعدها..؟ إن الخلق العظيم لأمة ما نتاج جملة من العناصرالمتماسكة المتكاملة، تلتقى فيها العقائد والعبادات والأحوال الاقتصادية والسياسية... ثم إن الخلق ليس قراءة ورقة ولاسماع درس، إنه صناعة شاقة، وتجارب متكررة، وتكلف مستمرينتهى بأن يكون ملكة قائمة وصبغة ثابتة. وقد لاحظت أن جهودا شيطانية بذلت، ليكون الإيمان عقما، بالتأويل والتعطيل المتعمدين.. فقد يكون الإيمان عند البعض كلمة فقط لاعمل معها! وقد يكون العمل نافلة يزدان بها وقد يستغنى عنها.. وصور العبادات تؤلف أسفار فى ضبطها، أما جوهرها الباطن فقلما يكترث به. وقد نشأت عن ذلك مفارقات رجحت يهفة المجتمعات الكافرة، وهوت بكفة المجتمعات المؤمنة! فقول الزور فى ديننا يعادل الشرك: " فاجتنبوا الرجس من الأوثان واجتنبوا قول الزور " وقول الزوركبيرة فى قضية صغيرة بين رجلين أو امرأتين ولكننا فى العالم العربى مثلا نصنع انتخابات مزورة بجهاز يشترك فيه عشرات الألوف من الناس، وتتواصى الأطراف المعنية بقبول نتائحه، وتسكت الجماهير الغفيرة مغصية أو عاجزة... ص _100(1/90)
وهذا الوضع لاتعرفه أمم علمانية، تحتقر الزور، وتحترم الحق، وتنظر إلى الكلمة المنطوقة على أنها رباط خطير، وكأنها هى التى نفذت قول القرآن الكريم: "إنما يفتري الكذب الذين لا يؤمنون بآيات الله وأولئك هم الكاذبون ". إننا فقراء إلى الأخلاق الربانية والأخلاق الإنسانية على سواء... وقد أدرت ظهرى لمتدينين قضروا ثيابهم وتمنوا الموت الزؤام لمن يخالفهم فى أن لحم الجزور ينقض الوضوء، وأن شهادة المرأة لا تقبل فى الحدود والقصاص... إلخ من الأخلاق الربانية والإنسانية بنيت الأمة الإسلامية، والبناء باق مابقيت هذه الأخلاق، فإذا وهت تصدع الصرح كله، وتعرض للضياع. إن العقائد هى التى تصنع المثل العليا، والمثل العليا هى التى تهيمن على السلوك وتوجهه، والعقائد طور للنفس الإنسانية ينقلها من الميوعة إلى الثبات والصلابة، والأخلاق هى القوالب التى تصاغ فيها حركات المرء وسكناته، ويستحيل أن يتوفر الاحتراف لأمة لم تستقر عقائدها وأخلاقها... وقد شوحنا فى كتبنا الأخرى الإعجاز المحمدى فى تكوين العرب وإخراجهم من الظمات إلى النور، إن هذه السياسة التربوية التى رسمها أمير الأنبياء لاتزال وحدها القديرة على إعادة البناء المتصدع، وإنقاذ أمة كبيرة من مهاوى الفناء والهزيمة ص _101(1/91)
الفصل السادس لمحة عن الابتداع نحن نستعيذ بالله من الشيطان الرجيم عندما نقرأ القرآن الكريم! لماذا؟ لأن القرآن كشاف بعيد السنا شديد الألق يهدى للتى هى أقوم، ويعصم من الزيغ والزلل والشيطان حريص كل الحرص على أن يسير الإنسان فى دروب الحياة لا نور معه، ولا حصانة له، لعله يتردى فلا يقوم، أو يتيه فلا يصل من هنا يحب أن يصرف الإنسان عن التلاوة، ويحرمه بركات الوحى، فإذا قاومه وبدأ يتلو هجم عليه بالوساوس والهواجس حتى يقرأ بلا تدبر ولا اتعاظ! ومن الناس من يباشر التلاوة وقلبه مسروق ومشاعره معطلة، وليس أولئك عباد الرحمن، فإن الله وصف عباد الرحمن بقوله: "والذين إذا ذكروا بآيات ربهم لم يخروا عليها صما وعميانا". لذلك وجب علينا قبل أن نقرأ القرآن أن نستعيذ بالله من الشيطان الرجيم حتى نحسن الفهم والتزكية وجمهور المسلمين ضم إلى الاستعاذة التسمية، وليس فى ذلك حرج فالتلاوة أمر ذو بال، إنها ليست مطالعة صحيفة من الصحف أو كتاب من الكتب! والبدء باسم الله يتمشى مع الحديث الشائع قال بعض قصار العقول: بل البسملة بدعة لا تجوز قلت: إذا كان الدليل ص _102(1/92)
العام يتناول مسلكا فلا مجال لنسبتى إلى الابتداع، إذا لم تفعل فدعنى أفعل، ولا تثريب على ولا ألومك على سكوتك! وتذكرت أن رجلا من الصحابة اخترع صيغة من الأدب العالى فى الثناء على الله، سمعها النبى صلى الله عليه وسلم فسر بها ونالت رضاه. أخرج الطبرانى بسنده أن النبى عليه الصلاة والسلام مر على أعرابى وهو يدعو فى صلاته يقول: " يا من لا تراه العيون، ولا تخالطه الظنون، ولا يصفه الواصفون، ولا تغيره الحوادث، ولا يخشى الدوائر، يعلم مثاقيل الجبال، ومكاييل البحار، وعدد قطر الأمطار، وعدد ورق الأشجار، وعدد ما أظلم عليه الليل وأشرق عليه النهار، لا توارى سماء منه ولا أرض أرضا، ولا بحر ما فى قعره، ولا جبل ما فى وعره، اجعل خير عمرى آخره، وخير عملى خواتمه، وخير أيامى يوما ألقاك فيه " فوكل رسول الله بالأعرابى رجلا، وقال: إذا صلى فأتنى به، وكان قد أهدى بعض الذهب إلى رسول الله، فلما جاء الأعرابى وهب له الذهب، وقال له: تدرى لم وهبت لك؟ قال الأعرابى: للرحم التى بينى وبينك! قال الرسول الكريم: إن للرحم حقا، ولكنى وهبت لك الذهب لحسن ثنائك على الله!! ". الواقع أن مديح الأعرابى لله قطعة من الأدب العالى يعجز عن مثلها المهرة فى فن القول، وهى جديرة بتكريم الرسول لها! وهى ناضجة من قلب أشرقت عليه أضواء المعرفة الإلهية ومشاعر الذكر والشكر، أى أنها متسقة مع الأدلة العامة فى ديننا.. ولو سمعها بعض الأجلاف لقال هذه بدعة، كما يصف بالابتداع بدء التلاوة باسم الله، وختمها بتصديق الله.. ونزيد الحكم وضوحا فنقول: إن حماية الدين من البدع المحدثة فرض لازم، حتى يبقى على أصله السماوى وصلاحيته المطلقة، فإن بلاء الدين كله جاء من أصحاب الفكر القاصر والقصد المائل والطبع الغالى! ص _103(1/93)
ونحن نعلن حربا شعواء على الغش الثقافى فى ميدان التدين مستصحبين فى هذه الحرب قول الرسول الكريم: " يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله، ينفون عنه تحريف الغالين وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين". ومن الفقهاء الذين برزوا لنى هذا الميدان أبو إسحاق. الشاطبى، وأظنه واضع هذه القاعدة: " ماتركه النبى عليه الصلاة والسلام مع وجود الداعى وانتفاء المانع فتركه سنة وفعله بدعة ". وهى قاعدة جليلة تحمى الإسلام من تقاليد رديئة، اختلقها المسلمون فى مناسبات كثيرة، وحسبها العامة دينا وماهى بدين! ونحن نحترم هذه القاعدة مع إضافة وجيزة تشرحها! هناك أدلة عامة فى الدين يجب النزول عندها، بيد أن صورها تتجدد على اختلاف الليل والنهار كفعل الخير مثلا- وهناك أمر به- وكالتواصى بالحق والصبر، والتعاون على البر والتقوى، والجهاد بالنفس والمال واللسان... إلخ. إن صور الطاعات هنا تكثر وتتغاير، فهل تدخل فى باب الابتداع؟ كلا! لكن ما الضابط الذى نحترز به من البدع؟ الخوف هو تحويل الصورة التى يقوم بها امرؤ ما، إلى قانون عام يحمد فاعله ويذم تاركه، وكأنما هو وحى من عند الله... سئلت عن التلاوة الجماعية للقرآن الكريم فى بعض مساجد المغرب..؟ فقلت: لا آمر بها ولا أنهى عنها، والأحب إلى أن أقرأ وحدى، وليس لمن يفعلها أن يشد الناس إليها، أو يلوم من تخلف عنها... وسئلت عن شيخ ينصح تلامذته ومريديه بالمحافظة على الوضوء وتجديده كلما انتقض، قائلا: إن الشعور بالطهارة الحسية يعين على الطهارة الروحية، ويبعث على التسامى! فقلت: لم يرد أمربذلك، وللصفاء الروحى طرق شتى، قد يكون من بينها أن يجدد المسلم وضوءه كلما أحدث.. على أن عد ذلك قانونا عاما ملزما لا أصل له.. إن الغلو فى الدين قد ينتقل من الفرع إلى الأصل، ومن الجزئيات إلى الكليات، وهو علة ماوقع فى أديان سبقت، وشرد بها عن الصراط المستقيم، قال ص _104(1/94)
تعالى: "قل يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم غير الحق ولا تتبعوا أهواء قوم قد ضلوا من قبل وأضلوا كثيرا وضلوا عن سواء السبيل". والبدع تعرض للناس فى مجال العبادات التى لا مجال فيها للفكر البشرى لأن مبناها على التوقف حتى يأذن الله.. أما الوسائل الحرة لما أمرنا به من جهاد علمى أو مدنى أو عسكرى، فلا صلة له بتة ببدعة ولا سنة، وتد تكلفنا الظروف باختراع أمور لا عهد بها للنبيين الأولين! كغزو الفضاء والسفر إلى القمر أو المريخ ووصف هذه الأمور بأنها بدعة لا يجوز ولا نقبله من أحد. ص _105
الفصل السابع إعادة كتابة التاريخ هناك بواعث ملحة على إعادة كتابة التاريخ الإسلامى حتى القرن الخامس عشر للهجرة يتعاون فيها جملة من العلماء الثقات والمحققين المهرة... إن المآخذ كثيرة على السرد التاريخى الشائع بيننا، وهى مآخذ تجعل هذا التاريخ لا يخدم الشخصية الاسلامية، ولا يحقق المنافع المرجوة منه تربويا وسياسيا.. وأول ما نلاحظه أنه- من ناحية الكم- ناقص، فالمسلمون خمس العالم تقريبا، وقد دخلت فى دين الله أجناس شتى، فمع العرب الترك والفرس والأكراد، والهنود والزنوج، وأجيال من الصين والمغول والأندنوسيين والماليزيين، وهى أجناس تنتشر بين المحيط الهادى والهندى والأطلسى.. ثم هناك جماعات غفيرة فى طول أوربا وعرضها، وأخرى فى الأمريكتين! والتاريخ الذى يدرس هو لجماعة محدودة من المسلمين تسكن مايسمى الآن الشرق الأوسط، يهتم فيه العرب بأنفسهم وحدها! وإذا اتسعت هذه الدراسة قليلا تناولت ما يمت إليهم بسبب قريب، أما إخوة العقيدة المنتشرون فى المشارق والمغارب فإن الحديث عنهم من الفضول، وربما لايقع لهم ذكرعن غفلة أو عن عمد.. ومع نجاح الغزو الثقافى فى تمزيق أوصال الإسلام وتشتيت أمته، أمسى المسلمين فى مصر مثلا لايدرى أو لايكترث بمايقع لإخوانه المؤمنين بعيدا عن أرضه... ص _106(1/95)
وقد رأيت البانيا- وأكثر من تسعة أعشارها مسلمون- يفترسها الإلحاد ولايسمع لشكاتها أحد.. ورأيت المسلمين فى الفلبين- وعددهم أكثر من بضع دول عربية- تستهلكهم الفتن ولا يهب لنجدتهم أحد... وعندما سقطت راية الخلافة عن أدرنة لم يبكها إلا شوقى الشاعر: يا أخت أندلس عليك سلام! هوت الخلافة عنك والإسلام! مثل مابكى المتنبى أبا شجاع فاتكا، أو مثل مابكى ابن الرومى ابنه!! الفجيعة لاتزيد عن ذلك!! لقد أضحى أمر الأمة فرطا، وأضحى تناصرهم المكتوب حلما، ويكتب التاريخ الآن كتابة طائشة، لاتمثل الإسلام لامكانا ولازمانا ولاحقيقة.. وأذكر أنى اشتبكت فى جدال حاد مع أحد السفراء الذى أنكر على وصفى لصلاح الدين الأيوبى بأنه كردى! إنه مسكين يريد تكذيب الواقع التاريخى! وضحكت وأنا أذكر وصفا آخر للسلطان " قطز" قاهر التتار، فقد افتتح مسجده فى مصرعلى أنه من قادة القومية العربية!! على العرب الذين حملوا راية الإسلام أن يدركوا أن العروبة ليست دما. وإنما هى لسان، وأن الولاء ليس لأنسابهم، وإنما هو للدين الجامع، وأن التاريخ الإسلامى إذا بدأ بالجزيرة حيث هبط الوحى- فإن دائرته تمتد مع خطوط الطول والعرض إلى ما شاء الله، وأنه مع اندياح هذه الدائرة تذوب عصبيات كثيرة فلا يبقى التفاف إلا حول الوحى، ولاتبقى راية إلا راية التوحيد.. ومن ثم فنحن لا نقبل تاريخا للإسلام وأمته يتجاهل هذه الحقائق.. وإذا كان التاريخ الشائع الآن منقوصا من ناحية " الكم " فهو منقوص كذلك من ناحية " الكيف "! ولا يزال التلامذة فى المدارس يقرؤون أن بغداد عاصمة الخلافة العباسية سقطت فى أيدى التتار وحدهم، وأن هذا الجنس الفوضوى أغار على قاعدة الإسلام بدوافعه الخاصة. ص _107(1/96)
ومايدرسه التلاميذ غلط كبير، والأوربيون يدرسون ماوقع فى دار الإسلام على أنه غارة مغولية صليبية، قام فيها التتار بالدور الذى تقرر عليهم، وقام الصليبيون بدور مماثل... وقد كان رسل الكنيسة الغربية ناشطين داخل دولة الخلافة وحولها والمسلمون نيام! ومعروف أن القائد العام التتارى كان نصرانيا، وأن زوجة هولاكو كانت نصرانية.. وأن الأقليات الدينية كانت تشعر بما وراء الأكمة، وقد تحركت عند اقتحام التتار المدينة المنكوبة، وسجل ابن كثير فى البداية والنهاية شماتتها وفرحتها، وكان رحمه الله لايدرى السبب!! فى عصرنا الحاضر يؤخر نشرالوثائق العسكرية والسياسية سنين تبلغ الثلاثين، ثم تذاع ولايبقى سر!! فما الذى يجعل تاريخنا باقيا كل قصوره سبعة قرون؟ ندرسه للطلاب على نحو غير صحيح؟ لقد قرأت عن فضل الحملة الفرنسية على مصر! وقرأت عن فضل الاحتلال الانكليزى لمصر! ورأيت صحائف ملأى بالزور عن حقب شتى... وأحسب أنه لابد من إعادة كتابة التاريخ على نحو سليم، نبدأ كتابة ما تجاوزناه، ونعيد تصحيح ما غلطنا فيه... وما خلا قرن من شاهد! صدق! وماتغيب الحقيقة عن باحثين عنها! المهم أن نستدرك مافاتنا، وآن نستنقذ الحقائق من الأتربة التى أهيلت فوقها، وألا ندع المبطلين يفرضون علينا أغراضهم السيئة.. إن آثار التاريخ فى صناعة الأجيال المقبلة لايمكن إنكارها، فهل نترك تراثنا وأبناءنا للخراصين والحاقدين؟؟ المؤرخ المسم يجب أن يعرف طبيعة الإسلام ووظيفة الدولة التى تقوم باسمه.. إن وظيفتها أكبر من توفير الطعام للجمهور أو العمل على رفع مستوى المعيشة... إن لها رسالة أكبر من ذلك وأسمى! يجب أن تحمى الإسلام من أعداء ص _108(1/97)
يتربصون به، وأن تزيح العوائق من طريق دعوته فلا تصادر ولا يقف مسيرتها الفتانون... كأن للناس ثأرا عند حملة التوحيد، فهم لايفتؤون يطلبوننا به! أوكما وصف الكتاب الصادق: " ولا يزالون يقاتلونكم حتى يردوكم عن دينكم إن استطاعوا ". فهل وعى ذلك الحكام المسلمون؟ أم أن كثيرا مهم اتخذ الحكم مغنما وأخلد إلى الأرض؟ على المؤرخ المسلم أن يحدد موقف كل حاكم من واجبات دينه، وهل أحسن إعداد الأمة لحمل رسالتها أم لا؟ ومعروف أنه وراء كل هزيمة فادحة أخطاء خفية أو جلية فشت فى الأمة، وأذهبت ريحها، فهل بحثت هذه الأخطاء، وتم التنبيه إليها والتحذير منها؟ أم سجلت أخبار المد والجزر والهزيمة والنصركما تسجل وكالات الأنباء خبرا عن عارضة أزياء أو مباراة شطرنج!! ليس هولاكو وحده: كتب الدكتور أحمد صبحى منصور هذا الفصل النفيس فى النقد الذاتى للتاريخ الإسلامى، ننقله عنه مقدرين للفكر الذكى الذى أملاه. " من بين عشرات السفاحين الذين أهلكوا الحرث والنسل يتمتع " هولاكو" بمكانة خاصة فى تاريخنا الإسلامى والعربى، فهو السفاح الذى أطاح بالدولة العباسية، والذى قتل فى بغداد سنة 656 هـ ما يقرب من 2 مليون نسمة. إنه سجل دموى يستحق عليه هولاكو- بلا شك- كراهيتنا واحتقارنا، ولكن المسئولية لا يتحملها هولاكو وحده..! اللوم ينبغى أولا أن يوجه إلى أمير المؤمنين المستعصم بالله العباسى، الذى حمل أمانة المسلمين ففرط فيها، والذى مازال بعضنا يذرف الدموع حزنا عليه، ص _109(1/98)
وعلى الخلافة العباسية التى تمثل حتى الآن حلما من أحلام اليقظة لدى بعض الناس فى عصرنا... وقد وصفه المؤرخ ابن طباطبا بقوله: "كان مستضعف الرأى، ضعيف البطش، قليل الخبرة بالمملكة، مطموعا فيه، وكان زمانه ينقضى فى سمعاع الأغانى والتفرج على المساخر.. وكان أصحابه مستولين عليه، وكلهم جهال من أراذل العوام ". وقد يقال: إن المؤرخ ابن طباطبا كان شيعى المذهب، يتحامل على الخليفة المستعصم المشهور بتعصبه لأهل السنة، إلا أن مؤرخا سنيا موثوقا فيه مثل ابن كثير يتفق مع ابن طباطبا فى رأيه يقول عنه: "كان محبا لجمع المال، ومن ذلك أنه استحل الوديعة التى استودعها إياه الناصر داود المعظم، وكانت قيمتها نحوا من مائة ألف فى ينار، فاستقبح هذا من مثل الخليفة " وأدى نهم الخليفة بالمال وحرصه عليه إلى أن عرض الخلافة للخطر حين هددها المغول، إذ إنه قطع عن الجنود أرزاقهم فى وقت هو أحوج مايكون إليهم فيه. يقول ابن كثير إنه: " صرف الجيوش، ومنع عنهم أرزاقهم حتى كانوا يتسولون على أبواب المساجد وفى الأسواق... وأنشد فيهم الشعراء قصائد يرثون لهم ويحزنون على الإسلام وأهله ". على أن شح الخليفة المستعصم بالأموال على الجند فى وقت حاجته لهم يقابله فى الناحية الأخرى إسرافه الشديد فى الإنفاق على خدمه وأتباعه من الظلمة الذين يأكلون أموال الناس، وكان أولئك الخدم من الجهال وأراذل العامة والمماليك الذين صعد بهم الزمن الردىء، فى عصرانحلال الدولة العباسية، فاحتكروا الثروة بينما عاش العلماء والأشراف يتضورون جوعا. ولنضرب أمثلة تاريخية على ماجرى فى أواخر الدولة العباسية، حين اغدقت الأموال على الخدم فأصبحوا أعجوبة فى الثراء، ومنهم: ا- علاء الدين الطبرسى الظاهرى، كان دخله من أملاكه نحو 300 ألف ص _110(1/99)
دينار، وكانت له دار لم يكن ببغداد مثلها، وحين تزوج دفع صداقا قدره 20 ألف دينار.. ووهب له الخليفة المستنصر ليلة زفافه 100 ألف فى ينار، وألحقه بأكابر الدولة، ومنحه صنيعة كانت تدز له دخلا يزيد على 200 ألف دينار سنويا. 2- مجاهد الدويدار، قيل عن أملاكه: إنها كانت " مما يتعذر ضبطه على الحساب "... وفى ليلة زفافه حصل على هدايا من الجواهر والذهب مايزيد على 300 ألف دينار وفى صباح زواجه أنعم عليه الخليفة المستعصم بـ 300 ألف دينار، وكان إيراده السنوى من مزارعه وأملاكه أكثر من 500 ألف دينار. 3- عبد الغنى بن فاخر، شيخ الفراشين فى قصر الخلافة، كانت داره تشمل عدة حجرات، وفى كل حجرة جارية وخادمة وخادم، ثم رتب لكل جارية عملا ، فواحدة لطعامه، وأخرى لشرابه، وأخرى لفراشه، وأخرى غسالة، وأخرى طباخة،... وفى المقابل كان أعظم العلماء وقتها لايتقاضى أحدهم أكثر من 12 دينارا شهريا فحسب! وذلك هو المرتب الذى كان يأخذه علماء المدرسة المستنصريه!! وابن القوطى وابن الساعى أشهر مؤرخى!هذا العصركان كلاهما يأخذ راتبا شهريا قدره عشرة دنانير!! فأين أولئك من شيخ الفراشين فى قصر الخليفة؟! وفى ذلك الوضع المقلوب لابد أن تكتمل الصورة المقيتة لأى امبراطورية على وشك السقوط بغض النظر عن اللافتة التى ترفعها، سواء كانت امبراطورية فارسية، أو بيزنطية أو رومانية أو عباسية، لابد أن تتفشى الرشوة، وتكثر مصادرة الأموال، وتتفاقم الاضطرابات الداخلية، مع الانحلال الخلقى ، والانشغال بالتوافه عن الخطر الذى يدق الأبواب. يقول الغسانى صاحب كتاب "العسجد المسبوك "، يصف السلطة العباسية فى أواخر أيامها: " واهتموا بالإقطاعات والمكاسب، وأهملوا النظر فى المصالح ص _111(1/100)
الكلية، واشتغلوا بما لايجوز من الأمور الدنيوية، واشتد ظلم العمال- أى الحكام-، واشتغلوا بتحصيل الأموال. والملك قد يدوم مع الكفر، ولكن لايدوم مع الظلم ". صدقت ياغسانى: الملك قد يدوم مع الكفر لكن لا يدوم مع الظلم.. ". فالقاعدة الإلهية تقول: " وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها فحق عليها القول فدمرناها تدميرا "، ولايمكن أن يحل التدمير إلا إذا استشرى الظلم "وماكان ربك ليهلك القرى بظلم وأهلها مصلحون " ولكن أمير المؤمنين المستعصم العباسى لم يستوعب الدرس، ولم يعرف أن عقوبة الفساد مستمرة، وإن تنوعت أساليبها.. وقد رأى الخليفة المستعصم بنفسه طرفا من ذلك قبل أن يقتله المغول رفسا بأقدامهم..! يقول الهمذانى فى كتابه: " جامع التواريخ " إن هولاكو بعد أن اقتحم بغداد، دخل قصر الخلافة، وأشار بإحضار الخليفة المستعصم وقال له: " أنت مضيف ونحن الضيوف.. فهيا أحضرمايليق بنا.. فأحضرالخليفة وهو يرتعد من الخوف صناديق المجوهرات والنفائس، فلم يلتفت إليها هولاكو، ومنحها للحاضرين، وقال للخليفة: إن الأموال التى تملكها على وجه الأرض ظاهرة، وهى ملك لعبيدنا، لكن اذكر ماتملكه من الدفائن، ماهى وأين توجد؟ ". فاعترف الخليفة بوجود حوض مملوء بالذهب فى ساحة القصر، فحفروا الأرض حتى وجدوه، كان مليئا بالذهب الأحمر، وكان كله سبائك، تزن الواحدة مائة مثقال ". واستحق الخليفة احتقار هولاكو السفاح الدموى، إذ تعجب هولاكو، كيف يكون للخليفة كل هذه الكنوز ثم يبخل على الجنود بأرزاقهم؟!! ولم ينس هولاكو أن يذكر ذلك فى منشوره الذى أرسله إلى حاكم دمشق، ينذره بالتسليم، ويخوفه من مصير الخليفة العباسى وما حدث لبغداد، ويقول فيه عن الخليفة المستعصم: " واستحضرنا خليفتها وسألناه عن كلمات فكذب، فواقعه ص _112(1/101)
الندم، واستوجب منا العدم، وكان قد جمع ذخائر نفيسة، وكانت نفسه خسيسة، فجمع المال ولم يعبأ بالرجال.. " . وقد أورد المقريزى خطاب هولاكو بالتفصيل... ونعود إلى الهمذانى وهو يروى ذلك اللقاء بين هولاكو والخليفة فى قصر الخلافة فيقول: "إن هولاكو أمر بإحصاء نساء الخليفة، فبلغن سبعمائة زوجة وسرية وألف خادمة!! وتضرع له الخليفة قائلا: "من عى بأهل حرمى اللائى لم تطلع عليهن الشمس والقمر.. " يقول الهمذانى: " وقصارى القول، إن كل ماكان الخلفاء العباسيون قد جمعوه خلال خمسة قرون، وضعه المغول بعضه على بعض فكان كجبل على جبل ". وبسبب ذلك الكم الهائل من الكنوز التى ورثها هولاكو من الخليفة العباسى، فإنه صهرها جميعا فى سبائك وأقام لها قلعة محكمة فى أذربيجان. لقد كان هولاكو- ذلك الهمجى السفاح- يعى تماما أنه عقاب إلهى للخلافة العباسية والحكام الظلمة فى المنطقة، وحرص على إبراز هذا المعنى فى رسائله إلى الحكام، يقول فى رسالته إلى حاكم دمشق: " إنا قد فتحنا بغداد بسيف الله تعالى، وقتلنا فرسانها، وهدمنا بنيانها، وأسرنا سكانها.. ويقول فى رسالته إلى السلطان قطز فى مصر: ".. يعلم الملك المظفر قطز وسائر أمراء دولته وأهل مملكته بالديار المصرية وماحولها.. أنا نحن جند الله فى أرضه، خلقنا من سخطه، وسلطنا على من حل به غضبه.. فإنكم "أكلتم الحرام، ولا تعفون عن كلام، وخنتم العهود والإيمان، وفشا فيكم العقوق والعصيان، وقد ثبت عندكم أنا نحن الكفرة، وقد ثبت عندنا أنكم الفجرة". وربما استفاد السلطان قطز من هذه الرسالة، فكف المماليك عن الظلم، واستعاد شعوره الدينى.. وفى غمرة عين جالوت، حين أوشك جنوده على الفرار صرخ " واإسلاماه " ص _113(1/102)
