...
تذكرة المتقين
إعداد
عبد الحميد محمد
تقديم
إن الحمد لله نحمده تعالى ونستعين به ونستهديه، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، إنه من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لاشريك له، له الملك وله الحمد، يحيي ويميت، وهو الحي الذي لا يموت، فالكل سيموت ولن يبقى إلا الحي الذي لا يموت، الكل سيرحل من هذه الدار، دار الهم والنكد والبوار، الكل سينتقل حافياً عارياً إلى ساحة القرار، الكل سُيعرض كبيراً وصغيراً على الجبار، ليس للمرء بعد الموت من دار إمّا الجنة وإمّا النار { الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ لا ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ } غافر 17 "
وأشهد أن سيدنا وحبيبنا محمد - صلى الله عليه وسلم - أرسله الله رحمة للعالمين، فكان يقوم من الليل يبكي أمام الله، يارب أمتي آمتي يارب أمتي، ليل النبي - صلى الله عليه وسلم - دعاء من أجل الأمة، وفي النهار ماذا تفعل يا رسول الله؟ يتجول على الناس، يذهب بنفسه إلى الناس، في الأسواق والشوارع والبيوت والأندية، قالت عائشة رضي الله عنها: ما شوهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلا غادياً أو رائحا مهموماً متواصل الأحزان، ليس له راحة وهو يقول: ياأيها الناس قولوا لاإله إلا الله تفلحوا) البخاري
نشهد يارسول الله إنك قد بلغت الرسالة، وأديت الأمانة، ونصحت الأمة، وكشف الله بك الغمة، وجاهدت في سبيل الله حتى أتاك اليقين، اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد - صلى الله عليه وسلم - .
أما بعد
فإذا أردت أن تعرف نعمة اليدين، فاسأل مشلول اليدين، وإذا أردت أن تعرف نعمة العينين فاسأل الأعمى، وهكذا نشكر الله على كل هذه النعم،وفوق كل هذه النعم [نعمة الإسلام] فماذا لو كل النعم موجودة، ونعمة الإسلام غير موجودة، فتصير هذه النعم كلها إلى نار جهنم.(1/1)
والدين الإسلامي هو الدين الوحيد الكامل التام، لأنه دين البشرية كلها، وعلينا أن نشكر الله أن جعلنا من أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - .
وأمة النبي على نوعين: نوع متحرك مجاهد، ونوع ساكن غير مجاهد، والله جعل النوع الأول سبباً لفتح باب الهداية أمام الناس جميعاً، نحن نسلك طريق النبي - صلى الله عليه وسلم - ونجعل البشرية تسلك نفس الطريق، وهؤلاء المجاهدون في سبيل الله الذين يدعون، ويجعلون الآخرين دعاة إلى الله.
صحابة النبي - صلى الله عليه وسلم - جعلوا أنفسهم دعاة، وجعلوا نساءهم داعيات، وأولادهم دعاة، علينا أن نشكر النعمة بقدر النعمة، وهناك شكر باللسان، وهناك شكر من جنس النعمة بزيادة الحمد، وقيام الليل والبكاء لله، وهناك فرق بين الذي يبكي لأنَّ أوامر الله متروكة، يبكي لأن الدين ناقص في حياة الناس، يبكي لأنه حي والدين ميت، وبين الذي يبكي إذا مرضت زوجته، يبكي إذا مرض ولده، وإذا أصيبت حبيبته بمكروه بكى، وإذا جمعنا الباكين في العالم كله في كفة ودمعة واحدة لباك من أجل دين الله هو أفضل منهم جميعاً.
والله سبحانه وتعالى بسبب الدعوة يحيي الإيمان وبالدعوة تحيا الأعمال الصالحة، وبالدعوة تحيا الصفات في الداعي، بسبب هذه الدعوة الله يحيي الأرض الميتة وتخرج ثمارها المختلفة والمتنوعة، وهذه الفواكة تدخل كل بيت، تدخل بيت الملك والوزير والغني وهكذا الدعوة.
بين أيديكم مختصرمن بيان عظمة الله وقدرته، وما يجب لله تبارك وتعالى من التقوى والمحبة وغير ذلك،
نشكر الأخ الفاضل على هذا الزاد الطيب، وهو مهم لكل مسلم وخاصة زاد الذي يرجو رضا الله.
نسأل الله أن يوفقنا لما يحب ويرضى، وأن يجعله في ميزان الحسنات، وفي خزائن حفظه وأن يجعله خالصا لوجهه الكريم، وأن ينفعنا بهذا العلم، وأن يجعله سبباً لرضا الله سبحانه وتعالى، وفقنا الله لما يحب ويرضى – وصلى الله وبارك على سيدنا محمد.
... ... ... ... ... ... ... ...
مقدمة الكتاب(1/2)
الحمد لله منشئ الموجودات، وباعث الأموات، وسامع الأصوات، ومجيب الدعوات، وكاشف الكربات، وعالم الأسرار، وغافر الخطيئات، ومُنجي الأبرار، ومُهلك الفجّار، ورافع الدرجات، يقبل التوبة من عباده، ويعفوعن السيئات.
سبحانه: - الأول الذي ليس له ابتداء، الآخر الذي ليس له انتهاء، الصمد الذي ليس له وزراء، الواحد الذي ليس له شركاء، تفرّد بالعز الذي لم يزل، وتنزّه عن النقائض والعلل، نوّر بمعرفته قلوب أحبائه، وطهّر سرائرهم فتنعّموا بخطابه، فيا حسرة من لم يقبله الكريم، ويا مصيبة من فاته هذا الجود العميم، ويا خيبة من سمع خطاب مولاه وهو على خطاياه مقيم، ويا فضيحة من لم يستح من مولاه في الخلوات، أتبارز بالقبيح من عاملك بالجميل؟ أتجاهر بالعصيان من غمرك بفضله الجزيل؟ فأين البعيد من القريب؟ والطريد من الحبيب؟ أين المخطئ من المصيب؟ فسبحان من قسّم عطاءه بين عباده، وأبرم قضاءه فلا معارض له في مراده، وسبقت عنايته لأهل طاعته ووداده، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً - صلى الله عليه وسلم - ورسوله.
أما بعد
فإن الله تعالى يقول { إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ } ق 37، وهذه تذكرة للغافل، وتنبيه لكل لاهٍ عن أمور دينه ما يحق له أن يتغافل عنها، من عظمة الله وقدرته التي لا تحدها حدود، وهيبة الله وجلاله سبحانه الواحد المعبود وعظمة خلقه وحكمته في تصريف أمور عباده، وكمال صفاته، وبدائع آياته وما يجب لله سبحانه وتعالى على عباده، وتنبيه للذين أغراهم زخرف الدنيا وآمالها، فإن وراءهم موتٌ وقبرٌ وحسابٌ وجزاءٌ
وقد سألني بعض الأخوة الفضلاء أن أكتب لهم كتاباً في الرقائق، فاستخرت الله تعالى فهداني لهذا العمل، وتيقنت أننا محتاجون لأمرين هامين حتى تعود القلوب إلى بارئها وحتى يرجع الناس إلى طريق مستقيم: -(1/3)
الأمر الأول: العقيدة الصحيحة من واقع كتاب الله وسنة نبيه - صلى الله عليه وسلم - بفهم سلف الأمة، فلابد من فهم العقيدة فهماً صحيحاً على وفق مراد الله وعلى وفق مراد رسوله - صلى الله عليه وسلم - ثم تحويلها إلى واقع عملي، ولقد مكث النبي - صلى الله عليه وسلم - العهد المكي يعلّم الناس أساسيات العقيدة ولم تشرع العبادات إلاّ في المدينة.
الأمر الثاني: ترقيق القلب [التزكية] فإن القلوب تصدأ ولا بد لها من حاد يحدو بها ويشجعها على الخير، فإن القلب متى صفا ورقّ استجاب.
والقلب إن لم ينفعه الترغيب نفعه الترهيب، لذا قد رأينا كتاب الله يتحدث في آيات كثيرة عن الجنة والنار والحساب والموت والجزاء.. الخ
ومن هذا المنطلق فلا بد لنا من عقيدة صحيحة وقلب سليم تصل العقيدة إليه، ثم رأيت أن كثيراً ممن كتبوا في الرقائق اعتمدوا على أحاديث موضوعة وقصص واهية يأباها العقل، فحاولت أن أجمع ما أستطيع جمعه من الرقائق معتمداً على كتاب الله وسنة نبيه - صلى الله عليه وسلم - الصحيحة وعلى القصص الواقعية التي حدثت والتي لا تتعارض مع العقل، ولكن يأبى الله إلاّ أن تكون العصمة لكتابه ونبيه - صلى الله عليه وسلم -
وقد استخدمت بعض الموز للدلالة على كتب الأحاديث الصحيحة وهي بالرسالة كالآتي: صحيح الجامع الصغير (ص ج ص)، صحيح الترغيب والترهيب (ص غ)
والله أسأل أن يجعل هذا العمل صالحاً ولوجهه خالصاً وماكان فيه من خطأ أو زلل فمن نفسي ومن الشيطان، وأن يغفر لي إنه نعم المولى ونعم النصير.
الفصل الأول: الله جل جلاله(1/4)
إن الله واحد لا شريك له، ولاشيء مثله، ولاشيء يعجزه، ولا إله غيره، لا يفنى ولا يبيد، ولا يكون إلا ما يريد، لاتبلغه الأوهام، ولا تدركه الأفهام، ولا يشبهه الأنام، حي لا يموت، قيوم لا ينام، خالق بلا حاجة، رازق بلا مؤنة، مميت بلا مخافة، باعث بلا مشقة، لم يزل بصفاته تبارك وتعالى أزلياً، كذلك لا يزال عليها أبدياً، له معنى الربوبية ولا مربوب، ومعنى الألوهية ولا مخلوق، ذلك بأنه على كل شيء قدير، وكل شيء إليه فقير، وكل أمر عليه يسير، لا يحتاج إلى شيء، ليس كمثله شيء وهو السميع البصير، وهو متعال عن الأضداد والأنداد، لا رادّ لقضائه، ولا معقّب لحكمه، ولا غالب لأمره، آمنّا بذلك كله.
الله ربي لا أريد سواه ... ... هل في الوجود حقيقة إلاّه
الشمس والبدر من أنوار حكمته ... ... والبر والبحر فيض من عطاياه
الطير سبحه والوحش مجده ... ... والموج كبّره والحوت ناجاه
والنمل تحت الصخور الصم قدّسه ... ... والنحل يهتف حمداً في خلاياه(1/5)
والناس يعصونه جهراً فيسترهم والعبد ينسى وربي ليس ينساه إن الله تبارك وتعالى يدبر أمر الممالك، ويأمر وينهي، ويخلق ويرزق، ويميت ويحيى، ويقضي وينفذ، ويعز ويذل، ويقلّب الليل والنهار، ويداول الأيام بين الناس، والرسل من الملائكة عليهم الصلاة والسلام بين صاعد إليه بالأمر، ونازل به من عنده، وأوامره متعاقبة على تعاقب الآيات، نافذة بإرادته، فما شاء كان، في الوقت الذي يشاء، على الوجه الذي يشاء، من غير زيادة ولا نقصان، ولا تقدّم ولا تأخّر، وأمره وسلطانه نافذ في السموات وأقطارها، وفي الأرض وما عليها وما تحتها، وفي سائر أجزاء العالم وذراته، يقلبها ويصرفها ويحدث فيها ما يشاء، قد أحاط بكل شيء علماً، وأحصى كل شيء عدداً، ووسع كل شيء رحمة وحكمة، ووسع سمعه الأصوات فلا تختلف عليه ولا تشتبه، بل يسمع ضجيجها باختلاف لغاتها وعلى كثرة حاجاتها، لا يشغله سمع عن سمع، ولا تغلطه كثرة المسائل، ولايتبرم بإلحاح ذوى الحاجات، وأحاط بصره بجميع المرئيات، فيرى دبيب النملة السوداء على الصخرة الصماء في الليلة الظلماء، فالغيب عنده شهادة، والسر عنده علانية، يعلم السر وأخفى من السر، فالسر ما انطوى عليه ضمير العبد وخطر بقلبه ولم تتحرك به شفتاه، وأخفى منه مالم يخطر بعد بقلبه، فيعلم أنه سيخطر بقلبه كذا وكذا في وقت كذا وكذا (يداول الأيام: يجعلها لهؤلاء مرة ولهؤلاء مرة، يتبرم: يسئم ويضجر)
له الخلق والأمر، له الملك والحمد، له الدنيا والآخرة، له النعمة والفضل، له الثناء الحسن، له الملك كله، وله الحمد كله، بيده الخير كله، وإليه يرجع الأمر كله، شملت قدرته كل شيء، ووسعت نعمته إلى كل حى، قال تعالى { يَسْأَلُهُ مَن فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ } الرحمن: 29(1/6)
يغفر ذنباً ويفرج هماً، ويكشف كرباً، ويجبر كسيراً، ويغني فقيراً، ويعلم جاهلاً، ويهدى ضالاً، ويرشد حيراناً، ويغيث لهفاناً، ويفك عانياً، ويشبع جائعاً، ويكسو عارياً، ويشفي مريضاً، ويعافي مبتلياً، ويقبل تائباً، ويجزي محسناً، وينصر مظلوماً، ويقصم ظالماً، ويقيل عثرة، ويستر عورة، ويؤمّن من روعة، ويرفع أقواماً، ويضع آخرين، لاينام ولاينبغي له أن ينام، يمينه ملأى، لا تغيضها نفقة سحّاء الليل والنهار قلوب العباد ونواصيهم بيده، وأزمّة الأمور معقودة بقضائه وقدره، الأرض جميعاً قبضته يوم القيامة، والسموات مطويات بيمينه، يقبض سمواته كلها بيده الكريمة، والأرض بيده الأخرى، ثم يهزهن ثم يقول:
[أنا الملك الذي بدأت الدنيا ولم تكن شيئا، وأنا الذي أعيدها كما بدأتها] مسلم
لايتعاظمه ذنب على أن يغفره، ولا حاجة يٌسألها أن يعطيها، لو أن أهل سمواته وأرضه وأنسهم وجنهم، وحيهم وميتهم، قاموا في صعيد واحد، فسألوه فأعطى كل واحد منهم مأسأله مانقص ذلك مما عنده مثقال ذرة، ولو أن أشجار الأرض كلها أقلام، والبحر وراءه سبعة أبحر تمده من بعد بمداد، فكتب بتلك الاقلام وذلك المداد لفنيت الأقلام ونفد المداد ولم تنفد كلمات الخالق تبارك وتعالى، وكيف تفنى كلماته جل جلاله وهي لا بداية لها ولا نهاية، والمخلوق له بداية ونهاية فهو أحق بالفناء والنفاد. (عانيا: أسيرا، سحاء: مليئة، نفد المداد: انتهى الحبر)
يامن عليه المتكل، يامن إليه المبتهل، يامن إليه مشتكى الضراء، إذا الضر نزل، يامن لو أن الخلق، أضعاف عليه لكفل، وكيف لا يكفلهم، وهو حي لم يزل.
فالله: أحق من ذكر، وأحق من عُبد، وأحق من حُمد، وأولى من شُكر، وأنصر من ابتغى، وأرأف من ملك، وأجود من سُئل، وأعفى من قدر، وأكرم من قصد، وأعدل من انتقم، حلمه بعد علمه، وعفوه بعد قدرته، ومغفرته عن عزته، ومنعه عن حكمته، وموالاته عن إحسانه ورحمته.
ما للعباد عليه حق واجب ... كلا ولا سعى لديه ضائع(1/7)
إن عٌذبوا فبعدله أو نعموا ... فبفضله وهو الكريم الواسع
هو الملك الذي لا شريك له، والفرد الذي لا ند له، والغني فلا ظهير له، كل مُلك زائل إلاّ مُلكه، وكل ظل قالص إلاّ ظله، وكل فضل منقطع إلاّ فضله، لن يطاع إلاّ بإذنه ورحمته، ولن يُعصى إلاّ بعلمه وحكمته، يطاع فيشكر، ويعصى فيغفر، كل نقمة منه عدل، وكل نعمة منه فضل، أقرب شهيد وأدنى حفيظ، أخذ النواصي، وسجّل الآثار، وكتب الآجال، القلوب له مفضيّة، والسر عنده علانية، سبحانه وتعالى.
هو أول هو آخر هو ظاهر ... ... هو باطن ليس العيون تراه
حجبته أستار الجلال فدونه ... ... تقف الظنون وتخرس الأفواه
صمد بلا كفء ولا كيفية ... ... أبداً فما النظراء والأشباه
سبحان من عنت الوجوه لوجهه ... ... وله سجود أوجه وجباه
ما كان يُعبد من إله غيره ... ... والكل تحت القهر وهو إله
تعاليت يارب ما أجلك! خلقت الخلق وأجريت الرزق، بك ينمو الزرع، ويدّر الضرع، سبحانك اللهم ما أوسع ملكك، وما أعظم سلطانك! السماء والأرض لك، والملائكة الأطهار جندك، والملوك المتوّجون عبيدك، تباركت وتعاليت! وصنعت فأعجزت، وصورت فأحسنت، الجن والأنس خلقك، والجسم والروح عملك، لا إله إلا أنت، منحتنا بصائراً لا تنكرك، وأبصاراً لا تدركك، يسبح الرعد بحمدك، ويترنّم الطير بمجدك، البحار لا تقر من خشيتك، والجبال هامدة من هيبتك، ولقد جرى النسيم بلطفك، وتقلّب كل مخلوق في رحمتك، تباركت، لا أول قبلك، ولا آخر بعدك كيف تخفي والشمس بعض آياتك؟ وكيف تدرك والروح بعض أسرارك، فأنت الأول والآخر والظاهر والباطن.
سبحانك! بهرتنا آلاؤك وغاب عنا لألاؤك، ماء وحجر وأرض وقمر، وزاحف وطائر وصادح وناغم، أنبتّ لنا من الأرض عجباً، نخيلاً وأشجاراً وأزاهير وثماراً، رب من أين للورد شذاه؟ومن أين للغصن عوده ولحاه، ومن أين للثمار طعومها المختلفة؟ وأشكالها المتباينة؟ وألوانها المتغايرة؟ من أين كل هذا يابن آدم؟ (آلاؤك: نعمك، لألاؤك: جمالك وأنوارك)(1/8)
تباركت مخرج الخضراء من الغبراء، وخالق العجب من طين وماء، سبحانك جلّت عظمتك وتعالت قدرتك، أعجزت الإنسان بالجبال، بل أعجزت الإنسان بذات الإنسان، عظم ولحم وعرق ودم وظفر وشعر وسمع وبصر، قلت للسان وهو لحمة ذق فذاق، وقلت للعين أبصري وهى شحمة فأبصرت، أشهد أن لا إله إلا أنت، رب المشارق والمغارب، والنجوم والكواكب، عجزت عقولنا عن الإحاطة ببعض ما خلقت فكيف تحيط بك؟ سبحانك سبحانك! هذه دنياك فكيف آخرتك، وهذا شأن آثارك فكيف شأنك؟ تباركت من إله صادق وتعاليت من ربّ حق.(الغبراء:الصحراء)
يقول ابن القيم: الإله هو الذي تألهه القلوب محبة وإجلالاً وإنابة وإكراماً وتعظيماً وذٌلاً وخضوعاً وخوفاً ورجاءً وتوكلاً. ... ... ... ...
ويقول ابن رجب: الإله هو الذي يطاع فلا يعصى هيبه له وإجلالاً ومحبة وخوفاً ورجاءً وتوكلاً عليه وسؤالاً منه ودعاءً له ولا يصلح ذلك كله إلا لله عز وجل.
- من للعباد غيره ومن يدبر الأمر ويعدل المائل؟
- من يشفي المريض ومن يرعى الجنين في بطون الحوامل؟
- من يجيب المضطّر إذا دعاه؟ وما استعصت على قدرته المسائل؟
- من يشرح الصدور ولولا هداه لانعدم الكوامل؟
- من كسانا؟ من أطعمنا وسقانا؟ وطوّع لنا الأعضاء والمفاصل؟
- من لنا إذا انقطع الرجاء وتقطّعت بنا الأسباب والوسائل؟
لاإله إلا هو الإله الحق وكل ماخلاه باطل.(1/9)
سبحانه الكريم: من توسل إليه بطاعته تفضل عليه بنعمته، إن أطاع العبد أكرمه وفضله، وإن عصى العبد رحمه وأمهله، فإن تاب وأناب شكره، وإن عصى وأساء ستره، عزيز شهد بجلاله جميع أفعاله، ونطق بجماله جميع أفضاله، ودل على ثبوته بدائع آياته، وأخبر عن صفاته عجائب مخلوقاته، سبحانه: كريم من دعاه لبّاه، ومن توكل عليه كفاه، ومن انقطع إليه آواه، ومن رجع إليه رحمه وأدناه، ومن سأله اكرمه وأعطاه، ومن أعرض عنه ناداه، كريم: صغرت الحوائج على ساحات جوده ورأفته، رحيم: تلاشت قطرات زلات عباده في تلاطم أمواج بحار رحمته، ربك هو الذي رباك بنعمته، وهداك إلى معرفته وزينك بمحبته، فمالك لا تنقطع بالكلية إليه؟ ومالك لاتعتمد في أمورك كلها عليه؟ يامسكين إن أعرضت وأبيت وفي جحودك تماديت، فما أفقرك إليه وما أغناه عنك، من يحسن إليك سواه؟ من ينظر إليك بعين الرحمة سواه؟ من تتوسل إليه إن أصابك ضر سواه؟
إلهي: من ذا الذي عاملك فلم يربح؟ ومن الذي التجأ إليك فلم يفرح؟ ومن الذي وصل إلى بساط قربك واشتهى أن يبرح؟ عجبا لقلوب مالت لغيرك ما الذي استفادت؟ ولنفوس طلبت الراحة من غيرك هلاّ طلبت منك واستفادت؟ والعزائم التي سعت في مرضاتك ما الذي ردها فعادت؟ هل نقصت أموال اقترضتها؟ لا يارب بل زادت، أنت المبتدئ بالنوال قبل السؤال، والمعطي من الأفضال فوق الآمال، إلهي: أدعوك بلسان أملي لما كلّ لسان عملي، إلهي: كل فرح بغيرك زائل وكل سرور بغيرك باطل، إلهي: أطعناك في أكبر الطاعات وهي الإيمان بك، وتركنا أكبر السيئات وهي الشرك بك والافتراء عليك, فاغفر لنا ما بينهما ولاتردنا، فأنت ملاذ من ضاقت به الحيل، وملجأ من انقطع به الأمل.(1/10)
إن العبد عندما يطيع الله، يحب أن يطيعه وهو معترف بهيمنة مولاه وعلو شأنه وعظيم سلطانه ووافر رحمته وجزيل عطائه وواسع مغفرته وشدة عقابه وعظيم عفوه وقوة انتقامه فيعبد الله اعترافاً بحقه وشكراً لنعمائه، مع الخوف من التقصير، مع الرجاء بما عند الجليل من الرضا والثواب والرعاية وغير ذلك مما يمن الله به على عباده المؤمنين.
يافاطر الخلق البديع وكافلا ... ... أرزاق من هو صامت أو سائل
أوسعتهم جوداً فيا من عنده ... ... رزق الجميع سحاب جودك هاطل ...
يامن على العرش استوى ياصادق ... ... الوعد الوفي قضاء حكمك عادل
يا طيب الأسماء من يقصد إلى ... أبواب غيرك فهو غرّ جاهل
ومن استراح بغير ذكرك أو رجا ... من غيركم فضلاً فذاك المائل
عمل أريد به سواك فإنه ... ... عمل يرد على الذي هو عامل
وإذا رضيت فكل شيء هين ... حسبي رضاك فكل شيء زائل
إن الله تعالى يتحبب إلى عباده بجميل الخطاب مع غناه التام عنهم، يقول تعالى { يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنتُمُ الْفُقَرَاء إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ } فاطر: 5
إن العباد فقراء إليه فقراً كاملاً، محتاجون إليه احتياجاً تاماً، فقراء إلى عفوه، فقراء إلى جوده، فقراء إلى رزقه، فقراء إلى رعايته، فقراء إلى ستره، والله تبارك وتعالى غنياً غناءً تاماً وكاملاً.
قل للطبيب تخطفته يد الردى ... يازاعماً شفي الأمراض من أرداكا
قل للمريض نجا وعُوفى بعدما ... عجزت فنون الطب من عافاكا
قل للصحيح يموت لامن علة ... ... من بالمنايا ياصحيح دهاكا
قل للبصير وكان يحذر حفرة ... ... فهوى بها من ذا الذي أهواكا
بل سائل الأعمى خطا بين الزحام ... ... بلا اصطدام من يقود خطاكا
قل للجنين يعيش معزولاً بلا ... ... راع ومرعى من ذا الذي يرعاكا
قل للوليد بكى وأجهش بالبكاء ... ... لدى الولادة ما الذي أبكاكا
وإذا ترى الثعبان ينفث سمه ... فاسأله من ذا بالسموم حشاكا
واسأله كيف تعيش يا ثعبان ... أو تحيا وهذا السم يملأ فاكا(1/11)
وأسأل بطون النحل كيف تقاطرت ... شهداً وقل للشهد من حلاكا
ولله تبارك وتعالى الصفات التي تجعل العبد دائم الإيمان والعبادة والخشية والإنابة والتوكل على الله والتضرع له سبحانه ومنها: -
إن الله تعالى له العظمة والهيبة والقوة والسلطان
قال تعالى { وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ } الزمر 67 { غَافِرِ الذَّنبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِي الطَّوْلِ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ } غافر 3 { إن كل من َّمَوَاتِ وَالأَرْضِ إِلاَّ آتِي الرَّحْمَنِ عَبْداً َكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْداً } مريم : 93 ـ 95(ذي الطول: الفضل والغنى)
وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (إن الله قد أذن لي أن أحدث عن ملك من حملة العرش رجلاه في الأرض السفلى وعلى قرنه العرش وبين شحمة أذنه وعاتقه خفقان الطير سبعمائة عام، يقول: ذلك الملك: سبحانك حيث كنت)الحاكم حديث صحيح (ص ج ص)
وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (إن الله لا ينام ولا يبنغي له أن ينام، يخفض القسط ويرفعه، يرفع عمل الليل قبل عمل النهار، وعمل النهار قبل عمل الليل، حجابه النور، لو كشفه لأحرقت سبحات وجه ما انتهى إليه بصره من خلقه) مسلم (سبحات: أنوار).
وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (يقبض الله عز وجل السموات يوم القيامة بيده اليمنى، ثم يقول: أنا الملك أين الجبارون؟ أين المتكبرون؟ ثم يطوي الأرض بشماله، ثم يقول: أنا الملك، أين الجبارون؟ أين المتكبرون؟) مسلم.
رقابة الله
قال تعالى { قُلْ إِن تُخْفُواْ مَا فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَيَعْلَمُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } ]آل عمران 29
{(1/12)
يَعْلَمُ خَائِنَةَ الأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ } غافر 19
{ اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ } فصلت 40
{ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً } النساء 1
إن رقابة الله تأخذ على النفس أقطارها، وتلاحقها في خطراتها وحركاتها، وتتعقبها في سرها وجهرها، وفي باطنها وظاهرها التي لا تدعها لحظة واحدة من المولد إلى الممات، إلى البعث، إلى الحشر، إلى الحساب، وهي رقابة شديدة، دقيقة رهيبة، تطبق على هذا المخلوق الإنساني الضعيف إطباقاً كاملاً شاملاً فهو في القبضة التي لا تغفل عنه أبداً، ولا تغفل عن أمره دقيقا ولا جليلاً، ولا تفارقه كثيراً ولا قليلاً، كل نفس محسوب، وكل هاجسة معلومة، وكل لفظ مكتوب، وكل حركة محسوبة، إن هذه الرقابة تهز النفس هزاً، وترجها رجاً، وتثير فيها رعشة الخوف وروعة الإعجاب ورجفة الصحو من الغفلة على الأمر الرهيب، إن رحلة الإنسان تبدأ من الميلاد وتمر بالموت وتنتهي بالبعث والحساب، رحلة واحدة متصلة بلا توقف، ترسم للقلب البشري طريقه الوحيد الذي لا فكاك عنه ولا محيد، وهو من أول الطريق إلى آخره في قبضة الله لا يتملّص، وتحت رقابة الله التي لا تفتر ولا تغفل، وإنها لرحلة رهيبة تملأ الحس روعة ورهبة، كيف بإنسان في قبضة الجبار المطلع على ذات الصدور، وكيف بإنسان طالبه هو الواحد الديان، الذي لا ينسى ولا يغفل ولا ينام، إن قبضة الجبار مسلطة على الإنسان أينما حلّ وأينما سار، وهي مسلّطة على الضمائر والأسرار، كيف بهذا الإنسان في هذه القبضة وتحت هذه الرقابة.
إن الإنسان خارج من يد الله التي خلقته وصورته وأبدعته، فهو مكشوف الكُنة والوصف والسر لخالقه العليم بمصدره وحاله ومصيره، وهكذا يجد الإنسان نفسه مكشوفة لا يحجبها ستر، وكل ما فيها من وساوس وخافية معلومة لله، تمهيداً ليوم الحساب.(1/13)
إن القلب لو استحضر مدلول هذه الرقابة ما جرؤ على كلمة لايرضى الله عنها بل ما جرؤ على هاجسة في الضمير لاتنال القبول، وإنها وحدها لكافية ليعيش بها الإنسان في حذر دائم وخشية دائمة ويقظة لايغفل عن المحاسبة.
علم الله
قال تعالى { وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُهَا وَلاَ حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلاَ رَطْبٍ وَلاَ يَابِسٍ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ } الأنعام 59(1/14)
إن علم الله لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء، في الزمان ولا في المكان، في البر ولا في البحر، في جوف الأرض ولا في طباق الجو، من حي وميت، ورطب ويابس وهذه صورة لعلم الله الشامل المحيط، إن الخيال البشري لينطلق وراء النص القصير يرتاد آفاق المعلوم والمجهول، عالم الغيب والشهادة، وهو يتتبع ظلال علم الله في أرجاء الكون الفسيح، ووراء هذا الكون المشهود، مفاتيحها كلها عند الله لا يعلمها إلا هو، ويجول في مجاهل البر وفي غيابات الجو، المكشوفة كلها لعلم الله، ويتبع أوراق الاشجار الساقطه، لايحصيها عد، وعين الله على كل ورقة تسقط هنا وهنا وهناك، ويلحظ كل حبة مخبوءة، في ظلمات الأرض لاتغيب عن عين الله ويرقب كل رطب ويابس في هذا الكون العريض، لا يند عنه شيء من علم الله المحيط، وما اهتمام البشر بتقصي وإحصاء الورق الساقط من الشجر في كل أنحاء العالم، إنني كنت أحضر أثناء هبوب الرياح قليلاً أمام شجرة مورقة لأرقب الورق الساقط منها لمدة خمس دقائق، كنت لا أستطيع فقط عدّ الورق الساقط منها، مع قلة الوقت وشدة التركيز، فاذهب بآفاق فكرك كيفما تشاء، وانظر بعين الإجلال والهيبة والعظمة للكبير العظيم المحيط المتعال، وهو يرى كل ورقة تسقط ويحصيها ويعلم لحظة سقوطها وما الذي أثر فيها، وماذا بعد سقوطها يعتريها، وما اهتمام البشر بالرطب واليابس، إن أقصى ما يتجه إليه البشر هو الانتفاع بالرطب واليابس، إنما علمه وإحصاؤه للخالق وحده ولا يفكر في أن تكون كل ورقة ساقطه وكل حبة مخبوءة وكل رطب ويابس في كتاب مبين، وفي سجل محفوظ، إنما الذي يحصيه ويسجله هو صاحب الملك الذي لايند عنه شيء في ملكه، الصغير كالكبير، والمخبوء كالظاهر، والبعيد كالقريب، إنه يتكشف هكذا بجملته لعلم الله وحده، المشرف على كل شيء، المحيط بكل شيء، الذي تتعلق مشيئته وقدرته بكل شيء. (يند: يبتعد، سجل: كتاب)(1/15)
قال تعالى { أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مَا يَكُونُ مِن نَّجْوَى ثَلاثَةٍ إِلاَّ هُوَ رَابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلاَّ هُوَ سَادِسُهُمْ وَلا أَدْنَى مِن ذَلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلاَّ هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُم بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ } المجادلة 7
إن هذه الصورة تترك القلوب وجلة ترتعش مرة، وتأنس مرة، وهى مأخوذة بحضور الله الجليل المأنوس، فحيثما اختلى ثلاثة تلفتوا ليشعروا بالله رابعهم، وحيثما إجتمع خمسة تلفتوا ليشعروا بالله سادسهم، وحيثما كان اثنان يتناجيان فالله هناك، وحيثما كانوا أكثر فالله هناك.
إنها حالة لا يثبت لها قلب، ولا يقوى على مواجهتها إلاّ وهو يرتعش ويهتز، وهو يشعر بأنس الله معه، ولكنه كذلك جليل رهيب بوجود الله { و هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا } وأخيراً { ثُمَّ يُنَبِّئُهُم بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ } .
وهذه لمسة أخرى ترجف وتزلزل، إن مجرد حضور الله وسماعه أمر هائل، فكيف إذا كان لهذا الحضور والسمع ما بعدها من حساب وعقاب، وكيف إذا كان ما يسرّه المتناجون وينعزلون به ليخفوه، سيعرض على الأشهاد يوم القيامة وينبئهم به في الملأ الأعلى في ذلك اليوم المشهود، ذلك اليوم المهول الرهيب، يوم القيامة يوم الحسرة والندامة.
عظمة خلق الله
قال تعالى { خَلَقَ السَّمَوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا وَأَلْقَى فِي الأَرْضِ رَوَاسِيَ أَن تَمِيدَ بِكُمْ وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلِّ دَابَّةٍ وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ } لقمان.1،11(1/16)
هذه السموات التي تراها الأبصار هائلة، حين يخلو الناس إلى تأملها لحظة، وهي هكذا لاتستند إلى شيء، مرفوعه بغير عمد، مكشوفة ترونها، هذه هي اللمسة الأولى للوجدان الإنساني، وهو يقف أمام هذا المشهد الهائل يتملاه، ويدرك أنه لا يقدر على رفعها بلا عمد أو حتى بعمد إلا الله، وقصارى ما يرفعه الناس تلك الأبنية الهزيلة الصغيرة القابعة في ركن ضيق من الأرض، لا تتعداه، ثم يتحدث الناس عمّا في تلك الأبنية من عظمة ومن قدرة ومن إتقان، غافلين ما يعلوهم ويشملهم من سموات مرفوعة بغير عمد وعمّا وراءها من قدرته الحقة والعظمة الحقة والإتقان الذي لا يتطاول إليه خيال إنسان.
وهذه الجبال الهائلة التي وضعها الله على الأرض حتى لا تميد أو تضطرب، وهذه الأنواع الغريبة والعجيبة المنتشرة على ظهر الأرض من بشر وطيور وحيوانات التي لا يستطيع أن يحصرها حاصر، ولا أن يعدّها عادّ إلا الله، الذي يعلم سرها ونجواها، ومستقرها ومستودعها، وظاهرها وخافيها، سبحانه تبارك وتعالى لايشغله سمع عن سمع ولا بصر عن بصر، ولا حال عن حال، وهذا الماء الذي ينزل من السماء بقدر فيخرج ذلك النبات الكريم، البهيج في منظره، البديع في صنعه، لا يقدرعلى ذلك كله إلاّ الله، قال تعالى { وَالأَرْضَ فَرَشْنَاهَا فَنِعْمَ الْمَاهِدُونَ } الذاريات 48(1/17)
وهذه الأرض معرض هائل لآيات الله وعجائب صنعته { وَفِي الأَرْضِ آيَاتٌ لِّلْمُوقِنِينَ } ]الذاريات.2، ذلك المعرض الذي لم نعرف منه حتى هذه اللحظة إلاّ القليل من بدائعه، ونحن نكشف كل يوم منه جديداً، ونطّلع منه على جديد، وتتنوع مشاهد هذه الأرض ومناظرها حيثما نظرت العين، وحيثما تنقلت القدم وعجائب هذه المشاهد لا تنفد، من وديان وجبال وبحار وأنهار وجنات من أعناب وزرع ونخيل صنوان وغير صنوان، كل مشهد من هذه المشاهد، تتناوله يد الإبداع والتغيير الدائبة، التي لاتفتر عن الإبداع والتغيير، يرى النبات في الأرض في بداية خروجه من الثمرة، فإذا هو مشهد، ويراه نبتاً أخضر فإذا هو مشهد، ويراه عند الحصاد حين يهيج ويصفر، فإذا هو مشهد آخر، ولم ينتقل باعاً ولا ذراعاً من مكانه، والخلائق التي تعمر الأرض نباتاً وحيواناً وطيراً وسمكاً وحشرات، وكذلك الإنسان، هذه الخلائق التي لم يعرف عدها وأجناسها حتى الآن، كل خليقة منها أمة، وكل فرد منها آية في الإعجاز، كل حيوان، كل طائر، كل زاحفة، كل حشرة، كل دودة، كل نبته، لا بل كل جناح في يرقة، وكل زهرة في ورقة، لا بل كل عرق في ورقة في ذلك المعرض الإلهي الذي لا تنتهي عجائبه، غير أنه لا يدرك هذه العجائب ولا يستمتع بالنظر والتفكر إلا القلب العامر باليقين، وكثيرون يمرون بالمعرض الإلهي مغمضي العيون والقلب، لايحسون فيها حياة، لأن لمسة اليقين لم تحيي قلوبهم حتى ولو كانوا علماء، فالقلوب لاتفتح لحقيقة الوجود إلاّ بمفتاح الإيمان، ولا تراه إلا بنور اليقين.
ولله في كل تحريكةٍ ... ... وتسكينةٍأبداًشاهد
وفي كل شيء له آية ... ... تدل على أنه واحد(1/18)
وانظر إلى عظمة الكون من حولك: مجرتنا درب التبانة وحدها لهي عالم واسع جداً، إذ إن أجرامها تبلغ مائة مليار نجم وكوكب، بينها واحد ضئيل نسبياً اسمه الأرض، والدوران حول المجرّة يستغرق مائة ألف سنة ضوئية، ولك أن تتخيل هذه المسافة الرهيبة وإذا علمت مثلاً أن الشمس أكبر من الأرض مليون مرة، وأن المسافة بين الشمس والأرض تصل إلى ثلاثة وتسعين مليون ميل، يقطعها الضوء في ثمان دقائق: ملك واسع رهيب! ولقد اكتشف العلماء حتى الآن أكثر من مليون مجرّة، ويتوقع العلماء أنه يوجد أكثر من ألف مليون مجرّة، فإذا كانت السموات بهذا القدر من الاتساع، فكيف ببقية السموات العلا؟! تباركت يارب من خالق عظيم
الإعجاز في خلق الإنسان
انظر إلى قوله تعالى { لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ } التين 4
إن خلق الإنسان على هذه الصورة الجميلة السوية المعتدلة الكاملة الشكل والوظيفة، أمر يستحق التدبر الطويل، والشكر العميق، والأدب الجم، والحب لربه الكريم الذي أكرمه بهذه الخلقة تفضلاً منه ورعاية، فقد كان قادراً على أن يركبّه في أيّ صورة يشاؤها.
إن الإنسان لمخلوق جميل التكوين، سويّ الخلقة، معتدل التصميم، وأن عجائب الإبداع في خلقه لأضخم من إدراكه هو، وأعجب من كل ما حوله، إن الجمال والسواء والاعتدال، لتبدو في تكوينه الجسدي وفي تكوينه العقلي، وفي تكوينه الروحي، وهي تتناسق في كيانه في جمال واستواء.
إن الأجهزة العامة لتكوين الإنسان الجسدي: كالعصبي والدموي والهضمي، وأجهزة الشم والذوق والسمع والبصر، كل منها عجيبة، لاتقاس إليها كل العجائب الصناعية التي يقف الإنسان مدهوشاً أمامها، وينسى عجائب ذاته التي هي أعمق وأدق:-
[(1/19)
1] إن يد الإنسان في مقدمة العجائب الطبيعية الفذة, وإنه من المستحيل أن تبتكر آلة تضارع اليد البشرية من حيث البساطة والقدرة وسرعة التكيف فتستعمل كافة الآلات التي تلزم الإنسان وتحمل كل مايريد، وفي اليد سبع وعشرون عظمة وتسع عشرة مجموعة من العضلات.
[2] مركز حاسة الإبصار في العين التي تحتوي على مائة وثلاثين مليوناً من مستقبلات الضوء، وهي أطراف الأعصاب، ويقوم بحمايتها الجفن ذو الأهداب، التي يقيها ليل نهار ويمنع عنها الأتربة والأجسام الغريبة، وحركة الجفن كذلك تمنع جفاف العين، أما السائل المحيط بالعين " الدموع " فهو أقوى مطّهر.
[3] جهاز الذوق في الإنسان وهو اللسان، يرجع عمله إلى مجموعات من الخلايا الذوقية الموجودة في غشائه المخاطي، ولها أشكال مختلفة، فمنها الخيطية والعدسية والفطرية، ويغذي الحلمات فروع من العصب اللساني البلعومي، والعصب الذوقي، وتتأثر عند الأكل الأعصاب الذوقية، فينتقل الأثر إلى المخ، وهذا الجهاز موجود في أول الفم، يمكن للإنسان أن يلفظ مايحس أنه ضار، وبه يحس المرء بالمرارة والحلاوة والبرودة والسخونة والحامض والملح ونحوه، ويحتوي اللسان على تسعة آلاف من نتواءات الذوق الدقيقة، يتصل كل نتوء منها بالمخ بأكثر من عصب، فكم عدد هذه الاعصاب؟ وماحجمها؟ وكيف تعمل منفردة؟ وتتجمع بالإحساس عند المخ؟ لا شك أنها قدرة الله تبارك وتعالى.
[4] يتكون الجهاز العصبي الذي يسيطر على الجسم سيطرة كاملة من شعيرات دقيقة تمر في كافة أنحاء الجسم، وتتصل بغيرها أكبر منها، وهذا الجهاز العصبي إذا ما تأثر جزء من أجزاء الجسم ولو كان ذلك لتغيير بسيط في حرارة الجو المحيط ، نقلت الشعيرات العصبية هذا الإحساس إلى المراكز المنتشرة في الجسم وهذه توصل الإحساس إلى المخ، حيث يمكنه أن يتصرف وتبلغ سريان الإشارات والتنبيهات في الأعصاب مائة متر في الثانية.
[(1/20)
5] وإذا نظرنا إلى عملية الهضم على أنه عملية في معمل كيماوي وإلى الطعام الذي نأكله على أنه مواد مختلفة، فإننا ندرك تواً أنه عملية عجيبة، إذ تهضم المعدة تقريباً كل شيء يؤكل ، ونأكل بلا مراعاة المعدة أو تفكير في كيفية معالجة كيمياء الهضم، ومن بين هذا الخليط تختار المعدة تلك الأشياء التي ذات فائدة وذلك بتحطيم كل صنف إلى أجزائه الكيماوية، دون مراعاة الفضلات، وتعيد تكوين الباقي إلى بروتينات جديدة تصبح غذاء لمختلف الخلايا، وحين تتحلل هذه الأطعمة وتجهز من جديد، تقدم باستمرار إلى كل خلية من بلايين الخلايا التي تبلغ أكثر من عدد الجنس البشري كله على وجه الأرض، ويجب أن يكون التوريد إلى كل خلية مفردة مستمراً وألاّ يورد سوى تلك المواد التي تحتاج إليها، تلك الخلية المعينة لتحويلها إلى عظام وأظافر ولحم وشعر وعينين وأسنان، كما تتلقاها الخلية المختصة، فهي إذاً معمل كيماوي ينتج أكثر مما ينتجه أي معمل إبتكره ذكاء الإنسان ، وهذا نظام للتوريد أعظم من أي نظام للنقل والتوزيع عرفه العالم.
[6] المدركات كلها تصل إلى المخ عن طريق الجهاز العصبي الدقيق ولكنه يختزنها لو كان هذا المخ شريطاً مسجلاً لاحتاج الإنسان من خلال الستين عاماً التي هي متوسط عمره إلى آلاف الملايين من الأمتار ليسجل عليها هذا الحشد من الصور والكلمات والمعاني والمشاعر والتأثرات لكي يذكرها بعد ذلك، كما يذكرها فعلاً بعد عشرات السنين، ثم كيف يؤلف بين الكلمات المفردة والمعاني المفردة والحوادث المفردة والصور المفردة ليجعل منها ثقافة مجمعة، ثم يرتقي من المعلومات إلى العلم ومن المدركات إلى الأدراك، ومن التجارب إلى المعرفة.
[(1/21)
7] هذه النطفة في طريق الرحلة الطويلة العجيبة الهائلة حتى تنتهي به إلى هذه النهاية الماثلة، نثق بأن هناك حافظاً من أمر الله يرعى هذه النطفة المجردة من الشكل والعقل، ومن الإرادة والقدرة، في رحلتها الطويلة العجيبة، وهي تحتوي من العجائب أضعاف ما يعرض للإنسان من العجائب من مولده إلى مماته، هذه الخلية الواحدة الملقحة لا تكاد ترى بالمجهر، إذ أن هناك ملايين منها في الدفقة الواحدة، هذه الخلية تبدأ بمجرد استقرارها في الرحم، في عملية بحث عن الغذاء حيث تزودها اليد الحافظة بخاصية أكّالة تحول بها جدار الرحم إلى بركة من الدماء المعد للغذاء الطازج، وبمجرد إطمئنانها على غذائها تبدأ عملية انقسام مستمرة، تنشأ عنها خلايا وتعرف ماذا هي فاعلة، حيث تزودها اليد الحافظة بالهدى والمعرفة والقدرة والإرادة التي تعرف بها الطريق، إنها مكلفة بأن تخصص كل مجموعة من هذه الخلايا الجديدة لبناء ركن من أركان هذه العمارة الهائلة، عمارة الجسم الإنساني، فهذه المجموعة تنطلق لتشكل الهيكل العظمي، وهذه لتشكل الجهاز العضلي، وهذه لتشكل الجهاز العصبي.... الخ.(1/22)
ولكن العمل ليس بمثل هذه البساطة، إن هناك تخصصاً أدق، فكل عظم من العظام وكل عصب من الأعصاب لا يشبه الآخر، لأن العمارة دقيقة الصنع، عجيبة التكوين، متنوعة الوظائف، ومن ثم تتعلم كل مجموعة من الخلايا المنطلقة لبناء ركن من العمارة، أن تتفرق طوائف متخصصة، تقوم كل طائفة منها بنوع معين من العمل في الركن المخصص لها من العمارة الكبيرة، إن كل خلية تعرف وهي تنطلق في طريقها، تعرف إلى أين هى ذاهبة؟ وماهو مطلوب منها، ولا تخطيء واحدة منها طريقها، في هذه المتاهة الهائلة، فالخلايا المكلفة أن تصنع العين تعرف أن العين ينبغي أن تكون في الوجه ولا ينبغي أن تكون في البطن أو القدم أو الذراع، مع أن كل موضع من هذه المواضع يمكن أن تنمو فيه عين، فمن قال لها أن هذا الجهاز يحتاج إلى عين في هذا المكان دون سواه؟ إنه الله، إنه الحافظ الأعلى الذي يرعاها ويوجهها ويهديها إلى طريقها في المتاهة التي لا هادي فيها إلا الله.
وهذه الخلايا تعمل في نطاق ترسمه لها مجموعة معينة من الوحدات تسمى الوراثة، الحافظ لسجل نوع وخصائص الأجداد، فخلية العين وهي تنقسم وتتكاثر لتكوين العين تحافظ على شكل معين للعين، وخصائص محددة تجعلها عين إنسان لا عين حيوان وفيه صفات أجداده وشكل معين للعين، وخصائص معينة بدقة متناهية، فمن الذي أودعها هذه القدرة وعلمها هذا التعليم؟ إنه الله الذي علمها ما يعجز البشر كلهم عن تصميمه لو وكّل إليهم تصميم عين أو جزء من عين، بينما عدة خلايا ساذجة تقوم بهذا العمل العظيم.
ووراء هذه اللمحة الخاطفة عن صور الرحلة العجيبة بين الماء الدافق والإنسان الناطق، حشود لا تحصى من العجائب والغرائب في خصائص الأجهزة والأعضاء، تشهد كلها بالتقدير والتدبير وتشي باليد الحافظة الهادية المعينة، إنها يد الله تبارك في علاه.
[(1/23)
8] وهناك القبس العجيب من الله: هناك الروح الإنساني الخالص الذي يصل هذا الكائن بجمال الوجود، وجمال خالق الوجود، ويمنحه تلك اللحظات الوضيئة من الاتصال المطلق الذي ليس له حدود، بعد الاتصال بومضات الجمال في الوجود، هذه الروح التي لا يعرف الإنسان كنهها، والذي يمتعه بومضات من الفرح والسعادة العلوية حتى وهو على هذه الأرض، ويصله بالملأ الأعلى ويهيئه للحياة المرسومة بحياة الجنان والخلود والنظر إلى الجمال الإلهي في ذلك العالم السعيد، هذه الروح هي هبة الله الكبرى لهذا الإنسان وهو الذي يخاطبه المولى باسمه (ياأيها الإنسان) ويعاتبه ذلك العتاب المخجل (ماغرّك بربك الكريم) ياأيها الإنسان الذي تكرّم عليك ربك راعيك ومربيك، بإنسانيتك الكريمة الواعية الرفيعة، ياأيها الإنسان ما الذي غرك بربك الكريم فجعلك تقصر في حقه وتتهاون في أمره، ويسوء أدبك في جانبه وهو ربك الكريم الذي أغدق عليك من فضله وبره وكرمه، ومن هذا الإغداق إنسانيتك التي تُميزك عن سائر خلقه، والتي تميزك بهذا تعقل وتدرك ما ينبغي ومالا ينبغي من جانبه ويناديك ربك فتقف أمامه مقصراً مذنباً مغتراً غير مقدّر لجلال الله ولا متأدب في جانبه، ثم يواجهك بالتذكير بالنعمة الكبرى، ثم بالتقصير وسوء الأدب والغرور.(1/24)
يقول بعض الحكماء: إن كل شيء في العالم الكبير له نظير في العالم الصغير الذي هو بدن الإنسان، ولذلك قال تعالى { فَلْيَنظُرِ الإِنسَانُ مِمَّ خُلِقَ } الطارق 5 ، فحواس الإنسان أشرف من الكواكب المضيئة، والسمع والبصر في حواسه بمنزلة الشمس والقمر في إدراك المدركات، وأعضاؤه تصير إلى البلى تراباً من جنس الأرض، وفيه جنس الماء العرق وسائر البدن، ومن جنس الهواء فيه الروح والنفس، ومن جنس النار فيه الصفراء، وعروقه بمنزلة الأنهار في الأرض، وكبده بمنزلة العيون التي تستخدمها الأنهار، لأن العروق تستمد من القلب، ومثانته بمنزلة البحر لانصباب مافي أوعية البدن إليها كما تنصب الأنهار إلى البحر، وعظامه بمنزلة الجبال التي هي أوتاد الأرض، وأعضاؤه كالأشجار، كما أن لكل شجرة ورقاً أو ثمر، فكذلك لكل عضو فعل أو أثر، والشعر على البدن بمنزلة النبات على الأرض، ثم إن الإنسان يحاكى بلسانه صوت كل حيوان، ويحاكي بأعضائه صنيع كل حيوان، فهو العالم الصغير مع العالم الكبير، مخلوق محدث لصانع واحد لا إله إلا هو.
وإذا تأمل الإنسان في العناصر التي يتكون منها بدنه، لوجدها نفس العناصر التي تتكون منها تربة الأرض فمنشؤه من الأرض، وهو إلى هذه الأرض سيعود، ومابينهما يعيش مختال، عاص، معرض، فخور، أوما تدبرت منشأك ومعادك أيها المغرور؟!(1/25)
قال عز الدين بن عبد السلام: إن الله سبحانه لمّا أراد أن يبني صورة آدم من زمان تقادم إبتناها على صورة المدينة، وأتقن فيها المباني ممّا يدل على قدرة الباني، وحرك فيها مثالث ومثاني تشير أن الله ليس له ثاني، ثم وضع وسط هذه المدينة قصر المملكة، وبث حوله أشراك المهلكة، وسمي ذلك القصر بالقلب، الذي هو بيت الرب وجعل مدار هذه المدينة عليه، ومرجع الأمر إليه بإشارة ألا وإن في الجسد مضغة، إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله وهي القلب، ووضع في هذا القصر سرير العز والسلطان وأجلس عليه ملكاً يقال له الإيمان، وبث الجوارح في خدمته كالغلمان، فقال اللسان: أنا الترجمان، وقالت العينان: ونحن الحارستان، وقالت الأذنان: ونحن الجاسوسان، وقالت القدمان: ونحن الساعيتان، وقالت اليدان ونحن العاملتان، وقال الملكان: ونحن الشاهدان، وقال صاحب الديوان كما تدين تدان.
وجوب طاعة الله
فإذا ما رسخت بالقلوب عظمة الله تبارك وتعالى وعظم شأنه وأحاط الله بخلقه جميعاً فهم تحت هيمنته وسلطانه، وعلمه الشامل المحيط بكل خلقه، وفقر جميع خلقه إليه، وهو الغني المتفضل عليهم بكرمه وإحسانه، لذلك فلله تبارك وتعالى على عباده حقوقاً لا تُعد ولا تحصى، ومهما قام العبد لمولاه بالطاعة، وقام بكل ما يستطيع من التعظيم لخالقه، والتذلل بين يديه لما قام ذلك كله في مقام نعمة واحدة من نعم الله كنعمة البصر، فيا من تتباهى بطاعتك وتراها أوصلتك لبر الأمان والجنة.
فعليك بالإيمان بالله، اعترافاً بحق الله، وشكراً لنعم الله، وتذللاً بين يدى الله وإذا أردت أن تكون مؤمناً حقاً، فلا بد أن يتوفر بك ثلاثة أشياء: -
((1/26)
1) تصديق بالقلب تصديق جازم أنه لا إل0 إلا الله، فلا معبود بحق إلاّ الله، إن أصابتك سراء فلا تنس حق مولاك فتتكبر وتطغى، وإن أصابتك ضراء فلا تنس حق خالقك، فتشتكي وتقنط فتشقى، وإن أصابتك الفتن والمحن، فلا تترك دينك واستمسك بالعروة الوثقى، فإن الله جاعل بعد عسر يسرا، وكذلك تصدق بالقلب تصديقاً جازماً بأركان الإيمان بالله تعالى وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر خيره وشره.
(2) إقرار باللسان: تردد الشهادة في كل وقت وفي كل مكان، حتى تجد حلاوتها ولا تفتر أبداً عن الاعتراف بعظمة الله وجلاله وكثرة نعمه وشكره عليها، والإيمان بكتب الله جميعاً وجميع رسله وترضى بقضاء الله وقدره.
(3) عمل بالجوارح: فلا يكلّ عضو ولا يملّ عن القيام بكل ما فرض الله عليه، فالقلب للتفكر واللسان للذكر والشكر، والقدم لا تخطو إلا لِما يرضى الله، واليد لاتبطش إلى ما يغضب الله، والعين لا ترى إلا ما يحبه الله، والأذن لا تسمع ما حرّمَهٌ الله، سبحانه وتعالى ذو الجلال والإكرام، قال تعالى { إِن كُلُّ مَن فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ إِلاَّ آتِي الرَّحْمَنِ عَبْداً } مريم 93
سبحانه وتعالى المنعم: فكل خلقه تغمرهم نعمه وأفضاله، وكل مخلوق فقير إلى عطائه ونواله، نعمه تبارك وتعالى تترى عليك خافية وظاهرة، وما خفي من نعمه تعالى أعظم وأجل مما تراه بعينك، وهبك ثلثمائة وستين مفصلاً ووهبها حرية الحركة، هل تشعر بهذه المفاصل أوحتى نصفها تعطي لجسدك هذه المرونة والسهولة واليسر في الحركة، هل فكرت في أن تشكر الله أن وهبكً هيئة بهذا الكمال والروعة؟(1/27)
هل فكرت في هذا الهواء الذي تتنفسه؟ وكم يمر بعمليات معقدة لتستخلص الرئتين الأكسجين، وتطرد ما عداه من مكونات الهواء، ثم يحمل الدم الأكسجين والغذاء لشتى أجزاء الجسم، لتأخذ كل خلية نصيبها الذي يجدد نشاطها، وتستمر دورة الحياة، هل فكرت إذا حدثت أزمة قلبية كم سيكلفك الأكسجين الصناعي، إن لتر الأكسجين يساوي عشرين جنيهاً يستهلكه المريض في دقيقة، فكم تتكلف الساعة؟ إن اليوم بالتنفس الصناعي يتكلف ثمانية وعشرون ألفاً وثمانمائة جنيهاً، هل طلب الله منك أن تسدّد هذه الفاتورة الباهظة التكاليف؟ لا - لماذا؟ لأنه المنعم الوهاب الذي يهب ويمنح بلا مقابل سبحانه وتعالى.
هل تعلم أيها العبد العاصي المفرط في حق ربه المنعم الكريم العظيم، قدر نعم الله التي تتابع عليك تغمرك، من فوقك، ومن تحتك، ومن خلفك، ومن أمامك، وتحيط بك إحاطة شاملة، نعم لو أحصيت بعضها لسقط خجلاً من تقصيرك مع دوام إنعامه عليك، هل فكرت في رأسك؟ كم حوت من دلائل الإعجاز الباهرة من الخالق العظيم تبارك وتعالى، كيف تتصور أن هذه القطعة من اللحم التي تصل إلى نصف كيلو جرام، تقوم بكل هذه العمليات المعقدة لتحفظ للإنسان تفرّده بين جميع الكائنات، مخ يمكن أن يحمله الإنسان في يد واحدة، يقوم بالتفكير وتخزين المعلومات، والتذكر والإدراك، وبه مراكز للإبصار، والسمع والحركة والكلام، والإحساس والاتزان، فهو مركز التحكم الرئيسي في جميع أعضاء الجسم، ما تتحكم فيها، وما لا تتحكم، يعمل بدقة متناهية، وليس للخطأ مكان في تصرفاته، وهذا الرأس الذي هو هبة ومنحة من المنعم الكريم قيل: لو قٌدّر للإنسان أن يبتكر رأس يوازيه ولن يقدر، لاحتاج إلى مساحة من الأرض توازي حجم الكرة الأرضية، فسبحانه من إله منعم، وسبحانه من خالق معجز، سبحانه سبحانه ذو الجلال والإكرام.(1/28)
عباد الله: لقد خصّكم الله بنور العلم وذكاء الفهم، وأخرجكم من العدم إلى الوجود، وأنشأ لكم الأبصار فأبصرتم، والأسماع فسمعتم، والألسنة فنطقتم، والقلوب فعلمتم، والعقول ففهمتم، وأشهدكم على نفسه بالوحدانية، وأنتم في صلب أبيكم آدم فشهدتم، وعند الإقبال أدبرتم، وبعد الإقرار أنكرتم ونقضتم عهده وغدرتم، فإن عدتم إلى رحابه عاد بكم إلى جنابه، وزاد في الكرم وجاد في عطائه، فمن عثر أقاله الله، ومن قطع وصله الله، ومن تاب قبله الله، ومن نسي ذكّره الله، ومن عمل قليلاً شكره الله، يعطي ويمنح ويجود ويسمح ويعفو ويصفح، كرمه مبذول، وستره مسبول, عبد الله: أنظر إلى السماء وشعاعها، والأرض وأقطارها، والبحار وأمواجها والفصول وأزمانها، وما هو ظاهر وكامن، ومتحرك وساكن، وما قرب وما هو بائن وما كان وما هو كائن، وكل رطب ويابس، وواقف وجالس، وما غاب وما حضر، وما خفي وما ظهر، الكل يشهد بجلال الله، ويقرّ بكمال الله ويعلن ذكر الله، ولا يغفل عن شكر الله, عبد الله: يذكرك ربك وتنساه، ويسترك ولا ترعاه، لو أمر الأرض لابتلعتك من حينها، أو البحار لاغرقتك في معينها، ولكن يحميك بقدرته، ويمدك بقوته، ويؤخرك إلى أجل أجّله، ووقّت وقّته، فلابد لك من الورود عليه، والوقوف بين يديه يعدّ عليك أعمالك ويذكّرك أفعالك، فإذا تبت من الآن أولاك غفرانه، ومنحك رضوانه وغفر لك الذنوب والأوزار، ومن أجل ذلك سمى نفسه العزيز الغفار.
اللهم ارحم عباداً غرهم طول إمهالك، وأطمعهم دوام أفضالك، ومدوا أيديهم إلى كرم نوالك، وتيقنوا أنه لا غنى لهم عن سؤالك.(1/29)
نعلم أنك يارب قوة كل ضعيف، ومفزع كل ملهوف، وعز كل ذليل، وولىّ كل نعمة، وصاحب كل حسنة، وكاشف كل كربة، المطلع على كل خفيه، المحصي كل سريرة، يعلم ما تكنّ الصدور، وما ترخى عليه الستور، الرحيم بخلقه الرؤوف بعباده، من تكلم سمع كلامه، ومن سكت علم ما في نفسه، ومن عاش فعليه رزقه ومن مات فإليه مصيره، أحاط بكل شيء حفظه، فمن الذي جعل السفينة لنوح من قوارب النجاة؟ من الذي جعل النار لإبراهيم أماناً عن الحياة؟ من الذي نجّى إسماعيل ممّا أمر به أباه؟ من الذي جعل الحوت ليونس تأميناً على الحياة من الذي أنقذ أيوب من بلواه؟ من الذي استمع ليعقوب في شكواه؟ من الذي رد إلى يعقوب يوسف وأخاه بعدما ذهبت من الدموع عيناه؟ من الذي وهب لزكريا يحيى بعدما بلغ من الكبر منتهاه؟ من الذي نجّى موسى من طغيان المياه؟ من الذي برّأ عيسى من أقوال البغاة؟ من الذي نجّى حبيبه محمداً من أعداء الله؟ من الذي خلق الإنسان في أحسن صورة وسوّاه؟ من الذي يرحم العاصي إذا تاب مّما اقترفت يداه؟ من الذي يرزق الجنين في بطن أمه وحماه؟ من الذي يحفظ الأعمى إذا ضلت خطاه من الذي يسمع النجوى ويزيل البلوى إلا ّالله؟ من الذي يبرىء السقيم ويفرج الكروب إلا الله؟ من الذي يُدني عبده ويعطيه سُؤله إلاّ الله؟ تبارك وتعالى وتعاظم جل وعلا في علاه.
