تدرجات
راشد الغنوشي
وأهم انحرافاته
كتبها
سليمان بن صالح الخراشي
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين
نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين
أما بعد:
... يُعد الأستاذ راشد الغنُّوشي – وفقه الله للحق – واحداً من أبرز رموز الحركة الإسلامية في البلاد التونسية في عالمنا المعاصر ، وله مع إخوانه في تلك البلاد جهود لا تنكر في محاولة بعث الإسلام من جديد في نفوس أبنائه عبر حركاتهم الإسلامية المتنوعة.
... وكما يعلم المتابع لهذه الحركة (أو الجماعة) منذ بداية نشأتها أنها خرجت من تحت عباءة جماعة الإخوان المسلمين ، الحركة الإسلامية الشهيرة التي أسسها حسن البنا – رحمه الله – عام1928م.(1/1)
... يقول الدكتور صلاح الجورشي أحد أعضاء الحركة بتونس وهو يؤرخ لنشأة الجماعة الإسلامية في تونس في بداية السبعينات الميلادية التي كان الغنُّوشي أميراً لها: ( لم يكن خطاب "الجماعة" في البداية إخوانياً صرفاً. بل كان خليطاً من السلفية والتصوف والمودوديات(1) وشيئاً مما كتبه مالك بن نبي الذي التقت به عناصر من النواة الأولى للجماعة في مطلع السبعينات ، وتحاورت معه في بيته قبل أن يوافيه الأجل بحوالي سنة … الخ(2). هذا التمازج بين مصادر متعددة للفكر الإسلامي ، يفسر إلى حد ما المرونة التي ميزت العمل في الجانب التنظيمي ، حيث سعت المجموعة في البداية إلى افتكاك موقع داخل جمعية المحافظة على القرآن الكريم لتتخذ منه غطاء قانونياً . ثم لما فشلت المحاولة ، تبنت الجماعة طريقة " جماعة التبليغ " التي تتمحور حول الوعظ المسجدي ، وتحريض المتعاطفين إلى الخروج إلى الناس ودعوتهم إلى الإيمان والصلاة. غير أن هذا التنوع في عناصر الخطاب سرعان ما تراجع لصالح أدبيات حركة " الإخوان المسلمون " ، التي كان يطلق عليها كبرى الحركات الإسلامية في منطقة الشرق الأوسط والعالم الإسلامي)(3).
__________
(1) نسبة لأبي الأعلى المودودي ، مؤسس الجماعة الإسلامية في باكستان ، الذي ترجمت كتاباته للعربية ، ووجدت رواجاً كبيراً في صفوف الإسلاميين العرب ، وكان سيد قطب من أكثرهم تأثراً به.
(2) كما كان هناك تأثر ببعض الزيتونيين الذين حافظوا على موقف معاد للبورقيبية أمثال الشيخين محمد صالح النيفر وعبد القادر سلامة صاحب مجلة المعرفة التي ستصبح الناطقة باسم " الجماعة ".
(3) الإسلاميون التقدميون (ص 2).(1/2)
... أما فكر سيد قطب – رحمه الله – فهو يحتل المكان الأعلى في نظر أبناء الحركة الإسلامية في تونس خلال سنوات التكوين الأولى. يقول الدكتور صلاح عن هذا الفكر بأنه: ( كان المصدر الرئيسي لثقافة الجماعة )(1) بل إن الغنُّوشي نفسه يعترف بهذا الارتباط بجماعة الإخوان المسلمين من البداية قائلاً: ( كنا ننظر لسيد قطب ، البنا ، المودودي .. هؤلاء شيوخنا ، لأنهم حملوا اللواء لواء الإصلاح الإسلامي. ولكن ما الذي يجعلنا نحترم رموز الموروث الديني الموجودين في بلادنا. أنا أقرأ الظلال ، ولكن ما الذي يجعلني أقرأ التحرير والتنوير؟. لم أكن أبحث عن العلم كعلم .. المكتبات مملوءة بالعلوم الدينية . كنت أبحث عن رمز ، عن أداة نضالية عن شخص أقتدي به كمصلح يخوض المعركة ضد العلمنة وضد الفساد … ويضيف " كنت أقرأ وأكاد أحفظ عن ظهر قلب الظلال لأنه عندما أقرؤه كان يملأني حماساً. كنت أشعر بأنه يعطيني نظارات أنظر بها إلى هذا العالم ، وأحلل به الواقع العالمي ، ولكن ماذا يعطيني التحرير والتنوير غير ما يعطيني إياه الرازي وابن كثير؟ يعطيني مادة لغوية ، يعطيني رؤية عن إسلام ليس هو الذي أعيشه .. هذا قرآن معلق وليس قرآناً يمشي على الأرض..).(2)
__________
(1) الإسلاميون التقدميون (ص 33).
(2) حوار معه نشرته مجلة" (تونس الشهيدة ) نقلاً عن ( الإسلاميون التقدميون ، ص33).(1/3)
... قلت: هذا الارتباط العضوي من الغنُّوشي وجماعته بالجماعة الأم (جماعة الإخوان المسلمين) منذ بداية التكوين أوقعه وهو الرجل المثقف المفكر المنِّظر(1) في الانحرافات المتنوعة التي لازمت هذه الجماعة منذ مؤسسها الأول (حسن البنا) الذي ارتضى لها هذا المنهج ، من حيث عدم وضوح رؤيتها العقدية في كثير من المسائل المهمة ، مما جعلها تحاول المزج بين مذاهب ومشارب متباينة لتكوِّن منها خليطاً عجيباً يُدعى " الإخوان المسلمون "! ، أدها إلى ( التمايع) مع المذاهب المنحرفة عن طريق أهل السنة والجماعة غاضة الطرف عن زيغ هذه المذاهب في سبيل ( التجميع ) الموهوم.
... هذا ، إضافة إلى السعي الدؤوب لهذه الجماعة نحو الوصول إلى الحكم (وهو من أساسيات أهدافها) بأي طريقة كانت ، ولو أداها ذلك إلى ارتكاب المحظورات فضلاً عن الشبهات.
... مع عدم نسيان سير فقهاء الإخوان ( كالغزالي والقرضاوي وغيرهم ) نحو ما يسمونه مذهب التيسير في الفقه ، الذي عن طريقه أحلوا كثيراً من المحرمات! مقدمين عقولهم وأهواءهم في سبيل ذلك على نصوص الكتاب والسنة . والأمثلة على هذا كثيرة ليس هذا موضعها.
... كل هذا الانحراف الذي رافق مسيرة الإخوان المسلمين منذ البداية كان له صداه وأثره في فكر الغنُّوشي وآرائه ، حيث تابعهم في كل ذلك الانحراف:
فوجدنا عنده عدم الوضوح العقدي.
ووجدنا عنده ( التمايع ) مع أهل البدع.
ووجدنا عنده الاختيارات الفقهية الشاذة.
ووجدنا عنده التنازل عن كثير من مبادئ الإسلام في سبيل الوصول إلى كرسي الحكم.
__________
(1) يقول الجورشي عن حركة الاتجاه الإسلامي بتونس: " باستثناء الأستاذين راشد الغنُّوشي وعبد المجيد النجار بقيت الحركة لفترة طويلة لا تنتج كفاءات جديدة في مجال الإنتاج الفكري " (الإسلاميون التقدميون ، ص 126).(1/4)
كان هذا الانحراف من الغنُّوشي متوقعاً لدى الكثير من المتابعين للعمل الإسلامي. لأنه ما من فردٍ يندمج مع هذه الجماعة إلا وتطبعه بطابعها العام الذي تميز به أفرادها ، ومن شذَّ عن هذا الأمر ونجح – بسبب عوامل كثيرة – في التخلص من بعض تلكم الانحرافات السابقة(1)، فإنه لا شك سيتبقى معه شيء من آثارها تلوح بين الفينة والأخرى في مواقفه أو أقواله.
فالتربية الحزبية الجماعية المغروسة منذ الصغر أو منذ اندراج الإنسان في العمل الإسلامي عبر هذه الجماعة لا يزول أثره بالكلية مهما حاول المرء التخلص منه.
كم منزلٍ في الدهر يألفه الفتى وحنينه أبداً لأول منزل!
...
... وهكذا كان الغنُّوشي! فهو منذ تطلعه للعمل من أجل الإسلام ساقته قدماه نحو الانضمام إلى هذه الجماعة المنتشرة بين قطاعات الشباب في زمنه ، فتربى على أدبياتها ، وانغرست في نفسه معالمها المميزة لها عن غيرها ، وهو ما يسميه العارفون بالحق الكامن في الكتاب والسنة (انحرافات) ، وإن كان غيرهم يراه (فضائل) أو مميزات!!
... إذن: لم يكن هناك استغراب من وقوع الغنُّوشي في تلكم الزلات ، لأنه مجرد فرد ضمن منظومة كبرى من الأفراد الذين تضلعوا في هذا الأمر فأصبحوا يرونه خلاف ما يراه الآخرون ولات حين خلاص.
... بمعنى آخر: كيف تريد من شخص أن يتخلص من انحراف يراه هو من ضروريات العمل الإسلامي في هذا الزمان ، ويسخر ويسفه من ينتقده أو يعترض عليه؟
__________
(1) وهم من يُسمون ( سلفيو الإخوان! ) ، وهم من التزم العقيدة السلفية ، ولكنه غلَّب الجانب الحزبي على حساب عقيدته ، فوالى أهل البدع (الإخوانيين) وعادى غيرهم من السلفيين الذين ينكرون أخطاء وانحرافات جماعة الإخوان ، فأصبحت سلفيتهم تعاني من نقص شديد واضمحلال واضح لمبدأ الولاء والبراء الشرعي . أصلح الله أحوالنا وأحوالهم.(1/5)
... لا شك أن الخلاص من أمر كهذا يعد من أعسر الأمور ، وأشدها على نفس الإنسان ، والتوفيق من عند الله يمن به على من يشاء من عباده.
... هذا ما كان قديماً: عندما كان الغنُّوشي مجرد عضو من أعضاء تلكم الجماعة ، أو وكيل لها في أرض تونس لا يملك تجاه إرشاداتها ومتطلباتها إلا السمع والطاعة ، لذا فلم يكن انحرافه مما يثير أي متابع للساحة ، لتعود المرء على مثل هذه الانحرافات من أفرادٍ كثيرين ينتمون لهذه الجماعة ، ممن هم أعلم وأفقه من الشيخ راشد(1)، فكانت انتقادات المنتقدين لمسالك الجماعة المنحرفة تنصب عليهم دون غيرهم من الأعضاء الآخرين الذين هم مجرد متابعين لتلك الزعامات: ومن هؤلاء الأعضاء الذين لم يكن يُلفت انحرافهم أحداً الشيخ راشد! فالتركيز كان منصباً على الأصول لا الفروع ، وعلى القيادات لا المتابعين.
... ثم تلاحقت الأحداث وتوالت ما بين تقلبات سياسية وفكرية شملت قطاعاً عريضاً من العاملين للإسلام في السنين الأخيرة ، فإذا بالشيخ راشد بعد أن شب عن الطوق (يتمرد) على مدرسته الأولى ويتفلت من كثيرمن ضوابطها ولوازم الانتساب لها. ويبدأ ينظر إلى تراثها نظرة الناقد المتفحص لا نظرة المريد الناشئ(2)
__________
(1) كالغزالي والقرضاوي مثلاً. ولأهل السنة ردود كثيرة على انحرافاتهما.
(2) والمتمردون على منهج جماعة الإخوان المسلمين - ممن كانوا رموزاً فيها – كثيرون ، كالترابي وعبد الله النفيسي وإسماعيل الشطي وغيرهم.
... وفي ظني أن سبب تمرد الكثيرين على الإخوان يعود إلى أمرين:
طول الأمد وعدم تحقيق الهدف الذي قامت الجماعة لأجله ، وهو إعادة الحكم الإسلامي ، برغم السنين الطويلة التي مرت على الجماعة ، وهذا ما يدعو هذه الفئة ( المتمردة ) إلى الانفضاض عن مبادئ الجماعة ، والطعن فيها ، وانتقادها ، وأنه لا شك في جود خلل فيها ، فلهذا يلجأ هؤلاء إلى غيرها أو إلى الإنشقاق عنها بفكر جديد يزعم أنه يتفادى به ما وقعت فيه جماعته ، وهكذا دواليك!
ضجرهم من حصر الجماعة نفسها طوال هذه السنين الماضية منذ نشأتها في تراث حسن البنا ، وعدم محاولتها تجديده ، أو تقبل النقد له ، فيلجأ هؤلاء ( المتمردون ) بما أوتوه من عقل نقدي إلى تسليط مجهر النقد على ذلك التراث (البنائي) ، مما يثير رؤوس الجماعة ، وعندها يحدث الانشقاق أو الانفصال . كما سيأتي في مثل حالة ( الإسلاميين التقدميين ) في تونس.
ولكن المؤسف أن معظم هؤلاء المتمردين يلجأ بعد انفصاله عن الإخوان إلى الفكر العقلاني المتحرر من الضوابط الشرعية ، فيفسد أكثر مما يُصلح ، ويزيد من جراح الأمة وخلافاتها . ولو أنه لجأ إلى منهج الكتاب والسنة لوجد الأجوبة الشافية لحيرته وشتاته ، ولقلل من الخلافات والنزاعات بين أفراد الأمة ، والله المستعان.(1/6)
. وهذا في حد ذاته مما يسر أهل الحق لو أن الشيخ استثمر انقلاباته تلك في عرض مبادئ تلك الدعوة على الكتاب والسنة ، فأخذ والتزم منها ما وافقهما ، وتخلص مما خالفهما ، وهو ما نتمناه من كل (إخواني).
... ولكن المؤسف أن الشيخ – هداه الله – قد زاد الطين بلة ، والخرق اتساعاً، بانسياقه المتسارع خلف تيارات عقلية منفلتة من سلطة نصوص الكتاب والسنة ، مقدمة عقولها وأهواءها على شريعة ربها ، مما جعل المسافة تزداد بينه وبين الحق.
... فأصبح يتهاوى بين حين وآخر في منزلق خطير قاده إليه تنازلاته المتكررة لصالح التيار ( العقلاني ) الجديد الذي استطاع أن يجد له موطئ قدم في عقلية الغنُّوشي الجديدة!
ومع تكرر هذه المزالق التي سقط فيها الشيخ راشد كان لا بد من التصدي لهذا السقوط الشنيع ، ومحاولة إيقافه على الأقل إن صعبت إعادته إلى جادته الأولى – على ما فيها -.
لهذا فقد أحببت أن أبين للناصحين من أبناء الإسلام التدرجات الفكرية التي مر بها الشيخ إلى أن استقر على حاله الحاضر ، مع ذكر أهم الأسباب التي قادته لهذا التدرج. ثم أوجز أهم الانحرافات التي وقع فيها الشيخ وجانب الصواب ، لعل ناصحاً أميناً يكون عوناً له ليتدارك زلله في مستقبل عمره ، ويعود إلى صراط الله المستقيم قبل أن تتفرق به سُبل الضلال ، وتتمكن من قبله الأهواء والشبهات ، فيقال له بعدها { وحيل بينهم وبين ما يشتهون } .
