تحفة اليتيم و اللقيط
الباحث : محمود بن أحمد أبو مسلم
رقم الهاتف : 0101283825
بسم الله و الحمد لله و الصلاة و السلام على رسول الله و بعد ...
فإنه من عظيم فضل الشريعة الإسلامية أنها لم تترك شيئا خاصا بالمجتمع الإسلامي و تربيته ولا عاما يخص الأمة بأسرها إلا و قد أشارت إليه إما بالإجمال أو بالتفصيل و هذا من نعم الله علينا في شريعتنا , فلم يتركنا هملا ليتبع كل شخص هواه فى أمور الآخرة أو أمور الدنيا ليختلق قواعد وقوانين من عنده أو آراء لا يعلم فيها خيرا من بعيد و لا من قريب , لأن الإنسان مهما بلغ من فطنة و حكمة فإن حكمته و فطنته لا تساوي شيئا في حكمة الله سبحانه و خبرته بعباده فهو سبحانه و تعالى الحكيم الخبير.
ومن تلك الموضوعات الإجتماعية التي إهتم الشرع الحنيف بها موضوع كفالة اليتيم و اللقيط , ومما زاد اليتيم شرفا أن سيد المرسلين و خاتم الأنبياء كان يتيما , فآواه الله جلّ و علا وهداه و أغناه فقال عزّ من قائل { ألم يجدك يتيما فآوى ووجدك ضالا فهدى ووجك عائلا فأغنى }.
فاللهم صلى و سلم وبارك على سيدنا محمد و على آله و صحبه أجمعين و الحمد لله رب العالمين .
عملنا في هذا البحث
ينقسم البحث إلى أربعة أقسام :
القسم الأول : و هو المقدمة وتحتوي على ثلاثة فصول :
الأول : منزلة اليتيم في الإسلام
الثاني : مسألة التبني في الإسلام
الثالث : مسألة رضاع الكبير .
القسم الثاني : ويحتوي على فصلين :
الأول : فقه تربية الأيتام ( الكفالة التربوية )
الثاني : أحكام النظر في أموال اليتيم
القسم الثالث : اللقيط و أحكامه الفقهية .
القسم الرابع : خاتمة ( يوم اليتيم في الميزان )
منهج البحث
قمت بعنونة كل باب من أبواب الفصول بما يليق بحكمه الفقهي المستخلص من مناقشة الباب , على عادة أصحاب الحديث في مصنفاتهم كالإمام البخاري و مسلم , وذلك حتى يسهل فهرسة البحث و الرجوع إلى المسألة المطلوبة في وقت قصير .(1/1)
بالنسبة للأحاديث النبوية , اعتمدت على تصحيحها أو تضعيفها على كلام الأئمة الأعلام من أئمة الحديث قديما , وكذلك على أحكام بعض الأئمة المعاصرين كالشيخ الألباني رحمه الله تعالى و غيره . ولم أقم بالحكم على حديث للنبي صلى الله عليه وسلم إلا على سبيل توضيح ما فيه من ضعف أو صحة و ذلك في أضيق الحدود كما فعلت في حديث " ولد الزنى " في القسم الثالث .
قمت بتخريج الأحاديث النبوية , واكتفيت بالصحيحين أو أحدهما إن كان الحديث فيهما أو بالكتب الستة أو غيرها من كتب الحديث من المصنفات و المسانيد , ولم أستطرد في ذلك خشية الإطالة في الهوامش.
قمت بتحقيق بعض الأثار عن الصحابة و التابعين رضوان الله عليهم بما تيسر , كما اعتمدت على تحقيق بعض المعاصرين لها كالشيخ مصطفى العدوي حفظه الله و غيره , وذكرت ذلك بالهوامش .
لم أضع كل الأقوال الفقهية في المسألة الواحدة , إما أقوال المذاهب الأربعة أو غيرها , وذلك منعا للتطويل من ناحية والإقتصار على الصحيح من الأقوال أو أقربها للصحة من ناحية أخرى . وقد أناقش بعض الأقوال الشاذة في المسألة , كما فعلت في رأي الإمام ابن حزم رحمه الله في مسألة الرشد في القسم الثاني .
لا أستطرد كثيرا في شرح الأحكام حتى لا يملّ القارئ و حاولت أن أكون سهل العبارة و قليل الكلام قدر الإمكان , اللهم إلا في بعض الأحكام التي أظن أنها تحتاج الى توضيح , فقد أنقل كلام بعض الأئمة بتمامه و إن طال لتحصيل الفائدة المرجوة.
مقدمة
الفصل الأول
منزلة اليتيم في القرآن و السنة
تعريف اليتيم في اللغة و في الشرع :
و اليتيم في اللغة كما قال بن المنظور في لسان العرب " اليتيم الذي مات أبوه , فهو يتيم حتى يبلغ فإذا بلغ زال عنه اسم اليتم " و قال " وقد يطلق عليه مجازا بعد البلوغ كما كانوا يسمون النبي صلى الله عليه وسلم وهو كبير يتيم أبي طالب لأنه رباه بعد موت أبيه " (1) .
__________
(1) 9\441)(1/2)
واليُتمُ عموما هو : الانفراد ، واليتيم : الفردُ وكل شيء مفرد يعز نظيره فهو يتيم ، وأصل اليتيم الغفلة ، وبه سُميَّ اليتيم يتيماً ؛ لأنه يتغافل عن بره. وتقول العرب : اليتيم الذي يموت أبوه ، والعجيُّ الذي تموت أمه ، ومن مات أبواه فهو لطيم.
وكذلك في تعريفه الشرعي مثل التعريف اللغوي: هو من مات عنه أبوه دون الحلم , أي قبل أن يبلغ و ما بعد البلوغ لا يسمى يتيما على الراجح .. فيصير بلا عائل و لا قائم على شؤونه .. وقد يفقد أبواه جميعا فيكون أعظم في حاجته .
قال شيخ الإسلام بن تيمية في مجموع الفتاوى " اليتيم في الآدميين" (1)من فقد أباه ؛ لأن أباه هو الذي يهذبه ؛ ويرزقه ؛ وينصره : بموجب الطبع المخلوق ؛ ولهذا كان تابعا في الدين لوالده ؛ وكان نفقته عليه وحضانته عليه والإنفاق هو الرزق . و " الحضانة " هي النصر لأنها الإيواء ودفع الأذى . فإذا عدم أبوه طمعت النفوس فيه ؛ لأن الإنسان ظلوم جهول والمظلوم عاجز ضعيف فتقوى جهة الفساد من جهة قوة المقتضى ومن جهة ضعف المانع ويتولد عنه فسادان : ضرر اليتيم ؛ الذي لا دافع عنه ولا يحسن إليه وفجور الآدمي الذي لا وازع له . فلهذا أعظم الله أمر اليتامى في كتابه في آيات كثيرة مثل قوله : { وإذ أخذنا ميثاق بني إسرائيل لا تعبدون إلا الله وبالوالدين إحسانا وذي القربى واليتامى والمساكين } وقوله : { ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب } - إلى قوله - { وآتى المال على حبه ذوي القربى واليتامى والمساكين } وقوله : { قل ما أنفقتم من خير فللوالدين والأقربين واليتامى والمساكين }.. الخ كلاكمه رحمه الله "
حالات اليتيم في الإسلام :
ولليتيم في الإسلام حالاتان في المجمل:
__________
(1) 34\68)(1/3)
الأولى : أن يموت أبوه و يترك له مالا فتتكفل به أمه و ترعاه مثلا أو جده أو عمه .. أو أحد من أقاربه , فيحفظ له ماله و لا يقربه إلا بالحسنى ثم يؤدي له ماله حين يرى أنه يستطيع التصرف فيه , وذلك حين يبلغ .
قال الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله في فتاواه ..." أما إذا خلفا له مالاً يقوم بحاله فإنه حينئذ لا يكون محلاً للصدقة ، وإنما يكون محلاً للرعاية والعناية بماله والإحسان إليه حتى ينمو هذا المال ويحفظ ، وهو كذلك يكون محل العناية من حيث التربية والتوجيه والتعليم والصيانة عما لا ينبغي . فاليتيم في حاجة من جهة تربيته التربية الإسلامية وتوجيهه وإرشاده ، وإذا كان لا مال له كان محتاجاً أيضاً إلى المال ، وقد قال الله سبحانه وتعالى : { وَلاَ تَقْرَبُواْ مَالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ }[6] فلا يقرب مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن وذلك بالتصرف فيه بالتجارة والتنمية وبالنصح وأداء الأمانة حتى يبلغ اليتيم أشده أي حتى يبلغ الحلم ، ويزول عنه السفه ويكون رشيداً ، فإذا رشد دفع إليه ماله وأشهد عليه ، ولا يجوز قرب ماله للطمع فيه والإساءة إليه ، بل هذا من أعظم أسباب العقوبات وكبائر الذنوب ، كما قال الله عز وجل : { إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا} [7] فأخذ مال اليتيم بغير حق من كبائر الذنوب . وفي الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : (( اجتنبوا السبع الموبقات )) قلنا ما هن يا رسول الله ؟ قال : (( الشرك بالله ، والسحر ، وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق ، وأكل الربا ، وأكل مال اليتيم ، والتولي يوم الزحف ، وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات )) [8] فجعل أكل مال اليتيم من هذه السبع الموبقات أي المهلكات"(1/4)
الثانية : أن يموت أبوه و لم يترك له من المال شيئا , وهذا تنفق عليه أمه أو أقاربه بالحسنى .. من باب التعاون على البر و التقوى ومن باب{: وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى } .الآية. وهذا اليتيم يعتبر من الفقراء أو المساكين و الزكاة له جائزة و تكون من باب الكفالة أيضا .
بعض الآيات و الأثار الدالة على منزلة اليتيم في الإسلام
يقول عز وجل : {وَاعْبُدُواْ اللّهَ وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ }،
و الله جل وعلا يقول: { وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلاَ تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا }،
ويقول سبحانه وتعالى : { فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ . وَأَمَّا السَّائِلَ فَلَا تَنْهَرْ}...
وقال جل و علا { وأن تقوموا لليتامى بالقسط وما تفعلوا من خير فإن الله كان به عليما }
وقوله : { إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما إنما يأكلون في بطونهم نارا وسيصلون سعيرا }
وقوله : في الأنعام : { ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن حتى يبلغ أشده }...
وقال عز وجل { ويسألونك عن اليتامى قل إصلاح لهم خير و إن تخالطوهم فإخوانكم }
وقال عليه الصلاة و السلام فيم أخرج البخاري عن سهل بن سعد " أنا و كافل اليتيم في الجنة هكذا " وقال بإصبعيه السبابة و الوسطى
وفيما أخرجه البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " الساعي على الأرملة و المساكين , كالمجاهدين في سبيل الله , وكالذي يصوم النهار و يقوم الليل " .(1/5)
وفيما أخرجه أيضا عن عائشة رضي الله عنها قالت : جائتني امرأة معها ابنتان لها , فسألتني فلم تجد عندي إلا تمرة واحدة , فأعطيتها , فقسمتها بين ابنتيها , ثم قامت , فخرجت فدخل النبي صلى الله عليه وسلم فحدثته , فقال " من يلي من هذه البنات شيئا فأحسن إليهن كن له سترا من النار " .
وسيأتي مزيد من الآيات و الأحاديث في بحثنا ان شاء الله في منزلة اليتيم في الاسلام .
حرص الصحابة رضوان الله عليهم على الكفالة
وعن أبي بكر بن حفص " كان عبدالله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما لا يأكل طعام إلا و على خوانه يتيم " (1).
أخرج الإمام البخاري في صحيحه :
__________
(1) صحيح الأدب المفرد (102)(1/6)
4251- عَنِ الْبَرَاءِ - رضى الله عنه - قَالَ لَمَّا اعْتَمَرَ النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم فِى ذِى الْقَعْدَةِ ، فَأَبَى أَهْلُ مَكَّةَ أَنْ يَدَعُوهُ يَدْخُلُ مَكَّةَ ، حَتَّى قَاضَاهُمْ عَلَى أَنْ يُقِيمَ بِهَا ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ ، فَلَمَّا كَتَبُوا الْكِتَابَ كَتَبُوا ، هَذَا مَا قَاضَى عَلَيْهِ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ . قَالُوا لاَ نُقِرُّ بِهَذَا ، لَوْ نَعْلَمُ أَنَّكَ رَسُولُ اللَّهِ مَا مَنَعْنَاكَ شَيْئاً ، وَلَكِنْ أَنْتَ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ . فَقَالَ « أَنَا رَسُولُ اللَّهِ ، وَأَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ » . ثُمَّ قَالَ لِعَلِىٍّ « امْحُ رَسُولَ اللَّهِ » . قَالَ عَلِىٌّ لاَ وَاللَّهِ لاَ أَمْحُوكَ أَبَداً . فَأَخَذَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الْكِتَابَ ، وَلَيْسَ يُحْسِنُ يَكْتُبُ ، فَكَتَبَ هَذَا مَا قَاضَى مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ لاَ يُدْخِلُ مَكَّةَ السِّلاَحَ ، إِلاَّ السَّيْفَ فِى الْقِرَابِ ، وَأَنْ لاَ يَخْرُجَ مِنْ أَهْلِهَا بِأَحَدٍ ، إِنْ أَرَادَ أَنْ يَتْبَعَهُ ، وَأَنْ لاَ يَمْنَعَ مِنْ أَصْحَابِهِ أَحَداً ، إِنْ أَرَادَ أَنْ يُقِيمَ بِهَا . فَلَمَّا دَخَلَهَا وَمَضَى الأَجَلُ أَتَوْا عَلِيًّا فَقَالُوا قُلْ لِصَاحِبِكَ اخْرُجْ عَنَّا ، فَقَدْ مَضَى الأَجَلُ . فَخَرَجَ النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم فَتَبِعَتْهُ ابْنَةُ حَمْزَةَ تُنَادِى يَا عَمِّ يَا عَمِّ . فَتَنَاوَلَهَا عَلِىٌّ ، فَأَخَذَ بِيَدِهَا وَقَالَ لِفَاطِمَةَ - عَلَيْهَا السَّلاَمُ - دُونَكِ ابْنَةَ عَمِّكِ . حَمَلَتْهَا فَاخْتَصَمَ فِيهَا عَلِىٌّ وَزَيْدٌ وَجَعْفَرٌ . قَالَ عَلِىٌّ أَنَا أَخَذْتُهَا وَهْىَ بِنْتُ عَمِّى . وَقَالَ جَعْفَرٌ ابْنَةُ عَمِّى وَخَالَتُهَا تَحْتِى . وَقَال زَيْدٌ ابْنَةُ أَخِى . فَقَضَى بِهَا النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم(1/7)
لِخَالَتِهَا وَقَالَ « الْخَالَةُ بِمَنْزِلَةِ الأُمِّ » . وَقَالَ لِعَلِىٍّ « أَنْتَ مِنِّى وَأَنَا مِنْكَ » . وَقَالَ لِجَعْفَرٍ « أَشْبَهْتَ خَلْقِى وَخُلُقِى » . وَقَالَ لِزَيْدٍ « أَنْتَ أَخُونَا وَمَوْلاَنَا » . وَقَالَ عَلِىٌّ أَلاَ تَتَزَوَّجُ بِنْتَ حَمْزَةَ . قَالَ « إِنَّهَا ابْنَةُ أَخِى مِنَ الرَّضَاعَةِ » .
وأخرج البخاري (1466) عَنْ زَيْنَبَ امْرَأَةِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَتْ كُنْتُ فِي الْمَسْجِدِ فَرَأَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ تَصَدَّقْنَ وَلَوْ مِنْ حُلِيِّكُنَّ وَكَانَتْ زَيْنَبُ تُنْفِقُ عَلَى عَبْدِ اللَّهِ وَأَيْتَامٍ فِي حَجْرِهَا قَالَ فَقَالَتْ لِعَبْدِ اللَّهِ سَلْ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَيَجْزِي عَنِّي أَنْ أُنْفِقَ عَلَيْكَ وَعَلَى أَيْتَامٍ فِي حَجْرِي مِنْ الصَّدَقَةِ فَقَالَ سَلِي أَنْتِ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَانْطَلَقْتُ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَوَجَدْتُ امْرَأَةً مِنْ الْأَنْصَارِ عَلَى الْبَابِ حَاجَتُهَا مِثْلُ حَاجَتِي فَمَرَّ عَلَيْنَا بِلَالٌ فَقُلْنَا سَلْ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَيَجْزِي عَنِّي أَنْ أُنْفِقَ عَلَى زَوْجِي وَأَيْتَامٍ لِي فِي حَجْرِي وَقُلْنَا لَا تُخْبِرْ بِنَا فَدَخَلَ فَسَأَلَهُ فَقَالَ مَنْ هُمَا قَالَ زَيْنَبُ قَالَ أَيُّ الزَّيَانِبِ قَالَ امْرَأَةُ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ نَعَمْ لَهَا أَجْرَانِ أَجْرُ الْقَرَابَةِ وَأَجْرُ الصَّدَقَةِ.(1/8)
وأخرج البخاري أيضا (4161) عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ خَرَجْتُ مَعَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إِلَى السُّوقِ فَلَحِقَتْ عُمَرَ امْرَأَةٌ شَابَّةٌ فَقَالَتْ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ هَلَكَ زَوْجِي وَتَرَكَ صِبْيَةً صِغَارًا وَاللَّهِ مَا يُنْضِجُونَ كُرَاعًا وَلَا لَهُمْ زَرْعٌ وَلَا ضَرْعٌ وَخَشِيتُ أَنْ تَأْكُلَهُمْ الضَّبُعُ وَأَنَا بِنْتُ خُفَافِ بْنِ إِيْمَاءَ الْغِفَارِيِّ وَقَدْ شَهِدَ أَبِي الْحُدَيْبِيَةَ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَوَقَفَ مَعَهَا عُمَرُ وَلَمْ يَمْضِ ثُمَّ قَالَ مَرْحَبًا بِنَسَبٍ قَرِيبٍ ثُمَّ انْصَرَفَ إِلَى بَعِيرٍ ظَهِيرٍ كَانَ مَرْبُوطًا فِي الدَّارِ فَحَمَلَ عَلَيْهِ غِرَارَتَيْنِ مَلَأَهُمَا طَعَامًا وَحَمَلَ بَيْنَهُمَا نَفَقَةً وَثِيَابًا ثُمَّ نَاوَلَهَا بِخِطَامِهِ ثُمَّ قَالَ اقْتَادِيهِ فَلَنْ يَفْنَى حَتَّى يَأْتِيَكُمْ اللَّهُ بِخَيْرٍ فَقَالَ رَجُلٌ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ أَكْثَرْتَ لَهَا قَالَ عُمَرُ ثَكِلَتْكَ أُمُّكَ وَاللَّهِ إِنِّي لَأَرَى أَبَا هَذِهِ وَأَخَاهَا قَدْ حَاصَرَا حِصْنًا زَمَانًا فَافْتَتَحَاهُ ثُمَّ أَصْبَحْنَا نَسْتَفِيءُ سُهْمَانَهُمَا فِيهِ
الفصل الثاني
هدم الإسلام لمسألة التبني
تبناه أي اتخذه ابنا , من تفعّل .(1/9)
قال تعالى: مَّا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِّن قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ وَمَا جَعَلَ أَزْوَاجَكُمُ اللَّائِي تُظَاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهَاتِكُمْ وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءكُمْ أَبْنَاءكُمْ ذَلِكُمْ قَوْلُكُم بِأَفْوَاهِكُمْ وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ {4} ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِندَ اللَّهِ فَإِن لَّمْ تَعْلَمُوا آبَاءهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُم بِهِ وَلَكِن مَّا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً {5}
أخرج الإمام البخاري (4782) قال: حَدَّثَنَا مُعَلَّى بْنُ أَسَدٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ الْمُخْتَارِ، حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ، قَالَ حَدَّثَنِي سَالِمٌ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَـ رضى الله عنهما ـ أَنَّ زَيْدَ بْنَ حَارِثَةَ، مَوْلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَا كُنَّا نَدْعُوهُ إِلاَّ زَيْدَ ابْنَ مُحَمَّدٍ حَتَّى نَزَلَ الْقُرْآنُ { ادْعُوهُمْ لآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ } . هـ.(1/10)
وكان زيد بن حارثة رضي الله عنه غلاما لخديجة , فوهبته لرسول الله صلى الله عليه وسلم لما تزوجها , وقدم أبوه و عمه في فدائه , فسألا عن النبي صلى الله عليه وسلم , فقيل : هو في المسجد , فدخلا عليه , فقالا : يا بن عبد المطلب , يا بن هاشم , يا بن سيد قومه , أنتم أهل حرم الله و جيرانه , تفكون العاني و تطعمون الأسير , جئناك في ابننا عندك , فامنن علينا , و أحسن إلينا في فدائه , قال : " ومن هو ؟" قالوا : زيد بن حارثة , فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " فهلا غير ذاك ؟ " قالوا : ما هو ؟ , قال : " ادعوه فأخيره فإن اختاركم فهو لكم , و إن اختارني فوالله ما أنا بالذي أختار على من اختارني أحدا " قالا : قد رددتنا على النصف و أحسنت فدعاه فقال " هل تعرف هؤلاء ؟" قال : نعم , قال " من هذا ؟" قال : هذا أبي و هذا عمي , قال " فأنا من قد علمت و رأيت و عرفت صحبتي لك , فاخترني أو اخترهما " قال : ما أنا بالذي أختار عليك أحدا أبدا , أنت مني مكان الأب و العم , فقالا : ويحك يا زيد , أتختار العبودية على الحرية , و على أبيك و عمك و على أهل بيتك , قال : نعم , قد رأيت من هذا الرجل شيئا ما أنا بالذي أختار عليه أحدا أبدا . فلما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك أخرجه إلى الحجر فقال : " أشهدكم أن زيدا ابني يرثني و أرثه " فلما رأى ذلك أبوه و عمه طابت نفوسهما فانصرفا و دعي زيد بن محمد حتى جاء الله بالإسلام فنزلت { ادعوهم لأبائهم } فدعي من يومئذ زيد بن حارثة (1).
__________
(1) جامع السيرة لابن القيم ص 24 , 25) .(1/11)
وكانوا يعاملونهم معاملة الأبناء من كل وجه في الخلوة بالمحارم و غير ذلك , ولهذا قالت سهلة بنت سهيل امرأة أبي حذيفة رضي الله عنهما يا رسول الله إنا كنا ندعو سالما ابنا و إن الله قد أنزل ما أنزل و إنه كان يدخل علي و إني أجد في نفس أبي حذيفة من ذلك شيئا , فقال صلى الله عليه و سلم " أرضعيه تحرمي عليه " الحديث , و لهذا لما نسخ هذا الحكم أباح تبارك و تعالى زوجة الدعي و تزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم بزينب بنت جحش مطلقة زيد بن حارثة رضي الله عنه و قال عز وجل لكي لا يكون على المؤمنين حرج في أزواج أدعيائهم إذا قضوا منهنّ وطرا } و قال في آية التحريم عز وجل { و حلائل أبنائكم الذين من أصلابكم} احترازا عن زوجة الدعي فإنه ليس من الصلب .ا.هـ.(1)
فائدة :
قال ابن العربي (2) في قوله تعالى { فإن لم تعلموا آباءهم فاخوانكم في الدين و مواليكم } دليل قوي على أن من لا أب له من ولد دعي أو لعان لا ينتسب إلى أمه , ولكنه يقال أخو معتقه و مولاه إن كان حرا , أو عبده إن كان رقا .
فأما ولد الملاعنة إن كان حرا فإنه يدعي إلى أمه , فيقال : فلان بن فلانة , لأن أسبابه في انتسابه منقطعة , فرجعت إلى أمه .ا.هـ.
__________
(1) تفسير بن كثير)
(2) في أحكام القرآن (3\514)(1/12)
قلت (محمود) وقد ينتسب الرجل إلى أمه إذا اشتهر بذلك و لم يكن يتضرر و لا يتأذّى بذلك الإسم كما سمّي بذلك بعض الصحابة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم كابن أم مكتوم(1) , وابن أم عبد الذي هو عبد الله بن مسعود وكذلك محمد ابن الحنفية و هو محمد بن علي بن أبي طالب رضي الله عنه و ليس من الصحابة و شيخ الإسلام ابن تيمية و غيرهم , والله أعلم .
اقامة الحجة أنه لا تبني في الإسلام :
قال تعالى { وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَاهُ فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِّنْهَا وَطَراً زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَراً وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولاً {37}.
__________
(1) يجب أن تكتب (ابن) هكذا في اسم عبدالله بن عمرو ابن أم مكتوم , ويقرأ عمرو مجرورا منونا (وابن مكتوم) بنصب النون و يكتب بالألف لأنه صفة للمقداد , وهو منصوب فينصب , و ليس (ابن) هنا واقعا بين اسمين متناسلين , فلهذا يتعين كتابة الألف , ولو قريء ابن أم مكتوم بالجر لفسد المعنى لأن أم مكتوم ليست أم عمرو بل هي زوجته و أم عبد الله فيتعين الكتابة بالألف و يعرب بإعراب الإبن المذكور أولا (شرح مسلم للنووي 3\379)(1/13)
أخرج الإمام مسلم : 3575-قال حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ حَاتِمِ بْنِ مَيْمُونٍ حَدَّثَنَا بَهْزٌ ح وَحَدَّثَنِى مُحَمَّدُ بْنُ رَافِعٍ حَدَّثَنَا أَبُو النَّضْرِ هَاشِمُ بْنُ الْقَاسِمِ قَالاَ جَمِيعاً حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ الْمُغِيرَةِ عَنْ ثَابِتٍ عَنْ أَنَسٍ وَهَذَا حَدِيثُ بَهْزٍ قَالَ لَمَّا انْقَضَتْ عِدَّةُ زَيْنَبَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لِزَيْدٍ « فَاذْكُرْهَا عَلَىَّ ». قَالَ فَانْطَلَقَ زَيْدٌ حَتَّى أَتَاهَا وَهْىَ تُخَمِّرُ عَجِينَهَا قَالَ فَلَمَّا رَأَيْتُهَا عَظُمَتْ فِى صَدْرِى حَتَّى مَا أَسْتَطِيعُ أَنْ أَنْظُرَ إِلَيْهَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ذَكَرَهَا فَوَلَّيْتُهَا ظَهْرِى وَنَكَصْتُ عَلَى عَقِبِى فَقُلْتُ يَا زَيْنَبُ أَرْسَلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَذْكُرُكِ . قَالَتْ مَا أَنَا بِصَانِعَةٍ شَيْئاً حَتَّى أُوَامِرَ رَبِّى . فَقَامَتْ إِلَى مَسْجِدِهَا وَنَزَلَ الْقُرْآنُ وَجَاءَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَدَخَلَ عَلَيْهَا بِغَيْرِ إِذْنٍ قَالَ فَقَالَ وَلَقَدْ رَأَيْتُنَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَطْعَمَنَا الْخُبْزَ وَاللَّحْمَ حِينَ امْتَدَّ النَّهَارُ فَخَرَجَ النَّاسُ وَبَقِىَ رِجَالٌ يَتَحَدَّثُونَ فِى الْبَيْتِ بَعْدَ الطَّعَامِ فَخَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَاتَّبَعْتُهُ فَجَعَلَ يَتَتَبَّعُ حُجَرَ نِسَائِهِ يُسَلِّمُ عَلَيْهِنَّ وَيَقُلْنَ يَا رَسُولَ اللَّهِ كَيْفَ وَجَدْتَ أَهْلَكَ قَالَ فَمَا أَدْرِى أَنَا أَخْبَرْتُهُ أَنَّ الْقَوْمَ خَرَجُوا أَوْ أَخْبَرَنِى - قَالَ - فَانْطَلَقَ حَتَّى دَخَلَ الْبَيْتَ فَذَهَبْتُ أَدْخُلُ مَعَهُ فَأَلْقَى السِّتْرَ بَيْنِى وَبَيْنَهُ وَنَزَلَ الْحِجَابُ قَالَ وَوُعِظَ الْقَوْمُ بِمَا وُعِظُوا بِهِ . زَادَ(1/14)
ابْنُ رَافِعٍ فِى حَدِيثِهِ ( لاَ تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِىِّ إِلاَّ أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَى طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ ) إِلَى قَوْلِهِ ( وَاللَّهُ لاَ يَسْتَحْيِى مِنَ الْحَقِّ )
وأخرجه بن سعد في الطبقات وزاد فيه ( قالت : ما أنا بصانعة شيئا حتى أؤامر ربي , فقامت إلى مسجدها , ونزل القرآن { فلما قضى زيد منها وطرا زوجناكها }.
قال الشيخ مقبل بن هادي ( رحمه الله ) ورجاله رجال الصحيح (1)
وهذا أنزله الله حتى يقطع دابر منهج التبني تماما , فأوحى الله عزوجل إلى نبيه أنه سيتزوج بزينب بنت جحش رضي الله عنها بعد أن يطلقها زيد و جاءه زيد يشكو اليه خلق زينب قال له النبي صلى الله عليه وسلم على جهة الأدب " اتق الله في قولك و أمسك عليك زوجك " وهو يعلم أن سيفارقها و سيتزوجها عليه الصلاة و السلام , وهذا هو ما أخفى في نفسه لا كما يزعم بعض من لا علم له و لا دين أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى زينب فهواها , فحاشاه عليه الصلاة و السلام من هذا حاشاه , و على هذا التفسير كل الراسخين من أهل العلم من المفسرين كالزهري و القشيري و بن العربي و القرطبي و بن كثير و غيرهم (2) . , وخشي رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقول الناس أنه تزوج زينب بعد زيد و هو مولاه , وقد عاتبه الله على هذاالقدر , وأعلمه أن الله أحق أن يخشاه في كل حال . ا.هـ. بتصرف من تفسير القرطبي
ومعلوم أن الولد الصلبي امرأته محرّمه على أبيه و إن طلقها أو مات عنها , فلما تزوج النبي صلى الله عليه وسلم من زينب علم يقينا أنه ليس ابنه و أنه لا تبني في الإسلام.
فإن قيل : كيف يأمر النبي صلى الله عليه وسلم زيد بأن يمسك عليه زوجه و قد علم أن الفراق لا بد منه ؟ وهذا تناقض ..
__________
(1) الصحيح المسند من أسباب النزول ص 230
(2) راجع تفسير القرطبي و بن كثير للآية و كذلك كلام بن حجر في الفتح 8\528(1/15)
قال ابن العربي " بل هو صحيح للمقاصد الصحيحة لإقامة الحجة و معرفة العاقبة , ألا ترى أن الله تعالى يأمر العبد بالإيمان و قد علم أنه لا يؤمن , فليس في مخالفة متعلّق الأمر لمتعلّق العلم ما يمنع من الأمر به عقلا و حكما , وهذا من نفيس العلم فتيقنوه و تقبلوه ا.هـ. (1)
فائدة :
وبهذا قد أقام الله الحجة على النصارى الذين يقولون أن المسيح بن الله و هم يعلمون أن الله ليس له ولد سبحانه و تعالى عن ذلك , إذ بعد هذا الحكم من قال أنه ابن فلان و هو ليس ابنه فهو كافر كما في الحديث " من رغب عن غير أبيه فهو كفر " , وهذا هو أكفر الكفر, وهو مالم يقله المسيح بن مريم عليه السلام , و لا صرّح بذلك المولى عزّ وجل تعالى عن ذلك علوا كبيرا بل قال عن ذاته { قل هو الله أحد . الله الصمد . لم يلد و لم يولد . ولم يكن له كفوا أحد } و قالت الجن { وأنه تعالى جدّ ربنا ما اتخذ صاحبة و لا ولدا }, فأقام الله الحجة على خلقه فيما بينهم و حجته داحضة وأقامها على المفترين الذين يقولون على الله كذبا .
قال بن العربي (2) في قوله تعالى { وما جعل أدعياءكم أبناءكم }
كان الرجل يدعو الرجل ابنا إذا ربّاه كأنه تبناه أي يقيمه مقام الابن , فردّ الله عليهم قولهم , لأنهم تعدوا به إلى أن قالوا : المسيح ابن الله , وإلى أن يقولوا زيد بن محمد , فمسخ الله هذه الذريعة , وبت حبلها , وقطع وصلها بما أخبر من إبطال ذلك.ا.هـ.
من ادّعى إلى غير أبيه مستحلا ذلك وهو يعلم أنه غير أبيه
أخرج الإمام مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه (113) أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " لا ترغبوا عن آبائكم , فمن رغب عن أبيه فهو كفر " .
وعنده (114) عن سعد بن أبي وقاص قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول " من ادّعى أبا في الإسلام غير أبيه , يعلم أنه غير أبيه فالجنة عليه حرام "
__________
(1) تفسير القرطبي 14\154
(2) في أحكام اقرآن 3\511(1/16)
قال الإمام النووي (1) و أما قوله صلى الله عليه وسلم " فالجنة عليه حرام " ففيه التأويلان اللذان قدمناهما في نظائره :
أحدهما : أنه محمول على من فعله مستحلا له .
و الثاني : أن جزاءه أنها محرمة عليه أولا عند دخول الفائزين و أهل السلامة ثم إنه قد يجازى فيمنعها عند دخولهم , ثم يدخلها بعد ذلك , وقد لا يجازى بل يعفو الله سبحانه و تعالى عنه , ومعنى حرام : ممنوعة , و معنى رغب عن أبيه أي ترك الانتساب إليه و جحده , يقال رغبت عن الشيء تركته و كرهته و رغبت في الشيء اخترته و طلبته ا.هـ.