سبحانه: الذي لا تسكن الأرواح إلاّ بحبه، ولا تطمئن القلوب إلاّ بذكره، ولا تزكو العقول إلاّ بمعرفته، ولايدرك النجاح إلاّ بتوفيقه، ولا تحيا القلوب إلاّ بنسيم لطفه وقربه، ولا يقع أمر إلاّ بإذنه، ولا يهتدى ضال إلاّ بهدايته، ولا يستقيم ذي عوج إلاّ بتقويمه، ولا يفهم أحد إلاّ بتفهيمه، ولا يتخلص من مكروه إلا برحمته ولا يحفظ شيء إلا برعايته، ولا يٌفتح أمر إلا باسمه.(1/30)
ومع غنى الله التام عن خلقه فهو يسخر ويمهّد للإنسان كل شيء قال تعالى: { وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الأَرْضِ وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ قَلِيلاً مَّا تَشْكُرُونَ } الأعراف 10 { اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ قَرَاراً وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَرَزَقَكُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَتَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ } ]غافر64 {هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُواْ فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِراً إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَسْمَعُونَ } يونس 67 { {تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجاً وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجاً وَقَمَراً مُّنِيراً } الفرقان 61
ومع غنى الله التام عن خلقه وفقرهم التام إليه، يخاطبهم بكل لطف ومودة ورحمة ليعبدوه ولا يشركوا به شيئاً، ليكون لهم الفوز والفلاح في الدنيا والآخرة.
يقول تعالي ({يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ } ]البقرة 21
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ } المنافقون9
{ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنفُسِكُم مَّتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَينَا مَرْجِعُكُمْ فَنُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ } يونس 23
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنجِيكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ]{تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ } الصف 11(1/31)
] { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِن رَّحْمَتِهِ وَيَجْعَل لَّكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } الحديد28
{ سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاء وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ } الحديد21
ومن كرم الله تبارك وتعالى وجوده أن جعل ابن آدم له عبداً، وامتن العلي الكبير بأنه كان له إلها ورباً، فكان الفضل من الرحمن نازل، والجود من الرحمن إليه واصل، والعفو من الرحمن لمن تأهب حاصل، وتكلم سبحانه وتعالى بجميل الخطاب ليتوب الغافل، وذكرنا سبحانه وتعالى بعظيم نعمه حتى يستقيم المائل، وأرسل لنا برحمته رسلاً كراماً فواضل وعرف قلوبنا الإسلام وحرّم علينا الرذائل.
لذلك يجب أن تستقر معنى العبودية لله في النفس، قال تعالى (وما خلقت الجن والأنس إلاّ ليعبدون) الذاريات 56، تستقر النفس على أن هناك عبداً ورباً، عبداً يَعبد ورباً يُعبد، وأنه ليس وراء ذلك شيء ليس في الوجود إلا ّربُ واحد والكل له عبيد.
فيجب أن نتوجه إلى الله بكل حركة في الضمير وكل حركة في الجوارح، وكل حركة في الحياة، التوجه بها إلى الله خالصة، والتجرد من كل شعور آخر، ومن كل معنى غير معنى التعبد لله، عندئذ يعيش الإنسان في هذه الحياة شاعراً أنه هنا للقيام بوظيفة أوجَده الله من أجلها: طاعة لله وعبادته، وجزاؤه الذي يجده في نفسه من طمأنينة ورضى عن وضعه وعمله، ومن أنس برضا الله عنه، ورعايته له، ثم يجد جزاء ذلك في الآخرة تكريماً ونعيماً وفضلاً عظيماً ، من الله تبارك وتعالى في علاه(1/32)
وانظر يا عبد الله إلى ربك الرحيم الكريم وهو يخاطبك بكل لطف ومودة في هذا الحديث القدسي، يقول تبارك وتعالى (ياعبادي: إني حّرمت الظٌلم على نفسي وجعلته بينكم محرماً فلا تظالموا، ياعبادي: كلكم ضال إلاّ من هديته فاستهدوني أهدكم، ياعبادي: كلكم جائع إلاّ من أطعمته، فاستطعموني أطعمكم، ياعبادي: كلكم عار إلاّ من كسوته فاستكسوني أكسكم، ياعبادى: إنكم لن تبلغوا نفعي فتنفعوني ولن تبلغوا ضري فتضروني، ياعبادي: إنكم تخطئون بالليل والنهار وأنا أغفر الذنوب جميعاً فاستغفروني أغفر لكم، ياعبادي: لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أتقى قلب رجل واحد منكم ما زاد ذلك في ملكي شيئاً، يا عبادي: لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أفجر قلب رجل واحد منكم مانقص ذلك من ملكي شيئاً، ياعبادي: لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم قاموا في صعيد واحد فسألوني فأعطيت كل إنسان مسألته مانقص ذلك ممّا عندي إلا ّكما ينقص المخيط إذا أدخل البحر، ياعبادي: إنما هي أعمالكم أحصيها لكم فمن وجد خيراً فليحمد الله ومن وجد غير ذلك فلا يلومّن إلاّ نفسه) مسلم.
سبحانه سبحانه: يا من لا تراه العيون، ولا تخالطه الظنون، ولا يصفه الواصفون، ولا تغيره الحوادث، ولا يخشى الدوائر، ويعلم مثاقيل الجبال ومكاييل البحار، وعدد قطر الأمطار، وعدد ورق الأشجار، وما أظلم عليه الليل، وأشرق عليه النهار، ولا تواري عنه سماء سماء، ولا أرض أرضاً، ولا جبل مافي وعره، ولا بحر ما في قعره، أنت الذي سجد لك سواد الليل، وضوء النهار، ونور القمر، وشعاع الشمس، ودويّ الماء، وهفيف الشجر، سبحانه وتعالى.(1/33)
يا عبد الله: بئس العبد عبد غذّاه ببره، وربّاه تحت ستره، ولا يخاف مولاه عند مخالفة أمره، وبئس العبد عبد عصى وتعدى وأذنب وتوانى، نهاره لهو، وليله سهو، بئس العبد عبد أصر على الجهالة، وضيّع أيامه في البطالة، بئس العبد عبد يعلم أن مولاه يراه وهو يبارزه ولا يخشاه، ونعم المولى مولاك سترك بستره، ولا طفك ببره، مولى يقبل الحسنات ويغفر السيئات، مولى إن أطعته شكر، وإن عصيته ستر، وإن تبت إليه قبل وغفر، وإن دعوته لبّاك، وإن أعرضت عنه ناداك مولى توجك بهدايته، وطوقك بعبادته، وسربلك بخدمته، وأركبك على مطية محبته مولى يغفر ذنوب العمر بتوبته ساعة، ثم يبدل مكان كل سيئة طاعة، مولى أقام لك الشفعاء قبل العصيان، ويشفعك فيمن تحب بعد الغفران، فنعم المولى، لاإله إلاّ هو،سبحانه وتعالى.
ياعبد الله: من أحب حبيباً صدق قوله، ومن أنس بحبيبه رضى فعله، ومن إشتاق إليه جدّ في سيره، وإذا توجهنا لله بالعبادة، وقلنا ربنا الله فهذه ليست كلمة تقال باللسان، بل إنها ليست مجرد عقيدة في الضمير، إنما هي منهج كامل للحياة يشمل كل نشاط فيها وكل حركة وكل خالجة ويقيم ميزاناً للتفكير والشعور والأشياء والأعمال والأحداث.
ربنا الله: - فله العبادة وإليه الاتجاه، ومنه الخشية وعليه الاعتماد.
ربنا الله: - فلانهتدي إلاّ بهداه ولا نتطلع لمن عداه.
ربنا الله: - فكل نشاط وكل تفكير وكل تقدير متجه إليه منظور إلى رضاه.
الإيمان بالله أعظم النعم
اعلم أن الله تبارك وتعالى ما أوجب على عبد عبادته إلاّ ليطهره ويزكيه، وماحبّب إليه ذكره إلاّ ليطمئن قلبه ويرضيه، وماحضّه على دعائه، إلاّ لينال من ربه النصر والتأييد والعون والتوفيق وما أمره بالإيمان به إلاّ ليدخله الجنة التي هي أعظم منّة.(1/34)
قال تعالى { إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ {الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقّاً لَّهُمْ دَرَجَاتٌ عِندَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ } الأنفال4:2
{ وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِّنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ } التوبة 72
{ مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } ]النحل 97
{ وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَئِكَ كَانَ سَعْيُهُم مَّشْكُوراً } ]الإسراء 19
وهنا نجد الله يشكر لعباده سعيهم للآخرة وإيمانهم، وشكر الله للعبد يلمس القلب لمسة رقيقة عميقة، إنه معلوم أن الشكر من الله سبحانه معناه الرضى ومعناه مايلازم الرضى من الثواب، وإذا كان الخالق المنشء المنعم المتفضل الغني عن العالمين يشكر لعباده صلاتهم وإيمانهم وشكرهم وإمتنانهم، وهو سبحانه غني عنهم وعن إيمانهم وشكرهم وامتنانهم، إذا كان الخالق المنشئ المنعم المتفضل الغني عن العالمين يشكر، فماذا ينبغي للعباد المخلوقين المغمورين بنعمة الله، تجاه الخالق الرازق المنعم المتفضل الكريم. ألا إنها اللمسة العميقة الرقيقة التي ينتفض لها القلب ويخجل ويستجيب، ألا إنها الإشارة المنيرة إلى معالم الطريق إلى الله الوهاب المنعم الشكور العليم.(1/35)
إن اختيار الله لفريق من عباده ليشرح صدورهم للإيمان ويحرك قلوبهم إليه، ويزينه لهم فتهفو إليه أرواحهم، وتدرك مافي الإيمان من جمال وخير، هذا الاختيار فضل من الله ونعمة دونها كل فضل وكل نعمة حتى نعمة الحياة ذاتها تبدو أقل من نعمة الإيمان.
يقول ابن القيم: أفضل ما اكتسبته النفوس وحصّلته القلوب ونال به العبد الرفعة في الدنيا والآخرة هو الإيمان والعلم، ولهذا قرن الله بينهما، قال { { يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ } المجادلة 11
إن الإيمان هو الذي يجعل للإنسان وجوداً حقيقياً في هذه الحياة، إنه يشعر بالسعادة لأن له هدفاً يسعى للوصول إليه، سيجد الطمأنينة على هذه الأرض حتى يلقى الله، سيشعر بأنسه بكل مافي الوجود حوله، وأنسه بالله خالقه وخالق هذا الوجود وشعوره بقيمته وكرامته وإحساسه بأنه يملك دوراً مرموقاً يقوم به ويرضى الله عنه، ويحقق الخير لهذا الوجود ومن فيه.
يقول ابن القيم: القلوب قلبين: قلب هو عرش الرحمن ففيه النور والحياة والفرح والسرور والبهجة وذخائر الخير، وقلب هو عرش الشيطان ففيه الضيق والظلمة والحزن والهم والغم ، وقد قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (إذا دخل النور قلب المؤمن انفسح وانشرح، قالوا: فما علامة ذلك يارسول الله؟ قال: الإنابة إلى دار الخلود والتجافي عن دار الغرور والاستعداد للموت قبل نزوله) جامع العلوم والحكم لابن رجب(1/36)
إن الإيمان يجعل الإنسان فرداً من الأمة المؤمنة: الأمة الواحدة الممتدة في شعاب الزمن، السائرة في موكب كريم يقوده نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمد وإخوانهم من النبيين صلوات الله عليهم آجمعين، ويكفي أن يستقر هذا التصور عند الإنسان فيشعر أنه فرع من تلك الشجرة الطيبة الباسقة المتطاولة العميقة الجذور الممتدة الفروع المتصلة بالسماء في عمرها المديد ويكفي أن يشعر الإنسان هذا الشعور ليجد للحياة طعماً آخر وليحس بالحياة إحساساً جديداً، وليضيف إلى حياته حياة كريمة مستمدة من هذا النسب العريق.
إن الإيمان يجعل الإنسان يرى هذا الوجود الصادر عن الله الذي نفخ في الإنسان روحه فصار إنساناً، يرى هذا الوجود كله كائن حي، مؤلف من كائنات حية، وإن لكل شيء في هذا الوجود روحاً، وإن هذه الأرواح تتوجه إلى بارئها بالدعاء والتسبيح، وتستجيب له بالحمد والطاعة، فإذا هو في كيان هذا الوجود جزء من كل لا ينفصل ولا ينعزل، صادر عن خالقه، متجه إليه بروحه، راجع في النهاية إليه، فيشعر بالأنس بكل ما حوله من أرواح، مأنوس بعد ذلك كله بروح الله التي ترعاه، عند ذلك يملك الإنسان أن يصنع أشياء كثيرة، وأن يؤثر بكل شيء ويتأثر، ثم يملك أن يستمد مباشرة من تلك القوة الكبرى، التي خلقته وخلقت كل مافي الوجود من طاقات وقوى التي لا تضعف ولا تغيب من هذه المعرفة يستمد الطمأنينة والسكينة والارتياح لما يجرى حوله، ولِما يقع له، وهو يعرف من أين جاء ولماذا جاء؟ وإلى أين يذهب وماذا هو واجد هناك، وقد علم أنه هنا لأمر وإن كل ما يقع له مقدّر، الصغير والكبير، وأنه لم يخلق عبثاً ولن يترك سدىً، ولن يمضي مفرداً من هذه المعرفة تختفي مشاعر القلق والشك والحيرة الناشئة عن عدم معرفة المنشأ والمصير، وعدم رؤية المطوي من الطريق وعدم الحكمة بالحكمة التى تكمن وراء مجيئه وذهابه.(1/37)
إن المؤمن لإيمانه حقيقة وإذا بلغها عبد فإنها تأتي على القلب فتضيئه وتنيره وتجعله تام الرضا والارتياح فيما قضى الله والثقة لِما عند الله عن الذي عنده ومراقبة الله في السر والعلانية، وتظهر على الجوارح فتهدأ وتسكن وتنقاد إلى الخير.
أسماء الله الحسنى
قال تعالى { وَلِلّهِ الأَسْمَاء الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا } الأعراف 180، فالله قد أمرنا بالتفكر في أسمائه وصفاته، ونهانا عن التفكر في ذاته، إن معرفة دلالات أسماء الله الحسنى أكبر نعمة ينعم الله بها على عبده، فبها يدخل الجنة، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (إن لله تسعة وتسعين اسماً، مائة إلاّ واحداً مَن أحصاها دخل الجنة) البخاري ومسلم
لماذا تعرف أسمائه وصفاته تبارك وتعالى لنزيد إيماننا بالله:-
فالله: هو الاسم الأعظم الذي تفرّد به الحق سبحانه وخص به نفسه وجعله أول أسمائه، وأضافها كلها إليه، فهو علم على ذاته سبحانه، ذلك الاسم العظيم الذي ما دعا به مكروب إلاّ وفك كربه، وما دعا به مظلوم إلاّ ونصره، وما دعا به مضطر إلاّ ونجّاه، وما استغاث به ملهوف إلاّ وأعطاه.
الله: دليل الحائرين، وأمان الخائفين، وملجأ المطرودين، وملاذ العارفين، وقابل التائبين، وراحم المذنبين، وسامع الأصوات، ومجيب الدعوات ومفرج الكربات
الله: أحق من ذكر، وأحق من شكر، وأرحم من خلق، فيجب علينا أن نوحده ونفرده بالعبادة، ونلجأ إليه في السراء والضراء.
الرحمن: كثير الرحمة، وهو اسم مقصور على الله عز وجل ولايجوز أن يقال رحمن لغيرالله وذلك أن رحمته وسعت كل شيء وهو أرحم الراحمين، المنعم بجلائل النعم، فلنجعل الرحمة شعارنا حتى تحل علينا رحمة الله التي وسعت كل شيء.
الرحيم: المنعم أبداً، المتفضل دوماً فرحمته لا تنتهي، وقد قصر رحمته على عباده المؤمنين، المنعم بدقائق النعم، فلنكن كما قال الله تعالى (أشداء على الكفار رحماء بينهم) الفتح 29 ولنتواص بالصبر ولنتواص بالرحمة.(1/38)
الملك: هو الله، ملك الملوك له الملك، وهو مالك يوم الدين، ومليك الخلق فهو المالك المطلق، فلنجعل عظمته ملء قلوبنا ولتكن طاعتنا له هي الوسيلة التي تقربنا إليه وتُرضيه عنّا
القدوس: هو الطاهر المنزه عن العيوب والنقائض وعن كل ما تحيط به العقول فنزه الله أخي المسلم من كل نقص وعيب وليكن إعتقادك فيه كما قال تعالى:(ليس كمثله شيء) الشورى 11
السلام: ناشر السلام بين الأنام وهو الذي سلمت ذاته من النقص والعيب والفناء فلا تطلب الأمن إلاّ منه ونزهه من كل نقص وعيب.
المؤمن: الذى أمن أولياؤه عذابه، والذي يَصدق عباده ما وعدهم، فبادر إلى طاعته لتكون من أوليائه الذين (لا خوف عليهم ولا هم يحزنون) يونس 62
المهيمن: الرقيب الحافظ لكل شيء، القائم على خلقه بأعمالهم وأرزاقهم وآجالهم، المسئول عنهم بالرعاية والوقاية والصيانة، فأحسن عبادة مَن هذه صفته فإن لم تكن تراه فإنه يراك.
العزيز: هو المنفرد بالعزة، الظاهر الذي لا يقهر، القوي الممتنع فلا يغلبه شيء وهو غالب كل شيء، فإذا أردت عز الدارين فأطع العزيز (ولله العزة ولرسوله والمؤمنين) المنافقون 8
الجبّار: هو الذي تنفذ مشيئته، ولا يخرج أحد عن تقديره، فهو القاهر لخلقه على ما أراد فلترض بقضاء الله وقدره، واعلم أن ماأصابك لم يكن ليخطئك.
المتكبر: هو المتعال عن صفات الخلق المنفرد بالعظمة والكبرياء، فتواضع لمن هذه صفته، وإياك والتكبر على الناس.
الخالق: الفاطر المبدع لكل شئ والمقدر له والموجد للأشياء من العدم فهو خالق كل صانع وصنعته فاعمل فكرك وعقلك في مخلوقات الله ثم احمده على عظيم صنعه
البارئ: هوالذي خلق الخلق بقدرته لاعن مثال سابق، القادر على إبراز ما قدّره إلى الوجود،أخي المسلم إن الذي خلق من حقه أن يعبد فأخلص لله العبادة.(1/39)
المصور: هو الذي صور جميع الموجودات ورتبها فأعطى كل شئ منها صورة خاصة وهيئة منفردة يتميز بها على اختلافها وكثرتها فلا تسخر من أحد لأن المصور لك وله هو الله.
الغفّار: هو وحده الذي يغفر الذنوب ويستر العيوب في الدنيا والآخرة، فأكثر من الاستغفار وسارع بالتوبة ولا تيأس من رحمة الله.
القهّار: الغالب الذي قهر خلقه بسلطانه وقدرته وصرفهم على ما أراد طوعاً وكرهاً وخضع لجلاله كل شيء، فاستسلم لأمر الله ونهيه ولا تعصه.
الوهاب: المنعم على العباد الذي يهب بغير عوض، ويعطى الحاجة بغير سؤال كثير النعم، دائم العطاء، فلا ترفع حاجتك إلاّ إليه ولا تتوكل إلاّ عليه وأحمده على عطائه.
الرزاق: هو الذي خلق الأرزاق وأعطى كل الخلائق أرزاقها، ويمد كل كائن بما يحتاجه وحفظ عليه حياته وصلحه فلا رزاق لنا سواه، فلا تنتظر الرزق إلاّ منه ولا تذل إلاّ له.
الفتاح: الذي يفتح مغاليق الأمور ويسهل العسير، وبيده مفاتيح السموات والأرض، فتطلع لنيل كرمه وانتظر فرجه، وارض بقضائه.
العليم: الذي يعلم تفاصيل الأمور ودقائق الأشياء، وخفايا الضمائر والنفوس لايعزب عن علمه مثقال ذره، فعلمه محيط بجميع الأشياء، فلا تغتر بجميل ستره، واستح منه في السر والعلن.
القابض الباسط: هو الذي يقبض الرزق عمن يشاء من الخلق بعدله، والذي يوسع الرزق لمن يشاء من عباده بجوده ورحمته، فهو سبحانه القابض الباسط، فاستسلم لقضاء الله وقت القبض واصبر، واحمده واشكره وأنفق وقت البسط.
الخافض الرافع: هو الذي يخفض بالإذلال كل من طغى وتجبر وخرج على شريعته وتمرد، هو الذي يرفع عباده المؤمنين بالطاعات وهو رافع السموات والغمام فتواضع ولا تتكبر، وارفع ما رفعه الله باتباع ما أمر به، واخفض ما خفضه الله بالانتهاء عمّا نهى عنه.(1/40)
المعز المذل: الذي يهب القوى والغلبة والشدة لمن شاء فيعزه وينزعها عمن يشاء ويذله، فلا تطلب العزة إلاّ منه بطاعة أمره واجتناب نهيه، وتواضع له ولا تلجأ لسواه فيذلك.
السميع: لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء فلا يعزب عن إدراكه مسموع وإن خفى، فهو المحيط بجميع المسموعات فادعه يستجب لك في السراء والضراء.
البصير: هو الذي يرى الأشياء كلها، ظاهرها وخفيها، هو المحيط بكل المبصرات، فاعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فهو يراك.
الحكم: الذي يفصل بين مخلوقاته بما شاء، ويفصل بين الحق والباطل، لاراد لقضائه ولا مُعقب لحكمه، فلا تحكم حكماً إلاّ بشرع الله ولا تلجأ لمنهج سواه.
العدل: الذي حرّم الظلم على نفسه وجعله على عباده محرماً، فهو المنزه عن الظلم والجور في أحكامه وأفعاله، الذي يعطي كل ذي حق حقه، فكن عدلاً في أحكامك وتصرفاتك.
اللطيف: البر الرفيق بعباده، يرزقهم ويسير ويحسن إليهم ويرفق بهم ويتفضل عليهم، فارفق بعباد الله ولِن لهم وتلطف في دعوتهم.
الخبير: العليم بدقائق الأمور، لا تخفى عليه خافية ولا يغيب عن علمه شيء هو العالم بما كان وما يكون، فاحترز من أقوالك وأعمالك وأفعالك التي لا ترضيه.
الحليم: الصبور الذي يمهل ولا يهمل، ويستر الذنوب، ويؤخر العقوبة فيرزق العاصي كما يرزق المطيع فتمثل الحلم في حياتك وتحلّ بالصبر والأناه والصفح والإحسان.
العظيم: الذي ليس لعظمته بداية ولا لجلاله نهاية، وليس كمثله شيء فاخضع لهيبته وعظمته وارض بقسمته.
الغفور: الساتر لذنوب عباده، المتجاوز عن خطاياهم وذنوبهم، فدم على الاستغفار، وتب توبة نصوحاً.
الشكور: الذي يزكوعنده القليل من أعمال العباد، فيضاعف لهم الجزاء، وشكره لعباده مغفرته لهم، فاجتهد في شكره واحمده واثن عليه.
العليّ: الرفيع القدر فلا يحيط به وصف الواصفين، المتعالى عن الأنداد والأضداد، الثابت له كل معاني العلو، فتواضع وتذلل بين يدى خالقك.(1/41)
الكبير: العظيم الجليل ذو الكبرياء في صفاته وأفعاله فلا يحتاج إلى شيء ولايعجزه شيء ليس كمثله شيء، فكبر مولاك في كل أوقاتك بتعظيم أمره ونهيه.
الحفيظ: هو الحافظ لمخلوقاته فلا يعزب عن حفظه شيء ولوذرّة، فحفظه لا يتبدل ولا يزول ولا يعتريه التبديل ويحفظ مخلوقاته، فتذكر الله في سرائك وضرائك يحفظك بحفظه.
المقيت: المتكفل بإيصال أقوات الخلق إليهم وهو الحفيظ والمقتدر والقدير والمقدر والممدّ، فتحرّ الحلال الطيب من الرزق، فالله كافلك.
الحسيب: الكافي الذي منه كفاية العباد، وهو الذي عليه الاعتماد، يكفي العباد بفضله، ويصرف الآفات بطوله، فلتكن على يقين بأن الله هو حسبك وكافيك فتوجه إليه واعتمد عليه.
الجليل: العظيم المطلق المتصف بجميع صفات الكمال والمنعوت بها، المنزه عن كل نقص، فاعتقد أن الجلال والكمال المطلق لخالقك وحده.
الكريم: الكثير الخير الجواد المعطي الذي لا ينفد عطاؤه، وهو الكريم المطلق الجامع لأنواع الخير والشرف والفضائل المحمود بأفعاله، فتوجه إليه بكل جوارحك في قضاء حوائجك.
الرقيب: الرقيب الذي يراقب أحوال العباد ويعلم أقوالهم ويحصي أعمالهم وهو الحافظ الذي لا يغيب عنه شيء فاخش الله وراقبه في كل حركاتك وسكناتك.
المجيب: الذي يقابل الدعاء والسؤال بالعطاء والقبول، ولا يسأل سواه، فتوجه إلى الله بالدعاء فهو المجيب لمن دعاه.
الواسع: الذي وسع رزقه جميع خلقه ووسعت رحمته كل شيء المحيط بكل شيء، إذا علمت ذلك فلا تطلب الرزق بكل أنواعه إلاّ منه.
الحكيم: المحق في تدبيره اللطيف في تقديره، الخبير بحقائق الأمور العليم بحكمه المقدور، فجميع ما خلقه وقضاه خير وحكمة وعدل، فارض بقضائه واعلم أن في كل شيء له حكمة لا تعلمها.
الودود: المحب لعباده، والمحبوب في قلوب أوليائه، فأحب من يحبهم الله من الخلق وأحب ما يحبه الله من الأعمال.(1/42)
المجيد: البالغ النهاية في المجد، الكثير الإحسان الجزيل العطاء العظيم البر، فاحمد الله على نعمه، وكن كريماً مع عباده.
الباعث: باعث الخلق يوم القيامة، وباعث رسله إلى العباد، وباعث المعونة إلى العبد، وإذا علمت أن الله باعثك بعد الموت فاعمل لهول ذلك اليوم.
الشهيد: الحاضر الذي لا يغيب عنه شيء، فهو المطلع على كل شيء، مشاهد له عليم بتفاصيله، فاخش الله الذي يراك ويشهد عليك.
الحق: الذي يحق الحق بكلماته ويؤيد أولياءه فهو المستحق للعبادة، فيجب عليك أن تحق كلماته بالتمسك بكتابه وسنّة نبيه.
الوكيل: الكفيل بالخلق القائم بأمورهم فمن توكل عليه تولاه وكفاه ومن استغنى به أغناه ورضاه، كن واثقاً بمعونته مطمئناً إلى حفظه ورعايته.
القوي: صاحب القدرة التامة البالغة الكمال، غالب لا يغلب فقوته فوق كل قوة فلا تطلب عظيماً إلاّ من عظيم ولا كبيراً إلاّ من قدير وهو الله وحده.
المتين: الشديد الذي لا يحتاج في إمضاء حكمه إلى جند أو مدد ولا إلى معين أو عضد، فاقطع الرجاء عن كل ما سواه ولا تستعن إلا به.
الولي: المحب الناصر لمن أطاعه، ينصر أولياءه ويقهر أعداءه، والمتولي لأمور الخلائق، فكن من أولياء الله بطاعته، وانصر أولياءه وعادِ أعداءه.
الحميد: المستحق للحمد والثناء، الذي يحمد على كل حال، فعلى كل إنسان أن يكثر الحمد والثناء على الله.
المحصي: هو الذي أحصى كل شيء بعلمه، فلا يفوته منها دقيق ولا جليل، فحاسب نفسك وراقب ربك واثن عليه في كل حال.
المبدئ: هو الذي أنشأ الأشياء واخترعها إبتداءً من غير سابق مثال، فتذكر بدايتك الترابية حتى لا تغتر بنفسك.
المعيد: الذي يعيد الخلق بعد الحياة إلى الممات في الدنيا وبعد الممات إلى الحياة يوم القيامة، فتذكر ياعبد الله ذلك اليوم واعمل له حتى تحشر مع الصالحين.(1/43)
المحيي: هوخالق الحياة ومعطيها لمن شاء يحيي الخلق من العدم ثم يحييهم بعد الموت، فعد إلى الله حتي يحيي الله قلبك بالإيمان، ويبعثك عليه.
المميت: هو مقدّر الموت على كل من خلقه فلا مميت سواه، قهر عباده بالموت متى شاء وكيف شاء، فما دام الموت بيد الله فلا تخش أحداً لأن أجلك معدود ومحدود
الحي: المتصف بالحياة الأبدية التي لا بداية لها ولا نهاية فهو، الباقي أزلاً وأبداً وهو الحي الذي لا يموت، فينبغي لك أن تنزه الله عن كل فناء وأن تسلّم أمرك لله.
القيوم: القائم بنفسه، الغني عن غيره، وهو القائم بتدبير أمر خلقه في إنشائهم ورزقهم وعلمه بأمكنتهم فاطمئن واسترح وأحسن التوكل عليه لأنه القائم على أمرك.
الواجد: هوالذي لايعوزه شيء ولا يعجزه شيء يجد كل مايطلبه، ويدرك كل ما يريده، فعليك أن تتحرى مراد الله فتفعل كل ما يطلبه منك.
الماجد: صاحب القدر العظيم والشرف التام، الكامل بذاته وصفاته، غني بنفسه عن تمجيد غيره، وذاكره يستنير قلبه ويرفع الله قدره، فمجد ربك دائما.
الواحد: الفرد المتفرد في ذاته وصفاته وأفعاله واحد في ملكه لا ينازعه أحد، لا شريك له، سبحانه فينبغي عليك أن توحد الله توحيداً كاملاً، وأن تنزهه عن الند والشريك.
الصمد: المطاع الذي لا يقضى دونه أمر، الذي يقصد إليه في الحوائج فهو مقصد عباده في مهمات دينهم ودنياهم، فلا تطلب إلاّ منه ولا تستعن إلاّ به.
القادر: هو الذي يقدر على إيجاد المعدوم وإعدام الموجود على قدر ما تقتضي الحكمة، لا زائداً عليها ولا ناقصاً عنها، فاستشعر قدرة الله وتقديره وحكمته وتدبيره ثم استسلم لحكمه.
المقتدر: هو الذي يقدر على إصلاح الخلائق على وجه لا يقدر عليه غيره، فعليك ألاّ تقصّر في شيء من أوامر الله وأن تبذل كل جهدك في طلب رضوانه.
المقدم: هو الذي يقدم الأشياء ويضعها في مواضعها، فمن استحق التقديم قدمه فإذا أردت أن تتقدّم عند الله، فاسلك الطريق الصحيح وهو طريق التقوي.(1/44)
المؤخر: هو الذي يؤخّر الأشياء فيضعها في مواضيعها، المؤخر لمن شاء من الفجار والكفار وكل من يستحق التأخير، فيجب عليك أن تكون دائماً على حذر وتؤخر كل ما أخره الشرع.
الأول: هو الذي لا يسبقه في الوجود شيء فهو أول قبل الوجود، فعليك أن تعتقد اعتقاداً جازماً أن الله هو الأول بِِلا ابتداء كان ولا شيء معه.
الآخر: هو الباقي بعد فناء خلقه، له البقاء الأبدى، يفنى الكل وله البقاء وحده، فليس بعده شيء فاعلم أن اعتقادك بأن الله هو الباقي أبداً من أسس العقيدة السليمة.
الظاهر: الذي ظهر فوق كل شيء وعلا عليه، الظاهر وجوده لكثرة دلائله، فعليك أن تتدبر آيات الله الظاهرة في كونه وكل مخلوقاته.
الباطن: هو العالم بمواطن الأمور وخفاياها، لا يُرى في الدنيا وإنما يدرك بآثاره وكلما ذكر اسم الباطن خشعت نفسك وأدركت عجزك وصفا باطنك.
الوالي: هو المالك للأشياء المتصرف فيها بمشيئته وحكمته، ينفذ فيها أمره ويجري عليها حكمه، فكن مطمئن البال لأن ما أصابك لم يكن ليخطئك، وما أخطأك لم يكن ليصيبك.
المتعال: هو الذي جلّ عن إفك المفترين وتنزه عن وساوس المتحيرين، فلا تغتر ولا تختل ولا تتكبر لأن المتعالى فوقك.
البر: هو العطوف على عباده ببره ولطفه، المنّان على السائلين بحسن عطاءه وهو الصادق فيما وعد، فاسأل الله من بره ولطفه أن يوفقك إلى مرضاته.
التواب: الذي يوفق عباده للتوبه حتى يتوب عليهم ويقبل توبتهم فيقابل الدعاء بالعطاء والتوبة بغفران الذنوب، فتب من كل ذنب وارجع إليه في كل حال.
المنتقم: الذي يقصم ظهور الطغاة ويشدد العقوبة على العصاة وذلك بعد الأعذار والإنذار، فاخش الله واعلم أن من خاف الله دله الخوف على كل خير.
العفو: الذي يترك المؤاخذة على الذنوب ولا يذكرك بالعيوب، فهو يمحو السيئات ويتجاوز عن المعاصي، فلا تيأس من فضله وعفوه، واعف عمن ظلمك كي يعفو الله عنك.(1/45)
الرءوف: المتعطف على المذنبين بالتوبة، الذي جاد بلطفه، ومنّ بتعطفه، يستر العيوب، ثم يعفو عنها، فاعبده بما يستحق لهذه الرأفة بالاجتهاد في طاعته سبحانه.
مالك الملك: المتصرف في ملكه كيف يشاء، لا راد لحكمه، ولا معقب لأمره فعليك أن تناجي ربك دائماً بلسان المحتاج المفتقر إلى ما في يده.
ذو الجلال والإكرام: المنفرد بصفات الجلال والكمال والعظمة، المختص بالإكرام والكرامة، وهو أهلٌ لأن يجل، فعلينا جميعاً أن نخضع ونتواضع له في كل حياتنا، ونجله في كل الأحوال.
المقسط: العادل في حكمه، الذي ينصف المظلوم من الظالم، فينبغي أن لا نظلم أحداً لأننا نعلم يقيناً أن الله هو الذي سوف يأخذ الحق له.
الجامع: هو الذي جمع الكمالات كلها ذاتاً ووصفاً وفعلاً، الذي يجمع بين الخلائق المتماثلة والمتباينة، والذي يجمع الأولين والآخرين في صعيد واحد، وإذا علمت أن الله هوجامعك ليوم الحساب فاستعد لذلك اليوم.
الغني: هو الذي لا يحتاج إلى شيء، وهو المستغني عن كل ما سواه، المفتقر إليه كل ما عداه، وإذا علمت أن الله هو الغني فكيف تطلب الغني من غيره.
المغني: معطي الغنى لعباده، يغنى من يشاء بكرمه، فهو الكافي لمن شاء من عباده فتوجه إليه في كل عبادتك واقصده في جميع حوائجك.
المعطي المانع: هو الذي أعطى كل شيء ما فيه مصلحته، ويمنع العطاء عمن يشاء بتلاءً أو حماية ، فارض بقضائه واستسلم لأمره، واشكره وقت العطاء ولا تسأل غيره.
الضار النافع: المقدّر للضر على من أراد، كيف أراد، والمقدر للنفع والخير لمن أراد، كيف أراد، كل ذلك على مقتضى حكمته سبحانه، فاصبر وقت الشدة والضر فلعله خير، واشكره واحمده وقت الخير.
النور: الهادي الرشيد الذي يرشد بهدايته من يشاء فيبين له الحق ويلهمه إتباعه، فعليك ألاّ تستضيء إلا بنور هدايته وإرشاده.(1/46)
الهادي: المبيّن للخلق طريق الحق، بكلامه يهدى القلوب إلى معرفته، والنفوس إلى طاعته، فلا تستهدى إلا بهداية الله المنزّلة في كتابه وآياته على لسان رسوله - صلى الله عليه وسلم - .
البديع: الذي لا يماثله أحد في صفاته، ولا في حكم من أحكامه، أو أمر من أوامره فهو المحدث الموجد على غير مثال، فعلى المسلم أن يتدبر في بديع صنعه أو بليغ حكمته حتى يستقر إيمانه.
الباقي: هو وحده له البقاء الدائم الوجود الموصوف بالبقاء الأزلي، غير قابل للفناء فهو الباقي بلا انتهاء، فعلى المسلم أن ينظر فضل الله الباقي في الآخرة، ويتجمّل بسامي الصفات والأخلاق.
الوارث: الباقي الدائم الذي يرث الخلائق بعد فناء الخلق، وهو يرث الأرض ومَن عليها، فتعلم أنك مهما ملكت فلابد يوماً أن تصير إلى الوارث سبحانه.
الرشيد: الذي أسعد من شاء بإرشاده، وأشقى من شاء بإبعاده، عظيم الحكمة بالغ الرشاد، فيجب عليك أن تُحسن التوكل على ربك حتى يرشدك إلى إصلاح نفسك
الصبور: هو الحليم الذي لا يعاجل العصاة بالنقمة بل يعفو ويؤخر ولا يسرع بالفعل قبل أوانه، فينبغي لك أن تتمثل بخلق الصبر ولتعلم أن الله يحب الصابرين.
عبدالله: إنك لن تعبد الله حق العبادة، حتى تتعرف عليه عن طريق الأسماء والصفات فمثلاً كيف أتعرف على صفة الكريم؟ يقول الرسول - صلى الله عليه وسلم - في دعائه ليلة القدر: (اللهم إنك عفو كريم تحب العفو فاعف عنى) البخاري فعندما أتعرف على الكريم أعرف أنه جوّاد أطمع في رحمة وعفو الله عز وجل، وعندما أذنب أسارع إلى التوبة لأنه كريم، يحب أن يغفر ويترتب على الإيمان بكرم الله عبوديات أخرى وطلب الجنة من الله. يقول الإمام الغزالي رحمه الله: من عرف أسماء الله وصفاته تتسع معرفته بمن بيده ملكوت السموات والأرض فيتناسب عمله وسلوكه بهذه المعرفة وكلما تعرفت على أسماء الله وصفاته ازدادت خشيتك من الله فتصير عبداً ربانياً.(1/47)
إن من لا يعرف أسماء الله وصفاته فلا يستطيع أن يؤدي ما طُلب منه من عبادة ربه
يقول إبن القيم: واعلم أن لكل اسم من أسماء الله عز وجل عبودية خاصة به علماً ومعرفةً وحالاً، وأكمل الناس إيماناً من لا يشغله القيام بحق اسم عن عبودية الآخرين، وهذه طريقة الكمّل من السائرين إلى الله عز وجل المشتقة من القرآن من قوله تعالى (ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها) الأعراف 18.
ودعاء الله بأسمائه ثلاثة أنواع: -
1- دعاء ثناء: - هو أن تكرر مدح الله عز وجل وتكرر أسماء وصفات الله عز وجل في الدعاء، فمثلاً تقول يا حفيظ احفظنا، فتثني على الله في الدعاء فإننا نكرر في السجود سبحان ربي الأعلى.
2- دعاء مسألة: - هو معرفة أن الله هو الرزاق فلا بد أن أسأله الرزق فنقول يارزاق ارزقنا، ونسأله باسمه الغفور الشكور الحليم العفو الرؤوف الرحيم العزيز.
3- دعاء العبادة: - فلله في كل اسم عبودية، مثال: الملك فتعرف أن المُلك كله لله وحده لا شريك له.
بعد ما سبق من الكلام بأن الأمر أمر الله، والملك ملك الله، والكون كله لله، بعد هذه الجولة السريعة أما آن لنا أن نقدر حق الله , أما آن لنا أن نرجع إلى الله.
قال تعالى { أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ } ]الحديد 16
أما آن لنا ونحن محتاجون إلى الله أن نتقيه؟
الفصل الثاني: التقوى
قال تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ } آل عمران 102
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ } الحشر 18
إن معرفة الله بأسمائه وصفاته لا بد أن تدفعنا إلى أن نتقيه، لابد أن تنبهنا على:
- أن نجعل بيننا وبين محارم الله حاجزاً.(1/48)
- أن نجعل بيننا وبين النار ستراً ولو بشق تمرة.
- أن نعمل بطاعة الله على نور من الله نرجو ثواب الله، وأن نترك معصية الله على نورمن الله نخاف عقاب الله.
- أن نخاف الجليل ونعمل بالتنزيل ونرضى بالقليل ونستعد للرحيل.
- أن نجعل بيننا وبين مانخافه ونحذره وقاية تقينا منه.
كل ما سبق معنى التقوى، فالتقوى: هى حالة تجعل القلب يقظاً حساساً شاعراً بالله في كل حالة خائفاً متحرجاً أن يطلع الله عليه في حالة يكرهها وعين الله على كل قلب، فمتى يامن أنه لا يراه؟
هي حالة في القلب تجعله أبداً واجفاً من هيبة الله شاعراً برقابته خائفاً من غضبه متطلّعاً إلى رضاه، متحرجاً أن يراه على هيئة أو حالة لا يرضاها، هذه الحساسية المرهفة هي التقوى. (واجفا: مضطربا خائفا)
هى مكافأة يؤتيها الله من يشاء من عباده، حين يهتدون بهديه، ويرغبون في الوصول إلى رضاه.
قال أبو الدرداء - رضي الله عنه - : تمام التقوى أن يتقي العبد ربه حتى يتقيه من مثقال ذرة، وحتى يترك بعض ما يرى أنه حلال، خشية أن يكون حراماً، يكون حجاباً بينه وبين الحرام .
سأل عمر بن الخطاب أبيّ بن كعب رضي الله عنهما فقال له: ما التقوى ياأبي؟ قال: إذا مررت بطريق فيه شوك ماذا تفعل؟ قال: أشمر ثوبي وأعبر قال: فكذلك التقوى.
قال عمر بن عبد العزيز: ليس تقوى الله بصيام النهار ولا بقيام الليل والتخليط فيما بين ذلك، ولكن تقوى الله: ترك ما حرّم الله وأداء ما افترض الله، فمن رزق بعد ذلك خيراً فهو خير إلى خير.
وفي بعض الآثار: أن العبد إذا أراد أن يعصي الله في الخلاء فاستترعن عيون الناس ناداه ربه: عبدي أجعلتني أهون الناظرين إليك؟ ومن وصية لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - ( أوصيك أن تستحي من الله كما تستحي رجلاً من صالحي قومك)أحمد بسند حسن (ص ج ص)
للتقوى ثلاث درجات تختلف باختلاف صاحبها: -
1- أن يتقي العبد الكفر وهو مقام الإسلام.(1/49)
2- أن يتقي العبد المحرمات والمعاصي وهو مقام التوبة.
3- أن يتقي العبد الشهوات وهو مقام الورع.
إن رقابة الله تجعل المؤمن يشعر بالطمأنينة والخوف جميعاً، الطمأنينة في رعاية الله حيثما تقلّب أوثوى، والخوف من هذا الموقف الذي يحيط به علم الله ويتعقبه في كل حالاته ويطلّع على سره ونجواه.
قال على - رضي الله عنه - : من أراد غنىً بلا مال، وهيبة بلا عشيرة فليتق الله، فإن الله يأبى أن يذل إلاّ من عصاه.
وقال الفضيل رحمه الله: يا مسكين تغلق بابك، وترخي سترك وتستحي من الناس، ولا تستحي من الملكين اللذان معك ولا تستحي من القرآن الذي في صدرك، ولا تستحي من الجليل الذي لا يخفى عليه خافية، وقال لرجل: أوصيك بتقوى الله عز وجل الذي لا بد لك من لقاه، ولا منتهى لك بدونه ويملك الدنيا والآخرة.
وقال عمربن عبد العزيزلرجل: أوصيك بتقوى الله عز وجل التي لا يقبل غيرها، ولا يرحم إلا أهلها، ولا يثيب إلا عليها.
وكتب أحد الصالحين لأخيه: أوصيك بتقوى الله فإنها من أكرم ماأسررت، وأزين ماأظهرت وأفضل ما إدخرت.
سئل الجنيد عما يُستعان به على غض البصر فقال: علمك أن نظر الله إليك أسبق إلى ما تنظره.
وكتب ابن السماك لأخ له : أوصيك بتقوى الله الذي هو نجيّك في سريرتك ورقيبك في علانيتك فاجعل الله من بالك على كل حال في ليلك ونهارك، وخف الله بقدر قربه منك وقدرته عليك، واعلم أنك بعينه لست تخرج من سلطانه إلى سلطان غيره، ولا من ملكه إلى ملك غيره، فليعظم منه حذرك وليكثر منه وجلك.
وكان بعض العلماء قد جاوز المائة سنة وهو متمتع بقوته وعقله فوثب يوماً وثبة شديدة، فعوتب في ذلك فقال: هذه جوارح حفظناها عن المعاصي في الصغر فحفظها علينا في الكبر.
وقيل: من عامل الله بالتقوى والطاعة في حال رخائه، عامله الله باللطف والإعانة في حال شدته.
وقال عمر - رضي الله عنه - : من استحيا خفي ومن خفي اتقى ومن اتقى وقى.(1/50)
وقيل : إن الله عز وجل جعل الجنة ثمناً لأنفسكم فلا تبيعونها بغيرها، اللهم ارحم في الدنيا غربتي وارحم في القبر وحشتي وارحم موقفي بين يديك.
قال بعض السلف لتلميذه: ما تصنع بالشيطان إذا سوّل لك الخطايا؟ قال: أجاهده، قال: فإن عاد؟ قال: أجاهده، قال فإن عاد؟ قال: أجاهده، قال هذا يطول عليك، أرأيت إن مررت بغنم فنبحك كلبها أو منعك من العبور ماذا تصنع؟ قال أكابده وأرده جهدي، قال: هذا يطول عليك، ولكن استعن بصاحب الغنم يرده عنك
قال عطاء : اتق الله، فأنت خلقت وحدك، وتموت وحدك، وتحشر وحدك، وتحاسب وحدك، لا والله ما معك ممن ترى أحد.
قال أبو ذر - رضي الله عنه - : قلت: يا رسول الله أوصني، قال: أوصيك بتقوى الله فإنها زين لأمرك كله، قلت : يارسول الله زدني قال : عليك بتلاوة القرآن وذكر الله عز وجل فإنه ذكر لك في الأرض ونور لك في السماء، قلت : زدني، قال : عليك بطول الصمت فإنه مطردة للشيطان وعون لك على أمر دينك، قلت : زدني قال : إياك وكثرة الضحك فإنه يُميت القلب ويذهب بنور الوجه، قلت : زدني قال : قل الحق وإن كان مراً، قلت : زدني قال: لاتخف في الله لومة لائم قلت : زدني قال : ليحجزك عن الناس ما تعلم من نفسك) أحمد والطبراني بسند حسن.
قال إبراهيم بن الأشعث : سمعت فضيلاً بن عياض ليلة يقرأ سورة محمد - صلى الله عليه وسلم - يبكى ويردد هذه الآية { وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ } محمد 31 ، وجعل يقول: ونبلو أخباركم، ويردد ويقول: وتبلو أخباركم، إن بلوت أخبارنا فضحتنا وهتكت أستارنا، إن بلوت أخبارنا أهلكتنا وعذبتنا.(1/51)
جاء عابد يقال له همام إلى الإمام على كرّم الله وجهه وقال له: صف لي المتقي كأني أنظر إليهم قال : هم أهل الفضائل منطقهم الصواب، وملبسهم الاقتصاد ومشيهم التواضع، غضوا أبصارهم عمّا حرّم الله عليهم، ووقفوا أسماعهم على العلم النافع لهم،نزلت نفوسهم في البلاء، كما نزلت في الرخاء، لولا الأجل الذي كتب الله لهم لم تستقر أرواحهم في أجسادهمم طرفة عين، شوقاً إلى ربهم، عظم الخالق في أنفسهم فصغر ما دونه في أعينهم، قلوبهم محزونة، وشرورهم مأمونة، وأجسادهم نحيفة، وحاجاتهم خفيفة، وأنفسهم عفيفة، صبروا أياماً قليلة، وأعقبتهم راحة طويلة، تجارتهم رابحة، سيّرها لهم ربهم، أرادتهم الدنيا فلم يريدوها، أما الليل فصافون أقدامهم يرتلون لأجزاء القرآن ترتيلا فإذا مروا بآية فيها تشويق ركنوا إليها طمعاً، وتطلعت أنفسهم إليها تشوقاً، وإذا مروا بآية فيها تخويف صغوا إليها بمسامع قلوبهم، وظنوا أن زفير أهل جهنم وشهيقها في أصول آذانهم، فهم جاثون على ركبهم يطلبون من الله فكاك رقابهم، وأما بالنهار فعلماء أبرار أتقياء، لايرضون من أعمالهم بالقليل، ولا يستكثرون بالكثير، فهم لأنفسهم متهمون ومن أعمالهم مشفقون، وإذا ذكر أحدهم خاف ممّا يقول له فيقول: أنا أعلم بنفسي من غيري، وربي أعلم بنفسي مني، اللهم لا تؤاخذني بما يقولون، واجعلني أفضل مما يظنون واغفر لي مالا يعلمون، فمن علامة أحدهم: أنك ترى له قوة في الدين، وحزماً في لين وإيماناً في يقين، وحرصاً في علم، وعملاً في حلم، وقصداً في غنى، وخشوعاً في عبادة وتجملاً في فاقة، وصبراً في شدة، وطلبا في حلال، ونشاطاً في هدىً، وتحرجاً عن طمع يعمل الأعمال الصالحة وهو على وجل، يمسي وهمّه الشكر، ويصبح وهمّه الذكر، يمزج الحلم بالعلم، والقول بالعمل، تراه قريباً أمله، قليلاً ذلله، خاشعاً قلبه، قانعةً نفسه، مكظوماً غيظه، ميتة شهوته، الخير منه مأمول، والشر منه مأمون، يعفو عمن ظلمه، ويعطي من(1/52)
حرمه، ويصل من قطعه، في الزلازل وقور، وفي المكاره صبور، وفي الرخاء شكور، لا يحيف على من يبغض، ولا يأثم فيمن يحب، يعترف بالحق قبل أن يشهد عليه، لا يضيع ما استحفظ، ولا ينابز بالألقاب، ولا يضر بالجار، ولا يشمت بالمصائب، نفسه منه في عناء، والناس منه في راحة، أتعب نفسه لآخرته، وأراح الناس من نفسه، بعده عمن تباعد عنه زهد ونزاهة، ودنوه ممن دنا منه لين ورحمة، ليس تباعده بكبر وعظمة، ولا دنوه بمكر وخديعة.
فيا من بات ينمو بالخطايا ... ... وعين الله ساهرة تراه
أما تخشى من الديان طرداً ... ... بجرم دائماً أبداً تراه ...
وتخلو بالمعاصي وهو دان إليك ... ... ولست تخشى من لقاه
أتعصي الله وهو يراك جهراً ... ... وتنسى في غد حقاً تراه
وتنكر فعلها ولها شهود ... ... بمكتوب عليك وقد حواه
فيا حزن المسيء لشؤم ذنب ... ... وبعد الحزن يكفيه جزاه
فيندب حسرة من بعد موت ... ... ويبكي حيث لا يجدي بكاه
فبادر بالصلاح وأنت حي ... ... لعلك أن تنال به رضاه
وفي بعض الآثار: أن الله أوحى إلى نبي من الأنبياء قل لقومك: مابالكم تسترون الذنوب من خلقي وتظهرونها لي، إن كنتم ترون أني لا أراكم فأنتم مشركون بي، وإن كنتم ترون اني أراكم فلم جعلتموني أهون الناظرين إليكم؟).
إذا ما خلوت الدهر يوما فلا تقل ... ... خلوت ولكن قل عليّ رقيب
ولا تحسبن الله يغفل ما مضى ... ... ولا أن ما تخفي عليه يغيب
لهونا لعمر الله حتى تتابعت ... ... ذنوب على آثارهن ذنوب
فياليت أن الله يغفر ما مضى ... ... ويأذن في توباتنا فنتوب(1/53)
قال سهل بن عبد الله: كنت وأنا ابن ثلاث سنين أقوم بالليل أنظر إلى صلاة خالى محمد بن سوار، فقال لي يوماً: ألا تذكر الله الذي خلقك؟ قلت كيف أذكره؟ قال: قل بقلبك ثلاث مرات من غير أن تحرك لسانك: الله معي ، الله ناظر اليّ ، الله شاهدي، فقلت ذلك ليالي ثم أعلمته، قال: قلها كل ليلة إحدى عشرة مرة. فقلت ذلك فوقع في قلبي حلاوة، فلما كان بعد سنة قال لي خالي: احفظ ما علمتك ودم عليه إلى أن تدخل قبرك فلم أزل على ذلك سنين فوجدت له حلاوة في سري، ثم قال لي خالي: ياسهل من كان الله معه وهو ناظر إليه وشاهد عليه هل يعصيه؟ إياك والمعصية، فمضيت إلى المكتب وحفظت القرآن وأنا ابن ست سنين ثم كنت أصوم وقوتي من خبز الشعير وكنت أقوم الليل.
إذا ما قال لي ربي ... ... أما استحييت تعصيني
وتخفي الذنب من خلقي ... ... وبالعصيان تأتيني
فما قولي له لمّا ... ... يعاتبني ويقصيني(1/54)
وإذا أراد العبد أن ترسخ تقوى الله في قلبه فلا بد أن يرى الأمور على حقيقتها وتقوم في قلبه شواهد لها وحسب شاهد العبد يكون عمله، فأول شواهد السائر إلى الله والدار الآخرة أن يرى بقلبه الدنيا وحقارتها، وقلة وفائها، وكثرة جفائها، وسرعة انقضائها، وخسة شركائها، ويرى أهلها وعشاقها صرعى حولها، وقد عذبتهم بأنواع العذاب، أضحكتهم قليلاً وأبكتهم طويلاً، سقتهم كؤوس سمها بعد كؤوس خمرها، فسكروا بحبها، وماتوا بهجرها، فإذا قام بالعبد هذا الشاهد منها، رحل بقلبه عنها وجدّ في طلب الدار الآخرة، وحينئذ يقوم بقلبه شاهد من الآخرة ودوامها وإنما هي الحياة الدائمة، فهي دار القرار، ومحطّ الرحال، ومنتهى السير, وأن الدنيا بالنسبة لها (كما يجعل أحدكم إصبعه في البحر فلينظر بماذا يرجع) فما الدنيا في الآخرة إلا أقل من ذرة واحدة في جبال الدنيا، ثم يقوم بقلبه شاهد من النار وتوقدها واضطرامها، وشدة حرها وعظيم عذاب أهلها، فيشاهدهم وقد ِسيقوا إليها سود الوجوه، زرق العيون، والسلاسل والأغلال في أعناقهم، فلما انتهوا إليها فتحت أبوابها، فشاهدوا ذلك المنظر الفظيع، وقد تقطعت قلوبهم حسرة وأسفاً { وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُم مُّوَاقِعُوهَا وَلَمْ يَجِدُوا عَنْهَا مَصْرِفاً } الكهف 53 ، فأراهم شاهد الإيمان وهم إليها يدفعون، وأتى النداء من رب العالمين { وَقِفُوهُمْ إِنَّهُم مَّسْئُولُونَ } الصافات 24] ثم قيل لهم { فَالْيَوْمَ لا يَمْلِكُ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ نَّفْعاً وَلا ضَرّاً وَنَقُولُ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّتِي كُنتُم بِهَا تُكَذِّبُونَ } [سورة سبأ42 ، فيراهم شاهد الإيمان وهم في الحميم على وجوههم يسحبون، وفي النار كالحطب يسجرون { لَهُم مِّن جَهَنَّمَ مِهَادٌ وَمِن فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ } الأعراف 41(1/55)
فبئس اللحاف وبئس الفراش، فإذا قام بقلب العبد هذا الشاهد إنخلع من الذنوب والمعاصي واتباع الشهوات، ولبس ثوب الخوف والحذر، وأخضب عينه من مطر أجفانه، وهان عليه كل مصيبة تصيبه في غير دينه وقلبه، وعلى حسب قوة هذا الشاهد يكون بعده عن المعاصي فيذيب هذا الشاهد من قلبه المعاصي والمواد المهلكة ثم يخرجها فيجد القلب لذة العافية وسرورها، فيقوم بعد ذلك شاهد من الجنة وما أعد الله لأهلها فيها ممّا لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، فضلاً عما وصفه الله لعباده، وعلى لسان رسوله - صلى الله عليه وسلم - من النعيم المفضل الكفيل بأعلى أنواع اللذة من المطاعم والمشارب والملابس والصور والبهجة والسرور، فيقوم بقلبه شاهد دار قد جعل الله فيها النعيم المقيم الدائم بحذافيره، فإذا انضم إلى هذا الشاهد شاهد يوم المزيد، والنظر إلى وجه الرب جل جلاله، وسماع كلامه منه بلا واسطة، فإذا انضم هذا الشاهد إلى الشواهد التي قبله فهناك يسير القلب إلى ربه أسرع من سير الرياح في مهابها، فلا يلتفت يمنه ولا يسره، هذا وفوق هذا شاهد آخر تضمحل فيه هذه الشواهد ويغيب به العبد عنها كلها، وهو شاهد جلال الرب وكماله وعزه وسلطانه وقيومته وعلوّه فوق عرشه، وتكلمه بكتابه وخطابه لرسله، فإذا شاهده بقلبه شاهده قيوماً قاهراً فوق عباده مستويا على عرشه منفرداً بتدبير مملكته، أمراً ناهياً مرسلاً لرسله ومنزلاً لكتبه يرضى ويغضب، ويتب ويعاقب، ويعطي ويمنع، ويعز ويذل، ويحب ويبغض، ويرحم إذا استرحم، ويغفر إذا استغفر، ويعطي إذا سئل، ويجيب إذا دعى، ويقيل إذا استقيل، أكبر من كل شيء، وأعز من كل شيء، وأعظم من كل شيء، وأقدر من كل شيء، وأعلم من كل شيء، وأحكم من كل شيء، وأقوى من كل شيء، فلو كانت قوى الخلائق كلهم على واحد منهم ثم كانوا كلهم على تلك القوة ثم نسبت تلك القوة إلى قوة البعوضة بالنسبة إلى قوة الأسد لكانت أقل، ولو قدر جمال الخلق كلهم على(1/56)
واحد منهم، ثم كانوا كلهم بذلك الجمال، ثم نسب إلى جمال الرب تعالى، لكان دون سراج ضعيف بجانب عين الشمس، ولو كان علم الأولين والآخرين على رجل منهم ثم كان الخلق كلهم على تلك الصفة، ثم نسب إلى علم الله لكان ذلك بالنسبة لعلم الله تعالى كنقرة عصفور في بحر، وهكذا سائر صفاته ونعوت كماله سبحانه.
يرى دبيب النملة السوداء على الصخرة الصماء في الليلة الظلماء، ويرى نياط عروقها ومجارى القوت في أعضائها (يضع يوم القيامة السموات على إصبع والأرض على إصبع والجبال والشجر على إصبع والماء والثرى على إصبع وسائر الحلق على إصبع ثم يهزهن فيقول: أنا الملك، أنا الملك) مسلم.
ولو أن الخلق كلهم من أولهم إلى آخرهم قاموا صفاً واحداً ما أحاطوا بالله عز وجل، ولو كشف الحجاب عن وجهه لأحرقت أنواره ما انتهى إليه بصره من خلقه، فإذا قام بقلب العبد هذا الشاهد وغيره، سار إلى الله في يقظته وحركته وسكونه، له شأن وللناس شأن، هو في واد والناس في واد ، وهذا هو الباعث على العبادة والمحبة والخشية والإنابة، وأعظم الناس حظاً في ذلك من كان معترفاً بأنه لا يحصي ثناءً عليه سبحانه، وأنه فوق ما يثنى عليه المثنون وفوق ما يحمده الحامدون
قال الحسن: مازالت التقوى بالمتقين حتى تركوا كثيراً من الحلال مخافة الحرام
تزود من التقوى فإنك لا تدري ... إذا جنّ ليل هل تعيش إلى الفجر
فكم من صحيح مات من غير علة ... وكم من عليل عاش حيناً من الدهر
وكم من صغار يرتجى طول عمرهم ... وقد دخلت أجسادهم ظلمة القبر وكم من فتىً يمسي ويصبح لاهياً ... وقد نسجت أكفانه وهو لايدري وكم من عروس زينوها لزوجها ... وقد قبضت روحها ليلة القدر
- من فضائل التقوى -
1] الحمد والثناء: قال تعالى { وَإِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ } آل عمران 186(1/57)
2] الحفظ والحراسة من الأعداء: قال تعالى { وَإِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ لاَ يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ } آل عمران 120
3] التأييد والنصرة: قال تعالى { إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَواْ وَّالَّذِينَ هُم مُّحْسِنُونَ } النحل 128
4] النجاة من الشدائد والرزق الحلال: قال تعالى { وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً } الطلاق 2
5] محبة الله: - قال تعالى { َإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ } التوبة 4
6] قبول الأعمال: - قال تعالى { إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ } المائدة 27
7] النجاة من النار: - قال تعالى { ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوا } مريم 72
8] الإعزاز والإكرام: قال تعالى { إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ } الحجرات 13
9] الولاية والبشارة عند الموت: قال تعالى { أَلا إِنَّ أَوْلِيَاء اللَّهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ الَّذِينَ آمَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَياةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ لاَ تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ } يونس 62، 63
10] إصلاح العمل وغفران الذنوب: قال تعالى { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً } الأحزاب 70، 71
11] الخلود في الجنة : قال تعالى { وَسَارِعُواْ إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ } آل عمران 133(1/58)
12] تيسير الامور: قال تعالى { وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْراً } الطلاق 4
13] المغفرة والعلم: قال تعالى { يِا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إَن تَتَّقُواْ اللَّهَ يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَاناً وَيُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ } الأنفال: 29
وقال تعالى { وَاتَّقُواْ اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ } البقرة 282
14] الفلاح في الدنيا والآخرة : قال تعالى { وَاتَّقُواْ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } آل عمران 130
15] غفران الذنوب وإعظام الأجور: قال تعالى { وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْرا ً } الطلاق 5
16] الهداية من الله: قال تعالى { ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ } البقرة 2
الأسباب المؤدية إلى تقوى الله:-
1- الخوف من عذاب الآخرة: إذا استحضر المؤمن أمامه يوم القيامة وكيف تطير صحائف الأعمال وكيف يقابل المولى العظيم بذنوبه الكثيرة يشفق على نفسه.
2- الخوف من عقاب الدنيا:إن الله له عقوبات في الدنيا لمن تعدى حدوده، أمراض بالأبدان، وضيق بالرزق، وذم على ألسنة الخلق، وقد ينال بطش الجبار من يظلم نفسه أو غيره في أي لحظة فيردع ذلك المؤمن ويوفقه إلى تقوى الله.