ولعل ( بعض الدعاة ) – هداهم الله – يتنبهون إلى خطورة مسلك (التدرج) الذي يسيرون فيه ، والذي يتعاظم انحرافاً بصاحبه وهو لا يشعر ، بل يسول له الشيطان بأنه على الجادة وغيره ( المتعنت ) أو ( المتشدد ) ! وما درى المسكين بمكر الشيطان به ، حيث ( درّجه) في خطواته التي حذر الله من اتباعها بقوله { يا أيها الذين آمنوا لا تتبعوا خطوات الشيطان } .(1/7)
أسأل الله أن يوفقني والشيخ الغنُّوشي وسائر المسلمين إلى اتباع الحق والثبات عليه إلى أن نلقاه غير مبدلين ولا مفتونين . وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
المؤلف
سليمان الخراشي
الرياض ص.ب 522
الرمز 11321
ترجمة موجزة للأستاذ راشد الغنوشي(1)
ولد في 27 جمادى الأولى من عام 1360هـ بمدينة الحامة ، بولاية قابس ، بالجنوب الشرقي بتونس.
تلقى تعليمه الإبتدائي والثانوي في بلدته.
انتقل إلى القاهرة في بداية الستينات ميلادية لمواصلة دراسته العليا بها. ثم اضطر بعد عام ونصف إلى الإنتقال إلى سوريا بسبب تدهور العلاقات المصرية التونسية ذاك الوقت.
تخرج في جامعة دمشق عام 1968م حاصلاً على "ليسانس" الفلسفة.
انتقل إلى باريس ليواصل دراسته ، إلا أنه انقطع عن الدراسة بعد عام لظروف عائلية ، وعاد إلى تونس ، ليستقر بها كمدرس للفلسفة.
بدأ نشاطه الإسلامي في منتصف السبعينات.
اعتُقل عدة مرات في أواخر السبعينات.
حُكم عليه في صيف 1981م بالسجن عشر سنوات ، ثم أُطلق سراحه في عام 1984م.
عاد سنة 1985م رئيساً للمكتب السياسي العلني لحركة الاتجاه الإسلامي.
اعتُقل مرة أخرى عام 1987م.
ثم أُخرج عنه بعد سقوط نظام بورقيبة.
يعيش الآن في المنفى بعد الصدامات العنيفة بين نظام بن علي والإتجاه الإسلامي.
نشاطاته:
شارك في تأسيس حركة الإتجاه الإسلامي ، واختير رئيساً لها عام 1981م ، ثم رئيساً لها بعد تحولها إلى حزب النهضة عام 1989م.
عمل بالصحافة في تونس ، فرأس تحرير مجلة ( المعرفة ) ، ثم عمل بمجلة (المجتمع) ، ومجلة (الجيب) ، وكتب في العديد من المجلات والدوريات العربية.
شارك في العديد من المؤتمرات العلمية والفكرية في أرجاء العالم الإسلامي.
مؤلفاته : من أهمها:
1- "مقالات": نشر دار الكروان بباريس.
__________
(1) استفدتها من المقابلة التي أجرتها معه مجلة ( قراءات سياسية) ، السنة الأولى ، العدد الرابع ، 1411هـ ومن مقدمة كتابه ( حقوق المواطنة).(1/8)
2- " الحركة الإسلامية والتحديث ": بالاشتراك مع حسن الترابي ، دار الجيل بيروت.
3- المرأة المسلمة في تونس بين توجيهات القرآن وواقع المجتمع التونسي ، دار القلم بالكويت.
4- طبيعة المشروع الصهيوني وضرورة التصدي له، شركة الزاد ، أسبانيا.
5- حقوق المواطنة: حقوق غير المسلم في المجتمع الإسلامي ، نشر المعهد العالمي للفكر الإسلامي ، بأمريكا.
6- الحريات العامة في الدولة الإسلامية.
- الأستاذ راشد الغنُّوشي – كما علمنا – رمز تونسي من رموز جماعة الإخوان المسلمين ، وهو لا يجد غضاضة في هذه النسبة.
... وقد سار الشيخ على مبادئ هذه الجماعة منذ انخراطه في العمل الإسلامي إلى تسلم قيادة فرع هذه الجماعة في تونس.
... ولكي نحيط جيداً بالتطورات التي طرأت على هذه الجماعة في البلاد التونسية حتى أدت إلى أن ينتهج الغنُّوشي النهج الأخير الذي ارتضاه ، لا بد لنا أن نستمع إلى مؤرخٍ شاهد لهذه الحركة من نشأتها وارتباطها بالإخوان ، مروراً بما أصابها من انشقاقات وتطورات ، إلى أن استقرت على ما هي عليه الآن ، هذا المؤرخ هو الدكتور صلاح الجورشي في كتابه المهم ( الإسلاميون التقدميون ) الصادر عام 1421هـ حيث كشف فيه حقائق كثيرة عن أحوال فرع جماعة الإخوان بتونس ، وهو ما يجهله أكثر أهل المشرق الإسلامي.
... وهو ما سأعرض له فيما يلي ، مقتطعاً بعض عبارات الدكتور التي أرى فيها خلاصة لتسلسل الأحداث في هذه القضية ، مع التعليق على شيء من ذلك.
إرهاصات نشوء الحركة:(1/9)
يقول الدكتور: (كان التونسيون مع أواخر الستينيات ، يخرجون من مرحلة أرهقتهم على أكثر من صعيد . كان تأسيس الدولة الوطنية قد تم على حساب حرياتهم الأساسية ، واستقلالية منظماتهم وشبكات مجتمعهم المدني ، حيث غابت كل مظاهر التعددية التي ميزت حياتهم العامة حتى من قبل نشوء الحركة الوطنية. كما أسهمت سياسة الاقتصاد الموجه والتخطيط المركزي والاشتراكية الزراعية التي اتخذت شكل النظام التعاضدي ، في تمتيع البلاد ببنية تحتية متطورة نسبياً ، لكنها أربكت التجار والفلاحين الصغار والكبار ، نظراً لحجم الارتجال وسوء التطبيق اللذين صاحبا التجربة مركزياً وجهوياً ، وتجذر قيمة الملكية الفردية في الأنفس ، والرفض الطبيعي عند الناس لكل أشكال مصادرة حقوقهم وممتلكاتهم. كما زادت تجربة الستينات برمتها في توسيع دائرة تدخل الدولة في حياة المواطنين، والتحكم بشكل مخيف في مصائرهم . كان لذلك أثر بالغ في اهتزاز شرعية السلطة السياسية لديهم. وإذا كان الطلبة ، خاصة اليساريين منهم ، أول من عارض بقوة وجرأة على منطق وصاية الدولة وأبوة الحكم منذ أواسط الستينات ، فإن آخرين أخذوا يشككون في سلامة الاختيارات الاجتماعية والثقافية الرسمية ، ويتحدثون عن وجود رغبة شعبية للعودة إلى التدين وتنشيط مظاهر الانتماء والهوية. وهو ما يفسر الحركية التي بدأت تشهدها المساجد منذ أواخر الستينات ، والمساجلات التي عكستها بعض الصحف في تلك المرحلة. كما كشفت تلك الحركية عن وجود شريحة من الرأي العام التونسي لم يهضم الإصلاحات التي أنجزتها البورقيبية خاصة في مجال تطوير أوضاع المرأة والأسرة. ...(1/10)
... تأكد ذلك عندما قررت السلطة عام 1969م القيام باستشارة عامة في أعقاب تجربة التعاضد ، محاولة منها لامتصاص الغضب والخيبة الجماعية ، وبحثاً عن فرصة للتأمل وإعادة ترتيب البيت. عندئذ تبين لها أن الهاجس الثقافي الديني قد احتل مكانة بارزة في نقاشات المواطنين ، شملت حتى أبناء الحزب الحاكم. ورغم بعض الإجراءات الشكلية التي لجأت إليها الحكومة قصد إرضاء الشعور الأخلاقي لدى قطاعات عريضة من المواطنين ، كالقيام بحملة ضد حاملات " الميني جيب " وإجبار الشباب على قص شعورهم الطويلة ، إلا أن السلطة والنخبة لم يفكرا بشكل أعمق في المسألة الدينية وآفاق تطورها.(1/11)
... تاريخياً مرت علاقة بورقيبة بالإسلام بمرحلتين مختلفتين تماماً. في الأولى، كان يعمل من جهة على الانفراد بزعامة الشعب التونسي وتعبئته ضد السياسات الاستعمارية ، وكان من جهة أخرى يلتزم بالدفاع الشديد عن القيم الإسلامية ، داعياً إلى الحفاظ حتى على بعض التقاليد التي ليست بالضرورة ملزمة من الناحية الشرعية. وبلغ به الأمر إلى التخلي عن المصلح الطاهر الحداد عندما شن عليه المحافظون حرباً لا هوادة فيها بسبب كتابه " امرأتنا في الشريعة والمجتمع " ، رغم إيمان بورقيبة بكل حرف ورد فيه. كانت الأولوية عنده كسب الرأي العام ، والحرص على ربط صلات وثيقة ببعض العلماء والشخصيات الزيتونية الذين رأوا فيه صفات الرجل السياسي المصلح الذي سيعيد للدين شأنه وسموه. حتى عندما انفجر الخلاف بينه وبين منافسه الأمين العام للحزب الدستوري صالح بن يوسف عام 1955م ، حاول كل منهما استعمال الشعور الإسلامي والحجة الدينية لاستمالة الرأي العام. فإذا كان بن يوسف قد علل رجوعه إلى تونس لمقاومة رئيس الحزب بالعمل " من أجل خدمة مصلحة الوطن ودين الله" ، فإن بورقيبة اضطر لإقناع التونسيين بضرورة القبول باتفاق الاستقلال الذاتي الذي أبرمه مع فرنسا واعتبره خصومه خيانة وعمالة ، فدعاهم إلى الاهتداء بسلوك الرسول الذي لم ينكث عهوده واتفاقياته.(1/12)
... بعد الاستقلال تغيرت علاقة بورقيبة بالمسالة الدينية تغيرا يكاد يكون جذرياً. فإذا كان قد حاول في المرحلة السابقة أن يوظف الشعور الإسلامي لصالح الأفكار الوطنية المناهضة للاستعمار، فإنه عمل في المرحلة الثانية على إخضاع الإسلام من خلال الهيمنة على مؤسساته أو إلغائها ، ولو بشكل تعسفي أحياناً ، لصالح سياسات الدولة وأولوياتها. لم يكن بورقيبة مع مبدأ فصل الدين عن الدولة الذي دافع عنه بعض اليساريين والعلمانيين في ما بعد. لو فعل ذلك لاضطر أن يعطي للحياة الدينية ومؤسساتها قسطاً هاما من الحرية والاستقلالية بينما كان تصوره للدولة تصوراً شمولياً. لهذا عمل منذ البداية على تفكيك المؤسسات الدينية الفاعلة ثقافياً واجتماعياً وسياسياً وإلغائها ، كما حصل للمؤسسة الزيتونية. اعتبر الدولة مسؤولة عن تنظيم الشؤون الإسلامية من خلال هيئة إدارية ملحقة بالوزارة الأولى. ثم أدمج خريجي الزيتونة في السلك الإداري والتعليم العام بهدف تهميشهم. ورأى أن له الصلاحية المطلقة لتفسير النصوص الدينية بطريقة أوقعته في تناقضات عديدة ، وبينت خطبة له في هذا الجانب فقرة المعرفي ، وتعامله الساذج أحياناً مع النص القرآني وعلاقته العدوانية مع شخصية الرسول واستخفافه بالتاريخ الإسلامي(1). لم تسلم حتى العبادات من تعليقاته الساخرة وقراراته التعسفية ، إذ أن إحساسه بالثقة المفرطة في نفسه ، وتضخيمه لدوره ، وعدم إدراكه للطبيعة المستقبلية للإسلام وعظمته الرمزية والتاريخية. كل هذا جعله لا يولي أهمية تذكر لوضع سياسة دينية واضحة المعالم وبعيدة الأهداف ، مما نتج عنه تأخر كبير في تطوير الفكر الإسلامي التونسي والارتقاء بالوعي الديني الشعبي اللذين بقيا يتحركان في معزل عن الخطاب التحديثي للسلطة السياسية في قطيعة شبه
__________
(1) مثل تساؤله كيف يصلي الله على الرسول؟ أو قوله بأن الرسول كان أمياً بينما هو ، أي بورقيبة ، يحمل كدساً من الشهادات العلمية !(1/13)
تامة مع النظام التربوي)(1).
نشأة الحركة وارتباطها بجماعة الإخوان المسلمين:
... يقول الدكتور: ( لم تولد " الجماعة الإسلامية بتونس " في السرية ، كما حصل مع حزب التحرير الإسلامي فيما بعد. بدأت الخطوات الأولى علنية ، تحت أنظار الجميع: خطب وحلقات في المساجد ، مقالات في الصحافة(2)، محاضرات في المدارس ونوادي الشباب. كما أن المؤسسين كانوا يتحركون دون تخف، يدعون لأفكارهم بدون تقية ، ويثيرون اهتمام الرأي العام المسجدي والشبابي بخطابهم الثقافي (الجديد) وأحياناً الغريب ، خاصة عندما اختلط بمضمون وأشكال جماعة التبليغ.
... كان هذا الخطاب في بدايته مزيجاً من العناصر الفكرية المتنوعة بتنوع تكوين العناصر المؤسسة. لكنه في عمومه كان يجنح إلى التفسير الأخلاقوي للقضايا. أي تفسير الأزمات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية بعناصر ثلاثة هي: فساد أخلاق الأفراد والأمة ، ابتعاد التونسيين عن مرجعية الإسلام وقيمه وقوانينه، نقد الغرب والتصدي لتقليده والتشبه به. الغريب أنه بقدر ما كان ذلك الخطاب سطحيا في بعض أطروحاته وضعيفاً في بنائه الداخلي ، فإن تأثيره في تلك المرحلة كان سريعاً وواسعاً. إن دل هذه على شيء فإنه يدل من جهة على تآكل الخطاب الرسمي وانعزاله عن الشباب والعامة ، ومن جهة أخرى كشف عن عزلة النخبة و"الطبقة السياسية" عن الرأي المستبطن في الأعماق. فالخطاب الحركي لتلك الفترة كان يستمد " قوته " وتأثيره من تآكل شرعية الدولة ، وتعاظم شعور الأفراد بأزمة نمط ما بعد الاستقلال ، وفشل الخطاب المقابل في الوفاء بوعوده في الحرية والعدالة ، سواء على المستوى الرسمي أو النخبوي.
__________
(1) الإسلاميون التقدميون (ص 22-24).
(2) انظر مقالات راشد الغنُّوشي في جريدة الصباح بعد عودته مباشرة بين عام 1969و1970 من دمشق وباريس(1/14)
... لم يكن هناك سوى خطاب وحيد يملك بعض مقومات المواجهة ، خاصة داخل الفضاء الجامعي ، إنه الخطاب اليساري الماركسي. وهو يفسر حدة الصراع الذي انفجر منذ ظهور الإسلاميين في أروقة المبيتات الجامعية والكليات والمعاهد العليا التي كان يعتبرها اليساريون في مطلع السبعينات بمثابة معاقلهم المحررة.
