بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيد المرسلين وإمام الغر المحجلين وعلى من سار على نهجه إلى يوم الدين أما بعد :
فهذا كتاب جمعت فيه ما ذكره الأديب الكبير الأستاذ /علي الطنطاوي-رحمه الله- حول بعض قضايا المرأة المعاصرة , يحكي فيها تجربة المرأة في بعض المجتمعات, وحريٌّ بمن يريد الخير والسلامة للمجتمع أن يقرأها جيداً ليستفيد من هذه التجارب فيتلافى الأخطاء التي وقعوا فيها , نسأل الله تعالى أن يصلح أحوال المسلمين , وأن يحفظ نساء المسلمين من كيد الكائدين إنه على ذلك قدير وبالإجابة جدير , وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه .
وكتبه
محمد بن عبدالله الهبدان
11/11/1424هـ
عملي في هذا الكتاب
ينحصر عملي في هذا الكتاب بالخطوات التالية :
أولاً : استقراء كتب الأستاذ علي الطنطاوي .
ثانياً : ترتيب الموضوعات وجمع المتماثل بعضه إلى بعض .
ثالثاً : وضع عناوين توضيحية لكل فقرة .
رابعاً : جعلت الكتاب على فصلين :
الفصل الأول : التجربة المعاصرة لتعليم المرأة ما لها وما عليها .
الفصل الثاني : التجربة المعاصرة للتحرير المزعوم للمرأة .
خامساً : مراجعة الكتاب لتلافي الأخطاء بقدر الوسع والطاقة .
الفصل الأول
أولاً : تجربة تعليم المرأة في بعض البلدان العربية
- وضع المجتمع قبل التغريب :
ـ كانت التلميذات في المدارس الابتدائية فضلاً عن الثانوية بالحجاب الكامل ، حتى أن أختين لي ، وزوجتي ، كن يذهبن إلى المدرسة الابتدائية بالملاءة السابغة ، وعلى وجوههن هذا النقاب أي القماش المثقب الذي كان يدعى عند العامة ( المنديل ) .(1/1)
أذكر أن دمشق أضربت مرة ، وأغلقت أسواقها كلها ، وخرجت المظاهرات تمشي في جاداتها ، لأن وكيلة مدرسة دار المعلمات جاءت المدرسة سافرة ، وهذه الوكيلة هي بنت أستاذنا في كلية الحقوق ، العالم الجليل ، الذي ولي الوزارة مرات ، شاكر بك الحنبلي ، رحمه الله ، ومن أدرك تلك الأيام ....من أهل الشام ، يشهد بصحة هذا الخبر ، ومن هؤلاء الصديق رفيق العمر الأستاذ سعيد الأفغاني ، الذي يدرس الآن في جامعة الملك سعود وقد قارب الآن الثمانين من العمر ، وإن هم افتقدوه لا قدر الله فلن يجدوا بعده مثله ، فهو المرجع في النحو والصرف . ( ذكريات 8/270-275)
ـ لست أكره مدارس البنات ، ولا أنا ممن يبلغ به قصر النظر ، وضيق الفكر ، أن يحاربها لأن طلب بعض العلم فرض على الرجال والنساء ، لا فرق بينهما في شيء من الواجبات والمحرمات ، ولا في شيء من الثواب والعقاب , مدارس البنات في الشام قديمة ، ولقد قلت لكم أن عمتي كانت أول فتاة تخرجت فيها سنة 1300 هـ أي من مئة سنة وخمس سنوات , أتدرون كيف كان الامتحان ؟ كان الفاحصون من الرجال ، إذ لم يكن في الشام يومئذ من المتعلمات من يمتحن الطالبات , نصبوا ستارة قعدت وراءها التلميذة ومعلمتها ، وأمامها لجنة الامتحان ، وكان رئيسها مربي الشام ، وأستاذ الجيل الذي كان قبلنا ، الشيخ طاهر الجزائري ، الذي كان له العمل الأكبر في افتتاح مدارس البنين والبنات ، والمكتبة الظاهرية التي تعد من أغنى المكتبات بالمخطوطات ، والذي كان من أخص تلاميذه به وأقربهم إليه أستاذنا محمد كرد علي ، وخالي محب الدين الخطيب والشيخ سعيد الباني . ( ذكريات 5/233- 234 )
- استبعاد حصول التغريب :(1/2)
كان هذا الذي رأيته ، وهذا الذي كتبته ونشرته قبل ثلاثين سنة ، ولم أكن أتصور أنه سيأتي عليّ يوم أرى فيه مدارس البنات في بعض بلاد المسلمين تكشف عن أجسادهن بحجة الرياضة ، وتعلمهن الاختلاط باسم الفن ، وتخرجهن من بيوتهن للفتوة أو للتدريب العسكري . (ذكريات 5/181)
- كيف دخل الفساد إلى مدارس البنات ؟ :
إن للأعراض لصوصاً كما أن للأموال لصوصاً , ولصوص المال أخف شراء ، وأقل ضراً من لصوص الأعراض, وهم يحومون دائماً حول بناتنا ، ولكنهم لا يستطيعون أن يقتحموا علينا بيوتنا ، إلا إذا صار الأمر فوضى ، وصار « حاميها حراميها » وعاد الناس كوحش الغاب , ففكروا وقدروا ، واستوحوا شياطينهم ، فوصلوا إلى الرأي : وهو أن يدخلوا علينا من طريق المدارس ، فكيف دخلوا من طريق المدارس ؟ إن لذلك قصة طويلة الذيول ، عريضة الحواشي ، أعرفها كلها ، ولكن لا أستطيع الآن أن أرويها كلها ، لذلك أسرد اليوم العناوين وأعود يوماً إلى المضامين .
بدؤوا بإدخال المدرسين من الرجال على البنات ، بحجة فقد المدرسات القادرات ، وكان المدرسون أولاً من أمثال الشيخ محيي الدين الخاني ، والأستاذ أديب التقي البغدادي ، والأستاذ محمد علي السراج وممن درس فيها حيناً شيخنا الشيخ بهجة البيطار ، وأنا .
ثم فتح الباب للشباب ، ومن الشباب قلة هم أصلح وأتقى لله من الشيوخ الكبار , وأكثر الشباب من المستورين الذين لا يعرف عنهم إقبال على المعصية ولا تمسك قوي في الدين , ومنهم من هو فاسق يخفي فسوقه , ومنهم من يجاهر به ويعلنه ويجد من الناس من يعجب بهذه المجاهرة ويصفق لهذا الإعلان , ثم احتجوا بالرياضة فكشفوا من أجلها العورات ، واستباحوا المحرمات .
ثم اتخذوا الحفلات السنوية طريقاً إلى ما يريدون ، يصنعون فيها ما لا يجرؤون عليه في غيرها .(1/3)
ولما كنت أدرس في ثانوية البنات سنة 1949 م دعيت إلى هذه الحفلة السنوية ، فلم أذهب ، وكانت الطالبات وكلهن بالغات كبيرات ، يأتين المدرسة بالثوب الرسمي الساتر ، وكن يحتجبن في درسي ودرس الشيخ بهجة ، فلما كان يوم الحفلة وقد جئت المدرسة لبعض المعاملات رأيت الطالبات في الثياب العادية أي التي يذهب بها إلى الأعراس ، أي أنني رأيتهن متكشفات بأبهى زينة ، فنصحت من سلمت علي ، وانصرفت عائداً فلما انقضت الحفلة ومرت عليها أيام ، أهدت إلي إحدى الطالبات ظرفاً كبيراً فيه أكثر من ثمانين صورة ملونة أخذت في الحفلة , والذي صورها رجل أجنبي عنهن ، ليس أباهن ولا أخاهن , ثم رأيت هذه الصور في محل هذا المصور ، ومحله على طريقي الذي اجتازه كل يوم ، معروضة في واجهة المحل .
ثم اخترعوا نظام المرشدات وهو مثل نظام الكشفية للأولاد ، وصرن يذهبن في رحلات قصيرة في قرى دمشق .
ثم جاءت المصيبة التي أنست ما قبلها من المصائب ، وهي نظام الفتوة، أي إلباس الطالبات لباس الجند ، وتدريبهن على حمل السلاح ، لماذا؟
وهل انقرض الرجال حتى نقاتل بربات الحجال ؟ ولمن تترك إدارة البيوت وتربية الأطفال ؟ لماذا والشباب يتسكعون في الطرقات ويزدحمون على أبواب السينمات فندع الشباب لهذا ونقاتل أعداءنا بالبنات ؟
قالوا : أنتم رجعيون متأخرون جامدون , ألا ترون اليهود كذلك يصنعون ؟ أتكون الفتاة اليهودية أشجع من العربية ؟(1/4)
ولو أنهم قرؤوا ما نقله الدكتور محمد علي البار جزاه الله خيراً « في كتابه» عن النساء المجندات في الجيش والشرطة ، في أمريكا وأوربا ، لعضوا الأنامل ندماً ، وبكوا بدل الدموع دماء على أنهم جعلوا أئمتهم اليهود , تقول العوام ، وفي بعض ما يقولون حكمة بالغة ، وحق بين يقولون : « المال الداشر يعلم الناس السرقة » , ذلك لأن كل نفس تميل إلى المال ، وأكثر وأقوى من الميل إلى المال الميل إلى الجمال , وهؤلاء الذين سلمناهم بناتنا ، ومنهم من لا تعصمه زوجة ، ولا يردعه دين ، ولا يمسكه خوف من الله والدار الآخرة ، هؤلاء تدفعهم غرائزهم إلى هذا الذي فعلوا ، ولا يزالون دائبين ليصلوا لأكثر مما نالوا . (ذكريات 5/ 268-274)
- بداية التغيير والتغريب في المدارس :
ثم بدأ الصدع في الجدار ، والشق في الثوب ، ثم اتسع الخرق على الراقع ، وامتد الصدع حتى كاد يهدد الجدار .
وفي سنة 1949 كان أخي أنور العطار رحمه الله ، يدرس الأدب العربي لطالبات الثانوية الأولى للبنات ، ودار المعلمات ، فنقل وسط السنة المدرسية إلى وزارة المعارف ، وكلف أن يجد من يحل محله ، وإلا فقد الوظيفة الجديدة ، التي كان يسعى إليها ، ويتمنى الحصول عليها ، فلجأ إلي فقبلت ، ولم يكن في المدرسة كلها على كبرها ، وعلى أنها المدرسة الأولى في دمشق إلا نساء : مدرسات وطالبات ، ولم يكن فيها من الرجال إلا البواب على الباب ، والأستاذ أنور الذي حللت محله وشيخنا الشيخ محمد بهجت البيطار ، وهو والدنا وأستاذنا ، وقد ارتفع بدينه وسنه وسيرته فوق الشبهات.(1/5)
ووجدت الطالبات يغطين رؤوسهن في درسي ودرس الشيخ بالخمار « الإيشارب » وإن كان منه ما لا يستر إلا ربع الرأس ، وما كنت أختلط بالمدرسات ،بل أعتزلهن أنا والشيخ ، إلا مرات قليلة لم يكن لنا فيها بد من الاجتماع بهن ، وما خرجت في هذه الاجتماعات وفي دروسي مع الطالبات عن موضوع البحث أو الدرس إلا مرة واحدة .. واستمرت الحال لا أنكر منها شيئاً ، حتى سمعت يوماً وأنا ألقي درسي أصواتاً ألتفت بلا شعور إلى مصدرها ، فإذا أربعون من الطالبات في درس الرياضة وهن يلبسن فيه ما لا يكاد يستر من نصفهن الأدنى إلا أيسره ، وكن في وضع لا أحب ولا أستجيز أن أصفه فهو أفظع من أن يوصف ، فذهبت بعد الدرس إلى شيخنا الشيخ بهجة البيطار وخبرته, فقررنا أن نترك التدريس ، وكان قد بقي إلى الامتحان ونهاية العام نحو عشرة أيام . ( ذكريات 8/270-275) (1)
__________
(1) وقال في موضع آخر : ( جاءت مرة وكيلة ثانوية البنات المدرسة سافرة ، فأغلقت دمشق حوانيتها ، وخرج أهلوها محتجين متظاهرين ، حتى روعوا الحكومة فأمرتها بالحجاب ، وأوقعت عليها العقاب ، مع أنها لم تكشف إلا وجهها، ومع أن أباها كان وزيراً وعالماً جليلاً ، وكان أستاذاً لنا . ومرت الأيام ، وجئت هذه المدرسة أُلقي فيها دروساً إضافية ، وأنا قاضي دمشق ، سنة 1949 . وكان يدرس فيها شيخنا الشيخ محمد بهجة البيطار فسمعت مرة صوتاً من ساحة المدرسة ، فتلفت أنظر من النافذة ، فرأيت مشهداً ما كنت أتصور أن يكون في ملهى ، فضلاً عن المدرسة ، وهو أن طالبات أحدا لفصول ، وكلهن كبيرات بالغات ، قد استلقين على ظهورهن في درس الرياضة ورفعن أرجلهن ، حتى بدت أفخاذهن عن آخرها وكتبت في إنكار ذلك مقالة ،وعرضت له في أحاديثي في الإذاعة ، واجتمع رأي الشيخ ورأيي على أن بقاءنا في المدرسة بعد هذا لا يجوز ، وكان ذلك آخر يوم من السنة المدرسية فلم أعد إليها السنة التي بعدها . ذكريات ( 5/ 226-227)(1/6)
- مسيرة الانحدار في مدارس البنات :
ثم أخذ الطريق ينحدر، والمصائب تتوالى ، والمدارس التي أنشئت لحفظ البنات وتثقيفهن وتقويمهن ، وكانت عنايتها برؤوسهن ، تملؤها بحقائق العلم ، وأفكارهن ، تقوم طريقها إلى الفهم ، وبقلوبهن ، تملؤها بالإيمان وبالفضائل ، صارت عنايتها بأجساد الطالبات ، وبعد أن كانت مدارس البنات لا يدخلها معلم ولا فراش إلا إن كان شيخاً كبيراً ، صار معلموها من الشباب العزاب المتأنقين الحاسرين ، أصحاب الشعور المرجلة، والوجوه المحفوفة ، وصارت تقيم حفلات للرجال تمثل فيها البنات ، ويرقصن بالثياب القصيرة الرقصة الرياضية ، ويدبكن ( الدبكة الوطنية ) ، ثم اخترعوا شر اختراع ، وهو هذه الرحلات المدرسية التي يشترك فيها الجنسان ، ولقد بدأ ذلك كله يوم الاحتفاء بالجلاء , المسلم يحمد الله على النعمة ، ويتلقاها بالطاعة ، ونحن قابلنا نعمة الله علينا بجلاء المستعمرين عنا بمعصية ربنا . ( ذكريات 5/233- 234 )
- أول مادة ، من قانون إبليس هو الاختلاط :(1/7)
مشيت مع هؤلاء جنوباً حتى بلغنا الجامعة ، وكانت في العطلة الصيفية ، فأخذونا إلى مهاجع الطلبة « أي مساكنهم وأماكن نومهم» فرأيت إلى جوارها مهاجع الطالبات ، ما أبصرت بينهما سداً ممدوداً ، ولا حداً حاجزاً ، كأن من شاء منهم أو منهن لقي من أراد لقاءه ، وبعض القوم في أوربا قد حرموا نخوة الرجل ، وذوده عن عرضه ، حتى أنني قلت كلمة من قديم ، من عشرات من السنين « أنه ليس في الفرنسية التي أعرفها ولا في الإنكليزية كما فهمت ممن يعرفها ، كلمة بمعنى كلمة العرض عند العربي »، وحتى قرأت في إحدى المجلات خبراً قصصته وحفظته ، إن القائمين على المدارس المختلطة والجامعات يعلمون الطالبات فيما يعلمونهن كيف يتجنبن الحبل ، وكيف يتخلصن منه إن وقع , أي أنهم يبيحون السفاح ، أو يصنعون شيئاً هو قريب من ذلك ، فينزلون بالبشر إلى رتبة البهائم , ثم يأتي منا من يريد أن يسلك ببناتنا هذا المسلك ، فيحاربون الحجاب ، ويرغبون في التكشف ويحبذون الاختلاط ، ينفذون فينا أول مادة ، من قانون إبليس ، أي التكشف والسفور والحسور ، ((يَنْزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْآتِهِمَا)) (الأعراف: 27) أليست هذه هي المادة الأولى في قانون إمامهم وقائدهم إلى جهنم إبليس ؟ عم الاختلاط المدارس كلها ، حتى الثانوية منها . ذكريات (7/263)
- إدخال مادة الرقص والرياضة في المدارس :(1/8)
ماذا يريد هؤلاء من تعليم الطالبات الرقص بدلاً من تعليمهن العلم والخلق ؟ إن 99 من كل ألف من أهل الإقليم (سورية ) لا يرون في الرقص إلا شيئاً حقيراً ساقطاً ، ويؤثرون الموت لبناتهم عن أن ينشأن راقصات , ويلعنون الأدب والفن إن كان في الأدب أو في الفن ضياع ذرة واحدة من أعراض بناتهن , فلا تهولوا علينا باسم الأدب والفن ، ولا باسم الرياضة التي تقوي الجسد ، فلا خير في قوة الجسد إن لم يكن معها قوة الدين وقوة الحق ، ولا بالمقاومة الشعبية ، لأن الحرب صناعة الرجال ، فما لنا نحمل النساء البندقيات والشباب يملئون المقاهي والسينمات ؟
إننا لا نقبل تكشف البنات ، واختلاطهن بالرجال ، واختلاط الرجال بهن أبداً مهما كان السبب الذي يتذرعن به هؤلاء .
هذه هي أعرافنا وهذه هي أحكام ديننا , وهذه هي سلائق عروبتنا , إن الكثرة من أهل هذا الإقليم من المسلمين ، الذين يحرم عليهم دينهم كشف شيء من جسد المرأة للأجنبي ، وليس الأجنبي الإنكليزي والأمريكي والروسي فقط , بل الأجنبي في نظر الشرع كل من لم يكن محرماً للمرأة ، فابن عمها أجنبي عنها ، وابن خالها ، وابن خالتها ، وزوج أختها ، فضلا ً عمن لم يكن قريباً لها .