3- رجاء ثواب الآخرة: مَن مِن العقلاء يرضى لنفسه ثواباً دون الجنة التي لم يرض الله ثواباً غيرها لعبادة المؤمنين.
4- رجاء ثواب الدنيا: إن الله ينضّر وجه المتقين، ويطمئن قلوب الصالحين، ويرغّد حياة المؤمنين بتقواه.
5- الحياء من نظر الله: هذه مرتبة المحسنين الذين عرفوا لله قدره فاستحيوا منه وحفظوا لله جنابه فلهذا وجلوا منه ورأوا كرمه ونعمته فلهذا تحببوا إليه أولئك بحق هم المتقون.(1/59)
6- العلم: قال تعالى { إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء } ]فاطر 28، أي أن الذين يخافون إنما هم العلماء بأمره ونهيه ووعيده وثوابه.
7- صدق المحبة لله تبارك وتعالى: فمن صدقت محبته صدقت عبوديته وخوفه من الله تبارك وتعالى، قال بعض الصالحين: رأيت شاباً عليه آثار القلق ودموعه تتحادر فقلت له من أنت؟ فقال آبق من مولاه، قلت تعود وتعتذر, قال : العذر يحتاج إلى حجة فكيف يعتذر المفرط، قلت له تتعلق بشفيع , قال كل الشفعاء يخافون منه، فقلت من هو؟ قال: مولى رباني صغيراً فعصيته كبيراً فوا حيائي منه ومن حسن صنيعه وقبح فعلى.
فوائد غض البصر
إن الجزاء من جنس العمل فمن غض بصره عن المحرمات عوًضه الله من جنس ما هو خير منه فكما أمسك بصره عن المحرمات أطلق الله نور بصره وقلبه فرأى به ما لم ير من أطلق بصره ولم يغضه عمّا حرمه الله، فإن القلب كالمرآة والسهو كالصدأ فيه فإذا خلصت المرآة من الصدأ انطبعت فيه صور الحقائق كما هي عليه، وإذا صدأت لم تطبع فيها صور المعلومات فيكون علمه وكلامه من باب الحرص والظنون.
دخل رجل قد أطلق بصره فيما حرمه الله على عثمان - رضي الله عنه - فقال له يدخل علىّ أحدكم والزنا في عينيه فقال وحي بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ؟ قال لا ولكن فراسة صادقه، ولغض البصر فوائد كثيرة منها: -
1- تطهير القلب من الذنوب، قال تعالى { قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ } النور 30(1/60)
2- يورث القلب نوراً وإشراقاً: قال ابن القيم: هذا النور يظهر في العين والوجه وفي الجوارح، كما أن إطلاق البصر يورثه ظلمة تظهر في وجهه وجوارحه وهذا والله أعلم ما ذكر الله سبحانه وتعالى في آية النور في قوله تعالى { اللَّهُ نُورُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِن شَجَرَةٍ مُّبَارَكَةٍ زَيْتُونِةٍ لاَّ شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُّورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَن يَشَاء وَيَضْرِبُ اللَّهُ الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ } النور 35 عقيب قوله تعالى { قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ } النور 30 ،
]وجاء الحديث مطابقاً لهذا كأنه مشتق منه وهو قوله - صلى الله عليه وسلم - ( النظرة سهم مسموم من سهام إبليس فمن غض بصره عن محاسن إمرأة أورث الله قلبه نوراً ) أحمد.
3- يفتح طرق العلم: قال تعالى { وَاتَّقُواْ اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ } البقرة 282
قال الإمام القرطبي : وعد من الله تعالى بأن من اتقاه عَلّمه ويجعل في قلبه نوراً يفهم به .
4- شكر النعمة: البصر من أعظم النعم التي وهبها الله تعالى للإنسان لأجل أن يشكر الله المنعم وذلك باستعمال هذه النعمة في طاعة الله تعالى، فمن استعملها في غير ذلك كانت حجةً عليه وقابل النعمة بالجحود، قال تعالى { وَاللَّهُ أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَجَعَلَ لَكُمُ الْسَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } النحل 78(1/61)
5- التخلص من ألم الحسرة: قال ابن القيم: أضر شيء على القلب إرسال البصر فإنه يريه ما يشتد طلبه ولا صبر له عنه ولا وصول له إليه وذلك غاية ألمه وعذابه.
6- الوقاية من الزنا: قال تعالى { وَلاَ تَقْرَبُواْ الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاء سَبِيلاً } الإسراء 32، المعنى لا تقتربوا منه ولا من مقدماته كاللمسة، والنظرة، والغمزة... الخ.
وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ( إن الله كتب على ابن آدم حظه من الزنا فهو مدرك ذلك لا محالة، فزنا العين النظر، وزنا اللسان المنطق، والنفس تتمنى وتشتهي، والفرج يصدق ذلك كله أو يكذبه ) متفق عليه
7- يخلص القلب من الغفلة عن الدار الآخرة: قال العلامة ابن القيم: إن إطلاق البصر يوجب إستحكام الغفلة عن الدار الآخرة، ويوقع في سكرة العشق، كما قال تعالى عن عشاق الصور: { لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ } الحجر 72
8- الفرح يوم القيامة: عن أبى هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ( كل عين باكية يوم القيامة إلاّ عين غضت عن محارم الله وعين سهرت في سبيل الله وعين يخرج منها مثل رأس الذباب من خشية الله ) أبونعيم في الحلية بسند حسن
9- ضمان الجنة: فعن عبادة بن الصامت - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال ( اضمنوا لي ستاً من أنفسكم أضمن لكم الجنة: اصدقوا إذا حدثتم، وأوفوا إذا وعدتم وأدوا إذا إئتمنتم، إحفظوا فروجكم وغضوا أبصاركم وكفوا أيديكم) ابن حبان بسند صحيح (ص ج ص)
الفصل الثالث: محبة الله
قال تعالى { قُل إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } آل عمران:31
وقال تعالى { إ ِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ } البقرة:222(1/62)
وفي الحديث القدسي ( ولا يزال عبدي يتقرب إليّ بالنوافل حتى أحبه فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها ورجله التي يمشي بها ) متفق عليه
وقال - صلى الله عليه وسلم - ( قال الله عز وجل: قد حُقت محبتي للذين يتحابون من أجلي وقد حقت محبتي للذين يتزاورون من أجلي، وقد حقت محبتي للذين يتباذلون من أجلي وقد حقت محبتي للذين يتصادقون من أجلي ) أحمد بسند صحيح(ص ج ص)
وقال - صلى الله عليه وسلم - ( إن الله تعالى يقول يوم القيامة: أين المتحابون بجلالي اليوم أظلهم في ظلي يوم لا ظل إلا ظلي ) مسلم.
وقال - صلى الله عليه وسلم - ( من أحب لله وأبغض لله وأعطى لله ومنع لله فقد استكمل الإيمان) أبو داود(ص ج ص)
وقال - صلى الله عليه وسلم - ( إن من عباد الله قوما ليسوا بأنبياء ولا شهداء يغبطهم الأنبياء والشهداء، قيل من هم لعلنا نحبهم؟ قال: هم قوم تحابوا بنور الله من غير أرحام ولا أنساب، وجوههم نور على منابر من نور لا يخافون إذا خاف الناس، ولا يحزنون إذا حزن الناس) ثم قرأ { أَلا إِنَّ أَوْلِيَاء اللَّهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ } النسائي بسند حسن(1/63)
إن الحب والرضا المتبادل هو الصلة بين الله وعباده المؤمنين.. الحب هذا الروح الساري اللطيف الرفاف المشرق الرائق البشوش هو الذي يربط المؤمنين بربهم الودود.. وحب الله عبداً من عباده أمر لا يقدّر قيمته إلاّ من يعرف الله بصفاته كما وصف نفسه، وإلا من وجد إيقاع هذه الصفات في حسه ونفسه وشعوره، أجل لايقدّر حقيقة هذا العطاء إلاّ الذي يعرف حقيقة المعطي.. الذي يعرف من هو الله.. من هو صانع هذا الكون الهائل.. ومن هو صانع الإنسان من هو في عظمته.. من هو في قدرته.. من هو في تفرده.. من هو في ملكوته. من هو؟ ومن هذا العبد الذي يتفضل الله عليه منه بالحب، والعبد من صنع يديه سبحانه، وهو الجليل العظيم الحي الدائم سبحانه، وحب الله من عبد نعمة لهذا العبد لا يدركها لذلك إلاّ من ذاقها، وإذا كان حب الله بعبد من عباده أمراً عظيماً هائلاً وفضلاً غامراً جزيلاً، فإن إنعام الله لعبد من عباده بهدايته لحبه وتعريفه هذا المذاق الجميل، الفريد الذي لا نظير له في مذاقات الحب كلها ولا شبيه، هو إنعام هائل عظيم، وفضل غامر جزيل كما قيل في محبة الله: -
فليتك تحلو والحياة مريرة ... وليتك ترضى والأنام غضاب
وليت الذي بيني وبينك عامر ... ... وبيني وبين العالمين خراب
إذا صح منك الود فالكل هيّن ... وكل الذي فوق التراب تراب
قال سلمان الداراني - رضي الله عنه - : إلهي لإن طالبتني بذنوبي لأطالبنّك بعفوك، ولئن طالبتني ببخلي لأطالبنك بجودك، ولئن طالبتني بإساءتي لأطالبنك بإحسانك، ولئن أدخلتني النار لأخبرن أهل النار أني أحبك).
قال الحسن البصري: أوحى الله إلى داود - عليه السلام - : ياداود أحبني وأحب من يحبني وحببني إلى عبادي فقال: يارب أحبك وأحب من يحبك فكيف أحببك إلى عبادك؟ قال: ذكّرهم ألائي ونعمائي فإنهم لم يعرفوا مني إلاّ الحسن الجميل).(1/64)
للمحبة رجال ما تركوا في قلوبهم لغير محبوبهم مجالاً، فما في المحب عضو ولا جارحة إلاّ وعليه شواهد المحبة لبارئها فالألسن قد شغلها أنيس(فاذكروني اذكركم) والأسماع منصته لاستماع كلام الكريم (وإذا سألك عبادي عني فاني قريب) والأبصار شاخصة لانتظار( { وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ } القيامة 22، 23 والأبدان قائمة بوظيفة { إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } الفاتحة :5، والقلوب مرتبطة برابطة { يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ } المائدة:54، والأسرار مستغرقة في مشاهدة حضرة { وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ } البروج: 3، والأرواح ترتاح لأذكار { فَرَوْحُُُ وَرَيْحَانُُ } الواقعة: 89، فما للعابد الحق غفلة عن معبوده.
وإذا سكنت المحبة في القلوب وأنارت بأنوار المحبوب فأثرت وأثمرت في القلب سبعة أشياء لا يضيء مصباح معرفة الرب إلاّ بها: إخلاص النية لله، والخوف من الله، ورجاء ثواب الله، والصدق مع الله، والتوكل على الله، وحسن الظن بالله، والشوق إلى لقاء الله.
قال عامر بن قيس: أحببت الله حباً هوّن عليّ كل مصيبة، ورضاني بكل بلية فلا أبالى مع حبي إياه على ما أصبحت ولا على ما أمسيت.
إن كان سركم ما قد بليت به ... فما لجرح إذا أرضاكم ألم
ومتى تمكنت المحبة من القلب لم تنبعث الجوارح إلاّ إلى طاعة الرب، فمن أحب الله بحق لم يكن عنده شيء آثر وأفضل من رضا الله وطاعته، لهذا فنعلم أنه لا تتم محبة الله إلاّ بمحبة ما يحبه، وكراهة ما يكرهه، ولا طريق إلى معرفة ما يحبه ويكرهه إلاّ باتباع أمره واجتناب نواهيه.
قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (إن الله تعالى إذا أحبّ عبداً دعا جبريل فقال: إني أحب فلاناً فأحبه، فيحبه جبريل، ثم ينادي جبريل في السماء فيقول: إن الله يحب فلاناً فأحبوه، فيحبه أهل السماء: ثم يوضع له القبول في الأرض) مسلم.(1/65)
إن المحبة هى المنزلة التي عليها تنافس المتنافسون، وإليها شخص العاملون وإلى علمها شمر السابقون، وعليها تفانى المحبون، وبروح نسيمها تروّح العابدون، فهي قوت القلوب، وغذاء الأرواح، وقرة العيون، وهي الحياة التي من حرّمها فهو من جملة الأموات، والنور الذي من فقده فهو في بحار الظلمات، والشفاء الذي من عدمه حل بقلبه جميع الأسقام والآفات، واللذة التي من لم يظفر بها فعيشه كله هموم وآلام، وهي روح الإيمان والأعمال والأحوال، التي متى خلت منها فهي كالجسد الذي لاروح فيه، تالله لقد ذهب أهلها بشرف الدنيا والآخرة، إذ لهم من معية محبوبهم أوفر نصيب، وقد قضى الله: أن المرء مع من أحب، فيالها من نعمة على المحبين سابغة، أجابوا نادى الشوق إذ نادى بهم: حى على الفلاح، وبذلوا نفوسهم في طلب الوصول إلى محبوبهم، وكان بذلهم بالرضا والسماح، تالله لقد حمدوا عند الوصول مسراهم، وشكروا مولاهم على ما أعطاهم.
إن نفوس المحبين الصادقين وأموالهم ليست لهم فبادروا إلى بيعها لله { إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقّاً فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُواْ بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُم بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ } التوبة: 111، فلما عرفوا عظمة المشترى وهى الجنة، وفضل الثمن وهو نفوسهم، وجلاله الله الذي جرى على يديه عقد البيع، عرفوا قدر السلعة وأن لها شأناً، فرأوا أن من أعظم الغبن أن يبيعوها لغيره بثمن بخس: فعقدوا معه بيعة الرضوان بالتراضي فأعطاهم الله الثواب الجزيل
مراتب المحبة
1- العلاقة: لتعلق القلب بالمحبوب. 2- الإرادة : ميل القلب له.
الصبابة: إنصباب القلب إليه بحيث لا يملكه صاحبه.(1/66)
الغرام: الحب اللازم للقلب لا يفارقه 5 - الود: صافي المحبة وخالصها
6- الشغاف: وصول الحب لشغاف القلب.
7- العشق: الحب المفرط الذي يخاف على صاحبه منه ولا يوصف الله ولا العبد في محبة ربه به لتعلقه بالشهوة. 8- التيمم: التذلل.
9- التعبد: فإن العبد هو الذي ملك المحبوب رقّة فلم يبق له شيء من نفسه بل كله عبد لمحبوبه ظاهراً وباطناً، وهذاهو حقيقة العبودية ومن كمّل ذلك فقد كمّل مراتبها.
10- الخلة: إنفرد بها إبراهيم ومحمد عليهما السلام،قال ابن عباس - رضي الله عنه - : من أحب في الله وأبغض في الله ووالى في الله وعادى في الله، فإنما ينال ولاية الله بذلك، ولن يجد عبد طعم الإيمان وإن كثرت صلاته وصومه حتى يكون كذلك، وقد كثرت مؤاخاة الناس على أمر الدنيا، وذلك لا يجدى على أهله شيئاً.
... كان محمد بن النضر يخلو بنفسه فقيل له:أوما تستوحش؟ قال:كيف أستوحش وهو يقول: أنا جليس من ذكرني.
... قال إبراهيم بن أدهم: أعلى الدرجات أن تنقطع إلى ربك وتستأنس إليه بقلبك وعقلك وجميع جوارحك، حتى لا ترجو إلاّ ربك، ولا تخاف إلاّ ذنبك، وترسخ محبته في قلبك حتى لا تُؤثرعليها شيئاً، فإن كنت كذلك لم تنل في بر كنت أو في بحر أو في سهل أو في جبل، وكان شوقك إلى الحبيب، شوق الظمآن إلى الماء البارد، وشوق الجائع إلى الطعام الطيب، ويكون ذكر الله عندك أحلى من العسل وأحلى من الماء العذب الصافي عند العطشان في اليوم الصائف.
قال مسلم بن عابد: ما يجد المطيعون لذة في الدنيا أحلى من الخلوة بمناجاة سيدهم، ولا أحسن لهم في الآخرة من عظيم الثواب أكبر في صدورهم وألذ في قلوبهم من النظر إليه تبارك وتعالى.(1/67)
سئل الجنيد عن المحبة فأطرق برأسه ودمعت عيناه، ثم قال: عبد ذاهب عن نفسه، متصل بذكر ربه، قائم بأداء حقوقه، ناظر إليه بقلبه، أحرقت قلبه أنوار هيبته، وصفا شربه من كأس وده، فإن تكلم فبالله، وإن نطق فعن الله، وإذا تحرك فبأمر الله، وإن سكن فمع الله، فهو بالله ولله ومع الله.
وقال ذو النون: من علامات المحبين لله أن لا يأنسوا بسواه، ولا يستوحشوا معه وقال غزوان: إني أصبت راحة قلبي في مجالسة من لديه حاجتي.
علامات محبة الله
إيثار الله تبارك وتعالى على جميع ما سواه.
موافقة الحبيب في المشهد والمغيب وإلاً فمحبته معلولة.
موافقة القلب لما يريده الله منه.
استقلال الكثير من نفسك واستكثار القليل من ربك.
أن تهب كلك لله، فلا يبقى لك منك شيء، بأن تهب نفسك ومالك ووقتك له، وتجعلها حبساً في مرضاته ومحابة، فلا تأخذ لنفسك منه إلا ماأعطاك.
أن تمحو من القلب كل ما سوّى الله إلا ما دلك عليه أو أمرك بحبه.
أن لا تزال عاتباً على نفسك في مرضاته تبارك وتعالى.
أن لا تؤثر عليه غيره، ولا يتولى أمورك غيره.
المحبة: سفر القلب في طلب المحبوب، ولهج اللسان بذكره على الدوام، أما سفر القلب له: فهو الشوق إلى لقائه، وأما لهج اللسان بذكره، فلا ريب أن من أحب شيئاً أكثر من ذكره.
المحبة: هي ما لا ينقص بالجفاء ولا يزيد بالبر، وكلما قويت المعرفة بالله قويت المحبة ولا نهاية لكمال المحبوب، ولا بره فلا نهاية لمحبته، بل لو اجتمعت محبة الخلق كلهم وكانت على قلب رجل منهم كانت دون ما يستحقه الله تعالى.
الأسباب الجالبة لمحبة الله والموجبة لها :-
قراءة القرآن بالتدبر والتفهم لمعانيه وما أريد به، كتدبر الكتاب الذي يحفظه العبد ويشرحه ليفهم مراد صاحبه منه.
التقرب إلى الله بالنوافل بعد الفرائض فإنها توصله لها.
دوام ذكره على كل حال: باللسان والقلب والعمل والحال، فنصيبه من المحبة على قدر نصيبه من هذا الذكر.(1/68)
إيثار محابه على محابك عند غلبات الهوى، والترقي إلى محابه وإن صعب ذلك.
مطالعة القلب لاسمائه وصفاته ومشاهدتها ومعرفتها وتقلبه في رياض هذه المعرفة ومباديها، فمن عرف الله بأسمائه وصفاته أحبه لا محالة.
مشاهدة بره وإحسانه ونعمه الظاهرة والباطنة فإنها داعية إلى محبته.
انكسار القلب بكليته بين يدي الله تعالى.
الخلوة به في وقت السحر لمناجاته وتلاوة كلامه والوقوف بالقلب والتأدب بأدب العبودية بين يديه ثم ختم ذلك بالتوبة.
مجالسة المؤمنين الصادقين والتقاط أطايب كلامهم كانتقاء أطايب الثمر.
مباعدة كل سبب يحول بين القلب وبين الله عز وجل.
... فمن هذه الأسباب العشرة: وصل المحبوب إلى منازل المحبة.
قال أبوسليمان الداراني: لمّا إدعت القلوب محبة الله أنزل الله لها محنة، قوله تعالى { قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } ]آل عمران31
إن محبة العبد الصادق لربه فوق كل محبة تقدر، ولا نسبة لسائر المحاب إليها وهي حقيقة (لاإله إلا الله) ومحبة الله لرسله وأنبيائه وأوليائه صفة زائدة على رحمته وإحسانه وعطائه فإن ذلك من أثر المحبة، فإن الله تعالى لمّا أحبهم كان نصيبهم من رحمته وإحسانه أتم نصيب.
تعصى الإله وأنت تظهر حبه ... ... هذا لعمري في الفعال بديع
لو كنت حقاً صادقاً لأطعته ... ... إن المحب لمن يحب مطيع(1/69)
إنه لا شيء أحب إلى القلوب من خالقها وفاطرها فهو إلَهُهَا ومعبودها ووليها ومولاها وربها ومدبرها، ورازقها، ومميتها، ومحييها، فمحبته نعيم النفوس وحياة الأرواح وسرور النفوس، وقوت القلوب، ونور العقول وقرة العيون، فليس عند القلوب السليمة والأرواح الطيبة والعقول الزاكية أحلى ولا ألذ ولا أطيب ولا أسرّ ولا أنعم من محبة الله والأنس به والشوق إلى لقائه والحلاوة التي يجدها المؤمن في قلبه بذلك فوق كل حلاوة، والنعيم الذي يحصل له بذلك أتم من كل نعيم، واللذة التي تناله أعلى من كل لذة.
من نوادر الحب في الله
قالت عائشة رضي الله عنها:سأل النبي - صلى الله عليه وسلم - عن مولاه ثوبان: فأخبر بمرضه، فزاره النبي - صلى الله عليه وسلم - فوجده أصفر اللون قد أعياه التعب، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : مالك يا ثوبان؟ فقال: يارسول الله إنك لأحب إليّ من نفسي وإنك لأحب إليّ من ولدي وإني لأكون في البيت فأذكرك فما أصبر حتى آتي فأنظر إليك، فإذا ذكرت موتي وموتك رفعت مع النبيين وإني إذا دخلت الجنة أن لا أراك، فلم يرد النبي - صلى الله عليه وسلم - بشيء حتى نزل جبريل عليه بهذه الآية { وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاء وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُوْلَئِكَ رَفِيقاً } النساء 69
كان بين الإمام الشافعي والإمام أحمد مودة عظيمة فمرض الإمام أحمد فعاده، فلما رأى ما به من مرض حزن عليه بشدة، فأصابه المرض فلمّا شُفِي الإمام أحمد وعاده، ففرح لشفائه، فذهب ما به من مرض وقال : -
مرض الحبيب فعدته ... ... فمرضت من أسفي عليه
شفي الحبيب فعادني ... ... فشفيت من نظري إليه(1/70)
لمّا رفع مشركوا مكة خبيبا - رضي الله عنه - على الخشبة التي سيصلبونه عليها نادوه يناشدونه أتحب أن يكون محمداً مكانك قال: لا والله العظيم ما أحب أن يفديني بشوكة يُشَاكِها في قدمه وأنا جالس في أهلي، فضحكوا منه،
هذا أبو دجانة - رضي الله عنه - ينكشف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - للمشركين يوم أُُحد، فيحميه بظهره والنبال تقع في ظهره ولا يتحرك
خرجت امراة من الأنصار قُتِل أبوها وأخوها وزوجها يوم أحد مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقالت: ما فعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ؟ قالوا: خيراً بحمد الله كما تحبين قالت: أرونيه حتى أنظر إليه، فلما رأته قالت: كل مصيبة بعدك جلل أي قليلة.
قال مصعب بن عبدالله: استشهد يوم اليرموك الحارث بن هشام وعكرمة بن أبى جهل وسهيل بن عمرو - رضي الله عنهم - فأتوا بماء وهم صرعى فتدافعوه كلما دفع إلى رجل منهم قال: اسق فلاناً حتى ماتوا ولم يشربوا، قال: طلب الماء عكرمة فنظر إلى سهيل ينظر إليه، فقال: ادفعه إليه فنظر سهيل إلى الحارث ينظر إليه فقال ادفعه إليه، فلم يصل إليهم حتى ماتوا رحمهم الله.
قال عمّار بن ياسر - رضي الله عنه - : اللهم لو أعلم أنه أرضى لك أن أرمي بنفسي من هذا الجبل فأتردّى فأسقط فعلت، ولو أعلم أنه أرضى لك أن أوقد نارا عظيمة فأقع فيها فعلت، ولو أعلم أنه أرضى لك أن ألقي نفسي في الماء فأغرق نفسي فعلت ولا أقول هذا إلا وأريد وجهك وأنا أرجو أن لا تُخَيِبني وأنا أرجو وجهك).
قال موسى - عليه السلام - : يارب من هم أهلك الذين تظلهم تحت ظل عرشك؟ قال: ياموسى هم البريئة أيديهم، الطاهرة قلوبهم، الذين يتحابون بجلالي، الذين إذا ذكرت ذُكروا بي، وإذا ذُكروا ذكرت بهم، الذين يسبغون الوضوء في المكاره، وينيبون إلى ذكري كما تنيب الطيور إلى أوكارها، ويكلفون بحبي كما يكلف الصبي بحب الناس، ويغضبون لمحارمي إذا استحلت كما يغضب النمر إذا حورب) أحمد في الزهد(1/71)
مواهب ذي الجلال عليك تترى ... بإحسان وأنت لها كنود
يزيدك فضلاً منه كل يوم ... وأنت بضده أبداً تزيد
ألا فانهض إلى الوهّاب واشكر ... له نعماً غراراً لا تبيد
ولكن هذه المحبة لأتاتي إلاّ بالصبر والمجاهدة.
الفصل الرابع:الصبر
فالصبر: - التباعد عن المعاصي، والسكون عند تجرع غصص البليات، وإظهار الغنى مع حلول الفقر، والوقوف مع البلاء بحسن الأدب.
الصبر: - أن ترضى بتلف نفسك في رضا من تحبه.
الصبر: - حبس النفس عن الجزع والتسخط، وحبس اللسان عن الشكوى، وحبس الجوارح عن المعاصي.
قال تعالى { إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ } الزمر 10
وسئل النبي - صلى الله عليه وسلم - عن الإيمان فقال: الصبر والسماحة) أحمد بسند صحيح (ص ج ص)
الصبر مثل اسمه مر مذاقته ... لكن عواقبه أحلى من العسل
أنواع الصبر: -
1- صبر على طاعة الله. ... ... 2- صبر عن معصية الله.
3- صبر على امتحان الله بما يصيبك من مقدور.
1] صبر بالله: بالاستعانة به ورؤية أنه هو الذي يهبك الصبر وإلاّ لم تصبر.
2] صبر لله : والباعث عليه محبة الله والتقرب إليه.
3] صبر مع الله: تجعل نفسك وقفاً على أوامر الله ومحابه.
إذا بليت فثق بالله وارض به ... ... إن الذي يكشف البلوى هوالله
الله يحدث بعد العسر ميسرة ... ... لا تجزعنّ فإن الفارج الله
إذا قضى الله فاستسلم لقدرته ... ... مالا مريء حيلة فيما قضى الله
اليأس يقطع أحياناً بصاحبه ... ... لا تيأسن فإن القادر الله
والله مالك غير الله من أحد ... ... ... فحسبك الله في كلّ لك الله
والصبر على ثلاث درجات: -
1- الصبر عن المعصية: خوفاً من عقوبتها إبقاء على الإيمان وحذراً من الحرام.
2- الصبر على الطاعة : بالمحافظة عليها وبرعايتها إخلاصاً وتحسينها عملاً.
3- الصبر على البلاء: بملاحظة حسن الجزاء وانتظار روح الفرج وتهوين البلية بعدّ أيادي المنن من الله وبذكر سوالف نعم الله عليك.(1/72)
لا تيأسن إذا ما الأمر ضقت به ... ... ذرعاً ونم مستريحاً خالي البال
ما بين طرفة عين وانتباهتها ... ... يغيّر الله من حال إلى حال
وقال - صلى الله عليه وسلم - (ما أعطى أحداً عطاءً خير له وأوسع من الصبر) البخاري
والصبرعلى ثلاث درجات: ترك الشكوى ويسمى الصبر الجميل وهى درجة التائبين، والرضا بالمقدور وهي درجة الزاهدين، والمحبة لما يضع به المولى وهى درجة الصديقين.
هذا رجل ركضته دابة فكسرت رجله فدخل عليه أصحابه يعودونه فقال: لولا هذه البلايا والمحن لجئنا يوم القيامة مفاليس.
سأل رجل ابن المبارك فقال: يا أبا عبد الرحمن قرحة خرجت من ركبتى من سبع سنين وقد عالجتها بأنواع العلاج، وسألت الأطباء فلم أنتفع به، قال: فاذهب فانظر موقعاً يحتاج الناس للماء فاحفر هناك بئراً، فإني أرجو أن ينبع هناك عين، ويمسك عنك الدم ففعل الرجل فبرأ.
وإذا عرتك بلية فاصبر لها ... صبر الكريم فإنه بك أعلم
وإذا شكوت إلى ابن آدم حاجة ... تشكو الرحيم إلى الذي لا يرحم
فضائل الصبر
1- إن الله أمر به: قال تعالى { وَاسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الْخَاشِعِينَ } البقرة 54
2- الثناء على أهله: قال تعالى { وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاء والضَّرَّاء وَحِينَ الْبَأْسِ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ } البقرة 177
3- إيجاب محبة الله لهم: قال تعالى { وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ } آل عمران146
4- الله معهم حافظهم وناصرهم: قال تعالى { إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ } البقرة 153
5 إخبار الله أن الصبر خير لأصحابه: قال تعالى (ولئن صبرتم لهو خير للصابرين) النحل 126
6- إيجاب الجزاء الحسن لهم: قال تعالى { وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُواْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } النحل 96(1/73)
7- التبشير لهم: قال تعالى { وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوفْ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الأَمَوَالِ وَالأنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ } البقرة 155
8- أهل الصبر هم أهل العزائم: قال تعالى { وَلَمَن صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الأُمُورِ الشورى 43
9- لا ينال الحظوة العظيمة وحسن الثواب إلا لهم: قال تعالى { وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِّمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً وَلا يُلَقَّاهَا إِلاَّ الصَّابِرُونَ } القصص 80
1.- الفوز بالجنة لأهل الصبر: قال تعالى { سَلاَمٌ عَلَيْكُم بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ } الرعد 24
11- ينال صاحبه درجة الإمامة: قال ابن تيمية: بالصبر واليقين تنال الإمامة في الدين قال تعالى { وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ } السجدة24
12- اقتران الصبر بمقامات الإسلام والإيمان والعمل الصالح: قال - صلى الله عليه وسلم - (عجباً لأمر المؤمن إن أمره كله خير وليس ذلك لأحد إلاّ المؤمن، إن أصابته سراء شكر فكان خيراً له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيراً له) البخاري
إذا جرى للعبد مقدور يكرهه فله فيه ست مشاهد: -
مشهدالتوحيد : أن الله هو الذي قدّره، فما شاء كان وما لم يشأ لم يكن.
مشهد العدل: أن الله ماض في حكمه، عدل في قضائه.
مشهد الرحمة : أن رحمة الله في هذا المقدور غالبة على غضبه.
مشهد الحكمة : أن حكمة الله اقتضت ذلك ولم يقدّره عبثاً.
مشهد الحمد: أن الله سبحانه وتعالى له الحمد التام على جميع ذلك،
مشهد العبودية: أنه عبد لله في كل وقت وفي كل حين.
وللمؤمن فيما يصيبه من أذى الخلق يكون له أحد عشر مشهداً(1/74)
1] الصبر: أن يرى أن الله هو الذي قدر عليه هذا الأذى فيراه كالتأذي بالحر والبرد فما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن، فإذا علم هذا استراح وصبر.
2] حسن الجزاء: فيعلم حسن عاقبته، وجزاء أهله، وما يترتب عليه من الغبطة والسرور ويخلصه من ندامة الإنتقام، فما انتقم أحد لنفسه قط إلاّ ندم.
3] العفو والصفح والحلم: فمتى شهد ذلك وفضله وحلاوته لم يعدل عنه أبداً فما زاد الله عبداً بعفو إلاّ عزاً وما انتقم لنفسه إلاّ ذل.
4] الرضا: ولا يكون ذلك إلاّ للنفوس المطمئنة لا سيما إن كان ما أصابها في مرضاة الله ومحبته، وهذا شأن كل محب صادق، ومتى خالف ذلك كان كاذباً في محبته.
5] الإحسان: أن يقابل إساءة المسيء إليه بالإحسان، وكلما أساء إليه يهّون عليه ذلك علمه بأنه قد ربح عليه، وأنه قد أهدى إليه حسناته.
6] السلامة وراحة القلب: فلا يشغل قلبه وفكره بما ناله من الأذى وطلب الرد، ويرى أن تركه أنفع له وألذ وأطيب، فإن القلب متى اشتغل بشيء فاته ما هو أهم عنده وخير منه.
7] الأمن: فإنه إن ترك الانتقام أمن من تولد العداوة أو زيادتها، ولا بد من عفوه وحلمه وصفحه ليكسر شوكة عدوه بعكس الإنتقام.
8] الجهاد: فما ناله من أذى الناس كان بأمره بالمعروف ونهيه عن المنكر والدعوة لله وهنا قد اشترى الله منه نفسه وماله بأعظم الثمن.(1/75)
9] النعمة: يشهد نعمة الله عليه في أن الله جعله مظلوماً يترقب النصر لا ظالماً يترقب المقت، ويشهد نعمة الله عليه في التكفير بذلك من خطاياه، فما أصاب المؤمن من همّ ولاغم، ولاأذى إلاّ كفّر الله به من خطاياه، ويشهد أن تلك البلية أهون وأسهل من غيرها، ويشهد أن الله يوفيه أجرها وثوابها يوم الفقر لأنه يتمنى أناس يوم القيامة لو أن جلودهم كانت تقرض بالمقاريض لما يرون من ثواب أهل البلاء، وأن العبد يشتد فرحه يوم القيامة بما له عند الناس من الحقوق في المال والنفس والعرض، فالعاقل يعدّ هذا ذخراً ليوم الفقر والفاقة، ولا يبطله بالانتقام الذي لا يجدي له شيئاً
10] الأسوة: فالعاقل اللبيب يرضى أن يكون له أسوة بأنبياء الله عليهم السلام وأوليائه فكم أوذوا وصبروا، أفلا يرضى أن يكون له أسوة بخيار خلق الله، كما كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون) متفق عليه
11] التوحيد: وهو أجّل المشاهد وأرفعها، فإذا امتلأ قلبه بمحبة الله والإخلاص له وإيصال مرضاته والتقرب إليه وقرة العين به، والأنس به واطمأنّ إليه وسكن إليه واشتاق إلى لقائه واتخذه ولياً من دون سواه بحيث فوّض إليه أموره كلها ورضي به وبقضائه، وفنى بحبه وخوفه ورجائه، وذكره والتوكل عليه عن كل ما سواه فإنه لا يبقي في قلبه متسع لشهود أذى الناس له البته فضلاً عن أن يشتغل قلبه وفكره بطلب الانتقام، فهذا لا يكون إلّا من قلب ليس فيه ما يغنيه عن ذلك ويعوضه منه، وأمّا من امتلأ قلبه بأعلى الأغذية وأشرفها فإنه لا يلتفت إلى ما دونها وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم.
- ويجب أن يترقى المؤمن دائماً من الصبر إلى الرضا: -
الفصل الخامس:الرضا
الرضا: أن ترضى بالله مدبراً ومختاراً، وترضى به قاسماً ومعطياً ومانعاً، وترضى به معبوداً ورباً.(1/76)
الرضا: ليس هو أن تحمده على المصيبة وقلبك يتعصى عليك، إنما الحمد أن تحمده وقلبك مسلّم راض.
عندما يرضى العبد بدينه ويرضى بربه ويرضى بقدره ويرضى بنصيبه ويرضى بما يجد من سراء وضراء، ومن يسر وعسر، ومن رخاء وشدة، يرضى فلا يقلق ولا يضيق صدره، ولا يستعجل ولا يستبعد الغاية، إن هذا الرضا جزاء أكبر من كل جزاء، إنه جزاء لا يمنحه إلا الله، وهو يسكبه في القلوب التي تخلص له.
إن الرضا ينسكب في قلب المؤمن، فيغمر روحه، ويفيض على جوارحه، ويشيع في كيانه ويندي حياته، وياله من جزاء! ويالها من نعمة كبرى! وعندما يرضى المؤمنون هذا يجعلهم في مقام عال رفيع، وفي جو راض وديع، انقطعوا عن كل شيء ووصلوا أنفسهم بالله، فتقبلهم في كنفه، وأفسح لهم جنابه، وأشعرهم برضاه، فرضوا ورضيت نفوسهم هذا القرب، وأنست به واطمأنت إليه.
الرضا أقسام: بما قسمه الله وأعطاه، ثم الرضا بقضائه وقدره، ثم أعلى مرتبه الرضا بالله بدلاً من كل ما سواه.
كان سعد بن أبي وقاص - رضي الله عنه - مجاب الدعوة، فكفّ بصره، فجاء مكة وجعل الناس يهرعون إليه ليدعو لهم، فقال عبد الله بن السائب وهو غلام: تدعو الناس فيشفون فلو دعوت لنفسك لرد عليك بصرك، فتبّسم وقال: يابنيّ قضاء الله أحب إليّ من بصري.
كانت عابدة تمشي فعثرت فانقطعت إصبعها فضحكت فقال لها بعض من معها أتضحكين وقد انقطعت إصبعك فقالت: حلاوة أجرها أنستني مرارة ذكرها.
قال الربيع بن أنس: علامة حب الله كثرة ذكره، فإنك لا تحب شيئاً إلا أكثرت من ذكره وعلامة الدين: الإخلاص لله في السر والعلانية، وعلامة الشكر الرضا بقدَر الله والتسليم بقضائه.
قال بشر بن بشار: سألت عابداً أوصني قال: أن تقف نفسك مع القدر حيث ألقاك فهو أحرى أن يفرغ قلبك ويقلل همك وإياك أن تسخط فيحل بك السخط، وأنت عنه في غفلة ولا تشعر به، فيلقاك الله مع الذين سخط عليهم.(1/77)
قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (يقول الله عز وجل: إن من عبادي من لا يُصلح إيمانه إلاّ الفقر وإن بسّط عليه أفسده ذلك، وإن من عبادي من لا يُصلح إيمانه إلاّ الغنى ولو أفقرته أفسده ذلك، وإن من عبادي من لا يصلح إيمانه إلاّ الصحة ولو أسقمته أفسده ذلك، وإن من عبادي من لا يصلح إيمانه إلاّ السقم ولو أصححته لافسده ذلك، وإن من عبادي من أفتح عليه باباً من العبادة فأكفه عنه لكيلا يدخله العجب، إني أدبر أمر عبادي بما في قلوبهم، إني عليهم خبير) الطبراني بسند حسن.
العبد ذو ضجر والرب ذو قدر ... والدهر ذو دول والرزق مقسوم
والخير فيما اختار خالقنا ... وفي اختيار سواه الشوم واللوم
قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (إن الله تبارك وتعالى يبتلى عبده بما أعطاه، فمن رضي بما قسم الله عز وجل له بارك الله له فيه ووسعه، ومن لم يرض لم يبارك له فيه) أحمد بسند صحيح (ص ج ص)
قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (قال الله تعالى: إذا ابتليت عبدى المؤمن ولم يشكني إلى عوّاده أطلقته من إساري ثم أبدلته لحماً خيراً من لحمه، ودماً خيراً من دمه، ثم يستأنف العمل) الحاكم بسند صحيح (ص ج ص)
قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (إن الله عز وجل يقول: إذا ابتليت عبداً من عبادي مؤمناً فحمدني على ما ابتليته فإنه يقوم من مضجعه ذلك كيوم ولدته أمه من الخطايا، ويقول الرب عز وجل: أنا قيدت عبدي فأجروا له كما كنتم تجرون وهو صحيح) أحمد بسند حسن (ص ج ص). (أجروا له: اكتبوا له من الأجر والثواب)
قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (إذا مات ولد العبد قال الله تعالى لملائكته: قبضتم ولد عبدي! فيقولون: نعم فيقول: قبضتم ثمرة فؤاده فيقولون: نعم فيقول: ماذا قال عبدي؟ فيقولون حَمَدَكَ واسترجع فيقول الله تعالى: ابنوا لعبدي بيتاً في الجنة وسمّوه بيت الحمد) الترمذي وحسنه (ص ج ص).(1/78)
قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (إن عظم الجزاء من عظم البلاء، وإن الله تعالى إذا أحب قوماً ابتلاهم، فمن رضي فله الرضا ومن سخط فله السخط) الترمذي وحسنه (ص ج ص).
المؤمن دائماً يرتقي من درجة الصبر إلى درجة الرضا، وقد قال بعض السلف: ذروا التدبير تكونوا في طيب من العيش.
وقال أبو العباس بن عطاء: الفرح في تدبير الله لنا، والشقاء كله في تدبيرنا وقال الطوسي: من ترك التدبير عاش في راحة.
وسئل ابن شمعون عن الرضا فقال: أن ترضى به مدبراً ومختاراً وترضى به قاسماً ومعطياً ومانعاً وترضاه إلها ومعبوداً ورباً.
وقال عمر - رضي الله عنه - : إن الخير كله في الرضا، فإن استطعت أن ترضى وإلاّ فاصبر
الرضا ثلاثة أقسام: -
رضا العوام: بما قسمه الله وعطاه، ورضا الخواص: بما قدره وقضاه، ورضا خواص الخواص: به بدلاً من كل ما سواه.
وتستوي النعمة والبلية عند المؤمن في الرضا بهما لوجوه: -
1- أنه مفوض يرضى بكل ما اختاره له من فوّض إليه لا سيما إذا علم كمال حكمة ربه ورحمته ولطفه وحسن إختياره له.
2- يجزم أنه لا تبديل لكلمات الله ولا راد لحكمه، فهو يعلم أن البليه والنعمة بقضاء سابق وقدر حتم.
3- أنه عبد محض لا يسخط على جريان أحكام سيده المشفق، البار، الناصح، المحسن، بل يتلقاه كلها بالرضا عنه.
4- أنه محب لله والمحب الصادق من رضى بما يعامله حبيبه.
5- أنه جاهل بعواقب الأمور، وسيده أعلم بمصلحته، وبما ينفعه.
6- أنه لا يريد مصلحة نفسه من كل وجه ولو عرف أسبابها فهو جاهل ظالم، وربه تعالى يريد مصلحته ويسوق إليه أسبابها ومن أعظمها مايكرهه العبد، قال تعالى: (وعسى أن تكرهوا شيئاً وهو خير لكم، وعسى ان تحبوا شيئاً وهو شر لكم) البقرة:216
7- أنه مسلم والمسلم من قد سلم نفسه لله ولم يعترض عليه في جريان أحكامه ولم يسخط لذلك
8- أنه عارف بربه حسن الظن به وحسن ظنه يوجب رضاه بما اختار سيده له.(1/79)
9- أنه يعلم أن حظه من المقدور ما يتلقاه من رضا أو سخط فلا بد له منه ومن رضى فله الرضا ومن سخط فله السخط.
10- أن يعلم أنه إذا رضى انقلب ذلك في حقه نعمة ومنحة وإذا سخط تضاعف عليه ثقله ولم يزده إلاّ شدة.
11- أن يعلم أنه من تمام عبوديته لله في جريان ما يكرهه عليه من الأحكام ولو لم يجر عليه إلاّ ما يحب لكان أبعد شيء عن عبودية ربه فلا تتم له عبوديته من الصبر والتوكل والرضا والتضرع إلاّ بجريان القدر بما يكرهه.
12- أن يعلم أن رضاه عن ربه في جميع الحالات يثمر رضا ربه عنه فإذا رضي عنه بالقليل من الرزق رضي ربه عنه بالقليل من العمل.
13- أن يعلم ان أعظم راحته وسروره ونعيمه في الرضا عن ربه في جميع الحالات فإن الرضا باب الله الأعظم ومستراح العارفين وجنة الدنيا
14- أن من ملأ قلبه من الرضا بالقدر ملأ الله صدره غِناً وأمناً وقناعة وفرغ قلبه لمحبته والإنابة إليه والتوكل عليه، فالرضا يفرغ القلب لله والسخط يفرغ القلب من الله.
15- أن رضا الله عن العبد أكبر من الجنة وما فيها، لأن الرضا صفة الله والجنة خلقه، قال تعالى { وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِّنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ } التوبة:71،
وهذا الرضا جزاء على رضاه عنه في الدنيا، ولمّا كان هذا الجزاء أفضل جزاء كان سببه أفضل الأعمال.
16- الراضي يستحق الثناء فقد قدم وفد على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: من أنتم؟ فقالوا: مؤمنون، فقال: ما علامة إيمانكم؟ فقالوا: الصبرعند البلاء، والشكر عند، والرضا بِمُر القضاء، والصدق في مواطن اللقاء، وترك الشماتة بالأعداء، فقال: حكماء، علماء، كادوا من فقههم أن يكونوا أنبياء) جامع العلوم والحكم لابن رجب(1/80)
17- أن الرضا يخلصه من عيب مالم يعبه الله ومن ذم ما لم يذمه الله فإن العبد إذا لم يرض بالشيء عابه بأنواع المعايب وذلك من قلة حيائه من الله وذنب ماليس له ذنب وذلك يسقط العبد من عين ربه ، وبالأثر الإلهي (أنا الله لا إله إلاّ أنا قدرت التقادير، ودبرت التدابير، وأحكمت الصنع فمن رضى فله الرضا منى حتى يلقاني ومن سخط فله السخط حتى يلقاني).
18- أن الرضا يفرغ قلب العبد ويقلل همه وغمه فيتفرّغ لعبادة ربه بقلب خفيف من أثقال الدنيا وهمومها، فقد قال بِشر بن بشّار: سألت عابداً أوصنى قال: ألق نفسك مع القدر حيث ألقاك فهو أحرى أن يفرغ قلبك ويقلل همك وإياك أن تسخط فيحل بك السخط وأنت عنه في غفلة لا تشعر به فيلقيك مع الذين سخط الله عليهم
الفصل السادس: الدعاء
إن الله تبارك وتعالى أمر بالدعاء جعله وسيلة الرجاء، فكل خلقه يفزع في حاجته إليه، ويعول عند الحوادث والكوارث عليه، سبحانه من لطيف لم تخف عليه مضمرات القلوب فيفصح له عنها بنطق بيان، ولم تستتر دونه مضمنات الغيوب فيعبّر له عنها بحركة لسان، لكنه سبحانه وتعالى أنطق قلوب المؤمنين بذكره وهدى قلوب العارفين إلى شكره، ومن التجأ إلى حماه فقد التجأ إلى حصن حصين، ومن دعاه فإنما يدعو عظيم المجيبين.
قال تعالى { وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِي وَلْيُؤْمِنُواْ بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ } البقرة:186(1/81)
ننظر إلى هذا الجزاء في القرب من الله، وفي استجابته للدعاء، تصوره بألفاظ شفافة تكاد تنير { فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ } أيّةُ رِقة، وأي انعطاف، وأيةُ شفافية، وأي إيناس إضافة العباد إليه، والرد المباشرعليهم منه ولم يقل: فقل لهم: إني قريب إنما تولى بذاته العليه الجواب، على عباده بمجرد السؤال، قريب ولم يقل: أسمع الدعاء، إنما عجّل بإجابة الدعاء { أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ } إنها آية عجيبة تسكب في نفس المؤمن من النداوة الحلوة، والود المؤنس، والرضا المطمئن، والثقة واليقين، ويعيش المؤمن منها في جناب رضى، وقربى نديّة، وملاذ آمن وقرار مكين، هذه الثقة التي دفعت أمير المؤمنين عمر - رضي الله عنه - وهو يصوِر سرعة استجابة الله للعبد المؤمن المخلص بقوله (أنا لا أحمل همّ الإجابة إنما أحمل همّ الدعاء، فإذا الهمت الدعاء، فإن الإجابة معه).
اللهم اجعلنا من أوليائك المتقين، وحزبك المفلحين، اللهم إنّا لانبرح عن بابك فلا تعذبنا بأليم حجابك، اللهم إن لم نكن كما أمرتنا، فأنت ذو عفو وغنىً، إلى من نلتجىء إن صرفتنا، إلى أين نذهب إن طردتنا، من يقبل علينا إن أعرضت عنّا؟ إلهي إن حاسبتنا لفضلك نلنا رضوانك وإن حاسبتنا بعدلك لم ننل غفرانك.
اللهم ارحم عباداً غرّهم طول إمهالك، وأطمعهم دوام أفضالك، ومَدوا أيديهم إلى كرم نوالك وتيقنوا أن لا غنى لهم عن سؤالك.
قال القشيرى: ادعوني بالطاعات أستجب لكم بالثواب والدرجات، ويقال: أدعوني بِلاَ غَفلة أستجب لكم بلا مُهلة، ويقال: أدعوني ببذر الطاعة أستجب لكم بكشف الفاقة، ويقال: أدعوني بالسؤال أستجب لكم بالنوال والأفضال.
سئل زين العابدين: كم بين السماء وتراب الأرض قال: دعوة مستجابة.
إذا هبت رياحك فاغتنمها ... ... فإن لكل خافقة سكون
ولا تغفل عن الإحسان فيها ... ... فلا تدري السكون متى يكون(1/82)
إن الدعاء يفتح باب الرحمة، فمن فتح باب الدعاء منكم فتحت له أبواب الرحمة فمن فتح له باب الإقبال على الدعاء بخشوع وخضوع وتضرع كان هذا سبباً لإجابة دعائه، والدعاء ينفع مّما نزل وممّا لم ينزل فقد قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (لا يغني حذر من قدر والدعاء ينفع ممّا نزل وممّا لم ينزل وإن البلاءَ لينزل فيتلقاه الدعاء فيعتلجان إلى يوم القيامة) الحاكم بسند حسن (ص ج ص)، وكثرة الدعاء والإلحاح فيه سبيلاً لرضا الله عن عبده، كما أن ترك الدعاء سبيلاً لغضب الله علىعبده، فقد قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (من لم يسأل الله يغضب عليه) الترمذي، وقال - صلى الله عليه وسلم - (لا تعجزواعن الدعاء فإنه لن يهلك مع الدعاء أحد) ابن حبان.
والاستمرار على الدعاء وسيلة لاستجابة الله لعبده، فقد قال (من سرَه أن يستجيب الله له عند الشدائد فليكثر الدعاء في الرخاء) الترمذي بسند حسن (ص ج ص).
قال ابن عطاء: للدعاء أركان وأجنحة وأوقات وأسباب، فإن وافق أركانه قَوَى، وإن وافق أجنحته ارتفع، وإن وافق أوقاته فاز، وإن وافق أسبابه نجح، فأركانه حضور القلب مع الله تعالى والخشوع لله والحياء من الله ورجاء كرم الله، وأجنحته الصدق وأكل الحلال، وأوقاته أوقات الفراغ والخلوة كالأسحار وأسبابه الصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - فإن الدعاء لا يُرد إذا كان قبله وبعده الصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم -(1/83)
قال علىُ - رضي الله عنه - : (من أعطى أربعاً لم يحرم أربعاً: من أعطى الدعاء لم يحرم الإجابة، ومن أعطى التوبة لم يحرم القبول، ومن أعطى الاستغفار لم يحرم المغفرة، ومن أعطى الشكر لم يحرم الزيادة) هذه الكلمات إنما هي من قلب عارف: يدرك أن الله حين يقدّر الإستجابة يقدّر معها الدعاء فهما حين يوفق الله متوافقان متطابقان فذلك من تأدب دعائه الذي يراعي فيه: إنه إخلاص القلب لله، والثقة بالإستجابة مع عدم إقتراح صورة معينة لها، أو تخصيص وقت أو ظرف فهذا الإقتراح ليس من أدب السؤال، والإعتقاد بأن التوفيق للدعاء توفيق من الله والاستجابة فضل آخر، ولعلّ الذي لا يستجيب الله له قد يكون الله تبارك وتعالى قد ادخر له في أستار الغيب ما هو أعظم.
قالوا أتشكو إليه ما ليس يخفى عليه ... فقلت ربي يرضى ذل العبيد لديه
قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (ما مِن رجل يدعو الله إلاّ استجاب له فإما أن يعجل له في الدنيا، وإما أن يدخر له في الآخرة، وإما أن يكفر عنه من ذنوبه بقدر ما لم يدع بإثم أو قطيعة رحم، أو يستعجل يقول دعوت ربي فما استجاب لي) الحاكم بسند صحيح (ص غ)
إن الدعاء معناه: أن يستدعي العبد من ربه العناية ويستمد منه المعونة، والدعاء في حقيقته، إظهار الإفتقار إلى الله، والتبرؤ من الحول والقوة إلاّ من الله، ويستشعر العبد ذُله البشري والتواضع بين يدي الله.
وفي الدعاء كذلك معنى الثناء على الله عز وجل وإضافة الجود والكرم إليه لذلك قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (الدعاء هو العبادة) صحيح الترمذي.(1/84)
ولكي يصدق العبد في دعائه، يجب أن يصدق في عبوديته لأن الدعاء بغير عبودية، دعاء بلا روح، وبلا إيمان، والله خير من يسأل ويعطي وعلينا أن ندعوا الله ونلح في الدعاء، ونوقن بالإجابة، فالله يعطيك بما يرضى، ولا يجيبك إلاّ بما يشاء، لا بما شئت، وهو لايرضى لك إلا الخير، وإياك والسخط، والإكثار من الدعاء مُرْغب في الرخاء قبل الشدة.
قال سلمان الفارسي - رضي الله عنه - : إذا كان العبد دعّاء في السراء فنزلت به نازلة فدعا الله تعالى، قالت الملائكة: صوت معروف فشفعوا له، وإذا كان ليس بدعاء في السراء فنزلت به ضراء، فدعا الله تعالى، قالت الملائكة: صوت ليس بمعروف فلا يشفعون له.
قال أبو الدرداء - رضي الله عنه - : ادع الله في يوم سرائك لعله أن يستجيب لك في يوم ضرائك
شد الخشوع وناج ربك ياه ... ... فهو الكريم يجيب من ناداه
واسأله ما شاءت يداك فإنه ... مبسوطتان لمن دعاه يداه
وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (لايزال يُستجاب للعبد ما لم يدع باثم أو قطيعة رحم ما لم يستعجل. قيل: يارسول الله ما الاستعجال قال: قد دعوت فلم أرَ يستجب لي فيستحسر عند ذلك ويدع الدعاء) مسلم.
يارب إن عظمت ذنوبي كثرة ... فلقد علمت بأن عفوك أعظم
إن كان لا يرجوك إلاّ محسن ... فبمن يلوذ ويستجير المجرم
أدعوك رب كما أمرت تضرعاً ... فإذا رددت يدي فمن ذا يرحم
مالي إليك وسيلة إلاّ الرجا ... وجميل عفوك ثم ني مسلم
وعلى المسلم أن يترصد مواطن إجابة الدعاء، كدعاء الصائم حين يفطر ويوم الجمعة خاصةً قبل الغروب، ووقت السحر من الليل، وعند إقامة الصلوات، وبعد الآذان، وأقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد، وادع الله وأسأله المعونة في كل شيء حتى في إصلاح حِذائك،ثم اجزم بالدعاء، وأيقن الإجابة واصدق رجاءك، فما أمرك الله تبارك وتعالى بالدعاء إلاّ ليستجيب لك.
آداب الدعاء(1/85)
1- تجنب الحرام مأكلاً ومشرباً وملبساً : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (ياسعد أطب مطعمك تكن مستجاب الدعوة) البخاري، وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (ياأيها الناس: إن الله طيب لا يقبل الاّ طيباً وإن الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين فقال { يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحاً } ]وقال {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ } قال الراوي: ثم ذكر الرجل يطيل السفر أشعث أغبر يمد يديه إلى السماء ويقول يارب ومطعمه حرام ومشربه حرام وملبسه حرام وغذّي بالحرام فأنّى يٌستجاب له) مسلم
2- الإخلاص لله تعالى: قال تعالى { فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ } الزمر 14
3- تقديم عمل صالح: اللهم إني فعلت كذا وكذا إبتغاء وجهك ففرّج عني.
4- الوضوء.
5- الثناء على الله تعالى.
6- الصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (من كانت له حاجة إلى الله عز وجل أو إلى أحد من بني آدم، فليتوضأ وليحسن الوضوء ثم ليصل ركعتين ثم يثن على الله بما هو أهله، ويصلّ على النبي صلى الله عليه وآله وسلم) الحاكم.
7- إستقبال القبلة: (واستقبلها - صلى الله عليه وسلم - في دعائه كيوم بدر) مسلم
8- بسط اليدين ورفعهما حذو منكبيه: قال - صلى الله عليه وسلم - (إن الله حييُّ كريم، يستحي إذا رفع الرجل يديه أن يردهما صفرا خائبتين) الترمذي وأبو داود بسند صحيح (ص ج ص).
9- تكرير الدعاء ثلاثاً: (كان - صلى الله عليه وسلم - إذا دعا، دعا ثلاثاً وإذا سأل سأل ثلاثاً) مسلم
10- التأدب والخشوع: كان يقول - صلى الله عليه وسلم - (أنا عبدك ظلمت نفسي واعترفت بذنبي) وقال مسلم بن يسار: لوكنت بين يدى ملك لسرّك أن تخشع له.
11- أن يسأل الله بأسمائه الحسنى قال تعالى (ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها) الأعراف 180(1/86)
12- يخفض صوته: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (اربعوا على أنفسكم فإنكم لا تدعون أصمّ ولا غائباً) متفق عليه.
13- يبدأ بنفسه: قال ابن عمر - رضي الله عنه - : كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا ذكر أحداً فدعا بدأ بنفسه) الترمذي بسند صحيح (ص ج ص).
14- يسأل بعزم ورغبة وجد واجتهاد: قال - صلى الله عليه وسلم - (إذا دعا أحدكم فلا يقول اللهم اغفر لي إن شئت، وارحمني إن شئت، وليعزم مسألته، إنه يفعل ما يشاء ولا مكره له) البخاري.
15- ولا يدعو بإثم ولا قطيعة رحم ولا بمستحيل قال تعالى { ادْعُواْ رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ } الأعراف 55
وإذا فعلنا ذلك فعلينا بمعرفة اسم الله الأعظم حتى نكون أقرب إلى إجابة الدعاء، فندعوا بهذه الأحاديث ليوفقنا الله لاسمه الأعظم.
قال - صلى الله عليه وسلم - (اسم الله الأعظم الذي إذا دعى به أجاب في ثلاث سور من القرآن: في البقرة وآل عمران وطه) قال الراوي: فنظرت فوجدته في سورة البقرة { اللَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ } وفي آل عمران { اللَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ } وفي طه { وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ } صحيح ابن ماجه.
وقال - صلى الله عليه وسلم - (اسم الله الأعظم في هاتين الآيتين { وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لاَّ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ } وفاتحة آل عمران { اللَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ } صحيح أبي داود
سمع - صلى الله عليه وسلم - رجلاً يقول في تشهده: اللهم إني أسألك بأنك أنت الله الواحد الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد أن تغفر لي ذنوبي إنك أنت الغفور الرحيم، فقال(قد غفر له، قد غفر له) أحمد بسند صحيح.(1/87)
سمع - صلى الله عليه وسلم - رجلا يقول في تشهده: اللهم اني أسألك بأن لك الحمد لا إله إلاّ أنت وحدك لا شريك لك، المنان، يا بديع السموات والأرض ياذا الجلال والإكرام ياحي ياقيوم إني أسألك الجنة وأعوذ بك من النار) فقال: أتدرون بما دعا؟ قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: والذي نفسي بيده لقد دعا الله باسمه الأعظم، الذي إذا دعى به أجاب، وإذا سئل به أعطى) صحيح أبي داود.
لبست ثوب الرجا والناس قد رقدوا ... وقمت أشكو إلى مولاي ما أجد
وقلت يا عدتي في كل نائبة ... ومن عليه لكشف الضر أعتمد
أشكو إليك أمورا أنت تعلمها ... ما لي علىحملها صبر ولا جلد
وقد مددت يدي بالذل مبتهلا ... إليه يا خير من مدت إليه يد
فلا تردنها يارب خائبة ... فبحر جودك يروي كل من يرد
دعوات صالحات
... قال تعالى { رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ } البقرة 201
{ رَبَّنَا لاَ تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنتَ الْوَهَّاب ُ }
]آل عمران 8
{ رَبَّنَا آتِنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَداً } الكهف 10
{ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَاماً } الفرقان 65
{ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي } طه 25، 26
{ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاًّ لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ } الحشر 10(1/88)
قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (اللهم اقسم لنا من خشيتك مايحول بيننا وبين معاصيك ومن طاعتك ما تبلغنا به جنتك، ومن اليقين ما يهوّن علينا مصيبات الدنيا، ومتعنا بأسمأعنا وأبصارنا وقوتنا أبداً ما أحييتنا، واجعله الوارث منا، واجعل ثأرنا على من ظلمنا، وانصرنا على من عادانا، ولاتجعل مصيبتنا في دينننا، ولاتجعل الدنيا أكبر همنا ولامبلغ علمنا، ولاتسلّط علينا بذنوبنا من لايرحمنا، اللهم بعلمك الغيب، وقدرتك على الخلق أحيني ما علمت الحياة خيراً لي وتوفني ماعلمت الوفاة خيراً لي، اللهم وأسألك خشيتك في الغيب والشهادة، وأسألك كلمة الإخلاص في الرضا والغضب، وأسألك القصد في الفقر والغنى، وأسألك نعيماً لاينفد، وقرة عين لاتنقطع، وأسألك الرضا بالقضاء وأسألك برد العيش بعد الموت، وأسألك لذة النظر إلى وجهك والشوق إلى لقائك في غير ضراء ولا مضرة، ولا فتنة مضلة، اللهم زينا بزينة الإيمان واجعلنا هُداة مهتدين، رب أعني ولا تعن عليّ، وانصرني ولاتنصر علىّ، وامكر لي ولا تمكرعليّ، واهدني ويسّر هداى إلىّ، وأنصرني على من بغى علىّ،
اللهم اجعلني لك شاكراً، لك ذاكراً، لك راهباً، لك مطواعاً، إليك مخبتاً، إليك أوّاهاً منيباً، رب تقبل توبتي واغسل حوبتي وأجب دعوتي، وثبت حجتي واهد قلبي، وسدد لساني، واسلل سخيمة قلبي،
اللهم أنت الأول فليس قبلك شيء، وأنت الآخر فليس بعدك شيء، أعوذ بك من شر كل دابة ناصيتها بيدك، وأعوذ بك من الإثم والكسل، ومن عذاب النار، ومن عذاب القبر، ومن فتنة الغنى وفتنة الفقر، وأعوذ بك من المأثم والمغرم،
اللهم نقّ قلبي من الخطايا، كما نقيت الثوب الأبيض من الدنس، اللهم باعد بيني وبين خطيئتي، كما بأعدت بين المشرق والمغرب،(1/89)
اللهم اني أسألك خير المسألة وخير الدعاء وخير النجاح وخير العمل وخير الثواب وخير الحياة، وخير الممات، وثبتني وثقّل موازيني، وحقق إيماني، وارفع درجتي، وتقبل صلاتي واغفر خطيئتي، وأسألك الدرجات العلى من الجنة،
اللهم إني أسألك فواتح الخير وخواتمه، وجوامعه، وأوله وآخره، وظاهره وباطنه، والدرجات العلى من الجنة والمنزل الصالح من الجنة، آمين،
اللهم نجني من النار، ومغفرة بالليل والنهار، اللهم إني أسألك خلاصاً من النار سالماً، وادخلني الجنة آمناً
اللهم اني أسألك أن تبارك لي في نفسي، وفي سمعي وفي بصري وفي روحي وفي خَلقي وفي خُلقي وأهلي، وفي محياي ومماتي، اللهم تقبل حسناتي وأسألك الدرجات العلى من الجنة آمين.