... لم يكن خطاب " الجماعة " في البداية إخوانياً صرفاً. بل كان خليطاً من السلفية والتصوف والمودوديات وشيئاً مما كتبه بن نبي الذي التقت به عناصر من النواة الأولى للجماعة في مطلع السبعينات ، وتحاورت معه في بيته قبل أن يوافيه الأجل بحوالي سنة … الخ.
... هذا التمازج بين مصادر متعددة للفكر الإسلامي ، يفسر إلى حد ما المرونة التي ميزت العمل في الجانب التنظيمي ، حيث سعت المجموعة في البداية إلى افتكاك موقع داخل جمعية المحافظة على القرآن الكريم لتتخذ منه غطاء قانونياً. ثم لما فشلت المحاولة ، تبنت الجماعة طريقة " جماعة التبليغ " التي تتمحور حول الوعظ المسجدي ، وتحريض المتعاطفين إلى الخروج إلى الناس ودعوتهم إلى الإيمان والصلاة.
... غير أن هذا التنوع في عناصر الخطاب سرعان ما تراجع لصالح أدبيات حركة "الإخوان المسلمين " ، التي كان يطلق عليها كبرى الحركات الإسلامية في منطقة الشرق الأوسط والعالم الإسلامي.
... يعود ذلك إلى اعتبارات متعددة ، فإضافة إلى التأثير الشخصي لأدبيات الإخوان على بعض المؤسسين ، كانت هناك جوانب أخرى موضوعية:(1/15)
كان التدين في تونس عند مطلع السبعينات متقلصاً ومتقوقعاً. فالمساجد مقفرة أو تكاد ، والنشاط الديني منعدم أو محدود. وكان التدين يومها أنواعاً ، منها الدين الرسمي المنحصر في شخص المفتي ونشاطه البروتوكولي والشكلي ، إضافة إلى إدارة تابعة للوزارة الأولى تعنى بشؤون المساجد. ومن جهة تدين شعبي أغلبه طرقي وخرافي. وهناك تدين زيتوني أزيح من الحياة الثقافية ، واعتزل مشايخه الحياة العامة بعد إحالتهم إلى المعاش. من هذين الوسطين انحدر أغلب العناصر المكونة للجماعة ، الذين تكونوا في معاهد تعليم عصرية أريد منها أن يكون خريجوها " علمانيين " فإذا بهم يشتبكون مع الأوساط العلمانية والزيتونية والطرقية. ويبحثون عن زاد معرفي من خارج الدوائر التونسية.
شكل " الإخوان المسلمون " تجربة متكاملة اكتسبت إلى حد ما أهمية تاريخية ، من حيث بنائها التنظيمي والأيديولوجي. وكانت في مرحلة سابقة تعتبر في مقدمة الحركات الإسلامية السنية التي رفعت شعار " شمولية الإسلام" وحاولت تجسيده في صيغة تنظيمية شمولية. خلافاً لدعوات أخرى ركزت جهودها على جانب دون آخر.
كان الإخوان أيضاً أكثر الحركات التي ألحت على القول بأن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يجب أن يتم ضمن جماعة تجعل من الإسلام منهج حياة. وهو ما يقتضي تجاوز العمل الفردي المحكوم عليه بالفشل أو الانحصار داخل دائرة التأثير المحدود ، وخلق آليات العمل الجماعي ، بما في ذلك من إعادة صياغة الأفراد وتربيتهم حسب متطلبات الحياة الجماعية الجديدة.(1/16)
مما زاد في دعم حضور الحركة في وجدان النواة الأولى المؤسسة ، صورة البطولة والصمود والشهادة سواء في المعارك التي خاضتها كتائبهم عام 1948م ضد الصهيونية ، أو كانت تحيط بالإخوان داخل سجونهم وفي مختلف محنهم وصراعاتهم. وهي صور كانت تنقل إلينا من خلال الشهادات التي ترويها بتفصيل مثير وفي مناسبات عديدة مجلة " الدعوة " ، أو في بعض الكتابات الذاتية التي طبعت في هذا الشأن.
هكذا اكتملت مقومات التأثير والاستقطاب الثلاثة. العامل الأيديولوجي في مرحلة صعود الأيديولوجيات الشمولية. والعامل التنظيمي ممثلا في الانخراط في تجربة جاهزة وخبرة ترجع إلى أواخر العشرينات. وعامل القدوة المحرضة على الالتزام الأخلاقي والشجاعة الأدبية والتضحية في سبيل فكرة والصمود عند المحنة.
سرعت هذه العناصر ، إضافة إلى غياب نموذج محلي يمكن الاقتداء به ، في إجراء الاتصالات الأولى بالتنظيم الدولي للإخوان ، دون دراسة معمقة ونقدية لتاريخ وتجارب هذه الحركة قصد معرفة إمكانية الانتماء إليها. كان ذلك أو لقرار عاطفي وارتجالي تتخذه " الجماعة " في بداية نشأتها. لقد اتخذ القرار المبدئي للانتماء إلى جسم هلامي ، لم يقدر حجمه الحقيقي ، ولم يدرس برنامجه الثقافي والسياسي ولم يقع التساؤل حول الأسباب العميقة التي جعلته متعثراً في مساره ، ومتأزماً في علاقاته الداخلية والخارجية. لم يطرح سؤال على هذا الجسم الذي ما أن خرج أصحابه لتوهم من أجواء السجون والإبعاد ، حتى عادت قيادته لتنشيطه بأي طريقة دون الرغبة في دراسة عوائقه الذاتية والأسباب التي وراء عجزه عن التصدي للضربات المتوالية. كان الحرص أكثر على إظهاره في صحة جيدة ، وتجنب إخضاع تاريخه للنقد الذاتي.(1/17)
هذا الانتماء غير المدروس والمتعجل أسهم بشكل قوي في وقوع الجماعة في نوع من الاغتراب المحلي. فالعناصر الأولى لم تتلق ثقافة أولية تربطها بالواقع الثقافي التونسي ، وتحدد لها علاقتها بتاريخ تونس الحديث بدءاً من الحركة الإصلاحية وصولاً إلى العهد البورقيبي ، مما كان له التأثير السيئ على علاقة الأفراد المنتمين ببيئتهم الثقافية والسياسية ، ومما دفع إلى ظهور عوامل الاختلاف والافتراق.
أما الجانب الآخر الذي لا يقل أهمية أن النواة الأولى التي تولت استقطاب وتكوين العناصر الموالية لم تكن متسلحة بعقلية نقدية تمكنها من التعامل مع تراث الإخوان بموضوعية وحذر. كان الانبهار والاستهلاك السريعان غالبين في عملية استيعاب الأدب الإخواني وترويجه. وهو الأمر الذي ساعد كثيراً على ابتلاع الفكر القطبي ( نسبة لسيد قطب رحمه الله ) ، بما فيه من متطلبات وانزلاقات خطيرة.(1/18)
كان حسن البنا بمثابة الشخصية التاريخية التي استشهدت لأنها حاولت أن تعيد إحياء الإسلام ، ونجحت في بناء نموذج جديد من العمل الإسلامي ، في ظل رهانات وموازنات محلية ودولية لها خصائصها التاريخية المدهشة. كانت إلى جانب ذلك كتابات سيد قطب وشقيقه الأصغر محمد الأكثر تأثيراً على المجموعة الأولى التي شكلت قاعدة التنظيم في المستقبل. لم يكن الأمر من باب الصدفة ، وإنما لارتباط ذلك بالصراع الأيديولوجي الذي بدأت تشهده الجماعة ، خاصة الأستاذة والطلبة منهم بالخصم الشرس ممثلاً في اليسار الماركسي ، فالأيديولوجيا لا تواجه إلا بأيديولوجيا منافسة وقادرة على الرد " الحاسم ". وإذا كانت كتابات محمد قطب قد تناولت " الرد " على الشبهات المهددة للفكر الديني التي يروجها خصوم الحركة ، مع محاولة بلورة ما اعتبر " بدائل إسلامية " ، فإن سيداً بعد سجنه كان مشغولاً بمسألة أكثر أهمية وخطورة ، وهي مسألة المنهج التي سبق وأن شغلت شخصاً آخر في مجال معرفي مناقض هو لينين. معظم ما كتبه سيد خلال محنته القاسية كان محاولة للإجابة عن سؤال: ما العمل؟ ، أي كيف نحدث التغيير المنتظر؟. ولا تخفى أهمية هذا السؤال والإجابة عنه بالنسبة إلى الحركات والجماعات التي ترشح نفسها لمثل هذه المهمة. كان الشيخ البنا يملك إجابة واضحة ، ولو بشكل نسبي عن هذا السؤال: نشر الفكرة ، تجميع الأنصار وتربيتهم في صلب الجماعة ، والعمل في الإطار القانوني ، عرض قائمة إصلاحات اجتماعية تتعلق بالأخلاق العامة.(1/19)
لكن أهمية سيد قطب لا تقف عند حدود ما قدمه من إجابات ، أثارت وما تزال جدلاً واسعاً في أوساط الحركيين الإسلاميين ، بل إن تأثيره الذي بلغ حد السحر والسيطرة الكاملة على الألباب ، متمثلاً في أسلوبه الأدبي القوي المصحوب بثقة كبيرة في النفس وتعال عن الواقع بكل تفاصيله الصغيرة والكبيرة ، كل ذلك مكنه من قدرة على التعبئة والتجييش تجعلان القارئ المؤمن بما يقوله ، يستسلم بين يديه ليقوده إلى المعركة الفاصلة مع الأعداء. فأنت مع قطب تصبح مسكوناً بإحساس عميق بأنك تحمل رسالة مقدسة ، وأنك مطالب بتغيير سلوكك ومفاهيمك وعلاقتك العامة والخاصة ، وتتهيأ للدخول في حياة جديدة لا علاقة لها بما عهدته من نمط اجتماعي وثقافي. بل كانت له القدرة على جعلك تحس بمسؤولية تغيير العالم وأنك قادر على مواجهة كل قوى الشر والطغيان.
لم ينتج الإخوان " مُنظراً " أقوى وأكثر تأثيراً من سيد قطب ، ولكن في المقابل لم يعان الإخوان من مآزق نظرية وعملية مثلما عانوا من منهج التغيير الذي صاغه ذهنياً – رحمه الله - في تفسيره للقرآن وفي مؤلفة الشهير " معالم في الطريق)(1).
بداية الأزمة:
(نما الجسم الحركي بسرعة كبيرة لم تكن متوقعة. فقد كانت هناك قابلية شديدة ، خاصة في صفوف الشباب والعنصر النسائي. كانت هذه أيضاً من المفارقات التي تعددت محاولات فهمها وتعليلها دون التوصل إلى فهم علمي مقنع. فيكف يفسر إقبال قطاع من النساء التونسيات ، المتعلمات منهن بالخصوص ، اللاتي يتمتعن بحقوق لم تعرفها معظم نساء العامل الإسلامي بفضل الإصلاحات التي جاءت بها مجلة الأحوال الشخصية ، الانخراط بكثافة في مشروع محافظ لم يطور خطابه بعد ، خاصة تجاه المسألة النسائية؟
__________
(1) الإسلاميون التقدميون (ص 26 – 29).(1/20)
ندرك صحة المثل القائل " فما راء كمن سمع " عندما نستحضر البدايات الأولى لأزمة الحركة. عند التعامل عن بعد مع أسماء كبيرة وحركات ضخمة يتشكل لديك انطباع إيجابي يصل إلى حد التعظيم والتقديس ، لكن ما أن تتوفر لديك المناسبة وتلتقي مباشرة بهذه الرموز حتى تهزك المفاجأة وتكتشف البون الشاسع بين الواقع والمثال ، بين النصوص وأصحابها. هذا ما حصل للعديد من أبناء " الجماعة " ، عندما توفرت لهم فرص زيارة المشرق العربي. وفي مقدمتهم أحميدة النيفرالذي صدم في مكة عند أول لقاء له بالأستاذ سيد قطب الذي رفض حتى الحوار معه قائلاً له " أرفض التحاور مع أتباع نظام بورقيبة الطاغوتي"؟. كانت خيبته الثانية خلال زيارته القاهرية التي كان يرغب خلالها بالتعرف على حركة الإخوان المسلمين والتحاور مع قيادييها ، فوجد نفسه أمام شرط مسبق هو أداء البيعة ؟. وقائع متفرقة وحالات تماس محدودة بالتنظيم الدولي للإخوان ، كانت كافية ليبدأ النموذج مهتزاً عند البعض من الأعضاء وطارحاً لأسئلة لقيت شيئاً من التجاوب لدى البعض الآخر.(1/21)
مع التوسع العددي والتعقد التنظيمي والاحتكاك بالواقع المعيش ، أخذت بعض المشكلات تطفو على السطح. كان فرع العاصمة التابع " للجماعة " ، الجهة الرئيسية التي أخذت ترصد هذه المشكلات التربوية والتنظيمية ، وتحاول فهمها واقتراح حلولها لمعالجتها. ومن بين ما تم رصده التغيير السلبي الذي طرأ على شخصية العديد من العناصر. اتضح أنه قبل استقطاب الفرد كان له من الاستقلالية والتحفز وروح المبادرة ، وميل إلى الإبداع في مجالات كالمسرح أو بقية الفنون ، أو في مستوى العلاقات الاجتماعية ومدى الانفتاح المحيط. لكن بعد الانتماء تتغير كل هذه المميزات ويتخلى عن هواياته السابقة ، وتتوتر علاقاته أحياناً بمحيطه الأسري والاجتماعي ليصبح أميل إلى الصلابة والتشدد. كان طموح الكثير من الشباب المنتمي لا يكاد يتجاوز ، إضافة إلى اختصاصاتهم العلمية ، مجال الوعاظ وإمامة المساجد. ويضاف إلى هذا ظهور نزعة تقليد ما كان يسمى بـ " أمير الجماعة " في كل ما يتعلق بشخصيته ومظهره.
تميزت مدرسة الإخوان عن غيرها من الحركات بإلحاحها الشديد على عامل الفرد ، والعمل على إعادة نحت شخصيته. لذلك يجد المنتمي إلى الجماعة نفسه مدعوا لبرمجة حياته الخاصة والعامة وفق حاجيات الحركة ومتطلباتها. هذا أمر هام ، لأن من يدعي الإقدام على تغيير المجتمعات والعالم عليه أن يبدأ بنفسه وبالذين معه. والحركة الإسلامية ، كغيرها من الحركات الدينية والأيديولوجية ، ليست مجرد تنظيم سياسي يعمل على تعبئة الأتباع لخوض حملة انتخابية ، وإنما كانت بمثابة المحاضن شبه المغلقة التي تستوعب أعضاءها وتخضعهم لأجواء وشروط وطقوس لتحويلهم إلى نماذج مؤثرة في المجتمع ، ومهيأة لخوض معارك مختلفة. كان لا بد لذلك من الحرص على الاستقامة الصارمة للسلوك ، والابتعاد عن الازدواجية والتناقض بين الشعارات والممارسات اليومية)(1).
__________
(1) المصدر السابق (ص 29 – 30).(1/22)
قلت: بعد هذا بدأ التململ يدب في صفوف بعض مثقفي الجماعة الذين أزعجهم أن تحصر الجماعة عقول كوادرها في تراث البنا وسيد قطب جاعلةً على فكرهما هالةْ من القداسة والتبجيل السطحي ، فبدأ هؤلاء المثقفون يسلطون أقلامهم على نقد هذا التراث المقدس ، ويعيدون النظر في كثير من ثوابته لدى أفراد الجماعة.