وهل يدعو غير ابنه " ابني " ؟
قال بن كثير في التفسير (2) فأما دعوة الغير ابنا على سبيل التكريم والتحبيب فليس مما نهى عنه في هذه الآية بدليل ما رواه الإمام أحمد(3)وأهل السنن إلا الترمذي من حديث سفيان الثوري عن سلمة بن كهيل عن الحسن العرني عن ابن عباس رضي الله عنهما قال قدمنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم أغيلمة بني عبد المطلب على جمرات لنا من جمع فجعل يلطخ أفخادنا ويقول أبيني لا ترموا الجمرة حتى تطلع الشمس قال أبو عبيدة وغيره أبيني تصغير بني وهذا ظاهر الدلالة فان هذا كان في حجة الوداع سنة عشر وقوله ( ادعوهم لآبائهم ) في شأن زيد بن حارثة رضي الله عنه وقد قتل في يوم مؤتة سنة ثمان وأيضا ففي صحيح مسلم ( 2151 ) من حديث أبي الوضاح بن عبد الله اليشكري عن الجعد أبي عثمان البصري عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم يا بني ورواه أبو داود ( 4964 ) والترمذي ( 2831 ).
الفصل الثالث
كلمة في رضاع الكبير
تمهيد
__________
(1) 1\329
(2) 3\483
(3) 1/234(1/17)
قبل أن نتكلم في مسألة رضاع الكبير يحسن بنا أن ننوه على أمر هام و مفيد لطالب العلم و للعامي على حد سواء , إذ أن سوء فهمه قد يؤدي إلى خلط , مقصود أو غير مقصود , و قد يؤدي إلى محاذير و عواقب سيئة أو حتى فتنة , عياذا بالله , و ذلك نتيجة سوء الفهم لمقاصد الشرع و أحكامه .
وهذا الخلط يحدث بين مقامات ثلاثة هي : الوعظ و الحكم الفقهي و الفتوى . وهذه المقامات قد لا يحسن البعض التفريق بينها أو يظن أنها جميعا بمعنى واحد و تؤدي نفس الغرض و الأمر ليس كذلك في الحقيقة , بل كل مقام من تلك المقامات له مقال و له فهم خاص به و له فقهه , فليس كل واعظ فقيه و ليس كل فقيه مفتي و ليس كل مفتي واعظ , فقد يحسن المفتي الفتيا و لا يحسن الخطابة و قد يحسن الفقيه علم الأحكام و لكنه لا يقدر على الفتيا , إذ كل مقام من تلك المقامات له شروط وواجبات لابد منها .
ونحن لن نخوض في شروط هذه المقامات و لا واجباتها , فهذا مذكور في مظانه و لكننا سننوه في عجاله على الفرق بين هذه المقامات الثلاثة حتى لا يحدث خلط أو يحدث سوء فهم لواعظ أو فقيه أو مفتي حين يتكلم في مسألة ما قد يظن البعض أنها من أخطائه و ليس الأمر كذلك , وكم من رجل من أهل العلم قد ابتلي بهذا في الأزمان السابقة , بدءا بخير الورى و رحمة الناس للعالمين و السراج المنير محمد بن عبد الله صلى الله عليه و سلم الذي شك الصحابة في انفسهم لما رضي بشروط صلح الحديبية المعروفة و قبل منها ما لا يكاد يتصور عند أغلب الصحابة حتى أن أكابر الصحابة أخذ منهم في ذلك ما قرب و ما بعد كعمر رضي الله عنه إذ أنه لم يكد يتصور أن يكون في موقف أدنى من ذلك !
ولكنّ الله سماه فتحا , وأنزلت فيه سورة الفتح , وهنا لم يفرّق عمر رضي الله عنه بين مقام الفتوى التي قد يضطّر إليها المفتي أو القاضي أو الحاكم و بين الحكم العام الذي هو أن دين الإسلام مهيمن و لا يمكن أن نقبل الدنية في ديننا .(1/18)
مع العلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يخالف شرع ربه في أي من هذه الشروط و إلا ما قبلها أبدا و هذا معلوم و لكنه رضي بأقل ما يمكن قبوله .
و هذا مقام عال جدا لا يحسن أن يخوض فيه أحداث الأسنان في دين الله , ولا يكون إلا لراسخ في العلم , متقن له , عالم بمقاصد الشرع و أدلته و علله و فاهم للواقع فهما دقيقا جدا .
فمقام الفتوى , يحتاج من الفهم و العلم و فهم الواقع ما لا يتخيل أحد من العوام أو من صغار طلبة العلم أنه يحتاجه , لأن الحكم الشرعي وحده و إن كان فيه ما فيه من الأدلة و أقوال الجمهور قد لا يصار إليه حين الفتوى , إذ هناك مرجحات أخر كحالات الضرورة أو المقامات الخاصة جدا أو غير ذلك مما هو معلوم لأهل هذا الاختصاص , بل قد يخالف المفتي مذهبه الذي تمذهب عليه إلى مذهب أخر حين الفتوى , و ليس معنى أن الشخص ملم بالأحكام الفقهية أنه صالح لأن يفتي , ولا يقول أحدا بهذا أبدا من أهل العلم , فهذا المقام يحتاج إلى فهم للأدلة و تمحيص للمسألة و لمن يسألها وحاله و مكان الفتوى و زمنها و غير ذلك .
والفتيا قد تختلف من شخص لآخر مع أن السؤال قد يكون هو هو , وهذا يعلمه أهل العلم جيدا , والله تعالى أعلم .
أما مقام الحكم الشرعي فهو مقام لابد منه لطالب العلم و للمفتي و للفقيه , فلابد ان يعلم أحكام الطهارة و الصلاة و الزكاة و الحج و غير ذلك , والواعظ من الأفضل أن يكون ملما بتلك الأحكام , حتى يكون كلامه حسنا و مكتملا , ألا و إنه قد يختلف الواعظ عن الفقيه في أشياء كحسن الأداء مثلا , وأن يكون لديه ملكة الخطابة و التأثير , وغير ذلك .
و لنذكر مثالا ليعلم ما هو الفرق بين الواعظ و الفقيه حتى يتبين المراد من كلامنا و بالله التوفيق ..(1/19)
فغسل الجمعه مثلا حكمه الفقهي أنه مستحب و ليس بواجب , فالفقيه يعلم ذلك و يعلم أدلة القائلين بالوجوب و القائلين بالاستحباب و يعلم الراجح من الأقوال أما الواعظ فيعلم أن غسل الجمعة واجب على كل مسلم يحضر إلى الجمعة لا وجوب الجكم الشرعي , الذي يثاب فاعله و يأثم تاركه , و لكن وجوب الاتباع و التنظف و ضرورة الفعل لأنها سنة النبي صلى الله عليه و آله وسلم , فيقول في خطبته مثلا " و لابد من الغسل يوم الجمعة و لا يصلح أن تأتي الى الجمعة من دون أن تغتسل ..الخ " أما الفقيه إذا سأل عن هذا فيقول " حكم هذا الاستحباب و ليس بواجب و الأفضل فعله و الدليل كذا و كذا .." , وهكذا سائر الأمر .
و ما ذكرناه لابد منه حتى لا يخلط أحد بين تلكم المقامات , وهذا مما يحتاج إليه الناس في هذه الأيام لأنهم قد يسمعون المئات ممن يتكلمون في دين الله إما بعلم أو بغير علم , و قد يسمع في المسألة الواحدة أكثر من قول فلا يحسن يفرّق بينها و قد يكون اختلاف القول في المسألة الواحدة باختلاف المقامات الثلاثة و قد يكون غير ذلك , و المسألة التي سنخوض فيها الآن إن شاء الله , هي من هذه المسائل التي يحتاج فيها إلى التفريق بين مقام الفتيا و مقام الحكم الشرعي حتى لا نسيء فهم أحد من أهل العلم و الفضل و حتى لا نخلط بين أمور يحسن بنا أن نفرق بينها , والموفق من وفقه الله .
قال الإمام مسلم : (حديث 1453):(1/20)
حدثنا عمرو الناقد و ابن أبي عمر قالا حدثنا سفيان بن عيينة عن عبد الرحمن بن القاسم عن أبيه عن عائشة قالت : جاءت سهلة بنت سهيل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت : يا رسول الله إني أرى في وجه أبي حذيفة من دخول سالم (وهو حليفه أي سالم مولى لأبي حذيفة) فقال النبي صلى الله عليه وسلم " أرضعيه " وفي رواية " أرضعيه تحرمي عليه و يذهب الذي في نفس أبي حذيفة " قالت : وكيف أرضعه و هو رجل كبير , فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال " قد علمت أنه رجل كبير " وفي رواية ( فرجعت فقالت : إني قد أرضعته فذهب الذي في نفس أبي حذيفة ) .
حديث رضاع الكبير هذا من الأحاديث التي كذّب بها من لا علم له و لا دين كما هو الحال في هذه الأيام مع أي حديث يرى من لا عقيدة له أنه يخالف عقله أو يخالف كما يزعم الحقيقة العلمية فيردّه و يردّ ما فيه بدعوى أنه مخالف للعقل و لا حول و لا قوة إلا بالله .
و حاصل الأمر أن رضاع الكبير هل يحرّم ما يحرّم الرضاع في الصغر(وهو ما دون السنتين على الراجح من أقوال أهل العلم ) ؟, و المسألة لو ردت إلى الله و رسوله لكان ذلك خيرا وأحسن تأويلا .
أولا : لم ير أحد من الصحابة رضوان الله عليهم أن رضاع الكبير (يحرّم) غير عائشة رضي الله عنها , وخالفها في ذلك سائر أزواج النبي صلى الله عليه وسلم ..
فقد أخرج النسائي(1) عن ابن شهاب عن عروة قال : أبى سائر أزواج النبي صلى الله عليه وسلم أن يدخل عليهنّ بتلك الرضعة أحد من الناس ( يريد رضاعة الكبير ) وقلن لعائشة : والله ما نرى الذي أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم سهلة بنت سهيل إلا رخصة في رضاعة سالم وحده من رسول الله صلى الله عليه وسلم و الله لا يدخل علينا أحد بهذه الرضعة و لا يرانا .
__________
(1) 6\106)(1/21)
وأخرج الترمذي حديث (1)عن أم سلمة أنها قالت :قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " لا يحرّم من الرضاعة إلا ما فتق الأمعاء في الثدي وكان قبل الفطام ".
وهذا حديث صحيح , يفيد أن سائر أزواج النبي صلى الله عليه وسلم عددن ما جوّزه رسول الله صلى الله عليه وسلم لسهلة خاص بسالم فقط لا يتعداه لأحد غيره.
ثانيا : جمهور الصحابة رضوان الله عليهم متفقون مع سائر أزواج النبي صلى الله عليه وسلم على أن هذا الرضاع إنما هو خاص بمولى أبي حذيفة وكذلك ما ثبت عن التابعين ..
(1) أخرج مالك في الموطأ (603) عن نافع عن بن عمر أنه قال : لا رضاعة إلا لمن أرضع في الصغر , ولا رضاعة لكبير .صحيح.
(2) وأخرج عبد الرزاق (7\465) عن بن عيينة عن عمرو بن دينار عن ابن عبّاس أنه كان يقول : لا رضاع إلا ما كان في الحولين .صحيح.
(3) و أخرج مالك في الموطأ (606) عن عبد الله بن دينار قال : جاء رجل إلى بن عمر و أنا معه عند دار القضاء يسأله عن رضاعة الكبير ...
فقال بن عمر : جاء رجل إلى عمر بن الخطاب فقال : كانت لي وليدة فكنت أطؤها فعمدت إمرأتي إليها فأرضعتها , فدخلت عليها.. فقالت : دونك فقد والله أرضعتها (أي أن امرأته كانت ترى أن رضاع الكبير يحرّم فلذلك أرضعت الأمة حتى لا يدخل عليها زوجها ).
فقال عمر رضي الله عنه : أوجعها (أي أوجع امرأتك عقابا لها على فعلتها تلك ) وائت جاريتك فإنما الرضاع رضاع الصغر .صحيح.
(4) وأخرج بن أبي شيبة (17045) قال: حدثنا حفص عن الشيباني عن أبي الضحى عن أبي عبد الرحمن عن ابن مسعود قال : لا رضاع إلا ما كان في الحولين.
(5) وعن ابن مسعود عند ابن أبي شيبة (17023) قال : حدثنا أبو معاوية عن اسماعيل عن أبي عمرو الشيباني عن عبد الله قال : إنما يحرم من الرضاع ما أنبت اللحم و أنشر العظم .(أي في الصغر ).صحيح.
__________
(1) 1162 مع تحفة ألأحوذي)(1/22)
(6) وأخرج عبد الرزاق (7\463) عن الثوري عن أبي حصين عن أبي عطية الوادعي قال : جاء رجل إلى بن مسعود رضي الله عنه فقال إنها كانت معي امرأتي فحصر لبنها في ثديها فجعلت أمصه ثم أمجه , فأتيت أبا موسى فسألته فقال : حرمت عليك (أي أن امرأته حرمت عليه ) .. قال : فقام و قمنا حتى انتهى إلى أبي موسى , فقال (ابن مسعود) : ما أفتيت هذا ؟ فأخبره بالذي أفتاه , فقال بن مسعود و أخذ بيد الرجل : أرضيعا ترى هذا ؟( أي أترى هذا صغيرا رضيعا حتى تحكم فيه أن برضاعه قد حرّم على مرضعته , أي أن بن مسعود لا يرى أن الرضاع يحرّم إلا ما كان في الصغر ) .. إنما الرضاع ما أنبت اللحم و الدم , فقال أبو موسى : لا تسألوني عن شيء ما كان هذا الحبر بين أظهركم .صحيح.
(7) وروى مالك في الموطأ (604) عن يحيى بن سعيد أنه قال سمعت سعيد بن المسيب يقول : لا رضاعة إلا ما كان في المهد , وإلا ما أنبت اللحم و الدم . صحيح الاسناد الى بن المسيّب.
ومن التابعين أثر علقمة الذي أخرجه بن جرير الطبري , وفيه أن علقمة رأى امرأة ترضع بعد حولين , فقال لا ترضعيه .
وكذلك أثر الشعبي قال : كل سعوط (الدواء يوضع في الأنف) أو وجور (الدواء يوضع في الفم ) أو رضاع يرضع قبل الحولين فهو يحرّم , وما كان بعد الحولين فلا يحرّم . (قال عبد الرزاق (المصنف) : والناس على هذا ) و الأثر أخرجه عبد الرزاق و سعيد بن منصور و بن جرير الطبري بسند صحيح .(أنظر جامع أحكام النساء للعدوي ص 72 و ما بعدها )
ثالثا : من أقوال أهل العلم في رضاع الكبير ..(1/23)
قال بن كثير رحمه الله في تفسير آية { والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين لمن أراد أن يتم الرضاعة } : قال .. هذا إرشاد من الله تعالى للوالدات أن يرضعن أولادهن كمال الرضاعة و هي سنتان فلا اعتبار بالرضاعة بعد ذلك ولهذا قال لمن أراد أن يتم الرضاعة وذهب أكثر الأئمة إلى أنه لا يحرم من الرضاعة إلا ما كان دون الحولين فلو ارتضع المولود وعمره فوقهما لم يحرم .. إلى أن قال : والقول بأن الرضاعة لا تحرم بعد الحولين يروى عن ( بن عباس و علي و بن مسعود وجابر و أبو هريرة و بن عمر و أم سلمة و سعيد بن المسيب و عطاء و الجمهور و هو مذهب الشافعي و أحمد و إسحاق و الثوري و أبو يوسف و محمد الشيباني ومالك في رواية و عنه أنه سنتان و شهران و في رواية و ثلاثة أشهر و قال أبو حنيفة سنتان و ستة أشهر ..الخ ) ا.هـ
وكذا قال القرطبي في تفسيره للآية قال : انتزع مالك ومن تابعه وجماعة من العلماء من هذه الآية أن الرضاعة المحرمة الجارية مجرى النسب إنما هي ما كان في الحولين , لأن بانقضاء الحولين تمت الرضاعة , ولا رضاعة بعد الحولين معتبرة هذا قوله في موطئه .
وقال مالك في الموطأ : الرضاعة قليلها و كثيرها إذا كان في الحولين يحرّم . فأمّا ما كان بعد الحولين , فإن قليله و كثيره لا يحرّم شيئا , وإنما هو بمنزلة الطعام(1).
وقال الإمام الشافعي في الأم (2) والدلالة على الفرق بين الصغير و الكبير موجودة في كتاب الله عز وجل , قال الله تعالى { والوالدات يرضعن أولادهنّ حولين كاملين لمن أراد أن يتم الرضاعة } فجعل الله عز و جل تمام الرضاعة حولين كاملين .ا.هـ.
__________
(1) الموطأ 374)
(2) 5\40)(1/24)
وقال الإمام النووي (1) واختلف العلماء في هذه المسألة فقالت عائشة و داود (الظاهري , وتبعه بن حزم في ذلك : محمود ) : تثبت حرمة الرضاع برضاع البالغ كما تثبت برضاع الطفل بهذا الحديث ( أي حديث سهلة المتقدم ) وقال سائر العلماء من الصحابة و التابعين و علماء الأمصار إلى الآن : لا يثبت التحريم إلا بارضاع من له دون سنتين إلا أبا حنيفة قال : سنتين و نصف و قال زفر : ثلاث سنين . و عن مالك رواية : سنتين و أيام .. واحتج الجمهور بقوله تعالى { والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين لمن أراد أن يتم الرضاعة } و بالحديث الذي ذكره مسلم بعد هذا : (( إنما الرضاعة من المجاعة )) وبأحاديث مشهورة , وحملوا حديث سهلة على أنه مختص بها و بسالم , وقد روى مسلم عن أم سلمة و سائر أزواج النبي صلى الله عليه وسلم أنهن خالفن عائشة في هذا , والله أعلم .
وقال بن قدّامة مثل ما تقدّم في المغني (2) وكذا قال الكاساني في بدائع الصنائع(3), وكذا ذكر الشوكاني في نيل الأوطار (4)
ونقل بن حجر في الفتح (5) عن بعض أهل العلم أن قصة سالم منسوخة و قال بعضهم أنها واقعة عين خاصة بسهلة و بسالم رضي الله عنهما , وقال مثله القرطبي في بداية المجتهد(6).
وأنظر التمهيد لابن عبد البر (4\267) .
ثالثا : فجل أهل العلم من أكابر الصحابة و التابعين وتابعيهم و الأئمة الأربعة و زوجات رسول الله صلى الله عليه وسلم عدا عائشة رضي الله عنها و أهل الظاهر و شيخ الإسلام بن تيمية و بن القيم و الليث بن سعد و عطاء و روي عن علي رضي الله عنه و لا يصح (التمهيد لابن عبد البر 4\266) .
__________
(1) شرح مسلم 3\633)
(2) 7\ 542)
(3) 4\5)
(4) 6\314)
(5) 9\149)
(6) 2\75)(1/25)
أيضا قال الإمام الشافعي في الأم (5\39) بعد أن ذكر حديث سهلة و قول أم سلمة أن هذا في سالم مولى أبي حذيفة خاصة : [ قَالَ الشَّافِعِيُّ ] : وَهَذَا وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ فِي سَالِمٍ مَوْلَى أَبِي حُذَيْفَةَ خَاصَّةً .
[ قَالَ الشَّافِعِيُّ ] : فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ : مَا دَلَّ عَلَى مَا وَصَفْت .
[ قَالَ الشَّافِعِيُّ ] : فَذَكَرْت حَدِيثَ سَالِمٍ الَّذِي يُقَالُ لَهُ مَوْلَى أَبِي حُذَيْفَةَ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ ( عَنْ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَنَّهُ أَمَرَ امْرَأَةَ أَبِي حُذَيْفَةَ أَنْ تُرْضِعَهُ خَمْسَ رَضَعَاتٍ يَحْرُمُ بِهِنَّ ) ، قَالَتْ أُمُّ سَلَمَةَ فِي الْحَدِيثِ وَكَانَ ذَلِكَ فِي سَالِمٍ خَاصَّةً وَإِذَا كَانَ هَذَا لِسَالِمٍ خَاصَّةً فَالْخَاصُّ لاَ يَكُونُ إلَّا مُخْرَجًا مِنْ حُكْمِ الْعَامِّ وَإِذَا كَانَ مُخْرَجًا مِنْ حُكْمِ الْعَامِّ فَالْخَاصُّ غَيْرُ الْعَامِّ وَلاَ يَجُوزُ فِي الْعَامِّ إلَّا أَنْ يَكُونَ رَضَاعُ الْكَبِيرِ لاَ يُحَرِّمُ وَلاَ بُدَّ إذَا اخْتَلَفَ الرَّضَاعُ فِي الصَّغِيرِ وَالْكَبِيرِ مِنْ طَلَبِ الدَّلاَلَةِ عَلَى الْوَقْتِ الَّذِي إذَا صَارَ إلَيْهِ الْمُرْضِعُ فَأَرْضَعَ لَمْ يَحْرُمْ . [ قَالَ ] : وَالدَّلاَلَةُ عَلَى الْفَرْقِ بَيْنَ الصَّغِيرِ وَالْكَبِيرِ مَوْجُودَةٌ فِي كِتَابِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ . قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلاَدَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ } فَجَعَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ تَمَامَ الرَّضَاعِ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ . وَقَالَ { فَإِنْ أَرَادَا فِصَالاً عَنْ تَرَاضٍ مِنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا } يَعْنِي وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ قَبْلَ الْحَوْلَيْنِ فَدَلَّ عَلَى أَنَّ إرْخَاصَهُ عَزَّ(1/26)
وَجَلَّ فِي فِصَالِ الْحَوْلَيْنِ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ إنَّمَا يَكُونُ بِاجْتِمَاعِهِمَا عَلَى فِصَالِهِ قَبْلَ الْحَوْلَيْنِ وَذَلِكَ لاَ يَكُونُ وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ إلَّا بِالنَّظَرِ لِلْمَوْلُودِ مِنْ وَالِدَيْهِ أَنْ يَكُونَا يَرَيَانِ أَنَّ فِصَالَهُ قَبْلَ الْحَوْلَيْنِ خَيْرٌ لَهُ مِنْ إتْمَامِ الرَّضَاعِ لَهُ لِعِلَّةٍ تَكُونُ بِهِ أَوْ بِمُرْضِعَتِهِ وَأَنَّهُ لاَ يَقْبَلُ رَضَاعَ غَيْرِهَا أَوْ مَا أَشْبَهَ هَذَا . وَمَا جَعَلَ اللَّهُ تَعَالَى لَهُ غَايَةً بِالْحُكْمِ بَعْدَ مُضِيِّ الْغَايَةِ فِيهِ غَيْرَهُ قَبْلَ مُضِيِّهَا . فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ وَمَا ذَلِكَ ؟ قِيلَ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنْ الصَّلاَةِ } الْآيَةُ فَكَانَ لَهُمْ أَنْ يَقْصُرُوا مُسَافِرِينَ وَكَانَ فِي شَرْطِ الْقَصْرِ لَهُمْ بِحَالٍ مَوْصُوفَةٍ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ حُكْمَهُمْ فِي غَيْرِ تِلْكَ الصِّفَةِ غَيْرُ الْقَصْرِ . وَقَالَ تَعَالَى { وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاَثَةَ قُرُوءٍ } فَكُنَّ إذَا مَضَتْ الثَّلاَثَةُ الْأَقْرَاءُ فَحُكْمُهُنَّ بَعْدَ مُضِيِّهَا غَيْرُ حُكْمِهِنَّ فِيهَا .(1/27)
[ قَالَ الشَّافِعِيُّ ] : فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ فَقَدْ قَالَ عُرْوَةُ قَالَ غَيْرُ عَائِشَةَ مِنْ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مَا نَرَى هَذَا مِنْ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إلَّا رُخْصَةً فِي سَالِمٍ . قِيلَ : فَقَوْلُ عُرْوَةَ عَنْ جَمَاعَةِ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- غَيْرِ عَائِشَةَ لاَ يُخَالِفُ قَوْلَ زَيْنَبَ عَنْ أُمِّهَا أَنَّ ذَلِكَ رُخْصَةٌ مَعَ قَوْلِ أُمِّ سَلَمَةَ فِي الْحَدِيثِ هُوَ خَاصَّةً وَزِيَادَةُ قَوْلِ غَيْرِهَا مَا نَرَاهُ إلَّا رُخْصَةً مَعَ مَا وَصَفْت مِنْ دَلاَلَةِ الْقُرْآنِ وَإِنِّي قَدْ حَفِظْت عَنْ عِدَّةٍ مِمَّنْ لَقِيت مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنَّ رَضَاعَ سَالِمٍ خَاصٌّ . فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ : فَهَلْ فِي هَذَا خَبَرٌ عَنْ أَحَدٍ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِمَا قُلْت فِي رَضَاعِ الْكَبِيرِ ؟ قِيلَ نَعَمْ : أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ أَنَسٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ قَالَ جَاءَ رَجُلٌ إلَى ابْنِ عُمَرَ وَأَنَا مَعَهُ عِنْدَ دَارِ الْقَضَاءِ يَسْأَلُهُ عَنْ رَضَاعَةِ الْكَبِيرِ فَقَالَ ابْنُ عُمَرَ جَاءَ رَجُلٌ إلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ فَقَالَ كَانَتْ لِي وَلِيدَةٌ فَكُنْت أَطَؤُهَا فَعَمَدَتْ امْرَأَتِي إلَيْهَا فَأَرْضَعَتْهَا فَدَخَلْت عَلَيْهَا فَقَالَتْ دُونَك فَقَدْ وَاَللَّهِ أَرْضَعْتهَا . فَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ أَوْجِعْهَا وَائْتَ جَارِيَتَك فَإِنَّمَا الرَّضَاعُ رَضَاعُ الصَّغِيرِ . أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ لاَ رَضَاعَ إلَّا لِمَنْ أَرْضَعَ فِي الصِّغَرِ أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ أَنَّ أَبَا مُوسَى قَالَ رَضَاعَةُ الْكَبِيرِ مَا أَرَاهَا إلَّا(1/28)
تُحَرِّمُ فَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ اُنْظُرْ مَا يُفْتِي بِهِ الرَّجُلُ فَقَالَ أَبُو مُوسَى فَمَا تَقُولُ أَنْتَ ؟ فَقَالَ لاَ رَضَاعَةَ إلَّا مَا كَانَ فِي الْحَوْلَيْنِ فَقَالَ أَبُو مُوسَى لاَ تَسْأَلُونِي عَنْ شَيْءٍ مَا كَانَ هَذَا الْحَبْرُ بَيْنَ أَظْهُرِكُمْ .
[ قَالَ الشَّافِعِيُّ ] : فَجِمَاعُ فَرْقِ مَا بَيْنَ الصَّغِيرِ وَالْكَبِيرِ أَنْ يَكُونَ الرَّضَاعُ فِي الْحَوْلَيْنِ فَإِذَا أُرْضِعَ الْمَوْلُودُ فِي الْحَوْلَيْنِ خَمْسَ رَضَعَاتٍ كَمَا وَصَفْت فَقَدْ كَمُلَ رَضَاعُهُ الَّذِي يُحَرِّمُ .
.
رابعا : مناقشة مذهب عائشة رضي الله عنها ورأي شيخ الإسلام بن تيمية في المسألة
نورد أولا ما صحّ عن عائشة رضي الله عنها في هذه المسألة :
(1) حديث سالم المتقدم وهو العمدة لديها .
(2) هناك أثر عن عائشة , أخرجه البغوي في المسند (1) أخبرنا شعبة عن الحكم سمعت قيس بن أبي حازم و أبا الشعثاء عن عائشة قالت : يحرم من الرضاع ما أنبت اللحم و الدم ( قال صاحب آثار الصحابة في الفقه(2) صحيح , وهذا الأثر الصحيح عن عائشة يفيد أنها هنا أقرّت أن الرضاع إنما يحرم إذا كان ينبت اللحم و الدم وهذا في الصغر و هذا صريح جدا منها .
(3) وأكثر صراحة من ذلك أنها روت حديث "إنما الرضاعة من المجاعة " وهو حديث متفق عليه(3)
وفيه أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل عليها وعندها رجل قاعد فاشتدّ ذلك عليه ورأت الغضب في وجهه فقالت : يا رسول الله إنه أخي من الرضاعة , فقال النبي صلى الله عليه وسلم " انظرن أخوتكنّ من الرضاعة فإنما الرضاعة من المجاعة " .
__________
(1) 175)
(2) ج3 ص 1067
(3) البخاري 5102 \ مسلم 3679)(1/29)
(4) ولها مناقشة مع أم سلمة في ذلك وهو ما أخرجه أحمد (25291) من طريق محمد بن جعفر قال : ثنا شعبة عن حميد بن نافع عن زينب بنت أم سلمة قالت أم سلمة لعائشة : إنه يدخل عليك الغلام الأيفع الذي ما أحب أن يدخل علي , فقالت عائشة : أما لك في رسول الله أسوة حسنة ؟, قالت : إن امرأة أبي حذيفة قالت : يا رسول الله إن سالما يدخل علي وهو رجل وفي نفس أبي حذيفة منه شيء , فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "أرضعيه حتى يدخل عليك ".وهذا اسناد صحيح.
(5) وقد روت عائشة حديث أن خمس رضعات معلومات يحرمنّ كما في صحيح مسلم (1452) قال: حدثنا يحيى بن يحيى قال قرأت على مالك عن عبد الله بن أبي بكر عن عمرة عن عائشة أنها قالت : كان فيما أنزل من القرآن عشر رضعات معلومات يحرّمن , ثم نسخن بخمس معلومات فتوفي الرسول صلى الله عليه وسلم وهن فيما يقرأ من القرآن .
ثم انها كانت لا تدخل عليها أحدا إلا بعشر رضعات وهو مخالف لما روت .
أخرج مالك في الموطأ (603) عن نافع عن سالم بن عبد الله بن عمر أخبره أن عائشة أم المؤمنين أرسلت به وهو يرضع إلى أختها أم كلثوم بنت أبي بكر الصديق فقالت أرضعيه عشر رضعات حتى يدخل علي , قال سالم فأرضعتني أم كلثوم ثلاث رضعات ثم مرضت فلم ترضعني غير ثلاث رضعات فلم أكن أدخل على عائشة من أجل أن أم كلثوم لم تتم لي عشر رضعات .(1/30)
فكما ترى أن هناك تعارض بين ما روت عائشة رضي الله عنها و بين ما تفعل , فروت أن خمس رضعات يحرمن و لكنها لم تكن تدخل عليها أحد إلا بعشر و صحّ عنها أيضا سبع رضعات يحرمن , وللعلماء ردود على ذلك , فمنهم من ردّ فتواها في العشر و السبع و تمسك بظاهر ما روته كما في صحيح مسلم(1452) و قال العبرة بما روت لا بما رأت و فهمت , وهذا هو ما نرجحه إذا تعارض قول أو فعل الصحابي مع روايته للحديث لأن المصير إلى كلام النبي صلى الله عليه وسلم أولى و أحكم و أحسن تأويلا , ومنهم من قال أنها رجعت عن فتواها إلى أصل ما روت , فالله أعلم.
أما بالنسبة لمسألة رضاع الكبير , فقد رأت أنها تعمل بحديث سالم , مع أنها روت حديث " إنما الرضاعة من المجاعة " , فربما هي فهمت أن العبرة ليست هنا بما يشبع الرضيع و لكن العبرة هي الامتثال للأمر و أن هذا النوع من الرضاع يجوز إن أحتيج إلى أن يكون هذا الرضيع محرم , و هذا ما ذكره شيخ الإسلام بن تيمية في فتواه فقال (34\39) بعد أن ذكر قول الجمهور وهو أن رضاع الكبير لا يحرم(1/31)
" وقد ذهب طائفة من السلف والخلف إلى أن إرضاع الكبير يحرم . واحتجوا بما في صحيح مسلم وغيره عن زينب بنت أم سلمة أن أم سلمة قالت لعائشة : إنه يدخل عليك الغلام الأيفع الذي ما أحب أن يدخل على، فقالت عائشة : أمالك في رسول الله أسوة حسنة ؟ ! قالت : إن امرأة أبي حذيفة قالت : يا رسول الله، إن سالما يدخل على وهو رجل في نفس أبي حذيفة منه شيء ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( أرضعيه حتى يدخل عليك ) ، وفي رواية لمالك في الموطأ قال : ( أرضعيه خمس رضعات ) فكان بمنزلة ولده من الرضاعة . وهذا الحديث أخذت به عائشة وأبى غيرها من أزواج النبي صلى الله عليه وسلم أن يأخذن به مع أن عائشة روت عنه قوله : ( الرضاعة من المجاعة ) لكنها رأت الفرق بين أن يقصد رضاعة أو تغذية . فمتى كان المقصود الثاني لم يحرم إلا ما كان قبل الفطام . وهذا هو إرضاع عامة الناس . وأما الأول فيجوز إن احتيج إلى جعله ذا محرم . وقد يجوز للحاجة ما لا يجوز لغيرها، وهذا قول متوجه . ا.هـ."
فهذا هو وجه عائشة والله أعلم , كما ذكر شيخ الإسلام بن تيمية ورجحه , ولكن أيضا على الجانب الآخر نجد أنه قد عارض عائشة أكابر الصحابة ممن هم مستأمنون على دين الله ومحال أن يجتمعوا على فتوى إلا وكانوا ملمين بها , ومحال أن يقال أن خبر سالم لم يبلغهم فالقصة أشهر من ذلك وقد صحت الفتوى عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه وهو من هو و صحّت عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه (1) و عبد الله بن مسعود و عبد الله بن عباس و أبي موسى الأشعري و ابن عمر و أبي هريرة و سائر أمهات المؤمنين .