والذين يدينون بالنصرانية من أهل هذا الإقليم تحرم عليهم نصرانيتهم التبرج والتكشف والاختلاط ، كما يحرم على المسلمين إسلامه .
وكلهم عرب , وأظهر سمات العروبة الغيرة على الأعراض والإغراق في صيانة النساء ، وليس في الدنيا عربي لا يغار على حرمه ، ولا يصون عرضه وشرفه. ذكريات ( 6 / 18-19)
إدخال رقص البالية في المدارس :(1/9)
بدأنا برقص السماح ، على من أحياه ونقله من المشايخ الكبار إلى الفتيات الصغار، عليه من الله ما يستحق ، ثم جزنا بأنواع من الرقص لا أحفظ أسماءها ، ثم وصلنا إلى رقص الباليه , ولقد سمعت اليوم خبراً لم أتحققه أن مدارس البنات أبلغت من المرجع الرسمي لزوم تعليم الطالبات رقص الباليه, هل تعرفون ما هو؟ هو الذي تدع البنت فيه ثيابها المعتادة ، وتلبس شيئاً كالمطاط يستر جسدها ، لكنه يجسدها ، فكأنما كاسية عارية ، ثم تقفز على رؤوس أصابعها , إنها خطة شيطانية ، كلما رضيتم حلقة منها ، وسكتم عليها جاءتكم حلقة أخرى وسكت هنا سكتة طويلة ثم قلت : لم يبق إلا أن تنكح بناتكم أمام أعينكم. ذكريات ( 6 /19)
- إدخال مادة الفتوة في مدارس البنات :
ثم قلدنا اليهود ، فجعلنا للبنات درساً سميناه «درس الفتوة » لتدريبهن على الجندية ، كأن الشباب لا يملئون المقاهي والملاهي ولا يتسكعون في الطرقات ، وكأنه لم يبق للدفاع عن البلاد إلا البنات ، ثم عمدنا إلى تعميم السفور والحسور حتى جعلنا للبنات مسابقات في السباحة أمام الرجال باسم الرياضة .
ولم يبق إلا أن نجعل للبنات كلية عسكرية !
فباسم الرياضة تارة وباسم الفن تارة ، وباسم الدفاع المدني تارة ، وأسماء أخرى ما أنزل الله بها من سلطان استبحنا ما حرم الله ، وعممنا الاختلاط في المدارس والجامعات ، بدأنا بذلك من رياض الأطفال ، وقلنا صغار ما لهم عورة ولا يعرفن المعاني الجنسية ، ونسينا أن الصغير يكبر ، وأن ما غرس في ذاكرته يبقى فيها .(1/10)
نقلد في ذلك غير المسلمين ، ولقد قرأت في جرائد اليوم «الجمعة العاشر من رمضان» أن الإنجليز وغيرهم من الأمم التي ندعوها أمم الحضارة ، بدأت تعدل عن سنة إبليس في خلط البنين في المدارس بالبنات ، وتعود إلى الفطرة التي فطر الله البشر عليها ، فتجعل للذكور مدارس ما فيها إناث ، ومدارس للإناث ما فيها ذكور ، وقد سبقت إلى ذلك روسيا أم الشيوعية وبنت الصهيونية ، ونحن لا نزال سائرين في غينا ، بل لقد بلغ منا التقليد أن أقمنا مدرسين شباناً يدرسون البنات البالغات ، ومدرسات شابات للطلاب البالغين , مما حمى الله هذه المملكة منه ومن أمثاله وأسأله أن يديم حمايتها منه وإبعادها عنه . ( ذكريات 8/270-275) .
- استغلال المدارس لإفساد البنات :
أبطال هذه القصة مدرسة « دوحة الأدب » في دمشق ، وشيوخ الموسيقى في حلب ، وفخري البارودي , أما مدرسة دوحة الأدب فهي ثانوية أهلية ، أنشأها بعض من يدعوهم الناس بالزعيمات النسائيات ، اللواتي يغلقن عيناً وينظرن بالأخرى وحدها ، كما يفعل الصياد قبل أن يضغط على الزناد ينظرن إلى الغرب وعاداته بعين الرضى ويغمضن العين عن عيوبه وعن مفاسده ،كما يغمضنها فلا يبصرن بها جمال ما في الشرق المسلم من فضائل ومكرمات .
استدعت هذه المدرسة من دمشق «أكابر مترفيها ففسقوا فيها» أو ليس من الفسوق في نظر الشرع ، أن يرسل أب بنته البالغة متكشفة مبدية زينتها ، إلى حيث تختلط برجال أجانب عنها ليسوا بمحارمها ؟ ولو كانوا أساتذة لها ! وإن لم يكن بينها وبين واحد منهم حب ولا غرام ، ولا اتصال بالحرام ؟(1/11)
كان فخري البارودي وطنياً مخلصا ً وأميناً على المال ، ولكن الناس يتهمونه تهمة شائعة ، و قالة سوء قيلت عنه ، ما حققتها ، وأستغفر الله من روايتها من غير تأكد منها ولكن الذي حققته وتأكدت منه أن ولعه بالموسيقى وحبه للفن أوصله إلى فكرة شيطانية ، ما أحسب أنها خطرت في بال إبليس نفسه ، هي أن ينقل رقص السماح هذا من المشايخ والكهول ذوي اللحى إلى الغيد الأماليد ، والصبايا الجميلات ، من بنات دوحة الأدب ، التي دعوتها من يومئذ دوحة الغضب ، ولعل هذه النقلة على ما فيها من الفسوق الظاهر ـ لعلها أيسر من بعض ما في أناشيد المشايخ من شرك يكاد يكون ظاهراً , فجاء من حلب بأستاذ كان في حفظ الموشحات ، ومعرفة الغناء القديم مفرداً لا يجاريه في ذلك أحد ولا يدانيه ، هو الشيخ عمر البطش ، وكان بعمامة مطرزة ، يلبسها التجار في الشام تفريقاً لها عن العمامة البيضاء التي يلبسها العلماء ، وإن كان الشيخ بدر الدين الحسني المحدث الأكبر ، والشيخ على الدقر الواعظ الأشهر يتخذانها , وفصلت للطالبات ثياب من الحرير بأزهى الألوان ، فضفاضة كثياب القيان و الإماء في بغداد قديماً وفي مدن الأندلس , وحفظهن هذه الموشحات ،ولكنه نقلها مما كانت عليه حين كان ينشدها ويرقص عليها المشايخ من تضرع ودعاء ، واستغاثة ونداء ، إلى كلام كله عشق وغرام ،وشوق وهيام ، وكثير منه صيغ ليكون من كلام البنت تخاطب الرجل , وشتان بين غزل الشاعر ونسيب الشاعرة, أشرح لكم الفرق : حين تقول « ضرب زيد عمراً » يكون موقع الرجل كمحل زيد من الإعراب ، ومحلها هي في موضع عمرو ,هل فهمتم ؟ هو يقول : تعالي , وهي تقول : خذني , واستمر التدريب ونحن لا ندري به ، وما يدرينا بالذي وراء جدران مدرسة أهلية للبنات ، ونحن لا ندخلها ، وما لنا فيها قريبة ولا نسيبة تخبرنا بالذي فيها , حتى سمعت أنها ستقام حفلة كبيرة في دار أسعد باشا العظم ، وهي أوسع الدور الدمشقية ، وقد صارت الآن متحف(1/12)
الفنون الشعبية ، فكتبت أنقد إقامتها ، وأحذر منها ، وأنصح آباء البنات وأولياءهن أن يمسكوا بناتهم فلا يبعثوا بهن إليها ، وكيف يرضى لبنته مسلم عربي أبي أن ترقص أمام الرجال الأجانب ؟ تتلوى وتتخلع وهي تغني أغاني كلها في الغرام والهيام ؟ ولكن الحفلة أقيمت ، وحضرها رئيس الوزراء وأظن أنه كان خالد بك العظم ، وحضرها العقيد أديب الشيشكلي ..وحضرها قوم ممن يدعون بوجوه الناس وكبارهم , وعرفنا خبرها من الجرائد ومن الإذاعة ، ولم يكن قد جاءنا هذا المرئي ـ أي التلفزيون ـ . ( ذكريات 5/101-112).
- من الذي زرع هذه الأفكار :
من هو الذي وضع هذه الخطة التي كانت خفية ، ولكنها ظهرت الآن واضحة بينة , لقد زرنا - ونحن خمسون عالماً من علماء سورية - الوزير كمال الدين حسين ، وكلمناه بصراحة وكلمنا بصراحة ، وخرجنا مقتنعين بأنه لا يريد هذا ولا يعمل له.
ولقد زرت الرئيس عبد الناصر قبل الوحدة ، وكنت أنا والأمير سعيد الجزائري المندوبين السوريين في الوفد المشترك « السوري - العراقي - اللبناني » لنصرة الجزائر ، وجلسنا معه في بيته ساعتين ، وحادثناه من قرب ، فلم يقل لنا أنه وضع هذه الخطة أو أنه يريدها .
وجالست الرئيس السراج طويلاً ، وحادثته على انفراد لما كان وزيراً للأوقاف ، فلم أحس أنه وضع الخطة أو أنه يريدها .
وأنتم تعرفون أني لا أتزلف إلى أحد ، ولا أقول هذا الكلام الآن ليصل إليهما لأستغله في جلب منفعة لنفسي منهما ، أو دفع مضرة عنها ، ولكن أقول الحق .
وليس معنى كلامي هذا أنهما وليان من أولياء الله ، ولا أنهما الحسن البصري وسفيان الثوري ، ولكن معناه أننا لم نشعر أن الرجلين خصمان للفضيلة ولا للأخلاق , فمن هو إذن الذي وضع هذه الخطة الشيطانية لإفساد أخلاق الشباب والشابات ؟(1/13)
وضعها هؤلاء الذين تربوا في باريس ، فانطلقوا فيها وراء لذاتهم ، انطلاق العطشان الهيمان إن رأى الماء ، فلما تركوها حنوا إليها ، وأرادوا أن ترجع لهم أيامهم ، وجئنا نحن فسلمناهم أمر أبنائنا وبناتنا ، فأرادوا أن يجعلوا دمشق مثل باريس ، ونسوا أن هذه الأخلاق ، هي التي أوهت قوى فرنسا ، ونخرت في عظمها نخر السوء ، فجعلتها لا تقف أمام جيوش هتلر إلا أياماً معدودات .
المسئول هؤلاء الذين يعملون من وراء الستار ، ولكن هناك مسئولا ً أخر ، من هو مسئول قبل هؤلاء كلهم ، وهذا المسئول هو الأب .
إنهم ما أخذوا بنتاً لترقص إلا بموافقة من أبيها ، وإنهم ينتقون كل بنت جميلة ليعملوها راقصة في المسارح المدرسية أولاً ، ثم في غيرها بموافقة من أبيها .
والذي نعرفه نحن أن الأب العربي المسلم ، يطير عقله إن رأى بنته تكلم شاباً أجنبياً ، أو تمشي معه ، فإن رآها كشفت أمامه عن ساقها ، أو هزت له رجلها ، أراق دمها .(1/14)
فما الذي جرى حتى صار الأب يحضر الحفلة التي ترقص فيها بنته كاشفة الفخذين ، ويصفق مع المصفقين ؟ أنا أفهم الدافع الذي يدفع المفسدين إلى الإفساد , إنه الشهوة المتسعرة بين ضلوعهم ، إن أعظم فرقة راقصة تكون في أكبر ملهى لا توجد فيها إلا راقصتان أو ثلاثة من الشابات الصغيرات ، يدخل الناس إليه ، ويدفعون الأجر الكبير من أجل رؤيتهن , وهذه بطاقة فيها برنامج الملهى الذي ترقص فيه النساء في دمشق ، استطعت أن أبعث من يأتي به , إن في برنامج الملهى أربع راقصات ، وفي بطاقات الحفلات المدرسية ، في الثانويات الرسمية ، تسع راقصات ، تقوم بها مئة أو مئتان من العذارى الفاتنات ، من بناتنا بنات ست عشرة وسبع عشرة ، فما هذه البدعة التي ابتدعت في هذه الأيام ؟ كيف تريدون منهم أن يتركوا هذه المتعة النادرة بعدما وصلوا إليها ؟ إذا طالبناهم في دمشق الشام ، المدينة العربية المسلمة ، بزيادة ساعات الدين في المدارس ، قالوا : من أين نأتي بالوقت ؟ إن الوقت الذي كان ينبغي أن يخصص لدروس الدين أخذته الاستعدادات للرقص , إن في كل مدرسة مخبراً للعلوم ، وملعباً ، وغرفة لموسيقى ، وغرفة للرسم ..ولكن ليس في المدرسة غرفة للصلاة !
وقد كنا في المدرسة الثانوية « مكتب عنبر » نصلي الظهر جميعاً ، ويصلي معنا كثير من المدرسين ، وكانت صلاة الظهر من جملة أعمال المدرسة ، وكان الطلاب مجبرين عليها ، وكان للمدرسة إمام رسمي ، هو الشيخ أحمد زروق ، رحمة الله عليه , فألغينا الصلاة ووضعنا محلها الرقص . ذكريات ( 6 / 18-19)
- كيف بدأ الاختلاط :(1/15)
أما الجانب الآخر من المصيبة ..فهو نزع حجاب البنات والسعي الدائب لاختلاط الشبان بالشابات ، حتى كشفت العورات ، وصار بعض المدارس كالمراقص والملهيات ، وصار الرقص ، لا الرقص الرياضي ، بل الرقص العادي مادة من المواد المقررات ، تجبر على تعلمه الطالبات , إي والله العظيم ، ما أقول إلا ما وقع ، لا أسير وراء خيالي ، ولا أفتري على الناس الكذب , لم نصل إلى هذا في يوم واحد ، بل كانت خطة مرسومة , كانت فصلاً من كتاب محاربة الإسلام , لقد حاقت بالإسلام مصائب ، وحلت به نكبات : الردة التي كانت بعد انتقال الرسول عليه الصلاة والسلام إلى الرفيق الأعلى ، حيث رجع أكثر العرب عن الإتباع الكامل للإسلام فمنهم من تبع متنبئاً كذاباً ، وترك الدين الحق ، ومنهم من أراد أن يهدم ركناً من الأركان التي يقوم عليها بنيان الإسلام،فيمنع الزكاة ، وظن بعض خصوم الإسلام أنه انتهى ، ولكن الإسلام عاد بحمد الله أقوى مما كان , ثم جاءت سلسلة طويلة من المصائب التي تعرفونها ، وما أنشأت هذا الفصل لبيانها ولكن أشير إليها لأذكركم بها : الفتن الداخلية التي أثارها ابن سبأ اليهودي المتنكر بلباس الإسلام , ثم الحروب الصليبية ، وهجمات المغول والتتر ، وما تعرفون من أمثال ذلك وأمثاله كثير ، ولكن الإسلام كان ينتفض فيلقي عنه ما علق به ، ويشفى مما أصابه ، ويعود قوياً محفوظاً بحفظ الله .
أما الحرب التي تواجه الإسلام الآن فهي أشد وأنكى من كل ما كان ، إنها عقول كبيرة جداً ، شريرة جداً تمدها قوى قوية جداً ، وأموال كثيرة جداً كل ذلك مسخر لحرب الإسلام على خطط محكمة ، والمسلمون أكثرهم غافلون , يجد أعداؤهم ويهزلون ، ويسهر خصومهم وينامون ، أولئك يحاربونهم صفاً واحداً ، و المسلمون قد فرقت بينهم خلافات في الرأي ، ومطامع في الدنيا , يدخلون علينا من بابين كبيرين ، حولهما أبواب صغار لا يحصى عددها ، آما البابان الكبيران فهما باب الشبهات وباب الشهوات .(1/16)
أما الشبهات فهي كالمرض الذي يقتل من يصيبه ، ولكن سريانه بطيء ، وعدواه ضعيفة , فما كل شاب ولا شابة إذا ألقيت عليه الشبه في عقيدته يقبلها رأساً ويعتنقها .
أما الشهوات فهي داء يمرض وقد لا يقتل ، ولكنه أسرع سرياناً وأقوى عدوى ، إذ يصادف من نفس الشاب والشابة غريزة غرزها الله ، وغرسها لتنتج طاقة تستعمل في الخير ، فتنشئ أسرة وتنتج نسلاً ، وتقوى الأمة ، وتزيد عدد أبنائها ، فيأتي هؤلاء فيوجهونها في الشر ، للذة العاجلة التي لا تثمر , طاقة نعطلها ونهملها ودافع أوجد ليوجه إلى عدونا ، لندافع بها عن بلدنا ، فنحن نطلقها في الهواء ، فنضيعها هباء ، أو يوجهها بعضنا إلى بعض , هذا هو باب الشهوات وهو أخطر الأبواب , عرف ذلك خصوم الإسلام فاستغلوه ، وأول هذا الطريق هو الاختلاط .