اللهم أنت ربي وأنا عبدك ظلمت نفسي واعترفت بذنبي يارب فاغفر لي ذنبي إنك أنت ربي إنه لا يغفر الذنوب إلاّ أنت.
اللهم إني أسألك من الخير كله عاجله وآجله ماعلمت منه وما لم أعلم، وأعوذ بك من الشر كله عاجله وآجله ماعلمت منه وما لم أعلم،
اللهم إني أسألك من خير ماسألك عبدك ونبيك وأعوذ بك من شر ماعاذ به عبدك ونبيك، اللهم إني أسألك الجنة وما قرب إليها من قول أو عمل، وأعوذ بك من النار وما قرب إليها من قول أوعمل وأسألك أن تجعل كل قضاء قضيته لي خيراً.
اللهم اصلح لي ديني الذي هو عصمة أمري وأصلح لي دنياي التي فيها معاشي واصلح لي آخرتي التي إليها معادي واجعل الحياة زيادة لي في كل خير، واجعل الموت راحة لي من كل شر.
اللهم إني أسألك فعل الخيرات وترك المنكرات وحب المساكين وأن تغفر لي وترحمني، وإذا أردت فتنة قوم فتوفني غير مفتون، وأسألك حبك وحب من يحبك وحب عمل يقربني إلى حبك.
اللهم إني أسألك الجنة اللهم إني أعوذ بك من النار ثلاثاً اللهم اغفر لي ذنبي وخطئي وعمدي اللهم إني أستهديك لأرشد أمري، وأعوذ بك من شر نفسي.(1/90)
اللهم احفظني بالإسلام قائماً واحفظني بالإسلام قاعداً واحفظني بالإسلام راقداً ولا تشّمت بي عدواً حاسداً.
اللهم إني أسألك من كل خير خزائنه بيدك، وأعوذ بك من كل شر خزائنه بيدك
اللهم إني أعوذ بك من قلب لا يخشع ومن دعاء لا يسمع، ومن نفس لا تشبع ومن علم لا ينفع.
اللهم آت نفسي تقواها، وزكها أنت خير من زكاها، أنت وليها ومولاها.
اللهم اني أعوذ بك من زوال نعمتك، وتحول عافيتك،و فجاءة نقمتك وجميع سخطك.
اللهم رب جبريل وميكائيل وإسرافيل، أعوذ بك من حر النار وعذاب القبر، اللهم أعِنا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك.
اللهم حاسبني حساباً يسيراً، اللهم جدّد الإيمان في قلوبنا.
اللهم اكفني بحلالك عن حرامك واغنني بفضلك عمن سواك.
اللهم إني ظلمت نفسي ظلما كثيراً ولايغفر الذنوب إلاّ أنت، فاغفر لي مغفرة من عندك، وارحمني إنك أنت الغفور الرحيم.
اللهم إني أسألك بأن لك الحمد لا إله إلاّ أنت وحدك لا شريك لك، المنان، يا بديع السموات والأرض ياذا الجلال والإكرام، ياحي ياقيوم إني أسألك الجنة، وأعوذ بك من النار.
اللهم تقبل توبتي واغسل حوبتي واحفظني من بين يديّ ومن خلفي وعن يميني وعن شمالي وأعوذ بعظمتك أن أغتال من تحتي.
اللهم اجعلنا حرباً لأعدائك سلما لأوليائك، نحب بحبك من أطاعك من خلقك، ونعادي بعداوتك من خالفك من خلقك.
اللهم إني أسألك رحمة من عندك، تهدي بها قلبي، وتجمع بها أمري، وتصلح بها غائبي وترفع بها شاهدي، وتزكي بها عملي، وتلهمني بها رشدي، وترد بها ألفتي، وتعصمني بها من كل سوء.
اللهم اعطني ايماناً ويقيناً ليس بعده كفر، ورحمة أنال بها شرف كرامتك في الدنيا والآخرة.
اللهم اني أسألك الفوز في القضاء ونزل الشهداء وعيش السعداء والنصر على الأعداء.(1/91)
اللهم اجعل لي نوراً في قلبي، ونوراً في قبرى، ونوراً بين يدي، ونوراً من خلفي، ونوراً عن يميني، ونوراً عن شمالي ونورا من فوقي، ونوراً من تحتي، ونوراً في سمعي، ونوراً في بصري، ونوراً في شعري، ونورا في بشري، ونوراً في لحمي، ونورا في دمي، ونوراً في عظامي. اللهم أعظم لي نوراً واعطني نوراً واجعل لي نوراً، سبحان من تعطّف بالعز وقال به، سبحان من لبس المجد وتكرم به، سبحان الذي لا ينبغي التسبيح إلاّ له، سبحان ذي الفضل والنعم، سبحان ذي المجد والكرم، سبحان ذي الجلال والإكرام
اللهم إنك تسمع كلامي وترى مكاني وتعلم سري وعلانيتي، لا يخفى عليك شيئاً من أمري وأنا البائس الفقير المستغيث المستجير، الوجل المشفق المقر المعترف بذنبه، أسألك مسألة المسكين، وأبتهل إليك إبتهال المذنب الذليل، وأدعوك دعاء الخائف الضرير، وقد خضعت لك رقبته، وفاضت لك عبرته، وذلّ لك جسمه، ورغم لك أنفه.
اللهم لا تجعلني بدعائك شقياً، وكن بي رءوفاً رحيماً، يا خير المسئولين ويا خير المعطين.
اللهم عافني في قدرتك، وأدخلني في رحمتك، واقض أجلي في طاعتك واختم لي بخير عمل واجعل ثوابه الجنة.
اللهم اجعلنا من أوليائك المتقين وحزبك المفلحين وعبادك الصالحين، واستعملنا لمرضاتك عنا، ووفقنا لمحابك منا، وصرفنا بحسن اختيارك لنا.
اللهم إني عبدك وابن عبدك وابن أمتك ناصيتي بيدك، ماض في حكمك، عدل في قضاؤك، أسألك بكل اسم هو لك، سميت به نفسك، وانزلته في كتابك أو علمته أحداً من خلقك، أو إستأثرت به في علم الغيب عندك: أن تجعل القرآن العظيم نور صدري وربيع قلبي، وجلاء حزني وذهاب همي.
اللهم يا من لا تضيق بالوافدين ساحته، ولا بالمذنبين رحمته، ولا بالسائلين نعمته، أسألك وقد تقطعت بنا الأسباب إلاّ إليك، وانقطع الرجاء إلاّ منك، وضاع الأمل إلاّ فيك: أن تفتح علينا أبواب رحمتك، وأن تنشر علينا من خزائن حكمتك، وأن تجعل لنا من كل ضيق مخرجاً، ومن كل همّ فرجاً.(1/92)
اللهم قد فررنا من ذنوبنا إليك فاغفرها، وفررنا من معاصينا إليك فتب علينا منها، وفررنا من عيوبنا إليك فاسترها، وفررنا من خطايانا إليك فتجاوزعنها، وفررنا بحوائجنا إليك فاقضها ياقاضي الحاجات، ويامفرج الكربات.
اللهم اجعلنا في دائرة رضاك ومحبتك وممن هديتهم إلى خالص توبتك.
اللهم احرسني بعينك التي لا تنام، واكنفني بكنفك الذي لا يرام، واغفر لي بقدرتك فلا أهلك وأنت رجائي، رب كم من نعمة أنعمتها عليً، قلّ لك عندها شكري وكم من بلية إبتليتني بها قلّ لك عندها صبري، فيا من قلّ عند نعمته شكري فلم يحرمني، ويامن قلّ عند بليته صبري فلم يخذلني، ويامن رآني على الخطايا فلم يفضحني ياذا المعروف الذي لا ينقضي أبداً، وياذا النعماء التي لا تعصي عدداً، أسألك أن تصلي على محمد وعلى آل محمد وبك أدرأً في نحور الأعداء الجبارين.
إن سؤال العبد ودعاؤه لربه يكون على وجه التذلل وإظهار فقر العبودية، وإظهار ذله بين يدى عز الربوبية فإن الرب سبحانه يحب من عبده أن يسأله ويرغب إليه لأن وصول بره وإحسانه إليه موقوف على سؤاله، بل هو المتفضل، بل إبتداء بلا سبب من العبد ولا توسط سؤاله بل قدّر ذلك الفضل إظهار لمرتبة العبودية والله تعالى يحب أن يسأل ويرغب إليه ويطلب منه، قال تعالى { وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ } غافر 60 وقال تعالى { وَاسْأَلُواْ اللَّهَ مِن فَضْلِهِ } النساء32 وقال تعالى { ادْعُواْ رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً } الأعراف: 55،وقال تعالى { وَادْعُوهُ خَوْفاً وَطَمَعاً إِنَّ رَحْمةََ اللَّهِ قَرِيبٌ مِّنَ الْمُحْسِنِينَ } الأعراف56.
قال مطرف بن عبد الله، تذاكرت ما جماع الخير فإذا الخير كثير الصيام والصلاة وإذا هو في يد الله تعالى وإذا أنت لا تقدر على ما في يد إله إلاّ أن تسأله فيعطيك، فإذا جماع الخير الدعاء.(1/93)
يامن أظهر الجميل وستر القبيح ولم يؤاخذ بالجريرة، ولم يهتك الستر، يا عظيم العفو والصفح، يا صاحب كل نجوى، يا منتهى كل شكوى، يا مبتديء النعم قبل استحقاقها، أسألك أن لا تشوّه خلقي بالنار، يا من ينقذ الغرقى، يا من ينجي الهلكى يا من يشفي المرضى، يا من أضحك وأبكى، يا من أمات وأحيا، يا من أضل وهدى، يا من في البحر سبيله، يا من في الآفاق آياته، يا من في الممات قدرته، يا من في القبور قضاؤه، يا من في القيامة مملكته، يا من في الحساب هيبته، يا من في الميزان عدله، يا من في الجهاد عنايته، يا من إليه يهرب الخائفون، يا من إليه يفزع المذنبون، يا من إليه يرغب الزاهدون، يا من عليه يتوكل المتوكلون، يا من إليه يشكر الموقنون، ياأقرب من كل قريب، يا أحب من كل حبيب، ويا أعظم من كل عظيم، يا أجل من كل جليل، يا أعز من كل عزيز، يا أقوى من كل قوي، يا أغنى من كل غني، يا أعلى من كل علىّ، يا غالباً غير مغلوب، يا حافظا غير محفوظ، يا قاهراً غير مقهور، يا حافظاً غير محفوظ، يا ناصراً غير منصور، يا قريباً غير بعيد، يامجيب الدعوات، يارافع الدرجات، يا وليّ الحسنات، يا عظيم البركات، ياغافر الخطيئات، يا سامع الأصوات، يا قابل التوبات، يا عالم الخفيات يا دافع البليات، يا من له القدرة والكمال، يا من هو الكبير المتعال، يا من هو شديد المحال، يا من تواضع كل شيء لعظمته، يا من خضع كل شيء لهيبته، يا من ذل كل شيء لعزته، يا من انقاد كل شيء لخشيته، يا من تشققت الجبال من مخافته، يا من قامت السموات والأرض بأمره، يا من استقر كل شيء بإذنه، يا كاشف البلايا، يا مجزل العطايا، يا منتهي الرجايا، يا باعث البرايا، يا دافع القضايا، يا عالم الخفايا، ياذا المجد والثناء، ياذا العهد والوفاء، ياذا العفو والرضاء، ياذا المن والعطاء، ياذا العز والبقاء، ياذا الجود والسخاء، يا خالق كل مخلوق، يا مالك كل مملوك، يا كاشف كرب كل مكروب، يا راحم كل مرحوم،(1/94)
يا ناصر كل مغلوب، يا ساتر كل معيوب، يا مؤنس كل وحيد، يا ملجأ كل مطرود، يا رجائي عند مصيبتي، يا عدتي عند شدتي، يا مؤنسي عند وحدتي، يا صاحبي عند وحشتي، يا وليي عند نعمتي، يا جابري عند افتقاري، يا ملجئي عند اضطراري، يا مغيثي عند مفزعي، يا حافظي عند مخافتي، يا من لا يرجى إلاّ فضله، يا من لا يخاف إلاّ عدله، يا من لا ينظر إلاّ بره يا من لا يدوم إلا ملكه، يا مدرك الفوت، يا سامع الصوت، يا كاسي العظم لحماً بعد الموت، يا من أظهر الجميل وستر القبيح، يا من لا يؤأخذ بالجريمة ولا يهتك الستر يا باسط اليدين بالرحمة، ياعزيزاً لا يضام، يا لطيفاً لا ينام، ياحافظاً لا يرام، يا دائماً لا يزول، يا كريماً لا يفنى، يا عالماً لا ينسى، يا من يهدي ولا يهدي، يا من يُطعِم ولا يُطعَم، يا من يجير ولا يجار عليه، يا من السموات والأرض مطويات بيمينه، يا من تزلزلت الأرض من مخافته، يا من يسبح الرعد بحمده، والملائكة من خيفته، يا من ذل كل شيء لعزته، يا حي قبل كل حي، يا حي بعد كل حي، يا حي لا يشبهه حي، يا حي ليس كمثله حي، يا حي لا يحتاج إلى حي، يا من خلقني فسوّاني، يا من رزقني ورباني، يا من أطعمني وسقاني، يا من حفظني وكلاني، رب اغفر لي سالف ذنبي، واهدني لأرشد أمري، وطهر قلبي وارض عني، هذي يدي وما جنيت على نفسي .
الفصل السابع: ذكر الله
هو منزلة المؤمنين الكبرى التي منها يتزودون، وفيها يتجرون، وإليها دائماً يترددون، وهو قوت قلوب القوم التي متى فارقتها صارت الأجساد قبوراً، وهو عمارة ديارهم التي إذا تعطلت عنه صارت بوراً، ودواء أسقامهم التي متى فارقتهم إنتكست منهم القلوب، والسبب الواصل والعلاقة التي بينهم وبين علام الغيوب.(1/95)
بذكر الله يستدفعون الآفات ، وتنجلي الكربات، وتهون عليهم المصيبات، إذا أظلهم البلاء، فإليه ملجؤهم، وإذا نزلت بهم النوازل فإليه مفزعهم، فهو رياض جنتهم التي فيها يتقلبون ورؤوس أموال سعادتهم التي فيها يتجرون، ويدع القلب الحزين ضاحكاً مسروراً، وفي كل جارحة من الجوارح عبودية مؤقته، والذكر عبودية القلب واللسان وهي غير مؤقته بل هم مأمورون بذكر الله بكل حال، قياماً وقعوداً وعلى جنوبهم، فكما أن الجنة قيعان وغراسها الذكر، فكذلك القلوب بور وخراب، والذكر عمارة القلوب وأساسها ، والذكر جلاء القلوب وصقالها، ودواؤها إذا غشيها مرضها، وكلما ازداد الذاكر في ذكره استغراقاً ازداد محبة إلى لقاء ربه واشتياقاً، وإذا وافق في ذكره قلبه للسانه نسي في جنب ذكر الله كل شيء، وحفظ الله عليه كل شيء، وكان له عوضاً من كل شيء.
زيّن الله بالذكر ألسنة الذاكرين، كما زيّن بالنور أبصار الناظرين، وهو باب الله الأعظم المفتوح بينه وبين عباده، ما لم يغلقوه بغفلتهم، وبالذكر يصرع العبد الشيطان، كما يصرع الشيطان أهل الغفلة والنسيان، وهو روح الأعمال الصالحة فإذا خلا العمل عن الذكر كان كالجسد لا روح فيه، فنسيان ذكر الله موت قلوبهم وأجسامهم قبل القبور، قبور أرواحهم في وحشة من جسومهم وليس لهم حتى النشور نشور.
ذكر الله تزكية النفوس وتطهير القلوب وإيقاظ الضمائر وإلى هذا تشير الآية الكريمة { وَأَقِمِ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ } ]العنكبوت45
قال المفسرون: -
1- ذكر الله أكبر من كل شيء فهو أفضل الطاعات لأن المقصود بالطاعات كلها إقامة ذكر الله، فهو سر الطاعات وروحها.
2- إنكم إذا ذكرتموه ذكركم فكان ذكره لكم أكبر من ذكركم له.
3- ولذكر الله اكبر من أن يبقى معه فاحشة ومنكر، بل إذا أتم ذكر الله محق كل خطيئة ومعصية.(1/96)
عندما ينفتح لذكر الله قلب العبد ويداوم على ذكره بلسانه، يمده الله بنوره، فيزداد إيماناً إلى إيمانه، ويقينا إلى يقينه، فيسكن قلبه للحق، ويطمئن به قال تعالى { الَّذِينَ آمَنُواْ وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اللَّهِ أَلاَ بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ } الرعد28
هذه القلوب المؤمنة تطمئن بإحساسها بالصلة بالله، والأنس بجواره، والأمن في جانبه وفي حماه، تطمئن من قلق الوحدة وحيرة الطريق، بإدراك الحكمة في الخلق والمبدأ والمصير، تطمئن بالشعور بالحماية من كل ضرر، ومن كل إعتداء، ومن كل شر، إلاّ بما شاء الله، مع الرضا بالقضاء، والصبر على البلاء، وتطمئن برحمة الله في الهداية والرزق والستر في الدنيا والآخرة { أَلاَ بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ } ذلك الإطمئنان بذكر الله في قلوب المؤمنين حقيقة يعرفها الذين خالطت بشاشة الإيمان قلوبهم فاتصلت بالله يعرفونها، ولا يملكون بالكلمات أن ينقلوها إلى الآخرين، الذين لم يعرفوها لأنها لاتنقل بالكلمات إنما تسرى في القلب فيستروحها، ويهش بها ويستريح لها، ويستشعر الطمأنينة والسلام، ويحس في هذا الوجود أنه ليس مفرداً بل أنيس، لأن كل ماحوله من صنع الله الذي هو في حماه.
وليس أشقى على وجه الأرض ممّن يحرمون طمأنينة الأنس بالله، وليس أشقى على وجه الأرض ممّن يعيش لايدري لماذا جاء؟ ولماذا يذهب؟ ولماذا يجاهد ويتعب في هذه الحياة؟ ليس أشقى ممن يسير على الأرض يخاف من كل شيء، لأنه إنقطعت الصلة بينه وبين الله، قال تعالى { وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى } طه124(1/97)
والحياة المقطوعة عن الصلة بالله ورحمته الواسعة ضنك وألم وشك وحيرة مهما يكن فيها من سعة ومتاع، إنه ضنك الحيرة والقلق والشك، ضنك الحرص والحذر، الحرص لِمَا في اليد والحذر من فقده، ضنك الجري وراء بارق المطامع والحسرة على كل ما يفوت، وما يشعر القلب بطمأنينة الاستقرار إلاّ في رحاب الله ومايحس براحة الثقة إلاّ وهو متمسك بالعروة الوثقى التي لاانفصام لها، إن طمأنينة الإيمان تضاعف الحياة طولاًوسعة والحرمان منها شقوة لا تعد لها شقوة الفقر والحرمان
... إن هناك لحظات في هذه الحياة لا يصمد لها بشر إلاّ أن يكون مرتكناً إلى الله، مطمئناً إلى حماه، مهما أوتي من القوة والثبات، ففي هذه الحياة لحظات تعصف بهذا كله، فلا يصمد لها إلاّ المطمئنون بالله، لهذا لو لم يكن للذي يطمئن قلبه بذكر الله إلاّ انشراح صدره، وانفساح قلبه وسروره وفرحه، فإنه يناجي ربه ويطيعه ويذكره وتنعم روحه لكفى، فالاقبال على الله تعالى والإنابة إليه والرضا به وامتلاء القلب من محبته، واللهج بذكره والفرح والسرور بمعرفته ثواب جعله الله له في الدنيا وعيش لايصل لدرجته ولاحتى الملوك أنفسهم.
يقول ابن تيمية: إن في الدنيا جنة مَنْْْ لَمْ يدخلها لم يدخل جنة الآخرة، ما يصنع بي أعدائي إن جنتي وبستاني في صدري إن رحت فهي معي لاتفارقني، إن حبسي خلوة وقتلي شهادة وإخراجي من بلدي سياحة.
ويقول عنه ابن القيم: وعلم الله ما رأيت أحداً أطيب عيشاً منه قط، مع ما كنّا فيه من ضيق العيش ومع ما كان فيه من الضيق والإرهاق وهو مع ذلك أطيب الناس عيشاً وأشرحهم صدراً، وأقواهم قلباً وأسرهم نفساً، وتلوح نضرة النعيم على وجهه، وكنا إذا أشتد بنا الخوف وساءت بنا الظنون، وضاقت بنا الأرض، أتيناه فما هو إلاّ أن نراه، ونسمع كلامه، فيذهب ذلك كله وينقلب إتشراحاً وقوة ويقيناً وطمانينة.
يقول ابن تيميه: ذكر الله مثل الماء للسمك، فكيف يكون حال السمك إذا فارق الماء.(1/98)
يقول ابن القيم : حضرت ابن تيمية مرّة صلى الفجر، ثم جلس يذكر الله قريباً من انتصاف النهار، ثم التفت إليّ وقال: هذه غدوتي ولو لم أتغذ سقطت فوقي.
وقال آخر : إني لتمر بي أوقات أقول إن كان أهل الجنة في مثل هذا أنهم لفي عيش طيب.
وقال آخر : مساكين أهل الدنيا خرجوا من الدنيا وما ذاقوا أطيب ما فيها، قيل: وما أطيب ما فيها؟ قال: محبة الله ومعرفته وذكره.
إن من أحب الله وداوم على ذكره وسكن إليه واطمئن به وأفرده بالحب والخوف والرجاء والتوكل بحيث يكون الله تعالى هو المستولي على هموم العبد وإراداته، فهذا هو جنة الدنيا والنعيم الذي لا يشبهه نعيم، وهو قرة عين المحبين، وحياة العارفين، وإنما تقر عيون الناس به أو حسب قرة أعينهم بالله عز وجل، فمن قُرت عينه بالله قُرت به كل عين، ومن لم تقر عينه بالله تقطعت نفسه على الدنيا حسرات، فهل يعتبر من في قلبه حياة؟
فيا عبد الله : إذا استغنى الناس بالدنيا فاستغن أنت بالله، وإذا فرحوا بالدنيا فافرح أنت بالله، وإذا أنسوا بأحبابهم فاجعل أنسك بالله، وإذا تعرفوا على كبرائهم وتقربوا إليهم لينالوا بهم غاية العزة والرفعة، فتعرّف أنت على الله وتودد إليه تنل غاية العزة والرفعة وما استولت محبة الله على قلب عبد بمثل ذكر الله.
إن الدين مبني على قاعدتين: الذكر والشكر، قال تعالى { فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُواْ لِي وَلاَ تَكْفُرُونِ } البقرة152
الذكر باللسان وبالقلب بذكر أسمائه وصفاته وأمره ونهيه، وذكر كلامه وهو القرآن ويستلزم ذلك معرفته والإيمان به، وأمّا الشكر فهو القيام بطاعته والتقرب إليه
يقول يحيى بن معاذ: عجبت من ثلاث: رجل يرائى بعمله مخلوقاً مثله ويترك أن يعمله لله، ورجل يبخل بماله وربه يستقرضه فلا يقرضه منه شيئاً، ورجل يرغب في صحبة المخلوقين ومودتهم والله يدعوه إلى صحبته وعودته.(1/99)
واحذر من الغفلة فتصيبك أمراض القلب: إن القلب يمرض كما يمرض البدن وشفاؤه التوبة، ويصدأ كما تصدأ المرآة وجلاؤه الذكر، ويعرى كما يعرى البدن وزينته التقوى، ويجوع ويظمأ كما يجوع البدن وطعامه وشرابه معرفة الله والرجوع إليه والتوكل عليه.
ويقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (مامِن يوم ولا ليلة إلاّ ولله عز وجل فيه صدقة يمُنّ بها على من يشاء من عباده، وما منّ الله على عبد بأفضل من أن يلهمه ذكره) صحيح رواه ابن أبي الدنيا.
يقول ابن القيم: إذا أحبّ الله عبداً اصطنعه لمحبته واجتباه لطاعته واستخلصه لعبادته، فشغل همه به، ولسانه بذكره، وجوارحه بخدمته، ومن وطنّ قلبه عند ربه سكن وارتاح، ومن أرسله في الناس اضطرب وانداح .
من أعجب الأشياء: إنك تعرف ربك ثم لا تحبه، وتسمع داعيه ثم تتأخرعن الإجابة، وتعرف قدر الربح في معاملته ثم تعامل غيره، وتعرف قدر غضبه ثم تتعرض له، وتذوق ألم الوحشة في معصيته ثم لا تطلب الأنس بطاعته، وتذوق ألم الوحشة والعذاب عند تعلق القلب بغيره، ولا تهرب إلى نعيم الإقبال والإنابة إليه، وأعجب من هذا أنك لابد لك منه، وأنك أحوج شيء إليه وأنت عنه معرض وفيما يبعدك عنه راغب.
يقول مالك بن دينار: رحم الله عبداً لزم القول الطيب والعمل الصالح، والمداومة، إن الجنة لاتنال إلاّ بعمل بها، أخلصوا الرغبة بالرهبة وداوموا على صالح الأعمال واتقوا الله بقلوب سليمة.
يا من لاذ بحرمه الخائفون، ورغب فيما عنده الطالبون، أسألك الخلاص من القصاص، وأستغفرك من ذنوب ذهبت لذاتها وبقيت تبعاتها.
قال زهير البابي: إن لله عباداً ذكروه فخرجت نفوسهم إعظاماً واشتياقاً، وقوم ذكروه فوجلت قلوبهم فرقة وهيبة، وقوم ذكروه فحالت ألوانهم غيراً، وقوم ذكروه فجفت أعينهم سهراً.(1/100)
قال ذو النون: من اشتغل قلبه ولسانه بالذكر قذف الله في قلبه نورالاشتياق إليه قال ابن عمر - رضي الله عنه - : أخبرني أهل الكتب أن هذه الأمة تحب الذكر كما تحب الحمامة وكرها، ولهم أسرع إلى ذكر الله من الإبل إلى وردها يوم ظمئها.
وقلوب المحبين لاتطمئن إلاّ بذكره، وأرواح المشتاقين لاتسكن إلاّ برؤيته، ومتى داوم العبد على ذكر الله اتصل به قلبه وتعلق بمولاه فيسلو به عن جميع المطالب سواه
من فضائل ذكر الله
1- السبيل لذكر الله لعبده: يقول تعالى (فاذكروني اذكركم) البقرة152
وقال - صلى الله عليه وسلم - فيما يرويه عن ربه تعالى (ومَن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي، ومن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منه) متفق عليه، قيل في قوله تعالى { فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ } أذكروني بطاعتي أذكركم بنعمتي، أذكروني بالتوحيد أذكركم بالتأييد، أذكروني بالشكر أذكركم بالمزيد، أذكروني بالمحبة أذكركم بالقربة، أذكروني بالخوف أذكركم بالأمان، أذكروني بالرجاء أذكركم بتحقيق الآمال.(1/101)
لولم يكن للذي يذكر ربه غير هذه الفضيلة لكفاه، فما أعظم هذه الدرجة الرفيعة لو نعتبر، فيا للتفضيل من الجليل الودود، الله جل جلاله يجعل ذكره لهؤلاء العبيد مكافئاً لذكرهم له، في عالمهم الصغير، إن العباد عندما يذكرون ربهم يذكرونه في هذه الأرض الصغيرة، وهم أصغر من أرضهم الصغيرة، والله حين يذكرهم يذكرهم في هذا الكون الكبير وهو الله، وهو العلي الكبير، أيّ تفضل وأي كرم، وأي فيض من السماحة والجود { فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ } إنه الفضل الذي لا يفيضه إلاّ الله الذي لاخازن لخزائنه، ولاحاسب لعطاياه، إنه الفضل الفائض من ذاته تعالى بلا سبب، ولاموجب إلاّ أنه هكذا سبحانه فياض العطاء، إنه الفضل الذي لا يصفه لفظ ولا يعبّر عن شكره إلاّ سجود القلب، وذكر الله ليس لفظاً باللسان، إنما هو إنفعال القلب معه أو بدونه، والشعور بالله ووجوده، والتأثر بهذا الشعور تأثراً ينتهي إلى الطاعة في حده الأدنى، وإلى رؤية الله وحده، ولاشيء غيره، لمن يهبه الله الوصول ويذيقه حلاوة ذكره.(1/102)
2- السبيل لصلاة الله على عبده: يقول تعالى { يا أيها الذين آمنوا اذكروا {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْراً كَثِيراً وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلامٌ وَأَعَدَّ لَهُمْ أَجْراً كَرِيماً } الأحزاب:44:41 تعالى الله وجلّت نعمته وعظم فضله وتضاعفت منته، يذكر هؤلاء العباد الضعاف المحاويج يذكرهم ويعتني بهم، ويصلي عليهم ليخرجهم من الظلمات إلى النور، ونور الله واحد متصل شامل وماعداه ظلمات تتعدد وتختلف، وماينقذهم من الظلام إلاّ نور الله الذي يشرق في قلوبهم ويغمر أرواحهم ورحمة الله بهم، وصلاة الملائكة ودعاؤها لهم،هي التي تخرجهم من الظلمات إلى النور حين تنفتح قلوبهم للإيمان وذكرالله (وكان بالمؤمنين رحيماً) ثم إذا قام المؤمنون بذلك فستكون تحيتهم في دار النعيم سلام سلام من كل خوف ومن كل تعب ومن كل مكد، سلام يتلقونه من الله تحمله إليهم الملائكة وهم يدخلون عليهم من كل باب، يبلغونهم التحية العلوية، إلى جانب ماأعدّ الله لهم من أجر كريم، فياله من تكريم.
3- أن الله يباهي بالذاكرين ملائكته: قال معاوية - رضي الله عنه - إن رسول الله خرج على حلقة من أصحابه فقال: ما أجلسكم؟ قالوا: جلسنا نذكر الله تعالى على ما هدانا للإسلام ومنّ علينا بك، قال: والله ما أجلسكم إلاّ ذلك؟ قالوا والله ما أجلسنا الإّ ذلك، قال: أمَا إني لم أستحلفكم تُهمةً لكم، ولكنه أتاني جبريل فقال: إن الله تبارك وتعالى يباهي بكم الملائكة) مسلم(1/103)
4- نُور للعبد في الدنيا وفي قبره يوم القيامة: قال تعالى {أَوَمَن كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَن مَّثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِّنْهَا } الأنعام 122 فالذي أحياه الله مؤمن إستنار بالإيمان بالله ومحبته وذكره، والميت هو الغافل عن الله تعالى، المعرض عن ذكره ومحبته، والفلاح كل الفلاح والسعادة كل السعادة في النور، والخسران كل الخسران والشقاء كله في الظُلمة، فالذكر ينَوّر القلب والوجه والأعضاء وعلى حسب نور الإيمان في قلب العبد تكون أعماله وأقواله لها نور وبرهان.
5- أكرم الخلق على الله من المتقين من داوم على ذكر الله: إن التقوى أوجبت له دخول الجنة، والنجاة من النار وهذا هو الأجر والثواب، والذكر يوجب له القرب من الله عز وجل وهذه هي المنزلة، قال موسى - عليه السلام - : يارب أي خلقك أكرم عليك؟ قال: الذي لا يزال لسانه رطباً من ذكري)، قال ابن عباس - رضي الله عنه - : لمّا وفد موسى - عليه السلام - إلى طور سيناء قال: يارب أي عبادك أحب إليك؟ قال: الذي يذكرني ولا ينساني)
... قال الحسن: إذا كان يوم القيامة نادى مناد: سيعلم الجمع من أولى بالكرم، أين الذين كانت { تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ } قال: فيقومون فيتخطون من رقاب الناس، ثم ينادى مناد: وسيعلم الجمع من أولى بالكرم أين الحمادون لله على كل حال قال: فيقومون وهم كثير، ثم يكون الحساب والتنعيم فيمن بقى) قال ابن القيم بالوابل الصيب سنده صحيح على شرط مسلم
قال عبيد بين عمير: تسبيحة بحمد الله في صحيفة مؤمن خير له من جبال الدنيا تجرى معه ذهباً.(1/104)
دوام ذكر الله يوجب البعد عن اللعنة والندم يوم القيامة: قال رسول الله (ماجلس قوم مجلساً لم يذكروا الله فيه ولم يصلوا على نبيهم إلاّ كان عليهم ترة فإن شاء عذبهم وإن شاء غفر لهم) الترمذي بسند صحيح(السلسلة الصحيحة) وقال - صلى الله عليه وسلم - (مامن قوم يقومون من مجلس لا يذكرون الله فيه، إلاّ قاموا على مثل جيفة حمار وكان عليهم حسرة يوم القيامة) صحيح أبي داود.
وقال - صلى الله عليه وسلم - (ما جلس قوم مجلساً لم يذكروا الله فيه إلاّ كان عليهم ترة، ومامن رجل مشى طريقاً فلم يذكر الله عز وجل إلاّ كان عليه ترة، ومامن رجل أوى إلى فراشه فلم يذكر الله إلاّ كان عليه ترة) أحمد بسند صحيح (السلسلة الصحيحة).
إن في المداومة على ذكر الله النعيم والثواب المقيم، وفي تركه كل آفة وكل نكد وكل خسارة وبوار في الآخرة وفي ذلك: -
1- نسيان النفس وما يصلحها بالدنيا والآخرة.
2- الحياة الصعبة الشقية بالدنيا وكثرة الهموم والآلام فيها.
3- الحسرة عليه من عمله ومن مآله وما أعد لهم.
4- إنه أنتن من جيفة الحمار فقد أنتن نفسه بالخوض في الباطل.
5- أن ترك ذكر الله يوجب عذاب الله للعبد.
6- أن مآل هذا حسرة وندامة وخزي وملامة يوم القيامة.
7- أن ذلك يوجب نسيان الله لعبده، ومن نساه الله لا يبالي في أيّ أودية الدنيا هلك.
ولذكر الله غير الفضائل السابقة فضائل كثيرة منها: -
أنه: يطرد الشيطان ويرضي الرحمن.
أنه: يزيل الهم ويجلب الفرح والسرور بالقلب.
أنه: يقوي القلب والبدن وينوّر الوجه والقلب.
أنه: يزيد في القلب محبة الله تبارك وتعالى.
أنه: يجعل الإنسان كثير الإنابة والرجوع إلى الله.
أنه: يورث القرب من الله ويورث حياة القلب.
أنه: يذهب الخطايا والسيئات ويجلب الحسنات.
أنه: يجعل الله يتعرف على العبد بتفريج كربه ورحمته وقت الشدة كما ذكره وعرفه وقت الرخاء.(1/105)
أنه: ينجي من العذاب يوم القيامة: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (ما عمل آدمي عملاً أنجى له من عذاب الله عز وجل من ذكر الله) أحمد بسند صحيح (ص ج ص).
أنه: يشغل اللسان بالكلام الحسن والطيب عن الكلام القبيح، فاللسان يتكلم لامحاله فاجعل كلامك ذكر لله.
أنه: مع القلب الخاشع سبباً لأن يستظل العبد بظل الرحمن يوم القيامة فمن السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل الاّ ظله قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (ورجل ذكر الله خالياً ففاضت عيناه) متفق عليه.
أن: مجالس الذكر هي مجالس الملائكة ومجالس اللغو هى مجالس الشيطان.
أنه: أيسر العبادات وأفضلها فليس هناك طاعة أيسر من حركة اللسان.
أنه: ينبه القلب من نومه فإذا نام فاتته الأرباح والحسنات وكان الغالب عليه الخسران، ولن يوقظه إلاّ ذكر الله ليعوّض مافاته.
أنه: يجعل الذاكر في معية الله وحفظه ورعايته، ففي الحديث القدسي (أنا مع عبدي ما ذكرني وتحركت بي شفتاه) البخاري.
أنه: رأس الشكر فما شكر الله تعالى من لم يذكره، فمن نصيحة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لمعاذ - رضي الله عنه - (يا معاذ إني لأحبك فلا تنسى أن تقول دبر كل صلاة: اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك) صحيح أبي داود.
أنه: يعطي الذاكر قوة حتى أنه ليفعل مع الذكر مالا يفعله بدونه، لهذا لمّا سألت الرسول - صلى الله عليه وسلم - ابنته فاطمة رضي الله عنها خادم وأمرها قبل النوم أن تسبح الله ثلاثاً وثلاثين وتحمد الله ثلاثاً وثلاثين وتكبر الله أربعاً وثلاثين، وقال - صلى الله عليه وسلم - : إنه خير لكما من خادم) البخاري.
أن : القصور تبنى وتزين، والنخل والثمار تغرس في الجنة بذكر الله.(1/106)
أنه: فيه لذة لا تشبهها شيء، لهذا سميت مجالس الذكر رياض الجنة، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (إذا مررتم برياض الجنة فارتعوا، قيل ومارياض الجنة؟ قال: مجالس الذكر) مسلم.و قال مالك بن دينار: ما تلذذ المتلذذون بمثل ذكر الله.
أنه: أحب الأعمال إلى الله: قالت أم أنس رضي الله عنها يارسول الله أوصني فقال (اهجري المعاصي فإنها من أفضل الهجرة، وحافظي على الفرائض فإنها من أفضل الجهاد، وأكثرى من ذكر الله فإنك لا تأتين إلى الله بشيء أحب إليه من كثرة ذكره) الطبراني بسند جيد (ص ج ص).
أنه : خير الأعمال، قال رسول الله (ألاَ أنبئكم بخير أعمالكم وأزكاها عند مليككم وأرفعها في درجاتكم وخير من إنفاق الذهب والورق وخير لكم من أن تلقوا عدوكم فيضربوا أعناقكم وتضربوا أعناقهم، قالوا:بلى، قال: ذكر الله) أحمد والترمذي بسند صحيح.(ص ج ص)
أن : أهل الذكر هم أهل الكرم، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (يقول الله عز وجل يوم القيامة: سيعلم أهل الجمع من أهل الكرم؟ قيل: ومن أهل الكرم يارسول الله؟ قال: أهل مجالس الذكر) أحمد بسند حسن.
أن : جزاؤهم الجنة: قال عبد الله بن عمرو - رضي الله عنه - قلت: يارسول الله ماغنيمة مجالس الذكر؟ قال: غنيمة مجالس الذكر الجنة) أحمد بسند صحيح.
أن : الذاكرين على منابر اللؤلؤ يوم القيامة، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (ليبعثنّ الله أقواماً يوم القيامة في وجوههم النور على منابر اللؤلؤ، يغبطهم الناس ليسوا بأنبياء ولا شهداء، قال: فجثا أعرابي على ركبتيه، فقال يارسول الله جلّهم لنا نعرفهم، قال (هم المتحابون في الله من قبائل شتى يجتمعون على ذكر الله يذكرونه) الطبراني بسند صحيح.(1/107)
أنه: أفضل خير بالدنيا والآخرة قال - صلى الله عليه وسلم - (أربع من أعطيهن فقد أعطي خير الدنيا والآخرة: قلباً شاكراً ولساناً ذاكراً وبدناً على البلاء صابراً، وزوجة لاتبغيه حوباً في نفسها وماله) الطبراني بسند صحيح.
أنه: الفارق بين الحي والميت، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (مثل الذي يذكر ربه والذي لا يذكر ربه مثل الحي والميت) البخاري.
أنه: طريق الفلاح، قال تعالى { وَاذْكُرُواْ اللَّهَ كَثِيراً لَّعَلَّكُمْ تُفْلَحُونَ } الأنفال 45
أنه: منتهى الخير، قال تعالى { وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيراً وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً } الأحزاب 35
وأخيراً.. إن القلوب لا تصل إلى مناها حتى تصل إلى مولاها، ولا تصل إلى مولاها حتى تكون سليمة صحيحة زكية، والله طيب لايقبل إلاّ طيباً، وكلما طابت النفس وزكت، قَرَّبَها الله تعالى فتسعد وتأنس وتستغني بالله عز وجل، ولكن وا أسفاه كيف ينقضي الزمان ويبعد العمر، والقلب ما شمّ لهذا رائحة، وخرج من الدنيا كما دخل فيها، وما ذاق أطيب ما فيها بل عاش فيها عيش البهائم، وانتقل انتقال المفاليس، فكانت حياته عجزاً وموته كمداً ومعاده حسرة وأسفاً.
فياعبد الله: - الفرصة أمامك، فاغتنم الزمان، وعد إلى الله تعالى، ودم على ذكره من الآن لتنال خير الدنيا والآخرة.
بعض الأذكار التي يغتنمها المؤمن(1/108)
سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر: هذه الكلمات البسيطة لها تأثير عظيم براحة القلب واطمئنانه، وصفاء الذهن وراحة البال، فمن كان مهموماً فليجرب سيزول همه، ومن كان حزيناً بالمداومة عليها يزيل حزنه، ومن كان قاسي القلب فلها تأثير بالغ بترقيق القلب وحيويته، وإذا نظرنا إلى معناها وجدنا سبحان الله: تنزيه الله تعالى عن كل مالا ينبغي له أن يوصف به، والحمد لله: إثبات صفات الكمال لله تعالى، وقيل الشكر والثناء لله، والله أكبر: أكبر من كل شيء وأعظم، أمّا لا إله إلا الله: فهي لا معبود بحق إلاّ الله وهي كلمة الإسلام ومفتاح دار السلام، بها قامت السموات والأرض، وبها صحت السنّة والفرض، وبها جردت سيوف الجهاد وأرسلت الرسل للعباد، كلمة الحق، ودعوة الحق، وبراءة من الشرك، ولأجلها خلق الله الخلق، ترجح السموات والأرض، تخرق الحجب حتى تصل إلى الله عزوجل، ليس لها دون الله حجاب، تفتح لها أبواب السماء، وأفضل ماقاله النبيون وهي أفضل الأعمال، وحرزاً من الشيطان، وهي أمان من وحشة القبر وهول المحشر، وتفتح لقائها أبواب الجنة الثمانية، عليها أسست الملة ونصبت القبلة، وبها انقسم الناس إلى شقي وسعيد ومقبول ومطرود.
لا إله إلاّ الله: ورد بالأثر: إذا قال العبد: لا إله إلاّ الله، اهتز العرش، فيقول الله: أسكن، فيقول: لا وعزتك حتى تغفر لقائل لا إله إلاّ الله، فيقول الله تعالى: أسكن فإني آليت على نفسي قبل أن اخلق خلقي أني لا أجر بها على لسان عبد إلاّ غفرت له قبل أن يقولها)(1/109)
لا إله إلاّ الله لها أسرار منها: أن جميع حروفها جوفيه إشارة إلى الإتيان بها من خالص الجوف وهو القلب حتى يتجرد قائلها من كل معبود سواه، ومنها أنها إثنا عشر حرفاً كشهور السنة وهي ومحمد رسول الله أربع وعشرون حرفاً فالليل والنهار أربع وعشرون ساعة فمن قالها في كل يوم كفرّت عنه ذنوب ذلك اليوم، ومنها أن كلماتها سبع وأبواب جهنم سبع فكل كلمة منها تسد عن قائلها باب من أبواب جهنم شبهت كلمة التوحيد بالماء لأنه يطهّر وهي تطهر من الذنوب وبالتراب لأنه يرد الحبة أضعافها، وهذه الكلمة يضاعف ثوابها، وبالنار لأنها تحرق، وهذه الكلمة تحرق الذنوب، وبالشمس لأنها تضيء للعالمين، وهذه الكلمة تضيء لقائلها في القبر، وبالقمر لأنه يذهب ظلمة الليل، وهذه الكلمة تذهب ظلمة القبر، وبالنجوم لأنها دليل المسافرين، وهذه الكلمة دليل أهل الضلالة إلى الهدى، وبالنخلة كما قال تعالى (ومثل كلمة طيبة كشجرة طيبة) فالنخلة لا تنبت في كل أرض، وهذه الكلمة لا تنبت إلاّ في كل قلب مؤمن، والنخلة أطول الأشجار، وهذه الكلمة أصلها في القلب وفرعها تحت العرش، والنخلة أسفلها شوك وأعلاها رطب، وهذه الكلمة أولها تكاليف فمن أتى بها وصل إلى ثمرتها وهى الجنة، والنظر إلى وجه الله تعالى، وهى مفتاح الجنة، ولا بد للمفتاح من أسنان، وأسنانها فعل الواجبات وترك المحرمات.
لا إله إلاّ الله أفني بها عمرى، لا إله إلاّ الله أدخل بها قبري، لا إله إلاّ الله أخلو بها وحدى لا إله إلاّ الله ألقى بها ربي.
فياعبد الله: داوم عليها باللسان وبالجنان في كل حين وفي كل آن، حتى يسعفك الله في نطقها أحوج ماتكون لها عند الممات، لهذا فقد حث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على هذا الذكر خاصة فقال: -(1/110)
1- (الطهور شطر الإيمان والحمد لله تملأ الميزان وسبحان الله والحمد لله تملآن أو تملأ مابين السماء والأرض، والصلاة نور والصدقة برهان والصبر ضياء والقرآن لك أو عليك، كل الناس يغدو فبائع نفسه فمعتقها أو موبقها) مسلم
معناه: أن الحمد لله أجرها عظيم يملأ الميزان يوم القيامة، والصلاة نور للعبد فتمنعه من المعاصي، أو أجرها وثوابها نور يوم القيامة، والصدقة دليل على إيمان العبد، والصابر لا يزال مهتدياً سائراً على طريق الثواب.
2- وقال - صلى الله عليه وسلم - (لأن أقول: سبحان الله والحمد لله ولا إله إلاّ الله والله أكبر، أحب إلىّ ممّا طلعت عليه الشمس) مسلم
3- وقال - صلى الله عليه وسلم - (أفضل الكلام سبحان الله والحمد لله ولا إله إلاّ الله والله أكبر) أحمد بسند صحيح (ص ج ص).
4- وقال - صلى الله عليه وسلم - (أحب الكلام إلى الله أربع: سبحان الله والحمد لله ولا إله إلاّ الله والله أكبرلايضرك بأيهن بدأت) مسلم.
5- وقال - صلى الله عليه وسلم - (لقيت إبراهيم عليه السلام ليلة أسرى بي فقال: يا محمد أقرىء أمتك مني السلام وأخبرهم أن الجنة طيبة التربة عذبة الماء وأنها قيعان وأن غراسها سبحان الله والحمد لله ولا إله إلاّ الله والله أكبر) الترمذي بسند حسن.
6- مر - صلى الله عليه وسلم - على أبوهريرة - رضي الله عنه - وهو يغرس غرساً فقال: يا أبا هريرة ما الذي تغرس؟ قلت: غراساً، قال: أدلك على غراس خير من هذا: سبحان الله والحمد لله ولا إله إلاّ الله والله أكبر، تغرس لك بكل واحدة شجرة في الجنة) ابن ماجة بسند حسن.(1/111)
7- وقال - صلى الله عليه وسلم - (إن الله اصطفى من الكلام أربعاً: سبحان الله والحمد لله ولا إله إلاّ الله والله أكبر، فمن قال: سبحان الله كُتبت له عشرون حسنة وحُطّت عنه عشرون سيئة، ومن قال الله أكبر فمثل ذلك، ومن قال لا إله إلاّ الله فمثل ذلك، ومن قال الحمد لله رب العالمين من قبل نفسه كتبت له ثلاثون حسنه وحطت عنه ثلاثون سيئة) أحمد بسند صحيح (ص ج ص)
8- وقال - صلى الله عليه وسلم - (سبحان الله والحمد لله ولا إله إلاّ الله والله أكبر، تنفض الخطايا كما تنفض الشجرة ورقها) أحمد والترمذي بسند حسن.
9- (قال أعرابي: يا رسول الله عالجت القرآن فلم أستطعه فعلمني شيئاً يجزي من القرآن قال: قل: سبحان الله والحمد لله ولا إله إلاّ الله والله أكبر) فقال وأمسكها بأصابعه وقال: يا رسول الله هذا لربي فمالي؟ قال تقول: اللهم اغفر لي وارحمني وارزقني واهدني) ومضى الأعرابي فقال: رسول الله - رضي الله عنه - (ذهب الأعرابي وقد ملأ يديه خيراً) أحمد بسند صحيح (ص ج ص)
1.- وقال - رضي الله عنه - (بخ بخ لخمس ما أثقلهن في الميزان: سبحان الله والحمد لله ولا إله إلاّ الله والله أكبرولا حول ولا قوة إلاّ بالله) أحمد بسند صحيح ( ص غ)
11- وقال - صلى الله عليه وسلم - (استكثروا من الباقيات الصالحات، قيل وماهنّ يارسول الله؟ قال: التكبير والتهليل والتسبيح والحمد لله ولا حول ولا قوة إلاّ بالله) أحمد بسند صحيح (ص ج ص).
12- وقال - صلى الله عليه وسلم - (أيعجز أحدكم أن يكسب كل يوم ألف حسنة؟ فسأل سائل من جلسائه كيف يكسب أحدنا ألف حسنة؟ قال: يسبح الله مائة تسبيحة فيكتب له ألف حسنة أو يحط عنه ألف خطيئة) مسلم.
13- وقال - صلى الله عليه وسلم - (أسعد الناس بشفاعتي يوم القيامة من قال: لا إله إلاّ الله خالصاً من قلبه أو نفسه) البخاري.(1/112)
14- قال موسى - عليه السلام - : يارب علمني شيئاً أذكرك به وأدعوك به قال (قل لا إله إلاّ الله) قال: إنما أريد شيئاً تخصني به، قال: (يا موسى لو أن السموات السبع والأرضين السبع في كفة، ولا إله إلاّ الله في كفة مالت بهم كفة لا إله إلاّ الله) النسائي
15- وقال - صلى الله عليه وسلم - (أفضل الذكر لا إله إلاّ الله وأفضل الدعاء الحمد لله) النسائي.
16- وقال - صلى الله عليه وسلم - (من قال لا إله إلاّ الله مخلصاً دخل الجنة، قيل: وما إخلاصها؟ قال:أن تحجزه عمّا حّرم الله عليه) الطبراني والبزار بسند صحيح (ص ج ص).
17- وقال - صلى الله عليه وسلم - (ما قال عبدُ: لا إله إلاّ الله مخلصاً إلاّ فتحت أبواب السماء حتى تفضي إلى العرش ما اجتنبت الكبائر) الترمذي بسند حسن (ص ج ص).
18- وقال - صلى الله عليه وسلم - (جدّدوا إيمانكم قيل يارسول الله وكيف نجدد إيماننا؟ قال: أكثروا من قول: لا إله إلاّ الله) أحمد بسند صحيح.
19- وقال - صلى الله عليه وسلم - (من قال: سبحان الله مائة مرّة قبل طلوع الشمس وقبل غروبها كان أفضل من مائة بدنه، ومن قال: الحمد لله مائة مرة قبل طلوع الشمس وقبل غروبها كان أفضل من مائة فرس يحمل عليها في سبيل الله، ومن قال: الله أكبر مائة مرة قبل طلوع الشمس وقبل غروبها كان أفضل من عتق مائة رقبة، ومن قال: لا إله إلاّ الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير مائة مرة قبل طلوع الشمس وقبل غروبها لم يجيء يوم القيامة أحد بعمل أفضل من عمله إلاّ من قال مثل قوله أو زاد عليه) النسائي بسند صحيح (السلسلة الصحيحة).
سبحان الله وبحمده
1] قال - صلى الله عليه وسلم - (إن أحب الكلام إلى الله: سبحان الله وبحمده) مسلم.
2] سئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : أي الكلام أفضل؟ قال: ما اصطفى الله لملائكته أو لعباده: سبحان الله وبحمده) مسلم.(1/113)
3] وقال - صلى الله عليه وسلم - (من قال: سبحان الله وبحمده غرست له نخلة في الجنة) الترمذي بسند صحيح (ص ج ص)
4] قال - صلى الله عليه وسلم - (من قال: سبحان الله وبحمده في يوم مائة مرة غفرت له ذنوبه وإن كانت مثل زبد البحر) مسلم.
5] قال - صلى الله عليه وسلم - (كلمتان خفيفتان على اللسان، ثقيلتان في الميزان حبيبتان إلى الرحمن سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم) متفق عليه.
لا حول ولا قوة إلاّ بالله
1- وقال - صلى الله عليه وسلم - (قل: لا حول ولا قوة إلا بالله فإنها كنز من كنوز الجنة) متفق عليه.
قال معاذ بن جبل - رضي الله عنه - : أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ألا أدلك على باب من أبواب الجنة قلت: وماهو؟قال: لاحول ولا قوة إلا بالله) أحمد بسند صحيح (ص ج ص).
2- (قال له إبراهيم - عليه السلام - ليلة أسرى به: يا محمد مُرْ أمتك فليكثروا من غراس الجنة فإن تربتها طيبة وأرضها واسعة، قال: وماغراس الجنة؟ قال: لاحول ولا قوة إلا بالله) أحمد بسند حسن.
3- وقال - صلى الله عليه وسلم - (من أنعم الله عليه نعمة فأراد بقاءها فليكثر من قول: لاحول ولا قوة إلا بالله) الطبراني.
4- وقال - صلى الله عليه وسلم - (من قال: لا إله إلاّ الله والله أكبر صدقه ربه فقال: لا إله إلاّ أنا وأنا أكبر، وإذا قال: لا إله إلاّ الله وحده، يقول الله: لا إله إلاّ أنا وحدي، وإذا قال: لا إله إلاّ الله وحده لا شريك له، يقول: صدق عبدي لا إله إلاّ أنا وحدي لا شريك لي، وإذا قال لا إله إلاّ الله له المُلك وله الحمد، قال: يقول الله:لا إله إلاّ أنا لى الملك ولى الحمد، وإذا قال: لا إله إلاّ الله ولا حول ولا قوة إلا بالله، قال: الله: لا إله إلاّ أنا ولاحول ولاقوة إلاّبي، وكان يقول:من قالها في مرضه لم تَطعمه النار) الترمذي وحسّنه.
بعض الاذكار الكريمة والعظيمة الثواب(1/114)
1- عن جويرية رضي الله عنها أن النبي - صلى الله عليه وسلم - خرج من عندها بكرة حين صلى الصبح ثم رجع بعد أن أضحى وهي جالسة فقال: مازلتِ على الحال التي فارقتك عليها؟ قالت نعم قال: لقد قلت بعدك أربع كلمات ثلاث مرات، لو وزنت بما قلت منذ اليوم لونتهن: سبحان الله وبحمده عدد خلقه ورضى نفسه وزنة عرشه ومداد كلماته) وفي رواية (سبحان الله عدد خلقه سبحان الله رضى نفسه، سبحان الله زنة عرشه، سبحان الله مداد كلماته) مسلم.
2- عن أبي امامة - رضي الله عنه - قال: رآني النبي - صلى الله عليه وسلم - وأنا أحرك شفتى فقال لي: بأي شيء تحرك شفتيك يا أبا أمامة؟ فقلت: أذكر الله يارسول الله، فقال لي: ألا أخبرك بأكثر وأفضل من ذكرك بالليل والنهار؟ قلت: بلى يارسول الله، قال: تقول سبحان الله عدد ما خلق، سبحان الله ملء ما خلق، سبحان الله عدد ماخلق في الأرض والسماء، سبحان الله ملء ما خلق في الأرض والسماء، سبحان الله عدد ما أحصى كتابه، سبحان الله ملء ما أحصى كتابه، سبحان الله عدد كل شيء، سبحان الله ملء كل شيء، الحمد لله عدد ما خلق، والحمد لله ملء ما خلق، والحمد لله عدد ما خلق في الأرض والسماء، والحمد لله ملء ما خلق في الأرض والسماء، والحمد لله عدد ما أحصي كتابه، والحمد لله ملء ما أحصي كتابه، والحمد لله عدد كل شيء والحمد لله ملء كل شيء)النسائي بسند صحيح(ص ج ص).
3- عن سعد بن أبي وقاص - رضي الله عنه - : أنه دخل مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على امرأة وبين يديها نوى أو حصى تسبح به، فقال: أخبرك بما هو أيسر عليك من هذا أو أفضل، فقال: سبحان الله عدد ما خلق في السماء، سبحان الله عدد ما خلق في الأرض، سبحان الله عدد ما بين ذلك، سبحان الله عدد ماهو خالق، والله أكبر مثل ذلك، والحمد لله مثل ذلك، ولا إله إلا الله مثل ذلك، ولا حول ولا قوة إلا بالله مثل ذلك) أبو داود والترمذي ابن حبان بسند حسن (السلسلة الصحيحة).(1/115)
ثواب الذكر بأوقات معينة
ما أعظم أن يملأ الإنسان كل وقته بذكر الله، وما أطيب أن يجعل العبد المؤمن كل حركة من حركاته وكل سكنة من سكناته، وكل كلمة من كلماته، يملؤها بذكر الله،عند ذلك يحيا وهو في رعاية الذي لا تغفل عينه ولاتنام، وحماية ذي الجلال والإكرام، وفي رضاً من مولاه الكبير المتعال.(1/116)
وإذا ما استيقظ من نومه فأول ما تتحرك به شفتاه هو حمد الله على الحياة بعد الموت وتوفيقتا لذكره (الحمد لله الذي أحيانا بعد ما أماتنا وإليه النشور)مسلم (الحمد لله الذي رد اليّ روحي وعافاني في جسدي وأذن لي بذكره) الترمذي بسند حسن (أصبحنا على فطرة الإسلام وكلمة الإخلاص ودين نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - وملة إبراهيم حنيفاً مسلماً وما كان من المشركين) صحيح، استسلام تام لله وشهادة بأنني سوف أستمر على الإسلام وعلى شهادة أن لا إله إلاّ الله وعلى الإخلاص لله، والتجرد من كل شيء إلاّ طاعة الله ثم نعترف بعجزنا التام وقدرته تعالى على كل شيء (اللهم بك أصبحنا وبك أمسينا وبك نحيا وبك نموت وإليك النشور) مسلم، ثم ندعوا الله أن يرحمنا ويوفقنا إلى الخير، وأن لا يتركنا لنفوسنا الأمارة بالسوء (يا حي ياقيوم برحمتك أستغيث أصلح لي شأني كله ولا تكلني إلى نفسي طرفة عين) ونعترف بأن لله الهيمنة والحمد التام ونسأله من خير يومنا ونعوذ به من شره (أصبحنا وأصبح الملك لله، والحمد لله لا إله إلاّ الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، رب أسألك خير ما في هذا اليوم وخير ما بعده، وأعوذ بك من شر هذا اليوم وشر ما بعده رب أعوذ بك من الكسل وسوء الكبر، رب أعوذ بك من عذاب النار وعذاب القبر) مسلم، ثم ندعوا الله بسيد الإستغفار، معترفين لله بعبوديتنا التامة، ودوامنا على طاعته (اللهم أنت ربي لا إله إلاّ أنت، خلقتني وأنا عبدك، وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت، أعوذ بك من شر ماصنعت، أبوء لك بنعمتك علىّ، وأبوء بذنبي، فاغفر لي إنه لا يغفر الذنوب إلاّ أنت) متفق عليه، ثم نشهد الله والملائكة وجميع الخلق أن الله وحده لا شريك له ونردد أربع مرات زيادة في إعترافنا بهذه الحقيقة (اللهم إني أصبحت أشهد وأشهد حملة عرشك وملائكتك وجميع خلقك إنك أنت الله لا إله إلاّ أنت وحدك لا شريك لك وأن محمداً عبدك ورسولك)، ومن(1/117)
قالها أربعاً أعتقه الله من النار) أبو داود والترمذي بسند صحيح، ثم نسأل الله من كل خير (اللهم إني أسألك العفو والعافية في ديني ودنياي وأهلي ومالي اللهم استر عوراتي وآمن روعاتي، اللهم احفظني من بين يدي ومن خلفي وعن يميني وعن شمالي وأعوذ بعظمتك أن أغتال من تحتي) البخاري ونجعل اسم الله هو بدايتنا في كل عمل من أول صباحنا (بسم الله الذي لا يضر مع اسمه شيء في الأرض ولا في السماء وهو السميع العليم) ثلاث مرات، أبو داود بسند صحيح(ص غ) ثم نعترف لله بالوحدانية الخالصة له ونعوذ بالله تبارك وتعالى من شر كل السحرة والحاسدين والشيطان اللعين بقراءة { قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ } و { {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ } و { قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاس } ثلاث مرات (متفق عليه)(1/118)
إن صباحا يبدأ بهذا الكلام الطيب وهذا الدعاء الطاهر، الذي لا يعانق فؤاد مؤمن إلاّ أراحه، ولا يلامس قلب مؤمن إلاّ طهره، فطوبى لمن جعل هذا الدعاء عادته في كل صباح، مع بعض الاذكار الطيبة، فإن يوماً يبدأ بطاعة الله والثناء على الله والإخلاص لله والتوكل على الله، لهو اليوم الطيب، وإن صاحبه لهو الفائز السعيد، وإذا وفقه الله للاستيقاظ لصلاة الفجر ووجد أن أمامه الصلاة يقول قبل دخوله الخلاء (بسم الله) (اللهم إني أعوذ بك من الخبث والخبائث) البخاري، نستعيذ قبل دخولنا من الجن والشياطين وشرورهم، ونُقَدّم القدم اليسرى عند الدخول، وبعد خروجنا نقول (غفرانك) البخاري، نسأل الله المغفرة في ذلك الوقت البسيط الذي لم نذكره فيه وإذا ما أراد الوضوء يعلم أنه قد بدأ في أخذ العطايا والمنح والهبات والثواب العظيم من الله الكريم، فلا بد أن يكون أهلاً لهذا كله حتى يناله كاملاً، فعليه أن يقتصد في ماء الوضوء ولا يسرف ويتم أركان الوضوء كما أمره الله من غسل الوجه من منبت الشعر حتى أسفل الذقن وأن يغسل اليدين حتى نهاية المرفقين ومسح الرأس والأذنين وغسل الرجلين حتى نهاية الكعبين،حتى السنن لايتركها من غسل اليدين بل الوضوء والمضمضة حتى يتطهر الفم من تغير رائحته، والاستنشاق ثلاث مرات فبهذه الثلاث يقتل كل الميكروبات التي بالأنف حتى لا يؤذي الإنسان كما أثبت الأطباء ذلك حتى لايفوته الأجر العظيم ومنه: -(1/119)
قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (إذا توضأ العبد المسلم أو المؤمن فغسل وجهه وخرج من جهة كل خطيئة نظر إليها بعينه مع الماء أو مع آخر قطر الماء، فإذا غسل يديه خرج من يديه كل خطيئة كانت بطشتها يداه مع الماء أو مع آخر قطر الماء، فإذا غسل رجليه خرجت كل خطيئة مشتها رجلاه مع الماء أو مع آخر قطر الماء، حتى يخرج نقياً من الذنوب) مسلم، وزاد في رواية (فإن هو قام فصلى فحمد الله وأثنى عليه ومجّده الذي هو أهله وفزع قلبه لله تعالى إلاّ انصرف من خطيئته كيوم ولدته أمه)
قال - صلى الله عليه وسلم - (إن أمتي يدعون يوم القيامة غراً محجلين من آثار الوضوء فمن استطاع منكم أن يطيل غرته فليفعل) البخاري ومسلم.