__________
(1) التمهيد 4\266)(1/32)
وفي الحقيقة من الصعب أن يترك قول هؤلاء كلهم إلى قول عائشة رضي الله عنها وقد سار على نهجهم جمهور التابعين و أتباعهم , وصاروا إلى المحكم من الحديث أن " الرضاعة من المجاعة " و أنه " لا يحرّم من الرضاعة إلا ما فتق الأمعاء في الثدي و كان قبل الفطام " وهذا هو حديث أم سلمة عند الترمذي (1)وهو صحيح أيضا , وهذا وجه من أراد الجمع بين حديثين ظاهرهما التعارض أن يعمل بأصحهما وهو المحكم و يترك المتشابه و يؤوله , كما حدث مع أزواج النبي صلى الله عليه و آله وسلم لما تأولن حديث سالم وقلن هو رخصة له وحده .
هذا وإن كان الظاهر من الأثار المذكورة آنفا عن عمر و ابن مسعود و ابن عمر أن الناس في زمانهم كانوا يأخذون أحيانا بمذهب عائشة أو فتواها , إلا أن أكابر الصحابة ردّوا ذلك عليهم وهذا مما يدل على أنهم كانوا على علم بقصة سالم و لا ريب , إذ لم يذكر أنهم سألوهم من أين أخذتم بهذا الحكم ؟ أو من أين عرفتموه ؟ فدلّ على أنهم كانوا يعلمونه يقينا ألا و إنهم يخالفونه إلى المحكم من الأحاديث, و الله أعلم .
__________
(1) 1162 مع التحفة )(1/33)
هذا و قد سرد ابن القيم (1)حجج القائلين بهذا و ذاك فمن شاء الاستزاده رجع إليها هنالك فقد أجاد و أفاد رحمه الله كعادته في سرد المسائل الخلافية , و رجّح هو قول شيخ الإسلام بن تيمية أن هذا انما يكون رخصة للحاجة فقال رحمه الله " المسلك الثالث أن حديث سهلة ليس بمنسوخ و لا مخصوص و لا عام في حق كل واحد و إنما هو رخصة للحاجة لمن لا يستغني عن دخوله على المرأة ويشق احتجابها عنه كحالي سالم مع امرأة أبي حذيفة فمثل هذا الكبير إذا أرضعته للحاجة أثر رضاعه و أما من عداه فلا يؤثر إلا رضاع الصغير و هذا مسلك شيخ الإسلام بن تيمية رحمه الله و الأحاديث النافية للرضاع في الكبير اما مطلقة فتقيد بحديث سهلة أو عامة في الأحوال فتخصص هذه الحال من عمومها وهذا أولى من النسخ و دعوى التخصيص لشخص بعينه و أقرب إلى العمل بجميع الأحاديث من الجانبين و قواعد الشرع تشهد له و الله الموفق " ا.هـ.
وهذا , ما قاله ابن القيم و ابن تيمية من قبله رحمهما الله تعالى , يؤيد ما ذكرناه في أول هذا المبحث وهو أن الفتوى قد تحتاج أحيانا إلى نصّ مثل هذا , وأن هناك حالات خاصة أو حرجة قد يحتاج البعض إلى مثلها , مثل ما في بحثنا هذا : لو أن يتيما بلا مأوى مثلا أو لقيطا كفله شخص ما في منزله و هو فوق السنتين من عمره أو قد أشرف على البلوغ أو حتى بلغ , هل له أن ترضعه امرأته فتحرم عليه ويكون أبناء هذا الشخص أخوة لهذا اليتيم أو اللقيط من الرضاعة ؟
فقد يصار إلى ذلك حينها و نستدلّ بقصة سالم , ويكون هذا مقام المسألة أنها مستحلة في حالات خاصة جدا , لا يقدرها إلا عالم مفتي يعلم قدر المسألة و قدر المستفتي و قدر الفتوى .
والخلاصة .. أنه لو قال قائل أن هذه المسألة واقعة عين خاصة لسالم ولا تتعدى لمخلوق بعده, قلنا على العين و الرأس و لك في ذلك سلف .
__________
(1) زاد المعاد 4 \257 وما بعدها)(1/34)
و إن قال آخر بل هذا يصار إليه عند الضرورة القصوى و لا يعتبر الحكم عام في حق كل واحد , كان له في ذلك سلف , والله تعالى أعلم .
القسم الثاني
الفصل الأول
فقه تربية الأيتام (الكفالة التربوية )
قوله عليه الصلاة و السلام إنما الأعمال بالنيات
عن أمير المؤمنين أبي حفص عمر بن الخطاب رضي الله عنه ، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إنما الأعمال بالنيات ، وإنما لكل امرئ ما نوى ، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله ، ومن كانت هجرته لدنيا يصيبها أو امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه).(1)
هذا الحديث أصل عظيم من أصول الإسلام و الإيمان يدخل في جل أبواب الفقه و الإيمان , وإنما بدأنا به ليعلم المقدم على كفالة اليتيم و اللقيط أن عمله في ذلك إنما هو على حسب نيته , فإن كان عمله لله خالصا فسيجزيه الله أحسن مما عما و إن كان غير ذلك , فلا يلومنّ إلا نفسه .. في الدنيا و الآخرة .
معنى الكفالة
و خطأ فهم حديث " أنا و كافل اليتيم في الجنة .."
الكفالة .. من فعل ( كفل ) : أي ضمن , و يقال كفل الرجل و بالرجل أي ضمنه .
و كفل الصغير : أي ربّاه و أنفق عليه , كما قال جل و علا { وكفّلها زكريا }
فالكفالة هي التربية و العناية بالصغير ماليا و تربويا ..
وهذا هو خطأ المجتمع الإسلامي في فهم معنى كفالة اليتيم ..
ففي الحديث (2)عن سهل بن سعد الساعدي قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " أنا و كافل اليتيم في الجنة هكذا " وأشار بإصبعيه السبابة و الوسطى .. أي متقاربين في الجنة .
__________
(1) البخاري حديث رقم 1 و مسلم حديث رقم 5036
(2) أخرجه البخاري(6005)(1/35)
قال بن حجر(1) قال شيخنا في "شرح الترمذي" : لعل الحكمة في كون كافل اليتيم يشبه في دخول الجنة أو شبهت منزلته في الجنة بالقرب من النبي صلى الله عليه وسلم أو منزلة النبي .. لكون النبي شأنه أن يبعث إلى قوم لا يعقلون أمر دينهم فيكون كافلا لهم ومعلما و مرشدا , وكذلك كافل اليتيم يقوم بكفالة من لا يعقل أمر دينه بل و لا دنياه , ويرشده و يعلمه و يحسن أدبه , فظهرت مناسبة ذلك .. ا.هـ. ملخصا.
قلت (محمود) ومنزلة النبي صلى الله عليه و آله و سلم هي أعلى منزلة ينالها مخلوق في الجنة..
كما جاء في الحديث الذي أخرجه مسلم من حديث عبد الله بن عمرو قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثل ما يقول , ثم صلّوا علي , فإنه من صلّ علي صلاة صلّى الله عليه بها عشرا , ثم سلوا الله لي الوسيلة .. فإنها منزلة في الجنة , لا تنبغي إلا لعبد من عباد الله , وأرجو أن أكون أنا هو , فمن سألى لي الوسيلة حلّت عليه الشفاعة " .. فلا يتصور أبدا أن كافل اليتيم تختزل كفالته في الشق المالي الذي هو الانفاق عليه بالتبرعات المادية و العينية وترك أهم جزء من الكفالة وهو تربيته على التوحيد و على منهج الله و سنة رسول الله و حفظ ماله و اتقاء الله فيه و في التصرف في ماله , فشتان بين هذا و ذاك , ولا يتصور أن الحفلات الراقصة و الغنائية التي تجمع التبرعات لهؤلاء و هي أبعد ما يكون عن منهج الله و رسوله هي التي تقرب هؤلاء زلفى من النبي صلى الله عليه و آله وسلم , إذ كيف يتصور من ينفق على هؤلاء اليتامى و اللقّط من حرام ثم يرجو جوار النبي صلى الله عليه وسلم في أعلى درجات الجنة ؟! هذا محال و يأباه الشرع و العقل .
والحديث أيضا أخرجه أبوداود (2) والترمذي (3) وفيه " وقرن بين أصبعيه , أصابعه , الوسطى و التي تلي الابهام " هذا لفظ أبو داود .
__________
(1) في الفتح 10\616
(2) برقم 5139
(3) برقم 1918(1/36)
وفي رواية للبخاري (1) " أنا وكافل اليتيم في الجنة هكذا " و أشار بالسبابة و الوسطى وفرج بينهما شيئا .
والمعنى يدل على شدة قرب المنزلة لكافل اليتيم من النبي صلى الله عليه وسلم , قال العلقمي في رواية " وفرج بينهما شيئا " فيه اشارة إلى أن بين درجة النبي صلى الله عليه وسلم وكافل اليتيم قدر تفاوت ما بين السبابة و الوسطى.
وفي رواية " كهاتين إذا اتقى " أي اتقى الله فيم يتعلق باليتيم , ويحتمل أن يكون المراد سرعة دخول الجنة و وعلو المرتبة . انتهى . قال ابن بطال : حق على من سمع هذا الحديث أن يعمل به ليكون رفيق النبي صلى الله عليه وسلم في الجنة ولا منزلة في الآخرة أفضل من ذلك . (عون المعبود(2) بتصرف.
و حتى توضح صورة الكفالة أكثر يحسن أن نذكّر بمثال من الشرع نبين فيه كيف تكون كفالة اليتيم خاصة و الكفالة بصفة عامة ..
(1) قال تعالى يحكي عن مريم { فتقبلها ربها بقبول حسن وأنبتها نباتا حسنا و كفّلها زكريا }
قال بن كثير رحمه الله في الآية : يخبر ربنا أنه تقبلها من أمها نذيرة و أنه أنبتها نباتا حسنا أي جعلها شكلا مليحا و منظرا بهيجا و يسر لها أسباب القبول و قرنها بالصالحين من عبادة تتعلم منهم العلم و الخير و الدين فلهذا قال { وكفلها زكريا } أي جعله كافلا لها . قال بن إسحق : وما ذلك إلا أنها كانت يتيمة .. ثم قال رحمه الله : و إنما قدّر الله كون زكريا كفلها لسعادتها لتقتبس منه علما جما نافعا وعملا صالحا .. و لأنه كان زوج خالتها على ما ذكره بن إسحاق و بن جرير و غيرهما .ا.هـ.
وهنا تكمن نكتة مهمة:
وهو أن اليتيم (المكفول) يتأثر تأثرا مباشرا بكافله و بشخصية كافله و مما يأخذه منه , لأنه يعتبر المعوّض له عن الأب , و الأم أحيانا, فيكون بمثابة الحياة له أو لها ...
لذلك : من كانت كفالته بالمال فقط شبّ هذا اليتيم حبيبا للمال , إلا من رحم الله !
__________
(1) برقم 5304
(2) 14\45(1/37)
ومن كانت كفالته بسوء الأدب و التربية الفاسدة , شبّ هذا اليتيم كذلك !
ومن كانت كفالته على كتاب الله و على سنة رسول الله , كان اليتيم على كتاب الله و على سنة رسول الله , وهذا هو كافل اليتيم الحق الذي ذكره رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث , وإن لم يشبّ اليتيم صالحا , و لكن الكفيل كان حريصا على ذلك فله الأجر لا شك إن شاء الله !
(2) أما المثال الثاني , أن زيد بن حارثة الذي روي أنه لما كان مولى لرسول الله صلى الله عليه وسلم خيره رسول الله ( ولاحظ أن ذلك قبل أن يبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم نبيا ) بين أن يذهب مع والده أو أن يبقى معه .. فاختار البقاء مع رسول الله صلى الله عليه وسلم , فقال له رسول الله صلى الله عليه و سلم " إن شئت فأقم عند ي و إن شئت فانطلق مع أبيك " قال : بل أقم عندك !... وهذه القصة رواها الطبراني و الهيثمي حسّنها في المجمع(1) و ذكرها بن إسحاق في السيرة , ولا يخفى ما في ذلك .. فلأن زيد رأى من خلق رسول الله صلى الله عليه وسلم و خلق زوجته خديجه رضي الله عنها و تربى على يدي المصطفى و كان معه علي بن أبي طالب رضي الله عنه أيضا في المنزل .. فعلم أنه في بيت شريف ذو خلق رفيع لن يجد مثله فآثره على الرجوع مع أبوه , أي أحب أن يكون مولى في بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم من أن يكون حرا مع أبيه .
لذلك لم تكن أبدا كفالة اليتيم في الإسلام هي الإنفاق و التبرع و اللهو المباح و غير المباح .. نعم الكفالة المالية مطلوبة و لا ننكرها , ولكن هو جزء مكمّل وليس هو كل معنى الكفالة كما بينّا , والله تعالى أعلم .
قوله تعالى { وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلَامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنزٌ لَّهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحاً..} الكهف 82
__________
(1) 9\446)(1/38)
قال القرطبي في تفسيره للآية " ففيه ما يدل على أن الله تعالى يحفظ الصالح في نفسه وفي ولده وإن بعدوا عنه وقد روي أن الله تعالى يحفظ الصالح في سبعة من ذريته؛ وعلى هذا يدل قوله تعالى {إن ولي الله الذي نزل الكتاب وهو يتولى الصالحين } الأعراف : 196 "
وكذا قال بن كثير " فيه دليل على أن الرجل الصالح يحفظ في ذريته وتشمل بركة عبادته لهم في الدنيا والآخرة بشفاعته فيهم ورفع درجتهم إلى أعلى درجة في الجنة لتقر عينه بهم كما جاء في القرآن ووردت به السنة قال سعيد بن جبير عن ابن عباس حفظا بصلاح أبيهما ولم يذكر لهما صلاحا وتقدم أنه كان الأب السابع فالله أعلم"(1)
قوله تعالى وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُواْ مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافاً خَافُواْ عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللّهَ وَلْيَقُولُواْ قَوْلاً سَدِيداً {9}النساء
قال بن كثير في تفسير الآية " كما تحب أن تعامل ذريتك من بعدك فعامل الناس في ذرياتهم إذا وليتهم " .. وهذا تفسير صحيح و سديد , فمن أحب أن يعامل أولاده من الناس بخير معاملة , فليتق الله في أولاد الناس و خاصة اليتامى منهم .. سواء في تربيتهم أو في المحافظة على أموالهم.
وصي اليتيم يكون وصي الأب إن أوصى و إلا فللأم
فإذا أوصى الأب إلى أحد بالولاية على أبنائه كان هو الولي عليهم و إلا فالأم أولى .. وسيأتي الكلام قريبا على مسألة الحضانة ان شاء الله و لمن تكون .
والأم تكون وصية على أيتامها :
ودليلنا على ذلك ما يلي :
__________
(1) قلت (محمود) : وفي الآية اشارة أيضا إلى الحفاظ على مال اليتيم , لأن الخضر بنى الجدار على الكنز ليحافظ عليه حتى يبلغ اليتيمين أشدهما و يستخرجا كنزهما والله أعلم .(1/39)
ما أخرجه البخاري (1467) عَنْ زَيْنَبَ بِنْتِ أُمِّ سَلَمَةَ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ قَالَتْ قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَلِيَ أَجْرٌ أَنْ أُنْفِقَ عَلَى بَنِي أَبِي سَلَمَةَ إِنَّمَا هُمْ بَنِيَّ فَقَالَ أَنْفِقِي عَلَيْهِمْ فَلَكِ أَجْرُ مَا أَنْفَقْتِ عَلَيْهِمْ.
وكذلك حديث عائشة رضي الله عنها الآتي عند البخاري (5995) قالت جائتني امرأة معها ابنتان لها , فسألتني فلم تجد عندي إلا تمرة واحدة , فأعطيتها , فقسمتها بين ابنتيها , ثم قامت فخرجت , فدخل النبي صلى الله عليه وسلم فحدثته فقال :" من يلي من هذه البنات شيئا فأحسن إليهنّ كنّ له سترا من النار " .(1/40)
بل و أصرح من ذلك ما أخرجه أحمد و الحاكم و أصحاب السنن من حديث جابر بن عبدالله رضي الله عنه , قال : جَاءَتِ امْرَأَةُ سَعْدِ بْنِ الرَّبِيعِ بِابْنَتَيْهَا مِنْ سَعْدٍ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَتْ يَا رَسُولَ اللَّهِ هَاتَانِ ابْنَتَا سَعْدِ بْنِ الرَّبِيعِ قُتِلَ أَبُوهُمَا مَعَكَ يَوْمَ أُحُدٍ شَهِيدًا وَإِنَّ عَمَّهُمَا أَخَذَ مَالَهُمَا فَلَمْ يَدَعْ لَهُمَا مَالاً وَلاَ تُنْكَحَانِ إِلاَّ وَلَهُمَا مَالٌ . قَالَ " يَقْضِي اللَّهُ فِي ذَلِكَ " . فَنَزَلَتْ آيَةُ الْمِيرَاثِ فَبَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِلَى عَمِّهِمَا فَقَالَ " أَعْطِ ابْنَتَىْ سَعْدٍ الثُّلُثَيْنِ وَأَعْطِ أُمَّهُمَا الثُّمُنَ وَمَا بَقِيَ فَهُوَ لَكَ " . قَالَ أَبُو عِيسَى هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ لاَ نَعْرِفُهُ إِلاَّ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَقِيلٍ وَقَدْ رَوَاهُ شَرِيكٌ أَيْضًا عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَقِيلٍ . (1) (2)
وشاهدنا من هذا .. أن النبي صلى الله عليه وسلم علم ولاية الأم على مال البنات , فلم ينكر عليها ذلك و لم يجعل للعم ولاية على مال البنات .
__________
(1) الترمذي برقم 2236
(2) هذا و إن كان الحديث فيه محمد بن عبد الله بن عقيل , وهو الرواي عن جابر رضي الله عنه , قال الشيخ مقبل الوادعي " صدوق فيه ضعف ", وهو ليس بالضعيف الذي يردّ حديثه , قال في تهذيب التهذيب " وقال الترمذي صدوق وقد تكلم فيه بعض أهل العلم من قبل حفظه وسمعت محمد بن إسماعيل يقول كان أحمد وإسحاق والحميدي يحتجون بحديث بن عقيل قال محمد بن إسماعيل وهو مقارب الحديث وقال بن عدي روى عنه جماعة من المعروفين الثقات وهو خير من بن سمعان ويكتب حديثه" فالحديث قابل للتحسين و الله أعلم .(1/41)
ولا يلتفت لقول من قال أن الأم ليس لها كفالة, فالأحاديث ههنا تردّ قول من قال بذلك , فالنبي صلى الله عليه و آله وسلم أقرّ ولاية أم سلمة على أيتامها و لم يوصي غيرها و كذلك في حديث عائشة .
بل المرأة عموما لها أن تكفل اليتيم و لو في حجرها كما في حديث زَيْنَبَ امْرَأَةِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَتْ كُنْتُ فِي الْمَسْجِدِ فَرَأَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ تَصَدَّقْنَ وَلَوْ مِنْ حُلِيِّكُنَّ وَكَانَتْ زَيْنَبُ تُنْفِقُ عَلَى عَبْدِ اللَّهِ وَأَيْتَامٍ فِي حَجْرِهَا قَالَ فَقَالَتْ لِعَبْدِ اللَّهِ سَلْ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَيَجْزِي عَنِّي أَنْ أُنْفِقَ عَلَيْكَ وَعَلَى أَيْتَامٍ فِي حَجْرِي مِنْ الصَّدَقَةِ فَقَالَ سَلِي أَنْتِ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَانْطَلَقْتُ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَوَجَدْتُ امْرَأَةً مِنْ الْأَنْصَارِ عَلَى الْبَابِ حَاجَتُهَا مِثْلُ حَاجَتِي فَمَرَّ عَلَيْنَا بِلَالٌ فَقُلْنَا سَلْ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَيَجْزِي عَنِّي أَنْ أُنْفِقَ عَلَى زَوْجِي وَأَيْتَامٍ لِي فِي حَجْرِي وَقُلْنَا لَا تُخْبِرْ بِنَا فَدَخَلَ فَسَأَلَهُ فَقَالَ مَنْ هُمَا قَالَ زَيْنَبُ قَالَ أَيُّ الزَّيَانِبِ قَالَ امْرَأَةُ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ نَعَمْ لَهَا أَجْرَانِ أَجْرُ الْقَرَابَةِ وَأَجْرُ الصَّدَقَةِ.
وهذا صريح جدا أنها كانت تكفل أيتام في حجرها بعلم النبي صلى الله عليه وسلم و إقراره لها على ذلك فالأم إذا أولى , والله تعالى أعلم .
فإن لم يوجد ألحق القاضي الأيتام بأرحم الناس بهم بعد أمهم :
والدليل على ذلك :
ما أخرجه الإمام البخاري في صحيحه :(1/42)
4251- عَنِ الْبَرَاءِ - رضى الله عنه - قَالَ لَمَّا اعْتَمَرَ النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم فِى ذِى الْقَعْدَةِ ، فَأَبَى أَهْلُ مَكَّةَ أَنْ يَدَعُوهُ يَدْخُلُ مَكَّةَ ، حَتَّى قَاضَاهُمْ عَلَى أَنْ يُقِيمَ بِهَا ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ ، فَلَمَّا كَتَبُوا الْكِتَابَ كَتَبُوا ، هَذَا مَا قَاضَى عَلَيْهِ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ . قَالُوا لاَ نُقِرُّ بِهَذَا ، لَوْ نَعْلَمُ أَنَّكَ رَسُولُ اللَّهِ مَا مَنَعْنَاكَ شَيْئاً ، وَلَكِنْ أَنْتَ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ . فَقَالَ « أَنَا رَسُولُ اللَّهِ ، وَأَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ » . ثُمَّ قَالَ لِعَلِىٍّ « امْحُ رَسُولَ اللَّهِ » . قَالَ عَلِىٌّ لاَ وَاللَّهِ لاَ أَمْحُوكَ أَبَداً . فَأَخَذَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الْكِتَابَ ، وَلَيْسَ يُحْسِنُ يَكْتُبُ ، فَكَتَبَ هَذَا مَا قَاضَى مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ لاَ يُدْخِلُ مَكَّةَ السِّلاَحَ ، إِلاَّ السَّيْفَ فِى الْقِرَابِ ، وَأَنْ لاَ يَخْرُجَ مِنْ أَهْلِهَا بِأَحَدٍ ، إِنْ أَرَادَ أَنْ يَتْبَعَهُ ، وَأَنْ لاَ يَمْنَعَ مِنْ أَصْحَابِهِ أَحَداً ، إِنْ أَرَادَ أَنْ يُقِيمَ بِهَا . فَلَمَّا دَخَلَهَا وَمَضَى الأَجَلُ أَتَوْا عَلِيًّا فَقَالُوا قُلْ لِصَاحِبِكَ اخْرُجْ عَنَّا ، فَقَدْ مَضَى الأَجَلُ . فَخَرَجَ النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم فَتَبِعَتْهُ ابْنَةُ حَمْزَةَ تُنَادِى يَا عَمِّ يَا عَمِّ . فَتَنَاوَلَهَا عَلِىٌّ ، فَأَخَذَ بِيَدِهَا وَقَالَ لِفَاطِمَةَ - عَلَيْهَا السَّلاَمُ - دُونَكِ ابْنَةَ عَمِّكِ . حَمَلَتْهَا فَاخْتَصَمَ فِيهَا عَلِىٌّ وَزَيْدٌ وَجَعْفَرٌ . قَالَ عَلِىٌّ أَنَا أَخَذْتُهَا وَهْىَ بِنْتُ عَمِّى . وَقَالَ جَعْفَرٌ ابْنَةُ عَمِّى وَخَالَتُهَا تَحْتِى . وَقَال زَيْدٌ ابْنَةُ أَخِى . فَقَضَى بِهَا النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم(1/43)
لِخَالَتِهَا وَقَالَ « الْخَالَةُ بِمَنْزِلَةِ الأُمِّ » . وَقَالَ لِعَلِىٍّ « أَنْتَ مِنِّى وَأَنَا مِنْكَ » . وَقَالَ لِجَعْفَرٍ « أَشْبَهْتَ خَلْقِى وَخُلُقِى » . وَقَالَ لِزَيْدٍ « أَنْتَ أَخُونَا وَمَوْلاَنَا » . وَقَالَ عَلِىٌّ أَلاَ تَتَزَوَّجُ بِنْتَ حَمْزَةَ . قَالَ « إِنَّهَا ابْنَةُ أَخِى مِنَ الرَّضَاعَةِ » .
وشاهدنا هنا , قوله صلى الله عليه وسلم " الخالة بمنزلة الأم " فألحق الحضانة بالخالة صلى الله عليه و سلم لأنها تقرب من الأم في الحنو و الشفقة و الاهتداء لما يصلح الولد لما دل عليه السياق(1) .
فصل
في الحضانة
قال في سبل السلام (2)الحضانة : بكسر الحاء المهملة , مصدر من حضن الصبي حضنا و حضانه جعله في حضنه , أو رباه فاحتضنه . والحضن بكسر الحاء هو ما دون الابط الى الكشح أو الصدر أو العضدان و ما بينهما , وجانب الشيء و ناحيته كما في "القاموس" (أي المحيط ) , وهو في الشرع : حفظ من لا يستقل بأمره و تربيته ووقايته عما يهلكه أو يضرّه .ا.هـ.
والحضانه باب مهم من أبواب الفقه بين الزوجين أو عند فقد أحدهما لأنه يحدد فيه الشرع بدقة من يقوم على الولد في حال صغره , ليقوم برعايته , ثم في حال كبره بعد ذلك .. ومن يرى المنازعات في ذلك داخل المحاكم في البلاد الاسلامية بين الأرحام في أحقية انتزاع حضانة الولد لعجب من عدم رجوع هؤلاء إلى نصوص كتاب الله و سنة نبيه صلى الله عليه وسلم للفصل فيها فهذا خير و أحسن تأويلا لمن كان يؤمن بالله و اليوم الآخر { و إن تنازعتم في شيء فردّوه إلى الله و الرسول إن كتم تؤمنون بالله و اليوم الآخر . ذلك خير و أحسن تأويلا }.
وهذا و سنقتصر في هذا الفصل على بعض المسائل التي تمس بحثنا فقط , أي في حال فقد الأب أو أحد الزوجين عموما أو كليهما , وبالله التوفيق .
__________
(1) فتح الباري (7\720)
(2) 6\294)(1/44)
والأم أحق بالحضانة من الأب للطفل في حال صغره ما لم تتزوج فإن تزوجت فلا حضانة لها :
قال الإمام أحمد رحمه الله (6707) حدثنا روح حدثنا ابن جريج عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عبد الله بن عمرو بن العاص : أن امرأة أتت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت : يا رسول الله إن ابني هذا كان بطني له وعاء , وحجري له حواء , وثديي له سقاء , وزعم أبوه أنه ينزعه مني ؟ , قال " أنت أحق به ما لم تنكحي " ,
والحديث أخرجه أبوداود أيضا (2273) من طريق محمود بن خالد السلمي أخبرنا الوليد عن أبي عمرو الأوزاعي حدثني عبد الله بن عمرو عن أبيه عن جده عبدالله بن عمرو بن العاص ... الحديث .(1)
فهذا نص في محلّ النزاع بين الأب و الأم اذا افترقا و كان بينهما ولد صغير وذلك حتى سن التمييز .(2)
__________
(1) وهذا حديث صحيح قال بن القيم في الزاد " هو حديث احتاج الناس فيه الى عمرو بن شعيب , ولم يجدوا بدا من الاحتجاج به ههنا ومدار الحديث عليه و ليس عن النبي صلى الله عليه و سلم حديث في سقوط الحضانة بالتزويج غير هذا , وقد ذهب إليه الأئمة الأربعة و غيرهم , و قد صرّح بأن الجد هو عبدالله بن عمرو فبطل قول من يقول لعله محمد والد شعيب فيكون الحديث مرسلا .
وقد صحّ سماع شعيب من جده عبد الله بن عمرو فبطل قول من قال أنه منقطع , وقد احتج به البخاري خارج صحيحه و نص على صحة حديثه و قال : كان عبد الله بن الزبير الحميدي و أحمد و اسحاق و علي بن عبد الله يحتجون بحديثه فمن الناس بعدهم , هذا لفظه , و قال اسحاق بن راهويه : هو عندنا كمالك عن نافع عن بن عمر , وحكى الحاكم في علوم الحديث له الاتفاق على صحة حديثه " ا.هـ.
(2) وهو خمس أو سبع سنوات والثاني أشهر لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بأمر الأولاد بالصلاة لسبع , واستدل الأولون بقول محمود بن لبيد : عقلت عن النبي صلى الله عليه وسلم مجة مجها في في و أنا ابن خمس سنين .(1/45)
هل تحتفظ المرأة بحضانة الطفل ولو تزوجت ؟
الخلاف بين أهل العلم في هذه المسألة يدور على حديثين ظاهرهما التعارض ..
الأول : حديث عبدالله بن عمرو رضي الله عنه المتقدم .
الثاني : حديث ابنة حمزة رضي الله عنه قبله .
فالأول فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم رفع الحضانة عن الأم إذا تزوجت , والثاني فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم جعل حضانه ابنة حمزة رضي الله عنه لخالتها وهي مزوجة .
فاختلاف الناس في سقوط الحضانة بالنكاح على أقوال :
* فمن أهل العلم من منع مطلقا سواء كان المحضون ذكرا أو أنثى , وهذا مذهب أبي بكر الصديق و عمر بن الخطاب و الأئمة الأربعة , قال بن المنذر : أجمع على هذا كل من أحفظ عنه من أهل العلم , وقضى به شريح .
وأقوى ما استدلوا به حديث عمرو بن شعيب المتقدم ذكره و فعل أبو بكر رضي الله عنه مع عمر رضي الله عنه .
وأخرج مالك في الموطأ في كتاب الوصايا (باب ما جاء في المؤنث من الرجال ومن أحق بالولد ) من حديث يحيى بن سعيد أنه قال سمعت القاسم بن محمد يقول : كانت عند عمر بن الخطاب امرأة من الأنصار فولدت له عاصم بن عمر , ثم انه فارقها فجاء عمر قباء . فوجد عاصما ابنه يلعب بفناء المسجد فأخذ بعضده فوضعه بين يديه على الدابة , فأدركته جدة الغلام . فنازعته اياه حتى أتيا أبي بكر الصديق , فقال عمر : ابني . وقالت المرأة : ابني , فقال أبو بكر خلّ بينها و بينه . قال , فما راجعه عمر الكلام .(1)
__________
(1) والحديث هذا منقطع بين القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق رضي الله عنه و بين أبي بكر
وأخرج الحديث عبد الرزاق في المصنف (12600) من طريق سفيان الثوري عن عاصم الأحول عن عكرمة .. وهذا منقطع أيضا بين عكرمة و بين أبي بكر رضي الله عنه .
وكذا أخرجه (12601) من طريق بن جريج قال أخبرني عطاء الخرساني عن ابن عباس .. فذكره وعطاء مدلّس و قد رواه عن ابن عباس مرسلا .
وأخرجه البيهقي (15764) من طريق اسماعيل بن أبي أويس وعيسى بن مينا قالا : حدثنا عبد الرحمن بن أبي الزناد عن أبيه عن الفقهاء الذي ينتهي الى قولهم أهل المدينة أنهم كانوا يقولون : قضى أبو بكر الصديق ... الحديث وعيسى بن مينا هو قالون صاحب القراءات ضعيف في احديث حجة في القراءة و اسماعيل بن أبي أويس صدوق و عبد الرحمن بن أبي الزناد صدوق تغير حفظه وأبوه عبدالله بن ذكوان ثقة و الحديث فيه انقطاع كما ترى =
= وكذلك أخرجه (15766) من طريق يحيى بن سعيد القطان عن مجالد عن عامر الشعبي عن مسروق .. ومجالد فيه ضعف ( الجرح و التعديل لابن أبي حاتم 8\361 و ميزان الاعتدال 6\23)
قال بن عبد البر : هذا حديث مشهور من وجوه منقطعة و متصلة تلقاه أهل العلم بالقبول و العمل .ا.هـ.
قلت (محمود) وهذا صحيح فمثل هذا الأثر تعددت مخارجه , و القاسم بن محمد حفيد أبي بكر رضي الله عنه و هو ثقة فاضل و هذه الرواية تكون مما هو معروف عادة بين الأهل فلا مانع من ثبوتها أبدا خاصة إذا انضم اليها ما رواه عكرمة و عطاء و مسروق فلابد أن لها أصلا , والله تعالى أعلم .(1/46)
ويبقى عليهم الرد على حديث ابنة حمزة , فخالته مزوّجة .
* ومنهم من قال , لا تسقط بالتزويج بحال , و لافرق ين الزوجة و غيرها و هو قول الحسن البصري و بن حزم وحجتهم حديث ابنة حمزة و أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى بها لخالتها و هي مزوّجة , ويبقى اشكال حديث عمرو بن شعيب المتقدم و لا عبرة لمن ضعّفه كما فعل ابن حزم رحمه الله , فهو صحيح كما تقدم .
* ومنهم من قال انها اذا تزوجت بنسيب من الطفل لم تسقط ( لأن جعفر ابن عم حمزة ) وهذا على خلاف بين أصحاب هذا القول أيشترط أن يكون نسيبا فقط أو ذا رحم محرم أو أن يكون بين الزوج و الطفل ايلاد بأن يكون جدا للطفل ؟(1)
وهذا وجه للجمع بين الحديثين
* والرابع أن الطفل اذا كان بنتا لم تسقط الحضانة بنكاح أمها , واذا كان ذكرا سقطت وهي احدى الروايتين عن أحمد .
وثم قول خامس أن النكاح إنما يسقط حضانة الأم وحدها حيث كان المنازع لها الأب ولا يسقط حق غيرها ولا حق الأم حيث كان المنازع لها غير الأب . (2)
وهذا وجه آخر للجمع بين الحديثين.