بدأ الاختلاط من رياض الأطفال ، ولما جاءت الإذاعة انتقل منها إلى برامج الأطفال فصاروا يجمعون الصغار من الصبيان والصغيرات من البنات , ونحن لا نقول أن لبنت خمس سنين عورة يحرم النظر إليها كعورة الكبيرة البالغة ، ولكن نقول أن من يرى هذه تذكره بتلك ، فتدفعه إلى محاولة رؤيتها ,ثم إنه قد فسد الزمان ، حتى صار التعدي على عفاف الأطفال ، منكراً فاشياً ، ومرضاً سارياً ، لا عندنا ، بل في البلاد التي نعد أهلها هم أهل المدنية والحضارة في أوروبا وأمريكا. (ذكريات 5/ 268-274)
- الرد على دعاة الاختلاط :(1/17)
إن أصول العقائد وبذور العادات ومبادئ الخير والشر ، إنما تغرس في العقل الباطن للإنسان ، من حيث لا يشعر في السنوات الخمس أو الست الأولى من عمره ، فإذا عودنا الصبي والبنت الاختلاط فيها ، ألا تستمر هذه العادات إلى السبع والثمان ؟ ثم تصير أمراً عادياً ينشأ عليه الفتى ، وتشب الفتاة ، فيكبران وهما عليه ؟ وهل تنتقل البنت في يوم معين من شهر معين ، من الطفولة إلى الصبا في ساعات معدودات ، حتى إذا جاء ذلك اليوم حجبناها عن الشباب ؟ أم هي تكبر شعرة شعرة ، كعقرب الساعة تراه في الصباح ثابتاً فإذا عدت إليه بعد ساعتين وجدته قد انتقل من مكانه , فهو إذن يمشي وإن لم تر مشيه ، فإذا عودنا الأطفال على هذا الاختلاط فمتى نفصل بينهم ؟(ذكريات 5/ 268-274)
- من آثار الاختلاط بين الجنسين :(1/18)
جئت المدرسة الغربية ، التي أعرفها وتعرفني ، يعرفني كل من يعلم فيها معي من إخواني ، وكل من كان يتعلم فيها من أبنائي ، وتعرفني غرفها وإبهاؤها ، وممراتها وأبوابها ، وأركانها وجدرانها , تركت فيها بقايا مني ، من أيامي ، من أماني وأحلامي ، فلما بلغت بابها أُصبت بصدمة اهتز لها جسدي : صاح بي البواب : ممنوع يا أفندي , فلما رآني ماضياً قدماً لا أقف عليه ، ولا أتلفت إليه ، وثب يعترضني ويقول : قلت لك ممنوع ، فماذا تريد يا أفندي ؟ قلت أريد أن أقابل المدير فتردد ثم قال لي مستسلماً : تفضل , ودخلت على مدير المدرسة ، فإذا كهل يدل سمته على فضل وعلى صلاح ، فانتسبت له ، كما كانوا يقولون قديماً أو عرفته بنفسي ، كما يقال الآن ، فرحب بي وأراد أن يكرمني ، فدعا بأساتذة الأدب العربي ليلقوني ، فدخل رجلان وسلما وسلمت ، ثم دخلت صبية حسناء ، سافرة حاسرة ، قصيرة الكم واسعة الجيب يبدو منها الساعد والنحر ، وأعلى الصدر ، تهدل خصلة من شعرها على جانب جبينها ، فكلما تكلمت اهتزت فسقطت على عينيها فأزاحتها بيديها ، قصيرة الثوب ، ما أنعمت النظر إلى ساقها لأعرف هل تلبس جوارب أم هي كاشفت الساق ؟ دخلت غير محتشمة ولا مستحيية ، كأنها رجل يدخل على رجال ، أو كأنها حسبتنا نساء تتكشف أمامهن كما تتكشف أمام النساء , وما طالت حيرتي في أمرها ودهشتي منها حتى سمعت المدير يقدمها إلي يقول أعرفك بفلانة « نسيت اسمها » مدرسة الأدب العربي ، ومدت يدها لتصافحني فتأخرت لحظة ثم قبضت يدي ، وقلت كلمة اعتذار ما أعجبتها , وأسرعت لأتخلص من هذا الموقف فسألت المدير : هل تدرس الآنسة هنا في مدرسة كل طلابها شباب ؟ , فابتدرت هي الجواب ، وقالت للمدير بجرأة عجيبة : يظهر أن الأستاذ لم يعجبه أن أدرس هنا , قلت للمدير : اسمح لي أسألك هل الآنسة مسلمة ؟ قالت وقد انقلبت كالنمرة المتوحشة : وما دخل الإسلام في الأمر ؟ قلت : يا آنسة ، أنا لم أخاطبك ،وإنما أخاطب(1/19)
المدير ، فإن كنت مسلمة فالإسلام يدخل حياة المسلم كلها ، يكون معه إن كان وحده ، أو كان مع أهله ، أو كان في سوقه ، أو كان في مدرسته ، يبين له حكم كل عمل من أعماله ، لأنه ليس في الإسلام عمل يعمله المسلم إلا و له حكم في الشرع .
ورأيت أن الكلام معها لا يفيد ، فقمت فسلمت على المدير وانصرفت ، ودمي كله يغلي في عروقي ، وغضبي يضرب قحف رأسي , وذهبت فسألت من لقيت من الشبان في دار الأخوة الإسلامية ، فإذا هي سنة سيئة جديدة : أن يذهب مدرسون شبان إلى مدارس البنات ، ومدرسات شابات إلى مدارس البنين ، في أخطر مرحلة من العمر ، مرحلة الدراسة المتوسطة ، التي يكون فيها التلاميذ في بداية العهد بالبلوغ ، نار الرغبة مشتعلة بين جوانحهم ، وكوابح العقل والتجربة ضعيفة في نفوسهم ، أما الدين فقد كان من أثر المستعمرين في أكثر بلاد المسلمين أنهم أضعفوه في نفوس الناشئين , وروى لي هؤلاء الشباب حوادث مما يقع في المدارس التي تدرس فيها فتيات , حوادث مخيفة أخشى على أعصاب القراء من الشباب أن أذكرها أو أن أشير إليها ، فأكون من الذين يريدون الفساد في الأرض , نار وبنزين هل يكون من اجتماعهما نبع في ظل حوله ورد وياسمين ؟ وذهبت فنشرت مقالة مشتعلة ، لم أكتبها بقلم مقطوف من أغصان الجنة ، بل بحطبة من جهنم ، تلتهب كلماتها التهاباً ، فتلهب نفوس أهل الإيمان وأهل الشرف ، ومن في نفسه بقية من سلائق العروبة وخلائق الإسلام , تردد صداها بين جوانب البلد تردد صدى صوت المدافع , أرضيت ناساً أبلغ الرضى ، وأغضبت آخرين أعنف الغضب , حملت على الذين جاؤوا بهذه البنت فألقوها بين الشباب , حمامة بيضاء بين صقور ، قد أشرعت هذه الصقور مناقيرها وأعدت مخالبها , على أنها لا تخلو هي من اللوم ، فما الذي أدخلها هذا المدخل ؟ وإن هي إرادته فما الذي عقد ألسنة أهلها فلم ينصحوها ؟ وكف أيديهم عنها فلم يمنعوها ؟ وإن هي اضطر« وما ثم اضطرار » فما لها وما لهم(1/20)
تختار هذا الثوب القصير ، وهذا الزي المثير ، وهم يقرونها على ما اختارت ؟ على أنني لا أتهم شباب العراق ولا بناته , أنهم جميعاً أولادي أو أخوتي ، ولا شباب الشام ومصر ، ولا أتهم أحداً بضعف الخلق ، ولا بامتهان العفاف , هل اتهم المنحدر إن سيرت فيه سيارتي بلا كوابح فانهارت السيارة ؟ هل أتهم النار إن أدنيت يدي منها بلا حجاب ؟ الطريق إنما شق لتسلكه السيارات ، ولكن مع قوة الكابح « الفرامل » ويقظة السائق , والنار إنما خلقت ليستفيد منها الإنسان ، فيطبخ عليها ويتدفأ بها ، وكابح السيارة هنا إنما هو الزواج ، والانتفاع بنار الشهوة إنما يكون بإنشاء الأسرة واستيلاد الولد , ما قال الله لنا كونوا رهباناً فعطلوا هذه الطاقة ، واحبسوا السيل المندفع من فم الوادي , فمن أراد حبس السيل بعدما سال يذهب به السيل ولكن أعدوا له مجرى ليجري فيه ، أو فاستفيدوا من طاقته يدر لكم معملاً ، أو يسير لكم قطاراً , هذه الشهوة طاقة إن أهدرناها خسرناها ، وإن وضعناها في حدودها التي حددها الله لها انتفعنا منها , إن كان المصنع ينتج لنا ثياباً وأواني وسيارات ، فإن هذه الطاقة هي التي جعلها الله منتجة للناس الذين يصنعون الثياب والأدوات والسيارات ، فلا تهدروها ولا تضيعوها, إن المدارس إنما عرفت لتزيد الناس علماً ، لتقوم منهم الخلق ، لتبعدهم عن طريق الرذيلة ، وهذا الاختلاط يسوقهم إلى هذا الطريق سوقاً , لقد كانت مقالة طويلة وكان مما قلت فيها : إن من المترفين الأغنياء قوماً يراجعون الأطباء ، يشكون إليهم بعض ما يجدون من الأبناء ، يقولون إنهم إن حضر الغداء أو العشاء أعرضوا عنه ، ولم يقبلوا عليه ، فهم يطلبون لهم دواء ، يفتح نفوسهم إليه ، ويزيد إقبالهم عليه , ولا يخبرون الطبيب أن السبب فيما يشكونه أن الولد أكل قبل الطعام بنصف ساعة حبة « شكلاطة » ، وقبلها تفاحة ، وقبل ذلك شرب شراباَ حلواً ، أي أنه أكل ما لا يغذيه ولا يكفيه ، ولكنه(1/21)
شغل معدته ، وأضعف شهيته .
والله قد جعل الجوع الذي تحسون به ، دافعاً إلى الطعام الذي تحتاجون إليه ، كما جعل الشهوة وهي جوع آخر ، دافعاً إلى الزواج ، فالشاب الذي يأخذ من هذه نظرة بشهوة ، ومن هذه لمسة أو قبلة ، لم يحقق له ذلك المراد من الزواج ، ولم يبق عنده قوة تدفعه إليه ليقبل عليه , كان هذا الذي رأيته ، وهذا الذي كتبته ونشرته قبل ثلاثين سنة , لم أكن أتصور أنه سيأتي علي يوم أرى فيه مدارس البنات في بعض بلاد المسلمين تكشف عن أجسادهن بحجة الرياضة ، وتعلمهن الاختلاط باسم الفن وتخرجهن من بيوتهن للفتوة أو التدريب العسكري ، وسيأتي إن أذن الله ومد في الأجل وصف ما رأينا من ذلك في الشام أيام الوحدة مع مصر ، لقد رأينا شيئاً عجباً ، تشيب له نواصي الأطفال , لقد كانت العراق لما تركتها بعد أن كنت مدرساً فيها كما كانت أكثر البلاد العربية ، مثلها كمثل غدير كبير ، كان عذباً صافياً فتعكر ماؤه ، وخالطه الكدر ، فلم يعد سائغاً شرابه ، فلما عدت بعد سبع عشرة سنة « أي سنة 1954 » وجدت قوماً قد أقاموا مصفاة إلى جنب الغدير أخرجت ماء صافياً أبلغ الصفاء ، عذباَ غاية العذوبة ، فوضعوه في بركة صغيرة ، وما خرج منه من أوضار كانت في الماء العكر ، ألقيت في بركة أخرى صغيرة كلها دنس وطين وقذر هذا مثل أكثر البلاد العربية لما كنا صغاراً ومثلها الآن ترى الآن في كل بلد قلة أطهاراً صالحين متعبدين ، كأنهم « كما شبهتهم مرة غير مبالغ » من أهل الصدر الأول ، وقلة أنجاساً تتلقف كل خبيث من المذاهب ، وسخ من العادات ، أسماؤهم أسماء المسلمين ، وما هم في عقائدهم وفي أعمالهم وفي سلوكهم كالمسلمين , وسائر الناس « أي باقيهم » وجمهورهم كما كانوا من قبل , خلطوا عملاً صالحاً وآخر سيئاً ، يقيمون الصلاة ، ويصومون ويحجون ، كما كان السلف يصومون ويصلون ويحجون ، فالأعمال هي الأعمال ، ولكن النيات ليست هي النيات , ومنهم من لا تنهاه صلاته عن(1/22)
فحشاء ولا منكر, ومنهم من لا يحافظ على صلواته ، أو لا يكاد يصلي ، ويحسب أن الإسلام قول بلا عمل ، ودعوى بلا دليل ، وأن الله يوم القيامة يميز أهل الجنة من أهل النار ، بأوراق النفوس وجوازات السفر ، فمن كتب فيها أنه مسلم جاز الصراط إلى الجنة ، ومن كتب فيها أنه غير ذلك كب في جهنم. (ذكريات 5/178- 182 )
- آثار تعليم المرأة للأولاد الصغار :
ثم سلموا التعليم في المدارس الأولية لمعلمات بدلاً من المعلمين , ونحن لا نقول إن تعليم المرأة أولاداً صغاراً ، أعمارهم دون العاشرة ، محرم في ذاته , لا ليس محرماً في ذاته ولكنه ذريعة إلى الحرام ، وطريق إلى الوقوع فيه في مقبل الأيام ، وسد الذرائع من قواعد الإسلام , والصغير لا يدرك جمال المرأة كما يدركه الكبير ، ولا يحس إن نظر إليها بمثل ما يحس به الكبير ولكنه يختزن هذه الصورة في ذاكرته فيخرجها من مخزنها ولو بعد عشرين سنة ,وأنا أذكر نساء عرفتن وأنا ابن ست سنين ، قبل أكثر من سبعين سنة ، وأستطيع أن أتصور الآن ملامح وجوههن , وتكوين أجسادهن , ثم إن من تشرف على تربيته النساء يلازمه أثر هذه التربية حياته كلها ، يظهر ذلك في عاطفته ، وفي سلوكه ، في أدبه ، إذا كان أديباً . (ذكريات 5/ 268-274)
ثانياً : تجربة أخرى لتعليم المرأة
- بداية تعليم المرأة في الحجاز :
لما جئت مكة أُدرس فيها ، لم يكن في المملكة إلا مدرسة واحدة للبنات ، فيما أعلم أنا هي المدرسة النصيفية ، التي أنشأها الرجل العظيم الشيخ محمد نصيف رحمة الله عليه ، فكان رائداً في فتح مدارس البنات ، أما الرائد الأول الذي كان أبا التعليم حقاً في هذه المملكة وكان نادرة بين الرجال ، قلما يجود الزمان بمثله ، والذي أفضل الله به على أكثر المتعلمين الآن من الشيوخ ومن الكهول ،هو الشيخ محمد علي زنيل .. ( ذكريات 8/270-275)
- الفرق بين السنة الأولى والسنة الثانية !! :(1/23)
لما قدمت المملكة سنة 1383 كلفني الشيخ « الأفندي » محمد نصيف رحمة الله عليه بأن أعقد ندوة في المدرسة النصيفية أجيب فيها على أسئلتهن ، فاعتذرت وتنصلت ، قال : ولم ؟ هل هذا حرام ؟ قلت التحريم لابد فيه من دليل ، وأنا ما عندي دليل ، ولا أقول بأن ذلك حرام ، بل ربما قلت بأن تعليم البنات أمر دينهن مباشرة واجب على المسلمين ، فإن كان المدرس كبيراً مأموناً وكن محتجبات يكون ذلك مفروضاً ولكنني أخشى أن أستن في المملكة سنة يساء إتباعها ، فيكون علي وزرها ، ووزر من عمل بها ،لذلك لا أبدأ أنا بها ، ولكن إن ألقيت محاضرتان ، تكون محاضرتي الثالثة إن شاء الله ، ولا أكون أنا فاتح هذا الباب .
فسكت وإن ظهر على وجهه أنه لم يقتنع بما قلت ، ثم زرته بعد حين ، فقال لي : أنها قد ألقيت الآن محاضرتان ونحن نطالبك بوعدك ، وكانت الأولى للشيخ عمر الداعوق ، مؤسس جماعة عباد الرحمن ، وهو رجل فاضل إن كان حياً فإنني أدعو له بزيادة التوفيق ، وإن توفي فعليه رحمة الله ،ونسيت من ألقى الثانية ، ولعله كان أخانا وابن شيخنا الأستاذ محمد المبارك رحمة الله عليه ، وجئت وفاء بوعدي ،فوجدت حجاباً كاملاً ، وجواً إسلامياً شاملاً ،ولا عجب في ذلك ومديرة المدرسة ، هي أم الأساتذة النجب العلماء : الدكتور عبد الله نصيف ،وأخوة الدكتور عبد العزيز وسائر الأخوة الأفاضل .
وأخذت معي زوجتي وبنتين لي حضرن معي من الشام ، وكان اجتماعا موفقاً والحمد لله.
ولما كثرت الطالبات في كلية التربية في مكة ، ولم يكن هذا الرائي « التلفزيون » الداخلي الذي تلقى منه اليوم الدروس على البنات ، فيسمعنها ويرين المدرس ولا يراهن ، كلفت بتدريس الطالبات في مسكنهن في الحفائر وكانت المشرفة عليهن يومئذ الأساتذة السيدة إصلاح .(1/24)
فوجدت الطالبات مستعدات ، وكن بالحجاب السابغ ، ولكن منهن من يبدين الوجوه فقط ، فألقيت عليهن الدرس كما ألقيه على الطلاب ، أشرح لهن كما أشرح لهم ، وأجيب على أسئلتهن ، كما أجيب على أسئلتهم ، ومر العام بسلام ، فلما كانت التي بعدها كثر الكاشفات عن الوجوه، ثم أخذ بعضهن يرتفعن بالخمار قليلاً ، حتى يكشف عن بعض الشعر ، فقلت : لا ، إني في السن كالجد لأكبركن ، ولكني لا أعدو أن أكون رجلاً أجنبياً ، وإن جاز كشف الوجه من غير فتنة بالمرأة ولا فتنة عليها ، ولا خلوة للأجنبي بها ، فلا يجوز تجاوزه إلى الشعر ولا إلى العنق ، ولا تجاوز الكفين إلى الذراع ، والستر مع ذلك كله أولى وأفضل (1). (ذكريات 8/270-275) .