وليت هذه الفئة إذ صنعت هذا: حاكمت ذلكم التراث في ضوء الكتاب والسنة إذاً لساهمت بشكل جاد في تقويم مسيرة الجماعة الأم وهو ما يتمناه كل محب لهذه الجماعة ، لكن الذي حدث هو أن هذه الجماعة المثقفة اتبعت أهواءها وسط ضغط الواقع العلماني ، ولم يكفها ما قدمه الإخوان من تنازلات وما لجأوا إليه من تساهلات يعرفها الجميع ، حتى بدؤوا يتخلصون من كثير من أحكام الإسلام الثابتة ، وقضاياه المحكمة إما بردٍ أو تأويل ، لعل ذلك يتناسب مع عصرهم وعقولهم – زعموا - ، فهم كما قيل:
ألقى الصحيفة كي يخفف رحله والزاد حتى نعله ألقاها!
... فحكموا عقولهم القاصرة في نصوص الكتاب والسنة ، ورفضوا منها ما لم تستسغه أفكارهم الضيقة مكونين من ذلك ما يسمى بـ (الإسلاميين التقدميين)!! الذين من اطلع على بعض اطروحاتهم وآرائهم علم علم اليقين أنها علمانية جديدة قد لبست مسوح الإسلام ، تضليلاً للمسلمين ، سواء كان ذلك عن عمدٍ منهم ، أم عن خَوَرٍ وضعف عن الالتزام ( بجميع ) شرائع الإسلام ، والاعتزاز بها فضلاً عن الفرح ، كما قال تعالى { قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا هو خير مما يجمعون } .
... عندما قامت هذه الفئة ( التقدمية!) بذلك على رؤوس الأشهاد ، استاء من هذا شيوخ الإخوان وقادتهم في تونس ، وكذا في خارجها.
يقول الدكتور صلاح عن هذا الأمر:(1/23)
... (عند هذا الحد تكون رقعة التمرد قد اتسعت لتتجاوز سيد قطب ، وتعيد النظر في العلاقة بالإخوان كتنظيم ومرجعية ، وتبلغ الأسئلة حد ملامسة ما كان يعتبر في ذلك الوقت ثوابت. لذلك كان من الطبيعي أن يرد التنظيم بقوة على ما اعتبرته القيادة آنذاك (انحرافاً). ولقد أحس الجسم أنه يواجه عاصفة فكرية وتنظيمية هي الأولى من نوعها في تاريخه القصير. جاءت الردود قاسية وعنيفة كشفت بدورها عن جوانب أخرى من الأزمة ، ومن طبيعة الثقافة المرجعية التي كانت سائدة في تلك المرحلة).(1)
... (فشلت " الجماعة " في الحفاظ على وحدة صفها ، وأخفق الجناحان في تحقيق التعايش بينهما تحت سقف تنظيمي واحد. في البداية بدأ وكأن الجسم الجماعي قادر على تحمل التنوع الفكري ، لهذا نشرت سلسلة مقالات الأستاذ أحميدة النيفر دون اعتراض إداري على صاحبها ، رغم الصدمة التي أحدثتها منذ المقالة الأولى. لكن مع توسع دائرة النقد والتباين في الطرح انتفض الجهاز التنظيمي مذعوراً ، ومارس كل ما يملك من ضغوط لإسكات الصوت المغاير. كما لجأ الخط المحافظ يومها إلى مختلف الوسائل الإقصائية ، مدعوما بأغلبية صامتة لم تتوفر لها الظروف المساعدة لإدراك طبيعة الخلاف والتعبير الحر عن رأيها ، نتيجة الرغبة في عزلها عن كل " تأثير سلبي " ، وسماع وجهات نظر قد تربك التنظيم وتجعله ينحرف عن خطه العقدي والحركي).(2)
... إذاً: انتهت هذه الأزمة التي عصفت بجماعة الإخوان المسلمين في تونس إلى تمرد البعض عليها وانفصالهم ( أو فصلهم !) عنها ، مكونين ما أطلقوا عليه (الإسلاميين التقدميين) – كما سبق –.
__________
(1) الإسلاميون التقدميون (ص 46).
(2) الإسلاميون التقدميون (ص 67).(1/24)
... وفي ظني أن جماعة الإخوان المسلمين في تونس قد أحسنت صنعاً بإقصائها لهذه الفئة التقدمية التي أرادت أن تجر الجماعة بأكملها إلى التخلي عن ثوابت الإسلام في قضايا كثيرة ، وتقودها إلى انحرافات (بل كفريات) أملتها عليهم الأهواء ، تباعد بينها وبين دعوة الكتاب والسنة.
... فإنه بالرغم من الملاحظات غير القليلة على جماعة الإخوان المسلمين ، إلا أننا لا نرضى لهم أن يتعاظم انحرافهم ، وتزداد الفجوة بينهم وبين الحق ، لذا فقد كان من مصلحتهم وأد ذاك التمرد في مهده قبل أن يستطير شره ، ويعظم خطره ، ولو ألجأهم ذلك إلى آخر العلاج وهو الكي ، أو الإقصاء.
... هذا ما حدث لجماعة ( الإسلاميين التقدميين ) الذين انفصلوا عن جماعتهم الأم ، جماعة الإخوان المسلمين ، وأمرهم لا يهمنا كثيراً لعدة أمور:
1- أن هذا البحث غير مخصص لهم.
2- أنهم مجرد أفراد لا يتجاوزون العشرات.
3- توقف حركتهم وسكونها.
... وإنما عرضت لهم لكي يَّطلع القارئ على شيء من الأحداث التي رافقت نشوء جماعة الإخوان المسلمين في تونس ، وأثرها على تطور فكر الغنوشي. - كما سيأتي –
لماذا تغير الغنّوشي ؟!
بعد انفصال ( الإسلاميين التقدميين ) عن جماعة الإخوان ، استمرت الجماعة في خط سيرها دون أن تتأثر تنظيمياً بذلك الانفصال ، وقام أميرها (الشيخ راشد الغنُّوشي ) بقيادتها إلى بر الأمان – كما يقال - إلا أن ذلكم الانفصال لم يمر دون أن يحدث هزة فكرية في بعض رموز حركة الاتجاه الإسلامي ، وعلى رأسهم الغنُّوشي. ...
وفي هذا يقول الدكتور صلاح:(1/25)
... (كانت قيادة " الجماعة الإسلامية " تخشى أن يؤدي انسحاب التيار النقدي من صفوفها في أواخر السبعينات ، إلى تصدع التنظيم برمته ، وأن يتمكن المفارقون لخط " الجماعة " من التأثير على عدد كبير من الأعضاء. ولكنها عندما تأكدت من أن عدد المنسحبين لم يتجاوز العشرات أغلبيتهم من أبناء العاصمة، اطمأنت قليلاً ، واكتفت في البداية باتخاذ سلسلة من الإجراءات التنظيمية الاحتياطية حتى تحول دون تسرب الأفكار التمردية داخل بقية الجسم . لكن رغم أن عملية الانشقاق حسم أمرها دون أن تحدث ارتباكاً يذكر على المستوى التنظيمي إلا أن آثارها بقيت محل سجال ومناقشة. وبرغم الجهود التي بذلت يومها للتقليل من أهمية مجموعة " الإسلاميين التقدميين " وإحاطة أفكارهم وتوجهاتهم بالكثير من الغموض والشكوك والطعون في الأشخاص والمفاهيم إلا أن عملية الانشقاق المبكر مثلت استفزازاً هائلاً للصف الداخلي ولمستنداته الفكرية والأيديولوجية.
... منذ اللحظة ولد إحساس داخل " حركة الاتجاه الإسلامي " بأن أشياء كثيرة في حاجة إلى المراجعة ، وأن الجسم لم يعد طيعاً كما كان الشأن من قبل ، مما مهد السبيل لتكرر محاولات الإصلاح من الداخل ، ومعظمها خلف وراءه ضحايا وتوترات. إذ لم تمض سوى فترة وجيزة عن تنصيب قيادة جديدة في العاصمة حتى حصل تململ جديد انتهى إلى خلافات شديدة حول أسلوب العمل مع القيادة المركزية ، إذ حاول الفريق الذي عين بطريقة تعسفية وانقلابية لإدارة النشاط كبديل عن الهيئة القيادية التي تم عزلها أن يعمل بنوع من الحرية في إعادة تشكيل النشاط ، فإذا به يواجه بنوع من الوصاية البيروقراطية حالت دون إحداث تطور فعلي في العقلية التنظيمية ، مما جعل المسئول الجديد يعلن استقالته ويدرك بعض الأسباب الحقيقية للخلافات السابقة.(1/26)
... بعد ذلك تولت مجموعات طلابية ممارسة الضغط في مناسبتين على الأقل، الأولى كانت في عام 1981م والثانية عام 1983م. ورغم النتائج المحدودة التي حققتها المحاولتان ، إلا أن ذلك ساهم في تعميق الحيرة الفكرية والسياسية البناءة داخل الجسم العام ، وأدى إلى توسع ظاهرة ما يسمى يومها بـ " الإسلاميين المستقلين " الذين انسحبوا بشكل فردي وحافظوا على بقائهم خارج التنظيمات.
... أمام هذا الغليان الفكري والروح النقدية المتحررة اللذين أخذا يتسعان ويخترقان جسم الحركة الإسلامية بمختلف مستوياتها ، وجدت قيادة "حركة الاتجاه الإسلامي" نفسها مدعوة للتفاعل مع هذه الحالة الفكرية الجديدة ، وذلك بانتهاج سياستين متعاكستين. من جهة التخلي التدريجي عن جزء هام من المنظومة الفكرية لحركة الإخوان المسلمين . تم ذلك بنقد اطروحات سيد قطب ، أو تبني شعارات المرحلة خاصة على المستوى السياسي مثل الديمقراطية وحقوق الإنسان ومشاركة المرأة في العمل السياسي ونبذ العنف كوسيلة للتغيير والانفتاح على بقية الأحزاب السياسية بما في ذلك الحزب الشيوعي. لذلك وقعت المطالبة بأن" تستعيد الجماهير حقها المشروع في تقرير مصيرها بعيداً عن كل وصاية داخلية أو هيمنة خارجية وذلك بإقرار حق كل القوى الشعبية في ممارسة حرية التعبير والتجمع وسائر الحقوق الشرعية " كما اعتبر رئيس الحركة أن الاستبداد لم يأت عن طريق العملاء الغربيين ، إنه عميق في تاريخنا وتفكيرنا وثقافتنا … إن المسلم كان منسحقاً سياسياً أمام السلطات ، وعقائدنا أمام الجبر ، وإرادياً أمام رجال الصوفية، وفكرياً أمام رجال المذاهب .. وما زال الاستبداد مكرساً في الحركة الإسلامية .. إننا ثمرة مجتمع متخلف ورغم عهر الغربي إلا أنه يعيش تجربة حضارية متقدمة علينا.(1/27)
... ومن جهة أخرى حاولت قيادة حركة الاتجاه الإسلامي التصدي لهذا الكم من الأسئلة والمراجعات التي لم تعد تقتصر على تيار الإسلاميين التقدميين ، بل تعدته إلى الحصون الداخلية للحركة. يضاف إلى ذلك صعود " حزب التحرير الإسلامي " (فرع تونس) الذي بدأ يتغلغل ويستقطب عناصره من داخل الحزام التنظيمي لحركة الاتجاه مستغلاً تذبذبها الفكري ووجود قيادتها داخل السجن. هذا الوضع الصعب والمحفوف بالمخاطر دفع رئيس الحركة الأستاذ راشد الغنُّوشي إلى أن يصدر من داخل السجن في صيف 1983م رسالة تحت عنوان "حق الاختلاف وواجب وحدة الصف " بهدف مواجهة الوضع الداخلي بكثير من الحزم والحكمة. ثم حتى لا تنال المحاولات التي يقوم بها خصوم ومنافسون إسلاميون وغيرهم في الداخل والخارج بغية استقطاب بعض النجاح في إحداث الخلل والتمزق).(1)
... إذاً: لقد أحدث انفصال ( الإسلاميين التقدميين ) عن حركة الاتجاه الإسلامي رجّة فكرية دعت الغنُّوشي إلى مراجعة اطروحاته السابقة وإعادة النظر فيها ، ومن ثم تبني اطروحات جديدة تقتبس كماً لا يستهان به مما كان يطرحه التقدميون ، وإن لم يُشر إلى ذلك ، فكان هذا السبب الأول في ظهور الوجه الجديد للغنُّوشي وانجرافه خلف التيار ( العقلاني ) ( المستنير )! وترديده لأفكارهم وآرائهم في كتبه وأحاديثه.
يقول الدكتور صلاح مؤكداً هذا:
... (في هذا السياق يمكن فهم ما يصدر من حين لآخر من كتابات ونصوص عن وجوه بارزة في هذه الحركة خاصة السيد راشد الغنُّوشي ، مثل كتابه "الحريات العامة في الدولة الإسلامية " … لا شك في أن هذه التحول يشكل تطوراً في الخطاب وفي زوايا النظر للقضايا ، لكن ما كان لهذا التطور أن يتم لو لا وجود صراع على الساحة).(2)
__________
(1) الإسلاميون التقدميون (ص 128 – 130).
(2) الإسلاميون التقدميون (ص 139).(1/28)
... ويقول – أيضاً – مدللاً على أن أدبيات جماعة الإخوان المسلمين لا "تناسب البلاد التونسية وطبيعة أهلها المنفتحة"!: (عندما نشأت الحركة الإسلامية في أوائل السبعينات كانت غريبة عن تونس في جل اهتماماتها وأهدافها، لكن ذلك لم يصمد أمام الخصوصيات التونسية المطالبة بجعل الفكر الإسلامي أكثر معاصرة وتفاعلاً مع الحداثة ، وهو ما سيقع ملامسته بوضوح في التطورات الفكرية التي تمت داخل خطاب حركة الاتجاه الإسلامي ، خاصة لدى رمزها الأول: راشد الغنُّوشي).(1)
... ويقول: (يصعب الادعاء بأن الإسلاميين التقدميين هم وحدهم الذين أجبروا الحركة التونسية على تجذير نفسها في واقعها الوطني ، والتخلص من قمقم الإخوان المسلمين ، واكتساب الخصوصية التي يشير إليها أكثر الذين درسوا الحركة ، وتعرفوا على قياداتها ، لكن لا نجافي الحقيقة عندما نؤكد بأن مجموعة الإسلاميين التقدميين كانت بمثابة حركة الوعي الأولى داخل الجسم الحركي المغترب ، وأسهمت مع عوامل أخرى في ممارسة الضغط والاستفزاز لحركة الاتجاه الإسلامي ، مما اضطرها إلى تغيير خطابها وتعديل رؤيتها).(2)
السبب الآخر لتغير الغنُّوشي:
... إذا كان ظهور فئة من المثقفين تدعو إلى ما يسمى ( الإسلام التقدمي ) له دور كبير في ما طرأ على الشيخ من تغيرات أصابت فكره وآراءه ، فإن هناك سبباً آخر يفوق - في ظني – هذا السبب تأثيراً على الغنُّوشي ، ألا وهو تأثره بحسن الترابي الذي كان إخوانياً صرفاً في بداية أمره ، ثم انشق عن جماعته مكوناً خطاً آخر في بلاده أكثر جرأة على اقتحام المحرمات ، وتجاوز المقدسات ، تحت دعاوى التجديد والتقدم وتوسيع قاعدة (التجميع) لتستوعب جماعات وفئات قد لا تمت إلى الإسلام بصلة ! لهدف الوصول إلى الحكم ، وقد تحقق له شيء من ذلك في ظل التنازلات والتحالفات المشبوهة.
