تأليف
غفر الله له ولوالديه ولجميع المسلمين
وقف لله تعالى
بسم الله الرحمن الرحيم
وبه أستعين
الحمد الله الذي أنعم علينا بنعمة الاتباع لسلف الأمة وأئمتها في العقيدة والعمل ، فلا نتقدم عليهم في قول ولا عمل ، ونتبع آثارهم ولا نحيد عنها قيد أنملة ، فإنه لا عز لنا ولا شرف ولا فخر إلا في أن نكون على منهجهم في العقيدة والعمل ، ولن يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها والحمد لله أن سخر لهذه الأمة بعد موت نبيها علماء نهلوا من معين فهمه الصافي ، وترووا من مورده العذب الشافي الكافي ، وتربوا على هدي الكتاب والسنة ، ونقلوا لنا العلم غضا طريا صافيا لا شوب فيه ولا كدر ، والحمد لله الذي هدانا لموافقتهم فيما قرروه من العلم والهدى ، فلا نرى صوابا إلا ما وافق سبيلهم ، ولا نرى الهداية إلا عن مشكاتهم ، والحمد لله الذي أبرم لهذه الأمة أمر رشد يعلو فيه الحق ، ويسر فيه أهل الإيمان ، والحمد لله الذي منَّ على عبيده الفقير العاجز بمتابعة سبيلهم ، فإنني لا زلت ولله الحمد أدرس في علومهم ، وقد انعقد في قلبي أمر لا يناقضه شيء, وهو أن الأمة لا صلاح ولا فلاح لها إلا بالتمسك بآثار سلفها الصالح ، وانطلقت في سلك التأليف من هذا المنطلق ، فقررت ما قرروه وفصلت ما أجملوه ، ودعوت إلى مذهبهم في عامة كتبي ، ولله الحمد والمنة ، والفضل كله لله تعالى ، والحمد لله الذي جعل قلوبنا تحب الحق وتميل إليه بفطرتها والحمد لله الذي نشأنا في بلاد لا يعتمد فيها إلا منهج السلف الصالح ، وأشهد أن لا إله إلا الله شهادة هي فخر قلوبنا وسعادة أرواحنا ، وتاج رؤوسنا ، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله النبي الأمي الصادق الأمين ، بلغ الرسالة وأدى الأمانة نصح الأمة ، وجاهد في الله حق جهاده حتى أتاه اليقين ، ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ، ولا تجعل في قلوبنا غلا للذين آمنوا ، ربنا إنك رؤوف رحيم ،أما بعد :- فإنه قد جرت العادة مني(1/1)
ولله الحمد والمنة أن أفرد القواعد والأصول المهمة في علوم الأمة بمؤلف خاص ، لا سيما في قواعد الاعتقاد ، وإتماما لهذا العمل الكبير أحببت أن أتحف إخواني الطلاب بالتأليف في شرح قاعدة مهمة غاية الأهمية ، وهي أصل كبير عند سلف الأمة وأئمتها ، وإليها ترجع عامة فروع العقيدة ، وهي أم الباب في مسائل الاعتقاد ، وقد كنت شرحتها في كتابي ( إتحاف أهل الألباب بمعرفة التوحيد والعقيدة في سؤال وجوب ) ولكن ما طاب خاطري بهذا الشرح ، لأنه لم يعطها حقها من التفصيل والتعليل والتدليل فرأيت أن أفردها بمؤلف خاص ، لما لها من المقام الشريف ، والمكانة العالية بين أصول الأمة وقواعدها ، وهي من أهم المهمات لطالب العلم أن يتعرف عليها ويؤمن بمدلولها ، وهي فيصل النزاع بين الحق والباطل والمقبول من المردود ، وهي القاعدة التي تقول ( كل فهم يخالف فهم السلف في مسائل الاعتقاد فباطل ) وسوف أبرد قلبي في شرحها لك في وريقات يسيرة ، تجمع بين التأصيل والتفصيل ، إن شاء الله تعالى ، وسوف أسوق لها من الفروع ما تنشرح له صدور أهل الحق ، بحول الله تعالى وقوته ، فالله تعالى أسأل أن يجعلها رسالة مقبولة وخالصة لوجهه الكريم ، وأن يشرح لها الصدور ويفتح فيها الأفهام ، ويجعلها عملا صالحا متقبلا مبرورا ، ونعوذ به من الحور بعد الكور ، ومن الضلالة بعد الهدى ، كما أسأله جل وعلا أن يغفر لسلف الأمة وأئمتها ، وأن يعلي قدرهم في قلوب المتأخرين من هذه الأمة ، وأن يرفع منازلهم في جنات الفردوس الأعلى ، ويجزيهم عنا وعن الإسلام خير الجزاء ، وأن يحشرنا وإياهم في زمرة محمد صلى الله عليه وسلم ، وأنا أعلم أنني أحقر وأنقص وأصغر من أن أشرح هذا الأصل الكبير المتقرر عند أهل السنة والجماعة ، ولكنها محبتك التي جعلتني أرسم لك خطة هذا المنهج السليم ، والذي انتفعت به كثيرا ، وأحب أن تنتفع كما انتفعت ، وأن تنهل مما نهلت ، محبة لك في الله ، فدونك التفصيل بعد(1/2)
الإجمال ، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم ، وهو حسبنا ونعم الوكيل ، فيقول العبد الفقير الذليل لربه العلي الكبير القدير :- أولا نكتب لك نص القاعدة ، ولعلك تكرر ألفاظها حتى تحفظه كما تحفظ اسمك ، بل وأكثر تقول القاعدة:-
( كل فهم يخالف فهم السلف في مسائل العقيدة والعمل فباطل )
والكلام عليها في مسائل :-
((1/3)
المسألة الأولى ) في شرح أفرادها فأقول :- قوله ( كل ) هذه صيغة من صيغ العموم ، والعموم هنا مقصود ، وهي قضية كلية عامة لا يشذ عنها شيء ، وعمومها غير مخصوص ، ولا يدخله الخصوص أبدا ، بل عمومها من العموم المحفوظ ، الذي لا نرضى أن يدخله أي نوع من أنواع التخصيص ، قوله ( فهم ) الفهم هنا هو الإدراك ، وهو ما تقرر في النفس من العلوم ، قال ابن منظور في اللسان ( الفهم معرفتك الشيء بالقلب ) ويأتي بمعنى العلم بالشيء ، وتعقله ، والفقه فيه وقوله ( يخالف ) أي يناقض ويصادم ، قوله ( فهم السلف ) أي ما أدركه السلف وعرفوه وقرروه والسلف :- لفظ يطلق ويراد به معنيان :- سلف الزمان ، وسلف المعتقد ، وسلف الزمان :- هم الصحابة والتابعون وتابعوهم ، أي أهل القرون المفضلة ، والذين وردت الأحاديث المتواترة بمدحهم في قوله صلى الله عليه وسلم " خير الناس قرني ، ثم الذين يلونهم ، ثم الذين يلونهم " وهم السابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان ، من الذين رضي الله عنهم ورضوا عنه ونعني بسلف المعتقد :- أي من كان على مثل ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم وصحابته الكرام ومن تبعهم بإحسان من أهل القرون المفضلة في العقيدة والعمل ، وهم الفرقة الناجية والطائفة المنصورة ، وأهل الحديث ، وخيار الأمة قولا وعملا ، وهم الجماعة الأولى ، لا حرمنا الله بركة علومهم ولا فهمهم ولا متابعتهم في القول والعمل ، قوله ( في العقيدة ) أي في الأمور العقدية التي قرروها وجعلوها منهجا تسير الأمة عليه ، وصراطا مستقيما مستمدا من الكتاب والسنة والعقيدة:- في اللغة مأخوذة من عقد الشيء وشده وإحكامه ، وفي الاصطلاح :- هي الأمور الخبرية الغيبية التي ورد بها الدليل الشرعي الصحيح الصريح مما يجب الإيمان به ، وقوله ( والعمل ) أي الأمور العملية ، ونعني بها تلك الأمور العملية التي وقع اتفاق السلف عليها ، حتى صارت كأنها من مسائل الاعتقاد ،(1/4)
كما سترى مثاله إن شاء الله تعالى ، قوله ( فباطل ) أي لا قيمة له ، ولا اعتداد به ولا يجوز القول به ، ولا اعتقاده ، ولا الالتفات إليه ، ولا اعتباره شيئا ، وبالله التوفيق .
( المسألة الثانية ) في شرح القاعدة إجمالا ، أقول :- إن الله تعالى بعث نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم بالهدى ودين الحق ، وختم به النبيين ، وأوحى إليه بالكتاب والحكمة ، وعلمه ما لم يكن يعلم ، وكان فضل الله تعالى عليه عظيما ، فلا يزال طيلة حياته صلى الله عليه وسلم يبلغ الأمة ما أوحاه الله تعالى إليه بقوله وفعله وإقراره وتركه ، ولم يأل جهدا في الدعوة إلى منهج الله تعالى ومكث في مكة ثلاثة عشر سنة وهو يدعو إلى الله تعالى ، فكان يغشى الناس في أماكنهم وأنديتهم وصبر وصابر ، وبذل في سبيل دعوته كل شيء ، ولكنه قوبل بالتكذيب والأذى ، ووصف بالأوصاف القبيحة المستهجنة ، التي يعلم قائلوها أنه أبرأ الناس منها ، ولكنه العناد والتصلب في متابعة ما عليه الأسلاف ، وكما قال تعالى { فَإِنَّهُمْ لاَ يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللّهِ يَجْحَدُونَ } حتى أذن الله تعالى في الهجرة الأولى إلى أرض الحبشة ، ثم بالثانية ، ثم اختص الله تعالى أهل المدينة من الأوس والخزرج بالفضيلة العظمى ، والميزة الكبرى ، وهي أن أذن الله تعالى له بالهجرة إلى ديارهم ، على أن يبلغ رسالة ربه ، ويكونون له بمنزلة الدثار من الجسد ، فهاجر إليهم فأصبح للإسلام دولة يأوي إليها من آمن بالله ، وانطلقت جحافل الإيمان تفتح القلوب بالحق والهدى ، وتفتح البلاد طوعا أو كرها ، حتى دانت له الأمم ، وانطوت صفحة الشرك ، وخابت مساعي أهل الضلال والنفاق ، واستقر الحق ، وزهق الباطل ، وارتفعت راية الحق ، ودخل الناس في دين الله أفواجا ، فكان هو صلى الله عليه وسلم من فتح الله به القلوب بعد انغلاقها على الكفر ونور به البصائر بعد عشعشة الظلام فيها ، فصحح السير إلى الله(1/5)
تعالى ، وربى أصحابه على العقيدة السليمة من الشبهات ، والعمل السليم من الشهوات ، فلا شبهة ولا شهوة ، ونهل أصحابه رضي الله عنهم من معينه الصافي ، ومودره العذب الشافي الكافي ، وما مات إلا بعد أن بلغ البلاغ المبين وأتم الله تعالى به النعمة والدين ، فلما تم أمر الله تعالى ، وأظهر دينه على الدين كله ، وافته المنية ومات الميتة التي كتبها الله تعالى عليه ، ولكن دينه لم يمت ، وتعليمه والعقيدة التي جاء بها لا تزال نورا ساطعا في السماء والأرض ، وحمل الراية من بعده أصحابه رضوان الله عليهم ، فتفرقوا في البلاد دعاة ومعلمين وأئمة ، ينهل الناس من علمهم ، ويهدي الله تعالى القلوب بهم ، فكانوا شامة في جبين الدهر ، ونقطة بيضاء في تاريخ الأمة ، ما قصروا في التعليم ولا في التفقيه ولا التفهيم ونقلوا الدين كله أصوله وفروعه ، بأدلته الناصعة ، وحججه القاطعة ، وعقائده الساطعة ، ثم نهل من معينهم قوم أراد الله تعالى بهم خيرا ، وجعلهم نور الدجى وأعلام الهدى ، وهم التابعون رحمهم الله تعالى ، ولم يزل العلم ميراثا يتوارثه الآخر عن الأول ، والتابع عن من فوقه ، حتى نبغت في الأمة نابغة ، تنكبت عن الصراط المستقيم ، وخالفت المنهج القويم ، واطرحت علوم سلفها وتطلعت إلى علوم أقوام من الشرق والغرب ، فأعجبت بقواعدها المخالفة للمنقول ، وعلومها المناقضة للمعقول ، فترجمت كتبها ، ودعوا الأمة إلى الإقبال عليها ، ودراستها وتدريسها ، حتى اختلط الحق بالباطل ، وكدر صفو المشرب ، واعتمدت أصول غريبة عن أصول سلف الأمة وتشربتها القلوب حتى صار يوصف بالتخلف والرجعية من كان ملتزما بمنهج السلف وداع إليه وفضلت العلوم المنطقية الفلسفية على علوم الكتاب والسنة ، فخفي نور الحق ، وحلت الفتن بالأمة وزلزلت زلزالا شديدا ، ونودي على الأمة بالهلاك ، إلا أن الله تعالى لم يكن ليدع أمة حبيبه ومصطفاه تهلك كما هلكت الأمم قبلها ، فوعد بموعوده الحق(1/6)
أن لا تزال طائفة من الأمة على الحق منصورة لا يضرها من خذلها ولا من خالفها حتى يأتي أمر الله وهم كذلك ، فقامت هذه الطائفة القليلة بدور التصحيح والتجديد ، واهتمت برد الأمة إلى أصولها الصحيحة ، ودعت إلى تصحيح السير إلى الله تعالى بتصحيح الاعتقاد والعمل ، فأصلت الأصول ، وقعدت القواعد التي تكفل لمن دان بها واعتقد مدلولها أن يكون من أهل النجاة ، في الدنيا والآخرة ، فكان مما أصلت هذا الأصل العظيم ، وهو أن كل تقرير يخالف تقرير السلف من الصحابة والتابعين وتابعيهم بإحسان في مسائل الاعتقاد فإنه تقرير باطل ، وجعلت فهم السلف وما هم عليه فيصلا بين الحق والباطل ، فكل عقيدة لا يعرفها سلف الأمة فهي عقيدة باطلة ، وكل فهم محدث لا يعرفه السلف فهو باطل, وكل سؤال في أمر الاعتقاد لا يؤثر عن السلف فهو باطل ، وجعلوا الفهوم المخالفة لفهم السلف من جملة المحدثات المنكرة ، والبدع القبيحة ، التي تدخل في عموم قوله صلى الله عليه وسلم " من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد " متفق عليه ، ولمسلم " من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد " ولأحمد " من صنع أمرا ليس عليه أمرنا فهو رد " وبنوا دعوتهم على الكتاب والسنة وفهم سلف الأمة ، وقرروا أنه لا يمكن الانتفاع بالكتاب والسنة الانتفاع الحقيقي المثمر إلا إن أخذ عن فهم سلف الأمة ، وجعلوا من جملة البدع :- الابتداع في الفهم ، فمن فهم في مسائل العقيدة فهما يخالف فهم السلف في هذه المسألة فقد أحدث في الدين ، وابتدع ، وجعلوا متابعة السلف في مسائل العقيدة والعمل أصلا من أصولهم ، ومنهجا من أوليات مناهجهم ، وقرروا أن مسائل العقيدة قد تم تقريرها، وأكمل بنيانها ، فلا زيادة فيها ولا نقص ، وقرروا أن الأهواء تابعة للحق لا متبوعة، وقرروا أن لا مدخل للعقل الضعيف العاجز في تقرير مسائل الاعتقاد ابتداء ، ولكنه تابع للدليل وعبد له ، وقرروا أن كل إحداث في الدين فهو رد ، وأن كل بدعة في(1/7)
الدين فهي ضلالة وليست بهدى ، وأن العقيدة لا تؤخذ إلا من الكتاب والسنة على فهم سلف الأمة ، وجعلوا من جملة الأدلة التي يعرف بها بطلان القول أو العمل أنه مخالف لمنهج السلف ، فيقولون :- هذا الفهم باطل ، لأنه مخالف لفهم السلف ، فصار اتباع السلف في فهمهم أصل من أصول أهل السنة والجماعة ، يقررونه فيما كتبوه من مسائل الاعتقاد ، بل يجعلونه من أوائل الأصول ، ولذلك قال بعض أهل العلم ( لذلك كان من أهم ما يميز عقيدة أهل السنة والجماعة ما يسمى بمنهج التلقي فهم يعتمدون في تلقي الأحكام الشرعية على القرآن والسنة والإجماع والقياس ، وغيرها من الأدلة التي يذكرها كل من تكلم في علم أصول الفقه ، ويعتمدون في الفهم على فهم السلف الصالح للنصوص ) وقال بعضهم ( وأصل العمل بالسنة إنما هو بما ثبت منها على طريقة أهل الحديث لا أهل البدع ) وقال بعضهم ( منهج أهل السُّنَّة والجماعة في العقيدة: اتِّباعُ الكتاب والسُّنةَّ على فهم السلف الصالح عقيدةُ أهل السُّنَّة والجماعة مبنيَّةٌ على الدليل من كتاب الله عزَّ وجلَّ وسُنَّة رسوله وما كان عليه الصحابة الكرام رضي الله عنهم وأرضاهم ) وقال ابن القيم رحمه الله تعالى في اجتماع الجيوش الإسلامية ( وقال مالك: لا نصلي خلف المبتدع منهم، إلا أن نخافه فنصلي واختلف في الإعادة.(1/8)
ولا بأس بقتال من دافعك من الخوارج واللصوص من المسلمين، وأهل الذمة عن نفسك ومالك، والتسليم للمسلمين لا تعارض برأي ولا تدافع بقياس، وما تأوله منها السلف الصالح تأولناه، وما عملوا به عملناه، وما تركوه تركناه، ويسعنا أن نمسك عما أمسكوا، ونتبعهم فيما بينوا، ونقتدي بهم فيما استنبطوه ورأوه في الحوادث، ولا نخرج من جماعتهم فيما اختلفوا فيه وفي تأويله) وقال أيضا في الكتاب المذكور (قال مالك: قال عمر بن عبد العزيز: سنّ رسولُ اللّه صلى الله عليه وسلم وولاة الأمر من بعده سنناً الأخذ بها تصديق لكتاب الله تعالى، واستكمال لطاعته، وقوة على دين اللّه تعالى، ليس لأحد تبديلها ولا تغييرها، ولا النظر فيما خالفها، من اهتدى بها هُدي، ومن استنصر بها نُصِرَ، ومن تركها واتبع غير سبيل المؤمنين ولاّه اللَّهُ ما تولّى وأصلاه جهنم وساءت مصيراً) وقال الحاكم على تفسير الإمام أحمد رحمه الله تعالى للطائفة المنصورة أنهم أهل الحديث ، قال ( لقد أحسن أحمد بن حنبل في تفسير هذا الخبر أن الطائفة المنصورة التي يُرفع الخذلان عنهم إلى قيام الساعة هم أصحاب الحديث ، ومن أحق بهذا التأويل من قوم سلكوا محجة الصالحين واتبعوا آثار السلف من الماضين ومنعوا أهل البدع والمخالفين بسنن رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى آله أجمعين ) وقال ابن تيمية رحمه الله تعالى (ثُمَّ مِنْ طَرِيقَةِ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ اتِّبَاعُ آثَارِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَاطِنًا وَظَاهِرًا ، وَاتِّبَاعُ سَبِيلِ السَّابِقِينَ الْأَوَّلِينَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ ، وَاتِّبَاعُ وَصِيَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، حَيْثُ قَالَ : « عَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ الْمَهْدِيِّينَ مِنْ بَعْدِي ، تَمَسَّكُوا بِهَا ، وَعَضُّوا عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ ،(1/9)
وَإِيَّاكُمْ وَمُحْدَثَاتِ الْأُمُورِ ؛ فَإِنَّ كُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ » وَيَعْلَمُونَ أَنَّ أَصْدَقَ الْكَلَامِ كَلَامُ اللَّهِ وَخَيْرَ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَيُؤْثِرُونَ كَلَامَ اللَّهِ عَلَى غَيْرِهِ مِنْ كَلَامِ أَصْنَافِ النَّاسِ ، وَيُقَدِّمُونَ هَدْيَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى هَدْيِ كُلِّ أَحَدٍ) ومن المأثور في كتب أهل السنة عن أمير المؤمنين عمر بن عبدالعزيز رحمه الله تعالى أنه قال (أما بعد : فإني أوصيكم بتقوى الله ، والاقتصاد في أمره ، واتباع سنة نبيه صلى الله عليه وسلم ، وترك ما أحدث المحدثون مما قد جرت سنته ، وكفوا مؤنته ، فعليكم بلزوم السنة ، فإن السنة إنما سنها من قد عرف ما في خلافها من الخطأ والزلل ، والحمق والتعمق ، فارض لنفسك بما يرضى به القوم لأنفسهم ، فإنهم عن علم وقفوا ، وببصر نافذ كفوا ، ولهم كانوا على كشف الأمور أقوى بفضل لو كان فيه أجر فلئن قلتم: أمر حدث بعدهم ، ما أحدثه بعدهم إلا من اتبع غير سنتهم ، ورغب بنفسه عنهم, إنهم لهم السابقون ، فقد تكلموا فيه بما يكفي ، ووصفوا منه ما يشفي ، فما دونهم مقصر ، وما فوقهم محسر، لقد قصر عنهم آخرون فضلوا وإنهم بين ذلك لعلى هدى مستقيم ) وقال ابن مسعود رضي الله عنه (اتبعوا ولا تبتدعوا ؛ فقد كفيتم ) والأقوال في هذا المضمار كثيرة جدا ، سأذكرها إن شاء الله تعالى في التدليل على القاعدة ، والمهم أن تعلم أن اعتماد فهم السلف من الأصول المقررة عند أهل السنة والجماعة ، والله يتولانا وإياك .
( المسألة الثالثة ) وأما الأدلة على وجوب الاعتماد على فهم السلف لأدلة الكتاب والسنة, ولاسيما في مسائل الاعتقاد فهي كثيرة جدا ، وأذكر منها ما حضرني في هذه العجالة فأقول :-(1/10)
من الأدلة على ذلك :- قوله تعالى { وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا } قال الشيخ ابن سعدي رحمه الله تعالى (وقد استدل بهذه الآية الكريمة على أن إجماع هذه الأمة حجة وأنها معصومة من الخطأ ووجه ذلك: أن الله توعد من خالف سبيل المؤمنين بالخذلان والنار، و { سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ } مفرد مضاف يشمل سائر ما المؤمنون عليه من العقائد والأعمال, فإذا اتفقوا على إيجاب شيء أو استحبابه، أو تحريمه أو كراهته، أو إباحته فهذا سبيلهم، فمن خالفهم في شيء من ذلك بعد انعقاد إجماعهم عليه، فقد اتبع غير سبيلهم) وقال أبو العباس رحمه الله تعالى (قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا } وَقَدْ شَهِدَ اللَّهُ لِأَصْحَابِ نَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَنْ تَبِعَهُمْ بِإِحْسَانِ بِالْإِيمَانِ .(1/11)
فَعُلِمَ قَطْعًا أَنَّهُمْ الْمُرَادُ بِالْآيَةِ الْكَرِيمَةِ فَقَالَ تَعَالَى { وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ } وَقَالَ تَعَالَى { لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا } فَحَيْثُ تَقَرَّرَ أَنَّ مَنْ اتَّبَعَ غَيْرَ سَبِيلِهِمْ وَلَّاهُ اللَّهُ مَا تَوَلَّى وَأَصْلَاهُ جَهَنَّمَ, فَمَنْ سَبِيلُهُمْ فِي الِاعْتِقَادِ : ( الْإِيمَانُ بِصِفَاتِ اللَّهِ تَعَالَى وَأَسْمَائِهِ ) الَّتِي وَصَفَ بِهَا نَفْسَهُ وَسَمَّى بِهَا نَفْسَهُ فِي كِتَابِهِ وَتَنْزِيلِهِ أَوْ عَلَى لِسَانِ رَسُولِهِ مِنْ غَيْرِ زِيَادَةٍ عَلَيْهَا وَلَا نَقْصٍ مِنْهَا وَلَا تَجَاوُزٍ لَهَا وَلَا تَفْسِيرٍ لَهَا وَلَا تَأْوِيلٍ لَهَا بِمَا يُخَالِفُ ظَاهِرَهَا وَلَا تَشْبِيهٍ لَهَا بِصِفَاتِ الْمَخْلُوقِينَ ؛ وَلَا سِمَاتِ المحدثين بَلْ أَمَرُوهَا كَمَا جَاءَتْ وَرَدُّوا عِلْمَهَا إلَى قَائِلِهَا ؛ وَمَعْنَاهَا إلَى الْمُتَكَلِّمِ بِهَا ) فانظر كيف جعل المراد بالآية الصحابة رضوان الله عليهم ، وقال رحمه الله تعالى ( وَكَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى { وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ } فَإِنَّهُمَا مُتَلَازِمَانِ ؛ فَكُلُّ مَنْ شَاقَّ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى فَقَدْ اتَّبَعَ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ وَكُلُّ مَنْ اتَّبَعَ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ(1/12)
فَقَدْ شَاقَّ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى . فَإِنْ كَانَ يَظُنُّ أَنَّهُ مُتَّبِعٌ سَبِيلَ الْمُؤْمِنِينَ وَهُوَ مُخْطِئٌ ؛ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ مَنْ ظَنَّ أَنَّهُ مُتَّبِعٌ لِلرَّسُولِ وَهُوَ مُخْطِئٌ . وَهَذِهِ " الْآيَةُ " تَدُلُّ عَلَى أَنَّ إجْمَاعَ الْمُؤْمِنِينَ حُجَّةٌ مِنْ جِهَةِ أَنَّ مُخَالَفَتَهُمْ مُسْتَلْزِمَةٌ لِمُخَالَفَةِ الرَّسُولِ وَأَنَّ كُلَّ مَا أَجْمَعُوا عَلَيْهِ فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ فِيهِ نَصٌّ عَنْ الرَّسُولِ ؛ فَكُلُّ مَسْأَلَةٍ يُقْطَعُ فِيهَا بِالْإِجْمَاعِ وَبِانْتِفَاءِ الْمُنَازِعِ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ ؛ فَإِنَّهَا مِمَّا بَيَّنَ اللَّهُ فِيهِ الْهُدَى ) ومن المعلوم لدى أهل العلم أن جمهور مسائل الاعتقاد مما هو متفق عليه بين أهل السنة رحمهم الله تعالى ، وقد استدل عمر بن عبدالعزيز رحمه الله تعالى بهذه الآية على وجوب اتباع سبيل أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم ، وقد استدل الجمع الكثير الغفير من أهل السنة رحمهم الله تعالى على بطلان كثير من المعتقدات والأقوال والأعمال بأنها مخالفة لسبيل المؤمنين والذين هم الصحابة في المقام الأول ، والتابعون وتابعوهم بإحسان ، مما يفيد أن أهل العلم متفقون إن شاء الله تعالى على أن الآية يراد بها السلف الأوائل, وأزيد الأمر إيضاحا فأقول :- لقد تقرر في الأصول أن ذم الفعل يستفاد منه التحريم ، وتقرر أن الوعيد على الفعل يستفاد منه التحريم ، فلما توعد الله تعالى مخالف سبيل المؤمنين بالنار ، أفاد ذلك أن متابعة سبيلهم من الواجبات المتحتمات لأن المتقرر أن النهي عن الشيء أمر بضده من جهة المعنى ، والنهي عن مخالفة سبيلهم يتضمن الأمر باتباع سبيلهم ، واتباعهم يكون باعتماد ما اعتمدوه وأجمعوا عليه من القول والعمل ، ومن المعلوم أن الأقوال والأعمال إنما تصدر عن فهم ، ومتابعتهم في أقوالهم واعتقاداتهم يتضمن(1/13)
متابعتهم في فهمهم ، لأن من خالفهم في الفهم فلزاما أن يخالفهم في القول والعمل ، وهذا واضح ، فإنه ما خولف السلف في شيء إلا ممن خالفهم أصلا في الفهم ، فالبدع التي نراها والمعتقدات التي انتحلها أهل البدع إنما هي أثر من آثار مخالفة السلف في الفهم ، فصار الاتفاق في الفهم سبيلا للاتفاق في القول والعمل .
ومن الأدلة أيضا :- قوله تعالى { وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ اللّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ... الآية } وهذا المدح يتضمن صحة ما كانوا عليه من العقيدة والعمل ، وهذه الصحة مستمدة من صحة التأصيل والفهم ، فمن أراد أن يكون له حظ من هذا المدح والثناء فليتفق معهم في فهمهم المفضي إلى صحة الاعتقاد والعمل ، ودل ذلك على أن من خالفهم فإنه الممقوت الضال المغضوب عليه ، والمخالفة في العمل فرع عن المخالفة في الفهم ، فدل ذلك على صحة فهمهم الذي أثمر لهم صحة الاعتقاد والعمل ، وحيث كان فهمهم هو الفهم الصحيح ، فهو الفهم الذي يجب حينئذ اتباعه ، لأن خلاف الحق باطل ، كما قال تعالى { فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلاَّ الضَّلاَلُ } ففهمهم هو الحق ، وما عداه هو الضلال ، والضلال لا يجوز اتباعه ، فأفاد ذلك أن فهمهم حجة على من بعدهم في مسائل العقيدة والعمل ، وهو المطلوب .(1/14)
ومن الأدلة أيضا :- قوله تعالى { كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللّهِ } وهذه الخيرية دليل على صحة ما كان عليه صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم من العقيدة والعمل ، وهي نابعة من سلامة الفهم عن الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم ، والآية خطاب للصحابة في المقام الأول ، فهم سلف الأمة ، فحيث كانوا هم خير أمة أخرجت للناس فهذا تنبيه على وجوب الأخذ بما كانوا عليه من الفهم والتأصيل المثمر لسلامة العقيدة وصحة العمل .
ومن الأدلة :- قوله تعالى { وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا ... الآية } والوسط هم الخيار العدول والخطاب للصحابة في أول التنزيل ، وهذا تنبيه لمن يأتي بعدهم أنه لا خيرية له ولا عدالة إلا في اقتفاء آثارهم والسير على منهاجهم واعتماد ما اعتمدوه من العقيدة والعمل ، فالخيرية والعدالة إنما تكون بحسب ما في العبد من الاتباع لهم ، فأكملنا اتباعا أكملنا خيرية وعدالة ، فالخيرية والعدالة مربوطة باتباع سلف الأمة من الصحابة ومن سار على منهاجهم من التابعين وتابعيهم .(1/15)
ومن الأدلة :- الآيات التي فيها مدح لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأن الله تعالى رضي عنهم ورضوا عنه ، كقوله تعالى { مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا ...الآية } وكقوله تعالى { لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا } وكقوله تعالى { وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ اللّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ } ونحو هذه الآيات التي فيها تسطير الرضا وأنهم كانوا على الهدى ، وفيها أعظم المدح والثناء ، وهذا كله تنبيه للأمة على صحة مسلكهم ، ووضوح حجتهم ، والأمر باتباع آثارهم ، وأن فهمهم هو الفهم الصحيح ، وما سواه مما عارضه فهو فهم سقيم عاطل ورأي باطل ، لأن هذا المدح والثناء دليل على أن ما كانوا عليه من العقيدة والعمل هو الحق ، وماذا بعد الحق إلا الضلال ، فمن كان على مثل ما كانوا عليه من العلم والهدى ودين الحق فقد فاز وأفلح ودخل في هذا الثناء العاطر ومن خالف فهو الشقي الخاسر ، وهذا واضح .
ومن الأدلة أيضا :- قوله تعالى { وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ } وكل من الصحابة منيب إلى الله تعالى فيجب اتباع سبيله ، وأقواله واعتقاداته من أكبر سبيله، والدليل على أنهم منيبون إلى الله تعالى قوله تعالى { وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَن يُنِيبُ } والصحابة أكمل الأمة هداية ، فلا كان ولا يكون بعدهم أحد مثلهم .(1/16)
ومن الأدلة :- قَوْله تَعَالَى { قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنْ اتَّبَعَنِي } فَأَخْبَرَ تَعَالَى أَنَّ مَنْ اتَّبَعَ الرَّسُولَ يَدْعُو إلَى اللَّهِ ، وَمَنْ دَعَا إلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ وَجَبَ اتِّبَاعُهُ ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى فِيمَا حَكَاهُ عَنْ الْجِنِّ وَرَضِيَهُ { يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ } وَلِأَنَّ مَنْ دَعَا إلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ فَقَدْ دَعَا إلَى الْحَقِّ عَالِمًا بِهِ ، وَالدُّعَاءُ إلَى أَحْكَامِ اللَّهِ دُعَاءٌ إلَى اللَّهِ ؛ لِأَنَّهُ دُعَاءٌ إلَى طَاعَتِهِ فِيمَا أَمَرَ وَنَهَى ، وَإِذًا فَالصَّحَابَةُ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ قَدْ اتَّبَعُوا الرَّسُولَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَيَجِبُ اتِّبَاعُهُمْ إذَا دَعَوْا إلَى اللَّهِ. قاله ابن القيم .(1/17)
ومن الأدلة أيضا :- قَوْله تَعَالَى { قُلْ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلَامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى } قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ فِي رِوَايَةِ أَبِي مَالِكٍ : هُمْ أَصْحَابُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ قَوْله تَعَالَى { ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا } وَحَقِيقَةُ الِاصْطِفَاءِ : افْتِعَالٌ مِنْ التَّصْفِيَةِ ، فَيَكُونُ قَدْ صَفَّاهُمْ مِنْ الْأَكْدَارِ ، وَالْخَطَأُ مِنْ الْأَكْدَارِ ، فَيَكُونُونَ مُصَفَّيْنِ مِنْهُ ، وَلَا يُنْتَقَضُ هَذَا بِمَا إذَا اخْتَلَفُوا لِأَنَّ الْحَقَّ لَمْ يَعْدُهُمْ ، فَلَا يَكُونُ قَوْلُ بَعْضِهِمْ كَدَرًا ؛ لِأَنَّ مُخَالَفَتَهُ الْكَدَرَ ، وَبَيَانَهُ يُزِيلُ كَوْنَهُ كَدَرًا بِخِلَافِ مَا إذَا قَالَ بَعْضُهُمْ قَوْلًا وَلَا يُخَالِفُ فِيهِ فَلَوْ كَانَ قَوْلًا بَاطِلًا ، وَلَمْ يَرُدَّهُ رَادٌّ لَكَانَ حَقِيقَةَ الْكَدَرِ ، وَهَذَا لِأَنَّ خِلَافَ بَعْضِهِمْ لِبَعْضٍ بِمَنْزِلَةِ مُتَابَعَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي بَعْضِ أُمُورِهِ فَإِنَّهَا لَا تُخْرِجُهُ عَنْ حَقِيقَةِ الِاصْطِفَاءِ ، قاله ابن القيم .(1/18)
ومن الأدلة أيضا :- أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى شَهِدَ لَهُمْ بِأَنَّهُمْ أُوتُوا الْعِلْمَ بِقَوْلِهِ { وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنْزِلَ إلَيْك مِنْ رَبِّك هُوَ الْحَقَّ } وَقَوْلِهِ { حَتَّى إذَا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِك قَالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مَاذَا قَالَ آنِفًا } وَقَوْلِهِ { يَرْفَعُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَاَلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ } وَاللَّامُ فِي { الْعِلْمِ } لَيْسَتْ لِلِاسْتِغْرَاقِ ، وَإِنَّمَا هِيَ لِلْعَهْدِ ، أَيْ الْعِلْمِ الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ بِهِ نَبِيَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَإِذَا كَانُوا أُوتُوا هَذَا الْعِلْمَ كَانَ اتِّبَاعُهُمْ وَاجِبًا، قاله ابن القيم.(1/19)
ومن الأدلة :- قَوْله تَعَالَى { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ } قَالَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ السَّلَفِ : هُمْ أَصْحَابُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَلَا رَيْبَ أَنَّهُمْ أَئِمَّةُ الصَّادِقِينَ ، وَكُلُّ صَادِقٍ بَعْدَهُمْ فِيهِمْ يَأْتَمُّ فِي صِدْقِهِ ، بَلْ حَقِيقَةُ صِدْقِهِ اتِّبَاعُهُ لَهُمْ وَكَوْنُهُ مَعَهُمْ ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ مَنْ خَالَفَهُمْ فِي شَيْءٍ وَإِنْ وَافَقَهُمْ فِي غَيْرِهِ لَمْ يَكُنْ مَعَهُمْ فِيمَا خَالَفَهُمْ فِيهِ ، وَحِينَئِذٍ فَيَصْدُقُ عَلَيْهِ أَنَّهُ لَيْسَ مَعَهُمْ ، فَتَنْتَفِي عَنْهُ الْمَعِيَّةُ الْمُطْلَقَةُ ، وَإِنْ ثَبَتَ لَهُ قِسْطٌ مِنْ الْمَعِيَّةِ وَفِيمَا وَافَقَهُمْ فِيهِ ، فَلَا يَصْدُقُ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَعَهُمْ بِهَذَا الْقِسْطِ ، وَهَذَا كَمَا نَفَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ الْإِيمَانَ الْمُطْلَقَ عَنْ الزَّانِي وَالشَّارِبِ وَالسَّارِقِ وَالْمُنْتَهِبِ بِحَيْثُ لَا يَسْتَحِقُّ اسْمَ الْمُؤْمِنِ ، وَإِنْ لَمْ يَنْتَفِ عَنْهُ مُطْلَقُ الِاسْمِ الَّذِي يَسْتَحِقُّ لِأَجْلِهِ أَنْ يُقَالَ : مَعَهُ شَيْءٌ مِنْ الْإِيمَانِ ، وَهَذَا كَمَا أَنَّ اسْمَ الْفَقِيهِ وَالْعَالِمِ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ لَا يُقَالُ لِمَنْ مَعَهُ مَسْأَلَةٌ أَوْ مَسْأَلَتَانِ مِنْ فِقْهٍ وَعِلْمٍ ، وَإِنْ قِيلَ : مَعَهُ شَيْءٌ مِنْ الْعِلْمِ ، فَفَرْقٌ بَيْنَ الْمَعِيَّةِ الْمُطْلَقَةِ وَمُطْلَقِ الْمَعِيَّةِ ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْمَأْمُورَ بِهِ الْأَوَّلُ لَا الثَّانِي ، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يُرِدْ مِنَّا أَنْ نَكُونَ مَعَهُمْ فِي شَيْءٍ مِنْ الْأَشْيَاءِ ، وَأَنْ نُحَصِّلَ مِنْ الْمَعِيَّةِ مَا يُطْلَقُ عَلَيْهِ الِاسْمُ ، وَهَذَا غَلَطٌ عَظِيمٌ فِي فَهْمِ مُرَادِ الرَّبِّ تَعَالَى مِنْ(1/20)
أَوَامِرِهِ ؛ فَإِذَا أَمَرَنَا بِالتَّقْوَى وَالْبِرِّ وَالصِّدْقِ وَالْعِفَّةِ وَالْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ وَالْجِهَادِ وَنَحْوِ ذَلِكَ لَمْ يُرِدْ مِنَّا أَنْ نَأْتِيَ مِنْ ذَلِكَ بِأَقَلَّ مَا يُطْلَقُ عَلَيْهِ الِاسْمُ ، وَهُوَ مُطْلَقُ الْمَاهِيَّةِ الْمَأْمُورُ بِهَا بِحَيْثُ نَكُونُ مُمْتَثِلِينَ لِأَمْرِهِ إذَا أَتَيْنَا بِذَلِكَ ، وَتَمَامُ تَقْرِيرِ هَذَا الْوَجْهِ بِمَا تَقَدَّمَ فِي تَقْرِيرِ الْأَمْرِ بِمُتَابَعَتِهِمْ سَوَاءٌ، قاله ابن القيم .(1/21)
ومن الأدلة أيضا :- قَوْله تَعَالَى { وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمْ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ } فَأَخْبَرَ تَعَالَى أَنَّهُ اجْتَبَاهُمْ ، وَالِاجْتِبَاءُ كَالِاصْطِفَاءِ ، وَهُوَ افْتِعَالٌ مِنْ " اجْتَبَى الشَّيْءَ يَجْتَبِيه " إذَا ضَمَّهُ إلَيْهِ وَحَازَهُ إلَى نَفْسِهِ ، فَهُمْ الْمُجْتَبُونَ الَّذِينَ اجْتَبَاهُمْ اللَّهُ إلَيْهِ وَجَعَلَهُمْ أَهْلَهُ وَخَاصَّتَهُ وَصَفْوَتَهُ مِنْ خَلْقِهِ بَعْدَ النَّبِيِّينَ وَالْمُرْسَلِينَ ، وَلِهَذَا أَمَرَهُمْ تَعَالَى أَنْ يُجَاهِدُوا فِيهِ حَقَّ جِهَادِهِ ، فَيَبْذُلُوا لَهُ أَنْفُسَهُمْ ، وَيُفْرِدُوهُ بِالْمَحَبَّةِ وَالْعُبُودِيَّةِ ، وَيَخْتَارُوهُ وَحْدَهُ إلَهًا مَعْبُودًا مَحْبُوبًا عَلَى كُلِّ مَا سِوَاهُ كَمَا اخْتَارَهُمْ عَلَى مَنْ سِوَاهُمْ ، فَيَتَّخِذُونَهُ وَحْدَهُ إلَهَهُمْ ، وَمَعْبُودَهُمْ الَّذِي يَتَقَرَّبُونَ إلَيْهِ بِأَلْسِنَتِهِمْ وَجَوَارِحِهِمْ وَقُلُوبِهِمْ وَمَحَبَّتِهِمْ ، وَإِرَادَتِهِمْ ، فَيُؤْثِرُونَهُ فِي كُلِّ حَالٍ عَلَى مَنْ سِوَاهُ ، كَمَا اتَّخَذَهُمْ عَبِيدَهُ ، وَأَوْلِيَاءَهُ ، وَأَحِبَّاءَهُ وَآثَرَهُمْ بِذَلِكَ عَلَى مَنْ سِوَاهُمْ ، ثُمَّ أَخْبَرَهُمْ تَعَالَى أَنْ يَسَّرَ عَلَيْهِمْ دِينَهُ غَايَةَ التَّيْسِيرِ ، وَلَمْ يَجْعَلْ عَلَيْهِمْ فِيهِ مِنْ حَرَجٍ أَلْبَتَّةَ لِكَمَالِ مَحَبَّتِهِ لَهُمْ وَرَأْفَتِهِ وَرَحْمَتِهِ وَحَنَانِهِ بِهِمْ ، ثُمَّ أَمَرَهُمْ بِلُزُومِ مِلَّةَ إمَامِ الْحُنَفَاءِ أَبِيهِمْ إبْرَاهِيمَ ، وَهِيَ إفْرَادُهُ تَعَالَى وَحْدَهُ(1/22)
بِالْعُبُودِيَّةِ وَالتَّعْظِيمِ وَالْحُبِّ وَالْخَوْفِ وَالرَّجَاءِ وَالتَّوَكُّلِ وَالْإِنَابَةِ وَالتَّفْوِيضِ وَالِاسْتِسْلَامِ فَيَكُونُ تَعَلُّقُ ذَلِكَ مِنْ قُلُوبِهِمْ بِهِ وَحْدَهُ لَا بِغَيْرِهِ ، ثُمَّ أَخْبَرَ تَعَالَى أَنَّهُ نَوَّهَ بِهِمْ وَسَمَّاهُمْ كَذَلِكَ بَعْدَ أَنْ أَوْجَدَهُمْ اعْتِنَاءً بِهِمْ وَرِفْعَةً لِشَأْنِهِمْ ، وَإِعْلَاءً لِقَدْرِهِمْ ، ثُمَّ أَخْبَرَ تَعَالَى أَنَّهُ فَعَلَ ذَلِكَ لِيُشْهِدَ عَلَيْهِمْ رَسُولُهُ وَيَشْهَدُوا هُمْ عَلَى النَّاسِ ؛ فَيَكُونُونَ مَشْهُودًا لَهُمْ بِشَهَادَةِ الرَّسُولِ شَاهِدِينَ عَلَى الْأُمَمِ بِقِيَامِ حُجَّةِ اللَّهِ عَلَيْهِمْ ، فَكَانَ هَذَا التَّنْوِيهُ ، وَإِشَارَةُ الذِّكْرِ لِهَذَيْنِ الْأَمْرَيْنِ الْجَلِيلَيْنِ وَلِهَاتَيْنِ الْحِكْمَتَيْنِ الْعَظِيمَتَيْنِ ، وَالْمَقْصُودُ أَنَّهُمْ إذَا كَانُوا بِهَذِهِ الْمَنْزِلَةِ عِنْدَهُ تَعَالَى فَمِنْ الْمُحَالِ أَنْ يَحْرِمَهُمْ كُلَّهُمْ الصَّوَابَ فِي مَسْأَلَةٍ فَيُفْتِي فِيهَا بَعْضُهُمْ بِالْخَطَأِ ، وَلَا يُفْتِي فِيهَا غَيْرُهُ بِالصَّوَابِ ، وَيَظْفَرُ فِيهَا بِالْهُدَى مِنْ بَعْدِهِمْ ، وَاَللَّهُ الْمُسْتَعَانُ ، قاله ابن القيم .(1/23)
ومن الأدلة أيضا :- قَوْله تَعَالَى { وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاَللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ } وَوَجْهُ الِاسْتِدْلَالِ بِالْآيَةِ أَنَّهُ تَعَالَى أَخْبَرَ عَنْ الْمُعْتَصِمِينَ بِهِ بِأَنَّهُمْ قَدْ هُدُوا إلَى الْحَقِّ ؛ فَنَقُولُ : الصَّحَابَةُ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ مُعْتَصِمُونَ بِاَللَّهِ فَهُمْ مُهْتَدُونَ ، فَاتِّبَاعُهُمْ وَاجِبٌ ، أَمَّا الْمُقَدِّمَةُ الْأُولَى فَتَقْرِيرُهَا مِنْ وُجُوهٍ ، أَحَدُهَا : قَوْله تَعَالَى { وَاعْتَصِمُوا بِاَللَّهِ هُوَ مَوْلَاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ } وَمَعْلُومٌ كَمَالُ تَوَلِّي اللَّهِ تَعَالَى لَهُمْ وَنَصْرُهُ إيَّاهُمْ أَتَمَّ نُصْرَةٍ ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ اعْتَصِمُوا بِهِ أَتَمَّ اعْتِصَامٍ فَهُمْ مَهْدِيُّونَ بِشَهَادَةِ الرَّبِّ لَهُمْ بِلَا شَكٍّ ، وَاتِّبَاعُ الْمَهْدِيِّ وَاجِبٌ شَرْعًا وَعَقْلًا وَفِطْرَةً بِلَا شَكٍّ . قاله ابن القيم .(1/24)
ومن الأدلة : - قَوْله تَعَالَى عَنْ أَصْحَابِ مُوسَى { وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ } فَأَخْبَرَ تَعَالَى أَنَّهُ جَعَلَهُمْ أَئِمَّةً يَأْتَمُّ بِهِمْ مَنْ بَعْدَهُمْ لِصَبْرِهِمْ وَيَقِينِهِمْ ؛ إذْ بِالصَّبْرِ وَالْيَقِينِ تُنَالُ الْإِمَامَةُ فِي الدِّينِ فَإِنَّ الدَّاعِيَ إلَى اللَّهِ تَعَالَى لَا يَتِمُّ لَهُ أَمْرُهُ إلَّا بِيَقِينِهِ لِلْحَقِّ الَّذِي يَدْعُو إلَيْهِ وَبَصِيرَتِهِ بِهِ وَصَبْرِهِ عَلَى تَنْفِيذِ الدَّعْوَةِ إلَى اللَّهِ بِاحْتِمَالِ مَشَاقِّ الدَّعْوَةِ وَكَفِّ النَّفْسِ عَمَّا يُوهِنُ عَزْمَهُ وَيُضْعِفُ إرَادَتَهُ ، فَمَنْ كَانَ بِهَذِهِ الْمَثَابَةِ كَانَ مِنْ الْأَئِمَّةِ الَّذِينَ يَهْدُونَ بِأَمْرِهِ تَعَالَى وَمِنْ الْمَعْلُومِ أَنَّ أَصْحَابَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَحَقُّ ، وَأَوْلَى بِهَذَا الْوَصْفِ مِنْ أَصْحَابِ مُوسَى فَهُمْ أَكْمَلُ يَقِينًا ، وَأَعْظَمُ صَبْرًا مِنْ جَمِيعِ الْأُمَمِ ، فَهُمْ أَوْلَى بِمَنْصِبِ هَذِهِ الْإِمَامَةِ ، وَهَذَا أَمْرٌ ثَابِتٌ بِلَا شَكٍّ بِشَهَادَةِ اللَّهِ لَهُمْ وَثَنَائِهِ عَلَيْهِمْ ، وَشَهَادَةِ الرَّسُولِ لَهُمْ بِأَنَّهُمْ خَيْرُ الْقُرُونِ ، وَأَنَّهُمْ خِيرَةُ اللَّهِ وَصَفْوَتُهُ ، وَمِنْ الْمُحَالِ عَلَى مَنْ هَذَا شَأْنُهُمْ أَنْ يُخْطِئُوا كُلُّهُمْ الْحَقَّ ، وَيَظْفَرَ بِهِ الْمُتَأَخِّرُونَ ، وَلَوْ كَانَ هَذَا مُمْكِنًا لَانْقَلَبَتْ الْحَقَائِقُ ، وَكَانَ الْمُتَأَخِّرُونَ أَئِمَّةً لَهُمْ يَجِبُ عَلَيْهِمْ الرُّجُوعُ إلَى فَتَاوِيهِمْ وَأَقْوَالِهِمْ ، وَهَذَا كَمَا أَنَّهُ مُحَالٌ حِسًّا وَعَقْلًا فَهُوَ مُحَالٌ شَرْعًا ، وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ ، قاله ابن القيم .(1/25)
ومن الأدلة أيضا :- ما رواه البخاري في صحيحه قال :- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ كَثِيرٍ أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ عَنْ مَنْصُورٍ عَنْ إِبْرَاهِيمَ عَنْ عَبِيدَةَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ - رضى الله عنه - عَنِ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ « خَيْرُ النَّاسِ قَرْنِى ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ ، ثُمَّ يَجِىءُ أَقْوَامٌ تَسْبِقُ شَهَادَةُ أَحَدِهِمْ يَمِينَهُ ، وَيَمِينُهُ شَهَادَتَهُ » وهذه الخيرية خيرية الاعتقاد والعمل ، وهي نابعة من خيرية الفهم والتأصيل ، فأفاد ذلك أنهم خير الأمة فهما ، وأزكاها علما ، وأعمقها تأصيلا ، وهذا ينتج أن من بعدهم يجب أن يكون على ما كانوا عليه من العلم والعمل ، وإلا فما هو إلا الضلال والتيه .(1/26)
قال ابن القيم (فَأَخْبَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ خَيْرَ الْقُرُونِ قَرْنَهُ مُطْلَقًا ، وَذَلِكَ يَقْتَضِي تَقْدِيمَهُمْ فِي كُلِّ بَابٍ مِنْ أَبْوَابِ الْخَيْرِ ، إلَّا لَوْ كَانُوا خَيْرًا مِنْ بَعْضِ الْوُجُوهِ ، فَلَا يَكُونُونَ خَيْرَ الْقُرُونِ مُطْلَقًا فَلَوْ جَازَ أَنْ يُخْطِئَ الرَّجُلُ مِنْهُمْ فِي حُكْمٍ وَسَائِرُهُمْ لَمْ يُفْتُوا بِالصَّوَابِ - وَإِنَّمَا ظَفَرَ بِالصَّوَابِ مَنْ بَعْدَهُمْ ، وَأَخْطَئُوا هُمْ - لَزِمَ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ الْقَرْنُ خَيْرًا مِنْهُمْ مِنْ ذَلِكَ الْوَجْهِ ؛ لِأَنَّ الْقَرْنَ الْمُشْتَمِلَ عَلَى الصَّوَابِ خَيْرٌ مِنْ الْقَرْنِ الْمُشْتَمِلِ عَلَى الْخَطَأِ فِي ذَلِكَ الْفَنِّ ، ثُمَّ هَذَا يَتَعَدَّدُ فِي مَسَائِلَ عَدِيدَةٍ لِأَنَّ مَنْ يَقُولُ " قَوْلُ الصَّحَابِيِّ لَيْسَ بِحُجَّةٍ " يَجُوزُ عِنْدَهُ أَنْ يَكُونَ مَنْ بَعْدَهُمْ أَصَابَ فِي كُلِّ مَسْأَلَةٍ قَالَ فِيهَا الصَّحَابِيُّ قَوْلًا ، وَلَمْ يُخَالِفْهُ صَحَابِيٌّ آخَرُ ، وَفَاتَ هَذَا الصَّوَابُ الصَّحَابَةَ ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ هَذَا يَأْتِي فِي مَسَائِلَ كَثِيرَةٍ تَفُوقُ الْعَدَّ وَالْإِحْصَاءَ ، فَكَيْفَ يَكُونُونَ خَيْرًا مِمَّنْ بَعْدَهُمْ وَقَدْ امْتَازَ الْقَرْنُ الَّذِي بَعْدَهُمْ بِالصَّوَابِ فِيمَا يَفُوقُ الْعَدَّ وَالْإِحْصَاءَ مِمَّا أَخْطَئُوا فِيهِ ؟ وَمَعْلُومٌ أَنَّ فَضِيلَةَ الْعِلْمِ وَمَعْرِفَةَ الصَّوَابِ أَكْمَلُ الْفَضَائِلِ ، وَأَشْرَفُهَا ، فَيَا سُبْحَانَ اللَّهِ ، أَيُّ وَصْمَةٍ أَعْظَمُ مِنْ أَنْ يَكُونَ الصِّدِّيقُ أَوْ الْفَارُوقُ أَوْ عُثْمَانُ أَوْ عَلِيٌّ أَوْ ابْنُ مَسْعُودٍ أَوْ سَلْمَانُ الْفَارِسِيُّ أَوْ عُبَادَةُ بْنُ الصَّامِتِ وَأَضْرَابُهُمْ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ قَدْ أَخْبَرَ عَنْ حُكْمِ(1/27)
اللَّهِ أَنَّهُ كَيْتَ وَكَيْتَ فِي مَسَائِلَ كَثِيرَةٍ ، وَأَخْطَأَ فِي ذَلِكَ ، وَلَمْ يَشْتَمِلْ قَرْنُهُمْ عَلَى نَاطِقٍ بِالصَّوَابِ فِي تِلْكَ الْمَسَائِلِ حَتَّى تَبِعَ مَنْ بَعْدَهُمْ فَعَرَفُوا حُكْمَ اللَّهِ الَّذِي جَهِلَهُ أُولَئِكَ السَّادَةُ ، وَأَصَابُوا الْحَقَّ الَّذِي أَخْطَأَهُ أُولَئِكَ الْأَئِمَّةُ ؟ سُبْحَانَك هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ )
ومن الأدلة :- حديث العرباض بن سارية ،رضي الله تعالى عنه قال : وعظنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم موعظة وجلت منها القلوب وذرفت منها العيون فقلنا : يا رسول الله كأنها موعظة مودع فأوصنا قال (( أوصيكم بتقوى الله عز وجل والسمع والطاعة وإن تأمر عليكم عبد فإنه من يعش منكم فسيري اختلافا كثيرا فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين عضوا عليها بالنواجذ وإياكم ومحدثات الأمور فإن كل بدعة ضلالة )) رواه أبو داود والترمذي وقال : حديث حسن صحيح ، وهذا أمر باتباع سبيل الخلفاء الراشدين والأخذ بما هم عليه من العقيدة والعمل والفهم ، وهو أمر وقد تقرر في الأصول :- أن الأمر المطلق عن القرينة يفيد الوجوب ، ففهمهم حجة ، والحجة لا يجوز مخالفتها .(1/28)
ومن الأدلة :- قوله صلى الله عليه وسلم "النجومُ أَمنةٌ للسماءِ، فإذا ذهبتِ النجوُمِ، أَتى السماءَ ما تُوعدُ، وأَنا أَمَنةٌ لأَصْحَابى. فإذا ذهبتُ أَتَى أَصْحَابِى ما يُوعدونَ، وأَصْحَابى أَمنةٌ لأُمَّتِى، فإِذا ذهب أصحابى أتى أُمِتى ما يُوعَدُون" فأفاد هذا أن الفهم الذي سار عليه سلف الأمة هو الفهم الحق ، وأنه متى ما غاب هذا الفهم عن الأمة فإنه سيأتيها ما توعد من الفتن والقلاقل والزوابع ، فلا تزال الأمة بخير ما تمسكت بفهم سلفها الصالح من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم ، وهذا يفيدك أن الاعتصام والتمسك بهديهم في الفهم والتأصيل والهدى أمان من الهلاك وأمان من الضلالة والتيه وأن من دعا الأمة إلى نبذ ما كان عليه السلف الصالح فإنه ساع في هلاك الأمة بقوله هذا وسيكون حجيجه يوم القيامة نبي هذه الأمة صلى الله عليه وسلم .قال ابن القيم رحمه الله تعالى (وَوَجْهُ الِاسْتِدْلَالِ بِالْحَدِيثِ أَنَّهُ جَعَلَ نِسْبَةَ أَصْحَابِهِ إلَى مَنْ بَعْدَهُمْ كَنِسْبَتِهِ إلَى أَصْحَابِهِ ، وَكَنِسْبَةِ النُّجُومِ إلَى السَّمَاءِ ، وَمِنْ الْمَعْلُومِ أَنَّ هَذَا التَّشْبِيهَ يُعْطِي مِنْ وُجُوبِ اهْتِدَاءِ الْأُمَّةِ بِهِمْ مَا هُوَ نَظِيرُ اهْتِدَائِهِمْ بِنَبِيِّهِمْ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَنَظِيرُ اهْتِدَاءِ أَهْلِ الْأَرْضِ بِالنُّجُومِ ، وَأَيْضًا فَإِنَّهُ جَعَلَ بَقَاءَهُمْ بَيْنَ الْأُمَّةِ أَمَنَةً لَهُمْ ، وَحِرْزًا مِنْ الشَّرِّ وَأَسْبَابِهِ ، فَلَوْ جَازَ أَنْ يُخْطِئُوا فِيمَا أَفْتَوْا بِهِ وَيَظْفَرَ بِهِ مَنْ بَعْدَهُمْ لَكَانَ الظَّافِرُونَ بِالْحَقِّ أَمَنَةً لِلصَّحَابَةِ وَحِرْزًا لَهُمْ ، وَهَذَا مِنْ الْمُحَالِ )(1/29)
ومن الأدلة أيضا :- قوله صلى الله عليه وسلم "إن الله اختار أصحابى على العالمين، سوى النبيين والمرسلين، واختار لي من أصحابي أربعة أبا بكر، وعمر وعثمان، وعلياً رضي الله عنهم فجعلهم أصحابي قال في أصحابي كلهم خير، وأختار أمتي على الأمم، وأختار من أمتي أربعة قرون، القرن الأول والثاني والثالث، والرابع" رواه البزار ورجاله ثقات ، وهذه الخيرية والاختيار الرباني يفيدك أن ما هم عليه من الفهم أصح وأحق أن يتبع من فهم غيرهم المخالف لهم . ويؤكد ابن مسعود رضي الله عنه ما سبق من الآية والحديث قائلاً : "إن الله نظر في قلوب العباد، فوجد قلب محمد صلى الله عليه وسلم خير قلوب العباد، فاصطفاه لنفسه وابتعثه برسالته، ثم نظر في قلوب العباد بعد قلب محمد فوجد قلوب أصحابه خير قلوب العباد، فجعلهم وزراء نبيه صلى الله عليه وسلم يقاتلون عن دينه "
ومن الأدلة أيضا :- عَنْ أَبِي سَعِيدٍ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (( لَا تَسُبُّوا أَصْحَابِي فَلَوْ أَنَّ أَحَدَكُمْ أَنْفَقَ مِثْلَ أُحُدٍ ذَهَبًا مَا بَلَغَ مُدَّ أَحَدِهِمْ وَلَا نَصِيفَهُ )) وَفِي لَفْظٍ (( فَوَاَلَّذِي نَفْسِي بِيَدِه )) وَهَذَا خِطَابٌ مِنْهُ لِخَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ وَلِأَقْرَانِهِ مِنْ مُسْلِمَةِ الْحُدَيْبِيَةِ وَالْفَتْحِ ، فَإِذَا كَانَ مُدُّ أَحَدِ أَصْحَابِهِ أَوْ نَصِيفُهُ أَفْضَلَ عِنْدَ اللَّهِ مِنْ مِثْلِ أُحُدٍ ذَهَبًا مِنْ مِثْلِ خَالِدٍ ، وَأَضْرَابِهِ مِنْ أَصْحَابِهِ فَكَيْفَ يَجُوزُ أَنْ يَحْرِمَهُمْ اللَّهُ الصَّوَابَ فِي الْفَتَاوَى وَيَظْفَرَ بِهِ مَنْ بَعْدَهُمْ ؟ هَذَا مِنْ أَبْيَنِ الْمُحَالِ ، قاله ابن القيم .(1/30)
ومن الأدلة أيضا :- ما رواه ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : إنَّ اللَّهَ نَظَرَ فِي قُلُوبِ الْعِبَادِ فَوَجَدَ قَلْبَ مُحَمَّدٍ خَيْرَ قُلُوبِ الْعِبَادِ ، فَبَعَثَهُ بِرِسَالَتِهِ ، ثُمَّ نَظَرَ فِي قُلُوبِ الْعِبَادِ بَعْدَ قَلْبِ مُحَمَّدٍ فَوَجَدَ قُلُوبَ أَصْحَابِهِ خَيْرَ قُلُوبِ الْعِبَادِ فَاخْتَارَهُمْ لِصُحْبَةِ نَبِيِّهِ وَنُصْرَةِ دِينِهِ ، فَمَا رَآهُ الْمُسْلِمُونَ حَسَنًا فَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ حَسَنٌ ، وَمَا رَآهُ الْمُسْلِمُونَ قَبِيحًا فَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ قَبِيحٌ ، وَمِنْ الْمُحَالِ أَنْ يُخْطِئَ الْحَقَّ فِي حُكْمِ اللَّهِ خَيْرُ قُلُوبِ الْعِبَادِ بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَيَظْفَرَ بِهِ مَنْ بَعْدَهُمْ ، وَأَيْضًا فَإِنَّ مَا أَفْتَى بِهِ أَحَدُهُمْ وَسَكَتَ عَنْهُ الْبَاقُونَ كُلُّهُمْ فَإِمَّا أَنْ يَكُونُوا قَدْ رَأَوْهُ حَسَنًا أَوْ يَكُونُوا قَدْ رَأَوْهُ قَبِيحًا ، فَإِنْ كَانُوا قَدْ رَأَوْهُ حَسَنًا فَهُوَ حَسَنٌ عِنْدَ اللَّهِ ، وَإِنْ كَانُوا قَدْ رَأَوْهُ قَبِيحًا ، وَلَمْ يُنْكِرُوهُ لَمْ تَكُنْ قُلُوبُهُمْ مِنْ خَيْرِ قُلُوبِ الْعِبَادِ ، وَكَانَ مَنْ أَنْكَرَهُ بَعْدَهُمْ خَيْرًا مِنْهُمْ وَأَعْلَمَ ، وَهَذَا مِنْ أَبْيَنِ الْمُحَالِ ، قاله ابن القيم .(1/31)
ومن الأدلة :- مَا رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَغَيْرُهُ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : مَنْ كَانَ مُتَأَسِّيًا فَلْيَتَأَسَّ بِأَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ؛ فَإِنَّهُمْ كَانُوا أَبَرَّ هَذِهِ الْأُمَّةِ قُلُوبًا ، وَأَعْمَقَهَا عِلْمًا ، وَأَقَلَّهَا تَكَلُّفًا ، وَأَقْوَمَهَا هَدْيًا ، وَأَحْسَنَهَا حَالًا ، قَوْمٌ اخْتَارَهُمْ اللَّهُ لِصُحْبَةِ نَبِيِّهِ ، وَإِقَامَةَ دِينِهِ فَاعْرِفُوا لَهُمْ فَضْلَهُمْ ، وَاتَّبِعُوا آثَارَهُمْ ، فَإِنَّهُمْ كَانُوا عَلَى الْهُدَى الْمُسْتَقِيمِ ، وَمِنْ الْمُحَالِ أَنْ يَحْرِمَ اللَّهُ أَبَرَّ هَذِهِ الْأُمَّةِ قُلُوبًا ، وَأَعْمَقَهَا عِلْمًا ، وَأَقَلَّهَا تَكَلُّفًا ، وَأَقْوَمَهَا هَدْيًا الصَّوَابَ فِي أَحْكَامِهِ وَيُوَفِّقَ لَهُ مَنْ بَعْدَهُمْ . قاله ابن القيم .
ومن الأدلة :- مَا رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ ، وَأَبُو نُعَيْمٍ وَغَيْرُهُمَا عَنْ حُذَيْفَةَ بْنِ الْيَمَانِ أَنَّهُ قَالَ : يَا مَعْشَرَ الْقُرَّاءِ ، خُذُوا طَرِيقَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ ، فَوَاَللَّهِ لَئِنْ اسْتَقَمْتُمْ لَقَدْ سُبِقْتُمْ سَبْقًا بَعِيدًا ، وَلَئِنْ تَرَكْتُمُوهُ يَمِينًا وَشِمَالًا لَقَدْ ضَلَلْتُمْ ضَلَالًا بَعِيدًا .وَمِنْ الْمُحَالِ أَنْ يَكُونَ الصَّوَابُ ، فِي غَيْرِ طَرِيقِ مَنْ سَبَقَ إلَى كُلِّ خَيْرٍ عَلَى الْإِطْلَاقِ .قاله ابن القيم .
ومن الأدلة :- حديث حُذَيْفَةَ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (( اقْتَدُوا بِاَللَّذَيْنِ مِنْ بَعْدِي أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ ، وَاهْتَدُوا بِهَدْيِ عَمَّارٍ ، وَتَمَسَّكُوا بِعَهْدِ ابْنِ أُمِّ عَبْدٍ )) قَالَ التِّرْمِذِيُّ : هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ ،ووجه الاستدلال به هو عين القول فيما قبله .(1/32)
ومن الأدلة :- مَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ رَبَاحٍ عَنْ أَبِي قَتَادَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ (( إنْ يُطِعْ الْقَوْمُ أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ يَرْشُدُوا )) وَهُوَ فِي حَدِيثِ الْمِيضَأَةِ الطَّوِيلِ ، فَجَعَلَ الرُّشْدَ مُعَلَّقًا بِطَاعَتِهِمَا ، فَلَوْ أَفْتَوْا بِالْخَطَأِ فِي حُكْمٍ ، وَأَصَابَهُ مَنْ بَعْدَهُمْ لَكَانَ الرُّشْدُ فِي خِلَافِهِمَا .قاله ابن القيم .