ونظر بعض أهل العلم ( وهو جمع ثالث بين الحديثين ) الى مصلحة المحضون , قالوا : أنه اذا رضي الزوج الجديد بحضانة ولد الزوج الأول فالحضانة لا تسقط , وهي باقية , خاصة لو علم أن الزوج الأول يريد الاضرار بالزوجة فقط أو سيضر بالطفل لكونه رجل غير عدل فيأخذ الطفل فيضيعه , وهذا قول للإمام أحمد واختيار شيخ الاسلام بن تيمية و بن القيم و الشيخ محمد بن صالح العثيمين .(3)
قلت : وهذا القول و الذي قبله , هما أقوى ما قيل في المسألة وإن كان الأخير أظهر و الله تعالى أعلم .
وهل تسقط الحضانة بمجرد العقد أو تسقط بالدخول ؟
قال بن القيم رحمه الله :
__________
(1) زاد المعاد 4\195 وما بعدها
(2) نيل الأوطار 6\721).
(3) الشرح الممتع 6\67(1/47)
قولان , الأول : تسقط بالعقد وهو قول الشافعي و أبو حنيفة رحمهما الله , لأن بالعقد يملك الزوج منافع الاستمتاع بها و يملك نفعها من حضانه الولد .
الثاني : أنها لا تزول الا بالدخول وهو قول مالك , فإن بالدخول يتحقق اشتغالها عن الحضانة , والحديث يحتمل الأمرين , والأشبه سقوط حضانتها بالعقد لأنها حينئذ صارت في مظنة الاشتغال عن الولد و التهيء للدخول و أخذها حينئذ في أسبابه , وهو قول الجمهور .(1)
من الأولى بحضانة الطفل بعد أبيه و أمه ؟
في الحقيقة هذه المسألة من أطول المسائل خلافا في كتب الفقه و فيها كلام كثير أغلبه غير منضبط بدليل يركن اليه القلب , وعليه تجد تناقضات بين أراء المذهب الواحد , فأعرضنا عنه خشية الاطالة , ونورد أقرب الأقوال إلى الحق بإذن الله .
بداية نقول أنه ان كان التنازع في الصبي غير المميز , ما دون سبع سنوات , بين الأب و الأم , فالأم أحق به ما لم تتزوج كما بينا , وإلا فالأب أولى , وسيأتي الكلام بعد سن التمييز .
أما ان تنازع الولد مثلا عم و خال أو جد لأب و جدة لأم أو غير ذلك فلمن تكون الحضانة ؟
فحين ننظر في الأدلة التي بين أيدينا , نجد نصوصا عامة مثل { وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله } فمن كان أقرب فهو أولى .
وعندنا نص مثلا في الأموال , مثل حديث ابن عباس في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال " ألحقوا الفرائض بأهلها فما بقي فلأولى رجل ذكر " .
ثم عندنا قوله عليه الصلاة و السلام " الخالة بمنزلة الأم " في حديث ابنة حمزة , مع العلم أن صفية بنت عبد المطلب كانت على قيد الحياة وهي عمة البنت , فتضاربت الأقوال ههنا بين أهل العلم , فطائفة قالت يقدم جهة الأم على جهة الأب , لأن النبي صلى الله عليه وسلم قدّم الخالة , على عمتها .
__________
(1) الزاد 4\194(1/48)
وردت طائقة أخرى بالعكس و أجابوا عن هذا القول بأن صفية لم تنازع أحدا حتى يقضي لها رسول الله صلى الله عليه وسلم , فأجابت الأخرى بأن الخالة أيضا لم تنازع , فأجيبوا : بأن زوجها جعفر يعتبر منازع لها .
والحاصل , أن سر الخلاف يكمن في سؤال : هل العبرة في الحضانة بقرب الجهة أم بمصلحة المحضون ؟
هذا و قد ضبط شيخ الإسلام بن تيمية اختاره بن القيم من بعده وقال عنه " هذا الضابط يمكن حصر جميع مسائل هذا الباب وجريها على القياس الشرعي و اطرادها و موافقتها لأصول الشرع , فأي مسألأة وردت عليك أمكن أخذها من هذا الضابط مع كونه مقتضى الدليل , ومع سلامته من التناقض ومناقضة قياس الأصول و بالله التوفيق " .(1/49)
قال شيخ الاسلام بن تيمية رحمه الله " لما كانت الحضانة ولاية تعتمد الشفقة و التربية و الملاطفة كان أحق الناس بها أقومهم بهذه الصفات وهم أقاربه يقدم إليه أقربهم إليه و أقومهم بصفات الحضانة , فإن اجتمع منهم اثنان فصاعدا , فإن استوت درجتهم قدم الأنثى على الذكر , فتقدم الأم على الأب , والجدة على الجد , والخالة على الخال , والعمة على العم , والأخت على الأخ , فإن كانا ذكرين أو أنثيين قدما أحدهما بالقرعة , يعني مع استواء درجتهما , وان اختلفت درجتهما من الطفل , فإن كانوا من جهة واحدة قدم الأقرب اليه , فتقدم الأخت على ابنتها و الخالة على خالة الأبوين , وخالة الأبوين على خالة الجد , والجدة و الجد أبو الأم على الأخ للأم هذا هو الصحيح , لأن جهة الأبوة و الأمومة في الحضانة أقوى من جهة الأخوة فيها ... الى أن قال : و ان كانوا من جهتين كقرابة الأم و قرابة الأب مثل العمة و الخالة , و الأخت للأب و الأخت للأم , وأم الأب و أم الأم , وخالة الأب و خالة الأم , قدم في ذلك كله جهة الأب على احدى الروايتين فيه , هذا كله اذا استوت درجتهم أو كانت جهة الأب أقرب الى الطفل , و أما اذا كانت جهة الأم أقرب و قرابة الأب أبعد كأم الأم و أم أب الأب و خالة الطفل و عمة أبيه فقد تقابل الترجيحان و لكن يقدم الأقرب الى الطفل لقوة شفقته و حنوه على شفقة الأبعد , ومن قدم قرابة الأب فإنما يقدمها مع مساواة قرابة الأم لها .
فأما اذا كانت أبعد منها قدمت قرابة الأم القريبة و إلا لزم من تقديم القرابة البعيدة للوازم باطلة لا يقول بها أحد " (1)
والحقيقة أن القول بقرب الجهة دون النظر الى مصلحة المحضون الذي يحتاج الى تربية و عطف و عناية أو أن قرب الجهة و قوتها تستلزم قوة الشفقة , هو قول ليس براجح على طول الخط , خاصة في هذه الأزمان .
__________
(1) زاد المعاد 4\191 - 192(1/50)
ولا شك أننا يجب أن نراعي قوة الجهة أيضا قدر المستطاع حتى لا يبعد الطفل عن رحمه و عن أصوله , ولكن ننظر الى الرعاية و الشفقة و العطف قبل ذلك .
واني قد أتفق مع شيخ الإسلام حتى قوله " و ان كانوا من جهتين كقرابة الأم و قرابة الأب مثل العمة و الخالة , و الأخت للأب و الأخت للأم , وأم الأب و أم الأم , وخالة الأب و خالة الأم , قدم في ذلك كله جهة الأب على احدى الروايتين فيه , هذا كله اذا استوت درجتهم أو كانت جهة الأب أقرب الى الطفل .."
ففي القلب من هذا شيء , خاصة في مسألة وجود الخالة مع وجود العمة أو أم الأب أو أم الأم , فإن النبي صلى الله عليه وسلم قد حكم للخالة مع علمه بوجود العمة و هي أقرب و لا شك , أما قولهم أن العمة لم تنازع الخالة أو هي كانت بعيدة أو كانت كبيرة في السن أو غير ذلك .. فلا أظن هذه أجوبة سديدة , إذ الله يجري على لسان نبيه الحق حيث كان و أينما كان , فلو كانت العمة أولى لبين النبي صلى الله عليه وسلم ذلك مع علمه ببعدها و كبر سنها و غير ذلك , فهو يعلم ذلك و لا يخفى عليه , وقال مثلا ( العمة أولى , ولكن نحكم بها لخالتها لكذا و كذا ) فيبين لنا الحكم و علته , فلما لم يفعل النبي صلى الله عليه وسلم ذلك مع وجود العمة كان من المفترض أن حكمه للخالة هو أولى الأحكام خاصة مع وجود عصبات البنت , هذا ولقائل أن يقول , أن أم الأم ان وجدت تكون أقرب من الخالة و هو قول للإمام أحمد , وأبو حنيفة (1) , لأن حق الحضانة بسبب الأمومة و أم الأم أقرب من الخالة قياسا فتكون أولى منها و هو قياس صحيح يرضاه الشرع و العقل .
فالحاصل , أن النبي صلى الله عليه وسلم لما حكم للخالة و قال "انها بمنزلة الأم" علم أنه يقصد بمنزلتها في الشفقة و التربية و لا ريب فيكون هذا هو مناط الحكم و ان استوت الجهات وتعددت .
__________
(1) المبسوط 3\185(1/51)
وعليه فلو تنازع اثنان من أقارب الطفل فيجب أن ينظر أولا في الجهات المتنازعة و الأقرب الى الطفل , لأن الغالب أن قرب الجهة تكون أكثر حنوا و عطفا من الجهة البعيدة , فمثلا ان تنازعت عمة الأب مع الخالة , فالخالة أقرب و لا شك من العمة و هي بمنزلة الأم كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم , لكن عمة الأب بعيدة و لا تساوي الخالة في درجتها مثلا ولا في عطفها و حنوها على الطفل .
لكن لو ظهر للقاضي بالتحري و القرائن العكس , أي أن عمة أبيه أشفق عليه من الخالة أو أنها أكثر حرصا عليه و غير ذلك , قدّمها القاضي و لابد .
فاختيار من يحسن التربية و يكون أرفق بالطفل , إن لم توجد أمه أو وجدت ولك تكن مأمونة في دينها و لادنياها , وهو في سن الرضاع حتى التمييز , هو الأصل قال بن حزم " فَإِنْ لَمْ تَكُنْ الْأُمُّ مَأْمُونَةً فِي دِينِهَا وَدُنْيَاهَا نُظِرَ لِلصَّغِيرِ أَوْ الصَّغِيرَةِ بِالأَحْوَطِ فِي دِينِهِمَا ثُمَّ دُنْيَاهُمَا، فَحَيْثُمَا كَانَتْ الْحِيَاطَةُ لَهُمَا فِي كِلاَ الْوَجْهَيْنِ وَجَبَتْ هُنَالِكَ عِنْدَ الأَبِ، أَوْ الأَخِ، أَوْ الْأُخْتِ، أَوْ الْعَمَّةِ، أَوْ الْخَالَةِ، أَوْ الْعَمِّ، أَوْ الْخَالِ وَذُو الرَّحِمِ أَوْلَى مِنْ غَيْرِهِمْ بِكُلِّ حَالٍ، وَالدِّينُ مُغَلَّبٌ عَلَى الدُّنْيَا ".(1)
وكذلك لو تنازعا من جهتي الأم و الأب من نفس الدرجة أو كانت جهة الأب أقرب , كعم وخال أو أم الأب و أم الأم , أو خالة الأب و خالة الأم , فإن كانت الخالة موجودة فهي أولى لظاهر الحديث , وإن فقدت الخالة وتساووا كلهم في درجة الشفقة و التربية قدّمت جهة الأب لأنها الأقوى, وهذا كله يجب أن يتحرى فيه القاضي قدر المستطاع خاصة في هذه الأزمان التي خربت فيه الذمم و النفوس التي لا تكاد تتطّلع الى حضانة الطفل إلا لما تركه له أبواه من مال و أعيان .
__________
(1) المحلى 10\413(1/52)
ولذلك تجد هذه المنازعات في هذه الأيام يسهل جدا للقاضي البت فيها لو كان المحضون فقيرا لا مال له , إذ يكون في الغالب الطالب لحضانته حريصا على تربيته و العناية به , حتى اذا تنازع فيه اثنان أو أكثر استطاع القاضي بلا كثير تفكر و مشقّة أن يجتهد في الحكم و يقضي فيه .
أما ان كان الطفل وارثا , فهنا تكمن المشقة في الحقيقة , اذ يجب على القاضي أن يميز قدر استطاعته أي الفريقين خير مقاما و أحسن نديا .
فضل من عال البنات اليتيمات من أقاربه وغيرهنّ وأدبهنّ و أحسن إليهنّ
ففيم أخرجه البخاري (5995) من حديث عائشة زوج النبي صلى الله عليه و سلم قالت جائتني امرأة معها ابنتان لها , فسألتني فلم تجد عندي إلا تمرة واحدة , فأعطيتها , فقسمتها بين ابنتيها , ثم قامت فخرجت , فدخل النبي صلى الله عليه وسلم فحدثته فقال :" من يلي من هذه البنات شيئا فأحسن إليهنّ كنّ له سترا من النار " .
وفي الأدب المفرد (1)عن أنس بن مالك : جاءت امرأة إلى عائشة رضي الله عنها فأعطتها عائشة ثلاث تمرات , فأعطت كل صبي لها تمرة , فأكل الصبيان التمرتين و نظرا إلى أمهما , فعمدت إلى التمرة فشقتها فأعطت كل صبي نصف تمرة , فجاء النبي صلى الله عليه وسلم فأخبرته عائشة فقال " وما يعجبك من ذلك ؟ لقد رحمها الله برحمته صبييها "
وهو بمعناه عند مسلم (6863 ) وفي رواية لمسلم أنهما بنتان و قال النبي صلى الله عليه و سلم " إن الله قد أوجب لها بها الجنة أو أعتقها من النار " .
وأخرج أبوداود و الترمذي و البخاري في الأدب المفرد (2) من حديث أبي سعيد الخدري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " لا يكون لأحد ثلاث بنات , أو ثلاث أخوات فيحسن إليهنّ إلا دخل الجنة " ولفظ الترمذي (1916) " ...أو ابنتان أو أختان فأحسن صحبتهنّ و اتقى الله فيهنّ فله الجنة "
__________
(1) صحيح الأدب المفرد حديث(66)
(2) صحيح الأدب المفرد حديث 59 )(1/53)
وروى أحمد و البزار و الطبراني في الأوسط (1) و قال الهيثمي " واسناد أحمد جيد " عن جابر بن عبد الله قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " من كنّ له ثلاث بنات يؤويهنّ و يرحمهنّ و يكفلهنّ و جبت له الجنة البتة " قيل يا رسول الله , فإن كانتا اثنتين ؟ قال " و إن كانتا اثنتين " قال : فرأى بعض القوم أن لو قال واحدة لقال " واحدة " .
وأخرج البخاري في الأدب المفرد (2) عن عقبة بن عامر قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول " من كان له ثلاث بنات , وصبر عليهنّ , وكساهنّ من جدته , كنّ له حجابا من النار " صحّحه الألباني .
قال بن حجر (3)" وقد اختلف في المراد بالإحسان هل يقتصر به على قدر الواجب أو بما زاد عليه ؟ والظاهر الثاني، فإن عائشة أعطت المرأة التمرة فآثرت بها ابنتيها فوصفها النبي صلى الله عليه وسلم بالإحسان بما أشار إليه من الحكم المذكور، فدل على أن من فعل معروفا لم يكن واجبا عليه أو زاد على قدر الواجب عليه عد محسنا، والذي يقتصر على الواجب وإن كان يوصف بكونه محسنا لكن المراد من الوصف المذكور قدر زائد، وشرط الإحسان أن يوافق الشرع لا ما خالفه، والظاهر أن الثواب المذكور إنما يحصل لفاعله إذا استمر إلى أن يحصل استغناؤهن عنه بزوج أو غيره كما أشير إليه في بعض ألفاظ الحديث، والإحسان إلى كل أحد بحسب حاله، وقد جاء أن الثواب المذكور يحصل لمن أحسن لواحدة فقط ففي حديث ابن عباس المتقدم " فقال رجل من الأعراب : أو اثنتين ؟ فقال : أو اثنتين " وفي حديث عوف بن مالك عند الطبراني " فقالت امرأة " وفي حديث جابر " وقيل " وفي حديث أبي هريرة " قلنا " وهذا يدل على تعدد السائلين، وزاد في حديث جابر " فرأى بعض القوم أن لو قال وواحدة لقال وواحدة " وفي حديث أبي هريرة قلنا : وثنتين ؟ قال : وثنتين .
__________
(1) مجمع الزوائد 8\287)
(2) صحيح الأدب المفرد حديث 56)
(3) في الفتح (10\605)(1/54)
قلنا : وواحدة ؟ قال : وواحدة " وشاهده حديث ابن مسعود رفعه " من كانت له ابنة فأدبها وأحسن أدبها وعلمها فأحسن تعليمها وأوسع عليها من نعمة الله التي أوسع عليه " أخرجه الطبراني بسند واه . " ا.هـ.
وهذا الإحسان الآن يشمل التربية على كتاب الله و على سنة رسول الله صلى الله عليه و سلم و على الستر و عدم التبرج و السفور و اختيار الأفضل و الأتقى لهنّ في كل شيء و اختيار الزوج الصالح إلى غير ذلك مما يتضمنه المعنى .
قلت (محمود) والأجر يثبت إن شاء الله عند بلوغ تلك البنات و ذلك لما أخرجه الإمام مسلم حديث رقم (6864) عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " من عال جاريتين حتى تبلغا جاء يوم القيامة أنا وهو " وضمّ أصابعه .
كن لليتيم كالأب الرحيم
قال الامام مسلم رحمه الله( 2317 ) حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة وأبو كريب . قالا : حدثنا أبو أسامة وابن نمير عن هشام، عن أبيه،عن عائشة . قالت : قدم ناس من الأعراب على رسول الله صلى الله عليه وسلم . فقالوا أتقبلون صبيانكم ؟ فقالوا : نعم . فقالوا : لكنا، والله ! ما نقبل .
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " وأملك إن كان الله نزع منكم الرحمة " وقال ابن نمير " من قلبك الرحمة " .
وقال ( 2318 ) وحدثني عمرو الناقد وابن أبي عمر . جميعا عن سفيان . قال عمرو : حدثنا سفيان بن عيينة عن الزهري، عن أبي سلمة عن أبي هريرة؛ أن الأقرع بن حابس أبصر النبي صلى الله عليه وسلم يقبل الحسن . فقال : إن لي عشرة من الولد ما قبلت واحدا منهم .
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إنه من لايرحم لا يرحم " .(1/55)
و أخرج البخاري في الأدب المفرد (1) عن عبد الرحمن بن أبزى قال : قال داود : " كن لليتيم كالأب الرحبم , و اعلم أنك كما تزرع كذلك تحصد , ما أقبح الفقر بعد الغنى ! و أكثر من ذلك أو أقبح من ذلك الضلالة بعد الهدى , وإذا وعدت صاحبك فأنجز له ما وعدته , فإن لا تفعل يورث بينك و بينه عداوة , وتعوذ بالله من صاحب إن ذكرت لم يعنك , وإن نسيت لم يذكّرك " .
واليتيم يؤدب كما يؤدب الولد
وقال الإمام مسلم (2022) رحمه الله تعالى : حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَابْنُ أَبِي عُمَرَ، جَمِيعًا عَنْ سُفْيَانَ، قَالَ أَبُو بَكْرٍ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ، عَنِ الْوَلِيدِ بْنِ كَثِيرٍ، عَنْ وَهْبِ بْنِ كَيْسَانَ، سَمِعَهُ مِنْ، عُمَرَ بْنِ أَبِي سَلَمَةَ قَالَ كُنْتُ فِي حَجْرِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَكَانَتْ يَدِي تَطِيشُ فِي الصَّحْفَةِ فَقَالَ لِي " يَا غُلاَمُ سَمِّ اللَّهَ وَكُلْ بِيَمِينِكَ وَكُلْ مِمَّا يَلِيكَ " .
قال الإمام مسلم (2309) وَحَدَّثَنَاهُ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ، وَزُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، جَمِيعًا عَنْ إِسْمَاعِيلَ، - وَاللَّفْظُ لأَحْمَدَ - قَالاَ حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ، عَنْ أَنَسٍ، قَالَ لَمَّا قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الْمَدِينَةَ أَخَذَ أَبُو طَلْحَةَ بِيَدِي فَانْطَلَقَ بِي إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ أَنَسًا غُلاَمٌ كَيِّسٌ فَلْيَخْدُمْكَ .
قَالَ فَخَدَمْتُهُ فِي السَّفَرِ وَالْحَضَرِ وَاللَّهِ مَا قَالَ لِي لِشَىْءٍ صَنَعْتُهُ لِمَ صَنَعْتَ هَذَا هَكَذَا وَلاَ لِشَىْءٍ لَمْ أَصْنَعْهُ لِمَ لَمْ تَصْنَعْ هَذَا هَكَذَا .
__________
(1) صحيح الأدب المفرد 103\138)(1/56)
وقال أيضا (2309) حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ، وَأَبُو الرَّبِيعِ، قَالاَ حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ، عَنْ ثَابِتٍ الْبُنَانِيِّ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، قَالَ خَدَمْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَشْرَ سِنِينَ وَاللَّهِ مَا قَالَ لِي أُفًّا . قَطُّ وَلاَ قَالَ لِي لِشَىْءٍ لِمَ فَعَلْتَ كَذَا وَهَلاَّ فَعَلْتَ كَذَا
وقال أيضا (2310) حَدَّثَنِي أَبُو مَعْنٍ الرَّقَاشِيُّ، زَيْدُ بْنُ يَزِيدَ أَخْبَرَنَا عُمَرُ بْنُ يُونُسَ، حَدَّثَنَا عِكْرِمَةُ، - وَهُوَ ابْنُ عَمَّارٍ - قَالَ قَالَ إِسْحَاقُ قَالَ أَنَسٌ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ أَحْسَنِ النَّاسِ خُلُقًا فَأَرْسَلَنِي يَوْمًا لِحَاجَةٍ فَقُلْتُ وَاللَّهِ لاَ أَذْهَبُ .
وَفِي نَفْسِي أَنْ أَذْهَبَ لِمَا أَمَرَنِي بِهِ نَبِيُّ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَخَرَجْتُ حَتَّى أَمُرَّ عَلَى صِبْيَانٍ وَهُمْ يَلْعَبُونَ فِي السُّوقِ فَإِذَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَدْ قَبَضَ بِقَفَاىَ مِنْ وَرَائِي - قَالَ - فَنَظَرْتُ إِلَيْهِ وَهُوَ يَضْحَكُ فَقَالَ " يَا أُنَيْسُ أَذَهَبْتَ حَيْثُ أَمَرْتُكَ " .
قَالَ قُلْتُ نَعَمْ أَنَا أَذْهَبُ يَا رَسُولَ اللَّهِ .
وهذا أدب نبوي في تربية الأطفال عامة و الأيتام خاصة فعمر بن أبي سلمة كان يتيما وكذلك أنس , وهذا خادمه و هذا ربيبه فما ظنك لو كانوا أولاده ؟ ,فلم ينهرهما النبي صلى الله عليه وسلم و لم يزجرهما زجرا و إنما علّمهما و عاملهما برفق و رحمة , فصلي اللهم على المربي و على آله و صحبه أجمعين .
و أخرج البخاري في الأدب المفرد (1) عن شميسة العتكية قالت : ذكر أدب اليتيم عند عائشة رضي الله عنها فقالت " إني لأضرب اليتيم حتى ينبسط "
__________
(1) صحيح الأدب المفرد 105\142)(1/57)
وأخرج أيضا (1) عن أسماء بن عبيد قال : قلت لابن سيرين : عندي يتيم , قال " اصنع به ما تصنع بولدك , اضربه ما تضرب ولدك " .
قلت (محمود) : وهذا يؤيد ما ذكرنا من معنى الكفالة الشامل للتربية من جميع معانيها و ليس المعنى الانفاق فقط من المال أو اللباس و الطعام .
هل يكفل اليتيم في بيته ؟
ورد في ذلك حديث هو ضعيف عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " خير بيت في المسلمين بيت فيه يتيم يحسن إليه , وشر بيت في المسلمين بيت فيه يتيم يساء إليه , أنا و كافل اليتيم في الجنة كهاتين " قال الشيخ الألباني في ضعيف الأدب المفرد ( ضعيف إلا جملة "كافل اليتيم" فهي صحيحة ) .
وورد أيضا حديث أخرجه أحمد ( 18926) و أخرجه أبو يعلى و الطبراني (2) من حديث مالك بن الحرث سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول " من ضم يتيما بين مسلمين في طعامه و شرابه حتى يستغني عنه و جبت له الجنة البتة " و هذا الحديث حسّنه الهيثمي , وفي اسناده علي بن زيد بن جدعان , ضعّفه الجمهور و قال في التقريب (1\463) ضعيف .
وهناك احاديث صحيحة أشارت إلى كفالة اليتيم في المنزل منها :
حديث عائشة عند الامام البخاري (4574) لما سألها ابن الزبير عن قوله تعالى { وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى } فقالت " هذه اليتيمة تكون في حجر وليها تشركه في ماله , ويعجبه مالها , و جمالها... الحديث " و سيأتي .
وكذلك حديث زينب المتقدم وفيه أنها قالت لِعَبْدِ اللَّهِ سَلْ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَيَجْزِي عَنِّي أَنْ أُنْفِقَ عَلَيْكَ وَعَلَى أَيْتَامٍ فِي حَجْرِي.. الحديث
ومعنى حجري أي كنفي و بيتي كقوله تعالى{ وربائبكم اللاتي في حجوركم } أي في كنفكم و رعايتكم , فهذه اشارات إلى جواز ذلك
__________
(1) صحيح الأدب المفرد 104\140)
(2) مجمع الزوائد 13516)(1/58)
وعلى أي حال فكفالة اليتيم ليس بشرط أن تكون في منزل الوصي , بل يجوز أن يكون اليتيم في بيته مع أمه مثلا أو اخوته و يكفل و هو هناك , و يجوز أن يتكفل اليتيم في بيته هو , أي بيت الوصي , ولكن يحذر من أن يشعره بشيء من الظلم أمام أولاده بل يعامله و يكرمه مثل أولاده و يؤدبه مما يؤدبهم كما ذكرنا , و إن كانت فتاة فيحذر الاختلاط مع أبنائه إن كان له أبناء , فالله لا يحب الفساد .
والأمر في ذلك واسع و قد أشارت الأحاديث إلى هذا و ذاك . والله تعالى أعلى و أعلم .
هذا و قد سئل شيخ الإسلام بن تيمية (1)عن أيتام تحت الحجر , ولهم وصي و كفيل و لأمهم زوج أجنبي : فهل له عليهم حكم ؟
فأجاب :
الحمد لله رب العالمين , ليس لزوج الأم عليهم حكم في أبدانهم و لا أموالهم , بل الأم المزوجة بالأجنبي لا حضانة لها لئلا يحضنهم الأجنبي , فإن الزوجة تحت أمر الزوج فأسقط الشارع حضانتها , لئلا يكونوا في حضانة أجنبي , و إنما الحضانة لأم الأم أو غيرها من الأقارب . وأما المال فأمره إلى الوصي . والنكاح للعصبة .
وهل ترضع الزوجة اليتيم ليصير ابنا لها و أخا لأبنائها؟
وقد يحدث حين يكفل اليتيم في بيت وليه أن يبدأ يختلط ببناته و زوجته حين يبلغ , والله تعالى لا يحب الفساد , فهل يمكن للزوجة أن ترضع اليتيم حتى تحرم عليه و تحرّم بنات البيت عليه , فيصرن أخواته من الرضاعة درءا للمفسدة ؟
وهذا في الحقيقة له وجهان :
الأول : ان يكون عمر هذا اليتيم دون السنتين , فرضاعه يحرّم بلا خلاف لقول الله تعالى { والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين لمن أراد أن يتم الرضاعة } الآية , وعلى هذا جمهور أهل العلم , فهنا ترضعه المرأة و لا بأس ان شاء الله .
الثانية : أن يكون عمر اليتيم أكبر من سنتين و دون البلوغ, إذا أنه بعد البلوغ لا يسمى يتيما كما أوضحنا , فهل لها أن ترضعه في هذه الحالة ؟
__________
(1) مجموع الفتاوى (31\193)(1/59)
والجواب : نعم , يجوز لها ذلك , وهذا من الأمور الضرورية التي يشق الاحتراز منها فلا بأس إذا أرضعته زوجة الولي في هذه الحالة ليحرم عليها و على بناتها , وراجع ما قلناه في شأن رضاع الكبير في المقدمة, والله تعالى أعلم .
الفصل الثاني
أحكام اليتيم الفقهية المتعلقة بالمال
(أحكام النظر في مال اليتيم)
اليتيم الذي لا مال له
سبق أن بينّا أن اليتيم إما أن يكون ذا مال , أو لا مال له , فالثاني إما أن يتولى أحد أقاربه الانفاق عليه أو تنفق عليه أمه أو يعطى من الزكاة الواجبة و الصدقات أيضا فهو يكون من الفقراء أو من المساكين .. فالله تعالى يقول { إنما الصدقات للفقراء و المساكين .. الآية }
و قال تعالى { قل ما أنفقتم من خير فللوالدين و الأقربين و اليتامى و المسكين.. } وقال جل شأنه { ليس البر أن تولّوا وجوهكم قبل المشرق و المغرب و لكن البر ... } إلى أن قال { و آتى المال على حبه ذوي القربى و اليتامى ... الآية }
وقال عليه الصلاة و السلام فيم أخرجه البخاري, من حديث أبي هريرة " الساعي على الأرملة و المسكين كالمجاهد في سبيل الله.. أو كالقائم لا يفتر و الصائم لا يفطر ".(1)
الحث على الصدقة والزكاة لليتامى
__________
(1) متفق عليه البخاري (6007) و مسلم (2982)(1/60)
وأخرج البخاري ( 1465 ) عن عَطَاءُ بْنُ يَسَارٍأَنَّهُ سَمِعَ أَبَا سَعِيدٍ الْخُدْرِيَّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يُحَدِّثُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَلَسَ ذَاتَ يَوْمٍ عَلَى الْمِنْبَرِ وَجَلَسْنَا حَوْلَهُ فَقَالَ إِنِّي مِمَّا أَخَافُ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِي مَا يُفْتَحُ عَلَيْكُمْ مِنْ زَهْرَةِ الدُّنْيَا وَزِينَتِهَا فَقَالَ رَجُلٌ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَوَيَأْتِي الْخَيْرُ بِالشَّرِّ فَسَكَتَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقِيلَ لَهُ مَا شَأْنُكَ تُكَلِّمُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا يُكَلِّمُكَ فَرَأَيْنَا أَنَّهُ يُنْزَلُ عَلَيْهِ قَالَ فَمَسَحَ عَنْهُ الرُّحَضَاءَ فَقَالَ أَيْنَ السَّائِلُ وَكَأَنَّهُ حَمِدَهُ فَقَالَ إِنَّهُ لَا يَأْتِي الْخَيْرُ بِالشَّرِّ وَإِنَّ مِمَّا يُنْبِتُ الرَّبِيعُ يَقْتُلُ (في رواية يقتل حبطا ) أَوْ يُلِمُّ إِلَّا آكِلَةَ الْخَضْرَاءِ أَكَلَتْ حَتَّى إِذَا امْتَدَّتْ خَاصِرَتَاهَا اسْتَقْبَلَتْ عَيْنَ الشَّمْسِ فَثَلَطَتْ وَبَالَتْ وَرَتَعَتْ وَإِنَّ هَذَا الْمَالَ خَضِرَةٌ حُلْوَةٌ فَنِعْمَ صَاحِبُ الْمُسْلِمِ مَا أَعْطَى مِنْهُ الْمِسْكِينَ وَالْيَتِيمَ وَابْنَ السَّبِيلِ أَوْ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِنَّهُ مَنْ يَأْخُذُهُ بِغَيْرِ حَقِّهِ كَالَّذِي يَأْكُلُ وَلَا يَشْبَعُ وَيَكُونُ شَهِيدًا عَلَيْهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ.
قلت (محمود) هذا من الأحاديث التي هي من جوامع كلم النبي صلى الله عليه وسلم ولا ريب و هي من الفصاحة والبلاغة بمكان , لذا وجب التنويه على شرح لفظه و معناه :(1/61)
أما المعنى أن نعيم الدنيا لا يكمل حتى يؤدي المسلم حق الله في المال الذي آتاه فيصرفه في وجوه الخير مما كان واجبا كالزكاة أو مستحبا كالصدقة , وشبه النبي صلى الله عليه وسلم ذلك الرجل الذي آتاه الله المال و لم يصرفه في حقوق الله كدابة أكلت من مرعى طيب حتى انتفخت بطنها و ماتت , أما من أتاه الله المال فصرفه في حقه قال الحافظ ( الفتح 11\343) " والمعنى أنها إذا شبعت فثقل عليها ما أكلت تحيلت في دفعه بأن تجتر فيزداد نعومة، ثم تستقبل الشمس فتحمي بها فيسهل خروجه؛ فإذا خرج زال الانتفاخ فسلمت، وهذا بخلاف من لم تتمكن من ذلك فإن الانتفاخ يقتلها سريعا " ا.هـ.