__________
(1) المصدر السابق ( ص 140 – 141)
(2) الإسلاميون التقدميون (ص 144).(1/29)
... كل هذا من الترابي صادف له قبولاً ومحلاً حسناً في عقل الغنُّوشي الذي أراد أن يكرر تجربة صاحبه في تونس ! بعد موافقته على كثير من أطروحات الترابي التي لا زال يستنكرها أفراد جماعة الإخوان المسلمين ، فضلاً عن غيرهم من المسلمين.
... فاجتمع على الغنُّوشي أمران قاداه إلى تغيير كثير من أطروحاته ، هما: تأثره بحركة ( الإسلاميين التقدميين ) في تونس ، إضافة إلى إعجابه بالترابي وأنموذجه ، مما دعاه إلى مقابلته والاستفادة منه ومن توجيهاته!.
... يقول الدكتور صلاح: (تعمقت المعرفة بين حسن الترابي عند أول زيارة أقوم بها إلى السودان في أواخر السبعينات مع المرحوم الشيخ محمد صالح النيفر والأستاذ راشد الغنُّوشي ، وهي الزيارة التي كان لها تأثير كبير على التطور الفكري والسياسي والحركي للغنُّوشي).(1)
... قلت: فأصبح الغنُّوشي بعدها يردد ما يردده أستاذه الترابي من أفكار ، مع شيء من التقديم والتأخير – كما سيأتي -.
... ولهذا السبب نفهم إلحاح كثير من السلف على تكرار النهي عن مخالطة أهل البدع ومجالستهم ، نظراً لأنهم – مهما حاول المرء – يقرون بدعتهم في عقله، ويزينونها له بأطايب الكلام ، وتكرار الشبهات ، حتى تؤثر في المرء المسلم ويتابعهم عليها ويكون داعية لها مثلهم إن لم يفقهم في ذلك . والأمثلة من تاريخ المسلمين وواقعهم كثيرة فيمن كان من طلبة العلم وأهله في أول أمره حتى إذا خالط المبتدعة – لأسباب عديدة – وسمع كلامهم وزخارفهم أُعجب بها وتغيرت نظرته الأولى ، لا سيما إذا كانت قاعدته غير صلبة ، وتكوينه العقدي والعلمي هش البناء ، يشتكي من شروخ قديمة جاء المبتدعة فاستغلوها وزادوا منها . كما هو حال الغنُّوشي مع الترابي (المبتدع)(2).
__________
(1) الإسلاميون التقدميون (ص 69)
(2) انظر نماذج لتحذير السلف من الجلوس مع المبتدعة في رسالة " موقف أهل السنة والجماعة من أهل الأهواء والبدع " للدكتور إبراهيم الرحيلي. .(1/30)
تعليق للغنُّوشي على أحوال تونس الإسلامية:
... في تعليقه على بحث ( الإسلام الاجتماعي في تونس ) للدكتور محمد الهرماسي(1) بين الغنُّوشي بأن (الظاهرة) الإسلامية في تونس يتنازعها ثلاثة تيارات ، هي بحسب تعبيره(2):
1- (التدين التقليدي التونسي: ويتكون من عناصر ثلاثة متآلفة: التقليد المذهبي المالكي ، والعقائد الأشعرية ، والتربية الصوفية).
2- (التدين السلفي الإخواني ، الوارد من المشرق(3) ، وهو بدوره تآلف بين العناصر التالية:
أ- المنهجية السلفية التي تقوم على رفض التقليد المذهبي الفقهي والعقائدي ، والعودة في كل ذلك إلى الأصل: الكتاب والسنة وتجربة الخلفاء والأصحاب والتابعين ، ومحاربة الوسائط بين الخالق والمخلوق بتقديس الأضرحة والتقرب إليهم ومحاربة الطرقية والبدع في الدين ، وتقويم هذه المنهجية أساساً على أولوية النص المطلقة على العقل.
ب- الفكر السياسي والاجتماعي الإخواني القائم على تأكيد شمولية الإسلام ، ومبدأ حاكمية الله سبحانه ، وتكفير الأنظمة القائمة والعمل على إزالتها.
ج- منهج تربوي يركّز على التقوى والتوكل والذكر والجهاد والجماعية والاستعلاء الإيماني والأخوة ، والتقلل من الدنيا وتحري السنة ، حتى في الجزئيات.
__________
(1) المنشور ضمن كتاب ( الحركات الإسلامية المعاصرة في الوطن العربي ) (ص 247 – 299) نشر: مركز دراسات الوحدة العربية ، ط 4 ، 1998م.
(2) المرجع السابق (ص 301 – 302).
(3) الواقع أن ما ذكره الغنوشي تحت هذا العنصر لم يلتزم به فقهاء ومفكرو الإخوان المسلمين ، لمن تأمل كتاباتهم ومواقفهم. وليتهم التزموا به إذاّ لسلموا من شرور كثيرة.(1/31)
د- منهج فكري يضخم الجانب العقائدي الأخلاقي على حساب الجوانب السياسية والاجتماعية ، ويقيس الأوضاع والجماعات بمقياس عقيدي ، مما ينتهي معه الأمر إلى تقسيم الناس إلى أخوة وأعداء ، ويغلب جانب الرفض في تعامله مع الواقع والثقافات الأخرى ، وحتى مع المدارس الإسلامية الأخرى. فهو أحادي النظر ، ويكاد يشكل منظومة مغلقة).
3- (التدين العقلاني: وهذا العنصر ، وإن لم يعبر عن نفسه في شيء من الوضوح ، إلا في مرحلة متأخرة نسبياً في النصف الثاني من السبعينات ، إلا أنه كان موجوداً منذ وقت مبكر من دون وعي كاف بنفسه ، وقد جرفته في النصف الأول من السبعينات موجة التدين الإخواني السلفي العاتية ، فسار في طريقها فترة ، ولكن لم يلبث أن توقف متحيراً متسائلاً ، باحثاً عن نفسه حتى اكتشفها على مراحل اكتملت مع نهاية السبعينات وبداية الثمانينات . ويتألف التدين العقلاني من الأجزاء التالية:
أ- التراث العقلاني الإسلامي الذي عمل أيضاً أنصار هذا التيار بعد الوعي بأنفسهم ، على إحيائه والدفاع عنه ، بإعادة الاعتبار إلى المنهج الاعتزالي في التعامل مع الإسلام ، حسب فهمهم لهذا المنهج ، وبالقدر المحقق لمطالبهم في التحرر من ظواهر النصوص ، وفق منظومة فكرية محددة ، كالتوحيد والعدل والإنسانية ، وكذلك إعادة الاعتبار للمعارضة السياسية في التاريخ الإسلامي ، كالخوارج والشيعة والزنج وللتيارات المناوئة للسلفية وأهل السنة عموماً.
ب- النقد الجذري الصارم للإخوان ، ومن هم على شاكلتهم ، في فهم الإسلام باعتبارهم ممثلين للسلفية في هذا العصر ، نقدا لا يرى في الإخوان غير كونهم أكبر عائق في طريق نهضة الإسلام.
ج- إعادة الاعتبار للمدرسة الإصلاحية التي اجتهد "الإخوان" أو أكثر كتابهم المقروء لهم ، في الحط من شأنها ، باعتبارها منهجاً حرّف الإسلام وأوله ، بما يناسب المدنية المعاصرة ، مثل عبده والكواكبي والأفغاني والطهطاوي وقاسم أمين.(1/32)
د- اعتماد الفهم المقاصدي للإسلام بدل الفهم النصي ، فالنصوص ينبغي أن تفهم وتؤوّل في ضوء المقاصد ( العدل ، التوحيد ، الحرية ، الإنسانية ..) ونصوص الحديث يحكم على صحتها أو ضعفها ، لا حسب منج المحدثين في تحقيق الروايات ، وإنما حسب موافقتها أو مخالفتها للمقاصد.
هـ- إعادة الاعتبار للغرب وللتيار اليساري فيه بالذات ، فخلافاً للفكر السلفي الإخواني الذي لا يرى في الغرب إلا مدنية مادية منحلة متداعية إلى السقوط ، لا مجال للاستفادة منها إلا في جوانبها العلمية والتقنية البحتة ، نادى هذا التيار بضرورة الاستفادة من الغرب – أيضاً – في تنظيماته وثقافته وعلومه الإنسانية.
و- وفي مقابل اعتماد التدين الإخواني المقياس العقيدي في تقسيم الناس إلى مؤمن وكافر ، اعتبر التدين العقلاني ذلك تهميشاً للصراع الحقيقي ، إذ التقسيم الحقيقي ينبغي أن يكون على أسس سياسية واجتماعية: وطني وخائن ، ثوري ورجعي ، فلاح وإقطاعي ، إذ يمكن أن يكون مسلماً عميلاً وماركسياً وطنياً.
ز- إعادة الاعتبار للمدرسة الإصلاحية في تونس ( خير الدين ، الحداد ) ولمنجزاتها في امتدادها الحديث ، من خلال ما أنجزته البورقيبية ، مثل تحرير المرأة والعقلانية في التعليم).
ثم ذكر الغنُّوشي بأن هذه التيارات الثلاثة كانت تتفاعل مع بعضها داخل الحركة الإسلامية بتونس ، مع تقديم كل منها للتنازلات الضرورية ليتم التعايش بينها بسلام !
ولكن فات الغنُّوشي في خاتمة تعليقه ( الوصفي ) لحال الحركة الإسلامية بتونس أن يفيد القارئ عن أي من تلكم التيارات ينبغي على المسلم السير معه ليقوده إلى الحق الواجب اتباعه ؟!
أم أن هذه التيارات سواء عند الغنُّوشي ؟! رغم تباينها الشديد ، ما بين سلفية ، إلى أشعرية ، إلى معتزلة !(1/33)
الذي يظهر – والله أعلم – أن الغنُّوشي – هداه الله – حاله كحال غيره من الحركيين المعاصرين ، لا تهمهم هذه التصنيفات (العقدية) السابقة ، ما دام أصحابها يعملون لهدف واحد هو الإنتظام في الحركة الإسلامية وإعادة مجد الإسلام ، وما داموا - كما يزعم! - يلتقون على " الحد الأدنى من الإسلام "(1)
ولكن السؤال: ماذا سيكون حال الدولة الإسلامية ( المنشودة ) عند تحقيقها من قبل أفراد التيارات السابقة ؟
أتراها تقوم على السلفية ؟ أم الأشعرية ؟ أم تحيي تراث المعتزلة ؟ أم…؟
كل هذا لا جواب عنه عند الغنُّوشي وغيره من الحركيين.
__________
(1) كما في مقابلته مع مجلة قراءات سياسية (ص 10) . وهذا ظن من الغنوشي ، ,وإلا فكثير منهم – لا سيما التيار العقلاني – قد ارتكب البلايا – بل الكفريات ! – والعياذ بالله – وليس هذا موضع تفصيلها ، فكيف يحل للمسلم أن يلتقي معهم ؟!!(1/34)
وهو – في ظني – حيدة عن أمر مهم واقع لا محالة ، وهو تصارع وتناحر التيارات حال وصولها إلى الهدف . فينقل الصراع من كونه بين إسلاميين ولا إسلاميين الآن ، إلى أن يصبح صراعاً عنيفاً بين الإسلاميين أنفسهم(1)، بسبب هذا الإرجاء في تنقية الساحة الإسلامية وتصفيتها من كل ما يخالف الكتاب والسنة، دون مجاملة أو مداراة لأحد ، ودون الاغترار بفكرة ( التجميع ) التي غرت الكثير من دعاة الإسلام ، فأصبحوا يحرصون عليها (بهدف التكاثر) أكثر من حرصهم على تراص وترابط والتقاء الصف المؤمن على مذهب السلف الذي يضمن لهم – بإذن الله – التآخي والمحبة والاجتماع ، كما قال تعالى { أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه } وقال { ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات } وقال { واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا } .
نسأل الله أن يعي الغنُّوشي وإخوانه من الدعاة هذا الأمر المهم الذي يقود التساهل فيه إلى التناحر والتفرق ولو بعد حين ، أما الاهتمام به الآن فإنه – وإن سبَّب تضايقاً من البعض – لا شك موصلنا إلى تحقيق الجسد المؤمن الواحد – بإذن الله.
فما مثل من يتساهل فيه إلا كمثل رجل مريض يُخشى عليه تزايد مرضه ، إلا أنه لم يصبر على ألم العلاج ، ورضي بأن يوهم نفسه بأنه في صحة وعافية ، إلى أن قضي عليه بعد فترة يسيرة.
__________
(1) ويذكرني هذا بما حدث في أفغانستان ، حيث كان الناصحون أيام الجهاد مع الروس يطالبون القادة بتصفية خلافاتهم والتقائهم على عقيدة السلف الصالح ، ونبذ البدع والخرافات والتعصبات المذهبية قبل النصر على الأعداء ، خشية أن ينشب الصراع بينهم إذا ما تساهلوا في ذلك ، ولكن البعض لم يعجبه هذا المسلك ، ورأى أن من المناسب إرجاء الخلافات إلى ما بعد النصر على العدو ! بل شنعوا على المصلحين أنهم أهل فتنة ! فلما تم النصر – ولله الحمد – ماذا كان الحال ؟! الجواب يعرفه كل متابع.(1/35)
وآخر رضي بألم العلاج المؤقت ، فعاش بقية عمره الطويل في عافية وخير. والله الهادي.
انحرافات الغنّوشي:
وقد قسمتها على خمسة مواضيع (كبرى)
أولاً: موقفه ( العقدي).
ثانياً: موقفه من الكفار.
ثالثاً: موقفه من الرافضة.
رابعاً: موقفه من المرأة.
خامساً: موقفه السياسي.
أولاً: موقف الغنوشي من العقيدة:
... لم يتبين لي حال عقيدة الرجل! أهو يدين الله باتباع عقيدة السلف ، كشأن بعض أفراد ( جماعة الإخوان ) ، أم أنه يتبع عقيدة الأشاعرة ! كشأن أهل بلده ؟! والسبب أنه ليس للغنُّوشي كتاب واحد في مسائل العقيدة ليتبين لنا رأيه فيها ، فهو كشأن الحركيين لا يوليها اهتمامه: إلا أن له فلتات وعبارات هنا وهناك تجعل القارئ يتحير في مذهب الرجل.
فمرة تقول: هو سلفي العقيدة.
وأخرى تقول بل خلفي!