ومن الأدلة :- حديث الافتراق المشهور ، وهو حديث صحيح بطرقه ، وفيه (( وستفترق هذه الأمة على ثلاث وسبعين فرقة ، كلها في النار إلا واحدة ، وهي الجماعة )) والمقصود الأول هم الصحابة ، كما في الرواية الأخرى (( من كان على مثل ما أنا عليه اليوم وأصحابي )) ووجه الدلالة منه واضحة .(1/33)
ومن الأدلة :- الإجماع ، فقد أجمع أهل السنة والجماعة أن طريق الفهم الصحيح لأدلة الكتاب والسنة هو أن تفهم كما فهمها سلف الأمة وأئمتها ، وقد نقل الإجماع غير واحد من أهل العلم قال ابن تيمية رحمه الله ( وطريقتهم - أي أهل السنة والجماعة - هي دين الإسلام الذي بَعث الله به محمدا صلى الله عليه وسلم ، لكن لما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن أمته « تَفترق على ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إِلاّ واحدة » وهي الجماعة ، وفي حديث عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال « هم مَنْ كان على مِثل ما أنا عليه اليوم وأصحابي » صار المتمسكون بالإِسلام المحض الخالص عن الشوب ، هم أصحاب السنة والجماعة ، وفيهم الصدِّيقون ، والشهداء والصالحون ، ومنهم أعلام الهدى ومصابيح الدجى ، وأولو المناقب المأثورة ، والفضائل المذكورة ، وفيهم الأبدال الأئمة الذين أجمع المسلمون على هدايتهم ودرايتهم .وهم الطائفة المنصورة الذين قال فيهم النبي صلى الله عليه وسلم « لا تزال طائفةٌ من أمتي على الحق ظاهرين ، لا يضرُّهم من خَذلهم ولا من خَالفهم حتى تَقوم الساعة » ) وقال الأشعري رحمه الله تعالى في الإبانة (مقولنا الذي نقول به وديانتنا التي ندين بها : التمسك بكتاب ربنا، وسنة نبينا، وما جاء عن الصحابة والتابعين، وأئمة المسلمين ) وقال ابن تيمية رحمه الله تعالى (فإن الصحابة والتابعين والأئمة إذا كان لهم في تفسير الآية قول وجاء قوم فسروا الآية بقول آخر لأجل مذهب اعتقدوه، وذلك المذهب ليس من مذاهب الصحابة والتابعين لهم بإحسان صاروا مشاركين للمعتزلة وغيرهم من أهل البدع في مثل هذا .وفي الجملة من عَدَل عن مذاهب الصحابة والتابعين وتفسيرهم إلى ما يخالف ذلك كان مخطئًا في ذلك، بل مبتدعًا وإن كان مجتهدًا مغفورًا له خطؤه . فالمقصود بيان طرق العلم وأدلته، وطرق الصواب .(1/34)
ونحن نعلم أن القرآن قرأه الصحابة والتابعون وتابعوهم، وأنهم كانوا أعلم بتفسيره ومعانيه، كما أنهم أعلم بالحق الذي بعث اللّه به رسوله صلى الله عليه وسلم، فمن خالف قولهم وفسر القرآن بخلاف تفسيرهم فقد أخطأ في الدليل والمدلول جميعًا ) بل إنك لا تكاد تجد كتابا صنف في الاعتقاد إلا وهو يبني كتابه على فهم سلف الأمة من الصحابة والتابعين وتابعيهم ، ويوصي بالأخذ به ويحذر من مخالفته ، ولو نظرت في كتاب اللالكائي المسمى بشرح أصول اعتقاد أهل السنة ، وفي كتاب الشريعة للآجري ، وفي الكتب المسماة بـ( السنة ) لعرفت أن هذا الإجماع من الإجماعات القطعية المنقولة بالتواتر ، وقد تقرر في القواعد أن الإجماع حجة شرعية يجب اتباعها والمصير إليها وتحرم مخالفتها ، وسيأتي كثير من النقول في نقل الإجماع في قيد التفريع إن شاء الله تعالى .(1/35)
ومن الأدلة أيضا:- المعقول والاعتبار الصحيح ، وبيان هذا من وجوه : الأول :- أن المتقرر عند عامة أهل الإسلام أن الصحابة هم أكمل الأمة عقولا ، وأشدها اتباعا ، وأقواها إيمانا ، وأزكاها علما ، وأتمها فهما ، وأنه لا كان ولا يكون مثلهم ، وأنهم خير الأمة وتاج رأسها ، وأنهم سادات العلم والعمل ، فمن المحال والممتنع أن من تكون هذه صفته أن يكون من بعده من الخلف أزكى منه وأتم لمعرفة الحق بالفهم الصحيح منه ، هذا لا يكون أبدا، وهذا لا يعتقده إلا من كان على غير الهدى من الخلوف المبتدعة الذين لا يعرفون للسلف قدرهم، نعوذ بالله من هذه الحال، الثاني :- أنه عند اختلاف فهم السلف مع فهم الخلف ، فلا يخلو الحال من أحد أمرين :- إما أن يكون الحق مع القوم الذين اصطفاهم الله تعالى لصحبة خير خلقه وصفوة رسله ، وإما أن يكون الحق مع قوم إنما أخذوا علومهم من المنطق اليوناني ومن القواعد الفلسفية المناقضة للمعقول والمصادمة للمنقول ،فبالله عليك ، بم يحدثك قلبك ؟ لا جرم إن شاء الله تعالى أنك من الموفقين ، ممن لا يقارن أصلا بين المذهبين ، وأن الحق لا يكون البتة إلا مع سلف الأمة وأئمتها ، وأن فهم الخلف باطل ، إذ كيف يكون أفراخ علماء اليونان أعلم وأحكم وأدرى بالشرع وبالفهم الصحيح من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم ؟ وكيف تكون زبالات أذهان الفلاسفة المتهوكين أعلم و أقرب للحق ممن أخذ العلم غضا طريا من فيّ رسول الله صلى الله عليه وسلم ، بل كيف يكون من اتفق السلف على ذمهم وتجريمهم في حق الأمة أحق بالاتباع من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان ؟ إنه أمر لو تدبره العقل الخالي من الشبهة لعلم أن الحق لا يكون إلا مع السلف ، ولكن ثمة أقوام طمس الله بصائرهم ، فلا يرون الشمس في رابعة النهار ، الثالث :- أن الصحابة رضي الله عنهم قد شاهدوا التنزيل وهم أعلم بالتأويل ، فلا جرم مع ذلك أن يكون فهمهم أتم من فهم غيرهم ومذهبهم أحق(1/36)
بالاتباع من مذاهب غيرهم ، إذ غيرهم لم ينل هذا الشرف العظيم ، وإنما هو من خصيصة الصحابة ، رضي الله عنهم , الرابع :- أن أساطين علماء الخلف قد اعترفوا بخطأ ما هم عليه من الفهم وطرائق الاستدلال ، وندموا على ما تعلموه مما هو مخالف لفهم السلف ، وأنهم لم يكن معهم إلا الوهم والخيالات الفاسدة والظنون الكاذبة ، وأن ما جمعوه من العلوم إنما هو ضلال وتخرص ، قال أبو العباس رحمه الله تعالى (وَتَجِدُ عَامَّةَ هَؤُلَاءِ الْخَارِجِينَ عَنْ مِنْهَاجِ السَّلَفِ مِنْ الْمُتَكَلِّمَةِ وَالْمُتَصَوِّفَةِ يَعْتَرِفُ بِذَلِكَ إمَّا عِنْدَ الْمَوْتِ وَإِمَّا قَبْلَ الْمَوْتِ وَالْحِكَايَاتُ فِي هَذَا كَثِيرَةٌ مَعْرُوفَةٌ . هَذَا أَبُو الْحَسَنِ الْأَشْعَرِيُّ : نَشَأَ فِي الِاعْتِزَالِ أَرْبَعِينَ عَامًا يُنَاظِرُ عَلَيْهِ ثُمَّ رَجَعَ عَنْ ذَلِكَ وَصَرَّحَ بِتَضْلِيلِ الْمُعْتَزِلَةِ وَبَالَغَ فِي الرَّدِّ عَلَيْهِمْ .(1/37)
وَهَذَا أَبُو حَامِدٍ الْغَزَالِيُّ مَعَ فَرْطِ ذَكَائِهِ وَتَأَلُّهِهِ وَمَعْرِفَتِهِ بِالْكَلَامِ وَالْفَلْسَفَةِ وَسُلُوكِهِ طَرِيقَ الزُّهْدِ وَالرِّيَاضَةِ وَالتَّصَوُّفِ يَنْتَهِي فِي هَذِهِ الْمَسَائِلِ إلَى الْوَقْفِ وَالْحَيْرَةِ وَيُحِيلُ فِي آخِرِ أَمْرِهِ عَلَى طَرِيقَةِ أَهْلِ الْكَشْفِ وَإِنْ كَانَ بَعْدَ ذَلِكَ رَجَعَ إلَى طَرِيقَةِ أَهْلِ الْحَدِيثِ وَصَنَّفَ " إلْجَامَ الْعَوَامِّ عَنْ عِلْمِ الْكَلَامِ " وَكَذَلِكَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ عُمَرَ الرازي قَالَ فِي كِتَابِهِ الَّذِي صَنَّفَهُ فِي أَقْسَامِ اللَّذَّاتِ : لَقَدْ تَأَمَّلْت الطُّرُقَ الْكَلَامِيَّةَ وَالْمَنَاهِجَ الْفَلْسَفِيَّةَ فَمَا رَأَيْتهَا تَشْفِي عَلِيلًا وَلَا تَرْوِي غَلِيلًا وَرَأَيْت أَقْرَبَ الطُّرُقِ طَرِيقَةَ الْقُرْآنِ أَقْرَأُ فِي الْإِثْبَاتِ { الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى } { إلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ } وَأَقْرَأُ فِي النَّفْيِ { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ } { وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا } { هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا } ثُمَّ قَالَ : وَمَنْ جَرَّبَ مِثْلَ تَجْرِبَتِي عَرَفَ مِثْلَ مَعْرفَتِي وَكَانَ يَتَمَثَّلُ كَثِيرًا :
...(1/38)
وَهَذَا إمَامُ الْحَرَمَيْنِ تَرَكَ مَا كَانَ يَنْتَحِلُهُ وَيُقَرِّرُهُ وَاخْتَارَ مَذْهَبَ السَّلَفِ, وَكَانَ يَقُولُ : يَا أَصْحَابَنَا لَا تَشْتَغِلُوا بِالْكَلَامِ فَلَوْ أَنِّي عَرَفْت أَنَّ الْكَلَامَ يَبْلُغُ بِي إلَى مَا بَلَغَ مَا اشْتَغَلْت بِهِ, وَقَالَ عِنْدَ مَوْتِهِ : لَقَدْ خُضْت الْبَحْرَ الْخِضَمَّ وَخَلَّيْت أَهْلَ الْإِسْلَامِ وَعُلُومَهُمْ وَدَخَلْت فِيمَا نَهَوْنِي عَنْهُ . وَالْآنَ : إنْ لَمْ يَتَدَارَكْنِي رَبِّي بِرَحْمَتِهِ فَالْوَيْلُ لِابْنِ الجويني وَهَا أنذا أَمُوتُ عَلَى عَقِيدَةِ أُمِّي - أَوْ قَالَ - : عَقِيدَةِ عَجَائِزِ نَيْسَابُورَ . وَكَذَلِكَ قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْكَرِيمِ الشِّهْرِسْتَانِيّ : أَخْبَرَ أَنَّهُ لَمْ يَجِدْ عِنْدَ الْفَلَاسِفَةِ والمتكلمين إلَّا الْحَيْرَةَ وَالنَّدَمَ, وَكَانَ يَنْشُدُ :
وَابْنُ الْفَارِضِ - مِنْ مُتَأَخِّرِي الِاتِّحَادِيَّةِ - صَاحِبُ الْقَصِيدَةِ التَّائِيَّةِ الْمَعْرُوفَةِ " بِنَظْمِ السُّلُوكِ " وَقَدْ نَظَمَ فِيهَا الِاتِّحَادَ نَظْمًا رَائِقَ اللَّفْظِ فَهُوَ أَخْبَثُ مَنْ لَحْمِ خِنْزِيرٍ فِي صِينِيَّةٍ مِنْ ذَهَبٍ . وَمَا أَحْسَنَ تَسْمِيَتَهَا بِنَظْمِ الشُّكُوكِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِهَا وَبِمَا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ وَقَدْ نَفَقَتْ كَثِيرًا وَبَالَغَ أَهْلُ الْعَصْرِ فِي تَحْسِينِهَا وَالِاعْتِدَادِ بِمَا فِيهَا مِنْ الِاتِّحَادِ - لَمَّا حَضَرَتْهُ الْوَفَاةُ أَنْشَدَ :(1/39)
وقال رحمه الله تعالى (كَيْفَ يَكُونُ هَؤُلَاءِ الْمُتَأَخِّرُونَ لَا سِيَّمَا وَالْإِشَارَةُ بِالْخَلَفِ إلَى ضَرْبٍ مِنْ الْمُتَكَلِّمِينَ الَّذِينَ كَثُرَ فِي بَابِ الدِّينِ اضْطِرَابُهُمْ وَغَلُظَ عَنْ مَعْرِفَةِ اللَّهِ حُجَّابُهُمْ وَأَخْبَرَ الْوَاقِفُ عَلَى نِهَايَةِ إقْدَامِهِمْ بِمَا انْتَهَى إلَيْهِ أَمْرُهُمْ حَيْثُ يَقُولُ :
وَأَقَرُّوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِمَا قَالُوهُ مُتَمَثِّلِينَ بِهِ أَوْ مُنْشِئِينَ لَهُ فِيمَا صَنَّفُوهُ مِنْ كُتُبِهِمْ كَقَوْلِ بَعْضِ رُؤَسَائِهِمْ(1/40)
لَقَدْ تَأَمَّلْت الطُّرُقَ الْكَلَامِيَّةَ وَالْمَنَاهِجَ الْفَلْسَفِيَّةَ ؛ فَمَا رَأَيْتهَا تَشْفِي عَلِيلًا وَلَا تَرْوِي غَلِيلًا وَرَأَيْت أَقْرَبَ الطُّرُقِ طَرِيقَةَ الْقُرْآنِ . اقْرَأْ فِي الْإِثْبَاتِ { الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى } { إلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ } وَاقْرَأْ فِي النَّفْيِ { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ } { وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا } وَمَنْ جَرَّبَ مِثْلَ تَجْرِبَتِي عَرَفَ مِثْلَ مَعْرِفَتِي اهـ . وَيَقُولُ الْآخَرُ مِنْهُمْ : لَقَدْ خُضْت الْبَحْرَ الْخِضَمَّ وَتَرَكْت أَهْلَ الْإِسْلَامِ وَعُلُومَهُمْ وَخُضْت فِي الَّذِي نَهَوْنِي عَنْهُ وَالْآنَ إنْ لَمْ يَتَدَارَكْنِي رَبِّي بِرَحْمَتِهِ فَالْوَيْلُ لِفُلَانِ وَهَا أَنَا أَمُوتُ عَلَى عَقِيدَةِ أُمِّي ا هـ . وَيَقُولُ الْآخَرُ مِنْهُمْ : أَكْثَرُ النَّاسِ شَكَا عِنْدَ الْمَوْتِ أَصْحَابَ الْكَلَامِ .(1/41)
ثُمَّ هَؤُلَاءِ الْمُتَكَلِّمُونَ الْمُخَالِفُونَ لِلسَّلَفِ إذَا حَقَّقَ عَلَيْهِمْ الْأَمْرَ : لَمْ يُوجَدْ عِنْدَهُمْ مِنْ حَقِيقَةِ الْعِلْمِ بِاَللَّهِ وَخَالِصِ الْمَعْرِفَةِ بِهِ خَبَرٌ وَلَمْ يَقَعُوا مِنْ ذَلِكَ عَلَى عَيْنٍ وَلَا أَثَرٍ كَيْفَ يَكُونُ هَؤُلَاءِ الْمَحْجُوبُونَ الْمُفْضَلُونَ الْمَنْقُوصُونَ الْمَسْبُوقُونَ الْحَيَارَى الْمُتَهَوِّكُونَ : أَعْلَمَ بِاَللَّهِ وَأَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ وَأَحْكَمَ فِي بَابِ ذَاتِهِ وَآيَاتِهِ مِنْ السَّابِقِينَ الْأَوَّلِينَ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَاَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانِ مِنْ وَرَثَةِ الْأَنْبِيَاءِ وَخُلَفَاءِ الرُّسُلِ وَأَعْلَامِ الْهُدَى وَمَصَابِيحِ الدُّجَى الَّذِينَ بِهِمْ قَامَ الْكِتَابُ وَبِهِ قَامُوا وَبِهِمْ نَطَقَ الْكِتَابُ وَبِهِ نَطَقُوا الَّذِينَ وَهَبَهُمْ اللَّهُ مِنْ الْعِلْمِ وَالْحِكْمَةِ مَا بَرَزُوا بِهِ عَلَى سَائِرِ أَتْبَاعِ الْأَنْبِيَاءِ فَضْلًا عَنْ سَائِرِ الْأُمَمِ الَّذِينَ لَا كِتَابَ لَهُمْ وَأَحَاطُوا مِنْ حَقَائِقِ الْمَعَارِفِ وَبَوَاطِنِ الْحَقَائِقِ بِمَا لَوْ جُمِعَتْ حِكْمَةُ غَيْرِهِمْ إلَيْهَا لَاسْتَحْيَا مَنْ يَطْلُبُ الْمُقَابَلَةَ ثُمَّ كَيْفَ يَكُونُ خَيْرُ قُرُونِ الْأُمَّةِ أَنْقَصَ فِي الْعِلْمِ وَالْحِكْمَةِ - لَا سِيَّمَا الْعِلْمُ بِاَللَّهِ وَأَحْكَامِ أَسْمَائِهِ وَآيَاتِهِ - مِنْ هَؤُلَاءِ الْأَصَاغِرِ بِالنِّسْبَةِ إلَيْهِمْ ؟ أَمْ كَيْفَ يَكُونُ أَفْرَاخُ الْمُتَفَلْسِفَةِ وَأَتْبَاعُ الْهِنْدِ وَالْيُونَانِ وَوَرَثَةُ الْمَجُوسِ وَالْمُشْرِكِينَ وَضُلَّالِ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ وَأَشْكَالُهُمْ وَأَشْبَاهُهُمْ : أَعْلَمَ بِاَللَّهِ مِنْ وَرَثَةِ الْأَنْبِيَاءِ وَأَهْلِ الْقُرْآنِ وَالْإِيمَانِ وَإِنَّمَا(1/42)
قَدَّمْت " هَذِهِ الْمُقَدِّمَةَ " لِأَنَّ مَنْ اسْتَقَرَّتْ هَذِهِ الْمُقَدِّمَةُ عِنْدَهُ عَرَفَ طَرِيقَ الْهُدَى أَيْنَ هُوَ فِي هَذَا الْبَابِ وَغَيْرِهِ وَعَلِمَ أَنَّ الضَّلَالَ وَالتَّهَوُّكَ إنَّمَا اسْتَوْلَى عَلَى كَثِيرٍ مِنْ الْمُتَأَخِّرِينَ بِنَبْذِهِمْ كِتَابَ اللَّهِ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَإِعْرَاضِهِمْ عَمَّا بَعَثَ اللَّهُ بِهِ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى وَتَرْكِهِمْ الْبَحْثَ عَنْ طَرِيقَةِ السَّابِقِينَ وَالتَّابِعِينَ وَالْتِمَاسِهِمْ عِلْمَ مَعْرِفَةِ اللَّهِ مِمَّنْ لَمْ يَعْرِفْ اللَّهَ بِإِقْرَارِهِ عَلَى نَفْسِهِ وَبِشَهَادَةِ الْأُمَّةِ عَلَى ذَلِكَ وَبِدَلَالَاتِ كَثِيرَةٍ ؛ وَلَيْسَ غَرَضِي وَاحِدًا مُعَيَّنًا وَإِنَّمَا أَصِفُ نَوْعَ هَؤُلَاءِ وَنَوْعَ هَؤُلَاءِ) والله يحفظنا وإخواننا من الضلال والتيه ، فإن الهداية من أعظم النعم وأجل المنن فاشدد عليها بيديك ، واحمد الله تعالى على السلامة .
( فصل )(1/43)
وقد حرص السلف رحمهم الله تعالى على تقييد هذا الأمر في عقيدة الأمة ، وأنا إن شاء الله تعالى أنقل لك طرفا صالحا من كلام أهل العلم رحمهم الله تعالى في هذه المسألة ، لتكون على دراية تامة بأن ما نقرره لك في هذه الرسالة ليس بدعا من القول ولا تخرصا من الكلام ، فأقول :- قال الإمام أحمد رحمه الله تعالى ( أصول السنة عندنا التمسك بما كان عليه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم والاقتداء بهم وترك البدع وكل بدعة فهي ضلالة ) وقال ابن مسعود رضي الله عنه ( اتبعوا ولا تبتدعوا ؛ فقد كفيتم ) وقال اللالكائي رحمه الله تعالى (فلم نجد في كتاب الله وسنة رسوله وآثار صحابته إلا الحث على الاتباع ، وذم التكلف والاختراع ، فمن اقتصر على هذه الآثار كان من المتبعين ، وكان أولاهم بهذا الاسم ، وأحقهم بهذا الوسم ، وأخصهم بهذا الرسم أصحاب الحديث ؛ لاختصاصهم برسول الله صلى الله عليه وسلم ، واتباعهم لقوله ، وطول ملازمتهم له وتحملهم علمه ، وحفظهم أنفاسه وأفعاله ، فأخذوا الإسلام عنه مباشرة ، وشرائعه مشاهدة وأحكامه معاينة ، من غير واسطة ولا سفير بينهم وبينه وصلة , فجاولوها عيانا ، وحفظوا عنه شفاها ، وتلقفوه من فيه رطبا ، وتلقنوه من لسانه عذبا ، واعتقدوا جميع ذلك حقا ، وأخلصوا بذلك من قلوبهم يقينا ، فهذا دين أخذ أوله عن رسول الله صلى الله عليه وسلم مشافهة ، لم يشبه لبس ولا شبهة ، ثم نقلها العدول عن العدول من غير تحامل ولا ميل ، ثم الكافة عن الكافة والصافة عن الصافة ، والجماعة عن الجماعة ، أخذ كف بكف ، وتمسك خلف بسلف, كالحروف يتلو بعضها بعضا ، ويتسق أخراها على أولاها رصفا ونظما، وقال الآجري محمد بن الحسين رحمه الله تعالى ( علامة من أراد الله عز وجل به خيراً : سلوك هذه الطريق : كتاب الله عز وجل ، وسنن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وسنن أصحابه رضي الله عنهم ومن تبعهم بإحسان رحمة الله تعالى عليهم ، وما كان عليه أئمة(1/44)
المسلمين في كل بلد إلى آخر ما كان من العلماء ، مثل الأوزاعي وسفيان الثوري ومالك بن أنس والشافعي وأحمد بن حنبل والقاسم بن سلام ، ومن كان على مثل طريقهم ، ومجانبة كل مذهب لا يذهب إليه هؤلاء العلماء ) وقال أبو العالية رحمه الله تعالى (عليكم بالأمر الأول الذي كانوا عليه قبل أن يفترقوا) وقال الأوزاعي رحمه الله تعالى ( اصبر نفسك على السنة، وقف حيث وقف القوم، وقل بما قالوا، وكف عما كفوا عنه، واسلك سبيل سلفك الصالح فإنه يسعك ما وسعهم ) ومن مأثور قول الإمام مالك رحمه الله تعالى ويروى عن عمر رضي الله عنه ( لن يصلُح آخرُ هذه الأمَّة إلاَّ بما صلح به أوَّلُها ) وقال ابن مسعود رضي الله عنه ( مَن كان منكم متأسِّياً فليتأسَّ بأصحاب محمد، فإنَّهم كانوا أبرَّ هذه الأمَّة قلوباً، وأعمقَها علماً، وأقلَّها تكلُّفاً، وأقومَها هدياً، وأحسنَها حالاً، قوماً اختارهم الله تعالى لصحبة نبيِّه ، فاعرفوا لهم فضلَهم واتَّبعوهم في آثارهم؛ فإنَّهم كانوا على الهدي المستقيم ) وتقدم قول عمر بن عبدالعزيز رحمه الله تعالى في هذا ، و عن عثمان بن حاضر، قال: دخلتُ على ابن عباس، فقلت: أَوْصني، فقال:( نعم! عليك بتقوى الله والاستقامة، اتَّبع ولا تبتدع ) وعن ابن سيرين قال ( كانوا يرون أنَّه على الطريق ما كان على الأثر ) و عن ابن مسعود قال ( تعلَّموا العلمَ قبل أن يُقبض، وقبضُه أن يذهب أهلُه ألا وإيّاكم والتَّنطُّع والتَّعمُّق والبدع، وعليكم بالعتيق ) والمراد بالعتيق ما دلَّ عليه دليلٌ، وكان عليه السلف، ولم يكن محدَثاً, وعن عبد الله بن مسعود قال ( إنَّكم اليوم على الفطرة، وإنَّكم ستحدثون ويُحدث لكم، فإذا رأيتم محدَثةً فعليكم بالهَدي الأوَّل ) وعن أبي الدرداء قال ( اقتصادٌ في سنّة خيرٌ مِن اجتهادٍ في بدعةٍ، إنَّك إنْ تتَّبعْ خيرٌ مِن أنْ تبتدع، ولن تخطئَ الطريقَ ما اتَّبعْتَ الأثرَ ) وقال القيرواني في مقدمته في بيان(1/45)
أصول السلف ( والطَّاعَةُ لأئمَّة المسلمين مِن وُلاَة أمورِهم ، وعُلمائهم واتِّباعُ السَّلَفِ الصَّالِح واقتفاءُ آثارِهم، والاستغفارُ لهم، وتَركُ المراءِ والجِدَالِ في الدِّين، وتَركُ ما أَحْدَثَهُ المُحْدِثُونَ) وقال الحافظ أبو القاسم اللالكائي رحمه الله تعالى ( فإِنّ أوجب ما على المرء معرفة اعتقاد الدين ، وما كلّف الله به عباده من فَهم توحيده وصفاته ، وتصديق رسله بالدلائل واليقين ، والتوصل إِلى طرقها ، والاستدلال عليها بالحجج والبراهين ، وكان من أعظم مقول وأوضح حجةِ ومعقول : كتاب الله الحق المبين ، ثم قول رسول الله صلى الله عليه وسلم وَصحابته الأخيار المتقين ، ثم ما أجمع عليه السلف الصالحون ، ثم التمسك بمجموعها والمقام عليها إِلى يوم الدين ، ثم الاجتناب عن البدع والاستماع إِليها مما أحدثها المضلون ) وقال كثير من السلف الصالح ( لا يزال الناس بخير ما أتاهم العلم من قبل كبرائهم ، فإذا أتاهم العلم من قبل أصاغرهم هلكوا ) ومن مأثور القول عن ابن مسعود رضي الله عنه ( إنا نقتدي ولا نبتدي ، ونتبع ولا نبتدع ، ولن نضل ما تمسكنا بالأثر ) وقال سفيان رحمه الله تعالى ( وجدت الأمر الاتباع ) وكلامهم في هذه المسألة كثير لا يكاد يحصر ، ويكفي من القلادة ما أحاط بالعنق ، والله أعلم .
( المسألة الرابعة ) في ذكر بعض الفروع المخرجة على هذا الأصل العظيم ، والذي يشكل فرع منها أصلا من أصول أهل السنة والجماعة ، وهي أطول المسائل في هذه الكتابة ، وقد جرت عادتنا ولله الحمد أن نكثر من التفريع حتى يغلب على ظننا أن الطالب قد فهم القاعدة فهما كاملا ، لا سيما في مثل هذا الأصل الكبير ، فأقول وبالله التوفيق ، ومنه أستمد العون والفضل :-(1/46)
الفرع الأول :- مذهب سلف الأمة وأئمتها في باب الأسماء والصفات ينص على أننا نثبت لله تعالى كل ما سمى به نفسه في كتابه أو سماه به رسوله صلى الله عليه وسلم ، ونصف الله تعالى بما وصف به نفسه في كتابه أو وصفه به رسول الله صلى الله عليه وسلم في صحيح سنته ، وننفي عنه جل وعلا كل ما نفاه عن نفسه من الأسماء والصفات في كتابه أو نفاه عنه رسوله صلى الله عليه وسلم في صحيح سنته ، من غير تحريف ولا تعطيل ، ومن غير تكييف ولا تمثيل ، لأن الله تعالى ليس كمثله شيء وهو السميع البصير ، فإثبات أهل السنة والجماعة لا تمثيل فيه ، ونفيهم وتنزيههم لا تعطيل فيه ، فهو مذهب قائم على الإثبات بلا تمثيل ، وعلى التنزيه بلا تعطيل ، هكذا هو فهم أهل السنة والجماعة ، فأهل السنة يفهمون أن ما أثبته الله تعالى لنفسه من الأسماء والصفات ، لا يمكن أن يكون كما هو من خصائص المحدثات ، وما نفاه عن نفسه منها لا يمكن أن يكون مصحوبا بالتعطيل المفضي إلى إنكار ما ثبت به النص ، قال أبو العباس بن تيمية رحمه الله تعالى (فَأَمَّا الْأَوَّلُ وَهُوَ ( التَّوْحِيدُ فِي الصِّفَاتِ فَالْأَصْلُ فِي هَذَا الْبَابِ أَنْ يُوصَفَ اللَّهُ بِمَا وَصَفَ بِهِ نَفْسَهُ وَبِمَا وَصَفَتْهُ بِهِ رُسُلُهُ : نَفْيًا وَإِثْبَاتًا ؛ فَيُثْبِتُ لِلَّهِ مَا أَثْبَتَهُ لِنَفْسِهِ وَيَنْفِي عَنْهُ مَا نَفَاهُ عَنْ نَفْسِهِ وَقَدْ عُلِمَ أَنَّ طَرِيقَةَ سَلَفِ الْأُمَّةِ وَأَئِمَّتِهَا إثْبَاتُ مَا أَثْبَتَهُ مِنْ الصِّفَاتِ مِنْ غَيْرِ تَكْيِيفٍ وَلَا تَمْثِيلٍ وَمِنْ غَيْرِ تَحْرِيفٍ وَلَا تَعْطِيلٍ وَكَذَلِكَ يَنْفُونَ عَنْهُ مَا نَفَاهُ عَنْ نَفْسِهِ مَعَ إثْبَاتِ مَا أَثْبَتَهُ مِنْ الصِّفَاتِ مِنْ غَيْرِ إلْحَادٍ : لَا فِي أَسْمَائِهِ وَلَا فِي آيَاتِهِ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى ذَمَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ وَآيَاتِهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى {(1/47)
وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ } وَقَالَ تَعَالَى { إنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آيَاتِنَا لَا يَخْفَوْنَ عَلَيْنَا أَفَمَنْ يُلْقَى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَمْ مَنْ يَأْتِي آمِنًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ } الْآيَةَ, فَطَرِيقَتُهُمْ تَتَضَمَّنُ إثْبَاتَ الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ مَعَ نَفْيِ مُمَاثَلَةِ الْمَخْلُوقَاتِ : إثْبَاتًا بِلَا تَشْبِيهٍ وَتَنْزِيهًا بِلَا تَعْطِيلٍ كَمَا قَالَ تَعَالَى { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ } فَفِي قَوْلِهِ { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ } رَدٌّ لِلتَّشْبِيهِ وَالتَّمْثِيلِ وَقَوْلُهُ { وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ } رَدٌّ لِلْإِلْحَادِ وَالتَّعْطِيلِ ) وقال رحمه الله تعالى (وَلِهَذَا كَانَ مَذْهَبُ سَلَفِ الْأُمَّةِ وَأَئِمَّتِهَا إثْبَاتُ مَا وَصَفَ بِهِ نَفْسَهُ مِنْ الصِّفَاتِ وَنَفْيُ مُمَاثَلَتِهِ بِشَيْءِ مِنْ الْمَخْلُوقَاتِ ) وقال رحمه الله تعالى (وَجِمَاعُ الْقَوْلِ فِي إثْبَاتِ الصِّفَاتِ هُوَ الْقَوْلُ بِمَا كَانَ عَلَيْهِ سَلَفُ الْأُمَّةِ وَأَئِمَّتُهَا وَهُوَ أَنْ يُوصَفَ اللَّهُ بِمَا وَصَفَ بِهِ نَفْسَهُ وَبِمَا وَصَفَهُ بِهِ رَسُولُهُ وَيُصَانُ ذَلِكَ عَنْ التَّحْرِيفِ وَالتَّمْثِيلِ وَالتَّكْيِيفِ وَالتَّعْطِيلِ ؛ فَإِنَّ اللَّهَ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ لَا فِي ذَاتِهِ وَلَا فِي صِفَاتِهِ وَلَا فِي أَفْعَالِهِ فَمَنْ نَفَى صِفَاتِهِ كَانَ مُعَطِّلًا .(1/48)
وَمَنْ مَثَّلَ صِفَاتِهِ بِصِفَاتِ مَخْلُوقَاتِهِ كَانَ مُمَثِّلًا وَالْوَاجِبُ إثْبَاتُ الصِّفَاتِ وَنَفْيُ مُمَاثَلَتِهَا لِصِفَاتِ الْمَخْلُوقَاتِ إثْبَاتًا بِلَا تَشْبِيهٍ وَتَنْزِيهًا بِلَا تَعْطِيلٍ كَمَا قَالَ تَعَالَى { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ } فَهَذَا رَدٌّ عَلَى الْمُمَثِّلَةِ { وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ } رَدٌّ عَلَى الْمُعَطِّلَةِ فَالْمُمَثِّلُ يَعْبُدُ صَنَمًا وَالْمُعَطِّلُ يَعْبُدُ عَدَمًا) وقال رحمه الله تعالى (وَمَذْهَبُ سَلَفِ الْأُمَّةِ وَأَئِمَّتِهَا أَنْ يُوصَفَ اللَّهُ بِمَا وَصَفَ بِهِ نَفْسَهُ وَبِمَا وَصَفَهُ بِهِ رَسُولُهُ مِنْ غَيْرِ تَحْرِيفٍ وَلَا تَعْطِيلٍ وَمِنْ غَيْرِ تَكْيِيفٍ وَلَا تَمْثِيلٍ , فَلَا يَنْفُونَ عَنْ اللَّهِ مَا أَثْبَتَهُ لِنَفْسِهِ وَلَا يُمَثِّلُونَ صِفَاتِهِ بِصِفَاتِ خَلْقِهِ بَلْ يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ , لَا فِي ذَاتِهِ وَلَا فِي صِفَاتِهِ وَلَا فِي أَفْعَالِهِ فَكَمَا أَنَّ ذَاتَه لَا تُشْبِهُ الذَّوَاتِ فَصِفَاتُهُ لَا تُشْبِهُ الصِّفَاتِ ) وقال رحمه الله تعالى (بَلْ عَلَى النَّاسِ أَنْ يَلْتَزِمُوا الْأُصُولَ الْجَامِعَةَ الْكُلِّيَّةَ الَّتِي اتَّفَقَ عَلَيْهَا سَلَفُ الْأُمَّةِ وَأَئِمَّتُهَا فَيُؤْمِنُونَ بِمَا وَصَفَ اللَّهُ بِهِ نَفْسَهُ وَبِمَا وَصَفَهُ بِهِ رَسُولُهُ مِنْ غَيْرِ تَحْرِيفٍ وَلَا تَعْطِيلٍ وَمِنْ غَيْرِ تَكْيِيفٍ وَلَا تَمْثِيلٍ ) فهذا هو فهم سلف الأمة وأئمتها من الصحابة والتابعين وأتباعهم وأئمة الهدى إلى ساعتنا هذه ، وأهل السنة يقررون هذا الفهم في باب الأسماء والصفات ، وكتبهم طافحة بهذا التقرير ، فهذا هو فهم السلف ، وأما من زاغ وحاد عن سبيلهم من أهل البدع ، فإنهم يفهمون أن ما أضافه الله تعالى لنفسه من الصفات لا يكون إلا كصفات المحدثات ، لأنهم يفهمون أن الاتفاق(1/49)
في الأسماء يستلزم الاتفاق في الصفات ، فأهل التمثيل قالوا:- نحن نثبت لله تعالى الصفات ولكن على وجه يماثل صفات المحدثات ، وأهل التعطيل قالوا:- بل نحن ننزه الله تعالى عن مماثلة المحدثات ، تنزيها ننفي معه الأسماء والصفات ، وكلا الفهمين باطل لأنه بني على غير هدى ، وهو مخالف لفهم سلف الأمة وأئمتها ، والمتقرر أن كل فهم خالف فهم السلف في مسائل العقيدة والعمل فهو باطل ، ولأنه فهم مخالف للقرآن ، فإن الله تعالى { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ } فقوله { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ } رد على الممثلة ، وقوله { وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ } رد على المعطلة ، فما أثبته الله تعالى لنفسه من الأسماء والصفات فإنه لا يجوز أن يفهم أنه إثبات مماثلة ، فإن من فهم هذا الفهم فقد خالف الكتاب والسنة وفهم السلف ، وما خالف ذلك فهو باطل ، لأن الفهم الصحيح هو ما جرى عليه سلف الأمة وقادتها في العلم والفهم والإيمان من أننا نثبت لله تعالى الأسماء والصفات إثباتا بلا تمثيل ، وننزه الله تعالى عن مماثلة المخلوقات تنزيها بلا تعطيل ، فهذا هو الفهم الحق ، والقول الحق ، والمذهب الحق ، وماذا بعد الحق إلا الضلال ، فأهل السنة رحمهم الله تعال لم ينظروا إلى أدلة إثبات الصفات فقط ، ولم ينظروا إلى أدلة نفي مماثلة الله تعالى للمخلوقات فقط ، بل نظروا إلى الأدلة كلها ومزجوا بعضها ببعض وفهموها حق فهمها ، فأنتج لهم ذلك أن الأسماء والصفات ثابتة لله تعالى ، ولكن على الوجه اللائق به ، فلا تماثل صفته تعالى شيئا من صفات المحدثات ، فالله الله أيها الأخ الكريم باعتماد هذا الفهم الصادق والمذهب الطيب فإنه الحق ، الذي لا أحق منه ، وأقسم لك بالله تعالى أنه الحق ، والله يا أخي إنني مشفق عليك أن تتخطفك يد الردى وتقع في شيء من المذاهب المنكوسة ، يا أخي بالله عليك ، تفكر قليلا ، هذا مذهب الصحابة الكرام والأتباع الأطهار(1/50)
والأئمة الأخيار ، فأين هذا من مذهب من لا يدري ما يقول ويهذي بما لا يدري ، ويتفوه بما لا يفقه ، الله الله يا أخي إني والله العظيم أريدك أن تكون من أهل النجاة يوم القيامة ولا أريدك أن تذاد عن الحوض لأنك غيرت أو بدلت ، فاشدد على فهم السلف في هذا البابا بيديك ، واعضض على هذا المذهب الحق بنواجذك فإني أريد لك الهداية والرشاد ، أسأله جل وعلا أن يشرح صدرك للحق ، وأن يرزقك برد اليقين في موافقة فهم السلف الصالح ، والله المستعان .(1/51)
الفرع الثاني :- المتقرر عند سلف الأمة وأئمتها أن كل ما نفاه الله تعالى عن نفسه فالواجب فيه أمران :- نفي ما نفاه الله تعالى عن نفسه ، الثاني :- إثبات كمال الضد له ، فنفى عن نفسه العجز واللغوب في قوله { وَمَا مَسَّنَا مِن لُّغُوبٍ } وما ذلك إلا لكمال قدرته وقوته جل وعلا، ونفى عن نفسه السنة والنوم في قوله { لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلاَ نَوْمٌ } وما ذلك إلا لكمال حياته وقيوميته جل وعلا ، ونفى عن نفسه الظلم في قوله { وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا } وقوله { وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ } وما ذلك إلا لكمال عدله جل وعلا ، ونفى عن نفسه الولد والشريك في الملك والألوهية وما ذلك إلا لكمال غناه عن كل أحد ، ولكمال ملكه وألوهيته لكل شيء ، ونفى عن نفسه النسيان بمعنى الغفلة والذهول عن الشيء ، وما ذلك إلا لكمال علمه وإحاطته بكل شيء جل وعلا ، وهكذا في كل ما نفاه الله تعالى نفسه أو نفاه عنه رسوله صلى الله عليه وسلم في صحيح سنته ، وبه تعلم أن السلف كانوا لا يفهمون من النفي أنه نفي مجرد عن الإثبات ، وهو المسمى بالنفي المحض ، فإن النفي المحض ليس كمالا ولا مدحا، فالنفي المحض الذي لا يتضمن ثبوتا لا يدخل فيما وصف به نفسه جل وعلا ، هكذا فهم أهل السنة والسلف الصالح من الصحابة والتابعين وأتباعهم وأئمة الهدى ، وأما من زاغ عن هذا الفهم فإنهم لا يصفون الله تعالى إلا بالنفي المحض الذي لا يتضمن ثبوتا ، فيقولون :- الله لا داخل العالم ولا خارجه ولا مباين ولا محايث ولا فوق ولا تحت ، ولا يرى في الآخرة ، ولا حي ولا ميت ولا موجود ولا معدوم ، ولا يسمع ولا يبصر ، ولا ، ولا ولا ، وإذا نظرت إلى هذا النفي وجدته يتضمن عدة مخالفات : الأولى :- أنه نفي لما ثبت الدليل به من الكتاب والسنة ، الثاني :- أنه نفي لا يتضمن ثبوتا ، فهو نفي محض ، الثالث :- أنه نفي يفضي إلى القول بأن الله تعالى معدوم ، فإنهم إذا وصفوا الله(1/52)
تعالى إنما يصفوه بالسلوب - أي بالنفي - والاقتصار على الوصف بالنفي يؤدي إلى هذه النتيجة ، ولذلك قال أهل السنة :- الممثل يعبد صنما ، والمعطل يعبد عدما ، لأن المعطل لم يصف ربه إلا بالنفي فقط ،الرابع :- أنه بني على فهم مخالف لفهم سلف الأمة وأئمتها من الصحابة والتابعين وتابعيهم وأئمة الهدى ، والمتقرر أن كل فهم يخالف فهم السلف في مسائل العقيدة والعمل فإنه باطل، ففهم السلف من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم ، وفهم التابعين من أصحاب أصحاب رسول الله عليه وسلم ، وفهم أئمة الهدى ونور الدجى ، ممن استضاءت بنور علومهم الظلمات ، وأشرقت بتقريراتهم جوانب الحياة علما وعملا ، فهمهم الموروث عنهم في النفي إنما هو النفي الذي يتضمن ثبوتا ، فالسلف رحمهم الله تعالى بنوا مذهبهم في النفي على أمرين :- أنهم لا ينفون عن الله تعالى إلا ما نفاه الله تعالى عن نفسه ، وأنهم مع هذا النفي يعتقدون كمال الضد ، فهذا هو فهمهم وهذا هو مذهبهم ، فاشدد عليه بيديك ، واعضض عليه بالنواجذ ، وإياك والفهوم الضالة والمذاهب الهالكة ، من فهوم أمثال الجهم بن صفوان الترمذي الهالك المقتول ، ومعبد الجهنى ، والجعد بن درهم ، والذي لا يساوي عندنا فلسا ، ومن أمثال فلان وفلان ، ممن لا تعرفهم الأمة بصلاح الحال ولا سلامة المعتقد, فكيف يقدم فهم هؤلاء المتهوكين الضالين المضلين على فهم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ وعلى فهم أئمة الهدى ؟ فبالله عليك يا أخي أي الفهمين تقدم ؟ ومع من تريد أن تكون يوم يحشر الله تعالى الأولين والآخرين ؟ أسأل الله تعالى أن يشرح صدرك للحق ، وأن يرزقك برد اليقين بمتابعة السلف الصالح ، وأسأله جل وعلا أن يريك الحق حقا ويرزقك ابتاعه ، والباطل باطلا ويرزقك اجتنابه ، إنه ولي ذلك والقادر عليه ، قال أبو العباس رحمه الله تعالى (وَهَذَا هُوَ الْحَقُّ الَّذِي اتَّفَقَ عَلَيْهِ سَلَفُ الْأُمَّةِ وَأَئِمَّتُهَا وَإِذَا(1/53)
تَأَمَّلْت ذَلِكَ : وَجَدْت كُلَّ نَفْيٍ لَا يَسْتَلْزِمُ ثُبُوتًا هُوَ مِمَّا لَمْ يَصِفْ اللَّهُ بِهِ نَفْسَهُ فَاَلَّذِينَ لَا يَصِفُونَهُ إلَّا بِالسُّلُوبِ لَمْ يُثْبِتُوا فِي الْحَقِيقَةِ إلَهًا مَحْمُودًا بَلْ وَلَا مَوْجُودًا وَكَذَلِكَ مَنْ شَارَكَهُمْ فِي بَعْضِ ذَلِكَ كَاَلَّذِينَ قَالُوا لَا يَتَكَلَّمُ أَوْ لَا يَرَى أَوْ لَيْسَ فَوْقَ الْعَالَمِ أَوْ لَمْ يَسْتَوِ عَلَى الْعَرْشِ وَيَقُولُونَ : لَيْسَ بِدَاخِلِ الْعَالَمِ وَلَا خَارِجَهُ وَلَا مُبَايِنًا لِلْعَالَمِ وَلَا محايثا لَهُ ؛ إذْ هَذِهِ الصِّفَاتُ يُمْكِنُ أَنْ يُوصَفَ بِهَا الْمَعْدُومُ ؛ وَلَيْسَتْ هِيَ صِفَةً مُسْتَلْزِمَةً صِفَةَ ثُبُوتٍ وَلِهَذَا " قَالَ مَحْمُودُ بْنُ سبكتكين " لِمَنْ ادَّعَى ذَلِكَ فِي الْخَالِقِ : مَيِّزْ لَنَا بَيْنَ هَذَا الرَّبِّ الَّذِي تُثْبِتُهُ وَبَيْنَ الْمَعْدُومِ . وَكَذَلِكَ كَوْنُهُ لَا يَتَكَلَّمُ أَوْ لَا يَنْزِلُ لَيْسَ فِي ذَلِكَ صِفَةُ مَدْحٍ وَلَا كَمَالٍ ؛ بَلْ هَذِهِ الصِّفَاتُ فِيهَا تَشْبِيهٌ لَهُ بِالْمَنْقُوصَاتِ أَوْ الْمَعْدُومَاتِ فَهَذِهِ الصِّفَاتُ : مِنْهَا مَا لَا يَتَّصِفُ بِهِ إلَّا الْمَعْدُومُ وَمِنْهَا مَا لَا يَتَّصِفُ بِهِ إلَّا الْجَمَادَاتُ وَالنَّاقِصُ فَمَنْ قَالَ : لَا هُوَ مُبَايِنٌ لِلْعَالَمِ وَلَا مُدَاخِلٌ لِلْعَالَمِ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ مَنْ قَالَ : لَا هُوَ قَائِمٌ بِنَفْسِهِ وَلَا بِغَيْرِهِ وَلَا قَدِيمٌ وَلَا مُحْدَثٌ وَلَا مُتَقَدِّمٌ عَلَى الْعَالَمِ وَلَا مُقَارِنٌ لَهُ وَمَنْ قَالَ : إنَّهُ لَيْسَ بِحَيِّ وَلَا مَيِّتٍ وَلَا سَمِيعٍ وَلَا بَصِيرٍ وَلَا مُتَكَلِّمٍ لَزِمَهُ أَنْ يَكُونَ مَيِّتًا أَصَمَّ أَعْمَى أَبْكَمَ .(1/54)
فَإِنْ قَالَ : الْعَمَى عَدَمُ الْبَصَرِ عَمَّا مَنْ شَأْنُهُ أَنْ يَقْبَلَ الْبَصَرَ وَمَا لَمْ يَقْبَلْ الْبَصَرَ كَالْحَائِطِ لَا يُقَالُ لَهُ أَعْمَى وَلَا بَصِيرٌ قِيلَ لَهُ : هَذَا اصْطِلَاحٌ اصْطَلَحْتُمُوهُ وَإِلَّا فَمَا يُوصَفُ بِعَدَمِ الْحَيَاةِ وَالسَّمْعِ وَالْبَصَرِ وَالْكَلَامِ : يُمْكِنُ وَصْفُهُ بِالْمَوْتِ وَالْعَمَى وَالْخَرَسِ وَالْعُجْمَةِ وَأَيْضًا فَكُلُّ مَوْجُودٍ يَقْبَلُ الِاتِّصَافَ بِهَذِهِ الْأُمُورِ وَنَقَائِضِهَا فَإِنَّ اللَّهَ قَادِرٌ عَلَى جَعْلِ الْجَمَادِ حَيًّا كَمَا جَعَلَ عَصَى مُوسَى حَيَّةً ابْتَلَعَتْ الْحِبَالَ وَالْعِصِيَّ وَأَيْضًا فَاَلَّذِي لَا يَقْبَلُ الِاتِّصَافَ بِهَذِهِ الصِّفَاتِ أَعْظَمُ نَقْصًا مِمَّنْ لَا يَقْبَلُ الِاتِّصَافَ بِهَا مَعَ اتِّصَافِهِ بِنَقَائِضِهَا , فَالْجَمَادُ الَّذِي لَا يُوصَفُ بِالْبَصَرِ وَلَا الْعَمَى وَلَا الْكَلَامِ وَلَا الْخَرَسِ : أَعْظَمُ نَقْصًا مِنْ الْحَيِّ الْأَعْمَى الْأَخْرَسِ فَإِذَا قِيلَ : إنَّ الْبَارِي لَا يُمْكِنُ اتِّصَافُهُ بِذَلِكَ : كَانَ فِي ذَلِكَ مِنْ وَصْفِهِ بِالنَّقْصِ أَعْظَمُ مِمَّا إذَا وُصِفَ بِالْخَرَسِ وَالْعَمَى وَالصَّمَمِ وَنَحْوَ ذَلِكَ ؛ مَعَ أَنَّهُ إذَا جُعِلَ غَيْرَ قَابِلٍ لَهَا كَانَ تَشْبِيهًا لَهُ بِالْجَمَادِ الَّذِي لَا يَقْبَلُ الِاتِّصَافَ بِوَاحِدِ مِنْهَا .(1/55)
وَهَذَا تَشْبِيهٌ بِالْجَمَادَاتِ ؛ لَا بِالْحَيَوَانَاتِ ، فَكَيْفَ مَنْ قَالَ ذَلِكَ غَيْرُهُ مِمَّا يَزْعُمُ أَنَّهُ تَشْبِيهٌ بِالْحَيِّ وَأَيْضًا فَنَفْسُ نَفْيِ هَذِهِ الصِّفَاتِ نَقْصٌ كَمَا أَنَّ إثْبَاتَهَا كَمَالٌ فَالْحَيَاةُ مِنْ حَيْثُ هِيَ هِيَ مَعَ قَطْعِ النَّظَرِ عَنْ تَعْيِينِ الْمَوْصُوفِ بِهَا صِفَةُ كَمَالٍ ، وَكَذَلِكَ الْعِلْمُ وَالْقُدْرَةُ وَالسَّمْعُ وَالْبَصَرُ وَالْكَلَامُ وَالْفِعْلُ وَنَحْوُ ذَلِكَ ؛ وَمَا كَانَ صِفَةَ كَمَالٍ : فَهُوَ سُبْحَانَهُ أَحَقُّ أَنْ يَتَّصِفَ بِهِ مِنْ الْمَخْلُوقَاتِ فَلَوْ لَمْ يَتَّصِفْ بِهِ مَعَ اتِّصَافِ الْمَخْلُوقِ بِهِ : لَكَانَ الْمَخْلُوقُ أَكْمَلَ مِنْهُ )(1/56)
الفرع الثالث:- اتفق سلف الأمة رحمهم الله تعالى على أن معاني الصفات معلومة ، وأن كيفياتها على ما هي عليه مجهولة ، فالعلم بمعاني الصفات متفق عليه بين الأئمة من أهل السنة والجماعة وذلك لأن الله تعالى خاطبنا باللسان العربي ، فالواجب علينا حمل هذه الألفاظ على المعاني المتقررة عند أهل السنة والجماعة ، ولأن الله تعالى قد أمرنا بتدبر القرآن كله ، وأكثره من آيات الصفات فهي داخلة في عموم الأمر بالتدبر ، فلما أمرنا الله تعالى بتدبرها علمنا أنها مما يمكن أن تتدبر ، إذ كيف يأمرنا بتدبر ما لا يمكن أن يفهم معناه ، وعلى هذا الفهم جرى أهل السنة من سلف هذه الأمة ، فقالوا :- أمروها كما جاءت بلا كيف ، وهي إنما جاءت بإثبات معان لائقة بالله تعالى ولما سأل رجل الإمام مالك رحمه الله تعالى فقال له :- يا إمام ، " الرحمن على العرش استوى " كيف استوى ؟ فأطرق الإمام حتى علاه الرحضاء - أي العرق - فرفع رأسه فقال :- الاستواء معلوم ، والكيف غير معقول ، والإيمان به واجب ، والسؤال عنه بدعة ، فصارت من جملة عقائد الأمة ، فالصفات تعلم باعتبار ، وتجهل باعتبار ، فتعلم باعتبار معانيها اللغوية ، وتجهل باعتبار كيفياتها ، هذا فهم السلف ، ومن نسب السلف لغير هذا فقد كذب أو ضل ، أو أخطأ ، فالسلف متفقون على العلم بالمعنى ، ومتفقون على الجهل بالكيف ، لأن العلم بالكيفية لا يكون إلا برؤية الشيء أو رؤية نظيره أو إخبار الصادق عن هذه الكيفية ، وكلها منتفية في حق كيفية صفات الله تعالى ، وقد أخطأ بعض المنتسبين للسنة لما نسب إلى السلف الجهل بالمعنى ، هذا خطأ على السلف والخلاصة أن فهم السلف في هذه المسألة هو العلم بالمعنى والجهل بالكيف ، وأما من حاد عن سبيلهم وتنكب الصراط المستقيم ، فإنه قال بقولين ضالين كل الضلال ، الأول :- قول المفوضة وهو القائلون بأن معاني الصفات غير معلومة لنا ، فنحن لا نعلم معنى الوجه ولا معنى اليد ولا معنى(1/57)
السمع ولا معنى البصر ولا معنى الرقابة ولا معنى العلو ولا معنى الاستواء ، وهكذا في سائر الصفات فألفاظ الصفات عندهم بمنزلة اللغة الأجنبية التي يقرؤونها ولا يعرفون معناها ، وهذا من شر أقوال أهل البدع ، والطائفة الثانية قالت :- بل المعاني معلومة والكيفيات معلومة ، وهم الممثلة ، فلم يقتصروا على العلم بالمعنى فقط ، بل عدوه إلى العلم بالكيفية والعياذ بالله تعالى ، وكلا المذهبين باطل ، وضلال ، لأنه مخالف للأدلة من الكتاب والسنة ، ولأنه مخالف لإجماع سلف الأمة ومخالف لفهم الأئمة من أهل السنة والجماعة ، فتوسط أهل السنة في هذه المسألة ، وقالوا :- أما المعنى فهو معلوم ، وأما الكيف فهو مجهول ، وهذا هو الحق الذي لا أحق منه ، والمتفق مع الأدلة من الكتاب والسنة ، وهو الفهم الصحيح الذي يحبه الله تعالى ويرضاه ، وما سواه فبطال وضلال وبعد عن الحق والهدى ، فحيث كان فهم الخلف من أهل البدع مخالفا لفهم السلف الصالح فهو باطل ، لأن المتقرر أن كل فهم يخالف فهم السلف في العقيدة والعمل فهو باطل ، قال ابن تيمية رحمه الله تعالى (الْقَاعِدَةُ الْخَامِسَةُ أَنَّا نَعْلَمُ لَمَّا أُخْبِرْنَا بِهِ مِنْ وَجْهٍ دُونَ وَجْهٍ .(1/58)
فَإِنَّ اللَّهَ قَالَ { أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا } وَقَالَ { أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ } وَقَالَ { كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ } وَقَالَ { أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا } فَأَمَرَ بِتَدَبُّرِ الْكِتَابِ كُلِّهِ وَقَدْ قَالَ تَعَالَى { هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ } وَجُمْهُورُ سَلَفِ الْأُمَّةِ وَخَلَفِهَا عَلَى أَنَّ الْوَقْفَ عَلَى قَوْلِهِ { وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إلَّا اللَّهُ } وَهَذَا هُوَ الْمَأْثُورُ عَنْ أبي بْنِ كَعْبٍ وَابْنِ مَسْعُودٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَغَيْرِهِمْ وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ : التَّفْسِيرُ عَلَى أَرْبَعَةِ أَوْجُهٍ تَفْسِيرٌ تَعْرِفُهُ الْعَرَبُ مِنْ كَلَامِهَا وَتَفْسِيرٌ لَا يُعْذَرُ أَحَدٌ بِجَهَالَتِهِ وَتَفْسِيرٌ يَعْلَمُهُ الْعُلَمَاءُ وَتَفْسِيرٌ لَا يَعْلَمُهُ إلَّا اللَّهُ مَنْ ادَّعَى عِلْمَهُ فَهُوَ كَاذِبٌ وَقَدْ رُوِيَ عَنْ مُجَاهِدٍ وَطَائِفَةٍ : أَنَّ الرَّاسِخِينَ فِي الْعِلْمِ يَعْلَمُونَ تَأْوِيلَهُ وَقَدْ قَالَ مُجَاهِدٌ : عَرَضْت الْمُصْحَفَ عَلَى ابْنِ عَبَّاسٍ مِنْ فَاتِحَتِهِ إلَى خَاتِمَتِهِ أُوقِفُهُ عِنْدَ كُلِّ آيَةٍ وَأَسْأَلُهُ(1/59)
عَنْ تَفْسِيرِهَا وَلَا مُنَافَاةَ بَيْنَ الْقَوْلَيْنِ عِنْدَ التَّحْقِيقِ فَإِنَّ لَفْظَ ( التَّأْوِيلِ قَدْ صَارَ بِتَعَدُّدِ الِاصْطِلَاحَاتِ مُسْتَعْمَلًا فِي ثَلَاثَةِ مَعَانٍ : - ( أَحَدُهَا - وَهُوَ اصْطِلَاحُ كَثِيرٍ مِنْ الْمُتَأَخِّرِينَ مِنْ الْمُتَكَلِّمِينَ فِي الْفِقْهِ وَأُصُولِهِ أَنَّ ( التَّأْوِيلَ هُوَ صَرْفُ اللَّفْظِ عَنْ الِاحْتِمَالِ الرَّاجِحِ إلَى الِاحْتِمَالِ الْمَرْجُوحِ ؛ لِدَلِيلِ يَقْتَرِنُ بِهِ وَهَذَا هُوَ الَّذِي عَنَاهُ أَكْثَرُ مَنْ تَكَلَّمَ مِنْ الْمُتَأَخِّرِينَ فِي تَأْوِيلِ نُصُوصِ الصِّفَاتِ وَتَرْكِ تَأْوِيلِهَا ؛ وَهَلْ ذَلِكَ مَحْمُودٌ أَوْ مَذْمُومٌ أَوْ حَقٌّ أَوْ بَاطِلٌ ؟ . .(1/60)
الثَّانِي : أَنَّ التَّأْوِيلَ بِمَعْنَى التَّفْسِيرِ وَهَذَا هُوَ الْغَالِبُ عَلَى اصْطِلَاحِ الْمُفَسِّرِينَ لِلْقُرْآنِ كَمَا يَقُولُ ابْنُ جَرِيرٍ وَأَمْثَالُهُ - مِنْ الْمُصَنِّفِينَ فِي التَّفْسِيرِ - وَاخْتَلَفَ عُلَمَاءُ التَّأْوِيلِ وَمُجَاهِدٌ إمَامُ الْمُفَسِّرِينَ ؛ قَالَ الثَّوْرِيُّ : " إذَا جَاءَك التَّفْسِيرُ عَنْ مُجَاهِدٍ فَحَسْبُك بِهِ " وَعَلَى تَفْسِيرِهِ يَعْتَمِدُ الشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ وَالْبُخَارِيُّ وَغَيْرُهُمَا فَإِذَا ذَكَرَ أَنَّهُ يَعْلَمُ تَأْوِيلَ الْمُتَشَابِهِ فَالْمُرَادُ بِهِ مَعْرِفَةُ تَفْسِيرِهِ الثَّالِثُ مِنْ مَعَانِي التَّأْوِيلِ : هُوَ الْحَقِيقَةُ الَّتِي يُؤَوَّلُ إلَيْهَا الْكَلَامُ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { هَلْ يَنْظُرُونَ إلَّا تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ } فَتَأْوِيلُ مَا فِي الْقُرْآنِ مِنْ أَخْبَارِ الْمُعَادِ هُوَ مَا أَخْبَرَ اللَّهُ بِهِ فِيهِ مِمَّا يَكُونُ : مِنْ الْقِيَامَةِ وَالْحِسَابِ وَالْجَزَاءِ وَالْجَنَّةِ وَالنَّارِ وَنَحْوِ ذَلِكَ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِي قِصَّةِ يُوسُفَ لَمَّا سَجَدَ أَبَوَاهُ وَإِخْوَتُهُ قَالَ { يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ } فَجَعَلَ عَيْنَ مَا وَجَدَ فِي الْخَارِجِ هُوَ تَأْوِيلَ الرُّؤْيَا الثَّانِي : هُوَ تَفْسِيرُ الْكَلَامِ وَهُوَ الْكَلَامُ الَّذِي يُفَسَّرُ بِهِ اللَّفْظُ حَتَّى يُفْهَمَ مَعْنَاهُ أَوْ تُعْرَفَ عِلَّتُهُ أَوْ دَلِيلُهُ وَهَذَا التَّأْوِيلُ الثَّالِثُ هُوَ عَيْنُ مَا هُوَ مَوْجُودٌ فِي الْخَارِجِ وَمِنْهُ قَوْلُ عَائِشَةَ { كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ فِي رُكُوعِهِ وَسُجُودِهِ : سُبْحَانَك اللَّهُمَّ رَبَّنَا(1/61)
وَبِحَمْدِك اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي } يَتَأَوَّلُ الْقُرْآنَ يَعْنِي قَوْلَهُ { فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ } وَقَوْلُ سُفْيَانَ بْنِ عيينة : السُّنَّةُ هِيَ تَأْوِيلُ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ فَإِنَّ نَفْسَ الْفِعْلِ الْمَأْمُورِ بِهِ هُوَ تَأْوِيلُ الْأَمْرِ بِهِ وَنَفْسَ الْمَوْجُودِ الْمُخْبَرِ عَنْهُ هُوَ تَأْوِيلُ الْخَبَرِ وَالْكَلَامُ خَبَرٌ وَأَمْرٌ وَلِهَذَا يَقُولُ أَبُو عُبَيْدٍ وَغَيْرُهُ : الْفُقَهَاءُ أَعْلَمُ بِالتَّأْوِيلِ مِنْ أَهْلِ اللُّغَةِ كَمَا ذَكَرُوا ذَلِكَ فِي تَفْسِيرِ اشْتِمَالِ الصَّمَّاءِ ؛ لِأَنَّ الْفُقَهَاءَ يَعْلَمُونَ تَفْسِيرَ مَا أَمَرَ بِهِ وَنَهَى عَنْهُ ؛ لِعِلْمِهِمْ بِمَقَاصِدِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا يَعْلَمُ أَتْبَاعُ بقراط وَسِيبَوَيْهِ وَنَحْوِهِمَا مِنْ مَقَاصِدِهِمَا مَا لَا يُعْلَمُ بِمُجَرَّدِ اللُّغَةِ ؛ وَلَكِنَّ تَأْوِيلَ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ لَا بُدَّ مِنْ مَعْرِفَتِهِ بِخِلَافِ تَأْوِيلِ الْخَبَرِ .(1/62)