أما معاني الألفاظ ( الفتح 11\343) :
الربيع : جدول الماء , يقتل حبطا : الحبط انتفاخ البطن من كثرة الأكل , يلم : أي يقرب من الهلاك , ثلطت : أي ألقت ما في بطنها رقيقا .(1/62)
وأخرج البخاري (1466) عَنْ زَيْنَبَ امْرَأَةِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَتْ كُنْتُ فِي الْمَسْجِدِ فَرَأَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ تَصَدَّقْنَ وَلَوْ مِنْ حُلِيِّكُنَّ وَكَانَتْ زَيْنَبُ تُنْفِقُ عَلَى عَبْدِ اللَّهِ وَأَيْتَامٍ فِي حَجْرِهَا قَالَ فَقَالَتْ لِعَبْدِ اللَّهِ سَلْ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَيَجْزِي عَنِّي أَنْ أُنْفِقَ عَلَيْكَ وَعَلَى أَيْتَامٍ فِي حَجْرِي مِنْ الصَّدَقَةِ فَقَالَ سَلِي أَنْتِ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَانْطَلَقْتُ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَوَجَدْتُ امْرَأَةً مِنْ الْأَنْصَارِ عَلَى الْبَابِ حَاجَتُهَا مِثْلُ حَاجَتِي فَمَرَّ عَلَيْنَا بِلَالٌ فَقُلْنَا سَلْ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَيَجْزِي عَنِّي أَنْ أُنْفِقَ عَلَى زَوْجِي وَأَيْتَامٍ لِي فِي حَجْرِي وَقُلْنَا لَا تُخْبِرْ بِنَا فَدَخَلَ فَسَأَلَهُ فَقَالَ مَنْ هُمَا قَالَ زَيْنَبُ قَالَ أَيُّ الزَّيَانِبِ قَالَ امْرَأَةُ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ نَعَمْ لَهَا أَجْرَانِ أَجْرُ الْقَرَابَةِ وَأَجْرُ الصَّدَقَةِ.
وأخرج البخاري (1467) عَنْ زَيْنَبَ بِنْتِ أُمِّ سَلَمَةَ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ قَالَتْ قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَلِيَ أَجْرٌ أَنْ أُنْفِقَ عَلَى بَنِي أَبِي سَلَمَةَ إِنَّمَا هُمْ بَنِيَّ فَقَالَ أَنْفِقِي عَلَيْهِمْ فَلَكِ أَجْرُ مَا أَنْفَقْتِ عَلَيْهِمْ.
ولا شك أن اليتيم افقير يعطى من زكاة المال الواجبة لأنه يكون من الأصناف الخمسة حينئذ .(1/63)
ويخرج الزكاة ولو كان اليتيم قريبا له , قال في المغني(1) " فإن كان في عائلته من لا يجب عليه الإنفاق عليه كيتيم أجنبي فظاهر كلام أحمد أنه لا يجوز له دفع زكاته إليه لأنه ينتفع بدفعها إليه لإغنائه بها عن مؤنته والصحيح , إن شاء الله جواز دفعها إليه لأنه داخل في أصناف المستحقين للزكاة ولم يرد في منعه نص ولا إجماع ولا قياس صحيح , فلا يجوز إخراجه من عموم النص بغير دليل وإن توهم أنه ينتفع بدفعها إليه قلنا : قد لا ينتفع به , فإنه يصرفها في مصالحه التي لا يقوم بها الدافع وإن قدر الانتفاع فإنه نفع لا يسقط به واجب عليه ولا يجتلب به مال إليه , فلم يمنع ذلك الدفع كما لو كان يصله تبرعا من غير أن يكون من عائلته . "
وهل يعطي اليتيم من صدقة التطوع و ان كان اليتيم غنيا ؟
وهذا بشرط أن يعطيها لليتيم الغني بغير مسألة من اليتيم . لقول النبي صلى الله عليه وسلم لعمر " ما جاءك من غير مسألة فكله و تموله فإنما هو رزق ساقه الله اليك " (2)
__________
(1) 1\522
(2) متفق عليه البخاري (7164) و مسلم (1045)(1/64)
قال النووي (1) " تحل صدقة التطوع للأغنياء بلا خلاف فيجوز دفعها اليهم ويثاب دافعها عليها , ولكن المحتاج أفضل , قال أصحابنا : ويستحب للغني التنزه عنها و يكره التعرض لأخذها , قال صحاب البيان : ولا يحل للغني أن أخذ صدقة التطوع مظهرا للفاقة , وهذا الذي قاله صحيح وعليه حمل الحديث الصحيح " أن رجلا من أهل الصفة مات فوجد له ديناران , فقال النبي صلى الله عليه وسلم : كيّتان من نار (2). والله أعلم . و أما اذا سأل الغني صدقة التطوع فقد قطع صاحب الحاوي و السرخسي و غيرهما بتحريمها عليه , قال صاحب الحاوي : اذا كان غنيا عن المسألة بمال أو ضيعة فسؤاله حرام و ما يأخذه محرّم عليه .هذا لفظه ."ا.هـ.
__________
(1) المجموع 6\237
(2) الحديث أخرجه الإمام أحمد من حديث علي بن أبي طالب بسند ضعيف كما قال الشيخ أحمد شاكر رحمه الله برقم (788) وفيه مجهول وهو عتيبة الضرير و أخرجه أيضا من حديث عبدالله بن مسعود و فيه عاصم بن أبي النجود وهو صدوق يهم و قال في مجمع الزوائد " رواه أحمد و أبو يعلى و رجالهما رجال الصحيح غير عاصم بن يهدلة , وقد وثّق " و حديث بن مسعود صحّح اسناده الشيخ أحمد شاكر في المسند .(1/65)
ومما استدل به أبو عمر بن عبد البرعلى الجواز أيضا ما أخرجه مالك (1) عن اسحاق بن عبدالله بن أبي طلحة , أنه سمع أنس بن مالك يقول : كان أبو طلحة أكثر أنصاري بالمدينة مالا من نخل , وكان أحب أمواله إليه بيرحاء , وكانت مستقبلة المسجد , وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدخلها , ويشرب من ماء فيها طيب , قال أنس : فلما نزلت {لن تنالوا البرّ حتى تنفقوا مما تحبون } قام أبو طلحة , فقال : يا رسول الله إن الله يقول {لن تنالوا البرّ حتى تنفقوا مما تحبون } و إن أحب أموالي بيرحاء , وإنها صدقة لله أرجو برّها و ذخرها عند الله , فضعها يا رسول الله حيث شئت . قال : فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " بخ , ذلك مال رابح , ذلك مال رابح , وقد سمعت ما قلت , و إني أرى أن تجعله في الأقربين " فقال أبو طلحة : أفعل يا رسول الله , فقسمها أبو طلحة بين أقاربه و بني عمه(2) .
قال أبو عمر(3) " وفيه رد على من أكل الصدقة التطوع للغني من غير مسألة , لأن أقراب أبي طلحة الذين قسم عليهم صدقته تلك , لم يبن لنا أنهم فقراء , ممن يحل لهم أخذ الصدقة المفروضة , وقد ذكر بعض أهل العلم , أن أبي بن كعب , كان من أيسر أهل المدينة , وهو أحد الذين قسم عليهم أبو طلحة صدقته هذه , وقد عارضه بعض مخالفيه , فزعم أن أبيا كان فقيرا , و احتج برواية من روى في هذا الحديث , فقسمها أبو طلحة بين فقراء أقربائه , وهي لفظة مختلف فيها لا تثبت , وعلى أي وجه كان , فإن الصدقة التطوع جائز قبولها من غير مسألة , لكل أحد غنيا كان أو فقيرا , و إن كان التنزه عنها أفضل عند بعض العلماء " ا.هـ.
وكذا قال بن حجر في الفتح " وفيه جواز أخذ الغني من صدقة التطوع إذا حصل له بغير مسألة "(4)
__________
(1) التمهيد 1\121
(2) وفي رواية عند مسلم فجعلها في حسّان بن ثابت و أبي بن كعب , والحديث أخرجه مسلم (998) و البخاري (1461)
(3) التمهيد 1\127
(4) الفتح 5\559(1/66)
وكذلك يجوز أن يهدي الفقير و المسكين للغني لحديث بريرة لما أهدت لعائشة رضي الله عنها لحم فقيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم أنه لحم تصدّق به على بريرة . وأنت لا تأكل الصدقة , فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "هو عليها صدقة و هو لنا هدية " و الحديث أخرجه مالك في الموطأ من حديث ربيعة بن أبي عبد الرحمن عن القاسم بن محمد عن عائشة رضي الله عنها , و أخرجه البخاري في كتاب الطلاق باب : لا يكون بيع الأمة طلاقا و مسلم في كتاب العتق باب : إنما الولاء لمن أعتق .
وروى أحمد (1) حدثنا عبد الرزاق ثنا معمر عن يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة عن أم سلمة زوج النبي صلى الله عليه وسلم أن امرأة أهدت اليها رجل شاة تصدق عليها بها فأمرها النبي صلى الله عليه وسلم أن تقبلها .
واليتيم الذي لا مال له يعطى من الخمس
والخمس أي خمس الغنيمة من العدو الذي هو في قوله تعالى { واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه و للرسول و لذي القربى و اليتامى و المساكين و ابن السبيل إن كنتم آمنتم بالله و ما أنزلنا على عبدنا يوم الفرقان يوم التقى الجمعان , والله على كل شيء قدير } (الأنفال 41) والأربع أخماس الباقية تكون للغانمين .
واختلف أهل العلم في كيفية توزيع هذا الخمس على عدة أقوال ليس هذا موضعها (2), الشاهد أن من عظم حق اليتيم عند الله أن جعل له مصرف حتى في غنيمة الحرب .
قوله تعالى: وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُوْلُواْ الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ فَارْزُقُوهُم مِّنْهُ وَقُولُواْ لَهُمْ قَوْلاً مَّعْرُوفاً {8}النساء , وهل هو منسوخ؟
__________
(1) المسند 26507 قال الهيثمي في المجمع 3\249 " رواه أحمد و رجال أحمد رجال الصحيح "
(2) أنظر القرطبي (8\11)(1/67)
قال بن كثير رحمه الله " وقال مالك عن الزهري عن سعيد بن المسيب هي منسوخة نسختها المواريث والوصية وهكذا روى عن عكرمة وأبي الشعثاء والقاسم بن محمد وأبي صالح وأبي مالك وزيد بن أسلم والضحاك وعطاء الخراساني ومقاتل بن حيان وربيعة بن أبي عبد الرحمن أنهم قالوا إنها منسوخة وهذا مذهب جمهور الفقهاء والأئمة الأربعة وأصحابهم "(1) ا.هـ.
هذا .. وقد قال البخاري في كتاب التفسير حدثنا أحمد بن حميد، أخبرنا عبيد الله الأشجعي، عن سفيان، عن الشيباني، عن عكرمة، عن ابن عباس ـ رضى الله عنهما ـ { وإذا حضر القسمة أولو القربى واليتامى والمساكين } قال هي محكمة وليست بمنسوخة . تابعه سعيد عن ابن عباس .(2)
وأيضا قال عبد الرزاق أخبرنا ابن جريج أخبرني بن أبي مليكة أن أسماء بنت عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق و القاسم بن محمد أخبراه أن عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي بكر قسم ميراث أبيه عبد الرحمن و عائشة حية فلم يدع في الدار مسكينا و لا ذا قرابه إلا أعطاه من ميراث أبيه , قالا و تلا { وإذا حضر القسمة أولو القربى } قال القاسم فذكرت ذلك لابن عباس فقال ما أصاب ليس ذلك له إنما ذلك إلى الوصية و إنما هذه الآية في الوصية , يريد الميت يوصي لهم . (3)
قال ابن حجر "وهذا لا ينافي حديث الباب (أي حديث بن عباس الأول) و هو أن الآية محكمة و ليست بمنسوخة وقيل معنى الآية : إذا حضر قسمة الميراث قرابة الميت ممن لا يرث و اليتامى و المساكين فإن نفوسهم تتشوف إلى أخذ شيء منه , ولا سيما إن كان جزيلا , فأمر الله سبحانه و تعالى أن يرضخ لهم بشيء على سبيل البر و الإحسان "(4)
__________
(1) التفسير 1\455
(2) البخاري ( 4619)
(3) تفسير بن كثير 1\455 قلت : وهذا اسناد صحيح .
(4) الفتح 8\129(1/68)
وقال بن كثير " بل المعنى أنه إذا حضر هؤلاء الفقراء من القرابة الذين لا يرثون واليتامى والمساكين قسمة مال جزيل فإن أنفسهم تتوق إلى شيء منه إذا رأوا هذا يأخذ وهذا يأخذ وهم يائسون لا شيء يعطونه فأمر الله تعالى وهو الرؤف الرحيم أن يرضخ لهم شيء من الوسط يكون برا بهم وصدقة عليهم وإحسانا إليهم وجبرا لكسرهم "
وقال الشيخ السعدي رحمه الله (1) " أعطوهم ما تيسر من هذا المال الذي جاءكم بغير كدّ و لا تعب ولا عناء و لا نصب , فإن نفوسهم متشوقة اليه و متطلعة , فاجبروا خواطرهم بما لا يضركم و هو نافعهم . ويؤخذ من هذا المعنى أن كل من له تطلع و تشوف الى ما حضر بين يدي الإنسان ينبغي له أن يعطيه ما تيسّر , كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول " إذا جاء أحدكم خادمه بطعامه , فليجلسه معه , فإن لم يجلسه معه , فليناوله لقمة أو لقمتين " أو كما قال . و كان الصحابة رضوان الله عليهم , إذا بدأت باكورة أشجارهم , أتوا بها رسول الله صلى الله عليه وسلم فبرّك عليها و نظر إلى أصغر وليد عنده فأعطاع ذلك , علما منه بشدة تشوفه إلى ذلك , وهذا كله مع إمكان الإعطاء , فإن لم يمكن ذلك لكونه أو ثمّ أهم من ذلك , فليقولوا لهم { قولا معروفا } يردّونهم ردّا جميلا بقول حسن غير فاحش و لا قبيح " ا.هـ.
وما قاله ابن حجر و ابن كثير و الشيخ السعدي هو الأقرب للحق ان شاء الله .
واليتيم صاحب المال يحرم أكل ماله دون وجه حق وقول الله تعالى { وإن تخالطوهم فإخوانكم }
قال تعالى { وآتوا اليتامى أموالهم و لا تتبدلوا الخبيث بالطيب و لا تأكلوا أموالهم إلى أموالكم إنه كان حوبا كبيرا } و قال تعالى { إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما إنما يأكلون في بطونهم نارا و سيصلون سعيرا } وقال تعالى { ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن حتى يبلغ أشده }.
__________
(1) تفسير السعدي 164-165(1/69)
وفيم أخرجه البخاري و مسلم عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : (( اجتنبوا السبع الموبقات )) قلنا ما هن يا رسول الله ؟ قال : (( الشرك بالله ، والسحر ، وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق ، وأكل الربا ، وأكل مال اليتيم ، والتولي يوم الزحف ، وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات )).
أما قوله تعالى { ولا تتبدلوا الخبيث بالطيب } , أي يعمد أحدكم إلى مال يتيمه فيكون أطيب من ماله فيبدله بماله , فإذا كان لليتيم مثلا منزلا حسنا و للولي منزلا و لكنه دون منزل اليتيم أو قطعة أرض أو ما شابه ذلك فيعمد الولي إلى هذا المال فيبدل ماله بمال يتيمه , وهذا لا يجوز و حرام .
وقال تعالى { و يسئلونك عن اليتامى , قل إصلاح لهم خير , و إن تخالطوهم فإخوانكم والله يعلم المفسد من المصلح , ولو شاء الله لأعنتكم إن الله عزيز حكيم }
روي في سبب نزولها ما أخرجه أبو داود (2871) و النسائي و غيرهما عن ابن عباس رضي الله عنه قال : لما أنزل الله تعالى { ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن } و { إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما } , انطلق من كان عنده يتيم فعزل طعامه من طعامه و شرابه من شرابه فجعل يفضل من طعامه فيحبس له , حتى يأكله أو يفسد فاشتد ذلك عليهم , فذكروا ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فأنزل الله تعالى { ويسألونك عن اليتامى قل إصلاح لهم خير } الآية فخلطوا طعامهم بطعامهم و شرابهم بشرابه . وعلى هذا السبب أكثر المفسرين ( أنظر تفسير بن كثير ) . وحسّن هذا الحديث الألباني رحمه الله في صحيح سنن أبي داود.
وفي الأية دليل على جواز النظر في مال اليتيم و إصلاحه له في الدنيا و اصلاح آخرته من تجارة و مضاربة و انفاق .. الخ كما سنبين بعد قليل إن شاء الله .
قوله تعالى { و لا تأكلوها إسرافا و بدارا أن يكبروا }
قال بن كثير " ينهى تعالى عن أكل أموال اليتامى من غير حاجة ضرورية(1/70)
{ إسرافا و بدارا } أي مبادرة قبل بلوغهم "ا.هـ.
وهذا من عظيم الجرم , وهو مشهور في هذه الآونة , وله العديد من الصور .. ومن صوره أن ينفق الوصي من مال يتيمه عليه ثم يقول له حين يبلغ , لم يعد لديك مال فقد أنفقته عليه في تربيتك و تعليمك .. الخ !
وهو كاذب , و إن كان كلامه حقا فهو مفرّط , لأن المشروع أن ينمي مال اليتيم لا يتركه حتى تأكله النفقات كما سيأتي إن شاء الله .. ففي كلا الحالين هو على خطأ ويجب على الوصي أن يتقي الله في أموال أيتامه و لا يتحايل عليه ليأكل أمواله بالباطل وهو يعلم و هذا من أكل أموال اليتامى ظلما , والله تعالى أعلم !
و يتاجر الوصيّ بمال اليتيم لمصلحة اليتيم و يزكي ماله أيضا
قال القرطبي (1)" و يجوز للوصي أن يصنع في مال اليتيم ما كان الأب أن يصنعه من تجارة و إبضاع و شراء و بيع . وعليه أن يؤدي الزكاة من سائر أمواله : عين و حرث و ماشية و فطرة و يؤدي عنه أروش الجنايات و قيم المتلفات , ونفقة الوالدين و سائر الحقوق اللازمة .. الخ كلامه رحمه الله " .
واستدلوا على ذلك بحديث للنبي عليه الصلاة و السلام " من ولي لليتيم مالا فليتجر به و لا يدعه حتى تأكله الصدقة " وهذا مرسل ضعيف و لكن العمل عليه عند الفقهاء(2)
و قد صحّ ذلك عن عائشة رضي الله عنها كما أخرج ذلك بن أبي شيبة (3)من طريق علي بن مسهر عن يحيى بن سعيد عن القاسم قال : كن أيتاما في حجر عائشة فكانت تزكي أموالنا و تبضعها في البحر .(4)
وكذلك هو مشهور عن علي رضي الله عنه (5) .
وههنا مسألة مشهورة , وهي هل الزكاة تجب في عين المال أو تجب حين البلوغ ؟
__________
(1) في تفسيره (5\35)
(2) قال البيهقي في الكبرى (4\179) وهذا مرسل ضعيف وقد روي عن عمر بن الخطاب من طريق عمرو بن شعيب عن سعيد بن المسيب عنه , ولا يصحّ سماع لسعيد بن المسيب عن عمر , وروي من غير وجه عن عمر رضي الله عنه .
(3) في المصنف (21375)
(4) اسناده صحيح
(5) التلخيص الحبير 2\325)(1/71)
والصحيح أن الزكاة تجب في عين المال وهو قول مالك، والليث، والشافعي، وأحمد، وأبي ثور، وهو مروي عن عمر، وعائشة، وعلي، وابن عمر، وجابر ـ رضي الله عنهم ـ قال عمر : اتجروا في أموال اليتامي،/لا تأكلها الزكاة، وقالته عائشة ـ أيضًا . وروي ذلك عن الحسن ابن على، وهو قول عطاء، وجابر بن زيد، ومجاهد، وابن سيرين . (1)
وكذلك يزكّي مال اليتيم , وقد صحّ عن الصحابة في ذلك آثار , كما أخرجه الشافعي في الأم (657) بسند صحيح عن عبد الرحمن بن القاسم عن أبيه قال : كانت عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم تليني أنا و أخوين لي يتيمين في حجرها , فكانت تخرج من أموالنا الزكاة , كذلك صحّ عن بن عمر كما في الأم (661).
قال الشافعي (2)الزكاة في مال اليتيم كما في مال البالغ , لأن الله عز وجل يقول{ خذ من أموالهم صدقة تطهرهم و تزكيهم بها} ولم يخص مالا دون مال .ا.هـ.
وعن ابن عمر أنه كان يزكي من أموال اليتامى , وسيأتي الأثر عنه بعد قليل وهو صحيح.
و أخرج البيهقي أيضا (3)من طريق موسى بن داود الضبي ثنا القاسم بن الفضل الحداني عن معاوية بن قرّة قال : حدثني الحكم بن أبي العاص , قال قال لي عمر بن الخطاب رضي الله عنه : هل قبلكم متجر فإن عندي مال يتيم قد كادت الزكاة أن تأتي عليه قال : قلت له : نعم , قال : فدفع إلي عشرة ألاف فغبت عنه ماشاء الله ثم رجعت إليه , فقال لي : ما فعل المال ؟ , قال : قلت : هو ذا قد بلغ مائة ألف , قال : رد علينا مالنا لا حاجة لنا به . (4)
__________
(1) مجموع الفتاوى لابن تيمية 25\14 , المغني 1\510
(2) في الأم (2\53)
(3) في السنن الكبرى (10985)
(4) قلت (محمود) : وهذا اسناد جيد , موسى بن داود صدوق له أوهام , و الحكم بن أبي العاص هو الثقفي و ليس الأموي(أنظر ابن أبي حاتم في الجرح و التعديل3 \120) .(1/72)
وقد أخرج بن أبي شيبة (1) من طريق وكيع وابن أبي زائدة عن حميد بن عبدالله بن عبيد الأنصاري عن أبيه عن جده أن عمر رضي الله عنه دفع إليه مال يتيم مضاربة. وهذا ضعيف الاسناد .
ويتاجر بمال اليتيم لما هو أحظ له , وليس فيه خطر و لا غرر والربح كله لليتيم
وهذا هو قول ابن عمر و النخعي و الحسن بن صالح و مالك و الشافعي و أبو ثور و أصحاب الرأي و يروى اباحة التجارة به عن عمر و عائشة أيضا .(2)
وذلك لأن الله تعالى يقول { ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن } ومعنى ذلك أن يرى كافل اليتيم أو وليه على ماله أحسن الأمور لتوظيف ماله , فلا يعرضها للضياع , فإن كانت تجارة , أن يتأكد قدر المستطاع من عدم الخطر و الغرر في هذه التجارة , و إن اشترى له شيئا من عقار أو نحوه , يتأكد من سلامته من العيوب إلى غير ذلك .
وأما ما يروى عن عائشة أنها كانت تتاجر بمال اليتامى في البحر كما تقدم , فهذا محله أنه كان في موضع مأمون أو أنها جعلت عليها الضمان , أي إن هلك المال غرمته .
قال الشافعي رحمه الله " وأحب أن يتجر الوصي بمال من ولي عليه و لا ضمان "
__________
(1) في المصنف (21361) و أخرجه الشافعي في كتاب اختلاف العراقيين من طريق أبي حنيفة رحمه الله عن حميد بن عبد الله بن عبيد (2126) و أبو حنيفة ضعيف في الحديث مع جلالته و حميد بن عبدالله ضعيف أيضا و في النسخة التي بين أيدينا من المصنف (عبد الله بن حميد ) و الصحيح ما أثبتناه من ان شاء الله و أنظر تهذيب التهذيب 3\50 و الجرح و التعديل 3\226 و تلخيص الحبير 3 \130
(2) المغني 1\915)(1/73)
وأما ما أخرجه الترمذي و البيهقي و الدارقطني من حديث عبد الله بن عمرو قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " من ولي يتيم و له مال فليتجر له بماله ولا يتركه حتى تأكله الصدقة " , فضعيف(1) , و قال عمر " اتجروا في مال اليتامى لا تأكلها الصدقة " قلت (محمود) وهو ضعيف أيضا(2) ولكن العمل على ذلك كما قلنا.
ويجب على الولي أن يحتفظ بالمواثيق الحالية المعروفة التي تثبت أنه تاجر بمال يتيمه أو أنه اشترى به شيئا أو غير ذلك , كالعقود الموثقة بالجهات المعنية و الفواتير ... الخ , حتى إذا كبر اليتيم و بلغ , وردّ إليه ماله علم اليتيم ماله وكم أنفق عليه منه , فإذا حدث تنازع بين اليتيم ووليه ورفع الأمر إلى القضاء كان هناك أدلة على كلام الولي , وما نقوله نستشهد عليه بقوله تعالى { ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن } و هذا التصرف من الولي هو من التصرف في المال بالتي هي أحسن , وهي تشمل كل ذلك , وغيره مما يحفظ حق اليتيم في ماله , والله تعالى أعلم(3).
وهل يتاجر ولي اليتيم بنفسه في المال أم لابد أن يوكّل غيره ؟
قولان لأهل العلم , من أهل العلم من منع ولي اليتيم أن يتاجر هو نفسه بالمال مضاربة مثلا ,
وأما من أجاز ذلك قال : لأنه جاز أن يدفع المال إلى غيره فجاز أن يأخذ ذلك لنفسه أي من باب أولى .
قالوا :لأن الربح نماء مال اليتيم فلا يستحقه غيره إلا بعقد , ولا يجوز أن يعقد الولي المضاربة مع نفسه , فأمّا إن دفعه إلى غيره فللمضارب ما جعله له الولي ووافقه عليه أي اتفقا عليه في قولهم جميعا , لأن الوصي نائب عن اليتيم فيما فيه مصلحته , وهذا فيه مصلحته فصار تصرفه فيه كتصرف المالك في ماله .
والقول الثاني قال الشيخ بن العثيمين(4)" لأنه متهم فلا يجوز أن يأخذ " ا.هـ.
__________
(1) انظر (التلخيص الحبير 2\323)
(2) السابق وأنظر تعليق 67
(3) انظر المجموع في شرح المهذب 13\15)
(4) في شرح الزاد (4\208)(1/74)
وقد يقول قائل : أن ولي اليتيم قد يكون تاجرا مثلا , فلا شك أنه أولى من غيره للمتاجرة بمال اليتيم لأنه سيكون أحرص على حفظه و أحرص على تحري الصدق و المكسب من غيره ؟
قلنا : هذا صحيح , فيفرق هنا بين أمرين ..
الأول : أن يكون ولي اليتيم تاجرا أصلا و لن يصده الاتجار بمال يتيمه عن أشغاله فهذا يتاجر بمال اليتيم و لكن الربح كله يكون لليتيم و لا شيء له لأنه وصي وهو منزّل منزلة صاحب المال فأشبه أن يكون تاجر اليتيم لنفسه فلا يصح أن يأخذ منه شيئا .
الثاني: أما إن كان اتجاره لليتيم يصده عن أشغاله و يجهده مثلا فهذا لا بأس أن يكون له نصيب من الربح و لكن يقدّره القاضي والله تعالى أعلم .
هل يقرض من مال اليتيم ؟
قال البيهقي (1)أخبرنا أبو الحسين بن بشران , أنبأ اسماعيل بن محمد الصفار , ثنا الحسن بن علي بن عفان , ثنا بن نمير , عن عبيد الله , عن نافع , عن ابن عمر , أنه كان يستسلف أموال اليتامى عنده لأنه كان يرى أنه أحرز له من الوضع , قال : وكان يؤدي زكاته من أموالهم .
ومعنى الأثر أن ابن عمر كان يقرض من أموال اليتامى , وهذا محله أن يكون المقرض أمين و أنه موثوق به أنه يرده , وإلا فيمنع لأنه الله قال { ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن } و قال عليه الصلاة و السلام " إن الله كره لكم ثلاث , وذكر منها , اضاعة المال " .
قال في المغني(2):
__________
(1) الكبرى (10987) قلت : اسناده حسن, الحسن بن علي بن عفان صدوق .
(2) 1\917(1/75)
فأما قرض مال اليتيم فإذا لم يكن فيه حظ له لم يجز قرضه , فمتى أمكن الولى التجارة به أو تحصيل عقار له فيه الحظ لم يقرضه لأن ذلك يفوت الحظ على اليتيم , وإن لم يمكن ذلك وكان قرضه حظا لليتيم جاز قال أحمد : لا يقرض مال اليتيم لأحد يريد مكافأته , ومودته ويقرض على النظر والشفقة , كما صنع ابن عمر وقيل لأحمد : إن عمر استقرض مال اليتيم قال : إنما استقرض نظرا لليتيم واحتياطا إن أصابه بشيء غرمه قال القاضي : ومعنى الحظ أن يكون لليتيم مال في بلده , فيريد نقله إلى بلد آخر فيقرضه من رجل في ذلك البلد ليقضيه بدله في بلده , يقصد بذلك حفظه من الغرر في نقله أو يخاف عليه الهلاك من نهب أو غرق , أو نحوهما أو يكون مما يتلف بتطاول مدته أو حديثه خير من قديمه , كالحنطة ونحوها فيقرضه خوفا أن يسوس أو تنقص قيمته , وأشباه هذا فيجوز القرض لأنه مما لليتيم فيه حظ فجاز كالتجارة به وإن لم يكن فيه حظ , وإنما قصد إرفاق المقترض وقضاء حاجته فهذا غير جائز لأنه تبرع بمال اليتيم , فلم يجز كهبته وإن أراد الولي السفر لم يكن له المسافرة بماله وقرضه لثقة أمين أولى من إيداعه لأن الوديعة لا تضمن إذا تلفت , فإن لم يجد من يستقرضه على هذه الصفة فله إيداعه لأنه موضع حاجة ولو أودعه مع إمكان قرضه جاز , ولا ضمان عليه فإنه ربما رأى الإيداع أحظ له من القرض فلا يكون مفرطا وكل موضع قلنا : له قرضه فلا يجوز إلا لمليء أمين , ليأمن جحوده وتعذر الإيفاء وينبغي أن يأخذ رهنا إن أمكنه , وإن تعذر عليه أخذ الرهن جاز تركه في ظاهر كلام أحمد لأن الظاهر ممن يستقرضه من أجل حظ اليتيم , أنه لا يبذل رهنا فاشتراط الرهن يفوت هذا الحظ وقال أبو الخطاب : يقرضه إذا أخذ بالقرض رهنا فظاهر هذا أنه لا يقرضه إلا برهن لأن فيه احتياطا للمال وحفظا له عن الجحد , والمطل وإن أمكنه أخذ الرهن فالأولى له أخذه احتياطا على المال , وحفظا له فإن تركه احتمل أن يضمن إن ضاع(1/76)
المال لتقريطه واحتمل أن لا يضمن لأن الظاهر سلامته وهذا ظاهر كلام أحمد لكونه لم يذكر الرهن .ا.هـ.
التبرع من مال اليتيم واعارته ووقفه و التصدق منه
وعلى هذا , يكون التبرع من مال اليتيم واعارته غير جائز و لا أن يتصدق من ماله لأنه ليس أحظ لليتيم في شيء(1) .
ولا يجوز أن يبيع شيئا من أصول ملك لليتيم , كعقار أو سيارة أو نحوه , إلا لحاجة
وهذا الحاجة مثل أن يكون على اليتيم دين أو نفقة و ليس له مال حتى يقض حاجته به , أو أن يبيع هذا العقار لأنه يكون فيه غبطة , ربح كثير , ليشتري غيره و يوفر له مال مثلا .
أو أن عقارا قد لا ينتفع به في مكانه فيبيعه و يشتري في مكان أفضل .. وهكذا.
المهم أن يرى الناظر أي ذلك أحظ لليتيم فيفعله , لأنه الله تعالى يقول { ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن } .
هل يبيع عقار اليتيم لمصلحة المسلمين , وإن لم يكن محتاجا إلى بيعه ؟
__________
(1) زاد المستقنع 4\206 مع شرح بن العثيمين(1/77)
قال الإمام البخاري في صحيحه (1) : قال ابن شهاب وأخبرني عبد الرحمن بن مالك المدلجيـ وهو ابن أخي سراقة بن مالك بن جعشم ـ أن أباه، أخبره أنه، سمع سراقة بن جعشم، يقول جاءنا رسل كفار قريش يجعلون في رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر دية كل واحد منهما، من قتله أو أسره، فبينما أنا جالس في مجلس من مجالس قومي بني مدلج أقبل رجل منهم حتى قام علينا ونحن جلوس، فقال يا سراقة، إني قد رأيت آنفا أسودة بالساحل ـ أراها محمدا وأصحابه . قال سراقة فعرفت أنهم هم، فقلت له إنهم ليسوا بهم، ولكنك رأيت فلانا وفلانا انطلقوا بأعيننا . ثم لبثت في المجلس ساعة، ثم قمت فدخلت فأمرت جاريتي أن تخرج بفرسي وهى من وراء أكمة فتحبسها على، وأخذت رمحي، فخرجت به من ظهر البيت، فحططت بزجه الأرض، وخفضت عاليه حتى أتيت فرسي فركبتها، فرفعتها تقرب بي حتى دنوت منهم، فعثرت بي فرسي، فخررت عنها فقمت، فأهويت يدي إلى كنانتي فاستخرجت منها الأزلام، فاستقسمت بها أضرهم أم لا فخرج الذي أكره، فركبت فرسي، وعصيت الأزلام، تقرب بي حتى إذا سمعت قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو لا يلتفت، وأبو بكر يكثر الالتفات ساخت يدا فرسي في الأرض حتى بلغتا الركبتين، فخررت عنها ثم زجرتها فنهضت، فلم تكد تخرج يديها، فلما استوت قائمة، إذا لأثر يديها عثان ساطع في السماء مثل الدخان، فاستقسمت بالأزلام، فخرج الذي أكره، فناديتهم بالأمان فوقفوا، فركبت فرسي حتى جئتهم، ووقع في نفسي حين لقيت ما لقيت من الحبس عنهم أن سيظهر أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت له إن قومك قد جعلوا فيك الدية . وأخبرتهم أخبار ما يريد الناس بهم، وعرضت عليهم الزاد والمتاع، فلم يرزآني ولم يسألاني إلا أن قال أخف عنا . فسألته أن يكتب لي كتاب أمن، فأمر عامر بن فهيرة، فكتب في رقعة من أديم، ثم مضى
__________
(1) حديث 3906 كتاب مناقب الأنصار , باب هجرة النبي صلى الله عليه وسلم و أصحابه إلى المدينة(1/78)
رسول الله صلى الله عليه وسلم . قال ابن شهاب فأخبرني عروة بن الزبير أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لقي الزبير في ركب من المسلمين كانوا تجارا قافلين من الشأم، فكسا الزبير رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبا بكر ثياب بياض، وسمع المسلمون بالمدينة مخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكة، فكانوا يغدون كل غداة إلى الحرة فينتظرونه، حتى يردهم حر الظهيرة، فانقلبوا يوما بعد ما أطالوا انتظارهم، فلما أووا إلى بيوتهم، أوفى رجل من يهود على أطم من آطامهم لأمر ينظر إليه، فبصر برسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه مبيضين يزول بهم السراب، فلم يملك اليهودي أن قال بأعلى صوته يا معاشر العرب هذا جدكم الذي تنتظرون . فثار المسلمون إلى السلاح، فتلقوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بظهر الحرة، فعدل بهم ذات اليمين حتى نزل بهم في بني عمرو بن عوف، وذلك يوم الاثنين من شهر ربيع الأول، فقام أبو بكر للناس، وجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم صامتا، فطفق من جاء من الأنصار ممن لم ير رسول الله صلى الله عليه وسلم يحيي أبا بكر، حتى أصابت الشمس رسول الله صلى الله عليه وسلم فأقبل أبو بكر حتى ظلل عليه بردائه، فعرف الناس رسول الله صلى الله عليه وسلم عند ذلك، فلبث رسول الله صلى الله عليه وسلم في بني عمرو بن عوف بضع عشرة ليلة وأسس المسجد الذي أسس على التقوى، وصلى فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم ركب راحلته فسار يمشي معه الناس حتى بركت عند مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم بالمدينة، وهو يصلي فيه يومئذ رجال من المسلمين، وكان مربدا للتمر لسهيل وسهل غلامين يتيمين في حجر أسعد بن زرارة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم حين بركت به راحلته " هذا إن شاء الله المنزل " . ثم دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم الغلامين، فساومهما بالمربد ليتخذه مسجدا، فقالا لا بل نهبه لك يا رسول الله، ثم بناه مسجدا، وطفق رسول الله صلى الله عليه وسلم(1/79)
ينقل معهم اللبن في بنيانه، ويقول وهو ينقل اللبن " هذا الحمال لا حمال خيبر هذا أبر ربنا وأطهر " . ويقول " اللهم إن الأجر أجر الآخره فارحم الأنصار والمهاجره " . فتمثل بشعر رجل من المسلمين لم يسم لي . قال ابن شهاب ولم يبلغنا في الأحاديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تمثل ببيت شعر تام غير هذا البيت . ا.هـ.