فمما يشهد للأولى:
قوله عن مقومات الحركة الإسلامية بأن من أهم العناصر التي تشكل ماهيتها: "السلفية"(1) ويعني بها: " استمداد الإسلام من أصوله دون تعصب لما وجد في تاريخ الإسلام من نظريات واجتهادات ، فالأصل ما ورد في الكتاب والسنة وعصر الخلفاء"(2)
اعتقاده بتوحيد الألوهية ، كما في كتابه ( حقوق المواطنة )(3)
إهداؤه كتاب ( الحريات العامة في الدولة الإسلامية ) إلى " داعية التوحيد محمد بن عبد الوهاب"(4)
أما ما يشهد للأخرى فهي:
أنه عندما يخوض – أحياناً ! – في بعض القضايا العقدية لا يعرف مذهب السلف ! ولا يذكره ! فمن ذلك أنه عندما خاض في مسألة ( الحسن والقبح في الأفعال) ذكر رأي المعتزلة والأشاعرة دون مذهب السلف(5).
__________
(1) الحركة الإسلامية والتحديث ( ص 21).
(2) المرجع السابق (ص 21).
(3) ص 36).
(4) ص 6).
(5) حقوق المواطنة (ص 44).(1/36)
قوله منتصراً لمذهب الخلوف !!: " إن الاختلاف بمعنى الثراء والتنوع في الاجتهاد في الأمة قديم ، أباحه الإسلام إن لم يكن قد شجع عليه من خلال تأكيده على نسبية المعرفة البشرية ، ومسؤولية الإنسان على نفسه ومصيره وحقه في الاجتهاد ، وقابليته للخطأ والتوبة ، ومن خلال ورود نصوص الدين في معظمها على صياغات كلية عامة وقدر كبير من التشابه { هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات } . فانقسم الناس تجاهها { فأما الذين في قلوبهم مرض فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم يقولون آمنا به } (1). ثم انقسم المؤمنون في منهاجهم المعرفي إلى صنفين عظيمين لا زالا يتصارعان حتى يوم الناس هذا ، وذلك حسب نوع تقطيعهم لهذا الشطر من الآية ، فمن أوقف تلاوته عند { إلا الله } أمكن إدراجه ضمن مدرسة الجمهور من علماء وفقهاء الأمة ، ومعظم الأمة لهم تبع ، وذؤابة هذه المدرسة أهل الحديث وكبار الفقهاء.
أما الصنف الآخر منهم ، أولئك الذين واصلوا التلاوة دون توقف { وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم } فكانوا أهل التأويل والنظر والرأي و" الحكمة " والعرفان (2).
__________
(1) سورة آل عمران ( الآية : 7 ) .
(2) تأمل !!(1/37)
... وكما غالى قوم من أهل المدرسة الأولى فكانوا مجسمة وظاهرية حرفيين ، نصوصيين(1)، فقد تطرف قوم من أهل المدرسة الثانية حتى ضحوا بالنصوص جملة مكتفين بما استنبطوه منها من مقاصد فكان منهم فئة الفلاسفة العقلانيين وكان منهم أهل الذوق والعرفان أقطاب الصوفية. وراوح جمهور الأمة بين هؤلاء وأولئك مع ترجيح كفة التأويل العقلانية وتغليب جانب المقاصد في عصور النهضة ، والميلان المجحف في عهود الانحطاط والانكماش والتخلف إلى الوقوف الجامد عند ظواهر النصوص بل عند ظواهر تأويلاتها في العصور السالفة)(2) قلت: فتأمل – يرعاك الله – كيف مزج الغنُّوشي أهل السنة بأهل البدعة ! معتبراً أن الفئتين يلتقيان حول الكتاب والسنة ! وإنما الخلاف هو في الفهم فقط. فليست القسمة عنده هي: أهل سنة يتبعون الكتاب والسنة ، وأهل بدعة وتأويل يحكمون أهواءهم وعقولهم في النصوص ، كما هو تقسيم أهل العلم(3)، إنما القسمة عنده هي بين فهمين ومدرستين إسلاميتين ، لا حرج على المسلم في اتباع أيٍ منهما !! ثم تأمل – وفقك الله – إلى جنوح الغنُّوشي إلى ترجيح كفة الخلوف أهل البدعة الذين سماهم " أهل الحكمة والعرفان " !! وأنهم الأنسب " لعصر النهضة " ! بخلاف أتباع الكتاب والسنة من الصحابة والتابعين لهم بإحسان ، الذين سماهم " الجامدين أهل النصوص " ! الذين لا يظهرون ويعلون إلا في " عهود الإنحطاط والإنكماش والتخلف " !!
... نعوذ بالله من مشايعة الضالين.
__________
(1) هلاَّ وضحتهم لنا؟!
(2) مجلة قراءات سياسية (ص 33 – 34).
(3) انظر لبيان بطلان مذهب أهل التأويل: " الفتوى الحموية الكبرى " لشيخ الإسلام (ص 286 وما بعدها ) تحقيق الشيخ حمد التويجري.(1/38)
ومما يشهد لهذا – أيضاً – أنه عند ذكره السابق لمقومات الحركة الإسلامية وأن منها " السلفية " تخبط في مفهوم هذه السلفية ! فبعد أن بين بأنها " استمداد الإسلام من أصوله دون تعصب لما وجد في تاريخ الإسلام من نظريات واجتهادات …. الخ "(1). استشهد بكلام للخميني !!! يقول فيه هذا الطاغوت الهالك عندما سئل عن نظام الحكم الذي يسعى له: هل هو سني أم شيعي ؟ قال الهالك: " إننا نريد أن نحكم بالإسلام كما نزل على محمد صلى الله عليه وسلم ، لا فرق بين السنة والشيعة ، لأن المذاهب لم تكن موجودة في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم"(2)!! قلت استطاع هذا الرافضي الهالك أن يخدع الغنوشي بتقيته المعروفة ! وتصديق ما قاله يكون بالنظر في أحوال أهل السنة في إيران بعد قيام ثورته الرافضية!!
ثم قال الغنُّوشي: " ولا تعني السلفية هنا كما هي عند البعض حرباً على المذاهب الفقهية أو العقدية. كلا ، فهذا تمزيق لكيان الأمة "(3) فهو يقول: كن سلفياً، ولكن لا تُحذر من أهل البدع أو تنابذهم أو تهجرهم أو ترد عليهم ! فكل هذا مما يُمزق الأمة – عند الغنُّوشي -! فهي دعوة إلى " التمايع " و " الاختلاط " بأهل البدع والأهواء على حساب مذهب القرون المفضلة.
ألم أقل– سابقا – بأن الغنوشي – هداه الله – يسير في ركاب جماعة الإخوان " التجميعية " ويحقق لهم بهذا الكلام أهدافهم؟
ثم قال الغنُّوشي: " ويلحق بالمعنى السلفي تجميع المسلمين حول ما هو معلوم من الدين بالضرورة ، إبعاداً للخلاف وتوحيداً للصفوف حسب القاعدة: نتعاون فيما اتفقنا عليه ، ويعذر بعضنا بعضاً فيما اختلفنا فيه"(4)
__________
(1) الحركة الإسلامية والتحديث ( ص 21).
(2) المرجع السابق ( 21 – 22 ).
(3) المرجع السابق (ص 22).
(4) المرجع السابق (ص 22).(1/39)
والسؤال يا غنُّوشي: ما هو المعلوم من الدين بالضرورة الذي تريدنا أن نجتمع عليه ؟! لأن كل أهل بدعة سيعتقدون أن بدعتهم هي من المعلوم بالدين بالضرورة ، وسيلزمون البقية بوجوب اتباعها ! وحينها يحدث الاختلاف الذي تفر منه وجماعتك! الذي قال الله عنه { ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك } (1)
فهلاَّ لزمت مذهب السلف والتزمت به ما دام الخلاف حاصلاً لا محالة ؟!
أم أنك لا زلت تحلم بهذه التجمع (الطوباوي) الموهوم ؟!
ثانياً: موقف الغنُّوشي من الكفار:-
... موقفه هنا – أيضاً – كموقف أشياخه المستنيرين ؟ من أمثال الغزالي والقرضاوي ، حيث التمايع ، وتحريف الأحكام الإسلامية لتوافق أهواء الكفرة.
... ويعد كتابه (حقوق المواطنة ) مثالاً جامعاً لكل ألوان التمايع معهم(2).
فمن ذلك:
1- أنه لا مانع عنده من إلغاء وصف (أهل الذمة) الثابت في النصوص الشرعية إرضاءً لعُبَّاد الصليب !، كما في كتابه ( حقوق المواطنة ) (ص 50 ، 56 ، 57).
2- ادعاؤه أن للكفار ما للمسلمين وعليهم ما عليهم(3)! كما في كتابه السابق (ص 66) (ص 83) ، ولهذا فهم مساوون لنا ! (ص 66 ، 72).
3- لا مانع لديه بأن يدعوا هؤلاء الكفار المسلمين إلى دينهم داخل الدولة الإسلامية!! (ص 68 ، 72) ( الحريات العامة: ص 293).
__________
(1) سورة هود (الآية: 119).
(2) وهو يذكرني بكتاب ( مواطنون لا ذميون ) للمستنير الآخر: فهمي هويدي ، من حيث لي أعناق الأدلة ، وتتبع الشواذ والغرائب ، إرضاءً لعابدي الصليب.
(3) يستشهد المستنيرون – ومنهم الغنُّوشي كما في كتابه ( حقوق المواطنة ) (ص 83) و ( الحريات العامة ، ص 260 – 261) بحديث لا أصل له يقول عن الكفار: " لهم ما لنا وعليهم ما علينا ". انظر لبيان بطلان هذا الحديث – سنداً ومتناً – " السلسلة الضعيفة " للشيخ الألباني – رحمه الله ( 1103 ).(1/40)
4- لا مانع عنده – أيضاً – أن ينشئ هؤلاء الكفرة معابدهم داخل البلاد الإسلامية!! (ص 68) بكل هذا ( الإطلاق غير المقيَّد)!.
5- يدعو إلى إعطائهم من الزكاة المفروضة !! (ص 91).
6- يدعو إلى إسقاط الجزية عنهم !! (ص 102 ، 136).
7- يدعو إلى أن يُقتل المسلم بالكافر ! (ص 108).
8- لا مانع عنده من توليهم الوظائف العليا في الدولة الإسلامية ( كوزارة التنفيذ!) (ص 79).
9- لا مانع عنده من إنشائهم للأحزاب داخل الدولة الإسلامية !! ولا يستثني من ذلك حتى الوثنيين !! ( الحريات العامة ، ص 293 –294 ).
... فاللهم ثبت قلوبنا على دينك!
ثالثاً: موقف الغنُّوشي من الرافضة:-
... موقفه هنا – أيضاً – كموقف شيوخ جماعته (الإخوان المسلمين) من الرافضة ، حيث التمايع والتقارب معهم ، ولو على حساب دين المرء.
... فهو يعد ثورتهم الرافضية في إيران ثورة إسلامية ، ويدخلها ضمن الحركات الإسلامية المعاصرة ! بل يُبالغ في مدحها ومدح القائمين عليها من أعداء الصحابة.
فيقول في كتابه ( الحركة الإسلامية والتحديث ):(1) (ليس أمام الحركة الإسلامية إلا الثورة الشعبية التي تنتهي بتكتيل الشعب صفاً واحداً في وجه السلطة الجائرة ، كما حدث في إيران …)
ويقول في كتابه السابق متحدثاً عن التيار الإسلامي في المجتمعات الإسلامية بأنه (قد عبر عن نفسه على لسان عدد من المفكرين والعلماء المجددين ، كالأفغاني وإقبال ومصطفى صبري والسوسي وابن باديس ، وتبلور وأخذ شكلاً واضحاً على يد الإمام البنا والمودودي وقطب والخميني ممثلي أهم الاتجاهات الإسلامية في الحركة الإسلامية المعاصرة )(2).
ويقول: ( واليوم يبدأ الإسلام مع نجاح الثورة في إيران وباكستان دورة حضارية جديدة )(3).
__________
(1) ص 35).
(2) المرجع السابق (ص 16).
(3) المرجع السابق (ص 17).(1/41)
ونجده يهدي كتابه (الحريات العامة في الدولة الإسلامية)(1) إلى (قائد الثورة الإسلامية المعاصرة الإمام الخميني ، والشهيد ! العلامة الصدر ، والشهيد علي شريعتي ..) !!. والثلاثة كلهم من غلاة الرافضة ! وإن ادعى بعضهم – كشريعتي – العصرنة ، لكنها عصرنة لا تخرج عن مذهبهم القبيح.
ونراه في كتابه السابق ينعي على أهل السنة الذين كشفوا مكايد وخبائث الرافضة ، ويدعوهم إلى ( الاعتدال والوحدة والتعاون)(2)!!
فأي تعاون مع أعدا الصحابة – أخزاهم الله – وهم يبيتون لك العداء صباح مساء تحت ستار من التقية الماكرة ؟! لقد حاول ذلك من قبل رجالٌ كانوا أعلم منك وأحرص على وحدة الأمة ، ولكنهم عادوا بالخسران المبين من جراء هذه الصفقة الخاسرة مع أشباه اليهود(3) ، والسعيد من وُعظ بغيره.
يقول في كتابه السابق: (وفي لبنان حصد التيار الإسلامي ثمار صموده وجهاده في طرد الأساطيل الأجنبية ومنازلته البطولية للاحتلال الصهيوني ، فعمل بتوفيق ويسر كبيرين على جبهتي الجهاد القتالي ، والجهاد السياسي في منابر البرلمان بعد أن حققت فصائله الشيعية والسنية انتصارات صارخة ضد البنية العشائرية والطائفية التقليدية ، مما له دلالة واضحة – كما صرح الشيخ السيد حسين فضل الله أحد أبرز رموز الفكر الإسلامي المعاصر - على تجذّر الوعي الإسلامي في الواقع)(4)
ومن ذلك قوله عن أحد علمائهم: (العلامة الشيعي …)(5)!
رابعاً: موقف الغنُّوشي من المرأة وأحكامها:
... موقفه منها هو موقف أشياخه من المستنيرين ، من أمثال الغزالي والقرضاوي وغيرهم ، ممن يٌقدم التنازلات في هذه القضية – كحالهم في غيرها – لعل الغرب يرضى عنهم ، أو ينظر نظرة إنصاف إلى الإسلام !! – زعموا -.
__________
(1) ص 5).
(2) ص 144).
(3) انظر تجاربهم الخاسرة في الرسالة القيمة للشيخ ناصر القفاري ( مسألة التقريب بين أهل السنة والشيعة).
(4) ص 265).
(5) المرأة المسلمة في تونس (ص 12).(1/42)
... وما دروا أن الغرب يضحك عليهم بملء فيه لأجل هذه التنازلات ، وينظر إليهم نظرة ازدراء لهوان دينهم وأحكامه عليهم ، ولو أن أهل العلم صانوه صانهم! فمن تلكم التنازلات التي قدمها الغنوشي في قضية المرأة:
1- ادعاؤه – تبعاً للمدرسة العقلانية – أن حواء لم تُخلق من ضلع آدم عليه السلام !! وإنما خلقت من نفس مادته بشراً سوياً(1)!! مخالفاً بذلك قوله تعالى { وخلق منها زوجها } وما جاء من أحاديث كثيرة وصحيحة في تفسيرها ، من أن حواء مخلوقة من ضلع آدم عليه السلام . وهو الذي عليه مفسرو السلف.