وقال - صلى الله عليه وسلم - (ألا أدلكم على ما يمحو الله به الخطايا ويرفع به الدرجات قالوا: بلى يا رسول الله،قال: إسباغ الوضوء على المكاره، وكثرة الخُطا إلى المساجد، وانتظار الصلاة بعد الصلاة فذلكم الرباط، فذلكم الرباط) مسلم.
وقال - صلى الله عليه وسلم - (إسباغ الوضوء على المكاره، وكثرة الخُطا إلى المساجد وانتظار الصلاة بعد الصلاة يغسل الخطايا غُسلاً) البزاربسند صحيح (ص ج ص)
وإذا أردنا الوضوء نبدأه بقول (بسم الله) وإذا ما انتهى من وضوئه يقر بالوحدانية لله، وكما أن الماء قد طهره ظاهراً فيدعوالله أن يطهره باطناً فيقول (أشهد أن لا إله إلاّ الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم اجعلني من التوابين واجعلني من المتطهرين إلاّ فُتحت له أبواب الجنة الثمانية، يدخل من أيها شاء) الترمذي بسند صحيح (ص ج ص). وتقول (سبحانك اللهم وبحمدك أشهد أن لا إله إلاّ أنت أستغفرك وأتوب إليك، كتب في رَق ثم جعل في طابع فلم يُكسر إلى يوم القيامة) النسائي بسند صحيح (ص ج ص)(1/120)
وإذا أراد الخروج من بيته يتوكل على الله في كل أموره، ويسأل الله الإستقامة يقول (بسم الله توكلت على الله ولا قوة إلاّ بالله، اللهم إني أعوذ بك أن أَضِل أو أُضَل أو أَزِل أو أُزَل أو أظلم أو أظلم أو أعتدي أو يعتدى عليّ) أحمد بسند صحيح (ص ج ص) .
هنا يكون قد استسلم لله استسلاماً تاماً بقوله، ولم يبق إلاّ أن يوافق قوله فعله، وعند الخروج إلى المسجد نعلم أن الصلاة نور: نور فتمنعه من المعاصي أو يكون ثوابها نور يوم القيامة، فيقول (اللهم اجعل في قلبي نوراً وفي لساني نوراً، وفي بصري نوراً، وفي سمعي نوراً، وعن يميني نوراً، وعن يساري نوراً، ومن فوقي نوراً، ومن تحتي نوراً ، ومن أمامي نوراً، ومن خلفي نوراً، واجعل لي في نفسي نوراً ، وأعظم لي نوراً) متفق عليه، إن نوراً عظيماً كهذا يسأل العبد مولاه تبارك وتعالى أن يعطيه إياه كل يوم خمس مرات، وهو طاهر القلب يسعى إلى الصلاة فإن نال هذا الخير بإخلاصه ودعائه كان الخير كل الخير منه، والطهارة كل الطهارة عنده
وأثناء خروجه إلى المسجد يمشي بالسكينة والخشوع فقد قال - صلى الله عليه وسلم - (فعليكم بالسكينة فما أدركتم فصلوا، وما فاتكم فأتموا) البخاري، ويكون من الذين:
يمشون نحو بيوت الله إذ سمعوا ... الله أكبر في شوق وفي جذل
أرواحهم خشعت لله في أدب ... قلوبهم من جلال الله في وجل
نجواهم ربنا جئناك طائعة ... نفوسنا وعصينا خادع الأمل
ويعلم أن الله تبارك وتعالى قد إدخرله بمشيه إلى الصلاة والمحافظة عليها كل خير وثواب عميم، ومن ذلك: -
قال - صلى الله عليه وسلم - (من راح إلى مسجد الجماعة فخطوة تمحو سيئة وخطوة تكتب له حسنة ذاهباً وراجعا ً) أحمد بسند صحيح
وقال - صلى الله عليه وسلم - (من تطهر في بيته ثم مشى إلى بيت من بيوت الله ليقضي فريضة من فرائض الله كانت خطوتاه إحداهما تحط خطيئة والأخرى ترفع درجة) مسلم(1/121)
أن الله يعد لك مكاناً كريماً لضيافتك بالجنة جزاء كل مرة تذهب إلى المسجد للصلاة: وقال - صلى الله عليه وسلم - (من غدا إلى المسجد أو راح أعد الله له في الجنة نزلاً كلما غدا أوراح) مسلم.
أن الذي يحافظ على الصلاة في جماعة يتلقاه الله ببره وتقريبه وإكرامه: قال - صلى الله عليه وسلم - (ما توطّن رجل المساجد للصلاة والذكر إلاّ تبشبش الله تعالى إليه كما يتبشبش أهل الغائب بغائبهم إذا قدم عليهم) أحمد بسند صحيح (ص ج ص).
أن الله يعطيهم النور التام يوم القيامة: قال - صلى الله عليه وسلم - (بشر المشائين في الظلم إلى المساجد بالنور التام يوم القيامة) الترمذي بسند صحيح (ص ج ص).(1/122)
أن الله يعظم له الثواب: قال - صلى الله عليه وسلم - (من خرج من بيته متطهراً إلى صلاة مكتوبة فأجره كأجر الحاج المحرم) أبو داود بسند حس(ص ج ص)، وإذا ما أراد دخول المسجد فليقدم قدمه اليمنى وليعلم ان المسجد بيت الله، وأعظم مكان يجب الإخلاص التام لله والتفرغ من كل مشاغل الدنيا والتنزه عن كل وساوس الشيطان، والمسجد بيت الرحمة فيسأل الله عند دخوله أن يعصمه من الشيطان، ويغدق عليه من رحمته فيقول كما قال - صلى الله عليه وسلم - (أعوذ بالله العظيم وبوجهه الكريم وسلطانه القديم من الشيطان الرجيم) أبو داود بسند حسن (بسم الله اللهم صل على محمد وأزواج محمد اللهم افتح لي أبواب رحمتك) ابن السني بسند صحيح، وإذا سمع المؤذن يؤذن فلينتبه إلى هذه الكلمات الطيبة الطاهرة، وإذا انتهى المؤذن من الشهادتين يقول:(وأنا أشهد أن لا إله إلاّ الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، رضيت بالله رباً وبمحمد رسولاً وبالإسلام ديناً غفر الله له ذنبه) مسلم. وبعد نهاية الأذان نقول (اللهم رب هذه الدعوة التامة والصلاة القائمة آت سيدنا محمداً الوسيلة والفضيلة وابعثه مقاما محموداً الذي وعدته) متفق عليه، لننال شفاعة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم القيامة وندعوا بين الآذان والإقامة (الدعاء بين الأذان والإقامة لايرد) متفق عليه، وإذا ماجلست تنتظر الصلاة إلى الثواب العظيم الذي أعده الله لك ومنه: -(1/123)
قال - صلى الله عليه وسلم - (إن العبد المسلم ليصلي الصلاة يريد بها وجه الله، فتهافت عنه ذنوبه كما تهافت هذا الورق عن هذه الشجرة) أحمد بسند صحيح(ص ج ص)، وقال - صلى الله عليه وسلم - (الصلاة خير موضوع فمن أراد أن يكثر فليكثر) الطبراني صحيح(ص ج ص)، وقال - صلى الله عليه وسلم - (من حافظ على الصلوات الخمس ركوعهن وسجودهن ومواقيتهن وعلم أنهن حق من عند الله دخل الجنة أوقال وجبت له الجنة أوقال حرّم على النار) أحمد بسند صحيح(ص ج ص) وقال - صلى الله عليه وسلم - (ما من عبد يسجد لله سجدة إلاّ كتب الله له بها حسنة ومحا عنه بها سيئة، ورفع له بها درجة فاستكثروا من السجود) ابن ماجة بسند صحيح(ص ج ص)، فإذا أردت ايها العبد الشروع في الصلاة فتطهر أولاً لأن المقام مقام تقديس، فليكن ثوبك طاهراً وبدنك طاهراً، فإذا تطهرت فارفع يديك وذلك الرفع إشارة إلى توديع عالم الدنيا وعالم الآخرة، فاقطع نظرك عنهما بالكلية ووجه قلبك وروحك وسرك وعقلك وفهمك إلى الله تعالى ثم قل (الله أكبر) فإنه سبحانه أكبر من كل الموجودات وأعلى وأعظم بل هو أكبر من أن يقاس إليه شيء، ثم قل (اللهم باعد بيني وبين خطاياي كما باعدت بين المشرق والمغرب، اللهم نقني من خطاياي كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس، اللهم اغسلني من خطاياي بالماء والثلج والبرد) متفق عليه، ثم قل (سبحانك اللهم وبحمدك) في هذا المقام تجلى لك نور سبحات الجلال، ثم ترقيت من التسبيح إلى التحميد، ثم قل (تبارك اسمك) و (تعالى جدك) إشارة إلى أنه أعلى وأعظم من أن تكون صفات جلاله ونعوت كماله، محصورة في هذا القدر المذكور، ثم قل (ولا إله غيرك) مسلم، إشارة إلى أن له صفات الجلال وسمات الكمال ولا معبود إلا ّهو وانتبه للفاتحة التي فرضت في كل ركعة من ركعات الصلاة لما تحمل من المعاني العظيمة والسمو الروحي، ولما لها من أثر فعال في إصلاح الفرد والجماعة، فهي روح الصلاة فنقف قليلاً لنفهم بعض(1/124)
معانيها السامية { الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ } جملة الحمد مفيدة لقصر الحمد عليه تعالى، لأن كل ما يستحق أن يقابل بالحمد إنما صادر عن الله مصدر كل نعمة في الكون. { الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ } من أخص صفاته تعالى فالعلاقة بينه وبين عباده علاقة رحمة ورعاية، { مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ } وعد ووعيد، فوعد المؤمنين بالفوز بالجنة والوعيد بالنار لمن عصى وتعدى، { إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } توحيد وعبادة: أي نعبدك وحدك دون سواك، ونطلب معونتك وحدك على عبادتك، وعلى جميع شئوننا بالعمل بما أعطيتنا من الأسباب ودعاؤك وحدك، { اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ } استقامة وثبات، أى دلنا وأوصلنا بتوفيقك ومعونتك إلى طريق الحق، في العلم والعمل الذي لا عوج فيه، فإن المسلم عندما يحدق به البلاء أو يصاب بأزمة نفسية حادة، ويسد باب الفرج في وجهه يهرع إلى الصلاة ويدعو فيها اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ فتطمئن نفسه وتقوىعلى مواجهة الأهوال، و { صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ } اقتداءً بالمُثل الصالحة، أي دلنا إلى الطريق الذي سلكه خيار عبادك المفلحين من النبيين فهي تضاعف همته وتوجهه إلى الخير، و { غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ } اجتناب سبل الضلال، لامن الذين خرجوا من الحق بعد علمهم به، ولامن الذين غلوا في معتقداتهم فضّلوا سواء السبيل(1/125)
هذه الفاتحة التي يرددها المسلمون في كل يوم وليلة، في كل ركعة من ركعات الصلاة، وهي النشيد الرباني الذي يتلوه المسلمون آناء الليل وأطراف النهار، ويناجون به ربهم، هذه هي الفاتحة وماتشتمل عليه من تهذيب الفرد وإصلاحه، وهى كما رأينا أفضل ما يمكن تخيله من نظام يدعو إلى إصلاح البشرعن طريق العبادة، وبعد أن يقرأ الفاتحة ويتدبر معانيها يقول آمين أى استجب لي يارب، وكما أن حالة المصلي مع ربه كحالة المريض مع طبيبه فيطلب الشفاء من الأعمال والاعتقادات الباطلة، فكأن الله يقول له (خذ دواءك من كلامي واتل ما تيسر، فهو الدواء الشافي من جميع الأمراض، لذا يقرأ بعض آيات القرآن بعد الفاتحة، ويركع مطمئناً ويقول (سبحان ربي العظيم) ثلاثاُ أو أكثر، وإذا أراد الدعاء يقول: (اللهم لك ركعت وبك آمنت ولك أسلمت وعليك توكلت أنت ربي خشع سمعي وبصري ودمي ولحمي وعظمي وعصبي لله رب العالمين) مسلم، وإذا رفع رأسه من الركوع يقول (سمع الله لمن حمده، ربنا ولك الحمد حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه ملء السموات وملء الأرض وملء ما بينهما وملء ما شئت من شيء بعد، أهل الثناء والمجد أحق ما قال العبد وكلنا لك عبد، اللهم لامانع لما أعطيت ولا معطي لما منعت ولا ينفع ذا الجد منك الجد) مسلم، ثم يرى أن نعم الله لا تحصى وهو عاجز عن أداء شكرها فيخر ساجداً معظماً لمولاه، قائلاً: الله أكبر ويضع جبهته على الأرض في ذلك السجود، فيرى نفسه وقد بلغ غاية الخضوع، وأنه ما فعل ذلك إلاّ لتعظيم ربه الأعلى فينطلق لسانه قائلاً(سبحان ربي الأعلى ثلاثاً أو أكثر) وإذا أراد زيادة الدعاء يقول:(اللهم اغفر لي إني ظلمت نفسي ظلماً كثيراً ولا يغفر الذنوب إلاّ أنت: فاغفر لي مغفرة من عندك وارحمني إنك أنت الغفور الرحيم، اللهم لك سجدت وبك آمنت ولك أسلمت، سجد وجهي للذي خلقه وصوّره وأحسن صوره وشق سمعه وبصره فتبارك الله أحسن الخالقين) مسلم، وأكثِر من الدعاء بما تشاء وأنت(1/126)
ساجد (فما من حالة يكون العبد عليها أحب إلى الله من أن يراه ساجداً يعفر وجهه في التراب) الطبراني بسند حسن. و(أقرب ما يكون العبد من ربه عز وجل وهو ساجد فأكثروا الدعاء) مسلم، وإذا جلس بين السجدتين يقول (رب اغفر لي، رب اغفر لي) النسائي و ابن ماجه، أو يزيد (ربي اغفر لي وارحمني واجبرني وارفعني واهدني وعافني وارزقني)أبو داود والترمذي بسند صحيح، وإذا ما انتهى من التحيات استعاذ من أربع (اللهم إني أعوذ بك من عذاب جهنم، ومن عذاب القبر ومن فتنة المحيا والممات ومن شر فتنة المسيح الدجال) البخاري، ويتخير من الأدعية الصالحة ما شاء ومنها (اللهم إني أسألك بأن لك الحمد لا إله إلاّ أنت وحدك لاشريك له، المنّان يابديع السموات والأرض، ياذا الجلال والإكرام، ياحي ياقيوم، إني أسألك الجنة وأعوذ بك من النار) أبو داود بسند صحيح، وليكن آخر مايدعو به يسأل الله المغفرة (اللهم اغفر لي ما قدمت وما أخرت وما أسررت وما أعلنت وماأسرفت، وماأنت أعلم به مني، أنت المقدم وأنت المؤخر لا إله إلاّ أنت) أبو داود بسند صحيح
إن الصلاة صلة ولقاء بين العبد والرب، صلة يستمد منها القلب قوة، وتجد فيها النفس زاداً، أنفس من كل أعراض الدنيا، وما يزال هذا الينبوع الدافق في متناول كل مؤمن يريد زاداً للطريق ورياً في الهجير، ومدداً حين ينقطع المدد، ورصيداً حين ينفذ الرصيد.
إن الصلاة هي المعين الذي لا ينضب، والزاد الذي لا ينفذ، والمعين الذي يجدد الطاقة، والزاد الذي يزود القلب فيمتد حبل الصبر ولا ينقطع، ثم يضيف إلى الصبر الرضا والبشاشة والطمانينة.(1/127)
وسئل حاتم الأصم عن صلاته فقال: إذا حانت الصلاة أسبغت الوضوء، وأتيت الموضع الذي أريد الصلاة فيه، فأقعد حتى تجتمع جوارحي، ثم أقوم إلى صلاتي وأجعل الكعبة بين حاجبي، والصراط تحت قدمي، والجنة من يميني، والنار عن شمالي، وملك الموت ورائي، وأظنها آخر صلاتي، ثم أقوم بين الخوف والرجاء، وأكبر تكبيراً بتحقيق، وأقرأ قراءة بترتيل، وأركع ركوعاً بتواضع، وأسجد سجوداً بتخشع، وأتبعها بالإخلاص لا أدري أقبلت مني أم لا؟.
ورأي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رجلاً غير خاشع في صلاته فقال له: يافلان ألا تحسن صلاتك؟ ألا ينظر المصلي إذا صلى كيف يصلي؟ فإنما يصلي لنفسه) مسلم
وإذا أخلّ المصلى بالخشوع والخضوع قل ثوابه فيها (فإن الرجل لينصرف وماكتب له إّلا عُشر صلاته، تسعها، ثمنها، سبعها، سدسها، خمسها، ربعها، ثلثها، نصفها) أبو داود بسند حسن (ص ج ص) (الصلاة ثلاثة أثلاث: الطهور ثلث، والركوع ثلث، والسجود ثلث، فمن أدّاها بحقها قبلت منه وقبل منه سائر عمله، ومن ردت عليه صلاته رد عليه سائر عمله) البزار بسند حسن.(1/128)
وإذا ما انتهى من صلاته جلس جلوس الخاشع الذليل بين يدى الله تبارك وتعالى ويقول (أستغفر الله) ثلاثاُ (اللهم أنت السلام ومنك السلام تباركت ياذا الجلال والإكرام) مسلم (اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك) أحمد بسند صحيح ويقرأ آية الكرسي { اللَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ } فمن حافظ عليها دبر كل صلاة لم يمنعه من دخول الجنة إلاّ الموت) الطبراني بسند جيد، ويسبح الله ثلاثاً وثلاثين، ويحمد الله ثلاثاً وثلاثين، ويكبر الله ثلاثاً وثلاثين وتمام المائة (لا إله إلاّ الله وحده لا شريك له،له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير) إلا غفر الله له ذنوبه ولو كانت مثل زبد البحر) مسلم، ثم يقول: سبحان الله عشراً، والحمد لله عشراً، والله أكبر عشراً) أبو داود بسند صحيح، ويقرأ (الإخلاص والفلق والناس) أبو داود بسند صحيح , ثم يسأل الله من خير الدنيا والآخرة، وبعد صلاة المغرب والصبح يقول قبل ختام الصلاة: (من قال قبل أن ينصرف ويثني رجليه من صلاة المغرب والصبح: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد يحيي ويميت بيده الخير وهو على كل شيء قدير عشر مرات، كتب الله له بكل واحدة عشر حسنات، ومحا عنه عشر سيئات، ورفع له عشر درجات، وكانت له حرزاً من كل مكروه، وحرزاً من كل شيطان رجيم، ولم يحل لذنب أن يدركه إلاّ الشرك وكان من أفضل الناس عملاً إلاّ رجلاً يفضله يقول أفضل ممّا قال ) أحمد بسند صحيح (ص ج ص)
ومن أراد أن ينال من الأجر ما هو أعظم، ومن الثواب ماهو أجزل فليدم على (من توضأ مثل هذا الوضوء (أي إسباغه) ثم أتى المسجد فركع ركعتين ثم جلس غفر له ما تقدم من ذنبه)البخاري، ومن أراد أن يستزيد (فمن صلى الصبح في جماعة ثم قعد يذكر الله حتى تطلع الشمس ثم يصلي ركعتين كانت له أجر حجة وعمرة تامة تامة تامة) الترمذي بسند صحيح (ص غ) يعني يصلي ركعتي الضحى بعد طلوع الشمس بنصف ساعة.(1/129)
ومن اراد الخير فليتم الصفوف بالصلاة (فمن سد فرجة رفعه الله بها درجة وبني له بيتاً في الجنة) الطبراني بسند جيد (ص غ). (ما من خطوة أحب إلى الله من خطوة يمشيها العبد يصل بها صفاً) أبو داود بسند صحيح (ص غ) ويحافظ على صلاة الضحى فقد قال أبو هريرة - رضي الله عنه - : أوصاني خليلي - صلى الله عليه وسلم - بثلاث لسيت بتاركهن: أن لا أنام إلاّ على وتر، وأن لاأدع ركعتي الضحى فإنها صلاة الأوابين، وصيام ثلاثة أيام من كل شهر) متفق عليه (إن الله عز وجل يقول: يابن آدم اكفني أول النهار بأربع ركعات أكفك بهن آخر يومك) أحمد بسند صحيح (ص غ) و (من خرج إلى تسبيح الضحى لا ينصبه إلاّ إياه فأجره كأجر المعتمر) أبو داود بسند حسن (ص ج ص) (من صلى الضحى ركعتين لم يكتب من الغافلين، ومن صلى أربعاً كتب من العابدين ومن صلى ستاً كفى ذلك اليوم، ومن صلى ثمانياً كتبه الله من القانتين، ومن صلى اثنتي عشرة ركعة بني الله له بيتاً في الجنة) الطبراني بسند حسن (لا يحافظ على صلاة الضحى إلاّ أوّاب وهي صلاة الأوابين) الطبراني بسند حسن (ص ج ص) (من صلى الضحى اثتتي عشرة ركعة بني الله له قصراً في الجنة من ذهب) الترمذي وابن ماجه، ومن حافظ على هذه الصلاة وهذا الذكر الطيب في صلاته ووافق القلب اللسان، في خشوعه وإنابته، كانت صلاته ناهية له عن الفحشاء المنكر، وأصبح طاهر القلب نقي اللسان ذكي الجوارح، لهذا فلا عجب أن يجعل الله تعالى من فعل ذلك في أعلى الجنة (صلاة في أثر صلاة لا لغو بينها كتاب في عليين) أبو داود حسن (ص ج ص).
[[(1/130)
إذا أراد الخروج من المسجد الذي هو بين الله والذكر والخشوع، سيخرج إلى الدنيا ومفاتنها، فيسأل الله العصمة من الداعي إلى ذلك وهو الشيطان، وأن يعطيه من فضله فيقول (اللهم اعصمني من الشيطان الرجيم اللهم صل على محمد وسلم، اللهم إني أسألك من فضلك) وفي خارج المسجد يكون على صلة دائمة بذكر الله، فإذا ما وسوس له الشيطان يقول (رب أعوذ بك من همزات الشياطين وأعوذ بك رب أن يحضرون) (أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم من همزه ونفحه ونفثه) ويتفل عن يساره ثلاثاً، وإذا حدث مالا يريد قال: (قدّر الله وما شاء فعل) فإذا جاء أمامه أمر صعب قال:(اللهم لاسهل إلاّ ماجعلته سهلاً وأنت تجعل الحزن إذا شئت سهلاً) وإذا أصابته مصيبة صغيرة أو كبيرة يقول (إنّا لله وانّا إليه راجعون، اللهم أجرني في مصيبتي واخلف لي خيراً منها) إلاّ أجاره الله في مصيبة واخلف له خيراً منها، وإذا كثرت عليه الديون يقول: (اللهم اكفني بحلالك عن حرامك واغنني بفضلك عمن سواك) وإذا تلاعب به الشيطان حتى وصل إلى أن الله خلق الجميع فمن خلق الله قال (آمنت بالله ورسله، هو الأول والآخر والظاهر والباطن وهو بكل شيء عليم، الله أحد، الله صمد، لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد) ويتعوذ بالله من الشيطان ويتفل عن يساره ثلاثاً، وإذا أصابه مرض قال (رب إني مسني الضر وأنت أرحم الراحمين) ويقرأ (الإخلاص، والفلق، والناس) ويمسح بهما ما استطاع من جسده ويقول (بسم الله) ثلاثاً على الموضع الذي يؤلمه، ويقول (أعوذ بعزة الله وقدرته من شر ماأجد وأحاذر) (لا إله إلاّ أنت سبحانك إني كنت من الظالمين) وإذا دخل على مريض يعوده يقول (لا بأس طهور ان شاء الله) (اللهم رب الناس اذهب البأس واشف أنت الشافي لا شفاء إلاّ شفاؤك، شفاء لايغادر سقماً) و (أسأل الله رب العرش العظيم أن يشفيك) سبع مرات، ويقرأ فاتحة الكتاب ويقول (بسم الله أرقيك من كل شيء، يؤذيك، من شر كل نفس أو عين(1/131)
أو حاسد الله يشفيك بسم الله أرقيك) وإذا أراد أن يسافر يقول لمن يودعه (أستودعكم الله الذي لاتضيع ودائعه) ويقول له من يودعه: أستودع الله دينك وامانتك وخواتيم عملك) و(اللهم طوله البعد وهوّن عليه السفر) وعند الركوب يقول (الحمد لله سبحان الذي سخر لنا هذا وما كنا له مقرنين وإنا إلى ربنا لمنقلبون، الحمد لله الحمد لله الحمد لله، الله أكبر، الله أكبر، الله اكبر، سبحانك إني ظلمت نفسي فاغفر لي إنه لا يغفر الذنوب إلاّ أنت) (اللهم إنا نسألك في سفرنا هذا البر والتقوى ومن العمل ما ترضى، اللهم هوّن علينا سفرنا هذا واطو عنا بعده، اللهم أنت الصاحب في السفر والخليفة في الأهل) ويقول الدعاء الأخير عند رجوعه من سفره وفي أول طعامه يقول (الحمد لله الذي أطعمني هذا الطعام ورزقنيه من غير حول مني ولا قوة) وإذا أكل عند قوم يقول: (اللهم بارك لهم فيما رزقتهم واغفر لهم وارحمهم) (أفطر عندكم الصائمون وأكل طعامكم الأبرار وصلت عليكم الملائكة) وإذا سقاه إنسان ماءً أو لبناً أو نحوهما يقول (اللهم أطعم من أطعمني واسق من سقاني). وإذا عطس يقول (الحمد لله) أو (الحمد لله على كل حال) أو (الحمد لله رب العالمين) وليقل له جليسه (يرحمك الله) فيرد عليه (يهديكم الله ويصلح بالكم) أو (يغفر الله لنا ولكم) ويقول لمن عقد قرانه (بارك الله لك وبارك عليك وجمع بينكما في خير) (اللهم بارك فيهما وبارك لهما في بنائهما) وإذا تزوج يضع يده على مقدمة رأس زوجته ويسمي الله ويقول: (اللهم إني أسألك من خيرها وخير ما جبلتها عليه، وأعوذ بك من شرها وشر ما جبلتها عليه) ويقول بعدما يصليان ركعتين سوياً (اللهم بارك لي في أهلي وبارك لهم فيً، اللهم اجمع بيننا ما جمعت بخير وفرق بيننا إذا فرقت إلى خير).(1/132)
وإذا هاجت الريح يقول: (اللهم اني أسألك خيرها وخير ما فيها وخير ما أرسلت به وأعوذ بك من شرها وشر ما فيها وشر ما أرسلت به) وإذا سمع الرعد يقول (سبحان من يسبح الرعد بحمده والملائكة من خيفته) وإذا رأى المطر يقول (اللهم صيباً نافعاً) وإذا غشيته ريح شديدة يقرأ سورتي (الفلق والناس). وإذا أخبره رجل أنه يحبه في الله يقول (أحبك الله الذي أحببتني له) وإذا رأى مال أهله أو أخيه يقول (بارك الله لك في أهلك ومالك) وإذا مدح احداً يقول (أحسبه كذا والله حسيبه) وإذا رأى قوم على عمل صالح يقول (اعملوا فإنكم على عمل صالح) وإذا سمع كلمة أعجبته يقول لقائلها (أخذنا فألك من فيك) وإذا بشر بما يسره قال (الله أكبر) وإذا تعجب يقول (سبحان الله) وإذا حلف يقول (لا ومقلب القلوب) أو (لا ومصرف القلوب) أو (والذي نفسي بيده) وإذا غضب قال (أعوذ بالله من الشيطان الرجيم) وإذا رأى ما يحب قال (الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات) وإذا رأى ما يكرهه قال (الحمد لله على كل حال) ويقول لمن صنع له معروفاً (جزاك الله خيراً) ويدعوله (اللهم فقهه في الدين) و (اللهم أكثر ماله وولده وبارك له فيما أعطيته)، وإذا رأى أحداً أبتلي بمرض أو غيره يقول سراً (الحمد لله الذي عافاني مما ابتلاك به وفضلني على كثير ممن خلق تفضيلاً) وإذا دخل السوق قال (لا إله إلاّ الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد يحي ويميت وهو حي لا يموت بيده الخير وهو على كل شيء قدير) بنى الله له بيتاً في الجنة، وإذا سمع صياح الديك يقول (اللهم إني أسألك من فضلك) وإذا سمع نهيق الحمار أو نباح الكلاب بالليل يقول (أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم) وإذا خاف الرياء يقول (اللهم إني أعوذ بك أن أشرك بك وأنا أعلم وأستغفرك لما لا أعلم) ثلاث مرات وفي نهاية المجلس يقول (سبحانك اللهم وبحمدك وأشهد أن لا إله إلاّ أنت أستغفرك وأتوب إليك) إلاّ غُفر له ما كان في مجلسه ذلك، وإذا(1/133)
لبس ثوباً جديداً يقول (الحمد لله الذي كساني هذا ورزقنيه من غير حول منى ولا قوة) غفر الله له ما تقدم من ذنبه، و (اللهم لك الحمد أنت كسوتنيه أسألك خيره، وخير ما صنع له، وأعوذ بك من شره وشر ما صنع له، وإذا خلع ثوبه يقول (بسم الله) ويقول لأخيه إذا رأى عليه ثوباً جديداً (البس جديداً عش حميداً ومت شهيداً ويرزقك الله قرة عين في الدنيا والآخرة) وإذا شعر بدنو أجله يكثر من ذكر الله (فخير العمل أن تفارق الدنيا ولسانك رطب من ذكر الله) وإذا وصل للنزع قال (لا إله إلاّ الله، إن للموت لسكرات) (اللهم اغفر لى وارحمنى وألحقني بالرفيق الأعلى) ويجعل آخر كلامه (لا إله إلاّ الله) فمن كان آخر كلامه لا إله إلاّ الله دخل الجنة، وإذا حضر ميتاً أو سمع عنه يقول (اللهم اغفر لفلان – ويسمي الميت وارفع درجته في المهديين واخلفه في عقبة الغابرين، واغفر لنا وله يارب العالمين، وافسح له في قبره ونوّر له فيه) وإذا مات له ميت يقول (الحمد لله ولا قوة الإ بالله، إنا لله وإنا إليه راجعون اللهم أجرني في مصيبتي واخلف لي خيراً منها) وإذا عزّى يقول (إن لله ما أخذ ولله ما أعطى وكل شيء عنده إلى أجل مسمى فلتصبر ولتحتسب) وإذا دعا للميت يقول (اللهم اغفر له وارحمه وعافه واعف عنه وأكرم نزله، ووسع مدخله، وأغسله بالماء والثلج والبرد ونقه من الخطايا كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس وأبدله داراً خيراً من داره وأهلاً خيراً من أهله، وزوجاً خيراً من زوجه، وأدخله الجنة وأعذه من عذاب القبر ومن عذاب النار) (اللهم لا تحرمنا أجره ولا تفتنا بعده) (مختصر النصيحة من الأحاديث والأذكار الصحيحة)(1/134)
وإذا اراد الإنسان غاية الثواب ومنتهى العطاء من الكريم الوهاب بعد أن يقضي يومه في طاعة الله ورضاه ورحابه، عليه أن يختم يوماً كذلك بطاعة الله وذكره يقول (أمسينا على فطرة الإسلام) (أمسينا وأمسى الملك لله) (اللهم إني أمسيت أشهدك..) 4مرات، (بسم الله الذي..) (اللهم إني أسألك العفو..) (اللهم أنت ربي..) كما بأذكار الصباح ويقرأ (قل هو الله أحد والفلق والناس) ثلاث مرات و (اللهم بك أمسينا وبك أصبحنا وبك نحيا وبك نموت وإليك المصير) ، (أعوذ بكلمات الله التمات من شر ما خلق) 3 مرات – مسلم.
فضل صلاة التسبيح(1/135)
إذا قال ذلك يأتي المؤمن في سكون من الليل، وهدوء من الكون، وفي راحة من النفس، وهدوء من البال، وقد لاذ كل خليل بخليله، وكل صاحب بصاحبه وكل ذي هوىً بهواه، وهو يعلم أن عينه لن تقر إلاّ بمناجاة معبوده الحق، وهنا يشمّر المحبون لنيل الرضا، ويقطع المؤمنون حيذاً من ليلهم في مناجاة الكريم، هنا تطمئن القلوب وتصفو النفوس، وتلين الجلود من الأنس بالعليّ المجيد، وقد علموا أن لكل حي بالوجود محبوب والله محبوبهم، وأن لكل إنسان مبتغى والله مقصودهم، فشربوا من معين المحبة كأساً أورثت في جوارحهم لذة الرضا، وسكنت في قلوبهم فرحة هزت في جوانحهم حنيناً واشتياقاً إلى يوم اللقا، فتهتز النفوس طرباً من محبة باريها، وتطير القلوب فرحة من سكينة الإيمان فيها، ويعلم المؤمن أن له في كل أسبوع ليلة يصلي فيها غفّارة الذنوب أو صلاة التسبيح بكل خشوع لله ليطهر ما مضى من ذنوب: - فعن العباس بن عبد المطلب - رضي الله عنه - : أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال له: يا عباس ياعماه ألا أعطيك ألا أمنحك ألا أحبوك ألا أفعل لك عشر خصال: إذا أنت فعلت ذلك غفر الله لك ذنبك، أوله وآخره وقديمه وحديثه وخطأه وعمده وصغيره وكبيره، وسره وعلانيته، عشر خصال: أن تصلي أربع ركعات تقرأ في كل ركعة: فاتحة الكتاب و سورة، فإذا فرغت من القراءة في أول ركعة فقل وأنت قائم: سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر خمس عشرة مرة، ثم تركع فتقول وأنت راكع عشراً، ثم ترفع رأسك من الركوع فتقولها عشراً ثم تهوى ساجداً فتقول وأنت ساجد عشراً، ثم ترفع رأسك من السجود فتقولها عشراً ثم تسجد فتقولها عشراً، ثم ترفع رأسك من السجود فتقولها عشراً، فذلك خمس وسبعون في كل ركعة.(1/136)
تفعل ذلك في أربع ركعات، إن استطعت أن تصليها في كل يوم مرة فافعل فإن لم تستطع ففي كل جمعة مرة، فإن لم تفعل ففي كل شهر مرة، فإن لم تفعل ففي كل سنة مرة، فإن لم تفعل ففي عمرك مرة) حديث صحيح أبو داود وابن ماجه وزاد الطبراني (فلو كانت ذنوبك مثل زبد البحر أو رمل عالج غفر الله لك) (ص ج ص) (ص غ) ويجوز صلاتها ركعتين ركعتين.
فضل صلاة الليل
ينبغي أن يكون لصلاة الليل في حياة المؤمن نصيب، فقد امتدح الله الذين يصلون بالليل فقال تعالى { إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ كَانُوا قَلِيلاً مِنْ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ وَبِالأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ } الذاريات: 18:16 (تتجافى جنوبهم عن المضاجع يدعون ربهم خوفاً وطمعاً وممّا رزقناهم ينفقون، فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين جزاء بما كانوا يعملون) السجدة: 17،16(1/137)
وهى من أبواب الخير – قال - صلى الله عليه وسلم - (ألا أدلك على أبواب الخير؟ الصوم جنة والصدقة تطفىء الخطيئة كما يطفىء الماء النار، وصلاة الرجل في جوف الليل) أحمد بسند صحيح (ص ج ص) وهي وصية رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (عليكم بقيام الليل فإنه دأب الصالحين قبلكم وقربة إلى الله تعالى، ومنهاة عن الإثم وتكفير للسيئات) الترمذي بسند حسن (ص غ) وفيها الثواب الجزيل (من قام بعشر آيات لم يكتب من الغافلين، ومن قام بمائة آية كتب من القانتين، ومن قام بألف آية كتب من المقنطرين) أبو داود بسند صحيح (ص ج ص) وفيها أعظم الخير (في الجنة غرفاً يرى ظاهرها من باطنها، وباطنها من ظاهرها) فقال أبو مالك الأشعرى: لمن هي يارسول الله؟ قال: لمن أطاب الكلام وأطعم الطعام وبات قائماً والناس نيام) الطبراني بسند صحيح (ص غ) وهي شرف المؤمن قال سهل بن سعد - رضي الله عنه - : جاء جبريل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا محمد عش ما شئت فإنك ميت، وأحبب من شئت فإنك مفارقه، واعلم أن شرف المؤمن قيامه الليل وعزه ستغناؤه عن الناس) الطبراني بسند حسن (ص غ).
تعود من قيام الليل إن النوم خسران ... ولاتركن إلى ذنب فعقبى الذنب نيران
وننظر إلى حال الصحابة - رضي الله عنهم - كما يصفهم الحسن البصرى: والله لقد أدركت منهم أقواماً وصحبت منهم طوائف ما كانوا يفرحون بشيء من الدنيا أقبل، ولا يتأسفون على شيء منها أدبر، ولهي كانت في أعينهم أهون من التراب، كان أحدهم يعيش خمسين سنة لم يطوله ثوب قط، ولا نصب له قدر قط، فإذا كان الليل فقيام على أطرافهم يفترشون وجوههم، تجري دموعهم على خدودهم، يناجون ربهم في فكاك رقابهم، كانوا إذا عملوا الحسنة دأبوا في شكرها وسألوا الله أن يقبلها، وإذا عملوا السيئة أحزنتهم وسألوا الله أن يغفرها، فما زالوا كذلك فوالله ما سلموا من الذنوب ولا نجوا إلاّ بالمغفرة).(1/138)
قم الليل يا هذا لعلك ترشد ... إلى كم تنام الليل والعمر ينفد
أراك بطول الليل ويحك نائماً وغيرك في محرابه يتهجد
ولو علم البطّال ما نال زاهد من الأجر والإحسان ما كان يرقد
فكم بين مشغول بطاعة ربه وآخر بالذنب الثقيل مقيد
فهذا سعيد في الجنان منعم وهذا شقي في الجحيم مخلد
قال الفضيل: إذا لم تقدر على قيام الليل وصيام النهار فاعلم أنك محروم قد كثرت خطإياك، لا تكثر النوم بالليل فإن كثرة النوم تترك الرجل فقيراً يوم القيامة.
قال شقيق البلخي: طلبنا خمساً فوجدناها في خمس: طلبنا النور في القبر فوجدناه في قيام الليل، وطلبنا جواب منكر ونكير فوجدناه في قراءة القرآن، وطلبنا الجواز على الصراط فوجدناه في الصدقة، وطلبنا الري يوم القيامة فوجدناه في صيام النهار، وطلبنا البركة في الرزق فوجدناه في صلاة الضحى.(1/139)
وإذا أراد الإنسان النوم يصلي الوتر (يا أهل القرآن أوتروا فإن الله وتر يحب الوتر) أبو داود بسند صحيح (ص غ) (الذي لا ينام حتى يوتر حازم) أحمد بسند صحيح (ص غ) ويتوضأ قبل نومه (فما من مسلم يبيت طاهراً فيتعار من الليل فيسأل خيراً من أمر الدنيا والآخرة إلاّ أعطاه إياه) أبو داود بسند صحيح (ص غ) (من بات طاهراً بات في شعاره ملك فلا يستيقظ إلاّ قال الملك: اللهم اغفر لعبدك فلان فإنه بات طاهراً)البخاري (ثم يسبح 33 ويحمد 33 ويكبر 34) وتقرأ آية الكرسي حتى يبقي عليك من الله حافظ حتى تصبح) متفق عليه، وتقول (اللهم قني عذابك يوم تبعث عبادك) ثلاثاً، واقرأ (قل يا أيها الكافرون ثم نم على خاتمتها فإنها براءة من الشرك) البخاري وقل (بسمك ربي وضعت جنبي وبك أرفعه، إن أمسكت نفسي فارحمها وإن أرسلتها فاحفظها بما تحفظ به عبادك الصالحين) متفق عليه، ثم نم على شقك الأيمن وليكن آخر ما تتكلم به (اللهم أسلمت نفسي إليك، ووجهت وجهي إليك، وفوضت أمري إليك، وألجأت ظهري إليك، رغبة ورهبة إليك لاملجأ ولامنجا منك إلاّ إليك) أمنت بكتابك الذي أنزلت، ونبيك الذي أرسلت) فإن مت من ليلتك مت على الفطرة واجعلهن آخر ما تتكلم به) البخاري
نام بعض المجتهدين بقيام الليل ذات ليلة عن ورده فرأى في منامه حوراء تنشد: -
أتخطب مثلي وعنى تنام ... ونوم المحبين عنّا حرام
لأنّا خلقنا لكل أمرىء ... كثير الصلاة كثير الصيام
قال سلمان الداراني: ذهب بي النوم ذات ليلة في صلاتي فإذا بحوراء تنبهني وتقول ياأبا سلمان: أترقد وأنا أربى لك في الخدر منذ خمسمائة عام.
قال يزيد الرقاش: ما أعلم شيئا أقر لعيون العابدين في الدنيا من التهجد في ظلمة الليل وما أعلم شيئاً من نعيم الجنان وسرورها ألذ عند العابدين ولا أقر لعيونهم من النظر إلى ذوي الكبرياء العظيم إذا رفعت تلك الحجب، وتجلى لهم الكريم.(1/140)
قيل لابن مسعود - رضي الله عنه - : ما نستطيع قيام الليل، قال: أبعدتكم ذنوبكم.
قيل للحسن البصري: ما بال المتهجدين بالليل أحسن الناس وجوهاً، فقال خلوا بالرحمن فألبسهم نوراً من نوره.
قال حكيم: طلبنا أربعة فوجدناها في أربعة: طلبنا رضا الله فوجدناه في طاعته وطلبنا سعة الرزق فوجدناه في صلاة الضحى، وطلبنا سلامة الدين فوجدناه في حفظ اللسان، وطلبنا نور القبور فوجدناه في صلاة الليل.
قال المغيرة بن حبيب: رمقت مالك بن دينار فتوضأ بعد العشاء، ثم قام إلى مصلاه فقبض على لحيته، فخنقته العبرة فجعل يقول: اللهم حرّم شيبة مالك على النار، إلهي قد علمت ساكن الجنة من ساكن النار، فأيّ الرجلين مالك؟ وأيّ الدارين دار مالك؟ فلم يزل ذلك قوله حتى طلع الفجر.
الصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم -
كيف لنا أن نقدّر قدر من زكاه ربه فوق سماواته فقال تعالى { وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ } القلم:4، تبرز من كونها كلمة من الكبير المتعال يسجلها ضمير الكون وتثبت في كيانه وتتردد في الملأ الأعلى إلى ما شاء الله. وزكى الله نطقه فقال { وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى } النجم: 3 ، وزكى فؤاده فقال { مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى } [سورة النجم 53/11] النجم 1، وزكى بصره فقال { مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى } النجم: 17 وزكى جليسه فقال { عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى } ]النجم: 5
قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (أنا أول الناس خروجاً إذا بعثوا، وأنا خطيبهم إذا أنصتوا، وقائدهم إذا وفدوا، وشافعهم إذا حبسوا، وأنا أكرم ولد آدم يومئذ على ربي ولا فخر، يطوف عليّ ألف خادم كأنهم اللؤلؤ المكنون) الترمذي.(1/141)
وانظر لفضل الصلاة عليه (ما صلى أحدعليّ صلاة واحدة صلى الله عليه عشر صلوات، وحط عنه بها عشر سيئات ورفعه بها عشر درجات) أحمد بسند صحيح (ص ج ص) (إن أولى الناس بي يوم القيامة أكثرهم عليّ صلاة) الترمذي بسند صحيح (من صلى علىّ حين يصبح عشراً وحين يمسي عشراً أدركته شفاعتي يوم القيامة) الطبراني بسند حسن(ص ج ص)(أتاني جبريل فقال يا محمد أما يرضيك أن ربك عز وجل يقول: إنه لا يصلي عليك أحد من أمتك صلاة إلاّ صليت عليه بها عشراً ولا يسلم
عليك أحد من أمتك تسليمة إلاّ سلمت عليه عشراً فقلت: بلى يارب) أحمد بسند صحيح.
وللصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - طرق كثيرة منها: (اللهم صلي على محمد وعلى آل محمد وبارك على محمد وعلى آل محمد، كما صليت وباركت على إبراهيم وآل إبراهيم إنك حميد مجيد) حديث صحيح.
القرآن الكريم
إن القرآن الكريم هو نور الله المبين، الذي أشرقت له الظلمات، ورحمته المهداه التي بها صلاح جميع الموجودات، والسبب الواصل بين لله وبين عباده إذا انقطعت الأسباب وباب الله الأعظم الذي منه الدخول فلا يغلق إذا أغلقت الأبواب، وهو الصراط المستقيم الذي لا تميل به الآراء، والذكر الحكيم الذي لا تزيغ به الأهواء، والنزل الكريم الذي لا يشبع منه العلماء، لا تفني عجائبه، ولا تختلف دلالاته، كلما ازدادت البصائر فيه تأملاً وتفكيراً، زادها الله هداية وتبصيراً، وحياة القلوب ولذة النفوس ورياض القلوب، وحادي الأرواح إلى بلاد الأفراح، والمنادي بالمساء والصباح: يا أهل الفلاح حى على الفلاح.
إن هذا القرآن هو مأدبة الله، وهو جبل الله المتين، والنور المبين، والشفاء النافع، عصمة لمن تمسك به، ونجاة لمن اتبعه، لا يزيغ فيستعتب، ولا يعوجّ فيقوم، ولا تنقضي عجائبه، ولا تَخّلق من كثرة الرد.(1/142)
قال تعالى: { إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يِهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً كَبِيراً } الإسراء: 9 وقال تعالى { وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاء وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ وَلاَ يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إَلاَّ خَسَاراً } الإسراء: 82 وقال تعالى { اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَاباً مُّتَشَابِهاً مَّثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاء وَمَن يُضْلِلْ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ } الزمر: 23.
وهذه بعض الفضائل لمن يقرأ القرآن ويحفظه ويعمل بما فيه: -
قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (القرآن شافع ومشفع، وماحل مصدق من جعله أمامه قاده إلى الجنة ومن جعله خلف ظهره ساقه إلى النار) الطبراني بسند صحيح (ص ج ص).
إن القرآن الهدى حقيقته، والهدى طبيعته، والهدى ما هيته، ولكن لمن؟ لمن يجيء إليه بقلب سليم، خالصاً ثم أن يجيء إليه بقلب يخشى ويتوقى ويحذر أن يكون على ضلاله أو أن تستهويه ضلاله، وعندئذ يتفتح القرآن عن أسراره وأنواره ويسكبه في هذا القلب الذي جاءه متقياً سليماً.
وفضائل القرآن كثيرة منها:
1 – شفاعة القرآن لصاحبه يوم القيامة: قال - صلى الله عليه وسلم - (الصيام والقرآن يشفعان للعبد يقول الصيام إني منعته الطعام والشراب بالنهار فشفعني فيه، ويقول القرآن إني منعته النوم بالليل فشفعني فيه فيشفعان) أحمد بسند صحيح (ص ج ص)
2 – خير أمة محمد: قال - صلى الله عليه وسلم - (خيركم من تعلم القرآن وعلمه) متفق عليه.(1/143)
3- منزلة المؤمن ترتفع في الجنة على قدر حفظه من القرآن: قال - صلى الله عليه وسلم - (يقال لصاحب القرآن إقرأ وأرق ورتل كما كنت ترتل في الدنيا فإن منزلك عند آخر آية تقرؤها) أبو داود والترمذي بسند صحيح (ص ج ص).
4- الرحمة والسكينة والمغفرة في قراءة القرآن ومدارسته: قال - صلى الله عليه وسلم - (ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله، يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلاّ نزلت عليهم السكينة وغشيتهم الرحمة وذكرهم الله فيمن عنده) مسلم. و قال (اقرؤوا القرآن فإنكم تؤجرون عليه، أما إني لا أقول (ألم) حرف ولكن ألف عشر ولام عشر وميم عشر فتلك ثلاثون) الخطيب البغدادي بسند صحيح (ص ج ص) و قال - صلى الله عليه وسلم - (من استمع إلى آية من كتاب الله، كتب له حسنة مضاعفة ومن تلاها كانت له نوراً يوم القيامة) أحمد، و قال - صلى الله عليه وسلم - (يقول الرب تبارك وتعالى: من شغله القرآن عن مسألتي أعطيته أفضل ما أعطي السائلين، فضل كلام الله على سائر الكلام لفضل الله على خلقه) حسن رواه الترمذي.
5- حفظة القرآن العاملين به هم أهل الله الذين يرعاهم ويحفظهم ويحبهم ويكرمهم و قال - صلى الله عليه وسلم - (إن لله أهلين من الناس) قيل: من هم يارسول الله؟ قال (أهل القرآن هم أهل الله وخاصته) النسائي بسند صحيح (ص غ).
6- الماهر في قرءة القرآن يكون مع الملائكة و قال - صلى الله عليه وسلم - (الماهر بالقرآن مع السفرة الكرام البررة والذي يقرأ القرآن ويتعتع فيه وهو عليه شاق له أجران) متفق عليه.
7- من حفظ القرآن وعمل به حرم الله عليه النار و قال (لو كان القرآن في أهاب ما أكلته النار) الطبراني بسند حسن (ص ج ص) – اهاب أي جلد والمراد الحافظ له
8- قراءة ولو آية واحدة خير من أفضل مال للعرب وهى الناقة الحامل: قال - صلى الله عليه وسلم - (ثلاث آيات يقرأ بهن أحدكم في صلاته خير له من ثلاث خلفات عظام سمان) مسلم(1/144)
9- تزيد العبد حبا لله: قال - صلى الله عليه وسلم - (من سره أن يحب الله ورسوله فليقرأ القرآن في المصحف) البيهقي بسند حسن (ص ج ص)
10- يرفع منزلة العبد يوم القيامة: قال - صلى الله عليه وسلم - (يقال لصاحب القرآن إذا دخل الجنة اقرأ واصعد فيقرأ ويصعد لكل آية درجة حتى يقرأ آخر شئ معه)أحمد بسند صحيح (ص ج ص)
و قال - صلى الله عليه وسلم - (يجيء صاحب القرآن يوم القيامة فيقول القرآن: يارب حلّه فيلبس تاج الكرامة، ثم يقول يارب زده، فيلبس حلة الكرامة، ثم يقول يارب ارض عنه، فيرضى عنه فيقول: اقرأ وارق ويزداد بكل آية حسنة) الترمذي بسند حسن (ص ج ص)
وانظر أخيراً إلى عظمة قراءة القرآن بالليل وحفظه، قال - صلى الله عليه وسلم - (من قرأ عشر آيات في ليلة كتب له قنطار من الأجر والقنطار خير من الدنيا وما عليها، فإذا كان يوم القيامة يقول ربك عز وجل له: اقرأ وارق لكل آية درجة حتى ينتهي إلى آخرآية معه يقول الله عز وجل للعبد اقبض فيقول العبد بيده: يارب أنت أعلم فيقول: بهذه الخلد وبهذه النعيم) الطبراني بسند حسن (ص غ)
أجر لا منتهى لوصفه، وعطاء لا تبلغ الألفاظ لإبانته، ولا يسمع هذا عاقل إلاّ وطارت نفسه شوقاً لنيل هذا الأجر والثواب العظيم، ولكن: هل تصفو النفوس، وتطهر القلوب، لترتوي من معين كتاب الله الذي لا ينضب؟
يقول عثمان بن عفان - رضي الله عنه - : لو طهرت قلوبكم ما شبعتم من كلام الله عز وجل
قال الحسن: أن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - كان يمر بالآية في ورده فتخنقه فيبقى في البيت أياماً يعوده الناس يحسبونه مريضاً.(1/145)
... حقاً: إن الحياة في ظلال القرآن نعمة لا يعرفها إلاّ من ذاقها، نعمة ترفع العمر وتباركه وتزكيه، والحمد لله لقد منّ الله عليّ بالحياة في ظلال القرآن فترة من الزمان، ذقت فيها نعمته، مالم أذق قط في حياتي، ذقت فيها هذه النعمة التي ترفع العمر وتباركه وتزكيه، لقد عشت أسمع الله سبحانه يتحدث إلىّ بهذا القرآن، أنا العبد القليل الصغير، أيّ تكريم للإنسان، هذا التكريم العلوي الجليل، أي رفعة للعمر يرفعها هذا التنزيل، أي مقام كريم يتفضل به على الإنسان خالقه الكريم، عشت في ظلال القرآن، هاديء النفس مطمئن السريرة، قرير الضمير، أرى يد الله في كل حادثة وكل أمر.
فيه شفاء نفوس من غوايتها ... أعمى بصيرتها زيغ وتضليل
آياته بينات كلها عبر ... يروق سامعها في النفس ترتيل
ويستزيد هدى منها وموعظة ... من قلبه بالتقى والدين مشغول
منتهى الخير أمران: أن تنقل قلبك من وطن الدنيا فتنقله في وطن الآخرة، ثم تقبل به كله على معاني القرآن وتدبرها، وتنزله على داء قلبك، فهذه طريق سهلة متصلة بالرفيق الأعلى، آمنه لا يلحق سالكها خوف ولا آفة وعليها من الله حارس يحفظ السالكين ويحميهم، وأحياناً كنت أحيا في رحاب القرآن فأجد له أثناء قراءته لذة وفرحة وراحة وسعادة، تفوق كل ما تصوره الكلمات، كنت أشعر بفيض رباني يصل إلى قلبي، فأجد القلب يصفو ويشف ويرف يكاد يطير فرحاً، أحب مخلوق على الأرض يسوؤني رؤياه حينها وأعز مرغوب يكون مرفوض وقتها، وهي من أنعم اللحظات التي أحياها وأسعد بها.
فضائل بعض سور القرآن وآيات منه
آية الكرسي: عن أبي بن كعب - صلى الله عليه وسلم - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : يا أبا المنذر أتدري أيّ آية من كتاب الله معك أعظم؟ قلت: (الله لا إله إلاّ هو الحي القيوم) قال: فضرب في صدري ثم قال: (ليهنك العلم أبا المنذر، والذي نفسي بيده إن لها لساناً وشفتين تسبح الملك عند ساق العرش) أحمد بسند صحيح.(1/146)
قال أبي بن كعب - رضي الله عنه - لأحد الجن: ما ينجينا منكم؟ قال هذه الآية التي في سورة البقرة (الله لا إله إلاّ هو الحي القيوم) من قالها حين يمسي أجير منا حتى يصبح، ومن قال ها حين يصبح أجير منا حتى يمسي، فلما أصبح أتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فذكر له ذلك قال (صدق الخبيث) النسائي بسند صحيح.
سورة البقرة وآل عمران: - قال - صلى الله عليه وسلم - (اقرؤوا الزهراوين البقرة وآل عمران، فإنهما يأتيان يوم القيامة كأنهما غيامتان أو غيايتان أو كأنهما فرقان من طير صواف تحاجان عن أصحابهما، اقرؤوا سورة البقرة فإن أخذها بركة وتركها حسرة) مسلم.
الآيتان من آخر سورة البقرة: قال - صلى الله عليه وسلم - (إن الله كتب كتاباً قبل أن يخلق السموات والأرض بألفي عام وأنزل منه آيتين ختم بهما سورة البقرة لا تقرآن في دارثلاث ليال فيقربها شيطان) (من قرأ بالآيتين من آخر سورة البقرة في ليلة كفتاه) متفق عليه، يعني أجزأتاه من قيام تلك الليلة، أو كفتاه من كل شيطان تلك الليلة، أو كفتاه من الآفات تلك الليلة أو كفاه بهما فضلاً وكفاه أجراً وثواباً.
سورة الكهف : قال - صلى الله عليه وسلم - (من قرأ سورة الكهف في يوم الجمعة أضاء له من النور ما بين الجمعتين) الحاكم بسند صحيح (ص ج ص) و قال - صلى الله عليه وسلم - (من قرأ سورة الكهف ليلة الجمعة أضاء له من النور ما بينه وبين البيت العتيق)البيهقي بسند صحيح (ص ج ص) و قال - صلى الله عليه وسلم - (من حفظ عشر آيات من أول سورة الكهف عصم من الدجال) مسلم.
و قال - صلى الله عليه وسلم - (من حفظ عشر آيات من آخر سورة الكهف عصم من الدجال) مسلم.
سورة تبارك: قال - صلى الله عليه وسلم - (إن سورة في القرآن ثلاثون آية شفعت لرجل حتى غفرانه، وهي تبارك الذي بيده الملك) أبو داود بسند حسن (ص غ).(1/147)
قال عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - : من قرأ (تبارك الذي بيده الملك) كل ليلة منعه الله بها من عذاب القبر، وكنّا في عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نسميها المانعة، وإنها في كتاب الله عز وجل سورة من قرأ بها في ليلة فقد أكثر وأطاب) النسائي.
عن ابن عباس - رضي الله عنهم - قال: ضرب بعض أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خباءة على قبر وهو لا يحسب أنه قبر، فإذا قبر إنسان يقرأ سورة الملك حتى ختمها، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - (هى المانعة هي المنجية تنجيه من عذاب القبر) أحمد بسند صحيح (ص غ)
سورة الإخلاص والكافرون والنصر والزلزلة: - عن أنس - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال لرجل من أصحابه: هل تزوجت يافلان؟ قال: لا والله يارسول الله ولا عندى ما أتزوج به، قال: أليس معك (قل هو الله أحد) قال: بلى قال:(ثلث القرآن)، أليس معك (إذا جاء نصر الله والفتح) قال: بلى قال: (ربع القرآن) أليس معك (قل ياأيها الكافرون) قال بلى قال:(ربع القرآن) أليس معك (إذا زلزلت الأرض) قال:بلى قال: نصف القرآن تزوّج تزوّج) حسن رواه الترمذي.وقال النبي - صلى الله عليه وسلم - (أيعجز أحدكم أن يقرأ في ليلة ثلث القرآن) قالوا: وكيف يقرأ ثلث القرآن؟ قال: (قل هو الله أحد تعدل ثلث القرآن) مسلم. وقال - صلى الله عليه وسلم - (من قرأ " قل هو الله أحد " حتى يختمها عشر مرات بني الله له قصراً في الجنة) قال عمر: إذاً نستكثر يا رسول الله فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (الله أكثر وأطيب) أحمد بسند صحيح (ص ج ص).(1/148)
عن عائشة رضي الله عنها قالت: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - بعث رجلاًعلى سرية فكان يقرأ لأصحابه في صلاتهم بـ (قل هو الله أحد) فلمّا رجعوا ذكروا ذلك للنبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (سلوه لأي شيء يصنع هذا) فسألوه فقال: لأنها صفة الرحمن وأنا أحب أن أقرأ بها، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - (أخبروه أن الله يحبه) متفق عليه. وبرواية للبخاري فقال - صلى الله عليه وسلم - (مايحملك على لزوم هذه السورة في كل ركعة) فقال: إني أحبها فقال: (حبك إياها أدخلك الجنة) وقال - صلى الله عليه وسلم - (إن الله عز وجل جزّأ القرآن بثلاثة أجزاء فجعل قل هو الله احد جزء من أجزاء القرآن) مسلم.
سورة الفلق والناس: - قال - صلى الله عليه وسلم - لعقبة بن عامر (ألم تر آيات أنزلت الليلة لم ير مثلهن (قل أعوذ برب الفلق، وقل أعوذ برب الناس) مسلم.
قال عقبة بن عامر - رضي الله عنه - : بينما أنا أسير مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذ غشيتنا ريح وظلمة شديدة فجعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يتعوذ بـ (أعوذ برب الفلق وأعوذ برب الناس) ويقول: (ياعقبة تعوّذ بهما فما تعوذ معوذ بمثلهما)أبو داود بسند صحيح (ص ج ص)
قال عبدالله بن خبيب - رضي الله عنه - : خرجنا في ليلة مطيرة شديدة نطلب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليصلي بنا فأدركناه فقال: قل، فلم أقل شيئاً) ثم قال: قل، قلت يارسول الله ماأقول؟ قال (قل هو الله أحد والمعوذتين) حين تمسي وحين تصبح ثلاث مرات تكفيك من كل شيء) النسائي بسند صحيح (ص ج ص)
الفصل الثامن: الدنيا
قال تعالى { وَما الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ مَتَاعُ الْغُرُورِ } الحديد 20
الدنيا دار من لا دار له، ومال من لا مال له، ولها يجمع من لا عقل له، وعليها يعادي من لا علم له، وعليها يحسد من لا فقه له، ولها يسعى من لا يقين له(1/149)
قال تعالى { اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الأَمْوَالِ وَالأَوْلادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرّاً ثُمَّ يَكُونُ حُطَاماً وَفِي الآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ مَتَاعُ الْغُرُورِ } ]الحديد: 20
... إن الحياة عندما ننظر إليها تظهر أمام العين أمراً عظيماً هائلاً ولكن عندما نزنها بجانب الآخرة تبدو شيئاً زهيداً قليلاً تافهاً، وتظهر وكأنها لعبة أطفال، بالقياس لما في الآخرة من أمور، لعب.. ولهو.. وزينة.. وتفاخر.. وتكاثر، هذه هي الحقيقة وراء كل ما يبدو ومن زخرف الدنيا وبهجتها وشغلها الشاغل، ويصورها القرآن بالزرع الذي أينع ثم يصفر حين الحصاد بعد ذلك يكون حطاماً وهكذا ينتهي شريط الحياة السريع كما انتهى الزرع سريعاً، فأمّا الآخرة فلها شأن غير هذا الشأن، شأن يستحق أن يحسب حسابه، ويستعد له، أما الآخرة ليست لمحة كما تنتهي الحياة، وهى لا تنتهي إلى حطام كالحياة، إنها حساب وجزاء ودوام يستحق الاهتمام، أمّا متاع الحياة فما له حقيقة إنما يستمد وجوده من الغرور الخادع، كما يلهي وينسى وينتهي إلى حسرة وندم.
قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : (مالي وللدنيا ما مثلى ومثل الدنيا إلاّ كراكب في يوم صائف استظل تحت شجرة ثم راح وتركها) أحمد.
قال ابن عمر - رضي الله عنه - :أخذ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بثوبي أو ببعض جسدي فقال: ياعبد الله كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل وعد نفسك من أهل القبور)صحيح رواه أحمد في الزهد
وقال - صلى الله عليه وسلم - (والله ما الدنيا في الآخرة إلاّ مثل ما يجعل أحدكم إصبعه هذه ـ وأشار يعنى بالسبابة ـ في اليم فلينظر بم يرجع) مسلم.(1/150)
عن جابر بن عبد الله - رضي الله عنه - : أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مَرّ بالسوق داخلاً من بعض العالية والناس كنفيه، فمرّ بجدي أسك ميت فتناوله فأخذ به ثم قال: أيكم يحب أن يكون هذا له بدرهم، فقالوا: ما نحب أنه لنا بشيء وما نصنع به، قال: أتحبون أنه لكم؟ قالوا: والله لو كان حياً لكان عيباً فيه أنه أسك فكيف وهو ميت فقال: والله للدنيا أهون على الله من هذا عليكم) مسلم.
قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (من أشرب حب الدنيا إلتاط منها بثلاث شقاء لاينفد عناه، وحرص لا يبلغ غناه، وأمل لايبلغ منتهاه، فالدنيا طالبة ومطلوبة فمن طلب الدنيا طلبته الآخرة حتى يدركه الموت فيأخذه، ومن طلب الآخرة طلبته الدنيا يستوفي رزقه منها) الطبراني بسند صحيح.
قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (من كانت الدنيا همّه فرق الله عليه أمره فجعل فقره بين عينيه ولم يأته من الدنيا إلاّ ما كُتب له، ومن كانت الآخرة نيته جمع الله له أمره، وجعل غناه في قلبه وآتته الدنيا وهى راغبة) الترمذي وابن ماجه بسند صحيح (ص ج ص).
قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (ماطلعت الشمس قط إلاّ بعث بجنبتيها ملكان إنهما يسمعان أهل الأرض إلاّ الثقلين ياأيها الناس هلمّوا إلى ربكم فإن ما قل وكفى خير ممّا أكثر وألهى، ولاغربت شمس قط إلاّ وبعث بجنبتيها ملكان يناديان اللهم عجل لمنفق خلفاً وعجل لممسك تلفاً) أحمد بسند صحيح
قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (أيها الناس اتقوا الله وأجملوا في الطلب، فإن نفساً لن تموت حتى تستوفى رزقها وإن أبطأ عنها فاتقوا الله وأجملوا في الطلب خذوا ماحل ودعوا ماحرم) ابن ماجة بسند صحيح (ص ج ص)
إن الدنيا تقبل إقبال الطالب وتدبر أدبار الهارب، وتصل وصال الملول، وتفارق فراق العجول، فخيرها يسير وعيشها قصير، وإقبالها خديعة وإدبارها فجيعة ولذاتها فانية، وتبعاتها باقية، فاغتنم غفوة الزمان، وانتهز فرصة الإمكان.(1/151)
كتب الحسن البصري إلى عمر بن عبدالعزيز: الدنيا دار ظعن ليست بدار إقامة وإنما نزل آدم من الجنة إليها عقوبة، فاحذرها يا أمير المؤمنين، فإن الزاد منها تركها، والغني منها فقرها، لها في كل حين قتيل، تذل من أعزها، وتفقر من جمعها، فهي كالسُم يأكله من لا يعرفه وفيه حتفه، فكن كالمداوي جراحه يحتمى قليلاً من مخافة مايكره طويلاً، فاحذر هذه الدار الغدارة الخداعة، التي تزينت بخداعها، وفتنت بغرورها، وأوحلت بآمالها، فأصبحت كالعروس المجلية العيون إليها ناظرة، والقلوب عليها والهة، والنفوس لها عاشقة، وهى لأزواجها قالية، فلا الباقي بالماضي معتبر، ولا الأول بإلآخر مزدجر، ولا يرجع منها ماولىً وأدبر، ولا يدري ما هو آت فينتظر، أمانيها كاذبة، وآمالها باطلة، وصفوها كدر، وعيشها نكد، وابن آدم منها على خطر.
ألا أيها الفاني وقد حان حينه ... أتطمع أن تبقى فلست هناكا
قال لقمان الحكيم لابنه: (يابني الدنيا بحر عميق وقد غرق فيه ناس كثيرون فلتكن سفينتك فيها تقوى الله عز وجل، وحشوها الإيمان بالله تعالى، وشراعها التوكل على الله عز وجل لعلك تنجو وماأراك ناجياً).
فيا أخي المسلم: إنك لن تصبح في شيء من الدنيا إلاّ وقد كان له أهل قبلك، وسيكون له أهل بعدك، وليس لك من الدنيا إلاّ عشاء ليلة، وغذاء يوم، فلا تهلك في أكله وصم عن الدنيا وافطر على الآخرة، فإن رأس مال الدنيا الهوى، وربحها النار.
نرقع دنيانا بتمزيق ديننا ... فلا ديننا يبقى ولا ما نرقّع
فطوبى لعبد آثر الله ربه ... وجاد بدنياه لِمَا يتوقع(1/152)
واعلم أن ملذات الدنيا وبلاياها ستكون يوم القيامة لا شيء، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (يؤتى بأشد الناس كان بلاءً في الدنيا من أهل الجنة فيقول: أصبغوه صبغة في الجنة فيصبغوه فيها صبغة، فيقول الله عز وجل: يابن آدم هل رأيت بؤساً قط أو شيئاً تكرهه فيقول: لا وعزتك ما رأيت شيئاً أكرهه قط، ثم يؤتى بأنعم الناس كان في الدنيا من أهل النار، فيقول: أصبغوه فيها صبغة، فيقال: يابن آدم هل رأيت خيراً قط وقرة عين قط، فيقول:لا وعزتك ما رأيت خيراً قط ولاقرة عين قط) مسلم
قال رجل لعلى بن أبى طالب كرم الله وجهه: صف لي الدنيا قال: وكيف أصف لك من دار من صح فيها سقم، ومن أمن فيها ندم، ومن افتقر فيها حزن، ومن استغنى بها افتتن، في حلالها الحساب، وفي حرامها العقاب، وفي متشابهها العتاب.
يا من تمتع بالدنيا وزينتها ... ولا تنام عن اللذات عيناه
شغلت نفسك فيما لست تدركه ... تقول لله ماذا حين تلقاه
قال الإمام الشافعي: الدنيا دار مذلة، عمرانها إلى الخراب صائر، وساكنها إلى القبور زائر، شملها إلى الفرقة موقوف، وغناها إلى الفقر مصروف، فافزع إلى الله وارض برزق الله، فعيشك زائل، وجدارك مائل، أكثر من عملك، واقصر في أملك
... قال رجل لراهب أوصني قال: أوصيك بالزهد في الدنيا، وأن لا تنازعها أهلها، وتكون كالنحلة إن أكلت أكلت طيباً وإن وضعت وضعت طيباً، وإن وقعت وقعت على عود لم تكسره، وأوصيك بالنصح في الله نصح الكلب لأهله، يجيعونه ويطردونه ويأبى إلاّ أن يحفظهم.
... يابن آدم: لو رأيت مابقى من أجلك لزهدت في طول ما ترجو من أملك وإنما تلقى بذمك وقد زلت قدمك وأسلمك الحبيب وودعك القريب، فلا أنت إلى أهلك عائد ولافي عملك زائد فأعمل ليوم القيامة قبل الحسرة والندامة.(1/153)
خطب على بن أبي طالب: فقال: اعلموا إنكم ميتون فمبعوثون من بعد الموت وموقوفون على أعمالكم ومجزيون بها، فلا تغرنكم الحياة الدنيا، فإنها بالبلاء معروفة، وبالفناء مهفوفة، وبالغدر موصوفة، وكل ما فيها إلى زوال، وهي بين أهلها دول وسجال، لاتدوم أحوالها، ولايسلم من شرها نازلها، بينما أهلها في رخاء وسرور، إذا هم منها في بلاء وغرور، العيش فيها مذموم، والرخاء فيها لا يدوم، وإنما أهلها أغراض مستهدفة، ترميهم بسهامها، وتقصيهم بحمامها، واعلموا أنكم في هذه الدنيا أمضى سبيل من مضى من قبلكم، كانوا أطول أعماراً، وأشد منهم بطشاً وأعمر دياراً فأصبحت أصواتهم هامدة، وأجسادهم بالية، وديارهم خاوية، واستبدلوا بالقصور المشيدة الأحجار المسندة في القبور الملحدة، فمحلها مقترب، وساكنها مغترب، قد أصبحوا بعد الحياة أمواتا، وبعد نضارة العيش رفاتا، فجع بهم الأحباب، وسكنوا تحت التراب، وظعنوا فليس لهم مآب، فكأنكم صرتم إلى ماصاروا إليه من البلاء والوحدة في دار المثوى، فكيف بكم لو عاينتم الأمور، وبعثرت القبور، وحُصِلَ مافي الصدور، وأوقفتم للتحصيل بين يدى الملك الجليل فطارت القلوب لإشفاقها من سالف الذنوب، وهتكت عنكم الأستار، وظهرت العيوب، هنالك تجزي كل نفس ما كسبت والله يقول { لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاؤُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى } النجم: 31
ألا إن الدنيا قد ولّت مدبرة والآخرة مقبلة ولكل منهما بنون، فكونوا من أبناء الآخرة ولا تكونوا من أبناء الدنيا، فاليوم عمل ولاحساب، وغداً حساب ولاعمل
تفكّر في مشيبك والمآب ... ... ودفنك بعد عزك في التراب
... قال أبوالدرداء - رضي الله عنه - :لوتعلمون ماراءون بعد الموت ماأكلتم طعاماً بشهوة، ولاشربتم شراباً على شهوة، ولادخلتم بيتاً تستظلون فيه، ولخرجتم إلى الصعدات تضربون صدوركم وتبكون على أنفسكم.(1/154)
... قال أبوذر - رضي الله عنه - : يا أيها الناس صلوا في ظلمة الليل لوحشة القبور، وصوموا الدنيا لحر يوم النشور، وتصدقوا مخافة يوم عسير، ياأيها الناس إني لكم ناصح، إني عليكم شفيق.
... وقال عبدالله بن مسعود - رضي الله عنه - : إنكم في ممر الليل والنهار وآجال منتقصة وأعمال محفوظة، والموت يأتي بغتة، ولكل زارع مثل الذي زرع، فمن يزرع خيراً يوشك أن يحصد رغبة، ومن زرع شرا فيوشك أن يحصد ندامة.
إنما الدنيا إلى الجنة والنار طريق ... والليالي متجر الإنسان والأيام سوق
قال يحيى بن معاذ: لو يسمع الخلائق صوت النياحة على الدنيا من المغيب من ألسنة الفناء، لتساقطت القلوب منهم حزناً.
وقال حكيم: الدنيا أمثال تضربها الأيام للأنام، وعلم الزمان لايحتاج إلى ترجمان، وبحب الدنيا صُمّت أسماع القلوب عن المواعظ، وماأحث السائق لو شعر الخلائق، ومثل طالب الدنيا مثل شارب ماء البحر، كلما ازداد شرباً ازداد عطشاً حتى يقتله.
قال بعض السلف لأصحابه: انطلقوا حتى أُريكم الدنيا، فيذهب بهم إلى مذبلة فيقول: انظروا إلى ثمارهم ودجاجهم وعسلهم وسمنهم.
مالوا يميناً عن الدنيا وزهرتها ... لأنها في عيون القوم أقذار
وصاحبوها بأجساد قلوبهم ... طير لها في ظلال العيش أوكار
قال ضرار بن حمزة: رأيت علياً - رضي الله عنه - وقد أرخى الليل سدوله وغارت نجومه، وقد تمثل في محرابه، قابضاً على لحيته، يتململ تململ اللديغ، ويبكي بكاء الحزين يقول: ياربنا يضرع إليه، ثم يقول: يادنيا يادنيا أبي تعرضت، أم تشوقت هيهات: غري غيرى، قد بتتّك ثلاثاً لا رجعة لي فيك، فعمرك قصير، وعيشك حقير، وخطرك كبير، آه من قلة الزاد، وبعد السفر ووحشة الطريق.(1/155)
انظروا رحمكم الله إلى الدنيا بعين الحقيقة: فإنها دار كثير بوائقها وذمها خالقها جديدها يبلى، وملكها يفنى، وعزيزها يذل، وكثيرها يقل، ودّها يموت، وخيرها يفوت، فاستيقظوا رحمكم الله من غفلتكم، وانتبهوا من رقدتكم، قبل أن يقال: فلان عليل فهل إلى الدواء من سبيل؟ فيدعي لك الاطباء ولا يرجى لك الشفاء ثم يقال: فلان قد أوصى وماله أحصى، ثم يقال : فلان ثقُل لسانه فلا يكلم إخوانه ولا يعرف جيرانه، وعرق عند ذلك جبينك، وتتابع أنينك، وثبت يقينك، وطمحت جفونك، وصدقت ظنونك، وتلجلج لسانك، فبكى إخوانك، وقيل: هذا أبيك فلان، وهذا أخوك فلان، ومنعت من الكلام، فلا تنطق، وختم على لسانك، فلا ينطلق، ثم حلّ بك القضاء، وانتزعت النفس من الأعضاء، ثم عرج بها إلى السماء، واجتمع عند ذلك إخوانك، وأحضرت أكفانك، فغسلوك وكفنوك، فانقطع عوادك، واستراح حُسّادك، وانصرف أهلك إلى مالك، وبقيت مرتهناً بأعمالك. فعلينا أن لانأمن الدنيا ونتخذ من وصية رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأبي ذر - رضي الله عنه - مرشداً إلى الطريق القويم قال: (يا أبا ذر: أحكم السفينة فإن البحر عميق، واستكثر الزاد فإن السفر طويل، وخفّف ظهرك فإن العقبة كؤود، وأخلص العمل فإن الناقد بصير).
قال علىّ - رضي الله عنه - : من جمع فيه ست خصال لم يدع للجنة مطلباً ولاعن النار مهرباً: من عرف الله فأطاعه، وعرف الشيطان فعصاه، وعرف الحق فاتبعه، وعرف الباطل فاتقاه، وعرف الدنيا فرفضها، وعرف الآخرة فطلبها.
يا أخي المؤمن: عجبت لمن يعرف الموت كيف يلهو، وعجباً لمن يعرف النار حق كيف يلعب، وعجباً لمن رأى الدنيا وتقبلها بأهلها كيف يطمئن إليها، وعجباً لمن يعرف القدر حق كيف ينصب؟.
لو تطالعت قلوب المتقين بفكرها إلى ما ادخر لها في حجب الغيب من نعيم الآخرة، لم يصف لها في الدنيا عيش، ولم تقر لهم في الدنيا عين.(1/156)
... ياعبد الله: اعمل للدنيا بقدر مقامك فيها، واعمل للآخرة بقدر بقائك فيها واعمل للنار بقدر صبرك عليها، واعمل لله بقدر حاجتك إليه.
قال معاذ بن جبل - رضي الله عنه - عندما نصح أبا النعمان: إنه لاغنى لأحد عن نصيبه من الدنيا وهو إلى نصيبه من الآخرة أحوج، فإذا تنازعك أمران، أمر للآخرة وأمر للدنيا، فابدأ بأمر الآخرة فآثره، فإنك ستأتي عليه فتفطمه افتطاماً، ثم تخترمه اختراماً، ثم تزول معه حيث زال.
كتب محمد بن يوسف لأخيه: إني أحذرك متحولك من دار مهلتك إلى دار إقامتك وجزاء أعمالك، فتصير إلى قرار باطن الأرض بعد ظاهرها، فيأتيك منكر ونكير فيقعدانك وينتهرانك، فإن يكن الله معك فلا بأس ولا وحشة ولا فاقة، وإن يكن غير ذلك فأعازني الله وإياك من سوء مصرع، وضيق مضجع، ثم تبليغك صيحة الحشر ونفخة الصور وقيام الجبار لفصل قضاء الخلائق وخلاء الأرض من أهلها، والسموات من سكانها، فباحت الأسرار وأُسعرت النار، ووضعت الموازين، فكم من مفتضح ومستور، وكم من هالك وناج، وكم من مُعذّب ومرحوم، فياليت شعري ماحالي وحالك يومئذ، ففي هذا ما هدم اللذات، وأسلى عن الشهوات، وقصر الأمل وأيقظ النائمين، وحذر الغافلين.
تفكر قبل أن تندم فإنك ميت فاعلم ... ولا تغترّ بالدنيا فإن صحيحها يسقم
وإن جديدها يبلى وإن شبابها يهرم ... وإن نعيمها يفنى فترك نعيمها أحزم
ومن هذا الذي يبقى على الحدثان أو يسلم ... وما للمرء إلا ما نوى في الخير أو قدم(1/157)
قال عمر بن عبدالعزيز: إنما يكون الأمان غداً لمن خاف واتقى وباع قليلاً بكثير وفانياً بباق وشهوة بسعادة، ألا ترون أنكم في كل يوم تشيعون غادياً أو رائحاً إلى الله عز وجل، قد قضى نحبه وانقطع أمله، فتضعونه في بطن صدع من الأرض غير موسّد ولا ممهّد، قد خلع الأسباب، وفارق الأحباب، وواجه الصعاب وأيم الله إني لأقول مقالتي هذه، ولا أعلم عند أحد كم من الذنوب أكثر ممّا أعلم من نفسي، وأستغفر الله، ووضع كمه على وجهه وجعل يبكي حتى بلت دموعه لحيته، وما عاد إلى مجلسه حتى مات.
وقال: بينما ابن آدم في الدنيا ينافس وهو قرير العين، إذ دعاه الله بقدره ورماه بيوم حتفه فسلبه آثاره ودنياه، وصيّر لقوم آخرين مصانعه ومغناه، إن الدنيا لا تسر أكثر مما تضر، إنها تسر قليلاً وتحزن طويلاً.
وقال الحسن: المبادرة المبادرة فإنما هي الأنفاس لو حبست عنكم انقطعت عنكم أعمالكم التي تتقربون بها إلى الله عز وجل، رحم الله أمرءاً نظر إلى نفسه، وبكى على عدد ذنوبه ثم قرأ هذه الآية (إنما نعدّ لهم عدّاً) مريم
يانفس كوني عن الدنيا مبعدة ... ... وخلفيها فإن الخير قدام
لا تلعبن بك الدنيا وخدعتها ... ... فكم تلاعبت الدنيا بأقوام
يقول أويس القرني: ما أغبط شيء بشيء لمؤمن في لحده قد أمن العذاب واستراح من الدنيا.
قال - صلى الله عليه وسلم - (تلقى الأرض فلاذ كبدها مثل الأسطوان من الذهب والفضة فيجيء القاتل فيقول: في هذا قتلت ويجيء القاطع فيقول: في هذا قطعت رحمي، ويجيء السارق ويقول: في هذا قطعت يدي , ثم يدعونه فلا يأخذون منه شيئاً) مسلم.(1/158)
ياذا الوداع الاخير، ياذا الحمل العسير، أتظن أن الأمر يسير، كلاّ والله إن الأمر جد خطير، يا من تلهو وتلعب، يا من في أمور الحياة تكد وتتعب، أتستطيع عند الممات المهرب، هيهات، الموت حقيقة كبرى، ما منها مناص ولا مهرب، ياذا العقل الصغير، ياذا الفكر الحقير، يا من كل همّه أن يكون غنياً أو أمير، تساوى في الممات الغني والفقير، والبعير والأمير، يا أسير الشهوات، ياكثير الغفلات، ياعظيم السيئات، ما أغفلك عمّا هو آت، يوم تُوزن الحسنات والسيئات، يا من روحه حبيسة وحل الأرض، وما أتمّ ولاحافظ على سنة كما فرض، أي عدّة أعددتها ليوم العرض، يا من بلغ بآماله المنتهى، ينهي عن المعاصي فما ارتدع ولا انتهى، أتظن أن عمرك ليس له منتهى، فإن إلى ربك المنتهى.
... قال بعض الصالحين: رأيت في المنام رجلاً يطلب غزالاً وخلفه أسد، فقتل الأسد هذا الرجل قبل أن يلحق الغزال، ثم رأيت رجلاً آخر يطلب الغزال فقتله الأسد قبل أن يلحق الغزال، وهكذا إلى تمام المائة وكلما قتل الاسد واحداً، وقف الغزال عند رأسه فتعجبت من ذلك، فقال لي الأسد لا تتعجب، أنا ملك الموت، والغزال هي الدنيا وهؤلاء طلابها، أقتلهم واحداً بعد واحد.
وقيل أن رجلاً كان يلعن إبليس في كل يوم ألف مرة، ثم نام يوماً في ظل حائط فأيقظه رجل وقال: إن الحائط يريد أن ينقض، فما تم كلامه حتى وقع الحائط فقال: من أنت؟ قال: أنا ابليس قال: كيف تفعل معي هذا وأنا ألعنك كل يوم ألف مرة؟ فقال حتى لا تموت شهيداً.(1/159)
كان ناسكاً له عسل وسمن في جرّة، ففكر يوماً فقال: أبيع الجرة بعشرة دراهم وأشتري خمسة أعنز فأولدهن في كل سنة مرتين، ويبلغ النتاج في سبع سنين مائتي عنزة وابتاع بكل أربع بقرة، وأصيب بذراً وأزرع، وسُينمى المال في يدى فأتخذ المسكن والعبيد والإماء والأهل ويولد لى ابن فأسميه كذا وآخذه بالأدب فإن هو عصاني ضربته بعصاي هكذا، وكانت في يده عصا فرفعها حاكياً الضرب فأصابت عصاه الجرّة فانكسرت، وانصب العسل والسمن على رأسه.
بغض الحياة وخوف الله أخرجني ... ... وبيع نفسي بما ليت له ثمناً
إني وزنت الذي يبقى ليعدله ... ... ما ليس يبقى فلا والله ما اتزنا
قال حكيم: الدنيا ميراث المغرورين ومساكن البطالين وسوق الراغبين وميدان الفاسقين وسجن المؤمنين ومزبلة المتقين ومزرعة العاملين.
قال ابن القيم: للقلب ستة مواطن يجول فيها لاسابع لها ثلاثة سافلة وثلاثة عالية فالسافلة دنيا تتزين له ونفس تحدثه وعدو يوسوس له، والثلاثة العالية علم يتبين له وعقل يرشده وإله يعبده، والقلوب جوالة في هذه المواطن.
قال أحد الصالحين: من تخفّف من الدنيا حملته ومن حمل الدنيا صرعته.
السنة شجرة والشهور فروعها والأيام أغصانها والساعات أوراقها والأنفاس ثمارها فمن كانت أنفاسه في طاعة الله فثمرة شجرته طيبة، ومن كانت أنفاسه في معصية الله فثمرته حنظل، وإنما الحصاد يوم المعاد وفيه يتضح حلو الثمار من مرها
إن مع الحياة موتاً وإن مع الدنيا آخرة، وإن لكل شيء حسيباً ولكل حسنة ثواباً ولكل سيئة عقاباً وإنك لا بد لك من قريب يدفن معك وهو حي وتدفن معه وأنت ميت فإن كان كريماً أكرمك وإن كان لئيماً أسلمك لا يحشر إلا معك ولا تبعث إلا معه ولا تسأل إلا عنه فلا تجعله إلا صالحاً وهو عملك.
قال هلال بن قتادة: كان الرجل من أهل المدينة إذا رأى الشيب في لحيته أو رأسه ترك الدنيا وتفرغ للعبادة.(1/160)
إن الأرض تنادي كل يوم بعشر كلمات: ابن آدم تسعى على ظهري ومصيرك في بطني، وتعصي على ظهري وتعذب في بطني، وتضحك على ظهري وتبكي في بطني، وتفرح على ظهري وتحزن في بطني، وتختال على ظهري وتذلّ في بطني وتمشي مسرورا على ظهري وتقع حزينا في بطني، وتمشي في نور على ظهري وتقع في الظلمات في بطني، وتمشي في المجامع على ظهري وتقع وحيدا في بطني.
خلق الله الإنسان مسافرا ستة أسفار إلى أن يستقرّ به السفر: فالسفر الأول: سفر السلالة من الطين، والثاني: من الصلب إلى الرحم، والثالث: من الرحم إلى الأرض، والرابع: من ظهر الأرض إلى القبر، والخامس: من القبر إلى موقف العرض، والسادس: من موقف العرض إلى دار الاقامة إما الجنة أو النار، وقد قطعنا نصف الطريق وبقى الأصعب.
يقول مورق العجيلي: ما وجدت مثلاً للمؤمن في حاله مع الدنيا إلا رجلاً في البحر، فهو يدعو يارب يارب لعله أن ينجيه.
يقول عون بن عبد الله: ياويح نفسي كيف أغفل ولا يغفل عني ، أم كيف تهنينى معيشتي واليوم الثقيل ورائي، أم كيف يشتد عجبي بدار في غيرها قراري.
قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (من جعل الهموم هماً واحداً هم المعاد كفاه الله سائر همومه ومن تشعبت به الهموم من احوال الدنيا لم يبال الله في أي أوديتها هلك)رواه ابن ماجه(1/161)
وقد بيّن أحد الصالحين حال الإنسان في الدنيا برجل يمشي في صحراء فنظر خلفه فوجد أسداً يريد أن يفترسه، فأخذ يجري حتى وجد أمامه شجرة فصعد عليها، ونظر خلفه فوجد الأسد ينتظره، ونظر في أسفل الشجرة فوجد فأران أبيض وأسود، يقرضان في أصل الشجرة، ونظر تحته فوجد بئراً عميقاً فيه ثعبان ضخم فاغراً فاه، ينتظر وقوعه، وبينما هو في هذه المخاطرة كلها، إذ وجد على غصن من الشجرة قرصاً من عسل النحل فأخذ يأكل منه وتناسى كل ما حوله، فهذا هو حال الإنسان مع الدنيا، أما الأسد فهو الموت والفأران هما الليل والنهار، ينقصان عمر الإنسان، والبئر الذي فيه الثعبان هو القبر، وقرص العسل هو شهوات الدنيا.
قال إبراهيم بن بشار: ما رأيت أحداً يبغض الدنيا ولا ينظر إليها مثل إبراهيم بن أدهم، وربما مررنا على قوم قد أقاموا حائطاً أو داراً فيحول وجهه ولا يملأ عينه من النظر إليه، فعاتبته، فقال : يابشار اقرأ ما قال الله تعالى { لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً } هود 7 ، ولم يقل أيكم أحسن عمارة في الدنيا وأكثر حباً وجمالاً، ثم بكى وقال: صدق الله وعز اسمه فيما يقول { وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ } الذاريات 56، ولم يقل: إلا ليعمروا الدنيا ويبنوا الدور ويشيدوا القصور، ثم أخذ يردد طيلة يومه { فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ } ألانعام 90 ، أي : الصالحين .
قال إبراهيم التميمي: مثلت نفسي في النار أعالج أغلالها وسعيرها، وآكل من زقومها، وأشرب من حميمها، فقلت يا نفس ما تشتهي؟ قالت: عمل أنجو به من العقاب، ومثلت نفسي في الجنة، مع حورها، وألبس من سندسها، وإستبرقها وحريرها، فقلت يا نفس ما تشتهي؟ فقالت: أرجع إلى الدنيا فأعمل عملاً أزداد فيه من هذا الثواب، قلت: فأنت في الدنيا وفي الأمنية.(1/162)
قال مسلم بن يسار: من خاف شيئاً حذر منه، ومن رجا شيئاً طلبه،وما أدري ماخوف عبدِ عرضت له شهوة فلم يدعها لما يخاف، وابتلى ببلاء فلم يصبر عليه لما يرجو.
عندما سئل إبراهيم بن أدهم: لم زهدت في الدنيا يا إبراهيم؟ قال: رأيت الطريق طويل وليس معي زاد ورأيت القبر موحشا وليس معي حجة ولا من يدافع عني.
قيل من ازهد الناس: من لم ينس القبر والبلى، وترك فضل زينة الدنيا، وآثر مايبقى على مايفنى، ولم يعد غداً من أيامه، وعد نفسه من الموتى.
قال شقيق البلخي لتلميذه حاتم الأصم: ما الذي تعلمته منى منذ صحبتني، قال ستة أشياء: رأيت الناس في شك من أمر الرزق والله قد تكفل به فتوكلت عليه رأيت لكل إنسان صديقاً يفشي سره فجعلت صديقي العمل الصالح، رأيت لكل إنسان عدو، فمن اغتابني وظلمنى ليس بعدوي ولكن عدوي من إذا كنت في طاعة الله فأغراني بمعصيته، فرأيت ذلك هوإبليس والنفس والدنيا والهوى فاتخذتهم أعداء واحترست منهم، رأيت لكل إنسان مطلوب وملك الموت هو الطالب ففرغت نفسي لملاقاته، رأيت الناس متحابين ومتباغضين فتأملت فإذا سبب المحبة والبغضاء الجسد فنفيت شهواته، وأحببت للناس ما أحب لنفسي، رأيت أن كل إنسان مفارق سكنه ومصيره القبر فاستعددت له بما يسرني الذي ما ورائه إلا الجنة أو النار.
قال الحسن البصري: يابن آدم إنما أنت أيام كلما ذهب يومك ذهب بعضك.
النفس تجزع أن تكون فقيرة ... والفقر خير من غنى يطغيها
وغنى النفوس هو الكفاف فإن ... أبت فجميع ما في الأرض لا يكفيها
قال سعيد بن جبير: متاع الغرور ما يلهيك عن طلب الآخرة، وما لم يلهك فليس متاع الغرور ولكنه متاع بلاغ إلى ما هو خير منه.
وسمع على - رضي الله عنه - رجلاً يسب الدنيا فقال : دار صدق لمن صدقها، ودار عافية لمن فهم عنها، ودار غنى لمن تزود منها، مسجد أحباب الله ومهبط وحيه ومصلى ملائكته ومتجر أوليائه، اكتسبوا فيها الرحمة وربحوا فيها الجنة
الفصل التاسع: الموت(1/163)
قال تعالى { كُلُّ نَفْسٍ ذَآئِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَما الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ مَتَاعُ الْغُرُورِ } آل عمران 185
وقال تعالى { كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ } الرحمن: 27.26
وقال تعالى { إِذَا جَاء أَجَلُهُمْ فَلاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ } يونس 49
وقال تعالى { أَيْنَمَا تَكُونُواْ يُدْرِككُّمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنتُمْ فِي بُرُوجٍ مُّشَيَّدَةٍ } النساء: 78
وقال تعالى { وَجَاءتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنتَ مِنْهُ تَحِيدُ } ق: 21
إن الموت لايقرع باباً ولا يهاب حجاباً فلا يمنعه عظمة الجاه ولاهيبة السلطان ولا يقبل بديلاً فقد أنتهت الوسائط وضاعت الشفاعات ولا يأخذ كفيلاً ولا يرحم صغيراً ولا يوقر كبيرا.
الموت طالب لا يملّ الطلب، ولا يبطيء الخطأ، ولا يخلف الميعاد، فلكل أجل كتاب ولساعة الموت ميعاد، وما لابن آدم من سكرة الموت من نفاد، ولا يمنع الموت بعد البلاد، ولا معزة الأهل والأحباب، ولا الهيبة وعلو المناصب، إنما الموت حتماً معلّق في رقاب العباد، ليس منه وال ولا نجاة ولا مهرب.(1/164)
الموت هو الخطب الأفظع، والأمر الاشنع، والكأس التي طعمها أكره وأبشع، وإنه الهادم للذات، والقاطع للراحات، والأجلب للكريهات، فإن أمراً يابن آدم يقطّع أوصالك ويفرق أعضاءك، إنه الأمر العظيم والخطب الجسيم، وإن يومه لهو اليوم العظيم, فتفكر يا مغرور في الموت وسكرته وصعوبة كأسه ومراراته، فيا للموت من وعد ما أصدقه، وحاكم ما أعدله، كفى بالموت مقرّحاً للقلوب، ومبكياً للعيون، ومفرقاً للجماعات، وهادماً للذات، وقاطعاً للأمنيات، فهل تفكرت يابن آدم في يوم مصرعك وانتقالك من موضعك، إذا نُقلت من سعة إلى ضيق، وخانك الصاحب والرفيق، وهجرك الأخ والصديق، وأخذت من فراشك إلى عرر، وغطوك من بعد لين لحافك بتراب ومدر، فياجامع المال والمجتهد في البنيان، ليس لك والله من مال إلا الأكفان، بل هي والله للخراب والذهاب، وجسمك للتراب والماب، فأين الذي جمعته من المال، هل أنقذك من الأهوال؟ كلاّ بل تركته إلى من لا يحمدك، وقدمت بأوزارك على من لا يعذرك، ولقد أحسن من قال في تفسير قوله تعالى { وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآخِرَةَ وَلا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا القصص 77، هو الكفن]. كفي بالموت واعظاً.. كفى بالموت مفرقاً.
ذنوبك يا مغرور تحصى وتحسب ... ... وتجمع في لوح حفيظ وتكتب(1/165)
... أيامن يدعى الفهم، إلى كم ياأخي الوهم، تعبي الذنب والذنب، وتخطي الخطأ الجمّ، أما بان لك العيب، أما أنذرك الشيب، وما في نصحه ريب، أما نادى بك الموت، أما أسمعك الصوت، أما تخشى من الفوت، فتحتاط وتهتم، فكم تسير في السهو، وتختال من الزهو، وتنفضّ إلى اللهو، كأن الموت ما عمّ، كأني بك تنحطّ إلى القبر وتنغط، وقد أسلمك الرهط، إلى أضيق من ثم، هناك الجسم ممدود ليستأكله الدود، إلى أن ينخر العود، ويمسي العظم قد رمّ، فزوّد نفسك الخير، ودع ما يعقب الضير، وهيّء مركب السير، وخف من لجّة اليم، لذا أوصيك يا صاح، فقد بحت كمن باح، فطوبى لفتى راح، بآداب محمد - صلى الله عليه وسلم - يأتم .
هل استعددت يابن آدم ليوم تصل فيه روحك إلى الحلقوم، قال تعالى { فَلَوْلا إِذَا بَلَغَتْ الْحُلْقُومَ وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنظُرُونَ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلَكِنْ لا تُبْصِرُونَ فَلَوْلا إِنْ كُنتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ تَرْجِعُونَهَا إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ } الواقعة: 87:83
فماذا أنتم فاعلون إذا بلغت الروح الحلقوم، ووقفتم في مفرق الطريق إما إلى جنة أو إلى نار، في هذه اللحظة وقد فرغت الروح من أمر الدنيا، وتركت وراءها الأرض وما فيها، وهي تستقبل عالماً لا عهد لها به، ولا تملك من أمره شيئاً إلا ما ادخرت من عمل، وما كسبت من خير أو شر.
هنا ترى ولا تملك أن تتحدث عما ترى، وقد انفصلت عما حولها وما حولها، هنا تقف قدرة البشر ويقف علم البشر، وينتهي مجال البشر،هنا يعرفون أنهم عاجزون قاصرون.(1/166)
هنا تنفرد القدرة الإلهية والعلم الإلهى، ويخلص الأمر كله لله بلا شائبة ولا جدال ولا محال { وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلَكِنْ لا تُبْصِرُونَ } هنا يعظم ويهيب الموقف جلال الله ورهبة حضوره سبحانه وتعالى، وهو حاضر في كل وقت، ولكن هذا التعبير يوقظ الشعور بهذه الحقيقة التي يغفل عنها البشر، وفي هذا الموقف يجيء التحدى الذي يقطع كل قول وينهي كل جدال، أن يرجعوا هذه الروح إلى الجسد لوكان الأمر كما يقولون، أنه لا حساب ولا جزاء، فليردوها عما هى ذاهبة إليه، من حساب وجزاء، وأنتم حولها تنظرون، وهي ماضية للحساب والجزاء أمام الله.
يقول تعالى { كَلاَّ إِذَا بَلَغَتْ التَّرَاقِي وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِرَاقُ وَالْتَفَّتْ السَّاقُ بِالسَّاقِ إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَسَاقُ } القيامة 26: 30
ذلك المشهد الواقع المتكرر، في كل لحظة وفي كل حين، إنه مشهد الموت الذي ينتهي إليه كل حي، والذي لا يستطيع أن يدفعه عن نفسه ولا عن غيره حي، الموت الذي يفرق الأحبة ويمضي في طريقه لا يتوقف، ولا يلتفت، ولا يستجيب لصرخة ملهوف، ولا لحسرة مفارق، ولا لرغبة راغب، ولا لخوف خائف، الموت الذي يصرع الجبابرة بنفس السهولة التي يصرع بها الضعفاء، ويقهر المتسلطين كما يقهر المستضعفين على السواء، الموت لا حيلة للبشر فيه، ومع هذا لا يتدبرون القوة القاهرة التي تجريه.(1/167)
إن مشهد الاحتضار حين يكون الإنسان في النزع الأخير، وتكون السكرات المذهلة، ذلك الموقف العظيم والمنظر الرهيب، عندما تصل فيه روحك إلى الحلقوم تنادي بأعلى صوتك ولكن لا تستطيع الكلام، تتحرك بكل قوتك ولكن عجز جسمك عن الحركة، وتتمنى الرجوع إلى الدنيا ولكن هيهات الإفلات من قبضة الملك الجبار ذهب أهلك إلى من يداويك ولكن هذا لا ينفع الدواء، تيقنت يابن آدم من الموت لا محالة، وتلوّى المكروب من السكرات والنزع، والتفت ساق رجلك على الأخرى إيذاناً للخروج النهائي من هذه الحياه، وبطلت كل حيلة وعجزت كل وسيلة، وتبين الطريق الوحيد الذي يُساق إليه كل حي، في نهاية المطاف، حيث يساق العباد إلى ربهم للفصل والجزاء { إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَسَاقُ } فيا أبناء الدنيا، ويا أحباب الحياة ويا أرباب المعاصي والذنوب، ويامن ألهتكم دنياكم، وغرتكم أمانيكم، ويامن شيدتم الدور وخربتم الصدور، ويا من عنان الحياة ليس له عندكم منتهى، في هذا الموقف العسير، الذي يستدعي الِعبرة قبل العَبرة، هل من هذا القضاء المحتوم منجا؟ هيهات لا ملجأ ولا منجا، فهل استعددت يابن آدم للقاء الله؟
قيل الموت ثلاثة: موت النفس فيكفن في كفن العفو ويحنط بحنوط المغفرة ويدفن في مقابر أهل الجنة، وموت الروح فيكفن في كفن الفرقة ويحنط بحنوط القطيعة ويدفن في مقابر الوحشة، وموت القلب يكفن في كفن الملامة ويحنط بحنوط الندامة ويدفن في مقابر العقوبة، فمن ماتت نفسه عدم دنياه، و من ماتت روحه عدم مولاه، ومن مات قلبه عدم أخراه.
قيل لبعض الزهاد: ما أبلغ العظات قال: النظر إلى الأموات.
إنما الدنيا بلاغ ليس للدنيا ثبوت إنما الدنيا كبيت نسجته العنكبوت
ليس للطالب فيها كل يوم غير قوت كل من كان عليها عن قليل سيموت(1/168)
كان بالبصرة عابد أجهده الخوف والحزن وأتعبه البكاء، فلما حضرته الوفاة، جلس أهله يبكون حوله، فقال لهم: أجلسوني فأجلسوه، فأقبل عليهم وقال لأبيه: ياأبت ما الذي أبكاك؟ فقال: يابنيّ ذكرت فقدك وانفرادي بعدك، فالتفت إلى أمه وقال: يا أماه ما الذي أبكاك؟ فقالت: لفقد برك وانفرادي بعدك، فالتفت إلى أولاده وقال: ما الذي أبكاكم؟ فقالوا: لذلّ اليتم والهوان بعدك، فعند ذلك نظر إليهم وبكى فقالوا: ما يبكيك أنت؟ قال: أبكي لأني رأيت كلا منكم يبكي لنفسه، لا لي، أما فيكم من بكى لطول سفري؟ أما فيكم من بكى لقلة زادي؟ أما فيكم من بكى لمضجعي في التراب؟ أمافيكم من بكى لما ألقاه من سوء الحساب؟ أما فيكم من بكى لموقفي بين يدي رب الارباب؟ ثم سقط على وجهه فحركوه فإذا هو ميت.(1/169)
ويوم بعده يوم ويجري العمر بالإنسان، سيأتي إذ يحين الحين أمر الواحد الديان ألا يا أيها الروح أجيبي داعي الرحمن، فترعد عند ذا الاعضاء يعلو القلب بالخفقان وتذهب روعة الإنسان ويمحى وجهه الفتان، وتسكن بعدما كلت من السير به القدمان وتخمد بعدما تعبت من الأعباء فيه يدان ويوقن عندها بالموت أين البطش يا إنسان؟ وتغلق عندذا الأبواب لا يبقى سوى الرحمن ويأسف كيف يا هذا وقد أزفت لك الأكفان ويصرخ ما له همس ولُجّم عند ذاك لسان، وما قد حل بالإنسان مهولاً فوق كل بيان يرى بالموت احوالاً يشيب لهولها الولدان، يرى باباً إلى السموات مفتوحا لهذا الشان وإذ بملائك الديان لقبض الروح يا إنسان، وهيئتهم كما الأعمال للبشرى أم الخسران، فإن ساءت ترى سوداً كأقبح ماترى إنسان ومنظرهم يثير الرعب حلّ عليك كل هوان لقد آن الرحيل فما تبقى غير بضع ثوان، فلا يجدى هنا ندم ولا خير ولا إحسان ولو تقدر بأن تنبي لقلت نصيحة الإنسان لقلت بكل ما حملت معاني الصدق والإيمان أيا أهلى ويا خلان وياصحبى ويا جيران، فلا تغرركم الدنيا بزيف بريقها الفتان فإن بريقها خدع وإن سرورها أشجان، ومن أمن الحياة بها فإن مآلها نيران تنزع عندذاك الروح يخمدعندهاالجثمان وتاتي الصحوةالكبرى ولم يحسب لها الحسبان وتأتي الطامة العظمى بعيد النوم والنسيان إذا ما استيقن الأهل أعدوها لك الأكفان أعدوها على عجل لتلقى الواحد الديان، أعدوها وما انتظروا فإن معاده قد حان وبعد هنيهة حملوا إلى ذا القبر ذا الجثمان لسان الحال إذ ينبي بأن العمر خيط دخان ودنيانا وما حملت كطيف الحالم الوسنان فيرحل عن حياة الزيف للأخرى هى الحيوان يرقد بين طيات الثرى وخلّى المال والولدان وخلّى الجاه والسلطان أنيس الأرض والديدان رهين الوحشة الكبرى هنالك قد نأى الإخوان وتلك الغربة العظمى فماأعددت يا إنسان وقدأعددت أوزاراً ينوء بحملها الشجعان وملت إلى حياة الزيف بين الغي والعصيان عنك الأهل(1/170)
قدرحلواإلى الأموال والأطيان وما في البال لو جحدوا ديونك ياأخا النسيان رويداً أيها المغرور في الدنيا بلا إيمان، فماذا الضيم لو نظرت بعين العبرة العينان فيا خجلاه من ذنب، بيوم العرض والميزان، فما أعددت من رد لرب قاهر ديان على أوزارك العظمى على فسق على طغيان على ترك الصلاة على جحودفضائل الرحمن فيا عاص بلا خجل، ويا غاو بلا إيمان إلى أين الفرار إذاً، وأنت بقبضة الديان ففر إليه من ذنب عظيم قبل فوت أوان وتب ممّا جنته يداك ربك واسع الغفران
إن الليل والنهار مراحل تقطعها مرحلة مرحلة إلى أن تبلغ دار الإقامة، فإن استطعت أن تقدم في كل مرحلة زاداً فافعل، وإن الأمر أعجل من ذلك.
قيل أن سكرات الموت بحسب كل شخص بما فعل في دار الدنيا، وسميت سكرة لأنها تدخل العقول عند ظهورها، فيبقى الإنسان كالسكران، وذلك أن أعمال العبد تظهر له عند الموت صفاتها في الحسن والقبيح، يريد جزاء العمل، فالمغتاب تقرض شفاهه بمقاريض من نار، والسامع للغيبة والحرام يسلك في أذنيه نار جهنم، والظالم تتفرق روحه بكل مظلوم، وآكل الحرام يقدم له الذقوم، وكذلك إلى آخر أفعال العبد فالميت يجوزها سكرة بعد سكرة وعند آخرها تُقبض روحه وهو قوله تعالى (ذلك ما كنت عنه تحيد) يعنى تحيد بطول الآمال والحرص في البقاء في دار الدنيا.(1/171)
قال الإمام ابن الجوزي في بحر الدموع : إذا كان ابن آدم في سياق الموت بعث الله إليه خمسة ملائكة، أما الملك الأول فيأتيه وروحه في الحلقوم فيناديه: يابن آدم أين بدنك القوى ما أضعفه اليوم؟ أين لسانك الفصيح ما أسكته اليوم؟ أين أهلك وقرابتك ما أوحشك منهم اليوم؟ ويأتيه الملك الثاني إذا قبض روحه ونشر عليه الكفن فيناديه: يابن آدم أين ما أعددت من الغنى للفقر؟ أين ما أعددت من الخراب للعمران؟ أين ما أعددت من الأنس للوحشة؟ ويأتيه الملك الثالث إذا حُمل على الأعناق فيناديه: يابن آدم اليوم تسافر سفراً بعيداً لم تسافر سفراً أبعد منه، اليوم تزور قوماً لم تزرهم قبل هذا قط، اليوم تدخل مدخلاً ضيقاً لم تدخل أضيق منه، فطوبى لك إن نزلت برضوان الله، وويل لك إن رجعت بسخط الله، ويأتيه الملك الرابع إذا لحّد في قبره فيناديه: يابن آدم بالأمس كنت على ظهرها ماشياً، واليوم صرت في بطنها مضطجعاً، بالأمس كنت على ظهرها ضاحكاً واليوم أصبحت في بطنها باكياً، بالأمس كنت على ظهرها مذنباً، واليوم أمسيت في بطنها نادماً، ويأتيه الملك الخامس إذا سوّى عليه التراب وانصرف عنه الأهل والجيران والأصحاب، فيناديه: يابن آدم دفنوك وتركوك ولو أقاموا عندك ما نفعوك جمعت المال وتركته لغيرك، اليوم تصير إمّا إلى جنة عالية، أو إلى نار حامية).
أما والله لو علم الانام ... ... لما خلقوا لما هجعوا وناموا
لقد خلقوا لما لو أبصرته ... ... عيون قلوبهم تاهو وهاموا
ممات ثم حشر ثم نشر ... وتوبيخ وأهوال عظام
ليوم الحشر قد عملت رجال ... ... فصلوا من مخافته وصاموا
ونحن إذا أمرنا أو نهينا ... ... كأهل الكهف أيقاظ نيام
ياأيها الناس أنتم طرداء الموت، ان قمتم له أخذكم، وان فررتم منه أدرككم، والدنيا تطوي من خلفكم فاعملوا لهذا اليوم ولا تغرنكم الدنيا.(1/172)
قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (اغتنم خمسا قبل خمس،حياتك قبل موتك،وصحتك قبل سقمك، وفراغك قبل شغلك، وشبابك قبل هرمك،وغناك قبل فقرك) أحمد بسند صحيح (ص ج ص) وعن ابن عمر - رضي الله عنه - أن رجلاً سأل النبي - صلى الله عليه وسلم - : أي المؤمنين أفضل ؟ قال : أحسنهم خلقاً، قال :فأي المؤمنين أكيس ؟ قال:أكثرهم للموت ذكراً واحسنهم
له استعداداً أولئك الأكياس) حسن رواه ابن ماجه .
أيها المغتر بطول صحته أما رأيت ميتاً قط من غير سقم؟ أيها المغتر بطول المهلة أما رأيت ماخوذاً قط من غير عدة؟ أبالصحة تفترون؟ أم بطول العافية تمرحون؟ أم الموت تأمنون؟ أم على ملك الموت تجترؤون؟ رحم الله عبداً عمل لما بعد الموت رحم الله نظر لنفسه قبل نزول الموت.
قال شداد بن أوس: الموت أفظع هول في الدنيا والآخرة على المؤمن، وهو أشد من نشر بالمناشير، وقرض بالمقاريض، وغلى في القدور، ولو أن الميت نُشر فأخبر أهل الدنيا بالموت ما أنتفعوا بعيش ولا لذوا بنوم.
قال - صلى الله عليه وسلم - (لا تتمنوا الموت فإن هول المطلع شديد، وإن من السعادة أن يطول عمر العبد، ويرزقه الله الإنابة) أحمد بسند صحيح(ص ج ص).
دقات قلب المرء قائلة له ... ... إن الحياة دقائق وثوان
فارفع لنفسك بعد موتك ذكرها ... ... فالذكر للإنسان عمر ثاني
ورد في الخبر: أن بعض الأنبياء قال لملك الموت - عليه السلام - : أما لك رسول تقدمه بين يديك ليكون الناس على حذر منك؟ قال: نعم لى الله ورسل كثيرة من الأعلال والأمراض والشيب والهموم، وتغير السمع والبصر، فإذا لم يتذكر من نزل به ذلك ولم يتب فإذا قبضته ناديته: ألم أقدم إليك رسولاً بعد رسول؟ ونذيراً بعد نذير فأنا الرسول الذي ليس بعدي رسول وأنا النذير الذي ليس بعدي نذير) التذكرة للقرطبي(1/173)
كان يزيد الرقاش يقول لنفسه: ويحك يا يزيد: من ذا يصلي عنك بعد الموت من ذا يصوم عنك بعد الموت؟ من ذا يترضّى عنك ربك بعد الموت؟ ثم يقول: أيها الناس ألا تبكون وتنوحون على أنفسكم طيلة حياتكم؟ من الموت طالبه، والقبر بيته والتراب فراشه، والدود أنيسه، وهو مع ذلك ينتظر الفرع الأكبر، كيف يكون حاله ثم يبكي ويسقط مغشياً عليه.
مثل نفسك يا مغرور وقد حلت بك السكرات ونزل بك الأنين والغمرات، فمن قائل يقول: أن فلاناً ثقل لسانه فما يكلم إخوانه، ولا يعرف جيرانه، فكأني أنظر إليك تسمع الخطاب، ولا تقدر على رد الجواب، كم كان أخفى عليك سبيل الرشاد، وأقل اهتمامك لحمل الزاد، إلى سفرك البعيد، وموقفك الصعب الشديد، أو ما عملت يا مغرور أنه لا بد من الارتحال إلى يوم شديد الأهوال، ويعدّ عليك بين يدى الملك الديان، وما بطشت اليدان، ومشت الرجلان ونطق اللسان، وبطشت الجوارح، فإن رحمك الله فإلى الجنان، وإن عاقبك فإلى النيران.
ياغافلاً : إلى كم هذه الغفلة والتوان، أتحسب أن الأمر هيّن، يسير، كلاً فستذوق الموت وستزور القبور، فطوبى لمن سمع ووعى، ونهى النفس عن الهوى (وأن ليس للإنسان إلا ما سعى وأن سعيه سوف يرى ثم يجزاه الجزاء الأوفى) النجم:41:39.
قالت أم الدرداء رضي الله عنها: ألا أخبركم بما يقول الميت على سريره؟ قيل: بلى، قالت: فإنه ينادي: يا أهلاه، وياجيراناه، وياحملة سريرى، لا تغرنكم الدنيا كما غرتني، ولا تلعبن بكم الدنيا كما لعبت بي، فإن أهلي لم يحملوا عنى من أوزري شيئاً.(1/174)
إن الدنيا مهما عظمت فهي حقيرة، ومهما طالت فهي قصيرة، واعلم بأنك راحل إلى الله جل وعلا، لا بد لك أن تلقى الله، فإذا ماقتربت ساعة الصفر، وانتهى أجلك كما حكم الله عز وجل، وأصبحت في إقبال من الآخرة، وإدبار من الدنيا، وصرت طريح الفراش، وحولك أهلك يبكون، والأطباء من حولك يحاولون، انظروا إلى حاله وإلى كربه وإلى فزعه، وقد نام على فراش الموت، اصفر وجهه، وشحب لونه، وبردت أطرافه، وتجعد جلده، وبدأ يحس بزمهرير قارس يزحف إلى أنامل يديه وإلى قدميه يريد أن يحرك شفتيه بكلمة التوحيد، فيحس أن الشفه كالجبل لا يتزحزح، إلا من يسر الله عليه، وهو في هذا الفزع يطير فؤاده، وينخلع قلبه، فإذا أفاق بين السكرات والكربات، نظر إلى من حوله من الأهل والأولاد والأحباب والأطباء، فيراهم مرّة ولا يراهم أخرى، يقتربون منه مرة ويبعدون أخرى، يسمعهم مرة ولا يسمعهم أخرى، فإذا أفاق لحظة من سكرات الموت وكرباته، نظر إليهم نظرة طويلة كلها رحمة ورجاء، نظرة كلها سؤال، وكأنه يقول لهم بلسان الحال: يا أهلي ويا أحبابي، لا تتركوني وحدي، لا تتركوني في لحدي، أنا أبوكم أنا اخوكم، أنا حبيبكم، أنا الذي بنيت لكم القصور، وعمّرت لكم الدور، هل منكم من يزيد في عمري ساعة أو ساعتين، لكن هيهات! نزل قضاء الله ولا مفر، وصار طريح الفراش، أين ريحك الطيب، أين لسانك الفصيح، أين حركتك الدائبة ما الذي أسكتك؟ إنه الموت إنه الحقيقة الكبرى.(1/175)
فتذكر ياعبد الله إذا جاءك ملك الموت، بجنوده وأعوانه، وألقى عليك غم الموت، فغشيك ما غشيك من السكرات ، وأيقنت أنك أصبحت لأهلك وأحبابك مفارق وبما قدمت من عملك الحسن أو القبيح لا حق، وذقت من عذاب الموت، مالا يستطيع أن يصفه لسان ومددت تارة وقبضت أخرى، اليدين والرجلين، وأنت في أعظم شأن، وضعفت فلم يبق فيك قوة، وأخرس منك اللسان، وتغيرت الألوان وازرقت الشفتان، ويبس اللسان، وبدأ منك عرق الجبين، واشتد بك الوجع والانين وأحدق بك الأحبة من الآباء والبنين، فلم يستطيعوا أن ينفعوك بالمال ولو إلى حين، وجوارحك يسلم بعضها على بعض للفراق والوداع، فأيقنت أنه لا سبيل للرجوع، فيموت أولاً قدماك ثم ساقك ثم فخدك، ثم عضو عضو كذلك، ثم إذا بلغت الروح الحلقوم، وتضاعفت عليك الأحزان والغموم، رفعت بصرك إلى السماء وعاينت مقعدك إما في الجنة أو النار، ويقال لك توبيخاً: أين لسانك الفصيح ما أسكته اليوم أين بدنك الحسن ما أقبحه اليوم؟ أين ريحك العطر ما أنتنه اليوم؟ أين تكبرك على الخلائق ما أذلك اليوم؟ ثم تقبض روحك، إما محسنة فترفع إلى عليين، وإما مسيئة فيهوى بها إلى سجين، ثم تصير في التراب كأنك ما عشت ساعة وما مشيت على ظهر الأرض خطوة، ولا أكلت مرة، ثم تذكر ساعة الغسل ونشر الأكفان يوم يٌقال لك توبيخاً: أيها الإنسان: أين حرصك على الدنيا وجمعها؟ قد تركتها لغيرك وبؤت بالإثم والخسران، ولم تأخذ منها سوى الحنوط والأكفان، ثم تذكر ساعة الوضع في القبر، ووضع اللحود عليك وتسوية التراب، ورجوع الأقارب عنك والأحباب، فينادى عليك بلسان الحال في القبر:عبدي رجعوا وتركوك، وفي التراب وضعوك وللحساب عرضوك ولو ظلوا معك ما نفعوك، لم يبق لك إلا أنا وأنا الحي الذي لا يموت.(1/176)
إننا نحيا في هذه الدنيا، وهو ترقب جميل لكنه يتنغص، وظل ظليل لكنه يتقلّص، ومطامع وراء الأودية والمفاوز، وليس هو لما قٌدّر له بمجاوز، وأنفاس قبل ذلك تُعدّ ورحاله.. تُشدّ، وعاريته – تُردّ، والتراب من بعد ذلك – ينتظر الخد وإنه ليس عقبي الباقي – غير اللحاق بالماضي، وعلى أثر من سلف – يمشي من خلف، وما ثم إلا أمل مكذوب – وأجل مكتوب.
من أيقن بالموت، وعلم أنه نازل بلا محالة، فلا بد من الاستعداد له بالأعمال الصالحة، واجتناب المعاصي، فإنه لا يدري متى ينزل به.
إن الموت كشجرة شوك، دخلت في جوف ابن آدم، فأخذت كل شوكة بعرق منه، ثم جذبها رجل شديد القوى فقطع منها ما قطع وابقى ما أبقى.
عجبت من مؤمّل في الدنيا والموت يطلبه، وغافل غير مغفول عنه، وضاحك ملء فيه لا يدري أمسخط ربه أم مرضيه. قد آن للنائم أن يستيقظ من نومه، وحان للغافل أن ينتبه من غفلته، قبل هجوم الموت بمرارة كأسه، وقبل سكون حركاته وخمود أنفاسه، ورحلته إلى قبره.
عن علىّ - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - رأى ملك الموت عند رأس رجل من الأنصار فقال له: إرفق بصاحبي فإنه مؤمن، فقال أبشر يا محمد فإني بكل مؤمن رفيق، والله يا محمد: إني لأقبض روح ابن آدم فإذا صرخ صارخ من أهله، قلت: ما هذا الصراخ؟ فوالله ما ظلمناه، ولا سبقنا أجله، ولا استعجلنا قدر فما لنا من قبضه من ذنب فإن ترضوا بما صنع الله تؤجروا، وإن تسخطوا أو تجزعوا تأثموا وما لكم عندنا من معتبة، وإن لنا فيكم لبقية وعوده فالحذر الحذر).
أمثلة حيّة لسكرات الموت
عن عائشة رضي الله عنها: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : كانت بين يديه ركوة فيها ماء، فجعل يده في الماء، فيمسح بهما وجهه ويقول: (لا إله إلا الله إن للموت لسكرات) ثم نصب يده يقول (في الرفيق الأعلى في الرفيق الأعلى) حتى قبض ومالت يده) البخاري.(1/177)
قيل عن موسى - عليه السلام - في وصف الموت (وجدت نفسي كالعصفور الحي حين يٌقلى في المقلى، لا يموت فيستريح ولا ينجو فيطير)
قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : إن داود - عليه السلام - كان رجلاً غيوراً وكان إذا خرج أغلقت الأبواب، فأغلق ذات يوم الأبواب، فأشرفت أمرأته فإذا هي برجل في الدار فقالت: من أدخل هذا الرجل، لئن جاء داود ليلقين منه عناء، فجاء داود فقال: من أنت؟ قال: أنا الذي لا أهاب الملوك ولا يمنع مني الحجاب، فقال: فأنت والله ملك الموت وزمل داود عليه السلام مكانه) أحمد بسند جيد.
لما حضرت أبو بكر الصديق - رضي الله عنه - الوفاة: جعلت عائشة رضي الله عنها تقول
لعمرك ما يغني الثراء عن الفتى ... إذا حشرجت وضاق بها الصدر
فقال: ليس كذلك ولكن قولي { وَجَاءتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنتَ مِنْهُ تَحِيدُ } ق: 19
قال ابن عمر - رضي الله عنه - : كان رأس عمر - رضي الله عنه - في حجرى بعد ما طعن وكان في مرضه الذي توفى فيه، فقال: ضع حدي على الأرض، فقلت: وما عليك ان كان في حجرى أم على الأرض؟ فقال: ضع خدى على الأرض لا أمّ لك، ويلى وويل أمي إن لم يرحمنى ربي، والله لو أن لى طلاع الأرض ذهباً لا فتديت به من عذاب الله قبل أن أراه.
لما ضرب عثمان - رضي الله عنه - والدماء تسيل على لحيته جعل يقول: لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين، اللهم إني أسألك الصبر على ما ابتليتني.
لما طُعن على بن ابي طالب - رضي الله عنه - وتأكد من دنو أجله جعل يقول: -
فلا منجى من الموت وإن الموت لا قيك ... ولا تجزع من الموت إذا حلّ بواديك
لمّا حضرت معاوية بن أبى سفيان - رضي الله عنه - الوفاة قال: يارب ارحم الشيخ العاصي ذا القلب القاسي اللهم أقل العثرة واغفر الذلة، وعُد بحلمك على من لا يرجو غيرك ولم يثق بأحد سواك، أفّ للدنيا من دار ثم أفّ لها من دار.(1/178)
لما مرض أبو الدرداء - رضي الله عنه - دخل عليه أصحابه فقالوا: ما تشتكي؟ قال: أشتكي ذنوبي، قالوا فما تشتهي؟ قال : أشتهي الجنة، قالوا: ألا ندعو لك الطبيب قال هو الذي أضجعني، ولمّا حضرته الوفاة: جعل يجود بنفسه ويقول: ألا رجل يعمل لمثل مصرعي هذا، ألا رجل يعمل لمثل ساعتي هذه، ثم قبض:
لمّا حضرت معاذ بن جبل - رضي الله عنه - الوفاة قال: أنظروا هل أصبحنا، فأتى فقيل لم نصبح حتى أتى في بعض ذلك فقيل له: لقد أصبحنا، فقال: أعوذ بالله من ليلة صباحها إلى النار ثم قال: مرحباً بالموت زائر مُغيّب حبيب، جاء على فاقة، اللهم إني كنت أخافك وأنا اليوم أرجوك، اللهم إنك تعلم أنني لم أكن أحب الدنيا وطول البقاء فيها لكرى الأنهار ولا لغرس الشجر، ولكن لظمأ الهواجر، ومكابدة الساعات، ومزاحمة العلماء بالركب، عند حلق الذكر.
لمّا حضرت أبا هريرة - رضي الله عنه - الوفاة: بكى فقيل له: يا أبا هريرة ما يبكيك؟ قال بُعد المفازة وقلة الزاد، وعقبة كؤود، والمهبط إلى الجنة أو النار.