قال ابن القيم رحمه الله في الفوائد " فائدة: في شراء مسجد المدينة من اليتيمين , وجعلها مسجدا من الفقه , دليل على جواز بيع عقار اليتيم و إن لم يكن محتاجا إلى بيعه للنفقة إذا كان في البيع مصلحة للمسلمين عامة لبناء مسجد أو سور أو نحوه . ويؤخذ من ذلك أيضا بيعه إذا عوّض عنه بما هو خير له منه " ا.هـ.
وللولي أن يؤجر مال اليتيم إن كان ذلك لمصلحته
وهو من باب أيضا { وأن تقوموا لليتامى بالقسط } .. فإذا احتاج الولي لذلك كي ينفق على يتيمه مثلا أو لشراء أغراض له أو للقيام بمصالحه عموما , فلا بأس بذلك أبدا .. بل هو مستحب و مقبول , بشرط أن تكون الإجارة بأجرة المثل أو أكثر ( أي أجرة المتعارف عليه في مكان الإجارة ) .
واختلف أهل العلم إذا بلغ اليتيم أثناء مدة الإجارة على قولين :
الأول : أن الولي إذا أجر مال اليتيم فإن كان يعلم بلوغ اليتيم في المدة بأن أجره سنتين وهو ابن أربع عشرة انفسخت الإجارة وقت بلوغه، وإن لم يعلم بلوغه كن أجره في الخامس عشر فبلغ في أثنائها لم تنفسخ .
قالوا: إذا كان الولي يعلم بلوغ اليتيم أثناء المدة تنفسخ الإجارة: أنه متصرف في غير زمن ولايته فلا يملكه.
ولئلا يفضي إلى أن يعقد على جميع منافعه طول عمره.
الثاني : أنه لا خيار لليتيم .
وهو قول الحنفية .. وحجته قوله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود } وذلك أن الله عز وجل أمر بإيفاء العقد ، ويدخل في ذلك ما عقده الولي من الإجارة على مال اليتيم؛ لأنه مأذون له في ذلك.(1/80)
و الراجح – والله أعلم – ما ذهب إليه القول الأول؛ لقوة دليله في مقابل ضعف دليل القول الثاني بمناقشته.(1)
ويجوز لولي اليتيم بيع مال اليتيم نسيئة و بالعرض
وهما جائزان و لا شك خاصة في تلك الأيام , و أحيانا قد تكون مصلحة اليتيم منوطة بذلك .. فيضطر الولي أن يبيع شيئا لليتيم إلى أجل , مع زيادة في الربح , وكذلك البيع بالعرض , كأن يبيع سيارة بسيارة أو نحو ذلك , وحجة ذلك كله :
قوله تعالى { ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن } , وقوله تعالى { وأن تقوموا لليتامى بالقسط } , وقوله تعالى { ويسألونك عن اليتامى قل إصلاح لهم خير } ..
وأما من منع ذلك من أهل العلم , فلم نقف له على دليل صحيح في ذلك , وولي اليتيم له حق النظر في مال يتيمه لما فيه مصلحته , في أي وجه كانت .
وبالنسبة للبيع نسيئة , فلولي اليتيم أن يأخذ ما شاء من الاحتياط لضمان مال اليتيم كأن يرهن من المشتري أو غير ذلك , والله تعالى أعلم .(2)
ويجوز المزارعة و المساقاة لمال اليتيم
يجوز للولي أن يدفع أرض اليتيم مزارعة ، وشجره مساقاة ؛ لأن عمل الولي في مال اليتيم منوط لمصلحته، وهذا من مصلحته.
لكن هل للولي أن يزارع نفسه ، أو يساقي نفسه ، يرد في هذا الخلاف السابق في أخذ الولي جزء من ربح مال اليتيم مقابل المضاربة به.(3)
هل يشتري الوصي لليتيم أضحية ؟
وذلك محله إن كان اليتيم موسرا و لن يتضرر ماله بهذه الأضحية , فيكون ذلك من باب أن العيد أيام أكل و شرب و ذكر لله عز وجل كما في حديث النبي صلى الله عليه وسلم في صحيح مسلم (1141) . أما إن كان ذلك يضر ماله فلا (4).
وقد يعتبر في ذلك العرف , فإذا كان عرف أهل اليتيم الأضحية مثلا ضحّوا , و إن كان لا فلا والله أعلم .
__________
(1) استفدنا هذه المسألة من مبحث (الإفادة من مال اليتيم للدكتور خالد بن علي بن محمد المشيقح ) ص 39-42
(2) أنظر الإفادة من مال اليتيم 32 و 33
(3) السابق 42
(4) المغني 1\916(1/81)
وهل يرهن الوصي مال يتيمه ؟
قال في المغني (1\968) " وجملته أن ولي اليتيم ليس له رهن ماله إلا عند ثقة يودع ماله عنده لئلا يجحده أو يفرط فيه فيضيع قال القاضي : ليس لوليه رهن ماله إلا بشرطين :
أحدهما : أن يكون عند ثقة
الثاني : أن يكون له فيه حظ وهو أن يكون به حاجة إلى نفقة , أو كسوة أو إنفاق على عقاره المتهدم أو أرضه , أو بهائمه ونحو ذلك وماله غائب يتوقع وروده , أو ثمرة ينتظرها أو له دين مؤجل يحل أو متاع كاسد يرجو نفاقه فيجوز لوليه الاقتراض ورهن ماله وإن لم يكن له شيء ينتظره , فلا حظ له في الاقتراض فيبيع شيئا من أصول ماله ويصرفه في نفقته وإن لم يجد من يقرضه , ووجد من يبيعه نسيئة وكان أحظ من بيع أصله جاز أن يشتريه نسيئة ويرهن به شيئا من ماله , والوصى والحاكم وأمينه في هذا سواء" ا.هـ.
قلت : وليس له أن يرهن مال اليتيم لصالح شخص آخر أي كان , لأن هذا ليس من مصلحة اليتيم في شيء و ليس هو من القربى بالتي هي أحسن , بل هو مخاطرة بمال اليتيم .. والله تعالى أعلم .
والوصي له أن يستعيد مال اليتيم المرهون :
وصورة ذلك أن يكون لليتيم مال مرهون فيأتي وصي اليتيم و يفك هذا الرهن إما بماله أو بمال يتيمه ...
فإن استعاده بماله : فله أن يأخذ ما غرم من مال اليتيم لأنه غرم هذا من ماله , وإن استعاده بمال يتيمه فلا إشكال إذا .
ولا يجوز أن يستعيد مال اليتيم المرهون لنفسه , لأنه لا يملك التصرف في مال اليتيم لنفسه و عليه الضمان , وهذا كله يدخل تحت عموم قوله تعالى { ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن } . والله أعلم .
قوله تعالى {و من كان غنيا فليستعفف و من كان فقيرا فليأكل بالمعروف } ووالي اليتيم له أن يأكل من ماله بالمعروف , إن كان فقيرا, نظير قيامه على ماله(1/82)
وذلك لما أخرجه البخاري(1) قال : حدثني اسحاق , أخبرنا عبدالله بن نمير , حدثنا هشام عن أبيه عن عائشة رضي الله عنها , في قوله عز وجل {و من كان غنيا فليستعفف و من كان فقيرا فليأكل بالمعروف } إنها نزلت في والي اليتيم إذا كان فقيرا أن يأكل منه مكان قيامه عليه بالمعروف .
وفيم أخرجه أبوداود و النسائي(2) عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده , أن رجلا أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : إني فقير ليس لي شيء ولي يتيم , قال فقال : كل من مال يتيمك غير مسرف و لا مبادر ولا متأثل" قال بن حجر اسناده قوي(3)
متأثل : قال الخطابي : أي غير متخذ منه أصل مال .
والولي إما أن يكون وصي الأب أو من أقارب اليتيم وإما أن يكون من قبل الحاكم (الدولة) وهذا الثاني لا يأكل من مال اليتيم شيئا لأن له أجر من الدولة(4).
أما الولي فهو إما :
أولا : أن يكون غنيا وهذا لا حظ له في مال اليتيم لأن الله تعالى يقول { ومن كان غنيا فليستعفف } أي يستعفف بغناه عن الأكل من ماله , قاله غير واحد من المفسرين .. إلا أن يخلط مطعمه بمطعمه مثلا فجائز حينئذ , لقوله تعالى { وإن تخالطوهم فإخوانكم }.
ثانيا : أن يكون الولي فقيرا , فهذا له أن يأكل بالمعروف , واختلف أهل العلم في شيئين ههنا ..
الأول: مقدار هذا المعروف , فقال بعضهم ما يسد جوعه و يستر عورته ...
و قال بعضهم على قدر حاجته و لا يكتسي منه وكل هذا قريب , فالمهم أن يأخذ من المال غير باغ و لا عاد كما يقول الله تعالى { و لا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن حتى يبلغ أشده } . و حديث عمرو بن شعيب المتقدم نص في المسألة .
الثاني : هل يرد ما أخذه على أنه على سبيل القرض أو لا ؟ على قولين في الجملة .
وقال بن عباس : إن كان ذهبا أو فضه لم يجز أن يأخذ منه شيئا إلا على سبيل القرض , وإن كان غير ذلك جاز بقدر الحاجة .
__________
(1) حديث 4575
(2) أبوداود 2869 و النسائي 3670
(3) في الفتح 8\128
(4) فتح الباري 8\127(1/83)
ومذهب الشافعي : يأخذ أقل الأمرين من أجرته و نفقته و لا يجب الرد على الصحيح , واستدلوا على ذلك بحديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده المتقدم , ولم يأمر النبي صلى الله عليه و سلم فيه برد شيئا .
واستدلوا على القول بالرد , بما أخرجه بن أبي الدنيا و سعيد بن منصور : حدثنا أبو الأحوص عن أبي اسحاق عن البراء قال : قال لي عمر رضي الله عنه قال : إنما أنزلت نفسي من مال الله بمنزلة والي اليتيم , إن احتجت أخذت منه , فإذا أيسرت رددته , و إن استغنيت استعففت(1) .
وروى البيهقي(2) عن ابن عباس نحو ذلك قال : أخبرنا أبو عبد الله الحافظ , أنبأ عبد الرحمن بن الحسن القاضي ثنا ابراهيم بن الحسين , ثنا آدم بن اياس , ثنا ورقاء , عن عبد الأعلى عن سعيد بن جبير عن ابن عباس في قوله تعالى { ومن كان فقريا فليأكل بالمعروف } قال : يأكل والي اليتيم من مال اليتيم قوته , ويلبس منه ما يستره , ويشرب فضل اللبن , ويركب فضل الظهر فإن أيسر قضى و إن أعسر كان في حل .
قال الامام البيهقي في السنن (6\7) و روينا عن عبيدة و مجاهد و سعيد بن جبير و أبي العالية أنهم قالوا : يقضيه .
وروينا عن الحسن البصري و عطاء بن أبي رباح : لا يقضيه .
__________
(1) , وصححّ اسناد سعيد بن منصور الحافظ بن كثير , تفسير بن كثير1\ 454 وأخرجه البيهقي في الكبرى (11001)
(2) في الكبرى (11002)(1/84)
قلت (محمود) الذي لاشك فيه بين أهل العلم أن لوصي اليتيم أن يأكل بالمعروف إن كان فقيرا , أو إن كانت وصاية اليتيم هذا تحتاج إلى جهد كبير مثلا جاز له أن يأخذ منه نظير قيامه على أعماله على الصحيح كما استدل على ذلك البخاري بحديث عائشة (5\551) أما بالنسبة للقضاء , فلم يثبت عندنا في ذلك حديث صحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما هو أثر عمر و بن عباس رضي الله عنهما , وعلى فرض أنهما يؤخذ منهما حكما , فالحكم فيهما ليس على الوجوب عندهما , أقصد على وجوب الردّ , و إنما يفعل ذلك استعفافا , كما أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يأمر السائل بالقضاء كما في حديث عمرو بن شعيب المتقدم , لذا لانرى وجوب القضاء على الآكل من مال اليتيم بالمعروف .
قال بن العربي (1)" والصحيح أنه لا يقضي , لأن النظر له , فتعين به الأكل بالمعروف , و المعروف هو حق النظر , وقد قال أبو حنيفة : يقارض في مال اليتيم و يأكل حظه من الربح , فكذلك يأخذ من صميم المال بمقدار النظر , هذا إذا كان فقيرا , أما إذا كان غنيا فلا يأخذ شيئا , لأن الله سبحانه و تعالى أمره بالعفة و الكف عنه " ا.هـ. هذا والله تعالى أعلم .
أما لو أكل الوصي من المال أو أخذ منه بغير معروف , فيلزم عليه رده و لا شك , فهذا ظلم و هذه أمانة لا يجب أن تضيع و لليتيم إن ثبت عنده ذلك أن يقاضيه و يسترد ماله و الله تعالى أعلم .
قوله تعالى { وابتلوا اليتامى حتى إذا بلغوا النكاح فإن ءانستم منهم رشدا فادفعوا إليهم أموالهم }
أي أن اليتيم لا يدفع إليه ماله إلا بشرطين:
__________
(1) أحكام القرآن 389-390(1/85)
قال في المغني " أنه لا يدفع إليه ماله قبل وجود الأمرين , البلوغ والرشد ولو صار شيخا وهذا قول أكثر أهل العلم قال ابن المنذر : أكثر علماء الأمصار من أهل الحجاز والعراق والشام , , ومصر يرون الحجر على كل مضيع لماله صغيرا كان أو كبيرا وهذا قول القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق وبه قال مالك والشافعي وأبو يوسف ومحمد .... إلى أن قال في قوله تعالى { وابتلوا اليتامى حتى إذا بلغوا النكاح فإن آنستم منهم رشدا فادفعوا إليهم أموالهم } علق الدفع على شرطين , والحكم المعلق على شرطين لا يثبت بدونهما وقال الله تعالى : { ولا تؤتوا السفهاء أموالكم } يعني أموالهم وقول الله تعالى : { فإن كان الذي عليه الحق سفيها أو ضعيفا أو لا يستطيع أن يمل هو فليملل وليه بالعدل } فأثبت الولاية على السفيه , ولأنه مبذر لماله فلا يجوز دفعه .اهـ.
الشرط الأول : البلوغ وعلاماته ...
جمهور أهل العلم على أن سن البلوغ هو خمس عشرة سنة , واستدلوا على ذلك بحديث بن عمر في الصحيحين قال : عرضت على النبي صلى الله عليه وسلم يوم أحد و أنا ابن أربع عشرة فلم يجزني , و عرضت عليه يوم الخندق و أنا ابن خمس عشرة فأجازني . فقال عمر بن عبد العزيز لما بلغه هذا الحديث , إن هذا الفرق بين الصغير و الكبير .
وفي رواية صريحة لابن حبان (4728) و البيهقي في الكبرى (6\55) أن ابن عمر قال " ولم يرن بلغت و عرضت عليه و أنا ابن خمس عشرة سنة فأجازني و رآني بلغت " وهذا رواية صريحة في تحديد سن البلوغ , وذلك حتى لا ينازع منازع في أن النبي صلى الله عليه وسلم قد يكون ردّه لضعف في بدنه أو لعدم قدرته على القتال أو غير ذلك .
وقالوا البلوغ تارة يكون بالاحتلام وهو أن يرى في منامه ما ينزل به الماء الدافق الذي يكون منه الولد كما في الحديث " رفع القلم عن ثلاثة الصبي حتى يحتلم وعن النائم حتى يستيقظ و عن المجنون حتى يفيق ".(1/86)
و تارة يكون بنبات الشعر الخشن حول الفرج كما في الحديث الذي رواه الإمام أحمد عن عطية القرظي قال عرضنا على النبي صلى الله عليه وسلم يوم قريظة فأمر أن ينظر من أنبت قتل ومن لم ينبت خلي سبيله فكنت فيمن لم بنبت فخلي سبيلي , وذلك في قضية حكم سعد بن معاذ رضي الله عنه في بني قريظة . راجع تفسير بن كثير لقوله تعالى { و ابتلوا اليتامى حتى إذا بلغوا النكاح }. هذا والله تعالى أعلم .
الشرط الثاني : الرشد ... واختلف أهل العلم , هل الرشد هو الصلاح في المال أو الصلاح في الدين و المال ؟
و الصلاح في المال فقط هو قول أكثر أهل العلم منهم مالك وأبو حنيفة ,(1/87)
قال في المغني " هذا قول أكثر أهل العلم منهم مالك وأبو حنيفة وقال الحسن والشافعي , وابن المنذر الرشد صلاحه في دينه وماله لأن الفاسق غير رشيد ولأن إفساده لدينه يمنع الثقة به في حفظ ماله كما يمنع قبول قوله , وثبوت الولاية على غيره وإن لم يعرف منه كذب ولا تبذير ولنا قول الله تعالى : { فإن آنستم منهم رشدا فادفعوا إليهم أموالهم } قال ابن عباس : يعني صلاحا في أموالهم وقال مجاهد : إذا كان عاقلا ولأن هذا إثبات في نكرة ومن كان مصلحا لماله فقد وجد منه رشد , ولأن العدالة لا تعتبر في الرشد في الدوام فلا تعتبر في الابتداء كالزهد في الدنيا , ولأن هذا مصلح لماله فأشبه العدل يحققه أن الحجر عليه إنما كان لحفظ ماله عليه , فالمؤثر فيه ما أثر في تضييع المال أو حفظه وقولهم : إن الفاسق غير رشيد قلنا : هو غير رشيد في دينه أما في ماله وحفظه فهو رشيد , ثم هو منتقض بالكافر فإنه غير رشيد ولا يحجر عليه لذلك وكذلك لو طرأ الفسق على المسلم بعد دفع ماله إليه , لم يزل رشده ولم يحجر عليه من أجله ولو كانت العدالة شرطا في الرشد , لزال بزوالها كحفظ المال ولا يلزم من منع قبول القول منع دفع ماله إليه , فإن من يعرف بكثرة الغلط والغفلة والنسيان أو من يأكل في السوق ويمد رجليه في مجامع الناس , وأشباههم لا تقبل شهادتهم وتدفع إليهم أموالهم إذا ثبت هذا فإن الفاسق إن كان ينفق ماله في المعاصي , كشراء الخمر وآلات اللهو أو يتوصل به إلى الفساد , فهو غير رشيد لتبذيره لماله وتضييعه إياه في غير فائدة وإن كان فسقه لغير ذلك كالكذب , ومنع الزكاة وإضاعة الصلاة مع حفظه لماله , دفع ماله إليه لأن المقصود بالحجر حفظ المال وماله محفوظ بدون الحجر ولذلك لو طرأ الفسق بعد دفع ماله إليه , لم ينزع منه . " ا.هـ.(1/88)
وأما ابن حزم في (المحلّى 8\287) فيرى أن الرشيد هو من بلغ مميزا للإيمان من الكفر واستدل على ذلك بقوله تعالى { لا اكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي } و قوله { وإن يروا سبيل الرشد لا يتخذوه سبيلا و إن يروا سبيل الغي يتخذوه سبيلا } وغيرها قال : " ليس هو كسب المال , ولا منعه من الحقوق ووجوه البرّ , بل هذا هو السفه , وإنما الرشد طاعة الله تعالى , كسب المال التي لا تثلم الدّين , ولا تخلق العرض , وإنفاقه في الواجبات , وفيم يتقرّب به إلى الله تعالى للنجاة من النار , وإبقاء ما يقوم بالنفس , والعيال , على التوسط و القناعة , فهذا هو الرشد " وقال : " وكذلك لم نجد في شيء من لغة العرب : أن الرشد هو الكيس في جمع المال و ضبطه , فبطل تأويلهم في الرشد بالآية , وفي دفع المال بإيناسه . و صحّ أنه موافقة لقولنا , وأنّ مراد الله تعالى يقينا بها : إنما هو أن من بلغ عاقلا مميزا مسلما وجب دفع ماله إليه , وجاز فيه من جميع أفعاله ما يجوز من فعل سائر الناس كلهم , ويردّ من أفعاله ما يردّ من أفعال سائر الناس كلهم , ولا فرق , و أن من بلغ غير عاقل , ولا مميز للدين , لم يدفع إليه ماله . ولو كان الذي قالوا في الرشد , وفي السفه قولا صحيحا , ومعاذ الله من ذلك , لكان طوائف من اليهود و النصارى , وعبّاد الأوثان ذوي رشد , ولكان طوائف من المؤمنين سفهاء , وحاش لله من هذا " ا.هـ.
ولنا تعقب على كلام بن حزم , رحمه الله , من وجوه :(1/89)
أولا : أنه لو كان المقصود بالرشد ما قاله , وهو من بلغ مميزا للإيمان من الكفر , لدفع المال إلى من هم دون البلوغ يقينا , لأن كثيرا ممن هم دون البلوغ يدركون حقيقة الإيمان من الكفر و هذا ثابت في دواوين السنة بكثرة مثل إسلام علي بن أبي طالب و هو صبي , و أنس بن مالك و محمود بن لبيد و غيرهم , فإذا قلنا بهذا القول لما كان هناك داع لذكر ( البلوغ ) في الآية قبل الرشد و أكثر أهل العلم على أن الرشد لا يكون إلا بعد البلوغ , ولا يجوز باتفاق دفع المال الى من بان رشده و لم يبلغ .
ثانيا : أن القرآن كما فسّر الرشد باتباع سبيل المؤمنين , فقد فسّره أيضا برجاحة التصرف كما في الآية في سورة النساء و معلوم أن سياق الآيات قبله في الأموال , وعدم دفعها للسفهاء , فعلم يقينا أن المقصود بالرشد هو رجاحة التصرف فيها , وهذا هو تفسير الكبار لها من أهل التفسير كابن عباس و السدي و الثوري و غيرهم فسّروه كذلك مقترنا بالدين كالحسن و قتادة و غيرهما وهؤلاء هم أهل العلم بالعربية و القرآن و ما سمعنا لهذا القول من سلف , وحسبك في ذلك قول عبد الله بن عباس و هو ترجمان القرآن .(1/90)
ثالثا : أن القرآن قد وصف أهل الكفر أيضا بعدم العقل , بل وصف الكافرون أنفسهم بذلك وهم في جهنّم , كما في آية تبارك { وقالوا لو كنا نسمع أو نعقل ما كنا في أصحاب السعير , فاعترفوا بذنبهم فسحقا لأصحاب السعير } و ليس معنى كلامهم أنهم كانوا في الدنيا مجانين , ولا يقول أحد بهذا , ولكنهم نفوا عن أنفسهم العقل لأن اتباع الرسل هو أسمى ما يفعله العقل , فلما لم يفعلوا ذلك نفوا العقل عنهم بالكلية و كذلك السمع , وهم كانوا يسمعون في الدنيا و لم يكونوا صما , ولكن لما لم يسمعوا لصوت الحق نفوا عن أنفسهم السمع كله , وهذا كقول ابليس لجنوده " ما فعلت شيئا " على الرغم مما فعلوه من ايقاع المسلمين في المعاصي , ولما جاءه من فرّق بين الرجل و امرأته قال " نعم , أنت أنت " , وهذا كثير جدا في اللغة و في استعمالاتها , فالشاهد أن استعمال الرشد في القرآن بغرضه الأسمى لا ينفي عنه معانيه الأخرى وهذا ...
رابعا : كما قال في لسان العرب " ... ورشيد وهو نقيض الضلال , إذا أصاب وجه الأمر و الطريق " وقد فسّره بذلك أهل العلم باللغة العربية أي أنه صلاح العقل و الدين و الصلاح في المال من المفسرين كما سبق بيانه .(1/91)
خامسا : أن أهل الكفر من اليهود و النصارى قد يكونوا أعقل من بعض المسلمين في بعض أمور الدنيا وقد يكونوا أعرف منهم و أمهر في بعض أمور الدنيا , ولا ريب , وقد استأجر النبي صلى الله عليه وسلم كافرا لارشاده في الهجرة , واستأجار الكافر الماهر جائز و مسائله مشهورة في الفقه , فهذا باب , أما باب الكفر و الإيمان فلا شك أنه { ولعبد مؤمن خير من مشرك و لو أعجبكم } وهذا خالد بن الوليد يتفوق على المسلمين في أحد , فالمعاني و الألفاظ قد يكون لها معنى شرعي و قد يكون لها معنى عام يعرفه الناس وهو ما يعرف باللغة و الاصطلاح , وهذا في ألفاظ كثيرة جدا , فالكبر في الشرع هو بطر الحق وغمط الناس و الإيمان في الشرع هو الإيمان بالله و ملائكته و كتبه و رسله و اليوم الآخر و القدر خيره و شره .. الخ .
ويعرف الرشد بالاختبار:
قال القرطبي في معنى الابتلاء عن أهل العلم " هو أن يتأمل الوصي أخلاق يتيمه و يستمع إلى أغراضه فيحصل له العلم بنجابته و المعرفة بالسعي في مصالحه و ضبط ماله .. وقال : لا بأس أن يدفع إليه شيئا من ماله يبيح له التصرف فيه فإن نماه و حسّن النظر فيه فقد وقع الاختبار , ووجب على الوصي تسليم جميع ماله إليه . و إن أساء النظر فيه وجب عليه إمساك ماله عنده. قال بن عباس و السدّي و الثوري في قوله { رشدا } : صلاحا في العقل و حفظا في المال ".
قلت (محمود) و بأي اختبار تبين للوصي أنه يكون حجة له في أن يتبين أن اليتيم قد أصبح قادرا على أن يتصرف في ماله بحكمة و رشد جاز له أن يختبره طالما هذا الاختبار ليس فيه معصية لله و رسوله , أي أن هذا يرجع لاجتهاد الوصي و هذا كله في اليتيم و اليتيمة سواء , الله تعالى أعلم .(1/92)
و قال (القرطبي) " وأكثر العلماء على أن الرشد لا يكون إلا بعد البلوغ و على أنه إن لم يرشد بعد بلوغ الحلم و إن شاخ لا يزول الحجر عنه وهو مذهب مالك و غيره " وقال " دفع المال لا يكون إلا بشرطين : إيناس الرشد و البلوغ فإن وجد أحدهما دون الآخر لم يجز تسليم المال , كذلك نص الآية , وهو قول جماعة الفقهاء ".
وهل الاختبار يكون بعد البلوغ أو قبله ؟
قولان لأهل العلم , قال في المغني (1018) فظاهر الآية أن ابتلائهم قبل البلوغ لوجهين :
أحدهما : أنه سماهم يتامى , وإنما يكونوا يتامى قبل البلوغ .
الثاني : أنه مد اختبارهم إلى البلوغ بلفظ {حتى} فدلّ على أن الاختبار قبله , ولأن تأخير الاختبار إلى البلوغ مؤد إلى الحجر على البالغ الرشيد , لأن الحجر يمتد إلى أن يختبر و يعلم رشده , واختباره قبل البلوغ يمنع ذلك فكان أولى . لكن لا يختبر إلا الرمهق المميز الذي يعرف البيع و الشراء و المصلحة من المفسدة . ومتى أذن له وليه فتصرف , صحّ تصرفه . ا.هـ.
قلت (محمود) وقد يكون لليتيم مشروعا تجاريا كبيرا في هذه الأزمان يكون قد ورثه عن أبيه مثلا , ومثل تلك المشاريع تحتاج إلى خبرة و فطنة قد لا يكفي حينها البلوغ و الرشد فقط , بل يحتاج أيضا إلى الخبرة اللازمة لادارة هذه المشروعات , وهذه الخبرة هي من الرشد أيضا , فينتظر وصي اليتيم حتى يشعر أنه قادر على تحمل مسئولية هذه الإدارة , ثم يدفعها إليه بعد ذلك , وذلك لأن في هذا الزمن قد تعقدت الشركات و المشاريع و أصبحت عمليات مركبة لا يقدر عليها إلا من كان له خبرة و دراية في إدارة هذه المشروعات الكبيرة .(1/93)
وهذا أيضا من باب المحافظة على المال لليتيم لأنها العلة التي يدور عليها الكلام فمتى وجدت الأسباب للمحافظة على هذه العلة تمسكنا بها , ولا حرج , وهذا من المحافظة على المال وهو من المقاصد الشرعية الخمسة فبأي وسيلة تيسرت للحفاظ على هذا المال من الضياع و التبدد استعنا به , والله المستعان .
وإن عاود السفه حجر عليه
فإن سلم إليه المال بعد الرشد ثم عاد إلى السفه بظهور التبذير و قلة التدبير عاد إليه الحجر لأن الله تعالى يقول { ولا تؤتوا السفهاء أموالكم التي جعل الله لكم قياما } و قال تعالى { فإن كان الذي عليه الحق سفيها أو ضعيفا أو لا يستطيع أن يمل هو فليملل وليه بالعدل } و لم يفرق بين أن يكون محجورا سفيها أو أن يطرأ عليه ذلك بعد الإطلاق .(القرطبي 6\35). قلت (محمود) وهو قول جمهور أهل العلم كما قال في الفتح و غيره .(1/94)
قال في المغني (1018) وبهذا قال القاسم بن محمد ومالك والشافعي والأوزاعي وإسحاق , وأبو ثور وأبو عبيد وأبو يوسف ومحمد وقال أبو حنيفة لا يبتدأ الحجر على بالغ عاقل , وتصرفه نافذ وروي ذلك عن ابن سيرين والنخعي لأنه حر مكلف فلا يحجر عليه كالرشيد ولنا إجماع الصحابة وروى عروة بن الزبير , أن عبد الله بن جعفر ابتاع بيعا فقال علي رضي الله عنه لآتين عثمان ليحجر عليك فأتى عبد الله بن جعفر الزبير فقال : قد ابتاع بيعا , وإن عليا يريد أن يأتي أمير المؤمنين عثمان فيسأله الحجر على فقال الزبير : أنا شريكك في البيع فأتى على عثمان فقال إن ابن جعفر قد ابتاع بيع كذا , فاحجر عليه فقال الزبير : أنا شريكه في البيع فقال عثمان : كيف أحجر على رجل شريكه الزبير قال أحمد : لم أسمع هذا إلا من أبي يوسف القاضي وهذه قصة يشتهر مثلها ولم يخالفها أحد في عصرهم فتكون إجماعا ولأن هذا سفيه , فيحجر عليه كما لو بلغ سفيها فإن العلة التي اقتضت الحجر عليه إذا بلغ سفيها سفهه وهو موجود , ولأن السفه لو قارن البلوغ منع دفع ماله إليه فإذا حدث أوجب انتزاع المال كالجنون وفارق الرشيد فإن رشده لو قارن البلوغ لم يمنع دفع ماله إليه .
قلت (محمود) : ولعل البعض يتعجب من هذا , أي من الحجر بعد إطلاق المال , أو من الوصاية على اليتيم و إن شاخ , و قد يتمسك البعض بالحرية في التصرف خاصة بعد سن البلوغ و أن هذا مناف للعقل .. الخ من تلك الدعاوى الهابطة .