- توجيهات لأهل هذا البلد :
ـ أنا أحمد الله على أن مدارس البنات هنا في المملكة لا تزال على خير ، ولكن كل صحيح الجسم معرض للعدوى ، إذا كان يحف به من كل جانب من يحمل جرثومة المرض ، وإذا نحن لم نتخذ أسباب الوقاية كلها ولم نبق على حذر دائم أصابنا المرض . (ذكريات 8/280- 283 )
__________
(1) بل الصواب أن تغطية الوجه واجب على أصح أقوال العلماء والأدلة متظافرة في تقرير ذلك .(1/25)
ـ المملكة هنا لا تزال بحمد الله خيراً من غيرها ، ولا يزال لواء الدين فيها مرفوعاً ، وصوته مسموعاً ، ولكن على كل صحيح الجسد أن يتخذ أسباب الوقاية من المرض ، وأن يسأل الله النجاة منه , والدين لا يمنع من الأخذ بأسباب القوة ، ومجاراة الأمم في ميدانها , ولا يحول بيننا وبين النافع من نتاج الفكر ، ولا من ثمرات الحضارة , ومن عرف هذه البلاد قبل خمسين سنة كما عرفتها ، ورأى ما وصلت إليه الآن ، في كل ميدان ، من غير أن تفرط في شيء من عقائدها ، أو تدع كثيرا من فضائلها ومن سلائقها ، أدرك أن من أراد الجمع بين التمسك بالدين الذي يكون به النجاة في الآخرة ، وبين أعلى درجات التمدن والحضارة ، التي يكون بها السمو والفخار في لدنيا وجده سهلاً ممكناً .( ذكريات 5/ 243 )
ـ هذا الذي سردته ليس منه والحمد لله شيء في مدارس المملكة ، ولا تزال على الطريق السوي ، ولكن من رأى العبرة بغيره فليعتبر ، وما اتخذ أحد عند الله عهداً أن لا يحل به ما حل بغيره إن سلك مسلكه ، فحافظوا يا إخوتي على ما أنتم عليه ، واسألوا الله وأسأله معكم العون , إن المدارس هنا لا تزال بعيدة عن الاختلاط ، قاصرة على المدرسات والطالبات ، ولما كنت أذهب إلى مسكن الطالبات في الحفاير ، وكان ذهابي على موعد مضروب ، في وقت محدد ، كنت أقف مع ذلك على الباب لا أدخله حتى يحتجبن جميعاً ، وكانت سيارة الرياسة تأخذهن من بيوتهن وتعيدهن من المدرسة إلى بيوتهن ، وكانوا لا يختارون السواقين إلا من المسنين من أهل الخلق والدين ، المدارس هنا لا تزال على خير ..وأقرر مع ذلك بأنه لا بد لنا من تعليم البنات ، ومن إلقاء المواعظ على النساء غير الطالبات و أأكد لكم أنها لا تصلح حالنا إلا إذا أوصلنا الدين إليهن رأساً ، وأن ذلك من سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الذي خص النساء بمجلس يعظهن فيه وحدهن.
(ذكريات 8/280- 283 )(1/26)
الفصل الثاني : التجربة المعاصرة للتحرير المزعوم للمرأة
أولاً : دعاوى دعاة التحرر وأساليبهم
- ماذا يريدون من المرأة ؟ :
إن الذين يزينون لك السفور والحسور ، والعمل مع الرجال ، كشف الجسد بحجة الرياضة أو الفن أو للكشف الطبي بلا ضرورة ، أو الخلوة بالأجنبي بلا داع ، إنهم لا يريدون رياضة ولا فناً ولا شيئاً مما يدعونه، ما يريدون إلا أن تكشفي عن جسدك ، ليستمتعوا بجمالك ، ولو بالنظر أو اللمس ، إن لم يقدروا على أكثر من ذلك ، فلا تكوني عوناً لهم على نفسك ، ولا تمتعيهم بشيء منه ، إلا أن تربطي أحدهم من عنقه برباط الزواج ، وإلا أخذ منك أعز ما لديك وهرب . ( ذكريات 2/85 )
- دور الأعداء في تغريب المرأة :
ألقى المنتدبون (1)ما حملوه من الشوك في طرقنا ، ثم لم يكفهم ذلك حتى أوحى إليهم شيطانهم بما هو أدهى منه وأمر ، وأبلغ في الأذى وفي الضر ، فألقوا بذوره في أرضنا ، فلما نبت ملأ بلدنا ودخل إلى بيوتنا وأصاب أذى شوكه أبناءنا وبناتنا ، فكان هذا الاستعمار الجديد شراً من الاستعمار القديم , لأن ذلك يمثله قوم ليسوا منا ، ولا دينهم من ديننا ، ولا لسانهم من لساننا ، وهذا يقوم عليه ويدعمه ويحرسه أبناؤنا , لذلك تجدون في كثير من البلدان أن الذي تم بعد جلاء جيوش المستعمرين أشنع وأفظع وأبشع ، مما كان قبل لما كانوا هم الحاكمين ، ولست أبرئهم ولا أدافع عنهم ، وكيف وهم الذين غرسوا في أرضنا نبتة الفساد ، وكيف وفي مدارسهم وعلى مناهجهم ، سيّروا أبناءنا وبناتنا في هذا الطريق . ذكريات ( 5/ 226-227)
- عوامل ساعدت على تحرر المرأة :
__________
(1) أي المستعمرون .(1/27)
قاسم أمين لم يأت بكتابه ( تحرير المرأة ) ابتداءً ، بل سبقه إلى أكثر ما فيه مرقص فهمي القبطي ، وأشار إليه اللورد كرومر على أنه من أماني الإنكليز , فالحركة أجنبية ، ولكن أعان عليها أن المرأة كانت يومئذ على حال من القهر والظلم لا يرضى بها الإسلام ،ولا تشبه وضع المرأة في الإسلام ولو أن علماء المسلمين دعوا إلى ( تحريرها )باسم الإسلام ، وضربوا لها المثل الكامل بالمرأة المسلمة ، لما تركوا لقاسم أمين ، ولا لغيره مجالا ً لمقال ، ولكن سكتوا وكأنهم رضوا ، فبرز أولئك فتكلموا وأنكروا ، وقالوا بتحريرها باسم الغرب ، وجعلوا قدوتها المرأة الغربية ، فجروا علينا هذا البلاء كله ، ولكن علماء المسلمين بسكوتهم يحملون قسطاً من هذه التبعة . (فصول إسلامية:ص 96-97-98 - 99 ).
- دعوى أن البيت سجن المرأة :
قال ـ رحمه الله ـ في سياق حديثه عن زيارة له في بروكسل في ليلة شاتية:
هنا عرفت مدى ضلال الذين يقولون للمرأة : اخرجي من بيتك ، حرام أن تبقي سجينة بين أربعة جدران ! ويحكم ما أجهلكم ! من الذي ضحك عليكم فقال لكم إن البيت سجن ؟ إن من الظلم للمرأة أن تقعد بين أربعة جدران ؟ إن السجن من لا يجد في مثل هذه الليلة وقد كده التعب ، وهدّه النعاس ، أربعة جدران ينام بينها ، ويغلق عليه بابه ؟ نحن السجينان ، أنا وزوجتي ، لأننا نتيه في الشوارع ، لا نلقى فراشاً نلقي بأنفسنا عليه ، ونحن في بروكسل التي يراها الناس إحدى المدن الكبار . (ذكريات 7 /278 279 )
- مطالبتهم بخروج المرأة من بيتها :(1/28)
لا أعجب مثل عجبي من الذين يدعون المرأة إلى الخروج من بيتها ، فتجول في الشوارع ، أو تعمل في المصانع ، أو تخوض المعارك والمعامع, يقولون لنا محتجين علينا : هل تريدون للمرأة السجن في دارها ؟ ما أجهلكم ! وما أضأل بالحياة معرفتكم ! حين تسمون البيت سجناً , لقد طالما نزلت في رحلاتي الكثيرة بلاداً ، لم أجد فيها فندقاً آوي إليه ، أو نزلاً أبيت فيه ، فشعرت أن البلد كله ـ على سعته ـ هو السجن إن لم يكن لي فيه دار ، وأن الدار ، إن كانت داري ، هي البلد . ( ذكريات 5/157 - 158 )
- المطالبة بتجنيد النساء :
لقد حدثني جندي كان يقاتل في حرب 1948 ، أنه رأى في طرف البلد داراً ينبعث منها الرصاص على المقاتلين العرب ، فاقتحمها عربي باسل ، فلم يلق إلا مجندة واحدة يهودية ، نفذت ذخيرتها ، كانت تحمل رشاشاً تطلق الرصاص منه، فلما لم يبق عندها رصاص ، استعملت سلاح اليهود ، وسامحوني إن خبرتكم بما وقع : إنها حلت حزام بنطالها فأسقطته ، فنظر ، فإذا ليس تحته شيء , و العرب تقول في أمثالها :
« تجوع الحرة ولا تأكل بثدييها » , أما اليهودية فتأكل من غير أن تجوع بكل عضو فيها ، ويأتي من ديدنه التقليد ، على طريقة القرود ، والأخذ بكل جديد، ولو كان شراً مصدره اليهود ، فيدعو أن نجعل في جيشنا نساء مجندات وأن نعلمهن فنون القتال ! لماذا ويحكم ؟ لماذا ؟, لماذا ؟والشباب يملئون القهوات ، ويزدحمون على أبواب السينمات فلماذا نجند البنات ؟ هل عندكم من دليل فتبدوه لنا ، أم هو إتباع سنن الفساق حتى الدخول إلى جحر الضب ؟ ويا ليته كان جحراً سالماً ولكنه جحر ضب خرب كما جاء في المأثورات . (ذكريات 5/74 )
-طريقة جديدة للفساد :(1/29)
باب آخر فتحه إبليس فدخل منه بغاة الفساد وقصاد الشر ، ودخله معهم عن غفلة منهم بعض أهل الخير ، ذلك هو ( باب التعارف ) في المجلات ، ينشر لها صورته ، فتنشر له صورتها ، ويعلن اسمه وعمره وعنوانه ، فتعلن عنوانها واسمها وعمرها ، ويوضح لها (هواياته ) لتعرف ما يحب وما يكره ، فتخبره هي بما تكره وما تحب .
فناشدتكم الله ، ماذا أبقى هؤلاء لوسطاء الفاحشة – ولم أذكر الكلمة لأنها قبيحة ...وإن لم تكن أقبح من الفعل الذي تدل عليه ، فكيف ينكر الاسم من فعل الفعل ؟ ( ذكريات 2/85 )
- استغلال الوطنية لإفساد المرأة :
كتبت قصة تخيلتها ، يتوهم من يقرؤها أنها واقعة ، على طريقة الأستاذ زكي مبارك لما كان يخترع مجالس لطه حسين وأحمد أمين ، يُقولهم فيها ما لم يقولوا، ويضع على ألسنتهم ما شاء هو من أقوال .
على أن هذه القصة ما جاء فيها إلا ما هو حق ، إن لم يقله من نسبته إليه فإنه كلام صحيح ، وفيه موعظة ونصح .
- لسان حال المستغربين :
قلت فيها على لسان واحد من أذناب الفرنسيين وأعوانهم ، ممن رفعوهم إلى المناصب العالية : لئن كتب عليكم ( والخطاب للفرنسيين) أن تذهبوا ، فإنكم ستعودون عاجلاً ثم لا تذهبون أبداً ,إني سأنتقم لكم ، وسأعد وحدي العدة لعودتكم , سأصنع في ليال معدودات ما لم تصنعوه أنتم في ربع قرن وتسعة أشهر, سأريكم قوتي ، وليست القوة أن تسوق على عدوك العسكر اللجب ، والمدافع والدبابات تضرب بها قلعته , ولكن القوة أن تأتيه باسماً مصافحاً فتحتال عليه حتى يفتح لك قلعته بيده فإذا أنت قد امتلكتها بلا حرب ولا ضرب .
- استغلال الأعياد والمناسبات لنفث السموم :(1/30)
إني سأدس لهم دسيسة في يوم الجلاء , لا أصبر والله حتى ينتهي العيد , لأنها فرصة إن لم اغتنمها لم أكد أجد مثلها ، وأنا أعرف بأهل بلدي ، وإن لم يكن دينهم من ديني : إنهم لا يؤتون بالقوة ، ولا تنفع فيهم ، وقد جربتم ورأيتم فما قتلتم منهم كارها ً لكم إلا ولد عشرة هم أكره منه لكم ، وما هدمتم داراً من دورهم إلا هدمتم معها ركناً من انتدابكم عليهم ، ولا أشعلتم النار في حي لهم ، إلا كانت هذه النار حماسة عليكم في قلوبهم ، ونار ثورة تتعبكم , وهم لا يؤخذون بالشبه تلقى عليهم في دينهم ، إلا قليلاً منهم , ولا بالثقافة التي تحمل الإلحاد والكفر تحت عناوين العلم والفن ، لا يقبل ذلك إلا قليل منهم ، وما جئتموهم بكتاب ظاهر ، فيه هدم لدينهم إلا أثرتم عليكم مشايخهم وجمعياتهم ، فهبوا يدافعون ، فإذا أنتم قد قويتم بعملكم إيمانهم في صدورهم , وما ينالون بالقوانين التي تبطل قرآنهم ، وقد علمتم حينما جربتم في المغرب أن تأتوهم بالظهير البربري الذي أرجعتموه هنا لابساً ثوب قانون الطوائف ، ألا تذكرون ماذا جرى عليكم حتى أبطلتموه بأيديكم ؟ ولا بالأموال التي تشترون بها ضمائر زعمائهم وقادتهم ، لأن من هذه الضمائر ما هو كالوقف عندهم : لا يباع ولا يشترى ولا يوهب , ولا بإرهاب الزعماء وحبسهم ، وهذا هو الرجل الذي ضربه سنة 1936 رجالكم بعصيهم صار هو رئيس الجمهورية التي تخرجون غداً منها , فقال له فلان الفرنسي : من أين تأتيهم أنت ؟ وهل تقدر على ما عجزت عنه فرنسا ؟(1/31)
قال: نعم , ولو كنتم قد سمعتم مني ما عجزتم , إني آتيهم من الباب الذي لا يستطيع أن يراه أحد مفتوحاً إلا ولجه , إني أحاربهم بغرائزهم فأجعلهم يهدمون بيوتهم بأيديهم ، وأثير عليهم نساءهم وأثيرهم على نساءهم , وألقي الضعف والخلف فيهم ، فأفسد عليهم رجولتهم ، وأخرب أسرهم ، وأجعل جيشهم أخشاباً قد شغلت كل خشبة بهواها ولذتها, إني آتيهم من باب الغريزة الجنسية الذي لم تدخل منه أمة بغير زواج ، إلا أدخلت معها النار التي تحرقها ، والتي لا تخرج أبداً منها , قال الفرنسي : أما أدخلناهم نحن من هذا الباب ؟ أما قلنا لهم إن تعريض أجساد الشباب والشابات لشمس صحة لهم ، وقوة ، فأبوا وقالوا : كلا ، إنه تعريص (بالصاد) ؟ أما قلنا لهم إن هذا الحجاب همجية ووحشية ورجعية ، وإن التقدم والمدنية بالسفور ؟ أما أنشأنا لذلك جمعيات من النساء ؟ أما فتحت هذه الجمعيات مدارس ، أما صنعت هذه المدارس أكثر مما صنعت مدرسة الفرنسيسكان ؟ إننا لم نصل بعد ذلك كله إلى شيء , قال الآخر : إن الصبر عند الصدمة الأولى ، فإذا استطعت أن أضرب واحدة فقد ضمنت النجاح ، وإني سآتيهم من طريق الوطنية ، فأقول إنه يوم عرس الوطن ، يوم الجلاء ، يوم تختلط فيه الرجال والنساء , إلى آخر ما جاء في هذه المقالة ، ومن شاء أن يطلع عليها وجدها في عدد الرسالة الذي صدر يوم الاثنين التاسع عشر من جمادى الآخرة سنة 1365 هـ .
- رمز العروبة هو تقديس الأعراض لا امتهانها :(1/32)
فما الذي كان في ذلك اليوم حتى كتبت عنه هذا الكلام ؟ كان أن دمشق التي عرفناها تستر بالملاءة البنت من سنتها العاشرة شهدت يوم الجلاء بنات السادسة عشرة وما فوقها يمشين في العرض بادية أفخاذهن ، تهتز نهودهن في صدورهن ، تكاد تأكلهن النظرات الفاسقة , وشهدت بنتاً جميلة زينت بأبهى الحلل ، وألبست لباس عروس ، وركبت السيارة المكشوفة وسط الشباب ,قالوا : إنها رمز الوحدة العربية , ولم يدر الذين رمزوا هذا الرمز أن العروبة إنما هي في تقديس الأعراض لا في امتهانها ، وكان في العرض مناظر كثيرة من أمثال هذا المنظر , قالوا : إنها لوحات حية تعبر عن الفرح والسرور .
وأخذت صور هذا كله فنشرت في الجرائد ، وعرضت في السينمات ، فازدادت جرأة الناس على نقض عرى الأخلاق ، حتى رأينا صور ناس من كبارنا مع نساءهم عراة على سيف البحر منشورة في المجلات .
قالوا إنه يوم النصر يجوز فيه ما لا يجوز في غيره وكذبوا فيما قالوا ؛ فإن المرأة التي تزل يوم العيد ، كالتي تزل يوم المأتم ، والناس يزدرونها من غير أن يسألوا عن تاريخ زلتها .
وكان مما كتبت في « الرسالة » : ألا من كان له قلب فليتفطر اليوم أسفاً على الحياء , من كانت له عين فلتبك اليوم دماً على الأخلاق , من كان له قلب فليفكر بعقله ، فما بالفجور يكون عز الوطن وضمان الاستقلال ، ولكن بالأخلاق تحفظ الأمجاد وتسمو الأوطان .(1/33)
فإذا كنتم تحسبون أن إطلاق الغرائز من قيد الدين والخلق ، والعورات من أسر الحجاب والستر ،إذا ظننتم ذلك من دواعي التقدم ولوازم الحضارة وتركتم كل إنسان وشهوته وهواه ، فإنكم لا تحمدون مغبة ما تفعلون ، وستندمون ولا ساعة مندم ، إذا ادلهمت المصائب غداً ، وتتالت الأحداث ، وتلفتم تفتشون عن حماة الوطن ، وذادة الحمى ، فلم تجدوا إلا شباباً رخواً ضعيفاً، لا يصلح إلا للرقص والغناء والحب , فالله الله للأمة والمستقبل ! إننا خرجنا من هذا الجهاد بعزائم تزيح الراسيات ، وهمم تحمل الجبال ، فلا تضيعوا هذه العزائم ، ولا تذهبوا هذه الهمم ، ولا تشغلكم لذات نفوسكم عن حماية استقلالكم ، فمن نام عن غنمه أكلتها الذئاب , إن هذا الجلاء نعمة من نعم الله ، فتلقوها بالشكر والطاعة واحفظوها بالجد والأخلاق فبالشكر تدوم النعم ، وبالإخلاص تبقى الأمم ،وبالمعاصي تهلك وتبيد .