لمّا حضرت عمرو بن العاص - رضي الله عنه - الوفاة: قال له ابنه: ياأبتاه إنك كنت تقول لنا ليتني ألقى رجلاً عاقلاً لبيباً عند نزول الموت، حتى يصف لى ما يجد، وأنت ذلك الرجل فصف لى الموت؟ فقال: والله يا بني كان جنبي في تخت، وكأني أتنفس من سمّ إبرة، وكأن غصن شوك يجذب من قدمي إلى هامتى.
لمّا حضرت عمر بن عبدالعزيز الوفاة جعل يقول: إلهي أمرتني فلم أأتمر، وذجرتني فلم أنزجر، غير أني أقول: لا إله إلا الله، ولمّا اقترب موته قال أجلسوني فأجلسوه، فقال: أنا الذي أمرتني فقصرت، ونهيتني فعصيت ثلاث مرات، ولكن لا إله إلا الله، ثم رفع رأسه فأخذ ينظر، فقيل له في ذلك، فقال: إني لأرى حضرة ماهم بأنس ولاجن، ثم قُبض رحمه الله.(1/179)
لماّ حضرت سلمان - رضي الله عنه - الوفاة: فقيل له ما يبكيك؟ قال : ما أبكي جزعا على الدنيا ولكن عهد إلينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن تكون بلغة أحدنا من الدنيا كزاد الراكب، فنظر في جميع ما ترك، فإذا قيمته بضعة عشر درهماً.
قيل لرجل عند الموت: كيف تجدك، قال: أجدني أجتذب اجتذاباً وكأن الخناجر مختلفة في جوفي، وكان جوفي في تنور محمي يلتهب توقداً.
قيل لرجل عند الموت: كيف تجدك؟ قال : أجدني كأن السموات منطبقة على الأرض علىّ وأجد نفسي كأنها تخرج من سمّ إبرة.
لمّا حضرت عامر بن قيس الوفاة بكى وقال : إني لم أبك جزعاً من الموت ولا حرصا على الدنيا، ولكن على عدم قضاء وطرى من طاعة ربي، وقيام الليل في أيام الشتاء.
قال الحريرى: حضرت الجنيد عند وفاته وهو يقرأ القرآن فختم فقلت: ياأبا القاسم في مثل هذه الحالة؟ قال : ومن أولى بهذا منى والآن تطوى صحيفتي.
لمّا احتضر مكحول ضحك، وكان الغالب عليه الحزن، فقيل له: لم ضحكت؟ قال: دنا فراق من كنت أحذره، ولقاء من كنت أرجوه.
لمّا حضرت عبدالملك بن مروان الوفاة: قيل: كيف تجدك يا أمير المؤمنين؟ قال أجدني كما قال الله تعالى { وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُم مَّا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاء ظُهُورِكُمْ } الأنعام 94
لمّا حضرت المأمون الوفاة: فرش رماداً واضطجع عليه، وكان يقول: يا من لا يزول ملكه ارحم من قد زال ملكه.
لمّا حضرت عبدالله بن المبارك الوفاة: ضحك وقال { لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلْ الْعَامِلُونَ } الصافات 61
احتضر بعض الصالحين فبكت أمرأته فقال لها: ما يبكيك؟ قال ت عليك أبكي فقال: إن كنت باكية فابك على نفسك، فقد بكيت لهذا اليوم أربعين سنة.
قيل لرويم عند الوفاة: قل لا إله إلا الله، قال : ماأحسن غيره.(1/180)
لمّا احتضر أحمد بن حضر الوفاة: دمعت عيناه وقال: يا بني باب كنت أدقه خمساً وتسعين سنة، هو ذا يفتح الساعة لي لا أدري أيفتح بالسعادة أو الشقاوة.
لمّا احتضر الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله: جعل يئنّ ويقول: آه آه، فقيل له ياإمام إن الأنين يُكتب، فما أنّ رحمه الله حتى مات.
دخل بعض الناس على صحابي في مرضه، ووجهه يتهلّل، فسألوه عن سبب تهلّل وجهه، قال ما من عمل عندي أوثق من خصلتين، كنت لا أتكلم فيما لا يعنيني، وكان قلبي سليماً للمسلمين.
اجتهد أبو موسى الأشعري - رضي الله عنه - قبل موته اجتهاداً شديداً فقيل له: لو رفقت بنفسك بعض الرفق، قال: إن الخيل إذا أرسلت فقاربت رأس مجراها أخرجت جميع ما عندها، والذي بقى من أجلى أقلّ من ذلك، قال : فلم يزل على ذلك حتى مات، وكان يقول لأمرأته شدي رحلك ، أي جهزي نفسك للسفر البعيد، فليس على جهنم معبر.
قال سحيم: جلست إلى عامر بن عبدالله وهو يصلي فأوجز في صلاته، ثم أقبل علىّ فقال: عجّل بحاجتك فإني أبادر، قلت وما تبادر؟ قال ملك الموت رحمك الله، فقمت عنه وقام إلى صلاته.
لمّا احتضر سفيان الثوري قال له حمّاد بن سلمه: أليس قد أمنت ممّا كنت تخافه وتقدم على من ترجوه وهو أرحم الراحمين، فقال: يا أبا سلمه أتطمع لمثلى أن ينجو من النار؟ قال: أي والله، إني لأرجو لك ذلك.
دخل شاب على أحد الصالحين، وهو في مرضه الذي مات فيه، وقد تورم وجهه، وبين يديه مخدة يصلى إليها، فقال : وفي هذه الساعة لا تترك الصلاة؟ فلما سلّم دعاه وقال شيء وصلت به إلى الله فلا أدعه، ومات بعد ساعة رحمه الله
ختم آدم بن إياس القرآن وهو مٌسجي للموت، ثم قال : بحبي لك إلا رفقت بي في هذا المصرع، كنت آملك لهذا اليوم، وأنا اليوم أرجوك لا إله إلا الله، ثم قٌضى
مرض أعرابي فقيل له إنك تموت، فقال أين يذهب بي؟ قالوا: إلى الله، قال فما كراهتي أن أذهب إلى من لا يٌرى الخير إلا منه.(1/181)
كان بعض الصالحين ينادي بليل على سور المدينة: الرحيل.. الرحيل، فلما توفي، فقد أمير المدينة صوته، فسأل عنه فقيل: إنه قد مات، فقال :
مازال يلهج بالرحيل وذكره ... حتى أناخ ببابه الجمّال
فأصابه متيقظاً متشمراً ... ذا أهبة لم تلهه الآمال
قال المزني: دخلت على الشافعي في علته التي مات فيها، فقلت ياأبا عبد الله كيف أصبحت؟ قال : أصبحت من الدنيا راحلاً، ولإخواني مفارقاً، وبكأس المنية شارباً، ولا أدري: نفسي تصير إلى الجنة فأهنئها، أم إلى النار فأعزيها؟ ثم قال
ولمّا قسى قلبي وضاقت مذاهبي ... جعلت الرجا مني بعفوك سلما
تعظمني ذنبي فلمّا قرنته ... بعفوك ربي كان عفوك أعظما
ومازلت ذا عفو عن الذنب لم تزل ... تجود وتعفو منّة وتكرما
ولولاك ما أغوى بابليس عابد ... فكيف وقد أغوى صفيك آدما(1/182)
فانظر رحمك الله بعين العظة والاعتبار لهؤلاء الصالحين، وكيف كان حالهم لحظة الاحتضار في ذلك ماحرّك كل همة، وقلل بالعين كل عمل، وزهّد في الدنيا كل نفس، وأوجل من الله كل قلب، وبادر إلى التوبة كل عاصي، فلا بد ولا محالة، ستأتيك لحظة حطّ الرحال، وأنتهاء الآجال، فهل ستمضي من الآن على درب الهدى والصلاح؟ وإلاّ كنت رفيق من ندموا وبكوا الدم مكان الدموع وقال كما قال تعالى { حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمْ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ َعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحاً فِيمَا تَرَكْتُ كَلاَّ إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَسَاءَلُونَ فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ تَلْفَحُ وُجُوهَهُمْ النَّارُ وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ أَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ قَالُوا رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْماً ضَالِّينَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ قَالَ اخْسَئُوا فِيهَا وَلا تُكَلِّمُونِ } المؤمنون 99، 106
ولحقت بمن كانت نهايتهم إذا حان أجلهم على غير توبة، يقول لسان حاله لملك الموت: هل أنت ممهلي حتى احدث عهداً، فيجيبه بلسان الحال: هيهات انقطعت مدتك، وانقطعت أنفاسك، فليس إلى تأخيرك سبيل، فتقول: إلى أين تذهب بي؟ فيقال لك: إلى عملك الذي قدمته، وإلى بيتك الذي مهدته، فتقول فإني لم أقدّم صالحاً ولم أٌمهّد بيتاً حسنا، فيرد عليك: فإلى لظى نزاعة للشوى، فياعبد الله: بادر بالتوبة والعودة إلى الله من الآن، فالأيام أمامك والفرصة بين يديك.
الفصل العاشر: القبر
[(1/183)
إمّا روضة من رياض الجنة، وإمّا حفرة من حفر النار]
إن القبر أول منزل من منازل الآخرة، فإن كان هيّناً فما بعده أهون منه، وإن كان عسيراً فما بعده أشد منه.
قال البراء بن عازب - رضي الله عنه - : بينما نحن مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذ أبصر جماعة فقال علام اجتمع هؤلاء؟ قيل: على قبر يحفرونه، قال : ففزع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فبدر بين يدى أصحابه مسرعاً حتى انتهى عليه، فبكى حتى بلّ الثرى من دموعه، ثم أقبل علينا فقال: أى إخواني لمثل هذا اليوم فأعدوا) أحمد بسند حسن(ص ج ص).
وقال - صلى الله عليه وسلم - (لم يأت على القبر يوم إلا تكلم فيه، يقول: أنا بيت الغربة، وأنا بيت الوحدة، وأنا بيت التراب، وأنا بيت الدود) الترمذي.
وإذا سألنا القبر ماذا فعلت بالموتى؟ لأجابنا بلسان حاله قائلاً: أبليت الأكفان وقطّعت الأوصال ففصلت الكتفين عن العضدين، والمرفقين عن اليدين، والساقين عن القدمين، ولو رأيتني كيف أغلغل التراب في أكفانهم وسالت الأحداق علي وجناتهم، وذهب الدود ينهش أجسادهم، أما تدرى كم طوي فىّ من وجه ناعم، وانطويت علي جود وكرم، أوعلى شقاء وألم، أما رأيت أصحاب الدنيا بينما هم فيه من الخدم يرفلون، وفى القصور يسكنون وعلي الفرش ينامون ويتنعمون، إذ جاءهم ملك الموت، فحيل بينهم وبين ما يشتهون فيخطفهم بلا استئذان من أحد، فإذا هم من هذا كله وتحت أطباق الثري مجندلين مجردين يواجهون أعمالهم وقد عاد عنهم أهلوهم ولم يدخل معهم إلا الأعمال، أما رأيتني وأنا أعتصرهم وأخالف بين أضلاعهم وأضيق عليهم أنفاسهم أمارأيت أرواحهم وهى تستغيث في حفرة من النيران أو تتنعم في روضات من الجنان سبحان الله أهذا كله فيك يا قبر.(1/184)
إن للموت أخذة تسبق اللمح بالبصر، فكأني أراكم في ثياب من المدر، فقد نقلتم من القصور إلى ظلمة الحفر،حيث لا تٌضرب القباب عليكم ولا الحجر، حيث لا تخرجون فيها إلى اللهو والسمر، رحم الله مسلماً ذكر الله فازدجر.
ياعبد الله: كن حذراً من أربع غارات: غارة ملك الموت على روحك، وغارة الورثة على مالك، وغارة الدود على جسمك في قبرك، وغارة الخصماء على حسناتك يوم القيامة.
فكيف تواجه هذه الغارات ايها العبد ؟
ليس الغريب غريب الشام واليمن ... إن الغريب غريب اللحد والكفن
إن الغريب له حق لغربته ... على المقيمين في الأوطان والسكن
لا تنهرنّ غريباً حال غربته ... الدهر ينهره بالذل والمحن
سفرى بعيد وزادي لن يبلغني ... وقوتي ضعفت والموت يطلبني
ولي بقايا ذنوب لست أعلمها ... الله يعلمها في السر والعلن
ما أحلم الله عني حيث أمهلني وقد تماديت في ذنبي ويسترني
تمر ساعات أيامي بلا ندم ... ولا بكاء ولا خوف ولا حزن
أنا الذي أغلق الأبواب مجتهداً ... على المعاصي وعين الله تنظرني
يا زلة كتبت في غفلة ... يا حسرة بقيت في القلب تحرقني
دع عنك عزلي يا من كان يعزلني لو كنت تعلم ما بي كنت تعذرني
دعني أنوح على نفسي وأندبها وأقطع الدهر بالتذكار والحزن
دعني أسحّ دموعاً لا قياس لها ... فهل عسى عبرة منها تخلصني
كأنني بين تلك الأهل منطرح ... على الفراش وأيديهم تقلبني
كأنني وحولي من ينوح ومن يبكي عليّ وينعاني ويندبني
وقد أتو بطبيب كي يعالجني ولم أر الطبيب اليوم ينفعني
واشتد نزعي وصار الموت يجذبها من كل عرق بلا رفق ولا هون
وأخرج الروح مني في تغرغرهتا وصار ريقي مريراً حين غرغرني
وسل روحي وظل الجسم منطرحاً على الفراش وأيديهم تقلبني
وغمّضوني وراح الكل وانصرفوا بعد الإياس وجدوا في شري الكفن
وقام من كان أولى الناس في عجل ... إلى المغسل يأتيني يغسلني
وجاءني رجل منهم فجردني من الثياب وأعراني وأفردني
واضجعوني على الألواح منطرحاً وصار فوقي خرير الماء أفزعني(1/185)
وأسكب الماء من فوقي وغسلني غسلاً ثلاثاً ونادى القوم بالكفن
وألبسوني ثياباً لا كمام لها وصار زادي حنوطاً حين حنطني
وقدموني إلى المحراب وانصرفوا خلف الإمام فصلى ثم ودعني
صلوا علىّ صلاة لا ركوع لها ولا سجود لعلّ الله يرحمني
وأخرجوني من الدنيا فوا أسفا على رحيل بلا زاد يبلغني
وحملوني على الأكتاف أربعة من الرجال وخلفي من يشيعني
وانزلوني إلى قبري على مهل وقدموا واحداً منهم يلحدني
وكشف الثوب عن وجهي لينظرني وأسكب الدمع من عينيه أغرقني
فقام محتزماً بالعزم مشتملاً واطرح اللبن من فوقي وفارقني
وقال هلوا عليه التراب واغتنموا حسن الثواب من الرحمن بالمنن
بكيت لما علاني الترب منجدلاً صار التراب على ظهري يثقلني
في ظلمة القبر لا أم هناك ولا أب شفيق ولا أخ يؤانسني
وهالني صورة في العين إذ نظرت من هول مطلع ما كان أغفلني
من منكر ونكير ما أقول لهم قد هالني أمرهم جداً فأفزعني
واقعدوني وجدّوا في سؤالهم مالي سواك إلهي من يخلصني
وأمنن عليّ بعفو منك يا أملي فإنني موثق بالذنب مرتهن
تقاسم الأهل مالي بعدما انصرفوا وصار وزري على ظهري يثقلني
فلا تغرنك الدنيا وزخرفها وانظر إلى فعلها في الأهل والوطن
وانظر إلى من حوى الدنيا ليجمعها هل راح منها بغير القطن والكفن
يازارع الخير تحصد بعده ثمراً يازارع الشر موقوف على الوهن
يا نفس كفّي عن العصيان واكتسبي فعلاً جميلاً لعل الله يرحمني
يا نفس ويحك توبي وأعملي حسناً عسى تجازين بعد الموت بالحسن
فيا من يرحل في كل يوم مرحلة، وكتابه قد حوى حتى الخردلة، كيف تلهو وبين يديك حساب الزلزلة، وجلدك لابد للديدان أن تأكلة، فيا عجباً من فتور موقن بالحساب والمساءلة، أما الليالي والأيام تهدم الآجال، أما المقيم في الدنيا إلى زوال أما بعد إستقرار المنى هجوم الآجال، أما علمتم بالرحيل وقرب الانتقال ، أما ظهرت لكم العبر، وضربت لكم الامثال: -
وسوف ترى إذا انجلى الغبار ... أفرس كان تحتك أم حمار(1/186)
ياقبر: هل للوحشة فيك من أنيس؟ ياقبر: هل للغربة فيك من جليس؟ فيجيب بلسان حاله: القبر نور إذا نوّرت قلبك بالإيمان والقرآن، وعملك الصالح أنيسك وجليسك يغني عن الأهل والإخوان والخلان.
يا عبد الله: كم أخرج الموت نفساً من دارها لم يدارها، وكم أنزل أجساداً في قبورها لم يجارها، وكم أجرى العيون كالعيون بعد قرارها، أين من ملك المغارب والمشارق إذا حلّ به ما شيّب المفارق، ونقل من جوار المخلوقين إلى جوار الخالق وبقى رهيناً بأعماله.(1/187)
وفي معنى أحاديث صحيحة: أن المؤمن إذا جاء موعد خروجه من هذه الدنيا نزل عليه ملائكة وجوههم كالشمس، يحملون أكفاناً من الجنة ويأتيه ملك الموت فيقول: (أيتها الروح الطيبة أخرجي إلى مغفرة من الله ورضوان، أخرجي أيتها النفس الطيبة كانت في الجسد الطيب، أخرجى حميدة وأبشري بروح وريحان ورب غير غضبان) فتخرج روحه ويأخذها الملائكة ويضعوها في هذه الأكفان، فيصعدون بها إلى السماء، فتخرج منها رائحة أطيب من المسك، وكلما مروا على ملأ من الملائكة قالوا: ما هذه الروح الطيبة؟ فيقولون: روح فلان بن فلان بأطيب أسمائه، فيأتون به أرواح المؤمنون فلهم أشد فرحاً به من أحدكم بغائبة يقدم عليه فيسألونه ماذا فعل فلان؟ ماذا فعل فلان؟ فيقولون: دعوه فإنه كان في غمّ الدنيا، وتقول الملائكة: مرحباً بالنفس الطيبة كانت في الجسد الطيب، ادخلي حميدة، وأبشري بروح وريحان ورب غير غضبان، فلا يزال يقال لها ذلك ويشبعه من كل سماء مقربوها إلى السماء والتي تليها، حتى ينتهي بها إلى السماء التي فيها الله تبارك وتعالى فيقول الله تعالى(اكتبوا كتاب عبدي في عليين وأعيدوا عبدي فإني منها خلقتهم وفيها أعيدهم ومنها أخرجهم تارة أخرى) فيجلس الرجل الصالح في قبره غير فزع ولا مشعوف ويأتيه ملكان في قبره فيقولان له: من ربك؟ فيقول: ربي الله فيقولان له: ما دينك؟ يقول: دينى الإسلام، فيقولون: ما هذا الرجل الذي بُعث فيكم؟ فيقول: هو رسول الله، فيقولان له: وما علمك؟ فيقول: قرأت كتاب الله فأمنت به وصدقت، فينادي مناد من السماء (أن صدق عبدي فأفرشوه من الجنة، وألبسوه من الجنة وافتحوا له باباً إلى الجنة) فيأتيه من روحها الطيب ويفسح له في قبره مد البصر، ويأتيه رجل حسن الوجه، حسن الثياب، طيب الريح، فيقول: أبشر بالذي يسرك هذا يومك الذي كنت توعد فيقول: من أنت فوجهك الوجه الذي يجيء بالخير، فيقول: أنا عملك الصالح فوالله ما علمتك إلا كنت سريعاً في طاعة الله،(1/188)
بطيئاً في معصية الله، فجزاك الله خيراً، فيقول: رب أقم الساعة حتى أرجع إلى أهلي ومالي، فيقال: نم كنومة العروس الذي لا يوقظه إلا أحب أهله إليه حتى يبعثه الله من مضجعه ذلك، ويقال له: على اليقين كنت وعليه مت وعليه تبعث إن شاء الله، من يفز ياعبد الله بكل هذا النعيم إن لم تفز به أنت؟ ومن ينل كل هذا الثواب إن لم تنله أنت؟
وأمّا العاصي، وأما الضال، وأما الفاجر، وأما الفاسق، وأما من يعص الله ليل نهار ولا يبالي، ويتبجح على الله تعالى بالذنوب والمعاصي ولا يتوب، وتعدّى الحدود وعصى المعبود: انظر إلى هذا العبد الذي سوّد قلبه بالمعاصي، ونتن رائحته بكثرة الذنوب، انظر إليه ماذا يلاقي عند موته وفي قبره، لعلنا نتوب وياليتنا نتوب ونرضى الله بطاعتنا ولا نغضبه بكثرة ذنوبنا.(1/189)
وأمّا العبد الضال إذا حان أجله نزل عليه ملائكة سود الوجوه معهم المسوح، ويأتيه ملك الموت فيقول (أيتها الروح الخبيثة كانت في الجسد الخبيث، اخرجي إلى سخط من الله وغضب، أيتها النفس الخبيثة كانت في الجسد الخبيث، اخرجي ذميمة وأبشري بحميم وغساق وآخر من شكله أزواج) فلا يزال يقال لها ذلك حتى تخرج، وتتفرق روحه في جسده بعدما تصل إلى الحلقوم، مخافة الخروج، فينتزعها ملك الموت انتزاعاً شديداً حتى تتقطع أوصاله، ويضع الملائكة روحه في هذه المسوح، وتخرج منها رائحة خبيثة كأنتن جيفة على وجه الأرض، ثم يصعدون بها إلى السماء فلا يمرون على جماعة من الملائكة إلاّ قالوا: ماهذا الروح الخبيث؟ فيقولون فلان بن فلان بأقبح أسمائه التي كان يسمى بها في الدنيا حتى يصلوا إلى السماء، فيستفتح لها فيقال : (لا مرحباً بالنفس الخبيثة كانت في الجسد الخبيث، ارجعي ذميمة فإنها لا تفتح لك أبواب السماء) مصداق قوله تعالى (لا تفتح لهم أبواب السماء ولا يدخلون الجنة حتى يلج الجمل في سمّ الخياط وكذلك نجزي المجرمين) ويقول الله عز وجل (اكتبوا كتاب عبدي في سجين فى الأرض السفلى) فيلقى الملائكة روحه فتهوى حتى تعود إلى جسده، ويأتيه في قبره ملكان أسودان، أزرقان يقال لأحدهما منكر وللآخر نكير، فيقولان له: من ربك؟ فيقول هاه هاه لا أدري فيقولان: ما دينك؟ فيقول: هاه هاه لا أدري، فيقولان: ما هذا الرجل الذي بعث فيكم؟ فيقول: هاه هاه لا أدري، فينادى مناد من السماء: (أن كذب عبدي فأفرشوه من النار وافتحوا له باباً إلى النار) فيفرج له فرجة ناحية الجنة فينظر إلى زهرتها وما فيها، فيقال له: أنظر إلى ما صرف الله عنك، ثم يفرج له فرجة إلى النار، فينظر إليها يحطم بعضها بعضاً، فيقال: (هذا مقعدك على الشك كنت وعليه مت، وعليه تبعث إن شاء الله) فيأتيه من حرها وسمومها، ويضيق عليه قبره، حتى تختلف أضلاعه، ويأتيه رجل قبيح الوجه، قبيح الثياب منتن الريح، فيقول:(1/190)
أبشر بالذي يسوؤك، هذا يومك الذي كنت توعد، فيقول: من أنت فوجهك الوجه الذي يجيء بالشر فيقول: أنا عملك الخبيث، فوالله ما علمتك إلا كنت بطيئاً عن طاعة الله، سريعاً إلى معصية الله، فيقول: رب لا تقم الساعة، ويضيق عليه قبره حتى تختلف أضلاعه) (ص غ) (ص ج ص).
هذا ياعبد الله هو أول ما يقابل العاصي، هذا جزاء من راح في سخط الله وغدا في غضبه، ياعاصي لم ترحم نفسك في الدنيا، فكيف ترجو رحمة الله عند موتك، وفي قبرك ويوم نشرك وحشرك، أنتنت رائحتك بكثرة الذنوب، فكيف تريدها أن تطيب لك بعد موتك، يالهول ما ينتظرك ياعاصي، يالفظاعة ما ينتظرك ياضال، ملائكة سود الوجوه، تنتظرك بالغضب والغيظ عند موتك، رائحة روحك الكريهة، تزيد على رائحة الجيفة النتنة القذرة، يلقى الملائكة روحك، بعدما أغلقت دونها أبواب السماء من قذارتها، فتهوى لتصل إلى جسمك القذر، يكون كتابك في سجين ويذهب بك إلى أمك الهاوية، فراشك يا ضال في قبرك من النار، الهواء الذي تتنفسه من النار، ياعاصي يضيق عليك قبرك حتى تختلف أضلاعك، تذكر هذا يا عاصي جيداً، وبادر بالتوبة قبل انتقالك إليه كما قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (كما لا يجتنى من الشوك العنب، كذلك لا ينزل الفجار منازل الأبرار، فاسلكوا أي طريق شئتم، فأي طريق سلكتم وردتم على أهله) ابن عساكر بسند صحيح (ص ج ص).
وقال - صلى الله عليه وسلم - (تعلمون المعاد إلى الله ثم إلى الجنة أو إلى النار، وإقامة لا ظعن فيه وخلود لا موت، وأجساد لا تموت) الحاكم بسند صحيح (السلسلة الصحيحة).
قال يزيد بن نعامة: هلكت جارية فرآها أبوها في المنام فقال لها: يابنيّة أخبريني عن الآخرة فقالت: يا أبت قدمنا على أمر عظيم، نعلم ولا نعمل، وتعلمون ولا تعملون، والله تسبيحة أو تسبيحتان، أو ركعة أو ركعتان، في فسحة عمل، أحب إلىّ من الدنيا وما فيها.(1/191)
كان عثمان بن عفإن - رضي الله عنه - : إذا وقف على قبر بكى حتى يبل لحيته، فسئل عن ذلك وقيل له: تذكر الجنة والنار فلا تبكي، وتبكي إذا وقفت على قبر، قال سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: (إن القبر أول منازل الآخرة فإن نجا منه فما بعده أيسر منه وإن لم ينج فما بعده أشد) الترمذي بسند حسن.
تفكر أيها المغرور قبل تفوتك الفكر ... فإن جميع مأعظّمت عند الموت محتقر
كان أبو الدرداء - رضي الله عنه - : يتردد على المقابر ويقول: أجلس إلى قوم، يذكروني معادي وإن قمت لم يغتابوني).
قال إبراهيم بن الأشعت: كنا إذا خرجنا مع الفضيل في جنازة، لا يزال يعظ ويذكر ويبكي حتى لكأنه يودع أصحابه، ذاهب إلى الآخرة، حتى يبلغ المقابر، فيجلس بين الحزن والبكاء فكأنه بين الموتى حتى يقوم ولكأنه رجع من الآخرة يخبر عنها.
عباد الله: اعملوا لظلمة القبر قبل فوات العمل، وبادروا بالتوبة قبل انقضاء الأجل، وتزودوا للقبر فأنتم في فسحة ومهل، فإن الموت آت والعمر فات والطريق طويل والزاد قليل وهول القبر والحشر هائل ثقيل.
قيل: إن الميت ينظر إلى وحدته وانفراده بعد دفنه في حفرته فينادي ولده وأخاه وأباه، ولا يدع أحد من أهله إلا ناداه فلا يجيبه منهم أحد، فيأمر الله عز وجل قبره أن يجيبه فيقول له القبر: ما الذي تريد يا من حيل بينه وبين ما يريد؟ فيقول الميت من أنت أيها المتكلم فقد أحزن كلامك قلبي، فيقول: أنا قبرك وبيت عملك الذي نسيتني، ولو كنت عمرتني كنت اليوم لقيتني ووجدتني، ثم إن القبر يضمه ضمة تختلف فيها أضلاعه.
عبد الله: الدنيا ما مرّ فيها وما بقي منها لا تساوي في نظر من فارق الدنيا شيء فهذا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مرّعلى قبر فقال: ركعتان خفيفتان ممّا تحقرون وتنفلون يزيدهما هذا في عمله أحب إليه من بقية دنياكم) أبو نعيم بسند صحيح (ص ج ص).(1/192)
كان الربيع بن خثيم قد حفر في داره قبراً فكان إذا وجد في قلبه قساوة دخل فيه فاضطجع، وقال ما شاء الله ثم يقول: (رب ارجعون لعلى أعمل صالحاً فيما تركت) يرددها ثم يرد على نفسه: ياربيع قد أرجعتك فأعمل.
القبر باب وكل الناس داخله ... ... يا ليت شعرى بعد الموت ما الدار
الدار دار نعيم ان عملت بما ... ... يرضى الإله وإن خالفت فالنار
هما محلان ما للمرء غيرهما ... ... فاختر لنفسك ماذا أنت تختار
كان عطاء السلمي إذا جن الليل خرج إلى المقبرة ثم يقول: ياأهل القبور متم فواموتاه، وعاينتم أعمالكم فوا عملاه، ثم يقول: غداً عطاء في القبور، غداً عطاء في القبور، فلا يزال ذلك دأبه حتى يصبح.
إن الأرض تنادى كل يوم خمس مرات تقول: يابن آدم تمشي على ظهري ومصيرك إلى بطني، يابن آدم: تأكل الألوان على ظهري وتاكلك الديدان في بطني يابن آدم: تضحك على ظهرى فسوف تبكي في بطني، يابن آدم: تذنب على ظهري فسوف تعذّب في بطني.
الفصل الحادي عشر: يوم القيامة
قال تعالى { وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِن كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ } الأنبياء 47
وقال تعالى { يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَنِ وَفْداً وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلَى جَهَنَّمَ وِرْداً } مريم 85، 86
وقال تعالى { كَلاَّ إِذَا دُكَّتْ الأَرْضُ دَكّاً دَكّاً وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفّاً صَفّاً وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الإِنْسَانُ وَأَنَّى لَه الذِّكْرَى } الفجر 21، 24، تذكر ياعبد الله يوم القيامة { يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفَى مِنكُمْ خَافِيَةٌ } الحاقة 18(1/193)
الكل مكشوف أمام الله مكشوف الجسد، مكشوف العمل، مكشوف المصير، وتسقط جميع الأستارالتي كانت تحجب الأسرار، وتتعرى النفوس، وتبرز الغيوب بروز الشهود، ويتجرد الإنسان من حيطته ومن مكره ومن تدبيره ومن شعوره، ويفتضح منه ما كان حريصاً على أن يستره حتى نفسه، وما أقسى الفضيحة على الملأ، وما أخزاها على عيون الجموع، يوم القيامة لا المال أغني أو نفع، ولا السلطان بقى أو دفع.
فياعبد الله: تذكر الموقف الصعب إذا حفيت منا الأقدام وعريت منا الأجسام، وارتفع الأنين وعرق الجبين، وارتفع منا الصياح، وعلا النياح، وانتشر في عرصات القيامة الصراخ.
مثّل وقوفك يوم العرض عريانا ... مستوحشاً قلق الأحشاء حيرانا
النار تلهب من غيظ ومن حنق على العصاة ورب العرش غضباناً
اقرأ كتابك يا عبدي على مهل ... فهل ترى فيه حرفاً غير ما كانا
لما قرأت ولم تنكر قراءته ... إقرار من عرف الأشياء عرفانا
نادى الجليل خذوه يا ملائكتي ... وامضوا بعبد عصا للنار عطشانا
المشركون غداً في النار يلتهبوا ... والموحدون بدار الخلد سكانا(1/194)
قال يحيى بن معاذ: أيها الناس مهلاً مهلاً، غداً تحشرون إلى الموقف حشراً حشراً وتأتون من الأطراف فوجاً فوجاً، وتوقفون بين يدى الرحمن فرداً فرداً، وتسألون عمّا فعلتم حرفاً حرفاً، وتقاد الأولياء إلى الرحمن وفداً وفداً، ويرد العاصون إلى جهنم ورداً ورداً ، ويدخلون جهنم حزباً حزباً، هذا إذا دكت الأرض دكاً دكاً، وجاء ربك والملك صفاً صفاً، ويجاء بجهنم يومئذ ويلاً ويلاً، والويل من يوم كان مقداره خمسين ألف سنة، يوم الراجفة , يوم الآزفة، يوم القيامة، يوم الحسرة والندامة، فذلك يوم عظيم، يوم يقوم الناس لرب العالمين، وهو يوم المناقشة، ويوم المحاسبة، ويوم الموازنة، ويوم المساءلة، ويوم الزلزلة، ويوم الصيحة، ويوم الحاقة، ويوم القارعة، ويوم النشور، ويوم ينظر المرء ما قدمت يداه، ويوم التغابن، ويوم يصدر الناس أشتأتا ليُروا أعمالهم، ويوم تبيّض وجوه وتسودّ وجوه ويوم لا يغني مولى عن مولىً شيئاً، ويوم لا يجزي والد عن ولده ولا مولود هو جاز عن والده شيئاً، ويوماً كان شره مستطيراً، ويوم لا ينفع الظالمين معذرتهم ولهم اللعنة ولهم سوء الدار، ويوم تأتي كل نفس تجادل عن نفسها، وتوفى كل نفس ما كسبت وهم لا يظلمون.
يوم القيامة لو علمت بهوله ... ... لفررت من أهل ومن أوطان
قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : يعرق الناس يوم القيامة حتى يذهب عرقهم في الأرض سبعين ذراعاً، ويلجمهم حتى يبلغ إذانهم) متفق عليه.
قال - صلى الله عليه وسلم - (تدنو الشمس من العباد حتى تكون قدر ميل أو ميلين فتصهرهم الشمس فيكونون في العرق على قدر أعمالهم، فمنهم من يأخذه إلى عقبيه ومنهم من يأخذه إلى ركبتيه، ومنهم من يأخذه إلى حقويه، ومنهم من يلجمه إلجاماً) مسلم.(1/195)
وقال - صلى الله عليه وسلم - (يؤتى بالعبد يوم القيامة فيقول الله: ألم أجعل لك سمعاً وبصراً ومالاً وولداً وسخرت لك الانعام والحرث، وتركتك ترأس وتربع، فكنت تظن أنك ملاقى يومك هذا، فيقول: لا، فيقول: اليوم أنساك كما نسيتنى) الترمذي
يقول الله للعبد يوم القيامة:(يا عبدى، أما استحييت منى، فبارزتني بالقبيح، واستحييت من خلقي، فأظهرت لهم الجميل، أكنت أهون عليك من سائر عبادي، أستخففت بنظرى إليك فلم تكترث به، واستعظمت نظر عبدى، ألم أنعم عليك، فماذا غرّك بي؟) التذكره للقرطبي
وقال - صلى الله عليه وسلم - (ما منكم من أحد إلا سيكلمه الله، ليس بينه وبينه ترجمان، فينظر أيمن منه فلا يرى إلا ما قدم، وينظر أيسر منه فلا يرى إلا ما قدم، وينظر بين يديه، فلا يرى إلا النار تلقاء وجهه، فاتقوا النار ولو بشق تمرة) البخارى
قال - صلى الله عليه وسلم - (إن أول الناس يٌقضى عليه يوم القيامة، ورجل تعّلم العلم وعلمه وقرأ القرآن فأتى به فعرفه نعمه فعرفها، قال: فما عملت فيها؟ قال: تعلمت العلم وعلمته، وقرأت فيك القرآن، قال: كذبت، ولكنك تعلّمت العلم ليٌقال عالم وقرأت القرآن ليُقال قارىء، فقد قيل ثم أُمر به فسُحب على وجهه حتى ألقى في النار) مسلم
وقال - صلى الله عليه وسلم - : يحشر الناس يوم القيامة أعرى ماكانوا قط، وأجوع ما كانوا قط، وأظمأ ما كانوا قط، وأنصب ما كانوا قط، فمن كسا لله كساه الله، ومن أطعم لله أطعمه الله، ومن سقى لله سقاه الله، ومن عفا لله عفا الله عنه) ابن أبى الدنيا.
وقال - صلى الله عليه وسلم - : من حمى مؤمناً من منافق بعث الله ملكاً يحمي لحمه يوم القيامة من نار جهنم، ومن رمى مسلماً بشيء يريد شينه، حبسه الله عز وجل على جسر جهنم حتى يخرج مّا قال) أبو داود بسند صحيح (ص غ).(1/196)
وفي حديث الشفاعة قال - صلى الله عليه وسلم - (فيأتون محمد فيقوم فيؤذن له وتُرسل الأمانة والرحم فتقومان جنبتي الصراط يمينا وشمالاً، فيمر أولكم كالبرق، ثم كمر الريح، ثم كمر الطير وشد الرجال، تجري بهم أعمالهم، ونبيكم قائم على الصراط يقول:يارب سلّم، سلم حتى تعجز أعمال العباد، وحتى يجئ الرجل فلا يستطيع السير إلا زحفا وفي حافتي الصراط كلاليب معلقة مأمورة تأخذ من أمرت بأخذه فمخدوش ناج، ومكدوس في النار) مسلم
مثّل لنفسك أيها المغرور ... ... يوم القيامة والسماء تمور
إذا كورّت شمس النهار وأدنيت ... ... حتى على راس العباد تسير
وإذا النجوم تساقطت وتناثرت ... ... وتبدلت بعد الضياء كدور
وإذا البحار تفجرت من خوفها ... ... ورأيتها مثل الجحيم تفور
وإذا الجبال تقلعت بأصولها ... ... فرأيتها مثل السحاب تسير
وإذا العشار تعطلت وتخربت ... ... خلت الديار فما بها معمور
وإذا الوحوش لدى القيامة حٌشرت ... ... وتقول للأملاك أين نسير
فيقال سيروا تشهدون فضائحاً ... ... وعجائباً قد أحضرت وأمور
وإذا الجليل طوى السما بيمينه ... ... طيّ السجل كتابه المنشور
وإذا الصحائف عند ذاك تساقطت ... ... تبدى لنا يوم القصاص أمور
وإذا الجحيم تسعرت نيرانها ... ... فلها على أهل الذنوب زفير
وإذا الجنان تزخرفت وتطيبت ... ... لفتى على طول البلاء صبور
وإذا الجنين بأمه متعلق ... ... خوف الحساب وقلبه مذعور
هذا بلا ذنب يخاف لهوله ... ... كيف المصر على الذنوب يصير(1/197)
فانظر إلى نفسك ياعبد الله: إذا تطايرت الكتب ونصبت الموازين، وقد نوديت باسمك على رؤوس الخلائق، أين فلان ابن فلان؟ هلمّ إلى العرض على الله تعالى، فعلمت أنك المطلوب، فارتعدت فرائصك، واضطربت جوارحك، وتغير لونك، وطار قلبك، وتخطى بك الصفوف، إلى ربك للعرض عليه، والوقوف بين يديه، وقد رفع الخلائق إليك أبصارهم وأنت في أيديهم وقد طار قلبك، واشتد رعبك، لعلمك أين يُراد بك، فانظر إلى نفسك في الموقف الصعب الشديد، بين يدى ربك في يدك صحيفة مخبرة بعملك، لا تغادر بلية كتمتها ولا مخبئة أسررتها، وأنت تقرأ ما فيها بلسان كليل، وقلب منكسر، والأهوال محدقة بين يديك، ومن خلفك، فكم من بلية كنت نسيتها ذكّرك إياها، وكم من سيئة، قد كنت أخفيتها أظهرها وأبداها، وكم من عمل ظننت أنه قد سلم لك وخلص فرده عليك في ذلك الموقف، وأحبطه بعد أن كان أملك فيه عظيماً، فياحسرة قلبك وياأسفك على ما فرطت فيه من طاعة ربك، وياشدة سرورك إن كنت من السعداء وقد خرجت على الخلائق مسرور الوجه قد حلّ بك الكمال والحسن، كتابك بيمينك، ينادي ملك على رؤوس الخلائق: هذا فلان ابن فلان، سعد سعادة لا يشقى بعدها أبداً، فتقول كما قال تعالى { هَاؤُمْ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ إِنِّي ظَنَنتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسَابِيَهْ } فتقول لاصحابك: هل تعرفونني، فيقولون: قد غمرتك كرامة الله، من أنت فيقول: فلان بن فلان { كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الأَيَّامِ الْخَالِيَةِ } الحاقة 24
وإن كنت من أهل الشقاوة فيسود وجهك، وتتخطى الخلائق كتابك في شمالك أومن وراء ظهرك، تنادي بالويل والثبور، وملك أخذ بضبعيك، ينادي على رؤؤس الخلائق ألا إن فلان بن فلان شقى شقاوة لا يسعد بعدها أبداً، فتنظر إلى النار، وتزرّق عيناك، ويسودٌ وجهك، وتٌكسى سرابيل القطران، فتقول كما قال تعالى { يا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ(1/198)
كِتَابِيَهْ وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ يَا لَيْتَهَا كَانَتْ مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ } الحاقة 25: 29 ثم يأتيك قضاؤك الذي جنته يداك { خُذُوهُ فَغُلُّوهُ ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعاً فَاسْلُكُوهُ } الحاقة 30: 32 فيجر بهذه السلاسل ولو أن حلقة منها وضعت على جبل لإذابته، فينادي أصحابه هل تعرفونني؟ فيقولون: لا، ولكن نرى ما بك من الخزي فمن أنت؟ فيقول: فلان بن فلان، لكل منكم مثل هذا.
- وإذا أردت النجاة من أهوال القيامة وكربها ففي هذا الحديث:(1/199)
قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (إني رأيت البارحة عجباً، رأيت رجلاً من أمتى جاءه ملك الموت ليقبض روحه فجاءه برّه بوالديه فرده عنه، ورأيت رجلاً من أمتى قد بٌسط عليه عذاب القبر فجاءه وضوؤه فاستنقذه من ذلك، ورأيت رجلاً من أمتي قد احتوشته الشياطين فجاءه ذكر الله فخلصه من بينهم، ورأيت رجلاً من أمتي قد احتوشته ملائكة العذاب، فجاءته صلاته فاستنقذته من أيديهم، ورأيت رجلاً من أمتي يلهث عطشاً كلما ورد حوضاً مٌنع وطٌرد، فجاءه صيامه فسقاه وأرواه، ورأيت رجلا من أمتي والنبيون قعوداً حلقاً حلقاً كلما دنا لحلقة طردوه، فجاءه اغتساله من الجنابة فأخذ بيده وأقعده بجنبي، ورأيت رجلاً من أمتي، من بين يديه ظلمه، ومن خلفه ظلمة، وعن يمينه ظلمة، وعن شماله ظلمة ومن فوقه ظلمة، ومن تحته ظلمة، وهو متحير فيها، فجاءته حجته وعمرته فاستخرجاه من الظلمة وأدخلاه في النور ورأيت رجلاً من أمتي، يٌكلم المؤمنين فلا يكلمونه، فجاءته صلة الرحم فقالت: يا معشر المؤمنين كلموه فكلموه، ورأيت رجلاً من امتي يتقي شرر النار ووهجها بيده عن وجهه، فجاءته صدقته فصارت ستراً على وجهه وظللاً على رأسه، ورأيت رجلاً من أمتي قد أخذته الزبانية من كل مكان، فجاءه أمره بالمعروف ونهيه عن المنكر، فاستنقذه من أيديهم، وأدخلاه في ملائكة الرحمة، ورأيت رجلاً من أمتي جاثياً على ركبتيه بينه وبين الله حجاب، فجاءه حسن خلقه، فأخذ بيده فأدخله على الله، ورأيت رجلاً من أمتي قد هوت صحيفته من قبل شماله، فجاءه خوفه من الله تعالى فأخذ صحيفته فجعلها في يمينه، ورأيت رجلاً من أمتي قد خف ميزانه فجاءه أفراطه فثقّلوا ميزانه، ورأيت رجلاً من أمتي قائماً على شفير جهنم فجاءه وجله من الله فاستنقذه من ذلك ومضى، ورأيت رجلاً من أمتي قد هوى في النار فجاءته دموعه التي بكى من خشية الله في الدنيا فاستخرجته من النار، ورأيت رجلاً من امتي قائماً على الصراط يرعد كما ترعد(1/200)
السعفة فجاءه حسن ظنه بالله فسكن رعده ومضى، ورأيت رجلاً من امتى على الصراط يزحف أحياناً ويحبوا أحياناً فجاءته صلاته عليه فأخذت بيده واقامته ومضى على الصراط، ورأيت رجلاً من أمتى انتهى إلىأبواب الجنة فغلقت الأبواب دونه فجاءته شهادة إلا إله إلا الله ففتحت له الأبواب وأدخلته الجنة)الترمذي بسند صحيح(ص غ)(أفراطه:أولاده الذين ماتوا صغارا
الفصل الثاني عشر: النار
قال تعالى { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدَادٌ لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ } التحريم:6
قال تعالى: { إِنَّ جَهَنَّمَ كَانَتْ مِرْصَاداً لِلْطَّاغِينَ مَآباً لابِثِينَ فِيهَا أَحْقَاباً لا يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْداً وَلا شَرَاباً إِلاَّ حَمِيماً وَغَسَّاقاً جَزَاءً وِفَاقاً إِنَّهُمْ كَانُوا لا يَرْجُونَ حِسَاباً وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا كِذَّاباً وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ كِتَاباً فَذُوقُوا فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلاَّ عَذَاباً } النبأ 22: 26
قال تعالى { وَأَعْتَدْنَا لِمَنْ كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ سَعِيراً إِذَا رَأَتْهُم مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظاً وَزَفِيراً وَإِذَا أُلْقُوا مِنْهَا مَكَاناً ضَيِّقاً مُقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنَالِكَ ثُبُوراً لا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُوراً وَاحِداً وَادْعُوا ثُبُوراً كَثِيراً } الفرقان: 14:11
قال تعالى { وَمَا أَدْرَاكَ مَا سَقَرُ لا تُبْقِي وَلا تَذَرُ لَوَّاحَةٌ لِلْبَشَرِ عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ } المدثر:27:30
- والنار لها سبعة أبواب: -(1/201)
الجحيم: إن الجحيم هي النار الشديدة التأجج والاشتعال، قال تعالى { وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِمَن يَرَى } النازعات: 36 فهي بارزة يوم القيامة أمام الأنظار يتوهج أوأورها، ويمتد لهيبها، يخلع هولها القلوب الآثمة ويزلزل صوتها العقول الجاحدة فكيف بمن أخذ لها ليكون وقوداً ويذوق العذاب الأليم لا يخفف عنه ولا هو خارج منها قال تعالى { خُذُوهُ فَاعْتِلُوهُ إِلَى سَوَاء الْجَحِيمِ } الدخان: 47 الزبانية يجرون المجرم في غلظة وعنف يليقان بمقامه، فهو يضرب تاره، ويؤنب أخرى مأخوذ إلى وسط الجحيم، وهل أنه يستطيع الفرار حتى ينساق هكذا، كلاّ ولكنه الإمعان في التحقير والإهانة والتعذيب، افجر أيها الإنسان كما تشاء في دنياك، هذه التي تحسبها خالدة فإن الجحيم لك بالمرصاد.
السعير : لهب جهنم عالى الألسنة كثيرها قال تعالى { إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَلاسِلا وَأَغْلالاً وَسَعِيراً } الإنسان: 4 أي مهرب في هذه النار الغزيرة اللهب العإلى المتأجج حتى يصفد الكافرون بالسلاسل والقيود الثقيلة.
لظى: - قال تعالى { كَلاَّ إِنَّهَا لَظَى } المعارج: 16،15 سميت لظى لأنها تتلهب وتحترق، إنها تنزع جلد الآدمي كالوحش عندما يمزق الفريسة.
الحطمة: - قال تعالى { وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحُطَمَةُ نَارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الأَفْئِدَةِ إِنَّهَا عَلَيْهِمْ فِي عَمَدٍ مُمَدَّدَةٍ } الهمزة 5: 9 تحطم كل ما يلقى فيها، إنها نار الله، وملامحها، نار موقدة وهل النار تكون إلا موقده، نعم، ولكن وصفها بالموقدة هنا يوحي بأن سواها يكاد يكون منطفئاً بالقياس معها فمن رآها قال: هذه النار أما سواها فهو الرماد مهما بلغ اتقاد جمره، إنها هنا لتذيق صاحب كل جريمة ما ينبغي أن يناله من العذاب، وهى مغلقة على المجرمين لا منفذ فيها للفرار معدة لتحطيم المعاقب تماماً دون استثناء ذرة من كيانه.(1/202)
الهاوية: قال تعالى { وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ وَمَا أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ نَارٌ حَامِيَةٌ } القارعة 11:8هي المكان الشديد الانخفاض، لا يخرج من يسقط فيه أين يأوي صاحب الموازين الخفيفة، إن أمه التي يرجع إليها وبها يلوذ هى الهاوية، فماذا يجد في هذا المأوى نار حامية، فلا أمن ولا راحة، إنه يجد ناراً أحمى ما تكون.
سقر: سميت سقر لأنها لا تبقي ولا تذر، ولأنها تأكل اللحم دون العظم، قال تعالى { وَمَا أَدْرَاكَ مَا سَقَرُ لا تُبْقِي وَلا تَذَرُ لَوَّاحَةٌ لِلْبَشَرِ عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ } المدثر:27:30 النار: النار الكبرى هى نار جهنم الكبرى بشدتها الكبرى بمدتها الكبرى بضخامتها، حيث يمتد بقاؤه فيها ويطول، فلا هو يموت، فيجد طعم الراحة ولا هو يحيا في أمن وراحة، إنما هو العذاب الخالد الذي يتطلع صاحبه إلى الموت، كما يتطلع إلى الأمنية الكبرى، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ناركم هذه التي يوقد ابن آدم جزءاً من سبعين جزء من نار جهنم) البخاري، يعني: لو جمع كل ما في الوجود من النار التي يوقدها ابن آدم لكانت جزءاً من أجزاء جهنم السبعين.
النار دائمة أبد الآبدين: - قال تعالى { وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ لا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُم مِّنْ عَذَابِهَا كَذَلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ } فاطر:36
قال تعالى { إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي عَذَابِ جَهَنَّمَ خَالِدُونَ لا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا هُمْ الظَّالِمِينَ } الزخرف 74، 76
قال تعالى { يُرِيدُونَ أَن يَخْرُجُواْ مِنَ النَّارِ وَمَا هُم بِخَارِجِينَ مِنْهَا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُّقِيمٌ } المائدة 37
إن سجن جهنم دائم، قال تعالى { وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيراً } الإسراء 8(1/203)
إنها الخسران الرهيب الذي ليس كمثله خسران، والنار من فوقهم ومن تحتهم قال تعالى { قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنْ النَّارِ وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ ذَلِكَ يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِ عِبَادَهُ يَا عِبَادِ فَاتَّقُونِ } الزمر 15، 16
إنها نار لا ينطفىء لهيبها ولا يخمد سعيرها، ولايفك أسيرها ولا يفارقها غريمها، وقد علمنا أن كل غريم مفارق غريمه إلا غريم جهنم، قال تعالى: { رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَاماً إِنَّهَا سَاءَتْ مُسْتَقَرّاً وَمُقَاماً } الفرقان 65، 66
إنها نار تتقطع غيظاً على ساكنيها، تحرق الجلود، وتصل إلى القلوب: قال تعالى { كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُوداً غَيْرَهَا لِيَذُوقُواْ الْعَذَابَ } النساء 56
تأخذ ملائكة العذاب العاصي مكبّلاً بالأغلال إلى جهنم يحترق فيها، وتدخل في فمه سلسلة عظيمة من حديد تتوقد ناراً من فمه، حتى تخرج من دبره، قال تعالى { ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعاً فَاسْلُكُوهُ } الحاقة30: 32
فكيف لنا بنار قال عنها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : أوقد الله على النار ألف سنة حتى احمرت وألف سنة حتى ابيضت وألف سنة حتى اسودت فهي سوداء مظلمة) الترمذي(1/204)
إنها نار: - مظلمة المسالك، مبهمة المهالك، يخلد فيها الأسير، ويرقد فيها البعير، شرابهم فيها الحميم، ومستقرهم الجحيم، الزبانية تقمعهم، والهاوية تجمعهم، أمانيهم فيها الهلاك، وليس لهم منها فكاك، قد شّدت أقدامهم إلى النواصي واسودت وجوههم من ظلمة المعاصي، لا ينجيهم الندم، ولا يغنيهم الأسف، بل يكبون على وجوههم مغلولين النار من فوقهم، والنار من تحتهم، والنار عن أيمانهم والنار عن شمائلهم، فهم غرقى في النار، طعامهم النار، شرابهم النار، لباسهم النار، ومهادهم النار، تغلي بهم النار كغلي القدور، ويهتفون بالويل والثبور، يُصبّ من فوق رؤوسهم الحميم، يُصهر به ما في بطونهم والجلود، ولهم مقامع من حديد تهشم بها جباههم، فينفجر الصديد من أفواههم، وتتقطع من العطش أكبادهم.
طعامهم: قال تعالى { لَيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلاَّ مِنْ ضَرِيعٍ لا يُسْمِنُ وَلا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ } الغاشية 6، 7، وقال تعالى { وَطَعَاماً ذَا غُصَّةٍ وَعَذَاباً أَلِيماً } المزّمل 13(1/205)
إن الضريع أمرّ من الصبر وأنتن من الجيفة وأشد حراً من جهنم، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (يُلقى على أهل النار الجوع فيعدل ماهم فيه من العذاب فيستغيثون، فيغاثون بطعام من ضريع ايثمن ولا يغني من جوع، فيستغيثون بالطعام فيُغاثون بطعام ذي غصة فيذكرون أنهم كانوا يجيزون الغصص في الدنيا بالشراب، فيستغيثون بالشراب، فيُرفع لهم الحميم بكلاليب الحديد، فإذا دنت من وجوههم شوت وجوههم، فإذا دخلت بطونهم قطعت ما في بطونهم، فيقولون: ادعوا خزنة جهنم فيقولون: ألم تك تأتيكم رسلكم بالبينات؟ قالوا: بلى، قالوا: فادعوا وما دعاء الكافرين إلا في ضلال فيقولون: ادعوا مالكاً فيقولون: يا مالك ليقضى علينا ربك قال: فيجيبهم إنكم ماكثون، قال فيقولون: ادعوا ربكم فلا أحد خير من ربكم، فيقولون: ربنا غلبت علينا شقوتنا، وكنا قوماً ضالين، ربنا أخرجنا منها فإن عدنا فإنا ظالمون، قال : فيجيبهم، اخسئوا فيها ولا تكلمون، فعند ذلك يئسوا من كل خير، وعند ذلك يأخذون في الزفير والحسرة والويل) الترمذي.
قال الأعمش: نٌبّئت أن بين دعائهم وبين إجابة مالك لهم ألف عام
طعامهم الزقوم: قال تعالى { إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ طَعَامُ الأَثِيمِ كَالْمُهْلِ يَغْلِي فِي الْبُطُونِ كَغَلْيِ الْحَمِيمِ } الدخان 43: 46
قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (لو أن قطرة من الزقوم قٌطرت في بحار الدنيا لأفسدت على أهل الدنيا معايشهم، فكيف من يكون طعامه ذلك)أحمد بسند صحيح (ص ج ص).
شرابهم: - القيح والغساق والحميم قال تعالى { مِنْ وَرَائِهِ جَهَنَّمُ وَيُسْقَى مِنْ مَاءٍ صَدِيدٍ يَتَجَرَّعُهُ وَلا يَكَادُ يُسِيغُهُ وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ وَمِنْ وَرَائِهِ عَذَابٌ غَلِيظٌ } إبراهيم 16، 17(1/206)
ماء صديد: يعني القيح والدم وما يسيل من بين لحمه وجلده قال قتاده: هل لكم بهذا يدان أم لكم على هذا صبر، طاعة الله أهون عليكم، يا قوم فأطيعوا الله ورسوله.
قال تعالى { وَإِن يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاء كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءتْ مُرْتَفَقاً } الكهف 29
عندما يقربه من وجهه يتساقط لحم وجهه من حره، فإذا شربه قطع أمعاءه، ويشربون الغساق.
قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (لو أن دلوا من غساق يهراق في الدنيا لأنتن أهل الدنيا) الترمذي بسند حسن.
قال عبدالله بن عمرو - رضي الله عنه - : - الغساق هو القيح الغليظ المنتن.
وشرابهم الحميم، قيل هو النحاس المذاب أو الزيت المغلى، قال { { ِ وَسُقُوا مَاءً حَمِيماً فَقَطَّعَ أَمْعَاءهُمْ } محمد 15
ثيابهم: - النار والقطران، قال تعالى { قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِّن نَّارٍ يُصَبُّ مِن فَوْقِ رُؤُوسِهِمُ الْحَمِيمُ } الحج: 19
وقال تعالى { سَرَابِيلُهُم مِّن قَطِرَانٍ وَتَغْشَى وُجُوهَهُمْ النَّارُ } إبراهيم:50
لو أن ثوباً من ثياب أهل النار علق بين السماء والأرض لمات من في الأرض كلهم جميعاً من حر ناره ونتن ريحه، والقطران هو النحاس المذاب أو هو مادة تساعد على الاشتعال.
هيئتهم ومنظرهم: قال تعالى { تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ } المؤمنون: 104 تلفح وجوههم النار أي تشوبه النار فتتقلّص شفته العليا حتى تبلغ وسط رأسه، وتسترخي شفته السفلى حتى تضرب سرته.(1/207)
وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (ضرس الكافر يوم القيامة مثل أحد وعرض جلده سبعون ذراعاً وعضده مثل البيضاء وفخده مثل ورقان ومقعده كما بينى وبين الربذة) أحمد بسند صحيح، فهذا ضرس الكافر في الحجم مثل جبل أحد، وسمك جلده – الذي في الدنيا لا يتعدى بضع المليمترات – يكون قرابة سبعين متراً، وعضلات يده في الحجم مثل جبل البيضاء بالسعودية، وفخده في ضخامة حجمه يكون مثل جبل ورقان ومقعده يكون في مساحة كبيرة كالمسافة بين المدينة المنورة والربذة بالسعودية وازدياد الحجم بهذه الزيادة الرهيبة لزيادة قبح منظره، وزيادة الأماكن في جسده التي يأتيه منها العذاب.
قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (يرسل البكاء على أهل النار فيبكون حتى تنقطع الدموع، ثم يبكون الدم حتى تصير وجوههم كهيئة الاخدود، لو أرسلت فيه السفن لجرت) ابن ماجة بسند حسن (السلسلة الصحيحة)
وقال - صلى الله عليه وسلم - (مابين منكبي الكافر مسيرة ثلاثة أيام للراكب المسرع) متفق عليه وقال - صلى الله عليه وسلم - (إن الكافر يجر لسانه يوم القيامة من ورائه قدر فرسخين يتوطئوه الناس) فهذا لسان الكافر يطول ويخرج من الفم ويزاد طوله بشدة حتى يكون آلاف الامتار يمشي عليه أهل النار.
قال عمرو بن ميمون: إنه ليسمع بين جلد الكافر ولحمه جبلة الدود كجلبة الوحش قال عبدالله بن عمر - رضي الله عنه - : لو أن رجلاً من أهل النار أخرج إلى الدنيا لمات أهل الدنيا من وحشة منظره ونتن ريحه.(1/208)
عذابهم: قال تعالى { وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وُجُوهِهِمْ عُمْياً وَبُكْماً وَصُمّاً مَّأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيراً } الإسراء: 97 وقال تعالى { وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِن كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ وَمِن وَرَآئِهِ عَذَابٌ غَلِيظٌ } إبراهيم: 17 يأتيه مثل شدة الموت من كل أجزاء جسمه، حتى شعره وظفره، ومع هذا لا يموت، وقال تعالى { إِذْ الأَغْلالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَالسَّلاسِلُ يُسْحَبُونَ فِي الْحَمِيمِ ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ } غافر:72،71 أغلال في أعناقهم، وسلاسل عظيمة مقيدة بها أرجلهم، يسحب الكافر في النار حتى ينسلخ منه كل شيء من جلد ولحم وعروق، ويوضع الحميم فوق رؤوسهم فتزول فروة الرأس.
قال تعالى { يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيمَاهُمْ فَيُؤْخَذُ بِالنَّوَاصِي وَالأَقْدَامِ } الرحمن: 41 يجمع بين رأسه وقدمه، فتربط رأسه بقدمه ويكسر ظهره كما يكسر الحطب في التنور ويلقى في جهنم، وقال - صلى الله عليه وسلم - (لو أن مقمعاً من حديد وضع في الأرض فاجتمع عليه الثقلان لما أقلّوه) أحمد بسند حسن، أي لما استطاعوا حمله.
.
عبر ومواقف للصالحين عن النار
سئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن صحف موسى فقال : كانت عبراً كلها، عجبت لمن أيقن بالموت ثم هو يفرح، عجبت لمن أيقن بالنار ثم هو يضحك، عجبت لمن أيقن بالقدر ثم هو ينصب، وعجبت لمن رأى الدنيا وتقلبها بأهلها ثم اطمئن إليها وعجبت لمن أيقن بالحساب غداً ثم هو لا يعمل) .(1/209)
قال الحسن: كان عمر - رضي الله عنه - ربما توقد له النار، ثم يدني يده منها ثم يقول: يابن الخطاب: هل لك على هذا من صبر؟. وسمع رجلاً يتهجد في الليل ويقرأ سورة الطور فلما بلغ قوله تعالى { إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ مَا لَهُ مِنْ دَافِعٍ } قال عمر - رضي الله عنه - قسم ورب الكعبة حق، ثم رجع إلى منزله فمرض شهراً يعوده الناس لا يدرون ما مرضه
قال الفضيل: أشرقت ليلة على عليّ - رضي الله عنه - وهو في صحن الدار وهو يقول: النار ومتى الخلاص من النار؟.
قال سفيان: كان عمر بن عبد العزيز ساكتاً وأصحابه يتحدثون، فقالوا: مالك لا تتكلم يا أمير المؤمنين قال : كنت مفكراً في أهل الجنة كيف يتزأورون فيها، وأهل النار كيف يصطرخون فيها ثم بكى. وبكى في ليلة بكاءً شديداً حتى أبكى أهله وجيرانه فلما أصبح قيل له: ما الذي أبكاك يا أمير المؤمنين، قال : ذكرت منصرف القوم بين يدي الله فريق في الجنة وفريق في السعير، فهذا الذي أبكاني.
كان شداد بن أوس: إذا أوى إلى فراشه كأنه حبة مقلى فيقول: اللهم إن ذكر جهنم لا يدعنى أنام فيقوم إلى مصلاه.