إذَا عُرِفَ ذَلِكَ : فَتَأْوِيلُ مَا أَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ عَنْ نَفْسِهِ الْمُقَدَّسَةِ الْمُتَّصِفَةِ بِمَا لَهَا مِنْ حَقَائِقِ الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ هُوَ حَقِيقَةٌ لِنَفْسِهِ الْمُقَدَّسَةِ الْمُتَّصِفَةِ بِمَا لَهَا مِنْ حَقَائِقِ الصِّفَاتِ وَتَأْوِيلِ مَا أَخْبَرَ اللَّهُ بِهِ تَعَالَى مِنْ الْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ هُوَ نَفْسُ مَا يَكُونُ مِنْ الْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ وَلِهَذَا مَا يَجِيءُ فِي الْحَدِيثِ نَعْمَلُ بِمُحْكَمِهِ وَنُؤْمِنُ بِمُتَشَابِهِهِ لِأَنَّ مَا أَخْبَرَ اللَّهُ بِهِ عَنْ نَفْسِهِ وَعَنْ الْيَوْمِ الْآخِرِ فِيهِ أَلْفَاظٌ مُتَشَابِهَةٌ يُشْبِهُ مَعَانِيهَا مَا نَعْلَمُهُ فِي الدُّنْيَا كَمَا أَخْبَرَ أَنَّ فِي الْجَنَّةِ لَحْمًا وَلَبَنًا وَعَسَلًا وَخَمْرًا وَنَحْوَ ذَلِكَ وَهَذَا يُشْبِهُ مَا فِي الدُّنْيَا لَفْظًا وَمَعْنًى ؛ وَلَكِنْ لَيْسَ هُوَ مِثْلَهُ وَلَا حَقِيقَتَهُ فَأَسْمَاءُ اللَّهِ تَعَالَى وَصِفَاتُهُ أَوْلَى وَإِنْ كَانَ بَيْنَهُمَا وَبَيْنَ أَسْمَاءِ الْعِبَادِ وَصِفَاتِهِمْ تَشَابُهٌ أَنْ لَا يَكُونَ لِأَجْلِهَا الْخَالِقُ مِثْلَ الْمَخْلُوقِ ، وَلَا حَقِيقَتُهُ كَحَقِيقَتِهِ وَالْإِخْبَارُ عَنْ الْغَائِبِ لَا يُفْهَمُ إنْ لَمْ يُعَبَّرْ عَنْهُ بِالْأَسْمَاءِ الْمَعْلُومَةِ مَعَانِيهَا فِي الشَّاهِدِ وَيُعْلَمُ بِهَا مَا فِي الْغَائِبِ بِوَاسِطَةِ الْعِلْمِ بِمَا فِي الشَّاهِدِ ؛ مَعَ الْعِلْمِ بِالْفَارِقِ الْمُمَيِّزِ وَأَنَّ مَا أَخْبَرَ اللَّهُ بِهِ مِنْ الْغَيْبِ أَعْظَمُ مِمَّا يُعْلَمُ فِي الشَّاهِدِ وَفِي الْغَائِبِ مَا لَا عَيْنٌ رَأَتْ وَلَا أُذُنٌ سَمِعَتْ وَلَا خَطَرَ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ فَنَحْنُ إذَا أَخْبَرَنَا اللَّهُ بِالْغَيْبِ الَّذِي اخْتَصَّ بِهِ مِنْ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ عَلِمْنَا مَعْنَى ذَلِكَ(1/63)
وَفَهِمْنَا مَا أُرِيدَ مِنَّا فَهْمُهُ بِذَلِكَ الْخِطَابِ وَفَسَّرْنَا ذَلِكَ وَأَمَّا نَفْسُ الْحَقِيقَةِ الْمُخْبَرِ عَنْهَا مِثْلَ الَّتِي لَمْ تَكُنْ بَعْدُ ؛ وَإِنَّمَا تَكُونُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَذَلِكَ مِنْ التَّأْوِيلِ الَّذِي لَا يَعْلَمُهُ إلَّا اللَّهُ وَلِهَذَا لَمَّا سُئِلَ مَالِكٌ وَغَيْرُهُ مِنْ السَّلَفِ عَنْ قَوْله تَعَالَى { الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى } قَالُوا : الِاسْتِوَاءُ مَعْلُومٌ وَالْكَيْفُ مَجْهُولٌ وَالْإِيمَانُ بِهِ وَاجِبٌ وَالسُّؤَالُ عَنْهُ بِدْعَةٌ ، وَكَذَلِكَ قَالَ رَبِيعَةُ شَيْخُ مَالِكٍ قَبْلَهُ : الِاسْتِوَاءُ مَعْلُومٌ وَالْكَيْفُ مَجْهُولٌ وَمِنْ اللَّهِ الْبَيَانُ وَعَلَى الرَّسُولِ الْبَلَاغُ وَعَلَيْنَا الْإِيمَانُ فَبَيَّنَ أَنَّ الِاسْتِوَاءَ مَعْلُومٌ وَأَنَّ كَيْفِيَّةَ ذَلِكَ مَجْهُولٌ ، وَمِثْلُ هَذَا يُوجَدُ كَثِيرًا فِي كَلَامِ السَّلَفِ ، وَالْأَئِمَّةُ يَنْفُونَ عِلْمَ الْعِبَادِ بِكَيْفِيَّةِ صِفَاتِ اللَّهِ وَأَنَّهُ لَا يَعْلَمُ كَيْفَ اللَّهُ إلَّا اللَّهُ فَلَا يَعْلَمُ مَا هُوَ إلَّا هُوَ ، وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم { لَا أُحْصِي ثَنَاءً عَلَيْك أَنْتَ كَمَا أَثْنَيْت عَلَى نَفْسِك } وَهَذَا فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ وَغَيْرِهِ وَقَالَ فِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ { اللَّهُمَّ إنِّي أَسْأَلُك بِكُلِّ اسْمٍ هُوَ لَك سَمَّيْت بِهِ نَفْسَكَ أَوْ أَنْزَلْته فِي كِتَابِك أَوْ عَلَّمْته أَحَدًا مَنْ خَلْقِك أَوْ اسْتَأْثَرْت بِهِ فِي عِلْمِ الْغَيْبِ عِنْدَك } وَهَذَا الْحَدِيثُ فِي الْمُسْنَدِ ، وَصَحِيحِ أَبِي حَاتِمٍ وَقَدْ أَخْبَرَ فِيهِ أَنَّ لِلَّهِ مِنْ الْأَسْمَاءِ مَا اسْتَأْثَرَ بِهِ فِي عِلْمِ الْغَيْبِ عِنْدَهُ فَمَعَانِي هَذِهِ الْأَسْمَاءِ الَّتِي اسْتَأْثَرَ بِهَا فِي عِلْمِ الْغَيْبِ(1/64)
عِنْدَهُ لَا يَعْلَمُهَا غَيْرُهُ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ أَخْبَرَنَا أَنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ سَمِيعٌ بَصِيرٌ غَفُورٌ رَحِيمٌ ؛ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ أَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ فَنَحْنُ نَفْهَمُ مَعْنَى ذَلِكَ وَنُمَيِّزُ بَيْنَ الْعِلْمِ وَالْقُدْرَةِ وَبَيْنَ الرَّحْمَةِ وَالسَّمْعِ وَالْبَصَرِ ، وَنَعْلَمُ أَنَّ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا اتَّفَقَتْ فِي دَلَالَتِهَا عَلَى ذَاتِ اللَّهِ مَعَ تَنَوُّعِ مَعَانِيهَا فَهِيَ مُتَّفِقَةٌ مُتَوَاطِئَةٌ مِنْ حَيْثُ الذَّاتُ مُتَبَايِنَةٌ مِنْ جِهَةِ الصِّفَاتِ ) وقال رحمه الله تعالى (قَوْلُ السَّائِلِ : كَيْفَ يَنْزِلُ ؟ بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ : كَيْفَ اسْتَوَى؟ وَقَوْلُهُ : كَيْفَ يَسْمَعُ ؟ وَكَيْفَ يُبْصِرُ ؟ وَكَيْفَ يَعْلَمُ وَيُقَدِّرُ ؟ وَكَيْفَ يَخْلُقُ وَيَرْزُقُ ؟ وَقَدْ تَقَدَّمَ الْجَوَابُ عَنْ مِثْلِ هَذَا السُّؤَالِ مِنْ أَئِمَّةِ الْإِسْلَامِ مِثْلِ : مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ وَشَيْخِهِ رَبِيعَةَ بْنِ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ ؛ فَإِنَّهُ قَدْ رُوِيَ مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ أَنَّ سَائِلًا سَأَلَ مَالِكًا عَنْ قَوْلِهِ { الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى } كَيْفَ اسْتَوَى ؟ فَأَطْرَقَ مَالِكٌ حَتَّى عَلَاهُ الرُّحَضَاءُ ثُمَّ قَالَ : الِاسْتِوَاءُ مَعْلُومٌ وَالْكَيْفُ مَجْهُولٌ وَالْإِيمَانُ بِهِ وَاجِبٌ وَالسُّؤَالُ عَنْهُ بِدْعَةٌ وَمَا أُرَاك إلَّا رَجُلُ سَوْءٍ ثُمَّ أَمَرَ بِهِ فَأُخْرِجَ .(1/65)
وَمِثْلُ هَذَا الْجَوَابِ ثَابِتٌ عَنْ رَبِيعَةَ شَيْخِ مَالِكٍ وَقَدْ رُوِيَ هَذَا الْجَوَابُ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا مَوْقُوفًا وَمَرْفُوعًا وَلَكِنْ لَيْسَ إسْنَادُهُ مِمَّا يُعْتَمَدُ عَلَيْهِ وَهَكَذَا سَائِرُ الْأَئِمَّةِ قَوْلُهُمْ يُوَافِقُ قَوْلَ مَالِكٍ : فِي أَنَّا لَا نَعْلَمُ كَيْفِيَّةَ اسْتِوَائِهِ كَمَا لَا نَعْلَمُ كَيْفِيَّةَ ذَاتِهِ وَلَكِنْ نَعْلَمُ الْمَعْنَى الَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ الْخِطَابُ فَنَعْلَمُ مَعْنَى الِاسْتِوَاءِ وَلَا نَعْلَمُ كَيْفِيَّتَهُ وَكَذَلِكَ نَعْلَمُ مَعْنَى النُّزُولِ وَلَا نَعْلَمُ كَيْفِيَّتَهُ وَنَعْلَمُ مَعْنَى السَّمْعِ وَالْبَصَرِ وَالْعِلْمِ وَالْقُدْرَةِ وَلَا نَعْلَمُ كَيْفِيَّةَ ذَلِكَ وَنَعْلَمُ مَعْنَى الرَّحْمَةِ وَالْغَضَبِ وَالرِّضَا وَالْفَرَحِ وَالضَّحِكِ وَلَا نَعْلَمُ كَيْفِيَّةَ ذَلِكَ ) وقال شيخ الإسلام أيضا :- (فَإِنَّ أَكْثَرَ آيَاتِ الصِّفَاتِ اتَّفَقَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى أَنَّهُ يُعْرَفُ مَعْنَاهَا وَالْبَعْضُ الَّذِي تَنَازَعَ النَّاس فِي مَعْنَاهُ إنَّمَا ذَمَّ السَّلَفُ مِنْهُ تَأْوِيلَاتِ الجهمية وَنَفَوْا عِلْمَ النَّاسِ بِكَيْفِيَّتِهِ : كَقَوْلِ مَالِكٍ : الِاسْتِوَاءُ مَعْلُومٌ وَالْكَيْفُ مَجْهُولٌ وَالْإِيمَانُ بِهِ وَاجِبٌ وَالسُّؤَالُ عَنْهُ بِدْعَةٌ . وَكَذَلِكَ قَالَ سَائِرُ أَئِمَّةِ السُّنَّةِ . وَحِينَئِذٍ فَفَرْقٌ بَيْنَ الْمَعْنَى الْمَعْلُومِ وَبَيْنَ الْكَيْفِ الْمَجْهُولِ فَإِنْ سُمِّيَ الْكَيْفُ تَأْوِيلًا سَاغَ أَنْ يُقَالَ : هَذَا التَّأْوِيلُ لَا يَعْلَمُهُ إلَّا اللَّهُ كَمَا قَدَّمْنَاهُ أَوَّلًا .(1/66)
وَأَمَّا إذَا جَعَلَ مَعْرِفَةَ الْمَعْنَى وَتَفْسِيرَهُ تَأْوِيلًا كَمَا يَجْعَلُ مَعْرِفَةَ سَائِرِ آيَاتِ الْقُرْآنِ تَأْوِيلًا وَقِيلَ : إنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَجِبْرِيلَ وَالصَّحَابَةَ وَالتَّابِعِينَ مَا كَانُوا يَعْرِفُونَ مَعْنَى قَوْلِهِ { الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى } وَلَا يَعْرِفُونَ مَعْنَى قَوْلِهِ { مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ } وَلَا مَعْنَى قَوْلِهِ { غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ } بَلْ هَذَا عِنْدَهُمْ بِمَنْزِلَةِ الْكَلَامِ الْعَجَمِيِّ الَّذِي لَا يَفْهَمُهُ الْعَرَبِيُّ, وَكَذَلِكَ إذَا قِيلَ كَانَ عِنْدَهُمْ قَوْلُهُ تَعَالَى { وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ } وَقَوْلُهُ { لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ } وَقَوْلُهُ { وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا بَصِيرًا } وَقَوْلُهُ { رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ } وَقَوْلُهُ { ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ } وَقَوْلُهُ { وَأَحْسِنُوا إنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ } وَقَوْلُهُ { وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ } وَقَوْلُهُ { إنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا } وَقَوْلُهُ { فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ } وَقَوْلُهُ { فَلَمَّا جَاءَهَا نُودِيَ أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَهَا } وَقَوْلُهُ { هَلْ يَنْظُرُونَ إلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلَائِكَةُ } وَقَوْلُهُ { وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا } وَقَوْلُهُ { هَلْ يَنْظُرُونَ إلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ(1/67)
أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ } وَقَوْلُهُ { ثُمَّ اسْتَوَى إلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ } وَقَوْلُهُ { إنَّمَا أَمْرُهُ إذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ } إلَى أَمْثَالِ هَذِهِ الْآيَاتِ فَمَنْ قَالَ عَنْ جِبْرِيلَ وَمُحَمَّدٍ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِمَا وَعَنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ لَهُمْ بِإِحْسَانِ وَأَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ وَالْجَمَاعَةِ : أَنَّهُمْ كَانُوا لَا يَعْرِفُونَ شَيْئًا مِنْ مَعَانِي هَذِهِ الْآيَاتِ بَلْ اسْتَأْثَرَ اللَّهُ بِعِلْمِ مَعْنَاهَا كَمَا اسْتَأْثَرَ بِعِلْمِ وَقْتِ السَّاعَةِ وَإِنَّمَا كَانُوا يَقْرَءُونَ أَلْفَاظًا لَا يَفْهَمُونَ لَهَا مَعْنًى كَمَا يَقْرَأُ الْإِنْسَانُ كَلَامًا لَا يَفْهَمُ مِنْهُ شَيْئًا فَقَدْ كَذَبَ عَلَى الْقَوْمِ وَالنُّقُولُ الْمُتَوَاتِرَةُ عَنْهُمْ تَدُلُّ عَلَى نَقِيضِ هَذَا وَأَنَّهُمْ كَانُوا يَفْهَمُونَ هَذَا كَمَا يَفْهَمُونَ غَيْرَهُ مِنْ الْقُرْآنِ وَإِنْ كَانَ كُنْهُ الرَّبِّ عَزَّ وَجَلَّ لَا يُحِيطُ بِهِ الْعِبَادُ وَلَا يُحْصُونَ ثَنَاءً عَلَيْهِ فَذَاكَ لَا يَمْنَعُ أَنْ يَعْلَمُوا مِنْ أَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ مَا عَلَّمَهُمْ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى كَمَا أَنَّهُمْ إذَا عَلِمُوا أَنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ لَمْ يَلْزَمْ أَنْ يَعْرِفُوا كَيْفِيَّةَ عِلْمِهِ وَقُدْرَتِهِ , وَإِذَا عَرَفُوا أَنَّهُ حَقٌّ مَوْجُودٌ لَمْ يَلْزَمْ أَنْ يَعْرِفُوا كَيْفِيَّةَ ذَاتِهِ , وَهَذَا مِمَّا يُسْتَدَلُّ بِهِ عَلَى أَنَّ الرَّاسِخِينَ فِي الْعِلْمِ يَعْلَمُونَ التَّأْوِيلَ فَإِنَّ النَّاسَ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّهُمْ يَعْرِفُونَ تَأْوِيلَ الْمُحْكَمِ وَمَعْلُومٌ أَنَّهُمْ لَا يَعْرِفُونَ كَيْفِيَّةَ مَا(1/68)
أَخْبَرَ اللَّهُ بِهِ عَنْ نَفْسِهِ فِي الْآيَاتِ الْمُحْكَمَاتِ فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ عَدَمَ الْعِلْمِ بِالْكَيْفِيَّةِ لَا يَنْفِي الْعِلْمَ بِالتَّأْوِيلِ الَّذِي هُوَ تَفْسِيرُ الْكَلَامِ وَبَيَانُ مَعْنَاهُ ؛ بَلْ يَعْلَمُونَ تَأْوِيلَ الْمُحْكَمِ وَالْمُتَشَابِهِ وَلَا يَعْرِفُونَ كَيْفِيَّةَ الرَّبِّ لَا فِي هَذَا وَلَا فِي هَذَا) والخلاصة أن تعرف أن الهدى والحق والتوفيق إنما هو في فهم السلف الصالح ، وفهمهم في هذه المسألة هو العلم بالمعنى والجهل بالكيف ، والله أعلم .(1/69)
الفرع الرابع:- أجمع سلف الأمة وأئمتها على أن باب الأسماء والصفات لله تعالى من الأبواب التوقيفية على النص ، فلا مدخل للعقول فيها ، فلا يدخلون في هذا الباب متأولين بآرائهم ولا متوهمين بأهوائهم ، بل هذا الباب يدور على ما أثبته الدليل ، فما أثبته النص من الأسماء والصفات أثبتوه ، وما نفاه نفوه ، لا يتعدون القرآن والحديث ، ففهم سلف الأمة أن هذا الباب لا مدخل لعقولهم فيه ، لأنه باب غيبي ، والمتقرر أن الأبواب الغيبية لا مدخل للعقول فيها ، وليس إدراك هذا الباب على وجه التفصيل مما تستقل به العقول ، هذا هو فهم السلف الصالح ، وهو الحق في هذا الباب , فإنه ما دخل التيه والحيرة والمذاهب الباطلة والسؤالات العقيمة على هذا الباب إلا بسبب إقحام العقل فيه ، وما ضل من ضل في هذا الباب إلا بسبب تحكيم عقله فيما هو من وراء الغيب فإن العقل لما خلقه الله تعالى خلقه ضعيفا ، وله حدود وطاقة ، فلا يزال تفكيره سليما ما دام داخل هذه الحدود ، وأما إن أخرجه صاحبه منها فإنه يضل ويتيه ، ولا يستقل العقل بمعرفة الحق لوحده بل لابد من نور الدليل ليقوده إلى شاطئ النجاة ، وأما هو لوحده فلا والله لا نجاة له ، لا سيما إن كان متعفنا بقواعد علم الكلام المذموم ، ومتربيا على عدم تقدير سلف الأمة وأئمتها ، فناهيك عن الضلال الذي سيحدثه هذا النوع من العقول ، والمهم أن تعرف الآن أن السلف رحمهم الله تعالى بنوا مذهبهم في الأسماء والصفات على التوقيف على الأدلة ، فليس هنا اسما نسبوه لله تعالى بمجرد عقولهم ، وليس هناك صفة نسبوها لله تعالى بمجرد عقولهم ، بل إثباتهم للأسماء وللصفات دائر مع النص الصحيح الصريح حيث دار ، هذا مذهبهم وهذا فهمهم ، وأما أهل البدع ، فإنهم جعلوا مبنى الإثبات والنفي في باب الأسماء والصفات على عقولهم ، فما أثبتته عقولهم من الصفات أثبتوه وإن لم يرد له دليل بخصوصه ، وما نفته عقولهم منها نفوه وإن وردت على إثباته(1/70)
الأدلة المتواترات فالاعتماد عندهم على العقل نفيا وإثباتا ، وهذا باطل ، وضلال ، فإن العقول لو كانت تعرف ما يليق بالله تعالى من الصفات على وجه التفصيل لما احتاجت البشرية إلى إرسال الرسل وإنزال الكتب ، ولما علق الهداية والصلاح على متابعة الوحي ، ثم إن العقول أقصر وأحقر من أن تدخل في باب هو من أبواب الغيب ، ثم إن العقول متفاوتة ، فبأي عقل نزن الكتاب والسنة ؟ أبعقل الأشعري الذي يثبت الأسماء وسبع صفات فقط ، أو بعقل المعتزلي الذي يثبت الأسماء وينفي الصفات ، أم بعقل الجهمي الذي ينكر الأسماء والصفات كلها ، أم بعقل الفلاسفة الذي ينكرون دخول الإثبات في صفات الله تعالى ولا يقرون إلا النفي فقط ، فيقولون :- املأ الدنيا نفيا ، ولكن لا تثبت صفة واحدة ، أم بعقل غلاة الغلاة من الباطنية والقرامطة الذين ينفون النفي والإثبات ، فيقولون :- لا حي ولا ميت ولا عالم ولا جاهل ولا موجود ولا معدوم ، فينفون الصفة ونقيضها ، بالله عليك ، أي العقول أحق أن تتبع ؟ هذا هو الضلال المبين ، وأما أهل السنة فإنهم قالوا :- بل عقولنا هي التي تتبع الدليل لا العكس ، فما أثبته الدليل فالحق والواجب على عقولنا أن تثبته ، وإن لم تعقل كنهه ، وما نفاه الدليل فالحق والواجب على عقولنا هو نفيه ، فالعقل في فهم السلف الصالح تابع للنقل ، لا يتقدم عليه ، ولا يتأخر عنه ، ولذلك فإنك لا ترى أي تنازع ولا أي اختلاف بين سلف الأمة في مسائل الاعتقاد التي هي بحق مسائل اعتقاد ، ذلك لأنهم بنوا مذهبهم على الكتاب والسنة ، وهي ثابتة لا تختلف ولا يدخلها التناقض ولا الاضطراب ولا يأتيها الباطل من بين يديها ولا من خلفها ، لأنها تنزيل من عند حكيم حميد ، وأما المذاهب الأخرى فناهيك عن الخلاف الذي يدب فيما بينها ، لا أقول في مذهبين مختلفين ، بل وفي المذهب الواحد ، فبالله عليك ألم تفترق الرافضة إلى عدة فرق ؟ ألم تفترق المعتزلة إلى عدة فرق ؟ ألم تفترق(1/71)
الجهمية إلى عدة فرق ؟ وغيرها وغيرها من المذاهب فبالله عليك ما السبب في هذا الاختلاف ؟ الجواب :- لأنهم بنوا عقائدهم على عقولهم ، لا على الكتاب والسنة ، وإن أخذوا ببعض الكتاب والسنة فإنهم يأخذونها على ما تهواه نفوسهم وتمليه عقولهم لا على مقتضى فهم السلف الصالح ، فالأصل فيهم أنهم لا يأخذون بالدليل ، وإن أخذوا به أخذوا به على غير فهم السلف ، فلا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم ، فإن أردت النجاة في باب الأسماء والصفات فما لك إلا أن تأخذ بفهم السلف فيه ، وهو أنهم فهموا أنه من الأبواب الغيبية ، التي لا مدخل للعقل فيه ، يا رب أسألك باسمك الأعظم أن توفق إخواني للهدى والثبات عليه إلى أن نلقاك ، وأن تعيذني وإخواني من نزغات الشياطين ، فيا أخي أنشدك الله تعالى أن تتمسك بالنص في هذا الباب العقدي ، بل وفي كل باب إن كنت تريد النجاة في الدنيا والآخرة والله ربنا يتولاك لما فيه خيرك وصلاحك .(1/72)
الفرع الخامس:- اتفق سلف الأمة وأئمتها على اعتماد طريقة الرسل صلوات الله وسلامه عليهم في الإثبات المفصل والنفي المجمل ، فإن طريقة الرسل عليهم الصلاة والسلام في جانب إثبات الأسماء والصفات لله تعالى هي التفصيل ، وفي جانب النفي هي الإجمال ، وهي طريقة القرآن والسنة وطريقة الصحابة والتابعين ، والطريقة المعتمدة عند سلف الأمة وعامة الأئمة ، وهو أصل من أصول أهل السنة في باب الأسماء والصفات ، وهي الطريقة التي هي جادة الأدب مع الله تعالى ، فأهل السنة اعتمدوا هذه الطريقة لأنها طريقة الرسل ، ولأنها طريقة الكتاب والسنة ، ولأنها طريقة السلف الصالح ، ولأنها تتضمن الأدب مع الله تعالى ، وعلى ذلك وردت الأدلة ، فاقرأ في الإثبات المفصل قوله تعالى { هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إلَهَ إلَّا هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ , هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إلَهَ إلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ } وهذا تفصيل في جانب الإثبات ، وفي غالب الآيات يختمها الله تعالى بذكر اسمين من أسمائه كقوله { وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ } وقوله { وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ } وقوله { وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ } في آيات كثيرة ،واقرأ في النفي قوله { وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ } وقوله { هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا } وقوله { فَلاَ تَضْرِبُواْ لِلّهِ الأَمْثَالَ إِنَّ اللّهَ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ } وقوله { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ } وهذه الطريقة أغلبية لا كلية ، أي أن الأغلب في الإثبات هو التفصيل ولكنه يرد بالإجمال(1/73)
أحيانا ، كقوله { وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى } وكقوله { وَلِلّهِ الأَسْمَاء الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا } والأغلب في طريقة النفي الإجمال ولكن قد يرد مفصلا أحيانا ، كما في قوله { لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ } وقوله { وَقُلِ الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَم يَكُن لَّهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُن لَّهُ وَلِيٌّ مِّنَ الذُّلَّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيرًا } لاسيما في نفي بعض صفات النقص التي تجرأ بعض الناس بنسبتها لله تعالى وبالجملة فهذا هو فهم سلف الأمة الصالح ، فهم يفهمون أن من كمال الأدب مع الله تعالى في الني الإجمال ، ويفهمون أن كمال الأدب مع الله تعالى في جانب الإثبات التفصيل ، وهذا الفهم الطيب متفق مع دلالة الكتاب والسنة ومتفق مع ما جاء به الرسل عليهم الصلاة والسلام ، وعلى هذه الطريقة جرت تقريراتهم في كتبهم وفي دروسهم ، وأما من زاغ وحاد عن سبيلهم فإنهم على الضد من ذلك تماما، فإنه في جانب الإثبات يجملون ، فلا يصفون الله تعالى إلا بأنه موجود الوجود المطلق أي الوجود بلا صفة ، وأما في النفي فإنهم يفصلون التفصيل المحدث المخترع الذي لا دليل عليه فصلا عن مخالفته للمتواتر من الكتاب والسنة ، وهذا فهم باطل ورأي عاطل ، قال أبو العباس رحمه الله تعالى(وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ بَعَثَ رُسُلَهُ بِإِثْبَاتِ مُفَصَّلٍ وَنَفْيٍ مُجْمَلٍ فَأَثْبَتُوا لِلَّهِ الصِّفَاتِ عَلَى وَجْهِ التَّفْصِيلِ وَنَفَوْا عَنْهُ مَا لَا يَصْلُحُ لَهُ مِنْ التَّشْبِيهِ وَالتَّمْثِيلِ كَمَا قَالَ تَعَالَى { فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا } قَالَ أَهْلُ اللُّغَةِ { هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا } أَيْ نَظِيرًا يَسْتَحِقُّ مِثْلَ اسْمِهِ وَيُقَالُ : مُسَامِيًا يُسَامِيهِ وَهَذَا مَعْنَى مَا يُرْوَى عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ ( هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا مَثِيلًا أَوْ(1/74)
شَبِيهًا وَقَالَ تَعَالَى { لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ } { وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ } وَقَالَ تَعَالَى { فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ } وَقَالَ تَعَالَى { وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ } وَقَالَ تَعَالَى { وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَصِفُونَ } { بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صَاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ } وَقَالَ تَعَالَى { تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا } { الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ } وَقَالَ تَعَالَى { فَاسْتَفْتِهِمْ أَلِرَبِّكَ الْبَنَاتُ وَلَهُمُ الْبَنُونَ , أَمْ خَلَقْنَا الْمَلَائِكَةَ إنَاثًا وَهُمْ شَاهِدُونَ , أَلَا إنَّهُمْ مِنْ إفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ , وَلَدَ اللَّهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ , أَاصْطَفَى الْبَنَاتِ عَلَى الْبَنِينَ , مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ , أَفَلَا تَذَكَّرُونَ , أَمْ لَكُمْ سُلْطَانٌ مُبِينٌ , فَأْتُوا بِكِتَابِكُمْ إنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ , وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَبًا وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ إنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ , سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ , إلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ } إلَى قَوْلِهِ { سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ , وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ , وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ } فَسَبَّحَ(1/75)
نَفْسَهُ عَمَّا يَصِفُهُ الْمُفْتَرُونَ الْمُشْرِكُونَ وَسَلَّمَ عَلَى الْمُرْسَلِينَ لِسَلَامَةِ مَا قَالُوهُ مِنْ الْإِفْكِ وَالشِّرْكِ وَحَمِدَ نَفْسَهُ ؛ إذْ هُوَ سُبْحَانَهُ الْمُسْتَحِقُّ لِلْحَمْدِ بِمَا لَهُ مِنْ الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ وَبَدِيعِ الْمَخْلُوقَاتِ , وَأَمَّا الْإِثْبَاتُ الْمُفَصَّلُ : فَإِنَّهُ ذَكَرَ مِنْ أَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ مَا أَنْزَلَهُ فِي مُحْكَمِ آيَاتِهِ كَقَوْلِهِ { اللَّهُ لَا إلَهَ إلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ } الْآيَةَ بِكَمَالِهَا وَقَوْلِهِ { قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ , اللَّهُ الصَّمَدُ } السُّورَةَ وَقَوْلِهِ { وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ } { وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ } { وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ } { وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ } { وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ , ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ , فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ } { هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ } { هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ } وَقَوْلِهِ { ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ } وَقَوْلِهِ { فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةً عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةً عَلَى الْكَافِرِينَ } الْآيَةَ وَقَوْلِهِ { رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ } وَقَوْلِهِ { وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ(1/76)
اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ } وَقَوْلِهِ { إنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنَادَوْنَ لَمَقْتُ اللَّهِ أَكْبَرُ مِنْ مَقْتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ إذْ تُدْعَوْنَ إلَى الْإِيمَانِ فَتَكْفُرُونَ } وَقَوْلِهِ { هَلْ يَنْظُرُونَ إلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلَائِكَةُ } وَقَوْلِهِ { ثُمَّ اسْتَوَى إلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ } وَقَوْلِهِ { وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا } وَقَوْلِهِ { وَنَادَيْنَاهُ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا } وَقَوْلِهِ { وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ } وَقَوْلِهِ { إنَّمَا أَمْرُهُ إذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ } وَقَوْلِهِ { هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إلَهَ إلَّا هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ , هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إلَهَ إلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ , هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ } إلَى أَمْثَالِ هَذِهِ الْآيَاتِ وَالْأَحَادِيثِ الثَّابِتَةِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي أَسْمَاءِ الرَّبِّ تَعَالَى وَصِفَاتِهِ فَإِنَّ فِي ذَلِكَ مِنْ إثْبَاتِ ذَاتِهِ وَصِفَاتِهِ عَلَى وَجْهِ التَّفْصِيلِ وَإِثْبَاتِ وَحْدَانِيِّتِهِ بِنَفْيِ التَّمْثِيلِ مَا هَدَى اللَّهُ بِهِ عِبَادَهُ إلَى سَوَاءِ السَّبِيلِ فَهَذِهِ طَرِيقَةُ الرُّسُلِ صَلَوَاتُ(1/77)
اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِمْ أجْمَعِينَ , وَأَمَّا مَنْ زَاغَ وَحَادَ عَنْ سَبِيلِهِمْ مِنْ الْكُفَّارِ وَالْمُشْرِكِينَ وَاَلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَمَنْ دَخَلَ فِي هَؤُلَاءِ مِنْ الصَّابِئَةِ والمتفلسفة والجهمية وَالْقَرَامِطَةِ وَالْبَاطِنِيَّةِ وَنَحْوِهِمْ فَإِنَّهُمْ عَلَى ضِدِّ ذَلِكَ يَصِفُونَهُ بِالصِّفَاتِ السَّلْبِيَّةِ عَلَى وَجْهِ التَّفْصِيلِ وَلَا يُثْبِتُونَ إلَّا وُجُودًا مُطْلَقًا لَا حَقِيقَةَ لَهُ عِنْدَ التَّحْصِيلِ وَإِنَّمَا يَرْجِعُ إلَى وُجُودٍ فِي الْأَذْهَانِ يَمْتَنِعُ تَحَقُّقُهُ فِي الْأَعْيَانِ فَقَوْلُهُمْ يَسْتَلْزِمُ غَايَةَ التَّعْطِيلِ وَغَايَةَ التَّمْثِيلِ ؛ فَإِنَّهُمْ يُمَثِّلُونَهُ بِالْمُمْتَنِعَاتِ وَالْمَعْدُومَاتِ وَالْجَمَادَاتِ ؛ وَيُعَطِّلُونَ الْأَسْمَاءَ وَالصِّفَاتِ تَعْطِيلًا يَسْتَلْزِمُ نَفْيَ الذَّاتِ فَغُلَاتُهُمْ يَسْلُبُونَ عَنْهُ النَّقِيضَيْنِ فَيَقُولُونَ : لَا مَوْجُودَ وَلَا مَعْدُومَ وَلَا حَيَّ وَلَا مَيِّتَ وَلَا عَالِمَ وَلَا جَاهِلَ لِأَنَّهُمْ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ إذَا وَصَفُوهُ بِالْإِثْبَاتِ شَبَّهُوهُ بِالْمَوْجُودَاتِ وَإِذَا وَصَفُوهُ بِالنَّفْيِ شَبَّهُوهُ بِالْمَعْدُومَاتِ فَسُلِبُوا النَّقِيضَيْنِ وَهَذَا مُمْتَنِعٌ فِي بَدَاهَةِ الْعُقُولِ ؛ وَحَرَّفُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ الْكِتَابِ وَمَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ فَوَقَعُوا فِي شَرٍّ مِمَّا فَرُّوا مِنْهُ فَإِنَّهُمْ شَبَّهُوهُ بِالْمُمْتَنِعَاتِ إذْ سَلْبُ النَّقِيضَيْنِ كَجَمْعِ النَّقِيضَيْنِ كِلَاهُمَا مِنْ الْمُمْتَنِعَاتِ وَقَدْ عُلِمَ بِالِاضْطِرَارِ أَنَّ الْوُجُودَ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ مُوجِدٍ وَاجِبٍ بِذَاتِهِ غَنِيٍّ عَمَّا سِوَاهُ ؛ قَدِيمٍ أَزَلِيٍّ ؛ لَا يَجُوزُ عَلَيْهِ الْحُدُوثُ وَلَا الْعَدَمُ فَوَصَفُوهُ بِمَا(1/78)
يَمْتَنِعُ وُجُودُهُ فَضْلًا عَنْ الْوُجُوبِ أَوْ الْوُجُودِ أَوْ الْقِدَمِ , وَقَارَبَهُمْ طَائِفَةٌ مِنْ الْفَلَاسِفَةِ وَأَتْبَاعَهُمْ فَوَصَفُوهُ بِالسُّلُوبِ وَالْإِضَافَاتِ دُونَ صِفَاتِ الْإِثْبَاتِ وَجَعَلُوهُ هُوَ الْوُجُودَ الْمُطْلَقَ بِشَرْطِ الْإِطْلَاقِ وَقَدْ عُلِمَ بِصَرِيحِ الْعَقْلِ أَنَّ هَذَا لَا يَكُونُ إلَّا فِي الذِّهْنِ لَا فِيمَا خَرَجَ عَنْهُ مِنْ الْمَوْجُودَاتِ وَجَعَلُوا الصِّفَةَ هِيَ الْمَوْصُوفَ ، فَجَعَلُوا الْعِلْمَ عَيْنَ الْعَالِمِ مُكَابَرَةً لِلْقَضَايَا الْبَدِيهَاتِ وَجَعَلُوا هَذِهِ الصِّفَةَ هِيَ الْأُخْرَى فَلَمْ يُمَيِّزُوا بَيْنَ الْعِلْمِ وَالْقُدْرَةِ وَالْمَشِيئَةِ جَحْدًا لِلْعُلُومِ الضَّرُورِيَّاتِ وَقَارَبَهُمْ طَائِفَةٌ ثَالِثَةٌ مَنْ أَهْلِ الْكَلَامِ مِنْ الْمُعْتَزِلَةِ وَمَنْ اتَّبَعَهُمْ ؛ فَأَثْبَتُوا لِلَّهِ الْأَسْمَاءَ دُونَ مَا تَتَضَمَّنُهُ مِنْ الصِّفَاتِ فَمِنْهُمْ مَنْ جَعَلَ الْعَلِيمَ وَالْقَدِيرَ ؛ وَالسَّمِيعَ وَالْبَصِيرَ ؛ كَالْأَعْلَامِ الْمَحْضَةِ الْمُتَرَادِفَاتِ وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ عَلِيمٌ بِلَا عِلْمٍ قَدِيرٌ بِلَا قُدْرَةٍ سَمِيعٌ بَصِيرٌ بِلَا سَمْعٍ وَلَا بَصَرٍ فَأَثْبَتُوا الِاسْمَ دُونَ مَا تَضَمَّنَهُ مِنْ الصِّفَاتِ وَالْكَلَامُ عَلَى فَسَادِ مَقَالَةِ هَؤُلَاءِ وَبَيَانِ تَنَاقُضِهَا بِصَرِيحِ الْمَعْقُولِ الْمُطَابِقِ لِصَحِيحِ الْمَنْقُولِ مَذْكُورٌ فِي غَيْرِ هَذِهِ الْكَلِمَاتِ وَهَؤُلَاءِ جَمِيعُهُمْ يَفِرُّونَ مِنْ شَيْءٍ فَيَقَعُونَ فِي نَظِيرِهِ وَفِي شَرٍّ مِنْهُ مَعَ مَا يَلْزَمُهُمْ مِنْ التَّحْرِيفِ وَالتَّعْطِيلِ وَلَوْ أَمْعَنُوا النَّظَرَ لَسَوَّوْا بَيْنَ الْمُتَمَاثِلَاتِ وَفَرَّقُوا بَيْنَ الْمُخْتَلِفَاتِ كَمَا تَقْتَضِيهِ الْمَعْقُولَاتُ ؛ وَلَكَانُوا مِنْ(1/79)
الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِينَ يَرَوْنَ أَنَّمَا أُنْزِلَ إلَى الرَّسُولِ هُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِ وَيَهْدِي إلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ . وَلَكِنَّهُمْ مِنْ أَهْلِ الْمَجْهُولَاتِ الْمُشَبَّهَةِ بِالْمَعْقُولَاتِ يُسَفْسِطُونَ فِي الْعَقْلِيَّاتِ وَيُقَرْمِطُونَ فِي السَّمْعِيَّاتِ ) أي أنهم ينهجون منهج السوفسطائية في باب المدركة بالعقل والحس ، وينتهجون منهج القرامطة في التعامل مع الأدلة الثابتة ، من أدلة الكتاب والسنة ، فالله الله بهذا الفهم ، اشدد عليه يديك ، ودعك من فهم قوم خالفوا المنقول ، وناقضوا المعقول ، إياك أن تحيد عن فهم سلف الأمة وأئمتها ، فإن فهمهم هو النجاة والعاصم بإذن الله تعالى من كثير من الضلالات المهلكة والبدع المحرقة ، عافانا الله وإياك من كل زلل ومخالفة ، والله يتولانا وإياك .(1/80)
الفرع السادس:- اتفق سلف الأمة وأئمتها على إثبات الرؤية يوم القيامة - أي رؤية الله تعالى - فأهل السنة والجماعة متفقون الاتفاق القطعي على أن الله تعالى يُرى يوم القيامة ، فيرى يوم القيامة ويُرى بعد دخول الجنة ، وأهل السنة مجمعون على أنها رؤية حقيقية بالعيان ، على الكيفية التي يريدها الله تعالى ، فالمؤمنون يرون ربهم يوم القيامة في العرصات ، ويرونه بعد دخول الجنة ، وقد نطقت الأدلة بذلك ، فقال تعالى { لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ } والزيادة هي رؤية الرب جل وعلا ، وقال تعالى { وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ , إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ } وإضافة النظر إلى الوجوه دليل على أنها رؤية حقيقية بالعين على ما يريده الله تعالى ، وقد تواترت الأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم بإثباتها كما في قوله " إنكم سترون ربكم كما ترون القمر ليلة البدر ، وكما ترون الشمس ليس دونها سحاب ...(1/81)
الحديث " وهذا تشبيه للرؤية بالرؤية لا المرئي بالمرئي ، فإنه رؤية الله تعالى ليس كمثلها شيء ، وقد انعقد إجماع أهل السنة رحمهم الله تعالى على هذه المسألة ، فالسلف الصالح يفهمون من أدلة الرؤية عدة أمور: الأول :- أنها رؤية حق وثابتة ، ولا محيص عن الإيمان بها ، الثاني :- أنها رؤية عيان بالأبصار ، الثالث :- أنها ستكون في العرصات وبعد دخول الجنة الرابع :- أنها رؤية لا تستلزم نقصا ولا عيبا في حق الرب جل وعلا ، الخامس :- أنها على الكيفية التي يريدها الرب جل وعلا ، فهذا هو فهم سلف الأمة من الصحابة والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين ، وأما من زاغ وحاد عن سبيلهم فإنهم اتفقوا على إنكارها وتحريفها وتأويلها إلى معان أخرى ، وكلهم يقولون بأنها ليست رؤية حقيقة ، والله تعالى لا يرى بالعين ، وهذا فهم مخالف لفهم سلف الأمة وأئمتها ، والمتقرر أن كل فهم خالف فهم السلف في مسائل العقيدة والعمل فإنه باطل ، فكل المذاهب المخالفة لهذا الفهم فهي باطلة ، ولا حجة لهم في ذلك ، وأما قوله تعالى { لَن تَرَانِي } فإن السلف رحمهم الله تعالى يفهمون منها نفي الرؤية في هذه الحياة الدنيا فقط ، وأما في الآخرة فهي ثابتة ، وكتاب الله تعالى لا يصادم بعضه بعضا ، فنفي الرؤية إنما هو نفي للرؤية في الدنيا ، كما قال صلى الله عليه وسلم " لن يرى أحد منكم ربه حتى يموت " وأما لفظة ( لن ) المذكورة في الآية ، فإن السلف رحمهم الله تعالى لا يفهمون منها النفي المؤبد ، كما فهمه المعتزلة ، ومن نحا نحو مذهبهم ، بل ( لن ) عند السلف لا تقتضي التأبيد حتى وإن قرنت به كما قوله تعالى عن اليهود في تمنيهم للموت { وَلَن يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا } ومع ذلك فإنهم سيتمنونه يوم القيامة ، كما قال تعالى عن أهل النار { وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا } فالمهم أن السلف لا يفهمون التأبيد من لفظة ( لن ) وإنما هذا فهم المبتدعة من المعتزلة(1/82)
وأضرابهم ، وأما قوله { لاَّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ } فإن السلف رحمهم الله تعالى يفهمون منها أنها نفي للإدراك والإحاطة لا أنه نفي لأصل الرؤية ، فالرؤية شيء والإحاطة شيء آخر ، فالله تعالى يرى في الآخرة ، ولكنه لا يحاط به رؤية كما قال تعالى عن أصحاب موسى عليه السلام { فَلَمَّا تَرَاءى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ ، قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ } فأثبت الرؤية ونفى الإدراك ، فتفسير الإدراك في الآية بأنه الرؤية مخالف لفهم السلف ، وما خالف فهم السلف فإنه باطل ، وأما قول المبتدعة من أننا لو أثبتنا لله تعالى الرؤية لاستلزم ذلك أن يكون في جهة ، والجهة ممتنعة على الله تعالى ، فإن السلف رحمهم الله تعالى لا يقفون عند هذا الكلام لأنه من باب معارضة النصوص المتواترة بالعقل والرأي والقياس الفاسد ، والمتقرر عند سلف الأمة أن كل قياس صادم النص فإنه فاسد الاعتبار ، والمتقرر أن لا قياس مع النص ، والمتقرر أن لا اجتهاد مع النص ، ثم إن لفظ الجهة من الألفاظ المجملة المحتملة التي ليست بحاكمة على ما ثبت به النص ، والمبتدعة هم الذين اخترعوا هذا اللفظ وجعلوه حاكما على الأدلة ، والمتقرر عند السلف أن الألفاظ المجملة لا تقبل مطلقا ولا ترد مطلقا ، بل هي موقوفة على الاستفصال حتى يتميز حقها من باطلها ، فيقبل الحق ويرد الباطل ، وسيأتي مزيد كلام على هذا الأصل إن شاء الله تعالى ، والمهم هنا أن تعرف أن السلف رحمهم الله تعالى يؤمنون بأن الله تعالى سيرى يوم القيامة ، فيرى في العرصات ، ويرى بعد دخول الجنة ، قال أبو العباس رحمه الله تعالى (وَقَدْ ثَبَتَ بِالنُّصُوصِ الصَّحِيحَةِ وَاتِّفَاقِ سَلَفِ الْأُمَّةِ أَنَّهُ لَا يَرَى اللَّهَ أَحَدٌ فِي الدُّنْيَا بِعَيْنِهِ إلَّا مَا نَازَعَ فِيهِ بَعْضُهُمْ مِنْ رُؤْيَةِ نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ(1/83)
خَاصَّةً وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ الْمُؤْمِنِينَ يَرَوْنَ اللَّهَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِيَانًا كَمَا يَرَوْنَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ) وقال رحمه الله تعالى ( أَجْمَعَ سَلَفُ الْأُمَّةِ وَأَئِمَّتُهَا عَلَى أَنَّ الْمُؤْمِنِينَ يَرَوْنَ اللَّهَ بِأَبْصَارِهِمْ فِي الْآخِرَةِ وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهُمْ لَا يَرَوْنَهُ فِي الدُّنْيَا بِأَبْصَارِهِمْ وَلَمْ يَتَنَازَعُوا إلَّا فِي النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَثَبَتَ عَنْهُ فِي الصَّحِيحِ أَنَّهُ قَالَ " وَاعْلَمُوا أَنَّ أَحَدًا مِنْكُمْ لَنْ يَرَى رَبَّهُ حَتَّى يَمُوتَ " وَمَنْ قَالَ مِنْ النَّاسِ : إنَّ الْأَوْلِيَاءَ أَوْ غَيْرَهُمْ يَرَى اللَّهَ بِعَيْنِهِ فِي الدُّنْيَا فَهُوَ مُبْتَدِعٌ ضَالٌّ مُخَالِفٌ لِلْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَإِجْمَاعِ سَلَفِ الْأُمَّةِ ؛ لَاسِيَّمَا إذَا ادَّعَوْا إنَّهُمْ أَفْضَلُ مِنْ مُوسَى فَإِنَّ هَؤُلَاءِ يُسْتَتَابُونَ ؛ فَإِنْ تَابُوا وَإِلَّا قُتِلُوا ) وقال رحمه الله تعالى ( كَمَا قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " تَرَوْنَ رَبَّكُمْ كَمَا تَرَوْنَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ " فَشَبَّهَ الرُّؤْيَةَ بِالرُّؤْيَةِ وَلَمْ يُشَبِّهْ الْمَرْئِيَّ بِالْمَرْئِيِّ ) وقال رحمه الله تعالى ( وَأَمَّا الجهمية مِنْ الْمُعْتَزِلَةِ وَغَيْرِهِمْ فَيَمْتَنِعُ عَلَى أَصْلِهِمْ لِقَاءُ اللَّهِ ؛ لِأَنَّهُ يَمْتَنِعُ عِنْدَهُمْ رُؤْيَةُ اللَّهِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَخَالَفُوا بِذَلِكَ مَا تَوَاتَرَتْ بِهِ السُّنَنُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , وَمَا اتَّفَقَ عَلَيْهِ الصَّحَابَةُ وَأَئِمَّةُ الْإِسْلَامِ مِنْ أَنَّ الْمُؤْمِنِينَ يَرَوْنَ رَبَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ وَاحْتَجُّوا بِحُجَجِ كَثِيرَةٍ عَقْلِيَّةٍ وَنَقْلِيَّةٍ قَدْ بَيَّنَّا فَسَادَهَا مَبْسُوطًا(1/84)
وَذَكَرْنَا دَلَالَةَ الْعَقْلِ وَالسَّمْعِ عَلَى جَوَازِ الرُّؤْيَةِ وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ مِنْ الْأُصُولِ الَّتِي كَانَ يَشْتَدُّ نَكِيرُ السَّلَفِ وَالْأَئِمَّةِ عَلَى مَنْ خَالَفَ فِيهَا وَصَنَّفُوا فِيهَا مُصَنَّفَاتٍ مَشْهُورَةً ) وقال رحمه الله تعالى (وَإِنَّمَا الْمُهِمُّ الَّذِي يَجِبُ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ اعْتِقَادُهُ أَنَّ الْمُؤْمِنِينَ يَرَوْنَ رَبَّهُمْ فِي الدَّارِ الْآخِرَةِ فِي عَرْصَةِ الْقِيَامَةِ وَبَعْدَ مَا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ عَلَى مَا تَوَاتَرَتْ بِهِ الْأَحَادِيثُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عِنْدَ الْعُلَمَاءِ بِالْحَدِيثِ ؛ فَإِنَّهُ أَخْبَرَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّا نَرَى رَبَّنَا كَمَا نَرَى الْقَمَرَ لَيْلَةَ الْبَدْرِ وَالشَّمْسَ عِنْدَ الظَّهِيرَةِ لَا يُضَامُ فِي رُؤْيَتِهِ , وَرُؤْيَتُهُ سُبْحَانَهُ هِيَ أَعْلَى مَرَاتِبِ نَعِيمِ الْجَنَّةِ وَغَايَةُ مَطْلُوبِ الَّذِينَ عَبَدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ ؛ وَإِنْ كَانُوا فِي الرُّؤْيَةِ عَلَى دَرَجَاتٍ عَلَى حَسَبِ قُرْبِهِمْ مِنْ اللَّهِ وَمَعْرِفَتِهِمْ بِهِ , وَاَلَّذِي عَلَيْهِ جُمْهُورُ السَّلَفِ أَنَّ مَنْ جَحَدَ رُؤْيَةَ اللَّهِ فِي الدَّارِ الْآخِرَةِ فَهُوَ كَافِرٌ ؛ فَإِنْ كَانَ مِمَّنْ لَمْ يَبْلُغْهُ الْعِلْمُ فِي ذَلِكَ عُرِّفَ ذَلِكَ كَمَا يُعَرَّفُ مَنْ لَمْ تَبْلُغْهُ شَرَائِعُ الْإِسْلَامِ فَإِنْ أَصَرَّ عَلَى الْجُحُودِ بَعْدَ بُلُوغِ الْعِلْمِ لَهُ فَهُوَ كَافِرٌ , وَالْأَحَادِيثُ وَالْآثَارُ فِي هَذَا كَثِيرَةٌ مَشْهُورَةٌ قَدْ دَوَّنَ الْعُلَمَاءُ فِيهَا كُتُبًا مِثْلَ " كِتَابِ الرُّؤْيَةِ " للدارقطني وَلِأَبِي نُعَيْمٍ وللآجري ؛ وَذَكَرَهَا الْمُصَنِّفُونَ فِي السُّنَّةِ كَابْنِ بَطَّةَ واللالكائي وَابْنِ شَاهِينَ(1/85)
وَقَبْلَهُمْ عَبْدُ اللَّهِ ابْنُ أَحْمَد بْنِ حَنْبَلٍ وَحَنْبَلُ بْنُ إسْحَاقَ وَالْخَلَّالُ والطبراني وَغَيْرُهُمْ , وَخَرَّجَهَا أَصْحَابُ الصَّحِيحِ وَالْمَسَانِدِ وَالسُّنَنِ وَغَيْرِهِمْ ) ولما ذكر رحمه الله تعالى مسألة رؤية الكفار لله تعالى في العرصات, بين أنها من المسائل الخلافية بين أهل السنة وأن الخلاف فيها خفيف وأنها لا ينبغي أن تكون من المسائل التي توجب النزاع والفرقة ولا أن يفاتح فيها العامة ولا أن يبتلى بها إيمان أحد , أراد رحمه الله تعالى أن يبين أن المهم هو مسألة الإيمان بأن المؤمنين يرون ربهم يوم القيامة في الجنة ، وأن هذه المسألة هي التي تعتبر بحق من أصول الدين ، فقال في ذلك (بِخِلَافِ الْإِيمَانِ بِأَنَّ الْمُؤْمِنِينَ يَرَوْنَ رَبَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ فَإِنَّ الْإِيمَانَ بِذَلِكَ فَرْضٌ وَاجِبٌ ؛ لِمَا قَدْ تَوَاتَرَ فِيهَا عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَصَحَابَتِهِ وَسَلَفِ الْأُمَّةِ ) والحق عندنا أن من أنكر هذه الرؤية فإنه يعرف بأدلتها إن كان جاهلا ، فإن عرف وأصر على التكذيب والجحود فإنه يستتاب ، فإن تاب وإلا قتل مرتدا ، لأنه أنكر معلوما من الدين بالضرورة ، ولأنه خالف الإجماع القطعي ، ولأنه خالف وكذب بالأدلة المتواترة من الكتاب والسنة والخلاصة أن تعلم أن من أصول الإيمان عند أهل السنة :- الإيمان بأن المؤمنين يرون ربهم يوم القيامة رؤية حقيقية بالأبصار على الكيفية التي يريدها الله تعالى ، وأن هذه الرؤية حق كما أخبرت به الأدلة المتواترة من الكتاب والسنة وكما اتفق عليه أهل السنة ، والسلف لا يفهمون من هذه الرؤية إلا كل معنى جميل لائق بالله تعالى ، وكل اللوازم الباطلة التي يقولها المبتدعة في إنكار هذه الرؤية فإنما هي مفرزات عقولهم العفنة وأفهامهم المنتنة ،وهو شيء فهموه ولا حقيقة له ، ولا عبرة به ، وقد خالفوا به فهم سلف الأمة وأئمتها ،(1/86)
والمتقرر أن كل فهم خالف فهم سلف الأمة في مسائل العقيدة والعمل فإنه باطل ، والله يتولانا وإياك .