- قنابل العدو الموقوتة :
إن أجدادنا كانوا يحتفلون بالنصر بحمد الله وطاعته ، فيقودهم الاحتفال إلى نصر جديد , وكذلك تفعل الأمم الحية اليوم , أما سمعتم بحفلات تتويج ملك الإنكليز ، وما العهد عنها ببعيد ؟
لقد كان نصفها في الكنيسة ، فلماذا لا يكون احتفاؤنا بالجلاء إلا اختلاطاً وتكشفاً وغناء ورقصاً ؟ كأنه لم ينزل علينا كتاب ، ولم يبعث فينا نبي ، ولم يكمل لنا دين ؟ إني أخاف والله أن يكون الأجنبي قد أجلى جيوشه عنا ، وترك فينا قنابل تتفجر كل يوم ، فتدمر علينا أخلاقنا ، وأوطاننا واستقلالنا , إن كل عورة مكشوفة ، وكل فسوق ظاهر ، قنبلة أشد فتكاً من قنابل البارود ، ولا يخفى ضررها إلا على أحمق .
فيا أيها الناس : لقد جلت جيوش العدو عن أرضكم فأجلوا من بيوتكم عاداتهم ، وعن رؤوسكم شبهاتهم ، وعن مدارسكم مناهجهم ، وعن شوارعكم حاناتهم ومراقصهم ، وعن محاكمكم قوانينهم ، وعن أجساد بناتكم وأولادكم ثيابهم الكاشفة ، وذلك هو الجلاء الحق .(1/34)
-تنازع العلماء وغفلتهم مكن أهل الفساد :
وازداد الانحدار وتتالت المصائب ، وضعف أهل الدين بتنازعهم واختلافهم ، واشتغال علمائهم بفروع الفروع من أمر دينهم ، وغفلتهم عن الأصول التي لا تقوم الفروع إلا عليها ، وخلا الميدان للذين يريدون أن يطبقون فينا قانون الشيطان ، قانون إبليس , وأول مادة في هذا القانون ، كما تعرفون (( يَنْزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْآتِهِمَا)) (الأعراف: 27) فبعد أن كانت النصرانيات واليهوديات يتخذن الملاءات ، وبعد أن كانت دمشق تغلق حوانيتها وتخرج المظاهرات فيها لأن وكيلة ثانوية البنات جاءت سافرة عن وجهها ، وصلت الطالبات إلى ما رأينا من التكشف والاختلاط وتلك المنكرات . (ذكريات 5/236-242)
- الموضة وسيلة للأعداء :
إن الثوب الذي يكشف عن بعض المستور، يطلق خيالك لتتصور ما لم يكشفه فتراه أجمل بعشر مرات مما هو في الحقيقة والواقع, ولقد قرأت من قديم كتاباً عن الأزياء والموضات كيف تتبدل ، فتغطي مرة ما كان مكشوفاً ، وتكشف ما كان مغطى ، وسرد مؤلفه ما كان من ذلك في فرنسا في 150سنة ، فوصل إلى سر المهنة فأذاعه .
وإذا خلاصته أن الرجل لا يستطيع أن يستوعب جمال جسد المرأة كله بنظرة واحدة ، فهم يكشفون له عن شيء منه ، ليقع نظره عليه ، وينصرف انتباهه إليه : عن أعلى الصدر مثلا ً ، فإذا ألفه ومل منه زادوا في الكشف فوسعوا الجيب « والجيب في اللغة: فتحة الثوب عند العنق » حتى يصلوا إلى الحد الذي لا يستطيعون تجاوزه ، فيجعلوا الموضة الجديدة ستر الصدر، وكشف شيء من الساق ، ولا يزالون يقصرون حتى جعلوه ثوباً صغيراً ( ميني جوب ) يكشف نصف الفخذين ، ثم زادوه قصراً فجعلوه يصل إلى أعلاها ، فلا يبقى إلا على الشيء منهما فكان ( الميكروجوب ) فلما أحسوا من الناس الاكتفاء ، والشبع بنظر السيقان عادوا إلى الصدر .(1/35)
وكذلك يلعبون بالنساء ،والنساء يرتضين أن يكن لعبة لهم , ونحن نقلدهم ونتبعهم ، فنضيع في إتباعهم وتقليدهم خلائقنا وسلائقنا ، وأموالنا وأعراضنا ، ونخالف في ذلك كله شرع ربنا.
ومن عجائب ما وجدناه عندهم ، إني خرجت إلى الشرفة مرة بالمنامة (أي البيجامة ) فلحق بي حفيداي الصغيران البنت وأخوها ، يقولان : لا يا جدو لا عيب , قلت : وما العيب ؟ قالوا : الخروج بالبيجامة ، فرجعت لأن العاقل إذا نزل بلداً أن يعتبر أعرافه ، ما لم يكن فيها مخالفة لدينه ، وعلى المؤمن أن يذبّ الغيبة عن نفسه ، وألا يفتح للناس باب الكلام عنه , وليس هذا هو العجيب ولكن العجيب أنك إن نزعت المنامة وخرجت بالتبان ( أي المايوه ) لم يكن عيباً مع أن التبان لا يستر إلا السوءة الكبرى ،وهو من صغره كبعض سراويلات النساء التي يوضع الواحد منها في علبة كبريت , فالعورة إذن هي المنامة (البيجامة) لا ما فيها ! . ذكريات (7/296-297)
- التدرج ..بطئ ولكن أكيد المفعول :(1/36)
إن التدرج سنة الله ، ولن تجد لسنة الله تبديلاً : الولد الذي يخرج من بطن أمه فيمشي ويتكلم ويلبس ثيابه بيديه ، لا يكون إلا عفريتاً أو يكون معجزة ، والبذرة التي تغرسها في التراب فتصير من فورها شجرة باسقة لا تكون إلا شعوذة أو عجيبة ، والفساد ما جاء في يوم واحد ، حتى يذهب في يوم واحد , لقد قصّر النساء الملاءة إصبعاً إصبعاً ، حتى خرجن سافرات ، بالأكمام اليابانية ، وحتى اختلط في الجامعات الفتيات المسلمات ، بنات الصالحين ، بالشباب الأجانب ، فلنرجع إلى الصلاح خطوة خطوة , وإصبعاً إصبعاً , ولا تلقوا بالاً لمن يقول إنها ( رجعية ) فإن هذا التكشف هو الرجعية لأن الناس ولدوا متكشفين ، وكانوا كذلك في فجر البشرية ، ثم تحضروا فاستتروا؛ فالذي يدعو إلى التكشف هو الرجعي؛وكل حمير الدنيا عراة مباح (في عرفهن الحمًّاري) العري والاختلاط ,وإنما يمتاز البشر بالتصوُّن والتستر والعفاف . ( فصول إسلامية ص 20 )
- الفساد يأتي بالتدرج :
لقد عرفت نساء بلدي وأنا صغير بالملاءة ، حتى النصرانيات واليهوديات في الشام لا يخرجن بغيرها ، وكل ما يصنعن أنهن يسفرن عن وجوههن ، فتعرف بذلك النصرانية من المسلمة ، فما زلنا بالملاءة حتى جعلنها قسمين ، ثم استبدلنا بالقسم الأعلى خماراً ساتراً حول الرأس ويغطي المنكبين ، ثم صغرن الخمار ، وجعلن ينقصن من أطرافه وحواشيه ، ويقصرن الإزار ، ويضيقنه ، وكذلك جعل الثوب يقصر إصبعاً إصبعاً ، والرأس ينكشف شعرة شعرة حتى انكشف الشعر كله و العنق ، وأعلى الصدر ، والساعد والساق .( ذكريات 8/270-275)
- بوابة الفساد .. الشهوات :(1/37)
إن الإسلام اليوم أمام هجوم ما عرفه أهله أيام حملات الصليبيين ، ولا هجمات المغول والتتر ، وهو أشد من الاستعمار الذي طالما قاسينا منه ، وبذلنا من مهجنا وأرواحنا ، وأرقنا من دمائنا ، وحملنا من تخريب بلادنا ، وخسران خيراتنا ، الكثير الكثير ، لندفع شره عنا , فهذا الاستعمار العسكري انتهى ، ولكن بلينا باستعمار شر منه هو الاستعمار الفكري والاجتماعي ، إن أعداءنا يدخلون علينا من بابين : باب يأتي منه مرض يقتل ، وهو الكفر ، ولكنه مرض بطيء الانتشار ضعيف العدوى ، ومرض دونه خطراً ، وهو أقل منه ضرراً ولكن عدواه سريعة، وانتشاره عاجل :
الأول هو مرض الشبهات ، والثاني مرض الشهوات .
وأول ما يتمثل المرض الثاني في هتك حجاب المسلمات ، واختلاط البنين بالبنات ، وتمهيد طريق الفاحشة للشبان والشابات ، وقد سخرت له قوى هائلة ، لا طاقة لنا اليوم بدفعها مجتمعة ، إلا أن يحفظ كل أب منا بنته ، وكل زوج زوجته، وكل أخ أخته . (ذكريات 6/264-265 )
-ميزان الجمال :(1/38)
أنظر إلى من يسمونهن ملكات الجمال : يختارون من كل بلدة أجمل من يجدون من نسائها وربما أساؤوا الاختيار ، وربما كان في البيوت أجمل منها جمالاً ، وأشد فتنة ، وأخف روحاً ، وأقرب إلى قلب من يراها ، ولكنهم جعلوا للجمال مقاييس مادية حسبوا أنها هي ميزانه ، وما دروا أن الجمال لا يوزن ولا يقاس إلا بمقاييس أولي الأذواق من الناس , فإذا اجتمعن لم تعد تدري من هي أجمل منهن, وليس الجمال للنساء وحده ، فالشيخ المشرق الطلعة ، النوراني الوجه ، الأبيض اللحية جميل ، والعجوز الطيبة القلب ، الباسمة الفم ، الحسنة الخلق جميلة ، والرياضي القوي البنية ، المشدود العضل ، العريض المنكبين جميل , وكذلك الحال في مشاهدة الكون ، ومجالي الطبيعة ، فمنظر تراه تحس أنه الفتاة الحلوة ، ومنظر كالشيخ الذي له براءة الطفولة ، ومنظر الغانية المتبرجة التي تستهوي النفوس ولا تروق القلوب , وما ذكرت مسابقات الجمال لنصنع مثلها ، ولا لنقتدي بها ، فنحن لا ننظر إلى امرأة طمثها قبلنا غيرنا ، ولا نجعل النساء سلعة معروضة ، وعلامة نضعها على علب المتاع لنروجها في الأسواق ، ولكن جمال النساء عندنا لأزواجهن .
إن الجمال شيء عجيب ، إنه من أسرار خلق الله ، إن وجوه الناس تتشابه جميعاً في وضع عيونها ، وحواجبها ، وأفواهها ، وآنافها ، وما ثم وجه يطابق تماماً وجه آخر ، والجمال أمر يدرك ولا يعرف ، ويحس ولكن لا يقاس . ( ذكريات 7/284 - 285 )
ثانياً : دور الفتاة في الإصلاح و مقاومة الأعداء
البنات مسئولات ، فلو سترن اللحم ما شم ريحه ولا طمع فيه البس (1)، ولكن الفتاة تخضع بالقول فيطمع الذي في قلبه مرض ، وتلين له فيشتد، وتبدي الرضا فيزيد في الإقدام ، ولو حجبت عنه ما يغريه بها ، لما عرض لها ، ولو سدت في وجهه كل طريق يوصله إليها ، ولو عن طريق الهاتف والبريد ، لما بلغ منها شيئاً مما كان يريد . ( ذكريات 2/84 )
__________
(1) البس : القط ( عربية ) .(1/39)
- أثر لذة الحرام على الفتاة :
لطالما قلت ، وأعدت ، حتى أضجرت وأمللت ، أقول للبنات ، إن اللذة المحرمة شركة بين الشباب وبينكن ، والعقوبة في الآخرة عليهم وعليكن ، ولكن عاقبتها في الدنيا عليكن أنتن وحدكن , المجتمعات يا بنات ظالمات ، تسامح الشباب ، تقول ( شباب أذنب وتاب ) ، ولا تسامح الفتيات , إنها تغفر له زلته ، وتنسى حوبته ، ويبقى أثر الزلة في البنت : ثقلا ً في بطنها ، ووصمة على جبينها ، لا تفارقها حتى تفارق حياتها . ( ذكريات 2/85 )
سلوكيات خاطئة
- الإعجاب بالغرب يعمي صاحبه :
قدمت بيتي في إحدى الإجازات إلى عمان ، وكنا فيها ، فاجتمعت عند طبيب أسنان في غرفة الانتظار بجماعة من النساء المتكشفات السافرات ، اللواتي يحسبن التقدم والرقي بتقليد الأجانب عنهن ، وأتباعهن في سلوكهن ، فلما رأينها متحجبة أحببن أن يسخرن منها ,فقلن لها : من أي قرية جاءت الست ؟ فقالت من قرية تدعى جنيف ، وكانت تقيم فيها يومئذ مع زوجها وأولادها , وحدثتهن عن حياتها فيها ، فخجلن من أنفسهن وسكتن عنها ، وأكبرنها ، وكانت لطول بقاءها في تلك الديار تحسن الألمانية وتكاد تحسن الفرنسية وتعرف كثيراً من الإنكليزية فكان ذلك درساً لهؤلاء المقلدات المتحذلقات. ( 6/266) ذكريات.
-دعاة التحرر والزواج :(1/40)
إن حب الشباب يا بنيتي : ( خطف ) لذة دقائق ، يخطفها ويهرب خفيفاً ، وحب الفتاة (بقاء ) أثر اللذة تسعة أشهر ، ثم القيام عليها طول العمر , يلبس لك جلد الحمل ، يلقي عليك مثل هديل الحمام ، يذل لك ،يطمعك ويعدك ، فإذا نال الذي يريده منك ، نزع جلد الحمل فبدا الذئب ، وسكت هديل الحمام وسُمع فحيح الحية ونعيق الغراب ، ثم أعرض عنك ، وتعالى عليك ، وأنكرك وأنكر ولده منك ، ثم تركك مع ألمك وندمك وذهب يفتش عن حمقاء أخرى ، يعيد معها المسرحية من أولها , إن أكثر من عرفنا من دعاة التكشف والاختلاط ما لهم زوجات ولا أولاد وأنا رجل لي بنات ولي حفيدات ، ولحفيداتي أولاد ، فأنا أنصحكن وأدافع عنكن ، كما أنصح بناتي وأدافع عن حفيداتي . ( ذكريات 2/85 )
- نوافذ المنازل وأثرها على الفتاة :
لقد كان مما ابتلينا به هذه البيوت ، التي آثرناها على بيوتنا ، واستبدلناها بها ، حيث تتقابل النوافذ ، فيرى الشاب بنت الجيران وتراه ، ولو أطاع هوى نفسه ، ووسواس شيطانه ، واتبعت هي هواها وشيطانها لكلمها وكلمته ، ثم لقابلها عند الباب ، ثم ماشاها في الطريق.