... والأعجب في هذا ، أن الغنُّوشي – هداه الله – راح يؤيد ما اختاره بأقوال شيخ العقلانيين محمد عبده ، وشيخ الروافض في عصره ! (العلامة الشيعي محمد حسين الطباطابائي)(2) !! كما يقول.
... وسبب هذا الاختيار العجيب من الغنُّوشي هو أن الرأي الأول الذي عليه مفسرو السلف ، وجاءت به الأحاديث الصحيحة ، هو – عند الغنُّوشي -: (تكريس تبعية المرأة للرجل على الصعيد الاجتماعي ، وانمحاء شخصيتها وذوبانها في شخصيته ، وتكريس التمييز والأفضلية على أساس الجنس ، مما يتنافى مع مقاصد الشريعة )(3) !!
__________
(1) المرأة المسلمة في تونس (ص 7 – 17) ، ويكفي للرد على هذا الرأي المتهافت حديث الشفاعة في الصحيحين الذي جاء فيه أن الناس عندما ذهبوا إلى آدم - عليه السلام - ليتشفع لهم إلى الله ذكروا من خصائصه " أنت أبو البشر ، خلقك الله بيده " ولو كانت حواء مخلوقة مثله – بيد الله – من تراب ، لما كانت له ميزة على غيره في هذا ! فهل يعي الغنُّوشي تهافت هذا الرأي (العقلاني) الذي رجحه ؟! وليس المقام هنا مقام بسط في رد انحرافاته _ كما سبق _
(2) المرأة المسلمة في تونس (ص 12).
(3) المرجع السابق (ص 17).(1/43)
... أما الرأي الثاني الذي اختاره فهو: (تحقيق استقلال شخصية المرأة ، وتحملها مسؤولية وجودها ومصيرها كاملاً ، والقضاء على أول وأقدم اضطهاد للإنسان لأخيه الإنسان على أساس الفوارق الجسمية …)(1) !!!
... فالرجل يعتقد ثم يبدأ في التقاط ما يشهد لانحرافاته من أقوال شاذة ، أو تأويلات سامجة.
... وفي كلامه الأخير انحراف كبير ! حيث نفى أفضلية جنس الرجال على جنس النساء ، مخالفاً بذلك قول الله تعالى { وللرجال عليهن درجة } وقوله { وليس الذكر كالأنثى } وقوله { ولا تتمنوا ما فضل الله به بعضكم على بعض ، للرجال نصيب مما اكتسبوا وللنساء نصيب مما اكتسبن واسالوا الله من فضله } .
... كل هذا تكريماً لسواد عيون الغربيين أن يرضوا عن ديننا وأحكامه التي مسخها الغنُّوشي وأضاع معالمها الحقيقية لعلها تحوز على ذلك الرضى ! إذا صح منك الود فالكل هين !.
2- اختياره جواز أن تكون المرأة نبية(2) !!! ولا أدري ما سر بث هذا الرأي الشاذ والغريب والخيالي ؟! أم أنها من متطلبات الرضى السابق ؟!
... أما كونه خيالياً ؛ فلأن النبوة انقطعت بعد محمد صلى الله عليه وسلم ، فلا نتوقع أن تأتينا نبية في قادم الأيام ! وأما في الماضي فلم يعرف أن الله قد بعث نبيةً ! فأصبح هذا الرأي مجرد خيال وحلم زائف يدغدغ به الغنوشي عواطف الغرب ، وعواطف النساء !
دعوته إلى الإختلاط (في جو جاد بعيد عن الإثارة ، ومفعم بروح الفطرة العفوية)(3) !! وألحق – رعاك الله – هذا الرأي بذلك الرأي الخيالي السابق ! لأنه لا وجود له بهذه الشروط – على أرض الواقع !
__________
(1) المرجع السابق (ص 17).
(2) المرجع السابق (ص 38 وما بعدها ).
(3) المرجع السابق (ص 99) ، (ص 106-111).(1/44)
وليته اكتفى بهذا – هداه الله – بل راح في صفحات كثيرة (يُهيّج) المرأة المسلمة على نبذ ( القرار ) في البيت ، زاعماً أن ( ليس في الإسلام ما يوجب على المرأة القيام برعاية لبيت الزوجية والأطفال )(1) !! مدعياً أن تفسير قوله تعالى: { وقرن في بيوتكن } هو من الوقار(2) !! وهذا تلبيس متعمد من الغنُّوشي في تفسير الآية خالف به جمهور العلماء الذين قالوا بأن (قرن) من القرار لا من الوقار _وهو المعنى الشاذ الذي رجحه الغنوشي اتباعاً لهواه– بدليل ما بعدها ، وما كان موجهاً لنساء النبي صلى الله عليه وسلم فغيرهن أولى به – كما يبن ذلك العلماء – ما لم يكن هناك ما يدل على تخصيصه بهن ، ولا يوجد شيء من ذلك هنا(3).
- اختياره جواز تولي المرأة رئاسة الدولة الإسلامية ( الإمامة العظمى ) ! والولايات العامة(4) ! وهو مما أجمع علماء السنة على عدم جوازه.(5)
خامساً: موقفه السياسي:
... الغنُّوشي من أبرز دعاة ( الديمقراطية الغربية ) في هذا العصر ، وقد خصص جزء كبيراً من كتابه ( الحريات العامة ) لهذا الشأن.
__________
(1) المرجع السابق (ص 100).
(2) المرجع السابق (ص 109).
(3) يقول القرطبي في تفسير هذه الآية: "معنى هذه الآية الأمر بلزوم البيت ، وإن كان الخطاب لنساء النبي صلى الله عليه وسلم فقد دخل غيرهن فيه بالمعنى. هذا لو لم يرد دليل يخص جميع النساء ، كيف والشريعة طافحة بلزوم النساء بيوتهن والإنكفاف عن الخروج منها إلا لضرورة" (تفسير القرطبي 14/117) ، وانظر أيضاً: تفسير ابن كثير (3/464) ط دار الأندلس بحائل ، وتفسير السعدي (4/144) ط عالم الكتب.
(4) الحريات العامة في الدولة الإسلامية (ص 128 وما بعدها).
(5) انظر: "المرأة والحقوق السياسية في الإسلام" لمجيد أبو حجير.(1/45)
... وهو كثيراً ما يردد – كغيره من الحركيين – بأن الديمقراطية – على ما فيها – هي خير من الديكتاتورية التي وقعت تحت حكمها كثير من بلاد المسلمين . ويرى أن من يرفض الديمقراطية من دعاة الإسلام سيكون خادماً للدكتاتورية ! (الحريات العامة ، ص 314). ويرى – كذلك – أننا لكي نصل إلى الدولة الإسلامية ( ويسميها دولة العدل) لا بد أن نمر بالديمقراطية ( ويسميها دول العقل!) ( مقابلته مع مجلة قراءات سياسية ، ص 17).
... ونحن نقول للغنُّوشي ما قاله الأول:
المستجير بعمرٍ عند كربته كالمستجير من الرمضاء بالنار!
... فأنت تزعم أنك ستفر من رمضاء الديكتاتورية ، ولكنك واقع لا محالة في نار الديمقراطية التي تستتر خلف ما ظاهره الرحمة ، وباطنه الكفر والعذاب . فهذه الديمقراطية المزعومة قد خبرناها في مواقع عديدة ، ولم نجدها إلا أشد ديكتاتورية على أهل الإسلام من غيرها ! وإن تظاهرت بخلاف ذلك في الظاهر ، ولكن عند وصول أهل الإسلام إلى السلطة سرعان ما تكشف عن وجهها القبيح ، ولا يخفى الأستاذ ما حصل للجزائر قريباً.
... والديمقراطية فكرة جاهلية كافرة قد وضح باطلها جمع من علماء ودعاة الإسلام في هذا الزمان(1) ، ولم يعد يخفى ما فيها من مفاسد على عاقل.
__________
(1) انظر: " الديمقراطية في الميزان " لسعيد عبد العظيم ، و " خمسون مفسدة جلية من مفاسد الديمقراطية " لعبد المجيد الريمي ، و "حقيقة الديمقراطية " لمحمد شاكر الشريف.(1/46)
وفي ظني – أن الدكتاتورية في أحيان قد تكون خيراً للإسلام وأهله من الديمقراطية ! وأعني بأن تكون ديكتاتورية تراعي المعلوم بالضرورة من دين الإسلام ، ولا يزال فيها نوع حياء أو تمسح بالإسلام – ولو ظاهراً – لأنها في هذا الحال لن تسمح للكفر وأهله بالتبجح بإعلان كفرهم ، وإعلان أحزابهم ، بل ستحاربهم وتمنعهم من ذلك – كما هو حاصل في بعض البلاد ، بخلاف ما لو طبقت الديمقراطية المزعومة ، حيث سيجد الكفرة الزنادقة مرتعاً خصباً لنشر باطلهم (علناً).
قد تقول: ولكن الدكتاتورية ستتسلط على دعاة الإسلام وأهله؟! بخلاف الديمقراطية.
فأقول: لو سلك الدعاة – ومنهم الغنُّوشي - مسلك السلف في التعامل مع الحكام لما رأيت كثيراً من هذا التسلط ، لأن الحاكم لن يتسلط إلا على من ينازعه سلطانه ، ولو كان أقرب قريب ، وقديماً قالوا: " المُلك عقيم " فهو حتماً إذا علم أن دعاة الإسلام هدفهم الأول هو الوصول إلى السلطة وإزاحته من على كرسي الحكم، سينازعهم ويتسلط عليهم (دفاعاً) عن ما حصَّله . وسيعدهم أعداء له ولملكه.
ولكن لو تعامل الدعاة معه بحكمة ، وأعانوه على أمور الخير ، وتجنبوا باطله ، وناصحوه برفق ، واستمروا في دعوتهم إلى تعبيد الناس لرب العالمين ، وتحقيقهم التوحيد ، لتم على أيدهم خيرٌ كثير ، وتدبر قول موسى - عليه السلام – لقومه لما شكوا له ما يلاقونه من (ديكتاتورية) الفراعنة ! { قالوا أوذينا من قبل أن تأتينا ومن بعد ما جئتنا قال عسى ربكم أن يهلك عدوكم ويستخلفكم في الأرض فينظر كيف تعملون } { قال موسى استعينوا بالله واصبروا إن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين } .
وقبل هذا: الالتزام بأحاديث المصطفى صلى الله عليه وسلم الآمرة بالصبر على جوّر الولاة وظلمهم ، والاستمرار في الدعوة ، لأن الله بيده الأمر كله ، وهو القادر على استبدال هؤلاء الطواغيت بغيرهم من الصالحين ، ولكننا قوم نستجعل و" ننازع الأمر أهله ".(1/47)
إذاً: القسمة عند الغنُّوشي: إما ديكتاتورية جائرة ، أو ديمقراطية غربية ! لا ثالث لهما.
ولكنها عند متبعي الكتاب والسنة: إما حكم جائر (أو كافر) نتعامل معه وفق ما جاء في الأحاديث النبوية إلى أن يأذن الله بتغييره ، أو ديمقراطية كافرة مستقدمة من الغرب تزيد من انتشار الكفر والضلال في بلاد المسلمين ، ثم هي لا توصل – مهما حاولنا – إلى تحكيم شرع الله . فالأولى أولى بلا شك ، والله المستعان.
لماذا (تساهل) الغنُّوشي ؟
... قد يتساءل المسلم بعد أن يرى مدى تدرج الغنُّوشي – هداه الله – نحو الإنحراف ومخالفة شرع الله وأحكامه ، فيقول: لماذا كل هذا التمايع؟! ولأجل ماذا؟!
... الجواب: - والله أعلم – أن من غَلَّب جانب ( الحركة ) و( السياسة ) من دعاة الإسلام سوف ينجرف – بلا شك – نحو التساهل في دينه ، وتقديم التنازلات المتتالية التي يتطلبها الواقع المتحرك بما فيه من ضغوطات ، عرض المرء نفسه لها ، وهو في غنية عن ذلك كله.
... ويعود الأمر كله – في نظري – إلى محاولة هؤلاء الدعاة كسب ود الغرب، وأن يجدوا لديه شيئاً من الحظوة والرضا لعله يوصلهم إلى مقاعد الحكم بدلاً من الطواغيت ! أو يغض الطرف عنهم ويرضى عن نشاطاتهم !
... ولا تعجب من هذا ، فحال القوم يفيده ، وفلتات ألسنتهم بين الحين والآخر تشهد له.
... وحق هؤلاء الدعاة أن نذكرهم بقوله تعالى { فلا تخشوا الناس واخشوني } { أتخشونهم فالله أحق أن تخشوه إن كنتم مؤمنين } وقوله { ويخوفونك بالذين من دونه ومن يضلل الله فماله من هاد } .(1/48)
ونحذرهم من عقوبة اتباع أهواء الكفرة الغربيين بترك شيء من أحكام الإسلام أو (تمييعه) أو ( التساهل فيه ). وندعوهم إلى تأمل هذه الآيات القرآنية وتفسيرها ، قال تعالى محذراً نبيه من ذلك { ولئن اتبعت أهواءهم من بعد ما جاءك من العلم إنك إذاً لمن الظالمين } . وقال سبحانه { ولولا أن ثبتناك لقد كدت تركن إليهم شيئاً قليلاً إذاً لأذقناك ضعف الحياة وضعف الممات ثم لا تجد لك علينا نصيرا } وقال { ودوا لو تدهن فيدهنون } وذكر تعالى أن { المنافقين } هم الذين طلبوا رضا الكفرة بالتخلي عن بعض أحكام دينهم بقوله عنهم { ذلك بأنهم قالوا للذين كرهوا ما أنزل الله سنطيعكم في بعض الأمر والله يعلم إسرارهم } ثم بين عقوبتهم { فكيف إذا توفتهم الملائكة يضربون وجوههم وأدبارهم } .
... فأنت يا داعية: عندما تتبع أهواء الكفرة فإنك تعرض نفسك لأمرين عظيمين:
1- عقوبة الله تعالى ، كما سبق.
2- توالي التساهل منك والتنصل رويداً رويداً من دين الله ، والعياذ بالله ! ، لأن الله يقول { ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم } ، فمهما قدمت من تنازلات فإنهم لن يرضوا منك إلا بالكفر ، أعاذنا الله وإياك منه.
فهلاَّ رفقت بنفسك وحفظت دينك ما دام رضاهم عسيراً ! والتزمت وعرضت أحكام دينك لهم كاملة دون مداهنة ، متبعاً قوله تعالى { وقل الحق من ربكم فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر } ؟ !
وصدق من قال فيمن يطلب رضا الغربيين:
والله لا يبُدي لك الغرب حُرمة ولو رحت في أذياله تتمسحُ
يقول لك الغرب المُدل بنابه وقد جئتَ تستجدي رضاه وتمدح
مكانك ياشرقي وأرجع بذلةٍ فمن ذا رأى الشرقيَّ للعز يَصلح
ومهما سما الشرقي فالشرق نعجة تسمن للغرب النهوم وتُذبح
فلا تلتمس عطفاً من الغرب صاغراً ذليلاً فما يحنو القوي ويسمح
ولا تعبد الغربي جهلاً فإنما ستكسب منه كل ذُل وتربح
ألست تراه رابضاً متربصاً يود لو أنّ الصيد يبدو ويُمنح؟(1/49)
... أسأل الله أن يوفق دعاة الإسلام إلى اتباع (كامل) أحكامه ، وعدم الحياء من بعضها! وأن يعرضوه للناس كما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم ، وأن يفرحوا بهذه النعمة ، لا أن يتواروا خجلاً منها ! فقد قال تعالى { قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا } وقال تعالى { اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام ديناً } .