وألقى بخوذته، ونزل للمعركة بنفسه.. فكان الانتصار.. هكذا تقوم الدول وتنهار، وأساس الانهيار يبدأ من الداخل، وقد يأتى تدخل خارجى ليعجل بالسقوط ولكن يظل الانهيار الداخلى هو بداية النهاية وعاملها الأكبر.. ويأتى الانهيار الداخلى حين تتكون طبقة مترفة تتحكم فى الثروة، وفى الجماهير، فتنشر الظلم والانحلال وتحيل حياة الأكثرية إلى جحيم تهون فيه الحياة، وتتضاءل فيه الفوارق بين الحياة والموت. والقرآن الكريم يضع العلاج فى تشريعاته الاقتصادية التى تمنع تركز المال فى يد فئة واحدة. ويأمر فى الوقت نفسه بالزكاة والإنفاق فى سبيل الله، بل يأتى الأمر أحيانا فى صورة التهديد كقوله تعالى: "وأنفقوا في سبيل الله ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة وأحسنوا إن الله يحب المحسنين". ومعناه أنه إذا لم يكن هناك إنفاق فى سبيل الله فالتهلكة هى المقابل، وإذا كان هناك إنفاق فى سبيل الله فلا مجال إذن لتركز المال فى طبقة قليلة العدد يتحول ثراؤها إلى ترف.. ويقول تعالى مهددا المسلمين فى عصر الرسول: " ها أنتم هؤلاء تدعون لتنفقوا في سبيل الله فمنكم من يبخل ومن يبخل فإنما يبخل عن نفسه والله الغني وأنتم الفقراء وإن تتولوا يستبدل قوما غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم". لقد أساء المستعصم فى تعامله مع خدمه وأتباعه، فأغدق عليهم فى المناسبات بمئات الألوف من الدنانير، فى وقت يتضور فيه العلماء والشرفاء جوعا.. أبعد هذا نظل نلعن هولاكو وحده "؟!! لحساب من هذا؟ لقد شكوت فى بعض كتبى من أنه لم ينعقد عندنا مجمع ولا مؤتمر يتساءل: لماذا أذن الله بطرد العرب من الأندلس؟ لماذا دمرزلزال الحروب الصليبية بيت المقدس فى ص _114(1/103)
القرن الخامس، ومن قبل ومن بعد دمر حواضر زاهرة، وأخرس منائرها؟ فى فوضى التعليم الدينى عندنا تتقدم قضية: هل لمس المرأة ينقض الوضوء على قضية: هل الشورى تلزم الحاكم أم لا؟!! وهذه انتكاسة عقلية، وخلقية لايقبل فيها عزاء! وقد تأملت فى أسباب سجن ابن تيمية فوجدته متهما برفض الطلاق البدعى، وإسقاط القضاء عمن ترك صلاة عمدا.. وغير ذلك من قضايا فرعية! هل هذا مربط الفرس فى التربية الدينية؟ وهل المؤرخ المسلم يقف ساكتا أمام هذه النقائص المذهلة؟ إن العالم يحث خطاه نحو مستقبل تستبحر فيه المعارف الكونية، وتتنافس فيه الملل والنحل على تطويع كل القوى لخدمتها، و إذا بقى العقل الإسلامى سجين هذا القصور فلا يلوم المسلمون إلا أنفسهم، إذا فاتهم القطار، وباءوا بخسار الدنيا والآخرة! إن التاريخ هو الوالد الذى يقص تجاربه على أبنائه ليضمن لهم مستقبلهم، فليكن الوالد حكيما ذكيا، حتى تجدى عظته... والحكم فى الإسلام عبادة رفيعة الثواب، والحكام العدول أول ظافر بالرضوان الأعلى، وأول مستظل بعرش الرحمن يوم الحر والزحام لكن هذا النوع- فى تاريخنا- قليل! لأن الرياسة شهوة عند كثيرين يسعون لتحقيقها بالعرق والدم! فإذا ظفروا بمجدهم الشخصى حافظوا عليه بالنفسى والنفيس، وأظن هؤلاء هم الذين عنتهم الآية: " تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علوا في الأرض ولا فسادا والعاقبة للمتقين". والقلة الصالحة من الحكام هى التى أجدت على الإسلام، ووسعت رقعته فى العالمين. وطليعة أولئك الساسة الكبار الخلفاء الراشدون الأربعة، وهناك ملوك ورؤساء على امتداد تاريخنا كله ابتذلوا أنفسهم لله وللأمة، وذهبوا إلى الله راضين مرضيين.! وحماة الإسلام الكبار لم يلقوا الترجمة الصحيحة لأعمالهم، بل تناثرت هنا وهناك دون ضابط! ص _115(1/104)
وأحيانا أرمق ماكتب عن دولة الخلافة، فأجد إبرازا للسلبيات وإخفاء للمحامد والأمجاد، وكأنما كان التأريخ للفتن وحدها! أجل! ماكان حقه أن يوضع فى الهامش كتب بالثلث، وجعل عنوانا، ومنح الصدارة! أما الخير الكثير لسلفنا الأول فكأنما وضعت فوقه حجب.. عندما كنت أقرأ أنباء المسلمين فى أذربيجان، وهم يقاومون الضغط الروسى، ويحاولون النجاة بدينهم، ذكرت أن هذه البقاع تم فتحها أيام الخليفة الثالث، هى وأقطار أخرى يتكون منها جنوب الاتحاد السوفيتى! إن تلامذتنا لايعرفون هذا، ولا رسمت لهم خريطة تجلو أمامهم هذه الأعماء! الذى درس لهم بعض الأكاذيب المفتراة على عمان!! ومحاباته لنفرمن عشيرته! كان المفروض فى تدريس رسالة ضخمة أن تذكر المبادئ والتطبيقات التى نهض بها جيل الصحابة الأوائل، وغير بها وجه الأرض وخرج بها العرب من أكوام الجاهلية الأولى يحملون كتابا أشرقت به الظلمات، ونشأت عنه حضارة ازدانت بها الأرض ألف سنة... لقد كان ذلك عمل الخلفاء الأربعة الكبار... إن معرفة هذا العمل بتفصيل أجدى- فى ميدان السياسة والتربية- من حديث الجمل وصفين وبقية السلبيات التى رسبت فى الأذهان، واختفى غيرها مما كان يجب أن يشرح ويخلد!! لا أريد إنكار أخطائنا، وإنما أريد ألا تعدو وضعها الثانوى بعد بيان ما أدينا للدين والدنيا! لحساب من يتم هذا الغمط؟! محنة بيت المقدس: كانت المحنة الأولى لبيت المقدس أوائل القرن الخامس الهجرى، وظلت نحو تسعين سنة، حتى حرر المدينة المنكوبة صلاح الدين، وغسل الأرض من أدران الوحوش الذين استباحوها، واقترفوا فيها مآسى تقشعر لها الجلود! ص _116(1/105)
لكن يظهر أن التطهير الذى قام به الحاكم المسلم يكن كاملا! فإن الصليبيين القدامى استجلبوا أعدادا كثيفة من إخوانهم آثرت البقاء على الأرض الإسلامية ظافرة بحرية العقيدة، مستريحة إلى مانالت من أمان وفى ظنى أن هذا لون من الاستعمار الاستطانى خطير العواقب، لأنه يتربص بالمسلمين النوائب حتى إذا اكفهر الأفق كشف عن سخائمه! ولذلك عندما سقطت بغداد تحرك هؤلاء حركة غادرة تستحق الدراسة. يقول الذهبى فى كتابه: " دول الإسلام " عن أحداث سنة 658 أى بعد سنتين اثنتين من سقوط الخلافة العباسية: " وشمخت النصارى بدمشق، ورفعوا الصليب فى البلد، وألزموا الناس بالقيام له من الحوانيت!! ونقضوا العهد، وذلك فى الثانى والعشرين من رمضان، وصاحوا ظهر الدين الصحيح دين المسيح! ثم وصلت العساكر المصرية إلى الشام، وقصدتهم عساكر هولاكو يقودهم "كتبغا "- وهو مسيحى- ورقع الاشتباك فى عين جالوت، فنصر الله دينه وانهزمت التتار، وقتل قائدهم! وجاء الخبرإلى دمشق فى الليل، فوقع القتل والنهب فى النصارى، وأحرقت كنيستهم العظمى... " إننى برغمى أقمص هذه الأنباء المؤسفة، لكن ماذا أصنع وأنا أرى جيش لبنان الجنوبى يحرس مستعمرات اليهود، وأتذكر مصارع العرب المدحورين فى مخيمى " صبرا وشاتيلا " وهم يقتلون ركلا بالأقدام من أبناء الصليبيين القدامى، الذين لم يرحموا هزائمهم وتشردهم ونكباتهم المتتابعة... ثم تجىء فى هذا العصرأحداث لبنان، ويقدم الرؤساء العرب اتفاق الطائف على أساس أن يرأس الدولة مسيحى عربى يتعاون المسلمون معه تعاونا شريفا! وهيهات أن يقع الصلح! المطلوب نظام سياسى يتعاون مع إسرائيل على محو العروبة والإسلام، ويتسع به الجرح فى كيان الأمة التى دوختها الفتوق والخروق مأساة الحاضر صورة من مأساة الماضى، فهل من رجل يصرخ: ص _117(1/106)
وا إسلاماه... ليستبقى فى كياننا الحياة؟ إن محمدا عليه الصلاة والسلام رحمة للعالمين، وماكان الإسلام نزعة قومية ولاتفوقا جنسيا، ولكن الذى وقع أن الرومان كانوا يحكمون الشمال الإفريقى كله، كما كانوا يحكمون الأناضول والشام وشمال الجزيرة العربية... وقد حرر الإسلام هذه الأقطار كلها، ووضع عنها قيود الاستبداد الرومانى، فنظر الروم إلى الإسلام نظرة اللص إلى الشرطى الذى جرده من غنائمه، وقلم أظافره، وألزمه حدود الأدب! ولم يكن الرومان نصارى مخلصين، بل إن جبروتهم وطغيانهم يجعلانهم أبعد الناس عن عيسى بن مريم! وقد تربصوا وراء جدودهم مكتفين بحروب محدودة حتى سنحت لهم الفرصة قبيل القرن الخامس الهجرى، فقاموا بغارات رهيبة اشتركت فيها أوربا كلها، وعقدوا اتفاقا مع المغول ليهجموا على شرق العالم الإسلامى، بعد أن اقتحم الصليبيون غربة، ودارت رحى الحرب نحو ثلاثة قرون، هلك فيها من عباد الله من هلك، ودمر من البلاد ما دمر! وشاء الله أن يتراجع السيل الحقود، فحرر المسلمون كل شبر من أرضهم، ثم تولى قيادة المسلمين الأتراك العثمانيون، فأسقطوا عاصمة الروم، وبلغوا فى زحفهم "فيينا". وبقيت الحروب مستعرة قرونا أخرى، ثم انهزم الأتراك لأسباب لامجال لذكرها، وكانت هزيمة مهينة شنعاء سقط العالم الاسلامى كله على إثرها سقوطا لابد من شرحه. فإن روسيا وحدها استولت على جنوب المحيط المتجمد الشمالى حتى المحيط الهادى إلى أطراف الهند والصين، أى ضعف مساحتها عدة مرات، وبذلك ضاعت سيبريا والتركستان ومنغوليا والأورال والقرم حتى شواطى البحر الأسود! وسقط الشمال الإفريفى ووادى النيل، ووسط القارة السوداء فى يد الإنجليز والفرنسيين، ومضت هاتان الدولتان ومعهما هولندا. فاستولوا جميعا على الهند ص _118(1/107)
والهند الصينية، وأندونيسيا وجزر الفلبين، وسائر الجزر الواقعة فى المحيط الهندى... ومما يلفت النظر أن الانكليز لما أسقطوا دولة الإسلام فى الهند سلموا السلطة للهندوك على أساس أن الوثنية أولى بالبقاء من الإسلام! وهو الرأى الذى شهد اليهود به لما سئلوا قديما: هل الوثنية أفضل من دين محمد؟ فقالوا لعباد الأصنام: دينكم أفضل! ونزل قوله تعالى تعقيبا على هذه الفتوى: " ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب يؤمنون بالجبت والطاغوت ويقولون للذين كفروا هؤلاء أهدى من الذين آمنوا سبيلا ". إن العالم الإسلامى اليوم ممزق ماديا ومعنويا، وكتابة تاريخه تحتاج إلى جماعة أولى عزم شديد، فهل يجود الزمان بهؤلاء؟ ويجب أن نضم إلى مصادرنا التاريخية الموروثة مالدى غيرنا من مصادر تشرح وجهة نظره وتوضح موقفه منا، إننا- إن فعلنا- واجدون مايفضح السرائر، ويكشف الخبايا، ويحدد موقف غيرنا منا، وهو موقف لم يحاولوا تغطيته يوما من الأيام. ملف الغرب والإسلام: أوربا وأمريكا تكرهان الإسلام، ما قصرت إحداهما فى هضم قضاياه وتجاوز حقوقه! وفى سباق الأحقاد التى يواجهها ديننا الصامد نرى فرنسا تمتاز بتبشير واسع الحيلة، واستشراق. خبيث القصد، وسياسة شديدة الفتك فى الحرب العالمية الأولى سلخ لواء " الإسكندرون " من سوريا، ومنحتها تركيا الحديثة مكافأة لها على علمانيتها، وسلخت محافظتين أخريين من الجنوب ومنحتهما جبل لبنان الصغير ليتكون لبنان كبير تحت سلطة اختيرت بعناية كى تمحو العروبة ص _119(1/108)
والإسلام، وتجعل الكثرة الإسلامية تافهة ضائعة... وقد استقلت الجزائر المسلمة بعد حرب زهقت فيها أرواح مليون ونصف من البشر، وقناطير من الأموال التى ضاعت فى قتال قذر... ومع ذلك فإن ناسا كثيرين فى فرنسا يريدون استئناف المعارك واستبقاء الإجرام، ويمهدون لذلك نفسيا واجماعيا... وقد انفجر الغضب على الإسلام وأتباعه يوم ارتدت ثلاث فتيات زيا إسلاميا محتشما، وقال كثير من المسئولين: هذا تحد للحضارة الفرنسية! وكان غليان الرأى العام مثيرا للعجب، يصفه رجاء جارودى قائلا: " إن ما حدث هو فى رأيى لحظة جنون جماعى! لو رآها أحد سكان المريخ لشعر بالدهشة! بل إن فيلب جوانزاليس رئيس وزراء إسبانيا صرح فى التلفاز بأنه مندهش لما يجرى فى فرنسا حول مشكلة ارتداء الحجاب الإسلامى، إذ كيف تستطيع ثلاث فتيات يرتدين هذا الحجاب أن يعرضن للخطر الهوية الثقافية الفرنسية، والحقيقة- والكلام لجارودى فيما نظن- أن الهوية الثقافية لفرنسا تتعرض للخطر من الأفلام الأمريكية الهابطة التى تستورد من الولايات المتحدة "! أنا شخصيا أتساءل: إن الشبه قريب جدا بين الحجاب الإسلامى وملابس الراهبات المسيحيات، فما الذى أثار الذعر والتوجس لأن تلميذات آثرن الاحتشام والتقوى، وارتدين مايرد عنهن الأعين الجريئة والخائنة؟ لاريب أن هناك حساسية بالغة ضد كل ما يقترب من الإسلام أو يقرب من معالمه وشعائره... ولفرنسا عدة إذاعات تشتغل بالتبشير. وتغزو أجواء المغرب الكبير، وتبذل جهود الجبابرة لضرب الإسلام فى مقاتله! والغزو الثقافى الجديد يقوم على شعبتين: إحياء النزعة البربرية كى تقاوم الإسلام وتمنع صحوته، وكذلك إنشاء نزعة جديدة عنوانها: ثقافة البحر المتوسط، كى تقتطع الشعوب المطلة على هذا البحر من عالمها الإسلامى الرحب ص _120(1/109)
إلى عالم آخر تهى روابطه بالإسلام تاريخيا واجتماعيا، لعله فى نهاية المطاف يرتد على عقبيه! وينسى رسالته وحضارته.. ذاك مايقع فى غرب البحر المتوسط. أما فى شرقه فثم أمرآخر هو قاصمة الظهر، وكارثة الدهر، هو الاستعداد الحار الجارف لإقامة إسرائيل الكبرى! وإسرائيل الكبرى غاية دينية مقررة لدى اليهود والنصارى على سواء، اليهود ينتظرون مسيحهم- أو مسيخهم الدجال- كما نسميه نحن، ليحكم بهم العالم، ويقيم دولة الشعب المختار، والنصارى ينتظرون نزول عيسى بن مريم بعد تجميع اليهود فى فلسطين ليدين المسكونة كلها، وينصراليهود طوعا أوكرها، ويحكم العالم وهو جالس على يمين الرب..!! ومعنى إقامة إسرائيل الكبرى ضياع ست دول عربية تقع فى المجال الحيوى لسرائيل بين الفرات والنيل: هى مصر والعراق والسعودية، والأردن وسوريا ولبنان، بعد التهام فلسطين كلها بداهة! والأصوليون المسيحيون يعتنقون هذه العقيدة، وبينهم ريجان وكارتر، وبوش الذى أعلن سعادته ببدء الخروج الكبير، خروج اليهود الروس وتوطينهم هناك، إن هذا المسلك دلالة تقوى وإيمان واستجابة لأمر الله!! ومنذ زحف اليهود إلى أرض الميعاد والإسلاميون يلحظون أن إسرائيل تحاربنا بجنود من الدول الشيوعية، وأسلحة من الدول الرأسمالية! ولايزال الوضع كما كان مستودعات الرجال تفتح من روسيا وأوروبا الشرقية، وخزائن للسلاح والمال تتدفق من الغرب الصليبى. إن الكل اصطلح علينا، كى يقيم ملكه على أنقاضنا... لم ينس موسى ديان التاريخ الذى مضى عندما قال عشية انتصاره على عبد الناصر سنة 1967: لقد ثأرنا ليهود المدينة وخيبر! ولم ينس مارشال اللنبى التاريخ الذى مضى عندما دخل القدس سنة 1918 فقال: الآن انتهت الحروب الصليبية... وقد لخص وليم جيفور بلجراف الهدف من هذه الحروب كلها عندما قال: ص _121(1/110)
عندما يختفى القرآن، وتختفى مكة من بلاد العرب- يعنى الكعبة- عندئذ يستطيع العربى أن يتدرج فى طريق الحضارة التى لم يبعده عنها إلا محمد وكتابه "!! أى حضارة يريد؟ حضارة الإيدز والشذوذ والضغائن… إننى لا أخاف هؤلاء جميعا، إننى أخاف أن يذكر الآخرون باطلهم، وننسى نحن حقنا وتاريخنا ورسالتنا، ونشتغل برفع مستوى المعيشة على حين يشتغل غيرنا بتغليب كفته وإعلاء ملته... ص _123
الفصل الثامن على هامش التفسير دروس التفسير التى تلقيناها فى الأزهر لستين سنة خلت، كانت تطبيقا لقواعد اللغة والبلاغة، فما يعيها ويبرع فيها إلا متمكن من النحو والصرف والمعاق والبيان والبديع.. خذ مثلا قوله تعالى: "أكان للناس عجبا أن أوحينا إلى رجل منهم أن أنذر الناس وبشر الذين آمنوا أن لهم قدم صدق عند ربهم قال الكافرون إن هذا لساحر مبين". الجهد المبذول كله حول هذه الأسئلة: ما اسم كان فى الآية الكريمة؟ وما خبر أن؟ وما أنواع التوكيد فى قول الكافرين؟ وما سر الفصل بين جملة قال الكافرون، والجملة التى سبقتها؟ وكيف تعرب أن أنذر الناس؟ ولا ريب أن معنى الآية يظهر مع هذه الأجوبة كلها، بل ما يستطيع إيضاحه إلا العارف بهذه الأسرار اللغوية!، ولكن الحصيلة الأخيرة درس فى النحو والبلاغة! كنا إذا مررنا بآية "وقيل يا أرض ابلعي ماءك ويا سماء أقلعي". كان علينا اكتشاف المجاز، وإجراء الاستعارة الموجودة، وبيان من أى نوع هى من أنواع الاستعارة؟ وهكذا كنا نعيش مع التفسير البيانى للقرآن الكريم.. ص _124(1/111)
فإذا جئنا إلى التفسير الفقهى أخذنا وجهة فنية أخرى: خذ مثلا قوله تعالى: "الطلاق مرتان فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان ولا يحل لكم أن تأخذوا مما آتيتموهن شيئا إلا أن يخافا ألا يقيما حدود الله فإن خفتم ألا يقيما حدود الله فلا جناح عليهما فيما افتدت به .. ". إلخ. إن التساؤل هنا عن مكان الطلقة الثالثة؟ وعن مكان الخلع فى الآية؟ وهل الخلع طلاق أم فسخ لعقد الزواج الأصلى؟ وهل يجوز الفداء بأكثرمن المهر؟ وهل الطلاق المقرون بالعدد يعتبر مرة واحدة- كما يرى ابن تيمية-؟ وهل العقد المجرد يبيح عودة المطلقة إلى زوجها الأول- كما يرى ابن المسيب وابن جبير- أم أن النكاح حقيقة فى العقد والوطء معا؟ وهل تتولى المرأة عقدها، كما هو ظاهر اللفظ، أم لابد من ولى؟؟ وهكذا يتحول التفسير إلى درس فى الفقه المقارن ويستخلص كل منا المعنى الذى يرجحه! ورحم الله من علمونا اللغة العربية والفقه الإسلامى، وهم يفسرون القرآن الكريم، لقد أفدنا منهم كثيرا، وكل ما أريد بيانه أن علوم اللغة والفقه وسائل لتقرير المعنى المراد، وسائل لابد منها، فما يحسن التفسير إلا من وعاها.. ولكن الوسائل لا تتحول إلى غايات، ومن الممكن بعد شرحها أن نفتح القلوب بالمعانى النائية للوحى الإلهى، وكيف يهدى الله الناس إلى الحق بما شرع من أحكام.. يستطيع المفسر الموفق أن يشرح سنن الله فى الإيلاف والاختلاف، والحب والكره، وتقوى الله على الحالين وأن يشرح آثار النزق فى هدم البيوت، ومعنى اعتداء حدود الله، وضرورة التماسك أمام إلحاح المشاعر الثاثرة. إن الوسائل البلاغية والأحكام الفقهية جزء من السياق المحكم للتربية القرآنية المنشودة، ولايجوز كما قلنا أن تتحول الوسائل إلى غايات. ص _125(1/112)
وهناك تفسير صوفى يعتمد على الأذواق الخاصة، وهذه الأذواق بعضها ممجوج وبعضها سائم، وأرى استبعاد هذا اللون من التفسير عن الميدان العلمى. وقد تقبل منه إشارات أو نكت خلال التفسيرات العادية، وقد يتحول التصوف إلى فلسفة فلا ترى والحالة هذه إلا ظمات بعضها فوق بعض. وللزمخشرى تفسير يعد إماما فى التفسير البيانى للقرآن الكريم، ولولا آراؤه الاعتزالية المنحرفة لكانت له مكانة لا تدانى! وقد جاء النسفى فسطا على هذا التفسير، وصادره لحساب أهل السنة ـ أعنى الأشاعرة ـ وكان تفسير النسفى مقررا علينا فى مراحل الدراسة الثانوية، فإذا أشكلت علينا عبارة رجعنا إلى الزمخشرى لنستبينها ! غفر الله للجميع. أما التفسير الكلام! فهو بلا شك تفسير ذكى متعمق، ونموذجه الأعلى لى تفسير الفخر الرازى، وهو يتطرق إلى ألوان شتى من المعانى والأغراض، ويعطى قارئه صورة للفكر الإسلامى !ا خلال قرون طوال.. وأنا ممن يضيقون بعدم الكلام خصوصا قضاياه الفلسفية المشتبكة بفكر الإغريق، بيد أننى أوثر الإنصاف ولا أطوح بالخير كله لما يقع من هنات.. وكتب المفسرين ملأى بمعارف جيدة يحتاج إليها طلاب العلم، على أن يكون معهم خبير ماهر يجنبهم المزالق والأوهام.. بقى التفسير الأثرى، وهو تفسير أصاب حظا من رواج فى الأيام الأخيرة، ذلك أن أحق من يفسر كلام الله هو نبيه، ثم علماء الصحابة... وتفسير القرآن بالقرآن، أو بالسنن الثابتة نور على نور، وعلماء هذا المنهج الطبرى وابن كثير، وقد أعجبنى من الخازن أنه عندما يفسر آية يورد الأحاديث المناسبة منسوبة إلى كتبها، ولولا ولع الرجل بالأساطير والإسرائيليات لكان تفسيره ممتازا.. ونحن مضطرون إلى ذكر مآخذ على التفسير الأثرى كان ينبغى أن يتنزه عنها... ص _126(1/113)
المفسرون: أخطاء وخطايا! القرآن الكريم أصدق ما بقى على ظهر الأرض من مواريث السماء! إن اليقين يحف كلماته حرفا حرفا، وتم الوعد الإلهى بحفظه، فهو منذ نزل إلى اليوم مصون "إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون". وكان يجب على مفسرى القرآن بالأثر أن يتجاوبوا مع هذه الحقيقة، وأن يجنبوا تفاسيرهم كل ما فيه ريبة، وأن يلتزموا بما وضعه الأولون من شروط الصحة والقبول، فإن هذه الشروط جديرة بالاحترام كله. إذا خالف الثقة من هو أوثق منه عددنا حديثه شاذا ورفضناه، فإذا كان المخالف ضعيفا وروى ما لا يعرفه الثقات فحديثه منكر أو متروك فلماذا يكثر فى التفسير الأثرى الشاذ والمتروك والمنكر؟ بل كيف تروى حكايات هى السخف بعينه، يطبق المسلمون على إنكارها واستبعادها، ومع ذلك تبقى مكتوبة يقرؤها ضعاف العقول فيضطربون لها؟ انظر ما كتبه الخازن تفسيرا لقوله تعالى: "لكن الراسخون في العلم منهم والمؤمنون يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك والمقيمين الصلاة". ... " قال: اختلف العلماء فى وجه نصبه فحكى عن عائشة وأبان عن عثمان أنه غلط من . الكتاب، ينبغى أن يكتب "والمقيمون "! قال عثمان: إن فى المصحف لحنا ستقيمه العرب بألسنتهم ، فقيل له: أفلا تغيره؟ قال: دعوه، فإنه لا يحل حراما ولا يحرم حلالا!!! نقلنا فى كتابنا " علل وأدوية أش أيا لحفنى ناصف إمام اللغة فى القرن الماضى، أن هذا الأثر- على تفاهته- يمكن حمله على كتابة المصحف بالإملاء الذى لا يزال ثابتا في. فهو يخالف الإملاء العادى، وقد استبقاه عثمان وغيركما جاء " لأنه لا يحل حراما ولا يحرم حلالا. محافظة على الأصل المنقول،.. وهو فهم أشرف من عره... ص _127(1/114)