والجواب : أن الإسلام شريعة كاملة جائت لحفظ الدين و النفس والعقل و النسل و المال , كما هو معلوم , فلا ينفك أحدها عن الآخر , ولذا أرشدنا الشارع الحكيم إلى كيفية حفظ ذلك بسن التشريعات اللازمة و تكليف الناس بهذه التشريعات حتى يحفظوا أموالهم و أنفسهم و دينهم لأنفسهم و فيم بينهم أيضا .(1/95)
والوصي على اليتيم , هو من هذا الباب فهو ليس بقائم على المال فقط يحرسه و يخزنه حتى إذا بلغ اليتيم ردّه إليه , كلا , فالأمر أوسع و أعمق من ذلك فالوصي على اليتيم مسئول عن تربية اليتيم و تعليمه و تأديبه و حفظ دينه و ماله من الضياع و هذا هو معنى الكفالة الحقيقي الذي أشرنا إليه قبل ذلك , فهو معه كالأب مع أبنائه و أكثر , لذا هو مسئول عن تربيته و تعليمه أمور دينه و عقيدته بالضبط كما هو مسئول عن ماله وحفظه له , فإذا اختل أحدهما عن الآخر فقد قصّر الوصي ولم يتم , وسئل عن ذلك يوم القيامة , وإذا أتمّ الوصي الوصية صار في المجتمع أمانة و رشدا و لم يشعر أي يتيم باليتم أبدا, فالمال الذي هو وصي عليه أمانة تحفظ حتى و إن شاخ اليتيم لأن هذا حفظ له و لماله سواء بسواء والمال من الأمور الخمسة التي يحفظها الشرع .. لذا فالله يشرّع ليحافظ على هذا المال من الضياع في غير ما وضع لأجله المال سواء كان صاحب المال صغيرا أو كبيرا وهذه المسألة من هذا الباب.
فإذا فعل كل وصيّ مع يتيمه أو أيتامه مثل ما أمره الله وأصلح له حال آخرته قبل حال دنياه , أصبح المجتمع يسود فيه الأمانة و التربية الصالحة التي تفتقدها أمة الإسلام في هذه الأيام .
فالأمر أعظم و أخطر مما يتصور البعض و مما يظنه أهل الحريات و غيرهم ممن يتبعون أهوائهم , و ينصرفون إلى تحكيم العقل وتحكيم أهوائهم دون تحكيم الشرع و تدبر القلب و العقل له , والله هو الهادي إلى سواء السبيل .
وما سبق هو في حق الذكر و الأنثى سواء :
فإذا تحقق الشرطان , البلوغ و الرشد , دفع إليه ماله وجوبا و لا خلاف في ذلك كما قال ابن المنذر و ذلك لقوله تعالى { فادفعوا إليهم أموالهم } , وذلك لأن الحجر على المال كان لسبب فلما زال السبب وجب رد المال ,
وذلك في حق الذكر و الأنثى سواء , لأن من أهل العلم من قال أن المرأة لا يعطى إليها المال حتى تتزوج أو تنجب .. إلى غير ذلك(1/96)
قال في المغني " يعني أن الجارية إذا بلغت , وأونس رشدها بعد بلوغها دفع إليها مالها وزال الحجر عنها , وإن لم تتزوج وبهذا قال عطاء والثوري وأبو حنيفة والشافعي وأبو ثور , وابن المنذر ونقل أبو طالب عن أحمد لا يدفع إلى الجارية مالها بعد بلوغها حتى تتزوج وتلد , أو يمضي عليها سنة في بيت الزوج روي ذلك عن عمر وبه قال شريح والشعبي , وإسحاق لما روي عن شريح أنه قال : عهد إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن لا أجيز لجارية عطية حتى تحول في بيت زوجها حولا أو تلد ولدا رواه سعيد في سننه ولا يعرف له مخالف , فصار إجماعا وقال مالك : لا يدفع إليها مالها حتى تتزوج ويدخل عليها زوجها لأن كل حالة جاز للأب تزويجها من غير إذنها لم ينفك عنها الحجر , كالصغيرة ولنا عموم قوله تعالى : { وابتلوا اليتامى حتى إذا بلغوا النكاح فإن آنستم منهم رشدا فادفعوا إليهم أموالهم } ولأنها يتيم بلغ وأونس منه الرشد فيدفع إليه ماله كالرجل ولأنها بالغة رشيدة , فجاز لها التصرف في مالها كالتي دخل بها الزوج وحديث عمر إن صح , فلم يعلم انتشاره في الصحابة ولا يترك به الكتاب والقياس على أن حديث عمر مختص بمنع العطية , فلا يلزم منه المنع من تسليم مالها إليها ومنعها من سائر التصرفات ومالك لم يعمل به , وإنما اعتمد على إجبار الأب لها على النكاح ولنا أن نمنع ذلك وإن سلمناه , فإنما أجبرها على النكاح لأن اختيارها للنكاح ومصالحه لا يعلم إلا بمباشرته والبيع والشراء والمعاملات ممكنة قبل النكاح وعلى هذه الرواية , إذا لم تتزوج أصلا احتمل أن يدوم الحجر عليها عملا بعموم حديث عمر ولأنه لم يوجد شرط دفع مالها إليها , فلم يجز دفعه إليها كما لو لم ترشد وقال القاضي : عندي أنه يدفع إليها مالها إذا عنست وبرزت للرجال يعني كبرت" ا .هـ.(1/97)
وقال الامام الشافعي في الأم (3\362-366) " فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ : الْمَرْأَةُ ذَاتُ الزَّوْجِ مُفَارِقَةٌ لِلرَّجُلِ لاَ تُعْطِي الْمَرْأَةُ مِنْ مَالِهَا بِغَيْرِ إذْنِ زَوْجِهَا قِيلَ لَهُ كِتَابُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فِي أَمْرِهِ بِالدَّفْعِ إلَى الْيَتَامَى إذَا بَلَغُوا الرُّشْدَ يَدُلُّ عَلَى خِلاَفِ مَا قُلْت؛ لِأَنَّ مَنْ أَخْرَجَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ مِنْ الْوِلاَيَةِ لَمْ يَكُنْ لِأَحَدٍ أَنْ يَلِيَ عَلَيْهِ إلَّا بِحَالٍ يَحْدُثُ لَهُ مِنْ سَفَهٍ وَفَسَادٍ، وَكَذَلِكَ الرَّجُلُ وَالْمَرْأَةُ أَوْ حَقٌّ يَلْزَمُهُ لِمُسْلِمٍ فِي مَالِهِ فَأَمَّا مَا لَمْ يَكُنْ هَكَذَا فَالرَّجُلُ وَالْمَرْأَةُ سَوَاءٌ فَإِنْ فَرَّقْت بَيْنَهُمَا فَعَلَيْك أَنْ تَأْتِيَ بِبُرْهَانٍ عَلَى فَرْقِك بَيْنَ الْمُجْتَمَعِ فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ فَقَدْ رُوِيَ أَنْ ( لَيْسَ لِلْمَرْأَةِ أَنْ تُعْطِيَ مِنْ مَالِهَا شَيْئًا بِغَيْرِ إذْنِ زَوْجِهَا ) . قِيلَ : قَدْ سَمِعْنَاهُ، وَلَيْسَ بِثَابِتٍ فَيَلْزَمُنَا أَنْ نَقُولَ بِهِ وَالْقُرْآنُ يَدُلُّ عَلَى خِلاَفِهِ ثُمَّ السُّنَّةُ ثُمَّ الْأَثَرُ ثُمَّ الْمَعْقُولُ فَإِنْ قَالَ فَاذْكُرْ الْقُرْآنَ قُلْنَا الْآيَةَ الَّتِي أَمَرَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ بِدَفْعِ أَمْوَالِهِمْ إلَيْهِمْ وَسَوَّى فِيهَا بَيْنَ الرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ، وَلاَ يَجُوزُ أَنْ يُفَرَّقَ بَيْنَهُمَا بِغَيْرِ خَبَرٍ لاَزِمٍ . فَإِنْ قَالَ أَفَتَجِدُ فِي الْقُرْآنِ دَلاَلَةً عَلَى مَا وَصَفْت سِوَى هَذَا ؟ قِيلَ نَعَمْ قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ {وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ إلَّا أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى(1/98)
وَلاَ تَنْسَوْا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ إنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ } فَدَلَّتْ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّ عَلَى الرَّجُلِ أَنْ يُسَلِّمَ إلَى الْمَرْأَةِ نِصْفَ مَهْرِهَا كَمَا كَانَ عَلَيْهِ أَنْ يُسَلِّمَ إلَى الْأَجْنَبِيَّيْنِ مِنْ الرِّجَالِ مَا وَجَبَ لَهُمْ . وَدَلَّتْ السُّنَّةُ عَلَى أَنَّ الْمَرْأَةَ مُسَلَّطَةٌ عَلَى أَنْ تَعْفُوَ مِنْ مَالِهَا وَنَدَبَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ إلَى الْعَفْوِ وَذَكَرَ أَنَّهُ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَسَوَّى بَيْنَ الْمَرْأَةِ وَالرَّجُلِ فِيمَا يَجُوزُ مِنْ عَفْوِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَا وَجَبَ لَهُ يَجُوزُ عَفْوُهُ إذَا دَفَعَ الْمَهْرَ كُلَّهُ وَكَانَ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ بِنِصْفِهِ فَعَفَاهُ جَازَ، وَإِذَا لَمْ يَدْفَعْهُ فَكَانَ لَهَا أَنْ تَأْخُذَ نِصْفَهُ فَعَفَتْهُ جَازَ لَمْ يُفَرَّقْ بَيْنَهُمَا فِي ذَلِكَ . وَقَالَ عَزَّ وَجَلَّ : { وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا } فَجَعَلَ فِي إيتَائِهِنَّ مَا فَرَضَ لَهُنَّ مِنْ فَرِيضَةٍ عَلَى أَزْوَاجِهِنَّ يَدْفَعُونَهُ إلَيْهِنَّ دَفْعَهُمْ إلَى غَيْرِهِمْ مِنْ الرِّجَالِ مِمَّنْ وَجَبَ لَهُ عَلَيْهِمْ حَقٌّ بِوَجْهٍ وَحَلَّ لِلرِّجَالِ أَكْلُ مَا طَابَ نِسَاؤُهُمْ عَنْهُ نَفْسًا كَمَا حَلَّ لَهُمْ مَا طَابَ الْأَجْنَبِيُّونَ مِنْ أَمْوَالِهِمْ عَنْهُ نَفْسًا وَمَا طَابُوا هُمْ لِأَزْوَاجِهِمْ عَنْهُ نَفْسًا لَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ حُكْمِهِمْ وَحُكْمِ أَزْوَاجِهِمْ وَالْأَجْنَبِيِّينَ وَغَيْرِ أَزْوَاجِهِمْ فِيمَا أَوْجَبَهُ مِنْ دَفْعِ حُقُوقِهِنَّ، وَأَحَلَّ مَا طِبْنَ عَنْهُ نَفْسًا مِنْ أَمْوَالِهِنَّ وَحَرَّمَ مِنْ أَمْوَالِهِنَّ مَا حَرَّمَ مِنْ أَمْوَالِ الْأَجْنَبِيِّينَ فِيمَا(1/99)
ذَكَرْت . وَفِي قَوْلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ { وَإِنْ أَرَدْتُمْ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا فَلاَ تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا } الآيَةَ . وَقَالَ عَزَّ وَجَلَّ { فَإِنْ خِفْتُمْ أَنْ لاَ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ } فَأَحَلَّهُ إذَا كَانَ مِنْ قِبَلِ الْمَرْأَةِ كَمَا حَلَّ لِلرَّجُلِ مِنْ مَالِ الْأَجْنَبِيِّينَ بِغَيْرِ تَوْقِيتِ شَيْءٍ فِيهِ ثُلُثٌ، وَلاَ أَقَلُّ، وَلاَ أَكْثَرُ وَحَرَّمَهُ إذَا كَانَ مِنْ قِبَلِ الرَّجُلِ كَمَا حَرَّمَ أَمْوَالَ الْأَجْنَبِيِّينَ أَنْ يَغْتَصِبُوهَا قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ { وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ إنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ } الآيَةَ . فَلَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ الزَّوْجِ وَالْمَرْأَةِ فِي أَنَّ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنْ يُوصِيَ فِي مَالِهِ وَفِي أَنَّ دَيْنَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لاَزِمٌ لَهُ فِي مَالِهِ فَإِذَا كَانَ هَذَا هَكَذَا كَانَ لَهَا أَنْ تُعْطِيَ مِنْ مَالِهَا مَنْ شَاءَتْ بِغَيْرِ إذْنِ زَوْجِهَا وَكَانَ لَهَا أَنْ تَحْبِسَ مَهْرَهَا وَتَهَبَهُ، وَلاَ تَضَعَ مِنْهُ شَيْئًا وَكَانَ لَهَا إذَا طَلَّقَهَا أَخْذُ نِصْفِ مَا أَعْطَاهَا لاَ نِصْفِ مَا اشْتَرَتْ لَهَا دُونَهُ إذَا كَانَ لَهَا الْمَهْرُ كَانَ لَهَا حَبْسُهُ وَمَا أَشْبَهَهُ . فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ : فَأَيْنَ السُّنَّةُ فِي هَذَا ؟ قُلْت [ أَخْبَرَنَا ] مَالِكٌ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ عَنْ عَمْرَةَ بِنْتِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَخْبَرَتْهُ ( أَنَّ حَبِيبَةَ بِنْتَ سَهْلٍ الْأَنْصَارِيَّةَ كَانَتْ تَحْتَ ثَابِتِ بْنِ قَيْسِ بْنِ شِمَاسٍ، وَأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- خَرَجَ لِصَلاَةِ الصُّبْحِ فَوَجَدَ حَبِيبَةَ بِنْتَ سَهْلٍ(1/100)
عِنْدَ بَابِهِ فِي الْغَلَسِ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مَنْ هَذِهِ ؟ فَقَالَتْ أَنَا حَبِيبَةُ بِنْتُ سَهْلٍ يَا رَسُولَ اللَّهِ فَقَالَ مَا شَأْنُك ؟ فَقَالَتْ لاَ أَنَا، وَلاَ ثَابِتُ بْنُ قَيْسٍ لِزَوْجِهَا فَلَمَّا جَاءَ ثَابِتُ بْنُ قَيْسٍ قَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- هَذِهِ حَبِيبَةُ بِنْتُ سَهْلٍ قَدْ ذَكَرَتْ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ تَذْكُرَ فَقَالَتْ حَبِيبَةُ يَا رَسُولَ اللَّهِ كُلُّ مَا أَعْطَانِي عِنْدِي فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- خُذْ مِنْهَا فَأَخَذَ مِنْهَا وَجَلَسَتْ فِي أَهْلِهَا ) .
[ قَالَ الشَّافِعِيُّ ] : أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ نَافِعٍ عَنْ مَوْلاَةٍ لِصَفِيَّةَ بِنْتِ أَبِي عُبَيْدٍ أَنَّهَا اخْتَلَعَتْ مِنْ زَوْجِهَا بِكُلِّ شَيْءٍ لَهَا فَلَمْ يُنْكِرْ ذَلِكَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ .
[ قَالَ الشَّافِعِيُّ ] : فَدَلَّتْ السُّنَّةُ عَلَى مَا دَلَّ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ مِنْ أَنَّهَا إذَا اخْتَلَعَتْ مِنْ زَوْجِهَا حَلَّ لِزَوْجِهَا الْأَخْذُ مِنْهَا، وَلَوْ كَانَتْ لاَ يَجُوزُ لَهَا فِي مَالِهَا مَا يَجُوزُ لِمَنْ لاَ حَجْرَ عَلَيْهِ مِنْ الرِّجَالِ مَا حَلَّ لَهُ خَلْعُهَا . " الخ كلامه رحمه الله , وما أحسنه .
قوله تعالى { فإذا دفعتم إليهم أموالهم فأشهدوا عليهم و كفى بالله حسيبا }(1/101)
قال بن كثير " وقوله {فإذا دفعتم إليهم أموالهم } يعني بعد بلوغهم الحلم و إيناسهم الرشد منهم فحينئذ سلمّوا إليهم فإذا دفعتم إليهم أموالهم { فأشهدوا عليهم } و هذا أمر من الله تعالى للأولياء أن يشهدوا على الأيتام إذا بلغوا الحلم و سلموا إليهم أموالهم لئلا يقع من بعضهم جحود و إنكار لما قبضه و تسلمه ثم قال {وكفى بالله حسيبا } أي و كفى بالله محاسبا و شاهدا و مراقبا على الأولياء في حال نظرهم للأيتام و حال تسليمهم لأموالهم هل هي كاملة موفرذة أو منقوصة مبخوسة مروج حسابها مدلس أمورها ؟ الله علام بذك كله .ا.هـ.
واختلف أهل العلم هل هذا الإشهاد واجب أم مستحب ؟ قولان .
قال القرطبي " و الظاهر أن المراد إذا أنفقتم شيئا على المولى عليه فأشهدوا , حتى لو وقع خلاف أمكن إقامة البينة فإن كل مال قبض على وجه الأمانة بإشهاد لا يبرأ منه إلا بالإشهاد على دفعه لقوله تعالى {فأشهدوا}
فإذا دفع لمن دفع إليه بغير إشهاد فلا يحتاج في دفعها لإشهاد إن كان قبضها بغير إشهاد . والله أعلم . ا.هـ.
قلت (محمود) : وهذا تفصيل من القرطبي رحمه الله ولكنه قد يفتح علينا باب شديد ,ألا وهو أخذ المال بدون إشهاد فلا يحتاج حين دفعه إلى إشهاد مما قد يأخذه من لا أمانة له بغير حق و يأكله بالباطل ,
لذا فالقول الأول أظهر وهو : ايجاب الإشهاد على كل وجه سواء كان هناك إشهاد على أخذه أو لا لظاهر الأمر في الآية والعلم عند الله .
والثاني : لا يجب , وهو اختيار شيخ الإسلام بن تيمية (31\191) قال : ولا يحتاج إلى شهود , أي عند دفع المال , ويسلم إليهم أموالهم , وذلك جائز بغير إذن الحاكم , لكن له إثبات ذلك عند الحاكم و الله أعلم .ا.هـ. بتصرف
وإذا تنازع الولي و اليتيم , فالقول قول من ؟
وأصل التنازع بين اليتيم و الولي يكون في أحد ثلاثة أمور :
الأول : وهو مقدار النفقة .
الثاني : زمن النفقة .
الثالث : تلف المال .(1/102)
أما الأول : وهو مقدار النفقة , فقد يتنازع الولي و اليتيم على مقدار نفقته , فيقول الولي أنفقت عليك كذا و كذا و يقول اليتيم ما أنفقت علي إلا كذا ..
هنا لأهل العلم قولان :
الأول : أن القول قول الولي لأنه مؤتمن و لأنه جاز له البيع و الشراء و المضاربة في مال اليتيم فيجب قبول قوله ههنا , وذلك مع يمينه .
الثاني : أن القول قول اليتيم لأن الوصي مدعي و اليتيم منكر و في الحديث " البينة على من ادعى و اليمين على من أنكر " .
هذا و إن كان القول الأول رجّحه ابن قدامه و غيره ( المغني 1\918) إلا أن هناك ثمة قول ثالث وسط بين القولين وهو إذا كان الولي معروفا بالورع و التقوى و الصدق , فالقول قوله , و إن كان على العكس لم يقبل قوله , مع أننا لا نقبل قوله إلا بيمين .( الشرح الممتع على زاد المستقنع لابن العثيمين 4\211) .
والحقيقة أن القاضي له أن يقدر كل حالة بقدرها , فقد تظهر قرائن تبين أن القول قول الولي أو العكس , فللقاضي أن يحكم بها , فهذا في الحقيقة أمر اجتهادي للحاكم فإن أصاب له أجران و إن أخطأ فله أجر واحد , خاصة أن هذا الزمن يحتاج إلى تمحيص و تدقيق في القضايا لأن ما يعرف " بالمستندات و الوثائق " مثلا , إلى جانب الشهود سيكون لها دورا كبيرا في مثل هذه القضايا , والموفق من وفقه الله , والله تعالى أعلم .
وكذا الحال بالنسبة للخلاف الثاني و الثالث :
أما زمن النفقة , كأن يقول الولي " أنفقت عليك ثلاث سنين " ويقول اليتيم " ما أنفقت علي إلا منذ سنتين منذ وفاة أبي " , فقال في المغني ( 1\918) " فالقول قول الغلام . ذكره القاضي , لأن الأصل حياة والده , واختلافهما في أمر ليس الوصي أمينا فيه , فكان القول قول من يوافق قوله الأصل " ا.هـ.
وهذا أيضا الآن , قد يتيسر بشهادات الوفاة و الشهود وغير ذلك , كما قلنا في الأول , فللقاضي أن يحكم بها و لا ريب .(1/103)
وكذا الحال أيضا بالنسبة للخلاف الثالث , وهو ادعاء الولي تلف المال وغير ذلك .
هل يرفض من عرض عليه ولاية اليتيم ؟
فيم أخرجه الإمام مسلم (1826) من حديث أبي ذرّ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " يا أبا ذرّ ! إنّي أراك ضعيفا . و إنّي أحب لك ما أحب لنفسي . لا تأمرنّ على اثنين . و لا تولّينّ مال يتيم " .
قال الإمام النووي (6\450) " هذا الحديث أصل عظيم في اجتناب الولايات , لا سيما لمن كان فيه ضعف عن القيام بوظائف تلك الولاية ... إلى أن قال : وأما من كان أهلا للولاية , وعدل فيها , فله فضل عظيم , تظاهرت به الأحاديث الصحيحة كحديث "سبعة يظلهم الله " و حديث " إن المقسطين على منابر من نور " و غير ذلك , وإجماع المسلمين منعقد عليه , ومع هذا فلكثرة الخطر فيها حذر النبي صلى الله عليه وسلم منها , وكذا حذر العلماء و امتنع منها خلائق من السلف , وصبروا على الأذى حين امتنعوا " ا.هـ . ملخصا .
اذا له أن يرفض إن كان فيه ضعف على الولاية و خوف عدم القيام بحقها , فهي أمانة و هي يوم القيامة خزي و ندامة .
ولأن للولاية شرطين أساسيين , الأول : العلم بحقائقها .. والثاني : القدرة على تحصيل مصالحها و درء مفاسدها (عون المعبود 8\52) وقد نبه على هذين الشرطين يوسف عليه السلام فقال {إني حفيظ عليم} .
قوله تعالى { وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى }(1/104)
أخرج الإمام البخاري في صحيحه عن عروة بن الزبير , أنه سأل عائشة عن قوله تعالى { و إن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى } فقالت يا ابن أختي : هذه اليتيمة تكون في حجر وليها تشركه في ماله , ويعجبه مالها , و جمالها , فيريد وليها أن يتزوجها بغير أن يقسط في صداقها فيعطيها مثل ما يعطيها غيره , فنهوا أن ينكحوهن إلا أن يقسطوا لهن , ويبلغوا لهن أعلى سنتهن في الصداق , فأمروا أن ينكحوا ما طاب لهم من النساء سواهنّ , قال عروة : قالت عائشة : و إن الناس استفتوا رسول الله صلى الله عليه و سلم فأنزل الله { و يستفتونك في النساء } قالت عائشة : وقول الله تعالى في آية أخرى : { وترغبوا أن تنكحوهن } رغبة أحدكم عن يتيمته حين تكون قليلة المال و الجمال قالت : فنهوا أن ينكحوا , عن من رغبوا في ماله و جماله في يتامى النساء إلا بالقسط , من أجل رغبتهن عنهن ّ , إذا كنّ قليلات المال و الجمال .
وهذا كما في قوله تعالى { و يستفتونك في النساء قل الله يفتيكم فيهن و ما يتلى عليكم في الكتاب في يتامى النساء اللاتي لا تؤتونهنّ ما كتب لهن ّ و ترغبوا أن تنكحوهنّ و المستضعفين من الولدان و أن تقوموا لليتامى بالقسط , وما تفعلوا من خير فإن الله كان به عليما } النساء 127
و سئل شيخ الاسلام بن تيمية عن اليتيمة هل تزوج ؟ وهل تخير في النكاح إذا كانت دون البلوغ أو لا ؟ (المجموع 32\33:35)
قولان , الأول : وهو قول أبي حنيفة و أحمد في احدى الروايتين : أنها تزوج بدون إذنها , و لها الخيار إذا بلغت .(1/105)
الثاني : و هو المشهور في مذهب أحمد و غيره : أنها لا تزوج إلا بإذنها , و لا خيار لها إذا بلغت . وهذا هو الصحيح الذي دلت عليه السنة , كما روى أبو هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " تستأذن اليتيمة في نفسها , فإن سكتت فهو إذنها , وإن أبت فلا جواز عليها " و هو حديث صححه الشيخ الألباني رواه أهل السنن و رواه أحمد .. فهذه السنة نص في القول الثالث الذي هو أعدل الأقوال أنها تزوج , خلافا لمن قال : إنها لا تزوج حتى تبلغ فلا تصير يتيمة . والكتاب و السنة صريح في دخول اليتيمة قبل البلوغ في ذلك , إذ البالغة التي لها أمر في مالها يجوز لها أن ترضى بدون صداق المثل , ولأن ذلك مدلول اللفظ و حقيقته , ولأن ما بعد البلوغ و إن سمي يتيما مجازا فغايته أن يكون داخلا في العموم .
و إما أن يكون المراد باليتيمة البالغة دون التي لم تبلغ فهذه لا يسوغ حمل اللفظ عليه بحال و الله أعلم . ا.هـ. ملخصا .
وانظر جامع أحكام النساء لابن العدوي (3\354, 355).
وسئل (31\191) عن يتيمة حضر من يرغب في تزويجها و لها أملاك , فهل يجوز للوصي أن يبيع من عقارها شيئا , ويصرف ثمنه في جهاز و قماش لها و حلي يصلح لمثلها أم لا ؟
فأجاب :
نعم للولي أن يبيع من عقارها ما يجهزها به , ويجهزها الجهاز المعروف , والحلي المعروف .ا.هـ.
القسم الثالث
في تعريف اللقيط و الفرق بين اليتيم و اللقيط وأحكام اللقيط
قال في المغني (كتاب اللقيط) : وهو الطفل المنبوذ . و اللقيط بمعنى الملقوط , فعيل بمعنى مفعول , كقولهم : قتيل و جريح و طريح . و التقاطه واجب لقول الله تعالى {وتعاونوا على البر و التقوى} . و لأن فيه إحياء نفسه , فكان واجبا , كإطعامه إذا اضطر و إنجائه من الغرق . ووجوبه على الكفاية , إذا قام به واحد سقط عن الباقين .ٍ(1/106)
أما الفرق بين اليتيم و اللقيط فواضح , فاليتيم معروف الأهل و في الغالب يكون ذا مال , أما اللقيط , فلا يكون له أهل لأنه يوجد منبوذا في الطرق و هو ما يشبه الآن ما يعرف بأطفال الشوارع و في الغالب لا يكون معه مال , أو يكون من فقد أبواه في حادث مثلا أو في حج أو غير ذلك .
واللقيط هو أشد حاجة للرعاية من اليتيم لفقدانه أبواه أو من يليه .
هذا و قد صدرت فتوى من اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء برقم 21145 في 22 / 10 / 1420هـ ، وجاء في أول فقرة منها ما يلي : ( من أبوب الإحسان في شريعة الإسلام حضانة اللقيط المجهول النسب ، والإحسان إليه في كفالته وتربيته تربية إسلامية صالحة ، وتعليمه فرائض الدين و آداب الشرع وأحكامه ، وفي هذا أجر عظيم وثواب جزيل ، ويدخل في الأجر المترتب على كفالة اليتيم لعموم قول النبي صلى الله عليه وسلم: (( أنا وكافل اليتيم في الجنة هكذا ، وأشار بالسبابة والوسطى وفرج بينهما شيئاً ))
فصل
في بيان جملة من أحكام اللقيط
أما كفالة اللقيط التربوية , فهي كالكفالة التربوية لليتيم بل و يجب أن تكون أكثر رحمة أيضا , إذ هذا اللقيط لايوجد أي أصل له و لا فرع ليعتني به , فهو كاليتيم في الحكم بل أشد , والله تعالى أعلم .
واللقيط حر وكفالته فرض عين على أول من يجده:
وهو قول عامة أهل العلم وحكى ابن المنذر الإجماع في ذلك , و كفالته فرض عين على أول من يجده , وهذا هو اختيار فضيلة الشيخ بن العثيمين فقال كما في (الزاد 4\538) " لأنه لو قلنا بعدم على الأول لجاء و اعتذر , ثم اعتذر الثاني و الثالث أيضا , فيضيع الطفل بينهم لا سيما إذا كان في أيام الحر و الضيف أو أيام الشتاء و البرد في البلاد الباردة , فعلى هذا يجب على أول من يجده أن يأخذه إلا إذا رأى شخصا آخر يقول : دعه لي , فهنا نقول حصلت الكفاية " ا.هـ.(1/107)
وما وجد معه من مال فهو له و ينفق عليه منه أو ينفق عليه من وجده , أو ينفق عليه من بيت مال المسلمين (الحكومة):
فما وجد مع اللقيط من مال , أي مال , كأن يكون مربوطا به أو تحته .. الخ , فهو له و ينفق عليه منه .
وإن لم يوجد معه شيء وجب على من التقطه أن ينفق عليه لقوله تعالى { وتعاونوا على البر و التقوى } و قوله { ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا } , وهنا اختلف أهل العلم في مسائل :
الأولى : هل ينفق عليه بإذن الحاكم أم لا يشترط إذن الحاكم ؟
على قولين , والحق أنه إذا وجد الطفل اللقيط , ولم يوجد معه مال خاصة , وجب أن ينفق عليه و لا ينتظر إذن الحاكم هنا , ثم بعد ذلك يجب على من وجد اللقيط أن يخبر السلطات به لأن السلطة قد توفر للقيط من هو أوفر خبرة و أكثر صيانة , هذا من ناحية و من ناحية أخرى لا تضيع حقوق هذا الطفل هملا .
وهذا اللقيط ينفق عليه من بيت المال , الحكومة , التي توفر لهم الآن ما يعرف بدور الرعاية و دور الأيتام , وهذا لا زم ولا شك .
أثر عمر رضي الله عنه أصل في معاملة اللقيط :
ويستدل على ذلك بما صحّ عن عمر رضي الله عنه , من طريق مالك عن ابن شهاب عن سنين أبي جميلة قال : أخذت منبوذا على عهد عمر رضي الله عنه فذكره عريفي لعمر رضي الله عنه فأرسل إلي و دعاني و العريف عنده , فلما رآني قال : عسى الغوير أبؤسا , فقال العريفي : إنه لا يتهم , فقال عمر : ما حملك على ما صنعت ؟ قلت : وجدت نفسا بمضيعة فأحببت أن يأجرني الله فيه , فقال : هو حر وولاؤه لك و علينا رضاعه , وفي رواية ولاؤه لك ونفقته من بيت المال . (المحلّى 8\369) وكذلك المجموع (16\202).(1/108)
وهذا الأثر أصل في معاملة اللقيط وهو مروي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه , ثاني الخلفاء الراشدين الذي قال النبي صلى الله عليه وسلم فيهم " عليكم بسنتي و سنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي(1).
وفيه فوائد جمة :
أولا : أن اللقيط حر ليس بعبد و لا مستعبد و لا يباع أو يشترى .
ثانيا : ولاؤه لمن حضنه و يرثه الحاضن لو مات اللقيط و عنده مال على الراجح كما سيأتي .
ثالثا : لا يجوز أن يأخذ اللقيط فاسق و لا متهم و لا كافر لقول عمر " عسى الغوير بؤسا " أي عسى أن يكون هذا الرجل أتى بشر , فأجابه العريفي : إنه لا يتهم " , فدل على أن الأمين هو من له حضانة اللقيط .
رابعا : ولولي الأمر أن يستوثق من أمانة الحاضن هذا , لسؤال عمر لسنين ما حملك على ما فعلت و اقرار عمر الحضانة له .
خامسا : أن الإنفاق عليه يكون من بيت مال المسلمين (الحكومة) .
وأغلب هذه الفوائد متفق عليها بين أهل العلم كما سيأتي .
ونفقة اللقيط غير واجبة على الملتقط إذا لم يكن للقيط مال :
__________
(1) " رواه سعيد بن منصور عن سفيان عن الزهري عن سنين و كذا رواه مالك عن الزهري عن سنين , وهذا سند متصل و سنين (بالتصغير) أبي جميلة هذا هو صحابي صغير حج مع النبي صلى الله عليه وسلم حجة الوداع (أنظر تقريب التهذيب)(1/109)
قال في المغني ( قال بن المنذر : أجمع كل من نحفظ عنه من أهل العلم على أن نفقة اللقيط غير واجبة على الملتقط كوجوب نفقة الولد , وذلك لأن أسباب وجوب النفقة من القرابة و الزوجية و الملك و الولاء منتفية , والالتقاط إنما هو تخليص له من الهلاك , وتبرع بحفظه فلا يوجب ذلك نفقة كما لو كان فعله بغير اللقيط , فإذا عرف هذا و كان نسمة يجب تعهدها بالتربية و الإنفاق انصرف هذا الواجب إلى بيت مال المسلمين , لقول عمر رضي الله عنه : هو حر لك ولاؤه و علينا نفقته , وذلك لأنه كالفقير الذي لا كسب له فإن نفقته واجبة له في بيت مال المسلمين , وذلك لأن بيت المال وارثه , وماله مصروف إليه فتكون نفقته عليه كقرابته و موالاته .ا.هـ.)
قلت (محمود) وما يفعله الآن من أهل الفضل من بناء مؤسسات لهؤلاء اللقط فجزاهم الله خيرا على ذلك , وإن كان هو من دور الحكومة أولى , إلا أنهم لهم الأجر و لا ريب . و لكن تبقى مسألة التربية على كتاب الله و على سنة رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم حتى يكمل و يثبت الأجر إن شاء الله , فنحن نرى كثيرا من هؤلاء الأطفال يهربون من المؤسسات هذه أو يتخرجوا منها يحملون العداوة في قلوبهم للمجتمع هذا أو أنهم محطمون نفسيا على طول الخط , ولا ينجو من هؤلاء إلا من رحم ربي ولا حول ولا قوة إلا بالله .