طه جابر العلواني يعترف !
... قلت لك سابقاً بأن أفراد التيار المستنير – ومنهم الغنُّوشي للأسف – يحاولون كسب ود الغرب وعملائه من العلمانيين وغيرهم ؛ لعلهم يرضوا عنهم ويمكنونهم من تولي الحكم أو المشاركة فيه ، وقد اعترف بهذا الأمر – ولعلها فلتة أو زفرة هموم !- رأس من رؤوس هذا التيار في عالمنا اليوم ، هو الدكتور طه جابر العلواني(1) رئيس المعهد العالمي للفكر الإسلامي . وذلك في تقديمه لكتاب الغنُّوشي (حقوق المواطنة) ، حيث وضح أن تياره المستنير لا زال يقدم التنازلات تلو التنازلات عن دين الله ؛ لعل أذناب الغرب يرضون عنه ، ولكن دون فائدة ! فهو يتحسر لهذا.
فاسمع إليه ماذا يقول:
يقول العلواني:
__________
(1) كان يعمل في جامعة الإمام قبل ذهابه إلى أمريكا!! ولكنه عندما كان عندنا يطبق قول القائل ( ودارهم ما دمت في دارهم)! كشأن غيره من المستنيرين أو الخرافيين عندما يأتون إلينا ، كابي غدة والعسال وغيرهم.(1/50)
(وهاهو الأخ الأستاذ راشد الغنُّوشي يعلن في كتابه هذا اتساع الإسلام لقبول مفهوم " المواطنة" كما هو في الوعي المعاصر ويدلل لهذا القبول ويعلل له ويؤصله ليكون اجتهاداً معتبراً شرعاً تستجيب له القلوب المسلمة وتقبله العقول . ومع ذلك فلا تزال العديد من الفصائل العلمانية الدنيوية على مواقفها من رفض المشروع السياسي الإسلامي وتخوفها منه ، وشكها في أصحابه . بل إن بعضهم يفضل العيش في ظل الاستبداد والدكتاتوريات السافرة والمقنعة على قبول أي مشروع سياسي إسلامي مهما أدخلت عليه من تعديلات )(1)(حقوق المواطنة ، ص11). ثم يبين أمراً مهماً وخطيراً ، وهو أن العلمانيين يعلمون أن الإسلام (الصحيح ) هو غير الذي يدعو إليه التيار المستنير !! فانظر كيف عرف الأعداء الحق – وإن لم يؤمنوا به – وكيف تنازل المستنيرون عنه!!
يقول العلواني:
(فمثلنا ومثل رفاقنا العلمانيين الدنيويين كمثل قول القائل:
بِكلِّ تَدَاوَيْنا فلم يَشْفِ ما بنا لأنَّ الذي نهواه ليس بذي وُدِّ
... فهؤلاء الدنيويُّون العلمانيُّون حين يأخذ الإسلاميون هذه المواقع الاجتهادية التأويلية المتقدمة يسارعون هم إلى احتلال مواقع الماضويين(2) والتمترس بذات النصوص التي تمترس الماضويُّون وراءها ، يقول أحدهم: " … كنّا نعرف بالطبع أن المساواة المطلقة التي يتحدث عنها التيار الإسلامي الثوري غير صحيحة شرعا والآيات والأحاديث تتحدث بوضوح عن تفاوت الدرجات" ) (المرجع السابق ص 19).
قلت: والله لن يرض عنك الغرب ولا أذنابهم مهما قدمت لهم ، ولن يُرْضهم منك سوى الكفر ، وأن تعلن تبرؤك من الإسلام ، فارفق بنفسك يا علواني أنت وصحبك ، واحفظوا ما بقى من دينكم.
__________
(1) بل تنازلات يا علواني !.
(2) ويعني بهم أهل السنة !!(1/51)
... فما حالكم معهم إلا كحال الشيطان مع ابن آدم الذي ما زال به حتى أوقعه في ذنوب تترى إلى أوصله إلى الشرك – والعياذ بالله – فقال سبحانه عنه { كمثل الشيطان إذ قال للإنسان أكفر فلما كفر قال إني برئ منك } فالغرب وأذنابه سيستدرجونكم إلى أن تقعوا في الكفر – والعياذ بالله – والردة عن دينكم ، وعندها لن ينفعوكم بشيء ، بل ستردون إلى عالم الغيب والشهادة فينبئكم بما كنتم تعملون. فهل من إفاقة وعودة إلى الكتاب والسنة ؟! نسأل الله ذلك.
تلون الغنُّوشي !
... هذا المبحث لم أذكره بهدف إحراج الغنُّوشي ، كما قد يتوهم البعض ، ولكني ذكرته لأبين لأهل الإسلام أن ( الحركية ) قرينة (التلون) فهما متلازمان ، فلا تجد حركياً إلا ويكون متلوناً في مواقفه – إلا من رحم الله - والسبب أنه يٌغلب جانب ( السياسة ) و(المصلحة) في مواقفه المتعددة ، دون جانب ( الحكم الشرعي ) . وهذا ملاحظ على أبرز الحركيين في عصرنا ، كالترابي والنحناح وغيرهما.
... وأقصد (بالحركي) من أراد خدمة الإسلام(1) في عالم السياسة والواقع دون ضوابط شرعية ، بل تقحم جانب المحرمات أو الشبهات تحت مختلف الدعاوى. ومن هؤلاء صاحبنا الغنوشي – هداه الله - ! فمن ذلك موقفه من حكومة المملكة العربية السعودية ، فتأمل له هذين الموقفين منها وسترى أنه لا ينقضي عجبك من حال الحركيين الحزبيين:
يقول الغنُّوشي في مقابلته مع مجلة ( قراءات سياسية ) مبرراً سلوكه المسلك الديمقراطي ودعوته إلى الدولة ( العلمانية !!) مقابل (الديكتاتورية):
__________
(1) وهذا من إحسان الظن بهؤلاء ، وإلا فإن البعض (يتهمهم) بأنهم طلاب سلطة وحكم قد ركبوا موجة الدين ! فهم ممن يصدق فيهم قوله تعالى { فإن أعطوا منها رضوا وإن لم يعطوا منها إذا هم يسخطون } وقارن هذا بحال بعض النواب ( الإسلاميين ! ) في بعض البلاد الإسلامية ، قبل دخولهم للحكومة ، وحالهم بعد أن (حظوا !!) بذلك الدخول.(1/52)
(هل نذهب بعيداً إذا قلنا بأن حكامنا العلمانيين المعاصرين رغم أننا نميل إلى إلحاقهم وتبعيتهم بالحكومات الغربية ، إنهم أي حكامنا العلمانيين هم الامتداد الطبيعي من حيث نموذج الحكم الذي يمثلونه لأسلافهم من الطغاة الذين ازدحم بهم تاريخنا منذ قرون طويلة ، والفارق هو الخلاف الديني الذي يستر أولئك ولا يزال يستر البعض حتى الآن ، وربما كان المتسترون أسوأ وأنكأ من العراة. أوليس المنافقون في الدرك الأسفل من النار ، الأمر الذي يجعل ظهور الدولة العلمانية في أمتنا من حيث مضمونها الثقافي مرحلة مهمة في تطورها تاريخياً في اتجاه دولة العدل الإسلامي ، مروراً بمرحلة دولة العقل أو الدولة العلمانية الديمقراطية . أليس أمراً بالغ الدلالة تأخر الحركة الإسلامية لدرجة الغياب في دول العالم الإسلامي التي لا تزال تجر أذيال الإسلام وتنسب نفسها لحكم الشريعة ، وخاصة تلك التي لم تمر بالمرحلة الاستعمارية . الإسلام هناك يختنق تحت وطأة الكهنوت. مقعد الإسلام هناك مشغول ممتلئ بالكهنوت . فأي مكان للحركة الإسلامية إذن ؟ وهل من عجب أيضاً أن نجد أول خيط لفجر الحركة الإسلامية في قلب الجزيرة العربية يسطع نوره على إثر الاحتلال الأمريكي الغربي الأخير ، وقد تجلى من خلال العريضة الشهيرة لكبار العلماء ورجال الدعوة هناك(1) كإشارة على ولادة الحركة الإسلامية وانفصال الدين عن الدولة والحاكم عن المحكوم ، وتحرر الدين من هيمنة الحكام ، وفقدان هؤلاء تحت وطأة الغزو الغربي لرداء الكهنوت وظهورهم على حقيقتهم حكاماً علمانيين لا تضبطهم إرادة أو مصلحة شعب أو حكم دين وإنما مصلحة العائلة والكرسي فوق كل شيء ، لقد ألحق الغزو الغربي الأخير للخليج بعض أجزاء العالم الإسلامي التي تخلف تطورها بالوضع العام للأمة الإسلامية أي النضال من أجل تحرير إرادة الأمة من الطغاة واستعادة سيطرتها على الثروات ، أي عقلنة الحياة
__________
(1) يقصد ( مذكرة النصيحة ) الشهيرة!(1/53)
السياسية وديمقراطيتها كخطوة ضرورية تهيؤها لعدالة أشمل وحرية أرسخ وخيرٍ أعظم).
... قلت: تأمل هذا الغلو والحقد في نقد الدولة السعودية المعاصرة ، ويضيف إليها ( أهل الكهنوت )! وهم كبار العلماء لدينا الذين أفتوا بجواز الإستعانة بالأجنبي لطرد المرتد البعثي، وعلى رأسهم الشيخ ابن باز والشيخ ابن عثيمين – رحمهما الله -.
قد تقول: نحن لا نلوم الغنُّوشي على موقفه هذا ، لأنه حرٌ في مواقفه ، وهو يتحمل مسئوليتها أمام الله.
فأقول: نعم ، لن نلومه على هذا لو كان شجاعاً وجاهر برأيه هذا في كل محفل ومكان ! أما أن يقوله هنا ، ثم يقول نقيضه في مكان آخر ، فهذا ما نلومه عليه ، وهو (التلون) الذي قصدته ، وهو ليس من صفات المؤمن ، بل من صفات الجبناء (ذوي الوجهين) الذين ذمهم صلى الله عليه وسلم.
ونقيض موقفه هذا قاله في مقابلته مع منتدى (ايلاف)(1) على شبكة الإنترنت ، شهر ربيع الأول من عام 1422هـ ، حيث سئل. " كيف ترى التجربة السعودية
__________
(1) لصاحبه الصحفي السعودي المشهور (عثمان العمير) ، الذي فتح – هداه الله – منتداه هذا لكل حاقد على الإسلام وأهله ، من محلد وعلماني ورافضي وشهواني ، بدعوى الحوار وحرية الفكر !! والأولى أن تسمى (حرية الكفر!) ؛ لأن الحرية الفكرية في الإسلام مضبوطة بأحكام الشرع لا تخرج عنه ، فهل يعي العمير هذا ويسخر منتداه للدعوة إلى الإسلام والذب عنه؟ لئلا يكون ممن قال الله فيهم { ليحملوا أوزارهم كاملة يوم القيامة ومن أوزار الذين يضلونهم بغير علم ، ألا ساء ما يزرون } .(1/54)
الحاكمة الآن ؟ أليست حكماً إسلامياً سيدي؟ أم أنكم تختلفون مع الحكم السعودي ولا تعتبرونه حكماً إسلامياً ؟ ثم ما رأيكم في الدعوة الوهابية(1) .. هل تصلح معتقداتها للتعامل مع مقتضيات الدولة الحديثة؟"(2)
__________
(1) ليس هناك شيء اسمه (الدعوة الوهابية) ! بل هي دعوة الكتاب والسنة وفق الله لها الشيخ المجدد محمد بن عبد الوهاب –رحمه الله-.
(2) معتقداتها هي ما جاء في الكتاب والسنة – ولله الحمد -! فإن ظننت أن الكتاب والسنة لا يتفقان مع ما تزعمه من ( الدولة الحديثة ) فقد ظننت ظن السوء بربك وبشرعه ، وهذه الدولة السعودية شاهد على إمكانية توافق الإسلام مع مقتضيات العصر – ولله الحمد – وما كان من قصور ونقص فإنه يعالج بالنصيحة. والعجب أن من يسأل هذا السؤال نجد بلاده غائبة عن مقتضيات العصر وعن الدين الصحيح! ثم تزعم بأنها (دولة تقدمية)!! فنعوذ بالله من انتكاس القلوب والأبصار.(1/55)
قال الغنُّوشي: (الدولة السعودية قد تأسست على تحالف بين دعوة وقبيلة وهو نموذج الدولة الإسلامية التقليدية وكان لها دورة معتبر في إنجاز خطوات مهمة في اتجاه توحيد جزيرة العرب وتأمين المناسك ووفود بيت الله الحرام. صاحب الدعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب الذي يمثل أهم جذر تاريخي للحركة الإسلامية المعاصرة ، نفض غبار الانحطاط عن جوانب مهمة من فكر ابن تيمية فجسر العلاقة المفقودة بين الوحي والسياسية. ولقد بينت في كتابي " الحريات العامة في الدولة الإسلامية " أن الركن الأول للدولة الإسلامية هو تسليمها بالوحي مرجعية عليا واعتمادها الشورى أسلوباً في إدارة الدولة وعلاقة الحاكم بالمحكوم . وعلى هذا فالدولة السعودية هي دولة إسلامية من جهة قيامها على الشريعة. ونأمل أن الخطوة التي قطعتها على طريق الشورى بقيام مجلس شورى معين أن تتعزز بخطوات أكبر في اتجاه قيام مؤسسات شورية منتخبة وحياة سياسية وإعلامية أكثر انفتاحاً وهو الإنجاز المتوقع من حكم الأمير عبد الله يعزز به منجزات سلفه ويحقق التحول المنشود)!!
قلت: فالدولة السعودية هنا (دولة إسلامية ) ، وهناك (دولة علمانية) !! والفرق: المكان!
هداك الله يا غنوشي ، فأنا لم أسق هذا الموقف لإحراجك أمام أحد ، وإنما لأبين لشباب الإسلام خطورة المسلك ( الحركي ) ( الحزبي ) غير المنضبط ضوابط الإسلام ، الذي يجر المرء إلى ( التلون ) و ( المواقف غير الرجولية ) و(غير الشجاعة) ، مما يؤدي إلى تردد الناس في قبول الإسلام والالتزام به إذا كان هذا هو حال دعاته.
... أخيراً: عسى أن يجد القارئ ما يفيده في هذا البحث من حيث تبيين حال الغنُّوشي وتدرجاته ، وأن يجد فيه الغنُّوشي نفسه مرآة صادقة تعكس له أخطاءه وانحرافاته فيتجنبها قبل الرحيل إلى دار القرار ، والله أعلم ، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
كتبه
سليمان بن صالح الخراشي
الرياض
ص.ب 522
الرمز 11321(1/56)