وذهب عامة الصحابة وسائر العلماء من بعدهم إلى أنه لفظ صحيح ليس فيه خطأ من كاتب ولا غيره. وأجيب عما روى عن عائشة وعثمان وأبان، بأن هذا بعيد جدا، لأن الذين جمعوا القرآن هم أهل اللغة والفصاحة، فكيف يتركون فى كتاب الله لحنا يصلحه غيرهم؟ لا ينبغى أن ينسب هذا إليهم! وقال ابن الأنبارى: ما روى عن عثمان لا يصلح لأنه غير متصل - طعن فى السند-!! ومحال أن يؤخر عثمان شيئا فاسدا ليصلحه غيره، ولأن القرآن منقول بالتواتر، فكيف يمكن وجود اللحن فيه؟! قد يقال: إن تفسير الخازن مشحون بالترهات والإسرائيليات! وأن الثقة به مهتزة.. ووقوع هذه الهنات فيه- وإن كان مستهجنا- لا يجوز أن يكون مثار شكوى عامة!! أقول: هذا صحيح، لكن تسلل ذلك السخف إلى تفسير محترم كالقرطبى يسوغ غضبى، إن الخرافة انتقلت من الشام إلى الأندلس بسهولة! وإن كان المفسر الكبير قد أثبتها ثم عقب عليها بقول القشيرى: هذا مسلك باطل، لأن الذين جمعوا الكتاب كانوا- قدوة فى اللغة فلا يظن بهم أنهم يدرجون فى القرآن ما لم ينزل! وليت القرطبى ما ذكر ولا نكر، لعل ازدراءه للقضية كلها جعله يكتفى بهذا الرد الخافت، وإلا فهو يدرى أن النقل الشفوى المتواتر هو أساس ثبوت القرآن، وأن الكتابة أداة تسجيل وحسب، وأن الحفاظ عن ظهر قلب كانوا جيشا كثيف العدد، وأن الحكايات المتلصصة حول هذه الحقيقة لا تساوى قلامة ظفر، ولو نقلت فى بعض كتب النوادر!! وهناك رواية لأحمد فى مسنده نقلها ابن كثير فى تفسيره- وهو مصدر من ص _128(1/115)
مصادر التفسيرالأثرى- جاء فيها عن زر: قال لى أبى بن كعب: كأين تقرأ سورة الأحزاب؟ أوكأى تعدها؟ قلت: ثلاثا وسبعين آية! فقال: قط، لقد رأيتها وأنها لتعادل سورة البقرة... إلخ. وهذاكلام سقيم، فإن الله لاينزل وحيا يملأ أربعين صفحة ثم ينخسه أو يحذف منه أربعا وثلاثين ويستبقى ست صفحات وحسب!! وهذا هزل ماكان ليروى! والمسند قد ترى فيه الأحاديث الواهية والموضوعات المرفوضة. وأنبه إلى أن مايتصل بالقرآن لايتحمل هذه الحكايات المنكرة.. وفى المسند حديث عن الأحرف السبعة يثير الضحك، وقد رفضته الجماهير بداهة، ومع ذلك فإن النووى فى شرحه لصحيح مسلم ذكرأن من الحروف السبعة أن تضع حكيما عليما مكان سميعا بصيرا، مالم تضع آية رحمة مكان آية عذاب!! وهذه حكاية فى غاية الغثاثة وماكان يجوز أن تذكر أو تنقل لكذبها... على أن هذه الموضوعات كلها تلاشت أمام حشود التواتر التى أحاطت بالوحى الخاتم، وتجاوزها العلماء بازدراء، وما عرضنا لها إلا لنلفت النظر إلى متحدثين فى الإسلام بضاعتهم النقل الذى لا وعى معه. وحبذا لو ألف الأزهر لجانا علمية لتنقية التفاسير من أمثال هذه القمامات الفكرية، فهى بإجماع المسلمين مرفوضة... التفسير الموضعى قبل الموضوعى: التفسير الموضعى لابد منه قبل الشروع فى التفسير الموضوعى، فإنه فهم جيد للآية أو لجملة الآيات التى تتناول قضية واحدة!! ويتعاون التفسير البلاغى والفقهى وغيرهما على توضيح الرؤية، وتحديد المعنى، ويطلق التفسير الموضوعى على نوعين جديدين من خدمة الكتاب العزيز: أولهما تتبع قضية ما فى القرآن كله، وشرحها على ضوء الوحى النازل خلال ربع قرن تقريبا... والآخر النظر المتغلغل فى السورة الواحدة لمعرفة المحور الذى تدور عليه، والخيوط ص _129(1/116)
الخفية التى تجعل أولها تمهيدا لآخرها، وآخرها تصديقا لأولها، أو بتعبير سريم تكوين صورة عاجلة لملامح السورة كلها.. ولعل أفضل نموذج لهذا التفسير ماقدمه الشيخ محمد عبد الله دراز من تفسير لسورة البقرة فى كتابه النبأ العظيم، فقد ضم معانى السورة فى باقة واحدة متكاملة تجعلك بنظرة ذكية تدرك أبعادها. وإذا تم ذلك فى أطول سور القرآن الكريم فكيف بغيرها؟ أما التفسيرالموضوعى الأول فإن الشيخ محمود شلتوت عرض نماذج له فى كتابات شتى، والرجل له بصيرة حادة فى التفسير تدل على رسوخ قدمه. وأرى أن التفسيرالموضوعى بشقيه جدير بعناية الأمة، فإن المستقبل له، ولعله فى عصرنا أقدر على خدمة الإسلام وإبراز أهدافه... وقد عن لى أن أتتبع معنى واحدا فى كتاب الله، وأرصد مواقعه فى شتى سور القرآن فعدت بحصيلة حسنة.. نحن نشعر بأن الخاطئين يحسون الندم يوم القيامة على ما اقترفوا من آثام، ويضمون إلى هذا الندم اثيمة يستحيل تحقيقها، هى أن يعودوا مرة أخرى إلى الحياة الأولى كى يحسنوا بدل ما أساءوا. أى أنهم يطلبون ملحقا للامتحان الذى سقطوا فيه، وهيهات! كم مرة تكرر هذا المعنى فى القرآن الكريم؟ فلأنظر فى المصحف الشريف حسب ترتيب السور.. 1- فى سورة البقرة يغتاظ الأتباع من تنكر السادة لهم يوم الحساب فيقولون: " لو أن لنا كرة فنتبرأ مهم كما تبرؤوا منا.. كذلك يريهم الله أعمالهم حسرات عليهم... " 2- فى سورة الأنعام يتمنى المشركون لو عادوا ليصدقوا بما كانوا به فى الدنيا مكذبين " ولو ترى إذا وُقفوا على النار فقالوا: يا ليتنا نرد ولا نكذب بآيات ربنا ونكون من المؤمنين " 3- فى سورة الأعراف يبين الله أن القرآن الكريم حوى من النذر ما يبعث على ص _130(1/117)
الارعواء، ويسوق إلى الهدى، ولكن الناس صدوا عنه، وعندما يصدمهم الوعيد الذى استخفوا به يطلبون النجاة " يوم يأتى تأويله يقول الذين نسوه من قبل: قد جاءت رسل ربنا بالحق، فهل لنا من شفعاء فيشفعوا لنا، أو نرد فنعمل غير الذى كنا نعمل... ". 4- ويتضح ما يطلبون فى سورة إبراهيم عندما يصيح الظلمة: " ربنا أخرنا إلى أجل قريب نجب دعوتك ونتبع الرسل، أو لم تكونوا أقسمتم من قبل مالكم من زوال 5- ويجىء هذا المعنى فى خلاصة وجيزة فى صدر سورة الحجر، " ربما يود الذين كفروا لو كانوا مسلمين، ذرهم يأكلوا ويتمتعوا ويلههم الأمل " أما سورة المؤمنون ففيها تفصيل يظهر فى موضعين: 6- ضراعة الكافر أن يرجع إلى الحياة ليصلح ما أفسد " رب ارجعون لعلى أعمل صالحا فيما تركت. كلا، إنها كلمة هو قائلها، ومن ورائهم برزخ إلى يوم يبعثون " 7- والموضع الآخر فى دعاء أهل النار عندما يحيط بهم العذاب ويصرخون من شدة الألم " ربنا غلبت علينا شقوتنا، وكنا قوما ضالين، ربنا أخرجنا منها فإن عدنا فإنا ظالمون. قال اخسؤوا فيها ولا تكلمون" 8- أما فى سورة الفرقان فإن الذكرى تبدو فى مسالك متناثرة تخامر الكافر عن الأيام التى خلت، فهو يقول آسفا: " ياليتنى اتخذت مع الرسول سبيلا.. ياويلتا ليتنى لم أتخذ فلانا خليلا، لقد أضلنى عن الذكر بعد إذ جاءنى" لقد فات الأوان ولات ساعة مندم. 9- وفى سورة الشعراء ينظر المشركون إلى آلهتهم وسادتهم فى جهنم يتعذبون معهم، لقد استوى المجرمون فى سوء العقبى، عندئذ يقول الأذباب الخدوعون " تالله إن كنا لفى ضلال مبين إذ نسويكم برب العالمين. وما أضلنا إلا المجرمون، ص _131(1/118)
فما لنا من شافعين، ولا صديق حميم، فلو أن لنا كرة فنكون من المؤمنين" وهيهات، لا عودة لاستئناف حياة أرشد.. 10- وفى سورة السجدة يصرح المجرمون بأمنيتهم ويسألون الله أن يمنحهم فرصة أخرى " ولو ترى إذ المجرمون ناكسو رءوسهم عند ربهم، ربنا أبصرنا وسمعنا، فارجعنا نعمل صالحا إنا موقنون" " ونلحظ أن السكوت هو الجواب، كأنهم أحقر من أن ينتظروا ردا، وهذا إيلام أوجع... 11- أما فى فاطر فقد سمعوا إجابة توجب الحسرة، وتضاعف العذاب "وهم يصطرخون فيها، ربنا أخرجنا نعمل صالحا غير الذى كنا نعمل، أولم نعمركم ما يتذكر فيه من تذكر، وجاءكم النذير، فذوقوا فما للظالمين من نصير" 12- ونلحظ فى سورة الزمر أن الله يحذر عباده من التعرض لهذه المواقف اليائسة، ولذلك يدعوهم إلى التوبة هنا، قبل أن يصحوا هناك على غد قاتم يستحيل معه استدراك ما فات " أن تقول نفس يا حسرتا على ما فرطت فى جنب الله وإن كنت لمن الساخرين، أو تقول لو أن الله هدانى لكنت من المتقين، أو تقول حين ترى العذاب لو أن لى كرة فأكون من المحسنين". لماذا شغلت نفسى بهذا الإحصاء؟ لأن المسلمين وقر فى نفوسهم نوع من الجبرية التى أفقدتهم الرشد، فحسبوا أنهم مسيرون لا مخيرون، منساقون لا قادرون أحرار.. هل يجرؤ أحدهم يوم القيامة على اللجوء إلى هذا الكذب؟ إن أمتنا استنامت فى هذه الحياة لأفكار جعلتها تحيا فى غيبوبة مهلكة، ولن ص _132(1/119)
تصح لها دنيا ولا دين إلا إذا عقلت كتابها وصححت موقفها منه. ومن الممكن استخراج قضايا كلية وجزئية من القرآن الكريم، على النحو السهل الذى سقناه هنا، ولن يعطيك القرآن بعضه إلا إذا أعطيته كلك. نموذج من سورة الطلاق: هذا تفسير موضوعى لسورة الطلاق، يقوم على الوحدة المعنوية بين أجزاء السورة كلها، وعلى تكامل الآيات وتماسك سياقها فى إبراز حقيقة معينة وليس فى السورة حكم فقهى من اجتهادى الخاص، وإنما اخترت من اجتهادات الأقدمين ما يناسب هذا التفسير وما يوافق رأئى.. ولمن شاء مخالفتى فلست مكره أحد على وجهة نظر لى. فى صدر السورة نداء للنبى عليه الصلاة والسلام لأنه قائد الأمة وإمام الهدى! ومناداة الرسول فى شأن يشيع بين أفراد الأمة كلها يشير إلى أن الأمر مهم، وأنه يخرج من النطاق الفردى الخاص إلى النطاق الجماعى العام.. والواقع أن الطلاق يتجاوز الرجل الذى أوقعه، إلى امرأته، وأولادها وأسرتيهما، فلابد من وضع ضوابط له حتى لايكون صدوره بإرادة مفردة بابا إلى الطيش والتظالم.. ومن هنا حدد الشارع له وقتا معينا، فلا يجوز فى أثناء الحيض والنفاس، ولايجوز بعد طهر مس امرأته فيه، وينبغى أن يحضره شاهدان، وعلى الزوجة إذا سمعت الطلاق، تبقى فى بيت الزوجية، فليس ما سمعته إجهازا على الحياة الزوجية وإنما هو إنذار بالقضاء عليها، وبقاؤها حيث هى مطلوب، فقد تستأنف هذه الحياة مع تغير الظروف التى دفعت إلى الطلاق. إن توراث الغضب قد تتلاشى وتتغلب بواعث الوئام خلال شهرين أو ثلاثة، وذاك معنى الآية الأولى " يأيها النبى إذا طلقتم النساء فطلقوهن لعدتهن، وأحصوا العدة، واتقوا الله ربكم، لاتخرجوهن من بيوتهن، ولايخرجن، إلا أن يأتين بفاحشة مبينة، وتلك حدود الله. ومن يتعد حدود الله فقد ظلم نفسه، لاتدرى ص _133(1/120)
لعل الله يحدث بعد ذلك أمرا ". وقد لاحظت أن الإيمان بالغيوب والانبعاث عن تقوى الله تكرر خلال الآيات والأحكام الفقهية، حتى يمكن تفريج الأزمات العائلية الباعثة على الشقاق بالاعتماد على الله ومغالبة الأمر الواقع "ومن يتق الله يجعل له مخرجا ". وذكر الوحى الكريم تفصيلات للإنفاق فى السراء والضراء وبيانا لحالات الإرضاع وغيرها، وبدا من الإرشاد الآلهى أن الله سبحانه لايريد أن يتحول الطلاق إلى كارثة اجتماعية كالحة، وألا يفقد المسلمون أدبهم وتواصلهم مع هذه المحنة.. ومع ذلك كله فإن الطلاق كما مارسه المسلمون اقترن بمآس كئيبة، فن الناحية الفقهية وقع الاعتراف بالطلاق البدعى، وانتشرالحلف بالطلاق، كما انتشرتعليقه على التوافة المحقرة، وسطرت فى كتب الفقه نوادر لوقوع الطلاق تستدعى العجب. ولايزال الأوربيون. ينظرون إلى سهولة الطلاق وميوعة حدوده عندنا نظرة إنكار وهى ميوعة اختلقها الناس ولايعرفها الإسلام..! ويكاد يستحيل أن تسمع امرأة الطلاق وتبقى فى البيت، كما يكاد يندر وقوع الطلاق داخل النطاق الذى رسمته السنة النبوية من طهر، واعتزال، وإشهاد... والفقهاء المتربصون بمصير الأسرة المرحبون بتمزيق عراها لأتفه الأسباب والأقوال لاحصر لهم... وقد أضر ذلك إضرارا بليغا بسمعة الإسلام وانتشار رسالته، واستغله أعداؤه استغلالا واسعا.. ولذلك فأنا أنظر إلى النصف الثانى من السورة على أنه امتداد وتكميل لنصفها الأول، وتحذير لأمتنا من العبث بأحكام الطلاق! ويبدأ ذلك بقوله تعالى: "وكأين من قرية عتت عن أمر ربها ورسله، فحاسبناها حسابا شديدا وعذبناها عذابا نكر، فذاقت وبال أمرها.. " إلخ. وليتدبر القارئ قوله تعالى فى أحكام الطلاق: " ذلك أمر الله أنزله إليكم، ومن يتق الله يكفر عنه سيئاته ويعظم له أجرا " وقوله بعد ذلك: " وكأين من قرية عتت عن أمر ربها ورسله.. ". ص _134(1/121)
إن السياق متماسك، ولفظ الأمر واحد، ولا يجوز لأمة شرفها الله بالوحى والهدى أن تفرط وتعبث، وتجعل نظام الأسرة فى مجتمعها لغوا..!! كما لايجوز أن تبعثر العقبات فى طريق الدعوة وانتشار الرسالة بسوء تطبيقها للإسلام وسوء تنفيذها لأحكامه! وأخيرا تختم السورة بهذه الآية الدالة على أن الله خلق الكون لنعرفه، وأنزل الوحى لنتبعه، وبين الكون الدال على الله بصحته، والوحى الهادر بنطقه يعرف المسلمون طريقهم " الله الذى خلق سبع عوات ومن الأرض مثلهن يتنزل الأمر بينهن لتعلموا أن الله على كل شىء قديروأن الذى قد أحاط بكل شىء علما ". هذه سورة الطلاق أدعو كل مسلم لقراءتها مرة أخرى، على ضوء ماشرحت لعله واجد فيها مايهدى ويجدى... فى ميدان الفقه عندما أرى بين الفقهاء خلافا فى قضية ما، أنظرإلى أدلتهم نظرة محايدة ثم أرجح مايقع فى نفسى أن دليله أقوى! غيرضائق بوجهة النظرالأخرى أو معترضا الآخذ بها.. ومع النظر فى الدليل أهتم اهتماما شديدا بأمرين: ما الأيسر على الناس؟ وما الأقرب إلى مصلحة الدعوة الإسلامية فى بلد ما أو فى عصير ما؟ وعندما أستبين الأيسر الذى لاحرج فيه أفتى به! وتد اتهمنى البعض بتتبع الرخص، فلم أبال التهمة! وقلت: بل أنا أولى بالسنة الشريفة " ما خيررسول الله بين أمرين إلا اختار أيسرهما، مالم يكن إثما! فإن كان إثما كان أبعد الناس عنه،) ذلك وقد قال الله تعالى: "ما جعل عليكم في الدين من حرج" أما مصلحة الدعوة الإسلامية فتحتاج إلى شىء من الشرح، فإن المسلمين فى ص _135(1/122)
الأعصار الأخيرة شغلتهم شئونهم الداخلية فلم تغيهم عرض الإسلام على شعوب الأرض كما أمرهم الله تعالى! ولم يزوا الناس من أنفسهم وأحوالهم مايغرى بالاتباع ويبعث على الإعجاب بل ربما التزموا- فى الفروع- بأقوال تصرف الناس عن الأصول وتبغض إليهم الدين كله... وقد شاع فى جنوب آسيا أن الإسلام يأخذ الزكاة من المزارعين الفقراء ويترك المزارعين الأغنياء.، لأن الأولين يزرعون القمح والشعير، والآخرين يزرعون البن والشاى والمطاط والكاكاو، وسائر المحاصيل التى تدر على أصحابها الذهب وليس فى هذه الزروع زكاة عند بعض الأئمة..! وأبو حنيفة الذى يوجب الزكاة فى كل الزروع بغيض عند بعض المغفلين! فلا يجوز اتباع مذهبه إننى أدرس البيئات الأجنبية، ومهمتى الأولى غرس الإيمان بالله واليوم الآخر، وتعريف الناس بأركان الرسالة التى بعث بها محمد عليه الصلاة والسلام، فإذا كان النساء سوافر مافكرت تط فى إلباسهن النقاب لا أولا ولا آخرا. وإذا كن فى نصرانيتهن يذهبن إلى الكنائس فلن أفكرأبدا فى منعهن المساجد! مهما جادل أصحاب الرءوس العفنة، ورمونى بالسوء! وذاك ماجعلنى- وأنا أعرض الإسلام- أضرب عن ذكر أن المرأة والحمار والكلب الأسود تقطع الصلاة، وقد تساءلت فى حيرة: ما القاسم المشترك بين هذه الأصناف الثلاثة؟ وتابعت جمهرة العلماء فى محو هذا الحكم من فروع العبادات! إن اختلاف وجهات النظر- كما أسلفت- مأنوس فى تراثنا، مقبول فى مسالكنا، مأجور عند الله سبحانه خطأ كان أو صوابا، فلا مساغ لجعله حجرعثرة فى طريق الدعوة أو طريق المصلحة!! وإن كان عويل الصغار يشتد كلما رأوا ما ألفوه مؤخرا أو مهجورا.. وقد اخترت القول بأن دية الرجل والمرأة سواء، وتابعت فى هذا شيوخى الذين ص _136(1/123)
تلقيت العلم عنهم، أمثال محمد أبوزهرة، ومحمود شلتوت ومحمد حسنين مخلوف وغيرهم.. كان رائدى فى هذا الاختيار دحض القول بأن الإسلام يحتقر المرأة ويرخص دمها. وبعض المسلمين يعتنق هذه الفكرة السخيفة، ويضع العراقيل أمام الرحمة العامة التى بعث بها محمد للعالمين، بل يجعل الإسلام سجانا للمرأة ماحقا لإنسانيتها... قال الشيخ عبد القادر العمارى فى توكيد المماثلة بين دية الرجل والمرأة: إن الله سبحانه يقول: "وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَن يَّقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلاَّ خَطَأً وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلاَّ أَن يَّصَّدَّقُوا فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍ لَّكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُم مِّيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ تَوْبَةً مِّنَ اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا " (1) سورة النساء: 92 لم يذكرالقرآن هنا أن دية المرأة على النصف من دية الرجل، الآية عامة فى فى الرجل والمرأة، وليس هناك مخصص لهذا العموم، لا آية قرآنية ولا حديث نبوى صحيح، لذلك يجب أن يبقى العموم على عمومه، بل يؤكد ذلك ماجاء فى حديث عمرو بن حزم فى أوله: " فى النفس المؤمنة مئة من الإبل " كلمة نفسى تطلق على الذكر والأنثى، كما أن الرجل يقتل بالمرأة، فتعين أن تكون ديتها كديته. وكتاب عمرو بن حزم الذى تضمن أن دية المرأة على النصف من دية الرجل فيه نظر، لأن الجملة فى بعض الراويات وليس فى كل الروايات، ثم هو حديث لم يبلغ من قوة السند مايمكن به تخصيص عموم القرآن الكريم. والمفاوتة بين دية الرجل ودية المرأة، وجراحة الرجل وجراحة المرأة أدت إلى أحكام تثيرالضحك: فقد روى مالك عن ربيعة بن عبد(1/124)
الرحمن أنه قال لسعيد بن ص _137
المسيب: كم فى إصبح المرأة؟- من العوض إذا أصيبت- قال: عشرمن الإبل قال: قلت: كم فى الإصبعين؟ قال: عشرون من الإبل! قلت: كم فى ثلاث أصابع؟ قال: ثلاثون من الإبل! قلت: كم فى أربع أصابع؟ قال: عشرون من الإبل!! قلت أحين عظم جرحها واشتدت مصيبتها نقص عقلها!- يعنى الدية- فقال له سعيد: أعراقى أنت؟ يعنى هل أنت من مدرسة الرأى التى يقودها أبو حنيفة فى العراق؟ قال ربيعة: بل عالم متثبت، أو جاهل متعلم!! قال: هذه السنة يا ابن أخى!! والعلماء على أن السنة المقصودة هنا هى عمل أهل المدينة!! وليست السنة الثابتة بالنقل الواضح الثابت عن صاحب الرسالة عليه الصلاة والسلام... واعتراض ربيعة قائم لاريب فيه، وإجابة سعيد لاتهدم منه لبنة، ولافكاك منه إلا بالتسوية بين دية الرجل ودية المرأة فى النفس وفى الجروح.. والرأى السديد ليس تهمة توجه إلى الأحناف، والآثار الواهية لاتعترض الأدلة العقلية. ويسرنى أن أثبت هنا نقلا مطولا للشيخ العلامة يوسف القرضاوى شرح فيه طبيعة الخلاف الفقهى وآثاره، لعل أولى الألباب وأصحاب المقاصد الشريفة ينتفعون به، ولا يجعلون من اشتجار الآراء فرقة وتمزيق لأمة عانت من الانقسام دهرا، وأحدق بها الأعداء يبغون الإجهاز عليها... لا إنكار فى المسائل الاجتهادية: قال الأستاذ الدكتور يوسف القرضاوى: مما يقرب المسافة بين الداعين إلى الإسلام، فى الأمور الخلافية، تجنب القطع فى المسائل الاجتهادية التى تحتمل وجهين أو رأيين أو أكثر، وكذلك تجنب الإنكار فيها على الآخرين، ولهذا قرر علماؤنا: أنه لا إنكار من أحد على أحد فى المسائل الاجتهادية، فالمجتهد ينكر على مجتهد مثله، والمقلد لا ينكر على مقلد مثله كذلك بله أن ينكر على مجتهد. ص _138(1/125)
فأجاب: الحمد لله، مسائل الاجتهاد من عمل فيها بقول بعض العلماء لم ينكر عليه ولم يهجر، ومن عمل بأحد القولين لم ينكر عليه، وإذا كان فى المسألة قولان: . فإن كان الإنسان يظهر له رجحان أحد القولين عمل به، وإلا قلد بعض العلماء الذين يعتمد عليهم فى بيان أرجح القولين، والله أعلم. وسئل فى مقام آخر- رحمه الله-: عمن ولى أمرا من أمور المسلمين ومذهبه لايجوز " شركة الأبدان " فهل يجوز له منع الناس من العمل بها؟ فأجاب: ليس له منع الناس من مثل ذلك، ولا من نظائره، مما يسوغ فيه الاجتهاد، وليس معه بالمنع نص من كتاب ولا سنة ولا إجماع، ولا ماهو فى معنى ذلك، ولاسيما وأكثر العلماء على جواز مثل ذلك، وهو مما يعمل به عامة المسلمين فى عامة الأمصار. وهذا كما أن الحاكم ليس له أن ينقض حكم غيره فى مثل هذه المسائل، ولا للعالم والمفتى أن يلزم الناس باتباعه فى مثل هذه المسائل. ولهذا لما استشار الرشيد مالكا أن يحمل الناس على " موطئه " فى مثل هذه المسائل، منعه من ذلك، وقال: إن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم تفرقوا فى الأمصار، وقد أخذ كل قوم من العلم مابلغهم. وصنف رجل كتابا فى الاختلاف، فقال أحمد: لاتسمه "كتاب الأختلاف " ولكن سميه كتاب السنة". ولهذا كان بعض العلماء يقول: إجماعهم حجة قاطعة، واختلافهم رحمة واسعة، وكان عمر بن عبد العزيزيقول: مايسرنى أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يختلفوا، لأنهم إذا اجتمعوا على قول فخالفهم رجل كان ضالا، وإذا اختلفوا فاخذ رجل بقول هذا ورجل بقول هذاكان فى الأمرسعة. وكذلك قال غير مالك من الأئمة: ليس للفقيه أن يحمل الناس على مذهبه. ولهذا قال العلماء المصنفون فى الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر من أصحاب الشافعى وغيره: إن مثل هذه المسائل الاجتهادية لاتنكر باليد، وليس لأحد أن يلزم الناس باتباعه فيها، ولكن يتكلم فيها بالحجج العلمية، فمن تبين له صحة أحد ص _139(1/126)
القولين تبعه، ومن قلد أهل القول الآخر فلا إنكار عليه. ونظائر هذه المسائل كثيرة مثل: تنازع الناس فى بيع الباقلا الأخضر فى قشريه، وفى بيع المقاثى جملة واحدة، وبيع المعاطاة والسلم الحال، واستعمال الماء الكثير بعد وقوع النجاسة فيه إذا لم تغيره، والتوضؤ من مس الذكر والنساء، وخروج النجاسات من غير السبيلين، والقهقهة وترك الوضوء من ذلك، والقراءة بالبسملة سرا أو وجهرا وترك ذلك، وتنجيس بول مايؤكل لحمه، وروثه، أو القول بطهارة ذلك، وبيع الأعيان الغائبة بالصفة وترك ذلك، والتيمم بضربة أو ضربتين إلى الكوعين أو المرفقين، والتيمم لكل صلاة أو لوقت كل صلاة أو والاكتفاء بتيمم واحد، وقبول شهادة أهل الذمة بعضهم على بعض أو المنع من قبول شهادتهم. وهذا هو موقف الصحابة من القضايا الاجتهادية التى تقبل أكثرمن فهم وأكثرمن تفسير. روى أن عمر رضى الله عنه قضى فى المسألة المعروفة " بالمسألة الحجرية " فى الميراث بعدم التشريك بين الإخوة الأشقاء والإخوة لأم، ثم رفعت إليه مرة أخرى فقضى فجها بالتشريك، فقيل له: إنك لم تشرك بينهم عام كذا وكذا، فقال عمر: تلك على ماقضينا يومئذ، وهذه على ماقضينا اليوم. وبهذا فسرابن القيم قول عمر فى كتابه إلى أبى موسى الأشعرى: " ولايمنعنك قضاء قضيت به اليوم، فراجعت فيه رأيك، وهديت فيه لرشدك، أن تراجع فيه الحق، فإن الحق قديم، لايبطله شىء، ومراجعة الحق خيرمن التمادى فى الباطل ". وروى أن عمر لقى رجلا فقال: ماصنعت- يعنى فى مسألة كانت معروضة للفصل فيها- فقال الرجل: قضى على وزيد بكذا.. فقال عمر: لوكنت أنا لقضيت بكذا، قال الرجل: فا يمنعك والأمر إليك؟ قال: لوكنت أردك إلى كتاب الله أو إلى سنة نبيه صلى الله عليه وسم لفعلت، ولكنى أردك إلى رأى، والرأى مشترك. ومما يساعد على التسامح وتبادل العذر فيما اختلف فيه: الاطلاع على ص _140(1/127)