الفرع السابع:- اتفق سلف الأمة وأئمتها من الصحابة والتابعين ومن تبعهم على الحق من أهل السنة إلى ساعتنا هذه أن مما يوصف الله تعالى به :- أنه مستو على عرشه استواء يليق بجلاله وعظمته ، وأنه ليس كاستواء المخلوق على ظهور الفلك والدوار ، بل هو استواء خاص به جل وعلا ، يقال فيه ما يقال في سائر صفاته ، وأنه لا يجوز إقحام العقول الضعيفة في درك كيفية هذا الاستواء ، بل يسعنا أن نقول كما قال الأوائل :- بأنه استواء يليق بجلال الله تعالى وعظمته ، وأن الله تعالى ليس كمثليه شيء في جميع صفاته ، ومن المقطوع به عند سلف الأمة رحمهم الله تعالى أن هذا الاستواء ليس عن حاجة ، بل العرش وحملة العرش ومن دونهم من سائر الخلق كلهم مفتقرون إلى الله تعالى الافتقار الحقيقي الذاتي الذي لا ينفك عنهم طرفة عين ، وأن كل من أنكر هذه الصفة أو حرفها إلى معان أخرى غريبة على اللغة وعلى فهم السلف وعلى الأدلة إنما أتي من قلة فهمه ومن ضعف التزامه بفهم السلف ، ومن قلة بضاعته في متابعة النص والتسليم له ، واحذر أيها الأخ المبارك أن تدخل عليك في صفات الله تعالى لفظة ( لو كان كذا وكذا أفلا يكون كذا وكذا ) فإن هذه اللفظة في باب الصفات هي في الحقيقة مما يلقيه إبليس على القلوب والعقول حتى يكدر صفو مشربها ويفسد عليها اعتقادها في خالقها وبارئها ، بل القول في هذا الباب أن نقول كما قال ربنا جل وعلا { آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا } وأن نقول { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ } وأن نقول بلسان الحال والمقال ( سمعنا وأطعنا وآمنا وصدقنا ) مع العلم الأكيد المقرون باطمئنان القلب أنها صفة كمال من كل وجه ، وأنها حق ثابت في نفس الأمر ، وأننا لا يمكن أن ندرك كيفيتها بعقولنا الضعيفة القاصرة ، وأنه لا يجوز لنا أن نقحم(1/87)
هذه العقول القاصرة في البحث والتنقيب عن كيفية شيء من صفات الباري جل وعلا ، ولذلك فإن مذهب السلف في الصفات يقوم على ثلاثة أصول: الأول :- إثبات الصفة التي يدور حولها النص ، يعني التي أثبتها النص ، الثاني :- الاعتقاد الجازم أنها مما يليق بالله تعالى فلا يماثله فيها شيء من صفات مخلوقاته ، الثالث :- قطع الطمع في التعرف على كيفية هذه الصفة ، ومن ذلك صفة الاستواء على العرش ، فإنها قد ثبتت بها الأدلة المتواترة ، فقد ورد ذكر الاستواء على العرش في سبع آيات من كتاب الله تعالى جل وعلا ، جمعها الناظم بقوله :-(1/88)
ولا يسعنا مع ذلك إلا الإيمان والتسليم والتصديق ، وسلف الأمة لا يفهمون من استواء الله تعالى على العرش إلا كل معنى حق ، فلا يرد في أذهانهم الطيبة الكريمة شيء من معاني السوء والظنون الكاذبة والتوهمات الزائفة ، فكل من فهم من صفة الاستواء شيئا من المعاني الباطلة فإنه قد خالف منهج السلف في الفهم ، والمتقرر أن كل فهم مخالف لفهم سلف الأمة في العقيدة والعمل فإنه باطل فما يقوله أهل البدع مما نستحيي من ذكره في شأن هذه الصفة كله مبني على فهوم لم تستنر بنور الكتاب والسنة ولم تستق علومها من ينبوع فهم سلف الأمة ، وإنما طغى عليها علوم المنطق اليوناني بقواعده الفلسفية المناقضة للمعقول والمخالفة للمنقول ،فالله الله أيها الحبيب المبارك في فهمه وعلمه وتقواه أن تزل قدمك عن فهم سلف الأمة فتهلك ، أوصيك يا أخي بالالتزام الكامل بما قرره أهل السنة في هذه المسألة وفي غيرها من مسائل المعتقد ، يا أخي أنا مشفق عليك أن تتخطفك الأفهام العفنة والمذاهب المنكرة فتزل بك في حفر الردى ومهاوي الهلكة ، فأنشدك الله تعالى أن تعتصم بالكتاب والسنة على فهم سلف الأمة ، لعلك أن تنجو ، فإني أريد لك الفوز والخير والنجاة والبر والهدى ، وأسأل الله تعالى أن يهدي قلبك للحق ، وأن يشرح صدرك بنور الاتباع ، وأن يجنبك الزلل والمخالفة لما عليه أهل السنة والجماعة ، عافاك الله تعالى من كل سوء وبلاء ،قال أبو العباس رحمه الله تعالى (وَقَدْ دَخَلَ فِيمَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ الْإِيمَانِ بِاَللَّهِ : الْإِيمَانُ بِمَا أَخْبَرَ اللَّهُ بِهِ فِي كِتَابِهِ وَتَوَاتَرَ عَنْ رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَجْمَعَ عَلَيْهِ سَلَفُ الْأُمَّةِ مِنْ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ فَوْقَ سَمَوَاتِهِ عَلَى عَرْشِهِ عَلِيٌّ عَلَى خَلْقِهِ وَهُوَ سُبْحَانَهُ مَعَهُمْ أَيْنَمَا كَانُوا يَعْلَمُ مَا هُمْ عَامِلُونَ كَمَا جَمَعَ بَيْنَ ذَلِكَ فِي(1/89)
قَوْلِهِ { هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ } وَلَيْسَ مَعْنَى قَوْلِهِ { وَهُوَ مَعَكُمْ } أَنَّهُ مُخْتَلِطٌ بِالْخَلْقِ فَإِنَّ هَذَا لَا تُوجِبُهُ اللُّغَةُ وَهُوَ خِلَافُ مَا أَجْمَعَ عَلَيْهِ سَلَفُ الْأُمَّةِ وَخِلَافُ مَا فَطَرَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْخَلْقَ ؛ بَلْ الْقَمَرُ آيَةٌ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ مِنْ أَصْغَرِ مَخْلُوقَاتِهِ هُوَ مَوْضُوعٌ فِي السَّمَاءِ ؛ وَهُوَ مَعَ الْمُسَافِرِ وَغَيْرِ الْمُسَافِرِ أَيْنَمَا كَانَ ؛ وَهُوَ سُبْحَانَهُ فَوْقَ الْعَرْشِ رَقِيبٌ عَلَى خَلْقِهِ مُهَيْمِنٌ عَلَيْهِمْ مُطَّلِعٌ إلَيْهِمْ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ مَعَانِي رُبُوبِيَّتِهِ وَكُلُّ هَذَا الْكَلَامِ الَّذِي ذَكَرَهُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ - مِنْ أَنَّهُ فَوْقَ الْعَرْشِ وَأَنَّهُ مَعَنَا - حَقٌّ عَلَى حَقِيقَتِهِ لَا يَحْتَاجُ إلَى تَحْرِيفٍ وَلَكِنْ يُصَانُ عَنْ الظُّنُونِ الْكَاذِبَةِ مِثْلُ أَنْ يَظُنَّ أَنَّ ظَاهِرَ قَوْلِهِ { فِي السَّمَاءِ } أَنَّ السَّمَاءَ تُقِلُّهُ أَوْ تُظِلُّهُ وَهَذَا بَاطِلٌ بِإِجْمَاعِ أَهْلِ الْعِلْمِ وَالْإِيمَانِ ؛ فَإِنَّ اللَّهَ قَدْ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ وَهُوَ الَّذِي يُمْسِكُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولَا وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إلَّا بِإِذْنِهِ { وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ } ) وَقَالَ الْإِمَامُ أَبُو عُثْمَانَ إسْمَاعِيلُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الصَّابُونِيُّ النَّيْسَابُورِيُّ فِي كِتَابِ "(1/90)
الرِّسَالَةِ فِي السُّنَّةِ " ( وَيَعْتَقِدُ أَصْحَابُ الْحَدِيثِ وَيَشْهَدُونَ أَنَّ اللَّهَ فَوْقَ سَبْعِ سَمَوَاتِهِ عَلَى عَرْشِهِ كَمَا نَطَقَ بِهِ كِتَابُهُ وَعُلَمَاءُ الْأُمَّةِ وَأَعْيَانُ سَلَفِ الْأُمَّةِ ؛ لَمْ يَخْتَلِفُوا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى عَلَى عَرْشِهِ وَعَرْشَهُ فَوْقَ سَمَوَاتِهِ ) وقال ابن تيمية رحمه الله تعال في سياقه عن أئمة أهل السنة كلامهم في صفات الله تعالى قال ( بَلْ هُمْ - أي سلف الأمة - مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّ اللَّهَ فَوْقَ سَمَوَاتِهِ عَلَى عَرْشِهِ بَائِنٌ مِنْ خَلْقِهِ ؛ لَيْسَ فِي مَخْلُوقَاتِهِ شَيْءٌ مِنْ ذَاتِهِ وَلَا فِي ذَاتِهِ شَيْءٌ مِنْ مَخْلُوقَاتِهِ . وَقَدْ قَالَ مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ : إنَّ اللَّهَ فَوْقَ السَّمَاءِ وَعِلْمُهُ فِي كُلِّ مَكَانٍ - إلَى أَنْ قَالَ - : فَمَنْ اعْتَقَدَ أَنَّ اللَّهَ فِي جَوْفِ السَّمَاءِ مَحْصُورٌ مُحَاطٌ بِهِ وَأَنَّهُ مُفْتَقِرٌ إلَى الْعَرْشِ أَوْ غَيْرِ الْعَرْشِ - مِنْ الْمَخْلُوقَاتِ - أَوْ أَنَّ اسْتِوَاءَهُ عَلَى عَرْشِهِ كَاسْتِوَاءِ الْمَخْلُوقِ عَلَى كُرْسِيِّهِ : فَهُوَ ضَالٌّ مُبْتَدِعٌ جَاهِلٌ وَمَنْ اعْتَقَدَ أَنَّهُ لَيْسَ فَوْقَ السَّمَوَاتِ إلَهٌ يُعْبَدُ وَلَا عَلَى الْعَرْشِ رَبٌّ يُصَلَّى لَهُ وَيُسْجَدُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا لَمْ يُعْرَجْ بِهِ إلَى رَبِّهِ ؛ وَلَا نَزَلَ الْقُرْآنُ مِنْ عِنْدِهِ : فَهُوَ مُعَطِّلٌ فِرْعَوْنِيٌّ ضَالٌّ مُبْتَدِعٌ - وَقَالَ - بَعْدَ كَلَامٍ طَوِيلٍ - وَالْقَائِلُ الَّذِي قَالَ : مَنْ لَمْ يَعْتَقِدْ أَنَّ اللَّهَ فِي السَّمَاءِ فَهُوَ ضَالٌّ : إنْ أَرَادَ بِذَلِكَ مَنْ لَا يَعْتَقِدُ أَنَّ اللَّهَ فِي جَوْفِ السَّمَاءِ بِحَيْثُ تَحْصُرُهُ وَتُحِيطُ بِهِ : فَقَدْ أَخْطَأَ .(1/91)
وَإِنْ أَرَادَ بِذَلِكَ مَنْ لَمْ يَعْتَقِدْ مَا جَاءَ بِهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَاتَّفَقَ عَلَيْهِ سَلَفُ الْأُمَّةِ وَأَئِمَّتُهَا مِنْ أَنَّ اللَّهَ فَوْقَ سَمَوَاتِهِ عَلَى عَرْشِهِ بَائِنٌ مِنْ خَلْقِهِ : فَقَدْ أَصَابَ فَإِنَّهُ مَنْ لَمْ يَعْتَقِدْ ذَلِكَ يَكُونُ مُكَذِّبًا لِلرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُتَّبِعًا لِغَيْرِ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ ؛ بَلْ يَكُونُ فِي الْحَقِيقَةِ مُعَطِّلًا لِرَبِّهِ نَافِيًا لَهُ ؛ فَلَا يَكُونُ لَهُ فِي الْحَقِيقَةِ إلَهٌ يَعْبُدُهُ وَلَا رَبٌّ يَسْأَلُهُ وَيَقْصِدُهُ , وَهَذَا قَوْلُ الجهمية وَنَحْوِهِمْ مِنْ أَتْبَاعِ فِرْعَوْنَ الْمُعَطِّلِ ) وقال رحمه الله تعالى (وَأَوَّلَتْ الْمُعْتَزِلَةُ الِاسْتِوَاءَ بِالِاسْتِيلَاءِ , وَأَمَّا أَهْلُ السُّنَّةِ فَيَقُولُونَ : الِاسْتِوَاءُ عَلَى الْعَرْشِ صِفَةٌ لِلَّهِ بِلَا كَيْفٍ يَجِبُ عَلَى الرَّجُلِ الْإِيمَانُ بِهِ وَيَكِلُ الْعِلْمَ فِيهِ إلَى اللَّهِ , وَسَأَلَ رَجُلٌ مَالِكَ بْنَ أَنَسٍ عَنْ قَوْلِهِ { الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى } كَيْفَ اسْتَوَى ؟ فَأَطْرَقَ مَالِكٌ رَأْسَهُ مَلِيًّا وَعَلَاهُ الرُّحَضَاءُ ثُمَّ قَالَ الِاسْتِوَاءُ غَيْرُ مَجْهُولٍ وَالْكَيْفُ غَيْرُ مَعْقُولٍ وَالْإِيمَانُ بِهِ وَاجِبٌ وَالسُّؤَالُ عَنْهُ بِدْعَةٌ وَمَا أُرَاك إلَّا ضَالًّا ثُمَّ أَمَرَ بِهِ فَأُخْرِجَ ) وقال رحمه الله تعالى في منظرة الواسطية (وَذَكَرْت مَا أَجْمَعَ عَلَيْهِ سَلَفُ الْأُمَّةِ مِنْ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ فَوْقَ الْعَرْشِ وَأَنَّهُ مَعَنَا حَقٌّ عَلَى حَقِيقَتِهِ ؛ لَا يَحْتَاجُ إلَى تَحْرِيفٍ وَلَكِنْ يُصَانُ عَنْ الظُّنُونِ الْكَاذِبَةِ ) وَقَالَ السجزي رحمه الله تعالى (وَأَئِمَّتُنَا كَالثَّوْرِيِّ وَمَالِكٍ وَابْنِ عيينة ، وَحَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ(1/92)
وَحَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ وَابْنِ الْمُبَارَكِ والفضيل وَأَحْمَدَ وَإِسْحَاقَ : مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ بِذَاتِهِ فَوْقَ الْعَرْشِ وَأَنَّ عِلْمَهُ بِكُلِّ مَكَانٍ ) وقال أبو العباس رحمه الله تعالى في بيان بعض اللوازم الباطلة التي يهذو بها المبتدعة (فَإِنَّهُ إذَا قَالَ الْقَائِلُ : لَوْ كَانَ اللَّهُ فَوْقَ الْعَرْشِ لَلَزِمَ إمَّا أَنْ يَكُونَ أَكْبَرَ مِنْ الْعَرْشِ أَوْ أَصْغَرَ أَوْ مُسَاوِيًا وَكُلُّ ذَلِكَ مِنْ الْمُحَالِ وَنَحْوُ ذَلِكَ مِنْ الْكَلَامِ : فَإِنَّهُ لَمْ يُفْهَمْ مِنْ كَوْنِ اللَّهِ عَلَى الْعَرْشِ إلَّا مَا يَثْبُتُ لِأَيِّ جِسْمٍ كَانَ عَلَى أَيِّ جِسْمٍ كَانَ وَهَذَا اللَّازِمُ تَابِعٌ لِهَذَا الْمَفْهُومِ . إمَّا اسْتِوَاءٌ يَلِيقُ بِجَلَالِ اللَّهِ تَعَالَى وَيَخْتَصُّ بِهِ فَلَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ مِنْ اللَّوَازِمِ الْبَاطِلَةِ الَّتِي يَجِبُ نَفْيُهَا كَمَا يَلْزَمُ مِنْ سَائِرِ الْأَجْسَامِ ) وقال رحمه الله تعالى (رَوَى أَبُو بَكْرٍ البيهقي فِي " الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ " بِإِسْنَادِ صَحِيحٍ عَنْ الأوزاعي قَالَ : كُنَّا - وَالتَّابِعُونَ مُتَوَافِرُونَ - : نَقُولُ إنَّ اللَّهَ - تَعَالَى ذِكْرُهُ - فَوْقَ عَرْشِهِ وَنُؤْمِنُ بِمَا وَرَدَتْ فِيهِ السُّنَّةُ مِنْ صِفَاتِهِ . وَقَدْ حَكَى الأوزاعي وَهُوَ أَحَدُ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ فِي عَصْرِ تَابِعِ التَّابِعِينَ : الَّذِينَ هُمْ " مَالِكٌ " إمَامُ أَهْلِ الْحِجَازِ وَ " الأوزاعي " إمَامُ أَهْلِ الشَّامِ وَ "اللَّيْثُ" إمَامُ أَهْلِ مِصْرَ وَ " الثَّوْرِيُّ " إمَامُ أَهْلِ الْعِرَاقِ - حَكَى شُهْرَةَ الْقَوْلِ فِي زَمَنِ التَّابِعِينَ بِالْإِيمَانِ بِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى فَوْقَ الْعَرْشِ وَبِصِفَاتِهِ السَّمْعِيَّةِ .(1/93)
وَإِنَّمَا قَالَ الأوزاعي هَذَا بَعْدَ ظُهُورِ مَذْهَبِ جَهْمٍ الْمُنْكِرِ لِكَوْنِ اللَّهِ فَوْقَ عَرْشِهِ وَالنَّافِي لِصِفَاتِهِ ؛ لِيَعْرِفَ النَّاسُ أَنَّ مَذْهَبَ السَّلَفِ خِلَافُ ذَلِكَ وَرَوَى أَبُو بَكْرٍ الْخَلَّالُ فِي " كِتَابِ السُّنَّةِ " عَنْ الأوزاعي قَالَ : سُئِلَ مَكْحُولٌ وَالزُّهْرِيُّ عَنْ تَفْسِيرِ الْأَحَادِيثِ فَقَالَا : - أَمِرُّوهَا كَمَا جَاءَتْ . وَرَوَى أَيْضًا عَنْ الْوَلِيدِ بْنِ مُسْلِمٍ قَالَ : سَأَلْت مَالِكَ ابْنَ أَنَسٍ وَسُفْيَانَ الثَّوْرِيَّ وَاللَّيْثَ بْنَ سَعْدٍ والأوزاعي : عَنْ الْأَخْبَارِ الَّتِي جَاءَتْ فِي الصِّفَاتِ . فَقَالُوا : أَمِرُّوهَا كَمَا جَاءَتْ , وَفِي رِوَايَةٍ : فَقَالُوا أَمِرُّوهَا كَمَا جَاءَتْ بِلَا كَيْفٍ .(1/94)
فَقَوْلُهُمْ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ " أَمِرُّوهَا كَمَا جَاءَتْ " رَدٌّ عَلَى الْمُعَطِّلَةِ وَقَوْلُهُمْ " بِلَا كَيْفٍ " رَدٌّ عَلَى الْمُمَثِّلَةِ , وَالزُّهْرِيُّ وَمَكْحُولٌ هُمَا أَعْلَمُ التَّابِعِينَ فِي زَمَانِهِمْ وَالْأَرْبَعَةُ الْبَاقُونَ أَئِمَّةُ الدُّنْيَا فِي عَصْرِ تَابِعِي التَّابِعِينَ وَمِنْ طَبَقَتِهِمْ حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ وَحَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ وَأَمْثَالُهُمَا , وَرَوَى أَبُو الْقَاسِمِ الأزجي بِإِسْنَادِهِ عَنْ مُطَرِّفِ ابْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ سَمِعْت مَالِكَ بْنَ أَنَسٍ إذَا ذُكِرَ عِنْدَهُ مَنْ يَدْفَعُ أَحَادِيثَ الصِّفَاتِ يَقُولُ : قَالَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ : سَنَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَوُلَاةُ الْأَمْرِ بَعْدَهُ سُنَنًا , الْأَخْذُ بِهَا تَصْدِيقٌ لِكِتَابِ اللَّهِ وَاسْتِكْمَالٌ لِطَاعَةِ اللَّهِ وَقُوَّةٌ عَلَى دِينِ اللَّهِ لَيْسَ لِأَحَدِ مِنْ خَلْقِ اللَّهِ تَعَالَى تَغْيِيرُهَا وَلَا النَّظَرُ فِي شَيْءٍ خَالَفَهَا مَنْ اهْتَدَى بِهَا فَهُوَ مُهْتَدٍ وَمَنْ اسْتَنْصَرَ بِهَا فَهُوَ مَنْصُورٌ وَمَنْ خَالَفَهَا وَاتَّبَعَ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ وَلَّاهُ اللَّهُ مَا تَوَلَّى وَأَصْلَاهُ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا . وَرَوَى الْخَلَّالُ بِإِسْنَادِ - كُلُّهُمْ أَئِمَّةٌ ثِقَاتٌ - عَنْ سُفْيَانَ بْنِ عيينة قَالَ : سُئِلَ رَبِيعَةُ بْنُ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ قَوْلِهِ { الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى } كَيْفَ اسْتَوَى ؟ قَالَ : الِاسْتِوَاءُ غَيْرُ مَجْهُولٍ وَالْكَيْفُ غَيْرُ مَعْقُولٍ وَمِنْ اللَّهِ الرِّسَالَةُ وَعَلَى الرَّسُولِ الْبَلَاغُ الْمُبِينُ وَعَلَيْنَا التَّصْدِيقُ .(1/95)
وَهَذَا الْكَلَامُ مَرْوِيٌّ عَنْ مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ تِلْمِيذِ رَبِيعَةَ ابْنِ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ ) الله أكبر ، والله إن الأذن والنفس لها طرب خاص عند ذكر هذه النقول عن سلف الأمة وأئمتها ،والمهم أن تعرف أن السلف متفقون على إثبات صفة الاستواء وأنهم لا يفهمون منها إلا كل معنى حق ، وأن الاستواء عندهم معلوم المعنى ولكنه مجهول الكيفية فهم يعلمون معناه ويفوضون علم كيفيته إلى الله تعالى ، فكن مع السلف والزم جادتهم تنجو, وخذ به في سيرك إلى الله تعالى تصل وأنت سليم معافى ، الله الله في منهج السلف ، الله الله في منهج السلف وفهمهم ، اعضض عليه بنواجذك واشدد عليه بكلتا يديك ، إن كنت تريد السلامة والنجاة في الدنيا والآخرة ، والله يتولانا وإياك للهدى .(1/96)
الفرع الثامن:- اتفق سلف الأمة وأئمتها على أن الألفاظ المجملة المبهمة التي تحتمل الحق والباطل أنها لا ترد مطلقا ولا تقبل مطلقا ، وإنما هي موقوفة على التفصيل ، حتى يتميز حقها من باطلها فيقبل الحق ويرد الباطل ، كلفظ الجهة والجسم والحيز والمكان ، فهذه لا يجعلها السلف أصولا ترد إليها مسائل الأسماء والصفات ، لا أبدا ، بل هي عند السلف ألفاظ مجملة ، تتضمن الحق وتتضمن الباطل ، ولا يثبتون ألفاظها ولا ينفونها ، وأما معانيها ، فإنها عندهم على التفصيل ، فإن كان يراد بها المعنى الحق قبلوها ، وإن كان يراد بها المعنى الباطل ردوها ، هذا هو فهم السلف ، وعلى ذلك:- فلفظ الجهة إن كان يراد به جهة سفل أو جهة علو محيطة بالله تعالى فإنه معنى باطل يرده سلف الأمة ، ولا يقبلونه ، وإن كان يراد به جهة علو غير محيطة ، فهذا معنى حق يقبله السلف ولكن لا يطلقون عليه لفظ الجهة لأن هذا اللفظ لم يرد في الكتاب ولا في السنة بعينه ، وإنما يطلقون على المعنى الحق فيه لفظ العلو ، فإن لفظ العلو هو الذي ورد به الكتاب وصحت به السنة وكذلك لفظ المكان ، فإن السلف يفهمون منه أنه إن أريد به مكان سفل أو مكان علو محيط بالله تعالى فإنه يكون بذلك من المعاني الباطلة المردودة بالكتاب والسنة ، وأما إن أريد به مكان علو غير محيط بالله تعالى فإنه كمال ، ولكن لا يطلق السلف على هذا المعنى الحق لفظ المكان ، وإنما يطلقون عليه لفظ الاستواء على العرش ، فيقولون :- الله مستو على عرشه ، بائن من خلقه ، ليس في خلقه شيء من ذاته ، ولا في ذاته شيء من خلقه ، فلا يعبر السلف رحمهم الله تعالى عن المعاني الحق الثابتة بألفاظ مجملة موهمة للحق والباطل ، بل لا يعبرون عنها إلا بما ورد به الكتاب والسنة من الألفاظ ، وكذلك لفظ الحيز ، فإن السلف لا يطلقون لفظه نفيا ولا إثباتا ، ويتوقفون في قبول معناه على الاستفصال ،فإن كان يراد به أن الله تعالى يحوز الأشياء أو(1/97)
هي تحوزه ، يعني أنه داخل فيها حال فيها أو هي حالة فيه داخلة في ذاته ، فهذا معنى باطل ، بل هو أبطل الباطل ، وإن كان يراد بالحيز أي المنفصل ، فهو حق ، فالله تعالى عال على الخلق ، ومنفصل عنهم ، ومنحاز عنهم ليس في ذاته شيء من ذوات خلقه ، ولا في خلقه شيء من ذاته ، هذا هو فهم السلف رحمهم الله تعالى ، ودع عنك ما يقرره الخلف من أهل البدع ، والزم جادة سلف الأمة تأصيلا وتفصيلا والمتقرر عند سلف الأمة رحمهم الله تعالى أن مسائل الاعتقاد لا يعبر عنها بالألفاظ المجملة الموهمة المحتملة ، بل لا يعبر عنها إلا بالحق المتفق مع لفظ الكتاب والسنة ، فالسلف رحمهم الله تعالى لا يجعلون هذه الألفاظ حاكمة على شيء من الوحي ، بل الوحي هو الحاكم عليها والمهيمن عليها وأما من زاغ وحاد على سبيلهم فإنهم يجعلون مثل هذه الألفاظ مهيمنة حاكمة على ما ورد به الوحي ، فقل لي بربك ، لماذا أنكر أهل البدع العلو الذي ثبتت به الأدلة المتواترة ؟ إنما ذلك لأن العلو عندهم جهة والجهة ممتنعة على الله ، فأنكروا العلو وحرفوه مراعاة للفظ الجهة ، فجعلوا هذا اللفظ حاكما ومهيمنا على ما ورد به الكتاب والسنة ، وقل لي بربك ، لماذا أنكر المعتزلة صفات الله تعالى ولماذا أنكر الجهمية الأسماء والصفات ؟ إنما ذلك مراعاة منهم للفظ الجسم ، لأن الموصوف بصفة لا يتصور أن يكون إلا جسما ، والجسمية ممتنعة على الله تعالى ، فحرفوا الأدلة وساموها تعطيلا وجحدا وإنكارا ، احتراما منهم للفظ الجسم ، فجعلوا هذا اللفظ حاكما ومهيمنا على ما ورد به الكتاب والسنة ، فالمبتدعة من علاماتهم التي يعرفون بها :- تحكيم الألفاظ المجملة في وحي رب العالمين ، فهذه الألفاظ المجملة الموهمة المحتملة هي الأصل عند أهل البدع فيما ينفى وما يثبت من الأسماء والصفات لله تعالى ، فهل هذا بالله عليك هو الحق الذي جاء محمد صلى الله عليه وسلم به ؟ هل هذا هو الحق الذي كان عليه صحابته الكرام ؟(1/98)
هل هذا هو الحق الذي قرره التابعون لهم بإحسان ؟ هل هذا هو الحق الذي قرره أئمة السلف من أمثال السفيانين وأحمد ابن حنبل وإسحاق وعمر بن عبدالعزيز والثوري ، ومن كان على الحق والهدى من الأئمة ؟ هل هذا ما نطقت به الأدلة من الكتاب والسنة ؟ أعوذ بالله من هذا المذهب الخبيث الضال ، إن هي إلا ترهات ورثها أهل البدع من شياطين الإنس والجن ، إن هي إلا خزعبلات أملاها عليهم الشيطان وملأ قلوبهم بها ، إن هي إلا خيالات ظنوها حقا ثابتا وهي من أبطل الباطل وأقبح القبيح ، ووالله لا حقيقة لما قرروه ، ولا برهان لما ظنوه ، فالوحي هو الحاكم لا المحكوم عليه ، فهذه الألفاظ المجملة في الحقيقة ألفاظ بدعية ، لا يجوز جعلها أصلا فيما يقبل أو يرد من نصوص الوحي ، قال ابن تيمية رحمه الله تعالى (وَمَا تَنَازَعَ فِيهِ الْمُتَأَخِّرُونَ نَفْيًا وَإِثْبَاتًا فَلَيْسَ عَلَى أَحَدٍ بَلْ وَلَا لَهُ أَنْ يُوَافِقَ أَحَدًا عَلَى إثْبَاتِ لَفْظِهِ أَوْ نَفْيِهِ حَتَّى يَعْرِفَ مُرَادَهُ فَإِنْ أَرَادَ حَقًّا قُبِلَ وَإِنْ أَرَادَ بَاطِلًا رُدَّ وَإِنْ اشْتَمَلَ كَلَامُهُ عَلَى حَقٍّ وَبَاطِلٍ لَمْ يُقْبَلْ مُطْلَقًا وَلَمْ يُرِدْ جَمِيعَ مَعْنَاهُ بَلْ يُوقَفُ اللَّفْظُ وَيُفَسَّرُ الْمَعْنَى كَمَا تَنَازَعَ النَّاسُ فِي الْجِهَةِ وَالتَّحَيُّزِ وَغَيْرِ ذَلِكَ ، فَلَفْظُ الْجِهَةِ قَدْ يُرَادُ بِهِ شَيْءٌ مَوْجُودٌ غَيْرُ اللَّهِ فَيَكُونُ مَخْلُوقًا كَمَا إذَا أُرِيدَ بِالْجِهَةِ نَفْسُ الْعَرْشِ أَوْ نَفْسُ السَّمَوَاتِ وَقَدْ يُرَادُ بِهِ مَا لَيْسَ بِمَوْجُودِ غَيْرِ اللَّهِ تَعَالَى كَمَا إذَا أُرِيدَ بِالْجِهَةِ مَا فَوْقَ الْعَالَمِ وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَيْسَ فِي النَّصِّ إثْبَاتُ لَفْظِ الْجِهَةِ وَلَا نَفْيُهُ كَمَا فِيهِ إثْبَاتُ الْعُلُوِّ وَالِاسْتِوَاءِ وَالْفَوْقِيَّةِ وَالْعُرُوجِ إلَيْهِ وَنَحْوُ ذَلِكَ(1/99)
وَقَدْ عُلِمَ أَنَّ مَا ثَمَّ مَوْجُودٌ إلَّا الْخَالِقَ وَالْمَخْلُوقَ وَالْخَالِقُ مُبَايِنٌ لِلْمَخْلُوقِ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - لَيْسَ فِي مَخْلُوقَاتِهِ شَيْءٌ مِنْ ذَاتِهِ ؛ وَلَا فِي ذَاتِهِ شَيْءٌ مِنْ مَخْلُوقَاتِهِ , فَيُقَالُ لِمَنْ نَفَى الْجِهَةَ : أَتُرِيدُ بِالْجِهَةِ أَنَّهَا شَيْءٌ مَوْجُودٌ مَخْلُوقٌ ؟ فَاَللَّهُ لَيْسَ دَاخِلًا فِي الْمَخْلُوقَاتِ أَمْ تُرِيدُ بِالْجِهَةِ مَا وَرَاءَ الْعَالَمِ ؟ فَلَا رَيْبَ أَنَّ اللَّهَ فَوْقَ الْعَالَمِ مُبَايِنٌ لِلْمَخْلُوقَاتِ وَكَذَلِكَ يُقَالُ لِمَنْ قَالَ اللَّهُ فِي جِهَةٍ : أَتُرِيدُ بِذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ فَوْقَ الْعَالَمِ ؟ أَوْ تُرِيدُ بِهِ أَنَّ اللَّهَ دَاخِلٌ فِي شَيْءٍ مِنْ الْمَخْلُوقَاتِ ؟ فَإِنْ أَرَدْت الْأَوَّلَ فَهُوَ حَقٌّ وَإِنْ أَرَدْت الثَّانِيَ فَهُوَ بَاطِلٌ وَكَذَلِكَ لَفْظُ التَّحَيُّزِ: إنْ أَرَادَ بِهِ أَنَّ اللَّهَ تَحُوزُهُ الْمَخْلُوقَاتُ فَاَللَّهُ أَعْظَمُ وَأَكْبَرُ ؛ بَلْ قَدْ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ } وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصِّحَاحِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ "يَقْبِضُ اللَّهُ الْأَرْضَ وَيَطْوِي السَّمَوَاتِ بِيَمِينِهِ ثُمَّ يَقُولُ : أَنَا الْمَلِكُ أَيْنَ مُلُوكُ الْأَرْضِ ؟" وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ " وَإِنَّهُ لَيَدْحُوهَا كَمَا يَدْحُو الصِّبْيَانَ بِالْكُرَةِ " وَفِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ " مَا السَّمَوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُونَ السَّبْعُ وَمَا فِيهِنَّ فِي يَدِ الرَّحْمَنِ إلَّا كَخَرْدَلَةِ فِي يَدِ أَحَدِكُمْ " وَإِنْ أَرَادَ بِهِ أَنَّهُ مُنْحَازٌ عَنْ(1/100)
الْمَخْلُوقَاتِ ؛ أَيْ مُبَايِنٌ لَهَا مُنْفَصِلٌ عَنْهَا لَيْسَ حَالًّا فِيهَا فَهُوَ سُبْحَانَهُ كَمَا قَالَ أَئِمَّةُ السُّنَّةِ : فَوْقَ سَمَوَاتِهِ عَلَى عَرْشِهِ بَائِنٌ مِنْ خَلْقِهِ ) وقال رحمه الله تعالى (وَإِنَّمَا الْمَقْصُودُ هُنَا التَّنْبِيهُ عَلَى جَوَامِعِ ذَلِكَ وَطُرُقِهِ وَمَا سَكَتَ عَنْهُ السَّمْعُ نَفْيًا وَإِثْبَاتًا وَلَمْ يَكُنْ فِي الْعَقْلِ مَا يُثْبِتُهُ وَلَا يَنْفِيه سَكَتْنَا عَنْهُ فَلَا نُثْبِتُهُ وَلَا نَنْفِيه , فَنُثْبِتُ مَا عَلِمْنَا ثُبُوتَهُ وَنَنْفِي مَا عَلِمْنَا نَفْيَهُ وَنَسْكُتُ عَمَّا لَا نَعْلَمُ نَفْيَهُ وَلَا إثْبَاتَهُ ) وقال رحمه الله تعالى (فَالْأَقْسَامُ ثَلَاثَةٌ : مَا عُلِمَ ثُبُوتُهُ أُثْبِتَ وَمَا عُلِمَ انْتِفَاؤُهُ نُفِيَ وَمَا لَمْ يُعْلَمْ نَفْيُهُ وَلَا إثْبَاتُهُ سَكَتَ عَنْهُ , هَذَا هُوَ الْوَاجِبُ , وَالسُّكُوتُ عَنْ الشَّيْءِ غَيْرِ الْجَزْمِ بِنَفْيِهِ أَوْ ثُبُوتِهِ , وَمَنْ لَمْ يُثْبِتْ مَا أَثْبَتَهُ إلَّا بِالْأَلْفَاظِ الشَّرْعِيَّةِ الَّتِي أَثْبَتَهَا وَإِذَا تَكَلَّمَ بِغَيْرِهَا اسْتَفْسَرَ وَاسْتَفْصَلَ فَإِنْ وَافَقَ الْمَعْنَى الَّذِي أَثْبَتَهُ الشَّرْعُ أَثْبَتَهُ بِاللَّفْظِ الشَّرْعِيِّ فَقَدْ اعْتَصَمَ بِالشَّرْعِ لَفْظًا وَمَعْنًى , وَهَذِهِ سَبِيلُ مَنْ اعْتَصَمَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى ) ولنا رسالة في شرح قاعدة الألفاظ المجملة عند أهل السنة ، والله يتولانا وإياك .(1/101)
الفرع التاسع:- اتفق الأئمة على أن التشريع أمر موقوف على الكتاب والسنة على فهم سلف الأمة فلا مدخل لغيرها في التشريع ، فلا تؤخذ العقائد عند السلف إلى من الكتاب والسنة فقط ، ولا ثالث لها ، ولكن لابد أن يكون الأخذ بها مقرونا بفهم سلف الأمة ، فالسلف رحمهم الله تعالى فهموا أن أدلة الكتاب والسنة وافية كافية في تقرير أمور المعتقد ، وأما من زاغ وحاد عن سبيلهم فإنه لا ينظر إلى الكتاب والسنة نظر اعتبار ، بل عامة أهل البدع والضلالات لا يرون أن الكتاب والسنة من المصادر التي يؤخذ منها المعتقد ، لأنها عندهم مجرد ظواهر لا تدل على العقيدة الصحيحة فضلا عن أن من أهل البدع من يقدح فيمن أخذ بظاهر الكتاب والسنة ، وبعض أهل البدع قد حكم العقل في كل مصادره وموارده ، فلا يعتقد إلا ما اقتضاه العقل ، فجعلوا العقل هو المهيمن على أدلة الشرع ، فما قرره العقل اعتمدوه وإن لم يكن عليه دليل بخصوصه ، وما نفاه العقل ردوه واتهموه وإن وردت به الأدلة المتواترة ، فتراهم لا يأخذون في عقائدهم إلا ما أملته عليه عقولهم العفنة وأفهامهم المنتنة ، فالوحي عندهم هو العقل لا ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم ، وبعض أهل البدع جعلوا العمدة في إثبات العقائد على مرويات آل البيت ، فقصروا العقيدة على ما اعتمده آل البيت ، وليتهم صدقوا في ذلك ، لكنهم تجاوزوا وكذبوا واختلقوا على آل البيت ما لم يقولوه وخالفوا في عقائدهم جمهور الأمة ، وبعض أهل البدع جعلوا عمدتهم على ما قررته المكاشفات والأحلام والرؤى ، و المواجيد والأذواق فترى الواحد يرى منهم مناما في أن هذه البقعة قبر ولي أو نبي ، ثم يبنى فيه البناء الفسيح الواسع ، وترتاده الأمم الضالة ، وتجعل له الموالد والاحتفالات وتعظمه وتدعوه من دون الله تعالى ، وبعضهم بنى عقيدته على ما يحسه فقط دون ما يخفى عنه فلا يؤمن إلا بالمحسوسات فقط ، وأما ما غاب عنه وخفي عن مدركاته فإنه يكذب به ويجحد به,(1/102)
وغير ذلك مما يطول ذكره , وأما السلف الصالح ، فإنهم بنوا عقيدتهم على الكتاب والسنة على فهم الصحابة ، وهذا هو ما يجب أن نبقى عليه ونتمسك به ، قال ابن تيمية رحمه الله تعالى (فَمُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَسُولُ اللَّهِ إلَى جَمِيعِ الثَّقَلَيْنِ إنْسِهِمْ وَجِنِّهِمْ عَرِبِهِمْ وَعَجَمِهِمْ مُلُوكِهِمْ وَزُهَّادِهِمْ الْأَوْلِيَاءِ مِنْهُمْ وَغَيْرِ الْأَوْلِيَاءِ فَلَيْسَ لِأَحَدِ الْخُرُوجُ عَنْ مُتَابَعَتِهِ بَاطِنًا وَظَاهِرًا وَلَا عَنْ مُتَابَعَةِ مَا جَاءَ بِهِ مِنْ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ فِي دَقِيقٍ وَلَا جَلِيلٍ لَا فِي الْعُلُومِ وَلَا الْأَعْمَالِ ) وقَالَ سَهْلُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ التستري ( كُلُّ وَجْدٍ لَا يَشْهَدُ لَهُ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ فَهُوَ بَاطِلٌ ) وقال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى (الْقَاعِدَةُ الثَّانِيَةُ أَنَّ مَا أَخْبَرَ بِهِ الرَّسُولُ عَنْ رَبِّهِ فَإِنَّهُ يَجِبُ الْإِيمَانُ بِهِ -سَوَاءٌ عَرَفْنَا مَعْنَاهُ أَوْ لَمْ نَعْرِفْ- لِأَنَّهُ الصَّادِقُ الْمَصْدُوقُ ؛ فَمَا جَاءَ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَجَبَ عَلَى كُلِّ مُؤْمِنٍ الْإِيمَانُ بِهِ وَإِنْ لَمْ يَفْهَمْ مَعْنَاهُ وَكَذَلِكَ مَا ثَبَتَ بِاتِّفَاقِ سَلَفِ الْأُمَّةِ وَأَئِمَّتِهَا ) وقال رحمه الله تعالى ( وَأَهْلُ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ يَتَّبِعُونَ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَيَتَّبِعُونَ الْحَقَّ وَيَرْحَمُونَ الْخَلْقَ ) وقال رحمه الله تعالى (وَلِهَذَا وَصَفَ الْفِرْقَةَ النَّاجِيَةَ بِأَنَّهَا أَهْلُ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ وَهُمْ الْجُمْهُورُ الْأَكْبَرُ وَالسَّوَادُ الْأَعْظَمُ , وَأَمَّا الْفِرَقُ الْبَاقِيَةُ فَإِنَّهُمْ أَهْلُ الشُّذُوذِ وَالتَّفَرُّقِ وَالْبِدَعِ وَالْأَهْوَاءِ وَلَا تَبْلُغُ الْفِرْقَةُ مِنْ(1/103)
هَؤُلَاءِ قَرِيبًا مِنْ مَبْلَغِ الْفِرْقَةِ النَّاجِيَةِ فَضْلًا عَنْ أَنْ تَكُونَ بِقَدْرِهَا بَلْ قَدْ تَكُونُ الْفِرْقَةُ مِنْهَا فِي غَايَةِ الْقِلَّةِ , وَشِعَارُ هَذِهِ الْفِرَقِ مُفَارَقَةُ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ , فَمَنْ قَالَ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ كَانَ مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ ) وقال رحمه الله تعالى (وَكُلُّ مَنْ خَالَفَ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ مِنْ خَبَرٍ أَوْ أَمْرٍ أَوْ عَمَلٍ فَهُوَ ظَالِمٌ ) وقال رحمه الله تعالى (فَعَلَيْنَا أَنْ نُؤْمِنَ بِكُلِّ مَا جَاءَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَنُقِرُّ بِالْحَقِّ كُلِّهِ وَلَا يَكُونُ لَنَا هَوًى وَلَا نَتَكَلَّمُ بِغَيْرِ عِلْمٍ ؛ بَلْ نَسْلُكُ سُبُلَ الْعِلْمِ وَالْعَدْلِ وَذَلِكَ هُوَ اتِّبَاعُ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ )(1/104)
الفرع العاشر:- اتفق سلف الأمة وأئمتها على أن القرآن كلام الله تعالى منزل غير مخلوق ، منه بدأ وإليه يعود ، وأنه كلام الله تعالى حقيقة حروفه ومعانيه ، ليس كلامه الحروف فقط دون المعاني ولا المعاني دون الحروف ، بل الحروف والمعاني كلها كلام الله تعالى ، وأن الله تعالى تكلم به حقيقة وسمعه منه جبريل ، وبلغه إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، ثم بلغه النبي صلى الله عليه وسلم إلى الصحابة ، وبلغه الصحابة إلى كافة الأمة ، ولا تزال الأمة تتناقله خالفا عن سالف ، وحفظه في الصدور والسطور والأوراق لا يخرجه عن كونه كلام الله تعالى على الحقيقة ، هذا ما أجمع عليه السلف الصالح من الصحابة والتابعين وتابعيهم ، وسارت عليه أمة الهدى ،وقرره أهل السنة والجماعة في كتبهم ، حتى نبغت نابغة من أهل البدع وقالوا :- إنه مخلوق ، وقال بعضهم :- إنه حكاية عن كلام الله تعالى وليس هو كلامه المسموع على الحقيقة ، وقيل غير ذلك ، وكلها أقوال مخالفة لفهم السلف ، والمتقرر أن كل ما خالف فهم السلف في مسائل العقيدة والعمل فإنه باطل قال أبو العباس رحمه الله تعالى ( فَإِنَّ مَذْهَبَ سَلَفِ الْأُمَّةِ وَأَهْلِ السُّنَّةِ أَنَّ الْقُرْآنَ كَلَامُ اللَّهِ ؛ مُنَزَّلٌ غَيْرُ مَخْلُوقٍ ، مِنْهُ بَدَأَ وَإِلَيْهِ يَعُودُ . هَكَذَا قَالَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ السَّلَفِ . رُوِيَ عَنْ سُفْيَانَ بْنِ عيينة عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ - وَكَانَ مِنْ التَّابِعِينَ الْأَعْيَانِ - قَالَ : مَا زِلْت أَسْمَعُ النَّاسَ يَقُولُونَ ذَلِكَ .(1/105)
وَالْقُرْآنُ الَّذِي أَنْزَلَهُ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هُوَ هَذَا الْقُرْآنُ الَّذِي يَقْرَءُوهُ الْمُسْلِمُونَ وَيَكْتُبُونَهُ فِي مَصَاحِفِهِمْ وَهُوَ كَلَامُ اللَّهِ لَا كَلَامُ غَيْرِهِ ؛ وَإِنْ تَلَاهُ الْعِبَادُ وَبَلَغُوهُ بِحَرَكَاتِهِمْ وَأَصْوَاتِهِمْ فَإِنَّ الْكَلَامَ لِمَنْ قَالَهُ مُبْتَدِئًا لَا لِمَنْ قَالَهُ مُبَلِّغًا مُؤَدِّيًا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ } وَهَذَا الْقُرْآنُ فِي الْمَصَاحِفِ كَمَا قَالَ تَعَالَى { بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ , فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ } وَقَالَ تَعَالَى { يَتْلُو صُحُفًا مُطَهَّرَةً , فِيهَا كُتُبٌ قَيِّمَةٌ } وَقَالَ { إنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ , فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ } وَالْقُرْآنُ كَلَامُ اللَّهِ بِحُرُوفِهِ وَنَظْمِهِ وَمَعَانِيهِ كُلُّ ذَلِكَ يَدْخُلُ فِي الْقُرْآنِ وَفِي كَلَامِ اللَّهِ ) وقال رحمه الله تعالى نقلا عن بعض أهل العلم في تقريره لعقيدة السلف في القرآن ( وأن القرآن كلام الله وسائر كتبه المنزلة كلامه غير مخلوق وأن القرآن من جميع الجهات مقروءاً ومتلواً ومحفوظاً ومسموعاً وملفوظاً كلام الله حقيقة لا حكاية ولا ترجمة وأنه بألفاظنا كلام الله غير مخلوق وأن الواقفة من اللفظية من الجهمية، وإن من قصد القرآن بوجه من الوجوه يريد خلق كلام الله فهو عندهم من الجهمية ) وقال رحمه الله تعالى (وكما لم يقل أحد من السلف أنه مخلوق فلم يقل أحد منهم أنه قديم، لم يقل واحداً من القولين أحد من الصحابة ولا التابعين لهم بإحسان ولا من بعدهم من الأئمة الأربعة ولا غيرهم، بل الآثار متواترة عنهم بأنهم كانوا يقولون القرآن كلام الله، ولما ظهر من قال أنه مخلوق قالوا رداً لكلامه أنه غير مخلوق، ولم(1/106)
يريدوا بذلك أنه مفترى كما ظنه بعض الناس فإن أحداً من المسلمين لم يقل أنه مفترى بل هذا كفر ظاهر يعلمه كل مسلم، وإنما قالوا أنه مخلوق خلقه الله في غيره فرد السلف هذا القول، كما تواترت الآثار عنهم بذلك وصنف في ذلك مصنفات متعددة وقالوا: منه بدأ وإليه يعود.
وأول من عرف أنه قال مخلوق الجعد بن درهم وصاحبه الجهم بن صفوان، وأول من عرف أنه قال هو قديم عبد الله بن سعيد بن كلاب، ثم افترق الذين شاركوه في هذا القول فمنهم من قال الكلام معنى واحد قائم بذات الرب ومعنى القرآن كله والتوراة والإنجيل وسائر كتب الله وكلامه وهو ذلك المعنى الواحد الذي لا يتعدد ولا يتبعض، والقرآن العربي لم يتكلم الله به بل هو مخلوق خلقه في غيره, وقال جمهور العقلاء: هذا القول معلوم الفساد بالاضطرار فإنه من المعلوم بصريح العقل أن معنى آية الكرسي ليس معنى آية الدين، ولا معنى قل هو الله أحد معنى تبت يدا أبي لهب، فكيف بمعاني كلام الله في الكتب المنزلة وخطابه لملائكته وحسابه لعباده يوم القيامة وغير ذلك من كلامه ومنهم من قال: هو حروف أو حروف وأصوات قديمة أزلية لازمة لذاته لم يزل ولا يزال موصوفاً بها، وكلا الحزبين يقول: إن الله تعالى لا يتكلم بمشيئته وقدرته، وإنه لم يزل ولا يزال يقول: يا نوح، يا إبراهيم، يا أيها المزمل، أيها المدثر، كما قد بسطت أقوالهم في غير هذا الموضع، ولم يقل أحد من السلف بواحد من القولين ولم يقل أحد من السلف أن هذا القرآن عبارة عن كلام الله ولا حكاية له، ولا قال أحد منهم أن لفظي بالقرآن قديم أو غير مخلوق، فضلاً عن أن يقول أن صوتي به قديم أو غير مخلوق بل كانوا يقولون بما دل عليه الكتاب والسنة من أن هذا القرآن كلام الله والناس يقرؤونه بأصواتهم ويكتبونه بمدادهم وما بين اللوحين كلام الله وكلام الله غير مخلوق ) وقال رحمه الله تعالى (وقد ذكر الشيخ أبو الحسن محمد بن عبد الملك الكرخي في كتابه الذي سماه:(1/107)
الفصول في الأصول، قال: سمعت الإمام أبا منصور محمد بن أحمد يقول: سمعت أبا حامد الاسفراييني يقول: مذهبي ومذهب الشافعي وفقهاء الأمصار أن القرآن كلام الله غير مخلوق ومن قال مخلوق فهو كافر، والقرآن حمله جبريل مسموعاً من الله والنبي صلى الله عليه وسلم سمعه من جبريل والصحابة سمعوه من رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو الذي نتلوه نحن بألسنتنا وفيما بين الدفتين وما في صدورنا مسموعاً ومكتوباً ومحفوظاً وكل حرف منه كالباء والتاء كله كلام الله غير مخلوق، ومن قال مخلوق فهو كافر، عليه لعائن الله والناس أجمعين ) وقال رحمه الله تعالى (ومذهب سلف الأمة وأئمتها من الصحابة والتابعين لهم بإحسان وسائر أئمة المسلمين كالأئمة الأربعة وغيرهم ما دل عليه الكتاب والسنة، وهو الذي يوافق الأدلة العقلية الصريحة، أن القرآن كلام الله منزل غير مخلوق منه بدأ وإليه يعود، فهو المتكلم بالقرآن والتوراة والإنجيل وغير ذلك من كلامه ليس مخلوقاً منفصلاً عنه، وهو سبحانه يتكلم بمشيئته وقدرته، فكلامه قائم بذاته، ليس مخلوقاً بائناً عنه، وهو يتكلم بمشيئته وقدرته، لم يقل أحد من سلف الأمة أن كلام الله مخلوق بائن عنه، ولا قال أحد منهم أن القرآن أو التوراة أو الإنجيل لازمة لذاته أزلاً وأبداً، وهو لا يقدر أن يتكلم بمشيئته وقدرته، ولا قالوا أن نفس ندائه لموسى أو نفس الكلمة المعينة قديمة أزلية، بل قالوا لم يزل الله متكلماً إذا شاء فكلامه قديم بمعنى أنه لم يزل متكلماً إذا شاء، وكلمات الله لا نهاية لها كما قال تعالى { قُل لَّوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِّكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَن تَنفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا } والله سبحانه تكلم بالقرآن العربي وبالتوراة العبرية، فالقرآن العربي كلام الله، كما قال تعالى { فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ }(1/108)
إلى قوله { لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُّبِينٌ } فقد بين سبحانه أن القرآن الذي يبدل منه آية مكان آية نزله الروح القدس وهو جبريل - وهو الروح الأمين كما ذكر ذلك في موضع آخر - من الله بالحق، وبين بعد ذلك أن من الكفار من قال: { إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ } كما قال بعض المشركين يعلمه رجل بمكة أعجمي، فقال تعالى { لِّسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ } أي الذي يضيفون إليه هذا التعليم أعجمي { وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُّبِينٌ } ففي هذا ما يدل على أن الآيات التي هي لسان عربي مبين نزلها روح القدس من الله بالحق كما قال في الآية الأخرى { أَفَغَيْرَ اللّهِ أَبْتَغِي حَكَمًا وَهُوَ الَّذِي أَنَزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلاً وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِّن رَّبِّكَ بِالْحَقِّ فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ } والكتاب الذي أنزل مفصلاً هو القرآن العربي باتفاق الناس وقد أخبر أن الذين أتاهم الكتاب يعلمون أنه منزل من الله بالحق، والعلم لا يكون إلا حقاً فقال { يَعْلَمُونَ } ولم يقل يقولون، فإن العلم لا يكون إلا حقاً بخلاف القول، وذكر علمهم ذكر مستشهداً به، وقد فرق سبحانه بين إيحائه إلى غير موسى وبين تكليمه لموسى في قوله تعالى { إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ } إلى قوله { حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ } فرق سبحانه بين تكليمه لموسى وبين إيحائه لغيره ووكد تكليمه لموسى بالمصدر وقال تعالى { تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ } إلى قوله { بِرُوحِ الْقُدُسِ } ) وقال رحمه الله تعالى ( فإن القرآن كلام الله تكلم به بلفظه ومعناه بصوت نفسه، فإذا قرأه القراء قرؤوه بأصوات أنفسهم, فإذا قال القارئ { الْحَمْدُ للّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ } كان هذا الكلام المسموع منه كلام الله لا كلام نفسه، وكان(1/109)
هو قرأه بصوت نفسه لا بصوت الله، فالكلام كلام البارئ، والصوت صوت القارئ، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم " زينوا القرآن بأصواتكم " وكان يقول " ألا رجل يحملني إلى قومه لأبلغ كلام ربي فإن قريشاً قد منعوني أن أبلغ كلام ربي " وكلا الحديثين ثابت، فبين أن الكلام الذي بلغه كلام ربه وبين أن القارئ يقرأه بصوت نفسه، وقال صلى الله عليه وسلم " ليس منا من لم يتغن بالقرآن " قال أحمد والشافعي وغيرهما: هو تحسينه بالصوت، قال أحمد بن حنبل: يحسنه بصوته، فبين أن القارئ يحسن القرآن بصوته نفسه, والسبب الثاني أن السلف قالوا كلام الله منزل غير مخلوق وقالوا لم يزل متكلماً إذا شاء، فبينوا أن كلام الله قديم، أي جنسه قديم لم يزل، ولم يقل أحد منهم أن نفس الكلام المعين قديم، ولا قال أحد منهم القرآن قديم، بل قالوا إنه كلام الله منزل غير مخلوق وإذا كان الله قد تكلم بالقرآن بمشيئته كان القرآن كلامه، وكان منزلاً منه غير مخلوق، ولم يكن مع ذلك أزلياً قديماً بقدم الله وإن كان الله لم يزل متكلماً إذا شاء، فجنس كلامه قديم، فمن فهم قول السلف وفرق بين هذه الأقوال زالت عنه الشبهات في هذه المسائل المعضلة التي اضطرب فيها أهل الأرض) وقال رحمه الله تعالى ( وقال أحمد: نقول القرآن كلام الله غير مخلوق حيث تصرف أي حيث تُلي وكتب وقرئ مما هو في نفس الأمر كلام الله فهو كلامه وكلامه غير مخلوق، وما كان من صفات العباد وأفعالهم التي يقرؤون ويكتبون بها كلامه كأصواتهم ومدادهم فهو مخلوق ) وقال رحمه الله تعالى في كلام طويل له أنقله بطوله لعظم فائدته (فصل: في بيان أن القرآن كلام الله العزيز العليم ليس شيء منه كلاماً لغيره لا جبريل ولا محمد ولا غيرهما، قال الله تعالى { فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ , إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ ،(1/110)
إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُم بِهِ مُشْرِكُونَ ، وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَّكَانَ آيَةٍ وَاللّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُواْ إِنَّمَا أَنتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ ، قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِن رَّبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُواْ وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ ، وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِّسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُّبِينٌ } فأمره أن يقول { نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِن رَّبِّكَ بِالْحَقِّ } والضمير في قوله { نَزَّلَهُ } عائد على { مَا } في قوله { بِمَا يُنَزِّلُ } فالمراد به القرآن كما يدل عليه سياق الكلام، وقوله { وَاللّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ } فيه إخبار بأنه أنزله، لكن ليس في هذه اللفظة بيان أن روح القدس نزل به ولا أنه منزل منه, ولفظ الإنزال في القرآن قد يرد مقيداً بالإنزال منه كنزول القرآن وقد يرد مقيداً بالإنزال من السماء ويراد به العلو، فيتنازل نزول المطر من السحاب ونزول الملائكة من عند الله وغير ذلك، وقد يرد مطلقاً فلا يختص بنوع من الإنزال بل ربما يتناول الإنزال من رؤوس الجبال كقوله تعالى { وَأَنزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ } والإنزال من ظهور الحيوان كإنزال الفحل الماء وغير ذلك فقوله { نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِن رَّبِّكَ } بيان لنزول جبريل من الله عز وجل فإن روح القدس هنا هو جبريل بدليل قوله تعالى { مَن كَانَ عَدُوًّا لِّجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللّهِ } وهو الروح الأمين كما في قوله تعالى { وَإِنَّهُ لَتَنزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ ، نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنذِرِينَ ، بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُّبِينٍ }(1/111)
وفي قوله { الْأَمِينُ } دلالة على أنه مؤتمن على ما أرسل به لا يزيد فيه ولا ينقص، فإن الرسول الخائن قد يغير الرسالة كما قال تعالى في صفته في الآية الأخرى { إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ ، ذِي قُوَّةٍ عِندَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ ، مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ } وفي قوله { مُنَزَّلٌ مِّن رَّبِّكَ } دلالة على أمور: منها بطلان قول من يقول إنه كلام مخلوق خلقه في جسم من الأجسام المخلوقة كما هو قول الجهمية الذين يقولون بخلق القرآن من المعتزلة والبخارية والضرارية وغيرهم، فإن السلف كانوا يسمون كل من نفى الصفات وقال إن القرآن مخلوق وأن الله لا يرى في الآخرة جهمياً، فإن جهماً أول من ظهرت عنه بدعة نفي الأسماء والصفات، وبالغ في نفي ذلك، فله في هذه البدعة مزية المبالغة في النفي والابتداء بكثرة إظهار ذلك والدعوة إليه، وإن كان الجعد بن درهم قد سبقه إلى بعض ذلك، فإن الجعد أول من أحدث ذلك في الإسلام فضحى به خالد بن عبد الله القسري بواسط يوم النحر، وقال: يا أيها الناس ضحوا تقبل الله ضحاياكم فإني مضح بالجعد بن درهم إنه زعم أن الله لم يتخذ إبراهيم خليلاً، ولم يكلم موسى تكليماً، تعالى الله عما يقول الجعد علواً كبيراً ثم نزل فذبحه، ولكن المعتزلة إن وافقوا جهماً في بعض ذلك فهم يخالفونه في مسائل غير ذلك، كمسائل الإيمان والقدر وبعض مسائل الصفات أيضاً، ولا يبالغون في النفي مبالغته، وجهم يقول: إن الله لا يتكلم أو يقول أنه متكلم بطريق المجاز، وأما المعتزلة فيقولون أنه يتكلم حقيقة لكن قولهم في المعنى هو قول جهم، وجهم ينفي الأسماء أيضاً كما نفتها الباطنية ومن وافقهم من الفلاسفة، وأما جمهور المعتزلة فلا تنفي الأسماء فالمقصود أن قوله { مُنَزَّلٌ مِّن رَّبِّكَ } فيه بيان أنه منزل من الله لا من مخلوق من المخلوقات، ولهذا قال السلف: منه بدأ، أي هو الذي تكلم به لم يبتدئ من غيره كما قال الخلقية, ومنها أن قوله {(1/112)
مُنَزَّلٌ مِّن رَّبِّكَ } فيه بطلان قول من يجعله فاض على نفس النبي من العقل الفعال أو غيره كما يقول ذلك طوائف من الفلاسفة والصابئة وهذا القول أعظم كفراً وضلالاً من الذي قبله’ ومنها أن هذه الآية أيضاً تبطل قول من قال أن القرآن العربي ليس منزلاً من الله بل مخلوق إما في جبريل أو محمد أو جسم آخر غيرهما، كما يقول ذلك الكلابية والأشعرية الذين يقولون: القرآن العربي ليس هو كلام الله وإنما كلامه المعنى القائم بذاته والقرآن العربي خلق ليدل على ذلك المعنى، ثم إما أن يكون خلق في بعض الأجسام الهواء أو غيره، أو ألهمه جبريل فعبر عنه بالقرآن العربي، أو ألهمه محمد فعبر عنه بالقرآن العربي، أو يكون جبريل أخذه من اللوح المحفوظ أو غيره, فهذه الأقوال التي تقدمت هي تفريع هذا القول، فإن هذا القرآن العربي لابد له من متكلم تكلم به أولاً قبل أن يصل إلينا، وهذا القول يوافق قول المعتزلة ونحوهم في إثبات خلق القرآن العربي، وكذلك التوراة العبرية، ويفارقه من وجهين: أحدهما أن أولئك يقولون أن المخلوق كلام الله وهم يقولون إنه ليس كلام الله لكن يسمى كلام الله مجازاً هذا قول أئمتهم وجمهورهم، وقال طائفة من متأخريهم: بل لفظ الكلام يقال على هذا وهذا بالاشتراك اللفظي، لكن لفظ هذا الكلام ينقض أصلهم في إبطال قيام الكلام بغير المتكلم به، ومع هذا لا يقولون أن المخلوق كلام الله حقيقة كما يقولوه المعتزلة مع قولهم أنه كلام حقيقة، بل يجعلون القرآن العربي كلاماً لغير الله وهو كلام حقيقة، وهذا شر من قول المعتزلة وهذا حقيقة قول الجهمية، ومن هذا الوجه نقول: المعتزلة أقرب، وقول الآخرين هو قول الجهمية المحضة، لكن المعتزلة في المعنى موافقون لهؤلاء وإنما ينازعونهم في اللفظ الثاني أن هؤلاء يقولون: لله كلام هو معنى قديم قائم بذاته والخلقية يقولون لا يقوم بذاته كلام، ومن هذا الوجه الكلابية خير من الخلقية في الظاهر لكن جمهور الناس(1/113)
يقولون إن أصحاب هذا القول عند التحقيق لم يثبتوا كلاماً له حقيقة غير المخلوق، فإنهم يقولون إنه معنى واحد هو الأمر والنهي والخبر، إن عبر عنه بالعربية كان قرآناً، وإن عبر عنه بالعبرية كان توراة، وإن عبر عنه بالسريانية كان إنجيلاً، ومنهم من قال هو خمس معان وجمهور العقلاء أن فساد هذا معلوم بالضرورة بعد التصور التام والعقلاء الكثيرون لا يتفقون على الكذب وجحد الضرورات من غير تواطؤ واتفاق كما في الأخبار المتواترة، وأما مع التواطؤ فقد يتفقون على الكذب عمداً، وقد يتفقون على جحد الضرورات وإن لم يعلم كل منهم أنه جاحد للضرورة ولم يفهم حقيقة القول الذي يعتقده لحسن ظنه فيمن يقلد قوله ومحبته ليصير ذلك القول كما اتفقت النصارى والرافضة وغيرهم من الطوائف على مقالات يعلم فسادها بالضرورة.(1/114)
وقال جمهور العقلاء: نحن إذا عربنا التوراة والإنجيل لم يكن ذلك معنى القرآن بل معاني هذا ليست معاني هذا وكذلك معنى " قل هو الله أحد " ليس هو معنى " تبت يدا أبي لهب " ، ولا معنى آية الكرسي معنى آية الدين، وقالوا: إذا جوزتم أن تكون الحقائق المتنوعة شيئاً واحداً فجوزوا أن يكون العلم والقدرة والكلام والسمع والبصر صفة واحدة، فاعترف أئمة هذا القول بأن هذا الإلزام ليس لهم عنه جواب عقلي) وقال رحمه الله تعالى (السلف والأئمة متفقين على أن القرآن كلام الله غير مخلوق، وقد علم المسلمون أن القرآن بلغه جبريل عن الله إلى محمد وبلغه محمد إلى الخلق وأن الكلام إذا بلغه المبلغ عن قائله لم يخرج عن كونه كلام المبلغ عنه، بل هو كلام لمن قاله مبتدئاً، لا كلام من بلغه عنه مؤدياً) وقال الطحاوي رحمه الله تعالى وأجزل له الأجر (وأن القرآن كلام الله منه بدأ بلا كيفية قولاً, ونزل على نبيه وحياً, وصدقه المؤمنون على ذلك حقاً, وأيقنوا أنه كلام الله تعالى بالحقيقة ليس بمخلوق، فمن سمعه فزعم أنه كلام البشر فقد كفر) قلت :- وقد اتفق السلف رحمهم الله تعالى على أن من قال بأن القرآن مخلوق فإنه كافر ، وقد حكى اللالكائي رحمه الله تعالى تكفير من قال بخلق القرآن عن عامة السلف ، وحكاه أبو العباس ابن تيمية رحمه الله تعالى ، وغيرهما من الأئمة ، وهذه العقيدة قد اتفق أهل السنة على تقريرها في كتبهم ، فلا تكاد تجد كتابا من كتب العقيدة والسنة إلا وهو يقررها أتم تقرير ، فالسلف رحمهم الله تعالى متفقون على أن القرآن كلام الله تعالى ، ومتفقون على أن جبريل من سمعه الله تعالى ، ومتفقون على أنه بلغه كاملا للنبي صلى الله عليه وسلم ، ومتفقون على أن النبي صلى الله عليه وسلم بلغه كاملا للأمة ، ومتفقون على أن الله تعالى هو الذي تولى حفظه ، ومتفقون على أنه كلام الله تعالى حروفه ومعانيه ، ومتفقون على أنه منه بدأ وإليه يعود ، ومتفقون على أنه(1/115)
كلام الله تعالى حتى وإن كتب في المصاحف ، أو حفظ في الصدور ، ومتفقون على تضليل المعتزلة في قولهم بخلق القرآن ، ومتفقون على أنه منزل غير مخلوق ، ومتفقون على أن من قال بخلقه فهم كافر ، فهذا هو فهم سلف الأمة وهذه هي عقيدتهم وما خالفها فارم به عرض الحائط ، لأن المتقرر أن ما خالف فهم السلف في مسائل العقيدة والعمل فإنه باطل ، باطل ، باطل ، والله يتولانا وإياك للهدى .(1/116)
الفرع العاشر:- اتفق سلف الأمة وأئمتها على أن الله تعالى يوصف بالعلو المطلق في ذاته وصفاته وأسمائه وأفعاله ، فأسماؤه لها العلو المطلق في الحسن والكمال ، وصفاته لها العلو المطلق في الجمال والكمال من كل وجه ، وأفعاله لها العلو المطلق في الكمال والحكمة ، وله العلو المطلق في القهر كما قال تعالى { وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ } وكذلك له العلو المطلق في ذاته ، فالله هو العلي الأعلى وعلو ذاته قد وردت به الأدلة المتواترة المتنوعة، فمنها :- التصريح به ، كقوله تعالى { سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى } الثاني:- التصريح بالفوقية مقرونة بأداة ( من ) المعينة لفوقية الذات نحو { يَخَافُونَ رَبَّهُم مِّن فَوْقِهِمْ } الثالث:- ذكرها مجردة عن الأداة كقوله { وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ } الرابع:- التصريح بالعروج إليه نحو { تعرج الملائكة والروح إليه } وقول النبي صلى الله عليه وسلم " فيعرج الذين باتوا فيكم فيسألهم ربهم" الخامس:- التصريح بالصعود إليه كقوله { إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ } السادس:- التصريح برفعه بعض المخلوقات إليه كقوله { بَل رَّفَعَهُ اللّهُ إِلَيْهِ } وقوله { إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ } السابع:- التصريح بالعلو المطلق الدال على جميع مراتب العلو ذاتا وقدرا وشرفا كقوله وهو { وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ } { وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ } { إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ } الثامن:- التصريح بتنزيل الكتاب منه كقوله { تنزيل الكتاب من الله العزيز الحكيم } { تنزيل من حكيم حميد } { قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِن رَّبِّكَ بِالْحَقِّ } وهذا يدل على شيئين على أن القرآن ظهر منه لا من غيره وأنه الذي تكلم به لا غيره والثاني على علوه على خلقه وأن كلامه نزل به الروح الأمين من عنده من أعلى مكان إلى رسوله, التاسع:- التصريح باختصاص بعض المخلوقات بأنها عنده وأن(1/117)
بعضها أقرب إليه من بعض كقوله { إِنَّ الَّذِينَ عِندَ رَبِّكَ } وقوله { وَلَهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ عِندَهُ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلَا يَسْتَحْسِرُونَ } ففرّق بين من له عموما ومن عنده من مماليكه وعبيده خصوصا وقول النبي صلى الله عليه وسلم " في الكتاب الذي كتبه الرب تعالى على نفسه إنه عنده على العرش " العاشر:- التصريح بأنه سبحانه في السماء وهذا عند أهل السنة على أحد وجهين إما أن تكون في بمعنى على وإما أن يراد بالسماء العلو لا يختلفون في ذلك ولا يجوز حمل النص على غيره, الحادي عشر:- التصريح بالاستواء مقرونا بأداة على مختصا بالعرش الذي هو أعلى المخلوقات مصاحبا في الأكثر لأداة ثم الدالة على الترتيب والمهلة وهو بهذا السياق صريح في معناه الذي لا يفهم المخاطبون غيره من العلو والارتفاع ولا يحتمل غيره البتة, الثاني عشر:- التصريح برفع الأيدي إلى الله سبحانه كقوله صلى الله عليه وسلم " إن الله يستحي من عبده إذا رفع إليه يديه أن يردهما صفرا " الثالث عشر:- التصريح بنزوله كل ليلة إلى السماء الدنيا والنزول المعقول عند جميع الأمم إنما يكون من علو إلى أسفل, الرابع عشر:- الإشارة إليه حسا إلى العلو كما أشار إليه من هو أعلم به وما يجب له ويمتنع عليه من أفراخ الجهمية والمعتزلة والفلاسفة في أعظم مجمع على وجه الأرض يرفع أصبعه إلى السماء ويقول اللهم اشهد ليشهد الجميع أن الرب الذي أرسله ودعا إليه واستشهده هو الذي فوق سماواته على عرشه, الخامس عشر:- التصريح بلفظ الأين الذي هو عند الجهمية بمنزلة متى في الاستحالة ولا فرق بين اللفظين عندهم البتة فالقائل أين الله ومتى كان الله عندهم سواء كقول أعلم الخلق به وأنصحهم لأمته وأعظمهم بيانا عن المعنى الصحيح بلفظ لا يوهم باطلا بوجه أين الله في غير موضع, السادس عشر:- شهادته التي هي أصدق شهادة عند الله وملائكته وجميع المؤمنين لمن(1/118)
قال إن ربه في السماء بالإيمان وشهد عليه أفراخ جهم بالكفر وصرح الشافعي بأن هذا الذي وصفته من أن ربها في السماء إيمان فقال في كتابه في باب عتق الرقبة المؤمنة وذكر حديث الأمة السوداء التي سودت وجوه الجهمية وبيضت وجوه المحمدية فلما وصفت الإيمان قال " أعتقها فإنها مؤمنة " وهي إنما وصفت كون ربها في السماء وأن محمدا عبده ورسوله فقرنت بينهما في الذكر فجعل الصادق المصدوق مجموعهما هو الإيمان, السابع عشر:- إخباره سبحانه عن فرعون أنه رام الصعود إلى السماء ليطلع إلى إله موسى فيكذبه فيما أخبر به من أنه سبحانه فوق السموات فقال { وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَّعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ, أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِبًا } فكذب فرعون موسى في إخباره إياه بأن ربه فوق السماء وعند الجهمية لا فرق بين الإخبار بذلك وبين الإخبار بأنه يأكل ويشرب وعلى زعمهم يكون فرعون قد نزه الرب عما لا يليق به وكذب موسى في إخباره بذلك إذ من قال عندهم إن ربه فوق السموات فهو كاذب فهم في هذا التكذيب موافقون لفرعون مخالفون لموسى ولجميع الأنبياء ولذلك سماهم أئمة السنة فرعونية قالوا وهم شر من الجهمية فإن الجهمية يقولون إن الله في كل مكان بذاته وهؤلاء عطلوه بالكلية وأوقعوا عليه الوصف المطابق للعدم المحض فأي طائفة من طوائف بني آدم أثبتت الصانع على أي وجه كان قولهم خيرا من قولهم الثامن عشر:- إخباره صلى الله عليه وسلم أنه تردد بين موسى وبين الله ويقول له موسى ارجع إلى ربك فسله التخفيف فيرجع إليه ثم ينزل إلى موسى فيأمره بالرجوع إليه سبحانه فيصعد إليه سبحانه ثم ينزل من عنده إلى موسى عدة مرات, التاسع عشر:- إخباره تعالى عن نفسه وإخبار رسوله عنه أن المؤمنين يرونه عيانا جهرة كرؤية الشمس في الظهيرة والقمر ليلة البدر والذي تفهمه الأمم على اختلاف لغاتها(1/119)
وأوهامها من هذه الرؤية رؤية المقابلة والمواجهة التي تكون بين الرائي والمرئي فيها مسافة محدودة غير مفرطة في البعد فتمتنع الرؤية ولا في القرب فلا تمكن الرؤية لا تعقل الأمم غير هذا فإما أن يروه سبحانه من تحتهم تعالى الله أو من خلفهم أو من أمامهم أو عن أيمانهم أو عن شمائلهم أو من فوقهم ولابد من قسم من هذه الأقسام إن كانت الرؤية حقا وكلها باطل سوى رؤيتهم له من فوقهم كما في حديث جابر الذي في المسند وغيره " بينا أهل الجنة في نعيمهم إذ سطع لهم نور فرفعوا رؤوسهم فإذا الجبار قد أشرف عليهم من فوقهم وقال يا أهل الجنة سلام عليكم ثم قرأ قوله { سَلَامٌ قَوْلًا مِن رَّبٍّ رَّحِيمٍ } ثم يتوارى عنهم وتبقى رحمته وبركته عليهم في ديارهم " ولا يتم إنكار الفوقية إلا بإنكار الرؤية ولهذا طرد الجهمية أصلهم وصرحوا بذلك وركبوا النفيين معا وصدق أهل السنة بالأمرين معا وأقروا بهما وصار من أثبت الرؤية ونفى علو الرب على خلقه واستواءه على عرشه مذبذبا بين ذلك لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء فهذه أنواع من الأدلة السمعية المحكمة إذا بسطت أفرادها كانت ألف دليل على علو الرب على خلقه واستوائه على عرشه فترك الجهمية ذلك كله وردوه ، كل ذلك مما أفاده ابن القيم رحمه الله تعالى ، فالسلف مجمعون الإجماع القطعي على أن الله تعالى في السماء وأن له العلو المطلق في ذاته وأسمائه وصفاته وقهره وسلطانه ،وأما من زاغ وحاد عن سبيلهم فإنهم تخبطوا في هذا الباب خبط عشواء ، لكنهم اتفقوا على إنكار علو الذات ، فمنهم من يقول إنه حال في كل مكان ، ومنهم من يقول لا هو داخل العالم ولا خارجه ولا فوق ولا تحت ، ومنهم من يقول بل هو حال في بعض الأشخاص ومنهم من يقول بل هو عين الوجود ، فالله هو عين هذا الكون ، وغير ذلك من الأقوال المنافية للعقل الصريح والمنقول الصريح ، فمع أي الفريقين تريد أن تكون ؟ مع من آمن بما دل عليه الكتاب والسنة وأجمع عليه سلف(1/120)
الأمة ، أم مع الذين تخطفتهم الشياطين ، فأوردتهم موارد الهلكة ؟ لا جرم أنك لا تريد إلا عقيدة السلف ، هذا الظن فيك ، لأنك مؤمن موحد ، ولا ترجو إلا النجاة في الدنيا والآخرة ، ولا تتبع غير سبيل سلفك الصالح ، وأما المذاهب الأخرى فحقها أن نبصق عليها أنا وأنت ، لأنها مذاهب كفرية وضلال ، لا تهتدي بمنقول ، ولا تسترشد بمعقول ، ولا حجة تعضدها ولا برهان ينصرها ، وإنما عمدتها الأهواء العفنة والآراء المنتنة ، فلا هي للحق قررت ، ولا عن الباطل أبعدت ، بل على العكس هي للباطل قررت وللحق أنكرت ، فالله الله أيها العاقل الناصح لنفسه ، الله الله أيها العاقل المؤمن الموحد ،لا تعتمد في هذه المسألة وفي كل مسألة إلا ما اعتمده سلف الأمة ، وقد نقلت لك مذهبهم نقلا واضحا جليا ، والله يتولانا وإياك للهدى والصلاح .(1/121)
الفرع الثاني عشر:- أجمع أهل السنة والجماعة على أن لله تعالى يدين لا ئقتين بجلاله وعظمته وأنهما من صفاته الذاتية ، وأجمعوا على أنه له وجها لائقا بجلاله وعظمته ، وأجمعوا على أن الله تعالى موصوف بالأصابع والقدم والساق ، وأجمعوا على أنه تعالى موصوف بالحياة والعين والسمع والبصر ، وأنه تعالى موصوف بالرحمة والرضا والعفو والمغفرة ، وأنه موصوف بالغضب والمقت والكراهية ، وأنه يُحِبُ ويُحَب ، وكل ذلك حق على حقيقته ، نفهم معناه ونكل العلم بكيفيته لله تعالى ، والمتقرر عند سلف الأمة وأئمتها أن الاتفاق في الأسماء لا يستلزم الاتفاق في الصفات ، وأن الاتفاق في الاسم الكلي العام لا يستلزم الاتفاق بعد التقييد والتخصيص والإضافة ، وكل هذه الصفات وغيرها قد وردت به الأدلة المتواترة ، قال تعالى { لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ } وقال { بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ } وقال تعالى { وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ } وقال صلى الله عليه وسلم " إن قلوب بني آدم كلها بين أصبعين من أصابع الرحمن " وفي الحديث " إن الله يضع السموات على إصبع... الحديث" وقال صلى الله عليه وسلم " فيضع رب العزة فيها رجله - وفي رواية - عليها قدمه " وقال صلى الله عليه وسلم " فيكشف عن ساقه فيسجد له كل من كان يسجد له في الدنيا ...(1/122)
الحديث " وقال تعالى { اللّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ } وقال تعالى { وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي } وقال تعالى { إِنَّ اللّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا } وقال تعالى { وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ } وقال تعالى { رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ } وقال تعالى { وَكَانَ اللّهُ عَفُوًّا غَفُورًا } وقال تعالى { وَغَضِبَ اللّهُ عَلَيْهِ } وقال تعالى { وَلَكِن كَرِهَ اللّهُ انبِعَاثَهُمْ } وقال تعالى { ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ } وقال تعالى { فَسَوْفَ يَأْتِي اللّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ } وأنصحك أيها الأخ المبارك أن تراجع كتاب التوحيد للإمام ابن خزيمة ، فإنه من أوسع الكتب التي تكلمت عن الصفات على مذهب أهل السنة ، وهذا الكتاب الطيب مبني على عدة قواعد :الأولى :- وجوب الإيمان بما ورد به النص من الأسماء والصفات ، الثانية :- الاعتقاد الجازم بأنها لا تماثل شيئا من صفات المخلوقين ، الثالث :- قطع الطمع في التعرف على كيفية شيء من صفات الله تعالى ، الرابعة :- أن الاتفاق في الأسماء لا يستلزم الاتفاق في الصفات ، الخامسة :- أن الاتفاق في الاسم الكلي العام لا يستلزم الاتفاق بعد التقييد والتخصيص والإضافة ، السادسة :- أننا نعلم الصفات من جهة معانيها فقط وأما كيفياتها فإنها مما استأثر الله تعالى بعلمه ، ولو نظرت إلى هذا الكتاب لوجدته مبنيا على هذه القواعد ، والمهم أن كل هذه الصفات يجب إثباتها لله تعالى على الوجه اللائق به جل وعلا ، مع الاعتقاد الجازم أنها لا تماثل شيئا من صفات المخلوقات ، وتذكر دائما قوله تعالى { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ } وأما من زاغ وحاد عن سبيل سلف الأمة فلا تهتم بما ذهبوا إليه لأنهم بنوا مذاهبهم في هذه الصفات وغيرها على غير فهم سلف(1/123)
الأمة فيها ، والمتقرر أن كل فهم يخالف فهم سلف الأمة في مسائل العقيدة والعمل فإنه باطل ، والله يتولانا وإياك .