ولو كان يعقل لعلم أن لبنت الجيران أخاً ، وأن له هو أختاً ، وأن ما يتمناه منها يتمنى مثله من أخته أخوها ، ثم يكون بعد ذلك موقف الحساب أمام رب الأرباب ، فماذا يعدان له من جواب . (ذكريات 8/280- 283 )
- عاقبة الاختلاط وقوع الفضيحة :
لقد كان من الطالبات لما كنت أدرس في الثانوية الأولى في الشام ، واحدة جمع الله لها الذكاء مع الجمال والمال ، وكادت تكون مكملة لولا شيء فيها من الزهو ومن الكبرياء .(1/41)
تركت التدريس , ومرت ثلاث سنوات فقط ، فلمحتها مرة ، وأنا على قوس المحكمة بين الداخلات إلى الغرفة الثانية ، وكانت في محكمتنا يومئذ في الشام غرفتان ، لكل غرفة قاضيها ، وكان ذلك سنة 1952 ، وكان معها أبوها ، فوجدت من المروءة والوفاء أن استدعي الأب أسأله عن حاله وحالها ، لعلي أقدر أن أساعده أو أساعدها ، فدعوت به وجاءت البنت معه ، وكان العهد بها أن وجهها المورد ينضح صحة وشباباً ، وأن جبينها يعلو كبراً وترفعا ً ، وكان أبوها في العادة شامخ الأنف ، ظاهر الكبر ، معتزاً بمنزلته وغناه ، فإذا أنا أراه لما وصل إلي ، قد ذل واستكان ، وإذا هي شاحبة الوجه غائرة العينين ، سفعاء الخدين ، كأنها لم تكن الطالبة التي عرفتها ، وكأنها كبرت عشر سنين في هذه السنوات الثلاث ، فسألت أباها ما شأنها ،وهل أستطيع أن أساعده بشيء ، قال : شكراً، قلت : هل لكما دعوى ؟ ( أي قضية ) ؟ فسكتت هي ، وامتلأت بالدمع عيناها ، وأرخت حياء بصرها ، وقال هو : نعم ، إنها دعوا تفريق إنها تطلب الطلاق من زوجها ، وأشار إلى رجل ما إن رأيته حتى عرفته ، لقد كان خادماً في دارهما ، وكان شاباً ناضر الشباب، قوي الجسد ، عريض المنكبين ، فدخل الشيطان بينه وبينها ، حتى أوصلهما إلى الغاية التي يسعى إليها ، فلم يجد أبوها إلا أن يزوجه بها ستراً للفضيحة ، فما ستر الزواج فضيحته ، ولكن أظهرها ، ووقع بينهما الخلاف ، حتى انتهى إلى المحكمة ، وكانت هذه عاقبة الانحراف ، عن طريق الشرع ، إذ جمع أبوها بينها وبين هذا الخادم في الدار . (ذكريات 8/280- 283 )
- وسيلة لاصطياد الفتيات :
ومن أسباب الفساد الذي جد هذه السيارات ، يتخذها فساق الشبان مصيدة لاصطياد البنات ، على أن البنت إن صدته ما أقدم ، وإن عبست في وجهه ما ابتسم . (ذكريات 8/280- 283 )
- مقارنة بين الحاضر والماضي :(1/42)
عاشت أمي بعد أبي سبع سنوات ، ما استمعت فيها يوماً بمتعة ، ولا وجدت تسلية ولا راحة , كانت تعيش لأولادها ، تدير أمر البيت ، وتدبر النفقات ، وتخيط هي الثياب , بل إني لم أر أمي ترش على وجهها ذروراً « بودرة » أو تعمد إلى زينة ، لا في هذه السنوات السبع العجاف ،ولا في أعوام الرخاء التي كانت قبلها ، وكانت زينة النساء بالكحل ، كحل الأثمد بالميل المعروف ، وشيء من الذرور ، وربما وضعت الواحدة على خديها شيئاً من الأحمر ، ولا يضع ذلك إلا قليل ، ولا يعرفن كيف يضعنه فكانت المرأة تطبع على خدها دائرة حمراء ، أما صبغ الشفاه والأظافر فما كان يعرفها من حولنا من النساء ، والغريب أن الحواجب كانت تعرّض ، وتسوّد بما يسمى( الخطوط ) ، فصار النساء اليوم ينتفنها ، ويذهبنها ، إلا خطاً دقيقاً لا يرى إلا بالمجهر ، كان للنساء شاغل عن الخروج من سلق القمح وطحنه ( برغلاً) وعجن العجين وتقريصه أقراصاً ، وقد كانت في مكة عادة ما سمعت بمثلها في غيرها من البلدان ،هي أن المرأة تضع هذه الأقراص أمام باب الدار ، فكل من رآها من المارة حملها إلى الفرن.(1/43)
كانت المرأة تجفف ( الخضر ) وتحفظها للشتاء ، وتصنع ( المكدوس ) وهو باذنجان يحشى جوزاً وثوماً ما أكلته في عمري كله إلا مرة ، وأنواع المخللات ، والفواكه المعقودة بالسكر ، وتغسل ثيابها بيديها ، ما كنا ندري ما الثلاجات ولا الغسالات ولا الجلاّيات ، كل هذا لم نسمع به ، ولم نعلم بوجوده ، فضلا ً عن أن نتخذه في بيوتنا ، بل إنها لم تكن عندنا مياه جارية في الحنفيات ، ولا مدافئ في الشتاء ، ما عند أكثر الناس إلا ( المنقل ) يُملأ رماداً وفوق الرماد جمرات النار , ولا مراوح في الصيف إلا في بيوت الموسرين ، وكانت المرأة تصنع ألوان الحلويات ، من الكنافة والقطائف والكلاج ، وأشياء كثير ة لم تعرفها واحدة من نساء اليوم , وما كان عندنا خادمات ، وإنما تعمل كل امرأة بنفسها ، ثم تكون راضية فما لنسائنا اليوم ، عندهن آلات تغسل الثياب ، وآلات تنظف الأواني ولكل شيء آلات ، ثم يطلبن الخادمات ، ويشتكين ثقل التبعات ، فما الذي تبدل، أضعفت الأجسام ، أم كلت الهمم ، أم هو الدلال ، والدلع ؟
الأمور تعرف بأضدادها، فلا يقدر الصحة قدرها إلا من ذاق المرض ، ولا الغنى إلا من عرف الفقر ، ولا الراحة إلا من حمل التعب , لذلك تجهل نساؤنا اليوم النعمة التي يرتعن فيها .
العيش اليوم سهل وأعمال الدار يسيرة ، لا أعني أنها خالية من المتاعب ، فمن طبيعة الدنيا اقترانها بالمتاعب ، والسعادة الكاملة لا تكون إلا في الجنة ، ولكن أعني سهولة حياة المرأة اليوم بالنسبة لما كانت عليه بالأمس.
( ذكريات 2/ 113- 115 )
ثالثاً : دور المصلحين في المواجهة
* ما حصل في المواجهة من خلل :
الخطأ الأول : الاحتساب على المنكر بدون مشاورة أهل العلم :(1/44)
إن أقوى الطاقات في الدنيا ما يسمونه « رد الفعل » فأنت حين تكبس بيدك على كفة الميزان ، لا يظهر الأثر في الوسط ، وإنما يظهر في الكفة المقابلة ، هذا الانطلاق وراء اللذات وهذا التحلل من قيود الدين والأخلاق ، دفع جماعة من الشباب من العامة ومن الطلاب إلى إنكار هذا المنكر , ولكنهم لم يرجعوا إلى مشورة أهل العلم ، ولم يقفوا عند آداب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وحسبوها فوضى يصنع كل ما يشاء ، مادام يريد بينه وبين نفسه الخير ، فانطلقوا يتعرضون في الطريق للسافرات المتكشفات ، وهجموا مرة على سينما في وسط البلد ليس فيها إلا نساء ، لأن دور السينما يومئذ كانت عندها بقية من حياء ، فهي تخصص أياماً للنساء ،وأياماً للرجال , دخلوا عليهن فروعوهن ، فأعطوا بذلك أعداءنا وأعداء ديننا حجة علينا ، ولذلك قالت العرب في أمثالها :( عدو عاقل خير من صديق جاهل ) .(ذكريات 5/236-242)
? وقال أيضا ـ رحمه الله ـ في سياق كلامه عن كلامة ألقها وذكر فيها أثر الإنكار بدون مشاورة أهل العلم ، يقول :(1/45)
ـ جاء في عنوانها أنها كلمة صريحة لله ثم للوطن , شرحت فيها ما كان من عمل الشباب الذين هالهم ما رأوا من فشو التبرج والاختلاط بعيد الجلاء في دمشق ، البلد العربي المسلم ، فقاموا يدافعون عن الفضيلة المغلوبة ، ويردون إليهم الناس لأن ديار الشام لا تزال متمسكة بدينها ، ولا يزال نساؤها بالحجاب الساتر ، ومشت الأمور في طريقها ، وكادت تصل إلى غايتها ، ودعاة الفجور ينظرون ويتحركون , لولا أن دفعت الغيرة على الأخلاق الإسلامية والسلائق العربية مع الجهل بأحكام الدين ، والبعد عن استشارة العلماء المخلصين ، بعض العامة إلى الدخول على النساء في السينما وإخراجهن منها ، و إلى التجوال في البلد ونصح كل متبرجة ووعظها وزجرها , وقد أنكر العلماء والعقلاء ذلك عليهم فكفوا عنه وأقلعوا ، ولكن دعاة الفجور لم يرضهم أن تنتصر دمشق للفضيلة ، وأن تهدم عليهم عملهم على رفع الحجاب ، وإباحة الاختلاط ، فاستغلوا عمل هؤلاء العوام وأعلنوا إنكاره وكبروه ، وبالغوا في روايته وذهبوا يقيمون الدنيا ، ويبرقون البرقيات ، ويرعدون بالخطب ، وما أهون الإبراق والإرعاد ، وما أسهل إثارة الشبان الفاسقين على الستر والحجاب باسم « الحرية الشخصية » التي تمتعهم بما وراء حدود الفضيلة من لذائذ محرمة , أيخرجون النساء من السينما ؟ أيعرضون بالنصح للمتبرجات الكاشفات؟ يا للحدث الأكبر ، يا للعدوان على الحرية الشخصية التي ضمنها الدستور , أليست المرأة حرة ولو خرجت عارية ؟ أليس الناس أحراراً ولو فسقوا وفجروا ؟ أليس كل امرئ حراً ولو نقب مكانه في السفينة فأدخل إليها الماء فأغرقها وأهلها ؟ كذلك فهم الحرية هؤلاء الجاهلون ، أو كذلك أراد لهم هواهم ، أو شاءت لهم رغباتهم وميولهم أن يفهموها ، ودفعوا أكثر الصحافيين فلبثوا أياماً طوالاً لا كلام لهم إلا في الدفاع عن الحرية .... وأثاروا بعض النواب في المجلس ، فجرب كل واحد منهم أن يتعلم الخطابة في تقديسها ، ثم(1/46)
عمدوا إلى فئة من خطباء المساجد ، حاموا عن الفضيلة فساقوهم إلى المحاكم سوق المجرمين ، وأدخلوهم السجون من غير مستند إلى قانون من القوانين ، وجرعوهم كؤوس الذل حتى صار من يذكر السفور بسوء ، أو يدعو إلى الفضيلة والستر كمن يدعو إلى الخيانة العظمى , وتوارى أنصار الفضيلة من هذه العاصفة الفاجرة الهوجاء , وحسب أولئك أن الظفر قد تم لهم ، وأن أهل الدين قد انكسروا كسرة لا تجبر ، فكشفوا القناع ، وانطلقوا يسرحون وحدهم في الميدان ويمرحون ، وكانت النتيجة أن انحطم السد فطغى سيل الرذيلة وعم ، وامتد في هاتين السنتين أضعاف ما امتد أيام حكم الفرنسيين ، و ازدادت جرائم التعدي على العفاف واستفحلت ، حتى رأت المحاكم من يعتدي على عفاف بنته أو أخته أو على طفل رضيع ، وماذا يصنع هذا الوحش الذي أثارت « الحرية الشخصية » غرائزه فلم يجد إلا البنت والأخت أو الطفل الرضيع ؟
ثم ازدادت الجرأة حتى رأينا بعض مجلات دمشق تقلد نظيراتها في مصر ، فتنشر صور العرايا فيشتريها الشباب لهذه الصور ، لأنه ليس فيها ما يقرأ فتشترى من أجله .(1/47)
ثم امتد الشر حتى رأيناهم يعملون من الطالبات كشافات ، يمشين في الطرقات بمثل لباس المجندات في الجيش الأمريكي « ولم يكن قد عرفنا الجيش الإسرائيلي ، ولا كانت إسرائيل أزال الله عنا رجس إسرائيل » بعد أن كانت دمشق لا تحتمل أن ترى الكشافين الشباب بلباس يرتفع عن الركبتين ، وحتى رأيناهم يقيمون معرضاً لأدوات تحضير الدروس التي صنعها المعلمون , فتترك مدارس البنين ، ومنها الثانوية المركزية ببنائها الضخم وأبهائها الواسعة ، وهي أصلح مكان للمعارض ، وهي التي أقيم فيها معرض دمشق الكبير سنة 1936 ،وتختار مدرسة البنات في طريق الصالحية , ثم يفتتح المعرض بدعوة الرجال لمشاهدة فرقة من البنات ( الكشافات ) يغنين على المسرح ،ويأتين بحركات رياضية تبدي للأعين الفاسقة المفتحة أكثر ما يخفى عادة من أجساد فتيات نواهد، قد انتقين عمداً أو مصادفة من جميلات الطالبات .(1/48)
ثم امتد الشر حتى رأيناهم يفتحون نادياً في قانونه أن العضو يجيء مع زوجته أو ابنته غير المتزوجة ، وحتى شهدنا النفر الشيوعيين العزاب المستهترين الساكنين في المقاهي الخبيثة والخمارات ، أصحاب تلك البرقية الوقحة المعروفة ، يتسلمون شؤون المعارف ، ويسلطون على الشباب والشابات ، فيبتدعون نظام المرشدات , وإنه لنظام الضالات والمضلات , ويسنون الاختلاط في الحفلات ، وينقلون دار المعلمات من مكانها القديم المستور إلى دارة ( فيلا) جديدة في شارع محدث في ظاهر البلد مكشوفة من جهاتها الأربع ، لها طنف وشرفات دائرة بها ، وأسرة الطالبات تظهر من الطريق ، فإذا نهضن من النوم رآهن من يمشي في الشارع بثياب المنام , ثم يدفعون خريجات دور المعلمات فيعملن حفلة خيرية ، فلا يجدن لها مكاناً في دمشق إلا ....... مرقص العباسية ! ويطبعن في البطاقة أنه سيغني فيها فلان من فسقة المغنين ، وترقص فلانة الراقصة المحترفة رقصاً بلدياً , ثم ثم ماذا ؟ الله وحده يعلم ماذا يكون أيضاً ، وإلى أين نسير ـــ وإلى أين المصير .
( ذكريات 5/ 247-250)
الخطأ الثاني : السلبية بطريقة الرفض والإبقاء على القديم
يا سادة إن السيل إذا انطلق دمر البلاد ، وأهلك العباد ، ولكن إن أقمنا في وجهه سداً ، وجعلنا لهذا السد أبواباً نفتحها ونغلقها ، صار ماء السيل خيراً ونفع وأفاد .(1/49)
وسيل الفساد ، المتمثل في العنصر الاجتماعي ، مر على مصر من خمسين سنة وعلى الشام من خمس وعشرين أو ثلاثين ، وقد وصل إليكم الآن(1) ، فلا تقولوا نحن في منجاة منه ولا تقولوا ، نأوي إلى جبل يعصمنا من الماء ,ولا تغتروا بما أنتم عليه من بقايا الخير الذي لا يزال كثيراً فيكم ، ولا بالحجاب الذي لا يزال الغالب على نسائكم ،فلقد كنا في الشام مثلكم ـ إي والله ـ وكنا نحسب أننا في مأمن من هذا السيل لقد أضربت متاجر دمشق من ثلاثين سنة أو أكثر قليلاً وأغلقت كلها ، وخرجت مظاهرات الغضب والاحتجاج ؛ لأن مديرة المدرسة الثانوية ، مشت سافرة ـ إي والله ـ فاذهبوا الآن فانظروا حال الشام!!
دعوني أقل لكم كلمة الحق ، فإن الساكت عن الحق شيطان أخرس , إن المرأة في جهات كثير ة من المملكة ، قريب وضعها من وضع المرأة المصرية يوم ألف قاسم أمين كتاب تحرير المرأة فلا يدع العلماء مجالاً لقاسم جديد .
هذا الخطر لا يحارب بالأسلوب السلبي ، بطريقة الرفض والإبقاء على القديم ، إن بنت بنتي وهي الآن على عتبة الزواج ، لا أستطيع إلزامها بالزيّ الذي كانت تتخذه أمي ، ولا الشرع ألزمها به ذاته ، بل منعها من كشف العورات وترك لها اختيار الزيّ الذي يسترها ، ولا نستجلب الأنظار ويوافق الزمان أي الزي الساتر الأنيق , إنني لا أستطيع أن أسيرها على خطى أمي تماماً ، ولكن عليّ ألا أدعها تخالف الشرع .
إن ما يتعلق بالمرأة من الحضارة المعاصرة , هو الثغرة الكبرى الذي دخل علينا منها العدو ،ولقد كان نصره علينا ساحقاً , نعم هذه هي الحقيقة , فلماذا لا نعترف بها ؟
إن الاعتراف بالهزيمة دليل على بقاء القوة في أعصاب المهزوم ،وعلامة على أنه قادر على استرجاع النصر إن خاض المعركة من جديد .
لقد نالوا منا جميعاً ، لم ينج منهم تماماً قطر من أقطار المسلمين .
__________
(1) أي : في المملكة .(1/50)
إنه لا يستطيع أحد منا أن يقول إن حال نسائه اليوم ، كما كانت حالهن قبل أربعين أو ثلاثين سنة .
ولكن الإصابات كما يقال ، ليست على درجة واحدة ، فمن هذه الأقطار ما شمل السفور والحسور نساءه جميعاً ، أو الكثرة الكاثرة منهن ، ومنها ما ظهر فيه واستعلن وإن لم يعمّ ولم يشمل ، ومنها ما بدأ يقرع بابه ، ويهم بالدخول،أو قد وضع رجله في دهليز الدار كهذه المملكة ، ولا سيما جهات نجد وأعالي الحجاز .
فإذا كان علينا مقاومة المرض الذي استشرى ،فإن عملكم أسهل وهو التوقي وأخذ (اللقاح ) الذي يمنع العدوى .
أعود فأقول بأن السلبية لا تفيد ، والجمود في وجه السيل الطاغي لا يجدي بل لا يمكن , فادرسوا أوضاع البلاد الأخرى ،كيف دخل هذا التكشف وهذا الانحلال إليها .
لديّ رصيد لا يكاد ينفذ من الأمثلة عما يجري في بيوت بعض من ينتسب إلى الإسلام من التكشف والاختلاط ، في جامعاتهم التي وصلت إلى حد إقامة مسابقات لانتخاب ملكة جمال الكلية ، والحكام الطلاب ، إلى أن تنشر الجرائد من أيام أن معركة وقعت بين فريقين من الطلاب كلهم دون الثامنة عشرة ، في ثانوية مختلطة , وسبب المعركة نزاع على إحدى الطالبات ، إلى أن مجلة مشهورة في بلد معروف قد وضعت على غلافها عنوان مقالة فيها ، وهذا العنوان هو « ثلاثة تقارير لثلاثة أطباء كبار ثبت أن أربعين في المئة من الجامعيات فقدن العذرية !».
إن علينا أن نفهم الفتاة العربية أو المسلمة ، حقيقة لا نزاع فيها ، سمعنا عنها من الثقات ، ورأيناها ، رأيتها أنا في أوربة رأي العين ، وهي : أن المرأة في أوربا ليست سعيدة ولا مكرمة ، إنها ممتهنة ، إنها قد تكرم مؤقتاً ، وقد تربح المال ، مادام لديها ـ الجمال ـ ، فإذا فرغوا من استغلال جمالها ، رموها كما ترمى ليمونة امتص ماؤها .(1/51)
فكيف نفهم المرأة عندنا هذه الحقيقة ؟ كيف نقنعها بأن الإسلام أعطاها من الحق ، وأولاها من التكرمة ، ما لم تنل مثله المرأة الأوربية أو الأمريكية ، وأنه صانها عن الابتذال ، ولم يكلفها العمل والكسب ؟ كيف؟ أنا أقول لكم كيف ؟ بالفعل لا بالقول ، بأن نعاملها المعاملة التي يرتضيها لنا ديننا ، بأن نعتبر الخير فينا ، من كان يعامل امرأته وبناته بالخير ، أن تكون المرأة المسلمة اليوم ، كما كانت في صدر الإسلام ؛اقرؤوا إذا كنتم لا تعرفون ، تروا أنها لم تكن تعامل كما يعامل كثير منا نساءهم . (فصول إسلامية:ص 96-97-98 - 99) .