اختلاف العلماء، ليعرف منه تعدد المذاهب، وتنوع المآخذ والمشارب، وأن لكل منهم وجهته وأدلته التى يستند إليها، ويقول عليها، وكلهم يغترف من بحر الشريعة وما أوسعه. ومن أجل ذلك أكد علماؤنا فيما أكدوه وجوب العلم باختلاف الفقهاء كوجوب العلم بما أجمعوا عليه، فإن اختلافهم رحمة واتفاقهم حجة. وفى هذا قالوا: من لم يعرف اختلاف الفقهاء فليس بعالم. من لم يعرف اختلاف الفقهاء لم يشم أنفه رائحة الفقه. ينهون عن القليد... ويقلدون! وآفة كثير من الدخلاء على العلم أنهم لايعرفون إلا رأيا واحدا ووجهة واحدة، أخذوا عن شيخ واحد أو انحصروا فى مدرسة واحدة، ولم يتيحوا لأنفسهم أن يسمعوا رأيا آخر، أو يناقشوا وجهة مخالفة، أو يجيلوا أنظارهم فى أفكار المدارس الأخرى. والعجيب فى أمر هؤلاء أنهم ينهون عن التقليد، وهم فى الواقع مقلدون، رفضوا تقليد الأئمة القدامى وقلدوا بعض المعاصرين، وأنهم ينكرون المذاهب، وقد جعلوا من آرائهم مذهبا خامسا، يقاتلون دونه وينكرون من خالفه! وأنهم ينكرون علم الكلام القديم ومافيه من جدليات وتزيدات، وقد أنشئوا بأقاويلهم علم كلام جديدا، لايهتم بغرس اليقين فى القلوب بقدر ما يغرس فى القلوب حب الجدل فى أمور العقيدة. إن موقف هؤلاء من الحقيقة موقف العميان من الفيل فى القصة الهندية المشهورة، فهم لايعرفرن إلا ما وقعت عليه أيديهم، ولو وسعوا آفاقهم لعرفوا أن الأمر يتسع لأكثر من رأى وأن الآراء المتعددة يمكن أن تتعايش وإن اختلفت وتعارضت، المهم هو الإنصاف وترك التعصب، والاستماع إلى الآخرين، فقد يكونون أصوب قولا وأصح فهما. وكم من دارس منصف رجع عن تعصبه وغلوائه حين عرف أن فى المسائل أقوالا عدة لعلماء معتبرين. ص _141(1/128)
خذ مثلا قضية رمى الجمارفى الحج، وما قاله بعضهم من أن من رمى الجمار قبل الزوال فحجه باطل لأنه خالف السنة. قال جابر: رمى رسول الله صلى الله عليه وسم يوم النحرضحى، ورمى بعد ذلك بعد الزوال. وعن وبرة قال: سألت ابن عمر رضى الله عنهما: متى أرمى الجمار؟ قال: إذا رمى إمامك فارمه، فأعدت عليه المسألة قال: كنا نتحين فإذأ زالت الشمس رمينا. قال فى (الفتح): وفيه. دليل على أن السنة أن يرمى الجمار- فى غير يوم الأضحى- بعد الزوال، وبه قال الجمهور. وخالف فيه عطاء وطاووس فقالا: يجوز قبل الزوال مطلقا، ورخص الحنفية فى الرمى قبل الزوال، فى يوم النفرأى يوم النزول من منى، وكذلك روى عن إسحاق. وهذه هى المسألة التى اختلف فيها الشيخ عبد الله بن زيد المحمود مع علماء الرياض، منذ أكثر من ثلاثين عاما، وكتب فيها رسالة: " يسر الإسلام "، واشتد المشايخ هناك فى الرد عليه، مع أن جواب ابن عمر لمن سأله- رغم تشدده فى الاتباع- يدل على سهولة الأمر عنده، وحسب المسلم فى ذلك أن يتبع أمير الحجيج قذم أو أخر. وقد اختلف الفقهاء فى حكم الرمى نفسه، كما فى (الفتح): فالجمهورعلى أنه واجب يجبرتركه بدم. وعند المالكية أنه سنة مؤكدة، وعندهم رواية أن رمى جمرة العقبة ركن يبطل الحج بتركه. ومقابله قول بعضهم: إنما شرع الرمى حفظا للتكبير، فإن تركه وكبر أجزأه، حكاه ابن جرير عن عائشة وغيرها. ويقول بعض الإخوة: إن الرأى الذى ينفرد به فقيه أو اثنان خلافا لجمهور الأمة، يجب ألأ يعتد به ولا يعول عليه. وقال غيرهم: إن ماخالف المذاهب الأربعة التى تلقتها الأمة بالقبول يجب أن يرفض ولايقام له اعتبار. ص _142(1/129)
والحق أن هذا كله لايقوم عليه دليل من كتاب أو سنة. فالإجماع الذى هو حجة- على ماقيل فيه- هو اتفاق جميع المجتهدين على حكم شرعى، ولم يقل أحد، إنه اتفاق الأكثرية أو الجمهور، فالأمر ليس أمر تصويت بالعدد. صحيح أن لرأى الجمهور وزنا يجعلنا نمعن النظر في خالفه ولانخرج عنه إلا لاعتبارات أقوى منه، ولكنه ليس معصوما على كل حال. وكم من صحابى انفرد عن سائر الصحابة برأى لم يوافق عليه سائرهم ولايضره ذلك. وكم من فقهاء التابعين من كان له رأى خالفه آراء الآخرين، ولم يسقط ذلك قوله، فالمدار على الحجة لاعلى الكثرة. كم من الأئمة الأربعة من انفرد عن الثلاثة بآراء وأقوال مضى عليها أتباع مذهبه مؤيدين ومصححين. ومذهب أحمد بن حنبل وهو المذهب المشهور باتباع الأثر، قد عرف بـ (مفرداته) التى نظمها من نظم، وألف فيها من ألف، وغدا من المعروف المألوف أن يقرأ الباحث فيه هذه العبارة " وهذا من مفردات المذهب ". والمذاهب الأربعة- على مالها من اعتبار وتقدير لدى جمهور الأمة- ليست حجة فى دين الله، إنما الحجة ماتستند إليه من أدلة شرعية منقولة أو معقولة. ومايقال عن بعض الآراء: إنها شاذة أو مهجورة أو ضعيفة، فهذا لايؤخذ على إطلاقه وعمومه، فكم من رأى مهجور أصبح مشهورا، وكم من قول ضعيف فى عمر جاء من قواه ونصره، وكم من قول شاذ فى وقت هيأ الله له من عرف به وصححه، وأقام عليه الأدلة حتى غدا هو عمدة الفتوى. وحسبنا هنا آراء شيخ الإسلام ابن تيمية التى لقى من أجلها مالقى فى حياته، وظلت بعد وفاته قرونا، وظل من العلماء من يعتبرها خرقا للإجماع، حتى جاء عصرنا الذى وجد فيها سفينة الإنقاذ للأسرة المسلمة من الانهيار والدمار. ص _143(1/130)
الفصل التاسع على هامش السنة ظهرت الكتب الستة التى جمعت جمهرة الأحاديث النبوية فى أوائل القرن الثالث، وتلمح ذلك فى تواريخ أصحابها وهم رجال مهرة فى هذا الفن، ولا يمكن إنكار جهدهم وعطائهم.. عاش البخارى بين عامى 194- 256، وعاش مسلم بين عامى 204- 261، وعاش النسائى بين عامى 215- 303، وعاش أبو داود بين عامى 2 0 2- 275، وعاش التزمذى بين عامى209 - 270، وعاش ابن ماجة بين عامى 207- 273. كانت أقوال الرسول صلى الله عليه وسلم متداولة بين الناس خلال القرنين السابقين، بعضها مكتوب وبعضها مسطور، وربما اختلط الصحيح والسقيم على العامة، فكان العلماء يشرحون للناس أمر دينهم، وينقون منابعه جهد طاقتهم.. ومعروف أن أبا حنيفة فى العراق، ومالكا فى الحجاز أسسوا مدارس فقهية لها وزنها بين الجماهير، تعتمد على كتاب الله وسنة رسوله، ولم يوجد فى تاريخ الإسلام من تمرد على أن السنة ضميمة محترمة إلى القرآن الكريم، وقد يثور نزاع حول حديث ما من حيث نسبته إلى صاحب الرسالة وهذا النزاع لايمس الأساس الراسخ أن كتاب الله وسنة رسوله هما ينابيع الإسلام ومعالم الأسوة الحسنة.. وقد لاحظ العلماء تفاوتا بين طرق الإثبات عند أصحاب الكتب الستة، إنهم جميعا وجدوا أنفسهم أمام تراث كبير، فكيف ينتقون منه مايطمئنون إلى صحة نسبته إلى النبى عليه الصلاة والسلام. ص _144(1/131)
كان البخارى، رحمه الله، أشد الأئمة تحريا للصدق وضبطا له، وقد اشترط لقبول الرواية ثبوت التلاقى بين الراويين- بعد ثبوت المعاصرة طبعا- وقد دون صحيحه بعد غربلة. رائعة لما وجده شائعا... وفى صحيح البخارى قريب من 2600 حديث عدا المكرر.. وكان مسلم أقل. تشددا فاكتفى بثبوت المعاصرة، ولم يبحث عن ثبوت اللقى، كأنه افترض وقوعه أو وقوع مايسد مسده وعدد أحاديثه أكبر.. أما بقية الكتب الستة ففيها الصحيح والحسن والضعيف والموضوع- أحيانا-. وهى فى نظرى أدن من مسند أحمد الذى جمع قرابة ثلاثين ألف حديث، لا أشك فى أن بعضها لا أصل له.. وظاهر أن هؤلاء الأئمة نظروا فيما تجمع لديهم أواخر القرن الثانى الهجرى، وظاهركذلك أن البخارى تحرى ودقق، وأن ابن حنبل تساهل عندما دون... ربما أثبت غير البخارى ما تجاوزه البخارى، وربما أثبت البخارى أحاديث تجاوزها مالك وأبو حنيفة فى القرن الثانى، وقد عاشا فيه قبل أن يظهرالبخارى. مالك بن أنس يقرر فى مذهبه الفقهى أن ريق الكلب وعرقه طاهران، ويستدل على ذلك بما ثبت فى باب "الصيد بالكلب المعلم "، وبقوله تعالى: "وما علمتم من الجوارح مكلبين تعلمونهن مما علمكم الله فكلوا مما أمسكن عليكم واذكروا اسم الله عليه واتقوا الله إن الله سريع الحساب". وأبو حنيفة يقرر أن المسلم إذا قتل حرا أو عبدا، ذكر أو أنثى، مؤمنا أو كافرا، قتل فيه، وقوفا عند ظاهرالآيتين "النفس بالنفس" و" وأن احكم بما أنزل الله " . ص _145(1/132)
هل يفهم من ذلك أحد أن مالكا وأبا حنيفة يرفضان السنة مصدرا للأحكام؟ لأن هناك أحاديث وردت تخالف قولهما؟ لايقول ذلك عاقل، كما أن البخارى لايتهم بخصومه السنة لأنه اكتفى بألفين وعدة مئات، وترك الباقى من المرويات الكئيرة الموجودة أمامه وهى ألوف، بل قيل: مئات الألوف. إن لإثبات الحديث شروطا فى المتن والسنة، قد يختلف فيها العلماء ولاستفادة الحكم من الكتاب والسنة! معا قدرات ذهنية وخلقية لاتتوافر لكل أحد. والاتفاق قائم بين السلف والخلف على أن تراث النبى عليه الصلاة والسلام، ينضاف إلى الكتاب الكريم فى شرح الإسلام وبيان تعاليمه.. والمشكلة التى نواجهها فى عصرنا الحاضرأناس خاصموا أئمة الفقه، وقالوا: نرفض التقليد المذهبى، ثم أعملوا عقولهم فما يتداولون من أحاديث، ووصلوا إلى أفهام ينكرها القرآن، ويرفضها الأئمة القدامى، ويستنكرها أصحاب الفطر السليمة، فإذا حاكمتهم إلى المقررات الدينية الثابتة، قالوا لك فى غلظة وجفاء: إنك تنكر السنة وتخاصم الرسول..! الحق أننا نواجه أزمة أخلاق إلى جانب أزمة الثقافة.. فقلة البضاعة من العلم محنة، فإذا انضم إليها حب التطاول على الناس، وتلمس العيوب للأبرياء زادت المصيبة على أن الإنكار والإثبات للمرويات ليس كلا مباحا "، كما أن تقرير شريعة الله فى العلاقات الفردية والدولية، وشئون الأسرة، وتداول المال الخاص والعام، وأساليب الحكم والشورى، وغير ذلك من شئون لا يجوز أن يتحدث فيه إلا أهل الذكر. أما العمال والفلاحون والبدو فمالهم ولهذه الشئون فى الأحاديث المردودة: يشتغل بعلوم الحديث الآن رجلان كبيران، الشيخ محمد ناصر الألبانى، والشيخ عبد الله الصديق الغمارى، وقد تابعت ما يكتبان، وأخذت عنهما معارف ثمينة، وهما فى نظرى من الراسخين فى هذا الجانب الثقافى من علوم الدين... ص _146(1/133)
ولا أكترث لما بينهما من تخالف، فالأول قريب من السلفيين، والآخر قريب من الأشاعرة، وأنا فى دراسة العقائد أنظر إلى الخلاف الموروث نظرة بعيدة عن الفريقين، لأنى أرفض الآثار الإيجابية والسلبية للفلسفة الإغريقية التى أغارت على تاريخنا العلمى. وأعتمد المنهج القرآنى فما وراء المادة، والمنهج القرآنى الكونى فى دراسة المادة نفسها.. من أجل ذلك تجنبت الحديث فى النظريات الكلامية عند السلفيين والأشاعرة. واهتممت بالجانب العملى فى الفقه والسلوك. وقد ظهر أخيرا كتاب " الفوائد المقصودة فى بيان الأحاديث الشاذة المردودة " للحافظ عبد الله بن محمد الصديق- دار الفرقان- الدار البيضاء. قرأت الكتاب فوجدت المؤلف قد أثبت 43 حديثا حكم عليها بالشذوذ، مع أن أغلبها صحيح الإسناد، وذلك لما رآه فى متونها من مخالفات. وبعد دراسة للكتاب رأيت أن أذكر نماذج لما ساق من آثار، وافقته فى أغلبها وترددت فى بعضها.. فما وافقته فى رده ما جاء ص 92 عن أبى هريرة عن النبى صلى الله عليه وسلم قال: "استأذنت ربى أن أستغفر لأمى، فلم يأذن لى، واستأذنته أن أزور قبرها فأذن لى ". هذا الحديث شاذ، لمخالفته لآيات القرآن الكريم، قال الله تعالى: " و ما كنا معذبين حتى نبعث رسولا " وقال أيضا: "ذَلِكَ أَن لَّمْ يَكُن رَّبُّكَ مُهْلِكَ القُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا غَافِلُونَ ". أى لم يأتهم نذير يذكرهم، وقال سبحانه فى حق العرب: " وما أرسلنا إليهم قبلك من نذير" وقال أيضا: " لتُنْذِرَ قُوْمًا مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِّنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُون" وأم النبى صلى الله عليه وسلم عاشت فى زمن الفطرة، لم يأتها نذير ولا علمت ص _147(1/134)
به، فالعذاب منفى عنها بصراحة هذه الآيات، والحديث المذكور فى منع الاستغفار لها شاذ لا يعمل به، وخبر الآحاد لا يقدم على القرآن الكريم، وهذا واضح لا خفاء فيه، ومثله ما رواه أحمد فى المسند بإسناد ضعيف عن أبى رزين العقيلى قال: قلت: يا رسول الله، أين أمى؟ قال: أمك فى النار، قلت: فأين من مضى من أهلك؟ قال: " أما ترضى أن تكون أمك مع أمى " فهذا مع ضعفة شاذ أيضا. ومن المرويات السخيفة أن يجازف شخص بإثبات آثار تمسن القرآن الكريم، بل إنى أعد ذلك من السفه المنكور.. أليس من المضحك أن ينسب إلى ابن مسعود أنه أنكر كون المعوذتين من القرآن الكريم؟ أتبلغ الحفاوة بالمرويات التافهة هذا الحد من الخساسة؟!! أحيانا يخيل إلى أن أصحاب المساند جمعوها أولأ مسودات تضم كل ما قيل، على أن يمحوا منها بعد ذلك الأساطير، ثم ماتوا قبل أن يتموا أعمالهم! ومن أمثلة ذلك ما جاء فى المسندج 6 ص 269 عن عائشة رضى الله عنها، قالت: لقد أنزلت آية الرجم والرضعات العشر، فكانت فى ورقة تحت صرير فى بيتى، فلما اشتكى رسول الله صلى الله عليه وسلم، تشاغلنا بأمره، ودخلت دويبة لنا- تعنى شاة- فأكلتها. قال الغمارى: هذا أثر شاذ منكر، شديد النكارة، لأن نسخ التلاوة محال، كما بينته فى جزء ذوق الحلاوة. ثم من المنكر الذى لا يعقل أن تدخل شاة البيت وتأكل ورقة فيها قرآن ولا يعلم أحد، هذا من الباطل المردود قطعا، ولو جوزنا أن تأكل شاة ورقة فيها قرآن منسوخ على رأى من يجيز النسخ لجاز أن تأكل ورقة فيها قرآن غير منسوخ، فترتفع الثقة بالقرآن كله، لأنه قد يكون أكل منه شىء، والله تعالى يقول: " إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ" (سورة الحجر: 9). ص _148(1/135)
ومن المقرر فى كتاب الله عز وجل أن خلق العالم أجمع تم فى ستة أيام، فكيف يذهل عن ذلك أحد، فيروى حديثا يفيد أن الخلق استغرق سبعة أيام؟! ثم يذكر ذلك فى تفصيل شديد البعد عن الواقع القرآنى المعروف. روى مسلم والنسائى وغيرهما عن أبى هريرة رضى الله عنه قال: " قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " خلق الله التربة يوم السبت، وخلق فيها الجبال يوم الأحد، وخلق الشجرة يوم الاثنين، وخلق المكروه يوم الثلاثاء، وخلق النور يوم الأربعاء، وبث فيها الدواب يوم الخميس، وخلق آدم بعد العصر يوم الجمعة، فيما بين العصر إلى الليل ". هذا الحديث شاذ، لأنه يفيد خلق الأرض وما فيها فى سبعة أيام، مع أن القرآن يفيد أن خلق السموات والأرض معا كان فى ستة أيام، وقد علل البخارى هذا الحديث فى التاريخ فقال: رواه بعضهم عن أبى هريرة عن كعب الأحبار وهو الأصح. وكعب الأحبار ناقل لخرافات قومه، ولا وزن له، ومن العجب أن ينخدع أبو هريرة به.... الخلاف فى صلاة الجماعة: بين الفقهاء خلاف فى صلاة الجماعة، فمنهم من يراها فرض عين، ومنهم من يراها فرض كفاية، ومنهم من يراها سنة مؤكدة.. والأخير أحب الأقوال إلى، وأولاها بالتقديم، ذلك أن النبى عليه الصلاة والسلام، لم يبطل صلاة الفذ، بل عدها ناقصة الأجر إلى حد بعيد، وهذا هو المستفاد من الحديث: "صلاة الجماعة تفضل صلاة الفذ بسبع وعشرين درجة. والتفاوت بين الثوابين شاسع، لأن الجماعة من شعائر الإسلام، ولا يحكم الروابط بين المسلمين كهذا اللقاء المتكرر من الصبح إلى العشاء.. ص _1 ص(1/136)
والآثار الروحية والاجتماعية للاحتشاد فى المسجد لاحصر لها، ومايزهد فيها محب لته ورسوله.. وقد كان الكفار والمنافقون قديما يضيقون بالمساجد، ويتثاقلون عن الجماعات، وربما تجمعوا فى بيوتهم أو فى أنديتهم هاجرين الصلوات المفروضة وقد يسخرون منها ومن الدعوة إليها، كما جاء فى قوله تعالى: "يا ايها الذين آمنوا لاتتخذوا الذين اتخذوا دينكم هزوا ولعبا من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم والكفار أولياء، واتقوا الله إن كنتم مؤمنين، وإذا نافى يتم إلم! الصلاة اتخذوها هزوا ولعبا ذلك بأنهم قوم لايعقلون ". وقد هم النبى عليه الصلاة والسلام بمهاجمة أولئك العابثين وتحريق بيوتهم عليهم حسما لشرهم، ولكنه اكتفى بالتهديد، ولعل ذلك التهديد شتت شملهم لأخهم جبناء، وذلك فى رأينا معنى ماجاء فى الصحاح عن أبى هريرة أن رسول الله صلى الد عليه وسم، فقد ناسا فى بعض الصلوات- لتكرار تخلفهم- فقال: لقد هممت أن آمررجلا يصلى بالناس ثم أخالف إلى رجال يتخلفون عنها، قآمر بهم فيحرقوا عليهم بحزم الحطب بيوتهم، ولو عم أحدهم أنه يجد عظما سمينا لشهدها" يعنى صلاة العشاء والفجر خاصة فقد كانتا أثقل الصلوات على المنافقين.. ونحن نهيب بالمؤمنين أن يعمروا المساجد، وأن يزحموا الصفوف، وأن يقاوموا إغراء الحضارة المادية المعاصرة، فقد أكثرت من شغل النامى بالدنايا وأبعدت الجماهير عن مرضاة الله.. ومع ذلك فلا نحكم بفساد صلاة من أدى الصلاة ث البيت أو السوق أو الحقل، وإن نقص ثوابه.. وللمحدثين كلام فى هذا الموضوع لاحرج من سوقه: روى أبو داود وابن ماجه عن ابن أم مكتوم أنه سأل النبى صلى الله عليه ص _150(1/137)
وسلم: فقال: يا رسول الله، إنى رجل ضرير شاسع الدار، ولى قائد لا يلايمنى ، فهل لى رخصة أن أصلى فى بيتى؟ قال: هل تسمع النداء؟ قلت: نعم، قال: لا أجد لك رخصة " . ورواه مسلم والنسانى عن أبى هريرة قال: أتى النبى صلى الله عليه وسلم رجل أعمى- فذكر نحوه.. ويدل هذا السياق على أن الجماعة فرض عين، لكن الغمارى يقول: إن هذا الحديث شاذ، ومما يدل على شذوذه حديث عتبان بن مالك أنه أتى النبى صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله، إنى قد أنكرت بصرى، وأنا أصلى لقومى، وإذا كانت الأمطار سال الوادى الذى بينى وبينهم، ولم أستطع أن آتى مسجدهم فأصلى لهم، ووددت أنك يا رسول الله تأتى فتصلى فى مصلى أتخذه مصلى، قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: سأفعل إن شاء الله " الحديث رواه مسلم وغيره. وفيه الرخصة فى التخلف عن الجماعة لعذر، وهو إجماع، وقال بعضهم: إن عدم الترخيص لابن أم مكتوم أنه كان يصلى فى المسجد النبوى، وهذا المسجد خاصة يمتنع التخلف عن الجماعة فيه، لأن النبى صلى الله عليه وسلم يحضرها ويؤم فيها المؤمنين.. وهذه قضية تخالف فيها الشيخ الغمارى دون جفاء ولابذاء، وننشد فيها الحق وحده. لقد علمنا من القرآن الكريم أن الذين عثروا على أهل الكهف بعد مماتهم اختلفوا فى شأنهم ".. إذ يتنازعون بينهم أمرهم فقالوا ابنوا عليهم بنيانا ربهم أعلم بهم قال الذين غلبوا على أمرهم لنتخذن عليهم مسجدا ". والآية تشير إلى أن اتخاذ المساجد على قبور الصالحين كان أمرا معهودا بين الأولين، ثم جاء الإسلام فكره الصلاة فى المقبرة! وقال الرسول الكريم: " ألا ص _151(1/138)
لاتتخذوا القبور مساجد، إنى أنهاكم عن هذا ". ويظهر أن العباد فى المساجد قد تتعلق قلوبهم بالمقبورين فيها، فيتخذونهم شفعاء إلى الله، وقد جاء فى سورة الجن "وأن المساجد لله فلا تدعوا مع الله أحدا" . ورأيت فى تجاربى مع الناس أنهم يفعلون ذلك، وقد أهدى الأستاذ توفيق الحكيم أحد كتبه إلى السيدة زينب قائلا فى إهدائه: "إلى حاميتى الطاهرة.. "!! ومن ثم فقد توقفت عند نقل الشيخ الغمارى ص 105 عن أبى هريرة وابن عباس وعائشة عن النبى صلى الله عليه وسم قال: " لعن الله اليهود، اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد " هذا حديث ثابت فى الصحيحين وغيرهما من طرق، وقد عمل به كثير من العلماء المتقدمين والمتأخرين، ولم يتفطنوا لما فيه من العلل التى تقتضى ترك العمل به، وذلك أن القرآن الكريم يعارض هذا الحديث من ثلاثة أوجه. وخلاصة الوجوه الثلاثة أن اليهود آذوا الله ورسوله بتهم شائنة، استحقوا عليها اللعنة، وأنهم كانوا يقتلون الأنبياء، وحاولوا قتل عيسى ومحمد عليهما الصلاة والسلام.. فكيف يتصور منهم بعد عدوانهم على المرسلين أن يتخذوا قبورهم مساجد؟ إن هذا مستبعد. ونجيب بأن الله وصف اليهود بقول: "وقطعناهم في الأرض أمما منهم الصالحون ومنهم دون ذلك وبلوناهم بالحسنات والسيئات لعلهم يرجعون". فالصالحون أبوا الاعتداء على الأنبياء، والمجرمون سفكوا دماءهم، وبعد قتلهم بنيت المعابد على قبورهم تكريما لهم. على أن هذه المقابر وساكنيها حصدت مع اجتياح الأعداء للأرض المقدسة، فليس هناك الآن قبر قائم به نبى معروف! وحل محل القبور الدارسة أصنام ص _152(1/139)
وأنصاب ومذابح فى الكنائس المسيحية، وحميت هذه الكنائس باسم قديسين وقديسات، وهذه التسمية نفسها موضع اعتراض، فليس هناك معصومون ولامعصومات يلوذ البشر بأحمائم أو بتماثيلهم. وقد أشرنا إلى أن تمثال القديس بطرس فى روما تجدد قدمه كثيرا لأنها تبرى من كثرة من يقتلونها ويتمسحون بها، فلا إنكار إذا حرم الإسلام هذا كله وجرد المعابد من مظاهر الوثنية، وجعل المساجد لله وحده. الفجوة بين الفقه والأثر: فى عصور الاضمحلال الثقافى وضعت تخوم مفتعلة بين المذاهب الفقهية والكلامية والصوفية، حتى كاد كل مذهب منها يعتبر دولة مستقلة، لها أتباعها ولواؤها وجنسيتها.. وهذا وضع شاذ ضال ترك آثارا رديئة فى وحدة الأمة وتراص صفوفها وتماسكها أمام خصومها، وأصاب الإسلام نفسه فى حقيقته ورسالته وغاياته فى هذه الحياة! ما معنى أن يكون ولاء المسلم لأبى حنيفة أو ابن حنبل؟ ولماذا يعد منهج أيهما أسلوب حياته الأمثل؟ ومثله الأعلى الذى يعرضه على الناس أو ينشده لهم؟ ويزور عن سواه أو يخاصمهم. إننى زرت بلادا إسلامية كثيرة، فرأيت وجهة نظر فقهية معينة تحكم الألوف المؤلفة يحتبسون داخل نطاقها ولا يحسنون التنفس إلا من خلالها، ويؤسسون خصوماتهم وصداقاتهم على أساسها... وزرت أقطارا لا تعرف الإسلام، فرأيت فيها ما أنكر، ورأيت فيها ما يوافق رأى فلان عندنا، أو يقترب من فهم نفر من علمائنا.. وعندما ألفت كتابي الأخير " السنة النبوية بين أهل الفقة وأهل الحديث " لقيت العنت من ناس لا يعرفون إلا رأى ابن الصلاح فى القضية المطروحة، أما العراقى مثلا وغيره كالنووى؟ وسائر المحققين فلم يمر بهم!! ص _153(1/140)