الفرع الثالث عشر:- سلف الأمة وأئمتها رحمهم الله تعالى يفهمون أن ما أضافه الله تعالى له من الأشياء لا يخلو من حالتين :- إما إضافة شيء لا يقوم بذاته ، وإما إضافة شيء يقوم بذاته, فالأشياء المضافة إلى الله تعالى إن كانت لا تقوم بذاتها فالسلف لا يفهمون منها إلا أنها من باب إضافة الصفة إلى موصوفها ، وإن كانت مما يقوم بذاتها فهي من باب إضافة التكريم والتشريف ، أو المخلوق إلى خالقه ، لا يفهم سلف من الإضافة إلا هذين القسمين ، فقوله تعالى { وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ } الوجه لا يقوم بذاته فهو من باب إضافة الصفة إلى موصوفها، وقال تعالى { وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ } والرحمة لا تقوم بذاتها ، فهو من باب إضافة الصفة إلى موصوفها ، وقال الله تعالى { وَغَضِبَ اللّهُ عَلَيْهِ } والغضب لا يقوم بذاته ، فهو من باب إضافة الصفة إلى موصوفها ، وقال تعالى { يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ } واليد لا يتصور قيامها بذاتها ، فهو من باب إضافة الصفة إلى موصوفها ، وهكذا في سائر آيات الصفات ، وأما قوله تعالى { هَذِهِ نَاقَةُ اللّهِ } فإن الناقة عين منفصلة عن الله تعالى كل الانفصال وهي مما يقوم بذاته ، فهو من باب إضافة التشريف والتكريم ، وقال تعالى { وَلَكِن رَّسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ } والنبي عين منفصلة عن الله تعالى ، قائم بذاته فهم من باب إضافة التشريف والتكريم ، وقال تعالى { أَن طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ } والبيت الحرام عين منفصلة عن الله تعالى قائم بذاته ، فهو من باب إضافة التشريف والتكريم ، وقال تعالى { وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ } وعباده أعيان منفصلة عنه ، قائمة بذاتها ، فهو من باب إضافة التشريف والتكريم ، وهكذا ، فالسلف رحمهم الله تعالى يفرقون بين الإضافتين ، وهذا مذهبهم ،(1/124)
وهذا فهمهم ، وأما المبتدعة ، فإنهم لا يفهمون إلا أنها إضافة واحدة فقط ، وهي إضافة التشريف والتكريم وإضافة الخلق ، فقط ، وأما إضافة الصفة إلى موصوفها ، فإنهم لا يقولونها ، ولا يأبهون بها ، ولا أدري أهي عجمة لحقتهم ، أم عناد واستكبار عن قبول الحق ، والقوم أصلا لا يريدون أن يثبتوا لله تعالى الصفات ، فما إن يجدوا فرجا ومخرجا من إثباتها إلا ويتقحمون فيه ، من غير النظر إلى صحته أو بطلانه ، المهم أنه يحقق لهم ما يريدون ، ونعوذ بالله من حالهم ، فالله الله أيها الأخ المبارك في منهج السلف ، الله الله أيها الأخ المبارك في منهج السلف ، الله الله في منهج السلف ، يا أخي إن لمذهب السلف حلاوة عجيبة يجدها من يعتقده في قلبه وروحه ، وتسري هذه اللذة حتى تعلو على محياه ، فيجد في قلبه الراحة والطمأنينة ، وفي صدره الانشراح ، فأنا أدعو كل الأمة إلى الالتزام بمنهج سلفها الصالح ، وأن تعتمده في اعتقاداتها وأعمالها ، وأن يقبلوا على دراسته وتفهيمه للناس ، وأن يعمروا بتقرير مسائله مجالسهم ، لاسيما في هذه الأوقات التي خفي فيها نور النبوة ، وعظمت البلية فيها بأهل البدع هذه وصيتي لكل الأمة في حياتي وبعد مماتي ، والمقصود أن السلف يفرقون بين الإضافتين ، وهذا من الفرقان الذي أوتيه أهل العلم ، وفقنا الله وإياك لكل خير ، والله يتولانا وإياك .(1/125)
الفرع الرابع عشر:- سُئِلَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ أَبُو الْعَبَّاسِ بْنُ تيمية - قَدَّسَ اللَّهُ رُوحَهُ : - عَنْ " الرُّوحِ " هَلْ هِيَ قَدِيمَةٌ أَوْ مَخْلُوقَةٌ ؟ وَهَلْ يُبَدَّعُ مَنْ يَقُولُ بِقِدَمِهَا أَمْ لَا ؟ وَمَا قَوْلُ أَهْلِ السُّنَّةِ فِيهَا وَمَا الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ { قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي } ؟ هَلْ الْمُفَوَّضُ إلَى اللَّهِ تَعَالَى أَمْرُ ذَاتِهَا أَوْ صِفَاتِهَا أَوْ مَجْمُوعِهِمَا ؟ بَيِّنُوا ذَلِكَ مِنْ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ . فَأَجَابَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ رُوحُ الْآدَمِيِّ مَخْلُوقَةٌ مُبْدَعَةٌ بِاتِّفَاقِ سَلَفِ الْأُمَّةِ وَأَئِمَّتِهَا وَسَائِرِ أَهْلِ السُّنَّةِ وَقَدْ حَكَى إجْمَاعَ الْعُلَمَاءِ عَلَى أَنَّهَا مَخْلُوقَةٌ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ مِثْلُ مُحَمَّدِ بْنِ نَصْرٍ المروزي الْإِمَامِ الْمَشْهُورِ الَّذِي هُوَ أَعْلَمُ أَهْلِ زَمَانِهِ بِالْإِجْمَاعِ وَالِاخْتِلَافِ أَوْ مِنْ أَعْلَمِهِمْ , وَكَذَلِكَ أَبُو مُحَمَّدِ بْنِ قُتَيْبَةَ " قَالَ فِي كِتَابِ اللقط لَمَّا تَكَلَّمَ عَلَى خَلْقِ الرُّوحِ قَالَ : النَّسَمُ الْأَرْوَاحُ , قَالَ : وَأَجْمَعَ النَّاسُ عَلَى أَنَّ اللَّهَ خَالِقُ الْجُثَّةِ وَبَارِئُ النَّسَمَةِ أَيْ خَالِقُ الرُّوحِ .(1/126)
وَقَالَ أَبُو إسْحَاقَ بْنُ شاقلا فِيمَا أَجَابَ بِهِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ سَأَلْت رَحِمَك اللَّهُ عَنْ الرُّوحِ مَخْلُوقَةٌ أَوْ غَيْرُ مَخْلُوقَةٍ قَالَ : هَذَا مِمَّا لَا يَشُكُّ فِيهِ مَنْ وُفِّقَ لِلصَّوَابِ إلَى أَنْ قَالَ : وَالرُّوحُ مِنْ الْأَشْيَاءِ الْمَخْلُوقَةِ وَقَدْ تَكَلَّمَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ طَوَائِفُ مَنْ أَكَابِرِ الْعُلَمَاءِ وَالْمَشَايِخِ وَرَدُّوا عَلَى مَنْ يَزْعُمُ أَنَّهَا غَيْرُ مَخْلُوقَةٍ , وَصَنَّفَ الْحَافِظُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ بْنُ منده فِي ذَلِكَ كِتَابًا كَبِيرًا فِي " الرُّوحِ وَالنَّفْسِ " وَذَكَرَ فِيهِ مِنْ الْأَحَادِيثِ وَالْآثَارِ شَيْئًا كَثِيرًا ؛ وَقَبِلَهُ الْإِمَامُ مُحَمَّدُ بْنُ نَصْرٍ المروزي وَغَيْرُهُ وَالشَّيْخُ أَبُو يَعْقُوبَ الْخَرَّازُ وَأَبُو يَعْقُوبَ النهرجوري وَالْقَاضِي أَبُو يَعْلَى وَغَيْرُهُمْ ؛ وَقَدْ نَصَّ عَلَى ذَلِكَ الْأَئِمَّةُ الْكِبَارُ وَاشْتَدَّ نَكِيرُهُمْ عَلَى مَنْ يَقُولُ ذَلِكَ فِي رُوحِ عِيسَى بْنِ مَرْيَمَ لَاسِيَّمَا فِي رُوحِ غَيْرِهِ كَمَا ذَكَرَهُ أَحْمَدُ فِي كِتَابِهِ فِي الرَّدِّ عَلَى الزَّنَادِقَةِ والجهمية فَقَالَ فِي أَوَّلِهِ : الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي جَعَلَ فِي كُلِّ زَمَانٍ فَتْرَةً مِنْ الرُّسُلِ بَقَايَا مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ يَدْعُونَ مَنْ ضَلَّ إلَى الْهُدَى وَيَصْبِرُونَ مِنْهُمْ عَلَى الْأَذَى يُحْيُونَ بِكِتَابِ اللَّهِ الْمَوْتَى وَيُبَصِّرُونَ بِنُورِ اللَّهِ أَهْلَ الْعَمَى ؛ فَكَمْ مِنْ قَتِيلٍ لإبليس قَدْ أَحْيَوْهُ وَكَمْ مِنْ ضَالٍّ تَائِهٍ قَدْ هَدَوْهُ فَمَا أَحْسَنَ أَثَرِهِمْ عَلَى النَّاسِ وَأَقْبَحَ أَثَرِ النَّاسِ عَلَيْهِمْ يَنْفُونَ عَنْ كِتَابِ اللَّهِ تَحْرِيفَ الْغَالِينَ ؛ وَانْتِحَالَ الْمُبْطِلِينَ وَتَأْوِيلَ الْجَاهِلِينَ الَّذِينَ(1/127)
عَقَدُوا أَلْوِيَةَ الْبِدْعَةِ وَأَطْلَقُوا عِقَالَ الْفِتْنَةِ ؛ فَهُمْ مُخْتَلِفُونَ فِي الْكِتَابِ ؛ مُخَالِفُونَ لِلْكِتَابِ مُتَّفِقُونَ عَلَى مُخَالَفَةِ الْكِتَابِ ؛ يَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ ؛ وَفِي اللَّهِ ؛ وَفِي كِتَابِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ يَتَكَلَّمُونَ بِالْمُتَشَابِهِ مِنْ الْكَلَامِ وَيَخْدَعُونَ جُهَّالَ النَّاسِ بِمَا يُشَبِّهُونَ عَلَيْهِمْ فَنَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْ فِتَنِ الْمُضِلِّينَ وَتَكَلَّمَ عَلَى مَا يُقَالُ : إنَّهُ مُتَعَارِضٌ مِنْ الْقُرْآنِ إلَى أَنْ قَالَ : وَكَذَلِكَ الْجَهْمُ وَشِيعَتُهُ دَعَوْا النَّاسَ إلَى الْمُتَشَابِهِ مِنْ الْقُرْآنِ وَالْحَدِيثِ وَأَضَلُّوا بَشَرًا كَثِيرًا فَكَانَ مِمَّا بَلَغَنَا مِنْ أَمْرِ الْجَهْمِ عَدُوِّ اللَّهِ : أَنَّهُ كَانَ مَنْ أَهْلِ خُرَاسَانَ مَنْ أَهْلِ الترمذ وَكَانَ صَاحِبَ خُصُومَاتٍ وَكَلَامٍ كَانَ أَكْثَرُ كَلَامِهِ فِي اللَّهِ فَلَقِيَ أُنَاسًا مِنْ الْمُشْرِكِينَ يُقَالُ لَهُمْ ( السمنية فَعَرَفُوا الْجَهْمَ فَقَالُوا لَهُ نُكَلِّمُك فَإِنْ ظَهَرَتْ حُجَّتُنَا عَلَيْك دَخَلْت فِي دِينِنَا وَإِنْ ظَهَرَتْ حُجَّتُك عَلَيْنَا : دَخَلْنَا فِي دِينِك .(1/128)
فَكَانَ مِمَّا كَلَّمُوا بِهِ الْجَهْمَ أَنْ قَالُوا : أَلَسْت تَزْعُمُ أَنَّ لَك إلَهًا ؟ قَالَ الْجَهْمُ : نَعَمْ, فَقَالُوا لَهُ : فَهَلْ رَأَيْت إلَهَك ؟ قَالَ : لَا قَالُوا : فَهَلْ سَمِعْت كَلَامَهُ ؟ قَالَ : لَا , قَالُوا : فَهَلْ شَمَمْت لَهُ رَائِحَةً ؟ قَالَ : لَا , قَالُوا لَهُ : فَوَجَدْت لَهُ مِجَسًّا ؟ قَالَ : لَا , قَالُوا : فَمَا يُدْرِيك أَنَّهُ إلَهٌ ؟ قَالَ : فَتَحَيَّرَ الْجَهْمُ فَلَمْ يَدْرِ مَنْ يَعْبُدُ أَرْبَعِينَ يَوْمًا ثُمَّ إنَّهُ اسْتَدْرَكَ حُجَّةً مِثْلَ حُجَّةِ زَنَادِقَةِ النَّصَارَى وَذَلِكَ أَنَّ زَنَادِقَةَ النَّصَارَى يَزْعُمُونَ أَنَّ الرُّوحَ الَّذِي فِي عِيسَى هُوَ رُوحُ اللَّهِ مِنْ ذَاتِهِ فَإِذَا أَرَادَ أَنْ يُحْدِثَ أَمْرًا دَخَلَ فِي بَعْضِ خَلْقِهِ فَتَكَلَّمَ عَلَى لِسَانِ خَلْقِهِ فَيَأْمُرُ بِمَا شَاءَ وَيَنْهَى عَمَّا شَاءَ وَهُوَ رُوحٌ غَائِبٌ عَنْ الْأَبْصَارِ , فَاسْتَدْرَكَ الْجَهْمُ حُجَّةً مِثْلَ هَذِهِ الْحُجَّةِ فَقَالَ للسمني : أَلَسْت تَزْعُمُ أَنَّ فِيك رُوحًا ؟ قَالَ نَعَمْ , قَالَ : فَهَلْ رَأَيْت رُوحَك ؟ قَالَ : لَا , قَالَ : فَهَلْ سَمِعْت كَلَامَهُ ؟ قَالَ : لَا , قَالَ : فَوَجَدْت لَهُ حِسًّا وَمِجَسًّا ؟ قَالَ: لَا , قَالَ : كَذَلِكَ اللَّهُ لَا يُرَى لَهُ وَجْهٌ وَلَا يُسْمَعُ لَهُ صَوْتٌ وَلَا يُشَمُّ لَهُ رَائِحَةٌ وَهُوَ غَائِبٌ عَنْ الْأَبْصَارِ وَلَا يَكُونُ فِي مَكَانٍ دُونَ مَكَانٍ , وَسَاقَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ الْكَلَامَ فِي الْقُرْآنِ وَ الرُّؤْيَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ إلَى أَنْ قَالَ : ثُمَّ إنَّ الْجَهْمَ ادَّعَى أَمْرًا فَقَالَ : إنَّا وَجَدْنَا آيَةً فِي كِتَابِ اللَّهِ تَدُلُّ عَلَى الْقُرْآنِ أَنَّهُ مَخْلُوقٌ فَقُلْنَا : أَيُّ آيَةٍ ؟ قَالَ : قَوْلُ اللَّهِ { إنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ(1/129)
مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ } وَعِيسَى مَخْلُوقٌ , فَقُلْنَا إنَّ اللَّهَ مَنَعَك الْفَهْمَ فِي الْقُرْآنِ عِيسَى تَجْرِي عَلَيْهِ أَلْفَاظٌ لَا تَجْرِي عَلَى الْقُرْآنِ لِأَنَّهُ يُسَمِّيهِ مَوْلُودًا وَطِفْلًا وَصَبِيًّا وَغُلَامًا يَأْكُلُ وَيَشْرَبُ وَهُوَ مُخَاطَبٌ بِالْأَمْرِ وَالنَّهْيِ يَجْرِي عَلَيْهِ الْوَعْدُ وَالْوَعِيدُ ثُمَّ هُوَ مِنْ ذُرِّيَّةِ نُوحٍ وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إبْرَاهِيمَ وَلَا يَحِلُّ لَنَا أَنْ نَقُولَ فِي الْقُرْآنِ مَا نَقُولُ فِي عِيسَى هَلْ سَمِعْتُمْ اللَّهَ يَقُولُ فِي الْقُرْآنِ مَا قَالَ فِي عِيسَى ؟ وَلَكِنَّ الْمَعْنَى فِي قَوْلِ اللَّهِ { إنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إلَى مَرْيَمَ } فَالْكَلِمَةُ الَّتِي أَلْقَاهَا إلَى مَرْيَمَ حِينَ قَالَ لَهُ : كُنْ ؛ فَكَانَ عِيسَى بكن وَلَيْسَ عِيسَى هُوَ الكن وَلَكِنْ بالكن كَانَ فالكن مِنْ اللَّهِ قَوْلٌ وَلَيْسَ الكن مَخْلُوقًا . وَكَذَبَ النَّصَارَى والجهمية عَلَى اللَّهِ فِي أَمْرِ عِيسَى وَذَلِكَ أَنَّ الجهمية قَالُوا : عِيسَى رُوحُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ إلَّا أَنَّ الْكَلِمَةَ مَخْلُوقَةٌ وَقَالَتْ النَّصَارَى : عِيسَى رُوحُ اللَّهِ مِنْ ذَاتِ اللَّهِ وَكَلِمَةُ اللَّهِ مِنْ ذَاتِ اللَّهِ كَمَا يُقَالُ : إنَّ هَذِهِ الْخِرْقَةَ مِنْ هَذَا الثَّوْبِ .(1/130)
وَقُلْنَا نَحْنُ : إنَّ عِيسَى بِالْكَلِمَةِ كَانَ وَلَيْسَ هُوَ الْكَلِمَةَ , قَالَ : وَقَوْلُ اللَّهِ : وَرُوحٌ مِنْهُ يَقُولُ مِنْ أَمْرِهِ كَانَ الرُّوحُ فِيهِ كَقَوْلِهِ { وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ } يَقُولُ مِنْ أَمْرِهِ وَتَفْسِيرُ رُوحِ اللَّهِ : أَنَّهَا رُوحٌ بِكَلِمَةِ اللَّهِ خَلَقَهَا اللَّهُ كَمَا يُقَالُ : عَبْدُ اللَّهِ وَسَمَاءُ اللَّهِ فَقَدْ ذَكَرَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ : إنَّ زَنَادِقَةَ النَّصَارَى هُمْ الَّذِينَ يَقُولُونَ : إنَّ رُوحَ عِيسَى مِنْ ذَاتِ اللَّهِ وَبَيَّنَ أَنَّ إضَافَةَ الرُّوحِ إلَيْهِ إضَافَةُ مِلْكٍ وَخَلْقٍ كَقَوْلِك : عَبْدُ اللَّهِ وَسَمَاءُ اللَّهِ ؛ لَا إضَافَةُ صِفَةٍ إلَى مَوْصُوفٍ فَكَيْفَ بِأَرْوَاحِ سَائِرِ الْآدَمِيِّينَ ؟ وَبَيَّنَ أَنَّ هَؤُلَاءِ الزَّنَادِقَةَ الْحُلُولِيَّةَ يَقُولُونَ بِأَنَّ اللَّهَ إذَا أَرَادَ أَنْ يُحْدِثَ أَمْرًا دَخَلَ فِي بَعْضِ خَلْقِهِ , وَقَالَ الشَّيْخُ أَبُو سَعِيدٍ الْخَرَّازُ أَحَدُ أَكَابِرِ الْمَشَايِخِ الْأَئِمَّةِ مِنْ أَقْرَانِ الجنيد فِيمَا صَنَّفَهُ فِي أَنَّ الْأَرْوَاحَ مَخْلُوقَةٌ وَقَدْ احْتَجَّ بِأُمُورِ مِنْهَا : لَوْ لَمْ تَكُنْ مَخْلُوقَةً لَمَا أَقَرَّتْ بِالرُّبُوبِيَّةِ وَقَدْ قَالَ لَهُمْ حِينَ أَخَذَ الْمِيثَاقَ وَهُمْ أَرْوَاحٌ فِي أَشْبَاحٍ كَالذَّرِّ { أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا } وَإِنَّمَا خَاطَبَ الرُّوحَ مَعَ الْجَسَدِ وَهَلْ يَكُونُ الرَّبُّ إلَّا لِمَرْبُوبِ ؟ قَالَ : وَلِأَنَّهَا لَوْ لَمْ تَكُنْ مَخْلُوقَةً مَا كَانَ عَلَى النَّصَارَى لَوْمٌ فِي عِبَادَتِهِمْ عِيسَى وَلَا حِينَ قَالُوا : إنَّهُ ابْنُ اللَّهِ وَقَالُوا : هُوَ اللَّهُ , قَالَ : وَلِأَنَّهُ لَوْ كَانَ الرُّوحُ غَيْرَ مَخْلُوقٍ(1/131)
مَا دَخَلَتْ النَّارُ وَلِأَنَّهَا لَوْ كَانَتْ غَيْرَ مَخْلُوقَةٍ لَمَا حُجِبَتْ عَنْ اللَّهِ وَلَا غُيِّبَتْ فِي الْبَدَنِ وَلَا مَلَكَهَا مَلَكُ الْمَوْتِ وَلَمَا كَانَتْ صُورَةً تُوصَفُ ؛ وَلِأَنَّهَا لَوْ لَمْ تَكُنْ مَخْلُوقَةً لَمْ تُحَاسَبْ وَلَمْ تُعَذَّبْ وَلَمْ تَتَعَبَّدْ وَلَمْ تَخَفْ وَلَمْ تَرْجُ , وَلِأَنَّ أَرْوَاحَ الْمُؤْمِنِينَ تَتَلَأْلَأُ وَأَرْوَاحَ الْكُفَّارِ سُودٌ مِثْلُ الْحِمَمِ , وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { أَرْوَاحُ الشُّهَدَاءِ فِي حَوَاصِلِ طَيْرٍ خُضْرٍ تَرْتَعُ فِي الْجَنَّةِ وَتَأْوِي فِي فِنَاءِ الْعَرْشِ , وَأَرْوَاحُ الْكُفَّارِ فِي برهوت } وَقَالَ الشَّيْخُ أَبُو يَعْقُوبَ النهرجوري : هَذِهِ الْأَرْوَاحُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ مَخْلُوقَةٌ , خَلَقَهَا اللَّهُ مِنْ الْمَلَكُوتِ كَمَا خَلَقَ آدَمَ مِنْ التُّرَابِ وَكُلُّ عَبْدٍ نَسَبَ رُوحَهُ إلَى ذَاتِ اللَّهِ أَخْرَجَهُ ذَلِكَ إلَى التَّعْطِيلِ وَاَلَّذِينَ نَسَبُوا الْأَرْوَاحَ إلَى ذَاتِ اللَّهِ هُمْ أَهْلُ الْحُلُولِ الْخَارِجُونَ إلَى الْإِبَاحَةِ وَقَالُوا إذَا صَفَتْ أَرْوَاحُنَا مِنْ أَكْدَارِ نُفُوسِنَا فَقَدْ اتَّصَلْنَا وَصِرْنَا أَحْرَارًا وَوُضِعَتْ عَنَّا الْعُبُودِيَّةُ وَأُبِيحَ لَنَا كُلُّ شَيْءٍ مِنْ اللَّذَّاتِ مِنْ النِّسَاءِ وَالْأَمْوَالِ وَغَيْرِ ذَلِكَ , وَهُمْ زَنَادِقَةُ هَذِهِ الْأُمَّةِ وَذَكَرَ عِدَّةَ مَقَالَاتٍ لَهَا وَلِلزَّنَادِقَةِ , قُلْت : وَاعْلَمْ أَنَّ الْقَائِلِينَ بِقِدَمِ الرُّوحِ صِنْفَانِ : ( صِنْفٌ مِنْ الصَّابِئَةِ الْفَلَاسِفَةِ يَقُولُونَ : هِيَ قَدِيمَةٌ أَزَلِيَّةٌ لَكِنْ لَيْسَتْ مِنْ ذَاتِ الرَّبِّ كَمَا يَقُولُونَ ذَلِكَ : فِي الْعُقُولِ وَالنُّفُوسِ الْفَلَكِيَّةِ وَيَزْعُمُ مَنْ دَخَلَ مِنْ أَهْلِ الْمِلَلِ فِيهِمْ(1/132)
أَنَّهَا هِيَ الْمَلَائِكَةُ, وَصِنْفٌ مِنْ زَنَادِقَةِ هَذِهِ الْأُمَّةِ وَضُلَّالِهَا مِنْ الْمُتَصَوِّفَةِ وَالْمُتَكَلِّمَةِ وَالْمُحَدِّثَةِ يَزْعُمُونَ أَنَّهَا مِنْ ذَاتِ اللَّهِ وَهَؤُلَاءِ أَشَرُّ قَوْلًا مِنْ أُولَئِكَ وَهَؤُلَاءِ جَعَلُوا الْآدَمِيَّ نِصْفَيْنِ : نِصْفٌ لَاهُوتٌ وَهُوَ رُوحُهُ . وَنِصْفٌ نَاسُوتُ وَهُوَ جَسَدُهُ : نِصْفُهُ رَبٌّ وَنِصْفُهُ عَبْدٌ , وَقَدْ كَفَّرَ اللَّهُ النَّصَارَى بِنَحْوِ مَنْ هَذَا الْقَوْلِ فِي الْمَسِيحِ فَكَيْفَ بِمَنْ يُعِمُّ ذَلِكَ فِي كُلِّ أَحَدٍ ؟ حَتَّى فِي فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَقَارُونَ وَكُلُّ ما دَلَّ عَلَى أَنَّ الْإِنْسَانَ عَبْدٌ مَخْلُوقٌ مَرْبُوبٌ وَأَنَّ اللَّهَ رَبُّهُ وَخَالِقُهُ وَمَالِكُهُ وَإِلَهُهُ فَهُوَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ رُوحَهُ مَخْلُوقَةٌ , فَإِنَّ الْإِنْسَانَ عِبَارَةٌ عَنْ الْبَدَنِ وَالرُّوحِ مَعًا بَلْ هُوَ بِالرُّوحِ أَخَصُّ مِنْهُ بِالْبَدَنِ وَإِنَّمَا الْبَدَنُ مَطِيَّةٌ لِلرُّوحِ كَمَا قَالَ أَبُو الدَّرْدَاءِ , إنَّمَا بَدَنِي مَطِيَّتِي فَإِنْ رَفَقْت بِهَا بَلَّغَتْنِي وَإِنْ لَمْ أَرْفُقْ بِهَا لَمْ تُبَلِّغْنِي .(1/133)
وَقَدْ رَوَاهُ ابْنُ منده وَغَيْرُهُ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ : لَا تَزَالُ الْخُصُومَةُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بَيْنَ الْخَلْقِ حَتَّى تَخْتَصِمَ الرُّوحُ وَالْبَدَنُ فَتَقُولُ الرُّوحُ لِلْبَدَنِ : أَنْتَ عَمِلْت السَّيِّئَاتِ : فَيَقُولُ الْبَدَنُ لِلرُّوحِ : أَنْتِ أَمَرْتنِي ؛ فَيَبْعَثُ اللَّهُ مَلَكًا يَقْضِي بَيْنَهُمَا ؛ فَيَقُولُ : إنَّمَا مَثَلُكُمَا كَمَثَلِ مُقْعَدٍ وَأَعْمَى دَخَلَا بُسْتَانًا ؛ فَرَأَى الْمُقْعَدُ فِيهِ ثَمَرًا مُعَلَّقًا ؛ فَقَالَ لِلْأَعْمَى : إنِّي أَرَى ثَمَرًا وَلَكِنْ لَا أَسْتَطِيعُ النُّهُوضَ إلَيْهِ وَقَالَ الْأَعْمَى : لَكِنِّي أَسْتَطِيعُ النُّهُوضَ إلَيْهِ وَلَكِنِّي لَا أَرَاهُ ؛ فَقَالَ لَهُ الْمُقْعَدُ : تَعَالَ فَاحْمِلْنِي حَتَّى أَقْطِفَهُ ؛ فَحَمَلَهُ وَجَعَلَ يَأْمُرُهُ فَيَسِيرُ بِهِ إلَى حَيْثُ يَشَاءُ فَقَطَعَ الثَّمَرَةَ ؛ قَالَ " الْمَلَكُ " : فَعَلَى أَيِّهِمَا الْعُقُوبَةُ ؟ فَقَالَا عَلَيْهِمَا جَمِيعًا قَالَ فَكَذَلِكَ أَنْتُمَا . وَأَيْضًا فَقَدْ اسْتَفَاضَتْ الْأَحَادِيثُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنَّ الْأَرْوَاحَ تُقْبَضُ وَتُنَعَّمُ وَتُعَذَّبُ وَيُقَالُ لَهَا : اُخْرُجِي أَيَّتُهَا الرُّوحُ الطَّيِّبَةُ كَانَتْ فِي الْجَسَدِ الطَّيِّبِ . اُخْرُجِي أَيَّتُهَا الرُّوحُ الْخَبِيثَةُ كَانَتْ فِي الْجَسَدِ الْخَبِيثِ وَيُقَالُ لِلْأُولَى أَبْشِرِي بِرَوْحٍ وَرَيْحَانٍ وَيُقَالُ لِلثَّانِيَةِ : أَبْشِرِي بِحَمِيمِ وَغَسَّاقٍ وَآخَرَ مِنْ شَكْلِهِ أَزْوَاجٌ . وَأَنَّ أَرْوَاحَ الْمُؤْمِنِينَ تَعْرُجُ إلَى السَّمَاءِ وَأَنَّ أَرْوَاحَ الْكُفَّارِ لَا تُفَتَّحُ لَهَا أَبْوَابُ السَّمَاءِ .(1/134)
وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ شَقِيقٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : إذَا خَرَجَتْ رُوحُ الْمُؤْمِنِ تَلَقَّاهَا مَلَكَانِ يَصْعَدَانِ بِهَا قَالَ حَمَّادٌ فَذَكَرَ مِنْ طِيبِ رِيحِهَا وَذَكَرَ الْمِسْكَ ؛ قَالَ فَيَقُولُ أَهْلُ السَّمَاءِ : رُوحٌ طَيِّبَةٌ جَاءَتْ مِنْ قِبَلِ الْأَرْضِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْك وَعَلَى جَسَدٍ كُنْت تَعْمُرِينَهُ ؛ فَيَنْطَلِقُ بِهِ إلَى رَبُّهُ ؛ ثُمَّ يَقُولُ : انْطَلِقُوا بِهِ إلَى آخِرِ الْأَجَل قَالَ : وَإِنَّ الْكَافِرَ إذَا خَرَجَتْ رُوحُهُ قَالَ حَمَّادٌ وَذَكَرَ مِنْ نَتْنِهَا وَذَكَرَ لَعْنًا فَيَقُولُ أَهْلُ السَّمَاءِ : رُوحٌ خَبِيثَةٌ جَاءَتْ مِنْ قِبَلِ الْأَرْضِ قَالَ فَيُقَالُ : انْطَلِقُوا بِهِ إلَى آخِرِ الْأَجَلِ . قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَلَمَّا ذَكَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ النَّتْنَ رَدَّ عَلَى أَنْفِهِ رَيْطَةً كَانَتْ عَلَيْهِ .(1/135)
وَفِي حَدِيثِ الْمِعْرَاجِ الصَّحِيحِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَأَى آدَمَ وَأَرْوَاحَ بَنِيهِ عَنْ يَمِينِهِ وَشِمَالِهِ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمَّا عَلَوْنَا السَّمَاءَ فَإِذَا رَجُلٌ عَنْ يَمِينِهِ أَسْوِدَةٌ وَعَنْ شِمَالِهِ أَسْوِدَةٌ قَالَ فَإِذَا نَظَرَ قِبَلَ يَمِينِهِ ضَحِكَ وَإِذَا نَظَرَ قِبَلَ شِمَالِهِ بَكَى قَالَ : مَرْحَبًا بِالنَّبِيِّ الصَّالِحِ وَالِابْنِ الصَّالِحِ قَالَ قُلْت : يَا جِبْرِيلُ مَنْ هَذَا ؟ قَالَ : هَذَا آدَمَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهَذِهِ الْأَسْوِدَةُ عَنْ يَمِينِهِ وَشِمَالِهِ نَسَمُ بَنِيهِ فَأَهْلُ الْيَمِينِ أَهْلُ الْجَنَّةِ وَالْأَسْوِدَةُ الَّتِي عَنْ شِمَالِهِ أَهْلُ النَّارِ فَإِذَا نَظَرَ قِبَلَ يَمِينِهِ ضَحِكَ وَإِذَا نَظَرَ قِبَلَ شِمَالِهِ بَكَى .(1/136)
وَقَدْ ثَبَتَ أَيْضًا أَنَّ أَرْوَاحَ الْمُؤْمِنِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَغَيْرِهِمْ فِي الْجَنَّةِ قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ حَنْبَلٍ أَرْوَاحُ الْكُفَّارِ فِي النَّارِ وَأَرْوَاحُ الْمُؤْمِنِينَ فِي الْجَنَّةِ وَالْأَبْدَانُ فِي الدُّنْيَا يُعَذِّبُ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ ؛ وَيَرْحَمُ بِعَفْوِهِ مَنْ يَشَاءُ وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ : سَأَلْت أَبِي عَنْ أَرْوَاحِ الْمَوْتَى : أَتَكُونُ فِي أَفْنِيَةِ قُبُورِهَا ؟ أَمْ فِي حَوَاصِلِ طَيْرٍ ؟ أَمْ تَمُوتُ كَمَا تَمُوتُ الْأَجْسَادُ ؟ فَقَالَ قَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ { نَسَمَةُ الْمُؤْمِنِ إذَا مَاتَ طَائِرٌ تَعَلَّقَ فِي شَجَرِ الْجَنَّةِ حَتَّى يُرْجِعَهُ اللَّهُ إلَى جَسَدِهِ يَوْمَ يَبْعَثُهُ } وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو أَنَّهُ قَالَ : أَرْوَاحُ الْمُؤْمِنِينَ فِي أَجْوَافِ طَيْرٍ خُضْرٍ كَالزَّرَازِيرِ يَتَعَارَفُونَ فِيهَا وَيُرْزَقُونَ مِنْ ثَمَرِهَا قَالَ : وَقَالَ بَعْضُ النَّاسِ : أَرْوَاحُ الشُّهَدَاءِ فِي أَجْوَافِ طَيْرٍ خُضْرٍ تَأْوِي إلَى قَنَادِيلَ فِي الْجَنَّةِ مُعَلَّقَةً بِالْعَرْشِ .(1/137)
وَقَدْ رَوَى مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ عَنْ مَسْرُوقٍ قَالَ : سَأَلْنَا عَبْدَ اللَّهِ - يَعْنِي ابْنَ مَسْعُودٍ - عَنْ هَذِهِ الْآيَةِ : { وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ } فَقَالَ : أَمَا إنَّا قَدْ سَأَلْنَا عَنْ ذَلِكَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ { إنَّ أَرْوَاحَهُمْ فِي جَوْفِ طَيْرٍ خُضْرٍ لَهَا قَنَادِيلُ مُعَلَّقَةٌ بِالْعَرْشِ تَسْرَحُ فِي الْجَنَّةِ حَيْثُ تَشَاءُ ؛ ثُمَّ تَأْوِي إلَى تِلْكَ الْقَنَادِيلِ فَاطَّلَعَ عَلَيْهِمْ رَبُّك اطِّلَاعَةً فَقَالَ : هَلْ تَشْتَهُونَ شَيْئًا ؟ فَقَالُوا : أَيُّ شَيْءٍ نَشْتَهِي وَنَحْنُ نَسْرَحُ فِي الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاءُ ؟ - فَفَعَلَ بِهِمْ ذَلِكَ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ - فَلَمَّا رَأَوْا أَنَّهُمْ لَنْ يُتْرَكُوا مِنْ أَنْ يُسْأَلُوا قَالُوا : يَا رَبِّ نُرِيدُ أَنْ تَرُدَّ أَرْوَاحَنَا فِي أَجْسَادِنَا حَتَّى نُقْتَلَ فِي سَبِيلِك مَرَّةً أُخْرَى فَلَمَّا رَأَى أَنْ لَيْسَ لَهُمْ حَاجَةٌ تُرِكُوا } وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ , ارْجِعِي إلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً , فَادْخُلِي فِي عِبَادِي وَادْخُلِي جَنَّتِي } فَخَاطَبَهَا بِالرُّجُوعِ إلَى رَبِّهَا وَبِالدُّخُولِ فِي عِبَادِهِ وَدُخُولِ جَنَّتِهِ وَهَذَا تَصْرِيحٌ بِأَنَّهَا مَرْبُوبَةٌ .(1/138)
وَالنَّفْسُ هُنَا هِيَ الرُّوحُ الَّتِي تُقْبَضُ وَإِنَّمَا تَتَنَوَّعُ صِفَاتُهَا كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ - لَمَّا نَامُوا عَنْ صَلَاةِ الْفَجْرِ فِي السَّفَرِ - قَالَ { إنَّ اللَّهَ قَبَضَ أَرْوَاحَنَا حَيْثُ شَاءَ وَرَدَّهَا حَيْثُ شَاءَ - وَفِي رِوَايَةٍ - قَبَضَ أَنْفُسَنَا حَيْثُ شَاءَ } وَقَالَ تَعَالَى { اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ } وَالْمَقْبُوضُ الْمُتَوَفَّى هِيَ الرُّوحُ كَمَا فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ قَالَتْ : دَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى أَبِي سَلَمَةَ وَقَدْ شُقَّ بَصَرُهُ فَأَغْمَضَهُ ثُمَّ قَالَ { إنَّ الرُّوحَ إذَا قُبِضَ تَبِعَهُ الْبَصَرُ } فَضَجَّ نَاسٌ مِنْ أَهْلِهِ فَقَالَ { لَا تَدْعُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ إلَّا بِخَيْرِ فَإِنَّ الْمَلَائِكَةَ يُؤَمِّنُونَ عَلَى مَا تَقُولُونَ } ثُمَّ قَالَ { اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِأَبِي سَلَمَةَ وَارْفَعْ دَرَجَتَهُ فِي الْمَهْدِيِّينَ وَاخْلُفْهُ فِي عَقِبِهِ فِي الْغَابِرِينَ وَاغْفِرْ لَنَا وَلَهُ يَا رَبَّ الْعَالَمِينَ وَأَفْسِحْ لَهُ فِي قَبْرِهِ وَنَوِّرْ لَهُ فِيهِ } وَرَوَى مُسْلِمٌ أَيْضًا عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ الْإِنْسَانَ إذَا مَاتَ شَخَصَ بَصَرُهُ } قَالُوا : بَلَى , قَالَ { فَكَذَلِكَ حِينَ يَتْبَعُ بَصَرُهُ نَفْسَهُ } فَسَمَّاهُ تَارَةً رُوحًا وَتَارَةً نَفْسًا , وَرَوَى أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ وَابْنُ ماجه عَنْ شَدَّادِ بْنِ أَوْسٍ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { إذَا(1/139)
حَضَرْتُمْ مَوْتَاكُمْ فَأَغْمِضُوا الْبَصَرَ ؛ فَإِنَّ الْبَصَرَ يَتْبَعُ الرُّوحَ وَقُولُوا خَيْرًا فَإِنَّهُ يُؤَمَّنُ عَلَى مَا يَقُولُ أَهْلُ الْمَيِّتِ } وَدَلَائِلُ هَذَا الْأَصْلِ وَبَيَانُ مُسَمَّى " الرُّوحِ وَالنَّفْسِ " وَمَا فِيهِ مِنْ الِاشْتِرَاكِ كَثِيرٌ لَا يَحْتَمِلُهُ هَذَا الْجَوَابُ وَقَدْ بَسَطْنَاهُ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ . فَقَدْ بَانَ بِمَا ذَكَرْنَاهُ أَنَّ مَنْ قَالَ : إنَّ أَرْوَاحَ بَنِي آدَمَ قَدِيمَةٌ غَيْرُ مَخْلُوقَةٍ فَهُوَ مِنْ أَعْظَمِ أَهْلِ الْبِدَعِ الْحُلُولِيَّةِ الَّذِينَ يَجُرُّ قَوْلُهُمْ إلَى التَّعْطِيلِ بِجَعْلِ الْعَبْدِ هُوَ الرَّبُّ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْبِدَعِ الْكَاذِبَةِ الْمُضِلَّةِ .(1/140)
وَأَمَّا قَوْله تَعَالَى { قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي } فَقَدْ قِيلَ إنَّ الرُّوحَ هُنَا لَيْسَ هُوَ رُوحُ الْآدَمِيِّ وَإِنَّمَا هُوَ مَلَكٌ فِي قَوْلِهِ { يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلَائِكَةُ صَفًّا } وَقَوْلِهِ { تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إلَيْهِ } وَقَوْلِهِ { تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ } وَقِيلَ : بَلْ هُوَ رُوحُ الْآدَمِيِّ وَالْقَوْلَانِ مَشْهُورَانِ وَسَوَاءٌ كَانَتْ الْآيَةُ تَعُمُّهُمَا أَوْ تَتَنَاوَلُ أَحَدَهُمَا فَلَيْسَ فِيهَا مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الرُّوحَ غَيْرُ مَخْلُوقَةٍ لِوَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا أَنَّ الْأَمْرَ فِي الْقُرْآنِ يُرَادُ بِهِ الْمَصْدَرُ تَارَةً وَيُرَادُ بِهِ الْمَفْعُولُ تَارَةً أُخْرَى وَهُوَ الْمَأْمُورُ بِهِ ؛ كَقَوْلِهِ تَعَالَى { أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلَا تَسْتَعْجِلُوهُ } وَقَوْلِهِ { وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَقْدُورًا } وَهَذَا فِي لَفْظٍ غَيْرِ الْأَمْرِ كَلَفْظِ الْخَلْقِ وَالْقُدْرَةِ وَالرَّحْمَةِ وَالْكَلِمَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ وَلَوْ قِيلَ إنَّ الرُّوحَ بَعْضُ أَمْرِ اللَّهِ أَوْ جُزْءٌ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ وَنَحْوُ ذَلِكَ مِمَّا هُوَ صَرِيحٍ فِي أَنَّهَا بَعْضُ أَمْرِ اللَّهِ ؛ لَمْ يَكُنْ الْمُرَادُ بِلَفْظِ الْأَمْرِ إلَّا الْمَأْمُورُ بِهِ لَا الْمَصْدَرُ ؛ لِأَنَّ الرُّوحَ عَيْنٌ قَائِمَةٌ بِنَفْسِهَا ؛ تَذْهَبُ وَتَجِيءُ وَتُنَعَّمُ وَتُعَذَّبُ وَهَذَا لَا يُتَصَوَّرُ أَنْ يَكُونَ مُسَمَّى مَصْدَرِ أَمَرَ يَأْمُرُ أَمْرًا , وَهَذَا قَوْلُ سَلَفِ الْأُمَّةِ وَأَئِمَّتِهَا وَجُمْهُورِهَا , وَمَنْ قَالَ مِنْ الْمُتَكَلِّمِينَ إنْ الرُّوحَ عَرَضٌ قَائِمٌ بِالْجِسْمِ ؛ فَلَيْسَ عِنْدَهُ مَصْدَرُ أَمَرَ يَأْمُرُ أَمْرًا .(1/141)
وَالْقُرْآنُ إذَا سُمِّيَ أَمْرَ اللَّهِ فَالْقُرْآنُ كَلَامُ اللَّهِ وَالْكَلَامُ اسْمُ مَصْدَرِ كَلَّمَ يُكَلِّمُ تَكْلِيمًا وَكَلَامًا وَتَكَلَّمَ تَكَلُّمًا وَكَلَامًا , فَإِذَا سُمِّيَ أَمْرًا بِمَعْنَى الْمَصْدَرِ كَانَ ذَلِكَ مُطَابِقًا لَا سِيَّمَا وَالْكَلَامُ نَوْعَانِ : أَمْرٌ وَخَبَرٌ , أَمَّا الْأَعْيَانُ الْقَائِمَةُ بِأَنْفُسِهَا فَلَا تُسَمَّى أَمْرًا لَا بِمَعْنَى الْمَفْعُولِ بِهِ وَهُوَ الْمَأْمُورُ بِهِ كَمَا سُمِّيَ الْمَسِيحُ كَلِمَةً لِأَنَّهُ مَفْعُولٌ بِالْكَلِمَةِ وَكَمَا يُسَمَّى الْمَقْدُورُ قُدْرَةً وَالْجَنَّةُ رَحْمَةً وَالْمَطَرُ رَحْمَةً فِي مِثْلِ قَوْلِهِ { فَانْظُرْ إلَى آثَارِ رَحْمَةِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا } وَفِي قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَا يَرْوِيهِ عَنْ رَبِّهِ أَنَّهُ قَالَ لِلْجَنَّةِ { أَنْتِ رَحْمَتِي أَرْحَمُ بِك مَنْ شِئْت } وَقَوْلِهِ { إنَّ اللَّهَ خَلَقَ الرَّحْمَةَ - يَوْمَ خَلَقَهَا - مِائَةَ رَحْمَةٍ } وَنَظَائِرُ ذَلِكَ كَثِيرَةٌ وَهَذَا جَوَابُ أَبِي سَعِيدٍ الْخَرَّازِ قَالَ : فَإِنْ قِيلَ : قَدْ قَالَ تَعَالَى { قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي } وَأَمْرُهُ مِنْهُ قِيلَ أَمْرُهُ تَعَالَى هُوَ الْمَأْمُورُ بِهِ الْمُكَوَّنُ بِتَكْوِينِ الْمُكَوِّنِ لَهُ , وَكَذَلِكَ قَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ فِي كِتَابِ الْمُشْكِلِ : أَقْسَامُ الرُّوحِ فَقَالَ : هِيَ رُوحِ الْأَجْسَامِ الَّتِي يَقْبِضُهَا اللَّهُ عِنْدَ الْمَمَاتِ وَالرُّوحُ جِبْرِيلُ, قَالَ تَعَالَى { نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ } وَقَالَ { وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ } أَيْ جِبْرِيلُ .(1/142)
وَالرُّوحُ فِيمَا ذَكَرَهُ الْمُفَسِّرُونَ مَلَكٌ عَظِيمٌ مِنْ مَلَائِكَةِ اللَّهِ تَعَالَى يَقُومُ وَحْدَهُ فَيَكُونُ صَفًّا وَتَقُومُ الْمَلَائِكَةُ صَفًّا وَقَالَ تَعَالَى { وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي } قَالَ : وَنَسَبَ الرُّوحَ إلَى اللَّهِ لِأَنَّهُ بِأَمْرِهِ أَوْ لِأَنَّهُ بِكَلِمَتِهِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّ لَفْظَةَ مِنْ فِي اللُّغَةِ قَدْ تَكُونُ لِبَيَانِ الْجِنْسِ كَقَوْلِهِمْ . بَابٌ مِنْ حَدِيدٍ . وَقَدْ تَكُونُ لِابْتِدَاءِ الْغَايَةِ كَقَوْلِهِمْ . خَرَجْت مِنْ مَكَّةَ فَقَوْلُهُ تَعَالَى { قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي } لَيْسَ نَصًّا فِي أَنَّ الرُّوحَ بَعْضُ الْأَمْرِ وَمِنْ جِنْسِهِ بَلْ قَدْ تَكُونُ لِابْتِدَاءِ الْغَايَةِ إذْ كُوِّنَتْ بِالْأَمْرِ وَصَدَرَتْ عَنْهُ وَهَذَا مَعْنَى جَوَابِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ فِي قَوْلِهِ . وَرُوحٌ مِنْهُ حَيْثُ قَالَ وَرُوحٌ مِنْهُ يَقُولُ : مِنْ أَمْرِهِ كَانَ الرُّوحُ مِنْهُ كَقَوْلِهِ { وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ } وَنَظِيرُ هَذَا أَيْضًا قَوْلُهُ { وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ } فَإِذَا كَانَتْ الْمُسَخَّرَاتُ وَالنِّعَمُ مِنْ اللَّهِ وَلَمْ تَكُنْ بَعْضَ ذَاتِهِ بَلْ مِنْهُ صَدَرَتْ لَمْ يَجِبْ أَنْ يَكُونَ مَعْنَى قَوْلِهِ فِي الْمَسِيحِ . رُوحٌ مِنْهُ . أَنَّهَا بَعْضُ ذَاتِ اللَّهِ .(1/143)
وَمَعْلُومٌ أَنَّ قَوْلَهُ { وَرُوحٌ مِنْهُ } أَبْلَغُ مِنْ قَوْلِهِ { الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي } فَإِذَا كَانَ قَوْلُهُ وَرُوحٌ مِنْهُ لَا يَمْنَعُ أَنْ يَكُونَ مَخْلُوقًا وَلَا يُوجِبُ أَنْ يَكُونَ بَعْضًا لَهُ فَقَوْلُهُ { الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي } أَوْلَى بِأَنْ لَا يَمْنَعُ أَنْ يَكُونَ مَخْلُوقًا وَلَا يُوجِبُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ بَعْضًا لَهُ بَلْ وَلَا بَعْضًا مِنْ أَمْرِهِ . وَهَذَا الْوَجْهُ يَتَوَجَّهُ إذَا كَانَ الْأَمْرُ هُوَ الْأَمْرُ الَّذِي هُوَ صِفَةٌ مِنْ صِفَاتِ اللَّهِ فَهَذَانِ الْجَوَابَانِ كُلٌّ مِنْهُمَا مُسْتَقِلٌّ وَيُمْكِنُ أَنْ يُجْعَلَ مِنْهُمَا جَوَابٌ مُرَكَّبٌ فَيُقَالُ : قَوْلُهُ { الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي } إمَّا أَنْ يُرَادَ بِالْأَمْرِ الْمَأْمُورُ بِهِ أَوْ صِفَةٌ لِلَّهِ تَعَالَى وَإِنْ أُرِيدَ بِهِ الْأَوَّلُ أَمْكَنَ أَنْ تَكُونَ الرُّوحُ بَعْضَ ذَلِكَ فَتَكُونُ مَخْلُوقَةً . وَإِنْ أُرِيدَ بِالْأَمْرِ صِفَةُ اللَّهِ كَانَ قَوْلُهُ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي كَقَوْلِهِ وَرُوحٌ مِنْهُ وَقَوْلِهِ : جَمِيعًا مِنْهُ وَنَحْوُ ذَلِكَ . وَإِنَّمَا نَشَأَتْ الشُّبْهَةُ حَيْثُ ظَنَّ الظَّانُّ أَنَّ الْأَمْرَ صِفَةٌ لِلَّهِ قَدِيمَةٌ وَأَنَّ رُوحَ بَنِي آدَمَ بَعْضُ تِلْكَ الصِّفَةِ وَلَمْ تَدُلَّ الْآيَةُ عَلَى وَاحِدٍ مِنْ الْمُقَدِّمَتَيْنِ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ . وَقَدْ يَجِيءُ اسْمُ الرُّوحِ فِي الْقُرْآنِ بِمَعْنَى آخَرَ كَقَوْلِهِ { وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا } وَقَوْلِهِ { كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ } وَنَحْوِ ذَلِكَ .(1/144)
فَالْقُرْآنُ الَّذِي أَنْزَلَهُ اللَّهُ كَلَامُهُ وَلَكِنْ لَيْسَ الْكَلَامُ فِي هَذَا مِمَّا يَتَعَلَّقُ بِالسُّؤَالِ ) فالروح عند أهل السنة كافة مخلوقة مبتدعة مربوبة مدبرة ، وما خالف هذا الفهم فإنه باطل ، لأن المتقرر أن كل فهم يخالف فهم سلف الأمة وأئمتها فهو باطل . والله يتولانا وإياك .(1/145)
الفرع الخامس عشر:- اتفق سلف الأمة وأئمتها على أن التبرك بالذات مما خص به ذات النبي صلى الله عليه وسلم ، فلا يجوز التبرك بذات أحد من الخلق إلا بذاته صلى الله عليه وسلم ، وما اتصل بها وهذا متفق عليه بين الأئمة رحمهم الله تعالى ، فقد كانوا يتبركون بوضوئه ونخامته وعرقه وثيابه وغير ذلك مما ثبتت به الأدلة ، وهذا التوسل يجوز عند أهل السنة بآثاره ولو بعد مماته صلى الله عليه وسلم ، ولا شيء من آثاره قد بقي الآن عند عامة أهل العلم ، والذي يهمنا هنا هو أن الصحابة رضي الله عنهم فهموا أن هذا التبرك من خصائصه صلى الله عليه وسلم ، ولذلك فإنهم لم يكونوا يتبركون بشيء من آثار غيره ، حتى وإن بلغ في الصلاح والورع والعلم والزهد ما بلغ ، فلم يكونوا يتبركون بآثار أبي بكر ولا عمر ولا عثمان ولا علي ، وهم الخلفاء الراشدون والأئمة المهديون وخير الأمة بعده فضلا وعلما وإيمانا وهدى ، ولا بآثار بقية العشرة المبشرين بالجنة ولا بآثار أحد ممن كان على عهده ، وهذا باتفاق أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فهم قد فهموا أنه من خصائص نبيهم صلى الله عليه وسلم ، لا يشاركه فيها أحد من الأمة بالغا ما بلغ في دينه وتقواه وزهده وصلاحه ، واتفق على ذلك الأئمة بعدهم من سلف الأمة ، وهذا فهم متفق عليه بين السلف ، يجب اعتماده وتحرم مخالفته ، وأما من زاغ وحاد عن سبيلهم فإنهم يجوزون التبرك بآثار الأولياء والصالحين ، فتراهم يقبلون يديه ورجليه ويتمسحون به ، رجاء البركة ، وهو مشهور عند الصوفية ، لاسيما بين المشايخ منهم ومريديهم ، ويستدلون على ذلك بأن الصحابة كانوا يفعلونه مع النبي صلى الله عليه وسلم ، وأنهم أولياء الله المتقون ، ولهم مزيتهم وفضلهم على غيرهم من أفراد الأمة ، وهذا فهم فاسد ، وقياس باطل ، أما فساد الفهم فلأنه مخالف لفهم سلف الأمة وأئمتها والمتقرر أن كل فهم يخالف فهم السلف في مسائل العقيدة والعمل فهو فهم باطل ،(1/146)
وأما فساد القياس فلأنه قياس مع الفارق ، والمتقرر أن القياس مع الفارق باطل ، فالنبي صلى الله عليه وسلم هو رسول الله وخاتم النبيين وصاحب الحوض المورود والمقام المحمود ، والشافع المشفع ، وأكرم الخلق على الله تعالى وأحبهم إليه ، ومن ذا يشاركه في هذه الخصائص حتى يقاس عليه ؟ ولأن المتقرر أن الأصل في التبرك بالأعيان والأزمنة والأمكنة التوقيف على الدليل ، وأين الدليل الدال على جواز التبرك بالأولياء والصالحين ؟ ولأن وجود البركة في الشخص من أمور الغيب ، والمتقرر أن أمور الغيب مبناها على النص الصحيح الصريح ، وأما البركة الموجودة في كل مسلم ، فإنها بركة معنوية لازمة ، لا ذاتية متنقلة ، وهي بركة العمل والإيمان ، وبركة العمل بمقتضى منهاج النبوة والخلط بين نوعي البركة هو الذي أوجب كثيرا من البدع في باب التبرك ، وأزيدك فائدة في تقرير بعض القواعد في باب التبرك لتكون على بصيرة من الأمر في هذا الباب :الأولى :- الأصل في التبرك التوقيف على الدليل ، الثانية :- الأصل في بركة الأعيان التوقيف على الدليل ، الثالثة :- الأصل في بركة الأزمان التوقيف على الدليل ، الرابعة :- الأصل في بركة الأمكنة التوقيف على الدليل الخامسة :- الأصل وقف البركة الذاتية المنتقلة على ذات النبي صلى الله عليه وسلم ، السادسة :- الأصل منع التبرك بأي شيء من أجزاء الأرض إلا بدليل ، السابعة :- ما ثبت الدليل بأنه مبارك فلا يجوز أن يتعدى في التبرك به على ما أثبته الدليل ، وهذه القواعد قد شرحتها في غير هذا الموضع وهي مستقاة من فهم سلف الأمة ، ولا ينبغي للعبد تجاهلها ، لا سيما في هذه الأزمنة التي كثرت دعاوى البركة فيه ، والمهم :- أن ما ذهب إليه الصوفية بعامة ومن نحا نحوهم في هذا الباب ، كله مبني على مخالفة فهم السلف ، والمتقرر أن كل فهم يخالف فهم السلف في مسائل العقيدة والعمل فإنه باطل ، والله يتولانا وإياك .(1/147)
الفرع السادس عشر:- أجمع سلف الأمة على أن الأولياء لهم المقام الرفيع عند الله تعالى ، فلا خوف عليهم ولا يحزنون ، وأجمع السلف على أن أولياء الله تعالى هم المؤمنون المتقون ، وتتفاوت درجات الولاية بحسب تفاوت الأولياء في تحقيق درجات الإيمان والتقوى ، فأكثرهم ولاية أعظمهم في تحقيق ذلك ، قال تعالى { أَلا إِنَّ أَوْلِيَاء اللّهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ ، الَّذِينَ آمَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ } وأجمع السلف على هذه الآية إنما تثبت منزلة الأولياء عند الله تعالى فقط ، وأجمعوا على أنها لا تدل على الطواف حول قبورهم أو التبرك بترابها ، أو بشيء من آثارهم أو الذبح والنذر لهم أو دعائهم والاستغاثة بهم من دون الله تعالى في كشف الملمات وتفريج المدلهمات ، ولا تدل على العكوف عند قبورهم ولا على البناء عليها ، أو الصلاة عندها ، أو تعليق أوراق الشكوى على عتباتها أو في شباكها ، ولا غير ذلك مما يفعله عباد القبور عند قبورهم ، الآية المذكورة لا تدل على شيء من ذلك لا بدلالة المطابقة ولا التضمن ولا الالتزام ، ولا بشيء من الدلالات عند أهل العلم في الدنيا ، ولكن أبى عباد القبور إلا الاستدلال بها على ذلك ، فما إن تناقش واحدا منهم في منع ذلك ، إلا ويستدل لك بهذه الآية ، سبحان الله ، كيف تطيب نفسه أن يجعل القرآن الذي من مقاصد إنزاله الأمر بالتوحيد والنهي عن الشرك ، كيف يجعله هذا الحمار دليلا مؤيدا للشرك والوثنية ، عجبا لهذه الفهوم المنكوسة ، فبالله عليك ، هل فهم سلف الأمة هذه الأفعال المنكرة من هذه الآية ؟ بالطبع ، لا ، فضلا عن الأدلة المتواترة في النهي عن هذه الأفعال ، ففهم عباد القبور هذه الأفعال القبيحة من هذه الآية الكريمة فهم باطل ، لأنه فهم مخالف لفهم السلف ، والمتقرر أن كل فهم يخالف فهم سلف الأمة في مسائل العقيدة والعمل فإنه باطل ، والله يتولانا وإياك .(1/148)
الفرع السابع عشر:- اتفق السلف ، بل المسلمون جميعا على علو منزلة النبي صلى الله عليه وسلم عند الله تعالى وأنه أعظم الناس جاها عند الله تعالى ، فليس ثمة منزلة كمنزلته ، ولا جاها كجاهه ولا شرفا كشرفه ، ولا قدرا كقدره ، عليه الصلاة والسلام ، ولكن سلف الأمة رحمهم الله تعالى مع إقرارهم بكل ذلك ، إلا أنهم لم يفهموا من ذلك تجويز التوسل بذاته إلى الله تعالى ، أو الحلف بجاهه ، أو التمسح بجدران الغرف التي على قبره ، أو دعاءه من دون الله تعالى أو الاستغاثة به من دون الله ، أو شد الرحال إلى زيارة قبره فقط ، أو تعليق كمال الحج على زيارة مسجده وقبره وكل حديث في زيارة قبر مخصوص على وجه الأرض فباطل ، ولم يفهم السلف من ذلك تجويز الدعاء مع استقبال حجرته ، ولا كثرة التردد إلى قبره للسلام والصلاة عليه ، ولا تكلف قطع المسافات لمجرد السلام والصلاة عليه ، وغير ذلك مما يعتقده بعض الناس من الاعتقادات الباطلة فيه صلى الله عليه وسلم ، فمن فهم من علو منزلته وجاهه شيئا من ذلك ، فقد فهم فهما مخالفا لفهم سلف الأمة ، والمتقرر أن كل فهم يخالف فهم سلف الأمة فإنه باطل ، وخير الهدي هدي السلف رحمهم الله تعالى ، قال أبو العباس رحمه الله تعالى (لَكِنْ لَيْسَ مِنْ الْمَشْرُوعِ أَنْ يُطْلَبَ مِنْ الْأَمْوَاتِ لَا دُعَاءٌ وَلَا غَيْرُهُ .(1/149)
وَفِي مُوَطَّأِ مَالِكٍ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ كَانَ يَقُولُ : " السَّلَامُ عَلَيْك يَا رَسُولَ اللَّهِ السَّلَامُ عَلَيْك يَا أَبَا بَكْرٍ السَّلَامُ عَلَيْك يَا أَبَتِ " ثُمَّ يَنْصَرِفُ , وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ قَالَ : رَأَيْت عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ يَقِفُ عَلَى قَبْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَيُصَلِّي عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَيَدْعُو لِأَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ , وَكَذَلِكَ أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ وَغَيْرُهُ نُقِلَ عَنْهُمْ أَنَّهُمْ كَانُوا يُسَلِّمُونَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِذَا أَرَادُوا الدُّعَاءَ اسْتَقْبَلُوا الْقِبْلَةَ يَدْعُونَ اللَّهَ تَعَالَى لَا يَدْعُونَ مُسْتَقْبِلِي الْحُجْرَةِ وَإِنْ كَانَ قَدْ وَقَعَ فِي بَعْضِ ذَلِكَ طَوَائِفُ مِنْ الْفُقَهَاءِ وَالصُّوفِيَّةِ وَالْعَامَّةِ مَنْ لَا اعْتِبَارَ بِهِمْ فَلَمْ يَذْهَبْ إلَى ذَلِكَ إمَامٌ مُتَّبَعٌ فِي قَوْلِهِ وَلَا مَنْ لَهُ فِي الْأُمَّةِ لِسَانُ صِدْقٍ عَامٌّ ، وَمَذْهَبُ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ - مَالِكٍ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ - وَغَيْرِهِمْ مِنْ أَئِمَّةِ الْإِسْلَامِ أَنَّ الرَّجُلَ إذَا سَلَّمَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَرَادَ أَنْ يَدْعُوَ لِنَفْسِهِ فَإِنَّهُ يَسْتَقْبِلُ الْقِبْلَةَ . وَاخْتَلَفُوا فِي وَقْتِ السَّلَامِ عَلَيْهِ فَقَالَ الثَّلَاثَةُ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ: يَسْتَقْبِلُ الْحُجْرَةَ وَيُسَلِّمُ عَلَيْهِ مِنْ تِلْقَاءِ وَجْهِهِ وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : لَا يَسْتَقْبِلُ الْحُجْرَةَ وَقْتَ السَّلَامِ كَمَا لَا يَسْتَقْبِلُهَا وَقْتَ الدُّعَاءِ بِاتِّفَاقِهِمْ .(1/150)
ثُمَّ فِي مَذْهَبِهِ قَوْلَانِ : قِيلَ يَسْتَدْبِرُ الْحُجْرَةَ وَقِيلَ يَجْعَلُهَا عَنْ يَسَارِهِ . فَهَذَا نِزَاعُهُمْ فِي وَقْتِ السَّلَامِ وَأَمَّا فِي وَقْتِ الدُّعَاءِ فَلَمْ يَتَنَازَعُوا فِي أَنَّهُ إنَّمَا يَسْتَقْبِلُ الْقِبْلَةَ لَا الْحُجْرَةَ , وَالْحِكَايَةُ الَّتِي تُذْكَرُ عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ قَالَ لِلْمَنْصُورِ لَمَّا سَأَلَهُ عَنْ اسْتِقْبَالِ الْحُجْرَةِ فَأَمَرَهُ بِذَلِكَ وَقَالَ : " هُوَ وَسِيلَتُك وَوَسِيلَةُ أَبِيك آدَمَ " كَذِبٌ عَلَى مَالِكٍ لَيْسَ لَهَا إسْنَادٌ مَعْرُوفٌ وَهُوَ خِلَافُ الثَّابِتِ الْمَنْقُولِ عَنْهُ بِأَسَانِيدِ الثِّقَاتِ فِي كُتُبِ أَصْحَابِهِ كَمَا ذَكَرَهُ إسْمَاعِيلُ بْنُ إسْحَاقَ الْقَاضِي وَغَيْرُهُ مِثْلَ مَا ذَكَرُوا عَنْهُ أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ أَقْوَامٍ يُطِيلُونَ الْقِيَامَ مُسْتَقْبِلِي الْحُجْرَةِ يَدْعُونَ لِأَنْفُسِهِمْ فَأَنْكَرَ مَالِكٌ ذَلِكَ وَذَكَرَ أَنَّهُ مِنْ الْبِدَعِ الَّتِي لَمْ يَفْعَلْهَا الصَّحَابَةُ وَالتَّابِعُونَ لَهُمْ بِإِحْسَانِ وَقَالَ : لَا يُصْلِحُ آخِرَ هَذِهِ الْأُمَّةِ إلَّا مَا أَصْلَحَ أَوَّلَهَا , وَلَا رَيْبَ أَنَّ الْأَمْرَ كَمَا قَالَهُ مَالِكٌ فَإِنَّ الْآثَارَ الْمُتَوَاتِرَةَ عَنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ تُبَيِّنُ أَنَّ هَذَا لَمْ يَكُنْ مِنْ عَمَلِهِمْ وَعَادَتِهِمْ وَلَوْ كَانَ اسْتِقْبَالُ الْحُجْرَةِ عِنْدَ الدُّعَاءِ مَشْرُوعًا لَكَانُوا هُمْ أَعْلَمَ بِذَلِكَ وَكَانُوا أَسْبَقَ إلَيْهِ مِمَّنْ بَعْدَهُمْ وَالدَّاعِي يَدْعُو اللَّهَ وَحْدَهُ .(1/151)
وَقَدْ نُهِيَ عَنْ اسْتِقْبَالِ الْحُجْرَةِ عِنْدَ دُعَائِهِ لِلَّهِ تَعَالَى كَمَا نُهِيَ عَنْ اسْتِقْبَالِ الْحُجْرَةِ عِنْدَ الصَّلَاةِ لِلَّهِ تَعَالَى كَمَا ثَبَتَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ وَغَيْرِهِ عَنْ أَبِي مَرْثَدٍ الغنوي أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ { لَا تَجْلِسُوا عَلَى الْقُبُورِ وَلَا تُصَلُّوا إلَيْهَا } فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُصَلِّيَ إلَى شَيْءٍ مِنْ الْقُبُورِ لَا قُبُورِ الْأَنْبِيَاء وَلَا غَيْرِهِمْ لِهَذَا الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ ، وَلَا خِلَافَ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ أَنَّهُ لَا يُشْرَعُ أَنْ يَقْصِدَ الصَّلَاةَ إلَى الْقَبْرِ بَلْ هَذَا مِنْ الْبِدَعِ الْمُحْدَثَةِ وَكَذَلِكَ قَصْدُ شَيْءٍ مِنْ الْقُبُورِ لَا سِيَّمَا قُبُورُ الْأَنْبِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ عِنْدَ الدُّعَاءِ فَإِذَا لَمْ يَجُزْ قَصْدُ اسْتِقْبَالِهِ عِنْدَ الدُّعَاءِ لِلَّهِ تَعَالَى فَدُعَاءُ الْمَيِّتِ نَفْسِهِ أَوْلَى أَنْ لَا يَجُوزَ كَمَا أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يُصَلِّيَ مُسْتَقْبِلَهُ فَلَأَنْ لَا يَجُوزَ الصَّلَاةُ لَهُ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى , فَعُلِمَ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يُسْأَلَ الْمَيِّتُ شَيْئًا : لَا يُطْلَبُ مِنْهُ أَنْ يَدْعُوَ اللَّهَ لَهُ وَلَا غَيْرَ ذَلِكَ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُشْكَى إلَيْهِ شَيْءٌ مِنْ مَصَائِبِ الدُّنْيَا وَالدِّينِ ؛ وَلَوْ جَازَ أَنْ يُشْكَى إلَيْهِ ذَلِكَ فِي حَيَاتِهِ فَإِنَّ ذَلِكَ فِي حَيَاتِهِ لَا يُفْضِي إلَى الشِّرْكِ وَهَذَا يُفْضِي إلَى الشِّرْكِ لِأَنَّهُ فِي حَيَاتِهِ مُكَلَّفٌ أَنْ يُجِيبَ سُؤَالَ مَنْ سَأَلَهُ لِمَا لَهُ فِي ذَلِكَ مِنْ الْأَجْرِ وَالثَّوَابِ وَبَعْدَ الْمَوْتِ لَيْسَ مُكَلَّفًا بَلْ مَا يَفْعَلُهُ مِنْ ذِكْرٍ لِلَّهِ تَعَالَى وَدُعَاءٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ كَمَا أَنَّ مُوسَى يُصَلِّي فِي قَبْرِهِ ؛(1/152)
وَكَمَا صَلَّى الْأَنْبِيَاءُ خَلْفَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْلَةَ الْمِعْرَاجِ بِبَيْتِ الْمَقْدِسِ وَتَسْبِيحِ أَهْلِ الْجَنَّةِ وَالْمَلَائِكَةِ فَهُمْ يُمَتَّعُونَ بِذَلِكَ وَهُمْ يَفْعَلُونَ ذَلِكَ بِحَسَبِ مَا يَسَّرَهُ اللَّهُ لَهُمْ وَيُقَدِّرُهُ لَهُمْ لَيْسَ هُوَ مِنْ بَابِ التَّكْلِيفِ الَّذِي يَمْتَحِنُ بِهِ الْعِبَادَ وَحِينَئِذٍ فَسُؤَالُ السَّائِلِ لِلْمَيِّتِ لَا يُؤَثِّرُ فِي ذَلِكَ شَيْئًا ؛ بَلْ مَا جَعَلَهُ اللَّهُ فَاعِلًا لَهُ هُوَ يَفْعَلُهُ وَإِنْ لَمْ يَسْأَلْهُ الْعَبْدُ ؛ كَمَا يَفْعَلُ الْمَلَائِكَةُ مَا يُؤْمَرُونَ بِهِ وَهُمْ إنَّمَا يُطِيعُونَ أَمْرَ رَبِّهِمْ لَا يُطِيعُونَ أَمْرَ مَخْلُوقٍ ؛ كَمَا قَالَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى { وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ } فَهُمْ لَا يَعْمَلُونَ إلَّا بِأَمْرِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى , وَلَا يَلْزَمُ مِنْ جَوَازِ الشَّيْءِ فِي حَيَاتِهِ جَوَازُهُ بَعْدَ مَوْتِهِ ؛ فَإِنَّ بَيْتَهُ كَانَتْ الصَّلَاةُ فِيهِ مَشْرُوعَةً وَكَانَ يَجُوزُ أَنْ يُجْعَلَ مَسْجِدًا . وَلَمَّا دُفِنَ فِيهِ حَرُمَ أَنْ يُتَّخَذَ مَسْجِدًا ؛ كَمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ { لَعَنَ اللَّهُ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ } يُحَذِّرُ مَا فَعَلُوا , وَلَوْلَا ذَلِكَ لَأَبْرَزَ قَبْرَهُ وَلَكِنْ كَرِهَ أَنْ يُتَّخَذَ مَسْجِدًا .(1/153)
وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ وَغَيْرِهِ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ { إنَّ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ كَانُوا يَتَّخِذُونَ الْقُبُورَ مَسَاجِدَ أَلَا فَلَا تَتَّخِذُوا الْقُبُورَ مَسَاجِدَ فَإِنِّي أَنْهَاكُمْ عَنْ ذَلِكَ } وَقَدْ كَانَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَيَاتِهِ يُصَلِّي خَلْفَهُ وَذَلِكَ مِنْ أَفْضَلِ الْأَعْمَالِ وَلَا يَجُوزُ بَعْدَ مَوْتِهِ أَنْ يُصَلِّيَ الرَّجُلُ خَلْفَ قَبْرِهِ وَكَذَلِكَ فِي حَيَاتِهِ يَطْلُبُ مِنْهُ أَنْ يَأْمُرَ وَأَنْ يُفْتِيَ وَأَنْ يَقْضِيَ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَطْلُبَ ذَلِكَ مِنْهُ بَعْدَ مَوْتِهِ . وَأَمْثَالُ ذَلِكَ كَثِيرٌ . وَقَدْ كَرِهَ مَالِكٌ وَغَيْرُهُ أَنْ يَقُولَ الرَّجُلُ : زُرْت قَبْرَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَنَّ هَذَا اللَّفْظَ لَمْ يَرِدْ . وَالْأَحَادِيثُ الْمَرْوِيَّةُ فِي زِيَارَةِ قَبْرِهِ كُلُّهَا ضَعِيفَةٌ بَلْ كَذِبٌ . وَهَذَا اللَّفْظُ صَارَ مُشْتَرَكًا فِي عُرْفِ الْمُتَأَخِّرِينَ يُرَادُ بِهِ:- الزِّيَارَةُ الْبِدْعِيَّةُ : الَّتِي فِي مَعْنَى الشِّرْكِ ؛ كَاَلَّذِي يَزُورُ الْقَبْرَ لِيَسْأَلَهُ أَوْ يَسْأَلَ اللَّهَ بِهِ أَوْ يَسْأَلَ اللَّهَ عِنْدَهُ , وَالزِّيَارَةُ الشَّرْعِيَّةُ : هِيَ أَنْ يَزُورَهُ لِلَّهِ تَعَالَى لِلدُّعَاءِ لَهُ وَالسَّلَامِ عَلَيْهِ كَمَا يُصَلِّي عَلَى جِنَازَتِهِ .(1/154)
فَهَذَا الثَّانِي هُوَ الْمَشْرُوعُ وَلَكِنْ كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ لَا يَقْصِدُ بِالزِّيَارَةِ إلَّا الْمَعْنَى الْأَوَّلَ فَكَرِهَ مَالِكٌ أَنْ يَقُولَ : زُرْت قَبْرَهُ لِمَا فِيهِ مِنْ إيهَامِ الْمَعْنَى الْفَاسِدِ الَّذِي يَقْصِدُهُ أَهْلُ الْبِدَعِ وَالشِّرْكِ ) وقال رحمه الله تعالى (فَأَمَّا التَّوَسُّلُ بِذَاتِهِ فِي حُضُورِهِ أَوْ مَغِيبِهِ أَوْ بَعْدَ مَوْتِهِ - مِثْلَ الْإِقْسَامِ بِذَاتِهِ أَوْ بِغَيْرِهِ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ أَوْ السُّؤَالِ بِنَفْسِ ذَوَاتِهِمْ بِدُعَائِهِمْ - فَلَيْسَ هَذَا مَشْهُورًا عِنْدَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ بَلْ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ وَمُعَاوِيَةُ بْنُ أَبِي سُفْيَانَ وَمَنْ بِحَضْرَتِهِمَا مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالتَّابِعِينَ لَهُمْ بِإِحْسَانِ لَمَّا أَجْدَبُوا اسْتَسْقَوْا وَتَوَسَّلُوا وَاسْتَشْفَعُوا بِمَنْ كَانَ حَيًّا كَالْعَبَّاسِ وكيزيد بْنِ الْأَسْوَدِ وَلَمْ يَتَوَسَّلُوا وَلَمْ يَسْتَشْفِعُوا وَلَمْ يَسْتَسْقُوا فِي هَذِهِ الْحَالِ بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا عِنْدَ قَبْرِهِ وَلَا غَيْرِ قَبْرِهِ بَلْ عَدَلُوا إلَى الْبَدَلِ كَالْعَبَّاسِ وكيزيد بَلْ كَانُوا يُصَلُّونَ عَلَيْهِ فِي دُعَائِهِمْ وَقَدْ قَالَ عُمَرُ : اللَّهُمَّ إنَّا كُنَّا نَتَوَسَّلُ إلَيْك بِنَبِيِّنَا فَتَسْقِينَا وَإِنَّا نَتَوَسَّلُ إلَيْك بِعَمِّ نَبِيِّنَا فَاسْقِنَا .(1/155)
فَجَعَلُوا هَذَا بَدَلًا عَنْ ذَلِكَ لَمَّا تَعَذَّرَ أَنْ يَتَوَسَّلُوا بِهِ عَلَى الْوَجْهِ الْمَشْرُوعِ الَّذِي كَانُوا يَفْعَلُونَهُ وَقَدْ كَانَ مِنْ الْمُمْكِنِ أَنْ يَأْتُوا إلَى قَبْرِهِ فَيَتَوَسَّلُوا بِهِ وَيَقُولُوا فِي دُعَائِهِمْ فِي الصَّحْرَاءِ بِالْجَاهِ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنْ الْأَلْفَاظِ الَّتِي تَتَضَمَّنُ الْقَسَمَ بِمَخْلُوقِ عَلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ أَوْ السُّؤَالِ بِهِ ؛ فَيَقُولُونَ : نَسْأَلُك أَوْ نُقْسِمُ عَلَيْك بِنَبِيِّك أَوْ بِجَاهِ نَبِيِّك وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا يَفْعَلُهُ بَعْضُ النَّاسِ .(1/156)
وَرَوَى بَعْضُ الْجُهَّالِ { عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ إذَا سَأَلْتُمْ اللَّهَ فَاسْأَلُوهُ بِجَاهِي فَإِنَّ جَاهِي عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ } وَهَذَا الْحَدِيثُ كَذِبٌ لَيْسَ فِي شَيْءٍ مِنْ كُتُبِ الْمُسْلِمِينَ الَّتِي يَعْتَمِدُ عَلَيْهَا أَهْلُ الْحَدِيثِ وَلَا ذَكَرَهُ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ بِالْحَدِيثِ مَعَ أَنَّ جَاهَهُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى أَعْظَمُ مِنْ جَاهِ جَمِيعِ الْأَنْبِيَاءِ وَالْمُرْسَلِينَ وَقَدْ أَخْبَرَنَا سُبْحَانَهُ عَنْ مُوسَى وَعِيسَى عَلَيْهِمَا السَّلَامُ أَنَّهُمَا وَجِيهَان عِنْدَ اللَّهِ فَقَالَ تَعَالَى { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا وَكَانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهًا } وَقَالَ تَعَالَى { إذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ } فَإِذَا كَانَ مُوسَى وَعِيسَى وَجِيهَيْنِ عِنْدَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ ؛ فَكَيْفَ بِسَيِّدِ وَلَدِ آدَمَ صَاحِبِ الْمَقَامِ الْمَحْمُودِ الَّذِي يَغْبِطُهُ بِهِ الْأَوَّلُونَ والآخرون ؛ وَصَاحِبِ الْكَوْثَرِ وَالْحَوْضِ الْمَوْرُودِ الَّذِي آنِيَتُهُ عَدَدُ نُجُومِ السَّمَاءِ وَمَاؤُهُ أَشَدُّ بَيَاضًا مِنْ اللَّبَنِ وَأَحْلَى مِنْ الْعَسَلِ وَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ شَرْبَةً لَمْ يَظْمَأْ بَعْدَهَا أَبَدًا ؟ .(1/157)
وَهُوَ صَاحِبُ الشَّفَاعَةِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حِينَ يَتَأَخَّرُ عَنْهَا آدَمَ وَأُولُو الْعَزْمِ - نُوحٌ وَإِبْرَاهِيمُ وَمُوسَى وَعِيسَى صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِمْ أجْمَعِينَ وَيَتَقَدَّمُ هُوَ إلَيْهَا وَهُوَ صَاحِبُ اللِّوَاءِ آدَمَ وَمَنْ دُونَهُ تَحْتَ لِوَائِهِ وَهُوَ سَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ وَأَكْرَمُهُمْ عَلَى رَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَهُوَ إمَامُ الْأَنْبِيَاءِ إذَا اجْتَمَعُوا وَخَطِيبُهُمْ إذَا وَفَدُوا ذُو الْجَاهِ الْعَظِيمِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَلَى آلِهِ ) قلت :- وقد عدل الصحابة رضي الله عنهم في عهد عمر رضي الله عن التوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم إلى التوسل بعمه العباس ، لأنه صلى الله عليه وسلم قد مات ، ولحق بالرفيق الأعلى ، فلو كان دعاؤه والتوسل به جائزا لما عدلوا عن الأفضل إلى المفضول ، وبالجملة فهنا مسألتان لابد من التفريق بينهما ، الأولى :- أن التوسل لفظ مجمل يختلف باختلاف المتكلم به ، فإن ورد لفظ الوسيلة في القرآن فإنه لا يراد به إلا اتباع الشرع ، بفعل المأمور إيجابا واستحبابا ، وبترك المنهي عنه تحريما أو كراهة ، أي متابعة النبي صلى الله عليه وسلم ، بطاعته فيما أمر واجتناب ما نهى عنه وزجر ، وأن لا يعبد الله تعالى إلا بما شرع كما قال تعالى { أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ } وكما قال تعالى { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وَابْتَغُواْ إِلَيهِ الْوَسِيلَةَ وَجَاهِدُواْ فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } فالوسيلة هنا يراد بها ما ذكرته لك ، وإن ورد لفظ الوسيلة في كلام النبي صلى الله عليه وسلم فإنه يراد بها تلك المنزلة في الجنة التي لا تنبغي إلا لواحد من عباد الله ، كما قال صلى الله عليه وسلم { ثم سلوا(1/158)
الله لي الوسيلة ، فإنها منزلة في الجنة لا تنبغي إلا لعبد من عباد الله ، وأرجو أن أكون أنا هو ، فمن سأل الله لي الوسيلة حلت له الشفاعة } رواه مسلم ، وإن ورد لفظ الوسيلة في كلام الصحابة فإنما يراد به طلب الدعاء لا غير ، وعلى ذلك قول عمر " إنا كنا نتوسل بنبيك فتسقينا ، وإن نتوسل إليك بعم نبينا ... الحديث ، وهو في البخاري ، ومنه قول الأعرابي الذي توسل بالنبي صلى الله عليه وسلم في رد بصره ، إن صح الحديث ، ولا يراد به إلا ذلك ، قال أبو العباس رحمه الله تعالى (إذَا عُرِفَ هَذَا فَقَدَ تَبَيَّنَ أَنَّ لَفْظَ " الْوَسِيلَةِ " وَ " التَّوَسُّلِ فِيهِ إجْمَالٌ وَاشْتِبَاهٌ يَجِبُ أَنْ تُعْرَفَ مَعَانِيهِ وَيُعْطَى كُلُّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ , فَيُعْرَفُ مَا وَرَدَ بِهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ مِنْ ذَلِكَ وَمَعْنَاهُ , وَمَا كَانَ يَتَكَلَّمُ بِهِ الصَّحَابَةُ وَيَفْعَلُونَهُ وَمَعْنَى ذَلِكَ , وَيُعْرَفُ مَا أَحْدَثَهُ الْمُحْدِثُونَ فِي هَذَا اللَّفْظِ وَمَعْنَاهُ ’ فَإِنَّ كَثِيرًا مِنْ اضْطِرَابِ النَّاسِ فِي هَذَا الْبَابِ هُوَ بِسَبَبِ مَا وَقَعَ مِنْ الْإِجْمَالِ وَالِاشْتِرَاكِ فِي الْأَلْفَاظِ وَمَعَانِيهَا حَتَّى تَجِدَ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْرِفُ فِي هَذَا الْبَابِ فَصْلَ الْخِطَابِ .(1/159)
فَلَفْظُ الْوَسِيلَةِ مَذْكُورٌ فِي الْقُرْآنِ فِي قَوْله تَعَالَى { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إلَيْهِ الْوَسِيلَةَ } وَفِي قَوْله تَعَالَى { قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلَا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلَا تَحْوِيلًا , أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا } فَالْوَسِيلَةُ الَّتِي أَمَرَ اللَّهُ أَنْ تُبْتَغَى إلَيْهِ وَأَخْبَرَ عَنْ مَلَائِكَتِهِ وَأَنْبِيَائِهِ أَنَّهُمْ يَبْتَغُونَهَا إلَيْهِ هِيَ مَا يُتَقَرَّبُ إلَيْهِ مِنْ الْوَاجِبَاتِ والمستحبات . فَهَذِهِ الْوَسِيلَةُ الَّتِي أَمَرَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ بِابْتِغَائِهَا تَتَنَاوَلُ كُلَّ وَاجِبٍ وَمُسْتَحَبٍّ وَمَا لَيْسَ بِوَاجِبِ وَلَا مُسْتَحَبٍّ لَا يَدْخُلُ فِي ذَلِكَ سَوَاءٌ كَانَ مُحَرَّمًا أَوْ مَكْرُوهًا أَوْ مُبَاحًا . فَالْوَاجِبُ وَالْمُسْتَحَبُّ هُوَ مَا شَرَعَهُ الرَّسُولُ فَأَمَرَ بِهِ أَمْرَ إيجَابٍ أَوْ اسْتِحْبَابٍ وَأَصْلُ ذَلِكَ الْإِيمَانُ بِمَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ . فَجِمَاعُ الْوَسِيلَةِ الَّتِي أَمَرَ اللَّهُ الْخَلْقَ بِابْتِغَائِهَا هُوَ التَّوَسُّلُ إلَيْهِ بِاتِّبَاعِ مَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ لَا وَسِيلَةَ لِأَحَدِ إلَى اللَّهِ إلَّا ذَلِكَ .(1/160)
وَالثَّانِي لَفْظُ "الْوَسِيلَةِ" فِي الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ كَقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { سَلُوا اللَّهَ لِي الْوَسِيلَةَ فَإِنَّهَا دَرَجَةٌ فِي الْجَنَّةِ لَا تَنْبَغِي إلَّا لِعَبْدِ مِنْ عِبَادِ اللَّهِ وَأَرْجُو أَنْ أَكُونَ أَنَا ذَلِكَ الْعَبْدَ , فَمَنْ سَأَلَ اللَّهَ لِي الْوَسِيلَةَ حَلَّتْ عَلَيْهِ شَفَاعَتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ } وَقَوْلُهُ { مَنْ قَالَ حِينَ يَسْمَعُ النِّدَاءَ : اللَّهُمَّ رَبَّ هَذِهِ الدَّعْوَةِ التَّامَّةِ وَالصَّلَاةِ الْقَائِمَةِ آتِ مُحَمَّدًا الْوَسِيلَةَ وَالْفَضِيلَةَ وَابْعَثْهُ مَقَامًا مَحْمُودًا الَّذِي وَعَدْته إنَّك لَا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ حَلَّتْ لَهُ الشَّفَاعَةُ } فَهَذِهِ الْوَسِيلَةُ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَاصَّةً , وَقَدْ أُمِرْنَا أَنْ نَسْأَلَ اللَّهَ لَهُ هَذِهِ الْوَسِيلَةَ وَأَخْبَرَ أَنَّهَا لَا تَكُونُ إلَّا لِعَبْدِ مِنْ عِبَادِ اللَّهِ وَهُوَ يَرْجُو أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ الْعَبْدَ وَهَذِهِ الْوَسِيلَةُ أُمِرْنَا أَنْ نَسْأَلَهَا لِلرَّسُولِ وَأَخْبَرَ أَنَّ مَنْ سَأَلَ لَهُ هَذِهِ الْوَسِيلَةَ فَقَدْ حَلَّتْ عَلَيْهِ الشَّفَاعَةُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لِأَنَّ الْجَزَاءَ مِنْ جِنْسِ الْعَمَلِ فَلَمَّا دَعَوْا لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اسْتَحَقُّوا أَنْ يَدْعُوَ هُوَ لَهُمْ فَإِنَّ الشَّفَاعَةَ نَوْعٌ مِنْ الدُّعَاءِ كَمَا قَالَ إنَّهُ مَنْ صَلَّى عَلَيْهِ مَرَّةً صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ بِهَا عَشْرًا ، وَأَمَّا التَّوَسُّلُ بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالتَّوَجُّهُ بِهِ فِي كَلَامِ الصَّحَابَةِ فَيُرِيدُونَ بِهِ التَّوَسُّلَ بِدُعَائِهِ وَشَفَاعَتِهِ .(1/161)
وَالتَّوَسُّلُ بِهِ فِي عُرْفِ كَثِيرٍ مِنْ الْمُتَأَخِّرِينَ يُرَادُ بِهِ الْإِقْسَامُ بِهِ وَالسُّؤَالُ بِهِ كَمَا يُقْسِمُونَ بِغَيْرِهِ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَمَنْ يَعْتَقِدُونَ فِيهِ الصَّلَاحَ . وَحِينَئِذٍ فَلَفْظُ التَّوَسُّلِ بِهِ يُرَادُ بِهِ مَعْنَيَانِ صَحِيحَانِ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ وَيُرَادُ بِهِ مَعْنًى ثَالِثٌ لَمْ تَرِدْ بِهِ سُنَّةٌ , فَأَمَّا الْمَعْنَيَانِ الْأَوَّلَانِ الصَّحِيحَانِ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ فَأَحَدُهُمَا هُوَ أَصْلُ الْإِيمَانِ وَالْإِسْلَامِ وَهُوَ التَّوَسُّلُ بِالْإِيمَانِ بِهِ وَبِطَاعَتِهِ . وَالثَّانِي دُعَاؤُهُ وَشَفَاعَتُهُ كَمَا تَقَدَّمَ : فَهَذَانِ جَائِزَانِ بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ وَمِنْ هَذَا قَوْلُ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ : " اللَّهُمَّ إنَّا كُنَّا إذَا أَجْدَبْنَا تَوَسَّلْنَا إلَيْك بِنَبِيِّنَا فَتَسْقِينَا وَإِنَّا نَتَوَسَّلُ إلَيْك بِعَمِّ نَبِيِّنَا فَاسْقِنَا أَيْ بِدُعَائِهِ وَشَفَاعَتِهِ وقَوْله تَعَالَى { وَابْتَغُوا إلَيْهِ الْوَسِيلَةَ } أَيْ الْقُرْبَةَ إلَيْهِ بِطَاعَتِهِ ؛ وَطَاعَةُ رَسُولِهِ طَاعَتُهُ قَالَ تَعَالَى { مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ } فَهَذَا التَّوَسُّلُ الْأَوَّلُ هُوَ أَصْلُ الدِّينِ وَهَذَا لَا يُنْكِرُهُ أَحَدٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ .(1/162)
وَأَمَّا التَّوَسُّلُ بِدُعَائِهِ وَشَفَاعَتِهِ - كَمَا قَالَ عُمَرُ - فَإِنَّهُ تَوَسَّلَ بِدُعَائِهِ لَا بِذَاتِهِ ؛ وَلِهَذَا عَدَلُوا عَنْ التَّوَسُّلِ بِهِ إلَى التَّوَسُّلِ بِعَمِّهِ الْعَبَّاسِ وَلَوْ كَانَ التَّوَسُّلُ هُوَ بِذَاتِهِ لَكَانَ هَذَا أَوْلَى مِنْ التَّوَسُّلِ بِالْعَبَّاسِ فَلَمَّا عَدَلُوا عَنْ التَّوَسُّلِ بِهِ إلَى التَّوَسُّلِ بِالْعَبَّاسِ : عُلِمَ أَنَّ مَا يُفْعَلُ فِي حَيَاتِهِ قَدْ تَعَذَّرَ بِمَوْتِهِ بِخِلَافِ التَّوَسُّلِ الَّذِي هُوَ الْإِيمَانُ بِهِ وَالطَّاعَةُ لَهُ فَإِنَّهُ مَشْرُوعٌ دَائِمًا ، فَلَفْظُ التَّوَسُّلِ يُرَادُ بِهِ ثَلَاثَةُ مَعَانٍ :- أَحَدُهَا التَّوَسُّلُ بِطَاعَتِهِ فَهَذَا فَرْضٌ لَا يَتِمُّ الْإِيمَانُ إلَّا بِهِ , وَالثَّانِي التَّوَسُّلُ بِدُعَائِهِ وَشَفَاعَتِهِ وَهَذَا كَانَ فِي حَيَاتِهِ وَيَكُونُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَتَوَسَّلُونَ بِشَفَاعَتِهِ , وَالثَّالِثُ التَّوَسُّلُ بِهِ بِمَعْنَى الْإِقْسَامِ عَلَى اللَّهِ بِذَاتِهِ وَالسُّؤَالِ بِذَاتِهِ فَهَذَا هُوَ الَّذِي لَمْ تَكُنْ الصَّحَابَةُ يَفْعَلُونَهُ فِي الِاسْتِسْقَاءِ وَنَحْوِهِ لَا فِي حَيَاتِهِ وَلَا بَعْدَ مَمَاتِهِ لَا عِنْدَ قَبْرِهِ وَلَا غَيْرِ قَبْرِهِ وَلَا يُعْرَفُ هَذَا فِي شَيْءٍ مِنْ الْأَدْعِيَةِ الْمَشْهُورَةِ بَيْنَهُمْ وَإِنَّمَا يُنْقَلُ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ فِي أَحَادِيثَ ضَعِيفَةٍ مَرْفُوعَةٍ وَمَوْقُوفَةٍ أَوْ عَمَّنْ لَيْسَ قَوْلُهُ حُجَّةً كَمَا ) وفي شأن حديث الأعرابي قال ابن تيمية رحمه الله تعالى (وَفِي التِّرْمِذِيِّ وَابْنِ ماجه عَنْ عُثْمَانَ بْنِ العتبية { أَنَّ رَجُلًا ضَرِيرًا أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : اُدْعُ اللَّهَ أَنْ يُعَافِيَنِي فَقَالَ : إنْ شِئْت دَعَوْت وَإِنْ شِئْت صَبَرْت فَهُوَ(1/163)
خَيْرٌ لَك . فَقَالَ : فادعه . فَأَمَرَهُ أَنْ يَتَوَضَّأَ فَيُحْسِنَ وُضُوءَهُ وَيَدْعُوَ بِهَذَا الدُّعَاءِ اللَّهُمَّ إنِّي أَسْأَلُك وَأَتَوَجَّهُ إلَيْك بِنَبِيِّك مُحَمَّدٍ نَبِيِّ الرَّحْمَةِ يَا رَسُولَ اللَّهِ يَا مُحَمَّدُ إنِّي تَوَجَّهْت بِك إلَى رَبِّي فِي حَاجَتِي هَذِهِ لِتُقْضَى اللَّهُمَّ فَشَفِّعْهُ فِيَّ } قَالَ التِّرْمِذِيُّ : هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ . وَرَوَاهُ النسائي عَنْ عُثْمَانَ بْنِ العتبية وَلَفْظُهُ { أَنَّ رَجُلًا أَعْمَى قَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ اُدْعُ اللَّهَ أَنْ يَكْشِفَ لِي عَنْ بَصَرِي .(1/164)
قَالَ فَانْطَلِقْ فَتَوَضَّأْ ثُمَّ صَلِّ رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ قُلْ : اللَّهُمَّ إنِّي أَسْأَلُك وَأَتَوَجَّهُ إلَيْك بِنَبِيِّك مُحَمَّدٍ نَبِيِّ الرَّحْمَةِ يَا مُحَمَّدُ إنِّي أَتَوَجَّهُ بِك إلَى رَبِّي أَنْ يَكْشِفَ عَنْ بَصَرِي اللَّهُمَّ فَشَفِّعْهُ فِيَّ قَالَ فَرَجَعَ وَقَدْ كَشَفَ اللَّهُ عَنْ بَصَرِهِ }وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي مُسْنَده : حَدَّثَنَا رَوْحٌ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ عُمَيْرِ بْنِ يَزِيدَ الليثي الْمَدِينِيِّ قَالَ : سَمِعْت عُمَارَةَ بْنَ خزيمة بْنِ ثَابِتٍ يُحَدِّثُ عَنْ عُثْمَانَ بْنِ العتبية { أَنَّ رَجُلًا ضَرِيرًا أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : يَا نَبِيَّ اللَّهِ اُدْعُ اللَّهَ أَنْ يُعَافِيَنِي فَقَالَ إنْ شِئْت أَخَّرْت ذَلِكَ فَهُوَ خَيْرٌ لِآخِرَتِك وَإِنْ شِئْت دَعَوْت لَك قَالَ : لَا بَلْ اُدْعُ اللَّهَ لِي فَأَمَرَهُ أَنْ يَتَوَضَّأَ وَأَنْ يُصَلِّيَ رَكْعَتَيْنِ وَأَنْ يَدْعُوَ بِهَذَا الدُّعَاءِ : اللَّهُمَّ إنِّي أَسْأَلُك وَأَتَوَجَّهُ إلَيْك بِنَبِيِّك مُحَمَّدٍ نَبِيِّ الرَّحْمَةِ يَا مُحَمَّدُ إنِّي أَتَوَجَّهُ بِك إلَى رَبِّي فِي حَاجَتِي هَذِهِ فَتُقْضَى اللَّهُمَّ فَشَفِّعْنِي فِيهِ وَشَفِّعْهُ فِيَّ . قَالَ فَفَعَلَ الرَّجُلُ فَبَرَأَ } .(1/165)
فَهَذَا الْحَدِيثُ فِيهِ التَّوَسُّلُ بِهِ إلَى اللَّهِ فِي الدُّعَاءِ , فَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ : هَذَا يَقْتَضِي جَوَازَ التَّوَسُّلِ بِهِ مُطْلَقًا حَيًّا وَمَيِّتًا , وَهَذَا يَحْتَجُّ بِهِ مَنْ يَتَوَسَّلُ بِذَاتِهِ بَعْدَ مَوْتِهِ وَفِي مَغِيبِهِ وَيَظُنُّ هَؤُلَاءِ أَنَّ تَوَسُّلَ الْأَعْمَى وَالصَّحَابَةِ فِي حَيَاتِهِ كَانَ بِمَعْنَى الْإِقْسَامِ بِهِ عَلَى اللَّهِ أَوْ بِمَعْنَى أَنَّهُمْ سَأَلُوا اللَّهَ بِذَاتِهِ أَنْ يَقْضِيَ حَوَائِجَهُمْ وَيَظُنُّونَ أَنَّ التَّوَسُّلَ بِهِ لَا يَحْتَاجُ إلَى أَنْ يَدْعُوَ هُوَ لَهُمْ وَلَا إلَى أَنْ يُطِيعُوهُ فَسَوَاءٌ عِنْدَ هَؤُلَاءِ دَعَا الرَّسُولُ لَهُمْ أَوْ لَمْ يَدْعُ الْجَمِيعُ عِنْدَهُمْ تَوَسَّلَ بِهِ وَسَوَاءٌ أَطَاعُوهُ أَوْ لَمْ يُطِيعُوهُ وَيَظُنُّونَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقْضِي حَاجَةَ هَذَا الَّذِي تَوَسَّلَ بِهِ بِزَعْمِهِمْ وَلَمْ يَدْعُ لَهُ الرَّسُولُ كَمَا يَقْضِي حَاجَةَ هَذَا الَّذِي تَوَسَّلَ بِدُعَائِهِ وَدَعَا لَهُ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذْ كِلَاهُمَا مُتَوَسِّلٌ بِهِ عِنْدَهُمْ وَيَظُنُّونَ أَنَّ كُلَّ مَنْ سَأَلَ اللَّهَ تَعَالَى بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَدْ تَوَسَّلَ بِهِ كَمَا تَوَسَّلَ بِهِ ذَلِكَ الْأَعْمَى وَأَنَّ مَا أُمِرَ بِهِ الْأَعْمَى مَشْرُوعٌ لَهُمْ . وَقَوْلُ هَؤُلَاءِ بَاطِلٌ شَرْعًا وَقَدْرًا فَلَا هُمْ مُوَافِقُونَ لِشَرْعِ اللَّهِ وَلَا مَا يَقُولُونَهُ مُطَابِقٌ لِخَلْقِ اللَّهِ .(1/166)
وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَقُولُونَ : هَذِهِ قَضِيَّةُ عَيْنٍ يَثْبُتُ الْحُكْمُ فِي نَظَائِرِهَا الَّتِي تُشْبِهُهَا فِي مَنَاطِ الْحُكْمِ لَا يَثْبُتُ الْحُكْمُ بِهَا فِيمَا هُوَ مُخَالِفٌ لَهَا لَا مُمَاثِلٌ لَهَا وَالْفَرْقُ ثَابِتٌ شَرْعًا وَقَدْرًا بَيْنَ مَنْ دَعَا لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبَيْنَ مَنْ لَمْ يَدْعُ لَهُ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُجْعَلَ أَحَدُهُمَا كَالْآخَرِ . وَهَذَا الْأَعْمَى شَفَعَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلِهَذَا قَالَ فِي دُعَائِهِ " اللَّهُمَّ فَشَفِّعْهُ فِيَّ " فَعُلِمَ أَنَّهُ شَفِيعٌ فِيهِ وَلَفْظُهُ { إنْ شِئْت صَبَرْت وَإِنْ شِئْت دَعَوْت لَك فَقَالَ : اُدْعُ لِي } فَهُوَ طَلَبَ مِنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَدْعُوَ لَهُ فَأَمَرَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُصَلِّيَ وَيَدْعُوَ هُوَ أَيْضًا لِنَفْسِهِ وَيَقُولَ فِي دُعَائِهِ " اللَّهُمَّ فَشَفِّعْهُ فِيَّ " فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ " أَسْأَلُك وَأَتَوَجَّهُ إلَيْك بِنَبِيِّك مُحَمَّدٍ " أَيْ بِدُعَائِهِ وَشَفَاعَتِهِ كَمَا قَالَ عُمَرُ " اللَّهُمَّ إنَّا كُنَّا إذَا أَجْدَبْنَا تَوَسَّلْنَا إلَيْك بِنَبِيِّنَا فَتَسْقِينَا " فَالْحَدِيثَانِ مَعْنَاهُمَا وَاحِدٌ فَهُوَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَّمَ رَجُلًا أَنْ يَتَوَسَّلَ بِهِ فِي حَيَاتِهِ كَمَا ذَكَرَ عُمَرُ أَنَّهُمْ كَانُوا يَتَوَسَّلُونَ بِهِ إذَا أَجْدَبُوا ثُمَّ إنَّهُمْ بَعْدَ مَوْتِهِ إنَّمَا كَانُوا يَتَوَسَّلُونَ بِغَيْرِهِ بَدَلًا عَنْهُ .(1/167)
فَلَوْ كَانَ التَّوَسُّلُ بِهِ حَيًّا وَمَيِّتًا سَوَاءً وَالْمُتَوَسِّلُ بِهِ الَّذِي دَعَا لَهُ الرَّسُولُ كَمَنْ لَمْ يَدْعُ لَهُ الرَّسُولُ لَمْ يَعْدِلُوا عَنْ التَّوَسُّلِ بِهِ - وَهُوَ أَفْضَلُ الْخَلْقِ وَأَكْرَمُهُمْ عَلَى رَبِّهِ وَأَقْرَبُهُمْ إلَيْهِ وَسِيلَةً - إلَى أَنْ يَتَوَسَّلُوا بِغَيْرِهِ مِمَّنْ لَيْسَ مِثْلَهُ . وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ أَعْمَى تَوَسَّلَ بِهِ وَلَمْ يَدْعُ لَهُ الرَّسُولُ بِمَنْزِلَةِ ذَلِكَ الْأَعْمَى لَكَانَ عُمْيَانُ الصَّحَابَةِ أَوْ بَعْضِهِمْ يَفْعَلُونَ مِثْلَ مَا فَعَلَ الْأَعْمَى فَعُدُولُهُمْ عَنْ هَذَا إلَى هَذَا - مَعَ أَنَّهُمْ السَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ الْمُهَاجِرُونَ وَالْأَنْصَارُ وَاَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانِ فَإِنَّهُمْ أَعْلَمُ مِنَّا بِاَللَّهِ وَرَسُولِهِ وَبِحُقُوقِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمَا يَشْرَعُ مِنْ الدُّعَاءِ وَيَنْفَعُ وَمَا لَمْ يَشْرَعْ وَلَا يَنْفَعْ وَمَا يَكُونُ أَنْفَعَ مِنْ غَيْرِهِ وَهُمْ فِي وَقْتِ ضَرُورَةٍ وَمَخْمَصَةٍ وَجَدْبٍ يَطْلُبُونَ تَفْرِيجَ الْكُرُبَاتِ وَتَيْسِيرَ الْعَسِيرِ وَإِنْزَالَ الْغَيْثِ بِكُلِّ طَرِيقٍ مُمْكِنٍ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْمَشْرُوعَ مَا سَلَكُوهُ دُونَ مَا تَرَكُوهُ , وَلِهَذَا ذَكَرَ الْفُقَهَاءُ فِي كُتُبِهِمْ فِي الِاسْتِسْقَاءِ مَا فَعَلُوهُ دُونَ مَا تَرَكُوهُ وَذَلِكَ أَنَّ التَّوَسُّلَ بِهِ حَيًّا هُوَ الطَّلَبُ لِدُعَائِهِ وَشَفَاعَتِهِ وَهُوَ مِنْ جِنْسِ مَسْأَلَتِهِ أَنْ يَدْعُوَ لَهُمْ وَهَذَا مَشْرُوعٌ ؛ فَمَا زَالَ الْمُسْلِمُونَ يَسْأَلُونَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَيَاتِهِ أَنْ يَدْعُوَ لَهُمْ .(1/168)
وَأَمَّا بَعْدَ مَوْتِهِ فَلَمْ يَكُنْ الصَّحَابَةُ يَطْلُبُونَ مِنْهُ الدُّعَاءَ لَا عِنْدَ قَبْرِهِ وَلَا عِنْدَ غَيْرِ قَبْرِهِ كَمَا يَفْعَلُهُ كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ عِنْدَ قُبُورِ الصَّالِحِينَ ؛ يَسْأَلُ أَحَدُهُمْ الْمَيِّتَ حَاجَتَهُ أَوْ يُقْسِمَ عَلَى اللَّهِ بِهِ وَنَحْوَ ذَلِكَ ) فهذه المسألة مهمة جدا ، لابد من فهمها ، وأما الثانية :- فاعلم أن التوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم عند أهل السنة يراد به أحد أمور :- يراد به التوسل إلى الله تعالى بطاعته فيما أمر واجتناب ما نهى عنه وزجر ، وأن لا يعبد الله تعالى إلا بما شرع ، فهذا هو أصل الدين وأساس الملة ، وقاعدة الشرع التي بعث بها صلى الله عليه وسلم ، وهذا من الفروض في حياته وبعد مماته ويراد به التوسل إلى الله تعالى بطلب الدعاء منه ، وهذا جائز باتفاق أهل السنة ، ولكنه لا يجوز إلا في حياته فقط ، وأما بعد مماته ، فلا يجوز باتفاق أهل العلم رحمهم الله تعالى ، ويراد به التوسل إلى الله تعالى بذاته ، وهذا من التوسل البدعي باتفاق أهل السنة والجماعة ، ولا عبرة بمخالفة أهل البدع ويراد به التوسل إلى الله تعالى بجاهه ، فهذا من التوسل البدعي كذلك عند عامة أهل السنة ، فبان لك بذلك ، أن التوسل إلى الله تعالى بالنبي صلى الله عليه وسلم له حالتان مشروعتان ، إحداهما مشروعة على وجه الإطلاق ، والأخرى مشروعة في حياته فقط ، وحالتان ممنوعتان ومنعهما على وجه الإطلاق ، في حياته وبعد مماته ، والمقصود أن منزلة النبي صلى الله عليه وسلم لا تستلزم الوقوع في المخالفات التي لا دليل عليها ، لأن هذه المخالفات بنيت على غير فهم السلف ، والمتقرر أن كل فهم يخالف فهم سلف الأمة في مسائل العقيدة والعمل فهو باطل ، والله يتولانا وإياك .(1/169)
الفرع الثامن عشر:- اتفق المسلمون على وجوب الإيمان بالملائكة ، والجن ، وأنهما صنفان من أصناف ما خلقه الله تعالى ، واتفقوا على أن الإيمان بهم يتضمن الإيمان بوجودهم ، وأنهم أجسام وأن لهم أسماء وصفات وأعمال ، واتفقوا على أن الجن مكلفون ، فالأدلة الواردة في شأن الملائكة فهم سلف الأمة منها أنهم أجسام وأن وجودهم حقيقي ، وكذلك الأدلة الواردة في شأن الجن وفهم سلف الأمة هو الحق في هذا الباب ، وفي كل باب، وأما الفلاسفة ومن نحا نحوهم ، فإنهم لا يؤمنون بوجود الملائكة ولا الجن ، بل يفهمون مما ورد فيهم أن الملائكة عبارة عن قوى الخير فقط ولا أجسام لهم ، ولا حقيقة لهم إلا ذلك ، وأن الجن لا وجود لهم وليسوا هم بأجسام ، وإنما هم عبارة عن قوى الشر فقط ، وهذا فهم أخرق عاطل باطل ، لأنه مخالف للأدلة المتواترات من الكتاب والسنة ومخالف لإجماع المسلمين ، ومخالف لفهم سلف الأمة ، والمتقرر أن كل فهم يخالف فهم سلف الأمة في مسائل العقيدة والعمل فإنه باطل ، والله يتولانا وإياك للهدى .(1/170)
الفرع التاسع عشر:- أجمع أهل السنة والجماعة رحمهم الله تعالى على أن ما ورد به الدليل مما سيكون في اليوم الآخر أنه حق على حقيقته ، وأنه لا يجوز إخراج شيء منه عن مدلوله الصحيح فسؤال القبر ونعيمه وعذابه حق ثابت ، نعلم معناه ونكل العلم بكيفيته إلى الله تعالى ، والبعث والجزاء والميزان والصراط وتناثر صحف الأعمال والقنطرة والمقاصة ، كل ذلك حق على حقيقته نعلم معناه ونكل العلم بكيفيته إلى الله تعالى ، واتفق السلف على كل ذلك ، واتفقوا على أن الجنة والنار موجودتان الآن ، لا تفنيان أبدا ولا تبيدان ، وأن الله تعالى يخلق للجنة أهلا ليسوا من أهل الدنيا فيدخلهم فيما بقي منها ، وأنه يضع رجله على النار فينزوي بعضها إلى بعض فتقول :- قط قط ، وكل ذلك على الحق ، نؤمن به ، ولا ندخل في هذا الباب متأولين بآرائنا ولا متوهمين بأهوائنا ، ونؤمن أن معناه معلوم على حسب وضع اللسان العربي ، وأما حقيقته التي هو عليها في الواقع فلا يعلم بها إلا الله تعالى ، هذا هو فهم سلف الأمة وأئمتها ، فيما ورد به الدليل في اليوم الآخر ، يؤمنون به ، مع العلم بالمعنى والجهل بالكيف ، وأما من زاغ وحاد عن سبيلهم فقد ضلوا في هذا الباب أيما ضلال ، فمنهم المكذب الجاحد ، ومنهم المعطل الناقد ، ومنهم المحرف ، فمن قائل :- لا حقيقة لعذاب القبر ولا لنعيمه ، ومن قائل :- لا حقيقة للبعث والجزاء ، ومن قائل :- لا حقيقة للصراط والميزان ، وإنما هو كناي عن العدل فقط ، ومن قائل :- وما الفائدة من وجود الجنة والنار الآن ، ومن قائل بأن النار تعدم وتفنى ، أو أن حركات أهل الجنة والنار هي التي تفنى أو أنهم غير موجودتان الآن ولن يوجدا إلا يوم القيامة ، ومن قائل :- أن هذا كله خرافة لا وجود له ولا حقيقة له وإنما يراد به ضبط أمور العامة واستقامة عيشهم بالتخييل عليهم ، ومن قائل :- نؤمن به ولكننا لا نعلم حتى معناه ، وغير ذلك من الأقوال التي عورض بها كتاب(1/171)
الله تعالى وما صح من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وخولف بها فهم السلف ، ونقض بها إجماع أهل السنة ، وكذب فيها بالحق ، ونعوذ بالله من حالهم وأقوالهم ، وكل ما قالوه في هذا الباب باطل باطل ، باطل ، لأنه بني على غير الدليل ، وما بني على غير الدليل فهو باطل ، فكيف وقد بنيت كثير من مذاهبهم أصلا على مناقضة الدليل ؟ ولأنها مذاهب وأقوال بنيت خولف بها فهم سلف الأمة ، والمتقرر أن كل فهم يخالف فهم سلف الأمة في مسائل العقيدة والعمل فهم باطل ، فانظر بارك الله فيك إلى عظمة هذه القاعدة الطيبة ، جعلنا الله وإياك ممن استمسك بغرزها ومات على الإيمان بها ، والله يتولانا وإياك .(1/172)
الفرع العشرون:- انعقد إجماع سلف الأمة رحمهم الله تعالى على أن مرتكب الكبيرة في الدنيا لا يكفر الكفر المخرج عن الملة ، ولا يكون معه كمال الإيمان ، بل هو مؤمن وفاسق ، فهو مؤمن بما بقي معه من الإيمان ، وفاسق بما ارتكبه من الذنوب والعصيان ، وأهل السنة نظروا في تقرير قولهم هذا إلى الأدلة كلها ، إلى الأدلة الواردة في المسألة كلها ، وأن كل ذنب عدا الشرك وصف عذابه بالخلود ، فإنه في حق مرتكب الكبيرة لا يراد به الخلود الأبدي المطلق في النار ، وإنما يراد به مطلق الخلود ، لأن أهل السنة متفقون على أن مرتكب الكبيرة في الآخرة تحت المشيئة ، فإن شاء الله تعالى غفر له كبيرته وأدخله الجنة ابتداء ، وإن شاء عذبه في النار بقدر كبيرته ، ثم يخرجه منها فيدخله الجنة انتقالا ، فأهل السنة عندهم في مرتكب الكبيرة مذهبان :- أما في الدنيا ، فهو مؤمن ، ولكنه ناقص الإيمان ، وهذا النقص يتفاوت بتفاوت عظم الجرم ، وأما في الآخرة ، فإنه إن مات مصرا على كبيرته ، فإنه تحت المشيئة كما ذكرته لك ، ولم يخالف في ذلك أحد من أهل السنة والجماعة ولا أحد من سلف الأمة وأئمتها، قال أبو العباس رحمه الله تعالى (وَمِنْ أُصُولِ أَهْلِ السُّنَّةِ : أَنَّ الدِّينَ وَالْإِيمَانَ قَوْلٌ وَعَمَلٌ قَوْلُ الْقَلْبِ وَاللِّسَانِ ، وَعَمَلُ الْقَلْبِ وَاللِّسَانِ وَالْجَوَارِحِ وَأَنَّ الْإِيمَانَ يَزِيدُ بِالطَّاعَةِ وَيَنْقُصُ بِالْمَعْصِيَةِ , وَهُمْ مَعَ ذَلِكَ لَا يُكَفِّرُونَ أَهْلَ الْقِبْلَةِ بِمُطْلَقِ الْمَعَاصِي وَالْكَبَائِرِ كَمَا يَفْعَلُهُ الْخَوَارِجُ ؛ بَلْ الْأُخُوَّةُ الْإِيمَانِيَّةُ ثَابِتَةٌ مَعَ الْمَعَاصِي كَمَا قَالَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فِي آيَةِ الْقِصَاصِ { فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ } وَقَالَ { وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا(1/173)
بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ , إنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ } وَلَا يَسْلُبُونَ الْفَاسِقَ الملي اسْمَ الْإِيمَانِ بِالْكُلِّيَّةِ وَلَا يُخَلِّدُونَهُ فِي النَّارِ كَمَا تَقُولُهُ الْمُعْتَزِلَةُ بَلْ الْفَاسِقُ يَدْخُلُ فِي اسْمِ الْإِيمَانِ فِي مِثْلِ قَوْله تَعَالَى { فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ } وَقَدْ لَا يَدْخُلُ فِي اسْمِ الْإِيمَانِ الْمُطْلَقِ كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى { إنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إيمَانًا } وَقَوْلُهُ { لَا يَزْنِي الزَّانِي حِينَ يَزْنِي وَهُوَ مُؤْمِنٌ وَلَا يَسْرِقُ السَّارِقُ حِينَ يَسْرِقُ وَهُوَ مُؤْمِنٌ وَلَا يَشْرَبُ الْخَمْرَ حِينَ يَشْرَبُهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ وَلَا يَنْتَهِبُ نُهْبَةً ذَاتَ شَرَفٍ يَرْفَعُ النَّاسُ إلَيْهِ فِيهَا أَبْصَارَهُمْ حِينَ يَنْتَهِبُهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ } وَيَقُولُونَ : هُوَ مُؤْمِنٌ نَاقِصُ الْإِيمَانِ أَوْ مُؤْمِنٌ بِإِيمَانِهِ فَاسِقٌ بِكَبِيرَتِهِ ؛ فَلَا يُعْطَى الِاسْمَ الْمُطْلَقَ وَلَا يُسْلَبُ مُطْلَقَ الِاسْمِ ) وعليه :- فما يفهمه الخوارج من آيات الوعيد في حق بعض الذنوب ، من أنها توجب خروج مرتكبها من مطلق الإيمان بحيث يكون كافرا ، هذا فهم باطل ، لأنه فهم مخالف لفهم السلف ، والمتقرر أن كل فهم يخالف فهم السلف في مسائل العقيدة والعمل فإنه باطل ، كما فهموا ذلك من قوله تعالى { وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُّتَعَمِّدًا فَجَزَآؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللّهُ عَلَيْهِ(1/174)
وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا } ففهموا من هذه الآية أنها توجب لمن قتل النفس المعصومة عدوانا أنه كافر خارج عن الملة ، وهذا فهم مخالف لفهم السلف ، لأنها أولا:- من آيات الوعيد التي لابد تصان عن التأويل الذي يخرجها عن قوة الزاجر فيها ، وثانيا :- لابد مع القول بذلك أن يراعى أنها لا يراد بها الخلود الأبدي المطلق في النار كخلود الكفار ، إلا في حق من استحل ذلك ، ولو أن الوعيدية لم يستدلوا بها على قولهم الباطل لم نتكلف قول ذلك ، لكن لابد أن يفهم الكتاب والسنة على فهم السلف ، فالسلف لا يفهمون من هذه الآية أنها توجب الخلود المطلق الأبدي الذي لا يعقبه خروج البتة ، لأنهم مجمعون على أن مرتكب الكبيرة لا يكفر الكفر الناقل عن الملة ، فلابد من فهم آيات الوعيد الواردة في الوحيين على مقتضى فهم السلف ، وإلا لكثر القول على الله بلا علم ، وحرمته في الشرع لا تخفي عليك ومثلها قوله تعالى { فَمَا تَنفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ } مع أن أهل السنة متفقون على أن هذا في الكفار الذين ليس معهم أصل الإسلام ، لأنه قال قبل ذلك عن الكفار في سقر { وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ } ثم قال { فَمَا تَنفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ } والضمير يعود إلى أقرب مذكور ، والتكذيب بيوم الدين يوجب الكفر ، فالشفاعة المنفية إنما هي في حق الكفار ، وأما أهل الكبائر فالشفاعة فيهم مثبتة ، بل الأحاديث في شأنها متواترة ، ولا ينكرها إلا مكابر ومعاند ، فما فهمه الوعيدية من هذه الآية الكريمة لا يصح ، لأنه فهم مخالف لفهم السلف ، والمتقرر أن كل فهم يخالف فهم السلف في مسائل العقيدة والعمل فإنه باطل ، ومثلها قوله تعالى { وَلاَ تَقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ عُدْوَانًا وَظُلْمًا فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَارًا وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللّهِ يَسِيرًا } مع قوله صلى الله عليه(1/175)
وسلم { من قتل نفسه بحديدة، فحديدته في يده يجأ بها في بطنه في نار جهنم خالدا مخلدا فيها أبدا ... الحديث } ففهم الوعيدية من الخوارج والمعتزلة أن هذه النصوص وأمثالها تفيد أن مرتكب الكبيرة كافر ، وأنه خالد في النار الخلود الأبدي الذي لا خروج منه ، وهذا فهم مخالف لفهم السلف ، لأن قتل النفس كبيرة من كبائر الآثام ، ففاعله من أهل الكبائر ، ما لم يعتقد أنه حلال وقد اتفق السلف على أن مرتكب الكبيرة في الآخرة تحت المشيئة ، وهذا الوعيد الوارد في حقه حق على حقيقته ، إلا أنه لابد أن يقرن بفهم السلف في هذا الباب ، ولا يؤخذ بمعزل عنه ، وهل كثر القول على الله تعالى بلا علم إلا لما فهم الكتاب والسنة على غير فهم سلف الأمة ، وهل حصل ما حصل من الفتن والملاحم بين الخوارج والصحابة إلا بسبب هذه الأفهام المغلوطة التي عورض بها فهم سلف الأمة ، فيعمد الوعيدية إلى آيات هي أصلا في حق الكفار ، وينزلونها على المسلمين من أهل الكبائر ، ثم يفعلون الأفاعيل التي لا تزال الأمة تعاني من ويلاتها ، ومثل ذلك قوله صلى الله عليه وسلم { لا يزني الزاني وهو مؤمن ولا يسرق السارق وهو مؤمن ...(1/176)
الحديث } فالوعيدية فهموا من هذا النص وما ورد في شأن نفي الإيمان عن مرتكب بعض الأفعال ، فهموا أنه نفي لمطلق الإيمان ، أي أنه لا يبقى معه من الإيمان شيء ، وهذا فهم باطل ، لأنه مخالف لفهم السلف, والمتقرر أن كل فهم يخالف فهم سلف الأمة في مسائل العقيدة والعمل فهو باطل ، لأن السلف بالاتفاق فهموا أحد أمرين :الأول :- أنه حال مقارفته لهذه الأفعال يخرج منه الإيمان فيكون فوق رأسه كالظلة ، فإذا نزع عنها عاد إليه الإيمان ، وهو تفسير مروي عن بعض الصحابة والتابعين ، الثاني:- أنه لا يكون مؤمنا كامل الإيمان ولا يكون معه نور الإيمان ، وكلا التفسيرين صحيح ، ولكن بالاتفاق لا يراد من مثل هذه النصوص نفي أصل الإيمان بحيث يكون من ارتكبها كافرا الكفر الأكبر كما يفهمه الوعيدية ، هذا غير مراد بلا شك ، فالحق الحقيق بالقبول هو أن المنفي هنا هو كمال الإيمان الواجب لا أن المنفي أصل الإيمان ، وبالجملة فالقاعدة عندنا :- أن كل نص من نصوص الوعيد ورد في شأن تخليد فاعل الكبيرة فإنه لا يراد به الخلود الأبدي المطلق كخلود الكفار وإنما يراد به الخلود بمعنى المكث الطويل ، ويختلف هذا الخلود باختلاف عظم الجرم ، وبه تعلم أن ما يفهمه الوعيدية من نصوص الوعيد أنه مخالف لما يفهمه أهل السنة منها ، ففهم الوعيدية باطل وفهم السلف هو الحق ، وماذا بعد الحق إلا الضلال ، ومثل هذا الفهم الفاسد فهم الطائفة الأخرى والذين يسميهم أهل السنة بالمرجئة، فإن لهم فهما فاسدا في نصوص الوعد ، وهذا الفهم الفاسد أدى بهم إلى لقول بأنه لا تضر مع الإيمان معصبة ، غير الشرك ، وأن إيمان أفسق الناس كإيمان أبي بكر وعمر ، كما فهموا من قوله عليه الصلاة والسلام { من مات وهو يعلم أن لا إله إلا الله دخل الجنة } ومن قوله { ما من عبد قال لا إله إلا الله ثم مات على ذلك إلا دخل الجنة } قال أبو ذر:- وإن زنى وإن سرق ؟ قال { وإن زنى وإن سرق } قال: وإن زنى وإن سرق ؟(1/177)
قال { وإن زنى وإن سرق } - ثلاثا - متفق عليه ، وقال { ما من عبد يشهد إلا إله إلا الله ، وأن محمدا رسول الله إلا حرمه الله على النار } ونحو هذه النصوص التي فيها بيان فضل كلمة التوحيد وكقوله فيما يرويه عن ربه عز وجل { يا ابن آدم ، لو أتيتني بقراب الأرض خطايا ، ثم لقيتني لا تشرك بي شيئا، لأتيتك بقرابها مغفرة } فالمرجئة يفهمون من هذه النصوص أن من مات على هذه الكلمة فإنه لا يضره ما فعله من الذنوب وما ارتكبه من الموبقات غير الشرك ، وهذا فهم باطل لأنه مخالف لدلالة الكتاب والسنة ، ومخالف لفهم سلف الأمة وأئمتها ، فإن السلف رحمهم الله تعالى ما كانوا يفهمون من هذه النصوص ما يفهمه المرجئة ، بل السلف رحمهم الله تعالى يفهمون من هذه النصوص أحد أمرين كلاهما صحيح ، وهما: الأول :- أن هذا من قبيل بناء المطلق على المقيد ، فإن بعض الأحاديث لفضل هذه الكلمة قد وردت مطلقة ، وبعضها قد وردت مقيدة, وقد تقرر في الأصول أن المطلق يبنى على المقيد إن اتفقا في الحكم والسبب ، فالمرجئة إنما نظروا إلى الإطلاق وأهملوا التقييد ، وأما أهل السنة والجماعة فإنهم نظروا إلى الأمرين جميعا ، فقيدوا المطلق بالقيود الواردة ، فمن القيود قيد الإخلاص والصدق والمحبة والقبول والانقياد ، والكفر بالطاغوت والعلم بمعناها واليقين بمدلولها ، وكل ذلك قد وردت به الأدلة الصحيحة الصريحة ، الثاني :- أن الأدلة إنما أثبتت أن من قال هذه الكلمة ومات عليها فإنه سيدخل الجنة ، وأهل السنة يقولون ذلك ولكن الأحاديث ليس فيها أنه يدخل الجنة ابتداء أو انتقالا ، ولا ينبغي تحميل الأحاديث ما لا تحتمل ، ودخول الجنة قسمان ، دخول ابتدائي ، ودخول انتقالي ، فالابتدائي أن تكون الجنة أول منازله ، وذلك فيما لو غفر الله تعالى جرمه ، والانتقالي هو أن يدخل النار أولا، فيما لو لم يفغر الله تعالى له ، ثم يخرجه إلى الجنة بعد ذلك ، على ما جاءت به الأدلة ، وأجمع عليه(1/178)
أهل السنة ، فالأدلة فيها متواترة ، وعلى كل حال ، فالمرجئة يفهمون من هذه الأدلة فهما مخالفا لفهم سلف الأمة وأئمتها ، والمسألة عقدية ، والمتقرر أن كل فهم يخالف فهم سلف الأمة في مسائل الاعتقاد فهو باطل ، فاحفظ هذه القاعدة الطيبة ، فإنها من أعظم وأوسع قواعد الاعتقاد ، والله يتولانا وإياك .
الفرع الحادي والعشرون:- اتفق سلف الأمة وأئمتها على أن حقيقة الإيمان مركبة من اعتقاد القلب وقول اللسان وعمل الجوارح ، واستدلوا على كل واحدة منها بأدلة كثيرة ، وقد ذكرت هذه الأدلة في كتابي ( إتحاف أهل الألباب بمعرفة التوحيد والعقيدة في سؤال وجواب ) وأما أهل البدع فقد بنوا مذهبهم في هذه المسألة على مخالفة فهم سلف الأمة ، فمنهم من قال :- الإيمان اعتقاد فقط ، ومنهم من قال :- بل الإيمان اعتقاد وعمل فقط ، وليس العمل من الإيمان ومنهم من قال :- بل الإيمان قول فقط ، ولا شأن للعمل ولا للاعتقاد فيه ، ومنهم من قال :- بل الإيمان مطلق المعرفة ، وكلها أقوال باطلة ، لأنها بنيت على غير فهم الأمة ، والمتقرر أن كل فهم يخالف فهم سلف الأمة في مسائل العقيدة والعمل فهو باطل ، وأحب أن أزيدك إيضاحا في هذه المسألة فأقول :- أريدك أيها الأخ المبارك أن تحفظ هذه القواعد في باب الإيمان ، فإنها زبدة ما قرره أهل السنة فيه ، وهي كما يلي :-
القاعدة الأولى :- الإيمان اعتقاد بالقلب ، وقول باللسان ، وعمل بالجوارح والأركان ، وكل هذه الأشياء هي من حقيقة الإيمان وموضوعه الشرعي ، فهي داخلة في ماهية الإيمان ، وليس العمل ركنا تكميليا ، بل هو من تركيبة الإيمان ، فلا تتم حقيقة الإيمان إلا بالعمل ، فانتبه لهذا .
القاعدة الثانية :- الإيمان يزيد وينقص ، فيزيد إن تحقق مقتضى زيادته ، وينقص إن فعل العبد ما يقتضي نقصانه، وهذا متفق عليه بين سلف الأمة وأئمتها ، وعليه وردت الأدلة من الكتاب والسنة كما ذكرته في موضع آخر ،(1/179)
القاعدة الثالثة :- جنس الأعمال ركن في الإيمان لا آحادها إلا بدليل ، وهي قاعدة مهمة جدا لأنها تفصل بين مذهب السلف ومذهب الوعيدية من المعتزلة والخوارج ، لأن الوعيدية عندهم أن الأعمال ركن في الإيمان ، إلا أنهم يعتقدون أن آحاد العمل ركن في الإيمان ، ونحن نقول :- إن الركن هو الجنس لا آحاد العمل إلا بدليل ، ونبين لك ذلك بمثال ، فأقول :- لو أن زيدا من الناس أسلم ، وشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله ، ولكنه اكتفى بذلك ، فلم يصل ولم يصم ولم يزك ولم يحج ولم يعتمر ولم يعف لحيته ولم يقصر ثوبه ، ولم ، ولم ، ولم ...(1/180)
أي ليس عنده جنس العمل ، فهذا في الحقيقة كافر ، لأنه لم يحقق ركن صحة الإيمان ، فالمتخلف عنده الآن جنس الأعمال ، وجنس الأعمال ركن في الإيمان ، ومثال آخر :- لو أن هذا الرجل السابق ، بعد الشهادة ، فعل كل الواجبات الشرعية المطلوبة منه إلا أنه أسبل ثيابه ، فهنا لا يكفر ، لكنه يكون مرتكبا لكبيرة من كبائر الذنوب ، يجب عليه التوبة منها ، لكنه لا يكفر بمجرد ترك واحد من آحاد الأعمال الواجبة ، فهذا هو ما نعنيه بقولنا (جنس العمل هو الركن في صحة الإيمان لا آحاد العمل) فإن قلت :- ولماذا قلت :- ( إلا بدليل ) ؟ فأقول :- نعم ، ذلك لأنه إن دل الدليل الشرعي الصحيح الصريح على أن ترك عين هذا العمل ناقض من نواقض الإيمان فإننا نقول به ، ونجعل تركه بعينه من نواقض الإيمان ، ونجعله وخصوصا بهذا الحكم دون غيره من آحاد الأعمال ، لأنه قد ورد الدليل بأن من تركه فقد كفر ، فالأصل عند أهل السنة أن ترك آحاد الأعمال الواجبة لا يوجب كفرا ، إلا ما دل الدليل على أن تركه يعتبر كفرا ، وذلك كالصلاة مثلا - على قول - فإن الدليل قد دل على أن من تركها فقد كفر ، كما في حديث جابر مرفوعا " بين الرجل وبين الكفر ترك الصلاة " وحديث بريدة مرفوعا " العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة فمن تركها فقد كفر " وقال عبدالله بن شقيق العقيلي :- كان أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم لا يرون شيئا من الأعمال تركه كفر إلا الصلاة ، رواه الترمذي ، فمن ترك الصلاة فقد شهد الدليل الخاص بأنه يكفر, فالمهم أن أهل السنة يرون أن الركن في الإيمان هو جنس الأعمال لا آحادها ، إلا بدليل شرعي صحيح صريح ، وأما المعتزلة والخوارج فإنهم يرون أن هذا العمل الواجب بعينه ركن في صحة الإيمان فمثلا :- لو أن زيدا من الناس نطق بالشهادتين ، وفعل كل ما أوجبه الله تعالى عليه ، إلا أنه خالف في عمل واحد ، ووقع في السرقة ، فيكون بذلك قد خالف في واحد من آحاد الأعمال فحكمه عند الوعيدية(1/181)
كافر ، أو في منزلة بين المنزلتين كما عند المعتزلة ، وإن مات عليها فهو خالد مخلد في النار أبدا ، لأن هذا الرجل خالف ركن الإيمان عندهم ، فهم ينظرون إلى ركنية العمل باعتبار آحاده ، والسلف رحمهم الله تعالى ينظرون إلى ركنية العمل باعتبار جنسه ، وهذا واضح .
القاعدة الرابعة :- آحاد الأعمال الواجبة شرط في كمال الإيمان الواجب ، وآحاد الأعمال المندوبة شرط في كماله المندوب ، وذلك أن للإيمان أصل ، وكمال واجب ، وكمال مستحب ، فالشرط في تحقيق أصله ، وجود جنس العمل ، كما ذكرته سابقا ، وأما كماله الأول وهو كماله الواجب فإنه لا يتحقق إلا بالقيام بكل الواجبات الشرعية ، والانتهاء عن كل المحرمات الشرعية ، وعليه :- فمن وقع في ترك واجب أو فعل محظور فإن إيمانه الواجب يهتز، واهتزاز الإيمان الواجب لا يعني أنه خرج من الملة بالكلية كما يقوله الوعيدية ، ولكنه على خطر عظيم ، ويعتبر من أصحاب الكبائر وأما كمال الثاني ، وهو الكمال المستحب ، فإنه لا يتحقق إلا بفعل المندوبات وترك المكروهات وعلى هذا قوله تعالى { ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ وَمِنْهُم مُّقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ } فالظالم لنفسه هو التارك للواجب والفاعل للمحرم ، والمقتصد هو من اقتصر على فعل الواجبات فقط ، ولم يزد عليها المندوبات وعلى ترك المحرمات فقط ، ولم يزد عليها ترك المكروهات ، والسابق بالخيرات هو من فعل الواجبات ، وتممها بفعل المندوبات ، وترك المحرمات ، وتممها بترك المكروهات ، والشريعة فيها فعل الواجب وترك المحرم ، فلا يتحقق الإيمان الواجب إلا بذلك ، وفيها فعل المندوب وترك المكروه فلا يتحقق كمال الإيمان إلا بذلك ، فآحاد الأعمال الواجبة شرط في كمال الإيمان الواجب ، وآحاد الأعمال المندوبة شرط في كمال(1/182)
الإيمان المستحب .
القاعدة الخامسة :- الأفعال التي نفي الإيمان عن فاعلها أو نفي الإيمان عن تاركها شرط في كمال الإيمان الواجب فعلا في المأمور وتركا في المحظور ، فكل ما نفى الشارع الإيمان عن فاعله فهو دليل على حرمته ، فيكون تركه شرط في كمال الإيمان الواجب ، وكل ما نفى الشارع الإيمان عن تاركه فهو دليل على وجوبه ، فيكون فعله من كمال الإيمان الواجب ، وعلى ذلك أمثلة: منها :-قوله صلى الله عليه وسلم "لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولده ووالده والناس أجمعين" فهذا فعل نفي الإيمان عن تاركه ، أي أن من ترك ذلك وقدم محبة الأولاد والنفس وغيرها على محبة النبي صلى الله عليه وسلم فإنه لم يحقق كمال الإيمان الواجب ، لأنه فعل نفي الإيمان عن تاركه وكل فعل نفي الإيمان عن تاركه فلوجوبه ، وفعل الواجب شرط في كمال الإيمان الواجب ، ومنها:- قوله صلى الله عليه وسلم " والله لا يؤمن " ثلاثا " قالوا :- من يا رسول الله ؟ قال " من لا يأمن جاره بوائقه " فمن لا يأمن جاره بوائقه فإنه لم يحقق الإيمان الواجب الذي لا تكون النجاة يوم القيامة إلا به ، ومنها :- قوله صلى الله عليه وسلم " لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن ، ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن ، ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن ، ولا ينتهب نهبة ذات شرف ، يرفع الناس إليه أعينهم فيها ، وهو حين ينتهبها مؤمن ، ولا يغل حين يغل وهو مؤمن" فهذه أفعال نفي الإيمان عن فاعلها ، وهذا دليل على أنها محرمة ، وأن فاعلها قد قدح في إيمانه الواجب ، لأنه ارتكب حراما ، وارتكاب الحرام مؤثر في نقص الكمال الواجب ، ومنها :- قوله صلى الله عليه وسلم " لا إيمان لمن لا أمانة له " فهذا فعل نفى الشارع الإيمان عن تاركه, وهذا دليل على وجوبه ، وأن من لا أمانة له فقد نقص إيمانه الواجب ، والذي هو شرط في النجاة يوم القيامة ، وقد استوفينا طرفا كبيرا منها في شرحنا على كتاب التوحيد ، والمهم(1/183)
أن من المؤثرات في نقص الإيمان الواجب فعل ما نفى الشارع الإيمان عن فاعله ، أو ترك ما نفى الشارع الإيمان عن تاركه .
القاعدة السادسة :- الأعمال التي هي ركن في الإيمان هي أعمال الجوارح لا أعمال القلوب فقط وذلك أن المرجئة لما رأوا أن للعمل أهميته الكبرى في منهج أهل السنة في تقرير مسائل الإيمان وعقيدتهم فيه ، قالوا :- فلنخادعهم بأن نقول :- إننا نتفق معكم بأن الأعمال ركن في الإيمان فلما قالوه ، انخدع بعض أهل السنة بقولهم ، مع أنهم لا يريدون بالأعمال هنا أعمال الجوارح ، بل يريدون بها أعمال القلوب ، من التوكل والخوف والرجاء والإنابة والرغبة والرهبة ، ونحو هذه الأعمال القلبية ، ونحن نتفق أنها من حقيقة الإيمان ، ولكنها ليست هي المقصودة عند أهل السنة بقولهم (الأعمال ركن في الإيمان ) لأن أهل السنة من سلف هذه الأمة ، إنما يريدون بذلك أعمال الجوارح لا مجرد أعمال القلوب ، فهم يعنون أعمال الجوارح من الصلاة والصوم والحج والعمرة وإعفاء اللحية وتقصير الثياب ، والصدق في الحديث وترك الشرك وقتل النفس التي حرم الله تعالى إلا بالحق , وبالجملة فيعنون به فعل الواجبات وترك المحرمات ، وأما المرجئة فإنهم يقصرون مسألة العمل على أعمال القلوب فقط ، وهذا مخالف للقرآن والسنة ولما أجمع عليه سلف الأمة ، فانتبه لهذا ، جعلت فداك ، لا يخدعوك كما استزلوا بعض من كان يقرر مسائل الإيمان على ضوء فهم السلف ، فإذا هو يقلب ظهر المجن ، وينتكس على عقبيه ، وينكث غزله من بعد قوته أنكاثا, ويقرر أن الأعمال المشروطة في الإيمان إنما هي أعمال القلوب لا أعمال الجوارح ، فانتبه رحمك الله واحذر من الزلة في هذه المسألة ، واسلك جادة السلف ، وتمسك بغرزهم تنجو وتفلح وتفوز بخيري الدنيا والآخر, والمقصود من كل هذا :- هو أن تعلم أن أهل البدع قرروا مسائل الإيمان وأصلوا قواعده على غير هدى من الله وبرهان ، وعلى فهم مخالف لفهم سلف الأمة ،(1/184)
والمتقرر أن كل فهم يخالف فهم سلف الأمة في مسائل العقيدة والعمل فإنه باطل ، والله يتولانا وإياك .