كان عامر بن عبدالله يتلوّى كما يتلوّى الحب في المقلى على فراشه، ثم يقول اللهم إن النار قد منعتني من النوم فاغفر لي.
كان سفيان الثورى: لا ينام إلا أول الليل ثم ينتفض فزعاً مرعوباً ينادي: النار النار شغلني ذكر النار عن النوم والشهوات ثم يتوضأ ويقول على اثر وضوئه: اللهم إنك عالم بحاجتي غير معلن وما أطلب إلا فكاك رقبتي من النار.
قال الحجاج لسعيد بن جبير: بلغني إنك لم تضحك قط، قال : كيف أضحك وجهنم قد سعرت والاغلال قد نصبت والزبانية قد أعدت.
قال ابن السماك: قطع قلوب العارفين بالله ذكر الخلودين: الجنة والنار.
قيل: ما جلس قوم مجلساً فلم يذكروا الجنة أو النار إلا قالت الملائكة: أغفلوا العظيمتين.(1/210)
قال سرار أبو عبدالله: عاتبت عطاء السلمي في كثرة بكائه فقال لي: يا سرار كيف تعاتبني في شيء ليس هو لى، اني إذا ذكرت أهل النار وما نزل بهم من عذاب الله عز وجل وعقابه تمثلت لي نفسي بهم، فكيف لنفسي تغل يدها إلى عنقها وتسحب إلى النار، أن لا تبكي وتصيح وكيف لنفس تعذّب أن لا تبكي.
قال ابن جابر: قلت ليزيد بن مرثد: مالي أرى عينيك لا تجف قال : يا أخي إن الله عز وجل قد توعدني ان أنا عصيته أن يسجنني في النار والله لو لم يتوعدني أن لا يسجننى إلا في الحمام لكان حرياً أن لا تجف لي عين.
قال إبراهيم المصرى: نظر عمر بن عبد العزيز إلى رجل عنده متغير اللون، فقال له: ما الذي رأى بك؟ قال : أسقام وأمراض يا أمير المؤمنين إن شاء الله، فأعاد عليه فقال الرجل مثل ذلك ثلاث مرات فقال : إذا أبيت إلا أن أخبرك فإني ذقت حلاوة الدنيا فصغر في عيني زهرتها وملاعبها، واستوى عندي حجارتها وذهبها، ورأيت كأن الناس يسأقون إلى الجنة وأنا أساق إلى النار، فأسهرت لذلك ليلي وأظمأت له نهاري، وكل ذلك صغير في جنب عفو الله وثواب الله عز وجل وجنب عقابه.
تذكر يامقترف المعاصي والذنوب أن النار أبد الآبدين، وخلود سرمدي تتطاول الأزمان وتتوإلى الأحقاب، وصاحب العذاب أبداً في عذابه، بل يزيد مع طول إلآماد قال تعالى { فَذُوقُوا فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلاَّ عَذَاباً } النبأ: 30
إنها حقيقة تشيب من هولها الرؤوس وتفطر من فظاعتها القلوب، فماذا أعددت للنجاة والفكاك، وماذا فعلت للخلاص والمهرب، فبأي عقل تلهو وبأي جنان تلعب، وبأي دنيا تغتر!؟ فهل ستبقى هكذا إلى أن تتمنى المناص وقت لا مناص، وتدّبر ما يقوله رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (والذي نفسي بيده لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلاً ولبكيتم كثيراً، ولخرجتم إلى الصعدات تجأرون) البخاري.
الفصل الثالث عشر: الجنّة(1/211)
قال تعالى { إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُون ادْخُلُوهَا بِسَلاَمٍ آمِنِينَ وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ إِخْوَاناً عَلَى سُرُرٍ مُّتَقَابِلِينَ لاَ يَمَسُّهُمْ فِيهَا نَصَبٌ وَمَا هُم مِّنْهَا بِمُخْرَجِينَ } الحجر: 48:45
قال تعالى { إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِندَ مَلِيكٍ مُّقْتَدِرٍ } القمر: 54، 55
قال تعالى { يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُم بِرَحْمَةٍ مِّنْهُ وَرِضْوَانٍ وَجَنَّاتٍ لَّهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُّقِيمٌ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً إِنَّ اللَّهَ عِندَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ } التوبة: 22:21
قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (قال الله عز وجل: أعددت لعبادي الصالحين، مالا عين رأت ولا إذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، اقرؤوا إن شئتم { فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاء بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ } متفق عليه
قال - صلى الله عليه وسلم - (ينادي مناد: ان لكم أن تصحوا فلا تسقموا أبداً، وان لكم أن تحيوا فلا تموتوا أبداً، وان لكم أن تشبوا فلا تهرموا أبداً، وان لكم أن تنعموا فلا تيأسوا أبداً وذلك قول الله عز وجل: (ونودوا أن تلكم الجنة أورثتموها بما كنتم تعملون) مسلم (من يدخل الجنة ينعم ولا ييأس لاتبلى ثيابه ولا يفني شبابه) مسلم.
لا تأسفن على الدنيا وما فيها ... ... فالموت لا شك يفنينا ويفنيها
ومن يكن همه الدنيا ليجمعها ... ... فسوف يوماً على رغم يخليها
لا تشبع النفس من دنيا تجمعهتا ... ... وبلغة من قوام العيش تكفيها
فأعمل لدار البقا رضوان خازنها ... ... والجار أحمد والرحمن بانيها
أرض لها ذهب والمسك طينتها ... ... والزعفران خضير نابت فيها
أنهارها لبن محفوفة عسل ... والخمر يجري رحيقاً في مجاريها
والطير تجري على الأغصان عاكفة ... تسبح الله جهراً في مغانيها
من يشتري قبة في عدن عالية ... في ظل طوبى رفيعان مبانيها(1/212)
دلالها المصطفى والله بائعها ... ممن أراد وجبريل مناديها
من يشتري الدار في الفردوس يعمرها ... بركعة في ظلام اليل يخفيها
أو سد جوعة مسكين بشبعته ... في يوم مسبغة عمّ الغلا فيها
والله لو قنعت نفسي بما رزقت ... من المعيشة ألا كان يكفيها
أموالنا لذوي الميراث نجمعها ... ودورنا لخراب اليوم نبنيها
لا دار للمرء بعد الموت يسكنها ... إلا التي كان قبل الموت يبنيها
تجني الثمار غداً في دار مكرمة ... لا منّ فيها ولا التكدير يأتيها
فيها نعيم مقيم خالداً أبداً ... بلا انقطاع ولا مَنّ يدانيها
الإذن والعين لم تسمع ولم تره ولم يَدُرْ في قلوب الخلق ما فيها
فيا لها من كرامة إذا حصلت ... ويالها من نفوس سوف تحويها
فمن بناها بخير خاب مسكنه ... ومن بناها بشر خاب بانيها
فاغرس أصول التقى ما دمت مقتدراً ... واعلم بأنك بعد الموت لا قيها
قال أسامة بن يزيد - رضي الله عنه - : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (ألا هل مشمر للجنة، فإن الجنة لا خطر لها هي ورب الكعبة نور يتلألأ وريحانه تهتز، وقصر مشيد، ونهر مطرد وثمرة نضيجة، وزوجة حسناء جميلة، وحلل كثيرة، ومقام في أبد، في دار سليمة، وفاكهة وخضرة وحبرة ونعمة في محلة بهية، قالوا يارسول الله: نحن المشمرون لها، قال قولوا إن شاء الله فقال القوم: إن شاء الله) ابن ماجة.
قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (ينادى مناد أهل الجنة: قال كم لبستم في الأرض عدد سنين؟ قالوا: لبسنا يوماً أو بعض يوم فأسأل العادين؟ قال: نعم ما اتجرتم في يوم أو بعض يوم رحمتى ورضواني وجنتي، امكثوا فيها مخلدين) أبو نعيم.(1/213)
قال - صلى الله عليه وسلم - (إن أسفل أهل الجنة أجمعين من يقوم على رأسه عشرة آلاف خادم مع كل خادم صفحتان واحدة من فضة وواحدة من ذهب في كل صفحة لون ليس في الاخرى مثله يأكل من آخره كما يأكل من أوله، يجد لآخره من اللذة والطعم مالا يجد لأوله ثم يكون ذلك رشح مسك وجشاء مسك، لا يبولون ولا يتغوطون ولا يتمخطون) الطبراني بسند صحيح.
قال - صلى الله عليه وسلم - (إن للمؤمنين في الجنة لخيمة من لؤلؤة واحدة، مجوفة طولها في السماء ستون ميلاً، للمؤمنين فيها أهلون، يطوف عليهم المؤمن فلا يرى بعضهم بعضاً) متفق عليه.
قال - صلى الله عليه وسلم - (إن الجنة لبنة من ذهب ولبنة من فضة وملاطها المسك وحصباؤها اللؤلؤ واليأقوت، وترابها الزعفران، من يدخلها ينعم ولا يبأس، ويخلد ولا يموت لا تبلى ثيابه، ولا يفنى شبابه) الترمذي.
قال - صلى الله عليه وسلم - (موضع سوط في الجنة خير من الدنيا وما فيها اقرؤوا ان شئتم: { فمن زحزح عن النار وأدخل الجنة فقد فاز } الترمذي والنسائي بسند صحيح.
قال - صلى الله عليه وسلم - (لو أن أقل ظفر مما في الجنة بدا لتزخرفت له خوافق السموات والأرض، ولو أن رجلاً من أهل الجنة اطلع فبدا أسأوره لطمس ضوء الشمس كما تطمس الشمس ضوء الكواكب) الترمذي وهو حديث حسن. ...
قال - صلى الله عليه وسلم - (إن أزواج أهل الجنة ليغنين أزواجهن بأحسن أصوات ما سمعها أحد: ان ممّا يغنين به: نحن الخيرات الحسان، أزواج قوم كرام، ينظرن بقرة أعيان، وإن مما يغنين به: نحن الخالدات فلا نمتنه، نحن الأمنات فلا نخنه، نحن المقيمات فلا نظعنه) الطبراني بسند صحيح (ص ج ص).
قال - صلى الله عليه وسلم - (لو أن حوراء أخرجت كفها بين السماء والأرض لافتتن الخلائق بحسنها، ولو أخرجت نصيفها لكانت الشمس عند احسنه مثل الفتيلة في الشمس لا ضوء لها ولو أخرجت وجهها لأضاء حسنها ما بين السماء والأرض) ابن أبي الدنيا.(1/214)
قال ابن عباس - رضي الله عنه - : الظل الممدود شجرة في الجنة على ساق قدر ما يسير الراكب في ظلها مائة عام في نواحيها، فيخرج أهل الجنة أهل الغرف وغيرهم فيتحدثون في ظلها، قال: فيشتهي بعضهم ويذكر ألوان لهو الدنيا، فيرسل الله ريحاً من الجنة فتحرك تلك الشجرة بكل لهو كان في الدنيا) رواه ابن أبي الدنيا بسند حسن
قال البراء بن عازب - رضي الله عنه - في قوله تعالى { وَذُلِّلَتْ قُطُوفُهَا تَذْلِيلاً } إن أهل الجنة يأكلون من ثمار الجنة نياماً وقعوداً ومضطجعين).
قال سلمان الفارسي - رضي الله عنه - لجرير بن عبدالله - رضي الله عنه - : ياجرير لو طلبت مثل هذا – لغصن من شجرة في يده – في الجنة لم تجده قلت: يا أبا عبد الله فأين النخل والشجر قال أصولها الذهب وأعلاها الثمر).
لكل مؤمن في الجنة أربعة أبواب: فباب يدخل عليه زواره من الملائكة، وباب يدخل عليه منه أزواجه من الحور العين، وباب مقفل فيما بينه وبين أهل النار يفتحه إذا شاء ينظر إليهم لتعظيم النعمة عليه، وباب فيما بينه وبين دار السلام يدخل منه على ربه إذا شاء) حادي الأرواح.
قال يزيد الرقاشي: أمن أهل الجنة من الموت فطاب لهم العيش وأمنوا من الأسقام فهناهم في حوار الله طول المقام.
قال حميد بن هلال: إن الرجل إذا أخل الجنة وصور صورة أهل الجنة وأُلبس لباسهم وحلى حليهم ورأى أزواجه وخدمه يأخذه سوار الفرح لو كان ينبغي له أن يموت لمات من سوار فرحه فيقال له: أرأيت سوار فرحتك هذه فإنها قائمة لك أبداً.(1/215)
قال أنس بن مالك وابو سعيد الخدري وعبد الله بن عمرو - رضي الله عنهم - عن الجنة: كيف يقدر قدر دار غرسها الله بيده وجعلها مقراً لأحبابه، وملأها من رحمته وكرامته ورضوانه، ووصف نعيمها بالفوز العظيم، وملكها بالملك الكبير، وأودعها الخير بحذافيره وطهرها من كل عيب وآفة ونقص، وإن سألت عن أرضها وتربتها فهي المسك والزعفران، وإن سألت عن سقفها فهو عرش الرحمن، وإن سألت عن ملاطها فهو المسك الأذفر، وإن سألت عن حصبائها فهو اللؤلؤ والجوهر، وإن سألت عن بنائها فلبنة من فضة ولبنة من ذهب، وإن سالت عن اشجارها فما فيها شجرة إلا وساقها من ذهب لا من الحطب و الخشب، وإن سالت عن ثمارها فأمثال القلال ألين من الزبد وأحلى من العسل، وإن سالت عن أنهارها، فأنهار من لبن لم يتغير طعمه وأنهار من خمر لذة للشاربين، وأنهار من عسل مصفى، وأنهار من ماء غير آسن، وإن سألت عن طعامهم ففاكهة مما يتخيرون ولحم طير مما يشتهون وإن سألت عن شرابهم فالتنسيم والزنجبيل والكافور، وإن سالت عن آنيتهم فآنية الذهب والفضة في صفاء القوارير، وإن سألت عن سعة أبوابها فبين المصراعين مسيرة أربعين من الأعوام، وليأتين عليه يوم وهو كظيظ من الزحام، وإن سالت عن تصفيف الرياح لأشجارها فإنها تستفزّ بالطرب لمن يسمعها، وإن سألت عن ظلها، ففيها شجرة واحدة يسير الراكب المجد السريع في ظلها مائة عام لا يقطعها، وإن سألت عن سعتها فأدنى أهلها من يسير في ملكه وقصوره وبساتينه مسيرة ألفى عام، وإن سالت عن خيامها وقبابها، فالخيمة الواحدة من درّة مجوفة طولها ستون ميلاً من تلك الخيام، وإن سألت عن علاليها وجواسقها فهي غرف من فوقها غرف مبنية تجري من تحتها الأنهار، وإن سألت عن ارتفاعها فانظر إلى الكوكب الطالع أو الغارب لاتكاد تناله الأبصار، وإن سألت عن لباس أهلها فهو الحرير والذهب، وإن سألت عن فراشها: فبطائنها من إستبرق مفروشة في أعلى الرتب، وإن سألت عن أرائقها: فهي(1/216)
الأسّرة، وإن سألت عن وجوه أهلها وحسنهم فعلى صورة آدم عليه السلام أبي البشر، وإن سألت عن سماعهم: فغناء أزواجهم من الحور العين وأعلى منه سماع أصوات الملائكة والنبيين وأعلى منه خطاب رب العالمين، وإن سألت عن مطاياهم التي يتزاورون عليها فنجائب إن شاء الله، تسير بهم حيث شاءوا من الجنات وإن سألت عن حليهم وشاراتهم فأساور الذهب واللؤلؤ وعلى الرؤوس ملابس التيجان وإن سألت عن غلمانهم فولدان مخلدون كأنهم لؤلؤ مكنون، وإن سألت عن عرائسهم وأزواجهم فهن الكواكب الأتراب، اللائي جرى في أعضائهن ماء الشباب، فالورد والتفاح مالبسته الخدود، وللرمان ماتضمنته النهود، تجري الشمس من محاسن وجهها إذا برزت، ويضيء البرق من ثناياها إذا ابتسمت، يرى وجهه في صحن خدها كما يرى في المرآة التي جلاها صقيلها، يرى مخ ساقها من وراء اللحم، ولا يستره جلدها ولا عظمها ولا حللها، لواطّلعت على الدنيا لملأت ما بين الأرض والسماء ريحاً، وأفواه الخلائق تهليلاً وتكبيراً وتسبيحاً، ولتزخرفت لها ما بين الخافقين، ولأغمضت عن غيرها كل عين، ونصيفها على رأسها خير من الدنيا ومافيها، ولاتزداد على طول الأحقاب إلاّ حُسناً وجمالاً، ولا يزداد لها على طول المدى إلاّ محبة ووصالاً، لا يفنى شبابها ولا تبلى ثيابها، وقد قصّرت طرفها على زواجها، وإن سألت عن اللون فكأنه الياقوت والمرجان، وإن سألت عن حسن الخلق فهن الخيرات الحسان، فما ظنك بامرأة إذا ضحكت أضاءت الجنة من ضحكها وإذا انتقلت من قصر إلى قصر قلت الشمس متنقلة في بروج فلكها، وإن سألت عن يوم المزيد وزيارة العزيز الحميد ورؤية الوجه المنزّه عن التمثيل والتشبيه، كما ترى القمر ليلة البدر، كما تواتر عن الصادق المصدوق النقل فيه، فاستمع يوم ينادي المنادي: يا أهل الجنة إن ربكم تبارك وتعالى يستزيدكم فحي على زيارته، فيقولون: سمعاً وطاعة، وينهضون إلى الزيارة مبادرين، فإذا النجائب قد أعدت لهم، فيستوون على(1/217)
ظهورها مسرعين، حتى إذا انتهوا إلى الوادي الأفيح الذي جُعل لهم موعداً، وجٌمعوا هنالك فلم يغادر الداعي منهم أحداً، أمر الرب تبارك وتعالى بكرسيه فنصب هناك ثم نصبت لهم منابر من نور ومنابر من لؤلؤ ومنابر من زبرجد ومنابر من ذهب ومنابر من فضة، وجلس أدناهم وحاشاهم أن يكون فيهم دنيء على كثبان المسك، مايرون أن أصحاب الكراسي فوقهم العطايا، حتى إذا استقرت بهم مجالسهم واطمئنت بهم أماكنهم، نادى المنادي: يا أهل الجنة إن لكم عند ربكم موعداً يريد أن ينجزكموه، فيقولون: ماهو؟ ألم يبيض وجوهنا ويثقل موازيننا، ويدخلنا الجنة ويزحزحنا عن النار، فبينما هم كذلك إذ سطع نور أشرقت له الجنة فرفعوا رؤوسهم، فإذا الجبار جل جلاله وتقدست أسماؤه قد أشرف عليهم من فوقهم وقال: (يا أهل الجنة سلام عليكم) فلا ترد التحية بأحسن من قولهم: اللهم أنت السلام ومنك السلام تباركت ياذا الجلال والإكرام، فيتجلى لهم الرب تبارك وتعالى ويضحك لهم ويقول (أين عبادي الذي أطاعوني بالغيب ولم يروني فهذا يوم المزيد) فيجتمعون على كلمة واحدة: قد رضينا فارض عنّا، فيقول (يا أهل الجنة لو لم أرض عنكم لم أسكنكم جنتي هذا يوم المزيد فاسألوني) فيجتمعون على كلمة واحدة: أرنا وجهك ننظر إليه فيكشف لهم الرب جل جلاله الحجب، فيتجلى لهم فيغشاهم من نوره مالولا أن الله تعالى قضى أن لا يحترقوا، ولا يبقى في ذلك المجلس أحد إلاّ حاضره الله محاضرة حتى إنه ليقول للرجل منكم: ألا تذكر يافلان يوم عملت كذا وكذا؟ يذكره بعض غدراته في الدنيا فيقول: ألم تغفر لي؟ فيقول: بمغفرتي بلغت منزلتك هذه، فيالذة الأسماع بتلك المحاضرة، وياقرة عيون الأبرار بالنظر إلى وجه الله الكريم في الدار الآخرة، قال تعالى { وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ } حادى الأرواح لابن القيّم.(1/218)
قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (من خاف أدلج ومن أدلج بلغ المنزل، ألا إن سلعة الله غالية، ألا إن سلعة الله الجنة) الحاكم بسند صحيح (ص ج ص).
فيا عجباً من سفيه في صورة حليم، ومعتوه في مسلاخ عاقل، آثر الحظ الفاني على الحظ الباقي، وباع جنة عرضها السموات والأرض بسجن ضيق بين أصحاب العاهات والبليات، ومساكن في جنات عدن تجري من تحتها الأنهار، بأعطان ضيقة آخرها الخراب والبوار، وأبكاراً عرباً أتراباً كأنهن الياقوت والمرجان بقذرات مسافحات، ولذة النظر إلى وجه الله الكريم بالتمتع برؤية الوجه القبيح الدميم، وسماع الخطاب من الرحمن بسماع صوت الشيطان، فوا عجباً: كيف نام عن الجنة طالبها؟ ولم يسمع بمهرها خاطبها؟ وكيف طاب العيش بعد سماع أخبارها؟ وكيف قرت دونها أعين المشتاقين؟ وبأي شيء تعوضت عنها نفوس المعرضين؟.
قال مالك بن دينار: سهوت ليلة عن وردى ونمت فإذا أنا في المنام بجارية كأحسن ما يكون في يدها رقعة قالت: أتحسن أن تقرأ؟ فقلت: نعم، فدفعت اليّ الرقعة فإذا فيها:-
أألهتك اللذائذ والأماني ... ... عن البيض الأوأنس في الجنان
تعيش مخلداً لا موت فيها ... ... وتلهو في الجنان مع الحسان
تنبّه من منامك إن خيراً ... ... من النوم التهجد بالقران
قال - صلى الله عليه وسلم - (إن أهل الجنة ليتراءون في الجنة كما تراءون أو ترون الكواكب الدرى الغارب في الأفق الطالع في تفاضل الدرجات، قالوا: يارسول الله أولئك النبيون، قال بلى، والذي نفسي بيده وأقوام آمنوا بالله وصدقوا المرسلين) (ص غ)
وأخيراً.. هل تجتهد لتنال الجواز؟ ورد بالأثر: لا يدخل أحد الجنة إلاّ بجواز بسم الله الرحمن الرحيم هذا كتاب من الله لفلان بن فلان: أدخلوه جنة عالية قطوفها دانية)
الفصل الرابع عشر: التوبة
قال تعالى { وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } النور: 31(1/219)
قال تعالى { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَّصُوحاً عَسَى رَبُّكُمْ أَن يُكَفِّرَ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ يَوْمَ لا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } التحريم: 6
قال تعالى { أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ } الحديد: 16
قال تعالى { قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ } الزمر: 53
وفي الحديث القدسي (يابن آدم إنك ما دعوتني ورجوتني غفرت لك على ما كان فيك ولا ابإلى، يابن آدم: لو بلغت ذنوبك عنان السماء ثم استغفرتني غفرت لك ولا أبالي، يابن آدم: لو أتيتني بقراب الأرض خطايا ثم لقيتني لا تشرك بي شيئاً بقرابها مغفرة) البخاري.
قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (ينزل الله إلى السماء الدنيا حين يمضي ثلث الليل الأول فيقول: أنا الملك: من ذا الذي يدعوني فأستجيب له، ومن ذا الذي يسألني فأعطيه ومن ذا الذي يستغفرني فأغفرله فلا يزال كذلك حتى يضيء الفجر) أحمد بسند صحيح (ص ج ص)(1/220)
إن رحمة الله واسعة تسع كل معصية كائنة ما كانت، إنها الدعوة إلى الرجوع إليه، دعوة العصاة الشاردين المبعدين في تيه الضلال دعوتهم إلى الأمل والرجاء، والثقة بعفو الله إنه رحيم بعباده، ويعلم ضعفهم وعجزهم، ويعلم أن الشيطان يتربص بهم ليفتنهم ويعلم أن نفس الإنسان أمّارة بالسوء، والدنيا تغريه كل يوم وتنادي عليه بملذاتها وشهواتها وغيها وأنه مسكين سرعان ما يسقط، إن لم تغمره رحمة الله وحفظه، من كل ما حوله وداخله، والله سبحانه وتعالى يعلم كل ذلك فيمد الإنسان بيد العون، ويوسع له الرحمة، ولا يأخذه بمعصية حتى يهيء له جميع الوسائل ليصلح خطأه، وبعد أن يرتكب المعصية ويزيد فيها ويحسب أنه قد طرد وانتهى أمره، في لحظة اليأس والقنوط هذه يسمع نداء اللطف والرحمة { لا تقنطوا من رحمة الله } فعند ذلك يجد أمامه باب التوبة مفتوح ليس عليه بواب يمنع الداخلين ولا يحتاج من يريد الدخول إلى استئذان.
قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (يا أيها الناس توبوا إلى الله قبل أن تموتوا وبادروا بالأعمال الصالحة قبل ان تشغلوا وصلوا الذي بينكم وبين ربكم بكثرة ذكركم له وكثرة الصدقة في السر والعلانية ترزقوا وتنصروا وتجبروا) الترمذي
يا نفس توبي فإن الموت قد حانا واعصي الهوى فالهوى مازال فتاناً
أما ترين المنايا كيف تنقصنا نقصا فتلحق أحرانا بأولانا
في كل يوم لنا ميت نشيعه نرى بمصرعه آثار موتانا
يا نفس مالي وللاموال أتركها خلفي وأخرج من دنياي عرياناً
مضى الزمان وولّى العمر في لعب ... يكفيك ما قد مضى قد كان قد كانا
إن المتقين في أعلى مراتب المؤمنين وقد جعل الله تبارك وتعالى منهم التائبين
قال تعالى { وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُواْ أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُواْ اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُواْ لِذُنُوبِهِمْ وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّواْ عَلَى مَا فَعَلُواْ وَهُمْ يَعْلَمُونَ } أل عمران135(1/221)
إن سماحة هذا الدين ورحمته بالبشر تسلك في عداد المتقين، أولئك الذين يرتكبون الفاحشة، والفاحشة أبشع الذنوب وأكبرها، ولكن سماحة هذا الدين لا تطرد من يهوون إليها من رحمة الله، ولا تجعلهم في ذيل القافلة قافلة المؤمنين، إنما ترتفع بهم إلى أعلى مرتبه: مرتبة المتقين، على شرط واحد شرط يكشف عن طبيعة هذا الدين ووجهته، أن يذكروا الله فيستغفروا لذنوبهم وألا يصروا على ما فعلوا وهم يعلمون، وأن لا يتبجحوا بالمعصية في غير تحرج ولا حياء، فيكونوا في إطار العبودية لله والاستسلام له في النهاية، فيظلوا في كنف الله وفي محيط عفوه ورحمته وفضله.
إن هذا الدين ليدرك ضعف هذا المخلوق البشري الذي تهبط به ثقله الجسد أحياناً إلى درك الفاحشة وتهيج به فورة اللحم والدم، فينزوى نزوة الحيوان في حمى الشهوة، وتدفعه رغباته إلى المخالفة عن أمر الله، والله يدرك ضعفه هذا، فلا يقسوا عليه ولا يبادر إلى طرده من رحمته، حين يظلم نفسه، حين يرتكب الفاحشة، وحسبه أن شعلة الإيمان ما تزال في روحه لم تنطفيء، وأن نداوة الإيمان ما تزال في قلبه لم تجف، وان صلته بالله ما تزال حية لم تزبل، وأنه يعرف أنه عبد يخطيء وأن له رباً يغفر، وإذن فما يزال هذا المخلوق الضعيف الخاطيء المذنب بخير، وأنه سائر على الدرب، لم ينقطع به الطريق، ممسك بالعروة الوثقى، لم ينقطع به الحبل، فليعثر ما شاء له ضعفه أن يعثر، فهو واصل في النهاية، ما دامت الشعلة معه، والحبل في يده، مادام يذكر الله ولا ينساه، ويقر بالعبودية له ولا يتبجح بمعصية.(1/222)
إن الله لا يغلق في وجه هذا المخلوق الضعيف الضال باب التوبة، ولا يلقيه حائراً منبوذاً، ولا يدعه خائفاً مطروداً من المآب، انه يطمعه في المغفرة، ويدله على الطريق، ويأخذ بيده المرتعشة ويسند خطواته المتعثرة وينير له الطريق، ليفيء إلى الأمن ويثوب إلى الكنف الأمين، شيء واحد يتطلبه: أن لا يجف قلبه وتظلم روحه فينسى الله، ومادام يذكر الله، مادام في روحه ذلك المشعل الهادي، وما دام في ضميره ذلك الهاتف الحادي، وما دام في قلبه ذلك الندى البليل، فيسطع النور في روحه من جديد، وسيؤوب إلى الحمى الآمن من جديد، وستنبت البذرة الهامدة من جديد.
إلهي لا تعذبني فإني ... ... مقر بالذي قد كان مني
ومالي حيلة إلا رجائي ... ... وعفوك إن عفوت وحسن ظني
وكم من ذلة لي في البرايا ... ... وأنت علىّ ذو فضل ومنّ
إذا فكرت في ندمي عليها ... ... عضضت أناملي وقرعت سني
يظن الناس بي خيراً وإني ... ... لشر الناس إن لم تعف عني
إلهي: ما عصيتك جهلاً بعقابك، ولا تعرضاً لعذابك، ولا استخفافاً بقدرك، ولكن سوّلت لي نفسي، وأعانتها شقوتي، فغرني سترك عليّ، فالآن من عذابك من ينقذني، وبحبل من اعتصم إن قطعت حبلك عني، واخجلي من الوقوف غداً بين يديك إذا قيل للمخفين جوزوا وللمثقلين حطوا، أمع المخفين أجوز، أم مع المثقلين أحط، إلهي إن كنا قد عصيناك بجهل، فها نحن قد دعوناك بعقل، حيث علمنا أنك تغفر الذنوب ولا تبالي، إلهي: أتحرق بالنار وجهاً كان لك مصلياً، ولساناً كان لك ذاكراً وداعياً، اللهم ارحم عبداً غره طول إمهالك، وأطعمه كثرة أفضالك، وذل لعزك وجلالك، ومد كفيه لطلب نوالك، ولولا هدايتك لم يصل إلى ذلك يارب.(1/223)
كان لبان يخلط اللبن بالماء ويبيعه فجاء السيل فأغرق غنمه فجعل يقول: اجتمعت القطرات فصارت سيلاً، يا هذا الدنيا وراءك، والآخرة أمامك، والطلب لما وراءك هزيمة، وإنما العزيمة في الإقدام، والحزم أنتهاز الفرصة، وكفى بذهاب الفرصة غصة، يارابطاً مناه بخيط الأمل، إنه ضعيف الفتل، لو فتحت عين اليقظة لرأيت حيطان عمرك قد تهدمت فبكيت على خراب الأجل.
كان الفضيل بن عياض يقطع الطريق وفي ذات يوم سمع قارئاً يقرأ { أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ } فقال: بلى والله قد آن وكان هذا مبدأ توبته
قدّم لنفسك توبةً مرجوة ... ... ... قبل الممات وقبل حبس الألسن
بادر بها غلق النفوس فإنها ... ... ... ذخر وغنم للمنيب المحسن
قال الإمام الغزالي:العبد بين ذنب ونعمة لا يصلحهما إلا الاستغفار والحمد.
قال لقمان الحكيم لابنه: (يا بنيّ: عوّد لسانك اللهم اغفر لي فإن لله ساعات لا يرد فيها سائلاً).
قال الفضيل رحمه الله: الاستغفار بلا إقلاع توبة الكذابين .
قال الإمام على - رضي الله عنه - : العجب ممن يهلك ومعه النجاة، قيل وما هي؟ قال: الاستغفار.
قال بعض الحكماء: من قدم الاستغفار على الندم كان مستهزئاً بالله وهو لا يعلم
قال بعض الصالحين: عجبت ممن يقنط من رحمة الله ومعه النجاة: الاستغفار، وإياك أن تتهاون بالاستغفار ولو تقادم عهد الذنب فإنك من المعصية على يقين، ومن المغفرة على شك، كل ذنب لم يذهب من ذهن الإنسان فليحدث له توبة جديدة، من القلوب قلب يستغفر قبل أن يذنب فيثاب قبل أن يطيع.(1/224)
أستغفر الله أطلب من الله مغفرته أو ستره أو أسألك أن تغفر لي، أستغفر الله من كل ذنب عملته، من كل فرض تركته، من كل إنسان ظلمته، من كل صالح جفوته، من كل ظالم صاحبته، من كل بر أجلته، من كل ناصح أهنته، من كل محمود مللته، من كل زور نطقته، من كل حق أضعته، من كل باطل اتبعته، من كل وقت أهدرته، من كل سر أفشيته، من كل أمين خدعته، من كل عهد خنته، كل خطأ قلته، من كل ستر فضحته، من كل لغو سمعته، من كل علم نسيته، من كل نصح خالفته، من كل حرام نظرت له، أستغفر الله العظيم الذي لا إله إلا هو الحي القيوم غفار الذنوب ذا الجلال والإكرام، وأتوب إليه من جميع المعاصي كلها والذنوب والآثام، ومن كل ذنب أذنبته عمداً أو خطأ ظاهراً وباطناً قولاً وفعلاً في جميع حركاتي وسكناتي وخطواتي وأنفاسي كلها دائماً أبداً،
اللهم اغفر لي خطيئتي وجهلي واسرافي في أمري وما أنت أعلم به منى، اللهم اغفر لي جدّي وهزلي وخطئي وعمدي وكل ذلك عندي، أستغفر الله رب البرايا، أستغفر الله من الخطايا،
إلهي ظلّل على ذنوبي غمام رحمتك، اللهم اغفر لي ذنوبي وخطاياي كلها،
اللهم انعشني واجبرني واهدني لصالح الأعمال والاخلاق فإنه لا يهدي لصالحها ولا يصرف سيئها إلا أنت،
اللهم اغفر لي ما قدمت وما اخرت وما أسررت وما أعلنت أنت المقدم وأنت المؤخر وأنت على كل شيء قدير.
إلهي: إليك فررت بذنوبي واعترفت بخطيئتي فلا تجعلني من القانطين ولا تخزني يوم الدين، اللهم إني استغفرك لما اغطيت من نفسي ثم لم أوفّ لك به، وأستغفرك للنعم التي تقويت بها على معصيتك وأستغفرك لكل خير أردت به وجهك فخالطني فيه ما ليس لك.(1/225)
وسمع أعرابي متعلق بأستار الكعبة يقول: اللهم إن استغفاري مع إصراري للؤم وإن ترك استغفارك مع علمي بسعة عفوك لعجز فكم تتحبب إلى بالنعم مع غناك عني، وكم أتبغّض إليك بالمعاصي مع فقرى إليك، يا من إذا وعد وفىّ وإذا أوعد عفا، أدخل عظيم جرمي في عظيم عفوك يا أرحم الراحيمن.
اللهم أنت ربي لا إله إلا أنت خلقتني وأنا عبدك وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت أعوذ بك من شر ما صنعت، أبوء لك بنعمتك عليّ وأبوء بذنبي فاغفر لي إنه لا يغفر الذنوب إلا أنت.
اللهم أنا عبدك ابن عبدك ابن أمتك، ناصيتي بيدك أتقلب في قبضتك ماض في حكمك، نافذ في قضاؤك وأصدق بلقائك وأومن بوعدك أمرتني فعصيت ونهيتني فأتيت، هذا مكان العائدين من النار لا إله إلا أنت.
اللهم لا تخزني فإنك بي عالم، ولا تعذبني فأنت عليّ قادر، اللهم ثبت قدمي يوم تزول الأقدام،اللهم ارزقني عينين هطالتين تشفيان القلب بذروف الدموع قبل أن تكون الدموع دماً والأضراس جمراً.
رب اغفر وارحم وتجاوز عمّا تعلم إنك أنت الأعز الأكرم واهدني السبيل الأقوم.(1/226)
استغفر الله الغفار، استغفر الله الرحيم، استغفر الله الحليم، استغفر الله غافر الذنب، استغفر الله مهون الصعب، اللهم غفراً غفراً، اللهم ستراً ستراً، اللهم ياخير من قدر وعفا، أسألك بأن تقبل منى أملى في غفرانك، اللهم لا قنوط منك، ولا غناء عنك، ولا يأس مغفرتك، ولا غنى عن معذرتك، لا إله إلاّ الله ولا يغفر الذنوب إلاّه استغفر الله من سوء ما أتيت، ومن شر ماجنيت، سبحانك ما أعظم برهانك، وما أجل شانك وما أطيب غفرانك، اللهم إن عميت بصيرتي فأنت بضعفي أبصر وإن عظمت جريرتي فأنت أعظم منها واكبر، وإن أساءت سريرتي فأنت على هدايتي أقدر، اللهم وعدك الذي وعدت، وغفرانك الذي أعددت، اللهم ادفع الكروب والمكاره عنا، وانزع العيوب والوساوس منا، وارفع عنا ذنوبنا كرماً ومنّا، واغفر لنا يا كريم حيث كنا، اللهم اختم بالخيرات آجالنا، وتقبل في رضاك أعمالنا، وأقل عثراتنا وتجاوز عن سيئاتنا، وحقق آمالنا، اللهم وارض عنا رضاءً كاملاً واعف عنا عفواً شاملاً واهدنا للتي هي أقوم واغفر لنا ولكل من آمن وأسلم.
اللهم اغفر لي سقطات الألفاظ وشهوات الجنات وهفوات اللسان، ياجابر كل كسير، ويامؤنس كل وحيد ويا صاحب كل غريب ويا ميسّر كل عسير، ارحمنا واغفر لنا.
اللهم لا أجد لذنوبي غافراً ولا لقبائحي ساتراً ولا لشيء في عملي القبيح بالحسن مبدلاً غيرك.
اللهم كم من قبيح سترته، وكم من عثار وقيته، وكم من مكروه دفعته، وكم من ثناء جميل لست أهلاً له نشرته.
اللهم إني أسألك سؤال خاضع متذلل خاشع، أن تسامحني وترحمني، وتجعلني راضياً قانعاً وفي جميع الأحوال متواضعاً.
يارب: ارحم ضعف بدني، ورقة جلدي ودقة عظمي، يا من بدأ خلقي، وذكرى وتربيتي وبري وتغذيتي، هبني لسالف برك بي وكرمك بي.
قال - صلى الله عليه وسلم - (طوبى لمن وجد في صحيفته استغفاراً كثيراً) ابن ماجه بسند صحيح(1/227)
قال جابر بن عبدالله - رضي الله عنه - : جاء رجل إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: واذنوباه، وإذنوباه فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (قل: اللهم مغفرتك أوسع من ذنوبي ورحمتك أرجى عندي من عملي) فقالها، ثم قال: عد فعاد ثم قال: عد، فعاد ثم قال: قم فقد غفر الله لك) الحاكم.
إن التوبة فرض على المؤمنين لقوله تعالى { وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } النور: 31 ولها شروط أربعة: -
1- الندم بالقلب
2- ترك المعصية في الحال
3- العزم على أن لا يعود الي مثلها
4- أن يكون ذلك حياء من الله تعالى وخوفاً منه لا من غيره.
وإذا كانت بين العباد فهناك شرط خامس: - رد المظالم إلى أهلها
وقيل من شروطها: الاعتراف بالذنب وكثرة الاستغفار الذي يحل عقدة الإصرار، أما من قال : أستغفر الله بلسانه وقلبه مصرّ على معصيته فاستغفاره ذلك يحتاج إلى استغفار وصغيرته لاحقة بالكبائر.
عن على - رضي الله عنه - أنه رأى رجلاً قد فزع من صلاته وقال : اللهم إني أستغفرك وأتوب إليك سريعاً فقال له: ياهذا إن سرعة اللسان بالاستغفار توبة الكذابين، وتوبتك تحتاج إلى توبة، فقال : يا أمير المؤمنين ما التوبة؟ قال اسم يقع على ستة معان: على المعاصي من الذنوب الندامة، ولتضييع الفرائض الإعادة، ورد المظالم إلى أهلها، وإدئاب النفس في الطاعة، كما أدأبتها في المعصية، وإذاقة النفس مرارة الطاعة، كما أذقتها حلاوة المعصية، وأن تزيّن نفسك في طاعة الله كما زينتها في معصية الله، والبكاء بدل كل ضحك ضحكته.
كانت توبة دريد بن الصمة بالرقة، وكان محاسباً لنفسه، فحسب يوماً فإذا هو ابن ستين سنة فحسب أيامها فإذا هي أحد وعشرون ألفاً وخمسمائة يوم، فصرخ وقال يا ويلتي ألقى ربى بأحد وعشرين ألف ذنب؟ كيف وفي كل يوم آلاف الذنوب ثم خرج مغشياً عليه فإذا هو ميت فقال قائل: يالك ركضة إلى الفردوس الأعلى.(1/228)
أراد بعض الفساق أن يغروا الربيع بن خيثم فأتوا إلى غانية وقالوا لها: لك ألف دينار على أن يأخذ منك الربيع قبلة واحدة قالت: ويفعل كذا وكذا وكذا، فلبست أحسن ماقدرت عليه من الثياب، وتطيبت بأطيب ما قدرت عليه، ثم تعرضت له في خلوة من الناس، حين خرج من مسجده فنظر إليها فراعه أمرها، فأقبلت عليه وهي سافرة، فقال لها الربيع: كيف بك لو نزلت الحمى بجسمك، فغيرت ماأرى من لونك وبهجتك، أم كيف بك لو نزل بك ملك الموت فقطع منك حبل الوتين، أم كيف بك لو سألك منكر ونكير، فصرخت صرخة فسقطت مغشياً عليها، فوالله لقد أفاقت وبلغت من عبادة ربها، ما أنها يوم ماتت كانت كأنها جزع محترق.
قال إبراهيم بن الحارث: كان رجل كثير البكاء، فقيل له في ذلك فقال : أبكاني تذكرى ما جنيت على نفسي حين لم أستح ممن شاهدني وهو يملك عقوبتي، فأخرني ليوم العقوبة الدائمة وأجلني إلى يوم الحسرة الباقية، والله لو خيرت: أيما أحب إليك أن تحاسب ثم يؤمر بك إلى الجنة أو يقال لك: كن تراباً لاخترت أن أكون تراباً.
كان هناك رجل صالح فلما مات جاء لابنه في المنام فقال له: أى بنى أنت عندنا عن قليل والأمر بآخره، والموت أقرب من ذلك، فاستعد لسفرك وتأهب لرحيلك وحول جهازك من المنزل الذي أنت عنه ظاعن، إلى المنزل الذي أنت فيه مقيم، ولا تغتر بما اغتر به المبطلون قبلك، من طول آمالهم، فقصروا عن أمر معادهم، فندموا عند الموت أشد الندامة وأسفوا على تضييع العمر أشد الأسف، فلا الندامة عند الموت تنفعهم، ولا الأسف على التقصير أنقذهم، من شر ما وافى به المغبنون مليكهم يوم القيامة، أي بني: فبادر ثم بادر ثم بادر، فاستمع النصيحة واجتهد بالطاعة، فيا أخي بادر ثم بادر ثم بادر وأقولها لنفسي أولاً: بادر ثم بادر ثم بادر.(1/229)
قال رجل لابن مسعود - رضي الله عنه - : عملت ذنباً فهل لي من توبة فأعرض عنه ثم التفت فإذا عيناه تذرفان فقال له: إن الجنة ثمانية أبواب كلها تغلق إلا باب التوبة، فإن عليه ملكاً موكلاً لا يغلق الباب إلى يوم القيامة، ولا تيأس من رحمة الله.
قال بعض الصالحين: كنت أقطع الطريق فرأيت على شاطيء النهر نخلتين أحدهما رطبة عليها رطب والأخرى يابسة، ورأيت طيراً يأخذ من الرطب إلى اليابسة فصعدت إليها فرأيت حية عمياء والطير يطعمها الرطب فقلت يارب هذه حية أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - قتلها فأقمت لها طيراً يأتي لها برزقها، وانا قائم على المعاصي التوبة التوبة.
دخل شيخ من أهل الدعوة على عصاة في ملهى فقال لهم: أيها الناس إنكم عشتم طويلاً وعصيتم الله كثيرا،ً فأين ذهبت لذة المعصية، لقد ذهبت اللذة وبقيت الصحائف سوداء ستسألون عنها يوم القيامة، وسيأتي يوم يهلك فيه كل شيء إلا الله سبحانه وتعالى، أيها الناس: هل نظرتم إلى أعمالكم إلى أين ستؤدي بكم؟ إنكم لا تتحملون نار الدنيا، وهى جزء من سبعين جزء من نار جهنم، فبادروا بالتوبة قبل فوات الأوان، فخرج الجميع من الملهى تائبين نادمين على ما سبق من تفريطهم.
عصيت الله ألوان المعاصي ... كأني لست أوقن بالقصاص
فما لي لا أنوح على ذنوبي ... وأبكي يوم يؤخذ بالنواصي
إذا أراد الله لعبد خيراً جعله معترفاً بذنبه، ممسكاً عن ذنب غيره، جواداً بما عنده، زاهداً فيما عند غيره، محتملاً لأذى غيره، وإذا أراد الله بعبد شراً عكس عليه ذلك
ألا يانفس ويحك حدثيني ... حديثاً صادقاً لا تكذبيني
أليس الموت محتوماً عليك ... ولو عمّرت آلاف السنين
ولو عمرت ويحك عمر نوح ... فبالأموات يا نفس تكوني
سلام الله يا أهلى عليكم وإن طال الزمان ستلحقوني(1/230)
عباد الله: - إن كان صفاء المواعظ لا يؤثر في قلوبنا الكدرة، ومعاول التخويف لا تقطع نفوسنا المتحيرة، فهذا كلام ربنا، يتلى علينا في آياته المطهرة { فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَه وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَه } الزلزلة: 8،7.، يا غافلاً عمّا نهاه وأمره، يامضيعاً في البطالة عمره، إلى متى تلهو؟ وذنوبك مكتوبة مسطرة، كيف حالك في سفرك الطويل؟ وطريقك خطرة، وشاهدت ميزانك الذي يرجح بأصغر ذرة، يا غافلاً والموت يقفو أثره، كيف بك إذا شاهدت السماء مقنطرة؟ وحافظك قد أحصى عليك ما عملت من خير وشر وحصره، وقد تعذرت المعذرة، فهناك يجد الإنسان من الإحسان والعصيان ما أحضره { فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَه وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَه }
يامن باع الباقي بالفاني، أما ظهر لك الخسران، ما أطيب أيام الطاعة، وماأمر أيام العصيان، ما طاب عيش قوم حتى تابوا إلى الديان، وسهروا الليالي بتلاوة القرآن.
إذا فعل العبد سيئة تبعتها عشر خصال مذمومة: أنه أسخط الله وربه قادر عليه، وأنه فرح ابليس لعنة الله عليه، وأنه تباعد من الجنة، وأنه تقرب من النار، وأنه أذى نفسه، وأنه نجس نفسه وقد كان طاهرا، وأنه آنه آذى الحفظة، وأنه أحزن النبيّ - صلى الله عليه وسلم - في قبره، و أنه أشهد على نفسه السموات والأرض وجميع المخلوقات بالعصيان، وأنه عصى رب العالمين
أنا العبد الذي كسب الذنوبا ... وصدته الأماني أن يتوبا
أنا العبد الذي أضحى حزيناً ... على زلاته قلقاً كئيباً
أنا العبد الذي سطرت عليه ... صحائف لم يخف فيها الرقيبا
أنا العبد المسء عصيت سراً ... فما لي الآن لا أبدي النحيبا
أنا العبد المفرط ضاع عمري ... فلم أرع الشبيبة والمشيبا
أنا العبد الغريق بلج بحر ... أصيح لربما ألقى مجيباً
أنا العبد السقيم من الخطايا ... وقد أقبلت ألتمس الطبيبا(1/231)
أنا العبد المخلف عن اناس ... حووا من كل معروف نصيباً
أنا العبد الشريد ظلمت نفسي ... وقد وافيت بابكم منيباً
أنا العبد الفقير مددت كفي ... إليكم فادفعوا عني الخطوبا
أنا الغدار كم عاهدت عهداً ... وكنت على الوفاء به كذوباً
أنا المقطوع فارحمنى وصلني ... ويسر منك لي فرجاً قريباً
أنا المضطر أرجو منك عفواً ... ... ومن يرجو رضاك فلن يخيبا
فياأسفا على عمر تقضى ... ... ولم اكسب به إلا الذنوبا
وأحذر ان يعاجلنى ممات ... ... يحير هول مصرعه اللبيبا
وياحزناه من حشري ونشري ... ... بيوم يجعل الولدان شيبا
تفطرت السماء به ومارت ... ... وأصبحت الجبال به كثيبا
إذا ما قمت حيراناً ظميئاً ... ... حسير الطرف عريان سليباً
ويا خجلاه من قبح اكتسابي ... إذا ما ابدت الصحف العيوبا
وذلة موقف وحساب عدل ... أكون به على نفسي حسيبا
وياحذراه من نار تلظى ... إذا زفرت وأقلقت القلوبا
تكاد إذا بدت تنشق غيظاً ... على من كان ظلاماً مريبا
فيامن مد في كسب الخطايا ... خطاه أما يأنى لك أن تتوبا
إلا فاقلع وتب واجهد فإنا ... رأينا كل مجتهد نصيبا
وأقبل صادقاً في العزم واقصد ... جناباً للمنيب له رحيبا
وكن للصالحين أخاً وخلاً ... وكن في هذه الدنيا غريباً
وكن عن كل فاحشة جباناً ... وكن في الخير مقداماً نجيباً
ولا يبرح لسانك كل وقت ... بذكر الله رياناً رطيباً
وصل إذا الدجى أرخى سدولاً ... ولا تضجر به وتكن هيوبا
تجدء أنساً إذا أودعت قبراً ... ... وفارقت المعاشر والنسيبا
وصم ما تستطيع تجده رياً ... ... إذا ما قمت ظمآناً سغيبا
الخاتمة
وأخيراً فيامَن عصيت الله وكلنا عصاه ، يامن تجرأت على الله تبارك وتعالى يامن لم تقدّر الله حق قدره.
أمَا آَنَ لك أن ترجع إلى مولاك، أما آن لك أن ترجع إلى الذي خلقك وسواك أمَا حان الوقت أيها العبد الشارد كي ترجع إلى سيدك، سيدك برُ كريم، يرضى منك بدمعة، يرضى منك بكلمة صادقة، بل لا أكون مبالغاً بل يرضى منك بندم قلبك.(1/232)
سيدك.. خلقك، لا ليعذبك، ولكن ليرحمك، ألم يحن الوقت لتتزود له بالأعمال الصالحة، فإنك لا تعلم متى تلاقيه؟ ما الذي غرّك بربك الكريم: أغرّك إمهاله؟ أغرّك إحسانه؟ أغرّتك رحمته؟ ألا قَدْ آن الوقت لكي نرجع، وعلى المسلم المتقي لله حقاً أن تتوفر به أربع صفات إن كنت تودّ أن ينصلح حالك مع مولاك تبارك وتعالى: ـ
(1) أن تتحرّج من معصية الله رغبة ورهبة وعدّ أيادي المنن: -
فمن رأى نعم الله التي تترى عليه فلا تدع ذرّة من كيانه، وهذه النعم التي لا يحصيها عدّ تملأ هذا الكون الفسيح من حوله، وسخر كل هذه النعم لمنفعة الإنسان وراحته، يؤدي حق هذه النعم بشكر المنعم تبارك وتعالى، ويترك الإنسان المعصية رغبة في ثواب تركها، فمن ترك المعصية فله ثواب الصبرعن الوقوع في معصية الله كما قال تعالى { وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنْ الْهَوَى فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى } النازعات 40،41
ثم تترك المعصية رهبة من غضب الله عليك، واستقباح الملائكة لك، والمصير السيئ المحتوم الذي ينتظر كل عاص، عند موته وفي قبره ويوم يلاقي ربه.
(2) أن يقارب الأعمال الصالحة كلما أمكن:
ما دام أجلك يا عبد الله مستور عنك، فأنت لا نعلم أيها العبد متى يصدر الأمر النهائي أن النفس الذي خرج منك لايعود ثانية، أهو اليوم؟ أم غداً؟ أم بعد عام؟ أم بعد عدة أعوام؟ فياذا العمر المحدود بأنفاس معدودة : إن كنت تدّعي أنك عاقل
لبيب؟ فالعاقل اللبيب من يتابع الحسنات، ولا يجعل بينها أبداً سيئات، واجعل الأمر كله عملية حسابية، فأنت إذا فعلت حسنة، ثم تبعتها بحسنة، صاروا حسنتين، أما إذا فعلت حسنة ثم تبعتها بسيئة، فالناتج بالنهاية صفر، وصار اجتهادك بالطاعة هباءًا منثوراً وإن دمت على ذلك كنت يوم الحسرة والندامة من المفاليس: -(1/233)
فعن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال (أتدرون من المفلس؟ قالوا المفلس فينا من لا درهم له ولا متاع، فقال: إن المفلس من أمتي من يأتي يوم القيامة بصلاة وصيام وزكاة، (وفي رواية) من يأتي بحسنات مثل الجبال، ويأتي وقد شتم هذا، وقذف هذا، وأكل مال هذا، وسفك دم هذا، فيُعطى هذا من حسناته، وهذا من حسناته، فإن فنيت حسناته قبل أن يقضي ما عليه، أُخذ من حسناتهم، فطُرحت عليه، ثم طُرح في النار) مسلم.
تنقضي حسناته، ثواب الصلاة ينتهي، وثواب الزكاة ينتهي، وثواب الصيام ينتهي كل ما عنده من الحسنات ينتهي، فيؤخذ من سيئاتهم، ويُطرح عليه، ثم يُطرح في النار، والعياذ بالله وصدق النبي - صلى الله عليه وسلم - فإن هذا هو المفلس حقاً أما مفلس الدنيا، فإن الدنيا تأتي وتذهب، ربما يكون الإنسان فقيراً فيُمسي غنياً، أو العكس، لكن الإفلاس كل الإفلاس، أن يُفلس الإنسان من حسناته التي تعب عليها وكانت أمامه يوم القيامة يشاهدها، ثم تؤخذ منه لفلان وفلان.
(3) أن يغتنم سوانح الزمن: -
فقد قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (ألا إن لله في أيام دهركم لنفحات، ألا فتعرّضوا لها، ألا فتعرّضوا لها) وبرواية (إن لربكم في أيام دهركم نفحات،ألا فتعرضوا لها) وبرواية (تعرّضوا لنفحات رحمة الله) الترمذي بسند حسن
وهذه الأيام والليالي بإيجاز شديد هي:
(1) شهر رمضان: مع كل فطر عتقاء به من النار، تُفتح به أبواب السماء لإجابة الدعاء، من تقرّب فيه بخصلة من الخير، كان كمن أدى فريضة فيما سواه، ومن أدى فيه فريضة كان كمن أدى سبعين فريضة فيما سواه، وهو شهر يزاد فيه رزق المؤمن، وشهر يغفر الله فيه للصائمين بحق ذنوبهم.
((1/234)
2) ليلة القدر: انتبه معي يا من تحرص على الخير: ليلة القدر من غروب الشمس إلى آذان الفجر ليلة مباركة يستجيب فيها الله الدعاء وهي خير من ألف شهر بمعنى أن العمل الصالح يضاعفه الله بها أكثر من ثلاثين ألف مرّة، فلو قرأت جزءً من القرآن تكون كأنك قرأت في غيرها القرآن كاملاً ألف مّرة، ولو صليت بها ركعتين تكون كأنك صليت في غيرها هاتين الركعتين ثلاثين ألف مرّة، ولو تصدقت فيها بجنيه لفقير تكون كأنك تصدقت في غيرها بثلاثين ألف جنيه، صدقة متقبلة، وهي تدور في العشر الأواخر من رمضان، فاغتنمها ولا تجعلها بأي حال تفوتك.
(3) العشر الأوائل من ذي الحجة: فإن أياماً أقسم الله بها فقال تعالى { وَالْفَجْرِ وَلَيَالٍ عَشْرٍ } والتي جعلها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أفضل وأعظم أيام الدنيا، والعمل الصالح فيها يضاعفه الله ألف مرّة، فإذا ما جاء يوم عرفة وليلة عرفة ضاعف الله الثواب عشرة آلاف مرّة، فقد روى البيهقي بسند حسن عن أنس بن مالك:: أيام العشر بكل يوم ألف يوم ويوم عرفة عشرة آلاف يوم قال: يعني في الفضل) فإن صمت يوماً فيها كأنك صمت ثلاثة أعوام متصلة متقبلة، وإن فعلت عملاً صالحاً ضاعف الله لك ثوابه فيها ألف مرّة.
(4) ليلة النصف من شعبان: ليلة مغفرة الذنوب، فما أحرى كل عاقل أن يغتنمها، ويسكب فيها دمع عينيه مدراراً عسى الحليم تبارك وتعالى أن ينظر إليه بعين الرحمة ويجعله ممن تكرم عليه وغفرله ذنوبه، فقد قال - صلى الله عليه وسلم - (يطّلع الله ليلة النصف من شعبان فيغفر لجميع خلقه إلاً لمشرك أو مشاحن) الطبراني بسند صحيح(ص غ).
((1/235)
5) صيام الأيام البيض 13، 14، 15 من الشهر العربي: الذكي من يكتب الله له ثواب صيام الشهر كله ولم يصم منه سوى ثلاثة أيام فقد قال - صلى الله عليه وسلم - (صيام ثلاثة أيام من كل شهر صيام الشهر) وبرواية (الدهر) النسائي بسند صحيح (ص ج ص)، وبرواية (يُذهبن وحر الصدر) البزار بسند صحيح، والوحر هو الحقد والغش والوساوس والضيق فمن أراد أن يمن الله عليه براحة صدره فليصم هذه الأيام.
والنفحة نوعان: نفحة للزمن فمن وافق الأيام والليالى السابقة وعمل فيها أعمالاً صالحة أخذ ثوابها، ونفحة للعبد وهي أعلى وأعظم فكلما ازداد العبد إيماناً ويقيناً وإخلاصاً وحباً لله ورجاءً لثوابه يضاعف الله ثواب عمله الصالح كمثل حبة أنبتت سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة وبعد السبعمائة يضاعف الله فوق هذا لمن يشاء، فاغتنم عبد الله نفحات الله التي يغدقها عليك، فأحياناً تجد نفسك تشتاق لقراءة القرآن فأسرع لكتاب الله، ولا تدع الفرصة تفوتك، واقرأ بفهم وإخلاص وحب، فثوابك بهذه الأوقات مضاعف أضعافاً كثيرة، وأحيانا تجد روحك تهفو للصلاة ، فبادر إليها ولا تدعها تفوتك ، فالصلة الحقيقية بينك وبين مولاك قد بدأت , وثوابك فيها مضاعف أضعافاً كثيرة، وإلاّ فما معنى الأثر (إن الرجلان ليصليان وركوعهما واحد وسجودهما و احد والفارق بينهما – أي في الأجر – كما بين السماء والأرض) وكلمات زادت نفحات الله التي تترى عليك، علامة على شدة قربك من مولاك وحبه لك، فأصلح أخطاءك، وتب من ذنوبك ، لعله تبارك وتعالى يمنّ عليك بنفحات وصل تنعم في رياضها ما حييت.
(4) أن يصبر بل يرضى بالبلايا والمحن: -(1/236)
لو رأيت الأمور على حقيقتها لتيقنت أن (كل محنة في طيها منحة) لو نظرت بعين الجقيقة لرأيت هذا الملك الكبير، يسيّره الملك الكبير، بنظام غاية في الإحكام والدقة والإنتظام، وأنه لمّا خلق خلقه توكّل بحفظهم جميعاً، قال تعالى { وَلاَ يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ } أنت ياعبد الله من يوم مولدك أرسل لك الله المعقبات: ملائكة من أمامك ومن خلفك تتناوب عليك لتحفظك بأمر الله قال تعالى { لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِّن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ } الرعد 11 فلا يسستطيع إنس ولا جن ولا وحش ولا طير أن يصل إليك بأذى إلاّ بإذن الله وحده، وفي الحديث: (وإن اجتمعت الأمة على أن ينفعوك بشيء لن ينفعوك إلاّ بشيء قد كتبه الله لك، وإن اجتمعوا على أن يضروك بشيء لن يضروك إلاّ بشيء قد كتبه الله عليك رفعت الأقلام وجفت الصحف) مسلم
ونرجو من الله تبارك وتعالى أن يجعل هذا العمل صالحا ولوجهه خالصاً، إنه سبحانه وتعالى نعم المولى ونعم النصير.
الفهرس
رقم الصفحة ... ... الموضوع
3 ................................................... كلمة لفضيلة الشيخ / أحمد بدر .
5 ................................................... مقدمة الكتاب
7 ................................................... الفصل الأول : الله جل جلاله
13 .................................................. إن الله له الهيبة والعظمة
13 ................................................... رقابة الله
14 ................................................... علم الله
16 ................................................... عظمة خلق الله
18 ................................................... الإعجاز في خلق الإنسان
23 ................................................... وجوب طاعة الله(1/237)
29 ................................................... الإيمان بالله أعظم النعم
33 ...................................................أسماء الله الحسنى
44 ................................................... الفصل الثاني : التقوى
52 ................................................... من فضائل التقوى
53 ................................................... فوائد غض البصر
56 ................................................... الفصل الثالث : محبة الله
60 ................................................... علامات محبة الله
61 ................................................... الأسباب الجالبة لمحبة الله
62 ................................................... من نوادر الحب في الله
64 ................................................... الفصل الرابع : الصبر
65 ................................................... فضائل الصبر
69 ................................................... الفصل الخامس : الرضا
71 ................................................... تستوي البلية عند المؤمن في الرضا
74 ................................................... الفصل السادس : الدعاء
77 ................................................... آداب الدعاء
79 ................................................... دعوات صالحات
86 ................................................... الفصل السابع : ذكر الله
91 ................................................... من فضائل ذكر الله
96 ................................................... بعض الأذكار التي يغتنمها المؤمن
101 ................................................... بعض الأذكار عظيمة الثواب(1/238)
102 ................................................... ثواب الذكر بأوقات معيّنة
116 ................................................... فضل صلاة التسبيح
117 ................................................... فضل صلاة الليل
120 .................................................. الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم
120 ................................................... القرآن الكريم
124 ................................................... فضل بعض سور القرآن الكريم
127 ................................................... الفصل الثامن : الدنيا
139 ................................................... الفصل التاسع : الموت
149 ................................................... أمثلة حية لسكرات الموت
154 ................................................... الفصل العاشر : القبر
162 ................................................... الفصل الحادي عشر: يوم القيامة
168 ................................................. الفصل الثاني عشر : النار
174 ..................................................عبر ومواقف للصالحين عن النار
176 .................................................الفصل الثالث عشر: الجنة
183 ................................................... الفصل الرابع عشر : التوبة
190 ................................................... الخاتمة(1/239)