وأثناء دعوتى للإسلام قلت لأصحابى: إن ديننا يحارب من جبهات عدة، من اليمين واليسار والوسط، ومن العجز وأنا أداء عنه، أن ألتزم برأى واحد اشتهر هنا، واستخفى هناك، يجب أن أتنقل بين آراء كل الأئمة، وأنتفع بشتى الفهوم المأنوسة والبعيدة.. ولا حرج على أن اقف فى قلعة أبى حنيفة وأنا أتحدث فى نظام الزكاة، أو أقف فى قلعة ابن تيمية وأنا أتحدث عن نظام الطلاق، وأن أقف فى قلعة مالك وأنا أتحدث فى نظام الأطعمة.. الخ، إن أولئك جميعا رجالات الإسلام وخدم رسالته ولا بأس على أن أصطحب عقولهم فيما أواجه من قضايا.. المهم عندى هو الإسلام الجامع لا الرأى المذهبى.. وأعترف أن بعضا ممن يتسمون " علماء الدين " عندنا كانوا بلاء على الدعوة فى الخارج، كما كانوا بلاء على الدين نفسه داخل البيت الإسلامى والشارع الإسلامى.. إنهم أنصاف متعلمين، يريد كل واحد منهم أن يكون المتحدث الرسمى باسم الإسلام، وزاد الطين بلة الادعاء الذى لا يسانده وعى مكتمل واستبحار معجب، كل واحد منهم كما قال الرافعى: أبو حنيفة ولكن من غير رأى ، ومالك ولكن من غيرسنة، والشافعى ولكن من غيرأصول، وأحمد ولكن من غير رواية.. والذى أطلبه: أمران: الأول سعة المعرفة، فإن قلة العلم مصيبة، خصوصا مع التصدر للفتوى والحكم والقضاء والدعوة. والثانى: إرادة الله، والآخرة، فإن استغلال الدين للدنيا جريمة الجرائم. وقد تتناقص الأحكام التى ينتهى إليها الأئمة، فلنعلم أن السلب والإيجاب هنا سواء، المهم أن يتحرك المرء بعلم وتجرد. قرأت كلام ابن تيمية فى كتابه السياسة الشرعية، فرأيته يوجب الحدود، ولا يجعل للتوبة أثرا فى وقفها، ثم قرأت كلامه فى الفتاوى فرأيته يقف الحدود بالتوبة الصادقة.. ثم قرأت فى المحلى أن الشافعى فى ملى هبه القديم كان يقف الحد بالتوبة، أما بعد ص _154(1/141)
ذهابه إلى مصر فقد حكم بأن التوبة لا تسقط الحد!! إن كلا الرجلين يناقض الآخر فيما بدأ به وانتهى إليه! ليكن، فهذا حق المجتهد لا ينكره عليه عاقل.. ثم يجى دورنا نحن لنعالج شئون الناس بتقليد هذا أو ذاك! أو باجتهاد جديد يصدر من أهله! وأهله هم أهل الذكرالأتقياء المخلصون.. ولأ حرج عندى قط أن يكون الاجتهاد جماعيا أو فرديا، وإن كانت الجماعة أحب إلى وأجدى! إن العالم الكبير أمسى مدنية واحدة، وتقارب الزمان والمكان مع تقدم العلم المادى.. فلا يسوغ أن يكون العالم الإسلامى مقطع الأوصال، يحيا كل قطر منه معزولا علميا وعمليا عن غيره من أقطار الإسلام القريبة والبعيدة.. ومن بلغهم شىء من علوم الإسلام يبلغهم غيره، ينبغى أن يستقبلوا الجديد الذى غاب عنهم ببصيرة مفتوحة وتفهم حسن.. وأنتهى من هذه الفذلكة إلى أن علوم الفقه، وعلوم السنة لها رجال كثيرون تختلف مشاربهم ومناهجهم الفكرية والسلوكية وأن تاريخ هذه العلوم فى تراثنا جدير بالنظر الدقيق، حتى نحسن بناء مستقبلنا على بصيرة. إن المدارس النقلية والعقلية فى الاسلام كثيرة، وهى الأساس الأهم فى ارتقاء حضارته وسبق أمته.. ويوجد الآن من يريد إهالة التراب على مدرسة الأصوليين، وسد آفاقها! ومن يريد محو الفقه المذهبى وتجفيف بحاره العميقة! ومن يريد استبعاد كل تفسيرإلا ما كان أثريا، ومن يريد تغليب الأثرالواهى على القياس القطعى، ومن يتطيرإذا سمع كلمة فلسفة إسلامية، ومن يرفض كل حديث عن التربية والتصوف وأعمال القلوب... ماذا يبقى بعدئذ من علوم الدين؟ أخبار القصاص، ورواية الحديث دون فقه؟ ثم نقول مع البحترى: وكأن الزمان أصبح محمولا هواه مع الأخس الأخس ص _155(1/142)
كيف ننهض مع هذا التحجير؟! * * * وبين السند والمتن هل علماء الحديث الأقدمون اهتموا بالسند ولم يهتموا بالمتن ؟ وإذا كان فيهم من شغلته الرواية ورجالها، فهل الفقهاء ذهلوا عن مناقشة المتون وإدامة النظر فيها؟ لنذكر هنا كلام الدكتور مصطفى السباعى من كتابة " السنة ومكانتها فى التشريع الإسلامى ": ذكر الدكتور السباعى العلامات التى تدل على الوضع، وقسمها إلى قسمين: علامات فى السند، وعلامات فى المتن. علامات الوضع فى السند: ا- أن يكون راويه كذابا معروفا بالكذب ولا يرويه ثقة غيره.. 2- أن يعترف واضعه بالوضع. 3- أن يروى الراوى عن شيخ لم يثبت لقياه له، أو ولد بعد وفاته، أو لم يدخل المكان الذى ادعى سماعه فيه... 4- وقد يستفاد الوضع من حال الراوى وبواعثه النفسية، مثل ما أخرجه الحاكم، عن سيف بن عمرالتميمى، أنه قال: كنا عند سعد بن طريف، فجاء ابنه من الكتاب يبكى، فقال: مالك؟ فقال: ضربنى المعلم. فقال سعد: لأخزينهم اليوم، حدثنى عكرمة عن ابن عباس، مرفوعا " معلمو صبيانكم شراركم، أقلهم رحمة لليتيم، وأغلظهم على المساكين ". ومثل حديث: " الهريسة تشد الظهر " فإن واضعه محمد بن الحجاج النخعى كان يبيع الهريسة. ص _156(1/143)
علامات الوضع فى المتن: ا- ركاكة اللفظ: بحيث يدرك العليم بأسرار البيان العربى أن مثل هذا اللفظ ركيك ، لا يصدرعن فصيح ولا بليغ، فكيف بسيد الفصحاء صلى الله عليه وسلم؟ قال الحافظ بن حجر: ومحل هذا إن وقع التصريح بأنه من ألفاظ النبى صلى الله عليه وسلم. قال ابن دقيق العيد: كثيرا ما يحكمون بذلك- أى بالوضع- باعتبارأمور ترجع إلى المروى، وحاصله أنهم لكثرة ممارستهم لألفاظ الحديث، حصلت لهم هيئة نفسانية، وملكة قوية، يعرفون بها ما يجوزأن يكون من ألفاظ النبى وما لا يجوز. 2- فساد المعنى: بأن يكون الحديث مخالفا لبديهيات العقول، من غيرأن يمكن تأويله..، أو أن يكون مخالفا للقواعد العامة فى الحكم والأخلاق..، أو داعيا إلى الشهوة والمفسدة..، أو مخالفا للحسن والمشاهدة..، أو يكون مخالفا لقطعيات التاريخ، أو سنة الله فى الكون والإنسان.. 3- مخالفته لصريح القرآن بحيث لا يقبل التأويل..، ومثل ذلك أن يكون مخالفا لصريح السنة المتواترة..، أو يكون مخالفا للقواعد العامة المأخوذة من القرآن والسنة... 4- مخالفته لحقائق التاريخ المعروفة فى عصر النبى صلى الله عليه وسلم.. 5- موافقة الحديث لمذهب الراوى وهو متعصب مغال فى تعصبه.. 6- أن يتضمن الحديث أمرا من شأنه أن تتوفر الدواعى على نقله، لأنه وقع بمشهد عظيم، ثم لا يشتهر ولا يرويه إلا واحد.. 7- اشتمال الحديث على إفراط فى الثواب العظيم على الفعل الصغير، والمبالغة بالوعيد الشديد على الأمر الحقير.. ثم قال السباعى رحمه الله: هذه هى أهم القواعد التى وضعها العلماء لنقد الحديث، ومعرفة صحيحه من موضوعه، ومنه ترى أنهم لم يقتصروا فى جهدهم على نقد السند فقط، أو يوجهوا جل عنايتهم إليه دون المتن، كما سيأتى فى زعم ص _157(1/144)
بعض المستشرقين ومشايعيهم بل كان نقدهم منصبا على السند والمتن على السواء، ولقد رأيت كيف جعلوا لأمارات الوضع أربعا فى السند، وسبعا منها فى المتن، ولم يكتفوا بهذا، بل جعلوا للذوق الفنى مجالا فى نقد الأحاديث، وردها أو قبولها، فكثيرا ما ردوا أحاديث لمجرد سماعهم لها، لأن ملكتهم الفنية لم تستسغها ولم تقبلها، ومن هذا كثيرا ما يقولون: " هذا الحديث علية ظلمه، أو متنه مظلم، أو ينكره القلب، أو لا تطمئن إليه النفس". وذكرالأستاذ محمد الصباغ علامات الوضع فى المتن، وزاد فيها علامة مهمة حيث قال: مخالفته لمقصد من مقاصد الشريعة، أو هدف من أهدافها، أو قاعدة من قواعدها، مثل: " خيركم بعد المئتين من لا زوجة له ولا ولد "فحفظ النسل مقصد من مقاصد الشريعة. أخيرا يسرق إثبات هذا النقل النافع عن الكتاب الرائع الجيد الذى ألفه الدكتور صلاح الدين أحمد الأدلبى " منهج نقد المتن عند علماء الحديث النبوى " زاده الله توفيقا. وقد عرض المؤلف الجانب التطبيقى للقواعد الآنفة، وذكرأن ابن الجوزى ألف كتابه المشهور " الموضوعات " وكأنه استلهمها فى أحكامه الصارمة، ولم يبال وهو حنبلى أن يذكر عددا من الأحاديث المكذوبة جاءت فى المسند، منها على سبيل المثال: هـ روى الإمام أحمد عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسم: " عسقلان أحد العروسين، يبعث منها يوم القيامة سبعون ألفا لا حساب عليهم، ويبعث منها خمسون ألفا شهداء، وفودا إلى الله عزوجل، وبها صفوف الشهداء، رءوسهم مقطعة فى أيديهم، تثج أوداجهم دما، يقولون ربنا آتنا ما رعدتنا على رسلك، إنك لا تخلف الميعاد، فيقول: صدق عبيدى، اغسلوهم بنهرالبيضة، فيخرجون منها نقيا بيضا، فيسرحون فى الجنة حيث شاءوا". وعسقلان لم يدخلها الإسلام فى عهد النبى صلى الله عليه وسلم. والغريب أن ابن حجر العسقلاق دافع دفاعا حارا عن أمثال هذه الأحاديث ص _158(1/145)
محاولا تصحيحها، وليس هذا عليه بمستغرب، فهو الذى صحح حديث الغرانيق، وفتح به باب شر، لا يزال يدخل منه الأفاكون لينالوا منا.. غفرالله لنا وله. والحق أن المسند تضمن متونا لا يمكن قبولها. ومن واجب العلماء أن ينبهوا إليها، ونحن نعتذر عن صاحب المسند بقول الشاعر: ومن ذا الذى ترضى سجاياه كلها كفى المرء نبلا أن تعد معايبه وأحمد بن حنبل من رجالات الإسلام الشامخين. المرأة وخدمة السنة علوم السنة من أهم علوم الشريعة، والصدارة فيها تحتاج إلى ذهن ناقد مستوعب حفيظ . وقد كنت أظن النساء آخر من يشتغل بهذه العلوم، بله أن يبرزن فيها ويبلغن مرتبة الإمامة، حتى قرأت رسالة " السنة النبوية فى القرن السادس الهجرى " للدكتور محمود إبراهيم الديك، فوجدت عالمات بالسنة، لا يشق لهن غبار، ولسن نزرا يسيرا، بل عشرات من العالمات الثقات..! والقرن السادس ليس من قرون الازدهار العلمى فى تاريخنا، بل هو من أواخر العصر العباسى الثانى، عندما مالت شمس الدولة للغروب، ثم سقطت تحت براثن التتار فى منتصف القرن السابع ومع طبيعة هذا القرن الذابلة؟ فإن علماء المسلمين كانوا يستميتون فى بناء المجتمع وإشاعة الحياة فى جنباته، إذا كانت الأحوال السياسية متردية، وعمل الحكام هابطا.. وقد نتج عن ذلك أمر عجب، فإن التتار المنتصرين دخلوا فى دين الأمة المهزومة، إذ كان مستواها العقلى والخلفى أرقى. إننا لو فرضنا أن " ناميبيا " واتتها قوة عسكرية مباكتة؟ فهزمت انجلترا أو ص _159(1/146)
أمريكا، إنها تكسب معركة وحسب، أما البقاء الحضارى فهو من حظ الأرشد والأرفع، ستطويها حضارة الغرب الأرجح فى الميزان. من أجل ذلك رأينا التتار بعدما هزموا المسلمين دخلوا فى دينهم! ونسأل: من صنع هذا الرجحان الأدبى؟ من جعل الأمة المغلوبة تبقى سيدة الموقف وإن ضاعت عسكريا؟؟ إنهم العلماء والدعاة والمربون!! هؤلاء هم. الجنود المجهولون الذين أنقذوا رسالة الإسلام عندما عبثت بمستقبلها السياسة! وقد تكررت هذه النماذج فى العالم كله، فإن الشعب الألمانى حفظ مستقبله، واستعاده بعدما أضاعه " هتلر" وكذلك الشعب اليابانى... المهم أن تكون أعمدة الحضارة فى تاريخ الأمة قائمة لا منهارة، وقد نظرت فى ماضينا الثقافى فوجدت قيادنا الروحى والعلمى أقوى وأنضرمن قيادنا السياسى، بل إن مؤرخين كبارا كتو ينبى، وأرنولد توماس؟ لاحظوا أن رقعة الإسلام اتسعت أيام الهزائم الكبيرة أكثر مما اتسعت أيام الانتصارات الخطيرة.. ونعود إلى النشاط النسائى فى خدمة السنة النبوية، كما ذكره الدكتور محمود الديك فى رسالته الرائعة، ونسجل عددا من هؤلاء النسوة الأئمة غير متقيدين بترتيب ما.. أولا هؤلاء الأساتذة السيدة المسندة- بصيغة اسم الفاعل- شهدة بنت الإبري الكاتبة، وكانت ذات دين وورع وعبادة، سمعت من العلماء الكثير، وعمرت- عاشت قريبا من مائة عام- وكانت مليحة الخط!! لم يوجد فى زمانها من يكتب مثلها، وقد تروجت أحد وكلاء الخليفة، وقضيت حياتها فى الدراسة والتعليم.. لا يعنينى هنا أن أذكر أسماء الرجال الذين تلقت عنهم، وإنما يهمنى أن أذكر بعض من تلقوا العلم عليها ومنحتهم إجازة علمية بالرواية والتحديث... قالوا: سمع منها أبو سعد بن السمعانى، وروى عنها الحافظ أبو القاسم بن عساكر، وهو المؤرخ المشهور، والموفق بن قدامة الفقية الحنبلى الثقة، كما حدث أبو الفرج عبد الرحمن بن الجوزى أنها من شيوخه!! وابن الجوزى من أرسخ الوعاظ قدما، وهو مؤرخ ومفسرومحدث له(1/147)
مكانة ص _160
سامقة! وقد روى عنها حديثا طريفا ندع سنده ونذكرمتنه لما فيه من عبره، فقد نقلت عن عبدالعزيزبن يحيى النخعى أنه كان يصلى فى مسجد على عهد عمربن الخطاب رضى الله عنه، فقرأ الإمام ذات ليلة " ولمن خاف مقام ربه جنتان " فقطع صلاته، وجن، وهام على وجهه، ولم يوقف لى على أثر!! والعاطفة الدينية المشبوبة قد تكون لها آثار مدمرة عند بعض الناس، وأرى أن مثل هذه المرويات إذا سمح بها فى مجلس وعظ فيجب ألا تمر دون تعليق يضبط معناها، وينفى ضررها.. والدعوة الدينية فى عصرنا تحتاج إلى فقه وروية وذكاء. وابن الجوزى فى كتابه " صيد الخاطر" يلفت النظر إلى هذه الحقيقة، وهو كتاب عامر بالنظرات النافذة والنقد اللادع، والوعظ الحق.. وهذا الحديث الذى روته شهدة بنت الإبرى، يحسن أن يكون وصفا لسيدة أخرى من سيدات القرن السادس هى: " شمس الضحى " المتوفاة سنة 588 هـ، كانت تلقى الدروس فى مساجد بغداد، وكانت معروفة بالزهد والتقوى والإقبال على الله، ولكن علاقتها بالله لم تورثها شيئا من التطرف العاطفى المهلك، وقد روت بعض السنن، وصحبت الشيخ أبا النجيب السهروردى.. ووددت لو أن مساجد العواصم الكبرى فى عالمنا الإسلامى المعاصريدرس بها مثل هذا الصنف من الواعظات القانتات المجيدات.. إن الحاجة إليهن ملحة مع الغزو الحضارى الفتان الذى نتعرض له، لكن دون ذلك جنادل من أدعياء التدين الزاعمين بأن المرأة لم تخلق لهذا (!) كأنها لا تصلح إلا فراشا لفحل لا هنا ولا هناك ! ولم تكن شمس الضحى وحدها فى هذا المجال النبيل، بل كان هناك أيضا " ضؤ الصباح " بنت المبارك البغدادية المدعوة بخاصة العلماء، وهى سيدة اشتهرت بكثرت تلاوتها للقرآن الكريم، وكانت تعقد مجلس الوعظ فى رباطها، وتزوجها الشيخ أبو النجيب السهروردى. وممن روى السنة عنها أبو سعد السمعانى. ص _161(1/148)
ومن المحدثات أيضا! بلقيس بنت سليمان بن أحمد بن الوزير نظام الملك " ولدت بأصبهان سنة 517 وتوفيت سنة 592 هـ، وكان لها شيوخ من الرجال والنساء، وسمع منها جماعة من العلماء، وحدث عنها يوسف بن خليل وغيره. لنترك هذا السرد، لتتناول الموضوع من ناحية أخرى. لنا منها اجازة لقد أفدت كثيرا من كتاب " الترغيب والترهيب " للحافظ المنذرى، وأنا ادرس لجماهير المصلين الذين يعمرون بيوت الله، وما أحسب المؤلف رحمه الله ترك حديثا فى قضية تعرض لها، وإن كان خلط بين الصحيح والسقيم خلطا بينا، ولمحذره أنه يروى كل ما ورد، وأنه لا يخدع القارئ فيتركه حائرا فى ميز هذا من ذاك، كلا..! إنه يعزو كل حديث إلى مصدره، فما كان من رواية البخارى ومسلم فقد تجاوز القنطرة، وما كان من رواية غيرهما نقد السند ببصيرة وذكر ما يلحظه من ضعف، إما بصيغة التمريض وهى " روى " أو بذكر اسم الراوى المتهم!! ولكن كثيرا من القراء لا يبالون بصحيح ولا ضعيف، ويروون كل ما يقرءون! وقد لاحظت أن المنذرى فى كتابه يحترم الشواهد من الصحاح إذا ساندت حديثا فيه ضعف، ومن ثم قبل حديث " النار أسرع إلى فسقة القراء منها إلى عبدة الأوثان " على حين رفض الألبانى الحديث، وحكم بوضعه! ووجهة نظرالمنذرى أن حديث مسلم عن أول ثلاثة تسعر بهم النار يوم القيامة... يصق الحديث الوارد فى القراء الفسقة، وايا ماكان الأمرفالخطب سهل، وشكرالله للرجلين الباحثين، فقد يسروا لنا علما نافعا.. استوقفنى وأنا أقرأ فى تراجم محدثى القرن السادس أن أبا البركات البغدادى-من علماء السنة- كان له أختان، إحداهما أم الحياء حفصة، وهى راوية موثقة دارسة، قال المنذرى عنها: ولنا منها إجازة، كتبت عنها فى شوال سنة 608 هـ! وتوفيت هذه السيدة التى تلقى عنها المنذرى سنة 612 هـ.. ص _162(1/149)
وهناك سيدة أخرى " أم حبيبة الأصبهانية عائشة بنت الحافظ معمر بن الفاخر القرشية العبشمية "، قال الحافظ المنذرى فى التكملة: حدثت الناس، ولنا منها إجازة، كتبت بها إلينا من أصبهان فى ذى القعدة سنة606 هـ! إن هذا الإمام الضخم يذكر دون تحريج أنه تلقى عن نساء فضليات، أجزنه، وأذن له بالتحديث.. ويستطيع القارئ أن يقرأ أسماء عشرات فى قرن واحد من أولئك العالمات البارعات فى الدراسات الإسلامية... أما زينب بنت الشعرى وتدعى حرة! 5241- 615، هـ، فقد قال عنها ابن خلكان: لنا منها إجازة كتبتها سنة 610 هـ يا عجبا كبار المؤرخين والمحدثين يذكرون بتواضع العلماء وصدقهم أنهم أخذوا العلم عن نساء معروفات، وأنهم نالوا منهن شهادات تقدير وتكريم وثقة!! ماذا حدث لأمتنا فخلت الساحة من طالبات العلم وأساتذته، وجاءت قرون أمسى فيها ذهاب فتاة إلى مدرسة جريمة! بل خلت المساجد من العابدات فأضحت صلاة المرأة فى مسجد منكرا..!! وصار ذكر اسم المرأة، اما كانت أو زوجة، شيئا إدا، وخيم صمت مطبق على العالم النسائى، فما يعرض للنساء ذكر فى حديث عابر، ولو حدث لأمر ما أن ذكر اسم امرأة، فعلى وجل، وبعد اعتذار يقول فيه المتحدث للسامعين. حاشاكم أو لامؤاخذة وقد رأيت ذلك بعينى فى أقطار شتى! فى قريتنا- من مائة عام- كان النساء يذهبن إلى الأسواق يشترين السلع ثم يعدن بها إلى بيوتهن، وكن يذهبن إلى الحقول يشاركن فى البذر والرى والحصاد! وما رئيت امرأة قط فى مسجد، ولا أدت فيه صلاة، سواءكانت شابة أو شيخة!! كان المسجد محظورا عيهن؟ لأن رواية شاردة قررت ذلك، كما كانت المدرسة محظورة عليهن، لأن رواية فاسدة أوجبت عليهن الأمية!! ويوجد الآن من العاملين فى الحقل الإسلامى من يكره أحوال المرأة فى هذا العصر، ويريد العودة بها إلى الأوضاع المأنوسة منذ مائة عام صائحا: لا عمل للمرأة إلا ولادة الرجال ! ص _163(1/150)
وأعود إلى تاريخنا فى القرن السادس لأقرأ فيه أن الحافظ أبا العلاء بن العطار- وكان إمام همدان فى علوم الحديث والقراءات؟ والأدب والزهد، وحسن الأسلوب والتزام السنة- كانت له ابنة اسمها " عاتكة بنت أبى العلاء " وكانت من المحدثات المتقنات لعلوم السنة! قالوا: سمعت الكثير من أبى الوقت عبد الأول السنجرى، وقدمت إلى بغداد من همدان، ودرست السنة... قال محب الدين النجار: كتبنا عنها... وتوفيت رحمها الله سنة 609 هـ، قامت نصف الليل وتوضأت، وكانت ليلة شديدة البرد، ثم وقفت فى محرابها تصلى، فلما سجدت ماتت!! رضوان الله عليها، وكأن فيها قول الشاعر: فى ظلام الليل منفردا قام يدعو الواحد الصمدا عابد لم تبق طاعته منه لا روحا ولا جسدا ونختم بتاريخ فاطمة بنت سعد الخير الأنصارى الأندلسى التى ولدت بالصين سنة 522 هـ وتوفيت بالقاهرة سنة 600 هـ، تلقت العلم عن والدها، وعن غيره من المحدثين الكبار ببغداد، ثم قامت بالتدريس فى القاهرة ودمشق، وسمع منها جماعة من الشيوخ- منهم شيوخ المنذرى الحافظ الضخم، الذى يقول عنها: سمع منها شيوخنا ورفقاؤنا، ولنا منها إجازة (!).0 لقد جاءت من الصين مع والدها، وتلقت العلم فى بغداد، ثم رحلت إلى دمشق! ثم استقر بها المقام فى القاهرة حتى توفيت بها، ودفنت فى سفح جبل المقطم! وأظن قبرها درس مع قبور المئات من علماء الدين والأدب واللغة... والمأساة أن المرأة الثى ذرعت الطريق من الصين إلى القاهرة والتى جاء أبوها من بلنسية فى الأندلس، إلى الشرق الإسلامى، ليخدم العلم فى أرجائه الرحبة، جاء بعدها فى هذه السنين العجاف الهابطة من يقول: تخرج المرأة من بيتها لأمرين: إلى الزوج، أو إلى القبر!! ص _164(1/151)
ما أبعد الشقة بين عصر وعصر، وبين أسلاف وأخلاف بين أناس أحيوا الإسلام وأناس أماتوه. مبادرات فى العمل العام: وكتب الأستاذ حسن عبد الوهاب عن النشاط النسائى فى بعض العصور الإسلامية، فكشف عن جانب مهم من دعمها للمبرات العامة، وسدها لشتى الثغور الاجتماعية، وبروزها فى بذل الخير وتفريج الكربات، قال: " مامن ناحية من نواحى حضارتنا وثقافتنا إلا ولها فيها نصيب موفور، فهاهى الفتوحات الإسلامية، ساهمت فيها مع الرجال، واشتركت فى ميادين القتال، وداوت الجرحى، واكتتبت بمالها وحليها وشعرها، لمساعدة الجيوش. أما أثرها فى النهضة العلمية، فقد اعترف به أجلة العلماء، ويكفى أن نعرف أن أبا نواس الشاعريقول عن نفسه: " ما قلت الشعرحتى رويت لستين أمرأة من العرب، منهن الخنساء وليلى "، وأن من شيوخ العلامة المحدث ابن عساكر مؤرخ الشام نيفاً وثمانين امرأة، وأن الخوارزمى الشاعر المشهوركان من محفوظاته أكثر من عشرين ألف بيت من شعرالنساء، وأن كثيرا من أجلة العلماء تلقوا العلم عن سيدات، وحصلوا على إجازات منهن. وإنه ليسرالمشتغل بالعمارة الإسلامية أن يرى فى جميع الأقطار الإسلامية آثارا امرن بإنشائها من مالهن الخاص احتسابا لله. وكفاهن فخرا ماقامت به السيدة زبيدة زوجة هارون الرشيد، فإنها كانت من أفراد الدهر، فقد أنفقت أموالها الطائلة بغير حساب، فى تحصين الثغور، والحصون، ثم نظرت إلى مايلاقيه الحجاج من المشاق فى الذهاب من العراق إلى بيت الله الحرام، فأرسلت المهندسين وأمدنهم بالمال والعمال، فقسموا الطريق بين مكة وبغداد إلى خمس عشرة مرحلة، وأنشؤوا فى كل واحدة منها بئرا أواثنتين، وأنشؤوا الصهاريج والحياض لأختزان مياه الأمطار، وشيدث فى بعض المراحل قصورا وقبابا ومساجد بحسب الحاجة، واستمر العمال والمهندسون يعملون على جر ص _165(1/152)