الفرع الثاني والعشرون:- أجمع سلف الأمة وأئمتها رحمهم الله تعالى على أن أفعال العباد مخلوقة لله تعالى ، وأجمعوا على أنها مع ذلك من كسب العبد وتحصيله ، ففعل العبد ينسب إلى الله تعالى خلقا وتقديرا وإيجادا ، وينسب للعبد تحصيلا واكتسابا ، وأجمعوا على أن العبد له قدرة واختيار, وأجمعوا على بطلان قول من قال :- إن مجبور على فعله ، ولا حول له ولا قوة في اختيار شيء ، بل مدفوع إلى فعله دفعا ، فهو بمنزلة المغسول بين يدي غاسله ، والميت بين يدي مقلبه ، لا يملك شيئا من القدرة ولا شيئا من الاختيار ، هذا القول الخبيث قد أجمع سلف الأمة على بطلانه ، وأجمعوا على بطلان قول من قال :- إن العبد هو الذي يخلق فعله بذاته ، وأن له القدرة الكاملة والاختيار الكامل ، ولا تعلق لغيره في اختيار فعله ، وهذا باطل ، كما ذكرته باتفاق السلف ، بل السلف متفوق على أن العبد له قدرة واختيار ومشيئة ، ولكن كل شيء بقضاء الله وقدره ، ولا يخرج شيء عن أن يكون مقدورا لله تعالى ، والله خالق الأشياء بذواتها وصفاتها وجميع متعلقاتها ، وكل شيء معلوم بالعلم الشامل الكامل ومكتوب في اللوح المحفوظ ، ولا يفهم من كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم إلا ما قرره سلف الأمة في هذا الباب ، وأما القدرية والجبرية فإنهم ضلوا في هذا الباب ضلالا بعيدا ، فالقدرية أخذوا بالأدلة التي تنسب الفعل إلى العبد وتضيفه إليه فقط ، فقالوا إنه يخلق فعله وهو القادر عليه القدرة الكاملة ، والجبرية أخذوا بالأدلة التي تنسب فعل العبد إلى الله فقالوا :- لا قدرة للعبد ولا اختيار ، وأما أهل السنة ، فإنهم نظروا إلى الأدلة جميعا وفهموا من إضافة الفعل إلى العبد أنها إضافة تحصيل واكتساب ، وفهموا من إضافة فعل العبد إلى الله تعالى أنها من باب إضافة الخلق والتقدير(1/185)
والإيجاد ، وعليه :- فالقدرية والجبرية في هذا الباب فهموا من النصوص فهما مخالفا لفهم سلف الأمة ، والمتقرر أن كل فهم بني على مخالفة فهم سلف الأمة في مسائل العقيدة والعمل فإنه فهم باطل ، والمتقرر أن ما بني على الباطل فهو باطل ، قال أبو العباس رحمه الله تعالى (وَمِمَّا اتَّفَقَ عَلَيْهِ سَلَفُ الْأُمَّةِ وَأَئِمَّتُهَا مَعَ إيمَانِهِمْ بِالْقَضَاءِ وَالْقَدَرِ وَأَنَّ اللَّهَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَأَنَّهُ مَا شَاءَ كَانَ وَمَا لَمْ يَشَأْ لَمْ يَكُنْ وَأَنَّهُ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَأَنَّ الْعِبَادَ لَهُمْ مَشِيئَةٌ وَقُدْرَةٌ يَفْعَلُونَ بِمَشِيئَتِهِمْ وَقُدْرَتِهِمْ مَا أَقْدَرَهُمْ اللَّهُ عَلَيْهِ مَعَ قَوْلِهِمْ إنَّ الْعِبَادَ لَا يَشَاءُونَ إلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { كَلَّا إنَّهَا تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ وَمَا يَذْكُرُونَ إلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ } الْآيَةَ , وَقَالَ تَعَالَى { إنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إلَى رَبِّهِ سَبِيلًا وَمَا تَشَاءُونَ إلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ إنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا } وَقَالَ { إنْ هُوَ إلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ وَمَا تَشَاءُونَ إلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ } وَالْقُرْآنُ قَدْ أَخْبَرَ بِأَنَّ الْعِبَادَ يُؤْمِنُونَ وَيَكْفُرُونَ وَيَفْعَلُونَ وَيَعْمَلُونَ وَيَكْسِبُونَ وَيُطِيعُونَ وَيَعْصُونَ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيَحُجُّونَ وَيَعْتَمِرُونَ وَيَقْتُلُونَ وَيَزْنُونَ وَيَسْرِقُونَ وَيَصْدُقُونَ وَيَكْذِبُونَ وَيَأْكُلُونَ وَيَشْرَبُونَ وَيُقَاتِلُونَ وَيُحَارِبُونَ فَلَمْ يَكُنْ مِنْ السَّلَفِ وَالْأَئِمَّةِ مَنْ يَقُولُ : إنَّ الْعَبْدَ لَيْسَ بِفَاعِلِ وَلَا(1/186)
مُخْتَارٍ وَلَا مُرِيدٍ وَلَا قَادِرٍ , وَلَا قَالَ أَحَدٌ مِنْهُمْ : إنَّهُ فَاعِلٌ مَجَازًا بَلْ مَنْ تَكَلَّمَ مِنْهُمْ بِلَفْظِ الْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّ الْعَبْدَ فَاعِلٌ حَقِيقَةً وَاَللَّهُ تَعَالَى خَالِقُ ذَاتِهِ وَصِفَاتِهِ وَأَفْعَالِهِ , وَأَوَّلُ مَنْ ظَهَرَ عَنْهُ إنْكَارُ ذَلِكَ هُوَ الْجَهْمُ ابْنُ صَفْوَانَ وَأَتْبَاعُهُ فَحُكِيَ عَنْهُمْ أَنَّهُمْ قَالُوا : إنَّ الْعَبْدَ مَجْبُورٌ وَأَنَّهُ لَا فِعْلَ لَهُ أَصْلًا وَلَيْسَ بِقَادِرِ أَصْلًا وَكَانَ الْجَهْمُ غَالِيًا فِي تَعْطِيلِ الصِّفَاتِ فَكَانَ يَنْفِي أَنْ يُسَمَّى اللَّهُ تَعَالَى بِاسْمِ يُسَمَّى بِهِ الْعَبْدُ فَلَا يُسَمَّى شَيْئًا وَلَا حَيًّا وَلَا عَالِمًا وَلَا سَمِيعًا وَلَا بَصِيرًا , إلَّا عَلَى وَجْهِ الْمَجَازِ , وَحُكِيَ عَنْهُ أَنَّهُ كَانَ يُسَمِّي اللَّهَ تَعَالَى قَادِرًا ؛ لِأَنَّ الْعَبْدَ عِنْدَهُ لَيْسَ بِقَادِرِ فَلَا تَشْبِيهَ بِهَذَا الِاسْمِ عَلَى قَوْلِهِ , وَكَانَ هُوَ وَأَتْبَاعُهُ يُنْكِرُونَ أَنْ يَكُونَ لِلَّهِ حِكْمَةٌ فِي خَلْقِهِ وَأَمْرِهِ وَأَنْ يَكُونَ لَهُ رَحْمَةٌ وَيَقُولُونَ : إنَّمَا فَعَلَ بِمَحْضِ مَشِيئَةٍ لَا رَحْمَةَ مَعَهَا وَحُكِيَ عَنْهُ أَنَّهُ كَانَ يُنْكِرُ أَنْ يَكُونَ اللَّهُ أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ وَأَنَّهُ كَانَ يَخْرُجُ إلَى الْجَذْمَى فَيَنْظُرُ إلَيْهِمْ وَيَقُولُ : أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ يَفْعَلُ مِثْلَ هَذَا بِهَؤُلَاءِ وَكَانَ يَقُولُ : الْعِبَادُ مَجْبُورُونَ عَلَى أَفْعَالِهِمْ لَيْسَ لَهُمْ فِعْلٌ وَلَا اخْتِيَارٌ , وَكَانَ ظُهُورُ جَهْمٍ وَمَقَالَتِهِ فِي تَعْطِيلِ الصِّفَاتِ وَفِي الْجَبْرِ وَالْإِرْجَاءِ فِي أَوَاخِرِ دَوْلَةِ بَنِي أُمَيَّةَ بَعْدَ حُدُوثِ الْقَدَرِيَّةِ وَالْمُعْتَزِلَةِ وَغَيْرِهِمْ(1/187)
فَإِنَّ الْقَدَرِيَّةَ حَدَثُوا قَبْلَ ذَلِكَ فِي أَوَاخِرِ عَصْرِ الصَّحَابَةِ فَلَمَّا حَدَثَتْ مَقَالَتُهُ الْمُقَابِلَةُ لِمَقَالَةِ الْقَدَرِيَّةِ أَنْكَرَهَا السَّلَفُ وَالْأَئِمَّةُ كَمَا أَنْكَرُوا قَوْلَ الْقَدَرِيَّةِ مِنْ الْمُعْتَزِلَةِ وَغَيْرِهِمْ وَبَدَّعُوا الطَّائِفَتَيْنِ حَتَّى فِي لَفْظِ " الْجَبْرِ " أَنْكَرُوا عَلَى مَنْ قَالَ : جَبَرَ وَعَلَى مَنْ قَالَ : لَمْ يَجْبُرْ . وَالْآثَارُ بِذَلِكَ مَعْرُوفَةٌ عَنْ الأوزاعي وَسُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ مَهْدِيٍّ وَأَحْمَد بْنِ حَنْبَلٍ وَغَيْرِهِمْ مِنْ سَلَفِ الْأُمَّةِ وَأَئِمَّتِهَا) وقال رحمه الله تعالى ( أَفْعَالُ الْعِبَادِ مَخْلُوقَةٌ بِاتِّفَاقِ سَلَفِ الْأُمَّةِ وَأَئِمَّتِهَا كَمَا نَصَّ عَلَى ذَلِكَ سَائِرُ أَئِمَّةِ الْإِسْلَامِ : الْإِمَامُ أَحْمَد وَمَنْ قَبْلَهُ وَبَعْدَهُ حَتَّى قَالَ بَعْضُهُمْ : مَنْ قَالَ : إنَّ أَفْعَالَ الْعِبَادِ غَيْرُ مَخْلُوقَةٍ ، فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ مَنْ قَالَ : إنَّ السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ غَيْرُ مَخْلُوقَةٍ وَقَالَ يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ الْعَطَّارُ : مَا زِلْتُ أَسْمَعُ أَصْحَابَنَا يَقُولُونَ أَفْعَالُ الْعِبَادِ مَخْلُوقَةٌ . وَكَانَ السَّلَفُ قَدْ أَظْهَرُوا ذَلِكَ لَمَّا أَظْهَرَتْ الْقَدَرِيَّةُ أَنَّ أَفْعَالَ الْعِبَادِ غَيْرُ مَخْلُوقَةٍ لِلَّهِ وَزَعَمُوا أَنَّ الْعَبْدَ يُحْدِثُهَا أَوْ يَخْلُقُهَا دُونَ اللَّهِ فَبَيَّنَ السَّلَفُ وَالْأَئِمَّةُ أَنَّ اللَّهَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ مِنْ أَفْعَالِ الْعِبَادِ وَغَيْرِهَا ) والله أعلم .(1/188)
الفرع الثالث والعشرون:- أجمع سلف الأمة وأئمتها على أن الله تعالى ( معنا) بمعيتين ، معية عامة ومقتضاها العلم والإحاطة والهيمنة ، ومعية خاصة ، ومقتضاها النصر والتأييد والتوفيق والحفظ وكلها حق على حقيقتها ، وسلف الأمة لا يفهمون من معية الله تعالى لنا أنه مختلط بالخلق أو حال فيهم ، أو أنه داخل هذا العالم ، أو أنه هو عين وجود هذا العالم ، كل ذلك من الأفهام المعوجة عن سنن الكتاب والسنة ، وهي مخالفة لفهم سلف الأمة ، والمتقرر أن كل فهم يخالف فهم سلف الأمة في مسائل العقيدة والعمل فهو باطل, واتفق سلف الأمة رحمهم الله تعالى على أن معيته لخلقه لا تنافي علوه على عرشه ، لأنه جل وعلا ليس كمثله شيء في جميع نعوته ، فهو العلي في قربه ودنوه وهو القريب في عله وفوقيته جل وعلا ، فالأدلة جاءت بهذا وبهذا ، والأدلة لا تأتي بمحالات العقل وإن كانت تأتي بمحارات العقول ، أي أنها لا تأتي بما يحيله العقل ، ولكنها تأتي بما يحار فيه العقل لأنه أضعف وأقصر وأنقص من الإحاطة بما هو من باب الغيب ، وأما أهل البدع فقد فهموا من معيته لنا أنه مختلط بنا وحال فينا ، فمنهم من رفض وحرف وعطل ، ومنهم من رضي بها وهم الحلولية ، وفهموا أن قربه ومعيته تتنافى مع علوه وفوقيته ، وكل هذه الأفهام أفهام عاطلة ،لم تستنر بنور الدليل ولا بفهم سلف الأمة ، فهي أفهام باطلة لأنها مخالفة لما عليه السلف من الفهم والمنهج وما خالف ذلك فهو باطل .(1/189)
الفرع الرابع والعشرون:- وهذه القاعدة الطيبة نافعة حتى في مسائل التفسير ، فكل تفسير على غير فهم السلف فباطل ، كتفسير بعضهم لقوله تعالى { سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ } فإن الضمير في قوله ( أنه ) عائد إلى القرآن ، وهو باتفاق السلف ، فالسلف يفهمون من الآية أن الضمير يعود على القرآن لا على الله ، ولكن قال بعض طوائف المتكلمين والصوفية أنه - أي الضمير - يعود على الله ، وهذا فهم مخالف لفهم سلف الأمة ، والمتقرر أن كل فهم يخالف فهم سلف الأمة فهو باطل ، قال أبو العباس رحمه الله تعالى ( قَالَ تَعَالَى { سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ } وَالضَّمِيرُ عَائِدٌ عَلَى الْقُرْآنِ , كَمَا قَالَ تَعَالَى { قُلْ أَرَأَيْتُمْ إنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ مَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ هُوَ فِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ } الْآيَةَ , وَأَمَّا قَوْلُ طَائِفَةٍ مِنْ الْمُتَفَلْسِفَةِ وَمَنْ تَبِعَهُمْ مِنْ الْمُتَكَلِّمَةِ وَالْمُتَصَوِّفَةِ : أَنَّ الضَّمِيرَ عَائِدٌ إلَى اللَّهِ ؛ وَأَنَّ الْمُرَادَ ذِكْرُ طَرِيقِ مَعْرِفَتِهِ بِالِاسْتِدْلَالِ بِالْعَقْلِ ؛ فَتَفْسِيرُ الْآيَةِ بِذَلِكَ خَطَأٌ مِنْ وُجُوهٍ كَثِيرَةٍ وَهُوَ مُخَالِفٌ لِمَا اتَّفَقَ عَلَيْهِ سَلَفُ الْأُمَّةِ وَأَئِمَّتُهَا . فَبَيَّنَ سُبْحَانَهُ أَنَّهُ يَرَى الْآيَاتِ الْمَشْهُودَةَ لِيُبَيِّنَ صِدْقَ الْآيَاتِ الْمَسْمُوعَةِ ) .(1/190)
الفرع الخامس والعشرون:- واختلف أهل العلم رحمهم الله تعالى في الجنة التي دخلها آدم عليه السلام ، وأبو العباس ابن تيمية رحمه الله تعالى بحث هذه المسألة في الفتاوى ، وتوصل إلى أن السلف رحمهم الله تعالى لا يفهمون من لفظ الجنة التي أدخلها أبونا آدم عليه السلام إلا أنها جنة الخلد التي في السماء ، وأن من قال بغير هذا القول ، فإنما هو شيء ساقه من أهل البدع من غير تمحيص ، يقول ابن تيمية رحمه الله تعالى (وَالْجَنَّةُ الَّتِي أَسْكَنَهَا آدَمَ وَزَوْجَتَهُ عِنْدَ سَلَفِ الْأُمَّةِ وَأَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ هِيَ جَنَّةُ الْخُلْدِ وَمَنْ قَالَ : إنَّهَا جَنَّةٌ فِي الْأَرْضِ بِأَرْضِ الْهِنْدِ أَوْ بِأَرْضِ جُدَّةَ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ فَهُوَ مِنْ الْمُتَفَلْسِفَةِ وَالْمُلْحِدِينَ أَوْ مِنْ إخْوَانِهِمْ الْمُتَكَلِّمِينَ الْمُبْتَدِعِينَ فَإِنَّ هَذَا يَقُولُهُ مَنْ يَقُولُهُ مِنْ الْمُتَفَلْسِفَةِ وَالْمُعْتَزِلَةِ , وَالْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ يَرُدُّ هَذَا الْقَوْلَ وَسَلَفُ الْأُمَّةِ وَأَئِمَّتُهَا مُتَّفِقُونَ عَلَى بُطْلَانِ هَذَا الْقَوْلِ , قَالَ تَعَالَى { وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إلَّا إبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ } إلَى قَوْلِهِ { وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إلَى حِينٍ } فَقَدْ أَخْبَرَ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ أَمَرَهُمْ بِالْهُبُوطِ وَأَنَّ بَعْضَهُمْ عَدُوٌّ لِبَعْضٍ ثُمَّ قَالَ { وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إلَى حِينٍ } وَهَذَا يُبَيِّنُ أَنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا فِي الْأَرْضِ وَإِنَّمَا أهبطوا إلَى الْأَرْضِ ؛ فَإِنَّهُمْ لَوْ كَانُوا فِي الْأَرْضِ وَانْتَقَلُوا إلَى(1/191)
أَرْضٍ أُخْرَى كَانْتِقَالِ قَوْمِ مُوسَى مِنْ أَرْضٍ إلَى أَرْضٍ لَكَانَ مُسْتَقَرُّهُمْ وَمَتَاعُهُمْ إلَى حِينٍ فِي الْأَرْضِ قَبْلَ الْهُبُوطِ وَبَعْدَهُ وَكَذَلِكَ قَالَ فِي الْأَعْرَافِ لَمَّا قَالَ إبْلِيسُ { أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ قَالَ فَاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيهَا } فَقَوْلُهُ { فَاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيهَا } يُبَيِّنُ اخْتِصَاصَ السَّمَاءِ بِالْجَنَّةِ بِهَذَا الْحُكْمِ ؛ فَإِنَّ الضَّمِيرَ فِي قَوْلِهِ { مِنْهَا } عَائِدٌ إلَى مَعْلُومٍ غَيْرِ مَذْكُورٍ فِي اللَّفْظِ وَهَذَا بِخِلَافِ قَوْلِهِ { اهْبِطُوا مِصْرًا فَإِنَّ لَكُمْ مَا سَأَلْتُمْ } فَإِنَّهُ لَمْ يَذْكُرْ هُنَاكَ مَا أهبطوا فِيهِ وَقَالَ هُنَا { اهْبِطُوا } لِأَنَّ الْهُبُوطَ يَكُونُ مِنْ عُلُوٍّ إلَى سُفْلٍ وَعِنْدَ أَرْضِ السَّرَاةِ حَيْثُ كَانَ بَنُو إسْرَائِيلَ حِيَالَ السَّرَاةِ الْمُشْرِفَةِ عَلَى الْمِصْرِ الَّذِي يَهْبِطُونَ إلَيْهِ وَمَنْ هَبَطَ مِنْ جَبَلٍ إلَى وَادٍ قِيلَ لَهُ : هَبَطَ, وَأَيْضًا فَإِنَّ بَنِي إسْرَائِيلَ كَانُوا يَسِيرُونَ وَيَرْحَلُونَ وَاَلَّذِي يَسِيرُ وَيَرْحَلُ إذَا جَاءَ بَلْدَةً يُقَالُ : نَزَلَ فِيهَا ؛ لِأَنَّ فِي عَادَتِهِ أَنَّهُ يَرْكَبُ فِي سَيْرِهِ فَإِذَا وَصَلَ نَزَلَ عَنْ دَوَابِّهِ .(1/192)
يُقَالُ : نَزَلَ الْعَسْكَرُ بِأَرْضِ كَذَا وَنَزَلَ الْقُفْلُ بِأَرْضِ كَذَا ؛ لِنُزُولِهِمْ عَنْ الدَّوَابِّ , وَلَفْظُ النُّزُولِ كَلَفْظِ الْهُبُوطِ فَلَا يُسْتَعْمَلُ هَبَطَ إلَّا إذَا كَانَ مِنْ عُلُوٍّ إلَى سُفْلٍ , وَقَوْلُهُ { رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ , قَالَ اهْبِطُوا } الْآيَتَيْنِ , فَقَوْلُهُ هُنَا بَعْدَ قَوْلِهِ { اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إلَى حِينٍ } يُبَيِّنُ أَنَّهُمْ هَبَطُوا إلَى الْأَرْضِ مِنْ غَيْرِهَا وَقَالَ { فِيهَا تَحْيَوْنَ وَفِيهَا تَمُوتُونَ وَمِنْهَا تُخْرَجُونَ } دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا قَبْلَ ذَلِكَ بِمَكَانِ فِيهِ يَحْيَوْنَ وَفِيهِ يَمُوتُونَ وَمِنْهُ يُخْرَجُونَ وَإِنَّمَا صَارُوا إلَيْهِ لَمَّا أهبطوا مِنْ الْجَنَّةِ , وَالنُّصُوصُ فِي ذَلِكَ كَثِيرَةٌ وَكَذَلِكَ كَلَامُ السَّلَفِ وَالْأَئِمَّةِ , وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ { احْتَجَّ آدَمَ وَمُوسَى فَقَالَ مُوسَى : يَا آدَمَ أَنْتَ أَبُو الْبَشَرِ خَلَقَك اللَّهُ بِيَدِهِ وَنَفَخَ فِيك مِنْ رُوحه وَأَسْجَدَ لَك مَلَائِكَتَهُ فَلِمَاذَا أَخْرَجْتنَا وَذُرِّيَّتَك مِنْ الْجَنَّةِ ؟ فَقَالَ لَهُ آدَمَ : أَنْتَ مُوسَى الَّذِي اصْطَفَاك اللَّهُ بِرِسَالَتِهِ وَكَلَامِهِ فَهَلْ تَجِدُ فِي التَّوْرَاةِ : وَعَصَى آدَمَ رَبَّهُ فَغَوَى ؟ قَالَ نَعَمْ قَالَ : فَلِمَاذَا تَلُومُنِي عَلَى أَمْرٍ قَدَّرَهُ اللَّهُ عَلَيَّ قَبْلَ أَنْ أُخْلَقَ ؟ فَقَالَ : فَحَجَّ آدَمَ مُوسَى } وَمُوسَى إنَّمَا لَامَ آدَمَ لِمَا حَصَلَ لَهُ وَذُرِّيَّتُهُ بِالْخُرُوجِ مِنْ(1/193)
الْجَنَّةِ مِنْ الْمَشَقَّةِ وَالنَّكَدِ فَلَوْ كَانَ ذَلِكَ بُسْتَانًا فِي الْأَرْضِ لَكَانَ غَيْرُهُ مِنْ بَسَاتِينِ الْأَرْضِ يُعَوِّضُ عَنْهُ , وَآدَمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ احْتَجَّ بِالْقَدَرِ ؛ لِأَنَّ الْعَبْدَ مَأْمُورٌ عَلَى أَنْ يَصْبِرَ عَلَى مَا قَدَّرَهُ اللَّهُ مِنْ الْمَصَائِبِ وَيَتُوبَ إلَيْهِ وَيَسْتَغْفِرَهُ مِنْ الذُّنُوبِ والمعائب ) فالحق الحقيق بالقبول هو أن الجنة التي دخلها أبونا آدم عليه السلام هي جنة الخلد ، والله يتولانا وإياك .(1/194)
الفرع السادس والعشرون:- أجمع سلف الأمة وأئمتها رحمهم الله تعالى على أنه قد يجتمع في الشخص الواحد موجب الثواب وموجب العقاب ، فيثاب من جهة ، ويعاقب من جهة ، وعلى ذلك بنى أهل السنة مذهبهم في مرتكب الكبيرة ، كما ذكرناه لك سابقا ، فإن الناس على ثلاثة أقسام :- قسم يأتي يوم القيامة وليس معه إلا موجب الثواب فقط ، وهذا منعم ابتداء ، وقسم يأتي وليس معه إلا موجب العقاب فقط ، فهذا معذب ابتداء ، وقسم يأتي ومعه موجب الثواب والعقاب ، أي فعل ما يوجب له الثواب وما يوجب له العقاب ، فهذا يكون تحت المشيئة ، هذا هو فهم سلف الأمة ، وأما أهل البدع فإنهم لا يقولون بهذا الفهم ، فلا يمكن البتة عندهم أن يجتمع في الشخص الواحد موجب الثواب وموجب العقاب ، لأن الإيمان عندهم أصلا لا يزيد ولا ينقص وأما أهل السنة فلأنهم يقولون بأن الإيمان يزيد وينقص ، فقد فهموا من ذلك إمكانية اجتماع موجب الثواب والعقاب في الشخص الواحد، قال ابن تيمية رحمه الله تعالى (وَأَمَّا الْقَائِلُونَ بِالتَّخْلِيدِ كَالْخَوَارِجِ وَالْمُعْتَزِلَةِ الْقَائِلِينَ إنَّهُ لَا يَخْرُجُ مِنْ النَّارِ مَنْ دَخَلَهَا مِنْ أَهْلِ الْقِبْلَةِ وَإِنَّهُ لَا شَفَاعَةَ لِلرَّسُولِ وَلَا لِغَيْرِهِ فِي أَهْلِ الْكَبَائِرِ لَا قَبْلَ دُخُولِ النَّارِ وَلَا بَعْدَهُ ؛ فَعِنْدَهُمْ لَا يَجْتَمِعُ فِي الشَّخْصِ الْوَاحِدِ ثَوَابٌ وَعِقَابٌ ؛ وَحَسَنَاتٌ وَسَيِّئَاتٌ , بَلْ مَنْ أُثِيبَ لَا يُعَاقَبُ وَمَنْ عُوقِبَ لَمْ يُثَبْ , وَدَلَائِلُ هَذَا الْأَصْلِ مِنْ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَإِجْمَاعِ سَلَفِ الْأُمَّةِ ) وقال رحمه الله تعالى (بَلْ لَا يَتَنَافَى عِنْدَنَا أَنْ يَجْتَمِعَ فِي الرَّجُلِ الْحَمْدُ وَالذَّمُّ وَالثَّوَابُ وَالْعِقَابُ ؛ كَذَلِكَ لَا يَتَنَافَى أَنْ يُصَلَّى عَلَيْهِ وَيُدْعَى لَهُ وَأَنَّ يُلْعَنَ وَيُشْتَمَ أَيْضًا بِاعْتِبَارِ(1/195)
وَجْهَيْنِ , فَإِنَّ أَهْلَ السُّنَّةِ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّ فُسَّاقَ أَهْلِ الْمِلَّةِ - وَإِنْ دَخَلُوا النَّارَ أَوْ اسْتَحَقُّوا دُخُولَهَا فَإِنَّهُمْ - لَا بُدَّ أَنْ يَدْخُلُوا الْجَنَّةَ فَيَجْتَمِعُ فِيهِمْ الثَّوَابُ وَالْعِقَابُ ؛ وَلَكِنَّ الْخَوَارِجَ وَالْمُعْتَزِلَةَ تُنْكِرُ ذَلِكَ وَتَرَى أَنَّ مَنْ اسْتَحَقَّ الثَّوَابَ لَا يَسْتَحِقُّ الْعِقَابَ وَمَنْ اسْتَحَقَّ الْعِقَابَ لَا يَسْتَحِقُّ الثَّوَابَ , وَالْمَسْأَلَةُ مَشْهُورَةٌ ) وقال رحمه الله تعالى (وَإِذَا اجْتَمَعَ فِي الرَّجُلِ الْوَاحِدِ خَيْرٌ وَشَرٌّ وَفُجُورٌ وَطَاعَةٌ وَمَعْصِيَةٌ وَسُنَّةٌ وَبِدْعَةٌ اسْتَحَقَّ مِنْ الْمُوَالَاةِ وَالثَّوَابِ بِقَدْرِ مَا فِيهِ مِنْ الْخَيْرِ وَاسْتَحَقَّ مِنْ الْمُعَادَاتِ وَالْعِقَابِ بِحَسَبِ مَا فِيهِ مِنْ الشَّرِّ فَيَجْتَمِعُ فِي الشَّخْصِ الْوَاحِدِ مُوجِبَاتُ الْإِكْرَامِ وَالْإِهَانَةِ فَيَجْتَمِعُ لَهُ مِنْ هَذَا وَهَذَا كَاللِّصِّ الْفَقِيرِ تُقْطَعُ يَدُهُ لِسَرِقَتِهِ وَيُعْطَى مِنْ بَيْتِ الْمَالِ مَا يَكْفِيهِ لِحَاجَتِهِ , هَذَا هُوَ الْأَصْلُ الَّذِي اتَّفَقَ عَلَيْهِ أَهْلُ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ وَخَالَفَهُمْ الْخَوَارِجُ وَالْمُعْتَزِلَةُ وَمَنْ وَافَقَهُمْ عَلَيْهِ فَلَمْ يَجْعَلُوا النَّاسَ لَا مُسْتَحِقًّا لِلثَّوَابِ فَقَطْ وَلَا مُسْتَحِقًّا لِلْعِقَابِ فَقَطْ , وَأَهْلُ السُّنَّةِ يَقُولُونَ : إنَّ اللَّهَ يُعَذِّبُ بِالنَّارِ مِنْ أَهْلِ الْكَبَائِرِ مَنْ يُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُخْرِجُهُمْ مِنْهَا بِشَفَاعَةِ مَنْ يَأْذَنُ لَهُ فِي الشَّفَاعَةِ بِفَضْلِ رَحْمَتِهِ كَمَا اسْتَفَاضَتْ بِذَلِكَ السُّنَّةُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ) وقال رحمه الله تعالى وأجزل له الأجر والمثوبة (وَقَدْ يَجْتَمِعُ فِي الْعَبْدِ(1/196)
نِفَاقٌ وَإِيمَانٌ وَكُفْرٌ وَإِيمَانٌ فَالْإِيمَانُ الْمُطْلَقُ عِنْدَ هَؤُلَاءِ مَا كَانَ صَاحِبُهُ مُسْتَحِقًّا لِلْوَعْدِ بِالْجَنَّةِ , وَطَوَائِفُ أَهْلِ الْأَهْوَاءِ مِنْ الْخَوَارِجِ وَالْمُعْتَزِلَةِ والجهمية وَالْمُرْجِئَةِ كراميهم وَغَيْرِ كراميهم يَقُولُونَ : إنَّهُ لَا يَجْتَمِعُ فِي الْعَبْدِ إيمَانٌ وَنِفَاقٌ وَمِنْهُمْ مَنْ يَدَّعِي الْإِجْمَاعَ عَلَى ذَلِكَ وَقَدْ ذَكَرَ أَبُو الْحَسَنِ فِي بَعْضِ كُتُبِهِ الْإِجْمَاعَ عَلَى ذَلِكَ وَمِنْ هُنَا غَلِطُوا فِيهِ وَخَالَفُوا فِيهِ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ وَآثَارَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ لَهُمْ بِإِحْسَانِ مَعَ مُخَالَفَةِ صَرِيحِ الْمَعْقُولِ بَلْ الْخَوَارِجُ وَالْمُعْتَزِلَةُ طَرَدُوا هَذَا الْأَصْلَ الْفَاسِدَ وَقَالُوا : لَا يَجْتَمِعُ فِي الشَّخْصِ الْوَاحِدِ طَاعَةٌ يَسْتَحِقُّ بِهَا الثَّوَابَ وَمَعْصِيَةٌ يَسْتَحِقُّ بِهَا الْعِقَابَ وَلَا يَكُونُ الشَّخْصُ الْوَاحِدُ مَحْمُودًا مِنْ وَجْهٍ مَذْمُومًا مِنْ وَجْهٍ وَلَا مَحْبُوبًا مَدْعُوًّا لَهُ مِنْ وَجْهٍ مَسْخُوطًا مَلْعُونًا مِنْ وَجْهٍ وَلَا يُتَصَوَّرُ أَنَّ الشَّخْصَ الْوَاحِدَ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ وَالنَّارَ جَمِيعًا عِنْدَهُمْ بَلْ مَنْ دَخَلَ إحْدَاهُمَا لَمْ يَدْخُلْ الْأُخْرَى عِنْدَهُمْ وَلِهَذَا أَنْكَرُوا خُرُوجَ أَحَدٍ مِنْ النَّارِ أَوْ الشَّفَاعَةَ فِي أَحَدٍ مِنْ أَهْلِ النَّارِ , وَحَكَى عَنْ غَالِيَةِ الْمُرْجِئَةِ أَنَّهُمْ وَافَقُوهُمْ عَلَى هَذَا الْأَصْلِ لَكِنَّ هَؤُلَاءِ قَالُوا : إنَّ أَهْلَ الْكَبَائِرِ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يَدْخُلُونَ النَّارَ مُقَابَلَةً لِأُولَئِكَ , وَأَمَّا أَهْلُ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ وَالصَّحَابَةُ وَالتَّابِعُونَ لَهُمْ بِإِحْسَانِ ؛ وَسَائِرُ طَوَائِفِ الْمُسْلِمِينَ مِنْ أَهْلِ(1/197)
الْحَدِيثِ وَالْفُقَهَاءِ وَأَهْلِ الْكَلَامِ مِنْ مُرْجِئَةِ الْفُقَهَاءِ والكرامية والكلابية وَالْأَشْعَرِيَّةِ وَالشِّيعَةِ مُرْجِئِهِمْ وَغَيْرِ مُرْجِئِهِمْ فَيَقُولُونَ : إنَّ الشَّخْصَ الْوَاحِدَ قَدْ يُعَذِّبُهُ اللَّهُ بِالنَّارِ ثُمَّ يُدْخِلُهُ الْجَنَّةَ كَمَا نَطَقَتْ بِذَلِكَ الْأَحَادِيثُ الصَّحِيحَةُ وَهَذَا الشَّخْصُ الَّذِي لَهُ سَيِّئَاتٌ عُذِّبَ بِهَا وَلَهُ حَسَنَاتٌ دَخَلَ بِهَا الْجَنَّةَ وَلَهُ مَعْصِيَةٌ وَطَاعَةٌ بِاتِّفَاقِ فَإِنَّ هَؤُلَاءِ الطَّوَائِفَ لَمْ يَتَنَازَعُوا فِي حُكْمِهِ ؛ لَكِنْ تَنَازَعُوا فِي اسْمِهِ فَقَالَتْ الْمُرْجِئَةُ : جهميتهم وَغَيْرُ جهميتهم : هُوَ مُؤْمِنٌ كَامِلُ الْإِيمَانِ . وَأَهْلُ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ عَلَى أَنَّهُ مُؤْمِنٌ نَاقِصُ الْإِيمَانِ وَلَوْلَا ذَلِكَ لَمَا عُذِّبَ كَمَا أَنَّهُ نَاقِصُ الْبِرِّ وَالتَّقْوَى بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ ) وعليه:- فما ذهب إليه أهل البدع من عدم إمكانية ذلك فإنما بنوه على فهم فاسد خالفوا به فهم سلف الأمة ، والمتقرر أن كل فهم يخالف فهم سلف الأمة في العقيدة والعمل فهو باطل ، والله يتولانا وإياك .(1/198)
الفرع السابع والعشرون:- قال أبو العباس رحمه الله تعالى (وَقَدْ اتَّفَقَ سَلَفُ الْأُمَّةِ وَأَئِمَّتُهَا وَسَائِرُ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى أَنَّ الْأَنْبِيَاءَ أَفْضَلُ مِنْ الْأَوْلِيَاءِ الَّذِينَ لَيْسُوا بأنبياء وَقَدْ رَتَّبَ اللَّهُ عِبَادَهُ السُّعَدَاءَ الْمُنْعَمَ عَلَيْهِمْ أَرْبَعَ مَرَاتِبَ فَقَالَ تَعَالَى { وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا } وَفِي الْحَدِيثِ { مَا طَلَعَتْ الشَّمْسُ وَلَا غَرَبَتْ عَلَى أَحَدٍ بَعْدَ النَّبِيِّينَ وَالْمُرْسَلِينَ أَفْضَلَ مِنْ أَبِي بَكْرٍ } وَأَفْضَلُ الْأُمَمِ أُمَّةُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , قَالَ تَعَالَى { كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ } وَقَالَ تَعَالَى { ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا } وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحَدِيثِ الَّذِي فِي الْمُسْنَدِ { أَنْتُمْ تُوَفُّونَ سَبْعِينَ أُمَّةً أَنْتُمْ خَيْرُهَا وَأَكْرَمُهَا عَلَى اللَّهِ } وَأَفْضَلُ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْقَرْنُ الْأَوَّلُ , وَقَدْ ثَبَتَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ أَنَّهُ قَالَ { خَيْرُ الْقُرُونِ الْقَرْنُ الَّذِي بُعِثْت فِيهِ ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ } وَهَذَا ثَابِتٌ فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ , وَفِي الصَّحِيحَيْنِ أَيْضًا عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ { لَا تَسُبُّوا أَصْحَابِي فَوَاَلَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْ أَنْفَقَ أَحَدُكُمْ مِثْلَ أُحُدٍ(1/199)
ذَهَبًا مَا بَلَغَ مُدَّ أَحَدِهِمْ وَلَا نَصِيفَهُ } وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ أَفْضَلُ مِنْ سَائِرِ الصَّحَابَةِ قَالَ تَعَالَى { لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى } وَقَالَ تَعَالَى { وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ } وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلُوا وَالْمُرَادُ بِالْفَتْحِ صُلْحُ الْحُدَيْبِيَةِ فَإِنَّهُ كَانَ أَوَّلَ فَتْحِ مَكَّةَ وَفِيهِ {أَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى { إنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ } فَقَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ أَوَفَتْحٌ هُوَ قَالَ : نَعَمْ } وَأَفْضَلُ السَّابِقِينَ الْأَوَّلِينَ الْخُلَفَاءُ الْأَرْبَعَةُ, وَأَفْضَلُهُمْ أَبُو بَكْرٍ ثُمَّ عُمَرُ وَهَذَا هُوَ الْمَعْرُوفُ عَنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ لَهُمْ بِإِحْسَانِ وَأَئِمَّةِ الْأُمَّةِ وَجَمَاهِيرِهَا وَقَدْ دَلَّتْ عَلَى ذَلِكَ دَلَائِلُ بَسَطْنَاهَا فِي " مِنْهَاجِ أَهْلِ السُّنَّةِ النَّبَوِيَّةِ فِي نَقْضِ كَلَامِ أَهْلِ الشِّيعَةِ وَالْقَدَرِيَّةِ " وَبِالْجُمْلَةِ اتَّفَقَتْ طَوَائِفُ السُّنَّةِ وَالشِّيعَةِ عَلَى أَنَّ أَفْضَلَ هَذِهِ الْأُمَّةِ بَعْدَ نَبِيِّهَا وَاحِدٌ مِنْ الْخُلَفَاءِ وَلَا يَكُونُ مِنْ بَعْدِ الصَّحَابَةِ أَفْضَلُ مِنْ الصَّحَابَةِ وَأَفْضَلُ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ تَعَالَى أَعْظَمُهُمْ مَعْرِفَةً بِمَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ(1/200)
تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاتِّبَاعًا لَهُ كَالصَّحَابَةِ الَّذِينَ هُمْ أَكْمَلُ الْأُمَّةِ فِي مَعْرِفَةِ دِينِهِ وَاتِّبَاعِهِ وَأَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ أَكْمَلُ مَعْرِفَةً بِمَا جَاءَ بِهِ وَعَمَلًا بِهِ فَهُوَ أَفْضَلُ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ إذْ كَانَتْ أُمَّةُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَفْضَلَ الْأُمَمِ وَأَفْضَلُهَا أَصْحَابُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَفْضَلُهُمْ أَبُو بَكْرٍ ، وَقَدْ ظَنَّ طَائِفَةٌ غالطة أَنَّ خَاتَمَ الْأَوْلِيَاءِ أَفْضَلُ الْأَوْلِيَاءِ قِيَاسًا عَلَى خَاتَمِ الْأَنْبِيَاءِ وَلَمْ يَتَكَلَّمْ أَحَدٌ مِنْ الْمَشَايِخِ الْمُتَقَدِّمِينَ بِخَاتَمِ الْأَوْلِيَاءِ إلَّا مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ الْحَكِيمُ التِّرْمِذِيُّ فَإِنَّهُ صَنَّفَ مُصَنَّفًا غَلِطَ فِيهِ فِي مَوَاضِعَ ثُمَّ صَارَ طَائِفَةٌ مِنْ الْمُتَأَخِّرِينَ يَزْعُمُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ أَنَّهُ خَاتَمُ الْأَوْلِيَاءِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَدَّعِي أَنَّ خَاتَمَ الْأَوْلِيَاءِ أَفْضَلُ مِنْ خَاتَمِ الْأَنْبِيَاءِ مِنْ جِهَةِ الْعِلْمِ بِاَللَّهِ وَأَنَّ الْأَنْبِيَاءَ يَسْتَفِيدُونَ الْعِلْمَ بِاَللَّهِ مِنْ جِهَتِهِ كَمَا يَزْعُمُ ذَلِكَ ابْنُ عَرَبِيٍّ صَاحِبُ " كِتَابِ الْفُتُوحَاتِ الْمَكِّيَّةِ " وَ " كِتَابِ الْفُصُوصِ " فَخَالَفَ الشَّرْعَ وَالْعَقْلَ مَعَ مُخَالَفَةِ جَمِيعِ أَنْبِيَاءِ اللَّهِ تَعَالَى وَأَوْلِيَائِهِ كَمَا يُقَالُ لِمَنْ قَالَ : فَخَرَّ عَلَيْهِمْ السَّقْفُ مِنْ تَحْتِهِمْ لَا عَقْلَ وَلَا قُرْآنَ , ذَلِكَ أَنَّ الْأَنْبِيَاءَ أَفْضَلُ فِي الزَّمَانِ مِنْ أَوْلِيَاءِ هَذِهِ الْأُمَّةِ وَالْأَنْبِيَاءُ عَلَيْهِمْ أَفْضَلُ الصَّلَاةِ وَالسَّلَامِ أَفْضَلُ مِنْ الْأَوْلِيَاءِ فَكَيْفَ الْأَنْبِيَاءُ كُلُّهُمْ ؟ وَالْأَوْلِيَاءُ(1/201)
إنَّمَا يَسْتَفِيدُونَ مَعْرِفَةَ اللَّهِ مِمَّنْ يَأْتِي بَعْدَهُمْ وَيَدَّعِي أَنَّهُ خَاتَمُ الْأَوْلِيَاءِ وَلَيْسَ آخِرُ الْأَوْلِيَاءِ أَفْضَلَهُمْ كَمَا أَنَّ آخِرَ الْأَنْبِيَاءِ أَفْضَلُهُمْ فَإِنَّ فَضْلَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثَبَتَ بِالنُّصُوصِ الدَّالَّةِ عَلَى ذَلِكَ كَقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { أَنَا سَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ وَلَا فَخْرَ } وَقَوْلِهِ { آتِي بَابَ الْجَنَّةِ فَأَسْتَفْتِحُ فَيَقُولُ الْخَازِنُ : مَنْ أَنْتَ ؟ فَأَقُولُ مُحَمَّدٌ فَيَقُولُ بِك أُمِرْت أَنْ لَا أَفْتَحَ لِأَحَدِ قَبْلَك } وَلَيْلَةَ الْمِعْرَاجِ رَفَعَ اللَّهُ دَرَجَتَهُ فَوْقَ الْأَنْبِيَاءِ كُلِّهِمْ فَكَانَ أَحَقَّهُمْ بِقَوْلِهِ تَعَالَى { تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ } إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الدَّلَائِلِ كُلٌّ مِنْهُمْ يَأْتِيه الْوَحْيُ مِنْ اللَّهِ لَاسِيَّمَا مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَكُنْ فِي نُبُوَّتِهِ مُحْتَاجًا إلَى غَيْرِهِ فَلَمْ تَحْتَجْ شَرِيعَتُهُ إلَى سَابِقٍ وَلَا إلَى لَاحِقٍ ؛ بِخِلَافِ الْمَسِيحِ أَحَالَهُمْ فِي أَكْثَرِ الشَّرِيعَةِ عَلَى التَّوْرَاةِ وَجَاءَ الْمَسِيحُ فَكَمَّلَهَا ؛ وَلِهَذَا كَانَ النَّصَارَى مُحْتَاجِينَ إلَى النُّبُوَّاتِ الْمُتَقَدِّمَةِ عَلَى الْمَسِيحِ : كَالتَّوْرَاةِ وَالزَّبُورِ وَتَمَامِ الْأَرْبَعِ وَعِشْرِينَ نُبُوَّةً وَكَانَ الْأُمَمُ قَبْلَنَا مُحْتَاجِينَ إلَى مُحَدَّثِينَ ؛ بِخِلَافِ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنَّ اللَّهَ أَغْنَاهُمْ بِهِ فَلَمْ يَحْتَاجُوا مَعَهُ إلَى نَبِيٍّ وَلَا إلَى مُحَدَّثٍ ؛ بَلْ جُمِعَ لَهُ مِنْ الْفَضَائِلِ وَالْمَعَارِفِ(1/202)
وَالْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ مَا فَرَّقَهُ فِي غَيْرِهِ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ ؛ فَكَانَ مَا فَضَّلَهُ اللَّهُ بِهِ مِنْ اللَّهِ بِمَا أَنْزَلَهُ إلَيْهِ وَأَرْسَلَهُ إلَيْهِ لَا بِتَوَسُّطِ بَشَرٍ وَهَذَا بِخِلَافِ الْأَوْلِيَاءِ فَإِنَّ كُلَّ مَنْ بَلَغَهُ رِسَالَةُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يَكُونُ وَلِيًّا لِلَّهِ إلَّا بِاتِّبَاعِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكُلُّ مَا حَصَلَ لَهُ مِنْ الْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ هُوَ بِتَوَسُّطِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَذَلِكَ مَنْ بَلَغَهُ رِسَالَةُ رَسُولٍ إلَيْهِ لَا يَكُونُ وَلِيًّا لِلَّهِ إلَّا إذَا اتَّبَعَ ذَلِكَ الرَّسُولَ الَّذِي أُرْسِلَ إلَيْهِ . وَمَنْ ادَّعَى أَنَّ مِنْ الْأَوْلِيَاءِ الَّذِينَ بَلَغَتْهُمْ رِسَالَةُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْ لَهُ طَرِيقٌ إلَى اللَّهِ لَا يَحْتَاجُ فِيهِ إلَى مُحَمَّدٍ فَهَذَا كَافِرٌ مُلْحِدٌ وَإِذَا قَالَ : أَنَا مُحْتَاجٌ إلَى مُحَمَّدٍ فِي عِلْمِ الظَّاهِرِ دُونَ عِلْمِ الْبَاطِنِ أَوْ فِي عِلْمِ الشَّرِيعَةِ دُونَ عِلْمِ الْحَقِيقَةِ ؛ فَهُوَ شَرٌّ مِنْ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى الَّذِينَ قَالُوا : إنَّ مُحَمَّدًا رَسُولٌ إلَى الْأُمِّيِّينَ دُونَ أَهْلِ الْكِتَابِ .(1/203)
فَإِنَّ أُولَئِكَ آمَنُوا بِبَعْضِ وَكَفَرُوا بِبَعْضِ فَكَانُوا كُفَّارًا بِذَلِكَ وَكَذَلِكَ هَذَا الَّذِي يَقُولُ إنَّ مُحَمَّدًا بُعِثَ بِعِلْمِ الظَّاهِرِ دُونَ عِلْمِ الْبَاطِنِ آمَنَ بِبَعْضِ مَا جَاءَ بِهِ وَكَفَرَ بِبَعْضِ فَهُوَ كَافِرٌ وَهُوَ أَكْفَرُ مِنْ أُولَئِكَ ؛ لِأَنَّ عِلْمَ الْبَاطِنِ الَّذِي هُوَ عِلْمُ إيمَانِ الْقُلُوبِ وَمَعَارِفِهَا وَأَحْوَالِهَا هُوَ عِلْمٌ بِحَقَائِقِ الْإِيمَانِ الْبَاطِنَةِ وَهَذَا أَشْرَفُ مِنْ الْعِلْمِ بِمُجَرَّدِ أَعْمَالِ الْإِسْلَامِ الظَّاهِرَةِ . فَإِذَا ادَّعَى الْمُدَّعِي أَنَّ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنَّمَا عَلِمَ هَذِهِ الْأُمُورَ الظَّاهِرَةَ دُونَ حَقَائِقِ الْإِيمَانِ ؛ وَأَنَّهُ لَا يَأْخُذُ هَذِهِ الْحَقَائِقَ عَنْ الْكِتَاب وَالسُّنَّةِ فَقَدْ ادَّعَى أَنَّ بَعْضَ الَّذِي آمَنَ بِهِ مِمَّا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ دُونَ الْبَعْضِ الْآخَرِ وَهَذَا شَرٌّ مِمَّنْ يَقُولُ : أُؤْمِنُ بِبَعْضِ وَأَكْفُرُ بِبَعْضِ وَلَا يَدَّعِي أَنَّ هَذَا الْبَعْضَ الَّذِي آمَنَ بِهِ أَدْنَى الْقِسْمَيْنِ .(1/204)
وَهَؤُلَاءِ الْمَلَاحِدَةُ يَدَّعُونَ أَنَّ الْوِلَايَةَ أَفْضَلُ مِنْ النُّبُوَّةِ وَيُلَبِّسُونَ عَلَى النَّاسِ فَيَقُولُونَ : وِلَايَتُهُ أَفْضَلُ مِنْ نُبُوَّتِهِ وَيُنْشِدُونَ مَقَامُ النُّبُوَّةِ فِي بَرْزَخٍ فُوَيْقَ الرَّسُولِ وَدُونَ الْوَلِيّ وَيَقُولُونَ نَحْنُ شَارَكْنَاهُ فِي وِلَايَتِهِ الَّتِي هِيَ أَعْظَمُ مِنْ رِسَالَتِهِ وَهَذَا مِنْ أَعْظَمِ ضَلَالِهِمْ فَإِنَّ وِلَايَةَ مُحَمَّدٍ لَمْ يُمَاثِلْهُ فِيهَا أَحَدٌ لَا إبْرَاهِيمُ وَلَا مُوسَى فَضْلًا عَنْ أَنْ يُمَاثِلَهُ هَؤُلَاءِ الْمُلْحِدُونَ , وَكُلُّ رَسُولٍ نَبِيٍّ وَلِيٌّ فَالرَّسُولُ نَبِيٌّ وَلِيٌّ , وَرِسَالَتُهُ مُتَضَمِّنَةٌ لِنُبُوَّتِهِ وَنُبُوَّتُهُ مُتَضَمِّنَةٌ لِوِلَايَتِهِ وَإِذَا قَدَّرُوا مُجَرَّدَ إنْبَاءِ اللَّهِ إيَّاهُ بِدُونِ وِلَايَتِهِ لِلَّهِ فَهَذَا تَقْدِيرٌ مُمْتَنِعٌ فَإِنَّهُ حَالَ إنْبَائِهِ إيَّاهُ مُمْتَنِعٌ أَنْ يَكُونَ إلَّا وَلِيًّا لِلَّهِ وَلَا تَكُونُ مُجَرَّدَةً عَنْ وِلَايَتِهِ وَلَوْ قُدِّرَتْ مُجَرَّدَةً لَمْ يَكُنْ أَحَدٌ مُمَاثِلًا لِلرَّسُولِ فِي وِلَايَتِهِ , وَهَؤُلَاءِ قَدْ يَقُولُونَ - كَمَا يَقُولُ صَاحِبُ الْفُصُوصِ ابْنُ عَرَبِيٍّ - إنَّهُمْ يَأْخُذُونَ مِنْ الْمَعْدِنِ الَّذِي يَأْخُذُ مِنْهُ الْمَلَكُ الَّذِي يُوحَى بِهِ إلَى الرَّسُولِ ؛ وَذَلِكَ أَنَّهُمْ اعْتَقَدُوا عَقِيدَةَ الْمُتَفَلْسِفَةِ ثُمَّ أَخْرَجُوهَا فِي قَالَبِ الْمُكَاشَفَةِ ) قلت :- فالحق الذي دل عليه الكتاب والسنة وعليه اتفق المسلمون هو أن مقام النبوة خير من مقام الولاية ، ومن قال بغير هذا فقد خالف الكتاب والسنة واتفاق سلف الأمة وفهمهم ، وما خالف ذلك فهو باطل .(1/205)
الفرع الثامن والعشرون:- أجمع أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم على أن قوله تعالى { وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذ ظَّلَمُواْ أَنفُسَهُمْ جَآؤُوكَ فَاسْتَغْفَرُواْ اللّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُواْ اللّهَ تَوَّابًا رَّحِيمًا } إنما هي في حياته فقط لا بعد مماته ، فلا يجوز لأحد بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم إذا أذنب أن يأتي إلى القبر ويطلب من النبي أن يستغفر له ، هذا لا يجوز ، ولا يعرف هذا عن أحد من سلف الأمة وخيارها في العلم والدين ، فالمجيء في الآية إنما هو في حياته لا بعد مماته ، وأما أهل البدع فلهم فهم آخر ، وهو أنه مجيء في حياته وبعد مماته ، فتراهم يدعون النبي صلى الله عليه وسلم ، ويستغفرون عند قبره ويستغيثون به من دون الله تعالى ، وهذا كله باطل لأنه قول بني على فهم مخالف لفهم سلف الأمة ، والمتقرر أن كل فهم يخالف فهم سلف الأمة في العقيدة والعمل فهو باطل.(1/206)
الفرع التاسع والعشرون:- أجمع سلف الأمة وأئمتها على أن الله تعالى يتكلم متى شاء ، كيفما شاء وأن كلامه بحرف وصوت يسمعه من يشاء ، وأنه قديم النوع حادث الآحاد ، وكل ذلك ثابت بالأدلة من الكتاب والسنة ، وقد ذكرناها في موضع آخر ، فالأدلة الواردة في شأن إثبات صفة الكلام لله تعالى يفهم منها سلف الأمة هذه الأشياء الثلاثة ، وهو الحق الذي لا يجوز العدول عنه وأما أهل البدع فمنهم من أنكر الكلام أصلا ، ومن من حرفه فقال :- إنما يراد به الكلام النفسي فلا يفهمون من الأدلة الواردة بإضافة الكلام إلى الله تعالى إلا الكلام النفسي ، وهذا فهم باطل لأنه مخالف لفهم سلف الأمة ، وبعضهم قال :- إنه كلام قديم النوع والآحاد ، وأن الله تعالى لا يتكلم بقدرته ولا بمشيئته ، وهذا من أمحل المحال وأبطل الباطل ، لأنه مخالف للكتاب والسنة ولفهم سلف الأمة ، ومنهم من زعم أن لله تعالى كلاما منفصلا عنه وهو مخلوق ، وهو قول باطل لمخالفته للكتاب والسنة وفهم سلف الأمة ، والحق إنما هو فيما فهمه السلف وقرروه ، وما عداه فقول باطل ورأي عاطل ، لأنه مخالف لفهم السلف ، والمتقرر أن ما يخالف فهم السلف في العقيدة والعمل فهو باطل .(1/207)
الفرع الثلاثون:- لقد قرر سلف الأمة أن زيارة القبور مشروعة ، ولكن قيدوا مشروعيتها بكونها يراد بها الاعتبار وتذكر الموت ، والدعاء للأموات ، واتباع السنة الثابتة ، وما عدا ذلك فإن السلف رحمهم الله تعالى لا يفهمونه من الأدلة العامة الواردة في الترغيب في زيارة القبور ، كزيارتهم لدعائهم أو الدعاء للنفس عند قبورهم أو الصلاة عندهم ولهم ، أو النذر والذبح لهم ، أو الطواف بقبورهم وقراءة القرآن عندها أو التبرك بترابها ، أو التمسح بما بني عليها أو وضع فيها ، ونحو ذلك مما يفعله بعض الناس ، ويظن أنه من الزيارة المأمور بها في الأدلة ، فنقول له :- إنك قد فهمت من الأدلة فهما مخالفا لفهم سلف الأمة ، والمتقرر أن كل فهم يخالف فهم سلف الأمة في العقيدة والعمل فهو باطل .
الفرع الحادي والثلاثون:- لقد فهم سلف الأمة رحمهم الله تعالى من قوله صلى الله عليه وسلم "من كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعده من النار " فهم السلف حرمة الكذب عليه كله ، وهذا هو الحق وأما بعض السذج من الخلق فإنه يجوز الكذب الموجب للترغيب في التعبد ومحبة النبي صلى الله عليه وسلم والترغيب في الطاعة ، ويقول :- أنا أكذب له لا عليه ، وهذا فهم غريب من الحديث مخالف لفهم فهم سلف الأمة ، فهو فهم باطل ، لأن المتقرر أن كل فهم يخالف فهم سلف الأمة في العقيدة والعمل فهو باطل .(1/208)
الفرع الثاني والثلاثون:- اعلم رحمك الله تعالى أن كل تفسير منقول عن الرافضة لآيات القرآن يتضمن قدحا في الصحابة أو طعنا في إيمانهم أو أنهم ليسوا على الهدى أو أن عليا رضي الله عنه هو الخليفة بعد النبي صلى الله عليه وسلم ، أو أن أحدا من أمهات المؤمنين قد وقعت في السوء ، فهو تفسير باطل ، باطل ، باطل ، فإن هذا النوع من التفسير لا يعرف عن سلف الأمة وأئمتها ، وإنما يتفوه به من لا خلاق ولا حياء عنده من الرافضة ومن أشبههم في قلة الأدب على سلف الأمة كما قال بعضهم أن كل آية فيها ذكر فرعون وهامان، فالمراد بها ( أبو بكر وعمر ) والآية التي فيه { إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُواْ بَقَرَةً } قالوا :- هي عائشة ، ألا لعنهم الله اللعائن المتتابعة ،وكما قالوا في قوله تعالى { وَاجْتَنِبُواْ الطَّاغُوتَ } أي أبي بكر وعمر ، وغير ذلك كثير ، مما تمجه الأسماع ، وتحزن له القلوب ، وتعاف رؤيته العيون ، من الكذب وأصناف السباب والشتائم والإفك والفجور والبغض ، وكل هذه التفاسير وما أشبهها ، تفاسير باطلة ، لأنها بنيت على مخالفة فهم سلف الأمة والمتقرر أن كل فهم يخالف فهم سلف الأمة في العقيدة والعمل فهو باطل .(1/209)
الفرع الثالث والثلاثون:- كل آية يستدل بها المعطل على تعطيله لأسماء الله تعالى وصفاته فاعلم أنه استدلال باطل لأنه بني على مخالفة فهم السلف ، وما خالف فهم السلف في العقيدة فباطل ، وكل نص يستدل به الممثل على تمثيله الرب بخلقه فاعلم أنه استدلال باطل ، لأنه مخالف لما فهمه سلف الأمة منه ، وما خالف فهم سلف الأمة في العقيدة فهو باطل ، وكل نص يستدل به الجبري على تأييد أن العبد لا قدرة له ولا اختيار فاعلم أنه استدلال باطل، لأنه مبني على مخالفة فهم السلف فيه ومخالفة فهم السلف في النصوص دليل البطلان ، وكل نص يستدل به القدري على تأييد قوله في أن العبد هو الذي يخلق فعله بنفسه ، فهو استدلال باطل ، لأن السلف ما فهموا جزما من هذا النص ما فهمه هذا الجبري ، وما خالف فهم السلف في العقيدة والعمل فهو باطل ، وكل نص يستدل به الرافضي على القدح في عدالة الصحابة أو إثبات ردتهم بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم فاعلم أنه استدلال باطل ، لما عللناه سابقا ، وكل نص يستدل به الوعيدية على أن مرتكب الكبيرة خارج من الإسلام وأنه خالد الخلود الأبدي في النار فاعلم أنه استدلال باطل ، لأنه مبني على غير فهم السلف ، وكل نص يستدل به المرجئ على أن ارتكاب الذنوب لا يؤثر في نقص الإيمان ، وأن مرتكب الكبيرة سيدخل الجنة ابتداء ولا عذاب عليه أصلا ، لأنه مؤمن كامل الإيمان ، فاعلم أنه استدلال باطل ، لأنه بني على مخالفة فهم السلف في فهم النص ، وغير ذلك كثير ، وكل هذه الأقوال نحن نستدل على بطلانها بأنها مخالفة لفهم سلف الأمة ، فانظر رحمك الله تعالى إلى بركة هذه القاعدة الطيبة ، والتي حقها أن تكون أصلا من أصول عقيدتك التي تدين الله تعالى بها .(1/210)
الفرع الرابع والثلاثون:- لقد اتفق أهل السنة رحمهم الله تعالى على أن حديث الولي من أحاديث الصفات ، أعني به قوله صلى الله عليه وسلم ، فيما يرويه عن ربه عز وجل " ما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إلي مما افترضته عليه ، ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه ، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به ، وبصره الذي يبصر به ، ويده التي يبطش بها ورجله التي يمشي عليها ولئن استعاذني لأعيذنه ، ولئن سألني لأعطينه " ففر أهل البدع من هذا الحديث ، أيما فرار, وحرفوه أيما تحريف ، واعتقدوا فيه المعتقدات الفاسدة ، وفهموا منه عين الباطل ، وكروا عليه بالتحريف والتعطيل والإنكار ، وجعلوه مسبة لأهل السنة من أهل الحديث ، وعابوا روايته ونقله للأمة ، مع أن كل ما شغبوا به لا يدل عليه الحديث هذا في صدر ولا ورد ، وإنما هي خرافات أملتها عليهم شياطينهم ، وأوهام توهموها ، وظنون تافهة كاذبة ظنوها ، وليس عليها أثارة من علم ، وقد اتفق سلف الأمة على أن هذا الحديث من أفخم أحاديث الولاية ، وأنه لا يدل إلا على الحق ، وأن الحديث يفسر بعضه بعضا ، وأن آخره يفسر أوله ، وأنه لا يدل على شيء من الحلول والمخالطة المزعومة أنها هي ظاهره ، بل ظاهره حق ، وذلك أن من تقرب إلى الله تعالى بالفرائض والنوافل على الوجه الشرعي , فإن الله تعالى يحبه ، ويترقى العبد في مدارج المحبة ومنازلها ، كلما ترقى في مدارج العبودية لله تعالى ، فإذا وصل العبد إلى محبة الله تعالى كان الله تعالى معه معية تليق بجلاله وعظمته ، ووفقه لكل ما يجبه ويرضاه ، فلا يسمع إلا ما يرضي الله تعالى ، ولا يبصر إلا لما يرضيه جل وعلا ، ولا يبطش بيده ولا يمشي برجله إلا على نور من الله وهداية وتوفيق ومعونة ، هذا هو ظاهر الحديث ، ولأنه قال " ولئن سألني لأعطينه " فأثبت سائلا - وهو العبد - ومسئولا - وهو الرب جل وعلا - وقال " ولئن استعاذني لأعيذنه " فأثبت مستعاذا ومعاذا ، فهما ذاتان(1/211)
منفصلتان فالعبد يتقرب إلى الله تعالى ، والرب يرقيه في منازل حبه ، والعبد يسأل الرب جل وعلا والرب يحقق له ما يريد، والعبد يستعيذه والرب يعيذه ، فأين الحلول المدعى ؟ إنه مجرد وهم توهمه من لا خلاق له ، فأهل السنة وعامة سلف الأمة رحمهم الله تعالى لا يفهمون من هذا النص إلا الحق المتفق مع دلالة الكتاب والسنة، وعليه :- فكل فهم يفهمه أهل البدع من هذا الحديث ويزعمون أنه ظاهر الحديث خلاف ما كان يفهمه سلف الأمة ، هو في الحقيقة فهم باطل ، لأن المتقرر أن كل فهم يخالف فهم سلف الأمة في العقيدة والعمل فهو باطل .(1/212)
الفرع الخامس والثلاثون:- عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : يقول الله عز وجل يوم القيامة : « يا ابن آدم ، مرضت فلم تعدني قال : أي رب كيف أعودك وأنت رب العالمين ؟ فيقول : أما علمت أن عبدي فلانا مرض فلم تعده ، أما علمت أنك لو عدته وجدتني عنده . ويقول : يا ابن آدم ، استطعمتك فلم تطعمني ، فيقول : أي رب ، وكيف أطعمك وأنت رب العالمين ؟ قال : يقول : أما علمت أن عبدي فلانا جاءك يستطعمك فلم تطعمه ، أما علمت أنك لو أطعمته وجدت ذلك عندي . ويقول : يا ابن آدم ، استسقيتك فلم تسقني ، قال : فيقول : أي رب ، وكيف أسقيك وأنت رب العالمين ؟ قال : أما علمت أن عبدي فلانا جاءك فاستسقاك فلم تسقه ، أما علمت لو سقيته وجدت ذلك عندي » . رواه مسلم ، قَالَ الْعُلَمَاء : إِنَّمَا أَضَافَ الْمَرَض إِلَيْهِ سُبْحَانه وَتَعَالَى ، وَالْمُرَاد الْعَبْد تَشْرِيفًا لِلْعَبْدِ وَتَقْرِيبًا لَهُ , قَالُوا : وَمَعْنَى ( وَجَدْتنِي عِنْده ) أَيْ وَجَدْت ثَوَابِي وَكَرَامَتِي ، وَيَدُلّ عَلَيْهِ قَوْله تَعَالَى فِي تَمَام الْحَدِيث : " لَوْ أَطْعَمْته لَوَجَدْت ذَلِكَ عِنْدِي ، لَوْ أَسْقَيْته لَوَجَدْت ذَلِكَ عِنْدِي " أَيْ ثَوَابه ) وقال رحمه الله (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ { يَقُولُ اللَّهُ : عَبْدِي مَرِضْت فَلَمْ تَعُدْنِي فَيَقُولُ كَيْفَ أَعُودُك وَأَنْتَ رَبُّ الْعَالَمِينَ ؟ فَيَقُولُ أَمَا عَلِمْت أَنَّهُ مَرِضَ عَبْدِي فُلَانٌ ؛ فَلَوْ عُدْته لَوَجَدْتنِي عِنْدَهُ .(1/213)
عَبْدِي جُعْت فَلَمْ تُطْعِمْنِي فَيَقُولُ رَبِّي : كَيْفَ أُطْعِمُك وَأَنْتَ رَبُّ الْعَالَمِينَ ؟ فَيَقُولُ : أَمَا عَلِمْت أَنَّ عَبْدِي فُلَانًا جَاعَ ؛ فَلَوْ أَطْعَمْته لَوَجَدْت ذَلِكَ عِنْدِي } فَفَسَّرَ مَا تَكَلَّمَ بِهِ فِي هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّهُ جُوعُ عَبْدِهِ وَمَحْبُوبِهِ لِقَوْلِهِ { لَوَجَدْت ذَلِكَ عِنْدِي } وَلَمْ يَقُلْ لَوَجَدْتنِي قَدْ أَكَلْته وَلِقَوْلِهِ : { لَوَجَدْتنِي عِنْدَهُ } وَلَمْ يَقُلْ لَوَجَدْتنِي إيَّاهُ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْمُحِبَّ يَتَّفِقُ هُوَ وَمَحْبُوبُهُ بِحَيْثُ يَرْضَى أَحَدُهُمَا بِمَا يَرْضَاهُ الْآخَرُ وَيَأْمُرُ بِمَا يَأْمُرُ بِهِ وَيُبْغِضُ مَا يُبْغِضُهُ وَيَكْرَهُ مَا يَكْرَهُهُ وَيَنْهَى عَمَّا يَنْهَى عَنْهُ .(1/214)
وَهَؤُلَاءِ هُمْ الَّذِينَ يَرْضَى الْحَقُّ لِرِضَاهُمْ وَيَغْضَبُ لِغَضَبِهِمْ وَالْكَامِلُ الْمُطْلَقُ فِي هَؤُلَاءِ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ) وقال رحمه الله تعالى ( وَهَذَا صَرِيحٌ فِي أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ لَمْ يَمْرَضْ وَلَا يَجُعْ وَلَكِنْ مَرِضَ عَبْدُهُ وَجَاعَ عَبْدُهُ فَجَعَلَ جُوعَهُ جُوعَهُ وَمَرَضَهُ مَرَضَهُ مُفَسِّرًا ذَلِكَ بِأَنَّك لَوْ أَطْعَمْته لَوَجَدْت ذَلِكَ عِنْدِي وَلَوْ عُدْته لَوَجَدْتنِي عِنْدَهُ ؛ فَلَمْ يَبْقَ فِي الْحَدِيثِ لَفْظٌ يَحْتَاجُ إلَى تَأْوِيلٍ ) وقد أجلب أهل البدع على هذا الحديث بخيلهم ورجلهم ، وظنوا أنه يتضمن وصف الله تعالى بالنقائص والعيوب ، فحرفه بعضهم وأنكر صحته بعضهم ، وما ذلك إلا لأنهم فهموا منه ما لا يليق بالله تعالى ، وخالفوا سلف الأمة في هذا الفهم ،فما يفهمه أهل البدع من هذا الحديث من المعاني الفاسدة كله من الباطل الذي لا يجوز أن يظن أنه هو ظاهر الحديث ، لأنه فهم مخالف لفهم سلف الأمة ، والمتقرر أن كل فهم يخالف فهم سلف الأمة في العقيدة والعمل فهو باطل .(1/215)
الفرع السادس والثلاثون:- أجمع السلف رحمهم الله تعالى على الإيمان بكرامات الأولياء ، وأنها حق ثابت ، إلا أنهم رحمهم الله تعالى يتثبتون فيها تثبتا كبيرا ، ولا يقبلون دعواها من كل أحد ، بل لابد من أن يكون من أهل الإيمان والتقوى ، وأنها من باب تثبيت الولي ، وأنها تكون في العلوم والمكاشفات وفي القدرة والتأثيرات ، وأنها ليست بدليل على أن من ظهرت على يديه أفضل ممن لم تظهر على يده ، وأنها إن ظهرت على يد المخالف للشرع في العقيدة والعمل فلا تعتبر كرامة ، بل هي تلبيس من الشيطان ومخادعة لأهل الإيمان ، وأنها لا تغير من الشرع شيئا بتحليل حرام أو تحريم حلال ، لأن الشرع ثابت لا يغيره شيء ، وأنها لا تفيد سقوط شيء من التكاليف عن من ظهرت على يديه ، بل لا يزال مطالبا بتكاليف الشرع وإن ظهرت على يده الكرامات كلها ، والكشف والكرامة ليس بحجة في أحكام الشريعة المطهرة ، وخاصة فيما يخالف ظاهر الكتاب والسنة, ولا يمتاز صاحب الولاية والكرامة عن آحاد المسلمين في شيء من الزي والعمل والقول ، وأما إثبات التصرف في العالم للأولياء ، وسقوط التكليف عنهم ، وإثبات ما يختص باللّه ، فإسقاط لحق الربوبية والألوهية ، ودعوى مجردة عن الدليل ، بل من العقائد الفاسدة الضعيفة ، والأباطيل الشركية السخيفة , والاستدلال بأمثال قوله تعالى { لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ } حجة فاسدة ، فإن ذلك وعد لهم ، واللّه لا يخلف الميعاد ، وهذا لهم في الآخرة ، كما صرحت به الآيات والأحاديث ودعوى العموم ، بعيدة محالة ، ما شاء الله كان ، وما لم يشأ لم يكن ، واللّه المستعان .(1/216)
وكفى باللّه شهيدًا على الضمائر ، وحكمًا بين العادل والجائر ، وغرهم في دينهم ما كانوا يفترون ، ما أكثر هذا اليوم في الأحزاب المتحزبة ، والجموع المجتمعة ، من فرق الشيعة ، والمتصوفة ، وطوائف المبتدعة ، يُسَيِّرون قواعد لم تتأسس على علم ، ولا هدى ، ولا كتاب منير ، ثم يبنون عليها قناطير علمهم وعملهم ، وما لم يشهد له دليل من الافتراء والشبهة التي نشأت عن الهوى والإلف والتقليد ساقطة في البيِّن فتبقى الدعوى مجردة ، وحجج الله سبحانه أكبر وأكثر . وفي قوله تعالى { قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ } أوضح دليل على المدعى لأن الخير مقصور على اتباعه, فيا حسرة الجهلة البطلة الزاعمين بأن اتباعهم لمن قلدوه ينجيهم من دون اقتصاص واقتصار على الآثار النبوية { وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ } ... والإسلام ما جاء به خاتم النبيين وسيد المرسلين صلى الله عليه وسلم... {(1/217)
وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ } فمن لم يخص الله بالاعتصام ، وهو أغنى الشركاء عن الشرك ، لم يعتصم عن الضلالة ، ومن أخلص لله ، سلم من الضلالة ، ومثله قوله تعالى { اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ } ولقد أربى ضلال المتصوفة ، واتبعهم الرعاع والجهلة ، واستحوذ عليهم الشيطان فأنساهم ذكر الله ، فلا تسمع إلا يا سيدي أحمد البدوي ، ويا سيدي الزيلعي ، ويا سيدي عيدروس ، ويا جيلاني ، ولا تسمع من يذكر الله ، ويلجأ إليه في البحر والبر إلا قليلًا ، ولفقوا كذبات لا أصل لها ، وقد عمت جهالاتهم اليوم عامة أهل وقتنا وخاصتهم ، إلا من شاء الله فيضيفون إليهم من القدرة والعلم بالمغيبات ، والتصرف في الكائنات ، ما يختص باللّه سبحانه, حتى قالوا فلان يتصرف في العالم ، وكل عبارة أخبث من أختها، بل هذا شأن عامة أهل البدع ، فإنهم يفهمون من مسمى كرامة الولي أن هذا الولي له حق التصرف في الكون ، وأنه ممن يدعى ويستغاث به من دون الله تعالى ، وأنه تقبل يديه ورجليه ، ويتبرك به ، ويطاف على قبره إن مات ، ويبنى عليه ، ويوظف له السدنة ، ويأتيه الناس من كل حدب وصوب يتبركون ويدعون ويتمسحون كل هذا لأنه قد ظهرت على يديه الكرامة ، أو يدعى أنه من أهل الكرامات ، وهذا كله فهم فاسد ، لا تدل عليه الكرامة في صدر ولا ورد ، بل الحق في هذا الباب هو ما قرره أهل السنة من سلف هذه الأمة رحمهم الله تعالى ، فضلا عن مخالفته للأدلة المتواترة ، من الكتاب والسنة ، فإن الأدلة وردت بالنهي عن الشرك وبسد كل وسائله وذرائعه التي تفضي إليه ، وهؤلاء يجعلون الكرامة بابا من أبواب إحياء الشرك والوثنية في الأمة ، وما قالوه في باب الكرامة إنما هو مبني على الفهم الفاسد والمتقرر أن كل فهم خالف فهم سلف الأمة في مسائل العقيدة والعمل(1/218)
فهم فاسد باطل ، لا يعول عليه ، ولا يلتفت إليه ، فعليك بجادة مذهب السلف ، فإنه العصمة والنجاة بإذن الله تعالى ، والله يتولانا وإياك .