إذا وجد اللقيط كافر أو فاسق فلا حضانة لهما للقيط :
لأن عمر أقر حضانة سنين لما علم أنه رجل صالح و أمين .
أما الفاسق : فلأن المقصود بالحضانة في كل أحوالها هو حفظ المحضون والقيام بمصالحه , فإذا عرفنا أن الواجد ليس أمينا فلا حضانة له (الشرح اللممتع 4\540).(1/110)
أما الكافر : فقال في المغني(1377) " وليس للكافر التقاط مسلم , لأنه لا ولاية لكافر على مسلم و لأنه لا يؤمن أن يفتنه و يعلمه الكفر , بل الظاهر أن يربيه على دينه , وينشأ على ذلك كولده . فإن التقطه لم يقرّ في يده . و إن كان الطفل محكوما بكفره , فله التقاطه , لأن الذين كفروا بعضهم أولياء بعض .
إذا التقط اللقيط مسلمان فلأيهما تكون حضانته :
وهذا لا يخلو من ثلاث حالات :
الأولى : أن يكون ممن يقرّ في يديه , كالمسلم العدل الحر , و الآخر ممن لا يقر في يديه كالكافر إذا كان اللقيط مسلما , والفاسق , فإنه يسلّم إلى من يقرفي يديه و تكون مشاركة هؤلاء له كعدمها .
الثانية : أن يكونا جميعا ممن لا يقرّ في يده واحد منهما , فإنه ينزع منهما و يردّ إلى غيرهما .
الثالثة : أن يكون كل واحد منهما ممن يقرذ في يده لو انفرد إلا أن أدهما أحظ للقيط من الآخر , مثل أن يكون أحدهما موسرا و الآخر معسرا , فالموسر أحق لأن ذلك أحظ للطفل .
الرابعة : أن يتساويا في كونهما مسلمين عدلين حرين مقيمين , فهما سمواء فيه , فإن رضي أحدهما بإسقاط حقّه و تسليمه إلى صاحبه جاز , لأن الحق له , فلا يمنع من الإيثار به . و إن تشاحا أقرع بينهما لقول الله تعالى { وما كنت لديهم إذ يلقون أقلامهم أيهم يكفل مريم } . ولا يتقاسموه , هذا يوما و هذا يوما , لأنه مضر بالطفل , و لا يؤخذ دون قرعة لتساوي حقهما فيه (1).
قال : و المرأة و الرجل سواء في هذا , ولا ترجحّ المرأة ههنا , كما ترجحّ في حضانة ولدها على أبيه , لأنها رجّحت ثمّ لشفقتها على ولدها , و توليها لحضانته بنفسها , و الأب يحضنه بأجنبية , فكانت أمذه أحظ له و أرفق به , أما ها هنا فإنها أجنبية من اللقيط , والرجل يحضنه بأجنبية فاستويا . ا.هـ.
إذا وجد مسلم اللقيط في دار الكفر أو في بلد أغلبها من الكفار :
__________
(1) المغني 2\1378)(1/111)
إذا وجد الكافر اللقيط في دار الكفر فالحضانة للكافر و لا شك لأنه يكون مثله , أما إذا وجده مسلم وكافر في بلد الكفر أو طفلا محكوم بكفره إلى من يردّ ؟
قولان لأهل العلم :
الأول : قاله الشافعية , هما سواء لأن للكافر ولاية على الكافر , ويقرّ في يده إذا انفرد بالتقاطه , فساوى المسلم في ذلك .
الثاني : أن المسلم أحق به , قال في المغني (1378) " ولنا أن دفعه للمسلم أحظ له , لأنه يصير مسلما , فيسعد في الدنيا و الآخرة , وينجو من النار و يتخلص من الجزية و الصغار , والترجيح بهذا أولى من الترجيح باليسار , الذي إنما يتعلق به توسعة عليه في الإنفاق , وقد يكون الموسر بخيلا فلا تحصل التوسعة . فإن تعارض الترجيحان فكان المسلم فقيرا و الكافر موسرا , فالمسلم أولى , لأن النافع الحاصل له بإسلامه أعظم من النفع الحاصل بيساره مع كفره ." ا.هـ.
وهذا القول هو القول الراجح السديد و لا ريب , ففي الحديث " كل مولود يولد على الفطرة " و في حديث عياض بن حمار " خلقت عبادي حنفء كلهم " و قال تعالى { و إذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم و أشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى شهدنا أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين } (الأعراف :172).
و إذا أقرّ رجل أو امرأة ذات زوج أو كافر أن هذا اللقيط ولده ألحق به :
قال في شرح الزاد (4\542) إن أقرّ رجل و امرأة ذات زوج أنه له فإننا نلحقه به دون بينة , لأن الشرع يتشوف إلى الحاق الأنساب , فلو علم رجل باللقيط فجاء إلى القاضي أو الأمير أو المحافظ و قال : هذا ولدي فيلحق به , إلا إذا علمنا كذب الدعوة مثل أن يأتي و له عشرون سنة و اللقيط له اثنتا عشرة سنة , فلا يمكن لأن هذا مستحيل .
إذا لابد من إضافة قيد , وهو : أن يمكن صحة الدعوى , فإن لم يمكن صحة الدعوى فإنه لا يقبل .(1/112)
فلو ادّعت امرأة ذات زوج أنه ولدها فإنه يقبل فلو أنكر الزوج ألحق بالمرأة و لم يلحق بالزوج , لاحتمال أن يكون هذا الولد أتاها قبل أن تتزوج ( من الرجل هذا ) , أو أنها وضعته بشبهة أو بزنا و زوجها لا يريد أن يستلحقه .
فإن لم تكن ذات زوج فإنه يلحق بها أيضا من باب أولى , لأنه إذا كانت ذات زوج تقبل دعواها أنه ولدها فمن لم يكن لها زوج من باب أولى . اللهم إلا إذا كذبها الواقع كأن تكون بكرا و تقول هذا الولد لي , فلا يقبل .
و إذا كان المقرّ كافرا نلحقه به لكن لا نمكنه من حضانته . فنقول : الولد ولدك لكن الولد محكوم بإسلامه و لا حضانة لك عليه,إذا ما الفائدة بإلحاقه ؟
الجواب : النسب , لأن هذا الكافر ربما يسلم في يوم من الأيام فيرد اللقيط إليه و يتوارثان , والشارع له تشوف بالغ في إلحاق النسب .ا.هـ. بتصرف .
و إن ادّعى هذا اللقيط اثنان , مسلمان أو مسلم و كافر أو كافران :
وإن ادّعاه مسلمان أو كافران ( إن كان في بلد كفر أو غالب أهلها من الكفار ) , يلحق بأقواهما بينة , لأن النبي صلى الله عليه وسلم يقول كما في الحديث الذي أخرجه الترمذي عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما " البينة على المدّعي , واليمين على المدّعى عليه " (الصحيحة 2897).
وإن لم يتبين ذلك , فإن نعرضه على القافة , وهو قوم يعرفون الأنساب بالشبه , وأشهر هؤلاء من العرب هم بنو مدلج .
والقافة لها استدلالاتها من الكتاب و السنة ,
أما من الكتاب فكقوله تعالى في قصة موسى و الخضر في سورة الكهف { فارتدا على آثارهما قصصا } قال بن كثير " يقصان آثار مشيهما ويقفوان أثرهما"
وأما من السنة فكما في المتفق عليه , أن النبي صلى الله عليه وسلم لما دخل على عائشة ذات يوم من السوق تبرق أسارير وجهه فسألته فقال " ألم ترى إلى مجزز المدلجي ؟ دخل على أسامة بن زيد و زيد بن حارثة و هما قد تغطيا في ردائه قد بدت أقدامهما فقال : إن هذه الأقدام بعضها من بعض " .(1/113)
وذلك لأن قريشا كانت تتهم زيد بن حارثة في أسامة لأن أسامة أسود و زيد أبيض و هذا طعن في أسامة و هو مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم و ليس هذا بالأمر الهين عليه صلوات الله و سلامه عليه .
والقافة هذه علم عظيم , يعرفه من جربه و قرأ عنه و لا يكاد يخطيء صاحبه , ويكون إما بالوجه أو بالقدم كما هو مقرر في موضعه .
المهم أن النبي صلى الله عليه و سلم أخذ بشهادة القاف هذا , مجزز , و أقرّها , لذا هي من الوسائل الشرعية عندنا أهل الإسلام .انظر فصل القافة في المغني (2\1381) .
قال في المغني (2\1382) " و إن ألحقته القافة بكافر أو رقيق لم يحكم بكفره أو رقه لأن الحرية و الإسلام ثبتا له بظاهر الدار , فلا يزل ذلك بمجرد الشبه و الظنّ , كما لم يزل ذلك بمجرد الدعوى من المنفرد . وإنما قبلنا قول القائل في النسب للحاجة إلى اثباته . ا.هـ.
وهل يستفاد من الطب الحديث في الحاق النسب ؟
حيث اكتشف الطب الآن ما يعرف بالـ (DNA) أو الحامض النووي الذي به قد يفصل في دعاوي النسب وهي كما يزعمون مقياس دقيق لمعرفة الأنساب .
وهذا قد يصار اليه إن لم يتوافر الشهود أو البينة أو القافة , وذلك لأن الحاق النسب في الشرع أمر ضروري و ملحّ , وقد أجاز المجمع الفقهي لرابطة العالم الإسلامي في دورته المنعقدة في مكة المكرمة سنة 1419 هـ الاستفادة من من البصمة الوراثية في اثبات النسب ( البينة الجينية ) فيما لو تنازع رجلان في بنوة طفل , والله تعالى أعلم .
ميراث اللقيط وديته .. وإذا جنى جناية أو جني عليه:
أما ميراث اللقيط : ففيه قولان , أي أنه إذا مات و ترك مالا , ففيه قولان :(1/114)
الأول : أن المال لبيت المال لأن أسباب الميراث ثلاثة و هي النكاح و النسب و الولاء , وهذل ليس له سبب , لا نكاح و لا نسب و لا ولاء فيكون ميراثه لبيت المال وهو قول الجمهور(1) قال في (المغني \1376) " فإن حكم اللقيط في الميراث حكم من عرف نسبه و انقرض أهله يدفع إلى بيت المال إذا لم يكن له وارث فإن كان له زوجة فلها الربع و الباقي لبيت المال و إن كانت امرأة لها زوج فله النصف و الباقي لبيت المال , و إن كانت له بنت أو ذو رحم كبنت بنت أخذت جميع المال لأن الردّ و ذا الرحم مقدم على بيت المال. و الله أعلم ."ا.هـ.
قال الحافظ بن حجر يشير الى ما ذهب اليه البخاري رحمهم الله جميعا " …الى ترجيح قول الجمهور أن اللقيط حر وولاؤه في بيت المال، وإلى ما جاء عن النخعي أن ولاءه للذي التقطه واحتج بقول عمر لأبي جميلة في الذي التقطه " اذهب فهو حر وعلينا نفقته ولك ولاؤه " وتقدم هذا الأثر معلقا بتمامه في أوائل الشهادات وذكرت هناك من وصله، وأجبت عنه بأن معنى قول عمر " لك ولاؤه " أي أنت الذي تتولى تربيته والقيام بأمره فهي ولاية الإسلام لا ولاية العتق، والحجة لذلك صريح الحديث المرفوع " إنما الولاء لمن أعتق " فاقتضى أن من لم يعتق لا ولاء له لأن العتق يستدعي سبق ملك واللقيط من دار الإسلام لا يملكه الملتقط لأن الأصل في الناس الحرية إذ لا يخلو المنبوذ أن يكون ابن حرة فلا يسترق أو ابن أمة قوم فميراثه لهم فإذا جهل وضع في بيت المال ولا رق عليه للذي التقطه، وجاء عن علي أن اللقيط مولى من شاء وبه قال الحنفية إلى أن يعقل عنه فلا ينتقل بعد ذلك عمن عقل عنه"(2)
__________
(1) فتح الباري (12\55)
(2) السابق(1/115)
الثاني : أن ميراثه للاقط , وهذا القول روي عن عمر بن الخطاب و ابراهيم النخعي و الحسن البصري(1) وقول شريح و اسحاق (2) , وهذا هو القول الراجح , أن ميراث اللقيط لمن وجده و هو اختيار شيخ الإسلام بن تيمية و من المعاصرين الشيخ بن العثيمين رحمه الله , قال في الزاد (4\541) ومعلوم أن هذا أولى من أن نجعله في بيت المال , لأن بيت المال ملك ينتفع به عامة المسلمين و لكن هذا ينتفع به الواجد الذي تعب عليه و حضنه و ربما يكون هو السبب في تحصيل المال .ا.هـ.
وأما الدية , أي إذا قتل اللقيط : فديته إلى بيت المال على الراجح من أقوال أهل العلم .(3)
واللقيط مثله مثل الحر فيما إذا جنى جناية توجب القصاص أو الدية , أو استوجب حدا .
و إن جني عليه فيما دون النفس جناية توجب الأرش قبل بلوغه , فلوليه أخذ الأرش .
وإن جني عليه جناية عمدا , فللقاضي أن ينظر أيهما أحظ للّقيط , استيفاء القصاص أو العفو على مال . و ذلك قول الشافعي و ابن المنذر و أبو حنيفة , إلا أنه يخيره بين القصاص و المصالحة , وذلك لقول النبي صلى الله عليه و سلم" فالسلطان ولي من لا ولي له " (4)
سفر اللقيط مع ملتقطه
وإذا أراد من التقط اللقيط السفر به فيفرق :
أولا : إذا أراد أن يسافر به من بلد إلى بلد و لكن داخل الدولة نفسها فلا بأس
__________
(1) ابن أبي شيبة 6\298) أما أثر عمر فرواه بن أبي شيبة عن حماد بن خالد عن بن أبي ذئب عن الزهري أن عمر أعطى ميراث المنبوذ لمن كفله , وهذا منقطع فالزهري لم يدرك عمر رضي الله عنه ..
أما أثر الحسن فرواه بن أبي شيبة عن عبد الأعلى عن هشام عنه , وهشام هو بن حسّان و في سماعه من الحسن كلام .
و أثر ابراهيم فرواه بن أبي شيبة عن عبد السلام بن حرب عن مغيرة عنه أنه قال : ميراث اللقيط بمنزلة اللقطة .. وهذا اسناد صحيح و قيل ان مغيرة هذا كان يدلس عن ابراهيم و قد عنعن .
(2) المغني \1376)
(3) المغني 2\1374) .
(4) المغني 2\1374).(1/116)
ثانيا : إن أراد أن يسافر به خارج الدولة , ففيه وجهان لأهل العلم ..
الأول : أن لا يقر في يده لأن بقاءه في بلده أرجى لكشف نسبه .
والثاني : أنه يقر في يده خاصة لو كان الملتقط أمين , طالما البلد الثاني كالأول في الرفاهية و الدين , أما إن سافر إلى بلاد كفر و خشي علية الفتنة فلا .
والحقيقة أن هذا أمر دقيق يحتاج إلى أمانة و مراقبة من الدولة حتى تراعي حق هؤلاء الأطفال جيدا و أن توفر لهم أحسن فرص المعيشة مثلهم مثل الأولاد معلومي النسب ولا يجب أن تترك مثل هذه الأمور لتقدير الأشخاص حتى نعظم فرصة هؤلاء في معرفة نسبهم وفي توفير حياة كريمة لهم .
هذا اللقيط بماذا يسمى ؟ و إلى من ينسب ؟
قال الشيخ بن العثيمين في شرح الزاد (4\540) " يسمى مثلا عبد الله بن عبد الكريم بن عبد الرؤوف , أما حكمه مع من يعوله فإنهم أجانب منه إلا إذا أرضعته المرأة فتصير أمه من الرضاعة و البنات يصرن أخواته من الرضاعة . ا.هـ.
قلت (محمود) وهنا في مصر الآن يسمون اللقيط و يسمون أبيه مجازا , فيكون معروفا أن فلانا هذا لقيط إذا ما استخرج بطاقة شخصية أو غير ذلك .
اللقيط إذا كان ولد زنى
قد يقع لبس على بعض الناس حين يعلم أن هذا اللقيط ولد زنى أو قد يكون كذلك , حيث أنه روي عن النبي صلى الله عليه وسلم من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنه " لا يدخل الجنة ولد زنية " , ولكن الحق أن هذا الحديث ضعيف(1)
__________
(1) وهذا الحديث له علتان ظاهرتان :
الأولى : روى هذا الحديث همام و شعبة و الثوري كلهم عن منصور عن سالم عن جابان عن عبد الله بن عمرو مرفوعا , وقد اختلف فيه على شعبة كثيرا فرواه عنه محمد بن جعفر و حجاج ذكروا رجلا بين جابان و عبد الله بن عمرو مع اختلاف في اسمه فيرويه غندر أنه نبيط بن سميط و يرويه حجاج نبيط بن شريط , أما همام و الثوري فرووه دون ذكر هذا الرجل بين جابان و عبد الله بن عمرو , وقد روي أيضا من طريق شعبة موقوفا و مرفوعا .. وقد أعل الدارقطني هذا الحديث في علله بالاضطراب (القول المسدد في الذب عن مسند الإمام أحمد للحافظ بن حجر 42\43) وقد ذكر طرقه أيضا بن الجوزي في الموضوعات(3\188) و بين اضطرابها من رواية أبي هريرة و عبد الله بن عمرو .=
= الثانية : أن جابان هذا لا يعرف كما قال البخاري في تاريخه الكبير و لا يعرف له سماع من عبد الله بن عمرو و قال : ولا يعرف لسالم سماع من جابان .. هذا و إن كان سالما قد سمع من عبدالله بن عمرو دون واسطة كما أشار إلأى ذلك الشيخ أحمد شاكر رحمه الله في تحقيق المسند (6\106) وقال " فإذا روى عن تابعي آخر عن بن عمرو (يقصد الشيخ جابان هذا ) حمل على الإتصال بالأولى , فلا يحتاج إلى اثبات سماعه من جابان بالتنصيص , كما هو بديهي , وهو لو يشاء يدلسه فيجعله عن عبد الله بن عمرو مباشرة , لما تردد أحد في أنه متصل , و لكنه أدى الأمانة حق أدائها , فذكر الواسطة بينه و بين بن عمرو في هذا الحديث بعينه , فمن التجني أن يشك أحد في اتصاله , وأنه يحمل على التدليس " ا.هـ.
قلت : هو لا يدلّس , بل رواه هكذا , أي أنه لم يسمعه من عبد الله بن عمرو , وما المانع من أن يسمع بواسطة عمّن لقيه ؟ ويكون قد أدّى الأمانة أيضا ؟ ويبين أن هذا مما لم يسمعه من عبدالله بن عمرو رضي الله عنه مباشرة ؟ خاصة و أن جابان هذا ضعّفه الجمهور , وقد وثّقه بن حبان و هو متساهل بتوثيق المجهولين كما هو معلوم , و قال الحافظ عنه في التقريب (مقبول) أي يتابع و إلا فليّن .. وقد تابعه مجاهد من رواية الخطيب في تاريخ بغداد (11\191) من طريق عامر بن اسماعيل البغدادي عن مؤمل عن الثوري عن عبد الكريم عن مجاهد عن عبدالله بن عمرو مرفوعا , وكذلك أبو نعيم في الحلية (3\309) من طريق سعيد بن حفص البخاري عن مؤمل بالإسناد السابق , وهذا المتابعة أيضا ضعيفة لسببين :
أولا : مؤمل هذا كثير الخطأ خاصة إذا انفرد .
ثانيا : قال الشيخ أحمد شاكر بناء على ذلك (6\107) فلذلك أشك في صحة اسناده هذا , لأنه جعل الحديث من رواية الثوري عن عبد الكريم الجزري عن مجاهد عن بن عمرو , فخالف الثلاثة الحفاظ الذين رووه عن الثوري عن منصور عن سالم عن جابان وهم : عبد الرزاق و محمد بن كثير البصري و يحيى القطان , ومع احتمال أن الثوري رواه من طريقين , إلا أننا نرجح رواية الحفاظ الثلاثة على رواية الواحد الكثير الخطأ , , حتى نجد من تابعه على روايته هذه , فنستطيع أذن أن نرجح صحة الطريقين " ا.هـ.
قلت : وبهذا يكون الحديث ضعيف كما ترى , لما فيه من اضطراب و اختلاف , والله تعالى أعلم .(1/117)
, وأغلب الروايات التي جاءت , جاء فيها ذكر مدمن الخمر و المنان و العاق لوالديه , كما جاء ذلك عن عبد الله بن عمر و أبي الدرداء و أبي سعيد الخدري رضي الله عنهم أجمعين(1) .. اللهم إلا مأخرجه الهيثمي في المجمع من حديث أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعا " لا يدخل ولد الزنا الجنة و لا شيء من نسله إلى سبعة آباء " وقال الهيثمي ( فيه الحسين بن ادريس و هو ضعيف ) .(2)
وهذا الحديث مخالف للأصول كقوله تعالى{ وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً {15}.
وهو ما أقرّته عائشة و استدلت به لما سمعت ما يروي أبي هريرة رضي الله عنهم أجمعين حديث " ولد الزنا شرّ الثلاثة " قالت كما أخرج عبد الرزاق عن معمر عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة رضي الله عنها , كانت إذا قيل لها : هو شر الثلاثة , عابت ذلك , و قالت : ما عليه من وزر أبويه .؟ قال الله { وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى}(3) , وهذا مروي أيضا عن بن عمر رضي الله عنه .
__________
(1) راجع تلك الأحاديث في المسند أرقام 5372,6113, 11165, 11336 ,11049 .. وراجع رواية النسائي لحديث بن عمرو 5688 والدارمي 2093 , 2094
(2) مجمع الزوائد (6\393)
(3) المصنف لعبد الرزاق (13860) واسناده صحيح .(1/118)
أما حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم " ولد الزنا شر الثلاثة " فهو حديث صحّحه الألباني رحمه الله في السلسلة الصحيحة , و قد أخرجه أبو داود و أحمد و غيرهما , وبالطبع هو حديث لا يحمل معنى الحديث الأول و لا شك و لكنه يحمل معنى هو ملاحظ ومشهود أن هذا الولد قد ولد من سفاح و ليس ببعيد أن يؤثر هذا في عمله بعد إن عمل بعمل والديه , وهذا قد ورد في حديث عائشة و بن عباس مرفوعا ولكن الحديثان ضعيفان و فيه " ولد الزنا شر الثلاثة إذا عمل بعمل والديه " والصحيح أن قوله " إذا عمل بعمل والديه هو من كلام أحد الرواة(1) .. وهو تفسير صحيح لا ريب فيه .
__________
(1) أخرجهما البيهقي حديث 19993,19994 و أخرجه في مجمع الزوائد 10550 و عزاه الى الطبراني في الكبير و الأوسط ,من حديث بن عباس , و قال " فيه محمد بن أبي ليلى وهو سيء الحفظ و مندل وثّق و فيه ضعف " و قال البيهقي بعد ذكره للحديثين , عائشة و بن عباس رضي الله عنهما , " هذا اسناد ضعيف و ما قبله ليس بالقوي , أنما يروى هذا الكلام عن الخبر من قول سفيان الثوري , ثم أخرج الحديث رقم 19995 من طريق أبو حذيفة ثنا سفيان الثوري عن سهيل عن أبيه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال , سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ولد الزنا , فقال " هو شر الثلاثة " قال سفيان ( يعني إذا عمل بعمل والديه ).(1/119)
وقال الشيخ أحمد شاكر في تعليقه على الحديث في المسند (1)" قال الخطابي : وقد قال بعض أهل العلم : معناه أنه شر الثلاثة أصلا و عنصرا و نسبا و مولدا . وذلك لأنه خلق من ماء الزاني و الزانية , وهو ماء خبيث . و قد روي في بعض الحديث : العرق دساس . فلا يؤمن أن يؤثر ذلك الخبث فيه , ويدب في عروقه , فيحمله على الشرّ و يدعوه إلى الخبث . وقد قال سبحانه في قصة مريم { يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيّاً {28} و قد قضوا بفساد الأصل على فساد الفرع . قال الشيخ أحمد شاكر : وهذا الذي قاله الخطابي كلام جيد , واستدلال صحيح , يؤيده الواقع المشاهد في الأغلب الأكثر . والنادر غير ذلك , وندرته لا تخرج الحديث عن المعنى الصحيح الواضح " ا.هـ.
قلت : وأما إذا كان ولد الزنا صالح الحال و اسلامه حسن و غير ذلك , فليس هو شرّ الثلاثة إن شاء الله بل يكون خيرهم و لا شك , والله تعالى أعلم .
القسم الرابع (الخاتمة)
يوم اليتيم في الميزان
قال تعالى{ اليوم أكملت لكم دينم و أتممت عليكم نعمتي و رضيت لكم الإسلام دينا }
وقال تعالى { لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله و اليوم الآخر }
وعن عائشة رضي الله عنها قالت : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد "
وفي حديث العرباض بن سارية رضي الله عنه الذي أخرج أبو داود و أصحاب السنن و هو حديث حسن .. قال : صلّى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم , ثم أقبل علينا فوعظنا موعظة بليغة , ذرفت منها العيون , ووجلت منها القلوب , فقال قائل : يا رسول الله , كأن هذه موعظة مودع , فماذا تعهد إلينا ؟
__________
(1) 8\171)(1/120)
قال " أوصيكم بتقو ى الله و السمع و الطاعة و إن عبدا حبشيا ( أي و إن تأمر عليكم عبدا حبشيا ) , فإنه من يعش منكم بعدي فسيرى اختلافا كثيرا , فعليكم بسنتي و سنة الخلفاء الراشدين المهديين , تمسكوا بها و عضّوا عليها بالنواجذ , و إياكم و محدثات الأمور , فإن كل محدثة بدعة و كل بدعة ضلالة "
وقال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه " اتبعوا و لا تبتدعوا فقد كفيتم " .
وقال عمر بن عبد العزيز " قف حيث وقف القوم , فإنهم عن علم وقفوا , وببصر نافذ كفّوا , ولهم على كشفها كانوا أقوى , و بالفضل لو كان فيها أحرى , فلئن قلتم حدث بعدهم , فما أحدثه إلا من خالف هديهم , ورغب عن سنتهم , و لقد وصفوا منه ما يشفي , وتكلموا منه بما يكفي , فما فوقهم محسّر , وما دونهم مقصر , لقد قصر عنهم قوم فجفوا , وتجاوزهم آخرون فغلوا , وإنهم فيما بين ذلك لعلى هدى مستقيم .
وقال الإمام أبو عمرو الأوزاعي : عليك بآثار السلف و إن رفضك الناس , وإياك وآراء الرجال و إن زخرفوه لك بالقول ..
كل ذلك ... استدلالا على ما يحدث في بعض الدول العربية ( الإسلامية ) من بعض من يدّعون ( الإصلاح الإجتماعي ) وكأنهم ( أعلم بالله من خلقه ) , أنهم سيصلحون شأن ( اليتامى ) و بناء عليه , فقد جعلوا ( يوما لليتيم ) , من كل عام !!!
وأنا أعجب أشد العجب , أن توجه كل تلك الطاقات الدعائية و المالية من إعلانات و منشورات في التلفاز و الراديو و على المحلات من أجل شيء ما فعله الله ولا رسوله صلى الله عليه وسلم و لا أصحابه بدعوى أنهم يريدون من الناس أن تهتم ( باليتيم ) .
ووالله لقد كرّم الله اليتيم من فوق سبع سموات , بل كفى الأيتام شرفا أن نبيهم صلى الله عليه وسلم كان يتيما , ولو علم هؤلاء أحكام اليتيم و صفة الكفالة كما بينّاها آنفا بفضل الله , لعلم هؤلاء أن الإسلام قد جعل من المجتمع الإسلامي كله أبا و أما له , والحمد لله .(1/121)
و لو وجّهت تلكم الحملات الإعلانية الرهيبة , لتوعية إسلامية صحيحة عن اليتيم و اللقيط و أطفال الشوارع , بدلا من عقد المؤتمرات و الندوات و الإعلانات , لكان أليق و أصوب و أحرى و لا شك .
وهل كفالة الأيتام أو اللقط وتربيتهم قاصرة على ( يوم ) في العام !؟ , و بإسماعهم في ذلك اليوم الموسيقى و الأغاني المحرمة , ويأتي الناس مشفقين عليهم , يتحسرون , ويمصمصون الشفاة ؟! , كلا والله .. بل كفالة اليتيم إنما هي شرف لا يناله إلا من عرف و فهم معنى الكفالة , ولقد غلط هؤلاء و فهموا أن الفردوس الأعلى قد ينال ببضعة آلاف من الجنيهات أو بملايين حتى !
يظنون أن جوار رسول الله صلى الله عليه و سلم يشترى بالمال فحسب , ولا يعلمون أن هذا الجوار أغلى جدا من المال , لا يكاد ينال إلا بشق الأنفس , و التربية يا أخوة ( التي هي معنى الكفالة الرئيسي ) قضى فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم عمره كله , يربي الصحابة رضوان الله عليهم , ومن أحسن منه مربي !!
فهل يعتقد ( أصحاب يوم اليتيم) , أنهم بذلك أصبحوا رفقاء رسول الله صلى الله عليه وسلم , بحفل فيه الساقطات و الأغاني المحرمة , وبأموال تنفق (ليتها كانت لهؤلاء اليتامى بحق) , أحسبوا أن ذلك هو السبب لدخول الفردوس , ساء ما يحكمون !
ياسادة .. لا يوجد ما يعرف ( بيوم اليتيم في الإسلام ) و لا (بيوم الحب ) و لا ( بعيد الأم ) .. الخ .
نعم , لا يعرف ذلك , ولو كان في ذلك خيرا , لبينه رسول الله صلى الله عليه وسلم , ولبينه أصحابه , وهذا مالم يحدث ..
ويخطئ كل الخطأ من يعتبر ذلك من المصالح المرسلة , كيف تكون مصلحة مرسلة , ونحن عندنا كمّ من النصوص القرآنية و الأحاديث الشريفة فيها فضل كفالة اليتيم و القيام على مصالحة , كواجب شرعي فرض على الكفاية ؟؟
هل علم هؤلاء ما لم يعلمه الله و رسوله من أن الخير إنما هو في ( يوم لليتيم ) , والله جلّ وعلا لم يقل ( اجعلوا لليتيم يوم ) و لا رسوله .(1/122)
ويدّعي البعض و يقول , أن مثل هذه الأيام و الأعياد ( المحدثة ) ليس فيها شيء تعبدي , أو أن النية خالصة لوجه الله تعالى و لا شأن لي بيوم أو غيره , أو أنّ هذه بدعة حسنة النية فيها خير ؟
قال الشيخ بن العثيمين رحمه الله تعالى في رسالته ( الإبداع في بيان كمال الشرع و خطر الإبتداع ): قال ..
العبادة لا تكون عملا صالحا إلا إذا تحقق فيها شرطان ...
الأول : الإخلاص .
الثاني : المتابعة .
والمتابعة لا تتحقق إلا بأمور ستة ..
الأول : السبب , أي يتعبد الإنسان لله عبادة مقرونة بسبب غير شرعي , كمن يحتفلون بليلة السابع و العشرين من رجب ( لأنها الليلة التي أسري فيها رسول الله و لا يثبت في ذلك شيء ) فيقوم الليل و يقرأ القرآن .. الخ , فهذه بدعة مردودة على صاحبها ( قلت محمود : ولاحظ أن العمل مشروع من قيام الليل و قراءة القرآن و لكن سبب العبادة قلبها إلى بدعة )
الثاني : الجنس , فلا بد أن تكون العبادة موافقة للشرع في جنسها , فلا تقبل أضحية من ضحّى بفرس مثلا , لأنه خالف الشريعة من أن الأضحية لا تكون إلا من بهيمة الأنعام ( الإبل , البقر , الماعز )
الثالث : القدر , فلو أراد الإنسان أن يزيد صلاة على أنها فريضة : فنقول هذه بدعة غير مقبولة , ومن باب أولى لو أن الإنسان صلذى الظهر خمسا لم تصح الصلاة بالإتفاق .
الرابع : الكيفية , ( قلت محمود) , فلا يصح أن يصلي أحد بكيفية غير الكيفية التي صلّى بها رسول الله صلى الله عليه و سلم , لأنه عليه الصلاة و السلام قال " صلّوا كما رأيتموني أصلّي "
الخامس : الزمان , فلو أن رجلا ضحّى في أول أيام ذي الحجة فلا تقبل الأضحية لمخالفة الشرع في الزمان .
السادس : المكان , فلو أن الرجل إعتكف في غير مسجد فلا يقبل منه , لأن الإعتكاف لا يكون إلا في المساجد .ا.هـ . بتصرف !(1/123)
وتلاحظ ههنا , أن النوايا لا دخل لها بالعمل , فلو أن نيتك صحيحة و لكنّ العمل غير مشروع , ما قبل منك العمل على صحة نيتك , والله تعالى أعلم !
ولو ترى حال هؤلاء القوم أصحاب الأيام و الأعياد , لو ترى حالهم في اتباع سنة النبي صلى الله عليه وسلم , لوجدتهم أبعد الناس عن هديه و لونظرت إليهم لعرفت أن الله عز وجل يفضح هؤلاء و لا يسترهم في الحقيقة , نسأل الله أن يسترنا و إياكم إنه ولي ذلك و القادر عليه !
وأخيرا .. أسأل الله أن يهدي المسلمين و أن يكفّل الأيتام واللقطاء من هم أهل بذلك , إنه ولي ذلك و القادر عليه , وصلي اللهم و سلّم وبارك على سيدنا محمد و الحمد لله رب العالمين !(1/124)