الماء إلى مكة بلا مبالاة بالنفقات الباهظة، وهى باقية إلى الآن، وتعرف " بعين زبيدة " وحينما عرضت عليها مصاريف هذه العين ألقت الحساب فى النهر وقالت: "تركنا الحساب ليوم الحساب " ولسيدات البيت العباسى ولع بتعمير الحرم المدنى، وكانت السيدة خالصة إحدى جوارى الرشيد أول من أحدث السقايات فى صحن المسجد النبوى. وقد أنشأ النساء كثيرا من المساجد والخوانق، والربط والمدارس، فى الأندلس والعراق والحجاز والشام وفلسطين، وكلها متوجة بأسمائهن. وكان لمصر نصيب موفور من هذه المنشآت التى أدت رسالتها الدينية والثقافية والاجتماعية. وإذا رأيناها تنشى الربط والخوانق، فالمرجح أنها خصصتها للنساء، فقد وجد مكتوبا على الخانقاه التى أنشأتها بدمشق حوالى سنة 650 هـ- 1252م، السيدة فاطمة بنت الملك الكامل محمد مانصه: "وقفت هذه الخانكاه فاطمة بنت الملك العادل محمد بن العادل بن أبى بكر بن أيوب على الفقيرات المقيمات بها، وإظهارا للصلوات الخمس والمبيت فيها " كما أن التاريخ أيد ذلك. إذن فهى التى فكرت فى بنات جنسها فخصصت الخوانق والربط لإيوائهن، وتثقيفهن. وتعتبردورا لحماية النساء، وسنكتفى بذكرما أنشى منها بمصر: كان بالقرافة الكبرى عدة دور، يقال للدار منها رباط، على هيئة ماكانت عليه بيوت أزواج النبى صلى الله عليه وسلم، خصصت لإقامة العجائز والأرامل، والمنقطعات، وكانت لها مرتبات للصرف على المقيمات بها، وكان لهن مجالس وعظ مشهورة. ونظرا لأن القرافة الكبرى كانت آهلة بالسكان، عامرة بالمساجد والجواسق والبساتين، وكانت معتبرة من متنزهات مصر، وخاصة فى الليالى القمرية، فقد أنشئت فيها أيضا الربط الكثيرة، ومنها رباط بنت الخواص، ورباط الأشراف الذى أنشأه أبو بكر محمد بن على المادرائى، وخصصه لإقامة نساء الأشراف. وأنشأت السيدات بها ربطا لإقامة الفقيرات والأرامل فيها، أذكر منها: ص _166(1/153)
رباط رياض: أنشأته السيدة رياض سكرتيرة الحافظ لدين الله بجوار مسجدها لإقامة النساء المنقطعات. رباط الحجازية: أمرت بإنشائه السيدة فوز جارية على بن أحمد الجرجرائى الوزير بجوار مسجدها، وأوقفته على أم الخير الحجازية الواعظة، وكانت الحجازية واعظة زمانها، وكانت من الخمرات، وقد تصدرت حلقات الدروس والوعظ فى جامع عمرو بن العاص حوالى سنة 415 هـ- 1024م، كما عنيت بتثقيف المقيمات بهذا الرباط. رباط الأندلس: أنشأته السيدة علم الآمرية أم ابنة الخليفة الفاطمى الآمر بأحكام الله سنة 516 هـ- 1122م بجوار مسجدها لإقامة العجائز والأرامل والمنقطعات، وكان لهذه السيدة صدقات كثيرة، وكانت تبعث إلى الأشراف بصلات جزيلة، وترسل إلى من أخنى عليهم الدهر من أرباب البيوت والمستورين بأموال كثيرة. رباط البغدادية: هذا الرباط كان بالدرب الأصفر تجاه خانقاه بيبرس الجاشنكير، أمرت بإنشائه السيدة الجليلة تذكار باى خاتون ابنة المك الظاهر بيبرس البند قدارى سنة 684 هـ- 1285 م للشيخة الصالحة زينب ابنة أبى البركات المعروفة ببنت البغدادية، فأنزلتها به، ومعها عدد من السيدات الخيرات، وأمرت بالصرف عليهن. وكان يختار لرئاسة هذا الرباط سيدات مثقفات لتهذيب وتعليم المقيمات فيه، وممن توليين مشيخته، الشيخة الصالحة سيدة نساء زمانها أمام زينب بنت عباس البغدادية، وكانت فقيهة وافرة العلم زاهدة واعظة، مخلصة، تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر، وكانت تحضرمجلس الشيخ تقى الدين بن تيمية، فاستفادت منه، وقد وصفها بالفضيلة والعلم، حتى إنه كان يستعد لها من كثرة مسائلها وسرعة فهمها، وقد ختم القرآن على يديها كثير من فضليات النساء، وانتفع بعلمها كثير من نساء مصر، ودمشق، وصاركل من تتولى رئاسة هذا الرباط يقال لها البغدادية. ص _167(1/154)
وقد خصص لإقامة النساء اللاتى طلقن أو هجرن حتى يتزوجن، أو يرجعن إلى أزواجهن صيانة لهن. وكانت بقايا هذا الرباط موجودة إلى شهر سبتمبر سنة 1946 م، وتنحصر فى زاوية بها بقايا مقرنصات قبتين، بهما أثر زخارف جضية، ثم استبدلته وزارة الأوقاف، وهدمه المستبدل، وأنشأ مكانه منزلا رقم 18 بالدرب الأصفر، قسم الجمالية. رباط سنقر السعدى: أنشأه الأمير شمس الدين سنقر السعدى، نقيب المماليك السلطانية سنة 715 هـ- 1315 م، بجوار مدرسيته بشارع السيوفية، وخصصه لإقامة النساء المنقطعات والأرامل، ولم يبق من هذه المجموعة سوى المدخل والقبة والمنارة، وهى بقايا معمارية على جانب عظيم من الأهمية. خانقاه أم أنوك: هذه الخانقاه بصحراء قايتباى، أنشأتها السيدة طغاى أم أنوك زوجة الناصرمحمد بن قلاوون حوالى سنة 745 هـ- 1344 م ولعلها كانت مخصصة للنساء، حيث نرى المقريزى يقول: "وجعلت بها صوفية وقراء، ورصدت لها الأوقاف الكثيرة، وقررت لكل جارية من جواريها مرتبا ". وإلى الآن توجد بقايا هذه الخانقاه، وتنحصر فى إيوان وقبة، وبقايا من خلاوى الصوفية. رباط زوجة إينال: هذا الرباط بالخرنفش، أمرت بإنشائه السيدة الجليلة خوند زينب زوجة السلطان إينال سنة 860 هـ- 1455م وخصصته لإقامة الأرامل، ووقفت عليه الأوقاف التى تغل للصرف عليه، ومازال هذا الرباط موجودا بجميع تفاصيله، ويشتمل من الداخل على إيوانين، بالشرقى منهما المحراب، وحول الحوش وأعلى الإيوان الغربى غرف للمقيمات فيه، وليس للحجرات ولا للقاعات به شبابيك مطلة على الخارج، وقد بالى واضع تصميم هذا الرباط فى جعله بمعزل عما هو خارج عنه، حتى إنه لم يترك فيه مايؤدى إلى الخارج إلا الباب، وهذا الباب يوصل إلى داخل الرباط بدهليز طويل فيه تعاريج. ظلت دوركفالة المرأة تؤدى وظيفتها فى العصرالإسلامى إلى أن نضب معين ص _168(1/155)
أوقافها فى العصر العثمانى، فأهملت وتخربت، على أننا وجدنا سيدات العصر العثمانى- وإلى وقت قريب- كن يعنين بمن يتصل بهن من النساء، فقدكن يعنين بتربيتهن وتزويجهن، كما كن يشركنهن فى ميراثهن أو أوقافهن، مما كان له خير أثر فى كفالة المرأة وصيانتها ". أقول: ثم مات النشاط النسائى فى القرون الأخيرة، وجاء فى هذا القرن من يرى إماتته إحياء للسنة، وعودة إلى الصراط المستقيم! والجهالة فنون!! الدراسة الأزهرية ومصادر التشريع كنت مع الأستاذ الشيخ محمد أبو شهبة، وهو يذيع شروحا جيدة لصحيح البخارى من إذاعة مكة المكرمة، كان علمه غزيرا وبيانه جميلا، رحمة الله عليه. وفى يوم ما رأيته بادى الغضب، فسألته: مالى أراك مهتاجا؟ قال: ألم تر إلى فلان يشكك فى حديث: " إذا وقع الذباب فى إناء أحدكم . . " وهو من الصحاح؟ قلت: إننى اطلعت على ما قاله علماء الأحياء فى الموضوع، ليس فى كلامهم نفى ولا جزم بأن الذباب من الحشرات التى تحمل فى جناحيها الداء والدواء معا. فليبحثوا مشاءوا، والحديث باق عندنا على حكمه! فإذا استقروا بطريق القطع على أن أجنحة الذباب تحمل المرض والترياق، كان الحديث من آيات النبوة، وإلا فلهم اجتتهادهم الظنى، ولنا حديثنا الظنى. ولن تهى للإسلام قاعدة أو تسقط منه شرفة إذا اختلفت النتائج بالسلب أو الإيجاب.. المهم هى اليقينيات..! لكن الشيخ رحمه الله، اتجه إلى أن خبر الواحد يفيد اليقين!! قلت: أهذا ما تعلمناه فى الأزهر؟ أخدغنا مشايخنا وهم يشرحون لنا علوم الحديث...؟ ص _169(1/156)
كتب الإمام الأكبر الشيخ محمود شلتوت شيخ الجامع الأزهر، فى كتابه: " الإسلام عقيدة وشريعة " فصلا شرح فيه الفروق بين الظن واليقين، فى المعرفة الدينية، جاء فيه مايلى: إذا كانت العقيدة لاتثبت إلا بنص قطعى فى وروده ودلالته، كان لابد من تبيين المبادئ التى تقوم عليها قطعية السنة أو ظنيتها. وأول مايجب التنبه له فى هذا المقام، أن الظنية تلحق السنة من جهتى الورود والدلالة. فقد يكون فى اتصال الحديث برسول الله، صلى الله عليه وسلم، شبهة فيكون ظنى الورود، وقد يلابس دلالته احتمال فيكون ظنى الدلالة، وقد يجتمع فيه الأمران: الشبهة فى اتصاله، والاحتمال فى دلالته، فيكون ظنيا فى وروده ودلالته. ومتى لحقت الظنية الحديث على أى نحو من هذه الثلاثة، فلا يمكن أن تثبت به عقيدة يكفر منكرها، وإنما يثبت الحديث العقيدة وينهض حجة عليها إذاكان قطعيا فى وروده وفى دلالته. ولكى يتضح مناط القطعية والظنية فى ورود الحديث، ينبغى أن نبين ماقرره العلماء فى التواتر والآحاد، ليكون منارا يهدى به من يريد الوصول إلى الحق. قسم العلماء السنة إلى قسمين: ماورد- بطريق التواتر، وما ورد بطريق الآحاد. وضابط التواتر أن يبلغ الرواة حدا من الكثرة تحيل العادة معه تواطؤهم على الكذب، ولابد أن يكون ذلك متحققا فى جميع طبقاته: أوله ومنتهاه ووسطه، بأن يروى جمع عن النبى صلى الله عليه وسلم، ثم يروى عنهم جمع مثلهم، وهكذا حتى يصل إلينا، وهو عند التحقيق رواية الكافة عن الكافة. ويقول بعض علماء الأصول: الخبرالمتواتر هو الذى اتصل بك من رسول الله صلى الله عليه وسلم، اتصالا بلا شبهة، حتى صاركالمعاين المسموع منه، وذلك أن يرويه قوم لايحصى عددهم، ولايتوهم تواطؤهم على الكذب، لكثرتهم وعدالتهم وتغاير أماكنهم، ويدوم هذا فى وسطه وآخره كأوله، وذلك ص _170(1/157)
مثل: القرآن والصلوات الخمس، وأعداد الركعات، ومقادير الزكوات. الآحاد لا تفيد اليقين: هذا هو التواتر الذى يوجب اليقين بثبوت الخبر عن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، أما إذا روى الخبر واحد، أو عدد يسير ولو فى بعض طبقاته، فإنه لا يكون متواترا مقطوعا بنسبته إلى رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وإنما يكون آحاديا، فى اتصاله بالرسول شبهة، فلا يفيد اليقين. إلى هذا ذهب أهل العلم، ومنهم الأئمة الأربعة: مالك وأبو حنيفة والشافعى وأحمد فى إحدى الروايتين عنه، وقد جاء فى الرواية الأخرى خلاف ذلك، وفيها يقول شارح مسلم الثبوت (وهذا بعيد عن مثله، فإنه مكابرة ظاهرة). وقال البزدوى: وأما دعوى علم اليقين- يريد فى أحاديث الآحاد- فباطلة بلا شبهة، لأن العيان يرده، وهذا لأن خبر الواحد محتمل لا محالة، ! ولا يقين مع الاحتمال، ومن أنكر هذا فقد سفه نفسه وأضل عقله. وقال الغزالى: خبر الواحد لا يفيد العلم وهو- أى عدم إفادته العلم- معلوم بالضرورة، وما نقل عن المحدثين من أنه يوجب العلم فلعلهم أرادوا أنه يفيد العلم بوجوب العمل إذ يسمى الظن علما، ولذا قال بعضهم: خبرالآحاد يورث العلم الظاهر، والعلم ليس له ظاهروباطن وانما هو الظن- نقول والعمل بالظن جائز فى الفروع. وقال الأسنوى: وأما السنة فالآحاد منها لايفيد إلا الظن. وقال البزدوى تفريعا على أن خبرالواحد لايفيد العلم: خبرالواحد لما لم يفد اليقين لايكون حجة فيما يرجع إلى الاعتقاد لأنه مبنى على اليقين، وإنماكان حجة فيما قصد فيه العمل. وقال الأسنوى: إن رواية الآحاد إن أفادت فإنما تفيد الظن والشارع إنما أجاز الظن فى المسائل العلمية، وهى الفروع دون العلمية كقواعد أصول الدين. وهكدا نجد نصوص العلماء من أصوليين ومتكلمين مجتمعة على أن خبر ص _171(1/158)
الآحاد لايفيد اليقين، فلا تثبت به العقيدة، ونجد المحققين من العلماء يصفون ذلك بأنه ضرورى، لايصح أن ينازع أحد فى شىء منه، ويحملون قول من قال: إن خبر الواحد يفيد العلم، على أن العلم بمعنى الظن... ثم قرأت بعدئذ كتاب " منهج نقد المتن عند علماء الحديث النبوى " فأدركت أنا على حق، وأن شيوخنا كانوا يقررون الصواب. يسوق الدكتور المؤلف صلاح الدين بن أحمد الأدلبى هذه النصوص الكاشفة، فلنتدبرها معه: " قال الخطيب البغدادى: (ولايقبل خبر الواحد فى منافاة حكم العقل، وحكم القرآن الثابت المحكم، والسنة المعلومة، والفعل الجارى مجرى السنة، وكل دليل مقطوع به، وقال: وكل خبرواحد، دل العقل، أو نص الكتاب، أو الثابت من الأخبار، أو الإجماع، أو الأدلة الثابتة المعلومة، على صحته، وجد خبرآخر يعارضه، فإنه يجب اطراح ذلك المعارض، والعمل بالثابت الصحيح اللازم، لأن العمل بالمعلوم واجب على كل حال). فقد جعل الخطيب البغدادى خبر الآحاد غير مقبول فى الحالات التالية: ا- إذا كان منافيا لحكم العقل. 2- إذا كان منافيا لحكم القرآن الثابت المحكم، أى إذا كان الحكم المستفاد من النص القرآنى ثابتا محكما، أما منافاته لحكم ظنى الدلالة من نص القرآن فلا توجب رده! 3- إذا كان منافيا للسنة المعلومة، أى إذا كانت السنة قد ثبتت بطريق العم لا بالظن. 4- إذا كان منافيا للفعل الجارى مجرى السنة، ولعله يعنى إذا كان الخبر منافيا لعمل السلف المتفق عليه، الثابت بطريق العلم لا بالظن. 5- إذا كان منافيا لأى دليل مقطوع به. 6- إذا كان معارضا لخبرآحادى آخر، وكان ذلك الخبرمما ثبتت صحته عندنا بدلالة العقل، أو دلالة نص الكتاب، أو دلالة الثابت من الأخبار ص _172(1/159)
الأخرى أو دلالة الإجماع، أو ماسوى ذلك من الأدلة الثابتة المعلومة. وقال ابن الجوزى: واعلم أن الحديث المنكر، يقشعر له جلد طالب العلم وقلبه فى الغالب. وقال: لأن المستحيل لو صدر عن الثقات رد، ونسب إليهم الخطأ، ألا ترى أنه لو اجتمع خلق من الثقات فأخبروا أن الجمل قد دخل فى سم الخياط، لما نفعتنا ثقتهم، ولا أثرت فى خبرهم، لأنهم أخبروا بمستحيل، فكل حديث رأيته يخالف المعقول، أويناقض الأصول، فاعلم أنه موضوع، فلا تتكلف اعتباره..! وقد لخص ابن الجوزى بحوثا كثيرة بهذه الكلمة الجامعة وهى قوله: " فكل حديث رأيته يخالف المعقول أو يناقض الأصول، فاعلم أنه موضوع ". وهنا تجىء العلاقة بين صحة السند وصحة المتن: يقول ابن القيم فى هذا: " وقد علم أن صحة الإسناد شرط من شروط صحة الحديث، وليست موجبة لصحة الحديث، فإن الحديث. إنما يصح بمجموع أمور، منها صحة سنده، وانتفاء علته، وعدم شذوذه ونكارته ". ومن دقة نظر المحدثين، أنهم يحكمون للحديث بأنه " صحيح الإسناد " وقد يقولون: " صحيح "، وبينهما فرق كبير، فالتعبير الأول دون الثانى، لأن الأول يتكلم عن الإسناد وحده، والثانى يشمل الإسناد والمتن. - درجة القطع بصحة الصحيح: تعمق علماء الحديث أكثر من ذلك، فبحثوا فى الحديث الصحيح، وهو ماصح سنده ومتنه، هل نسبته إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم صحيحه، فيما ظهر لنا حسب اجتهادنا؟ أو على وجه القطع فى حقيقة الأمر والواقع؟ وإذا لم يكن قطعيا فإنه لايوجب العلم، ولكن يوجب العمل بمقتضاه أما إذا قلنا بأنه قطعى فإنه يوجب العلم. قال جماعة من أهل الحديث، منهم الحسين الكرابيسى: إن الحديث الصحيح الآحادى قطعى، وإنه يوجب العلم والعمل جميعا، وهو رأى ابن حزم. ص _173(1/160)
وقال جمهور أهل الحديث والفقه، منهم الشافعى والباقلانى والعراقى: إن المراد من قولنا: " هذا حديث صحيح " أى فيما ظهر لنا، عملا بظاهر الإسناد، لا أنه مقطوع بصحته فى نفس الأمر. وقال العراقى: " هذا هو الصحيح " أى فما عداه باطل...! وكلامهم فى الحديث الصحيح هنا يتعلق بأحاديث الآحاد، أما الحديث المتواتر فإنه مقطوع به، ويوجب العلم والعمل، وهذا باتفاق العلماء. - درجة أحاديث الصحيحين: إذا وصل حديث فى صحيح البخارى أو صحيح مسلم، إلى درجة التواتر، فإنه يصبح بذلك قطعى الثبوت، فلا اختلاف فيه... أما بقية الأحاديث فيهما، وهى المروية بطريق الآحاد، فهل ينطبق عليها ماتقدم فى درجة القطع بصحة الصحيح؟ قال ابن الصلاح: إن ما أخرجه الشيخان أو أحدهما فهو مقطوع بصحته. وخالفه جمهور العلماء، بل قال العراقى: "وخالفه المحققون ". ويرى ابن الصلاح أن الأمة حيث تلقتهما بالقبول، فكأن هذا إجماع على صحتهما، وأن كل مافيهما صحيح سندا ومتنا. ولكن الجمهور لايرون أن الأمة قد اتفقت على صحة هذين الكتابين، بل الاتفاق إنما وقع على جواز العمل بما فيهما، وذلك لاينافى أن يكون مافيهما ثابتا بطريق غلبة الظن، لا القطع، فإن الله لم يكلفنا بدرجة القطع فى تفاصيل الأحكام العملية، ولذلك يجب الحكم بموجب البينة، وهى لاتفيد إلا الظن. وتجدر الإشارة هنا إلى أن الحديث الصحيح الآحادى، قد تحف به قراثن مؤيدة مؤكدة، فينتقل من درجة الظن إلى درجة القطع فى الثبوت، أو إلى مايقرب منها، وربماكان هذا منطبقا على كثير من أحاديث الصحيحين، لكن لا يمكن تعميمه على جميعها. يتضح مما سبق، أن الحديث يعرض على معايير نقد المتن، حتى ولوكان صحيح السند، بل الحديث الصحيح الآحادى ليس مقطوعا بصحته سواء أكان ص _174(1/161)
فى الصحيحين أو غيرهما، وصحته ثابتة بطريق غلبة الظن، مادام غير متواتر ولا مدعم بالقرائن المؤيدة. الخلافات فى الكلاميات والفقهيات فى مناقشة رسالة جامعية أورد الطالب نقلا عن ابن القيم، يتوقف فيه عن النفى والإثبات إذا ماسئل: هل الله جسم؟ قلت للطالب: من الخير ترك هذا التوقف! فقد اتضح أن الجسم مادة، وعرفت خصائص المادة من تحيز وقصور ذاتى، وغير ذلك... وعلينا ان نجيب بنفى الجسمية دون تردد.. ولعل ذلك أدنى إلى معنى الآية الكريمة "ليس كمثله شيء وهو السميع البصير" وأحسب أن ابن القيم لوكان حيا لفعل ذلك.. وقد قاوم الطالب قليلا، ثم رأى مع اللجنة حذف هذه الفقرة.. وساءنى أن أحد الناس سألنى: أتكره ابن القيم؟ ضلت على عجل: كلا، بل إنى شديد الحب له، كثير الإفادة من علمه وادبه، ولا علاقة بين البحث العلمى ومشاعر الحب والكره كما تتصورون، إننى طالب علم وناشد حق وحسب! واستتليت: مع أنى أميل أحيانا إلى الفقه الحنفى، فإنى جانح بفؤادى وإعجابى إلى الشافعى وهو يقول عن علمه: وددت لو انتشر هذا العلم دون أن يعرف الناس صاحبه! ليتنا نرزق هذا الإخلاص... ومع ضيقى بتساهل صاحب المسند فى إيراد بعض المرويات، فإنى أتبعه بإعزاز عميق وهو يستكبر على الدنيا، ويستعف عن مآربها، ويستصغر المال والجاه والحكم وهو يدرس للناس.. إن هؤلاء الأئمة الكبار شيوخنا جميعا عن جدارة.. والبحث العلمى بصوابه وخطئه لايعكرمايجب للعلماء من توقير... ص _175(1/162)
بيد أن بعض الفتية يوقدون فى عصرنا هذا فتنا مخوفة، بسو مسلكهم! هل نحول المسجد إلى ساحة حرب لأن البعض فى رمضان يريدون صلاة التراويح ثمانيا، والآخر يريدها عشرين؟! قلت لمن يريدها ثمانيا: ضل مع الجمهور العدد الذى ترى، ثم انصرف فى هدوء! قال: إنك تكره السنة"! قلت: بل أكره الفتن ماظهر منها ومابطن.. وكم من سنن تريدون إحياءها كما تزعمون، لاتزيد الأمة إلا بلاء.. إن تحديد نافلة ما لايجوز أن يخلق أزمة، وإذا كان قيام نافلة سيهدم فريضة فلا أقامها الله. إننا أمة تحمل دعوة التوحيد، وتقدم للعالمين رسالة الحق والخير، فهل يجوز فى هذا الميدان الحاد أن تشغلوا الناس عن الأصل الكبير بآرائكم الصغيرة؟! اجمعوا الناس على الفرائض والفضائل، وتساهلوا فى المستحبات، وأصلحوا ذات البين، وإذا كان لأحدكم رأى فى قضية ثانوية فليتنازل عنه، أو يؤجله للمستقبل!. ما معنى أن تذهبوا إلى انجلترا حيث تملكها امرأة، وتحكمها امرأة!، ويسودها ازدهار رائع، فلا يكون لكم كلام إلا أن ولاية المرأة لاتجوز؟! ماذا عليكم لو شغلتم أنفسكم وشغلتم الناس بشرح عقيدة التوحيد وبيان آثارها النفسية والاجتماعية؟ وماذا عليكم لو طال الحديث فى الكمال الإلهى والضعف البشرى والجزاء الأخروى؟ إننى أذكر هذا الكلام بين يدى فتوى أصدرها الأزهر الشريف حسما لفتن شديدة أشعلها فتية أغرار، باسم إقامة السنة وتحت عنوان السلفية.. وقد توسعت الفتوى فى شرح الأحكام والأدلة، حتى تسد الطرق أمام أصحاب الشغب والغرض... ص _176(1/163)
السيد الأستاذ رئيس لجنة الفتوى- الأزهر الشريف السلام عليكم ورحمة الله وبركاته وبعد فهل من أنكر استقلال السنة بإثبات الإيجاب والتحريم يعد كافرا أم لا؟ نرجو الإفادة بالرأى مع الاستدلال. وشكرا. بسم الله الرحمن الرحيم والصلاة والسلام على سيد المرسلين سيدنا محمد وعلى آله وصحبه والتابعين وبعد تنقسم الأحكام عند الجمهور إلى خمسة أقسام: 1ـ الواجب: وهو ما يثبت طلبه من المكلف، بنص صريح قطعى الثبوت وقطعى الدلالة. (بمعنى أن له معنى واحدا فلا يختلف فى معناه المجتهدون) من كتاب الله أو سنة رسوله المتواترة. 2ـ المحرم: هو ما طلب الشارع من المكلف تركه، بدليل قطعى الثبوت وقطعى الدلالة، من كتاب الله أو سنة رسوله المتواترة. 3ـ المندوب: ما طلب الشارع فعله طلبا غير حتم ولا جازم، يثاب على فعله ولا يعاقب على تركه!. 4ـ المكروه: ما طلب الشارع تركه طلبا غير حتم، ويثاب على تركه ولا يعاقب على فعله. 5ـ المباح: ما خير المكلف بين فعله وتركه، أو لم يرد دليل فيه بالتحريم. وتنقسم السنة إلى: متواترة وآحادية. فالمتواترة هى ما رواها جمع عن جمع يستحيل أو يبعد أن يتفقوا على الكذب. قال الحازمى فى شروط الأئمة الخمسة ص 37: " وإثبات التواتر فى الحديث عسر جدا " وقال الشاطبى فى الجزء الأول من الاعتصام ص 135: "أعوز أن يوجد حديث المتواتر واختلاف علماء السنة على ثبوته وعدده، يرى الجمهور أن من أنكر ص _177(1/164)