الخطأ الثالث : التنازع بين العلماء والانشغال بالفروع عن الإصلاح
ـ ازداد الانحدار وتتالت المصائب ، وضعف أهل الدين بتنازعهم واختلافهم ، واشتغال علمائهم بفروع الفروع من أمر دينهم ، وغفلتهم عن الأصول التي لا تقوم الفروع إلا عليها ، وخلا الميدان للذين يريدون أن يطبقون فينا قانون الشيطان ، قانون إبليس .. ( ذكريات5/236-242)(1/52)
ـ لم يبق في الميدان إلا المشايخ ، والمشايخ لم يكونوا صفاً واحداً إلا أياماً قليلة , ولا يزالون مختلفين , وهذه حقيقة يقطع ذكرها القلب أسفاً وحزناً ، ليس المشايخ على قلب رجل واحد ، منهم الصوفي والسلفي و أتباع المذاهب والآخذون رأساً من الكتاب والسنة ، والإخوان المسلمون وخصوم الإخوان المسلمين ، وأتباع كل شيخ يتنكرون للشيخ الآخر , هؤلاء هم الإسلاميون العاملون ، هذه حالهم ، أما المشايخ الذين ينظرون كل حاكم ماذا يريد ، فيفتشون له في الكتب عما يؤد ما أراده ، ويجعلون ذلك ديناً ، وأما المشايخ الموظفون الذين أهمتهم وظائفهم ( أي رواتبهم ) فلا يحرصون إلا عليها ، ولا يبالون إلا بها ، هؤلاء وأمثالهم لا أتكلم عنهم , ولا أمل لي فيهم , كان المشايخ الباقون في الميدان ،يجتمعون فيتشاكون ويتباكون ثم لا يجدون ( وأنا واحد منهم ، يقال عني كل ما أقوله عنهم ) لا يجدون إلا أن يجمعوا صفوفهم ، فيراجعوا الرئيس أو الوزير ، فلا تنفعهم المراجعة شيئاً ,ويعلنون النصح للناس ، ويجهرون بكلمة الحق من فوق المنابر فيخرج الناس من صلاة الجمعة فيتحدثون بما سمعوه ،ويثنون على الخطيب ويدعون له ، ثم ينغمسون في حمأة الحياة فينسون ما قال وما سمعوا . (ذكريات 5/ 268-274)
الخطأ الرابع : سكوت العلماء عن الاضطهاد الذي يمارس تجاه المرأة
لو أن علماء المسلمين دعوا إلى ( تحريرها )باسم الإسلام ، وضربوا لها المثل الكامل بالمرأة المسلمة ، لما تركوا لقاسم أمين ، ولا لغيره مجالا ً لمقال ، ولكن سكتوا وكأنهم رضوا ، فبرز أولئك فتكلموا وأنكروا ، وقالوا بتحريرها باسم الغرب ، وجعلوا قدوتها المرأة الغربية ، فجروا علينا هذا البلاء كله ، ولكن علماء المسلمين بسكوتهم يحملون قسطاً من هذه التبعة .
(فصول إسلامية:ص 96-97-98 - 99 ) .
الخطأ الخامس : غفلة الآباء عن متابعة بناتهم(1/53)
ـ فأين حراس هذا الجمال المعروض ؟ أين الآباء والأولياء لهؤلاء البنات ؟ لو جاؤوا يسرقون منهم أموالهم لغضبوا لأموالهم ، وهبوا يدافعون عنها ، يستميتون في سبيلها ، فمالهم لا يغضبون لأعراضهم ، ولا يعملون على حمايتها . (ذكريات 5/ 268-274)
ـ بعض الآباء يغفلون ويقصرون ، الأب هو الذي يقفه الله يوم الحساب ليسأله عن بنته ، فلا يدعها تذهب وحدها إلى السوق ،فلقد سمعت أن من الفساق من يتحرش بالنساء في الأسواق ،ولا تدعها تكشف للبياع عما أمر الله بستره ، وليُفهما أن سائق سيارة الأسرة وخادم دارها ، كل أؤلئك أجانب شرعاً عنها ، وليست منهم وليسوا منها ، فلا تنبسط إليهم ،ولا ترفع الكلفة معهم ، وأن الطبيب له أن يرى من المرأة ما لابد من رؤيته ، إن كانت مريضة حقاً ، ولم يكن في البلد طبيبة أنثى تقوم مقامه ، وتحسن عمل ما يعمله ، فلطالما عرفت أطباء يتخذون العيادة شبكة لصيد الغافلات ، وغرفة الفحص للمرض الجسمي مخدعاً لري الظمأ الجنسي ، ولست أقصد أحداً بذاته ، ولا أعين بلداً ، ولست أقول مع ذلك إلا حقاً ، فإذا لقيت المرأة الطبيب في غير ساعة « الفحص » فإنها تلقى رجلا ً أجنبياً ،ككل رجل يمشي في الطريق لأن كشفها أمامه ضرورة أو حاجة،والضرورات تقدر بقدرها ، ولا يدع الأب بنته تذهب إلى رحلة مدرسية ، أو حفلة كالحفلات التي تكون في ختام العام ، فلقد رأيت فيما رأيت من أيامي التي عشتها ، أن هذه الرحلات وهذه الحفلات من أعظم الأسباب التي تؤدي إلى البلايا والطامات . (ذكريات 8/280- 283 )
- ردود مفحمة على شبهاتهم :
ما هذه الحرية التي طلبتم لها وزمرتم ، وهولتم وعظمتم ، وجعلتم الاعتداء عليها كفراً بدين الحضارة ، وإلحاداً بشرعة الديمقراطية ؟ أهي حرية المرأة أن تكشف ما تريد من جسمها متى أرادت ، وأين شاءت ؟ أهي حرية ناظر المدرسة أن يحول مدرسته إلى ماخور ؟ أهي حرية الفسوق والعصيان ؟ أهذه هي الحرية المقدسة عندكم ؟(1/54)
إنكم يا أيها السادة بين أمرين : إما أنكم تقولون ما لا تفهمون ، وإما أنكم تسترون بهذه الأسماء الحلوة أغراض نفوسكم ، ورغبات أجسادكم وإلا فخبروني أي أمة تصنع مثل هذا الصنيع :
العرب ؟ إن العرب أغير الناس على الأعراض , وإن كلمة العرض في لسانهم لا تقابلها كلمة في ألسن الأمم تترجم بها .
المسلمون؟ إن الإسلام أمر بغض البصر وستر العورة ، ولعن الناظر إليها والمنظور .
الفرنسيون ؟ إن الفرنسيون يكشفون أفخاذ الشباب في الملعب ، فعلام تكشفون أنتم في سوق الحميدية وهو للبيع والشراء، وفيه الرجال والنساء ؟ وهو كالموسكي في مصر والشورجة في بغداد .
إن الفرنسيون ينشئون بيوتاً للهو واللذة وبيوتاً للعلم ، وأنتم جعلتم بيوت العلم بيوت لذة ولهو , وإن الفرنسيين كانوا يسترون سيقان الجند ، فلما استلمتم أنتم الجيش كشفتم عن أفخاذهم .
الروس ؟ إن الروس فصلوا بين الجنسين في المدارس لما رأوا بالتجربة أن الاختلاط لا يأتي بخير ، وأنتم تسعون الآن بكل طريق لجمع الجنسين في المدارس.
هل تعرفون ماذا يسمى الذي يجمع بين الجنسين من غير عقد زواج ؟ لا.
أوجه هذا الحديث للمسلم وحده ، بل لكل من قال أنا عربي ، لأن من صفات العربي التي تقوم عليه عروبته ،الشهامة والغيرة على الأعراض, ومن ادعى العربية ولم تكن له على العرض غيره ، ولم يغضب لحرمه ، فهو كذاب دعي ليس بعربي .
وسيقول عني ناس من القراء : هذا رجل معروف بالدعوة إلى الرجعية فلا تسمعوا له ، أنه يريد أن يعود بنا إلى الوراء ، ونحن نريد أن نتقدم إلى الأمام .(1/55)
وهذا كلام لا يناقش ، إنما يناقش كلام مؤيد بحجة ، إنما يسمع اعتراض قائم على منطق ، إنما يقرع الدليل بالدليل ، فهل في هذا الكلام حجة أو منطق أو دليل ؟ أنا أدعو إلى مناظرتي كل مخالف لي ، على أن يكون في رأسه عقل ، وفي يده قلم ،أو في فمه لسان , أما الذين حفظوا كلمات فهم يرددوها كالببغاوات ، لا يحاولون فهمها ، فلا شأن لي معهم ، ولا وقوف لي عليهم .
يقولون « رجعية » , فما الرجعية ؟ هي الرجوع إلى الماضي ، أي إلى أخلاقه وعاداته ؟ فما يمكن أن يرجع إلى زمان مضى ، فهل الرجوع إلى مثل أخلاق المسلمين الأولين نفع أو ضرر ؟ وهل يكون الداعي إلى تلك الأخلاق مصلحاً أو مفسداً ؟هذه هي الرجعية عندنا .
الرجوع إلى الدين , افترجع فرنسا إلى دينها ، أي إلى كاثوليكيتها ، ويظفر الحزب الديني فيه بأكثر مقاعد المجلس النيابي ، فلا ينكر عليها أحد ، ولا يتهمها أحد بالتأخر ، ولا يصمها بالجمود؟ ( اذكروا أن المقالة منشورة سنة 1946 ) ونطلب نحن العودة إلى ديننا الحق ، فيقول السفهاء إنا متأخرون جامدون ؟
لا , هذا كثير , هذا كفر بالمنطق ، وتعطيل للفكر , هذا شيء نستحيي منه أن يكون فينا من يقوله .
ونحن إذ ننتقد شيئاً نبين أضراره ، فبينوا أنتم منافعه ، حتى إذا وجدنا المنافع أكثر أخذنا به ولو حملنا معه شيئاً من الضرر ، ونحن نعلم أنه ليس في الدنيا خير محض ولا شر محض ، وأن الخمر والميسر فيهما إثم كبير ومنافع للناس ، ولكن إثمهما أكبر من نفعهما فلذلك حرما.(1/56)
إنه لا بد في كل مناظرة من مبادئ يتفق عليها الطرفان ، ليعودا إليها ، ويرتكزا عليها ، وما المنطق إلا رد الفروع إلى هذه الأصول ، فإذا كان المتناظران مختلفين في كل شيء , يرى هذا أن العفاف نافع فيقول الآخر بل هو ضار، ويدعي هذا أن إتباع الدين واجب فيقول الآخر إنه ممنوع ، ويرى هذا العمل على منع الفجور ويرى ذاك العمل على نشر الفجور ، فكيف يمكن أن يكون بينهما كلام ؟ فلنتفق أولاً على الأصول : هل العفاف وقصر الاتصال الجنسي على المشروع منه خير أم هو شر ؟
هل قيام المرأة على تربية أولادها بنفسها ، وإخلاصها لزوجها وبيتها , خير أم هو شر ؟ هل مراقبة الله وخوفه ، وتمسك كل امرئ بفضائل دينه ، خير أم شر؟
هذه ثلاث مسائل أطلب الجواب عليها .
وإنه ليكون غروراً مني ، وازدراء للخصوم وللقراء ، إذا افترضت أنهم يرون هذه الأمور شراً ، فحاولت إقامة البراهين على أنها خير ، وأتعبت نفسي والقراء في إثبات هذا الأمر الذي أظنه ثابتاً عند العقلاء جميعاً ، وإني أؤجل هذا الإثبات إلى حين الحاجة إليه ، وأبني المناظرة على الأسس الثلاثة , فتفضلوا قولوا : هل هذا الذي أوصلتمونا إليه يحفظ علينا عفافنا أم هو يضيعه علينا ؟ هل يعمر بيوتنا أم يخربها على رؤوسنا ؟ هل يرضي ربنا أم يسخطه علينا ؟ هل يجعلنا أمة قوية أم هو يذهب بقوتنا ؟
وإذا سلمنا جدلاً بأن من الخير مشاركة الطالبات الطلاب في أفراح الجلاء فهل يشترط في هذه المشاركة أن يكشفن سيقانهن و أفخاذهن ؟ و أن ينتخب لذلك الجميلات منهن لا النابغات ولا الذكيات ؟ وإذا لبسن الجوارب الساترة والثياب الطويلة أيبطل رواء الاحتفاء وتذهب بهجته ؟ أم أنتم تريدون النظر إلى أفخاذهن بحجة المشاركة في أعياد الجلاء ؟
وإذا حسن أن نقوي بالرياضة أجساد الطالبات فهل يشترط لهذه التقوية أن يختلطن بالرجال ؟(1/57)
لا والله أحلفها يميناً غموساً وأضعها في عنقي , إنكم لا تريدون الصحة ولا الرياضة ولا المشاركة بالعيد , إنما تريدون التلذذ بمرأى أجساد بناتنا باسم العيد والرياضة والصحة , إنكم لصوص أعراض ولكن ليس الحق عليكم , الحق علينا نحن آباء الطالبات والطلاب , فنحن عميان لا نبصر ، خرس لا ننطق ، حمير لا نغار ، وإذا استمرت هذه الحال فليس أمامنا إلا اللعنة التي نزلت على بني إسرائيل ، على لسان داود وعيسى بن مريم , اللهم لقد بلغت , اللهم لقد أنكرت المنكر , اللهم لا تنزل علينا لعنتك ، ولا تحلل بنا غضبك . ( ذكريات 5/ 250- 254 )
- دعاوى أن الحجاب مصدر الشذوذ والرد عليها :(1/58)
كان أعداء ديننا يقولون ، ويعيدون : إن منشأ هذا الشذوذ « أي العمل الشنيع الذي ابتكره قوم لوط عليه السلام ، فسجل الاختراع باسمهم ، ونسب إليهم » يقولون بأن سببه حجاب المرأة ، ولو وجد الماء طريقه المحفور ما ساح في الحقول ، فانزعوا حجاب النساء تخلصوا من هذا الداء , وكدنا نصدقهم ، حتى وجدنا أن هذا الشذوذ في إنكلترا وألمانيا أكثر منه في بلادنا ، حتى سنّوا هناك القوانين الإباحية وبارك أساقفهم هذا القانون , أفمن حجاب النساء الألمانيات والإنكليزيات ، نشأ عندهم هذا الشذوذ ؟ ولماذا لم يخلصوا منه ونساؤهم مهتوكات الحجاب ، كاشفات العورات ، لا يكاد كثير منهن يردّ يد لامس ؟ كلا ، كذبٌ ما قال أعداء الحجاب وكذبٌ كل ما يقوله خصوم الإسلام . ( ذكريات 2/149 –150 ) (1)
- دور الآباء في حفظ البنات :
علينا أن نحفظ أنفسنا وأن نحفظ من استرعانا الله أمره ، من أهلنا و أولادنا ، فكيف أعمل على تعليم بناتي الحجاب ؟ أنا لا أريد أن أجبر بنتي عليه إجباراً ، فتتخذه وهي كارهة له ، ضائقة به، حتى إذا استطاعت نبذه نبذته ، بل أريد أن تتخذه مقتنعة به ، مطمئنة إليه ، محبة له.
__________
(1) كان أعداء الحجاب يقولون أن اللواط والسحاق ، وتلك الانحرافات الجنسية سببها حجب النساء ، ولو مزقتم هذا الحجاب وألقيتموه لخلصتم منها ، ورجعتم إلى الطريق القويم . وكنا من غفلتنا ومن صفاء نفوسنا نصدقهم ، ثم لما عرفناهم وخبرنا خبرهم ، ظهر لنا أن القائلين بهذا أكذب من مسيلمة . إن كان الحجاب مصدر هذا الشذوذ فخبروني هل نساء ألمانيا وبريطانيا محجبات الحجاب الشرعي ؟ فكيف إذن نرى هذا الشذوذ منتشراً فيهم حتى سنوا له قانوناً يجعله من المباحات ؟ (ذكريات 5/ 268-274)(1/59)
لما جاوزت بنتي الأولى التاسعة ومشت في طريق العاشرة ، أو قبل ذلك بقليل ـ لقد نسيت الآن ـ قلت لأمها : اذهبي فاشتري لها خماراً ( إشارب ) غالياً نفيساً ، وكان الخمار العادي يباع بليرتين اثنتين ، وإن ارتفع ثمنه فبثلاث ، قالت : إنها صغيرة تسخر منها رفيقاتها ، إن غطت شعرها ، ويهزأن منها ، قلت : لقد قدرت هذا وفكرت فيه ، فاشتري لها أغلى خمار تجدينه في السوق مهما بلغ ثمنه , فكلمتني بالهاتف من السوق وقالت : لقد وجدت خماراً نفيساً جداً من الحرير الخالص ولكن ثمنه أربعون ليرة ، وكان هذا المبلغ يعدل يومئذ أكثر من ثلث راتبي في الشهر كله ، فقلت لها : اشتريه ، فتعجبت وحاولت أن تثنيني عن شرائه فأصررت ، فلما جاءت به ولبسته البنت وذهبت به إلى المدرسة ، كان إعجاب التلميذات به أكثر من عجبهن منها بارتدائه ، وجعلن يثنين عليه ، وقد حسدها أكثرهن على امتلاكها ، فاقترن اتخاذها الحجاب وهي صغير ة بهذا الإعجاب ، وهذا الذي رأته من الرفيقات ، وذهب بعضهن في اليوم التالي فاشترين ما يقدرن عليه من أمثاله ، وإن لم تشتر واحدة منهن خماراً في مثل نفاسته وارتفاع سعره .
بدأت اتخاذ الحجاب فخورة به ، محبة له ، لم تكره عليه ، ولم تلبسه جبراً ، وإذا كان العامة يقولون الشيء الغالي ثمنه فيه ، فإذا الخمار بقي على بهائه وعلى جدته حتى لبسه بعدها بعض أخواتها وهو لا يزال جديداً ، فنشأ جميعاً بحمد الله متمسكات بالحجاب ، تمسك اقتناع به ، وحرص عليه .