الفرع الثالث والثلاثون:- ذهب سلف الأمة إلى أن الاستثناء في الإيمان جائز ، أي يجوز للعبد أن يقول ( أنا مؤمن إن شاء الله ) ولا يفهم أهل السنة رحمهم الله تعالى من تجويز ذلك أنه من الشك في الإيمان ، أبدا ، وأما أهل البدع فإنهم لا يفهمون من هذا إلا أن القائل شاكا في إيمانه ، ولذلك فإنهم يطلقون على أهل السنة بأنهم ( الشكاكة ) وهذا فهم فاسد باطل ، لأنه مخالف لفهم السلف والمتقرر أن كل فهم يخالف فهم سلف الأمة في العقيدة والعمل فهو باطل ، فالحق في هذا الباب هو ما قرره أهل السنة ، قَالَ أَبُو بَكْرٍ الْأَثْرَمُ فِي السُّنَّةِ سَمِعْت أَبَا عَبْدِ اللَّهِ يُسْأَلُ عَنْ الِاسْتِثْنَاءِ فِي الْإِيمَانِ مَا تَقُولُ فِيهِ ؟ فَقَالَ : أَمَّا أَنَا فَلَا أَعِيبُهُ أَيْ مِنْ النَّاسِ مَنْ يَعِيبُهُ . قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ : إذَا كَانَ يَقُولُ : إنَّ الْإِيمَانَ قَوْلٌ وَعَمَلٌ يَزِيدُ وَيَنْقُصُ فَاسْتَثْنَى مَخَافَةً وَاحْتِيَاطًا لَيْسَ كَمَا يَقُولُونَ عَلَى الشَّكِّ ؛ إنَّمَا يُسْتَثْنَى لِلْعَمَلِ ، قال أبو العباس رحمه الله تعالى ( وَأَمَّا الِاسْتِثْنَاءُ فِي الْإِيمَانِ بِقَوْلِ الرَّجُلِ : أَنَا مُؤْمِنٌ إنْ شَاءَ اللَّهُ فَالنَّاسُ فِيهِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ : مِنْهُمْ مَنْ يُوجِبُهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يُحَرِّمُهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يُجَوِّزُ الْأَمْرَيْنِ بِاعْتِبَارَيْنِ ؛ وَهَذَا أَصَحُّ الْأَقْوَالِ .(1/219)
فَاَلَّذِينَ يُحَرِّمُونَهُ هُمْ الْمُرْجِئَةُ والجهمية وَنَحْوُهُمْ مِمَّنْ يَجْعَلُ الْإِيمَانَ شَيْئًا وَاحِدًا يَعْلَمُهُ الْإِنْسَانُ مِنْ نَفْسِهِ كَالتَّصْدِيقِ بِالرَّبِّ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا فِي قَلْبِهِ, فَيَقُولُ أَحَدُهُمْ : أَنَا أَعْلَمُ أَنِّي مُؤْمِنٌ كَمَا أَعْلَمُ أَنِّي تَكَلَّمْت بِالشَّهَادَتَيْنِ وَكَمَا أَعْلَمُ أَنِّي قَرَأْت الْفَاتِحَةَ وَكَمَا أَعْلَمُ أَنِّي أُحِبُّ رَسُولَ اللَّهِ ؛ وَأَنِّي أُبْغِضُ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى , فَقَوْلِي : أَنَا مُؤْمِنٌ كَقَوْلِي : أَنَا مُسْلِمٌ وَكَقَوْلِي : تَكَلَّمْت بِالشَّهَادَتَيْنِ وَقَرَأَتْ الْفَاتِحَةَ وَكَقَوْلِي : أَنَا أُبْغِضُ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنْ الْأُمُورِ الْحَاضِرَةِ الَّتِي أَنَا أَعْلَمُهَا وَأَقْطَعُ بِهَا وَكَمَا أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ : أَنَا قَرَأْت الْفَاتِحَةَ إنْ شَاءَ اللَّهُ كَذَلِكَ لَا يَقُولُ : أَنَا مُؤْمِنٌ إنْ شَاءَ اللَّهُ لَكِنْ إذَا كَانَ يَشُكُّ فِي ذَلِكَ فَيَقُولُ : فَعَلْته إنْ شَاءَ اللَّهُ قَالُوا : فَمَنْ اسْتَثْنَى فِي إيمَانِهِ فَهُوَ شَاكٌّ فِيهِ وَسَمَّوْهُمْ الشَّكَّاكَةَ , وَاَلَّذِينَ أَوْجَبُوا الِاسْتِثْنَاءَ لَهُمْ مَأْخَذَانِ : أَحَدُهُمَا أَنَّ الْإِيمَانَ هُوَ مَا مَاتَ عَلَيْهِ الْإِنْسَانُ ؛ وَالْإِنْسَانُ إنَّمَا يَكُونُ عِنْدَ اللَّهِ مُؤْمِنًا وَكَافِرًا بِاعْتِبَارِ الْمُوَافَاةِ وَمَا سَبَقَ فِي عِلْمِ اللَّهِ أَنَّهُ يَكُونُ عَلَيْهِ وَمَا قَبْلَ ذَلِكَ لَا عِبْرَةَ بِهِ , قَالُوا : وَالْإِيمَانُ الَّذِي يَتَعَقَّبُهُ الْكُفْرُ فَيَمُوتُ صَاحِبُهُ كَافِرًا لَيْسَ بِإِيمَانِ كَالصَّلَاةِ الَّتِي يُفْسِدُهَا صَاحِبُهَا قَبْلَ الْكَمَالِ ؛ وَكَالصِّيَامِ الَّذِي يُفْطِرُ صَاحِبُهُ قَبْلَ الْغُرُوبِ وَصَاحِبُ(1/220)
هَذَا هُوَ عِنْدَ اللَّهِ كَافِرٌ لِعِلْمِهِ بِمَا يَمُوتُ عَلَيْهِ وَكَذَلِكَ قَالُوا فِي الْكُفْرِ وَهَذَا الْمَأْخَذُ مَأْخَذُ كَثِيرٍ مِنْ الْمُتَأَخِّرِينَ مِنْ الكلابية وَغَيْرِهِمْ مِمَّنْ يُرِيدُ أَنْ يَنْصُرَ مَا اُشْتُهِرَ عَنْ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْحَدِيثِ مِنْ قَوْلِهِمْ : أَنَا مُؤْمِنٌ إنْ شَاءَ اللَّهُ ؛ وَيُرِيدُ مَعَ ذَلِكَ أَنَّ الْإِيمَانَ لَا يَتَفَاضَلُ ؛ وَلَا يَشُكُّ الْإِنْسَانُ فِي الْمَوْجُودِ مِنْهُ وَإِنَّمَا يَشُكُّ فِي الْمُسْتَقْبَلِ وَانْضَمَّ إلَى ذَلِكَ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ : مَحَبَّةُ اللَّهِ وَرِضَاهُ وَسُخْطُهُ وَبُغْضُهُ قَدِيمٌ , ثُمَّ هَلْ ذَلِكَ هُوَ الْإِرَادَةُ أَمْ صِفَاتٌ أُخَرُ ؟ لَهُمْ فِي ذَلِكَ " قَوْلَانِ " .(1/221)
وَأَكْثَرُ قُدَمَائِهِمْ يَقُولُونَ : إنَّ الرِّضَى وَالسُّخْطَ وَالْغَضَبَ وَنَحْوَ ذَلِكَ صِفَاتٌ لَيْسَتْ هِيَ الْإِرَادَةُ كَمَا أَنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ لَيْسَ هُوَ الْعِلْمَ وَكَذَلِكَ الْوِلَايَةُ وَالْعَدَاوَةُ , هَذِهِ كُلُّهَا صِفَاتٌ قَدِيمَةٌ أَزَلِيَّةٌ عِنْد أَبِي مُحَمَّدِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَعِيدِ بْنِ كُلَّابٍ وَمَنْ اتَّبَعَهُ مِنْ الْمُتَكَلِّمِينَ وَمِنْ أَتْبَاعِ الْمَذَاهِبِ مِنْ الْحَنْبَلِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَغَيْرِهِمْ , قَالُوا : وَاَللَّهُ يُحِبُّ فِي أَزَلِهِ مَنْ كَانَ كَافِرًا إذَا عَلِمَ أَنَّهُ يَمُوتُ مُؤْمِنًا , فَالصَّحَابَةُ مَا زَالُوا مَحْبُوبِينَ لِلَّهِ وَإِنْ كَانُوا قَدْ عَبَدُوا الْأَصْنَامَ مُدَّةً مِنْ الدَّهْرِ وَإِبْلِيسُ مَا زَالَ اللَّهُ يُبْغِضُهُ وَإِنْ كَانَ لَمْ يَكْفُرْ بَعْدُ , وَهَذَا عَلَى أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ لَهُمْ فَالرِّضَى وَالسُّخْطُ يَرْجِعُ إلَى الْإِرَادَةِ وَالْإِرَادَةُ تُطَابِقُ الْعِلْمَ , فَالْمَعْنَى : مَا زَالَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُثِيبَ هَؤُلَاءِ بَعْدَ إيمَانِهِمْ وَيُعَاقِبَ إبْلِيسَ بَعْدَ كُفْرِهِ , وَهَذَا مَعْنًى صَحِيحٌ , فَإِنَّ اللَّهَ يُرِيدُ أَنْ يَخْلُقَ كُلَّ مَا عَلِمَ أَنْ سيخلقه . وَعَلَى قَوْلِ مَنْ يُثْبِتُهَا صِفَاتٍ أُخَرَ يَقُولُ : هُوَ أَيْضًا حُبُّهُ تَابِعٌ لِمَنْ يُرِيدُ أَنْ يُثِيبَهُ فَكُلُّ مَنْ أَرَادَ إثَابَتَهُ فَهُوَ يُحِبُّهُ وَكُلُّ مَنْ أَرَادَ عُقُوبَتَهُ فَإِنَّهُ يُبْغِضُهُ وَهَذَا تَابِعٌ لِلْعِلْمِ .(1/222)
وَهَؤُلَاءِ عِنْدَهُمْ لَا يَرْضَى عَنْ أَحَدٍ بَعْدَ أَنْ كَانَ سَاخِطًا عَلَيْهِ وَلَا يَفْرَحُ بِتَوْبَةِ عَبْدٍ بَعْدَ أَنْ تَابَ عَلَيْهِ بَلْ مَا زَالَ يَفْرَحُ بِتَوْبَتِهِ , وَالْفَرَحُ عِنْدَهُمْ إمَّا الْإِرَادَةُ وَإِمَّا الرِّضَى , وَالْمَعْنَى مَا زَالَ يُرِيدُ إثَابَتَهُ أَوْ يَرْضَى عَمَّا يُرِيدُ إثَابَتَهُ , وَكَذَلِكَ لَا يَغْضَبُ عِنْدَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ دُونَ مَا قَبْلَهُ . بَلْ غَضَبُهُ قَدِيمٌ إمَّا بِمَعْنَى الْإِرَادَةِ وَإِمَّا بِمَعْنَى آخَرَ , فَهَؤُلَاءِ يَقُولُونَ : إذَا عَلِمَ أَنَّ الْإِنْسَانَ يَمُوتُ كَافِرًا لَمْ يَزَلْ مُرِيدًا لِعُقُوبَتِهِ فَذَاكَ الْإِيمَانُ الَّذِي كَانَ مَعَهُ بَاطِلٌ لَا فَائِدَةَ فِيهِ بَلْ وُجُودُهُ كَعَدَمِهِ , فَلَيْسَ هَذَا بِمُؤْمِنِ أَصْلًا وَإِذَا عَلِمَ أَنَّهُ يَمُوتُ مُؤْمِنًا لَمْ يَزَلْ مُرِيدًا لِإِثَابَتِهِ وَذَاكَ الْكُفْرُ الَّذِي فَعَلَهُ وُجُودُهُ كَعَدَمِهِ , فَلَمْ يَكُنْ هَذَا كَافِرًا عِنْدَهُمْ أَصْلًا فَهَؤُلَاءِ يُسْتَثْنَوْنَ فِي الْإِيمَانِ بِنَاءً عَلَى هَذَا الْمَأْخَذِ وَكَذَلِكَ بَعْضُ مُحَقِّقِيهِمْ يُسْتَثْنَوْنَ فِي الْكُفْرِ مِثْلَ أَبِي مَنْصُورٍ الماتريدي فَإِنَّ مَا ذَكَرُوهُ مُطَّرِدٌ فِيهِمَا . وَلَكِنْ جَمَاهِيرُ الْأَئِمَّةِ عَلَى أَنَّهُ لَا يُسْتَثْنَى فِي الْكُفْرِ وَالِاسْتِثْنَاءُ فِيهِ بِدْعَةٌ لَمْ يُعْرَفْ عَنْ أَحَدٍ مِنْ السَّلَفِ وَلَكِنْ هُوَ لَازِمٌ لَهُمْ . وَاَلَّذِينَ فَرَّقُوا مِنْ هَؤُلَاءِ قَالُوا : نَسْتَثْنِي فِي الْإِيمَانِ رَغْبَةً إلَى اللَّهِ فِي أَنْ يُثَبِّتَنَا عَلَيْهِ إلَى الْمَوْتِ وَالْكُفْرُ لَا يَرْغَبُ فِيهِ أَحَدٌ لَكِنْ يُقَالُ : إذَا كَانَ قَوْلُك : مُؤْمِنٌ كَقَوْلِك : فِي الْجَنَّةِ .(1/223)
فَأَنْتَ تَقُولُ عَنْ الْكَافِرِ : هُوَ كَافِرٌ , وَلَا تَقُولُ : هُوَ فِي النَّارِ إلَّا مُعَلِّقًا بِمَوْتِهِ عَلَى الْكُفْرِ فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ كَافِرٌ فِي الْحَالِ قَطْعًا , وَإِنْ جَازَ أَنْ يَصِيرَ مُؤْمِنًا كَذَلِكَ الْمُؤْمِنُ . وَسَوَاءٌ أَخْبَرَ عَنْ نَفْسِهِ أَوْ عَنْ غَيْرِهِ , فَلَوْ قِيلَ عَنْ يَهُودِيٍّ أَوْ نَصْرَانِيٍّ : هَذَا كَافِرٌ قَالَ : إنْ شَاءَ اللَّهُ ؛ إذَا لَمْ يَعْلَمْ أَنَّهُ يَمُوتُ كَافِرًا ؛ وَعِنْدَ هَؤُلَاءِ لَا يَعْلَمُ أَحَدٌ أَحَدًا مُؤْمِنًا إلَّا إذَا عَلِمَ أَنَّهُ يَمُوتُ عَلَيْهِ ؛ وَهَذَا الْقَوْلُ قَالَهُ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكَلَامِ أَصْحَابِ ابْنِ كُلَّابٍ وَوَافَقَهُمْ عَلَى ذَلِكَ كَثِيرٌ مِنْهُ أَتْبَاعُ الْأَئِمَّةِ لَكِنْ لَيْسَ هَذَا قَوْلَ أَحَدٍ مِنْ السَّلَفِ لَا الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ وَلَا غَيْرِهِمْ وَلَا كَانَ أَحَدٌ مِنْ السَّلَفِ الَّذِينَ يُسْتَثْنَوْنَ فِي الْإِيمَانِ يُعَلِّلُونَ بِهَذَا لَا أَحْمَد وَلَا مَنْ قَبْلَهُ , وَمَأْخَذُ هَذَا الْقَوْلِ طَرَدَهُ طَائِفَةٌ مِمَّنْ كَانُوا فِي الْأَصْلِ يَسْتَثْنُونَ فِي الْإِيمَانِ اتِّبَاعًا لِلسَّلَفِ وَكَانُوا قَدْ أَخَذُوا الِاسْتِثْنَاءَ عَنْ السَّلَفِ وَكَانَ أَهْلُ الشَّامِ شَدِيدَيْنِ عَلَى الْمُرْجِئَةِ وَكَانَ مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ الفريابي صَاحِبُ الثَّوْرِيِّ مُرَابِطًا بِعَسْقَلَانَ لَمَّا كَانَتْ مَعْمُورَةً وَكَانَتْ مِنْ خِيَارِ ثُغُورِ الْمُسْلِمِينَ وَلِهَذَا كَانَ فِيهَا فَضَائِلُ لِفَضِيلَةِ الرِّبَاطِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَكَانُوا يَسْتَثْنُونَ فِي الْإِيمَانِ اتِّبَاعًا لِلسَّلَفِ وَاسْتَثْنَوْا أَيْضًا فِي الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ كَقَوْلِ الرَّجُلِ : صَلَّيْت إنْ شَاءَ اللَّهُ وَنَحْوَ ذَلِكَ بِمَعْنَى الْقَبُولِ لِمَا فِي ذَلِكَ(1/224)
مِنْ الْآثَارِ عَنْ السَّلَفِ , ثُمَّ صَارَ كَثِيرٌ مِنْ هَؤُلَاءِ بِآخِرَةِ يَسْتَثْنُونَ فِي كُلِّ شَيْءٍ فَيَقُولُ هَذَا ثَوْبِي إنْ شَاءَ اللَّهُ وَهَذَا حَبْلٌ إنْ شَاءَ اللَّهُ , فَإِذَا قِيلَ لِأَحَدِهِمْ : هَذَا لَا شَكَّ فِيهِ ؛ قَالَ : نَعَمْ لَا شَكَّ فِيهِ ؛ لَكِنْ إذَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يُغَيِّرَهُ غَيَّرَهُ ؛ فَيُرِيدُونَ بِقَوْلِهِمْ إنْ شَاءَ اللَّهُ جَوَازَ تَغْيِيرِهِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ وَإِنْ كَانَ فِي الْحَالِ لَا شَكَّ فِيهِ ؛ كَأَنَّ الْحَقِيقَةَ عِنْدَهُمْ الَّتِي لَا يُسْتَثْنَى فِيهَا مَا لَمْ تَتَبَدَّلْ كَمَا يَقُولُهُ أُولَئِكَ فِي الْإِيمَانِ : إنَّ الْإِيمَانَ مَا عَلِمَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا يَتَبَدَّلُ حَتَّى يَمُوتَ صَاحِبُهُ عَلَيْهِ . لَكِنَّ هَذَا الْقَوْلَ .(1/225)
قَالَهُ قَوْمٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ وَالدِّينِ بِاجْتِهَادِ وَنَظَرٍ وَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ يَسْتَثْنُونَ فِي كُلِّ شَيْءٍ تَلَقَّوْا ذَلِكَ عَنْ بَعْضِ أَتْبَاعِ شَيْخِهِمْ وَشَيْخُهُمْ الَّذِي يَنْتَسِبُونَ إلَيْهِ يُقَالُ لَهُ : أَبُو عَمْرٍو عُثْمَانُ بْنُ مَرْزُوقٍ لَمْ يَكُنْ مِمَّنْ يَرَى هَذَا الِاسْتِثْنَاءَ بَلْ كَانَ فِي الِاسْتِثْنَاءِ عَلَى طَرِيقَةِ مَنْ كَانَ قَبْلَهُ ؛ وَلَكِنْ أَحْدَثَ ذَلِكَ بَعْضُ أَصْحَابِهِ بَعْدَهُ وَكَانَ شَيْخُهُمْ مُنْتَسِبًا إلَى الْإِمَامِ أَحْمَد وَهُوَ مِنْ أَتْبَاعِ عَبْدِ الْوَهَّابِ بْنِ الشَّيْخِ أَبِي الْفَرَجِ المقدسي وَأَبُو الْفَرَجِ مِنْ تَلَامِذَةِ الْقَاضِي أَبِي يَعْلَى , وَهَؤُلَاءِ كُلُّهُمْ وَإِنْ كَانُوا مُنْتَسِبِينَ إلَى الْإِمَامِ أَحْمَد فَهُمْ يُوَافِقُونَ ابْنَ كُلَّابٍ عَلَى أَصْلِهِ الَّذِي كَانَ أَحْمَد يُنْكِرُهُ عَلَى الكلابية وَأَمَرَ بِهَجْرِ الْحَارِثِ المحاسبي مِنْ أَجْلِهِ كَمَا وَافَقَهُ عَلَى أَصْلِهِ طَائِفَةٌ مِنْ أَصْحَابِ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَبِي حَنِيفَةَ كَأَبِي الْمَعَالِي الجويني وَأَبِي الْوَلِيدِ الباجي وَأَبِي مَنْصُورٍ الماتريدي وَغَيْرِهِمْ وَقَوْلِ هَؤُلَاءِ فِي مَسَائِلَ مُتَعَدِّدَةٍ مِنْ مَسَائِلِ الصِّفَاتِ وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهَا كَمَسْأَلَةِ الْقُرْآنِ هَلْ هُوَ سُبْحَانَهُ يَتَكَلَّمُ بِمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ ؟ أَمْ الْقُرْآنُ لَازِمٌ لِذَاتِهِ ؟ وَقَوْلُهُمْ فِي الِاسْتِثْنَاءِ مَبْنِيٌّ عَلَى ذَلِكَ الْأَصْلِ .(1/226)
وَكَذَلِكَ بَنَاهُ الْأَشْعَرِيُّ وَأَتْبَاعُهُ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّ هَؤُلَاءِ كُلَّهُمْ كلابية يَقُولُونَ : إنَّ اللَّهَ لَمْ يَتَكَلَّمْ بِمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ وَلَا يَرْضَى وَلَا يَغْضَبُ عَلَى أَحَدٍ بَعْدَ إيمَانِهِ وَكُفْرِهِ وَلَا يَفْرَحُ بِتَوْبَةِ التَّائِبِ بَعْدَ تَوْبَتِهِ , وَلِهَذَا وَافَقُوا السَّلَفَ عَلَى أَنَّ الْقُرْآنَ كَلَامُ اللَّهِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ , ثُمَّ قَالُوا : إنَّهُ قَدِيمٌ لَمْ يَتَكَلَّمْ بِهِ بِمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ , ثُمَّ اخْتَلَفُوا بَعْدَ هَذَا فِي الْقَدِيمِ أَهُوَ مَعْنًى وَاحِدٌ ؟ أَمْ حُرُوفٌ قَدِيمَةٌ مَعَ تَعَاقُبِهَا ؟ كَمَا بُسِطَتْ أَقْوَالُهُمْ وَأَقْوَالُ غَيْرِهِمْ فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ وَهَذِهِ الطَّائِفَةُ الْمُتَأَخِّرَةُ تُنْكِرُ أَنْ يُقَالَ : قَطْعًا فِي شَيْءٍ مِنْ الْأَشْيَاءِ مَعَ غُلُوِّهِمْ فِي الِاسْتِثْنَاءِ حَتَّى صَارَ هَذَا اللَّفْظُ مُنْكَرًا عِنْدَهُمْ وَإِنْ قَطَعُوا بِالْمَعْنَى فَيَجْزِمُونَ بِأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ وَأَنَّ اللَّهَ رَبُّهُمْ وَلَا يَقُولُونَ : قَطْعًا , وَقَدْ اجْتَمَعَ بِي طَائِفَةٌ مِنْهُمْ فَأَنْكَرَتْ عَلَيْهِمْ ذَلِكَ ؛ وَامْتَنَعَتْ مِنْ فِعْلِ مَطْلُوبِهِمْ حَتَّى يَقُولُوا : قَطْعًا وَأَحْضَرُوا لِي كِتَابًا فِيهِ أَحَادِيثُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ نَهَى أَنْ يَقُولَ الرَّجُلُ : قَطْعًا وَهِيَ أَحَادِيثُ مَوْضُوعَةٌ مُخْتَلَقَةٌ قَدْ افْتَرَاهَا بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ ) إلى أن قال رحمه الله تعالى ( وَأَمَّا مَذْهَبُ سَلَفِ أَصْحَابِ الْحَدِيثِ كَابْنِ مَسْعُودٍ وَأَصْحَابِهِ وَالثَّوْرِيِّ وَابْنِ عيينة وَأَكْثَرِ عُلَمَاءِ الْكُوفَةِ وَيَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ الْقَطَّانِ فِيمَا يَرْوِيه عَنْ عُلَمَاءِ أَهْلِ الْبَصْرَةِ وَأَحْمَد(1/227)
بْنِ حَنْبَلٍ وَغَيْرِهِ مِنْ أَئِمَّةِ السُّنَّةِ فَكَانُوا يَسْتَثْنُونَ فِي الْإِيمَانِ , وَهَذَا مُتَوَاتِرٌ عَنْهُمْ ) وقال رحمه الله تعالى ( الِاسْتِثْنَاءُ فِي الْإِيمَانِ سُنَّةٌ عِنْدَ أَصْحَابِنَا وَأَكْثَرِ أَهْلِ السُّنَّةِ وَقَالَتْ الْمُرْجِئَةُ وَالْمُعْتَزِلَةُ : لَا يَجُوزُ الِاسْتِثْنَاءُ فِيهِ بَلْ هُوَ شَكٌّ ؛ وَالِاسْتِثْنَاءُ أَنْ يَقُولَ : أَنَا مُؤْمِنٌ إنْ شَاءَ اللَّهُ أَوْ مُؤْمِنٌ أَرْجُو أَوْ آمَنْت بِاَللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ أَوْ إنْ كُنْت تُرِيدُ الْإِيمَانَ الَّذِي يَعْصِمُ دَمِي فَنَعَمْ وَإِنْ كُنْت تُرِيدُ { إنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ } فَاَللَّهُ أَعْلَمُ, ثُمَّ هُنَا ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ إمَّا أَنْ يُقَالَ : الِاسْتِثْنَاءُ وَاجِبٌ فَلَا يَجُوزُ الْقَطْعُ وَهَذَا قَوْلُ الْقَاضِي فِي عُيُونِ الْمَسَائِلِ وَغَيْرِهِ وَإِمَّا أَنْ يُقَالَ : هُوَ مُسْتَحَبٌّ وَيَجُوزُ الْقَطْعُ بِاعْتِبَارِ آخَرَ وَإِمَّا أَنْ يُقَالَ : كِلَاهُمَا جَائِزٌ بِاعْتِبَارِ وَإِنَّمَا ذَكَرَ أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ سُنَّةٌ بِمَعْنَى أَنَّهُ جَائِزٌ رَدًّا عَلَى مَنْ نَهَى عَنْهُ فَإِذَا قُلْنَا هُوَ وَاجِبٌ فَمَأْخَذُ الْقَاضِي أَنَّهُ لَوْ جَازَ الْقَطْعُ عَلَى أَنَّا مُؤْمِنُونَ لَكَانَ ذَلِكَ قَطْعًا عَلَى أَنَّا فِي الْجَنَّةِ لَأَنَّ اللَّهَ وَعَدَ الْمُؤْمِنِينَ الْجَنَّةَ وَلَا يَجُوزُ الْقَطْعُ عَلَى الْوَعْدِ بِالْجَنَّةِ لِأَنَّ مِنْ شَرْطِ ذَلِكَ الْمُوَافَاةَ بِالْإِيمَانِ وَلَا يَعْلَمُ ذَلِكَ إلَّا اللَّهُ وَكَذَلِكَ الْإِيمَانُ إنَّمَا يَحْصُلُ بِالْمُوَافَاةِ وَلَا يُعْلَمُ ذَلِكَ , وَلِهَذَا قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ : هَلَّا وَكَلَ الْأُولَى كَمَا وَكَلَ الْآخِرَةَ .(1/228)
يُرِيدُ بِذَلِكَ مَا اسْتَدَلَّ بِهِ مِنْ أَنَّ رَجُلًا قَالَ عِنْدَهُ : إنِّي مُؤْمِنٌ فَقِيلَ لِابْنِ مَسْعُودٍ هَذَا يَزْعُمُ أَنَّهُ مُؤْمِنٌ قَالَ : فَسَلُوهُ أَفِي الْجَنَّةِ هُوَ أَوْ فِي النَّارِ ؟ فَسَأَلُوهُ فَقَالَ : اللَّهُ أَعْلَمُ فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ : فَهَلَّا وَكَلْت الْأُولَى كَمَا وَكَلْت الثَّانِيَةَ . قُلْت : وَيُسْتَدَلُّ أَيْضًا عَلَى وُجُوبِ الِاسْتِثْنَاءِ بِقَوْلِ عُمَرَ : مَنْ قَالَ إنَّهُ مُؤْمِنٌ فَهُوَ كَافِرٌ وَمَنْ زَعَمَ أَنَّهُ فِي الْجَنَّةِ فَهُوَ فِي النَّارِ وَمَنْ زَعَمَ أَنَّهُ عَالِمٌ فَهُوَ جَاهِلٌ وَلَمَّا اسْتَدَلَّ الْمُنَازِعُ بِأَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ إنَّمَا يُحْتَاجُ إلَيْهِ لِمُسْتَقْبَلِ يَشُكُّ فِي وُقُوعِهِ قَالَ : الْجَوَابُ إنَّ هُنَا مُسْتَقْبَلًا يَشُكُّ فِي وُقُوعِهِ وَهُوَ الْمُوَافَاةُ بِالْإِيمَانِ وَالْإِيمَانُ مُرْتَبِطٌ بَعْضُهُ بِبَعْضِ فَهُوَ كَالْعِبَادَةِ الْوَاحِدَةِ .(1/229)
قُلْت: فَحَقِيقَةُ هَذَا الْقَوْلِ أَنَّ الْإِيمَانَ اسْمٌ لِلْعِبَادَةِ مِنْ أَوَّلِ الدُّخُولِ فِيهِ إلَى أَنْ يَمُوتَ عَلَيْهِ فَإِذَا انْتَقَضَ تَبَيَّنَ بُطْلَانُ أَوَّلِهَا كَالْحَدَثِ فِي آخِرِ الصَّلَاةِ وَالْوَطْءِ فِي آخِرِ الْحَجِّ وَالْأَكْلِ فِي آخِرِ النَّهَارِ ؛ وَقَوْلُ مُؤْمِنٍ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ يَقْتَضِي فِعْلَ الْإِيمَانِ كُلِّهِ كَقَوْلِ مُصَلٍّ وَصَائِمٍ وَحَاجٍّ ؛ فَهَذَا مَأْخَذُ الْقَاضِي , وَقَدْ ذَكَرَ بَعْدَهَا فِي الْمُعْتَمَدِ مَسْأَلَةَ الْمُوَافَاةِ وَهِيَ مُتَّصِلَةٌ بِهَا وَهُوَ أَنَّ الْمُؤْمِنَ الَّذِي عَلِمَ اللَّهُ أَنَّهُ يَمُوتُ كَافِرًا ؛ وَبِالْعَكْسِ ؛ هَلْ يَتَعَلَّقُ رِضَا اللَّهِ وَسَخَطُهُ وَمَحَبَّتُهُ وَبُغْضُهُ بِمَا هُوَ عَلَيْهِ أَوْ بِمَا يُوَافِي بِهِ , وَالْمَسْأَلَةُ مُتَعَلِّقَةٌ بِالرِّضَا وَالسَّخَطِ : هَلْ هُوَ قَدِيمٌ أَوْ مُحْدَثٌ ؟ وَالْمَأْخَذُ الثَّانِي: أَنَّ الِاسْمَ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ يَقْتَضِي الْكَمَالَ ؛ وَهَذَا غَيْرُ مَعْلُومٍ لِلْمُتَكَلِّمِ كَمَا قَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ : أَدْرَكْت ثَلَاثِينَ مِنْ أَصْحَابِ مُحَمَّدٍ كُلَّهُمْ يَخَافُ النِّفَاقَ عَلَى نَفْسِهِ لَا يَقُولُ إنَّ إيمَانِي كَإِيمَانِ جِبْرِيلَ فَإِخْبَارُ الرَّجُلِ عَنْ نَفْسِهِ أَنَّهُ كَامِلُ الْإِيمَانِ خَبَرٌ بِمَا لَا يَعْلَمُهُ وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِ ابْنِ الْمُنَزَّلِ : أَنَّ الْمُرْجِئَةَ تَقُولُ إنَّ حَسَنَاتِهَا مَقْبُولَةٌ وَأَنَا لَا أَشْهَدُ بِذَلِكَ وَهَذَا مَأْخَذٌ يَصْلُحُ لِوُجُوبِ الِاسْتِثْنَاءِ وَهَذَا الْمَأْخَذُ الثَّانِي لِلْقَاضِي فَإِنَّ الْمُنَازِعَ احْتَجَّ بِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَجُزْ الِاسْتِثْنَاءُ فِي الْإِسْلَامِ فَكَذَلِكَ فِي الْإِيمَانِ .(1/230)
قَالَ : وَالْجَوَابُ أَنَّ الْإِسْلَامَ مُجَرَّدُ الشَّهَادَتَيْنِ وَقَدْ أَتَى بِهِمَا وَالْإِيمَانُ أَقْوَالٌ وَأَعْمَالٌ لِقَوْلِهِ { الْإِيمَانُ بِضْعٌ وَسَبْعُونَ بَابًا } وَهُوَ لَا يَتَحَقَّقُ كُلُّ ذَلِكَ مِنْهُ . الْمَأْخَذُ الثَّالِثُ: أَنَّ ذَلِكَ تَزْكِيَةٌ لِلنَّفْسِ وَقَدْ قَالَ اللَّهُ { فَلَا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ } وَهَذَا يَصْلُحُ لِلِاسْتِحْبَابِ وَإِلَّا فَإِخْبَارُ الرَّجُلِ بِصِفَتِهِ الَّتِي هُوَ عَلَيْهَا جَائِزٌ وَإِنْ كَانَتْ مَدْحًا وَقَدْ يَصْلُحُ لِلْإِيجَابِ قَالَ الْأَثْرَمُ فِي السُّنَّةِ: حَدَّثَنَا أَحْمَد بْنُ حَنْبَلٍ سَمِعْت يَحْيَى بْنَ سَعِيدٍ يَقُولُ : مَا أَدْرَكْت أَحَدًا مِنْ أَصْحَابِنَا وَلَا بَلَغَنِي إلَّا عَلَى الِاسْتِثْنَاءِ قَالَ الْأَثْرَمُ سَمِعْت أَبَا عَبْدِ اللَّهِ يَسْأَلُ عَنْ الِاسْتِثْنَاءِ فِي الْإِيمَانِ مَا تَقُولُ فِيهِ ؟ قَالَ : أَمَّا أَنَا فَلَا أَعِيبُهُ فَأَسْتَثْنِي مَخَافَةً وَاحْتِيَاطًا لَيْسَ كَمَا يَقُولُونَ عَلَى الشَّكِّ إنَّمَا يُسْتَثْنَى لِلْعَمَلِ قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ : قَالَ اللَّهُ { لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إنْ شَاءَ اللَّهُ } أَيْ إنَّ هَذَا الِاسْتِثْنَاءَ لِغَيْرِ شَكٍّ وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { وَإِنَّا إنْ شَاءَ اللَّهُ بِكُمْ لَاحِقُونَ } أَيْ لَمْ يَكُنْ يَشُكُّ فِي هَذَا وَقَدْ اسْتَثْنَى وَذَكَرَ قَوْلَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { نُبْعَثُ إنْ شَاءَ اللَّهُ مِنْ الْقَبْرِ } وَذَكَرَ قَوْلَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { إنِّي وَاَللَّهِ لَأَرْجُو أَنْ أَكُونَ أَخْشَاكُمْ لِلَّهِ } قَالَ هَذَا كُلُّهُ تَقْوِيَةٌ لِلِاسْتِثْنَاءِ فِي الْإِيمَانِ قُلْت لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ : فَكَأَنَّك لَا تَرَى(1/231)
بَأْسًا أَنْ لَا يُسْتَثْنَى فَقَالَ إذَا كَانَ مِمَّنْ يَقُولُ : الْإِيمَانُ قَوْلٌ وَعَمَلٌ يَزِيدُ وَيَنْقُصُ فَهُوَ أَسْهَلُ عِنْدِي ثُمَّ قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ إنَّ قَوْمًا تَضْعُفُ قُلُوبُهُمْ عَنْ الِاسْتِثْنَاءِ فَتَعَجَّبَ مِنْهُمْ وَذَكَرَ كَلَامًا طَوِيلًا تَرَكْته , فَكَلَامُ أَحْمَد يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ لِأَجْلِ الْعَمَلِ وَهَذَا الْمَأْخَذُ الثَّانِي وَأَنَّهُ لِغَيْرِ شَكٍّ فِي الْأَصْلِ وَهُوَ يُشْبِهُ, الثَّالِثَ وَيَقْتَضِي أَنْ يَجُوزَ تَرْكُ الِاسْتِثْنَاءِ وَأَمَّا جَوَازُ إطْلَاقِ الْقَوْلِ بِأَنِّي مُؤْمِنٌ فَيَصِحُّ إذَا عَنَى أَصْلَ الْإِيمَانِ دُونَ كَمَالِهِ وَالدُّخُولَ فِيهِ دُونَ تَمَامِهِ كَمَا يَقُولُ : أَنَا حَاجٌّ وَصَائِمٌ لِمَنْ شَرَعَ فِي ذَلِكَ وَكَمَا يُطْلِقُهُ فِي قَوْلِهِ آمَنْت بِاَللَّهِ وَرُسُلِهِ وَفِي قَوْلِهِ: إنْ كُنْت تَعْنِي كَذَا وَكَذَا أَنَّ جَوَازَ إخْبَارِهِ بِالْفِعْلِ يَقْتَضِي جَوَازَ إخْبَارِهِ بِالِاسْمِ مَعَ الْقَرِينَةِ وَعَلَى هَذَا يَخْرُجُ مَا رُوِيَ عَنْ صَاحِبِ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ وَمَا رُوِيَ فِي حَدِيثِ الْحَارِثِ الَّذِي قَالَ " أَنَا مُؤْمِنٌ حَقًّا " وَفِي حَدِيثِ الْوَفْدِ الَّذِينَ قَالُوا : نَحْنُ الْمُؤْمِنُونَ, وَإِنْ كَانَ فِي الْإِسْنَادَيْنِ نَظَرٌ) وكلامه رحمه الله تعالى في هذه المسألة كثير ، والمهم أن تعرف أن ما ذهب إليه أهل البدع في هذه المسألة إنما بنوه على فهم فاسد مخالف لفهم السلف ، والمتقرر أن ما خالف فهم سلف الأمة في مسائل العقيدة والعمل فهو باطل ، والله يتولانا وإياك .(1/232)
الفرع الثامن والثلاثون:- أجمع سلف الأمة وأئمتها رحمهم الله تعالى على أن النطق بالشهادتين هو أول واجب على المكلف الذي يريد الدخول في الإسلام ، وقد كانت الوفود والناس يأتون إلى النبي صلى الله عليه وسلم زرافات ووحدانا وينطقون بالشهادة بين يديه ، فيحكم لهم بالإسلام فأول واجب على العبيد هو الإقرار بتوحيد الألوهية الذي من أجله خلقوا ، وذلك بالنطق بالشهادة نطق إيمان وإقرار وعمل ، وعلى هذا عامة أهل السنة رحمهم الله تعالى ، فالتوحيد هو أول ما يدخل به العبد في الإسلام وآخر ما يخرج به العبد من الدنيا ، قال صلى الله عليه وسلم " أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله ، وأن محمدا رسول الله ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة...(1/233)
" الحديث, وفي الحديث " من مات وهو يعلم أن لا إله إلا الله دخل الجنة " وفيه " من كان آخر كلامه لا إله إلا الله دخل الجنة " وفيه " لقنوا موتاكم لا إله إلا الله " والأحاديث في هذا المعنى كثيرة ، فأول واجب على العبيد هو تحقيق التوحيد ، هكذا فهم سلف الأمة من النصوص الواردة في ذلك ، وأما من زاغ وحاد عن سبيلهم فإن أول واجب عندهم هو النظر أو القصد إلى النظر أو الشك ، حتى يصل بذلك النظر إلى العلم بحدوث العالم ، فلا يستقيم إسلام المرء عندهم إلا بالنظر المفضي إلى قيام الاستدلال وصحة البرهان ، ولا يتمكن المكلف عندهم من معرفة الله تعالى على الحقيقة ، إلا بالنظر الذي جعلوا له طريقا معقدة لا يفهمها أساطينهم فضلا عن العامة الذين لا علم عندهم بهذه الطريق ، وقد حكم بعضهم بالكفر على من مات ولم ينظر أو يقصد إلى النظر مع تمكنه من ذلك بسعة الوقت ، وكل هذا كذب واختلاق وهراء وسفه ، بل خبل وجنون ، وهو طريق خاطئ باتفاق سلف الأمة ، لأنه مبني على مخالفة الدليل ، وعلى التعقيد الذي ما أنزل الله به من سلطان ، وعلى مخالفة فهم السلف ، فهو طريقة محدثة بدعية ضالة ، ولا توصل إلى الحق البتة بل لا توصل إلا إلى الحيرة والضلال والتيه والشكوك ، كما اعترف به كبراؤهم ، فدعك من هذه الطريق ، والزم طريقة السلف الصالح في هذا الباب تسلم وتنجو ، وأما طريقة الخلف هذه فإنها مبنية على تخرصات كاذبة وأوهام عفنة باطلة ، لا تهدي إلى حق ولا ترشد إلى صواب ، وأفضل الطرق طريقة القرآن والسنة ، وهي التي اعتمدها سلف الأمة ، من أن أول واجب هو معرفة الله تعالى بالتوحيد وإفراده بالعبودية ، والإقرار بأنه المستحق للعبادة دون ما سواه ، وما أعان على تحقيق ذلك المطلب من النظر في الآيات الكونية والشرعية على الوجه الصحيح والمذهب الرجيح فإنه مأمور به شرعا ، أما تخرصات أهل الكلام وطريقتهم فإنها لا تشفي عليلا ولا تروي غليلا لأنها على غير فهم سلف(1/234)
الأمة ، والمتقرر أن كل فهم يخالف فهم سلف الأمة في مسائل العقيدة والعمل فهم باطل ، والله يتولانا وإياك .
الفرع التاسع والثلاثون:- أجمع سلف الأمة وأئمتها رحمهم الله تعالى على أن المعاد يوم القيامة يكون لهذه الأجساد التي كانت في الدنيا ، فالله تعالى يعيد عين هذه الأجساد ، وهو الذي أنكره كفار الأمم ، وهو الذي جاء القرآن بإثباته والتنبيه عليه بأنواع الأدلة ، فالله تعالى بقدرته الكاملة يجمع رفات هذه الأجساد ويعيدها كما كانت في الدنيا ، ومن أنكر هذا فقد أنكر حقيقة المعاد الجسماني ، فسلف الأمة لا يفهمون من نصوص المعاد يوم القيامة إلا أن الله تعالى سيعيد هذه الأجساد ، وما خالف ذلك من الأقوال التي بنيت على مخالفة النصوص وفهم السلف فهي باطلة لأن المتقرر أن كل فهم يخالف فهم سلف الأمة فهو باطل .
الفرع الأربعون:- أجمع أهل السنة على أن للسحر حقيقة ، وأنه لا يؤثر إلا بإذن الله تعالى الكوني القدري ، وأن منه ما يقتل ومنه ما يمرض أو يصيب بالجنون ، أو يفرق بين المرء وزوجه ، وهو أكثره ، وهذا باتفاق أهل السنة والجماعة رحمهم الله تعالى ، وما نقل عن أهل البدع من أن السحر لا حقيقة له ، وأنه مجرد تخييل فقط ، فإنه بني على غير فهم سلف الأمة ، والمتقرر أن كل فهم يخالف فهم سلف الأمة في مسائل العقيدة والعمل فهم باطل ، فسحر التخييل نوع من أنواع السحر وليس هو كل السحر ، بل هناك سحر التأثير أيضا ، وهو الذي ينكره أكثر أهل البدع لأنهم ما فهموا من النصوص الواردة في شأن ذلك إلا سحر التخييل فقط ، وهذا فهم فاسد لأنه مخالف لفهم سلف الأمة وأئمتها ، والله أعلم .(1/235)
الفرع الحادي والأربعون:- أجمع سلف الأمة على أن للسبب تأثيرا ، لكنه تأثير بقدرة الرب جل وعلا وإرادته ومشيئته ، فالسبب مؤثر لا بذاته ، وهذا باتفاق أهل السنة ، والنصوص الواردة في إثبات سببية شيء لشيء لا يفهم منها سلف الأمة إلا هذا الفهم ، وخالفهم في هذا طائفتان :- المعطلة ، وهم الذين يزعمون أن السبب ليس له مطلق التأثير ، وأن الشيء يكون عنده لا به ، وهذا هوس في العقل وقدح في الشرع ومخالفة للمحسوسات ، وطائفة أخرى قالت :- بل السبب هو المؤثر بذاته ، لا بجعل الله له مؤثرا ، وهذا شرك أكبر ولا شك ، وكلا الطائفتين بنت مذهبها على مخالفة النصوص ومخالفة فهم السلف ، والمتقرر أن كل فهم بني على مخالفة النص وعلى مخالفة فهم سلف الأمة فهم باطل ، وما بني على الباطل فهو باطل ، فالحق الذي ندين الله تعالى به هو أن الأسباب مؤثرة لا بذاتها ، وإنما بجعل الله لها مؤثرة ، والله يتولانا وإياك .
الفرع الثاني والأربعون:- أجمع سلف الأمة على بطلان الاحتجاج بالقدر على فعل المعصية ، وأنها من الحجج الداحضة التي لا تنفع صاحبها يوم القيامة ، ولا تسمن ولا تغنيه من العذاب يوم القيامة فنصوص القدر الواردة في الكتاب والسنة من أن الله تعالى هو الذي خلق الأشياء كلها ، وقدرها وشاءها وكتبها ، ونحو ذلك كله لا يفهم منه أهل السنة أنه يجوز للعبد أن يحتج بالقدر على تقحمه في المعاصي والآثام ، واتفق أهل السنة على أن هذا الفهم من نصوص القدر فهم باطل ، فما يزعمه بعض أهل البدع في باب القدر من أن نصوص إثبات القدر تدل على ذلك هو من الكذب والإفك والبهتان ، وهو فهم مخالف للأدلة من الكتاب والسنة ، ومخالف لفهم سلف الأمة ، والمتقرر أن كل فهم يخالف النصوص ، ويخالف فهم سلف الأمة فهو باطل ، وما بني على الباطل فهو باطل ، والله يحفظنا وإياك من كل زلل ، وقد ذكرنا الأدلة على بطلان الاحتجاج بالقدر على فعل المعاصي في موضع آخر .(1/236)
الفرع الثالث والأربعون:- أجمع سلف الأمة وأئمتها على حرمة الخروج على حاكم الزمان ، وإن ظلم وإن جار ، وإن أخذ المال واعتدى ، إلا أن نرى كفرا بواحا عندنا فيه من الله برهان ، مع غلبة الطن أن ننتصر عليه بلا مفسدة أعظم من المصلحة المرجوة من إبعاده ، هذا باتفاق سلف الأمة وأئمتها ، وعليه وردت الأدلة في صحيح السنة من حرمة الخروج على الحاكم إلا بهذه الشروط وعليه ، فما يفهمه المعتزلة وغيرهم من أهل البدع من النصوص الواردة في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من أنها تدل في المقام الأول على الخروج على الحكام ، فهو فهم فاسد كل الفساد ، لأنه بني على غير فهم سلف الأمة ، ولأنه مخالف للأدلة الكثيرة في منع ذلك، بل إن المعتزلة جعلوا من أصولهم الخمسة:- الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، ويريدون به الخروج على الحكام ويستدلون عليه بالأدلة الواردة في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وهو رأي عاطل باطل ، لأنهم فهموا من النصوص ما لم يفهمه سلف الأمة ، والمتقرر أن كل قول بني على فهم مخالف لفهم سلف الأمة في العقيدة والعمل فهو باطل ، فاحذر من هذه المزالق الوخيمة التي لا تزال الأمة تعاني من آثارها السيئة إلى اليوم .(1/237)
الفرع الرابع والأربعون:- أجمع سلف الأمة على أن الجهاد والحج والجمعة والجماعات تقام خلف الأئمة أبرارا كانوا أو فجارا ، وأنه لا يتخلف عن الصلاة معهم ولا إقامة الجهاد وراءهم إلا مبتدع مبتغ في الإسلام سنة الجاهلية ، وهذا باتفاق أهل السنة والجماعة ، وهو من العقائد التي يقررونها في كتبهم العقدية ، ويوالون ويعادون عليها ، وعليه فما يتشدق به بعض طلبة العلم في بعض الأزمنة من أن الواجب هجرهم ، وعدم الصلاة وراءهم ولا إقامة الجمع ولا الجماعات ولا الجهاد معهم كله من التخرصات الشيطانية ، والمبنية على غير هدى من الله ، والتي خولف بها فهم سلف الأمة والمتقرر أن كل فهم يخالف فهم سلف الأمة في مسائل العقيدة والعمل فهو باطل .
الفرع الخامس والأربعون:- أجمع سلف الأمة على أن التكفير العام لا يستلزم انطباقه على أفراده بالعين إلا بعد توفر الشروط وانتفاء الموانع ، ولنا في الاستدلال على ذلك رسالة مستقلة ، ومعنى هذا أنه ليس كل من وقع في قول أو عمل نص الدليل على أن الواقع فيه يكفر أنه لابد أن يكون كافرا بالعين ، هذا لا يلزم أبدا ، بل السلف متفقون على أن لا تلازم بين الفعل والفاعل ، بل الفعل له حكمه الخاص والفاعل له حكمه الخاص ، فليس كل من وقع في الكفر كفر ، بل لابد من النظر أولا في ثبوت الشروط وانتفاء الموانع ، هذا فهم سلف الأمة ، فهم يفرقون بين الفعل والفاعل فيعطون الفعل ما يستحقه من الحكم ، ويعطون الفاعل ما يستحقه من الحكم ، وهذا هو الحق وعليه :- فمن فهم من الأدلة التي فيها إثبات التكفير لمن قال هذا القول أو فعل هذا الفعل ، فمن فهم من هذه الأدلة أنه ينطبق الحكم فيها على فاعلها مباشرة ، فهو مخالف لفهم سلف الأمة, فقوله باطل ، لأن المتقرر أن كل فهم يخالف فهم سلف الأمة في مسائل العقيدة والعمل فهو باطل ، والله يحفظنا وإياك .(1/238)
الفرع السادس والأربعون:- لقد انعقدت كلمة عامة أهل الإسلام على أن الدين الإسلامي دين صالح لكل زمان ومكان ، وأنه لا صلاح لهذا الكون ولا فلاح له ولا بر ولا خير يكون فيه إلا بالإسلام ، وهذا لابد من الإيمان به ، وأنه لا يصلح أن يخلو منه زمان أو مكان ، أعني بعد بعثة محمد صلى الله عليه وسلم ، فلا صلاح للأزمنة ولا للأمكنة إلا بالإسلام ، والأدلة الواردة في أنه الدين الكامل ، وأنه خاتم الأديان وأنه أحب الأديان إلى الله تعالى وأنه أخفها وأفضلها وأن الله تولى حفظ كتابه بنفسه جل وعلا ، وأن الله تعالى لا يقبل من أحد دينا سواه ، وأن الدين عند الله الإسلام ، وغير ذلك ، كل ذلك يفيد أنه دين صالح لكل زمان ومكان ، وعليه :- فما يتفوه به العلمانيون والليبراليون ومن نحا نحوهم واستغرب في فكره وثقافته من أنه دين لا يصلح إلا للزمان الأول فقط ، وأما قرن العشرين فإنه قرن التطور والحضارة وقرن الذرة وغزو الفضاء ، وقرن العولمة والازدهار ، فلا يصلح فيه أن يقال :- هذا حلال وهذا حرام ، بل الباب مفتوح فيه على مصراعيه فلا دين يحكمه ولا برهان يرجع إليه ، وكل ذلك من الكفر والكذب والفجور والبهتان ، والإفك المبين ، ولعن الله من قاله ، وأخزاه الله وأبعده ، أين هذا من الأدلة المحكمات والبراهين الساطعات والحجج النيرات من أن الإسلام هو الدين الذي به صلاح الدارين ، وبه انتظام مصالح الثقلين ، وأنه الدين الذي يكفل لمن اعتنقه سعادة الأولى والآخرة ، وأنه لا يقبل الله من أحد دينا سواه ، فلا والله ثم لا والله ، إن الإسلام هو الحق ، وما سواه من الأديان فباطل ، ومن قال بغير ذلك من أهل الإسلام ، فإنه يستتاب ، فإن تاب وإلا قتل ، فمن فهم أن الإسلام لا يصلح إلا في زمان دون زمان أو مكان دون مكان فقد فهم فهما غريبا عن فهم المسلمين ، ففهمه باطل ، لما قررناه لك من القاعدة المذكورة .(1/239)
الفرع السابع والأربعون:- اتفق سلف الأمة فيما أعلم على إثبات دخول الجن في الإنس ، ولا أعلم بينهم نزاعا في ذلك ، وعلى ذلك وردت الأدلة ، وقد ذكرتها في غير هذا الموضع ، وخالف في ذلك بعض أهل البدع ، وبعض أهل الطب ، ومن يعظم العقلانيات ، ويقدمها على الأمور السمعية ، أو يقيس الأمور السمعية على ما يقره عقله ، وهذا قول باطل ، لأن الأدلة وردت بإثبات ذلك ، والسلف فهموا من الأدلة إمكانية ذلك ، فمن فهم من الأدلة الواردة في هذا الشأن غير ما فهمه سلف الأمة ففهمه باطل ، مردود عليه ، لأن المتقرر أن كل فهم يخالف فهم سلف الأمة في مسائل العقيدة والعمل فهو باطل .(1/240)
الفرع الثامن والأربعون:- أجمع سلف الأمة وأئمتها على أن اليهودي لا يجوز له بعد بعثة محمد صلى الله عليه وسلم أن يتعبد لله تعالى على مقتضى يهوديته ، وأجمعوا على أن النصراني بعد بعثة محمد صلى الله عليه وسلم لا يجوز له أن يتعبد لله تعالى على مقتضى نصرانيته ، بل يجب عليهم أن يؤمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم ، الإيمان المستجمع للتصديق والإذعان ، كما قال صلى الله عليه وسلم " والذي نفس محمد بيده ، لا يسمع بي أحد من هذه الأمة يهودي ولا نصراني ، ثم يموت ولم يؤمن بالذي أرسلت به إلا كان من أصحاب النار " وأجمع أهل العلم على أن رسالة النبي صلى الله عليه وسلم عامة للإنس والجن ، وعليه :- فمن فهم من كون اليهودية والنصرانية أنها أديان سماوية صحيحة كانت في السابق ، من فهم من ذلك تجويز تعبدهم لله تعالى على مقتضاها ، فهو غالط ، بل إن كان عارفا بالأدلة ولا شبهة عنده فهو كافر ، لأنه مخالف للمعلوم من الدين بالضرورة ، والحوار معهم إن كان يراد به تعريفهم بحقيقة الإسلام ودعوتهم إليه ، وكشف الشبهة التي عندهم وتصحيح ما عندهم من المفاهيم الخاطئة عن الإسلام فأهلا وسهلا ، وأما إن كان يراد به السعي إلى تصحيح ما هم عليه من الكفر ، أو التقريب بين الإسلام وملل الكفر أو أن لكل أحد أن يعبد الله على ما يدينه ، فهذا حوار ظالم غاشم ، لأنه يخرق إجماع أهل العلم القطعي ، ويخالف المعلوم من الدين بالضرورة ، والله من وراء القصد ، ولا حول ولا وقوة إلا بالله العلي العظيم ، ولا نظن بأهل الإسلام إلا خير الظن ، ونعوذ بالله من اتهام إخواننا بما ليس فيهم .(1/241)
الفرع التاسع والأربعون:- أجمع أهل السنة على أن دراسة المنطق ليس بشرط في فهم عقيدة الإسلام ، بل دراسته في الحقيقة قد تكون سببا من أسباب الضلال والتيه والحيرة والشكوك وكثرة الاضطراب ، ولا يزال علماء أهل السنة يحذرون من علم الكلام اليوناني ، لما جره على عقيدة المسلمين من الويلات التي يعرفها من نظر فيما أحدثه القوم في العقيدة ، فضلا عن صعوبة عباراته وعدم الوصول في قضاياه إلى اليقين ، ومخالفته للمنصوص والمعقول ، ومخالفته لمنهج السلف في تفهيم العقيدة ، فما كان سلف الأمة الأوائل يعرفونه قبل تعريب كتب اليونان في عهد المأمون وصدق أبو العباس في وصفه للمنطق اليوناني من أنه علم لا يفهمه البليد ولا يحتاجه النبيه, وعليه:- فالدعاوى التي تثار هنا وهناك من أهمية دراسته ، وأنه طريق الفهم الصحيح ونحو ذلك كلها دعوات عارية عن البرهان ، وكلها تهويل لما قد اتفق أهل السنة على ذمه والنهي عن الدخول فيه بل الطريق الصحيح لفهم العلم إنما هو متابعة سلف الأمة في الفهم ، وما عدا ذلك فتخرص وظنون باطلة ، هذا الذي ندين الله تعالى به ، والله أعلم .
الفرع الخمسون:- أجمع سلف الأمة على أن النبي صلى الله عليه وسلم لا يرى بعد موته في اليقظة بل قد يرى مناما ، ومن رآه في المنام فكأنما رآه على الحقيقة ، وعليه :- فما يفهمه بعض أهل البدع من قوله صلى الله عليه وسلم " من رآني في المنام فقد رآني " من أنه يرى في اليقظة ، هو فهم باطل ، لأنه مخالف لفهم سلف الأمة ، وما خالف فهم السلف في مسائل العقيدة والعمل فهو باطل وأما حديث " فسيراني في اليقظة " فلا يصح ، بل الصحيح أن من رآه في المنام فكأنما رآه في الحقيقة ، لأن الشيطان لا يتصور في صورته صلى الله عليه وسلم ، والمهم أن فهم أهل البدع من الحديث المذكور فهم باطل ، لمخالفته لفهم السلف .(1/242)
الفرع الحادي والخمسون:- أجمع سلف الأمة على أن التلفظ بالنية جهرا قبل العبادات كالصلاة والصوم والطهارة ونحوها أنه من البدع ، وأن التلفظ بها جهرا لا يفهم من قوله " إنما الأعمال بالنيات ، وإنما لكل امرئ ما نوى " وعليه :- فمن فهم من هذا الحديث أنه يدل على مشروعية التلفظ بالنية جهرا ، فقد فهم فهما باطلا ، لأنه خالف فهم سلف الأمة ، والمتقرر أن كل فهم خولف به فهم سلف الأمة فهو باطل .
الفرع الثاني والخمسون:- عامة سلف الأمة فيما أعلم أن البدع في الدين كلها ضلالة ، ولا أعلم عن أحد من الصحابة أنه حسن شيئا من البدع في الدين ، وأما قول عمر " نعمت البدعة هذه " فإنما يريد بها البدعة اللغوية ، لا الشرعية ، فكل بدعة في الدين فهي ضلالة ، ولكن خالف بعض المتأخرين هذا ، وقسموا البدع الشرعية إلى واجبة ومندوبة ومكروهة ومباحة ، وإلى حسنة وقبيحة وهو قول محدث في الدين ، وإن قال به من قاله ، لأنه بني على مخالفة الدليل ، وعلى مخالفة فهم الصحابة والتابعين ، وكل فهم خالف فهم سلف الأمة فهو باطل , فالذي ندين الله تعالى هو أن كل بدعة في الدين فهي ضلالة ، وأن كل إحداث في الدين فهو رد .(1/243)
الفرع الثالث والخمسون:- ما يقوله أهل البدع من أن تعدد الصفات وتعدد الأسماء يفضي إلى تعدد الواجب - أي واجب الوجود - وهو الله تعالى ، هذا قول باطل ، باتفاق سلف الأمة ، بل السلف متفقون على أن لله تعالى أسماء وصفات على ما ورد به الدليل ، وأن هذا التعدد لا يفضي إلى ما قاله أهل البدع ، بل هو دال على كمال عظمته ، وكمال ذاته جل وعلا ، وأن أسماء الله تعالى وإن تعددت فإنها تدل على ذات واحدة ، لا على ذوات كثيرة ، تعالى الله عما يقولون علوا كبيرا ، وقد قرر أن أهل السنة رحمهم الله تعالى أن أسماء الله تعالى متفقة من حيث دلالتها على الذات ، ومتباينة من حيث دلالتها على الصفات ، وأنها كلها حسنى ، وأنها تدل على الصفات دلالة مطابقة وتضمن ولزوم ، وأنها لا حصر لها ، وأنها أعلام باعتبار دلالتها على الاسمية ، ونعوت باعتبار دلالتها على الوصفية ، أي أنها أعلام ونعوت ، وأنها يتوسل إلى الله تعالى بها على العموم وعلى الخصوص ، وليس منها شيء مخلوق ، معاذ الله من هذا القول ، وما خالف هذه التأصيل مما قرره أهل البدع فإنه باطل ، لأنه بني على مخالفة الدليل وعلى مخالفة فهم سلف الأمة ، والمتقرر أن كل فهم يخالف الدليل ويخالف فهم سلف الأمة فهم باطل .(1/244)
الفرع الرابع والخمسون:- ولعله الأخير لأنني أظن أني خرجت عن مقصود الاختصار ، أقول :- لقد اتفق سلف الأمة وأئمتها وسائر أهل السنة والجماعة على أن من المخلوقات ما لا يعدم ولا يفنى بالكلية كالجنة والنار والعرش وغير ذلك ولم يقل بفناء جميع المخلوقات إلا طائفة من أهل الكلام المبتدعين كالجهم بن صفوان ومن وافقه من المعتزلة ونحوهم وهذا قول باطل يخالف كتاب الله وسنة رسوله وإجماع سلف الأمة ، وحيث خالفوا سلف الأمة في الفهم فقولهم باطل ، لأن المتقرر أن كل فهم يخالف فهم سلف الأمة في مسائل العقيدة والعمل فهو باطل ، وهذا آخر الفروع أحببت تقييده لك ، والفروع أكثر من هذا ، ولكن لا نريد الإطالة ، ولعل الخمسين فرعا تكون كفيلة بإفهامك ما أريد إثباته في هذه القاعدة الطيبة المباركة ، وخلاصة الأمر أنني أوصيك أيها الأخ الكريم بمتابعة السلف رحمهم الله تعالى في فهمهم لأدلة الوحيين ، فإنه الفهم الصحيح وما عداه ففهم باطل ، أوصيك ثم أوصيك ثم أوصيك بمتابعة سلفك الصالح ، وأن لا تحيد عنه طرفة عين ، اجعل فهمهم دائما نصب عينيك ، ولا تنظر في الدليل من الكتاب والسنة إلا على ضوئه والله إني لك ناصح وعليك مشفق ، وهذه وصيتي لكل مسلم ، أن يلتزم منهج سلف الأمة في العقيدة والعمل والفهم ، الله الله يا أخي في فهم سلفك الطيب ، الله الله يا أخي في فهم سلفك الطيب ، الله الله يا أخي في فهم سلفك الطيب ، فأسأل الله تعالى أن يرحم أهل السنة ، وأن يغفر لهم المغفرة التامة الكاملة ، وأن يعاملهم بجوده وإحسانه وكرمه وعفوه ، وأن يرفع نزلهم ، ويعلي قدرهم في الدنيا والآخرة ، وأن يجزيهم عنا وعن المسلمين خير الجزاء ، وأن لا يحرمنا بركة الانتفاع بعلومهم ، وأن يحشرنا وإياهم مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين ، وحسن أولئك رفيقا وأستغفر الله تعالى وأتوب إليه من الزلل والخطأ ، وأعوذ به من أن أكون قد تعمدت شيئا من ذلك وأسأله باسمه الأعظم(1/245)
التوفيق والقبول ، وأن يكلل الجهود بالنجاح والسداد ، وأن يجعل هذا العمل عملا متقبلا مبرورا ، تنشرح له الصدور، وتحبه القلوب ، ولا تمل من قراءته العيون والعقول وأشهد الله تعالى ومن حضرني ومن يطلع عليه من أهل العلم أنه وقف لله تعالى ، على كل مسلم وأنه لا حق لأولادي من بعدي أن يحتكروه على أنفسهم طلبا للمال ، وأعيذهم بالله من ذلك فإنني ربيتهم على الزهد في حطام هذه الحياة ، وقد أجزت طباعته لمن أراد ذلك ، ولكن بدون احتفاظ بحقوق الطبع ، لأنه من العلم المبذول لكل مسلم ، وأوصيكم يا من نظرتم فيه أن تدعوا لي بالمغفرة والرضوان ودخول الجنان ، فهذا والله أعظم ما أريده منكم ، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم ، سبحان ربك رب العزة عما يصفون وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين وقد فرغت منه قبيل الفجر في يوم الثلاثاء ، من شوال ، في العشرين منه عام تسع وعشرين وأربعمائة وألف من هجرة الحبيب صلى الله عليه وسلم .
.......................
...(1/246)