استقلال السنة المتواترة بإثبات واجب أو محرم فقد كفر- أقول: أغلب السنن العملية متواترة . والسنة الآحادية: هى ما رواه عدد دون التواتر عن النبى صلى الله عليه وسلم- وقد اختلف العلماء فى استقلال السنة الآحادية بإثبات واجب أو محرم. فذهب الشافعية ومن تبعهم إلى أن من أنكر ذلك فى الأحكام العملية كالصلاة والصوم والحج والزكاة فهو كافر، ومن أنكر ذلك فى الأحكام العلمية كالإلهيات والرسالات.، وأخبار الآخرة والغيبيات، فهو غير كافر، لأن الأحكام العلمية لا تثبت إلا بدليل قطعى من كتاب الله أو سنة رسوله المتواترة. وذهب الحنفية ومن تبعهم إلى أن السنة الآحادية لا تستقل بإثبات واجب أو محرم، سواء كان الواجب علميا أو عمليا، وعليه فلا يكفر منكرها، وإلى هذا ذهب علماء أصول الفقه الحنفية، فقال البزدوى: " دعوى علم اليقين بحديث الآحاد باطلة، لأن خبر الآحاد محتمل لا محالة، ولا يقين مع الاحتمال، ومن أنكر ذلك فقد سفه نفسه وأضل عقله ". وبهذا أخذ الإمام محمد عبده والشيخ محمود شلتوت والشيخ محمود أبو دقيقة وغيرهم. يقوم المرحوم الإمام محمد عبده: " القرآن الكريم هو الدليل الوحيد الذى يعتمد عليه الإسلام فى دعوته، أما ماعداه مما ورد نى الأحاديث سواء صح سندها أو اشتهر أم ضعف، فليس مما يوجب القطع. كما ذكر الشيخ شلتوت فى كتابه " الإسلام عقيدة وشريعة " قوله: " إن الظن يلحق السنة من جهة الورود (السند)، ومن جهة الدلالة (المعنى) كالشبهة فى اتصاله والاحتمال فى دلالته. ويرى الإمام الشاطبى فى كتابه " الموافقات " أن السنة لا تستقل بإثبات الواجب والمحرم، لأن وظيفتها فقط تخصيص عام القرآن، وتقييد مطلقه، وتفسير مجمله، ص _178(1/165)
ويجب أن يكون ذلك بالأحاديث المتواترة لا الآحادية ويؤيد آراء من سبق ذكرهم ما جاء فى صحيح البخارى، باب الوصية (وصية الرسول صلى الله عليه وسلم قبل وفاته): عن طلحة بن مصرف قال: سألت ابن أبى أوفى: هل أوصى رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: لا. قلت: كيف كتب على الناس الوصية أو أمروا بها ولم يوص؟ قال: أوصى بكتاب الله. قال ابن حجر فى شرح الحديث: " أى التمسك به والعمل بمقتضاه، ولعله أشار إلى قوله صلى الله عليه وسلم: "تركت فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا: كتاب الله! ". واقتصر على الوصية بكتاب الله لكونه فيه تبيان كل شىء، إما بطريق النص أو بطريق الاستنباط، فإذا اتبع الناس ما فى الكتاب عملوا بكل ما أمرهم به. وحديث سلمان الفارسى عن النبى صلى الله عليه وسلم: " الحلال ما أحله الله فى كتابه، والحرام ما حرمه الله فى كتابه، وما سكت عنه فهو عفو لكم ". وأجاب الشاطبى عما أورده الجمهور عليه من قوله تعالى: "أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم": بأن المراد من وجوب طاعة الرسول إنما هو فى تخصيصه للعام، وتقييده للمطلق، وتفسيره للمجمل، وذلك بالحديث المتواتر. وإن كل ما جاء به النبى صلى الله عليه وسلم، يجب أن يكون من القرآن، لقول عائشة رضى الله عنها، عن النبى صلى الله عليه وسلم: "كان خلقه القرآن "، وأن معنى قوله تعالى: "ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شيء" ، أن السنة داخلة فيه فى الجملة، وأكد الشاطبى ذلك بقوله تعالى: "ما فرطنا في الكتاب من شيء". وقد رد على ما استدل به الجمهور مما روى عن النبى صلى الله عليه وسلم قوله: " يوشك أحدكم أن يقول: هذا كتاب الله، ما كان من حلال فيه أحلناه، وما كان من حرام حرمناه، ألا من بلغه منى حديث فكذب به فقد كذب الله ص _179(1/166)
ورسوله "، بأن من بين رواة هذا الحديث " زيد بن الحباب "، وهو كثير الخطأ، ولذلك لم يرو عنه الشيخان حديثا واحدا. وجاء بمسلم الثبوت والتحرير: " خبر الواحد لا يفيد اليقين، ولا فرق فى ذلك بين أحاديث الصحيحين وغيرهما " . ومما سبق يتضح أن الإيجاب والتحريم لا يثبتان إلا بالدليل اليقينى القطعى الثبوت والدلالة، وهذا بالنسبة للسنة لا يتحقق إلا بالأحاديث المتواترة، وحيث إنها تكاد تكون غير معلومة لعدم اتفاق العلماء عليها، فإن السنة لا تستقل بإثبات الإيجاب والتحريم- إلا أن تكون فعلية أو تنضاف إلى القرآن الكريم-. وعلى هذا فمن أنكر استقلال السنة بإثبات الإيجاب والتحريم فهو منكر لشىء اختلف فيه الأئمة، ولا يعد مما علم بالضرورة فلا يعد كافرا.." ونحن نورد هذه الفتوى لنواجه بها جملة من الأخبار الواردة فى العقيدة تكاد توهم التجسيم، وعلماؤنا لا يقبلون فى أمور العقيدة إلا المتواتر. أما حديث " أن الله يقعد على عرشه أو كرسيه كما يقعد الراكب على رحله، حتى إن العرش ليصوت من عظمته وثقله "، أو حديث أن هناك ثمانية أو عال تحمل العرش، أو ما أشبه ذلك من مرويات الآحاد، فإن العلماء انصرفوا عنها؟ ولم يأخذوا منها حكما شرعيا.. ولنضرب مثلا لمسلك البعض بإزاء هذه الأحاديث: روى الإمام أحمد فى مسنده عن عائشة رضى الله عنها، أن يهودية كانت تخدمها فلا تصنع عائشة رضى الله عنها إليها شيئا من المعروف، إلا قالت: لها اليهودية: وقاك الله عذاب القبر..! قالت عائشة رضى الله عنها: فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم على، فقلت: يا رسول الله، هل للقبر عذاب قبل يوم ص _180(1/167)
القيامة ؟ قال صلى الله عليه وسم: "لا، من زعم ذلك "؟ قالت: هذه اليهودية، لا أصنع لها شيئا من المعروف إلا قالت: وقاك الله عذاب القبر. قال صلى الله عليه وسلم: "كذبت يهود، وهم على الله أكذب، لا عذاب دون يوم القيامة". ثم مكث بعد ذلك ما شاء الله أن يمكث، فخرج ذات يوم نصف النهار، مشتملا بثوبه، محمرة عيناه، وهو ينادى بأعلى صوته: القبر كقطع الليل المظلم، أيها الناس، لو تعلمون ما أعلم بكيتم كثيرا وضحكتم قليلا، أيها الناس، استيعذوا بالله من عذاب القبر فإن عذاب القبر حق "، وهذا إسناد صحيح على شرط البخارى ومسلم، ولم يخرجاه. ولنا على هذا الحديث تعليق، فهو يخالف ثلاث آيات فى كتاب الله، الأولى فى الأنعام: "ولو ترى إذ الظالمون في غمرات الموت والملائكة باسطوا أيديهم أخرجوا أنفسكم اليوم تجزون عذاب الهون بما كنتم تقولون على الله غير الحق " ، والثانية فى غافر "النار يعرضون عليها غدوا وعشيا ويوم تقوم الساعة أدخلوا آل فرعون أشد العذاب" والثالثة فى الأنفال "ولو ترى إذ يتوفى الذين كفروا الملائكة يضربون وجوههم وأدبارهم وذوقوا عذاب الحريق * ذلك بما قدمت أيديكم وأن الله ليس بظلام للعبيد" كما يخالف أحاديث كثيرة جدا أثبتت عذاب القبر وثوابه، منها: مناداة النبى عليه الصلاة والسلام للكفار بعدما رميت جثثهم فى قليب بدر: هل وجدتم ما وعد ربكم حقا؟ فإنا وجدنا ما وعدنا ربنا حقا.. ومنها: مروره على قبرين- كما روى البخارى وقوله: يعذبان وما يعذبان فى كبير..! والشواهد فى هذا المجال فوق الحصر، فكيف يقال: إنه لم يكن يدرى عذاب البرزخ؟! حتى جاءت يهودية فتحدثت عنه؟! ص _181(1/168)
إن القرآن النازل عليه بمكة والمدينة يشير إلى أن الحياة الإنسانية متصلة قبل الموت وبعده، وأن البشر يثابون أو يعاقبون عقيب رحيلهم عنا! فأنى ينكرالرسول ذلك..؟! وقد رأى ابن كثير أن يؤول الآيات ويحافظ على الحديث الغريب، فزعم أن الآيات تثبت عذابا روحيا غير عذاب القبر الحسى! وهذا وهم!! هل ضرب الوجوه والأدبار من العذاب الروحى؟! هل تداخل العظام من ضمة القبر من العذاب الروحى؟! إن الانحصار فى السند والذهول عن المتن، باب إلى عجائب رفضها علماؤنا المحققون. والفتوى التى نقلناها تشير بشىء من الإجمال إلى رأى الأزهر فى ضرورة التعويل على القرآن أولا، وإلى أن العقائد لا تستقل بإثباتها أخبار الآحاد. وما نوصى به هو تدبر القرآن الكريم، وإدامة النظر فيه، واستصحاب معانيه عند قراءة السنن. أما أن يكون المرء عابر طريق أمام آيات الله، ومطيل المكث أمام بعض الأخبار، فهذا غير سائغ.. لايجوز أن يكون المرء أعشى أمام القرآن، وحاد البصرأمام الأحاديث، وقد سمعت كلمات سمجة فى هذا المجال! قال بعضهم: حاجة الكتاب إلى السنة أشد من حاجة السنة إلى الكتاب.. وهذه موازنة خاطئة... نحن نؤمن بالكتاب والسنة معا، ونؤمن بأن السنة فرع والكتاب أصل، ونؤمن بضرورة الاستيقان من أن الرسول قال، وأن هذا الاستيقان لايتم إلا بوزن السند والمتن جميعا.. وهذا منهج العلماء الراسخين والرجال الثقات، ولاتعويل على من دونهم!! إن العلم الإسلامى استبحر، وساند حضارة عظيمة يوم قام على الحقائق، فلما خالطته الخرافات والأوهام هوى، وهوت الأمة كلها معه... وأعود إلى حديث اليهودية التى ذكرت البيت النبوى! بالجزاء الأخروى وثواب ص _182(1/169)
القبر وعذابه! وكان من قبل لايدرى!! من أين أتت بهذا الحديث؟ إن أسفار موسى الخمسة فى العهد القديم، أعنى التوراة، ليس بها مايشير إلى جنة أو نار، أو ثواب أو عقاب! لقد تحولت التوراة إلى كتاب مادى يخص شعبا يبحث عن الحياة والتميز فوق هذا التراب. ولايستعد للقاء الآخرة بفعل خيرأو ترك شر.. ويكاد الثواب المرتقب يكون فى هذه الحياة الدنيا وحدها...! إن اليهود آخر أهل الأرض تطلعا إلى الآخرة وحفاوة بمقدماتها. نعم وجد حديث مقتضب فى بعض الأسفار عن الجنة والنار وعالم الروح.. حديث مقتضب جدا.. ومن ثم فأنا شديد الريبة فيما نسب إلى هذه اليهودية من كلام عن ثواب الفقير وعذابه...، الحديث من ناحية المعنى مخالف للقرآن الكريم، ولسنن يمكن الحكم عليها بالتواتر المعنوى. ثم مجيئه عن طريق يهودية كمجىء الماء عن طريق الصحراء الكبرى، أمريشبه خوارق العادات.. ومع ذلك يقال: إنه على شرط البخارى ومسلم ولم يخرجاه! إن البخارى أرشد من أن يذكر هذا الحديث وكذلك تلميذه مسلم، فالسند القائم لايخدم متنا مضطربا.... والخلاصة أن السنة لاتكون إلا بيانا للقرآن، بيانا يتسق مع دلالاته القريبة والبعيدة، ويستحيل أن تتضمن معنى أو حكما يخالف القرآن الكريم. ص _183(1/170)
الفصل الأخير مستقبل العربية وآدابها عرف النامى خصائص الاستعمار الصليبى الذى أغار على أرضهم خلال الأعصار الأخيرة. كان غرضه الأهم الأوضح أن يمحو الشخصية الدينية لأمتنا، وأن يقطع حبالها على مر الأيام باللغة العربية، فإذا محا الإسلام والعروبة فى كيان ما قبله بعد تابعا يكدح له وحده... والمرء بعد فقدانه الإيمان واللسان، أو بعد فقدانه أصوله الروحية واللغوية، يمكن حسبانه مؤقتا فى عداد المفقودين، بيد أن الاستعمار لاينتهى به إلى هذه النتيجة ثم يتوقف.. كلا، إنه يعده سمادا لجيل آخر؟ له عقيدة أخرى؟ ورطانة أخرى، كما تتحول الفضلات الحيوانية إلى تربة جديدة لكيان آخر مقطوع الصلات بالماضى القريب والبعيد معا.. والسياسة التى اختطها هذا الاستعمار المكار تبعث على العجب، فالانجليزى "سبنكس باشا " يعين قائدا للجيش المصرى! والإنجليزى " رسل باشا " يقود شرطة القاهرة! والإنجليزى "دنلوب " يقود سياسة التعليم...!. ولا بأس فى طريق القضاء على اللغة العربية أن يستعان بأوروبيين يعينون فى مؤسساتنا الثقافية، مثل المستشرق الألمانى "ولهلم سبيتا " الذى وظف بدار الكتب المصرية، وكان أول من دعا إلى نبذ اللغة العربية، وآلف كتابا عن قواعد اللغة العامية فى مصر. ص _184(1/171)
وتبع هذا الموظف لمحاربة العربية موظف ألمانى آخر هو "كارل فولرس " الذى عين أمينا للكتبة الخديوية بالقاهرة..!. وجاء بعدهما إنكليزى موغل فى التعصب، كان يشرف على مدرسة الهندسة العليا- كلية الهندسة الآن- اسمه "وليم ولكوكس " الذى منحته إنجلترا فيما بعد لقب "سير". وتبئى أفكار الجميع عدو من اللبنانيين والمصريين الحاقدين على الإسلام، وكانت صيحاتهم لهدم المواريث الأولى لا ينقطع صداها، وتدبر ما قاله "سلامة موسى " فى كتابه اليوم والغد: (الرابطة الشرقية سخافة، والرابطة الدينية وقاحة، والرابطة الحقيقية هى رابطتنا بأوروبا..) . والذوبان المنشود فى أوروبا يعنى بداهة اطراح الإسلام والعربية، ووجود نابتة مهجنة تستخف بتكاليف الإيمان وأواصرالفصحى، وقد اتسعت هذه الدائرة، ووجد الداخلون فيها كل تشجيع مادى وأدبى، وأزيحت من أمامها العوائق، بل كثرت من ورائها الدوافع؟ حتى كادت تستولى على مقاليد الأمة فى كل ميدان، لولا أن الصحوة الإسلامية التى تتجدد بها أمتنا على امتداد القرون تيقظت للخطر الداهم، وردمت منابعه ما استطاعت. ولا تزال المعركة سجالا بين الإيمان والإلحاد، وبين العامية والفصحى، مع ملاحظة أن ذلك الصراع أخذ عنوانات شتى! بدأ بين التقليد والتجديد، أو الرجعية والتقدم، أو الأصالة والمعاصرة، ثم رأى الماكرون بالإسلام أن يتركوا هذه الموازنة ليكون العنوان الأوحد القومية، أو الاشتراكية، أو العلمانية.. ولعل السرأن المسلم مهما بلغ عصيانه يعود إلى دينه فجأة! إذا خير بينه وبين غيره من مذاهب، ومن هنا حلت النزعة الواحدة الجديدة محل الموازنات المقلقة؟ على رغم أن هذه النزعة لاتخاصم الدين! . والحق أن الإسلام لحقت به خسائر جمة؟ عندما ارتفعت راية القومية عربية كانت أو غير عربية، وعندما ارتفعت راية الاشتراكية شيوعية أو غيرشيوعية، ثم جاءت العلمانية أخيرا فكانت ثالثة الأثافى... ص _185(1/172)
ففى ظلها هان الإيمان، وسقطت قيم خطيرة، كما أن فى ظلها هبط الأدب العربى، وانتصرت الكلمات الأعجمية، ولوحظ فى المسرح والإذاعة والجامعة والصحف ، أن الأمة تنحدر إلى هاوية ليس لها قرار.. وحديثنا الآن عن الأدب العربى واللغة العربية بعامة.. يرى الأستاذ الكبير أحمد موسى سالم أن الضعف العام بدأ من عصرمبكر، وأن فساد الحكم من ورائه فيقول: "لكن هذه اللغة مع بداية استرخاء الحكام العرب فى القصور، ومع غيبة المجاهدين المرابطين فى الثغور، ومع ما أصاب عامة العرب من زوار المدن أو المقيمين بأطرافها، من فتنة بالمعروض الشهى من المتاع، أو المبذول الطيع من الغواية.. بدأت تطرأ على تراكيب اللغة وعلى وظيفتها وأهدافها تغيرات تعكس ما وقع للناطقين بها، بعد أن فكوا أحزمة التشدد وبعد أن أطافوا طويلا باللمم ، وبعد أن ساقهم اللمم إلى ألوان من الذنوب ما عرفها آباؤهم، فإذا هم قعود وعلى ألسنتهم كلمات جديدة معربة- أو غير معربة- فى مجالس الغناء واللهو والخمر والشذوذ والانحلال. بهذا الاسترخاء، والإقبال على المتع تراجعت القدوة التى كان الأعاجم يجدونها فى العرب، ولم يعد العرب قادرين على استهواء غيرهم لينصرالدين واللغة"!!. ومع أن الحكومات العربية أساءت إلى اللغة ولم تحسن نصرتها، وقعدت بالأدب العالى فلم تمنح رجاله ما يستحقون من صدارة؟ إلا أنى أحسب أن المعاهد المتخصصة فى الدراسات اللغوية والبلاغية تحمل وزرا أشد فى هذا المضمار.. وأن جمودها، وفتورها، وقصورها من أهم الأسباب فيما عرا اللغة العربية فى هذا العصرمن ضعف وانزواء.. وإنى لأحسن غضبا شديدا عندما أرى علماء دين لا يحسنون ضبط الإعراب، أو عندما أرى رجال سياسة يخبطون خبط عشواء، ويقعون دون حياء فى شرأنواع اللحن.. ماذا فعلت المعاهد العتيقة والمجامع الجديدة لخدمة العربية فى عصر نرى فيه الإنجليزية مثلا تبتدع عشرات الأساليب للانتشار والسيطرة؟ ص _186(1/173)
ذلك بحث ينبغى- دون حرج- أن نخوضه، لنعرف مدى تقصيرنا فى لغة الوحى، ولنستقبل الأيام القادمة بعمل نافع وجهد مثمر... لقد تعلمت الإسلام والعربية فى الأزهر الشريف، قضيت شرخ الشباب فى مراحل الدراسة المختلفة، وعندما أخط هذه السطور أمزج بين العلم والأدب والمجتمع، وأضم أشتاتاً من الذكريات التى استنبطنا فيها القواعد من الشواهد!!. نعم إن الأسلوب الذى تعلمنا به اللغة العربية يقوم على شرح القاعدة وسوق الدليل عليها من الكتاب أو السنة أو التراث الجاهلى والمخضرم وأوائل التاريخ الاسلامى... وأشعر صادقا بأن الشواهد التى قابلناها ، أو الأدلة التى عايناها، كانت زادا فكريا وعاطفيا عامرا بأنواع المشاعر والأمزجة وصور الحس والأداء العالى... وأريد من القارئ أن يسترجع معى جملة من الأمثلة ليس بينها رابط! وأن يعيش فى جوهاكما عشنا، وأن يستفيد منها معلومات نحوية لا بأس بها ولا تخضع فى سياقها لترتيب معين!!. يقول الشاعر: وفتيان صدق لست مطلع بعضهم على سر بعض غير أنى جماعها ويقول آخر: وليل كموج البحرارخى سدوله على بأنواع الهموم لييبتلى! البيت الأول يصف أمانة الكلمة واحترام الأسرار! والبيت الثانى يصف ليل المهموم. وحرف الوار فى أولهما يسمى " واو رب" يجر الاسم بعده وجوبا، ويعرب جملة إسمية، مع خبر المبتدأ... ويقول الشاعر: لا يبعدن قومى الذين هم سم العداة وآفة الحزر النازلين بكل معترك والطيبون معاقد الأزر يصف الرجل قومه بالشجاعة التى تخيف منهم عدوهم، وبالكرم الذى يستهلك ص _187(1/174)
الأموال، وبالجراءة التى تقحمهم فى كل معركة، وبالعفاف الذى يعصمهم من ارتكاب الفواحش.. والشاهد هنا فى "النازلين " التى نصبت على الاختصاص، ثم عطف عليها نعت مرفوع.. وهذا مأنوس فى الأداء العربي، وإن جهله الجاهلون، وحسبوا فى الكلام لحنا..!!. وتقول عاتكة بنت زيد- لما مات زوجها عبد الله بن أبى بكر.. وقد أصيب بسهم قاتل فى حصار الطائف: آليت لا تنفك عينى حزينة عليك، ولاينفك جلدى أغبرا! فلله عينا شن رأى مثله فتى أكروأحمى فى الهياج، وأصبرا! إذا اشرعت فيه الأسنة خاضها إلى الموت، حتى يترك الموت أحمرا! وعاتكة تبلغ القمة فى وصف زوجها الراحل وشجاعته وجلادته، يقول عنها شارح الحماسة: كانت صحابية شاعرة فصيحة لها جمال وكمال، وتمام فى عقلها ومنظرها، وجزالة فى رأيها، تزوجت بعبد الله بن أبى بكر الصديق، فلما مات عنها كما حكينا، تزوجها عمر بن الخطاب، فلما قتل تزوجها الزبيربن العوام، فلما قتل بوادى السباع تزوجها الحسين بن على، فلما قتل بكربلاء كانت أول من رفع خذه عن التراب ثم تأيمت بعده.. ومن الطرائف أن عبد الله بن عمركان يقول- فى شأنها-: من أراد الشهادة فى!سبيل الله فليتزوج عاتكة . وأحسب أن هذه السيدة لوكانت فى عصرنا لتشاءم منها الناس . إن الأولين كانوا على فطرة سليمة، وتجاوب شريف مع الطبيعة البشرية، أما نحن فتقوم تقاليدنا على المراءاة والاستهانة بالمرأة والرغبة فى تنقصها..! . وليست عاتكة أول من حلف ألا ينسى ميته! لقد سبقها دريد بن الصمة عندما قال: فوالله لا أنسى قتيلا رزئته بجانب قومى مامشيت على الأرض! ثم تراجع الرجل واعترف بأن الحياة ليست كذلك، فقال معتذرا: ص _188(1/175)
على أنها تشفى الكلوم وإنما نوكل بالأدنى، وإن جل ما يمضى! وقد ترد كلمة "ذو " بمعنى الذى، وهى لغة طيىء ، وفى ذلك يقول الشاعر متحدثا عن عفته، إذا ألجأته الظروف، فكان-ضيقا على بعض الناس: ولست بهاج فى القرى أهل منزل على زادهم أبكى، وابكى البواكيا فإما كرام موسيرون أتيتهم فحسبى من "ذو" عندهم ماكفانيا وإما كرام مفسرون عذرتهم وإما لئام فادكزت حيائيا ومن أدلة العطف على اسم إن بالرفع قبل تمام خبرها، قول الشاعرعن نفسه وحصانه، واسم الحصان قبار!!. فمن يك امسى بالمدينة رحله فإنى "وقبار" بها لغريب وبعض الجهلة يحسب ذلك خطأ، ويتهجم على القرآن الكريم فى قوله تعالى: "إن الذين آمنوا والذين هادوا والصابئون والنصارى من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحا فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون". إن هذا ميدان لومضيت فيه لم أنته منه، وإنما أبحت لنفسى، وارتضيت للقارئ ما فعلت، لأنى أريد شرح الطريقة التى تعلمنا بها العربية من ستين سنة... كل قاعدة يرى المؤلف نفسه مطالبا بالاستدلال عليها من التراث الأدبى فى اللغة!. والسؤال: هل سيظل الاستدلال على القواعد مطلوبا إلى قيام الساعة؟ إن اللغة تدرس كى نحسن الكلام فى الحاضروالمستقبل، ويبدو أن أساتذتنا لم يلتفتوا لذلك كما ينبغى.. وخلت دروس النحو والصرف والبلاغة إجمالا من التطبيقات والأمثلة التى لابد من أن تكون كثيرة وفيرة، فكان ذلك طعنة نافذة إلى اللغة وتداولها... ثم جاءت مدرسة الجارم ومن بعده بم فعالجت هذا الموضوع علاجا جيدا، وكان لها جهد مقدور فى ترقية الأداء العربى وتقويته.. ولكن هذه المدرسة اضمحلت مع ضغط الاستعمار الثقافى، وانتصار التفاهات فى شتى الساحات.. لقد لاحظت أن قاعدتى النحت والاشتقاق كادتا تكونان معطلتين فى مواجهة ص _189(1/176)
الحضارة الحديثة الزاحفة علينا ماديا وأدبيا، كما لاحظت أن هناك خلطا قبيحا بين تعليم اللغة العربية للعرب وللأعاجم مسلمين أوغير مسلمين... وهناك فوضى فى تعليم جموع التكسير، وضبط المصادر القياسية والسماعية، واشتقاق الأفعال بين المضارع والماضى... إن عناية الإنكليز بالغة بضبط لغتهم ونشرها، وما فى لغتهم إلا ما يكسب المهارة فى بعض العلوم الحديثة، ولا أدرى ماذا أعمى العرب عن عشرات الدروب ينشرون فيها لغة القرآن، ويبصرون الدنيا بمعالم الوحى الأعلى. إن تعلم العربية فريضة على أمة رسالتها عالمية، وتفريطها فى ذلك خيانة فاضحة! ويوجد فى هذه الأيام المهزولة المهتزة قادة للعرب إذا تكلمواكانوا أطفالا لا رجالا وكانوا نماذج للهزل لاللجد. إننا نقترف خيانة فاجرة عندما نترك العربية تموت بين أيدينا، وعندما نعد تعلمها حرفة لبعض الشيوخ المغموصين، هذا كفر أو دونه الكفر!!. تدهور اللغة العربية لاحظت أن ا"للغة العربية تسير من تسعين سنة فى منحدر، فالمفردات الدخيلة تطارد الكلمات الفصحى فى كل ميدان. عندما أكون فى دار الإذاعة أسمع " الاستوديو " و "تيست " و " ستاندباى " وعندما أرى مباريات الكرة أسمع " الجول " و "الكورنر "، وعندما أكون فى البيت أسمع "بوتيك " و "سوبر ماركت " أما فى عالم الفنادق فاللغة العربية مزدراة، كذلك فى عالم الدواء والصيدليات. ومن قبل هذا البلاء المتنامى كان قد صدرحكم بطرد العربية من ميادين الطب والهندسة وسائر المعاهد العلمية.. كما أن ألفاظ الحضارة تفد كل يوم وتزيد حاملة طابعها الأجنبى؟ لايكاد ينفك عنها، وفارضة الوحشة على لغتنا. والغريب أن علماء الأزهرآثروا كلمات "ماجستير" و "دكتوراه " على غيرها، وما أبدع أن يقال: دكتور فى الفقه، ودكتور فى النحو.... ص _190(1/177)