(ذكريات 6/264-265 )
- المسئول الأول عن تربية البنات :(1/60)
المسئول الأول آباء البنات ، وهم المسئولون عند الله الذي استرعاهم بناتهم ، واستحفظهم إياهن ، ومنعهم أن يسلكوا بهن سبيل المعصية ، أو يتوجهوا بهن الوجهة التي توصل إليها ، فلا تسافر البنت وحدها ، بل لا يسافر الأب بها ولا بإخوتها الصغار إلى بلاد الكفار ، بلا داع يدعو إلى ذلك ، فتنطبع في نفوسهم صور تفسد عليهم أيامهم ، وتبعدهم عن طريق دينهم وأخلاقهم , ولا يدع ابنته تنزل إلى السوق وحدها ، ولا تتصل بالهاتف بالشبان ، ولا تشير من النوافذ إلى أبناء الجيران . (ذكريات 8/280- 283 )
- الاهتمام بدعوة المرأة :
لقد حاضرت النساء عشرات المرات في كثير من البلاد العربية ،وفيما زرت من غيرها من البلدان ، شرعت في ذلك من عشرين سنة ، من حين جاوزت من العمر الستين ، فوجدت ووجد الناس في هذه المحاضرات وهذه الدروس مني ومن أمثالي ، منفعة لا نجد مثلها إن ألقيناها على الرجال لينقلوها هم إلى النساء ، ذلك لأن المرأة أسرع تأثراً، وأرق في الجملة قلباً ، وأقرب إلى التذكر إن ذكّرت ، ثم إن أسباب الصلاح والفساد بيدها هي ، لا بيد الرجل ، لأنها معلمة المدرسة الأولى التي تكون قبل مدارس الحضارة (مدرسة البيت ) في السن التي تغرس فيها كما قلت من قبل مرات ومرات بذور الإيمان و الكفر والشر تغرس كلها في السنوات الخمس الأولى من العمر ، فلنجعل للنساء مجالس في المسجد نختار لها من العلماء من كان حاضر القلب مع الله إن قال استمعن إلى قوله ،وإن وعظ استجبن إلى وعظه ، ويخصص لذلك ساعة بعد صلاة العصر ، يفتح فيها الباب للنساء , ويمنع دخول الرجال وأنا أرجو أن لا يذهب هذا الاقتراح هدراً ،وأن يجد الاهتمام من أخي في الله ، الرجل الصالح المصلح العالم المعلم ، الشيخ عبد العزيز بن باز ، ومن معه من أفاضل العلماء وسترون إن شاء الله أثره الخير بعد حين .(ذكريات 8/280- 283 )
- دور الخطباء في مقاومة دعاة التحرر :(1/61)
أنا من عادتي إذا سمعت بمنكر أو رأيته ، أدخله ذهني كما تدخل المعلومات في المحساب ( الكومبيوتر ) ، فأنام عنه كما أنام كل ليلة كأن شيئاً لم يلج فكري ، فإذا كان قبل موعد قيامي لصلاة الفجر ، استيقظت من نومي فوجدت الفكرة قد ملأت نفسي وغلبت على فكري ، وتملكت أعصابي ، فأتحمس لها , وأعد في ذهني ما أكتبه أو أقوله عنها ، ويطير النوم من عيني فألبث متيقظاً أترقب طلوع النهار فلما أقيمت في هذه الحفلة رقص فيها هؤلاء البنات رقصة السماح ، وهن صفوة فتيات دمشق , جمالاً ومالاً ودلالاً ، وألبسوهن ألبسة حريرية ملونة فضفاضة كالتي كان يلبسها الجواري قديماً , لم يكن في هذه الرقصة عورة مكشوفة ، ولا كانت رقصة هز البطن الظاهر التي تعرفها بعض البلاد ، ولا كان فيها عرض الأفخاذ بحركات متزنة ، كالذي يدعونه رقص البالية ، ولكن فيها ما أظن أنه أضر على الشباب من ذلك كله ! لأن فيها على الرغم من الثياب الواسعة , من الإثارة ما كان يتعمد مثله في العصر العباسي الإماء الفاتنات المستوردات ، لإثارة ميول الرجال .(1/62)
وكان من عادتي حين أصعد المنبر لأخطب خطبة الجمعة أن أعد الموضوع في ذهني ، لا أكتبه , لأنه ليس أقبح من خطيب يتلو خطبته من ورقة مكتوبة , يضع عينيه فيها لا ينظر إلى الناس ،بل يكلمهم معرضاً عنهم ، وأقبح منه من يفعل ذلك في الرائي ( أي التلفزيون ) وربما أعددت في ذهني موضوعين أتردد بينهما , أيهما أختار منهما ، حتى أن المؤذن بين يدي يصل إلى « حي على الصلاة وحي على الفلاح » وأنا لا أزال متردداً في اختيار الموضوع ، ولكن الموضوعين في ذهني فإذا بدأت بأحدهما فتح الله علي ، وانطلقت أتكلم فيه , ولم أكن أنوي التعرض للحفلة لأنني تكلمت فيها وكتبت ، وحسبت أني أعذرت بذلك إلى ربي، ولكني لما بلغت الدعاء في آخر الخطبة ، خطرت على بالي الحفلة وما كان فيها، فخفت من الله أن يراني ساكتاً عن إنكارها ، وأن أكون شيطاناً أخرس ، وأنا لا أرضى لنفسي أن أكون شيطاناً ناطقاً بليغاً أفأرضى أن أكون شيطاناً وأخرس ؟ وأحسست أن شيئاً قد نبض في قلبي ، فهزه مثل هزة الكهرباء ، وسرى في أعصابي وعروقي ،وحين أحس بذلك أعلم أني إن تكلمت كان كلامي لله ، و أن الله لا يخذلني , وقع لي ذلك عشرات من المرات ،ما تخلى الله عني في واحدة منها , أما حين أتكلم للدنيا وأفكر في نفع أناله من كلامي ، أو ضرر أتحاشاه , إن تكلمت في هذه الحال لم يكن لكلامي أثر في نفوس السامعين , لما بلغت الدعاء قلت كلاماً صدقوا أنني لا أحفظه لأنني لم أعده ، ولم أرصفه ، وإنما تكلم به إيماني على لساني , قال السامعون لي بعد ذلك أنني قلت ما معناه : إن دمشق ظئر الإسلام ومثابة الأخلاق ، لا ترضى بما يخالف الإسلام ، ولا بما يذهب بمكارم الأخلاق ، كائناً من كان قائله أو فاعله ، وكانت منزلته بين الناس ، وإن هذه الحفلة منكر وإنها حرام ، وإنها تنافي الإسلام ، وإن كل من حضرها ورضى بها آثم ، وإن الذي لا يغار على محارمه ديوث , وخرجت الكلمات من فمي كالرصاصات من المدفع الرشاش ، ما(1/63)
احتمل هذا الكلام كله دقيقتين اثنتين ,وشده السامعون أولاً، ثم خشعوا ثم اقتنعوا واستيقظت ضمائرهم المؤمنة ، وقرأت في الصلاة آيات قالوا إنها جاءت مناسبة للمقام ، لا أعرف الآن والله الذي قرأت يومئذ في الصلاة , وأقبل الناس علي بعدها داعين مهنئين ، خائفين علي فقلت لهم : إني فعلت ذلك لله ، والله لا يتخلى عمن يعمل له , ومشت كلمتي في الناس مشي الكهرباء تنتقل من أقصى البلد إلى أقصاها في لحظة ، فلم يمس المساء حتى كانت حديث الناس .
أما الحكومة فعلمت أنها فوجئت وغضبت ، ولكن لم تجد سبيلاً علي ، فأنا أتمتع بحصانات : بحصانة القضاء ، وحصانة الدين لأني أخطب خطبة الجمعة في بيت الله ، ومن ورائي الأمة المسلمة وآلاف من الشباب يدافعون عمن ينصر دين الله , فلم تجد الحكومة إلا أن تصب غضبها على رأس مذيعة ما لها ذنب ، أظن أن اسمها فاطمة البديري ، ولست أعرفها , لما سألوها قالت لهم : ماذا كنتم تريدون أن أصنع ؟ هل أقطع البث ؟ ( ونسيت أن أقول لكم إن الخطبة كانت تذاع من الإذاعة على الهواء ) , هل أقطع الخطبة والخطيب من رجال الدين ؟ ثم إنه قاضي البلد ، وماذا يقول سامعو الإذاعة ؟ ثم إن الأمر كله لم يمتد إلا أقل من دقيقتين ، لم أفق فيهما من دهشتي حتى أرجع إلى عقلي وأقدر ما ينبغي علي أن أفعل ؟ وعلى هذا الدفاع المخلص أوقعوا عليها العقاب , وانقسم الناس قسمين : أما أهل الدنيا وفيهم بعض الحاكمين وبعض الصحافيين فحملوا علي ، وكتبوا عني ما شاؤوا وشاء لهم هوى نفوسهم ، وقد قلت لكم من قبل شيئاً قد لا تصدقونه ولكنه حق ، هو أن الجرائد في الشام تعلق على جدار القصر العدلي، وأنه طالما وقع لي أن الجرائد كلها تحمل علي ، وتسبني بالعناوين الكبيرة ، وأنا أمر بها فلا ألتفت إليها ، وأدخل إلى المحكمة وأباشر عملي وأنساها كأنني ما رأيتها , وأقسم لكم لتصدقوا أنني إلى هذه الساعة لم أدر ما الذي كتبوه فيها.(1/64)
أما أهل الدين وهم الكثرة الكاثرة من السوريين بحمد الله رب العالمين فهم معي ، حتى أن القاضي الفاضل العالم الشيخ محمد الأهدلي ، رحمه الله كتب مقالة عنوانها « كلنا علي الطنطاوي » ذهب فيها في تأييدي كل مذهب ممكن ونشرت الهيئات الإسلامية بياناً ، طبعت منه أكثر من مئة ألف ، ووزعته في أرجاء البلاد عنوانه « بيان الهيئات الإسلامية إلى الشعب الكريم » كان مما قالت فيه : إن الجمعيات الإسلامية وعلماء المسلمين ، تعلن للحكومة باسم الدين ، وباسم الدستور، والكثرة الساحقة من هذا الشعب ، الذي تنكر أديانه على اختلافها ، وتنكر أعرافه وأخلاقه ، الفسوق والدعارة والتهتك وإقامة الحفلات الراقصة المتكشفة باسم الفن والذوق والرياضة , والتي غضبت من الحفلة التي أقامتها مدرسة دوحة الأدب ، وعرضت فيها البنات المسلمات راقصات أمام الرجال، في شهر رمضان شهر الطاعة ، ونحن في مرحلة حرب مع اليهود ، ولا يستنزل نصر الله بمعصية الله , تعلن للحكومة أنها قياماً بواجب الدين الذي يأمر بإنكار المنكر، وتنفيذاً لأحكام الدستور الذي يحمي الخلق والعفاف ، وذوداً عن عقائدها وأخلاقها ، لا ترضى بمخالفة شرع الله ، وشرع العفاف ، والسماح للفئة التي تتبع أهواءها وشهواتها باسم دعوى التقدمية والتجدد ، أن تتحكم بأخلاقها وأعراض بناتها ومستقبل أبنائها ، وتؤيد « وأنا هنا أنقل ما هو مكتوب » فضيلة الأستاذ الشيخ علي الطنطاوي في كلمة الحق التي أعلنها في خطبته في مسجد الجامعة ، وعبر فيها عن حكم الدين ، وتنكر كل تحريف لها ، وتطلب وضع حد لمؤازرة بعض رجال الحكومة لهؤلاء الناس ، وحمايتهم للحفلات الماجنة ...إلخ . أما التوقيعات فهي: رئيس رابطة العلماء أبو الخير الميداني ، رئيس جمعية تضامن العلماء كامل القصاب ، رئيس جمعية الهداية الإسلامية محمد سعيد الحمزاوي ،نائب رئيس رابطة العلماء مكي الكتاني ، رئيس جمعية التوجيه الإسلامي حسن حبنكه الميداني ، رئيس(1/65)
جمعية الأنصار أحمد كفتارو ، رئيس جمعية التهذيب والتعليم هاشم الخطيب ، رئيس جمعية الشعائر الدينية محمد الهاشمي ، نائب رئيس الجمعية الغراء أحمد الدقر ، المراقب العام للإخوان المسلمين مصطفى السباعي ، رئيس جمعية التمدن الإسلامي محمد حسن الشطي ، رحمهم الله جميعاً ثم أصدرت جمعية الهداية الإسلامية منشوراً آخر قالت فيه « لقد حذر فضيلة الشيخ الطنطاوي (عفواً فإني أنقل ما هو مكتوب ) وكثير من العلماء والجمعيات المراجع الحكومية من إقامة هذه الحفلة ، ومما ينشأ عنها من ذيول هي في غنى عنها وعن عواقبها ، وليس الظرف بالذي يلائم التفكك بين أفراد الشعب الواحد ،أو إثارة مسائل لا يرضى عنها الدين.. إلى أن قالت : وما كان الذي جرى بالأمر الذي يسكت عنه قادة الدين وعلماء المسلمين وفي طليعتهم ( عفواً مرة ثانية ) فضيلة قاضي دمشق الشرعي الأستاذ الطنطاوي .....إلخ ثم انتقلت القضية إلى المجلس النيابي وأثيرت في جلسة 26 حزيران ( يونيو ) 1951 م الموافق 22من شهر رمضان سنة 1370 هـ.
وكان الاستجواب موقعاً من نائب دمشق مصطفى السباعي ، ونائب دمشق محمد المبارك ونائب المعرة حكمة الحراكي ، ونائب الباب عبد الوهاب سكر ، رحم الله الجميع ، فقد مضوا إلى رحمة الله , أما الاستجواب فمنشور في الجريدة الرسمية في الصفحة 259 من المجلد الصادر سنة 1951 .(1/66)
لا أستطيع أن أورد الاستجواب كله لأنه طويل ولكن ألخصه فيما يأتي : يقول أولاً : هل ترى الحكومة في هذه الحفلة التي أقيمت في قصر آل العظم باسم معهد دوحة الأدب ، وبرزت فيها الفتيات في سن الثامنة عشرة والعشرين في رقصات متعددة أمام الجمهور ، وأنشدن أناشيد الهوى والغرام بشكل مثير ، استعملت فيها آيات القرآن في مواطن لا تتفق مع جلالة القرآن وقدسيته ؟ , هل ترى الحكومة في هذا ما يتفق مع نصوص الدستور وبيانها الوزاري ؟ هل ترى الحكومة أنه كان من المناسب إذاعة هذه الحفلة من محطة الإذاعة الرسمية في شهر هو عنوان العبادة والتقوى والخضوع إلى الله ، وهو شهر رمضان ؟ , هل ترى الحكومة أن مثل هذه الحفلات يصح أن يقوم بها معهد أنشئ للتعليم والتهذيب ... إلخ ؟ , هل ترى الحكومة أنه مما ينسجم مع بيانها الوزاري ومع تعليمات وزارة الداخلية بمنع الاختلاط في الشوارع العامة بين الرجال والنساء في شهر رمضان أن سمح بالاختلاط في تلك الحفلة، حين كانت السيدات والتلميذات في أتم زينة وأجمل حلية ؟ هل ترى الحكومة في تقديم الأستاذ الطنطاوي للقضاء احتراماً لحرية الرأي ، ولحرية المساجد ، وللإسلام الذي نص الدستور على وجوب استمساك الدولة به وبآدابه ....إلخ ؟ , وتكلم في هذه الجلسة الأستاذ محمد المبارك ، رحمه الله ورحم الجميع فقال كلمة طيبة جاء فيها : « إن رقص السماح أيها الإخوان الذي يريد بعض الناس أن يفخر به قد رافق عصر الانحلال والانحطاط في الأندلس وفي بعض البلاد العربية الأخرى ، أفلا يجب أن نقلد ـ إذا ما أردنا أن نقلد ـ عصور الحضارة والمد الذهبي الذي كانت فيه المرأة تجمع بين الخلق والكرامة والجهاد والكفاح....إلخ؟» , ثم تكلم رئيس المجلس فدعا النواب إلى إرجاء البحث في هذه القضية حتى يرد جواب الحكومة, ثم أعطى الكلمة للدكتور منير العجلاني فكان مما قال: « سيدي الرئيس ، لقد ألقيت سؤالاً على معالي وزير العدلية يتعلق بقضية قاضي(1/67)
دمشق الأستاذ الطنطاوي ، وليس القصد إحراج معالي الوزير ، فهو شخصية محببة مهذبة ، وأنا من الذين يحبونه ويحترمونه, ولكن أردت أن نفهم من هذا السؤال الأسباب الحقيقية التي حملت الصحف على تكثيف حملة غاشمة ضد كاتب كبير ، ومناضل وطني معروف « أعتذر مرة ثالثة لأنني أنقل مدح نفسي » هو فضيلة قاضي دمشق الأستاذ علي الطنطاوي , وقد كان من جملة الأشخاص الذين استمعوا إلى خطابه في المسجد أستاذ في كلية الحقوق هو الأستاذ مصطفى الزرقا ، كما استمع إليه أستاذ آخر هو الدكتور مصطفى البارودي ، وقد أكدا لي أن فضيلة القاضي لم يأت على ذكر حفلة دوحة الأدب بصراحة ، ولا تعرض لها بحملة مخصوصة ....إلخ » ثم ألقى الشيخ الدكتور مصطفى السباعي كلمة قال فيها : « إننا نزولاً عند رغبة مقام رئاسة المجلس النيابي ودولة رئيس مجلس الوزراء نرجئ بحث هذا الموضوع حتى يأتي جواب الحكومة ، ولعلها تسعى في هذه المدة إلى إصلاح الجو بما يحفظ لنا الأخلاق ويحفظ سمعتنا في البلاد العربية الشقيقة » ... إلى آخر ما قال... هذه هي القضية التي شغلت الناس والتي لم أرد من إثارتها يعلم الله إلا إنكار المنكر ، وقد حوكمت بعدها أمام مجلس القضاء الأعلى عليها , وعلى مقالة كنت كتبتها في نقد قانون العقوبات الذي يكاد يبيح الزنى ، وقلت عنه أنه قانون « القطاط في شباط » , وقصة المحاكمة طويلة ، وقد انتهت بالحكم علي بخصم عشر راتبي شهرين متعاقبين ! .( ذكريات 5/101-112).
هذا ما تم جمعه والله أعلم وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه .
***(1/68)