وظاهر أن الغزو الثقافى يصادف نصرا بعد نصر، وأن الانحلال القومى يلف العامة والخاصة فى ردائه المهين.. أين حماة اللغة؟ أين المدافعون عن لساننا الروحى والشرعى والمادى والأبلى؟ لقد بدأت مطاردة الفصحى مع الاحتلال العسكرى، وبقيت بعد رحيل الجيوش الغازية، مع ضراوة الاستعمار الثقافى... وظاهرأن خطط الدفاع فاشلة أو معدومة! إننا نردد الآن بصدق ما قاله حافظ إبراهيم من تسعين سنة يستنهض الهمم لذود الفناء- عن لغتنا، فإن الأستعانة الصادرة من الشاعر الباكى ذهبت مع الريح... نحن ما تقدمنا خطوة فى طريق شرفنا، وصون تراثنا، بل تأخرنا خطوات، وحاصرتنا الرطانات الأعجمية والكمات العامية... يقول حافظ إبراهيم سنة 1903 تحت عنوان "اللغة العربية تنغى حظها بين أهلها": رمونى بعقم فى الشباب وليتنى عقمت فلم أجزع لقول عدانى ولدت ولما لم أجد لعرائسي رجالا واكفاء وادت بناتى وسعت كتاب الله لفظا وغاية وما ضقت عن آي به وعظات فكيف أضيق اليوم عن وصف آله وتنسيق أسماء لمخترعات؟ فيا ويحكم ابلى وتبلى محاسنى ومنكم وإن عز الدواء اساتى أرى لرجال الغرب عزا ومنعة وكم عز الدواء بعز لغات أتوا أهلهم بالمعجزات تفننا فياليتكم تأتون بالكلمات! أرى كل يوم بالجرائد مزلقا من القبر يدنينى بغير أناة أيهحرنى قومى- عفا الله عنهم- إلى لغة لم تتصل برواة؟ سرث لوثة الإفرنج فيها كما سرى!لعاب الأفاعى فى مسيل فرات فجاءت كثوب ضم سبعين رقعة مشكلة الألوان مختلفات إلى معشر الكتاب والجمع حافل بسطت رجائى بعد بسط شكانى فإما حياة تبعث الميت فى البلى ونبت فى تلك الرموس رفاقى ص _191(1/178)
واما ممات لا قيامة بعده ممات لعمرى لم يقس ببمات ليتنى نعى ونستحى … لقد تقرر لدى المعنين بالتعريب أن النحت والاشتقاق أهم الوسائل لما يريدون، وعندما راقبت الثمار العملية لم أستقر على حال... ففى مصراختيرت كلمة المسرة " للتليفون "، وفى الشام والجزيرة شاعت كلمة الهاتف، ولا تزال كلمة التليفون أشيع!. واختيرت كلمة كابح للفرملة، ومقودد أو زمام للديركسيون، ومع ذلك فإن الكلمات الأجنبية لا تزال تجرى على الألسنة! وتكادكلمة مذياع تموت ليبقى اسم الراديو هو الأشيع، وقد نحتت كلمة تلفاز عن وزن سروال وقسطاس، وحرصنا على نشرها، ولكن مستقبل الكلمة لم يستقربعد. والعلاج الحاسم أن تضع لجان متخصصة الكلما ت المختارة بدل الأجنبية، ثم تقوم لجان أخرى بفرض رقابة حكومية وشعبية على ترويجها، وإشعار الجماهير أن ترك العربية الفصحى فى مهب الريح كبيرة من الكبائر وأن الأمة التى تفقد لغتها كالفتاة التى تفقد عرضها، وأن المسلمين- من بين أم الأرض خاصة- مكلفون بالدفاع عن العربية ضدكل هجوم، لأن الهجوم فى مراحله الأخيرة يتجه إلى وحى الله.. وقد حاول بعض الموارنة أن يخدموا العربية بطريقة مريية؟ فألفوا قاموسا حرصوا على تجريده من كل أثارة للكتاب والسنة؟ ثم ألحقوا به فهرسا للأعلام ثلاثة أرباعه من أعلام !أوروبا ومعالمها! وتلك محاولة متعمدة لمحو شخصيتنا، خطوة خطوة... ويزعم نفر من القاصرين أن ترجمة الطب والهندسة وغيرهما صعبة؟ أو متعسرة، وهذا ستر للعجز العلمى والخلقى. - وقد قرأت كتابا عن الحميات بالعربية للدكتور إبراهيم حسن، وكتابا عن الأمراض الجلدية والتناسلية للدكتور حبيب موسى، وهما فى عصرهما من أعلام الطب، وما عجزت لغتنا عن استيعاب المعانى كلها.. ص _192(1/179)
إننى أحتقر أى امرئ يطعن العربية دون غيرها من اللغات الأوربية أو الآسيوية، وهى لغات انتقل إليها الطب ولم تنتقل هى إلى الطب.. إن التأثر الخسيس بالاستعمار الثقافى من وراء تدريس بالروسية، ولو انتصرت إسرائيل فسيكون التدريس بالعبرية.. إن الهمج أتباع لكل ناعق، وأذيال لكل غالب، والآن نرى فلاحين من أعماق القرى، أو أعرابا من سكان الصحراء يرسلون إلى الإذاعات فى لندن وواشنطن يطلبون سمعاع أغانى أجنبية، ويهدونها إلى آبائهم أو أمهاتهم الجالسين على الأكوام أو تحت الخيام!!. أما ينتهى هذا الهزل، وتستخفى تلك الوضاعة فى العلوم والفنون على سواء؟ أما نتعصب للغتنا؟ إن الحضارات تهتم بالفنون والآداب كما تهتم بالعلوم والإنتاج! ويظهر أن الإنسانية ترتبط بالمشاعر العاطفية، والنواحى الجمالية، ودواعى المرح والاستجمام مثلما ترتبط بالضرورات الاقتصادية، والمباحث العقلية والكونية... وما نراه فى العالم الآن يصدق هذه الفكرة، فالناس من وراء العالم الإسلامى لهم فنون جادة وهازلة، ولهم آداب مستقيمة ومائلة، وتلك طبيعة البشر!. وما نخافه هو أن يغل الجانب الطائش، ويكتسح ما حوله.. وقد راقبت الفنون والآداب فى عالمنا العربى فوجدت أن عددا من الفنانين والكتاب بلغ من الإسفاف حدا يخشى منه على الأخلاق والقيم الكريمة، وإذا لم يضرب على أيديهم فلن تفلح أمتنا أبدا.. الكلمات المحقورة تجرى على ألسنتهم والحركات الهابطة ، وفقدان الهدف العالى، كأن المهم إضحاك الرعاع، وابتزاز أموالهم..، وقد آلف الأوروبيون روايات فى موضوعات شتى، وأنشؤوا أنواعا من الفنون تليق أو تتجاوب مع بيئتهم، وحاول رجال منا تقليدهم فى الأدب التمثيلى، واستطاع شوقى تأليف روايات أدبية وسياسية لها قيمة كبيرة، بيد أن الحرب المعلنة على الأدب الرفيع أجهزت على المشروع كله، فانتهى بنهاية شوقى... ص _193(1/180)
وأتساءل الآن: ألا يوجد لدينا أدب يوجه إلى الخيروالرشد؟ ألا نستطيع عرض الأمثلة الرفيعة فى سياقات رائقة جميلة، من القصيدة أو المقالة أو الرواية؟ طالت أم قصرت..؟ فى التراث القديم ذخائرأهيل عليها التراب.. وقد ساءنى أن اهون ما فى التراث يبرز، وأنفس ما فيه يظل كنزا مخيفا، مع إمكان الانتفاع به، وشدة الحاجة إليه..! يرى الأستاذ أحمد موسى سالم أن الأدب العربى انحرف من عهود مبكرة، وأن من أعلام انحرافه أبا نواس، وابن الرومى وغيرهما الذين لا تنميهم إلى العروبة أصول نقية.. ومع تقديرى الكبيرلأستاذنا فقد خالفته فى هذا الحكم، إذ أن عربا أقحاحا هبطوا فى آدابهم إلى درك بعيد، وهل كان امرؤ القيس نموذجا شريفا فى شعره العابث؟.. الجريمة فى نظرى إبراز امرئ القيس ابن الملك، وإخفاء عروة بن الورد الصعلوك، وأمثاله من الشعراء المقلين الذين قفزوا إلى الأوج فى يقظاتهم الأخلاقية، ومعاناتهم الإنسانية الجديرة بالاحترام.. وقد قرأت حماسة أبى تمام، وأمالى القالى، وتصفحت العقد الفريد.. ومررت بروائع من المشاعر والحكم، والمدح والقدح، والوصف الدقيق، والغزل العفيف، وملاحقة مواقف الإنسان مع الحياة خفضا ورفعا، ونعمة وبؤسا وضحكا وبكاء، فوجدت فى آدابنا القديمة ما يجب أن يرى نور الحياة وينتفع به المعاصرون، أكثر وأجدى مما يقرأ الآن من آداب الإنكليز والفرنسيين والروس...!!. العربية هى لسان الوحى، وهى اللغة الرسمية للإسلام، وفرض على العرب أن ينشروها... والحق أن عالمية الرسالة تقتضى عالمية اللغة، ومن هنا أقبل المسلمون الأوائل على نشر العربية مع الإسلام، وبذلوا فى ذلك جهذا مشكورا. كما أن الأمم الأخرى نشطت إلى إجادة العربية والمهارة فى كتابتها والنطق بها، ص _194(1/181)
ولماكانت العروبة تعنى اللسان لا الدم؟ فقد أضحى كل متكلم بالعربية عربيا؟ دينا وجنسا! وضارع العرب الأقحاح فى كل شىء، بل سبقهم بتفوقه العلمى فأمهم فى المساجد، ودرس لهم علوم الكتاب والسنة، وبدا- فى أيام التابعين ومن بعدهم- أن الأعاجم سادوا العرب فى تلك الساحات المفتوحة.. بل إن الجماهيرما وجدت أى حرج فى إقرار هذا الوضع، فإن التعصب للعرق لا يعرفه الأتقياء، وسمة الإنسانية العامة الشائعة فى الكتاب والسنة جعلت الفاتحين عسكريا يذوبون فى البلاد المفتوحة، وصار الكل عربا مسلمين، لا فرق بين أصيل ودخيل.. لكن بعض القاصرين أو المقصرين لما استوعروا طريق الكدح والبذل بم أرادوا ستر تخلفهم بإحياء النزعات العنصرية، والنعرات القبلية، فنشأت الشعوبية والقومية العربية! . ولست بصدد تحقيق أيتهما أنتجت الأخرى، فالمهم أن هذه النزعات على وضاعتها لم تلق فى الجو الإسلامى النظيف ما يعينها على البقاء والاستفحال.. ومضت الجماهير تخدم الإسلام بإخلاص وحماسة، شاعرة بأن الصياحين بأنسابهم مقصرون يحاولون ستر خسيستهم.. وجدير بالعرب- الذين يذكرون أنهم أبناء الفاتحين الأوائل- أن يثابروا على تعليم لسانهم وأدبهم العتيق الطهور، وهم واجدون ثروة طائلة منه فى تراثهم المهمل، ويستطيعون اختيار نماذج صالحة منه على أساس من استنارتهم بفطرة الإسلام؟ وإنسانيته الراقية.. وكذلك جدير بغير العرب أن يضبطوا لغة الوحى، ويتقربوا إلى الله بتنمية أساليبها فى الكتابة والخطابة، وما تنكر جهودهم فى هذا المجال... وأنا عندما أنظر إلى أبى نواس، والأبيات التى نقمها منه الأستاذ أحمد موسى، أستنكرها من زاوية معينة، والأبيات هى: عاج الشقى إلى رسم يسائله وعجت أسأل عن خمارة البلد!! يبكى على طلل الماضين من أسل! لادر درك، قل لى: من بنو أسد؟ ص _195(1/182)
ومن تميم؟ ومن عكل؟ وقن تقن؟ ليس الأعاريب عند الله من أحد! إن أبا نواس فى هذا المجون الذى عرف به، ليس أسوأ أدبا من امرئ القيس الذى يقول: فمثلك حبلى قد طرقت ومرضع فألهيتها عن ذى تمائم مخيرل ! وتحقير العرب معصية، وكرههم فسوق، ولا يساويه فى الضعة والردة إلا انتماء العرب لغير الإسلام، واعتزازهم بعروقهم الجاهلية واستهانتهم بالإسلام... ويوجد الآن قوميون عرب يملؤون أشداقهم فخرا بالعروبة ويسبقون أبا نواس إلى الخمارات، والقرامطة إلى جحد الشعائر الدينية. إن الآداب العربية التى نريد إحياءها هى نماذج من صميم التراث العربى الأصيل، تمتاز أولا بأنها هتاف يخطر صافية عالية، والإسلام دين الفطرة، وتمتاز ثانيا بأنها بناء بلاغى محكم يعين على بقاء اللغة سليمة الأداء، رفيعة المستوى، وأخيرا فهى تربط عصرنا بأصوله وتجعل حاضرنا امتدادا له! وتعيننا على الفهم السوى للكتاب والسنة... الأدب الرفيع موصول بالإسلام الأدب الإنسانى العالى هو صورة جميلة لفطرة الله فى الأنفس والآفاق، يتملاها الإنسان فيشعر بالتجاوب والرضا، وقد عرف هذا الأدب فى شتى الأعصار والأمصار، وكان موضع التقدير أيا كانت نسبته... قرأت نماذج منه فى الأدب الجاهلى عندنا، وشعرت بأنها من أنفس مواريث الإنسانية عامة، كما عرفت نماذج من الآداب الأجنبية المترجمة جديرة بالاحترام. ولعل ذلك كان قبل انتشار الوجودية والشيوعية وفنون الإلحاد والانحلال التى شوهت الفطرة، وافترت أكاذيب كثيرة على الإنسان وأشواقه وظاهرت جماح الشهوات، واعتذرت عنه؟ ثم جعلت الأمانى المحرمة أهدافا مقبولة!!. وأخطر هذه الآداب المقالات التى كتبها ملاحدة سافرون، أو ملاحدة مقنعون ص _196(1/183)
يخفون الصليب آو التلمود فى ضمائرهم، ويجعلون من العلمانية شعارهم المكشوف، ثم يكتب أحدهم عن حياته فلا يتحرج من ذكرليلة تجسة قضاها مع بغى فى صدر شبابه . أو يمجد الخيانة الوطنية كما فعل لويس عوض عندما جعل يعقوب حنا بطلا قوميا، وهو يعلم أنه جند فرقة من أتباعه لمظاهرة فرنسا وهى تحتل مصر، وتدخل بخيلها الأزهر...!!. ويوجد الآن حشد كبير. من أدباء علمانيين يهاجمون الإسلام بخبث شديد، فى مقالات لهاليونة الأفعى، وسمها الناقع.. وأنا أحتفى بالأدب الإنسانى المجرد! الأدب الذى يصف بصدق مشاعرنا وما نعانى فى هذه الحياة... وعندى أن هذا الأدب يمت بصلة إلى الإسلام، لأن الإسلام دين الفطرة، فما اقترب منها من قول أو عمل يقترب منه، وما تنقصه إلا تكملة يسيرة ليكون أدبا دينيا.. من هذا المنطلق وضعت عناوين من السنة لشعرأو نثر، قد يكون بعضه جاهليا ،لانى وجدت الإسلام يقرر هذا الخلق، أو يحض على هذا الأدب. فى السنة مثلا يقول الرسول الكريم: "المجالس بالأمانات "، ويقول: إذا حدث رجل رجلا بحديث، ثم التفت فهو أمانة"!! وقد تكون صادفا فى النقل، أو فى وصف امرئ بما فيه! لكن عواقب ذلك خطيرة فى الهدم وإشاعة الأضغان. ألا يعجبك بعد هذا قول الشاعر فى أمانة الكلمة وحفظ الأسرار واستبقاء الود: وفتيان صدق لست مطلع بعضهم على سر بعض غير أنى جماعها لكل امرئ شعب من القلب فارغ وموضع نجوى لا يرام اطلاعها يظلون شتى فى البلاد وسرهم إلى صخرة أعيا الرجال انصداعها ص _197(1/184)
وقول الآخر: وأنت امرؤ إما ائتمنتك خاليا فخنت، وإما قلمت قولا بلا علم فأنت من الأمر الذى كان بيننا بمنزلة بين الخيانة والإثم والفقرمرض يصيب بالشلل هما قوية، ويعجزالمرء عن حقوق يتمنى أداءها.. ومن ثم استعاذ الرسول- صلى الله عليه وسلم- من الكفر والفقر، ألا تتجاوب بعد ذلك مع عروة بن الورد "الجاهلى " وهو يقول فى الحضن على الارتحال والكدح: دعينى اطوف فى البلاد لعلنى افيد غنى فيه الذىالحق محمل أليس عظيما ان تلم ملمة وليس علينا فى الحقوق معول فإن نحن لم نملك دفاعات لحادث تلم به الايام فالموت اجمل على أن فضل الله لا يطلب بمعصيته، والفرق شاسع بين الحلال والحرام.. وصح عن رسول الله- صلى الله عليه وسم- أنه قال: "إنه ليأتى الرجل العظيم السمين يوم القيامة، لا يزن عند الله جناح بعوضة، اقرؤوا إن شئتم "فلا نقيم لهم يوم القيامة وزنا " وذا بداهة عند فراغ العقل وخواء القلب، وهو ما عناه الشاعر بقوله: ترى الرجل النحيف فتزدريه وفى اثوابه أسد مزير ويعجبك الطرير فتبتليه فيخلف ظنك الرجل الطرير فما عظم الرجال لهم بفخر ولكن فخرهم كرم وخير وفى أمثال الغرب "الناس يغفرون لك كل شىء إلا النجاح " وهذا تصوير لما يلقاه الرجل الناجح من إساءة وكراهية صورها الشاعر أحسن تصوير عندما قال: وإن الذى بينى وبين بنى أبى وبين بنى عمى لمختلف جدا فإن أكلوا لحمى وفرت لحومهم وإن هدموا مجدى بنيت لهم مجدا وإن ضيعوا غيبى حفظت غيوبهم وإن هم هووا غيى هويت لهم رشدا وإن زجروا طرا بنحس تمربى زجرت لهم طيرا تمر بهم سعدا ولا أحمل الحقد القديم عليهم وليس رئيس القوم من يحمل الحقدا ص _198(1/185)
وهذه جملة من محاسن الشيم رأيتها فى آيات وأحاديث شتى لخصها الشاعر فى تلك الأبيات العامرة ، التى تصلح قواعد للتربية الراشدة، وتأديب النفس، والشاعر- بداهة- يرفض مهزلة " الكتب "كما رسمها " فرويد " ويطلب من كل ذى دين وعقل أن يضبط هواه، ويلجم شهوته بلجام قاس : إذا أنت أعطيت الغنى ثم لم تجد بفضل الغنى ألفيت مالك حامد إذا أنت لم تعرك يجنبك بعض ما يريب من الأدنى رماك الأباعد إذا الحلم لم يغلب لك الجهل لم تزل عليك بروق جمة ورواعد إذا العزم لم يفرج لك الشك لم تزل جنيبا كما استتلى الجنيبة قائد وقل غناء عنك مال جمعته إذا صار ميراثا وواراك لاحد إذا أنت لم تترك طعاما تحبه ولا مقعدا تدعى إليه الولائد تجللت عارا لا يزال يشبه سباب الرجال نثرهم والقصائد سيقال: إنك حبست الأدب فى ناحية ضيقة منه، هى على جلالتها لا تمثل ميدانه الواسع؟ وأغراضه المتعددة، ونقول: ربما كان هذا الاعتراض سليما ، بيد أننا سوف نوضح معالم الأدب فى أمتنا الإسلامية. حال أدبنا يثير الخوف حال الآداب العربية اليوم تثير الخوف؟ فإن النهضة التى أنعشتها مع الثورة العرابية استخفت من الأوراق والمنابر! وشحب الشعر الذى تورد أيام البارودى وشوقى وحافظ وأمثالهم، وحل محله غثاء يسمى الشعر المنثور؟. وخفت أدب العقاد، وطه حسين، وزكى مبارك، وأحمد أمين، وأحمد حسن الزيات، وحفت محله مقالات يمكن أن تكون وسطا بين العامية والفصحى، وبين الصياغة الرفيعة والترجمات الركيكة عن اللغات الأخرى.. وتوقحت اللهجات السوقية وتعبيرات الرعاع وآثار الغزو الثقافى فإذا لون من التعبير الهابط يملأ المسارح ويغلب على الناشئة، وتكاد ملامح الشخصية العربية تزول فى أخلاطه المستغربة... ص _199(1/186)
ذلك من ناحية الشكل أو الأسلوب، أما من ناحية الموضوع والحقائق الذاتية المأنوسة فى أدبنا الموروث، فإن الأمر مفزع، والجماهير المخدرة تشدها إلى القاع أقلام ليس فى نفثاتها فن، ولا قيم رفيعة، ولا غايات نضيرة! وعلاقتها بالإسلام وتعاليمه مقطوعة... لقد نجح الاستعمار الثقافى فى تدويخ الأمة، وفتح المجال الأناس يكرهون الألوهية ورسالة محمد، بل رسالات السماءكلها، ويهزؤون بالصلاة، ويرحبون بالشهوات، ويسوقون الجماهير إلى موت محقق... وأولو الألباب يحسون بشاعة المصير الذى تتدافع إليه أمتنا فى عصر تحرك فيه العبرانيون لبناء الهيكل على أنقاض المسجد الأقصى، وتحرك الصليبيون لتقليص الرقعة التى انساح فيها الإسلام على امتداد القرون، كى يرقصوا على بقاياه الهامدة بعد قليل أوكثير من الأيام... إن المعركة الأدبية فى ضخامة المعركة العسكرية، وحراس الإسلام الآن فى معركة بقاء أو فناء... ومن الصدق أن أقول: إن الأدب العربى فى عهود الأتراك ذوى وكاد الشلل يأتى عليه، فلما تحرك منذ قرن كان حراكه راشدا، وغرضه ماجدا، بيد أن الاستعمار الثقافى وضع العقبات فى طريقه، فبعد أن كان أميرا لشعراء يغنى فى أفراح الإسلام ويبكى فى مآسيه، ويرثى " أدرنة "، ويستصرخ الشعوب لمصير الإسلام بها، ويرق الخلافة الغاربة، ويرثى عمرالمختار فى ليبيا.. و.. الخ جاء أدب آخر يرفض هذه الموضوعات جميعا، ويدغدغ الغرائز، ويحدو الشباب إلى دور اللهو والهوى.. . وكان تنويم الأزهر، أو شغله بقضايا أخرى، من بين أعمال هذا الاستعمار الثقافى اللعين، والمرء يأخذ منه العجب وهو يرى مصارع المثل العليا، ومقاتل الشريعة وحدودها؟ واللغة الفصحى وشعرها ونثرها، ثم يرى الجماهير هائمة على وجوهها فى معركة الخبز هنا، أو فى ساحات العبث هناك.. من خمسين سنة شاهدت معركة بين الأدب اللاتينى والأدب السكسونى، بين ص _200(1/187)
طه حسين والعقاد، أهناك ذكر لأدبنا العربى من مصادره الإنسانية الزاكية، حتى فى جاهليته؟ إن العقاد رحمه الله ثاب إلى قومه ودينه وتراثه، وكان له نتاج طيب، ووقف شامخا أمام العلمانية والإلحاد والاستبداد.. أما الدكتور طه فقد كان معروفا بأن اللحن لا يجد طريقا إلى لسانه، وقد خدم العربية المجردة حينا من الدهر، ثم غلبته موجة الغرب الصليبى، فبعثرالشرور فى معاهد شتى، ولم يعد إلى رشده إلا مع الموت!. واليوم أبحث فى ميدان الأدب الدينى عن أمثال لمحمد فريد وجدى وعبد الوهاب عزام ومن قبلهما محمد رشيد رضا فلا أجد وأبحث فى الميدان السياسى عن أمثال لعبد الرحمن الكواكبى، وعبد العزيز جاويش فلا أجد، وأبحث فى ميدان الشعر عن امثال لحافظ والجارم ومحرم ومطران وبدوى الجبل- فلا أجد.. توجد أقلام مريضة تخدم العلمانية والخنوثة والضعف والشرود، صبتها بالتراث العربى كصلة اسكندر ديماس أو آرثرصنان دوبل.. إن اللغة العربية من أقدم لغات العالم، وأغناها بالألفاظ والمعانى، وأقدرها على استيعاب الصور الجمالية تعبيرا وتحبيزا.. وبعد نزول القرآن الكريم بهذه اللغة أصبحت هى الصلة بين الأرض والسماء، وانفردت بأنها تضمنت عناصرالوحى الإلهى، من الأزل إلى الأبد، واستحقت بذلك خلودا لايعرف للغة أخرى، فى القارات الخمس؟ قد تكون سبقت إلى وصف آلة، أو تشخيص علة… ولكنها لم ترتفع أبدا إلى تلفى كلمات الله، ووصايا إلى عباده.. والأدب العربى بعد نزول القرآن قد يعتكر مجراه بلوثة شاعر أحمق أو أديب ماجن، ولكنه لن يكون أدب فسوق وعوج، ولن يكون حاديا للبشرية إلى العار والنار... إن صياغة القرآن الكريم لأجيال المسلمين حددت أهدافهم وصانتها وزكتها، ص _201(1/188)
وقد عاب البعض على الشعرالعرلى أن يكثرفيه المديح، غيرأنك تعرف قيمة هذا النقد عندما تقرأ بيت أبى تمام: ولولا خلال سنها الشعر مادرى بغاة العلا من أين تؤتى المكارم فى تصدى سيف الدولة للصليبية الرومانية، وشجاعته فى قتال القياصرة يقول المتنبى: وقفت. وما ى الموت شك لواقف كأنك فى جفن الردى وهو نائم ولست مليكا هازما لنظيره ولكنه الإسلام للشرك هازم وفى اللغة العربية وأدبها وخلودها وضرورة امتداد سلطانها وتوطيد أركانها يقول الأستاذ أحمد موسى سالم- أطال الله بقاءه-: إن نزول القرآن الكريم كفل للغة العربية جملة من النتائج وضحت رسالتها، وحددت معالمها. أولها: أن العرب جميغا تشبثوا باللغة الفصحى لأنها لغة الوحى والعقيدة... وثانيها: أن اللهجات العامية اقتصرت على حيز ضيق جدا من ممارسة الحديث الخاص بين الأفراد مع اتساع مجالات استخدام الفصحى القرآنية.... ثالثها: أن مرور الزمن، وتتابع الأجيال لم يكن له من تأثيرعلى بقاء اللغة العربية الفصحى بل لقد زاد من تفاعلها مع القرآن الكريم فبقيت لغة الأمة العربية الخالدة بخلود القرآن. رابعها: أن نطاق اللغة العربية قد اتسع بحيث امتد إلى كل المسلمين فى أنحاء العالم، فهم يقرؤون القرآن بالعربية، بحروفه، ويتخذون طريقة كتابته وسيلة لتسجيل لغتهم، وهذا فى حد ذاته نصرحققه القرآن للعربية، على مستوى عالمى، ونعمة أنعمها الله فى نفس الوقت بالإسلام ولغته على تلك الشعوب. خامسها: وهذا هو الأهم- كانت آية القرآن اللغوية إعلانا عن صلاحية اللغة العربية علميا وإنسانيا لحمل وترشيد مفاهيم الحضارة، والتعبير عنها، مهما يكن مستواها، لأن اللغة التى تتسع للقرآن وآياته بهذا الاقتدار البالي، لابد أن تكون أقدر على التعبير عن أى مستوى من مستويات تقدم الإنسان عبركل العصور. ص _202(1/189)
ونحن لا نبتئس ولا نيأس لما أحاط بلغتنا العربية من مؤامرات مبعثها الحقد القديم ، والضلال القديم، ونعتقد أن صباحا عريضا سيعقب هذا الليل. إن الرحمن هو الذى علم القرآن، وهو الذى يتولى حفظه! وستبقى اللغة التى نزل بما خالدة بخلوده. ونرجو أن تكون سبقت لنا الحسنى باختيار الأقدار لنا محامين عن لسان الوحى، ومحيين للتعاليم القرآنية كلها، والله متم نوره ولو كره الكافرون .(1/190)